المطرب من أشعار أهل المغرب

ابن دحية

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي شرفنا باللسان العربي، وجعلنا من أمة سيد ولد آدم محمد النبي الأُمي، الداعي إلى طريق الواضح الجلي. صلى الله عليه وعلى آله المُتَسَنِّمين من الفضل صهوة المنصب العلي، ما ولي الأرض بعد وسم الوسمى سلطان الولي، ونم بأسرار الرياض نسيم شذاها الذكي. أما بعد. فإن مولانا سلطان العرب والعجم. عز الملوك العصرية؛ ومالك فضيلتي السيف والقلم. وملك اليمن والشام والديار المصرية؛ أبا المعالي أبا المظفر محمداً الكامل، الكامل الأوصاف، لا برحت ببقائه الممالك مهتزة الأعطاف. معتزة الأطراف؛ تقدم إلى أمره المطاع، الواجب له على من الجهد غاية ما يستطاع؛ أن أجمع له ما أجتمع عندي من الأناشيد، التي رويتها عن شعراء الأندلس وسائر المغرب بأقرب الأسانيد. فجمعت منها لخدمة مقامة العالي ما يؤكل بالضمير ويشرب، ويهتز عند سماعه ويطرب؛ في الغزل والنسيب، والوصف والتشبيب؛ إلي غير ذلك من مستطرفات التشبيهات المستعذبة، ومبتكرات بدائع بدائه الخواطر المستغربة. ولمح سير ملوك المغرب وملح أخبار أدبائه، ورقيق معان كتابه وجزل ألفاظ خطبائه.

وبالجملة فقد نثلت في هذا المجموع كنانة محفوظاتي في المعارف الأديبة، ولم أخله من أخير ذخائر ما التقطته من أفواه مشايخي من مشكل علمي الغريب والعربية. إلا أني لم اقصد جمع ذلك على الترتيب. ولا سلكت فيه مسلكي المعهود في التبويب والتهذيب. بل استرسلت فيه مع الخاطر على ما يجود به ويسمح، ويعن له ويسنح. فالناظر فيه يسرح في بساتين، ويمرح في ميادين؛ ويخرج من فن إلى فنون، والحديث ذو شجون.

أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي

أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي أنشدني غير واحد من شيوخي، رحمهم الله، منهم الشيخ الفقيه الأجل قاضي الجامعة الأجزل. أبو الحسن علي بن عبد الرحمن، لفضاً بمنزله بمدينة تلمسان، قال: أنشدنا الفقيه الإمام العالم أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن خلف بن موسى ابن أبي تليد الشاطبي، قال: أنشدنا الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر قال: أنشدنا مقدم شعراء الأندلس: أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي لنفسه، وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة: وليلةٍ راقبتُ فيها الَهوى ... على رقيب غيِرِ وسْنَانِ والرّاحُ ما تَنزِل عن راحَتي ... وقتاً وعن رَاحةِ نَدْمَاني

أبو عمر الجياني أحمد بن محمد بن فرج الجياني

ورب يومٍ قيظُه مُنِضجٌ ... كأنَّه أحشاءُ ظَمآن أبْرزَ في خدَّيه لي رشْحَه ... طَلاًّ على وَرد وسَوْسَان فكان في تَحليل أزْرارِه ... أقْودَ لي من ألفِ شَيطان فُتِّحت الجنّةُ من جَيبه ... فبِتُّ في دَعوة رِضوان مُروَءةٌ في الحُب تَنْهى بأنْ ... نُجاهِرَ الله بعصيان قال ذو النسبين، رضي الله عنه: لقد أحسن هذا الشاعر ما شاء من الإحسان، لا سيما في قوله تنهى بأن نجاهر الله بعصيان. أبو عمر الجياني أحمد بن محمد بن فرج الجياني ومن مليح هذا الباب، أعني الاتصاف بالعفاف، قول الأديب اللغوي النحوي، أبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجياني، صاحب كتاب الحدائق، ألفه للحكم المستنصر بالله، وعارض به كتاب الزهرة لأبي بكر محمد بن داود بن علي

الأصبهاني، إلا إن أبا بكر إنما ذكر مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائتا بيت، ليس منها باب تكرر أسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً. قال الحميدي في جذوة المقتبس له: قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد فبلغ الغاية، فآتى الكتاب فرداً في معناه. فمن قوله: بأيِّهما أناَ في الشُّكر باَدِي ... بِشُكرِ الطَّيف أم شُكْرِ الرُّقَادِ سَرى فأرَادَه أمَلي ولكنْ ... عَفَفْتُ فلم أَنَل منه مُرادي وما في النَّوم من حَرجٍ ولكن ... جريتُ من العفَاف على اعتيادي

أمة العزيز

لكن أخذه من قول المتنبي: يَرُدُّ يداً عن ثوبها وهو قَادر ... ويَعصى الَهوى في طَيفها وهو رَاقد وأنشدوني أيضاً لأبي عمر الرمادي المذكور: أحمامَةً فَوق الأراكة بَيِّني ... بحيَاة من أبكاكِ ما أبكاكِ أمّا أنا فبكيتُ من حُرَق الهوى ... وفِراقِ من أهوى أَأَنتِ كذاك أمة العزيز وأنشدني أخت جدي الشريفة الفاضلة، أمة العزيز، ابنة الشريف الأجل العالم أبي محمد العزيز ن الحسن بن الإمام العالم أبي البسام موسى بن عبد الله ابن الحسين بن جعفر الزكي بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد، سيد شباب أهل الجنة، ابن أم أبيها فاطمة الزهراء البتول، سيدة نساء أهل الجنة، صلى الله على أبيها وعليها، ورضي الله عن بعلها وبنيها: لِحاظُكُم تَجرحُنا في الحَشَى ... ولحظُنَا يجرحكُمْ في الخدودْ جُرحٌ بجرح فاجعلوا ذَا بذَا ... فما الذي أوجَبَ جرْحَ الصُّدودْ

المعتمد بن عباد

المعتمد بن عباد وأنشدونا للمعتمد على الله أبي القاسم محمد ملك إشبيلية، وابن ملكها عباد: لكِ اللهُ كم أودعت قَلبي أسهماً ... وكم لكِ ما بين الجوانح من كَلْم لحاظُكِ طولَ الدّهر حربٌ لمُهجتي ... ألا رحمةٌ تَئنيك يوماً إلى سَلْمِى ولادة وحدثني القاضي العدل أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري، بقراءتي عليه بقرطبة أم بلاد الأندلس؛ في العشر الآخر من صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال في كتاب الصلة له: ولادة بنت المستكفي بالله؛ أمير المؤمنين، محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بت الناصر عبد الرحمن بن محمد المرواني، من بني أمية بأندلسي؛ أديبة شاعرة؛ جزلة القول، حسنة الشعر؛ وكانت تخالط الشعراء وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء.

سمعت شيخنا أبا عبد الله جعفر بن محمد بن مكي رحمة الله، يصف نباهتها وفصاحتها وحرارة نادرتها وجزالة منطقها وقال لي: لم يكن لها تصاون يطابق شرفها. وذكر لي أنها أتته معزية له في أبية إذ توفي رحمه الله سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتوفيت رحمها الله يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد يوم الأربعاء لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولم تتزوج قط، وعمرت عمراً طويلاً إلى أيام المعتمد قال ذو النسبين رضي الله عنه: كانت الحسيبة ولادة في زمانها واحدة أوانها، حسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة؛ منتدى احرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفزاد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها؛ تخلط ذلك بعلو نصاب، وسمو أحساب؛ على أنها - سمح الله لي ولها، وتغمد زللي وزللها - اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل؛ بقلة مبالاتها، ومجاهرتها للذاتها. كتبت - زعموا - على عاتقي ثوبها: أَنَا واللهِ أصلُحُ للمعاليِ ... وأمشى مِشيَتِي وأتيهُ تِيهَا وأُمكُن عاشقي من صَحْن خَدّي ... وأُعطِى قُبلتي من يَشْتَهيها

وكتبت إلى ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن زيدون المخزومي القرطبي: ترقَّب إذا جنَّ الظَّلامُ زِيارتي ... فإني رأيتُ الّليلَ أكَتَم للّسِّر وبِي مِنك ما لو كان بالبَدْر ما بَدا ... وبالليل ما أدْجَى وبالنَّجم لم يَسْرِ إلى أن يقول ابن زيدون: وتبنا بليلة نجتني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور، فلما انفصلت عنها صباحا، أنشدتها ارتياحا: ودَّع الصَّبْر محٌّب ودَّعَك ... ذائِعاً من سرّه ما استودَعكْ يقَرُع الِّسَّن على أن لَم يكُن ... زادَ في تِلك الخُطَا إذ شَيَّعَك يا أخَا البدر سَنَاءً وسَنًى ... حَفِظَ الله زَماناً أطلَعك إن يطُل بَعدَك ليَلِى فلَكَم ... بِتُّ أشكُو قِصَرَ الَّليلِ مَعَك وله يتعزل فيها: يا نازحاً وضميرُ القلب مثواهُ ... أنْسَتْك دنياكَ عبداً أنت مولاهُ ألهْتك عنه فُكاهاتٌ تَلذُّ بها ... فليس يَجري ببالٍ منك ذِكراه عَلَّ اللّيالي تُبقِّيني إلى أمدٍ ... الدّهُر يعلم والأيّام معناه

حفصة بنت الحاج

وله فيها: يا قَمراً مطلعُه المغربُ ... قد ضاقَ بي في حُبِّكَ المذهب فأنَّ من أعجب مَا مَرَّ بِي ... أنَّ عَذابي فيك مُسْتَعذب ألزمْتَنْي الذّنَب الذي جئْته ... صَدقتَ فأصفح أيُّها المذنب وقال: ما بالُ خَدِّك لا يَزال مُضَرَّجا ... بدمٍ ولحظُك لا يزالُ مُرِيبَا وقال فيها: حَلَّيْتني بحُلًى أصبحت زاهية ... بها على كِّل أنثى من حُلًى عُطُلِ لله أخلاقُكِ الغُرُّ التي سُقِيَتْ ... من الفُرات فرقَّت رِقَّةَ الغَزَل أشبهِت في الشّعر من غَارَتْ بدائعه ... وأنْجَدت وغَدَتْ من أحسَنِ المُثل من كانَ وَالدهُ العضْبَ المهَّنَد لَم ... يَلْد من النَّسل غيَر الْبِيِض والأسَل حفصة بنت الحاج من بشرات غرناطة، رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر. أنشدني لها غير واحد من أهل غرناطة: ثَنائي على الثَّنَايا لأنَّني ... أقولُ على عِلْمٍ وأنِطقُ عن خُبْرِ وأُنْصفُها لا أكذبُ الله أنَّني ... رَشَفْتُ بها ريقاً ألذ من الخمر

ابنة زياد المؤدب

ابنة زياد المؤدب من أهل مدينة وادي آش، أنشدني الأديب أبو عبد الله محمد بن عيل الهمذاني قال، أنشدتني لنفسها: أباحَ الدّمعُ أسرارِي بوادي ... به للحسن آثارٌ بَوادِي ومن بين الظِّبَاء مَهاةُ رمْلٍ ... تبدَّت لي وقد مَلَكَتْ قِيَادي إذا سَدَلَت ذَوَائِبَها عليْها ... رأيتَ الصُّبح أشْرقَ في الدَّآدي تخالُ البدر مَاتَ له خَليلٌ ... فمن حُزْن تَسربَلَ بالحِداد لها لحظٌ تُرَقِّدُه لأمر ... وذاك الأمُر يَمنَعُني رُقَادِي الدآدي: ثلاث ليال من آخر الشهر، هكذا قال الإثبات من الغويين. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: يقال لليوم الذي يشك فيه من الشهر الحرام: دأداء.

الحكم المستنصر

الحكم المستنصر وأنشدونا الخليفة الأندلسي، الحكم المستنصر بالله صاحب الفتوحات العظيمة، والمعرفة بالعلوم الحديثة والقديمة، كتب به إلى مصر: ألسنَا بني مَروان كيفَ تبدَّلَتْ ... بنا الدَّاُر أو دَارت علينا الدَّوائُر إذا وُلد المولودُ منّا تهلَّلَت ... له الأرضُ وأهتَّزت إليه المنَابِرُ وتوفي يوم السبت لثلاث خلون من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، وقد انقرض عقبه. المعتضد بن عباد وأنشدونا للسلطان المعتضد بالله أبي عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش ابن عباد اللخمي. والمعتضد هذا هو قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة؛ لم يثبت له قائم ولا حصيد ولا سلم من سيفه قريب ولا بعيد: شَربنا وجفنُ الليل يَغسلُ كُحلَه ... بماء صباح والنسيْم رقيقُ معَّتقة صفراَء أمّا نِجارُها ... فضخٌم وأما جسمُها فدقيق

وقال يخاطب الملك أبا الجيش مجاهد بن عبد الله، صاحب الجزائر ومدينة دانية. ويقال إنها من أبيات لكاتبه ذي المعارف والفنون، أبي الوليد ابن زيدون: خِلّيِ أبَا الجيش هل يُقْضَي اللقاءُ لَنا ... فَيَشْتَفِى منك طرفٌ أنتَ ناظِرُهُ شطَّ المزارُ بنا والدّار دانيةٌ ... يا حبّذَا الفألُ لو صحَّت زواجُره قال ذو النسبين، رضي الله عنه: قوله والدار دانية من مليح التورية، وهي ضرب من صنعة البديع، ودانية: مدينة: مدينة كبيرة بشرق الأندلس، وهي مشتقة من: دنا يدنو: إذا قرب. وأنشدني شيخ الإتقان، وواحد أسانيد الفرقان، أبو العباس أحمد ابن عبد الرحمن اليافعي - ويافع بلياء المثناة باثنتين من أسفل، قبيلة من رعين - قال: أنشدني الأستاذ المقري: أبو داود سليمان بن يحيى، قال: أنشدنا الأستاذ الأعلى أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري القيرواني المكفوف

قال: دخلت على السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن المعتضد بالله، حين مات أبوه، فأنشدته ارتجالاً: مات عبّادٌ ولكن ... بَقَيِ الفرعُ الكريمُ فكأنّ الميْتَ حَيٌّ ... غير أنَّ الضَّادَ مِيم ونسبه: محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو ابن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم. وعطاف ونعيم هما الداخلان بالأندلس: مِن بني المنذرين وهو اِنتَساٌب ... زادَ في فخره بنو عّبادِ فئةٌ لم تَلدِ سواها المَعَالي ... والمعالي قليلَةُ الأولاد وهذا النسب يطرد اطراد الشآبيب، ويتسق اتساق الأنابيب، إلى مركز الدائرة من لخم، وإلى قنص بن معد من ابنه عجم. ولد رحمه الله بمدينة باجة، سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولي سنة إحدى وستين، وخلع سنة أربع وثمانين، وتوفي رحمه الله في شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وخلع عن ثمانمائة امرأة، أمهات أولاد، جواري متعة، وإماء تصرف. وملك من البلاد بين مدن وحصون مائتي مسور، وإحدى

وثلاثين مسورا. وقد ذكرها الوزير أبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي، الداني - يعرف بابن اللبانة - في كتاب نظم السلوك. وأنشدونا للمعتمد، وقد ناوله بعض نسائه كأس بلور مترعا شرابا، ولمع البرق فارتاعت، فقال بديهة: رِيعت من البرِق وفي كفِّها ... برقٌ من القهوة لمَّاعُ يا ليت شعري وهي شَمسُ الضّحى ... كيف من الأنوارِ تَرْتَاعُ وأمر الأديب المصيب أبا محمد عبد لجليل بن وهبون بإجازة البيت الأول، فقال: ولن تَرى أعجب من أنسٍ ... من مثل ما يُمْسِكُ يَرْتَاعُ وهذا من نوادر الخواطر، وليس ينكر على هذا الشاعر. فمن جودة شعره ترتيب اللفظ فيه مع جودة معانيه، أولها المطابقة بلفظتي الأنس والارتياع، وتشبيه لمعان البرق يلمعان الخمر. وقال المعتمد في السلطان عباد أبيه، من قصيدة كبير يمدحه فيه: سميدعٌ يهب الآلافَ، مبتدئا ... ويستقلُّ عطاياه ويعتذرُ له يدٌ كلُّ جبّار يقبِّلها ... لولا نَدَاها لقلنا إنَّها الحجرُ

يريد الحجر الأسود الذي يجب تقبيله على جميع الطائفين بالمسجد الحرام، على ما ثبت عن رسول الله عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام. والسميدع، بفتح السين في لغة العرب: السيد. وفضل يده على الحجر بما خصت به من الندى، وكثرة الجدي، ففضل يد الممدوح على الحجر الأسود وهذا من باب غلو الشعراء وإيغالهم، فيما ينمقون من زخارف أقوالهم؛ فشتان بين يديه وبين الحجر الأسود في الممات والمحيا، لأنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه في الدنيا، وينال بذلك عند الله جل جلاله المنزلة العليا. وقال أيضاً في أبيه يسترضيه: مولايَ أشكو إِليك داءً ... أصبح قلبي به قَريحَا سُخطك قد زادني سَقَاما ... فأبعث إلىّ الرّضا مَسيحا فقوله مسيحاً من القوافي التي يتحدى بها، لصعوبتها على من راماه وأدخلها هو في بابها، إذ كان المسيح بن مريم يشفي من العلل وأصابها. وأدخل عليه يوماً بعض فتيانه باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه: قَد زارنا النَّرجسُ الذَّكيُّ ... وحانَ من يومنا العَشِىُّ

ونحنُ في مجلسٍ أنيقٍ ... وقد ظمِئَنا وثَّم رِيُّ ولي نديمٌ غدا سمِّي ... يا ليتَه ساعد السَّمىُّ فأجابه ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار: لبّيك لبّيك من مُنادٍ ... له النَّدى الرّحبُ والنَّدِيُّ ها أنا بالباب عبدُ قِنٍ ... قِبْلَتُه وجهُك السَّنِيُّ شرَّفه والداهُ باسمٍ ... شرَّفته أنتَ والنَّبيُّ وكتب أيضاً إلى أبي بكر بن عمار: لمّا نأَيتَ نأى الكرى عن ناظري ... ورَدَدْتَه لما انْصَرَفْتَ عليه طلب البشيرُ بشارةً يُجزي بها ... فرهبتُ قلبي واعتذرت إليه أنا استحسن قول أبي فراس لسيف الدولة: نفسي فداؤكَ قد بَعَثْ ... تُ بِعُهْدتِي بيد الرّسول وجعلتُ ما ملكت يَدي ... صلَة المبشِّر بالمقبول وقال ابن عباد: تظنّ بنا أمُّ الرّبيع سآمةً ... ألا غفَر الرّحمنُ ذَنْباً تُواقِعُهْ أأهجرُ ظبياً في فؤادي كناسُه ... وبَدرَ تمامٍ في جُفوني مَطالعه إذاً هَجرتْ كفِّى نوالاً تُفيضه ... على مُعنفيها أو عدوّاً تُقَارِعه

وقال: أكْثَرْتَ هَجري غير أنّك ربّما ... عطفْتك أحيانا علّى أمورُ فكأنّما زمنُ التَّهاجُر بيننا ... ليلٌ وساعاتُ الوصالِ بدُور وقال: حكَّمَه في مُهجتي حُسْنُه ... فظلَّ لا يَعدِلُ في حُكْمه أفْدِيه ما ينفعكُّ لي ظالما ... يا رَبّ لا يُجْزَي على ظُلْمِه وله في جارية تسمى بوداد، وقد سافر عنها إلى تفقد بعض البلاد: اشرِب الكأسَ في وِدَادِ ودادِكْ ... وتأنَّس بذكرها في انفِراِدكْ قَمرٌ غاب عن جُفونك مَرْآ ... هُ وسُكناهُ في سَواِد فُؤادك وقال من أبيات في فتاة يوم وداعها، عند تفطر كبده وانصداعها: ولمّا التقينا للودَاعِ غُدَيَّةً ... وقد خَفَقَت في ساحة القصب راياتُ بكينَا دماً حتى كأنّ عُيونَنَا ... لجرى الدّموع الحُمر منها جراحاتُ من هذا الباب قول الآخر: بكيت دماً حتّى لقد قال قائلٌ ... أهذا الفتى من جفن عينيه يرعفُ

ومن شعره الحسن وغرضه المستحسن: ورُبَّ ساقٍ مُهفهف غَنِجٍ ... قام ليَسقى فجاء بالعَجَبِ أبْدى لنا من لطيف حِكمته ... في جامِد الماء ذائَب الذَّهب قال ذو النسبين، رضي الله عنه: أكثر الشعراء من وصفها بذوب الجامد، ووصف كأسها بجامد الذائب، فمن ذلك: لاَح وفاحت روائحُ النّدِ ... مُهْتصُر الخصر أهيف القدّ وكم سقاني واللّيلُ معتكٌر ... في جامدِ الماء ذائبَ الْوَرْدِ وقال الصنوبري: أقولُ والكأسُ على فِيه قَد ... صَّوَبها كالكوب الصَّائِبِ وجسمُها من ذهب جامدٍ ... وروحُها من ذهبٍ ذائب ذَا كوكٌب يغُرب في كَوكبٍ ... ويْليِ من الطَّالِع لاَ الغَارِب ومما يقارب هذا الباب ما يروى من قول كسرى: ليست أدري، هل التفاح خمر جامد أم الخمر تفاح ذائب؟ أخذه الخليع، فقال: الرّاحُ تفّاحٌ جرى ذائِباً ... كذلك التُّفَّاح راٌح جَمدْ فأشرب على جامده ذَوْبَه ... ولا تَدعْ لذَّةَ يوم لِغَد

وكل هذا من قول الشريف عبد الله بن المعتز العباسي: وخمّارةٍ من بنات المجو ... سِ تَرى الدَّنَّ في بيتها شائلاَ وزنَّا لها ذهباً جامدا ... فكالت لنا ذهبا سَائلا وقال الأستاذ أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري: أقول لَه وقد حيَّا بكأسٍ ... لَها مِنْ مِسْك ريَّاُه خِتامُ أمن خَدَّيك تُعصر قال كَّلا ... متى عُصرت من الوَرِد المُدام حدثني بهذا الشيخ الإتقان، وواحد أئمة الفرقان، الفقيه الأستاذ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن، سبط الأستاذ المعزول، قال: حدثني الفقيه الأستاذ أبو داود سليمان بن يحيى، قال: سمعت الفقيه الأستاذ أبا الحسن الحصري يقول. قال ذو النسين رضى الله عنه: وسمعت الوزير الفقيه المحدث الكاتب العدل أبا عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، قال: سمعت الوزير الكاتب أبا نصر الفتح بن عبيد الله القيسي - هو ابن خاقان - يقول: أخبرني أبو بكر عيسى الداني، المعروف بابن اللبانة، أنه استدعاه المعتمد ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه؛ فسقاه الساقي وحياه، وسفر له

السلطان المتوكل على الله

الأنس عن مونق محياه؛ فقام للمعتمد مادحا، وعلى دوحة تلك النعماء صادحا؛ فاستجاد قوله، وأفاض عليه طوله؛ وصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه. فلما حل بمنزلة رسوله بقطيع وكأس من بلار، قد أترعا بصرف العقار، ومعهما: جاءتك ليلاً في شِيَات نَهار ... من نُورها وغِلالَةِ البُلاَّرِ كالمُشتري قد لفَّ من مِرِّيخه ... إذ لَفَّه في الماء جذوةَ نَار لَطْفَ الجمودُ لذا وذا فتألفَا ... لم يلق ضِدٌّ ضِدَّه بِنفار يتحيّر الرّاءُون في نَعْتيهما ... أصفاءُ ماءٍ أو صفاء دراري السلطان المتوكل على الله أبو محمد عمر، ابن السلطان عالم ملوك الأندلس المظفر أبي بكر محمد بن عبد الله بن مسملة. وكان أعلمهم بالنسب وأيام العرب، وأجمعهم لغرائب اللغات والأخبار ومحاسن الأشعار. وألف تأليفا بديعا في خمسين مجلدا، ينسب إليه، وقد

طالعته. وتوفي رحمه الله بحضرة ملكة مدينة بطليوس في منتصف شهر رمضان المعظم سنة ستين وأربعمائة، وهو ابن سبعين عاماً. حدثني الوزير الكبير الحكيم الفقيه الأديب النحرير، أبو بكر بن زهر قال: حدثنا عظيم دولتهم ووزير مملكتهم العالم الأوحد أبو محمد عبد المجيد بن عبد اله بن عبدون القرشي الفهري قال: سمعت السلطان المظفر رحمه الله يقول. فذكر تواليفه كلها دقها وجلها. وأما ولده السلطان المتوكل على الله، فله نثر تسري فيه رقة النسيم، ونظم يزري بالدر النظيم، مع جود وكرم وخيم؛ كما قال فيه ابن حنظلة البطليوسي: زعم الناسُ أنّ حاتِمَ طيٍ ... أوّلٌ في النّدَى وأنتَ الثّانيِ كذَب النّاس ليس ذاك صحيحاً ... هو مَرْعًى وليس كالسَّعْدان وأما عدله فشاع في بلاده وذاع، وملأ الأصقاع والبقاع. فمن قوله يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم، أحد ندمائه ونجوم سمائه: أقْبِلْ أبَا طالٍب إلينا ... واسقُط سُقوطَ النَّدى عَلَيْنَا فنحنُ عقدٌ بغير وُسْطَى ... ما لم تكن حاضِراً لدَينا

وحدثني الوزير الكاتب المحدث الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم ابن عُميرة، قال: سمعت الوزير الكاتب أبا نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان يقول: أخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون أنه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام، السامية الذُرى والأعلام؛ التي لا يروعها صرف، ولا يفرعها طرف؛ لأنها متوعرة المراقي، معثرة للراقي؛ متمكنة الرواسي والقواعد، على ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد؛ قد أطلت على خمائلها إطلال العروس من منصتها، واقتطعت في الجو أكثر من حصتها، فمروا ببلش قطر سالت به جداوله، واختالت فيه خمائله؛ فما يجول الطرف منه إلا في حديقة، أو بقعة أنيقة. فتلقاهم ابن مُقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده، وأورى لهم بالمبرة زنده؛ وقدم طعاماً، واعتقد قبوله مناً وإنعاماً. وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيباً لا يبرح، وعين المتوكل حياءً منه لا تجول ولا تمرح. فخرج أبو محمد وقد أبرمه القاضي بتثقيله، وحرمه راحة رواحه ومقيله؛ فلقى ابن جيرون منتظراً له، وقد أعد لحلوله منزله؛ فصار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نواره، وخجلت خدود ورده من زواره؛ وأبدت صدور أباريقه أسرارها، وضمت عليه المحاسن أزرارها. ولما حضر له وقت الأُنس وحينه، وأرجت له رياحينه؛ وجه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه، ويزول موحشه

لا أنيسه؛ فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه، قد لازمه كأنه غريمه؛ فما انفصل، حتى ظن أن عارض الليل قد نصل. فلما علم أبو محمد بانفصاله بعث للمتوكل قطيع خمر وطبق ورد وكتب معهما: إليكَها فاجْتَلِهَا مُنيرةً ... وقد خَبا حتَّى الشِّهابُ الثّاقبُ وَاقفةً بالبابِ لم يُؤْذن لها ... إلا وقد كادَ ينام الحاجبُ فبعضُها من المَخَاف جَاِمدٌ ... وبعضُها من الحياء ذائُب فقلبها، وكتب إليه: قَد وصلت تلك الّتي زَفَفْتَها ... بكراً وقد شابَتْ لها ذوائبُ فَهُبَّ حتى نستردَّ ذاهِباً ... من أُنسِنا إن اسْتُرِدَّ ذاهبُ فركب غليه، ونقل ما كان معه في المجالس، وباتا ليلتهما لا يرميان السهر، ولا يشيمان برقا إلا الكأس والزهر. قال ذو النسبين رضي الله عنه: وقد أخذ الآن هذه البلاد ابن الريق اللعين، وحان لها يوم شر كما كان أحد يظن أنه يحين، فتملكت شنترين والأشبونة لما خاف أهلهما من القتل ورأوا أن السر دونه؛ لكثرة من جاءهم في البر والبحر، وقعود المسلمين عن الحماية لهم والنصر؛ حتى ملك الكفار معاقلهم الممتنعة، وحصونهم المرتفعة.

وأبو نصر الفتح المتقدم الذكر، لاقيت جماعة من أصحابه، وحدثوني عنه بتصانيفه وعجائبه. وكان رحمان الله وإياه، مخلوع العذار في دنياه؛ ولكن كلامه في تواليفه كالسحر الحلال، والماء الزلال. قتل بحاً في مسكنه بفندق لبيب من حضرة مراكش، صدر سنة تسع وعشرين وخمسمائة. أخبرني بذلك الوزير الكاتب العالم أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، وأن الذي أشار بقلته أمير المسلمين وناصر الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين. وكان صاحب بطليوس أبو بكر بن عبد الله بن مسلمة؛ ذو الملك الأكبر، المنعوت بالسلطان المظفر؛ وبنوه ملوك الأعيان، وأعين ملوك الزمان. ولكبر قدرهم في الملوك، وكونهم فيهم كالواسطة في السلوك؛ نزلت عليهم ملوك بلاد الأندلس من المسلمين، وهو عام الزلاقة سنة تسع وسبعين. فقام ولده وولى عهده المتوكل على الله أبو محمد بن الملك المظفر، المخدوم بسعدة في إقامتهم بجميع ما يحتاجونه، ووجدوا عنده فوق ما يرجونه؛ وفي جملتهم أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، المتسمى بأمير المسلمين، مع جماعة لا تحصى من الملثمين؛ لأنه وصل من مراكش مستدعي لقتال العدو المتحرك إلى البلاد، برغبة الملك المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن عباد؛ لأنه جاز البحر إليه، فأنعم بالإجابة عليه، لما أراد الله من

إخراجهم من الملك على يديه. ثم لما كانت المقاتلة قتل فيها من شجعان النصارى ثلاثون ألف فارس ومن الرجالة ما لا يحصى، وبعيد أن يستقصي؛ وفر أذفونش ليلاً وهو يدعو حرباً وويلا. وفي ذلك يقول أبو محمد عبد الجليل بن وهبون: نضَا أدرعه واجتاب ليلاً ... يودّ لو أنَّه في الطّول عَامُ ستسألك النّساء ولا رجالٌ ... فحدّث ما وراءك يا عصام فلما قضيت غزاتهم، وعادت صقورهم وبزاتهم؛ طمع الملثمون في بلاد بني المظفر، فحولوهم من العيش الأخضر، إلى الموت الأحمر؛ وحاصروهم وصابروهم. ودخلوا المدينة بالسيف، وحكموا فيهم أيدي الحيف، ودخلوها عليهم قهرا وقسراً، وقتلوا الملكين الجليلين ولدى المتوكل صبراً، وقدموهما قبله لرغبته لهم في تقديمها بين يديه لينال أجرهما ويكونا في ميزانه. فقدما عليه، وجعلوهما منه بمرأى العين، وقام بعدهما كي يصلي ركعتين فطعنوه بالرماح؛ وقد اختلط كلامه في صلاته، حتى أتوا على نفسه ووفاته؛ وكذلك غلبوا على ملوك الأندلس الباقين، ودخلوا إشبيلية قهراً ذات الأنهار والبساتين؛ وأخرجوا المعتمد على الله من قصره، لى كلبه وأسره، وفي ذلك يقول في أبيات: كَلْبي أما تَعرفُني مُسلما ... أبيت أن تُشفِق أو ترحماَ

وحملوه إلى أقصى العدوة إلى المدينة أغمات، فبقي فقيرا عديما أسيرا إلى أن مات. ثم سلط الله على الملثمين جماعة الموحدين، فأزالوا الملك من أيديهم، وتحكموا في أنفسهم وساحاتهم وناديهم، فصلبوا أمير المسلمين أبا محمد تاشفين بحصن العباد خارج مدينة وهران، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان. ثم دخلوا مدينة مراكش سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بالحسام المسلول، وتركوا القصور خاوية خالية كالطول؛ وحكموا في أعناق سلاطين الملثمين طباة السيوف وأسنة الرماح، وضربوا عنق ولي عهد أمير المسلمين إسحاق بن علي بن يوسف ابن تاشفين بحد الصفاح؛ وجرت أنهار الدم في سكك المدينة، وأزال الله جلت قدرته عنهم ملاءة السكينة. ولما غلبهم الموحدون ودخلوها، واستولوا على جميع الديار وتركوها؛ بيعت الحرة الجميلة بدجاجة، حتى تعلم أن ليس لهم بها من حاجة؛ وذلك بالمغرب يوم مشهود، علمه الغائبون والشهود. وقد رثى ملوك بني المظفر الوزير العالم المستبحر في جميع الفنون، أبو محمد عبد المجيد بن عبد الله بن عبدون بقصيدته الفريدة المتضمنة للتواريخ والأنساب، والحكم والآداب، وهي مما يعتبر بها أولو الألباب: الدَّهُر يفجَع بعد العين بالأثرِ ... فما البكاءُ على الأشباح والصّور أنهاكَ أنهكَ لا آلُوك موعظةً ... عن نومةٍ بين نابِ اللّيث والظُّفُر

فالدّهر حربٌ وإن أبدي مسالمّةً ... والبيضُ والسودُ مثلُ البيِض والسُّمُر ولا هوادةَ بين الرّأس تأخُذُه ... أيْدي الضِّرابِ وبين الصّارِمِ الذّكر فلا يغرنّك من دنياك نومتُها ... فما صناعةُ عينيها سِوَى السَّهر مَا للّيالي أقالَ الله عْثَرتَنا ... من اللَّيالي وخَانَتْها يَدُ الغِيرَ في كلّ حينٍ لها في كلّ جارحة ... منّا جراٌح وإن زَاغَت عن النّظر تّسُرُّ بالشّيء لكن كي تَغُرَّ به ... كالأيْمِ ثَار إلى الجانِي من الزَّهر كم دوله وليَت بالنّصر خدمتَها ... لم تُبق منها وسَلْ دنياك عن خَبر هوت بَدارا وفلَّت غَرب قَاتِلِه ... وكان عَضْباً على الأملاك ذا أثُر واستَرجَعت من بني ساسان ما وهَبَت ... ولم تدع لبني يُونَان من أثَر وأتْبَعت أختَها طسْماً وعادَ على ... عادٍ وجُرهَم مِنها ناقضُ المِرَر وما أقَالت ذَوي الهيئات من يَمن ... ولا أجارَت ذوي الغَايات من مُضر ومزّقت سَبأً في كلِّ قاصيٍة ... فما التقَى رائٌح منهم بمُبتكر

وأنْفَذَت في كُليب حكمها ورمَت ... مُهَلْهلاً بين سمعِ الأرض والبَصر ودوَّخَت آلَ ذُبيان وإخوتَهم ... عَبْسا؛ وعَضَّت بني بدر على النَّهر ولم تَرُدَّ على الضّلّيل صِحَّتَه ... ولا ثَنَت أسداً عن رَبِّها حُجُر وألحقَت بِعَديٍّ في العراق على ... يَدِ ابنْه الأحمر العينين والشَّعَر وأهلكت أبرويزاً بابنه ورمت ... بيزَدجردَ إلى مَروٍ فلم يُحِر وبلَّغت يَزْدَجِردَ الصّينَ واخْتزلَت ... عنه سِوىَ الفُرس جمَع التُّرك والخَزَر ولم تَكُفَّ مواضي رُسْتمٍ وقَنَا ... ذِي حَاجِبٍ عنه سَعداً في ابْنَةِ الغَير يومَ القَليب بنُو بدر فَنُوا وسَعى ... قَليبُ بدرٍ بمن فيه إلى سَقَر ومزَّقت جعفراً بالبيضِ واختلست ... من غِيله حمزَة الظَّلاَّمَ للجَزَر وأشْرفَت بخُبيب فوق فارعةٍ ... وألْصَقَت طَلحةَ الفياضَ بالعفَر وخَضَّبَتْ شَيبَ عُثْمانٍ دَماً وخَطت ... إلى الزُّبَير ولم تَستَحْيِ من عُمر

ولا رَعت لأبي اليَقْظان صُحبَتَه ... ولم تُزَوِّده إلاَّ الضَّيْح في الغُمَر وأجْزَرَت سيف أشْقاها أبَا حسنٍ ... وأمْكَنَتْ من حُسين راحَتَي شَمِر وليتَها إذ فَدَت عمراً بخَارِجَةٍ ... فَدت عَليًّا بمن شاَءت من البَشر وفي ابنِ هِند وفي ابن المصطفى حَسَنٍ ... أتت بمُذْهِلة الألبابِ والفِكَر فبعضُها قائلٌ: ما اغتاله أحدٌ ... وبعضُها ساكتٌ لم يُؤْت من حَصَر وأرَدْت ابنَ زيادٍ بالحُسين فلم ... يَبُؤْ بِشِسْعٍ له قد طاحَ أو ظُفر وعَمَّمت بالظُّبا فَوْدَىْ أبِي أنٍس ... ولم تَرْدَّ الّردى عنه قَنا زُفَر وأنْزلَت مُصْعَباً من رأس شاهِقةٍ ... كانت به مُهجة المختار في وَزَر ولم تُراقب مكان ابن الزُّيبر ولا ... رَعَت عياذَتَه بالرُّكن والحَجر وأعمْلَت في لَطيم الجنّ حيلتَها ... واستوثَقت لأبي الذِّبَّان ذي البَخر ولم تَدع لأبي الذِّبَّان قائمةً ... ليس اللّطُيم لها عمرٌو بمُنتصر وأحْرقَت شلْو زَيدٍ بعد ما احترقت ... عليه وجداً قلوبُ الآي والسّور

وأظْفَرت بالوَليد بنِ اليزيد ولم ... تُبق الخلافةَ بين الكأسِ والوَتَر حبَابةٌ حبُّ رمّان أتيحَ لها ... وأحمرٌ قطَّرته نفحةُ القُطر ولم تَعُدْ قُضُبَ السَّفَّاحِ نابية ... عن رَأْس مروانَ أو أشياعه الفُجُر وأسْبلت دمعةَ الرُّوح الأمين على ... دمٍ بفَخّ لآل المصطفى هَدَر وأشْرقت جعفراً والفضلُ ينظره ... والشَيخ يحيى بكأس الصّاب والصّبر وأخْفَرت في الأمينِ العهدَ وانتدَبت ... لجعَفرٍ بابنه والأعبُدِ الغُدُر ولا وَفَت بعهود المستعين ولا ... بما تأكّد للمعتّز من مِرَر وأوثقت في عراها كلّ مُعتمد ... وأشْرقت بقذاها كلَّ مُقْتدر وروَّعَت كلَّ مأمُون ومؤتمن ... وأسلَمت كلَّ منصور ومنتصر وأعثرت آل عبَّاسٍ - لعًالهم ... بِذَيلِ ريَّاَء من بيضٍ ومن سُمُر

بني المظفَّر والأيّامُ ما برحت ... مراحلاً والوَرى منها على سَفَر سُحقاً ليومكم يوماً ولا حملت ... بمثله ليَلٌة في غَابِر العمر من للأسّرة أو من للأعنّة أو ... من للأسنّة يهديها إلى الثُّغَر من للظُّبا وعوالى قد عُقدت ... أطرافُ ألْسُنها بالعِّي والحَصر وطُرِّزَتْ بالمنايَا السُّود بيضُهم ... أعجْب بذاك وما منها سوى الذِّكر من لليَراعة أو من للبراعة أو ... من للسّماحة أو للنّفع والضّرر أو دفع كارثة أو دع رَادِفَةٍ ... أو قمع حَادثة تُعيي على القَدر ويحَ السَّماحِ وويح البأس لو سلماَ ... واحسرةَ الدّين والدّنيا على عمر سَقَت ثَرى الفضل والعبّاسِ هاميةٌ ... تُعزي إليهم سمَاحاً لاَ إلى المَطرِ ثلاثةٌ ما ارتَقى النَّسران حيثُ رَقُوا ... وكلُّ ما طَار من نَسْر ولم يَطِر ثلاثة ما رأى العصران مثلهُم ... فضلاً ولو عُزِّزَا بالشمس والقَمر ثلاثة كذوِات الدَّهر مُنْذُ نأوْا ... عنّي مضي الدَّهر لم يربع ولم يَحُر ومرَّ من كلّ شيء فيه أطيُبه ... حتى التمُّتع بالآصالِ والبُكرَ أين الجلال الذي غَضَّت مهابَتُه ... قلوبَنا وعيونَ الأنْجُمِ الزُّهُر أين الإباءُ الذي أرسَوْا قواعِدَه ... على دَعائَم من عزّ ومن ظَفَر

أين الوفاءُ الذي أصْفَوا شرائعه ... فلم يَرِد أحدٌ منها على كَدَر كانوا رَواسي أرض الله مُنذ نَأوْا ... عنها استَطارَت بمن فيه ولم تَقِر كانُوا مصابيحها فيها فمنذ خَبوا ... هَوَى الخليقُة ياللهِ في شَرَر كانوا شَجَى الدهر فاستهوتهمُ خُدَعٌ ... منه بأحلام عادٍ في خُطا الخطر ويلُ امّه من طَلوِب الثأر مُدرِكة ... منهم بأسْدٍ سواهم في الوغى صُبُر مَن لي ومن لهُم إن أظلمت نُوَبٌ ... ولم يكن ليلُها يُفضي إلى سَحَر من لي ومن لهُم إن عطلِّت سُنن ... وأخْفَيِتْ ألسن الآثار والسّير من لي ومن لهُم إن أطبقَت محنٌ ... ولم يكن ورْدها يدعو إلى صَدَر على الفضائل إلا الصّبَر بعدَهم ... سلامُ مُرتقب للأِجرِ مُنْتَظر يرجُو عَسى، وله في أختها أمل ... والدّهُر ذو عُقَب شَتَّى وذُو غِيَر قَّرطت آذانَ من فيها بفاضِحَةٍ ... علَى الحسَانِ حصَا الياقوت والدُّرَر سيارةٍ في أقاصي الأرض قاطعةٍ ... شَقَاشِقاً هَدرَت في البَدْو والحَضَر مُطاعِة الأمر في الألباب قاضيةٍ ... من المسامع ما لم يُقْض من وطَر

السلطان المعتصم بالله

السلطان المعتصم بالله أبو يحيى محمد بن أبي الأحوص معن بن أبي يحيى محمد بن صمادح التجيبي، منسوب إلى امرأة اسمها تجيب، بنت ثوبان بن سليم بن رهاء، بالراء، من مذحج، إليها ينسبون. وهي أم عدي وسعد، ابني أشرس بن كندة، واسمه ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد اختلف الناس في ضبط هذا الحرف، بعد اتفاقهم أنه نسب إلى هذه المرأة، فقالوا: إنه بضم التاء، وبه نطقت العرب. وكثير من الأدباء ولمحدثين يفتحون التاء. وقال أبو مروان بن سراج: الفتح وحده. وزعم أن التاء أصلية وليست للمضارعة، ولذلك أثبته صاحب كتاب العين في حرف التاء، إلا أنه قال: تجيب وتجوب، قبيلة وقال أبو محمد بن السيد النحوي: أنا أذهب إلى صحة الوجهين، مع كون التاء مزيدة، من جاب تجوب وتجيب. وبنو صمادح، بينت العلوم الفائقة، والآداب الرائقة. يروي عن أبيه أبي الأحوص معن، عن أبيه أبي يحيى محمد بن صمادح مختصر غريب تفسير القرآن للطبري. حدثني به الفقيه المحدث الصالح أبو محمد

عبد الله بن محمد بن عبيد اله، قال: حدثني الفقيه المحدث الإمام أبو عبد الله محمد بن حسين يعرف بأحد عشر - قال: حدثنا الفقيه الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن أسود الغساني عن السلطان أبي يحيى محمد بن أبي الأحوص معن، عن أبيه أبي يحيى محمد بن صمادح، مختصره. وقال مطر الوراق في قوله جل وعلا: وإنه لذكر لك ولقومك: هو أن الرجل: حدثني أبي عن جدي. وقال ابن أبي الحسن البصري: حدثوا عن الأشراف، فإنهم لا يرضون أن يدنسوا شرفهم بالكذب ولا بالخيانة. والأشراف في اللغة الأعيان من أي القبائل كانوا. وأنشدنا غير واحد بالسند المذكور آنفا عن الفقيه أبي إسحاق بن أسود وغيره، قالوا: أنشدنا السلطان المعتصم لنفسه: يا مَن بجسمي لبعده سَقٌم ... ما مِنه غيُر الدُّنُوِّ يَبرِيني بين جفوني والنَّوم مُعَتَركٌ ... تَصُغُر عنه حروب صفِّين إن كان صرفُ الزمان أبعدني ... عنْك فطيفُ الخيال يُدنيني

وله رحمه الله بركة ماء بناها في الصماد حية، وقد حضر في مجلسه أعيان الوزراء، ونبهاء الشعراء؛ وهو قاعد على موضع يتداخل الماء فيه، ويتلوى في نواحيه، فقال: أنظْر إلى حُسن هذا الماء في صَبَبه ... كأَنّه أرْقَمٌ قد جدَّ في هَربِهْ فاستبدع الكل قوله، فخلع عليهم ومنحهم فضله وطوله - والأرقم: من أسماء الحية - وله أيضاً فيها: كأَنَّ انسياب الماء في صفحاتها ... حُسامٌ ثقيلُ المتن سُلَّ من الغِمْدِ تفورُ فوَّارةٌ مستديرةٌ ... لها مُقلٌة زرقاُء موصولَةُ السّهد أدَرْنَا بها كأساً كأنَّ حَبابها ... حَبابُ سَقيط الطَّلِّ في ورَق الورد لها في غَدير الماء لألآءُ جَمْرَةٍ ... حكت نَار إبراهيم في اللون والبْرَدْ وله: الرّوضُ يَشرب والأنوار تنسكبُ ... والشَّمس تظهر أحياناً وتحتجبُ وللبَهار على أفنانه زَهَرٌ ... كأنّه فضَّةٌ من فوقها ذَهَب قال ذو النسبين رضي الله عنه: أهل الأندلس يسمون النرجس البهار واسمه في اللغة العبهر.

ودخلا الأريب أبو الوليد النحلي مدينة المرية، يرفل في أثواب سود زرية، فكتب إلى السلطان: أيا مَن لا يُضاف إليه ثانٍ ... ومَن ورث العُلاَ باباَ فَبَابَا أيجمُل أن تكون سَوادَ عَيني ... وأبْصر دون أبْغي حِجابا ويمشِي الناس كلهم حَمَاماً ... وأمشِي بينَهم وحْدِي غُرابا فبعث إليه من المال جملة وافرة، ومن البياض خلعة فاخرة، وكتب له رقعة فيها بيتان: وردتَ وللَّيل البهيم مطارفٌ ... عليكَ وهَذيِ للصَّباح بُرودُ وأنتَ لدينَا ما بقيتَ مُقَرَّبٌ ... وعيشُك سلسال الجِماَمَ بَرود السلسال: الصافي العذب، يقال: ماء زلال وسلسال، إذا كان صافياً عذباً. والجمام، بكسر الجيم: جمع جم وجمة، وهو الماء المجتمع. وأنشدونا لابنه الأمير أبي جعفر رحمهما الله: كتبتُ وقَلبي ذُو اشتياقٍ ووحشةٍ ... ولو أنَّه يستطيعُ مَّر يُسلّمُ جعلتُ سوادَ العين فيه مدادَه ... وأبيضَه طِرساً وأقبلت ألثُم فخيّل لي أنِّي أقبّل موضعاً ... يُصافحه ذاك البنانُ المكرّم

الملك الراضي بالله أبو خالد

قال ذو النسبين رضي الله عنه: وهذا عندي من قول أبي إسحاق الصابي: لما وضَعت صحيفتي ... في بَطن كفّ رسوِلهَا قبّلْتُها لَتَّمَّسها ... يُمناك عند وُصُولها وتَودّ عَينيَ أنّها ... قُرنت ببعض فُصولها حتى تَرى من وجهك ال ... ميمون غايةَ سُولِها الملك الراضي بالله أبو خالد يزيد ابن المعتمد على الله بن أبي القاسم عباد، وقد مرت عليه هوادج وقباب، فيها له أخدان وأحباب؛ وجهوا على وجه الهدية إلى بر العدوة، وقد كان يلم بهن في صباه إلمام قريش بدار الندوة؛ فقال ارتجالا، وأنشد سحراً حلالا: مروا بنا أصُلاً من غير ميعادِ ... فأوقَدُوا نار شوقِي أيَّ إِيقَادِ وأذكرونِيَ أياّماً لهَوتُ بِهم ... فيهَا ففازوا بإِيثَاري وإحْمادي لا غَرو أن زَادَ في وجْدي مرورُهم ... فرؤيةُ الماء تُذكي غُلَّة الصادِي صدى يصدي، فهو صاد وصيد، إذا عطش. ورجل صديان: عطشان. الغلة، واللواب، بفتح اللام؛ واللوح، بضم اللام؛ والجواد، بضم الجيم بلا همز: كل ذلك من أسماء العطش. وقد جمعناها في غير موضع.

الحاجب ذو الرياستين

الحاجب ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين، ورث الملك كابراً عن كابر، من ملوك من أسلافه، أرباب أسرة ومنابر. وذو الرياستين زاد عليهم بأدب أبهى من الروض الريض، ومنظوم بديع من القريض. فمن شعره قوله يخاطب ذا الوزارتين أبا بكر محمد بن عمار، وكان ضيفاً عنده: ضَماٌن على الأيّام أن أبلغَ المُنى ... إذا كنت في وُدِّي مُسِراًّ ومُعْلِناَ فلو تسألُ الأياّمُ من هو مفردٌ ... بِوُدّ ابن عمَّارٍ لقُلتُ لها أنَا فإن حالَت الأيامُ بيني وبينه ... فكيف يَطيبُ العيشُ أو يحسنُ المنى فلم يجبه ابن عمار في يومه، لأنه كان يعاني قوله ويعلله، ويرويه ولا يرتجله. وأتى به في اليوم الثاني بأعذب الألفاظ وأرق المعاني، وهو: هَصَرْتَ لي الآمالَ طيبةَ الجنَى ... وسوَّغْتَ لي الحوالَ مُقبلةَ الدُّنَا وألبَسَتنِي النُّعمَى أغضَّ من النَّدى ... وأجْمَلَ من وشْى الرَّبيع وأحْسَنَا وكم ليلةٍ أحظَيْتَنِي بحضورها ... فبتُّ سميراً للَّسناءِ وللسَّنا أعَلِّلُ نَفسي بالمكارِم والعُلاَ ... وأُذْنِي وكَفِّى بالغِنَاءِ وبِالغِنَى سأقْرِن بالتَّمويلِ ذكركَ كَّلما ... تعاوَرَتِ الأسماءُ غيركَ والكُنَى

لأوسَعتنَي قولاً وطولاً كلاهما ... يُطوِّق أعناقاً ويُخرس ألْسُنا وشَرَّفتني من قطعةِ الرَّوض بالتَّي ... تَنَاثر فيها الطّبعُ ورداً وسُوسنا تروقُ بجيدِ المُلك مُرصَّعا ... وتُزْهَى على عِطفَيه وشياً مُفَنَّنا فدُم هكذاَ يا فارس الدَّست والوغى ... لتَطعن طوراً بالكلام وبالقَنا قوله للسناء وللسنا. السناء، بالمد: المجد والشرف. والسنا، مقصور: الضوء، قال الله العظيم: (يَكَادُ سَنَا بَرقِه يَذْهَبُ بالأبْصَار). وقوله وأذني وكفى بالغناء وبالغنى الغناء، بالمد: الصوت. قاله اللغويون، فيما أنشدنيه اللغوي النحوي القاضي العدل أبو الحسن علي بن أحمد الأميي: غِناءُ الصَّوت ممدودٌ ... بما يستجلبُ الطّربُ وكلُّ غنى فمقصورٌ ... كذا نطقت به العربُ والغنى: ضد الفقر، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الغنى عن كثرة العرض: بفتح العين والراء، يعني كثرة المال والمتاع، وسمى عرضا، لأنه عارض يعرض وقتاً، ثم يزول ويفنى. ومنه قوله أيضاً: خير الصدقة ما كان عن ظهر غني. قيل معناه: الصدقة بالفضل عن قوت عيالهم وحاجتهم. ويقويه قول الله عز وجل: (ويسألونَك ماذا يُنفقون قل العفو). قيل: الفضل عن أهلك.

وقوله: تناثر فيها الطبع ورداً وسوسنا بضم السين، وهو لحن، وليس له في العربية وزن، والصواب: سوسن، بفتح السين، على وزن فوعل بفتح الفاء، وكذلك روشن وأمثاله، نحو جوهر وجورب وكوثر وتولب؛ إذ ما سمع في أمثلة العرب فوعل، إلا جؤذر في قول بعضهم. والدست: المرتبة العالية. ومن أعيان شعراء المغرب الراسخين في الأدب، المتمسكين منه بأمتن سبب، أبو الطيب أحمد بن الحسين بن محمد المهدوي المسيلي له مقطعات غزل أحسن من قطع الرياض، وأغزل من العيون المراض. وكان شعره مدوناً بالثغر الأعلى بمدينة سر قسطة. أنفرد بروايته عالمها وحسيبها الفقيه العالم النحوي الأصولي المتكلم أبو جعفر محمد بن حكم بن باق السرقسطي - وجده الأعلى محمد بن باق، ملك مدينة سالم - استوطن آخراً مدينة فاس، ولى أحكام القضاء بها. وكان محمود الحال، حسن الخلق، قولاً بالحق إلى أن توفي في العشر الأواخر من شعبان سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، أجاز له الفقيه الإمام القاضي أبو الوليد الباجي

اللغوي النحوي الإمام أبو القاسم، وأبو محمد عبد الدائم بن مروان بن خير القيرواني، نزيل مدينة المرية. روى بالبصرة عن أبي الحسن محمد بن الحسين، سنة ست وعشرين وأربعمائة، عن هلال بن المحسن. ولقي المعري سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وقرأ عليه، وسمع بالأندلس على جماعة. وحمل الإمام أبو جعفر بن باق ببلده سرقسطة عن الفقيه القاضي بها أبي محمد بن فورتش، وأبي عمر أحمد بن مروان المالكي، قرأ عليه كتب أبي المعالي. وروى عن أبي سعيد محمد بن سعد الزعيمي البغدادي، طرأ على الأندلس وهو مسن. وروى عن الشريف المرتضى؛ أخي الشريف الرضي؛ القصيدة التي أولها: يا ظبية البان ترعى في خمائله مع جميع ما رواه عن الشريف وعن غيره. وروى شعر أبي العرب الصقلي. وكان أبو العرب قد سكن سرقسطة ومدح المستعين بن هود بشعر كثير. وروي أيضاً عن أبي جعفر البطروشي، والوزير أبي الفوارس بن عاصم، والوزير أبي عبيد البكري، وغيرهم.

أقرأَ أبو جعفر هذا بمدينة فاس كتاب سيبويه وكتاب الإيضاح، وتكلم على أعيان مسائله، وعلى جملة أبياته وشواهده، وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي. وكان في النحو والأصول لا يشق غباره، ولا يخاض تياره. وله تأليف في علم الجدل. حدثني عنه جماعة من شيوخي رحمهم الله فأولهم، وأفضلهم قاضي الجماعة، ومعدن البراعة؛ المتفنن في جميع العلوم، والمحسن إلى كل مجهول ومعلوم. الفقيه الزناتي الذي فاق متقدم الفقهاء الأوائل، وأعياسحبان وائل؛ أبو موسى عيسى ابن عمران بن دانال الزناتي المكناسي الوردميشي، من ولد الملك أبي عمران موسى ابن أبي العافية. وبنو أبي العافية هم الذين كانوا ملكوا المغرب الأقصى، وفضائله اكثر من أن تحصى، فكم حلى رحمه الله من جيد معطال، وعطر من متفال، وانهض من ثفال، وجدد من شرف بال، لم يخطر للدهر على بال: تالله لا يأتي الزّمانُ بمثله ... إنَّ الزّمان بمثله لبخيلٌ لقي جماعة من العلماء، منهم الفقيه أبو يوسف الزناتي الملقب بالرحى، لحفظه. وكان يحفظ دواوين، منها: المدونة، وكتاب الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار. فقرأ الفقه عليه، وقرأ موطأ مالك بن أنس من رواية يحيى بن يحيى على قاضي

القضاة الفقيه أبي محمد عبد الله بن خليفة الأزدي، يعرف بابن أبي عرجون، وقرأ النحو على الأستاذ أبي حسن بن عبد الله القيسي، ثم رحل إلى مدينة فاس، فلقي الفقيه النحوي الأصولي المتكلم أب جعفر محمد بن حكم بن باق المذكور آنفا، ولقي بأغرناطة النحوي الكبير أبا بكر محمد بن مسعود الخشني، يعرف بابي ركب. ثم رحل إلى المرية، فلقي إمام أهل عصره، ورزين جميع الأمصار مع مصره، أبا القاسم أحمد بن محمد التميمي سبط ابن ورد، وسمعه يقول: لم ألق بالأندلس مثل ابن ورد، ولا أحاشي من الأقوام من أحد. واكن يفضله على ابن العربي، وابن عياض، وغيرهما. قرأت عليه مدة مديدة، ولزمته أعواماً عديدة، وسألته أن يجيز لي، ولأخي الحافظ أبي عمرو جميع ما رواه وجمعه، وتكلم فيه من العلم أو وضعه، فأجابني إلى ذلك، وقال لي: لم أفعله لأحد قبلك، ممن سلك هذه المسالك، وإنما اشتغلت عن كثرة الرواية بالدرس والدراية.

وسألته عن مولده، فقال: ولدت في شعبان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وتوفي رضي الله عنه شهيداً من داء البطن ليلة الخميس آخر الليل. ودفن ظهر يوم الخمسي الخامس والعشرين من شعبان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وهو على أحكامه وإعزازه وإكرامه. فمن شعر الأديب أبي الطيب أحمد بن الحسين بسندنا المتقدم إليه، رحمة الله علينا وعليه، فمن ذلكم في النسيب: متى طلَعت تلك الأهلَّة في الخُمْر ... ونابَتْ لنا العيونُ عن الخَمْرِ ومن علَّم الأعجاز تَستعجزُ النّقا ... وهذى الثنايا الزُّهْر تَسطو على الدُّرّ شُموسٌ أبت إلا الشِّماس سجّييةً ... وأقمارُ حسن في الهوى قَمَرتْ صَبْري تذكّرتُ، والتّذكارُ من مَرَ الأسى ... ليَالينَا بين الرُّصَافِة والجسر لياليَ لا دَمعي يُبدَّد بالَّنأْي ... ولا سِنَتَي مما تُرَوَّع بالهجر ومنها في صفة القصيدة: ودونكَما غرَّاَء قامت لخاطري ... وإن لم تَلُمْه حين قَصَّر بالعُذر خَفَضْتُ بها الأشعارَ حتَّى كأنها ... وإن رفَعتني الآن من أحرُف الجرّ قال ذو النسبين، رضي الله عنه: وذهذ الرائية من شعره عند العلماء بنقد الشعر وسره، أحسن من رائية علي بن الجهم التي أولها: عيون المها بين الرُّصافة والجسر ... جَلَبْن الهوى من حيثُ أدري ولا أدري

ومن أسماء بقر الوحش: الأَي مثل الفتى، والأنثى، لاة، مثل شاة، وتسمى المهاة أيضاً، والجمع: المها، والعيناء؛ والجمع: عين. ومما يمازح برقته النسيم امتزاج الماء بالراح، ويدخل من أبواب خروق المسامع على القلوب بلا استئذان فترتاح به الأرواح، قول هذا الشاعر من أبيات: خطرتُ على وادي العُذيب بأدمُعي ... فما جُزته إلا وأكَثُرُه دُم وقد شَرِبَتْ منه كرامُ جيادنا ... فكادَت بأسرارِ الهَوى تَتكّلم سرى البرقُ من نَعمانَ يُخبر أنّه ... سيَشْقى بكم من كان بالأمس يَنْعَم رحلتم، فهذا الليلُ فيكم فلم يعد ... إلىَّ سواه فيكُم إذ رحلتم وما أنا صَبٌّ النّجوم وإنّما ... تُخَيِّلُ لي الآفاق أنكُم هم لقد أحسن ما شاء، غير أن قوله: خطرت على وادي العذيب. . . . . مأخوذ من قول الشاعر، وهو مهيار: عَبَرْت على الوادي فحَّرمت ماءه ... وكيف يحلّ الماءُ أكثره دَمُ عبرت: أي أسلت عبرتي فيه، فوري. والمحفوظ عند أهل اللغة: استعبر الرجل، إذا بكى، والذي رويناه في شعر مهيار بكيت

والمليح البديع من هذه القطعة قوله: سَرى البرقُ من نَعمان يُخبر أنّه ... سَيشفى بكم من كان بالأمس يَنْعَم فيه من صنعة البديع المقابلة، وهي مقابلة سيشفى بينعم. ومن مليحها قوله: رحلتم فذها اللّيل فيكُم فلم يعد ... إلىّ سِواهُ فيكُم إذ رحلّتُمُ وهو من أبيات المعاني التي يسأل عنها، ويفهم معناه من قوله: فلم يعد إلى سواه، لأنه لا يعود سوى الليل الماضي، وهو الليل المستقبل، إلا بعد صبح يفصل بينهما، ولا فاصل عنده بعد فرقة أحبابه؛ لأن الأيام جميعها عنده صارت مظلمة لبعد أحبابه؛ فما دامت الفرقة مستمرة، كانت الظلمة مستقرة. ومن بدائع هذا الشاعر قوله: سلَّم إذ مرَّ ولي هَّمةٌ ... تَسْتَنْزل الأقمارَ والأنجمَا تَظْمَا ولا تَروي ولو أنني ... ألثمتها وجْنَتَه والفَما فقلت للنّفس وقد أزْمعت ... أن ترد السُّلوان خوف الظَّما هذا كثيرٌ فأشكري وأحمَدي ... فكيف لو مَرَّ وما سلَّما

أبو عبد الله ابن قاضي ميله

قوله في البيت الأول: سلم إذ مر، ثم قوله في آخر البيات: فكيف لو مر وما سلما من الصنف المسمى في صناعة البديع بالتبديل. إلا أنه فرق بينهما في أبيات، وقد جمع ذلك بعض أهل مصره، من شعراء عصره، فقال: أصبحتُ صباً دَنِفا مُغرمَا ... أشكُو جوى الحبّ وأبكي دَمَا هذا وقد سلَّم إذْ مَرَّ بي ... فكيف لَوْ مَرَّ وما سَلَّما ومن أفاضل شعراء المغرب المعروفين بالإجادة، الموصوفين بالإحسان والإفادة: أبو عبد الله ابن قاضي ميله اشعر من دب بميلة ودرج، ودخل بها وخرج. فمن رقيق شعره قوله: قلتُ للحسناء لما أبْصَرت ... دمع عَيْنِي قد جَرى فيما جَرى لا تَظنّي الدّمع ما عَايَنْتِه ... أنا من يُهِدي إليك الخَبَرا جالَ في خدَّيك من ماء الصَّبى ... رونقٌ يَسْبي سَناَه البشرا تأخذُ الأجفانُ منه رِيهَّا ... فإذا جازَ التَناهِي قَطَرا

ومن قوله: رحَلَ الرّكُب والمشوقُ مقيمُ ... كيف يَسْري معَ الصِّحاح السَّقُيمِ وبتلك القبابِ رِيمٌ تولىَّ ... وضُلوعي كهفٌ له ورَقيم أمُّه اّلشمسُ وهو أعجب شيء ... فمتى أنْتَجْته وهي عقيم أقعدتْني حوادثُ الدّهر عنه ... هكَذا الدّهْرُ مُقعِدٌ ومقيم وله في حمامة فوق أيكة تصدح، في فحمة الليل والبرق يقدح: ومُرِنَّةٍ قدحت زنَاد صبابتي ... والبرقُ يقدَح في الظّلامِ شَرارُهُ ورقاءُ تأرق مُقلتي لبكائها ... ليلاً إذا ما هَوَّمتْ سُمَّاره إيهٍ بعيشك يا حمامةُ خَبِّري ... كيف الكثيبُ ورَنده وعَرَاره أترنَّحت بجوانحي أثَلاثُه ... أم أيْنَعت بمدامِعي أزهاره وله في المعاني: ورقاءُ ضافيةُ الجناح تَستَّرت ... عنَّا بغُصْنَيْ بانَةٍ وأرَاكِ غنّت فأذكرِت المشوقَ ببثّها ... وتمايلت فعل الصّحيح الشّاكي وعجبتُ من ضّدين في أوصافها ... خَلْع الخليع ولِبسة النُّسَّاك وله في المعنى: ومُرنّةٍ والدّجنُ ينسج فوقَها ... بُردين من نَوءٍ وطلٍّ باكِ مالت على طيِّ الجَناح وربّما ... جَعلت أريكتَها قضَيب أراكِ

محمد بن حبيب المهدوي القلانسي

وممن نسج في الرقة على منواله، وضرب في بديع المعاني والألفاظ على مثاله: محمد بن حبيب المهدوي القلانسي فقال: بدورُ وجوهٍ في ليالي ذوائب ... لَعبنْ بلبّي بين تلكَ الملاعب تَبرقَعْنَ من خَوفِ العيون وإنّما ... طَلَعن شموساً تحت غُرِ السّحائب وفوَّقْن من تحت أسهما ... من اللحظ ترمي عن قِسّيِ الحواجب ومن الموصوفين بجزالة الألفاظ ورقة المعاني: يعمر بن ميمون الخولاني فمن قوله: نُبِّئْتُ أنّك مُولٍ لا تكّلُمني ... فبتُّ خائفَ هجر منك قد حَدَثاَ وما يفي النَّذرَ من آلي بمعصيةٍ ... هِذى مقالةُ من بالحقّ قد بُعِثَا فاحْنث فِحْنُثك وصْلى وهو يعتقُني ... والعتقُ غايةُ تكفيرٍ لمن حَنَثا وإن تحرَّجتَ من إثم وخفتَ له ... فأعظَمُ الإثم قتلى في الهوى عَبثا

قوله: نبئت أنك مول: أخبرت أنك حالف. يقال آلي الرجل فهو مؤل أليه، بتشديد الياء. والألية: اليمين، يقال: آليت وائتليت وتأليّت، أليّة وألُوةً، بفتح الهمزة؛ وألوةَّ، بضمها، وإلوّة، بكسرها، كل ذلك لغات فيها. ولم يعرف الأصمعي، كسر الهمزة في أوله. وفي الصحيحين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلي من نسائه شهرا. وقوله: وما يفي النّذَر من آلَي بمعصيةٍ ... هذى مقالُة من بالحّق قد بَعثا صدق وبر، ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه. وملح بقوله: فأحنث فحنثك وصلى، وبالبيت الذي بعده وكأنهما ينظران إلى البيت الذي أنشده أبو الفرج الأصبهاني في كتبا الأغاني له: إذا قّبل الإنسان آخر تُشتهي ... ثنايَاُه لم يأثَمْ وكان له أجْرُ

محمد بن زكريا القلعي

ومن مجيد شعراء المغرب: محمد بن زكريا القلعي له من قصيدة يمدح بها بعض المغرب، وكأنما عني بمعانيها مولانا السلطان الملك الكامل، وأشار بأنامل بديع ألفاظها إليه، لا برحت محاسن المحامد مصروفة له، وموقوفة عليه: وقادَ الجيادَ الأعوجيّاتِ دونَها ... عوابسُ تَطفُو في العَجاج وتَرْسُبُ عساكُر مثل الطَّرف إن خِفْن ضِلَّة ... أضاَء لها ليلُ الحديدِ المذوَّب يَمُر نُهاهُ بالشُّكوكِ فتنجلي ... ويجري نداهُ في الأُجاج فيعذُب وكأنما عناه أيضاً هذا الشاعر بقوله: ملك إذا طُلِبَ الغَمامُ بِفَوق ما ... في وُسْعه فعلى نداهُ يُحيل زَجرَت مواهبُه المساغبَ أن تُرى ... ولها بساحة مُجتدية حُلول

صقلية

ومن شعراء: صقلية وهي بفتح الصاد والقاف، قاله النحوي أبو بكر محمد بن علي بن الحسن بن البر التميمي، هكذا عربتها العرب. واسمها بالسان الرومي سيكة بكسر السين وفتح الكاف وسكون الهاء، وكيليه بكسر الكاف واللام، وتشديد الياء وسكون الهاء، وتفسيرها: تين وزيتون. وإلى هذا المعنى أشار الأديب البارع، أبو علي حسن بن رشيق، حين مدح صقلية بقوله: أخْتُ المدينة في اسم لا يشاركها ... فيه سِوَاها من البُلدان فالتَمِسِ وعظَّم اللهُ معنَى لفظها قسماً ... قَلِّد إذا شئتَ أهل العلم أو فَقِس قوله في هذا البيت: وعظم الله معنى لفظها قسما يريد قول الله جل جلاله (والِّتينِ والزَّيْتُون) قال مجاهد في صحيح البخاري: هو التين والزيتون الذي يأكل الناس. وقال الحسن: هو التين الذي يؤكل، ولزيتون الذي يعصر. وبه قال عكرمة. وقال آخرون: التين: مسجد دمشق، الزيتون: بيت المقدس، قاله كعب وقتادة وابن زيد وعكرمة أيضاً.

أبو محمد ابن حمديس عبد الجبار بن أبي بكر محمد بن حمديس

وصقلية: جزيرة كبيرة طولها مسيرة أيام، وعرضها مسيرة خمسة أيام. وهذا الاسم لأحد مدنها. فنسبت الجزيرة كلها إليها. وفيها مدن كثيرة وقلاع شهيرة، وهي في البحر الشامي، موازية لبعض بلاد إفريقية، بينهما يوم وليلة. افتتحت في سنة اثنتي عشرة ومائتين، ثم إن الله تعالى صرفها إلى النصارى. فكان أول افتتاح كان فيها لهم في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، إلى أن خلصت الجزيرة كلاه لهم في سنة خمس وثمانين وأربعمائة. فمن شعرائها: أبو محمد ابن حمديس عبد الجبار بن أبي بكر محمد بن حمديس شاعر جيد السبك، مليح الاستعارة، حسن الأخذ، لطيف التناول، رقيق حواشي المعاني، عذب اللفظ. دخل الأندلس وافداً على المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن عباد بإشبيلية فمدحه بأشعاره البديعة، وعبر عن الأدب بأنفاسه النفيسة الرفيعة. فما يجري من قوله رقة مع الماء، ويكاد يمتزج بالهواء، ويأخذ بمجامع الأهواء، قوله من قصيدة: قُم هالكها من كفّ ذاتِ الوشاحْ ... وقد نَعي الليلَ بشيرُ الصّباحْ

وباكِر اللذات واركبْ لها ... سوابق الَّلهو ذواتِ المِراحْ من قبل أن تَرشُف شمُس الضّحى ... ريقَ الغوادِي من ثُغور الأقاحْ أنظر من أحسن هذه الاستعارة، وأحلى هذه العبارة. وله قصيدة أخرى في الوزن على الرّويّ أولها: طَرَقَتْ والليلُ ممدُود الجَناحْ ... مرحباً بالشمس من غير صباح أتى فيها بكل معنى مبتكر بديع، معدود من الطراز الأول الرفيع. ومما أخذه فملكه فأسترقه، واستوجبه بزيادته فيه على مبتكره واستحقه، قوله في وصف فرس سابق: كأنّ له في الأذن عيناً بصيرةً ... ترى اليوم أشباحا تمرُّ به غداَ يقيّد بالسبق الأوابَد فوقَه ... ولو مرَّ في آثارهنّ مُقَيّدا أخذه من قول امرئ القيس بن حجر، وهو أول من قصد القصائد، وقيد الأوابد، فقال في لاميته المعلقة: وقد اغتدى والطيرُ في وكناتها ... بمنَجردٍ قيد الأوابد هَيْكلِ

وزيادة عبد الجبار عليه قوله: ومر في آثارهن مقيدا وتصدير هذا العجز بقوله: أقيد بالسبق مليح جدا. ومن مليح أخذه المستحسن قوله من أخرى. لهم رياض حُتوف فالذُّباب بها ... يَشدوهُم في الهوادي كلما اقتحمُوا بيض يضعن المنايا السّودَ صارخةً ... وهي الذّكور التي افُتضت بها القمم أخذه من قول أبي نصر عبد العزيز بن نباته السعدي: ومن العجائب أنّ بيضَ سيوفه ... تلد المنايا السّودَ وهي ذُكورُ إلا أنه زاد عليه، وبعد ما ساواه في المقابلة، بذكر البيض والسود. وذكر الذكورية مع ذكر الوضع الذي ذكره في موضع تلد بقوله: صارخة، إذ من شأن المولود أن يستهل صارخا عند الوضع. وكذلك الواضعة تصرخ أيضاً حالة الطلق، فتمم بهذه الزيادة قوله: يضعن المنايا السود. كما زاد عند ذكر الذكور، وتمم المعنى بقوله: افتضت بها القمم، فجعل سيلان دماء القمم بذكور الصوارم كسيلان دماء العذارى لدى افتضاض ذكور الرجال لها، وهذا من سر الشعر المخزون، وعلمه المكنون. وفي البيت الذي وطأ به نوع من أنواع البديع يسمى التويرة، وهو قوله: لهم رياضُ حثتوف فالذّباب بها ... يَشُدوهم في الهوادي كلَّما اقْتَحموا

أبو علي حسن بن رشيق

الذباب، من الحيوان معروف؛ والذباب: ذباب السيوف. الشدو: الغناء. فشبه طنين الذباب في الهوادي، وهي الأعناق، بترنم الذباب. واستعار الرياض للحتوف توطئة لشدو الذباب؛ لأن الرياض الملتفة الأسجار، موضع ترنم سواجع الأطيار. وملاحظة أمثال هذه المقاصد من مقاصد فحول الشعراء، مما يعين الشادي في الأدب المحاول انظم الشعر، على نظم جيده. وأذكرني بيت نباتة قول ابن الرومي، وهو من أحسن ما سمعت في معناه: ومن عجبٍ أنَّ السّيوف لديهمُ ... تحيضُ دماءً والسّيوفُ ذُكورُ وأعجبُ من ذا أنهَّا في أكُفِّهم ... تَأَجَّجُ نارا والأكفُّ بُحور ومن شعراء المغرب الأوسط، وأهل التصنيف والإتقان والضبط، الشاعر الرقيق، العربي الأزدي العريق: أبو علي حسن بن رشيق وكان رجلا تلعابه، كثير الدعابة، غير أنه لم يذمه أحد بذلك ولا عابة، كتب إلى بعض الرؤساء: إنّي لقيتُ مشقَّهْ ... فابعث إلى بشُقَّةْ كمثل وجْهِكَ حُسنا ... ومثل دِينَيِ رِقَّة

فقل له الرئيس: أما مثل دينك رقة، فلا يوجد إلا بوزن أمثال رمال الرقة؛ ثم استحسن في هذه المداعبة أدبه، فقضى أربه. فمن قوله يمدح السلطان أب يحيى تميم بن المغر: أصَحُّ وأقْوى ما روينَاه في النَّدَى ... من الخبرِ المأثور منذُ قديمِ أحاديثُ تُمليها السّيولُ عن الحَيا ... عن البَحر عن جُودِ الأمير تمِيم وله أيضاً: لو أورقتْ من دَم الأبطال سُمْرُ قناً ... لأوْرَقَت عنده سُمْر القَنَا الذُّبُلِ إذا توجَّه في أولى كتائبه ... لم تفْرِق العينُ بين السّهل والجبلِ فالجيش يَنْفُض حولَيه أسنَّتَه ... نفْضَ العُقاب جَنَاحَيها من البَللِ وهذا البيت من غرر قلائده، وهو مع ذلك ملتقط من قول المتنبي: يهزُّ الجيش حولك جانبيه ... كما نَفَضت جَناحيها العُقابُ ومن قول أبي صخر الهذلي: وإنّي لتَعْرُوني لذكرِاك هِزَّةٌ ... كما انتفَض العُصفورُ بَّللهَ القطر

ومعنى الالتقاط، ويسمى أيضاً بالتلفيق والترتيب، أن ينشر الشاعر المعاني المتقاربة، ويستخرج منها معنى مولداً يكون فيه كالمخترع، وينظر به إلى جميع تلك المعاني، فيقوم وحده مقام جماعة من الشعراء، وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته. ومن أحذق من فعل ذلك المتنبي والمعري. ولابن رشيق أيضاً: ومن حسناتِ الدّهر عنديَ لَيلةٌ ... من العُمر لم تَتْرُك لأيّامنا ذَنْبَا خلونا بها نَنفي الكرى عن جُفوننا ... بلُؤْلُؤةٍ مملوءةٍ ذهباً سكبا ومِلْنا لتقبيل الخدود ولَثمها ... مَمِيَل جياع الطّيرِ تلتقُط الحبَّا وقال أبو الحسن عبد الكريم بن فضال الحلواني في ابتداء قصيدة فريدة: عَرِّسَا بِي فذَا مُناخٌ كريمُ ... هذه جُمَّةٌ وهذا تمِيمُ هذه الجنّةُ التي وعد الله وهذا صراطُه المستقيم وكان المعز ملك صنهاجه، لم يقصده ذو حاجة إلا وقضى حاجه، وعجل بذلك سروره وابتهاجه. وإنما خلع المستنصر وأزال عنه الخلافة، وأظهر

معاندته وخلافه، بعد أن كان يظهر له ولأبيه الظاهر الطاعة، ويبذل لهم الاستطاعة، أن الجرجائي الوزير، أساء معه التدبير. وأحفظه بأشياء بلغته عنه، وعقارب مكايد دبت إليه من مصر منه. وقال من له الإجادة والإحسان: جِرَاحُ السَّيْف تُؤلُمِ ثم تَبْرا ... ولا برءٌ لما جرحَ اللّسانُ وإلا فملك صنهاجة قديم، وشرفهم صميم، وذلك أن إفريقيس بن أبرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن شداد - ويقال: شدد بن الملطاط - ابن عمرو ذي أبين بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان ابن قطن بن عريب بن زهير بن الغوث بن أيمن بن الهمسيع بن حمير، خرج غازيا نحو المغرب في أرض البربر، حتى انتهى إلى طنجة، ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم، وخلف مع البربر من خلف من حمير اليمن، مثل صنهاجة وكتامة. هذا قول ابن الكلبي، وبه قال أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو محمد بن يعقوب الهمداني، من ولد همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد ذكر نسبه متصلاً إلى همدان في كتاب

الإكليل المؤلف في أنساب حمير وأيام ملوكها. وهو كتاب عظيم الفائدة. قال الهمداني: ثم تقدم في المغرب، حتى بني مدينة إفريقية، وهي مشتقة من اسمه، وخلف في البربر قواما من حمير، ليردوهم على شاكلتهم القديمة، ويأخذوا إتاوتهم، ويدبروا أمورهم، فهم إلى اليوم على ذلك. ومنهم اليوم بالمغرب كتامه، ولواتة، وصنهاجة، وهم الغالبون على المغرب اليوم. حدثني بهذا الكلام نحو من عشرين شيخاً - منهم الوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، والمحدث أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري بفتح الحاء وسكون الجيم، من حجر بن ذي رعين - قالوا: حدثنا نسابة الأندلس الفقيه أبو محمد عبد اله بن علي اللخمي المعروف بالرشاطي. ونقلته من أصله وكتابه الذي سماه ب اقتباس الأنوار، والتماس الأزهار، في أنساب الصحابة ورواة الآثار؛ إلا ما فيه من نسب همدان، فإني نقلته من غيره. قال الرشاطي: فشرف صنهاجة أصيل، ومجدهم أثيل ورياستهم قديمة، ونسبتهم إلى حمير معلومة.

قال ذو النسبين، رضي لله عنه،: ووقاء السلطان تميم مشهور، وعلم ذكره بذلك منشور. حدثنا غير واحد من شيوخنا، رحمهم الله، ومنهم الفقيه المحدث المفيد المقرئ اللغوي النحوي أبو بكر محمد بن خير، بمسجده بإشبيلية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، قال: حدثنا الفقيه القاضي المقرئ الخطيب أبو الحسن شريح ابن محمد بن شريح، قال: أنبأنا حافظ الأندلس الفقيه العالم أبو محمد علي بن أحمد بان سعيد بن حزم في كتابه إلينا، قال: حدثنا أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزبيدي من ولد عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا أبو علي حسين بن الأشكري المصري، قال: كنت من جلاس تميم بن أبي تميم، وممن يخف عليه جداً، قال: فأرسل إلى بغداد، فابتيعت له جارية رائعة فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: فكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء، فغنت: وبدَا له من بعد ما أندَمَل الهوى ... برق تألَّق مَوهناً لمعانُه يبدوُ كحاشية الرّداء ودونَه ... صعْبُ الذُّرى ممتنِّع أركانُه فالنّار ما اشتملت عليه ضلوعُه ... والماءُ ما سمحت أجفانُه

قال: فأحسنت ما شاءت. فطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت: ستُسليك عمّا فات دولُةُ مفضِلٍ ... أوائُله محمودةٌ وأواخُرهْ ثَنَى الله عِطفه وألّف شخصَه ... على البِرّ مُذْ شُدَّتْ عليه مآزِرُه قال فطرب تميم ومن حضر طربا شديدا، قال: ئم غنت: أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قمراً ... بالكَرخٍ من فَلك الأْزرار مطلعُهُ قال: فاشتد طرب تميم، وأفرط جدا ثم قال لها: تمنى ما شئت فلك مناك. فقالت: أتمنى عافية الأمير وسعادته. فقال: والله لا بد لك أن تتمنى. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى؟ فقال: نعم. فقال: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغداد. قال: فانتقع لون تميم وتغير وجهه، وتكدر المجلس، قام وقمنا. قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه وقال لي: ارجع، فالأمير يدعوك. أرأيت ما امتحنا به؟ فقلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء لها، وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك، فاصرفها. فقلت: سمعا وطاعة. ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة وبجمل عليه هودج فأدخلت فيه، وجعلها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق وسرنا. فلما

وردنا القادسية، أتتني السوداء عنها فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية. فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنسب أن سمعت صوتها وقد ارتفع بالغناء: لما وردنا القادسيَّة حيثُ مجتمعُ الرَّفاقْ وشِممْتُ من أرض الحجا ... زِ نسيم أنفاسِ العراق أيْقَنْتُ لي ولمن أحبُّ بجمع شملٍ واتّفاق وضحكتُ من فرحِ اللّقا ... ء كما بكيتُ من الفِرَاق فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! أعيدي بالله! قال: فما سمع لها كلمة. ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها، فيبيتون ليلتهم ثم يبكرون لدخول بغداد فلما كان قرب الصباح، إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك؟ فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة. فقلت: ويلك! وأين هي؟ قالت: والله ما أدري! قال: فلم أحس لها أثراً بعد. ودخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلي تميم فأخبرته خبرها. فعظم ذلك عليه، واغتم له غما شديدا، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها، واجماً عليها.

قال ذو النسبين، رضي الله عنه. وقد ذكر هذه الحكاية الشيخ الجليل الإمام العالم أبو عبد لله محمد بن أبي نصر الحميدي في جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس قال: حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الفارسي الفقيه، وأملاه علي بالأندلس، فذكر ما ذكرناه حرفا بحرف. قال ذو النسبين رضي الله عنه: قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين العبشمي الأصبهاني، أن هذا الشعر الذي فيه الغناء للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، وأوله: طربَ الفؤادُ وعاوَدَتْ أحزَانُه ... وتفرّقَت بزمانه أشجانُه وبداله. . . . وأمر بعض الملوك ابن رشيق بركوب البحر، فخاطبه بهذا الشعر: أمرتنَيِ بركوبِ البحر في عَجَلٍ ... غيرِي - فديتُك - فاخْصُصْه بذا الرَّاءِ ما أنتَ نوحٌ فَتُنْجِينِي سفينَتُه ... ولا المسيحُ أنا أمشي على الماءٍ

أبو عبد الله الجذامي بن أبي سعيد بن شرف الجذامي

ومنهم زين الزمان، وفخر المكان، العالم: أبو عبد الله الجذامي بن أبي سعيد بن شرف الجذامي من ولد جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب ابن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. كذا نسبه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي. ولابن شرف مصنفات عديدة، وأوضاع مفيدة، منها: أبكار الأفكار، في سفرين، اختراع كله في الحكم والأمثال؛ والنظم والنثر؛ وكتابه المسمى بأعلام الكلام، مخترع أيضاً. وكتابه المسمى بلمح الملح؛ إلى غير ذلك. حدثني بها جماعة لا أحصيهم كثرة، منهم: الوزير الفقيه المقري المحدث الشاعر اللغوي النحوي، المهندس الطبيب، واحد عصره، وفريد دهره، أبو بكر محم ابن الطفيل القيسي، عن ولده العالم الرباني روضة العلم الأنف أبي الفضل

جعفر بن محمد بن شرف، صاحب الأوضاع في جميع الأنواع؛ ومنها: كتاب الزمان. عارض به كتاب كليلة ودمنة؛ وكتابه عقيل وعليم؛ وكتابه في النحو، على طريق البرهان؛ وكتابه في العروض، كشف بع عن دقائق لم يسبق إليها العروضيون. ومن النوادر جدا جدول جعله صفحة واحدة، كأنه صفحة من الزيج، يتضمن استخراج ما سئل عنه من أبيات الأعاريض كلها، سهلة كانت أو صعبة ومنها: رسالته في اللعب باللعبة التي تسمى فريسيا أي ملكة اللعب، يلعب بها كما يلعب بالشطرنج، وهي من غرائب الدهر؛ إلى غير ذلك من علمه المشهور، عند الخاصة والجمهور. وبسندنا إلى أبي عبد الله محمد بن شرف قال: أكثر ما يكون توارد الخواطر ووقوع الاتفاق وما يقاربه، إذا طلب الشاعران أو الناثران معنى واحدا في قافية واحدة أو سجع واحد: أمرني السلطان المعز بن باديس وأمر الحسن بن رشيق في وقت واحد أن نعمل شعرا في الموز على قافية الغين، فصنعنا للوقت، ولم يقف أحدنا على صنعة الآخر، فقلت: يا حبَّذا الموزُ وإسعادُه ... من قبل أن يَمضُغَه الماضغُ لاَنَ إلى أن لا مَجَسّ له ... فالفمُ ملآنٌ به فارغُ سيّاِن قُلنا مأكلٌ طيّبٌ ... فيه وإلا مشربٌ سائغُ

وقال ابن رشيق: موزٌ سريع سوغُه ... من قبل مضغِ الماضغِ مأكَلٌه لآكل ... ومشربٌ لسائغِ فالفُم من لينِ به ... ملآنُ مثلُ فارغ قال ابن شرف: واستخلانا المعز يوما وقال لنا: أخب أن تصنعا لي شعرا تمدحان فيه الشعر الرقيق الخفيف، ربما كان في ساقي بعض النساء، فأني أستحسنه، وقد عاب بعض الضرائر بعض من هذا فيه، وكلهن قارئات كاتبات، فأحب أن أريهن هذا، وأدعى لهن أنه قديم، لأحتج به على من عابه، وأسربه من عيب عليه. فأنفرد كل منا. وأتممنا الشعرين في الوقت. فكان الذي صنعته أنا: وبِلقيسةٍ زِينَتْ بشعرٍ ... يَسِيرٍ مثلِ ما يهبُ الشحيحُ دقيقٍ في خَدَلَّجةٍ رَداحٍ ... خفيفٍ مثلِ جسمٍ فيه رُوح حكى زغبَ الخدُود وكلُّ خدّ ... به زغبٌ فمعشوقٌ مليح فإن يكُ صَرْحُ بلقيسٍ زُجاجا ... فمن حَدَق العيون لها صُروح

وصنع ابن رشيق: يعبُون بلْقِيسيّةً إذ رأوا لَها ... كما قد رأى مِن تلكَ من نَصب الصَّرْحَا وقد زادَها التَّزغيُبِ مِلْحا كمثل ما ... يزيد خدودَ المُرد تَزْغيبُها ملْحا فعاب السلطان على ابن رشيق قوله يعيبون بلقيسة وقال له: قد أوجدت لخصمها حجة بأن بعض الناس قد غاب هذا. وهذا نقد ما كنت فطنت له. فهذه المقطعات التي أوردت حديثها، واستطردت باتفاقها، لو رآها من عسى أن يراها وهو لا يعلم ما جرى، لم يشك أن أحد قائليها سرق من الآخر، وكم من مظلوم برئ، نسب باتفاق خاطره وخاطر غيره إلى التلصص والإغارة، نحو ما ألفه ابن وكيع عن المتنبي في كتابه الذي سما المنصف، وهو فيه جور من قاضيي سدوم. فمن شعر ابن شرف ما أنشدنا غير واحد، عن ولده عنه، وشعره في خمس مجلدات: شتَّان في النُّطقَين ما بيننا ... وبينَنَا في المَنْظَرَين اشتِباهْ يا عجباً من حُرقات الهوى ... تَصعدُ نيرانا وتَجرِي مياه

وأنشدونا له في عدو قينة: سقي الله أرضاً أنبتَت عُودكِ الذي ... زكّتْ منه أعراقٌ وطابتْ مَغَارِسُ تغنّي عليه الطّيرُ والعودُ أخضرٌ ... وغنَّت عليه الغِيدُ والعودُ يابس وقال في مثله: يا عودُ من أية الأشجارِ أنت فَلا ... جفَا ثراها ولا أغصانَها الماءُ غنَّي القيانُ عليها وهي يابِسةٌ ... بعدَ الحَمامِ زماناً وهي خَضراء وقال في اجتماع البعوض والذباب والبراغيث في مجلس، مخاطب لصاحبه يستهزئ به: لكَ مجلسٌ كملتْ بشارَتُنا به ... للًّهو لكن تحتَ ذاك حديثُ غنَّي الذّباب وظلّ يزمُر حوله ... فيه البعوضُ ويرقصُ البرغُوث وأنشدونا أيضاً له: إن تُلْقِك الغُربةُ في معشرٍ ... تطابَقُوا فيك على بُغْضِهمْ فدارِهم ما دمتْ في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم

وله: صَنَمٌ من الكافور بات مُعانقي ... في حُلَّتين تَعَفُّفٍ وتكّرم فكَّرتُ ليلةَ وصله في صدَّه ... فجرتْ سوابقُ أدمعي كالعَنْدم فطفقتُ أمسحُ مقلتي في نَحرها ... إذ عادةُ الكافور إمساكُ الدَّم وهذا شعر وطب. وأنشدونا لابنه أبي الفضل: وعصرُكَ مثلُ زَمَانِ الرّبيع لا تهجرُ الشّمسُ فيه الحَمَلُ تسامَتْ عُلاك سُمو النجوم ... وسارت أياديك سَيَر المَثَل وقال من أبيات: ألَمي لفقد الدّمع بعد فراقهم ... ألمُ الجراحة بالدَّم المحصور

المرواني الطليق

ومنهم: المرواني الطليق شاعر رائق الألفاظ، رقيق المعاني، يجاري ويباري في الخمريات الحسن بن هانئ. فمن خمريات التي يغني بها قوله من أبيات: رب كأسٍ قد كَست شخصَ الدُّجَى ... ثوبَ نُورٍ من سنَاها يَقَقَا ظَلْتُ أسقيها رشاً في طَرفه ... سِنةٌ تُورِثُ عينِي أرَقَا برَزَت في ناصع من كفّه ... كشُعاع الشمس وافَي الفَلقَا أصبحتْ شمساً وفُوه مغرِباً ... ويدُ السّاقي المحِّيي مَشْرِقا فإذا ما غَربت في فَمِه ... أطلَعت في الخدّ منه شَفَقا أنظر ما أغرب استعارته المغرب لفيه، وما أبدع قوله: أطلعت في الخد منه شفقا في التشبيه. وأما جمعه في الفم بين هاء الضمير والميم، فليصح في الوزن

المستقيم. قال النحويون: والفم، إذا أفرد كان بالميم، فأن أضفته ل تجمع بين الميم والإضافة. تقول: هذا فوك، ولا يحسن: فمك إلا في الشعر، قال الشاعر: كالحوتِ لا يُرويه شيء يَلْهَمُه ... يُصبح عطشان وفي الماء فمهُ اللهم: شدة الابتلاع - ولا يجوز تشديد هذه الميم بحال في الكلام، وقد جاء فليلا في الشعر، قال الراجز: وأسطمة النسب، وأطمسته، على القلب: وسطه ومجتمعه فأتى في هذا البيت الهاء مع الميم المشددة. وأنشدني سيدي أبي رضي اله عنه، قال: أنشدنا الفقيه الفاضل أبو القاسم عبد الرحمن بن الوزير أبي علي كاتب مؤنس، قال أنشدني أبي: تقوّس بعد طولِ العمر ظهري ... وداستني اللّيالي أي دَوْس فأمِشى والعصَا تمشي أمامي ... كأنَّ قَوِامها وتٌر لَقِوس

وأنشدني غير واحد من شيوخ الأفارقة، للأديب الماهر أبي الحسن علي بن حبيب يصف بحر سفاقس في مده وجزره، وقد دخلتها فرأيت معنى ما قال في شعره: سَقياً لأرض سَفَاقُسٍ ... ذات المَصانع والمُصَلَّى بلد يكاد يقول حين تزوره أهلا وسهلا وكأَّنه والبحرُ يَنْ ... ضبُ تارة عنه ويمُلا صبٌّ يريد زيارةً ... فإذا رأى الرّقباَء ولَّي وأنشدني شيخ الإتقان، وواحد أسانيد الفرقان، أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن، سبط الأستاذ أبي محمد المعزول، قال: أنشدنا الأستاذ المقرئ أبو داود، قال: أنشدنا الأستاذ المقرئ اللغوي النحوي الشاعر أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري: يا ناثراً دُرَّ عيني بل عقيقَ دمي ... ما بال طرِفك دونِي صحّ بالسّقَمِ وما لتفّاحَتَيْ خدَّيك أيْنَعَتَا ... فأفطرتْ منهُمَا عيني وصامَ فمي

وقال في غلام اسمه هارون: يا غزالاً فَتن النّاسَ بعينيه فُتُونَا أنت هاروتُ ولكن ... صحَّفوا تاَءك نُونا وأنشدونا أيضاً للأديب أبي الفتح عبد العزيز بن جعفر العذري: نَظر الناسُ إلى حسن الّذي أهوى وحُزْنِي فرأوا يوسَفَ منه ... ورأوا يعقوبَ منّي وأنشدونا للشاعر المصيب أبي الحسن عبد الكريم بن فضال: ولمّا تدانوا للرّحيل وقُرّبت ... عِتاقُ المطايا والركاب تَّسيرُ وضعتُ علي قلبي يديَّ مُبادِرا ... فقلوا محبُّ للعناق يُشِير فقلت ومن لي بالعناقِ وإنما ... تداركتُ قَلبي حين كاد يَطير وقال أبو زيد بن العمة في الشطرنج: هلّم إلى تدبير جيشين جُمِّعا ... رِخاٌخ وأفياٌل وجُرُدٌ سوابحُ تكبّرن عن حمل السّلاح إلى الوغَى ... فأرْمَاحُها ألُبَابنا والقَوائحُ

وأنشدني غير واحد، قالوا أنشدنا: الوزير أبو بكر محمد بن محمد بن القصيرة من أبيات، يهنئ فيها بمولود: لم يستهلَّ بُكاً ولكن مُنْكِراً ... أن لم تُعَدُّ له الدُّروعُ لَفائِفاَ ومن أبدع ما قيل في هذا المعنى قول الأديب أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض، وكان من فحول شعراء المغرب المذكورين بالسبق في الشعر والأدب، ومات بعد خمس وعشرين وخمسمائة: أصاخَتِ الخيلُ آذاناً لصرخَته ... وأهتَّز كل هِزَبْر عند مَا عَطَسَا تعشَّق الدّرعَ مُذ شُدّت لفائفه ... وأبغَضَ المهد لما أبصَر الفرسا تعلَّم الرَّكضَ أيّام المخَاضِ به ... فما امتطَى الخيلَ إلا وهْو قد فَرُسا وأنشدونا لابن فتوح: ومُدامةٍ صفراَء علّلني بها ... قمرٌ كغصن البان في حركاتِهِ صفراء تغربُ إن بَدت من كفِّه ... في فيه ثم تلُوح من وجناته

وأنشدني الفقيه القاضي المحدث النحوي أبو محمد عبد المنعم بن محمد ابن عيد الرحيم الخزرجي بمدينة غرناطة، قال: أنشدني الوزير الكاتب أبو عامر محمد بن أحمد بن عمر السالمي - صاحب كتاب الجمان، ونتائج الزمان، في ذكر الشعراء الأعلام، في الجاهلية والإسلام. ومؤلف درر القلائد، وغرر الفوائد. ومؤلف بستان الأنفس، في نظم أعياد الأندلس - لأبي الحسن بن مظفر، من اله مدينة ذاتية، في غلام رآه في الحمام يضرب بالماء وجهه: لقد نَعِمتُ بحمَّامٍ تطلَّع في ... أرجائه قمرٌ والحُسنُ يُكمُلُه أبصرتُه كلّما رَاقت محاسنُه ... ونَعمةُ الجِسم الأردافِ تُحْجِلُه يرشُّ بالماء خَدَّيه فقلت له ... صِفْ لي كذا أحمرَ الياقوتِ تَصْقُله فقال طّرِفيَ سفَّاكٌ بصارمه ... دماءَ قوم على خدّي فأغسله

قال وأنشدني للأديب الأوحد أبي محمد بن عبد الله بن سارة الشنتريني: أعندَك أنّ البدرَ بات ضجيعِي ... فقضَّيت أوطارِي بغير شفعِ جعلتُ ابنةَ العُنقود بيني وبينَه ... فكانت لنا أمًّا وكان رَضيعي قال ذو النسبين، رضي الله عنه: أبو محمد بن سارة هذا، أدبه موفور، وشعره مشهور، لقيت جماعة من أصحابه. ومات، رحمه الله، سنة سبع عشرة وخمسمائة، وانتقل من بلده شنترين إلى مدينة إشبيلية، وهو أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سهيل؛ فانتجع الوراقة على كساد سوقها، وفساد طريقها. فتركها وأنشد فيها: أما الوِرَاقة فهي أنكدُ حِرفة ... أغصانُها وثمارُها الحرمانُ شبهتُ صاحبها بإبرةَ خائطٍ ... تكسو العراةَ وجسمُها عُريان وأنشدني الفقيه القاضي أبو محمد عبد المنعم الخزرجي قال: أنشدني الوزير أبو عامر السالمي لنفسه - ونقلته من خطه - في خال خد: أوقدَ النّارَ بقلبي ... ثم هَّبتْ ريحُ صَدّهِ فشرارُ النّارِ طارت ... فانطفت في ماءِ خده

قال: وأنشدني أيضاً أبو عامر لنفسه في وصف النارنج: أنظُر إلى زهرِ الرّياضِ كأنَّه ... ديباجةٌ بُسطت لقوم مُجَّدِ وكأنّما النّارنج في أغصانها ... زُهر الكواكب في سماءِ زبرجدَ وأنشدني الفقيه المحدث المؤرخ الثقة القاضي أبو القاسم خلف بن عبد الملك ابن مسعود بن بشكوال الأنصاري بمنزلة بمدينة قرطبة، قال: حدثنا الثقة العدل أبو القاسم خلف بن محمد بن صواب اللخمي، قال: أنشدنا المقرئ اللغوي النحوي الأديب أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري لنفسه بمدينة مرسية سنة إحدى وثمانين وأربعمائة في جارية بيضاء منتقشة: خَضَبت يَديها لون فاحمِها فما ... نَقُصَ البياضُ مَلاحةُ بل زادَا ما بالُ شيبي تُنكِرين خِضابَه ... وأراك خَاضِبَة البياضِ سَوادا قالت نجيعُك في يديَّ وإنَّما ... بدَّلتُه أسفاً عليكَ حداَدا

ودخلت على سلطان بلنسية - كان - العالم أبي عبد الملك مروان بن عبد الله، ابن عبد العزيز في بستانه بحضرة مراكش وهو يتوضأ للصلاة، فنظر إلى لحيته، وقد اشتعلت بالشيب اشتعالاً فأنشدني لنفسه ارتجالا: ولمّا رأيت الشّيبَ أيقنتُ أنّه ... نذيرٌ لجسمي بانهدامِ بنائِهِ إذا ابيضّ مُخضَرُّ النّبات فإنّه ... دليل على استحصادِه وفنَائه وأنشدني الوزير بليغ شرق الأندلس أبو بكر بن مغاور في منزلة بمدينة شاطبة، قال: سمعت القاضي الشهيد الإمام أبا علي حسين بن محمد الصدفي يقول: سمعت الفقيه الإمام الأديب أبا زيد عبد الرحمن بن شاطر السرقسطي ينشدنا لنفسه: قد كنتُ لا أدري لأيّةِ علَّة ... صار البياضُ لباسَ كلَّ مُصابِ حتى كساني الدّهرُ سحقَ مُلاَءةٍ ... بيضاَء من شَيبي لفقد شبابي فبذا تبيّن لي إصابةُ من رأى ... لُبْس البياض على تَوَى الأحباب

يقال: تَوى يتوى، بفتح الواو في الماضي، وبكسرها في المضارع، وهي لغة طئ، والمصدر: تَوًى، مقصور؛ كل بالتاء المثناة باثنتين من فوق. ولغة أهل الحجاز: تَوِى، بكسر الواو؛ ويَتْوَى، بالفتح في المضارع، وهو اختيار الخليل: كل ذلك إذ هلك. ولبس البياض هي عادة أهل الأندلس في الحزن على موتاهم، استنوا ذلك من عهد بني أمية قصداً لمخالفة بني العباس في لباسهم السواد، ولذلك قال الأستاذ النحوي أبو الحسن الحصري: إذا كانَ البياضُ لباسَ حزن ... بأندلسٍ فذاك من الصَّواب ألم تَرنِي لبستُ بياضَ شَيبي ... لأني قد حَزِنت عل الشَّبَابِ ولقيت بمدينة غرناطة الوزير الأجل أبا بكر، محمد بن أبي العافية الأزدي القتندي الأصل الأغرناطي المنشأ، وكان من بقايا الأدباء وفحول الشعراء، ورواة الحديث عن العلماء. سمع كتاب الملخص وصحيح مسلم على فقيه شرق الأندلس في زمانه الحافظ أبي محمد بم أبي جعفر. وقرأ الأدب على الأستاذ أبي عبد الله بن خطاب المرسى - عرف بالجزار. وعلى الأديب أبي عبد الله محمد بن وضاح - يعرف بالبقيرة. وقرأ على الوزير أبي إسحاق الخفاجي نظمه ونثره في مجلدين. وقرأ على الأديب أبي الوليد يونس بن أبي عيسى الخباز. وله شعر كثير وأدب غزير.

مولده سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وتوفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة بأغرناطة. سمعت منه وأجاز لي ولأخي أبي عمرو وجميع ما رواه ونثره ونظمه. فمن شعره في الشيب: لأمرٍ ما أكابدُ كلّ شَجو ... إذا سَجعت على الأيك الحَمامُ لأنَّ بياضَها كبياِض شَيبي ... فمعنَى سجعها قَرُبَ الحِمامُ وأنشدني هذا الوزير أيضاً لنفسه في تفاحة بيد غلام وسيم يأكلها: ولا كتفّاحةٍ حمراَء همتُ بها ... إذ أشبهت خدّ مَن قلبي متيَّمُهُ سمَت بها كفُّه يوماً إلى فَمِه ... فخلتهُ البدرَ والمرِّيخُ يلثَمه أو شَارباً كأسَ صهباءٍ معَتَّقَةٍ ... ولا حبَابَ سِوى أن رَاق مَبْسِمه وأنشدونا لأبي عثمان سعيد بن فتحون بن مكرم التجيبي في الشيب لنفسه: تخطُّ يدُ الزّمان على عِذارى ... سطوراً من حروف الشّيب بِيضَا فأبغضُها وإن كانت كصُبح ... ولم أر قَبْلها صُبحا بغيضَا ودخلت على سلطان بلنسية المتقدم ذكره، بعد ذهاب ملكه، وانتثار سلكه، في داره بمدينة مراكش، وقد كان خطب له من حصن لقنت إلى مدينة لاردة،

وكانت الأوامر عنه فيها صادرة واردة؛ وهو يعالج سكرات الموت، وقد أشرف على الفوت؛ فأنشدني في ذلك الوقت الذي تذهل فيه العقول، ويزول عنها المعقول: إله الخَلْق هَبْ لي منك عفواً ... تحطًّ به وتغفر من ذنوبِي وسعتَ الخلق إجمالاً وفضلاً ... فهل لي في نوالك من ذَنوب الذنوب، في اللغة: الحظ والنصيب، ومنه قول علقمة بن عبدة: وفي كلٍّ حيٍّ قد خبطتَ بنعمة ... فحَّق لشَأْسٍ من نَداك ذَنُوبُ أي نصيب، ومنه قول الراجز أيضاً: لنَا ذَنوبٌ ولكم ذَنُوب ... فإن أبيتُم فلنا القليبُ والذنوب، أيضاً: الدلو العظيمة إذا ملئت أو قاربت الملء، وهو السجل أيضاً فالموت نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش. ومن مليح ما أنشدنيه، وقد ولي مكانه من لا يساويه ولا يدانيه: ولا غَرْوَ بعدي أن يُسوَّد مَعشرٌ ... فيُضحِى لهم يومٌ وليس لهم أمسُ كذلك نجوم الجوّ تبدوُ زواهراً ... إذا ما توارتْ في مَغارِبهَا الشّمس

وأنشدني المحدث العدل أبو القاسم بن بشكوال، قال: أنشدنا أبو القاسم ابن صواب المقرئ قال: أنشدنا الأستاذ أبو الحسن الحصري لنفسه في التجنيس: فارقْتني وأنا والشوَّقُ إلفانِ ... فَسَلْ رسولَك عنّي كيف ألفَانِي قّبلتَ كُتْبكَ من فرط الهوى قُبَلا ... أقلُّهن إذا عدَّدت ألفَانِ وكتب إلى العالم الأديب الحسيب أبي محمد غانم بن وليد المخزومي: لقد فاق في نَثْره غانٌم ... بديعَ الزّمان وقابوسَه وروَّى الظّماَء بماء النّع ... يم فلا عيشَ إلا وَقَى بُوسَه بديع الزمان، هو علامة همذان، وصاحب المقامات المبتكرات الحسان. وقابوس؛ وهو الملك شمس المعالي بن وشمكير الديلمي صاحب طبرستان وجرجان. وله نثر بديع ومنظوم، وبصر بأحكام النجوم، ذكره مشهور معلوم، وهو القائل: قُل للذي بِصُروِف الدّهر عيَّرنا ... هل عانَد الدهْرُ إلا من له خطرُ أما تَرى البحر يطفُو فوقه جِيفٌ ... وتَسْتقرُّ بأقصى قَعره الدُّررُ

وإن تكن نشَبتْ أيدي الزّمان بنا ... ونَالنَا من تَمادي بُؤسه ضَررُ ففي السّماءِ نجومُ مالها عددٌ ... وليس يُكسَفُ إلا الشّمسُ والقمرُ وأنشدني شيخنا الوزير الفقيه المحدث الكاتب السامي المراتب، أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، قال: أنشدنا الفقيه الإمام المحدث المفسر أبو الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي، يعرف بابن الرقاق، بالراء المهملة: مُحُّبك يَسهرُ اللّيلا ... يكيلُ دموعهَ كَيْلاَ تُمنِّيه الوصالَ ولا ... ينال من الرِّضا نَيلا ستقتله كما فَعلت ... بقَيْس قبله لَيْلى وسأل شيخنا القاضي الفقيه ببلنسية أبو الحسن محمد بن واجب شيخنا الإمام المحدث المفسر أبا الحسن بن الرقاق، كم تحفظ من الشعر: فقال: ألف قطعة مثل هذه في الحسن، وأنشد: وشادِنَين ألَمَّا بي على مِقَةٍ ... تنَازعا الحُسن في غايات مُسْتَبِق كأن لِمَّةَ ذا من نَرجسٍ خُلقت ... على بَهارٍ وذا مسكٌ على وَرِقِ

وحكَّما الصّبّ في التّفضيل بينهما ... ولم يَخافا عليه رِشوَةَ الحَدَقِ فقام يُدلي إليه الرّيمُ حُجَّته ... مبيّنًا بلسان منه مُنطلق فقال وجْهيَ بدرٌ يُستضاء به ... ولونُ شَعريَ مقطوعٌ من الغسق وكحل عينيَ سِحرٌ للنُّهى وكذا ... ك السّحر أحسن ما يُعزَي إلى الحَدق وقال صاحبه أحسنت وصفَك ل ... كنْ فاستمع لمقالٍ فيَّ متّفق أنا على أفُقي شمسُ النّهار ولم ... تغرُب وشُقرةُ شعري شقرةُ الشّفق وفضل ما عيبَ في عينيَّ من زَرَق ... أنَّ الأسنَّةَ قد تُعزَي إلى الزَّرق قضيتُ لَّلّمة الشقراء حيث حكّت ... لونِي كذا حبُّها يقضي على رَمَقي فقام ذو الِّلّمة السّوداءِ ترشُقُني ... سهامُ أجفانِه من شدّة الحَنَق وقال: جُرتَ؛ فقلت الجورُ منك على ... قلبِي ولي شاهدٌ من دمعيَ الغَدِق فقلت عفَوك إذ أصبحتُ متَّهما ... فقال دونك هذا الحبلَ فأختَنِق وهذه القطعة للفقيه أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، يعرف بالملتمس - والمتلمس في اللغو معناه: الطالب - وهو صاحب كتاب الأحكام مما لا يستغني عن علمه الحكام وصل إليه فتيان: أحدهما ذو لمة شقراء، والآخر ذو لمة سوداء، يتحاكمان عنده أيهما أجمل. فقال هذه الأبيات. فتكلم بألسنة المجيدين، وتصرف المطبوعين؛ فجمع الله العظيم له براعة الفقهاء، وبلاغة الشعراء النبهاء.

وأنشديني الفقيه القاضي بمدينة دانية أبو عبد الله محمد، ابن الفقيه القاضي بسبتة أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، قال: أنشدني أبي لنفسه، في خامات زرع، بينها شقائق نعمان، هبت عليه ريح: أُنظر إلى الزَّرع وخَاماته ... تَحكي وقد ماسَت أمامَ الرَّياحْ كتيبةً خضراَء مَهزومةً ... شقائقُ النعمان فيها جِرَاح الخامة: القصبة الرطبة من الزرع. وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني أبي لنفسه رحمه الله: يا من تحمَّل عنّي غيرَ مكترث ... لكنَّه للضّنَى والسُّقمِ أوصَى بِي تركتَني مستهامَ القلب ذا حُرَق ... أخَا جَوًى وتباريحٍ وأوصاب أراقب النّجمَ في جُنح الدّجى سَهراً ... كَأنني راصدٌ للنّجم أو صابي وما وجدتُ لذيذَ النوم بعدكُم ... إلا جَنَى حَنْظَلٍ في الطّعمِ أوصاب قوله: أوصى بي، من الوصية. والأوصاب: جمع وصب، وهو المرض وَصِب يَوْصَب فهو وَصِب، إذا لزمه وجع. والصابي، يهمز ولا يهمز؛ قرأ نافع: الصابين والصابون حيث وقع من القرآن بلا همز. وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون خفت الهمزة؛ والوجه الآخران يكون: صبا إلى اللهو يصبو صبواً. والباقون يهمزون من قواهم: صبأ في الدين صبوءا، فالصبأة، مثل: كافر وكفرة،

ومعناه الخارج من دين إلى دين، لأنهم خرجوا من اليهودية والنصرانية إلى دين ثالث. معظمهم يعبد الدراري، ومنهم من يعبد الملائكة؛ وقبلة صلاتهم من قبل مهب الجنوب. ويزعمون أنهم على دين نوح، على نبينا وعليه السلام، وفيهم اختلاف وكلام. والصاب: الصبر، وهو مر. وأنشدني أيضاً لأبيه: الله يعلم أنّي مُنذ لم أركم ... كطائرٍ خانَه ريشُ الجناحيْنِ فلو قدرتُ ركبتُ البحر نحوكُمُ ... فإنّ بُعدَكُم عنّي جَنَى حَيْنِي وأنشدنا أيضاً لأبي محمد عبد الله بن هارون من شعراء السبتيين المطبوعين في غلام رفاء، وكأن وجهه قمر سماء: يا رافياً قَطْعَ كُلِّ ثوبٍ ... ويا رشاً خَيَّبَ اعتقادِي عسى بكفِّ الوصال ترفُو ... ما قطعَ الهجرُ في فؤادي وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبي لموسى بن عيسى السمسار البلغواطي في غلام أهدى له بنفسجا: ما كان ألطفَه برُوح مُحبِّه ... إذ سلَّها منه بغير تَخرُّجِ أهدَى إليه بَنفسَجاً يَشتمُّه ... فإذا به رِفقاً دع ياَ نَفْسُ جِي وهذه القبيلة يقال لها: بلغواطة، بلام مفتوحة، وإسكان الغين. والنسب إليها: بغلواطي. قرأته في كتاب تثقيف اللسان، وتلقيح الجنان، للقاضي الجليل

أبي حفص بن عمر بن خلف الحميري المازري قال: أخبرني بذلك اللغوي النحوي أبو بكر محمد بن البر التميمي، عن اللغوي الكبير أبي عبد الله القزاز، قال: والعامة تقوله بالراء: برغواطة، والصواب: بلغواطة، كما تقدم. وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبي الفقيه الأديب أبي الحسن علي بن عمر، ابن الإمام الفقيه عالم سبتة أبي محمد عبد الله بن غالب: ومهفهف خَنِثِ الجفون كأنَّما ... من أرجل النَّمل استَفاد عِذَارا فتخالُه ليلا إذا استقبلتَه ... وتخال ما يجري عليه نَهارا وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبي، قال: أنشدني الشيخ أبو علي الحسن ابن علي بن الفضل الفقيه، قال: أنشدني خالك أبو بكر محمد بن علي المعافري - المعروف بابن الجوزي - للكاتب أبي بكر عطاء، كاتب صاحب سبته الحاجب بهاء الدولة وكاتب أبيه قبله: سأَمنع قَلبي أن يكونَ لكم مَثْوى ... وأستدفُع البَلْوى وأستصرف اللهوَا وما سرَّني بعد الرّضا إذ غدَرْتُم ... وغدرتُمُ بين الحَشَى هضْبَتْي رَضْوى وصيّرتُم العُتبي عِتاباً فكلّما ... أبّثُكُم شَجوى تَزيدونني شَجوا قضى الله أن أقْصَي وأصفِيكم الهوى ... وغيري يُسْتدنَي وإن كان لا يهوى

وما كان ظَنّي قبل ذا أنّ حاسدي ... بِمَنْهَلكم يُروي وأنّيِ لا أروي وما جلَت البَلوى عليّ وإنما ... شماتَةُ أعدائي أجلُّ من البَلْوى وأنشدني أيضاً قال: أنشدني للفقيه الأجل أبي العباس أحمد بن سعيد ابن غازي السبتي يصف ناقة: حَرْف كمثل الصّادِ إلا أنها ... بعد السُّرى جاءت كحرف النُّونِ كالبدر قَدَّره الإله منازلاً ... في الأفق حتّى عاد كالعُرجون والحرف: المسنة. وقال أبو زيد سعيد بن أوس اللغوي: هي النجيبة التي أنضتها الأسفار، وأنكر على من قال: هي المهزولة. وقال صاحب كتاب العين. هي الصلبة، شبهت بحرف الجيل، ثم قال: شبهت بحرف السيف في مضائها. وأنشدني جماعة من شيوخي رحمهم الله، منهم: الشيخ الفقيه المقري المجود الخطيب المحدث أبو جعفر أحمد بن البلنسي، المعروف بابن اليتيم، بجامع مدينة مالقة قال: أنشدني العالم الزاهد المقرئ الأديب المتصوف أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي، المشهور بابن العريف: سلُوا عن الشّوق من أهْوى فإنهْم ... أدنَى إلى النِّفس من وهْمي ومن نَفَسِي

ما زلتُ مذ سكَنُوا قلبي أصونُ لهم ... لحْظِي وسمعي ونُطقي إذ هُمو أنُسي وفي الحشَا نَزلوا والوهُم يجرحهم ... فكيف قَرُّوا على أذكى من القَبَسِ حلُّوا الفؤادَ، فما أندى، ولو وَطِئوا ... صخْراً لجادَ بماء منهُ مُنَبجسِ لأنهضَنَّ إلى حشري بحبِّهم ... لا بارك الله فيمَنْ خانهم فَنَسِى وأنشدني الشيخ الفقيه الأجل، إمام النحويين، قاضي قضاة المغرب، بقية أعلام مشيخة الأندلسيين، أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخمي رضي الله عنه قال: أنشدني الفقيه الإمام المفسر النحوي الأصولي، القاضي بمدينة المرية أبو محمد عبد الحق بن الإمام أبي بكر غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي يمدح الملثمين ملوك المغرب المتقدمين: إذا لُثِّموا بالرّيط حِلْتَ وجوههم ... ازَاهرَ تبدو من فُتوق كَمائِم وإن لُثِّموا بالسابريةَّ أظهروا ... عيونَ الأفاعي من جلود الأراقم

وأنشدني شيخنا أيضاً قال: أنشدنا أستاذ المقرئين الفقيه الخطيب القاضي إشبيلية أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني قال: أنبأنا الإمام حافظ أهل زمانه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري لنفسه في كتابه إلينا: لئن أصبحتُ مرتحلاً بشخصي ... فَرُوحِي عندكُم أبداً مُقيمُ ولكن للعِيانِ لطيفُ معْنًى ... له سأل المعاينةَ الكليُم وأنشدني جماعة من شيوخي رحمهم الله منهم الأستاذ النحوي أبو القاسم السهيلي - والأستاذ كلمة ليست بعربية، ولا توجد هذه الكلمة في الشعر الجاهلي. وأصطلحت العامة إذا عظموا المحبوب أن يخاطبوه بالأستاذ، وإنما أخذوا ذلك من الماهر بصنعته، لأنه ربما كان تحت يده غلمان يؤدبهم، فكأنه أستاذ في حسن الأدب. حدثني بهذا جماعة بغداد، منهم جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله. قال: سمعته من شيخنا اللغوي أبي منصور موهوب

ابن أحمد الجواليقي، في كتاب المعرب من تأليفه وكان السهيلي فردا في زمانه، لبراعته في العلوم وافتنانه. قال: أنشدني الإمام العالم الزاهد أبو عبد الله محمد بن معمر المذحجي قال: أنشدني الأديب الشاعر أبو القاسم خلف بن فرج الألبيري - المعروف بالسميسير - لنفسه: بعوضٌ جَعلْن دَمي قهوةً ... وعَنَّينني بضُروب الأغانْ كأنّ عُروقَي أوتارُها ... وجِسمِي الرَّبابُ وهنّ القِيان وأنشدني سيدي أبي رضي الله عنه للسميسر يصف الدهر وتقلبه بأهله، وذلك من فعل الله لا من فعله: النّاسُ مثلُ حَبابٍ ... والدّهر لجّةُ ماءِ فعالَمٌ في طُفُوٍّ ... وعالَمٌ في انطفاء وهجوه أكثر من مدحه، يا رب سامحه على قبحه. له مجلدات سماها بشفاء الأغراض، في أخذ الأعراض.

وأنشدني الشيخ الفقيه الأجل القاضي بجزيرة شقر أبو يوسف يعقوب ابن محمد بن طلحة بمنزلي بمدينة شاطبة، قال: أنشدني الوزير الأديب الشاعر المصيب أبو إسحاق الخفاجي لنفسه: ما للزّمان يجُوز في أبنائِه ... حُكْما ويرمقُهم بعين العائِبِ فيحطُّ عُلْوهم ويرفع سُفْلهم ... فكأنهم قلَمٌ بيُمْني كاتب وأنشدني الأستاذ شيخ الإتقان، وواحد أئمة الفرقان، أبو العباس أحمد بان عبد الرحمن، قال: أنشدنا الأستاذ أبو داود سليمان بن يحيى، قال: أنشدنا الأستاذ أبو الحسن الحصري لنفسه: ضاقتْ بَلَنْسِيَّةُ بي ... وذاد عنّي غُموضِي رَقْصُ البراغيثِ حَولِي ... على غِنَاء البَعُوض وأنشدني الوزير الكاتب الناظم الناثر العالم أبو يحيى أبو بكر بن عيد الغني، المعروف بابن الجنان، بمدينة مراكش سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، قال: أنشدني

الوزير الأديب أبو الإصبغ بن رشيد، وقد هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر، يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة: لقد آن للنّاس أن يُقلعوا ... ويَمشُوا على المَنهج الأَقومَ متى عهِد الغيثُ يا غافلاً ... كلَون العَقيق أبو العَنْدم أظنُّ الغمام في جوّها ... بكَتْ رحمةً للورَى بالدَّم وفيها من غير هذا المعنى: لا تكُنْ دائَم الكآبةِ ممّا ... قد سَرى في الثَّرى نميراً نَجيعَا لَطَمَ البرقُ صفحةَ المُزن حتَّى ... سال منه على الرّياض نَجيعا النجيع الأول، من قولهم: نجع الطعام ينجع نجوعا؛ كنا بقال: نمير. ونجع في الدابة العلف، إذا أثر فيها فسمت وقويت على المشي؛ وقد نجع فيه الخطاب والوعظ والدواء: دخل وأثر. قال الثقة عبد الله محمد بن أبي العباس اليزيدي: النجيع: ما نجع في البدن من طعام وشراب. وأنشد لمسعود أخي ذي الرمة: وقد عَلمتْ أسماءُ أنّ حديثَها ... نَجيعٌ كما ماءُ السماء نجيعُ

والنجيع الثاني، من الدم، ما كان إلى السواد. وقال الأصمعي: هو دم الجوف خاصة. وفيها، وأستغفر الله: ليسَ ما قد هَمَي عذَاباً ولكنْ ... هو عندي من الثُّغور العِذَابِ ضَحكَ البرقُ عن لِثاَت عَيقق ... بين دُرٍ من القِطار مُذَاب وأنشدني لابن رشيد في دولاب: ومَجْنَونٍ إذا دَارت سمعتَ لها ... صوتاً أجشَّ وطَلُّ الماء يَنهملُ كأنّ أقدسَها رَكْبٌ إذا سَمعوا ... منها حُداءً بكَوْا للبَيْن وارتَحلوا الأقداس: جمع قدس بفتح القاف والدال، والعامة تقول، قادوس. وأنشدني له في اللغز، في فتى أسمه مالك: غزاليُّ الجُفون شَقيقُ بدرٍ ... تبَّسَم عن عَقيق فوقَ دُرِ له نفحاتُ مسكٍ أيِّ مسك ... له نفَثات سحر أيَّ سِحر شكوتُ له الهَوى والهوْنَ منه ... فقال عليك باسمِي سوف تدري تعملّتُ القَساوةَ من سمَيِّ ... وأحرقتُ القلوب بنار هجري

وأنشدني الفقيه الأجل العالم الحسيب أبو الحسن علي بن أحمد بن علي ابن فتح، وهو لبال بن أمية بن إسحاق القرشي الأموي، بمنزلة بمدينة شريش شذونة، وهو عين ذلك المصر، وفارسه في الفقه والنظم والنثر؛ ولي القضاء به فحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وسارت في العدل أخباره؛ يتشوق إلى الروضة المقدسة الطاهرة، ويسلم على محمد سيد ولد آدم في الدنيا، وسيد الناس في الآخرة ذي الآيات البينات والمعجزات الباهرة، صلى الله عليه ما زهرت الكواكب ودارت الأفلاك الدائرة. سلامٌ ولا أقْرَا سلاماً على هنْد ... صرفتُ إذاً مسرايَ عن مَسْلَكِ الرُّشدِ على قَمر لو أطلعتْه يدُ الثَّرى ... لقصَّر عن لألأئه قمرُ السَّعد وأربى على نُور الغَزالة نورُه ... كما يفضلُ الحُّر الكريمُ على العَبد فطاب به تُربُ الضريح بطيبه ... فيعبَقُ عن مِسك ندىٍ وعن نَدِّ ويَضحكُ عن رِوْضٍ تُدانِي يَدُ الصَّبا ... به صفحةَ السَّوسان من صفحة الورَد فطُوبَى لمن أضحى يمرّغُ لوعةً ... بتُربه ذاك القَبرِ خداً إلى خدِّ بنٌّي عليه من تلأبؤ نُوره ... تلألؤ برقٍ أسْرَجته يَدُ الرّعد نما من قُريش في ذُؤابِة هاشم ... فما شِئتَ من فضلٍ عَميم ومن مَجدْ سلامٌ عليه ما تغنَّت حمامةٌ ... وفاحَ ذكيُّ المسكِ من جنةَّ الخُلدِ وما أنشد المشتاقُ إن هبَّت الصَّبَا ... ألا يا صبا نَجد متى هجتِ من نَجد

وأنشدني أيضاً لنفسه في الجلمين: ومُعتَنِقَين ما اتُّهما بعشْق ... وإن وُصِفا بِضَّمّ واعتناقِ لعَمْر أبيك ما اجتَمعا لمعنًى ... سِوى مَعنى القَطيعة والفَراق وأنشدني أيضاً في محبرة عناب محلاة بفضة: مُنْعَلةٌ بالهلال مُلْجمةٌ ... بالنَّسر مجدولَةٌ من الشَّفقِ كأنّما حِبْرُها تَمّيع في ... فُرضتها سائلاً من الغَسَق فأنتَ مهما تُردِ شَبيهَتها ... في كُلِّ حالٍ فأنظرُ إلى الأفُق وله في محبرة آبنوس: وخَديمةٍ للعِلم في أحشائِها ... كَلَفٌ بجَمْعِ حَرامه وحَلالهِ لبِستْ رداَء اللّيل ثمّ توشَّحت ... بنجُومه وتَتَوَّجت بِهِلاَله وأنشدني لنفسه في اللغز: سَبِيئتان اثنتان هذى ... حلٌّ مُباح وذِي حَرَامُ قُل لذَوِي العلم خَبِّرُوني ... ما الحِلُّ منها ومُا الحرامُ

السبيئة الأولى: هي شاة المسلوخة، يقال سبأت الجلد، إذا سلخته؛ والثانية: الخمر. وأنشدني أيضاً في الغز لنفسه: مُعَانَقَةُ العَجوزِ أشدُّ عندي ... وأقتلُ من مُعانقة العَحوز وما ريق العَجوزُ أمرُّ عندي ... ولا بألذّ من بَوْل العَجوز العجوز الأولى: المرأة المسنة، والثانية: السيف؛ والثالثة: الخمر؛ والرابعة: البقرة؛ وبولها: لبنها. وله، حجازية: متَى أقولُ وقد كَلَّت ركائُبنا ... من السُّرىَ وارتكابِ البِيدِ في البُكَر يا نائمين على الأكوارِ ويحُكُم ... شُدُّوا المَطيَّ بذِكْر اللهِ في السَّحَر أمَا سمعتُم بحَادِينا وقد سَجَعتْ ... وُرقُ لحمائم فَوق الأيكِ والسَّمُر هذي البِشارةُ يا حُجَّاج قد وجبتْ ... غداً تَحُطّون بين الرُّكْن والحَجر

أبو الحسن ابن الزقاق علي بن عطية بن الزقاق

ومن شعراء الأندلس الذي فاخرت به شعراء العراق، وأجلب به المغرب على المشرق وجلبت إليه من أنفاسه نفائس الأعلاق، وسارت أشعاره سير الأمثال في الآفاق، الشاعر الرقيق: أبو الحسن ابن الزقاق علي بن عطية بن الزقاق وقد حدثني بديوانه، جماعة من أخدانه. منهم الأديب الوزير، أبو بكر يحيى ابن محمد الأنصاري الأركشي، أتحفه الله برداء عرفانه،. فمن بديع شعره ومنظوم دره قوله: لعمرُ أبيهَا ما نكثتُ لها عَهْدَا ... ولا فارقتْ عَيني لفُرقتها السُّهْدَا أتأمرني سُعدي بأن أهجرَ الكَرى ... وأعصِي على طَوْعِي لأجفانِها سُعدي بَرئتُ إذا من صُحبة الرّكب والسُّرى ... ولا عَرفَت إبْلى ذَميلا ولا وخْدا وليلٍ طرقتُ الخِدْرَ فيه وللدُّجى ... عُبَابٌ تَراهُ بالكواكِبِ مُزْبِدا

أجاذبُ عِطْفَ الملكيّة تَحته ... وأسحبُ من ضافي العفاف به بُردا نعمتُ بها واللّيلُ أسودُ فاحمٌ ... يغازل منها الأسودَ الفاحِم الجَعْدا فلم أرَ أشهَى من لَمَاهَا مُدامة ... ولم أر أذكى من تَنُّفسِها نَدَّا تبسَّمُ عمّا قُلّدتْه فأجتَلى ... بمْبَسمِها دُرّا ولَبَّتها عِقْدا ويَعبقُ ريَّاها إذا هَّبت الصَّبا ... فيحملُ عنها نشُرها العنبَر الوَرْدا سلِ الرّيحَ عن نَجد تخبِّرْك أنَّها ... معطَّرةُ الأنفاس مذ سكَنت نَجْدا وأنّ الغَضا والسِّدر مُذ جَاوَرتهما ... بطيب شذَاها أشبَها البانَ والرَّندا وله في غلام يكسف نور البدر إذا طلع نور طلعته، وقد رمي بحجر فأنشق شقيق وجنته: وأحْوى رُمِي عن قِسيِّ الحَوَرْ ... سِهاماً يفُوِّقهنّ النَّظَرْ يقولون وَجْنته قُسِّمت ... ورَسْمُ محاسنه قد دَثر وما شّق وجنَتَه عابثٌ ... ولكنّها آيةٌ للبشر جلاهَا لنا الله كيما نَرى ... بها كيف كان انشقَاقُ القمرِ

وله في خود مهتصر الخصر، خدلجة المعصم والساق، تطالع من طلعتها مقاتل الفرسان ومصارع العشاق: وخَودٍ ضَّمِ مِئَزُرها كَثِيباً ... يُهالُ وبُردُها غُصناً يَراحُ لها قُلُبٌ أبي النُّطَق اكتتاماً ... وسُّر نِطاقِها أبداً مُبَاحُ وقد أمرتْهُما بالكَتْمِ لكن ... أطاعَ سوِارُها وعصَى الوشاحُ وله في ساق كأنما اعتصر من خده ما بيمينه، وأطلع في مشرق كأسه ما أشرق من جبينه: وساقٍ يحثُّ الكأس وهي كأنَّما ... تلألأ منها مثلُ ضوءِ جبينِهِ سقاني بها صرفَ الحُمَّيا عشيَّةً ... وثَنَّى بأخرى من رَحيق جُفُونه هضيمُ الحشا ذو وَجْنةٍ عَندميّة ... تُريك قِطاف الورد في غير حِينه فأسرب من يُمناه ما فوق خدّه ... وألثَم من خدّيه ما بيمينه وله في محبوبة له، ودعها واستودعها قلبه، فاستصحبته معها: أأنْدبُ رَسْمَ دَارِهُم المَحيلاَ ... وأسأل عنهم الرّيحَ البليلاَ وبِي هيفاءُ من ظَبْيات نجد ... تُضَاهِي الغُصن والحِقْفَ المَهِيلاَ

أقول وقد تَوارت يومَ حَزْوَي ... بِكلَّتها وأشغَفَتِ الحُمولاَ كرْهِت بأن يَنالكِ لحظُ عَيني ... فكيف رَضِيتِ أحشائي مَقبلاَ وقال أيضا: بأبِي وغيرِ أبِي أغنُّ مُهفهفٌ ... مَهضومُ ما خَلْفَ الوشاحِ خَميصُهُ لبسَ الفؤادَ ومزَّقتْه جُفُونه ... فَأتى كيُوسفَ حين قُدَّ قميصُه وله في الإشارة إلى دقة الخصر: وآنسةٍ زَارتْ مع اللَّيل مَضجَعِي ... فعانقتُ غُصنَ البان منها إلى الفَجْرِ أسائلُها أين الوِشاحُ وقد سَرت ... مُعطَّلَةً منه معطَّرةَ النَّشْر فقالت وأومتْ للسِّوار نَقَلْتُه ... إلى مِعْصمي لما تقَلْقَل في خَصْري قال ذو النسبين رضي الله عنه: ومن مليح ما سمعت في دقة الخصر ما أنشدنيه صاحبنا الفقيه القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر السلمي لنفسه: لها رِدْفٌ تعلَّق من ضَعيفٍ ... وذاك الرّدفُ لي ولها ظَلُومُ يُعذِّبني إذا فكرتُ فيه ... ويُتعبُها إذا رامَتْ تَقُوم

رجعنا إلى شعر الأديب أبي الحسن علي بنم عطية بن الزقاق: ومرتَجّةِ الأعطافِ أمّا قَوامُها ... فلَدْنٌ وأمَّا رِدْفُها فَرَداحُ ألّمت فباتَ اللّيلُ من قِصَرٍ بها ... يَطير ولا غيرُ السّرور جَناح وبِتُّ وقد زارت بأنعَم ليلةٍ ... تُعانقني حتى الصّباح صباحُ على عاتِقي من ساعدَيْها حَمائلٌ ... وفي خَصْرها من ساعديَّ وشَاح وله أيضا: سَقْتنِي بيمُناها وفيها فَلَمْ يزلْ ... يُجاذِبُني من ذا ومن هذه سُكْرُ ترشّفتُ فاهَا إذ ترشَّفتُ كأسَها ... فلا والهوى لم أدر أيُّهما الخَمر وله: عذِيريَ من هَضِيم الكَشْح أحْوَى ... رَخيمِ الدّلِ قد لَبِس الشَّبابَا أعدّ الهجْر هاجرةً لقَلْبي ... وصَيّر وعدَه فيها سَرابا وله: وعشيّةٍ لَبِستْ رداَء شَقيقِ ... تُزهَي بلونٍ للخُدود أنيقِ أبقتْ بها الشَّمسُ المُنيرةُ مثلَ ما ... أبقى الحياءُ بوَجْنة المَعشوقِ لو أستطيع شربتُها كَلِفاً بها ... وعدَلتُ فيهات عن كُئوِس رَحيق

وله: كتبتُ ولو أنَّني أستطي ... ع لإجلال قدرك دُون البَشْر قَددْتُ اليراعةَ من أفُلي ... وكان المِدادُ سوادَ البَصَر وله: وحبَّبَ يومَ السّبت عنديَ أنَّه ... ينادُمنِي فيه الذي أنا أحْبَبْتُ ومِن اعجب الأشياء أنّيَ مُسلٌم ... حَنيفٌ ولكنْ خير أيّامَي السّبتُ وله: ومُقلةِ شادِنٍ أودتُ بنَفْسِي ... كأنَّ السُّقْمَ لي ولها لِباسُ يَسُلّ اللحظُ منها مَشْرفيًّا ... لِقتْلى ثم يُغمده النُّعاسُ وله: وقفتُ على الرُّبوع ولي حَنينٌ ... لساكنهنّ ليسَ إلى الرُّبوعِ ولو أنّي حَنَنْتُ إلى مَغاني ... أحبَّائي حننُت إلى ضُلوعي وله: يا ثاوياً بضُلوِعي ما يُفارقُها ... وإنْ تَحمّل عن أكنافِ أربُعهِ لأنتَ إنسانُ عَيني فأعجبَّن لمنْ ... إنسانُ مُقلته ما بين أضلُعه

وله: رقَّ النَّسيمُ وراق الرّوضُ بالزَّهَرِ ... فَنِّبه الكأسَ والإبريق بالوتَرِ ما العيشُ إلا اصطباحُ الرّاحِ أو شَنبٍ ... يُغني عن الرّاحِ من سَلسالِ ذي أشُر قُل للكواكب غُضّي للكَرى مُقلا ... فأعين الزُّهر أولى منك بالسَّهر وللصَّباحِ ألا فانشُر رداَء سناً ... هذا الدُّجى قد طَوتْه راحةُ السَّحر وقام بالقهوة الصهباءِ ذو هَيَفٍ ... يكادُ مِعْطَفُه يَنقدّ بالنَّظر تطفُو عليها إذا ما شَجَّها دُررٌ ... تخالُها اختُلِستْ من ثغرهِ الخَصِر والكأسُ في كفّه بالرّاح مُترعةٌ ... كهالة أحدقَت في الأفْق بالقَمر وله في صفة فرس أغر: وأغرَّ مَصقوِل الأديم تخالُه ... برقاً إذا جَمع العِتَاقَ رِهانُ يطأ الثّرى متبختراً فكأَنَّه ... من لَحْظ من في مَتْنه نَشوان فكأنَّ بدر التِّمِّ فوق سَراته ... حُسناً وبين جُفونه كِيوان

وله: يا ضياَء الصُّبح تحت الغَبَش ... أطرازٌ فوق خدَّيك وُشىِ أم رياضٌ دبَّجتها مُزنةٌ ... وبدا الصُّدْغ بها كالحَنَش لستُ أدري أسهامُ اللّحظ مَا ... أتَّقِى أم لدغُ ذاك الأرقش بأبي منك قِسِيٌّ لم تَزَل ... رامياتٍ أسْمهمًا لم تَطِشِ رشَقَتْ قلباً خَفوقاً يلتِظى ... كَضِرامٍ بيدَيْ مُرْتَعِش رُبَّ ليل بِتُّه ذا أرَقٍ ... ليس إلا من قَتَادٍ فُرُشي سابحًا في لُجج الدَّمع ول ... كنَّني أشكُو غَليل العطَش وبُروقُ اللّيل في أسْدافه ... كسُيوفٍ بأكفّ الحَبَش وسماءُ الله تُبدِي قَمرا ... واضحَ الغُرة كابن القُرشي ليس فرقٌ في السَّنا بينهما ... والبَها إن طلَعا في غَبش غير أنّ الأفْقَ مغمورٌ بذا ... وبذا حومةُ باب الحنش

وهو أحد أبواب بلنسية، وهي مطيب الأندلس، وفيها يقول: بلنسيةٌ إذا فكّرتَ فيها ... وفي آياتها أسنَى البلادِ وأعظمُ شاهدي منها عليها ... بأنَّ جَمَالَها للعَين بادي كساها ربُّنا ديباجَ حُسن ... له عَلَمان من بحر وواد وأنشدني سلطانها - كان - أبو عبد الملك مروان بن عبد الله بن عبد العزيز: كأن بلنسيةُ كاعبٌ ... وملبسُها السّندس الأخضرُ إذا جئتَها سَترت نفسها ... بأكمامها فهي لا تَظْهَر وهذه تورية مليحة، فإن الأكمام ها هنا أكمام الأزهار والأشجار. ولأبي الحسن بن الزقاق أيضا، وهو في الرقة يمتزج بالنسيم، ويعد في أنواع البديع من نوع مليح التقسيم: تضوعن أنفاساً وأشرقْن أوجهاً ... فهّن منيراتُ الصِفاحَ بَواسمُ لئن كُنّ زُهْراً فالجوانح أبرُجٌ ... وإن كنّ زهَراً فالقُلوب كمائم

وأنشدني جماعة من شيوخي، منهم سيدي أبي الفقيه الفضل أبو علي حسن ابن علي، وشاعر المغرب الأقصى ومفخرة في صناعة المحاكاة والتخييل أبو عبد الله محمد بن حسين بن حبوس، قالا: أنشدنا الوزير أبو عامر بن الحمارة: لله يومٌ كان فيه مُنادِمي ... وجهُ الحبيب وزهرةُ البستانِ صرعتنَي الّلّذاتُ فيه مَصارعاً ... ما شئتَ من رَوح ومن رَيحان يا صاحبيَّ تَمتَّعا من ساعة ... شُغِل الزَّمان بها عن الحدَثَان وله: لو كنتُ آملُ أن ألقاك في الحُلمُ ... لما قَرعتُ عليك السِّنَّ من نَدمِ يَحمي وصالكَ أعداءُ لهم رَصَدٌ ... ويصرفُ الطَّيفَ أنِّي بتُّ لم أنَم يا مُرسلاً سَهْمَ عينيه ليقتُلنَي ... من ذا أباحَ لذاك اللحظِ سفكَ دمي وله وقد أهدت إليه امرأة موصوفة بالجمال مسكاً: أتانا فَتِيتُ المسك يَعْبَق عَرْفُه ... ويُثنى على ذاك النَّدى والتَّكَرُّمِ فأشعَرني رَيَّا حَبيبٍ أعيرُه ... على رِقْبةٍ لَحظَ المَشوق المتيَّم فو الله لولا أن تقول لِي المُنَى ... وراءكَ لا تَقْدَم على غير مَقْدَم لحدَّثْت نفسي عند ذلك أنني ... أشَمُّ الذي ما بين عينيك والفم

وأهدت إِليه أخرى تُفّاحة فقال: بعثتْ إِلىّ كخدّها تُفّاحةً ... وكطَعمِ ريقتها رَحيقاً سَلْسلاَ فصرفتُ وجهي عنهُما ولقد أَرى ... مُترشَّفاً عَذْبَ الجَنى ومُقبَّلا كي لا يَغَار على الحبيب حبيبهُ ... فيقولَ بات بغيرنا متَعِلِّلاَ وله: لم أَعشق الشَّمس سماويّةً ... بعيدةً عن مركز العالَمِ إلاّ لأُضحِى في غَرامي بها ... أُعجوبةً بَين بني آدم أنشدني الشيخ الفقيهُ الأديبُ القاضي بمدينة فاس أبو محمدٍ عبدُ الله بنُ محمد ابن عيسى التَّادَلُّي رحمه الله، قال: أنشدني الوزير الأديبُ الشاعرُ المصيب أبو القاسم المَنيشِي لنفسه في زُرزور: أمِنبرٌ ذاك أم قضيبُ ... يَفْرعه مِصقعٌ خَطيبُ يختالُ في بُردتَي شَباب ... لم يتوضَّح بها مَشيب أخرسُ لكنّه فصيحٌ ... أبْلَه لكنّه لَبيب

أبو إسحاق الخفاجي إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله الخفاجي

ومن فحول شعراء الأندلس؛ مالكُ أزمّة القريض، وماسك راية التَّصريح فيه والتَّعريض؛ شعرهُ أرقّ من النّسيم، وآنقُ من المُحيَّا الوسيم، الوزير: أبو إسحاق الخفاجي إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله الخفاجي من أعيان مدينة شقر، وهي جزيرة قد أحدق النهر بها؛ كما أحدق بحدقة شفر؛ وحسبك من ماء سائح، وطائر صادح؛ وبطاح عرضة، ورياض أريضة؛ فلا ترى إلا انسجام الغمام، ولا تسمع إلا ترنم البلبل والحمام. فمن قوله: ومُهفهفٍ طاوِي الحَشَا ... خَنِث المَعاطف والنَّظَر بهر العيونَ بصورة ... تُلِيتُ محاسنُها سُوَر وإذا رَنا وإذا شَدا ... وإذا سَعى وإذا سَفَر فَضَح المُدامةَ والحَما ... مة والغَمامة والقَمر قول الخفاجي: وإذا رنا فضح المدامة مأخوذ كم قول القائل: وعَيْنَانِ قال الله كُونا فكانتا ... فَعُولان بالألباب ما تفعل الخَمرُ

ووصفه لها بالغمامة مأخوذ من قول الأعشى: كأنَّ مِشيتها من بيت جَارِتها ... مرُّ السَّحابة لا ريثٌ ولا عجلُ قال الوزير أبو إسحاق: سبب هذه القطعة أنى ذهبت يوماً أريد باب السمارين بشاطبة، ابتغاء الفرجة على جرية ذلك الماء بتلك الساقية، وذلك سنة ثمانين وأربعمائة، وإذا الفقيه أبو عمران بن أبي تليد رحمه الله قد سبقني إلى ذلك، فألفيته جالسا على مصطبة كانت هنالك مبنية لهذا الشأن، فسلمت عليه، وجلست إليه متأنسا به وبتلك الحال، فأنشد أثناء ما تناشدناه قول ابن رشيق رحمه الله: يا من يُّمر ولا تَمرُّ به القُلوب من الفَرَقْ بعِمَامةٍ من خدّه ... أو خَدُّه منها استَرَق فكأَنَّه وكأَنها ... قَمَرٌ تَعمَّم بالشَّفق فإذَا بدا وإذا مشى ... وإذا رَنا وإذا نَطَق شَغَل الجوانَح والجوا ... رحَ والخواطرَ والحدَق

فقال، وقد اعجب بها جدا: احسن ما في القطعة حسن سياقة الإعداد. فقلت له: هي حسنة، ولكنها دون موقعها منك. وإلا الست تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله، فينزل بإزاء كل واحد منها ما يلائمها. وهل يحسن أن ينزل بإزاء قوله: وإذا نطق: قوله: شغل الحدق. وكأنه نازعني القول في هذا. فقلت هذه القطعة المتقدمة انسج على ذلك المنوال. قال: فاستحسنها ابن أبي تليد. قلت: هذا تعسف. ولم يرد ابن رشيق مقابلة الأعداد بعضها ببعض، وإنما أراد أن جملة محاسن هذا النير الزاهر، شغلت جملة هذا المتأمل الناظر. وقد عارضه الخفاجي في هذا الروي: يا شَفَقًا ساطعاً على فَلَقْ ... يا ذَهباً سائلاً على وَرِقْ ما الحُسن إلا مُعصفَرُ شَرِق ... فاض على جسمٍ أبيضِ يَقَقْ قد نَصب الحُسنُ وجْهَه غَرضاً ... تَرشُقُه اسهٌم من الحَدَقْ أبْيَضَّ واخضرَّ شطُر عارِضه ... فاقترن النَّوْر منه بالوَرَق

أنشدني الفقيه الأجل القاضي بمدينة شقر أبو يوسف يعقوب بن محمد بن خلف ابن يونس بن طلحة للخفاجي: كتبتُ وقلبي في يديك أسيرُ ... يُقيم كما شَاء الهوَى وأسيرُ ولي كَّل حينٍ من هواكِ وأدمعي ... بكل مكانٍ روضةٌ وغدير وله: كتاُبنَا ولدينا البدرُ نَدْمانُ ... وعندنا لكُئوس الرَّاح شُهْبانُ والقُضْبُ مائسةٌ والطير ساجعة ... والأرض كاسِية والجوُّ عُريان وله: رب طِرْفٍ كالطَّرْفِ سُرعَة عَدْوٍ ... لَيس يَسري سُراهُ طيفُ الخَيَالِ إن سَرى في الدُّجى فبعضُ الدَّراري ... أو سَعى في الفَلا فإحدى السَّعالي لستُ ادري إن قِيد ليلة أسْرِى ... أو تَمطَّيته غداةَ قِتال أجَنُوبٌ مَقُودةٌ من جَنِيب ... أو شَمَال موضوعةٌ في شمالي جَال في أنْجُم من الحَلْيِ بِيضٍ ... وقَميِص من الصَّباح مُذال أشهبُ اللّون أثقلتْه حُلِيٌّ ... خَبَّ فيهنّ وهو مُلْقى الجِلاَل فبدَا الصُّبحُ مُلجَماً بالثُّرياّ ... وجَرى البرقُ مُسْرَجاً بالهلال

قال ذو النسبين، رضي الله عنه: وقد اخذ هذا المعنى بعض أهل عصره، يقال: هو أبو الصلت، فقال وزاد فيه معنى من معنى البديع، وهو التشكيل، فقال: وأشهبٍ كالشهابِ وافَي ... يَجُول في مُذَهب الجِلاَ قال حَسُودي وقد رآه ... يُجْنَب خَلْفي إلى القِتَال من ألْجَمَ الصُّبْح بالثريا ... وأسْرَج البرق بالهلال وقال الوزير أبو إسحاق بن خفاجة في قوس: عَوْجاءُ تُعطَف ثم تُرسَل تارةً ... فكأنما هي حَيّةٌ تَنسابُ وإذا أنْحَنَتْ والسَّهْمُ منها خارجٌ ... فَهْيَ الهِلاُل انقضَّ منه شهاب وله: وعسَى الليالِي أن تَمُنَّ بنَظْمنا ... عِقْداً كما كنا عليه وأفْضَلا فلربمّا نُثِرَ الجُمَانُ تعمُّداً ... ليُعادَ أحسنَ في النِّظام وأجملاَ

وهذا مأخوذ من قول مهيار: عسى الله يجعلُها فُرْقَةً ... تعودُ بأكرم مُستجَمعِ وله: حيَّا بِها ونَسيمُها كَنسيمِه ... فشَرِبْتُها من كفّه في وُدِه مُنساغَةً فكأَنها من رِيقه ... مُحمرَّة فكأَنها من خَدِّه وأنشدني الفقيه القاضي الفاضل أبو يوسف يعقوب بن محمد بن طلحة قال: أنشدني الوزير أبو إسحاق الخفاجي لنفسه في النيلوفر: ونِيلُوفَرٍ لم يَدْرِ ما مَسُّ حُرْقةٍ ... بُحبٍّ ولا مَا لوعةٌ وغرامُ يَهُبّ مع الإصباحِ من سِنةِ الكَرَى ... ويُطْبِق ليلاً جَفنَه فَيَنامُ وأنشدني له أيضا، يحمل على طلب العلم والتحلي به: عشْ طالباً أو عَليماً ... فالجهلُ عينُ المَحَّطهْ ولا يَصُدُّك يأسٌ ... عن نَيْلِ أشرِف خُطَّه فمبدأُ النار سِقْطٌ ... وأولُ الخطِّ نُقطة

ولما بلغ سن الكهولة، وأدرك من أقطار الشبيبة مأموله؛ نام فرأى أنه مستيقظ يفكر فيما سلف من بطالته، ويتحسر على ما فرط من تجريه على معصية الله واستطالته؛ ويتذكر ما مضى من شبابه، ومن انقضى منى أحبابه؛ ودمعه يباري صوب المزن في انصبابه، ويحكيه في انسجامه وانسكابه؛ فانتبه وهو منتبه لرشاده، مقبل على التزود لمعاده، منشد ما تنزعج القلوب من إنشاده: ألاَ سأجلْ دُموعيَ يا غَمامُ ... وطارِحْني بشَجْوك يا حَمَامُ فقد وفّيتُها ستّين حَوْلاً ... ونادتْني ورائيَ هل أمام وكنت ومِن لُباناتِي لُبَيْنَي ... هناك ومن مَراضِعِيَ المُدام يطالعُنا الصّباحُ ببطن حُزْوى ... فيُنكرنا ويَعرفُنا الظلاَّم وكان به البشَامُ مراحَ أُنسى ... فماذا بعدنا فَعل البَشَام فيا شرْخَ الشباب ألاَ لِقَاءٌ ... يُبَلُّ به على بَرْحٍ أوَام ُ ويا ظِلّ الشَّبابِ وكنتَ تَنْدَى ... على أفياءِ سَرْحَتِك السّلامُ

أبو محمد عبد الجليل بن وهبون

ومن شعراء جزيرة الأندلس وفحولها، البريء مطروق الأشعار ومنحولها، ذو الآداب والفنون: أبو محمد عبد الجليل بن وهبون دخل على السلطان أبي القاسم محمد بن عباد يوماً، وهو ينشد قول المتنبي: إذا ظفرت منك العيونُ بنظرةٍ ... أثاب بها مُعْيي المطيِّ ورَازِمُهْ وجعل يردده استحساناً له. فقال عبد الجليل بديهاً: لئن جاد شعرُ ابن الحُسين فإنما ... تُجيد العطايا واللُّهي تفتح اللَّهَا تَنَّبأ عُجباً بالقريض ولو دَرَى ... بأنّك تَرويه إذا لتألَّها فأمر له بمائتي دينار، وهو مثل قديم. قال أبو سعيد القصار في جعفر بن يحيى: لابن يَحيى مآثٌر ... بلغتْ بي إلى السُّهَا جادَ شِعْري بجُوده ... واللُّهي تَفتح اللَّها اللهي، بالضم: العطايا؛ واحدها: لهوة ولهية. واصلها: القبضة من الطعام تلقى في الرحى لتطحن، فجعلت الدفعة من المال المعطى لهوة. وأما اللها، بالفتح فجمع لهاة: الحلق.

ولما جاز السلطان ابن عباد البحر المسمى بالمحيط إلى مدينة سبتة، قاصداً لأمير المسلمين، وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين للاستنجاد به على الروم، وقد راموا الوثوب على الأندلس، بعد أخذ طليطلة، وهجموا على بلادها أقبح هجوم قال: أحاط جودُك بالدُّنيا فليس له ... إلا المُحيطُ مثالٌ حين يُعتَبرُ وما حسبتُ بأن الكلَّ يحمُله ... بعضٌ ولا كاملاً يَحويه مُختصَر لم تَثْنِ عنك يداً أرجاءُ ضفَّته ... إلا ومَّدت يداً أرجاؤُه الأَخر كأنّما البحرُ عينٌ أنت ناظرُها ... وكل شَطٍّ بأشخاص الوَرى شُفُر تأتي البلادَ فتَنْدَى منك أوجهُها ... حتى يقول ثَراها هل هَمَي المطر ما القَفْر إلا مكانٌ لا تَحُلُّ به ... وحيثُما سرْتَ سار البدوُ والحَضَر الأرضُ داركُ فاسْلُك حيثُ شئتَ بها ... هو المُقام وإن قالوا هو السّفَر وله قصيدة يمدح ابن عباد، ويذكر ثباته يوم الوقعة بين جيوش المسلمين والورم بالموضع المعروف بالزلاقة من عمل بطليوس، وكانت الزلاقة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، قتل

فيها من شجعان النصارى ثلاثون ألف فارس. ذكره النسابة أبو محمد الرشاطي في كتاب: اقتباس النور ومن الرجالة ما لا يحصى، وطعن فرس ابن عباد تحته، فكبا به، فسقط عنه. فقدم إليه بعض من ثبت من جنده معه فرساً، فركبه وأبلى بلاء حسناً وقاتل قتالا شديدا - منها: ولم يَثْبت من الأشياعِ إلا ... شقيقُك وهو صارمُك الحُسَامُ يَمانٍ في يدَيْ ماضٍ يَمَانٍ ... فلا نابِي الغِرَارِ ولا كَهَام ولم يحمْلك طِرفْك بل فؤادٌ ... تعَّود أن يُخاض به الحِمَام ثَبتّ به ثَباتَ القُطْب لمّا ... أدَار رَحاه خَطْبٌ لا يُرام ومنها: مضَوْا في أمرِهم سَحَراً ودارتْ ... بما عَقدُوا من الحَلفِ المُدامُ فردّوها عَلَى الشَّفرات بيضاً ... وجدَّدَ في تعاطيها النِّدام وما أخذتهمُ الأسياف لكن ... صواعقُ لا يبوخُ لها ضِرام باخ الحر، إذا سكن، يبوخ بالخاء المعجمة. وباخت النار والحرب، إذا سكنتا. إذا ما برقةٌ برقَت عليهم ... فإنّ القَطْر أعضادٌ وهاُم

ومنها يصف انهزام أذفونش تحت الظلام بجيشه منهم، وإلقاء الدروع عنه وعنهم: ستسألك النّساءُ ولا رجالٌ ... فحدِّث ما وراَءكَ يا عصامُ وراقبها بأرِضك طالعاتٍ ... كما تُهدِي صَواعقَها الغمامُ ومنها: فإن شئتَ اللُّجينَ فَّثم ساُم ... وإن شئت النظار فثَّم حاُم ومنها: نضَا أدراعَه واجْتَابَ ليلاً ... يودّ لو انه في الطُّول عاُم وله يتشوق إلى ابن عباد، وقد حضر بالمرية في بعض الأعياد، والشعراء ينشدون المعتصم بالله أبا يحيى محمد بن معن بن صمادح سلطان تلك البلاد: دنا العيد لو تَدْنو به كعبةُ المُنى ... ورُكْنُ المَعالي من ذُؤابة يَعُرب فيا ويلتَا للشعر تُرمي جماره ... ويا بُعد ما بيني وبين المُحصَّبِ

وكان عبد الجليل منطقاً بما يقول، يجري على لسانه المقول. حدثنا غير واحد من شيوخنا رحمهم الله، منهم سلطان بلنسية أبو عبد الملك بن عبد العزيز، والوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، والفقيه القاضي بجزيرة شقر أبو يوسف يعقوب بن طلحة، قالوا: حدثنا الوزير أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة قال: لقيت الشاعر أبا محمد عبد الجليل بين لورقة والمرية، فبتنا نتناشد الأشعار، ونتذاكر الآداب والأخبار؛ فلما انفجر عمود الصباح، وحيعل داعي الفلاح؛ وكان العدو على مقربة من البلاد، والناس في ضروب من الخوف والأنكاد؛ سرنا وفؤاد عبد الجليل يطير فرقاً، وفرائصه ترعد قلقاً؛ فأخذت أسكن روعه بأناشيد من القريض، وهو لما داخله من الوجل كالمدنف المريض؛ لا يبدي ولا يعيد، إلى أن اطلعت لنا اليد؛ مشهدين وعليهما رأسان يخاطبان، من الحال بأفصح لسان؛ فقلت مرتجلا، والركب يجد السير من الفزع عجلا: ألا رُبَّ رأسٍ لا تَزاورَ بينه ... وبين أخيه والمَزارُ قَريبُ أنافَ به صَلْدُ الصَّفا فهو مِنْبٌر ... وقام على أعلاه وهو خَطيب ُ

فثاب لعبد الجليل عقله، وآب إليه ذكاؤه ونبله، فقال: يقول حِذاراً لا اغتراراً فطالما ... أناخَ قتيلٌ بي ومرَّ سَليبُ ويُنشدنا: إنَّا غريبان هَاهنا ... وكلُّ غَريبٍ للغريب نسيبُ فإنْ لم يَزْره صاحبٌ أو خَليلُه ... فقد زاره نَسْرٌ هناك وذِيب فها هو: أمَّا منظرا فهو ضاحك ... إليك وأما نَصْبةً فكَئِيب يريد بقوله أما منظرا فهو ضاحك أن ذلك الرأس قد ذهبت عنه جلدته بطول بلاه، فهو بحسب مرآه كأنه ضاحك، وبحسب معناه كأنه كئيب. ولم يذكر الفتح منها في قلائده لعبد الجليل سوى بيت، هو قوله: يقول حِذَاراً لا اغتراراً فطالَما ... أناخ قتيلُ بي ومَرّ سَلِيبُ وانه قتل من ساعته كما ذكرناه، والله الموفق لا رب سواه؛ فما أتم قوله إلا وعجاجة قد ارتفعت، وكتيبة قد طلعت؛ فما انجلت إلا وعبد الجليل قتيل وأنا سليب، وهذا فأل عجيب، وافقه قدر مصيب.

أبو جعفر أحمد بن محمد البتي

قال ذو النسبين، رضى الله عنه: ومن شعراء الأندلس الذين أنجدت بأقوالهم الحداة واتهمت، واعرقت بها الرواة وأشأمت، الأديب: أبو جعفر أحمد بن محمد البتي إلا انه كان خبيث اللسان، ما كف هجوه عن إنسان، ما برح مدة حياته منتزحا عن الأوطان، خائفاً مترقباً من السلطان؛ لما شهد به الناس عليه، ونسبوه إليه؛ من الزندقة والإلحاد، وإنكار حشر الأجساد؛ وانكبابه على الاشتغال بكتب ابن سينا وانكفافه، وميله عن الكتاب والسنة وانحرافه؛ وقد وجد هالكا في حفرة تتمزق فيها اللحام والجلود، وتنهشها الحشرات العابثة والدود، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيتوب ولا مرجع إلى الدنيا ولا مردود. فمن مليح ما حدثنا عنه، وسمعه أشياخنا منه؛ أنه ساقته يوماً سوائق الأقدار، في بعض الأسفار؛ وقد ولى شباب النهار؛ إلى خان بمغيلة من أنظار فاس، تأوي إليه الغرباء من الناس؛ فتبوأ من بيوته أحرجها، وأهجنها وأسمجها. وكان من معاصريه الأستاذ

أبو بكر اليكي وكان مثله في أخذ الأعراض والهجاء، والتقدم بين فرسان تلك الهيجاء؛ وكل واحد منهما على لقاء صاحبه حريص، بيد أن ماله عن ملازمة مركزه محيص. فبينما ابن البتي جالس بذلك البيت وقد انسدلت ستور الظلام، وهمعت دموع الغمام؛ إذ هجم عليه لتوقي المطر رجل فسلم وجلس، وأذكى الخاني القبس، فقال أبو بكر اليكي: وقِنديلٍ كأنّ الضوَء منه ... مُحيَّا من أحِبُّ إذا تَجلَّى فأجابه أبو جعفر بن البتي بقوله: أشار إلى الدُّجى بلسان أفعى ... فشَمَّر ذَيلَه فَرَقاً ووَلَّى فقال: أنت البتي! فقال: أنت اليكي! فتعانقا وباتا يقتطفان ثمر السمر، إلى أن غارت النجوم وغاب وجه القمر.

أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم

ومن شعراء المعتصم بالله أبي يحيى محمد بن معن بن أبي يحيى محمد بن صمادح التجيبي، صاحب مدينة المرية وأعمالها السنية: الأديب أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم فمن شعره: سَكران لا أدري وقد وافَى الكَرى ... أمن المَلاحة أم من الجِرْيان تَتنفّسُ الصهباء في لَهَواته ... كتنفُّس الرَّيحان في الآصال وكأنما الخِيلانُ في وَجَنَاته ... ساعاتُ هَجر في زَمان وصَال وله أيضا: لبسوا من الزَّرَد المُضاعَف نَسْجُه ... ماءً طفت للبيض فيه حَبابُ صَفٌّ كحاشية الرِّداء يَؤُمّه ... صَفُّ القَنَا فكأنه هُدَّابُ وهذا من قول عبد الجليل بن وهبون في ابن عباد، وقد تقدم: كأنّما البحر عينٌ أنتَ ناظرُها ... وكلُّ شط بأشخاص الورى شُفُرُ وقال أبو إسحاق الخفاجي: وغَدَت تَحُفُّ به الغُصُون كأنّها ... هُدْبٌ تَحُفُّ بمُقْلةٍ زَرْقاءِ

أبو حفص ابن برد أحمد بن محمد بن أحمد بن برد

ومن شعراء الأندلس، وأصحاب ممالكها الدرس، الأديب الكاتب: أبو حفص ابن برد أحمد بنُ محمدِ بنِ أحمد بنِ بُرد مولى أبي عامر بن شهيد المبدع في التشبيه والتمثيل، والبارع في المحاكاة والتخييل، من أهل بيت جليل. له رسالة في السيف والقلم والمفاخرة بينهما، وهو أول من سبق إلى القول في ذلك بالأندلس. وله في النرجس، وأهل الأندلس يسمونه البهار، واسمه في اللغة العبهر: تنبَّه فقد شقَّ البَهارُ مغلِّسا ... كمائمَه عن نُوره الخَضِل النِّدي مَداهنُ تِبْرٍ في أنامل فضّة ... على أذْرُع مَخْروطةٍ من زَبَرْجد وهذا من مليح التشبيهات في النرجس، وبديعها وغريبها وصنيعها. واكثر ما تواردت خواطر الشعراء على تشبيهه بالعيون المراض، كقول أبي عبد الله محمد بن الحسن الكاتب من شعراء جزيرة صقلية، أعادها الله بعزته على الإسلام: بخدّك آسٌ وتفّاحةٌ ... وعَينك نَرْجسةٌ ذابِلَهْ وريقُك من طِيبه قَهوةٌ ... فوجُهك لي دَعْوة كامله

وقال آخر من أهل العصر: غَزالٌ له في كُلّ عضو محاسنٌ ... يقومُ لخَلاّع العِذار به العُذْرُ فوجنتُه وردٌ وعيناه نرجسٌ ... ومَبْسِمه كأسٌ وريقُته خمرُ وهو تشبيه غير أنيق، إذا حك بمحك التحقيق؛ لان بين نرجس الحدائق والأحداق، الموصوفة بالدعج وتكحيل الآماق؛ من التباين ما بين الأضداد، وليس يحسن أن تحل الصفرة في موضع السواد؛ فتشبيهه بعيون الهرر أولى من تشبيهه بعيون الناس، في حكم القياس. وإنما حسن تشببهه بذلك لموضع إحاطة البياض بالصفرة، كإحاطة بياض العين بسوادها فقط. وليس تشبيههم الخدود بالورد من هذا النمط؛ فإنها تشبهها في تضرجها بالحمرة ونعومتها، ونداها ونضرتها. وكذلك الأقاح بالثغور. والأقاح: جمع الأقحوان؛ لان له ورقا ابيض يشبه الثغر به. وقد لاحظنا في هذا المعنى ما لم نعلم أحداً ممن عنى بنقد الشعر قبلنا لاحظه، ولا كشف قناع معناه. ولأبى نواس مقاطيع في تفضيل النرجس على الورد، منها المقطوع الذي أوله: أين الخدودُ من العيون نفاسَةً ... ورياسةً لولا القياسُ الفاسدُ

اللغة: يقال: أخضلت الشيء: إذا بللته، وخضل، أي رطب - ولابن برد هذا: لما بدا في الَّلازَوَرْ ... ديِّ الحرير وقد بَهْر كبَّرتُ من فرط الجما ... ل وقلت ما هذا بَشَر فأجابني لا تُنكِرَنْ ... ثوبَ السماء على القمر وأنشدني الوزير الكاتب الناظم، الناثر أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور بمنزله بمدينة شاطبة قال: أنشدنا الفقيه الأجل، العالم الأكمل، الزاهد الأفضل قاضي القضاة، وعلم الرواة، أبو علي محمد بن حسين الصدفي، يعرف بابن سكرة، قال: أنشدنا الفقيه الأجل أبو زيد عبد الرحمن بن شاطر السرقسطي لنفسه، وكان نسيج وحده، وشاعر بلده: ولائمةٍ لي إذ رأتْني مُشمِّراً ... أهَرْولُ في سُبْلِ الصبا خالِعَ العُذْرِ تقول تنبّه ويكَ من رَقدة الصِّبا ... فقد دَبّ صبُح الشَّيب في غَسَق الشَّعْرِ فقلت لها كُفّى عن العَتْب واعلمي ... بأنّ ألذَّ النّوم إغفاءةُ الفَجْر

وتنسك هذا الرجل في آخر عمره، وراجع بصيرته في مستأنف أمره. وأنشدني غير واحد من شيوخي - رحمهم الله - للأديب العالم أبي علي إدريس ابن اليمان من أهل جزيرة يابسة، وقد رأيت هذه الجزيرة، وهي ضد اسمها، لكثرة شجرها وخصبها. وقد أجاز لنا الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان، نسيب ابن البطي، وابن ينيمان الهمداني، قالا: أنبأنا الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، قال: أنشدني عنه أبو عثمان خلف بن هرون القطيني من قصيدة طويلة يمدح بها إقبال الدولة على بن مجاهد العامري: ثقلت زجاجاتٌ أتتنا فُرغَّاً ... حتى إذا ملئت بصرف الرّاحِ خفت فكادَت تستطير بما حَوَت ... وكذا الجسوم تَخفُّ بالأرواحِ قال الحميدي: ومما يستحسن له في صفة الدرق: إلى مُوشَّجة الأبشار من دَرَق ... يكاد منها صَفَا الفُولاذ يَنفطرُ مؤنّثات ولكن كلّما قُرعت ... تأنّث الرُّمح والصَّمصامة الذكر

وأنشدنا الفقيه الأستاذ المحرز لقصب السبق في كل خير، أبو بكر محمد بن خير، قال: أنشدنا غير واحد، قالوا: أنشدنا الوزير أبو الحسين سراج بن عبد الملك ابن سراج، كبير دار الخلافة، المنفرد بالشرف والإنافة؛ يخاطب الملك الراضي ابن المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن عباد. قال ذو النسبين رضي الله عنه: وقد أدركت جماعة من أصحاب أبي الحسين ابن سراج، ورحلت إلى قرطبة أم بلاد الأندلس، فأنشدني الشيخ الفقيه المحدث المؤرخ القاضي بأركش أبو القاسم بن بشكوال، قال: أنشدنا أبو القاسم خلف بن عمر صاحبنا، قال: أنشدنا أبو الحسين بن سراج لنفسه: بُثَّ الصّنائعَ لا تَحفل بموقِعها ... من آمل شَكَر الإحسان أو كَفراَ فالغيثُ ليس يبالي أينما انسكَبتْ ... منه الغمائِمُ تُرباً كان أو حَجراَ قيدنا بث الصنائع بفتح الثاء، إذ الفتحة أخف الحركات والعرب تؤثرها. ويجوز كسر الثاء لالتقاء الساكنين، كما روى النحويون بيت الحرير: فغُضّ الطّرف إنّك من نُمَير ... فلا كَعْباً بلغَت ولا كِلاَبَا فجوزوا كسر الضاد من غض لالتقاء الساكنين، وفتحها لخفة الفتحة، وضمها على اتباع الضمة قبلها وهو أضعفها. وله نظائر في النحو كثيرة.

أبو بكر يحيى بن سهل اليكي

وأنشدونا له أيضا: قالوا به صُفرةٌ عابت محاسَنه ... فقلتُ ما ذاك من داء به نَزلاَ عَيناه تُطلب من ثأرٍ بما قَتلت ... فليس تَلقاه إلا خائفا وجِلا وأنشدونا للفقيه الأجل المؤرخ صاحب الرحلة المذكورة، والتصانيف المشهورة، أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي، المعروف بابن الفرضي، القاضي بمدينة بلنسية: إنّ الذي أصبحتُ طَوْعَ يَمينه ... إنْ لم يكن قمراً فليس بدُونِهِ ذُلّي له في الحُبّ من سُلطانه ... وسَقَام جِسْمي من سَقام جفُونه وممن اشتهر عندنا بالشعر والأدب، ونظم منه مثل. الدرر وصاغ سبيه الذهب، إلا أنه أفرط في الإقذاع في الهجو فهجر لهذا السبب: أبو بكرٍ يحيى بن سهل اليكّي ويكة بياء مثناة باثنتين من أسفل: حصن في جوف مدينة مرسية، على خمسة وأربعين ميلا منها، وتشتبه ببكة، بالباء بواحدة من أسفل. وهي على مقربة من جزيرة طريف على ساحل البحر الملح، رأيتها غير مرة.

يحيى بن حكم الغزال

فمن قوله في الغزل مما أنشدنيه جماعة من أصحابه: وقائلٍ فيم لم تَهْجَع فقلت له ... كيف الهجُوع بَطْرف نافرِ الوَسَنِ لم يَدْرِ أنّ الكَرى الممنوعَ عن بَصَرِي ... تلك السِّناتُ الّتي في مُقْلَتَيْ حَسَنِ وله: يُوسفُ يا بُغْيَتِي وأنْسِي ... صَيَّرني مُغْرماً هَواكَا ملكتَ قلبي وأنتَ فيه ... كيف حَوَيتَ الذّي حوَاكا ومن قدماء شعراء صاحب الأندلس، أبي المطرف عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان: يَحيى بنُ حَكَم الغَزَال القاعد على كيوان، شاعر ذلك الأوان؛ وقد اثبت له من قوله ما يشهد بإبداعه، وحسن تصرفه في المعاني واختراعه، وطول يده في الأدب وامتداد باعه. فمن قوله فيما ذكره تمام بن علقمة في تاريخه: بعَضَ تَصابيكَ على زَينب ... لا خَيَرَ في الصَّبوة للأشْيَب

أبعد خمسينَ تقضَّيتَها ... وافيةً تَصْبو إلى الرَّبربِ كلّ رَدَاح الرِّدْف خُمْصانٍة ... كالمُهرةِ الضَّامرِ لم تُركَب وفيه تشبيب حسن كثير اختصرناه لطوله، وقال في المديح منه: مَن مُبلغٌ عنِّي إمامَ الهُدى ... الوارثَ المَجد أباً عن أبِ أنّىِ إذا أطْنَبَ مُدَّاحُه ... قصدتُ في القول فلم أطْنِبِ لا فَكَّ عنَّي الله إن لم تكن ... أذكرتَنَا من عُمَرَ الطَيِّب وأصبح المشْرِقُ من شوقه ... إليك قد حنَّ إلى المغرب منبرهُ يَهتفُ من وَجْده ... إليك بالسَّهل وبالمَرْحبِ أطرَبَه الوقتُ الذي قد دنا ... وكان من قبلك لم يَطربِ هَفَا به الوجدُ فلو مِنبرٌ ... طَارَ لَوافَي خَطفَةَ الكوكَب إلى جميلِ الوجه ذِي هَيبةٍ ... ليست لحامِي الغابةِ المُغضَب لا يُمكنُ النّاظرَ من رؤية ... إلا التماحَ الخائِف المُذنِب كنا نعجب بقول البحتري ونستغربه في قوله لجعفر المتوكل: فلو أنّ مشتاقا تَكلّف غيرَ مَا ... في وُسعه لسعَى إليك المنبرُ

حتى إذا رأينا قول الغزال، وعلمنا انه سبق إليه بزمانه، على أن البحتري استحقه أيضا بإحسانه، لأنه أتى بالمعنى في بيت واحد، واختصره اختصارا حسنا. كما أن قول الغزال: لا يُمكن النّاظَر من رُؤيةٍ ... إلا التماحَ الخائفِ المُذنبِ حسن جدا في معنى الهيبة، وقد أخذه منهم محمد بن أبي الحسن، فقال ووأحسن، وزاد في المعنى وبين: كأنا من الإجلالِ تحت غَمامةٍ ... نُطَأطي لها بالرُّعب كلَّ الأحاين كأناّ قُرِفنا باجْترامٍ ومالنا ... لساٌن يُقوينا بِعُذْر مُباين ولبعض أهل البلاد من قصيد يمدح به أمير المسلمين علياً: أراكَ ملأت الخافِقَين مهابةً ... لهَا مَا تُلِيح الشّهبُ في الخَفَقانِ وتُغضى العيونُ عن سنَاك كأنّها ... تُقابِلُ منك الشّمس في اللَّمعان ولو سقنا جميع ما لأهل قطرنا في مثل هذا لخرجنا عن غرضنا. فلنرجع إلى شعر الغزال فإنه قال في آخره: إن تُرد المَاَل فإني امرؤٌ ... لم اجَمع المالَ ولم اكْسِبِ إذا أخذتَ الحقَّ مِنِّي فلا ... تَلتَمِس الرّبح ولا تَرغَب قَد أحسنَ الله إلينَا معا ... إن كان رأس المال لم يذهب

والسبب في نظم هذا الشعر أن أبا المطرف عبد الرحمن المذكور كان ولاه قبض الأعشار ببلاط مروان واختزانها في الأهراء. وكان توسل إليه بمديح مدحه به، فنفق الطعام في ذلك العام، وسما السعر بالقحط سموا كثيرا، فوضع يده في البيع حتى أتى على ما كان عنده في الأهراء. ثم إنه نزل الغيث ورخص الطعام، فأعلم السلطان بما صنع الغزال من البيع، فأنكره وقال: إنما تعد الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد، فماذا صنع الخبيث! خذوه بأداء ما باع من أثمانها واشتروا به طعاما، واصرفوه في الأهراء إلى وقت الحاجة إليه. فلما طلب منه ثمن ما باع أبى من ذلك وقال: إنما أشتري لكم من الطعام عدد ما بعت من الإمداد، وبين العددين بون كثير نحو من ثلاثين ألفا. فأعلم السلطان بامتناعه من الأداء، وبما ذهب إليه من شراء مثل ما باع. فأمر بسجنه وحمله إليه في الكبل، فسيق منها إلى قرطبة، وسجن بها فصنع هذا القصيد، ورفعه إليه. فلما قرئ شعره أعجب به، واعجب به الحاضرون، وقال له بعضهم: لقد أنصفك الغزال في قوله: قد أحسنَ الله إلينا معاً ... إن كان رأسُ المال لم يذهبِ فإنه لو ذهب أيها الإمام، أي ذمة كانت تفي به للغزال، مع ما هو عليه من الانهماك في الشهوات وقلة المال! فضحك الإمام وأمر بإطلاقه.

وكان عبد الرحمن من أهل العلم، متسما بالكرم والحلم، قديرا على النثر والنظم. له غلام جميل كان له، اسمه بدر: أنظُر إلى بدرٍ وكي ... ف بدَا بصفحته العِذَارْ فكأنَّه بدرُ التّما ... م بَدا بِه طرَف السّرِار وقال ذو النسبين رضي الله عنه: وأنشدني الوزير الكاتب أبو عبد الله محمد ابن أبي القاسم بن عميرة، قال: أنشدني ذو الوزارتين أبو محمد قال: أنشدني أبي ذو الوزارتين أبو الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج اللورقي في ذم العذار: أبَا جعفر مات فيك الجما ... لُ فأظهرَ خدك لبُسَ الحِدَادِ وقد كانَ ينُبت نَور الرَّبي ... ع فأصبحَ ينبُت شَوك القَتَاد أبِن لي مَتَى كان بدرُ السَّما ... ء يُدرَك بالكون أو بالفَساد وهل كنتَ في المُلْك من عبد شم ... سٍ فأخْشى عليك لباسَ السّواد

وفي ضدّه قولُ الأستاذ أبي محمد بن سَارة في مدحه: ومُعذَّرٍ رقَّت حواشي حُسْنه ... فقلوبُنَا وَجْداً عليه رِقَاقُ لم يُكْسَ عارضُه السّوادَ وإِنّما ... نَفَضت عليه صباغَها الأحداقُ وهذا أيضا من الغَريب العجيب. ومن احسن ما رأيتُ فيه مما انفردَ قائلُه بمعناه، ولم يَشْرَكه فيه أحد سواه، قولُ أبي مروان عبِد الله بن سُريَّة البَلَنْسى: دبّ العِذَارُ بخدّه ثم انْثَنى ... لما دَنا من لَثم فيه الأَشنبِ لا غَرْوَ إِن خُشِى الرَّدى في لَثْمه ... فالرِّيق سُمٌّ قاتِلٌ للعَقرب وما أوردناه في العِذار من النظم، هو من المعاني العُقم، وإنما اجْتُلِبتْ هذه الأبيات صلةً لأبيات السلطان عبد الرحمن والشّيُء يذكر بمثله، تغمّدنا الله بفضله. ولما وفَد على السّلطان عبد الرحمن رُسلُ مَلكِ المحبوس تطلبُ الصلح بعد خروجهم من إشبيلية، وإيِقاعِهم بجبهاتها ثم هزيمَتِهم بها، وقَتْل قائد الأسطول

فيها، رأى أن يراجعهم بقبول ذلك، فأمر الغَزَال أن يمشي في رسالته مع رسُل ملكهم، لما كان الغزال عليه من حدة الخاطر، وبديهة الرأي، وحسن الجواب والنجدة والإقدام والدخول والخروج من كل باب، وصحبته يحيى ابن حبيب، فنهض إلى مدينة شلب، وقد أنشئ لهما مركب حسن كامل الآلة، وروجع ملك المحبوس على رسالته وكوفئ على هديته، ومشى رسول ملكهم في مركبهم الذي جاءوا فيه مع مركب الغزال، فلما حاذوا الطرف الأعظم الداخل في البحر الذي هو حد الأندلس في آخر الغرب، وهو الجبل المعروف بألوية هاج عليهم البحر، وعصفت بهم ريح شديدة وحصلوا في الحد الذي وصف الغزال في قوله: قال لي يحيَى وصِرْ ... نا بَين موجٍ كالجبالِ وتولَّتنا رياحٌ ... من دَبُور وشَمالِ شَقَّت القِلْعَين وأن ... بَتَّتْ عُرا تِلك الحِبال وتَمطَّى ملَكُ المو ... ت إلينا عن حِيَال فرأينا الموت رأىَ العين حالاً بعد حالِ لم يكن للقومِ فينا ... يا رفِيقِي رأسُ مال

وهذا القصيد يجول عليه رونق الانطباع، وهو القريب غير المستطاع؛ ورأيت له في الغزل من هذا القصيد معنى انفرد باختراعه، وأبدع ما شاء في إبداعه، وهو قوله: وسُليمَى ذاتُ زُهدٍ ... في زَهيدٍ من وِصَالِ كلَّما قُلت صِلينِي ... حَاسَبْتنِي بالخَيال وهذا اختراع عجيب، ومعنى غريب. وزاد فيه بعد ذلك، فقال: والكَرى قد مُنِعَتْهُ ... مُقلًتِي أخْرى اللَّيالي وهي أدرى فَلِمَاذا ... دَافعَتْنِي بمُحَال أتُراني أقتضيها ... بعدُ شيئاً من نَوال ثم أن الغزال سلم من هول تلك البحار، وركوب الأخطار؛ ووصل أول بلاد المجوس إلى جزيرة من جزائرها فأقاموا فيها أياماً واصلحوا مراكبهم، وأجموا أنفسهم. وتقدم مركب المجوس إلى ملكهم، فأعلمه بلحاق الرسل معهم، فسر بذلك ووجه فيهم، فمشوا إليه إلى مستقر ملكه، وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط، فيها مياه مطردة وجنات، وبينها وبين البر ثلاث مجار، وهي ثلاثمائة ميل، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم. وتقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة. منها صغار وكبار، أهلها كلهم مجوس، وما يليهم من البر أيضا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية وقد تركوا عبادة النار، ودينهم الذي كانوا عليه، ورجعوا نصارى إلا أهل جزائر منقطعة لهم في البحر هم على دينهم

الأول من عبادة النار، ونكاح الأم والأخت وغير ذلك من أصناف الشنار. وهؤلاء يقاتلونهم ويسبونهم. فأمر لهم الملك بمنزل حسن من منازلهم، واخرج إليهم من يلقاهم، واحتفل المجوس لرؤيتهم. فرأوا العجب العجيب من أشكالهم وأزيائهم. ثم إنهم انزلوا في كرامة، وأقاموا يومهم ذلك، واستدعاهم بعد يومين إلى رؤيته، فاشترط الغزال عليه ألا يسجد له ولا يخرجهما عن شيء من سنتهما، فأجبهما إلى ذلك. فلما مشيا إليه قعد لهما في أحسن هيئة، وأمر بالمدخل الذي يفضي إليه، فضيق حتى لا يدخل عليه أحد إلا راكعاً، فلما وصل إليه جلس إلى الأرض وقدم رجليه وزحف على أليته زحفة، فلما جاز الباب استوى واقفاً. والملك قد أعد له وأحفل في السلاح والزينة الكاملة. فما هاله ذلك ولا ذعره، بل قام ماثلاً بين يديه، فقال: السلام عليك أيها الملك وعلى من ضمه مشهدك، والتحية الكريمة لك، ولازلت تمتع بالعز والبقاء والكرامة الماضية بك إلى شرف الدنيا والآخرة، المتصلة بالدوام في جوار الحي القيوم، الذي كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه المرجع. ففسر له الترجمان ما قاله، فأعظم الكلام، وقال: هذا حكيم من حكماء القوم، وداهية من دهاتهم، وعجب من جلوسه إلى الأرض وتقديمه رجليه في الدخول، وقال: أردنا أن نذله، فقابل وجوهنا بنعليه! ولولا انه رسول لأنكرنا ذلك عليه. ثم دفع إليه كتاب السلطان عبد الرحمن وقرئ عليه الكتاب، وفسر له. فأستحسنه وأخذه في يده، فرفعه ثم وضعه في حجره، وأمر بالهدية ففتحت عيابها، ووقف على جميع ما اشتملت عليه من الثياب والأواني! فأعجب بها، وأمر بهم فانصرفوا إلى منزلهم ووسع الجراية عليهم.

وللغزال معهم مجالس مذكورة، ومقاوم مشهورة؛ في بعضها جادل علماءهم فبكتهم، وفي بعضها ناضل شجعانهم فأثبتهم. ولما سمعت امرأة ملك المجوس بذكر الغزال وجهت فيه لتراه، فلما دخل عليها سلم، ثم شخص فيها طويلاً ينظرها نظر المتعجب. فقالت لترجمانها: سله عن إدمان نظره لماذا هو؟ ألفرط استحسان أم لضد ذلك؟ فقال: ما هو أني لم أتوهم أن في العالم منظراً مثل هذا، وقد رأيت عند ملكنا نساء انتخبن له من جميع الأمم فلم أر فيهن حسناً يشبه هذا. فقالت لترجمانها: سله أمجد هو أم هازل؟ فقال: لا، بل مجد. فقالت له: فليس في بلدهم إذا جمال! فقال الغزال: فاعرضوا علي من نسائكم حتى أقيسها بها. فوجهت الملكة في نساء معلومات بالجمال فحضرن، فصعد فيهن وصوب ثم قال: فيهن جمال وليس كجمال الملكة، لأن الحسن الذي لها والصفات المناسبة ليس يميزه كل أحد، وإنما يعني به الشعراء، وإن أحبت الملكة أن أصف حسنها وحسبها وعقلها في شعر يروي في جميع بلادنا فعلت ذلك. فسرت بذلك سروراً عظيماً وزهيت، وأمرت له بصلة، فامتنع من أخذها الغزال، وقال: لا أفعل. فقالت للترجمان: سله، لم لا يقبل صلتي؟ ألأنه حقرها أم لأنه حقرني؟ فسأله، فقال الغزال: إن صلتها لجزيلة، وإن الأخذ منها لتشرف لأنها ملكة بنت ملك، ولكن كفاني من الصلة نظري إليها وإقبالها علي، فحسبي ذلك صلة. وإنما أريد أن تصلني بالوصول إليها أبداً. فلما فسر لها الترجمان كلامه زادت منه سرورا وعجبا، وقالت: تحمل صلته إليه، ومتى أحب أن يأتيني زائرا فعلا

يحجب، وله عندي من الكرامة والرحب والسعة. فشكرها الغزال، ودعا لها وأنصرف. قال تمام بن علقمة: سمعت الغزال يحدث بهذا الحديث، فقلت له: وكان لها من الجمال في نفسها بعض هذه المنزلة التي صورت؟ فقال: وأبيك، لقد كانت فيها حلاوة، ولكني اجتلبت بهذا القول محبتها، ونلت منها فوق ما أردت. قال تمام بن علقمة: وأخبرني أحد أصحابه، قال: أولعت زوجة ملك المجوس بالغزال فكانت لا تصبر عنه يوما حتى توجه فيه، ويقيم عندها يحدثها بسير المسلمين وأخبارهم وبلادهم، وبمن يجاورهم وبلادهم، وبمن يجاورهم من الأمم. فقلما انصرف يوما قط من عندها إلا اتبعته هدية، تلطفه بها من ثياب أو طعام أو طيب، حتى شاع خبرها معه، وأنكره أصحابه، وحذر منه الغزال، فحذر وأغب زيارتها. فباحثته عن ذلك، فقال لها ما حذر منه. فضحكت، وقالت له: ليس في ديننا نحن هذا، ولا عندنا غيرة، ولا نساؤنا مع رجالنا إلا باختيارهن، تقيم المرآة معه ما أحبت، وتفارقه إذا كرهت. وأما عادة المجوس قبل أن يصل إليهم دين رومة، فألا يمتنع أحد من النساء على أحد من الرجال، إلا أن يصحب الشريفة الوضيع، فتعير بذلك، ويحجره عليها أهلها فلما سمع ذلك الغزال من قولها أنس إليه وعاد إلى استرساله. قال تمام: كان الغزال في اكتهاله ويسما، وكان في صباه جميلا، ولذلك سمي بالغزال. ومشى إلى بلاد المجوس وهو قد شارف الخمسين وقد وخطه الشيب، ولكنه

كان مجتمع الأشد، ضرب الجسم، حسن الصورة. فسألته يوما زوجة الملك - واسهما نود - عن سنة، فقال مداعبا لها: عشرون سنة. فقالت للترجمان: ومن هو من عشرين سنة يكون بها هذا الشيب؟ فقال للترجمان: وما تنكر من هذا؟ ألم تر قط مهراً ينتج وهو أشهب؟ فضحكت نود، وأعجبت بقوله. فقال في ذلك الغزال بديها: كُلّفتَ يا قلبِي هوىً مُتْعبا ... غالبتَ منه الضَّيغَم الأغْلبَا إنّي تعلّقتُ مجُوسيَّةً ... تأبَى لِشمس الحُسن أن تَغْرُبا أقصى بلاد الله لي حيثُ لا ... يَلقى إليها ذاهبٌ مذهبا يا نُود يا رُودَ الشَّباب التي ... تُطِلعُ من أزْرارها الكَوكبا يا بابي الشخصُ الذي لا أرى ... أحْلى على قلبي ولا أعْذَبا إن قلتُ يوما إنّ عيني رأت ... مُشبهَه لم أعْدُ أن أكذبا قالت أرَى فَوْدَيْة قد نَوّرا ... دُعابةً تُوجب أن أدْعيا قلت لها يا بأبى إنَّه ... قد يُنَتجُ المهر كَذَا أشْهَبا فاستضحكَت عُجْباً بقولي لها ... وإنَّما قُلت لكي تّعْجبا قوله يا رؤد الشباب الرأدة والرؤدة والرؤد: الجارية الناعمة الجسم. وقد رؤد شبابها. والغصن الرؤد: الرطب، والشعراء يسهلون الهمزية يستهلون الهمزة منه تخفيفا فلا يكادون ينطقون بها.

وقوله: فودية قد نورا، فالفودان: ما يلي الأذنين من الشعر. وقوله: أن أدعبا فإنه يقال من الدعابة: دَعِب، بكسر العين في الماضي، يدعب، بفتح العين في المضارع، دعباً، بفتح الدال والعين في المصدر. وهذا الشعر لو روى لعمر بن أبي ربيعة، أو لبشار بن برد، أو لعباس بن الأحنف، ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لاستغرب له. وإنما أوجب أن يكون ذكره منسياً، أن كان أندلسياً؛ وإلا فما له أخمل، وما حق مثله أن يهمل. وهل رأيت أحسن من قوله: تأبى لشمس الحسن أن تغربا، أو كالبيت الأول من هذه القطعة، أو كصفته لما جرى من الدعابة؟ هل وصفته إلا الدر لمنتظم، وهل إلا نظلم في حقنا ونهتضم! يالله لأهل المشرق! قوله غاص بها شرق. ألا نظروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، وأقصروا عن استهجان الكريم الهجان عن استهجان الكريم الهجان؛ ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان؛ لئن أرهفت بصائرهم البصرة وأرقتها الرقتان؛ فقد درجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان، فإن منهما مخرج اللؤلؤ والمرجان. وينشد ما قاله بعض شعرائنا: نَراحُ لفضل أن يكون لَديكُم ... فما لكُم تأبَون أن كان عندناَ فلا تَحسدونا أن تَلُوح بأفقكم ... لنا طالعاتٌ مِن هناكَ ومن هنا وإن كنتُم في العدّ أكثَر مفخراً ... فلا تَظلموناَ في القليل الذي لنا

ولنرجع إلى ذكر الغزال، فإنه لما أنشد نود الشعر وفسره الترجمان لها، ضحكت منه وأمرته بالخضاب. ففعل ذلك الغزال، وغدا عليها يوماً ثانيا. وقد اختضب؛ فمدحت خضابه وحسنته عنده، ففي ذلك يقول الغزال: بكَرتَ تُحًسِّنُ لي سَوادَ خِضَابي ... فكأنّ ذاك أعادني لشَبابِي ما الشَّيبُ عندِي والخضابُ لواصفٍ ... إلاّ كَشَمس جُلِّلت بضَباب تَخْفَى قليلاً ثم يَقْشَعها الصَّبا ... فيصيرُ ما سُتِرت به لذَهاب لا تُنكري وضَح المَشيب فإنّما ... هو زَهْرَةُ الإفهام والألبْاب فلديّ ما تَهويْن من شأن الصّبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب ثم انفصل الغزال عنهم، وصحبه الرسل إلى شنت يعقوب بكتاب ملك المجوس إلى صاحبها. فأقام عنده مكرما شهرين، حتى انقضى حجهم، فصدر إلى قشتالة مع الصادرين، ومنها خرج إلى طليطلة حتى لحق بحضرة السلطان عبد الرحمن بعد انقضاء عشرين شهرا ومن قوله أيضا المتفق عليه في جميع الروايات: يَا راجياً وُدَّ الغَواني ضِلَّةً ... ففؤادُه كَلَفاً بهنَّ مُوَكّلُ لا تَكلَفنّ بوصْلِهنَّ فإنما ال ... كَلِفُ المحبُّ لَهن من لا يَعقل إنّ النساَء لكالسُّروجِ حقيقةً ... فالسّرجُ سرجُك ريثما لا تنزل

فإذا نَزلتَ فإنّ غَيرك نازلٌ ... ذاكَ المكانَ وفاعلٌ ما تَفعلُ أو منزِلِ المُجتازِ أصبح غادِياً ... عنه وينزلُ بعده من ينزل أو كالثمِّارِ مُباحةً أغصانُها ... تدنُو لأوَّل من يمرُّ فتُؤكل أعطِ الشبيبة - لا أبَالَك - حقَّها ... منها فإن نعيمَها متحوِّل وإذا سُلبت ثِيابَها لم تَنتفع ... عندَ النّساء بكل ما يثستبذَل ثم إن الغزال هجا أبا الحسن علي بن نافع، الملقب بزرياب، بهجو مقذع، تحرجت من إيداعه في هذا الكتاب. وزرياب هذا مولى الخليفة المهدي، ابن الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. قدم الأندلس مهاجراً إلى عبد الرحمن بن الحكم، فتلقاه بأعلى المحل، وفوض إليه أكثر أموره في العقد والحل؛ وذلك لهجرته إليه وحسن غنائه، وتناهيه في الإطراب وغنائه. وهو أول من سن في الأندلس أكل الهليون والنقاوى وقلى الفول واستعمال الأنطاع للنوم، والتحلي بالحرير والخز والمروية. وسن لباس البياض من المهرجان إلى نصف أكتوبر، وإن كان مطرا. وعلمهم الغناء واخترع النقر بالريش، وتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائتين

فشكا للسلطان الغزال وعرض هجوه عليه، وما قذفه به ونسبه من الفحش إليه. فأمر السلطان بنفيه عن الأندلس. فكلمه فيه أكابر أهل دولته فتركه. ثم إن الغزال لم يطب نفساً بالمقام في الأندلس فرحل إلى العراق، وذلك بعد موت الحسن بن هانئ بمدة يسيرة، فوجدهم يلهجون بذكره ولا يساوون شعر أحد بشعره. فجلس يوماً مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس، واستهجنوا أشعارهم؛ فتركهم حتى وقعوا في ذكر الحسن، فقال لهم: من يحفظ منكم قوله: ولمّا رأيتُ الشَّرب أكْدتْ سماؤْهم ... تأبّطتُ زِقِّي واحتسبْتُ عَنَائِي فلمّا أتيتُ الخَان ناديتُ ربَّه ... فهبَّ خَفيفَ الرّوح نَحْو نِدائي قليلَ هُجوعِ العَينِ. إلاّ تَعِلَّةً ... على وجَلٍ منِّي ومن نُظَرائي فقلتُ أذِقْنيها فلمّا أذاقني ... طَرحْتُ إليه رَيْطتي ورِدائي وقلت أعِرنْي بِذْلَةً أستَتِرْ بها ... بذَلْتُ له فيها طلاقَ نِسائي فو الله ما برَّت. يَمينِي ولا وفَتْ ... له غَير أنِّي ضامِنٌ بوفائي وأبتُ إلى صَحْبي ولم أكُ آئباً ... فكُلٌّ يُفدّيني وحَقّ فِدائي فأعجبوا بالشعر وذهبوا في مدحهم له كل مذهب. فلما أفرطوا قال لهم: خفضوا عليكم فإنه لي. فأنكروا ذلك. فأنشدهم قصيده الذي أوله: تداركُت في شُرب النبيّذ خَطائي ... وفارقت فيه شِميتي وحَيائِي

فلما أتم القصيد بالإنشاد خجلوا وافترقوا عنه. وأقام الغزال في رحلته تلك مدة يتجول في ديار المشرق، وما انفك في كل قطر منه من غريبة يطلعها، وطريقة يبدعها؛ ثم إنه رجع إلى نفسه، وحن إلى مسقط رأسه؛ وانصرف إلى الأندلس وهو قد ترك شرب الخمر وتزهد في الشعر وشارف الستين، وركب النهج المبين؛ ولم ينسك نسكا أعجمياً، بل ظرف ظرفا أديبا، وسلك مسلكا من البر مرضيا وقال في جارية اشتراها واسمها لعوب، وقد أراد منها أمراً فعجز عنه اليعبوب: لم أنْسَ إذ برزتْ إلىّ لَعوبُ ... طَرَباً وحيثُ قميصُها مَقْلوبُ وكأَنَّها في الدَّار حين تعرَّضتْ ... ظَبْيٌ تَدلَّه بالفَلا مَرْعوب تَفتَرُّ عن دُرّ تَناسقَ نَظْمُه ... فيه لَثَاةٌ عَذْبةٌ وغُرُوب حاولتُ منها رَشفْةً فكأنها ... عَسَلٌ بماءِ سَحابةٍ مَقْطوب ودَعْتك داعيةُ الصِّبا فتطرَّبتْ ... نَفسٌ إلى داعِي الضَّلال طَرُوب وظننتَ عهدَك عهدَها في الدَّهر إذ ... فَيْنانُ غُصنك بالشَّباب رَطيب فجريتَ في سَنَن الصِّبا شأواً وقد ... وزَعْتك عنه كَبْرةٌ ومَشِيب وحسبتَ صاحبَك الذي هو ذاك إذ ... تدعُوه مَهما شِئْتَه فَيُجيب قد كان لا يَنْبو إذا جَرَّبتَه ... فالآنَ أحداثُ الزّمان تَنُوب لمّا رأتْ ذاك الذي تَنْحُو له ... سَمَحتْ فمالَ على الكَثِيب قَضِيب وتأوَّدتْ خُمصانةٌ بَهنانَةٌ ... كالفَجْر يعلوه دُجًى غرْبيب

فقبضتُ مِلْء يدي على مُسْتَهدِف ... رابِي المَجسَّة لونُه حُلْبوب بِيَدي الشِّمال وللشِّمال لطافَةً ... ليستْ لأْخرى والأدِيب أريب فَتَقاعَس المَلْعونُ عنه وإنّني ... لأكادُ من فَرْط الحَياء أذُوب وأبَي كعَيْر السَّوْء إلاّ وَقْفةً ... أخْزَي بها والوِرْدُ منه قَرِيب فكأنّه ممّا تَشنَّج جِلْدُه ... كِيرٌ تَقادم عَهْدُه مَثْقوب هذا شعر حسن في الهزل جزل في معانيه، دون فحش فيه. والبهانة: الطيبة الريح؛ وقد قيل: هي الرخيمة المنطق؛ وقيل فيها: الضحوك المداعبة. وكل هذا مما يليق بوصفها في تلك الحالة. وقوله لونه حلبوب. يقال للأخضر إذا اشتدت خضرته فضرب إلى السواد: حلبوب. وقد أتينا من ذكر الغزال بفنون، والحديث ذو شجون. ومن الحق أن نختم ذكره بما قال في الزهد؛ فإنه - عفا الله عنا وعنه - عمر حتى قارب مائة عام، أربى عليها، وهو القائل: ألستَ تَرى أنّ الزمانَ طَواني ... وبَدَّل خَلْقي كُلَّه وبَرَانِي تَحيَّفَنى عُضْواً فَعثضْواً فلم يَدعْ ... سِوى اسمي صَحيحاً وحدَه ولِساني ولو كانت الأسماءُ يَدْخلها البِلَى ... لقد بلَىِ اسمي لامتدادِ زَماني وما لِيَ لا أبلَى لِتسعين حِجّةً ... وسَبِعٍ أتتْ مِن بعدها سَنَتان إذا عنَّ لي شخصٌ تخيَّلَ دونه ... شَبيه ضَبابٍ أو شَبيهُ دُخان فيا راغباً في العَيش إن كنتَ عاقلاً ... فلا وَعْظ إلاّ دُون لَحْظِ عِيان

أبو عمر ابن عبد ربه أحمد بن محمد بن عبد ربه

ومن قول الغزال في الزهد: النَّاس خَلقٌ واحدٌ مُتشابه ... لكنَّما تَتخالف الأعمالُ ويقالُ حقٌّ في الرجال وباطلٌ ... أيُّ امرئ إلاّ وفيه مَقَال ولكل إنسانٍ بما في نَفسه ... مِن عَيبهِ عن غيره أشغال يستثقل الَّلَمَم الخفيفَ لِغيره ... وعليه من أمثال ذاك جِبال ويَنام عن دُنياه نومةَ قَانع ... بنَعيمِ دُنياه وذاك خَيال ورأيتُ ألْسنة الرِّجال أفاعياً ... طَوْراً تَثُور وتارة تَغتال فإذا سلمتَ من المقَالة غير ما ... تَجنى فأنت الأسعدُ المفضال ومن مفاخر الأندلس وشعرائها، وعلمائها المتقنين وكبرائها: أبو عمر ابن عبد ربه أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الذي انجد وغار، وملأ بذكره الآفاق والأقطار. وذكر العالم المؤرخ الثقة أبو بكر الحسن بن محمد بن مفرج المعافري القرطبي - يعرف بالقبشي - لسكناه بها، في كتابه الذي سماه بكتاب الاحتفال في تاريخ أعلام الرجال، الذي

حدثنا به المحدث العدل أبو القاسم بن بشكوال، عن الحافظ الثقة أبي محمد بن يربوع عن الثقة أبي محمد بن خزرج عنه، قصة جرت لابن عبد ربه، مع الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل في التسمع على جاريته مصابيح. واتفق أن اجتاز أحمد بن محمد بن عبد ربه بدار أبي حفص عشية فقرع سمعه من طيب الغناء ما استوقفه، وأراد الدنو من الباب. وقيل، إنه صب عليه من العلية ماء بل ثيابه، فلم يردعه ذلك عن طلب الازدياد في السماع. فعدل إلى مسجد بقرب الدار، وسأل المعلم فيه أن يأتيه بدواة وبياض يكتب فيه، فجاءه بهما فكتب، إلى قلهيل رقعة فيها: بسم الله الرّحمن الّرحيم. طاولتَك النِّعم وطالت بك. إنا لَمسنا سماءَ لَهوك، (فَوَجَدْنَهَا مُلِئَت حَرَساً شَديداً وشُهُباً. وأنَّا كُنَّا نَقعُدُ منهَا مَقَعِدَ للَّسمع، فَمَن يَستَمعِ الآنَ). . . إلى آخر الآية. وفي ذلك أقول: يا مَن يضَنّ بصوت الطائر الغَرِد ... ما كنتُ أحسَبُ هذا الضَّنّ في أحَدِ لو أنّ أسماعَ أهلِ الأرض قاطبةً ... أصغتْ إلى الصّوت لم ينقُص ولم يَزد لولا اتقائي شِهاباً منك يُحْرقني ... بنَاره لاستَرقتُ السّمع من بُعُد لو كان زريابُ حياًّ ثم أسمَعه ... لماتَ من حَسد أو ذَاب من كَمَد

فلا تَضَنَّ على أذنْي تُقَرِّطها ... صوتًا يَجُول مجالَ الرُّوح في الجَسَدِ أمّا الشّراب فإني لست أقرَبه ... ولستُ آتيك إلا كِسْرتي بيدي وسأل البواب فأوصل الرقعة إليه، فلما قرأها وعرف موضعه جاء حافياً إليه، وسأله الحضور ففعل. ثم قال ممازحاً: هات الكسرة التي زعمت أنك ترفع عنا مئونتها. فقال: أنصرف فآتيك بها. فأقام أحمد عنده أياماً. وقد ذكر هذه الحكاية الحميدي في جذوة المقتبس له مبتورة مصحفة. وزرياب عندهم كان يجري مجرى الموصلي في الغناء، وله طرائق أخذت عنه، وأصوات أستفيدت منه. وقدمناه ذكره عند ذكر الغزال، وسقنا خبره. ومن شعر ابن عبد ربه: الجسمُ في بلد والرّوحُ في بلدِ ... يا وَحْشةَ الرُّوح بل يا غُرْبة الجَسَدِ إن تَبْك عيناكَ لي مَن كَلفْتُ به ... مِن رحمةٍ فهُما سَهمَاك في كَبِدي قال الحميدي: ومما أنشدنيه من شعره أبو محمد علي بن أحمد، واخبرني أن بعض من كان يألفه أزمع على الرحيل في غداة ذكرها، فأتت السماء في تلك الغداة بمطر جود حال بينه وبين الرحيل، فكتب إليه أبو عمر: هلاّ ادَّكرت لبَيْن أنت مبتكُر ... هيهات يأبَى عليك اللهُ والقدرُ

ما زلتُ أبكي حِذَار البَيْن مُرْتَهنا ... حتى رثَى لَي فيك الريحُ والمطرُ يا بَردةً من حَياَ مُزْنٍ على كَبدٍ ... نيرانُها بِغَليل الشَّوق تَسْتعر آليتُ ألاّ أرى شمساً ولا قَمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمرُ ولأبي عمر بن عبد ربه هذا مدائح كثيرة ومجموعات كبيرة في مدح مواليه بني أمية. آخرها ما جمع للمستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، ثم كفر عن جميع ما قال واحسن المقال وسماها بالممحصات، والله يقبل التوبة ويعفو عن السيئات. فمن ذلك قطعة محص بها القطعة المذكورة آنفا: يا عاجزاً ليس يعفُو حيث يَقتدرُ ... ولا يُقَضَّي له من عَيشه وطَرُ عَاين بقلبك إنّ العين غَافلةٌ ... عن الحقيقة واعلم أنها سَقَر سوداءُ تَزْفِرُ عن غيظٍ إذا سُعرت ... للظَّالمين فلا تُبقى ولا تَذَر إنّ الذين اشْتروا دُنيا بآخرة ... وشِقْوةً بنعيمٍ ساَء ما تَجَروا يا من تلهَّى وشيبُ الرأس يندُبه ... ماذا الذي بعد شيبِ الرّأسِ تنتظر لو لم يكن لك غيرُ الموت موعظةً ... لكان فيه عن اللذَّات مُزدَجَر أنت المقولُ له ما قلُت مبتدئاً ... هلا ادكرت لبين أنت مبتكر قال ذو النسبين، رضي الله عنه: وحدثنا الفقيه الأجل أبو الحسن على بن الحسين بلفظه بمدينة فاس سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وفيها مات رحمه

الله، قال: حدثنا الفقيه الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عديس الأنصاري بجامع القرويين بمدينة فاس سنة خمس وخمسمائة، وفيها مات. قال: سمعت الإمام أبا عمر بن عبد البر يقول: سمعت الإمام الحافظ أبا الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي، المعروف بابن الفرضي يقول: أنشدنا الإمام أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ، قال: أنشدني أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه شاعر الأندلس لنفسه: ألاّ إنّما الدُّنيا غضَارةُ أيكةٍ ... إذا أخضرَّ منها جانبٌ جفَّ جانبُ هي الدَّار ما الآمال إلا فجائعٌ ... عليَها ولا اللذَّاتُ إلاّ مَصائب وكم سَخِنَت بالأمس عَينٌ قَريرةٌ ... وقرَّت عُيونٌ دمعُها اليوم ساكب فلا تَكتحل عيناك فيها بَعْبرٍة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب وآخر شعر قاله قبل موته بأحد عشر يوما: كِلاَنِى لمَا بي عاذلّي كفَاني ... طويتُ زَماني بُرهةً وطَوانِي بَلِيتُ وأبلَتْني اللّيالِي وكَرُّها ... وصَرْفان للأّيام مُعَتوِران وما لَيِ لا أبْلى لِسَبعين حِجّةً ... وعَشْرٍ أتتْ من بعدها سَنَتان

ابن دراج القسطلي أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج المعروف بالقسطلي

فلا تسألانِي عن تَباريح عِلَّتي ... ودونكُما منِّي الذي تَريان وأنى بِحمد الله راج لِفَضله ... ولي من ضَمان الله خيرُ ضَمانِ ولستُ أبالي عن تَباريح عِلَّتي ... إذا كان عَقْلي باقياً ولِساني هُما ما هُما في كُل حالٍ تُلمّ بي ... فذا صارمي فيها وذاك سنانيِ والوزير الكاتب، كاتب الملك المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر: ابن دراج القسطلي أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج المعروف بالقسطلي نسب إلى بلد هناك تعرف بقسطلة دراج، معدود في الأندلس في جملة العلماء، والمتقدمين من الشعراء، والمذكورين من البلغاء، وشعره وترسيله في عدة أجزاء. فمن مستحسن قوله ما قاله في ملك سرقسطة، المنذر بن يحيى التجيبي: يا عاكفينَ على المُدام تَنَّبهوا ... وسلُوا لِسَاني عن مكارِم مُنذِرِ مِلكٌ لو استوهبتَ حبَّةَ قَلبْه ... كرَماً لجادَ بها ولم يَتَعذَّر

أبو عمر أحمد بن هشام

قال الحميدي: سمعت أبا محمد علي بن أحمد، وكان عالماً بنقد الشعر يقول: لو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج لما تأخر عن شأو حبيب والمتنبي مات أبو عمر قريباً من العشرين وأربعمائة الأديب الحسيب: أبو عمر أحمد بن هشام ابن عبد العزيز بن محمد بن سعيد الخير أورد له الوزير أبو الوليد بن عامر في الورد والنرجس: انظر إلى الرَّوض في جَوانِبه ... أحمرُه ضاحكٌ وأصفرُه إذا هفَت فوقه الرّياحُ سَرىَ ... بِهفْوِها مِسْكُه وعَنْبرُه نَرجسُه تَستجدُّ صُفرته ... حتى كأنْ الحَبْيبَ يهجره والورد يَختالُ في مَنابته ... تَطويهِ أكمامُه وتَنشره

ابن شهيد

والوزير الخطير، الفاضل النحرير: ابن شهيد أبو عامر أحمد بن السادة الوزراء: أبي مروان عبد الملك بن مروان بن ذي الوزارتين الأعلى أحمد بن عبد الملك ابن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد أشجعي النسب، من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط. وأبو عامر هذا أرسخ أهل الأندلس قاطبة بالأدب، ينسل إليه من كل حدب؛ ولم ير لنفسه في البلاغة أحداً يجاريه، ويساجله في جميع العلوم ويباريه، وأما الكرم فلا يقاربه فيه أحد من أهل بلده ولا يدانيه. ومن أخباره العظيمة، ومناقبه الكريمة، ما حدثني به الفقيه العالم المحدث النحوي القاضي بمدينة غرناطة وأعمالها، أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي، رحمه الله، قال: حدثنا الوزير أبو عامر محمد بن أحمد بن عمر السالمي، قال: حدثنا الشيخ أبو عبد الله بن الصفار قال: كان رجل من أهل طليطلة ذا محل شريف، ومكان عال منيف؛ فنبا به الوطن، وخانه على معهوده الزمن؛ فأتى إلى قرطبة رث الحال، منبت الحبال؛ لا يملك فتيلا، ولا يدرك كثيرا ولا قليلا؛ فأنزل عياله في أحد الفنادق

وخرج يلتمس حراً يستجديه، وفاضلا يستهديه. فأرشد إلى أبي عامر بن شهيد، فكتب إليه كتابا يعرب عن فضل أدب، وكريم نسب. فقال للرافع له: ما زي هذا الرجل ولبسه؟ وكيف همته ونفسه؟. فأعلمه بما بدا من حاله؛ وظهر من اختلاله، فأمر بدخوله. فلما أدناه أبو عامر وقربه، ورتب له من البر والإكرام ما رتبه؛ ثم إنه أسر إلى وكيله بكلام لم يدره الرجل، إذ كان حائرا قد اكتنفه الخجل. ثم أمر أن يدخل في الحمام، ويحتفل في البر به والإكرام. فلما خرج منه ألفى سبنية بثياب أعدت له فلبسها، وأعيد إلى دار ابن شهيد، ووافق ذلك اليوم دعوة له لبعض القوم، فمكث الرجل وهو معلق البال، بمن تركه هنالك من العيال؛ فلما انتظم الأصحاب، وقدم الطعام والشراب، دخل الرجل مدخلهم في ذلك المأنس، وأخذ مكانه من المجلس؛ وأبو عامر بن شهيد يؤثر مكانه، ويدعو إلى بره إخوانه. فمكث الرجل بين فرح وترح، طورا ممتد الأنس، وتارة مكدر النفس. فلما كان عشي اليوم الثاني خرج الرجل وقد قُدم له مركب سار عليه، وغلام بشمعة بين يديه؛ إلى أن أدى به إلى هذه الدار، وهي مشهورة بقرطبة إلى الآن بين جميع الديار. فقال: أنزل يا مولاي. قال الرجل: ليست هذه داري، وإنما نزلت في الفندق الفلاني. فقال الغلام: بل هي دارك، أعطاكها سيدي، وأنا والدابة لك فأخرس الرجل ودخل الدار، فوجدها قد ملئت نعماً كثيرة، وفرشا وثيرة؛ وعياله في منضد تلك المجالس، قد أفرغت عليهن أفخر الملابس؛ وقد ملئت خزائنها بما يملأ العيون قرة، والقلوب مسرة.

ولهذا الوزير كتب كثيرة الهزل والجد، بعيدة عن الحصر والعد. منها كتاب التوابع والزوابع، وكتاب حانوت العطار، وكتاب كشف الدك وإيضاح الشك وقال حافظ أهل زمانه الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، في رسالته في فضل الأندلس، مفتخراً به: ولنا من البلغاء أحمد ابن عبد الملك بن شهيد، صديقنا وصاحبنا، وهو حي لم يبلغ بعد سن الاكتهال. وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل وتوفي رحمه الله ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة بقرطبة؛ ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة؛ وصلى عليه رئيس قرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور الكلبي. ومولده سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، ولم يعقب. وانقرض عقب الوزير أبيه بموته. وكان جواداً لا يليق شيئا، ولا يأسى على فائت، عزيز النفس. ومن شعره الدال على كرمه وفخره: ألِمْتُ بالحُبّ حتى لو دَنَا أجَلِي ... لَمَا وجدتُ لطعم الموتِ من ألمَ وزادني كرِمَي عمَّن ولِهْتُ به ... ويْليِ من الحبِّ أو ويْليِ من الكرم

وقال: كتبتُ لَها أنَّني عاشقٌ ... على مُهْرَقِ الكَتْم بالناظر فردّتْ علىّ جوابَ الهَوى ... بأحورَ في مائه حائر منعَّمةٌ نَطقتْ بالجُفون ... فدلَّت على دقَّة الخاطر كانّ فؤاديَ إذ أعرضتْ ... تَعلَّق في مِخْلَبَيْ طائر وقوله: وتَدرِي سِباعُ الطَّير أنًّ كُماتَه ... إذا لَقيتْ صِيدَ الكُماةِ سِباعُ تَطير جِياعاً فوقَه وتَرُّدها ... ظُباهُ إلى الأوكارِ وهي شِباع قال ذو النسبين، رضي الله عنه: هذا المعنى قد سبقه إليه مروان بن أبي الجنوب فقال: يمدح المعتصم: لا تَشبع الطّيرُ إلاّ في وقَائعه ... فأينما سَارَ سارت خلفه زُمرَا عوارفاً أنه في كُلّ مُعتركٍ ... لا يُغمد السَّيفَ حتّى يُكثِرَ الجَزَرا الجزر، بفتح الجيم والزاي: الشاء المذبح؛ والواحدة: جزرة. قاله أبو علي في البارع: وأراد به الشاعر ها هنا كثرة القتلى. وهذا مأخوذ من قول أبي نواس: تتأيَّا الطَّيرُ غُدوتَه ... ثِقةً بالشِّبع من جَزَره

وأخذه مسلم بن الوليد فقال: قد عَوَّد الطيرَ عاداتٍ وَثِقْنَ بها ... فهنّ يَتْبَعْنَه في كُل مُرْتَحِل وأخذه أبو تمام فقال: وقد ظُلّلت عِقْبانُ أعلامه ضُحًى ... بعِقْبان طَيْرٍ في الدّماءِ نَواهلِ أقامتْ مع الرّاياتِ حتى كأنَّها ... من الجَيْش إلاَّ أنَّها لم تُقَاتل وكلهم قصر عن النابغة الذبياني في قوله: إذا ما غَزَوا بالجَيْش حَلَّق فوقهم ... عَصائبُ طَيْرٍ تَهتدي بعَصائب جَوانحَ قد أيقنَّ أنَّ قَبِيلَه ... إذا ما التَقى الجْمَعان أولُ غالب لهنَّ عليه عادةٌ قد عَرَفْنها ... إذا عُرِّضَ الخَطُّىُّ فوق الكَواثب وإنما قلنا إنهم قصروا عن النابغة لأنه زاد في المعنى واحسن التركيب. ودل على أن الطير إنما أكلت أعداء الممدوح. وكلامهم كلهم مشترك محتمل ضد ما نواه الشاعر. وإن كان أبو تمام قد زاده في المعنى على أن الطير إذا شبعت ما تسأل أي القبيلين الغالب. وقد أحسن أبو الطيب المتنبي في قوله: له عَسْكرَا خَيْلٍ وطَيرٍ إذَا رمَى ... بها عسكراً لم يَبق إلا جَمَاجِمُه

ويتوجه عليه أن هذه الطير لأي معنى عافت الجماجم، دون عظام السوق والأذرع وغيرها من الأعضاء. وقد اخذ منهم بكر بن النطاح فقال: وتَرى السباعَ معَ الجوَا ... رحِ فوق عَسْكرنا جَوانحْ ثقةً بأنَّا لا نَزا ... لُ نُمِير ساغَبِها الذبائح ساغبها: جائعها، والسغب: الجوع. ولو تتبعنا جميع ما نظمه الشعراء في هذا الباب، لأتى على اكثر الكتاب. وقال أبو عامر بن شهيد: ولمّا تَملاَّ مِن سُكْره ... فَنَام ونَامت عُيون العَسَسْ دنوتُ إليه على بُعده ... دُنُوَّ رفيق دَرى ما التَمس أدبُّ إليه دبيبَ الكَرى ... وأسمو إليه سُمَّو النَّفس وبتذُ به ليلتي ناعماً ... إلى أن تَبسَّم ثغرُ الغلس أقبّل منه بَياض الطُّلا ... وأرشفُ منه سَوادَ الَّلعَس

أبو الوليد بن زيدون المخزومي

ومنهم شاعر قرطبة وزعيمها، ونخبة بني مخزوم وضميمها، ذو الوزارتين: أبو الوليد بن زيدون المخزومي أحمد بن عبد الله بن أحمد فمن قصائده التي ضربت في الإبداع بسهم، وطلعت في كل خاطر ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم: أضحى التنائي بَديلاً من تَدانينا ... وناب عن طِيب لُقْيانا تَجافينَا بِتْمُ وبِنِّا فما ابتلَّت جوانحُنا ... شَوْقاُ إليكم ولا جَفَّت مآقينا تكاد حين تُناجيكم ضمائُرنا ... يَقْضي علينا الأسَى لولا تأسِّينا حالتْ لفقدكُمُ أيّامُنا فغَدتْ ... سُوداً وكانتْ بكُم بيضاً لَيالينا إذ جانبُ العَيْشِ طَلْقٌ من تألِّفنا ... ومَوْرد اللَّهو صافٍ من تَصافِينا وإذ هَصَرنا غُصون الأنس دانيةً ... قُطوفُها فجنينَا منه ماشِينَا لِيُسق عهدُكُم عهدُ السرور فما ... كُنتم لأرواحِنا إلاّ رياحِينا مَن مُبْلغُ المُلبِثينَ بانتزاحِهمُ ... حُزناً مع الدّهرِ لا يَبلى ويُبْلينا أنّ الزّمان الذي ما زال يُضحكنا ... أنساً بقُربهمُ قد عادَ يُبكينا غيظَ العِدَا من تَساقينا الهوَى فدعَوْا ... بأنْ نَغَصَّ فقالَ الدهرُ آمينا

وبات ليلة بإحدى جنات إشبيلية فقال: وليلٍ أدمْنا فيه شُربَ مُدامةٍ ... إلى أنْ بدَا للِصُّبح في اللَّيل تأشيرُ وجاَءت نُجومُ اللَّيل تَضربُ في الدُّجى ... فولّت نُجومُ اللّيلِ واللّيلُ مَقْهور فَجُزْنَا من اللَّذات أطْيبَ طِيبها ... ولم يْعرُنَا هَمٌ ولا عاق تَكْدير خَلا أنّه لو طالَ دامتْ مَسرَّتي ... ولكنْ ليالي الدّهِر فيهنَّ تقصير ومن قوله: بيني وبينَك ما لو شئتَ لم يَضِعِ ... سِرٌّ إذَا ذَاعت الأسرار لم يَذعِ يا بائعا حظَّه منّي ولو بُذلت ... لِيَ الحياةُ بحظي منك لم أبعِ حَسْبي بأنّك إنْ حَمَّلت قلبيَ ما ... لا تَستطيع قُلوبُ الناس يَستطِع تِهْ احتمِلْ، واستَطل أصْبرْ، وعِزَّأهُنْ ... وَوَلِ أقبِلْ، وقُل أسمِعْ، ومُرْ أطع هذا أحسن ما قيل في هذا الباب، لما فيه من ذكر الجواب لكل حرف من حروف الأمر، وخلو بيت أبي الطيب المتنبي: أقِل أنِل اقْطع احْمِل عَلِّ سَلِّ أعِدْ ... زِدْ هَشَّ بَشَّ تَفضَّلْ ادْنُ سُرَّصيل

ولبعض أهل ذلك العصر، وهو أقل تكلفا وأيسر تعسفا: فَدُم وابِقَ واسلَم واستطلْ عزَّةً وصِلِ ... وسُدْ وارْقَ واغْنَم واستزِدْ رفعةً واسْمُ فلن يَتنافَى اثنانِ رأيُك والنُّهي ... ولن يتَلاقى اثنان فعلُك والذَّمُ ولأبي الفرج الأصبهاني مؤلف كتاب الأغاني: يا فرحةَ الهِّم بعد اليأسِ من فرجٍ ... يا فرحةَ الأمن بعد الرَّوع والوهَلَ اسلَم ودُمْ وابقَ واملك وانمُ واسمُ وزِد ... وأعْطِ وامْنَع وضُر وانْفَع وصِل وَصُلِ وكان الأصل في ذلك قول أبي العميثل في عبد الله بن طاهر، ذي اليمينين: يا من يُحاول أن تكونَ صِفاتُه ... كخِصال عبد الله أنْصِتْ واسمعِ أصدُق وعِفَّ وَجُد وأنصفْ واحْتَمِل ... واصفَح وكافِ ودَارِ واحلُم واشْجُع وكان مجلس ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون منحطاً عن مجلس السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد، ابن السلطان أبي عمرو عباد، في القعود لإنقاذ أوامر أبيه، إذ كان لما هاجر إليه من قرطبة تلقاه بأعلى المحل، وعول عليه في العقد والحل، فكتب إليه المعتمد: أيُّها المنحُّط عني مجلساً ... ولَه في النَّفسِ أعلى مَجْلسِ بِفؤداي لك حبٌ يقتضي ... أن تُرى تُحملُ فوق الأرؤُسِ

فراجعه ابن زيدون: أسقيطُ الطلِّ فوق النَّرجِس ... أم نَسيمُ الرَّوض تحت الجِنْدسِ أم قريضٌ جاءني عن ملك ... مالك بالبِّر رِقَّ الأنفس يا جمالَ الموكب الغادِي إذا ... سارَ فيه يا بهاَء المجلسِ شرُفَتْ بِكْرُ المعالي خِطبةً ... بكَ فانْعم بسرُور المَغْرس وارتشفْ مَعْسُول ثغرٍ أشتنبٍ ... تَجتنيه من مُجَاج اللُّعس واغتبق بالسَّعد في دَسْت المُنَى ... يصبحُ الصّنعِ دهاق الأكؤُسِ فاعتراضُ الدّهر فيما شِئتَه ... مرتَقًى في صَدره لم يَهْجس وكان ابن زيدون زعيم الوزراء القرطبية، ونشأة دولتها السنية؛ حتى صار ملهج لسانها، وحل من عينها مكان إنسانها. وكان بينه وبين رئيسها الحسيب أبي الحزم ابن جهور ائتلاف الفرقدين، واتصال الأذن بالعين؛ فلما صار تدبير ملك قرطبة إليه، ومدار أمرها عليه؛ طلب ابن زيدون طلباً أصاره إلى الاعتقال؛ وقصره عن

الوخد والإرقال؛ وكان له فيه أمداح بهرت بنظامها، وظهرت كالبدور عند تمامها. فكتب إليه: بَني جَهورٍ انتُمْ سماءُ رياسةٍ ... مَنَاقبكم في أفْقها انجمٌ زُهْرُ طريقتكُم مُثْلَى وهديُكُم رِضاً ... ومَذهبُكم قَصْدٌ ونالمكم غَمْر عطاءٌ ولا مَنٌ وحُكْمٌ ولا هَوىً ... وحِلْم ولا عَجز وعزّ ولا كبْرُ وقال في أبي الحزم بن جهور حين حبسه: بني جَهورٍ أحرقُتُم بجفائكم ... ضمِيري فما بالُ المَدائح تَعْبَقُ تعدّونني كالعَنْبِر الوَرْد إنما ... تَطيب لكم أنفاسُه حين يُحْرَق ثم كتب إليه: قُل للوزير وقد قَطعتُ بمَدْحه ... عُمري فكان السِّجن منه ثَوابي لم تَعْدُ في أمري الصّوابَ مُوفَّقاً ... هذا جزاء الشَّاعِر الكذَّابِ ثم إنه أعمل لنفسه في الخلاص من سجنه حيلا، واتخذ الليل للهرب جملا. فقطع في ليلة واحدة ما بين قرطبة وإشبيلية من المفاوز والمراحل، ومسافتها ثلاثة أيام لو أخذت الرواحل. ولما اتصل خبر وصوله بأبي عمرو عباد، وهو يومئذ سلطان تلك البلاد؛ تلقاه في جماعة من جماهير الكماة، ومشاهير العلماء والقضاة؛ فألقى مقاليد وزارته وجميع أمور دولته إليه، وأفاض الحلع والسوابغ عليه.

ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار

ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار هو وابن زيدون فرسا رهان، ورضيعا لبان، في التصرف في فنون البيان؛ وهما كانا شاعري ذلك الزمان. وكانت ملوك الأندلس تخافه لبذاءة لسانه، وبراعة إحسانه؛ لا سيما حين اشتمل عليه السلطان المعتمد على الله وأنهضه جليساً وسميراً؛ وقدمه وزيراً ومشيراً، ثم خلع عليه خاتم الملك ووجهه أميراً، وقد كان أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؛ فتبعته المواكب والمضارب، والنجائب والجنائب؛ وانقادت له العساكر والكتائب والجنود، وضربت خلفه الطبول ونشرت على رأسه الرايات والبنود؛ فملك مدينة تدمير، وأصبح راقي منبر وسرير؛ مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير. ثم انتزى على مالك رقه، ومستوجب شكره ومستحقه. فبادر إلى عقوقه وبخس حقه؛ فتحيل المعتمد عليه، وسدد سهام المكايد إليه؛ حتى حصل في قبضته قنيصا، وأصبح لا يجد له محيصا، إلى أن قتله المعتمد في قصره ليلاً بيده، وأمر من أنزله في ملحده؛ وذلك سنة سبع وسبعين وأربعمائة. فمن قوله الرائق، ولفظه الفائق، يمدح السلطان المعتضد بالله أبا عمرو عباد بن محمد: أدِرِ الزُّجاجَةَ فالنّسيم قد انبرَى ... والنجمُ قد صَرف العنَان عن السُّرَى والصبحُ قد أهدَى لنا كافورَه ... لما استردَّ الليلُ منا العَنبرَا

والرَّوْضُ كالحَسْنَا كَساهُ زَهْرُه ... وَشياً وقلّده نَداهُ جَوهَرا أو كالغَلاِم زَها بوَرْد رياضِه ... خَجَلاَ وتاهَ بآسهِن مُعذَّرا روضٌ كأنّ النَّهر فيه مِعصمٌ ... صَافٍ أطلَّ على رِدَاءِ أخضَرا وتكلَّلت بالزَّهر صُلع هِضَابِه ... حتى حَسبْنا كُلّ هَضْب قَيْصرا وتَهزُّه ريح الصَّبا فتخالُه ... سيفَ ابن عبّاد يُفرّق عَسْكرا عَبَّادٌ المُخضَرُّ نائلُ كَفِّه ... والجوُّ قد لَبِس الرّداَء الأغبَرا عَلِق الزمانُ الأخطرَ المُهْدى لنَا ... مِن ماله العلْقَ النَّفيسَ الأخطَرا ملكٌ إذا ازدحمَ المُلوك بمَوْردِ ... ونَحاهُ لا يَرِدُون حتى يَصْدُرا أندى على الأكبادِ من قَطْر النَّدى ... وألذُّ في الأجفانِ من سِنَةِ الكَرى قَدّاح زَنِدْ المَجْد لا يَنْفَكّ عن ... نارِ الوَغَى إلا إلى نارِ القِرىَ يختار أنْ يَهَب الخَريدةَ كاعِباً ... والطَّرْفَ اجردَ والحُسامَ مُجوهَرا أيقنتُ أنّى من ذُراه بجَنَّة ... لمّا سَقَاني من نَداهُ الكوثرا وعلمتُ حقًّا أن رَبْعَي مُخْصِبٌ ... لمّا سألتُ به الغَمامَ المُمْطرَا من لا تُوازِنُه الجبالُ إذا احتبَى ... مَن لا تُسابِقُه الرّياحُ إذا جَرى قَاد المواكبَ كالكواكبِ فوقَها ... مِن لامه مِثلُ السحاب كَنَهْوَرا

من كّلِ أبيضَ قد تَقلدّ أبيضاً ... عَضْباً واسمرَ قد تقلدّ أسْمرا مَلِكٌ يروقُك خَلْقُه أو خُلْقه ... كالرَّوض يُحْسن مَنْظراً أو مَخْبرا وسَمعتُ باسم القَطْرِ حتى شِمْتهُ ... فرأيتُه في بُرْدَتَيْه مُصورَّا وجهِلتُ مَعنى الجُود حتى زُرْته ... فقرأتُه في راحَتَيْه مُفَسَّرا فاحَ النّدَى مُتعِّطرا بثَنائه ... حتّى حَسِبْنا كلَّ تُرْب عَنْبرا حَسبي على الصُّنع الذي أولاهُ أن ... أسْعَى بشُكْرٍ أو أموتَ فأعْذَرا عَبّادُ المَلك الذي وَصَل المُنَى ... منه بَوجْهٍ مثلِ حَمْدِيَ أزْهرا ماضٍ وصدْرُ الرُّمح يَكْهَم والظُّبا ... تَنْبُو وأيدي الخَيل تَعْثُر في البَرَى لا شَيء أقرأ من شِفَار حُسَامه ... إنْ كنتَ شَبَّهتَ المواكب أسْطُرا السيفُ أفصحُ من زيادٍ خُطبةً ... في الحَرْب إن كانت يَمينُك مِنْبرا ما زِلْتَ تُغْنِى من عَنَا لك راجياً ... فَضْلاً وتُفْنِى مَن طَغَى وتَجبَّرا حتّى حَلْلتَ من الرّياسة مَحْجرا ... رَحْباً وضَمَّت منك طَرْفاً أحورا شَقِيَتْ بسيفك أمّةٌ لم تَعْتمد ... إلا اليهود وإن تَسمّت بَرْبَرَا أثمرْتَ رُمْحك من رؤس كُماتِهم ... لمّا رأيتَ الغُصْنَ يُعْشَقُ مثُمِرا وصَبغتَ دِرْعك من دماء كُلُومهم ... لما رأيتَ الحُسن يُلْبَسُ أحمرا وإليكَها كالرَّوض زارتهْ الصَّبا ... وحَنا عليه الطَّلُّ حتّى نَوَّرا نمّقتُها وَشْياً بذِكْرك مُذهَباً ... وفَتَقْتُها مِسْكاُ بحَمْدك أذْفَرا

مَن ذا يُتافحني وذِكُرك مَنْدلٌ ... أورَدتُه مِن نار فِكْريَ مِجْمرا فلئن وجدتَ نسيم حَمْديَ عاطراً ... فلقد وجدتُ نسِيمَ بِرِكّ أعْطَرا قال ذو النسبين رضي الله عنه: وهذه القصيدة من غرر القصائد، ودرر القلائد؛ وكل بيت منها بيت قصيد، وواسطة سلك فريد. وله يتغزل في مملوك رومي للمؤتمن، قد لبس درعا: وأغيدَ مِن ظِباء الرُّومِ عاطٍ ... بِسالِفتَيْه من دَمْعي فريدُ قَسَا قلْباً وشَنّ عليه دِرعاً ... فظاهرُه وباطنُه حديد بكيتُ وقد دَنَا ونأى رِضاه ... وقد يَبْكي من الطّربِ الجَليد وإنّ فَتًى تَملَّكه بنَقْدٍ ... وأحْرزَ رِقَّهُ لَفتىً سَعِيد يقال: سَننت الماء بالسيّن، المهملة، وشَننته، بالشين المعجمة، فالسنّ والشّنّ: الصبّ. وقال ابن الأنباري: سن الدرع عليه، بالسين غير معجمة: صبها. وأهدى الناس في يوم عيد إلى السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن عباد، مما يهدى للملوك في الأعياد، فاقتصر على ثوب صوف بحري أصفر، وكتب معه: لما رأيتُ النّاسَ يْحتفلون في ... إهداءِ يومك جِئتُه من بابِهِ فبعثتُ نحوَ الشّمس شِبهْ إهابها ... وكسوتُ مَتْن البحر بعضَ ثيابه

وله يعتذر من وداعه للسلطان أبي يحيى محمد بن معن بن صمادح. أمُعتصماً بالله والحربُ ترتَمي ... بأبطالها والخيلُ بالخيل تَلْتَقي دَعتْني المطَايا للترحيل وإنّني ... لأفْرَقَ من ذكر النَّوى والتّفرُّق وإنّي إذا غرَّبتُ عنك فإنما ... جَبينُك شَمسِي والمَرِيّةُ مَشْرقي وكتب إليه المعتصم بالله ثلاثة أبيات في العتاب: وزهَّدنِي في النّاس مَعْرفتِي بهم ... وطُولُ اختبارِي صاحباً بعد صاحب فلم تُرِني الأيام خِلاً تَسُّرني ... بواديه إلا ساءني في العَواقب ولا صِرْتُ أرجوهُ لدَفْع مُلمَّةٍ ... من الدّهر إلا كان إحدى النّوائب فأجابه ابن عمار: فديتُك لا تَزْهدْ فثَمَّ بقيةٌ ... ستَرْغب فيها عند وَقْع التجاربِ وأبقِ على الخُلْصَان إنّ لديهمُ ... على البَدْءِ كَرَّاتٍ بحُسن العَواقب تكنَّفْتَني بالنّظم والنثّر جاهداً ... وسُقتَ علىّ القَولَ من كلّ جانب وقد كان لي - لو شئتُ - ردٌّ وإنَّما ... أجرَّ لِساني بعضُ تلك المواهب ولابدّ من شَكْوَى ولو بتنفُّسٍ ... يُخفّف من حرّ الحَشَا والتّرائب كتبتَ على رَسمْي وبعد نَسيئة ... قرأتُ جوابي من سطور المواكب ثلاثة أبيات - وهيهاتَ - إنَّما ... بعثتَ إلى حَربي ثلاثَ كتائب

وكيف يَلذُّ العيش في عَتْب سيِّدٍ ... وما لذَّ لي يوماً على عَتْبِ صاحبِ وقبلُ جَرَتْ عن بعض كُتْبَي جَفوةٌ ... ألحتَّ على وجهْي بغَمْز الحواجب وما كنتُ مُرتاداً ولكن لنُفْحة ... تعَّودتُ من رَيحان تلك الضَّرائب سلكتُ سَبِيلي للزّيارة إثرها ... فقابلتُ دَفْعاً في صُدور الرّكائب ولو لمعتْ لي من سمائك بضرْقةٌ ... ركبتُ إلى مَغْناكَ هُوجَ السّحائِب فقبَّلتُ من يُمناك أعذبَ مَشْرَعٍ ... وقضَّيتُ من رُؤياك أوْكد واجب وأبْتث خفيفَ الظَّهر إلا من النَّدى ... وخلفَّتَ للعَافي ثِقَالَ الحَقائب سِواكَ يَعِي قولَ الوُشاة من العدَا ... وغيرُك يَقْضي بالظُّنون الكَواذب واجتاز على أكرم أهل زمانه، واعلم وقته وأوانه؛ الوزير الكاتب السمي المراتب، أبي محمد بن القاسم الفهري؛ فما عرج عليه، فعاتبه الوزير أبو محمد على إساءته في ذلك غليه، فكتب إليه أبياتا أمر بعض خواصه أن ينثرها بين يديه: لم يَثْنِ عنك عِنَاني سَلوْةٌ خَطَرت ... على فُؤادي ولا سَمْعي ولا بَصْرِي وقَصْرُك البيتُ لو أنّي قَضيتُ به ... حَجِّي وكفُّك منهُ موضعُ الحجر لكنْ عدتْنَي عنكُم خَجلةٌ سلَفَت ... كَفانِيَ القولُ فيها قولُ مُعتذِر: لو اختصرتُم من الإحسانُ زُرْتكُم ... والعذْبُ يُهجر للأفْراط في الخَصَر وشعره مدون كثير، وقد ذكرنا منه ما اقتضاه التخيير.

ذو الوزارتين ابن الحاج أبو الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج

ذو الوزارتين ابن الحاج أبو الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج عين مدينة لورقة وإنسانها، ومدرهها ولسانها؛ وكان أكرم من غمام، وأرسى حلماً من شمام؛ وله شعر أعذب من الجريال في صحن الخد، وأطيب من الوصال بعد الصد. أنشدني الوزير الفقيه المحدث الكاتب، أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، قراءة مني عليه سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، رحمه الله، قال: أنشدنا ذو الوزارتين أبو محمد قال: أنشدني أبي ذو الوزارتين أبو الحسن المذكور: أزورَك مُشتاقاً وأرجع مُغرماً ... وأفتح باباً للصَّبابَة مُبْهَما أمدَّعِيَ السُّقم الذي آد حَمْلُه ... عَزيزٌ علينا أن نَصحّ وتَسْقما مَنَعْت مُحِباً منك أيسرَ لَحظة ... تَبْلُّ غَليلَ الشَّوق أو تَنقُع الظَّما وما رَدَّ ذاك السِّجفُ حين رميتَه ... من القَلب سَهماً من هواك مُصمِّما هَوًى لم تُمِنْ عينٌ عليه بنَظرةٍ ... ولم يكُ إلا سَمْعةً وتَوهُّما

ومُلتقطَاتٍ من حديث كأنما ... نَثرتَ به سِلْكَ الجُمان المنظَّما دعوتُ إليك القلب بعد نُزوعه ... فأسرع لمَّا لم يجد متَلوَّما وله: وبيضاَء ينَبو الحَّظُ عند التقائها ... وهل تَستطيع العينُ تنظرُ في الشّمسِ وَهَبْتُ لها نفساً علىَّ كريمةٌ ... وقد عَلِمتْ أنَّ الضَّنَانة بالنَّفس أعالجُ منها السُّخطَ في حالةِ الرّضى ... ولا أعدَم الإيحاش في ساعة الأنس وله وقد أهدى تفاحا بعثتُ بها ولا آلُوك حَمْداً ... هديةَ ذِي اصطناع واعْتِلاَقِ خدودَ أحبْة وافَيْنَ صَبًّا ... وعُدْنَ على ارتماضٍ واحتراقِ فحمَّر بعضَها خَجَلُ التَّلاقِي ... وصَفَّر بعضَها وَجَلُ الفِرَاق وله في زرزور: يا رُبَّ أعجَم صامتٍ لَقَّنْتُه ... طَرَفَ الحديثِ فصَار أفصحَ نَاطِقِ جَوْنِ الإهابِ أعِيرَ فُوه صُفْرةً ... كاللَّيل طَرَّزه وَميضُ البارق حِكَمٌ من التَّدبير أعجزَتِ الوَرى ... ورَأى يها المَخلوقُ لُطْفَ الخالق

وكان الوزير ذو الوزارتين أبو الحسن المذكور ذا بضائع من العلوم والآداب كلها جواهر، وجميعها إذا أدجت الأيام زواهر؛ وكان ذكر بني عباد بالكرم بالمغرب. وقد طار وطبق الأقطار، فقصدهم بتلك البضائع التي لا يروج إلا لديهم نفاقها، ولا تقام إلا عندهم أسواقها؛ فأخفق لاشتغالهم عنه - لا لتقلص ظلال كرمهم - مسعاه، وتكدر مورده وصوح مرعاه؛ فأم غير مورد نداهم موردا، وارتحل عنهم منشدا: تَعزَّ عن الدُّنيا ومَعروِف أهلها ... إذا عُدمٍ المَعروفُ في آلِ عبْادِ أقمتُ بهم ضَيْفاً ثلاثَةَ أشهرٍ ... بغَيرْ قرِي ثم انصرفتُ بلا زاد فندموا على تفريطهم فيه وما فرط من إهمالهم، وقد ألبسهم من العار ما عراهم من حلل الأيادي السابقة من نوالهم. وله إلى الفقيه العالم الأديب الأحسب، قاضي القضاة بشرق الأندلس ونخبة الأملاك من كلب، أبي أمية إبراهيم بن عصام الكلبي: لي صاحبُ عَمِيَتْ علىّ شُئُونُه ... حركاتُه مَجْهولةٌ وسُكُونُه يرتابُ بالأمر الجَلِّيِ تَوهُّماً ... وإذا تَيقَّن نَازَعَتْهُ ظُنُونه ما زلتُ أحفظه على شَرَقِي به ... فالشَّيبُ تكرَهُه وأنتَ تَصُونه

ابن اللبانة

والوزير أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف: ابن اللبانة من شعراء السلطان ابن عباد، وممن وفى له فقصده وهو محبوس بأغمات آخر تلك البلاد. فمن قوله في المدح في المعتمد على الله: مَلكٌ إذا عَقَدَ المغَافِرَ للوَغَى ... حَلَّ الملوكُ مَعاقِدَ التِّيجانِ وإذا غَدت راياتُه مَنشورةً ... فالخافِقان لهُنَّ في خَفَقان وله في ناصر الدولة صاحب جزيرة ميورقة. وعَمْرتَ بالإحسان أفق مَيورْقَةٍ ... وبَنيتَ فيها ما بنَى الإسكندَرُ فكأنَّها بَغدادُ أنتَ رَشيدُها ... ووزيرُها - ولهَ السلامةُ - جَعفر قوله: وله السلامة في باب الحشو أملح وأوضح من قول المتنبي لكافور: وتَحتقرُ الدّنيا احتقارَ مُجِّرب ... ترى كلَّ ما فيها - وحاشاكَ - فَانِيَا

وله: كأنّ عُلاكَ أفلاكٌ وفُلْكٌ ... بأرزاقِ البريَّة جارياتُ كأنَّ هِباتِها من غير وَعْدٍ ... نَتائجُ مالهنَّ مُقَدِّمَات ومهما اهتزَّ جيشُك نحو جيشٍ ... فأنتَ سِنانُه وهو القَناة النتيجة عند أهل المنطق لا تكون إلا عن مقدمات، أقلهن اثنتان. والشاعر لا يطالب بحقيقة، ولا يغالب بغير طريقته من طريقه. وله في غلام جميل: إن تكُنْ تَبتغي القِتالَ فدَعْنِي ... عنكَ في حَوْمةِ القِتال أحَامِي خُذ جَنانِي عن جُنّةٍ ولِساني ... عن سِنانٍ وخَاطري عن حُسَام وقال يهنئ بمولود ولد في شهر رجب: نَجمٌ تَراَءى في سماءِ الحَسَبْ ... للشُّهْب في إبّانه مُنْتَسَبْ وأعْرَبت ليلُة ميلاده ... بلَيلةِ القَدْر أتَتْ في رَجَبْ

ابن عبدون

والوزير الفقيه اللغوي النحوي العالم، ومن له المناقب والأحساب الشهيرة والمكارم؛ بحر العلم الزاخر، وفخر الأوائل والأواخر، الذي يهتدي بنجم فضله المهتدون، أبو محمد عبد المجيد بن عبد الله: ابن عبدون وقد ذكرنا قبل قصيدته المحتوية على جميع الفنون، التي أنشدنيها عنه القاضي أبو عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون. وأنشدني له أيضا: وما أنْسَ بين القَصْر والنِّهِر وَقْفَةً ... نَشدتُ بها ما ضَلَّ من شارِدِ الحُبِّ رَميتُ بعيْني رَمْيةً سَمَحت بها ... فلم أثْنِها إلا ومَجروحُها قَلْبي وله: مَررتُ على الأيّاِم من كل جَانبٍ ... اصَعِّدُ فيها تَارة وأصوِّبُ يُنِير لِيَ الثَغرانِ: صبحٌ وصارم ... ويكتُمني القلبان: لَيلٌ وَغَيْهب لقَد لَفظَتْني الأرضُ إلاّ تَنُوفَةُ ... يُحدثني عنها العِيانُ فيَكذب ومما قاله، وجمع فيه حروف الزيادة: سألتُ الحُروف الرائداتِ عن اسمها ... فقالت ولم تَكْذِب أمانٌ وتَسّهيلُ

قال أبو الفتح بن جني في كتاب التصريف الملوكي له ما هذا نصه: القول على حروف الزيادة، وهي عشرة أحرف: الألف والياء والواو والهمزة والميم والتاء والنون والهاء والسين واللام، ويجمعها قولك: اليوم تنساه؛ ويقال أيضا: سألتمونيها. ويحكى أن أبا العباس سأل أبا عثمان عن حروف الزيادة، فأنشده أبو عثمان: هَوِيُت السّمانَ فشَيّبنني ... وما كنتُ قدِمْاً هَوِيتُ السِّماناَ فقال له أبو العباس: الجواب؟ فقال: قد أجبتك دفعتين. يعني قوله: هويت السمان. وأبو العباس، الذي ذكره، هو محمد بن يزيد المبرد. وأبو عثمان هو المازني. وإنما ذكرنا هذا بسب بيت الوزير ابن عبدون الذي ذكر فيه حروف الزوائد، وهي قوله: أمان وتسهيل. وهي احسن من جميع الألفاظ التي جمعوا فيها حروف الزوائد، لما فيها من عذوبة اللفظ وسهولة النطق بها وحسن التفاؤل. فحروف الزيادة هي حروف هويت السمان وهي الهاء والواو والياء والتاء والهمزة، في أول السمان دون أن تصلها، واللام والسين والألف الساكنة والنون. وقرأت بمدينة شريش شذونة على فارس الفقه والنحو والشعر، القاضي العدل أبي الحسن علي بن أحمد بن لبال الأمتي في كتاب المحكم في حروف

المعجم، وذكر حروف الزيادة وذكر ما تقدم من قولهم: اليوم تنساه التي هجاؤها: الهمزة، في الألف الأولى واللام، والياء والواو والميم والتاء والنون والسين والألف الساكنة والهاء. وسألتمونيها عشرة أيضا: السين والهمزة واللام والتاء والميم والواو والنون والياء والهاء والألف. وزاد في كتابه أسلمنى وتاه وهي أيضا من الألفاظ المستعذبة إلا أنها لا تدخل في الوزن. وتفسيرها: الهمزة الأولى والسين واللام والميم والنون والياء والواو والتاء والألف والهاء. ولشيخنا فيها جمعان ذكرهما في كتاب المحكم له. وله وقد أنزله المتوكل على الله بدار وكفت عليه، فكتب إليه: أيا سامياً من جانبيه إلى العُلا ... سُموَّ حَباب الماء حالاً على حال لِعبدك دارُ حلَّ فيها كأنَّها ... ديارٌ لسَلْمى عافياتٌ بذي الخَال يقولُ لها لَّما رأى من دُثُورها ... ألا عِمْ صَباحاً أيها الطَّلَلُ البالي فقالت ولم تَعْبَأ بردّ جوابه ... وهل يَعِمَنَ من كان بالعُصُر الخالي فَمُرْ صَاحِبَ الأنزالِ فيها بفَاضِل ... فإنَّ الفتى يَهذي وليس بفَعّال

قال اللغويون: الخال يأتي على أثنى عشر معنى: الخال: أخو الأم. والخال: موضع. والخال: من الزمان الماضي. والخال: اللواء. والخال: الخيلاء. والخال: الشامة. والخال: العزب؛ ويقال: المتفرد. والخال: قاطع الخلا. والخال: الجبان. والخال: ضرب من البرود. والخال: السحاب. وسيف خال: أي قاطع. وقد نظم ذلك الفقيه الأستاذ النحوي الكبير، المتقن الخطير، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن هشام اللخمي السبتي، وقد لقيته ولقيت أباه، فإنه مات بعده رحمه الله، فقال: أقولُ اخالي وهو يوماً بذي خالِ ... يروحُ ويغدو في بُرود من الخَال أما ظَفِرَتْ كفّاك في العُصر الخالي ... بربّة خالٍ لا يُزنّ بها الخاليِ تمرُّ كمرّ الخالِ يرتَج رِدْفُها ... إلى منزلٍ بالخالِ خِلْوٍ من الخَال أقامتْ لأهل الخَالِ خالاً فكلّهم ... يؤمُّ إِليها من صحِيح ومن خَالِ قال ذو النسبين، رضي الله عنه: وأغفل شيخنا القاضي المؤرخ المحدث الثقة العدل أبو القاسم بن بشكوال في كتاب الصلة له، ذكر أبي الحسن:

علي بن إسماعيل الفهري

علي بن إسماعيل الفهري من أهل مدينة أشبونة. وكان من الشعراء العلماء، والزهاد الفضلاء. ويلقب بالطيطل وبالقط. وقد ذكره الحميدي في جذوة المقتبس. فمن شعره: وتحتَ البَراقع مقلوبُها ... تَدبُّ على وَرْد خَدٍّ نَدي تُسالِمُ مَن وَطِئتْ خَدَّه ... وتَلسَع قلبَ الشَّجِي الأبعد وقد اخذه ابن جاخ الصباغ وادعاه. ولبعض أهل العصر في قصيد فريد، يمدح فيها مولانا السلطان الملك الكامل ملك ملوك العصر، أيده الله بالنصر: وما مِحَنتي في الحُبِّ غيُر غَرِيرةٍ ... هي البدرُ في لَيْلِ الذّوائب طالِعُ يَقُدّ فُؤادي قَدُّها وهو ذَابلٌ ... على أنهَّ غُصن من البان يانِع وتَجرح أحشائِي بعينٍ مَريضةٍ ... كَما لان مَتْنُ السّيف والحدُّ قَاطع خَضعتُ لها في الحُبّ من بعد عزَّتي ... وكلُّ مُحبٍّ للأحبّة خَاضع وماذا أجنَّت من أزاهر جَنّةٍ ... كَمائُم من رَيْط وهُنَّ البَرَاقع وفوقَ شَبيهِ الوَرْد يُلحظُ عكسها ... لودِاغُ في قلبي لها ولواذغ

وقالُوا بُدورٌ والشُّعورُ حَنادِس ... وهنّ شُموس في الغُصون طَوالع دَعتْ وادَّعت ملْكي لَدَى حاكِم الهوَى ... ولِي لِلْهَوى قَلْبٌ مُطِيع وسَامع ولاحاكٌم أرْضاهُ يبَنْي وبَيْنها ... سِوَى مَلِكٍ دَهري له اليومَ طائِع يُدافُع عنِّي الضِّيْمَ قائُم سَيْفه ... إذا عَزَّ من للضَّيْم عنِّي يُدافع هُو الكاملُ الأوصافِ والمَلِكُ الذي ... تُشِير إليه بالكَمال الأصابع لِبِيضِ أياديه الكَريمِة في الوَرى ... قَلائدُ في الأعْناق هُنّ الصَّنائع ويوَماه يوَماه اللذان هُما هُما ... إذا جَمعت غُلْبَ الملوكِ المَجامع فيوم ندًى فوق السَّرير موقَعٌ ... ويومُ ردًى تحت اللواءِ مُواقع وأنحى ملوِك الأرض في لُغة الوَغى ... وأعْرَبهم بالسّيف حين يُماصع ومِن نَحْوه يوم الجلادِ عواملٌ ... خَوافضُ للهامَات فيه رَوافع كتائبهُ مَنْصورةٌ بكتائب ... مِن المَلأ الأعْلى وجِبْريُل وازِع تَهِيم بِمَغْزَاُه خِلالٌ أبِيَّةٌ ... وتَغْنَى بَمْغناه نُفوسٌ نَوَازِع فلا يَطْمَعَنْ فيه العِدَا - فُلَّ حَدٌهم - ... ففي غير أمْن الله يَطْمع طامع والقصيد طويل.

الوزراء الأجلاء الشعراء

الوزراء الأجلاء الشعراء أبو محمد وأبو بكر وأبو الحسن بنو القبطرنه بيت الفضل والإحسان، والمعاني الحسان. فمن أحسن أخبارهم، ورقيق أشعارهم أنهم باتوا ليلة في زمن الربيع بالمنية التي أنشأها السلطان المتوكل على الله؛ وسماها بالبديع، يتعاطون كئوس الراح، ويدور عليهم منها أقداح الأفراح؛ إلى أن غلبهم النوم، وربط على آذانهم فارتفع عنهم اللوم؛ فلما تبلج وجه الصباح، وألبست الشمس معصفر خلعها فجاج البطاح؛ هب كل واحد منهم من نومه منشدا رافعاً عقيرته يالإنشاد مغردا؛ فقال الوزير الأوحد أبو محمد: يا شَقِيقِي أتَى الصّباحُ بوَجْهٍ ... سَتَر الليلَ ضَوْؤُه وبَهاؤُهُ فاصْطَبِحُ واغْتَنِمْ مَسَرَّة يَوْمٍ ... لستَ تَدْرِي بما يَجئ مَساؤُه ثم استيقظ الوزير الخطير أبو بكر فقال: يا أخي قُمْ تَرَ النَّسيم عَلِيلا ... باكرِ الروَّضَ والمدُامَ شَمُولاَ لا تَنَمْ واغْتَنِمْ مَسَرَّة يَوْمٍ ... إنّ تَحت التُّراب نَوْماً طَوِيلا

ابن أبي الخصال

ثم استيقظ أخوهما الوزير الحسن أبو الحسن فقال: يا صَاحبيّ ذَرَا لَوْمي ومَعتَبتِي ... قُمْ َنْصَطِبح خَمْرًة من خَير ما ذَخرُوا وبَادِرَا غَفْلَة الأياِم واغتَنمِا ... فاليومَ خمرٌ ويبدُو في غَدٍ خَبَرُ وذو الوزارتين الناظم الناثر الكثير المعالي والمآثر أكتب أهل زمانه على الإطلاق، وآدب أهل الأندلس بالإجماع والاتفاق؛ مع التقييد للحديث، والاشتغال بعلومه في القديم والحديث: ابن أبي الخصال أبو عبد الله محمد بن مسعود حدثني عنه خمسون شيخاً، منهم قاضي القضاة إمام النحويين، بقية أعلام مشيخة الأندلسيين، أبو جعفر أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن سعد بن مضاء اللخمي رضى الله عنه. فمما أنشدونا له في مطرب: وافَي وقد عَظُمتْ علىّ ذُنُوبُه ... في غَيبة قَبُحت بها آثارُهُ فَمَحَا إساَءته بها إحسانُه ... واستغفرتْ لذُنوبه أوتارُه

وله يعتذر من استبطاء المكاتبة: ألم تَعْلموا والقلْبُ رَهْنٌ لَديكم ... يُخبِّركم عَنِّي بمُضْمرِه بَعدِي ولو قَبِلتْنِي الحادثاتُ مكانَكم ... لأنْهبتها وَفْري وأوطأتها خدّي ألم تعلموا أنّي وأهْلي وواحِدي ... فِداءُ ولا أرْضَى بتَقْدِمتي وحدي ولابن أبي الخصال تصانيف كثيرة، مستحسنة أثيرة؛ منها: كتاب ظل الغمامة وطوق الحمامة، في مناقب من خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته رضي الله عنهم بالكرامة، وأحلهم بشهادته الصادقة دار المقامة. والقصيدة الموسومة بمعراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب؛ في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما انتظم به من مناقب صحابته الأبرار. إلى غير ذلك من ترسله الفائق، وشعره الرائق، وذلك في خمس مجلدات. وأنشدني الوزير الفقيه المحدث الفاضل الكاتب أبو عبد الله محمد ين أبي القاسم ابن عميرة المروي؛ المنسوب إلى مدينة المرية، على ما تقتضيه صناعة العربية؛ قال: حدثني بجميع تصانيفه الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان، سامحه الله بما سلف منه وكان، وكان طبعه في الانقياد له في ميدان البلاغة سلس العنان؛ وقد قدمنا أنه قتل ذبحا، ورأوا له في تشحطه بدمائه سبحا. فمن شعره يخاطب أبا يحيى محمد بن الحاج، وقد كان وقع بينه وبينه في بعض الأيام تنازع أدى إلى الانفصال، وتعطيل تلك البكر والآصال؛

ثم انقشعت تلك المخيلة، وتحركت فيه المودة الدخيلة؛ وأكدت تجديد ذلك العهد الرائق، وكف أيدي العوائق، فكتب إليه: أكعبةَ عليَاءٍ وهَضْبة سُؤدَدٍ ... ورَوْضةَ مَجْدٍ بالمفَاخر تُمْطِرُ هَنيئاً لمُلْكٍ زانَ نُورُك أفْقَه ... وفي صَفْحَتيه من مَضائك أسْطَر وإني لخفَّاق الجنَاحَين كلمّا ... سَرَى لك ذكرٌ أو نَسيم مُعَطَّر وقد كان واشٍ هاجَنا لتنافُرٍ ... فَبِتُّ وأحشائي جَوًى تَتفطّر فهل لك في وُدّ ذَوَي لك ظاهراً ... وباطِنُه يَنْدَى صَفَاءً ويَقْطُر ولستُ بِعِلْقٍ بِيعَ بَخْساً وإنّني ... لأرْفَعُ أعْلاقِ الزمان وأنْضَر الأعلاق: جمع علق، وهو الشيء النفيس، فأمر الأمير ذو الوزارتين أبا عبد الله ابن أبي الخصال بمراجعته، فكتب عنه بقطعة منها: ثَنيتَ أبا نَصْر عِنَاني وربَّما ... ثنَتْ عَزْمةَ السَّهم المُصمم أسُطُر ونالت هوًى ما لم تكن لَتنالَه ... سُيوفٌ مواضٍ أو قَنًا تَتأطّر وما أنَا إلا مَن عرفتَ وإنّما ... بَطِرْتَ ودادي والمودّةُ تُبْطِر نظرتَ بعينٍ لو نظرتَ بغيرها ... أصَبْتَ وجفْنُ الرّأي وسْنَانَ يَسْطر

ابن الجد

الوزير الحسيب العالم الأوحد: ابن الجد أبو القاسم محمد بن عبد الله الفهري النسب، المستبحر في الحديث والفقه والمتقدم في الأدب وعلم النسب؛ كاتب الحضرة العليا، المرجو للدين والدنيا. توفي رحمه الله سنة خمس عشرة وخمسمائة حدثني عنه ابن عمه حافظ أهل زمانه، المقدم على أهل عصره بحفظ مذهب إمام دار الهجرة، أبي عبد الله مالك بن أنس وأصحابه، ونصوص أقوالهم، واتفاقهم واختلافهم، مع المعرفة بلسان العرب، والنهاية في الفضل والدين وسمو النسب، والجاه وأعلى الرتب، أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن الجد. توفي رضى الله عنه ليلة الخميس الرابع عشر من شوال سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن ظهر يوم الخميس بداره بمدينة إشبيلية؛ ولم يتخلف عن شهود جنازته كبير إنسان، ومشى فيها الملوك والعلماء وجميع الأعيان، حتى أودعوه بطن ضريحه وتركوه في ذمة من الله وضمان. وكان مولده في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة. فكان له من العمر يوم وفاته تسعون سنة وسبعة أشهر.

فمن شعر الوزير أبي لقاسم بن الجد ما أنشدنيه له ابن عمه رحمهم الله: لئن رَاق مرأى للحسان ومَسمعُ ... فحسناؤُك الغرّاءُ أبْهى وأمتعُ عَروسٌ جَلاَها مَطْلعُ الشَّمس فانْثنتْ ... إليها النّجومُ الزّاهراتُ تَطلَّع زَففت بها بِكراً تضوّع طيبُها ... وما طِيُبها إلا الثّناء المُضوّعُ لها من طِرازِ الحُسن وشْيٌ مُهَلّلٌ ... ومن صِيغَة الإحسان تاجٌ مُرصَّع وأنشدني له: أما ونسيِمُ الرّوضِ طَاب له نشرُ ... وهبَّ له من كُلّ زاهرةٍ نَشْرُ يُحامِي له عن سّره زَهَرُ الرُّبى ... ولم يَدر أن السّرَّ في طَيّه نَشْر ففي كُلّ سِرّ من أحاديِث طِيبه ... تَمائُم لم يَعْلَق بحامِلها وِزْر لقد فَغَمتْني من ثَنائك نَفْحةٌ ... يُنافِسني في طِيبِ أنفاسِها العِطْر تَضَوعَ منها العَنْبر النّدُّ فانْثنت ... وقد أوهَمتْني أنّ منزلها الشّحْر سِرى الكبرُ في نفسي لهَا ولربمَّا ... تجانف عن مَسرى صَرامتَي الكبُر وشيَب بها معنًى من الراّح مطربٌ ... فخيّل لي أنّ ارتياحي بها سُكر أبا عامرٍ أنْصف أخاك فإنّه ... وإيّاكَ في مَحْض الهوى الماءُ والخَمْر

أبو القاسم محمد بن هانئ

أمثلكُ يَبْغي في سَمَائيَ كوكبا ... وفي جَوّك الشِّمسُ المُنيرةُ والبدرُ ويلتمسُ الحَصْباء في ثَعْب الحَصَى ... ومن بَحرك الفيّاض يُستخرج الدُّرّ عجبتُ لمن يَهوى من الصُّفر تُومَةً ... وقد سالَ في أرجاء مَعْدِنه التِّبر قوله: لقد فغمتني الفغم، بالغين المعجمة يستعمل في ملء الرائحة، أنفاً أو مكاناً قال الراجز: نفحة مسك تفغم المزكوما ومن المتقدمين من شعراء الأندلس والمغرب: أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي الدار، وإن كان قبيح الغلو، شهير الاستهتار، فربما صدرت عنه درر تلحقه بالشعراء الكبار: فُتِقًتْ لكم ريحُ الجِلاَد بَعْنبَرِ ... وأمدُّكم فَلَق الصَّباحِ المُسْفِرِ وجَنَيْتُمُ يَمَرَ الوقائع يانِعاً ... بالنَّصْر من وَرَق الحَديد الأخْضَر

قال ذو النسبين، رضي الله عنه، هذا بيت بديع زاد فيه على قول البحتري: حَملتْ خمائلُه القديمة ثِقْلَهُ ... من عَهْد عادٍ غَضّة لم تَذْبل وضربتُمُ هامَ الكُماةِ ورُعتُم ... بِيضَ الخُدورِ بكُلِّ لَيْث مُخدِرِ أبنَيِ العَوالِي السَّمهريِةّ والسّيو ... فِ المّشْرفيةِ والعَديدِ الأكثر مَن منكُم الملكُ المُطاعُ كأنه ... تحت السّوابغ تُبَّعٌ في حِمْيَر القائد الخيلِ العتاقِ شَوازباً ... خُزْراً إلى لحظ السِّنان الأخْزَر ومنها يصف الممدوح: نَحَر القَبُولَ من الدَّبُور وسار في ... جَمْع الهِرَقْلِ وعَزْمةِ الإسْكندرِ في فتْيةٍ صَدَأ الدّروعِ عَبيرُهُم ... وخَلوقُهم عَلقُ النَّجيعِ الأحْمِر لا يأكلُ السّرحانُ شِلوَ عَقيرهم ... مما عليه من القَنَا المتكسّر قوله: لا يأكل السرحان شلو عقيرههم. . . البيت. أي لو يمت لشجاعته حتى تحطم عليه من الرماح ما لا يصل معه الذئب إليه، ولو كان العقير هو الذي عقروه هم لكان البيت هجوا، لأنه كان يصفهم بالتكاثر على واحد. ومن قوله أيضا يمدح الأمير أبا الفضل جعفر بن علي الأندلسي: ألَيلتَنَا إذ أرسَلَتْ وارداً وَحْفَا ... وبتْنا نَرى الجوزَاء في أذنها شَنْفَا وباتَ لنا ساقٍ يَصُول على الدُّجَى ... بشَمْعة صُبح لا تُقَطُّ ولا تُطْفَا

ومن مليحها قوله: يقولون حقْفٌ فوقه خَيْزُرانةٌ ... أمَا يَعْرفون الخَيزرانَة والحقْفَا جَعلنا حَشَاياَنا ثِيابَ مُدامِنا ... وقَدَّت لنا الظلماءُ من جِلْدها لُحْفا فَمن كَبِدٍ تدُنِى إلى كبدٍ هَوىً ... ومن شَفَة تُوحِي إلى شَفَةٍ رَشْفا وقوله منها يشبه نجوم الليل: فولّت نُجومٌ للثّريّا كأنهّا ... خَواتيمُ تَبْدُو في بَنان يد تَخْفَى ومرّ على آثارها دَبَرانُها ... كصاحب رِدْء كُمِّنَتْ خَيلهُ خَلْفا وأقبلت الشِّعْرى العَبُوُر مُكبَّةً ... بِمْرزَمها اليعبوبِ تجنُبه طِرفاْ وقد بادرتْها أختُها مِن ورائها ... لِتَخْرق من ثِنْيَيْ مَجرَّتِها سِجْفا تخَافُ زئيرَ الليثِ يَقْدُم نَثْرًه ... وبَرْبرَ في الظَّلماء ينِسفُها نَسْفا كأنّ السّماكَين اللذين تظاهرا ... على لِبْدَتيه ضامِنان له حَتْفا فذا رامٌح يُهْوى إليه سِنِانَه ... وذا أعزلٌ قد عَضَّ أنمُلهَ لَهفا كأنَّ رقيبَ الليل أجَدُل مَرْقَبٍ ... يُقَلِّبُ تحت اللّيلِ في ريشه طرْفَا كأن بني نَعْشٍ ونَعْشا مَطافلٌ ... بوَجرة قد أضلَلْن في مَهْمَه خَشْفا كأنّ سُهيَلاً في مَطالع أفْقه ... مُفارقُ إلفٍ لم يَجِد بعدَه إلفْا كأن سُهاهَا عاشِقٌ بين عُوَّدٍ ... فآونةُ يَبْدو وآونةُ يَخْفى كأنّ مُعلَّى قُطْبها فارسُ له ... لِواءان مركُوزان قد كَره الزّحْفا

أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البتي

كأنّ قُدامَي النَّسْر والنَّسْرُ واقعٌ ... قُصصْنَ فلم تَسْمُ الخَوافِي به ضُعْفا كأنّ أخاهُ حِين دوَّم طائراً ... أتَى دون نِصْف البدرِ فاختطف النِّصفا كأنّ الهَزِيعَ الآبنُوسي لَوْنُه ... سَرَى بالنَّسيج الخُسْروانّي مُلتفّا كأنّ ظلامَ اللّيل إذ مال مَيْلَةً ... صَريعُ مُدَام بات يَشْربها صِرْفا كأنّ عَمُودَ الفَجْر خاقانُ مَعْشر ... من التُّرك نادىَ بالنجاشي فاسْتَخفى كأنّ لِواء الشّمس غُرّةُ جَعفرٍ ... رأى القِرْن فازدادَت طَلاقَتُه ضِعْفا وبقية شعر هذا الرجل قعاقع وجعاجع، وثالثة الأثافي والرسوم البلاقع. والخسرواني: الحرير الرقيق الحسن في الصنعة، منسوب إلى خسرو، أحد ملوك الأكاسرة. ومنهم الأديب، الشاعر الأريب: أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البتي وبتة: قرية من قرى مدينة بلنسية. وكان كثير التصرف، مليح التظرف. أنشدني له غير واحد من أهل مدينة بلنسية: غَصَبْت الثُّريّا في البِعادِ مكانَها ... وأودعت في عينَّي صَادِقَ نَوْئِها وفي كُل حالٍ لم تزاليٍ بَخيلةً ... فكيفَ أعرتِ الشّمسَ حُلَّة ضوئِها أحرقه القنبيطور - لعنه الله - في حين تغلبه على بلنسية وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

أبو الفضل بن حسداي

والوزير الكاتب: أبو الفضل بن حسداي من بيت شرف اليهود بالأندلس، ذكر القاضي بطليطلة الفقيه المؤرخ المتقن أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد في كتاب الطبقات له، أن ابن حسداى هذا من ولد موسى صلى الله على نبينا وعليه. جرى في ميدان البلاغة إلى أبعد أمد، وبنى عراصها بالصفاح والعمد؛ وكانت الذمة تقعده عن مراتب أكفائه، وتجد في طموس رسمه وعفائه، حتى ألحقه الله بأقرانه، وأقاله من متعثر خسرانه؛ فتطهر وأسلم، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. فمن شعره القطعة التي أطلعها نيرة، وترك الألباب منها متحيرة؛ ذكرها أبو نصر الفتح بن خاقان، في كتاب قلائد العقيان: تَوْريدُ خدّك للأحداق لذّاتُ ... عليه من عَنْبر الأصْدَاغ لامَاتُ نِيرانُ هَجْرك للعُشَّاقِ نارُ لظًى ... لَكْن وصالُك عن واصلتَ جنّات كأنّما الرّاحُ والرّاحاتُ تَحملُها ... بُدورُ تِمِّ وأيدي الشًّرب هالات حُشاشةٌ ما تَركنا الماَء يَقْتُلها ... إلاّ لتَحْيا بها منّا حُشَاشات قد كان في كأسِها من قبلها ثِقَلٌ ... فخفَّ إذ مُلِئتْ منها الزُّجاجات

أبو عبد الله محمد بن الفخار

قال ذو النسبين رضي الله عنه: أخذ هذا المعنى من قول الشاعر أبي علي إدريس بن اليمان، من أهل جزيرة يابسة، من قصيدة طويلة يمدح بها إقبال الدولة أبا الحسن علي بن أبي الجيش مجاهد بن عبد الله مولى أبي عامر: ثَقُلتْ زُجاجاتٌ أتَتْنا فُرَّغاً ... حتّى إذا مُلئت بِصرْف الرَّاحِ خفَّت فكادتْ تَستطيرُ بما حَوتْ ... وكذاَ الجسوم تَخِفُّ بالأرواح ومنهم الفقيه الأديب الزكي الحسيب: أبو عبد الله محمد بن الفخار بيت الفخار، ومنبت الفضل المشرق إشراق النهار؛ يعرف بابن نصف الربض، الراسخ في علم الجوهر والعرض. أنشدني له جماعة من أهل مدينة مالقة، منهم ولده الوزير الأديب، الفقيه الحكيم الأريب: أبو الحسين؛ والخطيب في مجالس الملوك، الناثر من فيه درر السلوك، صديقنا أصبغ بن أبي العباس: أمُستنكَرٌ شَيبُ المَفارِق في الصِّبا ... وهل يُنْكَر النَّوْرُ المُفتَّح في غُصْنِ أظُنّ طِلابَ المَجد شَيَّب مَفرقِي ... وإن كنتُ في إحدى وعشرين من سنّي

أبو بكر بن بقي

ومن شعراء الجزيرة صاحب الموشحات الشهيرة: أبو بكر بن بقي فمن شعره: عاطيتُهُ واللّيلُ يَسْحبُ ذَيْلَه ... صَهْباَء كالمسْك الفَتِيِق لناشِقِ وضَممتُه ضَمَّ الكَمِيِّ لسَيْفه ... وذُؤَابَتاه حمائلٌ في عاتِقي حتى إذا مالَت به سِنَةُ الكَرَى ... زَحْزحتُه رِفْقاً وكان مُعانِقي باعَدتُه عن أضْلُع تَشْتَاقه ... كي لا يَنام على وِسَادٍ خَافق ومنهم الفقيه الأصولي اللغوي النحوي: العبدري أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد بن عبد الله، سكن عدوة المغرب، وتصدر بمراكش لإقراء النحو والأدب. لقيته بها سنة

ابن حيوس أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله بن حبوس

خمس وستين، وقد شرح كتاب الجمل، وانفرد من الفضل بمفصله والجمل. وتوفي رحمه الله بحضرة مراكش يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، ودفن ضحى يوم الأربعاء، سنة سبع ستين وخمسمائة. فمن شعره: أبا قاسِمٍ والهوى جِنَّةٌ ... وها أنا من مَسّهِا لم أفقْ تَقَحَّمْتُ جَاحِمَ نَار الضُّلوع ... كما خُضت بَحر دُموع الحَدق أكنتُ الخليلَ أكنتُ الكليمَ ... أمنتُ الحريقَ أمنت الغَرقَ ومنهم شاعر المغرب الأقصى، ومفخره في صناعة المحاكاة والتخييل؛ وإن كان له غلو في الأمداح، وإفراط في الاختراع والأقتداح؛ فربما ثنى عنانه إلى مدح اللطيف الخبير، وروى ظمأه ذلك العذب النمير، وهو: ابن حيوس أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله بن حبوس بالباء بنقطة واحدة من أسفل، مولى بني أبي العافية، الذين ملكوا المغرب الأقصى، في أيام بني أمية الأندلسيين. وأصلهم من تازا، من أهل تسول، من بني مجدول، منهم. وتسول: كانت حاضرة ملكهم، ومنتظم سلكهم؛ فذهبت أيامهم، وتقلص إنعامهم، وتلك عادة الله، وسنته في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وقد رفعت ديوان شعره للمقام المولوي السلطاني الملكي الكاملي الناصري، أدام الله إنعامه، ووالي له حسن الصنع وأدامه. لقيته بحضرة مراكش، سنة أربع وستين وخمسمائة. ثم دخلت عنده في داره بمدينة فاس، بدرب السراجين منها، فأخذت عنه وسمعت منه. وأنشدني شيخي الفقيه الأستاذ اللغوي النحوي أبو العباس أحمد بن علي بن محمد الكناني - يعرف بابن سيد - من أهل إشبيلية؛ تصدر للإقراء بها، فطلع شمساً من جانبها؛ وكان من أهل البلاغة والشعر، والتقدم في النظم والنثر. ختم كتاب سيبويه مرتين على الأستاذ النحوي أبي القاسم بن الرماك بعد قراءته القرآن العظيم على القاضي أبي الحسن شريح بن محمد، والمجود الكبير أبي العباس أحمد بن عيشون، وأجاز له. وكذلك أجاز له جماعة من علماء قرطبة، منهم الفقيه أبو محمد بن عتاب، والعالم أبو بحر سفيان بن العاصي، والوزير أبو الوليد بن طريف وغيرهم، ولزم الوزير الأديب البليغ الأوحد أبا محمد ابن عبد الغفور. فقرأ عليه كثيراً. وأنشدنا له في صاحب إشبيلية وقد خرج إلى غزاة:

سِرْ حَلَّ حيثَ تحلُّه النُّوّار ... وأراد فيك مُرادَك الأقدارُ وإذَا ارتحلتَ فشَيّعتْك غَمامةٌ ... أنّي حَلَلتْ ودِيمةٌ مِدْرَار تَنْفِي الهَجِير بظّلِها وتُنِيمُ بالرَّ ... شِّ القَتامَ وكيف شِئْت تُدار وقَضَى الإلُه بأنْ تَعود مُظفَّرا ... وقَضَيت بسَيْفك نَحْبَها الكُفّارُ وقد أبدع في هذه الأبيات غاية الإبداع، وهي من ابلغ ما قيل في الوداع. وأنشدني رحمه الله قال: أنشدني الوزير الشريف الحسيب النسيب أبو محمد عبد العزيز بن الحسن بن أبي البسام الحسيني، فريد عصره ووحيد دهره. قال: نزلت بفندق بمدينة دانية ليلاً، فرأتني امرأة كانت تعرفني في أيام السلطان أبي الطاهر تميم، وهي الحرة الفاضلة مريم بنت إبراهيم؛ والدنيا قد سحبت على من جاهها ووزارتها ذيلا، فقلت مرتجلا: عَاذِلَتي لا تُفنّدِينِي ... أن صِرْتُ في مَنزلٍ هَجينِ فليسَ قُبْح المَكان ممّا ... يَقْدَحُ في مَنْصِبي ودِيني الشمسُ عُلْوِيّةٌ ولكنْ ... تَغْرُبُ في حَمْأَةِ وطِين وكان شيخا هذا رحمه الله يلقب باللص لدياثته وسكونه، وتردده خفية في جميع شؤونه؛ وكان لا ينكر هذا اللقب مع جاهه عند سلطان زمانه،

وقد أنشدني بيتين قالهما في الوزير أبي الحسين بن فندله في إبان شبابه وعنفوانه: خَلَسْتَ قَلْبي بطَرْفٍ ... أبَا الحُسين خَلُوبِ فكيفَ أُدعى بلّصٍ ... وانت لصُّ القلوبِ ولما وصلت المحلات العظيمة، والعساكر العميمة، بجبل الفتح والنصر والهدى، قام منشدا: غَمِّضْ عن الشَّمسِ واستقصِرْ مَدى زُحَلِ ... وانظُرْ إلى الجَبلِ الرَّاسي على جَبلِ أنَّي استقلَّ به أنَّي استقَرّ به ... أنَّي رأى شخصه العالِي فلم يَزُل توفي شيخنا رضي الله عنه ببلدة إشبيلية سنة ست وسبعين وخمسمائة. وأخبرني أن مولده سنة سبع وخمسمائة. سمعت منه كثيرا، وأجاز لي جميع رواياته ولأخي، نفعنا الله.

أبو بكر محمد

الوزير الكبير وزير إشبيلية وعظيمها، وشاعرها المشهور وكريمها: أبو بكر محمد ابن الوزير الكبير، الطبيب النحير، أبي مروان عبد الملك؛ ابن وزير ذلك الدهر وعظيمه، فيلسوف ذلك العصر وحكيمه؛ أبي العلاء زهر، ابن الوزير الكبير أبي مروان عبد الملك، الراحل إلى المشرق، وبه تطبب زماناً طويلا وتولى رياسة الطب ببغداد، ثم بمصر ثم بالقيروان، ثم استوطن مدينة دانية، وطار ذكره منها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى بذ أهل زمانه. ومات بدانية. وأبوه الوزير الفقيه العالم أبو بكر محمد بن مروان بن زهر الإيادي النسب العالم بالرأي والحافظ للأدب. وكان حاذقاً في الفتوى، مقدما في الشورى، متفننا في العلوم، وسيماً فاضلا، جمع الرواية والدراية. توفي بطليرة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ست وثمانين سنة. حدث عنه جماعة من علماء الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل، والجود والبذل. حدثني شيخنا المبدأ بذكره، وهو الوزير أبو بكر، عن جده الوزير أبي العلاء بجميع تواليفه وشعره. وتوفي الوزير أبو العلاء بمدينة قرطبة، ممتحناً من نغلة. بين كتفيه سنة خمس وعشرين وخمسمائة.

والذي انفرد شيخنا به وانقادت لتخيله طباعه، وأصارت النبهاء خوله وأتباعه: الموشحات، وهي زبدة الشعر وخلاصة جوهره وصفوته. وهي من الفنون التي أغربت بها أهل المغرب على أهل المشرق. وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق، فمن ذلك قوله: سَدلْنَ ظَلامَ الشُّعورْ ... على أَوْجهٍ كالبُدورْ سَفَرَن فلاح الصباحْ هَزَزن قُدودُ الرِّماحْ ضِحِكن ابِتَسامَ الأقاحْ كأّنَّ الذي في النُّحور ... تخَّيرنَ منه الثُّغورْ سَلُوا مُقلَتَيْ ساحرْ عن السّحر والسّاحِر وعن نَظرٍ حائر يَريشُ سهامَ الفُتورْ ... ويَرمي خَبايَا الصُّدورْ لقد هِمْتَ ويَحِي بِهَا وذُلّل قَلْبي لها أمَا والهوىَ إنَّها

لَظَبْيُ كِناسٍ نَفُورْ ... تَغارُ عليه الخُدورْ حُرِمتُ لذيذَ الكَرَى سَهِرْتُ ونام الوَرى تُرَى ليت شِعْري تُرَى أساعدتُ لَيْلي شُهورْ ... أمِ اللّيلُ حولي يَدُورْ ظَفرتْ بصَبٍّ كَئِيب فنكّد وعذِّبْ وجُورْ ... أسرفْ غُلامك صَبُورْ وقوله: أيّها السّاقي إليك المُشتكَى ... قد دعونَاك وإن لم تَسْمَع ونَديمٍ هِمتُ في غُرَّتِهِ وسَقَاني الرّاح من راحتِه كلما استيقَظَ من سَكْرته جذب الزِّقّ إليه واتّكَا ... وسقَاني أربعاً في أربعِ ليس لي صبرٌ ولا لي جَلَدُ ما لِقومي عذَلُوا واجتهدوا أنكُروا شَكْواي ممّا أجد

مثلُ حالي حقُّها أن تُشتكَي ... كَمَدُ اليأس وذلُّ الطَّمَع غُصنُ بانٍ مال من حيثُ استوى بات من يهواهُ من فرط الجوى خافقَ الأحشاء موهُون القُوى كلما فكَّر في البين بكَى ... ماله يبكي لما لم يَقع ما لعيني شُغِفت بالنَّظر أنكرتْ بعدك ضوءَ القَمر فإذا ما شِئْتَ فاسْمع خَبَري عَشِيتْ عَيناي من طُول البُكَا ... وبكَى بَعْضي على بَعضِي مَعِي الشغاف: حجاب القلب؛ وقيل: سويداؤه؛ وهو الشغف أيضا، بالعين المهملة. قال الله العظيم: (قد شغفها حباً). وشغفة القلب: أعلاه، وهو معلق النياط. قال أبو عبيد: المشغوف: الذي بلغ حبه شغاف قلبه؛ وبالعين المهملة: الذي خلص الحب إلى قلبه فأحرقه. وكان شيخنا الوزير أبو بكر - رحمه الله - بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطلب عذب معين. كان يحفظ شعر ذي الرمة، وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب، والمنزلة العليا عند أصحاب المغرب مع سمو النسب، وكثرة الأموال والنشب

صحبته زمانا طويلا، واستفدت منه أدبا جليلا. واستجزته في جميع تصانيف أسلافه وتصانيفه، وجميع شعره ونثره وتواليفه. ومن شعره: وموسدين على الأكفّ خُدودَهم ... قد غالَهم نومُ الصَّباح وغَالَنِي ما زِلُت أسقيهمْ وأشربُ فَضْلَهم ... حتى سكرتُ ونالَهم ما نالني والخَمر تعلم كيف تَطلبُ ثأرَها ... إني أملْتُ إناءها فأمَالنَي ومن شعره: رمتْ كبدي أختُ السِّماك فَأقصدتْ ... ألاَ بأبي رَامٍ يُصيب ولا يُخطشي قريبةُ ما بين الخَلاخِل إن مَشَتْ ... بعيدةُ ما بين القِلادة والقُرْط نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى ... كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي سألته رحمه الله عن مولده فقال: ولدت سنة سبع وخمسمائة. وبلغتني وفاته آخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة

وأنشدني الوزير الكاتب أبو الحكم علي، ابن الوزير الأعلى أبي بكر محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن كميل بن عبد العزيز بن هارون اللخمي قال: أنشدني أبي لنفسه: قد هَززتاك في المكَارم غُصْنَا ... واستَلَمنَاك في النَّوائب رُكنَا ووجدنا الزمَّان قد لاَنَ عِطْفاً ... وتأتىَّ فِعلاً وأشْرَق حُسنا فإنها ما سألتَه كان سَمْحاً ... وإذا ما هززتَه كان لَدْنا مؤِثراً أحسنَ الخلائِقِ لا يع ... رف ضَناًّ ولا يُكذِّب ظَنّا أنتَ ماءُ السماء اخصَبَ وَاد ... يه ورفَّت رياضُه فانْتَجعنا نَزَعتْ بي إلى ودادِك نَفْسٌ ... قلَّما استمتعتْ بذي الفَضْلِ خِدْنا وأنشدني له وقد ودع. . . . . . في ذمَّة المَجْد والعَلْياءِ مُرتَحِلٌ ... فارقتُ صَبْرِيَ مذ فارقتُ موضِعَهُ ضاءتْ به برهةً أرجاءُ قُرْطبة ... ثم استقلَّ فَسَرَّ البَيْنُ مَطْلَعه والوزير أبو الحكم هذا يعرف أبوه بابن المرخي. وصوابه عند أهل النحو: المرخي، بفتح الخاء. وهو من أهل قرطبة، وأصلهم من شرانة، قرية من قرى

شريش شذونة. وكان أبوه بذ أهل وقته في الكتابة والأدب، واللغة وأنساب العرب؛ وكان وزيرا جليلاً بوزارة السلاطين بقرطبة، وكان ينتفع به الناس لحسن وساطته، ومبادرته إلى قضاء حوائج الناس ومشاركته. أخذت عن ولده الوزير: أبي الحكم جميع ما رواه عن أبيه وعن غيره من أشياخ قرطبة، منهم ابن عمه الوزير الكبير أبو جعفر بن عبد العزيز. وأخذت عنه استدراكه على الوزير أبي عبيد البكري في معجم ما استعجم، وذلك نحو من أربعمائة موضع. وسمعت من لفظه أوهام ابن قتيبة في المعارف. وصحبته كثيرا، وأخذت عنه فضلاً غزيرا، واستجزته في جميع ما رواه، وألفه، فأجاز لي ولأخي الحافظ أبي عمرو. وسألته عن مولده، فقال: ولدت آخر سنة تسع عشرة وخمسمائة. وتوفي رحمه الله بحضرة مراكش سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وشهدت جنازته.

ابن سعيد الأوسي

وصاحب أحكام القضاء بمدينة مالقة، الفقيه العالم: أبو الحسن صالح بن عبد الملك. ابن سعيد الأوسي يعرف بالقنترال، بالقاف، والنون والتاء المثناة باثنتين من فوقها والراء المهملة. وكان شيخاً جليلا، محدثا، فقيها، فاضلاً، أصيلاً. لقي قاضي الجماعة، أبا الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد المالكي مؤلف كتاب المقدمات لأوائل كتب المدونة، وكتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل، واختصار المبسوطة، واختصار مشكل الآثار للطحاوى - والإمام العالم قاضي الجماعة أبا عبد الله، محمد بن الحاج الشهيد، فسمع عليه صحيح مسلم. ولقي الإمام العالم أبا بكر غالب بن عطية المحاربي، والفقيه المشاور القاضي أبا الحسن علي بن أضحى الهمداني، والمحدث الجليل أبا جعفر

أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي، ولقي بلوشة الفقيه الإمام أبا الوليد هشام ابن أحمد بن هشام الهلالي، قرأ عليه، وعلق عنه جميع كلامه، على صحيح البخاري، وكان عالماً به واقفا على معانيه. ولقي بإشبيلية القاضي الإمام أبا بكر محمد بن عبد الله العربي المعافري، وكان مختصا به. والفقيه المشاور القاضي أبا مروان الباجي، والمقرئ النحوي القاضي بإشبيلية أبا الحسن شريح بن محمد الرعيني، والفقيه القاضي الإمام أبا القاسم أحمد بن محمد بن أحمد بن عيسى ابن منظور، والوزير أبا بكر محمد بن فندله. والوزير الحسيب أبا عبد الله جعفر بن مكي، وقرأ القرآن العظيم بقرطبة علي ابن ذروة، وعلى الأستاذ عياش بن عبد الملك الأزدي اليابري. ولقي الفقيه المشاور الأستاذ أبا عبد الله محمد بن عيسى المشتهر بالشرقي، ولقي بالمرية الإمام العالم الأوحد أبا القاسم ابن ورد، وقرأ عليه الحديث تفقها، والفقيه الإمام الزاهد الشهيد أبا عبد الله

محمد بن يحيى، يعرف بابن الفراء، وسمع عليه. ولقي ببلده مالقة الفقيه المشاور الفاضل أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن معمر، والفقيه الأستاذ المقرئ أبا علي بن تملا، يعرف بالأحدب، والأستاذ النحوي أبا الحسين بن الطراوة، والفقيه الأستاذ اللغوي أبا عبد الله محمد بن سليمان هو ابن أخت غانم. ولقي من أهل مرباطر بلنسية الإمام العالم أبا بحر سفيان بن العاصي، ولقي الأستاذ المقرئ أبا المطرف عبد الرحمن بن سعيد الفهمي، حدثه عن الفقيه عبد الحق الصقلي إجازة، وعن القاضي الإمام أبي الوليد الباجي سماعاً عليه، وعن الإمام أبي عمر بن عبد البر إجازة، وعن غيرهم. ولقي في علم الأصول الفقيه المتكلم أبا العباس أحمد بن محمد الجذامي، يعرف بابن الزنقي، إلى غير ذلك من شيوخه. وقد سمعت عليه وصحبته، وأجاز لي جميع رواياته، ولأخي الحافظ أبي عمرو.

ومن أعظم ما شاهد أهل الأندلس منه أن يده اليمنى بطلت فأطلق الله يده اليسرى، فكتب بها دواوين لا تحصى كثرة، كمسند البزار وغيره، كما كان يكتب بيده اليمنى وأحسن. توفي رضي الله عنه بمالقة وهو يتولى الأحكام، ويدرس العلوم سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وأنشدني قال: أنشدني الإمام العالم أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي لنفسه، يعاتب بعض إخوانه: وكنتُ أظنُّ أنَّ جبالَ رَضْوَي ... تَزول وأنَّ وُدَّك لا يَزولُ ولكنَّ القلوبَ لها انقلابٌ ... وأحوال ابنِ آدم تَستحيل فإن يَكُ بيننا وَصْلٌ جَميل ... وإلا فليكُن هَجرٌ جميل وقد سمعت هذه الأبيات من الفقيه أبي محمد عبد الحق، ابن قاضي مالقة أبي مروان عبد الملك بن بونة العبدري، قال: أنشدنا الإمام أبو بكر غالب لنفسه أيضا يحذر من خلطة الناس: جفوتُ أناساً كُنتُ آلفُ وصلَهم ... وما بالجفَا عند الضرورةِ من باَسِ بلوتُ فلم أحمدَ فأصبحتُ يائساً ... ولا شَيَء أشْفَى للنُّفوس من الياس فلا تَعْذلوني في انقبِاضي فاِنني ... رأيتُ جميعَ الشَّرِّ في خِلْطة الناس

وأنشدني القاضي الفقيه أبو الحسن صالح المذكور، قال: أنشدنا الفقيه القاضي أبو الحسن بن أضحى: أزِفَ الفِراقُ وفي الفؤاد كُلُوُم ... ودنا التَّرحُّل والحِمامُ يَحومُ قُل للأحِبَّة كيفَ أنعُم بعدَكم ... وأنا المُسافر والفؤادُ مُقيم قالوا الودَاعُ يَهيجُ منكَ صبابةً ... ويُثِيرُ ما هو في الهَوى مَكْتوم قلتُ اسمحوا لي أنْ أفوزَ بنَظْرة ... ودَعُوا القيامة بعد ذاكَ تَقوم وحدثني شيخنا المذكور آنفا قال: أخبرنا القاضي أبو بكر بن العربي وأملاه علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الملك التنيسي الصوفي قال: خرجنا مع شيخنا أبي الفضل بن الجوهري بخبب عميرة لتشييع الحاج ووداعه على العادة، فبتنا معهم. وحين أصبحنا وأثيرت الجمال وقوض الناس للرحيل إذا بفتى شاب حسن الوجه عليه شحوب واصفرار، وهو يشيع الهوادج هودجاً هودجا، حتى فنيت الهوادج ومشى الحاج، وهو يقول أثناء تردده عليها، ونظره إليها: أحُجّاجَ بيت الله في أيّ هودج ... وفي أي خِدر من خُدوركُم قَلبِي أأبقىَ رهينَ الجسم في أرض غُربةٍ ... وحاديكُم يحدُو بقَلْبي مع الرَّكب

فَوا أسفَا لم أقْض منكم لُبَانتي ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبِالقُرب وفُرِّقَ بيني في الرّحيل وبَينكم ... فهأنذا أقْضي على إثركم نضحبي فلما أكمل الحاج السير ويئس، ضرب بنفسه إلى الأرض وجعل يقول: خَلِّ دَمْع العين يَنهملُ ... بانَ من تهواهُ وارتحلُوا أيُّ دَمْعٍ صانَه كَلِفٌ ... فهو يومَ البَيْن مُبتذَل ثم مال إلى الأرض، فجئنا إليه فوجدناه ميتا. أبو الفضل بن الجوهري، هذا مصري؛ كان يسكن القرافة، واسمه عبد الله ابن حسين؛ أسماه الإمام أبو بكر بن عطية. وهو واعظ جليل، وفقيه نبيه ونبيل. روى عنه من العلماء: أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله الطيني، وأبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، وغيرهما. وذكره الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتاب الإكمال له وأثنى عليه وقال: روى عنه الحميدي.

أبو محمد القاسم بن عبد الرحمن

وصاحب لواء العربية، وذو النساب السرية: أبو محمد القاسم بن عبد الرحمن ابن القاسم بن مسعدة بن عبد الرحمن بن القاسم بن عثمان بن إسماعيل بن عثمان بن مطرف بن دحمان بن الغمر بن مرغم بن ذبيان بن فتوح بن نصر الأوسي، من أهل مدينة مالقة، وأصله من وادي الحجارة، وجده ملكها؛ والدحم، في اللغة: الدفع؛ وبه سمي الرجل دحمان. قاله كراع وغيره. لقيته بمدينة مالقة فسمعت عليه وأجاز لي ولأخي الحافظ أبي عمرو بخطه. واخبرني أن مولده سنة خمس وثمانين وأربعمائة ببلنسية، عام حصار القنبيطور لها. وتوفي رضي الله عنه بمالقة وله اثنتان وتسعون سنة، يوم الاثنين بعد صلاة العصر، وهو الثاني من ذي القعدة، وآخر يوم من آذار، سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر بمقربة من الشريعة بخارج مالقة. وصلى عليه على شفير قبره أخوه الفقيه أبو عبد الله محمد، وكان رحمه الله إمام أهل زمانه في الحرف والفعل والاسم، والحد والرسم، والتنكير والتعريف، والصرف والتصريف. ويذهب كل مذهب في التعليل. ويفضل رأي عمر وأبي

بشر، والخليل. وإذا وقع في وادي الشعر والقريض، فذو لسان طويل وباع عريض. ثم رأى أن الحديث والفقه ثمرة المعارف، وعارفة العوارف؛ فأكثر منهما وأفرط، واستقصر نفسه عن اشتغاله بغيرهما وفرط؛ مع أنه لم تعرف له قط في شبيبته صبوة، ولا اتخذ أهلاً ولا سمعت عنه هفوة. وانفرد في آخر عمره لإقراء القرآن والقيام به، واجتهد في العبادة، ليله راكعا وساجدا. وسأل الله الكريم في جنح الظلام متهجدا لا هاجدا؛ إلى أن مات على أحسن أحواله، مقدما لصالح أعماله. وهو شيخ شيخنا الأستاذ النحوي، أبي القاسم السهيلي؛ قرأ كتاب سيبويه قراءة تفقه وإتقان، وبحث وبيان؛ على نحوي أهل زمانه، أبي الحسين بن الطراوة، واختص به. ولقي الخطيب المصقع أبا الفتح سعدون بن مسعود المرادي، فروى عنه جميع رواياته وتواليفه؛ والأستاذ اللغوي النحوي أبا عبد الله محمد بن سليمان، المشتهر بابن أخت غانم؛ وقرأ القرآن العظيم على الأستاذ أبي علي المغراوي المتصدر بجامع مالقة. روى بها عن أبى معشر الطبري؛ ولقي الفقيه أبا عبد الله أبي الأديب، والقاضي المتقن

أبا محمد التوحيدي. وأجاز له الأئمة العلماء: أبو بحر سفيان بن العاصي، والقاضي الشهيد أبو عبد الله بن الحاج، والفقيه أبو الحسن بن مغيث، والإمام العالم أبو القاسم بن ورد، والعالم أبو جعفر بن باق السرقسطي، نزيل مدينة فاس، والأديب أبو عبد الله جعفر محمد بن مكي، والقاضي الأديب الكاتب الخطيب أبو الفضل جعفر بن محمد بن يوسف حفيد الأعلم النحوي، أبي الحجاج الشنتمري. وأنشدنا قال: أنشدنا الأستاذ اللغوي النحوي، أبو عبد الله محمد بن سليمان النفري، قال: أنشدني خالي اللغوي النحوي العالم الفقيه أبو غانم بن وليد القرشي المخزومي لنفسه: صَيِّر فؤادك للمَحبوب مَنزلةً ... سَمُّ الخِيَاطِ مَجالٌ للحبَيْبينِ ولا تُسامحُ بغَيضاً في مُعاشرةٍ ... فقلّما تَسعُ الدُّنيا بَغِيضَين السم: ثقب الإبرة

ابن زرقون

والفقيه أبو عبد الله محمد ن سعيد بن أحمد بن سعيد يعرف: ابن زرقون بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة؛ من أهل إشبيلية؛ وقد تكلمنا على نسبه ولقبه في كتابنا المسمى بوهج الجمر في تحريم الخمر. أجاز له الشيخ الفقيه أبو عبد الله أحمد بن محمد الخولاني برغبة أبيه سنة اثنتين وخمسمائة، وهو العام الذي ولد فيه أبو عبد الله، واستجاز أيضا له ولابنه أبي عبد الله القاضي بإشبيلية العالم أبا عبد الله محمد بن شبرين، والفقيه المفتي أبا محمد بن عتاب. ونقله أبوه إلى حضرة مراكش فلقي بها الفقيه الإمام أبا عمران موسى بن أبي تليد الشاطبي - إذ كان حمل إلى مراكش، وأخرج عن وطنه - فسمع عليه كتاب التقصي، فأكثر كتاب السنن لأبي داود، وأجاز له جميع ما رواه. ثم تجول بالأندلس ولزم الوزير الفقيه الكاتب أبا محمد بن عبدون وقرأ عليه كثيرا من روايته وتصانيفه ومنظومه ومنثوره، وكان أشعر أهل الأندلس واكتبهم. ولزم الوزير أبا محمد بن القبرطرنه وإخوته. ثم رجع من بطليوس إلى إشبيلية. فقرأ على القاضي الخطيب بجامعها، أستاذ المقرئين أبي الحسن

شريح بن محمد الرعيني، وعلى الفقيه القاضي العالم اللغوي النحوي أبي محمد عبد الله ابن الوحيدي. ثم لزم القاضي أبا الفضل عياض بن موسى مدة مديدة، وأعواماً عديدة، وكان فقيه الدرس والنفس، وإن كان حكى عنه ابن خاقان في قلائده أنه كان يحضر مجالس الأنس. فالتوبة بإجماع محاءة للذنوب، مذهبة للمجون والعيوب. وقد استصلح في كبرته للقضاء وقضى، ولم يقض إلا وهو عدل رضى. فمما أنشدنيه لنفسه، وكتبته من خطه: ذَكر العهدَ والدّيارَ غريبُ ... فجرَى دمعُه ولجَّ النَّحيبُ إذ صفاءُ الوِداد غيرُ مَشُوب ... بتَجنٍّ، وودُّنا مَشْبوب وإذِ الدهر دّهْرُنا وإذا الدا ... رُ قريب وإذ يقول الرَّقيب وقِيَان الأوتار تُسدها الأطْ ... يار والروض زاهرٌ مَهضْوُب ووِشَاحِي مَعاصمٌ لوِت الشَّو ... ق علينا وظاهرتُها القلوب وفِراشي بَطْنٌ وصَدْر ونَهْدٌ ... وعليها مِنِّي رَفيقٌ طبيب واللَّما والرُّضابُ كأسي وخَمْري ... حّبَذا الكأسُ حّبَذا المَشْروب وحِمَى الأزْر لِي مُبَاحٌ وحُكْمِي ... نافِذٌ فيه والفعالُ ضُروب

وإذا ما الحِمَى أغارَ عليه ... حاذقُ الطَّعن فالحِمَى مْنهُوبُ أسألُ الله عَفْوَهُ فلئن سا ... َء مقالي لقد تَعفُّ الغُيوب قد ينال الفَتى الصغائر طرفا ... لا سواها وللذُّنُوب ذَنُوب وأخو الشِّعر لا جُناح عليه ... وسَواءُ صَدُوقه والكَذوب وأنشدني، وكتبته من خطه، يخاطب امرأة: يا نُورَ نَفْسِيَ حقُّ الضَّيف مُفترضٌ ... وأنتِ من قَومِ صِدقٍ ظاهِري الكَرِم مرّتْ ليالٍ علينا في جِواركُم ... ونحن في جَفوةٍ أفضتْ إلى سَقَم إن قلت تُبتُ، فما كانتْ مُفاحشةٌ ... وإين منك مَقالُ الله في اللَّمَمِ أو كان نُسكٌ فما ذو النُّسك في سَعةٍ ... أن يَسْتحلَّ - وقاكِ اللهُ - سَفْكَ دَمي وقد تكلمنا على هذه الأشعار، ومن انتقدها عليه من العلماء الكبار، واعتذرنا عنها أبلغ الاعتذار، وذلك في كتاب وهج الجمر في تحريم الخمر. وشاهدناه في آخر عمره قد اتخذ المسجد الجامع داراً، والتفت إلى رواياته وتواليفه فروى صغاراً وكبارا. قرأت عليه كثيرا وسمعت، وأجاز لي ولأخي الحافظ أبي عمرو جميع رواياته ومجموعاته. وتوفي رحمه الله على أحسن حالاته ببلدة إشبيلية سنة ست وثمانين وخمسمائة، وله أربع وثمانون سنة. وخلف أموالا عظيمة، ز كتباً في كل فن كريمة؛ وكان له ولد يكنى أبا الحسين، وكان سخنة عين؛ فأساء ذكره، ولم يتبع حسنه، فأمر صاحب المغرب أن يصفد في الحديد، وأن يلقى

في عنقه ما يتصل بحبل الوريد؛ وحمل إلى السجن الذي بباب حميدة، على حالة مذمومة بكل لسان غير حميدة؛ ثم احضر في موطن جرت العادة فيه بضرب رقاب أهل الظلم والعدوان، وهو يحجل في قيوده ويضطرب اضطراب الخيزران؛ ثم أمر بإطلاقه بعد هوان، وخوف غلب على أمان. ثم أمر بإحضار كتبه وهي التي ورثها من أبيه، وكانت تقاوم مالاً جسيما وتساويه، في كل صنف تشتمل عليه من الرأي وفيه؛ فأوردت النار وبئس الورد المورود، فأحرقت فسمع للنار تسعسع ورئي لهما وقود، واحترق الكاغد وانزوت الجلود، وذلك يوم يؤرخ به مشهود. أنشدني الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، قال: أنشدنا الفقيه المفتي أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد شيخنا لنفسه: حَالِي مع الدَّهر في تَقلُّبه ... كطائرٍ ضَمَّ رجلهَ شَرَكُ فهمُّه في فَكاك مُهْجِته ... يَرُوم تَحْليصَها فتَشْتبكُ وأصل اللمم في اللغة: الهم بالخطيئة من جهة مقاربتها، وحديث النفس بها من غير مواقعتها.

ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. ولها طرق في الصحيحين، منها: كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن العين نظرها زنا إذا نظرت إلى من لا يحل لها النظر إليه من النساء، وأنها توصل ذلك إلى النفس، فتتمنى النفس وتشتهي ما رأت العين، فيكون داعياً إلى الفرج الذي هو يكذب الفعل أو يصدقه. وقد تكلمنا عليه في المجلدة الخامسة من كتاب العلم المشهور، في فوائد فضل الأيام والشهور. أنشدني الفقيه المحدث المتقن أبو القاسم أحمد بن يوسف بن عبد العزيز ابن محمد بن رشد القيسي، قال: أنشدنا أبو بحر سفيان بن العاصي الأسدي قال: أنشدنا الإمام العالم الأوحد القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام بن خالد بن سعيد الكناني يعرف بالوقشي: ووقش: قرية بخارج طليطلة، بينها وبينها اثنا عشر ميلا. وأبو الوليد الوقشي أحد رجال الكمال في وقته، باحتوائه على فنون المعارف، وجمعه لكليات العلوم، وهو من أعلم الناس بالنحو واللغة، ومعاني الأشعار وعلم العروض وصناعة البلاغة. وهو بليغ مجيد شاعر، متقدم حافظ للسنن وأسماء نقلة الأخبار، بصير بأصول الاعتقادات، وأصول الفقه،

واقف على كثير من فتاوى الأمصار، نافذ في علم الشروط والفرائض، محقق لعلم الحساب والهندسة، مشرف على جميع آراء الحكماء، حسن النقد للمذاهب، ثاقب الذهن في تمييز الصواب، ويجمع إلى ذلك آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة، ولين الكنف وصدق اللهجة. وتوفي رضي الله عنه في دار خال أبي الإمام العالم الحسيب أبي بكر عتيق بن محمد بن عبد الحميد بدانية، يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لليلة بقيت لجمادى الآخرة من سنة تسع وثمانين وأربعمائة. قال الإمام أبو بحر، وكان مختصا به، ويقدمه على جميع من لقي من شيوخه، أنشدنا لنفسه: قد بَيَّنتْ فيه الطبيعةُ أنها ... ببدَيع أفعال المُهيمن ماهرَةْ عُنِيت بمبسَمِه فحطَّت فَوقه ... بالمِسْك خَطاًّ من مُحيط الدَّائرةْ وهذا شعر وهندسة. وأنشدنا الفقيه الإمام المحدث الأصولي النحوي اللغوي أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن باديس بن القائد الحمزي - ينسب إلى حمزة الشرق، على مقربة من أشير، سميت بحمزة بن الحسن بن سليمان بن الحسين بن علي

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو الذي أسسها وبناها. وكان للحسن بن سليمان، وهو الذي دخل المغرب، من البنين: حمزة هذا، وعبد الله، وإبراهيم، وأحمد، ومحمد، والقاسم، وكلهم أعقب - مولد شيخنا بمدينة المرية سنة خمس وخمسمائة وتوفي رحمه الله بمدينة فاس، يوم الجمعة بعد الصلاة، في أول وقت العصر السادس من شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، وهو يتلو سورة الإخلاص، يكررها بسرعة. ثم تشهد ثلاث مرات وسقط على وجهه ساجدا، فرفع ميتا، وذلك بعد خروجه من الحمام وحلق رأسه، واستحداده واستعداده للقاء ربه، جلت قدرته. قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتقنه على أبي جعفر بن عزلون صاحب القاضي أبي الوليد الباجي، وعلى القاضي الإمام أبي القاسم ابن ورد، وروى صحيح مسلم عن أبي عبد الله بن زغيبة الكلابي يرويه، عن العذري. ورحل إلى شرق الأندلس للقاء الأستاذ العالم إمام النحو والآداب، والشارح للحديث والفقيه والأصول والأنساب، أبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسى، فقرأ عليه كتاب التنبيه على الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة، وهو كتاب حسن.

أبو عبد الله الشاطبي

وأنشدنا شيخنا هذا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الحمزي، يعرف بابن قرقول في سفرة صحبته فيها سنة أربع وستين وخمسمائة، وأجاز لي جميع رواياته قال: أنشدنا الأستاذ النحوي أبو محمد بن السيد لنفسه: أخُو العِلْم حٌي خالدٌ بعد مَوْته ... وأوصالُه تحتَ التُّرابِ رمِيمُ وذُو الجهل مَيْتٌ وهو ماشٍ على الثَّرى ... يُظنُّ من الأحْياء وهو عَديمُ وشيوخ شيخنا جملة عديدة، وتصانيفه متقنة مفيدة. وممن لقيت بحضرة مراكش الوزير الكاتب: أبو عبد الله الشاطبي وكان فرداً في الكتابة والشعر والخطابة، فمن شعره: متى وعدْتُك في تَرْك الصَّبا عِدَةً ... فاشْهدْ على عِدَتي بالزُّور والكَذِبِ أمَا تَرى اللّيلَ قد ولَّتْ عساكُره ... وأقبلَ الصُّبحُ في جَيْشٍ له لَجِب وجدَّ في أثَر الجَوْزاءِ يَطْلُبها ... في الجو رَكْضَ هلالٍ دائِم الطَّلب كصَوْلجانِ لُجين في يَديْ مَلِكٍ ... أدناهُ من كُرةٍ صِيغت من الذّهب فقُم بنا نَصطبح صَفْراَء صافيةُ ... كالنّار لكنَّها نارٌ بلا لَهب

وله: انْظر إلى البَدر الذي لاحَ لكْ ... في وسَطِ الُّلجَّة تحت الحَلَكْ قد جَعلَ البحرَ سماءً له ... واتخذ الفُلكَ مكانَ الفَلكْ وله أيضا وقد لسبت بعض سادات المغرب عقيرب، فقال وأجاد المقال: هَجَر الشَّولَةَ قلبُ العقربِ ... وجَفاها بالمَكان الأقرب ثم قالَت أنُجمُ الأفْق لها ... أنتِ منَّا كالبَعِيرِ الأجرب لك أختٌ في الثَّرى قد لَسَبَت ... سيّداً من خَير أهل المغرب فأجابتَهْا وقالت إنما ... غِرت من أخْمَصه إذ مرَّ بي يَبتغي عند النُّعامَي مَورداً ... قَد دعاهُ منه عَذْبَ المشرب فتغيّظتُ عليه غَيْرةً ... قلتُ للأخت بها ويكِ اضْربي يا سَريِّا قد شكا أخْمصَه ... حُمَةً مسَّتْ نفوسَ العَرب ليتها في مُقْلتي أو كَبدِي ... لَسَبَتْ إبرةُ تلك العقرب تتمنّى النَّعْلُ لو سِيقت لها ... من قُرَى الطّائف أو من يَثرِب قال علماء اللغة: لسبته العقرب ولسعته، والاختيار أن يقال لكل ما يضرب بفيه: لدغ؛ ولكل ضارب بمؤخره: لسع، ولكل قابض بأسنانه : نهش. يقال: نهشته الحية، بالشين؛ ونهسته، بالسين، ونكزته، ونشطته، ولسعته. فالنكز: بأنفها؛ والنشط: بأنيابها.

والرياح أربع من أربع نواحي العالم: الشمال بفتح الشين، وفيها ست لغات. ذكرها الإمام أبو بكر الأنباري في شرح المعلقات له: شمال، بإثبات الألف من غير همزة؛ وشمأل، بإثبات همزة بعد الميم؛ وشأمل، بإثبات همزة قبل الميم؛ وشمل، بفتح الشين والميم من غير إثبات ألف ولا همزة؛ وشمل، بفتح الشين وإسكان الميم، وشمول، بإثبات الواو. وقد احتج ابن الأنباري لها بشواهد كثيرة. وهي التي تجري على يمينك إذا استقبلت قبلة العراق، وهي في الصيف حارة، واسمها البارح، والجمع البوارح؛ والجنوب تقابلها. والصبا من مطلع الشمس، وهي القبول؛ والدبور تقابلها، وهي التي تهب من دبر الكعبة، وفيها خشونة وشدة، وهي تمحو السحاب وتثير العجاج. ويقال للصبا: أَيْرٌ، وهَيْرٌ، وأَيِّرٌ، وهَيِّرٌ، على مثال فيعل. ويقال للشمال: مَحْوة، غير مصروفة؛ وللجنوب: النُّعَامي والأزيب. شملت الريح، إذا صارت شمالا؛ ودبرت، إذا صادت دبورا؛ وجنبت، إذا صارت جنوبا؛ وصبت، إذا صارت صبا؛ كل ذلك بغير ألف. ويقال: أشمل القوم، وأجنبوا. وأصبوا، إذا دخلوا في الشمال والجنوب والصبا. فالشمال، هي الريح الشامية. والجنوب، هي الريح اليمانية، وتسمى النعامي والأزيب، كما قدمناه. وهي تهب من ناحية سهيل. والصبا: هي الريح الشرقية. ويقال لها: القبول، تهب من مطلع الشمس. والدبور: هي الريح الغربية، يابسة جافية، ليس فيها ندوة. وأفضل هذه الرياح في جميع الأزمان ريح الصبا،

لها نسيم وروح، وتشويق إلى الأحباب والأوطان، وجلاء للهموم والأحزان، وبها نصر الله العظيم سيد أهل الإيمان. ثبت باتفاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور. وقال امرؤ القيس: إذا قَامتَا تَضَوَّع المسكُ منهما ... نَسِيمَ الصَّبا جاَءتْ بريَّا القَرنْفُلِ تضوع، أي فاح متفرقا. ونسيم الصبا: تنسمها وهبوبها بضعف. وريا القرنفل: رائحته. ونصب نسيم الصبا لأنه قام مقام نعت لمصدر محذوف، والتقدير: إذا قامتا تضوع المسك منهما تضوعاً مثل تَضَوٌّعِ نسيم الصبا. ومنهما يعود على أم الحويرث، وقال الشاعر: ألا يا صَبَا نَجْدٍ متى هِجْت من نَجد ... فقد زَادَنِي مَسراك وجداً على وجْد وقال الآخر، وهو المجنون: أيا جَبلي نَعمان بالله خّلِيَا ... سَبيل الصَّبا يَحْلُص إلىّ نسيمُها فإن الصّبا ريحٌ إذا ما تنسَّمت ... على نفِس مَحزوِن تجلَّت هُمومها أجِدْ بَرْدَها أو تَشْف مني حرارةً ... على كَبِد لم يَبْق إلا صَمِيمها

الأستاذ المحدث الفقيه النحوي الأصولي: أبو القاسم السهيلي أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن احمد بن أبي الحسن، واسمه: أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح، وهو الداخل للأندلس. هكذا أملي على نسبه، وقال: إنه من ولد أبي رويحة الخثعمي الذي عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء عام الفتح، ذكره أهل السير. نشأ بمالقة، وبها تعرف، وفي أكنافها تصرف؛ حتى بزغت في البلاغة شمسه، ونزعت به إلى مطامح الهمم نفسه. أخبرني انه قرأ القرآن العظيم جمعاً وإفراداً على المقرئ الشهير أبي علي الحسين بن منصور بن الأحدب، رحمه الله، ثم قراه أيضا بالمقرأين: مقرأ نافع، وابن كثير، على الأستاذ المقرئ أبي الحسن علي بن عيسى المروي، نزيل مالقة. وقرأ الكتاب العزيز أيضا بالمقارئ الأربعة، وشيئا من العربية على المقرئ النحوي الزاهد الضرير أبي مروان عبد الملك بن مجير، وسمع على الإمام أبي عبد الله محمد بن معمر. وسمع كتاب الهداية لأبي العباس المهدوي على الشيخ الفقيه الأستاذ النحوي أبي عبد الله محمد بن سليمان، يعرف

بابن أخت غانم. وقرأ الموطأ تفقها وعرضا، ومنتخب الأحكام لابن أبي زمنين على الفقيه المحدث أبي محمد عبد الرشيد المالقي. وسمع الموطأ على خال أبيه الفقيه المحدث الخطيب الظاهري أبي الحسن علي بن عياش. توفي بصحراء قديد راجعاً من زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقرأ النحو على الأستاذ أبي الحسين سليمان بن الطراوة الشيباني، فلما مات قرأ على الأستاذ النحوي الفقيه أبي محمد القاسم بن دحمان. ورحل إلى قرطبة، فقرأ القرآن العظيم بالمقارئ السبعة. على المقرئ أبي داود سليمان بن يحيى بمسجده بباب الجوز، وقال لي عنه: كان يحمل أبي رحمهما الله. ثم قرأ الكتاب العزيز بالمقارئ الثلاثة بجامع قرطبة على المقرئ بها، الخطيب بجامعها؛ أبي القاسم عبد الرحمن ابن رضا، وسمع على الفقيه الحافظ أبي عبد الله محمد بن نجاح الذهبي القرطبي، وعلى الوزير الأديب أبي عبد الله جعفر بن محمد بن مكي. ثم رحل إلى إشبيلية، فلزم القاضي الإمام أبا بكر بن العربي فأخذ عنه كثيرا من الحديث والأصول والتفسير، ثم سمع على المحدث الجليل أبي بكر محمد بن طاهر القيسي

الإشبيلي جملة من الحديث، وسمع على القاضي أبي الحسن شريح بن محمد، ولزم الأستاذ الماهر النحوي أبا القاسم بن الرماك فلقن عنه فوائد في النحو. وكان لقي قبله الأستاذ الإمام النحوي الزاهد، أبا القاسم بن الأبرش، فلقن عنه فوائد في النحو. وأجاز له المحدث الراحل إلى مدينة السلام أبو الحسن عباد بن سرحان والقاضي الإمام العالم الأوحد أبو القاسم بن ورد، إلى جماعة من العلماء والنحاة والأدباء رحمهم الله جميعهم، وجعل الرحم خدينهم وكميعهم؛ وكان رحمه الله أقام للتصريف وعلل النحو برهانا، وتيم ألبابا وأذهانا؛ فترشف من ماء العربية أتى مزنه، وتوطأ من أكنافها كل سهله وحزنه؛ وأفاض على الطلبة من سجله، وجلب على النحاة بخيله ورجله؛ وتلقى الراية باليمين، وحوى الغاية بالهزيل والسمين؛ وكان ببلده يتسوغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف؛ إلى أن وصلت إليه، وصحح الروض الأنف بين يديه فطلعت به إلى حضرة مراكش فأوقفت الحضرة عليه؛ فأمروا بوصوله إلى حضرتهم، وبذلوا له من مراكبهم وخيلهم ونعمتهم؛ وقوبل بمكارم الأخلاق، وأزال الله عنه علام الإملاق؛ واستقبل بالجاه الجسيم، والوجه الوسيم؛ وفي كل يوم يجنيهم من حديثه أزهارا، ويقطفهم من ملحه آسا وبهارا؛ حتى حسده الطلبة وجردوا لملامه حساما،

وحددوا للكلام فصولا وأقساما؛ وكان وصوله إلى الحضرة والعمر قد عسا وذبل عوده. وذهب العيش وأفل سعوده؛ فعندما عاش مات، وهيهات من الانقطاع لغير الله هيهات؛ فتفرد في لحده ومهاده، وتوحد في نجده ووهاده؛ وتوسد التراب والصفيح، وتوهد اليباب والفيح، ولسان حاله ينشد ما أنشدنيه غير واحد، منهم شيخنا الإمام المقرئ النحوي الزاهد: أبو القاسم عبد الرحمن ابن غالب بن الشراط، قالوا: أنشدنا الأستاذ اللغوي النحوي أديب أهل زمانه، أبو طاهر محمد بن يوسف التميمي: هأنذا في التّراب وَحّدِي ... فلا ظَهِيٌر ولا نَصِيرُ بالله هَبْ لي دُعاَء صِدْقٍ ... يَسْمُو به باعِيَ القَصيرُ أسرفتُ يا رَبّ في خطَايَا ... أنتَ بها عالمٌ بَصير فامنُنْ بعفْوٍ وجُد برُحْمَي ... إليكَ يا ربّيَ المَصِير وكان مقامه بالحضرة نحواً من ثلاثة أعوام، كلها أضغاث أحلام، سألته عن مولده، فأخبرني انه ولد سنة ثمان وخمسمائة، وتوفي رحمه الله بحضرة مراكش يوم الخميس، ودفن ظهره، وهو اليوم السادس والعشرون من شعبان عام أحد وثمانين وخمسمائة. قرأت عليه وسمعت كثيرا من أماليه التي أملاها في معاني الكتاب العزيز وأنواره، ودقائق النحو وأسراره، وغوامض علم الأصول

وأغواره. وأنشدني رحمه الله، وذكر لي انه ما سأل الله بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها: يا من يَرى ما في الضمير ويسمَعُ ... أنت المُعّدُّ لكل ما يتُوقَّعُ يا من يُرجَّى للشدائِد كلَّها ... يا مَن إليه المُشتكَى والمَفزَعُ يا من خزائنُ رِزْقه في قولِ كُن ... امنُنْ فإن الخيرَ عندك اجمع ما لي سِوَى فقرِي إليك وسيلةٌ ... فبالافتقارِ إليك فَقْرِي أدفع ما لي سوى قَرْعِي لبابِك حِيلةٌ ... فلئنْ رَدَدْتَ فأيَّ بابٍ أقرع ومَن الذي أدعُو وأهْتِف باسمه ... إن كان فَضْلُكَ عن فقيرٍ يُمنع حاشا لمجِدك أن تُقنَّط عاصياً ... الفَضْلُ أجزلُ والمَواهبُ أوسع أما رفع أجمع في هذا البيت، فيجوز أن يكون توكيدا لمكان إنّ الابتدائية، إذ موضعها الابتداء، وهي مؤكدة للجملة، لم تغير معناها وإن غيرت لفظها. ألا تراهم قد عطفو على اسمها بالرفع، وهو إذا استوفت خبراها، نحو: إن زيداً قائم وعمرو، وإذا لم تستوف خبرها فلا يجيز البصريون ذلك. وذلك انك إذا قلت: إنك وزيد قائمان، وجب أن يكون زيد مرفوعا بالابتداء، ويكون عاملا في خبر زيد، وإنّ عاملة في خبر الكاف. ولا يجوز اجتماع عاملين على معمول واحد. وأما الكوفيون فاختلفوا، فذهب الكسائي إلى جواز ذلك مطلقا، سواء تبين عمل إنَّ أو لم يتبين، نحو: إن زيداً وعمرو قائمان، وإنه وبكر منطلقان. واستدل بقوله جل وعلا: (إِنَّ الَّذِين آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والصَّابِئُون) فعطف

ورفع. وذهب الفراء إلى انه لا يجوز العطف إلا على ما لا يبين فيه العمل، نحو: إنك وزيد ذاهبان، لأنه بعدم التأثير ضعفت، فجاز العطف كما لو كان على المبتدأ. وإذا كان كذلك جاز أيضا توكيد الموضع بالرفع، والله اعلم. وأنشدني أيضا يخاطب شيخنا المحدث الفقيه اللغوي النحوي الأصولي أبا إسحاق إبراهيم بن يوسف، يعرف بابن قرقول، أيام كونه بمدينة سبتة، فلما رحل منها إلى سلا، قال مرتجلا: ألاَ فسَلاَ عَّمن عَهِدْتُ تَحفّياً ... وهل نافِعي إن قُلت من لوَعة سَلاَ سَلا عن سَلا إن المَعارف والنُّهي ... بها فَدعا أمَّ الرَّبابِ ومَأسَلاَ بَكَيتُ أسًى أزمانَ كان بسَبتةٍ ... فكيف التَأسِّي حين منزلُه سَلا وقال أناسٌ إنّ في البُعد سَلْوةً ... وقد طال هذا البُعدُ والقَلبُ ماسلا فليتَ أبا إسحاق إذ شَّطتِ النَّوى ... تَحيّتَه الحُسْنى مع الريح أرسلا فعادت دَبُور الرِّيح عنديَ كالصَّبا ... لَدَى عُمَرٍ إذ أمرُ زَيْدٍ تَبَسَّلا هذا البيت حكاية لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أخيه الشهيد المهاجر، وكان أسن من أخيه وأسلم قبله، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قتل يوم اليمامة شهيدا. فقد كان يُهديني الحديثَ مُوصَّلا ... فأصبح مَوْصولُ الأحاديثُ مُرْسَلا

وقد كان يَحْيَا العِلْم إذ كان عندنا ... أوانَ دنَا فالآن بالنأي كَسَّلا فلله أمٌ بالمريَّة أنجبَتْ ... به وأبٌ ماذا من الخَير أنْسلا وإني إلى تلك المَوارِد عاطِشٌ ... وإن ألبنَ القلبُ المشَوقُ وأعْسَلا أقمتُ بَشْرقٍ والأمانِي بمَغِربٍ ... فأصبحتُ في كف الصَّبابة مُنْسِلا فلو كنتُ من قَيْد الحوادِث مُطْلَقا ... شَدَدْتُ له كُوراً وأنْضيتُ عَنْسلا وأرقَلتُ نحو المجد فالمجُد عنده ... ولم أكُ في التَّطْلاب مّمن تَرسّلا العنسل: الناقة السريعة. وتصانيفه كثيرة، فمذهبتها كتاب الروض الأنف، والمشرع الروي، في تفسير ما اشتمل عليه حديث سيرة رسول الله عليه وسلم واحتوى، سمعته عليه. وأنشدني القصيد الذي صنعه فيه، الذي أوله: من سرَّه أن يُشِيَم الطّرف من شَرفٍ ... في رَوْضةٍ جّمة الأزهار والطُّرِف فناظُر القَلْب أولى أن يُنزّهه ... من المَعارف وسط الرّوضة الأنُف فقد ألاحَتْ لذي لُبّ أزاهرهُا ... وقد دعَتْ لجَنَاها كَفَّ مُقْتطف الأبيات إلى آخرها.

وأنشدنا رحمه الله وقد حضر بين يديه طعام يسمى بالمغرب المُجبَّنات شَغَفَ الفُؤَادَ نَواعٌم أبكارُ ... بَرَدتْ فؤادَ الصّبِّ وهي حِرارُ أذْكى من المِسْك الفَتِيق لناشقٍ ... وألذُّ من صَهْباَء حين تُدار صَفَتِ البواطنُ والظَّواهرُ مثلُها ... لكنْ حكَت ألوانَها الأزهار فكأنما صافِي اللًّجين قُلوبها ... وكأنما ألوانُهنّ نُضَار عَجبٌ لَها وهي النَّعيم تَصوغُها ... نارٌ، وأين من النَّعيم النار وأملى عليّ كتاب التعريف والإعلام، فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام وسمعت عليه مسألة رؤية الله تعالى في المنام، ورؤية النبي عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام، وكلامه في حديث الأمة السوداء، وأين الله؟ قالت: في السماء؛ كيف سألها عن الأينية، ولم يسألها عن إثبات إله، فيقول لها: من الرب؟ وأملى عليّ السر في الأعور الدجال، وتفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم في: (قل هو الله أحد)، أنها تعدل ثلث القرآن. وكلامه على قول الله تعالى: (وماَ منْ دابَّةٍ في الأرْضِ، ولاَ طَائرٍ يَطيرُ بِجنَاحَيْهِ)، وكلامه على الله جل وعلا (يَتفيَّؤُ ظِللُهُ عَنِ اليمَيِن والشَّمائِلِ)، وكلامه على (سبحان الله) بإعرابها وشرحها. وأملى عليّ رحمه الله كتاب نتائج الفكر وهو من عجائب الدهر. إلى غير ذلك من مسائله في فنون العلم والنثر والنظم. وقد أجاز لي ولأخي الحافظ أبي عمرو جميع

مروياته، ومسموعاته ومجموعاته، وقال لي يوما: يا عجبا للحريري حيث يقول في بيتيه: قد أمنا أن يعززا بثالث. فقد جاء من عززهما بثالث ورابع وخامس وسادس وسابع وثامن وتاسع وعاشر وحادي عشر وثاني عشر، وأنشد بيتيه: سِمْ سِمةً تحَسْنُ آثارُها ... واشكرُ لمن أعطَى ولو سِمْسِمَهْ والمكَر مهما اسَطْعتَ لا تَأتِه ... لِتَقْتَنِي السؤددَ والمَكْرُمَهْ والزيادة على البيتين: والمَهرَ مَهْرَ العُرس لا تُغْله ... فإنّه مهما غَلا مَهْرمَهْ مَن دَمَه صان لحِرْزِ التُّقي ... لم يَخْش من لَوْم ولا مَنْدمه مَنْ عَمَهُ القَلْب له شِيمةٌ ... لم يَدْر ما بُؤسَي ولا مَنْعمه أب لُمتى إلى الرِّضا واقتسم ... مالِي معي إنّ شِئْت كالأبْلمه أب: ارجع. ولمة الجل من على قدر سنه، والأبلمة: الخوصة. ما الكَمَة المجُتثُّ أعْراقُها ... إلا كأصل المُرتِضى مْلْكمَهْ الملكمة: مفعلة من الضرب، يقول: لا يرتضيها إلا من لا أصل له، كالكماة. والكمة: الكمأة، سهل همزتها، فنقل حركتها إلى ما قبلها. ما الحَمَة السّوداء إلا الوَرَى ... فلِمْ ترَى بينهمُ مَلْحمه

الحمة هي الحمأة، مسهل الهمزة. فالهَينْ مَهلاً لا تلُم هيّنا ... في خَلْقه واحذر من الهينَمَهْ الهيمنة: الكلام الخفي. والهذْرَ مَهْ دعه وكُن نَاطقاً ... بالقَصد إن العَاب في الهَذْرمَهْ هذرم في كلامه: إذا خلط؛ ويقال للتخليط: الهذرمة. والهذرمة، أيضا: السرعة في الكلام والشيء. والعاب: العيب كْم كَمَهٍ وكم عمًى جَرَّه ... حُبُّ ذواتِ الخمْرُ والكَمْكمه الكمه: هو الذي يولد أعمى، وقيل: هو الذي لا يبصر في الليل، قاله البخاري في التاريخ، وخالفه الناس، فقالوا: الأعشى، هو الذي لا يبصر بالليل؛ وقيل: الكمه: هو ألاّ يرى شيئا. وذوات الخمر: النساء. والكمكمة: من زي الحرائر ومن لا يمتهن من النساء. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَمة مكمكة فضربها بالدرة. وقال: لا تَشبَّهينَ بالحرائر. وقد وجب أن أجعل لهذا الكتاب نهاية ينتهي إليها، وغاية يقف عندها ولا يزيد عليها؛ فإن شعر من عاصرته من شعراء ذلك العصر، يكاد يخرج عن

حد الحصر؛ كالفقيه الأديب الشاعر المصيب، أبي محمد عبد الله ابن الفقيه الأستاذ الأديب؛ أبي عبد الله محمد بن الفقيه الأستاذ اللغوي النحوي، أبي محمد قاسم بن شقريق الرعيني؛ أنشدني كثيرا من شعره، واقتصر آخرا على تقريظ سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام ووصف مآثره، ونظم جواهر مفاخره؛ راغبا في شفاعة جده، سيد ولد آدم صلى الله وعلى آله من بعده، سمعت الشيخ الفقيه، رأس العدول بسبته، أبا عبد الله، محمد بن الحسن ابن عان، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: بشر عبد الله ابن شقريق بالجنة، وأشار بإصبعه المقدسة، إلى وجهه الكريم، فبعد أيام قلائل ظهرت بوجهه بثرة صغيرة جدا، فلم تزل تعظم حتى أتت على جميع وجهه. وتوفي رحمه الله منها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وهو في عشر الثمانين سنة، وشهدت جنازته. ولقيت الوزير الأعلى أحمد بن هردوس، موشى حلل الموشحات، وموشع حبر القصائد المستملحات، وهو القائل في السيد أبي سعيد: يا ليلَة الوَصْل والسُّعود ... بالله عُودِي وكأبي عبد الله الرصافي، الصافية من الأكدار في نظم الأشعار موارده، وكابن السكن البديعة في الفنون الشعرية مقاصده، وكأبي الوليد يونس

القسطلي الفائقة بقلائد الولائد أراجيوه وقصائده. ومن جرى مجراهم من المجيدين في الجد والهزل، ورقيق النظم الجزل؛ كصاحبنا الوزير أبي القاسم بن البراق، المعدود في الشعراء السباق؛ مررت على بلده ومقره، فخرج إلى متلقياً مع أهل مصره؛ وقد داسته حوادث الأيام دوسا، وغادرت صعدة قوامه قوسا وهو يسلك مسالك أهل الصبا، ويميل به الأدب طوراً إلى الجنوب وآونة مع الصبا؛ فعاتبته على بذل نفسه في طاعة الهوى جهد الاستطاعة، مع ما أعطاه الله من المعرفة والآداب ونفائس البضاعة؛ فقال لي: إنه كان وبرد شبابه قشيب، وغضن اعتداله رطيب؛ بقميص النُّسك متقمص، وبعلم الحديث متخصص؛ واجتاز يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم، بقصر بعض الملوك الأكابر، وهو من بعض مناظره ناظر، لكل من هو بمدرجة القصر خاطر؛ وحسن المثاني والمثالث لديه عال، ومجلس انسه بخواص ندمائه حال؛ فقال: اطلعوا لنا بهذا الفقيه فلعلنا نضحك منه ونمازحه، ونجاريه في ميدان الأدب إن كان من أهله ونطارحه؛ فلما مثل بين يديه وحيا، أمر الساقي بمناولته كأس الحُميّا؛ فتقبض متأففا، وأبدى تمعراً وتقشفاً؛ والسلطان يستغرب ضحكاً من مستغرب حركاته لما هجم الرجل عليه، ويد الساقي ممدودة إليه؛ واتفق في خلال ذلك أن انشقت من ذاتها صراحية من صافي الزجاج، فسال منها

كالسائل من نجيع الذبيح من الأوداج؛ فأظهر السلطان التطير بذلك وجلا، فصرف ذلك عن خاطره بإنشاده على البديهية مرتجلا: ومجَلْس بالسّرور مُشتملٍ ... لم يَخْلُ فيه الزّجَاجُ عن أرَبِ سَرَى بأعْطافه تَرنُّحنا ... فشقَّ أثوابهُ من الطَّرب فسر السلطان وسرى عنه، واستحسن سماحة خاطره بهذين البيتين البديعين منه؛ وأمر له بجائزة سنية، وخلعة رائعة بهية. وقد انتهى ما أمللته من كلام مرتجل، وبديه على عجل؛ ولولا الاستنامة إلى الإغضاء، وأن المبادرة إلى امتثال أمر السلطان أقرب إلى الإرضاء؛ لما أرعفت لليراع أنفا، ولا حملت الروية على الكاتب عنفا؛ لبعد المملوك عن بلاده، وكلب العدو في البحر على كتبه وطارفه وتلاده. فإن وافق اجتهادي أمله، ووقفت على الغرض الذي سأله، فذلك نكتة من فضله عرضت عليه، وبضاعته ردت إليه؛ ضاعف الله له وعنده مواد الإسعاد، وأخدمه النصر في كل مبدأ، وختم له بالظفر في كل معاد، واهلك أعاديه وأبعدهم إبعاد ثمود وعاد. وصلى الله على سيد ولد آدم وأمينه على وحيه الذي بعثه في أشرف زمان، وجعله من عصمته في ذمة وأمان؛ فجد في علو كلمة الله غير مقصر ولا وان، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا أهل الزيغ والعدوان: فهاكَ ما شئتَ من نَظْم له نَسقٌ ... كالدُّر فُصِّل فامتازتْ فرائُدُه

لا حُسْنَ إلا الذي حازت جواهُره ... من البَصِيص وما ضَمَّت قلائُده أهديتُه لك رَطْباً لا جُمودَ به ... وأينَ منَ رَطْبه في الحُسن جامده ونَفَّقته العُلا في سُوق مَجْدك إذ ... رأتْه وهو مُضَاعُ النَّيْل كاسِده وحيثُ أنت فثَّم الفضلُ أجمعه ... عليك ميَسمُه بادٍ وشاهده فيابْنَ خيرِ مُلوك الأرضِ دعوةُ من ... صِيغتْ من الشَّرف السّامي قواعده في قَبْضة العُدْمِ لا جِدٌّ يجدّ له ... فيما يَرُوم ولا سَعْدٌ يُساعده ولا حَميمٌ سِوَى شَجْوٍ يُردِّده ... بين الجَوانح أو هَمِّ يُكابده لولاك يا كاملَ الأوصاف لانْفصمتْ ... عُرَى أمانِيه وانسدّتْ مَقاصِده لمّا اشتغلتَ به فِكْراً وكنت له ... سِتْراً وأوْسيتَه إذ قَلَّ فائده فالله يَجْزيك والمُختارُ من مُضَرٍ ... ثمّ الخليفة ذو السِّبْطين والده

§1/1