المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد

عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله المستعان والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان. وبعد: فإن من ظواهر المجتمعات الإنسانية والأعراف البشرية اختلاف الملل وتباين النحل ومنه اختلاف المذاهب والطوائف. فبقدر المدارك الإنسانية يكون المد والجزر بين الاختلاف أو الاتفاق وهي ظواهر طبعيه جبل عليها البشر لعمارة الكون ومقوماته الذاتية كما في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} لذا سطر التأريخ لأرباب الدين الواحد والمذهب الواحد شعب الاختلاف ومن ذلك تنوعت مسميات كل مذهب أو مسلك أو اتجاه, وهكذا الاختلاف ماض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا عدم المعيار وجهة التحاكم كان الخلاف على أشده قد يصل إلى إهراق الدماء وإسقاط حرمة البشر. ويعجبني ما كتبه علامة الباكستان ومفتيها الشيخ محمد شفيع في رسالة عنوانها "أخلاف أم شقاق" أعرب عن منهج التحقيق بأسلوب المحبة والوئام, وليس الشقاق في الدين الواحد والمذهب الواحد بالمطلب

الحميد مهما احتدم الصراع وتفاقم النزاع واتسعت هوة الخلاف في حدود دائرة الإسلام. وعلى هذا درج أئمة الإصلاح وقادة الناس إلى الخير فكانوا مثلا يحتذى, وبرز على الصعيد من ناوئ مسلك السلف في تحقيق العبادة للرب المعبود. فقام الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله برد الشبه التي تمس جانب التوحيد فشيد الله به منار الإسلام وبدد غياهب الظلام, وإن من واجب الدعوة إلى الله وما يجب في حق أولئك الأعلام التعريف بما قاموا به ونشر ما كتبوه ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. فقمت بتصفح بعض رسائله وفتاويه فاخترت منها: 1- المقامات: وهو رد على عثمان بن منصور النجدي التميمي المتوفى سنة 1282هـ, وقد زعم أن تسلط الدولة العثمانية وحملات إبراهيم باشا على الدرعية قاعدة الدولة السعودية الأولى والتي جرها محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد دليل على ماهم عليه, وغواية ما توجهوا إليه فكان فيما كتبه الشيخ عبد الرحمن تاريخ ورد أجمل ما كتبه في تسع مقامات. 2- المحجة في الرد على الملقب باللجة محمد بن عبد الله بن حميد المتوفى سنة 1295هـ صاحب كتاب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" تناول فيه تراجم جملة من العلماء, ففرط وأفرط وتخبط وخلط, ولولا أنه لم يمدح البوصيري في قصيدته الشركية على جناب التوحيد والإطراء بخير البشرية كما في قوله:

يا أكرم الخلق مالي من الوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم 1- إرشاد طالب الهدي لما يباعد عن الردى, وهو توجيه وتعليم في صيغة رد على أحمد بن علي بن أحمد بن دعيج المتوفى سنة 1268هـ زعم أنه لا بأس من الإقامة في بلد يمارس فيها الشرك والمعاصي دون نكير مع القدرة على ذلك. 2- المراسلات: كنت جمعت من مكاتباته ثمان وخمسين رسالة وجهها للأعيان والعلماء وأفراد من المسلمين بدأها بقوله: من عبد الرحمن بن حسن إلى......... تتضمن نصائح وتوجيهات معالجة وقائع وأحداث زمنية والتارخ يعيد نفسه ولله الأمر من قبل ومن بعد. 3- بيان كلمة التوحيد رد فيه على عبد المحمود الكشميري حين تكلم في معنى لا إله إلا الله أظهر من الجهل والضلال ما تعقبه الشيخ عبد الرحمن بمعلول الدلالة وساطع الرسالة ما أدحض به شبه الشبهين وضلالات المبطلين فرحمه الله: رحمة واسعة. جمعتها لتكون في مجلد واحد تطبع ضمن سلسلة التراث الإصلاحي في العقيدة والشريعة ليكون هذا هو المجلد الرابع, وفيما أقوله: وأكتبه نرجو رضى الله والدار الآخرة, وأختم هذا التقديم ببيان ما صدر من السلسلة المذكورة وهي:- 1- مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام. تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. 2- القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس. تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.

1- منهاج التأسيس والتقديس تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. 2- المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد, وهو هذا للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ, نسأل الله أن يهب لنا من أمرنا رشدا وصلى الله على محمد. كتبه إسماعيل بن سعد بن إسماعيل العتيق 1/11/1411هـ

المقامات

المقامات مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم المقامات الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده محمد وآله وصحبه أما بعد: فليعلم أن هذا الذي علقته في هذه الورقات قد اقتصدت فيه واقتصرت على ما تحصل به الفائدة ويحصل به الثواب من الرب الكريم الوهاب لأنه من أفضل الجهاد في الدين والنصيحة لعامة المسلمين ولمن يصل إليه ممن له رغبة في معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين فأقول قبل الشروع في تحرير الجواب: أن عثمان ابن منصور اعترض على شيخنا رحمه الله تعالى: فيما دعا إليه من توحيد الله تعالى من الحنيفية ملة إبراهيم وما بعث به محمد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليهما وعلى جميع المرسلين فقال إنه لم يتخرج على أشياخ في العلم وهذا مما افتراه واختلقه عمن استند إليه من شيوخه الثلاثة ابن سند وابن جديد وابن سلوم وهذا من جهلهم بحال شيخنا وشدة عداوتهم له فتلقى عن هولاء الثلاثة مازعموه من الكذب والبهتان فالجواب عن هذا من وجوه. الأول: أنه لايعرف شيخنا ولا حيث نشأ كما يعرفه الخبير بحاله ممن يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان ابن علي من الروضة ونزل العيينة كان أفقه أهل نجد في وقته فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم وكان المتولي للقضاء في العارض أبوه عبد الوهاب وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد لحاجتهم إليه في الإفتاء وما يقع بينهم من بيع العقارات وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب فظهر شيخنا بين أبيه وعمه فحفظ القرآن وهو صغير وقرأ في فنون العلم وصار له فهم

وقوي وهمة عالية في طلب العلم فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغنى والانصاف لما فيها من مخالفة ما في متن المنتهى والاقناع وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث فسافر إلى البصرة غير مرة كل مرة يقيم بين من كان فيها من العلماء فأظهر الله له من أصول الدين ماخفي على غيره وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات والإيمان فيقال في الجواب انت يابن منصور إنما افتخرت في رحلتك إلى البصرة والزبير وغقامتك بين أشياخك الثلاثة فما لذي خصك بأخذ العلم منها دونه إذا كان الكل قد سافر إليه وجالس العلماء وتميز عنك بالأخذ عمن لا يتهم في حقه بالكذب والزور وأنت قبلت فيه قول أهل الريب والفجور وصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه له القريب والبعيد أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث وأما أنت يابن منصور فأي علم جئت به من رحلتك ضيعت زمانك وأخمدت شانك وصرت ضحكة عند من أخذ عن هذا الشيخ وقد عدوا عليك من الغلطات ما لا فائدة في عده هاهنا وأنت لم تنقل عنهم واحدة غلطوا فيها وذلك ببركة ما حصلوه ممن أخذ عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فكيف حالك لو رأيت من أخذ عنه لكنت في نفسك احقر ومن الدليل على ماذكرته هنا أنه طلب الاجازة من مملي هذا الكلام فأجازه بمروياته في الحديث وغيره ظنا مني أنه على هدى وأنه بأهل العلم قد اقتدا ثم أن شيخنا رحمه الله تعالى: بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد وهناك رحل إلى الاحساء وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف

ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم ماسر به واثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد وحضر مشايخ الإحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي وطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري وبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر البخاري كتابه من الأحاديث والآثار وبحث معهم في مسائل وناظر هذا أمر مشهور يعرفه أهل الإحساء وغيرهم من أهل نجد فإذا خفي عليك يابن منصور هذا أو جحدته فغير مستغرب والعدو يجحد فضائل عدوه. كل العداوة قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين ثم إن الشيخ رحمه الله: رجع من إلاحساء إلى البصرة وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج فحج رحمه الله تعالى: وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه ضلال من ضل باتخاذ الأنداد وعبادتها من دون الله في كل قطر وقرية إلا من شاء الله فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسال الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن مسيره مع الحاج فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم محمد حياة السندي وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها وقرآة لبعضها ووجد فيها بعض الحنابلة فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده وكتب متن البخاري وحضر في النحو وحفظ الفية بن مالك ثم رجع إلى نجد وهم على الحال التي لا يحبها الله ولا يرضاها من الشرك بعبادة الأموات والأشجار والأحجار والجن فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله وأن

يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أوطاغوت أوشجر أوحجر والناس يتبعه منهم الواحد والاثنان فصاح به الأكثرون وحذروا منه الملوك واغروهم بعداوته حتى إن ابن حميد ملك الاحساء والقطيف والبادية أرسل إلى ابن معمر أمير العيينة أن يقتله أوينفيه فنفاه إلى الدرعية وتلقاه محمد بن سعود رحمه الله تعالى: وأولاده واخوته فصبروا على حرب القريب والبعيد حتى أظهر الله هذا الدين فنجا بدعوته من نجاه الله من الشرك والضلال وهلك بدعوته من هلك ممن بغى وطغى واستكبر وحسد وكل ما دعى إلى مادعت إليه الرسل لا بد أن يقع له من الناس ما وقع لهم والمقصود ذكر نعمة الله تعالى على شيخنا وبيان كذب المفتري وأنه نشأ في طلب العلم وتخرج على أهله في سن الصبا ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارا وللإحساء ثم إلى المدينة والمعول على ما وهبه الله تعالى من الفهم والحفظ وتمييز الحق من الباطل ومعرفة حقيقة التوحيد وما ينافيه من الشرك الأكبر وسبيل أهل السنة ومعرفة ما خالف السنة من البدع أعطاه الله في ذلك علما عظيما فصار بذلك يشبه أكابر علماء السنة وما كان عليه السلف الصالح فصار آية في العلوم ونفع الله بدعوته الخلق الكثير والجم الغفير وبقيت علومه في الناس يعرفها العام والخاص من أهل نجد وغيره وما أنكر هذه الدعوة الإسلامية بعد ظهورها في نجد وما والاه إلا جاهل معاند لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فدحضت بحمد الله حجة كل مجادل ومماحل فأتم الله نعمته على من قبل هذه الدعوة الإسلامية وقد قال بعض العلماء رحمهم الله الإخلاص سبيل الخلاص والإسلام مركب السلامة والإيمان خاتم الأمان فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة التي لا نعمة أكبر منها ولا أعظم منها ولا أنفع إذا عرف مما تقدم ما افتراه ابن منصور على شيخنا وأنه صدر عن غير علم

ولا معرفة بحاله في نشأته وطلبه فينبغي أن نزيد ما تقدم من الإنتصار لامام الدعوة الإسلامية النبوية رحمة الله عليه فنقول ما أدراه عن حال شيخنا رحمه الله تعالى: وقد تقدم ما يدل على أنه لا دراية له ولا عناية بحاله يعرف ذلك مما قدمناه ومن المعلوم أنه لا يعتني بمعرفة حال مثله إلا من حبه واحب ماقام به ودعا إليه وأما من انحرف عنه وعن دعوته في مبدأ نشأته وتوجه برحلته إلى من أشتدت عداوته له دينه كابن سند وابن سلوم وابن جديد فهؤلاء الثلاثة المذكورون قد اشربوا عداوة التوحيد ومن دعا إليه فصار أهل التوحيد هم أعداؤهم بما اشربوه من كراهته وكرهة من دان به فأخذ عنهم ما وضعه في كتبه من الزور والكذب والفجور وانتصر فيها لعباد القبور وزعم أنهم مسلمون لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون والعدو لا يرى محاسن عدوه خصوصا إذا عاداه في الدين وصاروا أعداء لكل موحد ونصرة لكل مشرك ملحد فاخذ عنهم هذه البضاعة وامتنع على إمام المسلمين بما أودعه كتبه من الشناعة ولا ريب أن شره إنما يعود إليه ويرجع وبال ذلك كله عليه والمقصود أن يعلم أن هؤلاء الثلاثة هم أشياخه الذين تخرج عليهم بالانحراف عن الدين وتضليل الموحدين ولولا أنه شحن كتبه بذلك لما ذكرناه فهذا هو المحصول الذي حصله والأساس الذي أسسه وأصله فقدم نجدا بعد طول المقام عند أولئك الملحدين المنحرفين عن الدين فصار حظه جمع الكتب من غير رواية لها ولا دراية ولم ير للعلم عليه أثر مع أن هؤلاء مع ما فيهم من العداوة صاروا أعقل منه فلم يكتبوا شيئا من هذه الأكاذيب والزندقة والتخليطات الفاسدة وهذا لقلة علقه وفساد قصده جرى منه ما جرى وبالجملة فقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فالحاسد يحمله بغض المحسود على مماداته والسعي في أذاه بكل ممكن مع علمه

بفضله وعلمه وأنه لا شيئ فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله وهذا قيل للحاسد عدو النعم والمكارم فالحاسد لم يحمله على معاداة المحسود جهله بفضله أو كماله وإنما حمله على ذلك فساد قصده وإرادته كما هي حال أعداء الرسل مع الرسل انتهى وقال العماد بن كثير في تفسيره قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ومن قصد الشر بالخذلان وكل ذلك بقدر مقدر ونسأ ل الله الكريم رب العرش العظيم بكلماته وبيناته التي انزلها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لهداية عباده أن يجعل ماكتبناه في هذا وغيره نصرة لهذا الدين أكرم به عباده المؤمنين وأن لا يجعله انتصارا لأنفسنا ولا لسلفنا إنه ولي ذلك والقادر عليه ونسأله العفو والعافية في الدين والآخرة0 وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وقد أخبرنا شيخنا رحمه الله تعالى: أنه كان في ابتداء طلبه للعلم وتحصيله في فن الفقه وغيره لم يتبين له الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله من جن أو غائب أوطاغوت أوشجر أوحجر أو غير ذلك ثم ان الله جعل له نهمة في مطالعة كتب التفسير والحديث وتبين له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة ان هذا الذي وقع فيه الناس من هذا الشرك أنه الشرك الذي بعث الله رسله أونزل كتبه بالنهي عنه وانه الشرك الذي لايغفره الله لمن لم يتب منه فبحث في هذا الأمر مع أهله وغيرهم من طلبة العلم فاستنار قلبه بتوحيد الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه فأعلن بالدعوة وبذل نفسه لذلك على كثيرة المخالفين وصبر على ماناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته فلما اشتهر أمره اجلبوا عليه بالعداوة

خصوصا العلماء والرؤساء وحرصوا على قتله فاتاح الله له من ينصره على قلة منهم وحاجة وتصدى لحربهم القريب البعيد واستجلبوا على حربهم الدول ونذكر بعض ماجرى عليهم ممن عاداهم وتأييد الله لهم ونصره على قلة مهم وضعف وقوة من عدوهم وكثيرة لما فيه العبرة والشهادة لهم أنهم على الحق وعدوهم على الباطل فأخذت من حفظ بعض الوقائع التي جرت عليهم من عدوهم في الدين وفيها شبه بما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم من عدوه ونصر الله له فأقول.

المقام الأول

المقام الأول: أن شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لما ألهمه الله رشده وفتح بصيرته في تمييز الحق من الضلال وأنكر ما عليه الناس من الشرك فبادروه بالعداوة والإنكار لمخالفتهم ما قد اعتادوه ونشؤا عليه هم وأسلافهم من الشرك والبدع وأعظم من عاداه ونفر الناس عن دعوته العلماء والرؤساء كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء والأحبار في الابتداء فإن شيخنا رحمه الله تعالى: أظهر هذه الدعوة في بلد العيينة وهي في أعلا وادي حنيفة فاستحسن دعوته من استحسنها وقبلها من قبلها وأنكرها من أنكرها ثم إن أهل الإحساء لما استصرخوا شيخهم سليمان المحمد شيخ بني خالد أرسل إلى ابن معمر شيخ العيينة بأن يقتله فهاجر إلى الدرعية بلد محمد بن سعود فتلقاه هو وأولاده بالقبول وتابعهم على ذلك أكثر أهل بلده وقبيلته على قلة منهم وضعف كما قدمناه فصبروا على مخالفة الناس والملوك ممن حولهم والبعيد عنهم وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ولهذا تحمل هذا

الرجل وأتباعه عداوة كل من عادى هذا الدين قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقد قال هرقل لأبي سفيان وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فذكرت أن لا فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب فأشبه أمر هذا الشيخ رحمه الله تعالى: ما جرى لخاتم النبيين حتى في مهاجره وأنصاره وكثيرة من عاداه وناواه في الابتداء كما هوحال الحق في المبادي يرده الكثير وينكرونه ويقبله القليل وينصرونه فأول من عاداهم أقرب الناس إليهم بلدا وأقواه كثيرة ومالا بلاد دهام بن دواس وهو أول من شن الغارة عليهم على غفلة وغرة وعدم الاحتساب منهم فخرجوا إليه على عجل فقتل منهم رجالا منهم فيصل ابن محمد بن سعود وسعود بن محمد بن سعود فسبحان من قوى جأش هذ الرجل على نصرة هذا الدين حين قتل إبناه ثم سطى عليهم مرة ثانية فقتل كثير ممن سطى بهم فأخذ المسلمون الثار منهم ثم بعد ذلك استمر الحرب بينهم وبينه أكثر من ثلاثين سنة وفي تلك الثلاثين سنة أو أكثر أعانه على حربهم أهل نجران وبن حميد شيخ بن خالد مرارا فيأتونهم بأنواع الكيد والكثرة فينصرهم الله عليهم وفي ذلك أعظم عبرة وبعد هذه المدة وقع بينه وبين المسلمين وقعة بين البلدين فقتل فيها أبناءه دواس وسعدون فانتهى أمره فخرج من بلده هاربا في يوم صيف شديد الحر وتبعه من تبعه فصارت بلده فيئا للمسلمين ولم يبق لآل دواس بعد ذلك عين تطرف فاعتبروا يا أولي الأبصار.

المقام الثاني

المقام الثاني: مافي دعوة هذا الشيخ ابتداء من المشابهة لما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته قريشا والعرب إلى التوحيد والإيمان بالقرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وفي حديث عمرو بن عبسة الذي رواه

مسلم وغيره أنه قدم مكة فاجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته فأخبره أن الله بعثه بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئ وغير ذلك مما هو مذكور في الحديث من نفي عبادة الأوثان والأمر بمكارم الأخلاق فقال له عمرو من معك على هذا قال حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فما زال الحق يزيد بزيادة من قبله ودخل فيه حتى أكمل الله لهذه الأمة الدين وأتم عليهم النعمة وقد قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن اتباع الرسول وبهذه المشابهة يتحقق المنصف أن هذا الدين الذي دعا إليه هو الحق وأنه هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات المحكمات التي لا يخفى معناها إلا على من عميت بصيرته وفسدت سريرته فتأمل حماية الله ونصره لمن قبل هذه الدعوة ونصرها على ضعف منهم في الحال وقله من العدد والرجال مع كثرة من خالفهم من قريب وبعيد وكثير وقليل مع الكيد الشديد فأبطل الله كيدهم وصارت الغلبة للحق وأهله ومحق الله الباطل وأهله.

المقام الثالث

المقام الثالث: وفيه حجة أيضا ومعتبر ودليل على صحة هذا الدين ومدكر لمن عقل وافتكر وذلك أن الذين أنكروا هذه الدعوة من الدول الكبار والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار أجلبوا على عداوة هذا العدد القليل في حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم فرموهم عن قوس العداوة من أهل نجد دهامبن دواس المتقدم وابن زامل وآل بجاد أهل الخرج ومحمد بن راشد راعي الحوطة وتركي الهزاني وزيد ومن والاهم من الأعراب والبوادي كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه وشيوخ قرى سدير والقصيم وبوادي نجد وابن حميد ملك الإحساء ومن تبعه من حاضر وباد وكلهم تجمعوا لحرب

المسلمين مرارا عديدة مع عريعر وأولاده منها نزولهم على الدرعية وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء وقد أشار إلى ذلك العلامة حسين بن غنام رحمه الله: حيث يقول. وجاؤا بأسباب من الكيد مزعج مدافعهم يزجي الوحوش رنينها فنزلوا البلاد وأجتمع من أجتمع من اهل نجد حتى من يدعي أنه من العلماء ولما قيل لرجل منهم وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم كيف أشكل عليكم أمر عريعر وفساده وظلمه وأنتم تعينونه وتقاتلون معه فقال لوأن الذي حاربكم إبليس كنا معه والمقصود أن الله تعالى رد لهم بغيضهم لم ينالوا خيرا وحمى الله تلك القرية فلم يشربوا من آبارها وأما وزير العراق فمشى مرارا عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد وأجرى الله تعالى عليهم من الذل مالا يخطر ببال قبل أن يقع بهم ما وقع من ذلك أن ثويني في مرة من المرار مشى بجنوده إلى الإحساء بعدما دخل أهلها في الإسلام في حال حداثتهم بالشرك والاضلال فلما قرب من تلك البلاد أتاه رجل مسكين لا يعرف من غير ممالات أحد من المسلمين فقتله فمات فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف وذلك مما به يعتبر فانفلت تلك الجنود وتركوا مامعهم من المواشي والأموال خوفا من المسلمين ورعبا فغنمها من حضر وقد قال الشيخ حسين ابن غنام في ذلك. تقاسمتم الاحساء قبل منالهاه ... فللروم شطر والبوادي لها شطر ثم جددوا أسبابا لحرب المسلمين وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضها وكيد عظيم فنزلوا الاحساء وقائدهم علي كيخيا فتحصن من ثبت على دينه في الكوت وثغر صاهود فنزل بهم وصار يضربهم بالمدافع والقنابل وصفر اللغوب فأعجزه الله ومن معه ممن إرتد عن الإسلام فولى مدبرا

بجنوده فاجتمع سعود بن عبد العزيز في تاج وغزوه الذين معه رحمه الله: والذين معه من المسلمين أقل من المتفق أو الظفير الذين مع الكيخيا فالقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم وقوتهم فصارت عبرة عظيمة فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعوا إلى بلادهم فأعطاهم أمانا على الرجوع فذهبوا في ذل عظيم فلما قدم كل منهم مكانه مات سليمان باشا وذلك من نصر الله لهذا الدين فأهلك الله من أنشأ هذه الدول ثم قام علي كيخيا فصار هو الباشا فأخذ يجدد آلة الحرب فجمع من الكيد والأسباب أعظم مما كان معه في تلك الكرة فلما كملت اسبابه وجمع الجموع فلم يتق إلا خروجه الحرب المسلمين لينتقم من أهل هذا الدين سلط الله عليه صبيين مملوكين عنده يبيتون فقتلوه آخر الليل فخمدت تلك النيران وتفرقت تلك الأعوان فما قام لهم قائمة حتى الآن فيا لها عبرا ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة فاعتبروا يا أولي الأبصار فأين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وماحل.

المقام الرابع

المقام الرابع: ماجرى من العبر في حرب أشرف مكة لهذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية رجوعه إلى أشراف مكة وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة فحبسوا حاجهم فمات في الحبس منهم عدد كثير ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة وفي أثناء هذه المدة سار إليهم غالب الشريف بعسكر كثيف وكيد عنيف فقدم أخاه عبد العزيز قبله في الخروج فنزل على قصر بسام فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل وجر عليه الزحافات فأبطل الله كيده على هذا القصر الضعيف بناؤه القليل رجاله فشد منه ووافى غالبا ومعه أكثر الجنود ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو

يزيد فنزلوا جميعا الشعرا فجد في حربهم بكل كيد فأعجزه الله تعالى عن ذلك البناء الضعيف الذي لم يتأهب أهله الحرب بالبنا ولا بالسلاح فأبطل الله كيده ورده عنهم بعد الأياس والافلاس فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب خصوصا مطير فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا فهزمهم الله تعالى وغنم المسلمون جميع ماكان معهم من الابل والخيل وسائر المواشي فصار ماذكرناه من نصر الله وتأييده لأهل هذا الدين عبرة عظيمة وفي جملة قتلاهم حصان ابليس وبعد ما ذكرناه جد غالب في الحرب واجتهد لكن صار حربه للأعراب ولم يتق النير فيغدوا على من إستضعفه ويغير فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات من أعظمها وقعة الخرمه على يد ربيع وغزوه من أهل الوادي وبعض قحطان فهزمه الله تعالى واشتد القتل في عسكره فأخذوا جميع ماكان معه من المواشي وغيرها فصار بعد ذلك في ذل وهوان ففتح الله الطائف للمسلمين وصار أميره عثمان بن عبد الرحمن فاجتمع فيه دوله للمسلمين وساروا لحرب الشريف ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير وسالم ابن شكبان أمير أهل بيشة فنزلوا دون الحرم فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوه فطلب الشريف المذكور منهم الأمان فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام والبيعة للامام سعود فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة لأن القصد بهذا الوضع الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة من النصر التأييد والظهور على قلة أسبابهم وكثرة عدوهم وقوته وذلك من آيات الله وبيناته على أن ماقام به الشيخ في حال فساد الزمان أنه الدين الذي بعث الله به المرسلين وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة هي الطائفة المذكورة في قوله: صلى الله عليه وسلم ولاتزال طائفة من أمتي على الحق منصورة

لايضر هم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم موجودة في الشام والعراق ومصر وغيرها بوجود أهل السنة وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها فلما اشتدت غربة الإسلام وقل أهل السنة واشتد النكير عليهم وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم من الله بهذه الدعوة فقامت بها الحجة واستبانت الحجة فيا سعادة من قبلها وأحبها ونصرها وذلك في فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأهل العلم من اتباع السلف والأئمة لهم المصنفات المفيدة في بيان التوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات والكثير منها موجود بأيدي علماء المسلمين وما علمنا أحدا بعد القرن الثامن في حال اشتداد غربة الإسلام يذكر بمعرفة ما عليه أهل السنة في أنواع التوحيد أو يلتفت إلى كتبهم ولا عرفوا الشرك الذي لا يغفره الله فلذلك لم ينكره فيهم منكر ولا أخبر بوقوعه من علمائهم مخبر حتى أظهر الله هذا النور وشفى الله به الصدور وظهرت كتب أهل السنة وعظمت بمعرفتها والدعوة إليها المنة يعرف ذلك من عرفه وشكره وأحبه وقبله فلا عبرة بمن أخلد إلى أرض الغفلة والإعراض وجهله.

المقام الخامس

المقام الخامس: إن كان من ذكرنا ممن عاداهم من أهل نجد والاحساء وغيرهم من البوادي أهلكهم الله ولحقتهم العقوبة حتى في الذراري والأموال فصارت أموالهم فيئا لأهل الإسلام كما يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل. عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين بدار قوم ... فيربوا منهم الطفل الصغير

وانتشر ملكهم وصار كل من بقي في أماكنهم سامعا مطيعا لإمام المسلمين القائم بهذا الدين فانتشر ملك أهل الإسلام حتى وصل إلى حدود الشام مع حجاز وتهامة وعمان وصاروا بحمد الله في أمن وأمان يخافهم كل مبطل وشيطان ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار بمن حاربهم من الخراب والدمار واستيلاء المسلمين على ماكان لهم من العقار والديار فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان إلا من عميت بصيرته وفسدت علانيته وسريرته.

المقام السادس

المقام السادس: أن كل من أظهر النفاق وأظهر الشقاق صار مكروها مبغضا ممقوتا وكل ما أبداه المشبهون المموهون من زخرفهم وكذبهم وباطلهم وعنادهم وفسادهم في أقوالهم وأحوالهم انعكس عليهم المراد وحرموا التوفيق والسداد صاروا مثله حتى استوحش منهم أكثر العباد ومقتهم كل حاضر وباد فما صار لهم باطل يظهر ولا شبهة تذكر اللهم إلا ماكانوا يستخفون به عن الناس حين ظهرت أنوار التوحيد واستعلت وزال بها الالتباس مخافت المقت والشناعت حين فسدت لهم تلك البضاعة وهذه العبر يعتبر بها الا ريب إذ هو من الحق وقبول العلم قريب.

المقام السابع

المقام السابع: أن كثيرا ممن عاداهم ابتداءا تبين له صحة مادعا إليه هذا الشيخ وأنه الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وأنه علم من إتبعه ما أوجب الله عليهم وحرمه وعلمهم مكارم الأخلاق ونهاهم عن سفاسفها فمن ذلك ما حدثنا به عثمان بن عبد الرحمن المضايفي لما أتانا راغبا في هذا الدين أن جاسر الحسيني الذي جلا من حرمه لعداوته هذا الدين سكن بغداد ثم

صار في سنين ظهور الإسلام في نجد وما والاه حضر عند الشريف غالب مجاورا فسمع الشريف المذكور يسب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فقال له ياشريف لك من المعروف ما يوجب أن أنصح لك لا تقل هذا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب فإنه قام بنجد وهم في أسوأ حال من الفساد والظلم فجمعهم الله تعالى بعد التفرق والاختلاف وعلمهم مكارم الأخلاق حتى ما ينبقي أن يقولوه في مخاطبتهم وما لا ينبقي أن يقولوه من الألفاظ المستكرهة فاحذر أن تذكره بسوء وهذا الذي ذكره جاسر للشريف اعترف يه كثير حتى من أهل مصر والشام والعراق اعترفوا بصحة هذه الدعوة الإسلامية والسنة المحمدية وأكثروا الدعاء له وهذا من العبر والدلالة على صحة ما جدده شيخ الإسلام من الدين بعدما اشتدت غربته في كل زمان ومكان وصار من يطلب العلم ويعلمه لا يعرف حقيقة التوحيد ولا ما ينافيه من الشرك والتنديد مع قراءتهم للقرآن والأحاديث لكن جهلوا ما هو المراد من الحق الذي يأمرهم به رب العالمين فظهر الحق بعد الخفا وتبين ما دلت عليهم الآيات المحكمات والبراهين البينات وتبين الحق بعد أن كان مجهولا وعرف الباطل فصار بهذه الدعوة مخذولا فهذا مقام لا يخفى إلا على من جحد الحق وكابر وعاند ممن عميت بصيرته نعوذ بالله من رين الذنوب وموت القلوب.

المقام الثامن

المقام الثامن: أن الله تعالى ألبس هذه الطائفة أفخر لباس واشتهر في الخاصة والعامة من الناس فلا يسميهم أحد إلا بالمسلمين وهو الاسم الذي سم الله به عباده المؤمنين من أصحاب سيد المرسلين فقال هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا. فهذا الإسم الحقه الله أصحاب رسوله والحقه هذه الطائفة

كما ألحقه هذه إخوانهم من السابقين الأولين فيا لها عبرة ما أقطعها لحجة من شك وارتاب وما أنفعها في الاعتبار لمن أراد الحق وطلبه وإليه أناب فهذا تمام الثمانية فاقرأها وتدبرها سرا وعلانية وقد اقتصرت فيها غاية الاقتصار وأشرت إلى بعض الوقائع بايجاز واختصار نسأل الله أن يجعلها نافعة ولمن أبداها وكتبها وانتفع بها شافعة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا سنة 1283هـ.

المقام التاسع

وهذا هو المقام التاسع: وأما الدول التركية المصرية فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حجاج الشام عن الحج بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر فطلبوا منهم أن يتركوها وأن يقيموا الصلاة جماعة فما حصل منهم ذلك فردهم سعود رحمه الله: تعالى, فغضبت الدولة التركية وجرى عندهم أمور يطول عدها ولا فائدة في ذكرها فأمروا محمد على صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد فبلغ سعودا ذلك فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم وأمره أن ينزل دون المدينة فاجتمعت عساكر الحجاز على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان فنزلوا الجديدة فاختار عبد الله ابن مسعود القدوم عليهم والاجتماع بهم وذلك أن العسكر المصري في ينبع فاجتمع المسلمون في بلد حرب وحفروا في مضيق الوادي خندقا وعبوا الجموع فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق فحين نزل العسكر أرزت العساكر خيولهم وعلموا أنه لا طريق لها إلى المسلمين فاخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين إن

رفعوها مرت ولا ضرت وإن خفضوها اندفعت في التراب فهذه عبرة وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال ثم مشوا على عثمان ومن معه في الجبل فتركهم حتى قربوا منه بما احتسبوهم به وما أعدو لهم حين أقبلوا عليهم فما أخطأ لهم بندق فقتلوا العسكر قتلا ذريعا وهذه أيضا من العبر لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف ومع كل واحد من الفرود والمزندات فما أصابوا رجلا من المسلمين وصار القتل فيهم وهذه أيضا عبرة عظيمة هذا كله وأنا أشاهده ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال وأما الخيل فليس لها فيه مجال فانهزم كل من كان على الجبل من أهل بيشة وقحطان وسائر العربان إلا ما كان من حرب فلم يحضروا فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم فحمى الوطيس آخر ذلك اليوم ثم من الغد فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره فلما قرب الزوال من اليوم الثاني نظرت فاذا برجلين قد أتيا فصعدا طرف ذلك الجبل فما سمعنا منهم بندقا ثارت الا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر فتتابعت الهزيمة على جميع العسكر فولوا مدبرين وجنبوا الخيل والمطرح وقصدوا لطريقهم الذي جاؤا معه فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت وخارت وظهر عليهم عسكر من الفر سان من جانب الخندق ومعهم بعض الرجال فولت تلك الخيول مدبرة فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم وليس معهم زاد ولا مزاد فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر فأخذوا بعد ذلك مئة من السنين ثم بعد ذلك سار طلسون كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله فقصد المدينة فورا وأمر سعود على عبد الله ومن معه

من المسلمين أن ينهضوا أن ينهضوا لقتالهم فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير فحج المسلمون تلك السنة فأقبل ذلك العسكر فنزلوا رابغ ونزل المسلمون وادي فاطمة فخان لهم شريف مكة وضمهم إليه وجاؤا مع الخبت على غفلة من المسلمين فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة فرجعوا إلى أوطانهم فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم ومن الشريف عليه لما يعلم من شدة عداوتهم فخرج باهله وترك لهم الطائف أيضا مخافة أن يجتمعوا على حربه وليس معه إلا القليل من عشيرته ولا يأمن أهل الطائف أيضا فنزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد فجرى بعد ذلك نحوا من شهر ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد فجرى بعد ذلك وقعات بينهم وبين المسلمين لا فائدة في الإطالة بذكرها والمقصود أن إستيلاءهم على المدينة ومكة والطائف كان بأسباب قدرها الملك الغلاب فيريك عزته ويبدي لطفه والعبد في الغفلات عن ذا الشأن وفيها من العبر أن الله أبطل كيد العدو وحمى الحوزة وعافى المسلمين من شرهم وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة في نحو ثلاث سنين أو أربع فتوفى الله سعودا رحمه الله تعالى: وهم غزاة على من كان معينا لهذا العسكر من البوادي فأخذوا وغنموا فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولا إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز وبعد وفاة سعود تجهزوا للجهاد على اختلاف كان من أولئك الأولاد فصاروا جانبين جانبا مع عبد الله وجانبا مع فيصل أخيه فنزل الحناكية عبد الله ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له فوافق أن محمد على حج تلك السنة فواجه فيصل هناك فطلب منه أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل وأغلظ له الجواب وفيما قال

لا أصلح الله من يصالحكم حتى يصالح ذيب المعز راعيها فأخذت محمد علي العزة والأنفة فسار إلى بسل الظاهر أنه كان حريصا على الصلح فاستعجل فيصل بمن معه فساروا إليه في بسل وقد استعد لحربهم خوفا مما جرى منهم فأقبلوا وهم في منازلهم فسارت عليهم العساكر والخيول فولو مدبرين لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول والخيول حتى وقفوا على التلول فسلم أكثر المسلكين من شرهم واستشهد منهم القليل ولا بد في القتال من أن ينال المسلم وينال منه قال تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس الآيات وقال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم إلى قوله: والله يحب الصابرين الآيات وقد قال هرقل لأبي سفيان فما الحرب بينكم وبينه قال سجال ينال منا وننال منه فهذه سنة الله في العباد زيادة للمؤمنين في الثواب وتغليظا على الكافرين في العقاب وأما عبد الله فرجع بمن معه فلم يلق كيدا دون المدينة فتفكر في حماية الله لهذه الطائفة مع كثرة من عاداهم وناواهم ومع كثرة من أعان عليهم ممن ارتاب في هذا الدين وكرهه وقبل الباطل وأحبه فما أكثر هؤلاء لكن الله قهرهم بالإسلام ففي هذا المقام عبرة وهو أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم فلله الحمد والمنة وبعد ذلك رجع محمد بن علي إلى مصر وبعث الشريف غالب إلى اسطنبول وأمر ابنه طلسون أن ينزل الحناكية دون المدينة وأمر العطاس بالصلح بينهم وبين عبد الله بن سعود نوع من العجلة في الأمور فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس فنزلوا الرويضة فتحصن أهل الرس بمن عندهم فأوجبت تلك العجلة أن يستفزعوا أهل الحناكية فلما جاء

الخبر بإقبالهم ارتحلوا يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة فصادفوا خزانة العسكر فقتلوهم وأخذوا ما معهم فهذا مما يسره الله لهم من النصر من غير قصد ولا دراية فرجع المسلمون إلى عنيزة والعسكر نزلوا الشبيبية قريبا منهم ويسر الله للمسلمين سببا آخر وذلك من توفيق الله ونصره وجاهدوا جيشا وخيلا فأغاروا على جانب العسكر فخرجوا عليهم فهزمهم الله وقتل المسلمون فيهم قتلا كثيرا فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم وقوة أسبابهم وذلك من نصر الله لهذا الدين فرجعوا إلى الرس خوفا من هجوم المسلمين عليهم فتبعهم المسلمون ونزلوا الحجناوي فقدم العطاس على الأمر الذي عمده عليه محمد علي فوجد الحال قد تغير فقصدهم إبتداء فمنعوه مما جاء له ثم إنهم سعوا في الصلح والمسلمون على الجحناوي وكل يوم يجرى بين الخيل طراد فمل أكثر المسلمين عن الاقامة فلم يبق منهم الاشرذمة قليلة فجاء منهم أناس يطلبون الصلح فأفصلحهم عبد الله رحمه الله تعالى: وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا من أهل بيشة خوفا أن يعر ض لهم أحد من المسلمين في طريقهم فمشى محمد بن حسين بن مشاري الى المدينة والمقصود أن الله سبحانه وتعالى أذلهم وألقى الرعب في قلو بهم وحفظ المسلمين من شرهم بل غنمهم مما بأيديهم من حيث بذلهم المال شراء الهجن فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها وهذا كله مما يفيد صحة هذا الدين وأنه الذي يحبه الله ويرضاه وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به وخذلان من ناوأهم وعاداهم في هذا الدين فتفكر يامن له قلب ولولا ماصار في أهل هذا الدين من مخالفة المشروع في بعض الأحوال لصار النصر أعظم مما جرى لكن الله تعالى عفى عن الكثير وحمى دينه عمن أراد اطفاءه فلله الحمد لانحصي ثناء عليه

هو كما اثنى على نفسه وفوق مايثني عليه خلقه فتدبر هذه الوقائع ومافيها من الألطاف العجيبة والدلالات الظاهرة على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة الله والتجريد وإنكار الشرك والتنديد والاهتمام بإقامة حقوق الإسلام على ماشرعه الله تعالى ورسوله والنهي عما حرمه الله ورسوله من الشرك والبدع والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة لكن خفي على أهل الشقاق والعناد فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح لكان الحال غير الحال لكن ما أراده الله تعالى وقع على كل حال لكن جرى من عبد الله ابن سعود رحمه الله تعالى: ما أوجب نقض ذلك الصلح وهو أنه بعث عبد الله به كثير لغامد وزهران بخطوط مضمونها أن يكونوا في طرفه وفي أمره فبعثوا بها إلى محمد علي فلم يرض بذلك وقال إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح فهذا هو سبب النقض وأنشأ عسكرا مع ابرهيم باشا ونزل الحناكية ودار الرأي عند عبد الله بن سعود وأهل الرأي يقولون أضبط ديرتك واحتسب بالزهبة كذلك أهل البلدان واتركوه على هيبته فان مشى تبين لكم الرأي وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره وجاء حباب وغصاب يريدون أن يخلوا بعبد الله السفر وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه ونومه ويقظته فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان فوصلوا الماوية وفيها عسيكر فضربوهم بالديز في المدفع ووقع هزيمة وقى الله شرها وغدى فيها قليل من المسلمين وبعدها جسر إبراهيم باشا على القدوم فنزل القصيم وحربهم قدر شهرين وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين وعزم على الرجوع عنهم لكن قوى عزمه فيصل الدويش وطمعه وخوفه وبعد هذا صالحوه أهل الرس وعبد الله بمن معه في عنيزة وأقفى البلده وأشار عليهم مبارك الظاهري أنه يجيء بثلاثة آلاف من الابل عند بن جلهم ويجعل عليهم الأشدة ويشيل

عليها كل ماكان له ولايخلي في الدرعية له طارفة ويصد مع عربان قحطان ونحوهم وكل من كان له مرؤة من بدوي أوحضري راح معه كذلك الذي يخاف فلو ساعد القدر لم يظفر به عدوة وتبرأ منهم من أعانهم من مطير وغيرهم ولله فيما جرى حكم قد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر وهذا الرأى أسلم له وللذي يريد القعود ويكون ظهره على السعة يذكر له أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك صار لك في العسكر مكائد منها قطع سابلة مابينه وبين المدينة وهذا رأي سديد ولكن لم يرد الله قبوله لأن الأقدار غالبة ولو قدر هذا لكان فنزل الدرعية وأخذ قدر ثمانية أشهر محصنين عنه وهو يضربهم بالقنابر والقبوس فوقى الله شره وأراد بعد ذلك أنه يزحمهم مع أماكن خالية مافيها أحد لأن البلد مطاول وليس فيها سور ينفع والمقاتلة قليل وانتهى الأمر إلى الصلح فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد من رجل أو مال حتى التمرة التي على النخل لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه لكن الله تعالى وقى شره عن أناس معه عليهم حنانة بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده فكف الله يده ويد العسكر وعذروا سليمان ابن عبد الله وآل سويلم وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث حداه عليهم فاختار الله لهم وبعد هذا شتت أهل البلد عنها وقطع النخيل وهدم المساكن إلا القليل وانتقل للحور بعسكره وروح من ورح لمصر بعد روحة عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى: تبعه عيال وإخوانه وكبار آل الشيخ وبعد ذلك حج فسلط الله على عسكره الفناء ولا وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام فمش على السودان ولا أظفره الله فرجع مريضا ثم إن محمد علي بعث إبنه إسماعيل وتمكن منهم بصلح فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجواي أحرقوه بالنار في بيته ومن معه من العسكر

ثم بعده روح لهم دفتر دار ولاذبل منهم شيئا وأما عساكر الحجاز التي وصلت مصر قبل إبراهيم باشا حسن بيه الذي في مكة وعابدين الذي صار في اليمن فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب موره وجريد لما خرجوا على السلطان فاستمده السلطان على حربهم فأمده بهذين العسكرين فهلكوا عن آخرهم ولم يفلت منهم عين تطرف وذلك أن مورة وجريد في الأصل ولاية للسلطان فخرجوا عليه فهلك من عسكر السلطان والعساكر المصرية في حربهم مالا يحصى وهذه عقوبة أجراها الله عليهم بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام حتى العرناووط في جبلهم عصوا على السلطان قبل حادثة مورة وجريد وبعد هذا اشتد الأمر على السلطان وبعث يستنصر محمد علي فبعث لهم عسكرا كبيرهم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه فبعث إليه يعتذر بالمرض وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه وقبل ذلك بعث حسين بيه الذي سبا أهل نجد وقتل منهم البعض في ثرمدا وفزع للسلطان قبل روحة ابراهيم باشا بعسكره الذي كان معه في نجد وتبعه إبراهيم باشا يمده ونزلوا موره لحرب أهلها فأذلهم الله لهم فقتلوا فيهم قتلا عظيما فأما عسكر حسين بيه فلا قدم مصر منه إلا صبي وأما إبراهيم باشا فاشترى نفسه منهم بالأموال فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة التي أوقعها الله على الآمر والمأمور وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة وشاهد لأهل هذا الدين أن الله لما سلط عليهم عدوهم ونال منهم ما نال صار العاقبة السلامة والعافية لمن ثبت على دينه واستقام على دين الإسلام ثم ان الله تعالى أوقع بعدوهم ماذكرنا وأعظم لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار فاعتبروا يا أولى الأبصار ثم

أن الله أجرى على فئة أعانهم من أهل نجد ممن شك منهم في هذا الدين وأكثر الطعن على المسلمين أن الله تعالى أفناهم وهذه أيضا من العبر لم يبق أحد ممن ظهر شره وإنكاره وعداوته للمسلمين إلا عوجل بالهلاك والذهاب ولا فائدة في الإطالة بعدهم ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم وأما ظهور خالد وإسماعيل فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة وخرجوا منها استشار فيصل رحمه الله تعالى: في الغزو أو الإقامة فأشرت بأن يخرج بالمسلمين ويكون البطينيات من الدجاني إلى ما دونه وينزل قريبا من العربان لأن أكثر رعيهم من الدهنا ويؤلف كبارهم بالزاد وينقل الحب من سدير والوشم وزاد الحسا والقطيف من تمر وعيش ويقرب منه كبار العربان بالزاد وكذلك من معه من المسلمين ويصير له رجاجبل في القصيم عند من ثبت وينتظر فلو ساعد القدر تم الرأي لا يقدر العسكر أن يتعدى القصيم للوشم والعارض وخافوا من قطع سابلتهم ولا لهم قدرة على حرب فيصل وهو في ذلك المكان فلو قدرنا أن يصير بعض عسكرهم يبون يقصدونه هلكوا في الدهنا والصمنا إذا ماج عن وجوههم يوما أو يومين فلو قدر أن يفعل هذا الراي لما ظفروا به ولا وصلوا على بلده لأسباب معروفة لكن لما أراد الله سبحانه خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل وهو معه في الصريف قدم الرياض وخلاها لهم خوفا منهم فمشوا على الفرع هم والذين معهم من البادية والحاضرة وصار هلاكهم هجموا على الحلوه على غفلة وإخلاء أهل الحلوة البلد لهم وأراد الله أن تركي الهزاني وبعض أهل الحوطة يفزعون وكسر الله العساكر العظيمة ما بين قتيل وهلاك وكانوا يتتبعونهم موتى تحت الشجرة يأخذون السلاح والمال والذي فزع عليهم ما يجي عشير معشارهم فصارت آية عظيمة ورجع فلهم إلى الرياض وساعدهم من ساعدهم والله حسيبهم وتجلوا معهم إلى أن جاءهم خرشد فزاع ونزل فيصل

الدلم وشير عليه انه مايقعد فيه ويتحصن بمن معه من المسلمين في بعض الشعاب التي بين الحوطة ونعام ويجعل ثقلته ورآه فإن حصل منهم ممشى جاهدهم بأهل القرايا ولا أراد الله أنه يفعل فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه أرسلوه إلى مصر صار عسكرهم في ذهاب وعذاب وفساد فأوقع الله الحرب بين السلطان ومحمد علي ورد الله الكرة لأهل نجد فرجعوا كما كانوا أولا على ما كانوا عليه قبل حربهغ لدولة كما قال تعالى: في بني إسرائيل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} نسأل الله أن يمن بالاحسان وينفي عنا أسباب التغيير إنه ولينا وهو كل شيئ قديرول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والمقصود بما ذكرنا الاعتبار بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم وأوقع بأسه بهذه الدول على قوتهم وكثرتهم وأسباب كيدهم ثم أن الله تعالى أهلك تلك الدول بما جرى عليهم من حرب النصارى في بلاد الروم فكل دولة مشت على نجد والحجاز لم يبق منهم اليوم عين تطرف وكانوا لا يحصي عددهم إلا بالله فهلكوا في حرب النصارى فصارت العاقبة والظهور لمن جاهدهم في الله من الموحدين فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم والعز والنصر ما لا يخطر بالبال ولا يدور في الخيال فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى مما ذكرناه إلا من أعمى الله بصيرته وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة ولم يعتبروا بما جرى لهذا الدين من ابتدائه إلى يومنا هذا وكل من ذكرنا من الدول والبادي والحاضر رام إطفائه وكلما أرادوا إطفائه استضاءت أنواره وعزه أنصاره فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه فهذا ما جرى على الدول الذي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد وما جرى بسبب تلك الدول من ظهور هذا الدين والعز والتمكين وذهاب من ناوأهم

من هذا الدول وغيرها فلله الحمد لا نحصي ثناءا عليه وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا الدين الذي رضيه لعباده وخص به المؤمنين وصلى الله على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا ومن عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود عفى الله عنه لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتداء بعد تخلف الأسباب وعدم الناصر شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد حتى أن بعض أناس ممن له قرابة له عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه فلم يلتفت إلى عذل عاذل ولا لوم لائم ولا رأي مرتاب بل جد في نصرة هذا الدين فملكه تعالى في حياته كل من استولى عليه من القرى ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته يسوسون الناس بهذا الدين ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء فزادت دولتهم وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين الذي لاشك فيه ولا التباس فصار الأمر في ذريته لاينازعهم فيه منازع ولا يدافعهم إمام واحد إلا بهذا الدين وظهرت لأثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها مما تقدم ذكره وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول التي حاربتهم ودافعتهم عن هذا الدين ليطفؤه فأبى الله ذلك عنه مدافع وأعطاهم الله القبول والمهابة وجمع عليهم من أهل نجد وغيرهم ممن لا يمكن اجتماعهم على وجعل لهم العز والظهور كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فنسأل الله أن يديم ذلك وأن يجعلهم أئمة هدى وأن يوفقهم لما وفق له خلفاءه الراشدين الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين وعلينا وعلى المسلمين أن ندعوا لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية وأحيا الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية وأصلح لهم القلوب وغفر لنا ولهم الذنوب وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تم بحمد الله

المحجة

بسم الله الرحمن الرحيم المحجة اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن, واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي له ملك السموات والأرض, {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله خطابا له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أما بعد فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن وقد سئل عن أبيات من البردة وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم, ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله كما هو صريح الأبيات المذكورة في البردة ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره لمن يتب عنه وأن الجنة عليه حرام وذكره الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله فاعترض عليه جاهل ضال فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله: أول المنظومة.

دع ما أدعت النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم". الجواب: أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهما حق الله على عباده وما اختص به من ربوبيته وألوهيته وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله لما قالوه هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد كما قال تعالى: في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} فا لجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيرا من هذه الأمة فظهر فيها ما خبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحرضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن ونحو هذا من الأحاديث وقوله: ويكفيه فى نفي هذه الشناعة قوله: أول المنظومة دع ما ادعته النصارى في نبيهم0البيت الجواب: أن هذا يزيده شناعة ومقتا لأن هذا تناقض بين وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى الله عنه ورسوله ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله أو فعل ما يوصل إليه بقوله: لعنة الله على اليهود والنصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله. وقوله: لما قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وقال إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل فلقد حذر أمته وأنذرهم عن الشرك ووسائله وما دق منه وجل ودعا الناس

إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك وجاهدهم على ذلك حتى أزال الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها كما هو مذكور في كتب الحديث والتفسير والسير وكما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح قال: قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته" وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم منات وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها وأزال من جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر واعتنوا بإزالته أعظم الا عتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا". الحديث. فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور والمشاهد وعبادتها فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينتسبون إلى العلم. قال سليمان التميمي لو أخذت بزلة كل عالم لا جتمع فيك الشر كله فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله: المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"

أقول لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد لكنها في المنهي عنه لا في النهي فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الاطراء طا بقته الأبيات من قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم فقد تضمنت غاية الاطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم فإنه قصر خصائص الالهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه وقصرها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله فإن الدعاء مخ العبادة واللياذ من أنواع العبادة وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله والالتجاء والرغبة إلى غير الله فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان وهذه هي أنواع العبادة ذكرها الله تعالى في مواضع كثير من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله ووعده على ذلك الاجابة والانابة. كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله: تعال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} الآية. فهذا هو الدين الذي بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول لهم {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} فقصر الدعاء على ربه الذي هو توحيد الالهية وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} إلى آخر الآيات وهذا هو توحيد الربوبية فوحد الله في الهيته وربوبيته وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ,

أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى, وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} واحتج الامام أحمد رحمه الله: وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعا من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق الحديث على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقا لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبير. وأما قول المعترض أن النصارى يقولون أن المسيح ابن الله نعم قاله طائفة وطائفة قالوا هو الله والطائفة الثانية قالوا هو ثالث ثلاثة وبهذه الطرق الثلاثة عبدوا المسيح عليه السلام فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان. أما المسيح فعبادتهم له بالتأله وصرف خصائص الالهية من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فأخبر أن الالهية وهي العبادة حق الله لا يشركه فيها أولوا العزم ولا غيرهم يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وأما عبادتهم للأحبار والرهبان فإنهم أطاعوهم فيما حللوه

لهم من الحرام وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال. ولما قدم عدي ابن حاتم رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره إلى الشام وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيا فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما تاى هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال يارسول الله لسنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال بلى قال: فتلك عبادتهم. ففيه بيان من أشرك مع الله غيره في عبادته وأطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه ربا ومعبودا وهذا بين بحمد الله. فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى قولهم: وفعلهم وعلى كل من عبد مع غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد وألفوا الشرك وأحبوه وأحبوا أهله فترى مآب هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية والاقبال على تدبير الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ومثل قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة وحده ولا

يشركوا فيها أحدا من خلقه فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح ابن مريم ويعبدون أحبارهم ورهبانهم. وتأمل قوله: كلمة سواء بيننا وبينكم وهذا هوالتوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقوله: لا نشرك به شيئا يعم كل الشرك دق أو جل كثر أو قل. قا ل العماد بن كثير في تفسيره هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ولا وثنا ولا وصنما ولا صليبا ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له. قلت وهذا هو معنى لا اله الا الله ثم قال وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} انتهى المقصود. وقال رحمه الله: في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال محمد بن اسحاق حدثنا بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال أبو رافع القرضي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس أو ذاك منا يا محمد إليه تدعونا أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر

بعبادة غير الله وما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما ينبقي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس أعبدوني من دون الله أي مع الله وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا لمرسل فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأخرى. ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا المؤمن أن يأمر الناس بعبادته وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا يعني أهل الكتاب وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} أي بعبادة أحد غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لا يفعل ذلك لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرونكم بالايمان وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} انتهى. وهو في غاية الوضوح وبيان التوحيد وخصائص الربوبية والالهية ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن وفي السنة من الأحاديث كذلك فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحدا بعبادتهم فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلون قول صاحب البردة.

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة واللياذ الذي هو من أنواع العبادة وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة والالتجاء إلى غير الله وهذه هي معظم العبادة كما أشير إلى ذلك كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله تعالى: {قوله الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وقوله:- إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا والا فقل يا زلة القدم هذا القول المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} الآية. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة وأحب الناس إليه يا فاطمة سليني من ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا. فتأمل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين ثم المصادمة منه لما ذكره الله تعالى وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم وكقوله تعالى لرسوله: {لَيْسَ لَكَ

مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية وأمثال هذه الآية كثير لم ينسخ حكمها ولم يغير ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذبا وأضل الناس بغير علم وتأمل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة والله أعلم وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله بل لغيره وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وفي الحديث الصحيح لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله, قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في الهيته وربوبيته والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا أيضا كالذي قبله لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وقال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ

مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوق الحصر وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والإلهية ألتي بعث الله رسله وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها لله سبحانه دون كل من سواه وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله على ماشاء من الغيب بوحيه إليهم فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة وما جرى عليهم كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك أطلع الله عليه رسوله والمؤمنين عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله وآمنوا به وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها وما كان منها وما وما لم يكن فذاك إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من خلقه فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فما أجرأ هذا القاتل على الله في سلب حقه وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه ووقع فيه وأقره

ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان. انتهى. قلت وقد رأينا ذلك والله عيانا من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة أشربت قلوبهم الشرك والبدع واستحسنوا ذلك وأنكروا التوحيد والسنة وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا. وأما قول الناظم فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا البيت. فهذا من جهله إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل أن الاتفاق في الإسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم هم من أتباعه على دينه والعمل بسنته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وكما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد علموا أن ابننا لا يكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ومات على ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرنك لك ما لم أنه عنك أنزل الله سبحانه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالايمان به وبما جاء به من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له ومحبته واتباعه وتعظيم أمره ونهيه والدعوة إلى ما بعث به من دين الله والنهي عما نهى عنه من الشرك بالله والبدع وإلا فلا فعكس الملحدون الأمر فطلبوا الشفاعة الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره وقتال أهله وإحلال دمائهم وأموالهم وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد وعداوة من قام به واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله: من قوله: ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه. وأما قول الناظم ولن يضيق رسول الله جاهك بي البيت. فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين من اتخاذ الشفعاء ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله زلفى قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . فهذا هو دين الله لا يقبل الله من أحد دينا سواه ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فتأمل كون الله تعالى كفرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا

مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} قل لله الشفاعة جميعا قلت وقد وقع من هؤلاء من اتخذهم شفعاء بدعائهم وطلبهم ورغبتهم والالتجاء إليهم وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه. وقد أخبر تعالى أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره وهو الذي له ملك السموات والأرض كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه وأسجل عليهم بالضلال ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . فبين أن دعوتهم غير الله شرك بالله وأن المدعو غيره لا يملك شيئا وأنه لا يسمع دعاء الداعي ولا يستجيب وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه ومن صاحبه يوم القيامة فمن تأمل هذه الآيات انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات ومما يشبه هذه الآية في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه واعتماده في حصول الشفاعة عليه كما قد تضمنه بيت الناظم قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

فانظر كيف حرمهم الشفاعة لما طلبوها من غير الله وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم في دار العمل من غيره وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع ورضاه عن المشفوع له وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية. إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} . وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا" وقال أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه". قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله وقد كشفنا بحمد الله بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافترائه على الله ورسوله فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد وأن اتخاذ الشفعاء إنما هو

بدعائهم والالتجاء إليهم وسؤالهم أن يشفعوا للداعي وقد نهى الله عن ذلك وبين أن الشفاعة له فإذا كانت له وحده فلا تطلب إلا ممن هي ملكه فيقول اللهم شفع نبيك في لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه وهو الإخلاص كما تقدم بيانه وأما قول المعترض أن المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين. فأقول لاريب أن قولهم: هذا بدعة وضلالة وأنت أيها المجادل في آيات بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض تقول إن الشفاعة ثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع فجعلت طلبها موجبا لحصولها والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة بحمد الله والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده ورغب إليه فيها وأخلص له العبادة بجميع أنواعها فهذا هو الذي تقع له للشفاعة قبل دخول النار أو بعده أن دخلها بذنوبه وهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الا خلاص كما صرحت بذلك الأحاديث والله أعلم. وقد قدمنا مادل عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا بطلب الشفاعة منه فيرغب إليه في حصولها كما في البيت المتقدم وهو كفر كما صرح به القرآن. وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة ودانوا به والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: أنا لها أنا لها لا ينافي ما تقرر وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى

الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب وكل نبي ذكر عذره. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ""فيأتوني فأخر بين يدي الله ساجدا أوكما قال فأحمده فأبمحامد يفتحها علي ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع واسأل تعطه واشفع تشفع قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة". فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه بما هو أهله وقوله: فيحدلي حدا فيه بيان أن هو الذي يحد له وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول لله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة ففرق أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الأمة وأفضلها بين حالتي الحياة والممات وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله: صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم ولما أردا عمر رضي الله عنه أن ستسقي بالناس أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيدعو فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم وصار هذا إجماعا منهم

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام قال أبو الحسن أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم: لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله على خلقه. وقال ابن بلدمي في شرح المختار ويكره أن يدعوا الله إلا به فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لاحق للمخلوق على الخالق وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب فإذا قرر الشيطان عنده أن الأقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع بقضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته واتخاذه عيدا ومنسكا وإن ذلك نفع لهم في دنياهم وأخراهم. قال شيخنا قدس الله روحه وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس قال وهؤلاء من جنس عباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعوا أحدهم من يعظمه ويتمثل لهم الشيطان أحيانا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة.

ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به وقال: وهو بدعة باتفاق المسلمين. والثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أوأنه أفضل من الدعاء في المساجد فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين وإن كان كثيرا من الناس يفعل ذلك انتهى. ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمره الله به ورسوله من إخلاص العبادة لله وحده فإنه الدين الذي بعثه به وأن يترك مانهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشر ك فها دونه كما قال تعالى: َ {لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية وأن لا يدين لله تعالى إلا بما دل له الدليل على أنه من دين الله ولا يكون أمعة يطير مع كل ريح فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته وما يجب له على عباده وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة فإن العلم معرفة الهدى بدليله وما ليس كذلك فجهل وضلال. وأما قول المعترض فأنظر إلى الشفاعة تجده حكي كفر من قال: مثل هذه الكلمة أي الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} الآيات. ذكر عبارة النسفي في معناها وهي قوله: هو إظهار العبودية وبراءة مما يختص بالربوبية من علم

الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر إلى آخر كلامه إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد ونفي الشرك بالله وذلك تعظيم لجانب الرسالة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤل بهم إلى الغلو ولما قيل له صلى الله عليه وسلم أنت سيدنا وخيرنا وابن خيرنا قال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله تعالى". والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه وفي الحديث فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك الحديث. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه ويعترف بذلك لربه وهو الصادق المصدوق فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر بما اخبر به عن نفسه لم يكن منتقصا له بل هذا من تصديقه والإيمان به. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة فإن المقام أجل من ذلك وكل ما سوى الله يتلاشى عن تجريد توحيده والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه وإن كان نفسه المسلوب كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء واخبرها النبي صلى الله عليه وسلم.

بذلك قالت لها أمها إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم قالت والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام الذي نفت فيه أن تحمد رسول لله صلى الله عليه وسلم وفي رواية بحمد الله لا بحمدك ولم يقل أحد هذا سوء أدب منها عليه صلى الله عليه وسلم: وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم قال: سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لبعد الله بن المبارك قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بحمد الله لا بحمدك إني لأستعظم هذا فقال عبد الله ولت الحمد أهله وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال اللهم أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله. وهذا المعترض وأمثاله ادعوا تعظيم أمرر سول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء وهضموا ربوبية الله وتنقصوا الهيته وأتوا بزخارف شيطانية وحاولوا أن يكون حق الله من العبادة التي خلق لها عباده نهبا بين الأحياء والأموات هذا يصرفه لنبي وهذا لملك وهذا لصالح أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم ندادا لله وعبدا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله فإن عبادتهم للملائكة والأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين وأمرهم بها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قالوا لُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ونحو هذه الآية كثير في القرآن. ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله: ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: وهذا هضم للربوبية وتنقص للإلهية وسوء ظن برب

العالمين وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى: عنهم وهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وأما ما ذكره عن خالد الأزهري فخالد وما خالد أغرك منه كونه شرح التوضيح والأجرومية في النحو وهذا لا يمنع كونه جاهلا الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم وأقدم منه ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فيما أنكر ذلك في شيء من كتبه ولا نقل عنه أحد إنكاره فلو صح ما ذكره خالد من حال الناظم لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع والأحاديث الواضحات البينات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار" وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام وما أحسن ما قال بعضهم شعرا:- تخالف الناس فيما رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... أما عن الله أو عن سيد البشر وقد حاول هذا الجهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها ونص في ما دلت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية ومشاركة الله في علمه وملكه وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك

والغلو فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال لوسكت لسلم من الانتصار لهذا من الشرك العظيم الذب وقع فيه. وأما قول المعترض ورد في الحديث "لولا حبيبي محمد ما خلق سمائي ولا أرضي ولا ناري" فهذا من الموضوعات لا أصل له ومن ادعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث وأنى له ذلك بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين. وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السموات والأرض في كثير من سور القرآن كما في الآية التي بعد وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ولها نظائر تبين حكمة في خلق السموات والأرض وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته أوفي الآخرة وبعد وفاته. أقول هذا كلام من اجترى وافترى وأساء الأدب مع الله وكذب على رسوله ولم يعرف حقيقة الشفاعة ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه أومن بعدهم من أئمة الإسلام أن أحد يتصرف يوم القيامة في ملكه ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاها كل لمعبوده من نبي أو صالح أنه يشفع له إذا دعاه سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ

صَوَاباً} وهذا القول الذي قاله الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر يقول الذي يتصرف الكون سبعة البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي حتى أكمل السبعة من الأموات يقول هذا ولي له شفاعة وهذا صالح كذلك وقد قال تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وأي ظلم أعظم من الشرك بالله ودعوى الشريك له الملك والتصرف وهذا غاية الظلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: في هذا المعنى قوله تعالى: ِ {قُلِ دْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا الله ولم يبق إلا الشفاعة التي يظنها المشركون وهي منتفية كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع وقال له أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله": وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود: فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبت الشفاعة

بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون الا لأهل التوحيد والاخلاص انتهى كلامه: وقال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا فقال تعالى: {قُلِ دْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فالمشرك انما يتخذ معبودة لما يحصل له به من النفع والنفع لايكون الا ممن فيه خصلة من هذه الأربع أما ما لك لما يريده عابده منه فان لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا فان لم يكن معينا ولاظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية نور وبرهانا وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك وموادة لمن عقلها وفي القرآن كثير من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع. قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا فهذا الذي يحول بين القلب وفهم القرآن ولعمر الله ان كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو دونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك إلى أن قال ومن أنواعه أي الشرك طلب الوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شركة العالم فان الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله وهذا بجهله بالشافع والمشفوع عنده فانه لا يقدر أن يشفع له

عند الله إلا بإذنه والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها وهذه الحالة كل مشرك فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى تنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياء التوحيد له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم يوالونهم عليه وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه والهه ومعبوده فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا لمرضاته وإذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله وبالله ومع الله انتهى. فرحم الله هذا الإمام وشيخه فلقد بينا للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله. وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" ولم يقل فاسألني واستعن بي بل قصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحق سواه كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله وأشرك بالله. وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه وإنما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وإبطاله كجنس ما تقدم.

وأعلم أنه قال لما ذكر قول المجيب أنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد وقال المعترض أقول يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة ولا يقدح فيه تشفعه بأحباب حبه إليه وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث أنا لها أنا لها ومعلوم أن الضلال ضد الحق. فالجواب لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب حيث أنه لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال وأن اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب فإن طلبها من الأموات والغائبين طلب لمما لا يقدر عليه الا الله من غير الله وهو خلاف لما أمر به تعالى وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية وقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد وفاته وبعده عن الداعي لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم وشيخه وصرحا بأنه شرك وللعلامة ابن القيم أبيات في المعنى وهي قوله:- والشرك فهو توسل مقصود الزلفى من الرب العظيم الشأن بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان والناس في هذا ثلاث طوائف ... ما رابع أبدا بذي إمكان

أحدا الطوائف مشرك بالهه ... فاذا دعاه دعا الها ثان هذا وثاني هذه الأقسام ذلك جاحدا يدعو سوى الرحمان هو جاحد للرب يدعو غيره ... شركا وتعطيلا له قدمان هذا وثالث هذه الأقسام خير ... الخلق ذاك خلاصة الانسان يدعو إله الحق لا يدعو ولا ... أحدا سواه قط في الأكوان يدعوه في الرغاب والرهبات ... والحالات من سر ومن إعلان وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة وذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا أو الملائكة فأنكر الله ذلك وقال هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم من أوليائه وأحبابه وقد تقدم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة حق الله المحض كما تقدم في الآيات. والحاصل أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعا من دونه يسأله ويرغب إليه ويلتجيء إليه وهذه هي العبادة ومن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد أشرك مع الله غيره كما دلت عليه الآيات المحكمات وهذا ضد أفراد الله بالعبادة وكيف يتصور إفراد الله بالعبادة وقد جعل العبد ملاذا ومفزعا سواه فإن هذا ينافي الأفراد فأين ذهب عقل هذا وفهمه. قال لشيخ الإسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة انتهى.

وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة وهو ما يحبه ويأمر به عباده وأن يخلصوه له وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره. وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض إن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار فنقول فمن اتخذ معبودا سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر وتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعي من دون الله وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن كما حجبوا عن الإيمان بجهلهم وضلالهم وإعراضهم كما أنزل في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تعالى: وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده لا يدعى إلا هو ولا يخشى ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له وأن لا يتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع غيبته وموته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج كأنه مشبه بالله فيخرجون عن حقيقة التوحيد الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله انتهى. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله

واستعان على الله وحده وابن عباس أحق الناس بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد وا لإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال ولاستعانة على الله تعالى فأين ذهبت عقول هؤلاء الضالين عن هذه النصوص والله الستعان0 وقال الشيخ رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين دعاء العبادة ودعاء المسألة وكل عابد سائل وكل سائل عابد وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده وإذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ المسئول والطلب ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ولا يتصور أن يخلو داع الله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغبة والرهبة والخوف والطمع انتهى. فتبين أن أبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها تنافي الحق وتناقضه وماذا بعد الحق إلا الضلال. وقول المعترض لا سيما والناظم على جانب عظيم من الزهد والورع والصلاح بل وله يد في العلوم كما حكى ذلك مترجموه وهذا كله صار هباء منثورا حيث لم يرضوا عنه. أقول هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب والظاهر أنه لا حقيقة لذلك فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة فلو قدر أن لذلك أصلا فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا قال سفيان بن عيينة احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد

الجاهل فان فتنتهما فتنة لكل مفتون فإن كان للرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثير من الجهال وعبادته إن كانت فلا تمنع كونه ضالا كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة قال سفيان بن عيينة من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يسخط الله ورسوله من الشرك والغلو وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات فيسعنا السكوت عنه لأنا لا ندري ما آل أمره إليه وما مات عليه وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه وأهل الغلو والشرك ليس عندهم إلا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض كما قال لي بعض علماء مصر أن شيخنا مشى بأصحابه على البحر فقال لا تذكروا غيري وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر فأخذ بيده الشيخ فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري فقلت هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان أو أنها حال شيطانية وأسألك أيها الحاكي لذلك أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله فأقر وقال لا حجة فيها على ذلك والمقصود بيان أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه أو حرفوه أو كذبوه وما قال الله وقال رسوله فهذا بحمد الله كله عليهم لا لهم وما حرفوه من ذلك رد إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقة وتضمنا والتزاما. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وذكر المعترض حكاية يقول: عن غير واحد من العلماء العظام أنه رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه إلى قوله: لكن الخصم مانع ذلك كله بقوله: إنهم كفار.

فالجواب: أن يقال ليس هذا وجه المنع وإنما وجهه إنها حكاية مجهولة عن مجهول وهذا جنس إسناد الأكاذيب فلو قيل من هؤلاء العظام وما أسماؤهم وما زمنهم وما طبقتهم لمن يدر عنهم وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة ولا رواية يقظة فكيف إذا كانت أحلاما والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيا بن بيا ثم قال المعترض على قول المجيب وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعا وعقلا قال المعترض من أين هذا الامتناع وما دليله من العقل والسمع. فالجواب: أن يقال معلوم أن دليله من الجهتين لا تعرفه أنت ومن مثلك وإنما معرفتك في اللجاج الذي هو كالعجاج الذي يحوم في الفجاج. أما دليله من السمع فقد تقدم في آيات سورتي الزمر ويونس وغيرها وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته فليرجع إليه. وأما دليله من العقل فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده وإخلاص الدعاء والالتجاء له وإليه لأن الخير كله بيده وهو القادر عليه وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فالذي له الخلق والأمر والنعم كلها منه وكل مخلوق فقير إليه لا يستغني عنه طرفة عين هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه ويرهب منه ويتخذ معاذا وملاذا ويتوكل عليه.

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال المفسرون المحققون السلفيون المتبعون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الايمان ذكره العلماء في تفسيره وليتأمل ما ذكره لله عن صاحب ياسين من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فهذا دليل فطري عقلي سمعي وأما قول المعترض أن قول الناظم ومن علومك علم اللوح والقلم أن من بيانية. فالجوب: أنه ليس كما قال بل هي تبعيضية ثم لو كانت بيانية فها ينفعه والمحذور بحاله وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ وقد صرح المعترض بذلك فقال ولا شك إنه أتي علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما يكون فالجواب: هذه مضاربه لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله وحده كذلك علم الأولين والآخرين ليس إلا لله وحده إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه كما قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فالرجل في عمي عن قول من عمله الله تعالى بشيء من علمه وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ

بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقد تقدم الكلام لهذه الآيات نظائر فإحاطة العلم بالموجودات والمعلومات التي وجدت وأستوجدت لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه. وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وأمثال هذه الآيات مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله إلا ما استشناه بقوله: {ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ومن تبعيضية ها هنا بلا نزاع وقد قال الخضر لموسى عليها السلام ما نقص علمي وعمك في جانب علم الله الا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر فتأمل هذا وتدبر وأما قول المعترض وتأويله لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فتأويل فاسد ما قاله غيره ولا يقوله: مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له والمنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله ذلك فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل وما أجهله بالله وبكتابه فيقال في الجواب لا ينفعك هذا التأويل الفاسد إذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعليم الله لصدق عليه أن يقال هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله فيها بقي على هذا لقصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى وحصل الاشتراك نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابه وصرف ما لم ينزل الله به سلطانا وأما قوله: في قول الناظم إن لم تكن في آخذا بيدي أن الأخذ باليد هي الشفاعة فالجوب: أن حقيقة هذا القول وصريحة طلب ذلك من غير الله فلو

صح هذا الحمل فالمحذور بحاله لما قد عرفت من الاستغاثة بالأموات والغائبين والاستشفاع بهم في أمر هو من الله ممتنع حصوله من غير الله لكونه تألها وعبادة وقد أبطله القرآن فهذا المعترض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه وملكه وشمول علمه والله يجزيه بعلمه وأما قول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فقيل المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علمه الله كل شيء حتى الخمس. فالجوب: أنظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد كيف اقتفى أثر صاحب الأبيان بجميع ما اختلقه وافتراه وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم فان قوله: ذكر عامة أهل أنه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم من هذه المقالة وعامة أهل العلم بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفا وخلفا. قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله: في تفسير الكبير الذي فاق على التفاسير ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} والتي تقوم فيها القيامة لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء لا يقدر على ذلك أحد غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الإناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} يقول وما تعلم نفس ماذا تعمل في غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} يقول وما تعلم نفس حي بأي أرص يكون موتها {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كل أحد سواه وذكر

سنده عن مجاهد {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا جدبة فاخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فمتى أموت فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخر السورة قال: فكان مجاهل يقول من مفاتيح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . وأخرج بسنده عن قتادة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع علهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وبسنده عن عائشة رضي الله عنها من قال إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب وأعظم الفرية على الله قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وبالسند عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية ثم قال: لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت. وبسنده عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية انتهى ما ذكره ابن جرير وذكر البغوي في تفسير حديث ابن عمر وعائشة المتقدم ثم قال: وقال

الضحاك ومقاتل: مفاتيح الغيب خزائن الأرض وقال عطاء ما غاب عنكم من الثوب وقيل انقضاء الأجل وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم وقيل ما لم يكن بعد أن يكون أم لا يكون وما لا يكون كيف يكون وانتهى. قلت ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه وما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه العلماء فان الله استأثر بعلمه عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء والتكذيب. وأما قول ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تجدي إليكم شيئا لذكرناها لكنها تمحى بلفظة واحدة وهي أنهم كلهم كفار فلا نقبل منهم لأحد ومن هذه حاله فلا حيلة به. فالجوب: أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات ومعاذ الله أن يقول المجيب إن هؤلاء كفار ولا يوجد عن لأحد من علماء المسلمين أنه كفر أحد قد مات من هذه الأمة فمن ظاهره الإسلام فلو وجد في كلامه زلة من شرك أو بدعة فالواجب التنبيه على ذلك والسكوت عن الشخص لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فإنهم من المتأخرين الذين نشأوا في اغتراب من الدين والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام مخالفة لما عليه السلف وأئمة الإسلام من الإرجاء ونفى حكمة الله وتأويل صفات الله وسلب معانيها ما

يقارب ما في كشاف الزمخشري والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر وكلاهما في طرفي نقيض وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم ومع هذا فقال شيخ الإسلام البلقيني استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف ما فيه من لطيف المعنى ثم قال:- ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا وينسب إبداء المعاني لنفسه ... ليوهم أغمارا وإن كان سارقا ويسهب في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يقول فيها الله ما ليس قائلا ... وكان محبا في المخاطب وامفا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما أن ولجوه المضائقا إلى أن قال: لئن لم تدركه من الله رحمة لسوف يرى للكافرين مرافقا فإذا كان هذا في تفسير مشهور وصاحبه معروف بالذكاء والفهم فما دونه من المتأخرين أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف وقام عليه الدليل وهذا المعترض من جهله يحسب كل بيضاء شحمةيعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف ولا يعرف ما هو الأفضل ولو كان له أدنى مسكة منفهم ومعرفة للعلماء ومصنفاتهم لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة التي نقلنا منها تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وتفسير الحسين بن مسعود البغوي وتفسير العماد إسماعيل ابن كثير فهذه أجل التفاسير

ومصنفوها أئمة مشهورون أهل السنة ليسوا بجهمية ولا معتزلة ولا قدرية ولا جبرية ولا مرجئة بحمد الله وأكثر ما في هذه التفاسير الأحاديث الصحيحة وآثار الصحابة وأقوال التابعين وأتباعهم فلا يرغب عنها إلا الجاهلون الناقصون المنقوصون والله المستعان. والمصنفون في التفسير وغيره غير ما ذكر البيضاوي وأبي السعود البحر لأبي حيان لأنه كثير ما ينقله في تفسيره عن السلف والأئمة وكذلك تفسير الخازن وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعد عن تقليد المتكلفين وذكر عباراتهم ويعتمد أقوال السلف فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه وعلى كل حال فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري وكل يؤخذ من قوله: ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول المعترض على قول المجيب علماؤهم شر من تحت أديم السماء فيقال: هل ورد هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار مجوس أو فيما يأتي فهذه شناعة على غالب علماء الأمة ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم. فالجواب: أن هذا كلام من لا يعقل ولا يفهم شيئا ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". رواه البرقاني في صحيحه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت إحدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وهذه

الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة رضي الله عنهم الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس وأكثر الصحابة موجودون ومن دعاتهم معبد الجهني وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك وكذلك الغلاة في علي الذي خذ لهم على الأخاديد وحرقهم بالنار ومنهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير ادعى النبوة وتبعه خلق كثير. ثم ظهرت فتنة الجهمية وأول من أظهرها الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة متوافرون وقت ظهور مبادي هذه البدع لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة ولا غضاضة لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق وصح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي على الناس زمان ولا والذي بعده شر منه" حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة وأنكرها وناظرهم وانتشرت في زمن الإمام أحمد رحمه الله: والفقهاء وأهل الحديث وامتحن الإمام أحمد فتمسك بالحق وصبر وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار في الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن المعطلين لصفات الملك الديان كالإمام أحمد في رده المعروف وابنه عبد الله وعبد العزيز الكناني في كتاب الحيده وأبي بكر الأثرم والخلال وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي وأبي عثمان الصابوني وقبلهم وبعدهم ممن لا يحصى وهذا كله إنما هو القرون الثلاثة المفضلة ثم بعدها ظهرت كل بدعة الفلاسفة وبدعة الرافضة وبدعة المعتزلة وبدعة المجبرة

وبدعة أهل الحلول وبدعة أهل الاتحاد وبدعة الباطنية الإسماعيلية وبدعة النصيرية والقرامطة ونحوهم. وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان والبلد الواحد من هذه الأمصار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة وهؤلاء يناظرون هؤلاء ويناضلونهم بالحجج والبراهين وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيكون غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية "يصلحون ما أفسد الناس". وقد صنف العلماء رحمهم الله في بيان الاثنتين والسبعين فرقة عدة مصنفات وبينوا ما تنتحله كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية وليس على الفرقة الناجية شناعة ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة والاحتجاج بالحق ونصرته وما ظهر فضل الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق ونصرته وردهم الباطل وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وأصحابه حين أجلب عليهم أهل البدع وآذوهم بل أظهر الله بهم السنة وجعل لهم لسان صدق في الأمة وكذلك من قبلهم ومن بعدهم كشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لما

دعا إلى التوحيد وبين أدلته وبين الشرك وما يبطله وفيه قال الإمام العلامة الأديب أبوبكر حسن بن غنام رحمه الله: تعالى:- وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناس ترتع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالأمعي ترفع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع فهذا المعترض لو تصور وعقل لتبين له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه وقول المعترض وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان ولو قيل إن هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة منها قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة". فالجواب: أن نقول الأحاديث التي وردت في غربة الدين وحدوث البدع وظهورها لا تختص بمكة والمدينة ولا غيرهما من البلاد والغالب أن كل بلد لا تخلوا من بقايا متمسكين بالسنة فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين والواقع يشهد لما قلنا وقد حدث في الحرمين في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم بل وفي وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم وقعت الحرة المشهورة ومقتل ابن الزبير في مكة وما جرى في خلال ذلك من الفتن وصارت الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء فإذا كان هذا وقع في خي رالقرون فما ظنك فيما بعد حين اشتدت غربة الإسلام وعاد المنكر معروفا والمعروف منكرا فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان.

فالجواب أن نقول مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فهذا محل الوحي ومستقره وقوله: ومنبع الإيمان الإيمان ينزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض ومحله قلوب المؤمنين وهذه السورة المكية في القرآن معلومة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من في مكة المشركون وفيها ذمهم والرد عليهم كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ونحو هذه الآيات كما في فصلت والمدثر وغيرها. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأهل الشرك لم يزالوا بها ومنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخولها بالوحي وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق وهم كانوا آخر العرب دخولا في الإسلام حاشا من جاهر وكل هذا بعد نزول الوحي ونحن بحمد الله لا ننكر فضل الحرمين بل ننكر على من أنكره ولكن نقول الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس المرء علمه وعمله فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في محل الفضل لكثرة ثوابه وأهل الباطل لا يزيدهم ذلك إلا شرا تعظم فيه سيئاتهم كما قال تعالى: في حرم مكة {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة فعمل السوء أعظم فالمعول عليه هو الإيمان والعمل الصالح ومحله قلب المؤمن والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر وقوله: ولو قيل إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره.

فأقول الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله: صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في يمننا اللهم بارك لنا في شامنا" قالوا وفي نجدنا قال: "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" قيل إنه أراد نجد العراق لأن في بعض ألفاظه ذكر المشرق والعراق شرقي المدينة والواقع يشهد له لا نجد الحجاز ذكره العلماء في شرح هذا الحديث فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يجر في نجد الحجاز يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ كخروج الخوارج بها الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكمقتل الحسين وفتنة ابن الأشعث وفتنة المختار وقد ادعى النبوة وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير وقتله وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عهده وعلى كل حال فالذم يكون في حال دون حال ووقت دون وقت بحسب حال الساكن لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل وإن كانت الأماكن تتفاضل وقد تقع المداولة فيها فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع فمحل معصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر وبالعكس وأما قول المعترض منها قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذبهم". فالجواب: أن هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم لا يميز بين الحديث وغيره وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها وكانوا في مسجد من مساجدها فسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة فأخذهم عبد الله بن مسعود وقتل كبيرهم ابن النواح وقال في الباقين لا يزالون في بلية من كذابهم يعني ذلك النفر فلا يذم نجد بنفر أحدوثا حدثا في العراق وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن

الأول ولم يبق بنجد من يصدق مسيلمة الكذاب بل من كن في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم بند يكفرون مسيلمة ويكذبونه فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصدقه لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة وما ضر المدينة سكن اليهود فيها وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معقل الإسلام وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له بل هي أحب أرض الله إليه فإذا كان الأمر كذلك فأرض اليمامة لم تعص الله وإنما ضرت المعصية ساكنيها بتصديقهم كذابهم وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله فطهر الله تلك البلاد منهم ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام فصارت بلادهم بلاد إسلام بنيت فيها المساجد وأقيمت الشرائع وعبد الله فيها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم فقاتلوا مع المسلمين فنالت تلك البلاد من الفضل ما نال غيرها من بلاد أهل الإسلام على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال وهو بمكة لأصحابه: "أرأيت دار هجرتكم" فوصفها ثم قال: فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو يثرب ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق وكفى بهذا فضلا لليمامة وشرفا لها على غيرها فإن ذهاب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر فظهر ذلك الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر فقام الداعي يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل من أفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه وإقامة الفرائض والعمل بالواجبات والنهي عن مواقعة المحرمات وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجد واليمامة بمسيلمة.

إذا عرف ذلك فليعلم أن مسيلمة وبنو حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا أوعنادا وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله رسله من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك فجوزوا أن يدعى مع الله غيره وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن وجوزوا أن يستعان بغير الله وقد نهى الله ورسوله عن ذلك وجوزوا الالتجاء إلى الغائبين والأموات والرغبة إليهم وقد نهى الله ورسوله عن ذلك أشد النهي وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكا في إلهيته وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها وقد قال تعالى: مبينا لما اختص به من شمول علمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} الآيات. وهذه الأصول كلها في الفاتحة يبين الله تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اختصاص الله بالحمد لكماله في ربوبيته والهيته وملكه وشمول علمه وقدرته وكماله في ذاته وصفاته {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته ومشيئته ليس ذلك إلا له {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه تفرده بالمالك كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها وكذلك الاستعانة وفي إياك نستعين أيضا توحيد الربوبية.

وهذه الأصول أيضا في {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فهو ربهم ورازقهم والمتصرف فيهم والمدبر لهم، {مَلِكِ النَّاسِ} هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار، لا اله الله وحده لا شريك له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قوله: {إِلَهِ النَّاسِ} ، هو مألوههم ومعبود هم لا معبود لهم سواه، فأهل الايمان خصوه بالآلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا يؤلهونه بالعبادة، كالدعاء والاستعانة والاستغاثة والالتجاء والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك. وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ، فهذا هو التوحيد العملي وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطناًَ وظاهراً وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، توحيد العلم والعمل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، يعني هو الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا ثد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الاثبات، الا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه، يعني الذين يصمد الخلائق اليه في حوائجهم ومسائلهم. قلت: وفيه توحيد الربويبة وتوحيد الآلهية، وقال الأعمش عن شقيق عن أبي وائل، الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده، وقال الحسن أيضا: الصمد الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأن جعل ما بعده تفسيرا له، وقال سفيان بن منصور عن مجاهد: الصمد المصمت الذي لا جوف له، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكل هذا صحيحة وهي صفات ربنا عز وجل، وقال

مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني لا صاحبه له وهذا كما قال تعالى: {بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو مالك كل شيء وخالقه فكيف يكون له من خلقه نظير يسامته أو قريب يدانيه تعالى وتقدس وتنزه قلت: فتدبر هذه السورة وما فيها من التوحيد الآلهية والربوبية وتنزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله ومن له بعض تصور يدرك هذا بتوفيق الله َ {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وأما قول المعترض المجيب ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أقول هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام ومع لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة فالجواب: تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام إن كان كذلك فماذا يجدي عليه وما الحجة منه على جواز الشرك وأيضا فشهادته هذه على شيخ الإسلام غير محصورة فلا تقبل، وهو لم يطلع إلا على النزر اليسير من كلام الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه، وهو في شق وشيخ الإسلام في شق، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فان كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، المؤيد بالبرهان فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تميز الحق من الباطل، وكلامه رحمه الله: في أكثر كتبه يبين هذا الشرك وينكره ويرده، كما رد على البكري حين جوز الاستغاثة بغير الله ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم أن كلام صاحب البردة داخل تحت

كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار، وأنا أورد هنا جوابا لشيخ والإسلام عن سؤال من سأله عن نوع الشرك وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل كاف واف. قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول يا سيدي أنا في حسبك وفيمن يسلم القبر، ويمرغ وجهه عليه ويقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ ونحو ذلك. الجواب: الحمد الله رب العالمين، الدين بعث الله به وسله وأنزل به كتبه وهو عبادة الله وحده لا شريك له واستعانته والتوكل عليه ودعاءه بجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآيات وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيات. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيز أو الملائكة، قال تعالى: "هؤلاء الذين تدعون عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي". فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم قال تعال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاء} الآية؛ وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فبين سبحانه أنه من دعا من دون الله من جميع المخلوقات الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه وأنه ليس له شريك في

ملكه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون كما يكون للملك أعوان وظهراء وان الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى فنفى بذلك وجوه الشرك وذلك أن من دعي من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا وإما أن يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فإنا أن يكون معاونا وإما أن يكون سائلا طالبا فإما الربع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وكما قال تعال: {وكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أربابا فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي ولا لشيخ سواء كان حيا أم ميتا اغفر ذنبي وانصرني على عدوي أو اشف مريضي أو ما أشبه ذلك ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم ون جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} والآية الثانية وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وإن قال أنا أسأله لأنه أقرب مني إلى الله ليشفع لي لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. وقد قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما غير ذلك فالله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما يشاء وشفاعة الشافع عن إذنه والأمر كله لله فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والرهبة تكون منه قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعئنا. وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه لا يمكن

أن ندعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك هو من قول المشركين والله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقد روي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية. وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أ، هـ أعلم بحالك أو يقدر على سؤالك أو أرحم بك من ربك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله تعالى أعلم وأقدر وأرحم فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق أريد به باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة فإن معناه أن يثيبه ويعطيه ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله عند قضاء حاجتك أعظم مما يقضيه إذا دعوته أنت فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكره الله ولا يسعى فيما يبغضك إليه وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرجمة والقبول منه فإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجب إذا دعوته أنا. فهذا القسم الثاني وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعونه ولكن يطلب أن يدعو له كما يقال للحي أدع لي وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا وأسال لنا ربك ونحو ذلك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر به أحد من

الأئمة ولا ورد في ذلك حديث بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنهما فقال: إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله أدع الله لنا أو استسقي لنا ونحن نشكوا إليك ما أصابنا ونحو هذا ولم يقله أحد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر بل ينحرون فيستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع. وفي الموطأ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي السنن أيضا أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره لكن خشي أن يتخذ مسجدا. وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". ولهذا قال العلماء لا يجوز بناء المساجد على القبور وقالوا إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر لا من دارهم ولا زيت ولا شمع ولا حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة في المساجد مستحبة ولا الدعاء هناك أفضل بل

اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد وفي البيوت أفضل من الصلاة عند قبر لا قبر نبي ولا صالح سواء سميت مشاهد أم لا وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقالوا هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فتخذوا تماثيلهم أصناما فالعكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان. ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين فإنه لا يتمسح به ولا يقبله وليس في الدين ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود. وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ولهذا لا يسن أن يقبل الرجل ركني البيت الذين يليان الحجر ولا يستلمهما ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين انتهى.

وقال رحمه الله: في الرد على البكري بعد كلام له سبق لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعائه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله ومن الذي قال إنك إذ استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غير نبي كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ومن الذي شرع ذلك وأمر به ومن الذي فعل من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين إحداهما أن هذه أسباب الحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله والثانية أن هذه أسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كلما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه إلى أن قال وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا وأن يستغيثوا به سواء كان ذلك عنده قبره أم لم يكن عند قبره بل نقول سؤال الميت والغائب نبيا كان أو غير نبي من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين فان أحدا منهم ما كان يقول اذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حبستك أو أقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع

التي لم يفعلها وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر "معروف" الترياق المجرب وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره وقول بعض الشيوخ اذا دعت حاجة فاستغث بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فان هذا قد وقع فيه كثير من التأخرين وأتباعهم ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون المفضلة وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام والسفر إليها محدثة في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجد. وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس "أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدا ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك" وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فلم يذهبوا إلى القبر ولا توسلوا بميت ولا غائب بل توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلا بدعائه كالإمام مع المأموم وهذا متعذر بموته. فأما قول القائل عن ميت من الأنبياء والصالحين اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا التابعين وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز فكيف يقول القائل للميت أنا استغيث بك واستجيرك وأنا في حسبك أو سل الله لي ونحو ذلك فتين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة لو قدر أن له تأثيرا فكيف

إذا لم يكن له تأثير صالح وذلك إن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين وربما كانت على صورة ذلك الغائب وربما كلمته وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام فان أحدا من الأنبياء والصالحين لم يبعد في حياته إذا هو ينهى عن ذلك وأما بعد الموت فهو لا ينهى فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا بعبد. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" إلى آخره وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية إن هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد. انتهى. وأخرج ابن أبي شيبه عن الزبير أنه رأى قوما يمسحون المقام فقال: "لم تؤمروا بهذا إنما أمرتم بالصلاة عنده" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها. فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام فهذا صريح كلامه المؤيد بالأدلة والبراهين وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا المعنى كثير جدا ولو ذكرناه لطال الجوب وأما قول المعترض بل مدح الصر صري وثنى عليه بقوله: قال الفقيه الصالح يحي بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور. فالجوب: أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره.

وقد كذب على الإقناع والشفا وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله: وفي الحديث إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وإلا فكلام شيخ الإسلام في رد ما يقوله: الصر صري وإنكاره موجود بحمد الله قال رحمه الله: في رده على ابن البكري بعد وجهين ذكرهما. الثالث: أنه أدرج سؤاله في الاستغاثة به وهذا جائز في حياته لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد العلماء ولكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة وكمحمد بن النعمان وهؤلاء لهم دين وصلاح لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام وليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه وأكثرهم من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه ويدعو به ويدعو عنده وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله أو قول عن الصحابة والأئمة وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب والدعاء عند قبر الشيخ مجاب ونحو ذلك ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب والأوثان فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها وأ، ها قد تخاطب أحدهم ولا يراها ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو لباس أو غير ذلك وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كراهة وإنما

هو من الشيطان وسببه شركه بالله وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عباد الأصنام انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الأمور الشركية وبين أسبابها. وأما قول المعترض وفيه توسل عظيم إن لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه. فالجواب: إن هذا من عدم بصيرته وكبير جهله فإن من له أدنى معرفة وفهم يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتا بعيدا فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شرفه الله بعبوديته ورسالته ودعوة الخلق إلى عبادته وحده وجهاد الناس على ذلك وبلغ الأمة ما أنزله الله تعالى عليه في الآيات المحكمات في تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله كما قدمنا الإشارة إليه. وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به بلا قصر ولا حصر للاستغاثة والاستعانة في جانب المخلوق وقد أنكره شيخ الإسلام رحمه الله: وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد بين رحمه الله: أن استغاثة الحي بالحي إنما هي بدعائه وشفاعته وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يستغاث به وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله وإن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى وعوائد نشأوا عليها بلا برهان وقد عرفت أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية وحكايات سفسطائية أو منامات تضليلية كما قال كعب بن زهير.

فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة محشوة بالأكاذيب وليس معهم بحمد الله دليل من كتاب أو سنة أو قول واحد من سلف الأمة وأئمتها وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة وما عليه الصحابة والأئمة ولو استقصينا ذكر الأدلة وبسط القول لاحتمل مجلدا ضخما. وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم وفيها من شواهد اللغة والبلاغة مالم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار وما ذاك ألا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله فزينها الشيطان في نفوس الجهال والضلال فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسوله صلى الله عليه وسلم وتحروا فيها ما يريه وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلوا فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفا ابن عقيل وهو في القرن الخامس لما صعبت التكاليف على الجهال الطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذا لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع إلى آخره ومما يتعين أن نختم به هذا الجواب. فصل: ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله: ونفعنا بعلومه قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور وأن مقصودها ثلاثة أشياء.

أحدها تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاذ الثاني الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده فيتناساه فإذا زاره أو أهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة ازداد بذلك سروره وفرحه ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط. ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. الثالث إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام قالوا الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافيه والماء على الجسم المقابل له. قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم كان أقرب إلى الانتفاع به وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وهذا بعينه هو الذي أوجد لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله قالوا فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه إليه وعكف.

بقلبه عليه صار وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم إذا جاه وحظوة وقرب من السلطان وهو شديد التعلق به مما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والأفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من رد على أهله وإبطال مذهبهم. قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره بعد شفاعة سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن برحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} . وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه بل إذا أراد سبحانه

رحمته بعبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ} قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . فالشفاعة بإذنه ليس شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل يشفع بإذنه والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك فإنه لا شريك له أثبتها شفاعة البعد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى بأذن ويقول اشفع فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذي جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له وإذنه للشافع فأما المشرك فإنه لا يرضاه ولا يرضى قوله: فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وأذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده فليس لا حد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئا إلا من بعد أذنه لهم ولا سيما يوم لا تملك لنفس شيئا فهم مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمره وأذنه فإذا أشركهم به المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل

من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب والسيد والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة به إلى أحد قط والمحتاج من كل وجه إلى غيره فالشفعاء عند المخلوقين هم شركائهم فإن قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه لذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون لقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة. قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال في سيدة آي القرآن أية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . وقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فأخبر أن ملكه السموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض

بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بإذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله: فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب وحده ألهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع له. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فبين سبحانه أن متخذي الشفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل بإتخاذهم. وسر الفرق بين الشفاعتين أن شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا أذنا بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب وهذا السبب المحرك قد يكون عند ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين

الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعالى فإنه لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها ويحبها منه ويرضى عن الشافع لم يكن أن توجد والشافع لا يشفع عند مجرد امتثال أمره وطاعته له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه. فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والنصر والمعاونة وغير ذلك كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره فكل منها محتاج إلى الآخر ومن وفقه الله لفهم هذا الموضع تبين له حقيقة التوحيد والشرك والفرق بين ما أثبت الله من الشفاعة وما نفاه وأبطله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وبما عليه الشرك والبدع اليوم علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا انتهى وبه كمل الجواب والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا جزيلا وفيا وافرا

الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي ... بسم الله الرحمن الرحيم1 الحمد لله رب العالمين وبه العون على إبطال زخرف الملحدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا معين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية ولرسوله بالبلاغ المبين وسلم تسليما. أما بعد: فاعلم أيها الطالب للهدى المتباعد عن أسباب الضلال والردى أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين المعرضين عن توحيد رب العالمين2 فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها مع تناقضها وبشاعة ما فيها فتارة تراه سائلا مسترشدا وتارة مفتيا مضللا مفندا لا يدري ولا يدري أنه فعزمت على أن أعرض ورقته على بعض أصحابنا الذين لهم ملكة في معرفة العلوم ولهم بصر ناقد وفهم مستقيم في تمييز الصحيح من السقيم لأكتفي بهم في رد ذلك الزيغ والضلال

_ 1 في الأصل: بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن قدس الله روحه. 2 هو أحمد بن علي بن أحمد بن سليمان المرائي كما نص على ذلك المؤلف في آخر الورقة 10/ب من هذه الكتاب.

والكذب المحال1 على طريق التفصيل تارة الا جمال وهذا الرجل وإن كان من أجهل العوام فإنه يحاول عرى الإسلام. ثم إني عزمت على نقض ما بناه من ذلك [الباطل] 2 على استفراغ وسع واستمهال وذلك أولى من الترك والاهمال. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. فأخذت في رد قوله: مستعينا بربنا العظيم مستعيذا بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق3 أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال: "هذا سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه" وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام: 153] الآية4 قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود وهي: أن الكثير من أهل الأزمنة وقبلها قد غرهم من أنفسهم أمران أحدهما: أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافيا ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض وما عرفوا قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "يقولون من خير قول البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 5. وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم ويمقت من يقول ولا يفعل ومن يخالف

_ 1 الأصل: والمحال 2.زيادة من "ط". 3 سورة الأنعام، الآية: 153. 4 محمد بن نصر المروزي في السنة رقم 11, وأخرجه أحمد في المسند 1/465,435 والطبري في التفسير رقم 14168 وأبو نعيم في الحلية 6/263 والحاكم في المستدرك 2/318 وصححه ووافقه الذهبي. 5 أخرجه البخاري في الصحيح رقم 3611 ومسلم في الصحيح رقم 1066 وأحمد في المسند 1/131 من حديث علي.

قوله: فعله كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] وكقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] وقد ورد ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقره في القلوب وصدقته الأعمال1. الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام ونطقهم بالشهادتين عاصم للدم والمال وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله من نفي الشرك وتركه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى كالدعاء والرجاء والتوكل وغير ذلك ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: من الآية3] وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: من الآية5] . فإن قوله: {مُخْلِصاً} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ} أي حالة كونك مخلصا له الأعمال الباطنة والظاهرة وكذلك في قوله: {مُخْلِصِينَ} حال من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا} أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم دون كل من2 سواه ولهذا قال: {حُنَفَاءَ} والحنيف هو: الموحد المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه. يقرر ذلك ما أخبر به عن قوم هود لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: من الآية65] فأجابوا ذلك بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70] . وفي قصة صالح لما قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] وكما قال قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] .

_ 1 أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل رقم 56 من كلام الحسن البصري. 2 "ط": ما.

فلا إله إلا الله ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بلك الأمم لما دعوا إلى هذا التوحيد الذي هو أصل دين الإسلام وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه وبه أرسل جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3] . إلى أمثال هذه الآيات وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لقومه قولوا لا إله إلا الله تفلحوا قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1 [صّ:5] كما هو مذكور في القرآن العزيز. فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة علة أن الرسل من أولهم إلى آخرهم إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى والنهي عن عبادة كل ما سواه وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال علي رضي الله عنه – في هذه الآية- إلا لآمرهم أن يوحدون. وقد عرفت أن هذا هو أصل الدين الذي هو أساس الملة قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43,42] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28,27,26] أي: إلى2 لا إله إلا الله. والخليل عليه السلام أتى بمضمون هذه الكلمة بقوله: إنني براء مما تعبدون غلا الذي فطرني وأبدى سبحانه وتعالى وأعاد في هذا الكتاب المجيد في النهي عن الشرك

_ 1 أخرجه الطبري في التفسير 23/125 عن ابن عباس وأصله عند أحمد في المسند 3/492, 4/341 من حديث ربيعة بن عباد الديلي. 2 "ط": إلى. ساقطة.

المنافي لهذا التوحيد وأفصح عن كفر فاعله وأسجل عليه بالوعيد الشديد فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214,213] وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] . وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [غافر: 74,73] وغير ذلك من الآيات. فأي بيان أوضح من هذا في تعريف الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره وهذا لا يختص بالدعاء بل كل نوع من أنواع العبادة صرفه لغير الله شرك عظيم. والتحقيق أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة, ودعاء وعبادة. وكلا النوعين لا يجوز1 إلا الله وصرفه لغير الله شرك ما سبق بيانه في الآيات المحكمات كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162] والصلاة هنا: تشمل الصلاة الشرعية واللغوية التي هي الدعاء كما هو مذكور في كتب التفسير. وفي حديث ابن عباس "وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"2 وفيه معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

_ 1 "ط": لا يجوز صرفه. 2 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في الجامع رقم 2518 وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد في المسند 1/307,303,293. وأفرده الحافظ ابن رجب برسالة قيمة سماها= نر الاقتباس من مشكات وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس مطبوعة ولدي منه نسخة خطية جيدة كما شرحه ضمن كتابه الحافل جامع العلوم والحكم ص 132.

وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17] وهذا من عطف العام على الخاص وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] . كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وتقديم المعمول في هذه الآيات يفيد الحصر أي: غيري وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3] وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175] . وهذه الآيات وما في معناها: تدل على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يوحدوه بأعمالهم وأن لا يجعلوا له شريكا في العبادة كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما عبدوا العجل {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] . وقال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4-5] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وهذا هو الشرك في الطاعة كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] فذكر في هذه الآية الشرك في الطاعة والشرك في الألوهية وهذا بين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه1.

_ 1 أخرجه الترمذي في الجامع رقم 3094 وحسنه في بعض النسخ, وابن جرير في التفسير رقم 61632 وابن أابي شيبة في المصنف 13/411, وانظر بقية التخريج في كتاب الانتصار

وأما الربوبية فقد أقر بها أكثر المشركين من الأمم أعداء الرسل وهذا مبين في قصص الأنبياء كما في سورة الأعراف وهود والشعراء وغير ذلك. والخصومة بينهم وبين الأمم إنما هي فيما بعثوا به إليهم: من النهي عن الشرك في العبادة كالمحبة والدعاء والتوكل والرجاء وغير ذلك وعن الشرك في الطاعة وهو إيثار ما عليه الأسلاف والاعتماد على ما قالوه مما يخالف شرع الله وأحكامه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" روه البخاري1 ولمسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" 2. قال شيخنا رحمه الله: تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا اله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع3. وكلام العلماء في بيان هذا التوحيد وتقريره وبيان ما وقع فيه الأكثر من الشرك وعبادة الأوثان أكثر أن يحصى ونذكر طرفا منه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: في الرسالة السنية لما ذكر الخوارج ومروقهم من الدين فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ومرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الأزمان قد يمرق أيضا وذلك بأسباب منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] الآية وعلي رضي الله عنه حرق الغالية فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم وكذلك الغلو

_ 1 البخاري في الصحيح رقم 6683,4497,1238 وأخرجه أحمد في المسند 1/464,462,425,374 2 مسلم في الصحيح رقم 23. 3 كتاب التوحيد الباب الخامس المسألة الخامسة 26 "القسم الأول بمجموعة المؤلفات العقيدة".

في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أنصرني أو أغثني أو أرزقني أو أجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل ليعبدوه وحده لا يجعلوا معه إلها آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر وتنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء: 55 57] وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة. إلى أن قال: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو1 التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 2 وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" 3

_ 1 "ط": وهي. 2 أخرجا ابن ماجه في السنن رقم 2131 وأحمد في المسند 1/347,283,214 والبخاري في الأدب المفرد رقم 783 واللفظ له وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت رقم 345 والطبراني في الكبير رقم 13005, وانظر بقية التخريج في كتاب فتح المجيد يسر الله نشره. 3 انظر تخريجها في كتاب فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد.

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. واتفق العلماء من السلف أهل السنة والجماعة أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره انه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا: لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه فأعظم آية في القرآن الكريم آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة" 1 وإلإله: هو الذي يألهه القلب له واستعانة به رجاء له ومحبة وخشية وإجلالا انتهى.2 وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: تعالى: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو ان يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويغضبون لمنتقصي معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ويزعمون أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم من الحجر والبشر قال الله تعالى: حاكيا عن أسلاف هؤلاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] وما أعز من يتخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره.

_ 1 أخرجه أو داود في السنن رقم 3116 وأحمد في المسند 5/233 والحاكم في المستدرك 1/351 وصححه ووافقه الذهبي من حديث معاذ. 2 الوصية الكبرى للحافظ ابن تيمية 35-36-48-56.

والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن اشفاعة كلها له. وذكر: قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الاية [سبأ 23,22] ثم قال والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقص عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وهذا لأنه لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه فوقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بمتابعةالرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا. والله المستعان. ثم قال: وأما الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله وقوله: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك ومالي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. قلت: فلما قال وقد يكون أكبر أخذ يبين أنواع الأكبر فقال: ومن أنواعه النذر لغير الله والتوكل على غير الله والعمل لغير الله والإنابة لغير الله والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من غيرهوإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد أنقطع عمله وهو لايملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به أو ساله أن يشفع له عند الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله تعالى لا يشفع عنده1 إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد.

_ 1 "ط": عنده أحد.

فجاء هذا المشرك بسبب بمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أنترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة1 فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد انتقصوا2 الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36,35] وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى. فرحمة الله ومغفرته ومرضاته على هذا الشيخ ما أحسن بيانه وأوضحه فقد صرح بان هذا هو الشرك الأكبر فبطل ما افتراه عليه المشركون. وهذا الذي ذكره هو الذي عمت به البلوى في كثير [من] 3 الأمصار في هذه الأعصار وهو الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر إلا أن يتاب منه قبل الوفاة وقال رحمه في الكافية الشافية شعرا: والشرك فهو توسل مقصوده ... الزلفى من الرب العظيم الشان بعبادة المخلوق4 من حجر ومن ... بشر ومن قبر5 ومن أوثان6

_ 1 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 975 من حديث وأخرجه أيضا من حديث عائشة رقم 974 والنسائي في المجتبى 4/91 وأخرجه الترمذي في الجامع رقم 1053 من حديث ابن عباس وأخرجه أحمد في المسند 2/375 من حديث أبي هريرة بألفاظ مختلفة. 2 "ط": تنقصوا. 3 ساقط من الأصل. 4 الأصل: المخلوق أيا كان. 5 الأصل: ومن قبر. 6 الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية 211.

ومنها أيضا1 والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران وه اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان2 قال في الاقناع: قال شيخ الإسلام: من دعا على بن أبي طالب فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر. وقال أيضا: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا3 وقال العلامة في الكافية أيضا: فتوسط الشفعاء والشركاء ... والظهراء أمر بين البطلان مافيه إلا محض تشبيه لهم ... بالله وهو فأقبح البهتان4 وقال بعض شيوخنا5 رحمهم الله تعالى: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيدا الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها وقال محمد بن اسماعيل الأمير الصنعاني6 رحمه الله: تعالى: الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خلقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وأنه الذي خلق السموات والأرض7 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ

_ 1 ما بينها ساقط من "ط". 2 المصدر السابق 157. 3 الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي 4/297. 4 الكافية الشافية 213. 5 المؤرخ الأديب النحوي أبوبكر حسين بن غنام الاحسائي ت 1225 هـ عنوان المجد 1/311. 6 الكحلاني المعروف بالأمير من ذرية الحسن رضي الله عنه فقيه محدث. ت 1183. البدر الطالع 2/133. 7 ما بينهما ساقط من "ط".

الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وبأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] . وهذا فرعون مع علوه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 14] وقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحشر: 39] وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر: 36] وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم ولذا تحتج عليهم1الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الآية:2 والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه. الأصل الخامس: أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل ولم تستعمل إلا في الخضوع لله لأنه مولي أعظم النعم حقيق3 بأقصى غاية الخضوع كما في الكشاف. ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته – التي إليها دعت جميع الرسل- وهي لا إله إلا الله. والمراد اعتقاد معناها لا مجرد قوله: اباللسان ومعناها: إفراد الله بالعبادة والاهية والنفي والبراءة من كل معبود

_ 1 "ط": ولهذا تحتج الرسل. 2 الآية. ليست في "ط". 3 الأصل: حقيقا. تحريف.

دونه وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان العربي فقالوا: أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. انتهى1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله" لكن جاءت مقيدة بالاخلاص واليقين وبموت2 عليها وكلها مقيدة بالقيود الثقال. وأكثر من يقوله: الا يعرف الإخلاص ولا اليقين وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قول الله تعال حاكيا عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] . وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإنه إذا قالها ويقين ومات على ذلك أمتع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته بل كانت حسناته راجحة فيحرم على النار لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب فإن كمال الإخلاص ويقينه موجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء سواه وأخوف عنده من كل شيء فلا يبقى في قلبه يومئذ إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله فهذا هو الذي يحرم على النار وإن كان له ذنوب قبل ذلك فهذا الأيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين والكراهة لا يتركن له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو النهار الليل؛ فمن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنات لا يقاومها شيء من السيئات فيرجع بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة؛ وقال رحمه الله: تعالى: وأصل الدين: أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والاستعانة بالله والخوف من الله والرجاء لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر

_ 1 تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد 23-25 "ط صبيح 1373هـ". 2 "ط": والموت.

الله1 ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له هو السنة فإن قدر أن الذي معه دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم أو يثني عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن الله ولم يكن مجاهدا في سبيله قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:4,5] . وقال رحمه الله: تعالى: في منهاج السنة – لما ذكر كلام صاحب المنازل2 وأن التوحيد عنده على ثلاثة أوجه: الأول توحيد العامة وهو شهادة أن لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, هذا هو توحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر هذا كلام صاحب المنازل وذكر بعده3 الوجهين وذكر شيخ الإسلام ما فيها من الشطح والبدعة ثم قال شيخ الإسلام-: أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .

_ 1 أمر الله. ليست في "ط". 2 أبو إسماعيل, عبد الله بن محمد بن علي الهروي حافظ ت 481. تذكرة الحافظ 3/1183, وقد شرح العلامة ابن القيم كتاب منازل السائرين هذا في كتاب مدارج السالكين. 3 "ط": بعد.

وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقوله: م: اعبد الله مالكم من إله غيره وهذا أول دعوة الرسل وآخرها قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" 1 والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح وأقصى2 السعادة في الآخرة به. ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلهية الحق في قلبك وتنفي إلهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فتقول: لا إله إلا الله فالنفي هو الفناء والاثبات هو البقاء وحقيقته: أن تفني بعبادته عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه بموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ماسواه وبالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ماسواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ماسواه3. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: إذا قام يصلي من الليل بعد التكبير "اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أ، ت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك

_ 1 ينظر في تخريجها فتح المجيد. 2 المنهاج: واقتضاء. 3 فتحكيم القوانين الوضعية بأي صورة كانت: نوع من أنواع الشرك الناقض لمعاني كلمة التوحيد واعتداء سافر على حاكمية الله وتطاول مخذول على خصائص الألوهية. فضلا عن اشتمالها على الظلم الفادح وقصورها الذي هو شأن كل عمل بشري.

خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" 1. [و] 2 قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64-66] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 161- 164] . وهذا التوحيد كثير في القرآن وهو أول الدين وآخره وباطن الدين وظاهره وذروة سنام هذا الدين3 لأولي العزم من الرسل ثم للخليلين محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم. فقدت ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا" 4 وأفضل الرسل بعد محمد إبراهيم كما ثبت في الصحيح عنه أنه قال عن خير البرية: "إنه إبراهيم"5 وهو الإمام الذي جعله الله إماما وجعله أمة والأمة القدوة الذي يقتدى به فإنه حقق هذا التوحيد وهو الحنيفية ملة قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

_ 1 البخاري في الصحيح رقم 7499,7442,7385,6317,1120 ومسلم في الصحيح رقم 769 وأخرجه أحمد في المسند 1/308,298 من حديث ابن عباس. 2 إضافة من المنهاج. 3 المنهاج: التوحيد. 4 ينظر تخريجه في فتح المجيد. 5 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2369 وأحمد في المسند 3/184,178 من حديث أنس.

وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 4-6] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28] وقال عن إبراهيم أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 78-80] انتهى1 وقال: ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح النفس وهو عبادة الله وحده لا شريك له – فلا صلاح للنفس إلا في ذلك وبدونه تكون فاسدة-وهو2 دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31,30] فالغاية الحميدة التي بها كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة لا إله إلا الله. وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] فمن آمن بأن الله رب كل شيء وخالقه ولم يعبد الله وحده- بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأخشى عنده منكل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه – بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقين3 في الحب- بحيث يحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله ويرجوه كما يرجو الله ويدعوه كما يدعو

_ 1 منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 5/346-351. 2 "ط": وهذا هو. 3 "ط": المخلوقات.

الله- فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه وكان حليما شجاعا. انتهى. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: – بعد ذكره الشرك ي الربوبية- النوع الثاني: أهل الإشراك بالله في إلهيته وهم1 المقرون بأنه وحده رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السموات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دونه أندادا. فهؤلاء لم يوفوا2 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقه وإن كان لهم نصيب من نعبدك لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق3 لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الالهية كما أن {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به وكذلك قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق4 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأما أهل الاشراك فهم أهل الغضب والضلال. فإن هذا الانقسام ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به: إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة وعالم به معاند له وهم أهل الغضب وجاهل به وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشا بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون هذه الرسالة. انتهى. والمقصود من هذه المقدمة: العلم بأن التوحيد الذي بعث الله به رسوله5 غريب في الناس جدا وأكثرهم لا يعرف حقيقته ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه وخالق جميع المخلوقات ورازقها والمتصرف فيهم. وقد عرفت مما سلف أن أكثر الأمم – من أعداء الرسل – يعرفون ذلك.

_ 1 "ط": وهم. ساقطة. 2 "ط": يعرفوا. تحريف. 3 الأصل: تحقيقا. تحريف. 4 الأصل: التحقيق. 5 "ط": رسله.

ويقرون به كما أقر به كفار قريش لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا مقرر في القرآن أتم تقرير. وأما توحيد الألهية- الذي هو مضمون لا إله إلا الله الذي دل عليه القرآن من أوله إلى آخره-: فالأكثر لا يعرفونه مع أن سور القرآن الكريم مشحونة ببيانه كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] الآية وقوله:1 {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3:2] وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: من الآية5] الآية وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: من الآية13] وقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:54] وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:2627] الآية, وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . إلى أمثال ذلك مما لا يحصي في القرآن كثرة في بيان هذا التوحيد وما ينافيه من الشرك بالله الذي هو أعظم ذنب عصى الله به كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] . فإذا تأملت القرآن وجدت الله2 قد احتج على المشركين فيما جحدوه من توحيد الألهية بما أقروابه من توحيد الربوبية كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}

_ 1 "ط": وقوله. ساقط. 2 "ط": وجدته.

[يونس: 31] وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] الآيات. فإذا أقروا أن الله رب كل شيء ومليكه وأنه المتصرف في جميع خلقه لزمهم أن يعبدوه1 وحده فإن الإقرار بهذا التوحيد يستلزم الإقرار بالنوع الآخر ولا بد منهما جميعا. وأما الثالث من أنواع التوحيد: فهو أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به2 رسوله على ما يليق بجلال الله إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل فإن صفات الرب تعالى وأسماءه3 تدل على كمال الرب تعالى وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه ونفى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما ينافي كمال حياته وقوميته وكمال غناه كما نزهه الله نفسه ونزهه4 عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: ِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص] . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" الحديث5 ونحو هذا – مما نزه الله عنه نفسه ونزهه الله عنه رسوله صلى الله عليه وسلم6- كثير في الكتاب والسنة فالمهديون المؤمنون يثبتون ما أثبته الله ورسوله من معاني أسمائه وصفاته على ما يليق بجلاله وينفون عنه مشابهة المخلوقين وسمات المحدثين وينفون عنه ما نفى عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما لا يليق به والله أعلم. فما أعز من يعرف حقيقة التوحيد بل ما أعز من لا يعادي من عرفه ودعا إليه فلقد عم الجهل بالتوحيد حتى نسب أهله إلى الابتداع ونسب من أنكره إلى الاتباع. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: – لما ذكر حديث "بدأ

_ 1 الأصل: لزمه أن يعبده. 2 "ط": به. ساقطة. 3 الأصل: وأسمائه. تحريف. 4 "ط": ونزهه. تحريف. 5 ما بينهما معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. 6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في الصحيح رقم 179 وابن ماجة في السنن رقم 183 وأحمد في المسند 4/405,401,395 وابن خزيمة في كتاب التوحيد رقم 101,100,32,28 وابن منده في كتاب الإيمان رقم 775-779 من حديث أبي موسى.

الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1 بل الإسلام الحق – الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه – اليوم أشد غربة منه أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي فينا غريب جدا وأهله غرباء بين الناس وكيف تكون فرقة واحدة بين فرق – لهم اتباع ورياسات ومناصب وولايات – لا يقوم لها سوق إلا في مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما عليه من الشبهات – التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم – والشهوات – التي هي [غاية] 2 مقاصدهم وإرادتهم. فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أو هواء هم وأعجب كل منهم برأيه فإذا أردت معرفة الإعراض عن الدين تعلما وعملا فتأمل ما هم عليه فالله المستعان. واعلم يأمن له عقل ونور يمشي به في الناس أني تأملت الورقة التي قدمت الإشارة إليها- وهي لأحمد3 بن علي المرائي – فإذا هو قد حشاها بالرعونات والحماقات التي هي من نتائج الجهل الصميم والعقل غير المستقيم فإذا نظر فيها العاقل علم أنها لا تصدر إلا من جاهل معجب بنفسه لإقامته بين جهلة العوام فإن أكثرهم لا يميز بين الصحيح من السقيم من الكلام. فلو كان ما أبداه من أساجيعه من وراء كفاية ومن علم ودراية لكان أحرى بمراجعة الصواب والرجوع عما أخطأه فيه من الخطاب وقد قال بعضهم شعرا: ولو كان هذا من وراء كفاية لهان ولكن من وراء تخلف فأعجب لقوله: أما بعد فيقول العبد المسترشد للعلم والعمل لا للمراء والجدل. فالجواب: تأمل أيها المنصف ما بعد هذا من كلامه تجده مناقضا لما قال مشتملا على المراء والجدال كحال أمثاله من أهل الأهواء ويخبط على أثرهم

_ 1 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 145,. وانظر بقية التخريج في كتاب سبيل النجاة 25. 2 إضافة من "ط". 3 الأصل و "ط": لحمد. وهو تحريف.

خبط عشواء وقد تضمنت رسالته من الأحبولات للجهال والتلبيس على من عقولهم: كعقول الأطفال فمن ذلك: أنه أكثر الحط على من يقول على الله بلا علم ولا شك أن ذلك من أكبر الذنوب وأعظم المثالب والعيوب ولكنه اتزر بما عابه من ذلك وارتدى ف آخر مقاله والابتداء وهكذا حال من لا علم لديه ولا دراية له تنسب إليه فتراه يعيب أمرا وهو يتقلب فيه فتارة يظهره وتارة يخفيه وكل إناء ينضح بالذي فيه. فتأمل ما يأتيك1 من جوابه تجد2 عجبا. ثم إنه قال: والمسألة المشار إليها والمسؤول عنها هي التي غصت بها الحناجر وأسبلت على الخدود دموع المحاجر وهي قول الجهال الطغام: من أقام ببلد قد استولى عليها العساكر ولا عنها يهاجر فهو كافر. فالجواب: أن هذا قول مختلق ولا نعلم قائلا به على الإطلاق كما زعم صاحب الورقة وهذا من بهرجه وزبرجه3 وتهويله. أسوة أمثاله ممن يفتري على المسلمين ويقولهم: ما لا يقولون4 ليدفع بهذا عن نفسه الشناعة. وليس بنافعه شيئا بل هو عين الضرر عليه لأنه تشبث بما لا يجدي. وليس عند أهل الأهواء إلا التلبيس والشكوى لما تلطخوا به من العيوب والأسوى إذ ليس معهم حق يعتمد عليه ولا برهان لهم تطمئن نفوسهم إليه فترى أحدهم ضيق الصدر والبال لأن بضاعته إنما حقيقتها الشكوك والخيال. بخلاف صاحب الحق فإن مه من البصيرة والعلم واليقين ما يدفع الشك والالباس ويهون عليه مؤنة المعارضين من الناس. وأكبر هم المؤمن ما بينه وبين ربه يرجو رحمته ويخاف عقوبة ذنبه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] الآية.

_ 1 "ط": سيأتيك. 2 "ط":ترى. 3 البهرج: الباطل الرديء, والزبرج: السحاب الرقيق الذي لا غناء فيه. 4 "ط": ما لم يقولوا.

يسير إلى الله بين مشاهدة منة الله عليه ومطالعة عيب نفسه "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" 1. وأما الفاجر فقلبه خال من خشية الله آمن من مكر الله يمضي في الغلة والمعاصي قدما قدما. فيا حجبا من صاحب هذه الورقة مالذي يؤمنه [و] 2 قد تلطخ بما تلطخ به والمعاصي بريد الكفر وكان الواجب عليه أن يغص من العبرات ويسيل الدموع في الخلوات والجلوات على مافرط فيه من الطاعات ووقع منه من المفرطات فاهتمامه من نفسه لنفسه أولى من الاهتمام بما قيل أو يقال فلو صح عن أحد لكان فيه إجمال ويتطرق إليه الاحتمال. على أنه لس من قبيل المحال الذي لا ينسب إلا إلى الطغام والجهال. فأين الأسباب المؤمنة لهذا المسكين من أن يقع في زيغ الزائغين وطريقه3 الأئمة المضلين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" 4 وأما شتمه لخواص المسلمين5 من أهل الهجرة والدين وتسميتهم بالجهال الطغام فهو دليل على إعجابه بنفسه ورضاه بعلمه وذلك من أكبر الذنوب وأعظم العيوب فإنه من تدبر القرآن وتفكر فيما قصه الله تعالى عن أهل الكتاب وأمثالهم من أهل الفهم والرأي – وأنهم تركوا الحق الذي بعث الله به رسوله بعد ظهوره واختاروا لأنفسهم أسباب الردى

_ 1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6323,6306 والترمذي في الجامع رقم 3390 والنسائي في المجتبى 8/279 وأحمد في المسند 4/125,122 والطبراني في كتاب الدعاء رقم 312-316 من حديث شداد بن أوس. 2 إضافة يقتضيها السياق. 3 "ط": وطريق. 4 أخرجه أبو داود في السنن رقم 4252 والترمذي في الجامع رقم 2230 وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في السنن رقم 40 وأحمد في المسند 5/284,278 والدارمي في السنن رقم 215 عن ثوبان وأصل حديثه عند مسلم في الصحيح رقم 2889, وأخرجه أحمد في المسند 6/441 والدارمي في السنن رقم 217 من حديث أبي الدرداء وأخرجه أحمد في المسند 1/42 من حديث عمر وأخرجه 4/123 من حديث شداد بن أوس وأخرجه 5/145 من حديث أبي ذر بالفاظ متقاربة. 5 "ط": المسلمين. ساقطة.

والهلاك ولم ينفعهم الله بعلمهم ولا برأيهم وفهمهم – خاف على نفسه من أن يزيغ كما زاغوا وأن يضل كما ضلوا وهذا إنما يحصل بتوفيق الله ورحمته لعبده. وصاحب هذا الكلام قد نسي ما وقع منه من المداهنة والموادة لأرباب البغي والعدوان على أهل الإسلام والإيمان والصد عن سبيل الله فأعظم بها من ذنوب ومثالب وعيوب. وما ذكرناه من الواقع من كثير من أعيان أهل نجد لا يمتري فيه من في قلبه أدنى حياة. وظاهر حال هذا1 المعترض: أنه لما جهل حقيقة هذا الذنب العظيم عدة من نوع2 الواجب أو الجائز أو المكروه وكلامه في ورقته يدور على هذه الثلاثة فلذلك استوحش مما أنس به المسلمون وأنس بما استوحش منه العارفون فلو تصور الواقع منه لسالت على الخد منه دموع المحاجر وغصت من مخافة الوعيد تلك الحناجر كما دل على عظيم ذلك الذنب الكثير من الآيات والأحاديث والبينات. واعلم أن هذا المغرور لما كذبته ظنونه التي قعدت به عن واجب الهجرة والجهاد وتبين أنه أخطأ سبيل الهدى والسداد وعلم أن المسلمين قد ميزوه بحاله وقبيح فعاله بادر إلى التشكي والتهويل والتباكي والعويل وحاول قلب الحقائق فاستهجن الصدق والمعروف واستحسن الباطل لكونه عنده هو المألوف. فأعظم بها عقوبة أطفأت نور العقل وأعمت البصيرة فصاحبها في ظلمات الجهل والريب. ولما قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر فقال ابن مسعود رضي الله عنه هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر3 قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنب وأنا أخاف الكفر يا ربنا نسألك الثبات على الإيمان. ومما [يجب أن] 4 يعلم: أن الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي حفظا للدين وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود

_ 1 "ط": هذا. ساقطة. 2 "ط": أنواع. 3 أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 15/174 وأبو نعيم في الحلية 1/135. 4 إضافة من "ط".

المنكرات ومخالطة أهل المعاصي والسيئات وليتميز أهل الطاعات والأيمان عن طائفة الفساد والعدوان وليقوم علم الجهاد الذي به صلاح البلاد والعباد ولولا الهجرة لما قام الدين ولا عبد رب العالمين ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك والظلم والفساد بدونها. ومن لوازم ترك الهجرة غالبا: مشاهدة المنكرات ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات1 وموادتهم وانشرح الصدر لهم فإن الشر يتداعى ويجر بعضه بعضا فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور ولا بد لهم2 من رضاهم والمبادرة في هواهم. ثم إنه قال قولا ينبيئ من له أدنى معرفة أن هذا لا يصدر إلا ممن هو غريق في الجهالة قد عرى من المعقول والمنقول وذلك قوله: إن الله قدم حرمة ابن آدم على حرمته وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة إذا خاف على نفسه الضرر. ووجه خطئه وجهله: أنه جعل ذلك أصلا قاس عليه ترك الهجرة وفي زعمه أنه اضطر إلى تركها كما اضطر إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التلف. فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد وذلك من وجوه: منها: أنه في مصادمة نصوص الكتاب والسنة التي دلت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها وإن كان يتوقع بها القتل والموت كما أنه لا يترك الجهاد خوفا من القتل كما قال تعالى: كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور التي قد تقع للمهاجر عذرا عن الهجرة لأن الهلاك في الهجرة والجهاد هو السلامة فإنه شهادة والشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ

_ 1 ما بينها معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. وهو انتقال نظر. 2 "ط": لهم. ساقطة.

بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170,169] وقد يحصل للمهاجر ما يحبه من حسن العاقبة في الدنيا مع ما يرجو1 في الآخرة كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الآية [النساء: 100] . ونظير تبك الهجرة خوفا من الفقر أو القتل مداهنة أهل المعاصي خوفا من أذاهم وقد قال تعالى: في حقهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10] . وهذا الذي جعل فتنة الناس كعذاب الله قد يدعى أن الضرورة دعته إلى ذلك لو كانت عذرا وقد علمت أن ترك الهجرة عرضة لذهاب الدين وذهاب الدين هو هلاك النفس السرمدي {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] هذا في تركهم الهجرة. وأما الهجرة فن الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين كما جرى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سلفا وخلفا وبها يحصل الجهاد وتعلو كلمة الله ويعمل في الأرض بطاعة الله. ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41] فبطل هذا القياس من وجهين: الأول: أنه في2 مصادمة النصوص الثابتة والقياس في مصادمة النص فاسد الاعتبار عند العلماء قديما وحديثا فإن القياس إنما يصار إليه عند الضرورة إليه إذا عدم النص ولم يوجد للحكم دليل في الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا فحينئذ يجوز عند بعض العلماء لدعاء الضرورة إليه وله شروط ومفسدات وله أنواع أربعة لا يعرفها هذا المعترض وأنى له بمعرفة الصحيح منها والسقيم والجائز والممتنع مع قصر الباع وعدم المحصول والاطلاع. الوجه الثاني: عدم الجامع ووجود الفارق فإن الحكمة في إباحة تناول

_ 1 "ط": يرجوه. 2 "ط": في. ساقطة.

لقمة من الميتة إذا اضطر إليها قد أبيحت له في تلك الحال لأن الأكل واحب صيانة للنفس عن الهلاك طاعة لله مطلوب لما يفضي إليه ذلك من التقوي على أداء الفرائض والطاعات. قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى: ومن المحرمات ما يباح عند الضرورة كالدم والميتة فهذه في حال الإباحة ليست محرمة أضلا وليس له أن يعقد تحريمها حينئذ وإنما تنازع العلماء هل السبب الحاظر لها موجود وقت الضرورة وأبيحت للمعارض الراجع أو السبب الحاظر زائل وهذا مبني على مسألة تخصيص العلة فمن قال إن العلة تخصيص يقول: إن علة الحظر قائمة ولكن تخلف حكمها المانع ومن قال: إن علة التحريم لا توجد مع عدم التحريم والنزاع لفظي. وقال رحمه الله تعالى: فإن الأكل والشرب وأحب حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء لأن العبادات1 لا تؤدى إلا بهذ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. انتهى. قلت: وهذا موجود في الهجرة وأولى لأن العبادات2 لا تؤدى إلا بها ولا يقوم الدين والعمل به إلا بالهجرة فبالهجرة يحفظ المرء دينه ويتمكن من العمل به ويعادي ويوالي فيه وغير ذلك من المصالح الدينية التي تفوت [الحصر] فلو احتجنا إلى القياس لكان هذا من القياس الأولى عكس ما عند صاحب الورق فإن ضرورة العبد إلى الهجرة فوق كل ضرورته ولو كان فيها تلف النفس والمال والعبد3 مضطر إليها عند الحاجة إليها أعظم من ضرورته إلى الطعام والشراب. ثم اعلم أنه من كبير جهله أنه4 أخذ يقيس ما وجب فعله على فعل ما يجب فعله فقاس الترك على الفعل وقاس المحرم على الواجب وهذا أفسد شيء وأبعده عن القياس فالعكس والحالة هذه أشبه بالقياس صورة ومعنى فتأمله فإنه يطلعك على جهل هذا الرجل

_ 1 "ط": العبادة. 2 إضافة من "ط". 3 "ط": فالعبد. 4 "ط": أنه. ساقطة.

فالعارف يلتمس له العذر حيث أنه جاهل ولولا جهله لكانت هذه فرية منه عظيمة على دين الله. ومن المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة أن الهجرة من أعظم فرائض الدين وهي أصل وقاعدة من قواعد الإسلام التي ينبني عليها الكثير من الأحكام ومن جهله أنه لم يميز الضرورة والضرر كما قد عرفت في1 كلامه الذي أسفلته. ومن المعلوم عند من له بصيرة ودين أن الهجرة لا ضرورة فيها ولا ضرر فدعواه الضرورة ممنوعة من أصلها فغاية ما في الهجرة: بأن فيها مشقة في المبادئ على النفس من جهة مفارقة المألوف من الوطن أو المال أو غيرها من الأصناف الثمانية المذكورة في أول سورة براءة2. وهذا شأن الشرائع كالجهاد فإن فيه مشقة كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] الآية؛ وقال تعالى: ََ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] . ولم يعذر الله تعالى أناسا3 تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك4 بما فيها من المشقة حتى قال الله تعالى: فيهم شر ما قال لأحد فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:95] . ومن المعلوم أنه ليس في ترك الجهاد من المفاسد في الدين ما في ترك الهجرة بل المفاسد التي في ترك الجهاد موجودة في ترك الهجرة وأكثر منها كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم وكان من ثمرتها ومصالحها: قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: تعالى: والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تأمر بما يترجح مصلحته وإن

_ 1 "ط": من. 2 سورة التوبة الآيتان: 23، 24. 3 "ط": ناسا. 4 في رجب سنة تسع من الهجرة، وهي آخر غزاة عزاها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان خروجه في عام جدب وفي حر شديد. الدّر في اختصار المغازي 28.

كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد؛ وتنهى عن ما ترجحت مفسدته وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره؛ ولهذا أمرنا الله أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا والأحسن إما واجب أو مستحب قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: من الآية55] فأمر باتباع الأحسن والأخذ به [14\أ] ؛قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:17؛18] فاقتضى أن غيرهم لم يهده انتهى. وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة من سواء الحال في الدين والدينا فيالها من عبرة ما أبينها لمن اعتبر والحمد لله الذي أنقذ من شاء من عباده من المهالك برحمته وأهلك من بعدله {يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [لأنفال: \42] . فإذا عرفت ذلك؛ فأقول عجبا لهذا المفتري المغرور كيف تجسر على الخوض في أحكام الله ودينه بضرب الأمثال والأقيسة الفاسدة وهو لا يعرف القياس وشروطه والمقبول منه والمردود بل ولا يعرف أنواعه كقياس الأولى والعلة والدلالة والشبه والمخالفة ولا يعرف مفسدات القياس عند العلماء ولا من يجوز منه ذلك ممن لا يجوز منه ومن يجوز من العلماء عند الضرورة ومن لا يجوز منهم مطلقا ومن أنكره من علماء السلف كجعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهما فإن أنكره على أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كما هو هو معروف عنه عند العلماء يروونه عن ابن شبرمة أنه قال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس فإنا نفق غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى؛ فنقول: قال الله قال رسول الله وتقول: أنت وأصحابك رأينا وقسنا فيفعل الله بنا وبك ما شاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقيسوا الدين لا يقاس وأول من قاس إبليس الديلمي وقال ابن سيرين: القياس شر وأول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال الأمام أحمد رحمه

الله تعالى: أكثر ما يخطى الناس من جهة التأويل والقياس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: إنما المتبع في إثبات أحكام الله كتاب الله [14/ب] وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاث نصا أو استنباطا بحال وأما الأقيسة الفاسدة فإنها أكثر ما عند أهل الضلال وأل من قاس إبليس وقال: إن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير انتهى كلامه رحمه الله: تعالى". والمقصود: أن يعلم المسلم أن بذل النفس في طاعة الله ومرضاته أمر مطلوب للرب تعالى من عبده ليكون الدين كله لله فمن رغب بنفسه عن ذلك وآثر مرادها وراحتها وشهوتها على مراد ربه وإقامة دينه وطلب مرضاته فقد عرض نفسه لمقت الله وعقابه وحرم نفسه ما حصل للمؤمنين المتقين من جزيل ثوابه فلا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ومن وجد خير فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ثم إن هذا المغرور المسكين؛ قال: وأباحه الكفر إذا أكره عليه؛ قال عزمن قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: \106] نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال "كيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالأيمان. فالجواب: وبالله التوفيق أن نقول: لا يخفى أن هذا الرجل ادعى لنفسه أمرا لا وجود له ولا حقيقة واستدل بدليل هو في الحقيقة عليه لا له؛ وذكر أمرا مجملا مبهما تشبيها على العامة ليلبس عليهم أمر دينهم وفي ضمنه أنه أقر على نفسه بما صدر منه مما لا يحبه الله ويرضاه؛ وغير أنه اعتذر عن نفسه بالإكراه: ومن له أدنى مسكة من عقل وتمييز يعلم أنه لا عذر لهذا الرجل فيما قد صدر منه؛ فإن دعواه الإكراه ممنوعة: لأنه إن كان على الإقامة عندهم فهذا باطل قطعا؛ لأنهم لم يحبسوه ولم يجعلوا على كل نقب من نقوب القرية حرسا يمنعه الخروج منها؛ ولا جعلوا على طرقاتها رصدا‘ والمناهل:

قريبة وفيها القبائل‘ والفرار بالدين واجب فأين الإكراه؟! هذا وقد حصل منه من الإقبال والإدبار والتصدر والافتخار [15\أ] ما هو معلوم عند من يعرف هذا الشخص بالاضطرار فأين حال هذا وأمثاله من حال عمار؟! رضي الله عن عمار؛ فإنه تبرا من المشركين وسبهم‘ وسب دينهم ومعبوداتهم‘فلذلك تصدروا له ولأهله بالعداوة الشديدة وما ثم قرية ولا قبيلة على الإسلام فجعلوا يضربون أشد الضرب ويعذبونه أشد العذاب وحبسوه في بئر ميمون وقتلوا أباه وأمه وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم يقول: "صبروا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" ومع هذا وغيره لم يقع منه إلا القول دون الفعل‘ وأنتم سارعتم بلا إكراه‘ وقلتم وفعلتم تقربا إليهم واختيارا من غير أن يكون منهم طلب لما فعلتموه فما طلبوا منكم ذلك ولا امتنعتم ولا أكرهتم عليه فأين أنتم وعمار فهو وأنتم في طرفي نقض شعر: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا قال: فجلس محمرا وجهه ثم قال: "والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه ويقعد الرجل فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين ما يصرفه عن دبه" الحديث: وبعد ما وقع بعمار وأهله من المشركين ما قوع أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة؛ لما اشتد بهم أذى المشركين‘ فهاجروا وفيهم عمار رضي الله عنه‘ ثم إنه رجع هو وبعض المهاجرين فهاجروا إلى المدين وفي تلك الأحوال:

لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين ولا داهنهم بدينه واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم حتى هاجروا إلى المدينة وقصتهم في السير وكتب الحديث والمغازي مشهورة: فأين القلب المطمئن بالإيمان وهو يرغب إلى أولئك الأشرار ويتعرض لما بأيديهم1 من حطام الدنيا ويتودد إليهم بأساجيع المدح كسجع الكهان ويقول: اكتبوا لي كذا اجعلوا لي كذا!! ونحو ذلك من صيغ الطلب كما في المكاتبات المشحونة2 بالمديح والدعوات والتعظيمات والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات فسبحان من لا يخفى عليه خافية من أقوال خلقه وأعمالهم؛ وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 3. ونذكر أيضا طرفا مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماذ بن كثير في تفسيره أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتصبر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليهم؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا, وطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم. وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها على ما قاله بضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين عذبه المشركون فواقهم على ذلك مستنكرها وروى بن جرير بسنده قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن عادوا فعد" 4.

_ 1 "ط": في أيديهم. 2 "ط": الموشحة. 3 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2564 وابن ماجه في السنن رقم 4195 وأحمد في المسند 2/539,285 4 تفسير القرآن العظيم 4/524.

وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه رضي الله عنهم – وكانوا أهل بيت إسلام – إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله صلى لله عليه وسلم فيقول فيما بلغني "صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام. قال وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة افتداء منهم مما يبلغون من جهدهم1. قال العماد بن كثير2 والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله كما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله ابن حذافة السهمي – أحد الصحابة- أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى عند ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك بنتي فقال: لو أعطتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب عن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت فقال إذا أقتلك. قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه3 دين النصرانية فأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر- وفي رواية ببقرة من نحاس- فأحميت وجاءوا بأسير من المسلمين فألفاه وهو ينظر فإذا هو عظام يلوح وعرض عليه فأبى فأمر4 به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه فقال: إني5 إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون [لي] 6 بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.

_ 1 السيرة لابن هشام 1/279. 2 كتب في هامش الأصل مانص: قف رحمك الله وتدبر. 3 الأصل و "ط": على. والمثبت من التفسير. 4 "ط": ثم أمر. 5 "ط": إني. ساقطة. 6 إضافة من التفسير.

وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنعه1 الطعام والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقر به ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل فقال: أما إنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشتمك بي فقال الملك فقبل رأسه فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حق على كل مسلم أن يقبل راس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما2. قال العماد رحمه الله: تعالى: وكما كان بلال رضي الله عنه يأبى على المشركين ذلك وهم يفعلونه به الأفاعيل حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغلظ لكم منها لقتلها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول: نعم فيقول: أتشهد أني رسول الله فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.3 قلت: فهذه حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقوا من المشركين من شدة الأذى فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فيه وأقبلوا وأدبروا وتوددوا وداهنوا وركنوا وعظموا ومدحوا؟!! فكانوا أشبه بما قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} [الأحزاب:14] نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام وتعوذ به من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. ومن المعلوم أن الذين أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به لولا أنهم تبرءوا من الشرك وأهله وبادؤا4 المشركين بسبب دينهم وعيب آلهتهم لما

_ 1 "ط": ومنع منه. 2 تفسير القرآن العظيم 4/526. 3 المصدر السابق 4/525. 4 "ط": وبادروا.

تصدوا لهم بأنواع الأذى وذلك لأنهم أعلم الأمة بالحنيفية وأعلمهم1 بالتوحيد كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ثم إنه قال في رسالة فمن شرح بالكفر صدره وارتد وطابت نفسه بالكفر فهو الكافر: فالجواب أن يقال تعداده هذه الثلاث تدل على جهلة بنواقض الإسلام لأن كل واحدة من هذه الثلاث يكفر صاحبها وبين هذه الثلاث تلازم فمن شرح صدرا فقد ارتد وطالبت نفسه بالكفر ومن طابت نفسه بالكفر فقد ارتد وشرح بالكفر صدرا فحظ هذا الرجل التنطع بالكلام من غير تصور للمعنى: ثم إن آخر هذه الآية يرشد إلى أن الذي أوقعهم في انشراح الصدر بالكفر هو إيثار الدنيا على الآخرة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:107] فإذا استحب الوطن أو المال أو الأزواج أو العشيرة أو المساكن أو التجارة أو غير ذلك من أمور الدنيا وترك لأجل ذلك ما وجب عليه من الهجرة والجهاد فقد تناوله هذا الوعيد كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا2 حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] أي: مال إلى الدنيا وزهرتها وآثرها على طاعة الله ومرضاته.3 فإذا كان هذا هو الواقع من هؤلاء فما هذا القلب الذي اطمأن بالإيمان مع وجود ما ينافي ذلك من إيثار الدنيا والطمأنينة إليها والرغبة فيها

_ 1 "ط": واعلم. 2 "ط": إلى آخر الآية. 3 ينظر تفسير الحافظ بن كثير 3/510.

وترك ما أوجب الله تعالى عليه لأجلها. ومن ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] ثم إنه قال وما أجلسه في بلده إلا حماية لنفسه وماله وولده. فالجواب أن نقول هذا هو الحذر الأكبر والذنب الأعظم الذي ثبت الوعيد عليه في آية براءة فلو كان لهذا فقه أو معرفة لما اعتذر عن نفسه بأشياء لم يعذر الله بها أحدا من خلقه لفو أحب الله على ما سواه لما آثر محبة النفس والمال والولد عليه. وقد ثبت في رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة فمنهم من يتعلق به أهله وولده يقولون: ننشدك بالله ألا تضيعنا. فيرق عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1 إذا عرفت ذلك فلا يخفى أن أهل نجد في هذه الحادثة صاروا أصنافا. فالصنف الأول: دخلوا تحت حكم هذه الآية لما ابتلوا بالعدو أخلدوا إلى الأرض ورضوا بالمقام معهم وتحت أمرهم فتركوا ما وجب عليهم من الفرار بدينهم ومفارقة عدوهم إيثارا لدنياهم وأحبوا المقام وداهنوا أولئك الأقوام وخدموهم وأعانوهم وتقربوا إليهم بما لم يحبه الله ولا يرضاه بلا قسر ولا إكراه: الصنف الثاني: وهم أشد نقضوا عهد الإسلام واستجلبوا العدو إلى الأوطان وآووهم وظاهروهم ونصروهم ونابذوا المسلمين المهاجرين بالشتم والسب وألبوا العدو عليهم وصارت مسبة من هاجر هي ديدنهم2 وسفهوا المسلمين واستصلحوا بزعمهم حالهم ظنا منهم أنه لا طاقة لأحد بهذا أو أن أمرهم سيستقر في جميع البلاد النجدية فضل سعيهم وخابت آمالهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون:

_ 1 ذكره الواحدي في أسباب النزول 164. 2 "ط": دينهم.

الصنف الثالث: حصل منهم إقامة بين أظهرهم ولم يتبين منهم ما تبين1 من الصنفين وهؤلاء قسمان: مستطيع للهجرة وغير مستطيع والله أعلم بحالهم: وهؤلاء لم يظهر2 في العلانية ما يستدل به على السريرة بل ربما ظهر منهم كراهة الباطل والفساد والمعاصي وهم على خطر والله أسأل أن يمن على الجميع بالتوبة النصوح: الصنف الرابع: أناس نفروا في الابتداء وجاهدوا وصبروا لكنهم بعد ذلك لم يستقيموا على ذلك وحصل لم فتنة صاروا فيها فرقا فعسى الله أن يتداركهم برحمته وأن يتوب عليهم إنه هو التوب الرحيم: وأما الصنف الخامس: فهم3 الذين ثبتوا ولم يمكنوا منهم عدوا وصبروا على ركوب الأهوال في جميع الأحوال نسأل الله لنا ولهم الثبات على الإسلام والاستقامة على الإيمان والفضل الله تعالى على من ثبت واستقام وصبر على أذى الخلق في طاعة الحق وبالله التوفيق: ووجدت لعالم الحجاز ومفتيهم الإمام محمد بن أحمد الحفظي4 فصلا نافعا فيما وقع من الفتنة بالحجاز بعد وقعة بسل5 المعروفة وما جرى في تلك المدة من الافتتان عن الدين وذكر: أن الله أطفأ نار المفسدين وأطلع نور الموحدين ولكنه قد حصل في تلك المدة الماضية أمور عظام هي أكبر الذنوب وأعظم الآثام قد بلغ الشيطان فيها مراده ممن كان يدعي الإسلام. منها: أن منهم من كره6 ما أنزل الله في كتابه من شرائع الدين ومنهم من

_ 1 "ط": يتبين. 2 "ط":يظهروا. 3 "ط"ك فمنهم. 4 محمد بن أحمد بن عبد القادر بن بكري بن محمد العجلي فقيه داعية أديب مؤرخ ت 1237 الأعلام للزركلي 6/17. 5 "ط": سبل. تحريف. وهو واد خصب من أودية الطائف لا يزال يحمل هذا الاسم إلى اليوم التقت فيه جيوش الدولة السعودية الأولى مع جموع البائس المخذول محمد علي"باشا" غير أنه بسبب التنفاس الذي نشب بين عبد الله وفيصل إبني سعود على القيادة لم يستطع قواتهما الصمود فانهزمت لاتلوي على شيء. ينظر المقامات للمؤلف "الدرر السنية 9/224" وعنوان المجد لابن بشر 1/370 6."ط": كرم. تحريف.

طعن في ذلك وأبعض الإسلام والمسلمين ومنهم من ظاهر ووالى على طمس أعلام الموحدين وأرادوا إحياء أضدادها من أعمال الجاهلية وأفعال المشركين ومنهم من استهزأ بالله وآياته ورسوله والمؤمنين ومنهم من رضي بذلك وعزم عليه وأعان بنفسه أو ماله أو لسانه: وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أعان ولو بشطر كلمة في قتل مسلم1 فكيف الإعانة على حرب الإسلام والمسلمين ومنهم من تخلق واتصف2 بأخلاق المنافقين وأبرز ما كان يكنه من الداء الدفين ومنهم من أشاع الكذب والأراجيف بقوة العدو وضعف أهل الإيمان فارحا بذلك شامتا بالمسلمين ومنهم من ظن بالله السوء بأنه أدال العدو واضمحل ما كان من النصر والتمكين ومنهم من نقض بيعته ونكث صفقته واستبدل الرخيص بالثمين: وهذه الأمور كلها جرت بغير إكراه ولا تعيين وكل واحدة منها تخدش في وجه إيمان فاعلها وتفت في عضد إسلام عاملها وهي من المعاند ردة عن الإسلام وإما نفاق في الدين وذكر الأدلة من القرآن ثم3 قال: فالإنسان أعرف بنجاسته وطهارته وأخبر بمعصيته وطاعته وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك عليك رقيبا ولعلك أن تقول: هولت الأمر فأقول بل الأمر أكبر مما حسبت وأكثر مما سمعت {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وذكر الأدلة على ذلك: ثم قال: وفي السنن أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد الكوفة4 قال واحد: إنما مسيلمة على حق فيما قال وسكت

_ 1 أخرجه ابن ماجة في السنن رقم 2649, قال البوصيري في مصباح الزجاج 2/334: هذا إسناد ضعيف وابن أبي عاصم في كتاب الديات 23 والبيهقي في السنن الكبرى 8/22 والديلمي في مسند الفردوس رقم 5822 من حديث أبي هريرة وأخرجه أبو نعيم في الحلية 5/24 وأخبار أصبهان 1/264,152 وابن عساكر في التاريخ كما في الكنز 15/31 من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/298: فيه عبد الله بن خراش ضعفه البخاري وجماعة ووثقه ابن معين وقال: ربما أخطأ وبقية رجاله وثقات من حديث ابن عباس. 2 "ط": من اتصف أو تخلق. 3 "ط": ثم. ساقطة. 4 "ط": في الكوفة.

الباقون فأفتى بكفرهم جميعا. فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر أو سمعها وسكت عليها ونحو ذلك فالحذر الحذر أيها العاقلون والتوبة التوبة أيها الغافلون فإن الفتنة حصلت في أصل الدين لا في فروعه ولا الدنيا فيجب أن يكون العشيرة والأزواج والأموال والتجارة والمساكن وقاية للدين وفداء عنه ولا تجعل الدين فداء عنها ووقاية لها. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] فتفطن لها وتأملها فإن الله أوجب أن يكون الله ورسوله والجهاد أحب من تلك الثمانية كلها فضلا عن واحدة منها أو أكثر أو شيء دونها مما هو أحقر1 فليكن الدين عندك أغلى الأشياء وأولادها انتهى المقصود من كلامه: رحم الله تعالى هذا الإمام ما أبصر والحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق ويرشد إلى الهدى والصدق وتندفع بعمله حجج المبطلين وتلبيس الجاهلين المفتونين. فيا لها نعمة2 لا يستطيع من وفق لها أن يقوم بشكرها فما ذاك إلا بتوفيق الله وفضله وإحسانه وأما هذا المغرور المسكين وأمثاله فإنهم خاضوا في غمرات الافتتان وأ طمأنت قلوبهم إلى أهل الظلم والعدوان وأكثروا التردد إليهم3 والمسير إليهم طوعا واختيارا وتعرضوا لما في أيديهم من حطام الدنيا سرا وجهارا فأبن القلب المطمئن بالإيمان إذا كان مدعيه يجري مع الهوى في كل ميدان. فما أشبه حال هذا وأمثاله بالضرب الثاني من الضروب الأربعة الذين ذكرهم العلامة ابن القيم رحمه الله: وهم الذين لهم أوفر نصيب من قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ

_ 1 "ط": أحق. 2 "ط": من نعمة. 3 "ط": عليهم.

بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة ويحبون أن يحمدوا بإتباع السنة والإخلاص وهذا يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال. وأما قول المعترض المفتري- في وصف نفسه في تلك الحالة- أنه هاجر للمنا هي عامل بالأوامر فهذا1 في غاية التناقص والمكابرة فقد أقر قبل ذلك بأنه كان في إقامته معهم صابرا على ما ينو به منهم من المهاون والخسائر؟ فإذا كان في عدادهم وفي سوادهم وطاعتهم ومعونتهم بالمال فلا ريب أن هذا كله من المناهي فهو في أوامر أولئك الخلق لا في رضي الإله الحق وكلامه يناقض بعضه بعضا فإن العامل بأوامر الله الهاجر لمناهيه لا تكون حاله كذلك من موالاة الباطل والركون إليه ومظاهرة أهله وتعظيمهم والتذلل لهم والخضوع بين أيديهم وكل هذه الأمور قد أسجل الله في كتابه على فاعلها بالوعيد الشديد وسلب الإيمان وحبوط الأعمال والله المستعان. فلو ترك هؤلاء المراء والجدل2 وأحجموا عن هذه الترهات وتابوا وأنابوا إلى عالم السر والخفيات3 لكان خيرا لهم: وأما قوله: فذاك عندنا المسلم المهاجر!!! فأقول: ألا تعجبون يا إخواني من هذا المسكين وأيم الله لا يقول هذا من له أدني4 مسكة من عقل يدعي الهجرة ويقصرها على من تركها رأسا أين ذهب عقله عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} [الحج: 58] وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: 100] وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

_ 1 الأصل: وهذا. 2 "ط": والجدال. 3 "ط": والخفايات. 4 "ط": أدنى. ساقطة.

ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 56,57] إلى غير ذلك من الآيات المعرفة بالهجرة وثوابها وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن ومفارقة الأهلين والإخوان في طاعة الله ومرضاته فالمهاجر من1 هجر أهل الكفر والمعاصي بمفارقتهم والانتقال عنهم إلى محل لا يرى فيه منكرا ولا يسمع فيه باطلا تحيزا بدينه كما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة وعليه المسلمون قاطبة. فما أشبه هذا الرجل في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية بالباطنية الملاحدة2 في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرداها الله من العباد. قال العماد ابن كثير - في الآية الأولى-: يخبر تعالى عمن خرج مهاجرا في سيبل الله ابتغاء مرضاته وترك الأوطان والأهلين والخلان وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة دين الله {ثُمَّ قُتِلُوا} أي: في الجهاد {أَوْ مَاتُوا} حتف أنفهم3 من غير قتال فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] .4 ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة وهي أفضل البلاد وأحبها إلى الله ولحقوا بالمدينة امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته وعداوة لأعدائه وقد قال الله تعالى: فيمن لم يهاجر معهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] ولم يشمل هذا الوعيد إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ً} [النساء:97 99] وما سموا مهاجرين وإن كان معذورين ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [النساء:؛75] . فسبحان الله ما أسرع هذا الرجل إلى الخطأ والخطل وإن كان لا يعذر

_ 1 "ط": من. ساقطة. 2 كالأسماعيلية والنصيرية والبهرة والدروز وما تفرع عنهم من الفرق الضالة. ينظر فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 35/145 وما بعدها. 3 "ط": أنوفهم. 4 تفسير الحافظ ابن كثير 5/443.

بالإقامة إلا من جمع هذين الوصفين فما عذر أمريء صبر على المهاون والخسائر ومشاهدة المعاصي والكبائر وهو على مفارقة ذلك كله قادر وما عذره في الصبر على ترك ما وجب عليه وفعل ما حرمه الله تعالى: لكن هؤلاء فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال وتركب من هذا إيثار ما عندهم على ما سواه وقد يحمل ذلك على أن يأمر بالباطل ويرتضيه ومن لم يأمر به منهم لم ينه عنه بل يقره ولا ينفيه وقد يرجح أهل الشرك والمعاصي على الموحدين: وهذا مما يبتلى به أهل الأهواء والمعافى من عافاه من إيثار أمر دنياه على أخراه وهذا هو الواقع من بعض هؤلاء وقد ذكر أثمتنا من أهل السنة رحمهم الله تعالى أنه وقع من أناس في زمانهم وقبله لا يبلغ هؤلاء وقد ذكر أئمتنا من أهل السنة رحمهم الله تعالى أنه واقع من أناس في زمانهم وقبله لا يبلغ هؤلاء معشار ما عندهم من الفهم والعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل ولقد أحسن من قال: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن والبصير لا يغتر باستحسان هؤلاء وأمثالهم ما ركبوه وزينوه من باطلهمولا بتركهم الحق واستهجانهم له ولأهله فإن الله تعالى ميز الخلق بإرادتهم1 وأعمالهم وأقوالهم وبين الصادق من الكاذب وتدبر كتاب الله وتفكر في آياته وحججه وبيناته ولقد أحسن من قال شعرا: فالحق شمس والعيون نواظر ... لا تختفى2 إلا على العميان3 وأما قوله: ومن كفر مسلما فهو الكافر. فالجواب: أنه ما من أحد إلا وهو يدعي الإسلام لنفسه ولكل قول حقيقة وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى: تعريفا جامعا لأصل الإسلام قال: وأصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتفكير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة

_ 1 "ط": بإرادتهم. 2 "ط": لكنها تخفى. 3 الكفاية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية 252.

الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه وتفكير من فعله والمخالف في ذلك أنواع0 فأشدهم مخالفة من خالف في الجميع ومنهم من عبد الله وحده ولم ينكر الشرك ومنهم من أشرك ولم ينكر التوحيد ومنهم من أنكر الشرك ولم يعاد أهله ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم ومنهم من لم يجب التوحيد ولم يبغضه ومنهم من أنكره ولم يعاد أهله ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم ومنهم من كفرهم وزعم أنه مسبة للصالحين ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره ومنهم وهو أشد الأنواع خطرا من عمل بالتوحيد ولم يعف قدره فلم يبغض من تركه ولم يكفرهم ومنهم من ترك الشرك وكرهه وأنكره ولم يعرف قدراه فلم يعاد أهله ولم يكفرهم وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله انتهى كلامه رحمه الله تعالى: فيقال لهذا المسكين: تفطن في نفسك هل أنت داخل في هذه الأنواع فإن كنت فيها فما أسلمت1 حتى يثبت لك الإسلام. ويقال أيضا من هذا الذي كفرك وواجهك بالتكفير فإن ثبت من شخص معروف فينظر: هل وافق الحكم المحل أم2 لا فإن وافقه فلا اعتراض على من حكم بالدليل. وإن لم يوافق الحكم المحل قلنا جواب ثان عن قولك من كفر مسلما فهو الكافر فيقال لك [صحح] 3 نسبة هذا القول إلى قائل معروف يحتج بقوله: ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام التي صنفها الحفاظ من أهل الحديث فإن لم تجد له أصلا بهذا اللفظ فكيف تحكيه جازما به وما كان كذلك فلا ينهض الاحتجاج به. نعم قد ثبت في الصحيح عن أبي ذر "ومن: دعا رجلا بالكفر أو قال عدو وليس كذلك إلا حار عليه" 4 فليتأمل قوله: [وليس كذلك] ومعنى قوله: "حار عليه".

_ 1 الأصل: سلمت. 2 "ط": أو. 3 ساقط من الأصل. 4 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 61 وأحمد في المسند 5/166.

أي: رجع قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] قال العلماء وهذا وعبد شديد إذا لم يكن خصومهم كذلك. والكلام إنما هو على أفعال وأقول تناقض الإسلام فإن للإسلام نواقض مذكورة في كتب الفقه لأرباب المذاهب الأربعة وغيرهم فمن وقع في شيء منها حكموا بردته إلا أن يتوب ويراجع الحق فإن تاب توبة نصوحا وهي التي استكملت شروط التوبة له1 فان الله تعالى يقبل توبة التائبين إذا صحت منهم وظهر منهم2 من صالح الأقوال والأعمال والأحوال ما يدل على ذلك كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] . فإذا حصلت هذه الأمور الأربعة ظاهر وباطنا فدلت الآية على أن هذا3 لا يكون مقدما على أحد من المسلمين ولا يتولى شيئا من أعماهم ولو صحت توبته بشروطها المذكورة في الآية. وأما من لم يعرف له توبة صحيحة فالواجب أن يعامل معاملة أمثاله من المنافقين بالإعراض عنه وجهاده على ما يقع منه لأن الله تعالى ميز عباده بالفتن كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] . وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] . وهذا الضرب من الناس ينبغي أن ينزلوا منازلهم التي أنزلهم الله كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] فإذا كانوا قد أتوا شيئا من المكفرات قولا أو عملا أو ارتكبوا بدعة ولم يتوبوا توبة نصوحا فيجب على كل مسلم أن يبغضهم على ذلك كما ورد في الحديث "أوثق عرى:

_ 1 "ط": له ساقطة. 2 "ط": منهم. ساقطة. 3 "ط": أنه.

الإيمان الحب في الله والبغض في الله " 1 فمن لم يحب أهل التوحيد والإيمان ويبغض أهل البدع والضلال فقد نقض أوثق عرى الإسلام. وقد جاءت الأحاديث والآثار بالتحذير من أهل البدع والترغيب في هجرهم والبعد عنهم فمن ذلك ما روى اللالكائي في [كتاب] 2 السنة عن الفضيل بن عياض من أتاه رجل فدله على مبتدع فقد غش الإسلام فاحذروا الدخول على أصحاب البدع فإنهم يصدون عن الحق3. وقال أيضا لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة ومن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره فيأمرك ولا تجلس إليه فمن جلس إلى صاحب بدعة أورثه العمى4: وأخرج اللالكائي عن عطاء الخراساني قال ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة5 وأمثال هذا كثير عن السلف والأئمة فلو تتبعناه لطال الجواب. إذا عرف ذلك فلو قدر أن رجلا من المسلمين قال في أناس قد تلطخوا بأمور قد نص العلماء على أنها كفر مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة غيرة لله وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال فغير جائز لأحد أن يقول في حقهم ومن كفر مسلما فهو كافر. على أنا لا يعلم أن أحدا من المسلمين كفر بعينه اللهم إلا أن يحكي أفعالهم فظن السامع لذلك أنه كفرهم

_ 1 أخرجه أحمد في المسند 4/286 وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان رقم 110 والطيالسي في المسند رقم 747 وانظر بقية التخريج في كتاب عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله 27 2 إضافة من "ط". 3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة رقم 261. 4 المصدر السابق رقم 262. 5 المصدر السابق رقم 283.

وأما الحديث الذي ذكرناه فقد تأوله العلماء بما هو مفروف كأمثاله من أحاديث هذا الباب كحديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 1 وأيضا فهو مقيد بقوله: [وليس كذلك] . ولا يخف ما جرى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كقوله: م2 في مالك بن الدخشم: ِإنه منافق لا يحب الله ورسوله فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال "آلا تراه قال لا إله إلا الله" فقال الله ورسوله اعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 3 وقد قال بعض العلماء إن ذلك الرجل كان من أهل بدر. ومن المعلوم أن الخوارج طعنوا على ولاة الأمر وكفروا عليا ومن قاتل معه من الصحابة وغيرهم وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم والبشارة لمن قاتلهم كما هو معروف ثابت في الصحيحين والسنن والمسانيد. ولما قيل لعلى أكفار هم فقال من الكفر فروا فلو ذكرنا الأحاديث الواردة في الخوارج لطال الجواب وكلام العلماء على الحديث المتقدم ذكره قال النووي في شرح مسلم ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه هذا مما عده بعض العلماء من المشكلات فإن مذهب أهل الحق لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وفي تأويل الحديث أوجه أجدها أنه محمول على المستحل والثاني معناه رجعت عليه معصيته والثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا ضعيف لأن الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون المحققون أن الخوارج لا يكفرون والرابع أنه يؤول إلى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر انتهى ملخصا4: فانظر إلى ما حكاه النووي رحمه الله: من أن الصحيح الذي قاله

_ 1 أخرجه البخاري في الصحاح رقم 7076,6044,48, ومسلم في الصحيح رقم 64 وأحمد في المسند 1/433,411,385,176 من حديث ابن مسعود. 2 "ط": كقوله. 3 ينظر تخريجه في كتاب أوثق عرى الإيمان 64. 4 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/49.

الأكثرون المحققون أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم وحسبك بهذا الإمام فمن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم عرف الخطأ من الصواب لكن من أعظم الآفات عدم العلم وفساد القصد وهما آفة الأكثرين وفساد الدين نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. فما الذي حمل هذا المسكين على التمويه على جهلة الناس وتشكيكهم في أمر دينهم والإلباس؟!! فمن ذلك قوله: في آخر ورقته فرحم الله امرءا قال الله الحق وبه فالحق أحق أن يتبع. فالجواب أن يقال تأمل ما تقدم من الجواب فإن الحق بحمد الله فيه ظاهر فإن كان طالب حق وجد وإلا فقد قامت عليه الحجة وانزاحت الشبهة عمن أراد البيان ووفق لفهم العلم والإيمان والله المستعان فعسى الله أن يمنع عنه موانع الهداية وأسباب الضلالة والغواية فإن هذا الرجل قد قال بمقالة الخوارج وهو لا يدري وذلك في قوله: ومن كفر مسلما فهو الكافر. وبيانه فيما أسلفناه من كلام النووي رحمه الله: من أن مذهب السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب وهذا قد حكم بالكفر على مرتكب هذا الذنب فلو قدر أن أحد قال في حق مسلم صحيح الإسلام أنه كافر فأهل السنة لا يكفرونه بذلك لأن ذنب من الذنوب وقد عرفت تأويلهم للحد وأن الأخذ بالظواهر المخالفة لأصول السنة وما عليه الصحابة والتابعون وعلماء الأمة هو رأي الخوارج كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: شعرا: من لي بشبه خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا حسبان1 ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان2 هم خالفوا نصا لنص مثله ... لم يفهموا التوفيق بالإحسان

_ 1 في الكفاية: بلا إحسان. 2 الكافية الشافية 103.

لكنكم خالفتم المنصوص. ... بالشبه1 التي هي فكرة الإنسان2. والمقصود بيان حال صاحب الورقة وأنه قال بقوله: الخوارج المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة فكفر المسلمين بدعوى ادعاها لعلة اختلقها أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه ولا يعول في الأخبار عليه. وقد تقدم قوله: في الهجرة أنه3 من لزم وطنه مع ما يقع فيه من الظلم والفساد أنه هو المهاجر الصابر وقد عرفت أنه عكس الحقيقة وخالف الكتاب والسنة والفطرة السليمة والعقول الصحيحة وأنكر ما هو معصوم من الدين بالضرورة. وقوله: المشار إليه يشبه قول الباطنية الإسماعيلية الملا حدة4 الذين تأولوا شرائع الدين على غير حقائقها وقولهم: يتضمن تعطيل الشرائع وهم من أضر المبتدعة على دين الإسلام. هذا ونحن نعلم أنه قد وقع فيما فيه عن جهالة فلو عرف حقيقة طرق5 المبتدعة لعلم أن اقتفاء آثارهم من أعظم المطاعن عليه لكنه يقال في حق مثله شعرا: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ومن عجيب أمر هذا الرجل وأمثاله ممن انتصب للتدريس بلا علم وأفتى من غير إجازة ولا فهم أن منهم من يصرح بتكفير أهل لا إله إلا الله علما وعملا ودعوة وجهادا بكونهم يكفرون عباد الأوثان وهم يقولون لا إله إلا الله وهذا منهم في غاية التناقض والفساد ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهذا شر من قول الخوارج كما لا يخفى على أولي البصائر

_ 1 في الكافية: للشبه. 2 الكافية الشافية 104. 3 "ط": أن. 4 من أخبث الطوائف وأشدها بعدا عن الإسلام ولا زال لهم – مع الأسف الشديد- بقايا في الهند ومصر والشام وجنوب الجزيرة!! 5 "ط": حال.

وقد أشرت فيما تقدم إلى حاله وأنه لا يدري ما يقول ولا يدري أنه يدري1 فلو سكت لكان يسعنا السكوت عنه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم2.

_ 1 الأصل: ما يقول وأنه لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. 2 كتب الأصل بعد ذلك ما نصه: وقع في الفراغ من نسخة هذه الرسالة العظيمة – في إزاحة ما وقع من تلك الشبهة الوخيمة- في14 شعبان/ رمضان سنة 1314 بقلم الفقير إلى الله عبده: عبد العزيز بن فوزان غفر الله ولوالديه ومشايخه وإخوانه المسلمين وثبته على دين الإسلام منضما في سلك أوليائه وأنصاره حتى يلاقي الحمام. وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصبه أجمعين. اهـ

المراسلات

المراسلات مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم المراسلات الحمد لله مولي النعم ودافع النقم. والصلاة والسلام على المصطفى سيد الأمم وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فقد كانت ولا تزال المراسلات عنوان اللقاء في الحاضر والغابر وبلسم الشفاء ووسيلة من وسائل الدعوة والإخاء وهي من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد كتب لهرقل عظيم الروم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم أسلم تسلم وبهذه الصيغة وعلى هذا المنوال جرت المكاتبات بين الخاصة والعامة بلفظ من فلان إلى فلان وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم سار علماء الدعوة السلفية. ففي القرن الثاني عشر الهجري أخذت المراسلات مأخذها لتجديد النصح والمشاورات والإجابة على الاستفتاءات فقد دونت لنا دواوين علماء الدعوة السلفية في الجزيرة العربية الشيء الكثير من ذلك. ولما لتلك المراسلات من فوائد جمة وحل لمشاكل الأمة فقد وقع الاختيار على ما كتبه العالم النحرير والبدر المنير المجدد الثاني والعالم الرباني الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام من مراسلات لتكون في كتاب واحد عسى أن يكون للقراء فاتحة خير وقرة عين والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وآله وسلم. إسماعيل بن سعد بن عتيق 17/6/1408هـ.

الرسالة الأولى

الرسالة الأولى ... بسم الله الرحمن الرحيم "1" م عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الإمام المكرم فيصل بن تركي ألهمه اله رشده ووقاه شر نفسه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد تعلم أن نصيحتي لك نصيحة لله نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم لأن بصلاحك يقوم الدين ويصلح أكثر الناس وفي الحديث "الدين النصيحة" قالها ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وقد جعل الله لأهل الإيمان نورا يمشون به في الناس وهذه البلوى التي ابتلى الله بها أهل نجد من فتنة خالد والعسكر وقبله إبراهيم باشا ميز الله بها أهل نجد طيبهم وخبيثهم وتفاوتت مراتبهم في الشر والزيغ والفساد وكثرة السفاهة والقسوة ولا تخفى حالهم إلا على من لا بصيرة له كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وهذا أمر مشاهد لمن جعل الله في قلبه نورا. وقد وسم الله المنافقين بأقوالهم وأعمالهم وجعل الله أهل الإيمان

شهداء على الناس قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} . فيجب على من ولاه الله أمر الدين والدنيا أن لا يتهم من اقامهم الله شهداء على الناس وهو يعلم منهم محبة الإسلام أهله وبعض الباطل وأهله فكيف لا تقبل شهادة من أقامهم الرب شهداء في أرضه على أعمال خلقه؟ وقد قال في المؤمنين المهاجرين والأنصار {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} . ومن الفساد الكبير على ما ذكر من العلماء ضعف الإيمان وقوة الباطل وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة الكافرين والمنافقين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} عليما بما يصلح عباده حكيما في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ولما كان التحذير من أولئك من أهم مقامات الدين قال الله لنبيه {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وقال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} وفي الأثر "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم واطلبوا رضاء الله بسخطهم. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . فالمساواة بين أهل الأهواء والزيغ وبين أهل الإيمان والمعاصي وجعلهم في رتبة أهل الإيمان أو فوقهم خلاف ما أحبه الله وأمر به عباده وهو في نفسه فساد وذلك سبب سخط الله وحلول عذابه فعليك بمن إذا قربتهم قربك الله وأحبك وإذا نصرتهم نصرك الله وأيدك واحذر أهل الباطل الذين إذا قربتهم

أبعدك الله وأوجب لك سخطه قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} وفي الحديث "من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" وقد رأينا عجبا: أن من التفت إلى أحد دون الله خذله الله به وسلطه عليه قال العلماء رحمهم الله قضى الله قضاءا لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئا دون الله عذب به ومن خاف شيئا دون الله سلط عليه. وأنت تجد وترى كثيرا من الناس قدمهم ولاة الأمر في شيء من أمورهم فتعززوا على الناس وتجاسروا على الأهواء ومخالفة الشرع في أقوالهم وأعمالهم فخافهم أهل الدين "فنهم" من ذل لهم واعتذر بعدم القدرة "ومنهم" من استصلح دنياه خوفا من كيدهم وأنت تجد هؤلاء إذا ظهرت حالهم كابروا العقول بزخرف من القول والكذب واستعانوا على إفكهم بأمثالهم محافظة على العلو والفساد. فلو وفق الإمام بالاهتمام بالدين واختار من كل جنس إتقانهم وأحبهم وأقربهم إلى الخير لقام بهم الدين والعدل. فإذا أشكل كلام الناس رجع إلى قوله: صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما يريبك" فإذا ارتاب من رجل هل كان يحب ما يحبه الله نظر في أولئك القوم وسأل أهل الدين من تعلمونه أمثل القبيلة أو الجماعة في الدين وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى ما كان يصلح لذلك قدمه فيهم ويتعين عليه أن يسأل عنهم من لا تخفى عنه أحوالهم من أهل المحلة وغيرها فلو حصل ذلك لثبت الدين وبثباته يثبت الملك وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم يزول الملك ويضعف الدين ويسود القبيلة شرارها ويصير على ولاة الأمر كفل من فعل ذلك. فالسعيد من وعظ بغيره وبما جرى له وعليه. وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها فإذا قلعت وكسرت مادت وتقلبت كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ولكن رواسيها وأوتادها هم فأنت إذا فعلت ما قلت لك قام بك الدين والعدل وصارت سنة حسنة في هذا الزمان ونلت أجر من أقام السنة كما في الحديث: "من سن في

الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء". فإن انعكس الأمر كما هو الواقع كانت سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. ومن المعلوم أن النفس تميل إلى الراحة وطلب رضى الخلق. وفي النظر فيما يرضى الله مخالفة للخلق أو بغضهم ولكن طريق الجنة حزن بربوة واقرأ قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} . فإذا عرفت أن العبد لا يأتيه ما يكره إلا من شرور نفسه وسيئات أعماله وأن نواصي الخلق في قبضة الرب تبارك وتعالى وأن قلوبهم بين أصبعين من أصابعه أفادك القيام بدينه وأخذت في أسباب ذلك والحب فيه والبغض فيه والتقريب له والإبعاد لأجله وجعلت أفعالك تطابق أمره الشرعي الديني وتتحرى مرضاته في كل قول وفعل وتقديم أو تأخير أو غير ذلك فلو صلح تدبير الإمام فيما ولاه الله من الحاضرة أصلح الله البوادي وغيرهم فإن الأعمال حجة لك أو عليك وأنت سالم والسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم.1

_ 1 الدرر السنية 11/32.

الرسالة الثانية

الرسالة الثانية ... بسم الله الرحمن الرحيم "2" من عبد الرحمن بن حسن إلى عثمان بن منصور. وبعد أشرفت على خطك وهو كلام من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ولكن نبين لك أنك جئت من الزبير والبصرة هاك الجية وجرى عليك من آل فايز الذي أنت خابر لأجل طول إقامتك في أماكن يعبد فيها غير الله وأراد الله

سبحانه وتعالى أن كبارنا يقدمونك في سدير لأجل اسم العلم والذي بان لهم أنك عرفت صحة هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إلى توحيد الألوهية وإنكار الشرك والبراءة منه الذي ما يصير الإنسان مسلما إلا به والذي يدخل هذا قلبه ويتقدم بالناس ويصير له مشاركة في العلوم يدعو الناس إليه ويحثهم عليه ويبين لهم معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه من إخلاص العبادة ونفي الشرك وما تقتضيه من المعاداة والمولاة والحب والبغض كذلك حقوق لا إله إلا الله ولا حصل منك شيء من هذا أبدا ولا حصل منك إلا ضد هذا إذا جاء عندك مشرك أو إنسان ما ينكر الشرك من أهل هذه الأمكنة استأنست معه وقدرته وأكرمته. فإذا كان يريد أن يتزوج زوجتموه ولا حصل منك إلا إذا أهل سدير يتنازعون في أموالهم أو يستفتونك في مسألة فرعية والذي هذا حاله ما يجوز أن يلين معه الجانب أو يرد له رأس فلو أن لك معرفة في التوحيد أو قبولا له لكنت تكثر ذكره كما قيل: من أحب شيئا أكثر من ذكره بل الذي يذاكر في التوحيد ويلهج به وينكر الشرك ويبغض أهله ويعاديهم ما يجوز عندكم إلا كما يجوز رأس الحمار ولولا هذا كان ما يجهلك أن طلبة العلم هم ربعي وهم إخواني وهم خاصتي ولكن أنت ما لقيت فيك حيلة إذا فتشنا عن كلامك في شرحك وفي غيره وجدنا معتقدك في توحيد في توحيد الألوهية معتقد عبد الله المويس حظه منها اللفظ مع إنكار المعنى وتضليل من عمل بمعناها وقام بمقتضاها والجهال ما يدرون الحقيقة والذي هذه حالته يجب التحذير عنه نصحا لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ويا ليتك ثم ويا ليتك قمت بهذا الدين وأحببت أهله ودعوت إليه وأنكرت ضده لكن القلوب بيد الباري يقلبها كيف شاء وأسأل الله أن يقلب قلبك إلى الإسلام ويدخل فيه الإيمان فإن وفقك الله للتوبة فلا علينا منك ولا علينا منا ولو ما صادقناك ورافقناك ما يضر. ومن الأمور الظاهرة البينة أنك دأبك تكتب في الخوارج وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم الواقع في كثير من الأمة أعظم من مقاله الخوارج عبادة الأوثان

وتزيين عبادتها وإنكار التوحيد ولو أن في قلبك من التو حيد شيئا فعلت فعل عبد الله أبا بطين ما صبر يوم أن كان داود وأمثاله يشبهون على الناس رد عليهم من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وأقوال العلماء والأئمة ودحض حججهم بالوحي. والخوارج ما عندنا أحد منهم حتى في الأمصار ما هنا طائفة تقول بقول الخوارج إلا الإباضية في أقص عمان ووقعوا فيما هو أكبر من رأي الخوارج وهي عبادة الأوثان ولا وجدنا خطك في الخوارج إلا أن أهل هذه الدعوة الإسلامية التي هي دعوة الرسل إذا كفروا من أنكرها قلت يكفرون المسلمين لأنهم يقولون "لا إله إلا الله". والله أعلم آخر ما وجدت من هذه الرسالة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم1

_ 1 الدرر السنية 9/230.

الرسالة الثالة

الرسالة الثالة ... بسم الله الرحمن الرحيم "3" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب عبيد بن رشيد سلمه الله تعالى وهداه ووفقه لما يحبه ويرضاه آمين. سلام عليكم ورحمته الله وبركاته. وبعد وصل الخط وسرنا طيبكم وسلامتكم ونحمد إليكم الله تعالى على ما أسداه من الإنعام وما من به من معرفة دين الإسلام نسأل الله المزيد من ذلك والثبات عليه والاستقامة والمحافظة عليه وذلك فضله وإحسانه تعالى لمن وفقه له وهداه له وما ذكرت من أن بعض الناس يوجب صيام الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظرة غيم أو قتر ويستدل بقوله: في الحديث "فإن غم عليكم فاقدروا له" ويقول إن القدر التضييق مثل قوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} وأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صامه وصامه بعض الصحابة:

فالجواب أن هذا القول أخذ به بعض الحنابلة وبعضهم مع الأئمة الثلاثة وأكثر العلماء لا يقولون بوجوبه ولا باستحبابه قال في الإنصاف وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه وعنه لا يجب قال الشيخ هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه ولا أصل للوجوب في كلامه ولا كلام أحد من الصحابة انتهى كلام شيخ الإسلام. قلت ذكر ابن عبد البر وغيره أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه صامه إلا عبد الله بن عمر صامه احتياطا قاله ابن القيم وذكر أن ابن عباس رضي الله عنه أنكر صيامه قال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله: وقد روي من غير وجه مرفوعا النهي من صوم يوم الشك منهم وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس ونص الإمام أحمد رحمه الله: في رواية المروذي أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك وهذا القول صحيح بلا ريب قال الحافظ وليس في هذا الحديث الذي استدل به المتأخرون دليل على وجوب الصوم بل هو حجة على عدم الوجوب فإن معنى "اقدورا له" احسبوا له قدره وذلك بثلاثين يوما فهو من قدر الشيء وهو مبلغ ليس من التضييق في شيء والدليل على ذلك ما في صحيح مسلم عن ابن عمر "فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين" أي فأكملوا العدة ثلاثين وابن عمر هو الذي روى حديثهم الذي احتجوا به وصرح في هذه الأحاديث بمعناه وهو إكمال شعبان ثلاثين واستدل الأئمة على تحريم صيامه بحديث عمار وهو رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي عن صلة بن زفر قال كنا عند عمار بن ياسر وأتي بشاه مصلية فقال كلوا فتنحى بعض القوم فقال عمار: من صام اليوم الذي فيه الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. قلت وهذا عند أهل الحديث في حكم المرفوع وقد جاء صريحا في حديث أبي هريرة الأمر بإكمال عدة شعبان ثلاثين إذا غبي الهلال وهو عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أو

قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". قال الحافظ: وهذا الحديث لا يقبل التأويل وذكر أحاديث كثيرة منها ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن عائشة رصي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم من رمضان لرؤيته فإن غم عليه أتم ثلاثين يوما ثم صام ليلته وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمة صيام الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال ليلته فبهذا وغيره من الأحاديث يظهر أن الحجة مع من أنكر صيام ذلك اليوم إذا غم الهلال ليلته وأن السنة إكمال شعبان ثلاثين إذا لم ير الهلال وهو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: تعالى: وأما مسألة الفطر للمسافر في رمضان أو الصيام فالذي دلت عليه الأحاديث أن المسافر إذا كان سفره مباحا أنه يخير بين الفطر والصيام فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر وكان يسرد الصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" قال أبو عيس في حديث عائشة رضي الله عنها هذا حديث حسن صحيح وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر فطره وفيه أحاديث غير هذين الحديثين: وأما إتمام الصلاة في السفر ففعله أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما وعند الحنابلة أنه إن أتم في سفر جاز ولم يكره وعلى هذا فلا ينكر على من أتم الصلاة والقصر أفضل لكن قد يحصل مع الغزاة تردد في قصد الولاة بالغزو ولأنه ربما غلب عليهم إرادة الملك والعلو وإرادة الدنيا والثناء والعز فيكون جهاده عليه لا له كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة

ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي في سيبل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سيبل الله" وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم جهنم: يقال للمجاهد إنما قاتلت ليقال هوً جريء فقد قيل فيؤمر به إلى النار فليكن منك على بال قال قتادة رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} قال هذا والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر. وأما إحياء العشر الأواخر من رمضان فهو السنة لما جاء في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله وأحيا ليله وجد وشد المئزر وفي الحديث الآخر "من صام رمضان إيمان واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمان واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه" وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل كله حتى السحر إذا عرفت ذلك فلا ينك قيام العشر الأواخر إلا جاهل السنة. وأما من يوصي بثلث ماله ذرية ضعفاء فقراء فإن كانت الوصية على أعمال البر جاز لمتوليها أن يدفع إليهم من الوصية ما يستعينون به في حاجاتهم وإن كانت الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصى لهم به فإن كان على حج غير حجة الإسلام فتصرف على المحتاج من ذريته وكذلك ما كان على أضحية صرفت على فقراء ذريته لأن الصدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا إليها فلا بد من تنفيذ الوصية ابتداء ثم يكون النظر للمتولي عليها انتهى1.

_ 1 مجموعة الرسائل والمسائل 1/327.

الرسالة الرابعة

الرسالة الرابعة ... بسم الله الرحمن الرحيم "4" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان من أهل العلم والفهم سلمهم الله تعالى سلام عليكم ورحمته الله وبركاته. وبعد تفهمون حب الدنيا ومضرتها على الدين وقع من الذين لهم مع:

الكدادة1 معاملة بدين السلم وأنا قد أشرفت على شيء من إنسان مظنة للخير ولكن إذا وجد له شبهه طار بها فرحا لما فيها من بعض الراحة من التعب ولو يلتزم المشروع هان عليه العمل به ووجد له راحة أعظم وفي الأحاديث المتفق عليها كحديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" وفي لفظ "حتى يقبضه" وعن ابن عباس مثله وهذه الأحاديث صريحة في النهي عن بيعه قبل القبض والاستيفاء فلا يصدق على القبض والاستيفاء إلا حصوله كله مقبوضا. وأما إذا أخذ دراهم البدوي مثلا وتمالأ هو وإياه على السعر روح2 وكيله أو هو بنفسه وأمر الكداد أن يصرم لهما ويزن للبدوي بدراهمه وصار يكيل للبدوي كل زبيل يعلقه مرتين فهذه حيلة رديئة لأنه قد باع الكل قبل قبضه الذي دلت عليه الأحاديث فيكون قد باع ما لم يقبض ولم يدخل في ضمانه وإنما هو مال صاحب النخل باعه له غريمه فإذا قبضه والحالة هذه صار الكل مالا للمدين فيقع الغريم في خطر عظيم. وتصرفه في هذه الدراهم تصرف في مال الغير فإن أنفق على نفسه وأهله منه صار ينفق عليهم من مال غيره فإن بقيت هذه الدراهم وعامل بها مرة ثانية أو أكثر وهو يعامله بماله وتصير تجارة لغيره وليس له إلا الدين الأول في ذمة الغريم ويكون جزءا بالنسبة إلى ما أخذ من المال ثمن المال ثمن أو غيره ولا دخل في ضمانه وإنما ضمانه على صاحب الثمر لو أتلفه أو تلف فهذا مما يترتب على مخالفة المشروع مع تحمل الآثام المخالفة فإن قال قائل هذا أخذ الدراهم في ذمته قلنا هذا سلم, ولا يجوز بالإتفاق والواقع يمنع صحة هذه الدعوى لأنه ما قام بنفسه إلا أنه يكيل له من نخيل هذا المدين بخصوصه فهذه من الحيل التي لا حقيقة لها ولا للإنسان مخرج إلا في

_ 1 المزارعون. 2 أرسل.

العمل بما شرعه الله ورسوله وترك الحيل رأسا فهو الذي إن باع باع حلالا وإن أكل أكل حلالا وإن عامل فبالحلال هذا وأنتم سالمون والسلام1.

_ 1 مجموعة الرسائل والمسائل 1/342.

الرسالة الخامسة

الرسالة الخامسة ... بسم الله الرحمن الرحيم "5" الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما. من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ راشد بن مطر سلمه الله وهداه وأعانه على طاعته وتقواه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد الخط وصل وسرنا وأفهم من معرفتكم للإسلام وقبوله زادكم الله من ذلك وبصركم آياته وبيناته وكره إليكم كل مفتون وضلالاته وتذكر أنه في جهتكم أناس من الجهمية والرافضة والمعتزلة فلا ريب أن هذه الفرق الثلاث هي أصل ضلال من ضل من الأمة فأصل الرافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقذفهم فيها وهم الذين أحدثوا الشرك في صدر هذه الأمة بنوا على القبور وعمت بهم البلوى ولهم عقائد سوء يطول ذكرها. وأما المعتزلة فأولهم نفاة القدر جحدوا أصلا من أصول الإيمان التي في سؤال جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فاخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" وانكر الصحابة رضي الله عنهم عليهم ما احدثوا من هذه البدعة ولهم عقائد سوء يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار ونفوا صفات الرب تعالى ووافقوا الجهمية فخرج

أولهم في عصر التابعين. وأولهم الجعد بن درهم أنكر الصفات وزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير واسط يوم الأضحى وظهر بعده جهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية وهذا المذهب وهذا المذهب الخبيث: انتشرت مقالته في خلافة المأمون بن الرشيد فعطلوا الصفات ونفوا الحكمة وقالوا بالجبر. فهذه الطوائف الثلاث هم أصل الشر في هذه الأمة وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارا ودخل فيها من يدعي أنه على السنة وليس كذلك فخالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وأئمتها وعم ضررهم فجحدوا الصفات وتوحيد الألوهية الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فهم خصوم أهل التوحيد والسنة إلى اليوم فإياكم أن تغتروا بمن هذه حاله- ولو كان له صورة ودعوى في العلم- ممن امتلأ قلبه من فرث التعطيل وحال بينه وبين فهم الأدلة الصحيحة الصريحة شبهات التأويل. قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس. فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات: كالأرجوزة التي يسمونها جوهرة التوحيد وفيها إلحاد وتعطيل لا يجوز النظر إليها ولم مصنفات أخرى نفوا فيها علو الرب تعالى والكتاب والسنة يردان بدعتهم ويبطلان مقالتهم فإن الله تعالى أثبت استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} إلى غير ذلك من أدلة الصفات الصريحة في الكتاب والسنة ولا تتسع هذه الرسالة لذكرها. وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماه فلقد أعظموا الفرية على الله وخالفوا أهل الحق من

السلف والأئمة وأتباعهم وخالفوا من ينتسبون إليه فإن أبا الحسن الأشعري صرح في كتابيه الإبانة والمقالات بإثبات الصفات الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سيبل فجحدوا توحيد الله في الإلهية وأجازوا الشرك الذي لا يغفره فجوزوا أن يعبد غيره من دونه وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل فالأئمة من أهل السنة وأتباعهم لهم المصنفات المعروفة في الرد على هذه الطائفة الكافرة المعاندة كشفوا فيها كل شبهة لهم وبينوا فيها الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وما عليه سلف الأمة وأئمتها من كل إمام رواية ومن له نهمة في طلب الأدلة على الحق ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي وهما سلاح كل موحد ومثبت لكن كتب أهل السنة تزيد الراغب وتعنيه على الفهم وعندكم من مصنفات شيخنا رحمه الله: ما يكفي مع التأمل فيجب عليكم هجر أهل البدع والإنكار عليهم. وأما رفع الأيدي بالدعاء بعد المكتوبة فليس من السنة. أما الأفغانية الذين جاؤنا ووصلوا إلى جهتكم فهم أهل تشديد وغلو مع جهل وزيف أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمروقهم وأمر أصحابه بقتلهم ولهم عبادة وزهد لكنهم أخطأوا في فهم الكتاب والسنة واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ولهم نصوص قصروا في فهمها فأتوا من التقصير في العرفان. وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه أهل النهر وان فرجع بعضهم إلى الحق واستمر بعضهم على الباطل حتى قتلهم علي رضي الله عنه بالنهر وان ففيهم المخدج الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت هذه الطائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الراشدين فلا بد أن يكون لهم أشباه في هذه الأمة فحذروهم وتأمل قوله تعالى في حق سادات الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ

رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فليس العجب ممن هلك كيف إنما العجب ممن نجا كيف نجا والله أعلم. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسلما كثيرا1

_ 1 الرسائل والمسائل 1/344.

الرسالة السادسة

الرسالة السادسة ... بسم الله الرحمن الرحيم "6" من عبد الرحمن بن الحسن إلى الإخوان علي بن حمد الجريوي وإخوانه رزقنا الله وإياهم قبول الإسلام وهدانا وإياهم سبل السلام. سلام عليكم ورحمة الله وبركات. وبعد وصل الخط وصلكم الله إلى ما يرضيه وتذكرون أمر الهتيمي الذي معه الحيات ويبيع سقوة على الناس البدو والحضر يسقيهم من ريقه ويأخذ عليهم العهد ويدعي أن الحية ما تلدغه ولا أنكر عليه في سدير ألا عبد العزيز بن عبد الجبار جزه الله خيرا وتذكرون أن عثمان بن منصور تابعه وقبل منه سقوته هذا تحققان منكم ومن سبيع الذين جاءونا من جهتكم ويذكرون أنهم توقفوا عنه في مبدأ أمره وأهل القرى كذلك حتى واجه ابن منصور وقبل منه وخط معه خطا وبعد هذا تزاحم عليه البدو والحضر منهم الذي سقوته بدراهم والذي بتمر والذي بعيش والذي بغنم والذي بسمن والذي حصل منهم باعه في تمير وبعد هذا طب المجمعة وطردوه وخط عبد العزيز بن عبد الجبار أشرفنا عليه وذكر كلام العلماء وإنكارهم على من فعل هذا وأخذا لحيات وأن هذه أحوال شيطانية تحصل بواسطة الشياطين إذا تقرب إليهم

بالشرك بالله وهذا ما يوجد إلا في أجهل الناس وأبعدهم عن الله وعن دينه وعبد العزيز جزاه الله خيرا أدى الذي عليه. وأما ابن منصور فالله أعلم أنه معاقب فلا ندري هذا كله جهل أوله مقصد شر وإلا فالذي على فطرة أو له عقل ينكر هذا بفطرته وعقله وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في كتاب الفرقان من الأحوال الشيطانية أمورا من هذه تركنا ذكرها لئلا يطول الجواب فهذا من جنس أحوال الكهان مع الشياطين والكهانة أنواع هذا منها وفي الحديث "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر يما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وأمور الكهانة وما شابهها من الاستمتاع بالشياطين والاستكثار منهم محاها الله سبحانه بما أطلع في نجد من الدعوة إلى توحيد الله وامتدت إلى كثير من الجزائر كما محا الله من قبل ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسد صلى الله عليه وسلم أبواب الشرك وأحوال الجاهلية وحمى الإسلام فمن ذلك ما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا إن الرقى والتمائم والتولة شرك "فلم يبح من الرقى إلا ما خصه الدليل من الآيات القرآنية والأذكار النبوية والدعوات المعروفة بالألفاظ العربية. وأما كان بأسماء الشياطين أو ربما لا يعرف معناه فينهى عنه لهذا الحديث وحكمه التحريم فإذا كان هذا حال الرقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه فكيف بما هو ظاهر انه من أعمال الشياطين مع من تولاهم مثل هذا الهتيمي وأمثاله ممن شاهدناهم بمصر؟!! لا شك أنه من أعمال الشياطين ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبود هم الذي يعبدونه من دون الله وأكثر هذه الطرائق محشوة بالشرك والبدع وقوله: في الحديث التولة شرك العلماء أنها تشبه السحر وما يشبه السحر فهو شرك وكذلك التمائم شرك للتعلق بها والاعتماد عليها من دون الله وفي بعضها أسماء الشياطين وما لا يعرف معناه فكل هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصحيح بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله من التوكيل على غيره ونحو ذلك وقد وقع في نفوس كثير من الجهال الذين

اخذوا عن هذا الهتيمي كثير من تصديقه وقبول ما جاءهم به من هذه الضلالة وهذه فتنة وقانا الله شرها وبسط القول في ذلك وذكر ما قاله العلماء له موضع آخر أن شاء الله تعالى وبلغ سلامنا الأخوان وخواص والشيخ علي والشيخ عبد اللطيف ينهون السلام وأنتم سالمون والسلام1.

_ 1 مجموعة الرسائل 1/347.

الرسالة السابعة

الرسالة السابعة ... بسم الله الرحمن الرحيم "7" من عبد الرحمن بن حسن إلى ألابن صالح بن محمد الشثري سلمه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وسرنا طيبك وعافيتك والحمد لله على ذلك وما ذكرت من عبارة الفقهاء في الحج فأما قولهم: أركان الحج الوقوف وطواف الزيارة بلا نزاع فيها فإن ترك طواف الزيارة رجع معتمرا لأنه على بقية إحرامه فهذا في حق من تركه قال في الإنصاف: وأما المحصر أتى بطوافه وتم حجه وذبح هديا في موضع حصره وهذا المذهب واختار ابن القيم رحمه الله: في الهدي أنه لا يلزم المحصر هدي, وأما من أحصر لمرضى أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل حتى يقدر على المبيت فإن فاته الحج تحلل بعمرة ويحتمل أنه يجوز له التحلل كمن حصره عدو وهو رواية عن أحمد قال الزركشي ولعلها أظهر واختارها الشيخ تقي الدين قال ومثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة أو لعجزها عنه ولو ذهب الرفقة: وقال في الفروع وكذا من ضل الطريق ذكره في المستوعب هذا حاصل ما ذكره في الإنصاف في حكم من فاته طواف الزيارة لهذه الأسباب وأما إذا أحصر عن فعل واجب فإنه يتحلل على الصحيح من المذهب وعليه دم له وحجه صحيح وقال: القاضي أنه يتوجه فيمن حصر بعد تحلله الثاني: يتحلل.

قلت ولعل مراده أنه لم يبق عليه من المناسك شيء إلا أن يكون طواف الوداع أو رمي الجمار والمبيت بمنى وهذه الأفعال يأتي بها الحاج بعد التحلل وأما إذا بقى عليه شيء من المناسك التي محلها قبل التحلل الثاني فإنه يبقى محرما ليأتي بها كما يأتي بها من لم يحصر عن واجب كالمبيت بمزدلفة ورمى جمرة العقبة فلا يجوز أن يأتي بذلك إلا وهو محرم فتدبر. وسلم لنا على الشيخ وإخوانه وحمولتنا وخواص الإخوان بخير وينهون السلام.1

_ 1 مجموعة الرسائل 1/354.

الرسالة الثامنة

الرسالة الثامنة ... بسم الله الرحمن الحيم "8" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ المكرم عبد الله بن عبد الرحمن ألبسه الله حلل الإيمان. سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرنا حيث أشعرنا بطيبك وصحة حالك والمحب بحمد الله بخير وعافية. وما ذكرت من المسألة التي وقعت عندكم صورتها: أن امرأة دفعت حليها إلى بنتها تتجمل به لزوجها وهم في بيت واحد فكانت تستعمله في حياة أمها فلما ماتت ادعت البنت استحقاقها لذلك. فالجواب أن الذي يظهر لنا: أن البنت لما لم تدع الهبة لا تملكه بمجرد الأذن في الاستعمال والظاهر أن ذلك إعارة لا تمليك ومفهوم كلام الأصحاب رحمهم الله الذي أشرتم إليه يدل على هذا لأن الأم لم تجهزها به إلا بيت زوجها فلم يوجد ما هو تمليك وأما الصورة التي سئل عنها الشيخ سليمان بن علي رحمه الله: اشترته وألبسته البنت أنه ليس للبنت. والظاهر أن ما كان عليها فهو لها بحكم اليد وليس لهذا أصل يعارض هذا الظاهر.

وأما مسألتنا فالأصل فيها قوي ولم يوجد ما ينقل عن ذلك الأصل القوي فيبقى حكم الأصل هذا ما ظهر لي في حكم المسألة والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.1

_ 1 المجموعة 1/335.

الرسالة التاسعة

الرسالة التاسعة ... بسم الله الرحمن الرحيم "9" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ جمعان بن ناصر سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرنا ما ذكرت من السكون واستقامة الحال والأحوال من فضل الله على ما تحب وجاءك منا خط مع فالح من رجال الأمير عائض وما ذكرت من عبارة الإقناع: أن الطلاق يقع في النكاح الفاسد – وهو المختلف فيه- كالنكاح بولاية فاسق أو شهادة فاسقين ونكاح الأخت في عدة أختها ثم قال ولا يقع في النكاح الباطل إجماعا. الجواب- وبالله التوفيق- وله استدلال على ما ذهب إليه فإذا قال الإمام أحمد رحمه الله: أن النكاح لا يصح لحديث كذا وقال به أصحابه ومن تبعهم لقوة دليله عندهم ورأينا غيره يقول بالصحبة ويقدح في إسناد حديثه مثلا فإنا لا نحكم والحالة هذه بأن النكاح لم ينعقد فنقول هو فاسد ولا يخرج من ذلك إلا بالطلاق خروجا من خلاف العلماء. وأما الباطل فهو ما أجمع على بطلانه لظهور دليله وعدم المعارض فيكون غير منعقد من أصله فلا يحتاج إلى طلاق مالم ينعقد بيقين. وأما طلاق الثلاث: فإنه يقع عند الجمهور مفرقا أو مجموعا وهو الذي عليه العمل سلفا وخلفا من خلافة عمر ومن بعده وهو كذالك عند الأئمة الأربعة

وهو الأصح في مذاهبهم عند أصحابهم وإن كان الخلاف فيه إنما اشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة إبن القيم رحمهما الله تعالى أخذا بما كان الأمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر والجمهور أخذوا بالآخر من اجتهاد عمر ولهم أجوبة عما استدل به شيخ الإسلام معروفة وعمدتهم فيما ذهبوا إليه من إيقاع الثلاث مطلقا ظاهر القرآن فإن الله تعالى لم يجعل له إلا ثلاث تطليقات قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وبذلك أفتى ابن عباس وغيره وهو حبر الأمة فالاستدلال بفتيا ابن والصحابة أحق ولاستدلال بقول شيخنا أولى من الاستدلال بقول الشوكاني لأنه رجل من أهل صنعاء يخطى كثيرا وإن كان يصيب في بعض فليس هو حجة على أحد ولا بحتج بقول ولو لم يكن إلا أنه مجهول الحال في العلم والدين لكفى وإن كان ينظر في الكتب فالذي بضاعته ما يأخذه عن الشوكاني مزجي البضاعة وافي الغباوة والوضاعة 1 وبلغ عبد الرحمن وصالح وإبراهيم وإخوانهم السلام ومن لدينا الحاضر من آل الشيخ وإخوانهم ينهون السلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم2.

_ 1 وهذا المقال من الشيخ عبد الرحمن في الشوكاني كان قبل أن يشتهر كلامه في توحيد العبادة وفي شرح المنتقى فلما اشتهر وعرف أثنى عليه علماء نجد وقد وصفه الشيخ عبد الرحمن في موضع آخر بقوله الشيخ محمد بن علي الشوكاني قاضي صنعاء اليمن. 2 المجموعة 1/358.

الرسالة العاشرة

الرسالة العاشرة ... بسم الله الرحمن الرحيم "10" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ حمد بن عبد الله بن عمران سلمه الله تعالى وتولاه واستعمله فيما يحبه ويرضاه وأعانه على القيام يشكره فيما أعطاه من نعمه واولاه التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان جعلنا الله وإياه ممن عرف النعمة فقبلها وأحبها وعمل بها أنه ولى ذلك والقادر عليه يهدي من يشاء برحمته وفضله ويضل من يشاء بحكمته وعدله لا إله غيره ولا رب سواه.

الخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه وثبتنا على الإخلاص الذي هو سبب الخلاص وعلى الإسلام الذي هو مركب السلامة وعلى الإيمان الذي هو تمام الأمان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتسأل عن أناس يسافرون من نجد لأخذ ما أوصي به الموصون بأن يحج به عنهم بالنيابة فلا يخفاك أن الذين يأتون إليكم ما يطلعوننا على ما قصدوه وأرادوه لكثرة السفار إلى الأقطار وقد أشرت لطلبة العلم ولمن سألني من عوام المسلمين أنه لا تصح النيابة في الحج إذا أخذ ما أوصى به الموصي إلا إذا أخذه ليحج فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله رغبة في رؤية البيت والطواف به وكثرة ثواب العمل به كما قال الخليل عليه وسلم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وبعض الناس مولع بزيارة هذا البيت فيطلب ما يتوصل به إليه فلا يصح حجه وإن سماه بعض الفقهاء جعلا فهو استئجار بلا ريب وقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على عمل يكون قربة يتقرب به إلى الله كالأذان والصلاة وأذن أن أكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به ونفتي به المستفتين ونبينه للجاهلين بحسب القدرة والطاقة هذا وبلغ سلامنا الإخوان وفاطمة بنت قضيب وأمثالك من الإخوان الكرام العارفين قدر ما أنعم الله به من نعمة الإسلام التي ضل عنها من ضل وزل عنها وعن معرفة حقيقتها من زل ومن لدينا الإمام وأولاده وابني عبد اللطيف وإخوانه وأولاده وأولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخواص إخواننا من المسلمين بخير وعافية وأنت والسلام1.

_ 1 المجموعة 1/364.

الرسالة الحادية عشر

الرسالة الحادية عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "11" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ في الله الشيخ رجب سلمه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى رضاه وجعلنا وإياك ممن الجنة مسكنه ومأواه آمين. وبعد فمما ذكرت من المسائل. المسألة الأولى: إذا كان أحد أولاد الرجل ضعيفا وأعطاه لضعفه فهل يجوز أن يخصه بذلك أم لا؟. "الجواب" أن الولد الضعيف يلزم أباه الغني أن ينفق عليه فيكون من باب الواجب الذي سبب وجوبه حاجة الابن فإن كان من الأولاد من هو مثله وجب له مثل ما يجب لأخيه الماضي. المسألة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستحلفوا الناس على صدقاتهم" وتابعه عمر رضي الله عنه فمعنى الحديث والله أعلم إذا كان العامل يظن له مالا فلا يحلفه على مجرد ظنه وأما إذا عرف له مال وجحد أو ادعاه لغيره مثلا ممن هو غائب فالتهمة قائمة فيجتهد العامل إلا أن يكون موثوقا به يعرف منه الصدق والديانة فلا يحلف فالمسألة لها صور ثلاث ولها صورة رابعة وهي ما إذا عرف أن هذ الذي في يده من المال ليس لغيره فتؤخذ منه الزكاة على كل حال. المسألة الثالثة: إذا كان لرجل أرض فوهبها لابنه الصغير فإن أقبضها له وأشهد أو جعلها في يد رجل آخر وجعله وكيلا في قبضها منه لابنه لزمه ذلك لوفاء شرطه وإن لم يقبض فلا لزوم وعلى كل حال للوالد أن يرجع في هبته للولد وأما إذا مات وصح القبض فلا رجوع على ما ذهب إليه الأكثرون من العلماء. المسألة الرابعة: فيمن ماله مائة وخمسون وقد أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بعشرة فإذا لم يجز الورثة ما زاد على الثلث فيجعل الثلث وهو خمسون ستة أسهم لصاحب الثلث خمسة أسهم كل سهم ثمانية وثلث ولصاحب العشرة واحد من ثمانية وثلث, وأما الحديث فلم أقف عليه ومعناه صحيح والله أعلم1

_ 1 المجموعة 1/364.

الرسالة الثانية عشر

الرسالة الثانية عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "12" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد بن حمد سلمه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرنا حيث أشعر بطيبك وصحت ذاتك والأخ يحمد إليك الله على ما أنعم جعلنا الله وإياكم من الشاكرين وإخوانكم في الحال التي تسركم وما ذكرت من حالكم سرنا جعلها الله حالا مرضية ومن نزعات الشيطان محمية وما ذكرت من عبارة الإنصاف نقلا عن الفروع فهذه المسئلة خالف فيها شيخ الإسلام الأئمة وأكثر العلماء فجوز إجارة الشجر مفردا بآصع معلومة مثلا لمن يقوم عليها بالسقي وتكون الثمرة له أي للعامل وليس لصاحب الشجر إلا ما وقع عليه العقد من الأجرة سواء كانت الأجرة من جنس ما يحمل به ذلك الشجر أو غيره كما تجوز إجارة الزرع بجامع أن لا كلا منهما إنما قصد مغله بخلاف بيع السنتين وهو بيع ما أثمر هذا البستان من الثمر مثلا سنة أو سنتين فأكثر من غير أن يقوم عليه وإنما اشترى ثمار سنين معدومة فهذا لا يجوز بالإجماع لأن الثمرة لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها ولو كانت موجودة فكيف إذا كانت معدومة؟ وهذا هو الذي دلت السنة على المنع منه. وأما إجارة الشجر لمن يعمل عليه لأجل الثمرة فليس بيعا للثمرة قبل وجودها وإنما وقع العقد على الشجر كالأرض تستأجر للزرع لكن لما ورد على طريقة الشيخ أن هذا شجر قد لا يحمل وقد تنقص ثمرة عن العادة فيكون الضرر على المستأجر. أجاب عن ذلك بأن الثمرة لو لم توجد أو وجدت ثم تلف قبل أوان جذاذها فلا أجرة ويرجع بها المؤجر إن كان قد قبضها منه لعدم حصول المقصود بعقد الإجارة وإن نقصت ثمرة الشجرة عن العادة فله الفسخ ويرجع بالأجرة وقدر عمله أو أرش النقص كما إذا كانت العادة أ، ها تثمر بالف مثلا فلم

يحصل منها هذا العام إلا نصفه مثلا رجع بنصف الأجرة أو ثلاثة أرباعه فكذلك وهذا كالجائحة أي كما توضع الجوائح عن مستأجر الأرض أوالحوانيت ونحوها إذا أصاب الزرع جائحة من الآفات فإنه يوضع من الأجرة عن المستأجر بقدر مانقص المغل بالجائحة نصفا كان أو أقل أو أكثر هذا وبلغ الإخوان من الطلبة والأولاد والأمراء وإبراهيم الشتري وصالح وحمد ومن يعز عليك السلام ومن لدينا الإمام والشيخ علي وآل الشيخ والشيخ إبراهيم بنسيف وخواص الإخوان والطلبة بخير ينهون إليكم والسلام.1

_ 1 المجموعة 1/368.

الرسالة الثالثة عشر

الرسالة الثالثة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "13" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ فائز بن علي وإخوانه من طلبة العلم سلمهم الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل خطك أوصلك الله إلى ما يرضيه والذي أوصيكم به جميعا ونفسي تقوىالله تعالى والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره لتفوزوا بالأجر العظيم وليحذر كل عاقل أن يطلب العلم للمماراة والمباهات فإن في ذلك خطرا عظيما ومثل ذلك طلب العلم لغرض الدنيا والجاه والترؤس بين أهلها وطلب المحمدة وذلك هو الخسران المبين ولو لم يكن في الزجر عن ذلك إلا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفي حديث أنس مرفوعا "من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار" وهذا القدر كاف في النصيحة وفقنا الله وإياكم لحسن القول. وقد بلغني أنكم اختلفتم في مسائل اختلافا أدى إلى النزاع والجدال وليس هذا شأن طلاب الآخرة فاتقوا الله وتأدبوا بآداب العلم واطلبوا ثواب الله في تعلمه وتعليمه وأتبعوا العلم بالعمل فإن ثمرته والسبب في حصوله كما في

الأثر "من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم" وكونوا متعاونين على البر والتقوى ومن علامات إخلاص طالب العلم أن يكون صموتاعما لا يعنيه متذللا لربه متواضعا لعباده متورعا متأدبا لا يبالي ظهر الحق على لسانه أو علي لسان غيره لا ينتصر ولا يفتخر ولا يحقد ولا يحسد ولا يميل به الهوى ولا يركن إلى زينة الدنيا. "وأما المسألة الأولى" وهي هل يصح من الحائض إذا قدمت مكة أن تسعى قبل الطواف أم لا؟ "الجواب" لا يصح السعي إلا بعد طواف صحيح لنسك من الأنساك أما المفرد والقارن فسعيهما بعد طواف القدوم مجزىء لحجتهما كما يجزىء القارن لعمرته وأما المتمتع فيسعى بعد طواف العمرة لها ولا يجزئه للحج إلا أن يسعى بعد الإفاضة بعد طواف قال بعضهم يطوف للقدوم ويسعى بعده والمختار أنه لا يطوف للقدوم وليس عليه إلا طواف الزيارة وعليه أن يسعى بعده للحج فإن سعى قلبه لم يجزه قالوا ويجب أن يكون السعي بعد طواف واجب أو مستحب هذا كلام الحنابلة لا خلاف بينهم في ذلك وقال الشافعي لو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئا من الطواف لم يصح سعيه فيلزمه أن يأتي ببقية الطواف فإذا أتي ببقيته أعاد السعي نص عليه الشافعي وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة ومما يستدل به لذلك حديث عائشة رصي الله عنها وفيه فلما كنا في بعض الطريق حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكى فقال: "ما يبكيك؟ " قلت وددت أني لم أكن خرجت العام فقال: "ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" ومعنى ارفضي العمرة ارفضي أعمالها فلو صح سعي قبل الطواف لما منع منه حيضها كما لا يمنع من سائر المناسك والله أعلم. وأما السؤال عن قوله: صلى الله عليه في شأن الرجل الذي صلى بالتيمم ولم يعد لما وصل إلى الماء "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للذي أعاد " لك الأجر مرتين" فلا شك أن الذي لم يعد قد أصاب الحكم الشرعي بدليل قوله: صلى الله عليه وسلم

"أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وأما الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل فإنه يثاب على الصلاة الأولى والثانية وهو كونه صلى الثانية كما أثيب على الصلاة الأولى ومن العلوم أن الفريضة أفضل من التطوع من جنسه وغير جنسه إلا في أربعة أشيئا ليس هذا محل ذكرها. وأما السؤال الثالث فيمن نوى جمع تأخير حيث يجوز الجمع فدخل وقت الثانية قبل أن يصلوا إلى الماء فالأفضل في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى الماء ما لم يدخل وقت الضرورة فإن صلوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصلاة بالتيمم ولا إعادة عليهم. وقول السائل وهل يكون وقت الاختيار للثانية وقت للأولى أم لا؟ "الجواب" يكون وقتا لها في حق من يجوز له الجمع إذا نواه فتنبه والله أعلم يقول كاتبه إبراهيم بن راشد إنه لما قال ممليه ليس هذا محل ذكرها طلبت منه أن يذكرها فأملى على نظما بيتين للسيوطي والأخير لمحمد الخلوتي: الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا التوضؤ قبل وقت وابتداء ... بالسلام كذلك وإبراء معسر وكذا ختان كان قبل بلوغه ... أنعم به نظم الإمام المكثر 1

_ 1 المجموعة 1\370

الرسالة الرابعة عشر

الرسالة الرابعة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "14" من عبد الرحمن بن حسن إلى سليمان بن عبد الله سلمه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وما أشرت إليه من أن بعض

الناس يوقف عقاره وشجرة على ذريته الذكور ما تناسلوا والأنثى حياتها فهذا وقف الإثم والجنف فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات مما جعل الله لهم في العاقبة وهذا الوقف على هذا الوجه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وغايته تغيير فرائض الله بحيلة الوقف وقد صنف فيه شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأبطل شبه المعارضين ولا يجيزه إلا مرتاب في هذا الدعوة الإسلامية وقصده مخالفة أمام المسلمين أو جاهل لا يعرف السنة من البدعة والهدى من الضلال جاهلا بأصول الشرع ومقاصد الشريعة ونعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم والسلام. "المسئلة الثانية" فيمن غرس أرضا مستأجرة للغراس ومضت مدة الإجارة إلى آخره. "فالجواب" وبالله التوفيق في الكافي لأبي محمد عبد الله بن أحمد ابن قد امة وان استأجرها للغراس جاز وله الغرس فيها فان غرس وانقضت المدة وكان مشروطا عليه القلع عند انقضائها أخذ بشرطه ولا يلزمه تسوية الحفر فإن لم يكن شرط القلع لم يجب القلع وللمستأجر قلع غرسه لأنه ملكه ولزمه تسوية الحفر فإن لم بفعل فللمؤجر دفع قيمته ليملكه وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكن يضمن ارش النقص فله ذلك وان اختار أقراره بإجرة مثله فله ذلك ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنزلته والبناء كالغرس في جميع ما ذكرنا انتهى ملخصا فتأمله فإنه كاف في الجواب عما في السؤال والله أعلم 1

_ 1 المجموعة 1/374

الرسالة الخامسة عشر

الرسالة الخامسة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "15" من عبد الرحمن بن حسن إلى سليمان بن عبد الرحمن بن عثمان سلمه الله تعالى وعافاه آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط وصلك إلى يرضيه وما ذكرت كان معلوما وتسأل

عما إذا غم مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان هل يصام يومها أم لا؟ ولا يخفي أن صيامها من مفردات مذهب الإمام أحمد وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل على وجوبه وقال: يحتمل الاتحباب والإباحة وللإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي مصنف ذكر فيه ما ورد فيه من النهي عن صيامه وذكر في بعض روايات حديث بن عمر "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان" وذكره عن غير ابن عمر أيضا مرفوعا وهذا يدل على المنع من صيامه والأحاديث صحيحة مقطوع بصحتها والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: ومن أخذ عنه وينهون عن ذلك لوجوه أربعة "الأول" أن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل ولا تكون من رمضان ألا بيقين "الوجه الثاني" النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين فمن صيامه فقد تقدم رمضان "الوجه الثالث" الأحاديث التي فيها التصريح بالنهي عن صيامه وذلك قوله: "فاكملوا العدة ثلاثين" وفي بعضها تخصيص شعبان "الوجه الرابع" حديث عمار من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وهو يوم الشك بيقين هذا حاصل الجواب وسلم لنا على أحمد وإخوانه ومن لدينا إسماعيل وإخوانه بخير وينهون السلام وأنت سالم والسلام1.

_ 1 الرسائل والمسائل 1/375.

الرسالة السادسة عشر

الرسالة السادسة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "16" من عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب إلى أخيه حمد ابن مانع حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو ونحن بخير وعافية أتمها الله علينا في الدنيا والآخرة وكل من تسأل عنه طيب والأمور على ما تحب والإسلام يزيد ظهورا والشرك يزداد وهنا نسأل الله تمام نعمته وسر الخاطر ما ذكرت من جهة جماعتكم عسى الله أن يهدينا وإياكم

الصراط المستقيم صراط الذين الذين أنعم عليهم. وأما المسائل التي ذكرت فاعلم أولا أن الحق إذا لاح واتضح لم يضره كثرة المخالف ولا قلة الموافق وقد عرفت غربة التوحيد الذي هو أوضح من الصلاة والصوم ولم يضره ذلك فإذا فهمت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وتحققت أن هذا حتم على المؤمنين كلهم فاعلم أن مسألة الأوقاف النزاع فيها معروف في كتب المختصرات وفي شرح الإقناع في أول الوقف أنهم اتفقوا على صحة الوقف في المساجد والقناطر يعني بقعها لا الوقف عليهما واختلفوا فيما سوى ذلك. إذا تبين ذلك فأنت تعلم أن الرسول صلى الله قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" وفي لفظ "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وتقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا ولو أمر به لكان الصحابة أسبق الناس إليه وأحرصهم عليه وتقطع أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسد الزرائع وهو من اعظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله. هذا على تقدير أن العالم المنسوب إليه هذا يصحح مثل أوقافنا وأنى ذلك وحاشا وكلا بل إنهم يبطلون الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمر مباح ويقولون لا بد منه على أمر قربة وأما كونه جعل ماله بعد الورثة على بر فهذا لا يكون إلا بعد انقراضهم وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثاني. وذكر بطلان مثل هذا في الشرح الكبير وغيره. "المسألة الثانية" وهي وقف المرأة على ولدها وليس لها زوج إلى آخره فكذلك تعرف أن الوقف على الورثة ليس من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولو شرعه لكان أصحابه أسرع الناس إليه سواء شرط على قسم الله أم لا وهذا في الحقيقة يريد أمرين "الأول" تحريم ما أحل الله لهم من بيعه وهديته والتصرف فيه "والثاني" حرمان زوجات الذكور وأزواج الإناث فيشابه مشابهة جيدة ما ذكر الله عن المشركين في سورة الأنعام ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به كاف في فساده صلحت نية صاحبه أم فسدت.

"المسألة الثالثة" إذا لم يعلم هل هذا وقف على من يرث أم لا ولكن الإفاضة على ا، هـ على من يرث فأنا لا أدري شيئا عن هذه المسألة لكن أرى لك التوقف عها ولا ينزع عن يد من يأكله إلا ببينة. "المسألة الرابعة" وهي الوقف على المحتاج من ذريته فهو صحيح ذكره البخاري عن ابن عمر أنه وقف نصيبه من دار عمر على المحتاج من ذريته من آل عبد الله. "المسألة الخامسة" وهي مسألة الجمعة فهي باطلة لكونها وقفا على الورثة وأيضا يحرم بعضهم وأيضا لم يشرع. وأما بيع الإنسان نصيبه من هذه الصبرة على صاحب وغيره فلا يجوز بل الصبرة باطلة من أصلها فإن كان هذا الجواب أزال عنك الاشكال وإلا فلو أردت التطويل طولت لك وذكرت لك العبارات والأدلة والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.1

_ 1 المجموعة 1/377.

الرسالة السابعة عشر

الرسالة السابعة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "17" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم على بن فواز سلمه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فهذا جواب المسائل أما خروج النساء من البيوت بالزينة فيحرم مخافة الفتنة بالنساء فإنهن فتنة لكل مفتون وأما الدف فيحصل الإعلان بضربه في النهار قبل الدخول في وقت من النهار وأما ضربه في الليل ففيه من المفاسد ما لا يخفي ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم فقد ظلم نفسه وأما الاحتكار فإذا اشتراه أحد من الأسواق ينتظر الغلاء فهو احتكار وأما خلط البر بالشعير للبيع فلا يجوز لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده2. وأما تلقي الركبان للشراء منهم ما جلبوه فيلزم منعهم من ذلك وأما التزعفر فقد ورد ما يدل على جوازه فلا ينكر والحالة هذه.

_ 2 لعلها مصنفة لأنه يورد به الآثار على المسائل المترجم لها.

وأما مذهب الخوارج فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب ما كان منها دون الكفر والشرك وإنهم. قد خرجوا في خلافة علي ابن طالب رضي الله عنه وكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال واستدلوا على ذلك بآيات وأحاديث لكنهم أخطؤا في الاستدلال فإن ما دون الشرك والكفر من المعاصي لا يكفر فاعله لكنه ينهى عنه وإذا أصر على كبيرة ولم يتب منها يجب نهيه والقيام عليه وكل منكر يجب إنكاره من ترك واجب أو ارتكاب محرم لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا دل الكتاب والسنة على أنه كفر وكذا ما انفق العلماء على أن فعله أو اعتقاده كفر كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب إلا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا فالمشهور في مذهب أحمد انه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك بل يعدونه من أهل الكبائر وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها: وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة فقد عمت به البلوى وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب ولا ضرب ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه وإنكار فعله ولو لم يكن حاضرا والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها وأما المعاصي التي فيها الحد فلا يقيمها إلا الإمام أو نائبة وأما الحدود إذا بلغت السلطان فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة ومن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم وذكرت في جوابي الذي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة والسلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم انتهى؟

الرسالة الثامنة عشر

الرسالة الثامنة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "18" من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الأخوان وفقنا الله وإياهم لسلوك منهج العلم والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد فقد سألني بعض الأخوان عن قلب الدين على المدين إذا كان له عقار وعوامل ونواضح ونحوها فأجبت بأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال "الحال الأول" أن يضيق المال عن الدين فهذا مفلس في عرف العلماء رحمهم الله تعالى إذا سأل غرماؤه الحاكم ولو بعضهم لزمه الحجر عليه في ماله وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجوزا عليه بدون حكم حاكم وهذا لا يجوز قلب الدين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدين "الحال الثاني" أن يكون ماله أكثر من دينه لكنه لا يقدر على وفاء دينه إلا بالاستدانة في ذمته وهذا يشبه الأول لا يجوز قلب الدين عليه لأنه غير مليء ولا يخفي أن المليء عند العلماء هو الذي إذا طولب بما عليه بذله من غير مشقة عليه وهو الواجد للوفاء "الحال الثالث" أن يكون عليه دين وفي يده مال يقدر على الوفاء من غير استدانة وهذا مليء ولكن منع بعض العلماء قلب الدين عليه حسما للمادة وسدا للذريعة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: عن المعاملات التي يتوصل بها إلى الربا: فمن ذلك أن يكون المدين معسرا فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمر في هذا وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد؟ فأجاب: المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ولعن المحلل له وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فيقول له: أتقضي أم تربب؟ فإن وفاء إلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا المال فيتضاعف المال والأصل واحد وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين وأما إذا كان هذا هو المقصود ولكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخرون وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع في أن هذا محرم والآثار عنهم بذلك كثيرة والله تعالى حرم:

الربا لما فيه من الأضرار بالمحتاجين وأكل المال بالباطل وهو موجود في المعاملات الربوية فإذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب عليه الدين بل يجب انظاره وان كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره والواجب على ولاة الأمر بعد تعزير المعاملين بالمعاملة الربوية أن يأمروا المدين بأن يؤدي رأس المال ويسقطوا الزيادة الربوية فإن كان معسرا وله مغلات يوفي دينه منها وفي دينه منها بحسب إلا مكان والله تعالى أعلم انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله: تعالى: فتأملوا قوله: إن كان معسرا وله مغلات كيف سماء معسرا مع وجود عقار يستغله ومن صور قلب الدين انه إذا حل أجل مافي ذمة المدين من الدراهم وعلم صاحب الدين انه لايجد دراهم يدفعها إليه قال له: بعني طعاما في ذمتك على كذا وكذا فيسلم إليه الدراهم بطعام في ذمته فإذا قبض منه رأس المال ردها إليه وفاء عن دينه الأول وحقيقة الأمر أن الذي في ذمة الأول قلبه طعاما فينموا المال في الذمة والأصل واحد وكذلك بيع دين السلم لا يجوز إلا بعد قبضه ولو على من هو في ذمته وهذا قول جمهور العلماء وهو إلا صح إن شاء الله: وأيضا يذكر لنا أنكم تعاملون كراء الأرض بحب معلوم وتشترطون على الزراع جزءا من التبن. وهذه إجارة يشترط فيها أن تكون الأجرة معلومة وشرط التبن شرط شيئا من الحب معلوما وتتركوا اشتراط التبن والسلام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم1.

_ 1 المجموعة 1/381.

الرسالة التاسعة عشر

الرسالة التاسعة عشر ... بسم الله الرحمن الرحيم "19" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان بن ناصر وفقه الله وهداه لما يحبه ويرضاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد" فالخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه واعلم يا أخي أن أهم الأمور علينا وعليكم وأحق ما يهتم به معرفة التوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه والتمسك بأوثق عراه والحب في الله والبغض في الله والمولاة فيه والمعادات فيه وتمييز الناس بما أسلف منهم وبما يبدو على صفحات الوجوه وفلتات الألسن فإن من أعظم الأمور خطرا أن يحب لهواه ويقرب لدنياه ويبغض لهواه لا طاعة مولاه فاجعل هذا منك على بال أعاذنا الله وإياكم من عبادة الرجال. وأما ما سألت عنه من المسائل الأربع فالجواب عن مسألة زوجة المفقود إذا تعذر الإنفاق عليها من ماله فإن لها فسخ نكاحه بحكم حاكم الشرع فإذا جاز ذلك في حق الموجود جاز في حق المفقود أيضا ولا فرق بينهما وكونه مفقودا لا يمنع ثبوت الحكم بتعذر ما يجب لها عليه. وأما مسألة المظاهر فاعلم أنه يجب على المفتي أن يعتبر شواهد أحواله فإذا عرف من شاهد الحال أنه يقدر على أن يصوم شهرين متتابعين فلا يجوز للمفتي أن يفتح له باب الرخصة في الإطعام بمجرد قوله: لا أستطيع الصيام وشاهد الحال يكذبه فلا ينتقل إلى الإطعام إلا بتحقق عجزه عن الصيام: وأما مسئلة الشفعة فان شريك الأصل أحق بالا خذ بها من شريك المصالح ما لم يترك الطلب بها بغير خلاف نص عليه في المغني والشرح والأنصاف وغيرها وأما عيب الجرب فحكمه حكم سائر العيوب فإذا ادعى المشتري انتقال المبيع بذلك العيب ولا بينة حلف المشتري على ما ادعاه على إلا صح والله أعلم:

الرسالة العشرون

الرسالة العشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم: "20" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه وسرنا ما ذكرت من طيبك وصحة حالك وأخبرك أني والله الحمد بخير وعافية كذلك الشيخ عبد الله:

وإبراهيم وأعمامي وعيالي وعيالهم وآل مقرن وما ذكرت من حرصك على الزيارة فأرجو أن الله يجمعنا وإياكم على خير وعافية ويستعملنا وإياكم في طاعته: وما ذكرت من السؤال هل المرأة تعاقل الرجل حتى تبلغ ثلث ديته الخ فالجواب أن المرأة كالرجل تساوي جراحها جراحه حتى تبلغ ثلث ديته على الصحيح من المذهب واستدل علماؤنا رحمهم الله في كتبهم بحديث عمرو بن شعيب الذي رواه النسائي وبكلام سعيد بن المسيب لربيعة وهو الظاهر في أن المراد الثلث من دية الرجل ولفظ الحديث الذي نقلته من شرح زاد المستنقع هو كما نقلت وهو كذلك في المنتقى والمحرر والجامع الصغير ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها" رواه النسائي والدارقطني قال الحافظ بن عبد الهادي في محرره هو من رواية إسماعيل بن عياش وهو كثير الخطأ وعلى تقدير صحته واستدلال الفقهاء به يحتمل أن يكون الضمير للمضاف إليه المحذوف أي عقل جراح المرأة فهو راجع إلى راجع إلى الجراح لكونه مفهوما من الحديث لا إلى المرأة إذ لو كان كذلك لما صح الاستدلال على أن جراح المرأة مثل جراح الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته مع مخالفته لكلام سعيد. وقد استدل العلماء بهما معا على حكم واحد وذلك ينبئ عن الإنفاق في المعنى والله أعلم1

_ 1 مجموعة الرسائل 1/384.

تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} وإلى قوله: وان خفتم شقاق فالذي عليه جمهور العلماء في معنى الآية أن الحاكم يبعث حكما ثقة من أهلها وثقة من قوم الرجل فإن حصل بينهما التوفيق وإلا صارا إلى التفريق وإذا اتفقا عليه ففرقا بطلقة أو طلقتين أو ثلاث على حسب ما يريان فهما حكمان من جهة الحاكم ووكيلان من جهة الزوجين إذا تراضيا على توكيلهما فلهما التفريق وعن الإمام أحمد أنهما حكمان يفعلان نصا ما يريانه من جمع وتفريق وغيره ولو لم يرضيا ولا وكلا وهذا مذهب جمهور العلماء ولم يذكر العلماء فيما وقفت عليه بذل العوض والله أعلم:

الرسالة الواحده العشرون

الرسالة الواحده العشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "21" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ سعيد بن عيد سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه والأحوال جميلة بحمد الله نجملها بالإيمان والتقوى وما ذكرت من حال المرأة الناشز فقد قال:

الرسالة الثانية والعشرون

الرسالة الثانية والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "22" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوين المحبين صالح بن محمد وحمد ابن عتيق كان الله في عونهما0 سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط أوصلكما الله إلى ما يرضيه وما ذكرتما من توزيع الجمل على الجمل وإلا فراد على الجمل وإلا فراد على إلا فراد فهذه الكلية ذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى في المسح على الخفين وفي مسألتكما هذه وفي الوقف وأنا أصورها في مسألة السؤال وهي مد عجوة ومن صورها مد ودرهم بدرهمين فالجمهور من الفقهاء قالوا بعدم الجواز يناء على أن جملة المد والدرهم في مقابلة الدرهمين فلم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ولا يقابل المد وإنما الجملة مقابلة للجملة فلا تحصل المماثلة بين الجنس الذي هو لغة للجمل بما يقابل كل جنس من جنسه كذلك إذا وزعت إلا فراد على الجمل كما إذا اعتبر الدرهم الذي مع المد في مقابلة مجموع الجملة من الدرهمين والمد كذلك فلم يتميز ما يقابل الجنس من جنسه هل هو درهم أو أقل أو أكثر والجهل بالتساوي كالعلم

بالتفاضل وذهب شيخ الإسلام كأبي حنيفة إلى الجواز فوزع الأفراد على الأفراد فصار الدرهم يقابل درهما من غير زيادة والمد يقابل الدرهم الآخر فجعلت المماثلة والتساوي في الجنس وهو مشكل والله أعلم

الرسالة الثالثة والعشرون

الرسالة الثالثة والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "23" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ جمعان منحه الله من العلوم أنفعها ومن الفضائل أرفعها آمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد وصل إلينا كتابك فاستبان به مرامك وخطابك وسررنا به غاية السرور جعله الله تعالى من مكاسب إلا جور وقد سألت فيه أمدك الله عن اثنتي عشرة مسئلة0 " أولها " قول العلماء رضي الله عنهم فيمن حرم زوجته الخ " فالجواب" وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتحقيق تحريم الزوجة ظهار ولو نوى به طلاق أو يمينا نص عليه إما منا رحمه الله: في رواية الجماعة وهو المذهب ونقل عنه ما يدل على أنه يمين وفاقا للثلاثة رحمهم الله تعالى وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات والفتاوى المصرية في باب الظهار بالأول لكن قال ابن القيم رحمه الله: في الإعلام إنه إن وقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام وعليه يدل النص والقياس فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرم وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو التزم الإعتاق والحج وهذا محض القياس والفقه انتهى. قلت: قوله: وإذا حلف كان يمينا إلى آخره بناء على ما ذهب إليه من أن المعلق للطلاق على شرط يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام فإن يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث وإن أراد الإيقاع عند وجوب المعلق عليه طلقت وصرح به الشيخ رحمه الله تعالى: في باب تعليق الطلاق بالشروط قال: كذا

الحلف بعتق وظهار وتحريم. "المسئلة الثانية" إذا أحال إنسان على آخر ولم يعلم بذلك حتى قضاء دينه أو قضاء من أحاله عليه ثانيا الخ. "فالجواب" قد برئت ذمه المدين من الدين إذا دفعه إلى صاحبه أو إلى من أذن له أن يدفعه إليه لوجوب القضاء بعد الطلب فورا ولا تلزم المدين غرم ما قضاه من الدين لان الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم فلا تبعة عليه فيما لم يعلم وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقدس روحه هذه القاعدة وقرر أدلتها فعلى هذا يرجع من أحيل أولا بدينه على المحيل كما قبل الحوالة والله أعلم. "المسئلة الثالثة" إذا رهن إنسان زرعه أو نخله ونحوه فاحتاج الراهن لما يصلح الرهن فطلب من المرتهن أن يداينه لذلك أو يطلق الرهن لمن يداينه لا صلاحه فامتنع وعلى الراهن ضرر. "فالجواب" أن الصحيح من أقوال العلماء أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن قال في الشرح ولا يلزم الرهن إلا بالقبض ويكون قبل قبضه رهنا جائزا يجوز للرهن فسخه وبهذا قال: أبو حنيفة والشافعي وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أنه يلزم بمجرد العقد ونص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وفي رواية الميموني وهو مذهب مالك رحمه الله: ووجه الأول قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض انتهى. قال في الأنصاف هذا المذهب وعليه الأصحاب وعنه أن استدامته في المعين ليس بشرط واختاره في الفائق انتهى ملخصا فقد عرفت إلا صح من الأقوال الذي عليه أكثر العلماء رحمهم الله تعالى فعليه لا ضرر على الراهن:

لبطلان الرهن بالتصرف إذا لم يكن في قبضة المرتهن وقد ذكر العلماء أيضا أن المرتهن لا يختص بثمن الرهن إلا إذا كان لازما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ويترتب على الفتوى به من المفاسد مالا يتسع لذكره هذا الجواب وليس مع من أفتى إلا محض التقلد وأن العامة تعار فوه فيما بينهم ورأوه لازما وأنت خبير بأن هذا بحجة شرعية وإنما الحجة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع وهو اتفاق مجتهدي العصر على حكم ولا بد للإجماع من مستند والدليل الرابع القياس الصحيح وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله إلا الله كم غلب على أحكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح وعدم التعويل على ما اعتمد المحققون من القول الصحيح وقد ادعى بعضهم أن شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: كان يفتي بلزوم الرهن وإن لم يقبض فاستعبدت ذلك على شيخنا رحمه الله تعالى: ولو فرضنا وقوع ذلك فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة القول أحد كائنا من كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد كما قال الإمام مالك رحمه الله: تعالى: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد زعم هذا الزاعم من الله علي بالوقف على جواب شيخنا الإمام رحمه الله تعالى: فإذا هو جار على إلا صح الذي عليه أكثر العلماء. وصورة جوابه أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله أو أكثرهم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض وقبض كل شيء هو المتعارف فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له ورفع يد الراهن عنه هذا هو القبض بالإجماع ومن زعم أن قوله: مقبوض يصيره مقبوضا فقد خرق الإجماع مع كونه زورا مخالفا للحس. إذا ثبت هذا فنحن إنما أفتينا بلزوم هذا الرهن لضرورة وحاجة فإذا أراد صاحبه أن يأكل أموال الناس ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيجاب العدل وتحريم الخيانة فهذا هو الأقرب قطعا وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء رحمهم الله تعالى فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن وكونه في يد المرتهن انتهى المقصود. فذكر رحمه الله تعالى: في هذه الفتيا أن الراجع الذي عليه أكثر العلماء أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض وأنه إنما أفتى بخلاف لضرورة وحاجة وأنه رجع إلى قول الجمهور لما قد ترتب على خلافه من الخروج من العدل ومن الخيانة وهذا الذي أشار إليه رحمه الله: من الخروج عن العدل وأكل أموال الناس بالباطل والخيانة في الأمانة قد رأيناه عيانا وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة وقد قرر رحمه الله تعالى: في هذه الفتيا أن قول الجمهور أقرب إلى العدل فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذه القول المقرر هنا والله أعلم. "المسألة الرابع" إذا ستأجر إنسان أرضا للزرع ونحوها ثم رهنه فقصرت الثمرة عن الدين والأجرة وعن الحداد والخراز إلى آخره. فالجواب إذا انتفى لزوم الرهن لعدم القبض أو الاستدامة تحاصوا في الثمرة وغيرها على قدر الذي لهم لان محل ذلك ذمة المدين وتقديم أحدهم على غيره ترجيح من غير مرحح وما اشتهر بين الناس من تقديم العامل في الزرع ونحوه بأجرته فلم نقف له على أصل يوجب المصير إليه والله أعلم. "المسألة الخامسة" إذا دفع إنسان إلى آخر عروض مضاربة وجعل قيمتها رأس مال المضاربة هل يجوز هذا أم لا؟ "الجواب" يشترط في المضاربة وشركة العنان أن يكون رأس المال من النقدين أو أحدهما وهو المذهب وعنه رواية أخرى أنها تصح بالعروض اختاره أبو بكر وأبو الخطاب وصاحب الفائق وغيرهم قال في الأنصاف قلت وهو الصواب فعلى هذه الرواية يرجع عند المفارقة العروض عند العقد كما جعلنا نصابها قيمتها وسواء كانت مثلية أو غير مثلية والله أعلم: "المسألة السادس" إذا إنسان مالا مضاربة وعمل فيه المضارب ثم.

تلف من المال شيء بخسارة أو نحوها ثم فسخ المضارب هل عليه أن يعمل فيه حتى يكمل رأس المال أم لا "الجواب" ذكر في القواعد الفقهية عن ابن عقيل ما حاصله انه لا يجوز للمضارب الفسخ حتى ينض رأس المال ويعلم به ربه لئلا يتضرر بتعطيل ماله عن الربح وأما المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال الربح ولا يسقط به حق العامل قال: وهو حسن جار على قواعد المذهب في اعتبار المقاصد وسد الذرائع ولهذا قلنا إن ضارب الآخر من علم الأول وكان عليه في ذلك ضرر رد حقه من الربح في شركة الأول انتهى أقول مراده بقوله: حتى ينض رأس المال يعني به إذا لم ينقص أما إذا نقص فليس على المضارب إلا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال لان المضاربة عقد جائز ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعد منه ولا تفريط والله أعلم. "المسألة السابعة" هل يلزم صاحب الأصل إذا أكرى أرضه أو شجرة عند من يجوز ذلك ما يلزمه في عقد المساقاة من سد حائط أو أجراء نهر ونحوه أم لا. "فالجواب" لم أقف في هذه المسئلة للعلماء رحمهم الله تعالى على نص والله أعلم. "المسألة الثامنة" ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار ثم اشتراه بعض التجار من آخذة ثم باعه على آخر الخ. "فالجواب" ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليون فذكر القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى: إنهم يملكونه بالقهر وهو المذهب عنده. وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكون يعنى ولو حازوه إلى دراهم قال في الإنصاف وهي رواية عن أحمد اختارها الآجري وأبو الخطاب في تعليقه وابن شهاب وأبو محمد الجوزي وجزم به ابن عبدوس في تذكر ته قال في النظم لا يملكونها في الأظهر وذكر ابن عقيل في فنونه ومفرداته روايتين:

وصحح فيها عدم الملك وصححه في نهاية ابن رزين ونظمها انتهى. قال في الشرح وهو قول الشافعي وابن المنذر لحديث ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولأن من لا يملك رقبة غيره لا يملك ماله به أي بالقهر كالمسلم مع المسلم ووجه الأول أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دراهم وهو قول مالك. وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة إلى دارهم وهو قول أبي حنيفة وحكي عن أحمد في ذلك روايتان قال ابن رجب ونص أحمد أنهم لا يملكونها إلا بالحيازة إلى دراهم فعليها يمتنع ملكهم لغير المنقول كالعقار ونحوه لأن دار الإسلام ليست لهم دارا وإن دخلوها لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن أحمد لم ينص على الملك ولا على عدمه وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه انتهى. قلت قد صرح في كتاب الصارم والفتاوى المصرية وغيرها أن القيد المشار إليه هو إسلام أخذها ونصه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه كان له ملكا ولم يرده إلى الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد رحمهم الله وهو قول جماهير أصحاب أحمد بناء على أن الإسلام والعهد أقرا ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحقها قال في الاختيارات: قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضا يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام قال ومن العلماء من قال يرده على مالكه المسلم كالغضب ولأنه لو أخذه منهم المسلم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اتفق الناس عليه فيما نعلمه,

ولو كان قد ملكوه لملكه الغاتم منهم ولم يرد إلى ملكه انتهى واختار أن الكافر بملكه بالإسلام عليه. أقول تأمل ما ذكره شيخ الإسلام من حجة الشافعي وموافقيه على أن الكفار لا يملكون أموال المسلمين فلو كان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء أو بالحيازة إلى داره لم يرد النبي على ابن عمر عبده وفرسه التي كان أخذها العدو لما ظهر عليهم المسلمون فلو لم يكن باقيا على ملك ابن عمر لم يرد إليه وليس لتخصيصه بذلك دون شائر الغانمين معنى غير ذلك وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده والأحاديث في ذلك مشهورة في كتب الأحكام وغيرها قال البخاري رحمه الله: في صحيحه "باب إذا غنم المسلمون مال مسلم ثم وجده المسلم" قال ابن نمير حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذهب فرس له فأخذه بالروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي ثم ساقه بسنده متصلا. وما استدل به القائلون بأنهم يملكونها بالقهر من أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكافر مال المسلم فهذا قياس مع الفارق لا يصح دليلا لو لم يكن في مقابلة الأحاديث فكيف والأحاديث تمنعه؟ ولو لم يكن مع الشافعي وأبي الخطاب وابن عقيل فيما صححه من الروايتين ومن وافقهم كابن المنذر إلا حديث مسلم: إن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها فقلت يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها فقال: "بئس ما جازيتها لا نذر في معصية الله" وفي رواية "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" هذا هو الحديث المشار إليه فيما تقدم. وقد عرفت من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن من العلماء من قال يرده على مالكه المسلم ولو أسلم عليه وعزاه إلى الشافعي

وأبي الخطاب وذكر ما يدل لهذا القول وأنا اذكر ما يدل لذلك أيضا وإن لم يذكره شيخ الإسلام وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض فقال أحدهما أن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية وهو امرؤ القيس بن عباس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان قال "بينتك؟ " قال ليس لي بينة قال: "يمينه" قال إذا يذهب بها؟ قال: "ليس لك إلا ذلك" الحديث. وأما حكم ما أخذه المسلمون منهم مما قد أخذوه من مال المسلم فالجمهور من العلماء يقولون إذا علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شيء قال في الشرح في قول عامة أهل العلم منهم عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وحجتهم ما تقدم من قصة ابن عمر قال في الشرح: وكذلك إذا علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسم وجب رده وصاحبه أحق به بغير شيء لأن قسمته كانت باطلة من أصلها فهو كما لو لم يقسم فأما إن أدركه بعد القسم ففيه روايتان "إحداهما" يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه وكذلك إن بيع ثم قسم بثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك لئلا يفضي على حرمان آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري يعني من الغنيمة وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في غير ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع "والرواية الثانية" أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث وقال الشافعي وابن المنذر يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحقه بغير شيء كما قبل القسمة ويعطي من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقه من الغنيمة وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها فإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحق به بغير شيء. وقال أبو حنيفة لا يأخذه إلا بالقيمة وهو محجوج بحديث

ناقة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم ولأنه لم يحصل في يده بعوض فصار صاحبه أحق به بغير شيء كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة. فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه وهذا كله إنما هو في الكافر الأصلي. وأما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال عند جميع العلماء ولا يعلم أحد قال به وقد تتبعت كتب الخلاف كالمغني والقواعد والإنصاف وغيرها فما رأيت خلافا في أنه لا يملكه وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة أو لحق بدار حرب والمذهب أنه يضمن ما تلف في يده مطلقا فافهم ذلك فالمسلم يأخذ ماله من المرتد أو ممن انتقل إليه بعوض أو غيره بغير شيء. وما تلف في يد المرتد من مال المسلم أو تلف عند من انتقل إليه من جهة المرتد فهو مضمون كالمغصوب. ثم أعلم أنه قد يغلط من لا تمييز عنده في معنى التلف وإلا تلاف فيظن أنه إذا استنفق المال أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يعد إتلافا وليس كذلك بل هذا تصرف وانتفاع. وقد فرق العلماء رحمهم الله بين هذا وبين الإتلاف. ومن صور الإتلاف والتلف أن يضيعه أو يضيع أو يسرق أو يحرق أو يقتل ونحو ذلك فإن كان بفعله فهو إتلاف وإن كان بغير فعله فهو بالنسبة إليه تلف يترتب عليه أحكام ما تلف بيده وبالنسبة إلى الفاعل إتلاف. وضابطه فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرف. إذا عرفت أن حكم المرتد يفارق حكم الكافر الأصلي. فاعلم أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فيمن اشترى مال مسلم من التتر لما دخلوا الشام أن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطى مشتريه ما اشتراه به لأنه لم يصر له إلا بنفقته وإن لم يقصد ذلك انتهى من الإنصاف. وسئل أيضا عمن اشترى فرسا ثم ولدت عنده حصانا وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان لرجل فأعطاه عوضه ثم ظهرت الفرس أنها كانت مكسوبة نهبا من قوم فهل يحرم ثمن الحصان. فأجاب إن كان صاحب الحصان معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري

بالثمن على بائعه ويرجع عليه بقيمة الحصان أو قيمة نصفه الذي يستحقه صاحبه لكونه غره وإن كانت مكسوبة من التتر أو العرب الذين يغير بعضهم على بعض فيأخذ هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ولم يعرف صاحبهما لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته والله أعلم. وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: بأن هذا المنهوب يرد إلى صاحبه أو قيمته إن تصرف فيه ويرجع المشتري بالثمن على البائع وإنه إن لم يعرف صاحب ما أخذ من التتر والعرب لم يحرم عليه عوضه. فمفهومه أنه إن عرف صاحبه فعوضه حرام على من اعتاص عنه لكونه ظهر مستحقا لمسلم معصوم وهذا أيضا يفيده ما تقدم من قوله: فيمن اشترى مال مسلم من التتر لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء والحيازة. ومن المعلوم أن التتر من أعظم الناس كفروا لما جمعوه من المكفرات في الاعتقادات والأعمال ومع ذلك قال شيخ الإسلام ويرد ما أخذوه لصاحبه المسلم من غير أن يدفع إلى مشتريه منهم شيئا كما يفيده الجواب الثاني ولم يقل فيه إنه لا يحرم على من اعتاض عن الحصان شيئا إلا بقيد عدم معرفة صاحبه بناء على أصله في الأموال التي جهلت أربابها ولذلك قال في المكوس إذا اقطعها الإمام الجند هي حلال لهم إذا جهل مستحقها. وبذا يظهر الجواب عن المسألة "التاسعة" وهو أن ما وقع في هذه السنين من النهب والظلم يرد ما وجد منه إلى مالكه من غير أخذ ثمن ولا قيمة. وحكم يد المشتري منهم حكم إلا يدي المترتبة على يد الغاصب لما تقرر من أن الخلاف إنما جرى في الحق الكافر الأصلي وأما المرتد ونحوه فالقول بأنه لا يملك مال المسلم مسألة وفاق. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في الفتاوى المصرية مايفهم به الفرق بين الكافر الحربي والمرتد فقال: وإذا قدر على كافر حربي فنطق بالشهادتين وجب الكف عنه بخلاف الخارجين عن الشريعة كالمرتدين الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والتتر وامتثال هؤلاء الطوائف ممن نطق بالشهادة ولا يلتزم شعائر الإسلام. وأما الحربي فإذا نطق بها كف عنه

وقال أيضا ويجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأموالهم باتفاق المسلمين ويجب على المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله انتهى. فيعلم مما تقرر أن الأموال المنهوبة في هذه السنن غصوب يجري فيها حكم الغصب وما يترتب عليه. وبهذا أفتى شيخنا الشيخ عبد الله ابن شيخنا الإمام محمد رحمهم الله. وافتى به الشيخ محمد بن علي الشوكاني قاضي صنعاء اليمن وما ظننت أن أحدا له أدنى ممارسة في العلم يخالف ذلك والله أعلم. "المسئلة العاشرة" قال السائل وجدت نقلا عن الاقناع وشرحه إذا ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مسميا حل لربه ونحوه أكله ولم يكن ميتة كالمغصوب انتهى قال السائل وهل هذا إلا مغصوب ويعارضه حديث عاصم بن كليب عن أبيه الخ. "الجواب" لا معارضة إذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا كل منها لا يدل على إنها ميتة من وجوه "منها" إنها ليست ملكا لهم ولا لمن ذبحها فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها ولا من أذن له مالكها في إلا كل منها ويتحمل أنه ترك الأكل منها تنزها ويدل على حلها بهذه الذكاة قوله: "أطعميه الأسارى" وهو لا يطعمهم ميتة وقوله: كالمغصوب راجع لقوله: حل لا لقوله: ميتة شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل لا في الحرمة والله أعلم "المسئلة الحادية عشرة" إذا كان لإنسان على آخر دين من طعام أو نحوه فأشفق في الوفاء فطلب غريمه أن يعطيه الثمرة عن ماله في ذمته فهل يجوز ذلك أم لا؟. "فالجواب وبالله التوفيق" قال البخاري رحمه الله: في صحيحه "باب إذا قاص أو جازفه في الدين فهو جائز" زاد رواية كريمة تمرا بتمر أو غيره وساق حديث جابر رضي الله عنه أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى الحديث وبه.

استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء رحمهم الله على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة إذا علم أنه دون حقه إرفاقا بالمدين وإحسانا إليه وسماحة بأخذ الحق ناقصا وترجم البخاري رحمه الله: بهذا الشرط فقال "إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز" ساق حديث جابر رضي الله عنه أيضا فاما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو مثله أو فوقه فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا لا سيما إذا كان دين سلم لما روى البخاري وغيره عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم" ومضمون هذا الحديث عام وبه اخذ الجمهور وقد يقال أن قضية جابر قضية عين لا عموم لها ويترجح المنع سدا للذريعة لا سيما في هذه إلا وقات لكثرة الجهل والجراءة بأدنى شبهة والله أعلم. "المسألة الثانية عشرة" ما حكم الباطل والفاسد عند أهل الأصول الخ. "الجواب" هما مترادفان عند الأصوليين والفقهاء من الحنابلة والشافعية وقال: أبو حنيفة أنهما متباينان "فالباطل" عنده ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح "الفاسد" ما شرع اصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا وعند الجمهور كل ما كان منهيا عنه إما لعينه أو وصفه ففاسد وباطل لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التفرقة بين ما أجمع على بطلانه وما لم يجمع عليه فعبروا عن الأول بالباطل وعن الثاني بالفاسد ليتميز هذا من هذا لكون الثاني تترتب عليه أحكام الصحيح غالبا أو أنهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التعبير لأن من عادة الفقهاء من أهل المذاهب رحمهم الله تعالى مراعاة الخروج من الخلاف وبعضهم يعبر بالباطل عن المختلف فيه مراعيا للأصل ولعل من فرق بينهما في التعبير لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلا فلا اختلاف ومثل ذلك خلافهم في الفرض والواجب قال في القواعد الأصوليه إنها مترادفان شرعا في اصح الروايتين عن أحمد اختارها جماعة منهم ابن عقيل وقاله الشافعية وعن أحمد الفرض آكد اختارها جماعة.

وقاله الحنفية فعلى هذه الرواية الفرض ما ثبت مقطوع به وذكره ابن عقيل عن أحمد وقيل مالا يسقط في عمد ولا سهو وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية أن الفرض ما لزم بالقرآن والواجب ما كان بالسنة وفائدة الخلاف أنه يثاب على أحدهما اكثر وان طريق أحدهما مقطوع به والآخر مظنون ذكره القاضي وذكرهما ابن عقيل على الأول قال غير وأحد والنزاع لفظي وعلى هذا الخلاف ذكر الأصحاب مسائل فرقوا فيها بين الفرض والواجب والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم1.

_ 1 المجموعة 1/386.

الرسالة الرابعة والعشرون

الرسالة الرابعة والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "24" من عبد الرحمن بن حسن إلى المكرم عثمان بن عيسى سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" وصل خطك وصلك الله إلى خير والمحب بخير وعافية ويحمد إليك الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه وخواص إخوانك بخير وعافية جعلنا الله وإياكم ممن عرف النعمة وقدرها وشكر الله تعالى عليها بالاعتراف بها والذل والخضوع والعبودية لمسديها آمين. وتسال عمن نفر من الحج ولم يطف طواف الزيارة والسعي ثم أراد السفر لقضاء ما تركه فهل له إذا وصل إلى المقيات أن يحرم بعمرة مفردة ثم يأتي بما بقي عليه وهل يجوز أن كان الوقت لم يتسع أن يحرم بالحج فإذا فرغ من أعماله أتى ببقية أعمال حجه الأول هذا ملخص السؤال. "الجواب" قال في شرح المنتهى: فلو تركه أي طواف الزيارة وأتى بغيره من فرائض الحج وبعد عن مكة مسافة القصر رجع إلى مكة معتمرا فأتى بافعال العمرة ثم يطوف للزيارة انتهى, وهذه مسئلة السائل أحد جزيئياتها فيحرم بالعمرة متمتعا بها إلى الحج فإذا فرغ من أعمالها أتى بما تركه من طواف وسعي أما إذا ضاق الوقت بان لم يمكنه قدوم مكة قبل الوقوف فيحرم قارنا أو مفردا فإذا

رمي جمرة العقبة وأفاض إلى مكة وطاف الزيارة وسعى بعده رجع إلى البيت فأتى بما تركه عام أول من طواف وسعى. فإن قدم الطواف والسعي الذي تركه على طواف حجه الذي هو في اعماله جاز ذلك لان وقت طواف الزيارة والسعي موسع فمتى فعله وقع أداء. هذا ما تقتضيه قواعد مذهبنا وأصوله والله أعلم سلم لنا على حمد بن فارس وحمد بن عبد الجبار وابن ناجم وخواص الإخوان ومن عندنا خواص الأخوان وفيصل وآل الشيخ وإبراهيم وابنه وكاتبه ناصر العريني يسلم وأنت في أمان الله والسلام1

_ 1 المجموعة 1/403.

الرسالة الخامسة والعشرون

الرسالة الخامسة والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "25" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ عثمان بن باشر سلمه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وسرنا طيبك وصحة حالك عافانا الله وإياكم من كل سوء وأعاذنا وإياكم من ولاة السوء. والإمام وأل الشيخ وخواص الاخوان تسرك حالهم كذلك طلبة العلم نبشرك أنهم كثيرون ويا أخي المؤمن مرآة أخيه جعلنا الله وإياكم من المؤمنين وخطك سرني من وجه وسائني من وجه وهو السج والمجازفة في المدح فيا أخي لسنا مستحقين لشيء من ذلك فلا تعاملنا بمثل ذلك دعوة صالحة خير. كلمة اشتهرت على الآلسنة من غير قصد وهو قول الكثير في المكتبات إذا سأل الله شيئا قال وهو القادر على ما يشاء وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا وكل مافي القرآن {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وليس في الكتاب والسنة ما يخالف ذلك أصلا لأن القدرة شاملة كاملة وهي العلم صفتان شاملتان يتعلقان بالموجودات والمعدومات وإنما قصد أهل البدع بقولهم وهو القادر على ما يشاء أي إن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت المشيئة به.

وأما الرجل الذي ذكرت لي عنه فالذي ذكرت عنه من طرف الشيخ رحمه الله: والثناء عليه ودعوته التي أنعش الله بها الخلق الكثير والجم الغفير في آخر هذا الزمان والمشار إليه ما نظن فيه إلا بحسن الرأي في ذلك بقي أن هنا أمورا فالسالم منه قليل نادر نسأل الله التوفيق لحسن المتاب وأما ما يقول الناس من الكذب والافتراء لاجل أغراضهم الدنيوية فهذا طبعهم خصوصا في هذه الأوقات والذي يصدق الناس فيما نقلوه من الأوهام والاكاذيب يتعب ويأتم وبلغ إخوانك السلام ومن لدينا الإمام ومن ذكرنا وكاتبه عبد العزيز بن موسى ينهون السلام وأنت السلام1.

_ 1 المجموعة 1/404.

الرسالة السادسة والعشرون

الرسالة السادسة والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "26" من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام الاكرم فيصل بن تركي سلمه الله وهداه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فالواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله والتذكير بنعم الله وأيامه فإن ذلك من المصالح الخاصة والعامة ما لا يحيط به إلا الله وفي الحديث "مانزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة" ولله حق وعبودية على خلقه بحسب وسعهم وقدرتهم ولذلك كان على ولاة الامور ورؤساء الناس المطاعين فيهم ما ليس عامتهم وسوقتهم وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاؤا به وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاؤا به وكل شر في الدنيا والآخرة إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله والخروج عما جاءوا به من النور والهدى. وهذه الجملة شرحها يطول وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله الذي {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} والسير والاعتبار والاستقراء والقصص والأمثال والشواهد النقلية والعقلية تدل على هذا وترشد إليه وبعض الأذكياء يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي

ودابتي واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكليية ما لايدركه الغبي الجاهل ويكفي المؤمن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} فهذه الآية يدخل فيها كل نعيم باطنا وظاهرا في الدنيا والآخرة وفي البرزخ وقد قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآية. ويدخل في هذا كل شيء من المصائب والجزاء حتى الشوك والهم والحزن لكن المؤمن يثاب على ذلك ويكفر عنه بإيمانه كما دل على ذلك الحديث. إذا عرف هذا فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب ويقصد الخروج منها والتوبة ولا يوفق- نعوذ بالله من ذلك – وذلك لأسباب منها جهله بالذنوب ومراتبها وحالها عند الله ومنها جهله بالطريق التي تخلصه منها وتنقذه من شؤمها وشرها وتبعتها. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق إجمالا وتفصيلا فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه الرب ويرضاه ويريده من عباده ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم ويوجب الشقاوة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره فهو رد على عامليه. وقد عرفتم أرشدكم الله تعالى أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة وغلبت عليهم الضلالة عربيهم وعجميهم إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب. فأول دعوته صلى الله عليه وسلم ورسالته وقاعدة قوله: رد الخلق إلى الله وأمرهم بعبادته وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة والبراءة منهم وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص وهو أودعوة الرسل وأول الواجبات والفرائض. ومكث عليه الصلاة والسلام مدة من الدهر نحو العشر بعد النبوة يدعو إلى هذا ويأمر به وينهى عن الشرك وينذر عنه وفرض الفرائض وبقية يدعوا إلى هذا ويأمر به وينهى عن الشرك وينذر عنه وفرض الفرائض وبقية

الأركان بعد ذلك منجما. إن هذا هو أهم الأمور وأوجبها على الخلق كما في الحديث "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله ويرسل رسائله إلى أهل الأرض ويدعوهم إلى هذا يبدأ به قبل كل شيء ولا يأمر بشيء من الأركان إلا بعد التزامه ومعرفته كما دل عليه حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن وغيره من الأحاديث. وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة وطال الزمن وكاد يشبه زمن الفترة لغلبة الجهل وشدة الغربة. وقد من الله على هذه الأقطار بشيخ الإسلام رحمه الله: فقام بتجديد الدين وتمهيد قواعد الملة أتم قيام حتى ظهر بحمد الله منار التوحيد والإسلام ووازره على ذلك من أسلافكم وأعمالكم من وازره رحمة الله عليهم أجمعين وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الأعراض والإهمال وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده وفرضه على سائر عبيده وقل الداعي إلى ذلك والمذكر به والمعلم له في القري والبوادي والتساهل في هذه الأمور العظام التي هي آكد مباني الإسلام يوجب للرعية أن يشب صغيرهم ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية لا يعرف فيها الأصول الإيمانية والقواعد الإسلامية والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطاقته والجهل والظلم غالب على النفوس ولها وللشيطان حظ كبير في ذلك والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد أسرع من السيل إلى منحدره. والواجب مراعاة هذا الأصل والقيام فيه وبعث الدعاة إليه وجعل أموال الله التي بأيديكم آلة له ووقاية وحماية وإعانه فإن هذا من أفرض الفرائض والزمها ولم تشرع الإمامة والإمارة إلا لأجل ذلك والقيام به. وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة الأئمة على ذلك وزوال الإسلام والإيمان وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره مقصودا بها سواه من العلو والرياسة والشهوات ولذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من

الخلل والزلل واشتدت غربة الإسلام وظهرت البدع العظام واظهر الكفر أعلامه وشعاره وبنيت المساجد على القبور وأسرجت عليها السرج وأرخيت عليها الستور وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور وبنيت الهياكل للنجوم وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام وإنه مما جاء به سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام وهل وقع ذلك وصار على تطاول الدهر والاعصار إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء وقنعوا بمجرد الإسم والانتساب من غير حقيقة قال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} الآية. فأهم المهمات وآكد الأصول والواجبات التفكر في هذا وتفقد الرعية الخاصة والعامة البادية والحاضرة لأنك مسؤول عنهم والسؤال يقع أولا عن الدين قبل الدنيا وفي الحديث "كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته" وفي الحديث الصحيح " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون" قالوا فما تأمرنا قال: "أوفو بيعة الأول أعطوهم حقهم فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه ففتش عقائدهم وانظر في توحيدهم وإسلامهم خصوصا مثل أهل الإحساء والقطيف اشتهر عنهم ما لا يخفاك من الغلو في أهل البيت ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه وكونهم يسرون ذلك ويخفونه مما لا يسقط عنك وجوب الدعوة والتعليم والنصح لله بظهور دينه وإلزامهم به وتعليم صغارهم وكبارهم فإنك مسؤول عن ذلك والحمل ثقيل والحساب شديد. وفي الطبراني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوزان فتخلف بشر فلقيه عمر فقال ما خلفك أما لنا عليك سمع طاعة؟ قال: بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من ولي شيئا من أمر المسلمين

أتى به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فان كان محسنا نجا وان كان مسيئا إنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا" فرجع عمر كئيبا حزينا جعلك الله من الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب. ومن الدعوة الواجبة والفرائض اللازمة جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه من البادية أو غيرهم وكثير من بادية نجد يكفي فيهم المعلم وأما من يليهم من المشركين مثل الضفير وأمثالهم فيجب جهادهم ودعوتهم إلى الله. وقد أفلح من كان لله محياه ومماته وخاف الله في الناس ولم يخف الناس في الله. وفي الحديث "مثل المجاهد في سسبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثله الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع اجر وغنيمة" 1 وكذاب يجب على ولي الأمر أن لا يقدم من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم مثل من ينهى عن تكفير المشركين ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس لأنهم يدعون الإسلام ويتكلمون بالشهادتين. وهذا الجنس ضرره على الإسلام خصوصا على العوام ضرر عظيم يخشى منه الفتنة وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبهة المشبهين وزيغ الزائغين بل تجده والعياذ بالله سلس القياد لكل من قاده أو دعاه كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجؤا إلى ركن وثيق أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. فإذا تيسر لكم إن شاء الله الإهتمام والقيام بهذا الأصل العظيم فينظر بعد هذا في أحوال الناس في الصلوات الخمس المفروضات فإنها من آكد الفروض والواجبات وفي الحديث "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وأخر ما تفقدون الصلاة" وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} الآية فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة في المساجد في

_ 1 هذا لفظ البخاري وفي مسلم وغيره زيادة عليه.

أوقاتها ويؤدبون من عرف منه كسل أو ترك أو إهمال أدبا يردع أمثاله وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها وما يجب فيها من الأعمال والأقوال. وبعد هذا يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات الشرعية وجبايتها علىالوجه الشرعي من الأنعام والثمار والنقود والعروض ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية والأحكام الزكوية ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة وتم نصابه وحال حوله وكثير من العمال يخرص جميع الثمار وإن لم تنصب وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله فيه ظلم بين وتعد ظاهر حمانا الله وإياكم منه. وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة قد أغنى الله عنها وجعل فيما أحل غناء عما منع وحرم ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه إن حصل تسديد ومن الله بتوفيق من عنده. وكذلك ما يؤخذ من المسلين في ثغر القطيف من الأعشاب لا يليق ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين ويلزم ولي الأمر أيده الله أن يلزم التجار الزكوات الشرعية قهرا ويدع مالا يحل. ومن الواجب تتميز الأموال الداخلة على ولي الأمر فإن الله ميزها في كتابه وقسمها فلا يحل تعدي ذلك وخلطها بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم فإن لهذا مصرفا ولهذا مصرفا ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله وإعطاء كل ذي حق حقه أهل الزكاة من الزكاة وأهل الفيء من الفيء ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى في الفيء والغنيمة فإن هذا من أكد الحقوق والزمها لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه وأهل الإسلام ما صالحوا من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها خصوصا دولتكم فإنها ما قامت إلا بهذا وهذا أمر يعرفه كل عالم وفي الحديث "إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه بورك له فيه

ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار" عفانا الله وإياكم من النار وأعمال أهل النار. وكل من أخذ مالا يستحقه من الولاة والأمراء والعمال فهو غال كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظمه وعظم أمره حتى قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك لا الفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها يعار فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رغبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله فأقول: لا ملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا الفين أحدكم يجيء يوم على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا املك شيئا وقد بلغتك لا الفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا املك لك شيئا قد بلغتك" وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول فقال: "هدايا العمال غلول" فينبغي التفطن لهذه الأمور لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج والقيام على من تركه وهو يستطيعه وهو ركن من أركان الإسلام ويذكر عن عمر أنه قال لقد هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه. وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يسع أحدا تركه. وكذلك القيام على الناس ومنعهم عن التعدي في الدماء والأموال وقطع السبيل فهذا من الفساد في الأرض والمحاربة لله ورسوله فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم. ولما تعرض الفجاء السلمي للناس يأخذ ويقتل من مسلم وكافر بعث أبوبكر رضي الله عنه جيشا فظفروا به فأحرقه بالنار. ويذكر عن حسان أنه قال.

وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية إذا أخذوا المسلمين وقتلوا لما فيه من ترك حقوق المسلمين في الدماء والأموال مع القدرة على استيفائها والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} الآية. فتأمل هذه الموعظة وما ختمها به من هذين الوصفين العظيمين وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. فالواجب على من نصح نفسه أن لا يحكم إلا بحكم الله ورسوله فإن لم يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء وإلا هواء على شرع الله ورسوله قال العلامة ابن القيم رحمه الله. والله ما خو في الذنوب فإنها ... لعلى طريق العفو والغفران لكنني أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة الرحمن ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها وكذلك بخس الكيل والميزان والربا فيجعل في ذلك من يقوم به من له غيرة لدين الله وأمانة. وكذلك مخالطة الرجال للنساء وكف النساء عن الخروج إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها من زوج أو قريب أو نحو ذلك وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم وغير ذلك مثل أهل النخيل النائية لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدري عنه وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه وفي الحديث "ماتركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" وفي الحديث أيضا "ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا ابتلوا بالطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" نعوذ بالله من عقوبات المعاصي ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

وكذلك التوسع في لبس الحرير وما زاد على المباح وهو ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه ولا يجوز تتبع الرخص. ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام حديث "إنما الأعمال بالنيات" وحديث "من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وحديث "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" فكل أمر ينبغي لذوي العقول أن يتركوا ما تشابه منه قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء فلا ينبغي أن يرخص لنفسه في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم فاجتنابه من تقوى الله وخوفه وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة التي تكتب له الحسنات. ومما يجب النهي عنه الاسبال كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الصحيح "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار" وفي الحديث "بينما رجل يجر إزاره خيلاء أمر الله الأرض أن تأخذه فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس فقال: صلى الله عليه وسلم "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا اليهود" والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين. وكل ما أمر الله به ورسوله فينبغي للعبد أن يتمثل ويسمع ويطيع لما في ذلك من المنافع الكثيرة وما في خلافه من الإثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} فعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه ويلزموه لطاعة حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين

ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين من اهل الجفاء والغلظة والغفلة والإعراض. نسأل الله العفو والعافية فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان وعدم الرغبة فيه. وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم وترغيب الناس في طلبه وإعانة من تصدى للطلب لقلة العلم وكثرة الجهل وإن كان قد قام ببعض الواجب فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر لفضيلة العلم وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه فإن أكثر من يطلب العلم فقراء ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم لما يكون لهم فيه سعة وطلب العلم اليوم من الفرائض كما لا يخفى على الإمام وغيره وفي الحديث الصحيح "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم" وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام وتأليفه للطالب فإذا كثر العلم وقل الجهل بسببه حصل له من الخير والحسنات مالا يحصيه إلا الله إن قبله الله وبالغفلة عن طلبة العلم تضعف هممهم ويقل طلبهم وفي مناقب عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إنه إذا أراد أن يحي سنة أخرج من العطاء مالا كثيرا فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا فلله دره رحمه الله: ما أحسن نظره لنفسه ولمن ولاه الله عليهم. وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبيه عليها بخصوصها وأما الأمور التي بين الله وبين العبد التي فيها صلاح القلوب ومغفرة الذنوب منإتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه مما يقع له عليه فهذا باب واسع ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في تدبر كتابه ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى الذين أعد الله لهم الجنة ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا. وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر الذنوب التي هي من أعظم الذنوب ولا يأمن مكر الله وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره وليكن معظما للأمر والنهي مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه متدبرا لكتابه محبة لربه ورغبة في ثوابه وخوفا من غضبه وعقابه ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله ويحب في أولياء الله أهل طاعته

ويعادي أعداه أهل معصيته وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم1.

_ 1 مجموعة الرسائل والوسائل 2/2.

الرسالة السابعة والعشرون

الرسالة السابعة والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "27" الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أن محمدا عبده ورسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. من عبد الرحمن بن حسن إلي الأخ عبد اللطيف ابن حامد وفقه الله تعالى لتوحيده وجعله من صالحي عبيده سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فقد وصل إلينا خطك ومعه نسخة الأسئلة وسرنا ما كنت عليه مستقيما من دين الإسلام الذي إشتدت غربته بين جميع الأنام فأنا أذكر جواب ما سألت عنه على طريق الاختصار والإيجاز "السؤال الأول" عما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" فاعلم أن "لا إله إلا الله" هي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وهي العروة الوثقى وكلمة التقوى وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام باقية في عقبه لعلهم يرجعون ومعناها نفي الشرك في الالهية عما سوى الله وإفراد الله تعالى بالإلهية. والإلهية هي تأله القلب بأنواع العبادة كالمحبة والخضوع والذل بالدعاء والاستعانة والرجاء والخوف والرغبة والرهبة وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز أمرا وترغيبا للعباد أن يعبدوا بها ربهم وحده وهي إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة وكل نوع من أنواع العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده

فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله الذي لا يصلح لغيره وجعل له ندا وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر بأرباب القبور والأشجار والأحجار واتخذوا ذلك دينا زعموا أن الله تعالى يحب ذلك ويرضاه وهو الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وقال تعالى: في معنى هذا التوحيد {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر ووصي وهذا معنى لا إله إلا الله فقوله: أن لا تعبدوا هو معنى لا إله في كلمة الإخلاص وقوله: إلا إياه هو معنى الاستثناء في لا إله إلا الله ونظائر هذه الآية في القرآن كثيرة كما سنذكر بعضه وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وهذا النهي عام يتناول كل مدعوا من ملك أو نبي أو غيرهما فإن أحدا نكرة في سياق النهي وهي تعم وأمثال هذه الآية كثير كقوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وفيهما أيضا "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار". وإخلاص العبادة لله تعالى هو التوحيد الذي جحده المشركون قديما وحديثا ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه وغيرهم من أحياء العرب "قولوا ل اإله إلا الله تفلحوا" قالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} إلى قوله: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ*مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} فعرفوا معنى لا إله إلا الله وإنه توحيد العبادة لكن جحدوه كما قال عن قوم هود {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} وقال تعالى: عن مشركي هذه الأمة {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله ترك الشرك في العبادة وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك أو نبي أو شجر أو حجر أو غير ذلك. فإخلاص العبادة لله هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل

به كتبه وهو سر الخلق قال تعالى: لنبيه {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فإسلام الوجه هو إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله وهذا هو توحيد الإلهية وتوحيد العبادة وتوحيد القصد والإرادة ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى وهي لا إله إلا الله فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه وإخلاص العبادة لله وحده وهو معنى قول الخليل {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله الذي لم يرض لعباده دينا سواه كما قال تعالى: {بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} والدين هو العبادة وقد فسره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء وهو بعض أفراد العبادة كما في السنن من حديث أنس "الدعاء مخ العبادة" وحديث النعمان ابن بشير "الدعاء هو العبادة" أي معظمها وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة أمورا سنذكرها إن شاء الله تعالى وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه دعاء العبادة ودعاء المسألة وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} والحنيف هو الراغب عن الشرك المنكر له وقد فسره ابن القيم رحمه الله: بتفسير شامل لمدلول لاإله إلا الله فقال: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل من أولهم إلى آخرهم وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ ِلأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا المذكور في هذه الآية هو توحيد الربوبية ومشركو العرب والأمم لم يجحدوه بل أقروا به لله فصار حجة عليهم فيما جحدوه من توحيد الالهية ولهذا قال بعد هذه الآية {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ

دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التوحيد مطابقة وتضمنا والتزاما وهو الدين الذي بعث به المرسلين من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله تعالى إنما أدار من عباده أن يخلصوا له العبادة وهي أعمالهم ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإرادتهم التي لا يستحقها غيره كما تقدم قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ} وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا ِلأَبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} والمراد تطهيره عن الشرك في العبادة ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} وقد بين الله تعالى في مواضع من القرآن معنى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه وهو صراطه المستقيم كما قال "وأن اعبدوني هذا صراط المستقيم" وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ِلأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ*وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فعبر عن لا إله بقوله: "إنني براء مما تعبدون" وعبر عن معنى إلا الله بقوله: إلا الذي فطرني فتبين أن معني لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى كما تقدم وهذا واضح بين لمن جعل الله له بصيرة ولم تتغير فطرته فلا يخفى إلا على من عميت بصيرته بالعوائد الشركية وتقليد من خرج عن الصراط المستقيم من أهل الأهواء والبدع والضلال ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وقال تعالى: في بيان معناها {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى

كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} ِ والمعنى أي بعض كان من نبي أو غيره كالمسيح ابن مريم ولعزير ونحوهما وفي قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} معنى "لا إله" وقوله: إلا الله هو المستثنى في كلمة الإخلاص وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وقد قال تعالى: في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ففي قولهم: وإذ اعتزلتموهم معنى لا إله وقولهم: إلا الله المستثني في كلمة الإخلاص وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} فتقرر بهذه أن الإلهية هي العبادة وأن من صرف منها شيئا من لغير الله قد جعله لله ندا والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله وما تقتضيه وما تستلزمه وذكر ثواب أهل التوحيد وعقاب أهل الشرك ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة وسببه تقليد المتكلمين الخائضين فظن بعضهم إن معنى لا إله إلا الله إثبات وجود الله تعالى ولهذا قدروا الخبر المحذوف في لا إله إلا الله إله موجود إلا الله ووجوده تعالى قد أقربه المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة وطائفة ظنوا أن معناها قدرته على الاختراع وهذا معلوم بالفطرة وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله كخلق السموات والأرضى وما فيها من عجائب المخلوقات وبه إستدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون لما قال: "وما رب العالمين قال رب السموات والأضى وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب الأولين" وفي سورة بني إسرائيل "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرضى بصائر" ففرعون يعرف الله ولكن جحده مكابرة وعنادا وأما غير فرعون من أعداء الرسل من قومهم ومشركي العرب ونحوهم فاقروا بوجود الله تعالى وربوبيته كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فلم يدخلهم ذلك في

الإسلام لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها وحده وفي الصحيح "من مات وهو يدعو الله ندا دخل النار" وتقدم فيما تقدم من قول قوم هود " أجئتنا لنعبد الله وحده " دليل على أنهم أقروا بوجوده وربوبيته وأنهم يعبدونه لكنهم أبوا إن يجردوا العبادة وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب وقدرته على الاختراع فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب وأنه رب كل شيء ومليكه وخالق كل شيء والمتصرف في كل شيء وإنما كانت الخصوصة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس قديما وحديثا كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون وقبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة وقبلها على من دعاهم إلى إخلاص العبادة الله وحده وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله ونسبته إلى الخطأ والضلال كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم كابن كمال المشهور بالشرك والضلال وقد كمل في جهله وضلاله وأتى في كلامه بأمحل المحال وقد إشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع ومع سمعه ينفع وما يشعره أنه في قبره الآن رفات كحال الأموات وهذا قول شنيع وشرك فظيع ألا ترى إن الحي الذي قد كملت قوته وصحت حاسة

سمعه وبصره لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين لم يمكنه سماع ناداه من ناداه فكيف يسمع ميت من مسافة شهر أو دون ذلك أو أكثر وقد ذهبت قوته وفارقته روحه وبطلت حواسه هذا من أعظم ما تحيله العقول وتنكره الفطر وفي كتاب الله عز وجل ما يبطله قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ*إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فاخبر الخبير جل وعلا أن سماعهم ممتنع واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك ونشأوا عليه أتوا في أقولهم: بالمستحيل ولم يصدقوا الخبير في أخباره وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فذكر تعالى أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم وكذلك عدم شعورهم يبين تعالى بهذا جهل المشرك وضلاله فأحق عز وجل في كتابه الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون لكن هؤلاء لما عظم شركهم نزلوا الأموات في علم الغيب منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة إلا عين وما تخفي الصدور وشبهوهم برب العالمين سبحانه وتعالى عما يشركون قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيشمي: قال: فلان وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا أمثاله ليس بحجة تنفع عند الله وتخلصهم من عذابه بلى الحجة ما في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه وما أجمع عليه سلف الأمة أئمتها وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: أو كلما جاءنا أجدل من رجل نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح في غيابه أو بعد وفاته فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه ولو جاز لما ترك

الصحابة رضي الله عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس ابن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون فقال: عمر اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ثم قال إرفع يديك يا عباس فرفع يديه يسأل الله تعالى ولم يسأله بحاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره ولو كان هذا التوسل حقا كانوا إليه أسبق وعليه أحرص فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به فهذا هو شرك المشركين بعينه والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا فمن ذلك قوله تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ*قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالذي له ملك السموات والأرض هو الذي يأذن في الشفاعة كما قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وهو لا يرضى إلا الإخلاص بالأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فبين تعالى في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم لما سألوها من غير وجهها وإن هذا شرك نزه نفسه عنه بقوله تعالى {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهل فوق هذا البيان بيان وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربوهم إليه وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله والتغليظ في ذلك وأنه في غاية الضلال وأنه شرك بالله وكفر به كما قال {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فمن أراد النجاة

فعليه بالتمسك بالوحين الذين هما حبل الله وليدع عنه بنيات الطريق كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم وخط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه هي السبل وعلى كل سبيل شيطان يدعوا إليه" والحديث في الصحيح وغيره عن عبد الله ابن مسعود وكل من زاغ عن الهدى وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء فهو الشيطان. فصل والعاقل إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته كابن كمال وغيره دعاء الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له فالعاقل يعلم أن معارضتهم له قد اشتملت على أمور كثيرة منها. "الأمر الأول" أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد فهم في الحقيقة إنما عابوا الرسل والكتب المنزلة عليهم من عند الله. "الأمر الثاني" تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه وقد خالفوا جميع الرسل والكتب فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد ودعا إليه من الأولين والآخرين. "الأمر الثالث" وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد وأنكر الشرك أسوة بأعداء الرسل كقوم نوح إذ قالوا {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} وقال قوم هود {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} وقول من قال من مشركي العرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر يعرفه كل عاقل منصف فقد تناولت مسبتهم كل من دعا إلى الإسلام وعمل به من الأولين والآخرين كما أن من كذب رسولا فيما جاء به من الحق فقد كذب

المرسلين كما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء فمن أنكر ما جاءت به الرسل فهو عدو لهم. "الأمر الرابع" وتضمنت معارضتهم أيضا الكذب والإفك والبهتان وزخرف القول في ذلك أسوة أعداء الرسل الذين قال الله فيهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله في عبادته من الأولين والآخرين فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه وأتوا به من الفشر والأكاذيب وجدها كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} "الأمر الخامس" معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي هي في غاية البيان والبرهان وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد عارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين فيقولون قال ابن حجر الهيثمي: قال البيضاوي: قال فلان: ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء وأدري في فنون العلم لكنهم أخطؤا كخطأ هؤلاء وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى وليسوا بأعلم منه وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام ودين الرسل الذي قال الله تعالى: فيه {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فأولئك المعارضون للحق بمن ذكرنا وأمثالهم فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ*قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وهذا على تقدير أنهم أصابوا في النقل عنهم ولعلهم أخطئوا وكذبوا عليهم والله أعلم. والأدلة بالإجماع ثلاثة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.

وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة إذا لم يخالف كتابا ولا سنة فإن خالف نصا أو ظاهرا لم يكن حجة وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه وأما قوله: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وكفر بما يعبد من دون الله" فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله معصوم الدم والمال لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله وتبرأ منه وعادى من فعل ذلك صار مسلما معصوم الدم والمال وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها قولا واعتقادا وعملا فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وفي أحاديث أخر "صدقا من قلبه مستيقنا بها قلبه –غير شاك" فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها كما قال تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فمعناها يقبل الزيادة لقوة العلم وصلاح العمل فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة علما ينافي الجهل بخلاف من يقوله: اوهو لا يعرف معناها ولا بد من اليقين المنافي للشك فيما دلت عليه من التوحيد ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك فإن كثيرا من الناس يقوله: اوهو يشرك في العبادة وينكر معناها ويعادي من اعتقده وعمل به ولا بد من الصدق المنافي للكذب بخلاف حال المنافق الذي يقوله: امن ير صدق كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ولا بد من القبول المنافي للرد بخلاف من يقوله: اولا يعمل بها ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك والفرح بذلك المنافي لخلاف هذين الأمرين ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه وأنت

أيها الرجل ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم قد عكس مدلول لا إله إلا الله كابن كمال ونحوه من الطواغيت فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة ويعتقدون ذلك الشرك دينا وينكر ما دلت عليه من الإخلاص ويشتم أهله وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وهذا النوع من الناس الذين قد فتنوا وافتتنوا يستجهلون أهل الإسلام ويستهزؤون بهم أسوة من سلف من أعداء الرسل وقد قال الله تعالى: في أمثال هؤلاء {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وأما ما سألن عنه من حديث "خذ من القرآن ما شئت لما شئت" فهذا ليس بحديث ولا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما حديث ويش الذي يغبأ يا رسول الله قال: الذي ما كان فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كيف وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فسماها غائبة مع وجودها في السماء والأرضى. "وأما في المسئلة الربعة" فيمن يعرف التوحيد ويعتقده ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه فلا بأس أن يحدث بما سمعه وحفظه من العلم ولو لم يقرأ في النحو. فمن المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء إنما كان دأبهم طلب ما هو الأهم والنحو إنما يراد لغيره فيأخذ الرجل منه ما يصلح لسانه فانشر ما علمت من العلم خصوصا علم التوحيد الذي هو الآيات المحكات كالشمس في نحر الظهيرة لمن رغب فيه وأحبه وأقبل عليه وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ

الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} وقد ارشد الله تعالى عباده إلى تدبر كتابه وذم من لم يتدبره وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأخبر عن جن نصيبين أنهم لما سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بوادي نخلة منصرف من الطائف ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا ادعى الله وآمنوا به " الآية وأخبر تعالى عنهم في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن من الاستعاذة بهم إذا نزلوا واديا وأخبر تعالى عن هدهد سليمان أنه أنكر الشرك وهو طائر من جملة الطير قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ*إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ*وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ*أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية فحديث الهدهد سليمان عليه السلام بما ورآهم يفعلونه من السجود ليغر الله والسجود نوع من أنواع العبادة فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرفوا الهدهد فأنكروا وعرفوا الإخلاص فالتزموه بالله التوفيق فسبحانه من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه وأضل من شاء عنه بعلمه وحكمته وعدله. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة فأما فرضه باليد واللسان فإنه من فروض الكفايات إذا قام به طائفة سقط عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا وأما القلب فلا يسقط عنه بحال قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} وقال في حق من تركته: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وفي الحديث الصحيح "من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك

أضعف الإيمان" وفي رواية وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. وأما ما ذكرت بعد ذلك من الأسئلة في مخالطة المشركين وأهل البدع فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم وجبت عليك لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة عنهم وجبت عليك لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة فعليه أن يعتزلهم ما استطاع ويظهر دينه ويصبر على أذاهم فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية والله المستعان. وأما السؤال عن قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر لما عذبه مشركوا مكة وحبسوه في بئر ميمون وأكرهوه على كلمة كفر فقالها تخلصا من عذابهم فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "فإن عادوا فعد" وهذا قبل وجوب الهجرة فأنزل الله هذه الآية. وأما حديث "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما" فهذا في حق من له القدرة على البعد عنهم وأما من لا يمكنه البعد عنهم بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه فلا. وأما حديث "من أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فاؤلئك هم الهالكون" فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" فالانكار يجب مع الاستطاعة والكراهة هي أضعف الإيمان وأما الرضا بالمنكر والمتابعة عليه فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح. والله أعلم ونسأل الله تعالى الثبات على الإيمان وأن لا يزيغ قلوبنا عنه بعد إذ هدانا إليه وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين آمين1

_ 1 مجموعة الرسائل والمسائل 2/15.

الرسالة الثامنه والعشرون

الرسالة الثامنه والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "28" الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام المكرم أكرمه الله بالتوحيد وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد سلام عليك ورحمة الله وبركاته "وبعد" فاعلم أن لا إله إلا الله لها معنى عظيم تستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان وهو الذي بعث الله به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وخلقهم لأجله والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة وتذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها وما ذكر العلماء من أئمة الإسلام فدونك كلام العماد بن كثير رحمه الله تعالى: في تفسير سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ذكر أن هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون وهي آمرة بالإخلاص وإن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأنزل الله هذه السورة وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يعني من الأصنام والأنداد {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وهو الله وحده ولهذا كان كلمة الإسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله والمشركون يعبدون غير الله قلت: فأمر الله تعالى نبيه أن يتبرأ من أوثان المشركين وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج اللات والعزى ومناة وغيرها وقد أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: لأبيه وقومه {مَا تَعْبُدُونَ*قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} - إلى قوله:- {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها وهي موجودة في الخارج واستثنى من معبوداتهم رب العالمين لأنهم كانوا يعبدون الله لكنهم يعبدون معه الأصنام فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له فأخبر تعالى عنه أنه قال لقومه {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} وأخبر عنه أنه قال لقومه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وجعلها كلمة

باقية في عقبه وهي: لا إله إلا الله بإجماع أهل الحق فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُون} َ وهو معنى النفي في قوله: {لاَ إِلَهَ} وقوله: إلا الذي فطرني هو معنى إلا الله وهذا كاف في البيان لمثلك الذي عرف معنى {لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ*وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} عرفوا أن لا إله إلا الله تدل على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها من أوثانهم وأصنامهم وكل الفرق يعرفون معناها حتى أعداء الرسل كما قالت عاد {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فعرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم. فتبين بهذا أن لا إله إلا الله نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن من حين حدث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه ويعرفونه حتى الخوارج والرافضة والمعتزلة والمتكلمون من كل أشعري وكرامي وما تريدي وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا فخفي عليهم حقيقة الشرك وأما الفلاسفة وأهل الإتحاد فإنهم لا يقولون بهذا المعنى ولا يسلمونه بل يقولون أن المنفي بلا إله إلا الله كلي لا يوجد منه في الخارج الافرد وهو الله فهو المنفي وهو المثبت بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا وهو قولهم: أن الله وحدة الوجود المطلق فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا ويشبه قولهم: هذا أهل وحدة الوجود القائلين بأن الله تعالى هو الموجود بعينه فيقولون أن المنفي كلي والمثبت بقوله: إلا هو الوجود بعينه ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق ولا بين العابد والمعبود كل شيء عندهم هو الله حتى الأصنام والأوثان وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء فخذ قولي وأقبله وفقك الله فلقد عرفت بحمد الله ما أرادوه من قولهم: أن المنفي كلي لا يوجد منه في لخارج إلا فرد ويدعى هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة أن تقدير خبر لا وجود وهذه

الكلمة لم توضع لتقرير الوجود وإنما وضعت لنفي الشرك والبراءة منه وتجريد التوحيد كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم وتقدير خبر لا بموجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين لعنهم الله على قولهم: أن الله هو الموجود فلا موجود إلا الله فهذا معنى قوله: أنه كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد فغير المعنى إنما هو حقيقتها كما قال: المسيح عليه السلام {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل والمنفي بلا إله هي المعبودات الباطلة والمستثنى بإلا هو سبحانه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} وقال في آخر السورة {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعونه من دونه هو الباطل} وقال في سورة لقمان {ذلك بإن الله هو الحق وأن ما يدعو من دونه الباطل} فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَق} ُّ هو المستثنى بإلا الله وهو الحق وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} هو المنفي بلا إله وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال وإدخال الشك عليهم ف معنى كلمة الإخلاص فكابر المعقول والمنقول بدفعه ما جاء به كل رسول. نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين وضلال المضلين وزيغ الزائغين وفي الحديث "رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني" وقد كان أبوبكر الصديق رضي الله عنه يقرأ في الركعة الأخيرة بعد المغرب {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وهذا بحمد الله كاف في بيان الحق وبطلان الباطل وصلى الله على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين1 وسلم تسليما

_ 1 المجموعة 2/93.

الرسالة التاسعه والعشرون

الرسالة التاسعه والعشرون ... بسم الله الرحمن الرحيم "29" من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان سلام عليكم ورحمة لله وبركاته "وبعد" تفهمون أن الجماعة فرض على من دان بالإسلام كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلب وذرفت منها العيوب فقلنا يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي وإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد وكذلك الخلفاء رد الله بهم إلى الجماعة من خرج عنها وأقاموا الجهاد في سبيل الله فأظهر الله بهم وفتح الله لهم الفتوح وجمع الله عليهم. وتفهمون أن الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل رحمه الله: فالذي بايع بايع وهم الأكثرون والذي ما بايع بايعوا لهم كبار هم وإجتمعوا عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم وسمعوا وأطاعوا ولا اختلف عليه أحد منهم حتى سعود بن فيصل بايع أخاه وهو ما صار له مد خال أمر المسلمين لا في حياة والده ولا بعده ولا التفت له أحد من المسلمين ونقض البيعة وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا واختلاف المسلمين على إمامهم وسعى في نقض الإمام وقد قال تعالى: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وسعود سعى في ثلاثة أمور كلها منكر نقض البيعة بنفسه وفارق الجماعة ودعا الناس إلى نقض بيعة الإسلام فعلى هذا يجب قتاله وقتال من أعانه وفي الحديث من فارق الجماعة قيد بشر فمات فميتته جاهلية وفي.

الحديث الآخر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله لما في الحديث إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. فظاهر الحديث أن المراد ما يجري بين القبائل إما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين أو طعنة فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم من غير خروج على الإمام ونقض لبيعة الإسلام ولا شق عصا المسلمين وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم ذكروا قتال العصبية وحكمه وقتال الباغي وحكمه فذكروا أنه يجب على الإمام في قتاله العصبية أن يحملهم على الشريعة وأما البغاة فحكمهم أنهم يقاتلون حتى يفيؤا أو يرجعوا ويدخلوا في جماعة المسلمين فالفرق ظاهر بين والله الحمد فاستعينوا بالله على قتال من بغي وطغى وسعى في البلاد بالفساد وهذا أمر فساده ظاهر ما يخفي على من له عقل واحتسبوا جهادكم وأجركم على وأنتم سالمون والسلام. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعي1ن.

_ 1 المجموعة 2/7.

الرسالة الثلاثون

الرسالة الثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "30" من عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ عبد الله بن محمد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وما ذكرت أنا ننصركم فبلدكم بعيد لا يستطاع الوصول إليها وأما نصرتكم بالحجة والبيان فالله تعالى وقد قال في كتابه {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} والخصومة بينكم وبين الضد في عبادتهم غير الله تعالى من الأموات الذين لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا كما قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقد كان جل عبادتهم لهم في الرغبات والرهبات بالدعاء والاستعانة وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وأجد نكرة في سياق النهي تعم كل مدعو من دون الله كالأنبياء ومن دونهم وقد أمر الله نبيه أن يعبد ربه وحده بالدعاء وغيره من أنواع

العبادة قال الله تعالى: آمرا نبيه أن يدعوا أمته أن يخلصوا الدعاء لربهم وخالقهم فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} فبين تعالى أنه المستحق لدعوة الحق وإن الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء وأ، دعوة غيره ضلال والضلال ضد الهدي وكفرهم بذلك وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فكفر من يدعوا غيره في هاتين الآيتين وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ*وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فهذه الآيات تقصم ظهر المشرك الملحد فمن تمسك بها غلب خصمه المشرك كما قال شيخنا رحمه الله تعالى: والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هولاء الشياطين وما ذكرت من أنهم يأتون بفتاوى من علماء مكة فليس مع من عارض أدلة التوحيد إلا شبهات شياطين وقد كتبنا نسخة في هذا المعنى ردا على من زعم أن الاستمداد بالاموات جائز وفيها كفاية لأهل الحق. وأما ما سئلت عنه فيمن أنكر الحكم برجحان العمل بالحديث الصحيح في مقابلة المذهب الملتزم. فهذا من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية وهذا أصل عظيم من اصول الدين قال العلماء رحمهم الله "كل يؤخذ من قوله: ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول الإمام مالك رحمه الله".

وهذا القول الذي يقوله: هؤلاء يفضي إلى هجران الكتاب والسنة وتبديل أحكام النصوص كما فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى والكتاب والسنة شفاء وهدى لمن أصغى إليهما. ومن طلب الحق منهما ناله وفهمه وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} والأمر بتدبره والتذكر ليس مخصوصا بالعلماء المجتهدين بل عام لكل من له فهم يدرك به معنى الكلام والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة فيه شبه بمن قال اله فيهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} ِ وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وأهل الاجتهاد من العلماء وإن كانوا معذورين بإجتهادهم إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة وينهون عن تقليدهم فالأئمة رحمهم الله اجتهدوا ونصحوا قال الإمام الشافعي إذا جاء الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط فهو مذهبي وأما قولكم الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر كيسير الرياء والحلف بغير الله وقول الرجل أنا في حسبك ولولا الله وأنت وأن يجاهد بالمعروف لطلب رياسة أو مال أو وظيفة كمن يتعلم العلم لوظيفة المسجد أو يقرأ القرآن ليسئل الناس به أو يبيع الختمات أو يحج ليأخذ المال أو يتصدق ليكثر ماله أو نحو ذلك وهذا إنما يتبين بالتمثيل والحد لا بالعد وأما الشرك الأكبر فهو إتخاذ الأنداد من أرباب القبور والغائبين ومخاطبتهم بالحوائج والذبح لهم والنذر واعتقاد أنهم ينفعون ويدفعون وكاتخاذ الأشجار والأحجار والأصنام لجلب الخير ودفع الضر بها وغير ذلك وهو كثير جدا وهو أن يرغب إلى شيء أو يدعوه أو يخافه أو يرجوه أو يعكف عند القبر تعظيما له ونحو ذلك وأمور الشرك أكبره وأصغره لا تدرك بالعد لكن الشرك الأكبر يخرج من الملة ويحبط الأعمال لأنه أعظم ذنب عصي الله به وهو أظلم الظلم لأن المشرك أخذ حق الله ووضعه فيمن لا يستحقه وأما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه قال: من الواهنة فقال: "إنزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا فإنك لو مت وهي

عليك ما أفلحت أبدا" ولا يكفر الشرك أكبره وأصغره إلا بالتوبة منه قبل الممات والأصغر لا يكفره في الدار الآخرة ألا كثرة الحسنات لأن الأصغر لا يحبط إلا العمل الذي وقع فيه خاصة. وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بنى عليها القباب وأوقد فيها المصباح. فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى وقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وبناء القباب على القبور وإسراجها وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها والتذلل والتعظيم وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد إشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأما مسألة استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه وسعة الرزق والأولاد مثل أن يقال عند القبور نسألك أن تدعوا الله في رفع فقرنا وبسط رزقنا وكثرة أولادنا وشفاء مريضنا لأنكم سلف مستجابوا الدعوات عند الله. فالجواب هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وهذا شرك في الربوبية والإلهية وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة به. وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} فأقروا لله تعالى أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي يفعل ذلك فأقروا لله بذلك وصابر إقرارهم حجة عليهم في اتخاذهم الشفعاء. وقال قال تعالى: في فاتحة الكتاب

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك فهو المعبود وحده وهو المستعان وقد تقدم ما بين أن الدعاء مخ العبادة لأن الله تعالى نهى عن دعوة غيره وأخبر أن المدعو لا يستجيب لداعيه وأنه شرك وضلال وأنه كفر بالله وقد أوضحنا ذلك في الجواب في إبطال دعوة المدعي جواز الاستمداد بالا موات ومن قال: أن الميت يسمع ويستجيب فقد كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} فأخبر تعالى أن لا أضل ممن يدعو أحد من دون الله غير الله وأخبر أن المدعو لا يستجيب وأنه غافل عن ودعوته وأنه عدوه يوم القيامة. فأهل التوحيد أعداء أهل الشرك في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ*فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} فأخبر تعالى أن آلهتهم تبرء منهم بين يدي الله ومن عبادتهم ويستشهدون الله على أنهم في حال دعوتهم لهم غافلون لا يسمعون ولا يستجيبون وهذا كتاب الله هو الحاكم بيننا وبين جميع من أشرك بالله من الأولين والأخيرين وليس فعل أحد من الناس ولو من يظن أنه عالم يكون حجة على كتاب الله بل القرآن هو الحجة على كل أحد فلا تغتروا بقول بعضهم قال فلان وفعل فلان. وأما السؤال عن دلائل الخيرات فيكفي عن دراستها ما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" الخ وقد قال: بعض العلماء لما قيل له إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب احرق دلائل الخيرات استحسن ذلك فقال. وحرق عمدا للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي

أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد وأما السؤال عن البردة للبوصيري والهمزية وأمثالها في المديح فالمنكر سواك فدعا غير الله ولاذ به من دون الله والدعاء مخ العبادة واللياذ نوع من أنواع العبادة كالعياذ وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير ما كان عليه أهل الجاهلية من الإستعاذة بالجن إذا هبطوا واديا يقولون نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي طغيانا فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قصر الاستعاذة على الله وأسمائه وصفاته فقال في حديث خولة بنت حكيم وهو في الصحيح من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك وكذلك قول صاحب البردة. إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يازلة القدم وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فكل هذا شرك محرم بالكتاب والسنة فما كان من جنس ذلك وجب إنكاره والنهي عنه وتغييره بطمسه وهذا يتبين بما تقدم من الآيات المحكمات في النهي عن دعوة غير الله والرغبة والتوكل عليه ورجاه. وأما الإجماع فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا وأما البدعة المنهي عنها فكل ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا دل عليه قول من النبي ولا فعل وكذلك أصحابه الذين هم أحرص الأمة على فعل الخير فكل ما حدث بعدهم في العبادات وغيرها من أمور الدين فهو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبته: وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وبسط القول في هذا يستدعي كتابا ضخما لكن في أصول الأدلة ما يكفي المسافر إلى الله

على صراط مستقيم وكل ما لم يفعله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث بعدهم فالجواب أن يقال لو كان خيرا سبقونا إليه. وأما السؤال عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" فالنهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة لفظ عام يتناول المساجد وغيرها وفحوى الخطاب يدل عليه لأن غير المساجد من باب أولى ولكن إذا نوى الإنسان السفر إلى مسجده حصلت زيارة القبر الشريف تبعا فإنه إذا وصل إلى المسجد سلم على النبي صلى الله عليه وسلم من قرب فيكون قد أخذ بعموم الحديث وحصلت له الزيارة من غير أن يخصها بشد الرحال المنهي عنه. وأما السؤال عن الرسوم والعادات التي شاعت وذاعت في الأعاجم سيما في مشايخهم إذا مرض أحدهم يحفون ويحيطون به فيقرءون شيئا من الآيات بحساب وإعداد معلومات فإذا انتهى قالوا يا قاضي الحاجات ويا كاشف الكربات ثم يأتون بالاطعمة النفيسة فيأكلونها بأجمعهم. فالجواب أن الذي وردت به السنة دعاء العائد له وحده من غير تكلف ولا اجتماع فإن شاء رقاه بما وردت به السنة كما قال: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لامرأته لما نخستها عينها إنما يكفيك أن تقولي اذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما هذا جنس المشروع. وأما على هذه الكيفية التي ذكرها السائل فبدعة تجري مجرى ما ذكره تعالى ردا على من ابتدع في دينه فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وأما ما ذكره السائل من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره ويذبحون الذبائح ويطبخون الطعام ويفرشون الحرير ويدعون الناس كلهم الغني والفقير فليس هذا من دين الإسلام بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها

من سلطان وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى من التغيير والتبديل في شريعتهم خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه. وأما ماسألت عنه من شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء هل هو ممنوع ومحذور أم لا. فالجواب لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم وهو قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" فإذا كان بترك للمحمل المزور فهو من الشرك لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي لتعود بركته عليه بزعمهم وهذا حال عباد الأصنام سواء كما فعله المشركون باللات والعزى ومنات فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها وإتيانهم إليها وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" فجعل التبرك بالأشجار مثل قول بني إسرائيل إجعل لنا إلها وهذا هو جنس عبادة الأشجار والأحجار. وأما قول بعضهم أن أمور التعظيمات خصصه الله تعالى للذات وسماه بالعبادة كالسجود والركوع والقيام كقيام الصلاة والتصدق بالصدقات والصيام باسمه وقصد السفر إلى بيته من المكانات البعيدات فهذا من وحي الشيطان وزخرفته التي ألقاها على ألسن المشركين فجمع لهم الشرك وتعظيمه والغلو فيه والبدع والضلالات. وكل هذا باطل ما أنزل الله به من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى. وأما سؤاله عن رجل بنى في جوار قبر صالح لإفاضة الفيوضات عليه

وإصابة البركات ورجل جلس مراقبة على قبر صالح فالجواب من أخبر هذا المغرور أن هذا المدفون تفيض عليه وهذا من جنس ما قبله مما زين الشيطان وأجراه على السن المغرورين المفتونين الذين أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولما قال رجل للنبي: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا قل ماشاء الله وحده وقال: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقد صان الله قبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن صار قبره في حجرته حذرا من هذه الأمور التي نهى عنها. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" والضابط أن ما كان يفعل مع الميت من رفع الأصوات على جنازته والتبرك به وبتربته والنذر له وغير ذلك من الشرك كالذبائح والنذور التي يقصد بها الميت حرام وهي مما أهل به لغير الله كما صرح به القرآن قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وقد تضمنت هذه الأفعال التي ذكرت الشرك والبدع والغلو في الدين وخالف أهلها وصادموا ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى وتوجيه الوجه والقلب إلى الله تعالى بجميع الإرادات الشرعية والأحوال الدينية وقد أبطل الله في كتابه التعلق على غيره كائنا من كان قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} إلى قوله: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ*يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ

سَحِيقٍ} {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} إذا عرفت ذلك وما في معناه من الآيات المحكمات فهذه الشبهات التي أعتمدها كثير من جملة المشركين كلها باطلة تصادم كتاب الله وسنة رسوله وأول من زخرف هذه الشبهات وزين للجهال التعلق على الأموات زنادقة الفلاسفة الكفار الدعاة إلى الخلود في عذاب النار كابن سينا والفارابي فإنهم أدخلوا على كثير ممن ينتسب إلى العلم كثيرا من الفلسفة وزخرفوا هذه الشبهات التي صارت في أيدي المشركين وحاولوا بها إبطال ما في الكتاب والسنة من توحيد المرسلين وخالص حق رب العالمين فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فمن التفت إلى الأموات يستمد منهم نفعا وتبركا بهم فقد اتخذهم أربابا من دون الله قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} إلى قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقد أخبر تعالى عن عيسى ابن مريم أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وهو دليل على أن من مات فلا اطلاع له على الأحياء ولا علم له بهم1 فكيف يدعو من لا يعلم ماله ولا يدري ما يفعله وما يقوله: وقد تقدم في الآيات المحكمات مايدل على ذلك وأن المدعو لا يسمع ولا يستجيب فما هذه التعلقات الشركية التي هي أضل الضلال وأمحل المحال الا من وحي الشيطان وزخرفة أعداء المرسلين كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا

_ 1 إذا كان هذا قول عيسى وقد رفعه الله حيا فكيف بالأموات.

يَفْتَرُونَ} وكل هذه التعلقات على الأموات والغائبين هي أعمال الشرك من المشركين قديما وحديثا وهو شرك قوم نوح لما صوروا الأصنام على صور صالحيهم قال من بعدهم: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم فعبدوهم أي بطلب الشفاعة منهم واستمداد البركة بهم وهذا هو شرك العالم وهم في آخر هذه الأمة أشد وأعظم فاستمسك بأدلة القرآن وسبيل أهل الإيمان. وقد عرفت أن عبادة الأشجار والقبور والأحجار بدعائهم لها باستمداد البركة منها في زعمهم أنه أبطل الباطل وأمحل المحال كما دل عليه الكتاب والسنة. وهذا الجواب يكفيك عما تقدم من السؤالات فكل ما كان يفعل عند القبور من التعظيم لها ولأربابها وقصدها والتبرك بها والدعاء عندها أولها كل هذا شرك وضلال. فتأمل قوله: عن خليله عليه السلام {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} والحنيف هو المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه فهذه الأدلة التي ذكرنا تبطل كل ما تعلق به المشركون مما كانوا يفعلونه مع العزى ومناة ومن إدعى جواز شيء من ذلك أو أنه يحتمل الجواز فيطالب بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله على أن هذا جائز ولا يخفي أنه ينافي الإخلاص لما فيه من الإقبال على غير الله والرغبة إليه وجلب النفع والدفع منه وكل هذا مردود بالآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وكل ما كان يفعل هؤلاء مع الأموات فليس فيه مستحب ولا مباح إلا زيارة القبور من غير شد رحل لتذكر الآخرة والاستعداد لما بعد الموت من الإخلاص والعمل المشروع من غير تحر لإجابة الدعاء عندها والصلاة إليها ولو كانت لله فهذا محرم سدا لذريعة الشرك وحماية لجناب التوحيد.

وأما قولهم: بعصمة الأنبياء فالذي عليه المحققون أنه قد تقع منهم الصغائر لكن لا يقرون عليها وأما الكبائر فلا تقع منهم وكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه فهو حق كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} كذلك تقريراته حق. وأما قول أبي الوفا بن عقيل رحمه الله تعالى: فهو حق وأعظمه خطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يامولاي إفعل كذا وكذا وأخذ تربتها والتبرك بها فهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وقد كتبنا الأدلة على ذلك في الرد على الذي يقول بالامداد من الموتى فطالعه وفيه ما يكفي ويميز الحق من الباطل. وأما ما ذكره ابن عقيل رحمه الله: من أفاضه الطيب على القبور وشد الرحال إليها فهو من إفراطهم وغلوهم في الآلهة التي يعبدونها من دون الله وكلامه عندنا رحمه الله: مسلم لأنه اشتمل على إنكار الشرك من التعلق بالأموات واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويخاطبونهم بذلك من قريب وبعيد لإعتقادهم أن لهم تصرفات وأنهم يعلمون الغيب وإن لهم قدرة على ما أرادوا والقرآن كله من أوله إلى آخره ينكر ذلك عليهم ويبين أنه شرك وكفر وضلال ودليله من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة وإجماع أهل السنة والجماعة مذكور على صاحب الرد في الإمداد. وإما قول الأئمة الأربعة فذلك مذكور في مذاهبهم في باب حكم المرتد في كل مذهب وأما مسح الرقبة فقول أبو حنيفة وجمهور الفقهاء بخلافه لا يرون ذلك وفيه حديث ضعيف. وأما دعاء القنوت فبعد الركوع ورفع اليدين فيه جائز والتكبير قبله محدث. وأما الرسالة التي أرسلتموها إلينا فالجواب عليها يصل إليكم إن شاء الله ويظهر بطلانها بالتمسك بالآيات المحكمات والوقوف عندها ويكفي في ردها ما في سورة الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} من قصر العبادة

والاستعانة على الله دون كل ما سواه فإن غالط فأدلة النهي عن دعوة غير الله وإنها شرك وكفر تكفي المتمسك بها وذكرنا من الأدلة ما فيه كفاية ولو تتبعنا ما في كتاب الله وسنة رسوله من دلائل التوحيد وكلام السلف والخلف من أهل السنة لاحتمل مجلدا ضخما ومجلدات. وأما السؤال عن رجل لا يتكلم بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وبعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس فالجواب ما ذكرتموه من قصة أبي بكر مع المرأة الأحمسية وقال لها إن هذا لا يحل فتكلمت. وأما ما أحدثه المشايخ من المراقبات واللطائف فإن كانت مما جائت به السنة وفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبلوه وما لم يفعلوه ولم يقم عليه دليل فدعوه فإن "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" وأما قول أهل التأويل للصفات إن الله تعالى منزه عن الجهات فهذه شبهة أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتاب الله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} في آية الكرسي وغيرها من القرآن فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر, علو القدر, علو الذات ومن نفى علو الذات فقد سلب الله وصفه وقد قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقال {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقال {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه وأنه على عرشه فوق سماواته. وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل. تعالى الله عما يقول المحرفون المخرفون عن الحق علوا كبيرا والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين آمين1

_ 1 المجموعة 2/33.

الرسالة الواحدة والثلاثون

الرسالة الواحدة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "31" من عبد الرحمن بن حسن وإبنه عبد اللطيف إلى عبد الخالق الحفظي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فقد بلغنا من نحو سنتين إشتغالكم ببردة البوصيري وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى من ذلك قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك إلى آخر الأبيات التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأما دعاء الميت والغائب فقد ذكر الله في كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم النهي عن دعوة الأموات والغائبين بقوله تعالى {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} ولم يستثن أحدا والنبي صلي الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله وقال {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ} فانظر إلى هذا الوعيد الشديد المترتب على دعوة غير الله وخاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ للتحذير فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينهاه عن ذلك ويذكر الوعيد عليه ويرضاه أن يفعل ذلك أحد معه أو مع غيره صلوات الله وسلامه عليه ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" ودعوة غيره تنافي الإخلاص الذي هو دينه الذي لا يقبل الله دينا سواه وذكر تعالى إختصاصه بالدعاء بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وأخبر أن دعوة الحق مختصة به وما ليس بحق فهو باطل ولا يحصل به نفع لمن فعله بل هو ضرر في العاجل والآجل لأنه ظلم في حق الله تعالى يقرر هذا تهديده تعالى لمن دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} نزلت في عيسى وأمه والعزير والملائكة وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهي الله عنه عباده عموما وخصوصا بل هو

مأمور أن ينهى عنه ويتبرأ منه كما تبرأ منه المسيح بن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ وأما اللياذ فهو كالعياذ سواء فالعياذ لدفع الشر واللياذ لجلب الخير وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله وأسمائه وصفاته وأما العياذ بغيره فشرك ولا فرق. وأما قوله: "فإن من جودك الدنيا وضرتها" فمناقض لما اختص به تعالى يوم القيامة من الملك في قوله: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . وفي قوله تعالى في سورة الفاتحة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وفي قوله تعالى {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وغير ذلك من الآيات لهذا المعنى وقال غير ذلك في منظومته مما يستشبع من الشرك ومدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراء العرب الفصحاء ولم يقرب أحد منهم حول هذا الحمى الذي هو لله وحده بل مدحوه بالنبوة وما خصه الله به من الفضائل والأخلاق الحميدة مثل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وأمثال هؤلاء فما تعلقت قلوبكم يا عبد الخالق إلا بنظم للشيطان فيه حظ وافر قد أنكره الله ورسوله على من قاله أو فعله وهذه الأمور كانت عند محمد الحفظي وأبيه وأخيه فأقلعوا عنها وتابوا إلى الله منها وتجنبوا الشرك وتبرؤا إلى الله منه ومن أهله وجاهدوا أهله نثرا ونظما وقد نزلت المنزلة التي كانوا عليها في الجاهلية ثم تابوا منها فاصغ سمعك لكتاب الله فإنه يكفيك ويشفيك في كل خير ويعصمك من كل شر اهـ آخر ما وجد من الرسالة والحمد لله1

_ 1 المجموعة 2/82.

الرسالة الثانية والثلاثون

الرسالة الثانية والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "32" من عبد الرحمن ابن حسن إلى الأخوين المكرمين محمد ابن عبد الله وعبد الله بن سالم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته., وبعد فقد وصل الكتاب وفهمت ما تضمنه من الخطاب وما ذكرتماه عن

نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الأولاد الثلاثة فالعادة أن مثل هذا يرجع فيه إلى الإمام لأن نصبه له في أمر خاص وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيما يصلح للإمامة والتدريس فيرد إلى الإمام وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى لأن كثيرا من الناس ما تخفانا حالهم وعقائدهم ونصب الإمام لقضاة نجد كذلك والشيخ أحمد بن مشرف يسامي الأكابر ومثلهم ما ينسب له والذي نعلم منه صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين الذي جهله أكثر الطوائف كذلك هو رجل سلفي يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم فهم أشاعرة والأشاعرة أخطأو في ثلاث من أصول الدين منها تأويل الصفات وهو صرفها عن حقيقتها التي تليق بالله. وحاصل تأويلهم سلب صفات الكمال عن ذي الجلال أيضا أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب في كلام الرب تعالى وتقدس ورد العلماء عليهم في ذلك شهير مثل الإمام أحمد والشافعي وأصحابه والخلال في كتابه والسنة وإمام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي وأبوعثمان الصابوني الشافعي وابن عبد البر وغيرهم من أتباع السلف كمحمد بن جرير الطبري وشيخ الإسلام الأنصاري1وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين كالشهرستاني شيخ أبي المعالي2 وكذلك أبو المعالي والغزالي وكذلك الأشعري قبلهم في كتاب الإبانة والمقاولات ومع هذا وغيره فبقي هذا في المتأخرين المقلدين لا ناس من المتأخرين ليس لهم إطلاع على كلام العلماء وإن كانوا يعدون من العلماء. وأخطأوا أيضا في التوحيد ولم يعرفوا من تفسير لا إله إلا الله إلا أن معناها القادر على الاختراع ودلالة لا إله إلا الله على هذا دلالة التزام لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقر به الأمم ومشركوا العرب كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ

_ 1 هو إسماعيل الهروي الحنبلي صاحب "منازل السائرين". 2 الطاهر أن في العبارة تحريف.

الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الآيات وهي كثيرة في القرآن يحتج تعالى عليهم بذلك على ما جحدوه من توحيد الألوهية الذي هو معنى لا إله إلا الله مطابقة وتضمنا وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة وفي سورة آل عمران والنساء وغيرهما ودعت إليه الرسل أن لا تعبدوا إلا الله وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ودعا إليه العرب قبلهم كما قال أبو سفيان لهر قل لما سأله عما يقول قال: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وكل السور المكية في تقرير معنى لا إله إلا الله وبيانه فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار ما يعرفون من لا إله إلا الله القادر على الاختراع وبعضهم يقول معناها الغني عما سواه المفتقر إليه ما عداه وعلماء الاحساء ما عادوا شيخنا رحمه الله: في مبدء دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهم لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن قال تعالى: عن خليله عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ِلأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ*وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} فعبر عن هذه الكلمة بمعناها وهو نفي الشرك في العبادة وقصرها على الله وحده وقال عن أهل الكهف {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} فإذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان الا بمعرفة هذا التوحيد وقبوله ومحبته والدعوة إليه وتطلب أدلته واستحضاره ذهنا وقولا وطلبا ورغبة فهذه نصيحة مني لكل إنسان دعاني إليها غربة الدين وقلة المعرفة فيه فينبغي أن تشاع وتذاع في مخاطر أهل العلم يقبلها من وفقه الله تعالى للخير فإنها خير مما كتبت فيه بأضعاف أضعاف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وأله وسلم1

_ 1 المجموعة 2/84.

الرسالة الثالثة والثلاثون

الرسالة الثالثة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "33" من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان الأمير محمد بن أحمد والشيخ عبد اللطيف بن مبارك وأعيان أهل الإحساء وعامتهم رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من النور والهدى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله ولكتابه ولرسله ولأئمة المسلمين وعامتهم "وأوصيكم" بما دلت عليه شهادة لا إله إلا الله وما تضمنته من نفي الإلهية عما سوى الله وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له والبراءة من كل دين يخالف ما بعث الله به رسله من التوحيد كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ*إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّه} َ وهذه الآية وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة والبراءة منه ومن المشركين من الرافضة وغيرهم والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذه الأصل العظيم فلا غناء لأحد عن معرفته والعمل به باطنا وظاهرا قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الألون والآخرون ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ*وَأُمِرْتُ ِلأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وهذا هو مضمون شهادة أن محمد رسول الله وجوب إتباعه والرضى به نبيا ورسولا ونفي للبدع والأهواء المخالفة لما جاء به صلى الله عليه وسلم فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك وقبوله ومحبته والإنقياد له قولا وعملا باطنا وظاهرا.

الرسالة الرابعة والثلاثون

الرسالة الرابعة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "34" وبه نستعين وعليه نتوكل ونعتمد. من عبد الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين وخليفة سيد المرسلين

في إقامة العدل والدين وهو سبيل المؤمنين والخلفاء الراشدين فيصل بن تركي جعل الله في عدادهم متبعا لسيرهم وآثارهم آمين..السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد أعلم أن الله أنعم علينا وعليكم وعلى كافة أهل نجد بدين الإسلام الذي رضيه لعباده دينا وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه دون الكثير من هذه الأمة الذين خفي عليهم ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه ولإصلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين وقبوله والعمل به ومحبته واستفراغ الوسع في ذلك علما وعملا والدعوة إليه والرغبة فيه وأن يكون أكبر هم الإنسان ومبلغ عمله ليحصل له النعيم المقيم الأبدي والسرور السرمدي. وقد وقع أكثر من أنعم الله عليهم بهذه النعمة في التفريط في شكرها والتهاون بها وعدم الرغبة فيها والإشتغال بما يشغل عنها من الرغبة في الدنيا والإقبال عليها والتحدث بها والعمل بموجبها وقد وقع بالغفلة عن شكر هذه النعمة من التفريط فيها والإشتغال بما يشغل عنها من الرغبة في الدنيا والإقبال عليها مالا يخفى على ذوي البصائر وقد ذم الله تعالى في كتابه أهل الغفلة والإعراض أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} فعلينا وعليكم أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد والاجتهاد بالنصيحة لجميع المسلمين بتذكيرهم ما أنعم الله به عليهم ببذل من الدين وتعليمهم ما يجب عليهم تعليمه مما فيه صلاحهم وفلاحهم ونجاحهم وسعادتهم ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة وقد قال تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة والقرآن ينزل فمن بعدهم أحرى بأن يكونوا كذلك.

فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا ودعوة إليه وتعلما وتعليما ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة فيما أحبوه وقالوه وعملوا به وقد حذر الله عباده من عقوبات الدنيا والآخرة وعن الإعراض عما خلقوا له كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعلينا أن نحذر ونحذر عما حذرنا الله تعالى عنه من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله والقيام بدينه كما ينبقي. وبسبب الغفلة عن هذه الأمور الواجبة وقع كثير من الناس في أشياء مما لا يحبه الله ولا يرضاه كما لايخفى على من ينظر بنور الله وقد قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والفساد المعاصي وآثارها في الأرض ولكن كما قيل إذا كثر الإمساس قل الإحساس نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وموجبة الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه واليوم ما فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا على ضعف وفي يتركه الوعيد الشديد وفعله علامة الإيمان وهو من فروض الكفايات إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} قال بعض العلماء فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة. فأوصيكم معشر الأخوان من الخاصة والعامة أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه وأن تهتموا به كاهتمامكم لدنياكم لتسعدوا وتسلموا وتغنموا والشأن كل

الشأن في الإهتمام بما يرضي الله عنكم ويفع الله به عنكم عقوبات الدنيا والآخرة. وعلى الإمام وفقه الله أن يبعث للدين عمالا كما يبعث للزكاة عمالا ليعلموهم دينهم ويأمروهم وينهوهم وهذا مما يجب على الإمام أعانه الله على ذلك ووفقه للقيام بوظائف الدين نصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين سنة الخلفاء الراشدين. وأوصيكم بالتوبة إلى الله عما فرطتم فيه من العمل بدينه وتعليمه وتكميله فإن الله تعالى أكمله لكم وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه قبل القدوم عليه والرجوع إليه. ولا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بنية وعلم فاشكروا الله تعالى على ما أعطاكم ومن به عليكم من دين الإسلام وما حصل به من النعم التي لا تحصى وقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم أصحابه وأنذرهم وحذرهم فقال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فأحذروا واحذروا فإن الأمر عظيم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} قال بعض العلماء في قوله: {أَنْ تَقُومُوا} فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به وقوله: {لِلَّهِ} فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه والقيام بذلك جدا واجتهادا, ويشبه هذه الآية قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى قوله: {وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ} فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين: نجب دعوتك: فيه التوحيد لانه الذي دعا إليه ودعت إليه رسله وفي قوله: {وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ} العمل بكتابة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم فمن عمل بهاتين الكلمتين فيما كان طاعة لله ولرسوله فقد فاز ونجا وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامة فالله

الله في الاهتمام بهذا الشأن والقيام به حسب الإمكان وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ومما يدفع به العقوبات ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد ورد "بادروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها" والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وفي الحديث "إتقوا النار ولو بشق تمرة" والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة وهي من الباقيات الصالحات وقد قال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية والعون على مرضاته فإنه ولي ذلك والقادر عليه ولا ملجأ منه إلا إليه بالتوبة النصوح والإيمان والعمل الصالح ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد1

_ 1 الدرر السنية 11/28.

الرسالة الخامسة والثلاثون

الرسالة الخامسة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "35" الحمد لله رب العالمين اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك حربا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالف أمرك اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة اللهم هذا الجهد وعليك التكلان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب عبد الرحمن بن حسن إلى الأبن الإمام فيصل بن تركي الزمه الله كلمة التقوى ووفقه للقيام بما هو أقوم وأقوى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد موجب الخط أبين لك ما أنت خابر من أمر دعوة الإسلام التي من الله بها في آخر هذا الزمان بموجب النصيحة للإمام المشوبة بالمحبة والشفقة والخوف وكنت والله يعلم صدقي بما قلته أني أحبك وأقدمك في المحبة على من مضى من حمولتك وحمولتي واليوم الذي اجتمع بك فيه عندي يوم سرور ولا عندي لك مكافات إلا بالدعاء والنصح باطنا وأكثر من يجتمع بالإمام ما يجي أمر النصيحة له على بال وبعضهم ما يحسن النصيحة ولا يعرف وجهها وبعضهم غرضه دنياه وهمته موقوفة عليها وقد قال الله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} : {وَالْعَصْرِإِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ولا يسلم من الخسران إلا أهل العلم ومعرفته وقبول الحق ومحبته والإنقياد في طاعته والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر على ذلك ومن نقص في ذلك فله الخسارة بحسب ذلك. ولا يخفاك أن الله من عليكم بدين الإسلام في آخر هذا الزمان برجل واحد خالف فيه الأدنى والأقصى والقريب والبعيد لأنه قام في حال غربته لما اشتدت غربة الإسلام في جميع الأماكن والناس كلهم إلا من شاء الله لا يعرفون معنى لا إله إلا الله واشتد نكير الناس عليه العامة والمطاوعة وحذروا الملوك منه وشنعوا عليه في التوحيد الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وخلق الجن والإنس له وصار أقرب قريب له ابن معمر أمير بلاده لما عرف عداوة الناس له أرخص له عن البلد وصار رحمة ونعمة عظيمة لكم ياحمولة آل سعود وتلقاها جدك رحمه الله: وأهلك والخواص وأعانهم الله على عداوة أهل الأرض في هذا الدين ولا عندهم أموال يبذلونها لكن بذلوا نحورهم وأنفسهم وأرخصوها لله في طلب رضاه والفوز بالجنة والنجاة من النار ولا مقصدهم إلا أن الناس يتركونهم يوحدون الله ولا يعارضونهم عند التوحيد ولا حصل من الشيوخ بنجد وأتباعهم وضدهم في غاية القوة وهم في غاية الضعف والقلة فأيهم الله بدينه وكل

عدو يقصدهم يكسره الله وما زالوا كذلك حتى ملكهم الله جزيرة العرب بهذا الدين وهم في تلك السنين معافيهم الله في أبدانهم حتى إن الأمراض العامة لا تعرف فيهم ولهم سيرة أذكرها لك من غير مجازفة دائما في كل وقت يبعثون الدعاة إلى الله كل بلدة يجددون لهم دينهم ويسألونهم عن ثلاثة الأصول والقواعد وغير ذلك من كتب الأصول أعرف منهم نحو العشرة منهم عبد الله بن فاضل وعبد الرحمن بن ذهلان وراشد بن درعان وعثمان بن عبد الله بن عبيكان وحمد بن قاسم وأحمد الوهيبي وسليمان بن ماجد ومحمد بن سلطان وأولاده وحسن بن عيدان ومحمد بن سويلم وعبد العزيز بن سويلم وعثمان العود وعبد الرحمن بن نامي وعبد الرحمن بن خريف وأمثال هولاء ممن لهم فقه في التوحيد ورغبة فيه. وكل واحد من هؤلاء يروح لجهة ومعه إثنان أو ثلاثة ويجلس في البلد قدر شهرين يسألهم ويعلمهم والذي ما يعرف دينه يؤدب الأدب البليغ ما يعارض فإذا أراد السفر استلحق أهل الدين من أهل البلد وقال سلموا على الكبار ويعرف الشيخ وعبد العزيز وإخوانهم بأحولهم ويقدمونهم في بلدهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبهذا صار للدين سلطان وعز وهذا يفعلونه دائما مع الرعايا وصار الذي له دين يقوم بالدين ويأمر وينهى والذي ما له دين بتزين عند أهل الدين. وأما حالهم في بلدهم الدرعية فبنوا مجمعا حول مسجد البجيري محله معروف إلى اليوم يسع له قدر مائتي رجل وجعلوا فيه رفا للنساء فإذا صلوا الصبح أقبلوا لهذا المجمع وفيه معاميل وقهوة وما نابها مقيوم به من بيت المال تارة يجلس فيه حسين ابن الشيخ وتارة عبد الله وتارة علي ويقرأون في نسخ التوحيد فإذا فرغ هذا الدرس راحوا هم وغيرهم وجلسوا عند بيت الشيخ حتى يجيء عمك وجدك وسعود وعياله وآل عبد الله ويدخلون عند الشيخ رحمهم الله فإذا تقهور وذكر عمك رحمه الله: للشيخ ما عنده من خبر أو أمر يحتاج له

الشيخ ذكره له وأخذ ما عنده من رأي ومن علم وأرخصوا للجماعة وقرأ ثلاثة عبد العزيز بن الشيخ يقرأ في تفسير ابن كثير وعلي وعبد الله يقرأون في البخاري وكل من عنده دراية وفهم إذا فاضوا في الباطن صاروا حلقا يتذاكرون درس الشيخ رحمه الله: والأجنبي الذي يبغي يركب لديرته يصغي للمذاكرة عارف أن أهل ديرته يسألون: أيش أيش درس الشيخ فيه وقد ذكرت لك قصة إبراهيم بن زيد في تلك المدة وموسى بن حجيلان يمشي على المساجد يسألهم عن ثلاثة الأصول والقواعد ونحن يا حمولة لنا مجلس بين العشاءين في الباطن يجتمعون فيه أهل البلاد ونسأل اثنين والذي ما يعرف دينه يضرب فأول يجلس فيه حسين ثم علي ابن الشيخ وجلست فيه مدة نحو سنتين أو ثلاثة على هذا الترتيب ثم حمد بن حسين هذا بعض ما حضرناه من سيرتهم فلما توفي الله عمك حصل غفلة عن هذا الترتيب لما فتح الله الدنيا وكثرها على الناس ووقع الأعراض عن كثير مما ذكرنا لأكله بل باق بقايا وحدث ما أحدث من البلاوي بالعدو وهذا شيء أنت خابره ورد الله لكم الكرة أنت وولدك رحمه الله: وعادت البلوى الأولى وعافاك الله منها ومكنك غاية التمكين وتسببت في حفظ أموال الناس ورفع أيدي البوادي وهذا عمل صالح ومن الواجبات ولكنك أصبحت اليوم في جيل غفلوا عن دينهم إلا من شاء الله وهم الأقلون وأقبل الناس على دنياهم لها يوالون وعليها يعادون فهم وإن صلوا وصاموا فقد أعرضوا عن التوحيد تعلما وتعليما وصار أكثرهم خصوصا أهل المناصب والولايات وأتباعهم وأكثر الناس ليس له إخلاص ولا متابعة كل يحوم إلى ما يراه ويشتهيه. وأنت اليوم جعل الله لك القدرة على تجديد هذا الدين تولي له وتغزل له وتغضب له وترضى له وتبعث الدعاة والسعاة لكل بلد وتقدم لله وتؤخر لله وتبعد لله لا يدخل عليك في هذا هوى أحد فيخل بالإخلاص والمتابعة وتفهم

حديث عائشة رضي الله عنهما "من التمس بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله عليه وأسخط عليه الناس" وقد قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ونظائرها في المائدة والكهف وطه والنجم وغيرها من القرآن. جدد هذا الدين الذي أخلولق لما أقدرك الله على ذلك والتمس من أهل الخير عددا يدعون إلى هذا الدين ويذكرونه الناس ويعلمونه الجاهل والغافل وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيد المرسلين وأمام المتقين محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وأنت سالم والسلام.1

_ 1 الدرر السنية 11/30.

الرسالة السادسة والثلاثون

الرسالة السادسة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "36" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم فيصل بن تركي سلمه الله تعالى آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد لا يخفاك أن حقك على كبير وأكبر منه حق الله تعالى علي وعليك ويجب علي النصح لك وللمسلمين باطنا وظاهرا وأنت بارك الله فيك أحسنت أحسن الله عليك ولا لك مكافأة إلا بالدعاء والنصح باطنا وظاهرا وأنت اليوم حاجتك إلى العلم ضرورة في خاصة نفسك وفيما ابتليت به من أمور الخلق والعلم بالنظر إلى أحوال الناس ما بقي معهم إلا رسمه كما قال عبد العزيز ابن الماجشون وهو من أكبر علماء القرن الثاني: قد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف

وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر فإذا كان هذا حال القرن الثاني فما ظنك بأهل هذه القرون الذين عاد المعروف فيهم منكرا والمنكر معروفا نشأ هذا الضغير وهرم عليه الكبير والبدع فشت فيمن يدعي العلم حتى اعتقدوا في ربهم وخالقهم ما يتقدس عنه ويتعالى سبحان الله عما يصفون وهذا في حق من عرفه إذا كان جازما ناصحا لنفسه استيقظ في طلب ما ينجيه ويسعده في دنياه وأخراه من العلم النافع والعمل الصالح ويكون مبني أقواله وأفعاله على الإخلاص والمتابعة على علم ومعرفة ويقين فمبنى العبادة على محبة المعبود غاية المحبة في غاية الذل والخضوع كما قال ابن القيم رحمه الله: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان فالمحب لله قلبه يخشع وعينه تدمع يحاسب نفسه بالأخلاص والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم: بفعل ما أمر به وترك مانهى عنه وهذا هو دليل المحبة كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} وهذا هو الصراط المستقيم لا يعرفه السالك ولا يهتدي إليه إلا بالكتاب والسنة علما وعملا ومحبة وطلبا كما في حديث عبد الله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" وهذا لا يدرك إلا بالعلم النافع والعلم النافع لا يدرك إلا بالدخول من باب التواضع والاعتراف بالجهل والتفريط وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعين على ماحمل من أمور الناس بقرب أهل العلم وتقريبهم إليه وكان يقرب ابن عباس على صغر سنه لعلمه بالتأويل وقد كان وقافا عند كتاب الله تعالى. ومن سعادة العبد أن يتخذ له إخوان صدق ممن لهم علم ودين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر كما قال بعض السلف: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم: يعني بالعلم النافع والعمل الصالح فإنهم زينة في الرخاء عدة في

البلاء يأنس بهم أصحابهم في هذه الدار وفي القبور ويوم البعث والنشور وهم الحجة بين يدي الله تعالى حال العرض على الله وهم الذين قرن الله توليهم بتوليه رسوله كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ*وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} وهذه أمور متلازمة لا يكون الله تعالى وليا لعبد حتى يكون الرسول له ويكون المؤمنون هم أولياءه دون كل من عداهم. وقد وصى الله تعالى نبيه بالصبر معهم فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ولهذا كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان لما في الحديث الصحيح: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وفي الحديث الآخر "من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك" وهم الذين وصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا جاءوه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بشرهم عن ربهم بالمغفرة من ذنوبهم إذا تابوا إليه وأنابوا ووصاه بهم ف يقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وبه تتم مصالح الدنيا والدين وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} وفي العلم بما وصى الله به نبيه من ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة فارغب وفقك الله فيما رغب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم. وأنت اليوم تستعين بكل صانع في صنعته التي يحسن وتدور الطيب من السلع والطيب من العلم والإيمان والدين وأنت له أحوج من جميع ما تحتاج إليه واختر لنفسك من تستعين به على طاعة الله وبراءة ذمتك بالعمل بالمشروع

في الدقيق والجليل حتى تسلم وتغنم وقد رؤي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موته فقال له الرائي: ما فعل الله بك؟ قال: كاد عرشي لينهد لولا أني لقيت غفورا رحيما فاحرص على العلم وأهل العلم واجعل بالك لهذه الآية {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} فلا غلبة إلا بهذا السبب العظيم الذي من انتظمت له هذه الثلاثة توليه ربه بالإخلاص وخشيته وطاعته وتوليه رسوله بمحبته واتباعه وتوليه المؤمنين بمحبته لهم وقربه منهم ودنوهم منه وإكرامهم والتواضع لهم بخفض الجناح وغير ذلك مما يجب لهم من الحقوق التي تجب لهم دون غيرهم واطلبهم ولو في أطراف البلاد واطلب ما عندهم مما يعينك على هذا السفر فإن العبد في هذه الدنيا مسافر محتاج إلى أخذ الزاد والمزاد للمعاد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد 1281هـ.

_ الدرر 1/34.

الرسالة السابعة والثلاثون

الرسالة السابعة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "37" من عبد الرحمن بن الحسن إلى من يراه من أئمة المسلمين وعامتهم سلمهم الله تعالى وهداهم آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فالواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله تعالى والتذكير بنعم الله وأيامه فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة ما لا يحيط به إلا الله وفي الحديث "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاءوا به وكل شر في الدنيا والآخرة إنما حصل ووقع بمعصية الله ورسله والخروج عما جاءوا به وبعض الأذكياء يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته قال بعضهم: أني لا أعصي الله فاعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي ويكفي المؤمن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم}

وقد عرفتم أرشدكم الله تعالى: إن الله بعث محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة وغلبت عليهم الضلالة عربهم وعجمهم إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب فأول دعوته صلى الله عليه وسلم رد الخلق إلى الله وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص وهو أول دعوة الرسل وأول الواجبات والفرائض وهذا هو أهم الأمور وأوجبها على الخلق كما في الحديث "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: أن يبعث عماله ويرسل رسائله إلى أهل الأرض ويدعوهم إلى هذا يبدأ به قبل كل شيء ولا يأمر من الأركان إلا بعد التزامه ومعرفته كما دل عليه حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن وغيره من الأحاديث. وقد حصل في الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده وفرضه على سائر عبيده وقل الداعي إلى ذلك والمذكر به والمعلم له في القرى والبوادي والتساهل في هذه الأمور العظام يوجب للرعية أن يشب صغيرهم ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية والله سائلنا وسائلكم الدعاة إليه وجعل أموال الله التي بأيديكم آلة ووقاية وحماية وإعانة وبقاء الإسلام والإيمان: في استقامة الولاة والأئمة على ذلك وزوال الإسلام والإيمان وانقضاؤه: بانحرافهم عن ذلك وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره مقصود بها سواه فأهم المهمات وآكد الأصول والواجبات التفكر في هذا وتفقد الخاصة والعامة البادية والحاضرة وفي الحديث "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ومن الدعوة الواجبة والفرائض اللازمة جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه ومن البادية وغيرهم وقد أفلح من كان لله محياه ومماته وخاف الله في الناس ولم يخف الناس في الله. وكذلك يجب على ولي الأمر أن لا يقوم من نسب عنه طعن أو قدح في شيء من دين الله ورسوله أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم

مثل من ينهى عن تكفير المشركين ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس لأنهم يدعون الإسلام ويتكلمون بالشهادتين وهذا الجنس ضرره على الإسلام خصوصا على العوام ضرر عظيم يخشى منه الفتنة وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين وزيغ الزائغين بل تجده والعياذ بالله سلس القياد لكل من قاده أو دعاه كما قال فيهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. فإذا تيسر لكم الاهتمام والقيام بهذا الأصل فينظر بعد هذا في أحوال الناس في الصلوات الخمس المفروضات فإنهم من آكد الفروض والواجبات وفي الحديث: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة" وكل شيئ ذهب آخره لم يبق منه شيء وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} فلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة في المساجد في أوقاتها ويؤدبون من عرف منه كسل أو ترك أو أهمل أدبا يردع أمثاله وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها وما يجب فيها من الأعمال والأقوال وبعد هذا يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات وجبايتها على الوجه الشرعي من الأنعام والثمار والنقود والعروض ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية والأحكام الزكوية ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة وتم نصابه وحال حوله وكثير من العمال يخرص جميع الثمار وإن لم تنصب وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله فيه ظلم بين وتعد ظاهر حمانا الله وإياكم منه ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله فينبغي التفطن لهذه الأمور لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج والقيام على من تركه وهو

يستطيعه وهو ركن من أركان الإسلام وبعض السلف يكفر من تركه وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذلك القيام على الناس ومنعهم عن التعدي في الدماء والأموال وقطع السبل فهذا من الفساد في الأرض والمحاربة لله ورسوله فالواجب على من نصح نفسه ألا يحكم إلا بحكم الله ورسوله فإن لم يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله. ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها وكذلك بخس الكيل والميزان والربا فيجعل في ذلك من يقوم به ممن له غيرة لدين الله وأمانته وكذلك مخالطة الرجال للنساء وكف النساء من الخروج إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها من زوج أو قريب ونحو ذلك. وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم وغير ذلك مثل أهل النخيل النائية لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدري عنه وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه وفي الحديث: وما تركت فتنة على أمتي هي أضر على الرجال من النساء" وفي حديث آخر "ما ظهرت الفاحشة في قوم الا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن بأسلافهم الذين مضوا" نعوذ بالله من عقوبة المعاصي ونسأله العفو والعافية ومما يجب النهي عنه: الإسبال كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" وفي حديث آخر "بينما رجل يجر إزاره خيلاء أمر الله الأرض أن تأخذه فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم: بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس: فقال "حفوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا اليهود" والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضي لنفسه أن يخالف ما

أمر الله به ورسوله ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين وعلى الإمام أن يأمر النواب من رأو تاركا للأمر أن يقوموا عليه ويلزموه الطاعة حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين من أهل الجفاء والغلظة والغفلة والإعراض نسأل الله العفو والعافية فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان وعدم الرغبة فيه. وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم وترغب الناس في طلبه وإعانة من تصدى للطلبة لقلة العلم وكثرة الجهل وإن كان قد قام ببعض الواجب فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر لفضيلة العلم وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه وطلب العلم اليوم من الفرائض كما لا يخفى على الإمام وغيره وفي الحديث "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم" وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام وتأليفه للطلبة فإذا كثر العلم وقل الجهل بسببه حصل له من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله إن قبله الله وبالغفلة عن طلبه العلم تضعفف هممهم ويقل طلبهم وفي مناقب عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أنه إذا أراد أن يحي سنة أخرج من العطاء مالا كثيرا فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا فلله دره ما أحسن نظره لنفسه ولمن والاه الله عليهم وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر القلوب التي هي من أعظم الذنوب ولا يأمن مكر الله وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره وليكن معظما للأمر والنهي مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه متدبرا لكتابه محبة لربه ورغبة في ثوابه وخوفا من غضبه وعقابه. ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله ويعادي في الله ويوالي في الله ويحب أولياء الله أهل طاعته ويعادي أعداءه أهل معصيته وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله على محمد1

_ 1 الدرر 11/36.

الرسالة الثامنه والثلاثون

الرسالة الثامنه والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "38" من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان

وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام المثنين بها عليه ونسأله أن يتقبلها منا ويتمها علينا رغبة فيما يوجب الفوز لديه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى في الغيب والشهادة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} الآية. قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ولا وصية أعظم ولا أنفع مما وصى الله به عباده المؤمنين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ *وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ* وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف رحمهم الله تعالى في معنى هذه الوصية العظيمة المتضمنة لأصول الدين. حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر. وأصل الإسلام وأساسه أن ينقاد العبد لله تعالى بالقلب والأركان مذعنا له بالتوحيد مفردا له بالآلهية والربوبية دون كل ما سواه مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكات وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" الحديث. وحبل الله دينه أمركم به وعهده إليكم في كتابه في الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله قال أبو جعفر

ابن جرير رحمه الله تعالى: وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه كما روى عن ابن مسعود وقال: حبل الله الجماعة وعن أبي العالية اعتصموا بالإخلاص لله وحده وعن ابن زيد قال: حبل الله الإسلام وقيل هو القرآن لما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه" ثم قال تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وأن ما تكرهون في الطاعة والجماعة هو خير مما تحبون في الفرقة وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره من حديث عبد الله بن يحيى بن عامر أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة" يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة والله يامعشر العرب إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى الا يقوم به وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم كل بدعة ضلالة. ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي أذكروا ما أنعم به عليكم من الألفة والإجتماع على الإسلام حيث كنتم أعداء على شرككم يقتل بعضكم بعضا عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله فألف الله بين قلوبكم تواصلوا بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون بأكل شديد كم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام فألف به قلوبهم فو الله الذي لا إله إلا هو إن الإلفة رحمة وإن الفرقة عذاب وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} يقول تعالى وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه فأنقذكم الله بالإيمان الذي هداكم به وذكر عن قتادة في الآية: كان هذا الحي من العرب اذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأبينه ضلالة واعراه جلودا وأجوعه بطونا مكفوفين على رأس حجر بين إلا سد من فارس والروم لا والله ما في.

بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقيا كانوا فيها أصغر حظا وادق شأنا منهم حتى الله بالإسلام فورثكم به الكتاب واحل به دار الجهاد ووضع لكم به الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام اعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعمه فان ربكم منعم يجب الشاكرين وان أهل الشكر في مزيد من الله فتعالى ربنا وتبارك وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي يعرفكم في كل ذلك مواقع وصنائعه فيكم ويبين لكم حججه في تنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها فلا تضلوا عنها. وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وفي المسند عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" قلت وروى محمد بن نصر من حديث يزيد بن مرشد مرسلا قال قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل رجل من المسلمين على ثغره من ثغر الإسلام الله الله يؤتى الإسلام من قبله" وروى بسنده عن الحسن بن حي: إنما المسلمون إخوة على الإسلام بمنزلة فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله فإن أحدث المسلمون كلهم فأثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه. وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ

وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس في الآية أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله قلت فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين وأخبر أنه من مواجبات العذاب العظيم وأرشد إلى أسباب الإجتماع على دينه وشرعه ومن أعظمها الاعتصام بكتابه ودينه علما وعملا وأداء شكره والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد: الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم واتباع الأهواء والآراء المضلة نعوذ بالله من ذلك –فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لايكاد يبلغه الوصف: فمن ذلك الاختلاف في الدين والتحاسد والتدابر والتقاطع فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه متنقص لغيره مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه. من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم ودينه وشرعه ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم من تعلم دينهم وطاعة ربهم وترك معاصيه وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على علم وبصيرة وأن يهتموا بما يصلح ذلك من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم. وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان وتجلب أسباب المآثم والعصيان من الهلع والطمع والرضا بالدنيا والاطمئنان بها وفي الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وأخرج البخاري في صحيحه وغيره من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل يا رسول الله أفيأتي الخير بالشر فسكت النبي صلى الله عليه وسلم: فقيل له ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم: ولا يكلمك فرأينا أنه ينزل عليه قال: فمسح

عنه الرحضاء فقال: أين السائل وكأنه حمده: فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر: وأن مما ينبت الربيع ما يقتل أو يلم إلا أكلة الخضر إذا أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فتطلت وبالت ورتعت وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل" أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع فيكون شهيدا عليه يوم القيامة " انتهى فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها وأخذها من حلها وأدى حق الله فيها ولم يشتغل بها عن طاعة مولاة فإنها تكون في حقه نعمة وعطية ولغيره نعمة وبلية. هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمة ما تحبون وصرف عنكم ما تكرهون ابتلاء وامتحانا لتعرفوا نعمه وتشكروها وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فانظروا رحمكم الله بماذا تقابلونها؟؟ أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الاعراض عن دينه وارتكاب معاصيه من الظلم والبغي والأشر والبطر واللهو واللعب وقول الزور والسخرية ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟ نسأل الله السلامة من أسباب التغيير قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. الله الله عباد الله قيدوا نعم الله بشكره واتباع ما يرضيه وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن الله خولكم نعمه لتطيعوه ولا تعصوه وتعلموا بدينه وشرعه وتعظموه لا لتشغلوا بها عن ذلك أو تمتهنوه اللهم أوزعنا شكر ما أنعمت به علينا من هذا النعم الظاهرة والباطنة واستعملنا فيما يرضيك عنا وعافنا عنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة التاسعة والثلاثون

الرسالة التاسعة والثلاثون ... بسم الله الرحمن الرحيم "39" من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه الإخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فالذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والتواصي بما يرضي الله سبحانه من طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والعدل والإنصاف واذكروا فناء الدنيا وزوالها والعرض على الله والحساب والميزان والجنة والنار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. والباعث على هذا أمور وقع فيها الخلل بسبب الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة. فمنها: التهاون بالصلاة من كثير من السفهاء لا يبالون صلوها في جماعة أم لا وصلاة الجماعة فرض على الأعيان كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره وقال بعض العلماء هي شرط لا تصح الصلاة إلا بها ومر علينا في الدرس بحضرة إخوانكم وارتاعوا منها وأحبوا أنا ننبهكم عليها وهي أن المشهور في مذهب الإمام أحمد من ترك الصلاة تهاونا وكسلا: يكفر ويقتل كفرا إذا أدعى إليها فاصبر. ومنها صلاة الجمعة نصوا على أن من تركها تهاونا وكسلا ولو مرة واحدة أنه يكفر ويوجد أناس في أطراف البلدان يتركونها مرارا وهذا أمر عظيم وخطره كبير قد يكون الإنسان كافرا مرتدا بترك فريضة وهو لا يشعر. فاحذروا رحمكم الله التهاون بمثل هذه الأمور الخطيرة التي إذا وقعت من سفيه ضرت العامة. إذا تركوه عليها وأعظم الناس خطرا في مثل هذه الأمور: الأمراء والنواب إذا تركوا القيام بما أوجب الله عليهم من القيام بأمر الله على الدنيا والقاصي والقريب والبعيد والعدو والصديق كما قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} الآية وهذا هو الواجب على ولاة الأمور فنسأل الله ولكم التوفيق.

وهنا مسألة مما يتعلق بالعدل وحقوق الخلق وهي أن النواية التي يضعها الأمراء والنظراء ربما يقع فيها الجور وعدم المواساة فمن ذلك تنويب المعسر الذي لا يقدر على وفاء جميع ما عليه من الدين لكون جميع ماله لا يقابل دينه فهذا لا يجوز أخذ النائبة منه وقد بلغني أن الشيخ محمد رحمه الله: أفتى أناسا من أهل سدير وغيرهم: أن هذه النوائب توضع بالقسط على الناتج قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الآية. وصلى على محمد.

الرسالة الأربعون

الرسالة الأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "40" من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام عبد الله بن فيصل سلمه الله تعالى وتولاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتفهم أن الدين النصيحة وأحق من انصح نفسي ثم أنت يا إمام المسلمين ورأيت الأمر ضاع وكثر الأعداء واستحكمت أمورهم وصعبت عليكم وهنا سبب فيه ذهاب الأعداء مع النية الصالحة وتهتوه بالفعل وأما القول فتذكرونه صباحا ومساءا وذلك لا يجدي شيئا وقد بان لك ما جرى على أولئك مع ما بينوه من هذا الدين ومعهم حسنة تعلد ما عمل به الخلائق فكيف بكم اليوم جعلتموها أمور ملك ورأيتم الخلل. تفهم أن أول ما قام به جدك محمد وعبد الله وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة يطلبون الحق ويعملون به ويقومون ويغضبون له ويرضون ويجاهدون وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم إذا مشى العدو كسره الله قبل أن يصل لأنها خلافة نبوة ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وأخذ عمك في الإسلام حتى جاوز الثمانين في العمر والإسلام في عز وظهور وأهله يزيدون وحصل لهم مضمون قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} .

وصار أهل الأمصار يخافونهم وأراد الله سبحانه أمارة سعود بعد أبيه يرحم الله الجميع وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قلبه وبغاها ملكا وبدأ الأمر ينقص أمر الدين والدينا تطغي يشرى البيت بستمائة ريال في الدرعية والنخلة الوحدة بستين ريالا مائة نخلة بستة آلاف ريال أنا الكاتب لمشتراها وصار العاقبة القصور التي بنيت بقناطير والمقاصير التي تنفذ فيها الأموال العظيمة التي تسوى ثلاثة آلاف ما تسوى اليوم إلا جديدة لما جرى ما جرى من تسليط الأعداء عليهم هذا وهم على التوحيد لكن ما أعطوه حقه إشتغلوا بالدين ونضارتها وما فتح الله عليهم واعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس فجرى ما جرى وصار الحمولة أكثر شر أئدهم الذين لقو آجالهم في مصر وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله لأن الله اختار لهم أمرا عظيما ومكنهم منه ومن الناس لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة. والدرعية اليوم من تدبر حالها وحللها: عرف إن ما جاءهم إلا ذنوبهم فاعتبروا يا أولى الأبصار. وهذا حقك على وأرجو أن الله يمن عليك بتوحيده والقيام به على نفسك وعلى الناس قريبهم وبعيدهم ويعافيك من أهل التثبيط والحق منصور في كل زمان ومكان ومنصور من هو معه سواء كان حرا أو عبدا صغيرا أو كبيرا وابتلاكم الله وعرفتم العواقب والمؤمن ما يلدغ من حجر مرتين: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ووالله ثم والله إن لم تجعلها أمر دين وتدعوا الناس إلى ما أمرهم الله به إن تشفق سكون قرية من قرى نجد وأنت مطلوب لكن إن تسلط عليك أحد وأنت تأمر بما أمر الله به ورسوله فالله مع المتقين فإن كنت على هذه الحالة فلا حول ولا قوة إلا بالله وأنا لله وأنا إليه راجعون..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته1

_ 1 الدرر11/46

الرسالة الواحدة والأربعون

الرسالة الواحدة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "41" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان صالح بن محمد الشترى وزيد

ابن محمد آل سليمان وإخوانهم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وموجب الخط إبلاغكم السلام والسؤال عن الحال جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه وقابل النعم بشرها. وأوصيكم بتدبر أنوار الكتاب التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة ليس دونها قتر ولا سحاب لا سيما دلائل التوحيد والتفكر في مدلولاته ولوازمه وملزوماته ومكملاته ومقتضياته ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته فالخطر به شديد ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتاييد والفعل الحميد والقول السديد وخالط قلبه آيات الوعيد وعرف الله بأسمائه التي تجلوا الريب والشك عن قلب كل مريد واعتصم بالله من كل شيطان مريد: {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} للآيات.. فقد عمت البلوى بالجهل المركب والبسيط {والله من بما يعملون محيط} فالله الله في التحفظ على القلب بكثرة الاستغفار من الذنوب جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة وأخلص لله أقواله وأعماله والسلام.

_ 1 الدرر 11/47.

الرسالة الثانية والأربعون

الرسالة الثانية والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "42" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم سلمه الله تعالى من كل آفة وأمنه من كل مخافة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط وصلك الله ما يرضيه ونحمد إليك الله على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين ونعمة الله عليكم عظيمة حيث أقامكم في ناحية أهلها جهال بالتوحيد ما له عندهم قدر ولا قيمة وجعلكم تدعون إليه وتبينونه وتحملون الناس عليه وجعل لكم أصحابا قابلين هذه الدعوة ومحبينها ومعادين فيها وموالين فيها. ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة واحمدوا الله سبحانه وتعالى

وتبرأوا من الحول والقوة وانسبوا النعمة إلى ربكم قال: ابن القيم رحمه الله: لما ذكر حياة القلب وصف القلب الحي بقوله: أن يكون مدر كالحق مريدا له مؤثرا له على غيره والسلام-1284هـ. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وحال الناس اليوم لا تخفاك وأهل نجد من الله عليهم بنعمة التوحيد لما يسر لهم من يدعوهم إليه ويجاهدهم عليه لكن أعرضوا في هذه الأوقات وآثروا الدنيا على الدين إلا من شاء الله لكن إذا حصل في البلدان طائفة حتى يقومون به ويدعون إليه ويستحسنون الحسن ويستقبحون القبيح فهذه نعمة عليهم وعلى أهل بلدهم. فالذي أوصيكم به أصدقوا مع الله وتعلموا من العلم ما ينجيكم من شبهات أهل الشك والريب فبالعلم واليقين تدفع الشبهات ولله الحمد على بقاء طائفة الحق تدعوا منضل إلى الهدى وتصبر منهم على الأذى واللام.

الرسالة الثالثة والأربعون

الرسالة الثالثة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "43" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان من المسلمين الموحدين المجاهدين أمراء جعلان وفقنا الله وإياهم للإخلاص والصدق في الدين وجعلنا وإياهم من حزبه المفلحين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فاعلموا وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى من الأقوال والأفعال إن أشرف الوصايا وأجمعها وأكملها وانفعها ما وصى الله به عباده المؤمنين قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} وفسره العلماء: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر ثم قال تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وأمرهم بالمحافظة على الإسلام الذي رضيه لنا دينا والثبات عليه والاستقامة عليه: علما وعملا وهذا إنما يحصل لأهل التقوى.

خاصة الذين اخلصوا العبادة لله وأنكروا الشرك وابغضوه وعرفوا الله وأطاعوه فاجتنبوا ما نهاهم الله عنه ومن شقي في هذا وتركه فاته من الاستقامة والمحافظة بحسب ما أضاعه من تقوى الله وملاك هذا كله وهو الأمر الثالث وهو قوله: {واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا} فلا تحصل التقوى إلا بمعرفة ما أمر دين الإسلام ليتبين ما نهى عنه ليكون العمل والتقوى على بصيرة وبالتمسك بكتاب الله يتبين ويعتقد حقيقة ما ينافيه من الشرك لينكر ويجتنب. فهذه ثلاث وصايا لا يتم الدين إلا بها فالاعتصام بكتاب الله والتمسك به ينتظم به ما قبله من الثبات على الإسلام والاستقامة وكذلك تقوى الله حق تقاته لا تحصل بدون ذلك آخر ما وجد وصلى الله على محمد.

الرسالة الرابعة والأربعون

الرسالة الرابعة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "44" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ عبد الرحمن بن علي بن عبيد وفقه الله وحفظ عليه دينه ودنياه سلام عليكم ورحمة الله بركاته. وبعد فالخط وصل وصلك الله إلى خير وما ذكرت صار معلوما وهؤلاء الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فد فضحتهم أعمالهم وكل من له بصيرة لا تخفي عليه حالهم كما قيل: وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟.؟. وأما من عميت بصيرته وفسدت سريريته واستعبده هواه وركن إلى دنياه ولعب بقلبه الرياسة والجاه وخدعته الدنيا بغرورها وختلته بامالها وصار لنفسه من سعيه حظ ولهواه نصيب وللشيطان منه نصيب ولا رباب منه نصيب ولمخدومه منه نصيب ولمطاعه من الخلق نصيب فإنها تتلاعب به أرادته من كل واد من أودية الهلاك وهو لا يشعر: فهذا كالا عمى يتبع قائده ولا يرى الأمر على هو عليه فكان عدم التصور وربما اعتقد.

النافع ضارا وبالعكس نسأل الله العافية وحسبنا الله ونعم الوكيل. وتأمل قوله تعالى: {أفرأيت من إتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا– بل هم أضل سبيلا} وقوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا-إن الله عليم بما يصنعون} .

_ 1 الدرر 11/49.

الرسالة الخامسة والأربعون

الرسالة الخامسة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "45" الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.. من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد طلبت مني الإجازة أن تروي عني ما رويته عن مشائخى من أهل نجد ومصر وقد أجزتك بما رويته عنهم بالا جازة كالكتب الستة والفقه في مذهب الإمام أحمد وغير ذلك ككتب التفسير ونحو ذلك وعليك في ذلك تقوى الله والتدبر والاجتهاد في معرفة المعنى وصورة المسألة والمطالعة على كل ما يرد عليك واجتهد في العدل فيما وليت عليه من أمور المسلمين في حق القريب والبعيد وفي حق من تحب وتكره فما ظهر لك معناه فقله وما لم يظهر فكله إلى عالمه واستعن بالله وتوكل عليه. واجتهد في نشر التوحيد بادلته للخاصة والعامة فإن أكثر الناس قد رغبوا عن هذا العلم الذي هو شرط لصحة كل عمل يعلمه الإنسان من صلاة وصيام وحج فلا يصح شيء من ذلك إلا بمعرفة معنى الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله: على يقين وإخلاص وصدق ومحبة وقبول وانقياد وإن يحب في هذا التوحيد ويوالي فيه ويعادي وكل هذه القيود دل عليها الكتاب والسنة فاطلب أدلتها من مظانها تجدها وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 9 بـ سنة 1283هـ1.

الرسالة السادسة والأربعون

الرسالة السادسة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "46" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر الله دارهم بالإيمان والقرآن ووفقهم للإتباع داعي الإسلام والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط وصلك الله ما يرضيه وسرنا طيبك وعافيتك جعلنا الله وإياكم من الطيبين المهتدين ومن جهة تصانيف بن منصور فلا يستنكر كما قيل: ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا ولا ضر إلا نفسه رد على الشيخ رحمه الله تعالى: في دعوته أناس متشبهين بالعلم فأبطل الله كيدهم وصار وبالا عليهم ولكن هذا الرجل فعل فعلا مافعله أحد قبله ممن كره هذا الدين والله أعلم بما وافي به الله من أصرار أو توبة نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من عرف الله حقه وجرد إخلاصه وصدقه وذلك فضله سبحانه ورحمته فلو أنت أرسلت الكتاب ما كرهنا الإشراف عليه1

_ 1 الدرر 9/231.

الرسالة السابعة والأربعون

الرسالة السابعة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "47" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم سلمه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ونحمد إليكم الله تعالى على ما أولاه من النعم وما صرف من النقم نسأل الله لنا ولكم معرفة الحق والعمل به والصبر والاستقامة والثبات على الإسلام وما ذكرت من الورقة التي رميت يقول صاحبها: إنكم جعلتم الناس بين مشرك ومبتدع وفاسق وجاهل وظالم ولا سبقكم أحد بهذا الاعتقاد فهذا ما ضر إلا نفسه وهذه الشبهة قد تلقاها الجهال في وقت ظهور شيخنا رحمه الله: وهذه من أفسد شبههم لأن الذي تدخل معه يدل على جهله وانحرافه عن دينه ومخالفته للكتاب والسنة لأن الله تعالى ذكر الكفار والمشركين من هذه الأمة وأمر بقتالهم وأباح دمائهم وأموالهم وكذلك أهل البدع هم الكثير وهم دول وأهل الفسوق كذلك وهذا الأمر ما يخفي على أبلد الناس ولكن ما حصل إلا مسبة مثل من أغار على فريق وأخذوه ولا

ابقوا له شيئا وصار هذا باعثا على رد هذه الشبهة وإن كان شيخنا قد ردها في كشف الشبهات لكن كتبنا الرد عليها على سيبل الاختصار وإلا فردها يحتمل مجلدا وصار جوابا نافعا لكل موحد وأرسله الإمام للاحساء يقرأ في المدارس والمساجد والمجالس لان ربما دخل على بعض من ينتسب إلى العلم وهم جهال وما جرى منهم فهو خير بلا شر وهو في الحقيقة نعمة ووباله على من أبداه وليس هذا بأول قد حزمها ناس من الأشرار ولا ندري وصلى الله على محمد 1

_ 1 الدرر 9/231

الرسالة الثامنة والأربعون

الرسالة الثامنة والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم "48" من عبد الرحمن بن حسن إلى الابن صالح سلمه الله تعالى آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد بلغنا أن الباز أرسلوا لابن نبهان رسالة كتبها حمد بن عتيق متضمنة للاستدلال بالآيات المحكمات في تحريم طاعتهم والركون إليهم والإشارة إلى بعض الآيات الواردة في ذلك وهو أصل من أصول الدين لا بد من معرفته والبحث عنه وبيانه للجاهل لاسيما الواقع فيه تذكيرا وتحذيرا وهذا شرع محكم لو أجتمع على دفعه من باقطارها من عالم وجاهل لما قدروا على رده بحجة أصر وبلغنا أن أبن نبهان لما أشرف على النسخة كتب اعتراضات وأصل فيها أصول لا يدري هل سبقه إليها مبتدع أم لا؟ فلو قيل لهم من هذا مذهبه ومن قال به لم يجب عن ذلك بما يصلح أن يعد جوالا فمن ذلك فيما بلغنا عنه أنه يلزم بترك الجهاد من مخالفة دين الله وطاعته جائز بجواز ترك الجهاد فتكون الموالاة للمشركين والموافقة والطاعة جائزة واللازم باطل فبطل الملزوم فعكس الحكم الذي دل عليه القرآن العزيز من أنها لا يصلح إمامة إلا بالجهاد والأصل الثاني بلغنا عنه أنه قال: لا حجة فيما قاله الصحابة رضي الله عنهم في معنى القرآن العزيز فإن لم يكن قول الصحابة حجة وهم الذين

أخذوه عن نبيهم وحضروا نزوله وعرفوا أسبابه وهم أعلم الأمة وأعدلها الحجة في التفسير فليت شعري هل عرف من هذا مذهبه من المبتدعة إلى غير ذلك ممالا حاجة إلى أن نطيل بذكره والحاصل أن المطلوب منك أخذ ما كتبه وإرساله إلي لأ نظر فيه ليطالب في كل لفظة ببرهانها وليظهر تناقضه فإن المقام مقام لا يسع تركه فلو كان قد صدره من لا يدعى المعرفة لكان حقيقا بالأعراض عنه وأما من هو مثل الذي يدعى إنه يدري ولا يدري إنه لا يدري فلا بد من بيان فيه لئلا يعتر به جاهل فإذا تبين ما فيه من الغلط والتناقض دفع الشبهة عن ضعيف البصيرة إن شاء الله تعالى. وهنا سؤال اسأله عنه واطلب جوابه منه سله عن كلمة الإسلام التي هي أصل دين الله عن معناها وعن مضمونها وعن مدلولها ومقتضاها وحقها وحقيقها ولوازمها فإن عرف ذلك تبين إنه قد عرف وأنكر فإن لم يعرف لا ينفع أحدا ولا يفيد فالزمه الجواب فهو حجة الله وعليه المرفق لبيان والاستقامة عليه والسلام 1

_ 1 الدرر/081 2 بياض في الأصل

الرسالة التاسعة والأربعين

الرسالة التاسعة والأربعين ... بسم الله الرحمن الرحيم "49" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان والأعيان من أهل إلا حساء الشيخ "عبد اللطيف بن مبارك وابنيه وأولاده عبد الله الوهيبي وعبد الله بن عبد القادر وعبد الله بن عمير وإخوانهم من أهل الدرس والمساجد وفقنا الله وإياهم لتوحيده وأهلنا وإياهم لمعرفته ومحبته وتأييده" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فمن المعلوم لديكم إن شيخنا شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" رحمه الله تعالى: وعفى عنه تبين بدعوة الناس إلى خلاص العبادة لله وحده لا شريك له وأن لا يصرف شيء لأحد سواه كما قال تعالى: {إِنَّا

أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ*أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ثم ذكر دين المشركين وأنكره تعالى في أول هذه السورة وغيرها فقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي*فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه} ِ والآيات في إخلاص العبادة وأفراد الرب تعالى بها في القرآن كثير تفيد الحصر لمن تدبرها. ولا يخفاكم أن شيخنا رحمه الله: لما تبين بهذه الدعوة الإسلامية وجد العلماء في إلا حساء وغيرها لا يعرفون التوحيد من الشرك بل قد اتخذوا الشرك في العبادة دينا فأنكروا لجهلهم بالتوحيد ومعنى لا إله إلا الله فظنوا أن لا له هو القادر على الاختراع وهذا وغيره من التوحيد الربوبية حق لكنه لا يدخل في الإسلام بدون توحيد الآلهية وهي العبادة كما قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ* وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ*بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} والذي يبين لكم أن العلماء ما عرفوا التوحيد ولا عرفوا هذا الشرك كون أرباب القبور من الأموات تعبد وتصرف الرغبات والرهبات إليها ولا عالم من علماء إلا حساء أنكر هذا بل قد صار إنكارهم لإخلاص العبدة لله وحده ومن دعي الإخلاص كفروه وبدعوه ولا نعلم أحدا من علماه إلا حساء صدع بهذا الدين وعرفه وعربه وهو دعوة الرسل كما قال بعض السلف كلمتان يسئل عنهما الأولون والآخرون "ماذا كنتم تعبدون" "وماذا أجبتم المرسلين" فالدين في هاتين الكلمتين والقرآن كله يقرر ذلك يعرفه من تدبره "فلما" إنه برق للشيخ حسين بن غنام رحمه الله: هذا الدين وإنه هو الحق الذي لا ريب فيه صنف في تقريره المصنفات وقال في بعض نظمه. نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغى لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها فعرف رحمه الله: إن فعلهم عند القبور هو دين لأرباب القبور.

المقصود إن الإمام فيصل بن تركي وفقه الله وتولاه القي الله في نفسه ما حصل من الفترة منكم وغيركم عن هذا الدين والرغبة فيه والترغيب فعزم على تجديد هذه الدعوة مخافة أن تندرس لأن الله فتح على كثير من الناس الدنيا وكثرتها والتنافس فيها هلاك لأن بها تحصل الغلة عن الدين والأعراض عن دين المرسلين وتكون المحبة لها والبغض عليها حتى إن بعض الناس يقرب الرافضى وأمثاله لمصلحة دنياه ولا نميز بين الخبيث والطيب لما أشرب من هواه الذي طبع على قلبه فأعماه وأصماه "فلن" حصل منكم وأمثالكم قيام في هذا الدين وسؤال العامة عن أصول الدين وقراءة منكم وتدريس في كتب التوحيد التي وجودها حجة عليكم فهذا هو الواجب كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} والذي هذه حاله ما يستحق إن يصير في مدرسة ومسجد يأكل وقفهما لأنه أوقع نفسه في الوعيد الشديد وغفل عن أوجب العلوم حولكم من الجهال إذا تركتم تعلم دينكم كما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهر قل قال: "فإن توليت فإن عليك أثم الاربسبين" {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ففي هذه الآية بيان التوحيد في العبادة ونفي اشرك فيها وبيان إن هذا هو الإسلام وهذا الخط لكم فيه بشارة ونذاره والسلام 1

_ 1 الدرر1 /159

الرسالة الخمسون

الرسالة الخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "50" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ القادم من بلاد الأفغان "عبد الله بن محمد"وفقه الله لحقيقة الإسلام والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فالذي يجب علينا محبة الخير لمن أراده وقصده فلعل الله أن يجعله موثرا للحق على غيره لكن نبحث مع مثلك في شيئين "الأول" إن علم المنطق.

قد حرمه كثير من المحققين وأجازه بعض العلماء لكن الصواب تحريمه لأمور"منها"إنه ليس من علوم الشريعة المحمدية بل هو من علوم اليونان وأول من أحدثه المأمون بن الرشد وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس وقبلهم خلفاء بن أمية فلا يعرف في عصرهم "الأمر الثاني" إن أئمة التابعين من الفقهاء والمفسرين والمحدثين لا يعرفون هذا العلم وهم نقلة العلم والإسلام في وقتهم أظهر العلوم النافعة عندهم أكثر وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة ومن في طبقتهم من المحدثين ومن الفقهاء والمفسرين فلا تجد في كتبهم ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم "الأمر الثالث" إن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته استمالوا المأمون على تعرف كتب اليونان فعظمت فتنة الجهمية وظهرت بدعتهم من أجل ذلك فصار ضرره أكثر من نفعه "وذكر العلماء" إنما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه والمعول إنما هو على الكتاب والسنة وما عليه السلف والأئمة وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شئ أصلا "فهذا" الذي ندين الله به "البحث الثاني" السؤال عن التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه فإن كان عند القيام من ذلك تحقيق وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها فيجب عليك أيها الرجل القادم أن من تسعى لنفسك بمعرفة الحق فهو أخونا "والحمد لله على هداية من اهتدى" والذي يرى غير ذلك فلا تحن بإخوان له والسلام وصلى الله على محمد وأله وسلم1.

_ 1 الدرر 1/165.

الرسالة الواحده والخمسون

الرسالة الواحده والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "51" من عبد الرحمن بن حسن وعلي بن حسن وإبراهيم بن سيف إلى من

يصل إليه هذا الكتاب من الأخوان رزقنا الله وإياهم الفقه في الدين والإيمان واليقين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد فأنا نوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة والسر والعلانية ونذكركم ما أنعم الله به علينا وعليكم من دين الإسلام الذي رضيه لكم دينا كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وليس الإسلام بمجرد الدعري والتلفظ بالقول وإنما معناه الإنقياد لله بالتوحيد والخضوع والإذعان له بالربوبية والآلهية دون كل ما سواه كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية وقال {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} إلى قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية وقال {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآية وهو الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول ٍإِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِي} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} وإلاله الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتعظيما وتوكلا واستعانة ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة فالتوحيد هو إفراد الله بالإلهية كما تقدم بيان ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا كما ذكر الله تعالى ذلك عن إمام الحنفاء عليه السلام بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ِلأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الآية وقوله: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} فتأمل كيف ابتدأهم بالبراءة من المشركين وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله ومدلولها لا بمجرد قوله: باللسان من غير معرفة وإذعان تضمنته كلمة الإخلاص من نفي الشرك وإثبات التوحيد.

والجاهلون من أشباه المنافقين يقولونها بألسنتهم من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها ولهذا تجد كثيرا ممن يقوله: اباللسان إذا قيل له لا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله أشمأز من هذا القول كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقال تعالى: لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ*وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} والحنيف وهو المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه وقد قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي} وتقديم المعمول يفيد الحصر كما في هذه الآية وأشباهها قال العماد بن كثير رحمه الله: في معنى قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} فيها الرد على المشركين المخالفين لملة إمام الحنفاء فإن جرد توحيد ربه فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه وخالف في ذلك وقومه كما تبرأ من أبيه كما ذكر الله ذلك عنه في قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا*فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وكيف بادرهم بذكر اعتز لهم أو ثم عطف عليه بإعتزال معبوداتهم كما في سورة الكهف {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} وهذا هو حقيقة التوحيد وقد ارشد الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يأتموا بخليله في ذلك ويتأسوا به فقال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ولهذا الأصل العظيم الذي هو ملة إبراهيم شرع الله جهاد المشركين فقال {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وفي الحديث "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له" مع هذا حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من الركون إليهم فقال {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْت َّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً*إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية وأظلم الظلم الشرك بالله كما قال تعالى.

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية ومن المعلوم أن الذين نزلت هذه الآية في التحذير عن نوليهم ليسوا من اليهود ولا من النصارى ولا ريب أن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين البراءة من كل مشرك وإظهار العداوة لهم والبغضاء وحرم على المؤمنين موالتهم وشركهم إنما هو في التأله والعبادة كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الآية وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} والآية الثانية وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ*إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} والآيات في بيان الشرك في العبادة وأنه دين المشركين وما تضمنه القرآن من الرد عليهم وبيان ضلالهم وضياع أعمالهم أكثر من أن تحصر ويكفي اللبيب الموفق لدينه بعض ما ذكرناه من الآيات المحكمات وأما من لم يعرف حقيقة الشرك لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة فكيف يعرف التوحيد ومن كان كذلك لم يكن من الإسلام في شيء وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم وأما من شرح الله صدره للإسلام وأصغى قلبه إلى ذكر الله من الآيات المحكمات في بيان التوحيد المتضمن لخلع الأنداد التي تعبد من دون الله والبراءة منها ومن عابديها عرف دين المرسلين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أومتبوع أو مطاع وكلما ازداد العبد تدبرا لما ذكره الله تعالى في كتابه من أنواع العبادة التي يحبها الله من عبده ويرضاها عرف أن من صرف شيئا منها لغير الله فقد أشرك كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية ويجمع أنواع العبادة تعريفها بأنها كلما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

إذا فهمتم ذلك وعقلتموه علمتم أن من المصائب في الدين ما يقع اليوم من كثير ممن يدعي الإسلام مع هؤلاء الذين يأتونهم من أهل الشمال وهم يعلمون أن الأوثان التي تعبد وتقصد بأنواع العبادة موجودة في بلادهم وإن الشرك يقع عندهم من الأقوال والأعمال ولا يحصل منهم نفرة ولا كراهة له مثل هؤلاء الذين لا يعرف منهم أنهم عرفوا ما بعث الله به رسوله من توحيد ولا أنكروا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله بل الواقع منهم إكرامهم وإعظامهم بل زوجوهم نساءهم فأي موالاة أعظم من هذا وأي ركون أبين من هذا أين العداوة لهم والبغضاء؟ هل كان ذلك الذي شرع الله وأوجبه على عباده خاصا بأناس كانوا فبانوا والناس بعد أولئك القرون قد صلحوا أم كان الشرك1.2..

_ 1 آخر ما وجد. 2 الدرر2/126.

الرسالة الثانية والخمسون

الرسالة الثانية والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "52" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان من أهل القصيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "بعد" اعلموا وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع والعمل به تفهمون أن الله سبحانه من على أهل نجد بتوحيده بالعبادة وترك عبادة ما سواه وهذه نعمة عظيمة خص الله أهل نجد بالقيام فيها من الخاصة على العامة لكن لمن عرف قدرها والغفلة ذمها الله في كتابه وذكر أنها صفة أهل النار تعوذ بالله من النار بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} وهو القرآن ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها إلا من القرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ولا يصح إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة من نفي الشرك في العبادة والبراءة منه وممن فعله ومعاداته وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له والموالاة في ذلك فمن الآيات التي بين الله تعالى فيها هذه الكلمة قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ

ِلأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} وهي لا إله إلا الله وقد افتتح قوله: بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما ولم يستثن إلا الذي فطره وهو الله تعالى الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة يتعذر حصرها كقوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} والكلمة هي لا إله إلا الله بالاجماع ففسرها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي نكون فيها سواء علما وعملا وقبولا وانقيادا فقال {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} فنفي ما نفته لا إله إلا الله بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} وأثبت ما أثبته لا إله إلا الله بقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} وقال {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فهذا أعظم أمر أمر الله به عباده وخلقهم له ففي قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا} نفي الشرك الذي نفته لا إله الا الله وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ} فهذا هو الذي أمر به صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إليه وهو إخلاص العبادة وتخليصها من الشرك قولا وفعلا واعتقادا وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ودعا الناس إليه وجاهدهم عليه حق الجهاد وهذا هو حقيقة دين الإسلام كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} بين تعالى أن توحيد الألهية هو الإسلام والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد وهو أساس للملة ودعوة للمرسلين والدين كله من لوازم هذا الأصل وحقوقه وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فمن تدبر القرآن وتذكر به عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} هذا ما ننصحكم به وندعوكم إليه وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.1

_ 1 الدرر 2/129.

الرسالة الثالثة والخمسون

الرسالة الثالثة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "53" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان علي بن حمد وإخوانه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتذكرون أمر الهيتمي الذي معه الحيات ويبيع سقوة على الناس البدو والحضر يسقيهم من ريقه ويأخذ عليهم العهد ويدعي أن من سقاه من ريقه لا تلدغه الحية ولم ينكر عليه إلا عبد العزيز بن عبد الجبار جزاه الله خيرا وتذكرون أن عثمان بن منصور وكتب تابعه وقبل منه سقوته هذا تحققناه منكم ومن سيبيع الذين جاؤا من قبلكم ويذكرون إنهم توقفوا في مبدأ أمره وأهل القرايا كذلك حتى قيل منه ابن منصور وكتب معه خطابا وبعد هذا تزاحم عليه البدو والحضر الذي يشتري سقوته بدراهم والذي بعيش والذي بغنم والذي بسمن والذي حصل منهم باعه في تمير وبعد هذا قدم المجمعة وطردوه. وخط عبد العزيز بن الجبار أشرفنا عليه وذكر كلام العلماء وإنكارهم على من فعل هذا وأخذ الحيات وإن هذه أحوال شيطانية تحصل بواسطة الشياطين إذا تقرب إليهم بالشرك بالله وهذا لا يوجد إلا في أجهل الناس وأبعدهم عن الله وعن دينه وعبد العزيز جزاه الله خيرا أدى الذي عليه وأما ابن منصور فالله أعلم أنه معاقب ولا ندري هل هذا كله جهل أوله مقصد شر وإلا فالذي على فطرة أو له عقل ينكر هذا بفطرته وعقله وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: في كتاب الفرقان من الأحوال الشيطانية أمورا من هذا تركنا ذكرها لئلا يطول الجواب فهذا من جنس أحوال الكهان مع الشياطين والكهانة أنواع هذا منها وفي الحديث الصحيح من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأمور الكهانة وما شابهها من الاستمتاع بالشياطين والاستكثار منهم محاها الله بما أطلع في نجد من الدعوة إلى توحيد الله وأمتدت إلى كثير من الجزائر كما محى أحوال الكهان ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسد صلى الله عليه وسلم أبواب الشرك وأحوال الجاهلية وحمى الإسلام فمن ذلك ما ثبت في حديث ابن مسعود مرفوعا أن الرقى والتمائم والتولة شرك فلم يبح من الرقى إلا ما خصه الدليل من.

الآيات القرآنية والأذكار النبوية والدعوات المعروفة بالألفاظ العربية وأما ما كان بأسماء الشياطين أو بما لا يعرف معناه فينهي عنه لهذا الحديث وحكمه التحريم فإذا كان حال الرقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه فكيف بما هو ظاهر إنه من أعمال الشياطين مع من تولى هم مثل هذا الهيتمي وأمثاله ممن شاهدنا بمصر لا يشك أحد أنه من أعمال الشيطان ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبودهم الذي يعبدون من دون الله وأكثر هذه الطرائق محشوة بالشرك والبدع وقوله: في الحديث والتولة شرك ذكر العلماء أنها تشبه السحر وما يشبه السحر فهو شرك وكذلك المتائم شرك للتعلق بها والاعتماد عليها من دون الله وفي بعضها أسماء الشياطين وما لا يعرف معناه فكل هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصحيح بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله من التوكيل على غيره ونحو ذلك وقد وقع في نفوس كثير من الجهال الذين أخذوا عن هذا الهيتمي كثير من تصديقه ما جاءهم به من هذه الضلالة وهذه فتنة وقى الله شرها وبسط القول في ذلك وذكر ما قاله العلماء له موضع آخر أن شاء الله تعالى والسلام. 1

_ 1 الدرر 2/205

الرسالة الرابعة والخمسون

الرسالة الرابعة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "54" من عبد الرحمن بن حسن إلى جناب الأخ إبراهيم بن محمود سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركات "وبعد" فهذا جواب سؤال المسئلة الأول عن أناس يجتمعون ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم. "فالجواب" أن هذا مشروعا وإنما المشروع الصلاة وقراءة القرآن قبل دخول الإمام فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة وجب الانصات للخطبة كما في الحديث "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" وأما تقدم الخطيب في المسجد يصلى ويقرأ قبل الخطبة والصلاة فلا بأس به لكن ينبغي أن يكون في ناحية يراه المأمومون إذا خرج ألبهم للخطبة.

وأما صلاة الجمعة قبل الزوال فهو وقت لها عند الإمام أحمد رحمه الله: وخالفه بعض الأئمة وقال: وقتها بعد الزوال فتأخيرها إلى الزوال خروجا خلاف العلماء لكن هذا القول الثاني مجمع عليه. كذلك الأمراض الحادثة وقع مثلها في وقت الصحابة رضي الله عنهم فلم بفتوا فيها ولو كان خيرا سبقونا إليه. وأما جعل الذهب في الجنبية والسيف وفي خاتم رجل فلا يجوز إلا الفضة وأما الذهب فلا. وأما صاحب السفينة وقوله: سلفني فلا يجعله من الأجرة ويقدمها عليه جاز. وأما كفارة اليمين فيطعم عشرة مساكين قدرها العلماء لكل مسكين مد من البر والمد وزن ثلاثين ريالا فلكل مسكين مد من البر والمد وزن ثلاثين ريالا فإن كان شعيرا فمدان وكذلك التمر. وأما قوله: إذا حلف وقال وعهد الله فهو كقوله: والله. وأما الحج فمن أخذها ليحج صح وأما إذا حج ليأخذ فلا يصح1 كذلك ما يصح له أن يوكل غيره لا في بلد الميت ولا في غيرها فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت فهذا لا يصح أيضا. وقولك من يأخذ الحجة لا شتياقه إلى البيت ومشاعر الحج وللعمل الصالح لما فيه من زيادة الفضل فهذا هو الذي يصح نيابته كما تقدم فإن كان قصده التوصل إلى البيت فلواجب لقصده ذلك. وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج وواجبات وسنن فثوابه له وأما الأركان والواجبات والسنن فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالا من عمان لصاحب له في نجد فلا يجوز لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة. وسلم لنا على إخوانك وعبد اللطيف وإخوانه والإمام وأولاده والأخوان بخير وينهون السلام. حرر سنة 1292.

_ 1 المجموعة 4/427.

الرسالة الخامسة والخمسون

الرسالة الخامسة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "55" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم محمد آل عمر السليم سلمه الله تعالى من كل آفة وآمنه من كل مخافة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط وصلك الله بما يرضيه ويحمد إليك الله تعالى على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين ونعمة الله عليكم عظيمة حيث أقامكم في ناحية أهلها جهال بالتوحيد ماله عندهم قدر ولا قيمة وجعلكم تدعون إليه وتبينونه وتحملون الناس عليه وجعل لكم أصحاب قابلين هذه الدعوة ومحبينها ومعادين فيها وموالين فيها ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة واحمدوا الله سبحانه وتعالى وتبرءوا من الحول والقوة وانسبوا النعمة إلى ربكم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: - لما ذكر القلب وصف القلب الحي بقوله: أن يكون مدركا للحق مربدا له مؤثرا له على غيره والكتاب وصل وشرعنا نقرأ فيه ووجدناه صحيحا ولله الحمد موافق ولو ثمنه غالي كل ثمن يساق فيه ليس بكثير. وسلم لنا على الوالد ومحمد وجميع الأخوان بالتخصيص والتنصيص ومن لدينا الإمام وتركي ومحمد وعبد اللطيف وإسماعيل وجميع العيال بخير ويبلغون السلام وأنت سالم والسلام وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم خطه سنة 1284 ونقلته من خطه وعليه ختمه. غرة ربيع أول سنة 13451

_ 1 الدرر 4/428.

الرسالة السادسة والخمسون

الرسالة السادسة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "56" من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن غمره الله بأنعمه وزاده من فواضل جوده وكرمه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فالخط وصل به الإنس والسرور حصل حيث أنبأ عن حال الأخ جعلها الله حالا مرضية وبالتوفيق مرعية وحيث سألت عني فأحمد الله إليك وأنا بخير وعافية جعلنا الله وإياكم من الشاكرين والأحوال من فضل الله جميلة نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا ويغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا وأن يمن على الجميع بالهدى والسداد والفوز بالرضوان يوم المعاد إنه هو الكريم الجواد اللطيف بالعباد. ويا أخي مر علينا في شرح الزاد في معنى قوله: في الاستفتاح "ولا إله غيرك" أي لا يستحق أن يعبد غيرك وهو يؤيد ما قد قلته لك من ان المقدر في كلمة الاخلاص إذا قال الموحد لا إله إلا الله أي لا إله حق إلا الله والعامل في هذا المقدر "لا" على أنه خبرها في قول الأخفش: وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه "لا" وإنما عمل فيه المبتدأ هو "لا" مع اسمها فإن "لا" مع اسمها في محل رفع على الابتداء. والمقصود أن المقدر "حق" ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان. وأبلغ محمد بن مانع ومن بحضرتك من الطلبة والأخوان والجماعة السلام. ومن لدينا العيال وخواص إخوانكم بخير وينهون السلام وأنت سالم والسلام.

الرسالة السابعة والخمسون

الرسالة السابعة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم "57" من عبد الرحمن بن حسن إلى من يراه من الأخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد" طلبنا أخوكم سعد بن كسران الفائدة في اصل الدين فأجبناه فأحسن ما نجد في بيان أصل الدين الآيات المحكمات. فتدبر ما قص الله

تعالى عن رسله وما دعوا إليه من بعثوا إليهم يتبين لك أصل الدين وما ينافيه من الشرك. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في كتاب التوحيد على اختصاره كثيرا من الأدلة المعرفة بأصل الدين كذلك كتاب كشف الشبهات وأربع القواعد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله. فأوصيك بالاشتغال والمطالعة في كتبه وتأمل ما فيها من الأدلة. وأما المحرمة التي أخضرها حرير فلا شك في أنها حرام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير فقال: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة" وقال "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" وفي الصحيح أنه أخذ حريرا فجعله في يمينه وذهبا في يساره ثم قال: "إن هذا حرام على ذكور أمتي". وفي حديث عمر نهى عن الحرير ألا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى فما زاد على الأربع إلأصابع حرام سواء كان مفرقا أو مجتمعا كما عليه جماهير العلماء وهو ظاهر الأحاديث وفيها يدل على المنع منه وإن لم يكن مجموعا فاجتنب هذه المحرمة فإنها محرمة فإن كان عندك شيء منها تبعها على مسلم بعها في غير بلاد المسلمين. هذا وبلغ سلامنا الأخوان وكاتبه وخواص الأخوان يسلمون عليكم وانتم سالمون والسلام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الرسالة الثامنة والخمسون

الرسالة الثامنة والخمسون ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين "58" الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه ووده.

من عبد الرحمن بن حسن إلى أخيه راشد بن مطر سلمه الله تعالى وزاده علما وإيمانا وتوفيقا وإذعانا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: "وبعد" فقد وصل إلى خطك وسرنا ما أشعر به من حسن الحال من معرفة الإسلام ومحبته وقبوله فتلك النعمة التي لا أشرف منها ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فرحمته الإسلام والإيمان وقيل القرآن وهما متلازمان ورحمته أن جعلكم من أهله كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية والرافضة والمعتزلة عليكم فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث قد ابتلى بهم أهل السنة والجماعة قديما وحديثا وتشعبت هذه الأهواء شعبا وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه ناله منهم عناء ومشقة فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان حكمة بالغة ليمتحن حزبه بحربه كما جرى للرسل من أعدائهم في الدين قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ} ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه وليتخلف من ليس كذلك ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . وبعد الإبتلاء واللامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} الآية, فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل وجبت عداوته والبراءة منه ومفارقته بالقلب والبدن. وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله تعالى على عرشه فهو كقول الجهمية سواء بسواء. وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة كقول الله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبعة مواضع كقوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}

{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الآيتين. وكل هذه الآيات نصوص في علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه على ما يليق بجلاله بلا تكييف. وقو هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالي قد وصفوه بما يوصف به المعدوم وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود القائم على كل نفس بما كسبت. وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة كقوله: في حديث الرقية "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك" الحديث. وجوهرة السنوسي ذكر فيها مذهب الأشاعرة وأكثره مذهب الجهمية المعطلة لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهنمية ومذهبهم أن القرآن عبارة عن كلام الله لا أنه كلامه الذي تكلم به وخالفوا الكتاب والسنة وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} والأدلة على هذا كثيرة جدا. والأشعري له كتب في إثبات الصفات وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء تبرأ منه في كتابيه "الإبانة. والمقالات" وغيرهما وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة وعدم إيمانهم بآيات الصفات. وأما من جحد توحيد الآلهة ودعا غير الله لا شك في كفره وقد كفره القرآن والسنوسي وأمثاله من المتأخرين ليس من السلف ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع وهؤلاء ليسوا من أهل العلم والخلف فيهم من أنحرف عن السنة إلى البدع. وفيهم

من تمسك بالسنة فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة. وأما ابن حجر ألهيتني فهو من متأخري الشافعية وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات ففي كلامه حق وباطل. وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي فليس من السنة وقد أنكره شيخ الإسلام لعدم وروده على هذا الوجه. وأما أهل البدع فيجب هجرهم والإنكار عليهم إذا ابتليتم بهم وتأملوا مصنفات الشيخ وتأملوا كلامه رحمه الله تعالى: تجدوا فيه البيان والفرقان. وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي التي تمسكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه. وأما الأفغانيون الذين جاؤا فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج معهم غلو وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو وأخبر عن الخوارج "أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" وأمر بقتلهم. وسبب غلوهم الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة فأداهم جهلهم وقصورهم في الفهم إلى أن كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحاب فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم وهؤلاء الناس الذين هاجروا إلينا وبايعونا ما ندري عن حقيقة أمرهم. وعلى كل حال إذا عملتم بالتوحيد وأنكرتم الشرك والضلال وفارقتم أهل البدع فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال بل يجب عليكم الدعوة إلى الله وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته فإنه رحمه الله تعالى: بين وحق وأنتم سالمون والسلام1

_ 1 المجموعة 4/369

§1/1