المصالح المرسلة - ضمن «محاضرات الشنقيطي» ط عالم الفوائد

الشنقيطي، محمد الأمين

مؤسسة سُلَيْمَان بن عبد الْعَزِيز الراجحي الْخَيْرِيَّة SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1426 هـ دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع مَكَّة المكرمة ص. ب: 2928 هَاتِف: 5505305 - فاكس: 5542309 الصَّفّ والإخراج دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع

المحَاضرة الثانية المصالح المرسَلة

_ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أفاد المحقق في المقدمة: أن هذه المحاضرة أملاها الشيخ، وأُلقيت نيابة عنه في الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية لعام 1390 هـ

اعلم أولا أن المصالح التي عليها مدار التشريع السماوي ثلاث

بسم الله الرحمن الرحيم قال رحمه الله: اعلم أولًا أن المصالح التي عليها مدار التشريع السماوي ثلاث: الأولى منها: دَرْءُ المفاسد، وهي المعروف عند الأصوليين بالضروريات. والثانية: جلب المصالح، وهو المعروف عند الأصوليين بالحاجيات. والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات، وهو المعروف عند الأصوليين بالتحسينيات، والتتميميات، وكل واحدة من هذه المصالح الثلاث قد تكون مرسلة وغير مرسلة. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الوصف من حيث هو وصف لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات لا رابع لها: الأولى: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف تتضمن إحدى المصالح الثلاث المذكورة آنفًا. الثانية: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة أصلًا، لا بالذات ولا بالتبع أعني الاستلزام. الثالثة: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة بالذات ولكنها تتضمنها بالتبع، أي الاستلزام، فإن كانت إناطة الحكم

به تتضمن إحدى المصالح الثلاثة المذكورة فهو المعروف عند الأصوليين بالوصف المناسب، كإناطة تحريم الخمر بالإسكار، فإنها تتضمن مصلحة حِفْظ العقل، ودرء المفسدة عن العقل من الضروريات، كما هو معلوم. وإن كانت إناطة الحكم به لا تتضمَّنُ مصلحة أصلًا لا بالذات ولا بالتبع، فهو المعروف في الاصطلاح بالوصف الطَّرْدي، ولا يصح التعليل به إجماعًا. واعلم أن الوصفَ الطَّرْدي الذي لا مناسبة فيه ولا تتضمن إناطةُ الحكمِ به مصلحة أصلًا ينقسم إلى قسمين: 1 - أحدهما: أن يكون طرديًّا في جميع أحكام الشرع كالطول والقصر، فإنك لا تجد حكمًا من أحكام الشرع معلَّلًا بالطول أو القِصَر؛ لأن إناطة الحكم بذلك خالية من المصلحة أصلًا. 2 - الثاني منها: أن يكون الوصف طرديًّا في بعض الأحكام دون بعض كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، فإن أحكام العتق لا ترى شيئًا منها يناط بخصوص الذكورة أو الأنوثة، فهما طرديان بالنسبة إلى العتق، مع أن الذكورة والأنوثة غير طرديين في أحكام أخرى غير العتق كالميراث، لقوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} [النساء / 176] وكالشهادة لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة / 282] إلى غير ذلك من الأحكام التي تعتبر فيها الذكورة والأنوثة غير العتق.

وإن كانت إناطةُ الحكم به لا تتضمَّنُ مصلحة بالذات ولكنها تستلزمها بالتبع، فذلك الوصف هو الجامع بين الأصل والفرع في نوع القياس المسمى بقياس الشبه، على ما حرره جماعةٌ من الأصوليين، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقرافي، وزادوا على ما ذكر كون الشرع قد شهد بتأثير جنس ذلك الوصف القريب في جنس ذلك الحكم القريب، يعنون أنه لا يُكْتَفَى بالجنس البعيد في ذلك. ومثاله قولهم: الخل مائع لا تُبنى على جنسه القنطرة، ولا يُصاد من جنسه السمك، فلا تصح الطهارة به قياسًا على الدهن. فقولهم: لا تبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك، ليس مناسبًا في ذاته؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه وعدم صيد السمك منه بالنظر إلى ذات تلك الأوصاف، فهي أوصافٌ طردية بالنسبة إلى الطهارة وعدمها، ولكنها مستلزمة للمناسب. قال القرافي في "شرح التنقيح": "فإن العادة أن القنطرة لا تُبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة كالأنهار، فالقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، ، أما تكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولهم: لا تُبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك، ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب. وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر به وينتقل إلى التيمم". بواسطة نقل "نشر البنود".

وإذا علمتَ بما ذكرنا انقسامَ الوصف باعتبار تضمنه المصلحة وعدمها إلى مناسب، وطرديٍّ، وشبهيٍّ، فاعلم أن الوصف المناسب الذي هو المقصود بالكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واحد منها صادق بصورتين. فيصير مجموع الصور أربعًا. وإيضاحُ ذلك: أن المصلحة التي تضمَّنها الوصفُ فصار مناسبًا بسبب تضمنه لها تنقسم إلى ثلاث حالات لا رابعة لها. الأول: أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار تلك المصلحة وعدم إهدارها، كالإسكار بالنسبة إلى تحريم الخمر، والصغر بالنسبة إلى الولاية على المال. الثانية: أن يدل دليل خاص على إهدارها وعدم اعتبارها، كما لو ظاهَرَ الملكُ من امرأته، فمصلحة الزجر والردع في تخصيص تكفيره بالصوم؛ لأن الصوم هو الذي يردعه عن العود إلى مثل ذلك، أما الإعتاق والإطعام فهو أسهل شيء على الملوك؛ لأنهم لا يبالون به لِخِفَّته عليهم، ولكن الشرع الكريم ألغى هذه المصلحة وأهدرها، كما قال تعالى. {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة / 3]. واعلم أن الشرع الكريم لا يُلْغي اعتبارَ مصلحةٍ ويحكم بإهدارها إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم في نظر الشرع منها؛ لأن عتق الرقبة وإخراجها من الرِّق أهم في نظر الشرع من التضييق على المَلِكِ بالصوم لينزجر بالتكفير بذلك. الثالثة: هي أن لا يدل دليل خاص على اعتبار مناسبة ذلك

الوصف ولا على إهدارها. فإِن دل الدليل الخاص على اعتبار تلك المصلحة، فهو المعروف بالمؤثِّر والملائم. وإن دل الدليل الخاص على إهدار تلك المصلحة، فهو المعروف عند أكثر أهل الأصول بالغريب. وإن لم يدل الدليل الخاص على اعتبارها ولا على إهدارها، فهي المصلحة المرسلة. وإنما قيل لها مصلحة لأن المفروض تضمن الوصف المذكور لإحدى المصالح الفلاث، وإنما قيل لها مرسلة لإرسالها أي إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار، وتسمى: المرسل، والمصالح المرسلة، والاستصلاح، وسيأتي إن شاء الله كلام أهل العلم فيها. اعلم أولًا أن بعض العلماء شنَّعَ على مالك بن أنس -رحمه الله- في الأخذ بالمصالح المرسلة تشنيعًا شديدًا، كأبي المعالي الجويني ومن وافقه، فعابوا مالكًا بأنه يحكم بضرب المتهم ليقر بالسرقة مثلًا، وقالوا: لا شك أن ترك مذنب أهون من إهانة بريء، وزعموا أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يُبيح قطع الأعضاء في التعزيرات. وقال بعضهم: العمل بالمصالح المرسلة تشريع جديد لعدم استناد المصالح المرسلة إلى نص خاص من كتاب أو سنة وسنذكر أولًا حجة مالك المتضمنة الجواب عما قيل عنه. ثم نذكر بعد ذلك ما يحتاج إليه من الكلام على المصالح المرسلة، وموقف أهل المذاهب وأصحابهم منها.

أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات؛ فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك، ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيءٍ من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البنَّاني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمنًا طويلًا، وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة. أما حكمه بضرب المتهم ليقر بالسرقة، فهو صحيح عن مالك كما عقده ابن عاصم في تحفته بقوله: وإن تكن دعوى على من يتهم ... فمالك بالسجن والضرب حكم ومالك لا يجيز ضرب المتهم إلا إذا ثبتت عليه الخيانة قبل ذلك ثبوتًا لا مطعن فيه فثبوت كونه خائنًا رجح عنده طرف الاحتياط للمال ليقر به أما الذي لم تثبت عليه الخيانة سابقًا، فلم يقل بضربه ليقر. وثبوت الخيانة له أثره في الشرع، فمن قذف من ثبتَ عليها الزنا لا يُحَدُّ بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... } [النور / 4] فمفهوم قوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} أن الذين يرمون غير المحصنات لا تثبت عليهم تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً .. } [النور / 4] الآية. قالوا: وفي بعض الروايات لحديث الإفك: أن عليًّا ضربَ بريرة لتخبر بالحقيقة عن عائشة، وضَرْبُه لها مصلحة مرسلة، ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم -. وذكر ابنُ حجر أن رواية الضَّرْب المذكورة جاءت من رواية أبي أوس وابن إسحاق.

قلتُ: وقد ثبت في "صحيح مسلم" ما لفظه: "فانتهرها بعضُ أصحابه فقال: أصدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" الحديث، وبريرة مسلمة، وانتهارها من غير ذنب أذىً لها بلا موجب، وأذى المسلم حرام، وكان مستند من انتهرها هو مطلق المصلحة المرسلة، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو تقرير منه للعمل بالمصلحة المرسلة في الجملة. واحتجَّ مالكٌ للعمل بالمصالح المرسلة بأن الصحابة كانوا يعملون بها من غير أن يخالف منهم أحد. قال علماء المالكية: ومن أمثلة ذلك: نَقْط المصحف، وشكله، وكتابته، لأجل حفظه في الأوليين من التصحيف، وفي الثالث من الذهاب والنسيان. قالوا: ومن أمثلة ذلك حَرْق عثمان - رضي الله عنه - للمصاحف وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف. قالوا: ومن أمثلته تولية أبي بكر لعمر؛ لأنه لا مستند له فيها إلا المصلحة المرسلة على التحقيق، وقول بعضهم: إنه من القياس، خلاف الظاهر، يعنون قياس العهد على العقد. قالوا: ومنه تَرْك عمر الخلافة شورى بين ستة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راض. قالوا: ومن أمثلة ذلك هَدْم عثمان وغيره الدور المجاورة للمسجد عند ضيق المسجد لأجل مصلحة توسعته. قالوا: ومن أمثلة ذلك زيادة عثمان لأحد الأذانين في الجمعة لكثرة الناس.

قالوا: ومنها اشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية واتخاذها سجنًا لمعاقبة أهل الجرائم. وقالوا: السجن من العقوبات الشديدة، ولذا قرن بالعذاب الأليم في قوله تعالى: {إلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} [يوسف / 25]، وقالوا: لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر سجن، فلما انتشرت الرعية ابتاع بمكة دارًا وجعلها سجنًا يسجن فيها. قالوا: وفيه دليل على جواز اتخاذ السجن، وقد سجن عمر الحُطَيئة على الهجو، كما يدل له قوله: ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ ... زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيتَ كاسبهم في قَعر مظلمة ... فامنن عليك سلام الله يا عمر وقد سجن عمر - رضي الله عنه - صبيغًا على سؤاله عن المتشابه، وسجن عثمان - رضي الله عنه- ضابئ بن حارثة، وكان من لصوص بني تميم، ومات في السجن، وقد حاول قتل عثمان وهو في سجنه كما يدل له قوله: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركتُ على عثمان تبكي حلائل قالوا: وسجن علي - رضي الله عنه - في الكوفة، وسجن ابن الزبير في مكة. قالوا: ومن أمثلة ذلك تدوين الدواوين، لأن أول من دونها في الإسلام عمر - رضي الله عنه - ولم يتقدم فيه ولا في شيء مما ذكر قبله، ولا في نظيره أمر من الشارع، فكتابة عمر أسماء الجُنْد في ديوان يُعرف به الجند، ويُميز به أهل كل ناحية، ويُعرف به من تخلف ممن لم

يتخلف، وموافقة جميع الصحابة على ذلك من غير نكير لمجرد المصلحة المرسلة، مع أنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتفقد كعب بن مالك ولم يعلم بتخلُّفِه حتى وصل تبوك، ونحو ذلك من الوقائع التي ذكروا والتي لم يذكروها حجة ظاهرة لمالك فيما شابهها. واعلم أن العلماء غير مالك اختلفوا في العمل بالمصلحة المرسلة. قال ابن السبكي في "جمع الجوامع" في مبحث تقسيم المناسب الذي ذكرنا إلى مؤثِّر وملائم وغريب ومرسل ما نصه: "فإن دل الدليل على إلغائه فلا يُعَلَّل به، وإلا فهو المرسل قبله مالك مطلقًا، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقًا، وقوم في العبادات ... " الخ. وقال شارحه صاحب "الضياء اللامع": "وما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إهدار، ولكنه على سنن المصالح وتتلقاه العقول بالقبول فهو المرسل، واختلف في العمل به على مذاهب: أحدها: رَدُّه، وبه قال القاضي أبو بكر، والشافعي في أحد قوليه، وعزاه المصنف -يعني ابن السُّبكي- إلى الأكثر. الثاني: اعتباره مطلقًا، وبه قال مالك وحكاه القرافيُّ في "شرح المحصول" عن معظم الحنفية، وهو أحد قولي الشافعي، وقد قال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام -يعني إمام الحرمين- التفريق بين المذهبين ولا يجد إلى ذلك سبيلًا أبدًا، ثم يقال له: ما ذكرته من التقييد لقول الشافعي من التقريب

من قواعد الشريعة ما مأخذه وما المراد به، وفي أي جهة يشترط التقارب؟ أفي مجرد المصلحة، أم في وجه آخر أقرب من ذلك؟ . فإن اكتفى بمجرد التقارب في المصلحة لزمه إعمال جميع المصالح، وإن اشترط الاشتراك في الوجه الأخص فهو المؤثر بعينه، وبين الدرجتين رتب في القرب والبعد لا تنضبط بحال. وقد أطال الكلام في المسألة ورد على القاضي والإمام فيما قالاه، وقال: إذا نظر المنصف في أقضية الصحابة -رضي الله عنهم- يتبين له أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدلَّ الدليلُ على إلغاء تلك المصلحة. قال: وهو أمر مقطوع به عن الصحابة، ونحوه للقرافي، وقد عدد كثيرًا من وقائع الصحابة التي اعتمدوا فيها على مطلق المصلحة من غير أصل تُبْنى عليه، وقال: إن مجموع ذلك يفيد القطع" انتهى محل الغرض منه. وقال في نفس المبحث المذكور: وقال القرافي في "شرح المحصول": "يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل اشترك فيها جميع المذاهب، فإنهم يعللون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المصلحة، ثم إن الشافعية يدَّعون أنهم أبعد الناس عنها، وهم قد أخذوا منها بأوفر نصيب حتى تجاوزوا فيها. هذا إمام الحرمين -قَيِّمُ مَذْهَبهم- ضمَّنَ بعضَ كتبه أمورًا من المصالح لم يوجد لها في الشرع أَصل يشهد لخصوصها، وكذا فعل

المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام

الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية"، فإنه توسَّع في ذلك توسُّعًا كثيرًا لم يوجد للمالكية منه إلا اليسير" وذكر بعض أمثلة مما ذكروه ثم قال: "فلو قيل: إن الشافعية هم أهل المصالح المرسلة دون غيرهم لكان ذلك هو الصواب"، وقال الغزالي في "المستصفى": "وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: 1 - قسم شهد الشرع باعتبارها. 2 - وقسم شهد لبطلانها. 3 - وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها إلى أن قال: القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين، وهذا في محل النظر ... " إلى آخر كلامه الطويل، وفيه تقسيم المصالح إلى ضروريَّات وحاجيَّات وتحسينيات، كما أوضحنا، ومعلوم أن الضروريات يراد بها درء المفسدة عن الدين والنفس، والعقل والنسب والعرض، والمال. وإن كان الغزالي عدَّها خمسًا فحذف العرض. ثم قال بعد ذلك: "فإذا عرفتَ هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين -يعني الحاجيات والتحسينيات- لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل ... " إلى أن قال: "أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بُعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين. ومثاله: أن الكفار لو تترَّسوا بجماعة من أُسارَى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا

كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلمًا معصومًا لم يذنب ذنبًا، وهذا لا عهد به في الشرع. ولو كففنا لسلَّطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضًا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعًا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتًا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن توصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين. فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة. فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور. وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها. وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدًا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظًا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرها ... "

إلى آخر كلامه. فتراه في هذا الكلام صرَّح بجواز العمل بالمصلحة المرسلة بالقيود المذكورة في مسألة تترُّس الكفار بالمسلمين، وذكر أن العمل بها لا يجوز في مرتبة الحاجيَّات والتحسينيات. فهنا في "المستصفى" ذكر جواز العمل بها في خصوص الضروريَّات دون الحاجيات والتحسينيات، ولكنه ذكر في "شفاء الغليل" جواز العمل بها في الحاجيات أيضًا. واعلم أن مسألة التترُّس المذكورة اعْتُرِضَت على الغزالي من وجهين. اعترضها السبكي في "جمع الجوامع" بأنها ليست من المصالح المرسلة لدلالة النصوص على العمل بها فقال: "وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية؛ لأنها مما دل الدليل على اعتباره فهي حق قطعًا، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع". اهـ من "جمع الجوامع". وتراه زعم أن مسألة التترُّس ليست من المرسل لشهادة الشرع لها. واعترضها أيضًا عليه الأبياري من المالكية وهو من شيوخ ابن الحاجب بأن قال: "ما قاله -يعني الغزالي- في المسألة المذكورة غير صحيح، ولم يُبْد دليلًا على ما ادعاه، بل اقتصر على مجرد الدعوى واعتباره القيود الثلاثة، وهي كونها ضرورية قطعية كلية أمر لا يتصور، ولا وقوع له في الشريعة أصلًا". اهـ منه بواسطة نقل ابن حلولو في "الضياء اللامع". ثم قال الغزالي في "المستصفى": "فإن قيل: فتوظيف الخراج من

المصالح فهل إليه سبيل أو لا؟ قلنا: لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الفرقة في بلاد الإسلام، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم أنه إذا تعارض شرّان أو ضرران قَصَدَ الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرّين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة القنوات، وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضًا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترُّس، لكن هذا تصرف في الأموال. والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها. وإنما المحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك" اهـ محل الغرض منه. وهو يدلُّ على العمل بالمصلحة المرسلة في أخذ الإمام الأموال من الناس ليهيئْ بها الجند؛ لحفظ بلاد المسلمين من الكفار والظلمة، ولا شكَّ أن حفظ بلاد المسلمين، يجب على ولاة المسلمين وإن لم يكن لذلك طريق ممكنة إلا أخذ بعض الأموال من الأغنياء. ولا خلاف في ارتكاب أخفِّ الضررين وجواز العمل به وإن كانت مصلحة مرسلة. واعلم أن ما فعله عمر - رضي الله عنه - من عدم قسمه للأرض

المغنومة من الكفار، مع أن ظاهر القرآن يدل على أن أربعة أخماسها للغانمين، لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال / 41]. أي والأخماس الأربعة الباقية للغانمين. ولم يفعل عمر ذلك بل لم يقسم الأرض المغنومة على الغانمين، وإنما تركها لينتفع بها جميع المسلمين في المستقبل؛ لأنها لو قسمت لم يبق خراج يكفي الجيوش لحماية بلاد المسلمين. ولذا صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر"، وفي لفظ في "الصحيح" عن عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر المسلمين ليس لهم شيء ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها"، ليس معناه أن عمر رضي الله عنه خصَّصَ عمومَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... } الآية بمصلحةٍ مرسلة كما يظنه بعض المتعلِّمين الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة؛ لأن كلام عمر - رضي الله عنه - صريح في أنه يرى أن الإمام مخيَّر بين قسم الأرض المغنومة على الغانمين، وبين استبقائها لانتفاع جميع المسلمين؛ لأن ذلك مفهوم من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حضره عمر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الأرض المغنومة تارة وترك قسمتها أخرى، فدل ذلك على جواز كلا الأمرين، فقد قسم بعض أرض خيبر وترك بعضها، وقسم أرض قريظة، ولم يقسم أرض مكة. فإن قيل: أرض خيبر أُخِذ بعضها عنوة وهو الذي قسم، وبعضها أخذ ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهو الذي لم يقسم.

قلنا: قسم أرض خيبر وترك قسم أرض مكة كلاهما لا نزاع فيه، وهو يكفي لمحل الشاهد. فإن قيل: مكة فتحت صلحًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن"، ومن أغلق بابه فهو آمن"، كما هو ثابت في "صحيح مسلم". قلنا: إن التحقيق أن مكة فتحت عنوة لا صلحًا، ولذلك أدلة واضحة منها: أنه لم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهلها زمن الفتح، وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان، ولوكانت قد فُتِحت صلحًا لم يقل: من دخل داره أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن، فإن الصلح يقتضي الأمان العام. ومنها: حديث: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وأنه أذن لي فيها ساعة من نهار". وفي لفظ: "إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار". وفي لفظ: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس". ومنها: أنه ثبت في الصحيح أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ثم قال: "يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار" فجاؤوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار هل ترون إلى أوباش قريش"؟ قالوا: نعم. قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن

تحصدوهم حصدًا". وهو صريح في أن مكة فُتِحَت عنوة، وقتل فيها من الطرفين كما هو معروف، ورجز حماس بن قيس يخاطب امرأته مشهور في ذلك وهو قوله: إنك لو شهدَت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... لهم نهيب خلفنا وهمهمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربًا فلا تسمع إلَّا غمغمه لم تنطقي باللوم أدنى كلمه ومنها أيضًا: أن أم هانيء بنت أبي طالب - رضي الله عنها - أجارت رجلًا فأراد علي رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وذلك يوم الفتح. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل مقيس بن صبابة وابن خطل وجاريتين، ولو كانت فتحت صلحًا لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذِكْر هؤلاء مستثنًى من عقد الصلح. إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن مكة فتحت عنوة. فتركه - صلى الله عليه وسلم - قَسْم أرضها وبعض أرض خيبر، وقَسْم بعض أرض خيبر وأرض قريظة يدل على جواز الأمرين وأن ذلك هو الذي لاحظه عمر، لكن عمر - رضي الله عنه - فضَّل أحد الأمرين الجائزين استنادا إلى المصلحة المرسلة. فالحاصل أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتعلقون بالمصالح

المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية، وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها. ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق: أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر، حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها. وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال. واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعًا جديدًا خاليًا عن دليل أصلًا، بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور. منها: عمل الصحابة -رضي الله عنهم- بها من غير أن ينكر منهم أحد، وهم خير أسوة. ومنها: أنه قد عُلِم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها، ولا سيما إن كانت المصلحة متمحِّضَة لم تستلزم مفسدة، ولم تعارض مصلحة راجحة، ولم تصادم نصًّا من الوحي. ومنها: أن بعض النصوص قد يدل لذلك كما ذكرنا آنفًا في "صحيح مسلم" من أن بعض الصحابة انتهر بريرة لتصْدُق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما تعلم عن عائشة وبريرة مسلمة وإيذاء المسلم بالانتهار من غير ذنب حرام، وقد استباحه بعض الصحابة للمصلحة المرسلة، وهي تخويف الجارية حتى تقول الحق، ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليهم. هكذا قيل! ولكن

استناد المصلحة المرسلة إلى دليل خاص يُخْرجها عن كونها مرسلة كما ترى. والعلم عند الله تعالى. فمثال معارضتها لمصلحة أرجح منها: غرس شجر العنب، فإن منع وجوده في الدنيا يستلزم مصلحة هي السلامة من عصر الخمر منه، ولكِن مصلحة السلامة من عصر الخمر من العنب بإعدامه من الأرض معارَضة بمصلحة أرجح منها، وهي انتفاع عامة الناس بالعنب والزبيب، فهذه المصلحة الراجحة تقدم على تلك المصلحة المرجوحة: وانظر تدلي دوالي العنب ... في كل مشرق وكل مغرب ومن أمثلة هذا أيضًا: إجماع المسلمين قديمًا وحديثًا على جواز مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، ولم ينقل عن أحد أنه قال: يجب عزل النساء عن الرجال وإسكانهن منفردات، عليهن حصون قوية وأبواب من حديد مفاتيحها بيد من عُرِفَ بالتقوى والعفاف وكبر السن والغنى بالزوجات، مع أن عزل النساء فيه مصلحة السلامة من الزنا؛ لأن كون الجميع في بلد واحد قد يكون ذريعة إلى التوصل إلى الفاحشة بالإشارات ورمي الأوراق التي فيها مواعيد، والاتصال من فوق السطوح، كما قال نصر بن حجاج بن عِلاط السُّلَمي: ليتني في المؤذنين نهارا ... أنهم ينظرون من في السطوح فيشيرون أو يشار إليهم ... حبذا كل ذات دلٍّ مليح لأن مصلحة تعاون الذكور والإناث على الدين والدنيا في البلد الواحد، بأن يكون الرجل ونساؤه في دارهم يتعاونون بأن يقوم كل بما

يليق به من الخدمة، أرجح من مصلحة قطع الذريعة إلى الزنا باجتماع الجنسين في البلد الواحد. ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية: ما إذا طلب المسلمون فداء أساراهم من الكفار، فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن كان ييسر لهم قتل الأسارى فالمفسدة مساوية، وإن كان ييسر لهم قتل أكثر منهم فالمفسدة راجحة. ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال -أعني متجددة في المستقبل-: ما وقع من مؤمني قوم نوح - عليه السلام - فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين: يغوث، ويعوق، ونسر، وود، وسُواع، في حالته الأولى مصلحة، وهي التي قصدوها بتصويرهم؛ لأنهم إذا رأوا صورهم تذكَّروا صلاحَهم وعبادتهم فبكوا وعبدوا الله وأطاعوه، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد وهي: أن ذلك التصوير وسيلة للكفر البواح والشرك بالله؛ لأنهم لمَّا مات أهلُ العلم منهم وبقي أهلُ الجهل زيَّن لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبدوها، وذلك أول شركٍ وقع في الأرض. وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة، ولم يتفطن لها عند استعمال المصلحة، وذلك يستوجب الحذر التام من العمل بالمصالح المرسلة، خوف استلزامها بعض المفاسد التي تتجدد في المستقبل، كما ذكرنا آنفًا. * * *

§1/1