المطالع البدرية في المنازل الرومية

الغزي، أبو البركات

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أكتفي الحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات، وتدر البركات، وبمنّته تُغْفَر الزلات وتُقَال العثرات، وبرحمته تقرّ العيون السخِنَات، بلمّ الشَّمل بعد الشتات، وبرأفته يحصل للقلوب القلقة الثبات، بوصل الحبل بعد البتات، أحمده على توافر نعمائه التي مدّها علينا ظلاً ظليلاً، وتواتر آلائه التي أولاها ووالاها مقاماًَ ورحيلا، وأشكره شكراً يكون بمزيد النعم كفيلا، ولمديد الكرم الوافر الوافي منيلا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادةَ معترف بوجوب وجوده، مغترف من بحار كرمه وجوده، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أشرف رسله وسيد عبيده وناصر دينه القيم وصاحب لواء تحميده، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأشياعه وجنوده، ما عزمت همة امرءٍ على إقامة، أو همت عزيمته بسفر، وما تجلّى صبح بلوغ المآرب عن سُرى ليل المطالب وسَفَر، أما بعد. فهذا تعليق، أبرزه عون من الله تعالى وتوفيق، قصدتُ به ضبط موارد الرحلة الرُّوميّة، وذكر معاهد الوجهة الشَّماليّة، والتنويه بأسماء بعض من جمعتنا به الرحلة من الأئمة الشيوخ، ذوي التحقيق والرسوخ، من أصحابٍ وخلاّن وأصدقاء وإخوان، ما بين أقران نبلاء، وأعيان كملاء، وتلامذة فضلاء، زادهم الله عِلْمَاً وعملاً، ومن أركان دولة ملك البسيطة، وقطب الدائرة التي هي بالعالم محيطة، ظل الله في الأرض، النافذ الأمر في الطول منها والعرض، ملك البرين والبحرين والعراقين، وحامي الحرمين الشريفين، سليمان الزمان وإسكندر العصر والأوان السُّلطان سليمان خان بن عثمان، لا زالت شمس ملكه مشرقة الأنوار، والدنيا لابسة من شعار سُلطانه حُلل الفخار، ولا زالوا هم مقيمين في دولته ميزان العدل بالقسط، متعاضدين متفقين في نصرة الحق وإعلاء كلمته على أحسن نظام وأنسب

شمط، مطرزاً حلته بذكر بعض ما فتح الله تعالى به من منثور ومنظوم، ومهمات لطيفة من غوامض العلوم، وقد وسمته بالمطالع البدريّة في المنازل الرُّوميّة، والله تعالى أسأل أن يجعله لوجهه الكريم خالصاً، وأن يظلنا بظله العميم حيث يكون الظل قالصاً بمنه ويمنه، وفضله وطَوْله، فأقول مستعيناً بالله سبحانه، ومؤملاً فضله وغفرانه، ومتوكلاً في كل أحوالي عليه، ومفوضاً جميع أموري إليه: إنني استخرت الله تعالى - وما خاب من استخاره - واستشرت كما أُمرت من هو أهل للاستشارة، في السفر إلى البلاد الرُّوميّة قاصداً محل تخت المُلْك مدينة قُسْطَنْطِينيّة لأمرٍ اقتضى ذلك، وألجأ إلى سلوك هذه المسالك في مدينة دِمَشْق الشَّام، بعد فراق روحها سيدي الوالد شيخ الإسلام، حين نضب المَعين، وفقد المُعين، وخان الأمين، وَمَان من لم نعهده، يمين وقلّ الناصر، وعزّ المواصر، وخذل المؤازر، وصدّت الإخوان، وندت الخلاّن، وافتضح من ذلك الخطب اليسير، من مدعي الصُّحبة والأخوَّة خلق كثير بحيث: لم يبقَ صافٍ ولا مصافٍ ... ولا مَعينٌ ولا مُعين وفي المساوي بدا التساوي ... فلا أمينٌ ولا يمين

فضاقت الأرض والنفس والمعيشة، وناوشَتْ كلاب المزابل أُسْدَ بِيشَة، فتعينتُ الرِّحْلَة عن المملكة فضلاً عن البلد، وحسنت مفارقة النفس فضلاً عن الأهل والولد. ولا يقيمُ على ضَيْمٍ يسامُ بهِِ ... إلاّ الأذَلاَّن عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ إنّ الهَوانَ حمارُ الدار يألفهُ ... والحرّ ينكرهُ والفيل والأسدُ هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ ... وذا يُشجُّ فلا يَرْثى له أَحدُ فاستعذتُ بالله من العجز والكسل، ورفضتُ التعلل بعسى ولعل، ولبستُ جلباب العزم، وامتطيتُ مطية الحَزْم، وأدخلتُ على معتل التواني حرف الجَزْم، وجزمتُ على ترك الدَّعَة والسكون أيَّ جزم، وأخذتُ في إعداد الأهبّة وارتياد الصحبة، إلى أن كمل الاستعداد، وحصلت الراحلة والرفقة والزاد، وخرجت من مدينة دِمَشْق المحروسة، ومن المنازل والديار المأنوسة، عصرَ يوم الاثنين المكرّم، ثامن عشر شهر رمضان المعظم، سنة ستٍ وثلاثين وتسعمائة، وصحبني من الخدم والرفاق والأصحاب فئة صحبةَ قاضي القضاة ولي الدِّين ابن الفُرْفُور، (وقد حصل عنده

بصحبتي في الظّاهر غاية السرور، والله يعلم خافية الأعين وما تُخفي الصدور)، فوصلت معه إلى الأَسْعَديّة والناصرية، وهما بسفح جبل قَاسِيُون من الصَّالحيّة، ثم أرسلت معه إلى قرية دُمَّر جماعة من الرفاق مع الأحمال، وعَنَّ لي الرجوع إلى الديار لقضاء مآرب وأشغال، وأنشد لسان الحال فقال: أقول لصحبي حين ساروا، ترفّقوا ... لعلي أرى مَنْ بالجناب الممنعِ وألثم أرضاً ينبتُ العزّ تربُها ... وأسقي ثراها من سحائبِ أدمعي وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... فقد أقسمتُ أن لا تسيرَ غداً معي وما أنا إن خلّفتها متأسفٌ ... عليها وقد حلّت بأكرمَ موضعِ ولكن أخاف العمرُ في البين ينقضي ... على ما أرى والشملُ غيرَ مجمّعِ وأرجو إلهي أن يمنّ بجمعِنا ... قريباً بخير فهو أكرمُ من دُعي فوصلتُ إلى الدّار آخر ذلك النهار، والشمس كحبيب يودّع حبيبه، وقد عراه

من ألم الوداع اصفرار كما قيل: ورُبَّ نهارٍ للفراقِ أصيلُهُ ... ووجهي كلا لونَيْهما مُتَنَاسِبُ ثم فطرت في المنزل عل عادتي المألوفة، وفطر عندي من الأصحاب جماعة لطيفة، ثم احتفت بي الوالدة والأولاد، وتشاكينا حرارة الأكباد ولهيب الفؤاد، وأنشدت بلسان الحال قول من قال: غداً أودّعُ قوماً أوْدَعُوا كبدي ... ناراً، وعهدي بهمْ برداً على الكبدِ أُبْدي التجلُّدَ أحياناً فيبهرني ... ريقٌ يجفُّ وخدٌّ بالدُّموعِ ندي لم أنسَ يوماً تنازَعنا حديث نَوىً ... وقَوْلَها وهي تبكي: آه يا سندي كُنَّا إلى القرب أخلدنا فنغَّصَهُ ... هذا الرحيلُ الذي ما مرَّ في خَلدِي ثم خرجت إلى مدرسة الكامليَّة، وتمشيت ومعي ولدي أحمد - أنشأه الله

تعالى - في جامع بني أمية، فصار لا يفارقني لحظة، ويعيرني في كل ساعة لحظه، وقلت: لم أنسَ يوم الفراق المرِّ حين دنا ... والقلبُ باكٍ وطرف العين منبهتُ ونور عيني المفدى أحمد ولدي ... يمشي قليلاً أمامي ثم يلتفتُ ثم أُسْرِجَتْ في الكامليّة على عادتها الشموع والمصابيح، وصليت فيها مع جماعة من الأصحاب صلاة التراويح، ثم بِتُّ تلك الليلة في قلق وألم، واستيقظت أواخر الليل فإذا والدتي عند رأسي لم تنم: أتغلبني عيناي ليلة بيننا ... ووالدتي من شدّة الوجد لم تنمْ أمن قسوةٍ هذا أم الكربُ غامرٌ ... لقلبي مما حلّ فيه من الألمْ أي والله إنّ القلب لشديد الاحتراق، موثق من الكرب بأشد الوثاق، مثخن بجراحات الفراق: خليلي لا والله ما القلبُ سالمٌ ... وإن ظهرتْ مِنيّ مخايلُ صاحي وإلاّ فَما بالي ولم أشْهَدِ الوغا ... أبيتُ كأني مُثْخَنٌ بجراحِ فتهيأت حينئذ للصلاة بعد الطهور، وتناولت مما حضر من السحور، وتمليت بوجه

الوالدة والأولاد بقية تلك الليلة، في تلك السويعات اليسيرة القليلة إلى أن أذّن داعي الفلاح، ولمع الفجر بضيائه ولاح وسطع وجه المحجة وبان فتصدع الشمل حينئذٍ وبان: قالوا الرحيلَ وما تملّت باللقا ... عيني ولا امتلأت بغير مدامعي فتيّقَنَتْ روحي بأن مقالهم ... أن يصدق الحادي أشدَّ مصارع فيا لله ما ألفه الصباح من عوائد الفراق وما أثره في الأكباد من الانفلاق، وقلت: أقولُ للصبحِ حين أجْرَى ... عوائداً منه بالفراقِ لا أشكر السعي منكَ حتى ... تكون لي رائدَ التلاقِ ولما بلغ مولانا المقر الكريم، شيخ المسلمين السيد عبد الرحيم هذان البيتان، أنشدني لنفسه في هذا الشأن قوله:

إن يكن للصباح فضلٌ على الليل ... بتنويره دجى الأحلاكِ فله في تفرقِ الشملِ فعلٌ ... لم تسَعْه دوائرُ الأفلاكِ ثم نهضت إلى صلاة الصبح، مؤملاً من الله تعالى الصلاح والنُّجْح، ثم لمّا ابتسم وجه الصباح وسفر، شددت عليّ باكياً أهبّة السفر: عَجَبَاً لِقَلْبي يومَ راعتني النَّوَى ... ودنا التفرق كيفَ لَمْ يَتَفَطَّرِ ثم طافت بي الأحباب للوداع، وتعين العزم على الإزماع، فودّعت الوالدة والأولاد وسائر الأهل، وتجرّعت من ذلك ما ليس بالعذب ولا بالسهل، فما منهم إلاّ من لزمني وانتحب، فما أحقَّ المتلازمين منّا بقول بعض العرب: بَاتا بأنْعَمِ ليلةٍ حتى بَدا ... صُبْحٌ تلوّح كالأغرِّ الأشقَرِ فتلازَما عندَ الفرَاقِ صبَابةً ... أخْذَ الغَريمِ بِفَضْلِ ثوب المُعْسِرِ

والأولاد إذ ذاك ثلاثة، كل منهم في أول سنّ الحداثة، أكبرهم لم يبلغ السبع ولا عرف الضُّرَ والنّفع، وهم يبكون ويتعللون بالمُحال، وينشدون بلسان الحال: أيا أبتا لا تَرُمْ عندنا ... فإنا بخيرٍ إذا لم تَرِم نخافُ إذا أضْمَرتَكَ البلا ... دُ نُجْفَى ويُقْطَع عنا الرَّحِم واندفعت في سرِّي منشداً والدموع تستوقف القُطَار، وتستوكف الأمطار وتبلّ تلك الأقطار، والقلب في وَلَهٍ وعدم إشعار، عمّا عليه من إنشاد أشعار، فقلت: ودّعتُ قلبي يومَ ودعتُهم ... وقلتُ للنوم انصرف راشدا وقلتُ للأفراح عنّي ارحلي ... حتى تريني لهمُ شاهدا

وكان لذلك الوداع موقف مشهود، ينثر فيه من الدمع لؤلؤ منضود، وينظم عقوداً في نواحي الخدود، وقلت: موقفٌ للوداع ينثر فيه ... درر نظمت من الآماقِ كوّنت مثلَ وجدنا في اجتماع ... وبدت مثل شملنا في افتراقِ وقد أُسْرِجَتْ الفوانيس والخيول، وأُلجِمتْ الأفواه بما أجرت العيون من السيول، وطاشت الألباب وذَهَلَت العقول من توادع الأحباب، وصبرنا على ما هو أمرُّ من الحَيْن من معالجة شِدّة البَيْن: مَنْ لم يكن أخذ الهوى بفؤاده ... فلقد أخذت من الهوى بنصيبِ فرأيت أنّ أشدَّ كلِ بليةٍ ... قُضيت على أحدٍ فراقُ حبيب - ولقد نَظرتُ إلى الفراق فلم أجد ... للموت لو فقد الفراق سبيلا ثم ركبت الجواد بعد أن استودعت الله تعالى جميع الأهل والوالدة والأولاد ولقد أصابني بفراقهم ما أنّه:

الخروج من دمشق

لو كانَ بالفلك الدوّار لم يَدُرِ ... أو كانَ بالماء لم يُشْرَب من الكدرِ أو كانَ بالعيس ما بي يوم فرقتهم ... أعيتْ على السابق الحادي فلم يَسِرِ الخروج من دمشق وصحبت معي من الكتب النافعة في الأسفار بعض أجزاء وأسفار، وخرجت من المدينة وقت الإسفار، وصحبني جماعة من الأصحاب للوداع، وأسرعنا في السير قبل أن يتكاثروا غاية الإسراع، هذا والدموع لا ينحبس وَبْلُها إلاّ وأخلفه طَلُّها، وكلما أفرغ ذَنوبُها امتلأ سَجْلُها، والجوانح لا يهمد وقْدُ ضرامها، إلاّ وأخلفه حرّ أوامها، ولا يخمد تأجج نيرانها إلاّ وأردفه توهج دخانها والشوق بالأحشاء عابث وبجوانب الضلوع عابث، والقلب من اضطراب أهوائه خافق، وغراب البين ببعد الأحبة ناعق، وسرنا سير مُشمَعِلّ نطوي البيد كطي السجل، فوصلنا بعد تعالي الصباح وارتفاع الشمس قيد ثلاثة رماح إلى المنزل المقرر، وهو قرية ابن فُرْفُور دُمَّر، وهي قرية كبيرة كثيرة الخيرات وافرة الغلات طيبة النبات، فنزلنا بها بمرج لطيف، بديع التدبيج والتفويف، ذي عَرْفٍ أعطر، وربيع أزهر، من عُشْب أخضر، وأقحوان أصفر، وشقيق أحمر، وغير ذلك مما هو عجيب التلوين غريب التكوين، وقد حفّ به من غالب جوانبه نهر بَرَدَى وهو أكبر أنهار الشَّام وأكثرها مددا بل هو أصل

الأنهار ومَصْرِفها وأوسعها وأسرعها وأشرفها، يسقي ما لا يُحصى من القُرى، ويسدّ عند كل قرية ثم يعود كما كان نهراً. فهو من المِنَنِ الغزيرة، ومن الأعاجيب الشهيرة، كما قيل: نهرٌ يسيل كما يذوب نُضارُ ... وتدور في أيدي الس ُّقاة عُقارُ فإذا استقام فصارم دامي الظُّبا ... وإذا انحنا جنبٌ به فسِوار مغرورقُ التيار ملتطم كما ... خفقت بظهر مهب ريح نار أحْمَرَّ وأخضرَّ النبات بشطِهِ ... فكأنَّ ذا خدُّ وذاك عِذار وكما قيل: نهرٌ يَهيمُ بحُسنهِ مَن لم يَهمْ ... ويُجيدُ فيهِ الشِّعرَ من لم يَشْعُرِ ما اصفرَّ وجهُ الشّمس عند غُروبها ... إلاّ لفُرقةِ حُسنِ ذَاك المَنظرِ ومن أحسن ما قيل في وصف نهر عند الأصيل قول عبد الله بن شارة الإشبيليّ:

النهرُ قد رقّتْ غِلالةُ صبغه ... وعليه من ذهب الأصيل طرازُ تترَقرَقُ الأمواجُ فيه كأنها ... عُكَنُ الخصُور تهزُّها الأعجازُ فأقمنا بذلك المنزل نهارَ الثلاثاء تاسعَ عشرَ شهر رمضان بالتمام، فيا له من يوم ما كان أطولَه، وأخلَقَه بقول أبي تمام: يومَ الفراقِ لقد خُلِقْتَ طويلا ... لم تُبْقِ لي صبراً ولا مَعْقُولا وما أحسن ما قال بعده: لَوْ حَارَ مُرْتَادُ المَنيَّةِ لم يجِدْ ... إلاّ الفراقَ على النفُوسِ سبيلا قالوا: الرحيلُ، فما شككْتُ بأنه ... نَفْسٌ عن الدنيا تُريدُ رَحيلا وفي معناه قول المتنبيّ رحمه الله تعالى: أحْيَا وأيسَرُ ما قاسَيْتُ ما قَتَلا ... والبينُ جارَ على ضُعْفي وَمَا عَدَلا

والوجدُ يَقْوَى كما يَقْوَى النّوى أبداً ... والصّبرُ يَنْحَلُ في جسمي كما نَحَلا لولا مُفارَقَةُ الأحْبَابِ ما وَجَدَتْ ... لها المَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلا فلم أزل أتقلّى بجمر ذلك النهار، وأجاري ذلك النهر من دموعي بأنهار، أكنُّ من الوجد ما غاية الثكلى تكنه، وأبدي من الحنين ما لا تطيق الجوانح تُجِنُّه: فلله كم من لوعة كنت كاتماً ... لها خيفة العُذّال نَمَّ بها دمعي إذا كان من عيني على ما تُكنّه ... ضلوعي من الأسرار عين فما صنعي وقد بَرَّح الخفا بما أخفيه من البُرَحاء، ونزحت أرشية جفوني مياه عيوني بيد البكاء: أهذا ولما تمض للبين ليلةٌ ... فكيف إذا مرّت عليه شهورُ فما انقضى ذلك النهار، وحلّ من الصوم الإفطار، إلاّ وقد أشرفت النفس على الزُّهوق والقلب على الانفطار، ثم أقمنا من ليلة الأربعاء أطول الليال إلى مقدار حد الوصية من المال، فما كان أقصر ليلةَ الثلاثاءِ وأطولَ ليلة بعدها، فيا لها من ليلة ما

أخفها يتلوها ليلة ما أشدها كما قيل: إنّ الليالي للأنامِ مَنَاهلُ ... تُطوى وتُنْشرُ بينها الأعْمَارُ فقِصارُهنّ مع الهُمُومِ طويلةٌ ... وطِوالهنّ مع السرورِ قصارُ فلما طلع القمر وسطع نوره وانتشر، ومد بساطه الأزهر على ذلك الزهر، وصقل نور ضيائه صداد ذلك النهر، عزمنا على الترحال، وشددنا الأحمال على البغال، وودعنا من الأصحاب من بقي وأنشدناهم إن نعش نلتقي، وسرنا وقلبي يتوقف عن اللحاق، ويتخلف عن الرفاق، ويتخوف من فرق الفراق بعد فرح التلاق: ولولا الترجي للمحبين لم تكن ... قلوبُهُم يوم النّوى تعمر الصَّدرا واستمر بنا السير من ذلك الوقت إلى وقت الغداء وجزنا في خلاله بوادي بَرَدَى وهو وادٍ أفيح كثير الأشجار، بعيد القرار عظيم المقدار، عديم المماثل والنظير، ذو مرأى حسن ومنظر نضير، يحف كل قطر منه بستان، ويدور بجنباته نهر بَرَدَى كالثعبان، قد بسطت يد السماء به بُسُطاً سُنْدُسيّة، وطرحت عليه مطارح بالزهر موشية، وقد جر عليه النسيم بعد ذلك ذيوله، وأجال بميدانه خيوله، واستنطق أطياره، وشقق أزراره، وأفشى أسراره، وأذاع رنده وعَرَاره، وفضض نُوّاره، وذهّب

أزهاره، ونثر درهمه وديناره، وحيا ورده وبُهاره، وصافح آسه وجُلّناره، وأطاب تنآه وأخباره، وأمالت بنشأتها قدوده، وأخجلت بقبلتها خدوده، وحشّدت جنوده، وحشرت بيضه وسوده، ونشرت ألويته وبنوده، وملأت تهائمه ونجوده، ونظمت جواهره وعقوده، وأعطت مواثيقه وعهوده: محلُّ كأنّ الشمسَ تخجل كلما ... نَضَتْ ثوبِها عن معطفيه مغيبا تنم رياح الخلد منه لأهله ... ويطفح تسنيم ويرشح طيبا ثم جزنا بأعين التُّوت وهي في أمر مريج، وشهيق وعجيج، وزفير ونشيج، ولغط وضجيج، واضطراب والتواء، واعوجاج واستواء، وشكوى مما صنعته يد النّوى، وما أثارته وأثرته شدة الهوى، (ولم نزل) نجدّ في السير ولا نرفق، حتى نزلنا تعالي النهار من يوم الأربعاء عشرين شهر رمضان بمنزلة خَان الفُنْدُق على عين ماء بارد

عذب غدق يغدق، فأقمنا به ريثما نستريح، ونزيح علل الرفاق والدّواب ونريح، ثم ترحلنا منه عندما حان وقت الزوال وامتد الظل ومال، وكان ذلك اليوم أطول من ظل القناة، وأحرّ من دمع المقلاة، وسرنا والقَيْظُ يشتد حَرُّه، والهجير يتلظَّى جمره، إلى أن وافينا وادي الزَّبَدَانيّ، وقد أعرس بالورد وتزين بالعَرَار والرند، واطردت جداوله أي طرد، وفاح نسيمه المنعش للروح بالطيب والبرد، فتلقانا أهله بحُزم الورد النصيبي، وَوَفُر منه ذلك اليوم حظي ونصيبي، وقلت: جُزْنا بقومٍ كرامٍ ... وافوا بوردٍ نصيبي فاجزلوا منه حَظّي ... ومنه وفّوا نصيبي فيا له من وادٍ ما أحلاه وأملحه، وأفسحه وأفيحه وأفوحه، كأن رياضه سماء زُيّنت بالزواهر، أو قباب زمرد رصعت من الدر والياقوت بأنفس الجواهر، أو عذارى تتجلّى في حلل سندسيّة باسطة أكفها للتسليم، أو مهدية أقداحاً ختامها مسك ومزاجها من صفاء التسنيم، فتركنا عشه ودرجنا، وما عجنا على غير المسير ولا عرجنا، فوصلنا قرية صرغايا أصيل ذلك اليوم، فنزلنا في أحسن المنازل بخلاف بقية القوم في أرض خضرة، بين مياه خصرة وأزهار عطرة، وأشجار نضرة، وجورات تميس بقدود الحور، وتتستر بالأوراق تسترها بالشعور، وحمائم تترنم على أعواد الغصون، وتبدي فنون الأشواق والشجون، كما قيل: تشدوا بعيدان الأراك حمائمُ ... شدوَ القيان عزفنَ بالأعوادِ

مال النسيم بقضيبه فتمايلت ... مهتزة الأعطافِ والأجيادِ هذي تودعُ تلك توديعَ التي ... قد أيقنت منها بوشك بِِعادِِ واستعبرت بفراقها عين الندى ... فابتلّ مئزرُ غصنِها المَيّادِ فبتنا في ذلك المنزل المعظم القدر ليلة الخميس حادي عشر، وهي في أرجح مَيْلَيّ الإمام الشَّافِعيّ رضي الله عنه ليلةُ القدر، وقلت من أبيات: وقرية صرغايا المعظمةُ القدرِ ... نزلنا بها في مرجها ليلةَ القدر ثم رحلنا منها وقد بزغ القمر بين النجوم كالملك لابس التاج، مرتدياً بين عساكره بأبيض الديباج، وقد عوَّض نوره وأغنى في الحالين عن السراج، فسلكنا مسالك سهلة ثم أدركنا مدارك مستصعبة وأعقبنا رقي عقبة، وما أدريك ما العقبة، هي عقبة الرُّمَّانة التي منها القلوب ملانة، ذات مدارجَ وَعِرة، ومناهِجَ عَسِرَة، ومهاد ومشارف، ومثان ومعاطف، تخلع القلب وتقطع النِيَاط، وتذكر بالحشر والحساب والصراط، فزاد حَزْنُها على الفؤاد أحزانه، ورادف بثه وأشجانه، ثم قطعناها عند الصباح، وسرنا في مهامة فيحٍ وفيافٍ فساح، ولم نزل في إتهامٍ وإنجاد، وصعود ربوة وهبوط واد، حتى انتهينا إلى واد كبير، ذي منظر نضير، وعشب كثير، وعينان تجريان على صخر بماء زلال خصر نمير، كما قيل:

بعلبك

ووادٍ حَكَى الخَنْسَاَء لا في شجونها ... ولكن له عَيْنَانِ تجري على صَخْرِ بعلبك قد بسط الربيع به بسطاً سُنْدُسيّة، ومطارف عَبْقَريّة ترتاح لرؤيتها الأرواح، وترتع النفوس منها في مراتع الارتياح، ثم فارقناه وهو يصفر، ويتبلج وجهه ويسفر، ونحن نحضر في السير ولا نخسر، حتى وصلنا إلى مدينة بَعْلَبَك، وعوض اليقين منها بالشَّك، فنزلنا بها ضحوة النهار على رأس العين، في مكان أفيح مقابلة فلاة مد العين، بها مروج وروضات هي مرتع النواظر ومتنفس الخواطر، قد أخذت أذوات الجنان، وأسفرت عن رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعبقري حسان، وأتت من الحسن والإحسان، بما يقصر عن وصفه لسان القلم وقلم اللسان، كما قيل: إني دخلتُ لبَعْلَبَك فشاقني ... عين بها الظلُّ الظليلُ مخيمُ فلأجل ذا من أهلها أنا مكرم ... ولأجل عَيْنٍ ألفُ عَيْن تكرمُ ورأس العين هو مكان كالبركة، ينبع منه ماء ثَجّاج، عذب نمير خصر ليس بمِلْح ولا أُجاج، ويدخل إلى المدينة فيجوب في أكنافها حتى تحس بالري من أظفارها وأطرافها، وبجانب ذلك المكان صفة متسعة، وبالقرب منه مسجد كانت تقام فيه الجمعة. وتلقانا بهذا المنزل المذكور جماعة من أعْيَان أهل المدينة، وقد رفعت عنهم بواسطة شهر الصَّوم المؤنة، منهم الشيخ الإمام العالم العلامي البهايّ العصيّ

وولداه وغيرهم من الأكابر والقُضَاة، وكلّ من القوم يَعْتَذر بكرم شهر الصُّوم، فقلت وعن الحق ما حلت: شَهْرُ الصِّيام كريمٌ ... لكنكم بخلاءُ هب أننا في صيام ... أليس يأتي العشاءُ؟ وقلت: شَهْرُ الصِّيام كريم ... والبخل فيكم سجيّة هبنا نصوم نهاراً ... أليس تأتي العشيّة؟ وقلت: شَهْرُ الصِّيام كريم ... والفطر رخصة سَفْرِ وإن نَصْم فمغيب ... للشمس ميقات فطرٍ وقلت: شَهْرُ الصِّيام كريم ... والفطر للسَّفرِ رُخصة

واللّيل لا صوم فيه ... فالله بالفطر خَصّه ثم ركبنا حين تعوضت الشمس بفيها من ظلها، ودخلنا المدينة على حين غفلة من أهلها، لنخبر وَبْلها من طَلها، وعَلّها من نهلها، وحَزْنها من سهلها، وخَرْجها من دَخْلها، وكُثْرها من قُلَّها، وجِدَّها من هَزْلها، وسَفْسافها من جَزْلها، فوجدناها مدينة قديمة بها بقايا عمارات عظيمة، وآثار مآثر مقيمة، وأزقّة فسيحة وأسواق مليحة، وأكثر أهلها من أكثر أهل الجنة، لولا ما يُنْسب إلى بعضهم من بغضهم السُّنَّة، ودخلنا إلى جامعها الكبير الرحيب، فتلقانا خادمه بالتأهيل والترحيب، وفرش لنا سجادة وعكفنا فيه وقتاً طويلاً على الاعتكاف والعبادة، ثم تكلمنا مع القيّم فوجدناه لطيف الذات، كامل الأذوات، فسألناه عمّا يقال عن أهل بَعْلَبَك وعن رأس العين فقال: نعم هو حق ليس بالمَيْن، فإنها كانت عينين فأصابتهما وصمة العين، فحضر مغربيّ ملعون الوالدين، فسرق منهما عيناً في قنينة، وذهب بها إلى رأس جبل قرب المدينة، فانكسرت منه وجرت عيناً هناك، ثم حضر مغربيّ آخر، وأهل المدينة بين متأسف وباك، فقال: يا أهل بَعْلَبَك كأنكم بالعين الأخرى وقد اغتالتها يد البين، وأصبحت مدينتكم برأس بلا عينين، ويمكنني أن أقول على هذه العين الباقية عزيمة، فلا تزال بدياركم باقية مقيمة، فجمعوا له مالاً لبُدَا، وازدلفوا إليه حتى كادوا يكونون عليه لِبَدا، فرقى تلك العين ووضع عليها حجراً رَصْدا، فلم تبدْ بعد أبداً وزادت على طول المدا مددا، ورأينا قلعتها الحصينة، وهي ذات أبنية متينة، وأعمدة كثيرة طويلة، وأحجار كبيرة ثقيلة يظن من

رآها أنها صخور محررة لولا ما تحتها من الحجارة المختصرة، وقد كانت من غرر القلاع المشتهرة بالارتفاع والامتناع، وهي الآن خراب مأوى للبوم والغُرَاب، ورأينا الحجر المعروف بحجر الحبلى، وهو حجر مربع مستطيل، عرضه كالصفّة العريضة وطوله كالحائط الطويل، وهو خارج المدينة على نحو ثلث ميل، وهو أحد حجارة بناء القلعة العجيبة، وله عندهم حكاية من جنس ما تقدم عن العين غريبة، وسَلَّمْنا على ولي الله تعالى الشيخ محمد المنير العطّار، وهو من عِبَاد الله الصُّلحاء الأخيار، كثير الأوراد والأذكار، ملازم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار، وقد كان ممن يتردد إلى سيدي شيخ الإسلام الوالد، وكان يسميه بالصَّالح الزاهد، وزرنا سيدي القطب العارف بالله تعالى الشيخ عبد الله اليُونِينيّ من أسفل الجبل، ثم عدنا إلى المخيم وقرص الشمس قد أفلت من يد السماء، وأفل وارتحل ذلك النهار، وحلّ للصائم الإفطار، ثم لمّا كفيت مؤنة العشاء، ومضى نحو عشرين درجة بعد العشاء، وآن للسامر أن يهجع، أزمع القاضي على الرحيل وأجمع، وكان ذلك برأي منه منكوس، وحظ له متعوس، فضلَّ عن سواء السبيل، وعن الطريق السهل القريب إلى طريق صعب طويل، فضيّع وقت الراحة في التعب في غير طائل، وصرف ساعة تجلّي الحقّ في السعي في الباطل، ولم نزل نصل السير بالسُّرى، ونكحل الأعين بإثمد الثرى، ونعزل عن مَحَالّ العيون والي الكرى، حتى وصلنا إلى قرية الراس، وقد تعبت البهائم والناس، فنزلنا بها ضحوة نهار الجمعة ثاني عشرين الشهر، وقد حمى النهار واشتدّ الحرّ، في مكان محجر وعر، موحش وغِر، معطش محر، فيه مياه سخنة، متغيرة اخبة، يسيرة قليلة، ضعيفة عليلة، فأقمنا هناك إلى وقت شدة القيلولة، ثم ارتحل عنها من تلك الساعة قاصداً قرية الزَّراعَة فلم نحل بها:

حمص

حتى رأيتُ اليومَ ولّى عمرهُ ... والليل مُقْتَبِل الشبيبةِ داني والشمسُ تنفُضُ زَعفراناً في الرُّبى ... وتفت مِسْكتها على الحيطانِ فنزلنا حينئذ بها في مرج فسيح الرحاب، وسيع الجناب، مربع الأجْنَاب، به للدواب مراتع ومرافق ومرابع، يسافر النظر في أرجائه، ولا يقف على مدى انتهائه، وبه ماء عذب جار، لكنه من حرارة الشمس حار. ثم رحلنا منها عندما بزغ القمر، ونبغ نوره وظهر، وبلغ أقصى الآفاق وانتشر، واستمر بنا الخبب والركض، في بسيط من الأرض، فسيح الطول والعرض: سَرَيتُ به أُحْييهِ لا حَيّةُ السُّرَى ... تَِمُوتُ، ولا مَيْتُ الصّباحِ يُعادُ يُقَلِّبُ منّي العَزمُ إنسانَ مُقلَةٍ ... له الأُفق جَفنٌ والظّلامُ سهادُ حمص ولم نزل نعاني السرى، ونعاصي الكرى، إلى أن بلغ الليل غايته، ورفع الفجر رايته، ونكصت النجوم على أعقابها، وسفرت الجَوْنَة عن نقابها، وتجلى وجه النهار مستبشراً، ووفدت تباشير الصباح زُمَراً، ثمّ برزت الشّمس في مروط

الوَرْس، ثم صقلت مرآتها وانجلت، ورفعت رايتها وعلت، فوافينا مدينة حِمْص ذلك الوقت من يوم السبت، فنزلنا بمرج أخضر حسن النبت يجري به مياه لابدة بعاصم حَمَاة، ممدة مع طاعتها لعاصي حَمَاة، وتَحُفُّه بساتين حسنة مزدهاة، وتلقّانا بها جماعة من وجوه الناس، منهم الشيخ الصَّالح الفاضل عبد القادر ابن الدَّعاس، ثم دخلنا المدينة بنية الزيارة، فوجدنا غالب دورها سوداء الحجارة، لكنها واسعة الأفنية، متينة الأبنية، قديمة العمائر، عظيمة المآثر، ودخلنا إلى جامعها الكبير، وزرنا بظاهرها سيدي خالد ابن الوليد الصحابي الجليل الشهير، وهذه البلدة أصح بلاد الشَّام هواءً، وأعدلها تربة وماءً، وليس بها حيّة ولا عقرب، بل يُقال إن الحِمْصيّ بأي بلد كان لا تدنو منه عقرب ولا تقرب، وكذلك الثوب المغسول بمائها إلى أن يُغْسَل بغيره، قيل وهو مجرَّب، قال القزوينيّ: ومن عجائبها الصورة التي على باب المسجد، نصفها الأعلى على صورة إنسان، ونصفها الأسفل صورة عقرب بذنب وزُبان، تطبع تلك الصورة بالطين الحرّ وتُلقى في ماء، فإذا شرب منه الملدوغ برئ من الضرّ، وبظاهرها على نحو ميل بركتها المعظمة التي تصاد منها السمك الكبار، وتجلب إلى دِمَشْق وغيرها من الأقطار، وعند أهل حِمْص تغفّل شديد، وحماقة ما عليها من مزيد، فممَّا يحكى عنهم من الحكايات المشهورة، أن بخارج المدينة ناعورة فرآها مرّة رجل حَمَويّ، فقال: ما غرّبك بهذه الفلاة، أترى أهل حِمْص سرقوك من حَمَاة؟ فاختشوا أن يأخذها أهل حَمَاة ليلاً، فأعدوا لحراستها رَجْلاً وخيلاً، ومعهم أنواع السلاح، يدورون حولها كل ليلة إلى

الصباح، وحكى بعض ظرفاء المؤرخين في وقائع الحمقى والمغفلين: أن رَجلاً رأى بحِمْص يهودياً عطاراً في دكان يؤذن بها على باب الجامع في أوقات الأذان، يقول: أهل حِمْص يشهدون أن لا إله إلا الله، أهل حِمْص يشهدون أن محمداً رسول الله، ورأى الإمام يصلّي ورِجْله خارجة من المحراب، فسأل من رجل عن دار القاضي ليشتكي له ذلك المصاب، فطأطأ برأسه وكشف عن فلسه، فدخل إلى القاضي يشتكي ما دهاه، فوجدَ عنده صبياً قد علاه، فخرج وهو يستغيث، فقال له: ارجع يا خبيث، ما بالك؟ وما حالك؟ فحكى له القصة، فقال: أنا أزيح عنك الغُصَّة، أمّا اليهوديّ فهو يؤدي للمسجد أجرة الدكان، ويؤذن دون المسلمين متبرعاً بالأذان، وأمّا الإمام فلعل أصاب رِجْله بعض نجاسة الكلاب، فما رأى أن يدخلها معه في المحراب، وأما الذي سألته عن الدار فقد أجابك بما به أشار، وذلك أن بابي مقنطر معلا، وعليه قنديل مدلى، وأما الصبي الذي كان فوق ظهره، فهو تحت نظره وحَجْره، وفي تربيته وحِجْره، وأحبّ أن يَعْلَم إن كان بلغ مبالغ الرجال يسلمه ما له تحت يده من المال. ومن أغرب الحكايات واقعة عبد السلام الحِمْصيّ الملقب بدِيك الجِنِّ الشاعر، وهي واقعة غريبة لم يُسْمَع بمثلها في الدهور الغوائر، وذلك أنه كان يحب جارية له وغلاماً، وقد افتتن بهما عشقاً وهُياماً، فمن شدّة ما حصل له من قوة المحبة لهما والوله، خشي أن يفجعه فيهما الدهر ويمتع بهما غيره، فقتلهما وجداً عليهما وغِيْرَة، ثم صنع من رماديهما بُرْنيتين للمشروب وكان ينادمهما منادمة المحب المحبوب، وإذا اشتاق إلى الجارية قبّل البرنية المجبولة من رمادها المرصد، وملأ منها قدحه وبكى وأنشد:

يا طلعةً طَلَعَ الحِمامُ عَلَيْها ... وجَنى لها ثَمَرَ الرَّدى بِيَدَيْها رَوَّيْتُ من دَمْها الترابَ وطَالما ... رَوَّى الهوى شَفَتَيَّ من شَفَتَيْها وأجلتُ سَيْفي في مَجال خناقها ... ومَدامِعي تجري على خَدَّيْها فوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وطىء الثَّرى ... شيءٌ أعَزُّ عَلَيَّ من نَعْلَيْها ما كان قَتْلِيها لأنِّيَ لم أكُنْ ... أبكي إذا سَقَط الغُبَارُ عليها لكن بَخِلْتُ على سواي بحُسْنها ... وأنِفْتُ من نَظَر العيونِ إليها وإذا اشتاق إلى الغلام، قبّل البُرْنية المعمولة من رماده، وملأ قدحه منها، واندفع يقول في إنشاده: أشفقتُ أن يَرِدَ الزَّمانُ بغَدْرِهِ ... أو أُبْتَلى بعد الوِصَالِ بهَجْرهِ قَمَرٌ أنا استخرجْتُهُ من دَجْنِهِ ... لبليَّتي وأثرته من خدْرهِ فَقَتَلْتُه ولَهُ عليَّ كرامةٌ ... فليَ الحَشا وله الفؤادُ بأسْرهِ

عَهْدِي به مَيْتاً كأحسنِ نائمٍ ... والطرف يَسْفَحُ أدمعي في نَحْرهِِ غُصَصٌ تكادُ تَفٍيضُ منها نَفْسُهُ ... ويكاد يخرج قَلْبَهُ مِنْ صَدْرهِ لو كانَ يَدْرِي الميتُ ماذا بَعْدَهُ ... بالحَيِّ منهُ بَكى لهُ في قَبرهِ فأي رقاعة أعظم من هذه الرقاعة، وأي خلاعة تشبه هذه الخلاعة، والجنون فنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكان دِيكُ الجنِّ هذا ماجناً خليعاً ظريفاً مطبوعاً مغفلاً رقيعاً، عاكفاً على القَصْف واللهو، رافلاً في ثياب المجون والزهو، متلافاً لما يحصله (من المال)، وشعره في غاية الجودة والكمال، ولُقِّب بديك الجنّ لأنه كان يصبغ لحيته وشاربه وحاجبه بألوان مختلفة، ومات سنة خمسٍ أو ستٍ وثلاثين ومائتين. وقد رأيت أنا بجامع حِمْص منبراً معظماً قديماً حسناً مطعماً، وكأنه تخلخل وتضعضع، وتقلقل وتقنع، فسمرت بعرضه دفة بيضاء ثقيلة خشنة عريضة طويلة غير مجلوة ولا مصقولة، وهذا من قبيل ما سردناه، ومن جنس ما أوردناه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. (رجع) فلما أن دعى مؤذن حِمْص من المسلمين لصلاة الظهر وأذّن، أجبناه

بصلاتها مجموعة مع العصر، ثم رحلنا قاصدين الرَّسْتَن، وسرنا بعزمِ غيرِ مرتاب، وبسير يطوي البيد كطي السجل للكتاب، والحرّ قد قويت عزيمته واشتدت شكيمته. والغبار الكثيف ألبس عطفي ... عسلياً ودينِيَ التوحيدُ وكسى عارضيَّ ثوب مشيب ... ورداءُ الشباب غضُّ جديدُ فوصلناها عندما سئِمت الشمس من الحَرور، وركنت إلى الاكتنان والوكور، وكاد قرصها في العين الحَمِئة يغور، فنزلنا بمرج أريج، ذي نبت بهيج، ومنظر فريج، يحتوشه العاصي من جانبيه، ويتوصل من جسر على عشر قناطر إليه، وهذا الجسر واسع الفناء، محكم البناء، قد أحكم بالبلاط الأسود تبليطه، وله جوانب عالية من حافيته تحوطه، والرَّسْتَن لها ذكر في الملاحم والفتن، وهي قرية على تل قاطع الجسر من جهة حِمْص، ثم هي الآن مأوى لكل سارقٍ ولص. (رجع) فلما تنبه القمر بعدما رقد، واستنار من مشرقه واتقد، وأسنَّ حسامه المجلو وأحدّ، وآن تجلى الواحد الأحد، من ليلة يسفر صباحها عن يوم الأحد، لم يبق منّا بذلك المحل أحد، وسرنا نقطع مسافة البيداء، ونطوي شُقّتها طي الرداء، فبينا أنا أسير أمام القوم، وقد غلب عليهم النعاس، وحكم عليهم النوم، وإذا باثنين من السرّاق يظنّ أنهما من الرفاق، فوقف المملوك الماشي أمامي وحار، وخاف منهما وجبن وخار، فزبرته وزجرته ونهرته، ثم تقدمت إليهما وسلّمت عليهما لأسبر كنههما وأخبر من هما، وأنا محترز منهما قابضة يدي على الحُسَام، فألقيا إليّ

حماة

السلام وعدلا عن الطريق بعد أن ردا عليّ السلام، فتبعتهما فذهبا وأسرعا في المشي وهربا، ثم وقفا يتوامران ويتشازران ويتشاوران، فسقت وراءهما فسقط أحدهما في بعض تلك الوهاد سقطة عظيمة هلك منها أو كاد، وحار الآخر وخاص، ثم ولى مدبراً وله خصاص، ولم نزل نسير مستعدين ونسري مجدين في تلك الفدافد والفيافي ونحن كما قال الرُّصافي: ومُجِّدين في السُّرى قد تَعَاطوْا ... خمرات الكَرَى بغيرِ كؤُوسِ جَنَحُوا وانحنوا على العِيْسِ حتَّى ... خِلتُهُمْ يعتبون أَيْدي العيسِ نَبَذُوا الغُمْضَ وهو حُلْوٌ إلى أنْ ... وَجَدوهُ سُلافةً في الرءُوسِ حماة فما طلع من الغد وجه النهار، ولا بدا فيه حاجب الأسفار، إلاّ وقد أشرفنا على مدينة حَمَاة، جعلها الله تعالى في حفظه وحِمَاه، تتلع إلينا أجياد قصورها وغرفاتها، وتبسم عن ثغور أسوارها، وفلج شرفاتها كالعذارى شدت مناطقها، وتوّجت بالإكليل مفارقها، فحمدنا عند الصباح السرى، ونفَّرنا عن وكر العيون طير الكرى، ثم دخلنا المدينة حين أشرق وجه الشمس مسفراً ضاحكاً مستبشراً من يوم الأحد رابع عشر في شهر رمضان، ونزلنا خارجها على نحو نصف ميل ببستان، ذي زهور وفينان، وأغصان تتمايل تمايل النشوان، ومذانب تسل

السيوف، وترى لنفسها على الأنهار المشفوف، وتخترق من مكللات الثمار الصفوف، وتدور على سوف الغصون كالخلاخل، وتلتوي بها التواء اللسان المجادل، ودولاب يحن الحنين الجوار، ويضرم في القلب المشوق حرّ الأوار، ويَهيج لوعة الصب المغترب النازح الدار، كما قيل في نعته: ودولابٌ إذا أنَّ ... يزيد القلب أشجانا سقى الغصن وغناه ... فما يبرح نشوانا فما مضى من حين النزول إلاّ القليل، حتى عزم القاضي وصمم على الرحيل، فأرسلت اليه كلاماً خشنا، وقلت: هذا الذي تفعله ليس حسناً، فإن رحلت أقمت أنا بالبلد، ثم لا يتبعك من غير جماعتك أحد، فأخر بسبب ذلك الرحيل والمسير إلى ثُلث الليل الأخير، ثم ركبت ودخلت المدينة قاصداً جامعها الكبير، ثم قصدت زاوية القطب الرباني سيدي الشيخ عبد القادر الكيلانيّ، أعاد الله علينا من بركاته وأمدنا بمدده، وفيها الآن جماعة باقية من ذريته وولده، فتلقانا منهم الشيخان الفاضلان والشابان الكاملان الشيخ بركات والشيخ عبد القادر ولدا الشيخ العابد العالم العارف بالله تعالى الشيخ قاسم وأخوا شيخ الزاوية الآن صاحبنا الشيخ الكامل العالم العامل ذي الإخلاص والصفاء والصدق والوفاء الشيخ أبو محمد وفا، فابتهجا بنا وأنزلانا بأعلى الزاوية في الرواق، وكان الشيخ وفا قد خرج حينئذٍ

إلى تلقّينا بالوطاق، فما مضى ساعة من حين التلاق حتى حضر فتلاقينا بالتقبيل والعناق، وحَنَّ كل منا حنين المغرم المشتاق، وأنَّ أنين الموجع الأحشاء من ألم الفراق، فيا له من صديق وأخ للروح شقيق: نسيب إخاءٍ وهو غير مناسب ... قريب صفاء وهو غير قريب ثم دخلنا إلى خلوة هناك مطلة على العاصي، وقبالتها ناعورة ينصب منها الماء إلى الأداني من الزاوية والأقاصي، وهو مكان بهج مستظرف مستنزه فرج، ثم أحضر الشيخ وفا المنشور المكتتب له بالمشيخة بعد أخيه، ورضا أخويه المذكورين بما رقم وزبر فيه، فكتبت عليه تقريظاً وأجزته بما يجوز لي وعني روايته أيضاً، وقدَّم رجل من جماعته فُتيا صورتها رجل عمَّر طبقة على مكان موقوف بغير إذن من مستحقي الوقف ولا ممّر لها إلاّ منه، ثم وقفها على نفسه ثم على ذريته، فهل يصح وقفها أم لا؟ وما الحكم في ذلك؟ فكتبت عليها: الحمد لله اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، لا يصح الوقف المذكور، بل ولا يجوز عمارة الطبقة، إذ لا مسوغاً شرعياً وهي ملك لأربابها، لكنها غير محرمة فتزال أو تبقى بأجرة مِثْل إن كان في ذلك مصلحة للوقف، ثم لا يحكم بأن وقفها صحيح إذا أُبقيت بأجرة لأنا حكمنا بإبطاله أولاً لا بوقفه، إذ الوقف لا يحتمل الوقف والله الموفق.

ولم نزل نسرح في روضٍ من ذلك الاجتماع، ونشرح ما وجدناه من البعد والانقطاع، ونجول في ميادين بحوث ونقول، في أنواع العلوم المعقول منها والمنقول، ونتجاذب أطراف أخبار، ونتذاكر مذاكرة ألطف من نسيم الأسحار، حتى هرم شباب ذلك النهار، وأخذ بنيانه في الانهيار، وأذنت الشمس بالغروب وانثنى قوس حاجبها وهو محجوب، وحلّ من الصيام الإفطار، وذرّ إثمد الليل في عيون الأقطار، فصلّينا بالزاوية صلاة المغرب، ثم قدّم لنا سماطاً عن كرم شيم مقدمه معرب، مشتمل على كل نوع مفتخر معجب، ثم ودّعنا هو وإخوته ومن حضر، وقرأوا الفاتحة ودعوا لنا بجمع الشمل بعد قضاء الوطر، وأرسلوا معنا إلى المخيم خمسة رجال بأسلحة من قسي ونبال، وفارقت من فارقت لا عن ملالة، وودعت من ودعت لا عن تعوض، وصدروا من الوداع ووردت، واجتمعوا في تلك البقاع وانفردت، (وأتهموا في بلادهم وأنجدت)، وسرت: ولوجدي من العَروض بسيطٌ ... ومديدٌ ووافرٌ وطويل لم أكن عارفاً بهذا إلى أنْ ... قَطَّع القلب بالفراق الخليل وتمثلت وقد جدَّ العزم بقول أبي المغيرة بن حزم:

واجدٌ بالخليل من بُرحَاء الش ... وقِ وجدانَ غيره بالحبيب إن قلبي لكم لكالكبد الحرّا ... وقلبي لغيركم كالقلوب ثم بتنا بذلك البستان المذكور، وتلك الناعورة بالقرب منّا تحن وتدور، وتنجد في طلب الماء وتغور، كما قيل: ناعورةٌ مذعورة ... ولهانة وحائرة الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة بل من هذا القبيل: باتت تِحِنّ وما بها وَجْدي ... وأحنّ من طرب إلى نجدِ فدموعها تحيى الرياضَ بها ... ودموع عينيّ أحرقت خدي ولك أن تقول: باتت تحِنّ وما بها كَرَبي ... وأحنّ من شوق إلى حبي

فدموعها تحيى الرياضَ بها ... ودموع عيني أحرقت قلبي ولك أن تنشد: باتت تحِنّ وما بها شَجَني ... وأحنّ من شوق إلى وطني فدموعها تحيى الرياضَ بها ... ودموع عيني أحرقت بدني ومدينة حَمَاة هذه من أحسن بلاد الشَّام، وألطفها، وأملحها، وأظرفها، وأنزهها، وأترفها، وبها قلعة شامخة، عالية باذخة، حصينة مانعة، مكينة واسعة، مليحة الأبراج والأبواب، لكنها الآن خراب، وبالمدينة جوامع ومساجد ومآثر ومعاهد ذات بهاء ورونق، ومعظمها منقوش البناء بالحجر الأبلق، مستدير بها العاصي على غالبها من الشرق والشمال، وتتناوح فيها مهاب رياح الجنوب والشمال، وتحفّها بساتين من غالب الجهات، وروضات طيبة النبات ذات ظل ظليل وماء سلسبيل، تنساب بها الجداول انسياب الأراقم بكل سبيل، وتهدي حياة النفوس تحيات أنفاسها الصحيحة بنسيمها العليل، وتتجاذب نواعيرها وهي من ألم الأحزان باكية، ومن تزايد الوجد والأشجان شاكية، كيف وقد فارقت من الأغصان مآلِف، ومن الرياض معاهد ومقاصف، ومن الحمام الهواتف مقاعد للسمع ومواقف، ودارت طائعة في خدمة العاصي، وسقت بما يجري من عيونها الداني من الأرض والقاصي، فلا غرو أن هيجت بحنينها الأحزان، وذكّرت الغريب حنين أهله فأثارت عنده لواعج الأشجان.

وحَماة وشَيْزَر مخصوصتان بكثرة النواعير العظام دون غيرهما من بلاد الشام، وما أحسن ما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة في طرديته: أحسِنْ بوجهِ الزمنِ الوسيم ... تعرف فيه نضرةَ النعيمِ وحبذا وادي حَماة الرحبُ ... حيث زهى العيش به والعشبُ أرض السناء والهناء والمرج ... والأمن واليمن ورايات الفرج ذات النواعير سقاه الرب ... وأمهات عَصْفه والأبُّ تعلمت نوحَ الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف لا عَيْب إلاّ أن معناها الهنى ... ينسى أخا الغربة حبّ الوطن وكلها من الحنين قلب ... وكيف لا والماء فيها صب لله ذاك السفح والوادي الفرد ... والماء معسول الرضاب مطرد يصبو بها الرائي فكيف السامع ... ويحمد العاصي فكيف الطائع

إذا نظرت للربا والنهر ... فارد عن الربيع أو عن جعفر محاسن تلهي العيون والفكر ... ربيع روضات وشحرور صفر أمام كل منزل بستان ... وبين كل قرية ميدان أما رأيت الوُرْقَ في الأوراق ... جاذبة القلوب بالأطواق ومما قاله ابن حجة الحَمَويّ فيها: مرج حَمَاةٍ بنواعيره ... زاد على المقياس في روضته فاغتاظ نمور دِمَشْق لذا ... فقلت لا أفكر في غيضته وله فيها: بوادي دِمَشْق الشّام من أيمن الشط ... وحقك تطوي شُقّة الهم بالبَسْطِ بلاد إذا ما ذقت كوثر نيلها ... أهيم (كأني قد ثملت باسفنطِ)

ومن يجتهد في أن في الأرض بقعة ... تشابهها قل أنت مجتهد مخطي وصوب حدْيثيَّ ماءها وهوائها ... فإنّ أحاديث الصحيحين ما تخطي إلى أن يقول: ومذ مدَّ ذاك النهر ساقا مدملَجاً ... وراح بنقش النبت يمشي على بسطِ لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دوراً على ساقه السبطِ وظرف من قال يهجوها وأهلها: عمَّ الفسادُ حمى حَمَاة فمردها ... ورجالَها ونساؤهن جميعا شبه النواعير التي يهوونها ... من مسَّه العاصي يدور سريعا (رجع إلى سياق الرحلة) ثم رحلنا من ذلك البستان حين مضى من الليل الثلثان، فلم نزل نسري ونُدْلِج ولا نعول على غير المسير ولا نعرج، إلى أن أسفر وجه الصباح المبتلج، فوافينا في الطريق عُرْبان مُدْلج، وهم نزول على بعض تلك الجبال، ومعهم خيل وجمال، فلاقونا عند الإشراق، وباعونا من لبن النياق، ورأى بعضنا امرأة منهم تقطع من زرع، فقال: لا يحل لك هذا في الشرع، فقالت

يعيش (رأس مُدْلج) لا عدانا بره وخيره، يحلل لنا هذا وغيره، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، ثم سرنا فلما تكامل من النهار شبابه، واستنار وجهه وصفى إهابه، أفضى بنا إلى خان شَيْخون المسير، وهو مكان موحش معطش، يُسقى فيه من بئر على بعير، فلمّا انهار ذلك النهار، ومال الظل وامتد، وحمى الحرّ واشتد، واحتدم حموه واحتد، أخذنا في أهبة الترحال، وشددنا الأحمال على البغال، ولم نزل نسير في تلك الفيافي وهجيرها يلفح، وزفيرها لا يكف عنّا ولا يصفح، إلى أن حان وقت المغيربان، واختفت الشمس عن العيان، فوصلنا إلى مَعَرَّة النُّعْمَان، وذلك في ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان، فنزلنا بها بمكان مخوف كثير السُّراق والذؤبان، وبتنا بها وقلوبنا تخفق فَرَقاً وتطير وَجَلاً، وإن رأينا غير شيء ظنناه رجلاً. وقد كانت المَعَرَّة مدينة كبيرة وانتشأ بها من العلماء جماعة كثيرة، وناهيك بأبي العلاء رأس النبلاء وعين الفضلاء، وزَيْن الأدباء، وفخر الشعراء، والشيخ العَلاَّمة الفهامة زين الدِّين بن الورديّ، أفقه الشعراء، وأشعر الفقهاء، وأنبه الظرفاء، وأظرف النبهاء، وكفاه برهاناً على كماله وحجة نظمه الحاوي المسمى بالبهجة، وغيرهم من الأفاضل والأعيان الأماثل، وأما الآن فقد تعوضت من ذوي العلم بذوي الظلم، ومن أهل الفضل بأهل الجهل، ومن الأماثل بالأراذل، ومن الفقهاء بالسفهاء، ومن الحداق بالسرّاق ومن أهل الأداب بالذئاب في الثياب، وعامة أهلها الآن لصوص إلاّ ما أخرجه من التعميم الخصوص، فأقمنا بها سواد الليل ثم رَحّلْنا البغال والخيل ورحلنا منها عند ظهور نجم الصبح الثاقب. وحدور ضده المراقب،

وذهاب الفجر الكاذب، وإياب ضده المعاقب، ذي الألقاب الغرّ والمناقب، فوصلنا وقت الضحى الأعلى إلى منزل سراقب، وهو منزل رحيب، ذو مرعى خصيب، قد أخذ من الحسن والإحسان أوفر نصيب، غير أنه كثير الطُّرار والطراق، جم اللصوص والسُّراق، فلما حان وقت الظهر وآن، رحلنا قاصدين قرية زيتان، فوصلناها ونزلنا بها: والشّمسُ تَجنَحُ للغروبِ مريضَةً ... والليلُ نحو مغيبها يتطلَّع بمكان نضر المنظر حسن المخبر يدور به النهر الواصل من جهة حَلَب، وهو في العذوبة والخفة غاية ما يُطلب، فصادفت الخواطر فيه مرتعاً والبهائم مرعى ومربعاً، وبتنا به تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء ثم نسخ الهجوع الهجود، وانتهى المقام مع انتهاء قيام نبي الله داود، فأزمعنا على السرى وعزمنا على رفض الكرى، فسلكوا بنا طريقاً عسراً عسراً، ودرباً بعيداً محجراً، وسبيلاً وعراً مضجراً، متعدد التهائم والنجود، متزايد الهبوط والصعود، حتى تعبت الرجال والخيل، وولى الليل مشمر الذيل، وبرق من الفجر نوره، ولاحت من الصباح تباشيره، وتتابعت راياته في الأفق الشرقي حتى: كأن سوادَ الليل والصبحُ طالعٌ ... بقايا مجالِ الكُحْلِ في الأعينِ الزُّرقِ

حلب

حلب ثم تجلى وجهه الأشقر، وتبلج ضاحكاً وأسفر، ثم تطلعت عين الشمس ومدت حبالها الشديدة المَرْس، الحاكية في لونها لون الوَرْس، ثم ارتفعت وعلت، وفارت قدرها وغلت، وتزايد حرّها، واتقد جمرها، فتراءى لنا حينئذٍ وجه حَلَب من بعيد، وفارقنا القاضي من مقام الشيخ سعيد، (فيا له من فراق سعيد، ورأي سديد، وأمر حميد، ثم قصدنا باب المقام الحميد) ودخلنا مدينة حَلَب بسلام، وذلك يوم الأربعاء سابع عشرين شهر الصيام، ونزلنا في زاوية الشيخي الإمامي الكبيري العارف بالله تعالى، الشيخ حسين البيري رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، فتلقانا ولده صديقنا وصاحبنا، ذو الدِّين الثخين، والورع المتين، والعقل الرصين، الشيخ العالم الفاضل أحمد أبو العباس شهاب الدِّين، ولم يصدق بالقدوم والحضور من عظم ما حصل عنده من السرور، ولم يعرفنا إلاّ من قريب، فقابلنا حينئذٍ بالترحيب وتلقانا بالتقبيل والتعنيق، وبكينا فرحاً بجمع الشمل بعد التفريق، ثم أفرد لنا ثلاثة أمكنة فضية متسعة مستحسنة، منها مكان مشرف أنيق، مشرف بشبابيك على الطريق، فجزاه الله عنا الجزاء الحسن، وأمدَّه بوافر الجود وكامل المنن (بمنه وكرمه) آمين. وقد كان هو اجتمع بي في دِمَشْق مدة مديدة، وقرأ عليَّ فيها كتباً عديدة، وأعطيته نسخة بتأليفي المُسمّى بالدُّر النضيد في أدب المفيد والمستفيد، وكَتَبَ بخطه تأليفي المُسمّى بالبرهان الناهض في نية استباحة الوطيء للحائض، وقرأ

عليَّ غالب الأوّل، وتمم الثاني قراءة وأكمل، وكتبتُ له إجازة حسنة جاء فيها ما قلته بديهاً: فهو الشِّهابُ شبيه البدرِ في شرفٍ ... وفي علاءٍ وتكميلٍ وتنويرِ والبحر فضلاً وإفضالاً فيا عَجَبَاً ... للبحر كيف انتهى حقاً إلى البيري ولم يزل أهل تلك الديار والأقطار يطيرون الينا كل مطار، بين سار بالليل وسارب بالنهار (لحصول مآرب وبلوغ أوطار)، فمنهم أحد المتقين وعباد الله الصَّالحين الإمام الفاضل الفَهَّامة الشيخ جمال الدِّين يوسف بن محمد بن عثمان الشهير بابن العوامة، الخطيب والإمام بجامع الطواشي بباب المقام، قرأ عليَّ مواضع متعددة من المنهاج قراءة سلك فيها أعدل طريق، وأقوم منهاج، محققاً لمعانيها مدققاً لمبانيها، وسمع من نظمي قصيدتي الآتية القافيّة القافية غرة القصائد التي رثيت بها شيخ الإسلام الوالد، ووسمتها بنفث الصدر المصدور وبث القلب المحرور، وأولها: قلب يذوب وأدمعٌ تتدفقُ ... والجسم بينهما غريقٌ محرق وسمع أوائل شرحي المنظوم على ألفية ابن مالك، وأخذ عني أشياء كثيرة غير ذلك.

ومنهم الشيخ الإمام والحبر الهُمام شيخ المسلمين أبو عبد الله محمد شمس الدين الخناجريّ الشَّافِعيّ، شيخ الفواضل والفضائل، وإمام الأكابر والأفاضل، وبدر الإنارة المشرق لسُرى القوافل، وشمس الحقائق التي مع ظهورها النجوم أوافل، له المناقب الثواقب، والفوائد الفرائد، والمناهج المباهج، وله بالعلم عناية تكشف العماية، ونباهة تكسب النزاهة، ودراية تعضد الرواية، ومباحثة تشوق، ومنافثة تروق، مع طلاقة وجه، وتمام بشر، وكمال خلق، وحسن سمت، وخير هَدْيٍ، وأعظم وقار، وكثرة صمت: مُلَحٌ كالرياض غازلت الشم ... سُ رُبَاها وافترَّ عنها الربيعُ فهي للعين مَنْظَرٌ مونق الحُس ... ن وللنّفس سُؤْدُدٌ مجموعُ وقد كان اجتمع بي وبالوالد شيخ الإسلام في مِصْر ثم في الشَّام، ووقع بيني وبينه مفاوضة ومذاكرة، ومباحثة ومحاورة، مع إذعانه لما أذكر، وقبوله لما أقول، وهو يدعو لي ويشكر، وعلى الله تعالى القبول، والله المسؤول أن يوفقنا وإياه والمسلمين لما يحب من القول والعمل، وأن يعصمنا وإياهم من الخطأ والخطل والزيغ والزلل. ومنهم الشيخ العالم العامل والإمام الأوحد الكامل أعز الأصحاب والأحباب، أبو هُرَيْرَة عبد الرَّحمن بن حسن الكُرديّ الشهير بابن القَصَّاب، إمام قد سما

بجلالة قدره، ونبذ الدنيا وراء ظهره، ووضع الله له البركة في علمه وعمله وعمره، يظل يقطع ليله مستعبراً، ويهش للجهل مبتذراً، عالماً أنه سيحمد عند صباحه السرى، مع رواية ودراية وسلوك وهداية ومراتب عليّة في الزهد والولاية، قد جبل الله القلوب على محبته والنفوس على مودته: وإذا أحبَّ اللهُ يَوماً عَبْدَهُ ... ألقى عليه محَبَّةً للناسِ فما رمقه طرف إلاّ وأحب أن يفديه بسواده، ولا نال أحد دعوته إلاّ ورأى بركتها في نفسه وماله وأولاده، نفعنا الله تعالى به وبالصِّالحين من عباده. حَضَرَ للسلام عليّ، ثم أضافني إلى منزله وقدّم ما حضر من شهي مأكله، ثم دعا لي ببلوغ ما أرجوه، وصرف كل سوء ومكروه، وحصل له وارد بشّرني فيه بعموم الخير من سائر الوجوه، وذكر لي أنه كتب على سؤال وخالفه في ما كتب ابن بلال، وأن الشيخ أحمد الهنديّ قال: أصابا من وجه وأخطآ من آخر، ولم يفصل مجمل المقال. والسؤال مضمونه: ما الرزق الذي يحصل به للحيوان الرفق؟ فكتب ابن بلال: هو ما يؤكل حراماً أو حلالاً، وكتب هو: هو ما ينتفع به استقلالاً، فافهمته بلطف مقصد الهنديّ، ثم سألني عن التحقيق في ذلك، فذكرت له ما عندي فاستحسن ما قلته وقبّل يدي، ثم بكى وقال: هكذا، هكذا، وإلاّ فَلا، لا يا سيدي، ثم حصل لنا أنس حصل منه بكاء وأنين، وتعانق وتلازم وحنين، والله تعالى يعاملنا وإياه والمسلمين بخفي لطفه آمين. ومنهم الشيخ المُحَقّق والإمام المدقق حسنة الليالي والأيام، وقرّة عين المسلمين

والإسلام، الشهاب أبو العباس أحمد الهندي الحنفي عامله الله وإيانا ببره الوفي ولطفه الخفي آمين، شيخٌ له في تحقيق العلوم قدم عال وأشتات معال وخاطر يجول في أوسع مجال، فيبرز نفائس لآلٍ، وعرائس جمال، ويأتي بسحر حلال وبحر زلال: فضائل مثل الحصا كثيرةٌ ... وخاطرٌ يغرف من بحرِ كان عندنا بالشَّام مدّة، وأقام يدرس بالجامع الأموي في كتب عدة، وهو محبّ معتقد، غير ثان ولا منتقد، لطيف الذات والطباع، بخلاف من يأتي من تلك البقاع، سلَّم عليّ وتردد إليّ وسمع مني وأخذ عني، وذكرت بحضوره قول ابن عبّاس وتبعه الشعبيّ بجواز صلاة الجنازة بغير طهارة، فاستفاده وتلقّاه بالقبول، ثم أيده بقول أبي حنيفة رحمه الله بجواز التيمم لها مع وجود الماء وأنها عنده لا تبطل بالقهقهة، وعلّل ذلك بأنها عنده صلاة من وجه ودعاء من وجه، وبحثت معه في غير ذلك أيضاً. ومنهم الصَّالح النيّر الدّين الخيّر القدوة العَلاَّمة، الشيخ زين الدِّين عمر ابن أسامة، حضر إليّ وسلم ودعا والتمس الخاطر والدعاء، وحصل بيننا وبينه صحبة ومودة، وأخوة ومحبة. ومنهم الشيخ الفاضل العالم المواظب على وظائف الخير والملازم، المثابر على

تلاوة القرآن إمام جامع الأطروش، الشيخ عز الدِّين محمد بن الشيخ عبد الرَّحمن بن شعبان، وقع بيننا وبينه مذاكرة ومفاوضة ومحاورة، فاعترف بالفضل التام وأنشدني عند القيام: كانت محادثةُ الركبان تخبرني ... عن علمكم وسناكم أطيبَ الخبرِ حتى التقينا فلا والله ما سمعتْ ... أذني بأعظمَ مما قد رأى بصري ومنهم الشيخ الفاضل العالم العامل ذو السكينة والوقار، أبو زكريا يحيى ابن حسن بن قحقار، إمام الحنفية بالجامع الكبير، المشهور بابن الخازندار، سلّم علينا بالجامع وتودد، وأسرع وأشرع إلى تقبيل يدي وما تردد، فأجللت عن ذلك مقامه، وضاعفت حسن تلقيه وإكرامه. ومنهم الشاب النبيل العالم الأصيل الفاضل الجليل، البدري حسين بن الشيخ زين الدين عمر بن قاضي القضاة جلال الدِّين النَّصِيبيّ الشَّافِعيّ، له حسب صميم، وسلف في العلم قديم، ومنهج على السُّنَّة قويم، وبيت له بالعلم والدِّين تعظيم وتفخيم، فلله ما هنالك من خيم ومنادٍ لا يقبل الرخيم، حسن الصورة، جيد السيرة، عف السريرة، ذو رغبة في الخير وأهله، وسلوك على قويم محجته وسبله،

سلّم عليَّ مراراً وتردد، ولا شكك في اعتقاده ولا تردد، وتقرّب وتحبّب وتودّد، وسأل مسائل على وجه الاستفادة في أنواع العلوم، وسأل في القراة بعد القدوم، ثم أضافنا إلى مدرستهم الشرفية، وقدّم سِمَاطاً هائلاً بأنواع المبرات آهلاً وبأصناف الطيبات حافلاً. ومنهم صاحبنا الشيخ العالم الفاضل والأوحد البارع الكامل ذو القريحة الوقادة، والفطنة النقادة، والطبيعة المنقادة، الفائق في حسن الخبر والمخبر، شمس الدِّين محمد بن خليل بن الحاج علي بن أحمد بن محمد بن قَنْبَر، اجتمع بي في دِمَشْق الشّام المحروس، وحضر عندي بعض مجالس الدروس، ولم تزل مكاتباته تفد إليّ وترد كل وقتٍ عليّ، وكاتبته بمكاتبة لطيفة فيها نكت ظريفة حكيتها في تذكرتي، وسمع بحَلَب قصيدتي القافيّة على التمام، وقد اهتم بقضاء أشغال لنا غاية الاهتمام، فجزاه الله عنّا جزاء الحسنى. ومنهم الشيخ الصَّالح المعتقد، زين الدِّين عمر بن الشيخ الصَّالح يحيى ابن الشيخ الصَّالح العارف بالله تعالى سيدي محمد الكواكبيّ البيريّ الرحبيّ، حضر هو وأهله وأهل حارته وسلّم، وعزم علينا لزاوية جده بالجلّوم وصمم، فذهبنا إليها يوم الجمعة تاسع عشرين رمضان المعظم، واستمرينا عندهم وهم لا يمكنونا من التحول

عنهم والانتقال إلى عشية يوم الأحد ثاني شهر شوال، فجزاهم الله عنّا كل خير ووقاهم كل بؤس وشر وضير. ومنهم الشيخ العَلاَّمة والقدوة الفهامة المقتفي سنن الهدى وآثاره، خطيب الجامع الكبير، الشيخ شمس الدِّين محمد الحنفيّ الشهير بابن الحمارة، سلّم علينا وتودد بعد صلاة الجمعة بالجامع، وهو بصفة المتودد المتواضع المتخاضع. ومنهم الشيخ الفاضل العالم الكامل البارع في فنون العلوم وأنواع الآداب، الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ إبراهيم بن العُرْضيّ المفتي بحَلَب، حضر لديّ، وسلم عليّ، وسألني عن الخوف والرجاء، فأجبته بما فتح به، وسألني عن حديث: لو وُزِنَ خوفُ المؤمن ورجاؤُه لاعْتَدلا. فقلت له: عدّه الزركشيّ في كتابه في الأحاديث المشتهرة مما لا أصل له، مع أنّ له أصلاً، فإنه أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ثابت البُنانيّ بلفظ: كانا سواء. كما أفاده شيخنا شيخ الإسلام الجلال السُّيُوطيّ في كتابه الدُّرر المنتثرة، ثم أنشدته أبيات أبي نواس في الرجاء: تَكثَّرْ ما استطعْتَ مِنَ الخطايا ... فإنّكَ بَالغٌ رَبّاً غَفورا سَتُبْصرُ إن وردْتَ عليه عَفْواً ... وتَلْقى سيِّداً مَلكاً كبيرا

تَعضُّ نَدامةً كفَّيْك ممَّا ... تَركتَ مخافةَ النّارِ السُّرورا وخبره هذه الطرف بقوله في الخوف: سُبحانَ ذي الملكوتِ أيّةُ ليلةٍ ... مخضَتْ صَبيحُتها بيومِ الموقِفِ لو أنّ عَيناً في المنام تخيّلتْ ... ما في القيامة كائناً لم تَطْرَفِ فكتب ذلك من إملائي، ثم دعا والتمس دعائي، والله تعالى يوفقنا وإياه لما يحبه في الدارين ويرضاه. ومنهم الشيخ العالم المنور، موفق الدِّين أحمد بن شيخ الشيوخ أبي ذر، وهو رفيقنا من حَلَب في السفر. ومنهم العالم النبيل والفاضل الأصيل الجميل الطّاهر الحسن السريرة، السيد الشريف الحسيب النسيب، شمس الدِّين محمد بن النويرة، اجتمع بي وأثنى واستفاد منا وأخذ عنّا. (ومنهم الشيخ العالم محيي الدِّين بن دغيم من أعيان حَلَب.

ومنهم السيد الشريف الحسيب النسيب، برهان الدِّين إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم المعروف بابن البرهان، الإمام بمحلّة حمام الذهب). ومنهم الشّاب الفاضل إمام المدرسة الشرفيّة، عزّ الدِّين بن علوّ الدِّين الحاضريّ، من أعيان الحنفيّة. ومنهم الشيخ العَلاَّمة والقدوة الفَهَّامة (قاضي القضاة ذو العقل الوافر والحصا) الأصيل النبيل الرئيس النفيس الذي لم يزل في ثوب السيادة يرفل القاضي ابن جُنْغُل، حضر لديّ وسلّم عليّ وتودد وتردد، وقدّم لنا هدية من الحلاوة القرعية. ومنهم الشَّاب الزاهد والخاشع العابد والأوحد الناسك والأمجد السالك فخر الكبار وخير الأخيار، سيدي أحمد بن الأمير محمد بن إدريس الدفتردار، ذو أبهة وبهاء وحبوة مملوءة مكارم خالية من ازدها، وخلقة سمت في مطالع الحسن إلى أنهى كمال وأكمل انتهاء، تتحلى بجمانها الخرائد ويحسد حسنها النيرات الفراقد، وتنبه من سنة الغفلة، ولا أقول لأجل السجعة ألف راقد، أضافنا يوم العيد إلى محله السعيد وتأنق في سماط أحضره، وقدمه وما أخرّه، وليكن هذا خاتمة سردهم وواسطة عقدهم، وثمَّ جماعة آخرون تركنا ذكرهم خوف الإطالة وحذر السآمة والملالة. وأخبرنا أصحابنا الشموس الثلاثة، ابن الخناجريّ، وابن قَنْبَر، والسيد ابن

ذكر إرجاع ابن الفرفور وما حدث بعد ذلك من الأمور

النويرة، والبدر بن النَّصِيبيّ، وغيرهم، أن المشهور بحَلَب بابن بِلاَل رجل جاهل لا يعرف شيئاً، وإنما روج أمره أمراؤه مماليك الحمزاويّ وأولاده، وإسكانه له في بيته خشية أن ينزل فيه رومي، وأنه سعى له في بعض وظائف ابن المستوفي فحصل له بذلك غنية وشهرة بعد فقر وخمول، وذكروا عنه تُرَّهات تدل على جهل كبير لم أرَ ذكرها هنا، ورأيت من خالفهم في ذلك كله، وقال إنّه من حَمَلة العلم وأهله، والله أعلم بحقيقة أمره وبموافقة علانيته لسره، والذي يظهر هو الثّاني لكنّه رجل لا مداراة عنده لأنّه تركماني. ذكر إرجاع ابن الفُرْفُور وما حدث بعد ذلك من الأمور ولمّا كان يوم الاثنين ثالث شوال المبارك حضر أولقان من جهة بكاربكي بالشَّام أمير الأمراء الكرام عيسى باشا، البالغ من مراتب الكمالات ما شاء، وصحبتهما مكاتبات من الأمير المذكور تخبر بحضور مرسوم بعود القاضي ابن الفُرْفُور محتفظاً به للتفتيش عليه وتحرير ما نسب من المظالم إليه، وأن المتولي لذلك القاضي ابن إسرافيل المنصوب لقضاء الشّام مكانه وعدوه عيسى باشا المشار إليه

لتكمل في حقّه الإهانة، فنعوّذ بالله من زوال النعم ومفاجأة النقم، فطلع من الشّام أعز طلوع ورجع إليها والعياذ بالله أذلّ رجوع، فلمّا وصله ذلك الخبر حار وجبن وخار ولاذ واستجار، وذلّ بعد تجبّر وما أذلّ من هو جبّار، وانكسر بعد فخره وتكبّره وما أسرع كسر الفخّار، وقد دخلت عليه بعد بلوغي هذا الخبر، فوجدته في غاية الذلّة والاتضاع والاختضاع، ووجهه ممتقع غاية الامتقاع، ومنتقع نهاية الانتقاع، وهو وجماعته كما قال الله تعالى (إذ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كاظِمِينَ ما للظَّالِمِين مِنْ حَمِيم ولا شَفيعٍ يُطَاع)، فتوجع واشتكى وتأوه وبكى، ثم أظهر الجَلَد وأضمر البلوى، وقال الحمد لله ما لأحدٍ علينا تَبِعة ولا شكوى، ولا ظلامة ولا دعوى، وسوف يعلم أهل الشّام مقدار أيّامنا وحُسْن أقضيتنا وأحكامنا. فطيّبتُ قلبه، وسكّنت لبّه، وقلت له: لا تخشَ من الرجوع؛ فإنّ مقامك عند النّاس مرفوع، وهذا إن شاء الله آخر القطوع، ثم عانقني معانقة المثكل المفجوع، وسقينا نبات الخدود بمياه الدموع، ثم أنجد وأتهمت، وأيمن وأشأمت، فعاد هو من الغد إلى الشّام، وانتقض من حبله الإبرام، وتهتّك حجابه، وانفضت عنه أحزابه، وشائنة أحبابه وأصحابه، وتقطعت أسبابه، وأُبيعت أمتعته وأسبابه، وبيوته، وعماراته، وبساتينه، وجنيناته، وأراضيه وقراه، وأعيد لأربابه كل ما كان اغتصبه أو اشتراه، وتعدّى ذلك إلى سائر جهاته وجهات زوجاته وبناته، وخرج عليه من كان داخلاً فيه وراكناً إليه، وشدّد عليه في الحساب من كان يعدّه من الأحباب، فأتاه الخوف من جانب الأمن، ومن حيث أَمِلَ الربح جاءه الغُبْن:

رُبَّ من ترجو به دفعَ الأذى ... عنك يأتيك الأذى من قِبَلهِ ربما يرجُو الفتى نفعَ فتى ... خوفُه أولى به من أملهِ ولم يزل في محبسه بقلعة دِمَشْق، يُرْشق بسهام المصائب أي رشق، إلى أن مات به في السنة الثالثة في جمادى الآخر، فنسأل الله العفو والعافية الغامرة، في الدين والدنيا والآخرة، آمين. واستخرنا الله تعالى سبحانه وقوى العزم على السفر صحبة جانم الحمزاويّ مع الخزانة، وقد كنت اجتمعت به مرتين بحَلَب والشَّام، وحصل منه غاية التعظيم والإكرام، ثم حصل بيني وبينه محبة زائدة، وصار له فيّ اعتقاد تام حتى كان لا يخاطبني إلاّ بمولانا شيخ الإسلام، وخرجت من حَلَب قبل الزوال من يوم الثلاثاء رابع شهر شوال، وكانت مدّة إقامتنا بها ستة أيّام نصفها مع الفطر ونصفها مع الصيام. وحَلَب مدينة عظيمة كبيرة قديمة، صحيحة الهواء، خفيفة الماء، واسعة الفناء، حسنة البناء، عظيمة المآثر والمعاهد، كثيرة الجوامع والمساجد، وكانت من الفتوحات العثمانيّة وإلى آخر دولة بني أميّة مُضافة إلى قِنَّسْرين، ولذلك قلّ ذكرها في كتب المؤرخين. ثم تدرجت في العمارة وقِنَّسْرين في الخراب والاندراس إلى أن

صارت قِنَّسْرين مضافة إلى حَلَب في أيام بني العباس، وافتتحت في سنة ست عشرة من الهجرة، وقيل سبع عشرة وقيل خمس عشرة، وبينها وبين قِنَّسْرين اثنا عشر ميلاً تزيد أو تنقص قليلاً، وهي من الإقليم الرابع أعدل الأقاليم إقليماً، ولذلك أهلها أنضر الناس وجوهاً، وأصحهم جسوماً، وقبلتها موافقة لقبلة دِمَشْق الشَّام، ولها من الكور والضياع العظام ما يجمع سائر الغلات النفيسة كالفستق وحبة الخضراء والزيتون والتين، وكانت من أكثر البلاد أشجاراً وأحسنها بساتين، فأفناها كثرة وقوع الخلاف بين الملوك والسَّلاطين. وقلعتها حصينة مانعة شامخة عالية واسعة، يعجز عن مثلها الرائد، وتمتنع على الطالب والقاصد، تكاد تناطح نجوم الجوزاء وتتجاوز كرة الهواء وتناجي أبراجها بروج السماء، ويحيط بها خندق عظيم مملوء على الدوام، وبها بباب المقام بها مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبها كتابات قديمة رومانية من ذلك ما على الرخامة البيضاء التي هي الآن بالمدرسة الحلاوية، وهي شفافة إذا جعل تحتها نور ظهر من أعلاها أو جعل في أعلاها بان من أدناها، وعليها كتابة سريانية عُرِّبَت، فإذا هي: عُمِلَ هذا للملك قلطيانوس والنسر الطائر في رابع عشر درجة من برج العقرب، فيكون مقدار ذلك إلى تعريبه ثلاثة الآف سنة، وهذا اللوح أحضره السُّلطان الملك العادل نور الدِّين الشهيد من فَامِيَة، وكان يحشي فيه القطايف للفقهاء، وطوله يزيد على ثلاثة أذرع، وعرضه على ذراعين، وقد بذل الفرنج فيه مالاً جزيلاً فلم يجابوا إليه. ومن محاسنها جبل

الجَوْشَن، وهو من أنزه الجبال نباتاً ذا حسن معتدل الأرواح طيب الأنفاس، وبه كما يقال معدن النحاس، ومحاسن حَلَب كثيرة وخيراتها غزيرة، ومما قاله فيها صاحبها الملك الناصر ذو المناقب الغر والمآثر: سقى حَلَبَ الشهباَء في كل أزمةٍ ... سحابة غيثٍ نوؤها ليس يقلع فتلك دياري لا العقيقُ ولا الغضا ... وتلك ربوعي لا زَرُودَ ولَعْلَع وقال نفيس الدِّين الآمديّ: سقى حَلَبَِاً ومن فيها سحابٌ ... كدمعي حين يهمي بانسجام فإنّ بها وإن شطّت مغاني ... أحبّاء على قلبي كرامُ وقال الشيخ زين الدِّين بن الورديّ: عليك بصهوةِ الشّهباء تلقى ... بجوشنها محاربةَ الزمانِ فللغرفات في الفردوس طيبٌ ... يضوعُ شذاه من باب الجنانِ وللصَّنَوْبريّ:

فاخري يا حَلَبُ المُدْ ... نَ يزِدْ جاهُكِ جَاهَا فإذا ما كانت المدنُ ... رِخاخاً كنتِ شاها فلما أن عزمنا على الرحيل منها في اليوم المذكور، لم يتخلف أحد من الأصحاب عن الحضور، ثم أخذوا في أصناف الوداع وهم بين مثن وداع وباك ومتأسف على عدم ملازمة الاجتماع، وأنا أودعهم والجوانح ملتهبة، والدموع منسربة، والشوق بالقلوب لاعب، وغراب البين بفرقة الإخوان ناعب، ثم أخذت في أسباب الترحال وأنشدت بلسان الحال والقال: ليت شعري أنلتقي بعد هذا ... أم وداعاً يكون هذا اللقاء فاذكروني وزودوني دعاء ... خير زاد تزودوني الدُّعاء ثم لما قدموا الجواد، قرأ في قفاي ابن الشيخ حسين (إنَّ الذِي فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ لرادُّكَ إلى مَعَاد)، ثم أنشد البيتين المجربين في عود من قيلا في قفاه إلى محل وطنه سالماً واجتماعه بقائلهما بعون الله كما نصّ عليه في الإحياء حجة الإسلام الغزالي أمدنا الله تعالى بمدده المترادف المتوالي، وهما: يا من يريد الرحيل عنّا ... أسعدك الله في ارتحالك

كان لك الله خَيْرَ واقٍ ... أمْنَّك الله في المسالك والله تعالى يقدر ذلك، أنّه سبحانه القادر المالك، ثم ذهبنا إلى حارتنا الأخرى وهي حارة الجلّوم إلى زاوية الشيخ محمد الكواكبي بلغنا الله تعالى ببركته ما نحب ونروم، وكان لنا عند حفيده الشيخ عمر جزيئات، فوجدناه قد تقاضاها على أتم الحالات، وتلقانا هو وأعيان أهل المحلَّة مودعين، وباكين من ألم الفراق متوجعين، ثم خرجوا معنا مشاةً من باب أنْطَاكِيَة إلى قاطع النهر، ثم جاوزوا العمران وانتهوا إلى البرّ، فحلفنا عليهم في العود فعادوا بعد الدُّعاء وقراءة الفاتحة، فجزاهم الله تعالى خيراً على أفعالهم الجميلة ونياتهم الصَّالحة، فلما عطف المودعون بالعود لقطرهم والرجوع، وتبرأ التابع من المتبوع، وطفيت نيران الوداع بمياه الدموع، ترادفت على القلب أشجانه، وتزايدت كروبه وأحزانه، ثم وقفت هناك وقفة المسلم، وودعت البلاد الشَّاميّة وداع المتأمّل المتألم، وأنشدت: خليليَّ هذا موقفٌ من مُتَيَّمِ ... فَعُوجَا قليلاً وانظراهُ يسلمِ ثم سرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الأجارع، وقد فارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع، وودعت الجلد عند وداعي تلك المجامع والجوامع، وقد خامرني الفَرِق واستولى على جفني الأرق، وأولعت بما يولع به المشفق، وأنفقت دمعي وكل

امرءٍ بما عنده ينفق، ورحم الله زهيراً المهلبيّ، فعن حالي عبر بقوله: إلى كَمْ جفوني بالدموع قريحةٌ ... وحتامَ قلب بالتفرقِ خافقُ ففي كلِ يومٍ لي حنين مجددٌ ... وفي كل أرضٍ لي حبيبٌ مفارقُ ومن خُلقي أني ألوف وأنه ... يطول التفاتي للذين أفارقُ وأقسِمُ ما فارقت في الأرض موضِعاً ... ويذكرُ إلاّ والدموعُ سوابقُ ولم أزل أسير ممتعاً من شميم عَرَار نجد، ومحملاً أنفاس الصبا حقائب الوجد، وقد أخذ مني البين أخذته، وفلذ من فؤادي فلذته، واستولت على قلبي كروب جمّة وخطوب مُدْلَهِمّة، منها فراق الوالدة والأولاد والأهل، وسلوكي من ذلك طريقاً ليس بالهين ولا بالسهل، ثم انفرادي صحبة من لا أثق به على نفسي بعد اجتماعي بأهل مودتي وأنسي، وتبدلي من أمن الإقامة بخوف السفر، وبخشونة عيش أهل البدو من رفاهية عيش أهل الحضر، وتغربي في بلاد لم أعرفها، وائتلافي مع وجوه لم آلفها، فصرت في حالة دونها مفارقة الحياة لولا ما أرتجيه من تدارك لطف الله، فما أشبه تلك الحال بما تخيله الأمير حُسَام الدِّين الحَاجِريّ الإرْبِليّ، حيث قال: لمَّا نظرَ العذّالُ حالي بُهِتُوا ... في الحالِ وقالوا لوم هذا عَنَتْ

لا تحسبُ إلاّ أننا نعذِله ... من يسمع من يعقلُ من يلتفتْ وأتمثل في الإنشاد بقول العماد: بالله عرفت ما بحالي صنعوا ... خلوه بنار شوقهم ينصدعُ ما لم أر شملي بهم يجتمعُ ... ما أحسبني بعيشتي أنتفعُ وأتوجع مما ألقاه متخلقاً بقول زين الدِّين الكاتب ابن عبيد الله: لم تجد همي ولا ولهي ... أم مفقودٍ لها وَلَهُ ما بقاء الروحُ في جسدي ... غيرُ تعذيب لها وَلَهُ ثم ألتمس بقول القائل متمثلاً: وعَسَى إلهي أن يمنَّ بنظمنا ... عِقْدَاً كما كنّا عليهِ وأفْضَلا فلَرُبّما نُثِرَ الجُمَانُ تَعَمّداً ... ليكونَ أحسنَ في النّظامِ وأجمَلا

وأنسخ الوحشة بالإيناس بما جرى على لساني إذ ذاك من قول بعض الناس: أبشر بخيرٍ عاجلٍ ... تنسى به ما قد مضى فلرب أمرٍِ مسخِطٍ ... لك في عواقبِهِ الرضى إن شاء الله تعالى، واستمر بنا السير متصل الأعمال، غير مخفق المساعي والآمال، إلى بلوغ الشمس من غاية الرفعة المآرب، غير منهبطة في المشارق ولا منحدرة في المغارب، فوصلنا حينئذٍ إلى المنزل المبارك بظاهر قرية الأَثارِب، ثم بتنا بها ليلة الأربعاء خامس شهر شوال نقاسي كرب تلك الأحوال، ونعاني خطوب هاتيك الأهوال، ونعالج شدّة الأشواق، ونتوجع من ألم الفراق، ونطارح ذوات الأطواق، وننشد قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان في نحو هذا الشأن: أقول وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ ... أيا جارتا هل بات حالُك حالي معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى ... ولا خطرت منك الهموم ببالي أتحمل محزونَ الفؤادِ قوائمٌ ... على غصنٍ نائي المسافة عالي أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا ... تعالي أقاسِمُك الهمومَ تعالي

تعالي تَريْ روحاً لديَّ ضعيفةً ... تَردَّدُ في جسمٍ يُعَذَّبُ بالي أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ... ويسكتُ محزونٌ ويندُب سالي لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلةً ... ولكنَّ دمعي في الحوادث غالي فلما طرب طائر السحر، وأذهب نسيمه ما بقلب الساهر من الوَحْر، وطرزت طرة الظلام يد الإصباح، وأرسل الفجر في رداء الليل خيط الصباح، ترحّلنا من ذلك المنزل بعد صلاة الصبح، وسألنا من الله تعالى المعونة والنجح، ثم جزنا وقت الإشراق على الرصيف، وهو عجيب الوضع والترصيف، طول نصف ميل أو ينقص عنه بقليل، ثم سرنا بوادي العَمْق ونزلنا بوسطه وسايرنا النهر الجاري هناك وحللنا بشطه، وذلك وقت الضحى الأعلى من النهار، وما أشبه ذلك المنزل بقول أبي القاسم بن العطَّار: نزلنا بشاطئ النهرِ بينَ حدائقٍ ... بها حَدَقُ الأزْهار يستوقفُ الحَدَقْ

وقد نَسَجتْ كفُّ النَّسيم مُفَاضةً ... عليه وما غَيْرُ الحُبَابِ لها حَلَقْ فنزلنا هناك كيما نستريح ونقيل، ونزيح علل الرفاق والدواب ونزيل، ثم أخذنا في التحميل والترحيل، وسرنا نحثّ في المسير والرحيل، فوصلنا منزلة يغره وقد تضمخت صفحات الربى بخلوق الأصيل، وأرْزَمَت المطايا على الدعة أرْزَام الفَصيل، بعد أن قطعنا جسرها الطويل، وهو جسر محكم البناء متّسع الفناء لكنه تهدم من طول الزمان، وعليه مكتوب عمارة مولانا السُّلطان الملك الأشرف قايتباي، تغمده الله بالرحمة والغفران، فبتنا بها تلك الليلة، وهي ليلة الخميس، فلما تبسّم وجه الشرق بعد التعبيس، وآذن روح الصبح بالتنفيس، رحَّلنا الخيل والبغال عوضاً عن حمر النعم والعيس، ثم سرنا ذلك النهار وهو سادس شوال جامعين بين الاعتكار والتَغْليس، في عقاب من عقبات، وحدر من مهاوي حدرات، وغياض وأشجار، وفياف وقفار، ومهامةٍ ينقطع فيها الرفيق عن الرفيق، ومسالك غاية في السعة وأخرى نهاية في الضيق، وكان ابتداءً السير في ذلك النهار: في بسيطٍ من الفيافي إذا ما ... سابقَ الطرفُ فيه عادَ حسيرا وانتهينا إلى عقاب وجدنا ... في ذراها من العقاب كثيرا وسلكنا ما بين حَزْنٍ وسَهْل ... وقطعنا دماثياً ووعورا

وصَعَدنا إلى السماء ارتفاعاً ... وهبطنا إلى القرار حُدورا وقضينا مناسكَ الهمّ فيه ... ونفرنا من الكروب نفورا فأول عقبة تلقّيناها عقبة بَغْرَاص ذات الجموح والشماص، فما حصل منها النجاة والخلاص، حتى زالت الشمس ولات حين مناص، وهي مشتملة على أشجار خضرة، ومفاوز مقفرة، ومسالك مزلة وعرة، ودورات ولفتات وعطفات وفتلات، وفي آخرها خان ومقيل وأشجار عظيمة تحتها ظل ظليل ونسيم يشفي العليل، (ومياه كثيرة) خصرة تروي الغليل، وهناك مسجد قديم البنيان، يجري الماء فيه في مثل الشاذروان، ويتحدر في ذلك المكان على حصباء كالدر والمرجان، وقد قيل: وتحدّثَ الماءُ الزلالُ مع الحصا ... فجرى النسيمُ عليه يسمع ما جرى وكأن فوقَ الماء وشياً ظاهراً ... وكأن تحت الماء دُرّاً مُضْمَرا فيا له من نعيم في عقاب ورحمة بعد عذاب، وراحة في بؤس، وبشر في عبوس،

فترامينا على ذلك الماء الزلال، وارتمينا بين تلك الظلال، فاسترحنا ساعة في ظل تلك الشجرات، ونقعنا الغُلَّة من ذلك العذب الفرات، وخفف عنا ذلك النسيم من شدة السموم بعض ما نجدْ، حتى كان ذلك المكان بقول المَنازي قد قصد: وَقَانَا وقدةَ الرَّمْضَاء ظِلُّ ... سَقَاهُ مضاعَفُ الظّلِ العميمِ نزلنا دَوْحَهُ فحنَا عَلَيْنَا ... حُنُوَّ المرضِعاتِ على الفَطيمِ يُراعي الشَّمْسَ أنَّى قابلتنا ... فيَحْجُبها ويأذَنُ للنَّسيمِ وسقانا على ظمأ زُلالاً ... ألذَّ من المُدَامِ مع النديمِ تروعُ حَصَاهُ حاليةَ العذارى ... فتلْمُسُ جانبَ العقدِ النظيمِ

وتعارفنا في ذلك المكان بالقاضي كمال الدِّين التادفي قاضي حَلَب، ثم مَكَّة كان فوجدنا عنده لطافة وحشمة وظرافة، ثم صار بيننا وبينه أكد صحبة وأشد مودة ومحبة، ثم استقبلنا من ذلك المحل والمركز العقبة المعروفة بعقبة المركز، وهي عقبة طويلة مديدة صعبة وعرة شديدة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر بالصراط والميزان والحساب، كأنما الخطابيّ عناها بقوله: سلكت عقاباً في طريقي كأنها ... صَيَاصِي دُيُوك أو أكُفَ عُقَابِ وما ذاك إلاّ أنّ ذنبي أحَاط بي ... فكان عِقابي في سلوك عِقابِ ورأينا في طيّها مَعدن الدَّهْنَج، وجبالاً من آس عرف طيبها يتأرج، وغياض ماؤها سلسبيل وطلها سَجْسَج، ورياض سقفها مفوف وبساطها مدبج، وقفار نيران حرها يتوهج، وسمومها يلفح الوجوه ويلفج، وسبل وعرة المدرج عسرة المنهج، يضيق الصدر من حَزُونها ويحرج، فلم نزل نرقى ربوات يخيل لراقيها أنه لامس النجوم، ونهبط وهدات يظن من هوى فيها أنه لابس التخوم، ونسلك مسالك كالصراط إلاّ أنه غير المستقيم، يضل العقل فيها ويتحير ويهيم، ويقاسي القلب من هولها العذاب الأليم، وقد اشتدّت حمارَّة القَيْظ، والنفوس من جواز تلك العقبة الكؤود تكاد تميز

من الغيظ. فلم نزل ذلك اليوم في شغل شاغل حتى جمعنا بين طرفي البكر والأصائل، وولى ذلك النهار الطائل وعطفه في الثوب القصير رافل، وأخذت الشمس في الاصفرار من ذلك المنظر المهول، وعزمت على الفرار وصممت على الأفول، فنزلنا حينئذٍ بمرج متسع قاطع قلعة المركز، قد ألبسه الربيع ثياباً سُنْدسيّة طرَّفها بأنواع الزهر وطرز، وسحب عليه النسيم أذياله، فاكتست من عرفه شذا، وجرت في خلاله عيون كالأنهار سالمة من الكدر والقذا، ودارت كاسات رحيقها فانتشى الغصن مستنبذاً، وروى العشب واغتذا، وجاوره البحر المالح فلم يحصل له بمجاورته أذى، فبتنا بتلك البقعة المتسعة ليلة سابع شوال وهي ليلة الجمعة، ورحلنا منها عندما اكتهل الليل وشاب، وأقبل النهار يخطر في برود الشباب، وغردت الحمائم على أعوادها، وأعربت بعجمتها عما أكنته من الشجو في فؤادها، فأثارت تباريح أشجان لم تبرح، وأفاضت مياه أجفان لم تنزح، وترنمت متمثلاً في تلك البقاع بقول عَدِيّ ابن زَيْد المعروف بابن الرِّقَاع العامِليّ: ومما شجاني أننَّي كنتُ نائماً ... أعلَّل من بَرْدِ الكرى بالتنسمِ إلى أن دَعتْ ورقاء في غصنِ أيكةٍ ... تُرددُ مبكاها بحُسْنِ الترنمِ ولما تلاقينا وجدتُ بنانها ... مخضبةً تحكى عُصَارةَ عَنْدَمِ فقلت خضبتِ الكفَّ بعدي هكذا ... ولم تحفظي عهدَ المشوقِ المتيمِ فقالت وأذكتْ في الحَشَا لاعج الهوى ... مقالة مَنْ بالودِ لم يتبرَمِ

بكيتُ دماً يوم النوى فمسحته ... بكفي فاحمّرتْ بناني من دمي وحَقِكَ ما هذا خضابٌ خضيبةٍ ... سوى أنت بالهنان والروم متهمِ ولكنني لما رأيتكَ راجلاً ... وقد كنتَ لي كفي وزندي ومعصمِ فلو قبل مبكاها بكيْتُ صبابةً ... لسعدي شفيتُ النفس قبل التندُّمِ ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدمِ ثم سرنا في بسيط من الأرض عريض مرآه لا يخترقه النسيم بمسراه، يكاد البصر يقف عند مداه مشتمل على ربيع مريع ذي زهو بديع، وأشجار من الآس عنبرية الأرواح والأنفاس، يجلب منظرها أنواع الإيناس، ثم نزلنا الضحى الأعلى كيما نستريح ونريح، ونزيل بعض العلل ونزيح، بمكان قرب قراقابي ومعناه الباب الأسود، وهو باب قديم مقنطر بالحجارة السود، مرصف منضد، لكنه من تطاول الزمان قد تهدم وتهدد، ثم سرنا منه فنزلنا (والشمس قد) عصفرت أبرادها ودنى في

العين الحمئة إيرادها بمكان يعرف بأستك، بهمزة مفتوحة على وزن مرتك، عند عين ماء نمير تجاه بسطه، وربيع قد فرش بُسطه، وأظهر سروره وبَسطه، وأخرج سوسانه ولسانه وقرطه، فبتنا به ليلة السبت ثامن شوال، ثم عزمنا على الترحال وشددنا الخيل وحملنا البغال: حين شابَ الدُّجى وخَافَ من الهَجْرِ ... فغطّى المشيبَ بالزعفران فلمّا سرنا قليلاً لحقني الأمير جانم ومعه جماعة فسلموا وقالوا: أردنا المثول لخدمتكم في هذه الساعة. فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: سؤال حضر. فقلت: ما السؤال؟ فتقدم الأمير جانم وقال: هو عن قوله تعالى (إنّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) فقلت: ما المقصود؟ فقال: الضمير في خَلَقَهُ وما بعده على من يعود؟ فقلت: على عيسى. فقال: قد وقع بين علماء القاهرة فيه إشكال فإنّه قال خَلَقَهُ من تُرابٍ فتم الخلق بهذا المقال، ثم قال له كن هذا تحصيل حاصل أي وهو محال، فقلت: كلا، بل المقصود بقوله خَلَقهُ من تراب صور هيكله الجسماني، وبقوله ثم قال له كن نفخ فيه الروح وأتم فيه البشرية والخلق الإنساني. فشكر وأثنى وذكر أنّ ذلك التحقيق لم يسمعه إلاّ منّا، ولم يزل يتودد ويتواضع ويتلطف ويتخاضع، فلما تعالى النهار وترافع، وتوالى حره وتتابع، وصلنا إلى مدينة المَصِّيْصَة بعد أنّ سلكنا مسالك وعرة عويصة، وهي مدينة بكثرة الأشجار والمياه مخصوصة يجري بفنائها نهر جَيْحَان وبها عليه جسر عظيم البنيان وعليها بابان يقفلان عليه إلى الآن وقد كانت من غُرَر البلدان، وانتشأ بها جماعة من الأعيان، لكنها الآن خربت،

وأكلت الدهور على محاسنها وشربت، وتركت ساحتها كدار ميّة بالعلياء فالسند، وغادرتها منفضة الفناء منقضة البناء كأن لم يكن بها سيد ولا سند، ولم يغن بها بالأمس أحد، لم يبق منها غير رسومها الواهنة الواهية وأطلالها العالية البالية وأزقّتها الخالية الخاوية: طلولٌ إذا دمعي شكا البينَ بينها ... شكا غير ذي نُطْقٍ إلى غيرِ ذي فَهْمِ (وقد تراجعت الآن في العمران والتحقت بصغار البلدان). وجَيْحَان بجيم بالفتح ثم ياء آخر الحروف بالسكون، ثم حاء مهملة وآخره نون، نهرٌ معروف بالعظم، زاخر الأمواج كالبحر الخضم، يقارب في كبره نهر الفرات، وماؤه لطيف عذب فرات، يلتوي التواء الأرْقَم، وينسحب انسحاب المخرم، وينعطف انعطاف السوار بالمعصم: فجَدْولهُ في سَرْحَةِ الماء مُنْصلٌ ... ولكنه في الجزع عطْفُ سوارِ وأمواجهُ أردافُ غيدٍ نواعِمٍٍ ... تَلَفَّعْنَ بالآصال رَيْطَ نُضَارِ

ولابن الأبّار: ونَهْرٍ كما ذابَتْ سَبَائكُ فضَّةٍ ... حكى بمِحَانيهِ انْعِطَافَ الأراقِمِ إذا الشَّفَقُ استوْلى عليهِ احْمِرارُهُ ... تَبَدَّى خَضيباً مثل دَامي الصَّوارمِ يمر ببلاد السيس بين تلك الجبال والشعوب، ثم يسير في حدود بلاد الرُّوم من الشمال إلى الجنوب في وداة وجبال وتلال حتى يمر بالمَصِّيْصَة من جهة الشَّمال، ويسير بجوانبها من مشارقها إلى مغاربها، فلما وافيناها وحللنا بها نزلنا بها في علوة، وذلك يوم السبت ضحوة، يصاحبنا الهواء الرطب ونسيمه، والأرج العنبري وتقسيمه، والنفس النجدي الذي هو في الصحّة شقيقه وقسيمه، في ظل شجرة بُطْم في غاية الكبر والعظم، كثيرة الأغصان، غزيرة الأفنان، يكاد يستظل بظلها أكثر من ألف إنسان. ذات طول عظيم وقوام قويم، يرجع عن بلوغ طرفها طرف العين كليلا، ولا يشفى من نظره لأعاليها عليلا، ولا يروى من ترائيهِ لأقاصيها غليلاً، وقد قسنا أصلها باليدين فكان أربعة باعات وشبرين، قد فاقت الأشجار طيباً ونضرة وعظماً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فهي من أغرب ما عايناه وأعجب ما شاهدناه، وقد جرى في نعتها والقريحة جامدة، ونيرانها بعد ذكائها وتوقدّها خامدة، ما تمثله الجنان ونطق به اللسان ورقمه البنان، وهو قولي:

أدنة

يا سرحةً سرحت في شطِ جَيْحَان ... وزاحمت في علاها برجَ كيوانِ فروعُكِ الشمُّ لا تُحْصَى قواعدها ... والأصل أربعُ باعاتٍ وشبرانِ لنا بظلكِ مغنىً لم يُشَبْ بعناً ... فنون أفيائه من فيء أفنانِ به نسيم يصفى الروحَ من كَدَرٍ ... وينعش القلبَ من تبريحِ أشجانِ يعمّنا في زمانِ القَيْظِ منك ندىً ... لو أنّ أقوامنا في العدّ ألفانِ هذا هو الجودَ لا ما قيل من قدمٍ ... عن حاتم وعدي وابن جدعانِ لا زلت مخضلة الأغصان يانعة ... يسقيك كل ملت القَطْرِ هتّانِ أدنة فقيلنا في ظلها إلى أن استوفى النهار حدّ الانتصاف، وانتصفنا بحماها من حموه غاية الانتصاف، ثم سرنا تارة في ظل وأخرى في حرور، وطوراً ننجد وآونة نغور، حتى كادت عين الشمس تغور، فوصلنا حينئذٍ مدينة أدَنَة، وهي مدينة صغيرة مستحسنة، قد استوعبت من الظرف أجناسه وأنواعه، واستوعبت من اللطف شيمة وطباعه، ذات رياض أنيقة وأشجار وريقة:

وحدائقُ تشبيكَ وشىُ برودها ... حتى تشبهها شَبائبَ عَبْقَرِ يجري النسيمُ خلالها وكأنما ... غُمِسَتْ فُضُولُ رِدائه بالعنبر ومساكن حسنة بأهلها معمورة، وأسواق بجميع ما يحتاج اليه مغمورة، ويتوصل إليها من جسر عظيم على نهر سَيْحَان، ويمر بخلالها وجوانبها هذا النهر كالثعبان، وعليه نواعير تسقي ما هناك من البساتين والغيطان، وهي بمدينة حَمَاة أشبه البلدان، والنهر المذكور هو بسين مهملة مفتوحة ثم ياء تحتية بالسكون ثم حاء مهملة وآخره نون، نهرٌ عظيم يعدُّ من الأنهار الكبار، وهو يقارب في كبره نهر جَيْحَان المار، وهما كما قال النوويّ شيخ الإسلام وقطب الأنام على الإطلاق غير سيحون وجيحون اللذين هما من الجنة بالاتفاق، فنزلنا داخل باب المدينة في مسجد صغير، وبجانبه بئر ماء عذب معين نمير، فاسترحنا فيه ساعة حتى تكاملت الجماعة، ثم دخلت جامعها الكبير وقت المغرب فصليتها فيه والعشاء معاً، واجتمع بي الإمام والمؤذن فسلّما عليّ والتمس كل منا من صاحبه الدُّعاء، ثم سرنا هجمة الدَّيْجُور إلى محل الوطاق بشط النهر المذكور، وهو مكان بديع قد عَذُب ماؤه، وراق روضه ورق هواؤه، وتفسحت مساحاته ومارجت أرجاؤه، وقد أهدى اليه الربيع نوافحه، وأسدى لواقحه، وأسدل ملاحفه، وأسبل مطارفه، وألان معاطفه، وأفاض معارفه، وأصفى ملبسه، ووشى سندسه، وحدّق أحداقه، وأرخى أوراقه:

وتبسّمَ ثغرُ النور عن شَنبِ القَطْرِ ... وَدَبّ عِذارُ الطلّ في صفحةِ النهرِ فزينة الأرض مشهورة، وحلّة الروض منشورة، والبسيطة قد مدت بساطاً مفوفاً، وأهدت من ذخائرها ألطافاً وتحفاً: فالنّور عقد والغصون سوالفٌ ... والجَزْعُ زَنَدٌ والسَرى سوار رَقَصَ القضيبُ بها وقد شرب الثرى ... وشدا الحمامُ وصفق التيار فأقمنا هنالك تلك الليلة، وهي ليلة الأحد تاسع شوال، ثم يوم الأحد بالتمام والكمال، ثم نحو الثلثين من ليلة تسفر عن يوم الاثنين، ونحن ما بين ربيع ورتيع، وزهر ونهر، وموج ومرج، وحدائق وماء دافق، ورياض ونهر فياض، ونسيم وتسنيم، وجنة ونعيم، وروح وريحان، وعرفٍ من الجنان، ودولاب يحن حنين المستهام، المدنف من شدّة الغرام، ويطارح بشجوه سجع الحمام، كما قيل: للهِ دولابٌ يَفيضُ بسَلسلٍ ... في رَوضةٍٍٍ قد أينعتْ أفنانَا قد طارَحَتْه به الحمائمُ شَجوها ... فيُجيبها ويُرجِّعُ الألحانا فكأنه دَنِفٌ يَدورُ بمَعهدٍ ... ضاقت مَجاري طَرْفه عن دَمْعِهِ

يبكي ويسألُ فيه عَمَّنْ بانا ... . فتفتَّحتْ أضلاعُه أجفانا وذلك النهر يجول في حلّة فضية تذهبها الشمس بكرة وأصيلا، ويجلوا صداها صيقل القمر ليلاً، ونهر عطفه خيلاً، ويسحب في تبختره بين الرياض ذيلاً، فتناديه تلك الأشجار على رسلك فـ (إنكَ لَن تَخرِقَ الأرضَ وَلَن تَبلُغَ الجِبَالَ طُولاَ) وتلقّانا في ذلك المقام جماعة من الأصحاب ما بين عرب وأروام قاصدين بلاد الشَّام، فتلاقينا بالتحية والسلام، وجمعنا بين السلام والوداع، وذيّلنا الافتراق من ذلك الاجتماع، وأنشدتهم والقلب بالفراق منكوي، والجسم على نيران الفؤاد محتوي، لفخر الرؤساء الشريف الرَّضيّ الموسويّ: والدمعُ تنحدرُ من الآماق ... وتفورُ من جوانبِ الأحداقِ أيها الرائحُ المجد تحمَّل ... حاجةً للمتيمِ المشتاقِ وأقرِ عني السلامَ أهلَ المصلى ... وبلاغُ السلام بعضُ التلاقِ وإذا ما مررت بالخيفِ فاشهدْ ... أنّ قلبي إليه بالأشواقِ

وإذا ما سئلت عني فقُلْ ... وما أظنّه اليوم باقِ ضاع قلبي فأنشده لي بين جمعٍ ... وَهَى عند بعض تلك الحِداقِ وابكِ عني فطالما كنت ... من قبل أُعير الدموع للعشّاق ثم ترحلوا عنا، وأشأموا وأتهمنا، والشوق بالجوانح مكتنف، والدمع من الآماق منذرف، والقلب ذاهب معهم لم يستقر ولم يقف، فضارعت مرامه، وأنشدت أمامه: لله أي هوىً برامهْ ... حيث القلوبُ المستهامَهْ لم يبقَ قلبٌ في الحمى ... إلاّ وقد أعطى زِمامَهْ بالله يا حادي القلوب ... إذا رجعتَ مع السلامَهْ فاخدَعْ فؤادي علّه ... يرعى لمنزلِهِ ذِمامَهْ فلما مضى من ليلة الاثنين عاشر شوال، مقدار أقصى ما يوصى به المريض من

المال، حكمنا على معزول السرى بالاستعمال، ومتواني السير بالاستعجال، ولم نزل نجهد في سلوك مهامة تجمع بين النفس والجزع، وتتصيد عنقاء البسالة في شرك الفزع، ونصعد أنف كل تنوفة وثنية، ونعقد لجهاد كل ماذق ومارق أفضل نية ما بين غابات أشجار تضيق الأنفاس، أحسن أنواعها البُطْم والبَلُّوط وشيء قليل من الآس، فقيّلنا بحدرة من جملة الهيش، بها بعض ماء حار وحشيش، وبتنا ليلة الثلاثاء بمكان من جملة جبال الوَرْسَخ، بين غابات محتبكة وجبال شُمَّخ، لا مغيث بها لمظلوم ولا مستصرخ، فبت ونيران الفؤاد لا تتبوخ، وغليله لا يروي ولا ينفخ، والصدر لا يتفسح من كربه بل يتفسخ، والضلوع تقصف من بعض ذلك وترضخ، والدموع تنضح صحن الخد وتنضخ، وأنا متمثل بقول القائل: أحبائي ما لي بحياتي نفعُ ... مذ عزّ لشملنا بشت جمعُ في الليل إذا أرّقني ذكركم ... أبكي أسفاً جهد المقل الدمعُ وبقول الآخر:

الشوقُ إليكم شديدُ البَرْحِِِ ... والوجدُ يجلُّ شرحُه عن شرحِ صبراً فعسى سماؤه أن تصحى ... لا بدّ لكل ليلةٍٍ من صبحِ ثم رحلنا من ذلك المكان عندما شاب مفرق الليل، وولى من الصباح مشمر الذيل، وبرز الفجر من خبائه، وبسط على العالم رداء ضيائه، فما سرنا إلاّ قليلاً حتى تلقتنا عقبة الكولك، وهي عقبة عسرة المذهب وعرة المسلك، ضيقة المدارج متشعبة المناهج، متعددة الهبوط والصعود، متزايدة التهائم والنجود، كأن نجودها صعود إلى السماء، وأغوارها نزول إلى قرار الماء، فدخلنا بها في أمرٍ عظيم، وطريق غير مستقيم، وعذاب يوم عقيم، بينا نحن في عقاب عقاب إذا نحن في مهاد وهاد، وبينما نحن في رأس جبل إذا نحن في بطن واد. نهبط فنظن أن قد بلغنا من الأرض أدناها، ونرقى فنتوهم أن قد تناولنا من السماء سهاها، ونسلك سبلاً تحار فيها القطا، ولا تهتدي إليها الخطى، ويكثر من طارقها وأن ألفها الخطأ، فهي كما وصفها أو نظيرها مولانا المقر الكريم، مولانا السيد بدر الدِّين عبد الرحيم بقوله:

كم عقاب في عقابٍ ... دونها مَرَّ السّحابِ ليس للطير رُقْيا ... فوقها حتى العُقَابِ حال من يرقى إليها ... كرقيٍّ في اضطرابِ كادَ أن يكن من يرقى ... إليها لمسَ الشهابِ حارت الأفكارُ فيها ... بين هاتيك الشعابِ وانثنى العقلُ ضليلاً ... بأسى تلك الهضابِ وربا الكربُ ازدياداً ... مُذْ بدتْ تلك الروابي ودموعُ العين تجري ... بجفانٍ كالجوابِ يسدر المرء فلا يقوى ... على ردّ الجوابِ وإذا يهوي انحدارا ... صار في أقصى الترابِ كم سقيطٍ صار منها ... في أفانين العذابِ من يقمْ منها صحيحاً ... كان في أفْقِ التحابي

فعُدُول المرءِ عنها ... أبداً عينُ الصوابِ ورأينا بهذه العقبة أشجار صنوبر كالسواري، يُتَّخذ منها أعظم ما يكون من الصواري، والبعض منها ساقط منعجر كأعجاز نخل منقعر كما ضرب به النبي الصادق مثل هلاك المنافق. وفي وداتها ماء يجري من الثلج، يتكسر ويفج من كل فج، وبها مكان بين جبلين منتصبين كالجدارين لا يدرك الطرف أعلاهما ولو احتد، ولا يرقى مبلغ الطير أدناهما ولو اجتهد وجدّ، يجري بينهما ماء كثير عذب زلال ثجاج نمير وبه نسيم يداوي السقيم، ونبت أريج من كل زوج بهيج، فيا له من منظر ما أبهاه وأحسنه وأفرجه وأزهاه، يرتقى منه إلى سفح أحدهما في عقبة كؤود، ذات صخرات سود، ومسالك لا تتسلق فيها القرود، ولا يمر بها الفئران إلاّ وهي في صورة الحيران في غاية الخوف والرجفان. أصعب الطرق والمذاهب، وأحزن السبل على ماش وراكب، فلم نزل نخبط في سهل هذا الجبل ووعره، ونخلط سيراً ترابه بصخرة، ونشقّ أعطافه شقاً، وندق جنادله بالحوافر دقاً، مكتنفين الفزع ملتحفين الجزع، إلى أن جزمتنا عوامله بالحذف، ومنعتنا علاته من الصرف، وأسفر لنا وجهه العبوس، ومحياه الذي في مشاهدته البؤس، عن مكان واسع، به بعض ماء نابع وربيع مريع رائع، وهناك للوزير بير باشا خان وعمارة وجامع، لكنها الآن خراب مأوى للبوم والحشرات والذئاب، فاسترحنا به ساعة دون أن نحلّ عن الدواب، ثم سرنا إلى منزل به ربيع، وماء عيون جريها ليس بالسريع، فقيلنا به ثم سرنا في ربوات ووهدات وأنهار، حتى انهار جميع بناء ذلك النهار، فحين حان الغروب، وآن

لقرص الشمس الوجوب، واتصفت صلاة المغرب بالوجوب، نزلنا بشط نهر في غاية الاتساع، شديد الجري والدفاع، أكثر في الارتفاع من مائة ذراع، ويحاذيه مرج أفيح ومسرح ومشرح، وربيع يجول فيه الطرف ويمرح، وهو بالقرب من آق كبرى ومعناه الجسر الأبيض بالعربيّة، وهو آخر ما كانت تحكمه الجراكسة وأول البلاد القرمَانيّة، فبتنا بشط ذلك النهر ليلة الأربعاء ثاني عشر الشهر، وهناك هواء شديد، وبرد ما عليه من مزيد، حتى خُيِّل لنا أن الشتاء عاد بأنوائه والبرد رجع بأدوائه، فاشتكت منه الأسنان ورجف الجنان، وقعدنا تحت الرعدة ننتظر الفرج بعد الشدة، ثم رحلنا منه: والبدر يَجنحُ للغروب كأنه ... قد سلَّ فوقَ الماء سَيْفَاً مُذْهبَا ثم برق من الفجر نوره، ولاحت من الصباح تباشيره، فسرنا في مخاضات وطلعات ونزلات (إلى أن ترافع النهار وتعالى، وتتابع حرّه وتوالى)، وقيّلنا ذلك النهار بمكان بشط بعض تلك الأنهار. ثم سرنا فجزنا على بساتين بها فواكه وزيتون، وشذى يفوح من أشجار زَيْزَفُون، ونزلنا بمكان به مياه ومرج، وبالقرب منه جبال من ثلج، فحصل فيه برد شديد وريح بارد، ومطر يقوى ويضعف لكنه متوال متوارد، فقطعنا تلك الليلة بين همل وهطل، وعطاء من السحب لا يكدره مطل، ورقصت القلوب لتصفيق الرياح، وفقدت النفوس الروح والخواطر الارتياح، وطال الليل مع أنه قصير الذيل، كما قال أبو المعالي الحظيريّ: أقول والليل في امتدادْ ... وأدمعُ الغيثِ في انسفاحْ

أظنّ ليلي بغير شكٍ ... قد بات يبكي على الصباحْ هذا والشمس في آخر برج السرطان، والصيف قد ألقى على الأرض الجِرَان، وحكم في الوجود بقوة السُّلطان، فكان كما قال مولانا المقر الكريم الشيخي الإمامي البدري السيد عبد الرحيم: جَادَتْ لنا الأنواء مغدِقَةً ... والصيفُ أقبلَ مسرع الجري فكأنمّا شمسُ الضّحى خرّفتْ ... فتشبّه السرطانُ بالجدي ومما قلته: نوءُ الشتاءِ وبردهُ وافى وقد ... حكمَ المصيفُ بقوةِ السُّلطان فلعلّ هذا الدهرَ أمسى ذاهلاً ... فأتى بنوء الجدي في السرطانِ فلمّا طلع الفجر ولاح، وضربت بشائر الصباح، عزمنا على التبكير بالسير والتَغْليس، وذلك ثالث عشر شوال يوم الخميس، فوصلنا مدينة أرْكلي والشمس مستوفية اللألاءِ مرتقية درجة العلاء، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهي مدينة

قونية

صغيرة، وبها بساتين وأشجار كثيرة، وفيها جامع لطيف بالدفوف الثقيلة مفروش، وبه منبر لعله من الخشب لكنه مستور بالجص المنقوش، وبه تختات مرتفعة زيادة فيه كالسدة، لكنها أكثر من نصفه تسع من المصلين عدة، وأقمنا به من ذلك الوقت إلى العصر، ثم سرنا إلى الخيام بعد أن دعا لنا جماعة ممن حضر الصلاة والإمام، وخارجه منارة عالية ذات طول مديد، وهي مفردة في المدينة تُرى من خارجها من نحو نصف بريد، والبرد فيها موجود، والقطر غير مدفوع ولا مردود، ولا يدرك بها من الزرع شيء كالقمح وما شابهه، ولا غير القراصيا من جنس الفاكهة، وهي شقراء وبعضها شقة بيضاء وشقّة حمراء، فنزلنا خارج المدينة بمرج أفيح، فيه للطرف مسرح وللخواطر مسنح، زكي المرابع (زهي المراتع)، يجري إلى جانبه نهر نهاية في العذوبة والخصر، فارتاحت الأنفس من الحَصْر والألسن من الخضر، ونسيت بحلاوة اليوم ما مرّ بالأمس، وباشرت الملاذ بالحواس الخمس، فأقمنا بقية ذلك النهار ثم ليلة الجمعة رابع عشر الشهر إلى وقت الاستغفار، وانقطع منّا فيها لمواصلة السير جماعة، منهم الشيخي البرهاني ابن جماعة، ثم سرنا من ذلك المكان وقد: كحّلَ الفجرُ لنا جفنَ الدّجى ... وغدَا في وجنةِ الصبحِ لثاما تحسبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ ... قد سقتهُ راحةُ الصبحِ مُداما قونية ولم نزل نسير ونسري، وننزل منازل لا نعلم اسمها ولا ندري، حتى سرينا

ليلة الأحد سادس عشر الشهر سروة فوصلنا مدينة قُونِيَة ضحوة، والشمس قد اكتسبت بعد ضعفها قوة، وانجلت في حللها المذهبة أجمل جلوة، وارتقت من أوجها ذروة، وارتفعت عن مشرقها قدر غلوة، ومن متن برجها صهوة، وكست الأرض والجبال من رونق ضيائها أحسن كسوة، ومدينة قُونِيَة مدينة غرّاء وأرض خضراء، ذات تربة زكية، ونفحة ذكية، ورياض أنيقة، وأشجار نضرة وريقة، ومحيا صبيح، وترتيب مليح، أسواقها مرضية، وخاناتها فضيّة، ومساجدها وضيّة، وعيشتها رضية، وزمانها ربيع، وجنابها رفيع، ونسيمها وان، وجنانها دان، وقاطنها بحبها عان، وليس لها في مزية الحسن بين البلاد القرمَانيّة ثان، وبها مساجد متعددة، وعمارات متجددة، وجامع عتيق، ذو معهد أنيق، وبناء وثيق، ومقام رجل مشهور بالولاية يقال له ملا خنكار، يقام عنده وقت كل جمعة يضرب فيه بالدف والمزمار، ويحيط بها سور عظيم، ذو بناء قديم، به شخوص وأشباح، وجسوم تكاد تنطق لولا فقدها الأرواح، وعلى بعض أبوابها صورة إنسان، متصلة أقدامه ببعض حجارة البنيان، فهذا هو المنكر الذي لا نرضاه ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وهي الآن سرة بلاد قرمان، وقد كانت تخت الملك في قديم الزمان، وقد انتشأ بها جماعة من الصُّوفيّة، ومن أئمة الفقهاء الشَّافِعيّة والحنفيّة، ومنهم شيخ الإسلام فخر القضاة والحكام (القاضي علاء الدِّين وولده العَلاَّمة محبّ الدِّين وشيخ الصُّوفيّة الإمام صدر الدِّين أعاد الله تعالى من بركاتهم علينا وعلى المسلمين)، فنزلنا خارجها بمرج من تلك المروج، به ربيع تمور به الريح وتموج، وبعض غدران مياه

يخصب بها روض الحياة، وتسحب ذيل صفائها على صفاء ذلك المحل وحصاة، كما قيل: وضاحيةٍ وردْتُ بها غديراً ... يقدَّر من صفاءِ الماءِ أرضا كأن الوحشَ حين تغبُّ فيه ... يقبّلُ بعضَها للشّوقِ بعضا فأقمنا به بقية يوم الأحد، ثم ليلة الاثنين بالكمال، ثم عزمنا وجه الصبح المسفر عن سابع عشر شوال، على الترحل والانتقال، والتحول والارتحال، فلم نزل نجوب في فياف ومهامة، ونجول بين أنهار ومنازه، ورياض قد تولاها الولي، ووسمها الوسمي، وجمشتها نسمات الرياح، وأظلتها رايات الصباح، وغازلت كواكب الفجر عيون نرجسها الوقاح، وباكرت الصبا تقبيل ثنايا نورها: من قبلِ أن ترشُفَ شمسُ الضحى ... ريقَ الفؤادِ من ثغورِ الأقاحِ إلى أن نزلنا بمرج متسع الساحة، كبير المساحة، مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر، تسفر كل ناحية منه عن خد روض أزهر، وعذار نبت أخضر، وتبسم عن ثغر حَباب في نهر كالحُباب، وترفل من الربيع في ملابس سندسيات، وتهدي نوافح مسكيات، وتزهى من بهجتها بأحسن منظر، وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب وأنضر، فقيّلنا به ذلك النهار، ونقعنا الغُلَّة من الماء البارد، ونفعنا العلة من النسيم المعطار، ولم نزل نسير بين تلك الأزهار والأنهار، في العشايا والأبكار، حتى

وصلنا ضحوة الأربعاء تاسع عشر الشهر للمدينة البيضاء، وهي التي تسمى عندهم بآق شَهْر، وهي مدينة لطيفة، حسنة ظريفة، من أنزه المدن القرمانيّة وهي آخرها، وألطف البلاد العثمانيّة وأخيرها، مبيضة كسقيط الثلج، مصطفة كبيوت الشطرنج، ذات مياه خصرة، وبساتين خضرة عظيمة المنازه، كثيرة الغلات والفواكه، يجلب منها الفاكهة إلى ما يحاذيها من البلاد الرُّوميّة حتى إلى المدينة العظمى القُسْطَنْطِينيّة، ويخترق أرجائها نهر سلسال، كدمع المهجور إذا سال: يُظَنُّ به ذوبُ اللُّجينِ فإن بَدَتْ ... له الشمسُ أجرت فوقَهُ ذوبَ عَسْجَدِ وبها أسواق معمورة، بالخيرات الموفورة مغمورة، ومساجد عظيمة، وحمّامات قديمة، وعمارة بظاهرها بها مسجد للجمعة معظم، منسوبة لحسين باشا الوزير الأعظم، وتكيّة ينزلها المسافرون، ويحلّها المتفقهون القاطنون، وليس لها سور ولا حصار معمور، وهي من أرخا هذه البلاد لسعة رزقها ونزرة خلقها وكثرة مغلها وقلّة أهلها وكثافة غيطانها وخفة قطانها، وبها على دون مرحلة بركة كبيرة بها، بعض مراكب صغيرة، يُصَاد بها منها السمك الكبار والصغار، ويُجْلب إلى ما حولها من الأقطار، فنزلنا بها بمصلى العيد، وهو منزل بديع غير بعيد، قد راق فيه الماء، ورقّ

به الهواء، وسفر له الدهر عن محياه، وتبسّم له الزهر وحيّاه، وأحدقت به البساتين أحداق الهالة بالقمر، والأكمام بالزهر، وامتدت له بطحته الخضراء امتداد البصر، وبالقرب من هذه المحلة والمنزلة، مقام خجا ناصر الدِّين المشهور عندهم بالولاية والوله، وله عندهم حكايات مضحكة تدل على التغفل والبله، نظير ما يحكى عن مصحفة جُحَا، وكلاهما من المغفلين الصلحاء، فأقمنا بها إلى وسط النهار، ووقت الزوال والإظهار، ثم أخذنا نجوب ونجول في وهاد وتلول، ووعر وسهول، وفياف وقفار، وربيع وأزهار، ولم نزل نسري ونسير ليلاً ونهاراً، ونجدب بالنجب الفيافي أصالاً وأسحاراً، وتغيب عنّا الشموس والأقمار فنتخذ من المشاعل والفوانيس شموساً وأقماراً، إلى أن وصلنا إلى مدينة قَرَا حِصَار يوم الجمعة حادي عشر الشهر وقت الإبكار، وقد نشر علم الشمس الأصفر، وتخلق الكون بردعها المُعَصْفَر، وأشرق وجهها الأشقر في الآفاق وأسفر، وهي مدينة مستظرفة بين جبال مستلطفة، وعلى جبل صغير عال في وسطها قلعة منيعة، بديعة رفيعة، أمينة حصينة، علية مكينة، سمية متينة، سوداء الحجارة وبها تسمّت المدينة، وعلى هذه المدينة بساتين كثيرة ومياه غزيرة، وبظاهرها مرج أريج، ذو نبت بهيج، فسيح الرحاب، رحب الجناب، كثيرة الكلأ والعشب، زائد الري والخصب، يسافر

النظر فيه، ويرتاح بمرائيه، وبها أسواق جميلة، ومساجد جليلة، وعمارة حسنة متسعة، بها مسجد معظم تقام فيه الجمعة، فجمعنا بها فية الجمعة مع العصر، وجمعنا بين الإتمام والقصر، وأول ما شاهدنا في تلك البقعة طرائق الرُّوم يوم الجمعة، وهو أن يصعد المؤذنون المنارة يعلمون بالصلاة ويصلون ويسلمون على سيدنا رسول الله، ثم لا يصعد بعد ذلك إلاّ واحد للأذان، ثم يشرع المقرئون على السدّة واحد بعد واحد في قراءة القرآن، وبعد الفراغ من القراءة والختام ينشد منشداً أبياتاً بالتركي أو العربي بأواز وأنغام، فكان ما حفظته مما أنشده يومئذ قوله: لي حبيبٌ عربيّ ... مَدَنَيّ قُرَشَي وجهه في نظري ... كلّ صباحٍ وعشي ثم يصلون السُّنَّة ثم يصعد الخطيب ويفعل أفعالا كثيرة بعضها مخالفة للسنّة من ذلك عدم الاتكاء على سيف ونحوه ثم تركه السلام، ثم الخطبة بأوازٍ عال وأنغام، ثم الدق على درج المنبر بالرجل حالة الهبوط والصعود، ثم الالتفات يميناً وشمالاً في القيام والقعود، وكان نزولنا خارجها بذلك المرج، بعد أن أحطنا علماً بالدخل منها والخرج. واجتمعنا هناك برجل جاء بعدنا في البحر من أهل الشَّام، فاستخبرناه عن الأهل والأصحاب فأخبرنا بأنهم طيبون وبلغنا منهم السلام، فزاد تحريك وجد لم يكن بالساكن، وأكد مؤكد شوق لتلك الأحباب والأماكن، ففاضت الدموع من الأجفان، واشتعل القلب بالنيران، وتمثلت قول بعضهم في

هذا الشأن: يا ساريَ الليلِ هل من رامةٍ خبرُ ... فإنني لسواه لستُ أنتظرُ بالله ربِكَ أخبرني فها كبدي ... تكادُ من ذكرهم بالوجدِ تنفطرُ أحبابُ قلبي وأخواني وأهلُ مني ... روحي إذا طَربْتُ والسمع والبصرُ أعندكم أنني من بعدِ فُرْقَتِكم ... لا استلذّ بما يهوى له النظرُ ترى أراكم على بانات كاظمةٍ ... والعذلُ قد غاب والأحبابُ قد حضروا ويجمعُ الله شملاً طالما لعبتْ ... به الليالي ولم يسعفْ به القدرُ ثم رحلنا من ذلك المكان بين الصلاتين والدموع تسقي تلك الأباطح، والأنفاس تتصعد من لهب الجوانح، فما سرنا إلاّ يسيراً من ذلك المكان حتى مررنا بحمام حامي المياه بغير إسخان، ولم نزل في حث السير والسرى، وعصيان الراحة وودع الكرى، وجول مهامة وبراري، وجوب فياف وصحاري: ألوي الضّلوعَ من الولوعٍ بخطرةٍ ... من شَيْمِ بَرقٍ أو شميمِ عَرارِ وأُنيخُ حَيْثُ دُمُوعُ عَيني مَنْهَلٌ ... يَروي وحَيثُ حشايَ موقدُ نارِ

فلم نزل في حط وترحال، ووَخْد وإرْقَال، إلى أن وصلنا إلى محلة ابن أوكي وقت الضحى العال، من يوم الأحد ثالث عشرين شوال، وهو مرج كبير ذو عشب كثير، قد بسط الغيث به بساطاً أخضر، بحيث لا يكاد شيء من سواد أرضه يُرى، وبجانبه قلعة لطيفة منقورة في جبل عالية الموضع سامية المكان مرتفعة المحل، وهو معد لرعي الخيول السُّلطانية وتربيتها وإصلاح شأنها وتنميتها، وبأسفله اصطبلات برسم تلك الخيل تُصان بها وتأوي إليها في الليل، ثم رحلنا وقت الظهيرة من تلك المحلَّة المذكورة، ولم نزل نسير وقد جَدَّ المسير، وحمى الهجير، وكاد أن يبلغ الغبار الكثير الفلك الأثير، فلما تضمخ جيب الأصيل بالعبير، وسقطت الشمس من الغرب على خبير، بعد أن عراها من خوف هول ذلك الحال اصفرار، وأعقبت من شفقها في الأفاق لون الاحمرار، وصلنا حينئذ إلى محلة أرمني بازار، وهي قصبة حسنة العمارة، بها مسجد لطيف ومنارة، فنزلنا بظاهرها منزلاً تشتهيه الأنفس وتلتذه الأعين، وتسبح من حسنه الأفواه والألسن، فسيح الأرجاء، واسع الأنحاء، صحيح الهواء، به أعين زائدة الخصر والعذوبة، فوق الغاية المطلوبة والحالة المرغوبة، وبتنا في مقعد هناك معظم عال، مركب على عين تجري بماء عذب زلال، فلما ابتسم ثغر الأفق بعد الوجوم، وفاض نهر المجرة على حصباء النجوم، نبهنا أيدي المطي عن سنة السكون، وحركنا منها ما كان مبنياً على السكون، ورحلنا من ذلك

المكان المركب على العين صبيحة رابع عشرين الشهر، وهو يوم الاثنين في وهاد وتلال، وحجارة ورمال، وغياض وأشجار، ومياه كالأنهار، ودَرْبَنْدَات هنالك وعرة المسالك بعيدة المدارك، كثيرة الهبوط والصعود، والتهائم والنجود، والغبار يكحل بإثمدة الأبصار، فيكاد أن يفقدها حاسة الإبصار، ويدخل في الخياشيم، فيحول بينها وبين روح النسيم، ويكسو الأجساد ثياباً لم تعن فيها يد خياط، ولم يلج فيها سم الخياط، حتى يدع البياض سواداً، ويدر على الملونات من قتامة رماداً، فلم نزل نحثّ مطايا السير والسرى، ونُريق من كاسات العيون طلا الكرى، ونحن كما قال بديع الزمان، وعلامَّة هَمَدَان: كأنا على أرجوحةٍ في مَسيرنا ... لِغَورٍ بنا تَهْوي ونَجدٍ بنا تَعْلو كأن السُّرى ساقٍِ كأن الكرى طِلاً ... كأنّا لها شَربٌ كأنَّ المُنى نَقْلُ كأنا جياعٌ والمطيُّ لنا فَمٌ ... كأنَّ الفلا زادٌ كأن السُّرى أكْلُ كأنَّ ينابيعَ الثرى ثديُ مرضِعٍ ... وفي حِجْرها منِّي ومن ناقتي طِفْلُ حتى وصلنا إلى مدينة ينكي شَهْر، يوم الثلاثاء خامس عشرين الشهر، وهي بلدة نضيرة لطيفة صغيرة، جميلة المنظر، جليلة المخبر، ذات أسواق موفورة، ومساجد معمورة، وخارجها نهر كبير، ذو ماءٍ كثير، عذب زلال نمير، خضناه وقطعناه، وركبناه وما رهبناه، واستصحبناه وما استصعبناه، وهو يلتوي تحتنا

التواء الصِلال، وينسل في تلك الأراضي أي انسلال، ويدور بجوانبها دور الهلال، ويتراءى بين الشقائق كأنه العذار في الخد الوسيم، ويلبس درعاً محكمة الزرد من نسج النسيم، كما قيل: حاكَت الرِّيحُ على الماء زَرَدْ ... أيُ دِرْعٌ لقتالٍ لوْ جَمَدْ فنزلنا بها بعمارة عتيقة، محكمة وثيقة، حسنة أنيقة، وكنّا قد سبقنا القوم في ذلك اليوم، ثم سرنا (إلى أن نزلنا) بمرج فسيح الأرجاء، واسع الفضاء، ذو مرعى غزير، وربيع كثير، ونهر كبير: وقد غَشِىَ النّبتُ بَطحاءهُ ... كبَدوِ العِذارِ بخدٍّ أسِيْلِ وقد ولَّتِ الشّمسُ مُجْتَثَّةً ... إلى الغربِ تَرْنو بطَرفٍ كَحيلِ كأنّ سَناها على نَهْرِهِ ... بَقايا نَجيعٍ بسَيفٍ صقيل وبتنا هناك مجاورين لذلك النهر، ليلة الأربعاء سادس عشرين الشهر، ثم رحلنا

منه عندما نصل خضاب الليل، وشمّر زنجيه للهرب من رومي الصباح الذيل، ولمع صارم الفجر من الشرق كلمعان البرق، وسرنا في دروب محجرة، ودَرْبَنْدَات مضجرة، وشعراء بالخوف مشعرة، وأرض خالية من الأنيس مقفرة، ومسالك عسرة وعرة، إلى عقبة ينخفض عنها طرف العقاب، ويعسكر دونها جيش السحاب، بها أشجار لا تعد ولا تحصى، ولا يدرك الأدنى منها والأقصى، فلم نزل نجوب كل مسلك وطريق، تارة في السعة وتارة في الضيق، إلى أن وصلنا وقت الضحى الأنيق، عند تعالي وجه الشمس الشريق، من يوم الأربعاء إلى مدينة أزْنِيْق، وهي مدينة عظيمة المنظر حسنة المخبر، ممتعة بالروض الناعم والنسيم الأعطر، من أحسن البلاد الرُّوميّة أزقة وأسواقاً، وأكثرها فوائد وأرزاقاً، وأوضحها بياضاً وإشراقاً، وأبدعها اتصالاً بالبساتين والتصاقاً، وأملحها مرسى، وأمنحها أنسا، وأينعها روضاً، وأترعها حوضاً، معتدلة الهواء، سامية البناء، واسعة الفناء، ساكنة المساكن، مكينة الأماكن، لائحة المباهج، واضحة المناهج، صافية الزلال، ضافية الظلال، معشبة الشعاب، عامرة الجناب، مرنة الرباب، هامرة السحاب، سابغة المدارع، سائغة المشارع، سافرة المطالع، وافرة الصنائع، وهي مخصوصة بعمل الصيني الرُّوميّ وبه تعرف، وهو ألطف من معمول الصِّيْن وأظرف، وبها فاكهة كثيرة حسنة، وقد رأينا بها قراصيا ملوّنة ما بين بيضاء وشقراء

وسوداء وحمراء، وبخارجها بحرة كبيرة، وبها أسماك كثيرة، وقد جُسْت خلال هذه المدينة، وجُزت في أماكنها المكينة، ورأيت العجب من محاسنها الجمّة المستبينة، فدخلت بها جنة حفت من طرقها بالمكاره، وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره، ثم نزلنا بظاهرها على نحو نصف ميل، بمرج أريج وظل ظليل، قد نسجت به يد السحب بسطاً عجيبة التلوين، غريبة التكوين، نقوشها تفوق الحبر، ويكاد يضاهي الزّهر ما فيها من الزهر، فيا له من بلد ومنزل عزيز، بديع التفويف والتطريف والتطريز: كلّ المنازلِ والبلاد عزيزةٌ ... عندي ولا كمنازلي وبلادي فأقمنا هناك إلى وقت الظهيرة، حين قبض النهار ظله وبسط حروره (وهجر برده وواصل هجيره)، ثم قطعنا مرحلة قصيرة بين أشجار كثيرة ومياه غزيرة، وبتنا بساحة وادٍ حللنا به، بين ظُفْر التوحش ونابه، لا تعرف جنوبنا من المضاجع قراراً، ولا تطعم عيوننا النوم إلاّ غراراً، إلى أن قضي الليل نحبه، وغوَّر الصبحُ شهبه، ففوقنا سهام العزم، وأطرنا عن زنده شرار الحزم، وسرنا في دروب ضيقة المناهج، ودَرْبَنْدَات وعرة المدارج، ومفاوز ومهالك ومسالك يضل فيها السالك: ومهامةٍ كالبحر لا أثرٌ ... للمقتفي فيها ولا سَنَنُ لو سار فيها النَّجْمُ ضلَّ بها ... حيران لا شامٌ ولا يَمَن

تضيق من رؤيتها الصدور، وتنفر من وحشتها النفوس غاية النفور، كثيرة الأشجار، وغالبها لا ثمار له ولا أزْهَار، وهناك مكان يُعْرف باغش تنكز ومعناه بحر الشجر، لا يصدق وصفه عقل ويكفي شاهد البصر، وقلت: عَهْدِنا البحرَ من مَاءٍ ... ولم نعهدْهُ من شجرِ وليس العَقْلُ يقبل ذا ... ك ويكفي شاهدُ البصرِ شهدْنا فيه أمواجاً ... من البلُّوطِ والشّمرِ ومن أثْلٍ ومن ضالٍ ... ومن أرْزٍ بلا ثمرِ وأجودُها إذا اعتبرتْ ... بلا نفعٍ ولا ضررِ به سُفن ركبناها ... لنقضي نهمةَ السَّفرِ من الخيلِ السوابحِ فيه ... بالآصال والبٍكَرِ تسير بها مجاديفُ ... القوائم سرعةَ البصرِ سنابكُها لها شررٌ ... كقدح الزندِ بالحجرِ إذا أدجَت بعثيرها ... أعاضَتْ عن سنا القمرِ

فلم نزل نغوص في عبابه، ونرقى على ثبجه رقى حبابه، ونخلط بدك الحوافر جنادله بترابه، هذا وحكم الحرّ لم ينسخ، وإهابه لم يسلخ، والريح تهب سموماً، وتهدي إلى القلوب سموماً، والغبار متراكم متراكب، تكاد أن لا تبين معه الشمس فكيف الكواكب، مع أن الشمس ليس لها في ذلك المحل مواكب، ولا محامل ولا مراكب، ولا تبلغ من تلك الأشجار إلاّ رؤوس المناكب، ولا تنسج عليها إلاّ كنسيج العناكب، فما قطعناه إلاّ بعد جهد جهيد، وتعب شديد، وعناء ما عليه من مزيد، ثم لم نزل نقطع مسالك ضيّقة ومتسعة، ومناهج منخفضة ومرتفعة، نصعد على التهائم ونغور في النجود، ونسلك كل مسلك لم يكن بالمعمور ولا بالمعهود، ولا كان مسلكاً إلاّ للذئاب واللصوص والأسود، إلى أن وصلنا ضحوة يوم الجمعة المشهود، إلى بلدة أزنكميد ويقال لها أزنكمود، ثم نزلنا خارجها بنحو نصف ميل لكي نستريح ونقيل، ونخفف عنّا ذلك العبء الثقيل، بمكان خضر الأرجاء والنواحي، بهج المرابع والضواحي، وفيه ماء جارٍ، وأشجار جوز كبار، فقوي فيه الحرّ واشتد، واحتدم واحتدّ، واعتدى واعتدّ، وتمادى وامتدّ، وتنفست في ذلك المكان الجحيم، وصار الماء أبرد منه ماء الحمام كأنما سيق من الحميم. فبينما الناس في التهاف والتهاب، واضطرام واضطراب، وغرق من العرق، وحَرَق من الحُرق، وقد تستروا بظل فروع الأشجار والورق، واتخذوا أغصانها من سهام الشمس درق، وإذا بالحمزاويّ قد عزم على الرحيل والمسير، فضج من ذلك الصغير والكبير، واستنجد بي بعضهم في التواني قليلاً والتأخير، لتنكسر سورة ذلك السعير، وكنت قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل ذلك الوقت بيسير، فقلت

لهم: لا خوف إن شاء الله تعالى ولا حذر، ولا ضرّ ولا ضرار ولا ضرر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم مصاحبٌ لنا في السفر، فلمّا سرنا هبّت الرياح، فتنفست من تلك الكرب الأرواح، وعاودها الروح والارتياح، وكان هبوبها من طلائع الرحمة، ومقدمات كشف الغمة، ثم أبرقت السماء فسلت مذهب نصولها، ورعدت فضربت مبشر طبولها، وجعل السحاب يعبىء كتائبه، والرباب يرتّب مواكبه، ثم ترادف البرق والرعد، وأنجز بالإغاثة بالغيث الوعد، ثم صوّب صوب الغمام سهامه، ثم لبس الجو لحرب المحل لأمَه، فلم يبق قطر إلاّ وقد نفذت فيه تلك السهام، ولا أفق إلاّ وقد علاه من خيوط الوَدْق مثل القتام، ثم تتابع رشق القطر، واتصل الهمل والهمر، وسالت الأودية كالأنهار، وجرت السيول تحت أرجلنا متواترة التيّار، وانشقت السماء بصاعقة، لم تزل القلوب منها وجلة خافقة، وسقطت في البحر كالشهاب في سرعة مروق النشاب، ثم لم تلبث السماء أن أقلعت، والأرض أن شربت ماءها وبلعت، والسحب أن تكشفت وتقشعت، وعاد الفصل إلى طبعه، ورجع الوقت إلى وضعه، وكان النهار قد عزم على الرحيل، ورفل في برد الأصيل: وبدا لنا تُرسٌ من الذَّهب الذي ... لم يُنْتَزَعْ من مَعْدن يتعَمُّلِ مرآة تبر لم تُشَنْ بِصياغة ... كلا ولا جُليتْ بكفِّ الصَّيْقَلِ

تسمُو إلى كَبِدِ السماءِ كأنما ... تبغي هُناكَ دفاعَ خطبٍ مُعْضلِ حتى إذا بَلَغتْ إلى حيث انتهتْ ... وقَفتْ كوقْفة سائلٍ عن مَنْزِلِ ثم انثنتْ تبغي الحدورَ كأنها ... طيرٌ أَشَفَّ مَخَافةً من أجْدلِ فوصلنا حينئذٍ إلى خان وسيع، في مرج وربيع، وعشب مخصب مريع، وعيون جارية، وبالقرب منه أطلال بالية، وعروش خالية، وآثار أسوار عالية، وقصور مستهدمة، تدلّ على أنها كانت مدينة معظمة، فنزلنا هناك ولم يحصل بحمد الله من ذلك المطر كبير ضرر، ولا عظيم أثر، بل خفف حر القلوب، وأزال تلك الكروب، ولبَّد المسالك والفجاج، من التراب الثائر والعجاج، فبتنا بذلك المحل بعد أن تفقدنا الأحمال، وأصلحنا الأحوال وذلك ليلة السبت تاسع عشرين شوال، فلمّا تَفَرَّى عن وجنة الأفق عذار الغيهب، وتتوج كسرى المشرق بالتاج المذهب، عزمنا على الترحال وشددنا على الدواب الأحمال، ثم سرنا فوصلنا إلى بلدة كثكثيبزه وقت الزوال، وقد بلغت الشمس من مرتقاها درجة الكمال، واستقامت مقيمة ميزان الاعتدال، وهي بلدة عامرة ذات خيرات غامرة ونعم ظاهرة (وأمم متكاثرة)، وبها أسواق متّسعة، وعمارة تقام فيها الجمعة، عظيمة الآثار مزدهاة، عديمة الأنظار والأشباه، منسوبة لمصطفى باشا الوزير رحمه الله، وبظاهرها مرج أفيح، للناظر فيه مسرح، وللخاطر مسنح ومشرح: ولقد نزلتُ به وكفُ ربيعِهِ ... في نسجِ حُلَةِ نوره يتأنقُ

وشذا خيوطِ المزنِ يرسلها الحيا ... إبَراً وأكمامُ النباتِ تفتقُ فأقمنا بذلك البلد بقية اليوم ثم ليلة الأحد، فلمّا أسفر نهاره، وحمدت آثاره وتكلم عصفوره وترنّم هزاره، وفاخر شيحه بعرفه عراره، حييناه بصلاة الصبح، وأملنا من الله الصلاح والنجح، وفارقناه غير مذمم، ويممنا إن شاء الله تعالى خير ميمم، وما زلنا ذلك النهار نساير السبيل حيث سار، ونأخذ تارة اليمين وتارة اليسار، بين جنات معروشات وغير معروشات، وأراضٍ موشات بالربيع منقوشات، وبطاح وأدواح، ومروج فساح، وانبساط وانشراح، وبسيط له اتساع وانفساح، ومياه لها على درر الحصباء انسحاب وانسياح، وروضات يعترى ويعترض إليها اهتزاز وارتياح، ووجنات جنات ريقها نداً وثغورها أقاح: وأرضٌ من الحصباءِ بيضاء قد جرت ... جداولُ ماءٍ فوقَها تتفجرُ كما سَبَحت تبغي النجاةَ أرَاقِمٌ ... على روضةٍ فيها الأقَاحُ منورُ إلى أن تداعى بنيان النهار في الانهيار، فوافتنا الرحمة من سائر الأقطار، بوافر الغيث ومديد الأمطار، فاستبشرنا وحُقَّ لنا الاستبشار ودخلنا حينئذ مدينة أُسْكُودَار، وداعي الفلاح يدعو إلى الصلاة الوسطى، فازداد القلب بذلك سروراً

وبسطاً، وأجبناه بصلاتها من غير توان ولا إبطاء، وأُسْكُودَار بلدة لطيفة حسنة ظريفة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، ضوؤها صقيل، ومجتلاها جميل، ونسيمها أرج النشر عليل، يمتد أمامها بسيط أنضر، وبساط أخضر، قد أجرى الله فيه مذانب الماء تسقيه وتحتف بها بساتين ملتفّة الأشجار يانعة الثمار، والبحر الأعظم القُسْطَنْطِينيّ ينساب بين يديها، وينعطف عليها، ويحنو إليها، ويعنو خاضعاً لديها، وبها مساجد وضيّة وعمارات فضيّة وأسواق حسنة وخانات مستحسنة، ومنها يُركب في المُعدّية إلى المدينة العظمى القُسْطَنْطِينيّة، فعدى الحمزاويّ بالخزانة ومن معه من القوم بعد العصر من ذلك اليوم، واستخرت الله تعالى في الإقامة بها بقية اليوم، وهو يوم الأحد ثم من تلك الليلة إلى الغد، فنزلت بمن معي بعمارة هناك على الساحل، وأرحنا الأبدان والرواحل، فتلقّانا خادمها بالتأهيل والترحيب، وأنزلنا في مكان بها متسع رحيب، فلمّا أسفر وجه الصباح وحَيْعَل داعي الفلاح واستنار وجه المحجة بعدما كان بسواد الليل منتقباً، وابتهجت الأنفس بقدوم فجر كان مرتقباً، وتخلق الكون بردع الشمس، وحُمد ظهورها في ذلك اليوم كما حُمد بالأمس، ورد علينا مشرف شريف، وكتاب عال منيف، من مولانا وسيدنا المقر الكريم الإمام العَلاَّمة شيخ المسلمين السيد عبد الرحيم، مضمونة الاعتذار عن عدم تلقيه بحمى شديدة بنافض تعتريه، وأنه هيّأ لنا منزلاً، ولكن ننزل في عمارة

السُّلطان محمد أولاً، حتى يجتمع بالوزير مولانا إياس باشا، ثم يستأذنه في النزول بذلك المكان أو حيث ما شاء، وصدَّر الرسالة بقوله الحمد لله وهو على جمعهم إذ يشاء قدير: وقدْ يَجْمَعُ اللهُ الشّتيتينِ بَعدَمَا ... يَظُنَّانِ كلَّ الظَّنّ أن لا تَلاقِِيَا مرحباً بالحبيب ابن الحبيب السيد ابن السيد الحبر الأريب، ذي المجد والمفاخر المأثورة، والجد والمناقب المشهورة، إمام المؤمنين وشيخ المسلمين: قدِمتَ خيرَ مَقْدَمٍ تحمدُهُ ... ويُمْنِ طالعٍ كذا تشهدُهُ يا خير من خُلف عن خير خَلف ... ما زلتَ تحيى ما حيا سحب درف قرّت ببقياك عيون البَشَرِ ... كما لها درّت عيونُ البِشْرِ زينك الإله ذو الجلالِ ... بحليةِ الجمال والكمالِ ليس يُرى لمجدك انصرامُ ... ما كرت الشهورُ والأعوامُ ففعلنا كما أشار، وصعدنا المُعدّية عصر ذلك النهار، وهو يوم الاثنين مستهل شهر ذي القعدة، تفاؤلاً بأن الحظ قد أبرز سعده، والسعد قد أنجز وعده، وأنّ الوقت لنا إن شاء الله تعالى في إقبال، ونجاح سعي وبلوغ آمال، فلما ارتقينا من ذروتها أعلاها،

القسطنطينية

قلنا لأصحابنا (اركبوا فِيهَا بسمِ اللهِ مَجْراها ومُرْسَاها)، ثم أُرخي شراعها، ورُفعت مرساها، وسارت بنا في ذلك البحر العُبَاب، تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب، وتمثلت بما قال بعض أهل الآداب: تأمل حالَنا والجوّ طلقٌ ... محياهُ وقد طفَل المساءُ وقد جَالَت بنا عذراءُ حبلى ... يجاذِبُ مِرْطَها ريحٌ رخاءُ ببحرِ كالسّجَنْجَل في صفاءٍ ... تُعاينُ وجهَهَا فيه السماءُ القسطنطينية ولم نزل نسير ونحن جلوس، وهي تتبختر بنا تبختر العروس، وتجول بنا خلال ذلك البحر وتجوس، تارة بإبطاءٍ وطوراً بإسراع، وحيناً بمجاديف وآونة بأشراع، وذلك البحر قد راق نعتاً، ورق وصفاً، والأمواج به تعطف صفاً وتنقصف قصفاً، وتأتي خاضعة إلى البرّ فتقبل منه كفا وتتيه آونة فتنعطف عنه عطفا وتثنى عن الإلمام به عطفاً، وتستحي تارة فتبدي له تملقاً ولطفاً، إلى أن أرسينا بمرسى قُسْطَنْطِينيّة العُظْمى، ذات المحل الأسمى والحمى الأحمى، فتلقانا الأمين سِنَان جلبي أمين الصقالة، وعظّمنا وأجلّنا غاية العظمة والجلالة، وأحلّنا منزلته وحلاله، وكان مولانا السيد أسبغ الله ظلاله، وختم بالصَّالحات أعماله، قد أرسل

إليه بسببنا رسالة، وأزاح عنه بمعرفتنا الجهالة، فحييناه بالتحية والسلام، ودخلنا المدينة بسلام، وذلك حين نشر الأصيل رداءه المذهب، وتقوّضت خيام الضياء ومدت سرادقات الغيهب: والشّمسُ تَنفضُ زعفراناً في الرّبا ... وتمدّ فوقَ الماء سيفاً مُذْهَبَا ومعلوم أنّ هذه المدينة دار الطمأنينة وقاعدة الرُّوم وأم المدائن ومقر الملك، ومركز دوران الفلك، ومحطّ الرحال، ومآل الترحال، ومعدن الفخار، وموطن الرؤساء والكبار، ومنبع الإقبال، ومربع الآمال، ومنتهى المقاصد والمطالب، ومشتهى القاصد والطالب، ومظهر شموس السعادة، ومقر جيوش السيادة، آيات محاسنها لم تزل بألسن السمّار متلوة، وعرائس بدائعها لم تبرح على أعين النظّار مجلوّة، من أجلّ ما فُتٍحَ من البلاد، وأعظم ما استخلصته يد الصلاح من الفساد، كم خطبها عظيم من ملوك الزمان، وأمهرها مواضي المشرفيّة وعوالي المران، وهي أشدّ ما يكون إباءً وأقوى ما يمكن منعه واستعصاء إلى أن قصدها من ادخر له ذلك الفتح في خبر طويل الشرح، وهو المرحوم السعيد الشهيد السُّلطان محمد خان بن مراد خان، ووالد السُّلطان بايزيد بوأهم الله غرف الجنان، بمزيد العفو والغفران، وذلك في سنة سبع وخمسين وثمانمائة، فذلّت له صعابها، وخضعت لسطوته رقابها، ولان جماحها وتسنى انفتاحها وأعلن فيها بالتهليل والتكبير، وصُرح فيها بالصلاة على البشير النذير، وقامت بها قامات المنائر، وارتفعت فيها درجات المنابر، وأخرست

النواقيس، ونطق بالتأذين على رغم إبليس، وخُطَّت بها المساجد والمدارس، وعمرت بأوقات الخيرات بعدما كانت دوارس، ونصب الدِّين المحمدي خيامه، ورفع الشرع الأحمدي على قللها أعلامه، وبُدلت من الإنجيل بالقرآن، وعُوضت من الرهبان بعلماء الايمان، فأصبحت شموس الدِّين بآفاقها مشرقة، وسحب اليقين بجنباتها مغدقة. وبها من الأئمة الأعلام، وعلماء الإسلام، من العرب والعجم والأرْوَام، ما يتجمّل به الزمان، ويفتخر به العصر والأوان. ومن الجنود الوافرة والأمم المتكاثرة ما يُعزّ به الدِّين ويذلّ به الطغاة المعتدين والبغاة المفسدين، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى بعضَ من اجتمع بنا من أعيانها وأهليها وقطّانها. وبها من المساجد والجوامع، التي هي لأنواع الخيرات جوامع، ما تقرّ به أعين الموحدين، وتزداد به عبادة المتعبدين، ومن العمارات العظيمة ذات الصدقات الجسيمة والمبرات العميمة ما هو جار أجره إلى يوم الدِّين، ويشهد لفاعله أنه من المحسنين المهتدين. ومن أجلّها المساجد الإحدى عشرة الفائقة المتقاربة المتلاصقة، البديعة الحسنة الرائقة، المنسوبة إلى السُّلطان محمد المشار اليه، أسبغ الله تعالى ملابس رحمته ورضوانه عليه، وهي المدارس الثمانية اللاتي مدرسوها أعظم مدرسي الرُّوم، ولكل منهم أجزل أجر وأجل معلوم، والتاسعة العمارة التي يطعم بها الفقهاء والمتفقهون، ويحلها وينزل بها المقيمون والقاطنون، والمسافرون والظاعنون، وتجري عليهم الأطعمة صباحاً ومساءً، ويعم خيرها من لا يحصى رجالاً ونساءً، والعاشرة الجامع المعظم السامي الرفعة، المتسع الرقعة، التي تقال فيه الخطبة، وتقام فيه الجمعة، ويجرى في هذه الأماكن من الخيرات ما لا يمكن حده، ولا يحصر عده، والحادية عشرة المارستان وهو مدرسة على كيفية

العمارة. وبها امام مراتب وبجوانبها الحجرات المتعلقة بالمرضى، وهو من أعجب الأشياء لا يُرَى أحسن منه بناء، ولا أبدع إنشاءً، ولا أكمل انتهاء في الحسن وانتماء، ولا أكثر خيراً، ولا أحسن شرباً وميراً، وفيه من قناطير الأشربة والأكْحَال الرفيعة المطيبة، والأدوية الحسنة المعجبة، وسائر المعاجين المعمولة على القواعد الطبية والقوانين إلى ما يضاف إلى ذلك من لحوم الطيور والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها، مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحلّ فيه من غطاء ووطاء، ومشموم ومدرور وشبه ذلك على ما هو معد على أكمله هنالك، وقد رتب على ذلك كله من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين والنظّار العارفين والخدّام المتصرفين كل ماهر في معالجته، موثوق بعدالته، مسلّم إليه في معرفته، غير مقصر في تصرفه وخدمته، ويحصل منه كل يوم من التفرقة على الصادرين والواردين ما لا يدخل تحت ضبط حيسوب، ولا يحيط به دفتر ولا مكتوب، وفي مبانيه الرائقة، وصناعاته الفائقة، وطرره الرهيبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التي ترفل في ملابس الإعجاب، وتسحر العقول والألباب، ما يفتن النفوس، ويكشف البدور والشموس، ويعجز عن وصفها خطات الأقلام في ساحة الطروس. وأمّا مسجدها الأعظم أيا صوفيا الذي كان كنيستها العظمى فهو من أعظم معاهدها وأجلّ مشاهدها، يحار النظر فيه، وينحسر دون تصور قوادمه وخوافيه، ذو أبنية غريبة جميلة، وأعمدة عجيبة جليلة، وقبّة عظيمة محيرة للعقل في التربيع والتسديس والتثمين والتدوير والتقويس، فكم من بناء داخل بناء وقوس داخل آخر، وكم من إحكام وضع، وتحديق صنع، كاثر بذلك بها إرم ذات العماد

وفاخر، فلا يحيط به نظر ولا تفكر، ولا يحكيه عقل ولا تصور: تجاوزَ حدّ الوهم واللّحظَ والمنَى ... وأعْشَى الحجى لألاؤه المُتَضَاوِي فتنعكس الأفكار وهي حواسرٌ ... وتنقلبُ الأبصارُ وهي خواسي وقد كان بها صور أجسام عجيبة الأشكال والأجرام، وقد طمس أكثرها وبقي أثرها، وبها مسجد آخر كان كنيسة أخرى يقال له أيا صوفيا الصغرى ذو أبنية غريبة وأشكال عجيبة، ولكن ليس كالذي سبق ولا يقاربه ولا يناظره في جلالته ولا يناسبه، فما كل صهباء خمرة، ولا كل حمراء جمرة، ولا كل سوداء تمرة: وما كل دارٍ آنست دارَةَ الحما ... ولا كل بيضاء الترائب زينبُ وبها من المباني الهائلة، والأسواق الحافلة، والمرابع الرائعة، والمصانع الناصعة، والقصور الشاهقة، والمساكن الرائقة، والمسالك المتسعة، والربوع المبدعة، والمرامي العالية والمراقي السامية، ما تحار فيه الأوهام، وتكلّ دون وصفه الأقلام: هي القصورُ البيضُ لا ما حدّثوا ... هي القصورُ البيضُ لا ما حدّثوا

تختطف الأبصارُ من لألائها ... تختطف الأبصارُ من لألائها وبها من المفترجات الظريفة، والمنتزهات اللطيفة، والرياض النضرة، والمروج الخضرة، والأزهار الزاهرة، والأشجار الباهرة، ما هو نزهة النفوس، ومسرة العبوس، وبهجة الخواطر، وقرّة النواظر، ومن محاسنها أيضاً أنّ بكل بيت منها روضاً وبئراً يفيض منها الماء فيضاً: فالجوّ رقراق الشعاع مفوفٌ ... والماءُ فياض الآتي معسجدُ والروضُ في حلى الربيعِ كأنما ... نَطَف الغمائِمَ لؤلؤٌ وزبرجدُ وبها من الآثار القديمة، والأعمدة العظيمة، والمعالم الجسيمة، والمراسم المقيمة، ما يذهل الألباب، ويستولي عليها منه العَجَب العُجَاب. فلما دخلناها في الوقت المذكور، وركنا إلى الاكتنان والوكور، نزلنا أولاً كما أشار مولانا السيد في عمارة المرحوم السُّلطان محمد، شمله الله تعالى برحمته وتغمد، فشاهدنا منها أعظم مشهد وأكرم معبد ومعهد، وخيرات تدلّ على رحمة منشئها وتشهد، وحضر خادم المكان فتفقد مصالحنا وتعهد، وأخلى لنا مكاناً متسعاً فضياً وأفرد، وفرش لنا فرشاً موطاً موطد، وبتنا هناك بأنعم ليلة وأسعد، على مهاد وطى ووطاء ممهد، غير أنّ لواعج الأشواق لا تهمد، ونيران الفراق لا تنطفئ ولا تخمد، بل تتزايد ضراماً وتتوقد، وتتأطد وتتأكد، وكلما جمعنا شمل النوم تبدد، أو

عقلنا نادَّهُ تفلت وتشرد، والقلب كلما آلمه القلق رفع عقيرته وأنشد: هل إلى أن تَنَامَ عيني سَبيلُ ... إنَّ عهدي بالنومِ عهدٌ طويلُ وقد توارد على القلب تقلقان، أنتجهما تحرقان، وأوجبهما تشوقان، أحدهما إلى الأهل والأولاد والأوطان، والثاني إلى مشاهدة مالك الروح والجنان والفؤاد السيد الكريم عبد الرحيم، والثاني أغلب وللأرق أجلب وللب أسلب، إذ لا يقاس الشاهد بالغائب، ولا يلتحق أفراد الجمع بقوة الواحد، ولا الداني الدار بالبعيد المزار: وأبْرَحُ ما يكون الشوقُ يوماً ... إذا دَنَتِ الخيامُ من الخيامِ وقد طال ذلك الليل مع قصره وعَسْعَس، وسألته عن صبحه فقال لو كان حياً لتنفس، كما قال المنشد وهو ابن مُنْقِذ رحمه الله تعالى: ولرُبَّ ليل تاهَ فيه نجمُهُ ... قضيتهُ سهَراً فطَالَ وعَسْعَسَا وسَألتهُ عن صُبحهِ فأجابني ... لوْ كانَ في قَيدِ الحياةِ تَنفَّسا

فلما تنفس الصباح بعد ما أيسناه، وتحققنا أنّه في قيد الحياة، وأظهر نوره في الآفاق وسناه، وانجاب طيلسان الليل، وشمر للفرار من النهار الذيل، وستر كافور الفجر مسك الغياهب، وظهرت الشمس المنيرة على الأنجم الثواقب، قصدت منزل مولانا المشار إليه، للسلام عليه والمثول بين يديه، فوجدته قد جدّ به ذلك المرض، وأثر في جسمه بعد ذلك الجوهر العرض، وأثقله حمل عبئه وبهض، فلما رآني اجتهد في القيام ونهض، فتلاقينا بالتقبيل والعناق، وتهادينا تحف الأشواق، وتشاكينا روعة الفراق، وحنَّ كل منّا حنين المغرم المشتاق، وحمدنا الله تعالى على ما منّ به من التلاق، وتسابقت شهب الدموع من الآماق، وتراكضت جارية في جوانب الأحْدَاق، وتراكمت من العيون سُحبها، وقضى من النحيب نحبها، وأنشدت لبعضهم: ولما وقفنا للسلام تبادرت ... دموعي إلى أن كدتُ بالدمع أغرقُ فقلتُ لعيني هل مع الوصلِ عبرة ... فقالت ألسْنَا بعدَه نتفرقُ ولبعضهم: ووقفتُ بين تأملٍ وتململٍ ... يبدو السرورُ على فؤادي الجازعِ حيرانَ لا أدري لقربٍ رائق ... أذري المدامعَ أم لبعدٍ رائعِ

ثم جدّد البكاء بالانتحاب الزائد، لفراق شيخ الإسلام الوالد، فحرك لواعج أحزان لم تفتر ولم تهمد، وأضرم نيران أشجان لم تنطف ولم تخمد، فأخذ كل منّا من ذلك حظه وبلغ منه نصيبه، واسترجعنا وحوقلنا من تلك المصيبة، وتوجعنا وتألمنا من رشق سهامها المصيبة، ثم أخذنا نجول في ميادين مذاكرة، ونخوض في بحار محاورة، ونستخرج كمائن محادثة، ونستفتح خزائن منافثه، ونجتلي أبكار أفكار، ونجتذب أهداب آداب، ونقيد شوارد فوائد وأوابد فرائد، فمضى لنا من ذلك يوم: أشفُّ من الليالي في صفاءٍ ... وأحلى من معاطاةِ الكؤوسِ فلما استوت شمس ذلك اليوم، ومالت الرؤوس وقت القَيْلُولَة للنوم، خرجنا من عنده للسلام على صاحبنا وصديقنا وحبيبنا الشيخ الأوحد والإمام الأمجد ملا حاجي جلبي عبد الرحيم بن علي بن المؤيد، هو صدر من صدور أئمة الدِّين، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين، حامل لواء المعارف، ومحرز التالد منها والطارف، محافظٌ على الكتاب والسُّنَّة، قائمٌ بأداء الفرض والسُّنَّة، حاملٌ لأعباء صلاح الأمة، باسطٌ للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة، ذو أوْرَاد وأذكار يعمّر بها مَجَالسه، وأحوال وأسرار يغمر بها مُجالسه، وجدّ في العبادة، وجهد في الزهادة، ومواظبة صيام، وملازمة قيام:

يقضى بنفع الناس سائرَ يومِهِ ... ويجفوه في جنحِ الظلامِ مضاجِعُ فينفكّ عنه يومُهُ وهو ذاكرٌ ... وينفكّ عنه ليلُهُ وهو راكعُ فبادرته بالسلام عليه والذهاب إليه لعلمي بأنه ضعيف البُنْية، قديم السن عسر المشية، فقابلني بالرحب والترحيب، وعانقني معانقة الحبيب الحبيب، وترحّم على شيخ الإسلام وبالغ في الثناء وابتهل في الدُّعاء، ولم يدع شيئاً من أنواع الإكرام وأصناف الاحترام وأجناس التلطف في الكلام، فلم أرَ أحسن من لقائه، ولا أزين من ولائه، ولا أجلى من محادثته، ولا أحلى من منافثته، فلم أدر أأرد أم أرود، وافد على مجالس جود أو مجال سجود، وقد كان هو اجتمع بشيخ الإسلام في بلاد الشَّام حين قدمها قافلاً من الحِجَاز، وفاز بمشاهدته كل مفاز، فأكرمه وواخاه وخالله ووالاه، وشهد كل منهما في الآخر أنه ولي الله، فلبثنا عنده وقتاً نجوب في أرجاء المؤانسة ونجول، ثم ودعناه ومضينا إلى محل النزول، وأرسل هو خلف شخص من أكابر الرُّوْم، ليعلم صاحبنا الوزير بالقدوم، فأعاد الجواب بأنّه فرح بذلك وسُرَّ به، وابتهج غاية الابتهاج بسببه، وأن ميعاد الاجتماع به يوم الجمعة بكرة أو يوم الخميس عشية لتنقضي ضيافة السُّلطان بسبب مهم ختان أولاده للأمراء والينكجرية، وهذا المشار إليه هو الهمام المرتضى والحسام المنتضى، حسنة الأيام وغيث الأنام، غمام الندا الهاطل، وحِمَام العدا العاجل، ناظم شمل الفريق، وفاتح باب الأزمة والضيق، جامع أشتات المعالي ومحرز شرط الكمال، فلم يصلح إلاّ له المقر الكريم العالي الأميري الكبير الوزير المشير العالم العادل الفاضل الكامل الممهدي

المشيدي الذخري العضدي، زعيم جيوش الموحدين، عاضد الغزاة والمجاهدين، آصف الدهر وفريد العصر ووجيد المصر وفخر القطر، وسم العداة وآفة الجُزر، ومالك بيض الطروس وسمر السطور بالبيض والسمر، عين الوزراء العظام، ورأس الأمراء الفخام، وأشدهم بأساً وأقواهم جأشاً، مولانا الوزير المعظم والمشير المفخم إياس باشا: ذو عزمةٍ كالتماعِ البرقِ واقدةٌ ... تجىءُ من نُصْره بالعارضِ الهطْلِ لولا السعوُد التي نيطت بهمتِهِ ... لكنتُ أنسبها بُعْداً إلى زحلِ أدام الله سعده، وحرس بعين العناية مجده، ما دارت الأفلاك وسبحت الأملاك، وهو ممن له محبة واعتقاد تام، في سيدي الوالد شيخ الإسلام، وقد حضر إلى عند الوالد حين كان بكلربكي بالشَّام متخشعاً متواضعاً طالباً للبركة والدُّعاء، راغباً في اللحظ والإمداد، ملتمساً للصحبة والوداد، ولم تزل الصحبة بيننا وبينه من ذلك الزمان، والمكاتبات تتردد بيننا وبينه في كل حين وأوان، فوفينا له بما وَعَدَ به وشَرَطَه،

واجتمعنا به بكرة الجمعة في بستانه بر الغَلَطَة، فحصل منه غاية التعظيم، ونهاية التبجيل والتكريم، وتلقاني إلى خارج الدار، وهو مظهر للسرور والاستبشار، فبادر كل منّا لصاحبه وسابق، وصافح واستلم والتزم وعانق، وحيّا بأطيب السلام، ووانس بأعذب الكلام، وسألني عن جماعة من أهل الشَّام، وترحم وترضّى على سيدي شيخ الإسلام، وتألم لفراقه وتوجع وحوقل لتلك المصيبة واسترجع ثم قال: هو باق وسره ما فات، فإن من خلف مثلك ما مات، فإنك نعم الخلف، كما كان رحمه الله نعم السلف، ونعتني بالعلم والفضل التام، وشهّرني بذلك عند الخاص والعام، وسألني ابتداءً منه فيما لنا من الحاجات والأشغال، لتقضى بإذن الله تعالى على أكمل الأحوال، والله تعالى هو المأمول، في المقاصد كلها والمسؤول، في قضاء الحاجات جلّها وقلّها، وسألني عن محل النزول فقلت له الآن في عمارة السُّلطان محمد ويريد مولانا السيد أن ينزلنا عنده؛ فقد أخلى لنا مكاناً حسناً وأفرد، فقال: تقدمنا السيد وسبق، وإلاّ فنحن كنا بذلك أحق. وحصل منه من التواضع والرقة ما لا يعبر عنه ولم يصدر في حق أحد غيرنا منه ولله تعالى الحمد أهل الثناء والمجد، ثم اجتمعت به ببيته بالمدينة ثاني مرّة، فبالغ في الإكرام والمبرّة، وأظهر غاية البشر والمسرّة، وأهديت له مهاداة الأحباب، مُصْحَفاً معظماً بخط ابن البَوّاب، وبُرْدَة لطيفة، وسُبْحَة بَلُّور ظريفة، فقابل ذلك بالإقبال والقبول والتقبيل، وأنزل منزلة الكثير ذلك النزر القليل، وقرأ في المُصْحَف في أماكن عدّة، ثم قرأ بعض أبيات من البُرْدَة، وسألني عن معناها، فأجبته بأجوبة ارتضاها، وسألني: هل المعوذتان من القرآن قطعاً أو هما من قبيل التعوذ؟ فقلت له:

هما من القرآن قطعاً. وأمّا ما نقل عن ابن مَسْعود أنّه أسقطهما من مُصْحَفه وأنكر كونهما قرآناً؛ فعنه أجوبة منها أنّ هذا النقل لم يصح عن ابن مَسْعود كما قال الفخر الرَّازيّ وابن حزم في المحلى وغيرهما، وعليه شيخ الإسلام محيي الدين النوويّ، ومنها أنّه إنّما أنكر كتابتهما لا كونهما قرآناً، لأنّه كانت السُّنَّة عنده أن لا يكتب في المُصْحَف إلاّ ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته فيه، ولم يجده كتب ذلك ولا سمعه أمر به، وعليه القاضي أبو بكر وغيره، واستحسنه ابن حَجَر ورد الجواب الأول بصحة النقل عن ابن مَسْعود بإسقاطهما من مُصْحَفه من طريق أحمد وابنه وابن حبّان والطبرانيّ وغيرهم، ومنها أنّه لم يستقر عنده القطع بأنهما من القرآن، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك، وحاصله أنهما كانتا متواترتين في عصره، لكنهما لم تتواترا عنده لا أنهما تواترا بعد ذلك، لما يلزم عليه من أنّ القرآن أو بعضه ليس بمتواتر في الأصل، وهذا الجواب لابن الصبّاغ وهو حسن. وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مَسْعود أنّ المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين رضي الله عنهما فأقام على ظنه، ولا نقول إنّه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار، ومما يؤيد قوله رواية الدارقطنيّ والبزار عنه أنّه كان يحكِ المعوذتين من المصحف ويقول: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ بهما فأعجبه ذلك جداً وسألني في كتابته، ثم عَنّ لي كتابة شرح مختصر لطيف على البُرْدَة، فكتبته في مدّة يسيرة، وسميته الزُّبْدَة، وآخر على آية الكرسي محرر مطوَّل، ففرغ في مدة يسيرة وتكمل، وبيّضت للوزير نسخة بالأوّل، ففرح بها غاية الفرح، وسرّ كثيراً وانشرح، ثم اجتمع به قاضي العسكر قادري جلبي، فكلمه

وأكد عليه بسببي وقال: كل (ما هو) متعلق به فهو متعلق بي، وأمره بالاعتناء بشأني من كل الوجوه، وقال: ليس لي صديق في الشَّام إلاّ هذا الرجل وأبوه، وأمرني بالاجتماع بالقاضي المشار إليه للمعرفة به والسلام عليه، فأكرم غاية الإكرام، وبالغ في التعظيم والاحترام، ووعد بقضاء الأشغال على التمام، وصار بيننا وبينه صحبة ومودّة ومحبة، واجتمعت بمولانا الوزير، والمدبر المشير، قسيم المشار إليه، وتاليه وعاضده ومواليه، المقر الكريم العالي المولوي الأمير الكبير الزعيم المشير الذخري العضدي الممهدي الموطدي، فخر الملوك والسَّلاطين، ذخر الفقراء والمساكين، آصف الزمان وفريد الأوان، ضالة الناشىء الناشد، وبغية القاصي العاضد، وحديقة الرأي الرائد، غيث الندى الغائث، وليث الوغا اللايث، مولانا قاسم باشا الوزير الثالث: خلّى له عن طريقِ المجدِ حاسدُهُ ... ومرّ ساحلَ صوبَ العارض الهَطِلِ حلمٌ وعَزْمٌ ورأيٌ محصدٌ وندا ... سبحان جامع هذا الفَضْلِ في رجلِ فأهّل غاية التأهيل، وبالغ في الإكرام والتبجيل، والتمس ما لنا من الضرورات والمهمات، ليسعى في قضائها على أكمل الحالات، والله تعالى هو المأمول والمقصود والمسؤول. وصار بيننا وبين المشار إليه صداقة ومحبّة ومودّة ومؤانسة وصحبة، والله

تعالى يعاملنا وإياه بخفي ألطافه ووفي عونه وإسعافه بمنه وكرمه آمين). هذا كله وأرباب الدولة مشتغلون بمهم الخِتَان، المتعلق بأولاد مولانا السُّلطان، وليس ثم موكب ولا ديوان، واستمر ذلك مدة وأيّاماً عدة، استوعبت غالب شهر ذي القعدة، فلما انفتح الديوان مفتتح ذي الحجة الحرام، اهتم الوزير بحاجتنا غاية الاهتمام، والتمس منا كتابة ورقة بما نطلبه، وما نحن بصدده، فكتبناها فسلّمها هو لقاضي العسكر بيده، وأكد عليه بسبب ذلك ووصى، فبادر ذلك سفر السُّلطان إلى مدينة برصاه وصحبه إبراهيم باشا الوزير الأعظم، ثم كان عودهما في أواخر شهر المحرم، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما جرى بعد ذلك من بلوغ المرام، ثم العود الى بلاد الشَّام إن شاء الله تعالى، ولنلتفت الآن الى سياق التنقلات فى المنازل الرُّوميّة والتفضلات الرحيميّة، فأقول: لمّا نزلت بعمارة السُّلطان محمد، وانفردت بذلك المكان المفرد، وصرت بين أهل تلك المدينة كالشامة البيضاء فى الثور الأسود، أعاني الغربة وأقاسي الكربة، لا أجد مألفاً ولا صديقاً ولا أنيساً ولا شفيقاً ولا رفيقاً رفيقا، فاستوحش قلبي، وطاش لبي، وزاد كربي، وعظم خطبي، وضاق صدري، وقلّ صبري، وترادفت عليّ هموم، وتواردت لديّ غموم، من ذلك فراق الوالدة والأولاد والأهل، وارتكاب خطة أمر لم يكن بالهين ولا بالسهل، ودخولي في أمر لم أعتده، وشأن لم آلفه ولم

أرتده وأعهده، وكنت سمعت من متمعقلين بالشَّام بأنّ هؤلاء الأروام لا يعرفون مقدار أحد، ولا يلتفتون إلى من صدر أو ورد، فزادني ذلك فرقاً، وأكسبني وسواساً وقلقاً، فألقى الله سبحانه على الجنان، ما نطق به اللسان، وأبان عنه البيان، وجرى به البنان، فقلت: إلى الله في كل الأمور توسلي ... بهادي الورى المختار أشرفَ مُرْسَلِ محمدٍ المبعوثِ من آل هاشمٍ ... إلى الخلْقِ بالدين القويمِ المكمَلِ لقد خُصَّ بالإرسالِ حقاً بآخِرٍ ... كما خُصَّ في الإنشاءِ خلقاً بأولِ رفعتُ إليه قصتي من حوادثٍ ... وَهَى جَلَدي منها وقلَّ تحمُّلي ألا يا رسول الله أني عائذٌ ... بجاهِكِ من خَطْبٍ عَراني مُجلّلِ فراقٌ لأولادي وأمي وعشرتي ... وأهلي وأصحابي وداري ومنزلي وتشتيتُ شملي في البلاد وغُربتي ... بغير شفوقٍ لي عليه مُعوّلي وقَصْدِي لحاجاتٍ أروم قضاءَِها ... سريعاً وأخشى أنها لا تعجّلِ ويخفِقُ من إخفاقها القلبُ سيدي ... ويؤنِسُه علمي بأنك موئلي وخوفي من كيدِ الحسود ومكرِه ... ومن قصدِه بغياً إصابةَ مقتلي

ومن ذلّ نفسي عند إعراض مدبرٍ ... وفتنةِ تعظيمٍ لإقبالِ مقبلِ وكثرةِ تردادي لبابٍ محجّبٍ ... عزيزٍ إليه كلّ وقتٍ تَوَصُلي ومن رؤيتي غيرَ الإله وفعلهِ ... لدي كل حالٍ مجمل ومفصّلِ فقوتي منها الله ثم وسيلتي ... محمد الهادي النبي المفضَّلِ فليس على غيرِ الإله توكلي ... وليس بغير الهاشمي توسُلي فببركة التوجه إلى الله الملك العلام، والتوسل بنبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لم يقابلنا أحد من الأكابر إلاّ بغاية الإكرام والتعظيم والتبجيل والاحترام، والله تعالى هو المأمول في نجاح المطالب وبلوغ المآرب إنه سبحانه لا يخيب من توكّل عليه، والتجأ في كل أموره إليه، وكان من تمام السعد والتوفيق، الانتماء إلى جناب الجَنَاب الكريم العريق، الصَّديق الصديق، بل الشقيق الشفيق، بل الركن الوثيق، والسيد على التحقيق، ذي الحسب الصميم الظاهر، والنسب الكريم الطاهر، والجلال الباهي الباهر، والجمال الزاهي الزاهر، والكمال المتجلي في أعلى كمالات المظاهر، والفضل الذي تطفَّل الفاضل على موائده، واستسقى من نمير موارده، والبيت الذي نمي على قواعد الدِّين بل نمي الدِّين على قواعده، فقام على أرفع أركان وأثبت أساس، وارتفع بالفضل على سائر الناس، كيف وبانيه عمّ النبي صلّى الله عليه

وسلم أبو الفضل العباس، فهو ابن عمّ من ختمت به الرسالة والنبوة، وعمته بركة العمومة الزاكية والبنوَّة، السيد الكريم والسند العظيم الإمام بدر الدِّين أبو الفتح عبد الرحيم، فأنزلني بمنزل جوار منزله، وأنهلني من صافي منهله، وأغدق عليَّ سبب فضله وتفضله، فأقمنا بذلك المنزل حيناً من الدهر نحو شهر ونصف شهر، ثم انتقلنا إلى مكان نفيس لطيف حسن أنيس، أخلاه لنا داخل داره، بالقرب من مكانه الذّي هو مقيم به وجواره، فلم نزل مدة مقامنا في حماه وجواره، فكان لنا جاراً كجار إبي دُواد، وغمرتنا منه بوالغ نعم وسوابغ أياد، وأنالنا من شمول لطفه ولطف شمائله ما برَّد الكبد وأثلج الفؤاد، ومن القرب إلى حضرته ما خفف عن القلب حرّ نيران البعاد، أخالُني بمجالسته جليس القَعْقَاع بن شَوْر، وأقتطف من مؤانسته أنيق ثمر وأعبق نور، وأجتني من مفاكهاته الجنيات ما هو ألذ من فاكهة الجنات، وأتحلى بزلال بحره المتدفق الجاري، وأتجلّى بعقد نظمه الفائق على الدّرر بل الدراري، وأجمع من زهر منثوره ما فاق عَرار نجد، وسما على شذا البان والرند، وأربى على عرف النرجس والورد، وأنبسط في داره تبسطي في داري وأبلغ،

وأتنعم في ظلال جواره بأخفض عيش وأرفع وأرفغ، وأتفيأ من ظلاله أورف ظل وأسبغ، فألفى منه ركناً عظيماً، ومأوىً كريماً، وأباً براً رحيماً، فكان حكاية بعض ذلك الحال ما أنشده طفيل الغَنَويّ، فقال: جزى الله خيراً جعفراً حين أزْلَقت ... بنا نعلُنَا في الواطئينَ فَزَلَّتِ أبَو أن يَملُّونا ولو أنّ أمَّنا ... تُلاقي الذي يَلقَوْنَ منا لمَلّتِ هُم خَلَطونا في النفوسِ وألجأوا ... إلى حُجُراتٍ أدفَأتْ وأظَلَّتِ وقد كتبت عنه أشياء تفوق الحصر، وكتب عني أشياء قصد بها حصول الرفعة والجبر، فمّما كتبته عنه واستفدته منه مؤلَّفه شرح المقامات، وهو عجيب في بابه، ولم يكمل إلى الآن. وشرحه على الخَزْرجيّة، وهو جامع حسن، وشرحه على شواهد التلخيص المسمّى بمعاهد التنصيص، وقد لخصته في منزله في مختصر سميته تقريب المعاهد، وغير ذلك من مؤلفاته ومروياته، وحكى لي عن بعض مشايخ الكبار أنّ العالمة المحدثة فاطِمَة بنت المنجا التَّنُوخِيَّة كانت متزوجة برجل دونها في الفضل، ثم تغاضبا وتفارقا فلامها بعض تلامذتها على فراقه، فأنشدت:

لما رأيتُ الودَّ منه قد انقضى ... وأراد حبلَ الوصل أن يتمزَّقَا فارقتُه ونفضتُ من يدهِ يدي ... وقرأتُ لي وله وأن يتفرَّقَا ونقل بلفظه وقرأته بخطه ما حكى أنّ الرشيد أجرى الخيل يوماً بالرَّقّة، فوقف متلوماً حتى طلعت، فإذا في أولها فرسَان في عنان، فتأملهما فقال: فرسي والله، ثم تبين وقال: وفرس ابني عبد الله، فجاء الفرسَان أمام الخيل، فرسه السابق وفرس المأمون المُصَلِّي فسرّ بذلك. قال الأصْمَعي: فقلت للفضل يا أبا العبّاس هذا من أيّامي فاحتل بأن توصلني فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الأصْمَعي قد أعدَّ في أمر الفرسين شيئاً يزيد به سرور أمير المؤمنين، فقال هات يا أصْمَعي. قلت: يا أمير المؤمنين كنت وابنك اليوم وفرساكما كما قالت الخَنْساء، وقد قيل لها كدت تفضلين أخاك على أبيك: جَارَى أَباهُ فأقْبَلا وَهُمَا ... يَتَعاوَرَانِ مُلاَءةَ الحُضْرِ وَهُما كأَنَّهُما وَقَد برَزَا ... صَقْرانِ قد حَطَّا على وَكْرِ حتى إذا جدَّ الجراءُ وقَدْ ... ساوت هُنَاكَ العُذْرَ بالعُذْرِ وَعَلاَ هُتَافُ النَّاسِ أيُّهُما؟ ... قَالَ المُجِيبُ هُنَاكَ لا أدْري

برقتْ صفحةُ وَجْهِ والدِهِ ... ومَضى عَلَى غراتِهِ يَجْري أوْلى فأوْلى أنْ يُسَاوِيَهُ ... لوْلا جَلالُ السِِّنِّ والكِِبْرِ قيل لأبي عبيد: ليس هذا في مجموع شعرها، فقال: العامة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا قولها مُلاَءَة الحُضْر، يعني به غبرة الفرسين اللذين أثاراهما جعلتهما كأنهما يرتديان بها ويتجاذبانها. ونقل أن عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين كانتا تحت مُصْعب بن الزبير فحجتا معاً ومحملاهما متعادلان، فأنشد حادي عائشة: عائشَ يا ذاتَ الحِمالِ السِّتين ... لا زِلْتِ مذ عِشْتِ كذا تَحُجِّين فأجابه حادي سُكينة: عائش ما ذي ضَرَّةٌ تشنوكِ ... لولا أَبوها ما اهتدى أبوك فقالت عائشةُ لحاديها: أكفف، والقصة مشهورة. وحكى لي عن الشيخ العَلاَّمة زين الدِّين الأسديّ أنّه حكى له عمن نقل عن قاضي القُضاة صدر الدِّين المناويّ أنه قرأ قول الخَنْساء في أخيها:

ولوْلا كَثرَةُ البَاكينَ حَوْلي ... عَلَى أمواتهم لقَتَلْتُ نَفْسي ومَا يَبْكُونَ مثلَ أخي وَلكِنْ ... أُسلّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي فصحفها وما بيكون بتقديم الباء الموحدَة، واحتج به على جواز إدخال الباء على الفعل المضارع كما هو في ألسنة العوام، فذكر ذلك للركراكيّ قاضي القضاة المالكيّ فأظهر استحسان ذلك، وحَسَن له أن يذكره بحضرة السُّلطان وكان في نفسه منه شيء، فلما ذكر ذلك بحضرة السُّلطان، قال المالكيّ: لعلّ هذا تصحف على مولانا، وإنما هو يبكون بتقديم الياء المثناة من تحت، فخجل صدر الدِّين، ويقال إنّ ذلك كان سبب موته والله تعالى أعلم. وأنشدني للعلاّمة المُحَقِّق الشيخ شهاب الدِّين بن شُقَير التُّونسيّ رحمه الله: سائلي عن قضيتي في البراغيث ... خُذ الشرحَ إن أردتَ التّقصّي نحن فيها ما بين قَتْل وفتْلٍ ... وهي فينا ما بين قَرْصٍ ورَقْصِ وذكر أنّه أنشده أيضاً لنفسه أو غيره يهجو، وهو نوع لطيف: جماعةٌ كلّهم قشورُ ... ما فيهم واحدٌ لبابُ

رابعهم كلبهم ولكن ... من حيثُ ما يبدو الحسابُ وأنشدني لسيدي الوالد شيخ الإسلام رضي الله عنه مما أنشده إياه، وكان قد رآه راكباً في موكب السائر شخصاً أسود يقال له عبد القادر العدويّ: لما رأيت البدرَ سائر أسوداً ... في موكبٍ متلاطمِ الأمواجِ ناديتهم لا تعجبوا من شأنِه ... البدرُ يسري مع ظلامٍ داجي وحكى عن سيدي الوالد رضي الله عنه وأمدّنا بمدده في الدنيا والآخرة، أنّ ممّا وقع له معه وهو نازل عنده في بيته مختفياً في قَيْطُون بيت ابن حجر ببركة الرطلي من القَاهِرَة أنه كان كثيراً من الليالي ما يوقظه للقيام، ويسمع صوته عند رأسه يقول: يا هو قم. وبينه وبينه ثلاثة أبواب مغلقة، وأنه كان كثير التغلّق إذ ذاك، فقال له هذه خلوة حصلت لك فلا تخرج منها حتى تبلغ الأربعين فكان كذلك. وحكى لي عنه رضي الله عنه أنه حكى له أنه كان مغرماً بحب الجمال، فأراه الله تعالى في عالم الحسن صورة حورية، فانتسخ ذلك من قلبه بالكليّة، وأخبرني أنه كان جالساً بحضرته يوماً، رضي الله عنه، فدخل رجل يقال له وفا الجوهريّ وهو من محبيه وهو متغير الوجه فسأله عن حاله، فقال: يا سيدي رأيت الليلة مناماً وأنسيته، فقال له رضي الله عنه وهو يضحك: أُخبرك به؟ فقال: نعم، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبرك أن أجلك اقترب فتيقظ لنفسك، فصرخ وفا

صرخة كادت روحه تخرج معها، وقال: نعم، هكذا والله رأيت، ثم قام من المجلس وهو مضطرب متواجد، فما كان إلاّ دون الشهر ومات وفا المذكور. وحكى لي عنه أيضاً غير ذلك، وكراماته رضي الله عنه أكثر من أن تُحْصَر، وقد ذكرت منها جانباً في القصيدة القافيّة التي رثيته بها، وسأذكرها قريباً إن شاء الله تعالى. وأخبرني عن قاضي القضاة محب الدِّين بن الشِّحْنَة عمن ينقل عنه من أهل العرفان والعلم، أنّ من قرأ آية الكرسي إحدى عشرة مرة عند قصده حاجة أو دخوله على كبير، فإنه يقضي حاجته ويعظم في عين ذلك الكبير، ولم يزل في حرز وحماية ونجاح مقصد وكفاية، (وقد نقلت ذلك أيضاً عن بعض من اعتقد فيه الصلاح، وذكر أنها تقرأ سبع عشرة مرَّة)، ونقل عن بعض الصلحاء من أهل مِصْر أنه من قرأ بعد العُطَاس فاتحة الكتاب ثم قوله تعالى: (قال من يُحيى العِظَامَ وَهيَ رَمِيم، قل يُحيها الذي أنشأها أول مَرَّةٍ وهو بِكلِ خلقٍ عَليم) ومرّ بلسانه على أسنانه جميعها، فإنها تحفظ من الآفات، ولا يصيبه منها سوء، ومما أنشدنا إياه من نظمه، فسح الله في أجله، ونفع بعلمه قوله، وهو معنى مخترع: أحبُّ من البريّةِ كلَّ سَمْحٍ ... قريب المستقى سَهْلَ القيادِ إذا ناداه مُفْتقِرٌ لبرٍّ ... أجابَ نداهُ قبل صَدَى المنادي وقوله مضمناً: دَعْ الهوى واعزُمْ على ... فِعْل التُّقى ولا تَسَلْ فآفة الرأي الهوى ... وآفة العَجْز الكَسَلْ

وقوله أيضاً: افعلْ جميلاً وانْسَه تُحصِه ... من سرِّه يدري ونجواه فإن أسنى حُلَّة لامرئٍ ... أن يفعلَ الخيرَ وينساه وقوله وقد جلس فوقه في مجلس بعض الرؤساء جاهل: إن يقعد الجاهلُ فوْقي ولمْ ... يَرْعَ ذمامَ العلمِ والأصْلِ فالشمسُ يعلو زُحَلٌ أوجَها ... وهي على الغاية في الفضلِ وقوله: كثير من الخلان يبدي تملقاً ... وفي قلبه داءٌ من الشر موبقُ كبحرٍ أُجاجٍ لا يسوغُ مذاقُهُ ... يُرِيكَ صَفاءً قاعُهُ وهو مغرِقُ وقوله: في الدهر قومٌ ملئت نفوسُهم من خبثِ أجدُّ في فراق ما قد ألِفوا من رفثِ اغسل رجلي فإنك نويت رفعَ الحدثِ

وقوله: حالُ المقلّ لم يزلْ ... يشكو اضطراراً مَسَّهُ يقول لما ضيفه ... يُذْهب عنه أُنسهُ إنّ الذي يزورني ... يظلمني ونفسَهُ وقوله: يا واهباً غفرانَه لمن أعزّ شأنه ... هبْ لفؤادي قوةً تزِدْ به إيمانَه حتّى يقول دائماً لمن يرى جثمانه ... سبحانه سبحانه سبحانه سبحانه وقوله: أرى الدّهرَ يسعِفُ جُهَّاله ... فأوفرُ حظّ به الجَاهِلُ وانظر حَظِي به ناقصاً ... أيحسَبُنِي أنني فاضلُ فأجبته بديهة بقولي: أعَبْدَ الرحيمِ سَليلَ العُلا ... ويا فاضِلاً دونه الفاضِلُ

أتَعْتَب دهراً غداً موقناً ... بأنك في أهله الكامِلُ وقوله أحجية: يا سيداً قد تسامى ... عن كلِ شين ومقتِ ما بنورِه منتهاها ... مرادف غِبَّ وقتِ فأجبته بقولي: يا سيداً ذا نعوت ... علَتْ على كل نَعْتِ لعلّ آخر صَادٍ ... بما تحاجيه يأتي وبقولي أيضاً: يا بحرَ علم وجودٍ ... لكل غادٍ وصَادِ لعل ذا اللغز يأتي ... في ختمٍ سورة صادِ ومن الغرائب ما سمعه في المنام، وقد مات السُّلطان سليم خان، وأُخْفِي موَتُه إلى أن يحضر ولده سليمان:

قُل لشياطينَ البغاة اخسئوا ... قد أوتي الملك سُلَيمان وأخبرني أنه رأى نفسه في المنام وهو ينشد ويشير للأديب علاء الدِّين ابن مُلَيك وكان حيّاً: هذا الأديبُ لص نشَّال ... في كلّ بيتٍ كمْ لو خزيَهْ يبطُّ يشْرُطُ ويشْتَالُ ... وَيْش يعملوا أهلُ قطيَهْ وكتب لبعض الأكابر وقد التمس منه حاجة ففوّض قضاءها لرجل اسمه صالح قوله: يا مظْهرَ الآمل والمرتجي ... ومَفْخَر الحامِد والمادحِ خالص ودي لم يكن فَاسِدَاً ... فلا تَكِلْ أمري إلى صالحِ وكتب لقاضي قُسْطَنْطِينيَّة سعدي، وقد عَمَّر منزلاً وسكن فيه يوم النيروز قوله: يا عظيماً دونَه شمسُ الضحى ... بدليل قطٍ ما فيه خفا

هي بالمنزل تعطى شرفاً ... وبك المنزل يُعطى الشرفا وأنشدني أول اجتماعي به في بيته بمنزلة القُسْطَنْطِينيّة في هذه الرحلة قوله: عَجِبَ الأنامُ لنورِ قُطْرٍ زُرْتَه ... يا ذا العُلا والمجدِ والتمكين فعجبتُ من إعجابهم وأجبتهم ... لمَ لا يُضِيءُ الكونَ بدرُ الدينِ وأنشدني من قصائده الطوال، حرس الله ذاته من عين الكمال، شيئاً كثيراً كتبت منها جملة في غير هذا الكتاب، واخترت أن أذكر هنا منها ما أَرْسَلهُ لشيخ الإسلام الوالد ضمن كتاب وهو قوله: يا فؤادي وأين مني فؤادي ... لستُ أدريه ضلَّ في أي وادِ شُعَبُ الحبِ قد تشعّبَ قلبي ... في ذراها وغابَ عنه الهادي يا خليليّ إن تَمُرَّا بلَعْل ... فانشداهُ ما بين تلك الوهادِ وهو في قبضةِ الغرامِ أسيرٌ ... دون فادٍ أو هالك دون وادي ليس غيرُ الصّدى يردُّ جواباً ... لي عنه في حالةِ الإنشادِ كلما قلتُ أينَ ضَلّ فؤادي ... رَدّ لي منه أينَ ضَلّ فؤادي كم ليالٍ سهرتُها وسميري ... في دُجَاها زُهْرُ النجومِ البوادي

أذْرَعُ الأفْقَ بين شرقٍ وغربٍ ... بجفونٍ تعافُ طيبَ الرَّقَادِ أحسنتُ صَنْعةَ البديعِ فوافتْ ... بِجِناسٍ بين السّها والسُّهاد وكذاك الطِباق لاح فصبري ... في انتقاصٍ ومَدمعي في ازديادِ والصباح استعار من هَجْرِ حُبي ... حُلّةً أورثته طُولَ التمَادِي فترى الطّرفَ في ارتقابِ سناه ... مثل رُقْبَى أهِلّةِ الأعيَادِ لو بدا لي وجهُ الرَّضِيّ لأغْنَى ... عن سناه بنورهِ الوقّادِ سيدٌ لم يزلْ يَمُدّ مواليه ... بفيضٍ من أغزرِ الأمدادِ ولعبد الرحيم رَحْمَى لَديْهِ ... هو في ظلها وثيرُ المِهَادِ لم يزلْ منه لي نتائجَ لطفٍ ... غادياتٌ تفوقُ سحَّ الغوادي والتفاتٍ بخاطرٍ حائلٍ ما ... بين حالي وبين أهلِ العنادِ وسلوكٍ على طريقٍ قويمٍ ... مُوصِل هَديُه لنهجِ الرشادِ لستُ أنسى لياليا بِحمَاهُ ... بتُّ فيها قريرَ عينِ الودَادِ راتعاً من ولائها في برودٍ ... نَسْجُها محكمٍ بِصُنْعِ الأيادِ

وظلالٍ من فيضِهِ سابغاتٍ ... لم يزلْ في جبرها فيَّ امتدادِ وتلافٍ لمّا بدا من تلافٍ ... بصلاح يزيل عَيْثَ الفسادِ ليتَ أيامُنا المواضي تفدّى ... بالبواقي من جالباتِ البعادِ فله في الحَشَا اضطرامُ لهيبٍ ... ليس يُطْفى بغير نيل المرادِ حقّق الله في التلاقي رجاءً ... هو للنفس أشرفُ الأزوادِ وأزاحَ الأعذارَ عنه وحيَّا ... وأراح الفؤادَ ممّا يعادي يا وليِّ الوجودِ عَطفاً على من ... هو من مُنْتداك في خير نادِ ما له غيرُ ظلِّ جودك ظلٌ ... فهو يعدو به على كلِ عادِ دمتَ للعالمين بحرُ علومٍ ... يرتوي منه كلّ صادٍ وغادي ولشيخِ الشيوخ نجلك سعد ... ذو نمو من مالك الإسعادِ ومعاليه قرّة لعيونٍ ... من نوالٍ وسخنة للمعادي ما أذيل اللقاء من يوم بين ... وأعاد السرور لطفَ المعادِ

وما كتبه أيضاً لشيخ الإسلام أيضاً ضمن مطالعة وأراد إرسالها صحبة مولانا حاجي جلبي حين قدم الشَّام حَاجّاً، ثم لم يتيسر إرسالها معه فأرسلها صحبة غيره، واختصر منها الأبيات المتعلقة بالمشار إليه: هل لي إلى سُبل اللقاءِ وُصُولُ ... لأرى وحبل مسرتي موصولُ وتقرّ عينٌ طالما باتت به ... والجفن معها بالقذا مكحُولُ ويقرّ قلبٌ دائم خفقانه ... ويصحّ جسْمٌ بالأسى مَعْلولُ وأقولُ غفرا للذي جَنَتِ النّوى ... وأحيدُ عن ذمّي لها وأحولُ وأرى الذي فوقَ العنان محلُّه ... رأي العَيان وينقضي التخييلُ وتزولَ أوهام الحُلُوم وينتهي ... شبه يحقّق دَرْكَها التأميلُ فهنالك الآمالُ يذهبُ عينُها ... ويفوت وسواسٌ بها ويزولُ وأرى محيّاه رضياً كاسمه ... عني وبرغمِ حاسدٍ وجهولُ فهو المنى والقصدُ والسؤلُ الذي ... أبغيه والمرجوّ والمأمولُ يا من به وبحبِهِ وولائه ... أحيا وأُقْبَرُ لستُ عنه أزولُ عودتني بلطيف برٍّ عادةً ... كم عادَ لي مما تُعِيدُ جميلُ

ترتاحُ روحي عندَ لقياها كما ... يرتاحُ من روح الشّفاءُ عليلُ ويهزُّني عند إذكاري لطْفها ... طربٌ كما هزَّ الحكيمَ شمولُ وأظلّ مرتقباً طلوعَ سعودِها ... رُقْبى الهلال وقد أطلَّ حلولُ والآن إبطاءُ سيبها في سحّه ... وغَدَتْ رياض الأنس وهي محولُ وذوتْ غروس أنت غارسها ومِنْ ... شأن السحابِ تكرم وهطولُ فابلل بها رَمَقاً متى أهمَلْتَه ... حُقَّ الفناء وحُتّم التَحْويلُ ولأنت أكرم شيمة من أن يرى ... لك سائل والدمع منه يسيلُ واهنأ بلقيا سيد فرع الورى ... عِلْماً وقد طابت لديه أصولُ متفرّدُ جمعت حسان خلالِهِ ... غرراً لها زهرُ السّماءِ حُجولُ عرف المعارفَ قد تضوّع نشرهُ ... منه وبقولهِ عليه دليلُ حَسْبُ المشيد به اختصارُ حديثه ... متعمداً فالشرحُ فيه يطولُ يهوى لقاكَ بالسَّماع وقد أبى ... إلاّ العيان فجدَّ منه رحيلُ

وإذا التقى البحران قُلْ في مجمعِ ... البحرين مهما شئت فهو قليلُ والعبدُ في حال التلاقي راغبٌ ... في دعوةٍ تعطى المُنَى وتُنيلُ لا زلْتَ ظلاً سابغاً يأوي لهُ ... من كان في طلبِ الخلاصِ يجولُ ولنجلك البدريّ أسنى رتبةٍ ... تسمو إليها هِمّةٌ وتميلُ ويدومُ كهفاً للأنام وملجأً ... في ظلّه تأوي الورى وتقيلُ ما سُلَّ سيفُ الفجرِ من غِمْدِ الدُّجى ... وَبَدا بكف الشّرقِ وهو صقيلُ وما كتبه له أيضاً ضمن مطالعة من أدرنة: مُحبّك فيك كما تعهدُ ... من الودِّ والشوقِ بل أزيدُ يرى كلّما بعدت دارُه ... صباباته عنه لا تبعدُ ومهما تقادَم عهدُ اللقاء ... جديداً تلهفُهُ يوجدُ فأنَّى وكيف ومن أين ... للدنوِّ سَبيلُ إذا يُقْصَدُ وكم بيننا جبلٌ شاهقٌ ... تخلّلَ ساحَته فَدْفَدُ وسد من المنع أسوارة ... تسوّرها قطّ لا يحددُ

ولكن إذا جاء عونُ الإله ... تسهّلَ ما كان يستمردُ فيا واحداً في العُلَى والنهى ... وهل فيهما غيرك الأوحدُ رضي القلبِ منك منأى الذي ... له طولُ دهري استرفدُ فكُنْ كاسمك المجتبى إنه ... لطِبْق مُسَمّاك إذ يوردُ ولا تخلني من دعاءٍ بهِ ... رجائي قويٌّ لما أقصدُ فلي مددٌ منه أحيا به ... وبعد الممات إذا أُلحَدُ بقيتَ من الله في نعمةٍ ... تفوق يدَ الحصر إذا تُعْدَدُ ونجلُك بحرُ العلوم الذي ... يزيدُ على البحرِ إذ يزبدُ ولا زلتما نيرّي دَهْرِنَا ... عَظيميهِ ما وُجِدَ الفرقدُ وكتب إليه وامتدحه بقصائد أخرى كثيرة، ذكرتُ غالبها في غير هذا الكتاب، وكتب إلى المرحوم ملك الأمراء كافل المملكة الشَّاميّة الأمير أركماس، وقد لبس خلعة:

قد أمكنتْ فُرص الإقبال فانتهزِ ... وحُلْ موعَدها بالسَّعدِ فانتجزِ واركَبْ إليها براقَ العزم وامضِ لها ... كالبرقِ يومضُ خِفَافاً على نَشِزِ واجذبْ عنانَ الأماني غيرَ محترسٍ ... وخذ بفودِ المعالي غيرَ مُحترزِ واهززْ بكفِ اقتدارٍ كل ذي ميسٍ ... واطعنْ به كلَّ قلب غير ذي ميزِ وأمدد يمينك للاجىء بمكرُمَةٍ ... وابسطْ يسارك للمسترْفِد العوزِ وسُسْ بحزمك ما في الناس من مرحجٍ ... ورُضْ بعزمكَ حدّ الجامحِ النَشِزِ وحاذرْ الخلقَ واصحبهم على دخلٍ ... ولا تدع حالةَ المستوفزِ الحَفِزِ واستعمل الحزم في كلّ الأُمور فمَنْ ... يضيّعِ الحزم لم يظفرْ ولم يَفُزِ واهنأ بخلعة عزّ بالوفا ورَدَتْ ... وبالهناء قد غَدَتْ مرقومةَ الطرزِ واخلَعْ بلُبْسك إياها قلوبَ عِداً ... وجُوههم قبحت من شدّة الشَّمزِ وأعذرْ بفضلكَ في تقليل عدّتها ... فالعذرُ أوضحُ من شمس على وَشَزِ ضاقت عليَّ قوافيها ألم ترني ... أتيت بعد نفيس الدُّر بالخَرَزِ

لو كان لي بَسْطُ عيشٍ كان لي لسنٌ ... لذي البلاغة لم يحوج ولم يَعُزِ يا مَنْ بأخلاقه فاتَ الملوك عُلا ... كما تفاوت بين الصّدرِ والعجزِ ومن بنائله أحيا الوجودَ كما ... يحيي الحَيا حين يهمي ميتُ الجُرزِ دُمْ وابق واسلمْ وجُزْ في دولةٍ وعُلا ... ما لم يحاوله مخلوقٌ ولم يَحُزِ واستجلها بنتُ فِكْرٍٍ في مروط سنا ... لغيرِ مجدكِ لم تُملَكْ ولم تُحزِ زائيةٌ لم تدعْ مرمى لذي غرضٍ ... ولو أتى ببسيطِ القولِ والرّجزِ كفيلةٌ للذي يأتي يعارِضُها ... أن لا يعود بغيرِ الهزؤ والطّنزِ واسمحْ لها بقبولٍ منك يجبرها ... ولو بلَحْظٍ من الإيماءِ والرمزِ وكتب إلى القاضي سعدي بن عيسى قاضي القُسْطَنْطِينيّة: قرّتْ عيون العُلا مُذْ بتَّ راعيها ... وبالثناء شَدَتْ إذْ صِرْت داعيها ومنك قد أشرقت أيامها وغدت ... من مدّها بالسنا بيضاً لياليها

وكيف لا يبهج الأيام سؤود مَنْ ... سمت معاليه عن قرم يساميها لا تسألن سوى علياه عنه تصب ... فالدار تنبئ عن مقدار بانيها كأنه نسخة في المجد مثبتة ... ومن عداه دخيل في حواشيها انظر بعينك في الأشخاص هل تر من ... يولي المعالي سواه أو يُواليها واستخبر البيض عن مقدار همته ... تُخبرك بالعجز منها عن مَواضِيْهَا واستفهم السُّمر عن أدنى عزائمه ... تجبك عن كنه علياها عَواليها يا من يقيس جداه بالسحاب أفق ... فالبحر يعجز عنها إذ يُجَارِيْها جدواه مال وجدوى السحب جود حيا ... فالفرق كالصبح يبدو في دياجيها أكرم به بشراً أنشأه بارئه ... على خلال تعالَتْ عن مُبَاريها آثاره لكن بالتفصيل مفصحة ... عن حسن ظاهرها منه وخَافيها من أين ما جئتها تظفر بمخبرها ... أمن قوادمها أم من خَوافيها تبارك الله كم من آية ظهرت ... من مجده وفم الأيام تَاليها

يكفيك أن عطاياهُ وأنعمه ... تجيب قبل صدى عافٍ يُناديها ما فيه عيب سوى أن الوفود له ... تنسى بتأهيله قربى أهاليها أقامه الله للأيام يظهر ما ... محت يد الدهر من آثار عَافيها إذا تأملته حق التأمل يا ... من ليس في قلبه بلوى يُناجيها تظن أن كرام الناس قد نشروا ... والأرض جادت على الدنيا بما فِيْها يا واحد العصر صبح الفضل منك بدا ... كالشمس في الظهر لا شيء يُواريها من مغرب الكون للشرق المنير فلا ... يرى لعلياك ذو مجد يُوازيها أين الثرى والثريَّا في كثافته ... ونورها وتجليها بزاهيها تعلم المكرمات الناس منك فقد ... أصبحت مرشدها فيهم وهَاديها كم عاطل الحال مثلي مسه كرم ... من منتداك فأمسى وهو حَاليها وكم شكى قسوة الأيام ذو كربٍ ... فما انثنى عنك إلاّ لان قَاسِيْها وراضها منك تدبير ومرحمة ... فأبدلته بوصل من تَجَافِيْها وكم غدت سحب الإحسان ممسكة ... وجود كفك يُغني عن غَواديها

إيه لعمري قذفت الأنام بما ... حويت من رتبٍ أعيت مَراقيها وحزت من شيم شام اللحاق بها ... لمعُ البروق فلم يلحق هَواديها وسدت بالسؤود المحض الذي عمرت ... ربوعه لك أخلاق تُعانيها وسعيك الجد في تأثيل مكرمةٍ ... بين البرية مشكور مَسَاعيها دم وابق واسلم لمعروفٍ تجدده ... بين الأنام لمثريها وعَافيها في دولة بدوام السعد دائرة ... والله باللطف والإسعاد حَاميها واهنأ بنور وزعام عائداً أبداً ... إليك منه مسرات تواليها في صحة واغتباط وانبساط يد ... فيما له النفس تهوى من مَراضيها وما لذاتك في الدنيا وزُخْرُفها ... شيءٌ يساوي علاها أو يُدانيها يا من بعليائه الأمثال سائرة ... ما بين حاضرها تبدو وبَاديها في مثل ذا اليوم يهدي القادرون إلى ... أربابهم غرراً تسمو غَواليها وليس لي غير مقدور الثناء فلي ... فيه حدائق قد طابت مَجانيها إن أدعها لك في حمدٍ وفي مدحٍ ... جاءت إليّ مطيعات قَوافيها

ففيه أهديت أبياتاً إذا قبلت ... أربت على دُرَرٍ تزهو مَرائيها عسى تهب لها ريح القبول فلا ... يُرَى لها شاعر يوماً يُحاكيها وعش لمجدٍ يرى الأنامُ منكَ بهِ ... مفاخراً تملأ الدنيا مَعاليها وسعد نجلك ممدود الظلال فلا ... يُرَى لعليائه نقص يُشَانيها في كل لمح له مجد يجددهُ ... محمود أخلاقه اللاتي تُراعيها ما رنحت عذبات الرند بارحة ... وما ترنم في الأدواح شَاديها ونظمه ونثره لا يعدُّ ولا يحصى، وفضائله وفواضله لا تحدُّ ولا تستقصى، وهذا القدر كاف، وبما قصدناه واف، وممّا حصل منه من الخير العام والجبر التام وغاية الأنعام، ما ألزمني بإملائه عليه، أحسن الله تعالى إليه، بعد أن أحجمت عن ذلك، وحق لمثلي أن يكون عن مثل ذلك مُحْجِماً، ورقى دمي حياءً وخجلاً، حتى لا تجد منه محجماً، وأستعفيته فما أعفى. ولم يزل جازماً ومصمماً، فأجبته إلى ذلك وإن كان فيه متهكماً، فمما كتبته بخطي وخدمت به حضرته الكريمة قصيدتي القافيّة التي رثيت بها سيدي شيخ الإسلام الوالد، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل فردوس الجنة منقلبه ومثواه، المسماة بنفث الصدر المصدور وبث القلب المحرور، وقد تقدمت الإشارةُ إليها، والوعدُ بها، وهي هذه: قلبٌ يذوب وأدمع تتدفق ... والجسم بينهما غريق مُحْرقُ وجوانح فنيت ضناً ومرائر ... شقّت وحق لمثلها يتشققُ

وتنفس الصعداء ناراً من جوى ... كبد تقطع بالأسى وتمزقُ أواه من حدث تذوب له الحشا ... وبدونه الأرواح منا تزهقُ ومصيبة عمت وطمت فالورى ... من خطبها في نار كرب تقلقُ والجو أظلم والبلاد تضوحت ... والأرض ترجف والصخور تفلقُ لم لا وشمس العلم غابت في الثرى ... أبداً وفي يوم القيامة تشرقُ وضياء عين الكون زال لفقدها ... إنسانها فإلى العلا لا ترمقُ والبحر غاض ودره متألق ... والبر فاض وسره متدفقُ قسماً بجوهر دره المكنون أو ... بمصون سر نشره يستنشقُ وبطيب عرف من علوم نشرها ... في الكون في كل المعالم يعبقُ وبحبل عرفان به مستمسك ... وإلى الوصول به له متعلقُ ما ذقت طعم النوم بعد فراقكم ... إلاّ لماظاً أو خبالاً يخنقُ أو لحظة فيها أراكم فأجبروا ... بدوامها وعلى العبيد تصدقوا

إني لأعلم أنكم لم تغفلوا ... عن عبدكم حتى بكم يستلحقُ وأنا بذا مستبشراً لكنني ... من حجب حسمان الثرى متقلقُ فلعل يرفع ذا الحجاب بسرعة ... وأفك من قيد الجسوم وأطلقُ إني سئمت من الفراق وإنني ... من مر طول زمان مرا فرقُ ليس المرؤة سادتي أن تتركوا ... ناراً بعبدكم تشب وتحرقُ أو تتركوه بعدكم يا منيتي ... بسهام أغراض المصائب يرشقُ أو تتركوه للبلاء متعرضاً ... فلقد غدا بولائكم يتدرقُ بل خلصوه من شوائبِ دهرهِ ... فعليه أنتم منه حقاً أشفقُ والعبد عبدكم ورقُ جنابكم ... والقصد منكم أنه لا يعتقُ منوا بقرب لا يقول وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنقُ بل أنت راضٍ يا رضيّ ولم تزل ... عينُ الرضى منكم إليه تحدقُ حاشاكم أن تغمضوها عنه أو ... أن تصرفوها بالقلى أو تطرقوا

يا سادتي لولاكم ما كان لي ... فضل به بين الورى أتخلقُ كلا ولا ذكر ولا صيتٌ ولا ... قد شاع أني في العلوم محققُ كلا ولا ألقيت درساً مبهجاً ... قيدت فيه أوابداً لا تلحقُ كلا ولا أبديت بحثاً فاتحاً ... باباً إلى التحقيق قد يتطرقُ كلا ولا جمعت تصانيفي التي ... سارت مسير الشمس ما يتفرقُ كلا ولا بالشيخ ادعى في الورى ... كلا ولا وفقت في ما أنطقُ كلا ولا ألبست ثوب جلاله ... متجدداً طول المدا لا يخلقُ والظن فيكم أن فيضكم الذي ... قد عمني قدماً دواماً يغدقُ حاشاكم أن تجزروا والمدد الذي ... عم العوالم سيبه المتدفقُ حاشاكم أن تتركوني ساعياً ... فيما لعل السعي فيه يخفقُ حاشاكم أن تقطعوا عاداتكم ... يا سادةً عاداتهم لا تخرقُ والخرق للعادات من سيماهم ... والعهد منهم دائم والموثقُ أو لم تقم عشراً بلا قوت ولا ... حدث وأنت بوارد مستغرقُ

هلا تركت المالكيّ بمجلس السُّلطا ... ن مطروحاً صريعاً يشهقُ لما بغى عدواً عليك ولم يفق ... حتى غدا مثواه لحد ضيقُ أنجزت في الفيقى ما أوعدته ... لما بغى عدوا فقلت سيشنقُ أنت الذي في نحو عام لم تزل ... من نزر مال باتساع تنفقُ هلا سمعت صريخ نور الدِّين من ... أرض الحِجَاز وكان باسمك يصعقُ وبِمصْرَ تخبر أنّ خالتك التي ... تدعى بزينب قد نعتها جلقُ في يوم ماتت مثلما أخبرتهم ... بوفاة أولاد وأنت مصدقُ أخبرتنا أن الجراكسة انقضت ... أيّامهم من قبل أن يتمزقوا وذكرت غربتهم وأن غرابهم ... بالبين بينهم يحوم وينعقُ وذكرتَ أن الرُّوْم تملك ملكهم ... مع أنهم لم يثبتوا أن يلتقوا والشّام تسلب منهم كالشعر سُلَّ ... من العجين وما به ما يعلقُ أو لم تخبرني بأن أخاك لا ... يبقى سبوعاً وهو حيٌ يرزقُ مع صحةٍ وسلامةٍ فبدونهِ ... قد ضمّه لحد عليه مطبقُ

أو لم تخبر أنّ زيداً لم يرح ... فعراه سقم فهو منه معوقُ أو لم تخبرني برؤيا المصطفى ... كشفاً وأسرار بوجهك تبرقُ بشرتني بالفتح والإقبال والعرفا ... ن يا قطب الوجود المطلقُ فلي الهنا أن تم ذلك سيدي ... والله أنك عارف ومحققُ ولكمْ كرامات وخرق عوائد ... ظهرت ظهور الشمس لمّا تشرقُ ولكمْ تصانيف تعد كرامة ... لكم إلى أمثالها لم تسبقوا يا بحر جوهرك الفريد لعقد كت ... ب القوم واسطة علاها رونقُ لب العوارف والرسالة إذ غدا ... فيها العشرى الأمام يدققُ أوضحتَ برهاناً به ودلائلا ... وفتحت كشفاً بات ما يستغلقُ أو ليس نظمك سيدي الثلثين في ... يوم يكون كرامة تتحققُ يا برّ عرف النفحة المسكيّ لم ... تُسْبَق له أبداً كما لا تُلحقُ يا حبر هذبت الأصول بنظمه ... درراً لوامع صنعها متأنقُ

مع سبك جمع الجوامع السبكيّ إب ... ريزاً به عقد الجواهر ينسقُ طابت فروع أنت جامع أصلها ... بالدر تثمر واللآلي تورقُ لخصتَّ تلخيصاً ومصباحاً معاً ... وفوائداً مع ما بها يتعلقُ في نحو كراس بأعذب منطق ... وبحسنه نظماً تهذب منطقُ ألفتَ شرحاً للصدور عليهما ... فتفسحت نوراً فلا تتضيقُ حلّيتَ عقد الخزرجي وجيده ... بالجود فهو مقلد ومطوّقُ ولك المداخل في السماء بهيئة ... كسيت بهاء ضؤها يتألقُ ونظمتَ عقداً في العقائد جامعاً ... لجواهر نسقت بعرف تنسقُ وسلكتَ في الأثر الشريف بسلك ... ك الدرر اللطيف مسالكاً لا تطرقُ وقلائد العقيان في تلخيصها ... نظم عجيب مستجاد مونقُ نظم اللالىء المبدعات بصنعه الخ ... ط المؤنق صنعهُ متنمقُ

والأرتماطيقي علم قل من ... يدريه أو رسماً له يتحققُ صنفتَ فيه مصنفاً ما مثله ... حسنا كضوء البدر بل هو أشرقُ وجمعتَ في علم الفلاحة جامعاً ... لملاحة فيه الفلاح محققُ أفصحتَ في نظم الفصيح وفائت ... عن حر معنى لفظه يترققُ وكشفتَ أستار الحروف وسرها ... كشفاً به رتق المغيب يفتقُ وفتحتَ عين القوم بالتنبيه عن ... أسرار نوم وهي كنز مطبقُ وبنات فكرك في العلوم عقائل ... كملت جلالاً حسنها يتعشقُ ولقد جلوتَ لنا غوامض سرها ... كالشمس يجلوها علينا المشرقُ يا محسناً في قوله وفعاله ... وصفاته في الكل أنت موفقُ فالحسن والإحسان من أخلاقكم ... خُلِقَا وضدهما لكم لا يخلقُ يا هادياً طرق النجاة بلطفه ... وبذي الجهالة في الهداية يرفقُ يا داعياً لله في أوقاته ... وعلى عباد الله طُرا يشفقُ

يا عارفاً بالله حقاً غارفاً ... من بحر توحيدٍ كؤوساً تدهقُ يا غارقاً في لجة والسؤ لا ... يعروا امرىء في صفو ذكر يغرقُ يا مخرجاً منه نفيس جواهر ... لم يحوها إلاّ الذي يتعمقُ يا ناصراً دين الإله وكاسراً ... جند الضلال وحزب من تزندقُ يا موضح الحق المبين بحجَّة ... فضحت حكيما بالسفاه يشقشقُ من ليس تأخذه ملامةُ لائم ... في الله أو يثنيه قدم أحمقُ يا راقياً في كل علم ذروة ... لا يعتليها من لها يتسلقُ فتحتَ له أبواب مقفلها كما ... فتقت له من سرها ما يرتقُ يا كاشفاً في كل علم مُعضلاً ... من أسره مكبول جهل مطلقُ يا من غدا من سر تأويل بدا ... في نور تنزيل الهدى يتخرقُ يا حافظ العصر الذي لحديثه ... إعلان أسرار لمن يتذوقُ للسنة الغراء نصرك لم يزل ... للحق يظهر والضلالة يمحقُ يا شافعيّ العصر شافي عي ذي ... حصر غدا من حصره يتأوقُ

يا من بأصل الفقه كان مؤسساً ... لقواعدٍ ليست بنقض تطرقُ نحو الرضى أتم من عمرو ومن ... زيد وأعلم من يزيد وأوثقُ لأبي الأسيود ظالم خلفاً غدا ... عدلاً فمن هو أحمر أو أزرقُ قد فاقَ في علم العروض خليله ... ولديه أبحره غدت تترقرقُ يا من فصاحته لديها يعرب ... عجمي لفظ لا يبين فينطقُ تركت بلاغتهُ ابنَ وائل باقلاً ... في عيه وهو الخطيب الأشدقُ يا من له في الشعر نسج محكمٌ ... وسواه فهو مهلهل وممزقُ إن امرء القيس الأمير عبيده ... وجريرهم رقّ له وفرزدقُ يا أيها الحيسوب من عن نفسه ... وهي الرضية باحث ومدققُ أنت الذي لعمى القلوب مبصر ... ولدائها أذكى طبيب يحدقُ يا سيداً حَازَ الكمال بأسره ... في كل فن سابقاً لا يلحقُ ثوب التجلد سيدي متخرقٌ ... وبقرب وصل يرقع المتخرقُ

والقلب مني بالفراق مُفَرَّقٌ ... وبجمع شمل يجمع المتفرقُ والهم يغزوني بجمع جموعِهِ ... فإذا انقضى جيش تبدا فيلقُ ولدفعه أعددت جند تحقَّقي ... منكم له مددٌ كبحر يدفُقُ من سركم سور له وحماكم ... حصن وفيضكم عليه خندقُ وأنا بسابغ درعكم متحصنٌ ... وبسابل من ذيلكم متوثقُ وبسابق من لحظكم متدرعٌ ... وبلاحق من حفظكم متدرقُ وبكامل من سركم متشبثٌ ... وبشامل من سركم متعلقُ لكن باب القلب عن فرحٍ بما ... لا يقتضي قرباً إليكم مغلقُ وبقربكم ووصالكم فرح ومس ... رور إليه مستهام شيقُ وبحيكم وفنائكم مسترهنٌ ... طوبى له إن كان رهناً يغلقُ والصدر منشرح لبث صفاتكم ... لكنه عن شرح بثي ضيقُ

عجباً له لم لا يقد وتحتهُ ... نيران تزفر باللهيب وتشهقُ هل ذاك من جلدٍ به أو قسوة ... أوقَدَّ حتى ما به ما يحرقُ بل ذا لحفظِ الله حيث مقركم ... فيه فلا سوء له يتطرقُ أنت المبارك حيث كنت كما بذا ... خوطِبْتَ بالكشف الذي لا يمدقُ وحِمَاك حصن لا يضام من التجأ ... يوما إليه ولا بضرّ يرهقُ يا مرتجٍ من فتح باب مرتجٍ ... باب الحمى العالي الذرى لا يغلقُ ثم أمنّا يا داخلاً فيه ولو ... أنّ الدماء من كل فج تُهْرَقُ وأسخر بمن يبغي أذاك وسهمه ... بالبغي عدواناً عليك مفوقُ فالمكر سيئه يحيق بأهله ... والسهم من ذي البغي فيه يمرقُ لا تأرقنَّ من خوف سطوة حاسدٍ ... إنّ الممنَّع بالحمى لا يأرقُ للسلم فيه مع السلامة مَشْرقِ ... والأمن منه مع الأمانة مُشْرقُ

والله إنَّ حمى الرضى لمانعٌ ... لا يستطيع له عدو يخرقُ لا يعتدي سبع عليه مثلما ... لا يعتلي عدواً عليه محلقُ والله إنَّ حمى الرضى لجامعٌ ... حرباً وسلماً مهلك أو مشفقُ بر لمن والاه روضٌ مثمرٌ ... وعلى الذي لاواه قفر سملقُ بحر لراجيه فرات مغدقٌ ... ولمن يناوئه أجاجٌ مُغْرقُ والله إنَّ حمى الرضى لهامعٌ ... جوداً به كل المعاهد تلتقُ فالفضل للآفاق منه شامل ... لكن بفاضل في العطاءِ ويافقُ فالكل من أهل الحمى يعطى على ... حسب المقام وليس فيه مملقُ والله إنَّ حمى الرضى لساطعٌ ... بسنا بِهِ بصر البصيرة يبرقُ نور على أهل الهداية مشرق ... كالشمس تُشرق في الضحى بل أشرقُ يهدي به الله إلى سبل الهدى ... في ليل جهل بالضَّلالة يغْسقُ والله إنَّ حمى الرضى لنافعٌ ... حيث الخلائق في القيامة تغرقُ بعد النبيين الرضى مُشَفعٌ ... بالصالحين وذي الشهادة ملحقُ

والعاملين بعلمهم مع أهل تص ... ديق يرافقهم ولم يتفرَّقوا والله إنَّ حمى الرضى لواسعٌ ... عن كل أهل الأرض لا يتضيقُ فيه الضعيف مع القوى وذو الغنى ... وكذا الفقير وذو الحجى والأخرقُ فاقصد حماهُ تَفُزْ بكل سلامةٍ ... إن الحوادث للحمى لا تطرقُ وقصيدتي الخائية المعجمة، المنبئة عن شرح الحال والمترجمة، وهي مرثاة فيه رضي الله تعالى عنه أيضاً، وهي: عقد التصبر بعد بُعدك يفسخ ... والقلب من حمل الأسى يتفسَّخُ وجوى الجوانح من جوائح دهرنا ... نيرانه تذكو ولا تتبوَّخُ والبين يصرخ بيننا بجموعهِ ... رفقاً بنا نفساً فهل مستصرخُ أذهبت عين زماننا فضيائه ... بظلام جهلٍ من عماهُ ينسخُ وخفضت رتبته بوهنٍ بعدما ... قد كان يعلو بالرضى ويشمخُ فاجبر مصابك يا زمان بنشر ما ... أبقاه من طيب به تتضَّمخُ من كل علمٍ كان فيه مُفْرداً ... وبه له قدم التقدم يرسخُ

ومعارفٍ وفرت له سهماً وما ... من عارفٍ إلاّ ومنها يرضخُ وعوارفٍ في الدين أبدت حُجَّة ... للحق تجبر والضلالة تُفْدَخ ومؤلفاتٍ في الفنون فرائد ... أبداً تدون في الطروس وتنسخُ ودوام فيضٍ ليس يجزر مَدُّهُ ... غدقٍ مريع في العَوالم ينضخُ ومكارم لم يُحْص عَدَّ صنوفها ... مع الاختصار مترجم ومؤرّخُ لم ينقطع عمل الرَّضِيّ فعلمُهُ ... للخلق والأكوان سيل يَجْلخُ أو بدر أو شمس الضحى أو أنجمٌ ... تهدي بليل أو جبال شمخُ عمَّ العباد دينهم وسريَّهم ... وكذا البلادُ مضيقها والسربخُ لم ينفه إلاّ حسود جاهل أحمق ... أعمى البصيرة أو أصم أصلخُ كم من إمام في العلوم مفننٍ ... قد قام دون مقامه يَتَدرْبخُ والجود منه جرى كبحر زاخرٍ ... ما عَنْ عُمُوم الكون مِنه بَرْزخُ أو كالسحاب الرطب أرخى في الملا ... أهدابه لم يخل مِنه فرسَخُ

الملا والوقف منه جرى ففي أوكارِه ... أمناً أقام معششٌ ومُفَرخُ والثالث الولد الذي هو صالحٌ ... أرجو بأني لستُ منه أُسْلَخُ فالفيض من إمدادِهِ قد عمّني ... فغدوت أعشب إذ حَسودي يسبخُ وبخمس عشرة قد بلغت نهايةً ... وبسبع عشرة أنني متسيخُ وعصرت من لب المعاني دُهْنَه ... إذ للنوى والقشر غيري يرضخُ ولبست ثوب جلالةٍ من غير ما ... دنسٍ وحاشَا أنه يتَوسخُ عنوانُ ذاك مُبَشرٌ أنّ الرجا ... حق وليس لباطِلٍ يتجوَّخُ هذا وتقصيري عريضٌ طائل ... وأنا بسيري في مَدَاهُ أملخُ إني لأخشى من قيامي في غدٍ ... في موقفٍ لم يُلْفَ فيه مصرِخُ ومعنفٌ لي بالذنوبِ وقائل ... ماذا صنعت بعلمنا ومُوَبخُ لكنني أرجو بجَاهِ مُحَمَّدٍ ... من قَدْره يعلو الأنام وَيَبْدُخُ هادي الورَى وشفيعهم في الحشر إذ ... في الصور إسرافيل يَوما يَنْفخُ

تطهير نفسي من ذنوبٍ دَنَّستْ ... لصَحائفي وغدت بها تتلطخُ وعلى الصراط ثبات أقدامي إذا ... أقدام أهل الشر عنه تََزْلخُ وأرافق العلماَء منهم والدِي ... في ظل عرشٍ للهجير يبوّخُ تحت اللواء الأحمدي وحوضُه ... شربٌ لنا يروي الفؤادَ وينقخُ ونجاور الرحمن في فردوسِهِ ... وهو المقام الأقدس المتزمخُ ونرى الإله على الدوام وَوَجْههُ ... بادٍ فبخ بخ ذاك منه يبخبخُ وعلى النبي محمد من قد زكت ... أعراقه شرفاً وطابت أسنخُ والآلِ والأصحاب من بسيوفِهم ... محقوا رؤوس الكُفْر لما دوَّخوا أزكى صلاة مع سلام لم يزل ... في الكون عرف شذاه مسكا ينضخُ وقصيدتي التائية المثلثة، الجامعة لأسماء من قيل فيه إنه من المبعوثين لتجديد دين الأمة في رأس كل قرن، وهي هذه: قد صحّ في الأخبار أنّ الهنا ... في أولٍ من كل قرنٍ باعثُ

من جدَّدَ الدين القويم وقد رأوا ... عمر الخليفة أولاً يا حارثُ والشَّافِعيّ برأس قرن بعده ... ويقال إنّ الأشعريّ الثالثُ والأستراباذيّ قيل ورجحوا ... إنّ السريجي الإمام الوارثُ والأسفراينيّ مع سهل قَضَى ... في رابع فقضى بكلٍ باحِثُ ورأيت من عَدَّ الإمام الباقلا ... نيَّ المجدّد وهو قولٌ ثالثُ والخامس الطُّوسيُّ حجتُنَا فكمْ ... خفيتْ بطيب ظُهور ذاك خبائثُ والفخر سادسهم أو الحبر الإما ... م الرافعيَّ فذاك غيثٌ غائثُ والسابع الشيخ الإمام ابن دقي ... ق العيد جَزْماً فهو ليث لائثُ والثامن البلقينيّ قد بعثت على ... إعطائه هذا المقامَ بَواعثُ أو أحمد الغَزِّيُّ جدّي فهو من ... جادَتْ له عند الجدال مباحثُ أو حافظُ العَصْر العراقيُّ الذي ... زالت بنُصْرته الحديثَ حوادثُ أمّا السُّيوطيُّ الجلالُ فمن يَقُلْ ... هو تاسعٌ لهم فما هو عَابثُ ولئن حلفت بأنّه شيخي الإما ... م الشيخ زين الدِّين ما أنا حانثُ

فيه أغاث الله جل عباده ... فلجأ له العافي ولاذ اللاَّهثُ وأظن أنّ العاشر المهدي أو ... عيسى يجيء بدين قرن حادثُ فالأمر أقربُ ما يكون فقد بَدَتْ ... أشراط الأخرى والمسيرُ حثاحثُ فالعالم المحمودُ مدحورٌ وذو الجه ... لِ الظلومُ كذئب سُوءٍ عائثُ والكذب فاشٍ والأمانة ضُيّعَتْ ... والشر ناشٍ والمعاهِدُ ناكِثُ والقبض للعلم ابتَدَى أوَما ترى ... قبضَ الأئمة وهو خطبٌ كارثُ والعلم يرفع إذ أهينَ ورَفْعُهُ ... في الأرضِ إن لم يبق منهم لابثُ وأنشدته من قصائدي غير ذلك، وهذا القدر كاف ذكره هنا، وأنشدته من المقاطيع جملة مستكثرة منها قولي ونقله بخطه الكريم: أقولُ للصبح حين أجرى ... عوائداً منه بالفراق لا أشكر السعي منك حتى ... تكون لي رائد التلاق وكذا قولي في مقابلة هذا المَعْنَى أيضاً:

شكرتُ سعي الصباحِ لمّا ... وافى بشيراً بالاجتماعِ وقلتُ غفراً لما جنته ... يَداك في حالةِ الوداعِ وقد مرّ الأوّل في أوائل الرحلة وسنعيد ذكر الثاني عند محله إن شاء الله تعالى وقولي، وهو أول شىء نظمته مطلقاً: يا ربّ يا رحمن يا الله ... يا منقذ المسكين من بلواه امنن عليَّ وجُد بما ترضاه ... بجميل فضل منك يا الله وقولي: قد هتفت ورقاء ليلاً فهيّجت ... لواعج شوق فالدموع سَواجمُ ذبت وبيت الله لو كنت صادقاًَ ... لمّا سبقتني بالبكاء الحمائمُ بعد أن أنشدته بيتي أبي العبّاس أحمد بن يحيى بسندنا إليه، وهما: لقد هتفت في جُنح ليل حَمامَةٌ ... إلى إلفها شوقاً وإني لنَائمُ

كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً ... لمّا سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ وقولي: من رام أن يبلغ أقصى المنى ... في الحشر مع تقصيره في القُرَبْ فليخْلص الحبّ لمولى الورَى ... والمصطفى فالمرءُ مع من أحبْ بعد أن أنشدته بيتي شيخ الإسلام ابن حَجَر رحمه الله تعالى بسندنا إليه، وهما: وقائل هَل عمل صالح ... أعددته يدفع عنك الكربْ فقلت حسبي خدمة المصطفى ... وحبهُ، فالمرءُ مع من أحبْ فطرب لمقطوعَيَّ طرباً موصولاً بسرور، وارتاح لهُمَا ارتياح الصادي بعد الصدور، وترنَّح لسماعِهمَا ترنح الغصن النشوان، وقال عنهما وعن إماميها ليس الخبر كالعيان، وليس كل إمام يستحق التقديم، ولا كل إنسان تجوز عليه الصلاة والتسليم، وأنشدته أيضا قولي ملغزاً:

إذا ما اشترت بنت أباها وعتقه ... به مستقر ثم أعتق عبده وعن بنته قد مات ثم ابن عمه ... ومات بلا ورَّاثٍ العبدُ بعده فهل يرث المعتوق ذي البنت وحدها ... أو البنت وابن العم أو هو وحده وجواب شيخ الإسلام الوالد عنه بقوله: يجوز ابن عم للعصوبةِ ماله ... وليس لبنت ما تحاول قصده وميراثها بالعتق من بعد عاصبٍ ... بنفس نسيبٍِ حيث قدرت فقده وقد غلطت فيه قضاه ميؤن قد ... غدت أربعاً والحمد لله وحده وأنشدته منها غير ذلك وقد قيد كثيراً منها بخطه، وكتبت له ملغزاً: يا إماما له الفضائل تُعْزَى ... وهماماً أضحى لراجيه كنزا ما بسيط حروفه ليس تحصَى ... وهو حرفان لا سوى أن تجزَّا كل جزءٍ منه استوى القلبُ إمّا ... جاَء معنى أو جاَء للفظ يُعزَى نصفه ربعه ولا ربعَ فيه ... وسوى الخمس منه ما تم أجزا

واذا ما تصحَفَ البدءُ منه ... فهو وَصْفٌ لكامل نال عِزَّا أضمر القلب غادةً إن تُصحِفْ ... آخراً فهو قولها حين تهزا وعلى حمل صخرة ذو اقتدارٍ ... ثم عن حمل إبرة سَام عجزا هاكه واضحاً بدون خفاءٍ ... لغزه ظاهرٌ وإن كان رَمْزا دُمْتَ في رفعة وحفظ إلهى ... لك دوما حصناً حَصيناً وحرزا فأجابني عنه أسبغ الله ظله بقوله: زادك الله بالدراية عزّاً ... فلقد قمت للهداية كنزا يا بديع الألفاظ غُرَّ المعاني ... صار منك البيان للدهر طرزا من يجاريك في العلوم يجاري ... اليم والمجد من تجرِية يهزا إن لغزاًَ أرسلته فاق بدر الت ... م حُسْنَا وأورث الفكر عَجْزا من يفتش فليس يلقى له ثَمَّ نظي ... راً فقد تفرَّد رَمْزا

ثم من يبتغي مضاهاته لا ... تسمع الأذنُ منه في ذاك ركزا وتراه وقد تحيّر ممّا ... نابه للفرارِ يَجْمز جَمْزَا من يطق يلمس السماَء ويأتي ... بالدراري حتى يحاكيه لغزا قلت لما أجبت عنه إذا ما ... إبل لم تكن لديَّ فمِعْزى غير أني بالستر منه وثيق ... فإليه كل الفضائل تُعْزَى دام في نعمة وظل سعود ... ما أمال النسيم غُصناً وهزا ثم كتب هو إليَّ لغزاً، فقال: يا من غَدا وكواكبُ الجوزاءِ ... تعنُو لرتبته لَدى العلياءِ ما اسم تَرَاهُ مثلثاً ومسدساً ... وبه تبين غوامض الأشياءِ حَرِفْ وصَحِفْ آخراً منه يكن ... فعلاً لمن يأتيك بَعْدَ مَساءِ ومتى تحرف فاءه مع عينِهِ ... كانَتْ مواقِعهُ كما الحلواءِ ويكون ظرفاً إن تصحف فاَءه ... ويجوز منك جَلائل النَّعْماءِ ومتى تُحرفها تجدْهُ مُسَارِعاً ... فيما تُحب على أتمِّ وَفاءِ

وبقلبه تلقاهُ سَبَّاقاً إلى ... شىءٍ تعينهُ بدون عناءِ وإذا حذْفتَ اللام من مقلوبه ... تلقاهُ فعل الخائف المتنائي واقلبه يبقى فعل شىء تلقه ... يدنو ويبعدُ من حذارِ لقاءِ واسم لشىء فيه رفقٌ بينٌ ... يُزْهيك منه حذاقة الإيواء وانظرْ إليه وحَلّهِ بجَواهِرٍ ... من لفظك المخصُوص باللآلاءِ واسلم ودم في دولةٍ وسعادةٍ ... ما عُوقِبَ الإصباحُ بالإمساءِ فأجبته عنه بقولي: ألغَزْتَ لي يا سيّد الفُضَلاءِ ... في العَصْر بل يا أوحَدَ العُلماءِ في اسم يكون مثلَّثاً ومسدَّساً ... ومع التعمي عمدة البُصَراءِ فيه من السر البديع عجائبٌ ... وغرائب تبدو بدون خفاءِ يلفى مثنىً في الوجودِ ومُفْردا ... مع أنه يسمو عن الإحصاءِ لا همزَ فيهِ ومن عجائبِهِ يُرَى ... والهمز فيه شاملُ الأجزاءِ حَرّفْ لأوسطِهِ تجده أولاً ... أو آخراً من غالب الأشياءِ

ولختمه صَحّفْ وحَرّفْ ما بقي ... منه يَُكنْ في البحر والبيداءِ وإذا عَكَسْتَ فمن نباتٍ تلقه ... أيضاً وحلى الغادة الحسناءِ وتراه للممنوع جاء مُحَللاً ... إذ لامُه صارتْ مكانَ الفاءِ وتراه رأي العين وثبا ظاهراً ... مع نقل آخره لعين الراءِ هذا جواب اللغز يا من مجده ... سام عن الأمثال والنظراءِ لا زلت في عز وسعد ما زهى ... نجم بأرض أو سما بسماءِ (وذكرت له أنه رُفِعَ لي سؤال قديماً صورته: ما قولكم يا سيد الفقهاءِ ... في العَصْر يا أوحَدَ العلماءِ يا شيخ الإسلام الذي ألفاظه ... زين الدروس وحلية الإفتاءِ في مشكل أمر النبي ونهيه ... جَامعاً في جلسة الإقعاءِ ما الجمع بينهما، وهل صحَّا مَعاً ... أو لا، فبيِّن ذاك يا مولاي لا زلتَ كَهْفاً للأنام وملجأً ... ما عُوقبَ الإصباح بالإمساءِ وبقيتَ في عزٍ وسعدٍ دائم ... وسعادة لا تنقضي وهناءِ

فأجاب بأنهما صحيحان وأنهما محمولان على معان، فذكرت أنّ جوابي موافق لما ذكره، أسبغ الله ظلّه ومدّ عمره، ومعنى الجواب: من بعد حمد الله ذي الآلاء ... حمداً كثيراً جَلّ عن إحصاءِ قد صحّ عن هادي الأنام محمد ... أمر ونهيٌ منه عن إقعاءِ والجمع بينهما بأن الأمر في ... شيء وأنّ النهي في أشياءِ فالأمر وضع الأَلْيَتَيْنِ بباطن ... الأقدام وافر منها كالاستلقاءِ والنهي للوركين تجلس ناصباً ... فخذيك مثل الذئب والعواءِ وأبو عُبَيْدَة زاد وضع يديه مع ... هذا بأرضٍ أو نجود وطاءِ أو غير هذا والكراهة قد حكوا ... في الكل عن جمع من الفضلاءِ هذا جواب محمد الغَزِّيّ مَنْ ... يرجو مِن الرَّحمن خير عطاءِ ثم الصّلاة على النبي وآلهِ ... والصحب والأتباع والعلماءِ)

وأنشدته لشيخ الإسلام الوالد مما استجد له من النظم بعده جملة، وكتبَ غالبها بخطه، فمن ذلك قول شيخ الإسلام مورياً: قولوا لمن يُنكر ما ... ينكرهُ من حالتي النصح حقاً لك أن ... ترجع عن ملامتي وقوله رضى الله ناظماً للحديث الشريف، وهو من أحسن ما قيل وأبلغ: قال محمد رسول الله قولاً صادقا تركتُ فيكم واعظين صامتاً وناطقا الموت والقرآن كُنْ بصدق هذا واثقا وقوله رضى الله عنه: وحقك ما قلبي بغيرك مُغْرَمُ ... وأنت بصدق الحال يا ربّ أعلمُ أزلت النوى عني برحمتك التي ... بها أنت بي مني أبرّ وأرحمُ وكرمتني حتى جمعت تفرقي ... وأفنيتني عني فمن منك أكرمُ لك الخلقُ والأمر الذي عمّ حُكمهُ ... وجوداً وإبداعاً وحكمك محكمُ وما ثم إلاّ أنت يُخْشَى ويُرتجى ... ويُقْصي ويَدْني كيف ما شاء يحكمُ ويا فوز من بصَّرته فرأى الهدى ... وصَارَ عن السرّ الخفي يترجمُ

ويا ويل من أعميته فهَوَى إلى ... حضيض به نارُ الجهالة تَضْرمُ وكل لما قدرته متوجهٌ ... بعزْم عليه جازمٌ ومصمّمُ وذلك فيه حكمةٌ ومحجةٌ ... على ذي ضلال حيث لا يتظلمُ تباركت يا مولى الموالي مقدَّساً ... عن الشرك والشك الذي يُتوهَّمُ تعززت يا الله عن وصف واصفٍ ... يحوم على كنهٍ يجل ويعظُمُ وما عارفٌ إلاّ الذي صَارَ فانياً ... وما هو إلاّ مُسْلمٌ ومُسَلّمُ إلهي كما أفقدتني الغير مُوجداً ... وجوداً به كلُّ العوالم تَعْدَمُ أدم لي الفنا حتى أكون بلا أنا ... بجنة رضوان الرضى أتنعَّمُ وقوله رضي الله عنه: يا غياثي وملجأي وعياذي ... أنت ربي وسيدي وملاذي يا إلهي من لي سواكَ مُغيثٌ ... يتولى من الأذى إنقاذي

فأجرني إذ لا سواكَ مُجِيرِي ... وأعذني إذ لا سواك مَعَاذِي قد تركتُ السوى انتباذاً وطرحاً ... فأدم لي ترك السوى وانتباذي والتذاذي في الفقد فيك فحقق ... فيك فقدي حتى يدوم التذاذي واتخاذي عبداً به يا هنائي ... أن أودي إليك شكر اتخاذي فمعي حيث كنتَ فيَّ شهودي ... وبقلبي إن كُنتَ فيه لواذي فأنلني احترام حضرة أنْس ... غيبتني عن حرمة الأستاذِ واسقني صرف كأس منة فضل ... يا غياثي وملجأي وعياذي وقوله رضي الله عنه: إني من الله في رعايَةْ ... مذ لاحظتني عين العنايَةْ ومذ حماني من السوى لم ... أزل من السوءِ في حمايةْ قولوا لمن ظل في ضلال ... هلكت فارجع إلى الهدايةْ ما تنتهي عن أذاك إلاّ ... أن ينتهي فيك للنهايةْ يوقعك الله في نكال ... أضعاف ما رُمت من نكايةْ

ويك اتق الله ليس ممّا ... يُوقعه فيك من وقايةْ ما غاية الظلم غير خزيٍ ... ولعْنَةِ الله لا لغايةْ يا من نوى أنّ عليّ يجنى ... عليك قد حقت الجنايَةْ من مالك الملك سيدي لي ... جاهٌ عظيم ولي ولايةْ وآية الحق نَصْرُه لي ... بسطوة وهي أي آيةْ كُفيت بالله وهو حسبي ... وهو تعالى فيه الكفايَةْ وقوله رضي الله عنه (قديماً ولا مزيد على قوافيه): الله حسبي على قوم عليّ بَغَوْا ... وبالأباطيل في عرضي المصون لغوا قوم إذا سَمِعُوا عني الجميل عموا ... عنه وصَمُّوا وإلاّ فتشوا وصَغَوْا وإن رأوني بضر سرهم ضَرَري ... وإن رأوني بخير أزبدوا ورغوا يا رب عاملهم بالعَدْلِ منك وخُذْ ... حقي وحقق بهم ما حَاولوا وبَغوا

يا رب قد مكروا فامكر بهم عجلاً ... فإنهم حَسَدوني وافتروا وبَغَوْا يا رب إني ضعيفٌ يا قوي ومَنْ ... سِوَاك يأخذهم أخذ الذين طغوا وقوله أيضاً رضي الله عنه، وهو مجربٌ للفرج: يا رب من كل الوجوه تضيّقت ... واشتد من كل الجهاتِ المخرجُ إن لم تُفَرّجْها بفضلٍ واسعٍ ... عنّا وإلاّ من سواك يُفَرِّجُ وقوله رضي الله عنه، وقد قاله في عالم برزخي، وأصبح يحفظه: إني من حيث الجسوم ... والرسومُ والصورْ كأسطر دلت على ... آي المعاني والسورْ وهي حروفٌ ما لها ... معنى سوى عين الأثرْ لو كنت روحاً لم أزل ... عطلت كل معتبرْ وما عرفت أزلاً ... بالعقل أين المستقرْ أو كنت من جسم فقط ... من كان يدري ما الخبرْ

وقبل كانت طينتي ... ليست تُبالي بسقَرْ فائتلفا فاشفقا ... بالوهم من حر الشرَرْ وما على كل إذا ... عرفت حقا من ضَرَرْ ولنختم ما ذكرناه هنا من درر ألفاظه الثمينة بقوله رضي الله عنه: قد بانَ بالكشف أن لا بغير الس ... تر والصفح الجميل اعتصامْ وبانَ لي أن ليس للعبد مع ... سيده إلاّ الرضى والسّلامْ وقد عمّت البركة هذه الرحلة بما سقناه من كلام قطب الأنام، جَمَعنَا الله تعالى به في دار السلام، بجاه سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. ومما أخذه عني مولانا المشار إليه قاصداً به الجبر، وتعظيم القدر كتابي المسمى بالدّر النضيد في أدب المفيد والمستفيد، وكتابي المسمى بالبرهان الناهض في نيّة استباحة الوطيء للحائض، وقد أهديت له نسخة بهما، فجبر بقبولهما، وأظهر الاستبشار بحصولهما، وأحاط عِلْمَاً بما فيهما، وقرأهما من قوادمهما إلى خوافيهما، وشرحي المعجز العجيب السهل القريب، الذّي لم أُسْبَق بحمد الله إلى مثاله، ولم ينسج مؤلف على منواله، مع سهولة المدارك، ووضوح المسالك، الموضوع منظوماً مع المزج على ألفية ابن مالك، مع توفيته ببيان مقاصدها وشروحها بل بمقاصد قواعد العربية وتوضيحها المسمّى بالبهجة الوفيّة بحجة الألفية ومختصره اللطيف الجامع الوجيز (المسمّى بدار تم الخصاصة عن قارىء الخلاصة)، وقد شرعت في كتابته

في منزله العزيز، وغير ذلك من المؤلفات، وهي الآن بحمد الله زهاء سبعين مؤلفاً، ومما نقله عني ما أخبرته به بسندي إلى قاضي القضاة تاج الدِّين السُّبكيّ أنه كان يوماً في مجلس والده شيخ الإسلام تقي الدِّين وجرى ذكر الحَريريّ وأنه ترنم يوماًَ في خلوة بقوله في المقامات: من ذا الذي ما ساء قَطْ ... ومن له الحسنى فَقَطْ وأنه سمع هاتفاً يقول ولم يرَ شخصه: محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هَبَطْ قال فقلت بحضرة الشيخ الإمام كان ينبغي أن يجيب بقوله: وذاك فرد نادر ... أعذر فيه للغلط وإن ممّا عُدَّ من محاسن الشيخ شمس الدِّين بن عَدْلان شيخ الشَّافعيّة في زمنه أنه سئل هل الأفضل أبو بكر أم علي؟ وكان في مكان لا يمكنه فيه التصريح بمذهب أهل السُّنَّة، فقال: عليُّ أفضل القرابة وأبو بكر أفضل الصحابة، انتهى. ولا شكّ أن أفضلية الصحابة يَلزم منها أفضلية القرابة، فإن القرابة الصحابة قد دخلوا في المفضولين وغيرهم معلوم فضل الصحابة عليهم فتأمله، وهو أحسن من جواب ابن الجوزيّ حيث قال: أفضلُهما من بنتهُ تحته لما سئل من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أعلي أم أبو بكر، فإن فيه إيهاما، ولذلك لما خاف من الاستفسار نزل عن كرسيه في الحال وأنشدته لأبي نصر الفارابيّ رحمه الله:

أخي خل حيّز ذوي باطل ... وكن بالحقائق في حيزِ فما الدار دار مُقامٍ لنا ... ولا المرءُ في الأرض بالمُعْجِزِ يُنافسُ هذا لهذا على ... أقلَّ من الكَلِم المُوجزِ وهل نحن إلاّ خطوطٌ وقَعْنَ ... على نقطةٍ وقْعَ مُستَوفِزِ محيطُ العوالم أولى بنا ... فماذا التزاحُمُ في المَرْكَزِ فنقل جميع ذلك مع غيره، وسألني عن وصل الوتر هل الأفضل أن يكون بتشهد أو بتشهدين؟ فقلت: القاعدة أنّ ما كان أكثر عملاً أو أشق كان أفضل، لكن ذكر جماعة من أصحابنا أنّ فعله بتشهدٍ واحد أفضل لخبر أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وقال: لا تشبهوا صلاة الوتر بصلاة المغرب. وسألني عن مسألة الاغتراف فأوسعت له تقريرها، وذكرت له أنّ ملخص ذلك أنّ الصحيح من المذهب سَنُّها، وأنها بعد النيّة في الغَسْل، وبعد غسل الوجه في الوضوء، وهل تعتبر الغسلة الأولى فيه فقط أو الغسلات الثلاث خلاف مشي ابن عبد السلام على الأول والزركشيّ على الثاني، والأول هو الذي اعتمده شيخ الإسلام الوالد، والثاني هو الذي مالَ إليه شيخنا شيخ الإسلام زكريَّا واخترته في شرحي الكبير على المنهاج والاحتياط مع الأوّل، وأنشدته لشيخ الاسلام زين الدِّين خطاب:

أوجبَ جُمْهُور الثقات الظرافْ ... عند التوضيء نية الاغترافْ من بَعْد غَسْل الوَجْه من بَلْعِهَا ... فماؤهُ مُستعْملٌ لا خلافْ ووافق الشَّاشيّ ابن عبد السلام ... في تركها والبغويّ ذا العفافْ وابن العجيل الحبر أفتى على ... إهمالها والحبرُ فتواه كافْ وسألني عن بيع المرتد ما الرَّاجح فيه؟ فقلت: صحته كما صححه النوويّ في كثير من كتبه ويؤخذ تصحيحه من المنهاج أيضاً، فقال: من أين؟ فقلت: من قوله في باب الخيار ولو قُتل بردةٍ سابقة ضمنه البائع في الأصح فسُرَّ بذلك، وأنشدته لشيخ الإسلام الوالد رضي الله عنه سؤالاً ملغزاً، وهو: أيّها الشيخ الفقيه أجب ... عن سؤالي وأبن ما خفى أي شيءٍ بيعه جائز ... وهو لا يُضْمَن إن أتلفا وجوابي عنه بإشارته رضي الله تعالى عنه بقولي: يا إماماً في العلوم غَدَا ... راقياً من العُلا غُرَفَا خذ جواباً عن سؤال بِهِ ... زاد قدري في الورَى شرفا ذاك مرتد فقد صحَّحُوا ... بيعه وأهدره إنْ أتلفَا

وسألني عن لغزٍ سمعه وهو نجس العين يطهر نجس العين، فذكرت له أنّ شيخ الإسلام الوالد سألني عنه في بيتين وهما: يا سيداً هو بفقه في الورَى يشتهر ... أوضح لنا ما نجس لنجس يطهر وإني أجبته بقولي: هذا الذي سألت عنه هو فيما يظهر ... نجس دبغٍ دابغٌ بهِ الإهاب يطهر ويمكن الجواب عنه أيضا إذا لم يقيد النجس بنجس العين بمّا أشرت إليه في قولي: إذ خلط ماء نجس بمثله فيطهر ... إن قلتين بلغا ولم يكن تغير واستجازني لولده النبيل العريق الأصيل اللبيب النجيب الحسيب النسيب الشِّهَابيّ أبي العبَّاس أحمد، ولأولاد ولده المذكور وهم: الموفقي عبد الرَّحمن، والسيدة راضية تاج الشرف، وعينهم ورأسهم النجمي أبو الفرج محمد، كثَّرَ الله تعالى وتبارك من هذه السُّلالة الزكيّة وبارك، وقد أجزتهم بالشرط المعتبر عند أهل الأثر، جميع ما يجوز لي روايته وتصحّ نسبته إليّ ودرايته، وكتبت له صورة استدعاء باستجازته لولدي أحمد شهاب الدِّين وأخوته، أنشأهم الله تعالى نشوء الصَّالحين، وجعلهم من حزبه المفلحين، ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أطلع بدر دينه المُشرق من مشرق آيات كتابه العزيز، وأعجز

الفصحاء والبلغاء بإعجاز فصاحته وبلاغته غاية التعجيز، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، فورّثوهم العلم الفائق على الدّر والإبريز، وعمّهم بتوفيقه لهداية عباده وخصّهم بالتقديم والتبريز، وأظهرهم على أسرار شريعته بما مُنِحوا من صدق التصوير وحسن التمييز، وأظفرهم بآثار حكمته فلمحوا وجه الأمر والنهي والتجويز، وأرشدهم لسلوك مجاز حقيقته وأبهج بعموم كرمه المُجاز منهم والمجيز. أحمده حمد من لم يشهد سواه من بلوغ سن التمييز، وأشكره شكر من غمرته نعمه وعطاياه من وقت النشأة وإلى حين التجهيز، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي مخلصها من فنون الهلكات، وتحلّه من حصون النجاة في حرز حريز، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله المختص بجوامع الكلم ذات المعنى البسيط واللفظ الوجيز، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ما نسج ديباج المعاني على منوال البَيَان حُلَلاً بديعة التفويف والتطريز، أمّا بعد: فالمسؤول من فضل مولانا البر الإمام الأفضل، والبدر التمام الأكمل، والبحر الطّام الذي هو مع أمنه البارد العذب، والحبر الهُمَام الذي هو للأحبار رأس وغيره كعب، ذي الحسب الصميم الظاهر، والنسب الكريم الطاهر، والجلال الباهي الباهر، والجمال الزاهي الزاهر، والكمال المتجلي في أعلى كمالات المظاهر، والفضل الذي تطفّل الفاضل على موائده، واستسقى من نمير موارده، والبيت الذي نمي على قواعد الدِّين بل نمي الدِّين على قواعده، فقام على أرفع أركان وأثبت أساس، كيف وبانيه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أبو الفضل العبّاس، فهو ابن عمّ من ختمت به الرسالة والنبوّة وعمته بركة العمومة الزاكية والبنوّة، فعمرت باطنه

وظاهره، وغمرت وارداته وخواطره، فبرز في سماء الكمال بدراً منيرا، وظهر من فحول العلماء ملكاً مهيباً وسيداً كبيراً، وبلغ في فنون العلوم قصب السبق عند النضال، وصال في ميادين البلاغة الواسعة الشاسعة وجال، مظهراً ما اختفى على غيره من غوامضها ومجلّيا، ومطرزاً من إبريز ألفاظه الرائقة حللها ومحلّيا، فما من إمام وإن تقدم عصره إلاّ وتأخر عنه مُصَلّيا، وتقدم بين يديه (خاضعاً و) مسلّما: تلك المكارمُ لا أرى مُتأخراً ... أولى بها منهُ ولا مُتَقَدّما قد غمر ألباب الفصحاء ببحر بيانه الزاخر، وسخر بها حين سَحَرها بسحره الحلال، فنادته يا أيها الساحر يا أيها الساخر، ونهض برهاناً جليّاً ودليلاً قوياً على كم ترك الأول للآخر، من جمع الله له بين العلم والعمل، ومنحه من كل فضل فوق بلوغ الأمل، ووهبه مع شرف الذات شرف الخصال وخصال الشرف، وجعل شرفه في الخير حُجّة على من قال لا خير في الشرف: شَرفٌ يَطلُّ على السِّماكِ وسؤدد ... كالصبح لا يسع العدا إنكاره مولانا السيد الكريم، والسند العظيم، شيخ المسلمين بدر الدِّين أبو الفتح عبد الرحيم العبَّاسيّ الشَّافِعيّ، أدام الله تعالى إسباغ ظلاله، وأصحبه التوفيق والتسديد في سائر أقواله وأفعاله، التفضل بإجازة ولد كاتب هذه الأحرف أبي الفضل أحمد

شهاب الدِّين وأخواته خديجة وجُوَيْرِيَة وأصيل، ومن سَيُحَدِّث له من الأخوة على مذهب من يرى ذلك جميع ما يجوز له وعنه روايته، وما تصحّ إليه نسبته ودرايته، وما له من تأليف وجمع وترصيف، على اختلاف أنواع ذلك وأصنافه، وتعدد نعوته وأوصافه، من إيجاز وإسهاب، وانتقاء واقتضاب، وشروح ومتون، ومنثور ومنظوم في سائر الفنون، مردفاً ما يُسْديه إليهم من التفضّل والفضل، بما أسداه إلى أبيهم من قبل، وإن تفضّل مع ذلك بذكر مولده ومنشئه وبلده، وأسماء أعْيَان شيوخه الأئمة، وعلماء الدِّين وهُدَاة الأمة، وتعداد بعض أسماء تآليفه النافعة، وتصانيفه الجامعة، مطرزاً ذلك بما يَصُوغه من مناظيمه البارِعَة، ومقاطيعه الرائعة، وبعض أسانيد مروياته إن تيسر، فهو من فضله ومن أهله، ونرجو أن يكون في محله، والمرجو من الله تعالى أن يحقق الأمل، ويرزقنا الخلوص في القول والعمل، والله يمدّ ظله الوريف، ويديم سعده الشريف، ويوفقنا وإياه لما يزلف لديه، ويتطول بكرمه على تقصيرنا يوم العرض عليه بمنه ويمنه آمين. فكتبَ في جواب ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنار ببدر الدِّين أفق المعارف، وجعله في حرم الفضائل كعبة مجدٍ يحجها البادي والعاكف، وصيَّره للعُلُوم ركناً يستلمه كل ساعٍ وطائف، فما شهد معانيه أحدٌ إلاّ طرب وزَمْزَم، ولا شاهد رفيع مقامه مُمَارٍ إلاّ صلّى على النبي وسلّم، واستمسك بالعروة الوثقى من وفائه وتذمم. أحمده حمد معترف بالعجز والتقصير، وأشكره شكر مغترف من بحر فضله العذب النمير، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة تقضي لقائلها بالجَنَّة، وتكون له من الموبقات جُنَّة، وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله، المبعوث إلى سائر الأمم، والمنعوت بشيم المحاسن ومحاسن الشيم، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وخواصه وأحبابه، ما استمد قلم لكتابة

إجازة، ورقم به بليغ بلاغته وإعجازه، وبعد: فإنّ المرء وإن يكن في نفسه حقيراً، وعن تسنُّم رتب العلوم لا يألو توانياً وتقصيراً، فربَّما يُشْهَد فيه بلوغ إلى صهوات العلوم، ورقي إلى أسنى درجات المنثور والمنظوم، فضلاً من الله ومِنَّة، وستراً لما بباطنه أجنَّة، وشُعَاعاً من نور عالم انعكس إليه، فرأى فيه ما هو مقرّر لديه، ولولا ذلك لما سُئل الفقير، مع ما جُبل عليه من العجز والتقصير، من علاَّمَة الزمان، ونادرة العصر والأوان، البحر ابن البحر، وأجلّ مفاخر الدهر، شيخ الإفتاء والتدريس، وقُرَّة عين مولانا محمد بن إدريس، العَلاَّمة ابن العَلاَّمة، المخصوص بالتقدم في المراتب العلمية والإمامة، الشيخ الإمام المُحَقِّق المُدَقِّق بدر الدِّين أبي البركات محمد بن المرحوم الشهيد السعيد شيخ الإسلام رضي الدِّين أبي الفضل محمد بن مولانا الشيخ الإمام العَلاَّمة شيخ المسلمين رضي الدِّين الغَزِّيّ العَامريّ الشَّافِعيّ. من جَعل الله منهاجه للطالبين إرشاداً، وللرَّاغبين في مُهمّاتِ الدِّين توفيقاً وسدادا، كم رفع للرافعيّ علماً منشورا، وأحيا لمحيي الدِّين النوويّ ذكراً كان مقبورا، وسقى الرَّوضة من فضله عذباً نميرا، وأصبح روض اليمنى لسحائب فوائده ممطورا، والمنهج القويم بمهذَّب أبحاثه واضح المسالك، وأضحى العزيز بلفظه الوجيز سهل المدارك، وأبحاثه المفيدة بغرائب تدقيقها قوت الأرواح، وتآليفه الفريدة ببديع بيانها عروس الأفراح، فرع فاق الأصول، وغاص على درر الأصلَين فحصل على أعظم محصُول، ووشح ألفية ابن مالك بجواهر نظمه ونثره، وأتى من نيّر فوائده بما لا ينكر من نور بدره، وفك مأسور الإفهام بتقييده المطلق، حين فتح الله عليه بفتح المغلق، كم أبدع في تأليفاته وأغرب، وأدهش في مصنفاته وأعجب، ورصَّع من دُرّها النضيد وجوهرها الفريد في صفائح صحف الفضائل، ما أعجز الأواخر ولم يأت بمثله الأوائل، فلله دره من عالم

حَاز قصب السبق في ميادين العُلوم، وملك أزمَّة أفانين المنثور والمنظوم حسب البليغ العجز عن أوصافه لو جاء بالزهر الزواهر تزهر، أو حاول الشعرى لدى اشعاره قالت علاه إنه لا يشعر، لا زالت فوائده غرراً في جبهات الطروس، وفرائده درراً تتقلد بها نفائس النفوس، ما جرت جياد الأقلام في ميادين الكلام ببديع النظام، وها أنا ممتثل أوامره المُطَاعَة فيما أشار إليه حسب الاستطاعة من الإجازة لريحانة أُنسه، وثمرة غرسه، ونور بدره، وضياء شمسه، الشِّهَاب المتوقد ذكاؤه، النامي سناه والسامي سناؤه، شِِهَاب الدِّين أبي الفضل أحمد أسعد الله جده، وحباه فوق ما حبا به أباهُ وجدَّه، ولأخواته ومن سَيُحَدِّث له من الأخوة المأمول وجودهم من منح الله المرجوة، وقد أجزت له ولهم أن يرووا عني جميع ما التمس مني بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، إجازة عامّة وخاصّة، وعلى كل فرد مما تجوز عني روايته ناصَّة، وأمّا مولدي (ففي سحر يوم السبت رابع عشري شهر رمضان المعظم قدره سنة سبع وستين وثمانمائة بالقَاهِرَة المعزّية حمى الله حماها وحرسها ورعاها: بلادٌ بها نيطتْ عليَّ تمائمي ... وأولُ أرضٍ مسَّ جلدي ترابها وقد أدركت بها وبغيرها من العلماء العاملين والأئمة المجتهدين من لم يسمح الدهر بمثاله، ولم ينسج على منواله، وكلهم أجازني بما تجوز له روايته، وما تصح إليه نسبته ودرايته، فأول من فتق لساني بذكر الله تعالى من برع أبناء زمانه مجداً

وجلالاً وفضلاً وأفضالاً، الشيخ الإمام العَلاَّمة والحبر البحر الفهّام، صاحب التصانيف المشتهرة، والتآليف المعتبرة، شمس الدِّين أبو عبد الله محمد بن برهان الدِّين النشائي المالكي قاضي القُضاة بالديار المِصْرِيّة، أسبغ الله تعالى ظلاله وختم بالصَّالحات أعماله، ولم أزل في رعايته وتربيته وعنايته وبركته إلى أن فرّق الدهر بيننا بالاغتراب سنة أربع وعشرين وتسعمائة. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة محيي الدِّين الكافياجيّ الحنفي، تغمده الله برحمته ورضوانه وعفوه السابل وامتنانه، أجازني بمؤلفاته، وكتبَ بخطه أنها زهاء مائة مؤلَّف. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة أمين الدِّين الأقْصَرَائيّ الحنفيّ، شملته سحائب الرضوان والعفو والغفران. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة قاضي القضاة محبّ الدِّين بن الشِّحْنَة الحنفيّ، لا زالت سحائب الغفران هامعة، وأنوار الرضوان لديه لامعة. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة سيف الدِّين الحنفيّ، تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته.

ومنهم الشيخ العَلاَّمة قاضي القضاة شمس الدِّين محمد الأَمْشَاطيّ الحنفيّ، أمده الله بمدد الرحمة، وأسبغ عليه بذلك جلابيب النعمة. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة قاضي القضاة برهان الدِّين إبراهيم اللَّقانيّ المالكيّ، لا زالت الرحمة تغشاه ولا تفارق مثواه. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة قاضي القضاة ولي الدِّين محمد السُّيوطيّ الشَّافِعيّ، غشيته سحائب الرضوان، وضفيت عليه جلابيب الغفران. ومنهم الشيخ الإمام العالم العَلاَّمة قاضي القضاة شرف الدِّين موسى بن عيد الحنفي، وهو السعيد الشهيد، حباه الله من غفرانه بالمزيد، قرأتُ عليه كثيراً، ووردت من علومه عذباً نميراً. ومنهم الشيخ الإمام العالم العَلاَّمة سِراجُ الدِّين عمر العبَّاديّ الشَّافِعيّ، رحمه الله رحمةً واسعة، وأمطر عليه سحائب عفوه الهامعة. ومنهم الشيخ الإمام العالم العَلاَّمة شمس الدِّين أبو عبد الله محمد الجَوْجَريّ الشَّافعيّ، حفّه الغفران والعفو والامتنان، أجازني بمروياته ومؤلفاته، ومنها شرحه على المنهاج، وشرحه على الإرشاد. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة جلال الدِّين محمد البَكْريّ الشَّافِعيّ رحمه الله، قال لي من لفظه: أنا عريق في صداقتكم، فإنني صديق جدك لأبيك وصديق جدك

لأمك، وممّا أجازني به نكته على المنهاج وحاشيته على الرَّوضة. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة شمس الدِّين أبو عبد الله محمد بن قاسم الشَّافِعيّ، دامت عليه الرحمة، وتمّت له بالمغفرة والنعمة، ومما أجازني به جميع مؤلفاته. ومنهم الشيخ الإمام حافظ العصر المسند الرُّحْلَة المحدّث فخر الدِّين عثمان بن محمد الدِّيَميّ الشَّافِعيّ سقى الله تعالى بصوب الرحمة ثراه. ومنهم الشيخان المسندان المعمران نجم الدِّين الصحراوي والهَرسَانيّ، سمعت عليهما صحيح البُخَاريّ كاملاً بالجامع الأزهر، بحق روايتهما له عن العراقيّ عن الحجّار، وذلك سنة سبع وسبعين وثمانمائة. ومنهم الشيخ المسند المعمّر المحدّث الرُّحْلَة بدر الدِّين حسن بن نبهان، تغمده الله بالرحمة والرضوان، قرأت عليه جميع صحيح البُخاريّ في مجالس متعددة في شهر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة، وأجازني به بحق روايته له عن عائشة بنت عبد الهادي عن الحجّار. ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة برهان الدِّين إبراهيم بن ظَهِيْرة الشَّافِعيّ، قاضي مَكَّة المُشَرَّفة عند قدومه إلى مِصْر سنة ثمان وسبعين وثمانمائة.

ومنهم الشيخ الإمام العَلاَّمة محمد القَلْشَانيّ قاضي الجماعة بتُونِس المحروسة عند قدومه إلى مِصْر للحج سنة ثمان وسبعين وثمانمائة تغمده الله برحمته. ولنختم من لقيته من العلماء بمسك ختامها، ووسطى نظامها الشيخ الإمام العَلاَّمة الحبر البحر الفَهَّامة محبّ الدِّين محمد بن الغرسي خليل البصرويّ الشَّافِعيّ، سقى الله ثراه، وجعل الجنّة مثواه، قرأت عليه كثيراً، وأخذت عنه علماً غزيراً، وأجازني بمروياته ومؤلفاته، وخصَّني بها، ودفعها إليّ هي ومسوداتِهِ جميعها في مرض موته. ومن تآليفه قطعة على المنهاج من أماكن متفرقة، وقطعة على الإرشاد كذلك، وشرح ألفية العراقيّ في علوم الحديث، وشرح ألفية البرماويّ في الأصول، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح القواعد الكبرى لابن بسام، وشرح الخزرجيّة في العروض وهما شرحان كبير وصغير، وشرح المنفرجة وغير ذلك. نفعني الله بمصاحبته وتربيته ورعايته، فرحمه الله رحمة واسعة، وأمطر عليه سحائب عفوه الهامعة، هذا ما حضرني من أسماء شيوخي، وثمّ آخرون مثبتون فيما هو غائب عني الآن. وكلهم أجازني بمروياته وتأليفاته ومصنفاته وكتب لي خطة بذلك. وأمّا ما وقع لي من تأليف، فإنه شيء يُستحى من ذكره، ويرغب في إخفائه وستره، بالنسبة إلى ما عند الفقير من العجز والتقصير، فأعلاها وأجلّها وأغلاها شرح البُخَاريّ الذي ألفته بالدّيار الرُّوميّة سنة خمس وست وتسعمائة، وشرح آخر مبسوط وصلت فيه إلى صلاة الليل، وشرح على مقامات الحَريريّ جاوز النصف، وقطعة على الإرشاد في الفقه، وشرح شواهد تلخيص المفتاح، وشرح الخزرجيّة في العروض، وإيَّاها سودت به وجه الطروس، وأفنيت به أرطالاً كثيرة من النفوس، مما يسمّى شعراً، ومما يشبه أن يُدعى نثراً، فهو شيء لا أرضى إثباته، ولا أستحسن أبياته، وإن تداولته الأقلام، وولع برقمه كثير من الأنام، فمنه:

إن رمت أن تسبر طبع امرئٍ ... فاعتبر الأقوال ثم الفِعالْ فإن تَجْدْهَا حسنت مخبراً ... مِنْ حَسَنِ الوجه فَذَاك الكمالْ ومنه: عذرت أخا الجهالة مذ رآني ... وأولاني جفاً منه وذلا رأني لا بعيني أدمي ... فأدبر مُعْرضاً عني وَوَلى ومنه: يا مشتري العبد الرقيق بماله ... هلا اشتريت الحرّ إذ هو أجدر إنّ العبد ليس بشاكر لك نعمة ... والحرّ يحمد ما فعلت ويشكر ومنه: حالُ المقلّ ناطقٌ ... عَمَّا خفي منْ عيبهِ فإن رَأيتَ عارياً ... فلا تَسْل عَنْ ثوْبهِ

ومنه: أحبّ من البرية كل سمح ... قريب المستقى سهل القيادِ إذا ناداه مفتقرٌ لبرٍ ... أجاب نداه قبل صدى المنادي ومنه: إذا ما كنتَ في قوم غريباً ... فَخَاطبهمْ بقول يُستَطابُ ولا تأسف إذا فَاهُوا بفُحش ... غريبُ الدار تنبحهُ الكلابُ ومنه: كثير من الخلاّن يبدي تملقاً ... وفي قلبه دافن الشر موبقُ كبحر أجاج لا يسوغ مذاقه ... يُريك صفاء قاعه وهو مغرقُ ومنه: يا مَنْ بنى دَارَهُ لدُنْيا ... عَاد بها الربحُ منه خُسْرَا لِسَانُ أحوالها يُنَادي ... عَمَّرت داراً بهدم أخرى

ومنه: يا منكراً فعل الجميل ... إذ مت بأعظم خزيةِ لم لا تكون مذمماً ... وفعلت فعلتك التي ومنه: أرى الدهر يسعف جُهَّاله ... فأوفر حظّ به الجاهلُ وانظر حظي به ناقصاً ... أيحسبني أنني فاضلُ ومنه: إذا ما تصدّى ظالم للأذى ... فكن على ما تبدى منه أجر صابر ودعه وما يلقاه من شؤم بغيه ... وكِلهُ إلى فِعل الجدود العواثر ومنه: إن يقعد الجاهلُ فَوْقي ولمْ ... يَرْعَ ذمامَ العِلم والأصلِ فالشمسُ يَعلو زُحَلٌ أوجَها ... وهي على الغاية في الفضلِ

وأمّا القصائد المطوّلات، فقد تفضل مولانا المشار إليه بكتابة كثير منها، فلا حاجة إلى الإطالة بذكر شيء منها، وقد آن أن أحبس عنان القلم عن الجري في هذا المضمار، وأكفكف من غلوائه خيفة العثار، وأن أوْصف بمِهْذار أو مِكْثار، وهو يسأل العفو عمّا بهذه الأُليفاظ من الزلل، وإصلاح ما غشيها من الخلل، لا زال من رقم باسمه، وزبر برسمه. سعيد الحركات، مزيد البركات، رفيع الدرجات، دائم المسرات، ما دامت الأرض والسموات، قال ذلك وكتبه العبد الفقير المعترف بالعجز والتقصير عبد الرَّحيم بن عبد الرَّحمن بن أحمد العبَّاسيّ الشَّافِعيّ غفر الله ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه، وذلك يوم السبت سابع عشر شوال المبارك سنة سبع وثلاثين وتسعمائة بمدينة القُسْطَنْطِينيّة المحروسة، الحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد اعتنى بحاجتنا مولانا قاضي العسكر المنصور أتمَّ اعتناء، فعاجلنا سفر السُّلطان، أدام الله إسباغ ظله على الأكوان إلى مدينة بروسا المحمية، فنوينا الإقامة بمدينة القُسْطَنْطِينيّة لهذه القضية، فاستمرينا في منزل مولانا السيد المشار إليه، أدام الله إسباغ ظلّه عليه، نتملى بمشاهدة طلعته البهيّة، ونتحلا بسماع ألفاظه العليّة، ونحن لا نملّ من المقام، ونرى أشهرنا كأنها أيام، إلى أن فشا الطاعون بالبلدة، وقاسى الناس من أهواله كل شدّة، وفُقِدَ جمعٌ من الأحباب، فتعوذنا بالله من ذلك المصاب، ولم يصر المقام بها من المستطاب، فعزمَ مولانا السيد المشار إليه على السفر منها إلى بعض البلاد الخالية من الكدر، وأن يستصحبنا معه ولا بدّ في ذلك السفر، فاستخرنا الله تعالى في ذلك والسلوك معه حيث شاء من المسالك.

ذكر الرحلة الأزنكمودية

ذكر الرحلة الأزنكمودية ثم لمّا سافرَ السُّلطان، وتعطّل من قضاء الأشغال المهمّة الديوان، وكان الهواء قد تغيّر، والجو بالوخم قد تكدّر، وظهر الوباء ونشا، وكثر الطاعون وفشا، وتحوّل النسيم سَموماً، وصارت المياه سموماً، وانقلب زلالها حميما، ومن يتبرد بها محموما، ولا يسأل حميم حميما، فَوصِفَتْ لنا بلدة أزنكمود بلطافة الهواء، وعذوبة الماء، وقلة الوباء، وطيب البقعة، وارتفاع الرقعة، وتناهي الرفعة، وسلامة الطبائع، وسعة المرابع والمراتع، وكثرة المنازه وأنواع الفواكه، فاستخرنا الله تعالى في السفر إليها والحلول لديها، إلى أن يعتدل الزمان ويعود السُّلطان. فتوجهنا إليها صحبة المولى السيد المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، وخرجنا من المدينة، ونزلنا في السفينة ضحى يوم الاثنين المكرم ثاني عشر شهر الله المحرم سنة سبع وثلاثين وتسعمائة من هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وركبنا ذلك البحر وما رهبناه، واستصحبناه وما استصعبناه، وسرنا فيه في أطيب هواء، وأحسن استواء، وقد سكن هائجه وركد مائجه، وصلح مزاجه وحسن علاجه، وتلك تجاريه المشية تتبختر تبختر الجارية الناشية، وتنساب في الجناب كالحُبَاب، وتأتي من الحركة في صورة السكون بالعجب العُجَاب، فتحسبها جامدة وهي تمر مرَّ السحاب، ثم سكن الريح حتى كأنه ميت، وصار البحر كأنه قعبُ لبن أو زيت: قد كانَ بحراً قبل ذلك زاخراً ... فغدا بذلك وهو برّ مقفر وكان النهار قد قضى، ووفى دينه وقضى، وذهب مُهرولاً ومَضى، وأشرف القمر

وأضاء، فأرسينا حينئذ بالقرب من ساحل قرية يقال لها قِزِلْ اضا، فبتنا هناك والليل مزهر السراج، لابس من نور القمر أبيض الدِّيباج، وقد رقّ ذلك البحر وراق، وحلا وصفاً وإن كان مرّ المذاق، وأشرقت جنباته غاية الإشراق: كأن الشعاع على متنه ... فرندٌ مصفحة سيفٍ صدي وأشبه إذ درجته الصبا ... برادة تبرٍ على مبردِ فلما هبّت بعد سكونها الصبا، وهبّ من نومه الصباح، واستتر نور القمر واختفى، وبدا نور الفجر ولاح، نشر من المركب بُنوده، وقلّد شراعه وأحكم شدوده، ثمّ رحلنا وسرنا، وأشرع ذلك الشراع فأشرعنا، وخفقَّ ذلك الجناح فطرنا، فلم نزل نسير وذلك المركب يكاد يطير وذلك البحر: تتكسر الأمواج فيه فتنثني ... بيد الصبابة مبيضة أعطافها فكأن شهب الخيل قد غرقت به ... فطفت على أمواجه أعرافها فلما انتصف ذلك النهار، ظلمنا ذلك البحر وجار، وكان أمسى مس القرين بعد أن كان نعم الجار، ثم أزبد ورَغَا، وتعدّى وطغى، وعتا مفسداً وبغى، ورام ما لم ينله وبغى، واشتدت به الرياح وعصفت، وأتت به الأمواج من كل جانب واختلفت، واضطرب وتكسّرت وانقصفت، وصار السير به في حكم الحُرْمة بعد

الإباحة، فألقينا المراسي وقت العصر بوسط الباحة؛ لكي يحصل لنا من تلك الحال الراحة، فما ازداد القلب إلاّ خوفاً وفرقا، والعين إلاّ سُهَاداً وأرقا، والحلق إلاّ غُصةً وشرقا، والفؤاد إلاّ اضطراباً وقلقا، وقد أثارت الريح من الموج حنقا، ومشت عليه خبباً وعنقا، فأعادته كالبنان، وأصارت المركب فوقه يتلاعبُ كقضيب البان، حتى آليت ألاّ أودعها تحية، ولا يورثني هبوبها أريحيَّة. وبتنا ليلة الأربعاء بين تلك الأمواج، ونحن في غاية الاضطراب والارتجاج، وأقمنا بذلك المحل إلى أن قوضت خيام الليل ورحل، وسَل صارم الفجر من قرابه، وتجلّى النهار في جوهري أهابه، وأسفر من المشرق وجه الشمس يُوح، فجرت بنا السَّفينة في موج كالجبال كجري سفينة نوح. ومما جربنا فيه الفكر في هذا الحال، وجرى به اللسان فنطق وقال، أبيات على وجه المطارحة، وهي لتلك الأحوال شارحة، وفي تلك الميادين سارحة، فقلت بيتاً ثم قال بيتاً إلى آخرها: لي: أزبد البحر هياجاً ورَغى ... وتعلى وتعدّى وطَغى له: قلت لمّا جدّ فينا عَزمه ... وجميل الصبر منّا استفرغا لي: وبنا قد أُنشبتْ أظفاره ... ولنا كشّر ناباً قد شَغَا له: وبغى إصلاح ما يحملنا ... بفساد الحال لمّا أن بغا

لي: ربنا سخّره وأصرف شره ... وأنلنا من حباهُ المُبْتَغى له: وانثر الريح رخاء سجسجا ... وأعد ظلّ الأماني مسبغا لي: وأرحنا من أذى مركبه ... فهو عن مقصدنا قد روَّغا له: وتوانا عن منايا لاهيا ... عن هوان بلُبان مضغا لي: بحبال جرّها في مَوجه ... في جبالٍ مدّها لن يفرغا له: وبإيعاد عظيم قد هَذا ... وهو في لج عباب دَلَفا لي: فبسلم قد لقينا حربه ... وهو قد شبّ لنا نار الوغا

له: فهو أعمى ما رآنا أبكم ... لم يجبنا بل أصم ما صَغى لي: لشهي الأكل قد أحرمنا ... ولصافي شربنا ما سوّغا له: ورجاء القلب في اللطف غدا ... واثقاً في دفع ضرّ بلغا ولم نزل نسير ونمور في مواسط تلك البحور، طوراً في الصعود وطوراً في الحدور، إلى أن رجع البحر إلى الموادَدَة والمصافاة، بعد تلك القسوة والمجافاة، ووافى بريح طيبة أحسن موافاة)، فما كان إلاّ سُويعاتٍ يسيرة وأشرفنا على البلدة، واستبشرنا بالفرج بعد الشدّة، ثم أكملنا أبيات المطارحة بعد مُدة، فقلت: فاستجاب الله منّا وكفى ... شر شيطان الأسى إذ نزغا له: وحبانا بِره في بَره ... وإلى ما يُبتغَي قد بلَّغا

لي: فنعمنا في رياض الأنس في ... رفعةٍ مع خفض عيش رُفغا له: فلهُ الحمد على ما خصَّنَا ... من هباتٍ ظلها قد أسبغا لي: وعلى المختار منه دائماً ... صلوات كل حين تُبْتَغى وعلى الآل مع الأصحاب ما ... أفل النجم دجى أو بَزَغَا ثمّ أرسيْنا بمرساها عندما انطبق جفن الظلام على عين الشمس ومضى اليوم مضي أمس، وكان استقرارنا بتلك البلد الأنيس منتصف المحرم ليلة الخميس، فحللنا منها المحل المودود وحللنا بها المشدود والمعقود، وجددنا بمعاهدها العُهود، ووفا لنا الدهر بالعود إليها الوعود، فتبدل الكدر بالصفاء، وأيام الجفاء بليال الوفاء، ونزلنا في بيت صاحبنا الحاج مصلح الدِّين مصطفى، فوجدناه غائباً في تطلب عبد له قد أبق، وركب في الفرار طبقاً عن طبق، فتلقانا أهله وأولاده بالترحيب والتأهيل والتكريم والتبجيل، وأنزلونا بغرفة لطيفة حسنة مرتفعة، فتركنا هنالك ما معنا من الأسباب

والأمتعة، وأقمنا هنالك في أنزهِ مكان إلى وقت الصلاة من يوم الجمعة، فصلّيناها في مسجد البلد الجامع، وهو مسجد متسع لكل أهل البلدة جامع، إذ لا جمعة بها في سواه، ولا خطبة فيما عداه، فوجدناه مسجداً عتيقاً فضياً أنيساً أنيقاً، ذا أبنية متينة وعمارة مكينة، وهو مرتفع في أعلى المدينة، يُصعد إليه ويُرقى في أطول طريق وأرفع مَرقى، وأمّا خطيبه ففي الأسْمَال غاية، وفي الإعجام آية، وفي التبديل والتحريف نهاية، مع ما يضاف إلى ذلك كما قيل من سوء الاعتقاد وتبديل القرآن كالنطق بالظاء مكان الضاد، وذكره أحاديث لا نعرفها، وصدور تُرَّهاتٍ منه لا نقدر نصفها، فقضينا ببطلان تلك الصلاة، وقضيناها ظهراً ولا قوة إلاّ بالله، ولما قضيت الصلاة انتشرنا في أرض تلك البلدة وأضافنا من الأصحاب بها عدّة، فلم نزل نَجْوب في أطرافها، ونجول في أكنافها، ونتفرج في مفترجاتها، ونتنزه في متنزهاتها، وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت، وبيّنت من صنعة الله وصبغته ما بيّنت، فغدت تتبرج في ملابس عبقرية، وتتأرج بأنفاس عنبرية، وتشمخ على غيرها من البلدان بارتفاعها، وتفتخر على مجاوريها بحصانتها وامتناعها، وتزهو بطيب هوائها ومائها، وتسمو بجدّة رونقها وقدم بنائها، وتستحل طيب فواكهها، وتستجل عرائس منازهها (وتقسم بعلو هضابها أن لا تفوز الثريا برشف رضابها) وقد استدار بها البحر استدارة السوار بالزند، وألبس ذلك الجسم حلل العرار والرند، وركب خلائق الوهد على ذلك النجد، وكتب بخضاب الربيع على نقاء ذلك النهد،

ثم آب الحاج مصطفى من غيبته، وقرب المسافة من أوبته، وحيَّانا بسلامه وتحيته، ثم أعادنا إلى منزله وعَقْوَته، بعد أن عقد في قسمه علينا وأَلِيَّتِه، (فعدنا إليه) وحللنا لديه في تلك الغرفة المذكورة آنفاً، فشاهد منها مشارقاً للإنس ومشارفا، وهو يهدي إلينا من تحف هداياه لطائفا، وقد أحاط بنا من سائر الجهات بستان ذو أفياء وأفنان، (وزهور مدبّجة الألوان)، عرائس مسرحات زاهية، وعرائش كرمات عالية، ذات قطوف دانية، ونسيم معطار، وحفيف أشجار، وتغريد أطيار، من شحرور وهزار، يهيج كل منها لوعة الصب النازح الدار، ويضرم في قلبه من أشواقه لاعج النار، ويطير بقلبه أنّى طار، كما قال في الإنشاد ابن حصن كاتب المعتضد ابن عباد: وما هَاجني إلاّ ابن وَرْقَاَء هاتفٌ ... على فَننٍ بين الجزيرة والنَّهرِ مفستقُ طوقٍ لازورديُّ كلكلٍ ... ومُوشى الطُّلىَ أحوى القوادم والظفرِ أدارَ على الياقوتِ أجفانَ لؤلؤٍ ... وصَاغ على الأجفانِ طَوْقاً من التبرِ حديدُ شَبَا المنقارِ داجٍ كأنَّهُ ... شَبَا قلمٍ من فِضةٍ مُدَّ في حبرِ توسَّدَ من فرع الأراكِ أريكةً ... ومَالَ على طيِّ الجناحِ مَع النحْرِ

ولما رأى دَمْعي مُراقاً أرابَهُ ... بُكائي فاستولى على الغُصُنِ النضرِ وَحَثّ جناحَيْهِ وصفَّقَ طائراً ... وطار بقلبي حيثُ طار ولا أدري ولم نزل هناك ليالي وأياماً آمنين، وأعيان المدينة يهرعون إلينا مسلمين وداعين وملتمسين للدُّعاء ومؤمنين ومعظمين ومبجلين ومكرمين، ونحن في لذّة عيش، سالمين من الكدر والطيش، لولا ما يعترضه من تذكر البلاد، والتألم لمفارقة الأهل والأولاد، فكان كلّما هنئ العيش تنغَّص، وكلّما ازداد الأنس تنقَّص، وكلما هممنا ببسط وانشراح أدركنا بسيط هم وأتراح، كما قيل: مُنغصُ العيش لا يأوي إلى دعَةٍ ... منْ كان ذا بلدٍ وكان ذا ولدِ والساكنُ النفسِ مَنْ لم ترضَ همتّه ... سُكْنى بلادٍ ولم يشكو إلى أحد ولولا ما مَنَّ به تعالى من مجالسة مولانا السيد ليلاً ونهارا، وتملينا بطلعته السعيدة عشياً وأبكارا، وتحلينا بدرر ألفاظه ومؤانسته مساءً وأسحارا، لتفتت القلب جداداً وانفطر الكبد انفطارا، فكنت أرتاح بروح مؤانسته ارتياح اللهفان للنسيم البليل، وأشفى بمكالمته كَلْم القلب العليل، وأروى برؤيته ما به من الغليل، وأدخل في الليل حالة السكون بقلب خافق فيه من الأدواء دخيل، وأتلقى المنام بطرف شحيح بالكرى بخيل، وكلما فتشت للأوطان في فكري ذنباً أجعله سبباً

للسلو أو عيباً أركن به إلى الراحة والهدوء قال الاختبار لا سبيل إلى ذلك، وجعل يعرض عليّ من حسناتها ما جلى به ظلام الليل الحالك، ولولا أني أرجع إلى جميل الصبر بعد الذهاب، وأعلل النفس بتنفس الكرب بقرب الإياب، لأمسيت أثراً بعد عين، ولكنت أحد من قتله يوم البين: البينُ جرَّعني نقيعَ الحنْظَلِ ... والبين أثكلني وإن لم أُثكلِ ما حسرتي أَن كنتُ أقضي إنما ... حسرات قلبي أَنني لم أفعلِ نقِّل فؤَادك ما استطعتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى ... وحنينُهُ أبداً لأولِ منزِلِ وهذه عادة الأيّام في اعتقاب تجميعها بتفريقها، وإسراقها كل نفس بريقها، لا تجمع شملاً إلاّ شتّته، ولا تصل حبلاً إلاّ بتّته، من أطاعها عصته، ومن داناها أقصته، ومن وصلها قطعته، ومن نزع إليها نزعته، ومن أرضاها أغضبته وأحرجته، ومن سكن دارها أزعجته وأخرجته، بصَّرنا الله تعالى بمعايبها، وأعاذنا من بلاياها ومصائبها بمنه وكرمه آمين، إنّه أرحم الراحمين. ومما فتح الله به في تلك البيوت من الأبيات، ولولا تقريض السيد المولى لها لما

استحقت الإثبات، قولي: أتُرى لمُغْرى بالغرام مواسي ... أم من سقام شفه من آسي أو من دواءٍ عله يشفيه أو ... من رقية تحميه من وسواسِ إني ومن يهواه إمّا هاجر ... أو مبعد أو سَاكن الأرماسِ وزمانه قد عظه بنوائب الأني ... اب بل وضوارس الأضراسِ شوق وحزن واغتراب مع ضنى ... جسدٍ وبُعد الدار والإفلاسِ وببعضها يفنى الحمول فكيف مَع ... تحميل ذي الأنواع والأجناسِ فالروح فيه في السياق وجسمه ... بالٍ وفي الأحشاء حز مواسي والعظم عار ليس يمسكه سوى ... جلد ومن لهب الجوانح كاسي والقلب ذاب فماؤه دمعاً جرى ... ودخانه يجري مع الأنفاسِ والطرف طول الليل لم يطرف وإن ... يغمض فيرجع حَاسراً كالخاسي يجري على متن النجوم بسرعة ... والنجم كالمشدود بالأمراسِ

فالطَّرف في جولاته كالطِرف في ... ميدانه والنجم كالبرجَاسِ والليل مثل السيل في إقباله ... لم يحص بالمكيالِ والمقياسِ أو مثل بحر مزبد متلاطم ... أمواجه مثل الجبال رَوَاسي أو عسكر كسر الصباح وجنده ... لما علاه بسطوة وببأسِ وأظنه ماسوره إذ ليس من ... حسن له يُرجى ولا إحساسِ فلقد ألفتُ سواده وغدوت من ... طول المدا لبياض صبح ناسي وإلى إلهي أشتكي ما ألتَقي ... ممَّا أعاني حمله وأقاسي وإليه في كل الأمور توسلي ... بمن اجتباه من جميع الناسِ هو أشرف الخلق الذي قد طهرت ... أخلاقه من سائر الأدناسِ هادي الأنام شفيع مُذْنبهم غَداً ... عون الغريب وللفقير مُواسي من أظهر الدين الحنيف بسطوة ... أمسى بها إبليس في إبلاسِ فعسى صباح للمنى يأتي بتف ... ريج الكروب السود بَعد اليأسِ

وعسى نهار بالتداني مشرق ... يمحو دجى ليْلِ التنائي الماسي إني لأرجو ذاك يحصل عاجلاً ... وتراض خيل الحظ بعد شماسِ وتُرى بوادي السعد وهي حواضر ... وتُرى عواري الجد وهي كواسي ويُرى جنى روض الأماني دانياً ... فلقد تبدا ذاوي الأغراسِ وتعود كالأعياد أيام الوفا ... وتُرى ليال القرب كالأعراسِ وتفيق عين الدهر بعد منامها ... ويرق قلب من جفاه قاسي ويفي بحق ضائع متذكراً ... لعهوده من بعد طول تناسي ويمن ربي باجتماع الشمل مع ... أهلي بأسنى حالة وأناسي في منزل أركانه بُنيت على ... تقوى من الله بخير أساسِ فالباب ليس بمرتح عن مرتج ... روح الإله على مدا الأنفاسِ عودتني بجميل لطفك سيدي ... في كل نائبة كطود راسي

ورحمتني في غربتي بمؤمل ... وأزلت ما بي بالوزير إياسِ عضد الملوك وساعد لهم بَدا ... كالعَيْن للوزراء بل كالرأسِ بحرٌ جَرَى عالي الذُّرى غيث الورى ... ليث السُرى عند الندا والبأسِ ورحمْتَ عَبْدَك إذ لجأت به إلى ... عَبد الرحيم السيد العباسيِ فبه تبدَّل كربة بمسرة ... وتعوض الإنحاس باستئناسِ مولى تردا بالكمال موزراً ... من كل محمود بخير لباسِ فرع لدوحة بيت آل محمد ... مترنح بجني وطيب غراسِ بحُلى الفوائد والفرائد والعوا ... ئد والمحامد والمشاهد كاسي فرد لأنواع المحاسن جامعٌ ... بالبشر بذكر مشهد العَبَّاسِ نور النبوة لائح في وجهه ... زاهٍ كما المشكاة والنبراسِ وأجُلُه عن ضرب أمثال وعن ... تخييل أشكال وذكر قياسِ

ماذا يقول مفوه في وصفه ... لو أنّه يُعطى ذكاَء إياسِ إنّ البديع بما حواه لعاجز ... عن حصره بالنقش في القرطاسِ لا زال محفوظاً بعين عنايةٍ ... تغني عن الحفاظ والحراسِ ولمجده خضر السعادة دائم ... باق بسؤددهِ بقاء الياس ولمجده ظل السيادة وارف ... ما أمتدّ ظل في رياض الآسِ فلما وقف مولانا السيد المشار إليه، أسبغ الله نعمه عليه، على هذه الأبيات، أجابني عليها بأبيات أبيَّات، فقال: قسماً بخير الخلق مولى الناس ... وبِعَمِه وصفيه العبّاسِ ما مثل در قد نظمت عقوده ... متناسق الأنواع والأجناسِ وافا فأهدى للمسامع حسنة ... شنفاً حيث شرفاً بغير قياسِ وبما تبدّا من بديع بيانه ... قد صيَّر الأفكار في إبلاسِ لو صُورت زُهراً معاني لفظهِ ... كانت لكيوان كتاج الرأسِ

أو قايست أنواره شمس الضحى ... أضحت كما المشكاة والنبراسِ سبحان مبدع فكرة قد أبرزت ... ما فيه من غرر وحُسْن جناسِ عالي الطباقِ فمتنه عن سَافِلٍ ... عارٍ ومن حُلَلِ البلاغة كاسيِ تنشى معانيه بلطف فنونها ... ما ليس ينشئه سلاف الكأسِ ويعيد روح الأُنس روح بديعه ... من بعد ما قد غاب في الأرماسِ ويرد روض البشر أخضر يانعاً ... زاهي الروابي بعد طول يباسِ فترى به ورق الفصاحة صُدَّحاً ... وكأنها القينات في الأعراسِ وإذا شذا قمري فضل بيانه ... ما معبد في روضة المقياسِ لله ناظم درة الغواص في ... لجج العُلوم بفكره الغطاسِ فهو الذي فرع الشيوخ بعلمه ... والعمر غض في أجد لباسِ وله معارف ليس ينكرها سوى ... من يبتلى في العقل بالوسواسِ ومؤلفات شاهدات أنهُ ... بالبحر غير مشبه ومُقَاسِ عن فضله حدث ولا حرج فما ... ينفيه إلاّ ذو الشنار الخاسي

من ينكر الشمس المنيرة غير من ... هو للعمى في حالتيه يقاسي لا غَرْوَ أن يعي مجاري فضله ... تعيى البغال بجرية الأفراسِ إني لأرفع مجده عن نعته ... ببديع أوصاف مضت لأناسِ وأجله أن أستعير لذاته ... من حلم أحنف أو ذكاء إياسِ ورث المحامد كابراً عن كابر ... وبنى علاه على أجلّ أساسِ لله در أب له قد كان في ... أوج العلا الطود الأشم الراسي ما أن رأت عيناه مثل جَلاله ... وخلاله كلا وَرَب الناسِ حلم له رضوى يخف ومقول ... يدع الجواهر وهي في أبخاسِ وطويل باع في العلوم مديدة ... ببسيط وافره الأنام يواسي وسماحة تدع ابن برمك مادراً ... وترد حاتم في قلاً وتناسي وولاية قرت عيون أولى الولا ... وبها عيُون أولى العناد خواسي

ونصائح تدع الغوى مرشداً ... ويلين منها كُل قلب قاسي وله كرامات تَعذَّرَ حَصْرُها ... كالقطر والأمواج والأنفاسِ من ذا يحاول عشر عشر نعوته ... لو يضرب الأخماس في الأسداسِ والله إني عن وفاءِ حقوقه ... في غاية الإقتار والإفلاسِ فله من المولى الكريم مواهب ... تكسُوه بالرضَوان خير لباسِ ولأوحد العلماءِ وارث مجدِهِ ... رتب تُرى فوق السماك رواسي وقباب سعد لم تزل علياؤها ... مشدودة الأطناب والأمراسِ وبكل لمح يستجد سيادةً ... تدع الحسود بحالةِ الخناسِ عذراً سليل المجد عن نظم امرءٍ ... قد رق من جور الزمان القاسي إن ابن سبعين لمعذور إذا ... ما فكره أضحى كعود عاسي فكن الرَّضِيّ بن الرَّضِيّ بن الرَّضِيّ ... بما أتى من فاقد الإحساسِ وتلق بالبشر الذي عودته ... ما قد بدا من مخلص عباسي ولئن تكن نزراً ركيكاً سافِلاً ... فالستر منك لدائه كالآسِ

جمحت قوافيه فلما راضَهَا ... بك أذعنت من بعد فرط شماسِ وغدت بفخر المدح فيك رفيعة ... ولها منابر في العُلا وكراسي وبَدَت تجرُ على جَرير مرطها ... وأبي فراس مفخراً ونُؤَاسِ وعلى حبيب قد تعذر وصلها ... وابن الحسين اخى الندا والبأسِ لا زلت ترقى للمعالي دائماً ... وفضاؤها لعلاك كالبرجاسِ ولمجدك العالي الثناء من الورى ... يجري كما الأوقاف والأحباسِ ولعيشك الخضر المنعم حافظ ... من أن يردّ رجاؤه للياسِ ما فوقت أيدي اليراع بوشيها ... مبيضةَ الأطراس بالأنقاسِ ثم كتب لي لُغْزاً زاده الله تعالى رفعة وعزاً: يا من غدا لب العلوم حاوياً ... وبجواهر البديع حاليا ما اسم ثلاثي تُرَى حُرُوفه ... ثلاثة وقد ترى ثمانيا

وهو على استوائه فعل وإن ... عكسته كان كذاك باديا وإن حذفت أولاً منه يُرى ... فعلاً يكون ذاهباً وجاءيا وإن تحرفه فذو الذوق يحُد ... عنه ويُلْفَى لأساه قاليا وإن عكسته تَراه صالحا ... من بعد ما كان مهيناً واهيا وكله في حَال قلبه يُرى ... فعلاً به تحصلُ المَرَائيَا وإن أزلت عينه أقام في ... مقامه ولا يكون نابيا وإن قلبته تَجده رقةً ... يحكي الذي بالسقم أضحى باليا وإن جعلت لامه فاءً لهُ ... كان لما تزبرُه مساويَا وإن قلبته فشىءٌ حامضٌ ... يُأكل منه حاضراً وباديا وإن لثلثيه اعتبرت تلقهُ ... أمر لمن غدا بربع ثاويَا واسم لبلدة تناءت دارها ... ودونها كم قطعوا فيَافيَا

وهو إذا اعتبرته حقيقة ... تراه شيئاً نائياً ودانيَا يوجد في أرض العراق مثلما ... يوجَدُ في أرض الحجاز ناميَا وفي خراسان إذا طلبتهُ ... يلفى وفي الروم يكون وافيَا ومصر والشام ففيهما لَهُ ... مآثر قد عدمت مُضَاهيَا فاقبله لغزاً قد أتى من مخلص ... لم يَبرح الدهر عليك ثانيَا وحُلَّه وحله بجوهر ... من لفظك الجزل بقيت سَاميَا منعماً في ظلّ عيش لم يزلْ ... عليك دوماً سَابغاً وضَافيَا فأجبته عنه، وألحقت به لُغْزَاً فقلت: يا من بِدُرّ العلم أضحى حاليا ... وفكره للمشكلات جَاليَا أبديت لي لغزاً بديعاً لم يزل ... قدري به بين الأنام رَاقيَا في اسم ثلاثي متى فصَّلتهُ ... صَارَت به أحرفه ثمانيَا وإن عكست لفظه فاسم لما ... يكون من نفس الجريح باقيَا وإن تصحفه محرَّفاً فمشر ... وب غدا التركي منه حاسيَا

وإن حذفت صدره وكرر الب ... اقي فمن صخر تراه زاهيَا وصحف الباقي محرفاً تجد ... ذا الذوق عنه لا يكون قاليَا وإن عكسته فأمر من يرى ... للنوق حالة الرحيل حَادِيَا وإن ترخمه بتصحيف فذا ... عضواً لأعضاءِ يكون حاويَا وإن حذفت عينه محرَّفا ... تجده في فصل الشتاء آتيَا وهو بأرض الهند يلقى جَاريا ... ومن وراء النهر يُلفى ساريَا أيضاً وفي الغرب يلوح مثلما ... يظهر في الشرق جلياً بَادِيَا هذا وما اسم ذو ثلاث أحرف ... وهو لسبع قد يكون وافيَا وذو هدى بهاؤه لا يختفي ... ترى به وصفاً لنا مساويَا وظاهر وإن تصحفه اختفى ... وفي جهات البر يبقى جاريَا محذوف غير منه شىءٌ ضدهُ ... محذوف فاءٍ فيه كان ثاويَا محرفا ودان فونان إذا ... حَرفت أولاً وأيضاً ثانيَا

وإن نقلت أولاً لآخر ... فهو سبيل كم أعان عانيَا وإن نقلت آخراً لأوسطٍ ... أمسى الفقير من آساه شاكيَا وإن تصحف ذا فمحظور به ... ترى الغوى كل وقت لاهيَا هاك الجواب ثم لغزاً سَافِلاً ... وللمعالي بالقبول رَاقيَا فحلِه بحله الحِل لهُ ... يَحُل في أوج السماءِ سَاميَا لا زلت في عز وسعد دائم ... مَا رَادَفت أيامنَا الليَاليا فأجابني، أمتع الله بحياته، عن لُغْزي هذا بقوله: يا بدر دين الله يا من غدا ... لكل فن في الورَى حَاوِيَا ألغزت في اسم شامخ قدره ... ما زال في أوج العُلا عاليَا إن قلت بدر فهو أزهى سنا ... إذ بك أضحى للسهار راقيَا كم فيه در عقده لم يزل ... عند الذي يخبره غَاليَا

وفيه رد لحسودٍ يُرَى ... بحسنه بين الورَى خَاسيَا وفيه بُر نبته مخصب ... وفيه بِر لم يزل جاريَا لو سَافر الراغب بُرْداً له ... لعُدَّ في درب الوفا وانيَا كم فيه للظمآن بُرْد يُرى ... من بَرَد يروى به صَافيَا أحسن من تحبير بُرد غدا ... به يماني يُرَى كاسيَا لو ابن بُردٍ رام نظماً له ... أعيى وأضحى عجزه بَادِيَا أو النواسي غدا بالذي ... أحدثه العجب به ناسِيَا أو الوليد اعتد ما صَاغه ... في كل نوع عبثاً واهيَا والمتنبي غدا عاجزاً ... بمعجز أضحى به غَاوِيَا أو المعري تعرى عن الرش ... د ولم يلق له هِادِيَا وليس بِدعاً ذاك ممن غدا ... بمجده عُطل العُلا حَاليَا لا زال في سعدٍ وفي نِعْمَةٍ ... ما لاحَ نجم في الدجى زاهيا

ثم كتبت له لُغْزَاً، فقلت: يا من صفا في العلم مورد شربه ... لما تروّى من مناهل عَذبه ما اسم ثلاثي معمى لم يزل ... تبصره في شرق الوجود وغربه هو صامت أبدي ويلفى ناطِقاً ... لكن برمز في الكلام لعُجْبه هو ظاهر خاف وليس به يُرَى ... غشٍ ولكن غشه في قلبه وإذا حذفت الصَّدر منه تلقهُ ... جمعاً لمن يلقى الصدور بحربه وإذا تصحف فهو أمر شامخ ... مع نعت جمع مشرف في حزبه ومع الزيادة آخراً يُلفى به ... بلد زهَى بين البلاد بخصبه وإذا تصحف فاسم خود كاد أن ... يقضي بها مَعْشُوقُها من حُبّه وإذا جعلت الفاء لاماً فهو ما ... يُبدى المتيم من محاسن حبه وإذا تصحف قلبه فقبيلة ... في البدو عُدت من أماثل عُرْبه فامنن بحل اللغز يا براً بلا ... مثل ويا بحراً سَما عن مشبه يا من إذا الأعلام عدت كان مَع ... أعيَانهم كالبدر صحبة شهبه

واسلم ودم في نعمة لا تنقضي ... ما انهل قطر من مواقع سُحبه فأجاب عنه بقوله: يا من غدا والعلم مورد شربه ... يصفو كما تصفو مَوارد حبه ألغزت في لغز بديع لم يدع ... فضلاً لدى فهم اللبيب وَلبه ومنعته نطقاً فأصبح صَامِتاً ... وعتا على فكر الأريب بحجبه وغدا يلوح ويختفي والغش من ... أفعاله متمكن في قلبه حاولت جهبذ فكرتي في رده ... غَزلاً وفسخ معاقد من عجبه فبدا له غُزُّ يحاول منعهُ ... عَمَّا أراد ولا تني في حربه وأراه عزاً شامخاً من معشر ... عز الطلائع أصبَحوا من حزبه لو أدركته من كُثّير عَزَّة ... فكَر لأبعد عن مَواقع قربه ولو استجاش لنصره وعلا لما ... أغنت ودام على الإباء بشعبه لله غزة ربع ناظمه لقد ... أبدت لنا بدراً زهى في شهبه

وبه دمشق تشرفت أرجاؤها ... لما أناخَ بها مطايَا ركبه وغدت به تبعاً لمصر تجول في ... حلل الفخار بما ارتوت من عذبه نشر العلوم بها فأصبح ما انطوى ... منها جلياً وادعاً في سربه فعساه يلفى كالرَّضِيّ أبيه بالش ... عر الذي وافا بذمه عُرْبه لا زال في سعد وعزٍ ما زَهَا ... بَدر الدجى في شرقه أو غربه وكتب لي لُغْزَاً أيضاً، وهو: يا واحد العصر الذي ... أوصافه لا تحصر ما اسم ثلاثي غدا ... معروفه لا يُنكر ليس بحسن جسمه ... وبالعيون يُبصر يمضي ولا رجل له ... مضاء طرف يحضر ويختفي في جوفه ... المحبوب والمستنكر قد خف لكن قلبه ... ليس عليه يقدر

متى تصحف فاَءه ... به كثيراً يُسْبر وإن حذفتها يكن ... له شؤون تزبر وإن تصحف عينه ... فاسم لشىءٍ يكبر وتارة يكون فعلاً ... حاله مقدر وتارة حرفاً لما ... يحيد عَنه المخبر وإن قلبته يكن ... خير متاع يخبر وإن تصحف فاَءه ... واللام لا تعتبر يختصُ بالفعل وعن ... فحواه لا يقصر وإن تحرف فاءه ... ولامه تُختصر يختصُ بي معروفه ... ولى حياة يقصر وإن تصحف لامه ... وعينه لا تذكر

فهو مباح لك يا ... من للقلوب يجبر فحله محله ... فهو الفريد الجوهَر واسلم ودم في نعمة ... ليس لها تغير دورية آخرها ... أولها لا يفتر ما لاح ليل ومحا ... دجاه صبح مسفر فأجبته عنه، وألحقت به لُغْزَاً أيضاً، فقلت: يا سيداً أوصافه ... مثل النجوم تزهرُ ألغزت لي في اسم غدا ... للكون طراً يغمر ليس يحسُّ جسمه ... والعين فيه تستر أوله كآخر ... ليس به تغير يطول مع أساه ... ومع سرور يقصر

وهو مطيع ربه ... لكن تراه يكفر متى تصحف فاؤه ... فهو لسبر مصدر واسم لألة لها ... يَخسر من قد يَخسر صحّف وحرّف فاءه ... أو عينه يختصر يُعم أشياء كما ... بالسبر أيضاً يأمر وجاء فعلاً للذي ... من الملال يحسر وأمر ذي سخاوة ... للضيف لما يحضر ترخيمه بالعطف أو ... بالمطل قد يفسر وإن تصحف فاءه ... فهو لنار أثر أو عينه ترى به ... باقي فعل يذكر وإن تصحفهما ... اذهب أمراً يحذر هذا وما مربع ... مع أنه معشر مسير ميسر ... مبشر ومنشر

كماله لا يختفى ... وهو بعين يبصر إن تحذف الزائد ... فهو بعباب يزخر والرد بالسوء لمن ... يسأل منه يؤثر متى حذفت صدره ... منه السقوط يحدر وإن أزلت جوفه ... فآكل لا يفتر وإن ترخمه أتى ... بعكسه إذ تأمر وقلبه اسم عاقد ... ووصف شىء يحضر وإن تصحف فاءه ... فهو نبات عطر وثم أوصاف له ... بين الورى تشتهر فحل عقده بعقد ... دُرّه لا يقدر لا زلت في سعادة ... أوصافها لا تحصر

دوريَة أفلاكها ... دائرة لا تفتر ما لاح نجم مزهر ... وفاح نجم مزهر فأجابني عن لُغْزي بقوله: يا من غدا مثل اسمه ... لما دجى ينور ألغزت في شىء غدت ... نعماؤه لا تحصر مرخماً حرفه ... تلقه نهى لا يقدر وإن تصحفه يكن ... منه بهاء يزهر وإن أعدت لامه ... حباك روض نضر واعكسه فهو راهب ... مما جناه يحذر وإن حذفت ثالثاً ... منه عراه بهر واقلبه فهو الرعب ... من قلب جبان ينفر فهاك حل اللغز من ... مقصر يعتذر واسلم ودم في نعمة ... ما لاح ليلاً قمر

وكتبت له لُغْزاً أيضاً، فقلت: يا أوحد العصر يا ... من عليه شكري وقف ما اسم ثلاث حروف ... وإن عكست فحرف وتارة هو فعل ... لذلك الاسم وصف فأجابني بقوله: يا من لمجد علاه ... بكر المعاني تُزف ألغزت شيئاً بديعاً له ... القلوب ترف كم مال عن ذي كمال ... وللجهول يحف وكم به جاء فتح ... وكم به حَل حتف وإن ترخمه يأتي ... له معاني تصفِ وإن ترخم وتقلب ... يَلوح من ذاك حرف وفاءه أحذف تجده ... اسماً به جاء عرف واعكسه تشهده حرفاً ... والنهي منه يشف لا زلت ترقى المعالي ... ما دام يَطرف طِرف

ولم نزل بذلك المكان المذكور، ننشر من الإنشاء زهر منثور، وننظم من القصائد درر بحور، ونحلى من نواشي الطروس بلآليء السطور، معاقد خصور ولبات نحور، وأتمتع من ذلك السيد المولى بمجالسته، وأتمنع إلاّ عن مسامرته ومؤانسته، وأرتشف من نمير زلال مفاكهة أحاديث أحلى من ارتشاف الرضاب، وأغترف من بحر علومه فوائد لها عندي اقتضاء واقتضاب: أحاديث أحلى في النفوس من المُنَى ... وألطف من مرّ النسيم إذا سرى فيا لها من أيام غرر جلت غسقاً وتعالت نسقاً، وبثت من علوم ونشت من منثور ومنظوم، وذكرت أيامنا بالبلاد الشَّاميّة، التي هي بالمحاسن موشية، وبعكوفنا فيها على العلم بكرة وعشية، فهناك كم من صارفة حرفت وعارفة عرفت وعقيلة عقلت وكلمة رمقت فومقتْ ومقلت فنقلت، قد ناب فيها عن والدتي هذا السيد أباً شفيقاً وعن أخوتي أخاً برّاً شقيقاً: شقيق أخاء لا شقيق أخوةٍ ... نسيب صفاء إن ذكرت نسيبا بل سيد ومولى ومالك الرق والولاء، ومنقذ بشريف فضله وتفضله نفساً أشرفت على البلاء، يؤنسني في وحشتي تلك مأنسة، ويقدّمني في كل الأمور على نفسه، بل هو الروح الروحانيّة والنفس الإنسانيّة، والقلب لكنه السليم من الانقلاب، والعين لكنها القريرة بالأحباب، قد رفعت من صدق الاتحاد الاثنينية بيننا، ولولا ملاحظة السيادة والعُبودية لقلت له: يا أنا، استغفر الله تعالى، بل نلحظ مقام

العُبودية ونحفظ رتبة السيادة ونقف على قدم الخدمة بين يديه متأدبين كما هو جاري العادة، ويكون هذا الموقف إعزازاً لا إذلالاً، ولا نتخذ كل وقت سوء الأدب ادْلالا، لا زال مقامه كل وقت شريفاً، وشرفه عالياً على كل شرف منيفاً، وظلّه في الآفاق صافياً وريفا، وسعده وارداً ورائداً من الإقبال منهلاً وريفاً، فلم نزل مقيمين هناك بذاك المكان إلى أن عاد السُّلطان من جَوْب تلك البلدان، وضرب له بظاهر تلك البلدة الخيام، وكان ذلك أواخر شهر المحرم الحرام، واستمر به المقام هناك ثلاثة أيام، ثم عَنَّ له الركوب من هناك في البحر المالح لمّا رأى في ذاك من المصالح، فبطل أعمال الركائب وأعمل ركوب المراكب، وعدّى الى القُسْطَنْطِينيّة محل تخت مُلكه في القارب، فما مضى ذلك اليوم وغده حتى ضمته سراياه وبلده، ثم تلاحقت به العساكر تترا، وتألفت مسرعة براً وبحرا، وكنّا قد سئمنا هناك من المقام، وإن لم يسأموا منّا أهل ذلك المقام، وآل الإكرام منهم الى الإبرام، وإن لم نبلوا من صحبتنا أقصى المرام، فأجمعنا على الرحيل وأزمعنا، ولم تك هناك الخيل معنا وليس ثمَّ محمل ولا مركب غير ما حملنا إليها من ذلك المركب المنسوب إلى الرئيس لطفي، وحاله في النذالة والسفاهة غير مخفي، وإلاّ المركب المنسوب لابنه ماميه، ساق الله ما يستحقه إليه، فأرسلنا وراءهما بسبب ذلك، وذكرنا لهما ما هنالك، وشرحنا لهما جليّة الخبر، وقلنا: إن كنتم تهيأتم للسفر وإلاّ فهنا مراكب أُخَر، وقصدنا تقريب الرجعة والمضي إلى القُسْطَنْطينيّة سرعة، فقالوا: قد تكاملت أمورنا ولكن اصبروا علينا إلى يوم الجمعة، فمضت الجمعة ولا حس ولا

خبر، ولا عين لهما ولا أثر، ولا أسفر وجه واحدٍ منهما ولا حضر، ونحن في غاية القلق والضجر، فأرسلنا إليهما وأكّدنا في الحضور عليهما فحضرا واعتذرا، وذكرا أنّ السفر ولا بدّ يوم الاثنين، فجاء ذلك اليوم ولا عين ولا خبر وليس إلاّ الكذب والمَيْن، ونحن نقول: هما أين؟ هما أين؟ فغضبنا من ذلك وحردنا، وأكّدنا عليهما بسببه وشدّدنا، فحضرا وأجمعا ووعدا بأنّ السفر ولا بد يوم الأربعاء، وأقسما على ذلك وتقطَّعَا، فحضر الأربعاء ولم يحضرا ولم يُشاهدا ولم يُنظرا ولا خبر منهما ولا مخبر عنهما، فأيقنَّا أن ليس واحد منهما مُسْلِمَا، ثم انقضى ذلك اليوم ومضى، ونحن نتقلى على جمر الغضا، ونمزج الغيظ بالرضى، وقد ضاق علينا ذلك الفضاء، وصار صبرنا كأمس مضى. ومضت بعد ذلك مدة، وأيام عدّة، ثم حضر أحدهما معتذراً، مستكيناً بما جرى مستغفراً، وعاهد ووعد وذكر بأن يوم الأحد ولا بد يكون السفر، فانْتُظر ذلك الأحد أحدّ انتظار، إلى أن وافى بوعده ذلك النهار، ثم مضى يوم الأحد، ولم يحضر منهما أحد، ولا أنجز ما عَاهَد عليه ووَعد، ثم حضرا بعد أيّام، وقالا: قد استحيينا منكم ونحن نصدقكما الكلام، فإنّ مركب لطفي لم يتم، ومركب ماميه أشرف على التمام، ويكمل وسقه ولا بدّ يوم الخميس، (ويحصل من الكروب التنفيس)، ويكون نزولكم فيه بخير يوم الجمعة وقت التَغْليس، وأقسموا على ذلك قسماً لا يفجر من كان مسلماً، فارتجينا بذلك تنفيس الكروب، وقلنا قد يصدق الكذوب، فارتقبنا ذلك رقبى الهلال، ولم نشكو في انتظاره من الكلال، فلم

نزل بذلك الحال حتى حَلّ ذلك الوقت وَحَال، ومضى يوم الجمعة بالتمام والكمال، وتصرّمت بعده عدّة ليال، فتزايد الكرب، وذاب من نار الانتظار القلب، وضنى الجسد والفؤاد، من خلف الميعاد بعد الميعاد، فذكرنا ذلك لقاضي البلد، فأحضرهما وتوعد، وأنكر عليهما وتهدد، وبالغ في ذلك وشدّد، وأبرق في إيعاده وأرعد، فقالا: لا عذر لنا بعد اليوم، ولا إنكار ولا لوم، ويوم الثلاثاء من كل بدّ يركب القوم، ويأخذ مركبنا في السير والعوم، وحلفا على ذلك وعاهدا، وبالغا في أيمانهما وعهودهما وأكدا، فحضرا يوم الثلاثاء يُحثان في المسير احتثاثاً، ويُظْهران أنهما لا يُبْديان للعهد انتكاثا، وقالا: لم يوافق هذا النهار ريح موافق ولا رُزكار، وبعد يومين تنصلح الرياح غاية الانصلاح، ويحصل رُزكار مواتٍ للرواح، وفي يوم السبتّ يكون السفر على البت، فجاء السبت وانصرم، واتقدّ جمر القلب واضطرم، ثم مضى يوم الأحد ولم يحضر منهما أحد، فلمّا كان ضحى يوم الاثنين حضر أحد الاثنين واعتذر بما لن ينفعه، عذراً ما كان أصقعه، وقال: نرسل في الغد صندلاً لنقل الأسباب والأمتعة، فلم نصدقه من كثرة ما كذب، وأقمنا جدّه مقام اللعب، فلمّا انجلى وجه الصباح وتهلل، ظهر لنا من بُعدٍ ذلك الصندل، ففرحنا به فرحنا بالمواسم، وانتظرنا وصوله للثغر وثغر كلّ منا باسم، وما علمنا أنّ هذا الفرح يعقبه بؤس، وهذا البشر بديله عبوس، فأنزلنا فيه في تلك الساعة

الأسباب والأمتعة والجماعة على أنّنا نبكر لهم صباحاً، ونركب معهم غدواً ورواحاً، فأمطرت السماء تلك الليلة مطراً غزيراً، صارَ منه الوادي غديراً، واستمر يوم الأربعاء ثم ليلة الخميس معاً، ثم أسفر وجه الخميس ووجه الجو في غاية التعبيس، وعيون المزن ذارفة، وسقف الأفق واكفة، والقلوب من ذلك راجفة واجفة، الى أن تعالى النهار، وكاد جرف الصبر ينهار، فكف حينئذٍ الوبل، وتنازل الى مرتبة الطل، والشّمس من خلل السحاب تظهر كالحسناء في النقاب أو مثل عذراء تبرز وتستتر بالخباء، أو كما قال الشريف ابن طباطبا: متى أبْصَرْتَ شمساً تحتَ غَيمٍ ... ترى المرآةَ في كفِّ الحسُودِ يُقَابلُها فيكسبها غِشَاءً ... بأنفاسٍ تزايدُ في الصُّعُودِ فعزمنا على الرحيل، والتجول في برد الأصيل، وخرجنا وقت العصر من تلك المدينة، قاصدين في زعمنا الركوب في السفينة، وذلك يوم ثامن عشرين صفر ختم بالخير والظفر، وأخذنا في السير والترحال، والقلب في غاية الأوجال من تلك الأوحال والأحوال، فلمّا وَصَلنا إلى قرب الساحل التي السفينة به، تلقّونا الجماعة، ومالوا بنا إلى قرية هناك بقربه يقال لها ينكيجه باللغة الرُّوميّة، ومعناه الجديَّدة بالتصغير في اللغة العربيّة، وقالوا لنا: استريحوا هنا في هذا المكان، وعرّفنا الجماعة أنّه كذب في قوله وَمَان، فنزلنا هناك ببيت عالٍ من الدفوف، متخرق الحيطان والسقوف، تتناوح به رياح الجنوب والشمال، من العلو والسفل واليمين والشمال، فلم نزل بذلك المكان ثلاثة عشر يوماً، لا نجد بالنهار راحة ولا نذوق بالليل نوماً، ونحن في أسوء الأحوال، وأشدّ الأوجال، من تلك الأمطار والأوحال، وقد اشتد البرد، وبلغ الجد وفرغ الجهد، ووقع الثلج على الجبال حوالينا، ووصلت

سهامه إلينا، وقلنا الحمد لله اللهم حوالينا ولا علينا، وهذان النذلان يعدانا بمواعيدهما المعروفة، ويجريان من الكذب على عوائدهما المألوفة، ويعاهدان ثم يخلفان، ويكذبان فيما عليه يحلفان، فلم تزل تلك دعواهم، أضعف الله قواهم، وضاعف بلواهم وأبعدهم وأخزاهم (وعاملهم بعدله وجزاهم)، فما أجرأهم على النفاق وأجراهم، فبينا أنا أقاسي من ذلك حزناً وحربا، وأتنفس الصّعداء غموماً وكربا، وألاقي من تلك الأهوال وصبا ونصبا، وأكاد أتميز غيظاً وغضبا (وقد بلغ السيل في الحالين الزبا)، وضاق الخناق، واشتد الوثاق، وتزايد الإغراق والإحراق، وبلغ إلى حدٍّ لا يستطاعُ وصفه ولا يطاق، فما راعني إلاّ البشرى بوصول خيلنا، وسوقها من فضل الله سوقاً لنا، فاستخرت الله تعالى في السفر في البحر وصمّمت، وعزمت عليه وعزَّمت وجزمت، وكان قد تنجز أمر ماميه حقيقة في تلك الساعة، وعزم على الركوب في سفينتهِ السيد ومن معه من الجماعة، وعرض علينا ماميه الركوب فيها عرض الكرماء فأنشدته: ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء وممّا جرى على اللسان فيه وفي أبيه ما أنشدته على البديه، وهو قولي: إنّ يقل المريض ثلث مالي ... لا نذل النساءِ والرجال نصرفه في الحال إلى مَاميه ... لكن أبوه يدعي عليه

يَقول هذا خلقي وطبعي ... فالمال أستحقه بالشرع حينئذ يقول ماميه له ... لقد خبرتُ فرعه وأصله وقد حويت كثره وقله ... وقد وردت عله ونهله وقد بقي لي دائماً جبلَّهْ ... وخصلة طبعَية وخُلَّهْ فالمال أستحقه من دونكا ... فلا تمدنَّ إليه عينكا فعند ذا يغضب لطفي منه ... ولم يزل معنفاً بلعنه يَقول أنت غاصبٌ حقوقي ... في كل وقت مظهراً عقوقي يَقول ماميه إذا طلبت ... حقي فما أن لك قد عققتُ يَقول لطفي كيف قلت حقي ... وذلك الوصف أتم خلقي ألست من يوعد ثم يحلف ... خمسين ألف قسم ويخلف قال ابنه لقد رأوني أكذبا ... منك بإجماع وألعن أبا وقد تركبت عَليك الحجّة ... وظهرت منها لي المحجّة إنّ العقوق يقتضي استحقاقي ... إذ هو من نَذَالة الفساق

فما ذكرته هو الدليلُ ... قد قامَ لي عليك يا جهولُ وأنت إن كذبت إذ واعدتا ... فللذي فعلت ما وصَلتا ألست قد نبذتُ بالعراء ... السيد الشريف ذا العَلاء عين الأماثل ورأس الناس ... عبد الرحيم السيد العباس مع كبر المقدار والسن ولم ... أرع له الحقوق أصلاً والذمم ومعه ذاك الغريب الشامي ... مع أنه المفتي بأرض الشام فشاط لطفي عند ذا القول وقال ... من بعد أن آلمه ذاك المقال أليس تزعم بأنك ابني ... فقد أخذت ذا الطباع عني وقد نقلته جميعاً مني ... فإنه قبلك كان فني وثم عندي منه أصناف أخر ... وثم أوصاف لدي تُدَّخر وأنت لم تدر سوى ما قد ظهر ... ولست تعلم الذي عندي استتر

وكنت قد نويت أني أنفعك ... ببعض ما عندي ولست أمنعك فإنّ عندي منه ما لن يفرغا ... قط وما بَلَغت هذا المبلغا قال له ماميه بل عرفتُ ما ... عندك باديا وما قد تكتما ثم اكتسبت الضعف من سواكا ... غير الذي اقترحته من ذاكا فالآن قدري فيه فوق قدرك ... هذا وما بلغت نصف عمرك فسل من الأنذال عن مقالي ... يعترفوا بالمقام العالي فذل لطفي حين قال ذلكْ ... وصار وجهه كليلٍ حالكْ ثم أتاه بكلام حسن ... وبمقال لين لا خشن وقال يا ابني يا أخا المروة ... ويا أبا الرُجلة والفتوة والقصد بالمروة النذالة ... والقصد بالفتوة السفالة قد فقت فيهما جميع الخلقِ ... وقد سلخت خُلقي وخَلقي فانت يا قُرَّة عيني مني ... فقد تيقنت بأنك ابني

فاسمع كلامي وارع لي تعليمي ... وارفع مقامي واسع في تكريمي فقال: كلا لست أعطي حقي ... أو بعضِهِ لأحد في الخلقِ وإن تكن أبي فمن كمالِ ... سفالتي مَنْعُك من ذا المال فعند ذا رفع كل أمره ... لبعض من له بذاك خبره قال هما كفرسي رهان ... أو كشريكي شركة العنان فإن هذين بلا محالهْ ... رأسان قدوتان في النذالةْ وإنني والله لست أعلمُ ... أيهما في ذلك المقدمُ إن قلت ماميه ففيها أمة ... أو قلت لطفي فهو نذل الأمة فإنّ هذا الذل مع أصالته ... أعظم حجة على سفالته وذلك الجفاء من ماميه ... نذالة ظاهرة عليْهِ والصلح قالوا سيد الأحكام ... وهو اعتماد سائر الحكّام

والرأي أن تصطلحا وتقسما ... جميع ذا المُوصَى به بينكما فأنتما أنذل هَذي الأمّة ... فافترقا على رضى بالقسمة ومما قلته في لطفي العنيد، ونحن في ذلك الحال الشديد، الذي ما عليه من مزيد: عامل الله بعَدْل ... أنذل الأقوام لطفي وتولانا بفضل ... وتلافانا بلُطْفِ ثم ركبت من ذلك المكان، أنا ومن معي من الصبيان، وصحبنا معنا ما قلّ من الأمتعة، وتركنا بقيتها في المركب مودعة، وودعنا مولانا السابق في الذكر المتقدم بالذِكر وداعاً استولى على القلب واستعلى على الفكر، وفارقته بالجسم والقلب له مصطحب، وأنا ضاحك من ودع ذلك المحل ومن وداع ذلك الحال منتحب، وتذكرت بوداع ذلك الصاحب الحبيب وداع كل صاحب وحبيب، وبهذا الفراق والنأي القريب فراق كل ناءٍ قريب، وأنا أتململ بين نار قلب في نهاية الاضطرام، وماء طرف منسجم غاية الانسجام، وأتمثل بقول علي بن هشام: يا مُوقِدَ النارِ يُذكيها فيخمدُها ... قُرَّ الشتاءِ بأرواحِ وأمطارِ قم فاصطل النار من قلبي مضرَّمةً ... بالشوقِ من مهجتي يا موقدَ النارِ ويا أخا الذودِ قَدْ طَالَ الظماءُ بها ... ما يعرف الرَّيُّ مِنْ جَدْبٍ وإِقتارِ

ذكر العود إلى القسطنطينية وما جرى بعد ذلك من الأمور المرضية

رُدَّ بالعطاش على عيني ومَحْجرِهَا ... تُروي العطاشَ بدمعٍ واكفٍ جاري يا مُزْمع البين لا كان الرحيل فإن ... كان الرحيل فإني غير صبَّارِ إن غابَ شخصكَ عن عيني فلم ترهُ ... فإنّ ذكركَ مقرون بإضمارِ ذكر العود إلى القُسْطَنْطِينيّة وما جرى بعد ذلك من الأمور المرضيّة وكان رحيلنا من ذلك المكان الذي مرّ ذكره وتقدم، يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول المكرم بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسرنا والسماء متسترة بأجنحة الفواخت، والطرف من خوف ما يحصل من نؤها باهت، ولم نزل نسير ونلتهم الأرض التهام الضمير، ونرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير، ونجول في وداة وأشجار، ونحوب في مياه كالأنهار، إلى أن انهار جرف بناء ذلك النهار، ونحن نصل السير بالسُّرَى، ونعاصى عاذل الكرى، واليباب يخفضنا إلى بطون وهاده، ويرفعنا إلى ظهور نجاده، والليل قد أرفلنا في بجاده وجللنا برداء سواده، والقمر قد حجبه الغيم في أفقه، فلم يظهر من غربه ولا شرقه، وعَوَّض عنه بسناء برقه، والرذاذ يلطم الجباه، ويهجم على العيون والأفواه، وذيل الوحل على الأرض منسبل، وستره على بطحائها منسدل، (وسُلْطَان النوم عن الطرف ينعزل وعلى وصليه إلى المقل منفصل) والإعمال في السير متصل، وكل منا بحالة الخائف

الوجل، إلى أن اهتدينا بعد أن كدنا نضل، إلى المنزل المعروف بدل، وهو منزل إلى جانب البحر بين تلال في مضيق، ومنها يُنْزل في المُعديّة إلى قرب أزْنِيق فيقرب على الناس الطريق، وبها عمارة لابن هرسك للقاطنين والواردين، وعند المُعديّة على الدرب خان للمسافرين، وبظاهره عينٌ ماؤها معين، يصب في حوض كبير لورود الواردين، فنزلنا بذلك الخان، إلى أن آن وقت الفجر وحان، ونحن لا نهجع، ولا يستقر لنا مضجع، ودمعنا ودمع الغمام ذارف، وسقف الخان والسماء واكف، فبتنا بليلة نابغية وأحزان يعقوبية وتصبرات أيّوبية، لا نجد من تلك البأساء ملجأ ولا مقيلاً، ونلقي من أعيننا وأعين المزن بالليل قبل النهار سبحاً طويلاً، فعندما تجلّى وجه السحر، وذبح لضيف الصباح مطيّة الظلام ونحَر، خف القطر وقل، وتنازل من الوبل إلى الطل، فأخذنا في الترحال، وركبنا متون تلك الأوحال، وسمونا مع الماء سُموَّ حبابه حالاً على حال. ولم نزل نقطع مهامة وقفار، ونجوز في أودية كالبحار، يندهش بزمع فيها البصر ويحار، إلى أن وصلنا إلى كيكثبزة ضحوة النهار، فما ملنا إلى النزول ولا عُجْنَا، ولا عولنا على غير المسير ولا عرجنا، واستمر السير ذلك النهار جميعه والسحاب لا يكفكف دموعه، والشمس متسترة بخدرها لا تبرح خوف ذلك الزلق من وكرها، والأرض لا تثبت الرجل من كثرة الوحل على ظهرها، وتلك الجياد ترسف فيه كالراسف في الأقياد، وقد ضنى من ذلك القلب والفؤاد، والثياب منقوشة بأيدي الخيل من العاتق إلى الذيل، ووافانا (في

ذلك النهار) جماعة ممن كان صحبنا في الطريق، وممن عدّ في ذلك الفريق، واتّسم لنا بسمة الرفيق، راجعاً كل منهم إلى بلده، مؤملاً لقي أهله وولده، فحمّلناهم أطيب السلام إلى أحبابنا بأرض الشَّام، وقد فنى القلب تحرقاً وثوب الصبر تمزقاً وتذكرنا مرارة الفراق وحلاوة اللقاء، فتزايد من الجوانح الالتهاب، ومن الدموع الانسراب والانسكاب، ولم يمكننا لهم إذ ذاك كتابة كتاب، وتمثلت بقول أبي حيَّان بوأه الله تعالى غرف الجنان: لم أؤخر عمّنْ أحبُّ كتابي ... لقلىً فيه أو لتركِ هواهُ غيرَ أني إذا كتبتُ كتاباً ... غَلَبَ الدّمْعُ مُقْلتي فمحاهُ وأنشدتهم والقلب في شغل شاغل، والدمع من العينين سائل، للصلاح الإربليّ نديم الملك الكامل: بالله عليك أيها المرتحلُ ... بلغ عني أحبتي ما فعلوا قل مات فإن قالوا متى قل لهم ... من يوم فراقكم أتاه الأجَلُ وأنشدتهم والفؤاد مُستعر والدمع مُنتثر وعلى الخدين مُنتشر والقلب لا

يسكن ولا يقر، لبعضهم: أيها الرَّاكبُ المُيَمِّمُ أرْضِي ... بلغن بَعْضِِيَ السَّلامِ لبَعْضِي إنَّ جسمي كما تراهُ بأرْضٍٍ ... وفُؤادي ومالكيهِِ بأرْضِِ قد قضى الله بَيْننا بفراقٍ ... فَعسَى باجتماعِنا سَوفَ يَقْضي حقق الله رجاءنا وتقبّل دعاءنا بمنه وكرمه آمين. ثمّ فارقتهم والجوانح ملتهبة والدموع منسربة، وأنا ألتفت إليهم مرّة بعد أخرى، وأجرّ رجلي جراً وهلم جرا، إلى أن غابوا عن البصر، وعاد عيانهم إلى الأثر، وحديثهم إلى الخبر، ثمّ تذكّرت قدومهم إلى البلاد، وإخبارهم عني عند سؤال الوالدة والأولاد، فأنشدت: كأني بأمي لا عدمت حنوها ... إذا جاء من أرضي إلى أرضها قفلُ يعمهم من نجوها كل سَاعَة ... تسائلهم عني وعن حالتي الرسلُ يقولون أين البدر أين مَحلّهُ ... إلى ما انتهى لمَ لا أتى هل له شغلُ أضامت به حَال أطالت له يد ... أأخرهُ نقص أقدمه فضلُ يقولون قد نال الأماني جميعها ... وعمّا قليل سوف يجتمع الشملُ

وقد نشرت في الخافقين علومه ... ومقدارُ سموا وقيمته تعلوا ناشدتهم بالله ألا صدقتم ... لديَّ أجدٌّ ما تقولون أم هزلُ ولم نزل نسير، ونقطع حجّة ذلك الوحل الكثير، إلى أن حان وقت الأصيل، فبدت الشمس مصفرة كلون العليل، ونزل ذلك الوبل إلى مرتبة الطل، وشمر قليلاً ذيله المُهْطل، لكنه ما أهمل همله ولا أبطل، ولا أنعزل عن عمله ولا تعطّل، ووصلنا إلى قرية القَرْطَل: والشَّمْسُ قد مَدَّتْ أدِيمَ شُعَاعِهَا ... في الأرض تجنحُ غَيْرَ أنْ لم تَذْهَبِ خِلْتَ الرَّذاذَ بُرادَةً من فِضَّةٍ ... قد غُرْبلتْ من فَوق نِطْعٍ مُذْهَبِ والقَرْطَل قرية لطيفة، تلاصق ساحل البحر وسيفه يضرب ماؤه في حيطانها، ويدخل أحياناً إلى بَعض بيوتها وأوطانها، وسكانها نصارى قد أكتسبوا ذلّة وصغارا، وألبسوا من هواء ذلك البحر نحولاً وصَفَاراً، وبها سمك كثير، وخان متسع كبير، وهو مُسَّبل للمسافرين، وبالقرب منه عين ماءٍ معين، وبظاهرها مزارع وبساتين، وقد مررت بها على بستان ذي فنون أفنان، فحيّاني بوجه مشرق، وحباني برداءٍ مغدق، وأنعشني بشذا رند معبق، وأدهشني بأصوات أطيار تنطق، حتى كأن بكل عود عوداً يخفق:

وما كنت أدري قبل ذلك والهوى ... فنون بأن الرَّوض يهوى ويعشق فحرّك سواكن أحزان، وأثار كمائن أشجان، وأذكرني بالأهل والأوطان، فترادفت لي زفرات وحَنين، وتتابعت مني عبرات وأنين، وتمثلت بقول بعض المغرمين: تالله لقد سمعتُ بالدوح أنين ... ورقاَء تنادي بنحيب وحنين الإلفُ مجاوري وهذا كلفي ... ما حَال قرين قد نأى عنه قرين ثم بتنا بذلك الخان، والنوم لا تألفه العينان، ولا يعرف طريقاً للأجفان، والغرام للقلب مقلق، والبكاء للكبد مغلق، ولواعج الجوانح مع وجود ذلك البرد تحرق، وقد اجتمع هناك من أدمع العين والغمام نهر مغدق بل بحر مغرق، وذلك الليل بأذيال الوجود متعلّق، ولعُهوده أن لا يفاجئه الصباح متوثّق، والصباح في نومِه مستغرق، أو مقيد في قعر سجن لا فاكَ له منه ولا مُطلِقْ، أو ميت ثوى فحواه لحدّ مطبق ضيّق، ولم نزل نستشم رائحة أجناده (ونستنشق، ونسأل عنه) كل مغرّب ومشرّق، إلى أن سطع نوره المَشْرق، وتهلل وجهه من المَشْرق، ونحن نكذب

ولا نصدق، فحين ظهر دليله وبان، وقام بوجوده البرهان، ترحلنا من ذلك الخان، وفارقنا ذلك المكان، وسرنا نقتفي البيداء، ونعتلي كل ثنية جرداء، والشمس محجوبة عن الأبصار، والمطر تجلبه إلى تلك الأمصَار من جنود السحاب أنصار، ومن بعوث الرياح إعصَار، والنفوس منحصرة من ذلك غاية الانحصار، فلما تعالى النهار، انبثق ريق بناء ذلك الغيم عن مائه وانهار، وأرسل إلى الأرض مطراً كالأنهار، فصيَّر كل قرارة حفيراً، وغادر كل ربوة غديراً، وخطّ كل طريق خطاً، وجعل كل جانب شطاً، وكثرت بالأوحال الأوجال، ولم يبق للنفوس في ميادين الصَّبر مَجال، ولم نزل نسير على تلك الأحوال، وأكفّنا مرفوعة بالدُّعاء والابتهال، إلى أن وصلنا بلدة أُسْكُودار وقت الزوال، فذهب ذلك الكرب وزال، ثم نزلنا في المُعديّة قاصدين المدينة العظمى قُسْطَنْطِينيّة، ولما (فرغنا من الأرض وصحوها ومسراها وممشاها) وضمت إلينا تلك السفينة ودخلناها قلنا لمن معنا (اركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاها ومُرْسَاها إنَّ رَبِيّ لَغَفُورٌ رَحِيم (فرحمنا الله بريح موافق مستقيم تسخر لنا به ذلك البحر، فامتطينا بركوبها مطاه، وتذلل لنا فصفعنا بأجنحتها قفاه، ولم تزل تسير بنا ونحن قعود، وقد خدمتنا في هذه الخطرة السعود، وأنجزت لنا ببلوغ المقصود الوعود، فوصلنا أصيل ذلك اليوم إلى الساحل، وانطوت بحمد الله شقة تلك المراحل. ثم دخلنا المدينة، وحصلت إن شاء الله تعالى الطمأنينة، وكان استقرارنا بالمنزل الذي أفرده لنا السيد وتفضّل، وذلك النهار الذي هو يوم الخميس ثاني عشر الشهر قد تحوّل، والليل الذي هو مسفر عن يوم الجمعة قد عَوّل، والقلب يصبو لمنازله ولا كأوّل

منزل، ويحن لأحبابه ولا كالحبيب الأوّل، وأقمت بذلك المنزل وتلك الدار ستة عشر يوماً لا يقرّ لي من البعاد قرار، ولا أجد جلداً ولا أطيق اصطبارا، ولا أطعم النوم إلاّ غرارا، وقد وهيت من فراق على فراق بداهية دهيا، وبقيت لا ميتاً مع الأموات ولا حيّاً مع الأحياء، وكلما تمثّلت لتلك المعاهد، وسألت عن تلك الموارد، لا أجدها إلاّ صماً عميا، فلم أزل أتطارح في تلك المنازل، وأتجرع غصص المنايا من خطب البين النازل: وأنتسم نواسم تلك المعالم ... فيفوح لي كالعنبر المتنفس ونمشي حفاة في ذراها تأدباً ... نرى أننا نمشي بوادٍ مقدّسِ وقد تزايد الشوق وربا، وزاد القلب هُمُوماً وكربا، وأثار فيه حربا زبوناً وحَرَبا، وتطايرت من نيران القلوب زفراته شرراً ولهبا، واعتلت من محاني الضلوع على الربا، وبلغ سيل العيون من محاجرها الزُبا، وكلَّ حُسَام الصبر ونبا، وعثر جواد الاحتمال وكبا، وأنا مع كل ذلك أستخبر عن أخبار ذلك الحبيب ولا خبر ولا نبأ، وقد طال الليل وأظلم واحلولك ولا نوم، وشابهه في نعته ما بعده من اليوم: فلم أرَ أُنساً قَبلَهُ عادَ وَحشَةً ... وبَرداً على الأحشاء عادَ غَليلا ومَنْ تَكُ أيّامُ السّرورِ قَصِيرَةً ... بهِ كانَ ليلُ الحُزنِ منه طَويلا وأُنْشِدُ قول القائل مترجياً: ولرُبَّ نازلةٍ يضيقُ لها الفتى ... ذَرْعاً وعندَ الله منها المخْرَجُ

ضاقَتْ فَلَمَّا اسْتحكمتْ حَلقَاتُها ... فُرِجَتْ وكان يظنها لا تُفْرَجُ فما راعني إلاّ دخول البشير عليَّ بقدومه، ثم اجتلاء طلعته الشريفة مع تسليمه، فتلاقينا بالتحية وتلافينا، وبكينا حتى انكبينا، ووالينا الحمد لله تعالى وأثنينا، وكم من نعمة لله تعالى علينا، فدنا الأنس، وانشرحت النفس، ونُسخ باليوم ما وقع بالأمس، وأخذنا نتفاوض مفاوضة الأصدقاء، ونتحدث عن أخبار ذلك السفر وآثار أولئك الرفقاء، ولا تسل عن حسن هذا الاجتماع وأنس هذا اللقاء: حديث تخال الروح عند سماعه ... لما هُزّ من أعطافِهِ تترنح فكان بذلك لنوم عيني سبيل، وعهدي بالنوم عهد طويل، وهو في الحقيقة لم يفارقني بل هو في كل حالة مرافق، وليس تألم القلب لمفارقته له وإنما هو لتألم الأجساد، فإنه وإن نزح عن العين ما برح في الفؤاد، فهو في الحقيقة لم يخرج عن شعار أجداده وهو السواد: حضرت فكنت في بصري مقيماً ... وغبت فكنت في أقصى فؤادي وما شطت بنا دارٌ ولكن ... نقلت من السواد إلى السوادِ

وما زلنا بذلك نجتلي أنوار المحاضرة، ونجتني نوَّار المذاكرة، ونلتقط نثير لآلىء الفوائد، وننظم عقود المقاطيع والقصائد، ونرد من العلوم أجلّ المصادر وأعذب الموارد، ونوالي أهل الولا، ونختص بذوي السؤود والعلا، ويتردد إلينا للانتفاع جماعة من الفضلاء، ولنشير إلى ذكر جماعة أيضاً ممن اجتمعنا به أو اجتمع علينا في مدينة قُسْطَنْطِينيّة أم الممالك الرُّوميّة وتخت سَلطنة الممالك الإسلاميّة، وكذلك في الرحلة الأزنكميدية. فأولهم وأولاهم، وأعلمهم وأعلاهم، الشيخ الأوحد، والإمام الأمجد المعروف بحاجي جلبي (عبد الرحيم بن علي) ابن المؤيد. وقد قدّمنا بعض ترجمته وذكر محبته وأخوته ومودته، وقد حصل لي منه قبول تام، وكنت عنده بمقام سام، يسمّني بالعالم المُدَقِّق، والعارف المُحَقِّق، وقد استفدتُ منه واستفادَ مني، وأخذتُ عنه وأخذَ عني، واستجزته لولدي أحمد ولمن سَيُحَدِّث لي من الأولاد، ويوجد على مذهب من يرى ذلك، ويسلك هذه المسالك. فممَّا أخذ عني مؤلفي المسمى ب الزّبدة في شرح البردة، وتفسير آية الكرسي، وبحث وتحقيق أوضحته في معنى الكلام النفسي، وقصيدتي القافيَّة القافيَة، التي هي ببعض مناقب شيخ الإسلام وافية، وقصيدتي الخائية المعجمة، وحل بعض طلاسم الكنوز المعظمة، وأنّ كتابه خَلاَّقٌ عَلِيم، وحملها ينفع لدفع الطاعون، وأنّه مجرّب كما رواه لنا الأئمة الواعون، وأنشدته لنفسي: من رامَ أن يبلغ أقصَى المنى ... في الحشر مع تقصيره في القربْ فليخلص الحب لمولى الوَرَى ... وَالمصطفى فالمرء مَع من أحبْ

ولشيخ الإسلام رضي الله عنه: إن تكن عن حال الذين احتباهم ... ربهم عاجزاً وتطلب قربا حب مولاك والذين اصطفاهم ... تبق معهم فالمرءُ مع من أحبَّا ومما أفادني إياه نقلاً عن بعض العارفين أنّ الإنسان إذا قال رَبَّنَا خمس مرات ودعا أُستجيب له، واحتج بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (رَبَّنَا إني أَسكَنتُ مِنْ ذُريَّتي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرعٍ عِندَ بَيتكَ المُحَرَّم) إلى قوله: (رَبَّنَا وَتَقَبَّل دُعَائي رَبَّنَا اغفِر لي ولوالديَّ وللمؤمِنِينَ يَومَ يقُومُ الحِسَابُ) فاستحضرت في الحال دليلاً آخر ببركته، وهو قوله تعالى: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) إلى قوله: (رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدتَّنا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَومَ القيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ)، وهي تمام الخمس، ثم عقبها بقوله: (فاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم) فَسُرَّ بذلك كثيراً وشكر ودعا. ومنهم ولده العَلاَّمة المُحَقِّق والفَهَّامة المُدَقِّق الرافع قواعد هذا البيت والمؤسس، ملا عليّ جلبي المدرّس، فرع الأصل العزيز، وطبع الأدب المحجل أسلاك الدرر وسبائك الإبريز، المُعْترف له في ميدان البلاغة فرسان البراعة بالسبق والتبريز، أحد المشيخة الذين تفرط بحلى أنبائهم كل أذن مصيخة، فترسخوا للعلا وتوشحوا بغر الحلا، وكرعوا في بحر علم لا يكدره الدلا، لم يزل متحلياً من الشيم الفاضليّة بأنفسها دراً،

متجلياً في سعودها الشارقة بدراً مُتخليّاً عن كل ما يعقب الإقبال على السعادات إدباراً، متسنّماً من ذروة مراتب الصفات وصفات المراتب أحصاها منالاً وأسماها مناراً، متبسماً من أخلاق المجد ومجد الأخلاق أزهرها نضارة وأنضرها إزهاراً متنسماً من رياح الأريحية نفحة طيبة ونسيماً معطاراً، (أحضره والده لديّ، فسلّم عليّ وتودّد إليّ، وصار بيننا وبينه أكد صُحبة وأشدّ محبّة). ومنهم أخوه الشّاب النجيب، والفاضل الأريب، الواصِلُ إلى رُتبة النهاية في المبادىء، والفائق بفضله الحاضر من أقرانه والبادي، سيدي أبو الهدى عبد الهادي، شاب نشأ في عبادة الله، وراعى في صغره من الهَدْي والهُدَى أباه، اختطفته يد المنيّة في صباه، ودعاه ربه إلى جواره فلبّاه، فمات بالطّاعُون شهيداً في صفر الخير سنة سبع وثلاثين وتسعمائة، ونحن إذ ذاك ببلدة أزنكميد، رحمه الله تعالى، وكان قد جمعه أبوه عليَّ، وأمره بالتردد إليَّ، وحضر مجلسي عند أبيه، وسمع ما صدر منّي من البحث فيه. ومنهم أخوه أيضاً الطفل الزكيّ والشَّاب الذكي، الموسوم بسمة الولاية، والملحُوظ بعين العناية، ذو الأنُس الظاهر، والخُلق الطاهر، محيي الدِّين عبد القادر، أحضره والدُه إليّ، وأمره بالمثول للاستفادة بين يديّ، أنشأه الله تعالى نشوءاً صالحاً، وجعله من متاجر الخيرات رابحاً بمنّه وكرمه. ومنهم الشيخ الإمام العَِلاَّمة القدوة العمدة الفَهَّامة، فرع الحسب الصميم، ونبع الأصل الكريم، وطبع الفضل العميم، وطوْع الخلق العظيم، قدوة الأئمة، وواحد أسانيد الأمة، قاضي القُضاة، وإمام الفقهاء والنُحاة، وربّ العقل الوافر والحصاة، روض العلم الوارف الظلال والفيء، والوافر الريع والري، قاضي أماسْيَة وما معها

القاضي عبد الحيّ ابن أخي حاجي جلبي المشار إليه، أفاض الله نعمه عليه، اجتمع بي وبوالدي بالشَّام عند قدومه إليها قاصداً بيت الله الحرام، فصار بيننا وبينه صُحبة ومودّة ومحبّة. ومنهم الفاضل اللبيب، والعالم الأَريب، الباسق في شجرة كريمة الأعراق، ساطعة الإشراق، طيبة الأثمار والإيراق، محرزاً في ميدان طهارة الأردان قصب السباق، متميزاً في عنفوان الشباب بحُسن الخلق وإحسَان الأخلاق، ابن قاضي العسكر الإمام عبد الرَّحمن أخي حاجي جلبي أيضاً المسمّى هو بعبد الرَّزاق، انقصف غُضر أجله في ريعانه، وكبا جواد أمله في ميدانه، فلبّى داعي ربه إذ دعاه، وأجاب ندائه مسارعاً للقياه؛ فمات شهيداً بالطّاعُون في شهر صفر المذكور قبل ابن عمّه المُشار إليه بأيام رحمه الله، وكان قد اجتمع بي مُسَلّماً، وأخذ عني متفهّماً. ومنهم المقرّ العالي الكريم، والجناب السامي الجسيم، المولوي الإمامي العالمي العلاّمي زين ممالك الإسلام، وحسنة الليالي والأيّام، ورجل الكمال والكلام، وحامل فخر الأقلام، ولواء الشرع المنيف والأحكام، ونجل الشراة الأعلام، غرّة الزمن البهيم، وبورد الآمال الهييم، الفائق بدرر علمه وكلمه على الدارين، قاضي قضاة العساكر المنصورة الرُّوم إيليه محيي الدِّين بن الفنّاري. ومنهم المقرّ الكريم العالي، الجامع أشتات المعالي، حسنة الأيام والليالي، عَلاَّمة الزمان، ووحيد الأقران، والمشار إليه بالبنان والبيان، زين الأكابر والأماثل، ورأس الأعيان الأفاضل، ومقصد المتلمس والسائل، ومحطّ رِجْل أمل الآمل، ومغيث الفقراء واليتامى والأرامل، ذو السيرة الحسنة المشكورة، قادري جلبي قاضي قضاة

العساكر الأناظولية المنصورة، أدام الله بهجة الدنيا ببهجة سُلطانه، ووالى تمهيد ربوعه وتشييد أركانه، وضاعف السعد في أمره وشأنه، قد اعتنى بأمري غاية العناية، وحصل منه كل تعظيم ورعاية، وقررني في تدريس حسن جليل نفيس، ابتداءً منه من غير سؤال، ولا طلب ولا التماس بحال، هذا مع نزر اجتماعي عليه وعدم ملازمتي له وقلّة ترددي إليه، وإنّما كان كلام الباشا معه بسببي وتحريضه عليه بما يتعلق بي بسبب كتابة براءات بتجديد ما بيدي من الجهات وشؤون أخرى لا تبرز، وقد انقضى كل منها بحمد الله وتنجز. ومنهم قاضي قضاة المسلمين وأولى وُلاة الموحدين، وينبوع العلم واليقين، العادل العدل في أحكامِه، والجزل في إقدامه، والمراقب لله في فعله وكلامه، عين إنسان الزمان، وإنسان عين البيان، قاضي القُسْطَنْطِينيّة سَعْدي بن عيسى بن أمير خان، ما قُرن به فاضِل في الرُّوم إلاّ رجحه، ولا أُلقي إليه مُبهم من العلم إلاّ كشفه وأوضحه، له صادقات عزائم، لا تأخذه في الله لومة لائم، إلى عفّة ونزاهة وإيابة، وهمّة عليّة وصيانة، وطلاقة وجهٍ وبشرة، وناء جميل يتضوّع نشره، مع خَلق وضيّ وخُلق رضي: يقابلني له خلق وضي ... لصدق بشره خلق رضي مع إجلال وتعظيم، ومبالغة في التكريم، واعتراف بالفضل الجسيم، عامله الله بفضله ولطفه العميم.

ومنهم الشيخ العَلاَّمة والقدوة الفَهَّامة، والإمام الأوحد، والهُمام الأمجد، مولانا خجا جلبي بن مولانا محيي الدِّين محمد، أحد المدرسين الثمانية، ذو همّة عليّة، وفطنة ألمعيّة، ووقار ما مثله وقار، ومآثر كأنها عَلمٌ في رأسه نار، ومفاخر طوالعُها صبح ونهار، وسجايا عريقة المجد ماجد الأعراق، خليقة بالحمد حميدة الأخلاق، قد سقته العلوم زلالها، ومدّت عليه ظلالها، وأحلّته الجلالة حِلالها، وسقته الأصَالة عذبها وسلسَالها، فعلا قدراً، ولاح في سماء السناء بدراً، وصار لأولئك الصدور صدراً، وقع بيني وبينه بحث في أنّ النعت في قوله تعالى (لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جُوع) متعلق بطعام أو بضريع فهو مال، وأنا قلت: متعلق بضريع، وذكرَ كل منّا حجته في ذلك، ثم أوردتُ عليه ظاهر الحصر منّا مع أنه طعامهم الزَّقُّوم، وهو غير الضريع، وشرابهم الحميم، فأجَابَ بأنّ ذلك يختلفُ بتعدد الأشخاص، واعترضت. . . في الصفوة فإنه جزم بها مكسورة الصَّاد لا غير، فقلتُ لهُ بل هي مثلثة الصَّاد، وبيننا وبينه محبّة وصُحبة، وهو يتأدَّب معي كثيراً، ويجلّني إجلالاً كبيراً، وهو صهر مولانا حاجي جلبي أخو زوجته الكبرى، وهي أم ولده الكبير. ومنهم الإمام العَالم العَامِل، والهُمام الأمجد الكامل، القدوة الأمّة، وأحد أئمة الأمة، ذو المناقب الرضيّة المرضيّة، والأخلاق الزكية، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد شمس الدِّين شمسي جلبي أحد مدرسيّ الثمانية، بيننا وبينه محبّة وصُحبة، ومصَافاة وَمُوافاة، وذكر لي أنّ سنّهُ دون الخمسين سنة، مع أنّه نقي الشيبة ذو شيبة حسنة، وأنشدته بحضرة مولانا حاجي جلبي لشيخ الإسلام تقي الدِّين بن دقيق العيد بسندي إليه قوله:

وددتُ بأن الشيبَ عاجل المنى ... وقرَّب من عهد الشباب مزارَهُ لأكسب من عصر الشباب نشاطَهُ ... وأكسب من عصر المشيب وقارهُ فَسُرَّ بذلك وابتهج واستبشر، وحمد الله تعالى وشكر. ومنهم الشيخ الصالح العَالم الأوحد الكامِل الخير الجيّد المقرئ المجود، الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحَلَبيّ الأصل، ثم القُسْطَنْطِينيّ الخطيب والإمام بجامع المرحوم السُّلطان محمد، اجتمع بي مرّات وتودّد، وصار بيننا وبينه أعظم مودة وأوكد، وأعارني من كتبه عدّة أيّام تآليف ما ألفته ببلاد الرُّوم كتفسير آية الكرسي وشرح البُرْدَة، والله يعاملنا وإياه والمسلمين بلطفه الخفي وبره الحفيّ وجوده الوفي بمنه وكرمه آمين. ومنهم الشيخ النبيل الوقور، المنسوب للعلم، والموسوم بالحلم، والمعدود من ذوي العقل والحصاة، والمشار إليه في أعيان القضاة، قاضي المنزلة ثم الخانكة، فتح الله صحِبَنَا من حَلَب إلى الرُّوم، وتكلمنا مَعَهُ في بعض العُلوم، وصار بيننا وبينه مواددة ومجاملة، ومصادقة ومخاللة، وممَّا سألني عنه لبس الوشق فأجبته بأنه كالسمور والقول بالحلّ هو المعتمد والذي عليه الجمهور، وبحثت معه في وجه ذلك بما لا يسع هذا الكتاب ذكره، وسأوضح الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في الرسالة التي أفردتها للكلام في ذلك وشرعت في تأليفها، والله تعالى يقدر إتمامها والنفع بها.

ومنهم الشيخ الأوحد، والأصيل الأمجد، ذو البيت الذي طارت مناقب نزاهته كل مطار، وانتظمت أسلاك أصالته في أجيادِ الأسطار، وسَرَتْ نسمات فضيلته سرى نسمات باسمات الأزهار، وهمت سحاب سماحته كالغيث المدرار، فسما في سماء المجد علماً راسخ القواعد، مشار إليه من كل غائب وشاهد، حيناً للصلة وآونة للعابد، تصطفيه الرُّتب العلية السَّنية، وتتنافس فيه الخطط الشرعيّة السُّنِّية، فطوراً مقدماً في أندية الأمراء والأعيان، وتارة صدراً في قُضاة العدل والإحسان، القضائي الكمال التَّادفيّ قاضي حَلَب ثم مَكَّة. كان صحبني من حَلَب إلى البلاد الرُّوميّة، فأسفر عن أعذب أخلاق، وأكرم أعراق، وأحسن طوية، وأنشدني من نظمه قصيدة تائيّة، ومقامه أكبر من الشعر، وأعلى في القيمة وأغلى في السعر. ومنهم الشيخ النبيل، والفاضل الأصيل، فخر النبلاء، وأوحد الفضلاء، القليل الأنظار والأشباه، قاضي أزنكميد محيي الدِّين محمد ابن قاضيها لطف الله، حضر لدينا ببلده للسلام، ثم أرسل هدية من الدجاج والفاكهة والأغنام. وبعث إلينا ألغازاً فقهيّة وغيرها رآها في كتاب عنده ولم يدر ما هي فحللناها له وأجبناه عنها. ومنهم الشاب النيّر، الديّن الخيّر، الصَّالح الذكي، الفاضل الزكي، اللطيف الذات والطِبَاع، المباين بحسن الأخلاق أهل تلك البقاع، عين الأزلام والأصحاب (الحاج مصلح الدِّين لطفي بن الحاج) محمد الأزنكميديّ الشهير بابن القَصَّاب من أعْيَان بلدة أزنكميد وكبارها وموسريها ورؤسائها وتجارها، أقمنا عنده

ببيته ببلدة أزنكميد في عيش رغيد، وإكرام ما عليه من مزيد، كما تقدّم ذكر ذلك مع ما اتفق لنا هنالك، وقد أخذ عني وسمع مني وقرأ عليَّ حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الملكين وإسرائهما به، ورؤيته لإبراهيم الخليل عليه السلام، ومالك خازن النار عليه السلام وأصحاب التنور والسابح في البحر وما مع ذلك الحديث المشهور بطوله وبعض كتابي الزبدة في شرح البردة وبعض شرحي المنظوم على الألفية وغير ذلك، واستجازني بما يجوز لي وعني روايته له ولأولاده الثلاثة عبد الكريم المراهق وعبد اللطيف السداسي وعبد المطلب الثلاثي، ثم اجتمع بي في القسطنطينية عند رحلته إليها للملازمة، والله تعالى يرزقنا وإياه حسن الخاتمة بمنه وكرمه آمين. ومنهم الشيخ الجليل الكبير النبيل المتخشع الخاضع المتواضع الشهير بالدين والخير السائر بين أمثاله أحسن سير، شيخ محمد المتولي بعمارة السلطان سليم خان تغمده الله بالرحمة والرضوان، وهو قرابة شيخ كمال ناظر النظَّار بالشام كان سلم مرات متواضعاً وملتمساً للبركة والدعاء، وأضافني إلى منزله واحتفل فيما هيئه من مأكله وأحضر ابنه وولديّ كمال وهما محمد وجمال للسلام عليَّ والمثول بين يدي، والله تعالى يُصلح الأحوال ويوفقنا لما يحب في الحال والمال بمنه وكرمه آمين. ومنهم الشيخ العالم، المواظب على الخير والملازم، العَالِم الأريب، البليغ الأديب، الفصيح الخطيب، المتولي خطابة العمارة المذكورة، وخوجا باش الينكجرية المنصورة، رجل لطيف الذات، كامل الأذوات، مشتهر بعلمه وفضله، ذو رَغبة في الخير وأهله، وبيني وبينه أكدّ صحبة وأشد محبّة، والله تعالى يعاملنا وإياه والمسلمين بخفي لطفه ووفي كرمه آمين. ومنهم الشيخ الأمجد، والفاضل الأوحد، والحافظ للقرآن المجيد، والمقرئ بالإتقان

والتجويد، يوسف سِنَان جلبي بن عبد الله، سار محْفِل بعمارة السُّلطان سليم شاه المشار إليها أعلاه. رجل مشتهر بالديانة والعفّة والأمانة والقراءة الحسنة والطريقة المستحسنة، محب لنا مصافي، مكافيء بالخير وموافي. في غاية اللطف والحسن والمروءة وعلو الهمّة، والله تعالى يغمرنا وإياه والمسلمين بالمغفرة والرحمة آمين. ومنهم الشيخ العَلاَّمة، والقدوة الفَهَّامة المشهور بالفضل، والمشتهر بالعلم والعقل، البالغ في فضائله الثُريَّا، والراقي في فضائله مقاماً عليَّا، الشيخ شمس الدِّين محمد المصريّ الشهير بمهيَّا، حضر لديّ وسلم عليَّ وتودد في سلامه، وتلطف في مخاطبته وكلامه، والله تعالى يبلغنا وإياه والمسلمين الأمل، ويوفقنا للإخلاص في القول والعمل آمين. ومنهم القاضي المشهور بالعدل، المنسوب للعلم والفضل، ذو الهمّة العليّة الرفيعة، والفكرة المطيعة والطبيعة، المشتهر بحسن الطوية، عبد الصمد قاضي الزاوية كان ثم شيخ الأشرفيّة، وقع بيننا وبينه مجالسات ومباحثات ومؤانسات وتذكرت هنا قول بعضهم: ورقيع أراد أن يَعْرف النحو ... بزي العناد لا المستفتي قال لي: لست تعرف النحو مثلي ... قلت: سلني عنه أجب في الوقتِ قال: ما المبتدا وما الخبر المجرور ... أخبر، فقلت: تنقم يف وَعْذتِ

ومنهم الشيخ النبيل العريق الأصيل، محيي الدِّين (يحيى بن بركات بن المرجانيّ، المكّي الأصل، النيّر الوجه، الأسود الشاش المشهور بابن قايماز قراباش، رجل الكمال والكلام، وصاحب الحال والمقام، ذو الأذكار المأثورة والأوراد، الشائع بين الأرْوام في أعلى مقامات الاعتقاد، بيننا وبينه صحبة وخُلَّة ومحبّة، وتودد وتردد، والله تعالى يصلح أحوالنا، ويبلغنا والمسلمين آمالنا بمنه وكرمه). ومنهم المقام العالي، ذو المفاخر والمآثر والمعالي، الأميري الكبيري العلائي علي ابن المرحوم السعيد الشهيد مولانا السُّلطان المؤيد أحمد بن مولانا المرحوم السعيد الشهيد السُّلطان الملك الأشرف إينال، سقى الله عهدهما شآبيب الرحمة والأفضال، وحرس سعده وثبت مجده، أحلته هنالك الأقدار، واطمأنت به في تلك المدينة الدار، منعزلاً عن مداخلة الناس إلاّ بالتودد والتلطف والإيناس، حضر مُسلّماً عليَّ ومتودّداً إليَّ. وبيننا وبينه مواددات لطيفة، ومنافثات ظريفة، والله تعالى يحرس من كل سوء ذاته الشريفة بمنه وكرمه آمين. وليكن هو آخر سردهم، وخاتمة عدهم، وواسطة عقدهم، وأمّا من دون هؤلاء فجماعة لا يحصى لهم عددا، ولا يبلغ الضابط لهم أمدا، وهذا القدر كاف، وبحصول المقصود واف، ولنرجع إلى سياق الرحلة المباركة إن شاء الله تعالى فنقول: فلمّا استقر بنا الركاب في مدينة قُسْطَنْطِينيّة في دار مولانا المشار إليه، بعد العود من الرحلة الأزنكميدية، على ما شرح من الأحوال المرضية، نرتع في رياض مجاورة ومحاورة، ونكرع في حياض مؤانسة ومذاكرة، وَفَدَ الشتاء بقوته حاشراً عساكره وجنوده، وناشراً راياته الدكن على الوجود وبنوده، فأرسلت الرياح نشراً بين يدي الرحمة، وتتابعت الأنواء والأنداء كقطع ليل مدلهمة، وتفتحت أبواب السماء بماء منهمر، وتفجرت الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، ووقع الثلج، وغمر النهج، وامتلأ به الفج والمرج، وستر سواد الأرض ببيض المطارف وحاد على الربا والوهاد بتالدٍ من ذلك وطارف، كما قال السري الرفاء:

أما ترى الثّلْجَ قد خاطت أنامِلُهُ ... ثوباً يُزَرُّ على الدنيا بأزرارِ نارٌ ولكنها ليست بمُبْديةٍ ... نُوراً وماء ولكن ليسَ بالجاري فيصبح الناس وصباحهم أبيض، وجناحهم لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومِض، والنيران مقرورة، وشياه الجليد مطرورة، والوجوه في عبوس، والوجود في بؤس، قد جمدت الأبدان حتى كأنها بلا نفوس، فأقمنا نكابد من ذلك الحال في تلك الأيّام عيشاً مريراً، واستمرينا أيّاماً عديدة نشابه أهل الجنّة بلا تشبيه في أنّا لا نرى فيها شمساً ولكن زمهريراً، ونشرب المياه من كأس كان مزاجها بالثلج كافورا، ونتخذ النار من البرد جُنَّة، ونرضى بها ونحن المؤمنين بأن تكون لنا جَنَّة، ولم يزل البرد مشتد الشكيمة، ماضي العزيمة، قد تهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، والأنواء متواردة، والأنداء متوافدة، وإن لم تكن متتابعة، ولا كبقية السنين متزايدة، فإنّ هذا العام على ما شرح ولله الحمد أقلّ برداً من بقية الأعوام، كما أجمع عليه من سكن الرُّوم من العرب والعجم والأرْوام، واستمر جيش الغمام محاصراً ليالي وأيّام، يجرد بوارقه، ويخوف بصوت رعده صواعقه، ويفوق عن قوسه الممدود في الأفق نبل وبله، ويبعث تحت مدد قطره سرايا سيوله، فيستولي على الربى بخيله ورجله، والثلوج قد شابت منها قلوب الرجال، كما شابت بها مفارق الجبال، إلى أن هزمه الربيع بجنده، وغلبه بجيوش زهره وشوكة ورده،

وأراح النفس من روعة برده برائحة رائع عراره ورنده، وأصبحت السماء صاحية، والشّمس وإن تسترت أحياناً مسفرة ضاحية، وأركان الرفاهية غير واهية، ومعالم العافية غير عافية: ووجوه هاتيك الرياض سوافر ... غيد تزان من المياه بأعين والأرض تجلى في رداء أخضر ... والجو يبرز في قناع أدكن والرُبى قد تعممت بمُلوَّنات الأزهار، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار، والزمن قد استقبل آذاره، وخلع في بسيطة عذاره، وقد أشرق الجو بإشراق الخمائل والنبات، وتلك المدينة قد أحدقت بها الأنهار من سائر الجهات، ونحن نمرح في جهاتها، وتسرح العين في منتزهاتها، ونسير في مفترجات تلك الأقطار، إلى أن قضينا أكمل الأوطار، وتمتعنا من تلك المنازل الرفيعة بالحدائق الغضيّة والنسيم المعطار، بحيث تضاحك الوَرد والبهار، وتفاوح الرند والعرار، والطير قد تكلّم، والعود قد ترنم. وقد خيم السرور، وتضاعفت بتضاعيف البحر الحبور، ومضى لنا مع مولانا السيد فيه يوم حسن، وحسن يوم تممت حسنه البدور ووفيت بوفائه النذور: يوم لنا بالبحر مختصر ... ولكل يوم مسرة فضرُ

والسفن تعدو في العباب بنا ... والماء مرتفع ومُنْحدرُ فكأنما أمواجهُ عكن ... وكأنما داراته سررُ ومضى لنا يوم آخر في البرّ قد غاب عذاله، وكملت أوصافه وخلاله، وتم حسنه وجماله: في رياضٍ من الشقائق أضْحَتْ ... يتهَادى بها نسيمُ الرِّياحِ زُرْتها والغمَامُ يجلدُ منها ... زهَراتٍ تفوقُ لونَ الرّاحِ قلْتُ: ما ذَنبها؟ فقال مجيباً: ... سرَقَتْ حُمْرَة الخدودِ الملاحِ فنزلنا بها تحت سرحات مؤنقة، ودوحات مورقة، متضوعة بعرف الزهر معبقة، في أرض سندسيّة اللباس، ذات مطارف متنوعة الأجناس، بين خامات زرع تموج يدافعها موج البحر، وتلوح طلائعها من كتائب الزهر، فماء الندى مسكوب، ورواق الظل مضروب، والريح يصفق والغصن يتثنى والقُبَّر يصرصر والبلبل يتغنى والحمام ينوح ويندب، ويشكو من جوى دهره ويعتب، فتذكرتُ به نوح الغريب بفقد بلاده، وتأوهه لنأيه عن أهله وأولاده، واندفع لسان الحال قائلاً في إنشاده، حاكياً ما

توجع منه القلب وتألم ومضمنا لتضمين بيت أبي كَبِير الهُذَلي لعوف ابن مُحلَّم: أفي كلِّ عامٍ غُربةٌ ونزُوحُ ... أما للنوى من وَنيةٍ فيريحُ لقد طلَّحَ البينُ المشتُّ ركائبي ... فهل أرَينَّ البينَ وهو طليحُ وأرَّقَني بالروح نوحُ حمامة ... فُنحتُ وذو البثِّ الغريبُ ينوحُ على أنها ناحَتْ ولم تُذْر دمعةً ... ونحتُ وأسرابُ الدموع سُفُوحُ وناحتْ وفَرْخَاها بحيثُ تراهما ... ومن دون أفْرَاخي مَهَامهُ فيحُ ألا يا حَمامَ الأيْك الفُكَ حاضِرٌ ... وغُصْنُكَ مَيّادٌ ففيمَ تَنوحُ لعلّ إلهي أن يمنّ بفضلهِ ... فتُلقى عصا التَّطواف وهي طَريحُ ويسكن قلبٌ دائم خفقانه ... وينعم جفن بالبكاء قريحُ

فاستجاب الله سبحانه وتعالى، وضاعف برّه وفضله ووالى، وهيَّأ أسباب العود إن شاء الله تعالى إلى الوطن، والرجوع إلى الأهل والسكن، وذلك أنّا لما خرجنا من الأوكار، وسرحنا في روضات الجنات بعد ملازمتنا موقد النار، وانتشرنا في تلك الأرض، وجمعنا في اجتماعنا بالأصحاب بين النافلة والفرض، اهتم الوزير بأمرنا غاية الاهتمام، وأظهر عزم الرجال وكذلك قاضي العسكر وغيره، الى أن نجح الأمر إن شاء الله تعالى بالتمام، وحَصَلَ المقصود إن شاء الله تعالى على الكمال، ولله الحمد على توافر نعمائه وتكاثر امتنانه كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سُلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، يكافئ مزيد كَرَمِه ويوافيه. ومما حدث في هذه الأيّام أن ورد عليَّ كتب من بلاد الشَّام من الأهل والأقارب والمعارف، يتضمن أنّ ابن إسرافيل قاضي دِمَشْق كتب عروضاً بغالب الوظائف، وذلك من غير معرفة سابقة، توجب عَداوَة أو مُصَادقة، وإنما ذلك بإيحاء بعض المعاندين، من الأعداء والحاسدين، والعجب أن لا نكير من الأصحاب مع الكثرة، ولا إعانة منهم على المعادين ولا نصرة، مع سلامة أهل الشَّام من أذانا، وانتفاعهم بتعليمنا وفتوانا، ولعل ثَمَّ عذر من الإخوان اختفى علينا الآن، هذا كلّه مع اقامتي في كل جهة من النواب جماعة، والقيام بشعائرها ومصالحها حسب الاستطاعة، وغيبتى في باب السُّلطان، والاعتناء بأموري في بلاد الرُّوم من أركان الدولة والأعْيَان، فذكرت ذلك لهم فأنكروه وأعظموه جداً وأكبروه، ثم كُتِبَ لي بحمد الله بجميع جهاتي تجديد، وحكم سُلطاني جديد، وأُضيف الى ذلك ما كان أُخْرِجَ منها عنّا، ونُزِعَ بالعدوان والتدليس منّا، وازددنا من فضل الله تعالى جهات أخرى، فحصل بذلك للمحبين البشرى، وازداد الشانيؤن خسراً وقهراً، وكان ذلك بحمد الله تعالى من اللطف الخفي والمن الوفي، وبالله تعالى استعين واكتفي،

ومما جرى على الجنان فنطق به اللسان قولي: حاولتُ من دَهري الأمانَ فراغا ... فأريتهُ عَمَّا طلبتُ فراغا ويئْست من أهليه أجمعهم فما ... أرجو مراءً منهم حنى أو راغا والصبر عنهم قد سلكتُ سبيلهُ ... وعلى الحَشا أفرغتهُ إفراغا كم قد شَرِقت بغُصَّةٍ منهم وما ... لاقيتُ ممَّا قد غصصتُ مساغا غصبوا الثعالب طبعهم فتراهمْ ... لا يسأمونَ عن المُرَادِ رَواغَا وكأنهم صُبغوا بحالكِ لؤمهمْ ... طبعاً يزيد مدى الزمان صباغا ولجأت للرحمن فيما أبتغى ... فبلغت مما أرتجيه بلاغا وأنالني باللطفِ حَظاً وافرا ... وعليَّ أسبغ ظله إسبَاغَا وأراحنى بعد العَناء بمنّه ... فضلاً وأبلغني المنى إبلاغا فلهُ تعالى الحمدُ مني ما اهتدى ... قلبٌ الى سُبُل الهُدَى أو زَاغا هدانا الله إلى سبُل الهدى ووقانا، وحمانا من الضلال والردى وكفانا (بمنه وكرمه كيد الحساد ومكر العدا آمين)

ذكر الرجوع الى الوطن والأوبة بعد طول مدة هذه الغيبة

ذكر الرجوع الى الوطن والأوبة بعد طول مدة هذه الغيبة ثم لما انقضت بحمد الله تعالى جميع الأشغال، وانتظمت بعون الله سائر الأحوال، ومَنَّ الله تعالى بالظفر، شرعنا مسرعين في أهبّة السفر، وذلك السيد الكريم والولي الحميم في تعاطي حَاجَاتي بنفسه مهتم على أتم الأحوال وأكمل الأمور، وبمفارقتي له مغتم، وببلوغ أربي مسرور، إلى أن كمل الاستعداد وتهيأت الرفقة والزاد. وأُسْرِجَ جواد الأوبة، وتقوضت خيام الغيبة، وحُم يوم الفراق، واحتدم ذلك التلاق، وأضرمت تلك الأعلاق، وأعدّت الركاب، وحضر للوداع جميع الأصحاب، وتحقّق السير عن ذلك الحمى، وأشأم حادٍ كان بالأمس أتهما، وأُجريت الدموع، وطلق الهجوع، وأضرمت نيران الزفرات الأكباد والضلوع: ومدت أكفٌ للوداع فصافحت ... وكادَت عُيون للفراق تسيل فيا لساعات التوديع ما أشدّ كربَها وأحدّ عزمَها، وأكثرها إلهاباً للخلد، وذهاباً بالجَلد، وذواباً للجِلد والجسَد، وممّا قلته: يا قاتل الله قلبي كم أحملهُ ... ما لا يطيق لقد رثت علائقهُ في كل يومٍ له خلٌ يودعهُ ... معَ الزّمان ومحبوبٌ يفارقهُ وأنشدت ذلك السيد الحبيب، وأنا وهو منتحب ومفارق لجسماني ولقلبي مصطحب:

لك الإله أودعُ ... يا أيها المودّعُ مؤملاً من فضله ... شملي بكم يجتمع فالقلب قد أذابه ... حرّ الفراق الموجع وماؤه ما قد جرى ... من أدمع لا تقلع فما يُرى من زفرتي ... دخان المرتفع فغلب علينا من الشجون ما نزع القلب من الصدر أو كاد، حتى قطع علينا ترادف البكاء ذلك الإنشاد، ثم غيض كلٌ منّا دمعه المنهمل، وإن لم يستطع إطفاء ما بقلبه المشتعل، وأنشدني ما هو له يرتجل: أستودع الله منك مجداً ... أصبَح بين الأنام فردا أستودع الله منك ذاتاً ... بكل ما في الوجود تفدى أستودع الله منك جوداً ... بجوده المعصرات أعدى أستودع الله منك ركناً ... أضحى لمن يرتجيه رفدا أستودع الله منك طبعاً ... صفا لمن ينتحيه وردَا

أستودع الله منك بشراً ... لنجح راجيه قد تصدَّى أستودع الله منك ذاتاً ... أدلّ من شارقٍ وأهدى يا سائراً والقلوب تسري ... بسيرٍ لايطيق بُعْدا والصبر لم يبق منه إلاّ ... ما لم يطق للهيام ردا لولا رجاء اللقاء كَادَت ... تُهد منَّا القلوب هَدّا فهو لها كالغذاء يُحيي ... نفوسنا بالمُنَى ممدا فسر قربنا لكل خير ... مصاحباً دولة وسعدَا وصحة لا تزال تكسو ... ذاتك مما تحوك بُردا لا تشتكي في النهار حراً ... ولا بجنح الظلام بَرْدا لموطن السعد في أمانٍ ... تزداد عزاً به ومجدا والوقت في غاية اعتدال ... وطالع السعد قد تبدى أعظمْ بها سفرة وسيراً ... أكرم بها وجهةً وقصدا

صحبت براً وأنت بحر ... والجود والبر منك مُدَّا فيا له من قران سعد ... حاسده بالردى تردا لا عدمت مجدك المعالي ... ولا رأت من علاك فقدا وسرت في دولة وأمن ... ما حمد الحَامِدون حمدا ثم كررنا الوداع خارج المدينة، وعضدي بيده الكريمة، إلى أن أصعدني السفينة، ثم شمر ذيله ومضى، وأودع قلبي جمر الغضا، (ثم توركنا على المطية الدهماء، ونبطنا الولية الماشية على الماء)، ثم رُفع شراع السفينة ومرساها، وقلنا لأصحابنا (اركبوا فيها بِسمِ الله مَجْرَاها ومُرْسَاها)، ثم سارت بنا من تلك المرسى وسرت فيها وأنا أكفكف أمطار الدموع، وأخلب المدينة لأجل من فيها بالطرف الوامق والقلب الولوع، ولم أزل أتبعه ويتبعني بالبصر، الى أن غاب كل منّا عن النظر: وقد علاني وعراني بعد حبي خَبَل وكل من خاطبني قلت له قد رَحلوا يقول من أبصرني وسوس هذا الرجل (وتلك السفينة تهفوا بقوادم غربان، وتعطف بسوالف غزلان، وتنساب في

الجَنَابِ كالحُبَاب، وتحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب) ولم تزل بنا تسير وتمور، وتنجدُ بين الأمواج وتغور، ونحن كما قال الشريف أبو القاسم شارحاً مقصورة حازم: وغريبة الإنشاء سرنا فوقها ... والبحرُ يسكن تارةً ويموجُ عُجنا نؤمُّ بها معاهدَ طَالمَا ... كرمَتْ فعاج الأنسُ حيث تعوجُ وامتدَّ من شمس الشروق أمامنا ... نورٌ له مَرْأى هناكَ بَهيجُ فكأنّ ماء البحر ذائبُ فضةٍ ... قد سالَ فيه من النضار خليجُ وسرنا بعزم لا يُفكُ جدّه، ولا يتجاوز حدّه، وحزم لا يثنى رسنه، ولا يلم بعين وسنه، وجزم لا يبلغ مجتهد جدّه، ولا تعتري العجز والتواني جده، وتلك الجارية المنشيةُ تتبختر بنا على سبط البحر تبختر الجارية الناشية على بسط البرّ الى حين انتصاف ذلك النهار، فوصلنا إلى مرساة بلدة أُسْكُودار، ونزلنا في عمارة داخل البلد، وأقمنا بها إلى وقت صلاة الجمعة من الغد، فصلينا الجمعة بتلك البقعة، ثم أسرعنا إلى التحميل مبادرين، وبادرنا إلى الرحيل مسرعين،

ولم نزل نَفْري أديم الثرى، ونجدب مطي الفيافي بجدب البرى، إلى أن هرم ذلك النهار، وكاد جرف اليوم ينهار، وما بطل السير ولا تعطل، حتى أشرفنا على قرية القَرْطَل، وبتنا بها ليلة السبت رابع عشرين شوال بمكان مشرف عال، مخضر الجنبات، طيب النفحات، مستحسن النبات، حسن للبيات، فحين تبدّى النور، وتكلم العصفور، أزمعنا على الترحال، وشددنا الخيل والأحْمَال، واستمر بنا السير متصل الأعمال، إلى أن وصلنا الى كيكثبزه وقت الزوال، ودائره البيضاء يتمنى مركز الزوال، فأقمنا بها ريثما نقيل، ونريح علل الرفاق ونزيل. ثم رحلنا منه وسرنا نجدُّ في السير، ونسرع إسراع الطير، إلى أن جدّ المسير وحمى الهجير، فوصلنا إلى سَاحِل البحر إلى محل التعدي، وقد علمنا من تكرر صحبته ما هو منطوٍ عليه من الجور والتعدي، فاخترنا مِنَ الجواري المنشئات جارية حالكة السيات، واستخرنا الله في ركوبها، ودعوناه في تيسير مرامها ومطلوبها، ثم حللنا بها وأنِسْنَاها، وتأملنا من الله الرحمة وما آيسناها، وقلنا لأصحابنا (اركبوا فيها بِِسمِ اللهِ مَجْرَاها ومُرْسَاها)، ثم أسرعت في اندفاعها، وقد استذرينا تحت ظل شراعها: فحسبته خوف العَواصِف طائراً ... مدّ الجنان على بنية جناحا (ولم نزل نسير والبحور هْو (؟) والعيش صفو والزمان لهو)، حتى إذا كنا

بالمواسط أمر الله تعالى باجتماع الرياح المختلفة، وتفريق تلك الواحة المؤتلفة، فضربنا في البحر يمينا ويساراً، وسرنا إقبالاً وإدباراً، وتدفعت الأمواج وعظم الارتجاج، وعصفت الجَنُوب، وعسفت الجُنوب ومسي السفر ما كان، وجاءهم الموج من كل مكان، فرجفت القلوب وخرست الألسن، وجرت الرياح بما لم تشته السفن. وقد اشتدت علينا الرياح الغربيّة، وتحكمت فينا المياه البحريّة، ولم نزل في تلك السفينة بين قوادمها وخوافيها، نلاحظ المنايا حينا وحينا نوافيها، قد تبدلنا من ظل عُلاً ومفاخر، بقفر بحر طامي اللجج زاخر، ومن صهوات الخيول المسرجة، بلهوات بحر امتطينا ثَبْجَه، ولم نزل نعاني أليم الوجد وعظيم التبريح، إلى أن أذن الله سبحانه بسكون الريح، ثم أرسينا بعد عناء طويل بمرساة القرية المعروفة بالديل، ثم ترحلّنا من تلك المرسى، وتبدلنا من تلك الوحشة أنسا، ونزلنا عند العشية بقرية هناك سكن ينكجرية، فبتنا جميعاً بها، ولم نفرق بين ظهر المطر وقبتها، فلمّا بدا من الفجر سفور، ونثر للصبح كافور، وأحرقت فحمة الليل عنبر الصباح، وخبا من النجوم الزهر كل مصباح، ترحلنا من ذلك المنزل، وتركنا الراحة عنّا بمعزل، وسرنا في دَرْبَنْدَات ووداة كثيرات الأشجار الملتفة والمياه، إلى أن تضاحى النهار، واستبان رونقه واستنار، فنزلنا بقرية تعرف بقرية الدَّرْوَند، بها مياه شديدة البرد، وأشجار طيبة النشر كالعرار والرند.

ثم أخذنا في أهبة الترحَال، ورحلنا منه بعد الزوال، وسرنا في فياف كثيرة التراب والعجاج، واسعة الشعوب والفجاج، شديدة الحرّ والسموم، (ماؤها بعد قوة محموم، ونسيمها بعد تنفسه مزكوم، وسحاب وخير مركوم، وثوب حميمه مَرقوم). ثم انتهينا إلى تلال وأوعار، وأشجار من شجر البادية صغار وكبار، إلى أن أشرفنا على بحرة أَزْنِيْق، ذات المنظر الأنيق، والوجه الشريق، وهبّ نسيم الروح منبعثاً بما به الروح تحيا بعد موتٍ وتبعث، وعاد إلى الأجسام رونق حسنها وكادت به تفنى حقيقاً وتجدث. (ثم مسينا ساحلها على بساطٍ أخضر، وأديمٍ أنضر) ثم لم نزل في طريقنا ذلك نتجول على تلك المنازل، ونتحول في هاتيك الخمائل. ودخلنا البلدة والشمس مرضى أصائلها، والربى معصفرة وصائلها، ونزلنا بها بعمارة منسوبة للوزير الأعظم الهُمَام إبراهيم باشا والد عيسى باشا نائب الشَّام، وبتنا بها ليلة الاثنين سادس عشرين شوال، ونحن في أحسن حَال وأيسر بال. ثم رحلنا عندما اكتهل من الليل الشباب، وشمّر ذيله للهرب والذهاب، وأقبلت تباشير الصباح تترى، وأخفى الأفق زهراً وأظهر رهزا، وسرنا ساعة بجانب شاطيء بركتها، ثم ارتقينا على كاهل عقبتها، ثم أظلم الجو، وتراكم النو، وارتفع الصحو، وتبدّل بالكدر الصفو، وهما الغمام، وأرسلت شآبيب الأمطار كالسهام، وغلب اليأس على الأمل، وقلت: أنا الغريق فما خوفي من البَلل، ولم نزل في صعود وهبوط، ورجاء وقنوط، وبسط وقبض، ورفع وخفض، لا نرى مفعولاً إلاّ للفاعل المختار، ولا نشهد موصولاً إلاّ وقد انفصل عن صلته وعوائده بلا اختيار، والحال عن المكاره لا تتميَّز، وقد أحوج ابتداء السير فيها إلى خير انقاضئه وأعوز، فلا ترى إلاّ التعجب من هذا النعتْ، والتقلب بين العوج والأمت، والأكف مرتفعة

بأكيد الدُّعاء إلى (القريب المجيب) إله الأرض والسماء، عسى يحفّ بالعطف بالنقل إلى خير بَدل، وهو سامع للاستغاثة عز وجل، ثم انقلبت تلك القلبة عند انقلابنا من العقبة، ثم طلعت الشمس، ومدّت حبالها الشديدة المرس، وأفضا بنا السير إلى فضاء واسع، وقطر شاسع، وقرى كثيرة، ونعم غزيرة، وكان وصولنا ضحوة نهار الاثنين سادس عشرين الشهر، إلى مدينة الجديدة المعروفة بينكى شهر، ونزلنا بخارجها على شاطئ النهر، في مرج واسع ذي مرعى وزهر، ثم عزمنا على الترحَال وقت الظهر، وشددنا الأحمَال وامتطينا الظهر، وسرنا سيراً مجداً لم نأل فيه جهداً إلى أن تهدم من النهار بنيانه، وأقبل الليل ولاحت نيراته ونيرانه، وأطبق الظلام جفنه وأعرض، فوصلنا إلى قرية آق بيق ومعناه الشارب الأبيض، وبها حمام وخان، وخارجها أشجار كثيرة من السنديان، وبتنا بها ليلة الثلاثاء سابع عشرين الشهر المذكور، ثم رحلنا منها حين تقوضت خيام الدَّيْجُور، وجرد الفجر سيفه المشهور، ولم نزل نجوب تلك الفيافي والقفار إلى تعالي ذلك النهار، فوصلنا إلى القرية المعروفة بأرمنى بازار، ونزلنا خارجها بذلك المقعد المار المركب على العين، وأقمنا هناك إلى ما بين الصلاتين، ثم سرنا منه والأبدان أيضاً تعب، والهاجرة ذات لهب، ولم نزل نجوب كل تنوفة، ونقتحم كل مخوفة، إلى أن قضى اليوم نحبه، وواصل قرص الشمس غربه، فانتهينا إلى قرية بُوزيُك ومعناه التل الأشهب، وبها عمارة لقاسم باشا الوزير أتقن وضعها ورتّب، وأبدع في عمارتها وأغْرَب، فنزلنا بظاهرها بمرج وسيع به أعين وربيع، وبتنا به ليلة الأربعاء إلى أن سلب الليل خضابه، وأماط الفجر نقابه، ثم أخذنا في السير والترحال، ولم نرثِ لتلك المطى من الكلال، ولم نزل نسير ذلك اليوم، إلى أن حلّ الفطر من الصوم، ثم شرعنا نشقّ جلابيب الليل شقا، ونحاسبه من عمره على ما تبقّى، إلى أن أفضى بنا السير

إلى قرية تعرف بالسقا، فنزلنا بها لنكسر سُلْطَان النوم، ونجبر برعي الأعين ساعة بعض ما نالها من الشؤم، ثم سرنا منه عندما تبدّى وجه الفجر في قندس الليل، وهزم أدهم الليل بأشهب من جياد الخيل، ثم ابتسم وجه الصباح بعد التعبيس، عن عشر من الشهر وهو نهار الخميس، ولم نزل نجوب كل بيداء، ونقتري كل شجر أو برداء، إلى أن وصلنا الضحى العالي إلى قرية تعرف بالقالاي وربما سميت أيضاً بالكامالي، فلبثنا ساعة بذلك المكان، ثم سرنا فوصلنا إلى قرية آق وران، واليوم قد ولّى شبابه، والمساء قد استحكمت أسبابه، وذلك ليلة الجمعة ذات الإتمام والكمال لثلاثين من شهر شوال، ثم رحلنا منه عندما درّ قرن الغزالة من المشرق، وانجلى وجه مرآتها المُشْرق، فما تضاحى ذلك النهار حتى حصلنا بمدينة قرا حصار، واتفق حصولنا في تلك البقعة ذهاباً وإياباً يوم الجمعة، فنزلنا بها بعمارتها منزلاً مرتضى أعقب بالرضى وأنس أنسى ما مضى، وطابت الروح وانبسطت النفس، وأنست راحة ذلك اليوم ما اعترانا من تعب الأمس، واجتمع بنا في ذلك المنزل رَجُلٌ من الأعيان يقال له الحاج شعبان بن الحاج رمضان، ثم عمنَا بخيره ومِيْره، وخدمنا بغسيل وغيره، وسأل عمن رَمَى صيداً فأبان منه عضواً أيحل هو والعضو أم لا؟ فأجبت بأنه إن كان الجرح مدفقاً ومات في الحال حلّ العضو والبدن، وإن كان غير مدفق ومات منه بعد مدة حرما أو ذَبْحُهُ

حَلَّ هو دون العضو، فاستملا ذلك الجواب وكتبه، وابتهج به وأطربه، وسُرَّ به وأعجبه. ثم أقمنا بتلك البلدة ذلك اليوم ليلة السبت مستهلّ شهر ذي القعدة إلى أن حان أول وقت الصوم، فلما نشر الصبح راياته وحيعل الدّاعي إلى صلاته أجبناه مثوبين، ثم ترّحلنا مؤنبين، ولم نزل نتابع السير ونواصِل، إلى أن مال المعتدل واعتدلَ المائل، (ولم نزل نحثّ في الرحيل، ونصل المساء بالصباح والغدو بالأصيل) فكان بلوغ الغاي في قرية عظيمة تعرف بالشاي حين هَرِمَ النهار وشاخ، وسكن حره وباخ، وقد أعيى الركب وباخ، فنزلنا بها بمرج أفيح، فيه للعيون مسرح، وللنواظر مسنح، وظل دوحات نتفيأ منها الظلال، عن اليمين تارة وأخرى عن الشمال، فبتنا به والزهر أنضر من الندى، في ظل أخضر بارد الأنداء: والليل يخفي نفسه في نفسه ... والصبح كشاف كل غطاءِ وكأنما الإصباح تنثر مهرقا ... أثر المداد به من الأمساءِ فما صحت العيون من نشوة رقادها، إلاّ لتغريد الطيور في أعوادها، فبادرنا لأداء الفرض مسارعين فما منّا إلاّ متوضٍ أو مصل. ثم رحلنا قاصدين قرية نسق لي، فوصلناها حين تضاحى النهار، وتصاحى بعد الإسكار، وتهلل وجهه واستنار، فما استقرّ بنا القرار، ولا ضمتنا أطراف تلك الدار

حتى عَنَّ لنا ما يقتضي المسارعة والبدار، إلى مدينة آق شهر وشهرتها عندهم أقشار، فوصلنا ذلك اليوم وهو الأحد ثاني الشهر آخر النهار. ونزلنا بعمارة حسين باشا بها، وهي عمارة بلغت في المحاسن النهى، قد كملت في صفاتها ونعوتها، وبها مياه تجري في مسجدها وبيوتها، وأقمنا بها بقية ذلك النهار، ثم ليلة الاثنين ثالث الشهر إلى وقت الإسفار، ثم رحلنا منها حين أذكت ذُكاء قبتها علينا، وسفرت فكشفت عن صحبتها إلينا، وسرنا في ظل ظليل وزهر بليل وهواء صحيح ونسيم عليل إلى أن حان وقت المقيل، فنزلنا بمكان يقال له سكت لي أي موضع الصَّفْصَاف، وأقمنا إلى أن تجاوزَ النهار حَدَّ الانتصَاف، ثم أخذنا في التحميل والترحيل، ولم نزل بين وَخْد وذَمِيْل، وإجازة مِيل بعد مِيل، إلى أن وصلنا إلى قرية تلعى حين حان وقت الأصيل، وبدت الشمس بلون العليل، فنزلنا بشاطىء نهرها في ظل دوح ظليل: تحسب النهر عنده تثنى ... وتخال الغصون فيه سيل فبتنا بذلك المنزل بجانب النهر ليلة الثلاثاء رابع الشهر، فلمّا انفجر فجر ذلك

النهار، وهبينا من النوم هبوب نسيم الأسْحَار، أخذنا في الترحال، وشددنا الخيل والأحمال، وأخذنا نسير ونجدّ في المسير، إلى (أن رفل عطف اليوم في الثوب النضير، فوصلنا في) وقت العصر أو بعده بيسير إلى قرية تُعْرف بصلاح الدِّين، وربما عجمت الحاء في لغة الأعجمين، وأقمنا بها إلى أن عطس أنف الصباح، وحَيْعَل داعي الفلاح، وتبدّا علم الفجر ولاح، فسرنا سيراً مجدّاً، لم نأل فيه اجتهاد ولا جهداً، فما فتئنا كذلك ولم نزل، إلى أن حطّ الركاب بمدينة قُونِيَة ونزل، وذلك وقت الطَفَّل، حين أقبل العشاء وطَفَل، وتبختر النهار في الثوب القصير ورفل، ثم أقمنا بها يوم الأربعاء ويوم الخميس معاً، ثم من يوم الجمعة إلى وقت الصلاة في عمارة الوزير الأعظم بير باشا رحمه الله، وحضرنا في ذلك الوقت من النهار وقت الشيخ الصَّالح المشهور بمنلا خنكار. ثم أخذنا في الترحال والمسير، وقد حَمى الحرّ واشتدّ الهجير، فسرنا غير بعيد نحو نصف أو ثلثي بريد، ينقص عن ذلك شيئاً أو يزيد، فأحسست بفتور في الحواس، وثقل شديد في الرأس. فلم أجد بدّاً من النِزُول على حيّ هناك نُزُول، فأقمنا بذلك المكان في جوار أولئك التركمان إلى أن هتف داعي العُتْرُفَان، وحَيْعَل المثوب بالأذان، (نهار السبت ثامن أيام شهر ذي القعدة الحرام) فلم نجد

بُدّاً من الرحيل، واحتساب الصبر الجميل، فلمّا تعالى النهار وتصاحى، وتلألأ وجهه وتضاحى، نزلنا بشاطىء نهر يقال له سارسينا، قد فاق بعذوبته وخصره على مياه تلك البلدان وأربى: وعليه الشمس قد ... ألقت شعاعاً كاللهب شبه مس أخضر ... عليه حلى من ذهب فنزلت في فنائه كي أزيح العلة، وأنفع ببرده الغُّلَة، فتضاعف حر الحُمَّى ولم يبرده ذلك الماء، ثم لم نجد بدّاً من الجدّ في المسير، وإن اجتمع هجير الحُمَّى والهجير، ولم نزل (نواصل السير ليلاً ونهاراً، ونتابع السُرَى إظلاماً وأقماراً)، ونجوب تلك الفيافي والقفار، أناء الليل وأطراف النهار، وكلّما تذكرت البلاد انقلب العذاب عذباً أو الأهل والأولاد وجدت سهلاً ما كان صعبا، وقد اشتدّ التعب والعناء، وتحكّم الألم والضنى، وكاد أن يستولي على الهيكل الفناء: ولذّة جسمي بذاك الضَّنى ... ورَاحة قلبي ذاك الألمْ ومدة هذا الهُيَام ثلاثة من الأيام إلى أن أدّت بنا الرحلة إلى البلدة المعروفة

بأرْكلي وتسّمى بِهرَقْلَة، وكان حلولنا بتلك البلدة يوم الاثنين عاشر ذي القعدة، وقد تضاعف السقم وترادف الألم، واشتدّ بي المرض، وغيَّر جوهر الجسم ذلك العرض، وعجزت عن الحركة والانتقال والتحوّل والارتحال مدّة ثلاث ليال، وأنا أتلهب من شدّة البعاد، وأتلهف وأتشوق إلى معاهد البلاد، وأتأسف وأتمثل بقول العبّاس بن الأحنف: يا بَعيدَ الدَّارِ عن وَطَنِهْ ... مُفَرداً يَبكي على شَجَنِهْ كلَّما جَدَّ الرَّحيلُ بِهِ ... زادَت الأسْقَامُ في بَدَنِهْ ولقد زادَ الفؤادَ شجاً ... طائرٌ يبكي على فَنَنِهْ شَفَّهُ ما شَفّني فبكى ... كلُّنا يَبكي على سَكَنِهْ فحين طال المطال، واشتدّ ذلك الحال، لم نجد بدّاً من اكْتَرَاء جمال ومن شراء مَحْمل يحملنا، فحين تمّ الأمر وكمل، وحضر المحمل والجمل، وامتطينا مطاه وشرع في خُطاه، بل في خَطاه، ثم خرجنا من تلك البلدة وذلك يوم الأربعاء ثاني عشر القعدة، فلم يلبث ذلك الجمل المذكور حتى مرَّ على بعض ما على تلك الأنهار من

الجسور، فزلّت إحدى رجليه أو يديه، فسقط في النهر هو ومن عليه، فكان ذلك من أنْكَأ القَرْح، ومن الكي أثر الجرح، ولم يسعنا غير الصبر والاحتساب، والتبدّل بجميع الأثواب، ثم نزلنا تلك الليلة ببعض قُرَاها واستعملنا ما كنّا استصحبنا من قراها، ثم أصلحنا الأحوال، وعزمنا على الترحال، عندما غاص نَهْرُ المجرَّة، وهتمت أسنان الكواكب المفترّة، وضحك وَجْهُ الشرق بعد التعبيس، فأسفر عن ثالث عشرين الشهر يوم الخميس، وسرنا مجتهدين وأسرعنا مجدّين إلى أن نزلنا بقرية تعرف بشجاع الدِّين، ثم رحلنا منه وقت الإظهار، وانتصاف ذلك النهار، ولم نزل نقطع أديم الفلا ونَفْري، حتى أنخنا بالقرب من آق كبري، والعشية تخور بدمانها، وذُكاء تتسخط بدمائها، فبتنا بذلك المكان بالقرب من النهر ليلة الجمعة رابع عشرين الشهر إلى أن أنشد لسان الحال قول من قال: لم نرَ الليلَ حيث رقَّ دُجاهُ ... وبدا طيلسانه يَنْجَابُ وكأنَّ الصباحَ في الأفْقِ بَازٌ ... والدجى بين مخلبيه غرابُ وكأن السماء لجة بحرٍ ... وكأن النجوم فيها حُبَابُ وقد تشوقت الأبصار لسفور الأسفار، فحين أسفر النهار واستراحت أعين النظّار من ألم الانتظار، أخذنا في المسير بعد التحميل، وجمعنا بين طرفي البكر والأصيل، وغالب سيرنا ذلك النهار في مروج وأنهار، وعيون جارية، وأشجار سامية، وجبال عالية، إلى أن وضعنا الرحال ليلة السبت بمرج أفيح حسن النبت، بالقرب من

عقبة الكولك المارةِ النعت، ذات العوج والأمت، ووعُورة المنهج وصعوبة السمت، فأقمنا به إلى أن رأيت الفجر والنسر خاضب جناحه ورشا عليّ بالعنبر الورد: وحَلّت يد الجوزاء عقد وشاحها ... إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد ثم قطعنا تلك العقبة وسلكنا مسالكها المستصعبة، ولم نزل نرقى فيها إلى أن بلغنا مراقيها وإذا هناك قلعة قد عقدت الجبلُ حبْوَتَها، وأزْلَقت الغُرابَ أن يَطأ ذُرْوتَها، وعَصَمَ سِوارُ الوادي الملويِّ مِعْصَمها، وحَمَتْ غُرر دهمائها أَدْهَمَها، فالخيلُ تصعد إليها أنجما بين طالع كطالِعها وغارب كغاربها، والأرجل منها على كرة لا تستقر بأخمص راجلها، ولا بحافر فرس راكبها، تأوي الطيور الكواسر لأدنى حافاتها، وتبلغ النفوس نهايتها عند موافاتها، وتزِلّ أقدام الصاعدين عن أكثر صفاتها، وتعجز أوصاف الواصفين عن بعض صفاتها: يأوي إليها كُلُّ أعورَ ناعبٍ ... وتَهُبُّ فيها كُلُّ ريحٍ صَرْصَرِ ويكاد من يرقى إليها مرَّة ... من دهره يشكو انقطاع الأبْهَرِ

فما حصل منها الانفصال، ولا انقطع تتابع السير والاتصال، حتى آن وقت الزوال، وامتدّ الظلّ وَمَال، فنزلنا في مكان كالبستان، به أشجار صِنْوان وغير صِنْوان، وعيون باردة سارحة متطاردة، فارتمينا في ذلك المكان وأرحنا تعب الأبدان، ولكن لم يحصل لي راحة لاشتداد الحمى ولم يبرد حموها برد ذلك الماء، ولم نزل نحثّ السير والسرى، ونعاصي الراحة والكرى، والعلا يذوب من كدّنا خجلاً، والنجم يرعد من سرانا وجلا، والحرور تعجب من تجرينا عليه والسموم يتحول من أقدامنا لديه، ونحن نقاسي كرب الزمان ومحنه، وقد أمضى كل منّا راحلته وبدنه، وأضاق ذكرى وطنه وسكنه عَطَنه، إلى أن وصلنا ظهر يوم الأحد سادس عشرة مدينة أدَنَة، فنزلنا بها في عمارةٍ لابن رمضان مستحسنة، وألقى كلٌّ منّا عصاه وخلع رسنه، وغشيه ممّا قاسى النعاس أمنه، واستمرينا ثلاثة أيام في تلك الأمكنة، ثم برزنا يوم الأربعاء تاسع عشر الشهر إلى ظاهر المدينة بشاطىء النهر، وقد صحبنا من تلك البلدة جماعات من الرفاق عدّة، فلمّا تكامل عدة النفر عزمنا بهم على السفر، ثم رحلنا بالقوم بعد الظهر في ذلك اليوم (وقد حضر سمومه وغاب نسيمه)، ثم سرنا نساير السبيل، ونقطع ميلاً بعد ميل، إلى أن تجاوزنا الأصيل، وأظلّنا ليل كظهر الفيل، فنزلنا حينئذٍ بالمَصِّيْصَة على شاطىء جَيْحَان، حين آن وقت العشاء وحان، فحين نزلنا عن ظهور الدواب وحللنا عنها، وقعنا وقعة لا أحلى عند المسافر منها، فلم نستفق إلاّ والليل قد شابت مفارقه، وأزهرت مغاربه ومشارقه، وقد تخلّق الشرق بدرعه المزعفر، وضرب في علياه رنكه

الأصفر، فأخذنا في أهبّة التّرحال وشددنا على الخيل الأحمال، وقد أُشيع أنّ الدرب مخوف، وأنّ اللُّصوص به تطوف، وسرنا في براري وقفار، ذات أشجار كبار، موحشة المسالك، كثيرة المهالك، قد لمع سرابها، وتوّقدت هضابها، وصرخ بومها، ونعق غرابها، وقد اشتدّ حرّ الشمس، وفاخر اليوم، في شدائده الأمس، فلم نزل سائرين سائر ذلك اليوم إلى أن حلّ من الفطر الصوم، وغشى الأعين النوم، وعمَّ الإعياء واللغوب جميع القوم، وسامهم ذلك الحرّ والسموم أشد سَوم، وعاموا في العرق كل عوم، وراموا الركون إلى الاستراحة أي روم، فنزلنا حينئذٍ بالنّاس بجانب البحر بالقرب من قلعة بَاياس وبتنا بذلك المقام ليلة الجمعة حادي عشرين القعدة الحرام، ثم سرنا منه ووجه المحجّة قد أماط النقاب ووضح بشعب الفجاج والشعاب. وحللنا في مروج وأزهار، ومياهٍ وأنهار، وجُزْنا بعقبة المركز وقطعناها وانتهينا إلى عقبة بَغْرَاص ووصلناها وقيلنا بأسفلها في روض نضير، به ماء عذبٌ نمير، وأشجار من آس، وفواكه مختلفة الأجناس، ثم أخذنا في عقبة بَغْرَاص، ذات الالتواء والاعتياص، إلى أن سقطت الشمس للغروب، وقد أنضت الرواحل من الإعياء وضعفت الأنفس من اللغوب، فنزلنا بوسطها عند المسجد والخان، والمياه الجارية في مثل الشاذروان، فاستراحت الأجسام وارتاحت الأرواح، وانشرحت الأنفس غاية الانشراح، ونقعنا الغُلَّة من ذلك الماء وخفّف بعض ما كنت أجده من الحمى، ثم

رحلنا من ذلك المكان المذكور، وقد استنارت بالقمر ظلمة الدَّيْجُور، وسرنا في مسالك وعرة، وشعوب متشعبة مضجرة، وإهباط وإصعاد، وإغوار وإنجاد، ثمّ اكفهرَّ وجه السماء وتغيّر، ودمدم الرعد وزمجر، وأومض البرق من الغرب والشرق، وهبّت الرياح نشراً، وأقبلت السحب زمراً، فرجفت القلوب، وأحسَّت بملاقاة الكروب، واستمرّ ذلك التهديد، وتواتر من الرعد الوعيد، واختلفت آراء الريح، وجاد الغمام بماءه جود الشحيح، ثم أقشعَت السماء، وارتفعت تلك الأنواء، وتفرّق جمع السحاب، وتمزّق منه الجلباب، وأسفر وجه القمر من لثام الغمام، وأزهرت الزهر كالزهر تفتح عنه الكمام، فزالت تلك الكروب، واطمأنت بحمد الله القلوب، ولم نزل نسير إلى أن أظلّ التنوير، وَجَسُرَ الصبح المنير: ولاحت الشمس تحكي عند مطلعِهَا ... مرآة تبر بدت في كف مرتعش فانحدرنا من تلك العقبة، وسرنا في أرض مستوية مصطحبة بين أشجارٍ كثيرة الظلال، وأنهار تجري بماءٍ زلال، ثم تلقّانا بَرٌ واسع الفجاج والشعاب، كثير العجاج والتراب، طويل المساحة ممتد الساحة، لا يبلغ الطرف منتهاه، ويكلّ الطرف عن بلوغ مداه، فلم نزل نسير به من بكره، إلى أن أبدى النهار حرّه وأضطرم جمره، فقيلنا حينئذٍ بخان يغره، ثم رحلنا منه متوجهين إلى تلقاء بلدة

تيزين، فوصلناها عندما دخلت الشمس خدر الغروب، وتستّرت بسربها المحجوب، وأسبل الليل إزاره، وعمّ ظلامه الوجود وأقطاره. وهي بلدة قديمة، ذات عمائر عظيمة، وآثار معاهد مقيمة، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، ممتدة الغاية في الحسن والانتهاء، واسعة الرقعة، طيبة البقعة، سامية الارتفاع، مشرقة البقاع، مباركة الأغوار والتلاع، ممرّغة الجنبات، متنوعة النبات، ممدودة الظلال، مودودة الحِلال، مأمولة السعادة مسعودة الآمال، قد أخذت من كل المحاسن نَصيباً، وفوّقت إلى سهم الفضائل سهماً مُصيباً ومليت ظرفاً ونخباً، وأوتيت من كل شيء سبباً، فبتنا بها وقد عزمنا على الرحلة وأتينا صدقاتها نحلة. ثم سرنا من ذلك المكان حين أبرز الأفق ذَنَب السِّرْحَان، وآن انبلاج الفجر وحان، (ليلة الأحد ثالث عشرين)، ثم أخذنا في المسير صباحاً إلى أن تعالى النهار وتضاحى، ودخلنا في معاملة الحلقة وقت الغداء، ونزلنا في قرية يقال لها تل عدا، فتلقانا أهلها بالسلام والترحيب والإكرام، وأنزلونا في بيوتهم، وأسهمونا في قوتهم، وتواردت علينا منهم الضيافات، وزالت عنّا بحمد الله تلك المخافات واطمأنت الأنفس وطابت الأرواح، وزال العناء وحصل الارتياح. فأقمت بها إلى يوم الاثنين رابع عشرين القعدة وقت الصباح، فلمّا بدا بنوره ولاح، وملأ ضياؤه تلك البطاح، وكان ذلك المرض قد غلب، واشتدّ بأسه وخلب، وأذهب بالقوى وسلب، فاستخرت الله تعالى في المضي إلى حَلَب إذ لا تخلو

من حبيب، ومن دواء وطبيب، فعسى يحصل فيه الإبلال، ويزول ذلك النصب والكلال، وينحلّ برم الحُمَّى بتلك الحِلال، فسرنا قاصديها تلك الساعة، ومشى معنا من تلك القرية جماعة، باذلين السمع والطاعة، متقربين إلينا بحسب الاستطاعة، إلى أن حططنا بها رحال الألمام، وخلعنا على عطف الصلاة برد الإتمام، وكان استقرارنا بها بين الصلاتين (من اليوم المذكور وهو الاثنين) في زاوية البيريّ المعروف بالشيخ حسين، فتلقّانا ولده صاحبنا الشِّهابي أحمد، أحسن ملتقى وأحمد، وأخلى لنا ثلاثة أمكنة وأفرد، وكنّا ظنّنا أنّ الدموع نفدت، وأنّ نيران القلوب خمدت، فتراكمت من العيون سُحبها، وتزايد من القلوب كربها، وأخذنا بعد السلام في شرح ما فعلت الأشواق، وإن كانت الإحاطة بوصفه تكليف بما لا يُطَاق، ثم تسارعت إلينا للسلام سائر الإخوان، من العلماء والرؤساء والأعيان، فألفيتهم لم ينقص الله لهم عددا، ولا أراهم بالفراق شملاً مبددا، فسُرَّ الجميع بالاجتماع، وأقمنا كما كنّا على المذاكرة والانتفاع، وكأني ما مددتُ إليهم يداً للوداع، فنثروا من درّ الثناء منثوراً ومنظوماً، ونشروا من برود الثناء مطوياً ومكتوماً، فأنشدتهم: إني وإن شطّ المزار وبددت ... أيدي النوائب شملنا المنظوما لم أخل من حسن الثناء عليكم ... مذ غبت عنكم ظاعنا ومقيما ولم أزل بتلك الحضرة أجتلي أنوار المحاضرة، وأجتني نوّار المذاكرة، وأستأنف ما عرفته من ولاتها، وأجدد العهد بعلمائها وفضلائها، غير أنّ ذلك المرض يقصر بي

في الخطى، ويقعدني عن اعتلاء ذُرى المطى، ويرهبني بقوة السطى، ويمنحني ما أراد وما أغناني عن ذلك العطا، ولم يزل يتعالى ويتعاظم، ويتوالى (ويتفاقم، ويذهب في متجره مذهبا ويبلغ في سيله الزُّبى، ويرقى في سبيله على الرُّبى)، وحكماء تلك البلدة يترددون إليَّ كل مدّة، ويصفون من الأدوية عِدّة، فلم يزدد الأمر إلاّ شدّة، وأرادوا إبراد الحُمَّى فكان إبرادها رعدة، فاستخرت الله في ترك التطبب، والإبعاد عنهم والتجنب، والانقياد لحكم الله والاستسلام لديه، وتفويض الأمر إليه، والتوكّل في كل الأمور عليه، ثم قدم من الشَّام في تلك الأيام الحاج محمد المغربيّ البَوّاب وأقرأنا السلام من الأهل والأصحاب، وأخبر بما صنع القاضي قاتله الله في الجهات. وما احتوى عليه من التعصبات والتُرَّهات، فلم ننزعج لذلك لاعتمادنا على الله، ويقيننا الصَّادق أن لا فاعل إلاّ الله، (وحمدنا الله على سلامة الأصحاب والأهل، وعددنا ما عداه من الأمر السهل)، واستمرينا بتلك البلدة إلى أن انصرم شهر ذي القعدة، ثم دخل شهر ذي الحِجّة، وأقام بوفود العيد الحُجّة، فصلينا بجامع الأطروش صلاة العيد، ثم أضافنا الشيخ عبد الرَّحمن الكُرديّ إلى منزله السعيد (وأخلى لنا خلوته بالجامع المذكور، وسعى في أنواع إكرامنا بالسعي مشكور، فجزاه الله عنّا الجزاء الموفور، فأقمنا

هناك أيام التشريق، وليالي البيض) ذات الوجه الشريق، وكنّا قد بعنا بعض الخيل والبغال، واستخرنا الله تعالى في السفر مع الجمال، وكان قد تهيأ في تلك الأيام قفل كبير إلى بلاد الشَّام، فرددت الاستخارة، وجددت الاستشارة في السفر معه في المَحَارة، فجاء أكابر القفل إلينا وقالوا: أنت المؤمّر علينا وألقوا إلينا مقاليد الأمور، وقالوا: مُر متى شئت بالمرور، فكلٌّ منَّا بطاعتك مأمور، فوقع الاتفاق مع تلك الرفاق، أن يكون يوم الأحد منتصف الشهر التبريز إلى الوطاق، وكنت قد سئمت من النوى والشتات، وأزعجني خبر الجنّة تحت أقدام الأُمهات، وهمْتُ بالوطن هيام ابن طالب بالحوض والعطن، وحننتُ إلى تلك البقاع حنينه إلى أثلاث القاع وأخذت في الإزماع، وفاجأت الأصحاب بالوداع، وعزمتُ عزماً أذن للدموع بالانسكاب وللقلوب بالانصداع: ويومَ وقفنا للوداع وكلُّنا ... يَعُدُّ مطيعَ الشوق مَنْ كان أجزما نُصرت بقلبٍ لا يعنفُ في الهَوى ... وعينٍ متى استطمرتها أمطرَتْ دَمَا فيا له وداعاً ذابت له الأجساد، والتهبت به الأكباد، وكاد يتصدع منه الفؤاد، ثم أنشدت أولئك المودّعين ما قاله بعض المتأدّبين: أودّعَكم وأودِعْكم لقلبي ... وعَون الله حسبكم وحسبي

وأرعى حبّكم ما دمت حياً ... وأرجو فضلكم في رعي حبي ثم ركبت على المَحَارة، وخرج إلى وداعي غالب أهل الحارة، وكان النهار قد تحوّل، والليل قد عوَّل، وأسبل ذيله وأسدل، وأردف إعجازاً وناء بكَلْكَل، فوصلنا إلى خارج المدينة، وهم مشاة (بين يديّ) بسكينة، فجددنا هناك معهم الوداع، ثم انقلبوا ما بين مثنٍ وداع، ونزلنا خارج المدينة في محل التبريز، في منزل عزيز، بديع التفويف والتطريز، ثم أقمنا في ذلك المحل يوم الأحد إلى أن تكامل السفر ولم يبق منهم بالمدينة أحد، فاتفقنا مع أولئك النفر أن يكون السير من ليلة الاثنين طلوع القمر، فحين كشف أدهم الليل، بأشقر من جياد الخيل، حمَّلنا الأحمال على تلك الأجمال، وأخذنا في التنقّل والارتحال. ولمّا اتضح الصبح وبان، وبدا نوره للعيان، نزلنا بمنزل خان طومان، ونحن في غاية الدّعة والاطمئنان. وهو منزل فسيح الساحة، مستطيل المساحة، حاوٍ لأصناف النضارة والمَلاحة، فلما اكتهل شباب ذلك النهار، واعتراه بعد النضارة اصفرار، اخترنا عن ذلك المكان الرحلة، وصرمنا حبله وقطعنا وصله، وكان منتهى السير إلى سراقب، عند ظهور النجم الثاقب، وهجوم الظلام الواقب، من ليلة الثلاثاء سابع عشر الشهر، واستمرينا بذلك المكان يوم الثلاثاء إلى العصر، فلمّا حَيْعل داعي الصلاة، وأجابه إليها من دعاه، أخذنا في أهبّة الترحيل، وشرعنا في الشدّ والتحميل، وقطعنا بالسير عمر ذلك الأصيل، إلى أن وصلنا إلى مدينة المعرّة ثلث ليلة الأربعاء أو قبله بقليل، فنزلنا بظاهرها بمربع، فيه للخواطر منزع، وللدواب

مرتع، ولبرد العلة ألطف مشرع، فلم نزل به بقية تلك الليلة ثم من يومها إلى أن استوفى ميله، وأسرج للرحلة خيله، وشمّر للذهاب ذيله، فاقتفينا أثره في الرحيل، وشرعنا بين وَخْد وذَمِيْل، وقطع فرسخ بعد ميل، إلى أن أخذ منّا السهر، وشقّ جلباب الظلام سناء القمر، وصلنا إلى خان شيخون مستعيذين بالله من شر كل خؤون، فلمّا ابتسم وجه الشرق بعد التعبيس، وأسفر صبح يوم الخميس، نفس عنا تنفسه غاية التنفيس، فحصل لنا بنوره بعد الوحشة كل تأنيس، ثم استمرينا في ذلك المكان إلى أن حان وقت العصر وآن، ثم أخذنا نجوب تلك البراري، ونجول في هاتيك الصحاري، إلى أن احتجب النور وبرز الدَّيْجُور، فارتعنا لإطلال الظلام وإقبال جيش حام، ثم اقتحمنا عساكره أي اقتحام، إلى أن أقبلت طليعة القمر من تلك الآكام، فحصل لجيش الظلام الانهزام، ودخلنا مدينة حَمَاة بسلام، وذلك ليلة الجمعة عشرين ذي الحجة الحرام، وكان منزلنا بظاهرها بالموقف، في مقعد عالٍ مشرف، إلى أن برز الفجر من خبائه، وملأ الخافقين بضيائه، فتلقّانا في ذلك المكان جماعة من الأعيان المنتسبين إلى الشيخ العارف علوان، وبلغونا سلام ولده الشيخ محمد واعتذروا عن عدم تلقّيه لنا بأنه أرْمَد، وقد تضاعف عليه الرَّمْد واشتدّ، لكنه قد صمّم وأكّد أن نحصل في مكان عَيَّنَهُ لنا وأفرد، وكانت الحُمَّى في ذلك الوقت قد اشتدّت، واحتدمت جداً واحتدّت، فلم يمكننا وقتئذٍ إجابة مرامهم، بل ولا جواب كلامهم، بل ولا ردّ سلامهم، فذهبوا ثم عادوا وقد كثروا وازدادوا،

وبالغوا في التأكيد وزادوا فلم يمكنني إلاّ المضي معهم إلى حيثما أرادوا، ولم تزل أهل محلّته يوافونا في الطريق زمرا، ويفدون علينا نفراً فنفرا، إلى أن نزلنا في ذلك المكان، وهو بالقرب من ضريح الشيخ علوان، فتلقّانا ولده بالسلام، وبالغ في الترحيب والإكرام، وأقمتُ عنده ثلاثة أيام، آخرها يوم الاثنين ثالث عشرين الحجّة الحرام، أجتلي في تلك الأيام وأجتلب، وأجتني ولا أجتنب، وأقتني لكل ما أحب: فالكفُّ عن صلةٍ والأذن عن حسن ... والعينُ عن قُرّةٍ والقلبُ عن حائر فوجدته درة بين النّاس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين محتفلة، وحسنة من الدهر الكثير العيوب، ونوبة من الزمن الجمّ الذنوب، بما شئت من أدب يتألق، وفضل تتعطر به النسمات وتتخلّق، ونفس كريمة الشمائل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب وجواهر الرغائب، إلى خشية لله تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس عن اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخو بدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب، مع نزاهة عن الدنيا، وهمّة نيطت بالثريّا، ولهجة ترقرق فيها ماء البشر فأحيا، وحيَّا ومحاضرة مستفزة للحلوم، ودُعَابة ما

خالع العُذر معها بملوم، قد نشأ على عفّة وصيانة وأمانة وديانة، فعظّم الله شأنه، ورفع بالعلم والعمل مكانته ومكانه، وأعلى به منار الهداية، ورزق الناس الانتفاع به في البداية والنهاية، فازدحموا على مورده والمورد العذب كثير الزحام، والتأموا بمعهده وحيث الكرم يزدحم الأنام، وأنشدوا لذي مشهده: لقد حَسُنت بك الأيام حتّى ... كأنك في فمِ الزمن ابتسامُ لم يزل يقطع الليل ساهراً، ويهش للجميل مبادراً، ويقطف من العلم أزاهراً، ويجمع إلى شرف الخلال خلال الشرف، ويقيم بشرفه في الخبر الحُجَّة على من قال لا خير في الشرف، ويعمر بالحسنات إناءه، ويتبع في القربات آباءه، بانياً كما بنوا، وبادياً من حيث انتهوا. فهو حبر الأكارم، وبحر المكارم، وتاج المَفاخر، وحجّة المُفاخر، ودليل كم ترك الأول للآخر، ولقد سبرت أحواله، وخبرت أفعاله وأقواله، فرأيت وشاهدت وعندما حمدت مشاهدي أنشدت: وما زلت في الأخبار أسمع عنكم ... حديثاً كنشر المسك إذ يتضوع فلمّا تلاقينا وجدت محاسناً ... من الفضل أضعاف الذي كنت أسمع فلم أزل ملازماً حِلاله، متأملاً جَلاله، ومستحسناً خِلاله، وكأنني ما عملت

الرحلة إلاّ له، إلى أن فجر الفراق، وما رق وما راق، وتهيأ نفرنا، وتأتّى سفرنا، وأزِفَت النوى، وأثارت الجوى، فأخذت في الوداع، وشاع خبر الجواز وذاع، ولما استقلت نحائب الرفاق، وتهادينا تحف الأشواق، وتشاكينا روعة الفراق. وشددنا الأقتاب والأقتاد، وأعددنا الأهبّة والزاد، فبالغ في الإنعام واعتذر، وزود حتّى لم يذر، ثم خرج لوداعي إلى ظاهر البلدة، ومعه من أعيان أهل محلّته عدّة، وكذلك الشيخ الإمام البحر الهُمَام الحسيب النسيب، الآخذ من صدق المحبّة وصفاء المودّة بأوفر نصيب. ذو الإخلاص والصفاء، والصدق والوفاء، مولانا السيد أبو البركات وفا، هو وبعض أخوته، وغالب أهل محلّته، وذلك كما مضى يوم الاثنين، ثم سرت أذري دمع العين، وآسي لشمل لا ينفك من روعة البين، وآسف لعهد كنت إليه استنمت، ولعيني في ظله أنمت، فيا لله كم سربلتني النوى سقما، وأصارت في عقلي لمما، وألبست جسمي مرضا، وسربلت قلبي من عناء، ثم جددتُ الوداع لذينك المحبين. وتجرّعت من فراقهما ما ليس بالهيّن، وأنشدت موجع الجنان مغروق الأجفان: ما أنصفتني النائبات رمينني ... بمودّعين وليس لي قلبان ثم حلفت عليهما وعلى من معهما بالرجوع، واندفعت أنشد في تلك (الربوع، وقد بلّ الثرى وبل تلك الدموع):

ماذا وقوفك والركاب يساقُ ... أين الجوى والمدمع المهراقُ ألغير هذا اليوم تخبىء أم ترى ... بخلت عليك بمائها الآماقُ حق وقد رحلوا بقلبك والكرى ... إنّ النواظر لا الدموع تراقُ ثمّ أخذنا نسير، ونجدّ في المسير، إلى أن وصلنا إلى الرَّسْتَن، وقد اختفى النهار وأكمن، وتستّر حسب ما أمكن، ونادى منادي العشاء وأعلن، وأقمنا بها إلى أن هرول الليل، وشمّر لذهابه الذيل، فأعملنا الركاب، وأخذنا في الذهاب، وشرعنا في أسباب الإياب، وذلك ليلة الثلاثاء رابع عشرين الحجّة إلى أن بان وجه المحجّة، وأقام بوجود الفجر الحُجّة، ثم بدت الشمس من المَشرق، وانجلى وجه بِشرها المُشرق، فمررنا على مدينة حِمْص مصبحين، ونزلنا بظاهرها في ذلك الحين، ثم جدّدنا عهداً بمعاهدها، وزرنا بظاهرها قبر خالدها، وافتقدنا بها من سراة الناس الشيخ عبد القادر بن الدَّعاس، فأُخْبرنا بسكناه الأرْمَاس، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم العزيز الحكيم. وهذا حال الدنيا لم تزل بأهلها لاعبة، ولنفوسهم ونفائسهم بيد منونها سالبة، وخيل مناياها ما فتئت راكضة، بين ذاهب وذاهبة:

فأولها وأوسطها عناء ... بلا فصل وآخرها فناء ومع هذا فالغبطة بها شديدة، والآمال فيها مع العلم بأنها دار البلى جديدة، حتّى كان حقيقة ما يعلم من استحالتها ارتياب، والرحلة عنها إليها إياب، لقد حُقَّ أن يرفضها البصير، ويستعدّ لما إليه يصير. ونسأل الله في هدايتنا فنعم المولى ونعم النصير، ألهمنا الله طريق إرشادنا، وأعاننا على الاستعداد لمعادنا، وقضى في العاجل والآجل بإسعادنا، إنّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. فأقمنا بتلك المدينة ذلك النهار بتمامة، ثم ليلة الأربعاء إلى أن كشف القمر عن لثامه، ومدّ نوره على خراب ذلك المكان وأكامه، وبلغ من اعتلائه أقصى غاية مرامه، فأخذنا في التّرحال، وشدّدنا الأحمال على تلك الجمال، فبلغ السير وقت الضحى وانتهى إلى قرية حَسْية وقيلنا بها. ثمّ سرنا قاصدين بلدة قارا، وقطعنا فيافي وقفارا، وبراري وصحارى، إلى أن مال النهار كل الميل، وأقبل الليل إقبال السيل، ومدّ خيامه وسرادقه، وزين بالزهر مغاربه ومشارقه، فوصلنا حينئذٍ تلك المدينة، وحصل بها الاستقرار والطمأنينة، وهذه المدينة مدينة قديمة (البنيان، واسعة الأركان) بها آثار مقيمة، وبعض عمائر عظيمة. سامية الأرجاء، واسعة الفناء، موضوعة على نسبة حسنة في الاعتدال والاستواء، رائقة الموضوع، بديعة المجموع، كوكبها يقظان، وجوها عريان، وروضها فريج، ونسيمها أريج، ما شئت من منظر عجيب، وجانب رحيب، وبسيط خصيب، يزهو بالحسن المحض، والنور

الغضّ، وناهيك ببلاد الشَّام شامة الأرض، كما قال عَرْقَلَة الدَّمَشْقيّ: هذا هو الزمن الربيع المؤنقُ ... والعيشة الرَّغدُ التي هي تُعْشَقُ فعلام تصحو والحَمامُ كأنَّها ... سَكرى تُغنّي تارةً وتُصَفِّقُ وتلوم في حُبِّ الدِّيار جَهالةً ... هيهات يسلوها فؤادٌ شَيِّقُ والشَّامُ شامةٌ وجنة الدُّنْيَا كما ... إنسانُ مقلتِها الغضيضةِ جِلقُ من آسِها لكَ جنَّةٌ لا تنقضي ... ومن الشَّقيقِ جَهَنَّمُ لا تَحرِقُ في نَيْرَبٍ ضَحكَتْ ثغور أَقاحِه ... لمّا بكاها العَارضُ المتدفِقُ فأرحنا بها تعب الأبدان، وتلقّانا بها جماعة من الأعيان، وقدموا ما حضر من ميسورهم، وسألونا في النزول بدورهم، فاعتذرنا عن ذلك، ولم نزل هنالك في ذلك المجلس النفيس، إلى أن ولّى يوم الخميس، فعَنَّ لنا المسرى في الليلة الغرّاء، فأخذنا نجوب تلك الصحراء، إلى أن وصلنا إلى بلدة النَّبْك فجرا، فبادرناها

بصلاة الفجر، واغتنمنا بتعجيلها للأجر، ثمّ هدأنا هدأة الوصيب، ووسنا سنة النصيب، فلم نفق إلاّ والشمس قد طلعت، وارتقت لذُروتها وارتفعت، فحللنا بحلال، فأصلحنا الأحوال، وتجهّزنا للارتحال، فوصلنا إلى القُطَيِّفَة وقت الزوال، وهي قرية عامرة، ذات خيرات وافرة، وغلال متكاثرة. فيحاء الضواحي، جميلة النواحي، مخضرّة الأرجاء، فضيّة الأنحاء، وهي من وقف المرحوم السعيد وليّ الله تعالى الملك العادل نور الدِّين الشهيد من جملة أوقافه على المرستان، وهي الآن في ذخيرة السُّلْطَان، فأنخنا بها من عَطَن، وقد أشرفنا بحمد الله على الوطن. وأقمنا بها إلى العصر، وقد زال العناء والحصر، وحصل الجبر والنصر، ثمّ سرنا قافلين عن أوطارٍ بحمد الله مقضيّة، ومساعٍ بفضل الله مرضيّة. ولم نزل نجوب في تلك البريّة، إلى أن وصلنا إلى قرية القُصَير عشية، فنزلنا بها واليوم في سن الاكتهال، وأيدينا مرتفعة بالشكر لله تعالى والابتهال، وهي قرية حسنة، ودمنة مستحسنة، طيبة الهواء، مشرقة الأضواء. جَمَّة الخيرات، طيبة النبات، كاملة الأذوات، فهي بغية النفس، وغاية الأنس، ومنية الطَرف، ومسرح الطِرف، وسلوة الخاطر، ونزهة الناظر، من حيث استقبلتها أشرقت وكيف ما لمحت أساريرها برقت: بلادٌ بها الحَصْبَاءُ دُرٌّ وتُرْبُها ... عبيرٌ وأنفاسُ الرياح شَمولُ

تَسَلْسَلَ فيها ماؤها وهو مُطْلَقٌ ... وصَحّ نسيمُ الرَّوضِ وهو عليلُ فبتنا بها ليلتنا، ونقعنا فيها غلتنا، وأبدلنا فيها علّتنا، وقد اشتدّ الشوق والهُيَام، وتضاعف التلهف والغرام، وطرد عن أعيننا تلك الليلة المنام: وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام وكلّما قيل غداً تدنو الدار، ويقرب المزار، طربتُ على السماع، وانتشيت برقبى الاجتماع، وكفكفت العبرات، وتمثلّت بهذه الأبيات: قالوا غداً تدنو فواحسرتا ... لو أن بالعمر غداً يُشْتَرى يا ليلة قد بقيت هل أرى ... أحمد في صبح دجاها السرى أسمع بالقرب ولكنني ... لا تنطفىء ناري حتّى أرى

ولم أزل أرقب النجم أنّى سار، تارةً عن اليمين وأخرى عن اليسار، وطوراً في ارتفاع وحيناً في انحدار: أرأيت ما قد قال لي نجم الدجى ... لما رأى طرفي يديم شهودا حتام ترمقني بطرف ساهر ... أقصر فلست حبيبك المبعودا واستمريت أرقب مواقع النُّجُوم، وأترصد ثواقب الرُّجُوم، وأنتظر ابتسام الليل بعد الوجوم، وهو لا يزداد إلاّ تمادياً، وكلّما استعجلته في السرى أراني تباطئاً، وكلّما رآني نشطاً ازداد توانياً: فمن كان يحمد ليلاً في تقاصره ... فإن ليلي لا يرجى له سحر لا تسألوني إلاّ عن أوائله ... فإنّ آخر ليلي ما له خبر فلم أزل أسارقه عقله، وأحاول منه غفلة، إلى أن مال ميلة، فاغتلته غيلة، وأبخسته كيله، ولم أعطه نيله (وجلت عليه جولة، ولم أبق له حيلة) فحينئذٍ أسرَجَ خيله وشمّر للفرار ذيله: وولت نجوم للثريّا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفى

ومرَّ على آثارها وبراتها ... كصاحب وردٍ أكمنت خيله خلفا وأقبلت الشعرى العبور بلبه ... بمرزمها اليعبوب تجنبه طرفا كأنّ بني نعش ونعشاً عطائل ... بوجره قد أظلوا في مهمة خشفاً كأنّ سهيلاً في مطالع أفقه ... مفارق ألف لم يجد بعده الفا كأنّ سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفى كأنّ الهزيع الأبنوسي وهنة ... سرى بالنسج الخسرواني ملتفا كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلةً ... صريع مدام بات يشربها صرفا كأنّ السِّماكين اللّذين تظاهرا ... على لِبْدَتَيْهِ ضَامِنَان له الحَتْفَا كأنّ فعل قطبها فارس له لواءان ... مركوزان قد كره الزحفا تشبيه آخر: كأنّ الدجى لمّا تولت نجومه ... مدبر حرب قد هزمنا له صفا كأنّ عليه للهجيرة روضة ... مفتّحة الأنوار أو نثره زعفا

كأنّا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه جاماً أو قصمنا له وقفا كأنّ السهى إنسان عين غريقة ... من الدمع تبدو كلما ذرفت ذرفا كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففر ولم يشهد طراداً ولا زحفا كأنّ سنا المريخ شعلة قابس ... تخطفها عجلان يقذفها قذفا كأنّ أفول البيد طرق تعلقت ... به سنة ما هبّ فيها ولا أغفى فلمّا بقي من الليل القليل، أخذنا في التحميل، وسألنا من الله التيسير والتسهيل، ثمّ شرعنا نسير في تلك الهضاب، ونجول في هاتيك الشعاب، إلى أن تمزّق من الليل الجِلْبَاب، وتقشّع ظلامه وانجاب، وظهر الفجر من الحجاب، ومدّ من سرادق ضيائه على الوجود الأَطْنَاب، (وافترّ ثغر الضوء في وجه ذلك الجوّ)، وأقبل الصبح مبشراً بالاجتماع، كما كان منذراً بالفراق في حالة الوداع، فشكرت سعيه إذ ذاك، وأنشدت وأنا باك: شكرت سعي الصباح لمّا ... وافا بشيراً بالاجتماع وقلت غُفْراً لما جنته ... يداك في حالة الوداع

فلمّا لاح ابن ذُكّاء والتحف الجوّ بالضياء هبّ علينا نسيم تلك الديار، وقابلنا وجهها بالاستبشار، فطار القلب كل مطار، وجادت العين بالدمع المدرار، وأنشدت في تلك الأقطار والدمع يستوقف القُطَار: هبت سحراً فنبهت وسواسي ... نشوى خطرت عليلة الأنفاسِ أهدت أرج الرجاء بعد اليأس ... ما أحسن بعد وحشتي إيناسي وما برحنا نلتحف من تلك البقاع برودا، ونقابل من هضابها نهودا، ومن رباها أعيناً وخدودا، ونلتمس منها معاهد وعهودا، وقد برز إلى الملتقى سائر الأصحاب والأصدقاء، ولم يزالوا يتواردون إليّ، ويطيلون التسليم عليَّ، وقد استطارت صدوع كبدي من الحنين إلى ولدي، فلم يكن بأسرع من إقبال المبشر بقدومه، ثمّ اجتلاء طلعته مع تسليمه، فأرسلت الدموع تترى، وحمدت الله تعالى شكرا، وأنشدت لبعضهم شعرا: عينيّ دمعت مسرةً بالجمع ... قالوا مهلاً ما في البكاء من نفعِ دع عينك تستغنم منهم نظراً ... ماذا زمن تشغلها بالدّمعِ

وكان من جملة الملتقين إلى ذلك المكان من الأصحاب والأصدقاء والخلاّن، الشيخ الإمام الأوحد، والحبر الهُمَام الأمجد فخر السُّنَّة والملّة، وإمام الأئمة الجلّة، ولي الله الكريم عليه، المنقطع إليه، المنتفع بالقراءة والتلاوة بين يديه. أجلّ العلماء العابدين، وأنبل الأولياء الزاهدين، وأحفل الفقهاء الماجدين، الشيخ أبو العبّاس أحمد شهاب الدِّين العريقي الأصيلي المعروف نسبه بالميلي. والشيخ الفقيه العالم النبيه الحبر الأوّاه الخاشع لله، العالم العَلاَّمة والحافظ الفَهَّامة، خير الأخيار وحبر الأحبار، ذو الفضل المتين، والعقل الرصين، الشيخ محمد شمس الدِّين العَجْلُونيّ الريمونيّ. والشيخ الأفضل الأوحد الأكمل، عين الأصحاب، ورأس الأحباب، ذو الحكم الظاهرة، والشيم الطاهرة، والنباهة الحاضرة، والنزاهة التي أذعنت لها الدنيا وتُرجى لها الآخرة، ذو الفضل المبين، والعقل المتين، الشيخ أبو المحاسن يوسف جمال الدِّين بن خضر الشَّافِعيّ الصُّوفيّ القادريّ. (والشاب الفاضل العالم الكامل، ذو الأعراق الزكية، والأخلاق المرضية، الكثير المحاسن، القليل المساوىء، الشَّمس محمد بن الحمزاويّ). والشيخ الفاضل والعالم العامل المهذب الأخلاق، الطيّب الأعراق، ذو المحبّة الصادقة، والأخلاق الموافقة، ذو المحل الأسمى، المطابق منه الاسم المسمّى،

خير التلاميذ، ورأس الأسانيد، اللابس من التقوى خير لباس، المحبّ ابن الزَّرْخوني القوّاس. والشيخ العَلاَّمة الإمام الفَهَّامة، الحبر المجيد، الباحث المفيد، الأوحد الفريد، ذو الفضل البارع، والذكاء الصادع، الطيّب الموارد والمشارع. الآتي من ذكائه بما تقضى منه العجب، الشيخ زين الدِّين الحَمَويّ المسمّى برجب. والشيخ العالم الإمام الأوحد الأمجد الهُمَّام، المرتقي بفضله إلى أعلى مقام، المفنّن في العلوم، والمتبحّر في المنطوق والمفهوم، ذو الخلق المعتدل والطبع المستوي، الشيخ علاء الدِّين ابن أبي سعيد الحموي. والشيخ العالم المُحَقِّق، الفاضل البارع المدقّق، البعيد الهمم، الزكي الشيم، الراسخ القدم، ذو الذهن الثاقب، والفكر الصائب، المتقدّم على أكثر من يدرس ويفتي، الشيخ شمس الدِّين محمد الجبرتي. والشيخ الفاضل، والعالم العامل، الأوحد الكامل، الأصيل الجليل، الحسيب النبيل، الرئيس النفيس الكامل المروة والتام الفتوّة، ذو المناقب التي يحدّها ذكاء، والفعال التي في غيرها قطع الشركا، والأصول التي من فروعها سرى الحسب والزكا العضيدي الذخري، الشيخ بدر الدِّين البَكْريّ.

والشيخ الصَّالح الكامل العابد الزاهد العَامِل المحبّ الصادق، والخلّ الموافق، ذو الإخلاص والصفاء، والصدق والوفاء، اللاهي بربه عن الملاهي، الشيخ الصُّوفيّ عبد الكريم الأمياهيّ. والشيخ الفاضل البارع الكامل العَالم العَامِل، ذو المناقب والشمائل، الحافظ اللافظ، المذكّر الواعظ، الحسن السمت، الطيّب النعت ذو الدِّين الثخين، والعقل المتين، والفضل المبين، قرّة عين المحب وسخنة عين العادي، الشيخ أبو الحسن علاء الدِّين ابن البَغْدَاديّ، وغيرهم من المحبين والأصحاب المتوددين، والتلامذة المترددين ولم يزالوا يفدون زُمَراً ويردون نَفَرَاً فنفرا. فلمّا كثر المترددون والمنتابون، وقد وصلنا إلى محلّة القَابُون، نزلت من المَحارَة في رأس تلك الحارة، وامتطيت صهوة جوادي، وقد قوى فؤادي عند مشاهدة بلادي، وظَهَرَتْ للصحة إن شاء الله بوادي. فيا له من طرف أشهب، قد اختصر من بالَغَ في وصفه وأسهب، مريع رائق، لاحق سابق، مطلق الجرائد، قيد الأوابد، يلوح كالصباح، ويسابق الطَرف ويباري الرماح، ويمرح بين اختيال وارتياح، وارتجاج وارتجاح. تستوقف اللحظات في حضرته برقة حسنه وكمال خلقته. ذي نخوة شمخت به عن نده، وشهامة طمحت به عن ضده، فهو الأشْمَط الذي حقه

لا يُغمط. أكرم به من مرتاضٍ سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأولين متهالك، وأشْهَب يروي مني عن مالك. قد لبس وقار المشيب في ريعان العمر القَشيْب، وأنصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لمّا ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، فسار بي الفرس المذكور سير المهيب الوقور بين تلك الأصحاب والأصدقاء والأحباب، فشاهدتُ نوراً خلاف العادة إشراقة، وعزَّ على ضوء النيرين لحاقه. عرفته البصائر قبل الأبصار، وأنكرته النواظر لعلو جوهر نوره على الأنوار، فأيقنت أنّ لله في أرضه المقدّسة من الأسرار، ما لا يظهر عليه من عباده إلاّ الأخيار، ولم نزل نسير بوقار وسكينة إلى أن دخلنا بحمد الله المدينة: هي الدار لا أصحو بها من علاقة ... لأمرٍ لنا بين الجوانح مضمر فجاد على أرجائها الغيث أنها ... منازل جيرانٍ كرامٍ ومعشر ثمّ وصلت إلى منزل الأحباب، ومنزه الألباب ووفدت على تلك الأعتاب، (واستفتحت تلك الأبواب): تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل ... وعدت إلى تصحيح أول منزلِ ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزلِ

فنزلت بذلك الجناب، وتلقيت أولئك الأحباب، فجمع الله تعالى الشمل، وله سبحانه المنّة والفضل، بالوالدة والأولاد وبقيّة الأهل، فتلقتني والدتي دامعة العين، تناديني بقُرَّة العين، وتشكوني بالانقطاع والبَين، وتحمد الله على رؤيتي قبل حين الحين، وكذلك بقيّة الأولاد والأخوات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات: وألقتْ عصاها واستقَرَّت بها النَّوى ... كما قَرَّ عَيْناً بالإيابِ المسافِرُ فيا لله هنالك من صلة رحم، وشمل منتظم، وصدع ملتئم، وقلب منجبرٍ غير منقسم. وطَلَعَ نجم السعد، ويسر الله تعالى بإنجاز ذلك الوعد، وحللنا حلول الحياة بالجسم، والإعراب في آخر الاسم، فاتّقد سِرَاج الأنس في ليل ذلك التوهّم، وأومض برق التبسّم في وجه ذلك التجهّم، ومضى لنا من ذهول الألباب، ومحادثة الأحباب، ومجاذبة أهداب الآداب: يومٌ كأنَّ نَسيمَه من عنبَرِ ... وتخالُ أنَّ أديمَه من جوهرِ لو باعتِ الأيّامُ آخَرَ مثله ... بالعُمْر أجمع كنتُ أوَّل مُشْتَري وقد قالوا ليس يعدل ساعة الفراق إلاّ ساعة التلاق:

فلولا البعد ما حمد التداني ... ولولا البَين ما طاب التلاقي ولم أزل بالوطن أتلافا ما فرط، وأستبدل الراحة بالعناء والرضى بالسخط، إلى أن انصلحت الأحوال، وحسُنَت في الحال والمال إن شاء الله تعالى، ونسأل الله المحسن المجمل المنعم المفضّل أن يختم لنا بالحُسنى ويُبَوَّأنا من رضاه المحل الأشرف الأسنى، وأن يرزقنا في سائر أحوالنا من أمنه أمنا، إنه سبحانه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين. انتهت الرحلة المباركة الملقّبة بالمطالع البدريّة في المنازل الرُّوميّة (على يد منشئها فقير عفو الله تعالى وغفرانه، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن بدر مفرج بن بدر بن عثمان بن جابر العَامريّ الشهير بابن الغَزِّيّ الشَّافِعيّ، غفر الله له ولهم ولسائر المسلمين، في ليلة يسفر صباحها عن يوم الأربعاء المبارك سادس عشرين ذي الحجّة سنة أربعين وتسعمائة، أحسن الله ختامها وقدّر في خير تمامها بمنّه وكرمه، آمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم، وحسبنا الله ونعم الوكيل).

§1/1