المسالك والممالك للبكري

أبو عبيد البكري

المجلد الاول

[المجلد الاول] المقدّمة ترجمة سعد غراب ليس من المفيد هنا أن نطيل في الحديث عن الحالة السياسية في الأندلس في القرن 5 هـ/ 11 م وهي الفترة التي عاش فيها البكري فهي معروفة من قبل كلّ المهتمين من قريب أو بعيد بتاريخ العالم الاسلامي بصفة عامة وبتاريخ المغرب بصورة خاصة فسنقتصر اذن على رسم الخطوط العامة للاطار الذي تكونت فيه ونمت آثار البكري موضوع هذا العمل. إن ارتقاء هشام الثاني عرش الأندلس وهو طفل بعد حكم مستقر ومزدهر للخليفتين عبد الرحمن الثالث (300/912- 350/961) وابنه الحكم الثاني (350/961- 366/976) قد فتح عهدا من الاضطراب والصراعات الداخلية ستؤول بالخلافة الأموية إلى انهيار كلي سريع وسيشهد المرء مطالبين بالحكم يعتلون العرش تباعا أو في نفس الوقت وكل يعتمد على عناصر متعدّدة من عرب وبربر وصقالبة مكونة للجيش. فمن العشرية الأولى للقرن الحادي عشر ظهرت خلافة منافسة هي خلافة الحموديين بمالقة ثمّ بالجزيرة الخضراء وكان حكامها يتعاقبون أو يتزامنون مع ممثلي الخلافة الأموية الأخيرين وستتواصل هذه الحالة الى سنة 442/1031 عندما سينتهي أمر الخلافة الأموية بزوال آخر خلفائها هشام الثالث. وبدأ بذلك في الأندلس عهد جديد أصبح فيه رسميا ما كان يعتبر منذ سنين عديدة أمرا واقعا وأصبح كل حاكم مستقلا بجهته أو مدينته، إنها فترة الفوضى والتشتت المعروفة بقرن ملوك الطوائف وسيحصى منهم في بعض الفترات أكثر من العشرين «1» .

إنه لمن الممل أن يتبع الباحث تاريخ هذه السنوات القاتمة المضطربة، فكتب التاريخ تعج بأخبار الحروب المتتالية لهذه الدويلات وتنعقد التحالفات وتنقطع عبر الأيام وتولد ممالك وتندثر أخرى الى أن تبرز من الخضم وحدات أكثر اتساعا واستقرارا تتمكن من البقاء الى آخر القرن «1» إذ ذاك انتهى الأمر بممالك الشمال مثل طليطلة وسرقسطة الى الانهيار تحت ضربات الأجوار المسيحيين: قشتالة وليون وأرغون. ومن البديهي أن النصارى لم يبقوا مكتوفي الأيدي أمام الحالة المتداعية التي كانت عليها الأندلس في تلك الفترة فلقد استغلّوا كل الامكانيات المتاحة لديهم سواء كانت عنيفة أو سلمية لمدّ تأثيرهم الى جهات أوسع فأوسع من الأندلس نظرا لتشتّت المسلمين وعدم استقرار أمورهم وعجزهم عن الاتحاد والدفاع عن النفس. وبلغ هذا المدّ أوجه سنة 478/1085 عندما احتلّ الفونش السادس ملك ليون وقشتالة مدينة طليطلة. وكان لهذه الكارثة وقع عظيم في كلّ العالم الاسلامي وسببت ردود فعل أندلسية: فلقد وقع الاستنجاد بالمرابطين الموجودين آنذاك بشمال افريقيا، ونزل يوسف بن تاشفين بالأندلس سنة 483/1090 يقود جيوشه لمقاومة مسيحي الشمال ولكن سرعان ما تبيّن له ان ذلك غير ممكن ان لم يحدث تغيير جوهري في وضع الأراضي الاسلامية السياسي، سيقضى اذن على ملوك الطوائف الواحد تلو الآخر وتضمّ ممتلكاتهم إلى الدولة المرابطية. وبذلك أعاد يوسف بن تاشفين وحدة الأندلس السياسية رغم أنف الأندلسيين في الغالب ولفائدة الدولة المرابطية أولا ولكن لفائدة الأندلسيين أيضا ودافع عن الأندلس وتمكن من تمديد حياتها قرنين آخرين. إن القرن 5 هـ/ 11 م يقدم لنا لوحة قاتمة ومحزنة من الناحية السياسية ولكن كل ذلك لا يجب أن ينسينا جانب اللوحة الآخر. إن فترة التدهور السياسي والعسكري هذه تميزت بازدهار عجيب للحياة الثقافية والفنية وليست الأندلس المثال الوحيد لمثل هذا التناقض «2» فإذا ما كانت قرطبة في عهد الأمويين مركزا ثقافيا مزدهرا فلقد

ترجمة البكري:

كانت وحيدة تقريبا أما في عهد ملوك الطوائف فلقد نشأت العديد من هذه المراكز وكان كل أمير ينافس أجواره وأعداءه ليجلب الى بلاطه الشعراء والأدباء والعلماء من مختلف الاختصاصات، يمكن أن نذكر من هذه الحواضر اشبيلية والمرية وباجة ومالقة وغرناطة فضلا عن طليطلة وسرقسطة قبل احتلالهما من قبل المسيحيين. انها الفترة التي لمع فيها أبرز اعلام الثقافة الأندلسية من أمثال ابن حزم وابن حيان وابن بسام وكثير من الأعلام الآخرين الذين نعرف على الأقلّ اسماءهم إن لم نعرف آثارهم التي اغتالتها عواصف التاريخ. إنّ البكري ينتمي الى هذه الفترة ويساهم كما سنرى في مظهريها: مظهر الانحطاط السياسي ومظهر الازدهار الثقافي. نعم إنّ آثاره ستولد وستنمو في هذه الفترة المتميزة اكثر من غيرها بالاضطراب وسيواصل البكري سنّة المدرسة الجغرافية العربية بعد اندثارها في المشرق وسيبقى دائما من أكبر أعلام الثقافة الأندلسية وأبرز جغرافي المغرب الاسلامي رغم بعض سمات الانحطاط الموجودة في آثاره. ترجمة البكري: «1» هو عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البكري المشهور خاصة بكنيته: «أبو عبيد» ولد بلبلة «2» من عائلة عربية يرجع أصلها الى قبيلة بكر وائل تولى الكثير من أفرادها مناصب رسمية بالأندلس ولكن لا نعرف شيئا يذكر عن أوائل هذه العائلة ولا عن الفترة التي استقرت فيها بالأندلس. وأول بكري حفظ لنا التاريخ اسمه هو أحد أجداد أبي عبيد ويسمى أيوب بن عمرو البكري «3» تولى في الربع الأخير من القرن 4 هـ/ 10 م منصب القضاء ببلده ثم

ولي خطة الرد (أي ردّ المظالم) بقرطبة ويبدو أنه كان له تأثير كبير إذ نجده مع أخيه محمد يلعب دورا هاما في المصالحة بين الخليفة هشام II ووزيره المنصور بن أبي عامر سنة 387/997. وبعد ذلك بقليل نجد العائلة مستقرة بولبة ثمّ بشلطيش وهي جزيرة صغيرة على مصبّ الوادي الكبير بالقرب من اشبيلية ولكن لا نعلم بالضبط متى كان ذلك الاستقرار. ويبدو حسب ابن الأبار الذي يستشهد بابن حيان «1» ان محمد بن أيوب قد تولى حكم تلك الجهة وبقي على ذلك الى وفاته المحتمل حدوثها حوالي سنة 433/1040. فهل يمكن أن نعتبره أميرا مستقلا بتلك الرقعة الصغيرة؟ إنه من العسير أن نجزم بشيء في الموضوع ولكن يظهر أنه استقل سنة 402/1011- 1012 والمؤكد على كلّ حال هو أن العائلة كانت من أنصار المنصور بن أبي عامر أي انها معارضة للخليفة الأموي وكانت لها علاقات متينة باسماعيل بن عباد «2» وهو من أوائل الذين استقلوا باشبيلية عن الحكم المركزي. فلا يستبعد اذن أن يكون محمد بن أيوب قد اتبع مثال اسماعيل بن عباد. وتولى الأمر بعد وفاة أبي زيد محمد ابنه أبو مصعب عبد العزيز بن محمد فسير مقاطعته الصغيرة المتكونة من ولبة وشلطيش في استقلالية كاملة وكان ثاني أمير لها حسب بعض الآراء والأول والوحيد حسب بعض الآراء الأخرى. ودام له الأمر الى سنة 443/1051 حين استولى المعتضد بن عباد صاحب اشبيلية على مقاطعة لبلبة المجاورة، نعم لقد تمكنت قوّة المعتضد المتصاعدة منذ حوالي عشر سنوات من ابتلاع عدد كبير من المدن- الدويلات- والحاقها بمملكته التي كان يريد أن يكوّن حولها من جديد وحدة الأندلس. ولم تغير الروابط التي جمعت من القديم بين عائلة البكري وبني العباد من المشروع شيئا وتراءى الخطر لعبد العزيز فسلم مدينة ولبة لبني

العباد وبقي مدّة في جزيرة شلتيش واضطرّ في نهاية الأمر الى التفريط فيها مقابل عشرة آلاف مثقال وغادرها مع عائلته وأمواله. وكان لعبد العزيز اذاك ابن ما هو الّا صاحبنا عبد الله، ولا يذكر لنا أي مصدر تاريخ ولادة هذا الذي سيكنّى من بعد بأبي عبيد ولكن يمكن لنا أن نحاول ضبط هذا التاريخ ببعض الدقة. يقترح قاينقوش في ترجمته لنفح الطيب للمقري «1» سنة 1040 م (431- 432 هـ) بدون أن يذكر المصادر التي يعتمدها ويشير بروكلمان إلى نفس السنة «2» ويستحيل في رأينا قبول هذا التاريخ وذلك لعدّة أسباب. ان ولد أبو عبيد سنة 432/1040 م فإن ذلك يقتضي أن يكون سنه حوالي 11 سنة عندما أطردت عائلته من شلطيش الا أن ابن الأبار يتحدّث عنه وهو من «الفتيان بذ الأقران جمالا وبهاء وسرورا وأدبا ومعرفة» «3» وهي تعابير يعسر اطلاقها على طفل في مثل تلك السن. هذا وتؤكد ترجمات البكري على انه توفي سنة 487/1094 «عن سن متقدمة» ولا تسمح 54 سنة التي قد يكون عاشها ان افترضنا ولادته سنة 1040 باعتباره قد توفي. «عن سنّ متقدّمة» حتّى في عهده. يذكر لنا الفتح بن خاقان انه التقى به وهو ما زال غلاما والبكري إذ ذاك في سن الثمانين «4» . ويستنتج من كلّ هذا ان ولادة البكري يجب أن توضع حوالي سنة 400/1010 أو بعد ذلك بقليل وانه كان له عندما غادر مسقط رأسه 37 أو 38 سنة.

ويوجد أيضا بعض الغموض حول المكان الذي انتقل اليه عبد العزيز وعائلته عندما خلعه المعتضد: فابن الأبار وابن عذارى «1» وغيرهما يذهبون الى أنه انتقل الى قرطبة ليضع نفسه تحت حماية أبي الوليد محمد بن جوهر حاكم المدينة. الّا أن ابن عذارى نفسه يرى في موضع آخر من كتابه «انه صيره الى اشبيلية وأجرى عليه الرزق الى أن مات» «2» . ومن العسير أن يفضّل المرء إحدى الروايتين عن الأخرى فهل يمكن التأليف بينهما بافتراض ان عبد العزيز قد أقام مدّة قصيرة باشبيلية ولما شعر بتغير موقف المعتضد إزاءه انتقل بعائلته الى قرطبة وعلى كل فإننا لا نجد أي حديث عن عبد العزيز بعد هذه الفترة ويمكن أن يفترض ان موته لم يتأخر كثيرا عن ذلك. ولا نعلم كم بقي أبو عبيد بقرطبة وهل تركها في حياة والده أم بعد وفاته والذي لا شك فيه هو أنه بقي بما فيه الكفاية كي يواصل ثقافته الأدبية والعلمية فابن بشكوال يعلمنا أنه تابع دروس ابي مروان ودروس المؤرخ الكبير أبي حيان «3» والمؤكد انه اتبع أيضا بقرطبة دروس أبي بكر المشعفي وابن عبد البرّ «4» ولا يمكن أن نعرف أي تآليفه ألّف (ان كان قد ألف) مدة هذا المقام الأول بقرطبة لأن تواريخ تآليفه غير معروفة ولكن الكثير من القرائن تبين انه لم يكن عديم الشغل وان الكثير من تآليفه قد تكون ظهرت في تلك الفترة ويبدو حسب خبر لابن حيان نقله الفتح بن خاقان وحكاه أيضا ابن الأبار في شيء من الاحتراز «5» ان البكري قد انتقل من بعد الى المرية بدعوة من أميرها محمد ابن معن ولا شك أن سبب هذه الدعوة كانت شهرة الرجل بصفته أديبا واستقبله حاكم المرية بترحاب وجعله من خلانه وانقسمت حياة أبي عبيد بين حياة البلاط والدراسة وتابع في المرية دروس العذري «6» ولا يستبعد

تآليف البكري:

أن يكون هذا الشيخ قد أثر في الاتجاه الذي ستتخذه دراسة تلميذه فلقد كان العذري جغرافيا وقد يكون جلب أبا عبيدة نحو هذه الوجهة فهل من الجرأة أن يفترض أن تأليفه لكتبه الجغرافية: معجم ما استعجم وكتاب المسالك والممالك يرجع إلى هذه الفترة ويتأكد هذا الافتراض أكثر إذا ما علمنا انه انتهى من تأليف الكتاب الثاني حوالي سنة 460/1058 اعتمادا على الكثير من الملاحظات المتناثرة التي وردت فيه. ولم تكن حياة البكري بالمرية مضطربة حسب الظاهر فمترجموه لا يذكرون لنا أشياء عديدة تتعلق به وتراجمه مقتضبة أشدّ الاقتضاب لا يتجاوز غالبها بضعة أسطر. وذهب البكري سنة 478/1085- 1086 الى اشبيلية موفدا من قبل محمد بن معن لدى المعتمد بن عباد عندما ذهب الى المغرب الأقصى يستنجد بعون المرابطين ضدّ التهديد النصراني «1» فهل بقي البكري باشبيلية أم رجع الى المرية. نحن مضطرّون مرة أخرى الى الافتراضات، ونجده من جديد سنة 483/1090- 1091 بقرطبة التي أصبحت عاصمة الأندلس بعد احتلال المرابطين لها والراجح انه قضى بها بقية حياته بين الدراسة والحياة اللاهية مع أصدقائه وبها توفي أيضا ودفن بمقبرة أم سلامة. تآليف البكري: لم يتخصص البكري في أي فرع من فروع المعرفة الانسانية شأنه في ذلك شأن جلّ العلماء المسلمين في القرون الوسطى. لقد كان تكوين الرجل المثقف في تلك الفترة يشتمل دائما على دعامة متينة من العلوم الدينية، فقه، علوم قرآنية، علم كلام، ثم يأتي الأدب واللغة والفلسفة ومواد أخرى حسب الإمكانيات والأذواق الشخصية فلا غرابة إذن ان نجد ضمن تآليف البكري مصنفات تبحث في مواضيع مختلفة.

1) في اللغة والأدب:

فالبكري لغوي وأديب قبل كلّ شيء رغم أنه اشتهر بصفته جغرافيا في المشرق والمغرب ويكفي للتفطن الى ذلك أن يستعرض القارئ عناوين الكتب التي تنسب اليه فالأدب له دور كبير في أكبر آثاره الجغرافية أما معجمه الجغرافي فهو كتاب لغة قبل كلّ شيء. إن الكثير من تآليفه قد ضاعت ولا نعرف منها الّا العناوين، نكتفي إذن بتقديم قائمتها «1» (عدا شعره الذي لم تصلنا منه الا بعض الأبيات- وقيمتها هزيلة- المتناثرة خلال تراجمه) . 1) في اللغة والأدب: - كتاب الإحصاء لطبقات الشعراء- كتاب اشتقاق الأسماء- التنبيه على أغلاط أبي علي في أماليه- شفاء عليل العربية- كتاب صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنف (لأبي عبيد القاسم بن سلام) - فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (لابن سلام أيضا) . - اللآلي في شرح أمالي القالي. 2) الجغرافية - معجم ما استعجم- كتاب المسالك والممالك 3) موضوعات مختلفة - اعلام نبوة نبينا محمّد- التدريب والتهذيب في دروب أحوال الحروب- كتاب النبات

- صيغة التأليف ومحتواه

المسالك والممالك: - صيغة التأليف ومحتواه مما لا شك فيه أن كتاب المسالك والممالك كانت له المساهمة الكبرى في شهرة البكري. وهذا الكتاب لا يشبه أي كتاب آخر من نفس الفن رغم تداول هذا الاسم في الأدب العربي. فليس هو مجرد سرد للمسالك كما هو الشأن بالنسبة الى سميه كتاب ابن خرداذبه ولا هو مجموعة ملح وغرائب وأساطير بدون تنظيم «1» مثل كتاب البلدان لابن الفقيه ولا هو أيضا حوصلة لرحلات كاتبه مثلما هو الشأن بالنسبة الى المقدسي والاصطخري. ولا يمكن لمسالك البكري أن يصنف في فن العجائب ولا في نوع كتب الهيئة وانما يجمع كتاب البكري كل ذلك فتتوالى فيه المسالك ووصف البلدان والشعوب والمدن وتمتزج بالملح والأساطير والاستطرادات التاريخية ويبقى انتباه القارئ دائم اليقظة. ولا يوجد مع الأسف أي واحد من المخطوطات العشرة كاملا وحتى إذا ما أضفناها الى بعضها البعض فانها لا تسمح بالحصول على نسخة تامة وان بعض النقول التي أخذناها عن بعض المؤلفين الذين أتوا بعد البكري تهدف- كما سنبين ذلك- الى ابراز محتوى التأليف كما كانت عليه حالته الأصلية. ويشتمل كتاب المسالك على قسمين متقاربي الحجم. والراجح ان القسم الأول كان يحتوي مقدمة عامة أو تمهيدا يعتبر اليوم ضائعا ويستهلّ هذا القسم بمقدمة تاريخية طويلة تبدا بمبدأ الخلق وتتعرض لتاريخ الأنبياء من آدم إلى محمد (ص) . ويتعلق الفصل الموالي بالمعتقدات الدينية وأوهام قدماء العرب يليه وصف لأهم الهياكل الدينية الموجودة أو التي وجدت عند أمم مختلفة: اليونان والرومان والفرس (معابد النار) والصقالبة والصينيون الخ ...

ويبدأ القسم الجغرافي الحقيقي بفصول عديدة في الجغرافية العامة: الأراضي- البحار- الأنهار- الأقاليم السبعة. ويستعرض المؤلف بعد ذلك البحار السبعة وأهمّ الأنهار، وبعنوان: ابتداء الممالك نبدأ في القسم الذي تسمّى به كل الكتاب ويتمثل في وصف العالم بلدا بلدا وجهة جهة ومدينة مدينة. ونجد دائما نفس التخطيط: مقدّمة تاريخية- وصف عام للبلاد والسكان والمنتوجات وصف للمسالك (وهذا القسم ضائع في الكثير من الأحيان مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الأندلس) ووصف للبلدان مع قسم تاريخي في الغالب، ويتخلّل كل ذلك بعض الحكايات الغريبة تتصل بأدب العجائب. والتدرج العام ينطلق من المشرق الى المغرب ويبدأ بالهند فالصين فالترك ثمّ ينتقل الى الشام والتبت والسند ويخصص للفرس فصلا كبيرا مقسما الى قسمين يتعلق الأول بالعائلة المالكة الأولى والثاني بالثانية. ويتبع ذلك بصورة منطقية تاريخ الاسكندر الأكبر ثمّ تاريخ ملوك الاغريق بمصر والشام وتاريخ الروم ويلي ذلك ملوك السودان ثمّ البربر وبلاد واحات افريقيا ثمّ أوروبا فيتحدّث البكري عن الصقالبة والافرنج والجلالقة والنورمان ويختم بفصل عن الأكراد. ويتعلّق كلّ ما سبق بغير العرب ويبدأ القسم الخاص بهؤلاء بتاريخ ممالك العرب القدامى في اليمن والحيرة. ويلي ذلك وصف الجزيرة العربية بصفة اجمالية ثم جهة جهة بداية باليمن. وفي هذا القسم يخصص المؤلف فصلا طويلا لمكة، المدينة المقدسة، تاريخها وأماكنها المقدّسة والجبال التي تحيط بها، ونجد تحاليل متشابهة بالنسبة الى يثرب أو المدينة وينتهي هذا القسم: بالطريق من مدينة النبي الى مصر. ويبدأ في العراق أيضا بوصف العراق وأهم مدنه وهنا يختلط الترتيب شيئا ما فنرجع الى المشرق بعد العراق: الى فارس أولا ثم الى بابل فخراسان ونواحيها ثمّ الى ما وراء النهر. ونجد في آخر الجزء الأول بعض المقالات عن بعض الشعوب التركية: لبجاناكية والخزر والمجغر وبلاد سرير وبرداس وبرجان ويقدم لنا أحد المخطوطات فهرس الفصول انطلاقا من ملوك الحيرة إلى آخر الجزء وكأنه يتمّم فهرسا آخر من

المفروض انه مسح الجزء الأول وهذا الفهرس بخط مخالف لخط المخطوط ويمكن أن نتساءل هل انه يرجع للبكري أم أنه من إضافات بعض النساخ. ويبدأ القسم الثاني بوصف حائط ياجوج وماجوج ورحلة سلام الترجمان. ثمّ يرجع المؤلف الى الشرق الأوسط ويقدم لنا معلومات عن العواصم وعن الشام نفسه بمدنه الرئيسية: دمشق، حمص، انطاكية الخ ... ثمّ يتحدّث عن فلسطين ويأتي بوصف طويل لبيت المقدس. وتتواصل الرحلة في بلاد الروم: مدينة رومة وجزر البحر الأبيض المتوسط وبعض جهات جنوب شرقي أوروبا: طراقية، وطشالية، ومقدونية، وبلاد الانقلش، وينتهي هذا القسم بوصف بلاد الروس. ثمّ يضمّن المؤلف بعض الفصول التي ليست لها صلة ظاهرة بما يحيط بها وتأتي في مرتبة أولى خصائص عدد من البلاد مثل الشام والعراق ومصر ثم تعداد لكلّ البلاد تقريبا مع ذكر مساحاتها ثمّ يستعرض بتفصيل كل مناطق أرنشهر وينتهي بحساب خراج تلك الجهات. وتتواصل بعد هذا الانقطاع الرحلة نحو المغرب بفصل طويل عن مصر ينتقل فيه المؤلف من وصف البلاد عامة مع ذكر بعض الخصائص، الى استعراض تاريخها حتّى الفتح الاسلامي. ويعير القسم المخصص للتاريخ القديم قيمة كبرى للعجائب. ويلي وصف مصر قائمة كور البلاد ثمّ يهتم الكاتب بصفة خاصة ببعض المدن وبعض المسالك وينتهي الفصل بوصف الاسكندرية، وتستأثر المنارة باهتمام كبير. ويقودنا طريق الاسكندرية- افريقية الى شمال افريقيا، وتتوالى المعلومات عن المسالك ووصف المدن بشيء من التطويل أو التقصير ونجد تحليلات تاريخية طويلة عن الأدارسة وبرغواطة والمرابطين. إنها نفس الطريقة المتبعة بالنسبة الى المشرق. وعند وصولنا الى أقصى الجنوب المغربي (سجلماسة- أغمات) نتجه الى الجنوب ونخترق الصحراء ونزور بلاد السودان: غانة ومالي الخ ... ويهتم القسم الأخير من الكتاب بأوروبا الغربية ويبدأ بوصف عام للأندلس ثمّ لتقسيماته فجباله فخصائصه ثمّ تستعرض بعض المدن بداية من قرطبة واشبيلية وتتبع ذلك مقالات عن جليقة وبلاد الافرنج البوتونيين ومن المؤسف انه لم تحفظ الا أجزاء

المصادر:

من هذا القسم الأخير وكما سنذكر ذلك من بعد فإنه من الممكن أن نتمم العديد من ثغرات مسالك البكري باستغلال محكم لكتاب الحميري: الروض المعطار ولكن ذلك لا يسمح لنا بترميم مرضي إذ أن صاحب الروض قد جزأ أوصاف المدن لكي يرتبها ترتيبا أبجديا أما الاطار الذي كانت تندرج فيه أي المسالك فإنه قد ضاع نهائيا اللهم إلّا إذا ما عثرنا على نسخ جديدة من كتاب البكري. المصادر: نستنتج مما سبق أن عديد المعلومات الجغرافية والتاريخية والأتنوغرافية والاقتصادية قد تراكمت في كتاب المسالك وان تلك المعلومات تتعلق بكلّ العالم المعروف لدى العرب في تلك الفترة. ان هذا الثراء لا يجب أن ينسينا عيب الكتاب الأكبر: البكري لا يحدثنا أبدا عما يشاهده بنفسه وليست له تجربة مباشرة تتعلق بالبلاد التي يصفها وذلك خلافا لأبرز سابقيه من أعلام العصر الكلاسيكي المشرقي أمثال: ابن حوقل والاصطخري والمسعودي ولا يستنتج من أي ترجمة من تراجم البكري انه غادر وطنه بل ان حياته في ذلك الوطن قد انحصرت في رقعة ضيقة بين ولبة واشبيلية وقرطبة والمرية. فلقد كان مضطرا إذن لكي يؤلف كتابه أن يراجع مصادر. نعم لقد كانت تآليف سابقة في متناوله الّا أن ما ينتج عن ذلك هو ان العالم الذي نتصوره من خلال قراءة مسالك البكري ليس عالم القرن 5 هـ/ 11 م بل هو عالم أسبق بقرن أو قرنين الّا إذا تعلق الأمر بمعلومات استقاها البكري مباشرة من رحالة عرفهم أو من مصادر معاصرة له على أن هذه الحالات قليلة وتنحصر في بعض التحليلات المتعلقة بالمغرب والسودان «1» . وبالنسبة إلى ما عدا ذلك فإن البكري اقتبس من مصادر مكتوبة تاريخية وجغرافية وأدبية يمكن أن يفترض أنه كان يمتلكها بصورة شخصية إذ من المعروف عنه انه كان يحب الكتب ويروى عنه انه كان يلفها في «سباني الشرب وغيرها اكراما لها» «2» وأدّى هذا المنهج الى نتيجتين: واحدة ايجابية والثانية سلبية. أما النتيجة الايجابية فإن كتاب المسالك يشترك فيها مع الكتب الأخرى التي تعتمد النقل وتتعلق

بحفظ كتب كادت تتلاشى تماما لولا تلك الطريقة ونذكر هنا مثال ابراهيم بن يعقوب الطرطوشي. أما الناحية السلبية فتتمثل في انعدام الطرافة فأغلب نصّ المسالك الحالي معروف من مصادر أخرى ونجد غالبه في طبعات المسعودي وابن رسته وابن عبد الحكم والطبري ... وينتج عن المنهج النقلي عيب آخر: فلقد تمنّى لفي بروفنصال في المقال الذي خصصه للبكري في دائرة المعارف الاسلامية «1» لو يقع القيام بدراسة لغته حتّى تستخرج جدولا للألفاظ المستعملة والتي فيها تأثير للغة الأندلسية. ونحن لا نعتقد ان مثل هذه الدراسة يمكن أن تؤدي الى نتائج ايجابية اذ من المحتمل أن نجد تلك التأثيرات عندما يستعمل المؤلف مصادر أندلسية الا أنها تبقى لغة المصادر لا لغة البكري وان ملاحظات المؤلف الخاصة من الندرة بحيث يعسر استخلاص نتائج مقنعة. ويصرح البكري في الغالب بالمصادر التي يستعملها الى حدّ أنه من الميسور اعداد قائمة في مؤلفيه المفضلين والدراسة المدققة للمسالك تبين لنا منهجه في استعمال مصادره: انه في بعض الأحيان يذكرها حرفيا ويستشهد حتّى بالصفحات العديدة لكنه في الغالب يحوصلها ويمزج بينها فيخرج منها نص مؤلف تأليفا جديدا ويسبب هذا المنهج بعض المشاكل لدى تحقيق النص سنلمح اليها من بعد. ومن المفروغ منه أن تنوع المواضيع المطروقة وكثرة البلاد الموصوفة تجعل الناقل يتخلّى مؤقتا عن هذا المصدر أو ذاك وقد يرجع اليه من بعد. وبعض المصادر مستغلة استغلالا مطولا وبعضها مقتبس منها اقتباسات متواضعة تحوم حول مواضيع محددة ومن المستحيل تفصيل القول في هذا الموضوع في اطار هذه المقدمة ويعسر ذكر المصدر بالنسبة إلى كل فصل وكلّ فقرة فنكتفي اذن بذكر الخطوط العامة. إن لكتاب المسالك خصائص مميزة تجعل المعلومات الجغرافية دائمة الامتزاج بالمعلومات ذات الصبغة التاريخية لذا ارتأينا أن نعرض المصادر الجغرافية منفصلة عن المصادر التاريخية رغم ان خصائص هذه التآليف التي نجد فيها مواضيع متنافرة لا

الف) المصادر التاريخية

تجعل من هذا التمييز أمرا ميسورا. فإننا رأينا من المفيد أن نلتجئ إلى هذا التمييز حتّى ندرس الموضوع دراسة أولية. الف) المصادر التاريخية يعترضنا اسم الطبري منذ الأسطر الأولى لكتاب المسالك وسيتكرر ذكره خلال القسم الأول خاصة في الفصل المتعلّق بالأنبياء وملوك الفرس وملوك اليمن وسنجد الاسم أيضا في فقرات متعددة مخصصة لمدن أو بلاد مثل كرمان والمدائن. ونجد أمثال هذه الاستشهادات في حوالي 130 فقرة وتبدأ باحدى العبارات التالية: الطبري- أبو جعفر- محمد بن جرير- أو بحرف: ط فقط «1» . ويستشهد بمؤلف آخر مشهور- هو المسعودي- أكثر من الاستشهاد بالطبري. وهما بالتداول مصدرا الحديث عن تاريخ الأنبياء وملوك اليمن. والمسعودي هو المصدر الأساسي في العديد من الفقرات التي تتناول البحار والأنهار وتاريخ ملوك الحيرة وأهل الشام والنبطيين والأكراد والسودان وتاريخ مصر القديمة. وكل الفصل المتعلق بمعتقدات العرب مقتبس مباشرة من المروج وكذلك الأمر بالنسبة الى ملوك مصر اليونانيين وملوك الروم الأولين وبعض الفقرات المتعلقة بالصقالبة وشعوب القوقاز، وفي الجملة فإن حوالي 330 فقرة تعدّ مقتبسة من المسعودي بصورة موجزة، وعندما يذكر المسعودي صراحة فإنه يذكره بالصيغ التالية: المسعودي أو أبو الحسن أو بحرف س «2» . وبالاضافة الى هذين المصدرين الأساسيين فإن البكري يستعمل عديد المصادر الأخرى في فصل معين أو مسألة مخصصة فلقد استشهد بكتاب المعارف لابن قتيبة حوالي عشرين مرة في الفصل المتعلّق بالأنبياء ويرمز اليه عندما يذكره بحرف: ق «3» ويستشهد في نفس هذا الفصل بالقرظي «4» أو بأبي حفص القرظي «5»

والتأليف الذي يذكر في المرة الأولى هو التاريخ وفي المرة الثانية هو: الديوان. ويشير فؤاد سيزكين «1» إلى تفسير لا نعرف عنه شيئا يذكر منسوبا إلى محمد بن كعب القرطبي فيمكن أن نتساءل هل ان المقصود هو نفس الشخص وهل ان التأليفين المذكورين هما لمؤلف واحد أم لا؟. ونجد في نفس الفصل المخصص للأنبياء ذكرا لشخص يسمى القوطي «2» . ويختفي في الحقيقة وراء هذه النسبة المؤرخ بولس أوروزيوس Orosius Paul الذي ألف كتابه «سبعة كتب تاريخية ضدّ الوثنية» بطلب من القديس أغوستينيوس Augustin Saint +ونحن نعلم ان كتاب هذا الراهب الأندلسي قد ترجم الى العربية في البلاط الأموي بقرطبة وعلى الراجح في عهد عبد الرحمن الثالث «3» . وبرجوعنا الى المخطوط الوحيد المعروف من هذه الترجمة والمحفوظ في جامعة كولبيا بنييورك أمكن العثور على الفقرات التي استشهد بها البكري في صيغتها الحرفية تقريبا واقتبس البكري من أوروزيوس أيضا في تحريره للفصول المتعلقة بالاسكندر الأكبر ومن تولى بعده وبأباطرة الرومان (الفقرة رقم 468 وما تلاها) وقد تمكنا في هذا المضمار أيضا من العثور على عديد الاستشهادات الحرفية. ويستشهد البكري في القسم الأول من المسالك بمؤلف آخر يتردد اسمه بكثرة في تاريخ مصر القديمة ويسمى الوصيفي وكثيرا ما يكتب اسمه الوصفي «4» . والراجح أن هذا الشخص هو إبراهيم وصيف شاه صاحب كتاب العجائب الذي ترجمه كارادي فو. أما النص العربي فإن ناشره نسبه خطأ إلى المسعودي بعنوان أخبار الزمان «5» . وقد وجدنا استشهادا منسوبا صراحة إلى صاحب كتاب العجائب (انظر الفقرة 311) في الطبعة الثانية للنص العربي ص ص 45- 46. وقد لاحظنا هذه الاقتباسات على الأقل بالنسبة إلى 120 فقرة من المسالك خاصة الفقرات 304- 328

و 914- 991. الّا أن نص البكري هو في الغالب أطول من نص واصف شاه مما يجعلنا نفترض انه كان بين يدي البكري النص الكامل وان ما وصلنا هو مختصر. وبالنسبة إلى تاريخ مكة في الجاهلية فإن البكري يعتمد كثيرا أخبار مكة للأزرقي وتتعلّق الاقتباسات خاصة بالفقرات 646- 676 والتعرف على مصادر البكري بالنسبة إلى القسم المتعلق بالمدينة أعسر، فكثير من الفقرات نجدها في كتابي السمهودي: وفاء الوفاء في أخبار دار المصطفى. وخلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى فالراجح اذن ان البكري والسمهودي قد اعتمدا نفس المصادر خاصة ابن زبالة (القرن 2/8 م) . ويمكن أن نلاحظ نفس الملاحظة بالنسبة الى وصف بيت المقدس وتاريخها ففي المسالك الكثير من الفقرات المشابهة لما ورد في كتاب: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمجيز الدين (860/1456- 928/1522) . ويعتمد البكري في جزء كبير من تاريخه لفتح مصر (الفقرات 992- 1014) وفي بعض ما يتعلق بفتح المغرب (الفقرة 1093 وما يليها) على ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر وأخبارها. أما المقال الموجز المخصص لمدينة البصرة فإنه مستمدّ مباشرة من فتوح البلدان للبلاذري (الفقرة 730) ونجد استشهادا واحدا من كتاب يغتبر الآن مفقودا هو تاريخ ابن خرداذبه (الفقرة 132) وسنعود أسفله إلى هذا المؤلف وتأليفه الجغرافي. ويعتبر كتاب المسالك والممالك لمحمد بن يوسف الوراق أحد مصادر البكري الأساسية بالنسبة الى كلّ ما يتعلّق بالمغرب سواء كان مادة تاريخية أو جغرافية ويذكر الوراق عادة باسم محمد بن يوسف «1» . لقد سبق لنا أن أشرنا الى أن البكري لم يسافر قط وان أفقه بقي محدودا لا يتجاوز جهته وإنه التجأ إلى المصادر المكتوبة عوضا عن تجربته المباشرة حتى بالنسبة إلى وصف الأندلس. إن مخبره الأساسي سواء بالنسبة إلى المادة التاريخية أو الجغرافية هو أحمد بن محمد الرازي المؤرخ والجغرافي الأندلسي الكبير الذي يعتمده كل المؤلفين

ب) المصادر الجغرافية

الموالين لكن من العسير أن نتبين هل انه استعمله مباشرة أم عن طريق شيخه العذري. ولنذكر في نهاية حديثنا عن المصادر التاريخية رأى لفي بروفنصال القائل إن البكري قد اعتمد بقرطبة على وثائق الأرشيف الرسمي «1» لكتابة بعض الفصول خاصة منها المتعلقة بالأدارسة وبرغواطة. ان الأمر راجح لكن لا يمكن أن نتجاوز الترجيح طالما لم نعثر على معطيات اضافية. ب) المصادر الجغرافية لقد أشرنا الى العديد من المؤلفين والكتب خلال عرضنا للمصادر التاريخية فلن نعود الى ذلك هنا وينطبق الأمر على ابراهيم وصيف شاه وعلى مروج المسعودي ويذكر البكري مرة على الأقل كتابا آخر من كتب المسعودي هو: التنبيه والاشراف: (الفقرة 342) . ويعتمد البكري مؤلفين آخرين سبق أن ذكرناهم وهم الأزرقي بالنسبة الى القسم المتعلق بوصف مكة وجهاتها وابن زبالة بالنسبة الى المدينة أما فيما يتعلق بجغرافية شمال افريقيا والأندلس فإننا نجد مرّة أخرى أبا يوسف الوراق والرازي. وبالاضافة الى هؤلاء المؤلفين الذين سبق أن قدمناهم يستمدّ البكري جانبا هاما من معلوماته من جغرافيين بأتم معنى الكلمة: ويجدر بنا أن نذكر في البداية ابن رسته وكتابه الاعلاق النفيسة الذي يمثل بدون أي شك مصدرا هاما للمسالك خاصة في قسمه الأول ويرمز اليه عادة في الاستشهادات بحرف د «2» وهو أمر غريب حتى أن ناشره الأول كولسن قد قرأ اسمه ابن دستة «3» ونحن مدينون له بالفصول المتعلقة بالأرضين والأنهار والبحار والبيوت المعظمة في الجاهلية بمكة والمدينة وأقسام أرنشهر وكذلك وصف بعض جهات الهند وفقرات تتصل بشعوب أوروبا مثل وصف القسطنطينية ورومة وتعاليق تهم الصقالبة والبلغار.. وفي الجملة فإن حوالي 60 فقرة ترجع كلها أو في جزء منها الى هذا المؤلف.

ونجد من بين الجغرافيين الكلاسيكيين ابن خرداذبه وقد ذكر البكري كتابه المسالك والممالك عديد المرات «1» لكن بعض الاشارات تبين انه لا يقتبس منه مباشرة ولكن من خلال ابن رستة. ويعتمد البكري على الاصطخري وابن حوقل في بعض التفاصيل المتعلّقة بالسند وكرمان وخراسان «2» ويحيل مرات عديدة على شخص اسمه الجيهاني (فقرات 190- 363- 368 ... ) ونحن نعرف ان جغرافيا- يحمل هذا الاسم- قد ألف في القرن الرابع هـ/ العاشر م كتاب المسالك والممالك لا نعلم عنه الا بعض الاستشهادات حفظها مؤلفون متأخرون عنه «3» ويسمى هذا الجغرافي عادة: أبو عبد الله محمد بن أحمد بينما يذكره البكري مرّة (الفقرة 190) في شيء من الدقّة فيسميه أبا نصر سعيد بن غالب الجيهاني. وعلى كلّ فإن بعض الاستشهادات توجد عند ابن رسته ولنترك جانبا مشكل العلاقة بين ابن رستة وابن خرداذبة والجيهاني «4» ولنتساءل هل أن البكري رجع مباشرة الى المصدر أم اقتبس من خلال كتاب آخر وهذه بعض معطيات تسمح باجابة أولية: يذكر البكري الجيهاني على الأقل مرّة واحدة من خلال مصدر آخر يسميه أحمد «5» فمن المقصود؟ نعلم أن ابن رستة اسمه أحمد ولكن البكري لا يسميه بهذا الاسم قط في المواضع الأخرى فمن المستبعد اذن أن يكون صاحب الاعلاق النفيسة. ويعرف البكري حقّ المعرفة شخصا آخر اسمه أحمد هو العذري شيخه بالمرية فهل من المجازفة أن نفترض أن البكري قد تعرف على الجيهاني من خلال تأليف شيخه الذي يسمى هو أيضا المسالك والممالك؟ ومن المرجح أيضا أن حكاية ابراهيم بن يعقوب التي يذكرها البكري مستمدة من تآليف العذري ومن غير المستبعد أن تكون الكثير من المعلومات التي يوردها، بدون ذكر مصدر، مستمدة من نفس الأصل فيكون العذري بهذه الصورة من

المخطوطات

مصادر كتاب المسالك الأساسية خاصة فيما يتعلق بأوروبا (مجدونية وطشالية وطراقية الخ..) والبحر الأبيض المتوسط ورومة ... وفي الختام يبدو لنا أنه توجد آثار كتاب البلدان لليعقوبي (مثلا في جزء كبير من الأخبار المتعلقة ببغداد) وبعض الاستشهادات من ابن الفقيه ومن كتاب الأمصار للجاحظ ولئن لم تكن هذه اللمحة عن مصادر البكري شاملة فانها تقدم لنا فكرة عن تنوع المادة التي تمكن من جمعها لتأليف كتابه الرئيسي هذا. المخطوطات إن عدد مخطوطات المسالك المعروفة إلى يومنا هذا عشرة وهي موزعة في مكتبات مختلفة بالمشرق والمغرب ولا يوجد أي مخطوط بخط المؤلف أو يرجع إلى نسخته بالاضافة إلى أن جلّ هذه المخطوطات مبتوره سواء من البداية أو النهاية مما يجعل تأريخها عسيرا. على أننا نعلم أن إحداها متأخرة نسخت في القرن التاسع عشر وان اثنتين مؤرختين وهما مخطوطتا استنبول. ولا تقدم لنا أية مخطوطة من هذه المخطوطات النص كاملا فهي مقتطفات تختلف طولا وقصرا وتتكامل جزئيا ولكنها إذا ما رتبت لا توفر النص كاملا ولزيادة الايضاح فاننا نقدم في أواخر هذه المقدمة جدولا مختزلا يسمح بالتعرف على مادة كل مخطوط وترتيبها وتبين ما تشترك فيه بعض المخطوطات ولقد استعملنا كل هذه المخطوطات لاعداد هذا التحقيق وهذه قائمتها: 1) ل: مخطوط مكتبة الآلي باستنبول رقم 2144 2) ن: مخطوط مكتبة نور عثمانية باستنبول رقم 3034 3) ب: مخطوط المكتبة الوطنية بباريس رقم 5905 4) م: مخطوط مكتبة الأكاديمية الملكية بمدريد مجموعة قاينقوس رقم 13 5) ق: مخطوط مكتبة القرويين بفاس رقم ل 390/80 6) ر: مخطوط المكتبة الوطنية بالرباط رقم ق 488 7) س: مخطوط المكتبة الوطنية بباريس رقم 2218 8) ص: مخطوط المتحف البريطاني بلندن رقم 9577. 9) ط: مخطوط مكتبة الاسكوريال مدريد رقم 1625 10) ج: مخطوط المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 1548

1) المخطوط: ل:

1) المخطوط: ل: مقاس كبير 125 ورقة أوراقه مرقمة من 1 إلى 77 والترقيم بنفس خط المخطوط، 31 سطرا بكل صفحة وبكل سطر معدل 15 كلمة: ليس فيه احالات بأسفل الصفحات، جاء بورقته الأولى: «كتاب الممالك والمسالك تأليف الشيخ الامام العالم المحقق أبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري القرطبي، أثابه الله الجنة ورضي عنه برسم الخزانة العالية ... بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي الا [به] عليه توكلت» وجاء في آخره: «كمل بحمد الله وعونه ولطفه ومنّه وجوده على يد يوسف بن عبد الله بن يوسف ابن محمد بن احمد بن عبد الله بن محمد العمري السعدي نسبا الشافعي مذهبا في يوم الأحد 21 رجب سنة 737.» والخط دقيق واضح وحالة النص طيبة في الجملة وهي أحسن من المخطوط الموالي الذي يرجح انه نسخ عنه. 2) المخطوط: ن مقاس كبير، مرقم من 1 إلى 246 بنفس خط النص، بكلّ صفحة 15 سطرا ومعدل كلمات كل سطر 9 ليس به احالات بالأسفل والصفحة الأولى مزركشة باطار فيه عنوان الكتاب واسم المؤلف ويبدأ الكتاب بدون أي تقديم بقوله: القول في مدة عمارة الأرض. وجاء بآخره: «كمل بحمد الله وعونه ولطفه ومنّه وفضله وتوفيقه وحوله وتوتده وكرمه وحسن توفيقه وذلك يوم السبت المبارك الحادي والعشرين من شهر شعبان المكرم من شهور سنة 851، أحسن الله عاقبتها، محمد وآله وصحبه وسلم، وصلاة الله وسلامه الأتمان والأكملان على سيدنا محمد وآله» . والخط مشرقي مثل السابق متسع وسهل القراءة وجل النص مشكول وحالته طيبة ما عدا الاعلام (والملاحظة صالحة لكل المخطوطات تقريبا) وكلّ القرائن تدل

3) المخطوط: ب:

على ان ن: قد نسخ عن: ل: فالنص واحد تماما وبه نفس النقص ونفس الأخطاء مع بعض الثغرات الاضافية بالنسبة إلى: ن. 3) المخطوط: ب: مقاس متوسط مرقم من 1 إلى 186 بكل صفحة 17 سطرا وبكل سطر معدل 12 كلمة والترقيم بنفس خط النص ولا توجد احالات والخط مشرقي من النسخي العصري سهل القراءة الّا أنّه قليل الشكل. وحالة النص سقيمة فكثير من الكلمات بل الجمل ناقصة تماما فضلا عن اخطاء الناسخ العديدة وقد نسخت هذه المخطوطة لشيفر Schefer باستنبول انطلاقا على الراجح من المخطوطتين السابقتين. ولم نعتمد على هذه المخطوطة في تحقيق النص لأنه ليس لها قيمة من الناحية النقدية ولم نشر الا لبعض الخلافات القليلة عندما تكون لها فائدة في تحقيق قراءة بعض الكلمات. وهذه المخطوطات الثلاث تغطي بالضبط نفس أقسام المسالك والفارق في عدد الصفحات بينها راجع إلى الاختلاف في المقاس والخط. 4) المخطوط: م مقاس متوسط، 113 ورقة مرقمة بخط مخالف بكل صفحة 15 سطرا وبكلّ سطر معدل 10 كلمات ولا توجد احالات بأسفل الصفحات. الخط مشرقي نسخي ميسور القراءة مشكول ولكن ليس دائما بصورة صحيحة، وحالة النص طيبة وبالصفحة الأولى اشارة إلى أن المخطوط هو الجزء الثاني من المسالك ولكن جاء في آخره: «انتهى الجزء الأول» ثمّ يلي فهرس الجزء الأول. وهذا التضارب جعل البعض يفترض ان ذلك ناتج عن خطأ من الناسخ أو انه اضافة متأخرة ولكن الأمر في الحقيقة راجع فحسب إلى تسفير فاسد فالورقة 97 تبدأ بلفظي: «حتّى تفضي» : ويتطابق النص بعد ذلك مع الورقات الأخيرة من المخطوطات الثلاث السابقة وتمثل حقا نهاية الجزء الأول من المسالك وكان يجب أن يكون موضعها في البداية.

5) المخطوط: ق:

5) المخطوط: ق: مقاس صغير، 131 ورقة مرقمة بخط مخالف بكل صفحة 17 سطرا وبكل سطر معدل 10 كلمات. لا توجد احالات، الخط مغربي واضح لكنه عسير القراءة. انه المخطوط الوحيد الذي نجد به صورة: انه تخطيط مسجد بيت المقدس، ويجب أن نلاحظ أيضا أنه المخطوط الوحيد الذي به النص المقابل (وصف مسجد بيت المقدس) وبقية الفصول مضطربة (انظر الجدول الاختزالي) حتّى لكأنها مجموعة قطع ضمت إلى بعضها بدون ترتيب يذكر. 6) المخطوط: ر: مقاس متوسط، 165 ورقة صفحاتها مرقمة من 1 إلى 330 بنفس الخط بكل صفحة 25 سطرا وبكل سطر معدل 13 كلمة وفي أسفل كل ورقة احالة. الخط مغربي قليل الشكل لكنه واضح سهل القراءة وحالة النصّ طيبة في الغالب. 7) المخطوط: س: مقاس متوسط، ترقيم الصفحات من 1 إلى 256 بخط مخالف وأرقام عربية حديثة بكل صفحة 21 سطرا وبكل سطر معدل 11 كلمة وبالورقات احالات. الخط مشرقي نسخي قديم تقلّ فيه الحركات وتعوزه في بعض الأحيان النقط مما يجعل القراءة- وخاصة قراءة الاعلام- عسيرة بل مستحيلة. في بعض الأحيان سقطت من هذا المخطوط الكثير من الأوراق الداخلية. ومن الملاحظ أن هذا المخطوط هو الوحيد الذي يقدم عنوانا يختلف بعض الشيء عن الأخرى فيسمى الكتاب: «كتاب أخبار الزمان في الممالك والمسالك» ، ويرجح أن هذا التحريف قد تسرب من التفكير في كتاب المسعودي المفقود الآن: «أخبار الزمان» . وهذا المخطوط هو الذي حلّله كاترمار Quatremere وكان أول من نسبه إلى البكري. 8) المخطوط: ص: مقاس متوسط أوراقه مرقمة من 1 إلى 119 (مع نفس الملاحظة التي ذكرت بالنسبة إلى المخطوط السابق) بكلّ صفحة 19 سطرا وبكلّ سطر معدل 11 كلمة وبالنص إحالات، والخط مغربي سهل القراءة، الحركات قليلة فالكثير من الأعلام

9) المخطوط: ط:

مشكولة وان كانت بصورة خاطئة في بعض الأحيان وحالة النص طيبة بالنسبة إلى القسم المتعلّق بشمال افريقيا والراجح انه أحسن النسخ في هذا المجال وكان دي سلان Slane De قد اعتمده في القسم الذي نشره وترجمه (انظر المرجع عدد 64) وتنقص المخطوط ورقة واحدة. 9) المخطوط: ط: مقاس كبير، يتكوّن المخطوط من 110 ورقات مرقمة بصورة لا تخلو من اعتباطية. ليس في الورقات احالات، بكلّ ورقة 19 سطرا وبكل سطر معدل 10 كلمات والخط أندلسي جميل جدّا، واضح سهل القراءة نسبيا. تضررت بعض الأوراق- خاصة الأولى- من الرطوبة وانفسخت الكتابة تقريبا من الزوايا العليا ولئن قدم لنا النص بعض القراءات الجيدة فمن المؤسف أن النساخ قد وقعوا في بعض السهو. اضطرب ترتيب كثير من الأوراق. 10) المخطوط: ج: مقاسه 182/139 مم، صفحاته مرقمة من 1 إلى 235 ومن العسير الجزم بأنه نفس الخط لا وجود لاحالات وتتراوح الأسطر بين 20 و 23 في الصفحة ومعدل الكلمات بالسطر الواحد: 9. والخط مغربي غير معتنى به وعسير القراءة ويبدو أنه قد تداول عليه عديد النساخ ويذهب دي سلان Slane -De بدون أن يقدم أي دليل- إلى أن المخطوط قد نسخ بالقيروان وعلى كلّ فواضح أنه متين الصلة بالمخطوط رقم 8 إذ بهما نفس القراءات ونفس النقص ونفس الأخطاء الرسمية على ان حالة المخطوط رقم 10 هي أكثر تدهورا من حالة المخطوط رقم 8 وقد يكون نسخة منه أو نسخا معا عن أصل واحد، وتنقص من داخل المخطوط عديد الورقات.

استعمال نص المسالك والنقل عنه

استعمال نص المسالك والنقل عنه 1) مقتطفات نقلها كتاب قدامى نقتصر هنا على تقديم عينات من الكتاب الذين نقلوا عن المسالك ولا نعطي قائمة شاملة لهم ونعتني خاصة بالتآليف التي مكنتنا من إصلاح أو إتمام نص مخطوطاتنا السقيم. - لنذكر في البداية كتاب الاستبصار وهو تأليف من القرن السادس هـ/ 12 م «1» مجهول الكاتب مقتبس في غالبه من البكري «2» وهذا النص نشره بالقاهرة سعد زغلول وترجم فانيان «3» fagan إلى الفرنسية القسم المتعلق بشمال افريقيا سنة 1899. - وفي: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: للعمري الذي نشر جزءه الأول أحمد زكي بالقاهرة سنة 1924 استشهادات عديدة من البكري مقتبسة خاصة من القسم المتعلق بالأرضين والأقاليم: والنشرة الكاملة للقسم الجغرافي، المعلن على وشك صدورها ببيروت ستسمح بالتثبت في مدى استعمال العمري لسابقه. - نجد غالبا فصل البكري المتعلق بالمرابطين في كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذارى المراكشي. - نجد استشهادات أخرى أقل أهمية في آثار البلاد للقزويني ونخبة الدهر في عجائب البر والبحر للدمشقي والفهارس الملحقة بهذين الكتابين تسمح بالعثور بسرعة على الفقرات المنقولة. - وفي كتاب: معجم ما استعجم، الأثر الجغرافي الآخر للبكري مقتطفات من وصف الجزيرة العربية الموجودة بالمسالك إلا أننا لا نعرف أيهما الأصل لأن تاريخ تأليفهما مجهول ولكن نميل إلى اعتبار المعجم أقدم.

2) قطع نشرها كتاب محدثون

- ان بعض الاستشهادات الأخرى ليست مقتبسة من البكري ولكنها مأخوذة من نفس مصادره ولقد أشرنا من قبل إلى السمهودي ومحي الدين ويمكن أن نضيف صبح الأعشى للقلقشندي وخطط المقريزي اللذين يعتمدان كتاب ابراهيم وصيف شاه وسمحت النصوص المستشهد بها باصلاح نص البكري في بعض الأحيان. - الروض المعطار في أخبار الأقطار للحميري: من المفيد أن نتوقف أكثر عند هذا القاموس الجغرافي الذي يعتبر من أواخر ما وصلنا من المؤلفات في هذا الفن ولن نتحدّث هنا عن المؤلف نفسه ولا عن المشاكل التي أثارتها شخصيته وكتابه «1» ونودّ أن نشير إلى علاقة الروض بالمسالك. لقد لاحظ لفي بروفنصال أن الكثير من المقالات المتصلة بالأندلس ترجع إلى المسالك لكن الأمر لا يتعلق في الحقيقة بالأندلس فقط فإذا ما نظرنا إلى النص كلّه فإننا نلاحظ أن جلّ المادة الجغرافية مأخوذة من البكري إذا ما استثنينا الاقتباسات المستمدة من الادريسي ومن ابن جبير. ملاحظة هامة: ان استشهادات المسالك في مخطوطات الروض المعطار تبدو في الغالب أصوب وأشمل من نص البكري المنقوص وذلك يصح بصورة خاصة في وصف بعض جزر البحر الأبيض المتوسط مثال مالطة وصقلية فعوض بعض الأسطر عند البكري نجد في الروض الصفحة وأكثر ولا نتحدث عن وصف صردينية الغائب تماما من المسالك. ونجد نفس الشيء في وصف بعض أجزاء أوروبا والشام (مدن دمشق- حلب- حمص- أنطاكية) وينحصر وصف الجزيرة في سطر في مخطوطاتنا بينما هو مستفيض أكثر في الروض فواضح أن الحميري كان بين يديه نص أشمل بالنسبة إلى هذه الجهات وسنوضح من بعد كيف استفدنا في تحقيقنا للنص من العلاقة الموجودة بين هذين النصين الجغرافيين. 2) قطع نشرها كتاب محدثون لقد نشرت كثير من قطع المسالك في الشرق والغرب بعد أن فتح كاترمير الباب بنشر تحليل وترجمة جزئية للمخطوط رقم 7. انها في الغالب أهم القطع لأنها لم تكن معروفة من جهات أخرى.

- ان القسم الذي نشر وترجم وشرح بكثرة هو بدون شك حكاية ابراهيم بن يعقوب الاسرائيلي عن الصقالبة. لقد ظهرت أول مرّة بسان بيترزبورق سنة 1878 مع ترجمة وشرح لكونيك A.Kunik وروزن V.Rosen وصدر كوفالسكيA.Kowalski نشرة أخرى وترجمة وتعاليق سنة 1946 بكراكوفي Cracovie ونشر هذا النص أخيرا الحجي ببيروت سنة 1968 في كتابه: جغرافية الأندلس وأوروبا. وأصدر دي خوي Goeje De ترجمة هولندية بآمستردام. - أما النص الآخر الذي لا يقلّ عن السابق شهرة وان نشر أقل منه فهو: وصف افريقيا: وكان دي سلان Slane De أول من نشره وترجمه إلى الفرنسية ثم ترجم منه مونتايل V.Monteil قسما ونشره بمجلة المعهد الفرنسي بافريقيا السوداء B.I.F.A.N وترجم منه كيوك j.Cuoq قطعا أخرى تتعلق بافريقيا السوداء ونشرها في كتاب: مجموع المصادر العربية المتعلقة بافريقيا من القرن 8 إلى القرن 16 (المرجع رقم 71) . - نشر حجي في الكتاب الذي ذكرناه آنفا كل ما يتعلق بالأندلس وأوروبا- ونشر سيبل A.Seippel سنة 1896 و 1928 نص الصفحات المتعلقة بالنورمان وترجمتها (المرجع 176) . - نشر لفي بروفنصال في طبعته للروض المعطار بعض المقتطفات المتعلقة بالأندلس اعتمادا على المخطوط رقم 5. - نشر ديفريمري Defremery في المجلة الإيساوية سنة 1849 النص المتعلق بالبجاناكية والخزر والبلغار وبلاد سرير وأضاف اليه ترجمة فرنسية- نشر بلاشير R.Blachere ودارمون H.Darmaun في مقتطفاتهما عن الجغارفة العرب (المرجع 65) النص المتعلق بوصف سجلماسة. - وفي نطاق شهادة ختم دروس الأستاذية ببوردو سنة 1981 قدم كليمونF. Clement ترجمة مرفقة بتعاليق ثرية للمقتطفات المتعلقة بالأندلس وأوروبا (انظر نسخة مراجعة ومصلحة، سنة 1983، 137 صفحة مرقونة) .

تحقيق النص

تحقيق النص 1) المصادر هذا التحقيق قد أعد بالاعتماد على عشر نسخ معروفة وبما انه لا توجد أي واحدة من هذه النسخ تامة فان العديد منها قد اعتبرت بالتوالي نسخا أصلية حسب أقسام المخطوط: فالبنسبة إلى القسم الذي تغطيه المخطوطات 1، 2، 3 (الفقرات 1 إلى 713) اعتبرنا المخطوط 1 هو الأصل وأحلنا في الهامش على صفحاته. بالنسبة إلى القسم المشترك بين المخطوطين 4 و 5 (الفقرات 714- 825) اعتبرنا المخطوط 4 هو الأصلي وأتممنا التحقيق بالمخطوط 5 وأحلنا على ترقيم المخطوط 5 لأنه أكمل ومسترسل. ومن الفقرة 826 إلى آخر النص فإنا أحلنا على ترقيم صفحات المخطوط 6. لقد أمكن لكراتشكوفسكي أن يقول في تاريخ الأدب الجغرافي العربي متحدثا عن الحميري ومصادره واقتباساته من الادريسي: «انها ظاهرة هامة لأننا نجد أنفسنا أمام نص جديد للإدريسي يمكن أن تكون له قيمة كبرى في تحقيق نص نزهة المشتاق واعداده للنشر «1» » . ويمكن لنا أن نقول نفس الشيء بالنسبة إلى البكري بعدما قارنا بين مخطوطات المسالك ومخطوطات الروض. ولقد كنا في المرحلة الأولى من اعدادنا لهذا العمل اعتمدنا مخطوطتي الروض المحفوظتين باستنبول والمدينة وفي الأثناء صدرت طبعة هذا الكتاب كاملة ومحققة بالاعتماد على المخطوطتين المذكورتين «2» ونحن نحيل على هذه الطبعة في الهوامش التي نذكر بها اسم الحميري. ونظرا للاقتباسات المتعددة التي يقوم بها البكري عن متقدميه فاننا قد رجعنا إلى آثارهم المطبوعة خاصة في المواضع التي يكون فيها نص المسالك مخطئا ومنقوصا. وتطبيق هذا المنهج سهل نسبيا عند ما ينقل البكري نقلا حرفيا لكنه في الغالب

2) الرسم والنحو:

يحوصل ويغيّر ترتيب الكلمات والجمل ويعوض الكلمة بمرادفها بل قد يمزج بين مصادر مختلفة ويؤلف نصا جديدا بالاضافة إلى ما قلناه من قبل من أن بعض الأقسام منقوصة واختصرت إلى حدّ أنها أصبحت مبهمة. فهل كان يجب أن يترك النص على حاله أم نحاول إرجاعه إلى صيغته الأولى ان لم يكن بصورة كاملة فعلى الأقلّ بصورة جزئية؟ ولقد اخترنا هذا الحل الأخير وبيّنا بصورة واضحة الإضافات التي اضطررنا إلى إدخالها بوضعها بين معقفين أو بكتابتها بأحرف أصغر. وفضلنا في بعض الأحيان أن نترك نص المخطوطات كما هو إذ أنه حرّف إلى حد يعسر معه الاهتداء إلى الصيغة الأصلية ومثال ذلك التحليلات المتعلقة بتكوّن الجنين وبالتبت والصين المستمدّة من مروج المسعودي «1» وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يتعلق بجبال مكة ونجد، أصله في أخبار مكة للأزرقي أو ما يتصل بوصف الأندلس. أما بالنسبة إلى الاستشهادات الشعرية فإن البكري يختلف في الغالب عن المصادر من حيث الألفاظ ونقص الأبيات أو تغيّر ترتيبها والمزج بين أقسام مختلفة من أبيات الشعر في بيت واحد الخ.. فهل ترجع هذه التغييرات إلى البكري أم إلى النساخ؟ لقد اتبعنا في التحقيق القاعدة التالية: إصلاح حالات الخطأ الواضح: نص غير مفهوم أو بحر غير مستقيم، أما فيما عدا ذلك فاننا اتبعنا قراءة مخطوطات المسالك وأحلنا في الهوامش على قراءة الأصول. 2) الرسم والنحو: بالاضافة إلى ما ذكرناه من اختلافات بين الأصول والنص المأخوذ عنها وجدنا صعوبات أخرى تتمثل في اختلاف المخطوطات وأخطاء النحو والرسم وبما أن عملنا يهدف إلى الوصول إلى نص واضح ومقروء للمسالك لا إلى دراسة وضعية للغة العربية في الفترات التي نسخت فيها المخطوطات فإننا رأينا من الصالح أن نهمل عديد القراءات وأخطاء النسخ خاصة الرسمية منها حتّى لا نثقل الهوامش بصورة مبالغ فيها، وهذه الأخطاء الأكثر ترددا والتي لم نشر اليها في التعاليق:

النحو:

النحو: - كلّ الأخطاء النحوية المتعلقة بترابط الفعل بالفاعل والاسم بالصفة وبالممنوع من الصرف الخ ... الرسم: أ) رسمنا الهمزة حسب القواعد المعمول بها الآن، وفي المخطوطات تكتب كلمة: مائة مثلا بصور مختلفة: مائة: مائة: مئة: مية. ب) استعملنا الرسم المعمول به بالنسبة إلى ألف المد فكتبنا ثلاث عوض ثلث وهذا عوض هاذا. ج) واحترمنا التمييز بين الألف الممدودة والألف المقصورة خاصة في الأفعال الناقصة والمصادر وقد أهملت المخطوطات التمييز بينهما في الغالب. د) يضيف النساخ في الغالب ألفا لكل الواوات في آخر الكلمات قياسا على واو الجماعة في الفعل الماضي (فعلوا) فيكتبون مثلا: أبوا، بنوا، ولقد حذفنا دائما هذه الألف الا في بعض الاعلام عندما لم نعرف هل ان الألف جزء من اسم أم لا. هـ) استعمال الفاء أو الواو يختلف كثيرا من مخطوط إلى آخر ولم نر فائدة في الاشارة إلى هذه الاختلافات. و) ان صيغ كتابة الاعلام متعددة خاصة إذا ما لم تكن من أصل عربي وحاولنا بالاعتماد على نصوص موازية التعرف على الرسم الصحيح وأشرنا إلى القراءات الأخرى في الهوامش. ز) إذا ما تكرّر الخطأ عديد المرات كما هو الشأن بالنسبة إلى الاعلام فإننا نقتصر على الاشارة اليه أول مرة وإذا ما وردت صيغة أخرى فإننا نلمح اليها.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1- ابن الأبّار أبو عبد الله: الحلّة السيراء، تحقيق حسين مؤنس- القاهرة 1963. 2- أخبار الصين والهند، حققه وترجمه ج سوفاجيه، باريس 1948. 3- الأزرقي محمد بن عبد الله: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، نشره ر. صالح، مكة 1352- 1357 هـ، في جزئين. 4- الاصطخري ابراهيم: المسالك والممالك، نشره م. ج. الحيني وم. ش. غربال، القاهرة 1961. 5- الاصفهاني أبو الفرج: كتاب الأغاني، بولاق 20 جزءا. 6- ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بيروت 1956- 1957، 3 أجزاء. 7- الأعشى ميمون: ديوان، نشره محمد حسين، القاهرة 1950. 8- ابن بسّام علي: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، القاهرة 1939- 1945، 3 أجزاء 9- ابن بشكوال: كتاب الصلة، نشره ع. العطّار، القاهرة 1966، جزآن. 10- البكري أبو عبيد: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، نشره م. السقا، القاهرة 1945- 1951، 4 أجزاء. 11- البلاذري: فتوح البلدان، نشره ر. م. رضوان، القاهرة 1932 12- الجاحظ عمرو بن بحر: كتاب البلدان، نشره س. ع. العلي، بغداد 1970.

13- ابن جبير: رحلة، بيروت 1959. 14- ابن جوزي عبد الرحمن: فضائل القدس، ج. س. جبّور، بيروت 1980 15- الحاجي عبد الرحمن علي: جغرافيا الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري، بيروت 1968. 16- الحميري محمد: الروض المعطار في خبر الأقطار، احسان عباس، بيروت 1975. 17- ابن حوقل أبو القاسم: كتاب صورة الأرض، حققه ج. ح. كرامرس، ليدن 1938، جزءان. 18- ابن خرداذبه: كتاب المسالك والممالك، نشره دي غويه، ليدن 1889. 19- الدمشقي شمس الدين: نخبة الدهر في عجائب البرّ والبحر، نشره أ. ف. مهرن، لا يبزيغ 1923. 20- ابن رستة أحمد: الأعلاق النفيسة، نشره دي غويه، ليدن 1891. 21- ابن سعيد المغربي: المغرب في حلي المغرب، نشره شوقي ضيف، الطبعة الثالثة، القاهرة 1980. 22- السمهودي نور الدين: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، م. م. عبد الحميد، القاهرة 1954- 1955، 4 أجزاء. 23- السمهودي نور الدين: خلاصة الوفاء، المدينة 1972 24- السيوطي جلال الدين: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، نشره م. ابراهيم، القاهرة 1964- 1965، جزءان. 25- صاعد الأندلسي: كتاب التعريف بطبقات الأمم، نشره ل. شيخو، بيروت 1912. 26- الضبيّ أبو جعفر: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، ف. كوديرا وج. ريبارا، مدريد 1884. 27- الطبري أبو جعفر: تاريخ الرسل والملوك، م. ابراهيم، القاهرة 1960- 1968، 10 أجزاء. 28- العبّادي أحمد مختار: تاريخ الأندلس لابن كردبوس ووصفه لابن الشبّاط،

نصّان جديدان، صحيفة معهد الدراسات الاسلامية في مدريد، العدد 13 (1965- 1966) ص 7- 126؛ 14 (1967- 1968) ص 99- 163 29- عبد الباقي محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، القاهرة 1378 هـ 30- عبد البديع لطفي: نص أندلسي جديد. قطعة من كتاب فرحة الأنفس لابن غالب، مجلة معهد المخطوطات العربية 1 (1955) ص 272- 310 31- ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، نشره ش. س. ترّيه، نيو هاقن 1922. 32- ابن عبد ربّه أحمد: العقد الفريد، القاهرة 1939- 1940، 4 أجزاء. 33- ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب، نشره كولان وليفي بروفنسال، باريس 1930، 3 أجزاء. الجزء الرابع: إحسان عبّاس، بيروت 1967. 34- (العذري أحمد) : ترصيع الأخبار وتنويع الآثار، والبستان في غرائب البلد والمسالك إلى جميع الممالك، ع. الأهواني، مدريد 1965 35- العمري ابن فضل الله: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، القاهرة 1924 نشر الجزء الأول فقط. 36- الفتح بن خاقان: قلائد العقيان ومحاسن الأعيان، تونس 1971. 37- ابن فضلان: رسالة ابن فضلان، نشره س. الدهان، دمشق 1959. 38- ابن الفقيه الهمذاني: مختصر كتاب البلدان، نشره دي غويه، ليدن 1302 هـ (1885) 39- ابن قتيبة: كتاب المعارف، نشره ث. عكاشة، القاهرة 1960. 40- القزويني زكريا: آثار البلاد وأخبار العباد، ف. وستنفلد فيسبادن 1850. 41- القلقشندي: صبح الأعشى، القاهرة 1913- 1919، 14 جزءا 42- كتاب الاستبصار، نشره س. زغلول، الاسكندرية 1958. 43- كراشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة س. هاشم، القاهرة 1961، جزءان. 44- مؤنس حسين: الجغرافيا والجغرافيون في الأندلس، مدريد 1967.

45- مجير الدين العليمي: الانس الجليل بتاريخ القدس والخليل، عمان 1973. 46- المرزوقي أبو علي أحمد: شرح ديوان الحماسة، أحمد أمين وأ. هارون، القاهرة 1954- 1955، 4 أجزاء. 47- المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، نشره ش. بلّا، بيروت 1966- 1974، 5 أجزاء. 48- المسعودي: كتاب التنبيه والاشراف، نشره ع. إ. الصاوي، بغداد 1938. 49- المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، دي غويه، ليدن 1906 50- المقرّي أحمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، نشره إحسان عباس، بيروت 1968، 8 أجزاء. 51- المقريزي: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نشرة بولاق 52- المنجّد صلاح الدين: مواد أندلسية جديدة من الروض المعطار، مجلة معهد المخطوطات العربية 5 (1959) ص 57- 58. 53- ابن هشام: السيرة النبوية، القاهرة 1955، جزءان. 54- الهمذاني الحسن: صفة جزيرة العرب، نشره محمد الأكوع، الرياض 1974 55- ابن وصيف شاه إبراهيم: مختصر عجائب البلدان، (نشر بعنوان أخبار الزمان للمسعودي) ، بيروت 1966، الطبعة الثانية. 56- ياقوت الحموي: معجم البلدان، بيروت 1955- 1957، 5 أجزاء. 57- اليعقوبي: كتاب البلدان، نشره دي غويه، ليدن 1892.

كتاب المسالك والممالك

القول في مدة عمارة الأرض

القول في مدّة عمارة الأرض 1 عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضي الله عنهم أنّ ذلك سبعة «1» آلاف سنة. وكذلك قال أهل الكتاب وأخذوا ذلك مأخذا شرعيّا. أبو صالح عن كعب: ستّة آلاف «2» سنة. ابن معقل عن وهب مثله. 2 قال ط: والأوّل الصواب لرواية ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغيب الشمس، وقوله عليه السلام: بعثت أنا والساعة كهتين، وجمع ما بين السّبابة والوسطى. وصحّ عنه مع ذلك ما رواه ابن وهب يرفعه إلى أبي ثعلبة الخشني أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لن ينقض الله هذه الأمّة من نصف يوم، يريد اليوم الذي مقداره «3» ألف سنة. فإذا كان ذلك كذلك معلوما أنّ الماضي إلى ظهور الإسلام ستّة آلاف سنة. وقد روي عنه صلّى الله عليه وسلم قول يدلّ على صحّة القول الآخر.

3 وأصحّ ما روي في التاريخ على ما ذكره ط س أنّ [من آدم إلى الطوفان ألفي سنة ومائتي سنة وستّا وخمسين سنة و] «1» من الطوفان إلى مولد إبراهيم عليه السلام ألفا وتسعا وسبعين سنة، ومن مولد إبراهيم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل إلى التيه «2» الذي مات فيه خمسمائة وخمسا وستّين سنة، ومن ذلك الوقت إلى أربع من ملك [سليمان بن] «3» داود، وهو وقت ابتدائه لبناء بيت المقدس [ستّمائة سنة وستّا وثلاثين سنة، ومن بناء بيت المقدس إلى ملك الإسكندر سبعمائة سنة وسبع عشرة سنة، ومن ملك الإسكندر إلى مولد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ثلاثمائة سنة وتسعا وستّين سنة] «4» ، ومن «5» مولد المسيح بن مريم الى بعث محمد صلّى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وإحدى وستّين سنة. فذلك ستّة آلاف سنة ومائة سنة واثنتان وثمانون سنة «6» ، ويوافق ما اخترناه من أنّ مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة لقوّة الآثار في ذلك. 4 وقول الفلاسفة إنّ تدبير هذا العالم «7» الذي نحن فيه السنبلة وسلطانها سبعة آلاف سنة، فإذا استكمل العالم قطع هذه المسافة وقع النفاد والدثور، ثمّ عاد التدبير إلى الميزان فاجتمع المراد ويبتدئ النشر عودا. وسلطان الجمل عندهم اثنا عشر ألف سنة، ثم كذلك على التوالي حتّى تكون قسمة الحوت ألف سنة. فإذا انصرمت هذه المدّة انقضى عالم الكون والفساد. وهذا قول هرمس، وزعم أنّه لم يكن في عالم الحمل والثور «8» والجوزاء على الأرض حيوان، فلمّا كان عالم السّرطان تكوّنت دوابّ الماء وهوّام الأرض، فلمّا

القول في مبدأ الخلق

كان عالم الأسد تكوّنت دوابّ الأربع، فلمّا كان عالم السنبلة تولّد الإنسانان الأوّلان أدمانوس [وحيوانوس] . وزعم غيره أنّ مدّة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرجة الفلك، والكوكب يقطع البرج في ثلاثة آلاف سنة، فذلك ستّة وثلاثون ألف سنة، وهي ألف وعشرون كوكبا. 5 وزعم أهل التوراة أنّ ما مضى من لدن خلق آدم إلى الهجرة على ما وجدوه فيها أربعة آلاف سنة وستّمائة سنة واثنتان وأربعون سنة. وزعم أهل الإنجيل أنّ ذلك إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة. وزعم المجوس أنّ مدّة الزمان من لدن جيومرت، وهو آدم عندهم، إلى الهجرة ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وثلاثون سنة. والله أعلم بغيبه وأحكم. القول في مبدأ الخلق 6 قال أبو عبيد رحمه الله: إنّ الله عزّ وجلّ خلق الأشياء على غير مثال وابتدعها من غير أصل وأنشأها من غير حاجة إليها ليستدلّ بذلك على قدرته ويعتبر في بديع حكمته. فتبارك الله خالق كلّ شيء وهو أحسن الخالقين. 7 ثبت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك السّاعة بما هو كائن، رواه ابن عبّاس وغيره. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما: القلم طوله خمسمائة عام، واللوح من ذهب ونتاه من ياقوتة

حمراء عرضه ما بين السّماء والأرض ينظر الله عزّ وجلّ فيه كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت. 8 ط: وقال ابن إسحاق: أوّل ما خلق الله النّور والظلمة، والأوّل أصحّ. قال: ثمّ إنّ الله خلق بعد ذلك سحابا رقاقا وهو الغمام الذي ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه: هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة «1» . كما روى أبو رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربّنا عزّ وجلّ قبل أن يخلق خلقه؟ قال: في غمام تحته هواء وما فوقه هواء. 9 ثمّ اختلف في الذي خلق بعد هذا الغمام، فقيل الكرسي، وقيل العرش، وقيل الماء، فكان عرشه على الماء باتّفاق، وقيل إنّ الماء كان على متن الريح. 10 عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا أراد الله عزّ وجلّ أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا نسما فسمّاه سماء، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «2» بعد تمام سائر الخلق، وذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «3» ، ودحا الأرض في يومين، أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثمّ فتقهنّ سبع أرضين في يومين وفرغ من سائر الخلق في يومين.

ذكر الأيام

11 وروي أنّه لمّا أراد الله عزّ وجلّ خلق السماوات والأرض سلّط الريح العقيم على الماء، فعظمت أمواجه وكثر زبده وصعد دخانه وسما، فسمّاه سماء، وقال لزبده: اجمد فجمد فصار أرضا، وخلق الأرض على حوت. 12 س ط: والحوت هو الذي ذكره الله عزّ وجلّ قال: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «1» ، والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز حكاية عن لقمان عليه السلام. فاضطرب الحوت فتزلزلت الأرض فأرساها الله عزّ وجلّ بالجبال. فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» . ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «3» . ذكر الأيّام 13 قال أبو عبيد: واختلف في اليوم الذي ابتدأ الله فيه الخلق، فقيل الأحد، وقيل السبت، وقيل الاثنين. ط: والأول أصحّ، كذلك روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود ورواه مالك يرفعه إلى ابن سلام قال: خلق الله الأرضين يوم الأحد والاثنين وخلق ما عليها من المنافع يوم

الثلاثاء والأربعاء وفتق السّماوات: وكانتا رتقا «1» يوم الخميس والجمعة، وإنّما سمّي الجمعة لأنّه جمع فيه خلق السماوات والأرض. 14 ابن سلام وكعب: وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، فتلك السّاعة التي تقوم فيها السّاعة. ج عن عكرمة: خلق في ساعتين منه الملائكة وفي ساعتين الجنّة والنار وفي ساعتين الشمس والقمر والكواكب وفي ساعتين الليل والنهار. واختلف أيّها خلق قبل، والصواب قول من قال إنّ الليل خلق قبل النهار لأنّ النهار من ضوء الشمس. 15 وذكر ق أنّ آدم عليه السلام خلق يوم الخميس «2» . وذكر ط في خبر إبليس أنّ الله عزّ وجلّ خلق الملائكة يوم الأربعاء والجنّ يوم الخميس وآدم يوم الجمعة. وقال ط: بعد إحدى عشرة ساعة منه، فمكث جسدا ملقى أربعين عاما من أعوام الدنيا، ثم نفخ فيه الروح. وكان مكثه في السّماء ومقامه في الجنّة بعد ذلك إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط منها ثلاثا وأربعين سنة وأربعة أشهر، وذلك من ساعات الأيّام الستّة. وذلك قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «3» إلى آخرها. 16 قال ح عن عطاء وعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهم إنّ الله عزّ وجلّ خلق

الجبال يوم الثلاثاء، فلذلك تقول الناس إنّه يوم ثقيل. قال عطاء وابن عبّاس رضي الله عنهم: وفرغ من سائر الخلق في اليوم السّابع وهو يوم السبت، صحّ لهما. قال س: وإنما سمّي السبت لأن خلق المخلوقات انقطع فيه، يقال: سبت شعره إذا سخفه. والأيّام النحسات كلّ أربعاء يوافق أربعا من الشهر نحو أربع خلون أو أربع بقين أو أربع عشرة خلت أو بقيت أو أربع وعشرون خلت أو بقيت. قال ط: وكلّ يوم من هذه الستّة الأيّام مقدار ألف سنة. 17 وكان بين خلق القلم وسائر المخلوقات ألف سنة، وهو يوم على ما قدّمناه. فقدر ما بين ابتداء الخلق إلى الفراغ منه سبعة آلاف سنة، كذلك روى عكرمة عن ابن عبّاس وأبو روق عن الضّحّاك وأبو صالح عن كعب. والضّحّاك بن مزاحم يقول: إنّ أسماء الأيّام التي خلق الله فيها المخلوقات انجدال قد نسيت، رواه خ عن زيد بن أرقم، وهذا لا تناقض فيه لأنّ اختلاف الألسنة واللغات ممكن. 18 وقال ابن عبّاس ووهب رضي الله عنهم أن السّماوات والأرض والبحار لفي الهيكل وإنّ الهيكل لفي الكرسي وإنّ قدميه عزّ وجل على الكرسي وهو كالنعل لقدميه انفرد بهذا وهب. والكرسي داخل في العرش والعرش داخل في علم الله سبحانه وتعالى. 19 س: سماء الدنيا من درّة بيضاء والثانية من فضّة والثالثة ياقوتة حمراء والرابعة درّة خضراء والخامسة ذهب والسّادسة ياقوتة صفراء والسّابعة نور قد طبّقها

بملائكة قيام قد خرقت أرجلهم الأرض السّابعة ورؤوسهم تحت العرش من غير أن تبلغه، يسبّحون اللّيل والنهار لا يفترون «1» 20 ق: عن عليّ [في قول الله عزّ وجلّ] «2» والبحر «3» المسجور «4» ، قال: [هو بحر تحت العرش] «5» (وهذا شبيه بما) «6» في التوراة على أنّ السماء ما بين مائين. س: وتحت سماء الدنيا بحر من ماء يطفح «7» فيه من الدوابّ مثل ما في بحور الأرض مستمسك بالقدرة. 21 وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف وسقف محفوظ، ولولا ذلك لأحرقت الشمس الأرض ومن عليها. وبين كلّ سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء والعرش مسيرة ألف عام. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هو الأول لا شيء قبله والآخر لا شيء بعده، وهو بكلّ شيء عليم. 22 وقال بعض أهل الأثر إن البيت المعمور فوق السّماوات السّبع وله ثلاثمائة وستّون بابا جعلت درج الفلك بإزائها، وإنّ كلّ علم ورحمة وقضاء إنّما تنزل من تلك الأبواب إلى ما يوازيها من درج البروج، ثمّ يصير إلى الأرض. وقال

ذكر إبليس

بعضهم إنّ الخلائق العالية الروحانية- وهم الملائكة- اثنا عشر صفّا حذاء البروج الاثني عشر، وإنّهم نوريّون جعل الله فيهم حولا وقوّة يقدر أحدهم أن يلج في سمّ الخياط لطفا ويخوض في تخوم الأرض والبحار نوره. وزعم أهل الطبائع أن الفلك حيّ مميّز ذو صورة وأنّ الكواكب ذوات صور حيّة ناطقة حسّاسة. 23 وروى وهب بن منبّه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: إنّ لله عزّ وجلّ ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلّا كحبّة خردل في كفّ أحدكم. وفي الحديث أنّ لله عزّ وجلّ مدينتين واحدة بالمشرق واسمها جابلقا والأخرى بالمغرب واسمها جابرصا، طول كلّ واحدة اثنا عشر ألف فرسخ، ولكلّ مدينة عشرة آلاف باب يحرس كلّ باب كلّ ليلة عشرة آلاف رجل لا تلحقهم النوبة إلى يوم القيامة، الرجل منهم يعمر ستّة آلاف سنة إلى ما دونها، وهم يأكلون ويشربون ويتناكحون وفيهم حكم كثيرة. والمدينتان خارجتان من الدنيا لا يرون شمسا ولا قمرا ولا يعرفون إبليس ولا آدم يعبدون الله، وإنّ لهم نورا يسعون فيه من نور الله من غير شمس ولا قمر. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مرّ بي جبريل عليهم فآمنوا بي فدعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فأجابوا فمحسنهم مع محسنكم ومسيئهم مع مسيئكم. ذكر إبليس «1» 24 كان الله قد شرّفه وملّكه سماء الدنيا والأرض وجعله مع ذلك من خزنة الجنان. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ولذلك سمّوا جنّا. قال ابن

عبّاس: وكان من أشرف الملائكة قبيلا واسمه الحارث، وقيل عزازيل، وكنيته أبو مرّة. فدخله من ذلك كبر ودعا من تحت يده إلى عبادته. وقيل إنّه أوّل من أسكن الأرض الجنّ، فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم حتّى ألحقهم بالبحار وأطراف الجبال، فاعترى إبليس في نفسه ووقع في صدره كبر ولم تعلم بذلك الملائكة، فأراد الله إطلاعهم عليه بما أراهم من معصيته. 25 وقيل إن الله عزّ وجلّ لمّا أسكن الأرض الجنّ بعث إليهم إبليس قاضيا يقضي بينهم، فبقي يقضي بينهم بالحقّ ألف سنة حتّى سمّاه الله حكيما، فعند ذلك تكبّر. وقيل إنّ الذين كان بعث إليهم إبليس البأس والعداوة، فاقتتلوا في الأرض ألفي سنة حتّى أنّ خيولهم كانت تخوض في دمائهم، وذلك قول الله عزّ وجلّ: أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد «1» . فبعث الله عند ذلك نارا فاحرقتهم، وعرج إبليس إلى السماء فلم يزل يعبد الله مجتهدا لم يعبده شيء من عباده مثل عبادته حتّى كان من آدم ما كان، فأهبطه الله عزّ وجلّ في أقبح صورة وأشرّها تشويها، فسكن البحر ووضع عرشا على الماء وجعلت له ولاية وألقيت عليه شهوة الفساد، وجعل لقاحه كلقاح الطير. 26 وذكرت الهند والفرس أنّ الجنّ مائة واثنان وثلاثون قبيلة: فالّذين يطيرون في الجوّ خمس عشرة قبيلة، والذين يمشون على أرجلهم خمس وعشرون قبيلة، والذين يخرجون مع الزوابع اثنتا عشرة قبيلة، والذين مع لهب النار عشر قبائل، ومسترقو السّمع ثلاثون قبيلة، وسكّان الهواء- وهم مثل الدخان- ثلاثون قبيلة.

القول في خلق آدم عليه السلام

27 وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: الجنّ ضعفة الجنّ، وإنّ الكلاب من الجنّ، فإذا رأوكم تأكلون فالقوا إليهم فإنّ لهم أنفسا، يعني يعينون أي يصيبون بالعين. القول في خلق آدم عليه السّلام «1» 28 عن ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهم أنّ الله عزّ وجلّ أمر جبريل أن يأتيه بطين من الأرض، فاستعاذت الأرض منه فأعاذها، ثمّ أمر ميكائيل كذلك، ثمّ أمر ملك الموت، فاستعاذت منه، فقال: أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفّذ أمره. فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنوه مختلفي الألوان. عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: بعث الله عزّ وجلّ [ابليس] «2» ، فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها، فمن ثمّ سميّ آدم ومن ثمّ قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا «3» أي هذه الطينة أنا جئت بها. 29 وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر ذلك: الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيّب. قال ط: ثمّ بلّت طينة آدم حتّى صارت طينا لازبا، ثم تركت حتّى صارت حمأ مسنونا، ثم تركت حتّى صارت صلصالا كالفخّار، ومدّة

ذلك أربعون ليلة، وقيل أربعون عاما. فذلك قول الله سبحانه وتعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً «1» . وقيل مائة وأربعون سنة وهو أصحّها، وذكر الأربعون سنة أيضا. قال: وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول: لست شيئا ولشيء ما خلقت، ولئن سلّطت عليك لأهلكنّك، ولئن سلّطت عليّ لأعصينّك. ونفخ فيه الروح على ما تقدّم آخر ساعات الجمعة وهو اليوم السّادس من أوّل أيّام الخلق، وكان السّادس من نيسان. فجعل ما يجري الروح في شيء من جسمه إلّا صار لحما ودما، ثم عطس فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقالها، فقال الله تعالى: «يرحمك ربّك يا آدم» . فلمّا دخل الروح في عينيه رأى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب يريدها قبل أن يبلغ الروح رجليه، فلذلك قال الله عزّ وجلّ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «2» . 30 عن عليّ: ثمّ جعل الله آدم محرابا وكعبة وبابا وقبلة أسجد له الروحانيين الأبرار، سجدوا إلّا إبليس، فأوقع الله عزّ وجل عليه اللعنة وأخرجه من الجنّة وبقي في السّماء لم يهبط إلى الأرض، فذلك قوله: فأخرج منها، إلى قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «3» . وعلمت الملائكة ما كان عنهم مستترا. 31 ثمّ علّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلّها. قال عبد الله ابن عبّاس: كلّها عموما. وقال وهب: أسماء ذرّيته. وقال آخرون: أسماء الملائكة. ثم

القول في خلق حواء عليها السلام

عرض الله سبحانه وتعالى أهل الأسماء على الملائكة، فقال عزّ وجلّ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» . وكانوا يقولون لمّا أخذ في خلق آدم: ليخلق ربّنا ما يشاء فلن يخلق خلقا إلّا كنّا أعلم منه، فذلك قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . ففزعوا إلى التوبة: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . ثمّ قال: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . الآية «2» . القول في خلق حوّاء عليها السّلام 32 ثمّ خلقت حوّاء من آدم وأسكنهما الجنّة. وأصحّ ما قيل في مدّة مقامهما بها إلى أن أهبطا ما تقدّم ذكره. قال: مكثا ثلاث ساعات وهو ربع يوم مائتان وخمسون سنة من أعوام الدنيا. ويقال: مكثا فيها ستّة أيّام وأهبطا في الجمعة الثّانية. تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّ الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم الجمعة وفيه أهبط إلى الأرض وأخرجه من الجنّة يوم الجمعة وتاب عليه يوم الجمعة وقبضه يوم الجمعة. وقال بعضهم: أخرج آدم من الجنّة في الساعة العاشرة أو التّاسعة. والمعروف ما تقدّم أوّلا، كما أنّ بعضهم قد ذكر أنّه خلق لساعتين مضتا من يوم الجمعة، وقيل لثلاث، والصحيح ما تقدّم. 33 وأهبط الله آدم قبل غروب الشّمس من اليوم الذي خلقه فيه بالهند على جبل يقال له واسم «3» عند واد يقال له بهيل «4» بين الدهنج والمندل، وهو بشرقي

أرض الهند، وقيل على جبل يقال له يرد «1» ، وقيل بسرنديب على جبل الرهون منها، وعليه الورق الذي خصفه، فيبس فذرّته الريح في بلاد الهند، فعلّة كون الطيب في بلاد الهند من ذلك الورق، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مثله. وأهبطت حوّاء بجدّة والحيّة بأصبهان، وقيل بالبريّة، وإبليس بساحل بحر الأبلّة بميسان. قال أبو جعفر: وهذا لا نعلم صحّته. وأمّا هبوط آدم بأرض الهند فذلك ما لا يدفع (صحّته علماء الإسلام) «2» وأهل التوراة وأهل الإنجيل. 34 وإنّ آدم لمّا أهبطه من الجنّة أخرج معه ثلاثين قضيبا مودعة أصناف الثمار، منها عشرة لها قشر وهي: الجوز واللوز والجلوز والفستق والخشخاش والشاهبلوط والبلّوط والرانج- وهو جوز الهند- والموز والرّمان، وعشرة ذوات نوى وهي: الخوخ والمشمش والإجاص والرطب والغبيراء والنبق والزعرور والعنّاب والمقل والقراسيا، ومنها ما لا قشر له ولا حجاب ولا نوى وهي: التفّاح والسفرجل والعنب والكمثرى والتّين والتوت والأترج والقثاء والخيار والبطيخ، مثله إلّا أنّه ذكر مكان المقل الشّاهلوك «3» وهو العنيقد، ومكان القثاء الخرنوب. وأمّا المقل فإنه يثمر بالهند ثمرا طيبا يستعمل ولا يكاد يثمر في غيرها، وله شجر يشبه النخل. 35 ثمّ جاء آدم عليه السلام في طلب حوّاء فتعارفا بعرفات، فبذلك سمّيت. وازدلفت حوّاء بالمزدلفة، فسمّيت بذلك أيضا.

36 ق: طوى الله له الأرض وقبض المفاوز، فلم يضع آدم قدمه في موضع إلّا صار عمرانا، حتّى وصل إلى مكّة، كان موضع قدميه قرية وخطوته مفازة. 37 وعن عطاء وابن عباس رضي الله عنهم أنّ آدم لمّا أهبط كان يمسح رأسه السّماء. (ابن عبّاس: فمن ثمّ صلع وأورث ولده الصلع) «1» ، ومن طوله نفرت دوابّ الأرض، فصارت وحشية من يومئذ، ثم اتّفقا فخفضه الله عزّ وجلّ حتّى حطّ طوله إلى ستين ذراعا، صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا ربّ كنت أسمع أصوات الملائكة يسبّحونك وأجد ريح الجنّة وطيبها وكنت آنس بذلك، فقد ذهب ذاك عنّي. فأجابه الله سبحانه: يا آدم لمعصيتك فعلت بك ذلك. وأوحى الله إليه: إنّ لي حرما بجبال عرشي، فانطلق فابن فيه بيتا تحفّ به كما رأيت الملائكة يحفّون بعرشي، فهناك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي. فقال آدم: يا ربّ وكيف لي بذلك؟ فقيّض الله له ملكا فانطلق به نحو مكّة. وكان آدم إذا مرّ بروضة أو مكان يعجبه سأل «2» الملك أن ينزل به حتّى أتى مكّة، فصار كلّ مكان نزل به عمرانا، وكلّ مكان تعدّاه مفازة. فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سينا وطور زيتا ولبنان والجودي وبني قواعده من حراء. ثم أراه الملك المناسك كلّها. ثم ذكر أيضا أن شيتا بنى الكعبة بالحجارة والطين، وأنّه كانت هناك خيمة لآدم وضعها الله له من الجنّة لمّا اشتدّ جزعه على مفارقتها، وأنّ تلك القبّة لم تزل في الكعبة حتّى رفعها الله سبحانه وتعالى حين أرسل الطوفان.

38 وكان آدم قد أنزل معه الحجر الأسود وكان درّة بيضاء- وقال ابن عبّاس: ياقوتة بيضاء- وعصا موسى وكانت من آس الجنّة طولها عشرة أذرع على طول موسى. ثم أنزل الله عليه العلاة «1» والمطرقة. وكان أوّل شيء ضربه آدم المدية، ثم ضرب التنّور وهو الذي ورثه نوح عليه السلام، ففار بالعذاب بالهند، وغزلت حوّاء الصوف والشعر من الثمانية أزواج التي أنزلها آدم من الجنّة وحاكته بيدها، حاكه آدم فاكتسيا. 39 وبقي آدم وحوّاء يبكيان على ما فاتهما من نعيم الجنّة مائتي سنة ولم يقرب حوّاء مائة سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما، ولم يزل يسائل الله قبول توبته وأن يرجعه إلى الجنّة حتّى أجابه، فذلك قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «2» . قال جماعة قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية «3» . 40 واستطعم آدم ربّه، فبعث إليه مع جبريل بسبع حبّات من حنطة وزن الحبّة مائة ألف درهم وثمانمائة درهم وأراه كيف يبذرها. وقيل إنّ آدم أهبطها مع نفسه من الجنّة. فلما بلغ الزرع أتاه أمر الله فدرسه. ثمّ أذراه وطحنه، ثم أمره بعجنه وأراه جبريل كيف يوري النار فطبخه. فلم يبلغ ذلك حتّى بلغه الجهد ما شاء الله أن يبلغ. فذلك قوله عزّ وجلّ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ

القول في كيفية تصور الجنين

فَتَشْقى «1» . ومسح الله ظهر آدم بنعمان من عرفة، فأخرج ذريّته فنشرهم بين يديه كالذرّ، فأخذ مواثيقهم كما تكرّر في التفسير. القول في كيفيّة تصوّر الجنين «2» 41 ذكر جالينوس في كتابه عن أبقراط الحكيم أنّ مقام المني مقام الفاعل والمفعول به في تصوّر الجنين. وقال صاحب المنطق إنّ المني يغتذي دم الحيض قبل الحركة، ثم يستحيل روحا فيخرج من الرحم. وحكى جالينوس أيضا أنّه يجري إليه الدم الذي هو الطمث فينميه ويجذب إليه الروح من العروق والشريانات. وقد ذهب قوم إلى أنّ في الرحم قالبا يتصوّر فيه الجنين. والّذي يقضي على جميع هذا هو ما أخبر به الباري سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» . ولم يخبر بكيفية ذلك بل استأثر بعلمه، فهذا ممّا ينقطع علم العقول عنده. 42 وذكر أنّ له عزّ وجلّ ألف أمّة وعشرين أمّة بعدد الكواكب الثّابتة، في البحر منها ستّمائة وباقيها في البرّ أحسنها كلّها صورة وأجلّها خلقا وأتمّها اعتدالا الإنسان خلقه الله عزّ وجلّ على صورة اسرافيل. وفي الحديث: لا تضربوا الوجوه فإنّها على صورة إسرافيل. ويقال إنّ في الإنسان من كلّ الخلق، فلذلك سخّر له جميع الحيوان وأكل من جميع المأكولات وعمل بيده جميع الأعمال وألهم إلى جميع المنافع والمضارّ وعلم العلوم، وإيّاه خاطب الباري عزّ وجلّ وهو المتعبّد من هذه الأمم وعليه وقع الأمر والنهي.

[القول في ولد آدم عليه السلام]

[القول في ولد آدم عليه السّلام] 43 وكان آدم لا يولد له بطن إلّا توأمان ذكر وأنثى، فخالف بينهم في المناكح حتّى ولد له ابنان يقال لأحدهما قابيل وللآخر هابيل- والصحيح قايين «1» . س: وقد ذكر «2» علي ابن الجهم ذلك في قصيدته في بدء الخلق [رجز] : واقتنيا الابن فسمّي قاينا ... وعاينا من أمره «3» ما عاينا فشبّ هابيل وشبّ «4» قاين ... ولم يكن بينهما تباين فزوّج «5» أخت قايين هابيل وأخت هابيل قاين، وتلك كانت شيمة آدم احتياطا (لأقصى ما يمكنه في ذوي المحارم لموضع الاضطرار وعجز النسل عن التباين والاغتراب) «6» . وقد زعمت المجوس أنّ آدم لم يخالف في النكاح بين البطون ولم يتّخذ «7» المخالفة، ولهم في هذا سرّ يدّعون فيه الفضل [في صلاح الحال في تزويج الأخ من أخته والأمّ من ابنها] «8» ، قد ذكرته في كتابنا الموسوم بأخبار الزمان. فأبى قابيل أن يتزوّج أخت هابيل لأنّها كانت أخته أجمل من أخت هابيل وقال: أنا أحقّ بها. فقرّبا قربانا إلى الله عزّ وجلّ أيّهما أحقّ بالجارية. فقرّب هابيل شاة سمينة وكان صاحب ماشية، وقرّب قابيل حزمة سنبل وكان صاحب زرع، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففرّكها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل. ق: وذلك بمنى. فغضب قايين وقال: لأقتلنّك. فكان من أمرهما ما نصّه الله تعالى، فاغتاله قايين في بريّة بلاد دمشق من أرض الشام وقتله شدخا بحجر. ويقال إنّ الوحش هناك استوحش من الإنسان لأنّه بدأ بالشرّ والقتال. وكان من أمر الغراب في المواراة ما كان.

44 وفرّ قابيل بأخته إلى عدن من أرض اليمن، وبلغ آدم ما صنع فوجد هابيل قتيلا وقد نشفت الأرض الدم، فلعنها ومن أجل لعنته أنبتت الشوك. 45 وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل إنّ قابيل وتوأمته ولدا لآدم في الجنّة، فلم تجد حوّاء عليها السلام عليهما وصبا ولا طلقا ولم تر معهما دما. ثم أوّل ما ولدت بالأرض هابيل وتوأمته، فوجدت ما تجده النساء. ويقوّي هذا ما أتى في الحديث عن ابن عبّاس ووهب وابن زيد وغيرهم أنّ الله عزّ وجلّ لمّا قال لآدم: يا آدم من أين أتيت؟ قال: من قبل حوّاء. قال: عليّ أن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها، فقد كنت خلقتها تحمل يسرا وتضع يسرا. قال صاحب هذه المقالة: ولذلك فاق حسن أخت قابيل أخت هابيل. 46 ط: وقال قوم: لم تكن قصّة هذين الرجلين اللذين قتل أحدهما أخاه في عهد آدم ولا كانا لصلبه، وإنّما كانا من بني إسرائيل. قالوا: لأنّ القربان لم يكن إلّا في بني إسرائيل. والصحيح ما قدمناه (لصحّة الحديث) «1» . عن عبد الله بن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من نفس مظلومة إلّا كان على ابن آدم كفل منها لأنّه أوّل من سنّ القتل.

47 تكررت الأخبار «1» عن علي رضي الله عنه أنّ آدم عليه السلام بكى هابيل فقال [وافر] : تغيّرت البلاد (ومن عليها) «2» ... فوجه الأرض مغبّر قبيح فقتل قابيل هابيل أخاه ... فوا أسفا على الوجه المليح فما لي لا أجود بسكب دمعي ... وهابيل تضمّنه الضريح أرى طول الحياة عليّ غمّا ... ولا أنا من حياتي مستريح أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحيّ كالميت «3» الذّبيح تغيّر كلّ ذي طعم ولون ... وقلّ بشاشة الوجه المليح 48 وأوحى الله إلى آدم: إنّي مخرج منك نوري الذي أباهي به الأنوار، وأجعله خاتم النّبيين الأبرار، فتطهّر وقدّس وسبّح وأغش زوجتك على طهارة منها، فإنّ وديعتي تنتقل منكما إلى الولد الكائن بينكما. فواقع آدم حوّاء فحملت لوقتها وتلألأ النّور في مخائلها ولمع من محاجرها حتّى إذا انتهى حملها وضعت شيتا بعد خمس سنين من مقتل هابيل ولمائة سنة وثلاثين من مهبط آدم. وقال في خبر شيت: لمائتي سنة وخمس وثلاثين. 49 ومعنى شيت هبة الله خلفا من هابيل، كذلك قال أهل التوراة وذكروا أنّه ولد فردا بغير توأم، لم يولد لآدم فرد سواه. قال: وهو بالعبرانية شيت وبالعربية شثّ وبالسريانية شاة. وانتقل النّور من حوّاء إليه حتى لمع من

أسارير جبهته وبسق «1» في طلعته وغرّته حتّى إذا ترعرع وأيفع «2» كان كأسرى «3» الناس وأحسنهم صورة وأتمّهم وقارا وأكملهم هيئة مجلّلا بالنّور والهيبة موشّحا بالجلال والأبّهة، وكان أشبه ولد آدم بآدم، ثمّ أشبههم به بعده يوسف. فعهد إليه آدم وعرّفه بمحلّ ما استودعه وأعلمه لأنّه حجّة الله بعده، وأنّه الخليفة في الأرض والمؤدّي حق الله، فاحتقب «4» شيت تلك الوظيفة واحتفظ بمكنونها. 50 وذكر ابن إسحاق أنّ جميع ما ولدته حوّاء لآدم أربعون بطنا، وقد عدّ من أسماء ذكرانهم خمسة عشر اسما. وقالت طائفة إن حوّاء ولدت لآدم مائة وعشرين بطنا. قال: ويقال إنّ آدم مات عن أربعين ألفا من ولده وولد ولده. وأنزل الله على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف العجم في إحدى وعشرين ورقة، وهو أوّل كتاب كان في الدنيا أخذ الله عليه الألسنة كلّها. وإلى شيت تنتهي أنساب البشر باجتماع. وانقرض سائر ولد آدم. قال: وقد قال غيره ذلك. 51 وأمر آدم بكتاب الصحف وعلم اللّغات كلّها التي تقرّ بها الجنّ والشياطين وحساب الأزمنة ومسير الكواكب، وسأل ربّه أن يريه مثال الدنيا وما يكون فيها من خير وشرّ إلى يوم القيامة، فمثّلت له برّا وبحرا، فنظر إليها وإلى من يملكها ويسكنها من ولده، وأوري صور الأنبياء وما يكون في العالم. ولمّا كثر ولده بعثه الله إليهم بعد «5» سبعمائة سنة وسبعين سنة من مهبطه يأمرهم

القول في وفاة آدم عليه السلام

وينهاهم. ثمّ أمره الله عزّ وجل إذ أراد أن يتوفّاه [بأن] يجعل وصيّته الى شيت ويعلّمه جميع هذه العلوم المذكورة، وأمره أن يرفع إليه مصحفه سرّ الملكوت الذي كان عنده ولا يمتحنه بعد شيت إلا إدريس، فكانوا يتوارثونه مختوما لا ينظرون فيه حتّى وصل إلى إدريس. ثمّ كانت الوصيّة من ولد شيت فيمن يأتي ذكره حتّى وصلت إلى إدريس صلوات الله عليهم ورضوانه. وعمر آدم تسعمائة «1» سنة وثلاثون سنة. القول في وفاة آدم عليه السلام 52 تكرّرت الروايات عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى لمّا فرغ من خلق آدم عليه السلام قبض له يديه وقال له: اختر. فقال: اخترت يمين ربّي عزّ وجلّ «2» وكلتا يديه يمين. ففتحها فإذا فيها صورته وصورة ذرّيته، وإذا كلّ واحد مكتوب عنده أجله، وإذا آدم كتب له عمر ألف سنة، وإذا قوم عليهم النّور. فقال آدم: يا ربّ من هؤلاء؟ فقال الله سبحانه وتعالى: «هؤلاء الأنبياء والرّسل، وإذا فيهم رجل هو أضوؤهم نورا» ، ولم يكتب له من العمر إلّا أربعون سنة. فقال آدم: يا ربّ ما هذا؟ قال: ذلك أجله الذي كتبته له. قال: يا ربّ انقص له من عمري ستّين سنة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثمّ أهبطه الله إلى الأرض، فكان يعدّ أيّامه، فلما أتاه ملك الموت ليقبضه قال آدم: عجلت عليّ يا ملك الموت، وقد بقي من عمري ستّون سنة. قال: فقال له ملك الموت: قد سألت ربّك أن يكتبها لابنك داود. فقال: ما فعلت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (نسي آدم ونسيت ذريّته) «3» وجحد. فجحدوا. فيومئذ وضع الله الكتاب وأمر بالشهود، وأكمل لآدم

ألف سنة ولداود مائة سنة. ويزعم أهل التوراة والإنجيل أنّ عمر آدم تسعمائة وثلاثون سنة، وذلك ذكر حفص القرظي في تاريخه. وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّ عمره كان تسعمائة وستّا وثلاثين سنة. 53 قال ابن إسحاق إنّ آدم لمّا قبض كسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيّام. وذكر عن يحيى بن عبّاد عن أبيه أنّ الله بعث إليه كفنه وحنوطه من الجنّة. صحّ عن أبي أنّ الملائكة غسلته وكفنته وصلّى عليه جبريل والملائكة خلف جبريل وبنوه خلف الملائكة ثمّ دفنوه. وقال: هذه سنّتكم في موتاكم يا بني آدم. وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن شيتا قال لجبريل صلّى الله عليه وسلم: صلّ على آدم، فقال له جبريل: تقدّم أنت فصلّ على أبيك وكبّر عليه ثلاثين تكبيرة. 54 قال الطبري: ومات على الجودي الجبل الذي أهبط عليه «1» يوم الجمعة لستّ خلون من نيسان في السّاعة التي خلق فيها. وتنازع النّاس في قبره، فمنهم من قال إنّه بمنى ومنهم من رأى أنّه في كهف في جبل أبي قبيس في غار يعرف بغار الكنز، وذكروا أنّ نوحا أخرجه عند الطوفان، ثم أعاده في مكانه. وقيل إنّه دفنه حين أخرجه من السفينة ببيت المقدس، والله أعلم. وعاشت حوّاء بعده سنة، ثمّ دفنت معه في الغار المذكور.

شيت عليه السلام

شيت عليه السلام 55 لم يزل مقيما بمكّة يحجّ ويعتمر، وجمع ما أنزل الله من الصحف وهي خمسون، ولم يزل عاملا بما فيها، وبنى الكعبة بالحجارة والطين. قال ابن إسحاق: وتزوّج أخته حزورة فولدت له أنوش لمائة سنة وخمس وستّين من عمره، وتوفّي شيت وقد بلغ تسعمائة واثنتي عشرة سنة. انتقل النّور الذي ذكرناه إلى أنوش، وقلّد سياسة الملك وتدبيره بعد أن مضى شيت لسبيله ولم يخلف بنين وبنات سوى أنوش. قال: وفي زمن أنوش قتل قابيل بن آدم قاتل أخيه هابيل. قال: ولقتلته خبر عجيب قد أوردناه في كتاب أخبار الزّمان. قال: وكانت وفاة أنوش لثلاث خلون من تشرين الأوّل، فكانت مدّته تسعمائة وستّين «1» سنة. 56 وذكر أنّ قابيل لمّا هرب من أبيه إلى اليمن حين قتل أخاه أتاه إبليس فقال له: إنّ هابيل إنّما قبل قربانه وأكلته النّار لأنّه كان يخدم النّار ويعبدها، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أوّل من نصب النار وعبدها. قال: وولد قابيل أوّل من ضرب الصّنج وولده أوّل من تجبّر. قال: ولم يمت آدم حتّى أظهروا المعاصي والفواحش، ونهى آدم شيتا وولده أن يناكحوهم. قال: ولم يتركوا عقبا إلّا قليلا، فجهلت أنسابهم وانقطع ذكرهم، ونسل النّاس اليوم من شيت ابن آدم، وقال: جماعة من

إدريس عليه السلام

أهل الهند ممّن (يقرّ بآدم) «1» ينتسب إلى هذا الشعب من ولد قاين «2» ، وأرض هذا النوع أرض قمار من الهند، وإليهم يضاف العود القماري. 57 وولد أنوش بن شيت قينان، وإليه الوصيّة ونفرا كثيرا. قال: فولد قينان مهلائيل، فولد مهلائيل اليارد، فولد اليارد خنوخ- وهو إدريس- بعد مائة سنة من عمره، وكان عمر قينان تسعمائة سنة، وتوفّي في تموز، وكان عمر مهلائيل ثمانمائة سنة وخمسا وثمانين سنة. والنّسابون من الفرس يزعمون أن مهلائيل هو أشيم «3» الذي ملك الأقاليم السبعة وأنّه أوّل من استخرج المعادن وأوّل من بنى المدائن، بنى مدينة بابل «4» ومدينة السوس ومدينة الري، وكان فاضلا محمودا في سيره. ونزل الهند وتنقّل في البلاد، ولمّا استوثق الأمر عقد على رأسه تاجا وخطب خطبة ذكر فيها أنّه ورث الملك عن جدّه جيومرت، وهو آدم عندهم. وذكروا أنّه قهر إبليس وجنوده ومنعهم من الاختلاط بالنّاس، وكتب عليهم كتابا في قرطاس أبيض أخذ عليهم فيه المواثيق ألّا يعرضوا لأحد من الإنس، وأنّه قتل منهم جماعة من مردتهم ومن الغيلان. وكان عمر يارد تسعمائة سنة وإحدى وستّين سنة، وكانت وفاته في آذار. قال: وكان بين ولد قاين ويارد حروب قد ذكرناها في أخبار الزّمان. إدريس عليه السلام 58 قال المسعودي: الصّابئة تزعم أنّه هرمس، ومعنى هرمس عطارد، نبّأه الله عزّ وجلّ وأنزل عليه ثلاثين صحيفة. وهو أوّل من طرّز الطرز وخاط الثوب،

وأوّل من خطّ بالقلم بعد آدم، وكان يعدّ عدّة خطوط، وهو أوّل من جاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، وسبى ولد قاين لمّا دعاهم إلى الله فلم يجيبوه. وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، فتمّت الصحف يومئذ ثمانين صحيفة. 59 ولمّا ولد إدريس أتى إبليس محويل الملك في صورة روحاني له جناحان، فأخبره أنّه ولد ليارد مولود يكون عدوّا للآلهة وسبب فسادها. فقال له الملك: أتقدر أن تهلكه؟ قال: سأحرص على ذلك. فوكّل الله بإدريس ملائكة يحفظونه. وأوصى إليه أبوه، ونبّأه الله بعد أربعين سنة من عمره. وذكر أنّه رفع في حياة أبيه وأنّ أباه يارد عاش بعد رفع إدريس أربعمائة سنة وثلاثين سنة، وتنبّأ على عهد آدم وقد مضى من عمر آدم ستّمائة سنة واثنتان وعشرون سنة. 60 ق: عن وهب: كان إدريس طويلا ضخم البطن عريض الصّدر، وكانت إحدى أذنيه أكبر من الأخرى، وكان في جسده نكتة بيضاء من غير برص، وكان رقيق الصوت قريب الخطى، وسميّ إدريسا لكثرة ما كان يدرس من كتب الله عزّ وجلّ. وقال: واستجاب له ألف إنسان ورفع وهو ابن ثلاثمائة وخمس وستّين سنة. وقيل إنّ إدريسا أوّل من نظر في علم النجوم بعد آدم، وانّ أزرائيل» الملك علّمه علم الفلك والكواكب وسعودها ونحوسها وصور البروج.

61 وفي التوراة أنّ إدريسا أحسن خدّام الله تعالى، فرفعه الله إليه. ولمّا رأى إدريس انهماك ولد قابيل في المعاصي سأل الله تعالى أن يرفعه إليه ويطهّره من خطاياهم، فأجابه الله إلى ذلك، وأوحى إليه أن يلازم الهيكل أربعين يوما هو وشيعته، وكانوا سبعين حبرا. فاغتسلوا ودخلوا هيكل الله المنصوب وقدّسوا الله فيه أربعين يوما. وأوحى الله إليه أن اجعل الوصيّة في متوشلخ، فإنّي مخرج من ظهره نبيّا أرضى فعله. فلمّا رفع إدريس حزن عليه بنو آدم الحنفاء حزنا شديدا، وكثر الاختلاف والتنازع، وأشاع إبليس أنّه أراد الصعود إلى الفلك فاحترق. وسرّ بعده محويل الملك وأظهر أنّ صنمهم الأكبر أهلكه فزادوا في عبادتها والتقرّب إليها، ولزم متوشلخ الهيكل مع بني أبيه والأحبار السبعين. 62 فولد إدريس متوشلخ، وولد متوشلخ لامك- وأهل الإنجيل يقولون لامن- وإليه الوصيّة. وولد للامك نوح، أمّه قينوش من ذريّة قابيل بن آدم القاتل، وذلك بعد وفاة آدم بمائة سنة وستّ وعشرين سنة. وروي عن جماعة من السلف أنّه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلّهم على ملّة الحقّ، وأنّ «1» الكفر إنّما حدث في القرن الذي فيه نوح وأنّه أوّل نبيّ بعث إلى الكفّار. 63 قال الوصيفي «2» : وقد اختلف الناس في المدّة التي كانت بين آدم ونوح، فقال أصحاب التواريخ «3» ألفا سنة وعشر، وقال بعضهم ألف سنة وسبعمائة

القول في نوح عليه السلام

سنة وكسر، وقال المصريّون ثمانية عشر ألف سنة، لأنّ الطوفان كان وقلب الأسد في أوّل درجة من السرطان، ومقامه في كلّ برج ستّة آلاف سنة وهي ثلاثة بروج. صحّ وصفا. القول في نوح عليه السلام 64 ذكر أنّه بعث بعهد بيوراسب، وتقدّم في خبر إدريس أنّه كان وقع إليه كلام من كلام «1» آدم فاتّخذه سحرا في ذلك الزمان. فكان إذا أراد شيئا من جميع مملكته أو أعجبته امرأة أو غير ذلك نفخ قصبة كانت له من ذهب، وكان يجيء إليه بنفخته كلّ شيء يريد، فمن ثمّ تنفخ اليهود. وكان قومه أهل أوثان. قال الله عزّ وجلّ حكاية عنهم: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ الآية «2» . وروي عن عبد الله بن عبّاس أنّ الله بعثه إليهم وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوّته مائة وعشرين سنة، وركب السفينة وهو ابن ستّمائة سنة، ثم مكث بعد ذلك ثلاثمائة سنة وخمسين، فذلك ألف إلّا خمسون عاما. وقال وهب كذلك إنّه بعث ابن خمسين، فدعا قومه إلى أن بلغ ستّمائة. عن ابن عبّاس أنّه بعث ابن أربعين، فمكث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، ثم كان الطوفان، وعاش بعد ذلك مائة سنة. وقيل: عاش بعد الطوفان ستّين سنة، فذلك ألف وخمسون. قال وهب: وعمر نوح ألف سنة لأنّه بعث ابن خمسين وأقام فيهم ألفا إلا خمسين. وقالت طائفة إنّ عمره كان ألفا ومائتي وخمسين سنة، فلم يجبه قومه.

65 قال ابن إسحاق: كان لا يأتي منهم قرن إلّا أشدّ من الذي قبله، وكانوا يقولون: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنونا. وكانوا يبطشون به ويخنقونه حتّى يغشى عليه. فإذا أفاق قال: اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتّى يئس منهم وعظم طغيانهم، فشكاهم إلى ربّه ودعا عليهم بقوله: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً الآية «1» . وبقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» . 66 فأوحى الله سبحانه إليه أن اصنع الفلك بأعيننا. قال عبد الله بن عبّاس: وقد كان الله أمره بغرس شجرة، فغرسها وبقيت أربعين سنة فعظمت وتناهت، ثم أمره بقطعها، فأتخذ منها السّفينة. وزعم أهل التوراة أنه أمره أن يتّخذها من خشب السّاج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين ذراعا، وأن يجعلها ثلاث أطباق وبابها في عرضها. صحّ عن ابن عبّاس. د: وقال الحسن: طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستّمائة ذراع. وقال القرظي في كتاب الديوان إنّه أنشأها في مائة سنة. (وقال غيره) «3» وأقامت بعد فراغها على البرّ سبعة أشهر. وقيل أنّه لم يدر كيف يصنعها، فأتاه جبريل فأمره أن يصنعها مثل صدر الدجاجة. فلمّا فار التنّور بالهند، وهو تنور من حجارة كان لحوّاء، قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم غير ذلك، وقيل: فار بناحية الكوفة، رواه ليث بن مجاهد. وكان الشعبي يحلف بالله: ما فار التنور إلّا من ناحية الكوفة.

67 وأدخل نوح في السفينة من أمره الله بإدخاله وما أمره من الأزواج، وأدخل التابوت الذي كان فيه آدم. ق: وكان من خشب الشمشار. وقال غيره: حملته الملائكة وكان بتهامة. فأدخل مع نفسه ثمانين نفسا، روي ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. وقال ابن جريج إنّه أدخل بنيه الثلاثة وكنائنه الثلاث وامرأته، فكانوا ثمانية نفر. عن ابن إسحاق: وكانوا عشرة نفر. عن وهب مثله. أدخل بنيه ونساءهم وأربعين رجلا وأربعين امرأة. وكذلك روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. قال الوصيفي «1» انّه كان معه في السفينة ستّمائة رجل سوى ولده. وقال قوم إنّهم أعقبوا، وقال قوم: لم يعقبوا إلّا ولد نوح. قال ابن الكلبي إنّه حمل معه في السفينة امرأته وبنيه الثلاثة ونساءهم ثمانية نفر واثنين وسبعين سواهم. قال غيره: كلّهم من ولد إدريس إلّا فيلمون كاهن مصر، فإنّ ملك مصر كان أنفذه إلى الدرمشيل ليحاجّ نوحا في عبادة الأصنام، فآمن بنوح. وأدخل من كلّ زوجين اثنين. 68 قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أوّل ما حمل الدرّة «2» وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار تعلّق إبليس بذنبه فلم تستقلّ رجلاه، وجعل نوح يقول: ويحك ادخل. فلا يستطيع حتّى جزم نوح وقال: أدخل وإن كان الشيطان معك، كلمة زلّت عن لسانه. فلمّا راح نوح في السفينة قال له: من أدخلك عليّ يا عدوّ الله؟ قال: ألم تقل كذا وكذا؟

69 وأمر الله أن يدخل معه قوت سنة، وجعل تابوت آدم حاجزا بين الرجال والنساء. وكان ركوبهم في السفينة لسبع عشرة خلون من آذار. عن وهب: لعشر خلون من رجب على رأس ستمائة سنة من عمر نوح. ثمّ أرسل الله الماء أربعين يوما بلياليها، وتحرّكت ينابيع الغوط حتّى طبّق الماء الأرض وارتفع على أعلى جبالها خمس عشرة ذراعا. ثم حمل الماء الفلك وجعلت تجري بهم في موج كالجبال وسارت بهم الأرض كلّها، وطافت بالحرم أسبوعا ولم تدخله، ورفع البيت المعمور على أبي قبيس، وهو الذي بناه آدم، فبقيت في الماء مائة وخمسين يوما باتّفاق من أكثرهم، واستقلّت يوم عاشوراء من المحرّم، فصام نوح وأمر من معه من الإنس والوحش والدوابّ، فصاموا شكرا لله عزّ وجلّ. 70 فكان بين الوقت الذي أرسل الله الطوفان إلى أن غاص الماء ستّة أشهر وعشرة أيّام. وذكر الوصيفي «1» : عشرة أشهر. وقيل: ثمانية أشهر.. وقيل: سنة. وكذلك روى ابن إسحاق عن ابن الكلبي أنّ نوحا ركب السفينة لثلاث عشرة مضت من رمضان وخرج منها أوّل يوم من رمضان من قابل، فذلك سنة إلّا ثلاثة عشر يوما. قال: وبقي الماء في أرض الحرم- وهي حسمى- خمسا وأربعين سنة بعد أن غاض الماء من جميع الأرض من المحبّر، ولم يبق على الأرض شيء من الحيوان ولا الشجر إلّا ما حمل في السفينة. وأمّا العوج بن أعناق فيما يزعم أهل الكتاب فإنّ الطوفان لم يغرقه ولا بلغ ماؤه إلّا بعض جسده «2» .

71 ذكر أنّه ما أسرع من الأرض إلى بلع مائه كان ماؤه إذا احتفر عذبا، وما لم يسرع إلى القبول أعقبه الله بماء ملح وسبخ، (وانحدر من ذلك الماء إلى قعور من الأرض، فمن ذلك البحار، فهذه البحار من بقايا ذلك الماء أهلك به أمم) «1» . واستقلّت السفينة بالجودي، وهو جبل بالحضيض «2» من أرض الموصل بينه وبين دجلة ثمانية فراسخ. قال: وموضع جنوح السفينة على رأس الجبل إلى هذه الغاية. وابتنوا في سفح الجبل مدينة سمّوها مرقة ثمانين بعددهم وقيل: بنوها بقردى فسمّوها ثمانين. قال: وهي تعرف بذلك إلى وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. 72 ووجّه نوح التّابوت الذي فيه جسد آدم عليه السلام إلى غار الكنز، فجعل فيه، وقد تقدّم الاختلاف فيه. وأوحى الله إلى نوح ألا يعيد الطوفان أبدا وأنّ قوسه الذي في السحاب أمان من ذلك. وتزعم المجوس أنّهم لا يعرفون الطوفان ويقولون إنّ الملك لم يزل فينا من عهد جيومرت- وهو آدم، وبعضهم يقرّ بالطوفان ويزعم أنّه كان بإقليم بابل وأمّا هم وديارهم بالمشرق فلم يصل إليهم. 73 وكان نوح من أولي العزم من الرسل، وكان طويلا جسيما أدم دقيق البشرة في رأسه طول عظيم العينين دقيق الساعدين والساقين كثير لحم الفخذين طويل اللحية.

74 وهلك محويل الملك على رأس مائتي سنة من عمر نوح، وملك بعده ابنه الدرمشيل، فأعلى أمر الأصنام وشدّد في عبادتها ودعا الناس كافّة إليها، ونال نوحا بمكروه كثير وحبسه حتّى رأى في منامه رؤيا هالته، فأمر بإرساله من السجن. وهو الذي أدركه الطوفان. ولمّا اتّصل بالدرمشيل أنّ نوحا قد ركب السفينة وحمل فيها ما أمره الله عزّ وجلّ أقبل في عدّة من أصحابه ليحرقها عليهم. فلمّا أتاه قال: يا نوح أين الماء الذي يحمل سفينتك هذه؟ قال: هو يأتيك في مقامك هذا. فقال: هذا أعجب أن تقول إنّه يكون في أرض يبس ماء غمر يحمل هذه السفينة، فانزل منها وإلّا أحرقكم أجمعين. فقال نوح: ويلك، ما أشدّ اغترارك بالله، فعجّل الإيمان واخلع الأنداد تسلم وترشد. فبينما هو في محاورته إذ أتاه من أخبره أن امرأته كانت تخبز في تنّورها فنبع الماء منه. فقال: وما عسى أن يكون من ماء قد فار من تنّور؟ فقال له نوح: إنّها علامة السخط وإنّ الأرض تخلخل فيأتي الماء من جميعها، فحرّك فرسك فإنّ الماء سينبع من تحت قدميه. فأزال فرسه من موضعه، فإذا الماء ينبع من موضع حوافره، فعاد إلى موضع آخر فكان كذلك. وعادت رسله تخبره أنّ الماء قد كثر وفار، فرجع إلى داره ليأخذ أهله وولده ويتحصّن في المعاقل التي كان عملها لذلك، فكانت الحجارة تنحطّ عليهم من رؤوس الجبال. وفتحت أبواب السماء بماء منهمر، ويقال إنه كان ماء ذميما منتنا، فأهلك أهل الأرض إلّا من كان في السفينة والعوج «1» على ما تقدّم.

خبر عوج بن أعناق

خبر عوج بن أعناق 75 قال «1» : وزعم أنّه إذا قام صارت السحاب له مئزرا. وقال غيره: عوج بن عناق. وذكر في بعض أهل الأخبار «2» أنّ حوّاء ولدت لآدم عناقا مفردة بغير ذكر مشوّهة الخلق، لها رأسان ولها في كلّ يد عشر أصابع لكلّ إصبع ظفران مثل المنجلين الحادّين، وذكرها عليّ رضي الله عنه وقال: هي أوّل من بغى وعمل الفجور وجاهر بالمعاصي واستخدمت الشياطين وصرّفتهم في وجوه من السحر. وكان الله عزّ وجلّ قد أنزل على آدم عوذا وأسماء تطيعها الشياطين ويملكون بها على ما تقدّم، فعلّقها على حوّاء لتكون لها حرزا. وكانت حوّاء تصونها، فاستغفلتها عناق وهي نائمة، فأخذتها واستجلبت الشياطين بتلك الأسماء وعملت السحر وجاهرت بالمعاصي وأضلّت كثيرا من ولد آدم. وولّدت عوجا الجبّار، فدعا عليها آدم فأمنت حواء، فأرسل الله إليها أسدا عظيما من الفيل فمزّق أعضاءها وأراح الله منها. 76 وعمّر عوج إلى زمان فرعون ولم يغرقه الطوفان ولا بلغ ماؤه إلّا بعض جسده، وطلب السفينة ليغرقها وقطع صخرة على قدر عسكر موسى وكان فيه أكثر من مائتي ألف ليطرحها عليهم، فأرسل الله عليه طيرا فنقر تلك الصخرة فنزلت من رأسه إلى عنقه ومنعته الحركة. وأمر الله عزّ وجلّ موسى بقتله، فوثب موسى وكانت وثبته عشرة أذرع وطوله مثل ذلك وطول عصاه مثل ذلك أيضا، ولم يلحق إلا عرقوبه، فقتله وأقام جسرا على النيل يعبر الناس والدوابّ عليه مدّة طويلة. وفي حديث آخر أنّهم جرّوه بألف عجلة وألفي ثور

القول في ذرية نوح عليه السلام

في كل يوم نصف ميل إلى أن طرحوه في بحر القلزم. وقيل: بل قطعوه قطعا وجرّوه إلى البحر. وقيل: ترك بموضعه وأردم عليه بالصخر والرمل، فكان كالجبل العظيم في صحراء مصر. القول في ذريّة نوح عليه السلام 77 قال بعض أهل التوراة: لم يكن التناسل ولا ولد لنوح ولد إلّا بعد الطوفان، وإنّما كان معه في الفلك قوم آمنوا به إلّا أنّهم بادوا فلم يبق عقب. وقال بعضهم: كان لنوح قبل الطوفان ابنان هلك أحدهما كنعان، (وهو الذي غرق في الطوفان) «1» ، والآخر عاش ومات قبل الطوفان. وروي عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: ولد نوح الذي غرق كنعان والعرب تسمّيه يام. ق: المختلف عن نوح الذي قال له: (يا بنيّ) «2» اركب معنا، لم أر له في التوراة ذكرا. يقال له اسمه يام والعرب تقول إنّما هو عمّنا يام. 78 [ذكر بيوراسب] «3» وتسمّيه العرب أيضا الضحّاك، وهو ذو الأفواه، والعجم تدّعي الضحّاك، واليمن تدّعيه وتنسبه غير هذه النسبة وتزعم أنّه [الضحّاك بن] «4» علوان بن عبيد بن عويج وأنّه ملك ألف سنة وملك الأرض كلّها. وإيّاه يعني أبو نواس بقوله [منسرح] :

وكان منّا الضحّاك يعبده ... الخابل والجنّ في مساربها «1» وإيّاه عني حبيب بقوله [رجز] : ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدّنيا ولا قارون «2» بل كان كالضحّاك في سطوته ... بالعالمين وأنت أفريدون. 79 والفرس تسمّيه الازدهاق وتنسبه نسبة أخرى. وهو أوّل من سنّ الصلب ووضع العشور. يقال إنّه خرج في منكبيه سلعتان كل واحدة منهما كرأس الثعبان. قال كثير من أهل الكتاب تتحرّكان تحت ثوبه إذا جاع أو غضب، فكان يشتدّ وجعهما حتّى يطليهما بدماغ إنسان، فكان يقتل لذلك رجلين كلّ يوم وكان يقسمهما على الآفاق. وزعموا أنّه نمرود صاحب إبراهيم، وقد زعموا أنّه مقيّد مغلول، (وقد زعموا أنّه بيوراسب الملك الفارسي، هذا قول الفرس، وأنّه ملك الأقاليم السبعة، وزعموا أنّه مقيّد مغلول) «3» في جبل دنباوند «4» بين الري وطبرستان، واتّخذوا اليوم الذي قيّد فيه عيد المهرجان، قيّده أفريدون فقام عليه كابي «5» رجل من أهل إصبهان من أجل ابنين له قتلهما، ودعا الناس إلى مجاهدته «6» ، فأسرعوا إليه ونهضوا إلى الضحّاك، فألقى الله الرعب في قلبه وخلا عن منازله، فافتتح الأعاجم ما أرادوا واجتمعوا إلى كابي «7» وسمّوه (درفش كابيان) «8» وتبرّكوا به، فأعلمهم أنه لا يتعرّض للملك وأمرهم أن يملّكوا من بيت المملكة. وكان أفريدون (بن أثفيان) «9» مستخفيا من الضحّاك فملّكوه.

80 وهو أوّل من تسمّى بالكييّة «1» ، [فقيل له] «2» كي أفريدون، (فقام عليه) «3» . وتفسير ذلك من التنزيه «4» والبهاء، واتبع الضحّاك وأسره واتّخذوا ذلك اليوم عيدا وسمّوه المهرجان، وأصله بالفارسيّة مهر ماه، أي نفس الملك ذهبت. وأفريدون أوّل من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال وعالج بالترياق. وقد زعم بعضهم أنّ الضحّاك كان في زمن نوح وإليه أرسل. 81 وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ «5» أنّهم سام وحام ويافث، وبذلك تكرّرت الأخبار والآثار، وهم لأمّ واحدة. وقيل: تزوّجها بعد خمسمائة سنة من عمره. وأصاب حام امرأته في السفينة فدعا نوح أن يغيّر الله نطفته، فجاءت بالسودان. وقال أهل التوراة إنّ نوحا (شرب وانتشى و) «6» تعرّى، فأبصر حام عورته، فأطلع على ذلك أخويه فأخذا رداء فألقياه على عواتقهما ومشيا على أعقابهما فواريا عورة أبيهما وهما مدبران. فعلم بذلك أبوه نوح فقال: ملعون كنعان بني حام يكونون عبيدا لأخويه ومبارك سام ويكثّر الله يافث. 82 أمّا سام فسكن وسط الأرض الحرم وما حوله إلى اليمن إلى حضر موت إلى عمان

إلى البحرين إلى عالج ويبرين ووبار والدّوّ «1» والدّهناء. وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: نزل بنو سام سرّة الأرض فيما بين ساتيدما «2» إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله عزّ وجلّ فيهم النبوّة والكتاب. وسام كان القيّم بعد نوح في الأرض ومن ولده الأنبياء كلّها عربيّها وعجميّها، والعرب كلّها يمنيّها ونزارها. 83 فولد سام أرفخشد، وهو أرفخشات، وهو القائم بأمره بعده وإرم وملما (؟) . فمن ولد أرفخشد قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد أبو «3» اليمن و [يقطن بن عابر بن شالخ هو أبو] «4» جرهم بن يقطن بن عابر، نزلوا مكّة وقطورا بنو عمّهم. وجرهم أخوال ولد إسماعيل، وملكان بن أرفخشد من ولده الخضر عليه السلام. 84 ومن ولد إرم عاد بن عوص بن إرم، ومنازلهم الأحقاف والرمل إلى حضر موت، وثمود بن غابر بن إرم، منازلهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وطسم وجديس ابنا لاوذ بن إرم نزلوا اليمامة وما حولها إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جو. أخوهما عمليق بن لاوذ، نزل بعضهم الحرم وبعضهم الشام. فطسم وجديس وعاد وثمود والعماليق ويعرب وجرهم هم العرب العاربة لأنّه لسانهم الذي جبلوا عليه. ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعرّبة لأنّهم إنّما تكلّموا به حين سكنوا بين أظهرهم. ومن العماليق الجبابرة بالشام والفراعنة بمصر. وأهل تيماء وعمان منهم أمّة يسمّون جاسم «5» ، وكان ملك أهل الحجاز وتيماء منهم واسمه الأرقم.

85 ومن ولد إرم أميم بن لاوذ بن إرم أخوهم نزلوا بأرض وبار، وأجناس الفرس كلّهم من ولده. ومن إرم شقّ الكاهن الأوّل بن حويل بن إرم، وهذا غير شقّ الأنماري. فأمّا ماش فنزل بابل ومنه النبط أجمعون، وأرنيط بن ماش. وزعم قوم أنّ النبط من ولد كنعان بن حام. وولد ماش نمرود بن ماش صاحب الصّرح ملك خمسمائة سنة وهو ملك النبط، وفي زمانه فرّق الله الألسنة، فجعل في سام تسعة عشر لسانا وفي حام سبعة عشر لسانا وفي يافث ستّة وثلاثين لسانا. وبنى الصّرح بعد البلبلة وهو البناء الذي يسمّى المجدل، وكان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع ومائة وسبعين ذراعا، وكان أسفله أوسع من أعلاه، وكانت فيه محاريب كثيرة من فائق الرخام مزيّنة بالذهب والجوهر وما لا يكاد سامعه يصدّق الخبر عنه. ويقال إنّه بناه بأرض فارس لأنّه بعد البلبلة استقلّ عن بابل إلى أرض فارس وفرض على الناس عبادة النّار. ويقال إنّ المجدل بني في زمان غابر. 86 وذكر أنّ لاوذ ولد سام لصلبه. وذكر أنّه كان لسام ولد يسمّى آدم وذكر أنّه يسمّى مالكا وأنّه حيّ، وذلك أنّ ساما دفن تابوت آدم في وسط الأرض ووكّل مالكا «1» بقبره، فأوحى الله إليه أن الذي وكّلته بقبر آدم أبقيه «2» إلى آخر الأبد. 87 فأمّا يافث بن نوح فمن ولده الصقالب وبرجان والأشبان أعجمية، وكانت

الأشبان منازلهم أرض الروم قبل الروم. ومن ولده الترك والخزر وياجوج وماجوج. 88 وأمّا حام بن نوح فولد قوط بن حام، فنزل الهند والسند وأهلها طرّا من ولده. وأهل الهند يقولون إنّهم من ولد سلا بن قوط، وسلا أحد ملوك العالم المشهورين. وكنعان بن حام من ولده الحبابرة والكنعانيّون بالشام الذين قاتلهم موسى ويوشع بن نون، ويقال إنّ فراعنة مصر منهم. وهؤلاء غير العمالقة ومنهم جالوت وكوش والنوبة والزنج والفزان والزغاوة والقبط والحبشة والبربر. 89 روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل مصر، ويافث أبو الخزر وياجوج وماجوج، وحام أبو هذه الجبلة السوداء. وقال سعد بن المسيّب: ولد نوح ثلاثة وولد لكلّ واحد منهم ثلاثة: سام ولد العرب والفرس والروم وفي كلّ هؤلاء خير، وحام ولد السودان والقبط والبربر، ويافث ولد الترك والصقالبة وياجوج وماجوج وليس في واحد من هؤلاء خير. 90 وقال أهل الخبر إنّ الشيطان نزغ بين بني سام وبني حام فوقعت بينهم مناوشات وحروب كانت الدائرة فيها لسام وبنيه، وكان من آخر «1» أمر حام أن هرب

إلى ناحية مصر وتفرّق بنوه ومضى على وجهه يريد المغرب حتّى انتهى إلى السوس الأقصى إلى موضع يعرف اليوم بأسفا، وهو آخر مرسى تبلغه مراكب البحر من عين الأندلس إلى ناحية القبلة، وليس بعده للمراكب مذهب. وخرج بنوه في أثره يطلبونه، فكلّ طائفة من ولده بلغت موضعا، وانقطع عنهم خبره وأقامت بذلك الموضع وتناسلوا فيه. ووصلت إليه طائفة منهم فأقاموا معه وتناسلوا هناك. وكان عمر حام أربعمائة سنة وإحدى وأربعين سنة، وقال قوم: كان عمره سبعمائة سنة وسبعين سنة. ولمّا مات دفنه بنوه في صخر منقور في جبل أصيلة. 91 وقال الجيهاني: إنّما تفرّقت الألسنة حين ملكهم نمرود بن كنعان بن سخاريب بن نمرود بن كوش بن حام، فردّهم عن الإسلام فأمسوا كلامهم السريانيّة وأصبحوا وليس منهم مخلوق يعرف بكلام صاحبه، فتبلبلت ألسنتهم ففهّم الله تعالى العربية عادا وعبيل ابني أوص بن سام وعمليق وطسم وأميم وجاسم بني «1» لاوذ بن سام، (هكذا ذكر. قال الطبري) «2» : فافترقت لغة بني آدم على اثنين وسبعين لسانا، لبني سام منها اثنان وثلاثون وسائرها لبني حام وبني يافث. قال: ونزل عبيل بموضع المدينة مدينة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فأخرجت العماليق بني عبيل من المدينة وأنزلوهم موضع الجحفة، فأقبل سيل من الليل فاجتحفهم فألقاهم في البحر فسمّيت الجحفة. وقد احتمل السيل الحجاج بالجحفة سنة ثمانين من الهجرة، ويقال إنّها عند ذلك سميّت الجحفة. فذهب كثير من الناس وأمتعتهم ورجالهم وذلك يوم الاثنين. وقال أبو السنابل [رجز] : لم تر عيني يوم الاثنين ... أكثر محزونا وأبكى للعين

إذ هبّ السيل بأهل المصرين ... وأقبل المخبّآت يسعين حواسرا في جبلين يرقلين «1» 92 ويقال أيضا إنّ النبط من ولد أرفخشد، وإرم وملوك بابل من النبط، وهم الذين عمّروا الأرض ومهّدوا البلاد، وكانوا أشرف ملوك الأرض، فأذلّهم «2» الدهر وصاروا إلى ما هم عليه من الذلّة في هذا الوقت كما شاهد من بالعراق وغيرها منهم. وقد ادّعى الكثير ممّن ذكرناهم أنّهم من العرب، وأكثر أجناس العجم «3» يزعمون أنّهم عرب: فرقة من الروم تزعم أنّها من غسّان من آل جفنة ممّن دخل مع جبلة بن الأيهم الغسّاني أحد ملوكهم إلى بلاد الروم، فإنّه دخل معه ثلاثون ألفا في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. وقوم منهم يزعمون أنّهم من اياد دخلوا بلاد الروم عند إجلاء أبرويز إيّاهم من أرض العراق في سبعين ألفا، فنزلوا أنقرة. وقوم منهم يزعمون أنّهم من ولد قضاعة من تنوخ خرجوا من الشام مع هرقل ملك الروم لمّا غلبه المسلمون عليها. ونصارى الجزيرة يزعمون أنّهم من العرب فبعضهم يقول إنّه من ولد الحارث بن كعب بن مدحج ناقلة من الشام، وبعضهم يقول إنّه من لخم رهط النعمان بن المنذر، وكانوا كلّهم على دين النصرانيّة، وبعضهم يقول إنه من آل عبّاد بن تميم رهط زيد العبادي، وبعضهم يزعم أنّه من بني سليم. والديلم تزعم أنّها من بني قيلة بن أد بن طانجة. وذلك بأنّ سابل بن ضبّة نافر إخوته فسار إلى بلاد الديلم فأقام بها. والحدلجيّة خاصّة يزعمون أنّهم من حمير. وغيرهم من أجناس الترك يدّعي العرب ويسمّون أولادهم بأسماء العرب العاربة. والأكراد يزعمون أنّهم من قيس ثم من هوازن، وهم

هود عليه السلام

مقيمون على هذه الدعوة إلى هذه الغاية. والخزر يزعمون أنّهم من قريش ومن بني أميّة وأنّ الدولة العبّاسيّة لمّا ظهرت هرب قوم من بني أميّة فتناسلوا هنالك. والبربر كلّهم يزعمون أنّهم من العرب. وهوارة تزعم أنّها من عاملة ناقلة من الشام، وزويلة تزعم أنّها من جرهم، لمّا نالهم ما نالهم بمكّة هربوا فصاروا بزويلة. وقبط مصر من أهل الصعيد يزعمون أنّهم من ربيعة ثم من تغلب وأنّ قوما من تغلب انتجعوا بإبلهم أرض مصر لطلب الكلأ وهم على دين النصرانيّة، فتزوّجوا القبطيات وتناسلوا هناك وهم التيمي من القبط. والحبشة الذين ببلاد النجاشي يزعمون أنّهم من اليمن، فغلبت الحبشة على أرض اليمن في قديم الدهر وملكهم بها ومقامهم بها أربعين سنة حتّى صاهروا وصوهر إليهم. 1 هود عليه السلام 93 عن وهب: هو ابن عبد الله بن رباح بن حارث بن عاد بن عوص بن إرم. ومنهم من يزعم أنّه هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشد: هذا قول أهل اليمن. لمّا وقعت العصبيّة بين يمن ومضر ففخرت مضر بأبيها إسماعيل ادّعت اليمن هود أنّه من ولد أرفخشد أبيها. وقال حبيب البصري: هو هود بن عبد الله بن الخلود أرسله الله إلى قومه عاد، وهي عاد الأولى، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وذكر جماعة من أهل العناية أنّ الملك بعد نوح تأثّل في عاد الأولى قبل سائر الممالك، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً «1» . قال: كانوا في هيئة النخل طولا وكانوا في القوّة واتّصال الأعمار

بحسب ذلك. قال وآثارهم بالشحر ومواضع مساكنهم تدلّ على عظم أجسامهم. قال: وكان عاد رجلا جبّارا يعبد القمر، وتزوّج ألف امرأة ورأى من صلبه أربعة آلاف ولد وعاش ألفا ومائتي سنة. ثمّ ملك بعده ولده شداد بن عاد، وهو الذي بنى مدينة إرم ذات العماد، وهذه عاد الثانية، فقد قال الله تعالى في الأولى وبيّنها بقوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «1» . وقال في هذه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ؟ «2» 94 ولشداد مسير في الأرض وحروب في البلاد، ويقال إنّه تغلّب على سائر ملوك الأرض. قال: ويقال إنّ جيرون بن سعد حلّ دمشق فمصّر مصرها و (جمع عمد) «3» الرخام والمرمر إليها وشيّد بنيانها وسمّاها إرم ذات العماد، وبقية هذا البنيان في هذا الوقت بدمشق يعرف بباب جيرون وهو بناء عظيم. وأكثرهم كان بالدّوّ «4» والدّهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان والشحر وحضر موت والأحقاف. قال الله عزّ وجلّ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ «5» . فلمّا سخط الله عليهم جعلها مفاوز وغيطانا وكانت أخصب البلاد، ولحق هود ومن اتّبعه بمكّة فلم يزالوا بها حتّى ماتوا. 95 د: ويقال إنّ قبر هود بحضر موت. وقال أبو الطفيل: سمعت عليّا رضي الله عنه يقول لي: رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء وآراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضر موت، هل رأيته؟ قلت: نعم والله إنّك لنعتّ نعت رجل قال: ما رأيته ولكنّي حدثت عنه، وفيه قبر هود عليه السلام

عند رأسه سدر وسلم. وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة أنّ رجلا من مهرة أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: ممّن أنت؟ قال له من مهرة. قال: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ . وقال ابن لهيعة: قبر هود بمهرة. 96 وكانت عاد أصحاب أوثان وكانت لهم ثلاثة أصنام: صمّود وصدّاء والهبا «1» . قال الله عزّ وجلّ حكاية عنهم: قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ «2» . فحبس الله عنهم القطر ثلاث سنين، فأوفدوا وفدا ليستسقوا لهم بمكّة وهم قيل بن عتر «3» ولقيم بن هزّال ومرثد «4» بن سعد- وكان مسلما يكتم إسلامه- ولقمان بن عاد وجلهمة بن الحبيري «5» ابن خال معاوية بن بكر، فبلغوا بأشياعهم سبعين. فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر، وهذه عاد الأخرى، وكانوا أخواله وأصهاره، فأكرمهم وأقاموا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان قينتان لمعاوية، فمكثوا كذلك شهرا. فلمّا رأى ذلك شقّ [ذلك] «6» عليه وقال: هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء مقيمون وقد بعثوهم يتغوّثون لهم. واستحى أن يأمرهم بالخروج فيظنّون أنّه أضيق لمقامهم. فقالت له جارية من جواريه: قل شعرا نغنّيهم به لعلّه يحرّكهم، فقال [وافر] : ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إنّ عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما من الجهد الشّديد فليس يرجو ... به «7» الشيخ الكبير ولا الغلاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما

فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقّوا التحية والسّلاما فأجمعوا على الاستسقاء فقال لهم مرثد «1» : إنّكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن اطعتموني سقيتم، آمنوا بهود واظهروا إسلامه. فقال له معاوية بن بكر حين سمع ذلك منه [وافر] : أبا سعد فإنك من ... قبيل ذوي كرم وأمك من ثمود وإنّا لن نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد أنترك دين آباء كرام ... ذوي رأي ونتبع دين «2» هود 97 وقالوا لمعاوية: احبس عنّا مرثد بن سعد لا يخرج معنا، فإنّه قد ترك دين آبائنا وديننا وخرج عنّا. وخرجوا يستسقون فقالوا: اللهمّ إن كان هود صادقا فاسقنا فإنّا قد هلكنا. فأنشأ الله لهم سحائب بيضاء وحمراء وسوداء، ثمّ نادى مناد من السحاب: يا قيل اختر لنفسك. فقال: اخترت السحابة السوداء. فناداه مناد: اخترت رمادا أرمدا ... لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا ... إلّا جعله الله همدا وساق الله السحابة السوداء بالنقمة إلى عاد، فلمّا رأوها قالوا: هذا عارض ممطرنا. قال الله عزّ وجلّ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ الآية «3» . سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما «4» ، أي دائمة، ولم يصب هودا ومن اتّبعه منها إلّا ما تلين عليهم الجلود وتلذّ به الأنفس، وإنّها لتمرّ من عاد بالظعينة بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة.

98 وقال ابن إسحاق: لما سخرت الريح على عاد قال سبعة رهط منهم أحدهم الخلجان «1» : تعالوا نقوم على شفير الوادي فنردها. فجعلت الريح تردهم وتنسفهم حتّى تركتهم: صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «2» ، فلم يبق إلّا الخلجان «3» . فقال له هود: ويحك أسلم تسلم. قال: وما لي إن أسلمت؟ قال: الجنّة. قال: فما هؤلاء الذين أراهم في السحاب كأنّهم البخت؟ قال: الملائكة. قال: فإن أسلمت يعيذني «4» ربّك منهم؟ قال: ويحك هل رأيت ملكا يعيذ من جنده؟ قال: ولو فعل «5» ما رضيت. ثم جاءت الريح فألحقته بأصحابه. وفي سابعهم يقول الأوّل وهو النهبان بن الخليل [رجز] : لو أنّ عادا سمعت من هود ... ما أصبحت غامرة الجلود هامدة الأجساد بالوهيد ... صرعى على الأنف مع الخدود ماذا جنى الوفد على الوفود ... أحدوثة للأبد الأبيد وقال مرثد بن سعيد [وافر] : عصت «6» عاد رسولهم فأضحوا ... عطاشا لا تبلّهم السّماء ألا قبّح الإله حلوم عاد ... فإنّ قلوبهم قفر «7» هواء 99 ويقال إنّ الريح أرسلت عليهم يوم الأربعاء، فلم ترد الأخرى وعلى الأرض منهم حيّ. فلذلك كرهت الأربعاء. وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن الحارث بن حسّان قال: مررت على عجوز بالرّبذة وهي تبغي الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا أريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاحتملتها. قال: فدخلت

المسجد وهو غاص بالناس وإذا راية سوداء تخفّق وبلال مقلّد السيف قائم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: فلمّا دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحله أذن لي. قال: فدخلت المسجد فسلّمت فقال: هل كان بينكم وبين بني تميم شيء؟ قلت: نعم يا رسول الله كانت لنا الدائرة عليهم، وقد مررت على عجوز منهم بالرّبذة منقطع عنها فقالت: إنّ لي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاجة، فاحتملتها وها هي بالباب. قال: فأذن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخلت، فلمّا قعدت قلت: يا رسول الله إن أردت أن تجعل الدّهناء حاجزا بيننا وبين بني تميم فافعل، فإنّها قد كانت لنا. فاستوفزت العجوز وأخذتها الحمية فقالت: يا رسول الله بأين «1» تضطرّ مضر؟ قال: قلت: أنا والله يا رسول الله كما قال الأوّل معزى حملت حتفها، حملت هذه ولا أشعر أنّها كانت خصما، وأعوذ بالله يا رسول الله أن أكون كوافد عاد. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما وافد عاد؟ قال: قلت: يا رسول الله على الخبير سقطت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّه يستطعم الحديث. فقلت: إنّ عادا قحطوا فبعثوا وافدهم قيل، فنزل على معاوية بن بكر شهرا يسقيه الخمر وتغنّيه الجرادتان. قال: ثمّ مضى حتّى أتى جبال مهرة، ثم قال: اللهمّ تعلم أنّي لم آت لأسير فأفديه ولا لمريض فأداويه، فاسق عادا ما كنت تسقيه، فمرّت به سحائب سود فنودي منها أن تخيّر السحابة، فقال: هذه السحابة السوداء فنودي منها أن خذها رمادا رمددا لا تدع من عاد أحدا. قال: قلت: يا رسول الله والله لقد بلغني أنّه لم يرسل عليهم من الريح إلّا قدر ما يجري في حلقة الخاتم. قال أبو وائل وكذلك بلغنا. ويقال إنّ قبر هود بمهرة على ما تقدّم. 100 قال د: ومن أعاجيب أرض عاد أنّ هناك منارة من نحاس عليها تمثال من نحاس، فإذا كانت الأشهر الحرم سالت ماء في حياضهم.

صالح عليه السلام

وروي أنّه كان قيل لوفد عاد حين نشأت لهم السحاب: وقد اعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم. فقال لقمان بن عاد: أعطني يا ربّ عمرا. فقيل: لا سبيل إلى الخلد، فاختر لنفسك بقاء سبع أيعار «1» عفر «2» في جبل وعر لا يرقى به إلّا القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلّف نسرا مكانه. فاختار النسور، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته حتّى إذا مات أخذ غيره، وكان آخرها لبد، ولبد بلسانهم الدهر، فماتا جميعا. وكان هود أشبه ولد آدم بآدم ما خلا يوسف عليه السلام. صالح عليه السلام 101 هو صالح بن عبيد من ذريّة ارم بن سام. وقال وهب بن منبّه: هو صالح بن عبيد بن جابر بن هود النبيّ عليه السلام بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وقد تقدّم من نسب هود غير هذا. قال وهب: بعثه الله إلى ثمود حين راهق الحلم، وكان يمشي حافيا لا يتّخذ حذاء كما كان يمشي المسيح ابن مريم، ولا يتّخذ مسكنا ولا بيتا، ولا يزال مع ناقة ربّه حيثما توجّهت. وكانت منازل قومه بالحجر وبين الحجر وبين قرح ثمانية عشر ميلا، وقرح هي وادي القرى. وبيوتهم إلى وقتنا هذا مبنيّة منحوتة في الجبال ورممهم باقية وآثارهم بادية، وهي بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي على طريق الحاجّ من الشام، وهي في ناحية تبوك، ومساكنهم على قدر مساكن أهل عصرنا هذا، وهذا يدلّ على أنّ أجسامهم كانت كأجسامنا لا كأجسام عاد الأولى. وأوّل ملوكهم عابر بن إرم بن سام، وثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وكانت أعمارهم «3» تطول فيبنون كلّ بناء فينهدم فاتّخذوا من الجبال بيوتا فرهين.

102 وقالوا لصالح: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «1» . وكان القوم أصحاب إبل. فقال له زعيم من زعمائهم: إن كنت صادقا فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة سوداء عشراء ذات عرق وشعر ووبر. فأتى بهم هضبة، فلمّا رأته تمخّضت كما تمخض الحابل وانشقّت عن الناقة، ثم تلاها سقبها في نحو صفتها، فآمن كثير منهم وآمن زعيمهم جندع بن عمرو، فكان شربها يوما وكان شربهم يوما، فإذا كان يوم شربها حلبوا لبنا، فملؤوا كلّ إناء ووعاء. 103 وعاقر الناقة أحمر ثمود وهو قدار بن سالف، وكان أحمر أشقر أزرق سناطا «2» قصيرا، والعاقر الآخر مصدع بن مهرج، واستغويا تسعة من قومهم وهم الذين أخبر الله عنهم في كتابه أنّهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وكانت لهما صاحبتان أغوتاهما- عنيزة «3» وصدوق- بذلتا أنفسهما إن عقرا الناقة، فأتوها فضرب قدار «4» عرقوبها بالسيف، وامتثل مصدع فعله في العرقوب الآخر واستهموا لحمها. 104 فلمّا عقرت خرجت ثمود تعتذر إلى صالح بأنّه عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فعسى أن يرفع عنكم العذاب. ولمّا رأى الفصيل أمّه تضطرب صعد جبلا يقال له القارة «5» ، فأوحى الله

عزّ وجلّ إلى الجبل فطال في السماء حتّى ما تناله الطير، وبكى الفصيل حتّى سالت دموعه. ثمّ استقبل القوم فرغا ثلاثا وقيل إنّه لحقه بعضهم فعقره فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام، ذلك وعد غير مكذوب. قال لهم: وآية ذلك أن تصبح وجوهكم مصفرّة وفي اليوم الثاني محمرّة وفي الثالث مسودّة. فلمّا رأوا صدق قوله في اليوم الأوّل همّ بعضهم بقتل صالح وقالوا: إن كان صادقا عاجلناه، وإن كان كاذبا جزيناه بكذبه. فأتوا ليلا فحالت الملائكة بينهم وبينه ومنعه الله منهم. ثمّ لمّا رأوا صدق ما أنذرهم به في اليوم الثاني والثالث تحنّطوا في الثالث وتكفّنوا وصاحوا وضجّوا وبكوا وانتحبوا، فجعلوا يقلّبون أبصارهم إلى السماء مرّة وإلى الأرض مرّة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب. فصبحهم في اليوم الرابع وهو يوم الأحد صيحة من السماء، فتقطّعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين «1» . عقروا الناقة يوم الأربعاء وصبحهم العذاب نهار الأحد. 105 قال غيره: وخرج عنهم صالح بمن آمن معه ليلة الأحد، فنزل موضع مدينة الرملة من بلاد فلسطين. وقال حباب [بن] عمرو، وكان ممّن آمن مع صالح [بسيط] : كانت ثمود ذوي عزّ ومكرمة ... ما إن يضام لها «2» في الناس من جار فأهلكوا ناقة كانت لربّهم ... قد أنذروها وكانوا غير أبرار 106 وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّ الله عزّ وجلّ أهلكهم بتلك الصيحة أجمعين إلّا رجلا واحدا وهو أبو رغال، كان في حرم الله فمنعه من العذاب. وقد نهى

إبراهيم عليه السلام

رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه لمّا مرّ بهذه القرية أن يدخلوها وأن يشربوا من مائها وأراهم مرتقى الفصيل. قال ط: وأهل التوراة يزعمون أنّه لا ذكر لعاد ولا لثمود ولا لصالح عندهم، وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم. ق: عن وهب: ولمّا رأى صالح أنّها دار قد سخط الله عليها ارتحل هو ومن معه، فأهلّوا بالحجّ على قلايص حمر مخطّمة بحبال الليف حتّى وردوا مكّة، فلم يزالوا بها حتّى ماتوا، فقبورهم في غربيّ الكعبة بين دار الندوة والحجر. إبراهيم عليه السلام 107 هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن أسرغ بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال: وكذلك في التوراة إلّا أنّه مكان أسرغ شاروغ. واختلف في الموضع الذي ولد فيه، فقيل بالسّوس من أرض الأهواز، وقيل بأرض بابل من أرض السّواد، سواد الكوفة. وقال بعضهم بكوثا من السّواد أيضا، وفيها كان نمرود. وقال عامّة السلف: ولد في عهد نمرود بن كوش المتقدّم الذكر، وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة وتسع وسبعون سنة، وقال بعض أهل الكتاب: ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستّون سنة. وقال د: تسعمائة واثنتان وأربعون سنة. قال: وإنّما سمّي أبو إبراهيم آزر النمرود لمّا صار قيّما على خزائنه. وقيل إنّ النمرود ملكه الشرق، وقال مجاهد إنّ آزر ليس باسم أبيه وإنّما هو اسم صنم، وقيل إنّه عيب عابه به معناه معوج. 108 ولمّا قرب أمر إبراهيم طلع كوكب على نمرود، فذهب بضوء الشمس والقمر، فدعا المنجمين والكهنة فسألهم عن ذلك. وفي زمانه ظهر القول

بأحكام النجوم وكوّرت الأفلاك وعملت الآلات وقرب فهم ذلك إلى قلوب الناس ونظر أصحاب النجوم فيما سألهم عنه، فأخبروه أنّ مولودا يولد يكون على يده هلاكه وذهاب مملكته وفساد آلهتهم.. فأمر بقتل الولدان وعزل الرجال عن النساء. وخرج إلى قرية أخرى وأخرج الرجال مع نفسه ولا يولد مولود إلّا قتله «1» . وعرضت حاجة للنمرود إلى المدينة فلم يأمن عليها إلا آزر، فأرسله فيها ونهاه عن مواقعة أهله، فقال (له آزر: أنا أضنّ بديني) «2» . فلمّا دخل المدينة لم يتمالك أن وقع على زوجته، ثم مرّ بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة فجعلها في سرب، وكان يتعاهدها بالطعام والشراب، فولدت إبراهيم فكانت جمعته كالشهر لسرعة شبابه، وترعرع ابراهيم ونسي الملك ما أنذر به. فلمّا أمن عليه أبوه أخرجه من السرب بعد المغرب فرفع رأسه فإذا هو بالكوكب المشتري، وكان من أمره ما نصّه الله تعالى. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: وخرج في آخر الشهر، فلذلك لم ير القمر قبل الكوكب. وكان قد أوتي رشده من قبل، ومن أوتي رشده فقد عصم من الزلل وعبادة غير الواحد الصمد. ثمّ أتاه جبريل عليه السلام فعلّمه دينه واصطفاه الله خليلا ونبيّا، فدعا قومه إلى الإسلام، وكان من كسر الأصنام ما نصّه الله تعالى. 109 فشاور نمرود في أمره، فقال رجل منهم يقال له هيزم: حرّقوه، فخسف الله به الأرض فهو يتلجلج فيها إلى يوم القيامة. وقال عبد الله بن عمر لمجاهد «3» : أتدري من أشار بحرق إبراهيم؟ قال: قلت: لا. فقال: رجل من أعراب فارس. قلت: وهل للفرس من أعراب؟ قال: نعم، الكرد.

ولمّا رفع إبراهيم ليقذف به في النار سألت السماوات والأرض وكلّ من عليها غير الثقلين ربّها تبارك وتعالى أن يأذن لها في نصرته، فقال: إن استغاث بشيء منكم فينصره، وإن لم يدع غيري فأنا وليّه. فرفع إبراهيم رأسه فقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض. فقال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً «1» . فقال عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها ولم ينتفع بنار في ذلك اليوم وظنّت كلّ النار أنّها المأمورة «2» . ونظر نمرود إلى إبراهيم في روضة خضراء في سواء النار ومعه رجل ورأس إبراهيم على حجره وهو يمسح العرق عن وجهه، وكان ملك الظلّ، وإبراهيم حينئذ ابن ستّ عشرة سنة. فعجب نمرود من ذلك وما كفّ عن إبراهيم وقال: إنّي مقرّب إلى إلاهك أربعة آلاف بقرة. فقال إبراهيم: إنّه لا يقبلها منك ما كنت على شيء من دينك. 110 واستجاب لإبراهيم رجال من قومه بتلك الآية على خوف من نمرود، وآمن به ابن أخيه لوط. وتزوّج إبراهيم سارة ابنة عمّه هران الأكبر بن ناحور، هي سارة ابنة هران بن ناحور أخت لوط وابنة عمّ ابراهيم، فآمنت به. قال: وهي أوّل من آمن به. وخرج إبراهيم مهاجرا بمن معه حتّى قدم مصر. قال وهب: فلسطين. فوجد بها فرعون من فراعنة القبط. قال وهب: يقال له صادوف، فذكر له حسن سارة فأرسل إلى إبراهيم فسأله عنها فقال: هي أختي: وخاف أن يقتله عليها لو قال: هي زوجتي. فقال: زيّنها وارسل بها إليّ أنظر إليها. فمدّ يده إليها فرعون فيبست إلى صدره فقال: ادعي ربّك أن يطلق يدي ولا أمسكك. ففعلت وانطلقت إليه يده، ووهب لها هاجر

فوهبتها سارة لإبراهيم. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لم يكذب إبراهيم غير ثلاث: إنّي سقيم، وبل فعله كبيرهم هذا، وقوله للجبّار إذ سأله عن سارة: هي أختي. 111 فخرج إبراهيم حتّى نزل فلسطين بين الرملة وإيليا، وقال وهب: إنّ الله أخرج الجبّار الذي عرض لسارة من تلك المدينة وأورثها إبراهيم، فأثرى بها فولدت هاجر- وهي قبطية- إسماعيل لستّ وثمانين سنة من عمر إبراهيم، وولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة وعشرين وسارة ابنة تسعين سنة. واختتن إبراهيم بعد تسع وتسعين سنة وختن الله إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة. وكان من إخراج إبراهيم لهاجر وابنها إسماعيل إلى مكّة ما قد شهر: أسكن إسماعيل بمكّة وهو ابن ستّ عشرة سنة، وقيل ابن أربع عشرة سنة، وانفجرت زمزم من تحت يد إسماعيل فاستسقت هاجر وجعلت تدخره في قربتها، فلولا الذي فعلت ما زالت زمزم معينا ظاهرة. ثم أجاب الله دعوة إبراهيم فأنسهم بجرهم «1» وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ورزقهم من الطيّبات. 112 ثمّ بنى إبراهيم البيت مع ابنه إسماعيل على ما أمره الله تعالى به. وذكر آخرون أنّ الذبح كان قبل بناء الكعبة وهو أصحّ، والله أعلم. ثمّ أمر الله إبراهيم أن يذبح ولده على كثرة الاختلاف فيه. قال: إن كان الذبح وقع بمنى قبل ذبح الفداء فعلى ما تكرّر فالذبيح إسماعيل، لأنّ إسحاق لم يدخل الحجاز. وإن كان الأمر بالذبح وقع بالشام فالذبيح إسحاق، لأنّ إسماعيل لم يدخل الشام بعد أن حمله أبوه منه. وقد تكرّرت الآثار أنّ الموضع الذي خلا فيه

بابنه وأضجعه للذبح فيه شعب ثبير. وعن عليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم أنّ الكبش أهبط على إبراهيم في ثبير. قال عبد الله بن عبّاس: وكان رعى في الجنّة أربعين خريفا. قال: فأرسل إبراهيم ابنه فاتّبع الكبش حتّى أخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها. فجاء الجمرة الوسطى فرماه بمثلها فأفلته. ثمّ رماه عند الجمرة الكبرى بمثلها وأخذه. فأتى به إبراهيم المنحر من منى فذبحه. قال عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: لقد كان أوّل الإسلام وإنّ رأس الكبش المعلّق بقرنه في ميزاب الكعبة قد وخش «1» يعني يبس. 113 قال أبو جعفر: ممّا امتحن الله به إبراهيم النّار والكواكب والشمس والقمر وأمره بذبح ابنه والكلمات التي ذكرها الله في محكم كتابه على اختلاف الناس فيها وذكر خمسة أقاويل. فلمّا علم الله منه الصبر على ما ابتلاه [به] والقيام بما ألزمه واسترعاه جعله الله لمن بعده إماما، وجعل في ذريّته النبوّة والرسالة وخصّهم بالكتب المنزّلة والحكم البالغة. 114 وروي أنّ أوّل من ركب الخيل إبراهيم، وقالت العرب: إن أوّل من ركب الخيل إسماعيل بن إبراهيم، وكانت وحوشا فأوحى الله إليه بآية الخيل فدعا بها فأتته فأمكنته من نواصيها فركبها هو وولده، فعتاق الخيل تنسب إليهم إلى هذه الغاية، فيقال الخيل العربيّة.

115 وذكر السدّي أنّ إبراهيم سأل ربّه أن لا يتوفّاه حتّى يكون هو الذي يسأله الموت. فبعث الله إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم، وكان إبراهيم كثير الإطعام، فبينما هو يطعم الناس إذ رأى شيخا كبيرا يمشي في الحرّ، فبعث إليه بحمار فركبه حتّى إذا جاء أطعمه. فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها عينه أو أذنه ثم يدخلها، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره. فقال للشيخ حين رأى ذلك منه: ما بالك؟ قال: الكبر، فسأله عن سنّه، فزاد على عمر إبراهيم سنتين. فقال إبراهيم: إنّما بيني وبينك سنتان، فإذا أتيت عليها كنت مثلك؟ قال نعم. قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل هذا. فقام الشيخ فقبض نفسه وتوفّى وهو ابن مائتي سنة، وقيل ابن مائة وخمس وسبعين سنة- صحّ عنهم- ودفن بأرض الكنعانيّين في حبرون في مزرعة اشتراها إبراهيم، وفيها دفنت سارة وإسحاق، ومواضع قبورهم مشهورة وهي على ثمانية عشر ميلا من بيت المقدس في مسجد هناك يعرف بمسجد إبراهيم. 116 وأنزل الله على إبراهيم عشر صحف. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمثالا ومواعظ منها: على العاقل أن يكون بصيرا لزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا في ما يعنيه. ق: وما عاشت سارة سوى مائة سنة وسبع وعشرين سنة. واختلف هل هي أوّل موتا أو هاجر، والصحيح أن هاجرا تقدّمتها، ولا اختلاف أنّهما ماتتا في حياة إبراهيم. ودفنت هاجر بحجر مكّة وفيه دفن ابنها إسماعيل. وتزوّج بعدها إبراهيم امرأتين من الكنعانيّين قطورا وحجورا وله ثلاثة عشر ذكرا، منهم مدين بن إبراهيم جدّ شعيب، فجميع ولده ثلاثة عشر ولم يذكر إلّا قطورا ولدت له سبعة نفر ولا تذكر الأخرى. وكان لإبراهيم أخوان: حرّان

أو لوط- ويقال هاران- وهو الذي بنى حرّان وإليه تنسب «1» ، وناهر وهو أبو رفقا امرأة إسحاق. وفي التوراة أنّه ناحور لا ناهر وناهر لوهب. 117 وأمّا الدليل أنّ هاجر سبقت سارة فما رواه السدّي أنّ إبراهيم اشتاق إلى إسماعيل، فآستأذن سارة أن يأتيه. فأخذت عليه عهدا ألّا ينزل غيرة على هاجر، فركب البراق ثمّ أقبل فوجد أم إسماعيل قد ماتت. وتزوّج إسماعيل امرأة من جرهم ولم يجد إسماعيل ورأى المرأة فظّة غليظة فقال لها: إذا جاء زوجك فقولي له: جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا ويقول لك: لا يرضى عتبة بابك: ففعلت، فلمّا أخبرته طلّقها. وتزوّج ثانية، وجاء إبراهيم مرّة ثانية فلم يجد إسماعيل ووجد امرأة سهلة طلقة وأتته باللبن واللحم، فدعا لها بالبركة وجاءته بالمقام فوضعته تحت شقّه الأيمن، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه وغسلت شقّ رأسه الأيسر ثم قال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. 118 قال أبو جعفر: ثمّ لبث ما شاء الله أن يلبث وأمره ببناء الكعبة. وفي رواية أخرى قيل: كان على أتان ولدعوة إبراهيم لا ينقطع اللّبن بمكّة في فصل من فصول السنة، ولذلك كانت لحومها أطيب اللحوم حتّى أنّ القصّاب ليعطي الشحم بدلا من اللحم يغشّ به.

إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام

119 وأمّا نمرود صاحب إبراهيم فعذبه الله بأضعف خلقه ببعوضة توغّلت في خياشيمه، فمكث أربعمائة عام، أربعين عاما يعذّب في حياته، وكان يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس عنده من جمع يديه فضرب بهما رأسه. وهو الذي جوّع الأربعة الأنسر وقرنهنّ بالتّابوت، فلم يزل يرفع اللحم حتّى وقع في ظلمة لا يرى ما فوقه ولا ما تحته، ففزع وألقى اللحم وانقضّت النسور وكان طيرانهنّ من بيت المقدس وسقوطهنّ بجبل الدخان. وذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ الآية «1» . ثم أخذ بعد ذلك في بنيان الصّرح، فبنى حتّى إذا ظنّ أنّه أسنده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر- بزعمه- إلى إله إبراهيم، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ «2» . فيقال: عند ذلك تبلبلت ألسن الناس من الفزع، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمّيت بابل، وإنّما كان لسان الناس قبل [ذلك] بالسريانيّة. إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام 120 وتزوّج إسماعيل بعد التي أمره أبوه بطلاقها أسيدة ابنة مضاض بن عمرو الجرهمي، وهي التي رضي عنها أبوه، فولّدت لإسماعيل اثني عشر ذكرا: نابت بن إسماعيل- ويقال نبت، وقيدور، ونبت هو بكره «3» . وبعث الله عزّ وجلّ إسماعيل إلى العماليق وقبائل اليمن. وقيل إنّه لمّا حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وقيل إلى آبنه قيدور، وزوّج آبنته من عيصو بن

إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام

إسحاق، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة ودفن بالحجر حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود عند قبر أمّه. وانتشر بنوه في البلاد وظهروا وهم نفوا «1» العماليق. وسمّي إسماعيل لأنّ الله عزّ وجلّ سمع دعاء هاجر ورحمها فيه، وقيل إنّ الله سمع دعاء إبراهيم. وقيل: هو وإسماعيل أوّل من ركب الخيل على ما تقدّم وكانت وحوشا، وأوّل من عمل قوسا عربية فرمى بها. إسحاق ويعقوب عليهما الصّلاة والسّلام 121 وتزوّج إسحاق رفقا ابنة عمّه على ما تقدّم، وهو قول أهل التوراة. وقال ابن إسحاق: هي رفقا آبنة بتويل «2» بن ناحور بن آزر، فولدت له عيصو ويعقوب توأمين، وذلك بعد أن مضى من عمر إسحاق ستّون سنة. فولدت لعيصو من ابنة إسماعيل الروم، فكان بنو الأصفر من ولده، وقيل: إنّ الأشبان من ولده ولا أدري أمن آبنة إسماعيل أم لا؟ وولد عدّة أولاد سواه. قال: وولد للعيص ثلاثون رجلا ومن (بني الأصفر) «3» ملوك الروم (ومنهم الإسكندر في قول الروم. قال عدي [متدارك] : وبنو الأصفر الكرام ملوك الرّوم «4» لم يبق منهم أحد مذكور. 122 وقد اختلف في الروم، فقيل: إنّهم من ولد إسحاق، وقيل: إنّما سمّوا روما بإضافتهم إلى مدينة رومة وليس اسم رجل. وكان منزل عيصو الشّام، فكثر ولده فصاروا إلى البحر وناحية الإسكندرية، ثمّ إنّ الروم غلبوا الكنعانيّين.

قال: وكان العيص فيما ذكر يسمّى آدم لأدمته، ولذلك سمّي ولده بنو الأصفر. وكان الروم رجلا أصفر في بياض ولذلك سمّي ولده بنو الأصفر. 123 فكان أكثر دعاء إسحاق ليعقوب وظهرت البركة له بدعائه، فغاض ذلك العيص وتوعّد يعقوب بالقتل، فخرج هاربا إلى خاله ببابل، فكثر جزع يعقوب من أخيه العيص فأمّنه الله عزّ وجلّ من ذلك. وكان ليعقوب خمسة آلاف وخمسمائة من الغنم، فساهم أخاه العيص فيها وأعطاه عشرها استكفافا لشرّه وخوفا من صولته بعد أن أمّنه الله منه. فعاقبه الله في ولده لمخالفته لوعده، وأوحى الله إليه: لم تطمئن إلى قولي، لأجعلنّ ولد العيص يملكون ولدك خمسمائة وخمسين سنة، وهو عدد ما أعطى العيص من غنمه، فكانت المدّة مذ أخربت الروم بيت المقدس واستعبدت بني إسرائيل إلى فتح عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بيت المقدس. 124 ولم يزل يعقوب يتألّف أخاه العيص «1» حتّى ترك له البلاد وعبر إلى الروم، فأوطنها فصار الملك من ولده وهم اليونانية فيما يزعمون. 125 وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة «2» ودفن مع أبيه إبراهيم، وقد كفّ بصره. وأمر إسحاق ابنه يعقوب أن لا ينكح امرأة من الكنعانيّين وأمره أن ينكح من

يوسف عليه السلام

بنات خاله لابان بن ناهر بن آزر، فنكح ابنتيه لايا وراحيل بالحديث المشهور. وكانوا يجمعون بين الأختين حتّى جاءت شريعة موسى صلّى الله عليه وسلم. وقيل إنّه لم يتزوّج راحيل حتّى توفّيت لايا، فولد له منها الاثنا عشر سبطا، وكان ولدا راحيل يوسف وبنيامين، وقيل اثنان سواهما. وقيل إنّ الاثني عشر من أمتين كانتا لابنتي لايا جهّزهما فوهبتهما له. ولمّا توجّه يعقوب إلى خاله لينكح ابنته أدركه الليل فبات في بعض الطريق متوسّدا حجرا. فرأى فيما يرى النائم سلّما منصوبا إلى باب (من أبواب) «1» السّماء والملائكة تعرج فيه وتنزل منه، فأوحى الله إليه: إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا، وقد ورّثتك هذه الأرض المقدّسة وذرّيتك من بعدك، ثمّ أنا معك أحفظك حتّى أردّك إلى هذا المكان، فأجعله بيتا تعبدني فيه، فهو بيت المقدس. عن ق. ثمّ كان من أمره مع خاله ما كان. وتوفّى يعقوب بمصر وهو ابن مائة سنة وسبع وأربعين سنة ودفن عند قبر إبراهيم وإسحاق. وكان يعقوب قد أوصى إلى يوسف أن يحمل جسده حتّى يدفنه مع أبيه بالشّام ففعل. ق: وعاش يعقوب مع يوسف بمصر سبع عشرة سنة وعاش عيصو كعمر يعقوب سواء. يوسف عليه السّلام 126 كان بين دخول يوسف مصر إلى أن دخلها موسى بن عمران أربعمائة سنة، وعاش يوسف بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، وفي التوراة مائة وعشر. وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وقد قيل سبعا وسبعين سنة. وقيل: كان بين رؤياه ومجيء تأويلها أربعون سنة «2» ، فتلك

لوط عليه السلام

مدّة مغيبه عنه «1» إذا، وهذا لا يصحّ لأنّه ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ولم يعش بعد أبيه إلّا ثلاثا وعشرين سنة، كذلك نقل. وقال: وعاش «2» بعد ما جمع الله شمله به ثلاثا وعشرين سنة، وهذا الصحيح لأنّه إذا حملت على هذا سنّه إذ خرج عنه وذلك سبع عشرة سنة، يبقى من عمره ثمانون سنة وهي المدّة التي غاب عنه «3» فيها. 127 وأوصى يوسف إلى أخيه يهودا، وجعل يوسف لمّا توفّى في تابوت رخام وسدّ بالرصاص وطلي بالأطلية الدافعة للهواء والماء وطرح في نيل مصر، ويقال إنّ موسى جعل جسده في تابوت عند خروجه من مصر، وقد روي أنّه أوصى أن يحمل إلى الشّام فيدفن مع أبيه وجدّيه. وولد ليوسف أفرائيم وميشى، فولد ميشى موسى تنبّأ قبل موسى بن عمران، وهو صاحب الخضر فيما ذكر أصحاب التوراة، صحّ ط ق. لوط عليه السّلام 128 وهو مقدّم في المرتبة لأنّه كان في زمان إبراهيم. وهو ابن هاران أخي إبراهيم، ولمّا هاجر إلى الشام على ما تقدّم وآستوطن إبراهيم فلسطين أنزل آبن أخيه لوطا الأردن، فأرسل الله لوطا إلى أهل سدوم وما حولها وهي المؤتفكات، وكانت خمس قريات وسدوم هي القرية العظمى، وهي باقية إلى وقتنا هذا وهي سنة ثلاثمائة واثنتين وثلاثين، خراب لا أنس فيها، والحجارة المسوّمة موجودة فيها، يراها السّفر سودا برّاقة. قال: وكان في قرية منها مائة ألف.

أيوب عليه السلام

أيّوب عليه السّلام 129 كان في زمن يعقوب، زوجته ابنة يعقوب وهي المضروبة بالضّغت، وهو أيّوب بن موص «1» بن رغويل، وكان أبوه ممّن آمن مع إبراهيم إذ ألقي في النّار. وقال آبن إسحاق وغيره: رغويل بن عيصو بن إسحاق، وأمّ أيّوب آبنة لوط باتفاق، ويقال إنّ زوجه المضروبة بالضغت هي ابنة أفرائيم بن يوسف. وكان أيّوب كثير المال كانت له البثنيّة والجابية من الشام كلّها له، فيها ما لا يحصى من العبيد والغنم والدوّاب. وابتلاه الله في ماله وولده فصبر، ثم ابتلاه الله في جسمه وبقي مطروحا في كناسة سبع سنين وشهرا فصبر. قال: ومسجده والعين التي اغتسل فيها مشهوران إلى وقتنا هذا فيما بين دمشق وطبرية على ثلاثة أميال من مدينة نوا، وعمر ثلاثا وسبعين سنة. [ذكر ذي الكفل عليه السّلام] 130 وبعث الله بعده بشر بن أيّوب ذا الكفل عليه السلام وأقام بالشام حتّى مات، وعمر خمسا وسبعين سنة. قال ق: لم نجد فيما نقله وهب له ذكرا، وهو رجل من بني إسرائيل أرسل إلى ملك يقال له كنعان، فدعاه إلى الإيمان وكفل له بالجنّة وكتب له كتاب ذكر حقّ على الله، فآمن ذلك الملك وسمّي ذا الكفل بالكفالة.

شعيب عليه السلام

شعيب عليه السّلام 131 من ذريّة مدين بن إبراهيم، وجدّة شعيب ابنة لوط. وقال بعضهم: لم يكن شعيب من ذريّة إبراهيم وإنّما هو من ذريّة من آمن به إذ ألقي في النّار. وكان عربي اللسان، وكان شعيب ضرير البصر، وحدث بذلك ابن جبير في قول الله عزّ وجلّ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً «1» . ويقال له خطيب الأنبياء بعثه الله إلى مدين وهم أصحاب الأيكة، وهم من ولد مدين بن إبراهيم. ومن ملوكهم أبو جاد «2» وهوّز على تواليهما فكان ملكه مكّة وما يليها من الحجاز، وكان هوّز وحطّي ببلاد وجّ «3» ، وهي الطائف وما اتّصل بها من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشت «4» ببلاد مصر. وفيما لحق بهم من عذاب الله يقول المنتصر بن المنذر [طويل] ملوك بني حطّي وسعفص ذي الندى ... وهوّز أرباب البنية والحجر هم ملكوا أرض الحجاز بأوجه ... كمثل شعاع الشمس أو صورة البدر وهم قطنوا البيت الحرام وزيّنوا ... حضورا وسادوا بالمكارم والفخر «5» 132 وقال ابن خرداذبه في تاريخه: كان شعيب ألثغ وعمّر مائة وأربعين سنة وتوفّي بمكّة ودفن عند المسجد الحرام حيال الحجر الأسود، وأوصى إلى موسى بن عمران صهره. وسلط الله عزّ وجلّ على قومه حرّا شديدا حتّى أخذ بأنفسهم، ثم بعث الله سبحانه وتعالى سحابة فوجدوا لها بردا، فلمّا صاروا

الخضر عليه السلام

تحتها أرسلها الله عليهم نارا، فذلك قوله عزّ وجل: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الآية «1» . واحترقوا كما تحترق الجراد في المقلى. وكانوا أهل كفر بالله وبخس في المكيال والميزان. ولم يكن أهل مدين قوم شعيب ولكنّها أمّة بعث إليها، وما أدري كيف هذا والله عزّ وجلّ يقول: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً «2» . قال: وكان اسم شعيب بثرين. وروى ابن لهيعة أنّ أبا هريرة سأل رجلا فقال: ممّن أنت؟ قال: من جذام. قال أبو هريرة: مرحبا بأصحاب موسى وقوم شعيب. فإن صحّ هذا فجذام من مدين ولد إبراهيم. وزعم قوم أنّ أهل مدين الذين بعث إليهم شعيب من العرب العاربة والأمم الداثرة وليسوا من ولد مدين، وتزعم قريظة والنضير أنّهم من رهط شعيب وأنّهم من جذام. الخضر عليه السّلام 133 وهو بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ. وقال عامّة أهل الكتاب: كان في زمان أفريدون المتقدّم ذكره «3» . وقيل إنّه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمان إبراهيم، وبلغ الخضر مع ذي القرنين نهر الحياة فشرب منه ولم يعلم به ذو القرنين ولا من معه، فهو حيّ إلى الآن. وقد قيل إنّه من ولد فارس، والله أعلم.

موسى وهارون ابنا عمران عليهما السلام

موسى وهارون ابنا عمران عليهما السّلام 134 موسى وهارون ابنا عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، صحّ. وقيل عمران بن يصهر بن قاهث. قال: وقارون بن يصهر بن قاهث «1» ، قارون بن صافر «2» بن قاهث، فهو على هذا ابن عمّ موسى وعلى قول عمّه. واسم أمّ موسى وهارون نوخابت «3» ، وقيل باخثة، من ذريّة يعقوب من ذرية نفشان بن إبراهيم. كان هارون أسنّ من موسى بثلاثة أعوام، وكانت لهما أخت اسمها مريم كانت أسنّ منهما وكانت تحت كالب بن يوفنا. 135 ولمّا قبض الله يوسف عليه السلام توارثت الفراعنة من العماليق ملك مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم حولا، وهم على بقايا من دينهم الذي كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام شرعوا لهم، حتّى كان فرعون موسى وهو الوليد بن مصعب (صحّ عنهم) «4» . عن وهب. وقيل إنّ فرعون موسى هو فرعون يوسف عمّر أكثر من أربعمائة سنة. قال: وغيره ينكر هذا. فعذب بني إسرائيل وكان سيّء المملكة شديد البطش، وكان قد نكح منهم امرأة يقال لها آسية ابنة مزاحم من خيار النساء لمّا أراد الله عزّ وجلّ من أمر موسى.

136 فلمّا تقارب زمن موسى أعلمه المنجّمون بما وجدوا من أمره في علمهم وقالوا: قد أظلّك زمانه. وقيل: بل رأى فرعون «1» في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس فأحرقت القبط بمصر وتركت بني إسرائيل، فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك القبط. روي ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهم. فأمر بقتل الغلمان واستحياء الجواري، فكان من أمر موسى ما نصّه الله عزّ وجلّ. فلمّا شبّ موسى كان «2» يركب مثل ما يركب فرعون ويلبس كلبسه، وكان يدعى موسى بن فرعون لأنّه كان تبنّاه. وركب يوما وقد ركب فرعون، وهو يتبعه، وقد خلت الأسواق لاحتفال النّاس مع فرعون، فكان من أمر القبطي والإسرائيلي الذي استنصر بموسى ما كان. فذلك قوله عزّ وجلّ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها الآية «3» . ثم خرج خائفا يترقّب تلقاء مدين، فكان من أمره وأمر الجاريتين ما نصّه الله عزّ وجلّ، وهما ليا وصفورة «4» ، وتزوّج موسى منهما صفورة. 137 وكلّمه [الله] تكليما وأمره أن يأتي فرعون وشدّ عضده بأخيه، ثمّ كان من أمره وأمر فرعون ما كان. وقيل إن عدد السحرة الذين حشر له فرعون خمسة عشر ألفا، فكانوا أوّل النهار سحرة وآخره شهداء قتلهم فرعون لإيمانهم لمّا رأوا الآية المعجزة. وأمر الله سبحانه وتعالى موسى أن يسري ببني إسرائيل فقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا «5» . فأمرهم أن لا ينادي إنسان صاحبه وأن يسرحوا من بيوتهم. ثمّ خرجوا وألقى على القبط الموت فأصبحوا يتدافنون، فاشتغلوا بذلك حتّى طلعت الشمس. فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ «6» .

138 وخرج موسى في ستّمائة ألف مقاتل لا يعدّ ابن العشر لصغره ولا ابن الستّين لكبره، وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبع مائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة أي حجر. ولمّا وعد الله موسى أتاه جبريل على فرس يقال إنّه فرس الحياة، فأخذ السّامري من تربة حوافره، والسّامري موسى بن ظفر، واتّخذ لهم العجل وقال: هذا إلهكم وإله موسى فنسي «1» . يقول: أترك موسى إلاهه هنا وذهب يطلبه. 139 ثمّ انصرف موسى من عند ربّه ولم يستطع أحد بعد ذلك أن ينظر في وجهه لما يغشاه من النّور حتّى كان موسى يلبس وجهه بحريرة. وأنزل الله عليه الألواح بطور سينا من زمرّد أخضر فيها كتابة بالذهب الأحمر. فلمّا رأى ما أحدث قومه من بعده ارتعد وسقطت الألواح من يده فتكسّرت، فجمعها وأودعها في تابوت السكينة، وكان قد ضرب التابوت من ذهب من ستّمائة ألف مثقال وسبعمائة مثقال وجعله في الهيكل. وكان هارون قيّم الهيكل، ثمّ أظهروا من توبتهم بقتلهم أنفسهم ما ذكر الله عزّ وجل. ثمّ أمر الله عزّ وجلّ موسى أن يأتيه في الناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل. فاختار موسى من قومه سبعين رجلا. ثمّ كان من سؤالهم أن يروا الله جهرة، فأماتهم الله ثمّ أحياهم. فذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ «2» . ثمّ أمرهم الله عزّ وجلّ بالمسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس، فساروا. فلمّا «3» قربوا منها بعث موسى

القول في وفاة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام

اثني عشر نقيبا من أسباط بني إسرائيل، فلقيهم رجل من الجبابرة فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يريدون أن يقاتلونا. فطرحهم في يدها وقال: الآن أطحنهم برجلي. فقالت امرأته: لا بل خلّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا. فذلك قول بني إسرائيل: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، إلى قوله: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» . فقال موسى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «2» . قال الله عزّ وجلّ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الآية «3» . 140 فخرج موسى إلى التيه وعددهم ستّمائة ألف بالغ، وأتاهم بالآيات المشهورة، والتقى موسى بعد ذلك عوج بن أعناق، فارتفع موسى في الهواء عشرة أذرع وكان طول عصاه مثلها وطول موسى مثلها، ثلاثون ذراعا. فأصاب كعب عوجا فقتله، حدّث بذلك سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. وقيل إنّ عوجا عاش ثلاثة آلاف سنة. القول في وفاة موسى وهارون عليهما الصّلاة والسّلام 141 حدّث ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهم أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: إنّي متوفّي هارون، فآت جبل كذا. فانطلق موسى وهارون إلى ذلك الجبل، فإذا فيه شجر وبيت مبنّي، وإذا فيه سرير وعليه فرش. فلمّا نظر إليه هارون أعجبه وقال: يا موسى إنّي أحبّ أن أنام على هذا السرير. فقال: نم عليه. قال: إنّي أخاف ربّ البيت. قال موسى: أنا أكفيك.

فلمّا نام هارون قبض الله روحه، ثمّ رفع ذلك البيت والسرير به إلى السماء. فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا: إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له. وكان هارون أعطف عليهم. قال: دفن هارون في جبل مواب «1» نحو جبال السراة ممّا يلي الطور، وقبره مشهور في مغاوة عادية يسمع فيها في بعض الليل دوي عظيم يجزع منه كل ذي روح. وقيل إنّه غير مدفون بل هو موضوع في الغار ظاهرا، ولهذا خبر عجيب، من وصل إلى هذا الموضع علم ما وصفناه. 142 وكان ذلك قبل وفاة موسى بسبعة أشهر. [وقبض هارون وهو ابن مائة وثلاث وعشرين سنة، وقيل إنّه قبض وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقد قيل إنّ موسى قبض بعد وفاة هارون] «2» بثلاثة أعوام وقاله أيضا، وتلك التي كان يزيد عليه هارون في سنّه، فماتا في سنّ واحد، فكانت سنّ كلّ واحد منهما مائة وعشرين سنة. وقبضا ولم يحدث لهما شيء من الشيب ولا حالا عن صفات الشباب. وكانت في جبهة هارون شامة وعلى طرف أرنبة موسى شامة وعلى طرف لسانه شامة ولا يعرف أحد قبله ولا بعده كانت على طرف لسانه شامة. وهي العقدة التي ذكرها الله «3» ، العقدة حدثت من الجمرة التي وضعها في فيه لمّا دعت آسية له جمرا وياقوتا حين نتف لحية فرعون فأرادوا قتله، فأتى جبريل فوضع في يده الجمرة. 143 ثمّ إنّ موسى كان مع يوشع إذ أقبلت ريح شديدة، فظنّ يوشع أنّها السّاعة

فالتزم موسى، (واستل موسى) «1» من تحت الثياب فذهب موسى وتركها في يديه. فلمّا رجع يوشع «2» إلى بني إسرائيل بالثياب وفقدوا موسى اتّهموه بقتله وارادوا قتله، فسألهم أن يؤخّروه ثلاثة أيّام، فأتى كلّ رجل ممّن كان يحرسه في منامه أنّ يوشع لم يقتل موسى وأنّ الله عزّ وجلّ رفعه إليه. وذكر ابن إسحاق أنّ موسى مرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا فسألهم: لمن هذا؟ فقالوا: لعبد كريم على ربّه. فقال: إنّ لهذا العبد من ربّه لمنزلا. قالوا: أتحبّ أن تكون هو؟ قال: وددت ذلك. قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربّك. ففعل ثمّ تنفّس فقبض الله روحه وسوّت عليه الملائكة. 144 قال: وكان في زمان موسى بلعم بن باعور وهو من الرهط الذين آمنوا بإبراهيم يوم ألقي في النار، وكان بقرية من قرى البلقاء قد أوتي ملكا عظيما، وأعطي اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. فسأله قومه من العماليق أن يدعو على موسى وبني إسرائيل، فأبى فلم يزالوا به حتّى فتنوه، فركب أتانه وارتفع إلى الجبل يدعو عليهم، فصرف الله لسانه بالدعاء على قومه. ثمّ أمرهم أن يرسلوا النساء الحسان إلى عسكر بني إسرائيل بالسلع وأن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها. فوقع رجل من بني إسرائيل بامرأة فوقع فيهم الطاعون، فيقال إنّه هلك منهم سبعون ألفا. ففي بلعم أنزل الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية، إلى قوله: يَتَفَكَّرُونَ «3» . وهو الذي نطقت أتانه بفضيحته وقالت. ويلي منك تنكحني بالليل وتركبني بالنهار.

[ذكر يوشع]

145 قال س: فأمّا السامرية ذريّة السامري فهم في وقتنا هذا- وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- في قرى متفرّقة ببلاد فلسطين والأردن إلى نابلس «1» ، وأكثرهم في هذه المدينة، وهم يقولون لا مساس «2» ، وهم صنفان متباينان كتباينهم لسائر اليهود، يقال لأحدهما الكوشان وللآخر الدوستان «3» . ويقول أحدهما بقدم العالم، ويزعمون أنّ التوراة الصّحيحة هي بأيديهم وأنّ التي بيد اليهود ليست التي أنزلت على موسى لأنّها حرقت وقت سبيهم، وأنّ المحدث لهذه التي بأيديهم روبابيل. [ذكر يوشع] 146 ثمّ بعث الله بعد موسى يوشع بن نون بن أفرائيم نبيّا وأمره بمقاتلة الجبّارين. فسار ببني إسرائيل بعد شهر من موت موسى إلى بلاد الشام، وقد غلب عليها العماليق، فسار إليهم ملك الشام وهو السميدع بن هوبر، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتّى غربت الشمس. فدعا الله أن يردّ عليه الشمس فردّها عليه، فزاد في النهار يومئذ، فهزم الجبّارين واقتحموا عليهم يقتلونهم. فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها فلا يقطعونها. وأمرهم يوشع أن يقرّبوا أغنامهم تلك إلى الله، فلم تزل النار تأكلها. وجاء رجل إلى يوشع فصافحه فالتصقت يده بيده فقال: هلمّ ما عندك. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالدرّ والجوهر كان غلّه، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فأكلتهما النار.

ذكر حزقيل

147 وكان عمر يوشع مائة وعشرين سنة، وأقام أمر بني إسرائيل مذ توفّي موسى سبعا وعشرين سنة. وفي هذه الوقيعة يقول عوف بن سعد الجرهمي [طويل] : ألم تر أن العمليقي بن هوبر ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزّعا تداعت عليه من يهود جحافل ... ثمانين «1» ألفا حاسرين ودرّعا وفي أذينة بن السميدع هذا الجبّار يقول الأعشى [وافر] : أزال عن أذينة عن ملكه ... فأخرج عن أهله ذا يزن (وقام بأمر) «2» بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنّا. قال: ويوشع وكالب الرجلان اللذان «3» أنعم الله عليهما «4» . وكالب زوج مريم أخت هارون، وأقام فيهم ثماني سنين. ذكر حزقيل 148 ط: ثمّ بعث الله بعد ذلك حزقيل بن بوذي «5» ، وهو الذي يقال له ابن العجوز لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت، فوهب الله لها. وهو الذي دعا القوم الذين ذكر الله في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ «6» . واختلف في أمرهم كيف كان.

[ذكر إلياس]

[ذكر إلياس] 149 ثمّ بعث الله من بعده إلى بني إسرائيل إلياس بن ياسين بن العيزار بن عرون بن عمران. ق: هو من سبط يوشع بن نون [بعثه الله] «1» إلى قوم من بني إسرائيل يعبدون بعلا صنما وملكهم أحب- أحاب- وامرأته زوبيل ابنة ملك مصر «2» ، وكان يستخلفها على ملكه، وكانت قتّالة للأنبياء وهي التي قتلت يحيي بن زكريا، وتزوّجها سبعة من ملوك بني إسرائيل. واستخفى منها إلياس شفقة على نفسه عند امرأة لها ابن يقال له أليسع ابن أخطوب وكان به ضرّ، فدعا له إلياس فعوفي واتّبع إلياس. فلمّا رأى إلياس أن قومه لا يجيبونه وأنّهم مقيمون على أخبث ما كانوا عليه دعا (ربّه أن يرفعه) «3» إليه ويؤخّر عنه مذاقة الموت. فقيل له: اخرج إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه أليسع وأقبل فرس من نور حتّى وقف بين يديه، فوثب عليه، فناداه اليسع فلم يجبه، فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب وجعله أرضيا سمائيا ملكيّا بشريّا. ويقال إنّ الخضر وإلياس يلتقيان في كلّ عام في الموسم. ذكر أليسع 150 ثمّ تنبّأ فيهم أليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثمّ قبضه إليه فكثرت فيهم الخطايا والفواحش وسلّط عليهم الجبابرة، فأخذت عنهم السكينة

ذكر إشماويل

غلبوهم عليها في بعض حروبهم. فمات ملكهم كمدا لذلك ولم يزالوا مقهورين حتّى بعث الله فيهم إشماويل. ذكر إشماويل 151 هو إشماويل بن (هلقانة، وقيل هو ابن بروخان) «1» بن ناحور، واسم أمّه حنّة من بني إسرائيل. قالوا: وإشماويل هو إسماعيل، وهو الذي قالوا له: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» . لم يكن بين يوشع وبينه نبيّ، وذكر أنّ من رتب من الأنبياء بعد يوشع هم بعد إشماويل، وكانت مدّة ما بين إشماويل وأليسع ... «3» قال س: كان من خروج موسى ببني إسرائيل عن مصر إلى أن ملك عليهم طالوت خمسمائة سنة واثنتان وسبعون سنة. وملكهم بعد يوشع بن نون إلى أن بعث فيهم إشماويل أحد عشر ملكا من أسباط مختلفة. وقيل ان ندعون منهم نبيّ وشمويل هو شمعون (؟) . 152 فلمّا طال على بني إسرائيل البلاء رغبوا إلى الله أن يبعث إليهم نبيّا منهم «4» ، وكان سبط النبوّة قد هلك فلم يبق منهم إلّا امرأة حبلى. فأخذوها وحبسوها خوفا أن تلد جارية فتبدّلها بغلام. فولدت غلاما وسمّته شمعون، فتنبّأ وهو غلام صغير، فأعلمهم أنّ الله عزّ وجلّ قد بعثه نبيّا، فكذّبوه وقالوا له: استعجلت النبوّة ولم يأن لك. وقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا. فدعا الله فأتى بعصا تكون على طول الذي يبعث فيهم ملكا فقال لهم: إنّ

ذكر طالوت

صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. ذكر طالوت 153 وكان طالوت رجلا سقّاء يسقي على حمار له، فضلّ حماره وانطلق يطلبه. فلمّا انصرف دعوه فقاسوه بها فكان مثلها. وقالوا: كان دبّاغا يعمل الأدم. فقال قومه: ما كنت قطّ أكذب منك الآن، نحن من سبط المملكة ويملك علينا هذا. قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. قالوا: «إن كنت صادقا فأتنا بآية» . قال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «1» ، يريد عصا موسى ورضاض الألواح. فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ينظرون إليه نهارا عند الفجر حتّى وضعته عند طالوت. روى ذلك ابن وهب عن زيد. وكانت مدّة مغيب التابوت ببابل عشر سنين، فأقرّوا غير راضين. ذكر جالوت 154 واشتدّ سلطان جالوت وبلغه أمر طالوت، فسار جالوت من فلسطين بأجناس البربر، فنزل بساحة بني إسرائيل، فسار إليهم بنو إسرائيل وسلّط عليهم العطش فابتلاهم بنهر بين الأردنّ وفلسطين، فشربوا منه هيبة من جالوت،

فعبر منهم معه أربعة آلاف ورجع ستّة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلّا غرفة بيده روي. فلمّا رأى الذين معه عدد جالوت قالوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ الآية «1» . فرجع عنه أكثر من عبر معه وخلص إلى جالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا بعدد أصحاب بدر. وقتل طالوت كلّ من شرب من النهر عن آخرهم. 155 فعبر يومئذ أبو «2» داود فيمن عبر معه، وكان له ثلاثة عشر ولدا (أصغرهم داود) «3» . قال: وكان يرعى على أبيه وكان فيه قصر وزرق وقرع في ناحية من رأسه. وكان داود يأتي أباه فيقول: يا أبة إنّي لا أرمي ببندقتي هذه شيئا إلا صرعته. فيقول له: ابشر يا بنيّ، فإنّ هذا خير أعطاكه الله عزّ وجلّ. ثمّ أتاه يوما فقال له: يا أبة إنّي لأمشي بين الجبال وأسبّح، فما من شيء إلّا يسبّح معي، فقال له مثل مقالته الأولى. فأتى النبيّ «4» إشماويل بقرن فيه «5» دهن وتنّور من حديد، فبعث إلى طالوت وقال: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيثبت «6» دهنه ولا يسيل على وجهه منه شيء، يكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنّور فيملأه. فدعا طالوت بني إسرائيل فخوّفهم «7» فلم يوافقه منهم أحد، فلمّا فرغوا قال: هل بقي منكم أحد؟ قال أبو داود: نعم قد بقي ابني داود وهو يأتينا بطعام. فلمّا انصرف داود كان قد مرّ في الطريق بثلاثة أحجار فكلّمته وقالت: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت. فأخرج الحجارة فأخذها وجعلها في مخلاته. وكان طالوت [قد] قال: من

قتل جالوت زوّجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلمّا أتى داود وجرّبوه بالقرن فكان كما قال النبيّ: وبالتنور نملأه، وكان منحوفا مصفارّا ولم يدخله أحد إلّا تغلغل «1» فيه. 156 وكان جالوت من أجسم الناس، فمشى داود إلى جالوت فأخرج الحجارة وجعلها في القذّافة، فكلّما أخرج حجرا منها قال: باسم أبي إبراهيم، والثاني: باسم أبي إسحاق، والثالث: باسم أبي يعقوب. ثمّ أدار القذّافة فصارت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله (فصكّ به بين عيني) «2» . جالوت فنقبت رأسه وقتلته ولم يزل يموت كل إنسان تصيبه بحياله «3» فهزموهم عند ذلك. وزوّج طالوت ابنته من داود وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود. قال: سلّم له طالوت الجباية وثلث الحكم. ثمّ حسده بعد ذلك طالوت وأراد اغتياله، وسجى له داود [زقّ] «4» خمر في مضجعه، ودخل طالوت فضربه فطارت نقطة من الخمر إلى فيه، فقال طالوت: يرحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر. ثمّ أتى داود طالوت فوضع سهمين عند رأسه وهو نائم وآخرين عند رجليه. فلمّا استيقظ طالوت عرفها وأيقن أنّ داود خير منه حين كفّ عنه وقد ظفر به. ثمّ إنّ طالوت كان لا ينهاه أحد عن داود إلّا قتله. ثم أدركه الندم من ذلك وأقبل على طلب التوبة، فسأل امرأة كان عندها الاسم المكنون فقالت: لا أعلم لك توبة إلّا أن تتخلّى عن ملكك وتخرج أنت وولدك فتقاتلوا في سبيل الله حتى تقتلوا. ففعل طالوت ذلك حتّى قتل.

داود عليه السلام

157 قال القوطي: فأتى داود غلام حسن حين هزم الجيش من المسلمين الذين كانوا مع طالوت، فقتل طالوت وأتى بسواريه وقال: وجدته جريحا فاجتهدت عليه لمّا علمت أنّه عدوّك وأتيتك بسواريه لأحظى عندك بذلك. فأمر داود بقتله وقال: قتلت مقدّس الربّ وأمير بني إسرائيل. وكان الغلام غريبا من العماليق. 158 إنّ طالوت لمّا رأى ظهور داود وميل الناس إليه وصرفهم عنه مات على سرير ملكه ليلة كمدا، وانقادت بنو إسرائيل لداود وبعثه الله نبيّا. واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس من ذريّة يعقوب. الموضع الذي قتل فيه جالوت بيسان من أرض الغور من بلاد الأردن. داود عليه السّلام 159 هو ابن إيشا «1» من ذريّة يهودا بن يعقوب، أعطاه الله عزّ وجلّ ما نصّه الله في كتابه من الآيات، ولم يزل قائما بأمر بني إسرائيل أحسن قيام إلى أن كان من أمره بامرأة أوريا ما كان، وهي التي ولدت له سليمان بن داود. فلمّا واقع الخطيئة اشتغل بالتوبة واستخفّ به بنو إسرائيل ووثب عليه ابن له يقال له أبشالوم، وهو ابن ابنة طالوت وهو بكره، وأراد نزعه من الملك ودعا إلى نفسه، فاجتمع إليه أهل الزّيغ. فلمّا تاب الله على داود ثابت «2» إليه الناس

وحارب ابنه حتّى هزمه ووجّه في طلبه قائدا من قوّاده، وتقدّم إليه أن يتلطّف في أمره ولا يقتله. فلم يزل يتبعه القائد حتّى اضطرّه إلى شجرة، فتعلّقت أغصانها بشعره ولحقه القائد فقتله مخالفا لأمر داود، فاشتدّ حزن داود عليه. 160 وأصاب بني إسرائيل في زمانه «1» طاعون، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون الله ويسألونه كشف البلاء عنهم، فاستجيب لهم، فاتّخذوا ذلك الموضع مسجدا. وذكر أنّ ذلك لإحدى عشرة سنة خلت من ملكه. وقد تقدّم في بيت المقدس غير هذا. قال: وتوفّي قبل أن يتمّ بناءه، وأوصى إلى ولده سليمان باستتمامه، فبناه في ثماني سنين. وصحّ عن القوطي قال: ابتدأ سليمان بناءه في السنة الرابعة من ولايته وأتّمه في السنة الحادية عشرة. ويذكر أنّ سليمان لمّا فرغ من بنائه أطعم فتية بني إسرائيل فيه اثني عشر ألف ثور. والذي بنى منه داود هو المعروف بمحراب داود، وليس في بيت المقدس بناء أعلى منه في هذا الوقت، يرى من أعلاه البحيرة المنتنة «2» ونهر «3» الأردن. والبحيرة المنتنة بأرض العراق وهي لا تقبل الغرقاء ولا يتكوّن فيها ذو روح من سمك ولا غيره، وإليها ينتهي ماء بحيرة طبرية وهو الأردنّ. فإذا انتهى إلى البحيرة المنتنة خرقها وانتهى إلى وسطها متميّزا عن مائها فيغوص في وسطها، وهو نهر عظيم لا يدرى أين غوصه من غير أن يزيد في البحيرة المنتنة شيئا. ومن البحيرة المنتنة تخرج الأحجار التي تستعمل لوجع الحصاة وهي نوعان ذكر وأنثى، فالذكر للرجل والأنثى للمرأة. ومنها يخرج العقّار «4» المعروف بالحمر.

سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام

161 وكان عمر داود فيما وردت به الأخبار عن النبيّ «1» صلّى الله عليه وسلم مائة سنة، وقال أهل الكتاب تسع وتسعون سنة، ومدّة ملكه أربعون سنة، وكان ملكه على فلسطين والأردن، وكان عسكره ستّين ألفا، أصحاب درق وسيوف. والنصارى يزعمون أنّ قبره في الكنيسة الجسمانية ببيت المقدس. 162 وكان داود إذا قرأ الزبور ترقّ له الوحوش حتّى تؤخذ بأعناقها، وإنّها لمصغية «2» . وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج «3» إلّا على أصناف صوت داود عليه السلام «4» . سليمان بن داود عليهما الصّلاة والسّلام 163 أمّه امرأة أوريا، أتاه الله عزّ وجلّ النبوّة، وسأل ربّه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. فسخّر الله له الجنّ والأنس والطير والريح غدوّها شهر ورواحها شهر «5» . ذكر أنّ منزلا بناحية دجلة مكتوبة فيه: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيّا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه «6» ، ونحن رائحون «7» الشام إن شاء الله.

164 وخبره مع بلقيس مشهور ويذكر أنّه تزوّجها، ويقال إنّه إنّما أنكحها من تبّع ملك همدان فردّها إلى اليمن ولم يزل زوجها ملكا باليمن حتّى مات سليمان صلّى الله عليه وسلم. ولمّا غلب سليمان والد جرادة وقتله الملك واصطفى جرادة كانت من أجمل الناس، فأحبّها سليمان حبّا شديدا، وكانت لا تزال تبكي أباها، فوجد لذلك سليمان وجدا شديدا حتّى سألته أن يأمر الجنّ فيصوّروا لها صورة أبيها فلعلّها تسكن. فأمر سليمان الجنّ بذلك فعمدت إلى الصورة فلبّستها وعمّمتها وجعلت تسجد لها هي وولائدها غدوة وعشية. وبلغ ذلك آصف وكان صديقا، فأعلم سليمان فكسّر الصنم وعاقب المرأة. فسلبه الله خاتمه عقوبة. وقد ذكرنا الحديث بطوله في أخبار جزائر البحر الأخضر. 165 وروي أنّ سليمان عليه السلام كان إذا رأى شجرة نابتة بأرض المقدس أو في أرضه يقول لها: ما اسمك ولأيّ شيء أنت؟ فإن كانت لدواء كتبت وعلمت. فبينما هو يمشي إذ رأى شجرة نابتة فقال: ما اسمك؟ فقالت: الخرّوب. قال: ولأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتّى تعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب. فنحت الخرّوب وأخذ منها عصا وتوكّأ عليها ميّتا حولا كاملا، فأكلت الأرضة العصا حتّى خرّ سليمان. فلمّا خرّ سليمان شكرت الجنّ الأرضة فهي تأتيها بالماء والطين وتنقل إليها الطين حيث كانت وقال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ هو ممّا يأتيها به. 166 وكان جميع عمر سليمان نيّفا وخمسين سنة، اثنتين وخمسين سنة، وبعد أربع من مملكته ابتدأ ببناء بيت المقدس. قال: وكانت مملكته أربعين سنة،

ذكر شعيا عليه السلام

صحّ لهم. قال القوطي: ولّي وهو ابن سبع عشرة سنة وبقي أربعين سنة، فعمره على هذا سبع وخمسون سنة، قال القوطي: أوّل حكم حكم به في الصبا في أمر الصبي الذي ادّعتاه المرأتان، فدعا بالسيف وأمر بشقّ الصبي وقسمته عليهما، فرضيت بذلك التي لم يكن لها وقالت أمّه: بل تعطيه الأخرى حيّا. فحكم به لها وعجب بنو إسرائيل من حكمه وفهمه. 167 ثمّ ملك بعد سليمان ابنه أرخبعم «1» ، فتفرّقت عليه بنو إسرائيل ولم يبق معه إلّا السبطان «2» ، [وكان ملكه إلى أن هلك] «3» سبعة عشر عاما. وتوارث ذلك عقبه ولم يزالوا برهة (يجتمعون على ملك منهم ثمّ يفترقون إلى رأس مائتي سنة من موت سليمان إلى أن بعث الله عزّ وجلّ) «4» فيهم شعيا نبيّا. ذكر شعيا عليه السّلام 168 هو شعيا بن آموص «5» ، وهو الذي بشّر بعيسى بن مريم ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، وكان في زمان حزقيا ملك لبني إسرائيل من ذريّة سليمان، هذا الصحيح. وقد قيل في زمن جدّه وقيل يوطان. وكان حزقيا الملك مستقيم السيرة صحيح الإيمان نابذا للأوثان التي كان اتّخذها [بنو اسرائيل] من قبله وقطعها من جميع أرض يهودا. فلمّا حان انقضاء ملكه بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ومعه ستّمائة ألف راية- سنحاريب ملك الموصل- حتّى نزل بأرض إيليا

والملك مريض. وأوحى الله عزّ وجلّ إلى شعيا أن سر إلى الملك وأعلمه أنّه ميّت وأمره أن يستخلف من شاء على ملكه. فلمّا قال له ذلك شعيا بكى وجزع وتضرّع، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى شعيا أن قد أخّرت أجله خمس عشرة سنة وإنّي منجيه من عدوّه. فشكر الملك وسجد لله عزّ وجلّ. 169 قال القوطي: وبعث الله الطاعون على عسكر سنحاريب فهلك منهم في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانون الفا لم يسلم منهم إلّا سنحاريب وخمسة من كتّابه وقوّاده أحدهم بخت نصر بعد أن فرّوا فأدركوا في مغارة. وأوتي بهم ملك بني إسرائيل فخرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتّى كان وقت العصر. وأمر بأن توضع الجوامع في رقابهم ويطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس، ثمّ أرسله ومن معه لينذروا من ورائهم وكان ملكه الى أن توفي سبعا وعشرين سنة، وبقي الملك في ولده إلى ملك لهراسيف «1» ملك الفرس. تنافس بنو إسرائيل الملك، فأمر الله شعيا أن يقوم فيهم بوحيه، فلمّا فعل قتلوه فسلّط الله عليهم عدوّهم فوجّه لهراسيف «2» بخت نصر. فبنى مدينة بلخ فسمّاها الحسنى، فقاتل الترك واشتدّت شوكة بخت نصر حتّى أتى دمشق فصالحه أهلها، ووجّه رسوله إلى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل وهو رجل من ولد سليمان، وأخذ منه رهائن وانصرف. فوثب بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا. فكرّ بخت نصر راجعا إليهم فأخذ المدينة عنوة وقتل وسبى وحرق البيت وهدّم أسوار المدينة. وكان آخر ملوك بني إسرائيل شدخش، وقيل خرخش، من ذرّية سليمان بن داود، فانقطع سلطان بني إسرائيل ووجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبيّ «3»

ذكر إرميا النبي عليه السلام

ذكر إرميا النبيّ عليه السّلام 170 وكان الله قد بعثه إليهم يحذّرهم ما حلّ بهم من بخت نصر إذ لم يتوبوا، فضربوه وسجنوه. فسأله بخت نصر عن شأنه، فأخبره فأحسن إليه وخلّى سبيله. وانصرف بخت نصر بعد أن غزا مصر لمّا منع منه ملكها، فأتى بني إسرائيل وقتل ملكها، وهو فرعون الأعرج، وسبى أهله. ورجع ومعه سبي كثير فيهم عزير ودانيال وغيرهم. 171 وفي ذلك الزمان تفرّقت بنو إسرائيل فنزل بعضهم بأرض الحجاز يثرب ووادي القرى وغيرها. وانتهى عدد سبيه من بني إسرائيل ثمانية عشر ألفا. قال: وعمد بخت نصر إلى التوراة وإلى ما كان في هيكل بيت المقدس من كتب الأنبياء وطرحه في بئر وعمد إلى تابوت السكينة فأودعه في بعض المواضع من الأرض. ذكر دانيال عليه السّلام 172 ق: فأمّا دانيال فهو الذي عبّر رؤيا بخت نصر، فنزل منه بأحسن المنازل، وكان قبره بناحية السّوس ووجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفّنه وصلّى عليه ثم قبّره. وقال في أخبار الفرس إنّ دانيال كان بين نوح وإبراهيم وثبت هذه المقالة وقال: وهو الذي استخرج العلم وما يحدث في الأزمان إلى أن تنقضي الأرض ومن عليها وعلوم ملوك العالم وما يحدث في السنين والشهور

ذكر عزير

من الحوادث ودلائل ذلك في الآفاق. وفي مدينة بابل الخربة التي كانت مملكة الفرس جبّ يعرف بجبّ دانيال الذي تقصده النصارى يوم عيدهم واليهود في أعيادهم. قال أبو عبّاد في كتاب الأقوال: لمّا فتحوا السّوس وأميرهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في جرن «1» وإلى جنبه مال موضوع من شاء اقترض «2» منه إلى أجل، فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلّا برص. والتزمه أبو موسى وقبّله وقال: دانيال وربّ الكعبة. وكتب في شأنه إلى عمر، فكتب عمر إليه: كفّنه وحنّطه وصلّ عليه وادفنه كما دفنت الأنبياء واجعل ماله في بيت مال المسلمين. قال: فكفّنه في قباط بيض وصلّى عليه ودفنه. قال: حدّثنا بذلك حسّان بن عبد الله عن السدّي بن يحي عن قتادة. ذكر عزير 173 فأمّا عزير فأقام لبني إسرائيل التوراة بعد ما أحرقت حين عاد إلى الشام. فقالت طائفة منهم: هو ابن الله وهو الذي أكثر المناجاة في القدر، فمحا الله اسمه من الأنبياء فلا يذكر فيهم، وهو رسول. وبقي إرميا بأرض مصر حتّى أوحى الله إليه أن اخرج فالحق بإيليا، فلتكن بلادك حتّى يبلغ الكتاب أجله. فخرج إرميا مذعورا فركب حماره وانطلق حتّى رفع له شخص بيت المقدس، فرأى خرابا عظيما لا يوصف. قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها ، الآية «3» . ق: فبعث الله ملكا من ملوك الفرس «4» يقال له كوش» فعمّر بيت المقدس.

ذكر زرادشت الذي تدعي بنبوته المجوس

174 وملك لهراسيف «1» مائة وعشرين سنة، وملك بعده يستاسف «2» ابنه فبلغه خراب بلاد الشام وأنه ليس بها أحد من الانس، فأذن لبني إسرائيل أن يرجعوا إلى الشام ونودي في الناس بذلك. وملّك رجلا من آل داود عليهم فعمّروها، وذلك بعد سبعين سنة، فإنّما فعل ذلك الملك الفارسي لأنه كان استخلص جارية من سبي بني إسرائيل فسألته ذلك. قال: والذي ملك عليهم روبابيل، وأقام فيهم ستّا وأربعين سنة. وقيل إنّ رجوعهم كان في أيام كورش الفارسي الملك، وكان دانيال حلّ هذا الملك. ثم أحيا الله سبحانه وتعالى إرميا عليه السلام. ذكر زرادشت الذي تدّعي بنبوّته المجوس 175 وفي زمان يستاسف «3» صاحب بابل ظهر زرادشت بن اسبيتمان «4» الذي تدّعي المجوس أنه نبيّهم. وكان من علماء أهل فلسطين خادما لإرميا، فخانه فدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد آذربيجان وشرع فيها دين المجوسية وقصد الناس على الدخول فيه وقتل في ذلك وعذّب حتّى دانوا به. وأتى زرادشت بالمعجزة الباهرة وأخبر عن الكائنات من الكليّات والجزئيات، وأتى بكتاب يدور على ستّين حرفا من المعجم، وهي لغة يعجز عن إيرادها ولا يدرك كنه مرادها. وكتب هذا الكتاب في اثني عشر ألف مجلّد بالذهب فيه وعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من العبادات، واسم هذا الكتاب بستاه «5» ، وأوّل سورة منه سورة حيرفت فيها ذكر مبتدأ الخليقة وأصول

الطبائع وأمزاجها. وعمل له زرادشت تفسيرا سمّاه بازند وهو كتاب يعجز عن حفظه، وأكثر ما يحفظونه أسباعا إذا انتهى الحافظ للسبع ابتدأ الحافظ للسبع الثاني. وكانت نبوّة زرادشت فيهم خمسا وثلاثين سنة، وهلك وهو ابن سبع وسبعين سنة. 176 وممّا تحمل الفرس عنه أن القديم تعالى طالت وحدته فطالت فكرته، فلمّا طالت فكرته اشتدّت وحشته، فلمّا اشتدّت وحشته تولّد الهرمند فصار مضادّا للنّور الأكبر- والهرمند هو الشيطان. وأن الله عزّ وجلّ لو كان قادرا على إفناء الهرمند لما ضرب له أجلا ولا أخّره أمدا يغوي عباده ويفسد بلاده. وهذا هو المحال عينه والناقص نفسه، «تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا» . ولم تزل الفرس تتدارس نواميس هذا الكتاب جيلا فجيلا حتّى ظهر فيهم خاهشت الغلام، فشرح لهم تأويلا وأحدث لهم قرابين في مذاهبهم اعتمدوا عليها واتّخذوا بيوت النيران وقرّبوا لها القرابين ورتّبوا لها السدنة ووضعوا لها أيضا الهرابذة- أحدهم هربذ- وتأويله فقيه الدّين. ووضعوا مرزبانا «1» تأويله قاضي القضاة، وهو بالفارسية الدّين، وهو حافظ الدّين. وكانت لهم صلوات وزمزمة وقرابين يقرّبونها في بيوت النيران، وجملة اعتقادهم محصورة في الكتاب الذي جاءهم به زرادشت. 177 وكان ملك يستاسف «2» مائة سنة واثنتي عشرة سنة. وبخت نصر رجل من العجم عاش دهرا طويلا جاوز ثلاثمائة سنة وخدم عدّة من ملوكهم آخرهم

عيسى وزكريا عليهما الصلاة والسلام

بهمن، وهو ابن يستاسف «1» - وبهمن أبو داراي [وهو أبو] دارا الذي قتل في عهد الإسكندر. ودارا الأكبر هو الذي عقد له أبوه بهمن التاج وهو في بطن أمّه حنانا ابنته. فلمّا رأى ذلك ساسان بن بهمن وكان يتصنّع للملك لا يشكّ فيه- وهو رجل كامل- لحق بإصطخر وتزهّد وخرج من خليته وتعبّد واتّخذ غنما وكان يتولّى ماشيته بنفسه واستساغت «2» العامّة ذلك عنه ونطقت به. فمن ساسان الساسانية، وهم الفرس الثانية أوّلهم أردشير بن بابك بن ساسان أبو أربعة إلى ساسان بن بهمن. عيسى وزكريا عليهما الصّلاة والسّلام 178 كان زكريا ابن آذن وعمران بن ماثان بن أليعقيم «3» من ولد سليمان بن داود من سبط يهودا، وكانا في زمان واحد. فتزوّج زكريا أشياع ابنة عمران أخت مريم واسم أمّها حنّة. وكان يحيى وعيسى ابني خالة، وكان زكريا نجّارا. وأشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة ففرّ منهم، فلمّا أحسّ بهم دعا الله عزّ وجلّ أن يفتح له جوف شجرة، فدخل فيها ودلّهم إبليس عليه وبقي هدب ردائه ظاهرا، فنشروا الشجرة ونشروه معها. ولذلك تتّخذ أهل الكتاب الهدب في أرديتها. ذكر يحيى بن زكريا عليهما السّلام 179 وأمّا يحيى فكان مولده قبل عيسى بستّة أشهر، فنبّأه الله واستظهر به عيسى، وبعثه الله في اثني عشر من الحواريّين يعلّمون الناس، فكان ما نهوا

عنه بني إسرائيل نكاح ابنة الأخ. وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه، أراد أن يتزوجها، فبلغ نهيهم أمّها فحقدت على يحيى حين نهى أن يتزوّج الملك ابنتها، وأمرت ابنتها أن تتلطّف للملك وتسقيه وتعرض له، فإن أرادها على نفسها أبت حتّى يعطيها ما سألته، فإن أعطاها ذلك سألت أن يؤتى برأس يحيى. ففعل الملك ما سألته، وهو أحب وامرأته أزبيل، وقد تقدّم ذكرها. قال: فلمّا وضع رأس يحيى بين يديه جعل يتكلّم ويقول: لا تحلّ لك. واستمرّ غليان دمه، فأمر بتراب فألقي عليه فما ازداد إلّا انبعاثا. فبعث الله عليهم ملكا من ناحية الشرق يقال له خردوش، فقتل منهم على دم يحيى بن زكريا سبعين ألفا إلى أن سكن دمه. وذكر أن الذي فعل ذلك بخت نصر، وهذا لا يستفهم لأنه من خراب بيت المقدس على يد بخت نصر إلى مولد عيسى عليه السّلام خمسمائة سنة وسبعون سنة تعدّ ملكا ملكا، كما أنه لا يستفهم أن يكون أحب هو الذي قتل يحيى وهو الذي بعث إليه إلياس بن ياسين، وبين يحيى وإلياس مثل هذه المدّة. قال: وولد في أيام ملوك الطوائف «1» لمضي ثلاثمائة سنة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على بابل، وهذا هو الصحيح. وقال وهب بن منبّه إنّ الإسكندر كان في الفترة بعد عيسى، وهذا وهم لأن ملوك الطوائف «2» إنّما كانت بعد الإسكندر. 180 ويقال إنه لمّا ولد عيسى لم يبق على وجه الأرض صنم يعبد إلّا سقط على وجهه. ففزعت الشياطين وجاؤوا إبليس فأخبروه، فقال: إنّ لهذا شأنا. وذهب يطوف الأرض حتّى مرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى عليه السّلام ببيت لحم يهودا، فرأى الملائكة محدقين به، فأراد أن يأتيه فمنعته الملائكة ورجع إلى أصحابه فأخبرهم، وفرّت بعيسى أمّه إلى أرض مصر خوفا من

هذا وخوفا من هرادش، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «1» . ثمّ ردّته إلى الشام بعد اثنتي عشرة سنة من عمره. 181 وجاءه الوحي بعد ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين، وأتاه الله الآيات التي نصّ عليها وأنزل الله عليه المائدة سفرة حمراء مغطّاة بمنديل بين غمامتين. س: ومرّ عيسى ببحيرة طبرية وعليها ناس، فدعاهم إلى دين الله، فاتّبعه ثلاثة من الصيادين واثنا عشر من القصّارين، فهم الحواريّون. وذكر أنّ أحد الحواريّين دلّ اليهود على عيسى حين «2» همّوا به، ثم ندم على ما فعل فاختنق وقتل نفسه. وقد كان عيسى عليه السّلام ذكر لهم ذلك. قال: ثمّ لقيه الحواريّون بعد ما رفع ليزيل ما في نفوسهم، فسألهم عنه فقالوا: قتل نفسه. فقال: لو تاب تاب الله عليه. 182 وذكر ابن خرداذ به «3» أن الذي صلب مكانه أيشوع بن قيدار، وأنه كان بين هبوط آدم إلى الأرض ورفع المسيح خمسة آلاف وخمسمائة وثمان وثلاثون سنة. قال القوطي: وكان بين انقضاء أمر المسيح وكفر اليهود وتفرّق جماعتهم وتمام اللعنة عليهم إلى يوم القيامة وإخراجهم من ديارهم على يدي قيصر طيطوش تسع وثلاثون سنة. قال القوطي وغيره: وكان انقضاء أمر المسيح زلزلة عظيمة عمّت الدنيا شرقا وغربا وانهدمت «4» لها الجبال وتصدّعت الصخور «5» وتهوّرت المدن دليلها وشاهدها الكور التي وضع عنها

ذكر من كان بين موسى وعيسى

الخراج من أجل انهدامها، وذلك موجود في الدواوين. وكسفت الشمس ذلك اليوم من الساعة السادسة إلى آخر النهار حتّى صار ذلك النهار ليلا. وفي ذلك قال شاعر اليونانيّين ترجمناه عربيّا [كامل] : فزعت له الدنيا وظنّت أنّه ... ليل عليها ما يزال مؤبّدا لمّا رأى الناس الكسوف على ... خلاف سبيله ظنّوه ليلا سرمدا لأنها كسفت في انتصاف الشهر والشمس لا تعرف كسوفها «1» إلّا في انقضاء الشهر وعند اجتماع النيّرين. ذكر من كان بين موسى وعيسى 183 وقد كان من الأنبياء قبل عيسى يونس بن متّى عليهما الصّلاة والسّلام، كان من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فكان من أمره وأمر قومه ما نصّه الله سبحانه وتعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ الآية «2» . 184 وممّن كان بين موسى وعيسى عليهما السّلام بنو حضور بن عدي، وكانوا أمّة عظيمة ذوي بطشة زعموا أنّه من ولد يافث، وقيل من العرب الداثرة، بعث الله عزّ وجلّ إليهم شعيب بن ذي مهرم بن حضور نبيّا، فكذّبوه وقتلوه. وهذا غير شعيب صاحب مدين بينهما مئون من السنين، وقد كان بين موسى وعيسى ألف نبيّ. فسلّط الله على بني حضور جبّارا يقال له بخت

[ذكر من كان بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -]

نصر، فصار إليهم بجنوده وغشى ديارهم وصاح بهم صائح من الهواء وقد استعدّوا لحربه، فعمّ الصوت أسماعهم [طويل] : سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذلك يضلّ الله من كان قلبه «1» ... مريضا ومن والى النفاق وألحدا فعلموا أن الأمر نازل بهم فانفضّت جموعهم وحصدهم السيف أجمعين. يقول الله عزّ وجلّ فيهم: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ «2» . [ذكر من كان بين عيسى ومحمّد - صلى الله عليه وسلم -] 185 وممّن كان في الفترة بين عيسى ومحمّد - صلى الله عليه وسلم - جرجس، وهو من أهل فلسطين، وبعث إلى ملك الموصل يدعوه إلى الإسلام، فقتله بالعذاب مرّات وأحياه الله عزّ وجل آية لهم وعبرة، ونشره قطعا ورماه إلى الأسد الضارية فخضعت الأسد برءوسها وظلّ يومه كذلك. فلمّا أدركه الليل جمع أوصاله وردّ روحه، ثمّ أقبل عليهم اليوم الثاني يعظهم ويغلّظ عليهم، فلمّا استمرّوا في عتوّهم وكفرهم بعث الله عليهم نارا فأحرقتهم عن آخرهم. 186 وممّن كان في الفترة الذين حكى الله عزّ وجلّ عنهم في قوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ الآية «3» . وأسماؤهم صادق وصدوق والثالث شلوم- الثالث بطرس بالرومية وبالسريانية شمعون وبالعربية سمعان. وقد سمّى الاثنين أيضا بالرومية فقيل بطرس وبولس، وقيل يرما

ومؤمن. بعثهم الله إلى فرعون من الفراعنة كان بمدينة أنطاكية- أصل هذا الاسم بالرومية أنطجين وهو لقب للملك الذي بناها، وتفسيره محوّط الحيطان، فلمّا افتتحها المسلمون حرفت الأحرف إلّا الألف والنون والطاء. ويقال إنّهم من الحواريّين ولم يكونوا من الأنبياء، والذي جاء يسعى رجل اسمه حبيب كان يعمل الحرير «1» . فلمّا قال لهم: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الآية «2» وطئوه بأرجلهم حتّى خرج قضيبه على دبره، فأدخله الله الجنّة حيّا يرزق فيها. فذلك قوله تعالى: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ «3» . قال: وصلب الكافر لعنه الله المرسلين منكوسين، فأهلكهم الله أجمعين، فذلك قوله عزّ وجلّ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ «4» . فلمّا ظهر دين النصرانية جعل المرسلين «5» في أخزنة من البلّور وهم في كنيسة هناك بمدينة رومية ولها بناء عظيم. 187 وممّن كان في الفترة أصحاب الأخدود، فإنّهم كانوا بنجران من اليمن. وبلغ ذا نواس أنّ قوما بنجران على دين المسيح، وكان هو يهوديّا، فنهض إليهم بنفسه وحفر لهم الأخاديد وأضرمها نارا، ثمّ دعاهم إلى اليهودية، (فمن أجاب نجا ومن لم يجب) «6» قذفه في الأخاديد «7» . فأوتي بامرأة معها طفل من سبعة أشهر، فأبت أن ترجع عن دينها، فأدنيت من النار فجزعت فأنطق الله الطفل وقال: امضي على دينك فلا نار بعدها. فألقيت في النار. فسلّط الله عليهم الحبشة وغلبوهم على أرض اليمن إلى أن كان من أمر ذي يزن واستنجاده أنو شروان ما كان.

جملة من القول في جزيرة العرب وذكر شيء من أخبارها

جملة من القول في جزيرة العرب وذكر شيء من أخبارها 188 قال جعفر بن محمّد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب فقال: مكّة والمدينة واليمامة واليمن. قال يعقوب: والقرح أوّل تهامة. قال أبو عبد الله: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في «1» الطول، وأمّا العرض فما «2» بين يبرين إلى منقطع السّماوة، وحفر أبي موسى على خمس مراحل من البصرة. قال الأصمعي: جزيرة العرب [من أقصى] » عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأمّا العرض فمن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشّام. وقال أبو يوسف يعقوب بن شيبة الخرساني المحدّث: قال شرقي بن القطامي وغيره: كانت أرض الجزيرة خاوية ليس في تهامتها ونجدها وحجازها وعروضها كثير «4» أحد لإخلاء بخت نصر إيّاها وإخلائها من أهلها إلّا من اعتصم برءوس الجبال وأشعابها. 189 وبلاد العرب على خمسة أقسام في جزيرة بطبعه، وهي التي صارت في قسم من أنطق الله عزّ وجلّ باللّسان العربي حين تبلبلت الألسن ببابل في زمان نمرود. فقسم فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولده. وإنّما سمّتها العرب الجزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها من أقطارها، وصاروا منها في مثل الجزيرة. وذلك أن الفرات أقبل من ناحية بلاد الروم فظهر بناحية قنّسرين، ثم انحطّ «5» على أطراف الجزيرة وسواد العراق حتّى

وقع في البحر «1» من ناحية البصرة والأبلّة، وامتدّ البحر من ذلك الموضع لمطيفها منقطعا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف «2» وبنجد وأسواق عمان والشحر «3» ، ومال منه عنق إلى حضر موت وناحية أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن ببلاد برسان وجاور والحكم والأشعرين وعكّ «4» ، ومضى إلى جدّة ساحل مكّة والجار «5» ساحل المدينة، ثمّ إلى ساحل الطور وتيماء وخليج أيلة حتّى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها. وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر حتّى وقع في بحر مصر والشّام، ثمّ أقبل ذلك البحر من مصر حتّى بلغ بلاد فلسطين، فمرّ بعسقلان وسواحلها وأتى على صور «6» ساحل الأردنّ وبيروت «7» وذواتها من ساحل دمشق، ثم نفذ إلى ساحل حمص «8» وسواحل «9» قنّسرين والجزيرة إلى سواد العراق. 190 وقال أبو النصر سعيد بن غالب الجيهاني: حدّ جزيرة العرب ممّا يلي الشمال في الخطّ الذي يخرج من ساحل أيلة فيمرّ مستقبل الشّرق في أرض مدين إلى تبوك ودومة الجندل إلى البلقاء وتيماء ومأرب، وهي كلّها من الشّام، ويمضي في وادي شيبان وبكر وتغلب، ويصل بالكوفة والنجف والقادسية والحيرة ونجران السّواد، وهي على يسار الكوفة. وعن يمين هذا الخطّ ممّا يلي الجنوب أرض الحجر ووادي القرى- واسمها وحّ في القديم- وهي أرض لثمود وما دونها إلى الأغوار والتهائم والنجود، إلى أن يصل [إلى] ساحل حضر موت، كلّ ذلك من أرض العرب، وممّا يلي الشّمال من هذا الخطّ فمن بلاد الأردنّ الشّمالي. وحدّ جزيرة العرب ممّا يلي الشّرق وهو مهب الصباء بطائح البصرة حتّى ينتهي إلى الجزيرة، ثمّ فيض «10» البصرة، وهو نهرها

الذي البصرة عليه، وكان زياد بن سمية حفره إلى الأبلّة «1» ، ثمّ استوى «2» إلى سفوان وكاظمة وقطيف وأسياف والبحرين وعمان، ثمّ يمرّ منحدرا من الشّمال على ساحل البحر حتّى يأتي غبّ عدن، والغبّ ينزوي فيه الماء شبه الخليج فينعطف عنق من البحر ويأخذ مع الصباء منعطفا على جزيرة العرب ويستمرّ نحو «3» الهند على الشّمال. والبحر مع دجلة البصرة في هذا الموضع غربيّه يسمّى أرض العرب وشرقيّه يسمّى شاطئ «4» فارس. وما وراء ذلك من شرقيّ البحر عند منقطع أرض فارس فهو من بلاد الهند، ويتّسع البحر ويصير جزائر. وحدّ جزيرة العرب ممّا يلي الجنوب ساحل هذا العنق من الصباء، وهذا العنق على يمين الذاهب منه، جزيرة العرب إلى ضفّة البحر وعلى يساره بلاد الزنج. وفي ساحل هذا العنق يصاب العنبر. ويمضي ذلك العنق حتّى يمرّ بساحل حضر موت وأبين وينتهي إلى عدن، وعدن منتهى هذا العنق، ثمّ ينعطف هذا العنق من عدن مع الجنوب فيمرّ منعطفا على جزيرة العرب مستقبل الشّمال، فعن يمين الذاهب منه جزيرة العرب وعن يساره بلاد السّودان والحبشة وغيرهم. ثمّ يمرّ ذلك العنق ببلاد العرب على سواحلها دهلك وبلاد برسان وحكم والأشعرين وعكّ وغيرها حتّى يصل إلى جدّة وهو ساحل مكّة، ثمّ يصير إلى الجار وهو ساحل المدينة، ثمّ يمضي إلى الحوراء وهو ساحل وادي القرى، ثمّ إلى خليج الأيلة، ثمّ إلى ساحل الطور وساحل راية حتّى ينتهي إلى القلزم ويقارب «5» بلاد مصر، ثم ينقطع ذلك العنق ويقف «6» . 191 قال ابن شيبة [و] الجيهاني معا: فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة على خمسة أقسام: تهامة والغور والحجاز والعروض واليمن. وذلك أنّ جبل

السراة- وهو أعظم جبال العرب- أقبل من أرض اليمن حتّى بلغ أطراف بوادي الشّام، فسمّته العرب حجازا لأنه حجز بين الغور- وهو هابط- وبين نجد- وهو ظاهر- فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيّه إلى أسياف البحر «1» من بلاد الأشعرين وعكّ «2» وكنانة- ولم يذكر الجيهاني كنانة- وغيرها إلى ذات عرق والجحفة وما طابقها وغار من أرضها. قال الجيهاني: وما صار فيها وغار من أرضها الغور- غور تهامة- وتهامة تجمع ذلك كلّه. وصار ما دون ذلك الجبل في شرقيّه من الصحاري النجد إلى أرض العراق والسّماوة وما يليها، ونجد يجمع ذلك كلّه. وصار الجبل نفسه سراته، وهو الحجاز وما انحجز في شرقيّه من الجبال وانحاز ناحيته، فمرّ والجبلين إلى المدينة ومن بلاد مذحج تثليث وما دونها إلى ناحية فيد حجازا، والعرب تسمّيه نجدا وجلسا وحجازا، والحجاز يجمع ذلك كلّه. حدّ الحجاز السّويداء والمدينة أربعة وأربعون ميلا. 192 قالا: وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما العروض وما فيها نجد وغور أقربها من البحر والانخفاض ومواضع فيها مسائل وأودية، والعروض يجمع ذلك كلّه. وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء وما والاها من البلاد إلى حضر موت والشّحر وعمان اليمن، وفيها التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كلّه. انتهى قولهما. 193 وقال الجيهاني دون يعقوب: (وهذا الجبل الذي يسمّى السراة مبدؤه من بلاد اليمن فيمتدّ حتّى يبلغ الشّام فتقطعه الأودية) «3» ، فإذا انتهى إلى ناحية

ذكر شيء من أخبار العرب العاربة والأمم الداثرة ومذاهبهم وديانتهم وسيرهم واعتقادهم

نخلة كان منها (خيطى ويسوم) «1» ، وهما جبلان بنخلة. وكان يطلع منها إلى جبل العرفج وجبل العرس، والأشعر والأجرد جبلان من جبال جهينة، ولها أودية وشعاب كثيرة. وذكر عن عمر بن الخطّاب انّه قال لعتبة بن غزوان حين بعثه إلى البصرة: إذا قطعت أقصى أرض العرب وبلغت إلى أرض العجم فانزل. وكان مناخه بباب البيضاء. 194 وطول جزيرة العرب من آخر حدود الشّام وأوّل حدود الحجاز إلى عدن اثنان وخمسون مرحلة بسير الإبل، وذلك ألف وخمسمائة ميل، وعرضها من بحر جدّة إلى بحر الأبلّة على الاستقامة ثلاثون مرحلة بسير الإبل، وذلك ثلاثمائة «2» ميل. وفي مواضع منها يختلف هذا الطول والعرض على حسب دخول البحر في أرضها «3» وخروجها عنه ونزحه منها. واسم هذه الجزيرة في كتب الأوائل مقدّس، وذلك بإبيان منها وهبوب الرياح إليها، وتسمّيها اليونانيّون ... «4» ، وتسمّيها العرب السّعيدة. ذكر شيء من أخبار العرب العاربة والأمم الدّاثرة ومذاهبهم وديانتهم وسيرهم واعتقادهم 195 أمّا طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح وجديس بن عابر بن إرم ابن سام فإنّهم ساروا ونزلوا البحرين واليمامة. واسم اليمامة جوف، إنّما سمّيت اليمامة بامرأة. فمكثوا كذلك برهة وبلادهم أفضل بلاد وأكثرها خيرا، حدائق ملتفّة

وقصور مصطفّة إلى أن غمطوا «1» النعمة وانتهكوا الحرمة، فملكهم رجل من طسم يقال له عملوق، فظلم وغشم لا ينهاه شيء عن هواه. فاختصمت إليه امرأة من جديس يقال لها هزيلة بنت مازن مع زوج قد فارقها في ابن لهما أراد أخذه منها، فتشاجرا في ذلك، وأمر الملك أن يؤخذ الولد منهما فيجعل في غلمانه، فقالت هزيلة في ذلك [طويل] : أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأبرم أمرا في هزيلة ظالما لعمري لقد حكّمت لا متورّعا ... ولا فهما عند الحكومة عالما ندمت فلم أقدر على متزحزح ... وأصبح زوجي حائر الرأي نادما فبلغ عملوق قول المرأة فغضب وأمر ألّا تتزوّج امرأة من جديس فتهدى إلى زوجها حتّى تحمل إليه فيفتضّها موجدة على النّساء. فلقوا في ذلك ذلّا عظيما طويلا حتّى تزوّجت الشّموس بنت غفار، وقيل: اسما غفيرة أخت الأسود بن غفار، وكان الأسود سيّدا في جديس. فلمّا كانت ليلة إهدائها حملت إلى عملوق ليطأها، ومعها القيان يغنّين ويقلن [رجز] : ابدي بعملوق وقومي فاركبي ... وبادري الصّبح بأمر معجب [فسوف تلقين الذي لم تطلبي] «2» ... فما لبكر (عنده من مهرب) «3» 196 فلمّا افتضّ عملوق غفيرة خرجت على قومها في دمها شاقّة جيبها «4» عن قبلها ودبرها وهي تقول [رجز] : لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس؟ وأبت أن تمضي إلى زوجها وقالت تحرّض قومها [طويل] : أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكمو عدد النمل

فإن أنتم لم تغضبوا «1» بعد هذه ... فكونوا نساء لا تفرّوا من الفحل «2» ودونكم طيب العروس وإنّما ... خلقتم لأثواب العروسة والكحل» فلو أننا كنّا الرجال وكنتمو ... نساء لكنّا لا نقرّ على الذلّ 197 فلمّا سمعت جديس ذلك أنفت وغضبت واجتمعت إلى الأسود بن غفار، فأجمعوا أن يصنع الأسود لعملوق وأصحابه طعاما فيدعوهم إليه، فإذا جاؤوا متفضّلين في الحلل والنعال نهضوا إليهم بأسيافهم فأتوا عليهم. فقالت غفيرة لأخيها: الغدر عار وعاقبته بوار، صبّحوا القوم في ديارهم تظفروا بهم أو «4» تموتوا كراما. فقالوا: الغدر أمكن من نواصيهم. فانقاد لمذهبهم واصطنعوا طعاما واخترطوا سيوفهم ودفنوها في الرمل. فلمّا توافى القوم إلى المائدة واستكملوا في المدعاة أتوا عليهم أجمعين، وهرب من طسم رجل من مرّة وهو رياح بن مرّة، فأتى حسّان بن تبّع فأعلمه غدر جديس بقومه واستعدائه عليهم، وكان من إيقاعه ما كان. وشهر «5» وسبى نساءهم وصبيانهم، وهرب الأسود بن غفار حتّى نزل بديار طي، فأجاروه ونسله اليوم في طي. 198 وسار «6» وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم بن سام إلى رمل عالج، وهي الأرض المعروفة بأرض وبار، فأهلكهم الله لما كان من بغيهم في الأرض

فانقرضوا. وسار «1» داسم «2» بن عمليق بن لاوذ بن سام- وهم من العماليق- إلى أرض السّماوة، وهي بين العراق والشّام، فأهلكهم الله بالريح السّوداء لإفسادهم، فلم يبق منهم باقية. وكانت بلاد داسم الجولان وبلاد حوران «3» والبثنيّة، وذلك بين دمشق وطبرية، وانقرضوا وأبادهم الله جميعهم. وكذلك بنو طخم بن إرم نزلوا الطائف فدثروا ببعض غوائل الدهر، وهم أول من وضع حروف المعجم. 199 فجميع العرب من أقطار الأرض من ولد عدنان بن قحطان، والعرب تزعم أنّ ديار وبار سكنتها الجنّ وحمتها من كلّ من أرادها، وكانت أخصب بلاد الله عزّ وجلّ وأكثرها شجرا وأطيبها ثمرا، وإذا دنا أحد من تلك البلاد ساهيا أو متعمدا سفت الجنّ عليه سوافي الرمل وأثارت عليه الزوابع، فخبلوه وربّما قتلوه. وقال الشّاعر في ذلك [طويل] : دعا جهلا «4» لا يهتدى بمقيله ... من اللؤم حتّى يهتدي لوبار فيزعمون أنه «5» ليس بهذه الأرض إلّا الجنّ والجمال الوحشية، وهذا عند كثير من ذوي الحجاز باطل. 200 والعرب تعتقد أن نفس الإنسان دمه والروح هو المحرّك له، ولذلك سمّوا المرأة نفساء لما يخرج منها من الدم. واختلف الفقهاء فيما له نفس سائلة إذا سقط في الماء، وقال تأبّط [شرّا] لخاله الشنفرى وقد سأله [عن قتيل قتله كيف كانت قصّته فقال] «6» : ألحمته عضبا فسالت نفسه سكبا. واحتجّوا

ذكر الغول

أنّ الميّت لا ينبعث منه دم إلّا ما كان محقونا قبل موته. وقد زعم بعضهم أنّ النفس هي الهامة الطائر الذي يصدح على القبر، ولذلك قال بعض الشعراء في أصحاب الفيل [خفيف] : سلّط الطير والمنون عليهم ... فلهم «1» في صدى المقابر هام ويزعمون أنّها تعلّم الميّت بما يكون من شأنه بعده. قال أميّة [كامل] : هامي تخبّرني بما تستشعروا ... فتجنّبوا الشّنعاء والمكروها وقال توبة، وينسب إلى غيره [طويل] : لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح فدلّ أنّ الصدى والهام تنزل إلى قبورهم وتصعد حتّى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا هام ولا صدى. ذكر الغول 201 فأمّا الغول فثابت عندهم، وقد ذكر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه شاهدها في بعض أسفاره وضربها بسيفه، وذلك قبل الإسلام. وقد زعم بعض المتفلسفين أنّه حيوان مشوّه لم تحكمه الطبيعة، فلمّا خرج منفردا في هيئته ونفسه توحّش في مسكنه، وهو بين الإنسان والحيوان البهيمي. وقد ذكر أهل الهند أنّ ذلك إنّما يظهر من فعل (ما كان) «2» عائبا من الكواكب عند طلوعها، فيحدث رأس الغول عند طلوعه تماثيل وأشخاصا تظهر في الصحراء، فسمّيت غولا باسم الطالع وهي ثمانية وأربعون كوكبا. ويحدث طلوع الكلب وهو الشّعرى العبور داء في الكلاب، وسهيل في الجمال حتّى قيل إنّه لا يقع عليه عين جمل إلّا أهلكه.

202 قال تأبّط شرّا في الغول [متقارب] : وأدهم قد جبت جلبابه ... كما جابت الكاعب الخيعلا على إثر نار ينور بها «1» ... فبتّ لها مدبرا مقبلا فأصبحت والغول لي «2» جارة ... فيا جارتي «3» أنت ما أهولا وطالبتها بضعها فالتوت ... بوجه تغوّل فاستغولا فمن كان يسأل عن جارتي ... فإنّ لها باللوى منزلا 203 وقد زعموا أنّ رجليها رجلا عير، والعرب ترتجز في الفيافي وتقول [رجز] : يا رجل عير انهقي نهيقا ... لم نترك السّبسب والطّريقا وذلك أنها تترأى لهم بالليل وأوقات الخلوة وتناديهم فيتوهّمون «4» أنها إنسان فيتبعونها فتضلّهم. قال الشاعر [بسيط] : وحافر عير في ساق خدلّجة 204 وقد ذكر المصنّفون وهب بن منبّه وابن إسحاق وغيرهما أنّ الله عزّ وجلّ خلق الجان من نار السّموم وخلق منه زوجته كما خلق حوّاء من آدم فغشيها فحملت وباضت إحدى وثلاثين بيضة، فمنها القطاربة وهي أمثال الهرّة «5» ، والأباليس من بيضة زعيمهم الحارث أبو «6» مرّة ومسكنهم البحور، والمردة من بيضة أخرى ومسكنهم الجزائر، والغيلان من بيضة أخرى ومسكنهم

ذكر النسناس

الفلوات، والسّعالي من بيضة أخرى ومسكنهم الجبال، والنهاريس من بيضة أخرى ومسكنهم الحمّامات، والسّباطات والهوام من بيضة أخرى ومسكنهم الهواء في صور من الحيّات ذوات أجنحة. ذكر النّسناس 205 فأمّا النّسناس فيزعمون أنّه ببلاد حضر موت وأنّه كمثل نصف الإنسان بيد واحدة ورجل واحدة يثب وثبا ويعدو عدوا شديدا، وأنّه يغتذي بجميع النبات ويصبر على العطش. ويروون خبرا عن شيب بن شيبة بن الحارث التميمي قال: قدمت الشّحر فنزلت على زعيمها فتذاكروا النّسناس فقال: استعدّوا فإنّا خارجون في قنصهم. فلمّا خرجنا ألظّ كلبان منهم بواحد وله وجه كوجه الإنسان وشعرات في ذقنه ورجلاه كرجلي الإنسان. قال: فجعل يعدو وهو يقول [رجز] : الويل لي ممّا به دهاني ... دهري من الهموم والأحزان قفا قليلا أيّها الكلبان ... إليكما حتّى تحارباني ألفيتماني حاضرا عناني ... لو بي شباب ما ملكتماني لكن قضاء الملك الرحمن ... يذلّ ذا العزّة والسّلطان «1» فالتقيا به فأخذاه فعمدوا به إلى موضع فيه شجر فذبحوه. فقال قائل منهم من شجرة: سبحان الله ما أشدّ حمرة دمه. فقالوا: نسناس خذوه. فأخذوه، فأجاب آخر من شجرة أخرى قال: لأنه كان يأكل السّمّاق. قالوا: خذوه. فأخذوه، فقال آخر: لو سكت لم يعلم مكانه. فقالوا: خذوه. فأخذوه، فقال آخر: أنا صامت. فقالوا: خذوه. فأخذوه، فقال

ذكر عنقاء مغرب

آخر: يا إنسان احفظ رأسك. فقالوا: خذوه. قال س: ورأيت أهل الشّحر وحضر موت يستطرفون أخبار النسناس ويتوهّمون أنّه ببعض البلاد، وهذا يدلّ على عدم كونه وأنّه من هوس العامّة كما وقع لهم خبر عنقاء مغرب. ذكر عنقاء مغرب 206 وأمّا عنقاء مغرب فرووا فيه حديث عروة عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّه طائر فضّل به بنو إسرائيل ذكر وأنثى. فانتقل نسله بعد يوشع بن نون وانتشر إلى بلاد قيس عيلان بحدود الحجاز، فأذى الصبيان والولدان، فشكوا ذلك إلى خالد بن سنان، وكان بين عيسى ومحمّد - صلى الله عليه وسلم -. فدعا الله أن يقطع نسل العنقاء فقطع الله نسلها وبقيت صورتها تصوّر في البسط. وكان من أجمل طائر خلقه الله تعالى وأعظمها وكان وجهه على هيئة وجوه الناس. وقد ذهب ناس من أهل الروايات أنّ قولهم عنقاء مغرب إنّما هو للأمر العجيب والعنق السّرعة. وقد ذكر أنّ حنين «1» بن إسحاق حمل النسناس إلى المتوكّل، وكان أمره وغيره من الحكماء أن يوردوا عليه ما يأتي لهم من مثل هذا. قال: والخبر عن النسناس كالخبر عن الصبيني «2» وغيره. والصحيح أنّ النسناس السّفلة من الناس والأرذال. ذكر الهواتف 207 فأمّا الهواتف فقد كانت كثرت في العرب واتّصلت بديارهم لا سيّما بين يدي مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أصوات مسموعة من غير رؤية متصوّت. وقد ذكر

جماعة أنّ ذلك من قبل التوحّد في القفار والتفرّد في الديار. والإنسان إذا توحّد توحّش، وإذا توحّش فكّر، وإذا فكّر وجل فداخلته الظنون الكاذبة والهموم السودانية الفاسدة، فوهّمته المحال «1» من الأصوات والأشخاص. والعرب لا تختلف أنّ علقمة بن صفوان بن أميّة بن حجر الكندي جدّ مروان بن الحكم لأمّه قتلته الجنّ وأنّ شقّ اعترض له، فقال علقمة [رجز] : شقّ ما لي ولك: اغمد عنّي منصلك: تقتل من لا يقتلك فقال شقّ [رجز] : عننت أو عننت لك.. كيما أبيح مقتلك.. فاصبر لأمر حمّ لك «2» فضرب كلّ واحد منهما صاحبه فخرّا ميّتين. وممّن قتلته الجنّ حرب ابن أميّة وربته (؟) الجنّ وقتلت مرداس بن أبي عامر والد العبّاس ابن مرداس وقتلت الغريض لشعر غنّاه كانت نهته عنه، وهذا متعارف عندهم مشهور. 208 وقد ذكر أبو عبيدة عن منصور بن يزيد الطائي أنّ قبر حاتم طيّء حوله قدور حجارة عظيمة من بقايا قدوره التي كان يطعم فيها مكفّأة في نواحيه. وعن يمين قبره أربع جوار من حجارة وعن شماله مثلهنّ محتجرات على قبره كالنائحات لم ير مثل بياض أجسامهنّ وجمال حسنهنّ، وربّما رآهنّ الرائي فيفتتن بهنّ ويميل إليهنّ، فإذا دنا منهنّ رأى حجارة. وهم يزعمون أنّها من عمل الجنّ، فهنّ بالنهار كما وصفوه، وإذا هدأت العيون ارتفعت أصوات الجنّ بالنياحة عليه. قالوا: ونحن في منازلنا نسمع ذلك إلى طلوع الفجر.

ذكر القيافة والزجر

وكان رجل يكنّى أبا الخيبري مرّ في نفر من أصحابه بقبر حاتم فجعل يناديه: أبا الجعد اقرنا «1» . فقالوا له: تنادي رمّة بالية. فقال: إنّ طيّئا تزعم أنه لم ينزل به أحد إلّا قراه. فنزلوا فانتبه أبو الخيبري مذعورا ينادي: ووا راحلتاه «2» . فقال له أصحابه: ما بالك؟ قال: خرج حاتم من قبره بالسّيف وأنا أنظر حتّى نحر راحلتي. فنظروا فإذا بها منجدلة لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك. وظلّوا يأكلون لحمها شواء «3» وطبيخا، ثمّ أردفوه «4» وانطلقوا سائرين، فإذا راكب بعير يقود آخر قد لحقهم وقال: أيّكم أبو الخيبري؟ قال الرجل: أنا. قال الراكب: أنا عديّ بن حاتم وإنّ حاتما جاءني الليلة فذكر أنّك استقريته واستبطيته وهو ينشدك [متقارب] : أبا الخيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتّامها أتيت بصحبك تبغي القرى ... لذي حفرة صدحت «5» هامها أتبغي لي الضيم عند المبيت ... وحولك طيء وأنعامها فإنّا سنشبع «6» أضيافنا ... ونأتي المطيّ فنعتامها وقال الشّاعر في عديّ بن حاتم [طويل] : أبوك أبو «7» سباقة الخير لم يزل ... لدن شبّ حتّى مات في الخير راغبا قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا ذكر القيافة والزجر 209 والقيافة والزجر من خواصّ العرب فضلت بهما دون سائر الأمم. فأمّا ما يوجد من الزجر في الإفرنجة فإنّما أخذوه ممّن جاورهم من العرب في سالف الدهور، ويمكن أن يكونوا أخذوه ممّن جاورهم من العرب ببلاد الأندلس بعد ظهور

الإسلام، ولعلّ الله قد خصّ بالزجر أمّة غير العرب، والأوّل أشهر. والقيافة من القفو وهو تتبّع «1» الأثر والبحث عليه والتنقير. وأصل ذلك أنّ الأشكال انفصلت في الصور (فتشكّلت وخصّت) «2» الأجناس، ثمّ خصّت الطبيعة في كلّ نوع من الجنس بفصل «3» أبانته من أغياره وكالطول في أزد شنوءة. فكذلك أيضا خصّت آحاد الأشخاص المنفصلة في الهيئة عن أقفارها، فالقائف [يقارب بين] «4» الهيئات فيحكم للأقرب صورة. وكان نظر القائف إلى القدم لأنها نهاية الشّكل وغاية الهيئة، والولد لو خالف أباه في سائر شكله لوافقه في القدم. وقد صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرزا المدلجي وقال بالقيافة أكثر فقهاء الأمصار «5» ، وأنكر جماعة منهم الحكم بها وحجّج الأوّلين خبر الملاعنة لمّا أتت به على النعت المكروه وخبر بن وليد زمعه (؟) وغير ذلك. واحتجّ الآخرون بإلحاق النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبي بأبيه الذي شكّ فيه لمّا ولد أسود حين قال: ولعلّ عرقا نزعه على ما سنورده. 210 والكهانة في اليمن خصوصا والقيافة والزجر في نزار ورثوها عن آبائهم على ما سنورده. ثمّ خصّت بنو أسد بالزجر وبنو مدلج بالقيافة، وقد قفت القافة بقريش أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر على الحجر الصلد والجبل الجرد وحيث لا تكنس الأقدام في رمل ولا تراب حتّى انتهوا إلى باب الغار، فحجبهم الله عزّ وجلّ عنهم بما كان من نسج العنكبوت وبما «6» سفت عليه الرياح «7» . وبلاد الجفار بين مصر والشّام بها «8» أناس من العرب يتّخذونهم الولاة يقصّون آثار الناس فيخبرونهم بالآثار أيّ ناس هم ممّن طرق «9» تلك البلاد، وهم إنّما عاينوا الآثار لا القدم، وهذا حسّ دقيق ومعنى لطيف.

211 ولمّا حضرت نزار الوفاة قال لإياد: هذه الجارية- لجارية له شمطاء- وما أشبهها لك. ودعا أنمار وهو في مجلس له فأعطاه بدرة وقال: هذه البدرة والمجلس لك وما أشبههما لك. ودعا ربيعة فأعطاه خباء له أسود من شعر فقال: هذا وما أشبهه لك. وأعطى مضرا قبّة حمراء فقال له: هذه وما أشبهها لك. ثمّ قال: وإن أشكل عليكم شيء فاتوا الأفعى الجرهمي، وكان ملك نجران. فلمّا مات ركبوا رواحلهم يريدون الأفعى، فلمّا كانوا من نجران على يوم إذا «1» هم بأثر بعير. قال إياد: هذا أثر بعير أعور. قال أنمار: وإنّه لأبتر. قال ربيعة: وإنّه لأزور. قال مضر: وهو شرود لا يستقرّ. فلم يلبثوا أن رفع لهم راكب، فلمّا غشيهم قال لهم: هل رأيتم من بعير ضالّ؟ فوصفوه له. قال: إنّ هذه لصفته عينا، فأين بعيري؟ قالوا: ما رأيناه. قال: أنتم أصحاب بعيري وما أخطأتم من نعته شيئا. فلمّا أناخوا بباب الأفعى واستأذنوا عليه فأذن لهم صاح الرجل بالباب فدعا به الأفعى فقال له: ما تقول؟ قال: أيّها الملك ذهب هؤلاء ببعيري. فسألهم الأفعى عن شأنه فأخبروه. فقال لإياد ما يدريك أنّه أعور؟ قال: قد رأيته قد لحس الكلأ من شقّ والشّقّ الآخر وافر، (فعلمت أنّه أعور) «2» . وقال أنمار: رأيته يرمي ببعره مجتمعا، ولو كان أهلب لمصع به، فعلمت أنه أبتر. وقال ربيعة: إحدى رجليه ثابتة والأخرى فاسدة، فعلمت أنّه أزور. قال مضر: رأيته يرعى الشّقة من الأرض ثمّ يتعدّاها فيمرّ بالكلإ الفضّ فلا ينهش منه شيئا، فعلمت أنّه شرود. فقال الأفعى: صدقتم وليسوا بأصحابك، التمس بعيرك. ثمّ سألهم الأفعى عن نسبهم فأعلموه فرحّب بهم وحيّاهم، ثم قصّوا عليه قصّة أبيهم فقال: فكيف تحتاجون إليّ وأنتم على ما أرى؟ قالوا: ما أمرنا بذلك أبونا. فأمر خادم دار الضيافة «3» أن يحسن إليهم ويكرمهم وأمر وصيفا له أن يلزمهم وينتقد كلامهم. فأتاهم القهرمان بشهد فأكلوا وقالوا:

ما رأينا شهدا أعذب ولا أحسن منه. قال إياد: صدقتم لولا أنّ نحله صنعته في هامة جبّار. ثم جاءهم بشاة مشوية فأكلوا واستطابوها فقال أنمار: صدقتم لولا أنّها غذيت بلبن كلبة. ثم جاءهم الشراب فاستحسنوه فقال ربيعة: صدقتم لولا أنّ كرمه نبت على قبر. ثم قالوا: ما رأينا منزلا أكرم قرى ولا أخصب رحلا من هذا الملك. قال مضر: صدقتم لولا أنّه لغير أبيه. 212 فذهب الغلام إلى الأفعى فأعلمه. فدخل الأفعى على أمّه فقال: أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أبي. فقالت: أي بنيّ أنت ابن الأفعى الأعظم. قال: حقّا لتصدّقيني. فلمّا ألحّ عليها قالت: أي بنيّ إنّ الأفعى كان شيخا كبيرا قد أثقل فخشيت أن يخرج هذا الأمر عنّا أهل البيت، وكان عندنا شابّ من أبناء الملوك اشتملت عليك منه. ثمّ بعث إلى القهرمان فقال: أخبرني عن الشهد الذي قدمته إلى هؤلاء النفر ما خطبه. قال: جزنا بدير في طيف فيه عظام نخرة، وإذا النحل قد عسلت في جمجمة من تلك العظام، فأمرت باستزباده فأتوا بعسل لم ير مثله قطّ، فقدّمته إليهم لجودته. ثمّ بعث إلى صاحب مائدته فقال: ما هذه الشاة التي أطعمتها هؤلاء النفر؟ فقال: إنّي بعثت إلى الراعي أن يبعث إليّ بأسمن ما عنده فبعث بها، فسألته عنها فقال: إنّها أول ما ولدت من غنمي، فماتت أمّها وأنست السّخلة بجراء كلبة ترضع معهم، فلم أجد في غنمي مثلها فبعثت بها إليك. ثمّ بعث إلى صاحب الشّراب فسأله عن شأن الخمر فقال: هي كرمة غرستها على قبر أبيك، فليس في بلاد العرب مثل شرابها. فعجب الأفعى من القوم وقال: ما هم إلّا شياطين. ثمّ أحضرهم فسألهم عن وصية أبيهم، فقال إياد: جعل لي جارية شمطاء وما أشبهها من ماله. فقال الأفعى: إنّه إن ترك غنما برشاء فهي لك ورعاتها مع الخادم. فقال أنمار: جعل لي بدرة ومجلسه وما أشبههما من ماله. فقال الأفعى: لك ما ترك أبوك من الرقّة والأرض. وقال ربيعة: جعل لي بيتا أسود وما أشبهه. فقال الأفعى: إن ترك أبوك خيلا دهماء وسلاحا فهي

لك وما فيها من عبيد. فقيل ربيعة الفرس. وقال مضر: جعل لي قبّة حمراء وما أشبهها. فقال: إنّ أباك ترك إبلا حمراء، فهي لك وما أشبهها. فقيل مضر الأحمر. فكانوا كذلك زمانا إلى أن أصابتهم سنة فأهلكت الشّاء وعامّة الإبل وذهبت بالرقّة والمتاع، فكان ربيعة يغزو على خيله وبعيره ويعول إخوته. 213 وكان سبب تحوّل أنمار إلى اليمن أنّه تعرّق عظما في جنح الليل، ثمّ رمى به وهو لا يبصر، فانغرز في عين مضر ففقأها، وصاح مضر وتشاغل إخوته به وجرّد أنمار بعيرا من كرائم إبله فلحق بأرض اليمن. 214 ومن عجيب الزمان خبر عبيد الراعي لمّا خرج في ركب من قومه يريدون رئيس بني أسد، فسنحت لهم ظباء سنوحا منكرا، ثم اعترضت «1» الركب مقصّرة في حضرها واقفة عن شأوها، فأنكر ذلك عبيد فلم يأبه أصحابه لما كان السّانح عندهم محمودا، فقال عبيد [طويل] : ألم تدر ما قال الظباء السّوانح ... أطفن «2» أما الركب والركب رائح فكبّر «3» من لم يعرف الزجر منهم ... وأيقن قلبي أنهن نوائح

ذكر الكهانة

ذكر الكهانة 215 أمّا الكهانة فلم تخل «1» أمّة إلّا قد كانت فيها كهانة، وهي من الأمور المثبوتة غير المرفوعة في جميع الأمم. فزعم اليونانيّون أنّ النفس إذا صفت اطّلعت على أسرار الطبيعة وما تريد «2» أن يكون منها، لأنّ ظهور الأشياء عندهم في النفس الكلّيّة، ولذلك كان فيتاغورس «3» يعلم علوما من الغيب وضروبا من الوحي، وهم يعرفون هذه الطائفة بالروحانية. وهذه علّة النبوّة عند الصّابئة، ولذلك كان عندهم هرمس وأورياسيس «4» وغيرهما أنبياء. وذهبت طائفة [إلى] أنّ سبب الكهانة الوحي الفلكي وأنّ ذلك في المولد عند ثبوت عطارد على شرفه. وكان سائر الدراري في عقود «5» متساوية وأرباع «6» متكافية ومناظر متوازية «7» ، فيجب حينئذ لصاحب المولد التكهّن. وذهب كثير إلى أنّ كون ذلك في القرانات الكبار ولعلل ذكروها، وادّعى قوم أنّ الأرواح المنفردة «8» من الجنّ تخبرهم بالأشياء قبل كونها وأنّ أرواحهم لمّا صفت صارت لتلك الأرواح من الجنّ موافقة. وقول الشرعيّين إنّ الشياطين تسترق السّمع وتلقيه على ألسنة الكهّان. وزعم كثير ممّن تقدّم أنّ النفس إذا هي قويت وزادت قهرت الطبيعة وغلب القسم النفسي القسم الجسدي، فأباحت للإنسان كلّ سرّ لطيف وخبّرته بكلّ معنى شريف. 216 ولذلك وجد الكهّان من نقصان الجسم وتشويه الخلق ما يوجدون عليه كشقّ

الأنماري وسطيح الغسّاني واسمه ربيع بن ربيعة وسملقة وزوبعة «1» الكاهنين وعمران أخي عمرو بن عامر مزيقيا وحارثة جهينة وكاهنة باهلة. وقد كان سطيح يدرّج جسده كما يدرّج الثوب «2» خلا جمجمة رأسه، (وكانت جمجمته) «3» إذا لمست باليد أثّرت فيها للين عظمها. وشقّ هذا الأنماري هو غير شقّ الأوّل، وشقّ الأوّل هو [ابن] حويل بن إرم بن سام بن نوح، وهو أوّل كاهن كان في العرب. وإرم أبو الجبابرة من عاد وثمود وجديس وطسم وغيرهم، ويقال إنّه كانت له عين واحدة في جبهته. ويقال إنّ الدجّال من ولده، ويقال: بل هو الدجّال بعينه أنظره الله إلى الوقت المعلوم وهو محبوس في بعض الجزائر، ويقال إنّ الشياطين تأتيه بما يأكله، ويقال إنّه لا يحتاج إلى غذاء، وقيل إنّ أمّه امرأة من الجنّ تعشّقت أباه حويل فتزوّجها وأولدها الدجّال. واسمه خوص بن حويل، وهو مشوّه مبذول، وكان إبليس يعمل له العجائب. فلمّا كان وقت سليمان بن داود عليهما السّلام دعاه فلم يجبه فحبسه في جزيرة في البحر. ويقال إنّه كان له أخ فاستهوته الجنّ لما كانت أمّه منهم، وإنّه ملك بوار التي غلبت عليها «4» الجنّ وهي من مدائن العرب، وإنّ الجنّ في طاعته. وقيل إنّ مجلسه كان في قبّة بوادي برهوت في اليمن فكانوا يحجّون إليه، وإنّه لم ينم قطّ وكانوا يرون بين عينيه نارا بيضاء، وموضعه الذي هو فيه مسجون أنّه يعلو مكانه بالنهار دخّان وبالليل نار مضيئة. 217 ومذهبهم أنّ النفس لا يحويها البدن، وإذا بطلت أفعالها من البدن لم تبطل هي في ذاتها. والروح يحويه البدن، فإذا فارق البدن بطل. وفي هذا تنازع كثير واختلاف، وليس هذا موضع استقصائه. وسبب صدق الرؤيا عندهم من هذا لأنّ النفس تخلص في المنام من شوائب الأجسام فتشاهد

ذكر العراف

الأشخاص «1» بالقوّة الروحانية لا بالقوّة الجسمانية، فمن كانت نفسه صافية لم تكن رؤياه تكذب، ثمّ تكون الرؤيا وسائط بقدر مراتب النفس من الصفاء والكذب. ذكر العرّاف 218 فأمّا العرّاف فهو دون الكاهن مثل الأبلق الأسدي والأجلح الزهري ورياح بن كملة «2» عرّاف اليمامة الذي يقول «3» فيه الشّاعر [طويل] : فقلت لعرّاف اليمامة داوني ... فإنّك إن داويتني لطبيب وكان أوّل من «4» تكهّن سطيح الغسّاني بأمر سيل العرم وأنذر به قومه. ولم تزل أرض سبأ من أخصب أرض وأهلها في أرغد عيش، وكانت مسيرة شهر للمجدّ الراكب في مثل ذلك، وكان المارّ يسير (في تلك الجنان) «5» من أوّلها إلى آخرها لا تواجهه الشّمس ولا يفارقه الظلّ مع تدفّق الماء وصفاء الهواء واتّساع الفضاء. فمكثوا كذلك ما شاء الله لا يعاندهم «6» ملك إلّا قصموه ولا يعارضهم جبّار إلّا كسروه، وكانت سمة الذي يتملّك هذا البلد مأرب واشتهر البلد باسمه. قال الشّاعر [منسرح] : من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقيل إنّ مأرب سمة لقصر ذلك الملك في صدر الزمان. قال أبو الطمحان [طويل] : ألم تروا مأربا ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان

219 وكانت أرض سبأ في بدء الزمان عامرة (تركبها السّيول) «1» وتغمّها الوحول، فجمع ملك من ملوك حمير الحكماء وأحضر البصراء وشاورهم في دفع ذلك الماء وحصره وإزالة ما كان من أمره. فأجمعوا على حفر مصارف له إلى جدار تؤدّيه إلى البحر، فحشد الملك أهل مملكته حتّى صرف الماء واتّخذ له سدّا في الموضع الذي كان فيه بدء جريان الماء من الجبل إلى الجبل، وذلك نحو فرسخ، رصفه بالبنيان والحجارة والحديد وجعل فيه ثلاثين مخراقا للماء في استدارة الذراع على أصحّ هندسة وأكمل تقدير يجتذبون «2» منها مقدارا من الماء معلوما وشربا للأرض مقسوما. 220 قال ابن وهب: بعث الله اثني عشر نبيّا، وكان من بعث عليه سيل العرم منهم يعبدون الشمس، فأرسل الله عزّ وجلّ إليهم رسلا يدعونهم إلى الحقّ ويزجرونهم عن الباطل ويذكّرونهم آلاء «3» الله تعالى، فأنكروا نعمة الله وقالوا: إن كنتم صادقين فادعوا الله أن يسلبنا ذلك حتّى قالت امرأة منهم [رجز] : إن كان ما نصبح في ظلاله ... من ربّكم فلينطلق بماله إليه عنّا وإلى عياله فدعت عليهم الرسل، فأرسل الله عزّ وجلّ عليهم سيل العرم بفأرة خرقت ذلك السّدّ المحكم والصخر المنضمّ ليكون أثبت في العبرة وأبين في الحجّة، وأباد الله حضرهم «4» وأذهب أموالهم ومزّقهم كلّ ممزّق وباعد بين أسفارهم. ففي ذلك يقول الأعشى [متقارب] :

ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفّى عليه العرم رخام بنته لهم «1» حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم فأروى الحروث وأعنابها ... على سعة ماؤها قد قسم فكانوا كذلك في خفية ... فمال بهم جارف منهدم فصاروا أباديد ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم 221 وكان سطيح وعمران بن عامر أخوا مزيقيا وطريفة الكاهنة ينذرون مزيقيا بذلك، وطريفة امرأة من أهل ردمان. فكان عمرو مزيقيا يقول لطريفة: وما آية ذلك؟ فتقول: إذا رأيت جرذا يكثر بيديه في السّدّ الحفر ويقلّب برجليه الصخر فاعلم أنّه قد اقترب الأمر. فيقول: وما هذا الأمر؟ فتقول «2» : وعد من الله نزل ونكال بنا نكل، فبغيرك «3» يا عمرو فليكن الثكل. وكان عمرو يحرس السّدّ حتّى رأى به يوما جرذا يقلّب بيديه صخرة ما يقلّبها خمسون رجلا، فرجع وهو يقول [رجز] : أبصرت أمرا هاج لي برج السقم ... من جرذ كفحل خنزير أحم له مخاليب وأنياب فطم ... يسحب فهرا من جلاميد العرم ما فاته سجلا من الصخر قصم ... كأنّها تقرض قطعا «4» من أرم 222 فأجمع عمرو على الخروج من سبأ وبيع ماله بها وأعمل الحيلة في أن لا ينكر الناس ذلك منه، فقال لابنه: إنّي صانع طعاما وادع إليه أهل مأرب فاجلس عندي ونازعني الحديث واردد عليّ مثل ما أقول لك. ففعل ذلك وتشاتما «5» وصاح عمرو: وأذلّاه يوم ينجد «6» عمرو وصبي. وحلف لا

يقيم ببلد صنع به ذلك فيه، فجعل يبيع أمواله، فقال بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو واشتروا منه «1» قبل أن يرضى. فلمّا اجتمع لعمرو أمواله أخبر الناس بسيل العرم، فأجمعوا على الجلاء، فقال لهم عمران الكاهن أخو مزيقيا: سأصف لكم البلدان فاختاروا أيّها شئتم، من كان منكم ذا همّ بعيد وجمل غير شديد فليلحق بالشعب من كرود «2» . فلحق به همدان ووداعة دخلت فيهم. قال: ومن كان منكم ذا سياسة وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مرّ. فلحقت به خزاعة وهم بنو عمرو بن يحيى انخزعت هناك من إخوتها. ولذلك يقول حسّان [طويل] : ولمّا هبطنا بطن مرّ تخزّعت ... خزاعة منّا في حلول كراكر وهم ملك وملكان بنو أفصى «3» بن حارثة بن عمرو مزيقيا. قال: ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل. فنزلها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو. وقال: ومن كان منكم يريد الخمر والخمير والديباج والحرير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وجمير- وهي من أرض الشّام. فنزلها غسّان. وقال الزبير بن بكّار إنّه قال: من كان يريد خمرا وخميرا وبرّا وشعيرا وذهبا وحريرا فلينزل بصرى وسريرا. وزاد أنّه قال: من كان ذا جمل رفق وهو راض بدقّ فليلحق بأرض شقّ. فلحق عمران ابن عامر بعمّان، وبها يومئذ شقّ غسّان وهم جفنة والحارث وعوف وكعب وملك والنعمان بنو عمرو بن عامر، ومعهم عمرو بن عامر أبوهم وبنو مازن والأزد، وسمّوا غسّان لأنهم نزلوا على ماء بين الأشعرين وعمك يقال له غسّان فنسبوا إليه. قال شاعرهم [بسيط] : أما سألت فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتنا «4» والماء غسّان قال الكاهن: ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيول العتاق والذهب والأرزاق فليلحق بالعراق. فلحق بها بكر بن مالك بن فهم الأزدي وهم من كان بالحيرة من غسّان.

القول في مذاهب العرب وغيرها

القول في مذاهب العرب وغيرها 223 قال أبو عبيد: فأمّا مذاهب العرب وغيرها في عبادة الأصنام على صور الملائكة، فعبدوها وقّربوا إليها القرابين. وذهبت فرقة إلى أنّ الكواكب أقرب الأجسام في المرتبة إلى الله وأنّها حيّة ناطقة «1» وأنّ الملائكة تختلف فيما بين الله عزّ وجلّ وبينها، وأنّ كلّ ما يحدث في العالم فإنّه على قدر ما تجري به الكواكب، وقرّبوا لها القرابين لتنفعهم. فلمّا رأوها تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل وبعض الأزمان جعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها، وبنوا لذلك البيوت والهياكل وسمّوها بأسماء الكواكب الى أنّهم إذا عظموا من ذلك شيئا تحرّكت لهم «2» الأجسام العلوية بكلّ ما يريدون. فيقول الله عزّ وجلّ حكاية عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الآية «3» . ذكر معبودات العرب وعلّة عبادتهم للأصنام 224 قال: وذكر أنّ ابتداء عبادة العرب الأصنام هو أنّ عمرو بن لحي «4» خرج من مكّة إلى الشّام، فلمّا قدم مأرب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فسألهم فأعلموه أنّهم يستمطرون بها ويستنصرون بها فتنصرهم «5» . فسألهم إيّاها فأعطوه هبل صنم، فقدم به مكّة فنصبه وأمر بعبادته. وقيل: أوّل ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل لأنّ الرجل

القول في البيوت المعظمة في الجاهلية

منهم كان إذا ظعن من مكّة حمل مع نفسه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما نزل طاف به كالكعبة حتّى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه وصاروا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالة. 225 فقد كانت لقوم نوح أصنام يعكفون عليها كما قال الله عزّ وجلّ. وقيل: علّة ذلك أنّ إسافا ونائلة كانا رجلا «1» وامرأة من جرهم، فجرا في الكعبة فمسخهما الله. وذكرت علّة رابعة: أنّ أوّل صنم عبد من دون الله ودّ، وذلك أنّ ودّا رجل مسلم من أهل بابل، وكان محبّبا في قومه. فلمّا مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه. فلمّا رآى إبليس جزعهم عليه تشبّه في صورة إنسان وقال: أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم في أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم. فصنع لهم تمثالا جعلوا يقبلون عليه ويذكرونه حتّى اتّخذ كلّ واحد منهم تمثالا مثله في منزله يعظّمه ويتبرّك به، ثمّ تناسلوا على ذلك. القول في البيوت المعظّمة في الجاهلية 226 وقد ذهب قوم إلى أنّ البيت الحرام هو بيت زحل، ولذلك طال مقامه معظّما على مرور الدهور لأنّ زحل من شأنه البقاء والثبوت. وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها منها استعمال التفث والشّعث عند حجّه وغير ذلك.

227 والبيت الثاني من السّبعة بيت على رأس جبل إصبهان على ثلاثة فراسخ منها يقال له «1» ماربين «2» وكانت فيه أصنام، فجعله يستاسف بيت النار لمّا تمجّس وهو معظّم عند المجوس إلى هذه الغاية. 228 والبيت الثالث من السّبعة ببلاد الهند يدعى مندوسان «3» فيه من القوى الدافعة والجاذبة والمنفّرة أوصاف لا يسع ذكرها، وهو بيت مشهور، ومن أراد البحث عليه «4» فليبحث. 229 والبيت الرابع من السّبعة هو النوبهار الذي بناه منوشهر الهندي بمدينة «5» بلخ من خراسان بنيت «6» على اسم القمر، وكان من يلي سدانته يعظّمه الملوك وتنقاد إليه وتحمل إليه الأموال. واسم الذي يلي سدانته برمك وبه سمّيت البرامكة لأنّ خالدا كان من ولد من ولي هذا البيت. وكان بنيانه من أعلى المباني تشييدا ينصب في أعلاه شقائق الخزّ الأخضر طول الشّقّة مائة ذراع لتدفع عنه قوّة الريح، فخطف الريح يوما بعض تلك الشّقائق فرمت به على مسافة خمسين فرسخا، وهذا يدلّ على ذهابه في الجوّ. وعلى باب النوبهار كتاب بالفارسية فيه: قال بوداسف «7» : أبواب الملوك تحتاج إلى خصال ثلاث: عقل وصبر ومال. وتحت هذه الكتابة مكتوب بالعربية: كذب

بوداسف «1» ، الواجب على الحرّ إذا كانت «2» معه واحدة من هذه الخصال ألّا يلزم باب السّلطان. 230 والبيت الخامس بيت غمدان الذي بمدينة صنعاء، وكان الضحّاك بناه على اسم الزّهرة وخربه عثمان، فهو في وقتنا هذا خراب وقد صار تلّا عظيما وجبلا ضخما. وكان الوزير علي بن عيسى ابن الجرّاح لمّا نفي إلى اليمن احتفر فيه بئرا وبنى عليه سقاية. ويزعم أهل اليمن أنّه سيبنى على يد غلام يخرج من بلاد سبأ يؤثر في هذا العالم تأثيرا عظيما. وقال الجاحظ: كان (أربع عشرة طبقة) «3» بعضها فوق بعض. وقيل إنّ ملوك اليمن كانوا إذا قعدوا على هذا البنيان بالليل واشتعلت «4» السّرج رؤي ذلك على [مسيرة] «5» أيّام كثيرة. 231 والبيت السّادس كاوسان بناه كاوس الملك ولهدمه خبر طريف «6» ذكر في كتاب أخبار الزمان، وكان الملك كاوس «7» بناه على اسم المدبّر الأعظم- وهو الشمس- بمدينة فرغانة من مدن خراسان، خربه المعتصم. 232 والبيت السّابع من البيوت بأعلى «8» بلاد الصين بناه ولد عامور بن سوبل «9» بن يافث بن نوح على سبعة أبيات في كلّ بيت منها سبع كوى

والذي بنته اليونانية من البيوت والهياكل ثلاثة:

تقابل كلّ كوّة صورة كوكب من الخمسة والنّيّران من أنواع الجوهر المضاف إلى تأثير ذلك الكوكب، ولهم فيه أسرار بزعمهم في اتّصال الأجسام السّمائية بعالم الكون وتأثيرها. وقد قرّب ذلك إلى عقولهم بأن جعل لهم مثالا من الشّاهد يدلّ على ما غاب عنهم. والذي بنته اليونانيّة من البيوت والهياكل «1» ثلاثة: 233 بيت «2» أنطاكية من أرض الشّام على جبل داخل مدينتها على يسرة الجامع اليوم. وكانت فيه تماثيل [من] الفضّة والذهب وأنواع الجواهر، بناه سلاقيوس «3» وخربه المسلمون. وقد كان ثابت بن قرّة بن كرايا «4» الصابي الحرّاني حين وافى المعتضد بالله في سنة تسع وثمانين ومائتين «5» أتى هذا الهيكل وعظّمه. وبيت ثان الهرم «6» الذي يرى على أميال من الفسطاط. وبيت المقدس، والشّرعيّون يذكرون أنّ داود بناه وأتمّه سليمان عليهما السلام، وقد قيل غير ذلك. 234 وأمّا بعل الصنم الذي ذكر في التنزيل فكانت اليونانية اختارت له جبل لبنان فاتّخذوا له هناك هيكلا فيه نقوش عجيبة في الحجر لا يتأتّى حفر مثلها في الخشب.

[ذكر بيوت الصابئة]

235 وللصقالبة «1» بيوت ثلاثة فيها مخاريق مصنوعة (يسمع فيها أصوات قد اجتذبت قلوبهم واسترقت عقولهم، وفي بيت منها جواهر موضوعة) «2» وآثار مرسومة تدلّهم على الكائنات والحوادث قبل وقوعها. وهذا البيت على الجبل الذي ذكرت الفلاسفة أنّه أحد جبال العالم. وعلى الجبل الأسود البيت الثاني تحيط به مياه عجيبة وأشجار ذوات طعوم مختلفة وفيه صنم عظيم على صورة رجل، هيئته شيخ بيده عصا يحرّك بها عظام الموتى وتحت رجله اليمنى صور لأنواع النمل وتحت رجله اليسرى غرابيب سود مصوّرة من صور الغداف وغيرها. والبيت الثالث يحيط به خليج من «3» البحر مبنيّ بأحجار المرجان «4» الأحمر والزمرّد الأخضر في وسطه قبّة عظيمة فيها صنم أعضاؤه من جواهر أربعة زبرجد [أخضر] «5» وياقوت أحمر و [عقيق] «6» أصفر وبلّور أبيض رأسه من الذهب الأحمر، وبإزائه صنم على صورة جارية. [ذكر بيوت الصّابئة] 236 وكانت للصّابئة هياكل، منها هيكل العلّة «7» الأولى وهيكل العقل وهيكل الصورة «8» وهيكل النفس، مستديرات الأشكال، وهياكل الكواكب والنّيرين على أشكال مختلفة من التسديس والتربيع والتثليث، وكانت لهم فيها دخن وقرابين يطول وصفها. والذي بقي من هياكلهم المعظّمة الآن: بحرّان بيت في باب الرقّة يعرف بمغليتيا «9» وهو هيكل آزر أبي إبراهيم، ولهم

في آزر وابنه كلام كثير. وتحته سراديب أربعة لأنواع صور الأصنام التي على صور الأشخاص السّمائية وما ارتفع عن ذلك من الأجسام «1» العلويّة وما يظهر من أنواع أصواتها وفنون لغاتها بحيل قد اتّخذت ومنافخ قد عملت ومخاريق قد وصلت، تقف السّدنة من وراء الجدار وتتكلّم بأنواع الكلام فتجري الأصوات في تلك المنافخ والمخاريق إلى تلك الصور «2» المجوّفة، فيظهر منها نطق على حسب ما دبّر في قديم الزمان على هيئة «3» كيفيّة هندسته. والصّابئة حشوية الفلاسفة وإنّما يضافون إلى الفلسفة إضافة وليس كلّ يوناني حكيما. 237 وعلى باب مدينة حرّان مكتوب بالسّريانية قول أفلاطون وهو: من عرف ذاته تألّف. وهذا يشبه قوله: الإنسان نبات سماوي. ولأفلاطون كلام في النفس كثير: هل النفس في البدن أو البدن في النفس؟ كالشّمس: هل هي في الدار أو الدار في الشمس؟ وكيف انتقالها من جسد إلى جسد بالتدبير وبطلان ذلك الشّخص الذي تنتقل عنه وهي في ذاتها لا تفسد ولا يستحيل جوهرها؟ 238 والصّابئة من الحرّانّيين يقرّبون «4» في بعض قرابينهم في وقت ما «5» ثورا أسود تسدّ عيناه ثمّ يضرب وجهه بالملح ثمّ يذبح ويراعى كلّ عضو من أعضائه، وما يظهر من الاختلاج والحركات فيكون ذلك دليلا على أحوال السّنة. ولهم في قرابينهم أسرار ومخبّآت.

ذكر بيوت النيران

239 وفي أقاصي أرض الصين هيكل مدوّر له سبعة أبواب في داخله قبّة مسبّعة عظيمة الشأن في أعلاها جوهرة أكبر من رأس العجل يضيء منها جميع أقطار ذلك الهيكل. وقد أراد جماعة من الملوك أخذها فلم يدن منها أحد على عشرة أذرع إلّا مات، وإن رام أخذها بشيء من الآلات الطوال إذا بلغ ذلك المقدار انعكس. (فليس شيء من الحيل يتأتّى به) «1» تناولها بوجه ولا بسبب. وإن تعرّض أحد لهدم شيء من الهيكل مات مكانه، قوّة دافعة منفّرة قد عملت من أنواع الأحجار المغنيطيسية. وفي هذا الهيكل بئر (وعلى رأس البئر) «2» شبه الطوق مكتوب عليه بكتاب قديم بقلم المسند «3» : هذه البئر تؤدّي إلى مخزن الكتب الأولى وتاريخ الدنيا وعلوم السّماء وما كان فيما مضى وما يكون فيما يأتي، وتؤدّي هذه البئر إلى خزائن غرائب «4» هذا العالم لا يصل إلى الدخول إليها والاقتباس ممّا فيها إلّا من وازنت قدرته قدرتنا وساوى علمه علمنا. وإن وقع البصر على هذا الهيكل وقع في قلب الرائي له جزع منه وحنين إليه مختلطان. وهو على جبل شامخ [من] حجر صلد لا يتأتّى فيه حفر البتّة. ذكر بيوت النّيران 240 فأما بيوت النيران واتّخاذها فأوّل من رأى ذلك أفريدون، وقبل غيره قبله. وذلك أنّه وجد نارا يعظّمها أهلها ويعتكفون على عبادتها، فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم في عبادتها، فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى

عبادتها وأنّها واسطة بين الله وبين خلقه] «1» لأنها [من] جنس الآلهة النّورية، وأنّ بالنور صلاح هذا العالم. والنورية تجذب الحيوان كالفراش الطائر والوحش والغزلان، ومن الطير ما يصاد بالسّرج ليلا وكما يصاد السّمك من الماء ببلاد البصرة ليلا في الزواريق المسرّجة من جهتها، فيظهر السّمك من الماء حتّى يقع في جوف الزورق. والنور عندهم أصل لكلّ حيّ ومبدأ لكلّ نام «2» ، ولهم فيه كلام يكثر عن إيراد مجمله فكيف مفصله؟ فاتّخذ بيتا للنّار بطوس وبيتا بمدينة بخارا، ثمّ اتّخذ الملوك بعده بيوت النّار في المماليك. 241 ومن البيوت الباقية لها المعظّمة عند أهلها بيت مدينة دارابجرد من أرض فارس كان زرادشت قد أمر يستاسف الملك أن يطلب نارا كان يعظّمها [جمّ] «3» ، فطلبت فوجدت في مدينة خوارزم، فنقلها يستاسف إلى دارابجرد، وهي تسمّى آذرجوي، وتفسيره نار النهر، [وذلك أنّ] «4» آذر أحد أسماء النّار «5» وجوي من أسماء النهر «6» ، وهذا بالفارسية الأولى. والمجوس تعظّم هذه النار الآن أشدّ تعظيم «7» وهي أعظم نيرانهم. 242 وكان لهم بيت نار بإصطخر من أرض «8» فارس يعظّمونه، وهو الآن لا نار فيه، والناس يذكرون أنّه مسجد سليمان. قال س: قد دخلته [وهو] على نحو فرسخ من مدينة إصطخر، فرأيت بنيانا عجيبا وهيكلا عظيما، وفي

أعلاه صور من الصخر محكمة عظيمة المقدار من الخيل وسائر الحيوان يحيط بذلك كلّه سور عظيم ممتنع من الحجر فيه صور الأشخاص قد شكلت وأثبتت وأتقنت، يزعم من جاور هذا الموضع أنّها صور الأنبياء عليهم السّلام. وفي جوف هذا الهيكل الريح غير خارجة منه في ليل ولا نهار لها هبوب وخفوق، يذكر من هناك من المسلمين أنّ سليمان حبس «1» الرّيح فيه وأنّه كان يتغذّى ببعلبكّ من أرض الشّام ويقيّل بمدينة تدمر في الملعب المتّخذ فيها، وهي في البرّية بين العراق ودمشق وبينها «2» وبين أرض الشّام ستّة أيّام، ثم يتعشّى بهذا المسجد. وبتدمر خلق من العرب من قحطان وبمدينة جور التي «3» يضاف إليها الماء ورد «4» بيت للنّار بناه أردشير له يوم عيد، وهو على عين هناك عجيبة وإليه متنزّهاتهم. وفي وسط جور بنيان كانت تعظّمه الفرس يعرف بالطربال «5» خربه المسلمون. وإنّما فضل ماء وردهم لصحّة التربة وصفاء الهواء. قالوا إنّ سكّانها في غاية الحسن من اعتدال «6» الحمرة والبياض. وبين جور وشيراز «7» - وهي قصبة فارس- عشرون فرسخا.

القول في الأرضين والأنهار والبحار

القول في الأرضين والأنهار والبحار 243 قال) «1» أبو عبيد: واتّفقوا أنّ طول عمران الأرض من الأميال التي الميل منها أربعة آلاف ذراع بالذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ومساحات البناء وهو أربعة وعشرون إصبعا، قال الدّولابي: وهو ذراع الأسود «2» وذلك ألفان وثلاثمائة وثلاثون خطوة، وهو بالذراع الهاشمي ثلاثة آلاف ذراع- ثلاثة عشر ألفا وخمسمائة [ميل] «3» ، وذلك من أقصى جزائر أقيانس «4» الستّ- وأقيانس «5» البحر المحيط الذي لا يدرى ما وراءه- غربا إلى أقصى عمران الصّين شرقا. والشمس إذا غابت في أقصى الصّين طلعت على الجزائر وبالضدّ. 244 فأمّا الأقاليم السّبعة فالأوّل أرض بابل، منها خراسان وفارس والأهواز والموصل وأرض الجبل له من البروج الحمل ومن النجوم المشتري. والثاني السّند والهند والسّودان له الجدي وزحل. والثالث مكّة والمدينة واليمن والحجاز وما والاها له العقرب والزّهرة. والرابع مصر وإفريقية والبربر والأندلس له الجوزاء وعطارد. والخامس الشّام والرّوم والجزيرة له الدّلو والقمر. والسّادس الترك والخزر والدّيلم والصّقالبة له السّرطان «6» والمرّيخ. والسّابع الدّيبل والصّين له الميزان والشمس.

245 وذكر [حسين المنجّم] «1» صاحب كتاب الزّيج عن خالد بن عبد الله المروزي أنّه رصد «2» الشمس للمأمون ببريّة ديار ربيعة بريّة سنجار «3» فوجد [مقدار] «4» درجة من الفلك ستّة وخمسين ميلا من الأرض، فضرب العدد في ثلاثمائة وستّين «5» ، فانتهاء ذلك عشرون ألفا ومائة وستّون ميلا (فهو دور كرة) «6» الأرض المحيطة بالبرّ والبحر. فقطرها على هذا ستّة آلاف وأربعمائة وأربعة وعشرون ميلا ونصف [ميل ونصف] «7» عشر بتقريب. والمعمور نصف هذا المحيط «8» [في الطول، فأمّا في العرض فهو] «9» من خطّ الاستواء إلى الشّمال ومنتهى العمران في الشّمال جزيرة ثولي «10» في برطانية. (وذكر الفيلسوف في الكتاب المعروف بجغرافيا) «11» أنّ عدد مدن «12» الأرض المعمورة أربعة آلاف مدينة «13» وخمسمائة وثلاثون مدينة وأنّ عدد البحار المحيطة بالأرض خمسة وجميع العيون الكبار مائتان وثلاثون عينا والأنهار الكبار الجارية مائتان وتسعون «14» . وذكر أنّ طول كلّ إقليم من الأقاليم السّبعة تسعمائة فرسخ في مثلها. 246 وقد زعم [بطليموس صاحب] «15» المجسطي أنّ دور كرة «16» الأرض أربعة وعشرون ألفا وثلاثون ميلا وأنّ قطرها-[وهو] 1» عمقها- سبعة آلاف وستّمائة وستّة «18» وثلاثون ميلا- قال ط: تسعة آلاف- وأنّهم أدركوا ذلك

بأنّهم أخذوا ارتفاع القطب الشمالي في مدينتين «1» على خطّ واحد، أعني أن تكونا «2» جميعا واقعتين تحت خطّ نصف النهار فتتّفقان «3» في الطول وتختلفان في العرض مثل الاتّفاق الذي وقع بين تدمر في برية العراق والرّقّة. فوجدوا ارتفاع القطب الشمالي في الرّقّة (خمسة وثلاثين وثلثا وفي مدينة تدمر أربعة وثلاثين) «4» . ثمّ مسحوا مسافة ما بينهما فوجدوه (تسعة وثمانين) «5» ميلا، فوجب أن يكون مقدار الدرجة من الفلك في الأرض ستّة وستّين «6» ميلا وثلثي ميل للتقريب. ثمّ ضربوا ذلك في ثلاثمائة وستّين وإذا قسم دور الأرض على ثلاثة وسبع كان ممّا يخرج مقدار [قطر] الأرض وذلك إذا ضربوا القطر في الدّور كان ممّا يجتمع مسافة جميع الأرض مكسورا «7» 247 ولذلك قال مرحبان الفيلسوف إنّ دور جميع الأرض على ما امتحنه اردستانس «8» الحكيم مائتان وخمسون إلف استاديو «9» بالرومية، والإستاديو (ثمن ميل) «10» ، وذلك أحد وثلاثون ألفا ومائتان وخمسون ميلا، وحقيقة الإستاديو «11» عندهم أربعمائة باع والربوة عشرة آلاف غلوة. قال: والأرض كلّها مسيرة خمسمائة عام عندهم، ثلث عمران وثلث بحار وثلث قفار غير مسكونة. وذكر في السّفر الثاني أنّ استدارة «12» الأرض (ستّ وثلاثون) «13» درجة والدرجة خمسة وعشرون «14» فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذراع اثنان وأربعون إصبعا والإصبع ستّ حبّات وتسعان مصفوفة بعضها إلى

بعض، فيكون ذلك تسعة آلاف فرسخ، وهذا غير ما تقدّم في كثرة العدد وكبر الذراع. ثمّ قال: وإنّما ننقل في كلّ موضع من هذا الكتاب ما يسنح «1» لنا وعندنا كتب الناس، فننقل ذلك عنهم على حسب ما نجده لأنّا نقطع «2» على صحّته. 248 وقد مسح جماعة ممّن أتى بعد بطليموس مقدار الدرجة من درج الفلك فيما بين مدينة الرّقة وتدمر على ما ذكرناه، ووجد حساب الدرجة الواحدة خمسة وعشرين فرسخا، فوجب على هذا أن تكون مساحة أعظم دائرة تقع على كرة الأرض تسعة آلاف فرسخ إلّا أنّ بطليموس وتيتوس «3» صاحب تركيب كتاب الأفلاك أنكر أن تكون مساحة الدرجة الواحدة تنتهي [إلى] أكثر من ستّة وستّين ميلا وثلثي ميل. وذكروا أنّ المعمور من الأرض أقلّ من الثلث وأكثر من الربع. وطول الجزء المعمور من الأرض مبدؤه من الجزائر الخالدات التي هي أقصى بلاد المغرب إلى مدينة شيراز إلى أقصى بلاد الصّين، وذلك على الخطّ الموازي لدائرة معدل «4» النهار، فرأس هذا الخطّ الذي مبدؤه الجزائر الخالدات هو نظير درجة الشّمس بالسّواء، إذا كانت الشمس برأس الحمل. وطول هذا الخطّ مائة وثمانون جزءا من أجزاء الفلك. فأمّا بدء عرض البلاد فإنّه من ناحية مجرى سهيل من أرض الحبشة عن مسافة عشرين ليلة في سمت مهبّ الجنوب من عدن إلى ثولي «5» الجزيرة الواقعة تحت الخطّ الذي يجري لمنتهى الشّمال «6» وهي بعد بلاد الصّقالبة والخزر، وثولي «7» هذه الجزيرة هي الواقعة تحت منتهى الخطّ الشمالي.

جملة جمعتها من كتب فلاسفة اليونانيين في الأقاليم السبعة

جملة جمعتها من كتب فلاسفة اليونانيّين في الأقاليم السّبعة 249 جعل طول الأقاليم جميعها من المشرق إلى المغرب، وهي مسافة اثنتي عشرة ساعة من دورة الفلك، وبين عرض كلّ إقليم والذي يليه نصف ساعة معتدلة من النهار الأطول. فالإقليم الأوّل يميل وسطه على الموضع الذي يكون طول نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة، والسّابع يمرّ وسطه على المواضع التي يكون طول نهارها الأطول ستّ عشرة ساعة. 250 فالإقليم الأوّل من حيث يكون طول نهاره الأطول اثنتي عشرة ساعة وربع ساعة إلى حيث يكون طوله ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ومن حيث يرتفع القطب من الأفق ستّة عشر جزءا وثلثي جزء إلى حيث يكون ارتفاعه عشرين جزءا ونصف جزء، وذلك مسافة أربعمائة وأربعين ميلا من أقاصي بلاد الصّين، وفيه مدينة ملكها اسمه واسكرا وهي مرسى الصّين، ثمّ يمرّ على «1» سواحل البحر في جنوب بلاد السّند، ثمّ يمرّ في البحر على جزيرة الكوك ويقطع البحر إلى جزيرة العرب وأرض اليمن، ففيه من البلاد المشهورة بلاد ظفار وعمان وحضر موت وعدن وصنعاء وما وراء ثبالة وجرش ومهرة [وسبأ، ثمّ يقطع الإقليم بحر قلزم فيمرّ على بلاد الحبشة ويقطع نيل مصر وفيه هناك مدينة ملك] «2» الحبشة تسمّى جرم دنقلة، ثمّ يمرّ الإقليم في بلاد المغرب «3» إلى أن ينتهي إلى بحر المغرب.

251 والإقليم الثاني من حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة وثلاثة «1» أرباع ساعة ومن حيث يكون ارتفاع القطب أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء إلى حيث يكون سبعة وعشرين جزءا ونصفا، وهو مسافة أربعمائة ميل، يبتدئ من المشرق فيمرّ على بلاد الصّين «2» . ثمّ على بلاد الهند ثمّ على بلاد السّند، وفيه المنصورة والبيرون، ثمّ يمرّ (بملتقى البحر) «3» الأخضر وبحر البصرة ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وأرض تهامة، وفيه من المدن المشهورة هناك اليمامة والبحرين وهجر ومدينة يثرب والجار «4» ومكّة والطّائف وجدّة، ثمّ يقطع عرض القلزم ويمرّ في أرض المغرب على بلاد إفريقية إلى بحر المغرب. 252 الإقليم الثالث وسطه من حيث يكون طول النهار الأطول أربع عشرة ساعة إلى حيث يكون طوله أربع عشرة ساعة وربع ساعة ومن حيث يكون ارتفاع القطب ثلاثين جزءا وثلاثة أخماس ونصف خمس إلى حيث يكون أربعة وثلاثين جزءا، وذلك مسافة ثلاثمائة ميل وخمسين ميلا، وهو يبتدئ من المشرق فيمرّ على شمال «5» بلاد الصّين، ثمّ يمرّ على بلاد الهند وفيه مدينة القندهار «6» ، ثمّ يمرّ على شمال بلاد السّند «7» على كابل وكرمان وسجستان «8» وجيرفت والسّيرجان «9» وعلى سواحل بحر البصرة، وفيه من المدن هناك مدينة إصطخر (وجور وفسا) «10» وسابور وسيراف وجنّابا «11»

وسينيز «1» ومهروبان، ويمرّ بكور الأهواز والعراق والبصرة وواسط وبغداد والكوفة والأنبار «2» وهيت حتّى يمرّ على بلاد الشّام، وفيه من المدن هناك خيار وسلمية وحمص ودمشق وصور وعكّة وطبرية وقيسارية «3» وبيت المقدس والرملة وعسقلان وغزّة والمدائن والقلزم، ثمّ يقطع أسفل أرض مصر وفيه هناك الفرما وتنّيس ودمياط وفسطاط مصر والفيّوم، ثمّ يقطع الإسكندرية، ثمّ يمرّ على بلاد برقة وإفريقية وفيه مدينة اطرابلس والقيروان ومدينة فاس وينتهي إلى بحر المغرب. 253 الإقليم الرّابع وسطه من حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف إلى حيث يكون أربع عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة وارتفاع القطب سبعة وثلاثين جزءا، وذلك مسافة ثلاثمائة ميل، ويبتدئ من المشرق فيمرّ ببلاد التّبت إلى خراسان، فيكون فيه من المدن فرغانة وخجندة «4» وأسروشنة «5» وسمرقند وبخارا «6» وبلخ وآمد وهراة ومروروذ وسرخس وطوس ونيسابور وجرجان «7» والرّي وإصبهان ونهاوند والدّينور وحلوان وشهرزور «8» وسرّ من رأى والموصل ونصيبين وآمد ورأس العين وقالى قلا «9» وشمشاط «10» وحرّان والرقّة وقرقيسيا «11» ، ويمرّ على شمال الشّام وفيه من المدن هناك بالس ومنبج «12» وملطية وزبطرة «13» وحلب وقنّسرين وأنطاكية واطرابلس الشّام والمصيصة والكنيسة «14» السّوداء وأذنه وطرسوس وعمورية واللّاذقية، ويمرّ في بحر الشّام على جزيرة قبرس ورودس «15» ، ثمّ يمرّ في أرض المغرب على بلاد طنجة وينتهي إلى بحر المغرب، وفي هذا الإقليم تقع قرطبة وما يليها لأنّ طول نهارها في تناهيه أربع

عشرة ساعة وثلثا ساعة فبينها وبين الإقليم الرّابع نصف سدس ساعة وذلك خمسة وعشرون ميلا سواء. 254 الإقليم الخامس وسطه من حيث يكون طول النهار الأطول خمس عشرة ساعة وربع ساعة ومن حيث يكون ارتفاع القطب واحدا وأربعين جزءا ونصف جزء، وذلك مسافة مائتي ميل وخمسة وخمسين ميلا، وهذا الإقليم يبتدئ من المشرق من بلاد ياجوج وماجوج، ثمّ يمرّ على بلاد خراسان وفيه من المدن هناك الطراز، وهي مدينة التجّار، ونوكث «1» واسبيجاب «2» ، ثمّ يمرّ في بلاد الرّوم على خرشنة «3» ، ثمّ يمرّ بسواحل الشّام ممّا يلي الشمال «4» ، ثمّ يمرّ على بلاد الأندلس لأنّ طول نهارها في تناهيه خمس عشرة ساعة فعليها يمرّ وسط الإقليم الخامس بالسّواء. 255 الإقليم السّادس من حيث يكون طول النهار الأطول «5» خمس عشرة ساعة ونصف ساعة إلى حيث يكون خمس عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة وارتفاع القطب واحد وأربعون جزءا وخمس جزء إلى سبعة وأربعين جزءا وربع جزء، وذلك مسافة مائتي ميل وعشرة أميال. وهذا الإقليم يبتدئ من المشرق ويمرّ على بلاد الخزر فيقطع وسطه بحر طبرستان إلى بلاد الرّوم، فيمرّ على جرزان وأماسيا «6» وخلقيذون «7» والقسطنطينية وبلاد برجان وينتهي إلى بحر المغرب، وفي هذا الإقليم تقع لبيناردرية (؟) وأواخر بلاد إفرنجة وبلاد شاخسش (؟) .

256 الإقليم السّابع وسطه حيث يكون طول النهار [الأطول] ستّ عشرة ساعة إلى حيث يكون ستّ عشرة ساعة وربع ساعة وارتفاع القطب ثمانية وأربعون جزءا وسدس جزء إلى حيث يكون خمسين جزءا ونصف جزء، وذلك مسافة مائة وخمسون ميلا، وقيل خمسة وثمانون ميلا. وهذا الإقليم يبتدئ من المشرق ومن شمال ياجوج، ثمّ يمرّ على بلاد الترك ثمّ على سواحل بحر طبرستان ممّا يلي الشمال، ثمّ يمرّ ببلاد برجان والصّقالبة وينتهي إلى أوائل جزائر المنتاشبيتش (؟) . 257 فأمّا ما وراء هذا الإقليم إلى آخر المعمور فإنّه «1» يبدأ من المشرق من بلاد التغر على أرض الترك على بلاد اللّان، ثمّ يمرّ على برجان «2» ثمّ على الصّقالبة وينتهي إلى بحر المغرب. وهذا الإقليم خارج عن الأقاليم السبعة وطول نهارهم زائد على ستّ عشرة ساعة ونصف إلى نحو سبع عشرة ساعة. وقيل إنّ المعمور يبلغ إلى طول ما يكون أطول النهار وأطول الليل عندهم ثماني عشرة ساعة، كما أنّ قبل الإقليم الأوّل إلى خطّ الاستواء ببلاد السّودان الذين يأكلون الناس. 258 أخبرني د قال: ذكر لي رجل من أهل الحذق والمعرفة بالهندسة قال: دخلت بلاد غياروا من وراء بلاد غانة وأطول نهارهم من اثنتي عشرة ساعة ونصف. وذكر أنّه لا ظلّ لنصف نهارهم من شهر مايه- وهو حزيران- ثمّ يكون ظلّهم

من ناحية الجنوب إلى نصف شهر شتنبر «1» بلا ظلّ أيضا نصف نهارهم ينعكس بعد ذلك فيكون من ناحية الشمال. و [أهل] هذا الموضع أشدّ سوادا وشعورهم أشدّ تفلفلا وخلقهم أشدّ تشويها من سائر السّودان وطبائعهم وحشية ونفوسهم سبعية وكثير منهم يثبون على الناس كالكلاب الكلبة. فأمّا الذي لا يعمر من الأرض ولا يكون فيه حيوان ولا نبات فهو ما كان من الجنوب عرضه عن خطّ الاستواء تسع عشرة درجة لأنّ الشّمس إذا صارت في السّنبلة في حدّ ثلاث درجات إلى أن تبلغ خمس درجات من الحوت قربت منه وثبتت عليه فأحرقت كلّ شيء هنالك. وكذلك ما كان من الشمال بعده عن مدار رأس السّرطان تسعين درجة لأنّ الشّمس إذا سارت إلى البروج الجنوبية لا تطلع عليه ستّة أشهر فتنعقد البخارات ولا ترتفع فلا يكون حيوان ولا نبات. وفي نهاية العمران من خلف خطّ معدل النهار في الجنوب المسمّى يمين معدل النهار على المواضع المتساوية الأبعاد تكون الحيوانات الشّاذّة الخلق القبيحة التركيب كالفيلة وعظام الطير. د. وقد يحمل بعض تجّار البحر الذين وردوا بلاد الكوشانيّين- أعني الزّنج- بيضا تشبه بيض النعام، ونسبة بيض النعام منه كنسبة بيض الإوز من بيض النعام. 259 وأخبرني العذري قال: أخبرني رجل من قريش أنّه كان على حافّة «2» البحر المحيط بحر المغرب، فأصبح على أحد بيوت ذلك الموضع طائر قد وقع على البيت وانهدم البيت من وقوعه ودخلت في حوصلته خشبة من خشب البيت فألقي ميّتا، وزعم أنّه من طرف جناحه إلى الطرف الثاني ثمانون شبرا، ولم نر أحدا ذكر أنّه عاين شيئا من هذا الحيوان دون خطّ معدل النهار إلّا الفيلة، فإنّها تجلب من هناك وتعيش فيما ولدت بها من الأقاليم ولكنّها لا تتوالد.

260 وذكر بطليموس أنّ مدن الأرض في عهده أربعة آلاف ومائتان. وقد بيّن أهل العلم بالهندسة بغير وجه من البراهين أنّ الأرض ثابتة في وسط العالم قائمة في مركزه لا حركة لها في ذاتها وأنّها مستديرة الشّكل وأنّ جميع الأثقال تميل وترجع «1» إليها بالطبع وأنّ كلّ جزء من أجزائها البعيدة عن المركز بدور الارتفاع والانخفاض مطيعة إلى مركزها وأنّ الفلك المستقيم يدور عليها بجميع ما يحيط به من الأفلاك والكواكب السيّارة والثّابتة دورة واحدة في كلّ أربع وعشرين ساعة مستوية التي هي جملة النهار والليل من آخر النهار. وركّب الله عزّ وجلّ على الأرض جرم الشّمس لعلمه بالحكمة التي ينبغي أن يكون عليها تركيب العالم في فلك أخرج مركزه عن مركز الأرض بدرجتين ونصف من درج فلك البروج، فلذلك ما اختلفت حركة الشمس على الأرض فحمي مزاج جوهر الهواء المحيط بالناحية الجنوبية، وكان الجزء المعمور من الأرض في الناحية الشّمالية إذ كان كلّ حيوان بطبعه أحمل للبرد منه للحرّ. ألا ترى أنّه يتولّد في الماء من الحيوان ما لا يحصى كثرة وكذلك من النبات؟ ولا يتكوّن في النّار منه شيء إلّا الشاذّ النّادر إن صحّ ذلك فيه كما زعموا أنّه يتكوّن في أفران الزجّاجين ضرب من سامّ أبرص حمر الألوان، فإذا خرجت عن النار هلكت. فوجب لهذه العلّة أن يكون رسم الأقاليم السّبعة وبحدودها في الجزء الشمالي من الأرض كما ترى. 261 وأهل القطب الشمالي يرون بنات نعش ولا يرون كواكب القطب الجنوبي كسهيل، فإنّه لا يرى بخراسان ويرى بالعراق في السّنة أيّاما، ولا يقع عليه

القول في البحار

عين جمل من الجمال إلّا هلك، فهذه خاصّة في هذا النوع من الحيوان، وسهيل يظهر في البلدان الجنوبية السّنة «1» كلّها. 262 والأرض كلّها نصف عشر ثمن جزء من الشمس، فهي أعظم منها مائة وستّين مرّة، وقطب الشمس اثنان وأربعون ألفا، وسائر الكواكب العلوية أعظم من الأرض بدون هذه النّسبة، وما تحت الشّمس منها أقلّ من الأرض، فأمّا القمر فإنّه أعظم من الأرض سبعا وثلاثين مرّة وأقرب بعد القمر من الأرض مائة ألف وثمانية وعشرون ألف ميل، وبعد زحل من الأرض سبعة وسبعون ألف ميل إلّا شيئا. القول في البحار 263 زعم كثير من الفلاسفة وأهل العلم بالهندسة أنّ البحر الأعظم محيط بالأرض من جميع جهاتها لأسباب «2» ذكروها ليس هذا موضع ذكرها وأنّ الشّكل الذي ينسب إلى العنصر المائي السّيّال الجوهر هو شكل ذو ثماني قواعد مثلّثات، وذلك جسم يحيط به ثمانية سطوح مثلّثات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا يسمّى كعبا، وهو شكل الأرض على رأي أفلاطون وكثير من القدماء. وجميع بحار الأرض فروع من هذا البحر وهي متّصلة الأجزاء ملتقية المياه، وقد نقل بعض المؤرّخين أنّ أحد ملوك الأرض أراد أن يعلم صحّة ذلك فأنشأ

سفنا ضخمة حصينة وشحّنها بالرّجال والأزواد والمال أرسلها نحو المشرق والمغرب والشّمال والجنوب، فأصابوا جميع أجزاء البحر يتّصل بعضها ببعض وألفوها كلّها تتشعّب من البحر الأعظم المحيط. وقال أهل العلم بهيئة الأرض والبحار إنّ الأمّهات الكبار المتفرّعة من البحر المحيط أوّلها البحر الأعظم الآخذ من المغرب إلى الجنوب وكذلك عرف بالبحر الجنوبي، وهو يأخذ من الغرب إلى الجنوب وكذلك عرف بالبحر الجنوبي، وهو يأخذ من المغرب إلى القلزم ويمرّ بوادي القرى إلى الجار «1» وجدّة وأيلة وعدن أبين «2» والشحر وعمان وعبادان إلى أرض السّودان ويمرّ بصنف «3» ببلاد العود إلى أكثر الهند إلى واق واق، وله جناحان أحدهما يأخذ إلى جزيرة العرب ويمرّ باليمامة وعمان ومهرة والشحر والجناح الآخر يأخذ إلى بلاد فارس، وعليه يقع سيراف «4» وماوه (؟) والديبل، وبهذين البحرين سمّي البلد بالبحرين. 264 وأمّا البحر الثاني الذي يتلو البحر الجنوبي في العظم فهو البحر الشّمالي الآخذ من الشّمال إلى ناحية الجنوب، وابتداؤه من طول واحد ويمتدّ «5» إلى طول سبعة عشر على صورة الطيلسان إلى أن يأتي شكله شكل قطعة دائرة، ثمّ يمرّ على أحد يداب «6» إلى أن يأتي شكله شكل الثابورة (؟) ، وليس على هذا البحر من المدن إلّا مدينة واحدة يقال لها مولية، ولا يركبه أحد لغلظ جوهر مائه وظلمته وتكاثف الهواء عليه، وإنّما يدخل منه الموضع الموازي لسمت المغرب فإنّه يركب من هناك إلى الجزائر التي من أقاصي بلاد المغرب.

بحر الهند

265 وأمّا البحر الثالث فهو البحر الرومي السّدّ، وهو يأخذ من أنطاكية إلى أقصى بلاد المغرب وهو يلتقي البحر المظلم ويخرج الى الجزائر الخالدات، ويخرج من هذا البحر الرومي خليج كبير يمرّ بجزيرة الأندلس، ثم يمرّ هذا البحر ذاهبا إلى السّنوس الأقصى من بلاد فارس والأهواز، ثمّ يأخذ هذا البحر الثالث من أنطاكية فيصير بحرا رابعا «1» إلى القسطنطينيّة ثمّ ينعطف إلى ناحية المغرب آخذا إلى الأبواب من ناحية بلاد الخزر، وعلى هذا البحر المنعطف تقع المدن الخمس التي يأخذ الخزر عليها في ممرّهم إلى القسطنطينيّة منها المدينة البيضاء. وعلى ساحل هذا البحر تقع طرسوس «2» والمصيصة والإسكندرية وأنطاكية واللاذقية وعرقة «3» واطرابلس الشّام وسائر ما يتلو هذه البلاد، ثمّ يدور إلى بلخ مدينة الخزر الموضوعة ومن هناك يأخذ إلى باب الأبواب. بحر الهند 266 وهو البحر الحبشي وهو بحر الصّين والهند والسّند والزّنج والبصرة والأبلّة «4» وفارس، وكما زعموا وعمان والبحرين والشحر واليمن وأيلة والقلزم، وليس في المعمور أعظم منه، طوله من المشرق إلى المغرب ثمانية آلاف ميل وعرضه ألفان وسبعمائة ميل وعرضه في موضع آخر ألف وتسعمائة ميل، وقد اختلف في ذلك وهذا أصحّ. وهذا البحر وإن كان واحدا فهو ستّة أبحر متخرّقة بعضها إلى بعض، والأدلّاء يعرفون فصل ما بينها «5» لأنّ لكلّ بحر لونا وريحا وسمكا ونسيما ليس للآخر. فمنها بحر لاروي وعليه بلاد صيمور وسوبارة «6» وتانة

وسندان «1» وكنباية «2» وغيرها من بلاد الهند، ثمّ بحر هركند «3» ، ثمّ بحر كلّابار وهو بحر كله والجزائر، ثمّ بحر كندرنج «4» ، ثم بحر الصّنف الذي يضاف إليه العود، ثمّ بحر الصّين وهو بحر صنغي «5» لا يحدّ ما وراءه. 267 وفي هذه البحار جزائر لا تحصى وأمم لا «6» تكتب عدّا، وأكثر غذائهم النارجيل، وبين بحر لا روي وهركند «7» جزائر الملكة التي ذكرناها «8» قبل هذا، وأموالها الودع. وذكر أنّ ورق النارجيل يطرح على البحر نحو ضفّته فيتراكب عليه حيوان ثمّ يؤخذ ويلقى في الهواء فتحرقه السّموم ويكون ودعا فيملأ من ذلك بيوت الأموال. وذكر بطليموس أنّ مراقي بحر هركند وهي جزائر هذه الملكة ألف وتسعمائة جزيرة عامرة سوى الغامرة. وبجزائر هذه الملكة يكون العنبر الجيّد، وربّما انتهى منها القطعة بقدر البيت، وسنذكر أين يكون العنبر وأصله عند ذكر البحر الأخضر وفيه إن شاء الله. 268 وفي جزائر بحر الصّنف مملكة المهراج ولا يستطيع أن يطوف بجزائره بأسرع المراكب في سنين كثيرة. وفي جزائره أنواع الطيب والأفاويه. وليس لإحد بالهند من ذلك ما له. وجزيرة الملك المهراج التي هي قراره مفرطة الكبر متّصلة العمارة كثيرة الخصب. ذكر بعض التجّار الذين دخلوها الموثوق بنقلهم أنّ الديكة إذا رقّت بما في الأشجار «9» تجاوبت لمائة فرسخ لاتّصال عمارتها

وانتظام مساكنها لا مفازة فيها ولا خراب، وأنّ المسافر يسافر في أقطار تلك الجزيرة بلا زاد ويحلّ على الطعام وخصب العيش حيث أراد. وتتّصل جزائره بجبال شوامخ في أعنان السّماء تظهر منها بالليل نار حمراء تقذف بأشدّ ما يكون من صوت الرعد والصّواعق، وربّما سمع منها صوت مهول مفظع خارق للعادة ينذر بموت ملكهم. وتليها الجزيرة التي يسمع منها على دوام الأيّام أصوات الطّبول والسّرنايات «1» والعيدان وسائر أنواع الملاهي وأنواع الرقص والتصفيق يفهم ويميّز بعض ذلك من بعض، ويزعمون أنّ الدجّال بتلك الجزيرة. وفي جزائر المهراج هذه جزيرة من أربعمائة فرسخ، والله أعلم. 269 فأمّا بحر الصّين فإنّ من عجائبه أنّ فيه نوعا من السّراطين يخرج منها كالذراع والشّبر، فإذا بان عن الماء وصار إلى البرّ عاد حجرا وانقلب عن الحيوانية، وهو يدخل في أكحال العين. 270 وليس في ممالك «2» السّند والهند من بعد المسلمين مملكة مثل البلّهرى وهم تطول أعمارهم بخلاف المعلوم من غيرهم ويقولون بسنّة العدل. وتليه مملكة الطّاقى «3» ولهم جمال والتجّار يتنافسون في شراء نسائهم. (ثمّ يلي هذا الملك مملكة دهرم، وهذه سمة لملكهم) «4» وهو ذو مملكة عظيمة وهو يحارب البلّهري، ويقال إنّ عدد الغسّالين «5» والصّنّاع بعسكره خمسة عشر ألفا وماله الودع. وفي بلادهم من الذهب والفضّة ومعادنها ما لا يحصى كثرة، وفي بلده الحيوان المعروف بالبشان «6» وهو الكركدّن «7» ، وقد يكون بالهند

(إلّا أنّ الذي هنا أجلد) «1» وقرنه أنقى. والفيل يرهبه وهو أشدّ خلق الله عزّ وجلّ، وهو دون الفيل في الخلق، وهم يأكلون لحمه كلحوم الجواميس، في قرونها صور جميع الحيوان، فأحكم ما يكون سوادا في بياض، وربّما كان بياض في سواد وهو قليل تصنع منه المناطق بالألف. 271 وأكثر ملوك الهند لا يرون حبس الرّيح في الجوف وكذلك حكماؤها لا يستحيون في إظهارها في كلّ أحوالها ويزعمون أنّ حبسها أصل الأذى، ويرون أنّ الجشاء والسّعال أقبح منها، ويزعمون أنّ صوت الضرطة دبغها والمذهب لريحها. وقد ذكر ذلك في القصيدة المعروفة بذات الحلل [رجز] : قد قال ذو العلم النصيح الهندي ... مقالة أفصح فيها عندي لا تحبس الضرطة إمّا حضرت «2» ... وخلّها وافتح لها ما افتتحت فإنّ ذا الدّاء في إمساكها ... والرّوح والرّاحة في فكاكها والقبح في السّعال والمخاط ... والشؤم في العطاس «3» لا الضراط أمّا الجشاء ففساء صاعد ... ونتنه على الفساء زائد 272 ومن مذاهبهم أنّ ما ينالهم «4» من النعيم في المستقبل مؤجّلا هو بقدر ما تعذّب «5» به أنفسهم في هذه الدّار معجّلا. قال: ولقد رأيت منهم رجلا

ببلاد صيمور وبها من المسلمين نحو من عشرة آلاف وذلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وهو يطوف في أسواقهم ومعه جماعة من أهله وقد ظهرت له الناس وقد وضع على رأسه الجمر والكبريت، فيسير وهامته تحترق وروائح دماغه تتضوّع. فلمّا دنا من النار أخذ خنجرا «1» فوضعه على فؤاده فشقّه ثمّ أدخل يده الشّمال فقبض على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلّم فقطعها بالخنجر ودفعها إلى بعض إخوانه تهاونا بالموت ولذّة بالنقلة، ثمّ هوى بنفسه في النار. زعموا أنّ جزيرة الصنف بينها وبين قمار التي يجلب منها العود القماري مسيرة شهر وبين قمار «2» ونيومة- وهي الجزيرة التي يكون بها العود الهندي- خمسة أيّام. وذكروا أنّ شجرة العود الطيب تكون بقدر شجر الرّمان إلّا أنّ ورقها مثل ورق الريحان، فما كان منها بين الحجارة فهو العود الطيب يكون رطبا وسائره يكون أجناسا عشرة كلّ جنس لا يشبه الآخر، فمنه ما يكون ورقه مثل ورق الكمثرى والخوخ وذلك في جبل الصنف وتساير في جبل الصنف هذا إذا جئت في البحر بالريح الطيّبة نحو خمسة عشر يوما، وأكثر شجرها عود ومنه عامّة ما يخرج إلى البلاد. واللّكّ فيه كثير أيضا. ومن حيوان هذا الجبل الفيل والكركدّن «3» . 273 ويخرج من هذا بحر الهند خليج يتّصل بأرض الحبشة والزّنج يسمّى البربري طوله خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل، وليس في البحار أهول من هذا الخليج وموجه أعمى لا ينكسر ولا يظهر منه زبد ككسر أمواج سائر البحار، يرتفع موجه ارتفاع الجبال الشواهق ثمّ ينخفض كأخفض ما يكون من الأودية، وفيه يكون السّمك المعروف بالأوال طول السّمكة أربعمائة ذراع إلى الخمسمائة ذراع بالذراع العمري وهو ذراع أهل ذلك البحر، وربّما ظهر منه طرف كالشّراع العظيم وينفخ الصعداء بالماء فيذهب الماء في الجوّ أكثر من علوّ سهم

ويحشر بذنبه وأجنحته السّمك إلى فيه، وهو قد فغرفاه فتهوي إلى فيه جريا. فإذا بغت هذه السّمكة بعث الله لها سمكة نحو الذراع تدعى اللّشك فتلتصق بأصل ذنبها فلا يكون لها منها خلاص فتخترق البحار وتضرب بنفسها حتّى تموت وتطفو «1» فوق الماء فتكون كالجبل العظيم. وكذلك التمساح آفته من دويبة في ساحل «2» النيل، وهو أنّ التمساح لا دبر له وما يأكل يتكوّن في بطنه دودا، فإذا آذاه ذلك خرج إلى البرّ فاستلقى على قفاه فاغرا فاه، فينقضّ إليه طير الماء من أنواع كثيرة فتأكل ما يظهر في جوفه قد اعتادت ذلك منه، وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل فتثب «3» إلى حلقه وتلجّ جوفه ثمّ تخرق جوفه وتخرج، وربّما قتل نفسه قبل أن تنقر جوفه وهي دويبة تكون نحو الذراع على صورة ابن عرس ذات قوائم شتّى ومخالب. 274 وبين بحر هركند ولاروي «4» من هذه البحار التي ذكرناها «5» جزائر نحو ألف، وبين كلّ جزيرة الفرسخ ونحوه تملكها امرأة، كذلك كانوا على قديم الزمان، وهذه الجزائر تعرف بالدّيبجات، ولا تحصى جيوشها لكثرتهم. وآخر هذه الجزائر جزيرة سرنديب، وتتّصل بهذه الجزائر «6» جزائر مختلفة لا تحصى جيوشا. 275 وهذه البحار المذكورة كلّها تذيب الحديد وتمحق مسامير السّفن فلا تزال تندقّ، وإنّما يتّخذ أهلها سفنهم من السّاج محيّطة بليف النارجيل بدلا من المسامير.

276 وبجزيرة سرنديب هيكل عظيم من ذهب يفرطون في مبلغ «1» زينته وقيمة الجوهر الذي عليه، وإليه تجتمع أهلها فيتدارسون سير آبائهم وقصص ملوكهم، ويقال إنّ جزيرة سرنديب ثمانون فرسخا في مثلها. ح. وبسرنديب جبل منيف ذاهب في السّماء يراه من في البحر على مسيرة الأيّام وهو الذي ذكر أنّه أهبط عليه آدم عليه السّلام، وقد ذكرت البراهمة أنّ عليه قدم آدم مغموسة في الجبل نحو خمسين ذراعا. وعلى هذا الجبل تلألأ نور يشبه البرق أبدا. وعلى هذا الجبل وحوله أنواع الياقوت الأحمر والأصفر والأكحل، والأحمر أشرفها وأنفسها، وذلك أنّه إذا بقي عليه النار ازداد حمرة وحسنا، وإن كانت عليه نكتة شديدة الحمرة ونفخت عليه النار انبسطت في الحجر تلك الحمرة فحسّنته ولوّنته، (قالوا إنّ مبارد) «2» الحديد لا تؤثر في ألوان الياقوت، وقد زعم أرسطاطاليس أنّ من تقلّد حجرا أو تختّم به من هذه الأصناف الثلاثة التي ذكرناها «3» من الياقوت وكان في بلد قد وقع فيه الطاعون منع منه أن يصيبه ما أصاب أهل ذلك البلد. وقال ح. إنّ سرنديب ليس في مملكة هذه المرأة كما قال س، وإنّما هي لملك البهل «4» ، وهو يشرب الخمر تحمل إليه من بلاد العرب فيشربها، وليس في ملوك الهند من يشربها غيره، وأنّه يشربها ويحلّلها لأهل مملكته. ... ومماليك هذه الملكة تسمّى برّان وهي تدعى البرانية وهي شديدة المملكة، وإنّ ملك البهل في جيشه وعظيم مملكته يعجز عنها، وبلادها وبيّة من سكنها من غير أهلها فكان آجالهم تتفق فيها. ولفيلتهم من العظم ما ليس في سائر الممالك.

277 وملوك الهند يشترون كلّ ذراع يزيد على خمسة أذرع في ارتفاع الفيل بألف دينار إلى سبعة أذرع وبحساب ذلك فيما نقص عن ذراع، ولا يوجد عندهم ما يزيد على سبعة أذرع إلّا فيلة عند البرانية، فإنّها تنتهي [إلى] عشرة أذرع، وليس في فيلة ملوك الهند أجرى على القتال من فيلة الصّيلمان «1» ملك من ملوكهم، وإنّما يختبرون جرأتها بأن يوقدوا لها نارا عظيمة ثمّ يحملونها عليها فما اجترأ عليها منها فأنّه جريء، وما حام عنه أو جبن عن اقتحامها فإنّه يصلح لنقل المتاع وحمل الأثقال. 278 ويمتدّ من البحر خليج آخر ينتهي إلى القلزم وبينها وبين فسطاط مصر ثلاثة أيّام، وعليه مدينة أيلة والحجاز وجدّة واليمن، وطوله ألف وأربعمائة ميل، وما ذكرنا من البلاد على شرقيّه وعلى غربيّه صعيد مصر وما والاه وأرض البجاة وما اتّصل بها، ثمّ بلاد الأحابيش والسّودان إلى أن يتّصل بأقاصي أرض الزّنج، وهناك بلاد سفالة أرضهم «2» . 279 وقد كان بعض ملك من ملوك اليمن حفر بين القلزم وبين البحر الرومي حفيرا ليوصل «3» بينهما فلم يتأتّ له ذلك لارتفاع القلزم وانخفاض بحر الرّوم، والله عزّ وجلّ قد جعل بينهما حاجزا كما قال في كتابه العزيز «4» . والنهر الذي حفر

ببحر القلزم يعرف بذنب التّمساح على ميل من مدينة القلزم عليه قنطرة عظيمة يجتازها حاج «1» مصر. فلمّا لم يتأتّ له هذا احتفر خليجا آخر من بحر الرّوم ممّا يلي بلاد تنّيس ودمياط ويعرف هذا الخليج بالزّبر والخبية «2» ، فاستمرّ الماء في هذا الخليج من بحر الرّوم إلى موضع يعرف بنعنعان «3» ، فكانت المراكب تدخل من بحر الروم إلى هذه القرية وتدخل من بحر القلزم إلى آخر ذنب التّمساح فيقرب حمل ما في كلّ بحر إلى الآخر، ثمّ ارتدم ذلك على طول الدّهر. وآثار الحفر في هذا الموضع بيّنة. وقد همّ الرّشيد أن يوصل «4» ما بين هذين البحرين من أعلى مصبّ النيل من نحو بلاد الحبشة وأقاصي صعيد مصر، فلم يتأتّ له قسمة ماء النيل، فرام ذلك ممّا يلي بلاد الفرما نحو بلاد تنّيس، فقال له يحيى بن خالد: إن تمّ هذا اختطف [الرّوم] الناس من المسجد الحرام ومكّة، فامتنع من ذلك. وقد أراد عمرو بن العاص رضي الله عنه محاولة هذا عند تولّيه أمر مصر فمنعه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. 280 (ويتشعّب من هذا البحر) «5» خليج ثالث وهو بحر فارس، وطوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه في الأصل خمسمائة ميل، وينتهي إلى بلاد الأبلّة «6» والخشبات وعبادان من أرض البصرة. وخشبات البصرة سمّي الموضع بذلك لأنّها علامات من خشب منصوبة في البحر للمراكب إلى عمان. وهذا أوّل حدّ فارس، وهذا الخليج مثلّث الشّكل تنتهي زاويته بلاد أبلّة، وعليه ممّا يلي الشّرق ساحل فارس وساحل سيراف وساحل كرمان وبلاد مكران، وهي أرض الخوارج، وهذه كلّها أرض نخل «7» ، ثمّ ساحل الهند وفيه مصبّ

مهران وهو نهر السّند، ثمّ يتّصل إلى أرض الصّين ساحل واحد عامر. ويقابل ما ذكرنا ممّا يلي الغرب (جزائر قطر) «1» وشطّ بني جذيمة وبلاد عمان، وهي تقابل بلاد كرمان، ثمّ أرض الشّحر والأحقاف وحضر موت. 281 وأهل الشحر ناس من قضاعة ويدعى من سكن هذه البلاد من العرب المهرة، وهم يجعلون الشّين بدلا من الكاف، وعندهم أجود العنبر [وهو] المدوّر الأزرق النّادر، ولهم نجب يركبونها على السّاحل، فإذا أحسّت بالعنبر بركت عليه، قد ريّضت لذلك واعتادته، وبهذا السّاحل يكون الكندر ومنه يحمل. وأجود العنبر أيضا بجزائر الزّنج، وهو شيء يتكوّن في قعور البحار فيكون كأنواع الفطر والكمأة، وربّما بلغ منها شيئا الحوت المعروف بالأوال فيقتله فيطفو، وله ناس يرصدونه من الزّنج فيطرحون فيه الكلاليب والحبال ويشقّون عن بطنه فيخرجون العنبر منها، ويعرف «2» ذلك العنبر العطّارون بالعراق وبالهند. وبساحل بحر الأندلس عنبر جيّد بموضع يقال له (شنترين وشذونة) «3» . 282 وفي هذا الخليج جزائر كثيرة مثل جزيرة خارك، وفيها مغاص اللؤلؤ وهو المعروف بالخاركي، وجزيرة أوال فيها بنو معن وخلائق كثيرة من العرب، وفي هذا البحر الجبال المعروفة بكسير وعوير وثالث ليس فيه خيبر، وهي جبال سود ذاهبة في الهواء «4» لا نبات لها ولا حيوان فيها، يحيط بها موج من

البحر متلاطم تجزع منه النفوس ولا بدّ للمراكب من الدخول في وسطها والاجتياز عليها فتخطىء وتصيب. وهي في طريق من قطع من عمان إلى سيراف، وبين هذا الخليج وخليج القلزم المذكور من المسافة في البرّ ألف وخمسمائة ميل، وهذه المسافة داخلة [من البرّ] «1» في البحر، (والبحر محيط بها) «2» من أكثر جهاتها. 283 وهذه البحار كلّها واحد: بحر الصّين والهند وفارس واليمن، وتختلف في ارتجاجها وتتضادّ، فأوّل ما تبتدئ صعوبة بحر فارس عند دخول الشمس السّنبلة إلى أن تصير إلى برج الحوت، وبحر الهند بالضدّ، فهما شبيهان بطبيعة المدّتين اللّتين يهيجان في وقتهما، فأمّا بحر فارس فإنّه يركب سائر السّنة. 284 وليس فيما ذكرنا من خلجان هذا البحر أنتن ريحا ولا أقلّ خيرا في بطنه وظهره من بحر القلزم، وهو على يمين بحر الهند، ولا أوحش منه ولا أكبر جبالا، والمراكب لا تسير فيه إلّا نهارا، فإذا جنّ اللّيل أرست في مواضع معروفة كالمراحل. وهو حدّ بحر الهند والسّند الذي في قعره اللؤلؤ والعنبر، وفي جباله الجوهر ومعادن الذهب والفضّة، ومن معادنه الأبنوس والخيزران والعود وأشجار الكافور والقرنفل والصّندل وأنواع الطّيب. 285 ومغاص اللؤلؤ في بلاد خارك وقطر وعمان وسرنديب وغيرها من هذه البحار خاصّة، وغيره من البحار لا لؤلؤ فيه. والغاصّة لا يتناولون شيئا من اللّحمان

[البحر الأخضر]

إلّا السّمك، ولا بدّ من شقّ أصول آذانهم لخروج النفس لأنهم يحملون على أنوفهم «1» الذّبل، وهو ظهور السّلاحف، ويجعلون «2» في آذانهم قطنا فيه دهن «3» يعصرون من ذلك الدهن في قعر البحر فيضيء ضياء نيّرا، ويطلون سوقهم وأيديهم بالسّواد خوفا من بلع دوابّ البحر لهم، فتنفر من السّواد، ويتصايحون صياح الكلاب في قعر البحر فينفرها أيضا، وربّما خرق الصوت البحر فيسمع، والغوص إنّما يكون من أوّل نيسان إلى آخر أيلول. [البحر الأخضر] 286 فأمّا البحر الرّومي وهو بحر الشّام ومصر والأندلس فإنّه خليج «4» بحر أقيانس، طوله خمسة آلاف ميل، وقال السّرخسي عن الكندي: ستّة آلاف، وعرضه مختلف فيه ثمانمائة ميل وعشرة أميال، وقيل: اثنا عشر ميلا، وهو ما بين ساحل سبتة وطنجة وساحل الأندلس، وهو الموضع المعروف بالزّقاق. وسنذكر «5» في أخبار مصر إن شاء الله القنطرة التي كانت بين هذين السّاحلين وما ركبها من ماء هذا البحر. وعلى المدّ الذي يخرج من هذا الخليج من بحر أقيانس منار النحاس الذي بناه هرقل «6» الملك الجبّار عليه الكتابة والتماثيل مشيرة بأيديها: لا طريق ورائي ولا مسلك في ذلك البحر، ولا تجري فيه جارية ولا حيوان فيه ولا تدرك له غاية ولا يحاط بمقداره وهو بحر الظّلمات والأخضر والمحيط.

[بحر الروم]

287 وقد خاطر بنفسه فتى من أهل الأندلس اسمه خشخاش، وكان من فتيان «1» قرطبة، في جماعة من أحداثها، فركبوا مراكب استعدّوها ودخلوا هذا البحر وغابوا مدّة، ثمّ أتى بغنائم واسعة وأخبار مشهورة. 288 وإنّما يركب من هذا البحر ممّا يلي المغرب والشمال، فذلك من أقاصي بلاد السّودان إلى برطانية الجزيرة العظمى التي في أقصى الشّمال، وفيه ستّ جزائر تقابل بلاد السّودان تسمّى الخالدات. وفيه بقرب جزيرة برطانية إحدى عشرة جزيرة وجزيرة تسمّى غديرة «2» تقابل الأندلس، فسمت الخليج المعروف بالزّقاق، ثمّ لا يعرف أحد ما بعده. [بحر الرّوم] 289 وهذا الخليج هو بحر الرّوم وطرطوس والمصيصة وأنطاكية واللّاذقية وأطرابلس وصور وغير ذلك من سواحل الشّام ومصر والاسكندرية. وفي هذا البحر جزائر كثيرة نحو جزيرة قبرس يحيط بها البحر مائتي ميل، وجزيرة إقريطش يحيط بها البحر ثمانمائة ميل، وجزيرة صقلية يحيط بها البحر خمسمائة ميل، وجزيرة سردانية «3» يحيط بها البحر ثلاثمائة ميل، وغيرها.

[بحر نيطش]

290 ومن بحر إفريقية وصقلية يخرج المرجان، وهذا المضيق الذي قدّمنا ذكره وهو الخليج الذي عليه طنجة متّصل ببلاد المغرب وإفريقية والسّوس وأطرابلس المغرب والقيروان وساحل برقة والرّمادة إلى بلاد الإسكندرية إلى تنّيس ودمياط وساحل الشّام ثمّ ساحل الرّوم إلى بلاد رومة إلى أن يصل إلى ساحل الأندلس راجعا إلى الخليج الضيّق الذي بدأنا بذكره. ويخرج (منه خليج) «1» إلى ناحية الشمال قرب رومة يكون طوله خمسمائة ميل يسمّى إدريس، وهو الذي تعرفه الرّوم بماء ربجينه «2» ، ويخرج منه خليج [آخر] «3» إلى أرض نربونة «4» يكون طوله مائتي ميل. [بحر نيطش] 291 وبحر نيطش يمرّ على بلاد لاذقة «5» إلى القسطنطينية أيضا، وطوله ألف ومائة ميل وعرضه ثلاثمائة ميل. وهذا البحر بحر نيطش وهو بحر أمم من التّرك والبرغر والرّوس وغيرهم، وهو يمتدّ من الشمال من ناحية المدينة التي تدعى لاذقة «6» ثلاثمائة ميل، وهي من وراء القسطنطينية. ويتّصل هذا البحر من بعض جهاته ببحر الخزر المذكور من خلج وأنهار عظام هناك، ولذلك غلط بعض مصنّفي الكتب فزعموا أنّ بحر نيطش وبحيرة مانيطش وبحر الخزر هو واحد. وأمّا بحر مانيطش فمنه ينفجر خليج القسطنطينية الذي يصبّ إلى بحر الرّوم، وهو البحر الشّامي، وطول هذا الخليج ثلاثمائة وستّون ميلا وعليه «7» من الجانب الغربي القسطنطينية، وينعطف أيضا عليه من جهة الشمال ثمّ يتّصل

[بحر باب الأبواب]

ببلاد رومة والأندلس وغيرهم. وعرض هذا الخليج من موضع انبعاثه عشرة أميال، وقيل ستّة أميال، وعليه هناك مدينة تسمّى مسنّاه (؟) ، ثمّ يضيق الخليج عندها ويضيق عند القسطنطينية فيرجع إلى أربعة أميال. 292 وفي بحر مانيطش يصبّ النهر العظيم المعروف بطنائس «1» ، ومبدأه من الشمال وعليه بعض ولد يافث، يكون مقدار جريانه على الأرض ثلاثمائة فرسخ عمائر متّصلة، وهو نهر عظيم فيه أنواع من الأحجار والحشائش والعقاقير، ويشقّ هذا النهر بحر مانيطش حتّى يصبّ إلى بحر نيطش. قال د: (إنّ مانيطش) «2» بحيرة في الشمال وهو بحر ضخم وإن كانت تسمّى بحيرة، طولها من المشرق إلى المغرب ثلاثمائة ميل وعرضها مائة ميل، ويخرج منها عند القسطنطينية خليج يجري كهيئة النهر ويصبّ في بحر الشّام وعرضه عند القسطنطينية ثلاثة أميال. البحر العظيم هو نيطش والبحيرة هي مانيطش. [بحر باب الأبواب] 293 فأمّا بحر باب الأبواب، وهو بحر الخزر والجيل «3» والدّيلم وجرجان وطبرستان وأنواع من الترك، فينتهي من إحدى جهاته نحو بلاد الخوارزم من بلاد خراسان، ويعرف أيضا بالبحر الخراساني، وطوله نحو ثمانمائة ميل وعرضه ستّمائة ميل، وهو مدوّر الشّكل إلى الطول، وهذا هو بحر الأعاجم معمور من جميع جهاته. وهذا البحر كثير التنّانين وكذلك بحر الشّام.

294 وقد اختلف النّاس في التنّين، فمنهم من رأى أنّه ريح سوداء تكون في قعر البحر فتظهر إلى الجوّ فتلحق بالسّحاب كالزّوبعة إذا ثارت من الأرض واستدارت وأثارت معها الغبار وهشيم الأرض والنّبات ثمّ ذهبت في الجوّ صعداء، فيتوهّم الناس أنّها حيّات سوداء لسواد السّحاب وذهاب الضّوء وترادف الرّياح. ومنهم من رأى أنّها دوابّ تكون في قعر البحر فتعظم وترعى دوابّ البحر، فيبعث الله عليها ملائكة وسحبا فتخرجها منه، وهي على صورة الحيّة السّوداء لها بريق ولمعان، لا يمرّ ذنبه بشيء إلّا أتى عليه من بناء أو شجر أو جبال، وربّما تنفّس فأحرق الأشجار الكثيرة، فتلقيه السحب في بلاد ياجوج وماجوج. يروي عن ابن عبّاس. وقال قوم إنّها حيّة البرّ تلقيها السّيول في البحر فتعظم وتطول أعمارها فيبقى عمر الواحدة خمسمائة عام. والفرس تزعم أنّ له رؤوسا سبعة وتسمّيه الأجدهاق. وهذا من الأخبار التي رواها حشوية أصحاب الحديث أنّ قبّة في وسط البحر الأخضر على أربعة أركان من الياقوت الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق ينحدر من كلّ ركن من هذه الأركان نهر ينقسم إلى جهات أربع في ذلك البحر غير مخالط ولا ممايع «1» حتّى ينتهي إلى سواحل البرّ، أحدها النّيل والثاني سيحان والثالث جيحان والرّابع الفرات. 295 ومنها [أنّ] الملك الموكّل بالبحر يضع عقبه [في] أقاصي بحر الصّين فيفور البحر ويكون المدّ، ثمّ يشيل عقبه فيرجع الماء إلى مركزه. وإن كان كلّ ما ذكرنا عنه ممكنا فإنّه من طريق الأفراد ولم يجيء مجيء التواتر الموجب للعلم والعمل، فإذا صحّت هذه الآثار وجب التسليم والانقياد. وسيأتي ذكر بناء الباب إن شاء الله.

296 وعلى هذا البحر ممّا يلي الباب والأبواب الموضع المسمّى باغة، وهي النّفاطة من هنا يحمل النفط «1» الأبيض، وهناك آطام وهي عيون النيران تظهر من الأرض وترى في الليل على مسافات كأطمة صقليّة وأطمة وادي برهوت من بلاد الشحر وحضر موت وأطمة أشك بين بلاد فارس والأهواز ترى بالليل من مسيرة أربعين فرسخا، والأطمة العظيمة التي في مملكة المهراج ملك جزائر الزابج، والمهراج سمة لكلّ من ملكها، يلحق «2» لهب هذه الأطمة بأعنان السّماء لذهابها في الجوّ ويسمع منها كالذّي يسمع من أصوات الرعد والصواعق، وربّما ظهر منها صوت عجيب مفزع يسمع من البلاد النائية فينذر بموت بعض ملوكهم، وربّما كان أخفض من ذلك ينذر بموت بعض رؤسائهم، قد عرفوا ذلك بطول التجارب والعادات على قديم الزمان، وإنّ ذلك غير مختلف من التنبيه. 297 فهذه البحار الخمسة «3» : البحر الأعظم بحر أقيانس والبحر الحبشي [والبحر] الرومي والبحر الخزري وبحر مانيطش فيها إلّا أنّه صغير عنها، وليس شيء من هذه البحار يتّصل بالبحر الحبشي، وأمّا سائرها فمتّصلة وهي من بحر واحد إلّا أنّ بحر الخزر قد اختلف فيه هل يتّصل ببحر أقيانس أو لا. والصّحيح عندنا أنّه لا يتّصل بشيء من هذه البحار. قال: وقد زعموا أنّ خليج القسطنطينية الآخذ من مانيطش متّصل ببحر أيضا، وذلك لا يصحّ.

298 وحدّ بحر فارس ممّا يلي المشرق من فوهة «1» دجلة العوراء وينتهي آخره إلى جزيرة يقال لها تيز مكران وهي حدّ أوّل السّند. وحدّ بحر فارس من الغرب من فوهة «2» دجلة العوراء إلى أن ينتهي إلى غبّ عدن. وفي شرقيّة من المدن بلاد فارس ومكران وكرمان، وفي غربيّه بلاد العرب وهي البحرين وعمان ومسقط «3» وسقطرة إلى أن يبلغ غبّ عدن وهي آخر جزيرة العرب، وهناك الموضع الذي يقال له الدّوارع، وهو طريق في البحر يؤخذ منه إلى بحر جدّة. وممّا يلي من البحر الفارسي شاطئ الفرات يؤخذ فيه حبّ اللؤلؤ القطري «4» الجيّد. 299 وحدّ بحر الهند ممّا يلي المشرق جزيرة تيز مكران وآخر بلاد الصين، وحدّه ممّا يلي المغرب أوّل غبّ عدن وآخره بلاد الزّنج. فإذا قطع الراكب «5» البحر هنا من غبّ مدينة عدن فإنّ أوّل أرض يصل إليها جزيرة يقال لها بربر «6» وفيها جنس من الزنج يتّصلون ببلاد السّودان. وفي تلك الناحية العربية بلاد الزّنج والزّابج وأمم كثيرة كلّهم يمطرون في الصيف ما خلا أعلى بلادهم التي بعدت من البحر كبلاد التّبت وكابل وغيرهما. 300 ولم يحدّ لنا شمال هذين البحرين ولا جنوبهما ولا من سكن تلك النّاحيتين، ومن أراد الصّين والهند من ركّاب بحر الهند فإنّما يميل إلى شرقيّه ويدور عليه

ذكر علة المد والجزر

حتّى يصير في غربيّه لأنّهم إذا قطعوه موسّطه يبقون في ظلمات «1» لا تنفرج إلّا «2» أقلّ من ستّ ساعات في كلّ يوم. 301 وأمّا بحر الشّام، وهو البحر الرّومي، فإنّه لا تجري فيه جارية ولا يستطاع ركوبه منذ تسير الشمس في أوّل العقرب الى أن تصل إلى الحوت وذلك أربعة أشهر، لأنّ الشمس تتباعد وتحدث فيه الرياح العواصف والأهوية المهلكة وبخاصّة الناحية الشمالية منه. ذكر علّة المدّ والجزر 302 فأمّا علّة المدّ والجزر فمختلف فيها، فقد قيل: علّة ذلك القمر على ما بيّن أبو معشر. وقال قوم: هي الأبخرة التي تتولّد في باطن الأرض، فإنّها إذا كثفت «3» دفعت حينئذ ماء هذا البحر فلا يزال على ذلك حتّى تنقص موادّها فيتراجع الماء حينئذ إلى قعور البحار فكان الجزر، فهذا يدلّ عليه كونه في كلّ أوان وفي غيبة القمر وطلوعه. وقال آخرون إنّ هيجان البحر كهيجان بعض الطبائع بالإنسان ثمّ تسكن. وقال آخرون إنّ الهواء المطلّ على البحر يستحيل دائما «4» ، فإذا استحال عظم ماء البحر، ثمّ يعاقب ذلك استحالة ماء البحر فيتنفّس ويعود البحر إلى ما كان عليه، وإنّ الماء «5» يستحيل هواء والهواء يستحيل «6» ماء. وقال الشرعيّون: كلّ حال لا يعلم له في الطبيعة مجرى فهو فعل إلاهيّ لا يدخله قياس ولا يدرك بحسّ.

ذكر البحر المحيط وعجائبه وجمل من عجائب سائر البحار المتقدم ذكرها سواء ما ذكرناه من ذلك مستخرجا من كتاب عجائب البلدان

303 قال س: وقد زعم قوم من نواتية البحر الفارسي أنّ المدّ والجزر لا يكون فيه إلّا مرّتين في العام، فإذا كان الصيف كان الماء في مشارق البحر بالصين وما والاه وفي الشّتاء بالضدّ. قال س: رأيت بمدينة كنباية «1» من أرض الهند، وهي مملكة البلّهرى، وكانت على خليج من البحر أعرض «2» من النيل، فيجزر الماء في هذا الخليج حتّى يبدو الرّمل وقعر الخليج ويبقى فيه اليسير من الماء. فرأيت الكلب على هذا الرّمل الذي نضب ماؤه وصار كالصحراء، وقد أقبل المدّ وأحسّ به الكلب فأقبل يشتدّ ليفوت الماء، فلحق الماء بشدّة دفعت الكلب فغرّقته. وأمّا علّة ما لا يظهر فيه مدّ ولا جزر من البحار فهي التي تبعد عن مدار القمر ومسافته بعدا كبيرا، وقيل إنّها التي يكون الغالب على أرضها التخلخل فينفذ الماء منها إلى غيرها من البحار وتنفس الرّياح الكائنة في أرضها. وسنورد من أخبار هذه البحار مع ذكر اسمها وممالكها ما فيه شفاء إن شاء الله عزّ وجلّ، والله أعلم. ذكر البحر المحيط وعجائبه وجمل من عجائب سائر البحار المتقدّم ذكرها سواء ما ذكرناه من ذلك مستخرجا من كتاب عجائب البلدان 304 زعموا أنّ في البحر الأخضر عرش إبليس تشبّه بالباري سبحانه وتقدّست قدرته، حوله نفر من الأبالسة والعفاريت العظام وسائر أصناف الجنّ.

فمنهم من لا يفارقه من حجّابه وخدمه، ومنهم من يتصرّف بأمره في فتنة الناس وكيدهم وتضليلهم. وله جزيرة اتّخذها سجنا لمن خالف أمره من الجنّ، وفي تلك الجزيرة هيكل سليمان بن داود عليه الصّلاة والسّلام، وفيه جسده، وهو قصر عجيب البناء واسع الفناء. وفي هذا البحر جزائر لا تزال على مرّ الزمان تقذف نارا تعلو مائة ذراع وأكثر. وفيه سمك طول السّمكة مسيرة الأيّام المختلفة وهي مختلفة الأشكال مشوّهة الخلق، وفيه مدائن تطفو «1» على الماء آهلة بغير الأنس. 305 وفي هذا البحر الأصنام التي عملها أبرهة ذو المنار قائمة على الماء، أحدها أصفر يومئ بيده كأنّه يخاطب من ركب ذلك البحر يأمره بالرجوع، والثاني أخضر رافع يديه باسط لهما كأنّه يريد إلى أين تذهب، والثالث أسود يومئ بإصبعه إلى البحر: من جاز هذا المكان غرق، مكتوب على صدره بالسّند: هذا ما صنع أبرهة ذو المنار الحميري لسيّدته الشّمس تقرّبا إليها. ويختلف عمق هذا البحر، فمنه ما لا يلحق له قعر ولا يعرف له مقدار غوره، ومنه ما يكون عمقه سبعة آلاف باع أو أكثر. 306 وأمّا البحر الأسود الزفتي وهو متّصل به وهو شديد النتن وليس فيه غير قلعة الفضّة يقال إنّها معمولة وقيل إنّها خلقة، ومن هذا البحر يخرج بحر الصين وأوّله بحر فارس، وقد تقدّم ذكره. وفيه اثنا عشر ألف جزيرة، وفيه الدّردور موضع يدور فيه الماء، فإذا وقع فيه مركب لم يزل يدور فيه حتّى يتلف. وفيه كسير وعوير، وقد تقدّم ذكرهما. وفيه عجائب كثيرة من الحيوان، وفيه

سمك طول السمكة منها مائتا ذراع وأكثر وأقلّ. وفيه جزائر تنبت الذهب، وفيه مغاوص اللؤلؤ الجيّد. وفي هذا البحر قصر من البلّور منيف رفيع على قلعة تنير برج داخلها لا تطفأ، وأراد النزول به الإسكندر فمنعه بهرام فيلسوف الهند وعرّفه أنّه من نزل به وقع بقلبه السّبات، وظهر قوم قصار زعر لباسهم ورق الشجر، فسأل الإسكندر بهرام عن صبرهم على المقام هناك، قال: عندهم شجرة إذا أكلوا منه زال عنهم ذلك. 307 وبعد هذا بحر لا يدرك قعره ولا يضبط غوره، تقطعه المراكب بالرّيح الطّيبة في شهرين، وليس في جميع البحار الخارجة من البحر المحيط أكبر منه ولا أشدّ حولا. وفي عرضه بلاد واق واق، وهنّ جوار تحمل بها شجر معلّقة بشعورها ولها ثدي وفروج كفروج النّساء وأبدان حسان ولا يزلن يصحن واق واق، فإذا قطعت عن الأشجار التي تحملها أقامت يوما وبعض يوم آخر ثمّ تهلك. وربّما نكحهنّ الناس في أطيب رائحة وألذّ مباضعة. وبلاد الواق واق «1» لا يسكنها بشر، إنّما يسقط إليها أهل المراكب في الندرة، وهي أكثر الأرض طيبا وبها ثمر وفواكه لا تعرف في غيرها لا يعلم ما هي ألذّ مأكولا وأطيب مشموما «2» . 308 وتليهم أمّة بجزيرة على شبيه النّساء سبط الشعور نواهد الصّدور يقال لهنّ بنات الماء، لهنّ قهقهة وضحكة وكلام لا يفهم. وقد أولد بعض البحريّين منهنّ واحدة غلاما وهو مستوثق بها، ثمّ ظنّ بعد ولادتها أنّها ستألف ابنها ولا

تفارقه، فأرسلها من وثاقها «1» ، فتغفّلته وتردّت في البحر وذهبت سابحة ثمّ ظهرت له بعد يوم وألقت له صدفا فيه درّ نفيس، ثم ولت ذاهبة. فكان ذلك الغلام يعرف بابن البحرية. 309 وفي هذا البحر المذكور أسماك «2» طيّارة تطير ليلا فترتعي في البراري، فإذا أزف طلوع الشمس عادت إلى البحر، وفيه سمكة خضراء شهباء من أكل منها اعتصم من الطعام أيّاما كثيرة وتجزّأ بها عنه فلم يرده ولم يجد «3» لفقده مساءة. وفيه سمكة ربّما نبت على ظهرها الحشيش «4» والصدف، وربّما أرسى عليها أصحاب المراكب فيظنّون أنّها جزيرة، وإذا رفعت إحدى جناحيها كانت مثل الشراع العظيم، وإذا رفعت رأسها من الماء كان كالجبل الضخم، وإن نفخ الماء من فيه كان كالصومعة الجليلة، وإذا سكن البحر جذب السمك بذنبه ثمّ فغر فاه فغاصت فيه كأنّما غاصت في بئر، ويقال له القيدور، وأهل المراكب يحذرونه على سفنهم ثمّ يضربون بالنواقيص طول ليلتهم. وهذه السّمكة أيضا تكون في بحر هركند «5» . 310 وفي بحر هركند حيّات عظام تخرج إلى البرّ فتبتلع الفيلة وتكتف الصّخور في البرّ فتكسّر عظامها في أجوافها ويسمع لذلك صوت هائل، وقليل ما تظهر وربّما احتال بعض الملوك لها- أعني ملوك الهند والزنج- فيصيدونها ويطبخونها ويستخرجون دهنها فيدهنون به فتزيد في قوّتهم ونشاطهم وهيبتهم، ويستعملون من جلودها فرشا، وهي جلود موشّاة ملمّعة ألين من الحرير، إذا جلس عليها صاحب السّلّ أمن السلّ أن يصيبه أبدا.

311 وزعم صاحب كتاب العجائب أنّ بحر هركند يليه بحر يقال له ذانجد «1» وبينهما ألف وسبعمائة جزيرة. قال: [وفي] هذه الجزائر يكون العنبر الرفيع الدّسم تكون القطعة منه مثل البيت. وفي كتاب الطيب الذي ألّفه إبراهيم بن الهنيري «2» ، أنّ أحمد بن حفص العطّار قال: كنت جالسا في مجلس أبي إسحاق وهو يصفّي «3» عنبرا قد أذابه وأخرج ما كان فيه من الحشيش الذي حلّقه مناقير الطير، فسألني فقلت: هذه مناقير الطير التي تأكل العنبر إذا راثته دوابّه. فضحك أبو إسحاق وقال: هذا قول تقوله العامّة، ما خلق الله دابّة تروث العنبر وما العنبر إلّا شيء يكون في قعر البحر. ولقد عني الرشيد بالمسألة عن العنبر وأصله وأمر حمّاد الزّبيري بالمسألة عنه، فكتب إليه أنّ جماعة من عدن أعلموه أنّه يخرج من عيون في قعر البحر تقتلعه الرّياح بالأمواج الصعبة فيطفو على الماء وتقذفه الموج بالسّاحل كما أنّ بأرض هيت عيون تسيل بالقار وبأرض الروم عين الزفت الرّومي. قال: وآخر هذه الجزائر «4» سرنديب، وقد تقدّم ذكر ما فيها. 312 قال: وهذا البحر ربّما أظلّته السّحاب ثلاثين يوما لا تصحى ولا يسكن وابلها، فلا يظهر فيه حيوان ويلوذ بقعر البحر. قال: ويخرج من هذا البحر إلى بحر الصّنف الذي في جزائره مملكة المهراج، وهناك يكون العود النفيس، وهي جزائر لا يحصى ما فيها من العجائب ولا يحاط بها لكثرتها. وفيها يكون جميع أفاويه «5» الطّيب والعطر. ويقال إنّ في هذا البحر قصرا

أبيض يسير على الماء ويتراءى لأهل المراكب فيستبشرون به إذا هم أبصروه ويكون لهم دليل السّلام. 313 وفي هذا البحر جزيرة قرطايل التي يسمع فيها اللّيل والنهار المعازف والطبول، ويقال إنّ فيها الدجّال «1» ، وقد مضى ذكرها. وفيها أشجار القرنفل وتشتريه التجّار من قوم لا يرونهم، إنّما يضعونه أكواما على السّاحل فتأخذه التجّار وتترك هناك العوض. وقيل إنّ التجّار يتركون البضائع على السّاحل ويعودون إلى مراكبهم، فإذا أصبح من غد ذلك اليوم جاؤوا فوجدوا إلى جانب كلّ بضاعة كوما من القرنفل، فإن رضيه أخذه وترك البضاعة، وإلّا أخذ بضاعته وترك القرنفل، وإن أخذهما معا لم تقدر مراكبهم على السّير حتّى يردّوا القرنفل. وربّما طلب أحدهم الزيادة فيترك البضاعة والقرنفل فيزاد فيه. وشجر القرنفل على نهر هناك يعرف بنهر القرنفل لم يدخل إليه قطّ أحد ولم يذكر أنّه رأى شجرة. وقد ذكر بعضهم أنّ الجنّ يبيعونه من التجّار. وذكر بعضهم أنّه دخل الجزيرة وأمعن فيها، فرأى قوما في زيّ النّساء مرد بغير لحاء وذوي شعور مرسلة، فغابوا عنه، وأنّ التجّار أقاموا بعد ذلك مدّة يخرجون إلى ساحل البحر فلا يجدون شيئا من القرنفل، فعلموا أنّ ذلك من أجل من نظر إليهم، ثمّ عادوا بعد ذلك بسنين إلى ما كانوا عليه. ويقال إنّه إذا كان رطبا كان حلو المطعم يأكلون منه فلا يمرضون ولا يهرمون. 314 وليس لهذا البحر حدّ يعرف ورأسه يخرج من الظلمة الشّمالية ويمرّ على بلاد الواق واق. وفي هذا البحر- بحر الصنف- جزيرة فيها مساكن ظاهرة وقباب

بيض لائحة، كلّما همّ بالوصول إليها أحد وقرب منها تباعدت عنه فلا يزال كذلك حتّى ييئس وينصرف عنها، يقال لها جزيرة الصّريف، وهم يرون فيها شخوصا وشجرا وعمارة ودوابا ولا يعلم أحد وصل إليها. وفيه البرّاقة، وهي مدينة لطيفة من حجر أبيض برّاق يسمع بها صياح وضوضؤة ولا يرى بها ساكن، ولمّا نزل بها البحريّون فأخذوا من مائها وجدوه حلوا زلالا فيه روائح الكافور. وبعرض بحر الصنف هذا الجبال التي تتوقّد ليلا ونهارا يسمع منها مثل صوت الرعد القاصف والأصوات الهائلة التي تدلّ على هلاك ملكهم، وقد مضى ذكرها. 315 وبعد بحر الصنف بحر الصين، وهو بحر خبيث بارد، ريحه من قعره كغليان الماء على مجامر «1» النّار، ويخبر الثقات من ركّابه أنّه بحر مسكون، له أهل في باطن الماء وأنّهم يرونهم إذا هاج البحر ليلا كهيئة الزنج ويطلعون إلى المراكب. وفي بحر الصين سمكة مثل الحرّاقة يرمي بها الموج إلى السّاحل، فإذا جزر الماء بقيت على الطّين ولا تزال تضطرب حتّى تنسلخ في اضطرابها من أهابها «2» ، فيكون لها جنحان «3» تستقلّ بهما فتطير. وفي هذا البحر يكون اللخيم سمكة تلتقم الناس، وربّما مات الرجل من ركّاب البحر فيرمى به في البحر، فلا ينحطّ إلّا وهو في قاع اللخيم كأنّه كان له مرصدا. وفي هذا البحر يرى وجه عظيم على صورة الإنسان إلّا أنّه مفرط الكبر مستدير يشبه لونه لون القمر يسدّ ثنية بين جبلين.

316 وفي البحر الرّومي بإزاء مدينة نقالة «1» - وهي القسطنطينية الأولى- كنيسة في جوف البحر ينحسر البحر عنها يوما في السّنة فيحجّون إليها ذلك اليوم ويقيمون عليها ويتقرّبون ويهدون إليها، فإذا كان العصر أخذ الماء في الزيادة وتبادر الناس بالانصراف، فلا يزال كذلك حتّى يغمرها الماء فلا يظهر منها شيء، وتبقى كذلك إلى رأس السّنة. 317 وذكر بطليموس أنّ في البحر الأخضر سبعة وعشرين ألف جزيرة عامرة وغامرة، منها جزيرة فيها أمّة من بقايا النّسناس، ولهم شجر يقال له اللّوف يأكلون ثمره ويلتحفون بورقه. ومنها جزيرة المرجان في ضحضاح ماء بين الملوحة والعذوبة الذي يتجهّز اليوم به إلى البلاد في بحر الأندلس خاصّة، ينبت في قعر «2» البحر القريب منه مثل الشجر فينزل إليه الغوّاصون ويشدّون فيه الحبال ثمّ يقتلعونه، [وهو] أنفس وأنفق شيء في الهند والصين. 318 ومن جزائر البحر الأخضر جزيرة في وسطها كالهرم العظيم من حجر عظيم أسود برّاق لا يدرى ما داخله وحوله موتى وعظام كثيرة ورمم بالية. وقد كان بعض الملوك سار إليها، فلمّا نزلها وقع على أصحابه النعاس وخدر الأجساد وضعف النفوس، فلم يقتدروا على الحراك، فتبادر ذو الشدّة منهم إلى المراكب وهلك أكثرهم هناك. وفي هذا البحر جزيرة فيها أمّة رؤوسهم كرؤوس

الكلاب العظام بادية أنيابهم يخرج من أفواههم مثل لهب النّار، ولمّا مرّ بهم ذو القرنين خرجوا إليه فحاربوه وحاربهم حتّى تخلّص منهم. وفيه جزيرة بيضاء واسعة كثيرة الأشجار والأنهار فيها قوم شقر وجوههم في صدورهم، للواحد منهم فرجان- فرج امرأة وفرج رجل- يتكلّمون بمثل كلام الطير وطعامهم نبت يشبه الفطر والكمأة. 319 وفيها جزيرة التنّين كان بها تنّين قد نال أهلها بكلّ مكروه، فلمّا دخلها الإسكندر استغاثوا به وذكروا له أنّ التّنين أتلف مواشيهم حتّى جعلوا له ثورين كلّ يوم ضريبة ينصبونهما في موضعه، فيخرج فيبتلع الثورين، ثمّ يعود إلى مكانه. قال: أروني موضعه، فنصبوا له الثورين وأقبل كأنّه السحابة السوداء وعيناه كالبرق اللّامع والنار تلهب من فيه، فابتلع الثورين وعاد إلى موضعه. فأمر الإسكندر بثورين عظيمين فسلخا وحشي جلودهما زفتا وكبريتا وكلسا وزرنيخا، وجعل مع تلك الأخلاط كلاليب حديد كثيرة وجعلها في ذلك [المكان] . وخرج التنين على عادته فالتقمهما وانصرف، فانضربت تلك الأخلاط في جوفه، فلمّا أحسّ بثقلها ذهب ليلقيها، فتشبّثت تلك الكلاليب في حلقه فخرج وفغرفاه يستروح. فأمر الإسكندر بقطع الحديد، فحميت وحملت على ألواح من حديد وقذفت في حلقه فمات. فكان ذلك فتحا عظيما لأهل تلك الجزيرة، فألطفوا الإسكندر وحملوا إليه من طرائف «1» ما عندهم. فكان من ذلك دابّة في خلق الأرنب شعره أصفر يبرق كما يبرق الحديد أو الذهب، وفي رأسه قرن واحد يسمّونه نفواج «2» ، وهوامّ الأرض إذا رأته والأسد والوحش كلّها والطير هربت «3» منه.

320 وبهذا البحر جزيرة تظهر ستّة أشهر وتغيب ستّة أشهر بمن فيها، وهي جزيرة مدوّرة. وبه جزيرة ملكان، وهي دابّة عظيمة بحرية قد استوطنت تلك الجزيرة وعرفت بها، ولهذه الدابّة رؤوس كثيرة ووجوه مختلفة. وقيل إنّها مركب لبعض ملوك البحر لأنّ لها جناحين إذا أقامتهما وجمعت بينهما صار كأنّه رفّ عظيم منكس يظلّ من الشمس. وقد ذكرتها الأوائل وهي مثل الجبل العظيم الضخم. 321 ومنها جزيرة صيدون، وهي مسيرة شهر في مثله. وصيدون هذا ملك. وكانت فيها عجائب كثيرة ومصانع رفيعة وأنهار وأشجار. وكان صيدون ساحرا وكانت الجنّ تطوف به وتعمل له العجائب، وكان له في وسط الجزيرة مجلس من ذهب على عمد من رفيع الجوهر يشرف على جميع الجزيرة. فدلّ بعض الجنّ سليمان علية فغزاه وخرّب الجزيرة وقتله وقتل أكثر أهلها لأنّهم كانوا يعبدونه، وأسر منهم خلقا فآمنوا. وأسر ابنة صيدون ولم يكن على وجه الأرض أجمل وجها منها ولا أكمل جمالا وظرفا، واصطفاها لنفسه وتزوّجها. فكانت تديم البكاء لمفارقتها أباها وأنس مملكته. فقال لها سليمان: ما لي أن أراك كئيبة وأنا خير لك من أبيك وملكي أجلّ من ملكه. قالت: أجل، ولكن إذا ذكرت كوني مع أبي وأنسي به هاج لي ذلك حزنا ووجدا، فلو أمرت الشياطين أن يصوّروا لي صورته، لأني إذا رأيتها سلوت عنه. فأمر الشياطين فعملوا لها صورة أبيها في مجلس مثل المجلس الذي كان فيه، وكان المتولّي لذلك شيطانا يصحب أباها وهو الذي أشار عليها بذلك. فكان ذلك المجلس والصورة في مقاصيرها التي صنع لها سليمان، وقد غرس لها فيها بدائع الأشجار وفجر فيها الأنهار في فناء ذهب وفضّة مطوّقة بأصناف الجوهر. فعمدت إلى الصورة فألبستها أصناف الحرير من الثياب المنسوجة بالذهب

وجعلت على رأسه إكليلا من الجوهر النفيس وألبسته تاجا منظوما بالجوهر الفاخر الملوّن، وجعلت حوله مساند الديباج المذهّب ونثرت عليه سحيق المسك وأوقدت بين يديه دخن العنبر وضروب الطيب، وفرشت بحذائه على بعد منه أصناف الأفاويه والرّياحين. فكانت تدخل إليه بكرة وعشية فتسجد له مع جميع وصائفها وخدمها كما كانت تصنع لأبيها. وكان قد دخل في هذا الصنم شيطان يخاطبها بلسان أبيها فيقول: قد أحسنت فيما فعلت، وما فقدت بك شيئا. فاتّصل أمرها بآصف بن برخيا، وكان كاتب سليمان ومن أهله، وهو الذي كان عنده علم من الكتاب، وهو الذي أحضر عرش بلقيس. وكان علم موضع المرأة من قلب سليمان وحبّه لها، فلم يدر كيف يتوصّل إلى تعريفه بما أحدثت عنده إلى أن اتّجه له وجه ذلك. فقال: يا نبيّ الله إنّي قد كبرت ولا آمن الموت، وقد أردت أن أقوم مقاما أذكر فيه الأنبياء وأثني عليهم، فتأمر بإحضار الناس ووجوه بني إسرائيل فيجلسون في مراتبهم. فأجابه سليمان إلى ذلك فقام آصف بن برخيا على المنبر فخطب فحمد الله وأثنى عليه واستغفره وأقبل يذكر الأنبياء نبيّا نبيّا ويثني عليهم في صغرهم وكبرهم ومدّة أيّامهم، الى أن بلغ إلى داود فأثنى عليه واستغفر له، [ثمّ] ذكر سليمان فأثنى عليه في صغره خاصّة ولم يذكره في كبره ولا ذكر شيئا من أيّامه بخير ولا بشرّ. فاستحفظ ذلك سليمان فاستدعاه حاليا ووقفه على ذلك فقال: ذكرت ما علمت. فلمّا ألحّ عليه قال له: وبم استحققت أن أثني عليك في أيّامك وغير الله يعبد في دارك منذ أربعين يوما؟ وما هذا جزاء نعمته عليك ولا شكر تمليكه لك. قال: فارتاع سليمان لذلك وقام فعاقب المرأة وكسّر الصنم، فهرب شيطانه فظفر به بعد ذلك وسجنه. وفتن لذلك سليمان وأخذت الجنّ خاتمه وخرج من ملكه، وكان يطوف في بني إسرائيل فينكرونه. فردّ الله عزّ وجلّ ملكه وخاتمه، وذلك بعد أربعين يوما وهي عدّة الأيّام التي سجدت المرأة فيها للصنم. ثمّ إنّ المرأة تابت وصحّ إسلامها. وكان ولد سليمان عليه السلام منها. وذكر المؤرّخون أنّ اسمها جرادة.

322 ومنها جزيرة الزود «1» ، وهم خلق ذوو أجنحة وشعور وخراطيم يمشون على رجل واحدة كما يمشي الناس وعلى أربع كالبهائم، ويطيرون في الهواء مع الطير. ومنها جزيرة القابس «2» ، وهي دابّة عظيمة ململمة مثل الكرة تصيح صياحا شديدا ولا يدرى من أين يخرج صياحها ولا يعرف ما هو ولا ما غذاؤه. 323 ومنها جزيرة مرّ بها قوم وقد هاج البحر وعظم، فنظروا فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية وعليه ثياب خضر مستلق «3» على الماء وهو يقول: سبحان من دبّر الأمور، وعلم ما في ضمائر الصدور، وألجم بقدرته البحور، وسيّروا بين الشّمال والشّرق حتّى تنتهوا إلى جبل الطروق وأوسطه فاسلكوا تنجوا بحول الله وتسلموا. فركبوا السّمت الذي حدّ لهم حتّى انتهوا إلى جزيرة يقال لها سندروسة، فيها أمّة طوال الوجوه ومعهم قضبان الذهب المخلوقة يعتمدون عليها ويحاربون بها، على رؤوسهم الذهب وثيابهم منسوجة بالذهب وطعامهم الموز والفطر. فأقاموا عندهم شهرا وأخذوا من قضبان الذهب التي عندهم ما استطاعوا حمله، ثمّ ساروا على السّمت فخلصوا. وكان الذي أرشدهم الخضر عليه السّلام، وتلك الجزيرة مكان قراره وهي وسط البحر الأعظم.

324 وهناك جزيرة الفيروج «1» بها صنم بزجاج أخضر يجري من عينيه دمع لا يزال يسير على مرّ الأيّام، وزعموا أنّه باك على قومه الذين كانوا يعبدونه فغزاهم بعض الملوك واستباحهم وقتلهم وأراد كسر الصنم، فكانوا إذا ضربوه بشيء لم يؤثّر فيه وعاد الضرب على ضاربه، فتركوه وإذا دخلت الريح في أذنيه صفّر تصفيرا عجيبا. 325 وفي البحر الأخضر جزيرة ترى على بعد، فإذا قرب منها القاصد غابت عنه، وإذا رجع إلى الموضع الذي رآها منه ونظر إليها [رآها] بادية بيّنة. وقيل إنّ فيها شجرة تطلع بطلوع الشمس فلا تزال تطلع إلى نصف النهار ثمّ تعود إلى الانحطاط حتّى تغيب [مع] مغيب الشمس. ويقول البحريّون إنّ في ذلك البحر سمكة صغيرة يقال لها النشاكل «2» ، إذا حملها الإنسان معه أبصر تلك الجزيرة ودخلها، وهذا شيء عجيب طريف. وفيه جزيرة طاوران، وطاوران اسم ملكهم وله أربعة آلاف امرأة، ومن لم يكن منهم مثل ذلك فليس بملك. ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد، وعندهم أشجار إذا أكلوا منها قووا على الباه قوّة عجيبة. 326 وفي مملكة هذا الملك الجزيرة السيّارة، والبحريّون مجتمعون على تثبيتها ومنهم من يزعم أنّه رآها مرارا كثيرة لا يشكّون فيها. (وهي جزيرة فيها) «3» جبال

وشجر وعمارة، فإذا هبّت الريح من المغرب صارت إلى المشرق، وإذا هبّت الريح من المشرق صارت إلى المغرب، هذا دأبها. ويذكرون أنّ حجارتها هفافة خفيفة جدّا تكون زنة الحجر الضخم الذي يقدّر مثله بقنطار عشرة أرطال وأقلّ، ويحمل الإنسان القطعة الكبيرة من جبالها على عاتقه. 327 وفي تخوم بحر الصّين جزيرة النّساء لا «1» يسكنها إلّا النساء، وهنّ يلقحن من الريح ويلدن النّساء. وقيل إنّهنّ يلقحن من شجر عندهنّ «2» يأكلن منه. ويذكر أنّ الذهب عندهنّ عروق مثل الخيزران وأنّه وقع إليهنّ رجل فهممن بقتله، فرحمته امرأة منهنّ وحملته على خشبة فأدارته الأمواج حتّى أتت به بعض بلاد الصين، فوصل إلى ملك الصين وعرّفه حال الجزيرة، فجهّز إليها المراكب، فأقاموا معه يطوفون في البحر ثلاثة أعوام يطلبونها فلم يقعوا لها على أثر. 328 وفي خبر ذي القرنين أنّه وقع إلى جزيرة بيضاء ممرّعة «3» خصبة ذات أنهار وأشجار، وفيها أمّة على خلق الناس في الانتصاب، رؤوسهم رؤوس السّباع، فلمّا دنا أهل المراكب منهم غابوا عنهم. وفي وسط الجزيرة نهر شديد البياض عليه شجرة عظيمة فيها من كلّ ثمرة طيّبة المطعم ورقها كالحلل المنثرة (؟) حسنا ولينا، والشجرة تطلع بطلوع الشمس فتتباهى بطلوعها إلى وقت الزّوال، ثمّ لا تزال تنقص حتّى تغيب بمغيب الشّمس، وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد، وورقها أطيب ريحا من المسك. فحمل من

[ذكر الأخبار عن انتقال البحار]

ثمرها وورقها إلى الإسكندر، فضرب حاملو ذلك ووقعت عليهم آثار السّياط ولا يرون من يضربهم وصيح بهم: ردّوا ما أخذتم من هذه الشجرة ولا تقرضوها فتهلكوا. فأقرّوا ذلك وركبوا مركبهم ذاهبين. ودخل الإسكندر جزيرة العبادة فوجدها قفارا لا تنبت شيئا غير الحشيش، وفيها غدران ماء، ووجدوا قوما قد نهكتهم العبادة وصاروا كالحمم «1» سوادا. فوقف بهم فسلّم عليهم «2» فردّوا عليه فقال: ما عيشتكم في فلاتكم هذه؟ قالوا: ما يأتينا من رزق ربّنا من سماك البحر وأصول النبت وشرب ماء هذه الغدران. قال: أفلا أنقلكم إلى موضع أخصب من هذا؟ فقالوا: وما نصنع به؟ إنّ عندنا في جزيرتنا هذه ما نغني [عن] جميع العالم. وانطلقوا به إلى بلاد تتلألأ بأنواع الجواهر واليواقيت فوق ما تتوهّمه النفوس ويجري على الأفكار، وأخرجوه من ذلك إلى أرض عريضة وبساتين عجيبة فيها من أصناف الثمار والفواكه ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان وقالوا له: أتصل أنت إلى مثل هذا؟ قال: لا والله. قالوا: هذا بين أيدينا وفي تمليك الله عزّ وجلّ لنا، ما نلتفت إلى شيء منه، وإنّا لنؤثر الحشيش على هذه الفواكه. فذهب من كان مع الإسكندر ليأخذ من ذلك الجوهر فمنعهم وودّع أهل الجزيرة وانصرف إلى مراكبه ممتلئا عجبا فيهم. [ذكر الأخبار عن انتقال البحار] 329 ذكر صاحب المنطق أنّ موضع البرّ قد يكون بحرا وموضع البحر قد يكون برّا. قال: وليس مواضع الأرض الرطبة أبدا رطبة ولا اليابسة أبدا يابسة. قال: وللمواضع شباب وهرم وحياة كما في الحيوان.

330 قال س: وقد كان البحر فيما سلف في الموضع المعروف بالنجف- وهو بالحيرة «1» - وكانت ترسى هناك سفن الهند والصين ترد على ملوك الحيرة. فصار بين الحيرة وبين البحر الآن مسيرة أيّام كثيرة، ومن رأى النجف وأشرف عليه تبيّن له ما وصفنا. ولمّا أقبل خالد بن الوليد في سلطان أبي بكر رضي الله عنه بعد فتح اليمامة وقتل كذّابها يريد الحيرة تحصّن منه أهلها في الحصن الأبيض، وفيه كان إياس بن قبيصة، وقصر القادسية وقصر بني نفيلة «2» وقصر بني مازن. قال: وهذه قصور الحيرة. قال: وهي في وقتنا هذا سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة «3» خراب، وبين هذه القصور وقصر القادسية ثلاثة أميال. 331 وسمّيت القادسية لأنّ الأعاجم جعلوا قساء من قادس خراسان، وقادس يومئذ أسفل منها [اليوم] ، ممّا يلي عين الشّمال. وذكر الحكماء أنّ رستم لمّا أراد العبور أمر بسكر العتيق «4» بحيال قادس، فباتوا ليلتهم يسكرونه «5» بالتراب والقصب والبراذع حتّى جعلوه طريقا، فاستتمّ بعد ما ارتفع النهار من الغد. وذلك عند عبوره للقاء سعد بن أبي وقّاص. 332 فنزل خالد بالنجف وبعث إليهم أن ابعثوا رجلا من عقلائكم. فبعثوا إليه عبد

المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة «1» الغسّاني. وبقيلة هو الذي بنى القصر الأبيض، ودعي بقيلة لأنّه خرج يوما وعليه [ثياب] خضر فقال قومه: ما هذا إلّا بقيلة. وعبد المسيح هو الذي أتى سطيحا يسأله عن رؤيا الموبذان وارتجاج الإيوان وما كان من ملك بني «2» ساسان، فأتى عبد المسيح خالدا- وله يومئذ ثلاثمائة سنة وخمسون سنة- وأحبّ أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله. قال له خالد: من أين أفضى أثرك؟ قال: من صلب أبي. قال: فمن أين جئت؟ قال: من بطن أمّي. قال: فعلى ما أنت ويحك؟ قال: على الأرض. قال: أتعقل؟ قال: أي والله وأقيد «3» . قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال: اللهمّ اخزهم «4» من أهل بلدة فما يزيدوننا إلّا غمّا، أسأله عن شيء فيجيبني عن غيره. قال: لا والله ما أجبتك إلّا عن سؤالك، فسل عمّا بدا لك. قال: أعرب أنتم أم نبط؟ قال: نبط استعربنا وعرب استنبطنا. قال: فحرب أم سلم؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسّفيه نمنعه حتّى يأتي الحكيم «5» فينهاه. قال: كم من سنة أتت عليك؟ قال: خمسون وثلاثمائة. قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترقى إلينا من هذه النجف بمتاع الهند والصين وأمواج البحر تضرب ما تحتك، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تأخذ مكتلها فتضعه على رأسها لا تتزوّد إلّا رغيفا، فلا تزال في قرى عامرة وعمائر متّصلة وأشجار مثمرة ومياه عذبة غدقة حتّى ترد الشّام، وتراها اليوم قد أصبحت فيافا «6» ، كذلك دأب الله في البلاد والعباد. قال: فوجم خالد لما سمعه وعرف من هو، وكان مشهورا في العرب بصحّة العقل وطول العمر. قال: ومعه سمّ ساعة يقلّبه في يديه. فقال له خالد: ما هذا معك؟ قال: سمّ ساعة، فإن يك عندك ما يسرّ به ويوافق أهل بلدتي قبلته وحمدت الله عليه، وإن يكن الأخرى لم أكن أوّل من ساق إلى بلده ذلّا، فآكل السمّ وأستريح. قال له خالد: هاته. وأخذه ووضعه في راحتيه

ثمّ قال: بسم الله وبالله بسم الله ربّ الأرض وربّ السّماء، بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء، وهو السّميع العليم. ثمّ اشترطه فلحقته غشية، ثمّ سرى عنه وأفاق كأنّما نشّط من عقال. فانصرف العبادي إلى قومه- والعباديّون هم النّسطورية «1» من النّصارى- فأخبرهم بما رأى وقال: يا قوم صالحوه فإنّ القوم مصنوع لهم وأمرهم مقبل وأمر بني ساسان مدبر، وسيكون لهذه الأمّة شأن. ثمّ تحدّث بها هنات وهنات. فصالحوه، وقال عبد المسيح [وافر] : أبعد المنذرين أرى سواما «2» ... تروّح بالخورنق «3» والسّدير فصرنا بعد هلك «4» أبي قبيس ... كمثل الشّاة في اليوم المطير تقسّمنا القبائل من معدّ ... علانية كأيسار الجزور كذاك الدّهر دولته سجال ... فيوم من مساة أو سرور «5» 333 ونحو هذا ما حدث في الجانب الآخر الشّرقي ببغداد من المواضع المعروفة برقّة «6» الشّماسية وما نقل إليها من الجانب الغربي من الضياع التي كانت بين قطربّل ومدينة السّلام، فإنّ ذلك عدد من ضياع قطربّل. وقد كان لأهلها مطالبات مع أهل الجانب الشّرقي ممن يملك رقة الشماسية بحضرة الوزير علي بن عيسى وما أجاب في ذلك. 334 قال: وذكر جماعة أنّ السّنة التي بعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى

ذكر الأنهار والعيون

- وذلك سنة سبع- زاد الفرات والدجلة زيادة لم ير مثلها واتّسعت بثوق «1» عظيمة حملت السّكور «2» والمسنّيات، وطلب الماء الوهاد، وجهد أبرويز «3» أن يردّ مسنّياتها ويقيم شادرواناتها، فغلبه الماء وطما على العمارات فغرق الكور والسّطوح، وشغلت الأعاجم بحرب العرب. فلمّا [ولّي معاوية] «4» ولّى عبد الله بن درّاج مولاه خراج العراق، فغلب الماء المسنّيات والسّكور واستخرج له من الأرض ما بلغت غلّته خمسة عشر ألف ألف. واستخرج الحجّاج أيّام الوليد من البطيحة نحو خمسين فرسخا في مثلها. ذكر الأنهار والعيون 335 اختلف النّاس في الأنهار، فقالوا إنّها في الأرض كالعروق في البدن. وقال آخرون: حقّ الماء أن يكون على سطح، فلمّا اختلفت الأرض فكان منها العالي والهابط انحاز الماء إلى أعماق الأرض، فلمّا انحصرت [المياه] في الأعماق طلبت التنفّس لضغط الأرض من أسفل فتنبثق حينئذ عيونا وأنهارا. 336 فأمّا النيل فإنّ مبعثه من تحت جبل القمر وراء خطّ الاستواء بسبع درجات ونصف من اثنتي عشرة عينا، فيجتمع في بحيرتين كالبطائح. قال: وهاتان البحيرتان هنا في البلاد المحترقة الجنوبية التي لا يكون فيها نبات ولا حيوان، ثمّ يتشعّب من كلّ بطيحة ثلاثة أنهار تجتمع مع جميعها إلى بطيحة في الإقليم الأوّل، فيخرج من هذه البطيحة نيل مصر. ثمّ ينبعث بين جبال ورمل، ثمّ

يخترق أرض السّودان ممّا يلي بلاد الزنج ويطيف بأرض النّوبة، فيتشعّب منه خليج يصبّ إلى بحر الزنج، وهو بحر جزيرة قنبلو «1» ، وسنذكرها إن شاء الله. فيخرق البحر أكثر من ميل عذبا حلوا يتكدّر إبّان زيادة النيل وفيه السّوسمار» - وهو التمساح الكائن في نيل مصر- ويسمّى الورل أيضا. وذكر أنّ النيل يجري على وجه الأرض تسعمائة فرسخ- ويقال ألف- بين عامر وغامر. وقال غيره إنّ مسافة جريانه من لدن منبعه إلى مصبّه في البحر خمسة آلاف وتسعمائة وثلاثون ميلا، ويقال إنّه يجري في الخراب غير العمران مسيرة أربعة أشهر، في بلاد المسلمين مسيرة شهر وفي بلاد السّودان مسيرة شهرين. قال الجاحظ «3» : وكلّ نهر في الأرض مخالف للنّيل وهو مستقبل الشّمال. قال الشّاعر [رجز] : مصر ومصر شأنها عجيب ... وماؤها يجري به الجنوب. 337 وبالنّيل السّمك الرعاد، من صاد منها سمكة لم تزل يده ترعد ما دام في شبكته أو شصّه. وجبل آمد «4» يراه أهله، من انتضى سيفه ثمّ أولجه فيه وقبض على قائمه بجميع يديه اضطرب السّيف في يديه وارتعد هو ولو كان أشدّ الناس «5» . وإذا أحدّ بحجارة ذلك الجبل سكين أو سيف وحمل عليه الحديد لم يؤثّر فيه ويجذب الإبر والمسالّ أشدّ جذب من جبال المغنطيس، ولا يبطل الثوم عمله كما يبطل المغنطيس، بل تبقى تلك القوّة في ذلك الحديد على مرّ الأيّام. وحجر الجبل نفسه لا يجذب الحديد فإن أحدّ عليه سيف أو سكين جذب الحديد، وهذه عدّة أعاجيب.

338 وإلى بلاد أسوان من صعيد مصر تصعد المراكب من فسطاط مصر. وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، وهذا الموضع فارز «1» بين سفن الحبشة في النيل وسفن المسلمين. فيقطع النيل الصعيد ثمّ يمرّ بالفسطاط ثمّ بأرض الفيوم ثمّ يمرّ هابطا فينقسم خلجانا إلى أرض تنّيس ودمياط والإسكندرية كلّ يصبّ إلى البحر الرومي، وقد أحدث بحيرات في هذا الموضع. 339 د: إذا انتهى إلى دمياط يصبّ في بحيرة كبيرة فيها جزائر، منها تنّيس. فماء تنّيس وجزائر تلك البحيرة عذب إذا هبّت الجنوب، وهم عند ذلك يطرقون بها إلى مصانع صنعوها لذلك، فإذا هبّت الشّمال ملح ماء البحيرة. وقد كان النيل إذ بنى الإسكندر هذه المدينة يتّصل بأسواقها ويمرّ في سككها، وقد بلّطت مجاريها بالمرمر، ثمّ صار الآن النيل منهم على نحو يوم وصار شربهم من الآبار، وهذا ممّا قدّمناه. قال د: والنيل يتشعّب دون الفسطاط شعبتين، فتصير شعبة إلى الرشيد بقرب الاسكندرية وتصير شعبة أخرى إلى دمياط. 340 فأمّا خليج النيل الذي يتشعّب إلى بحر الزنج [فهو فارز بين بلاد الزنج وبين أقاصي بلاد] «2» أصناف الأحابيش، ولولا هذا الخليج «3» ومفاوز ورمال تليه لم يكن للحبشة مقام في بلادها مع الزنج لكثرة الزنج وبطشها «4» .

341 وأمّا نهر «1» بلخ الذي يسمّى جيحون- وهو جيحان- وقد جعلها اثنين «2» وهو صحيح. قال: وجيحان منبعه من [بلاد] الرّوم ويجتاز بين المصيصة وكفربيّا «3» ويصبّ في بحر الشّام، ولم يزد على هذا. وقد ذكر س نحو هذا في جيحون ووفّقه أحمد على ذلك فقال: هما نهران، وذكره عن الجيهاني. قال: منبعث نهر جيحون من بلاد التبّت يقبل من الشرق مع الصبا فيمرّ ببلاد وخّان «4» ويسمّى هناك وخّاب «5» ، ثمّ يصير إلى أعلى حدود بلخ ممّا يلي المشرق، ثمّ ينعطف إلى ناحية الشّمال مع الجنوب إلى أن يصير إلى الترمذ، ثمّ يقبل منها إلى زمّ ثمّ إلى خوارزم، فيمرّ بمدينتها، فإذا جاوزها «6» تشعّبت منه أنهار وخلجان ذات اليمين وذات الشمال، فصارت منه [بطائح] «7» وآجام ومروج أسفل من مدينة خوارزم بنحو أربعة فراسخ، ثمّ يمرّ مستقبل الشمال «8» بين الجرجانية- أسفل من المدينة بأربعة وعشرين فرسخا- وبين دور المزداخكان «9» من الشاطئ الشرقيّ، وبه يدعى السّمك هو وابك «10» . فإذا انحدر من هذه المواضع تشعّب منه شعب ذات اليسار إلى ورغدة «11» ، وهي المسمّاة بساكرة، وهي أسفل من الجرجانية بأربعة فراسخ، فتصير منه «12» هناك بطائح تسمّى الخلجان، وهو الموضع الذي يصاد فيه السّمك المجلوب من خوارزم إلى النواحي. ويجري بقية النهر إلى البحيرة المذكورة. 342 قال الجيهاني: ودور هذه البحيرة نحو مائة فرسخ، بين التّنبيه: مستفتها

مسافتها نحو من أربعين يوما في مثلها. ج: وماؤها ملح وليس لها مغيض ظاهر، ويقع فيها نهر جيحون ونهر الشّاش وأنهار غيرهما «1» كثيرة، فلا يعذب ماؤها ولا يزيد فيها. ويشبه- والله أعلم- أن يكون بينها وبين بحر «2» الخزر خرق يتّصل بمائها، وبين البحرين نحو عشرين مرحلة على السّمت. وأضيق أعبار جيحون على رباط بلخ عرضه نحو ميلين. هذا كلّه من التنبيه. 343 فأمّا نهر بلخ الذي يسمّى جيحون- وهو نهر المصيصة- فإنّه يجري من أعين فيمرّ ببلاد الترمذ واسفرائين من بلاد خراسان حتّى يأتي بلاد خوارزم، فيفترق في مواضع هناك ويمضي باقيه فيصبّ في بحيرة الجرجانية أسفل خوارزم. وليس في العمران بحيرة أعظم منها لأنّ طولها مسيرة شهر في نحو ذلك من العرض ودورها أربعمائة فرسخ، وإليها يصبّ نهر فرغانة والشّاش وعليها مدينة للتّرك يقال لها الجديدة فيها المسلمون. والسّفن تجري في هذه البحيرة. 344 وقد زعم قوم من أهل الخبرة «3» أنّ مبتدأ نهر جيحون يستمرّ خارجا إلى بلخ، ثمّ يصبّ في البحر، وهو يصبّ في ساحل المصيصة من البحر الرّومي. ومقدار جريه على الأرض مائة وخمسون فرسخا، وقيل أربعمائة. وقد زعم قوم أنّه يصبّ في مهران «4» السّند. [وذكر الجاحظ أن مهران السّند] «5» من نيل مصر واستدلّ بوجود التمساح فيه. ذكر ذلك في كتاب

الأمصار. ونهر مهران السّند يخرج من أعين مشهورة في أعلى بلاد السّند من أرض فتح من مملكة بوروة. 345 الفرات: مبدؤه من بلاد قالى قلا من ثغور أرمينية من جبل هناك يدعى أفردخش على نحو يوم من قالى قلا، ثمّ يجري في بلاد الروم إلى أن يأتي «1» ملطية، وإذا توسّط بلاد الروم تجلّبت إليه مياه كثيرة وأنهار، ثمّ ينتهي إلى جسر منبج «2» ثمّ إلى بالس، ويمرّ بصفّين في موضع حرب أهل العراق وأهل الشّام، وينتهي إلى الرقّة والرّحبة «3» وهيت والأنبار. وتأخذ منه هناك أنهار مثل نهر عيسى الذي ينتهي إلى مدينة السّلام فيصبّ في دجلة، وغيرها. ثمّ يأخذ الفرات إلى بلاد سورا «4» وقصر ابن هبيرة والكوفة والجامعين والنّرس والطّفوف «5» ، إلى البحيرة التي بين البصرة وواسط. 346 د: وهو يقبل من الشّمال فيكون مقدار جريانه على وجه الأرض نحو خمسمائة فرسخ، وقيل ستّمائة فرسخ. وقد كان الفرات ينتهي إلى بلاد الحيرة «6» ونهرها بيّن إلى هذا الوقت، فيعرف بالعتيق» ، وعليه كانت وقعة المسلمين مع رستم، وهي وقعة القادسية، فيصبّ في البحر الحبشي، وكان البحر يومئذ في الموضع المعروف بالنّجف، وقد تقدّم ذكر هذا. ويقع في الفرات في أرض الجزيرة نهر الخابور بموضع يسمّى قرقيسيا.

وبالبطائح تجتمع هذه المياه وهي ثلاثون فرسخا في ثلاثين، حدّ منها جزيرة العرب وحدّ أرض ميسان وحدّ دجلة بغداد وحدّ مصبّ الفرات والنّهروان. وهذه البطائح هي مزارعهم وأشجارهم. وقد أخرجت من هذه البطائح أنهار منها نهر مرة- ونهر مرة منسوب إلى مرة بن أبي عثمان مولى عبد الله بن أبي بكر، (وهو عبد الرحمن بن أبي بكر) «1» الصدّيق كتبت عائشة بالوصاة به إلى زياد فأقطعه ذلك النهر، وفيض البصرة يقع في نهر الأبلّة «2» حتّى يخرج إلى دجلة العوراء، ثمّ يقع في بحر الهند، وفيض البصرة هو نهرها الذي البصرة عليه. 347 وأمّا الدجلة فإنّها تخرج من الإقليم الخامس من بلاد آمد من ديار بكر، موضع يعرف بحصن ذي القرنين، وتصبّ إليها أنهار سريط وساتيدما «3» الخارجة من بلاد أرزن وميّافارقين، وتمرّ بالموصل ويصبّ فيها نهر الخابور الخارج من بلاد أرمينية، والتقاؤه بدجلة [بين مدينة باسورين وقبر سابور] «4» من بلاد قردى- وقال: تلك من بلاد الموصل. وهذه الديّار ديار بني حمدان وفيها يقول الشّاعر [طويل] : بقردى [وبازبدى] «5» مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السّلسبيل برود وبغداد ما بغداد أمّا ترابها ... فجمر وأمّا حرّها فشديد وليس هذا نهر الخابور الذي يجري من مدينة رأس العين ويصبّ في الفرات. ثمّ (تمرّ دجلة) «6» فيصبّ فيها أسفل من الموصل [نهر الزّاب] «7» بين الموصل وجرد والحديثة على فراسخ من الحديثة من الجانب الشرقي، فهذا

الزاب الأكبر والأصغر الواردان من بلاد أرمينية وآذربيجان. ثمّ تنتهي «1» إلى تكريت وسامرّا وبغداد، فيصبّ فيها نهر عيسى وغيره التي ذكرنا أنّها تتشعّب من الفرات. ثمّ تخرج دجلة عن بغداد فتصبّ فيها أنهار كثيرة مثل النهر المعروف بنهر بين ونهر روان «2» ممّا يلي (جرجرايا والسّيب ونيل النعمانية) «3» . وإذا خرجت الدجلة عن مدينة واسط «4» تفرّقت أنهارا آخذة إلى بطيحة البصرة مثل سردود وسابس «5» والمصبّ «6» الذي ينتهي إلى القطر وفيه تجري أكثر سفن البصرة من بغداد وواسط. ومقدار جريان دجلة ثلاثمائة فرسخ، وقيل أربعمائة. 348 وقال أحمد بن عمر: أمّا دجلة الّتي تدعى اليوم بالعوراء فإنّها كانت قبل الإسلام تستقيم (من عند المذار) «7» ، وهي اليوم منقطعة فتمرّ ما بين المذار وعبدسى «8» من كور دست ميسان حتّى تخرج عند الخيزرانة فوق فم الصّلح بحضرة واسط، فتمرّ حتّى تأتي المدائن، فكانت سفن البحر تجري من بلاد الهند فتدخل في دجلة البصرة حتّى تأتي المدائن. فتمرّ حتّى تخرج فوق فم الصّلح فتصير إلى دجلة بغداد فتأتي المدائن. ثمّ إنّها خرقت الأرض حتّى مرّت بين يدي واسط حتّى صبّت ماءها في هذه البطائح، والبطائح يومئذ أرض تزرع متّصلة بأرض العرب ومن قبائلها يشكر وباهلة وبنو عبس متّصلة بناحية ميسان وأرضها. فغلب الماء على ما كان من تلك الأرضين منخفضا، فتلك المواضع معروفة بالبطائح تسمّى سرطغان وطستخان «9» قد يرى أثرها في الأرض- أعني أرض البطائح- تحت الماء عند ركود الماء وصفائه فيعلم أنّها

ومن أنهار الأرض المشهورة

كانت أرضين. وصارت البطائح الأولى وما والاها صحاري ومفاوز، ويصيب المارّة فيها في الصّيف سموم شديد. فلم يبق اليوم من دجلة العوراء إلّا من المذار «1» إلى بحر الهند، وذلك مقدار ثلاثين فرسخا، وهي دجلة البصرة وإليها ينتهي مدّ البحر وجزره. وكان كسرى أبرويز قد سكر «2» دجلة عند الخيزرانة وإنّه أراد أن يعيد «3» الماء إلى دجلة العوراء وأنفق عليها مالا عظيما، فأعياه ذلك وجرت «4» في موضعها الذي هي اليوم فيه بين يدي واسط. ورام بعد ذلك خالد بن عبد الله أن يسكرها «5» وأنفق الأموال في ذلك، فصفت «6» دجلة ذلك البنيان وخرقته، وآثار «7» ذلك البناء ترى إذا قلّ «8» الماء في دجلة من آجرّ وصاروج، وربّما عطبت فيه السّفن المارّة. 349 وأمّا سيحان فهو في الثغر الشّامي، وهو نهر أذنة ومخرجه من نحو ثلاثة أميال من مدينة ملطية، ويجري في بلاد الرّوم وليس عليه للمسلمين إلّا مدينة أذنة بين مدينة طرسوس والمصيصة، ويصبّ في البحر الرومي من الثغر الشّامي. ومن أنهار الأرض المشهورة 350 نهر كنك ببلاد الهند، ونهر مهران وهو نهر السّند، يخرج من جبال شقنان «9» ، ويقال إنّه يخرج من جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون، وتمدّه

أنهار كثيرة وعيون غزيرة، فيقطع «1» أرض الهند والسّند ويظهر على نوافره بناحية الملتان، ثمّ يمرّ على المنصورة حتّى يقع في البحر شرقيّ «2» الدّبيل. وهو نهر كبير عذب يقال إنّ فيه تماسيح كتماسيح النيل، وهو مثله في الكبر وجريه بالأمطار الصّيفية، وينتشر على وجه الأرض ثمّ ينضب فيزرع عليه حسب ما يزرع بأرض مصر. نهر الرسّ: وهو نهر أرمينية يمرّ برستاق «3» بناحية الفرس وشرقيّه، ثمّ يمرّ بدبيل وبأرّان «4» ، فيقع فيه من جبال أرمينية وجبال أرّان أنهار، ثمّ يمرّ بورثان إلى مرويح (؟) ، فإذا جاوزها انصبّ في بحر طبرستان. النهروان: وإنّ منبعثه من جبال أرمينية ويمرّ بباب صلوى «5» ، ويسمّى هناك ثامرّا، ويستمدّ من القراطيل، فإذا صار بباب كسرى يسمّى النهروان، وينصّب في دجلة أسفل جبّل. نهر الخابور: منبعثه من رأس العين من أعلى أرض الجزيرة ويمتدّ من الهرماس «6» ، وهو نهر ينصبّ في الفرات بموضع يسمّى قرقيسيا. [نهر بردى: نهر دمشق] «7» فينبعث من جبالها فيجتازها فيسقيها «8» ويسقي «9» غوطة دمشق وينصبّ في بحيرة «10» دمشق. نهر قويق: نهر حلب ينبعث من قرية تدعى سنياب «11» على سبعة أميال من دابق، ثمّ يمرّ الى حلب ثمانية عشر ميلا، ثم يفيض في الأجمة.

ومن الأنهار المنصبة في جيحون

ومن الأنهار المنصبّة في جيحون 351 وخشاب: وهو أعظمها يقبل من أعلى بلاد التّرك فيصير إلى بلاد فامر «1» ثمّ إلى بلاد الرّاست ثمّ إلى بلاد الكميذ «2» ، ثمّ يمرّ بين الجبلين فيما بين حدود الواسجرد ورستاق من أرض الختّل، فيستقبل جريه بلاد الختّل ذات يمينه وبلاد الواسجرد ذات يساره، ثمّ يجري حتّى إذا صار في أرض الختّل صبّ في جيحون بموضع يعرف بميلة «3» فوق مدينة «4» التّرمذ. ونهر وخّاب يكشف بلاد الختّل من الشّقّ الآخر، وهو الذي يخرج من بلاد التبّت وهو أصل جيحون على ما قدّمناه. وفي أعلى هذا النهر موضع يخرج منه الذهب قطع صغار مثل رؤوس الإبر. ذكر بعض الأنهار الخارجة «5» من صحراء «6» المغرب 352 من جبل درن، وهذا الجبل معترض في الصحراء وهو فاصل بين الصحراء والسّاحل، ومنه ينفجر كلّ نهر هناك، وهم يختلفون في تسمية هذا الجبل، فأهل فاس وسجلماسة يسمّونه درن، والمصامدة ونول يسمّونه بشكوا، وهوارة تسمّيه أوراس «7» . فممّا ينفجر منه نهر نفيس ووادي أغمات ونهر موقوا، وهو يقع في وادي وانسيقين، وهو يجري إلى (بلاد برغواطة) «8» .

ومن الأنهار المشهورة ببلاد الأندلس

ومنها وادي وارزين وهو يقع في وانسقين، ومنها وادي أقديم وهو وادي سلا. ويخرج من هذا الجبل في القبلة إلى الصحراء نهر درعة، وهو نهر عظيم ينصبّ في بحر نول في البحر المحيط. ومن هذا الجبل ينبعث وادي غريس، وهو [نهر] سجلماسة الذي يعرف بوادي زيز، وينصبّ في هذا الوادي عدّة أودية تنبعث كلّها من ذلك الجبل واجتماعها كلّها في موضع يقال له فاكنسا، وهذا الوادي يقع في البحر وراء درعة بعد مسافة بعيدة. 353 ومن الأنهار المشهورة ببلاد الأندلس نهر قرطبة، ويعرف بنهر بيطي «1» ، مخرجه من ناحية ريمية وبين منبعثه إلى موقعه في البحر بغربي اشبيلية ثلاثمائة ميل وعشرة أميال. ويقع فيه سنجيل، وهو ينبعث من الثلج من جبال ألبيرة وعليه مدينة استجة «2» ، ونهر بينش يقع فيه يجتمع النهران في فحص ألبيرة. وتقع فيه عيون لوشة، وتقع فيه عين وادي سوس ومخرجه من جبال باعة، ويقع فيه الوادي الأحمر ومخرجه من جبال النشكة. وبأقلّ جدول من هذا النهر يستحيل ماء نهر قرطبة وتعلوه حمرة وكدرة. وينصبّ فيه بلون وأنهار كثيرة: نهر ترميد، ومخرجه بقرب من مخرج نهر قرطبة من ناحية كشكه وجريه إلى الشّرق وانصبابه في البحر الشّامي، وهذا نهر تضغطه الجبال بموضع يعرف برقوط على ثمانية عشر ميلا من مرسية حتّى يتوعه الرجل، ولولا هذا الجبل لغرق السّيل مرسية. ونهر آنة، ومنبعثه بين شمال الأندلس وشرقها فيما بين الجبل المسمّى البويرة وبين مدينة روقول، وهي فوق مدينة ريمية، ومصبّه في البحر المحيط باشكونية، ومسافة طوله ثلاثمائة وعشرون ميلا. ونهر آنة هذا يغيض بين لا بردة وبطليوس فيجري متواريا حتّى يبدو بموضع يعرف بفجّ العروس من فحص الفجّ، ثمّ يغيض فيخرج بقرية من قرى قلعة رباح يقال لها آنة. نهر تاجه، منبعثه من جبال بناحية نطلية «3» من عين في موضع يعرف بالبيضة

ومن أنهار بلاد الإفرنجة وجليقية المشهورة

لكثرة صنوبره، ومصبّه في البحر المحيط بين مدينة قلموية ومدينة برتقال «1» ومسافة جريه تسعمائة ميل وثمانون ميلا، وتقع فيه نحو عشرة أنهار. ونهر أبره يخرج من عين يقال لها قونت أبير، وهي فوق أرض القلاع، ومجراه من الجوف إلى القبلة، ومصبّه في البحر الشّامي بناحية طرطوشة، ومسافة جريه مائتا ميل وأربعة أميال، وهو مخصوص بالحوت المعروف بالطرنجة، وهو حوت عظيم وليس له إلّا شوكة واحدة، وتقع فيه عدّة أنهار. نهر جلّق، وهو يقع في نهر أبره ومخرجه من جبال الشّيرطابنين. ومن أنهار بلاد الإفرنجة وجلّيقية المشهورة 354 نهر مينية، مخرجه من جبال ألتبه ويشقّ بلاد جلّيقية من شرق إلى غرب ويقع في البحر المحيط بناحية حائط جلّيقية، وعدد أمياله ثلاثمائة ميل وثلاثة أميال. نهر رودية- وهو بلد غاليش- ومخرجه من فحص بلد غاليش. ونهر آخر يعرف بقرنيش، وهو الذي تدعوه الصّقالبة وادي رين «2» ، وعليه حضورهم عند خروجهم من بلدهم، وعليه مدينة الإفرنج العظمى التي تدعى مغنج. وعلى هذا النهر جسر ممدود من مراكب قد ضمّ بعضها إلى بعض وسمّرت بمسامير الخشب وعقد بعضها إلى بعض، والأرحال منصوبة عليها، فإذا كثر ماء النهر ارتفعت بارتفاعه وانخفضت بانخفاضه، وهي تطحن مستمرّ. وجزء منه يصبّ في البحر المتوسّط وجزء في البحر المحيط، ومسافة جريه مائتان وخمسون. ومن الأنهار العظام نهر بدوينة. والله أعلم بغيبه وأحكم.

ابتداء الممالك مملكة الهند

ابتداء الممالك مملكة الهند 355 وهي «1» عند جميع ملوك الكفّار بإجماع منهم مملكة الحكمة، والحكمة من الهند بدؤها. وزعموا أنّهم أوّل من ضمّ المملكة ونصب لها ملكا، فأوّلهم البرهمن الأكبر، وهو الذي أظهر المملكة والحكمة وابتدعهما «2» وصنع السّيوف وآلات الحرب وشيّد الهياكل ورصّعها بالجواهر وصوّر الأفلاك والبروج والكواكب وجعل ذلك كتابة قريبة إلى العقول وأثبته في الأفهام وأشار إلى المبدأ الأوّل المعطي لسائر الموجودات [وجودها] ، وذلك الكتاب كتاب السّند هند أي دهر الدّهور، ومنه تفرّعت الكتب: كتاب المجسطي والأرجبهد «3» وغيرهما. وكان اعتقاد البرهمن أنّ الخالق نور لا كالأنوار التي نراها «4» بالأعين لأنّه (نور عليم) «5» سميع بصير. وتزعم الرّوم وغيرها أنّهم إنّما يعبدون أسماء لا يعرفون معناها. وهو أوّل من تكلّم في أوج الشمس وأنّه يقيم في كلّ برج ثلاثة آلاف سنة وأنّه إذا انتقل الأوج إلى البروج الجنوبية انتقلت العمارة فصار العامر غامرا والغامر عامرا. وقد زعموا أنّ في كلّ ستّة وثلاثين ألف سنة يفنى العالم وينشأ عالم آخر، وذلك مدّة قطع الكواكب الثابتة أوج الشمس، وإذا أنشأ الله عالما آخر ألهمهم إلى المنافع والمضارّ «6» وما يعمرون به الأرض، وهذا مذكور في كتاب السّند هند.

356 وقد كان البرهمن جمع سبعة من حكمائهم فقالوا: تعالوا ننظر من «1» العالم [ما سرّه] «2» ومن أين أقبلنا وإلى أين نمرّ وهل إخراجنا من عدم إلى وجود حكمة أم [ضدّ ذلك و] «3» هل خالقنا ومخترعنا يجتلب منفعة أم هل يدفع بفنائنا مضرّة، وما وجه إبلائه إيّانا وإفنائه «4» لنا بعد إيجادنا. فقال الحكيم الأوّل: أترى أحدا من الناس أدرك الأشياء الحاضرة والغائبة على حقيقة «5» الإدراك فظفر بالبغية واستراح بالثقة؟ وقال الحكيم الثاني: لو تناهت «6» حكمة الخالق في حدّ العقول لكان ذلك نقصا في حكمته وكان الغرض غير مدرك والتقصير مانعا من الإدراك. قال الحكيم الثالث: الواجب أن نبتدئ بمعرفة أنفسنا التي هي أقرب الأشياء إلينا قبل أن نتفرّغ إلى علم ما بعد عنّا. وقال الحكيم الرّابع: لقد ساء موقع من وقع موقعا احتاج فيه إلى معرفة نفسه. وقال الحكيم الخامس: من ها هنا وجب الاتّصال بالعلماء الممدّين «7» بالحكمة. وقال الحكيم السّادس: يجب على المرء المحبّ لنفسه أن (لا يغفل عن ذلك) «8» لا سيّما إذا كان المقام في هذه الدّار ممتنعا. وقال الحكيم السّابع: ما أدري ما تقولون غير أنّي خرجت إلى الدنيا مضطرّا وعشت فيها حائرا وأخرج منها كارها. 357 واختلف الهند ممّن خلف وسلف في آراء هؤلاء السّبعة وأقوالهم وتنازعوا في مذاهبهم، فافترقوا على سبعين فرقة، منهم من يثبت الخالق والرسل عليهم الصّلاة من الله والسّلام، ومنهم النّافي للرّسل، ومنهم النافي لكلّ ذلك. وقد زعموا أنّ البرهمن هو آدم والأكثر منهم على أنّه ملك الهند. والهند تزعم

أنّ آدم سابع سبعة من الآدميّين وأنّ كلّ أدمي منهم كان مدّة ولده ونسله سبعة آلاف سنة، ولا «1» يجعلون للدهر ابتداء ولا انتهاء، ويقول إنّ الله أوّل لا ابتداء له ودائم لا نفاذ له ولا غاية، يخلق عالما بعد عالم وجيلا بعد جيل وينشئ أمّة بعد أمّة، فكما لا تعقل أوّليته ولا غايته فكذلك لا يحيط عباده بمعرفة حكمته ولطف قدرته. والهند تزعم أنّهم يدركون بالرّقي والوهم ما أرادوا به وأنّهم يحلّون ويعقدون بزعمهم. 358 وكان ملك البرهمن ثلاثمائة سنة وستّين سنة وولده يعرفون بالبراهمة إلى وقتنا هذا والهند تعظّمهم، وهم على مرّ السّنين لا يغتذون بشيء من الحيوان ولا يشربون الخمر ولا الأنبذة، وفي رقاب الرجال والنساء منهم خيوط صفر متقلّدين بها كحمائل السّيوف فرقا بينهم وبين غيرهم من أنواع الهند. ثم ملك بعده الباهيود ابنه فسلك مسلك أبيه. وفي أيّامه عملت النّرد مثالا للمكاسب وإنّها لا تزال بالكيس. وملك مائة سنة. وقد قيل إنّ أردشير وضع النرد وجعلها اثني عشر شكلا عدد الشّهور والكلاب ثلاثين عدد أيّام الشّهر والفصّين مثالا للقدر وتقلّبه. ثمّ ملك دينام- وقيل اسمه دبشلم «2» - وهو واضع كتاب كليلة ودمنة (الذي نقله ابن المقفّع وصنّف سهل بن هارون للمأمون كتابا سمّاه ثعله وعفره «3» عارض به كليلة ودمنة) «4» . وكان ملكه مائة وعشرين سنة. ثمّ ملك بلهيت وصنعت في أيّامه الشّطرنج بيّن فيه الظفر الذي يناله الحازم والنكبة التي تلحق الجاهل.

359 وللهند في الشطرنج سرّ يسرّونه في تضاعيف حسابها ويتغلغلون بذلك إلى ما علا من الأفلاك ويجعلونه متّصلا بالأجسام السّمائية. ولم تزل كلّ طائفة تستعمل عليها فنون الملح والنوادر المضحكة المدهشة، ويزعمون أنّ ذلك ممّا يبعث على لعبها وانصباب الموادّ وصحيح الأفكار، وهو بمنزلة الارتجاز للمقاتل والحدّ للمغنّي. وقال بعض الشعراء [سريع] : نوادر الشطرنج في وقتنا ... أحرّ من ملتهب الجمر كم من ضعيف اللعب كانت له ... عونا على مستحسن القمر «1» وذكر بعض أهل النظر من الإسلاميّين أنّ واضع الشّطرنج كان عدليّا مستطيعا فيما يفعل وأنّ واضع النرد كان مجبرا، فبيّن باللعب بها أنّه لا استطاعة له بل تصرّفه في أمره على حسب ما يوجبه القدر. ولذلك قال الشّاعر الكاتب المعروف بكشاجم [بسيط] : لا خير في النرد لا يغني ممارسها ... فضل الذكاء إذا ما كان محروما تزيل أفعال فصّيها بحكمهما «2» ... ضدّين في الأمر ميمونا ومشؤوما «3» فما تكاد [ترى] «4» أخا أدب ... يفوته القمر إلّا كان مظلوما وقال أبو نواس [طويل] : ومأمورة بالأمر تأتي بغيره ... ولم تتّبع في ذاك غيّا ولا رشدا إذا قلت لم تفعل وليست مطيعة ... وأفعل ما قالت فصرت لها عبدا وقال اليعفيلي: لم تلته الملوك والسّادة وأهل المروّة والشّرف بشيء أحسن من الشطرنج وإنّها حكمة وأدب وتدبير ونظر، ولم تضعها الحكماء لتكون لعبا ولا لهوا ولا هزلا، وإنّما وضعتها للبيان يتبيّن بها صحّة النظر في ابتداء الأمور وعواقبها، ولا يكون إقدام المقدم إلّا بعد رؤية ولا تأخير المتأخّر إلّا بعد هزم «5» . وقد لعب بها التابعون ورخص فيها. وحدّثنا سليمان بن داود عن

ابن معاوية الضرير عن الزّبير بن عدي قال: رأيت الشعبي يلعب بالشطرنج وإلى جانبه قطيفة، فإذا مرّ به جماعة أدخل رأسه فيها، وكان يجيز «1» شهادة اللاعب بها ما لم يكن قمارا ولم يؤخّر بسببها صلاة. وكان الرشيد حبس موسى بن جعفر بن محمّد في دار السّندي بن شاهك، فربّما خرج عليهم من الموضع الذي هو فيه فيراهم يلعبون بها فيقومون عنها فيقول لهم: ارجعوا فإنّه أحسن ما تشاغل به الناس ما لم يكن فيه «2» قمار. 360 وملك بلهيت ثمانين سنة، ثمّ ملك كورث، وهو الذي عمل له الكتاب الأعظم «3» في الأدواء والعلل وعلاجها وشكّلت الحشائش وصوّرت. وبعد ملكه تحزّبت أحزاب الهند وتفرّقت آراؤها ومملكتها، فتملّك أرض السّند ملك وأرض القنّوج [ملك] «4» - وهو بروزة سمة لهم ولا بحر له- وأرض القشمير ملك «5» والمانكير ملك- وهي الحوزة الكبرى- فسمّي البلّهرى فصارت سمة لمن طرأ من الملوك في هذه الحوزة إلى وقتنا هذا. وبلاد البلّهرى يقال لها الكمكم «6» ومنها يجلب السّاج وبها يكون «7» ... وهي مملكة واسعة، وقد ذكرنا أنّ من حوله من الملوك يصلون إليه. وينضاف الى مملكة الهند ملك الزّابج وهي مملكة المهراج ملك الجزائر، وهذه المملكة فرق ما بين الهند والصّين. ومعنى المهراج عندهم ملك الملوك. قال: وليس له مملكة غير الجزائر وليس في ملوك الهند أكثر خيرا منه ولا أقوى دخلا، ويقال إنّ دخل قمار الدّيوك خاصّة يبلغ كلّ يوم في مملكته خمسين منّا من ذهب. ويكون بطواران من جزائره كافور ومعدنه جزيرة رامنا.

361 ومن كبار ملوكهم ملك قمار والبرانية ملكة الجزائر. وملك قمار قليل المملكة تكون في مملكته مسيرة أربعة أشهر، ويركب له خمسون ألفا إلّا أنّه أحسن الملوك مكافأة يكافئ على الجزء بمائة جزء، وهو أشبههم سيرة بالمسلمين. 362 ومنهم ملك يقال له الفارفطي و [ملك يقال له] «1» الصّيلمان وينتهي جنده إلى سبعين ألفا إلّا أنّ فيلته قليلة وهي أجرأ فيلة الهند. ومنهم ملك يقال له نجانة وهو شريف منهم وهم السّلوقيّون، ولا يتزوّجون «2» إلّا فيهم لشرفهم. والكلاب السّلوقية إنّما وقعت من بلادهم، فأمّا الصندل الأحمر إنّما يكون في بلاد نجانة. ويليه ملك يقال له الجرر «3» ، العدل في مملكته مستفيض «4» ولو أنّ رجلا نشر ذهبا ولؤلؤا يمينا وشمالا في سبل مملكته وطرقات جهاته لما رزأ أحد منهم شيئا. والعرب تدخل إلى بلاده بالتجارات كثيرا، فإن سألوه عند انصرافهم خفرا قال لهم: إن حدث بأموالكم حادث فارجعوا بذلك عليّ فأنا الضامن. له ثقة بأمن بلاده وانتشار العدل في رعيّته، وهو شجاع وذو مكيدة في الحرب وإن لم يقاوم جيشه حبس كبراءهم. 363 وملك يقال له دهرم. قال الجيهاني: إنّي سمعت من أثق به يقول: ربّما خرج في معسكره بثلاثمائة ألف فصاعدا. ومن بلاده يجلب العود الهندي وليس من

شجر بلاده، إنّما هو يقع هناك من بلاد ملك يقال له القامروب «1» وليس لأحد عود هندي إلّا لملك القامروب «2» ، وهو ملك قليل الجيش ومملكته تصل ببلاد الصين، وهؤلاء الملوك كلّهم مخرّمو الآذان. قال ح: وأهل مملكته يسمّونه ملك الحولا وله في مملكته مدينة يقال لها هذكيرة سوقها نحو من فرسخ وبلاده تشرع على بحر الأغباب- وهو بحر خبيث- ومن مدائن مملكته (مياسر وسمندر وهركر) «3» . ويعمل بمياسر حصر من الخيزران لا يشاركهم فيها أحد. والذي يجلب إلى بلادهم الشّنك «4» ، وهو أنفق شيء في بلادهم، والودع وهو النون الذي تتّخذ منه الأبواق، فإنّهم يتّخذون منه الحلي لنسائهم ويخترقونهم بدلا من الذهب والفضّة وهم يتبايعون بالودع ويسمّونه الكنج، وهو أعزّ عندهم من الذهب، وربّما اشتريت جارية بالودع وأخرى بالذهب، فتفخر التي اشتريت بالودع وتقول: أنا اشتريت بالكنج. 364 وملك يقال له الطرسول «5» ، وهم بيض الألوان يلبسون القمص السّحولية ولهم شعور يدلونها، وهو بلد واسع المملكة. ويليه ملك يقال له الموجه «6» ، والمسك عندهم كثير ومدينتهم حصينة جدّا. وملك يقال له المابد، وبلاده متّصلة ببلاد الصين. ويقال إنّ هؤلاء الثلاثة الطرسول والموجه والمابد يقاتلون ملوك الصين. فأوّل بلادهم على البحر متّصلة ببلاد الصين مسيرة سنتين. وملوكهم يلبسون الحلي والجوهر الفاخر والأسورة والقلائد والوشائح مثل النّساء.

قال: وبين البلّهرى ونجانة ملك يقال له الطاقى «1» - هذه عبارة سمته- وهو ضيّق المملكة كثير المال عامر البلاد وأهل مملكته لهم بياض وجمال ليس يشركهم في ذلك غيرهم. 365 وملك سرنديب والصوليان- غير الصيلان التي تقدّم ذكرها- يسكن ملكها مدينة بيحور يحيط بها سوران ولها أربعة أبواب: باب من جهة الجنوب يقال له «2» باب البلادج، [والبلادج] عندهم الصّهريج الذي يجتمع فيه الماء من المطر، [وباب] يعرف بباب هوسته، وهذا الباب الذي يخرج منه النصارى بصلبانهم في معايشهم، والثالث يقال له باب الفصيل وهو الذي يدخل منه الملك وحرمه، والباب الرابع يقال له باب العشور وهو الذي يعشر فيه أمتعة التجّار. وفيها أديان شتّى من المسلمين واليهودية والنصارى والمجوسية والثنوية، وأقربهم من الملك رئيس الثنوية فإنّه بنى له بجانب قصره دارا وأنزله فيها. وسيوفهم وحرابهم وجميع ما يصنعون من حديدهم لا يقاربه شيء في المضاء والحدّة. 366 أخبرني العذري قال: حدّثني ابن الحسن البخاري التّاجر أنّه قدم على ملك سرنديب وهو صاحب مطية وأدخل عليه مع أصحاب المطايا. قال: ورأينا في يده ياقوتتين حمراوين تتّقدان كالجمرتين زنة كلّ واحدة منهما خمسون مثقالا، وهو يلعب بهما من يد إلى يد. وأخبرنا الملك أنّه ممّا يتوارثه ملوك ذلك البلد في قديم الدهر وأنّه لا يوجد مثلهما في جميع بلاد الدّنيا. ورأينا في

عنقه سلك جوهر فيه ثلاثون حبّة مثل بيض الحجل زنة كلّ حبّة منها عشرة مثاقيل كأنّها قد خرطت خرطا مع تصدّع بياضها وجودة فريدها، إلّا أنّ في بعضها حبّتين متّصلتين غير منفصلتين. قال: وأمر الملك فوزنت بين يديه ونحن شهود. 367 والهند متّصلون بخراسان ممّا يلي الجبال والسّند متّصلة بأرض التّبت. والهند في سياستهم وعقولهم بخلاف سائر السّودان من الزنج والأحابيش وغيرهم. وقد ذكر جالينوس: في الأسود عشر خصال لا توجد في غيره: تفلفل الشعر وخفّة الحاجبين وانتشار المنخرين وغلظ الشفتين وتحديد الأسنان ونتن الجلد وسواد الخلق «1» وتشقّق الأطراف وطول الذكر وكثرة الطرب- وكثرة طربه لفساد دماغه وضعف عقله ولحمو «2» موضعه ومنشئه جذبت الرّطوبات إلى أعلاه وأهدلت «3» شفتيه وقصرت أنفه وعظّمته وأشالت» رأسه، فخالف بذلك مزاج دماغه عن الاعتدال، فلم تقدر النفس على إظهار فعلها فيه كاملا. وقد كان طاوس لا يأكل ذبيح الزنج ويقول: هو مشوّه الخلق. وكان [أبو] «5» العبّاس الراضي بالله ابن المقتدر لا يتناول شيئا من يد الأسود. والهند لا تملّك الملك حتّى يبلغ أربعين سنة ولا تكاد ملوكهم تظهر لعوامّهم إلّا في برهة من الدهر معروفة لأنّ في نظر العوامّ إليها دائما «6» عندها خرقا لهيبتها واستخفافا لحقّها، ورئاستهم وسياستهم صحيحة. هم يمنعون من شرب المسكر ويعيبون شاربه، وإذا صحّ عندهم ذلك من ملك من ملوكهم استحقّ عندهم الخلع.

368 قال الجيهاني: ولا يشربه من ملوكهم إلّا ملك المهل «1» وهو صاحب جزيرة سرنديب، فإنّه يحمل إليه من بلاد العرب، وأشدّهم فيه ملك قمار فإنّه يعاقب في السّكر والزنا بالقتل. والزنا عند سائر ملوكهم مباح إلّا في المحصنين، وملك قمار أشدّهم غيرة. قال الكندي: قال أبو عبد الله: وقد رأيت تجّار الهند لا يشربون الشراب قليله ولا كثيره ويعافون الخلّ لذلك فيحمضون ماء الأرزّ ويستعملونه. 369 والملك مقصور «2» في أهل البيت وكذلك القضاء والوزراء وسائر المراتب لا تغيّر ولا تبدّل. 370 ومن اعتقاد الهند وأحكامهم قالوا إنّ أصل كتب الهند وسنّتهم من قمار «3» وحكمهم أنّ من ذبح بقرة ذبح بها، وعبّاد قمار لا يقربون المسلمين ويقولون لهم: إنّكم أنجاس لأنّكم تأكلون لحم البقر. وذكر بعض من لابسهم من المسلمين أنّه سمع رجلا من كبار عبّادهم يقول: كشامرشون، قال: ففهمته عنه ومعناه بالهندية: يا من ليس كمثله شيء. قال: فعجبت من ذلك فقلت له: أتعرف ما تقول؟ قال: وا عجباه وتعرفون أنتم ما تقولون؟ قلت له: فلم تعبدون الأصنام من دونه؟ قال: هذه قبلتنا يا جاهل.

371 ومن عقوبة ملك قمار على شرب الخمر أن تحمى مائة حلقة من حديد بالنار، ثمّ توضع على بدن الرجل فربّما أتلفت نفسه. ومن رأوه من المسلمين يشرب فهو عندهم خسيس لا يعتنون به ويقولون: هذا رجل ليس له قدر في بلاده. وأصل العباد في بلد قمار ويقولون إنّ فيها مائة ألف عابد، وهم أصحاب تسبيح ومعهم سبح لا تفارقهم. ولملك قمار ثمانون قاضيا، ولو ورد عليهم ولد الملك لأنصفوا منه وأقعدوه مقعد الخصم، ووجهوا عليه صريح الحكم. وأهل قمار ليس عندهم صنم وإنّما يتقرّبون إلى شيء يسمّونه اللّنج «1» من حجارة يكون في ارتفاع قامة الإنسان في صورة إحليل الرجل، وظهر لهم بجبل قمار في شجر عود الطيب، وهو جبل عريض طويل على صورة هذا اللنج «2» الذي من حجارة، فعمل عليه سقف من ذهب وعبدوه أيضا. ولفراش ملك قمار أربعة آلاف امرأة. 372 ومن عجيب حكم المهراج في بلاد قنصور «3» ، وهم قوم يتحالفون بالنار، إذا خاصم الرجل لصاحبه في دين أو زناء بمحصنة أو سرقة يأمر السّلطان فتؤخذ قطعة حديد قدر رطل أو أكثر فيحمونه بالنار، ثمّ يعمدون إلى ورق هناك يشبه ورق الغار في الغلظ والمتانة وتوضع منها سبع ورقات في كفّه، ثمّ تؤخذ تلك الحديدة بالكلّاب فتوضع على تلك الأوراق، فيمرّ بها ذاهبا وراجعا مقدار ما يخطر الماشي مائة خطوة، فإن احترقت يده والورق جميعا ألزم الذنب، فإن كان عليه القتل قتل، وإن كان عليه الغرم أغرم، وإن لم يكن

له مال كان عبدا للسّلطان يبيعه، وإن لم تحرقه النار قيل للمدّعي: إنّك مبطل. وحكم آخر: يغلّى الماء في قدر يحبس يوما إلى اللّيل حتّى يصير لو قطرت منه قطرة في يد إنسان لأحرقته، ثمّ يطرح فيه خاتم حديد ويقال للمدّعى عليه: أدخل يدك فتناول الخاتم الذي هو في هذا الماء، فيدخل يده فيه فيتناوله، فإن كان بريّا أخرج يده سالمة، وإن كان مقارفا للذنب نضجت يده. وليس في بلاد الصين من هذه الأحكام شيء. ولهم بدائع من الملاهي لا توجد عند غيرهم. 373 ومن طريف أخبارهم أنّ ملكا من ملوك قمار ولي «1» هذا الصقع الذي يضاف العود القماري إليه- وهو شاطئ بحر وجبال لا جزيرة له، وهم يجتنبون كثيرا من القاذورات مثل الزناء وغيره ويتشبهون كثيرا من خلق الإسلام، وهذه المملكة موازية لمملكة المهراج صاحب الجزائر، وبين موضع ملك صاحب قمار والبحر مسيرة يوم- فتذوكر عنده يوما عظم مملكة المهراج وجلالها. فقال لوزيره: في نفسي شهوة أحبّ بلوغها، وكان حدثا متسرّعا. فقال: ما هي؟ فقال: كنت أحبّ أن أرى رأس المهراج بين يديّ. فعلم «2» الوزير أنّ الحسد أثار ذلك الفكر في نفسه، فأنكر الوزير ما سمع منه وقال: إنّه لم يتقدّم منّا ومنهم خلاف ولا ترّة ولا رأى فريق منّا ومنهم سوءا من الآخر، وينبغي أن لا يعيد الملك هذا القول ولا يأخذ فيه مع أحد. وبين موضع مملكة المهراج ومملكة قمار نحو عشرة أيّام في البحر. فلم يسمع منه وأذاع ذلك في قوّاده حتّى اتّصل بصاحب المهراج وكان جزلا محنّكا. فأمر بإعداد ألف مركب بآلتها وتجهيزها بأكمل السّلاح وأهل العناء «3» والنجدة بما تحمله كلّ مركب فيها، وأشاع أنّه يريد التنزّه في جزائر مملكته وكتب إلى ملوك الجزائر بما عزم عليه من زيارتهم وأمر بتلقّيه محتفلين ليرهب من والاه.

374 فلمّا استتمّت أموره دخل المراكب فعمد إلى قمار واتّصل بدار مملكة صاحبها، وله نهر يصبّ في البحر، فصيّر فيه رجاله فأتوه على حال غرّة وأحدقوا به، فاحتوى على مملكته وأمر مناديا أن ينادي بالأمان في الناس، وقعد على سرير المملكة وقد أخذ صاحب السّرير أسيرا. فأحضره وأحضر وزيره وقرّره على تمنّيته، فلم يجد جوابا. فقال له المهراج: أمّا إنّك لو تمنّيت [مع ما تمنّيته من إباحة أرضي وملكها لاستعملت ذلك فيك، لكنّك تمنّيت شيئا بعينه فأنا فاعله بك] «1» لتكون عظة لمن بعدك. وضرب عنقه وجعله في طست بين يديه وقال للوزير: جزيت من وزير خيرا، فانظر من يصلح للملك بعد هذا الجاهل فأقمه مقامه. وانصرف راجعا إلى بلاده من غير أن يمدّ هو أو أحد من أصحابه [يده] إلى شيء ممّا كان في بلاده وحمل الرأس معه. فلمّا قعد في مملكته وعلى سريره على غدير لبن الذهب وضع الرأس بين يديه في طست ودعا وجوه أهل مملكته وأخبرهم خبره. ثمّ أمر بالرأس فغسل وطيّب ووجّه به إلى الملك القائم بمدينة قمار وكتب إليه: إنّما حملنا على ما فعلنا بصاحبك بغيه علينا، وقد بلغنا منه ما أردنا ورأينا ردّ رأسه إليك إذ لا درك لنا في حبسه والسّلام. واتّصل الخبر بالملوك فعظم المهراج في أعينهم، وصارت بعد ذلك ملوك قمار تقوم بوجوهها كلّ صباح [نحو] «2» بلاد الزّابج فتسجد تعظيما للمهراج. قال س: وأعظم ملوك الهند الآن البلّهرى وأكثر ملوك الهند تتوجّه في صلاتها نحوه. وبين دار مملكة البلّهرى والبحر ثمانون فرسخا سندية- الفرسخ من ثمانية أميال.

375 ومن مدن الهند المشهورة قامهل، وهي أوّل حدود الهند (إلى موضعها) «1» إلى صيمور، وهي مدينة كبيرة أيضا، وكنبايه «2» وسوباره «3» وأساول وجداول «4» وسندان والجندرور والسّنداوذ. فمن كنبايه إلى صيمور بلد البلّهرى، ويعرف الملك باسم الناحية. والغالب على هذا البلد الكفر وفيهم مسلمون لا يلي عليهم في زماننا من قبل بلّهرى إلّا مسلم يستخلفه عليهم، وكذلك في كثير من البلدان التي في أطراف المسلمين، فيغلب عليها ملك الكفر كالخزر واللّان وغيرهم لا يقبل المسلمون هناك مضي حكم الكافر ولا يقيم عليهم شهادة إلّا المسلمون وإن قلّوا. وزيّ المسلمين هناك واحد في اللّبسة وإرسال الشّعور. وبين المنصورة وقامهل ثماني مراحل، وبين قامهل وكنبايه أربع مراحل. وكنبايه على نحو فرسخ من البحر. وبين سوباره وسندان نحو خمس مراحل، وهي أيضا على نصف فرسخ من البحر. وبين سندان وصيمور خمس مراحل، وبين صيمور وسرنديب خمس عشرة مرحلة. 376 وأعظم أنهارهم نهر مهران، وقد تقدّم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب، ونهر سندروذ «5» ، وهو يصبّ في مهران بين بسمد «6» والملتان، ونهر جندرور، وهو نهر كبير من أعذب المياه وهو في نواحي المنصورة. وزعموا أيضا أنّ الهند اسم نهر هناك وبه سمّيت الهند.

ذكر ملوك الصين والترك

ذكر ملوك الصين والترك 377 من ولد عامور بن سوبل بن يافث بن نوح عليه السّلام. مدينة الملك بالصين هي أنمو بينها وبين ساحل البحر الحبشي- بحر الصين- مسيرة ثلاثة أشهر. 378 قال ح: إنّ مدينة الصين العظمى التي ينزلها ملوكها تسمّى خمدان، وحوالي هذه المدينة مائة وعشرون قرية في كلّ قرية ألف رجل مترتّبة «1» لحراستها. والمدينة مقسومة نصفين: نصف يكون فيه أهل بيت الملك وخاصّته وعمّاله «2» ، ونصف يكون فيه عامّتهم وأشرافهم. وللملك ثلاثمائة وستّون مدينة يحمل إليه كلّ يوم من كلّ مدينة خراجها للباسه ولكلّ جارية من جواريه. وفي قصر الملك بخمدان ثلاثمائة وثمانون كوسا منكّسة، فإذا كان قبيل المغرب مع غروب الشمس قرع بها قرعة واحدة فيتبادر الناس للانصراف إلى منازلهم، فلا يبقى أحد خارجا عن داره، حتّى يخترق عسكر الملك السّكك والطرق بسيوف منتضلة، فمن وجدوه خارجا عن داره ضرب عنقه كائنا من كان واحتزّ رأسه وألقي في موضع قد أعدّ لذلك وكتب على ظهر المقتول: من رأى هذا فلا يتعدّا أمر الملك. قال: وسكك هذه المدينة مظلّلة بخشب السّاج وتكنس في كلّ يوم ثلاث مرّات. ودورهم واسعة مبخّرة المجالس كثيرة التماثيل. وللملك أربعمائة ألف مرتزق، وهو لا يكاد يبرز لأحد ولا يراه أحد إلّا وزيره أو حاجبه أو رسول ملك يرد إليه أو وجوه أصحابه يصلون إليه في كلّ أسبوع، فإن تعذّر ذلك أكثر من هذه المدّة ضجّوا وسألوا الوصول إليه كي لا يكون قد مات وأخفي

ذلك عنهم، وإذا أراد الملك [أن] يركب ضرب بجرس فيدخل الناس منازلهم ويخلون الطرقات. 379 وإنّما سمّيت الصين لأنّ أوّل من نزلها صائن بن عامور بن سوبل بن يافث، فأثار معادن الذهب وعمل الحكم ودقائق الصناعات وملكهم مائتي سنة. فلمّا هلك جعلوا جسده في تمثال ذهب وأجلس على سرير من ذهب مرصّع بالجوهر وبنوا له هيكلا يكون فيه فيسجدون له. واتّخذ لهم بعض ملوكهم سياسة شرعية وفرائض عقلية وجعلها رباطا ورتب لهم قصاصا وحدودا ومستحلّات للمناكح وصلوات تقرّبهم إلى معبودهم، إنّما لا سجود فيها، وأمرهم بقرابين للهياكل ودخن، واتّخذه أيضا للكواكب. فهم باقون على ذلك إلّا أنّه دخل فيهم اعتقاد المانية والدهرية والثنوية فتناظروا واختلفوا في الاعتقاد وأصلهم في شرعهم لا يختلف. ولهم مدينة عظيمة ممّا يلي مغرب الشمس يقال لها مدو «1» تتّصل ببلاد التبّت من الأتراك، والحرب بينهم سجال. وملّة الصين تدعى الشمنية. 380 ولهم أفخاذ وقبائل كقبائل العرب يرفع الرجل [منهم] «2» نسبه إلى خمسين أبا، وأكثرهم يعدّ إلى عامور. ولا يتزوّج منهم فخذ إلّا في فخذ آخر، ويزعمون أنّ في ذلك صحّة النسل وقوام البنية «3» .

381 ولم تزل أمور «1» الصين مستقيمة الأحوال إلى سنة أربع وستّين ومائتين «2» ، فإنّه ظهر فيهم رجل من غير بيت المملكة يسمّى يانشو، فاجتمع إليه أهل الدعارة «3» والشّرّ، فافتتح مدينة خانفو، وهي من كبار مدائنها وفيها أخاليط الناس من كلّ ملّة، فاستباحها بما فيها، وكان مذهبه الإفساد لأنّه لم يكن من بيت المملكة فيطمع فيها. فانتهى من قتل فيها مائتا ألف «4» ، وإنّما حصي ذلك لأنّ ملوك «5» الصين تحصي من في مملكتها من الأمم وتتعاهد ذلك وتضمّه في دواوين لها، وعلى ذلك قوم مرتّبون لا يشتغلون بسواه. ولم يزل أمره ظاهرا حتّى استولى على دار المملكة بعد أن هزم الملك مرارا. ونجا الملك إلى مدينة خانفو- وهي مدينته استباحها يانشو القائم على الملك أوّلا- فالتقى الفريقان، فكانت الحرب بينهما سجالا نحوا من سنة، ثمّ فقد يانشو، ويقال إنّه أحرق، ثمّ رجع الملك إلى دار مملكته. 382 وهم يسمّونه بغبور «6» وتفسير ذلك ابن السّماء، أي إنّما أنزل من السّماء فولينا، والعرب تسمّيه المغبون مكان تسمّيه أولئك ببغبور «7» ، وربّما تقارب اللّفظان أي المغبون في دينه. وتغلّب رأس كلّ ناحية من بلاد الصين على ناحيته كتغلّب ملوك الطوائف حين قتل الإسكندر [دارا ملك الفرس] «8» وكنحو «9» ما نحن بسبيله. فرضي ملك الصين منهم بالطاعة، وأغار كلّ فريق منهم على من يليه، فعدم انتظام ملكهم إلى الآن.

383 ومن سيرهم أنّ المرأة إذا لم تكن محصنة وأرادت الفجور رفعت رقعة «1» إلى الملك فجاء لها وما ذهبت إليه، فيبعث إليها حلقا من نحاس فتجعلها في عنقها ولبست المصبّغات وعملت ما شاءت علانية. فإذا ولدت الذكور خصوا «2» واستعملهم الملك في داره وأعماله، وإن كانت التي ولدت أنثى كانت على رسم أمّها. ومن سننهم أن يورثوا الإناث أكثر من الذكور؛ ومن سننهم أنّ لهم عند حلول الشمس الحمل عيدا معظّما عندهم يأكلون فيه ويشربون سبعة أيّام. 384 ... وجزيرة كله يقال لها المنصف- وهي بين أرض الصين وأرض العرب- وتكسيرها ثمانون فرسخا، ولكنّها مجتمع الأمتعة والتجّار من الصّينيّين والمسلمين وإليها يتجهّز من عمان في وقتنا هذا فتجلب منها أصناف الطيب كلّه «3» والرصاص القلعي والأبنوس والبقم وغير ذلك. وقد كانت لهم سياسات وعدل وحكمة. 385 ومن طريف أخبارهم أنّ رجلا من قريش من ولد هبّار بن الأسود خرج من البصرة إذ كان من خبر صاحب الزّنج ما كان وصار بسيراف، ثمّ لم يزل يخترق أرض ممالك «4» الهند إلى أن انتهى إلى بلاد الصين، فصار بمدينة

خانفو- وبينها وبين البحر مسيرة الأيّام اليسيرة. ثمّ دعته همّته إلى حضور مجلس الملك، فلم يزل حتّى وصل إليه بعد أن أعلم الملك أنّه من أهل بيت النبوّة. فأمر بإحضاره والبحث عن قوله ونسبه، فلمّا تحقّق أمر ذلك أوصله الى نفسه فقال للترجمان: سله عن منزلة الملوك عندهم، فلم يدر ما يجيب في ذلك فقال الملك: إنّا نجد الملوك خمسة: فرأس الملك وأوسعها ملك الملك الذي يملك العراق وما والاها لأنّه في وسط الدنيا والملوك محدقة به، ونجد اسمه عندنا (ملك الملوك) «1» . وبعده ملكنا ونجد اسمه ملك الناس لأنّه لا أحد أسوس للرعيّة منّا ولا أطوع للملوك من رعيّتنا، فنحن ملوك الناس. ثمّ ملك السّباع، وهو ملك الترك الذي يلينا وهم سباع الإنس. ثمّ ملك الفيلة، وهو ملك الهند، ونجده عندنا ملك الحكمة. وبعده ملك الروم، وهو عندنا ملك الرجال لأنّه ليس في الأرض أتمّ «2» خلقا من رجاله. فهؤلاء أعيان الملوك والباقون دونهم. ثمّ قال للترجمان: قل له: أتعرف صاحبك إن رأيته؟ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فقلت: فكيف لي برؤيته؟ قال: فأمر بسفط فأخرج ووضع بين يديه، وتناول منه درجا، فأراني صورة عامّة الأنبياء عليهم السّلام. فلمّا رأيتهم حرّكت شفتيّ بالصلاة عليهم، فقال للترجمان: سله عن تحريك شفتيه، فأخبرته. فرأيت نوحا في السفينة ينجو بمن معه وعيسى على حماره والحواريّين معه. قال: وفوق كلّ صورة كتابة طويلة بأخبارهم وأعمارهم وبلادهم وأسمائهم، ثمّ كذلك سائر الأنبياء عليهم السّلام. قال: حتّى رأيت صورة نبيّنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - على جمل وأصحابه محدقين به وفي أرجلهم نعال عربية وفي أوساطهم حبال اللّيف قد علّقوا المساويك منها. قال: فبكيت فسألني عن بكائي فقلت: إنّي ذكرت أمر نبيّنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصورة. ثمّ سألني عن عمر الدنيا فأخبرته بما أتى في ذلك، فضحك ضحكا كثيرا إنكارا لذلك، ثمّ قال: من قال هذا؟ فقلت: نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

فقال: ما أظنّ نبيّكم قال هذا. وأمر له بجائزة وحمله على البريد إلى خانفو وكتب إلى صاحبها بالوصية به. 386 والثمار كلّها موجودة بالصين إلّا النخل. 387 وهم من أحذق خلق الله كفّا وصناعة، وممّا أعانهم على ذلك أنّ الملك إذا أوتي بمعجز من الصناعات والرقوم والنقوش وضعه على باب دار مملكته حولا كاملا، فإن ذكر أحد فيه عيبا وصل وحرم الصّانع، وإلّا أجزلت صلة الصّانع. 388 وإنّ رجلا منهم صوّر سنبلة عليها عصفور في ثوب [حرير] «1» لا يشكّ [الناظر إليها] «2» أنّها سنبلة عليها عصفور. فبقي الثوب مدّة حتّى اجتاز به رجل أحدب فعابها، فأدخل للملك وحضر صانعها، فسئل عن العيب فقال: المتعارف أنّه لا يقع عصفور على سنبلة إلّا أمالها وهذه مستقيمة. فصدّق ولم يثب الصانع بشيء. وقصدهم في هذا وشبيهه الرياضة.

389 فأمّا الترك فهم من ولد عامور أيضا ومعظم مملكتهم من الصين وبلاد خراسان، وأشدّهم شوكة الطغزغز «1» ، وهم أصحاب مدينة كوشان وما والاها، وملكهم أيغر خان «2» ، ومذاهبهم مذاهب المانية وممالكهم كثيرة: الشّاش وفرغانة والختّل- وهم سكّان الختّلان- وروسان والصغد- وهم بين بخارا وسمرقند- وأهل بيت المملكة منهم بفرغانة، وفيهم كان الملك، وهو «3» خاقان الخواقين وكان يجمع ملكهم. فلمّا مات انتشرت مملكتهم وتسمّى بهذا الاسم فريق ببلاد التبّت وكان ممّن ينقاد إلى خاقان. فلمّا انحلّ عقد نظامهم تسمّى بذلك تشبيها به. 390 قال س في السّفر الثاني: وقد زعم قوم أنّ الترك من ولد طوح ابن أفريدون، وهذا غلط لأنّ أفريدون قد ولّى على الترك الولاة كما ولّى على الروم وغيرها. 391 وأخذ قوم من ولد عامور يسرة المشرق على سمت الشمال فصاروا عدّة ممالك: الدّيلم والجيل «4» والطيلسان والبرقار والتبر والخزر وكشك وأهل جبال الكبخ «5» وسائر تلك الأمم، وانتشرت هناك إلى بحر مانيطش ونيطش وبحر الخزر إلى البرغر وما اتّصل بهم من الأمم.

392 وجبل الكبخ خاصّة يحتوي على اثنتين وسبعين أمّة لكلّ أمّة ملك ولغة، وهو جبل شنيع طوله مسيرة شهرين أو أكثر، وهو من أخشن الجبال وفيه أمم «1» لا يعرف بعضهم بعضا لخشونته وكثرة غياضه وأشجاره وعظم صخوره وتسلسل مياهه، وله أنهار [وهو] ذو شعاب وأودية. 393 ومدينة الباب والأبواب على شعب من شعابه. وهذا البناء بناه كسرى أنوشروان وجعله حاجزا بين بلاده وهذه الأمّة لما كان من إفسادهم فجعل هذا السّور «2» في وسط البحر على مقدار ميل مادّا في البحر، بناه بالصخر والحديد والرصاص المفرّغ على أزقاق البقر المنفوخة، فكلّما ارتفع البناء نزلت تلك الأزقاق إلى أن استقرّت في قعر البحر وقد ارتفع السّور، فغاصت الرجال حينئذ بالخناجر على تلك الأزقاق فنقبتها وتمكّن السّور على الأرض في قعر البحر، وهو باق إلى الآن في وقتنا هذا. ثمّ مدّ «3» السّور في البرّ «4» ما بين جبل الكبخ والبحر مادّا في أعالي الأرض ومنخفضاتها نحوا من أربعين فرسخا إلى أن انتهى ذلك إلى قلعة يقال لها طبرستان، وجعل على كلّ ثلاثة أميال من هذا السّور بابا من حديد، وأسكن من داخله أمّة تراعيه وتحرس ما يليه، وجعل لكلّ أمّة ملكا، وحول هذا السّور أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم. ولم يبنه أنوشروان إلّا عن استيلاء عليهم، وحينئذ أذعنت له ملوك الآفاق وهادته وراسلته. وصاحب الباب والأبواب الآن مسلم اسمه محمّد بن يزيد «5» من ولد بهرام «6» جوبين، وسمة محمّد هذا ومن ولي بموضعه شروان شاه، ومملكته

نحو من شهر. وإنّما أسلم أهلها من يوم دخلها مسلمة بن عبد الملك. وقد غلب محمّد هذا على كثير من ممالك الكبخ. ويلي ملك محمّد هذا المعروف بشروان ملك طبرستان، وهو لرجل مسلم من الأنصار. 394 ويلي الباب والأبواب مملكة الخزر، وكان موضع مملكتهم مدينة يقال لها سمندر «1» ، وهي على ثمانية أيّام من الباب، وملكهم الآن بمدينة آتل وبينها وبين الأوّل سبعة أيّام، وفيها من كلّ ملّة. وإنّما انتقل ملكهم إليها لأنّ سمندر افتتحت في أوّل الإسلام ثمّ رجعت إليهم. ودين الخزر اليهودية تهوّد ملكهم زمن الرشيد فبقوا على ذلك. وكان سبب ذلك إكراه ملك الروم من كان في ملكه من اليهود على النصرانية فتهارب خلق من اليهود إلى بلاد الخزر فتهوّدوا. وأكثر جيوش الخزر مسلمون وهم ناقلة من الخوارزم لجدب «2» وقع في بلادهم صدر الإسلام أجلاهم إلى الخزر، وظهر منهم في الحرب بأس وشدّة، فأقاموا على الإكرام والإحسان وإظهار الإسلام، ووزير الملك منهم. وإذا كانت للملك حروب مع المسلمين وقف المسلمون من جنده حرزة لا يقاتلون. وصومعة المسلمين في جامعهم الأعظم تشرف على دار الملك. 395 وتتّصل بهذه المملكة مملكة البرغر وملكها الآن مسلم أسلم بعد العشر وثلاثمائة برؤيا رآها، وذلك أيّام المقتدر. وكان هذا الملك يغزو بلاد القسطنطينية في نحو من خمسين ألف فارس ويشنّ الغارات إلى بلاد رومة والجلالقة والإفرنجة ومنه إلى القسطنطينية نحو من شهرين. وهم أمّة شداد لا تطاق، والفارس منهم يقاتل أمّة من الروم ولا يمتنعون منهم إلّا بالجدران. والليل عند

البرغر في نهاية القصر سائر السّنة يزعم أحدهم أنّه لا يقدر أن يطبخ قدره حتّى يصبح. 396 وقد يتّصل بهؤلاء الروس، وهم أجناس كثيرة وهم أهل جزائر ومراكب وقوّة على البحر وتصرّف كثير فيه، متّصلون ببحر نيطش المتقدّم ذكره. وهذه أمّة مجوسية وهي تطرأ إلى الأندلس في المائتين من السّنين وتتّصل إليه من خليج بحر أقيانس بالخليج الذي عليه منار النحاس، وهو خليج يتّصل ببحر مانيطش ونيطش. 397 وممّن يتّصل بمملكة الباب والأبواب مملكة خيذان «1» وهم شرّ الناس عليهم، وملكهم الآن مسلم ليس فيهم مسلم غيره وأهل بيته (يعرف بسليفان) «2» سمة لمن ولّى هذه المملكة. وبينهم وبين الباب والأبواب أمّة من المسلمين عرب على نحو ثلاثة أيّام من مدينة الباب، وهم يتمتّعون هناك بأنهار وأشجار وغياض وهي أمّة طرأت «3» من بوادي العرب منذ افتتح ذلك الصقع، فبقيت على أعربيتها ولغاتها. 398 وتلي مملكة خيذان مملكة يقال لها زريكران «4» ، وتفسير ذلك عمّال الزرد لأنّهم صنّاع بالزرد والسّيوف وغير ذلك من الآلات، وبلدهم بلد خشن قد امتنعوا بخشونته عن من جاورهم.

399 ويليه ملك السّرير ويدعى فيلان شاه، وهو من ولد بهرام جوبين ويدين بالنصرانية. وكان يزدجرد- وهو آخر ملوك ساسان- حين ولّى هذا الصقع قدّم سرير الذهب وخزائنه وأمواله مع رجل من ولد بهرام جوبين وأمره أن يسير بها إلى هذه المملكة ويحرزها هناك إلى وقت موافاته، فمضى يزدجرد إلى خراسان فقتل هناك في خلافة عثمان رضي الله عنه، فبقي الرجل على حاله. 400 ويلي هذه المملكة مملكة اللّان، وهي مملكة واسعة يركب لها ثلاثون ألف فارس، وبين [ملك] اللّان وصاحب السّرير مصاهرة، وبين مملكة اللّان وجبل الكبخ قلعة عظيمة وقنطرة على واد عظيم بنتها الفرس الأولى لتمنعهم عن جبل الكبخ لا طريق لهم إليه إلّا عليها. وهذه القلعة على صخرة صمّاء لا وصول إليها إلّا بإذن، وفي أعلاها عين ثرّة، وهي إحدى قلاع العالم الموصوفة [بالمنعة] «1» وقد ذكرتها الفرس في أشعارها، ولو أنّ رجلا واحدا في هذه القلعة منع سائر ملوك الكفّار أن يجتازوا بهذا الموضع. وكان مسلمة قد أسكنها قوما من المسلمين فهم فيها إلى الآن. 401 وتلي مملكة اللّان أمّة يقال لها كشك، وهم بين جبل الكبخ وبحر الروم، وهي منقادة إلى دين المجوسية، ومعنى هذا الاسم التيه والصلف، وليس في الأمم أنقى أبشارا ولا أصفى ألوانا ولا أصبح نساء ولا أقوم قدودا ولا أرقّ أخصارا ولا أعدل أكفالا من هذه الأمّة، ونساؤهم مع ذلك موصوفات بلذّة

الخلوات، ولباسهنّ الصقلاطون والديباج، وعندهم أنواع من الثياب تصنع من القنب منها ما هو أرقّ من الدبيقي وأبقى على الكدّ يباع الثوب منه بعشرة دنانير. واللّان ظاهرة على هذه الأمّة إلّا أنّهم يمتنعون بقلاع لهم وحصون منيعة. 402 وتليه أمّة يقال لها السّبع بلدان. وتليهم أمّة عظيمة بينها وبين بلاد كشك نهر عظيم كالفرات يصبّ إلى بحر الروم، يقال لهذه الأمّة إرم، ذات خلق عجيب وآراؤها جاهلية. وتأتيهم في كلّ سنة من هذا النهر سمكة عظيمة، فيتناولون منها ثمّ تعود في ذلك الوقت عاما ثانيا وقد عاد اللحم الذي أخذوه، يعرفون ذلك لا يشكّون فيه. 403 ويتّصل بهذه الأمّة على البحر آجام وغياض ومواضع ممتنعة فيها نوع من القرود منتصبة القامات على قدود الناس مستديرات الوجوه كصور الناس ذات شعور، وربّما وقع في النادر القرد منها إذا احتيل لاصطياده، فيهادى به الملوك فيكون في نهاية الفهم، وتعلّمها الملوك القيام على رأسها بالمذابّ، ولا يأكل الملك طعاما حتّى يقدّمه إليه لما في القرود من الخاصية بمعرفة السّموم، فيلقى إليه من الطعام شيء، فإن أكله أكل الملك. ويجانسها في الفهم قرود اليمن وهي ببلاد مأرب بين صنعاء وكحلان. وكحلان قلعة من مخاليف اليمن فيها أسعد بن يعفر ملك اليمن في هذا الوقت محتجب عن الناس إلّا عن خواصّه، وهم بقية من ملوك حمير وحوله من الجنود نحو خمسين ألفا، وكانت له مع القرامطة بعد عام مائتين حروب معروفة. وهذا من خواصّ البلدان.

[ذكر ملوك السريانيين]

404 قال س: والعربد هو نوع كالحيّات «1» بأرض اليمامة لا يوجد في غيرها، وقد جهز حنين بن إسحاق أن يجلب إلى سرّ من رأى إلى المتوكّل حين كلّفه مثل هذا من الأعاجيب، وذلك أنّه إذا خرج عن اليمامة إلى موضع معروف المسافة عدم «2» من الوعاء. وأهل اليمامة ينتفعون به لمنع الحيّات والعقارب وسائر الهوامّ كانتفاع أهل سجستان بالقنافذ. وفي عهد أهل سجستان في القديم ألّا يقتل قنفد ببلدهم، وذلك أنّ بلدهم كثير الرمال بناه ذو القرنين في مطافه وهو كثير الأفاعي والحيّات، ولولا كثرة القنافذ لتلف من هنالك. وقد جلب حنين إلى المتوكّل اثنين من النسناس إلى سائر المستغربات ولم يقدر على العربد «3» . 405 ويتّصل بهذه المملكة ممالك شتّى لأمم مختلفة، ولولا هذا السّور بالباب والأبواب لكانت هذه الأمم تخترق بلاد برذعة والرّان والبيلقان وآذربيجان وقزوين وهمذان والدّينور ونهاوند وغيرها ولوصلت الكوفة والبصرة لا سيّما مع ضعف الإسلام الآن. [ذكر ملوك السّريانيّين] 406 اختلف الناس فيهم وقيل إنّهم نبط وقيل إخوان النبط، وكان ملكهم ممّا يلي السّند والهند «4» ، وأمّا النبط- وهم ملوك بابل- فقد زعموا أنّهم أوّل ملوك العالم وأنّ الفرس أخذت عنهم الملك كما أخذت الروم عن اليونانيّين.

407 وأوّل ملوك النبط نمرود، وهم الذين شيّدوا البنيان ومدّنوا المدن وكوّروا الكور وشقّوا الأنهار ورتّبوا الجيوش وجعلوا الألوية والأعلام ورتّبوا العلامات في أقسام الجيش على ألوان توافق كلّ قسم وصوّروا فيها من الصور ما يجانسه، مثل أن يجعلوا في الميمنة والميسرة صور الطير لأنّها أجنحة الجيوش «1» ، وفي القلب صورة الأسد والفيل وما عظم وأرهب من الحيوان وثقلت وطأته، وفي الكمناء صور الحيّات وما خفي من الهوامّ، وتغلغلوا في ألوانها إلى ما علا من الأجسام السّمائية. 408 ومملكة الموصل ونينوى للنبط أيضا، ونينوى من قردى وبازبدى وبينها وبين الموصل نهر دجلة. وإلى أهل نينوى بعث يونس عليه السّلام، وهي الآن خراب فيها قرى ومزارع وآثارها بيّنة، وفيها أصنام من حجارة مكتوبة على وجوهها «2» . [وظاهر المدينة تلّ عليه مسجد] «3» وهناك عين تعرف بعين يونس، ويأوي إلى المسجد النسّاك. وأوّل من بنى هذه المدينة ملك عظيم يقال له نينوس «4» ، وملكه من شاطئ دجلة إلى أرمينية وإلى بلاد آذربيجان إلى حدّ الجزيرة والجودي إلى بلاد الزّوزان «5» . والنبط سريانيّون وإنّما بان النبط عنهم في أحرف يسيرة. وكان ملك الموصل مماريا ومحاربا لملك نينوى، ثمّ غلب ملك الموصل على نينوى ورجعت هذه الممالك إلى ملوك فارس حتّى أتى الله بالإسلام.

[ذكر بلاد التبت]

409 ومن بلاد الصّغد الذي ذكرناه بين بخارا وسمرقند يؤتى بالنّوشاذر، وهي جبال، (فإذا كان في الصيف رؤيت في الليل نيران قد ارتفعت من تلك الجبال من نحو مائة فرسخ) «1» . وقد يسلك عليها من جبال خراسان إلى بلاد الصين وذلك إذا نزل الثلج وخمد ذلك اللهب ولا يسلك على ظهر. وهناك قوم يرغّب إليهم في الآجرة ويحملون الأمتعة على ظهورهم، فيوصل إلى الصين من خراسان في أربعين يوما، ومسافة ما بينهما أربعة أشهر [في غير هذا الطريق] «2» في غامر وعامر، يركب في القوافل في خفارة أنواع من الأتراك. وخراسان تتّصل بالسّند والهند ممّا يلي المنصورة والملتان. [ذكر بلاد التبّت] 410 فأمّا التّبت فمملكة متميّزة عن مملكة الصين وصاحبها حميري وهو من بيت المملكة فيهم، وبواديهم أتراك لا يقام لهم. ولا تحصى عجائب أنواع ثمار التّبّت ولا زهره ولا أنهاره. وهو بلد تقوى فيه طبيعة الدم على الحيوان، ولا يزال الإنسان بها ضاحكا فرحا مسرورا لا يعرض لهم حزن، وذلك عامّ في الشّيوخ والكهول والشّبّان. وفي أهله رقّة طبع وأريحية تبعث على استعمال المعاقرة، وإذا مات الميّت فيهم لا يكاد يدخل أهله كثير [من] الحزن. وهذا البلد سمّي بمن ثبت فيه من رجال حمير لثبوتهم، وقد افتخر بذلك دعبل فقال في مفاخرة الكميت [وافر] :

[ذكر بلاد السند]

وهم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الصين كانوا الكاتبينا وهم سمّوا سمرقند بشمر «1» ... وهم غرسوا هناك التبّتينا وإنّما رتّب حمير هناك بعض التبابعة وهم يسمّون ملكهم الآن تبّعا. 411 وأفضل المسك [من] التبّت ولا يكون إلّا بها وبالصين، وإنّما فضّل مسك التبّت لأنّ ظباءه ترعى سنبل الطيب وأنواع الأفاويه، وظباء الصين ترعى الحشيش، وأيضا فإنّ أهل الصين يخرجون المسك ويدخله الغشّ، وأهل التبّت يتركونه محضا. ولا فرق بين غزلاننا وغزلان المسك في الصورة وإنّما تباينها بنابين لها أبيضين كأنياب الفيل كلّ ناب منها نحو الشبر. وأطيب المسك ما نضج في نوافجها فتفزع حينئذ إلى الأحجار الحارّة فتحتكّ بها ملتذّة فيسيل على تلك الأحجار فيودع كانفجار الخراج، فيوجد ذلك قد جفّ على الأحجار فيودع نوافج عندهم قد اتّخذوها من غزلان اصطادوها. والنفاجة اسم فارسي معناه السّرّة. فأمّا ما يصطاد من الظباء فتقطع نوافجها عنها فإنّه يكون فيها سهوكة «2» فتبقى زمانا حتّى تزول عنها تلك الرائحة، وإنّما ذلك كالتمر إذا لم ينضج. [ذكر بلاد السّند] 412 ومن ملوك السّند قشمير ومملكته نحو من ستّين ألفا بين مدينة وقرية، وهي قد أحاط بها جبال شوامخ لا يتسلّق منها الوحش ولا شيء من الدوابّ، ولا

يوصل إلى مملكته إلّا على موضع واحد، وهو يغلق على جميعها بابا واحدا، وذلك أحد عجائب الدنيا وهو مشهور معروف. 413 ومملكة بورة التي قدّمنا ذكرها- وهو ملك القنّوج «1» - مملكته نحو مائة وعشرين فرسخا سندية، الفرسخ منها من ثمانية أميال. وله جيوش أربعة كلّ جيش من أربعمائة ألف وعلى مهابّ الرياح الأربع، يحارب بالشمال صاحب الملتان وبالجنوب البلّهرى وبالغربي والشرقي من يليه أيضا. ولهذا الملك ألفا فيل مقاتلة، وإذا كان الفيل ممارسا شجاعا وراكبه كذلك وكان في خرطومه القرطل- وهو نوع من السيوف شنيع المنظر- وكان خرطومه مغشّى بالزرد وعليه تجافيف من القرن والحديد قد أحاطت به ومن خلفه خمسمائة راجل أنجاد كرّ على خمسة آلاف فارس وقام بهم ودخل وخرج وجال عليهم. 414 قال: ورأيت لصاحب المنصورة فيلين عظيمين كانا موصوفين «2» عند أهل الهند والسّند لهما أخبار عجيبة، وكانت لهما في فلّ الجيوش سوابق وتقدّم، وكان أحدهما يسمّى حيدرة، ومات بعض سوّاسه فبقي لا يطعم ولا يشرب يبدي الحنين ويظهر الأنين وتسيل دموعه لا يتماسك. وخرج ذات يوم من داره- وهي دار الفيلة- وهو يقدّم ثمانين فيلا، فاستقبل امرأة. فلمّا رأته غشي عليها فسقطت وانشكفت ثيابها، فاعترض في الطريق مانعا لما وراءه من الفيلة وجعل يؤمي إليها ويشير لها بخرطومه بالقيام ويلاطفها ويجمع عليها ثيابها حتّى قامت وخلا سبيل الفيلة. وقال: إنّ السّند ممّا يلي الإسلام ثمّ «3» الهند، ولغتهم غير لغة الهند.

حد بلاد السند

415 وصاحب الملتان الذي ذكرناه من ولد سامة بن لؤي، وهو ذو جيوش ومنعة، وهو ثغر من ثغور المسلمين الكبار، وأكثر أمواله من الصنم المعروف بالملتان يقصده الهند والسّند من أقصى بلادهم ينذرون الأموال وأنواع الجواهر والطيب ويحجّ إليه الألوف ويحمل إليه من العود القماري الذي يؤثّر فيه الختم كما يؤثّر في الشمع، يبلغ المنّ منه مائتي دينار. وهو إذا عجز عن غارة من ناوأه منهم هدّده بكسر الصنم فيكفّ عنه. فكان دخولي الملتان والملك أبو اللهاب «1» منبّه بن أسد القرشي. حدّ بلاد السّند 416 حدّها من شرقها مكران وطوران والبدهة وشيء من بلاد الهند وبحر فارس في شرقي ذلك كلّه، وحدّها في غربيّها كرمان ومفازة سجستان وأعمالها، وفي الشمال منها بلاد الهند، وفي الجنوب مفازة ما بين مكران والقفص ومن ورائها بحر فارس. وإنّما وصلها بحر فارس بشرقي هذه البلاد وهو محيط بشرقيّها وجنوبها من وراء هذه المفازة من أجل أنّ البحر يمتدّ من صيمور على الشرق إلى تيز مكران، ثمّ ينعطف على هذه المفازة إلى أن يتقوّس على بلاد كرمان «2» وفارس.

ملوك الفرس الأولى وأنسابهم

417 وسمّيت المنصورة باسم منصور بن جمهور عامل بني أميّة وأصحابها الآن من ولد هبّار بن الأسود، وبها من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلق كثير، ومملكته تصاقب مملكة الملتان ومسافة ما بينهما- أعني مواضع مملكتهما- خمسة وسبعون فرسخا سندية. وللمنصورة من القرى ثلاثمائة ألف قرية. وهو محارب للسّند وله فيلة كثيرة. 418 قال: وتجري الأنهار في العالم من الشمال إلى الجنوب «1» إلّا النيل ومهران السّند وأنهار بساحل بحر الأرزن، فإنّها تجري بالضدّ من الجنوب إلى الشمال «2» . ملوك الفرس الأولى وأنسابهم 419 وأجمع الناس على أنّ الفرس الأولى من ولد سام بن نوح إلّا ما سنذكره من زعم بعضهم ولا نلتفت إليه. واختلفوا في رفع نسبهم إلى سام، فالذي عليه الجمهور أنّهم من ولد أميم بن لاوذ بن سام بن نوح، ومنهم من قال إنّهم من ولد فارس بن ياسور «3» بن سام بن نوح وفارس أخو نبيط أبي النبط. وقيل: هم من ولد بوّان بن إيران [بن ياسور] «4» بن سام بن نوح، وبوّان هو الذي ينسب إليه شعب بوّان من بلاد فارس وهو أحد المواضع المشهورة

في العالم بالحسن. ومنهم من يقول إنّ أبا الفرس إيران بن أفريدون ويعرفون إيران ويقولون إيرج. ومن لم يقل إنّهم من ولد فارس يقول: سمّوا فرسا بالفروسية، وفي ذلك يقول خطّاب بن المعلّى الفارسي [خفيف] : وبنا سمّي الفوارس فرسا ... نا ومنّا مناجب الفتيان والأوّل أصحّ أنّهم من ولد أميم بن لاوذ بن إرم بن سام. وقد قال قوم إنّهم من ولد جابر بن يافث، وزعم آخرون أنّهم من ولد أفريدون الملك. 420 وأجمعوا أنّ أوّل ملوكهم جيومرت، فمنهم من زعم- وهم الأقلّون عددا- أنّه ينبوع النسل «1» ويقول إنّه نبات من نبات الأرض وهو الدحناس، وكذلك زوجته. ومنهم من زعم أنّه آدم ويقول إنّه جيومرت كلسا، أي ملك الطير، وقال الأكثرون إنّه أوّل من حلّ فارس ونزل اصطخر، وهو أوّل من ملك ووضع التاج على رأسه، ولهم في التاج أسرار يذكرونها، وذكروا أنّه جيومرت وهو أوّل من أمر بالسّكون على الطعام لتأخذ الطبيعة بقسطها فيأخذ البدن ممّا يرد عليه وتسكن النفس عند ذلك، فيأخذ كلّ عضو من الأعضاء تدبيرا بما فيه صلاحه من أخذ صفو الطعام. وإنّ الإنسان متى شغل عن طعامه بضرب من الضروب انصرف قسط «2» من التدبير وجزء من التقدير إلى ذلك ووقع الاشتراك «3» ، فأضرّ ذلك بالنفس الحيوانية والقوى الإنسانية، وإذا كان ذلك أدّى إلى مفارقة النفس الناطقة لهذا الجسد المردي «4» . ولهم في هذا أسرار لطاف.

421 ثمّ ملك بعده أوشهنج ملك الأقاليم السّبعة، وهم يزعمون أنّه مهلائيل. ثمّ ملك طهمورث «1» بن ويجهان بن حواد بن أوشهنج. والفرس تزعم أنّ طهمورث هو نوح عليه السّلام. وفي ملك طهمورث منهم ظهر رجل يقال له بوداسف «2» أحدث مذهب الصابئة، وهو مبني على الأفلاك والأجسام العلوية، و [قال] إنّ ذلك هو المدبّر، والمدبّر هو الله، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. قال: وديار هؤلاء الصابئة ومواضعهم في ناحية واسط والبصرة من أرض العراق. 422 ثمّ ملك أخو طهمورث جم «3» بن ويجهان، وفي أيّامه أحدث النّيروز وادّعى الإلهية، ويزعمون أنّه طالع إلى الفلك، وملك ثلاثمائة سنة وستّين سنة. ثمّ ملك بعده بيوراسب «4» ، وهو الذي ادّعى النبوّة، فكان ذا نواميس وملك، ويزعمون أنّه الضحّاك الحميري وأسره أفريدون وغلّه وقيّده في جبال دنباوند «5» ، وقد تقدّم شيء من خبره عند ذكر نوح عليه السّلام. 423 ثمّ ملك بعده أفريدون، وكانت دار مملكته بابل وهي على شاطئ نهر من أنهار الفرات بأرض العراق، وهو نهر النّرس «6» وإليه تضاف الثياب النرسية «7» . وهذه المدينة خراب وإذا أشرف الإنسان عليها تبيّن منها آثار عظيمة. وذهب الناس إلى أنّ فيها هاروت وماروت، وفيها جبّ يعرف بجبّ دانيال الذي تقصده النصارى واليهود في أعيادهم.

424 وملك أفريدون وقسم الأرض بين ولده ولم يزل الأمر في ولده إلى أن ولّى فراسياب «1» ، وهو من ولده إلّا أنّه (ولد بأرض) «2» الترك، فلذلك غلط من غلط من أصحاب التواريخ فزعم أنّه تركي. ط: هو من الترك وتملّك الفرس بعد هلاك منوشهر الملك. فكثر فساده في مملكة فارس إلى أن ظهر زاب بن طهماسف، فطرد فراسياب من مملكة أرض فارس حتّى ردّه إلى الترك بعد حروب يطول ذكرها، واتّخذ العجم ذلك اليوم عيدا. وأحسن زاب السيورة ووضع الخراج وبنى مدينة الزاب بالسّواد، وهو المستخرج نهرها وهو أوّل من اتّخذ ألوان الطبخ وأصناف الأطعمة. 425 ولم يزل الحرب بين ملوك فارس وفراسياب بعد ذلك سجالا إلى أن قتله كيخسرو القائم بالملك بعد جدّه كيقاوس، وكان مظفّرا وهو القائم، وإنّ الشّياطين سخّرت له بعد سليمان عليه السّلام، وكان في زمنه، وإنّه كان يأكل ويشرب ولم يحدث. وأعطاه الله عزّ وجلّ قوّة يرتفع بها إلى السّحاب حتّى حدّثته نفسه أنّه يطيق الصعود إلى السّماء ويطالع ما فيها، فسلبه الله جميع ذلك، ومزّق ملكه وأسرّه أبرهة ذو الأذعار ملك اليمن واستباح ملكه. وكان كيقاوس قد غزا بلاد اليمن واستباح ذو الأذعار عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه. فخرج رستم من سجستان مع من وثق به من الناس حتّى أتى بلاد اليمن فاستخرج كيقاوس من البئر، فملّكه كيقاوس من بلاد سجستان، فلم تزل بيد رستم دهرا طويلا، ثمّ لم يزل الأمر في ولد أفريدون «3» .

426 [ولم يكن لكيخسرو عقب، فجعل الملك في لهراسف، وهؤلاء القوم كانوا يسكنون بلخ] «1» ، ويدعى نهر جيحون- وهو نهر بلخ- كالف، وكذلك يسمّيه أهل خراسان. و [لهراسف] «2» هو الذي أخرج بخت نصر مرزبانه «3» إلى أهل الشّام، فكان من أمر بيت المقدس ما قد تقدّم ذكره «4» . وكثير من الناس يجعل بخت نصر ملكا برأسه وإنّما كان مرزبانا. وقد ارّخ بطليموس كتابه المجسطي منذ «5» عهد بخت نصر مرزبان المغرب، ونسبه يأتي بعد. ثمّ ملك بعده ابنه يستاسف، وفي زمانه ظهر زرادشت على ما تقدّم في خبر إرميا عليه السّلام، وكان ملكه تسعين سنة. 427 ثمّ لم يزل الملك فيهم إلى داراميوس، وهو دارا بن دارا الذي قتله الإسكندر، وهو دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار «6» بن يستاسف بن لهراسف «7» كلّهم ملوك، وقد تقدّم من خبرهم ما يتمّم هنا إن شاء الله تعالى. كان بهمن أحسن الناس سيرة وهو الّذي بعث ببخت (يرسى وهو بخت) «8» نصر إلى بني إسرائيل لمّا بلغه أنّ بناحية المغرب بأرض الشام «9» قوما أحدثوا دينا، وأمره بقتلهم وسبى ذراريهم، ففعل ذلك ونفاهم عن بيت المقدس وفرّقهم في البلاد.

428 وقيل إنّ بخت نصر هو ابن بدمين رجل من أهل كورة أرمنت من كور مصر. وكان بدمين من أهل العلم بالنجوم، فنظر في علمه فرأى أنّه يخرج من صلبه رجل يخرب مصر فأعطاه الله عزّ وجلّ عهدا أنّه لا ينكح امرأة أبدا. فخرج إلى فارس فمرّ بقرية منها، وكانت لصاحب تلك القرية ابنة بها لمم، فوصف له المصري ليداويها، فأدخله عليها فجرت بينهما أسباب إلى أن حملت منه بخت نصر، فجرى خراب الدّنيا على يديه. 429 وهلك بهمن «1» بن إسفنديار «2» وخلّف ابنه دارا وأمّه حامل به على ما تقدّم، وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقيل ثماني عشرة سنة، فعقد له التاج وهو في بطن أمّه. وقيل إنّ أمّه كان اسمها حمانا، وقيل غير ذلك. فملّكوا حمانا شكرا لإحسان أبيها مع كمال عقلها. وقال من زعم أنّها أمّ دارا: ملكت بمكان حملها، ودارا هذا هو الأكبر وهو الّذي ابتنى دارابجرد، فولد له ولد سمّي باسمه حبّا له وإعجابا به، ثمّ ملك وكان ملكه اثنتي عشرة سنة. 430 ثمّ ملك دارا الأصغر، وكان فظّا غليظا جبّارا، فقتله الإسكندر بخذلان فارس له. وتزوّج الإسكندر ابنته روشنك ابنة دارا، وكان ملكه أربع عشرة سنة. ونذكر نسب ذي القرنين وخبره عند انقضاء نسب فارس إن شاء الله تعالى. وقد زعم مؤرّخو العجم أنّ الّذي ملك بعد دارا الأكبر من الفرس شخشار وكانت له جيوش عظيمة لم يسمع لملك مثلها. ثمّ ملك بعده أريش

خشار، وفي زمانه جدّد عزير كتاب التوراة. قالوا: وفي زمانه بنى فهنايس مقدّم اليهود أسوار بيت المقدس ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس. وفي زمانه كان بقراط الفيلسوف وسقراط وسغريط وحينئذ عظم ذكرهم، وملك أربعين سنة. 431 ثمّ ملك بعده دارترطر، وفي زمانه كانت حروب آخر طرفها في جزيرة صقلية. وفي زمانه كان أفلاطون، وملك سبع عشرة سنة. ثمّ ملك بعده أرشخشا ولوقش، وفي زمانه كان أرسطاطاليس الفيلسوف ومات أفلاطون، وكانت ولايته ستّا وعشرين سنة. ثمّ ملك بعده دارا الّذي غلبه الإسكندر، وكانت له معه معارك قتل فيها من الفرس خلق كثير، وبقي يقسم ما وجد في عسكره ثلاثين يوما، ثمّ علم أنّه جريح لما به، فعني باتّباعه في ستّة آلاف من أهل عسكره حتّى ألقاه في بعض المنازل طفيا من تلك الجراحات، فلم يلبث أن هلك وأظهر الإسكندر الحزن عليه ودفنه في مقابر الملوك، وكانت ولايته ستّ سنين. 432 وكتب الإسكندر إلى معلّمه أرسطاطاليس يشاوره في قتل من بقي من الفرس فكتب إليه: لا تفعل ولكن ولّ كلّ رئيس منهم ناحية فإنّهم يتنافسون الرياسة فلا يجمعهم ملك أبدا. فلمّا قدم أردشير واجتمعوا عليه بعد الجهد العظيم قال: إنّ كلمة فرّقت الفرس أربعمائة سنة لمومة، يعني كلمة أرسطاطاليس. فكان بين الفرس الأولى والثانية خمسمائة سنة وسبع عشرة سنة، وهي مدّة ملوك الطوائف، وذكر ق غير ذلك. ولغة الفرس الأولى الفهلوية «1» ، وهي من اللغات الدارسة الّتي لم يبق لها مترجم.

الفرس الثانية

الفرس الثانية 433 أوّلهم أردشير بن بابك بن ساسان بن نهاوند بن دارا بن ساسان بن بهمن الّذي تقدّم ذكره، وهو من ولد إيرج بن أفريدون. وقد زعم قوم أنّهم من ولد ويرك «1» ، وويرك هو إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأنّه تزوّج امرأة من الفرس الأولى يقال لها كودك، فولدت له منوشهر الملك وكثر ولده وملكوا المماليك، ودثرت الفرس الأولى كدثور الأمم الماضية والعرب العاربة. وهذا لا ينقاد إليه كثير من الفرس. وفيما ذكرناه يقول إسحاق بن يزيد العدوي وكان من العرب من قريش [طويل] : إذا فخرت قحطان يوما بسؤدد ... أتى فخرنا أعلى عليها وأسودا ملكناهم طرّا بإسحاق عمّنا ... وصاروا لنا عونا على الدهر أعبدا فإن كان منهم تبّع وابن تبّع ... فأملاكهم كانوا لأملاكنا يدا وفي ذلك يقول جرير بن الخطفى [طويل] : وأبناء إسحاق اللّيوث إذا ارتدوا ... حمائل سيف لابسين السّنّورا إذا افتخروا عدّوا الصبهبذ «2» منهمو ... وكسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا ولذلك يقول بشّار بن برد [متقارب] : نمتني «3» الكرام بنو فارس ... قريش وقومي قريش العجم

434 (وأمّ ساسان الأكبر فإنّها من سبايا بني إسرائيل) «1» باتّفاق منهم، وهي ابنة شابال، ولم يك الفرس الثانية إلّا ولد أردشير بن بابك بن ساسان، وساسان هو الّذي يرجعون إليه كرجوع المروانية إلى مروان بن الحكم. 435 وقد كان ملك الفرس يحجّ البيت من سائر «2» ملوك الأعاجم. فكان ساسان هذا إذا طاف بالبيت زمزم على بئر إسماعيل، وإنّما سمّي زمزم لزمزمته وغيره من فارس، وهذا يدلّ على ترادف الفعل منهم. وفي ذلك يقول الشّاعر [سريع] : زمزمت الفرس على زمزم ... وذاك في سالفها الأقدم وقد أهدى ساسان هذا غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا إلى الكعبة وهي التي دفنت بزمزم، وسنذكر ذلك في خبر عبد المطّلب وزمزم إن شاء الله. وكانت هذه الملوك من عهد أردشير تحتجب عن الندماء «3» ، فكان يكون بين الملك والطبقة الأولى عشرون ذراعا والستارة في نصف هذه المسافة، وصاحب الستارة رجل من أصحاب أولاد الأساورة ويقال لمن ولّي ذلك منهم خرم باش ومعناه: كن فرحا. فإذا جلس الملك أمر خرم باش رجلا، فارتفع في أعلى موضع في دار الملك ونادى بصوت جهير ليسمع الحاضرين: يا لسان احفظ رأسك، فإنّك تجالس الملك. فتأخذ الندماء مراتبها خافتة أصواتها غير مشيرة بشيء من أعضائها. وقد كانت الأوائل من بني أميّة لا

تظهر للندماء وكذلك الأوائل من بني العبّاس وكذلك الأوائل من بني ساسان. 436 وأردشير هو الّذي فتح الحضر- وقيل إنّه سابور وهو أثبت. وبنى أردشير مدينة جور بفارس وكهمن أردشير- وهي فرات البصرة- وبنى أستراباد وبنى كرخ ميسان- وهي من كور دجلة- وبنى مدينة صور بالأهواز ومدينة أبلّة وغير ذلك. 437 ثمّ ملك بعده ابنه سابور. وكان أردشير قد قتل الأشكانية الّذين كان منهم ملوك الطوائف بعد جدّه ساسان إلّا جارية وجدها أردشير في دار المملكة، فأعجبته فسألها عن نسبها فقالت: أنا خادم. فاستخلصها لنفسه فحملت منه، فلمّا حملت أعلمته أنّها حبلى وعرّفته نسبها، فنفر طبعه عنها ودعا شيخا مسنّا وسلّمها إليه وقال: أودعها بطن الأرض. فأودعها سربا من الأرض، ثمّ عمد إلى مذاكره فقطعها وودعها في حقّ وختم عليه ورجع إلى الملك وقال: فقد أودعتها بطن الأرض، ودفع إليه الحقّ وقال: إنّ فيه وديعة، ورغب إليه ووصاه أن يحفظ بها. وأقامت الجارية حتّى وضعت غلاما وسمّاه الشيخ شاه بورا، ولد الملك. 438 ولم يكن لأردشير ولد، فرآه الشيخ يوما حزينا لذلك وكان حاصّا به، فقال: مالك أيها الملك أراك حزينا كئيبا؟ قال: لأنّي كبرت وليس لي ولد أورثه ملكي وأجعله الخليفة بعدي فيبقى ذكري. فقال الشيخ: سرّك الله أيّها

الملك وعمّرك، لك عندي ولد. قال له: وكيف ذلك؟ قال له: ادع بالحقّ الّذي استودعتك. فأمر بإحضاره وفضّ خاتمه، فإذا فيه مذاكر الشيخ وفيه كتاب: إنّا لمّا أخذنا ابنة آشك الّتي أمر الملك بقتلها أعلمتنا أنّها حامل من الملك، فلم نستحلّ أن نبطل زرع الملك الطّيب، فأودعناها بطن الأرض كما أمرنا، وتبرّأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عائب إلى عيبنا سبيلا. قال: فسرّ أردشير سرورا شديدا وأمر عند ذلك الشيخ أن يجعله بين مائة غلام في الهيئة، ثمّ يدخلهم عليه. ففعل فعرفه أردشير من بينهم وقبلته نفسه. ثمّ أمرهم أن يلعبوا في حجرة الإيوان بالصوالج فدخلت الكرّة الإيوان، فأحجم الغلمان عند دخولهم وأقدم سابور من بينهم فدخل. فأمر أردشير بعقد التاج له. 439 ط: وسابور هو الّذي افتتح الحضر من بلاد الموصل بخلاف ما قال ق. وكان صاحب الحضر يسمّى الضيزن بن معاوية ويعرف باسم أمّه جيهلة «1» ، وكان من تنوخ من قضاعة. وكان ملك الحضر قبل السّاطرون، وهو ملك السريانيّين. قال أبو دؤاد «2» [خفيف] : وأرى الموت قد تدلّى من ... الحضر على ربّ أهله السّاطرون ولقد كان آمنا للدّواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون ويقال إنّ السّاطرون أبو نصر جدّ عمرو بن عدي بن نصر الّذي كان «3» ملوك الحيرة من ولده. 440 وكان الضيزن قد ملك الجزيرة «4» وما يليها إلى الشام، وأقام سابور على حصنه أربع سنين، وقيل سنتين. قال الأعشى [متقارب] :

أقام به «1» شاهبور الجنو ... د حولين يضرب فيه «2» القدم - جمع قدم- حتّى عركت «3» ابنته النضيرة فأخرجها إلى بعض الأرباض، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم، وكانت من أجمل الناس، فتعشّقت سابور وتعشّقها، فأرسلت إليه وقالت له: اكتب بدم جارية بكر زرقاء على رجل حمامة ورقاء مطوّقة كتابة ذكرتها وأرسلها فإنّها تقع على حائط المدينة فيتداعى وكان طلسم المدينة. 441 س: وقيل إنّها قالت له: ائت الثرثار [وهو نهر] «4» انثر فيه تبنا، ثمّ اتبعه فانظر أين يدخل التبن فأدخل الرجال فيه، فإنّ ذلك المكان يفضي إلى الحصن. ففعل ذلك سابور وفتح الحصن عنوة وأباد قضاعة. فقال في ذلك بعض شعرائهم [وافر] : ألم يحزنك «5» والأنباء تنمى ... بما لاقت سراة بني العبيد ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاش الكتائب من تزيد أتاهم بالفيول مجلّلات ... وبالأبطال سابور الجنود فهدّم من أساس الحصن صخرا ... كأنّ ثقاله زبر الحديد واحتمل النضيرة فعرّس بها بعين التمر، فلم تزل ليلتها تضور «6» وفرشها الحرير محشوّا بالقزّ. فالتمس سابور ما كان يؤذيها فإذا ورقة آس ملصّقة بين عكنتيها «7» ، وكان ينظر إلى مخّها من صفاء بشرتها فقال لها: أيّ شيء كان يغذّيك أبوك؟ فقالت: بالزبد والمخّ وشهد فراخ النحل وصفو الخمر. فقال: وأبيك لأنا أحدث بك عهدا. فأمر رجلا فركب فرسا جموحا، ثمّ

عصب ذوابيها بذيله، ثمّ همز الفرس فقطعها قطعا. فقال الشاعر [خفيف] : أقفر الحصن من نضيرة فالمر ... باع منها بجانب الثّرثار 442 وسابور هو الذي حاصر نصيبين حتّى أخذها، وكان فيها عدد كثيرة لقيصر، ثمّ دخل أرض الروم فافتتح من الشام مدائن، ثمّ انصرف إلى مملكته وفرّق ما كان معه من السبي في ثلاث مدائن: في جندي سابور وسابور الّتي بفارس وتستر الّتي بالأهواز. 443 ذو الأكتاف: خلّفه أبوه أيضا وأمّه حامل به، فعقد له التاج في بطن أمّه. قال س: هو الّذي بنى له الإيوان، وهو بالجانب الشرقي من المدائن على دجلة. 444 ونزل الرشيد مرّة على قرب منه، فسمع بعض الخدم يقول من وراء السّرادق: هذا الّذي بنى هذا البناء أراد أن يصعد إلى السماء. فأمر الرشيد بعض الأساتيذ أن يضربه مائة عصا وقال لمن حضره: إنّ الملك نسبة بين الملوك، هم به إخوة. وإنّ الغيرة بعثتني على ضربه لصيانة الملك وما يلحق للملوك. وذكر أنّ الرشيد بعث إلى يحيى بن خالد، وهو في اعتقاله، يشاوره في هدم الإيوان، فبعث إليه: لا تفعل. فقال الرشيد لمن حضره: إنّ المجوسية في نفسه والحسد عليها والمنع من إزالة آثارها. فشرع في هدمه، فإذا به يلزمه في هدمه مال عظيم لا تضبط كثرته، فأمسك عن ذلك، وكتب إلى يحيى بن

خالد يعلمه بذلك. [فأجابه ب] أنّ «1» ينفق على هدمه ما بلغ من الأموال ويحرّض على محو أثره. فتعجّب الرشيد من تخالف كلامه فبعث إليه يسأله ما معنى تخالف قوله. فقال: أمّا الكلام الأوّل فإنّي أردت به بقاء الذكر لأمّة الإسلام، وأن يكون من يرد (في الأعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان) «2» يرى مثل هذا الأثر العظيم فيقول: إنّ أمّة قهرت قوما هذا بنيانهم واحتوت على ملكهم لأمّة عظيمة الشدّة، وأمّا قولي الثاني فأخبرت أنّه شرع في بعضه هدم فأردت نفي العجز عن أمّة محمّد وأن لا يقول قائل: إنّ هذه أمّة ضعيفة عجزت عن هدم ما بنته فارس. فلمّا أعلم بذلك الرشيد قال: قاتله الله، فما سمعت له قطّ قولا إلّا صدق فيه. وأعرض عن هدمه. 445 وسابور هذا بنى نيسابور ومدينة بالسوس سمّاها فيروز سابور، وبنى مدينة بالسند وأخرى بخراسان، وقيل بسجستان. 446 ولمّا بنى أنو شروان سور الباب والأبواب على ما تقدّم وفدت عليه رسل الملوك بالهدايا، وكان في جملتهم رسول قيصر، فنظر إلى الإيوان وحسن بنائه وإعجاز صنعته ورأى بموضع منه اعوجاجا، فسأل عن معنى ذلك فقيل «3» له: إنّ عجوزا لها منزل في جانب الاعوجاج وإنّ الملك أرادها على بيعه ورغّبها، فأبت فلم يكرهها. فقال الرومي: هذا الاعوجاج الآن أحسن من الاستواء. وزوّجه خاقان ملك الترك بابنته فاقم وابنة أخيه وهادنته ملوك السند والهند والشمال والجنوب وكتب إليه ملك الصين: من ملك

الصين صاحب قصور الدّرّ والجوهر الّذي يجري في قصره نهران يسقيان العود والكافور الذي توجد رائحته على فرسخين، والّذي تحته ابنة ألف ملك وتخدمه بنات ألف ملك، والّذي في مربطه ألف فيل أبيض، إلى أخيه كسرى أنو شروان. وأهدى إليه فارسا على فرس من ذهب منضّدا بالجوهر عينا الفارس والفرس ياقوت أحمر وقائم سيفه من زبرجد، وثوب حرير صيني عسجدي «1» فيه صورة الملك الفارسي جالسا في إيوانه «2» وعليه حليته وتاجه على رأسه والخدم على رأسه بأيديهم المذابّ، والصورة «3» منسوجة بالذهب، وأرض الثوب لازورد، في سفط من ذهب تحمله جارية تغيب في شعرها تتلألأ جمالا. وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم المشرق وصاحب قصر الذهب وأبواب الياقوت إلى أخيه ملك فارس صاحب التاج والراية. وأهدى إليه ألف رطل من عود هندي يذوب في النار كالشمع ويختم عليه كما يختم على الشمع، وجاما من الياقوت الأحمر فسحته «4» شبر مملوءا درّا، وعشرة أمنان «5» كافور كالفستق وأكبر من ذلك، وجارية طولها سبعة أذرع كأنّ بين أجفانها لمع البرق لها ضفائر تجرّها، وفرشا من جلود الحيّات ألين من الحرير وأحسن من الوشي. وكان كتابه على لحاء الشجر المعروف بالكاذي مكتوب بالذهب الأحمر، وهذا الشجر يكون بأرض الهند والصين، لحاؤه أرقّ من [الورق] الصيني ذو لونين عجيبين لا زوردي ورائحته عجيبة، فكانت تكتب فيه ملوكهم. وكتب إليه ملك التّبّت: من خاقان ملك التبّت ومشارق الأرض إلى أخيه المحمود السيرة، ملك المملكة المتوسطة للأقاليم السبعة. وأهدى إليه أنواعا من العجائب، منها مائة جوشن تبتيّة ومائة تجفاف وأربعة آلاف منّ من المسك الخزائني في نوافجه.

447 وممّا افتتح أنو شروان بالشام حلب وقنّسرين وحمص وأنطاكية- وكانت فيها جنود قيصر- وسلوقية «1» مدينة عظيمة عجيبة البنيان، فهي الآن خراب، وهذه كلّها كانت للقياصرة. وانتقل من الشام الرخام والأحجار والفسيفساء إلى العراق، فبنى ما استحسن، وافتتح هرقلة والإسكندرية وبنى رومة بناحية المدائن على صورة أنطاكية. 448 ... وصار نحوهم وقتل أخشنواز «2» ملك الهياطلة بجدّه فيروز وغلب على مملكته وأدخل إليه من الهند كتاب كليلة ودمنة، والخضاب الأسود المعروف بالهندي، وهو الّذي يلمع سواده فيما يصل من الشّعر فيريه أسود، فلا ينصل منه شيء. قال: رأيت من أنو شروان خصلتين متباينتين. جلس يوما للناس فدخل رجل من خاصّة الملك فتعدّى مرتبته، فأمر أن يحجب سنة، ثمّ رأيته يوما ونحن عنده في سرّ من تدبير المملكة وخدمه خلف سرير ملكه يتحدّثون، فارتفعت أصواتهم حتّى شغلونا عن بعض ما كنّا فيه، فقلت له في ذلك وسألته وأخبرته بتفاوت الحالتين، فقال لي: لا تعجب فنحن ملوك على رعيّتنا وخدمنا ملوك علينا ينالون «3» منّا في خلواتنا ما لا حيلة لنا «4» في التحرّز معهم. 449 وولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاثنتين وأربعين سنة من ملكه. ط: لمّا كانت الليلة الّتي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتجّ إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة

شرّافة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة «1» ، ورأى الموبذان- وهو القائم بأمر الدّين عندهم- إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتّى قطعت دجلة. فأفزع ذلك كسرى وقصّ عليه الموبذان ما رأى، فزاده ذلك ذعرا، فكتب أنو شروان إلى النّعمان بن المنذر، وهو ولّاه أمر العرب، أن يوجّه إليه رجلا من مشاهير العرب يسأله عمّا يريده. فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيّان بن بقيلة «2» الغسّاني. فلمّا قدم عليه أخبره بما رأى، فقال له: أيّها الملك لا علم لي بذلك، ولكن جهّز لي إلى خال لي بالشام يقال له سطيح. فقال: جهّزوه. فأتاه وقد أشفى [على الموت] «3» ، فسلّم عليه وحيّاه، فلم يستطع سطيح جوابا، فقال له عبد المسيح [وافر] : أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاضل الخطّة أعيت من ومن أتاك شيخ الحيّ من آل يزن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن «4» رسول قيل العجم يسري للوسن «5» ... لا يرهب الموت ولا صرف الزّمن فلمّا سمع سطيح قوله رفع إليه رأسه فقال: عبد المسيح على جمل يسيح جاء إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، حتّى اقتحمت «6» في الواد، وانتشرت في البلاد. عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وغاض وادي السماوة، فليست الشام للسطيح شأما، وسيملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشّرّافات، وكلّ ما هو آت آت. ثم قضى سطيح نحبه، وقدم عبد المسيح على كسرى فأخبره فقال: إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكا تكون.

450 ثمّ ملك بعد أنو شروان ابنه هرمز، وأمّه فاقم ابنة خاقان، وكان متحاملا على خواصّ النّاس مائلا إلى «1» عوامّهم، وقتل في مدينته مدّة ملكه من خواصّ فارس ثلاثة عشر ألفا مذكورين، وأزال أحكام الموبذان فخرم بذلك الشريعة وأزال الرسوم، فغزاه الملوك وطمعوا فيه، فغزاه عظيم من الترك في أربع مائة ألف، فنزل بلاد هراة من أرض خراسان. فندب لحربه بهرام جوبين ابن الريان، فظفر بهرام بالتركي واستباح عسكره واستولى على خزائنه وأمواله. فأعجب بذلك هرمز وعظم بهرام جوبين في عينه، فحسده وزيره وكان من الخزر، فجعل يعرّض بخيانته لهرمز واستبداده بأكثر الأموال وأغراه به، فعصاه بهرام وخلع يده عن طاعته، ثمّ احتال بدراهم ضرب عليها اسم أبرويز بن هرمز ودسّ أناسا من التجّار وأنفقوها، فعلم بها هرمز فلم يشكّ أنّ ابنه ضربها طلبا للملك فهمّ به. فهرب أبرويز من أبيه لتغيّره عليه ولحق ببلاد آذربيجان وأرمينية والرّان والبيلقان. فحبس هرمز خالي ابنه بسطام وبندويه «2» ، فأعملا الحيلة وخرجا من حبسهما وانضاف إليهما بشر، فدخلا على هرمز وسملا عينيه. فلمّا نمى ذلك إلى أبرويز رجع إلى أبيه وأعلمه أنّه لا ذنب له فيما اتّهمه به وأنّه هرب خوفا، فصدّقه أبوه، وعقد له التاج وسلّم الملك إليه. ثمّ خرج أبرويز إلى بهرام جوبين، وقد مال مع بهرام جموع الناس، وقدم وتحته فرسه المعروف بشبداز «3» ، وهو المصوّر في الجبل ببلاد قرماسين من أعمال الدّينور من ماه الكوفة، وعليه أبرويز وغير ذلك من الصّور «4» ، وهذا الموضع أحد عجائب العالم لغرائب ما فيه من الصور. والعرب تذكر هذا الفرس في أشعارها. وكان أبرويز ركبه يوما وانقطع عنانه، فأراد ضرب عنق صاحب سروجه ولجمه، لمّا لم يتعاهد عنانه قال: أيّها الملك ما بقي شيء يجتذبه ملك الإنس وملك الخيل، فخلّى سبيله.

451 فلمّا بلح هذا الفرس تحت أبرويز وقصّر طلب للنعمان في المعركة أن يمنّ عليه بفرسه النجوم فأبى ونجا عليه بنفسه. ونظر حسّان بن حنظلة الطائي إلى أبرويز قد خانته الرجال وأشرف على الهلاك، فأعطاه فرسه المعروف بالضّبيب وقال له: أيّها الملك انج على فرسي، فإنّ حياتك للناس خير من حياتي. فنجا عليه وكافأ حسّان وعرف له صنيعته. فأشار على أبرويز أبوه أن يلحق بقيصر ويستنجده على ما دهمهم من بهرام جوبين، فخرج أبرويز وخلّف خاليه وخنقا هرمز فقتلاه، ثمّ لحقا به فأعلماه، فعظم ذلك على أبرويز وقال لهما: ما حملكما على هذا؟ فقالا: لم نأمن أن يدخل بهرام إلى أبيك في مغيبك فيضع تاج الملك على رأسه ويصير الفرمدان- وتفسيره أمير الأمراء والروم تسمّي صاحب «1» هذه المرتبة الدّمستق- ويكتب أبوك إلى قيصر: إنّ ابني وجماعة [انضافوا] إليه وثبوا عليّ «2» وسملوا عينيّ، فاحملهم إليّ. 452 فلمّا بلغ بهرام خبر هرمز وقتله أسرع إلى المدائن «3» فاحتوى على الملك، ونزل أبرويز الرّها وكاتب قيصر موريق وبعث بكتابه مع خاله بسطام وجماعة من خاصّته يسأله النصرة «4» وأن يشترط عليه ما شاء، وأهدى إليه أبرويز مائة غلام من أبناء الترك في غاية الحسن، في آذانهم القرط بالدرّ والياقوت، ومائدة عنبر فسحتها «5» ثلاث أذرع على ثلاث قوائم من الذهب مفصلة «6» بأنواع الجوهر، والقائمة الأولى «7» ساعد أسد وكفّه، والثانية ساق وعل وظلفه، والثالثة كفّ عقاب بمخلبه، وجام «8» جزع يماني «9» فسحته «10»

شبر مملوّ ياقوتا أحمر، وسفط من ذهب فيه مائة درّة وزن كلّ درّة مثقال، أرفع ما يكون. 453 فبعث إليه قيصر مائة ألف فارس وهدايا وزوّجه ابنته مارية وحملها إليه، فاشترط عليه أن ينزل عن الشّام ومصر وما تغلّب عليه أنو شروان من بلاد القياصرة. وكانت ملوك الفرس تتزوّج إلى سائر من جاورها ولا تزوّجها. ثمّ صار أبرويز إلى بلاد آذربيجان، فاجتمع إليه هناك من كان بها من العساكر، فالتقيا ببهرام فتوجّهت على بهرام، فصار إلى نحو بلاد خراسان وكانت لملوك الترك، فاحتوى أبرويز على المملكة وأمر لجنود قيصر بالأموال والمراكب والكساء، وحمل إلى قيصر ألفي ألف دينار وقرن «1» ذلك بهدايا كثيرة من آلات الذهب والفضّة، ووفى له بما شرط عليه. واحتال أبرويز في قتل بهرام بأرض الترك، فقتل غيلة فسيق برأسه «2» فنصب على باب أبرويز. 454 ط: ولم يزل أبرويز يصانع أخت خاقان ويبذل لها نفيس الهدايا حتّى دسّت إلى بهرام من قتله. 455 وكانت لبهرام أخت يقال لها كرديّة، كانت في الشجاعة والفروسية مثل أخيها، (فخرجت من بلاد الترك ومن كان معها من رجال أخيها) «3» وكان

لهم عدد وجلد، فكاتبها أبرويز في قتل خاله بسطام، وكان مرزبان الدّيلم بخراسان، على أن يتزوّجها، فقتلته، وقتل أبرويز خاله الآخر بأبيه وتزوّج كردية. وكان وزير أبرويز والغالب عليه حكيم من حكماء الفرس يقال له بزرجمهر، وكان أبرويز لمّا تخلّى عن ملكه باشتغاله بحرب بهرام، وذلك ثلاث عشرة سنة، اتّهم بزرجمهر بالميل إلى مذاهب اليونانية- وهو مذهب ماني- فأمر بحبسه وكتب إليه أبرويز: كان من ثمرة علمك ونتيجة عقلك ما صرت به أهلا للقتل وموضعا للعقوبة. فكتب إليه بزرجمهر: أمّا (إذ كان معي) «1» الجد فقد كنت أنتفع بثمرة عقلي، والآن إذ لا جدّ أنتفع بثمرة صبري، وإن فقدت كثيرا من الخير فقد استرحت من كثير من الشرّ. ثمّ لم يزل يغري به حتّى قتله. وبزرجمهر أكثر الفرس مواعظ وحكما. 456 وفي ملك أبرويز كانت وقعة ذي قار بين بكر بن وائل والهامرز صاحب أبرويز لأربعين سنة لمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا أوّل يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا، وفي رواية أخرى أنّها كانت بعد بدر بأشهر. 457 وكان على مربط أبرويز خمسون ألف دابّة وألف فيل، منها ما ارتفاعه من الأرض اثنتا عشرة ذراعا، واكثر ما يكون من ارتفاع الفيل من الثمانية إلى العشرة. قال: وقد يكون بأرض الزنج ما هو أعلى سمكا من اثنتي عشرة ذراعا، وقد يحمل الناس من أنيابها ما زنة الناب مائتا منّ، والمنّ رطلان بالبغدادي. وخرج أبرويز في بعض أعياد وقد صفّت له الجيوش والعدد

والسّلاح والمراكب وألف فيل في جملة ذلك، وقد أحدقت به مائة ألف فارس دون الرجالة. فلمّا أبصرته الفيلة سجدت له فما رفعت رؤوسها وبسطت خراطيمها حتّى رفعت بالمحاجن وراطنها الفيّالون بالهندية، فأعجب أبرويز لذلك وقال: ليتها «1» لم تكن هندية وكانت فارسية، انظروا إلى أدبها من بين سائر الدوابّ. وكانت مدّة أبرويز ثمانيا وثلاثين سنة، وقام ابنه- واسمه قباذ- القابض عليه، وهو المعروف بشيرويه. 458 قال ط: وتفسير أبرويز المظفّر. قال ط: ولم يزل أبرويز ملطّفا بموريق إلى أن قتلته الروم وأبادوا ذرّيته خلا ابنا له صغيرا هرب به إلى أبرويز، فحافظ أبرويز موريق في ولده. وغزا الروم هرقل، فهزم قوّاد أبرويز وقتل رجاله وتحصّن أبرويز بالمدائن. وقيل في قول الله سبحانه وتعالى: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ «2» إنّها في أبرويز ملك فارس وهرقل. ثمّ هزم الله عزّ وجلّ ملكهم بالإسلام. قال ط: وفي آخر سنة من ملكه هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 459 ولمّا بلغ يزدجرد وقعة القادسية وقتل رستم علم أنّ مدّتهم قد انصرمت، فصار إلى حلوان ثمّ تحوّل إلى إصبهان وقال للموبذ: قد ظهر هؤلاء القوم فلا

يلقوا لنا جمعا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بمعقل إلّا افتتحوه، فما الرأي؟ قال: رأيي «1» أن تنزل إصطخر وتضمّ إليك خزائنك وتوجّه منها الجنود. ففعل ومضى إلى إصطخر، فلم يزل أبو موسى وعثمان بن أبي العاص يغزونه فيها فلم يقدروا على فتحها. فقدم ابن عامر سنة تسع وعشرين ولم يكن بكور فارس «2» شيء إلّا وقد فتحه المسلمون حاشى إصطخر.. وقتلوا عامل ابن عامر فرجع إليهم ابن عامر فهرب يزدجرد إلى كرمان وأتبعه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمي. فنزل مجاشع بن مسعود قرية من دارابجرد فقالوا له: إنّ لنا عيدا اللّيلة، فإن رأيت أن تخلي لنا القرية. قال نعم، فنزل منها خارجا بالفسطاط والأخبية، فلمّا كان في آخر اللّيل أصاب «3» أهل القرية رجفة، فهلكوا عن آخرهم، فنبش قوم منازلهم ممّن كان بينهم من العجم، فأصابوا ألفي ألف وسبعمائة ألف فأتوا بها مجاشعا، وانصرف مجاشع إلى ابن عامر وقد فاته يزدجرد، وقد عرض في جيشه ما عرض. 460 ومضى يزدجرد إلى سجستان، ثمّ توجّه إلى خراسان. فلمّا قرب من مرو خرج إليه ماهويه بن (مافناه بن فيد) «4» مرزبان مرو وترجّل وصار بين يديه ماشيا فقال له الموبذ: أيّها الملك لو أمرت ماهويه أن يركب. فأمره فركب. فلمّا دخلوا مرو فأقاموا أيّاما قال خرزاذ مهر ليزدجرد: لو أذنت لي أيّها الملك لرجعت «5» إلى فارس، فأذن له فقال خرزاذ مهر لماهويه: يا أهل خراسان إنّكم قتلة الملوك، قتلتم فيروز، فاكتبوا لي كتابا بأنّي قدمت بالملك بلاد مرو سالما ومعه ابنه فيروز وثقله وحشمه. فكتب على ماهويه كتابا ورجع منصرفا إلى فارس. فلمّا صار إلى فارس اعتقد من عبد الله بن عامر ذمّة. فلمّا سار ابن عامر إلى خراسان رجع خرزاذ مهر إلى مرو، فأقام مع الأساورة الّذين

كانوا معه مع يزدجرد. واستمدّ نيزك طرخان صاحب الترك وخرج من مرو ونزل وزق، وهي على تسعة فراسخ من مرو. فأقبل نيزك، فلمّا قرب من وزق ركب يزدجرد لينظر إلى عددهم فتلقّاهم، فلمّا تراءيا نزل نيزك حتّى دنا من يزدجرد فقبّل رجله، ثمّ ركب فسايره حتّى أتى منزله، وأمر لنيزك بمنزل وبعث إليه ما يصلح به، وكساء الأتراك الديباج ومناطق الذهب. وأقام نيزك شهرا وكتب إلى يزدجرد يخطب إليه ابنته، فغضب يزدجرد وكتب إليه: إنّما أنت من عبيدي، فما أجرأك أن تخطب إليّ؟. 461 وأمر يزدجرد بمحاسبة ماهويه وسأله الأموال فخافه فأتى نيزك فقال: إنّ هذا أتى مغلوبا مغلولا، فنصرته فخطبت إليه، فبلغ من جهله ما علمت، وقد أمر بمحاسبتي وطلبني بالمال. وإن عاد هذا إلى ملكه قتلني وقتلك، فحاربه وأنا أعينك عليه. فخرج نيزك ونزل الجبانة محاربا، فسار إليه يزدجرد ومعه ماهويه، فقاتلهم فأثخن فيهم، فخاف ماهويه أن يهزمهم فتحوّل إليه في أساورة مرو، فتفرّق عن يزدجرد أساورته فقاتلهم وصبر بعقدته، ثمّ رأى أن يتحوّل ويرجع إلى مرو. 462 وكان ماهويه قد خلف ابنه بمرو وقال له: إن رجع يزدجرد منهزما فامنعه. فأتى يزدجرد وقد أغلقوا أبوابها ومع يزدجرد زادويه، فناداهم زادويه: افتحوا. وأشرف ابن ماهويه فنادى: افتحوا للملك. فأهوى إلى منطقته فشدّها أي: لا تفتحوا. ففطن زادويه وقال: لعنكم الله يا قتلة الملوك. وترك يزدجرد ومضى، فرجع يزدجرد وحده فأتى وزق فنزل عن دابّته ومشى حتّى دخل بيت طحّان على شاطئ المرغاب، فمكث ليلتين ويوما فخفي عن الناس خبره. فلمّا رآه الطحّان عظّمه وقال: من أنت؟ أجنّي أنت أم إنسيّ؟

قال: إنسي، فهل عندك طعام؟ قال: نعم. فأتاه بطعام فقال: إنّي مزمزم فجئني بما أزمزم به. فأتى الطحّان رجلا من الأساورة فسأله ما يزمزم به فقال: عندي ضيف لا أعرفه ولا أعرف مسألته، سألني ما يزمزم به. فأدخله الأسواري على ماهويه فأخبره، فقال ماهويه: صفه. فوصفه فقال ماهويه: هذا يزدجرد، انطلقوا فأخنقوه حتّى تقتلوه. قال الموبذ: ليس لك أن تقتله لأنّ الملك والدين مقرونان لا قوام لأحدهما إلّا بالآخر، وإنّك إن قتلته انتهكت الحرمة الّتي ليس لك بعدها شيء. فأعان القوم الموبذ فصدّقوه، فشتمهم ماهويه وقال للأساورة: من تكلّم؟ فاقتلوه فكفّوا. ومضى قوم مع الطحّان فقتل يزدجرد. وأعطى ماهويه نيزك مالا عظيما فرجع إلى بلاده. 463 واختلفوا في قتل يزدجرد وكيفيّته وكيف قتل، فقال قوم: دخلوا عليه وهو نائم، فكرهوا قتله فقالوا للطحّان: اقتله. فشذخ رأسه بحجرة، فرجعوا إلى ماهويه ومعهم الطحّان، فأمر ماهويه بقتله وقال: لا ينبغي لقاتل الملك أن يحيا بعده. فقال قوم: نذر يزدجرد برسل ماهويه قبل أن يدخلوا عليه فهرب ونزل الماء وعليه ثيابه، فضربوا الطحّان وقالوا: دلّنا عليه، فقال: ههنا خلّفته. وخرجوا يطوفون في طلبه، فرآه رجل يجول في الماء وعليه الديباج فأخذه فقال له: خلّ عنّي وغمّ عليّ وأعطيك خاتمي ومنطقتي. فقال: أعطني أربعة دراهم. فقال: الّذي أعطيك أعظم من الآلاف. قال: إنّما أريد أربعة دراهم. فضحك يزدجرد فقال: لقد قيل لي: إنّك تحتاج إلى أربعة دراهم فلا تجدها. فهجموا عليه فقال لهم يزدجرد: لا تقتلوني، فإنّه من احتوى على قتل الملوك عاقبه الله في الدنيا بالحرب وفي الآخرة بالنار، فاحملوني إلى ملك العرب فإنّهم لا يستحيون قتلي، فأصالحه عليكم فتأمنون. فأبوا وأعطوا الطحّان وترا، فدنا منه وكأنّه يكلّمه ورمى بالوتر في عنقه فخنقه حتّى مات، وأخذوا ثيابه فصرّوها في جراب وختموا الجراب،

الإسكندر

وقتلوا الطحّان وألقوا يزدجرد في الماء وانصرفوا. وقال قوم إنّ يزدجرد لمّا أتى إلى منزل الطحّان قتله الطحّان فأخذ ما كان عنده، فأخذوه به فأنكر أن يكون رآه، فضربوه فأقرّ لهم بقتله وأخرج متاعه فقتلوه به وأهل بيته معه. وأخرج الأسقف يزدجرد من النهر وصيّره في تابوت وحمله إلى إصطخر أوّل سنة إحدى وثلاثين. وكان قتله في وزق، وهي على سبعة فراسخ من مرو. 464 س: فملوك الفرس الأولى سبعة عشر ملكا، ملك منهم امرأة واحدة، والأخرى اثنان وثلاثون ملكا، ملك منهم امرأتان. الإسكندر 465 هو ابن فيلقيوش، وقال قوم: ابن قيلقوس، قوطي. ط: ابن مطريوس «1» بن هرمس بن هردس «2» بن ميطون بن ليطى بن يونان بن يافث من ولد الأصفر بن أليفز «3» بن عيصو بن إسحاق عليه السلام. ويقال إنّ ذا القرنين هو هرمس، ويقال: هو ذبين بن قيطون بن رومي بن لمطي بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام، ورومي بن لمطي هو أبو الروم. 466 وقال الزبير: حدّثني من يسوق الحديث عن العجم أنّه رجل من أهل مصر اسمه الرّيان بن موريد اليوناني وقال: هو رجل من أهل أينة قرية من كور

مصر الغربية، وقال أيضا: وهي متّصلة بالإسكندريّة، وقيل: بل هو رجل من حمير. قال تبّع [طويل] : قد كان ذو القرنين جدّي مسلما ... ملك تدين له الملوك وتحشد بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد وقال من أبى ذلك: إنّما قال تبّع قد كان ذو القرنين قبلي مسلما. ويروى أنّ عمر بن الخطّاب سمع رجلا ينادي آخر: يا ذا القرنين. فقال: اللهمّ غفرا أما رضيتم أن تتسمّوا بالأنبياء حتّى تسمّيتم بالملائكة؟ ومن أغرب ما ورد في ذلك أنّه إنّما سمّي ذا القرنين أنّه كان عبدا صالحا بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله ثمّ بعثه مرّة أخرى إلى قومه، فضربوه على قرنه فمات فسمّي ذا القرنين. 467 ومن غريب ما قيل في نسبه ما قال ط: وذلك أنّه ذكر أنّه ولد دارا الأكبر أبي دارا الّذي غلب على ملكه الإسكندر، وذلك أنّ دارا كان تزوّج ابنة ملك الزنج هلابا، فلمّا حملت إليه استخبث ريحها، فأمر أن يحتال لذلك، فغسلت بماء السندروس وأذهب ذلك كثيرا من الذفر، ثمّ عافها فردّها إلى أهلها وقد علقت منه، فلهذا قيل الإسكندر. 468 قال القوطي: وكانت له مع دارا ثلاث ملاحم هلك فيها من الفرس أكثر من عشرة آلاف. وكان عدد الفرس في أوّل التقائهما ستّمائة ألف مقاتل وعدد عسكر الإسكندر أربعة آلاف فارس وثلاثين ألف راجل، وكان أخذه لدارا وهو جريح، فلم يبق عنده إلّا يسيرا حتّى هلك، فأظهر الإسكندر الحزن عليه وأمر بدفنه كما تدفن الملوك. قال ط: وثب على دارا رجال من أصحابه

فقتلوه وتقرّبوا برأسه إلى الإسكندر فقتلهم وقال: هذا جزاء من اجترم على ملكه. ولمّا مات الإسكندر قال الحكيم: ما كنت أحسب أنّ قاتل دارا يموت. 469 وتوفّي الإسكندر بناحية السواد في موضع يقال له شهرزور بعد أن غزا الهند حتّى انتهى إلى البحر المحيط، فهال ذلك ملوك المغرب فوفدت عليه رسلها بالانقياد والطاعة. 470 وعلى عهد الإسكندر كانت دولة النساء ومملكتهنّ الخالية من الرجال، وزعموا أنّ امرأتين منهنّ من ملكاتهنّ وفدتا على الإسكندر فطلبن منه النسل، فجامعهنّ بما يحوز من النكاح. وكان من خبرهنّ أنّ أميرين خرجا من سبطية مدينة بأقصى الجوف، فاحتلّا بلاد فيروجية فأغارا على من جاورهما، فنصبوا لهما الكمائن حتّى قتلوهما ومن معهما من الجنود فاستأصلوهم. فلمّا انفردت النساء هناك اجتمعن على من بقي معهنّ من الرجال فقتلنهم، ثمّ جيّشن وخرجن على الّذين قتلوا رجالهنّ، فأخذن بثأرهنّ منهم وعدن يمينا وشمالا وعظم أمرهنّ وهابهنّ من يليهنّ من الأمم، فكنّ يعاهدن الرجال الّذين وراء النهر منهنّ، فيعبرنه إليهم فيحملن منهم، فإذا ولدن ذكرا قتلنه وإذا ولدن أنثى حرقن مواضع ثدييها لئلّا تضرّ بها في حمل السلاح. فملكن على هذا الحال مائة سنة حتّى قتلهن هرقل «1» الملك الظاهر الإغريقي صاحب صنم قادس بالأندلس. وفي شمال الأرض على البحر المحيط مملكة النساء باقية إلى اليوم على ما يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.

471 وقال القوطي: سمّه بعض خدمه بأرض بابل. قال ط: فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب وكانت مملكته اثنتي عشرة سنة. ط: أربع عشرة سنة. وقيل ثلاث عشرة سنة، عاش منها بعد قتل دارا خمس سنين، القوطي. قال ط: ويزعمون أنّ قتل دارا كان في السنة الثالثة من ملكه، فقد عاش على هذا بعده عشر سنين، وكان عمره ستّا وثلاثين سنة باتّفاق. وقيل إنّه قتله بعد سبع سنين من ملكه وعاش بعد ذلك خمس سنين. 472 قال ط: وعرض الإسكندر جنده بعد أن تغلّب على مماليك الفرس فوجدهم ألف ألف وأربعمائة ألف مقاتل. قال ط: ودخل الإسكندر الظلمات ممّا يلي القطب الشمالي والشمس في الجنوب في أربعمائة رجل من أصحابه يطلب عين الحياة، فسار فيها ثمانية عشر يوما. وبنى اثنتي عشرة مدينة سمّاها كلّها إسكندرية، منها هراة ومدينة مرو ومدينة سمرقند ومدينة بأصبهان يقال لها جيّ بنيت على مثال الجنّة. وقيل إنّه تزوّج ابنة دارا. 473 ولمّا مات الإسكندر عرض الملك بعده على ابنه، فأبى واختار النسك والعبادة. قال ط: واجتمع بالإسكندر ملك الروم وكان قبله مفترقا، وافترق به ملك فارس وكان قبل مجتمعا، والله أعلم.

ذكر ملوك اليونانية

ذكر ملوك اليونانية 474 فاستوسق (بالإسكندر ملك اليونانيّين) «1» بالشام ومصر، وهي مقدونية وإليها ينسب الإسكندر المقدوني، ونواحي المغرب من الأندلس وغيرها، وكانت دار مملكتهم الإسكندرية. 475 فولّي بعده خليفته بطليموس بن لاوي، وهذا الاسم يخصّ ملوك الإسكندرية من اليونانيّين، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من اقتنى البزاة ولعب بها. واللّذارقة (وهم ملوك الأندلس) «2» وغيرهم أوّل من لعب بالشواهين. وملك بعده بطليموس بن هيفلوس ثمانيا وثلاثين سنة، وهو الّذي بنى مدينة أنطاكية، وهي أحد عجائب العالم، مسافة سورها اثنا عشر ميلا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألفا، وأبراجها مائة وستّة وثلاثون برجا، وأسكن كلّ برج بطريقا برجاله وخيله، فمرابط الخيل في أسفله وأعلاه طبقات يسكنها الرجال. وكلّ برج منها كالحصن عليه أبواب الحديد، وأنبط فيها عيونا وأجرى المياه في شوارعها، وماؤها [يستحجر] في مجاريه فلا يؤثّر فيه الحديد ولا يغيّره ولا يكسّره. وهذا الماء يحدث في الأجواف الرياح القولنجية. وقد أراد الرشيد سكنى أنطاكية فقيل له ما ذكرناه (من ترادف الصّداء على سلاحها) «3» وذهاب ريح الطيب بها، فامتنع من سكناها. وهو الّذي أطلق اليهود المأسورين بمصر وهو الّذي انتخب سبعين مترجما فترجموا التوراة

من العبرانية إلى الإغريقية «1» . وفي أيّامه كانت الحرب بين أهل رومة وقرطاجنة، وهي الحرب الّتي قيل لها حرب إفريقية. وبنيت مدينة قرطاجنة قبل رومة باثنتين وسبعين سنة. (وكانت ولايته أربعين سنة) «2» . 476 ثمّ ملك بعده بطليموس اقريطش ستّا وعشرين سنة، وكانت له حروب مع صاحب أنطاكية وصاحبها الإسكندروس، وهو الّذي قتل من اليهود نحو ستّين ألفا، وفي زمانه قام الرومانيّون وهدموا مدينة قرطاجنة. 477 ثمّ ملك بطليموس صاحب علم علل الفلك والنجوم وواضع كتاب المجسطي أربعا وعشرين سنة، وفي زمانه ظهرت جزيرة البركان في البحر بصقلّية. 478 ثمّ ملك بطليموس (محبّ الأمّ) «3» بلاد نظرة أي مزكّية الحجر خمسا وثلاثين سنة، وهو الّذي غلبه أنيسول «4» . 479 ثمّ ملك بعده بطليموس أقريطش، وهو الّذي غلب في زمانه الرومانيّون على الأندلس.

480 ثمّ ملك بعده بطليموس شوطان، وفي زمانه أقبل بروطى الروماني إلى الأندلس فقتل من الجلالقة نحو خمسين ألفا، وهرب بعضهم فلالا وكانت ولايته «1» ... 481 ثمّ ملك بعده بطليموس الإسكندراني «2» ، وفي زمانه كان أوفالوس الشّاعر الّذي مات عشقا، وملك عشرة أعوام. 482 ثمّ أفضى الأمر إلى قلابطرة «3» ابنة بطليموس، وهي آخر ملوك اليونانيّين، وكان يشاركها في ملكها زوجها أنطونيوس «4» . وكانت هذه الملكة حكيمة متفلسفة مقرّبة للعلماء، ولها كتب مصنّفة في الطبّ وغير ذلك من الحكمة معروفة عند أهل العلم بذلك، وبذهاب ملكها ذهبت علوم اليونانيّين وامتحت آثارهم إلّا النبذ ممّا بقي في أيدي حكمائهم. وسار إليها الثاني من ملوك الروم وهو أغشطش، وهو أوّل من سمّي قيصر لما سنذكره، وكانت له حروب بالشّام ومصر ومصارع مع هذه الملكة إلى أن قتل زوجها، ومنزلهم مصر. فلم يكن لقلابطرة في دفع قيصر عن مصر حيلة. وكان مذهب قيصر أخذها لعلمه بحكمتها وأنّها بقيّة من حكماء اليونانيّين ليأخذ منها ما شاء، ثمّ يعذّبها ويقتلها. فراسلها خادعا لها وعلمت مراده

نفسها، وطلبت الحية التي تكون بين الحجاز والشام، وهي حيه شبريه وتدعى أيضا الفتريّة، ذات رأسين تكون في جوف الرمل، فإذا أحسّت بالإنسان أو غيره من الحيوان وثبت من موضعها أذرعا كثيرة فضربته بإحدى رأسيها في أيّ موضع لحقته منه، فيعدم من ساعته الحياة ويعلّقه ضدّها لحينه. فاحتمل لها منها حيّة، فلمّا علمت باليوم الّذي يدخل فيه أغشطش قصر ملكها جلست على سرير ملكها ووضعت تاجها على رأسها وتزيّنت بأحسن الزينة ونظّرت وسط مجلسها بأنواع الرياحين والفواكه والطّيب، وأكثرت ممّا بمصر من عجيب الرياحين وعهدت «1» جميع ما احتاجت إليه من أمرها وفرقت الحشم من حولها ودعت بعض جواريها ممّن اختارت الموت قبلها لتختبر أمر الحيّة، فأدنت يدها من فمّ القارورة الّتي كانت فيها الحيّة، فتفلت على يدها فجمدت مكانها وعدمت الحياة من فورها. ثمّ أدنت الملكة منها يدها ففارقت الحياة لحينها وهي على هيئتها، وانسلّت الحيّة واستترت بالرياحين. فدخل قيصر فنظر إليها فلم يشكّ أنّها تنطق، فدنا منها فتبيّن أنّها ميّتة، فأعجب بتلك الرياحين، فأمرّ يده على كلّ نوع منها وهو متأسّف على ما فاته من الملكة، فبينما هو كذلك إذ قفزت عليه تلك الحيّة فتفلت عليه من سمّها، فيبس شقّه الأيمن من ساعته وذهبت عينه وسمعه، فعجب من فعلها بنفسها ثمّ من احتيالها عليه، وقال في ذلك شعرا بالرومية مأثور عندهم، وأقام بعد ذلك يوما فهلك. ولولا ما كانت أفرغت من سمّها على الجارية والملكة لهلك أغشطش من ساعته. 483 وكان السبب الّذي أهاج الحرب بينهما أنّ قوّاد قيصر وقوّاد بطليموس كانوا يقترعون كلّ عام من يخرج منهم إلى الغرب ومن يخرج منهم إلى الشرق،

ذكر ملوك الروم

فخرجت في بعض الأعوام قرعة قيصر إلى الغرب، فغزا الأندلس فوجد أهلها قد تحصّنوا في معاقلهم، فلم يظفر منهم بشيء فرجع مخفّفا. وخرج في ذلك قائد اليونانيّين يتناول إلى ناحية المشرق فسبى سبيا كثيرا وفتح الحصون وأقبل بنحو من ثلاثين أسيرا من أمراء الشرق، فنفّس ذلك قيصر وحسده، ووقعت الحرب بينهم فكانت الغلبة لقيصر. 484 فجميع ملوك اليونانية أربعة عشر ملكا، ومدّتهم ثلاثمائة سنة لما قدمناه في نسب الإسكندر، ثمّ غلب هذا الاسم على بني عيصو لمّا ولّوا ملكهم. وقيل إنّ الروم اسم الأصفر بن المقر بن عيصو والأصفر لقب له، والله أعلم. ذكر ملوك الروم 485 إنّما سمّي أغشطش قيصر لأنّ أمّه ماتت وهي حامل به فشقّ بطنها عنه، ومعنى قيصر بقر «1» ، وكان هذا الملك يفتخر أنّ النّساء لم تلده، وكذلك كان ولده يفتخرون بذلك فجرى عليهم هذا الاسم. وحقيقة هذا اللفظ بالأعجمية جيشر لأن المشقوق يقولون له جاشر، وقد زعم قوم «2» أنه سمّي جيشر لأنّه ولد بشعر تامّ يبلغ عينيه، واسم الشعر بالاعجميّة الفصيحة جشارية «3» ، فحرّف «4» فقيل قيصر. وكان ملكه ستّا وخمسين سنة. ولاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه ولد المسيح، هذا الصحيح، وقد قيل غيره على ما سنورده إن شاء الله.

قال: ورأيت في مدينة أنطاكية في بعض كنائسها أنّه كان بين ملك الإسكندر ومولد المسيح عليه السلام ثلاثمائة وتسع وستّون سنة. 486 ثمّ ملك بعده طباريوس، فكانت مدّة ملكه اثنتين وعشرين سنة، ولثلاث سنين بقيت منه رفع المسيح. 487 ثمّ اختلفت «1» بعد ملكه الرّوم وتحزّبت وأقاموا على اختلاف الكلمة والتنازع في المملكة مائتي سنة وثمانيا وتسعين سنة، وهم في ذلك لا يعرفون غير عبادة الأصنام. ثمّ ملّكوا على أنفسهم بعد تلك المدّة ملكا يقال له غايوس «2» ، فملك أربع عشرة سنة وهو قاتل بطرس «3» الحواري وبولس «4» المذكورين في سورة يس، وقد ذكرنا خبرهما. وكان بطرس «5» قد سار إلى مدينة رومة داعيا إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإيمان بالمسيح. ولم يزل غايوس «6» قاتلا للنصارى وأتباع المسيح وكان أكفر ممّن مضى قبله وأجمع لخصال «7» الشرّ. وفي زمانه تفرّق أصحاب عيسى الاثنا عشر في البلاد وتلاميذه الاثنان وسبعون، وقبور الاثني عشر مشهورة في الآفاق. وأكثر القول إنّ الّذين ذكروا في سورة يس منهم.

488 ثمّ أفضى الملك بعد ملك ثان منهم إلى بشبشيان «1» ، وهو أبو طيطش، فبعث «2» ابنه طيطش إلى حرب بني إسرائيل بالشّام، فكانت لهم حروب عظيمة انتهى القتل فيها من بني إسرائيل [إلى] ثلاث مائة ألف، وتفرّقت بنو إسرائيل في البلاد وخرب طيطش بيت المقدس وحرثه بالبقر ومحا أثره وعفا رسمه. ط: غضبا للمسيح. فكان [من] أوّل بنائه إلى خرابه ألف سنة وستّون سنة. 489 س: وعاقب الله الرّوم من يوم تخريبهم لبيت المقدس بأن جعلهم يسبى كلّ يوم منهم سبي إلى من أطاف ببلادهم من الأمم، فلا يوم من أيّام العالم إلّا والسبي فيهم، قلّ ذلك أو كثر. وفعل ذلك ببيت المقدس لتمام أربعين سنة من رفع عيسى عليه السّلام. وبشبشيان هو الّذي تغلّب على مدينة رومة ودخلها وأشطيش على رخّ واحد، وهلك ملك الرومانيّين على أيديهما وانقادت لهما جميع البلاد، وكانت ولاية بشبشيان عشرة أعوام. 490 ثمّ ملك بعده ابنه طيطش، فكان أحكم «3» ملوك أهل المجوسية باللسان الإغريقي، وأكثرهم تفنّنا في العلوم، وكان ملتزما بخصال «4» الخير وخصال «5» المكارم، وكان اليوم الّذي لا يفكّ فيه أسيرا أو يغني فقيرا أو يغيث ملهوفا لا يراه من ملكه ولا يؤرّخه، وكانت ولايته عامين فعظم على

الناس فقده. ثمّ ملك بعده أخوه دومطيانس «1» ، فكانت دولته جامعة لكلّ شرّ «2» ونفى يحيى الحواري إلى بعض الجزائر. 491 ثمّ ملك بعده قيصر أنطونيش فومي «3» ، فأصلح ما أفسده الّذي قبله وأمر بإخراج يحيى الحواري من الجزيرة، وصرف النظر إلى كورهم وكان الّذي قبله أنفاهم. وأوصى بعده إلى وطريان- وكان أندلسيّا- وقيصر وطريان الأندلسي، وكان مظفّرا، ذلّ أجناسا كثيرة وعبر الفرات وغلب على كور كثيرة. وفي سنة ثلاث عشرة من دولته كوّر كور أرمينية وكور مورقة وكور الكوفة، وولّى بطشة (؟) . 492 وولّي بعده قيصر أنطونيش، وهو الملقّب بالرحيم لما كان عليه من حسن السيرة والرأفة بجميع المسلمين، وأسقط المغارم عن جميع أهل مملكته، وفي زمانه عظم أمر جالينوس الطبيب بمدينة رومة، ومولده في برغنة، وولي أنطونيش اثنتي عشرة سنة. 493 وولّي بعده ثلاثة ملوك منهم نحو خمسين عاما. ثمّ كان أنطونيش الأصغر، وفي زمانه كان تنعش المترجم وبرجوس الأسقف في بيت المقدس وظهرت على يديه عجائب، وكان إذ ذاك أوريان العالم. وولّي أنطونيش الأصغر سبع سنين ثمّ ولّي قيصر مقرن أربعة أعوام وكان فاسدا مفسدا. ثمّ قيصر

الإسكندر، وكانت أمّه نصرانيّة، وهو الّذي قتل ملك الفرس، وولّي ثلاثة أعوام. ثمّ قيصر فيلبس، وزعم بعضهم أنه أوّل من تنصّر دين ملوك الرومانيّين. وفي السّنة الثّانية من ولايته تمّ لرومة ألف سنة، فعيّد عيدا عظيما على ملك النصرانية. وولّي سبعة أعوام. 494 وأفضى الأمر بعده إلى عدّة ملوك، منهم إلى دقيوس «1» ، فملك ستّين سنة، وكان ممعنا في قتل النصرانية ومنه هرب أصحاب الكهف وهم أصحاب الرقيم. وقال جماعة: أصحاب الكهف غير «2» أصحاب الرقيم وكلا موضعيهم ببلاد الروم. وذكر أحمد بن موسى المنجّم حين أنفذه الواثق بالله إلى بلاد الروم أنّه أشرف على أصحاب الرقيم بحارمى «3» في بلاد الروم. ولم تزل الأمم كذلك وهي عبدة الأوثان إلّا «4» ما ذكر بعضهم عن فيلبس إلى أن تولّى الأمر قسطنطين المتنصّر المؤمن بعيسى. 495 فعدد ملوك الروم إلى قسطنطين [تسعة وأربعون ملكا] «5» ومدّة مملكتهم [أربعمائة سنة وسبع وثلاثون سنة] «6» . وبنيت مدينة رومة قبل ملكهم بأربعمائة سنة. والّذي ذكرنا قبل هذا أصحّ. وهو الّذي (أمضى أنيا يولش) «7» الحواري بالأندلس ومدينة ماردة وإشبيلية وقرمونة في ذلك العصر، وهو الّذي يحكى عنه في الإنجيل أنّه ملك أكثر الأرض وخضعت له ملوكها كخضوعها للإسكندر، وهو الّذي أقبل

إلى الأندلس فسلّمها وأخذ جلّ خيارها فقطع أيديهم وأرجلهم، وهو الّذي بلّط نهر رومة بالصفر فأرخت منه الأعاجم. 496 وملك قسطنطين بن هلانى «1» فدخل دين النّصرانية، وخرج من رومة لسنة خلت من ملكه، وهو أوّل ملك خرج منهم من رومة، وكان ذلك لخوف داخله من بعض آل ساسان، فبنى القسطنطينية وسمّاها باسمه. ولسبع [سنين خلت] «2» من ملكه خرجت أمّه هلانى «3» إلى الشّام وبنت البيع والكنائس وطلبت الخشبة الّتي صلب عليها عيسى بن مريم عليه السّلام بزعمهم، وعذّبت عليها اليهود حتّى خبّرها شيخ منهم عنها أنّها [في] سباطة هناك. فاستخرجتها وحلّتها بالذهب والفضّة واتّخذت لوجودها عيدا عظيما، وذلك عيد الصليب، وذلك لأربع عشرة ليلة من أيلول. وفي هذا اليوم تفتح الخلجان للنّيل ببلاد مصر. واستخرجت هلاني الكنوز والأموال من بلاد مصر والشّام وذخائر الملوك فصرّفتها إلى بناء الكنائس وتشييد دين النصرانية، فكلّ كنيسة بالشام ومصر وبلاد الروم فمن بنائها، وهي الّتي بنت كنيسة حمص تحملها أربعة أركان، وهي من عجائب العالم. وليس للروم (في حروفهم هاء) «4» وأحرف هلاني خمسة، فالأوّل الهاء، وهي بحساب الجمّل خمسة، وهو إلى آخره مائة. 497 ولسبع عشرة سنة خلت من ملك قسطنطين اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا وأقاموا دين النصرانية، وهذا أوّل الاجتماعات الستّة الّتي تذكرها الروم وهو أعظمها.

498 وكان أوّل دخول قسطنطين في النصرانية لرؤيا رآها، وذلك أنّ ملك برجان كان مظفّرا عليه، فرأى في منامه أنّه يرفع الصلبان عليه في رماحه «1» فيظفر به، ففعل ذلك وصحّت رؤياه. وقيل إنّه إنّما تنصّر لأنّه كان ظهر به جذام فأبرأه أسقف رومة بالدّعاء دون دواء بعد أن أعياه علاجه. فلم يقدر أن يظهر النصرانية برومة، فبنى القسطنطينية على حسب ما بيّناه في كتاب الممالك. 499 وفي زمان قسطنطين هذا كان أريش الخارجي، وفي زمانه كان اجتماع الأساقفة على لعن أريش. وملك نيّفا وثلاثين سنة، وقيل خمسا وعشرين سنة. 500 وملك بعد قسطنطين الأكبر لليانش، فرجع إلى عبادة الأوثان وكان يريد الاحتيال في قطع دين النصرانية إلّا أنّه كان لا يجاهر بذلك لأنّ أمرها كان قد قوي، وأمر بإخراج أهل دين النصرانية من الديوان. وغزا بلاد الفرس في ملك سابور بن أردشير، وجعل لأوثانه نذرا إن جاء ظافرا أن يقتل النصارى، وأتاه سهم غرب فذبحه. 501 ثمّ رجع أمرهم إلى النصرانية والملك منهم في هذا البيت. ثمّ ملك بعد لليانش بنتنيان، وفي زمانه قدمت القوط على أنفسهم أدريمز أخاه

فاستمرّ قيصر لسنين (؟) ورغب في طاعته فأيّده حتّى ظفر بأخيه، فرغب حين ذلك في دين النصرانية، فبعث إليه قيصر قوما يعلّمونه النصرانية على نارحة أريش، وهو كان مذهب بنتنيان. ثمّ ظهرت أنقلش إثر ذلك على القوط وضيّقوا عليهم حتّى أخرجوهم من بلدهم، فاستغاثوا قيصر، فتوسّع لهم في بلد طراخية فسكنوه على الطوع منهم. فلمّا أفرط عمّال قيصر عليهم باللوازم أشهروا نفاقهم، فغزاهم قيصر فقتلوه. وكانت ولايته ... 502 ثمّ ملك بعده قيصر طدوش الأندلسي، وكان من أهل الفضل والتقى، فنصّره الله وأعانه على الرومانيّين بالريح، فهزم في قليل من أصحابه عددا عظيما منهم. ففي ذلك قال شاعرهم: من ذا يحاربه ... والرّيح تنصره هكذا ذكروا في كتبهم، وغزا القوط فقتلهم، قتل منهم عددا كثيرا، وضيّق على الرومانيّين حتّى أتاه اللّذريق ملكهم خاضعا نازعا عمّا كان عليه، فقبل خضوعه فتوسّع لهم وانصرف عن حربهم. ومات طدوش بقسطنطينية إلى ستّة عشر يوما من وصوله إليها، وكانت مملكة طدوش أحد عشر عاما. وبعد عشرين عاما غلب أدريق على رومة، وهي بعد ثغر من ثغور قيصر، وانتهبها ثلاثة أيّام ثمّ خرج عنها. 503 وقلّد في مملكته قيصر أنورش وعليه طدوش الأصغر، وهو الّذي ملك بعد أنورش على أنطاكية، فخرج عنها أدريق إلى غالش.

504 وأوّل من ملك من القوط بالأندلس حدريفش وكانت داره ماردة، فحشد القوط من أخبرهم بماردة وأقبل لمحاربة «1» قرطبة، فلمّا التحمت الحرب قتل ولده وذهب أكثر رجاله. ثمّ ملك القوط بعده ركديد وكانت داره طليطلة. وركديد هو الّذي رجع عن خارجية القوط إلى جماعة النصرانية. 505 قال المؤرّخون من العلماء: لم يزل الأمر في أهل بيت قسطنطين بن هلانى إلى أن ولي أمرهم بندقسوس، ويقال بنداسيس الأكبر، ولم يكن من أهل بيت المملكة. وفي زمانه استيقظ أهل الكهف، وكان من الأشبان. وقال الواقدي وابن خرداذبه: هم ناقلة من إصبهان. ومن هؤلاء اللّذارقة ملوك الأندلس، وكان الملك منهم يترساسيس الأصغر. 506 وفي زمانه افترقت مذاهب النصارى، فتفرّق النصارى النسطورية على مذهب نسطارس، وهم المشارقة «2» من النصارى، وهو الّذي تكلّم في اتّحاد اللاهوت القديم بالناسوت المحدث، واليعاقبة بمصر وأنطاكية والشّام وتكريت، والملكية وهم بقسطنطينية والروم. ويعقوب كان من أهل أنطاكية برذعي يصنع البراذع.

507 ثمّ اختلفت ملوكهم في اعتقاد هذه المذاهب بعد ذلك، ولم يزالوا يتوارثون الملك إلى أن أفضى الملك إلى هرقل. ولسبع سنين من ملكه كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الّذي ضرب الدنانير الهرقليّة وإليه انتهت «1» الهرقلية. وملك خمس عشرة سنة، وهو هرقل بن يوسطين «2» وكان أبوه ملكا أيضا. وفي كتاب السّير أيضا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر وملك الروم قيصر بن فوق. وبقي هرقل حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثمّ ملك بعده موريق، وقيل إنّ هرقل بقي الى آخر أيّام عمر على ما ذكرناه، وقيل إنّه هرقل آخر. ولا شكّ أنّ المملكة كانت في هرقل إذا استفتحت الشّام هذا أو غيره، فبقي إلى أيّام عمر، فكان موريق زمان عثمان رضه. 508 ثمّ ملك بعده ابنه جبرون بن وافاوى إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. فلمّا كان من أمر مسلمة ما كان اضطربت مملكة الروم وانحرفت ووليّهم من غير أهل بيت المملكة، ولم تزل كذلك إلى أن وليهم قسطنطين بن أليون، وهو من ملوكهم الأخيرة المختلف في نسبهم، وذلك أيّام المنصور. ثمّ ابنه أليون أيّام المهدي والهادي، ثمّ قسطنطين بن أليون وأمّه كانت ملكة مشاركة له لصغره، وسملت عيناه فبقي ملكا بعض أيّام الرشيد. 509 ثمّ نقفور «3» بن استبراق باقي زمان الرشيد وغزاه، فكانت بينهما حروب

وانقاد له. ثمّ نقض وكتم [عن] الرشيد ذلك لعلّة كانت به. فلمّا استقلّ دخل شاعر عليه فقال [كامل] : نقض الّذي أعطاكه نقفور «1» ... وعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح أتاك به الإله كبير فلقد تباشرت الرّعيّة إذ أتى ... بالغدر عنه وافد وبشير فقال الرشيد: أوقد فعل «2» . فغزاه واستفتح في غزوته تلك هرقلة، وفي ذلك يقول أبو العتاهية [وافر] : ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفّق للصّواب أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وابشر بالغنيمة والإياب وانقاد نقفور «3» بعد ذلك، وكان استفتاح الرشيد لهرقلة سنة تسعين ومائة بعد حصار وقصّة طويلة. 510 قال أبو العبّاس: أخبرني شبل الترجمان قال: كنت مع الرشيد حين نزل على هرقلة، فلمّا افتتحها رأيت حجرا منصوبا مكتوبا عليه باليونانية، فجعلت أترجمه وأمير المؤمنين ينظر إليّ وأنا لا أعلم، فإذا تأريخه زائد على ألفي سنة من ذلك اليوم وهو: باسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليّها، ولا يحملك إفراط السرور على المأثم ولا تحمل على نفسك همّ يوم لم يأت، فإنّه إن يك من أجلك يأتي الله فيه برزقك، ولا تكن مغرورا بجمع المال، فكم قد رأينا جامعا لبعل خليلته ومقتّرا على نفسه توفيرا لغيره. وكانت للرشيد بعد هذا مع نقفور أخبار كثيرة.

511 ثمّ ملك بعده ابنه استبراق، ثمّ ابن ابنه نقفور إلى أن تغلّب على الملك قسطنطين بن فكنط» زمان المأمون. ثمّ توفيل زمان المعتصم، وهو الّذي فتح زبطرة «2» ، وفي مملكته فتح المعتصم عمّورية. وكان الملك في ذرّيته إلى أن تغلّب بسيل الصّقلي ولم يكن من أهل بيت المملكة، وذلك زمان المهتدي «3» والمعتمد. قال س: وبقي الأمر في ولده إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة «4» . وقال المؤلف لهذا الكتاب: كان آخرهم قسطنطين بن أليون بن لاوى بن بسيل. 512 وولّي بعده ابنه صغيرا، فغلب عليه رومانوس بطريق البحر وزوّجه ابنته، وبقي الروم كذلك أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمتّقي. فلمّا كانت سنة اثنتين وخمسين توفّي رومانوس المتغلّب على ملك الروم. وكان نقفور «5» الدمستق في حين موته غائبا بالجيوش التي أخرجه رومانوس بها، فتغلّب على أكثرها، ففي خروجه إلى القسطنطينية ملّكته الروم أمرهم، وتزوّج امرأة رومانوس، ولم يبلغ إلينا من أيّ بيت هو وكانت ولايته لسبع مضين من رجب من العام المذكور. 513 وفي شعبان تغلّبوا على طرسوس وما والاها، وأخليت ثغور الشام إلّا ممّن «6» رضي بالجزية أن يؤدّيها من المسلمين، وعمّرت طرطوس وما والاها

بالروم. فلمّا كانت سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة زحف ابن نوح صاحب خراسان بعساكر جرّارة إلى طرسوس وأوقع بالروم وهزمهم، وجاوز الدرب إلى أرض الشام إلى القسطنطينية، فلقي المشركين بجيوشهم وعليهم ابن الشمشكي بطريق نقفور، فمنح الله المسلمين النصر عليهم فلم ينج ابن الشمشكي إلّا وحده. ثمّ جيّش نقفور جيشا احتفل فيه لنصر ابن الشمشكي، وتوخّوا أن يلتقوا بالمسلمين يوم غمام لما رجوه من الظفر عليهم، فكان خلاف ما أملوه فصاروا من الضرب والطعن والمجالدة بالسيوف إلى المعانقة والمقابضة بالأيدي والتقابض بالشعور. فما حجز بينهم إلّا الليل وثبت المسلمون في مصافّهم وباتوا على ظهر دوابّهم وناجزوهم بجدّ وحدّ وعزم وحزم، فإذا الأرض قد غصّت بجيفتهم ولا أثر لمن بقي منهم ولا عين. قد تفرّقوا في جنح الليل، وافتتح ابن نوح قلاعا كثيرة ممّا كان تغلّب عليها الطاغية منها مرعش وبلولة وغيرهما. 514 وفي سنة ثمان وخمسين تغلّب العدوّ على أنطاكية وخيّر أهلها بين المقام على أداء الجزية أو الخروج إلى أرض الشّام، فرضي بالجزية خلق كثير. ولمّا جاء البشير إلى نقفور بذلك عاقبه وغمّه ذلك لأنّه كان يرى في علم الحدثان [أنّ] الّذي تفتح أنطاكية على يديه يهلك سريعا. فقتله الله سنة تسع وخمسين، فقتل في قصره وعلى سرير ملكه، عملت في قتله امرأته الّتي كانت قبله لرومانوس على يدي قائده ابن الشمشكي، فقتلوه ليلا. وكان سبب ذلك أنّ ابنها من رومانوس واسمه بسيل لمّا أدرك أراد نقفور أن يخصّيه ويلزمه الكنيسة العظمى لينفرد هو بالملك ويخرج عقب رومانوس منه، فلمّا علمت عزمه على ذلك سعت في قتله، فتمّ لها ذلك وولّي الأمر ابن الشمشكي ودانت له النصرانية. ثمّ ملك بعده بسيل بن رومانوس، وهو الملك الملقّب بالرحيم، فكان ملكه أربعا وأربعين سنة، وكان أكره الناس لإراقة الدّماء، وزعموا أنّه كان ممّن لا يرون إراقة دماء الحيوان ولا أكله.

515 ثمّ ملك بعده أخوه قسطنطين يسيرا، ثمّ رومانوس بن باسيلى أربع [سنين] ، ثمّ أخته بودرة ابنة باسيلى أربع عشرة سنة، ثمّ أختها دونة سبع سنين، ثمّ سالخونة إحدى عشرة سنة، ثمّ قيمانوس. ثمّ ذوقرش، وهو باق إلى اليوم وهو سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. 516 فصل: وكان صاحب صقلية وإفريقية قبل ظهور الإسلام يدعى جرجير «1» ، وصاحب الأندلس لذريق «2» ، وكانا من الأشبان، وأهل الأندلس يقولون إنّ لذريق كان من الجلالقة. 517 وأرض السودان من أرض الحبشة إلى آخر بلاد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي من أرض المغرب، وهي بلاد تلمسان وتاهرت. 518 وزعموا أنّ بلاد السودان مسيرة سبع سنين وأنّ أرض [مصر] كلّها جزء واحد من ستّين جزءا منها. ويتّصل بالسّوس الأقصى وبينه وبين السّوس الأدنى عشرون يوما رمال ومفاوز فيها المدينة المعروفة بمدينة النّحاس وقباب الرّصاص الّتي صار إليها موسى بن نصير في مدّة الوليد بن عبد الملك وما رأى

ذكر ممالك السودان

فيها من العجائب. وفيها قوم من الأشبان عمّروا تلك الديار. والوصول إليها ممتنع، بل لا سبيل إليها. والله أعلم. ذكر ممالك السودان 519 صار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتّى قطعوا نيل مصر، ثمّ افترقوا فصارت منهم طائفة إلى المشرق وطائفة إلى المغرب، فمن المشرق النوبة والبجاة والزّنج والحبشة، فمن المغرب الزّغاوة والمفافوا «1» ومركة «2» وكوكو وغانة «3» وغيرهم من أنواع الأحابيش والزنج، أصناف منهم مكير «4» وبربر، وهم غير البربر [الّذين في بلاد المغرب] «5» والمشكر «6» وغيرهم. وبحر السودان والزنج والأحابيش وغيرهم وهو عن يمين الهند. 520 وقطعت الزنج دون الأحابيش الخليج المنفصل من أعلى النّيل الّذي يصبّ إلى بحر الزنج، فسكنت في ذلك الصقع واتّصلت مساكنهم [إلى بلاد سفالة واتّخذها الزنج] «7» دار مملكة، وسمة ملكهم وفليمي، وهو ملك ملوك سائر الزنوج ومعناه ابن الربّ، تعالى الربّ عن قولهم علّوا كبيرا، ومعناه أنّه اختاره لملكهم والعدل فيهم، فمتى جار الملك عندهم أو حاد عن الحقّ قتلوه وحرموا عقبه الملك. ويزعمون أنّه إذا فعل ذلك ملك فقد بطل أن يكون ابن الربّ الّذي هو ملك السماء والأرض. ويركب وفليمي في ثلاثمائة

ألف فارس دوابّهم البقر، وليس في أرضهم خيل ولا بغال ولا حمير ولا إبل، ولا يعرفون شيئا منها. 521 والزنج أطيب الأمم أفواها لرطوبة أفواههم وكثرة الريق فيها، ومن دخل بلاد الزنج فلا بدّ له أن [يجرب] «1» . 522 ومن أرضهم يحمل الذبل من ظهور سلاحفهم، وفي بلادهم تكون الزّرافة وهي من الدوابّ الّتي تألف وتتودّد إليها، ومنها تحمل وتهدى إلى الملوك. وعندهم جلود النمور الحمر وهي لباسهم. وبلادهم أكثر بلاد الله فيلة، إلّا أنّها وحشية لا تنقاد ولا يستعملونها وهم يقتلونها بشجر يطرحونه في مشاربها يسكرها، فتقع ولا مفاصل لها، فيخرجون إليها بأعظم ما يكون من الحراب فيقتلونها لأخذ أنيابها. فمن أرضهم تجهّز أنياب الفيلة إلى الآفاق، وأكثر ما يجهّز به إلى بلاد عمان وإلى سائر البلدان، وأكثر ما يستعمل العاج بأرض الصين لأنّهم يتّخذون منه الأعمدة فبها يدخلون على ملوكهم، ولا يدخل «2» عليهم أحد من حشمهم وقوّادهم بحديد، ويستعملونه أيضا في دخن بيوت أصنامهم وأبخرة هياكلهم. وأهل الصين لا يتّخذون الفيلة في الحروب كاتّخاذ الهند ويتطيّرون بذلك لخبر كان لهم في قديم الزمان في بعض حروبهم. ويستعمل من أنيابها كثير البلاد- بلاد الهند- الشطرنج والنرد، وصور الشطرنج عندهم لا يصرفها اللّاعب بها إلا قائما لكبرها. ولاستعمال الفيلة في سائر مواضعها من الممالك لحاجتهم إليها لا يقتلونها قال: ولعب أهل

الهند بالنرد والشطرنج قمار، وإذا أنفذ ما مع اللّاعب لعب على قطع أعضاء جسمه إصبعا إصبعا حتّى ربّما أتى على الزند والذراع، ولهم دهن أحمر مركّب يغلى ويغمس فيه موضع القطع فيمسك الدم ويدمل لحينه ويعود صاحب القطع إلى لعبه ولا يكترث. ويعمّر الفيل بأرض الزنج نحوا من أربعمائة عام ولا ينتهي عمره في سائر مواضعه [إلى] هذا. وحدّثني غير واحد عن أبي ذرّ عن ابن أحمد بن محمود شختكين صاحب غزنه وما والاها من البلاد أنّه أصاب في تصيّده ... 523 ... أوسع مملكة من الآخر وأهله أصفى ألوانا وأحسن زيّا، وملوكهم يزعمون أنّهم من حمير، قاله المسعودي في أخبار مصر، وسمة ملوكهم ... وهم نصارى يعقوبيّة ويقرءون الإنجيل بلسان الروم الملكانيّة، وهم لا يطأون في الحيضة ويغتسلون من الجنابة، وملوكهم يتّخذون الخيل العتاق، (وركوب عوامّهم) «1» البراذين، ولهم النخل والكرم والذرّة والحنطة والموز والأترج عندهم كثير. وغربي بلادهم يسقيها النيل وهناك غياض كثيرة، وحوالي هذه معادن الذهب والفضّة. 524 وتسير من دنقلة في شعاب وجبال حتّى تنتهي إلى سوبة «2» وهي آخر بلادهم، وهي مدينة كبيرة على شاطئ النيل. والزّرافات في بلاد النوبة كثيرة ويتّخذون من جلودها للنعل يلبسونها فلا تكاد تنقطع إلّا في الدهر الطويل. وبين بلادهم وأسوان قردة صغار في مقدار الهرّة يسمّونها النسناس، والإبل

في بلادهم صغيرة الخلق قصيرة القوام، والنمر عندهم عظيمة الخلق بخلاف ما عهد منهم. وهم يتكاتبون في ورق الموز. وقيل إنّ في بلادهم نهر يسمّى نوبة وبه سمّوا. وقال الأكثرون إنّهم من ولد نوب بن قوطي بن مصر «1» بن نيصر بن حام. وجميع من سكن على النيل محارب للمسلمين إلّا القبط والنوبة. 525 وقال يزيد بن أبي حبيب إنّ النوبة ليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا ميثاق، وإنّما هو أمان لبعضهم من بعض على أن يؤدّوا كذا وكذا رأسا، وذكر بعض المصريّين أنّه قرأ في بعض الدّواوين بالفسطاط قبل أن تحرق عهودهم على ما يؤدّونه الآن. 526 وبدء اتّصال مملكتهم بأرض أسوان موضع يعرف بمريس، ولمّا افتتحت مصر أمر عمر أن تغزى النوبة، فوجدهم المسلمون يرمون الحدق، فذهبوا إلى المصالحة فأبى عمرو بن العاص من مصالحتهم حتّى صرف عن مصر ووليها عبد الله بن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، فقاتلوه «2» قتالا شديدا فأصيبت عين معاوية بن حديج وعين أبي شمر بن أبرهة وأعين جماعة من المسلمين، فحينئذ سمّوا رماة الحدق. وقال الشاعر: [رجز] : لم تر عيني مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدّروع مثقلة ومنهم تعلّم الرمي أهل الحجاز واليمن، فصالحهم عبد الله بن أبي سرح على رؤوس من السبي معلومة ممّا يسبيه هذا الملك المجاور للمسلمين من غيرها

من الممالك المجاورة له، وعدد ذلك ثلاثمائة وخمسة وستّون رأسا، وإنّما أرادوا عدد أيّام السنة، وهي جارية إلى الآن، وللأمير بمصر عدد ولعامله بأسوان عدد وللحاكم بها عدد يبلغ نحو الثمانين رأسا. 527 بلد أسوان أهله العرب من قحطان وربيعة ومضر وقريش ناقلة من الحجاز، وهو بلد خصيب كثير النخل، توضع النّواة في تربته فتنبت نخلة تثمر لسنتين تمرا، وبلاد البصرة وغيرها لا تغرس النخل فيها إلّا في الفسيل وما يخرج من النواة فليس يثمر. ولأهل أسوان في بلاد مريس من أرض النوبة ضياع كثيرة ابتاعوها منهم في زمن بني أميّة يؤدّون خراجها إلى ملك النوبة. 528 وقال مجاهد: كان لقمان عبدا أسود ذا مشافر. ومن النوبة النساء المعروفات بالمقوّرات لا يقدر أحد على افتضاض أبكارهنّ ولا مباشرتهنّ حتّى تفتق القوابل عن قبلهنّ بقدر ما يحتاج الوطء، وهنّ أطيب النساء خلوة، فإذا حملت المرأة منهنّ وقرب الوضع زادت القوابل (في شقّ) «1» ذلك المكان، فإذا وضعت عادت «2» تلك الزيادة بالأدوية حتّى تلتئم. أخبرني بذلك جماعة من الثقات عن جماعة من النساء المجاورات لمكّة، أنّهنّ رأين ذلك وشاهدنه. ومملكة الزغاوة تحاذي مملكة النوبة على ضفّة النيل الثانية. 529 وأمّا البجاة فإنّها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر وتشعّبوا فرقا وملّكوا عليهم ملوكا، وتتّصل سراياهم على النجب «3» ببلاد النوبة فيغيرون ويسبون،

وبين بلادهم وبين بلاد النوبة جبال منيعة جدّا. وقد كانت النوبة أشدّ منهم إلى أن ساكن البجاة جماعة من المسلمين لمعادن الذهب الّتي عندهم، واستوطنها خلق من العرب من ربيعة وتزوّجوا في البجاة، فاشتدّت شوكتهم بهم. وصاحب المعادن في وقتنا هذا من المسلمين أبو مروان بشر بن إسحاق من ربيعة يركب في ثلاثة آلاف فارس من ربيعة وأحلافها. وببلاد البجاة تتّصل معدن الزمرّد، وهو موضع يعرف بالخربة، مفاوز وجبال تحميه البجاة، وهو متّصل بالصّعيد الأعلى من أعلى مدينة قفط، وإنّ البجاة تؤدّي الخفارات من يرد لحفر الزمرّد، وبين موضع معدنه والنّيل أكثر من عشرين مرحلة. 530 وبين هذا الموضع والعمران مسيرة سبعة أيّام، وهي مدينة قفط، والخراب عليها أكثر «1» من العمارة، والجبل الّذي فيه هذه المعادن الّتي يوجد فيها الزمرّد متّصل بجبل المقطّم الّذي على مصر. ولا يعرف معدن الزمرّد سواه إلّا ببلاد البلّهرى من أرض الهند ولا يلحق بهذا، والهندي «2» يعرف بالمكّي لأنّه يحمل إلى عدن ويؤتى به مكّة، فاشتهر بهذا الاسم. والزمرّد الّذي يقلع من الخربة يتنوّع أربعة أنواع، فأعلاها الّذي يعرف بالمرّ، وهو كثير المائية تشبه خضرته بأخضر ما يكون من السلق لا يميل إلى شيء من السواد. واللّون الثّاني البحري، وهو في نوع ورق الآس، وإنّما غلب عليه هذا الاسم لأنّ ملوك البحر من الهند والسند والصين ترغب فيه. والنّوع الثّالث يعرف بالمغربي لأنّ ملوك الغرب من الإفرنجة والأندلس والجلالقة والبشكنش والصقالبة والرّوس يتنافسون فيه. والنّوع الرّابع يسمّى بالأصمّ، وهو أدناها وأقلّها ثمنا لقلّة مائه وخضرته ولكدرته. وأكثر حجارة الزمرّد الخالص (إذا رأته الحيّات) «3» سالت أحداقها، وإنّ الملسوع إذا سقي منه

وزن دانق أو دانقين أمن على نفسه. وقد كانت ملوك اليونانيّين أرباب الحكمة تفضّله على سائر الأحجار طرّا «1» وأهل العلم يقولون إنّ شعاعه النّوري وخضرته تقوى بزيادة القمر وامتلائه. 531 والبجاة جنس من الحبش، لهم قلاع كثيرة واسم مدينة ملكهم هجر، وهم أصحاب إبل ولهم حراب يحاربون بها على إبلهم، وهم عبدة أوثان، ولهم صنم من حجارة في صورة الصبي يسجدون له، وأحكامهم أحكام التوراة. ولم يكن للبجاة عهد ولا صلح، وأوّل من صالحهم عبيد الله بن الجبهات «2» ، ويزعم بعض الشيوخ أنّه قرأ في كتاب ابن الجبهات «3» فإذا فيه ثلاثمائة بكر كلّ عام حين ينزلون الرّيف مجتازين تجّارا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلما ولا ذميّا، وإن قتلوا فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين وأن يردّوا أبّاقهم. واسم بلاد البجاة بغلال، وأوّل ممالك البجاة من حدّ أسوان ومدينتهم يقال لها هجر. 532 وأمّا الحبشة فاسم دار مملكتهم كعبر وسمة ملكهم النّجاشي، وفيها كان الّذي آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم من ولد حبش بن كوشن بن حام، وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة تتّصل بالبحر الحبشي، ومن مدائنهم المشهورة مدينة تسمّى علوة. وساحل الحبشة مقابل لبلاد اليمن، وهم على شاطئ البحر الغربي وأقرب عرض البحر هناك ثلاثة أيّام، وهو على ساحل زبيد من أرض اليمن، ومن هذا المكان عبرت الحبشة البحر إلى اليمن في أيّام ذي نواس، وهو صاحب الأخدود.

533 وبين هذين الساحلين جزيرة العقل فيها ماء يعرف بماء العقل يستقي منها أهل المراكب ويفعل في القرائح فعلا عظيما، وذكرت الفلاسفة خواصّ هذا الماء وتأثيره. وقد غلب ابن زياد على هذه الجزيرة وله فيها رجال مرتّبون. وفي هذا البحر ممّا يلي بلاد عدن جزيرة سقطرة، وإليها يضاف الصّبر لا يوجد في غيرها، وقد كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر يوصيه بهذه الجزيرة، وأن يبعث إليها جماعة من اليونانيّين يسكنهم فيها لئلّا يغلبوا عليها في سائر الأعصر مراعاة للصّبر، ففعل الإسكندر ذلك فليس في الدّنيا- والله أعلم- موضع فيه قوم من اليونانيّين يحفظون أنسابهم، لم يداخلهم فيها رومي ولا غيره إلّا أهل هذه الجزيرة وهم نصارى. ولهذه الجزيرة أخبار عجيبة من خواصّ النبات. 534 وبلاد الحبشة واسعة جدّا، ويتجهّز إليهم التجّار بالأمتعة من مصر واليمن وما يجاورها من بلاد الزّيلع وباضع وسواكن ودهلك. وفي هذه المدائن والجزائر المسلمون والمساجد والحكّام، ومراكب صاحب زبيد وعلائقه من ساحل اليمن تختلف إلى ساحل الحبشة وإلى بلاد النوبة، وبينهم وبين الحبشة مهادنة، ومن بلاد الحبشة إلى بلاد النوبة مسيرة شهر. 535 وللحبشة حذق ومعرفة يتباينون بها من سائر قبائل السّودان، وهم أجمل السودان ولهم القناء والكحل والشعور المسترسلة، وليس فيهم من ذفر السودان شيء، وأكثرهم نصارى، وهم يكوون جباههم ومنهم من يكوي وجهه وعفنونه.

ذكر البربر

536 وفي أقاصي بلاد الحبشة قوم يمشون على أربع كالدوابّ، لا تطول أعمارهم. ومخاطبات الحبشة وجميع ما عندهم من الكتب في فنون العلم إنّما هو في ورق الموز. أخبرني من رأى تواريخها ممّا نفذ إلى بلاد الإسلام منها ما يدلّ على بقائها وقلّة تغيّرها. 537 وأمّا غير هؤلاء من الحبشة المقدّمين مثل الزّغاوة والكوكو وغيرهم فلهم ممالك هناك قد أتي على ذكرها في غير هذا الكتاب. ذكر البربر 538 وأمّا البربر فإنّ ديارهم كانت فلسطين من بلاد الشّام وكان ملكهم جالوت، وهذا الاسم سمة لسائر ملوكهم إلى أن قتل داود جالوت، فساروا إلى بلاد المغرب إلى موضع يعرف بالونية «1» ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية ممّا يشرب من ماء السّماء لا ينالها النيل، فانتشرت هناك فنزلت منهم زناتة ومغيلة وضريسة الجبال من تلك الديار، ونزلت لواتة أرض برقة وهي بالرومية أنطاليس «2» ، ونزلت هوارة بلاد أطرابلس المغرب وهي مدينة إياس، ونزلت نفوسة مدينة صبرة. وكانت هذه الديار للإفرنجة فاحتلّتها البربر عنها إلى جزائر صقلّية وغيرها، وتفرّقت البرابر في بلاد إفريقية وطنجة إلى أقاصي بلاد المغرب، وانتهت إلى موضع يعرف بقبوسة على أكثر من ألفي ميل

من بلاد القيروان. ثمّ تراجعت الإفرنج إلى مدنهم وعمائرهم على موادعة وصلح من البربر، واختارت البربر سكنى «1» الجبال والأودية والرمال وأطراف البراري والقفار وصارت المدائن رومية حتّى افتتحها المسلمون. 539 والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمّة: هوّارة وزناتة وضريسة ونفزة وكتامة ولواتة وغمارة ومصمودة ومزاتة وصدينة ويصدريان «2» وورتجن «3» وصنهاجة ومجكسة وواكلان وغيرهم. 540 وقد [اختلف] في نسبهم، فزعم بعضهم أنّهم من ولد كنعان بن حام، وقيل إنّهم أوزاع من اليمن تفرّقوا عندما كان من سيل العرم ما كان، وقيل إنّ أبرهة ذا المنار خلّفهم بالمغرب، ومنهم من رأى أنّهم من قيس عيلان، والله أعلم بحقيقة ذلك. قال الكندي إنّهم من ولد بربر بن قيس بن عيلان، وقال قوم إنّهم من ولد نيصر، وقال آخرون من ولد نبيط (بن حام، فلمّا نزل إخوتهم بمصر خرج بربر بن نبيط) «4» إلى ناحية المغرب فسكنوا ما وراء عمل مصر، وهو ما وراء برقة إلى البحر الأخضر إلى منقطع الرمل متّصلين بالسّودان. وقال آخرون إنّهم من ولد لخم وجذام، وكانت منازلهم فلسطين فأخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلمّا وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل وانتشروا في البلاد.

ذكر الواحات

ذكر الواحات 541 وبلاد الواحات بين مصر والإسكندرية وصعيد مصر وأرض الأحابيش «1» من النوبة وغيرهم، وصاحبها سنة ثلاثمائة واثنتين وثلاثين رجل اسمه عبد الملك بن مروان، رجل من لواتة مرواني المذهب، ويركب في ألوف من النّاس خيلا ونجبا، وبينه وبين عمائر الحبش ستّة أيّام. وهو بلد قائم بنفسه غير متّصل بغيره ولا مفتقر إلى سواه، وهذه الأرض أرض خصبة راخية ولها عيون حامضة الطعم تستعمل كما يستعمل الخلّ، وعيون مختلفة الطعوم: المرّ والقابض والحرّيف والملح، ولكلّ نوع منها منفعة وخاصّية. ذكر الصقالب 542 الصقالب من ولد ماذاي «2» بن يافث، ومساكنهم من الشّمال إلى أن تتّصل بالمغرب. وقال إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي: بلاد الصقالب متّصلة من البحر الشّامي إلى البحر المحيط إلى الشمال، فتغلّب قبائل الجوف على بعضها وسكنوا حتّى الآن فيما بينهم، وهم أجناس كثيرة مختلفة. وقد كانوا فيما سلف يجمعهم ملك سمته ماخا، وكان من جنس منهم يدعى وليتابا «3» وهذا الجنس معظّم فيهم، ثمّ اختلفت كلمتهم فزال نظامهم وتحزّبت أجناسهم وملّك كلّ جنس منهم ملك. وملوكهم الآن أربعة: ملك البلغارين «4»

وبويصلاو ملك فراغة وبويمة وكراكو «1» ، ومشقه ملك الجوف، وناقون في آخر المغرب. 543 وجاور بلد ناقون في المغرب سكسن «2» وبعض مرمان، وبلده رخيص الأسعار كثير الخيل ومنها يخرج إلى غيرها، ولهم سلاح شاكّ من الدروع والبيضات والسيوف. 544 فمن برغ «3» إلى ما يليه عشرة أميال، ثمّ إلى الجسر خمسون ميلا، وهو جسر من خشب في طوله ميل، ومن الجسر إلى حصن ناقون نحو أربعين ميلا، ويسمّى غراد «4» وترجمته الحصن الكبير، وفي قبل غراد حصن مبني في بحيرة عذبة الماء. وكذلك تبني الصقالبة أكثر حصونهم، تعمد إلى المروج الكثيرة المياه والآجام، فتخطّ فيه خطّا مستديرا أو مربّعا قدر ما تريد من شكل الحصن وسعة ساحته، وتحفر حواليه وتردم بالتراب المحفور، وقد أوثق بالألواح والخشب على مثال الطوابي حتّى يبلغ السور إلى الغاية الّتي تريد وتذرع له بابا من أيّ شقّ شاء، وتختلف إليه على جسر من خشب. ومن حصن غراد إلى البحر المحيط أحد عشر ميلا، ولا تنفذ العساكر في بلاد ناقون إلّا بالجهد الشّديد، لأنّ بلده كلّه متمرّج وآجام وحمأة.

545 وأمّا بلد بويصلاو فطوله «1» من مدينة فراغة إلى مدينة كراكو مسيرة ثلاث جمعات، وهو مجاور في الطول لبلاد الأتراك. ومدينة فراغة مبنية على [نهر هناك] «2» بالحجر والجير، وهي أكثر البلاد متاجر تأتيها من مدينة كراكو الروس والصقالبة بالمتاجر «3» ، ويأتيهم من بلاد الأتراك والإسلام اليهود والترك بالمتاجر أيضا والمثاقيل «4» المرقّطية، فيحملون من عندهم الرقيق والقزدير وضروب الأوبار «5» . وبلادهم أطيب بلاد أهل الجوف وأزكاها معيشة يباع القمح عندهم بقنشار ما يكتفي «6» به المرء أشهرا، ويباع عندهم الشعير بقنشار علف أربعين ليلة لدابّة، ويباع عندهم عشر دجاجات بقنشار. وبمدينة فراغة تصنع السّروج واللّجم والدرق المستعملة «7» والمتّخذة في بلادهم. 546 وتصنع في بلاد بويمة «8» منيدلات خفاف مهلّلة النسج على هيئة الشبكة لا تصلح لشيء، وثمنها عندهم في كلّ زمان عشرة مناديل بقنشار بها يتبايعون ويتعاملون يملكون منها الأوعية، وهي عندهم مال وأثمن الأشياء يبتاع بها: الحنطة والرقيق والخيل والذهب والفضّة وجميع الأشياء. ومن العجيب أنّ أهل بويمة سمر سود الشعور، والشقرة فيهم قليلة.

547 والطريق من ماذي برغ «1» إلى بلاد بويصلاو: منه إلى حصن قليوى عشرة أميال، ومنه إلى نوب غراد «2» ميلان، وهو حصن مبني بالحجارة والصاروج وهو على نهر صلاوة، وفيه يقع نهر بوده «3» ، ومن حصن نوب غراد إلى ملّاحة اليهود، وهي على نهر صلاوة أيضا، ثلاثون ميلا، ومنها إلى حصن بورجين «4» ، وهو على نهر ملداوة «5» ، ومنه إلى طرف الشعراء خمسة وعشرون ميلا، ومن أوّلها إلى آخرها أربعون ميلا في جبال وأوعار، ومنها [إلى] جسر من خشب على حمأة نحو الميلين، ومن آخر الشعراء يدخل مدينة فراغة. 548 فأمّا بلد مشقه فهو أوسع بلادهم، وهو كثير الطعام واللحم والعسل والحرث وجبايته المثاقيل المرقّطية، وهي أرزاق رجاله في كلّ شهر لكلّ «6» واحد عدد معروف منها، وله ثلاثة آلاف دارع «7» ، وهم أنجاد «8» تعدل المائة منهم عشر مائة من غيرهم، ويعطي الرجال الملابس والخيل والسلاح وجميع ما يحتاجون إليه، وإذا ولد لأحدهم ولد أمر بإجراء الرزق عليه ساعة يولد، ذكرا كان أو أنثى، فإذا بلغ إن كان ذكرا زوّجه ودفع عنه النحلة [إلى] والد الجارية، وإن كانت أنثى أنكحها ودفع النحلة إلى أبيها. والنحلة عند الصقالب عظيمة ومذهبهم فيها كمذهب البربر، وإذا ولد للمرء ابنتان أو ثلاث فهنّ سبب غنائه، وإن ولد له ولدان فهو سبب فقره.

549 ويجاور مشقه في الشرق الروس وفي الجوف بروس، وسكنى بروس على البحر المحيط ولهم لسان على حدّة لا يعرفون ألسنة المجاورين لهم، وهم مشهورون في شجاعتهم، إذا أتاهم جيش لا يتوارى أحدهم حتّى يلحق به صاحبه، إنّما يخرج لا يلوي على أحد فيضرب بسيفه حتّى يموت. ويعبر عليهم الروس في المراكب من المغرب. 550 وفي المغرب من الروس مدينة النساء ولها بسائط ومماليك، وهنّ يحملن من عبيدهنّ، فإذا وضعت المرأة ذكرا قتلته. ويركبن الخيل ويباشرن الحرب، ولهنّ بأس وبسالة. قال إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي: وخبر هذه المدينة حقّ، أخبرني بذلك هوته ملك الروم. 551 وفي الغرب من هذه المدينة قبيلة من الصقالبة يقال لها أمّة أوبابه، وهي في غياض من بلاد مشقه ممّا يلي المغرب وبعض الجوف، ولهم مدينة عظيمة على البحر المحيط، لها اثنا عشر بابا ولها مرسى، وهم يستعملون له شطورا حرلا «1» وهم يحاربون مشقه وشوكتهم شديدة، وليس لهم ملك ولا ينقادون لأحد، وإنّما الحكّام فيهم أشياخهم. 552 فأمّا ملك البلقارين فقال إبراهيم بن يعقوب: لم أدخل بلده ولكنّي رأيت رسله بمدينة ماذي برغ حين وفدوا على هوته الملك، يلبسون ملابس ضيّقة

ويتمنطقون بأحزمة طوال قد ركّب عليها ترامس الذهب والفضّة، وملكهم عظيم القدر يضع على رأسه التاج وله الكتّاب والأزمّة وأصحاب الخطط وأمر ونهي على نظم وترتيب كالمعهود للملوك الأكابر، ولهم معرفة بالألسن ويترجمون الإنجيل باللسان الصقلبي «1» وهم نصارى. 553 قال إبراهيم بن يعقوب: وإنّما تنصّر [ملك] البلقارين [لمّا أغار] على بلاد الروم حين حاصر مدينة القسطنطينية حتّى داراه ملكها وأرضاه بجزيل العطاء «2» ، وكان ممّا استرضاه به أن زوّجه ابنته فحملته على التنصّر. قال المؤلّف: فيدلّ قول إبراهيم أنّ تنصّره كان بعد ثلاثمائة من الهجرة، وقال غيره: إنّما تنصّر منهم من تنصّر على عهد بسيليوس «3» الملك، وبقوا على نصرانيتهم إلى اليوم. 554 قال إبراهيم: والقسطنطينية من بلقارين في القبلة وتجاورهم أيضا في الشرق والجوف البجاناكية «4» ، وفي الغرب منها بحيرة بناجية، وهو خليج يخرج من البحر الشّامي بين الأرض الكبيرة والقسطنطينية، فيحيط بالأرض الكبيرة سواحل رومة وسواحل لنقبردية «5» وينقطع بالفرلانة «6» ، فتصير هذه المواضع كلّها جزيرة واحدة قد أحاط بها البحر الشامي من القبلة، وذراع بناجية «7» من جهة المشرق والجوف وبقي منها فتح من جهة الغرب.

555 ويسكن حافّتي «1» هذا الخليج من مخرجه في المشرق «2» من البحر الشامي الصقالبة، ففي الشرق منهم البلقارين وفي الغرب غيرهم من الصقالبة، وهؤلاء الّذين يسكنون في الغرب منه أشدّ بأسا، وأهل تلك الناحية يستأمنونهم ويتّقون شدّتهم، وبلادهم جبال شامخة وعرة المسالك. 556 وبالجملة فإنّ الصقالبة ذوو صولة وبطش، ولولا اختلافهم بكثرة تفرّع أعراقهم «3» وتفرّق أفخاذهم ما قامت لهم في الشدّة أمّة من الأمم. وسكنوا من البلدان أجزلها ريعا «4» وأكثرها أقواتا وهم يجتهدون في الفلاحة وطلب الأرزاق ويفوقون «5» في ذلك جميع أمم الجوف، وتختلف بتجارتهم في البرّ والبحر إلى الروس والقسطنطينية. وجلّ قبائل الجوف يتكلّمون بالصقلبّية لاختلاطهم بهم منهم قبائل الطدشكين والأنقليّين والبجاناكية والروس والخزر. 557 وليس يكون الجوع في بلدان الجوف كلّها من القحط وتوالي الجدب، إنّما يكون من كثرة الغيث وتوالي الجمّة، ولا يكون المحل عندهم مهلكا لأنّه لا يتّقيه من أصابه «6» لرطوبة بلادهم وشدّة بردها. وهم يزرعون في فصلين من العام في القيظ والربيع ويرفعون رفعين، وأكثر زرعهم الدّخن.

558 والبرد فيهم سليم وإن تفاقم والحرّ مهلك، وهم لا يقدمون «1» على السفر إلى بلاد لنقبردية «2» لحرّها لأنّ الحرّ يطغى عندهم فيهلكون، والسّلامة عندهم إنّما تكون فيما يكون فيه المزاج جامدا، فإذا انذاب وفار ذوى الجسد، جاءه «3» الموت من قبل ذلك. وتعمّهم علّتان لا يكاد أحدهم يسلم من إحداهما «4» وهما ريحان: الحمرة والنواصير. 559 وهم يجتنبون أكل الفراريج فإنّها تصرعهم بزعمهم وتقوّي عليهم ريح الحمرة، ويأكلون لحم البقر والإوزّ فيلائمهم. وهم يلبسون الثّياب الواسعة إلّا أنّ أردان أكمامهم ضيّقة. ويحجب ملوكهم نساءهم ولهنّ غيرة شديدة عليهم، ويكون للرجل منهم عشرون زوجة فصاعدا. وأكثر أشجار شعابهم «5» التفاح والإجاص والفرشك. وفيها طائر غريب تعلوه خضرة يحكي كلّ ما يسمعه من أصوات الناس والدوابّ وقد يوجد ... فيصيدونه ويسمّى بالصقلبية شبك «6» . وفيها دجاج برّية تسمّى أيضا بالصقلبية تترا، وهي طيّبة اللحم وتسمع أصواتها من أعالي الشجر على فرسخ، وأكثرها «7» صنفان: سوداء «8» وموشّاة أجمل من الطواويس.

560 ولهم ضروب من المزاهر والمزامير، ولهم مزمار طوله أكثر من ذراعين، وعودهم «1» عليه من الأوتار ثمانية أوتار، وباطنه مسطّح لا مقبّب «2» . وأشربتهم وأنبذتهم العسل. 561 قال س: والصقالبة أجناس كثيرة فمن أجناسهم أصطترانة «3» ودولابة «4» ونامجين، وهذا الجنس أشجعهم وأفرسهم، وجنس يقال له سربين «5» وهو عندهم مهيب، وجنس يقال له مراوة «6» وخرواتين «7» وصاصين وحشيابين. ومن هذه الأجناس من هو ينقاد إلى دين النصرانيّة على مذهب اليعقوبيّة منهم، ومنهم من لا كتاب له ولا ينقاد إلى شريعة وهم جاهلية، وجنس الملك من هؤلاء. والجنس الّذي ذكرنا أنّه يدعى سربين يحرقون أنفسهم بالنّار إذا مات رئيسهم ويحرقون دوابّهم، ولهم أفعال مثل أفعال الهند، وهم يتّصلون بالشرق ويبعدون من الغرب. وهم يطربون ويفرحون عند حرق الميّت ويزعمون أنّ سرورهم وأطرابهم لرحمة ربّه إيّاه. 562 ونساء الميّت يقطعن أيديهنّ ووجوههنّ بالسّكاكين، وإذا زعمت واحدة منهنّ أنّها محبّة له علّقت حبلا وارتقت إليه على كرسي، فتشتدّ به في عنقها، ثمّ يجذب الكرسي من تحتها فتبقى مقامة تضطرب حتّى تموت، ثمّ تحرق وتلحق بزوجها.

563 ونساؤهم إذا نكحن لم يفجرن إلّا أنّ البكر إذا أحبّت رجلا صارت إليه وأقامت عنده شهوتها، فإذا تزوّجها الزّوج فوجدها عذراء قال لها: لو كان فيك خير لرغب فيك الرّجال ولاخترت لنفسك من يأخذ عذرتك، فيرسلها ويبرأ منها. 564 وبلاد الصّقالبة أشدّ البلاد «1» بردا، وأقوى ما يكون ذلك عندهم إذا أقمرت الليالي وأصحت الأيّام، فحينئذ يشتدّ البرد ويقوى الجمد «2» فتتحجّر الأرض فتجمد «3» الأشربة كلّها وتعرمدت (؟) البئر والفيض «4» حتّى تأتي كالحجارة، وإذا استتر النّاس على لحاهم صفائح الجمد تكون كالزجاج فيعسر «5» تكسّره حتّى يصطلي أو يدخل كنّا. وإذا كان الليل مظلما والنهار مغيّما فحينئذ ينجلي الضريب ويفتر البرد، وفي هذا الوقت تنكسر السّفن ويهلك من فيها لأنّه يواجهها من جليد أنهار هذه البلاد قطع كالجبال الرواسي، وربّما ظفر من تلك القطعة الشابّ والجلد من الرجال فيسلم عليها. 565 وليس لهم حمّامات، وإنّما يتّخذون بيوتا من خشب ويسدّ خصاصه بشيء يتكوّن على أشجارهم يشبه الطحلب يسمّونه عجّ «6» ، وهو مقام الزفت لسفنهم «7» ويبنون كانونا من حجارة في إحدى زواياه «8» ويفتحون في أعلاه زوزنة تلقاءه لخروج دخانه، فإذا سخن سدّوا تلك الزوزنة وأغلقوا باب البيت، وفيه غاصب «9» الماء وصبّوا من ذلك الماء على الكانون المحتمي

ذكر الإفرنجة

وترتفع أبخرته. ويكون بيد كلّ واحد منهم ضغث من حشيش يحرّك به الهواء ويجذبه إلى نفسه، فتنفتح مسامّهم ويخرج فضول أجسامهم فتجري منهم السيول. ولا يكون على أحدهم أثر جرب ولا قرح، وهم يسمّون هذا البيت الأطبا. 566 وملوكهم يسافرون بالعجل العظام العالية الجارية على أربعة أفلاك وقوائم، في زواياها أربعة أعمدة وثيقة، وعلّق منها هودج بسلاسل حصينة وكسي بالديباج، فلا يتقلقل الجالس فيه تقلقل العجلة، يعدّونه للمرضى والجرحى. والصقالبة تحارب الروم والإفرنج والنوكبرد وغيرهم من الأمم، والحرب بينهم سجال. ذكر الإفرنجة 567 الإفرنجة من ولد يافث هم والجلالقة والصقالبة والنّوكبرد والأشبان والترك والخزر وبرجان واللّان وياجوج وماجوج. والإفرنجة تدين بدين النصرانية برأي الملكية منهم، ودار مملكتهم الآن بريزة «1» ، وهي مدينة عظيمة، ولهم من المدائن نحو من خمسين ومائة مدينة. وقد كانت مملكتهم قبل ظهور الإسلام بإفريقية وجزيرة صقلّية وجزيرة إقريطش، وهي للمسلمين الآن. وأوّل ملوكهم قلوديه، وهو أوّل من تنصّر، وكان مجوسيا نصّرته امرأته واسمها غرطلد «2» . وملكهم الآن سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة لذويق «3» بن قارله «4» ، وهذان اسمان يتكرّران في ملوكهم.

ذكر الجلالقة

ذكر الجلالقة 568 وهم حرب للإفرنجة إلّا أنّ الجلالقة أشدّ منهم بأسا وهم أشدّ على الأندلس من جميع الأمم. ورأيهم رأي الملكية أيضا، ومن ملوكهم ألفونش ثمّ أردون «1» ثمّ ردمير الّذي كان زمن عبد الرحمن بن محمّد. 569 ولمّا قتل عبد الرحمن وزيره أحمد بن إسحاق- وهو من ولد أبيه- «2» لأمر استحقّ عليه بالشريعة القتل عصى أخوه أميّة بن إسحاق بن محمّد بن عبد الرحمن، وكان صاحب شنترين، وصار في حيّز ردمير يدلّه «3» على عورات المسلمين. فخرج أميّة متصيّدا، فغلب على المدينة بعض غلمانه ومنعه من الدخول، وكاتب عبد الرحمن ولحق أميّة بردمير واستوزره ورفعه. وغزا عبد الرحمن بعض سمّورة دار مملكة الجلالقة، وسنذكرهما مع الأمصار إن شاء الله. وكان عبد الرحمن في مائة ألف وأزيد، فكان التقاؤه مع ردمير في شوال سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الكسوف الّذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيّام، فكانت للمسلمين عليهم، ثمّ ثابوا بعد أن حوصروا، فقتلوا من المسلمين نحو خمسين ألفا. وقيل إنّ الّذي منع ردمير من طلب من نجا من المسلمين أميّة وحذّره الكمين ورغبه في انتهاب ما في العسكر من العدد والأموال والخزائن، ولولا ذلك لأتى على المسلمين.

ذكر النوكبرد

570 ثمّ إنّ أميّة استأمن عبد الرحمن [بعد ذلك وتخلّص من ردمير، فتقبّله عبد الرحمن] «1» . أحسن قبول. وقد كانت لعبد الرحمن بعد هذه النوبة وقائع كثيرة في الجلالقة قتل منهم فيها أضعاف [ما قتل من] «2» المسلمين، وهي للمسلمين عليهم إلى وقت التأريخ. وتليهم أمّة عظيمة يقال لها وشكنش. ذكر النّوكبرد «3» 571 بلادهم متّصلة بالمغرب، واسم ملوكهم في سائر الأعصار أداكيس «4» ، ومدينتهم العظمى ودار مملكتهم بنبنت «5» ويخرقها نهر عظيم يقال له سانيط، وهو أحد أنهار العالم الموصوفة بالكبر والعجائب. وكان ممّن جاورهم من المسلمين من بلاد (الأندلس والمغرب) «6» وغيرهم غلبوهم على مدن كثيرة مثل مدينة باري «7» [ومدينة طارنطو] «8» ومدينة سردانية «9» وغيرها من مدنهم الكبار، سكنها المسلمون مدّة من الزمان، ثمّ غلب النوكبرد عليها، فهي بأيديهم الآن. ولهم جزائر كثيرة، وهم ذوو بأس وشدّة.

[ذكر الأكراد]

[ذكر الأكراد] 572 فأمّا الكرد فقد تنازع الناس فيهم، فمنهم من رأى أنّهم من ربيعة، ومنهم من رأى أنّهم من مضر من ولد كرد بن مرد «1» بن صعصعة بن هوازن، انفردوا في قديم الزمان لوقائع كانت بينهم وبين غسّان وانضافوا إلى الجبال وجاوروا من هناك من الأعاجم فخالفوا عن لسانهم وصارت لغتهم أعجمية. ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود حين سلب ملكه ووقع الشيطان المعروف بالجسد على إمائه المنافقات، لأنّ الله عزّ وجلّ عصم منه المؤمنات. فلمّا ردّ الله عزّ وجلّ على سليمان ملكه أخرج الإماء الحوامل من الشيطان فقال: اكردوهنّ في الجبال. فوضعن هناك وتناسلوا، فذلك بدء الأكراد. ومنهم من رأى أنّ الضحّاك ذا الأفواه المقدّم ذكره كان يقتل كلّ يوم رجلين يطعم أدمغتهما للحيّتين اللّتين كانتا في كتفيه على ما تقدّم ذكره، فكان وزيره يذبح رجلا وكبشا كلّ يوم ويخلط أدمغتهما ويستحيي رجلا ويطرد من يخلص منهما إلى الجبال، فهم الأكراد. 573 ق: يزعم أنّ الأكراد فضل طعام بيوراسف لأنّه كان يذبح كلّ يوم إنسانين ويتّخذ من لحومهما طعامه، وكان وزيره يدعى أرمائيل، فكان يذبح واحدا ويستحيي واحدا يبعث به إلى جبال فارس، فتوالدوا هناك.

ذكر ملوك اليمن

574 س: ومن أجناس الأكراد: الشّوهجان «1» والماجردان والماذنجان والكيكان والبارسان «2» والمستاكان «3» وغيرهم، وهم بأرض الدينور وهمدان وبلاد آذربيجان وبلاد الشام وبأرض الموصل إلى جبل الجودي، وهؤلاء نصارى على رأي اليعقوبيّة. ومن الكرد خوارج على رأي البراءة عن عثمان وعلي رضي الله عنهما. 575 وموضع الكرد الّذي فيه أوّلهم ما بين أرض يهودا من أرض الشّام وما بين جزيرة العرب، وقد ذكره أبو نصر الجيهاني وغيره. ذكر ملوك اليمن 576 س: تنازع الناس في اليمن بما سمّي، فقيل لأنّه عن يمين الكعبة، والشّام لأنّه شمالها، والحجاز لأنّه حاجز بينهما، والعراق لمصبّ الأنهار إليه دجلة والفرات وغيرهما، مأخوذا من عراقي «4» الدّلو وعراقي «5» القربة. وقيل: سمّي اليمن ليمنه والشّام لشؤمه «6» ، وقيل سمّي شاما لشامات في أرضه بيض وسود، وذلك في التراب والبقاع، وهذا قول الكلبي. وقال الشرقي: سمّي بسام بن نوح لأنّه أوّل من نزله، فلمّا نزلته العرب تطيّرت «7» من أن تقول سام- والسام هو الموت- فقالت شام.

577 وقد اختلف الناس في أنساب اليمن، وهم يثبتون لا يختلفون أنّهم من قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. س: شالخ بن قينان «1» بن أرفخشد بن سام بن نوح على ما تقدّم. قال س: وهذا ينقله الباقي عن الماضي. وقد زعم هيثم أنّ قحطان هو جرهم وتأوّل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: ارموا يا بني إسماعيل أنّه نسبهم إليه من جهة الأمّهات وما نالهم من الولادات. والكلبي وشرقي بن قطامي يذهبان إلى أنّه قحطان بن الهميسع بن نبت، وهو نابت بن إسماعيل، وولد قحطان تأبى هذا. 578 س: وأوّل من ملك من ملوك اليمن سبأ بن يشجب، واسمه عبد شمس وسمّي سبأ لسبيه سبيا، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ هذا رجل هو أم امرأة أو مكان فقال: رجل ولد له عشرة فتشاءم أربعة: لخم وجذام [وعاملة] «2» وغسّان، وتيامن ستّة: حمير والأزد «3» ومذحج والأشعرون وكندة [وأنمار] «4» ، وهم بجيلة وخشعم. فملك سبأ أربعمائة وثمانين سنة، ثمّ ملك ولده حمير، وكان أشجع الناس وأجملهم، وهو أوّل من صنع التّاج من ملوك اليمن، وملك خمسين سنة. 579 ثمّ ملك بعده أخوه كهلان بن سبأ، ثمّ عاد الملك إلى ولد حمير فلم يزل فيهم.

580 فملك بعد كهلان الحارث الرائش بن [شداد، ثمّ ملك جبّار بن غالب بن يزيد بن كهلان، ثمّ ملك بعده الحارث بن] «1» مالك بن إفريقش بن صيفيّ بن يشجب، ثمّ توالت مملكتهم على ما ذكرنا إلى أن انتهت إلى ذي نواس. 581 فجازت إليه الحبشة بساحل زبيد من أرض الغمر وصاحبهم أرياط «2» عظيم من عظمائهم، وكان في عهد ملك الحبشة إليه: إذا دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها وخرّب ثلث بلادها وابعث بثلث نسائها. فلمّا تلاحق الحبشة قام أرياط في جنده خطيبا فقال: يا معشر الحبشة قد علمتم أنّكم لن ترجعوا إلى بلادكم أبدا، هذا البحر بين أيديكم، إن دخلتموه غرقتم وإن سلكتم البرّ هلكتم، وليس لكم إلّا الصبر حتّى تموتوا أو تظفروا بعدوّكم. فجمع ذو نواس جمعا كثيرا ثمّ صار إليه فاقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة للحبشة فظفر أرياط فقتل أصحاب ذي نواس وانهزم في كلّ وجه. فلمّا خشي ذو نواس أن يؤسّر ركض فرسه في البحر، فكان آخر العهد به. 582 ودخل أرياط اليمن فقتل ثلث رجالها وبعث ثلث السبي إلى ملك الحبشة وخرّب ثلثها وهدّم حصونها، وكانت تلك الحصون بنتها الشياطين في عهد بلقيس، واسمها ملقة، وكان ممّا خرّب منها بينون «3» وغمدان وسلحين،

حصون لم ير مثلها. فقال الحميري أبياتا يذكر ما دخل على حمير من الذلّ [بسيط] : بدمعها لن تردّ العين ما فاتا ... لا تبكين أسفا في أثر من ماتا أبعد سلحين لا عين ولا أثر ... وبعد بينون يبني النّاس أبياتا وكان على الحبشة أرياط بن أضخم، فبقي والي اليمن عشرين سنة إلى أن وثب عليه أبرهة الأشرم أبو يكسوم، وهو من الحبشة، وكان له كالوزير. 583 قال أبو الفرج: فلمّا ظفر أرياط أخذ الأموال وأظهر العطايا في قومه أهل الشرف والغناء، فغضب له الحبشة من ترك أهل الفقر وأذلّهم وأجاعهم وأتعبهم في العمل وكلّفهم ما لا يطيقون، وشكا بعضهم إلى بعض. قال لهم عند ذلك أبرهة: لو أنّ رجلا غضب لكم لأسلمتموه حتّى يذبح كما تذبح الشاة. قالوا «1» : لا والمسيح ما كنّا لنسلمه أبدا. فواثقوه بالإنجيل لا يسلموه حتّى يموتوا عن آخرهم. فنادى مناديه فيهم فخرجوا معه بالسلاح الّتي كانوا يعملون بها ويهدمون [بها] «2» المدن «3» والمعاول والكرازين والمساحي، ثمّ صفّوا صفّا بالمعاول وصفّا آخر بالمساحي بإزائه. وأخبر أرياط بما صنع أبرهة، فركب في الملوك ومن يتبعه من أشياعهم، فلبسوا السلاح وجاؤوا بالفيلة حتّى إذا دنا بعضهم من بعض برز أبرهه فنادى بأعلى صوته: يا معشر الحبشة الله ربّنا والإنجيل كتابنا وعيسى نبيّنا والنجاشي ملكنا، علّام نقتل بعضنا بعضا؟ هذا رجل وأنا رجل، فخلّوا بيننا وبينه، فإن قتلني كان الملك وإن قتلته عملت فيكم بالإنصاف ما بقيت. فقال الملوك: قد أنصفك يا أرياط. وكان أرياط قد عرف بالشجاعة والنجدة

وكان جميلا، وكان أبرهة قصيرا ذميما منكر الفؤاد، فاستحيى أرياط من الملوك أن يجبن، فبرز بين الصفّين ومشى كلّ واحد منهما إلى صاحبه، فحمل أرياط على أبرهة فضربه ضربة وقع منها حاجبه وعامّة أنفه، فعمد أبرهة إلى عمامته فشدّ بها وجهه وسكن الدم، وأخذ عودا وجعله في فيه وقال: أيّها الملك أنا شاة فاصنع ما بدا لك فقد أبصرت أمري. ففرح أرياط، فلمّا رأى أبرهة أرياط قد انكسر عنه وهو ينظر يمينا وشمالا لأن تراه ملوك الحبشة شدّ عليه. وكان أبرهة قد أبطن فخذه خنجرا كأنّه [خافية نسر] «1» ، فطعنه طعنة من فرج الدرع أثبته فخرّ على قفاه، وقعد أبرهة على صدره فأجهز عليه. فسمّي أبرهة الأشرم من ذلك اليوم من تلك الضربة الّتي ضربت وجهه. 584 وملك اليمن أبرهة، فلمّا بلغ ذلك النجاشي حلف بالمسيح أن يجزّ ناصيته ويريق دمه ويطأ تربته، يعني أرض اليمن. فبلغ ذلك أبرهة فجزّ ناصيته وجعلها في حقّ وجعل من دمه في قارورة وجعل من تراب اليمن في جراب «2» وضمّ ذلك في هدايا كثيرة وألطاف جمّة، وكتب إليه يعترف بالعبودية ورغّب إليه أن يبرّ قسمه بما بعث إليه، فيجزّ ناصيته بيده ويريق دمه ويطأ تربته، فصفح عنه النجاشي. وكان ذلك في زمان قباذ ملك الفرس. 585 وسار أبرهة إلى مكّة لخراب الكعبة لأربعين سنة خلت من ملك أنو شروان وبعث معه ثقيف بأبي رغال ليدلّه على أسهل الطريق، فقتل أبو رغال في

طريقه ذلك في موضع يقال له المغمّس بين الطائف ومكّة، فلم يزل قبره يرجم إلى يوم القيامة. قال جرير [وافر] : إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال 586 وقد قيل في أبي رغال إنّ ثقيفا قتلته شنيعة، ولذلك سمّي قسيّا «1» ، وذلك أنّ صالحا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه مصدّقا، فأساء السيرة وحنف، ولذلك يقول [أميّة بن أبي الصلت الثقفي] «2» [وافر] : نفوا عن أرضهم عدنان طرّا ... وكانوا للقبائل قاهرينا وهم قتلوا الرّئيس أبا رغال ... بمكّة إذ يسوق بها الوضينا 587 س: وفي طريق العراق إلى مكّة بين الثعلبية «3» والهبير قبر ترجمه المارّة كما يرجم قبر أبي رغال، فيعرف بقبر العبادي وله حديث طويل. وكان قدوم أصحاب الفيل لسبع عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة ثمانمائة واثنتين وثلاثين للإسكندر. وأهلك الله أبرهة، فكان ملكه إلى أن رجع من الحرم- وسقطت أنامله وتقطّعت أوصاله- ثلاثا وعشرين «4» سنة. 588 ثمّ ملك ابنه مسروق بن أبرهة، فزاد على الناس في الأذى والمكروه. قال أبو الفرج: وأمّه ريحانة امرأة ذي يزن أمّ سيف بن ذي يزن. قال أبو الفرج:

ولمّا طال البلاء على أهل اليمن مشوا إلى سيف بن ذي يزن الحميري فقالوا له: نجد خبرا عن سطيح أنّ هذا البلاء يفرج على يدي رجل من أهل بيت ذي يزن، وقد رجونا أن ندرك بثأرنا. فأنعم لهم بالخروج، فخرج إلى قيصر ملك الروم وكلّمه أن ينصره على الحبشة، فأبى وقال: هم على ديني وأنتم على دين يهود. فخرج من عنده مؤيّسا من نصرته وسار إلى كسرى. فانتهى الى النعمان بن المنذر بالحيرة فدخل عليه فأخبره بما لقي قومه من الحبشة، فقال له: أقم فإنّ لي من كسرى أذنا في كلّ سنة، وقد حان ذلك. فخرج وأخرج معه سيف بن ذي يزن فأدخله على كسرى، فشكا إليه الحبشة فقال: غلبونا على بلادنا واستعبدنا السودان. فقال له كسرى: بلادك بعيدة ولا أرسل معك جيشا في غير منفعة، فأيأسه «1» من النصرة وأمر له بعشرة آلاف [درهم] «2» وكساه كساء. فلمّا خرج بها من باب كسرى نثرها بين العبيد والخدم، فبلغ ذلك كسرى فأمر بصرفه إليه وقال: ما حملك أن تصنع بجائزة الملك ما صنعت؟ فقال سيف: جبال أرضي «3» ذهب وفضّة، وإنّما جئت إلى الملك ليمنعني من الضيم ولم آته ليعطيني الدراهم، ولو أردت المال كان ذلك عندي كثيرا. فقال كسرى: أنظر في أمرك. 589 قال المسعودي: فتشاغل عنه. قال المؤلّف شغل عنه بحرب الروم وغيرها إلى أن هلك سيف، فأتى معدي كرب بن سيف يستنجز منه عدته لأبيه. هذا قول أبي الحسن المسعودي، والجمهور على خلافه من أنّ سيف بن ذي يزن هو الّذي أباد الحبشة وتملّك اليمن. قال: فوجّه معه كسرى وهرز الديلمي، وكان راميا شجاعا، مع ما كان في بلاده من أهل السجون، وقال: إن هلكوا فلنا وإن فتحوا فلنا. فحملوا في السفن في «4» دجلة ومعهم خيولهم

وعددهم، حتّى نزلوا أبلّة البصرة- ولا بصرة هناك ولا كوفة إذ ذاك لأنّهما إسلامية- فركبوا من هناك البحر إلى ساحل حضر موت فنزلوا موضعا يقال له مثوب «1» ، فأمر وهرز بتحريق السفن لئلّا يؤمّلوا المفرّ. وفي ذلك يقول رجل من حضر موت [رجز] : أصبح في مثوب ألف في الجنن «2» ... من رهط ساسان ورهط مهرسن «3» ليخرجوا «4» السّودان من أرض اليمن ... دلّهم قصد السّبيل ذو يزن 590 قال أبو الفرج: وقال وهرز لسيف: ما عندك فقد جئنا بلادك. فقال: ما شئت من قوس ورجل عربي، ثمّ أجعل رجلي مع رجلك حتّى نظفر جميعا أو نموت جميعا. فقال: أنصفت. 591 وجعل سيف يستجيش اليمامة ونمى خبرهم إلى مسروق بن أبرهة، فأتاهم بمائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن، فتصافّ الناس ومسروق على فيل عظيم، ثمّ نزل عنه إلى فرس استصغارا لهم، ثمّ نزل عنه وركب حمارا، فقال وهرز: ذهب ملكه تنقل من كبير إلى صغير. وكان بين عينيه ياقوتة حمراء معلّقة من تاجه تتّقد كالنار، فرماه وهرز ورمى القوم.

592 قال أبو الفرج: وتّر وهرز قوسه، وكان لا يوتّرها أحد غيره، (وأخذ النّشّابة وجعل فوقها في الوتر، ثمّ نزع فيها حتّى ملأها) «1» ، فظلّ السهم يهوي حتّى صكّ الياقوتة الّتي كانت معلّقة بين عيني مسروق فتغلغلت النّشّابة في رأسه حتّى خرجت من قفاه. 593 قال أبو الحسن: قال وهرز: قد رميته، فإن كان أصحابه يجتمعون إليه ولا يتفرّقون عنه فهو حيّ، وإن يجتمعون إليه ويتفرّقون عنه فهو ميّت. فقال: احملوا عليهم واصدقوهم القتال. ففعلوا فانكشفت الحبشة فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا. ورفع رأس مسروق ورؤوس «2» خواصّه على أطراف الرماح. وألبس وهرز معدي كرب تاجا بعثه معه أنو شروان، وكان أنو شروان قد شرط على معدي كرب تاجّا فبعثه إليه مع شروط منها أن يتزوّج فيهم الفرس ولا يتزوّج إليهن في الفرس. 594 قال أبو الفرج: فلمّا قتل مسروق أقبل وهرز يريد صنعاء، وكان التقاؤهم خارجها. وكان اسم صنعاء قبل الحبشة إيال «3» ، وكانت الحبشة لمّا بنتها وأحكمتها قالت العرب صنعة «4» ، فسمّيت صنعاء. فلمّا دنا وهرز من باب المدينة قال: لا تدخل «5» رايتي منكوسة أبدا، اهدموا الباب، ودخل

برايته قائمة فقال سيف: ذهب ملك حمير إلى آخر الدهر لا يرجع إليهم أبدا. 595 فكانت مدّة ملك الأحابيش باليمن اثنتين وسبعين سنة، وكان هذا الفتح لخمس وأربعين عاما من ملك أنو شروان. وفي نصر فارس اليمن على الحبشة يقول (بعض أولاد فارس) «1» [خفيف] : نحن خضنا البحار حتّى فككنا ... حميرا من بليّة السّودان فقتلنا مسروقا إذ تاه لمّا «2» ... إذ تداعت قبائل الحبشان وفلّقنا ياقوتة بين عينيه ... بنشّابة الفتى السّاساني 596 فأقبلت وفود العرب تهنّي معدي كرب فيهم عبد المطّلب بن هاشم وأميّة بن عبد شمس و [خويلد بن] «3» أسد بن عبد العزّى و [أبو زمعة جدّ أميّة بن] «4» أبي الصلت الثقفي، فدخلوا عليه وهو في أعلى قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء، وعن يمينه ويساره الملوك وأبناؤهم. فتكلّمت الخطباء، وكان أوّلهم عبد المطّلب، فأحسن فقال معدي كرب: من المتكلّم؟ فقيل: عبد المطّلب بن هاشم. فقال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه وقرّبه وقال: مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يعطى عطاء جزلا. ثمّ قال: قد سمعت مقالتكم وعرفت قرابتكم وقبلت وسيلتكم، فلكم الكرامة ما أقمتم والحبا إذا ظعنتم. ثمّ أنشده أبو الصلت،

وقيل أبو زمعة جدّ أميّة [بسيط] : ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... يلجّ «1» في البحر أحوالا وأحوالا «2» أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أمسى شريدهم في الأرض فلّالا فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك «3» محلالا 597 قال أبو الفرج: وإنّما قال أبو الصلت «اشرب هنيئا» لأنّه كان الى ألّا يشرب خمرا ولا يمسّ امرأة ولا طيبا حتّى يدرك ثأره من الحبشة. فجعلت له حلّتان واستعان فاتّزر بواحدة وارتدى بالأخرى وتطيّب وجلس على رأس غمدان يشرب وبرّت قسمته. وخرج بعد ذلك يتصيّد (فلقيته وقتلته) «4» الحبشة. ولمعدي كرب مع عبد المطّلب كلام كثير في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بشّر «5» به معدي كرب وخبّره عمّا يكون من أمره. 598 فكان ملك معدي كرب إلى أن قتلته الحبشة أربع سنين، وهو آخر من ملك اليمن من قحطان، فعدد ملوكهم [سبعة وثلاثون] «6» ملكا ومدّة ملكهم [ثلاثة آلاف سنة ومائة وتسعون] «7» سنة، وقيل أقلّ من ذلك. فلمّا قتل معدي كرب بعث أنو شروان وهرز في أربعة آلاف فارس لإصلاح أمر اليمن وأن لا يبقى بها أحد من بقايا الحبشة، فلم يترك بها أحدا من السّودان. وبقي وهرز بصنعاء إلى أن هلك.

599 ثمّ تداولت اليمن عمّال الأكاسرة إلى أن أتى الله بالإسلام، فهؤلاء ملوك اليمن من العرب والحبشة والفرس، وكان أكثر نزول ملوك حمير من اليمن ظفار، وعلى باب ظفار مكتوب بالقلم الأوّل على حجر أسود [خفيف] : يوم شيدت ظفار قيل لمن ... أنت قالت لحمير الأخيار ثمّ سيلت من بعد ذلك فقالت ... إنّ ملكي للأحبش الأشرار ثمّ سيلت من بعد ذلك فقالت ... إنّ ملكي لفارس الأحرار ثمّ سيلت من بعد ذلك فقالت ... إنّ ملكي لحمير سحّار وقليلا ما يلبث القوم فيها ... غير تشييدها لجاف البوار من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار 600 وعند أهل اليمن أنّ ديارهم تتغلّب عليها الأحابيش آخر الزمان من بعد هنات وإنات وكوائن وأحداث. 601 وحدّ اليمن في العرض ممّا يلي مكّة بطيحة الملك إلى عدن، وهي آخر عمله، ست عشرة مرحلة، والطول من (وادي وحا) «1» إلى مفاوز حضر موت وعمان عشرون مرحلة، والمرحلة ستّة فراسخ.

ذكر ملوك الحيرة

ذكر ملوك الحيرة 602 أقام جذيمة ملكا أزمان ملوك الطوائف «1» خمسا وتسعين سنة وفي ملك السّاسانيّة ثلاثا وعشرين سنة، وكان سكنه بالمضيق «2» بين بلاد الخانوقة وقرقسية «3» وكان يكنّى بأبي مالك، وفيه يقول سويد «4» بن أبي كاهل [رمل] : إن أذق حتفي فقبلي ذاقه ... طسم عاد وجديس ذو الشّنع «5» وأبو مالك الكهل «6» الّذي ... قتلته بنت عمرو بالخدع يعني الزّبّاء ابنة عمرو من بني سميدع بن هوبر، وكان ملكا على مشارق الشام من قبل قيصر. قال: وكان على الحيرة ثمّ ملكته بعد أبيها. 603 وأمّا تزويجه لأخته من عدي بن نصر بن ربيعة بن مالك بن خثعم بن نمارة بن لخم، ويقال عمرو بن عدي بن نصر بن السّاطرون بن أسيطرون «7» ملوك الحضر، ثمّ النصريين «8» ، صحّ من السّفر الثاني، فإنّ أخته رقاش تعشّقته فقالت له: يا عدي إذا سقيت القوم فامزج لهم وصرّح لأخي «9» ، فإذا انتشى فاخطبني إليه، ففعل ذلك وزوّجه، فأشهد عليه وانصرف الغلام [إليها فأنبأها] «10» فقالت له: عرّس بأهلك، ففعل. فلمّا أصبح غدا جذيمة، وهو مضمّخ بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟

قال: آثار عرس. قال: وأيّ عرس؟ قال: عرس رقاش. فنخر «1» جذيمة وأكبّ على الأرض ورفع عدي «2» جراميزه وأسرع الفرار، وجدّ جذيمة في طلبه ولم يقع له على خبر. وقيل إنّه ظفر به فقتله وبعث جذيمة إلى رقاش فقال لها [خفيف] : خبريني رقاش لا تكذبيني ... أبحرّ زنيت أم بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون قال: فكتبت إليه رقاش [خفيف] : أنت زوّجتني وما كنت أدري ... وأتاني النّساء للتّزيين ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصّبى والمجون فنقلها جذيمة إليه وحصنها في قصره، فاشتملت على حمل وأتت بولد سمّي عمرا، فأعجب به جذيمة فألقيت عليه منه محبّة «3» . وقد خرج مع خاله جذيمة في سنة قد أكمأت [الأرض] وبسط له في روضة وعمرو في غلمة يجتنون الكمأة فكانوا إذا أصابوا كمأة طيّبة أكلوها، وإذا أصابها عمرو أقبل يسعى بها إلى خاله وهو يرتجز ويقول [رجز] : هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه ثمّ إنّ الجنّ استطارته، فضرب له جذيمة في الآفاق زمانا فلم يسمع له خبرا إلى أن وجده نديماه مالك وعقيل ابنا فالج. 604 ثمّ كان من قتل الزّبّاء لجذيمة ما قد تكرّر نقله وكثر ذكره، وهي الّتي قالت له وقد كشفت عن كعثبها وقد عقدت شعرة بإستها: أشوار عروس ترى يا

جذيمة؟ فقال جذيمة: لا والله بل أرى شوار أمة كعكا «1» غير ذات حفير. قالت: أمّا والله ما ذلك لعدم مواس ولا لقلّة أواس ولكن شيمة ما أناس. ثمّ كان الأمر فيهم (بعده لعمرو) «2» بن عدي بن نصر لا يعدو ذرّيته، وعمرو هو أوّل من نزل الحيرة واتّخذها دار مملكته. وقال شيبان عن قتادة: ذكر لنا أنّ تبّعا كان رجلا من حمير صار بالجنود حتّى حيّر الحيرة، ثمّ أتى سمرقند فهدمها. 605 والحيرة أرض باردة في الشتاء وهي مفرطة الحرّ في الصيف حتّى أنّهم لينتزعون ستور بيوتهم مخافة من إحراق السمائم لها، ولا يشربون الماء إلّا بالسكنجبين والجلاب ممزوج به، لأنّ الماء لا يبلغ أعماق أبدانهم صرفا. 606 وبنو عمرو بن عدي بن نصر هم النصرية، ولم يزل الملك في ذرّية ابن عدي إلى النعمان بن المنذر، وهو آخر ملوكهم، وهو الّذي قتله كسرى. وكان النعمان لمّا أراد إتيان كسرى بعد هربه (مرّ ببني) «3» شيبان أودع سلاحه وعياله عند هانئ بن مسعود، فلمّا أتى كسرى النعمان (بعث إلى هانئ يطالبه بتركته، فأبى أن يخفر الذمّة، فكان ذلك السبب الّذي أهاج حرب ذي قار) «4» .

607 وقد كانت حرقة بنت النعمان إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير والديباج. فلمّا هلك النعمان نكبها الزمان، وقدم سعد بن أبي وقّاص رضه القادسية أميرا عليها، وقد هزم الفرس وقتل رستم، فأتته حرقة بنت النعمان في إماء من نسائها وعليهنّ المسوح والمقطّعات السود مترهّبات يطلبن صلته. فلمّا وقفن بين يديه قال: أيّتكنّ حرقة؟ قالت: ها أنا ذه. قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم فما تكرارك «1» في استفهامي؟ إنّ الدنيا دار دول وزوال ولا تدوم على حال ولا تبقي على أحد، تنتقل بأهلها انتقالا وتعقبهم بعد حال حالا، كنّا ملوك هذا المصر يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله. فلمّا أدبر الأمر صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا وشتت ملأنا، وكذلك الدهر يا سعد ليس من قوم كانوا في حبرة إلّا والدهر يعقبهم عبرة. ثمّ أنشأت تقول [طويل] : فبينا نسوس النّاس «2» والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلّب تارات بنا وتصرّف فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلمّا أرادت فراقه قالت: لا نزع الله من عبد صالح نعمة إلّا جعلك سبب ردّها إليه. 608 وروي أنّ إسحاق بن طلحة بن عبيد الله دخل على حرقة بنت النعمان بن المنذر بالحيرة في بيعتها وهي في نسوة راهبات قال: فما رأيت مثل وجوههنّ نسوة، فقال لها: كيف رأيت غمرات الملك يا حرقة؟ قالت: هذا خير ممّا كنّا فيه، إنّا نجد في الكتب أنّه ليس من بيت يمتلأ حبرة إلّا امتلأ عبرة، وأنّ

الدهر لم يأت قطّ على قوم بيوم يحبّونه إلّا أتى عليهم بيوم يكرهونه، وأنّ على أبواب السلطان كأشباه الحذر من الفتن وأنّ أحدا لم يصب منهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثيله. قال: فقلت: فكيف صبرك؟ قال: فأقبلت عليّ بوجهها ثمّ قالت: يا سبحان الله تسألني عن الصبر؟ ما ميّز أحد بين الصبر والجزع إلّا أصاب بينهما التقارب «1» في حالتيهما. أمّا الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأمّا الجزع فغير معوّض عوضا مع مأثمه «2» ، ولو كان رجلان «3» في صورتهما لكان الصبر أولاهما بالغلبة في حسن صورته، وكرم طبيعته في عاجلة من الدنيا وآجلة من الثواب، وكفى ما وعدنا الله أن ألهمناه. قال: قلت: إنّا لم نزل نسمع أنّ الجزع للنساء فلا [يجز عن] رجل بعدك في مصيبة، فقد كرم صبرك. فقالت: أما سمعت الشّاعر وهو يقول [كامل] : واصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر فما صفا لامرئ عيش يسرّ به ... إلّا سيتبع يوما صفوه الكدر 609 ولم يزل عمران الحيرة يتناقص مذ بنيت الكوفة إلى أيّام المعتضد بالله، فإنّه استولى الخراب عليها، وكانت فيها ديارات كثيرة ورهبان لحقوا بغيرها من البلاد لاستيلاء الخراب عليها، وأقفرت من الأنيس في هذا الوقت إلّا الصدى والبوم، وأهل الدراية بما يحدث يزعمون (أنّ سعدها سيعود بالعمران) «4» . وقد كان جماعة من خلفاء بني العبّاس ينزلونها لطيب هوائها وصفاء جوّها وقرب الخورنق والنّجف منها. وكانت مدّة هذه الحيرة من أوّل وقت عمارتها إلى وقت خرابها [عند بناء] «5» الكوفة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة.

ذكر ما خصت به جزيرة العرب

610 فأمّا ملوك غسّان بالشّام فقد أوتي على ذكرهم. ق: وكانت ديار ممالكهم اليرموك والجولان من غوطة دمشق، ومنهم من نزل الأردنّ. وأمّا ديار ملوك الشّام قبل سيل العرم فإنّها كانت بلاد مأرب من أرض البلقاء، وعدد من ملك الشّام من غسّان أحد عشر ملكا. والله عزّ وجلّ أعلم. ذكر ما خصّت به جزيرة العرب 611 من ذلك اللؤلؤ الجيّد القطري يكون بناحية الشحر لا يوجد مثله، وقد وجد في جزيرة «1» ... لؤلؤة لا يعلم أنّه وجد في مغاصّ اللؤلؤ مثلها في كبرها وصفائها واستواء خلقها وأجزائها، وتسمّى اليوم عند الملوك باليتيمة لانفرادها عن النظائر، والزبرجد وهو يوجد في جزيرة بين العونيد والحورا، وتسمّى تلك الجزيرة زبرجدة. والعتيق يكون ببلاد العرب مدوّمة وأجوده الصيني. والجزع أجوده اليماني، ويؤتى به أيضا من الصين، وليس مثله. واليشب لا يعدل باليماني منه شيء، وهو من عجائب العالم لأنّه ماء يسيل على جبل فيجمد قبل أن يصل إلى سفحه، فيكون منه هذا اليشب اليماني. الكهرباء البحرية من بلاد اليمن. حجارة المسنّ من بلاد الحجاز، أكثر ما يكون بناحية خيبر بقرب من مدينة النّبي - صلى الله عليه وسلم - وفرش حمّامات مكّة منه. 612 اللوبان لا يكون إلّا باليمن في بلاد الشحر وحضر موت، ومنها يتجهّز به إلى بلاد الهند والصين وإلى خراسان وإلى جميع الأقطار، وأشجارها مثل

أشجار التوت إلّا أنّها لا تورق بل تحمل أغصانها كلّها. الكندر واللّكّ أيضا يكون في الشجر وحمله كذلك كحمل اللّوبان، ولكّ الهند والصّمغ العربي، وهو من شجر الطّلح والمقل لا يكون إلّا باليمن ومن هناك يحمل إلى جميع البلاد. والسنان شجر الحمر، وهو التمر الهندي، وهو في أرض اليمن من حضر موت وغيرها، ومن هناك يتجهّز به في الآفاق. واللّك لا يكون إلّا في بلاد اليمن ويحمل إلى مصر في عيدانه ويحمل منه إلى سائر البلاد. والصّبر يكون في بلاد اليمن وأجوده صبر سقطرى. والقلقلان «1» والقسطل الحلو والورس هذه كلّها من بلاد اليمن ومنها تحمل إلى أقطار البلاد. والخيار شنبر يكون ببلاد اليمن. شجر البان كثير بالحجاز من هناك يجلب إلى الآفاق. سكر العشر باليمامة وهو أجوده يتّخذ من نواره، وهو نبات حسن كأنّما نقش نقشا. والسّنا الحرمي بمكّة ومن هناك يجلب إلى الآفاق. 613 وممّا خصّت به الحراب الّتي تصنع بصنعاء من القطر لا يقدر في غيرها على اتّخاذ مثلها، ومنها تحمل إلى البلاد. وكذلك الأردية والعمائم العدنية والثياب السحولية والأدم الطائفي لا يصنع في قطر من الأقطار مثله. والبقر المتلمّعة، وهي في مخلاف بني مجيد، يباع النعل من جلودها بدنانير فيها تلميع من بياض وصفرة كأحسن الوشي. 614 وصنعاء لا تمطر في حزيران وتموز وآب وبعض أيلول، ولا يمطرون إلّا بعد الزّوال، في أغلب الأمر يلقى الرجل الرجل في نصف النهار والسماء مصحيّة ليس فيها طخوية فيقول: اعجل قبل أن تصيبنا السماء، لأنّهم قد علموا أنّه لا بدّ من المطر في ذلك الوقت.

ذكر مدن اليمن المشهورة

615 وذكر إسحاق بن العبّاس بن محمّد الهاشمي عن أبيه أنّه تصيّد فأصابه مطر، فمال إلى أحوية أعراب فمكث عندهم يومه وليلته والغيث سحم لا ينجم. فلمّا أصبح قال: لقد أنزل الله البارحة خيرا كثيرا. فقام ربّ المنزل إلى كساء نسج بين أربع خشبات كما يفعل أهل البوادي، فلمسه بيده فقال: ما أنزل الله البارحة خيرا. ثمّ ليلة أخرى كذلك. فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: قد أنزل الله اللّيلة خيرا كثيرا. فسأله عن ذلك، فأتاه بكفّ من البذور قد تناولها من فوق ذلك الكساء فقال: إنّ حبّ البقل والعشب إنّما ينزل من السّماء فينبتها الله عزّ وجلّ كيف يشاء. ذكر مدن اليمن المشهورة المشهورة من مدن اليمن والغريب من مساكنه. 616 الطريق من صنعاء إلى ذمار- وهما مرحلتان- يخرج على طريق فلش- وهو جبل هناك، إلى قرية تدعى «1» جردان» ، وعلى هذه الطريق واد (له ذكر) «3» في كتاب الله عزّ وجلّ معروف عندهم «4» ، وأكثر أشجاره الأثل والطّلح. وفي هذه الناحية صنم كان يعبد قبل ظهور الإسلام. ودون ذمار مساجد لأصحاب النّبي - صلى الله عليه وسلم - منها مسجد معاذ بن جبل، وأهل اليمن يعظّمونه ويأتونه.

ولها طريق آخر: من صنعاء على قرى متّصلة وأشجار وبساتين غير منفصلة وهواء معتدل إلى قرية تدعى خولان، وهي منزل سيّدهم، وهي باردة الهواء حسنة البناء فيها حمّامات وحوانيت «1» وفواكه، ثمّ يدخل منها بين جبلين «2» وأنهار وأرض خصبة وقرى لقيس، فتفضي إلى ذمار. 617 وذمار مدينة كبيرة إلّا أنّها دون صنعاء، وهي من أعمالها، ولها سور محكم البناء، وهي كلّها قصور مضيئة الأبواب كثيرة البساتين والمزارع والقرار والدّساكر، رخيصة الأسعار كثيرة الخيرات. (دراهمهم يمانيّة) «3» ودنانيرهم مطرقة ومياههم عيون جارية وآبارهم قريبة الأرشية «4» . ولمعاذ بن جبل رضه فيها مساجد وآثار كثيرة. (والله أعلم) «5» . 618 الطريق من ذمار إلى زبيد. تخرج «6» في قرى متّصلة حتّى تأتي مدينة بسام، وهي المنزل، مدينة طيّبة بها بيوت منقورة في صخرة صمّاء «7» ثلاثمائة ذراع في مثلها، ثمّ إلى واد يقال له الربيح أشجاره الدوس، ثمّ تسير في صعود وهبوط حتّى تأتي إلى واد يقال له علّان «8» تقطعه حتّى تصير إلى مدينة الجند كبيرة خصيبة كثيرة الخيرات بها جامع بناه معاذ بن جبل رحمه الله، وهو الّذي يذكر أنّ ناقته بركت في موضعه فقال: خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة. فأمر ببناء المسجد في ذلك الموضع، ثمّ بركت في صنعاء أيضا فبنى المسجد بها. وأهل الجند شيعة

كلّهم. ومن الجند تجلب إلى مكّة وغيرها ملاحف القطن المنسوبة إلى سحول، وهو واد بقرب الجند. ومن الجند تسير في صحار فيها أشجار الجوز والنّبق حتّى تنتهي إلى معاثر، وهي مدينة صبر، وصبر جبل فيه ألف قبّة «1» ، والمرتقى إليه مسيرة يوم «2» ، وفي أعلاه الأنهار والطواحين، وعرض هذا الجبل أربعة وعشرون فرسخا. ثمّ تسير في صحاري ورمال حتّى تنتهي إلى زبيد. وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد ولا أغنى أهلا ولا أكثر خيرا، واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره. زنة دينارهم أربعة دراهم ودراهمهم اثنا عشر (ممّا في الدينار) «3» . 619 الطريق من زبيد إلى مهرة: من زبيد إلى عدن (عشر مراحل على السّاحل في برّية) «4» لا عمارة فيها لا يركبها إلّا الصيّادون والسابلة، لها منازل وآبار. ثمّ إلى خولان، ثمّ إلى مهرة. 620 الطريق من ذمار إلى منكث: من ذمار إلى والان، مدينة صغيرة بنيانها جيّد «5» صخر لا سور لها وبها جامع، وبين ذمار وبينها أربعة فراسخ، فمن شاء نزلها ومن شاء طواها.

621 الطريق من صنعاء إلى حضر موت: من صنعاء في أرض مستوية، وهي الرحبة، وهي الّتي ذكرها الله عزّ وجلّ فقال: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً «1» . تسير في هذه الصحراء إلى قرية يقال لها عقاب كثيرة الأنهار والبساتين منها يحمل العنب إلى صنعاء، ثمّ إلى عقبة تعرف بنقيل في شعاب وأودية إلى واد فيه نخل يعرف بالعراقيد. ثمّ تسير في شعب إلى قرية يقال لها الضياع فيها نخل وهي لمراد، ثمّ تخرج فتمرّ على وسط السدّ (الّذي كان في الجاهلية) «2» ، وهو بين جبلين وهما يسمّيان الماديين، ثمّ تمرّ بموضع كان يقسم عليه ماء هذا السدّ في الجاهلية، ثمّ في صحراء ورمال، وهي الّتي تسمّى جنة اليسرى، وهي الّتي قال الله عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ الآية «3» . ثمّ تمرّ حتّى تنتهي إلى مأرب، وفيه معدن الملح الّذي أقطعه النّبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيض بن جمّال المأربي، فجعله أبيض صدقة للمساكين وعوّضه النّبي - صلى الله عليه وسلم - حائطا يعرف بالجدران على باب مأرب، لا يخلو من ثمرة صيفا ولا شتاء وربيعا وخريفا لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالبركة. 622 وهي مدينة لسبأ وبها عرش بلقيس، وكان العرش مبنيّا على أساطين من حجارة وعلاء كلّ أسطوانة منها فوق الأرض عشرين ذراعا، فاحتمل العرش وبقيت الأساطين «4» على حالها. ويقال إنّ تحت الأرض من تلك الأساطين مثل ما فوقها، وغلظ كلّ أسطوانة منها لا يحضنه أربعة نفر، وفيها سوق ومسجد والمنزل بها. ثمّ يخرج منها ويقطع عرض الوادي فيدخل جنّة اليمنى

ذكر مدينة ظفار

الّتي ذكرها الله عزّ وجلّ ليس فيها من الأشجار إلّا الإثل والأراك، وتبذر فيها الدرّة. ثمّ إلى سويقة يقال لها نمرة يباع فيها الملح والدرّة، ثمّ في صحار ورمال إلى ماء يقال له سنجار، وهو وادي النخل. ثمّ تسير في رمال ومواضع مخوّفة يقطع فيها بنو الحارث بن كعب حتّى تنتهي إلى مدينة شنوة، وهي أوّل مدائن حضر موت يباع فيها حمل تمر بدرهم. ثمّ تسير في قرى متّصلة حتّى تأتي الجريمة، وهي (أكثر مدائن حضر موت خيرا و) «1» فيها بساتين ومياههم سبخ، ثمّ تسير ثلاث مراحل في رمال يسكنها قوم من مهرة، وإليهم تنسب الإبل المهرية، حتّى تصل إلى مدينة يقال لها الأشفاء، وهي من مدائن الشحر حدّ عمان، وهي على ساحل البحر. ثمّ إلى موضع يقال له رسوب، وهو جبل الأحقاف، وهو متّصل بأرض الأحقاف، وهو بلد واسع غلبت عليه الرمال بسوافي الرّياح فعفا أثره، وهو الّذي ذكره الله عزّ وجلّ. والبحر يضرب بسفح هذا الجبل ويركب منه في البحر إلى جزيرتين ينزلهما قوم من مهرة بأغنامهم (طولها وعرضها اثنا عشر فرسخا) «2» ، الواحدة سقطيرة والأخرى المضيرة، فيها مغاصّ اللؤلؤ ومياه عذبة. ثمّ يركب منها البحر إلى سوق على ساحل البحر يقال له طيرى، ثمّ يركب منها البحر إلى مسقط، وهو مجتمع المراكب الّتي تخرج من صحار، وصحار سوق عمان. ذكر مدينة ظفار 623 وهي قصبة اليمن وقاعدة ملوك حمير [في الزمن الأقدم، وبها كان نزولهم، وهي الآن خراب قد تهدّم بناؤها وقلّ مساكنها، وإنّما بها الآن بقايا من أهلها. ومن كلام بعض ملوكهم من دخل ظفار حمّر. وسبب ذلك أنّ ذا جدن الحميري خرج يطوف في أحياء العرب، فنزل في بني تميم فضرب

الطريق من عمان إلى ناحية اليمن

فسطاط، فجاءه زرّارة بن عدس مصعدا إليه وكان على قارة مرتفعة، فقال له الملك: ثب أي أقعد بلغته. فقال زرّارة: ليعلمنّ الملك أنّي سامع مطيع. فوثب إلى الأرض فتقطع أعضاؤه، فقال الملك: ما شأنه؟ فقيل له: أبيت اللعن، إنّ الوثب بلغته القفز. فقال: ليس عربيّتنا كعربيّتكم. من دخل ظفار فليحمرّ أي، فليتكلّم بلغة حمير] «1» . ولم يزل اليمن في الدولتين من أرفع الولايات في جلالتها وسعتها وبعد صيتها، وإنّها منازل العرب العاربة ودار الملوك العظام من التبابعة والأقيال والهياطلة «2» والعياهلة، وإنّها أشرف البلدان سيوفا وثيابا من القصب والسّعيدي والوشي والمغمر والبرود والحيد «3» والأردية العدنية والصنعائية والعنبر والجزع والعتيق والرقيق والنجب «4» والإبل المهرية والخيل العراب والنضار وغير ذلك من أصناف الأمتعة والتجارات. الطريق من عمان إلى ناحية اليمن 624 من عمان إلى مسقط على الساحل، ثمّ منه إلى سقطرى، وبه الصبر السقطري الّذي لا يعدل به والحضض «5» . ثمّ من هذه الجزيرة إلى موضع يقال له معثب به مغاص اللؤلؤ والغوّاصون عليه أجراء لليهود والنصارى، أجرة الغوّاص من قيراط إلى نصف «6» درهم، يغوصون (من بكرة) «7» إلى نصف النهار، ثمّ يأخذون في شقّ الصدف إلى آخر ذلك النهار، وعملهم في الأصداف إنّما هو على طعامهم من السّويق والتمر والسّمن وغير ذلك. وإذا أراد الغوّاص أن يغوص عمد إلى آلة ذات شعبتين قد اتّخذت من القرون دقيقة جدّا تعمّ «8» المنخرين فتمنع الماء منهما ويشدّ في إحدى

ذكر بلاد عمان

رجليه صخرة (منقورة فيها) «1» مقدار عشرين منّا ويشدّ معها وعاء قد اتّخذ من شماريخ النخل يسمّى الرجيس «2» يحمل فيه ما وصل إليه من الصدف، فإذا ملأه حرّك الحبل فيجذبونه. وحدّث أبو الحسن البخاري أنّ رجلا عمانيا قدم مكّة بلؤلؤتين لم ير مثلهما، فباعهما في سوق ابن يزيد بألفي دينار ذهبا من رجل سمرقندي وخرج من مكّة من يومه ذلك. فلمّا كان بعد عدّة أيّام أقبل من عند صاحب عمان رجل يطلب الّذي باع اللؤلؤتين ويذكر أنهما سرقتا من قصره، فطلب المشتري فعمى أثره وخفي خبره، ووصل بهما إلى مدينة دمشق، فأهدى إحداهما إلى صاحبها- وصاحبها المديوني- فأعطاه بها عشرة آلاف دينار، ثمّ سار إلى سمرقند فأهدى الثّانية إلى صاحبها، فكافأه بخمسة عشر ألف دينار، فهتان اللؤلؤتان من مغاوص عمان وما والاها من المواضع. ذكر بلاد عمان 625 وهي ثمانون فرسخا بما والاها البحر منها سهول ورمال، وما تباعد عنه حزون وجبال، ولها عدّة مدن منها مدينة عمان على ساحل البحر حصينة، ومن الجانب الآخر جبل فيه مياه سائحة قد أجريت إلى المدينة، وهي كثيرة النخل والبساتين وضروب الفواكه، وطعامهم الحنطة والشّعير والأرزّ والجاورس. وكان الّذي أجرى الماء من الجبل إلى المدينة رجل مجوسي يقال له أبو الفرج كان له من المال الصامت ثمانمائة كيلجة» دنانير ذهبا، كلّ كيلجة فيها تسعة ومائة منّ.

ذكر البحرين وأعمالها

626 ومنها مدينة صحار، وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر مقدارها فرسخ في فرسخ ومياهها من الآبار. ومدينة ترون «1» ، وهي أعظم منها، وهي في الجبل. ومدينة ضخم، وهي أيضا في الجبل، ماؤها من العيون بها نخل كثير وقصب السّكر، وبها أشجار يقال لها طلوق «2» تشبه شجر المقل، تقطع منها عروق ثمّ توضع في الماء فيسيل منها شراب يسكر من ساعته. وعامّتهم أصحاب شعور جمّة «3» . 627 ومن عمان يتجر. وبها قتل عيسى بن جعفر الهاشمي. وخراج عمل عمان على المقاطعة ثمانون ألف دينار. وفي الأمثال: من تعذّر عليه الرزق فعليه بعمان. وقد أهدى صاحب عمان إلى الكعبة بعد العشرين وأربعمائة محاريب منبت زنة المحراب أزيد من القنطار، وقناديل منبت في نهاية الإحكام، وسمّرت المحاريب في جوف الكعبة ممّا يقابل بابها، (وذلك إثر) «4» أخذ أمير مكّة أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني بحلى الكعبة من المحاريب وغيرها. ذكر البحرين وأعمالها 628 وهي بلاد واسعة شرقيها ساحل البحر وغربيها متّصل باليمامة وشمالها متّصل بالبصرة وجنوبها متّصل ببلاد عمان. وهي بلاد سهلة كثيرة الأنهار من العيون

عذبة الماء، ينبطون الماء على القامة والقامتين، والحنّاء والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السّوسن، وهي كثيرة النخل والفواكه، ولهم ثمر يسمّى المانجي إذا نبذ وشرب اصفرّت الثياب من عرقه، وبساتينهم على نحو ميل منها لا يأتونها إلّا غدوا ورواحا لإفراط حرّ الرمضى، وإنّ حوافر الدوابّ تسقط فيها إذا احتدمت. وهي مخصوصة بعظم الطحال، ولذلك قال بعض الشعراء [طويل] : ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع ولها سبع مدن وعلى ساحلها منها: القطيف والزرادة «1» والعقيد وأوال، وهي جزيرة بينها وبين الساحل مجرى يوم، وهي كثيرة النخل والموز والجوز «2» والأترج والزرع «3» والأشجار والأنهار. وممّا يلي أوال جبل في البحر أسود يسمّى الحازم يقيم به الغوّاصون الأشهر. 629 وأوال جزيرة طويلة مسيرة ستّة عشر يوما، وكانت هذه الجزيرة حبسا لكسرى «4» ، وأكثر أهلها من أهل اليمامة، (وإليها نجا من أفلت من أهل هجر عند محنتهم مع القرمطي لعنه الله، وإليها فرّ منه) «5» أهل اليمامة والبحرين. وبينها وبين الهجر اثنا عشر فرسخا في البرّ وعشر فراسخ في البحر. ولها «6» متباعدة عن الساحل إلى ناحية اليمامة دبلة والأحساء وحوارين بينها وبين الساحل مسيرة يوم وأكثر. وبلاد البحرين منها «7» الكثبان، جارية الرمال حتّى يسكرونه بسعف النخل، وربّما غلب عليهم في منازلهم، فإذا أعياهم حملوا النقوض وتحوّلوا. وفي البحر جزائر على مسيرة يوم ويومين وثلاثة فيها آثار وخرائب، وبها جزيرة

خارك وهي على أربعة فراسخ من جنّابا في البحر، وليس بها الآن من البناء إلّا صومعة راهب، وبها جدر عظيم يقطع بالقدوم لغلظه. وميرة البحرين يجلب إليها من فارس ويجلب إلى فارس منها التمر والدبس. 630 وفي القطيف من بلاد البحرين قام القرمطي بدعوته (وهناك دعا الناس إلى علمه) «1» . وكان ابتداء أمر «2» القرامطة «3» أنّ رجلا قدم من سواد الكوفة من ناحية خوزستان، فأقام بموضع يعرف بالنهرين يظهر الزهد والتقشّف ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، وكان يبتاع كلّ ليلة من بقّال (رطل تمر) «4» من عمل يده فيفطر عليه. وكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدّين وزهّده في الدنيا (ورغبه في الآخرة) «5» وأعلمه أنّ المفروض على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة حتّى فشا ذلك، وأعلمهم أنّه يدعو إلى إمام «6» عادل من أهل بيت الرّسول - صلى الله عليه وسلم -. فلم يزل على ذلك، فقصده الجماعة بعد الجماعة والفوج من الناس بعد الفوج، فيخبرهم بما تعلّق في قلوبهم. 631 وإنّما غلب عليه اسم القرمطي لأنّه اعتلّ «7» عند ذلك البقّال الّذي كان يبتاع منه «8» (الأرطال من) «9» التمر. فكان في القرية رجل يحمل للناس على أثوار له يقال له ذو العينين، وكان أهل القرية يسمّونه كرميتة «10» معناه بالنبطية ذو العينين، فكلّم البقّال كرميتة في حمل العليل إلى منزله، فحمله

على أثواره وأقام عنده فمرّضه حتّى برأ. فلمّا خاف على نفسه على حسب ما نورده وصار إلى الشّام تسمّى باسم كرميتة الّذي كان عنده، فخفّفه الناس فقيل «1» له قرمط، فلذلك عرفوا بالقرامطة. فلم يزل على ما كان عليه إلى أن جاءته أكثر أهل تلك الناحية وما والاها، واتّخذ منهم اثني عشر نقيبا أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وقال: أنتم كحواريّي عيسى. فاشتغل أكثر أهل ذلك الصقع عن أعمالهم (بما رسم لهم به) «2» من الصلوات الخمسين. وكانت للهيصم في تلك الناحية ضياع أنكر تقصير الأكرة في عمارتها، فسأل عن ذلك فأخبر الرجل وبما شغلهم من الصلاة عن أعمالهم، فوجّه الهيصم في طلبه فأتي به فسأله عن أمره فأخبره بمذهبه. (فعزم على قتله ثمّ أمر بحبسه في بيت من بيوت داره) «3» ووضع المفتاح تحت وسادته فتشاغل بشراب. وكانت جارية من جواريه سمعت يمينه لقتله فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح ففتحت عنه القفل وأرسلته، ثمّ (سدّت الباب كما كان فجعلت) «4» المفتاح تحت الوسادة. فلمّا أصبح الهيصم أخذ المفتاح ففتح الباب فلم يجد أحدا، فشاع أمر القرمطي وازداد أهل تلك الناحية به فتنة وزعموا أنّه رفع، وظهر في مكان آخر ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم وزعم أنّ أحدا لا يقدر عليه بسوء، فعظم ذلك في أعينهم. ثمّ خاف على نفسه فخرج إلى الشّام وتسمّى كرميتة على ما قدّمناه. 632 وقال أحمد بن أبي الطاهر: كان ابتداء أمر القرامطة أنّ رجلا كان يعرف بيحيى بن المعلّى صدر من ناحية الكوفة إلى القطيف، فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلّى بن حمدان وكان يترفّض، وأظهر يحيى أنّه رسول المهدي المنتظر، وذلك سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذكر أنّه خرج بتبع شيعته في

البلاد ويدعوهم إلى المشارعة إلى أمره وأنّ خروجه قد قرب، وأظهر في ذلك كتابا زعم أنّه من المهدي. فجمع علي ابن المعلّى من علم أنّه يترفّض «1» من أهل القطيف، وأقرأهم ذلك الكتاب فأجابوه، وأرسل إلى من يترفّض من قرى البحرين فأجابوه، وكانوا نحوا من الثمانمائة. وكان ممّن أجابه أبو سعيد الجنّابي من جزيرة جنّابا كان يبيع الطعام بالزرادة ويحسب لهم حسابهم ولا يعرف من كتاب الله ولا من سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من العلوم شيئا، وكان قبيحا قميئا. 633 ثمّ غاب يحيى مدّة ورجع (ومعه كتاب) «2» من المهدي إلى شيعته (يذكر فيه) «3» : قد عرّفني رسولي بمشارعتكم إلى أمري، فإذا وصلكم كتابي هذا فيدفع إليه «4» كلّ رجل منكم ستّة دنانير وثلثي دينار. فسارعوا إلى ذلك فأخذها وغاب مدّة، ورجع ومعه كتاب آخر يذكر فيه: إنّ رسولي عرّفني بمشارعتكم ووصّل إليّ المال، والّذي يجب عليكم في أموالكم الخمس لأنّها غنائم، والله عزّ وجلّ (قد قال في القرآن) «5» : وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «6» الآية. فدفعوا إليه الخمس من أموالهم، ثمّ غاب مدّة طويلة (ورجع ومعه كتاب آخر يذكر فيه) «7» : إنّي قد عزمت على الخروج، فادفعوا لصاحبي ما يستعين به على قتال «8» الفسّاق. وأمرهم يحيى بالخروج من أموالهم، فأخذوا في بيع عقارهم فباعوا ما يساوي ألف دينار ومائة دينار.

634 وكان بالزرادة رجل يعرف بإبراهيم الصّائغ، وكان داعية لهم وجّهوه غير ما مرّة إلى ناحية «1» فارس والأهواز لدعاء «2» الناس. قال ابن أبي الطاهر: فجاءني يوما وقال لي: اعلم أنّ هؤلاء القوم على ضلال، كنت أمس مع أبي سعيد الجنّابي «3» وقد قدم عليه رجل من أهل جنّابا يقال له يحيى بن علي، فأكلنا عنده، فلمّا فرغ قام فأخرج امرأته، ثمّ أدخلها مع يحيى في بيت وقال لها: إن أرادك الولي فلا تمنعيه نفسك، فإنّه أحقّ بك منّي. 635 قال أبو علي عريب بن سعد في تاريخه: ذكر محمّد بن داود بن الجرّاح أنّ قرمط رجل من سواد الكوفة كان يحمل غلّات السّواد على أثوار له يسمّى حمدان ويلقّب بالقرمطي. قال: وذكر أنّ القرامطة جاؤوا بكتاب فيه: باسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قرية يقال لها نصرانة داعية المسيح، وهو المهدي، وهو الكلمة، وهو (أحمد بن) «4» محمّد بن الحنفية وهو جبريل. وقد ذكر أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان «5» وقال له: إنّك الداعية وإنّك الحجّة وإنّك روح القدس وإنّك يحيى بن زكريا. وعرّفه «6» أنّ الصلاة أربع ركعات ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها، وأثبت في الآذان: وأشهد أنّ موسى رسول الله وأشهد أنّ عيسى رسول الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله وأشهد أنّ [أحمد بن] «7» محمّد بن الحنفيّة رسول الله، وأن يقرأ في كلّ ركعة بسورة الاستفتاح، وهي من السور المنزّلة بزعمهم على أحمد بن محمّد، وهي:

الحمد لله بكلمته المستحمد إلى أوليائه اتّقون يا أولي الألباب، أنا الّذي لا أسأل عن ما أفعل وأنا العليم الحكيم في كلام كثير ووعد ووعيد. ومن شرائعه أنّ يوم الاثنين ويوم الجمعة لا يعمل فيه عمل وأنّ الصوم يومان في السنة: يوم المهرجان ويوم النيروز، وأنّ النبيذ حرام وأنّ الخمر «1» حلال، وأنّ الغسل من الجناية بوضوء كوضوء الصلاة، وأن لا يؤكل كلّ ذي ناب (من السباع) «2» ولا كلّ ذي مخلب. 636 قال أبو علي عريب: وقيام القرامطة كان سنة سبع وثمانين ومائتين، وفي يوم الجمعة في النصف من شعبان سنة تسعين ومائتين قتل يحيى بن زكرويه القرمطي الملقّب بالشّيخ «3» ، قتله المصريّون «4» على باب دمشق. وكان يركب جملا لم يركبه قطّ غيره، وكان يأمر أصحابه ألّا يقاتلوا حتّى يبتعث الجمل من قبل نفسه وأنّهم إذا فعلوا ذلك لم يهزموا. وزعموا أنّه كان إذا أشار بيده إلى ناحية من تلك النواحي الّتي فيها محاربوه انهزمت أهل «5» تلك الناحية واستغوى بذلك الأعراب، وكان يتعمّم عمامة أعرابية ويلبس ثيابا واسعة. 637 وكان القرمطي صاحب الشّامة يكتب إلى أجناده وعمّاله: باسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمّد بن عبد الله المهدي المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله (الدّاعي إلى كتاب الله) «6» الذابّ عن

حرم الله المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين ومذلّ المنافقين «1» ، وخليفة ربّ العالمين وحاصر الظالمين وقامع المعتدين وسراج المستبصرين وضياء المستضئين، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين كثيرا. إلى فلان سلام عليك «2» ، فإنّي أحمد الله الّذي لا إله إلّا هو وأسأله أن يصلّي على محمّد جدّي «3» رسول الله. أمّا بعد، ثمّ يختم: إن شاء الله سبحانك اللهمّ وبحمدك «4» ، وتحيّتهم فيها سلام، وآخر دعواهم إنّ الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد «5» جدّي، رسول الله وسلّم. 638 قال عبد الله بن أبي الطاهر: ورد الخبر في سنة سبع وثمانين ومائتين بدخول أبي سعيد القرمطي هجر، وذلك بعد حصار «6» أربع سنين، فوصلوا إلى قوم هلكوا جوعا وهزلا وبعد أن كان الوباء قد نزل «7» فيهم، فمات منهم خلق كثير. فقتل منهم القرمطي ثلاثمائة ألف وطرحهم أحياء في النار، فنجا منهم خلق قليل «8» إلى جزيرة أوال. قال: وبلغني أنّه لم يبق من أهل هجر يومئذ إلّا عشرون رجلا. فسار جماعة من أصحاب الجنّابي إلى حصن يقال له الفلج بينه وبين هجر ستّة أيّام، وبين هذا الحصن وبين مكّة تسعة أيّام. وقال قتادة إنّ أصحاب الرّسّ الّذين ذكرهم الله عزّ وجلّ في كتابه «9» كانوا أهل فلج. 639 فأمّا الطّريق من البحرين إلى عمان فقد كان في البرّ، ثمّ ركبه الرمل، فالطريق بينهما اليوم في البحر بين جبلين يسمّيان كسير وعوير، وهو موضع

الطريق من مكة إلى عمان

كثيرا ما تعطّب فيه السفن، حتّى تنتهي إلى موضع من البحر يسمّى دردور، ثمّ إلى موضع يقال له حرثان من ساحل عمان. الطريق من مكّة إلى عمان 640 يخرج من مكّة نحوا من عشرين يوما في «1» طريق معتدل الهواء بري ذي رمل وحصى ينبط فيه كلّه المياه بأدنى شيء وبالبحث عليه «2» باليد، ومراحل الناس في (المنازل الّتي بها) «3» الغنم والبقر حتّى يفضي إلى مدينة نجران، وهي من بلاد همدان. (ثمّ تسير في بلاد همدان) «4» بين قرى ومدائن وعمائر (حتّى تفضي إلى قرى صنعاء، وهذا الطريق أبعد الطرق إلّا أنّها أعدلها هواء وأقلّها وباء) «5» . 641 وطريق آخر يعرف بطريق تهامة، (وهو رساتيق متّصلة ومخاليف غير منفصلة، وهو أحرّ هواء من الأوّل وأكثر وباء) «6» . تخرج من مكّة فتسير أربعة «7» فراسخ في أرض ذات حصى، وعن يمين السّاحل جبال متّصلة حتّى تأتي منزلا ذات نخل وبساتين، ويحيط بهذه المنزلة «8» جبل أسود كالحلقة، ثمّ ترتحل فترقى ذلك الجبل و (تفضي إلى أرض ذات حصباء وغور وبحر، ثمّ) «9» تفضي إلى أرض شجرها الأراك وكلاؤها الأدخر وماؤها في خفائر قريبة المتناول وبها المنزل. ثمّ تسير في قرية مثل الأولى

حصباء وجبال وأودية نحو ثلاثة فراسخ إلى يلملم، وهي قريبة من قرى مكّة، وهي منهل أهل اليمن ماؤها آبار عذبة «1» وعيون. ومن أحبّ أخذ منها في بريّة رمليّة شجرها الآراك وكلاؤها الأدخر وفيها سوائم المال وورعاته. ويفضي الثالث إلى مدينة السّرين، وهي مدينة عظيمة فيها أسواق ومسجد جامع على ساحل البحر، وسورها في البحر وأكثر بنائها من الخشب والحشيش «2» ، فلا يستعمل فيها وقود بل يسخن الماء خارجا منها ويغتسل به داخلها، وسقيها ومشاربها «3» من ماء السماء. وهي من عمل مكّة، وفيها مزارع وأكثر زروعهم الدرّة والسمسم والميرة تجلب إليها من غزّ وجردة، وغزّ منها على مسيرة عشرة أيّام بسير الرّاكب، وجردة من ثغور الحبشة وهي منهم على مسيرة خمسة عشر يوما. 642 فمن أراد منها صنعاء (على البحر ركبه) «4» إلى جردة، وهي من تهامة، ومن أراد أن يركب البرّية إلى صنعاء فإنّه يسير من السّرين في قرى لبني كنانة نحو ستّة فراسخ، وفي تلك الناحية مدينة جلي، وهي مدينة كانت من عمل أبي المغيرة الّذي حارب الحاجّ أيّام الموسم واقتلع الذهب من باب البيت. وقد كانت هذه المدينة فيما سلف من عمل مكّة وأقام فيها سنة اثنتي عشرة وأربعمائة رجل من بني جذام وخالف صاحب اليمن ودعا إلى نفسه، فحشد إليه أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسني صاحب مكّة قبائل العرب، فحاربه وأخذها وجلب الجذامي مع نفسه «5» وتملّك جلي، ثمّ ردّها إلى صاحب صنعاء. وهي مدينة ضخمة رملية بناؤها من الخشب والحشيش ذات قرى ومساكن «6» ودساكر، وماؤهم من الآبار والأمطار.

ذكر اليمامة

ذكر اليمامة 643 هي منزل الأمير، وهي والحجر منازل بني حنيفة وبعض مضر، وهي عن حجر على يوم وليلة، وبها بنو سحيم وبنو تمامة وبنو عامر وبنو عجل. والعروض من وادي يمامة من أعلاها إلى أسفلها قرى تنزلها بنو حنيفة، وأسفلها الكوش قرية تنزلها بنو عدي بن حنيفة. الطريق من البصرة إلى اليمامة 644 من البصرة إلى كاظمة مرحلتان، ومنها إلى الفرعا ثلاث مراحل، ومنه إلى طحفة مرحلة، وكذلك إلى الصماوة، ثمّ خمس مراحل إلى جبّ التراب وثلاث مراحل إلى سنيحة ثمّ إلى الرمال ثمّ إلى سليخة اليمامة، فذلك خمس عشرة مرحلة، (وكذلك بين اليمامة ومكّة خمس عشرة مرحلة) «1» . واسم اليمامة جوّ، وسمّيت بالمرأة اليمامة وحديثها معروف، وقيل غير ذلك. ذكر أنّ طسما نزل الجوف مع من اتّبعه من بنيه وقومه واسمها يومئذ جوّ، وإنّما سمّاها اليمامة تبّع الأخر حين خرج بجيش عظيم، فعطش الجيش وعدموا الماء، فحفر كلّ واحد منهم قبره من شدّة العطش، فمرّت بهم يمامة، فقال لهم: اتّبعوها فإنّها إنّما ترد الماء. فاتّبعوها (فأصابوا نهرا) «2» وهو الفرات، فشربوا وسقوا واستقوا.

الطريق من البصرة إلى مكة

الطريق من البصرة إلى مكّة 645 من البصرة إلى السحابية «1» ثمانية أميال، إلى الحفيرة عشرة أميال، إلى الرحيل ثمانية وعشرون ميلا، إلى السنجك ستّة وعشرون ميلا، (إلى الروحا ثلاثة وثلاثون ميلا، إلى حفر أبي موسى ستّة وعشرون ميلا) «2» ، إلى ماوية اثنان وثلاثون ميلا، إلى السرعة ثلاثة وعشرون ميلا، إلى السمية تسعة وعشرون ميلا، إلى السّاج ثلاثة وعشرون ميلا، إلى العوسجة سبعة وعشرون ميلا، إلى القريتين اثنان وعشرون ميلا، إلى حويلة اثنان وثلاثون ميلا، إلى ملحة خمسة وثلاثون ميلا، إلى وجرة أربعون ميلا، إلى أوطاس أربعة وعشرون ميلا، إلى السكّة ... ومن السكّة إلى مدان ثلاثة أميال، ومن وجرة إلى ذات عرق، وهي ميقات أهل العراق، سبعة وعشرون ميلا. ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ذات عرق بميلين ونصف، وهو ميقات أهل العراق، والمسجد الّذي في ذات عرق الكبير الّذي فيه المنبر مسجد النّبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكر البيت الحرام وبناؤه والمشهور من أخباره [قال وهب بن منبّه: لمّا أهبط الله تعالى آدم عليه السّلام إلى الأرض حزن واشتدّ بكاؤه على الجنّة، فعزّاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنّة، فوضعها له بمكّة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة. وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من

ياقوت الجنّة فيها قناديل من ذهب، ونزل معها الركن وهو ياقوتة بيضاء، وكان كرسيا لآدم عليه السّلام يجلس عليه. فلمّا كان الغرق زمن نوح عليه السّلام رفع ومكثت الكعبة خرابا ألفي سنة حتّى أمر الله إبراهيم عليه السّلام أن يبني بيته. فبنى هو وإسماعيل عليهما السّلام البيت ولم يجعلا له سقفا، وحرس الله تعالى البيت بالملائكة، والحرم مقام الملائكة يومئذ. وهو أوّل بيت وضع للنّاس] «1» . 646 فولي البيت بعد إبراهيم ابنه إسماعيل، ثمّ ولي بعده ابنه «2» نابت بن إسماعيل، (هكذا قال) «3» ابن إسحاق. وقال (ابن الزبير) «4» وابن الكلبي: نابت بن إسماعيل وأمّه جرهمية. فوليه ما شاء الله، ثمّ مات نابت فوليه جدّه مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي. وفي ذلك يقول مضاض بن عمرو بن الحارث [طويل] : وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر وجرهم وقطورا «5» يومئذ أهل مكّة وهم أخوان، ورئيس قطورا السّميدع ورئيس جرهم مضاض، ومنزل جرهم أعلى مكّة قعيقعان [فحاز ذلك] «6» ، ومنزل قطورا أسفل مكّة بأجياد (فما حاز ذلك) «7» . فكان السّميدع يعشّر من دخل مكّة من أسفلها ومضاض يعشّر من دخلها من أعلاها. ثمّ إنّهما بغى بعضهما على بعض وتنافسا الملك، ومع مضاض بنو إسماعيل وإليه ولاية البيت دون السميدع «8» . فخرج مضاض في كتيبة من

قعيقعان سائرا إلى السميدع، فسمّي قعيقعان بقعقعة السلاح، وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال، فيقال إنّه ما سمّي أجيادا إلّا لخروج الخيل الجياد مع السّميدع منه. فالتقوا بفاضح «1» فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع وفضحت قطورا. فقيل: ما سمّي فاضح فاضحا إلّا لذلك. ثمّ إنّ القوم تداعوا إلى الصلح فساروا حتّى نزلوا المطابخ بأعلى مكّة، وهو شعب بني عامر، فاصطلحوا هناك وسلّموا الأمر إلى مضاض، فنحر لهم «2» وأطعمهم، فيقال: ما سمّيت المطابخ مطابخ «3» إلّا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم: إنّما سمّيت المطابخ لأنّ طعام تبّع «4» كان يطبخ بها، وكذلك قالوا في أجياد إنّه كان موضع جياده. 647 فبقيت «5» جرهم ولاة البيت نحو ثلاثمائة سنة، ثمّ إنّهم بغوا بمكّة واستحلّوا (محارمها وظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة الّذي يهدى إليها ولم يتناهوا حتّى جعل الرجل إذا) «6» لم يجد مكانا يزني فيه دخل الكعبة فزنى فيها. فزعموا أنّ إسافا ونائلة فجرا في جوف الكعبة فمسخا حجرين، وهو إساف بن سهيل ونائلة بنت عمرو بن ذويب. 648 وتفرّق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخزع منهم بنو حارثة بن عمرو فأوطنوا تهامة، فسمّيت خزاعة. وبعث الله على جرهم «7» الرّعاف والنّمل وأفناهم واجتمعت خزاعة ليخلوا من بقي بمكّة، ورئيس خزاعة عمرو بن

ربيعة، وهو لحيّ «1» بن حارثة بن عمرو بن عامر وأمّه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض (الجرهمي، وليس بابن مضاض) «2» الأكبر. فلمّا أحسّ عمرو بن الحارث بن مضاض- وهو رئيس جرهم- بخزاعة «3» والهزيمة خرج بعد إلى الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة وهو يقول في ذلك [رجز] : لا همّ إنّ جرهما عبادك ... الناس طرف وهمو تلادك وهم قديما عمّروا بلادك (فلم تقبل توبته) «4» ، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثمّ دفنها وخرج فيمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة، فجاءهم سيل فذهب بهم. فقال أميّة بن أبي الصّلت [منسرح] : جرهم دمنوا «5» تهامة في الده ... ر فسالت بجرهم إضم 649 وكان ماء زمزم قد نضب لمّا أحرقت جرهم بمكّة حتّى امتحى مكان البئر ودرس، فأتى مضاض بن عمرو وبعض ولده في ليلة مظلمة، فحفروا في موضع زمزم وأعمق ودفن هناك غزالي الكعبة وحجر الركن وأسيافا قلعية، وانطلق هو ومن معه إلى اليمن. وروى الزبير عن رجاله عن ابن شهاب أنّه قال: لم يبق من جرهم غير حيّ في مكان من كنانة وهم قليل، وآخرون في حكم ابن الهون.

650 فولي البيت عمرو (بن ربيعة، وهو لحيّ، وقال ابن قصي: بل وليّه عمرو) «1» بن الحارث بن عمرو. أحد «2» بني غسّان بن سليم من بني ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، وهم كلّهم من خزاعة. قالوا: وهو الّذي يقول [طويل] : ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنمنعه من كلّ باغ وملحد وقال أيضا «3» [رجز] : واد حرام طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه وابن مضاض قائم يهشه ... يأخذ ما يهدى له يفشّه «4» 651 وقد كان بنو إسماعيل اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة، فجاؤوا خزاعة فسألوهم السكنى معهم، فأذنوا لهم، وقال عمرو بن لحيّ: من وجد منكم جرهميّا قد قارب الحرم فدمه هدر. فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو من قنونا «5» تريد مكّة، فخرج في تبعها، فوجدها «6» قد دخلت مكّة، فمضى على الجبال من نواحيها حتّى صار على جبل «7» أبي قبيس يتبصّر الإبل في وادي مكّة، فأبصرها تنحر وتؤكل ولا سبيل له إليها، وخاف إن يهبط إلى الوادي أن يقتل، فولّى منصرفا، ثمّ أنشأ يقول [طويل] : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

نعم نحن كنّا أهلها فأزالنا «1» ... صروف الليالي والجدود العواثر وكنّا لإسماعيل صهرا وجيرة ... ولما «2» تدر يوما علينا الدوائر وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر «3» وصاهرنا من أكرم الناس والدا ... فأبناؤه منّا ونحن الأصاهر وأخرجنا منه المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر وأبدلنا ربّي بها «4» دار غربة ... بها الذئب يعوي والعدو المحاصر أقول إذا نام الخلي ولم أنم ... أذا العرش لا يبعد سليم وعامر وبدلت منها أوجها لا أحبّها ... قبائل منها حمير ويحابر «5» وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوامر فسّحت دموع العيون تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر فبطن منى أمسى كأن لم يكن به ... مضاض ومن حيّ عدي عمائر «6» فهل فرح آت (تمنّى وجوده) «7» ... وهل فزع «8» ينجيك ممّا تحاذر قال (ابن الزبير) «9» [بسيط] : يا أيّها الناس سيروا إنّ قصدكمو ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا كنّا أناس كما كنتم فغيّرنا ... دهر فأنتم كما كنّا تكونونا حثّوا المطي وأرخوا من أزمّتها ... قبل الممات وقضّوا ما تقضونا أحكموا أمر دنياكم فإنّكم كما ... يموت الأولى أنتم تموتونا «10» قد مال دهر علينا ثمّ أهلكنا ... بالبغي منه فقد صرنا أفانينا كنّا زمانا ملوك الناس «11» قبلكم ... وفي بلاد حرام كان يأوينا

652 فغيّر «1» عمرو بن لحيّ دينه ودين إبراهيم وبدّله وحثّ العرب على عبادة التماثيل كما بيّنّا فيما سلف من هذا الكتاب. وفي هذا يقول رجل من جرهم كان على الحنيفيّة [كامل] : يا عمرو لا تظلم بمكّة إنّها بلد حرام ... سائل بعاد أين هم وكذلك تخترم الأنام «2» وبني العماليق الّذين لهم بها كان السوام ولمّا أكثر عمرو بن لحيّ من نصب الأصنام حول الكعبة وغلب على العرب عبادتها وامتحت «3» الحنيفية فيها إلّا لمعا قال شحبة بن خلف الجرهمي [بسيط] : يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة ... شتّى بمكّة حول البيت أنصابا وكان للبيت ربّ واحد أبدا ... فقد جعلت له في النّاس أربابا لتعرفنّ بأنّ الله في مهل ... سيصطفي دونكم للبيت حجّابا وعمّر عمرو بن لحيّ «4» ثلاثمائة سنة وخمسا وأربعين سنة، وكان له من الولد وولد الولد ألف. ثمّ وليت البيت غبشان من خزاعة دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الّذي وليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوت متفرّقة في قومهم من بني كنانة. واستمرّت ولاية خزاعة البيت كابرا عن كابر حتّى كان آخرهم خليل بن حبشيّة بن كعب بن عمرو الخزاعي، وكانت ابنته زوجة قصّي بن كلاب.

ذكر انهدام البيت الحرام بعد إبراهيم عليه السلام وبنيان العمالقة وغيرهم إياه

ذكر انهدام البيت الحرام بعد إبراهيم عليه السّلام وبنيان العمالقة وغيرهم إياه 653 وانهدم البيت بعد بناء إبراهيم له فبنته العمالقة، ثمّ انهدم فبنته جرهم، ثمّ انهدم فبناه قصّي بن كلاب أو هدمه هو وبناه بناء لم يبن أحد ممّن بناه مثله. قال الزبير: وجعل قصّي يبني الكعبة ويقول [بسيط] : أبني ونبني ونبيّ الله يرفعها ... أبني ونبني الله أرفعها بنيانها وبناؤها وحجابها ... بيد الإله وليس بالعبد قال: فبناها وسقّفها بخشب الرّوم الجيّد ويجريد النخل وبناها على خمس وعشرين ذراعا. 654 قالوا: وممّا رحت به قريش أنّ الله قد رضي عمّا كانوا أجمعوا عليه من هدم الكعبة أنّ حيّة كانت في بئر الكعبة الّتي كان يطرح فيها ما كان يهدى إليها، فتخرج كلّ يوم تشرف على جدار الكعبة فلا يدنو منها أحد إلّا احزألّت وكشرت وفغرت فاها، فكانت ممّا يهابون. فبينما هي تشرف على جدار الكعبة كما كانت تفعل إذ بعث الله إليها طائرا فاختطفها وذهب بها. وفي ذلك يقول الزبير بن عبد المطّلب [وافر] : عجبت لدى تصويب العقاب ... إلى الثّعبان وهي لها اضطراب وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب «1» فلمّا أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب لها من الجوّ انضباب فضمّتها إليها ثمّ خلّت ... لنا البنيان ليس له حجاب

ذكر حرق الكعبة

فقمنا حاشدين إلى بناء أساسه ... لنا منه القواعد والتّراب «1» غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مسوسنا ثياب وقد حشرت هناك بنو عدي ... ومرّة تقدّمها كلاب أعزّ بها المليك بني لؤيّ ... فليس لأصلهم منها ذهاب وبرّاك الإله لذاك مجدّا ... وعند الله يلتمس الثّواب ذكر حرق الكعبة 655 فلمّا احترقت الكعبة واحترق الركن الأسود [فتصدّع] «2» حتّى شدّه ابن الزبير بالفضّة على ما نورده بعد هذا إن شاء الله تعالى ضعفت جدران الكعبة حتّى إنّ الحمام يقع عليها فتنتثر حجارتها وهي مجرّدة متوهّنة من كلّ جانب، ففزع لذلك أهل مكّة وأهل الشّام جميعا والحصين بن نمير مقيم يحاصرها. فأرسل إليهم ابن الزبير رجالا من أهل مكّة من قريش وغيرهم فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد إلى الحصين، فكلّموه وعظّموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا: إنّكم رميتموها بالنفط، فأنكر ذلك، فقالوا له: قد توفّي يزيد بن معاوية فعلى من تقاتل؟ ارجع إلى الشّام حتّى تنظر هل يجتمع الناس على صاحبك، يعنون معاوية بن يزيد. فلم يزالوا به حتّى لان لهم وخرج إلى الشّام، وكان خروجه من مكّة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الأوّل من سنة أربع وستّين.

ذكر هدم الحجاج للكعبة

ذكر هدم الحجّاج للكعبة 656 ودخل الحجّاج مكّة فكتب إليه عبد الملك بن مروان: إنّ ابن الزبير كان قد زاد في بيت الله عزّ وجلّ ما ليس فيه. فكتب إليه الحجّاج يستأذنه في أن يردّه على ما كان عليه، فأمره بذلك. فهدّم الحجّاج منه ستّ أذرع وشبرا ممّا يلي الحجر وبناها على أساس قريش وسدّ الباب الّذي في ظهرها وترك سائرها لم يحرّك منه شيئا، (وكبّسها بما) «1» هدّم. فكلّ شيء منها اليوم بناء ابن الزبير إلّا الجدار الّذي في الحجر فإنّه بناه الحجّاج. والمرتقى إلى الباب الشرقي الّذي يدخل منه اليوم أربع أذرع وشبر، والدرجة الّتي في جوف الكعبة اليوم والبابان اللّذان عليها من عمل الحجّاج أيضا. وذكر بنيان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه درج المسجد الحرام الّذي في جوفه الكعبة «2» 657 قال ابن جريح من كتاب الأزرقي: ولم يكن على المسجد الحرام الّذي في جوفه الكعبة جدران محيطة، إنّما كانت الدور محدقة به من كلّ جانب، غير أنّ بين الدور أبوابا يدخل منها من جميع نواحيه فضاق على الناس، فاشترى عمر بن الخطّاب رضه [دورا] «3» فهدّمها، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن وتمنّع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتّى أخذوها بعد ذلك. ثمّ أحاط عليها جدارا قصيرا وقال لهم: إنّما نزلتم على الكعبة وهو فناؤها ولم

ذكر زيادة ابن الزبير في المسجد

تنزل الكعبة عليكم. ثمّ كثر الناس في زمان عثمان بن عفّان، فوسّع المسجد واشترى دورا من قوم، وأبى آخرون أن يبيعوا فهدّم عليهم فصاحوا به فقال لهم: إنّما أحملكم عليّ حلمي عنكم. ذكر زيادة ابن الزبير في المسجد 658 وزاد ابن الزبير أيضا في المسجد واشترى دورا من الناس وأدخلها في المسجد وسقّف المسجد ولم يكن مسقّفا، إنّما كان محدقا بجدار قصير، وكانوا يجلسون إليه بالغداة والعشي يتبعون الأفياء، فإذا قلص الظلّ قامت المجالس. ثمّ رفع عبد الملك جدارات الكعبة وسقّفه بالسّاج، ثمّ أحكم الوليد بن عبد الملك عمل المسجد ونقل إليه أساطين الرّخام وسقّفه بالسّاج المزخرف وجعل على رؤوس الأساطين الذهب وجعل للمسجد شرفات. ذرع المسجد والكعبة والحجر 659 ذرع المسجد طولا من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الّذي عند العلم الأخضر ومقابل «1» دار العبّاس بن عبد المطّلب [أربعمائة ذراع وأربع أذرع مع جدريه يمرّ في بطن الحجر لاصقا بجدر الكعبة. وعرضه من باب دار الندوة إلى الجدار الّذي يلي الوادي عند باب الصفا لاصقا بوجه الكعبة ثلاثمائة ذراع وأربع أذرع. وذرع عرض المسجد الحرام من المنارة الّتي عند

ذكر أبواب المسجد الحرام وأساطينه

المسعى إلى المنارة الّتي عند باب بني شيبة الكبير مائتا ذراع وثمان وسبعون ذراعا. وذرع عرض المسجد الحرام من منارة باب أجياد إلى منارة بني سهم مائتان وثمان وسبعون ذراعا. أمّا الكعبة فطولها في السّماء سبع وعشرون ذراعا] وذرع [طولها من] وجهها من الركن الأسود إلى الشامي [خمس وعشرون ذراعا] ومن الركن الأسود إلى [الركن] اليماني [عشرون ذراعا، وذرع دبرها من الركن اليماني] إلى الغربي [خمس وعشرون ذراعا] ، ومن [الركن] الشامي إلى الغربي [إحدى وعشرون ذراعا] ، وغلظ جدرانها [ذراعان] ومكسّر جميعها [أربع مائة ذراع وثمان عشرة ذراعا] «1» . وطول الحجر الأسود من الجدار ذراع وشبر وعرضه كذا إصبعا «2» . ذكر أبواب المسجد الحرام وأساطينه 660 وهي ثلاثة وعشرون بابا فيها ثلاث وأربعون طاقا، من ذلك في الشقّ «3» الّذي يلي المسعى، (وهو الشرقي) » ، خمسة أبواب: الباب الأوّل وهو الباب الكبير الّذي يقال له باب بني شيبة، وهو باب بني عبد شمس بن عبد مناف وبهم كان يعرف في الجاهلية والإسلام عند أهل مكّة، وهو ثلاث طاقات على أسطوانتين، وما بين جدرانه أربع وعشرون ذراعا. والباب الثاني باب [دار] «5» القوارير طاق واحد، وعرضه سبع أذرع وارتفاعه عشرة. والباب الثالث وهو باب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج منه ويدخل (فيه من) «6» منزله الّذي في زقاق العطّارين، فيقال له الآن مسجد خديجة. والباب الرابع وهو باب العبّاس بن عبد المطّلب، ثلاث طاقات على

ذكر الحجر

أسطوانتين، وما بين جداري الباب إحدى وعشرون ذراعا. والباب الخامس وهو باب بني هاشم وهو مستقبل الوادي وهو ثلاث طاقات على أسطوانتين، وما بين جداراته إحدى وعشرون ذراعا. ومنها في الشقّ الّذي يلي الوادي- وهو الشقّ اليماني- سبعة أبواب. ذكر الحجر 661 صفة الحجر كنصف دائرة مفروش الصّحن بالرخام، وهو من الركن الشّامي إلى الركن الغربي، وله باب ممّا يلي الركن الشّامي وباب ممّا يلي الركن الغربي، وعرضه من جدار الكعبة الّذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبع عشرة ذراعا وثمانية أصابع، وذرع ما بين بابيه عشرون ذراعا «1» ، وعرضه [اثنتان وعشرون ذراعا] «2» ، وتدويره من داخله ثمان وثلاثون ذراعا ومن خارجه أربعون ذراعا، وارتفاع جداره ذراع واحد وعرضه ذراعان إلّا إصبعين. ذكر مقام إبراهيم عليه السّلام 662 المقام مربّع مستطيل له ثمانية وجوه، فذرع رأسه أربعة عشر إصبعا في مثلها، عرض طوله أحد وعشرون إصبعا، وهو مطوّق بالذهب، وأثر القدم في أحد وجوهه الطّوال.

ذكر الملتزم والحطيم وزمزم

663 قال الأزرقي: وكانت السيول تدخل المسجد الحرام من الباب المنسوب إلى بني شيبة قبل أن يردم عمر بن الخطّاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السّيول. ذكر الملتزم والحطيم وزمزم 664 [الملتزم ما بين الركن والباب] «1» . غور زمزم ستّون ذراعا، وهو شرقي الكعبة، وفي قعرها ثلاث عيون «2» . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ماء زمزم لما شرب له. وقال أيضا: ماء زمزم لنا شرف. فأمّا الحطيم فهو ما بين الكعبة وزمزم والمقام. قال الأزرقي: ما بين حجرة زمزم إلى جدار الحوض الّذي قدام السقاية، سقاية العبّاس بن عبد المطّلب، وهي الّتي عليها القبّة، إحدى وعشرون ذراعا ونصف، وذرع بطن الحوض اثنتا عشرة ذراعا ونصف إصبع. 665 وروي أنّ علي بن أبي طالب حدث بحديث زمزم فقال: قال عبد المطّلب: إنّي نائم في الحجر إذا أتاني آت فقال: احفر طيّبة. قال: قلت: وما الطيّبة؟ قال: ثمّ «3» ذهب عنّي، فلمّا كان من الغد رجعت إلى موضعي [فنمت فيه فجاءني] «4» فقال: احفر مظنونة. قال: قلت: وما المظنونة؟

قال: ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان من الغد رجعت إلى موضعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر برّة. قال: قلت: وما برّة؟ قال: ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا «1» تنزف أبدا ولا تدم تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقر الغراب الأعصم «2» عند قرية النمل. قال: فلمّا بيّن له شأنها ودلّ على موضعها [وعرف أنّه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطّلب ليس له يومئذ ولد غيره فحفر، فلمّا بدا لعبد المطّلب الظمى كبّر فعرفت قريش حاجته فقاموا إليه] «3» فقالوا: يا عبد المطّلب «4» إنّها بئر إسماعيل إنّ لنا فيها حقّا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إنّ هذا الأمر خصصت به دونكم. فقالوا: إنّا غير تاركيك [حتّى] نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم [أحاكمكم إليه] «5» . قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قال: نعم. وكانت بأشراف الشام. 666 فركب عبد المطّلب ومعه أشراف بني أميّة وبني عبد مناف وركب من كلّ قبيلة من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتّى إذا كانوا في بعض الطريق في تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فنى ماء عبد المطّلب وأصحابه وظمئوا حتّى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فضنّوا عنهم وأبوا من سقيهم وقالوا: إنّا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فلمّا رأى عبد المطّلب ما صنع القوم قال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلّا تبع لرأيك، فمرنا بأمرك. قال: فإنّي أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرة لنفسه بما بكم الآن من القوّة، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه وواروه حتّى يكون آخركم رجلا

ذكر المنبر الذي اتخذه معاوية

[واحدا] ، فضيعة رجل واحد منكم أيسر من ضيعة ركب جميعا. قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كلّ واحد منهم وحفر حفرة، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثمّ إنّ عبد المطّلب قال لأصحابه: ما إقامتنا هكذا للموت ألا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا مخرجا، فعسى الله أن يرزقنا ماء. وارتحلوا وقبائل قريش تنظر إليهم ما هم فاعلون، حتّى إذا تقدّم عبد المطّلب إلى راحلته، فلمّا انبعثت به انفجرت من تحت خفّها عين ماء عذب. فكبّر عبد المطّلب وكبّر أصحابه، ثمّ نزل وشرب وشربوا واستقوا حتّى ملّوا أسقيتهم، ثمّ دعا القبائل من قريش فقال: هلمّوا إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا. فجاؤوا وشربوا واستقوا فقالوا: قد والله قضى [الله] لك علينا، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلّوا بينه وبين زمزم. ذكر المنبر الّذي اتّخذه معاوية 667 وقد كان من مضى يخطبون النّاس يوم الجمعة بمكّة على أرجلهم قياما حتّى اتّخذ معاوية منبرا صغيرا على ثلاث درجات قدم به من الشام سنة حجّ. ثمّ صنع الخلفاء بعده [منبرا] أحكمت صناعته مفصّلا قطعا، وكان في خزانة المسجد، فإذا كان عيد أو جمعة أخرج المنبر أعوادا مفرّقة ونصب ما بين باب البيت والركن الشامي فيما يقابل المقام وأسند إلى جدار البيت، فيصعد الإمام يخطب عليه. وكذلك إذا ورد على صاحب مكّة كتاب من الخليفة نصب وقرئ عليه الكتاب. فلمّا كانت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة تكسّر ذلك المنبر في المسجد الحرام، وكان سبب كسره أنّ صاحب مصر الملقّب بالحاكم الحسن بن نزار بن معد أرسل إلى صاحب مكّة أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني- قال القاضي

ذكر الصفا والمروة

الموسوي: وهو يومئذ قاضي مكّة وما والاها- بكتاب فيه شتم بعض الصحابة- رضوان الله عليهم- وبعض أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بقراءته على الناس. فلمّا فشا ذلك عند الناس من المجاورين والقاطنين بمكّة والمنتجعين وغيرهم من البلاد من قبائل العرب المجاورة، هذيل ورواحة وغيرهم، رجعوا إلى المسجد غضبا لله ولنبيّه ولأصحابه رضي الله عنهم. فلمّا بلغ ذلك القاضي تثاقل عن الخروج وتبطّأ وطال انتظار النّاس له حتّى قال قائل: قد صعد المنبر. فرماه الناس بالحجارة وزحفوا إليه فلم يجدوه عليه، فتكسّر المنبر وصار رضاضا. وكان يوما عظيما ومشهدا مهيبا ولم يقدم أحد بعد ذلك أن يعلّق بذلك المذهب. ذكر الصفا والمروة 668 ذرع ما بين (الركن الأسود والصفا) «1» مائتان واثنتان وستّون ذراعا وثمانية عشر إصبعا، وذرع ما بين المقام [إلى باب المسجد الّذي يخرج منه إلى الصفا مائة ذراع وأربع وستّون ذراعا ونصف، وذرع ما بين باب المسجد الّذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط] «2» الصفا مائة واثنتا عشرة ذراعا ونصف، ومن وسط الصفا إلى علم المسعى الّذي في حدّ المنارة «3» مائة واثنتان وأربعون ذراعا، وذرع ما بين العلم الّذي في حدّ المنارة إلى العلم الأخضر الّذي على باب المسجد- وهو المسعى- مائة واثنتا عشرة ذراعا. وعلى الصفا اثنتا عشرة درجة من حجارة، وعلى المسعى الّذي في حدّ المنارة بناء ارتفاعه أربع أذرع «4» عليه أسطوانة طولها ثلاث أذرع ونصف ملبّسة، وفوقها لوح

ذكر القبلة

رخام طوله ذراع وثمانية عشر إصبعا في عرض ذراع مكتوب فيه بالذهب وفوقه طاق ساج. وطول العلم الأخضر الّذي على باب المسجد عشر أذرع وأربعة عشر إصبعا منها أسطوانة بيضاء طولها ستّ أذرع وفوقها أسطوانة طولها ذراعان وعشرون إصبعا وفوقها لوح طوله ذراع وثمانية عشر إصبعا. والصفا من أصل جبل أبي قبيس والمروة في أصل قعيقعان. وهذه الدرجات المذكورة مراق في سنديهما، ويرقى منهما الطائف للدعاء. والحجّون الجبل المشرف على مسجد الجنّ «1» بأعلى مكّة، على يمين «2» المصعد إلى منى، وهو مشرف أيضا على (شعب الجزّارين) «3» . ذكر القبلة 669 قبلة أهل الكوفة وبغداد الركن الّذي بين الباب والحجر، وهو إلى الباب أقرب قليلا. وقبلة أهل الجزيرة عن يمين هذا الركن ممّا يلي الحجر منحرفا إلى الحجر. وقبلة أهل الشام ميزاب الكعبة. وقبلة أهل اليمن الركن اليماني. وقبلة أهل اليمامة الركن الّذي فيه الحجر الأسود. وقبلة أهل البصرة باب البيت. وقبلة أهل جدّة وما جاورها «4» من أسوان والصعيد وما وراء البحر ممّا بين الركن الغربي واليماني.

ذكر أرزاق السدنة والحجبة في المسجد الحرام

ذكر أرزاق السّدنة والحجبة في المسجد الحرام 670 ثمن الزيت لسرجها أربعة آلاف دينار وثلاثمائة دينار كلّ عام، والنفقة لطيب الكعبة ثلاثة آلاف دينار وستّمائة دينار وسبعون دينارا، وما يحمل للمجاورين بها من العين خمسة آلاف وثلاثمائة، ومن الورق أحد وعشرون ألفا. ذكر شعاب مكّة وسائر مناسكها 671 مقابر أهل مكّة الإسلامية الّتي يتدافنون فيها منذ قام الإسلام خمس عشرة مقبرة. فأوّلها وأفضلها الّتي بأعلى مكّة وهي المقبرة الّتي جاء فيها الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم المقبرة مقبرة أهل مكّة. وهي الّتي في الشعب الّذي يقال له شعب عمرو. ويقال إنّه ليس بمكّة شعب يستقبل الكعبة بأجمعه وكلّيّته إلّا هذا الشعب، وأهل مكّة يؤثرون التدافن فيه على سائر المقابر. شعب الجودي، سمّي بذلك لأنّ نافع بن الجودي مولى نافع بن عبد الحارث الخزاعي نزله، وكان أوّل من بنى فيه فسمّي به. شعب بني عبد المطّلب، وفيه ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموضع مولده معروف إلى اليوم، قد بني فيه مسجد وحدّ فيه موضع وجعلت عليه مكبّة. شعب أجياد، وهو غربي جبل أبي قبيس. روي عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: بئس الشعب أجياد تخرج منها الدّابة. شعب فاضح، شعب الصفى، وهو الّذي يقال له شعب الشباب سمّي بذلك لأنّ قريشا كانت إذا أرادت أن تشتدّ خرجت إليه،

منى

ولمعاوية فيه حائط يسمّى بحائط الصفى، وذلك الحائط اليوم قد ذهب، كذا وكذا بالفتح والضم وهو الفلق الذي في الجبل على المخصب، وهو الموضع الّذي بركت فيه ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح وهي القصوى، فقالوا: حلّت القصوى. فقال: ما حلّت القصوى وما هو لها بحلول، ولكن حبسها حابس الفيل. وكذلك بالضمّ في طريق التنعيم في عقبة بني شافع. منى 672 من المسجد الحرام إلى الجمرة الثانية أربعة أميال، ومن جمرة العقبة- وهي أوّل الجمار ممّا يلي مكّة- إلى الجمرة الوسطى أربعمائة ذراع وسبع وثمانون ذراعا واثنا عشر إصبعا. ومن الجمرة الّتي تلي مسجد منى- وهي آخرها- إلى أوسط «1» أبواب مسجد منى ألف ذراع وثلاثمائة ذراع. فأمّا الجمرة الوسطى فليس بينها وبين الّتي تلي [مسجد] منى إلّا مسافة يسيرة جدّا. وعرض منى من مؤخّر المسجد الّذي يلي الجبل [إلى الجبل الّذي] «2» بحذائه ألف ذراع [وثلاثمائة ذراع] «3» ، وطولها من جمرة العقبة «4» إلى وادي محسّر (سبعة آلاف ومائتا ذراع) «5» . ووادي محسّر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعا. ومن مسجد منى [إلى] قرين الثعالب ألف وخمسمائة وثلاثون ذراعا. (وعرض مأزمي منى من الجبل إلى الجبل خمسون ذراعا) «6» ، وعرض الطريق الأعظم إلى العقبة المدرّجة [ستّ وثلاثون ذراعا] «7» ، وعرض [طريق] شعب علي- وهو حيال جمرة العقبة- (ستّ وعشرون ذراعا) «8» . واسم الجبل الذي مسجد الخيف بأصله- وهو مسجد بني صالح- واسم الجبل الذي يواجهه القابل عليه «9» .

المزدلفة

المزدلفة 673 وذرع مسجد المزدلفة تسعة وخمسون ذراعا وشبر في مثله. وذرع ما بين مسجد المزدلفة ومسجد عرفة ثلاثة أميال وثلاثة آلاف وتسع عشرة ذراعا، ومن مسجد عرفة إلى موقف الإمام غشية عرفة ميل. والله أعلم. ذكر جبال مكّة 674 جبل أبي قبيس، وهو الجبل الّذي يشرف على الصّفا إلى السّويداء إلى الخندمة، وكان يسمّى في الجاهلية الأمين. قال الزبير بن بكّار: وإنّما سمّي الأمين لأنّ الركن [الأسود] «1» كان مستودعا فيه من الطوفان، فلمّا بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصّلاة والسّلام البيت ناداهما أنّ الركن في موضع كذا وكذا. وسمّي أبا قبيس لأنّ أوّل من نهض للبناء فيه رجل من مذحج- ويقال من إياد- يقال له أبو قبيس، ويقال لأنّ الركن اقتبس منه. وفي هذا الجبل موضع يقال له الجر والميزاب، وهما موضعان يسكبان الماء إذا كان المطر يصبّ أحدهما على الآخر، لأنّ الأعلى منهما الجر والميزاب هو الأسفل. وعلى رأسه حجارة مشرّفة يقال لها الكبش. 675 الجبل الأحمر، كان يسمّى في الجاهلية الأعرف، وهو الجبل المشرف وجهه

على قعيقعان على دور عبد الله بن الزبير. وكان رجلا من قريش يبري نبلا، فقالت له امرأته: لم تبري هذا النبل؟ قال: بلغني أنّ محمّدا يريد أن يغزو مكّة، فلئن جاء لأخدمنّك خادما (من بعض من نستأسر) «1» . وكانت قد أسلمت سرّا، فقالت: والله لكأنّي بك قد جئت تطلب مخبأ تحمي فيه، لو رأيت خيل محمّد. فلمّا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح أقبل إليها وقال: ويحك هل من مخبأ؟ فقالت له: فأين الخادم؟ فقال: دعيني عنك وجعل يقول [كامل] : إنّك لو أبصرت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة وضربوا بالسيف هام المسلمة ... يقطعن كلّ ساعد وجمجمة طرّا فلا تسمع إلّا غمغمة ... لهم نهيب خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللّوم أدنى كلمة 676 الجبل الأبيض هو الجبل المشرف على حقّ أبي لهب، وهو مشرف (على فلق ابن الزبير، وكان يسمّى في الجاهلية المستنذر. جبل الأعرج في حقّ آل عبد الله بن عامر، مشرف) «2» على شعب أبي زياد وشعب ابن عامر، والأعرج مولى لأبي بكر رضه كان بنى فيه فنسب إليه. وشعب ابن عامر كلّه يقال له المطابخ. الحزورة كانت بفناء دار أمّ هاني بنت أبي طالب الّتي كانت عند الحنّاطين «3» ، فدخلت في المسجد الحرام وكانت في أصل المنارة الّتي إلى الحثمة «4» ، والحزورة موضع سوق. مسجد الجنّ: يقال إنّه موضع الخطّ الّذي خطّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود ليلة استمع إليه الجنّ، وهو يسمّى مسجد البيعة ويقال إنّ الجنّ بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه.

[أعلام الحرم]

677 جبل حراء: وهو الّذي كان يتحنّث فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي، وفيه نزل عليه جبريل أوّل ما أوحي إليه وفيه بشّره بالنبوّة. وبينه وبين مكّة ميل ونصف، وهو جبل منفرد على طريق حنين من مكّة، وهو منيف صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلّا من موضع واحد في صفاة ملساء. والموضع الّذي نزل فيه جبريل عليه السّلام في أعلاه من مؤخّره. جبل ثبير: وهو أعلى جبالها وأعظمها، يكون ارتفاعه علوّا ميل ونصف. قال امرؤ القيس [طويل] : كأنّ ثبيرا في عرانين ودقه ... كبير أناس في بجادّ مزمّل وهو من الناحية المتّصلة بمنى. وهذان الجبلان- ثبير وحراء- ما بين المشرق والشّمال [من مكّة] ، وكذلك حنين من هذين الجبلين ما بين المشرق والشمال. ومن مكّة إلى حنين اثنا عشر ميلا. [أعلام الحرم] 678 قال الزبير: أوّل من نصب أعلام الحرم عدنان بن آد لمّا خاف أن يدرس الحرم، وأعلام الحرم محيطة بمكّة قد نصبت في البقاع والتّلال والغيطان والقيعان. فحدّ الحرم من ناحية التنعيم على طريق يثرب إلى مرّ الظهران خمسة [أميال] ، ومن طريق جدّة عشرة [أميال] ، ومن طريق اليمن ستّة [أميال] ، ومن طريق الطائف سبعة [أميال] ، ومن طريق العراق كذلك.

رتبة قيام رمضان بمكة

رتبة قيام رمضان بمكّة 679 قال سفيان بن عيينة: أوّل من أدار الصّفوف حول الكعبة عند قيام رمضان خالد بن عبد الله القسري، وكان الناس يقومون في أعلى المسجد، فلمّا ولي خالد مكّة لعبد الملك وحضر شهر رمضان أمر خالد الأئمّة أن يتقدّموا ويصلّوا خلف المقام وأدار الصفوف حول الكعبة. وكان عطا بن أبي رباح وعمرو بن دينار وغيرهم من العلماء يحضرون لذلك فلا ينكرونه. ولا تكاد تتقضّى صلاتهم حتّى يطلع الفجر، وعلى جبل أبي قبيس رتبة ترقّب طلوعه للمتسحّرين، فإذا بان لهم نادوا: امسكوا امسكوا رحمكم الله. ذكر دخول القرامطة- لعنهم الله- مكّة بالسيف وقتل الحاجّ منها 680 وقال إبراهيم بن فارس وأبو بكر محمّد بن علي بن القاسم في تأريخه وغيرهما إنّ أبا الطّاهر سليمان بن الحسن القرمطي- لعنه الله- صاحب البحرين لمّا دخل مكّة بالسيف، وهو في تسعمائة رجل، وذلك يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجّة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قتل في المسجد الحرام نحو ألف وسبعمائة من الرجال والنساء وهم متعلّقون «1» بأستار الكعبة، ورحم «2» منهم زمزم وفرش المسجد وما يليه، وقلع الحجر الأسود وأخذ أستار الكعبة وهتك حرمتها. قال محمّد بن علي الذهبي: وحضرته يوم قلع يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من ذي الحجّة من العام المؤرّخ، قلعه بيده جعفر

ذكر كسر الحجر

بن أبي علاج البنّاء المكّي بأمر القرمطي- لعنه الله- وحمل الحجر إلى بلاده. قال أصحاب التواريخ: فرمى الله عزّ وجلّ القرمطي في جسده وطال عذابه وتقطّعت أوصاله وأراه الله عزّ وجلّ في نفسه عبرة. وأعيد الحجر في مكانه يوم النحر، ردّه بيده حسن بن المزوّق البنّاء، فكانت غيبته «1» من يوم قلع إلى يوم ردّ اثنتين وعشرين سنة إلّا أربعة أيّام. وكان مكانه فارغا يدخل المسلمون أيديهم فيه إلى أن ألقى الله في قلوب الكفرة رهبة. قال: وأخبرني أبو العبّاس قال: لمّا حضرت سنة خمس عشرة وأربعمائة الحفر بين الحجون والأوصام أثيرت «2» هناك جماجم وعظام كثيرة، فلمّا رأوا ذلك أعادوا ما نبش من التراب منها. ذكر كسر الحجر 681 قال: وشهدت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كسر الحجر الأسود، وذلك أنّه لمّا كان ثالث يوم النحر، وهو اليوم الّذي يتعجّل فيه الحجّاج من منى إلى مكّة، والناس في صلاة الظهر، أتى «3» رجل من غمار الناس كان ممّن ورد في قافلة مصر زعموا أنّه من مدينة بردعة، فانتهز الفرصة باشتغال الناس في صلاتهم فقصد قصد «4» الحجر بيده دبّوس من حديد، فضربه ضربات أبان بها من وسطه ثلاث شظايا، ثمّ ولّى ذاهبا يريد باب الصّفا، فبادره الناس فقتل مكانه وقتل لأجله من حاج أهل المغرب في شعاب مكّة وأطرافها أزيد من خمسمائة رجل. ثمّ ردّت تلك الفلق إلى موضعها وشدّت باللجين.

ذكر المواضع التي اعتمر منها النبي - صلى الله عليه وسلم -

682 ومن عجائب مكّة أنّ الحمام وجميع الطير يهوي في طيرانه، فإذا قارب أن يحاذي الكعبة أخذ يمينا وشمالا ولا يعلوها البتّة ولا ينزل على جدرها إلّا أن يكون مريضا، والطير تنزل على سائر جدر المسجد وقبّة زمزم وغيرها «1» . ذكر المواضع الّتي اعتمر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - 683 الجعرانة وبركة أمّ جعفر، ومنها اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من هوازن، ثمّ قسم غنائم هوازن بعد عمرته بأوطاس، وعمرة أخرى بنجر ممّا يلي طريق مكّة. ذكر ما بين مكّة والمدينة من مساجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 684 بين مكّة والمدينة مسجدان بذي الحليفة: المسجد الكبير الّذي يحرم الناس منه، والآخر مسجد المعرّس «2» على ميلين من العليا له في صفح الجبل «3» . وعلى سبعة أميال من السيالة مسجد يقال له مسجد (غرق الظبية) «4» ، فيه كانت مشاورة النبي في قتال أهل بدر. وعلى ثلاثة أميال من الروحا مسجد في سند الجبل يقال له مسجد المنصرف، وفي أوّل الرويثة «5»

مساجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بناحية المدينة وما يليها

مسجد، وقبل أن تأتي العرج مسجد، وفي أوّل القرية مسجد يعرف بمسجد الأثاية «1» ، وعلى أربعة أميال من العرج مسجد، وعلى ميل من طلوب مسجد، وعلى خمسة أميال من الأبواء مسجد، وعلى ثمانية أميال من الأبواء مسجد، وقبل المشلّل «2» خيمتا أمّ معبد، ومن قدبد إلى عين أبي ربيع، وهو خليص، ثمانية أميال، وهي عين ثرّة عليها نخل كثير وشجر وفيها مسجد، والعقبة قبل خليص بثلاثة أميال، وهي ثنية كعب وعندها مسجد، ومن خليص إلى أمج ثلاثة أميال، وله مساجد غير ما ذكرنا. مساجد النّبي - صلى الله عليه وسلم - بناحية المدينة وما يليها 685 مسجد النور ومسجد العدوة ومسجد الفضيح ومسجد عثمان بن عفّان ومسجد رباح ومسجد العسكر ومسجد بلال في سفح الجبل ومسجد رومان ومسجد الفتح ومسجد جبل الخندق (ومسجد الرحمة) «3» ومسجد الجماعة ومسجد العجوز ومسجد القبلتين ومسجد بني زريق ومسجد بني ساغدة، وهو مسجد السفينة، مسجد بني كعب. ذكر مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 686 أسماء المدينة: طيبة وطابة «4» والمجبورة والمرحومة والعذراء والمحبّة والمحبوبة

جبال المدينة

والقاصمة «1» وجابرة، وسمّاها الله عزّ وجلّ المدينة وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال: إنّ الله حبّب إلينا المدينة كحبّ مكّة أو أشدّ. وقال: على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها من الطاعون. وقال: والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون «2» . وروى زبير بن أسيد الساعدي قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، إنّي قد رأيت موضعا للسوق أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى، وقام معه حتّى جاء فنظر إليه وقال: هذا سوقكم، فضرب برجله وقال: لا ينتقض ولا يضرب عليه خراج. جبال المدينة 687 جبل أحد وجبل عرايات وجبل حيش وجبل عيد وجبل سلع وجبل يحت وجبل المرعا وجبل القدوم وجبل الأصفر، والحرّة تحيط «3» بها كلّها. ذكر «4» مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الّذي قبره- كرّمه الله- فيه 688 روى أبو داود عن ابن عمر أنّ المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيّا باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، لكنّه

تخرّب في خلافته فبناه على حاله (بجريد النخل) «1» ، وتخرّب في خلافة عمر فبناه كذلك (وزاد فيه) «2» ، وتخرّب في خلافة عثمان بن عفّان فزاد فيه زيادة كثيرة وبناه بالحجارة المنقوشة والفضّة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقّفه بالسّاج. 689 «3» وروي أنّه قيل للنّبي - صلى الله عليه وسلم -: سدّه أي أصلحه. فقال عريش كعريش موسى، ولم يكن في عهده على سقفه طين، ولو كان كذلك ما هطل الماء، وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين. ثمّ إنّ الوليد بن عبد الملك هدّمه سنة ثمان وثمانين وزاد فيه فأتقنه. قال الواقدي والطبري: وكان قد بعث إلى صاحب الروم يعلمه أنّه أمر بتجديد مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوسعة فيه ويسأله أن يبعث إليه بأهل الحرف والرفق من البناة، فبعث إليه الطاغية بمائة ألف مثقال ومائة بنّاء وبأربعين حملا من فسيفساء، وأمر الوليد بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بهدم المسجد وإدخال حجر أزواج النّبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وأمره أن يشتري ما في مؤخّره ونواحيه حتّى يكون مائتي ذراع في مثلها، وكتب إليه أن يقدّم القبلة إن قدر. وعلى ذلك من أبى من بيع داره أمره بتقويمها قيمة عدل، ثمّ دفع الأثمان فيها وهدّمها، وقال: إنّ لك في ذلك صدق عمر وعثمان رضي الله عنهما. فأقرأ عمر بن عبد العزيز كتاب الوليد على من حضره من قريش وغيرهم، فأجابوه إلى البيع فقبضوا ثمن ما أعطاهم إيّاه. وقد كان عبد الله بن عبد الله بن عمر أبى من بيع بيت حفصة وقال لعمر: لو خرقت سقفه وملأته لي من ذهب ما بعته. فأخبر بذلك الوليد وكتب إليه الوليد: المسجد أحقّ به فخذه. وقال عبد الله عند ذلك: فدع لي طريقي. فترك له الخوخة مكان ما أخذ. ثمّ أخذ عمر في هدم البيت والسوق وقدم عليه

الصّنّاع والفعلة من عند الوليد، فأسّسوا أساس المسجد. واستعمل عمر رحمه الله على هدمه وبنائه صالح بن كيسان بداية في صفر سنة ثمان وثمانين حتّى كمل على أفخم هيئة وأحسن بنية وأتمّ إتقان. 690 قال عبد الله بن مسلم: ثمّ وسّعه المهدي سنة ستّين ومائة، وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسّعه. قال: وقرأت على موضع زيادة المأمون: أمر عبد الله عبيد الله بعمارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة اثنتين ومائتين يطلب ثواب الله (وطلب كرامة الله) «1» ، فإنّ الله عنده حسن الثواب «2» وكان الله سميعا بصيرا. أمر عبد الله عبيد الله بتقوى الله ومراقبته وصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنّة رسوله «3» وتعظيم ما صغر الجبابرة من حقوق الله وإحياء لما أماتوا من العدل وتصغير ما عظّموا من العدوان والجور، وأن يطاع من أطاع الله ويعصى من عصى الله، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، وأمر بالتسوية بينهم في فيئهم ووضع الأخماس مواضعها. قال غيره: وفي سنة عشرة وثلاثمائة أمر المقتدر فركبت أبواب السّاج على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 691 قال ابن شيبة: قال أبو غسّان: ذرع عرض مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقدّمة من المشرق إلى المغرب (مائة وخمس وستّون ذراعا، وذرع عرضه من مؤخّره من المشرق إلى المغرب) «4» مائة ذراع وثلاثون ذراعا، (وارتفاع سمك المسجد ... ويقصر مؤخّره عن مقدّمه خمسا وثلاثين ذراعا) «5» . وطول المسجد من ناحية «6» اليمن (إلى الشام) «7» مائتان وأربعون ذراعا،

وخالص طول رحبته من اليمن إلى الشّام مائة وخمسون ذراعا (وخالص عرض رحبته من المشرق إلى المغرب ... ) «1» . وفيه من الأساطين مائتان وستّ وتسعون، وفي حظير القبر منها ثلاث «2» . وعن شرقيّ المنبر منها أربع «3» وعن غربيّه أربع «4» . وعدد أبواب المسجد عشرون: في الشرق ثمانية وفي الغرب ثمانية وفي الشرق الشّامي أربعة أبواب، وهذه الأبواب سوى خوخة آل عمر الّتي تحت المقصورة وسوى الخوخة الّتي (إلى دار مروان، يخرج منها الولاة إلى المقصورة، وسوى الخوخة الّتي) «5» في غربيّ المقصورة. 692 (وللمسجد ثلاث صوامع: اثنتان في الشرق وواحدة في الغرب، وطول الغربية ثلاث وخمسون ذراعا «6» ، وطول إحدى الشرقيتين خمسون ذراعا والأخرى خمس وخمسون ذراعا، وتربيع كلّ واحدة منها ثماني أذرع في مثلها) «7» . وارتفاع منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (دون الزيادة ذراعان وأربعة عشر إصبعا، وهو ثلاث أذرع بالمقعد، والدرجتان شبران في شبر والمقعد ذراعان في مثلها. والمنبر الّذي زاده مروان فيه طوله أربع أذرع وفي عرضه) «8» ذراعان ونصف، وعرض الرخام الّذي «9» حول المنبر ثماني عشرة ذراعا (وطوله ... ) «10» بين ستّ أساطين، قدام المنبر منها أسطوانتان. 693 وذرع ما بين القبر والمنبر (ثلاث وخمسون ذراعا وشبر، وذرع ما بين

المنبر) «1» ومقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الّذي كان يصلّي فيه حتّى توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة ذراعا وشبر. وذرع ما بين مصلّاه الأوّل وبين الأسطوانة المعروفة بأسطوانة التوبة تسع عشرة [ذراعا] . وذرع ما بين جدار القبلة اليوم إلى أسطوانة التوبة عشرون [ذراعا] . (وعلى رأس محراب المسجد من خارج في الجدار مرآة مربّعة. وعدد قناديل المسجد مائتا قنديل وتسعون قنديلا) «2» . وفي صحن المسجد بيت هي خزانة المسجد، وأمام البيت أسطوانة قد رسّمت في أعلاها بلاطة لمعرفة أوقات الظهر والعصر في جميع «3» أيّام العام. وممّا يلي مؤخّر المسجد حائط فيه نخل كثير، وهو الحائط الّذي كان لأبي طلحة الأنصاري المعروف بيبرحا (؟) . 694 فأمّا حدّ المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنّ مالكا قال: كان جدار المسجد الشرقي يمنى القناديل الّتي (تلي خوخة آل عمر، يعني القناديل الّتي) «4» فوق الخوخة المواجهة للمنبر، ومنتهى ذلك إذا كنت واقفا عند القبر ثلاث أساطين عن يسارك إلى ناحية القبر، وهو آخر المسجد الأوّل (شرقا، وثلاث أساطين عن يمينك أخره غربا، فأمّا آخر المسجد الأوّل) «5» فهو العضادة السفلى من الباب الّذي يقال له باب عثمان. فأمّا الجدار القبلي فإنّ حدّه معلوم بالمنبر والروضة. وكان عمر بن الخطّاب رضه قد قدّمه إلى موضع المقصورة، ثمّ قدّمه عثمان إلى موضعه الّذي هو فيه الآن، فلم يقدّم «6» بعد إلّا ما زيد فيه يمينا وشمالا.

ذكر نزول اليهود يثرب وما حولها ومن معهم من العرب قبل الأوس والخزرج

695 وصلّى الله على أكرم الأنبياء وخيرة الأصفياء وخاتم الأتقياء، الّذي اختاره الله من أهل الأرض والسّماء، محمّد بن عبد الله النبي الأمّي الهاشمي المدني المكّي، وعلى آله وأزواجه وذرّيته إلى يوم الدّين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وسلام الله على سائر الصالحين. ذكر نزول اليهود يثرب وما حولها ومن معهم من العرب قبل الأوس والخزرج 696 قد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب أنّ أمّة من العماليق تسمّى داسما نزلوا الحجاز، وكان ملكهم يقيما ويقال له الأرقم ابن أبي الأرقم، كذلك روي عن عروة بن الزّبير وغيره، فسكنوا مكّة والمدينة والحجاز كلّه وعتوا عتوّا كبيرا. فلمّا أظهر الله عزّ وجلّ موسى على فرعون وأهلكه وجنوده وطئ الشّام وأهله وأقام بها، وبعث بعثا من بني اسرائيل إلى الحجاز وأمرهم أن لا يستبقوا منهم أحدا. فوجدوا الأرقم بن أبي الأرقم فقتلوه وأصابوا ابنا له شابّا من أحسن الناس صورة، فلم يقتلوه وقالوا: نستحييه حتّى نقدم به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعنون موسى- فيرى فيه رأيه. فأقبلوا، فقبض الله عزّ وجلّ موسى قبل قدوم الجيش. ولمّا سمع بقدومهم بنو إسرائيل خرجوا إليهم وتلقّوهم وسألوهم، فأخبروهم بأمر الصّبي وقالوا لهم: قد خالفتم وعصيتم أمر نبيّكم، ومنعوهم دخول بلدهم وحالوا بينهم وبين الشام. وكان الحجاز إذ ذاك أكثر بلاد الله شجرا وأظهرها ماء. (فكان هذا أوّل سكنى اليهود

الحجاز) «1» ، وكانوا بزمهرة، وهي بين الشام والحرّة، ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السّيول، سيل بطحان والعقيق وسيل قناة ممّا يلي زغابة «2» . 697 قال محمّد بن كعب القرظي: وخرجت قريظة وإخوتهم (بنو هدل) «3» وبنو عمرو بن الخزرج بن الصريح وبنو النّضير بن النحام بن الخزرج بن الصريح، وهم «4» كلّهم من ولد هارون بن عمران، فتبعوا آثار هؤلاء فنزلوا بالعالية على وادين يقال لهما مذينب ومهزور، نزلت بنو النّضير على مذينب واتّخذوا عليها الأموال، (ونزلت قريظة وهدل على مهزور) «5» واتّخذوا هناك الآطام والمنازل، ونزل بعض قبائل العرب عليهم. فذكر توبة بن الحسن بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عن جدّه قال: كان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل، وكان قد نزلها عليهم أحياء «6» من العرب، فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج عليهم. وقال (شاعر بني أنيفة) «7» [طويل] : ولو نطقت يوما قباء لخبرت ... بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع وآطامنا عادية مشمخرة ... تلوح فتبقى من تعادي وتبع «8» وإنّما سمّيت قباء بالبئر الّذي في دار توبة بن الحسن بن السائب بن أبي لبابة يقال لها قباء. (ومن آطامهم بلحان. قال الشّاعر [رجز] : من سرّه رطب وماء بارد ... فليأت أهل المجد من بلحان) «9»

ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة

698 ومن آطامهم أطم في المال الّذي يقال له خنافة، وكان رجل منهم عدا على رجل فقطع يده فقال لهم المقطوع: أعطوني خنافة عقلا بيدي. فأبوا وحفر الّذي قطعه «1» كوة في جدار من جدر خنافة، وأخرج يده من وراء الجدار وقال: أقطعوا. (فقال حين قطعت يده) «2» [رجز] : الآن قد طابت لنا خنافة ... طابت فلا جوع ولا مخافة ولهم (الأطم المرّ الّذي) «3» عند مشربة ماريا «4» أمّ إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة «5» 699 فأمّا نزول الأوس والخزرج المدينة فكان على ما تقدّم ذكره عند ذكر «6» سيل العرم. فلمّا نزلوا يثرب ورأوا الآطام والأموال والعدد والقوّة لليهود (سألوهم حلفا وجوارا، يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون عمّن سواهم) «7» ، فتعاهدوا «8» وتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا «9» ، فلم يزالوا على ذلك زمانا «10» طويلا. ثمّ إنّ الأوس والخزرج صارت لهم ثروة من المال والعدد وامتنع «11» جانبهم وعلا أمرهم، فخافتهم يهود على ديارهم وأموالهم فقطعوا الحلف بينهم. وكانت اليهود أعدّ وأكثر وكانت العدد والشدّة منهم في الكاهنين، وهما قريظة والنضير، وإيّاهما عنى قيس بن الحطيم (بشعره حيث قال) «12» [بسيط] :

كنّا إذا رامنا قوم بمظلمة ... شدّت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا نسوا الرّهون وأنسونا بأنفسهم ... بنو الصّريخ فقد عفوا وقد كرموا 700 فلمّا قطعت اليهود حلف الأوس والخزرج بقوا معهم «1» حتّى لجم فيهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوّده الحيّان، فبعث إلى من بالشّام من قومه يخبرهم باستذلال اليهود لهم وغلبتهم عليهم، وكان رسوله «2» إليهم الرفق بن زيد بن إمرئ القيس أحد بني سالم بن عوف، وكان قبيحا ذميما شاعرا بليغا، فقال في خروجه إلى الشام [بسيط] : أقسمت أطعم للمروق قطرة ... حتّى يكثر للنجاء رحيل حتّى ألاقي معشرا مالي لهم ... حلّ ومالهم لنا مبذول أرض (بها تدعى) «3» قبائل سالم ... ويجيب فيها ملك وبسلول قوم أولو عزّ وعزّي «4» عزّهم ... إنّ الغريب وإن أجير ذلول ومضى الرفق حتّى قدم الشام على ملك من ملوك غسّان يقال له أبو جبيلة أحد بني جشم بن الخزرج الّذين ساروا من يثرب إلى الشام، (وقيل إنّه من ولد جفنة بن عمرو بن عامر، وكان قد أصاب ملكا بالشام وشرفا، فشكا إليه الرفق حالهم وغلبة اليهود لهم) «5» . فعجب من شعره وبلاغته مع قبحه وذمامته فقال: عسل طيّب في وعاء خبيث. فقال الرفق: أيّها الملك إنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. (قال: صدقت) «6» . فلم يرج أبو جبيلة نصرهم وخرج في جمع كثير لا يعرج على شيء وأظهر أنّه يريد اليمن، وعاهد الله (عزّ وجلّ) «7» لا يرجع إلى دياره أو يخرج من يثرب يهود ويذلّلهم للأوس والخزرج.

701 قال علماء السّير: فلمّا قدم يثرب لقيه الأوس والخزرج، فأعلموه أنّ القوم إن عرفوا ما يريد تحصّنوا في آطامهم فلم يقدر عليهم، ولكن تدعوهم للقائك وتلطّف بهم حتّى يأمنوا ويطمئنّوا إليك فتستمكن منهم. فتصنّع «1» لهم طعاما وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم فلم يبق منهم أحد إلّا أتى إليه «2» ، وجعل الرجل منهم يأتي بخاصّته وحشمه رجاء أن يحييهم الملك. وقد كان بنى لهم بناء وجعل فيه قوما وأمرهم أن يقتلوا من دخل عليهم. فلمّا فعل ذلك عزّت الأوس والخزرج وغلبت على ديارهم. وتفرّقت الأوس والخزرج في عالية المدينة، فلم يبق من اليهود إلّا أقلّهم ممّن أقام على الهون ورضي بالصغار. 702 قال داود بن سمكين الأنصاري (من ولد الحارث بن الصمد عن أشياخه) «3» كانت يثرب في الجاهلية تدعى غلبة. غلبت اليهود عليها العمالقة، وغلبت الأوس والخزرج عليها اليهود، وغلب المهاجرون عليها الأوس والخزرج، وغلبت الأعاجم عليها المهاجرين. وكانت الآطام حصون المدينة وزينتها، روي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الأنصار أن يهدموها. 703 وذكر أنّه وجد في المدينة في حماء أمّ خالد قبر عليه مكتوب: أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية. وذكر عثمان بن

ذكر العقيق

عبد الرحمن «1» أنّه وجد قبرا في الحماء عليه مكتوب، فقرأه رجل من أهل اليمن فإذا فيه: أنا عبد الله رسول رسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب. ذكر العقيق 704 قال هشام بن عروة: العقيق من قصر المراجل صاعدا إلى البقيع، وما سفل عن ذلك فهو زغابة «2» . وقال غيره: العقيق من العرضة إلى البقيع، والعرضة ما بين محجّة بين «3» إلى محجّة الشّام. وذكر أنّ تبّعا مرّ بهذا الموضع لمّا قدم المدينة فقال: هذا عقيق الأرض، فسمّي العقيق. وروي عن عامر «4» بن سعد بن أبي وقاص قال: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما إلى العقيق ثمّ رجع فقال: يا عائشة جئنا من هذا العقيق، فما ألين موطئه وأعذب ماءه! قالت: يا رسول الله أفلا ننتقل إليه «5» ؟ قال: وكيف ذلك وقد أتانا الناس؟ وقال عمر ابن الخطاب رضه: حصّنوا هذا المسجد- يعني مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - من هذا الواد المبارك- يعني العقيق «6» . 705 وفي الطريق من المدينة إلى بيت المقدس قصر معاد، وهو خال وفيه حمام وعين عذبة يذكر أنّ سليمان بن عبد الملك بناه. ومنه إلى (برج يقال له رأس، ومنه إلى) «7» مؤتة الّتي (قتل فيها جعفر بن أبي طالب وأصحابه

الطريق من مدينة النبي عليه السلام إلى مصر على الجادة

رضي الله عنهم، وهناك قرية يقال لها جيرا وفيها) «1» قبر جعفر بن أبي طالب، وعليه مسجد كبير، وبقربه قبر عبد الله «2» بن رواحة وعليه محاريب مبنية للصلاة، وبقربه قبر زيد بن حارثة. وهذه القرية قريبة من جبل الشورى، وبين جبل الشورى وأيلة مرحلة. وهذه الجبال فصل ما بين أرض الحجاز وأرض الشّام، وهي جبال منيفة وفيها قرى عامرة كثيرة «3» ووعار «4» غزيرة. الطريق من مدينة النبي عليه السلام إلى مصر على الجادّة 706 من المدينة إلى نقى ذي خشب، إلى السّويداء، إلى المروة، إلى سيقي يزيد، إلى بدا يعقوب، إلى ضبا، إلى الثبك والصّلا، إلى عينونة، إلى مدين، إلى أشراف البعل، إلى وادي الغراب، إلى حقل، إلى مدينة أيلة «5» ، إلى بطن نجد، إلى قبر أبي حميد- وهي القباب، إلى القلزم، إلى جبّ عميرة، إلى مصر. 707 وضبا مرسى للسفن مأمونة «6» وفيه آبار عذبة وشجر المقل فيه كثير، وبين ضبا ومدين جبال شامخة متكابرة «7» . وبقرب مدين البئر الّتي استسقى منها موسى عليه السّلام قد بني عليها بيت من صخر فيه قناديل معلّقة، وبها كهف

يسمّى كهف شعيب، وهو الّذي كان يؤوي إليه غنمه فيما ذكروا. وفي الجبل الّذي بين ضبا ومدين «1» بيوت منقورة في صخر قد حفر في البيوت قبور، وفي تلك القبور عظام نخرة كأمثال عظام الإبل كبرا، مقدار كلّ بيت عشرون ذراعا أو نحوها، ولتلك البيوت روائح خبيثة لا يدخل الداخل فيها أو يمسك بأنفه من شدّة النتن، يقال إنّه لمّا أخذهم العذاب يوم الظلّة دخلوا فيها فهلكوا. وبقرب هذه البيوت وما يليها تلال تراب عظيمة قيل إنّها كانت مواضع عامرة فخسف بها. 708 ومع يهود مدين كتاب يزعمون أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه لهم وهم يظهرونه للناس حتّى الآن، وهو في قطعة من أدم قد اسودّت لطول الزمان إلّا أنّ خطّها بيّن وفي آخرها: وكتب علي بن أبي طالب غيره «2» . وقيل إنّه بخطّ معاوية بن أبي سفيان. 709 وتستمرّ من مدين في جبال شاهقة «3» حتّى تفضي إلى جبل شامخ عن يمين الطريق فيه كوة منقورة «4» في الصخر «5» حيث لا يصل واصل ولا يرقى راق، وتزعم أعراب تلك الناحية أنّه كان بيتا لساحرة كانت تأوي إليه. فلا تزال تسير والجبال عن يمينك والبحر عن يسارك حتّى تفضي إلى فرجة كالباب تسير إلى أيلة، وهي قرية كبيرة فيها أسواق ومساجد وفيها كثير من يهود. (ويزعمون أنّ عندهم برد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنّه وجّه به إليهم أمانا لهم، وهم

يظهرونه بردا عدنيا ملفوفا بالثياب قد أبرز منه قدر «1» شبر لئلّا تدنّسه الأيدي) «2» . وروى أبو حميد الساعدي في خبر غزوة تبوك أنّ صاحب أيلة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء وكساء وبردا وكتب لهم يخبرهم «3» بأمانهم. 710 ثمّ تسير من أيلة فتلقى العقبة التي لا يصعد فيها راكب لصعوبتها ولا تقطع إلّا في طول اليوم لطولها «4» . ثمّ تسير مرحلتين في فحص التيه الّذي تاه فيه بنو إسرائيل حتّى ترى في ساحل البحر موضعا يقال له بحر فاران، وهو الّذي غرق فيه فرعون. ومن هنا إلى القلزم مرحلة، وإنّما نسب هذا البحر إلى فاران، وهي مدينة من مدائن العماليق على تلّ بين جبلين، وفيه ثقوب «5» كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتا. 711 وفي صفح أحدهما بيعة للنصارى وحصن عليه سور من حجارة وشرّافات وأبواب حديد، داخلة عين ماء عذب، وعلى العين درابزين «6» من نحاس لئلّا يسقط فيه أحد، وقد أجري ماؤها في قنى رصاص إلى ما حوالي الدير من الكروم والأشجار. ويقال إنّ على هذه العين شجر العلّيق الّذي أنس موسى عليه السلام عنده النار. وعلى خطوات من هذا الدير أوّل العقبة الّتي يصعد منها إلى رأس طور سينا، وهي ستّة آلاف وستّمائة وستّون مرقاة قد نحتت درجات في الصخر، فإذا قطعت تلك المراقي صرت إلى مستو من الأرض فيه أشجار وماء عذب. وهناك كنيسة على اسم إيليا النبي

- صلى الله عليه وسلم -، وهناك مغارة يزعمون أنّ إيليا استخفى فيها من أزقيل الملك. ثمّ تستمرّ «1» في الارتقاء حتّى تنتهي إلى قنّة «2» الجبل وهناك كنيسة متقنة البناء تنسب إلى موسى عليه السلام بأساطين رخام، وحيطانها «3» مزخرفة بالفسيفساء وأبوابها ملبّسة بالصفر وسقفها من خشب الصنوبر، وأعلاها أطباق رصاص قد أحكمت غاية الإحكام، وليس فيها إلّا سادن واحد يقيمها (ويقوم عليها) «4» ويخدمها «5» ويسرج قناديلها، وقد اتّخذ هذا الراهب لنفسه بيتا صغيرا خارجا عن الكنيسة يأوي إليه وينام فيه، ولا يمكن أحد أن ينام في الكنيسة، (ولا يدخل عينيه فيها غمض. وهذه الكنيسة) «6» بنيت بالمكان الّذي كلّم الله عزّ وجلّ فيه موسى تكليما. ويزعمون أنّه كان في السالف حول دير الغور «7» هذا وحول (دير رأسه) «8» ستّة عشر ألف قلايا للرهبان والمتعبّدين، وليس اليوم بهذه القلايات أحد إلّا نحو «9» سبعين راهبا. 712 وعلى مقربة من القلزم جزيرة في البحر المالح يقال لها البعوق فيها قبر مالك بن الحارث النخعي الأشتر. وللقلزم جسر على البحر المالح مقدار علوّه ... يسلك عليه الحاج في البرّ «10» إلى مكّة. وذكر سيف بن عمر قال: كتب عمر بن الخطّاب إلى أمراء الأمصار يستمدّهم ويستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجرّاح بأربعة آلاف راجلة من طعام فولّاه قسمتها، وجاءه كتاب عمرو بن العاص من مصر جواب كتابه: إنّ البحر الشامي حفر لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفرا يصبّ في بحر الغرب فسدّه «11» الروم والقبط، فإن أحببت أن يكون سعر الطعام بالمدينة كسعره

ذكر بلاد العراق والمشهور من مدنها

بمصر حفرت لهم نهرا أو بنيت لهم قناطر. فكتب إليه عمر أن افعل ذلك وعجّل ذلك. فقال له أهل مصر: خراجك راخ «1» وأميرك راض، وإن تمّ هذا انكسر الخراج. فكتب بذلك عمرو إلى عمر فجاوبه عمر: (اعجل فيه وعجّل إليه) «2» لخراب خراج مصر في عمران المدينة وصلاحها. فعاجله «3» عمرو وهو القلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر ولم يزد بذلك مصر إلّا صلاحا. 713 والتيه مقدار أربعين فرسخا (في مثلها) «4» وقيل إنّه تسعة فراسخ في مثلها. وأوّل حدّه ما بين قبر أبي حميد وبطن نجد، وفيه مات موسى وهارون عليهما السّلام. وبطن نجد قرية ليس فيها نخل ولا شجر يسكنها نفر من الناس، ويقال له أيضا بطن نخل لسوافي تسفي على الناس فيه ترابا رقيقا كأنما نخل بمنخل «5» . ذكر بلاد العراق والمشهور من مدنها «6» 714 حدّه «7» ما بين الحرن «8» إلى السواد. فسواد «9» الكوفة: كسكر إلى «10» الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية، وسواد البصرة: الأهواز وفارس ودهشنان، وهذه كلّها من العراق. وإنّما سمّي العراق مأخوذ من عراقي الدلو وعراق «11» القربة، والكوفة والبصرة تسمّى العراقين.

715 فطول أرض السّواد من حدّ أرض أثور «1» - وهي الموصل- من قرية تسمّى العلث «2» من طسّوج بزرجسابور وقرية تعرف بحربا «3» من طسّوج مسكن بينهما عرض دجلة إلى آخر الكورة «4» ، وهو الموضع المعروف ببهمن أردشير، وهي من فرات «5» البصرة حتّى تبلغ جزيرة منها متّصلة بالبحر «6» تعرف بميان روذان «7» ، يكون ذلك بالفراسخ مائة وخمسة وعشرين [فرسخا] «8» . وعرضه من عقبة «9» حلوان إلى العذيب ممّا يلي البادية، وذلك بالفراسخ ثمانون فرسخا. وقال أبو عبيدة إنّ حدّ السواد الّذي مسح «10» عثمان بن جنيف هو من لدن تخوم الموصل مادّا إلى ساحل البحر من بلاد عبادان من شرقي دجلة طولا «11» ، وعرضه من منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف «12» القادسية ممّا يلي العذيب من أرض العرب. وعن الشعبي: أنّ عمر بن الخطّاب بعث عثمان بن حنيف، فمسح السّواد فوجده ستّة وثلاثين «13» ألف ألف جريب، يعني موضع الغلّة منه. 716 وأمّا على تكسير الذرع الّذي ذكرناه من الطول والعرض فإنّه مائتا ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف جريب يوضع منها بالتخمين آكاما وآجاما وسباخا وطرقا وصحاري وأنهارا، ومواضع المدن والقرى الثّلث، ويبقى بعد ذلك

مائة ألف ألف «1» وخمسة وسبعون ألف ألف جريب، يزاح منها النصف لما فيها من النخيل والكرم والشجر، ويعمّر النصف وذلك خمسة وسبعون ألف ألف جريب، فيكون قيمة ما يلزم كلّ جريب من الخراج على التخمين درهمين، وذلك أقلّ من العشر على أن يضرب ما يوجد فيها من الخراج بعضه ببعض مع خراج أهل الذمّة، ويبلغ ذلك ورقا مائتي «2» ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم. 717 واختلف فيما وضع عمر بن الخطّاب رضه على كلّ جريب فقيل: وضع عليه درهما واحدا وقفيزا، وقيل إنّه وضع على جريب الحنطة نصف قفيز وعلى جريب الشعير أربعة أقفزة وعلى جريب الكرم والتمر أربعة. وختم على خمسمائة ألف إنسان للجزية على الطبقات، فجبى عمر السواد من الورق مائة ألف ألف درهم وثمانية وعشرين ألف ألف درهم. وجباه عمر بن عبد العزيز مائة ألف ألف (وأربعة وعشرين ألف درهم) «3» ، وجباه الحجّاج لظلمه وعسفه ثمانية عشر ألف ألف «4» ليس فيها مائة ألف ألف، (وأسفلهم ألفي) «5» ألف، فحصل له ستّة عشر ألف ألف. ومنع أهل السواد من ذبح البقر ليكثر الحرث والزرع. فقال الشاعر في ذلك [متقارب] : شكونا إليه خراج السّواد ... فحرّم فينا لحوم البقر وكان كما قال من قبلنا ... أريها الشمس وتريني «6» القمر

718 قال عمرو بن بحر: قال أبو الحسن وأبو عبيدة: بصّرت البصرة سنة أربع عشرة، وكذلك قال غيره، وكوّفت الكوفة سنة سبع عشرة. والطّسوج ترجمته الأقاليم، والأستاق ترجمته الأحواز، والسّواد الاثنتا عشرة كورة. 719 قالوا: وارتحل سعد من المدائن بالناس حتّى عسكر بالكوفة في المحرّم سنة سبع عشرة، وكان بين وقعة المدائن ونزول الكوفة سنة وشهران. وقيل إنّ عمر كتب إلى سعد: نبّئني ما الذي غيّر ألوان العرب ولحومهم «1» . فكتب إليه: إنّ العرب غيّر ألوانها وخومة «2» المدائن ودجلة. فكتب إليه أنّ العرب لا يوافقها إلّا ما يوافق إبلها من البلاد، فابعث سلمان وحذيفة- وكانا رائدي الجيش- فليرتادا منزلا برّيا بحريّا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فبعث سعد حذيفة وسلمان حتّى أتيا الأنبار، فسار سلمان في غربيّ الفرات لا يرضى شيئا حتّى أتى الكوفة، وسار حذيفة في شرقيّه حتّى أتى الكوفة. فأتيا عليها وفيها ديارات ثلاثة: دير حرقة ودير أمّ عمرو ودير سلسلة وقصاص خلال «3» ذلك. فأعجبتهما البقعة «4» فنزلا وصلّيا وقال كلّ واحد منهما: اللهمّ ربّ السماوات وما أظلّت وربّ الأرضين وما أقلّت وربّ الرياح وما أذرّت وربّ النجوم وما هوّت والبحار وما جرّت، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات. ثمّ رجعا إلى سعد رضه بالخبر. واستقرّ أيضا بأهل البصرة منزلهم اليوم بعد ثلاث ترحيلات في المحرّم سنة سبع عشرة.

استئذان عمر رضه في البنيان

استئذان عمر رضه في البنيان 720 ثمّ إنّ القوم استأذنوا عمر رضه في بنيان القصب فقال: العسكر أجدّ لحربكم وأذكى لكم، وما أحبّ أن أخالفكم وما القصب؟ قالوا: العنقر إذا روى أخصب فصار قصبا. قال: فشأنكم. فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثمّ إنّ الحريق وقع بالكوفة والبصرة وكان أشدّهما حريقا الكوفة، احترق فيها ثمانون عريشا «1» ولم يبق فيها قصبة. فبعث سعد إلى عمر منهم نفرا يستأذنونه في البناء باللبن ويخبرونه عن الحريق، فأذن لهم وقال: ولا يزيدنّ أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان وألزموا السنّة تلزمكم الدولة. وعهد عمر إلى الناس وتقدّم إلى الوفد أن لا يرفعوا بنيانا فوق القدر. قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد. فكان على تنزّل الكوفة أبو الهياج بن مالك «2» وعلى تنزّل البصرة أبو الجرباء عاصم بن الدّلف. 721 وكتب عمر أن يكون الطريق أربعين ذراعا وما بين ذلك عشرين، والأزقّة سبع أذرع وليس دون ذلك شيء، والقطائع ستّين ذراعا. فاجتمع أهل الرأي في التقدير «3» حتّى إذا أجمعوا على شيء قسم أبو الهياج عليه. فأوّل شيء خطّ بالكوفة المسجد، فوضع في موضع التّمارين من السّوق. ثمّ قام رجل في وسطه رام شديد النزع، فرمى عن يمينه وعن يساره وبين يديه ومن خلفه، وأمر من شاء أن يبني وراء «4» موقع السهام وترك المسجد في مربّعة غلوتين في غلوتين وبنى في مقدّمته (ظلّة من) «5» مائتي «6» ذراع على

أساطين من رخام، وكانت للأكاسرة سماؤها كأسمية الكنائس الرومية. قال أبو عبيدة: لمّا بلغ عمر بن الخطّاب رضه أنّ سعدا وأصحابه قد بنوا بالمدر قال: قد كنت أكره لكم ذلك فأمّا إذ فعلتم فعرّضوا الحيطان وأطيلوا السمك وقاربوا الخشب. وقصر سندار بظهر الكوفة، وهو الّذي ذكره الأسود بن يعفر. 722 قال اليعقوبي: أهل الكوفة على قلّة أموالهم أهل تحمّل وتستّر وكفاف وعفاف، ليس في أهل البلدان أشدّ عفافا منهم ولا أشدّ تحمّلا. وهي طيّبة الهواء عذبة المياه، وهي دار العرب ومادّة الإسلام وهي معدن العلم وفقهاؤها الفقهاء الّذين عليهم المعتمد، وهم أهل العلم بالعربية وفصيح اللغة، لأنّ أهلها عرب كلّهم لم يخالطهم الأنباط ولا الفرس ولا الخزر ولا السند ولا الهند ولا تناكحوا فيهم. ومن رواتهم ساروا إلى أهل البصرة وغيرها لأنّ أهل الحيرة كانوا أوّل من دوّن الشّعر وكتبه في أيّام آل المنذر اللّخميّين ملوكها، وكانت شعراء الجاهلية تفد عليهم مثل الأعشى والنّابغة وعبيد بن الأبرص وبشر بن أبي حازم وعمرو بن كلثوم (والحارث بن حلّزة والمتلمّس) «1» وطرفة وغيرهم. وكان آل المنذر يأمرون كتّابهم من أهل الحيرة أن يكتبوا أشعارهم، فأخذها النّاس عنهم. 723 وخصّت الكوفة بصنعة الوشي الرفيع الّذي يبلغ ثمنه ما لا يبلغه ثوب من ثياب الدّنيا لجودة صنعته والدقّة والإتقان وصحّة تأليف عيونه. وربّما بلغ الثوب منه عشرة آلاف دينار، ولا يكون فيه ذهب ولا حجارة، فأمّا ما يباع بألف

الأنبار

دينار فمن لبس العوامّ. وخصّت بالأدهان الجيّدة ما لم يخصّ به بلد لا سيّما دهن البنفسج (ودهن الخيري) «1» ودهن البان الخالص الّذي يقال له دهن الغالية، وهو الدهن الّذي لا أفاويه فيه. الأنبار 724 بينها وبين مدينة السّلام اثنا عشر فرسخا، وسمّيت [بهذا الاسم تشبيها لها ببيت التاجر الّذي ينضد فيه متاعه وهي الأنبار. وقيل الأنبار بالفارسية الأهراء لأنّ أهراء الملك كانت فيها ومنها كان يرزق رجاله، وفيها بويع بالخلافة لأبي جعفر المنصور يوم مات السفّاح أخوه، وهي] ذات العيون «2» . واسط 725 سمّيت واسط بموضع بقرب منها كان يقال له واسط القصب، فلمّا بنيت سمّيت به. وقيل لتوسّطها بين المصرين البصرة والكوفة، لأنّ منها إلى الكوفة [والبصرة] » خمسين فرسخا.

المدائن

726 وقيل إنّ الحجّاج رأى راهبا قد أقبل على آتان له وعبر دجلة، فلمّا كان بموضع واسط تفاجّت الأتان وبالت، فنزل الراهب فاحتفر (موضع ذلك البول) «1» وحمله حتّى رماه في دجلة، وذلك بعين الحجّاج. فقال: عليّ بالراهب. فلمّا أتاه قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنّا نجد في كتبنا أنّه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد «2» . فاختطّ الحجّاج مدينة واسط وبنى المسجد في ذلك الموضع، فهي على حافتي الدجلة. 727 وخراج واسط ثلاثة وثلاثون ألف درهم. ومن الكوفة الى بغداد ثلاثون فرسخا، ومن الأنبار الى بغداد ثلاثون فرسخا، ومن المدائن الى بغداد ثمانية عشر فرسخا. المدائن 728 والمدائن مدينة عظيمة على حافتي دجلة: بهرسير «3» ، وهي المدينة الدنيا «4» [وهي على أحد جانبيها ممّا يلي الشرق] ، وقصر كسرى وهو «5» الإيوان، وهي المدينة القصوى، وهو القصر الأبيض الّذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه كان مقام الأكاسرة. وتلقاء مقعد الملك من سقف الإيوان حلقة من ذهب

[الأهواز]

كان يعلّق التاج فيها بسلسلة من ذهب، وحذاء الإيوان شجر السدر ومن الجانب الآخر بيت النّار «1» . [الأهواز] [مدينة متّصلة بالجبل فتحها حرقوص بن زهير السعدي في خلافة عمر بن الخطّاب رضه، والأهواز هي خوزستان وهي رامهرمز، وبين الأهواز وإصبهان خمسة وأربعون فرسخا] «2» . 729 فأمّا الأهواز فإنّ من أقام بها حولا ثمّ تفقّد عقله فإنّه يجد فيه نقصانا بيّنا. والأهواز «3» تقلّب كلّ من ينزلها من الأشراف إلى طبائع أهلها، ولا يوجد بها أحد له وجنة حمراء والحمّى بها دائمة. [وزعم الجاحظ أنّ عدّة من قوابل الأهواز أخبرنه أنّه ربّما قبلن المولود فوجدنه محموما، وجمعت مع ذلك كثرة الأفاعي في جبلها المطلّ عليها وكثرة العقارب] «4» . وكان صاحب الأهواز الهرمزان، وفتحها وما يليها حرقوص بن زهير السعدي، وكانت له صحبة بعث به عتبة بن غزوان من البصرة بأمر عمر بن الخطّاب رضه. ذكر البصرة 730 واختطّت البصرة في موضعها اليوم على اختلاف الناس في وقت ذلك كما

تقدّم في ذكر الكوفة، فبنوا بالقصب ومكثوا كذلك يسيرا «1» حتّى أذن لهم عمر في البناء باللبن. [وكان عمر رضه كتب إلى سعد رضه أن: ابعث عتبة بن غزوان إلى فرج الهند يرتاد موضعا يمصّره وابعث معه ثمانين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فخرج عتبة من المدائن في ربيع سنة ستّ عشرة من الهجرة في سبع مائة حتّى نزل على شاطئ دجلة بحيال جزيرة العرب، فبنى البصرة ولم يبدأ بأوّل من المسجد فاختطّوه حتّى رموا من حواليه كلّه بأسهم، واختطّوا ما وراء منتهاها على حسب ما فعلوه بمسجد الكوفة] «2» . وأوّل ما بني بالبصرة سبع دساكر [منها الخريبة اثنتان والزابوقة واحدة، وفي بني سليم اثنتان وفي الأزد اثنتان، وبني مسجدها بالقصب، ثمّ بناه ابن عامر] «3» باللبن [لعثمان بن عفّان رضه، ثمّ بناه زياد بالآجر لمعاوية رضه، وبنى جنبتيه وأتمّه عبيد الله بن زياد. ويذكر أنّ المسجد الحرام أكبر من مسجد البصرة ببضع عشرة ذراعا] «4» . وكسّرت البصرة «5» أيّام خالد (بن عبد الله) «6» القسري، فوجد طولها فرسخين في مثلهما، والكوفة مثل ثلثي «7» البصرة. وأوّل مولود ولد فيها عبد الرحمن بن أبي بكرة «8» ، فنحر يومئذ جزورا فأطعم «9» أهلها وكانوا نحو ثلاثمائة. 731 ولأهل البصرة ثلاثة أشياء ليس لأحد «10» من أهل البلدان أن يدّعيها عليهم ولا يشاركهم «11» فيها وهي: النخل والشاء والحمام الهدى. فأمّا النخل فهم أعلم قوم به وأحذقهم بتربيته وإصلاحه، [وإصلاح عللها وأدوائها،

وأعرفهم بأحوالها من حين تغرس إلى أن تكمل وتستوي، وأبصرهم بالتمر وخرصه وتمييزه وجزره وخزنه] «1» ، وهي تجاراتهم «2» العظمى وغلّتهم الكبرى. وفي البصرة من أنواع «3» النخل ما ليس في بلد من بلاد الدنيا. وأمّا الشاء فإنّها عندهم العبدية المنسوبة إلى عبد القيس. وذكروا أنّ رجلا (من وفد عبد القيس) «4» يقال له عبادة بن عمرو الشني قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفادتهم عليه ودعائه لهم: يا رسول الله إنّي رجل «5» أحبّ الشاء. فدفع إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلا فحيلا جليلا من المعز وقبض بيده على أصل (أذن ذلك الفحل حتّى استدارت أصابعه فصار في) «6» أذنه كالسمة، فقدم به عبادة بلاده «7» فأطرقه شياهه، فجاءت بالشاء العبدية حملها أهل البصرة من البحرين. فهم يذكرون أنّ (ما من) «8» شاة موصوفة كريمة منها إلّا وفي أصل أذنها حلقة كالسمة، فإذا وجدوها كذلك رغبوا فيها وغالوا فيها حتّى تبلغ الشاة منها خمسين دينارا، وإذا كانت في التّيس مثل ذلك تنوفس فيه وبلغ عدّة دنانير. قال: وأخبرني يحيى بن الفضيل أنّه رأى تيسا بالبصرة عظيما قد حملت عليه مزادة ماء، وهي الّتي تسمّيها العامّة الراوية الّتي تحملها البغال، فبلغ بها منزل صاحبه فاشتري بأربعمائة دينار. [وللشاء عندهم أنساب معروفة] (ويستشهد على ذلك) «9» العدول في الصحف فتقول: شاة بني فلان أمّها الفلانة «10» [شاة آل فلان] وأبوها تيس آل فلان وجدّتها الفلانة «11» ، ويوصف «12» مقدار ما تحلب من اللبن بالغداة والعشي. فأمّا الحمام فإنّ الأمر بالبصرة (فيه جلل) «13» وتجاوز الحدّ، وبلغت الحمام عندهم في الهداة أن جاءت من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة «14» وتنافسوا في اقتنائها ولهجوا به حتّى بلغ ثمن الطائر منها سبعمائة دينار. وهذا ما حضرته ورأيته وشهدته «15» ، وقيل إنّه بلغ بالبصرة ثمن طائر منها جاء من خليج

ذكر بغداد

القسطنطينية ألف دينار، وكانت تباع البيضة من الطائر المشهور بعشرين دينارا، وعندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب. [وكان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه العدل من اتّخاذ الحمام والمنافسة فيها والإخبار عنها والوصف لأمرها والنعت لمشهورها حتّى وجّه أهل البصرة إلى بكّار بن قتيبة البكراني قاضي مصر وهو منهم، وكان في فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاض، بحمامات لهم مع قوم ثقات، وكتبوا إليه يسألونه أن يتولّى إرسالها بنفسه ففعل. وكان الحمام عندهم متجرا من التجارات لا يرون بذلك بأسا] «1» . ذكر بغداد «2» 732 قال أحمد: بعث المنصور رجالا سنة خمس وأربعين ومائة يطلبون له موضعا يبني فيه مدينة، فطلبوا فلم يرضوا موضعا حتّى جاء فنزل على البئر الّذي بالصراة «3» فقال: هذا موضع أرضاه تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصراة. [وكان أبو جعفر هذا- وهو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العبّاس- بنى مدينة بين الكوفة والحيرة سمّاها الهاشمية، فأقام بها مدّة إلى أن عزم على توجيه ابنه محمّد المهدي لغزو الصقالبة في سنة أربعين ومائة، فصار إلى بغداد فوقف بها وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقيل بغداد. فقال: هذه والله المدينة الّتي أعلمني أبي محمّد بن علي أنّي أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي، ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام حتّى يتمّ تدبير الله تعالى وحكمه فيّ وتصحّ الروايات وتبيّن الدلالات والعلامات، تأتيها الميرة في دجلة والفرات من واسط والأبلّة والأهواز وفارس وعمان واليمامة وما يتّصل بذلك، وكذلك

ما يأتي من الموصل وديار ربيعة وآذربيجان وأرمينية والرقّة والشام والثغور ومصر والمغرب وإصفهان وكور خراسان. فالحمد لله الّذي ذخرها لي وأغفل عنها كلّ من تقدّمني، والله لأبنينّها ثمّ أسكنها أيّام حياتي ويسكنها ولدي من بعدي، ثمّ لتكوننّ أعمر مدينة في الدنيا، ثمّ لأبنينّ بعدها أربع مدن لا تخرب واحدة منهنّ أبدا. فبناها وهى: الرافقة ولم يسمّها، وبنى ملطية والمصيصة والمنصورة] «1» . 733 قال: ووجّه المنصور في حشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيمن أحضر الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة، فكان أوّل من ابتدئ ببنيانها في سنة خمس وأربعين ومائة. [ثمّ قسم الأرض أربعة أقسام وقلّد القيام بكلّ ربع رجلا من قواده ورجلا من مواليه ورجلا من المهندسين] «2» . 734 قال أحمد بن أبي «3» الطاهر: وحدّثني أبو محمّد عبد الله بن إسماعيل بن أبي سهل (بن يشجب) «4» عن جدّه قال: لمّا أراد المنصور بناء بغداد أمرني أن آخذ الطالع، فنظرنا في طالعها فكان المشتري في القوس، فأخبرته بما تدلّ «5» عليه النجوم من طول ثباتها «6» وكثرة عمارتها وانصباب «7» الدنيا إليها، ثمّ قلت: يا أمير المؤمنين وخلة أخرى نجدها فيها «8» على ما تدلّ عليه النجوم: لا يموت فيها خليفة. فرأيته يبتسم وقال: الحمد لله، ذلك فضل

الله يؤتيه من يشاء. ولذلك قال بعض شعرائهم (وقد مدح المنصور وهنّأه حلول قصر مدينة السّلام) «1» [خفيف] : إنّ خير القصور قصر السّلام ... إذ به حلّ سائس الإسلام منزل لا يزال من حلّ فيه ... آمنا من حوادث الأيّام [ولهذا قالوا: نزل بغداد سبعة خلفاء: المنصور والمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد ومحمّد الأمين وعبد الله المأمون والمعتصم، ولم يمت بها واحد منهم إلّا محمّد الأمين، فإنّه قتل خارج باب الأنبار عند بستان طاهر، وانتقل المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين إلى سرّ من رأى. فهذا مصداق ما دلّت عليه النجوم] «2» . 735 (واسمها الأوّل عند النّاس الزوراء) «3» ، وكان سفيان يكره أن يقال «4» مدينة السّلام، وسمّيت مدينة السّلام لأنّ دجلة كان يقال لها وادي السّلام، فلمّا بنيت عليه سمّيت به. [وقال رجل من أهل البصرة: مررت ببغداد في السحر، فأعجبني كثرة الأذان فيها فهتف بي هاتف: ما الّذي يعجبك منها؟ لقد فجر بها البارحة سبعون ألفا. ورأى أبو بكر الهذلي سفيان بن عيينة ببغداد فقال: بأيّ ذنوبك دخلتها؟] «5» (وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ قال: الأرض كلّها بادية وبغداد حاضرتها) «6» . [وقال آخر: لو أنّ الدنيا خربت وخرج أهل بغداد لعمّروها. وكان فراغ المنصور من بنائها ونقل الخزائن إليها والدواوين وبيوت الأموال سنة

ستّ وأربعين ومائة، وكان استتمامه لجميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين] «1» . 736 قال أحمد: قال الهيثم بن عدي (عن أبي عياش) «2» : لمّا جلس المنصور في قصره بباب الذهب أذن لرسل الملوك فدخلوا عليه، فقال لرسول ملك الروم: هل ترى عيبا؟ قال: نعم «3» عيوبا ثلاثة، قال: ما هي؟ قال: النفس خضراء فلا خضرة عندك، والحياة في الماء ولا ماء عندك، وعدوّك مخالطك ومطّلع على سرّك. قال: أمّا الماء فحسبي منه ما بلغ الشفة، وأمّا الخضرة فللجدّ خلقت لا للّعب، وأمّا السّوق فما أبالي علم سرّي رعيّتي أو ولدي وخاصّتي. فأمسك الرّومي عن الكلام. 737 ثمّ تعقّب أبو جعفر «4» الرأي، فرأى أنّ القول ما قال فاتّخذ العبّاسية وأجرى (الماء في) «5» القناة من دجلة وأخرج السوق عن المدينة. وعن الربيع قال: لمّا نقل أبو جعفر السوق عن المدينة وجلس في قصره بالخلد فنظر إلى التجّار من البزّازة والصيرفي والقصّاب وطبقات السوقة، تمثّل بهذين البيتين [وافر] : كما قال الحمار لسهم رام ... لقد جمّعت من شتّى لأمر جمعت حديدة وجمعت نصلا ... ومن عقب البعير وريش نسر

ذكر خواص أرض فارس

ثمّ قال: يا ربيع إنّ هذه العامّة تجمعها الكلمة وترأسها «1» السفلة، فلا أرينّك معرضا عنها، فإنّ إصلاحها يسير وإصلاحها بعد فسادها عسير فاجمعها بالرهبة واملأ قلوبها «2» بالهيبة وما استطعت من الرفق بها وإحسان إليها فافعل «3» . ذكر خواصّ أرض فارس 738 منها كورة سابور برستاق يعرف بالعردحان بئر «4» بين جبلين يخرج منها دخان فيتعالى كثيرا ولا يمكن أحد أن يقربها، فإذا طار عليها طائر سقط فيها ويرى «5» احتراقه قبل أن يغيب فيها. وفي بعض كور أرجان في نواحي صاهك بئر لا قعر لها، وبناحية كان فيروز بالقرية المعروفة بالورجان «6» كهف بين جبال شاهقة فيه جزر «7» على قدر العضادة (؟) الكبيرة يقطر فيه من أعلى ذلك الكهف ماء. وزعم قوم أنّ له طلسما، فإن دخل ذلك الكهف رجل أحد «8» أخرج من الماء ما يكفيه، وإن دخله ألف رجل أو أكثر «9» أخرجوا من ذلك الجزر ما يكفيهم، (وكان بالفارسية المعدن) «10» . وبناحية دار بن بهرام ماء عذب حسن القوام واللون (بنهر الحسين) «11» يشرب منه ويسقي الأرض «12» ، فإذا غمست فيه الثياب خضّرها. وبكورة أردشير شيراز «13» عين ماء يشرب لتشفية الجوف (كما يشرب الدواء) «14» ، فإن شرب منه قدحا أقام له مجلسا، وإن زاد فلكلّ قدح مجلس.

وبقرب برقويه «1» تلال رماد كالجبال العظام يكون في صعود التلّ وهبوطه الميل وأكثر، وزعم قوم أنّها نار نمرود، وهو خطأ لأنّ نمرود كنعاني ومساكنهم بابل. ومثل هذه الجبال من الرماد وأعظم منها على نهر الزاب الكبير الجائي من نواحي أرمينية (وبلد مراش «2» . وبناحية إصطخر تفاح يكون بعض التفاحة الواحدة صادق الحلاوة وبعضها حاز الحموضة) «3» . وبناحية كورا تين «4» أخضر كالسلق، وفي داخله كعين النرجس سواءا «5» . 739 وممّا يحمل من فارس ماء الورد الّذي بكورا وجور، يجلب إلى بلاد الهند والصين ومصر والمغرب واليمن وسائر البلاد، وليس يعدل به ماء ورد في الآفاق. (ومن فارس ترتفع أنواع الثياب إلى أقطار البلاد، وبها ثياب الوشي الّتي ليس بسائر الآفاق كهيئتها إذا كان مذهّبا) «6» . وبقرية من قرى دارابجرد «7» الموميا الّتي تحمل إلى الآفاق، وهو ملك السلطان [يوجد في] «8» غار في جبل قد وكل به من يحفظه، وهو مغلق الباب والمدخل مختوم عليه «9» بعلامات كثيرة لمن يحضره عند فتحه، يفتح في كلّ سنة في وقت معروف، وهو الموميا الصحيح (وما عداه فمزوّر) «10» . وهذا الموضع لا يفتحه إلّا العدول وثقات السلطان من الحكّام (وأصحاب البرد والمعدّلين) «11» ، ويرضخ للّذين حضروا بالشيء منه. وبناحية دارابجرد جبال من الملح الأبيض والأسود والأصفر والأحمر ومن جميع الألوان، وهو صلب «12» تنحت منه الموائد «13» والعظام (؟) والآنية المستظرفة وتحمل إلى

ذكر بابل

سائر البلدان. وبفارس هذه كلّ شيء من الذهب والفضّة والحديد والصفر والكبريت والنفط والزئبق وغير ذلك. ذكر بابل 740 وكانت بابل من استعظامها واستشناع أمرها لا تكاد تجعل من عمل الآدميّين، وهي المذكورة في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ «1» ، [ويقال إنّ الضحّاك أوّل من بناها وسكنها السابئة ودخلها إبراهيم عليه السلام، ويقال إنّ بها كان مولده، وقيل: بل ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل بكوثى من أرض السواد. وينسب إليها السحر والخمر. ويقال إنّ بها هاروت وماروت يعذّبان إذ اختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة وأنّهما معلّقان في سرداب تحت الأرض كالحبلين وأنّ بعض الناس رآهما كذلك] «2» . وزعموا أنّ نمرود الجسيم أسّسها وأنّ يسر عربال (؟) وامرأته شهرام أتمّا بنيانها. وكانت مدينة ضاحكة المنظر جميلة المنصب زاهرة البناء واسعة الفناء جمعت إلى حسن المنظر من كلّ جانب رصانة البنيان وبهاء المنصب، وكانت سهلة بطحاء ديمومة فيحاء مربّعة لها في كلّ تربيع حصنان عظيمان، وسائر ذلك من سورها لا يكاد سامع خبرها يصدّق بصره لكثرة ارتفاعه وفرط إتقانه. وكان خمسين ذراعا عرضا في ارتفاع مائتي ذراع في دور أربعة وستّين ميلا، مبنيا بالآجر المرصّص، وقد خندق حوله خندق يجري فيه الفرات، وفيه مائة باب من نحاس، وسعة السور في أعلاه كسعته في أسفله، وقد بني في أعلاه مساكن للمقاتلة والحرّاس متّصلة في جميع دوره. وقد زعموا أنّ

ذكر خراسان

بابل أقدم بناء بني بعد الطوفان وأنّ منها تفرّق ولد نوح عليه السلام، وانّ الّذي هدمها كسرى الأوّل وهو الّذي سمّي ملك الفرس لمّا تغلّب على أرض بابل. 741 والجزيرة ما بين دجلة والموصل. [وقاعدة هذا العمل الموصل، ولها كور وعمائر وقرى وبلاد واسعة وأعمال كثيرة، وهو مشتمل على ديار ربيعة ومضر] «1» . ذكر خراسان 742 وخراسان تشتمل على كور عظام وأعمال جسام، وكانت خراسان تسمّى في القديم بلد أشيرية، سمّيت بأشور بن سام بن نوح، وهو أوّل من اعتمر ذلك الصقع بعد الطوفان. وحدّها الّذي يحيط بها: من شرقها سجستان وبلد الهند الّذي ضمّها إلى سجستان وما يتّصل بها من ظهر الغور كلّه إلى الهند وخطّتا ديار الخلج في حدود كابل ووخان على ظهر الختل كلّه وغير ذلك من ناحية بلد الهند، وغربها مفازة [الغزية] «2» ونواحي جرجان، وشمالها ما وراء النهر وشيء من بلاد الترك يسير على ظهر الختل، وجنوبها مفازة فارس وقومس إلى نواحي جبال الديلم مع جرجان وطبرستان والري وما يتّصل بها. فجعلناه كلّه إقليما واحدا وضمنا الختل إلى ما وراء النهر، وهي أقرب إلى بخارا منها إلى خراسان «3» . وكور خراسان وأعمالها الّتي يتفرّق فيها الحكّام «4» وأصحاب البرد نيّف وثلاثون عملا.

ذكر ما وراء النهر

ذكر ما وراء النهر 743 من خراسان: من ذلك القواذيان «1» والصّغانيان والترمذ وكش ونسف وبخارا «2» واستخر وسمرقند وخجند وأشروسنة «3» والشّاش وفرغانة وبابات وكلساوان «4» وما والاها واتّصل بها. فأمّا بلخ وطخارستان والباميان وخوارزم وما ذكرنا أنّه يتّصل بها فهي ممّا دون النهر. 744 وفيما وراء النهر من معادن الذهب والفضّة والزئبق ما لا يقاربه معدن في سائر البلاد كثرة، وليس في الأقطار مثل نشادر عندهم- وبصقلّية نشادر لا يعدل به ولا يدانيه. وإليهم يصل مسك التّبّت ومن عندهم يرفع، وهو يفوق كلّ مسك طيبا ويدنى عليه ثمنا، ويرفع من الصّغانيان من السّمّور والسّنجاب «5» وسائر الأوبار ما لا يرفع من سائر البلاد. وما وراء النهر «6» أخصب الأقاليم والصلاح على أهله غالب والخير فيهم فاش، ولهم الغناء والثروة والوفر «7» والجدّة وليس بينهم في شيء من ذلك تنافس ولا يتحرّفون به تحرّف أهل زمانهم، (فمن همّته دنيا ينالها ولذّة يبلغها) «8» ، بل يصرفونها إلى قرى الأضياف ومواساة النّاس وسبل الجهاد وعمارة الطّرق والمنازل وتعاهد المراحل والمناهل.

ذكر كرمان

745 ... والصخرة في قوله تعالى: إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ «1» ، هي صخرة شروان والبحر بحر جيلان والقرية قرية باجروان «2» والغلام من «3» جيلان، ومجمع البحرين فارس والروم، قاله قتادة وعن ابن عبّاس عن أبي إفريقية. وخرق الخضر السفينة في بحر رادس والملك الجلندا ابن الجلندا وقتل الغلام بطنبدة «4» ، وهي الّتي تسمّى المحمّدية، وأقام الحائط ببرقة، ومن ذلك الموضع فارق موسى ... 746 ومن عجائب أرمينية واد لا يقدر أحد أن ينظر إليه ولا يشرف عليه ولا يدرك «5» ما فيه، وإذا وضعت القدر على شفيره غلت ونضج «6» ما فيها. وبأرمينية ماء حامض يعرف بالحمض، إذا أخذ ورفع في إناء عذب وشرب. وشروان المذكور فيها الصخرة في قصر أرمينية. ذكر كرمان 747 [أرض كرمان متّصلة بأرض فارس وبأرض مكران، قالوا: وهي ثمانون فرسخا في مثلها] «7» . وحدّ كرمان في الشّرق أرض مكران ومفازة بين

حد بلاد البارز

مكران والبحر من وراء القلوص، وفي الغرب أرض فارس، وفي الشّمال مفازة خراسان وسجستان، وفي الجنوب بحر فارس. ولها من حدود الشيرجان دخلة «1» وهي في حدّ فارس (مثل الكم) «2» . والغالب على أهلها نحافة الجسم (والسمرة لغلبة الحرّ) «3» . [ومدينة كرمان الشيرجان وهي الّتي ينزلها الوالي، وبني سورها أيّام الرشيد، ولها ثمانية أبواب أحدها باب بهياباد وهو باب الميدان، ويخرج منه إلى درب وسكك حتّى ينتهي إلى مصلّى الحاجب إلى باب الموضى ثمّ إلى الدروب المعروفة بباب سمند وهو باب المغرب. وخارج هذا الدرب قصر خراب يعرف بقصر حاجب بن صالح] «4» . حدّ بلاد البارز 748 فأمّا حدّ بلاد البارز فإنّها سبعة أجبال «5» في نهاية الامتناع والخصب، وقربها من جيرفت على خمسة فراسخ [موضع] «6» يسمّى ميزان، فمنه يحمل الثلج والفواكه إلى جيرفت، وفيه الكروم وأشجار جميع الفواكه خلا النخل.

ذكر البجاناكية

ذكر البجاناكية 749 وأمّا البجاناكية فالطريق إلى بلادهم من الجرجانية تسير «1» اثني عشر فرسخا إلى جبل يقال له جبل خوارزم، وعلى رأسه منارة وفي سفحه مساكن قوم من الجرجانية لهم بها مزارع. وهم قوم سيّارة يتّبعون مواقع القطر والكلأ، وطول أرضهم مسيرة ثلاثين يوما في مثلها، (ومنهم في الشمال) «2» بلاد جفجاخ، وقيل قفجاق، وفي الجنوب بلاد الخزر، وفي المشرق بلاد الغزّية، وفي المغرب بلاد الصقلب. وهذه الأمم جميعها دون البجاناكية ويغزونهم، ولهم ثروة ودوابّ وسوائم وآثاث من ذهب وفضّة وسلاح، ولهم مناطق محلّات وأعلام وبوقات بدل الطّبول. 750 وبلاد البجاناكية سهول كلّها لا جبل فيها ولا معقل لهم فيلجئون «3» إليه. وحدّث جماعة ممّن أسر بالقسطنطينية من المسلمين أنّ البجاناكية كانوا على دين المجوسية، فوقع عندهم بعد أربعمائة من الهجرة أسير من المسلمين فقيه عالم عرض على طائفة منهم الإسلام، فأسلموا وصحّت نياتهم وانتشرت دعوة الإسلام فيهم. وأنكر ذلك عليهم سائرهم ممّن لم يسلم وآل أمرهم إلى الحرب، فنصّر الله المسلمين عليهم وكانوا في نحو اثني عشر ألفا والكفّار في أضعاف عددهم، فقتلوهم وأسلم باقيهم، فجميعهم اليوم مسلمون، وعندهم العلماء والفقهاء والقرّاء، وهم يسمّون اليوم من وقع إليهم ممّن

ذكر الخزر

استرقّ صاحب القسطنطينية أو غيرهم الخوالص، ويخيّرونهم في البقاء عندهم على أن يغنوه كأحدهم ويتزوّج عندهم من شاء منهم «1» . ذكر الخزر 751 وتسير «2» من بلاد البجاناكية إلى بلاد الخزر عشرة أيّام في مشاجر ومفاوز على غير طرق مسلوكة إلى بلاد الخزر، وهي بلاد عريضة ويتّصل بها من إحدى جنباتها «3» جبل عظيم يمدّ «4» إلى بلاد تفليس، وتفليس أوّل (حدّ أرمينية) «5» . وأغنامهم تضع في العام مرّتين. 752 والخزر اسم الإقليم ومدينتهم العظمى قطعتان على الشرقي والغربي من نهر (إثل، وهو نهر) «6» يخرج إليهم من الروس ويفيض في بحر الخزر، وهتان المدينتان تسمّى إحداهما بارغيش والأخرى حثلغ «7» والغربية أكبرهما. ويحيط بالمدينتين سور واحد ولهما أربعة أبواب. ولهم حمّامات وأسواق ومساجد وأئمّة ومؤذّنون. وجملة الخزر مسلمون ونصارى وفيهم عبدة الأوثان، وأقلّ الفرق منهم اليهود «8» (وملكهم على دين اليهودية) «9» ، ومسكنه في قصر على البعد من النهر. وإنّما كان سبب تهوّد ملك الخزر- وكان

مجوسيّا- أنّه تنصّر فرأى فساد ما هو عليه، فأخذ فيما غمّه من ذلك مع بعض مرازبته فقال له: أيّها الملك، إنّ أصحاب الكتب ثلاث طوائف، فارسل إليهم واستخبر أمرهم واتبع صاحب الحقّ منهم. فأرسل إلى النصارى في أسقف، وكان عنده رجل من اليهود ذو جدال فناظره، فقال له: ما تقول في موسى بن عمران والتوراة «1» المنزّلة عليه؟ قال له: موسى نبيّ والتوراة «2» حقّ. فقال اليهودي للملك: أيّها الملك، قد أقرّ بحقيقة ما أنا عليه، فسله عمّا يعتقد. فسأله الملك فقال له: أقول إنّ المسيح عيسى بن مريم هو الكلمة، وإنّه المبيّن عن الله عزّ وجلّ بالسرائر. فقال اليهودي لملك الخزر: إنّه يدّعي دعوى لا أعلمها وهو مقرّ (بما عندي) «3» ، فلم يكن للأسقف كبير حجّة. وأرسل إلى المسلمين فأرسلوا «4» إليه رجلا عالما عاقلا عارفا بالجدل، فدسّ اليهودي عليه «5» من سمّه في طريقه فمات، فاستمال اليهودي الملك إلى «6» ملّته فتهوّد. 753 ولا يكون مقامهم في المدن إلّا في الشتاء، وفي سائر العام يكونون في المزارع والبساتين، ولهم فواكه ونعم كثيرة. وللخزر جمال فائق وحسن ظاهر، والّذي يقع من رقيق الخزر هم أهل الأوثان الّذين يستجيزون بيع أولادهم واسترقاق بعضهم بعضا. وليس لملكهم من طاعتهم إلّا الدعوة، ومدار أمرهم على إيران شاه وهو الّذي يقود جيوشهم، ويملك طاعتهم، وإذا خرجوا في وجهه خرجوا بأسلحة كاملة ودروع حصينة وجواشن محكمة وأعلام رفيعة، ولا يخرج أحد من أهل عسكرهم إلّا ومعه عدّة أوتاد طول كلّ وتد ذراعان، فإذا نزلوا غرز كلّ واحد منهم بحياله تلك الأوتاد وشدّوا إليها الأترسة فيصير حول العسكر في ساعة واحدة جدار من التراس. والغالب على قوتهم الأرزّ والسمك، ولباسهم القواطن

ذكر برداس

والأقبية] «1» . ولسان الخزر غير لسان الترك والفرس وهي لغة لا تشاركها لغة من لغات الأمم. وللملك سبعة حكّام من اليهود والنصارى والمسلمين وأهل الأوثان، وهم ينتهون في مشتبهات أمورهم إلى عظيمهم المسمّى خاقان خزر وهو أجلّ عندهم قدرا من الملك. ذكر برداس 754 وأمّا بلاد برداس «2» فهي ما بين الخزر وبلكار، بينها وبين بلاد الخزر مسيرة «3» خمسة عشر يوما، وهم حرب لبلكار والبجاناكية ودينهم شبيه بدين الغزّية. ولهم أرض واسعة سهلة ومتاجر كثيرة، وأرضهم مسيرة (نصف شهر) «4» في مثلها، وينتهي عددهم نحو عشرة آلاف فارس. وأكثر أشجارهم الخلنج «5» وأكثر أموالهم العسل والوبر من الدلق «6» ، ولهم سوائم كثيرة من البقر والغنم ومزارع واسعة. وطائفة منهم (يحرقون موتاهم) «7» وأخرى تدفنها، وإذا أدركت الجارية عندهم «8» ولم يكن لأبيها عليها حكم تختار لنفسها من شاءت من الرجال. ذكر بلكار 755 وبلاد بلكار متاخمة لبلاد برداس، وبين بلاد بلكار وبلاد برداس مسيرة

ذكر بلاد المجغرية

ثلاثة أيّام، ومنازلهم على شاطئ نهر إثل، وهم بين برداس والصّقلب، وهم قليل العدد نحو خمسمائة أهل بيت، وملكهم يسمّى المس «1» وهو ينتحل «2» الإسلام. والخزر تتاجرهم وتبايعهم وكذلك الروس. ذكر بلاد المجغرية «3» 756 وهم بين بلاد البجاناكية وبين بلاد أسكل «4» من البلكارية، والمجغرية (عبدة أوثان) «5» وسمة ملكهم كندة. وهم قوم ذوو قباب وخيام يتبعون مواقع القطر ومواضع العشب. وعرض بلادهم مائة فرسخ في مثلها، وحدّ من بلادهم يتّصل ببلاد الروم، وفي آخر حدّهم ممّا يلي المفازة جبل «6» ينزله قوم يقال لهم أبين، ولهم كراع ومواش ومزارع. وأسفل من هذا الجبل على ساحل البحر قوم يقال لهم أوغونة وهم نصارى، ومتاخمون لبلاد الإسلام المنسوبة إلى بلاد تفليس، وهو أوّل حدّ أرمينية، ويمتدّ «7» هذا الجبل إلى أن يصير إلى أرض الباب والأبواب ويتّصل ببلاد الخزر. بلاد السرير «8» 757 تسير من بلاد الخزر اثني عشر يوما «9» في الصحراء حتّى تنتهي إلى جبل شامخ، فتصعده وتسير فيه ثلاثة أيّام حتّى تنتهي قلعة ملك «10» السرير،

ذكر برجان

وهي على رأس جبل ويحيط بها سور. وللملك سرير من ذهب كان لملوك الفرس «1» . ولملكهم عشرون ألف شعب بها أصناف من الناس يعبدون رأسا يابسا. 758 وعلى يسار قلعة ملك السّرير طريق يسلكه السالك في جبال ومروج حتّى يصل بعد ثلاثة أيّام إلى بلاد ملك اللّان، وهم نصارى، وعامّة أهل مملكته يعبدون الأصنام. ذكر برجان «2» 759 فأمّا برجان فهم بعض ولد يونان بن يافث وهم على المجوسية، ومملكتهم واسعة، وهم يحاربون الروم والصقلب والخزر والترك، وأشدّهم عليهم الروم لقربهم منهم، وإنّما بين القسطنطينية وحد بلد «3» برجان خمسة عشر يوما. ومملكة برجان عشرون يوما في ثلاثين يوما، وهم لا يركبون الدوابّ إلّا عند الحروب، واذا صالحهم الروم أدّوا إلى الروم الخراج: جواري وغلمانا من سبي الصقلب. ومن سنّتهم إذا مات لهم «4» ميّت (يجعلوه في ناووس) «5» عميق وينزلونه فيه وينزلون معه امرأته وخدمه، فيبقون «6» هناك حتّى يموتوا، ومنهم من يحرق مع الميّت.

760 آخر الجزء الأوّل من المسالك والممالك، تغمّد الله مؤلّفه برحمته ورضوانه، ويتلوه في أوّل الجزء الثاني ذكر سدّ ياجوج وماجوج. الحمد لله وحده حمدا كثيرا، وصلّى الله على خيرته من خلقه، وصفوته من عباده، محمّد عبده الكريم، ورسوله الرؤوف الرحيم، صلاة دائمة أفضل ما صلّى على أحد من خلقه أجمعين، وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطّاهرين.

الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر قال الشيخ الإمام الحافظ الحبر أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري غمده الله برحمته:

ذكر سد ياجوج وماجوج

ذكر سدّ ياجوج وماجوج 761 فأمّا سدّ ياجوج وماجوج فإنّ بينه وبين آخر حدود بلاد الخزر مسيرة شهر أو أزيد. وذكر قتادة قال: قال رجل للنّبي - صلى الله عليه وسلم -: إنّي رأيت السّدّ. قال: كيف رأيته؟ قال: كأنّه حبرة «1» . قال: فقد رأيته. وقال وهب بن منبّه إنّ ذا القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين، وهو في منقطع أرض الترك ممّا يلي الشّمال، فذرع ما بينهما فوجد مائة فرسخ. فحفر له أسّا حتّى بلغ الماء. ثمّ جعل عرضه خمسين فرسخا وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس يذاب ويصبّ عليه. ثمّ علاه على الأرض بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلال ذلك أعمدة «2» من نحاس أصفر، (فصار كأنّه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد) «3» .

762 (وذكر ابن عفير) «1» أنّ معاوية بن أبي سفيان أرسل خمسة وعشرين رجلا إلى سدّ ياجوج وماجوج ينظرون كيف هو وكتب إلى ملك الخزر أن يجوّزهم إلى من خلفه وأهدى إليهم «2» هدايا، ففعل حتّى انتهوا إلى الجبلين فرأوا بينهما مثل البصيص وهو بريق الصفر في الحديد وسمعوا جلبة من داخل السدّ ورأوا أدراجا «3» يرقى إلى أعلاه، فصعد فيه رجل منهم، فلمّا بلغ وسطه تحيّر فسقط ومات، فانصرفوا بقطعة مسحاة وجدوها عند السدّ. فأرسل معاوية إلى رجل خبير عالم فسأله فقال: يرسل ملك جنده إلى السدّ فيهلك واحد منهم ويأتون بحديدة «4» فيجمعهم على مائدة فيها طعام، فوافى العالم وهم على تلك المائدة قد جمعهم عليها معاوية وخلطهم بغيرهم فقال: هؤلاء هم، فعجب معاوية من ذلك. 763 وقال ابن خرداذبه: حدّثني سلّام التّرجمان، وكان هو الّذي يترجم كتب الترك الّتي كانت ترد على الواثق، قال: ولمّا رأى الواثق في المنام كأنّ السدّ الّذي بناه ذو القرنين مفتوح وجّهني «5» وضمّ إليّ خمسين رجلا وقال لي: عاينه وجئني بخبره. ووصلني بخمسة آلاف دينار وعشرة آلاف درهم وأعطي كلّ رجل من الخمسين ألف درهم ورزق سنة وأعطاني مائتي بغل أحمل عليها الزاد والماء، وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس في إنفاذنا فشخصنا إليه من سرّ من رأى، فكتب إسحاق إلى صاحب السرير وكتب لنا صاحب السرير إلى ملك اللّان وكتب ملك اللّان إلى فيلان شاه وهو ملك ما يلي «6» الباب والأبواب من خارج، وكتب فيلان شاه إلى

طرخان «1» ملك الخزر (فوجّه معنا ملك الخزر خمسة) «2» أدلّاء. وسرنا من عنده خمسة وعشرين يوما حتّى انتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة وكنّا قد تحمّلنا شيئا نشمّه ونحجب به نتن ريحها عند دخولها، فسرنا نحو عشرة أيّام حتّى أفضينا إلى مدن خراب، فسألنا عنها فأخبرنا أنّ ياجوج وماجوج خرّبوها، فسرنا فيها سبعة وعشرين يوما. ثمّ أفضينا إلى حصن يقرب من الجبل الّذي هو أحد الصدفين تتّصل به حصون فيها قوم يتكلّمون بالعربية والفارسية، مسلمون يقرءون القرآن ولهم مساجد، فسألونا من أين أقبلنا فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين، فجعلوا يتعجّبون ويقولون: أمير المؤمنين؟ فنقول: نعم. فيقولون: شيخ هو أم «3» شابّ؟ فقلنا: شابّ. فعجبوا أيضا فقالوا: أين يكون؟ قلنا: بالعراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى. فيقولون: ما سمعنا بهذا قطّ. 764 ثمّ صرنا إلى جبل أملس يكاد البصر ينبو عنه، وإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا. وإذا عضادتان مبنيتان ممّا يلي الجبل من جنبتي الوادي عرض كلّ عضادة خمس وعشرون ذراعا في سمك خمسين ذراعا وعتبة الباب السفلى عشر أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العتبتين، والظاهر منها خمس أذرع، وهذه الذراع بذراع السّواد. وإذا دروند «4» حديد طرفاه على العضادتين [طوله مائة وعشرون ذراعا، قد ركب على كلّ واحدة من العضادتين مقدار عشر أذرع، وفوق الدّروند بناء بلبن الحديد في النحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدى البصر وفوقه شرف حديد، في طرف كلّ شرفة قرنان تنثني كلّ واحدة منهما على الأخرى. وللباب مصراعان معلّقان عرض كلّ مصراع خمسون ذراعا في ثخن خمس أذرع وقائمتاها في

دوّارة على قدر الدروند. وعلى الباب قفل طوله سبع أذرع في غلظ باع في استدارة، وارتفاع القفل من الأرض خمس وعشرون ذراعا، وفوق القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل، وعلى الغلق مفتاح معلّق طوله ذراع ونصف] «1» . وله اثنتا عشرة دندانكة كلّ دندانكة منها كدستج هاون أعظم ما يكون من الهواوين، معلّق في سلسلة طولها ثماني أذرع في استدارة أربعة أشبار، والحلقة الّتي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق. 765 ومع هذا الباب «2» حصنان عظيمان «3» يكون كلّ واحد منهما مائتي ذراع في مثلها، بينهما عين عذبة، وفي أحد الحصنين بقية من آلة البنيان الّتي بني بها السدّ من قدور الحديد ومغارف الحديد والديدكانات، وعلى كلّ ديدكان أربعة قدور مثل قدور الصابون وهناك بقايا من لبن الحديد قد التصق بعضها ببعض من الصدأ، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر. 766 قال: ورئيس تلك الحصون يركب في كلّ جمعة في عشرة فوارس، مع كلّ فارس مرزبة حديد فيها خمسة أمنان «4» فيضربون القفل بتلك المرازب ثلاث مرّات، يسمع من وراء الباب «5» الصوت، فيعلمون أنّ هنالك حفظة ويعلم هؤلاء أنّ أولئك «6» لم يحدثوا شيئا في الباب. فإذا ضرب (أصحاب الحصن القفل) «7» وضعوا آذانهم فيسمعون دويّا.

767 وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير عشرة فراسخ في مثلها تكسير مائة فرسخ. قال: وسألت من هناك هل رأوا أحدا من ياجوج وماجوج، فذكروا أنّهم رأوا مرّة عددا منهم فوق الشرف فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم «1» . وكان مقدار الرجل منهم في رأي العين شبرا ونصفا. قال: فلمّا انصرفنا أخذنا (الأدلّاء وأخرجونا) «2» إلى ناحية خراسان حتّى وصلنا إلى ناحية سمرقند وقد كان أصحاب الحصون زوّدونا ما كفانا. ثمّ سرنا إلى عبد الله بن طاهر. قال سلّام: فوصلني بمائة ألف درهم ووصل كلّ رجل معي بخمسمائة درهم وأجرى علينا حتّى وصلنا (إلى الري فوصلنا) «3» إلى سرّ من رأى لثمانية وعشرين شهرا من يوم خرجنا منها. قال ابن خرداذبه: فحدّثني سلّام الترجمان بجملة هذا الخبر، ثمّ أملاه علّي من كتاب كان كتبه إلى الواثق وكتبناه نحن منه فوجدته موافقا لما حدّثني به. وفي بعض الأخبار أنّ الرجل الواحد من ياجوج وماجوج لا يموت حتّى يولد له ألف ولد. 768 وقد أتينا على ما أردنا ذكره من الممالك المصاقبة «4» لخراسان وما والاها من الأمم درجة بعد درجة وحالا بعد حال «5» على حسب اتّصالها وبعض المسافات المشهورة.

العواصم

العواصم 769 فلنرجع إلى ذكر المدن والكور بالعواصم وقنّسرين المتّصلة بأرض الجزيرة. (وقد ذكرنا أنّها كانت من أرض الجزيرة) «1» حتّى جنّدها يزيد بن معاوية في تجنيد الشام، ثمّ نصل ذلك بذكر «2» بلاد الشام إن شاء الله تعالى «3» . فمن مدنها قنّسرين وحلب ومنبج ودلوك ورعبان «4» وقورس «5» وتيزين «6» ومعرّة النصرين، ونصرين «7» جبل مطلّ عليها، ومعرّة النعمان وكفر طاب والحربية وخناصرة ونقابلس ورصافة هشام والجرثومية على جبل آكام والإسكندرية وأنطاكية وبطنان حبيب. 770 وهي كلّها مدائن جليلة، فأمّا معرّة النعمان فسمّيت بذلك لأنّ الجبل المطلّ عليها سمّي النعمان، وللمدينة سبعة أبواب. وعلى ميل منها دير سمعان وفيه قبر عمر بن عبد العزيز رضه، ويذكر أنّ قبر شيت بن آدم عليه السلام عند الباب المنسوب إليه منها. وداخل مدينة المعرّة قبر يوشع بن نون «8» وله «9» يوم جعل في كلّ عام يقصد إليه من الأقطار. وظهر بالمعرّة بعد أربعمائة وثلاثين من الهجرة رجل أعمى يكنّى أبا العلاء وهو أحمد بن سليمان بن عبد الله المعرّي، وكان لغويّا شاعرا بليغا فصيحا تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق، ويزعمون أنّه منتحل لمذهب البراهمة مصرّ على اعتقادهم، وفي أشعاره وأسجاعه ما يدخل القلب منه بعض الريب.

ذكر الشام

وبين قنّسرين والعواصم وبلاد الشام، وهي كلّها منضافة إلى الشام، بلد الخولان «1» والعواء وبقرة بني أسد والبثنية «2» وجبل حوران وقرى بني هلال. وسائر حوران من بلد بني مالك، وبصرى وإقليمها والقرية وإقليمها والسويداء وإقليمها (وأذرعات وإقليمها) «3» وسمسكين وإقليمها وذرع وإقليمها وبصرى وهو الموضع الّذي فيه قبر أليسع عليه السلام. 771 وهذه البلاد كلّها الّتي سمّيناها بنيانها بحجارة» وسقوفها حجارة «5» والأبواب الّتي تردف على بيوتها ودورها وطاقاتها كلّها حجارة، (وكلّها صحاري. وعلى الجملة) «6» فلا يحيط بوصف البلاد «7» والمدن وغير ذلك من الأمور إلّا الله تعالى. وإنّما ذكرنا ما ظهر لنا شهرته (وتكرّر سماعه) «8» وما لم نذكره أكثر. ذكر الشّام 772 وإنّما «9» سمّيت الشام لأنّها عن شمال الكعبة، وقيل لشامات في أرضها سود وبيض، وقيل سمّيت بسام بن نوح لأنّه أوّل من نزلها فتطيّرت العرب لمّا سكنتها من أن تقول سام فقالت شام. وقيل إنّ أوّل من سكنها من الخلفاء سمّاها «10» بهذا الاسم وإنّها سرور لمن رآها.

773 وقسمت الأوائل الشام خمسة أقسام: الشام الأوّل فلسطين وأوّل حدود «1» فلسطين من طريق مصر أمج، ثمّ يليها «2» غزّة، ثمّ الرملة رملة فلسطين. والشام الثانية مدينتها العظمى الطبرية، والغور واليرموك وبيسان فيما فلسطين والأردنّ. والشام الثالثة الغوطة ومدينتها العظمى دمشق ومن سواحلها أطرابلس. والشام الرابعة أرض حمص. والشام الخامسة قنّسرين ومدينتها العظمى حلب، وساحلها أنطاكية مدينة عظيمة على ساحل البحر. [وقالوا: كلّ شيء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكية، ويقال: ليس في أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. والنصارى يدعونها مدينة الله ومدينة الملك وأمّ المدائن لأنّها أوّل بلد أظهر فيه دين النصرانية وبها كرسي بطرس ويسمّى سمعون وسمعان وهو خليفة إيشوع الناصري المرأس على تلاميذه الاثني عشر والسبعين وغيرهم] «3» . وفي داخلها البساتين والمزارع، ويقال إنّها مدينة حبيب النجّار. ومن ثغور الشام الخامسة: المصيصة وطرسوس ونهر جيحان. 774 ومن مدن الشام حمص، يقال إنّها مدينة حبيب النجّار وهي من قصور الشام. ويقال إنّ أوّل من ابتدع الحساب في سالف الأزمان أهل حمص لأنّهم كانوا تجّارا يحتاجون إلى الحساب في أرباحهم. ولا يدخل مدينة حمص حيّة ولا عقرب. وليس لها سور وفي وسطها حصن مستدير، وأكثر حمص اليوم خراب.

775 وعن قتادة أنّه نزل حمص خمسمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن جرير بن عثمان أنّ حمص نزلها من بني سليم ممّن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعمائة. ومدينة حماة، وتدمر مدينة أوّلية. 776 وجبل لبنان بقربه «1» . ذكر الهيثم بن عدي أنّه وجد في جبل لبنان غارا (وهو في) «2» زمن الوليد بن عبد الملك فدخل، فإذا فيه رجل مسجّى على سرير من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية «3» : أنا سبا «4» بن نواس بن سبا، خدمت عيصو بن إسحاق بن إبراهيم خليل الربّ الديّان الأكبر وعشت بعده دهرا طويلا، ورأيت عجبا كثيرا ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه ويعلم أنّه صائر إليهم لا محالة فلا يتوب. والّذي بعد الموت من حساب الديّان الأعظم وردّ حقوق «5» المظلومين يومئذ (أعظم وأقطع) «6» حقّا. أقول: لقد حضرت غاري «7» هذا أغدو وأروح إليه «8» أبكي على نفسي، وقد علمت أنّ الأجلاف الحفاة سينزلونني عن سريري هذا ويتموّلونه ويخرجونني من غاري، وهم يؤمنون بربوبية الديّان الأعظم، وذلك حين يتغيّر الزمان ويتأمّر «9» الصبيان ويكثر الحدثان. فمن أدرك ذلك الزمان عاش قليلا ومات ذليلا. وفي لبنان البرباريس وهناك أطيب ما يكون.

ذكر دمشق

ذكر دمشق 777 ومن مدنها دمشق. وقيل إنّها إرم ذات العماد «1» . وقيل: هي كانت دار نوح عليه السّلام فيما ذكروا. والله أعلم. وقال قتادة في قوله عزّ وجلّ «2» : والتّين والزّيتون: (التّين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقيل) «3» : التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس. وقال الضحّاك: التين والزيتون مسجدان بالشام. وقال مجاهد وعكرمة «4» : التين والزيتون هما المأكولان. (وقيل: التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا) «5» . 778 ومسجدها جليل فيه غرائب من الأعمال يطول وصفها، بناه الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وثمانين، وهو داخل المدينة مفروش بالرخام الأبيض مختّم بالأزرق «6» وحيطانه منجّدة بالفسيفساء وسقفه لا خشب فيه وهو مذهّب كلّه. وله ثلاث مناور: المنار الواحد في مؤخّر المسجد مذهّب كلّه من أعلاه إلى أسفله (ذهبا وفسيفساء) «7» .

ذكر مدن فلسطين

779 ولها كور جليلة «1» منها: جردان «2» والسمة ومدنها بصرى وأذرعات والبلقاء وذمار وعمّان وجبال «3» وشراط ومأرب وتنوفة والغور وبعلبكّ وبيروت، وهي قرية الأوزاعي، وأطرابلس ووجه الحجر وأجنادين واليرموك ومرج الصفر والجابية ومرج راهط «4» ذكر مدن فلسطين 780 سمّيت فلسطين لأنّ أوّل «5» من نزلها فلستين بن كيسوحين يقطن بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام، وهي مدينة بيت المقدس بينها وبين الرملة ثمانية عشر ميلا صحاري ووهادا، ويقال إنّ الرملة أربعة آلاف ضيعة. وبيت المقدس كان دار ملك لسليمان عليه السلام وولد سليمان بعده. ومن بيت المقدس إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وقبره هناك ممّا يلي القبلة ثمانية عشر ميلا. وبلد يهودا بن يعقوب بن فلسطين وفي وسطه بيت إيليا، وكان يسمّى في أوّل كنعانية باسم كنعان بن حام. وبلاد النبط ما بين يهودا وبلاد العرب. 781 ومن مدن فلسطين غزّة وشنشط ونابلس واللّدّ: واللدّ منزل جميل فيه ناس يعمرونه، وفيه تنزل الرفاق الواصلة «6» من الشام

إلى مصر والقافلة من مصر إلى الشام. وفيه كنيسة عظيمة محكمة البناء واسعة الفناء عليها للنصارى أوقاف كثيرة. وفي لدّ عجائب. قال رجل: قلت لأهل لدّ: هذه بنتها الشياطين. قال: أنتم إذا جلّ في صدوركم بنيان أو عمل أضفتموه إلى الشياطين، لقد بني هذا البنيان قبل مولد سليمان عليه السلام بمثل ما بيننا وبين سليمان. وفي الخبر المروي أنّ المسيح عليه السلام يقتل المسيح الدجّال بباب لدّ. ومدينة نابلس كثيرة اليهود وهو سامرية وهي بلد السامرية، وكذلك سمرقند سامرية كلّهم، ويقال إنّه يبلغ عددهم في هذين الموضعين نحو ثلاثة آلاف. 782 وفي الدرب الّذي يدخل من الأردنّ إلى أرمينية غريبة وذلك ماء ينبع من أعلى جبل، فإذا نزل في أسفله صار حجارة وصفائح، فإذا أخذ منه في إناء صار مثل الدم ولم ينعقد. وفي الجبل الّذي ينبع منه الماء علم عليه كتابة بالمسند: خلف دينك وادخل. 783 قال: وإنّما سمّيت الشّام شاما لأنّها عن شمال الكعبة، وقيل لشامات في أرضها بيض وسود، وقيل: سمّيت بسام بن نوح لأنّه أوّل من نزلها فتطيّرت العرب لمّا سكنتها من أن تقول: سام، فقالت: شام، وقيل إنّ من سكنها من الخلفاء سمّوها بهذا الاسم وإنّها سرور لمن رآها «1» .

مدينة إيليا

مدينة إيليا 784 هي مدينة مصّرت في مفازة من الأرض والجبال محيطة بها، والمدينة في غربي المسجد. وماء إيليا من الأمطار ولداود عليه السلام بها حياض مصهرجة فيها مياه الأمطار للشّفاء. وخارجها بساتين ومزارع وأشجار وكرم وزيتون، وليس بها من شجر النخل إلّا واحدة ويقال إنّها المذكورة في التنزيل في شأن مريم وهي منحنية «1» ، ويقال إنّها غرست منذ زيادة على ألف سنة. 785 والأرض المقدّسة أربعون ميلا في مثلها، فأمّا البيت المقدّس فإنّ أوّل من بناه وأري موضعه يعقوب، وقيل داود على اختلاف من الناس. وكان من بناء داود عليه السلام له إلى وقت تخريب بخت نصر إيّاه وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة، فلم يزل خرابا إلى أن بناه ملك من ملوك طوائف الفرس يقال له كوشك، ثمّ تغلّبت ملوك غسّان على الشام بتمليك ملوك الروم لهم ودخولهم في نصرانيتهم إلى أن جاء الله بالإسلام، وملك الشام منهم جبلة بن الأيهم، ففتح الله الشام على المسلمين زمن عمر بن الخطّاب رضه، وكان أبو عبيدة قد كتب إلى بطارقة إيليا يدعوهم إلى الإسلام أو أداء الجزية، فالتووا عليه، فنزل عليهم وحاصرهم حصارا شديدا. فلمّا رأوا ذلك سألوه الصلح على الجزية، فأجابهم إلى ذلك. قالوا: فأرسل إلى خليفتك عمر فيكون هو الّذي يعطينا العهد ويكتب لنا الأمان فإنّا لا نرضى إلّا به. فاستوثق منهم [أبو عبيدة بالأيمان المغلّظة إن قدم

أمير المؤمنين فأعطاهم الأمان ليقبلوا ذلك منه] «1» . وخاطب عمر رضه [بما دعوا إليه وباستيثاقه منهم] . قال: ثمّ سار عمر [رضه نحو إيليا وخرج المسلمون يستقبلونه، فخرج أبو عبيدة رضه بالناس، وأقبل عمر رضه على جمل له عليه رحل ملبّس جلد كبش حولي حتّى انتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يتبادرونه حتّى نزل عن بعيره وأخذ بزمامه وهو من ليف، ثمّ دخل بين يديه حتّى صار إلى أصحاب أبي عبيدة رضي الله عنهما، فإذا معهم برذون يجنبونه، فقالوا: يا أمير المؤمنين اركب هذا البرذون فإنّه أحجى بك وأهون عليك في ركوبه، ولا نحبّ أن يراك أهل الذمّة في مثل هذه الهيئة، واستقبلوه بثياب بيض. فركب البرذون وترك الثياب، فلمّا هملج به نزل عنه وقال: خذوا هذا عنّي فإنّه شيطان. فقالوا: يا أمير المؤمنين لو لبست هذه الثياب البيض وركبت هذا البرذون لكان أجمل في المروءة وأحسن في الذكر. فقال عمر رضه: ويحكم لا تعتزّوا بغير ما أعزّكم الله به فتذلّوا. ثمّ مضى ومضى المسلمون فيهم أبو الأعور السلمي قد لبسوا ثياب الروم من الديباج وغيره. فقال عمر رضه: احثوا في وجوهكم التراب حتّى ترجعوا إلى هيئتنا وسنّتنا، وأمر بدلك الديباج فخرق. فقال له يزيد بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين إنّ الدوابّ والسلب عندنا كثير والعيش رفيع والسعر رخيص وحال المسلمين كما تحبّ، فلو أنّك لبست هذه الثياب البيض وركبت هذه المراكب الفره وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير لكان أبعد في الصّيت وأعظم في أعين الأعاجم. فقال له عمر رضه: يا يزيد لا والله لا أتزيّن للنّاس بما يشينني عند الله عزّ وجلّ ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله عزّ وجلّ. ثمّ أرخى إلى إيليا] «2» ، فخرج إليه [أبو الجعيد] فصالحه، وكتب لهم عمر كتابا أمّنهم فيه على أنفسهم [وذراريهم ونسائهم وأموالهم وكنائسهم واشترطوا أن لا يساكنهم اليهود فيها] «3» .

786 فلمّا قبضوا كتاب الصلح فتحوا للمسلمين أبواب إيليا، فدخل عمر رضه [والمسلمون معه: وسخر عمر رضه] أنباط أهل فلسطين في كنس بيت المقدس وكانت فيه مزبلة عظيمة. وجاء عمر ومعه كعب فقال: يا أبا إسحاق أتعرف موضع الصخرة؟ فقال: اذرع من الحائط الّذي يلي وادي جهنّم كذا وكذا ذراعا ثمّ احفر فإنّك تجدها. قال: وهي يومئذ مزبلة. قال: فحفروا فظهرت. فقال عمر لكعب: أين ترى أن نجعل قبلة المسجد؟ قال: اجعلها خلف الصخرة فتجمع القبلتين قبلة موسى وقبلة محمّد - صلى الله عليه وسلم -. قال: يا أبا إسحاق [ضاهيت اليهود] ، خير المساجد مقدمها. قال: فبنى القبلة في مقدم المسجد. ثمّ بنى عبد الملك بن مروان مسجد بيت المقدس سنة سبعين وحمل إلى بنيانه خراج مصر لسبع سنين، وبنى القبّة «1» على الصخرة وجعل في أعلى القبّة «2» ثمانية آلاف صفيحة من نحاس مطلية بالذهب في كلّ صفيحة سبعة مثاقيل ونصف من ذهب، وأفرغ على رؤوس الأعمدة مائة ألف مثقال ذهبا وخارج القبّة كلّها صفائح الرصاص وعليها صفيحة «3» ... 787 وهي ثلاث قباب متجاورة: قبّة الصخرة وقبّة المعراج وقبّة السلسلة الّتي كانت في زمن داود عليه السلام، وفيها قال الشاعر [سريع] : مضى مع الوحي زمان العلى ... وارتفع الجود مع السلسلة ويقال إنّ الّذي بنى قبّة بيت المسجد وجدّدها سعيد بن عبد الملك بن مروان، وكان يعرف بسعيد الخير وهو الّذي حفر نهر سعيد بالفرات، وعليه

فضائل بيت المقدس ثلاث

قرى كثيرة. وطول مسجد بيت المقدس بالذراع الملكي ويقال إنّه ذراع سليمان عليه السلام- وهو ثلاثة أشبار-[سبعمائة وخمس وخمسون ذراعا] «1» ، وعرضه [أربعمائة وخمس وخمسون ذراعا] «2» ، وفيه من الخشب السقف. وفيه خمسون بابا منها باب محمّد - صلى الله عليه وسلم -. وفي المسجد سبعة محاريب منها محراب مريم ومحراب يعقوب ومحراب زكريا الّذي بشرته فيه الملائكة. وفيه كرسي سليمان الّذي يدعو عليه، وفيه من الصهاريج أربعة وعشرون صهريجا للماء، وفيه من سلاسل النحاس للقناديل «3» ... وفيه خمسة آلاف قنديل [توقد فيه ليلة كلّ جمعة] ، وفي السلاسل ثلاثة وأربعون رطلا بالشامي، والرطل الشامي أربعة أرطال وأربع أواق بالفلفلي. فضائل بيت المقدس ثلاث 788 إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد إيليا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص في هذه الآية: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «4» ، قال: هو سور بيت المقدس. وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لمّا فرغ سليمان بن داود من بنيان بيت المقدس سأل الله ثلاث خصال: سأل الله أيّما عبدا خرج من بيته لا يعمر إلّا الصلاة في هذا المسجد أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، فنرجو أنّ الله قد أعطاه ذلك. وسأله حكما يوافق حكمه فأعطاه ذلك. وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه. وعن كعب قال: من أتى بيت المقدس فصلّى عن يمين الصخرة وشمالها ودعا عند موضع السلسلة وتصدّق بما قلّ أو كثر استجيب دعاؤه وكشف عنه حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه.

789 وعن أبي العالية: إلى الأرض الّتي باركنا فيها للعالمين «1» قال: من بركتها أنّ كلّ ماء عذب إنّما يخرج من أصل صخرة بيت المقدس، يعني عين سماميح. والله إنّ مخرجها لمن تحت صخرة بيت المقدس وهي عين في وسط البحرين. 790 وسئل عبادة بن الصامت ورافع بن حريج وكانا عقبتين بدرقين، فقيل لهما: أرأيتما ما يقول الناس في هذه الصخرة؟ أشيء له أصل فنأخذ به أم شيء إنّما يوخذ من أهل الكتاب فندعه؟ فقال كلاهما: سبحان الله، فمن يشكّ في أمرها؟ إنّ الله تعالى لمّا استوى إلى السماء قال: بصخرة بيت المقدس هذا مقامي وموضع عرشي يوم القيامة ومحشر عبادي، وهذا موضع جنّتي عن يمينها وهذا موضع ناري عن يسارها وأنا ديّان الدّين، ثمّ استوى على العرش إلى عليين. وفيها أخبار كثيرة يطول وصفها. 791 وعبد الملك بن مروان هو الّذي بنى القبّة في أعلى الصخرة فأبرز الأموال ووكّل على ذلك رجاء بن حياة ويزيد بن سلام، وحشر لذلك الصنّاع وأمرهم أن يفرغوا عليها المال إفراغا دون أن ينفقوه إنفاقا. وتبقّى من المال بعد بنائها مائة ألف، فأمر بها عبد الملك جائزة لهما فكتبا إليه: نحن أولى أن نزيده من حلي نسائنا فضلا عن أموالنا، فصرّفها فيما شئت. فكتب إليهما: تسبك وتفرغ على القبّة، فما كان يقدر أحد أن يتأمّلها لما عليها من الذهب وكان لها

طول بيت المقدس

خفاءان خفاء من لبود وخفاء من أدم من فوقه تلبسها في الشتاء والصيف لتكنّها من الأمطار والرياح والثلوج. طول بيت المقدس 792 ... ذراعا «1» بذراع الملك وهو ستّ قبضات، وعرضه ... ويسرح فيه من القناديل ... وعدد أبوابه ... وعدد ما فيه من الآباط والعمد ... وعدد العمد الّتي في داخل الصخرة ... وقناديلها ... من نحاس وعشرة من فضّة كبار، وكلّ واحد عمل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي وسط القبّة حبل معلّق فيه قنديل من فضّة بعضها منظومة بالجوهر. وهذه صفته: (انظر الصورة في الصفحة التالية) . 793 وبإيليا الكنيسة العظمى الّتي وسطها صيهون، وهي العتيقة وهي الّتي يتعبّد فيها داود وفي وسطها قبر المسيح بزعمهم. فإذا كان يوم عيدهم ويوم السبت الكبير يخرج الناس من موضع القبر إلى الصخر، وحوالي السطح درابزين من أبنوس يشرفون منه على موضع القبر وكلّهم يتضرّعون إلى الله عزّ وجلّ من وقت الأولى إلى المغرب، والإمام الّذي يؤمّ بالناس في المسجد الجامع قاعد مع الأمير، فهم على هذا حتّى يروا نارا بيضاء تخرج من جوف القبر، فيفتح السلطان الباب عن القبر ويدخل وفي يده شمعة فيوقدها في تلك النار فيرفعها إلى الإمام فيأتي الإمام بتلك الشمعة إلى المسجد الجامع فيشعل بها

القناديل، فإذا تداولت تلك الشمعة ثلاث أيد اتّقدت كلّها وصارت نارا للعالمين. ويكتب الأمير بخبر ذلك إلى السلطان ويعلّمه أنّ النار نزلت في وقت كذا وكذا من يوم كذا، فإذا نزلت تلك النار وقت الأولى من ذلك [اليوم] كان دليلا على أنّ السنة تكون خصيبة، وإذا تأخّرت ونزلت وقت العصر دلّت على أنّ السنة [تكون] قحطة. وهذه النار تنزل في يوم فصحهم. 794 قال المؤلّف: هكذا نقل بعض المؤرّخين وهو أمر غير صحيح، وإنّما كانت هذه حيلة وناموس عمل من نواميس أسقف بيت المقدس، فكان يعمد إلى خيط «1» إبريسم رقيق طويل فيدخله من وراء الحائط إلى القبر ويخرج من القبر إلى سرج الثريا وهو مدهون بالبلسان وتشتعل النار فيه من وراء الحائط بغلافين قد اتّخذهما لا صبعيه من خشب نوري، وتسري النار في البلسان حتّى يتّقد منها السراج. ففضحه علي بن إبراهيم الوزير أيّام كونه هناك وكشف للناس وجه حيلته وضرب في عنفه فبطلت النار من ذلك الوقت. 795 ويتّصل بهذه الكنيسة كنيسة يقال لها كنيسة قسطيص، وبغربيّها كنيسة يقال لها الجسمانية. وعلى فرسخ منها ممّا يلي قبلتها في مستو من الأرض بيت لحم، وبه ولد المسيح عليه السلام وبه النخلة الّتي ساقطت على مريم رطبا جنّيّا والسري الّذي جعله الله تحتها فشربت منه وتطهّرت، والمهد الّذي جعلت فيه المسيح، وهو حوض أبيض غسلته فيه. وهو قريب من العين.

ذكر بلاد الروم وجملة من أخبارهم

796 وعلى فرسخ من مدينة الطبرية قرية يقال لها المجدل فيها كنيسة مريم، فيها السبعة المجانين الّذين أبرأهم المسيح عليه السلام يقال لها الطابقان، وهناك بارك عيسى عليه السلام على خمسة أرغفة وسمكتين وأطعم منها خمسة آلاف من أصحابه وفضل منها اثنا عشر زنبيلا. ومنها على فرسخ مسجد الخضر وتحته قناة ماء يجري حتّى ينصبّ في البحيرة. ومنها على أربعة فراسخ مسجد بناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتحته الجبّ الّذي ألقي فيه يوسف عليه السلام. ومنها على فرسخين مدينة يقال لها بانياس، وها هنا ينبع ماء نهر الأردنّ وعليه الأرحاء، ويذكرون أنّها كانت تقف يوم السبت فلا تطحن، وكان انخسف نصفها وتعلّق الناس بالمسيح أن ترفع فأبى ورفع رجله حتّى انخسف نصف الأرحاء. وفيها أحيا المسيح بنت أدران الملك بعد عشرة أيّام، وعمل العجائب في تلك المدينة. ذكر بلاد الروم وجملة من أخبارهم 797 كانت رومة دار مملكتهم ونزلها من ملوكهم تسعة وعشرون ملكا، ثمّ نزل نقمودية «1» منهم ملكان، ثمّ انتقلت مملكتهم إلى رومة فنزلها ملكان، ثمّ ملك بها قسطنطين الأكبر فانتقل إلى بزنطية «2» وبنى عليها سورا وسمّاها القسطنطينية. ولها نحو مائة باب، وطولها من الباب الشرقيّ إلى الباب الغربيّ ثمانية وعشرون ميلا، وقيل اثنا عشر فرسخا في مثلها، وفرسخهم ميل ونصف. ودور قصر الملك فرسخ يحيط به سور منيف وله ثلاثة أبواب.

798 وعلى مقربة منه كنيسة الملك، لها عشرة أبواب أربعة منها ذهب وستّة من فضّة، وفي المقصورة الّتي يصلّي فيها الملك موضع أربع أذرع في أربع أذرع مرصّع بالدرّ والياقوت «1» ... والأرقنا «2» آلة من خشب مربّعة على هيئة المعصرة يغشّى بأدم وثيق ثمّ تجعل فيه ستّون أنبوبة قد غشيت تلك الأنابيب بالذهب فوق «3» الأدم لا يتبيّن منها إلّا اليسير، وهي على مقادير مختلفة في الطول ليست متساوية، و [توضع] ثلاثة صلبان فوق الآلة: صليب في طرفها وصليب في وسطها وصليب على الطرف الثاني. وفي جانب هذه الآلة المربّعة ثقب يجعل فيه منفخ مثل كور الحدّادين ورجلان ينافخان «4» ذلك المنفخ لا يفتران، ويقوم الأستاذ فيحسب على تلك الأنابيب. وهذه الآلة من أجلّ ما عندهم، تسمع منها أصوات غريبة مطربة ومتحدّثة وملوكهم لا يستغنون عنها في أكثر أحوالهم وهي من الغريب المتعذّر، والله أعلم. 799 وإذا أراد الملك الخروج إلى هذه الكنيسة العظمى فرش له في طريقه من باب القصر إلى الكنيسة حصر وفوق الحصر ضروب الرياحين الطيّبة، وتزيّن حيطان دور المدينة يمنة ويسرة بالديباج وضروب ثياب الحرير. ويخرج بين يديه عشرة آلاف شيخ عليهم كلّهم ديباج أبيض. ثمّ يخرج بعدهم عشرة آلاف خادم عليهم ديباج في لون السماء في أيديهم الطبرزينات «5» الملبّسة بالذهب. ثمّ يخرج بعدهم خمسة آلاف من فتيان الصقالبة أوساط عليهم ملاحم خراسانية بيض بأيديهم كلّهم صلبان الذهب، ثمّ يخرج من بعدهم

عشرة آلاف غلام أتراك وخزر عليهم أقبية مذهّبة بأيديهم رماح وأترسة ملبّسة بالذهب. ثمّ يخرج بعدهم مائة بطريق عليهم ثياب منسوجة بالذهب في يد كلّ واحد منهم قضيب من ذهب. ثمّ يخرج مائة غلام عليهم ثياب مشهّرة «1» مرصّعة باللؤلؤ يحملون تابوتا من ذهب فيه كسوة الملك لصلاته. ثمّ يخرج رجل بين يديه يقال له الرحوم يسكت الناس. ثمّ يخرج شيخ بيده طست وإبريق من ذهب مرصّعان بالدرّ والياقوت. ثمّ يخرج الملك ماشيا وعليه ثياب الأكسيمون «2» ، وهو ثياب من الإبريسم منسوجة بالجوهر كلّها، وخفّه مرصّع بالدرّ والياقوت، وفي يد الملك حقّة من ذهب فيها تراب، فكلّما خطا خطوة يقول له الوزير بلسانهم: من رموت نسابطر، تفسيره: اذكر الموت والبلى. فإذا قال له ذلك وقف الملك وفتح الحقّ ونظر إلى التراب وقبّله وبكى. فيسير كذلك حتّى ينتهي إلى باب الكنيسة، فيقدّم الرجل الطست والإبريق فيغسل الملك يده ويقول للوزير: إنّي بريء من دماء الناس كلّهم والله لا يسألني عن دمائهم وإنّي قد جعلتها في عنقك. ويخلع ثيابه الّتي عليه على وزيره ويقول له: دن بالحقّ «3» ، ويأمر فيه أن يدار «4» به على أسواق القسطنطينية ويقال له: دن بالحقّ «5» كما قال لك الملك. 800 ويلبس الملك الثياب الّتي يدخل بها الكنيسة ويأمر بإدخال [أسارى] «6» المسلمين الكنيسة فينظرون إلى تلك الزينة فينادون: أطال الله بقاء الملك سنين كثيرة، ويقولون ذلك ثلاث مرّات. ويساق خلف الملك ثلاثة من الخيل تقاد، [ويقول بعضهم إنّها] «7» لا تكون إلّا شهباء يقال إنّها من نسل خيل كانت للإسكندر توارثها ملوك اليونانيّين ثمّ ملوك الروم لمّا غلبوا

[ذكر مدينة رومة]

على المملكة، عليها سروج قرابيسها من الزمرّد الأخضر والياقوت الأحمر، وركبها وألبابها وما اتّصل بها مرصّعة من الحجارة بمثل ذلك. [وأجلتها من الديباج المرصّع بالدرّ والياقوت، فيدخلونها الكنيسة ولها بها لجام معلّق، وهم يقولون إنّ دابّة منها متى أخذت تلك اللجام في فيها ظفروا ببلاد الإسلام. فتجيء الدابّة منها فتشمّ اللجام ثمّ تقهقر ولا تقدم عليه. ويقال إنّها من نسل دوابّ كانت لأوقنطاب] «1» . قال أبو سعيد الفارقي: رأيتهم يحملون بين يدي الملك سيوفا عدّة تنسب إلى الإسكندر طول كلّ سيف منها ثمانية أشبار وهي مرصّعة كلّها بنفيس الجوهر، فإذا انقضت نواميس شرعهم عاد الملك على الهيئة الأولى إلى قصره. 801 وباب الذهب منها في الجانب الجنوبي ومنه يأخذ إلى رومية. وفيها عجائب يكاد السامع أن لا يقبلها، وفيها من الذهب والجواهر في أبوابها وأسرّتها وجميع أمورها. [ذكر مدينة رومة] 802 ومدينة رومة في سهل من الأرض تحيط بها الجبال «2» على بعد والمطلّ عليها منها جبل غوديه بينه وبينها ستّة أميال. ودور مدينة رومة [أربعون] ميلا، وقطرها اثنا عشر ميلا يشقّها نهر يسمّى تيبروس «3» وينقسم قسمين، ثمّ يلتقيان آخرها. وفي وسط مدينة رومة حصن يقال له «4» منت أرقوط في صخرة مرتفعة منيعة، ولم يطق بهذا الحصن عدوّ قطّ. ورومة قد تغلّب عليها

مرّات. وبين رومة والبحر الشّامي اثنا عشر ميلا، وكذلك بينها وبين البحر الجوفي. 803 وأهل مدينة رومة أجبن خلق الله. ويدبّر أمرهم برومة البابه «1» . ويجب على كلّ ملك من ملوك النصارى إذا اجتمع بالبابه أن ينبطح على الأرض بين يديه، فلا يزال يقبّل رجل البابه ولا يرفع رأسه حتّى يأمره البابه بالقيام. 804 وكانت رومة القديمة تسمّى رومة باكية أي عجوز. وكان النهر يعترضها، فبنى يوانش الأسقف خلف الوادي مدينة أخرى، فلذلك صار النهر يشقّها. وفرش النهر بلبن الصفر وألصقه بالقصدير «2» والرصاص وألبست حيطانه بمثل ذلك. وفي داخل مدينة رومة كنيسة شنتا باطر وفيها صورة قار له من ذهب بلحيته وجميع هيئته وهو في خلق عبوس قد رفع عن الأرض في خشبة مصلوبا. وفي وسط الكنيسة صورة أخرى لبعض ملوكهم من ذهب أيضا. ولهذه الكنيسة أربعة أبواب من فضّة سبكا واحدا، كلّها مسقّفة بقراميد الصفر ملصقة بالقصدير «3» وحيطانها كلّها نحاس أصفر رومي وأعمدتها وأساطينها من بيت المقدس، وهي في غاية من الحسن والجمال. ويزار في هذه الكنيسة مخلبان من مخالب العنقاء- وهم يسمّونها الغديقة- طول كلّ مخلب منها اثنا عشر شبرا. وداخل هذه الكنيسة «4» بيت بني باسم بطرس «5» وبولس «6» الحواريّين، وطول هذه الكنيسة ثلاثمائة ذراع وسمكها [مائتا ذراع] .

ذكر شيء من سير الروم وأخبارهم ومذاهبهم

ذكر شيء من سير الروم وأخبارهم «1» ومذاهبهم 805 وأهل رومة أجمعون يحلقون لحاهم كلّها ويحلقون أوساط هامهم «2» ويزعمون أنّ كلّ من لم يحلق لحيته لم يكن نصرانيا خالصا «3» . ويقول علماؤهم إنّ سبب ذلك أنّ شمعون الصفا جاءهم والحواريّون وهم قوم مساكين ليس بيد كلّ واحد منهم إلّا عصا وجراب، قالوا: ونحن ملوك نلبس الديباج ونقعد «4» على كراسي الذهب، فدعونا إلى النصرانية فلم نجبهم وأخذناهم وعذبناهم «5» وحلقنا رؤوسهم ولحاهم، فلمّا ظهر لنا صدق قولهم حلقنا لحانا كفّارة لما ركبنا من حلق لحاهم. 806 وإنّما صار النصارى يعظّمون يوم الأحد لأنّهم يزعمون أنّ المسيح قام في القبر ليلة الأحد وارتفع إلى السماء ليلة الأحد بعد اجتماعه مع الحواريّين. وهم لا يرون الغسل من الجنابة ولا وضوء عندهم للصلاة، وإنّما عبادتهم النية، ولا يأخذون القربان حتّى يقولوا: هذا لحمك ودمك، يريدون المسيح، وليس بخمر وليس بخبز. والسكر عندهم «6» حرام، ولا يتكلّم أحد إذا أخذ القربان حتّى يغسل فمه، وإذا تقرّبوا قبّل بعضهم بعضا وتعانقوا «7» . ولا يتزوّج أحد منهم أكثر من امرأة واحدة ولا يتسرّى «8» عليها، فإن زنت باعها وإن زنى باعته، وليس لهم طلاق. ويورثون النساء جزءين والذكور «9» جزءا، ومن سنّتهم ألّا يلبس الخفاف الحمر إلّا ملك.

807 وهم يخفّفون في الحكم على الشريف ويثقلون على الوضيع حتّى يبلغ به البيع. ومن أحكامهم أنّ من زنى بأمة غيره فلا شيء عليه إذا زنى بها خارج الدار كأنّه لم يأت ريبة، وإن زنى بها في دار سيّدها فعليه حدّ معروف «1» ومن أولد عندهم أمة «2» فولده زنيم «3» ولا يجوز لذلك الولد عندهم رتبة القسيسية «4» ، ولا يرث أباه إذا كان له ولد من حرّة وولد الحرّة يحيط بميراثه، وإن لم يكن له ولد غير ولد الأمة ورثه. 808 وهم يفطرون في صومهم (في كلّ جمعة يومين) «5» وهما يوم السبت ويوم الأحد، وأمر الصوم عندهم خفيف ليس بالشّديد اللّزوم «6» ، وإنّما أصله عندهم الصوم الّذي صامه المسيح بزعمهم استدفاعا لإبليس، وكان صومه أربعين يوما كاملا «7» موصولة بلياليها في قولهم، وهم لا يصومون يوما كاملا ولا ليلة كاملة، ومن كان بين المسلمين منهم يؤخّر الفطر حياء منهم، وهم في موضع مملكتهم لا يصومون إلّا نصف النهار أو نحوه. والمواظب منهم للصلاة والجماعات من شهد الكنيسة يوم الأحد وليلته وأيّام القرابين السبعة، ولو غاب عنها عمره كلّه ولم يطعن بذلك عليه طاعن ولا عابه بذلك عائب. 809 وليس يشتمل مصحف النصارى الّذي هو ديوان فقههم وكنز علمهم وعليه معوّلهم في أحكامهم واعتمادهم في شرائعهم إلّا على خمسمائة وسبع وخمسين

جزيرة قبرس

مسألة «1» ، ومن هذه المسائل على قلّتها مسائل موضوعة لا معنى لها ولا حاجة بهم إلى «2» تفسيرها، لم يقع في سالف الزمان ولا يقع «3» في عابره. وليست سنّتهم مأخوذة من تنزيل ولا رواية عن نبي، وإنّما جميعها عن ملوكهم. وإيمانهم الذي لا يعدونه «4» بالله الّذي لا يعبد غيره ولا يدان إلّا له، وإلّا فخلع النصرانية وبرئ من المعمودية «5» وطرح على المذبح حيضة يهودية، وإلّا فلعنه البطريق الأكبر والشمامسة والديرانيون وأصحاب الصوامع ومقرّبة القربان، وإلّا فبرئ من الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الّذين خرجوا من بيوتهم حتّى أقاموا دين النصرانية، وإلّا فشقّ الناقوس «6» وطبخ به «7» لحم حمل وأكله يوم الاثنين مدخل الصوم، وإلّا فلقي الله بعمل إسحاق طهربا «8» اليهودي (كمل ثلث الديوان والحمد لله) «9» . جزيرة قبرس 810 سمّيت بذلك لمدينة هناك تسمّى قبرو. وجزيرة قبرس كانت معظّمة في القديم للوثن المسمّى فانوس وهو على اسم ذو الزّهرة. وأهل قبرس موصوفون بالغناء والجدة وبها معادن الصفر، وفي جزيرة قبرس اللّادن ولا يجمع في غيرها والّذي يجمع منه على الشجر خاصّة يحمل إلى ملك القسطنطينية أفضله لأنّه يعادل «10» الألنجوح القماري طيبا، [وسائر] ما يجمع [ممّا يسقط] على [وجه] الأرض [هو الّذي] «11» يستعمله الناس.

جزيرة إقريطش

جزيرة إقريطش 811 لها اثنا عشر ميلا، وقيل: دور إقريطش ثمانمائة ميل. سمّيت برجل من المجوس يقال له قراطي ويسمّى أيضا إقريطش [البتر بلش وترجمته مائة مدينة] «1» ، وكذلك كان بها مائة مدينة. [وبإقريطش أوّل ما استنبطت صناعة الموسيقى. وهي كثيرة المعز وليس بها إبل ولا سبع ولا ثعلب ولا غيرها من الدوابّ الدابّة بالليل ولا فيها حيّة، وإذا دخلت فيها ماتت في ذلك العام ... وهي كثيرة الكروم والأشجار، ومراسيها من ناحية الشرق: مرسى الفتوح وهو مرسى مشتى حسن لا نظير له في موضع، ومراس كثيرة لا حاجة إلى ذكرها] «2» . جزيرة صقلّية 812 وجزيرة صقلّية سمّيت باسم شيقلوا أخي إيطال الّذي (به سمّيت إطالية) «3» . [وكانت تعرف قبل تري قريا، ومعناه باللسان الإغريقي: ثلاثة في أربعة، وإنّما ذلك لثلاثة مواضع مشرفة فيها وهي: بلرم الّتي هي قاعدتها وباجنة وليوام. وبين صقلّية وبلد إيطالية خليج من البحر. وقال أرشيوس: عرض جزيرة صقلّية مائة وسبعة وخمسون ميلا وطولها مائة وسبعة وسبعون ميلا. وقال غيره: دور صقلّية الّذي يحيط بها خمسمائة ميل] «4» . وطولها من جبل بلرمه إلى جبل بحيتة (؟) وعرضها من جبل بجيشة إلى جبل

اليبو (؟) [عند مرسى علي] «1» . ويذكر أنّها مثلّثة الشكل. [وقال بعضهم: لا أدري جزيرة في البحر أكثر منها بلادا ولا عمارة أقطار. فالثلث الشرقي منها من مسينى إلى جزيرة الأديب مائتا ميل، ومن جزيرة الأديب إلى طرابنش أربعمائة ميل وخمسون ميلا، وهو الوجه الجنوبي، والوجه الثالث من طرابنش إلى الحراش اثنان وخمسون ميلا] «2» . وهي كثيرة الزرع والضرع والفواكه. وبلرمه قاعدتها في شمال الجزيرة على سبع ليال من المجاز. 813 وبجزيرة صقلّية البركان العظيم الّذي لا يعلم في العالم أشنع منظرا منه ولا أغرب جبلا، وهو في جزيرتين شمالا من هذه الجزيرة، وإذا هبّت الريح الجوفية سمع له دوي هائل كالرعد القاصف. وكان قوفوريوش الفيلسوف قد شخص من مدينة صور إلى صقلّية لينظر إلى البركان ويعاين فعل الطبيعة هناك ويخبر عنه وعن العاقبة بقول واضح، فمات بها وقبره معروف، وقبر جالينوس أيضا هناك معلوم، وكان قد شخص من مدينة رومة يريد الشام ليلقى أصحاب عيسى عليه السلام. 814 وبصقلّية [مياه حامضة وبها] معدن الكبريت الأصفر [الّذي لا يوجد بموضع مثله، وهو بجزيرة البركان، وله قطّاعون عاملون بتناول ذلك قد تمرّطت شعورهم وتصلّبت أظفارهم. ويذكرون أنّهم يجدونه في بعض الأزمنة سيّالا متميّعا فيجدون له في الأرض مواضع يجتمع فيها. ثمّ يجدونه في غير ذلك الأوان قد تحجر وحمض فيقطعونه بالمعاول] «3» . وبجزيرة صقلّية

آبار ثلاث عند قلعة مينا من إقليم سرقوسة يخرج منها في وقت معلوم من السنة زيت النفط، وذلك في شهر شبّاط وشهرين بعده. [وينزل من البرّ على درك ويرقى على درك آخر، ويخمّر الرجل الّذي يدخل البئر رأسه ويسدّ مسامّ أنفه، وإن تنفّس في أسفل البئر هلك من ساعته، وما أخرج منه وضع في قصار فيعلو الدهن منه] «1» 815 وذكر [بعض] المؤرّخين أنّ جزيرة صقلّية كان يسكنها في قديم الدّهر أمّة مهملة تأكل الناس، ويقال إنّه كان فيها جنس من المسوخ بعين واحدة «2» في وسط جباههم يسمّون حقلوفس. ولم تزل صقلّية على قديم الدهر كثيرة الفتن والحروب، وفي السنة التي بويع فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه صار قسطنطين بن هرقل في ألفي «3» مركب يريد بلاد المسلمين، فسلّط الله تعالى عليهم عاصفا من الريح فأغرقهم «4» ، فنجا بنفسه «5» قسطنطين، فلمّا أتى صقلّية صنعوا له حماما ودخله وقتلوه فيه. ولصقلّية مدن كثيرة ونهران يطردان من عين واحدة يقال لأحدهما أوطشوم وللآخر القارم. 816 وبصقلّية «6» جزيرتا البركان الواحدة كبيرة والأخرى صغيرة، وفي هاتين الجزيرتين تتّقد النار أبدا، فيرى فيهما «7» لهب النار بالليل ودخانه بالنهار. ومن العجائب أنّ النار في إحدى الجزيرتين حديثة ولم تكن بها من قبل. وهاتان الجزيرتان وما يليهما «8» تسمّى جزائر «9» أوليا، سمّيت باسم (أوليس بن يكيو) «10» الّذي ذكرت فلاسفة الجاهلية أنّه كان أميرا لتلك الجزائر وكان

يعلّم أهلها بما يحدث في الرياح لتجارب حفظها، فاتّخذوه إلها. وبصقلّية غرائب يطول ذكرها. 817 وفي سنة اثنتي عشرة ومائتين فزع فيمة البطريق النصراني قائد «1» صاحب صقلّية إلى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، فقرّب عليه أمر صقلّية والظفر بها، فولّى زيادة الله أسد بن الفرات القاضي الفقيه على جيش إفريقية من قريش والعرب والبربر وغيرهم وأقرّه على القضاء مع القيادة. وخرج أسد في حفل عظيم وجمع كثير وعدّة كاملة، وذلك في شهر ربيع الأوّل من العام المذكور، وكان فصوله «2» من مدينة سوسة في سبعين مركبا يوم السبت للنصف من شهر ربيع الأخر، ووصل إلى مرسى مازر يوم الثلاثاء [بعده، وكانت طريقه من المرسى على قلعة بلّوط، ثمّ على قرى الرّيش، ثمّ صار إلى قلعة الدبّ سمّيت بذلك لأنّهم أصابوا فيها دبّا أنيسا، ثمّ إلى قرية الطواويس، وسمّيت بذلك لأنّهم أصابوا فيها طاووسا، ثمّ إلى معركة بلاطة، وهناك ظهر لهم جمع الروم فنازلهم فانهزم المشركون وأصيب لهم كراع وسلاح، ولذلك سمّيت معركة بلاطة، وهو اسم ملك النصارى] «3» . ثمّ رحل «4» إلى حصون الروم وقراهم «5» [يغير ويسبي] ، وبثّ السرايا في جميع الجزيرة وكثرت المغانم «6» عند المسلمين وصاروا في رغد من العيش، [وسارع الناس إلى إمدادهم من إفريقية والأندلس] ، وحاصر أسد مدينة سرقوسة وقاتلهم برّا وبحرا وأحرق مراكبها وقتل جماعة من أهلها. ومات أسد بن الفرات رحمه الله سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو محاصر لسرقوسة، ووقع الموتان «7» على عسكر المسلمين.

ذكر جزيرة مالطة

818 وولّوا على أنفسهم ابن الجواري وأمدّتهم مراكب من إفريقية فيها رجل يسمّى عمروس، فخرج إليهم قسطنطين صاحب صقلّية وهو نازل بلرمه «1» في عسكر جرّار، فحفر لهم المسلمون حفرا وغيّبوها بالكلإ والعشب، ثمّ استطردوا لهم عند اللقاء «2» حتّى تساقطوا في تلك الحفر، فكان ممّن سقط منهم «3» قسطنطين وابنه. فأسر قسطنطين وقد أثخن جراحا، ففدي من المسلمين بفداء جزيل، فأحمله أهله فمات بالحمة، فحملوه ودفنوه بمرسى الطين وبنوا على قبره الكنيسة الّتي بالمرسى. وكان بعد ذلك فيها ولايات كثيرة وحروب مع الروم يطول ذكرها. ذكر جزيرة مالطة 819 ومن الجزائر المشهورة الّتي تلي صقلّية جزيرة مالطة في القبلة منها بينهما مجرى واحد وفيها مراس منشأة «4» للسفن، وأشجارها الصنوبر [والعرعر والزيتون، وطولها ثلاثون ميلا، وفيها مدينة من بنيان الأوّل. وكان يسكنها الروم. وغزاها خلف الخادم مولى زيادة الله بن إبراهيم عند قيام أبي عبد الله محمّد بن أحمد ابن أخي زيادة الله على يد أحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب، وهو الّذي شقى في أمرها. وخلف هذا هو المعروف ببناء المساجد والقناطر والمواجل، فحاصرها ومات وهو محاصر لها. فكتبوا إلى أبي عبد الله بوفاته، فكتب أبو عبد الله إلى عامل جزيرة صقلّية، وهو محمّد بن خفاجة، أن يبعث إليهم واليا، فبعث إليهم سوادة بن محمّد، ففتحوا حصن مالطة

وظفروا بملكها عمروس أسيرا، فهدموا حصنها وغنموا وسبوا ما عجزوا عن حمله، وحمل لأحمد من كنائس مالطة ما بنى به قصره الّذي بسوسة داخلا في البحر، والمسلك إليه على قنطرة. فبقيت بعد ذلك جزيرة مالطة خربة غير آهلة، وإنّما كان يدخلها النشّاءون للسفن، فإنّ العود فيها أمكن أن يكون، والصيّادون للحوت لكثرته في سواحلها والشائرون للعسل، فإنّه أكثر شيء هناك. فلمّا كان بعد الأربعين والأربعمائة من الهجرة عمّرها المسلمون وبنوا مدينتها، ثمّ عادت أتمّ ممّا كانت عليه، فغزاها الروم سنة خمس وأربعين وأربعمائة في مراكب كثيرة وعدد، فحاصروا المسلمين في المدينة واشتدّ الحصار عليهم وطمعوا فيهم، فسألهم المسلمون الأمان فأبوا إلّا على النساء والأموال. فأحصى المسلمون عدد المقاتلة من أنفسهم فوجدوهم نحو أربعمائة، ثمّ أحصوا عبيدهم فوجدوهم أكثر عددا منهم، فجمعوهم وقالوا لهم: إنّكم إن ناصحتمونا في قتال عدوّنا وبلغتم من ذلك مبلغا وانتهيتم حيث انتهينا فأنتم أحرار، نلحقكم بأنفسنا وننكحكم بناتنا ونشارككم في أموالنا، وإن أنتم توانيتم وخذلتمونا لحقكم من السباء والرق ما يلحقنا، وكنتم أشدّ حالا منّا، لأنّ أحدنا قد يفاديه حميمه ويخلصه من الأسر وليه ويتمالأ على استنقاذه جماعته. فوعد العبيد من أنفسهم بأكثر ممّا ظنّوا بهم، ووجدوهم إلى مناجزة عدوّهم أسرع منهم. فلمّا أصبح القوم من اليوم الثاني غاداهم الروم على عادتهم، وقد طمعوا ذلك اليوم في التغلّب عليهم وأسرهم، والمسلمون قد استعدّوا في أكمل عدّة للقائهم، وأصبحوا على بصيرة في مناجزتهم، واستنصروا الله عزّ وجلّ عليهم وزحفوا وثاروا نحوهم دعسا بالرماح وضربا بالسيوف غير هاربين ولا معرجين، واثقين بإحدى الحسنين: من الظفر العاجل أو الفوز الآجل. فأمدّهم الله تعالى بالنصر وأفرغ عليهم الصبر، وقذف في قلوب أعدائهم الذعر، فولّوا منهزمين لا يلوون، واستأصل القتل أكثرهم، واستولى المسلمون على مراكبهم فما أفلتهم منها غير واحد. ولحقوا عبيدهم بأحرارهم ووفوا لهم بميعادهم. وهاب العدوّ بعد ذلك أمرهم، فلم

ذكر جزيرة قوصرة

بعترضهم أحد منهم إلى حين «1» ذكر جزيرة قوصرة 820 ويلي مدينة مازر من جزيرة صقلّية جزيرة قوصرة بينهما مجرى واحد «2» . [وهي في شرقي جزيرة مليطمة، وهي من جزيرة الراهب بين جنوب وشرق، وتوازي الشاقة ومازر وبينهما مجرى، وكذلك من قوصرة إلى برّ إفريقية مجرى. وجزيرة قوصرة ترى من مدينة مازر وترى أيضا من إقليبيا من برّ إفريقية، لأنّ هذه الجزيرة جبل مشرف عال جدّا. ولها مرسى من جانب الشمال، وهي مقطع للخشب الجيّد ويحمل منها إلى صقلّية. وفيها معز برّية تصاد هناك كثيرا، وهي مكمن للغزاة من المسلمين والروم، وكانت فيها للمسلمين على الروم أيّام صمصام الدولة وقيعة مجحفة ومقتلة عظيمة. وهي جزيرة صغيرة حصينة فيها آبار وأشجار، ولها من جهة الجنوب مرسى مأمون يكنّ من رياح كثيرة] «3» . والجزائر بتلك الناحية «4» كثيرة ذكر مجدونية 821 فأمّا مجدونية فهي قاعدة الروم الإغريقيّين، ومنها أرسطاطاليس فيلسوف

ذكر طراقيبة

الروم وعالمها [وطبيبها وجهبذها وخطيبها] «1» ، وهو معلّم الإسكندر وله رسائل عجيبة. وقد حدّدها الكندي عند ذكر ممالك صاحب القسطنطينية، وكانت مجدونية تسمّى في القديم ممارية مشتقّ من اسم ملكها مماريش «2» . ذكر طراقيبة 822 فأمّا بلد طراقية فحدّها من المشرق «3» مدينة القسطنطينية، ومن ناحية الجوف يمتدّ إلى ناحية الأشبان «4» ، ومن ناحية القبلة معظم «5» البحر، ومن ناحية المغرب يتّصل ببلد مجدونية ويتّصل به بلد طشالية. وزعموا أنّ أهلها أوّل من عمل اللّجم للخيل «6» و [أنّهم] ابتدعوا رياضة الخيل والبيطرة. ذكر طشالية 823 [أرض بين الروم والترك، فيها عينان تجريان ويكون عنهما نهران، إن شربت الماشية من إحداهما اسودّت ووضعت سودا، والأخرى إن شربت منها الماشية وضعت أولادها بلقا] «7» وبطشالية استنبط ضرب الدنانير من الذهب.

ذكر بلاد الأنقلش

ذكر بلاد الأنقلش 824 وهم جنس من الأتراك نزلوا مصاقبين للصّقالبة. وحدّ بلدهم في الغرب بلد بويرة وبلد بويصلاو «1» ، وفي الجوف منهم الروس، وفي الشرق منهم البجناك وقفار لا تسكن هي بين «2» بلد البجناك وبين بلد البلقارين من الصقالبة، وفي القبلة بعض بلاد البلقارين، ومسافة قفار لا تسكن. [وهم قوم ليس لهم معبود دون الله تعالى، وهم يقرّون بصاحب السماء وأنّه واحد قهّار، ويجتنبون أكل لحم الخنزير ويقرّبون قرابين. وإذا وضع بين يدي أحدهم طعام أجّج نارا وأخذ من أفضل خبزه وطعامه فيلقيه في النار ويدعو باسم أحبّ وزرائه إليه. ويعتقدون أنّ الدخان يرقى إلى السّماء فيكون دخرا للميّت بين يدي الله عزّ وجلّ ليفوز بذلك عنده. وهم ناقلة من خراسان، والإسلام هناك فاش، وهؤلاء الأتراك يفادون المسلمين واليهود إذا أسروا في جهة من الجهات التي تليهم. ويحسنون قرى الضيفان، وهم على أحوال مرضية إلّا في إباحة نسائهم لعبيدهم وأضيافهم وكلّ من أراد الخلوة بهنّ، وإنّهم في ذلك بمنزلة الكلاب] «3» . ذكر الروس 825 وأمّا بلاد الروس فهم في جزيرة حواليها بحيرة، وطول جزيرتهم «4» مسيرة خمسة «5» أيّام وفيها مشاجر وغياض. وملكهم يقال له خاقان «6» روس،

ذكر جملة من القول في الأمصار ومساحات الممالك

وهم في نحو مائة ألف إنسان، وهم يغزون الصقالبة في السّفن. وبلكار «1» تبع للروس وموافقون لهم. وليس للروس مزارع ولا كسب إلّا بسيوفهم، وقيل: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم ينزل ملكهم مدينة كويابة «2» وهي أقرب من بلقار «3» ، وهم أقرب الروس إلى بلقار، وصنف آخر يسمّون الصلاوة، وصنف ثالث «4» يسمّون الأوثانية وملكهم مقيم بأوثان، والتجار إليهم لا يتجاوزون كويابة «5» . فأمّا أوثان (فلم يخبر أحد) «6» أنّه دخلها لأنّهم يقتلون كلّ من (وصل إليهم) «7» من الغرباء. (والله أعلم) «8» . «9» ذكر جملة من القول في الأمصار ومساحات الممالك 826 ذكر أنّ عمر لمّا استفتح «10» البلاد من العراق والشام ومصر كتب إلى بعض «11» حكماء العصر يسأله عن البلاد (وتأثير أهويتها وتربتها في سكّانها) «12» . فكتب إليه «13» : أمّا الشام فتحت ركام وثجّ غمام «14» تصفّي الألوان وترطب الأجسام وتبلد الأفهام. وأمّا أرض مصر فهواؤها راكد وحرّها «15» متزايد تطوّل الأعمار وتسوّد الأبشار وتبلّد الفطن وتذكّي الإحن. وأمّا أرض اليمن فتضعف الأجسام وتهذب الأحلام، مغايضها خصبة وأطرافها جذبة. وأمّا الحجاز فهواؤه حرور وليله بهور «16» يشجّع القلوب

وينحف الجسوم وفي أهله غدر ولهم خبّ ومكر، ولديارهم في آخر الزمان نبأ عظيم وخطب جسيم من أمور» تظهر وأحوال تبهر. وأمّا العراق فقلب الأرض ومسلك النور وقرار النظارة ولأهله أعدل الألوان وأصفى الأذهان. وأمّا الجبال فتخشن الأجسام وتبلد الأفهام وتميت الهمم وتفسد الشيم. وأمّا خراسان فتعظّم الأبدان وتكبّر الهام وتلطّف الأفهام ولأهلها غوص وتفكير ورأي وتدبير. 827 وذكر أنّ معاوية سأل عبد الله بن الكوّاء فقال: أخبرني عن أهل البصرة. فقال: يقاتلون معا ويدبرون شتّى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. فقال: أنظر الناس في صغيرة وأوقعهم في كبيرة. قال: أخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على فتنة وأعجزهم عنها. قال: فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة لأكل. قال: فأخبرني عن أهل الحيرة. قال: كناسة بين حديقتين. قال: فأخبرني عن أهل الموصل. قال: قلادة وليدة فيها من كلّ خرز. قال: فأخبرني عن أهل الشام. قال: جنّة «2» أمير المؤمنين ولا أقول فيهم شيئا. قال: لتقولنّ. قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق، لا يحسبون للسماء ساكنا. وروي أنّ عمرو بن العاص قال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها، وأهل العراق أطلب الناس لعلم وأعلمهم بخلافه، وأهل مصر أعقل الناس صغارا وأحمقهم كبارا، وأهل الشام أطوع الناس لمخلوق «3» وأعصاهم لخالق «4» . وقال سليمان بن موسى: إذا كان الرجل علمه حجازي وسخاؤه عراقي واستقامته شامية فقد كمل. وقال بعض الحكماء: أهل الحجاز أهل لهو ومعازف ومداعبة وتأنيث، وأهل

اليمن أهل غفلة وخفّة ولين «1» ، وأهل العراق أهل فكرة وفطنة وغدر وخبث وحيل وكثرة كلام، وأهل الشام أهل غفلة وسلامة صدور وعون للظلمة، وأهل مصر أهل غفلة ولين وقلب فطن، وأهل خراسان أهل غفلة وحرص وبخل وشجاعة، وأهل الهند أهل حكمة «2» وشجاعة وحسن سيرة ولين، وأهل الصين أهل طيش وخفّة وجبن. 828 وقال بكر «3» بن وائل عن محمّد بن مسلم يرفعه: قسم الحفظ عشرة أجزاء فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقسم البخل «4» عشرة أجزاء فتسعة في فارس وجزء في سائر الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء فتسعة في الروم وجزء في سائر الناس، وقسم السخاء عشرة أجزاء فتسعة في السودان وجزء في سائر الناس، وقسم الشبق عشرة أجزاء فتسعة في الهند وجزء في سائر الناس، وقسم الحسد عشرة أجزاء فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس. وقال أيضا بعض الحكماء: لا ترى أمة أكمل من كوفية ولا أظرف من مدنية ولا أبرع كمالا من رومية ولا أحسن من أندلسية ولا أسحر بعينها من حبشية ولا أحسن قواما من سندية ولا أنجب للولد من خوشية «5» ولا أعسر قفلا من خزرية. 829 فلمّا أراد عمر رضه النهوض إلى العراق سأل كعب الأحبار عنها فقال: يا أمير المؤمنين، لمّا خلق الله الأشياء لحق كلّ شيء بشيء، فقال العقل: إنّي لاحق بالعراق. فقال العلم: وأنا معك. فقال المال: فإنّي لاحق بالشام.

قالت الفتن: وإنّا معك. قال الخصب: إنّي لاحق بمصر. قال الذلّ: وأنا معك. قال الشّقاء: إنّي لاحق بالبوادي. قالت الصحّة: وأنا معك. وقال الحجاج: لمّا تبّوأت الأمور منازلها قالت الطاعة: أنزل الشام. قال الطاعون: وأنا معك. قال النفاق: وأنا أنزل العراق. قالت النعمة: وأنا معك. قالت الصحّة: أنزل البادية. قالت الشقوة: وأنا معك. 830 وممّا خصّ به العراق مادّة الرافدين وهما دجلة والفرات، وكانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من «1» الجسد لتوسّطه الأرض ولأنّه من إقليم بابل الّذي سبقت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما تكون الحكمة من القلب. وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام، وقالوا: العراق لا جبلية ولا بحرية ولا شتاء كشتاء أرمينية ولا صيف كصيف عمان ولا صواعق كصواعق تهامة ولا جرب كجرب اليمن ولا طاعون كطواعين الشام ولا طحال كطحال البحرين ولا حمّى كحمّى خيبر ولا زلازل كزلازل صبرة ولا دمامل كدمامل الجزيرة ولا جنون كجنون حمص ولا هواء يختلف كهواء مصر الّتي لم يجعل الله عزّ وجلّ في أرزاق أهلها وأقواتهم نصيبا من الرحمة الّتي نشرها على عباده بالغيث الّذي جعله عمارة لبلاده «2» 831 وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم. وقالت الحكماء: عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان. وقال أبقراط: يداوى كلّ عليل بعقاقير أرضه، فإنّ الطبيعة تتطلّع إلى هوائها وتسرع «3» إلى غذائها. وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها.

832 وزعم الفزاري أنّ عمل أمير المؤمنين من أقصى خراسان- وهو فرغانة- إلى طنجة بالمغرب ثلاثة آلاف فرسخ في سبعمائة فرسخ «1» (ومن الباب إلى بغداد ثلاثمائة فرسخ) «2» ، وعمل الصين في المشرق واحد وثلاثون ألف فرسخ في أحد عشر ألف فرسخ، وعمل الهند في المشرق أحد عشر ألف «3» فرسخ في سبعة آلاف فرسخ، وعمل تبّت خمسمائة فرسخ في مائتين وثلاثين فرسخ، وعمل كابل شاه أربعمائة فرسخ في ستّين، وعمل الترك ألف فرسخ في خمسمائة فرسخ، وعمل الخزر واللّان سبعمائة في خمسمائة، وعمل برجان ألف وخمسمائة في سبعمائة، وعمل الصقالبة «4» ثلاثة آلاف وخمسمائة في أربعمائة وعشرين، وعمل الأندلس ثلاثمائة فرسخ في مائة فرسخ، وعمل رومة ثلاثة آلاف فرسخ في سبعمائة فرسخ، وعمل إدريس الفاطمي ألف ومائتا فرسخ في مائة وعشرين فرسخا، وعمل فارس لابن المنتصر «5» أربعمائة فرسخ في ثمانين فرسخا. عمل أنبية «6» ألفان وخمسمائة فرسخ في ستّمائة فرسخ، وعمل غانة بلاد الذهب ألف فرسخ في ثمانين فرسخا، وعمل ورام مائتا فرسخ في ثمانين فرسخا، وعمل نخلة مائة وعشرون فرسخ في ستّين فرسخا، وعمل واخ «7» ستّون في أربعين، وعمل البجاة مائتا فرسخ في ثمانين، وعمل النوبة ألف وخمسمائة فرسخ في أربعمائة، وعمل الزنج تسعة آلاف وستّمائة فرسخ في خمسمائة فرسخ، وعمل أسطوا لأحمد بن المنتصر [أربعمائة فرسخ في مائتين وخمسين فرسخا] «8» ، فذلك الطول اثنان وسبعون ألف فرسخ وأربعمائة فرسخ وثلاثون فرسخا، والعرض خمسة وعشرون ألفا ومائتان وخمسون فرسخا.

ذكر أقسام إيرانشهر

ذكر أقسام إيرانشهر 833 وهو يشتمل على بلدان مسمّاة يضمّ «1» كلّ بلد عدّة كور. فالبلاد: خراسان وكرمان وفارس والأهواز والجبل وسجستان وأرمينية وآذربيجان والموصل والجزيرة والشام وسورستان وهي متوسّطة لهذه البلاد. فكور خراسان: الطّبسان وقوهستان «2» ونيسابور وهراة وبوشنج وباذغيس «3» وطوس ونسا وأبيورد وسرخس ومرو الروذ والطالقان والفرياب «4» والجوزجان «5» والترمذ ومن وراء النهر «6» وبخارى وسمرقند وكش ونسف «7» وأوّل بلاد الترك وشاش وفرغانة وأشروسنة وخوارزم مضمومة إلى خراسان. وكور كرمان: أواس والسيرجان وبردسير «8» ويمّ وجيرفت وهرمز. وكور فارس: سابور وإصطخر وأردشير خرّة ودارابجرد وفسا وأرّجان وشيراز. وكور الأهواز: سوق الأهواز وجندي سابور ورامهرمز وسرّق وبيذق وتستتر والسّوس. وكور الجبل: ماسبذان ومهرجان وقذق وماه الكوفة، وهي الدينور، وماه البصرة، وهي نهاوند وهمدان وقم. 834 وممّا ينسب إلى الجبل من الكور وليس منه ولا من خراسان: الريّ وقومس

وإصبهان وشهرزور وصامغان «1» وداراباذ وقزوين وأبهر وزنجان وطبرستان وجرجان ودباوند «2» . وكور سجستان: زرنج وبست «3» والرخّج. وكور أرمينية: أرّان «4» وجرزان ونشوى وخلاط ودبيل وسراج وجردبيل وياخس وأرجيش وسيسجان ومدينة الباب والأبواب وهي درجان. وكور أذربيجان: أردبيل ومرنج وباجران «5» وورثان «6» والمراغة. وكور الموصل: الموصل وتكريت وطيرهان والسنّ والحديثة والمرج وباجلى وباجرمى «7» . وكور الجزيرة: أرزن وميافارقين وآمد وسميساط «8» ودارا ونصيبين ورأس عين «9» وقرقسيا والرّقّة وسروج وحرّان والرّها وقردى وبازبدى وبلد. وهذه الكور قسمان: قسم يسمّى ديار ربيعة وقسم يسمّى ديار مضر. فأمّا ديار مضر منها فإنّ واسطتها الرقّة ومنها البيضاء وحرّان والرها وسميساط «10» وسروج «11» . ومنها رأس كنعان «12» وأنبية بني تميم والمارجين والمدينتان وعين زربة وبازبدى وسلقوس. 835 وقد زعموا أنّ من أقام بالموصل حولا فتفقّد (عقله وجد فيه نقصانا، وإن) «13» تفقّد قوّته وجد منها فضلا. ومن كورها: مدينة الحضر «14» ونينوى وبادقل وحزّة وأنفاس «15» ودقوقا والبواريح وجامحال وقامر وبازبدى «16» وأخشور، وهي كلّها متقاربة المسافات في الفراسخ، من سبعة «17» فراسخ إلى اثني عشر فرسخا.

وكور الجزيرة الّتي تسمّى الثغور: ملطية وزبطرة ومرعش والحدث وحصن منصور. 836 وكور الشام: حلب وقنّسرين وأنطاكية وشيزر وحماة وحمص وفامية «1» وبعلبك والطبرية، وهي الأردنّ، والرملة، وهي فلسطين وإيلية. وكور الشام الّتي تسمّى الثغور الشامية: أذنة والمصّيصة وطرسوس وعين زربة والهاشمية والكنيسة السوداء والعواصم وأنطاكية وتيرا وقورش ومنبج ودلوك وعمان. (وكلّ ما ذكر من البلاد والكور يشتمل على قواعد جليلة وقرى شريفة لا يحيط بها إلّا خالقها) «2» . 837 وجنّد عمر رضه الشام أربعة أجناد متفرّقة في أيدي عمّاله «3» وهم: خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وبقيت على هذا التجنيد حتّى زاد فيها يزيد بن معاوية قنّسرين، وكانت في أرض الجزيرة.

حكم الخراج في البلاد المذكورة

حكم الخراج في البلاد المذكورة «1» 838 وانتهى الخراج بجميع ما ينضاف إليه في جميع الكور والبلاد (بعد سنتين من خلافة الرشيد) «2» على ما ذكر ورفعه أبو الوزير بن هاني المروزي إلى يحيى بن خالد بن برمك من الذهب والفضّة على التحميل الفضّة ذهبا صرف ثلاثة عشر درهما بدينار «3» : أربعة وثلاثون ألف ألف دينار ومائة ألف دينار وأربعة آلاف وستّ مائة وستّة وأربعون دينارا، تكون أرطالا: تجتمع مائة ألف وخمسة وخمسون ألف ألف ومائتان وستّة وخمسون رطلا وتسع أواق غير ربع أوقية. (وتكون قناطير ثلاثة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار واثنان وخمسون رطلا وتسع أواق غير ربع أوقية) «4» . سوى حلل الأنبار واليمن وثياب الهند والسند والعود الهندي ورقيقه ونقر «5» فضّة خراسان ورقيقهما وثيابهما وإبريسم جرجان وطبري طبرستان وأكسية ديناوند والروبان ورقيق جيلان ووشي أرمينية وعنبر اليمن وبسط افريقية وفتيانها ووصائفها.

القول في أخبار المغرب وذكر مصر ونيلها وملوكها وبرابيها وأهرامها والمشهور من بلاد المغرب وجمل من أخبارها

القول في أخبار المغرب وذكر مصر ونيلها وملوكها وبرابيها وأهرامها والمشهور من بلاد المغرب وجمل من أخبارها «1» 839 وصفها بعض الحكماء فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة «2» بيضاء وثلاثة أشهر مسكة سوداء وثلاثة أشهر زمرّدة خضراء وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، يريد أنّها في «3» تموز وآب وأيلول يركبها الماء، فترى الدنيا بيضاء وضياعها على رواب وتلال كالكواكب «4» قد «5» أحاطت بها المياه، فلا سبيل (لبعض منهم) «6» إلى بعض إلّا في الزوارق، ثمّ تكون في تشرينين «7» وكانون بعد نضب «8» الماء عنها «9» مزارع وتربة «10» ندية «11» ذات «12» روائح طيّبة تشبه ريح المسك، ثمّ تكون في كانون الثّاني وشباط وآذار قد «13» اتّصلت خضرتها واستوسقت نضرتها، فكانت زمرّدة خضراء، ثمّ في نيسان وأيار «14» وحزيران يدرك الزرع ويتورّد العشب، فتصير كسبيكة الذهب منظرا ومنفعة.

840 والنيل (إذا زاد غاضت «1» الأنهار والعيون والآبار) «2» ، وإذا غاض زادت وزيادتها «3» من غيضه وغيضها من زيادته، وهذا عجيب «4» . وليس في الدنيا نهر يسمّى بحرا ويمّا غيره. قال الله «5» تعالى: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ «6» . وسمّته العرب بحرا، وليس في الدّنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل ولا نهر يجنى منه إلّا جزء ممّا يجنى من النيل. وابتداؤه بالتنفّس (في بقية) «7» حزيران، فإذا انتهت الزيادة ستّ عشرة ذراعا ففي ذلك تمام خراج السلطان وخصب الناس الكافي، وكان المرعى ناقصا قاصرا «8» بالبهائم، فإذا بلغ سبع عشرة ذراعا «9» فذلك الخصب العام والصلاح التّام، فإن زاد إلى ثماني عشرة ذراعا استبحر من مصر الربع وأضرّ بالضياع وأعقب الوباء بمصر، وقد بلغ تسع عشرة ذراعا سنة تسع وتسعين في خلافة عمر بن عبد العزيز. 841 قال عبد الملك بن حبيب: خروج النيل وجريته من أوّل ما يبدأ إلى توقّفه ورجوعه سبعة وثمانون يوما، أوّل ذلك لخمس بقين «10» من حزيران- وهو «11» بونه. وذكر أنّ الله تعالى «12» جعل نيل مصر معادلا لأنهار الدنيا في «13» المادّة ومياهها الجارية، فحين يبتدئ في الزيادة تنقص كلّها وحين يبتدئ بالنقصان تزيد كلّها بمدّة لها «14» كما نقصت بجزره منها «15» .

842 ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعا «1» ثمانية وعشرون إصبعا، وما زاد على الاثني عشر مساحة الذراع أربعة وعشرون إصبعا. وإذا انصرف الماء عن ثلاث عشرة ذراعا إلى أربع عشرة استسقى الناس بمصر وكان الضرر الشديد. وهم يسمّون هذين الذراعين منكرا ونكيرا. وفي خمس عشرة ذراعا «2» لا يستسقى وكان نقصا من خراج السلطان والغلّات. 843 والقياس الّذي يعمل عليه في وقتنا هذا هو الّذي اتّخذه أسامة بن زيد التّنوخي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وهو أكبر المقاييس ذراعا «3» ، وهذا «4» المقياس في الجزيرة الّتي تدعى جزيرة الصناعة بين الفسطاط والجيزة، فيعبر «5» من الفسطاط إلى الجزيرة على الجسر ومن الجزيرة إلى الجيزة على جسر آخر، والفسطاط على شرقي الجزيرة والجيزة «6» على غربيّها. والعمل عند «7» ترادف الرياح وكبر الموج وكثرة الماء على مقياس آخر لأحمد بن طولون. وقد كان عمر بن عبد العزيز بن مروان لمّا ولّي مصر اتّخذ مقياسا قصير الذراع بحلوان «8» ، وهي فوق الفسطاط «9» ، فكان العمل عليه حتّى «10» اتّخذ أسمامة (بن زيد) «11» هذا. وكان العمل قبل الإسلام وصدر الإسلام بمقياس صنعه يوسف الصدّيق «12» (عليه السلام) 1» لمّا بنى الأهرام لمعرفة زيادة النيل، وكان بمنف، (ولمّا يبن الفسطاط يومئذ) «14» . وكانت دلوكة الملكة وضعت أيضا مقياسا آخر بالصعيد ببلاد أخميم.

844 والتّرع الّتي في مصر أربع أمّهات: ترعة ذنب التّمساح وترعة بلقينة «1» وخليج سردوس «2» وخليج ذات «3» السّاحل. وتفتح هذه الترع في عيد الصليب لأربع عشرة من أيلول، وليلة الغطاس بمصر لعشر يمضين «4» من كانون الآخر، وهو أصفى ما يكون النيل، وحينئذ يتّخذ النبيذ السواري «5» بعد الغطّاس، ويختزن الماء أهل تنّيس ودمياط (سائر قرى) «6» البحيرة. 845 ولليلة الغطّاس بمصر شأن عظيم. قال س: حضرتها سنة ثلاثين وثلاثمائة وأميرها الإخشيد محمّد بن طفج، وهو في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل والنيل مطيف بها. وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألفا مشعل سوى ما أسرج «7» أهل مصر من المشاعل والشمع «8» ما لا يحصى عدده. وقد حضر النيل في تلك الليلة آلاف الآلاف من البشر «9» ، منهم في الزوارق «10» ومنهم في الدور الراكبة للنيل ومنهم «11» في «12» الشطوط «13» ، وقد أظهروا كلّ ما في إمكانهم «14» إظهاره من الملابس وآلات الذهب والفضّة والجواهر والملاهي والعزف «15» والقصف وأحضروا «16» من المآكل والمشارب «17» ما «18» اختلفوا فيه، وهي أحسن ليلة تكون وأجلّها سرورا، ويغطس أكثر الناس في النيل ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض ونشرة من الدّاء.

846 وكتب عمر «1» إلى عمرو بن العاص: إنّ أرضك واسعة «2» رفيعة، وقد أعطى الله أهلها جلدا وقوّة في «3» برّ وبحر وعالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدّة عتوّهم «4» ، فاكتب إليّ بصفة أرض «5» مصر حتّى كأنّي أنظر إليها، والسّلام «6» . فكتب إليه: إنّ أرض مصر تربة سوداء وشجرة خضراء بين (جبل أغبر) «7» ورمل أعفر، وخطّها مسيرة راكب شهرا، كأنّما بين جبلها ورملها بطن أقبّ أو ظهر أخبّ، فيها نهر مبارك يسيل بالذهب على الزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر تمدّه عيون الأرض وينابيعها مأمورة بذلك، حتّى إذا طفحت «8» لججه واعلولى عبابه كانت القرى ممّا أحاط بها منه لا يوصل من بعضها إلى بعض إلّا في السفائن «9» والمراكب، ثمّ لا يلبث إلا قليلا حتّى تنقص جريته وتستبين متون أرضه، ثمّ تنتشر فيها «10» أمّة محصورة قد رزقوا على أرضهم جلدا وقوّة، فأثاروا سهل الأرض «11» وروابيها «12» ، وبذروا فيها من الحبّ ما يرجون به التمام من الشرب حتّى تبدو طوالعه وتظهر قنواته يسقيه «13» من تحته الثرى ومن فوقه الندا، فينتفي ذبابها وتدرّ حلابها، فبينا هي مدرة «14» سوداء إذا هي لجّة زرقاء ثمّ غوطة خضراء ثمّ ديباجة رقشاء ثمّ فضّة بيضاء، فتبارك الله الفعّال لما يشاء «15» ، فالحمد لله يا أمير المؤمنين على ما أنعم به عليك منها «16» والسّلام «17» .

847 وذكر أنّ مصر مصوّرة في كتب الأوائل وسائر المدن مادّة أيديها إليها تستطعمها. وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر تعدل الخلافة، وجعلها الله متوسّطة للدنيا، فهي من الإقليم الثالث والرابع، سالمة «1» من حرّ الإقليم الأوّل والثاني ومن برد الإقليم السادس والسابع، فطاب هواؤها وضعف حرّها وخفّ بردها، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وحرّ تهامة ودماميل الجزيرة وجرب اليمن وطواعين الشام وطحال البحرين وحمّى خيبر، وآمنوا من غارات الترك والعرب والديلم وآمنوا قحط الأمطار. ففي «2» كورها طرائف وعجائب، فصعيدها (أرض حجازية) «3» تنبت النخل والآراك والقطر «4» والعشر، وأسفل أرضها شامي ينبت ثمار الشام من الكرم والتين واللوز والجوز وسائر الفواكه «5» من البقول والرياحين، ويقع بها الثلج. 848 وأمر الرشيد فصوّرت له مدائن الدنيا، فما استحسن منها غير عمل أسيوط، فإنّ مساحته ثلاثون ألف فدّان في دست واحد، لو قطرت فيه قطرة فاضت على جميع جوانبه يبذر فيه جميع الحبوب. فلا يكون على الأرض بساط أعجب منه، من جانبه الغربي جبل أبيض على صورة الطيلسان، ويحيط به من جانبه الشرقي النيل كأنّه جدول فضّة، لا يسمع فيه الكلام من شدّة أصناف أصوات «6» الطير. وممّا ذمّت «7» به مصر سوى ما ذكره «8» الجاحظ أنّ أهل مصر أعقل الناس صغارا وأحمقهم كبارا. وكان أبو دلامة دخل مصر، فلمّا رجع إلى العراق لقيه الحسن «9» بن هاني فسأله عن صفة

مصر فقال: ثلثها كلاب وثلثها تراب وثلثها دوابّ. قال: وأين الناس؟ قال: في الثلث الأوّل. وفي بعض الروايات أنّ الدجّال «1» يخرج من موضع يقال له قوس. والحسد في أهل مصر كثير والجهل عليهم غالب. وقال علي بن الحسن العراقي «2» : صلّى علي بن أحمد بن أبي شيخمة العيد سنة «3» اثنتين وثلاثمائة بجامع عمرو «4» ، ولم يكن يصلّي فيه العيد قبل ذلك، فخطب خطبة العيد في فتر نظرا، فكان ممّا قال (أو حدّثوا عنه) «5» : اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مشركون. فقال شاعرهم [سريع] : وقام في العيد لنا خاطب ... يحضّض النّاس على الكفر فأمر أمير مصر بضربه، فكلّم فيه وتشفّع «6» له حتّى تركه. وأهل مصر يشبه بعضهم بعضا في الأبدان والأخلاق، وكذلك الصقالبة يشبه بعضهم بعضا. 849 ومن العجائب بأرض مصر: في قرية منها يقال لها بدرسانة القرى «7» كنيسة للروم «8» فيها بيت يصعد إليه الناس نيفا وعشرين مرقاة، وهناك سرير عليه صبي ميّت، وتحت السرير صورة ثور عظيم من رخام وفي جوفه باطية زجاج فيها أنبوبة نحاس، (توضع فيها فتل) «9» كتّان ويصبّ عليه يسير من الزيت ويشعل، فلا يلبث أن تمتلئ «10» الباطية وتفيض إلى جوف الثور، فيأخذ قيّم الكنيسة ذلك الزيت فيسرج به دائما لا ينقطع نماؤه وزيادته، فإن أزيل الصبي الميّت طفئت تلك النّار ولم يفض الزيت. وقد صار إلى هذا الموضع جماعة من الناس ونظروا إليه وفرغوا الباطية، ثمّ أسر جوها بيسير من الزيت، ففاضت وبدا منها ما ذكرنا. ويذكرون أنّ المرأة إذا اتّهمت نفسها بحمل

أخذت ذلك الصبي الميّت فجعلته في حجرها، فإن كان بها حمل تحرّك جنينها في بطنها لحينه، وإلّا لم يتحرّك. 850 وبساحل أبي علي بقرية بوصير الكتّان مسجد يسمّى مسجد برمنت «1» فيه حجر نابت يبض بيسير من الماء يوجد عليه، فإذا شربت منه المرأة الّتي لا تحمل أقلّ شيء حملت، لا يشكّون في ذلك. ولا ينحدر أحد في النيل من «2» الصعيد ولا يصعد أحد من مصر إلّا أهدى لهذا المسجد ممّا «3» يحمله من الطيّب والشمع وغير ذلك. وعلى بوصير نقب (في صخر بأعلى الجبل) «4» يجتمع إليه في كلّ سنة في يوم بعينه منها طير «5» كثير لا يحصى كثرة، فلا يزال الواحد بعد الواحد يدخل رأسه في ذلك النقب حتّى (تعلّق واحد منهم) «6» ولا يمكنه إخراج رأسه، فإذا كان ذلك انصرف الطير كلّه وتفرّق «7» . وإنّ الناس (لم يزالوا) «8» يشاهدون ذلك. 851 وعلى شاطئ النيل بعمل مصر موضع يجتمع إليه (في يوم معلوم من السنة) «9» سمك كثير يتعمّد إليه أهل ذلك الموضع فيصيدونه بأيديهم، لا يمتنع عليهم «10» ولا ينفر منهم «11» ، حتّى إنّ الرجل ليأخذ منها الألف وأكثر، فإذا غابت الشمس من ذلك اليوم لم يقدروا منها على سمكة واحدة.

852 وبصفح جبل من أرض مصر كنيسة فيها عين ماء عذب، متى مسّه جنب أو حائض غار من ساعته وأنتن جميع ما قد حصل في الحوض منه حتّى يغرف ماء الحوض ويغسل ويغرف ما بقي في العين منه «1» ، فيعود يجري على عادته. 853 وقيل: نعم بلاد مصر، يغزى منها «2» بدرهمين ويحجّ بدينارين، يريدون الحجّ في بحر القلزم والغزو إلى الإسكندرية. 854 ولمّا أهدى المقوقس إلى رسول الله «3» - صلى الله عليه وسلم - (عند كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه أهدى إليه) «4» ما أهدى من الثياب والكراع والجاريتين القبطيتين، كان في هديته تلك عسل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا العسل؟ قيل: من قرية مصر يقال لها بنها. فقال: اللهمّ بارك في بنها وعسلها. فعسلها إلى يومنا هذا أحلى عسل مصر وأكثره. قيل «5» : وصاهر «6» إلى القبط ثلاثة من الأنبياء عليهم السلام: إبراهيم الخليل تسرّر هاجر «7» ، ويوسف عليه السلام «8» تزوّج زليخا «9» ابنة صاحب عين شمس، وهي الّتي نصّ «10» الله تعالى حديثها معه، ومحمّد - صلى الله عليه وسلم - تسرّر مارية القبطية «11» .

الشيخ القبطي

الشيخ القبطي 855 وبلغ أحمد بن طولون صاحب مصر في سنة نيّف وستّين ومائتين أنّ رجلا من الأقباط بأرض الصعيد- أعالي بلاد مصر- له ثلاثون «1» ومائة سنة ممّن عني بالعلم من لدن حداثته والإشراف على الآراء والنّحل «2» من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل الملل، وأنّه علّامة بالممالك والملوك وذو معرفة بهيئات الأفلاك والنجوم، (وكان نقراسا على مذاهب) «3» اليعقوبية. فبعث ابن طولون إليه قائدا من قوّاده فحمله في «4» النيل مكرما، وكان الشيخ قد انفرد عن الناس في بنيان قد اتّخذه سكنا «5» وسكن في أعلاه، وقد رأى الولد الرابع عشر من (ولد ولده) «6» . 856 فلمّا بلغ إلى أحمد أسكنه بعض مقاصيره ومهّد له «7» وحمل إليه لذيذ «8» المآكل والمشارب، فأبى الشيخ أن يتوطّأ شيئا من ذلك وأن يتغذّى إلّا بما حمل مع نفسه من كعك وسويق ونحوهما «9» ، وقال: هذه بنية قوامها ما ترون من الغذاء واللبس «10» ، فإن أنتم سمتموني النقلة عن العادة كان ذلك سبب انحلال «11» البنية. ثمّ أحضره ابن طولون أهل الدراية وصرف همّته إليه وأخلى له نفسه أيّاما وليالي يسمع كلامه. فممّا سأله عنه بحيرة تنّيس ودمياط المتقدّم ذكرهما فقال: كان موضع البحيرة أرضا لم يكن أرض مثلها طيب تربة وزكاء رتع «12» ، وكانت جنانا متّصلة ولم تكن بمصر كورة

(تشبهها، وقيل ما يشبهها) «1» إلّا الفيوم وحدها، وكانت أكثر فاكهة ورياحين من الأصناف الغريبة. 857 ومعنى الفيوم ألف يوم لأنّ «2» أوّل من نزلها جارية من الروم اسمها «3» ألف يوم. وكان الماء منحدرا إلى قرى موضع «4» البحيرة صيفا وشتاء يسقون منه متى شاؤوا، وفضلة الماء تصبّ في البحر في الموضع المعروف بالأشتوم. وكان فيما بين العريش وقبرس طريق مسلوكة «5» في اليبس، وبينها وبين قبرس اليوم مسير طويل في البحر. فلمّا مضى من ملك دقلطيانس «6» مائتان وإحدى وثلاثون «7» سنة، وذلك قبل استفتاح مصر بمائة «8» سنة، طغى الماء من البحر وزاد فأغرق القرى الّتي كانت في موضع «9» البحيرة، وآثارها كان منها في البقاع باقية قد أحاط بها الماء. (والأكوام الّتي بتنّيس الّتي يسمّونها بأبي الكوم) «10» إنّما هي قبور أهل «11» تلك القرى، وهي تلال «12» منضدة بالناس من صغير وكبير وذكر وأنثى كالجبال. 858 قال: وعند هذه الزيادة الّتي ذكرتها «13» من طغيان البحر علا الماء على القنطرة الّتي كانت بين الأندلس (وبين الموضع الّذي يسمّى الخضراء، وهو قريب من فاس المغرب وطنجة، وهي قنطرة فاس، وهي قنطرة مبنيّة

بالحجارة) «1» تمرّ عليها الإبل والدوابّ من ساحل المغرب إلى الأندلس، (وما البحر تحت تلك القنطرة) «2» خلجان، وكان طولها نحو اثني عشر ميلا في عرض واسع وسموّ بيّن، وربّما بدت هذه القنطرة لأهل المراكب تحت الماء فعرفوها. 859 وسئل عن ممالك الأحابيش الّتي على النيل فقال: لقد لقيت منهم «3» ستّين ملكا كلّ ملك منهم ينازع من يليه. قال: ولاستحكام الناريّة في بلادهم تغيّرت الفضّة ذهبا لحرارة الشمس ويبسها، وقد يطبخ الذهب المغربي بالملح والزاج والطوب فيرجع فضّة خالصة بيضاء. وسئل عن منتهى النيل في أعلاه فقال: البحيرة الّتي لا يدرك قعرها «4» وطولها (وعرضها و) «5» هي تحت الموضع المسمّى بالفلك المستقيم من الأفلاك، وهي الأرض الّتي اللّيل والنهار فيها متساويان (الدهر كلّه) «6» . 860 وسئل عن الأهرام فقال: إنّها قبور الملوك. كان الملك إذا مات وضع في حوض من «7» حجارة، ثمّ يطبق عليه ويبنى «8» له هرم على قدر ما يريدون ويوضع الحوض في وسط الهرم، ويضعون باب الهرم تحت الحوض، ثمّ يحفر له طريق في «9» الأرض يعقدونه «10» أزجا. فقيل له: كيف بنيت هذه الأهرام المملّسة «11» وكيف كانوا يصعدون إليها وعلى أيّ شيء كانوا يحملون

هذه الحجارة الّتي لا يقدر «1» أهل زماننا أن يزحزحوا منها حجرا؟ فقال: كانوا يبنون الهرم مدرّجا ذا مراق، فإذا فرغوا منه نحتوه «2» ، ومع هذا كان لهم صبر وجلد ليس لمن بعدهم. قيل له: فما بال هذا القلم الّذي «3» على الأهرام والبرابي لا يفهم؟ فقال: تداول أهل مصر الأمم بعد الأمم فدرست كتابتهم الأولى. قيل: فمن كان أوّل من سكن مصر؟ قال: مصر بن بيصر «4» وبه سمّيت، وهو ابن حام بن نوح «5» . 861 وناظر هذا الشيخ القبطي (بحضرة أحمد) «6» بن طولون جماعة «7» من أهل الديانات والنحل، فممّا قال «8» لليهود «9» : أنتم تزعمون أنّ الله خلق آدم على صورته وأنّ الباري تعالى أبيض الرأس واللحية وأنّ الله تعالى قال: أنا النار المحرقة والحمّى الآكلة، وفي توراتكم أنّ بنات لوط سقينه «10» الخمر حتّى سكر وزنى بهنّ وحملن منه وولدن، وأنّ موسى ردّ على الله الرسالة مرّتين حتّى اشتدّ غضب الله، وأنّ هارون صنع العجل الّذي عبده بنو إسرائيل، وتقولون «11» في يوم عيد الكفور «12» ، وهو لعشر خلون «13» من تشرين الأوّل، إنّ الربّ الصغير- ويسمّونه ميططرون «14» - يقوم في هذا اليوم ويقول: ويلي إذا خربت بيتي وأيتمت بنتي، وينتف شعره، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

اللهون والفيوم

862 وأقام هذا القبطي عند ابن طولون نحو سنة، فأجازه وأعطاه، فأبى قبول شيء من ذلك، وردّه إلى بلده مكرما. اللهون والفيوم 863 وحجر اللهون بالفيوم «1» من عجائب الدنيا، واللهون قرية من قرى الفيوم، وهذا الحجر شاذروان بين قبّتين مدرّج على ستّين درجة فيه فوّارات للماء، يدخل الماء منها «2» إلى الفيوم بوزن بقدر «3» ما يكفيها، وهو من أحكم البناء «4» بالهندسة عمل وبالفلسفة أتقن وفي السعود نصب. وذكر كثير من الناس أنّ يوسف عمله بالوحي ولم تزل الملوك من الأمم «5» تقصد هذا الموضع وتتأمّله «6» لما قد نمى «7» من أخباره وصار في الخليقة من عجيب إتقانه. وهو من البناء الّذي يبقى على عابر الزمان ولا يتغيّر، ويقال إنّه عمل من ثلاثة أشياء: الفضّة والنحاس والزجاج. وفي أعلى الحجر بناء متقن، وفي الضفّة الغربية منه مسجد يقال له مسجد يوسف، وقد ذكرنا شيئا من أمره عند ذكر النيل. 864 وليس على الأرض مثل أربع كور مصر ولا تحت السّماء لهنّ نظير: كورة الفيوم وهي أفضلها وكورة أتريب «8» وكورة سمنّود وكورة صا. والفيوم فيها

ثلاثمائة قرية وستّون قرية على عدد أيّام السنة لا تقصر أبدا عن الريّ للحكمة في شربها. فإذا نقص «1» النيل سنة من السنين مارت كلّ قرية منها مصر يوما، ولو ناسبوا «2» أنهار الفيوم بأنهار البصرة ودمشق لكانت أنهار الفيوم أفضل وأكثر «3» . ولقد رام جماعة من أهل العقل والفضل «4» والمعرفة إحصاء مرافقها وغلّتها وخيرها وفوائدها، فأعجزهم ذلك (ولم يدركوه) «5» . وأنزل يوسف الفيوم من كلّ كورة من كور مصر أهل بيت، فكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر، وصيّر لكلّ قرية من الماء ما يروي أرضها من غير زيادة ولا نقصان، وصيّر لكل قرية شربا في زمان، لا ينالهم الماء إلّا فيه، [وصيّر] مطأطئا «6» لمرتفع ومرتفعا لمطاطئ «7» ، ولا بعض يأخذ دون حقّه ولا يزداد فوق قدره. وإنّما فعل ذلك لفرعون حين أراد اختبار علمه على ما قدمنا عند ذكره. وكانت الفيوم قبل ذلك مغايص ماء النيل، وأمره فرعون «8» (بعمارة غامرها) «9» وإحياء مواتها لبنته، فلمّا أظهر من الحكمة الوحية «10» العجيبة في ذلك ما أظهر ونظر إليه فرعون قال: هذا من ملكوت السّماء. وكانت أوّل قرية عمّرها بالفيوم قرية يقال لها شانة، وهي القرية الّتي كانت تنزلها ابنة فرعون. ومن ذلك الوقت حدثت الهندسة ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك. 865 وقد ذكرنا لم سمّيت الفيوم، وقال عبد الملك بن حبيب (غير ذلك. قال) «11» : إنّما سمّيت الفيوم لأنّها تؤدّي منها إلى السلطان «12» كلّ يوم ألف دينار. وخليج الفيوم يسقي أعلاها ووسطها وأسفلها بماء واحد، ولا يعدم بها «13» التمر الرطب شتاء ولا صيفا. وإذا كان يوم سدّ حجر اللهون أتى أمير «14» الناحية وعدول الناس وأهل الهندسة يشهدون سدّه، (فلم يكن

لمن) «1» يدّعي نقصا من الماء عذر. ويحضر ذلك أمير الفيوم (بالبنود والطبول) «2» ويكتب «3» بالبشارات إلى مصر. 866 ويزرع «4» أهل الفيوم «5» في العام مرّتين، وذلك إذا حمل النيل أوّلا وهي تشرب من ذراع اثنتي عشرة، وليس من أرض مصر موضع يشرب من هذا الذراع غير الفيوم، لأنّ سائر أرض مصر إنّما تشرب من ستّ عشرة، وإذا زاد الماء على اثنتي عشرة قطع أهل الفيوم جريانه فسدّ لهم هناك عند موضع يعرف بالشجرة «6» ، وهي شجرة جمّيز «7» عظيمة، فيزدرعون والماء باق في سائر الأرض. فيكون الحصاد عند أهل الفيوم وجميع من على أرض النيل لم يتمّ حرثه، فإذا كان أوّل حصاد أهل مصر كان ذلك أوّل السقية الثانية لأهل الفيوم، وحينئذ يسدّ «8» حجر اللهون ويزدرعون في السقية الثانية القمح والشعير والأرزّ. 867 والفيوم وسط بلاد مصر ومصر وسط البلاد ولا يؤتى إليها» من ناحية من النواحي إلّا من صحراء أو مفازة. وذكر ابن عفير «10» وغيره أنّ عمرو بن العاص (لمّا فتح مصر أقام المسلمون بعد ذلك سنة لم يعلموا بالفيوم ولا مكانها حتّى بعث عمرو بن العاص) «11» قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتّى أتى القيسيين فنزل بها وبه سمّيت، وأبطأ على عمرو خبره، فقال ربيعة بن حبيش «12» : أكفيك. فركب فرسا له أنثى، فجاز عليها النيل من

فرس النيل

ناحية الشرقية ومشى حتّى انتهى إلى الفيوم، ثمّ أتى عمرا بخبرها «1» وخبر قيس. ويقال إنّ عمرا بعث جرائد خيل إلى ما حول مصر، فأخبرهم رجل بأمر الفيوم «2» ، فسار معه في جريدة من الخيل عمرو بن ربيعة بن حبيش بن عرفظة الصدفي. فلمّا سلكوا في المجابة «3» لم يروا شيئا وهمّوا بالانصراف، فلم يسيروا إلّا قليلا حتّى طلع لهم سواد الفيوم. فرس النيل 868 ومن عجائب النيل الفرس الّذي يكون فيه، فإنّه إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه «4» إلى (بعض المواضع) «5» علم أهل مصر أنّ النيل يخرج إلى ذلك الموضع بعينه غير مقصّر عنه ولا زائد عليه. وهي تضرّ بالزرع ضررا «6» شديدا لرعيها له «7» ، فإذا كثر ذلك منها طرح لها التّرمس في المواضع «8» الّتي تخرج فيها «9» فتأكله، ثمّ تعود إلى الماء فيربو في أجوافها حتّى تنشقّ فتطفو على الماء ميّتة. وهي على صورة الفرس إلّا أنّ ذنبه وحافره «10» بخلافه وجبهته أوسع، والموضع الّذي يكون فيه هذا الفرس لا يكاد يرى فيه تمساح. ملوك مصر بعد الطوفان 869 وذكر جماعة من الشرعيّين أنّ بيصر بن حام (بن نوح) «11» لمّا انفصل عن أرض بابل بولده وكثير من أهل بيته سار نحو مصر فنزل موضعا يقال له منف، وكذلك يسمّى إلى الآن، وكان عددهم ثلاثين، فسمّيت بهم كما سمّيت

مدينة ثمانين ببلاد الجزيرة والموصل، وقد تقدّم ذكرها. وأوصى بيصر إلى الكبير من ولده، (وهو مصرايم) «1» فتملّك من أسوان إلى العريش طولا «2» والعريش آخر أرض مصر والفرق بينها وبين الشام، ومن أيلة- وهي بتخوم الحجاز- إلى برقة عرضا، (وهي آخر أرض) «3» مصر. ويقال إنّ هذا الحدّ جزء من ستّين «4» جزءا من أرض السودان، وأرض السودان جزء من ستّين جزءا من معمورة الأرض. وأوصى مصرايم «5» إلى الأكبر من ولده وهو قفط «6» ، ومن ولده جميع القبط. وقد دخل في أنسابهم غيرهم من ولد مصريم. 870 ولم يزل الملك فيهم إلى أن ملك أمرهم النساء فدخلهم الحرم، فسار إليهم من الشام ملك من ملوك العماليق يقال له الوليد بن دومع، فغلب على الملك فانقادوا إليه. (ثمّ ملك بعده الرّيّان ابنه وهو فرعون يوسف، ثمّ ملك بعده دارم «7» بن الرّيّان، ثمّ كامس بن معدان العملاقي) «8» ، ثمّ الوليد بن مصعب، وهو «9» فرعون موسى. وقد تنوزع فيه فمنهم من رأى أنّه من العماليق، وقال بعضهم: هو من لخم من بلاد الشام، ومنهم من رأى أنّه من الأقباط. وقال المسعودي: سألت جماعة من أقباط مصر والصعيد عن معنى فرعون وتفسيره فلم أجد أحدا يعرفه «10» ، والّذي أراه «11» - والله أعلم- أنّه كان سمة (لملوكهم بتلك الأمصار) «12» . فلمّا هلك غرقا ومن معه ملّك أهل مصر ممّن بقي فيها من الذراري والنساء والعبيد «13» والشيوخ والزّمنى امرأة ذات حزم ورأي وأصالة وعلم يقال لها دلوكة لم ينسبها أحد. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: دلوكة ابنة ريّان. فبنت على بلاد مصر

حائطا يحيط بجميع البلاد، وجعلت عليه المحارس من الرجال متّصلة أصواتهم، وأثر هذا الحائط باق إلى اليوم يعرف بحائط العجوز. واتّخذت البرابي بمصر وأحكمت آلات السّحر، فجعلت في البرابي صور من يدخل من كلّ ناحية ودوّابهم إبلا كانت أو خيلا، وصوّرت فيها من يرد في البحر من المراكب نحو «1» المغرب والشام، وجعلت ذلك في أوقات حركات «2» فلكية واتّصالها بالمؤثّرات «3» العلوية. فكان إذا ورد عليهم جيش عوّرت الصور الّتي من ناحية الجيش وعلى هيئته «4» ، فيتعوّر ما في ذلك الجيش وينقطع ناسه وحيوانه، وكذلك لمن ورد في البحر، فهابتها الملوك والأمم. وجمعت» في هذه البرابي العظيمة المشيّدة البنيان (أسرار الطبيعة) «6» وخواصّ الأحجار والنّبات والحيوان، فمنها صور «7» إذا صوّرت في بعض الأشياء أحدثت أفعالا على حسب ما رسّمت له وصنعت من أجله، والله أعلم بكيفيّة ذلك. 871 وعرض الهرم في الطول والارتفاع أربعمائة ذراع، وهي خمسة أهرام الثلاثة منها في الجانب الغربي من النيل وترى من الفسطاط، وهي على مقدار «8» واحد (أوسطها مدرج الأعلى، والأخريان على زاوية قائمة) «9» ، وهرمان منها بغربي الفسطاط.

872 والخواصّ وأسرار الطبائع في العالم موجود كثير «1» . لا يدفع أحد أنّ في الأرض (مدنا لا يدخلها) «2» عقرب ولا حيّة مثل حمص (ومعرّة وأنطاكية) «3» ، وقد كانت أنطاكية إذا أخرج الإنسان يده خارج السور وقع عليها «4» البق، فإذا جذبها (إلى الداخل) «5» لم يبق على يده منه «6» شيء إلى أن كسر «7» عمود من الرخام في بعض المواضع فأصيب في أعلاه حق من نحاس في داخله نحو كفّ من البقّ مصوّر من نحاس، فما كان إلّا على الفور من ذلك حتّى صار البقّ يعمّ دورهم. والله عزّ وجلّ قد استأثر بعلم الأشياء، فأظهر لعباده ما شاء، قال الله «8» عزّ وجلّ: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ «9» . 873 قال المسعودي: وأخبرني غير واحد من بلاد أخميم من صعيد مصر عن ذي النّون أبي الفيض الأخميمي الزاهد، وكان حكيما ممّن امتحن كثيرا من أخبار هذه «10» البرابي، قال: رأيت في بعضها كتابا تدبّرته فإذا هو: احذروا العبيد المعتقين والجند المتعبّدين والنبط المستعربين. قال: ورأيت في أخرى «11» كتابا تدبّرته فإذا هو: المقدّر يقدّر والقضاء يضحك. وزعم أنّه رأى في أخرى «12» كتابة فإذا هي «13» [وافر] : تدبّر بالنّجوم ولست تدري ... وربّ النّجم يفعل ما يشاء «14»

874 وقد قيل إنّ (أمّة من الأوّل دلّتها) «1» أحكام النجوم أنّ طوفانا (سيكون على الأرض) «2» ولم يقطعوا عليه أهو نار أو ماء أو سيف، فخافت على دثور العلم وذهابه، فبنت برابي في حجارة ورسمت فيها العلوم وبرابي طين وقالت: إن كان الطوفان ماء بقيت الحجارة، فإن كان نارا ستحجر الطين، وإن كان سيفا بقي النوعان. وهذا (على زعم من رأى) «3» أنّ بناءها كان قبل الطوفان. وقال بعض من زعم أنّ علّة هذه البرابي (؟) ورأى أن ذلك كان بعد الطوفان الّذي كانوا يرتقبونه ولم يعيّنوه. وقيل إنه كان سيفا أتى على جميع أهل مصر من ملك غشيهم «4» . وقيل: (وباء عمّهم) «5» بتلال تنّيس ودمياط المتقدّم ذكرها منهم، وما يوجد في بلاد مصر وصعيدها من النواويس والكهوف المملوءة رمما والبرابي الموصوفة بربى الصعيد وبربى أخميم وبربى بلاد سمنّود. 875 ثمّ تعاقب بعد دلوكة العجوز في ملك «6» مصر الفراعنة نحو ثلاثمائة سنة من ملك دلوكة إلى استيلاء بخت نصر عليها، منهم فرعون الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وخرّب بيت المقدس إلى أن سار إليهم بخت نصر على ما قدّمناه، فخرّب أرضها وقتل رجالها. واستولى عليها بعد ذلك الروم، فتنصّر أهلها إلى أن ملك كسرى أنو شروان، فغلبهم وملكهم «7» نحوا من عشر سنين. ثمّ جرت بين الروم وفارس حروب تكافؤوا فيها، فكان أهل مصر يؤدّون عن بلادهم خراجين: خراجا إلى الروم وخراجا إلى فارس. ثمّ ظهرت الروم

[ذكر بعض عجائب مصر]

على مصر والشام، فشملتها النصرانية، وجاء الله بالإسلام وصاحب مصر المقوقس وافتتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطّاب رضه وبنى الفسطاط، وهو «1» قصبة مصر. كان المقوقس ينزل الإسكندرية في بعض الفصول وفي بعضها منف وفي بعضها قصر الشّمع، وهو يعرف بهذا الاسم إلى اليوم، وهو في وسط الفسطاط. [ذكر بعض عجائب مصر] 876 وبمصر أخبار عجيبة من الدفائن وذخائر الملوك «2» ، فمنها ما ذكره يحيى بن بكير قال: جاء رجل إلى عبد العزيز بن مروان وهو أمير مصر وقال له: بالقبّة الفلانية كنز عظيم يوصل إليه بأدنى حفر أوّل علاماته أنواع من المرمر «3» والرخام الأبيض «4» يفضي إلى باب صفر، تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك من «5» ذهب عيناه ياقوتتان لا تعدلهما قيمة. فأمر له عبد العزيز بنفقة آلاف من الدنانير وشرع في الحفر، فظهرت الدلائل، فازداد عبد العزيز حرصا وأوسع له في النفقة إلى أن فتحوا باب الصفر «6» وظهر رأس الديك، فبرق عند ظهوره لمعان عظيم لشدّة نور الياقوتتين إلى أن ظهرت جناحاه وبدت «7» براثنه، وظهر تحت عمود الذهب قناطر مقنطرة وطاقات على أبواب معقّدة ولاحت تحتها تماثيل وأشخاص من الذهب وأجرنة «8» من الأحجار قد أطبقت عليها أغطيتها. فأشرف عبد العزيز على الموضع حين ظهر فيه ما ظهر وجدّ في العمل وجمع إليه الناس، فتسرّع بعضهم فوضع قدمه على درج من النحاس ينتهي إلى ما هنالك، فلمّا استقرّت قدماه على الرابعة

ظهر سيفان عظيمان عاديّان (سيف عن يمينه وسيف عن شماله) «1» ، فالتقيا عليه «2» ، فجزّياه قطعا وهوى جسمه سفلا. فلمّا مرّت ببعض الدرج منه قطعة اهتزّ العمود وصفّر الدّيك صفيرا عجيبا أسمع من كان بالبعد وحرّك جناحيه، فظهرت من تحتها أصوات غير معهود مثلها وتهافت من كان هنالك من الرجال إلى أسفل تلك الحفرة «3» ، وكان فيها ممّن (يحفر ويعمل) «4» نحوا من ألف رجل، فهلكوا جميعا. فجزع «5» عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النّيل، نعوذ بالله منه. وأمر الناس فردّوا التراب عليه وعلى من (هلك فيه) «6» من القوم «7» ، وصار الموضع قبرا لهم. 877 وقد كان وقع إلى بعض من أغرى بحفر الحفائر وطلب الكنوز كتاب (ببعض الأقلام) «8» السالفة فيه وصف كنز ببلاد مصر على أذرع يسيرة من بعض الأهرام، وأخبر الإخشيد محمّد بن طغج فأذن في حفره، وذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، فحفروا حفرة عظيمة إلى أن انتهوا إلى آزاج «9» وأقباء وحجارة «10» مجوّفة وصخور منقورة «11» فيها تماثيل قائمة مختلفة الصور «12» ، منها على صور الشيوخ والشبّان والنساء والأطفال أجسامها (في نوع من) «13» الخشب ووجوهها ذهب وفضّة وعيونها من أنواع الجواهر «14» ، وكثرت في أجوافها رمم بالية وأجسام فانية «15» . والتمثال على صورة من وضع في جوفه على اختلاف أسنانهم وتباين صورهم، وعلى «16» جانب كلّ تمثال نوع من الآنية كالبراني «17» من الزمرّد والجواهر الغالية فيه بقية ما طلي به ذلك الميّت من الطلاء، دواء مسحوق وأخلاط معمولة لا رائحة لها، فإذا وضعت

في النار تضوّعت منها أرياح «1» طيّبة مختلفة لا تعرف في نوع من أنواع الطّيب، وقد جعل بإزاء كلّ تمثال تمثال من المرمر والرخام «2» على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل. (وعليها أنواع من) «3» الكتابات لم يقف على استخراجها أحد من أهل الملل، وزعم قوم من أهل الدراية أنّ لذلك القلم مذ فقد من أرض مصر أربعة آلاف سنة. 878 وكان صلحاء مصر أعظم الناس علما وأجلّهم بالكهانة حذقا، وكان حكماء اليونانيّين يصفونهم بذلك ويشهدون لهم بالتقدّم فيه «4» ، فيقولون: أخبرنا حكماء مصر بكذا واستفدنا منهم كذا. وكانوا يزعمون أنّ الكواكب هي الّتي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وأنّها هي الّتي علّمتهم أسرار الطبائع ودلّتهم على العلوم المكنونة، فعملوا الطلسمات المشهورة والنواميس الجليلة وولدوا الولادات الناطقة والصور المتحرّكة وعجائبهم ظاهرة وحكمتهم واضحة. 879 وكانت مصر خمسا وثمانين كورة، فأسفل الأرض خمس وأربعون وبالصعيد أربعون. وكان في كلّ كورة رئيس من الكهنة وتحت يد كلّ واحد منهم عدد عظيم «5» من السحرة وأهل الحكمة، وهؤلاء الرؤساء الّذين عنى الله تعالى في قصّة فرعون لمّا أشار عليه أصحابه وقالوا له: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ «6» . وكان الّذي يتعبّد منهم الكواكب السبعة المدبّرة

لكلّ كوكب سبع سنين، فإذا بلغ هذه المنزلة سمّي ناظرا وكان يجلس (مع الملك في مرتبته) «1» ويصدر الملك عن رأيه ولا يعصي له أمرا. وكان من رسمهم أن يدخل إلى الملك كلّ يوم فيجلس إلى جانبه ويدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصناعات، فيقفون حذاء الناظرين. وكلّ واحد من الكهنة منفرد بكوكبه يخدمه لا يتعدّاه إلى سواه ويسمّى عبد كوكب كذا. فيقول الناظر للكاهن: أين صاحبك؟ فيقول: في البرج الفلاني في درجة كذا ودقيقة كذا. فإذا عرف مستقرّ الكواكب «2» من جميع خدمتها قال للملك: ينبغي أن يصنع اليوم بنيان كذا ويوجّه جيش إلى مكان كذا ويأكل الملك في وقت كذا، وجميع ما يراه له «3» صلاحا في دقيق أموره وجليلها. والكاتب قائم يكتب جميع ما يقوله الناظرون ممّا يتّفقون على إمضائه وتصريف فعله، ثمّ يلتفتون إلى أصحاب الصناعات فيقولون: انقش أنت صورة كذا وكذا على حجر كذا، وصوّر أنت تمثالا كذا واغرس أنت كذا، حتّى يأتوا على جميع الأعمال، فيخرجون إلى دار الحكمة ويضعون أيديهم في تلك الأعمال. ويستعمل الملك جميع ما يقوله الناظرون ويؤرّخ ذلك اليوم في الصحيفة «4» وتطوى وتودع خزائنه. فعلى ذلك جرت «5» أمورهم، وكان الملك إذا حزنه «6» أمر أو همّ (به همّ أضمره) «7» جمعهم خارج منف واصطفّ لهم الناس في الشوارع والطرقات، ثمّ يمرّون ركبانا يقدم بعضهم بعضا فيدخل كلّ واحد منهم بأعجوبة، فمنهم من يعلو وجهه نور مثل نور الشمس ولا يقدر أحد (أن ينظر إليه) «8» ، ومنهم من يدخل راكبا أسدا، ومنهم من يتوشّح بثعابين عظام، ومنهم من يكون عليه قبّة من نور، في صنوف من العجائب كثيرة إلّا أنّ كلّ واحد منهم إنّما يصنع ما يدلّ عليه كوكبه. فإذا دخلوا على الملك قالوا: أرادنا الملك لكذا والصواب فيه «9» كذا.

880 وروى ابن لهيعة قال: كان عدد السحرة الّذين حشروا لفرعون «1» اثني عشر رئيسا، تحت يد كلّ رئيس عشرون عريفا، تحت يد كلّ عريف ألف من السحرة، وكان عدد السحرة مائة ألف وأربعين ألفا ومائة واثنين وثلاثين «2» ، (والله أعلم) «3» .

المجلد الثانى

[المجلد الثانى] ذكر ملوك مصر من لدن عمارتها قبل الطوفان وبعده إلى استفتاح المسلمين لها (وغريب أخبارهم) «1» 881 الّذي بنى الأهرام والبرابي واستوسقت له مملكة مصر وانتقادت له الملوك سوريد «2» بن سهلون، وبنى الأهرام صيانة لجثثهم وأجسامهم «3» ، وبنى الأفرونيات «4» وبنى البرابي حفظا لعلومهم وآثارهم، وذلك لمّا أنذروا له «5» بأمر «6» الطوفان المهلك للعالم. وكان سوريد قد أوتي من الحكمة والعلم ما لم يسبق إليه وكان يتعاهد من مصالح رعيته ما لم يتعاهد سواه، وكان ينفق على الضعفاء من بيت ماله. واتّخذ مرآة من أخلاط وأقامها على منار في وسط قصره، وكان ينظر فيها جميع الأمم والممالك والأقاليم وما منها أخصب وما منها أجدب وينظر من قصد ناحيته وما يجري للأمم «7» من حروب أو غيرها. وتقدم إلى رأس الناظرين، وهم الكهّان، أن ينظر ما يحدث في كلّ يوم ويجعله «8» في كتاب. وكان أكثر اهتمامه بعمل الأدوية والعقاقير المؤلّفة والصنعة والنواميس «9» ودفع المضارّ بالطلسمات وكلّ ما كان فيه صلاح للناس. وعمل صنما في صورة امرأة جالسة في حجرها «10» صبيّ ترضعه، فمن أصابها علّة من النّساء في عضو من بدنها مسحت ذلك المكان من الصنم فزال «11» عنها ما تجدّه، وكذلك إن قلّ لبنها أو أبطأت «12» حيضتها مسّت فوق ركب الصنم، وإن كثر دمها مسّت أسفل الركب فينقص، وإن أصاب ولدها شيء فعلت مثل ذلك بالصبي فيزول عنه، وإن عسرت ولادتها فمسحت «13» رأس الصبي سهلت ولادتها، وكذلك البكر يسهل

افتضاضها. وإذا قربت الزانية من هذه الصورة ووضعت يدها عليها ارتعدت يدها ولا تزال كذلك حتّى تقلع عن فجورها. ولم تزل الصورة كذلك حتّى أزالها الطوفان، ويقال إنّها وجدت بعد الطوفان وإنّهم عملوا بها بعد ذلك وعبدت وصورتها موجودة في جميع «1» برابي مصر باسمها «2» ، وكان اسمها بلهوية «3» . 882 وعمل لهم الصنم الّذي يقال له بكرس «4» من أخلاط يدفع الأسقام والعلل بمواضع تغسل منه وتشرب وبخورات يتبخّر بها ويستنشق، وعمل عجائب كثيرة. 883 واستخرج زمن أبي سليمان عوف بن سليمان قاضي مصر كتابا بالقبطية وجد في قبر ميّت كان فيه، كتب هذا الكتاب في أوّل سنة من ملك دقلطيانس «5» من كتاب نسخ في أوّل سنة من ملك فليبس «6» ، (وإنّ فليبس) «7» استنسخه من صحيفة ذهب بالكتاب الأوّل (ترجمه له أخوان من القبط ورثا علم ذلك من أبيهما، وهو رجل) «8» من أهل مصر الأوائل لم ينج «9» منها من الطوفان غيره، وكان سبب نجاته أنّه أتى «10» نوحا عليه السلام فآمن به فلم يأته من بلده غيره، وهذا المترجم من الكتاب الموجود:

884 باسم الباقي بعد الأشياء. إنّ الملك سوريد بن سهلون ملك مصر وأنّه رأى رؤيا هالته، فأحضرنا وأمرنا أن ننظر ما تدلّ عليه الكواكب ممّا يحدث في العالم، فأقمناها في مراكزها في وقت مسألته، فدلّت على آفة نازلة من السماء «1» وحادثة من الأرض. فلمّا بان لنا ذلك أخبرناه به فقال: ما هو؟ فنظرنا في خفي أمورها فوجدنا ماء يحدث مفسدا للأرض وأهلها وحيوانها وجميع ما فيها. فلمّا تمّ اليقين من ذلك أمرنا ببناء الأفرونيات وأعلاما عظاما تكون «2» له ولأهل بيته (قبورا تحفظ أجسامهم) «3» من الفساد ويبقى علمهم» صحيحا، وكتب على حيطان الأفرونيات وسقوفها علم غوامض الأمور من دلائل النجوم «5» وعللها وسرائر «6» الطبائع وتكوّنها والنّواميس العظام وعلمها «7» والعقاقير وتأليفها والصنعة وحكمتها، وغير ذلك ممّا ينفع ويضرّ ملخّصا مفسّرا لمن عرف كتابنا ولغتنا. وإنّ هذه الآفة محيطة بجميع أقطار العالم إلّا اليسير، وذلك «8» إذا نزل قلب الأسد أوّل دقيقة من السرطان وتكون الشمس والقمر في أوّل دقيقة من رأس الحمل وأقرونس «9» من الحمل (في درجة وثمان وعشرين دقيقة) «10» ، وأورانس «11» في الحوت (في تسع وعشرين درجة وثمان وعشرين دقيقة) ، وأرش «12» في الحوت (في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق) ، وأفروديطى في الحوت (في ثمان وعشرين درجة ودقائق) ، وهرمس في الحوت (في سبع وعشرين درجة ودقائق) ، والجوزهر في الميزان، فأوج القمر في الأسد خمس درجات ودقائق.

885 فلمّا عرّفناه ذلك قال: انظروا هل يكون بعد هذه الآفة كون مضر-[بالعالم] . فأصبنا الكواكب تدلّ في وقت نظرنا على [أنّ] آفة نازلة من السماء إلى الأرض وأنّها ضدّ الأولى، وهي نار محرقة لأقطار العالم، فعرّفناه بذلك فقال: انظروا متى يكون هذا الكون. فوجدناه قد يكون عند نزول قلب «1» الأسد آخر دقيقة من الدرجة الخامس عشرة من الأسد ويكون أيليس، وهي الشمس، معه في دقيقة [واحدة] متّصلة بقرونوس «2» من تثليث الرامي، ويكون (راوس في الأسد) «3» وأرش معه في دقيقة واحدة «4» ويكون سليني، وهو القمر، في الدلو مقابلا لإبليس والذنب معه، ويكون كسوف مطبق، وتكون أفروديطى في بعدها الأبعد من وراء إبليس وهرمس في بعده الأبعد أمامها مقيمين، أفروديطى للاستقامة وهرمس للرجعة. 886 فقال الملك: هل من خبر آخر توقفوننا عليه بعد هذه الأمور العظام؟ قالوا: ننظر في ذلك. فنظروا على عدد السنين وقالوا: وجدنا أنّه إذا قطع قلب الأسد ثلثي أدواره، وهو آخر دقيقة «5» من العقرب، لم يبق من حيوان الأرض متحرّك إلّا تلف، فإذا استتمّ أدواره تحلّلت عقد الفلك. قال لهم «6» : فأي يوم تحلّل فيه عقد الفلك؟ قالوا: اليوم الثاني من بدء حركة الفلك. فعجب من ذلك. قال: وزعم آخرون أنّ قلب الأسد إذا بلغ الدرجة الخامس «7» عشرة من الأسد كان طوفان نار يحرق العالم بأسره، فلا يبقى على الأرض حيوان وتبقى الأرض خرابا، ويستأنف الباري تعالى ما أراد من الخلق. وهذا لم يصحّ لأنّ قلب الأسد كان يرصد سنة أربع عشرة

ومائتين في ثلاث عشرة درجة وثلاثين دقيقة من الأسد، فيجب أن يكون اليوم، وهو إحدى وستّين في آخر الدرجة السادس عشرة منه. 887 وفي كتاب السند هند (الّذي عمل المجسطي منه) «1» وغيره أنّ (دوران الشمس من أوّل مسيرها) «2» من الحمل إلى أن ينقضي مسيرها آخر الأسد على ما حسبوه وأحاطوا علما به «3» بزعمهم أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف ألف وعشرون ألف ألف دورة والدورة سنة «4» . وجمهور الناس من المتقدّمين والمتأخّرين يعتقدون أنّ العالم محدث منتقض «5» إلّا ما قاله أرسطاطاليس إنّ الطبيعة قديمة وانّ الزمان لا يبيد وإنّه لا أوّل له ولا آخر، وهو قول أهل الهند. وقال نفر من الفلاسفة: العالم محدث إلّا أنّه لا يبيد لأنّه حكمة والحكيم لا يفسد صنعته. 888 ولمّا مات سوريد بعد أن ملك مائة سنة وسبع سنين دفن في الهرم الشرقي وملك «6» بعده أخوه هرجيت «7» ثلاثين سنة ودفن في الهرم الغربي، وملك بعده ابنه مناوش خمس عشرة سنة ودفن في الهرم الملوّن بلونين من الحجارة. ولهذه القبور أبواب في آزاج مبنية بالحجارة في الأرض طول كلّ أزج منها عشرون ذراعا بذراعهم، له باب من حجر واحد يدور بلولب، فإذا أطبق عليه «8» لا يعرف أنّه باب، وصار كالبنيان لا يصل «9» الذر إلى الوصول منه. وفي هذه الأهرام قبون من الذهب والفضّة والكيمياء و (الحجارة من الزبرجد الرفيع) «10» والجواهر النفيسة ما لا يحتمله الوصف كثرة «11» .

889 هذا آخر الكتاب الموجود في القبر، وترجم هذا الكتاب يوم الأحد أوّل يوم من توت عند طلوع الشمس سنة خمس وعشرين ومائتين «1» من سني العرب وانتهى ما تضمنه من التواريخ من لدن أثبت بالخطّ الأوّل إلى هذا اليوم (أربعة آلاف وخمسمائة وعشرون وثلث) «2» بسني الشمس. ثمّ نظر كم للطوفان إلى هذا اليوم، فوجد (اثنين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف) «3» ، فعلم أنّ الكتاب كتب قبل الطوفان (لما بين الجملتين) «4» . 890 وكانت الرؤيا الّتي رآها الملك على ما أثبت «5» في المصاحف الموجودة بمنف في خلافة عبد الملك- وكانت سبعة مصاحف مترجمة يذكر» قيطون بن أمنايوس الكاهن يذكر فيها مبادئ الولادات والخلوق الأوّلية ويذكر الملوك والناظرين وما وضعوه من الحكم وعملوه من الطلسمات، وكانت بخطّ أركليوس «7» الكاهن، فحملت إلى عبد الملك مع الحبر الّذي كان معها وانعفى «8» أكثرها، ففسّرها له «9» رجل يهودي من أهل الطواري، فلم تكن بالخطّ الكاهني الصوري بل كانت بالخطّ المعروف بالبرسطي، فبذلك قدر على استخراجها، فكشف لهم منها ما أراد وستر ما أراد، وقدر منها على علم كثير وعرف الخبر المشهور وكيف الوصول إليه وأصناف العلوم المقترنة «10» به. وقد كان صدر المصحف الأوّل الجامع لهذه المصاحف.

891 باسم الربّ المحيط بالأشياء. أنا قيطون بن أمنايوس الكاهن. كان أبي من خدّام الهياكل النورية والمتكلّمين عندها بكلمة «1» التوحيد والخضوع للآلهة المعطية «2» للعلوم المظهرة «3» وللأرواح الأشباحية لمن كان يتعبّد لها ويقوم بقرابينها وبخورها «4» . وكان إليه مع ذلك خدمة نواويس الملوك، وكان من رسم بهاتين الحالتين يومى إليه بالتعظيم ويفضل بالتزكية. فلمّا هلك هرمينيوس الملك حفر له في ناووس المملكة أزجا وصفحه بالمرمر الأزرق «5» ملوحا بالذهب اليأكلون، وحفر عند رأس الأزج موضعا تقام فيه أسطوانة التآريخ (فانتهى به الحفر) «6» إلى أوعية من رصاص مطبقة فيها مصاحف الكهنة وفيها جثّة أقوديس «7» الكاهن الّذي كان في زمن أسادس. فأخذ أبي المصحف بحقّ كهانته «8» وقيامه على الهياكل والنواويس، فوقف على ما فيها ولم يظهر شيئا من علومها. فلمّا هلك أبي صارت المصاحف «9» إليّ فنقلتها بترجمتي لتكون ذخيرة لولدي. وكان أوّل ما ترجمته من تلك المصاحف: 892 باسم النور الّذي كانت الأنوار كلّها منه وإليه تعود، مطهّر الحكماء ومؤيّدهم بالأشباحية العالية واسم الآلهة. هذا ما نسخناه ووقفنا عليه من أسرار العلوم والّذي قدرنا عليه من كتب ساداتنا الناظرين الهادين «10» إلى طريق الحكمة، ووقفنا عليه من أسرار الخليقة ومفاتيح العلوم وأسرار الولادات.

893 ثمّ نرجع إلى ذكر الرؤيا. وكان في جملة ما ترجم من هذه المصاحف أنّ سوريد (رأى الكواكب) «1» المعروفة بالبابانية في صور (طيور بعض) «2» وكأنّها تخطف العالم وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكان الجبلان انطبقا عليهم وكانت الكواكب النيّرة مظلمة كاسفة كلّها. فلمّا أخبره الناظرون بما تقدّم عنهم أمر أن يختار موضعا لبنيان الأعلام، فاختير موضع بقرب النيل في الجانب الغربي وبنيت فيه مدينة (مرقة أي مطلب الحكمة) «3» ، وأمر الملك بجمع الناس والفعلة فجمع سبعة آلاف لقطع الحجارة وحملها ومثلهم لهندستها والنقش عليها وأضعافهم (للبناء وعمل) «4» قضبان الحديد واستخراج معادن الرصاص، فكانوا ينصبون البلاطة ويجعلون في وسطها عمودا من حديد «5» قائما قد ضبط بالرصاص «6» المسبوك وتركب عليه بلاطة أخرى في قدّها وهندستها مثقوبة «7» الوسط بقدر دخول القضيب فيها، ويسبك الرصاص ويصبّ على «8» البلاطتين معا، حتّى بنى بها «9» بنيانا طوله مائة ذراع وخمسون ذراعا بذراعهم ليكون ماء الطوفان مع حافته وهرم البنيان صاعدا، وجعل رأسه عشر أذرع في مثلها، وعرض كلّ حائط من تربيع الهرم مثل طوله مائة وخمسون ذراعا. 894 ثمّ أحضرهم فقال: انظروا هل تفسد هذه الأعلام. فنظروها فوجدوها باقية (لا تزول) «10» . فقال: انظروا هل يفتح منها موضع. فنظروا فقالوا: نعم يفتح من الجانب الشمالي. فقال: حقّقوا النظر هل تعرفون الموضع بعينه،

فعرّفوني إلى متى يكون ذلك. فأخرجوا الموضع وذكروا أنّ ذلك يكون لأربعة آلاف دورة للشمس. (فقال: انظروا العلّة الّتي يفتح من أجلها. فقالوا: يفتح طلبا لما فيه من مال. فقال: هل ينفقون على ذلك شيئا؟ قالوا: نعم. قال: هل تقفون على قدره؟ فعرّفوه) «1» . فقال: اجعلوا في الموضع الّذي يصلون «2» منه إلى. داخل الهرم «3» ذهبا بقدر «4» ما ينفقونه. وحثّ الأمّة على الفراغ من الأهرام والأفرونيات، ففرغوا من ذلك في ستّين سنة. وعلى الأهرام مكتوب: بنينا هذه الأهرام في ستّين سنة، فليهدمها من يريد ذلك في ستّمائة سنة، فإنّ الهدم أهون من البناء. 895 وذكروا أنّه «5» كانت لهم قرافل من خوص إذا ضربوا بها الحجارة قفزت من أنفسها وطارت «6» ، وأنّ ذلك لم يزل متعارفا عندهم. قال الوصيفي: وقال لي رجل قبطي يعرف بإبراهيم بن أبراس «7» ، وقد أجرينا شيئا من هذا الذكر، أنّهم أصابوا في بعض الكنائس في موضع شبيه بالطاق سفط فيه «8» سلة، ففتحت فوجدوا فيها قرفلة من خوص عجبوا منها ولم يدروا لها معنى، فطرحوها في النار ليحرقوها، فكانت تثب من النار حتّى تبلغ سقف الكنيسة، فلمّا رأوا ذلك قطعوها بالسكين، ثمّ عرفوا الحال فيها فندموا على إفسادها. قال الوصيفي: ولا أدري أهي من قرافل الحجارة أم من غيرها إلّا أنّ في توثّبها من النار عجبا.

896 ولمّا فرغ المأمون من حرب أهل التيماء وأقام بمصر أراد هدم الأهرام، فعرّفه بعض شيوخ المصريّين أنّ ذلك غير ممكن «1» ولا يجمل «2» بمثله أن يطلب شيئا لا يبلغه. فقال: لا بدّ لي أن أعلم علم ما فيها. ثمّ أمر (أن يفتح) «3» من الجانب الشمالي لقلّة دوام الشمس على من يتولّى ذلك. فكانوا يوقدون النار عند الحجر، فإذا حمّى رشّ عليه «4» خلّ ورمي بالمنجنيق «5» حتّى فتحت الثلمة الّتي يدخل منها إلى الهرم اليوم، فوجد بنيانه على ما ذكرنا «6» من الحديد والرصاص، ووجد عرض الحائط عشرين ذراعا. 897 فلمّا وصلوا إلى آخر الفتح «7» وجدوا خلفه مطهرة من حجر أخضر فيها مال على حول الدنانير العراض، وزن «8» كلّ مثقال منها «9» سبعة وعشرون مثقالا وثلثا مثقال بمثقالنا «10» . فقال: زنوه. فوزنوا الجملة فوجدوا فيها مالا عظيما «11» معلوما. وكان المأمون (رحمه الله) «12» فطنا فقال: ارفعوا «13» إليّ ما أنفقتم على فتحه. ففعلوا «14» فوجدوه موازنا لما وجدوا من المال فتعجّب «15» من ذلك ومن معرفتهم بالموضع الّذي يفتح «16» منه على طول الزمان، وازداد «17» يقينا في علم النجوم. فركب حتّى دخله «18» ونظر إلى البيت فوجد «19» فيه صنما أخضر مادّا يده وهو قائم، ونظر إلى الزلاقة والبئر، فأمر بنزولهما، فنزلوا من واحدة إلى واحدة حتّى أفضوا إلى صنم أحمر وعيناه مجزعتان سوادا في بياض كأنّهما حدقتا إنسان، فهالهم أمره وقدّروا أنّ.

له حركة «1» ، فخرجوا «2» وعرّفوه الحال وجراه ذلك على طلب مخاب كثيرة. 898 ووجد المأمون طول كلّ هرم من الهرمين الكبيرين أربعمائة ذراع بالمالكي وكذلك عرض كلّ حائط من حيطانها. ويقال إنّه ليس على وجه الأرض أرفع بناء من هذين الهرمين وهما غربي وسيم «3» ولا في العالم حجر موضوع على حجر أعلى منهما. ويقال إنّ عمقهما في الأرض مثل ارتفاعهما فوق الأرض. وذكر أنّ أبواب هذه الأهرام لا تفتح إلّا بكلام وقرابين وبخورات، والصابئة تحجّ إليها «4» من حرّان. 899 وفي مصحف هرقل «5» - وكان تأريخه لستّمائة سنة من الطوفان- أنّ سوريد ملك مصر نظر في النجوم، فرأى أنّ حادثة من السماء تكون مضرّة بالعالم، فأمر ببناء أعلام تكون نواويس لحفظ «6» أجساد الملوك، وكتب «7» على تلك الأعلام أسماءهم وتواريخهم وكثر فيها من فاخر الجوهر والصنعة وطرائف الحكمة، ومن التماثيل والذهب الملوّن والتيجان الفاخرة ما يستدلّ به على عظم «8» ملكهم، وجعل على ذلك طلسمات تمنع منها إلى أوقات معلومة تكون ذخيرة لهم. ووضع أساسها في وقت السعادة وجعل في «9» أساس كلّ علم منها صنما وكتب «10» في صدورها «11» دفع المضارّ والآفات عنها، وفي يد كلّ صنم منها كالبوق، وهو واضعه في فيه، وفي وسط كلّ علم منها مسارات

موجّهة إلى آزاج ضيّقة المنافذ واسعة المداخل تجتذب الرياح إليها على مرّ الزمان وتخرج في وجه الداخل إليها، فإن لم يحسن دفعها أهلكته، ومنها ما ينطبق عليه بحكمة متقنة وأمر مبرم. وقيل إنّه عمل تحت الأهرام أسرابا تخرج منها «1» إلى ناحية الفيوم وإلى ناحية المغرب على يوم ويومين منها، وأودعت عجائب كثيرة، وإنّ في أسفلها مشارب للماء يفيض «2» فيها إلى مصابّ «3» تجري إلى «4» النيل. 900 وفي خبر آخر «5» أنّه وكل بالأهرام روحانيّين، فجعل في الهرم الغربي روحانيا في صورة امرأة عريانة مكشوفة الفرج، لها ذؤابتان، فإذا أرادت أن تستفزّ الإنسان ضحكت إليه واستجرّته إلى نفسها. وقد ذكر ذلك «6» من رآها وقصدها. ووكل بالهرم القبلي روحانيا في صورة غلام أمرد عريان قد ريء من خارجه مرّة بعد مرّة ثمّ تغيّب عنهم. وفي الهرم الملوّن صورة شيخ في كفّه مجمرة «7» كنائسية «8» كأنّه يتبخّر وعليه ثياب الرهبان. وكذلك وكل لجميع «9» الأفرونيات حتّى إنّ أهل «10» أخميم (لا شكّ عند جماعتهم) «11» أنّ روحاني البربى الّذي بها غلام أسود أمرد معه عصا، ولا يستطيع أحد أن يدخل البربى من بعد العصر إلى الصبح. ولم يكن أهل سمنّود يشكّون في أنّ روحاني البربى الّذي فيها رجل طويل أدم صغير اللحية أشيب. وأمّا بربى قفط فجارية «12» سوداء معها صبي صغير أسود تحمله. وأمّا بربى بوصير ففيها «13» شيخ أبيض عليه زي الرهبان وفي يده مصحف.

901 ولكل واحد من هؤلاء الروحانيين قربان وكلام يطيع به ويدلّ معه على علوم البربى وكنوزه. ويقال إنّ ذا النون الأخميمي إنّما قدر على ما قدر من علوم البربى حتّى عمل الصنعة والجوهر وحمل إلى العراق «1» في ليلة «2» وغير ذلك من العلم، لأنّه خدم راهبا كان بأخميم يقال له ساس مدّة صباه، فعلّمه الخطّ ودلّه على القربان والبخور واسم الروحاني وأوصاه بأن يكتم ذلك. فلمّا علم ذو النون ما علم طيّن (مبنى الحكماء) «3» (بطين الحكمة) «4» الّذي لا ينقلع إلّا مع الحجر ويفسد بقلعه الخطّ المرموز به. 902 وفي بعض أخبار المصريّين أنّ قوما قصدوا الأهرام (في وقت المتوكّل) «5» وكان على مصر حينئذ ابن المدبّر، فنزلوا من الزلاقات والآبار وطلبوا أن يدخلوا من تلك المضايق الّتي تخرج الرياح منها وحملوا «6» سرجهم في أواني زجاج، فأتتهم رياح أخرجتهم وكسّرت «7» أوانيهم وأطفأت سرجهم. فأخذوا أحدهم فربطوا وسطه «8» بالحبال وقالوا له: ادخل، فإن رأيت «9» شيئا تكرهه جررناك. ففعل ذلك. فلمّا دخل وأمعن وزاحم الرياح انطبق عليه ذلك المصبّ «10» وجذبوه، فانقطعت حبالهم وبقي الرجل «11» في ذلك الشقّ لا يقفون له على خبر، فاغتمّوا لذلك وصعدوا هاربين حتّى خرجوا من الهرم وجلسوا عند باب الثلمة المفتوحة ينظرون «12» في أمر ذلك الرجل وأمرهم وما (أقدمهم على ما) «13» أقدموا عليه، فإنّهم لكذلك إذ انفرجت لهم فرجة من الأرض كالوهدة، فأثارت لهم ذلك الرجل عريانا مشوّه

الخلق «1» ميّت الدم جامد العينين، وهو «2» يتكلّم بكلام عجيب لا يفقه. فلمّا فرغ من كلامه سقط ميّتا، فازداد ولههم وتضاعف جزعهم واحتملوه إلى منزله، فأخذهم الحرس «3» وانطلقوا بهم مع الرجل الميّت إلى ابن المدبّر، فسألهم عن أمرهم فأخبروه، فعجب من ذلك وأمر أن يكتب ذلك الكلام على حسب ما لقنوه، فأقام يطلب من يفسّره (إلى أن لقي) «4» رجلا من أهل العلم «5» الأقصى يعرف شيئا من ذلك اللسان، فإذا معناه: هذا جزاء من طلب «6» ما ليس له وكشف عمّا «7» يخباه فليعتبر من رآه. فمنع ابن المدبّر من تعرض للأهرام «8» 903 وفي خبر آخر أنّ جماعة وجدوا في بعض البيوت الوسطى زلاقة إلى بئر، فنزلوها فوجدوا سربا «9» ، فساروا فيه نصف يوم حتّى انتهوا إلى حفير عميق، وفي عدوته باب لطيف يتبيّنون منه شعاع الذهب والجوهر «10» ، ومن رأس الحفير ممّا يليهم إلى الباب المحاذي لهم عمود حديد قد ألبس محورا «11» من حديد يدور عليه «12» ولا يستمسك. فاحتالوا في وقوفه وذهاب حركته فلم يصلوا إلى ذلك، فربطوا أحدهم في حبل وتعلّق به ليصل إلى الجانب الآخر، فدار به المحور «13» فتحيّر وسقط، فخرجوا هاربين لا يلوون. ودخل نفر بعض الأسراب الّتي في الهرم فانتهوا إلى صنم أخضر في صورة شيخ بين يديه أصنام صغار (كأنّه يعلمهم، وساروا فوجدوا فوّارة تحت قبّة يقع فيها ماء من أعلى تلك القبّة، فيكون له نشيش شديد) «14» كأنّه طفي «15» نار ويغوص «16» فيها فلا يتبيّن. فداروا «17» فوجدوا بيتا مسدودا بحجر فيه دويّ

شديد «1» لا يدرى ما هو، ووجدوا عنده شبيها بالمطهرة الكبيرة فيها دنانير «2» عليها صورة أسد من وجه وصورة طير من وجه «3» . فأخذ بعضهم منها شيئا «4» ، فلم يقدر على حركة ولا كلام حتّى طرحها من يده. 904 وكلّما فسد من هذه الأفرونيات وتهدّم وتغيّر مثل بربى بوصير وبربى سمنّود وغيرهما من الهياكل يتركهم الاستقصاء في أخذ الطالع وصحّته قبل وضع الأساس. وكذلك ما بقي منها فلقرب الطالع من الصحّة لأنّ الّذين بنوا هذه البرابي كانوا على بعد من الملك «5» ولم يكونوا بحضرته «6» ، فيتقنون النظر كما اتّفق في «7» عمل الأهرام. وهم لا يشكّون أنّهم لمّا هدموا بربى سمنّود فحملوا حجارته إلى أشتوم دمياط ووهبوا بقيته لبني الهندس أنّ اليوم الّذي فرغ من هدم الحائط الغربي دخل حباسه الإسكندرية وخربها وكثرت الرمال حتّى انقطع البحر في شهور الصيف وقلّ زكاء الزرع وكثر الفأر والجراد وأشياء من الفساد (كثيرة. 905 ويتحدّث أهل سمنّود عن هذا البربى بعجائب كثيرة) «8» يطول شرحها، منها أنّ بعض من دخلها كتب على كتفه «9» صورة من تلك الصور أعجبته، فانطبقت عينه حتّى أتاه من كتب على كتفه «10» الصورة المحاذية لها فانفتحت عينه. قال الوصيفي: وأخبرني من أثق به أنّه رأى فيها صورة شيطانين تحوط بهما سلسلة بكتابة، وهما يمسكان طرفيها وبينهما كتابة. (فأخذ

صورته) «1» ، فكانت عنده إلى أن عرّفه بعض من رآها عنده أنّها حرز عظيم، وذكر أنّه لو جعل عليها لحما وجوّع كلبا أو شيئا من السباع وخلاه عليه لم يقرب منه. قال: فعجبت «2» منه وامتحنت ذلك «3» فوجدته كما ذكر. 906 قال الوصيفي: وقد رأيت أنا في بربى أخميم صورة عقرب، فألصقت عليها شمعا وكانت عندي، فلم أتركها في موضع إلّا انحاشت إليها «4» العقارب، وإن كانت في تابوت اجتمعت تحته وحوله حتّى «5» كنت أتجافى عن حملها. فطلبها بعض إخواني ودفعتها إليه ورجعت إلى أخميم، فوجدت الصورة قد نقرت وأفسدت. 907 ومن المتعارف عند أهل أخميم أنّه كان في البربى صورة شيطان قائم على رجل واحدة وله يد واحدة وقد رفعها الهواء «6» ، وفي جبهته وحواليه كتابة وله إحليل ظاهر ملصّق بحائط البربى، فكان من احتال على ذلك «7» الإحليل حتّى (نقب عليه ونزعه) «8» من غير أن ينكسر، وعلّقه في وسطه لم يزل منعّظا إلى أن ينزعه ويجامع ما أحبّ ولا ينكسر ما دام عليه، وأنّ ابن أبي «9» الغمر لمّا ولّي البلد أخبر بذلك فطلبه «10» ، فلم يوجد له غير صورة واحدة كانت قرب السقف، فاحتيل عليها حتّى أخذ له الإحليل، فكان يستعمله ويخبر بصحّته. وكانت فيها «11» صورة بومة إذا ألصق عليها الشمع وجعل في

موضع لم تقربه بومة. وكانت فيها صورة شيطان يسوق كبشا بحبل في عنقه، فمن صوّره في صفيحة «1» رصاص وما حوله من الكتابة وحمله معه ومرّ على قطيع من الكباش اتّبعته. 908 وفي بربى أخميم في الباب الّذي يدخل منه إلى المصعد في عقب الباب على يسار الداخل منه صورة رأس «2» عظيم بلحية كبيرة وشعر كثير كأنّه رأس رومي بغير جسد، فذكروا أنّ الأوائل كانوا يبخرون ذلك الرأس ببخور لهم معروف، فكلّ من بخره وجد عنده دينارا، فكان ذلك «3» معونة لأهل المسكنة. قال الوصيفي: فتصفّحت موضع الرأس فوجدت آثار البخور والطيب بيّنة (فيه و) «4» في القبّة الداخلة الّتي (ينزل منها إلى) «5» سطح البربى المعروفة بقبّة مسمطاسيين «6» ، ولها بخور وكلام، من تكلّم به وسأل عن كلّ أمر أخبر به من البئر «7» بكلام يسمعه ويفهمه «8» . 909 وفي بربى قفط صورة رجل جالس في دائرة وحوله كتابة «9» وعلى جميع دور الدائرة شياطين «10» قيام بأيديهم حراب، يرمون بها ذلك الرجل، والرجل رافع يده كأنّه يرميهم. فيقال «11» إنّه من صوّر تلك الصورة في صفيحة ذهب وحملها معه ودخل الحرب لم يضرّه ولا عمل فيه حديد ولا غيره. يعمل ذلك في أوّل الهلال ويكون المشتري مسعودا. وحذاء هذه الدائرة من الجانب الآخر دائرة أخرى فيها رجل مكتوب على وجهه وحوله شياطين بأيديهم

حراب يضربونه بها، وقد شكّوها «1» في جسمه. فيقال إنّ من صوّر مثلها في صفيحة رصاص باسم عدوّ له وبخرها بشعر جمل في آخر الشهر ودفنها في ناووس تحت رأس ميّت لحقه كلّ مكروه ولم يزل عدوّه «2» فزعا ميّت القلب، فإن تركت أكثر من ثلاث خيف عليه الهلاك، فإذا أخرجت «3» وغسلت بماء بئر لا تراها الشمس وجعل ذلك الماء في إناء (مزجج أو في قدر حديد) «4» وشربها الرجل وجرد نقش تلك الصفيحة زال عنه ما يجده. 910 وعلى باب «5» بربى أخميم طلسم: قطعة من حجر في صورة القلنسوة الطويلة معقّفة الرأس كأنّها منقار، يقال «6» إنّ تحتها مالا عظيما، فجهد جماعة من الولاة أنفسهم في قلعها أو كسرها فلم يصلوا إلى ذلك، وتكسّرت المعاول عليها ولم يتثلّم منها شيء. 911 وأخبرني رجل بأخميم أنّه رأى هناك صورة استحسنها، وهي صورة إنسان على رأسه طائر وإلى جانبه كلب رابض وتحت رجليه كتابة، وأنّه صوّرها في قرطاس كما رآها وحملها في جيبه، فأقام ثلاثة أيّام لم يجع ولم يأكل ولا اشتهى شيئا من الطعام، ولم يدر السبب في ذلك. ثمّ إنّه فكّر في تلك الصورة فنحاها عنه فاشتهى الطعام وأكل، فحدّث بذلك بعض الولاة فأخذها منه ورجع إلى البربى يطلبها «7» ، فأشكل عليه موضعها ولم يصل إليها إلى أن أخبرني بذلك.

912 وحدّث رجل منهم أنّ رجلا من أهل المشرق نزل عليهم وكان بصيرا، فتذاكروا أمر البربى فقال بعضهم «1» : إنّي رأيت صورة إنسان عريان مؤتزر «2» بمئزر وفي يده اليمنى فأس له «3» رأسان وفيه قفّة معلّقة. (فقال الشرقي) «4» : إنّ لهذه الصورة عملا ينتفع به، فانسخه لي وما حوله من الكتابة، وليس يعمل بها إلّا أن تفسد من البربى. قال: فصوّرتها له فقال لي: أفسدها أخبرك بنفعها، فأطمعني في علم ذلك وأفسدتها وخدّشتها بمنقار كان معي حتّى انطمست وسألته عن العلم، فخلط عليّ وجرى ذكرها، (ثمّ إنّي بعد مدّة تذاكرت خبرها) «5» مع قوم نزلوا عندنا، فتلهّف أحدهم عليها «6» فسألته عن أمرها فقال إنّها إذا وضعت في موضع فيه كنز تحرّك ذلك الموضع وارتفع منه كالغبار، فعلم «7» أنّ فيه خبئا، وهذه دلالة الكنوز فأغمّني «8» إذ كنت أفسدتها. 913 قال الوصيفي: وحدّثني من أثق به أنّهم أصابوا ببعض البرابي أشنانة زجاج أحمر مربّعة العمل موضوعة في طاق وفيها ماء أصفر، فلم يدروا لم يصلح، فأهرقوه منها وأخذها أحدهم، فأقامت عنده «9» مدّة يستعملها، إلى أن رآها عنده رجل غريب (نزل عليهم، فاستطرفه فسأله عنها) «10» ، فأخبره بأمرها والماء الّذي كان فيها، فتلهّف ذلك الرجل على الماء وقال: لقد أضعتم علما كبيرا وخيرا كثيرا. وقال: إنّكم لو حميتم الفضّة وغمستموها في ذلك الماء لصارت ذهبا أحمر يحتاج إلى أزواج كثيرة (وأضعافا كثيرة حتّى يصير

(ذكر أول من ولي مصر من الملوك)

ذهبا حسنا جيّدا) «1» . قال: فندمت على تفريطنا «2» في ذلك الماء. فلمّا رأى ندمي ضحك وقال: أتحبّ أن أريك منها عجبا؟ قلت: نعم. قال: زنها واعرف وزنها. ففعلت فوجدت فيها أربعة أرطال، فقال: املأها ماء أو ما أحببت. فملأتها «3» فقال لي: زنها الآن، فوزنتها فوجدت وزنها وهي ملئة «4» مثل وزنها وهي فارغة أربعة أرطال، لا تزيد ولا تنقص. فعجبت من ذلك وشاع خبرها فاتّصل ببعض الولاة فوجّه إليّ وأخذها. (ذكر أوّل من ولّي مصر من الملوك) «5» 914 أوّل من ولي مصر عند قسمة الأرض بين ولد آدم زمن أنوش بوصيّة آدم عليه السلام نقراوش «6» الجبّار بن مصريم «7» ، ويقال مصرام بن براكيل (بن راذيل بن غرناب) «8» بن آدم عليه السلام، خرج إليها «9» في خمسة وثمانين «10» من ولد أبيه غرناب، وله حمل من طشهرة «11» ابنة هرم، فولدت له ولدا سمّاه مصرم باسم أبيه. ومعنى نقراوش الملك على ولد أبيه، وهو لقب واسمه قرناش. وهو أوّل من اتّخذ المصانع وعمل الطلسمات وأقام الأساطين ورمز عليها التواريخ وبنى المدائن «12» ، وهو الّذي حفر النيل وكان قبل ينقطع ويستنقع وعمل للتماسيح «13» في آخر بلاد النوبة صنمين على شرقيّ النيل وغربيّه ورمز فيها رموزا امتنعت التماسيح أن تنحدر فيه «14» . وكانت كتابتهم بقلم الخلقطير، وهو قلم آدم (عليه السلام) «15» ، وكان كاهنا عالما لربي من الجنّ من ولد الأسمور يقال له نكور، وكان قد وقع إليه بعض العلوم الّتي كان درابيل «16» الملك علّمها لآدم، وعمل عجائب كثيرة

منها صورة طير على أسطوانة عالية يصفّر كلّ يوم مرّتين عند طلوع الشمس وعند غروبها تصفيرا مختلفا يستدلّون به على ما يكون من الحوادث فيتأهّبون لها، وعمل صنمين من حجر أسود في وسط المدينة، إذا نظر إليها السارق لم يقدر على الانحياز عنهما حتّى يسلك بينهما فينطبقان عليه. وعمل في مدينة برسان «1» ، وهي الّتي بناها لابنه مصرم، قبّة ذهب على منار عال لا تزال عليها سحب تمنعها من الشمس، فهلكت في الطوفان. وعمل على حدود برسان أصناما موجّهة إلى نواح مختلفة، إذا قصد (عليهم قاصد لسوء) «2» أرسلن عليه نارا أحرقته. وملكهم مائتي سنة وثلاثين سنة، فلمّا مات أقاموا يبكون عليه ويطوفون به على أعناقهم «3» ثلاثين سنة. 915 ثمّ ملكهم بعده ابنه نقراوش، وكان عابدا لزحل، وحارب أمّة من الجنّ حتّى أدخلها في طاعته بالعزائم الشداد «4» ، فبنى في صحراء الغرب مدائن معلّقات على أساطين تحيط بها مشبّكات من الذهب، وجعل فيها خزائن الحكمة، ولها أبواب تحت الأرض لا يوصل إليها إلّا منها، وجعل لها أقفالا ومفاتيح مدبّرات «5» . وكانت ثلاث مدائن في كلّ مدينة ثلاث خزائن فيها عجائب العلم وطرائف الحكمة ورموز الصنعة وأجرام من الماء المعقود لا يتحلّل «6» ومن الهواء المتجمّد لا يضمحلّ، وفيها مطهرة من ماء الحياة الصنعي الإلهي. وفيها صور الكواكب على أصنافها في بيوت شرفها وعلى رؤوسها أكاليل الغلبة وبإزائها صور الحكماء القيّمين «7» بأمورها بأيديهم مصاحف الصنعة وجميع الطلسمات والعلوم. وذلك كلّه من ضروب الأحجار الرفيعة والجواهر النفيسة والأجرام العجيبة ممّا يطول الكتاب بشرحه ويخرج من حدّ ما ألفناه له باستقصائه.

916 وجعل تحت الأساطين الّتي هذه المدن عليها خبايا عظيمة من الجوهر النفيس والدرّ الخطير وسبائك الذهب والفضّة (والحجارة الرفيعة) «1» والبورقات الأصلية والعقاقير والمكتومة والأدوية المؤلّفة، وصور هذه الخزائن في كلّ بربى من برابي مصر قد رمزوا عليها بخطوطهم المؤلّفة «2» ، وخبرها مشهور في جميع مصاحفهم القديمة وهياكلهم المرسومة. وبنى نقراوش مدينة عمل فيها الجنّة بزعمه وجعل لها أسرابا «3» تحت الأرض يوصل منها إلى هذه الثلاث مدائن ويوصل من بعضها إلى بعض. وملكهم مائة سنة وسبع سنين. 917 ثمّ ملك بعده أخوه سورث، وكان فيما يقال مؤمنا موحّدا فأغلق هياكل الكواكب، وقلّ ماء «4» النيل فرفضه بنو أبيه وخلعوه وملّكوا أمرهم أخاه الأصغر مصرام المتقدّم الذكر. وكان جبّارا يطلب الحكمة، فزاد «5» في هياكل الكواكب ودخنها وقرابينها واحتفل في كساها وسندنتها، وذلّل الأسد فركبها. وكان له ربّي فأمره أن يحتجب عن الناس وسحره، فألقى على وجهه نورا لا يتمكّن أحد من النظر إليه، فادّعى الإلهية ودعا الناس إلى عبادته، وزعم أنّ الأوطمس «6» ألقى فيه روحه وأمره بذلك. وغاب عن الناس ثلاثين سنة واستخلف عليهم رجلا من قومه يقال له اللهون، وعمل في غيبته عرشا عظيما «7» من عظام دوابّ (البحر ودوابّ) «8» ولدها من الوحوش والسباع وعمّره بالأبالسة وركبه، ومضى به الربي «9» حتّى أشرف على البحر الأسود، فجعل في وسطه صنما من حجر أبيض (وزبر عليه) «10» اسمه وجعله قربانا للشمس.

918 وعمل قلعة «1» الفضّة الّتي في البحر الأسود، وذكر ذلك أليوس الكاهن في سفر ملوكهم. ورمز على كلّ «2» صنم هناك: أنا مصرام الجبّار ومدوّخ» الأشرار وجامع الأخيار وكاشف الأسرار والعالم القهّار، عرفت حقائق الأشياء وقدرت على تشتيت «4» العقاقير ووضعت الطلسمات الصادقة والصور الناطقة وأظهرت الحكمة العجيبة وكشفت الأمور الغريبة ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة وأقمت أصنام القرابين من عظام التّنانين ليعلم من بعدي أنّه لا ملك مثلي. وعمل في برسان شجرة يؤكل منها كلّ فاكهة وقبّة من زجاج أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكل بأقرانها «5» شياطين إذا اختلط الظلام نادى كلّ شيطان منها في الناحية الّتي تليه: لا يخرج أحد من منزله حتّى يصبح، وإلّا هلك. وهو أوّل من عمل له الحمّام وركب الوحوش الصعبة وأحبّ الناس أن ينظروا إليه بعد هذه المدّة «6» ، فاجتمعوا إلى اللهون ورغبوا إليه أن يسأله ذلك، ففعل فأمر مناديا أن ينادي في الناس وأن يوجّه «7» إلى جميع النواحي في حشرهم «8» وجمعهم. فلمّا حضروا جلس لهم في مجلس عال قد زيّنه بأصناف الزينة وظهر لهم في صورة هالتهم، وملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا له «9» على وجوههم ودعوا وشكروا إيّاه «10» . ومات ولم يعقب. 919 وبمصرام هذا سمّيت مصر لمّا دعا الناس إلى عبادته بعد الآلهة الّتي كان يتعبّد لها، وعلى ذلك سمّي مصريم «11» بن بيصر «12» بن حام، وكان اسم مصر قبل ذلك أمسوس «13» ، وقيل إنّ اسمها كان مقدونية، وقيل إنّ اسمها كان في

القديم أباريا، وقد قيل إنّ مصرام أوّل من بناها، وهذا لا يصحّ. وبلغ مصرام بسحره وكهانته ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده. 920 وملك بعده عنقام الكاهن، فأقام فيهم «1» . عادلا بينهم رفيقا بهم، (وكانت همّته) «2» الإصلاح والعمارة والإحسان إلى الناس. وفي أيّامه رفع إدريس عليه السلام، وحدثت في وقته نار في الهواء أقامت ثلاثة أيّام. وملكهم عنقام إحدى وتسعين سنة وهلك «3» ، فأمرهم أن يدفنوه في الهيكل الّذي عمله للشمس في جرن «4» من حجر أحمر «5» ويلطّخوا جسده بالموميا وتكون أكفانه من ثياب عملها من شعور ذبائح القرابين (ويجعل معه شيء من عظامها ويدفن معه سيره. وذكر أيّامه في مصحف اتّخذه من جلود حيوان القرابين) «6» وأمرهم (أن لا يقرب) «7» بشيء من الذهب ولا الطيب. 921 وملك بعده ابنه عرباق «8» ، وفي وقته نزل هاروت وماروت وعلّماه أصنافا من السحر وعملا بمصر عجائب كثيرة، وكانا في بئر هنالك يقال له ربعوة. وقال أكثر المصريين إنّ هبوطهما كان من بعد الطوفان، ثمّ انتقلا من أرض «9» مصر إلى أرض «10» بابل. فرفض عرباق الهياكل واستخفّ بالسدنة، وكان منهمكا «11» في الشرب والفسوق يشرب كلّ يوم مائتي رطل ويغتصب النساء على أنفسهنّ، ولا يسمع بامرأة حسناء إلّا نقلها إليه، وقتل من رادّه (في ذلك) «12» ، وأقام يسوم قومه كلّ خسف «13» ثمانين سنة، وكان يسكن

الجنّة الّتي عملها نقراوش الملك. فسمّته امرأة من المغتصبات «1» يقال لها شارد، هكذا في كتاب الوراثة لهود، وفي كتاب المصريّين هرشة «2» . 922 وملك بعده لوحيم من ولد نقراوش الملك، فأحسن السيرة وأجهد نفسه في مصالح الرعية وبدأ بإصلاح الهياكل وتجديد المصاحف، وأمر بإحضار الكهنة والعلماء من أصحاب الطبائع والطبّ والصنائع والنجامة والهندسة، فكانوا سبعة آلاف رجل ومائة (وأربعين رجلا) «3» ، منهم الكهنة ألفان وثلاثمائة، فيهم من الناظرين- وهم رؤساء الكهّان- سبعمائة، وبقية العدد حكماء في جميع الأعمال والعلم. فأمر بإثبات أسمائهم وإجراء ما يكفي كل واحد منهم، (وأمر أن يعمل له كلّ واحد) «4» أغرب ما يقدر عليه من الأعمال، وأمر أن يبنى له بناحية وفودة- وهي الإسكندرية- مدينة «5» ميلا في ميل من رخام «6» ملوّن مشقوقة بجميع الأنهار «7» ، ويقال إنّ هذه المدينة مدفونة تحت الإسكندرية، وفيها حكم عجيبة. وفي وقته عملت أصنام درج الفلك ثلاثمائة وستّين صنما، وسمّاها أرباب الصناعات «8» لأنّ في يد (كلّ واحد منهم) «9» صناعة يعالجها. وفي وقته عمل بيت الموجة «10» ، وصوّرت فيه صورة كلّ كوكب في كلّ درجة من درج الفلك. وفي وقته عملت المدينة اللطيفة الّتي تدور عن القاصد إليها فلا يقدر على دخولها إلّا بحكمة قد عملت لها وجعلت إلى الوصول إليها. وعمل في وقته القبّة الّتي عليها الأصنام الموجّهة إلى جميع الجهات، وفي أعناقها أجراس، فإذا قصد بلدهم قاصد تحرّكت الأجراس الّتي تلي تلك الناحية وعلى قدر الزيادة والنقصان في أصواتها يكون ما يتخوّفونه من ضرر ذلك الوجه، فيتأهّبون لإزالته عنهم،

وما عملوه بتلك الصور لحق من قصدهم من المكروه «1» مثله. (وعمل مارستانات) «2» جعل فيها جميع الأدوية والعقاقير للمرضى، ولم يترك حالة «3» من وجوه البرّ إلّا عمله. 923 وخرج إلى ناحية المغرب حتّى بلغ وادي الرمل وعمل هناك «4» منارا، ويقال إنّه قطع الوادي بالحيلة والسحر حتّى أشرف على الفوه «5» الّتي يعتصر ماء البحر فيها وسمع دويا عظيما أجزعه «6» وهاله «7» ، فرجع إلى أمسوس وسكن الجنّة الّتي عملها أبوه. وقد كان زوج هرشة الّتي سمّت عرباق، فولدت له كسفون، فقلّده الملك وطاف به على الهياكل وصوّر صورته فيها. ثمّ استتر يرصد الفلك حتّى رأى مسير الكواكب، ومات في استتاره، وكان ملكه إلى أن قلّد ابنه مائة سنة. 924 فلمّا ملك كسفون لم تكن له همّة إلّا الأكل والشرب والنساء، واستوزر سبعة من الكهنة يقيمون أمره، فكان أجلّهم عنده رجل يسمّى مزنة «8» وكان له روحاني يتبعه، فأمره بوقود النار والتقرّب إليها، فأعلم بذلك كسفون وقال له: إنّ في ذلك قوام ملكك. فأطلق له فعله فبنيت بيوت النيران وعظمت وأقيمت لها «9» الأعياد، فكانت تلك النار لا تضرّ البريء إذا دخل فيها وتحرق المذنب، فكان الناس يتناصفون قبل الوصول إليها.

925 وفي وقته كانت سمندارة الكاهنة وكانت تناله بصنم لها يقال له أبرنج «1» ، ولها عرش تجلس فيه، فكانت الشمس لا تصل إليه، وكانت تخبرهم بما يعملون في بيوتهم وما يجري بينهم وبين نسائهم (وتجترّ الأشياء إليها بسحرها) «2» ، ولها مع كسفون خبر طويل. وهي الّتي نفخت في إحليل فتى كانت تحبّه فهيّمته، وأخرجها قومها من بينهم إلى ناحية الشام. وهلك كسفون بعد أن ملكهم سبعا وسبعين سنة من سقطة سقطها من بناء عال فاندقّت عنقه ومات «3» . 926 وملك ابنه خصليم، وكان أبوه قد شرك في الملك بينه وبين (ابنته أخت خصليم من أمّه) «4» ، وكانت من أعقل أهل زمانها. وهي التي عملت على حافة النيل بيتا من رخام وفي وسطه بركة صغيرة وفيها ماء موزون على مقدار معلوم، وعلى حافة البركة طائران «5» من نحاس على صورة عقابين ذكر وأنثى، فإذا كان في أوّل الشهر الّذي تسمّيه القبط بونة «6» - وهو الشهر الّذي يزيد فيه الماء- فتح الباب وأحضر أمناء الكهّان وتكلّموا بكلام لهم، فيصفّر أحد الطائرين «7» ، فإن صفر الذكر كان الماء زائدا وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصا، ثمّ يفتقدون الماء «8» ، فكلّ إصبع يزيد على الماء الموزون فهو ذراع من زيادة النيل، وكلّ إصبع ينقص من ذلك الماء فهو ذراع ينقص من ماء النيل، فإن رأوه زيادة مسرفة «9» تفقّدوا الجسور وإن رأوا نقصانا زادوا في حفر التراع.

927 وولد خصليم من الحمر والبقر دوابّا مركوبة لها قوة شديدة «1» وعمل عجائب. وتعشّق جارية لأخته يقال لها خولا «2» ووقع بينه وبين أخته نفار من أجلها، فتحوّلت إلى شرقيّ النيل وبنت «3» هناك مدينة لطيفة وهيكلا (تنفرد فيه) «4» حتّى رأت وهي نائمة «5» في هيكلها الّذي بنته للزهرة كأنّها بين يدي الزهرة وهي تخاطبها وتقول لها: لأيّ شيء «6» وجدت على أخيك في جاريتك فلانة؟ قالت: لأنّي أنفت له منها ولم آمن أن تلد له فتضع من قدره. قالت: وأيّ ضعة في ذلك وأنتم معشر البشر من أب واحد وأمّ واحدة؟ وإنّما تعاليتم فاستعبد بعضكم بعضا، واعلمي أنّه لابدّ لأخيك منها وأنّه لا يولد له من غيرها، وسيولد له منها ولد ويكون مرضيّا عدلا معظّما للآلهة تنزل روحانياتها عليه ويملك الناس دهرا طويلا وتكون أيّامه سعيدة، ولا يزال الناس بعده في دون أيّامه إلى أن تكون الآية «7» الحادثة من السّماء، وإلى كذا وكذا يكون «8» اجتماعهما وتحمل منه بعد كذا وكذا وهو وقت مسعود، وسيراها أخوك في منامه وتشكو إليه وجدها به، فيزداد شغفه بها وسيذكر لك أمرها فلا تخالفي فيها عليه. 928 فلمّا كان بعد حين خاطبها أخوها فيها فعرّفته أنّها لم تكن منعته إلّا ضنّا بمثله عنها، إلى أن عرفت أنّه لا يكون له «9» ولد إلّا منها، ولعلّ في اجتماعهما خيرا كثيرا. وزيّنت الجارية بأحسن زينة وأجلّ المتاع وبعثتها إليه، وخلا بها الملك «10» وسرّ بها سرورا مفرطا. وعزم الملك على أخته خردادمة «11» أن تعود

إلى موضعها وتنظر فيما يخصّ ويعمّ من أمر المملكة. وسار إليها جماعة من الكهنة فأعلموها أنّ قيامها بشأن الرعية وانقيادها لأمر أخيها «1» أعود عليها بما تبتغيه من الأجر، فرجعت إلى دار الملك وكانت تزور موضعها ذلك وهيكلها. ووضعت خولا للملك ولدا سمّاه هرصال أي «2» خادم الزهرة، وشبّ أحسن شباب وطلب الحكمة من كلّ فنّ فصار من أهلها. ومات أبوه من سيل «3» أصابه بعد أن ملكهم ثمانيا وسبعين سنة. 929 وملك (بعده ابنه) «4» هرصال، فعمل عجائب منها صنم يدور بدوران الشمس فيمسي مغربا ويصبح مشرقا وتنكر «5» حتّى تشقّ الأمم وتبيّن «6» اختلاف الأهوية وأخلاق الناس وعجائب البلدان. ثمّ انصرف بعد مدّة، وفي أوّل أيّامه ولد نوح عليه السلام. وبعد مائة سنة من ملكه لزم بعض الهياكل متعبّدا وتجلّت عليه روحانية الكواكب فيما زعموا، فحجبته عن أعين الناس فلم يعرف له خبر ولا عمل له ناووس (وتجلّت عليه تلك القوى) «7» بعد لزومه الهيكل عشرين سنة، وبقي الناس بعد ذلك لا يشكّون في حياته سبع سنين إلى أن تشاجر بنوه فاستبان الناس أنّه مفقود. وكانت مدّة ملكه مائة وسبعا وعشرين سنة. 930 ثمّ ملك الناس بعده ابنه فدرشان «8» بعد اختلافهم «9» في أيّ بنيه يملّكونه، فغلبت عليه امرأة (من نسائه) «10» من بنات الكهنة فسحرته

فانفردت به، وكان أكثر مقامها معه في جبل المقطّم في مصانع بناها أجداده على نهر هناك، فتصيّد يوما بين تلك الجبال فسقط في وهدة فهلك. وقد كان أولد الساحرة ولدا مشوّه الخلق، وكانت أمّه قد جعلته وقفا على الشمس وسادنا لصنم الشمس. وقد كان وقت هلاك أبيه صغيرا، فسترت الساحرة موته وكانت تراسل الناس عنه «1» وتوهمهم أنّه حيّ، فأقامت على ذلك تسع سنين إلى أن تداعى إخوته بعصيانه، وقد كان غرّبهم ونفاهم، فرجعوا إليه فيمن قدروا من الناس والقائم بأمرهم شمرود بن هرصال، فكانت بينه وبين السّاحرة حروب، ثمّ غلب على أمسوس «2» دار الملك، فكانت مدّة ملك فدرشان «3» إلى أن ملك شمرود أربعا وثمانين سنة. 931 فملكهم شمرود (وأيّد وقهرهم) «4» وغيّر معالم أخيه فدرشان وجعل «5» لمن ورد عليه «6» من ولده ما فعل هو بهم، واحتجبت عنه الساحرة وابنها بسحرها فلم يقدر عليها، واحتملت «7» هي وابنها إلى مدينة كان السحرة يجتمعون بها في ذلك الزمان بناحية أنصنا، فأقامت بينهم وعرّفتهم أنّ ابنها هو الملك وأنّ أباه قلّده ولا بدّ له من الغلبة والقهر. فصدّقتها جماعتهم وبنوا للغلام بنيانا عظيما تحصّن به هو وأمّه، وحصّنت الساحرة تلك المدينة وبنت عليها الطلسمات وأظهرت الأموال ودعت الناس إلى ابنها، فاستفحل أمرها وجيّشت الجيوش إلى شمرود، فكانت بينهم حروب وضروب من السّحر من التصادم في الهواء وإظهار النيران في الجو وغير ذلك، وكانت الغلبة لها، فتعلّق شمرود ببعض البلاد «8» هو وإخوته وظفرت هي بدار المملكة والجنّة الّتي كانت لهم، وأجلست ابنها على سرير الملك.

932 وكان اسمه تسيدون «1» باسم الشمس، ولم تزل في طلب شمرود إلى أن ظفرت به، فأمرت بشدّ رأسه باسطوانة ورجليه بأخرى. وكان طوله فيما تقول القبط عشرين ذراعا، فتزعم القبط أنّ السّاحرة جعلته حجرا، وقيل أيضا «2» إنّها كانت تجفّف منه عضوا عضوا حتّى جفّ كلّه. ووطأت «3» الملك لابنها وخرج كاهنا عرّافا «4» منجّما، وجلبت إبليس وكان يسعى في حوائجه وأكثر العجائب (عملت في وقته) «5» منها قبّة الزجاج الكرّية «6» الدائرة بدوران الفلك وفيها صور الكواكب الثابتة والنيّرة ودرجها، فكانوا يأخذون الطالع منها، وهذا من عمل الشياطين وغير ذلك ممّا لا نستجيز ذكره لخروجه عن المعقول. 933 وبعد ستّين سنة من ملكه ماتت الساحرة، وقيل إنّها أمرت أن يحمل جسدها تحت صنم القمر فتخبرهم بكلّ ما يسألونه عنه، ففعلوا ذلك وكان كما قالت، وعلّمت ابنها كثيرا من علمها. ونكح ابنها أخته فولدت له ولدا سمّاه سرباق «7» باسم أحد الأبالسة الّذين تجلّبتهم إليه «8» . ولمّا علم بحضور وفاته أمر أن يعمل له صورة صنم من زجاج على شقّتين «9» (ويوضع في إحداهما ويطبق عليه الأخرى ويلحم بزجاج ولا يوضع على جسده غير لطوخ (؟) الموميا والعقاقير الممسكة) «10» ، وأن يوضع ذلك الصنم في الهيكل مع الأصنام القائمة الناطقة.

934 وملك ابنه سرباق وعمل عجائب، منها أنّه عمل على كلّ مدينة من مدنه صورة بطّة من نحاس، فإذا جاء الغريب ليدخل إليها صرخت تلك البطّة وسفقت بجناحيها، فيعلم أنّ غريبا دخل فيطلب. وإنّما «1» فعل ذلك لأنّ بعض الملوك أراد غدره، فظفر به سرباق وملكهم مائة وثلاث سنين. 935 ثمّ ملك أخوه شهلوق، وهو الّذي رتّب «2» مراتب الناس وقسم ماء النيل أقساما، (ورتّب على أهل كلّ صناعة رئيسا) «3» ، (وأقام سحرة لقسم) «4» الطرقات على الوحش فلا يسلك بعضها طريق بعض، وأقام لجميع أسباب الضرر طلسمات بدفعها ولم يترك شيئا فيه خير وفضل إلّا عمله. فلمّا تفرّغ من ذلك انفرد لجمع «5» العلوم وتخليدها في الكتب وكنز الكنوز، وكنز خمسة وأربعين كنزا. وملكهم مائة وتسع سنين. 936 ثمّ ملك ابنه سوريد «6» صاحب الأهرام، وقد تقدّم ذكره. وملك بعده أخوه هرجيت «7» ، وهو أوّل من كسا الهرمين «8» بألف ألف ثوب في عرض كثير وطول كبير إعظاما لأبيه وأخيه، وفي زمنه ابتدأ عقم «9» النساء لما تقارب من وقت «10» هلاك الأمّة.

937 وملك بعده ابنه مناوش، فظلم وسفك الدماء واغتصب مائة وسبعين امرأة واستخرج كثيرا من كنوز أبيه «1» ، فبنى منها قصورا ورصّعها «2» بالجوهر والياقوت «3» وعمل فيها بركا صبّ فيها الجواهر وأرسل عليها المياه، واستجهل من مضى من آبائه، (واستعبد الناس) «4» واستخفّ بالهياكل. وفي زمنه كان فرناس الّذي كان يعدّ بألف رجل وحده «5» وكان يقاتل أمّة وحده «6» ، وكان من رجاله، (وقد وفد عليه) «7» من بقية ولد آدم، وكان يختطف الرجل بيده فيضرب به الجماعة فيقتلهم معا. وأقام مناوش ملكا ثلاثا وثلاثين سنة. 938 وملك بعده أخوه أفروس «8» فترك الظلم وتحبّب إلى الناس وعمل عجائب، منها قبّة في الجنّة الّتي كانت لنقراوش «9» لطخها بلطوخات، فإذا كان الليل اشتعلت نارا ترى على البعد واتّقدت إلى الصبح، فإذا طلعت الشمس ارتفع ذلك الوقيد. وطلب النسل من ثلاثمائة امرأة فلم يقدر عليه لأنّ أرحام النساء عقمت. وفي وقته شاع خبر نوح عليه السلام وإنكاره للأصنام. وملك أربعا وتسعين «10» سنة ولم يكن له ولد ولا أخ. 939 فارتضى الناس من أهل بيت المملكة أرمالينوس «11» فشرك في أمره فرعان بن مسور «12» من بني عمّه، وكان أحد الجبابرة (فرعان هذا) «13» ومن رؤساء

ذكر أول من نزل مصر بعد الطوفان

السحرة، فقهر له أعداءه وفتح البلاد، فبعثت فيه امرأة من نساء الملك ووافقته على أن تقتل الملك بالسمّ ويلي فرعان الملك ففعلت. 940 وملك فرعان وتجبّر وعلا وقهر، وأصل الفراعنة مشتقّ من اسمه. وكتب إلى فرعان درمشيل «1» بن عويل الأكبر «2» يذكر له خبر نوح (أنّه قد ظهر) «3» ، فكتب إليه فرعان يشير عليه بقتله، فهلك هو ودرمشيل في الطوفان، (والله بغيبه أعلم) «4» . ذكر أوّل من نزل مصر بعد الطوفان 941 وأوّل من نزلها «5» بعد الطوفان (مصريم بن بيصر) «6» بن حام بن نوح بدعوة سبقت له من جدّه. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: دعا نوح عليه السّلام لمصريم بن بيصر بن حام بن نوح، وهو أبو القبط، فقال: اللهمّ بارك فيه وفي ذرّيته وأسكنه الأرض المباركة «7» الّتي هي أمّ البلاد وغوث العباد والّتي نهرها أفضل (أنهار الدّنيا) «8» ، واجعل فيها أفضل البركات وسخّر له ولولده الأرض وذلّلها لهم وقوّهم عليها.

942 وكان السبب في نزوله إيّاها أنّ فيلمون «1» الكاهن سأل نوحا عليه السلام أن يخلّصه «2» بأهله «3» وولده بعد أن صدّقه وآمن بالله. فلمّا انجلى الطوفان قال له: يا نبيّ الله اجعل لي رفعة وقدرا أذكر به بعدي. فزوّج نوح بيصر «4» بن حام من بنت فيلمون، فولدت له ولدا سمّاه فيلمون مصريم باسم جدّه. فلمّا أراد نوح قسمة الأرض بين بنيه قال له فيلمون: يا نبيّ الله إنّ بلدي أولى الناس به ابني، فابعثه «5» معي وأمضي به إليه وأظهره على كنوزه وأوقفه على علومه ورموزه. فأنفذه معه ومع جماعة من أهل بيته ذوي أيد وقوّة، فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع. وقيل إنّ عددهم كان ثلاثين رجلا وبنوا مدينة سمّوها ماقة، ومعنى ماقة بلغتهم ثلاثون، وهي منف. وكشف فيلمون عن كنوز مصر وعلّمهم خطّ البرابي و (أبان لهم المعادن من الذهب) «6» والزبرجد والفيروزج وغير ذلك وأطلعهم على عمل الصنعة، فجعل الملك أمرها إلى رجل من أهل بيته يقال له مقيطام» ، فكان يعمل الكيمياء في الجبل الشرقي، فسمّي به المقطّم. وتزوّج مصريم امرأة من بنات الكهنة، فولدت له أربعة نفر منهم قفطيم «8» . 943 وإليه عهد بعد موته، وأمره أن يحفر له تحت الأرض سربا ويفرشه بالمرمر الأبيض ويجعل جسده فيه ويدفن معه جميع ما في خزائنه. فحفروا «9» له سربا طوله مائة وخمسون «10» ذراعا وجعلوا في وسطه مجلسا مصفّحا «11»

بصفائح الذهب، له أربعة أبواب على كلّ باب تمثال من ذهب عليه تاج مرصّع بالجوهر، جالس على كرسي من ذهب قوائمه من زبرجد، ونقشوا في صدر كلّ تمثال آيات عظام واسما من أسماء الله تعالى مانعة من أخذه. وجعلوا جسده في جرن «1» من زبرجد مصفّح بالذهب ورمزوا على مجلسه: مات مصريم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة سنة مضت من أيّام الطوفان ومات ولم يعبد الأصنام إذ لا هرم ولا أسقام (ولا حزن ولا اهتمام) «2» وحصن مجلسه هذا بأسماء الله العظام لا يصل إليه إلّا ملك ولد له سبعة ملوك يدين بدين الملك الديّان ويؤمن بالمبعوث بالقرآن الداعي إلى الإيمان الطاهر في آخر الزمان. وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من (الزبرجد المخروط) «3» وألف تمثال من الجوهر النفيس وألف برنية مملوءة درّا من الدر الفاخر، ووضعوا هناك الصنعة الإلهية والعقاقير السرّية «4» والطلسمات العجيبة وأكوام سبائك الذهب بعضها على بعض، وسقفوا «5» ذلك بالصخور العظام وجعلوا فوقها الرمال بين جبلين متقابلين بينهما «6» علامات. 944 وولي ابنه «7» قفطيم الملك بعده وأقباط «8» مصر بنوه، وهو أوّل من عمل العجائب وشقّ الأنهار ولحق البلبلة وخرج منها بهذه اللغة القبطية، وملكهم ثمانين سنة، ودفن في سرب تحت الجبل الكبير الداخل وصفح بالمرمر وجعلت فيه (منافذ للريح، فهي تتخرّق فيه بدوىّ عظيم هائل وجعلت) «9» أكراس نحاس «10» مطلية بأدوية مشعّلة لا تطفأ أبدا، ولطخوا جسده بالمرّ والكافور والموميا، وجعلوه في جرن من ذهب في ثياب منسوجة بالدرّ والمرجان، وكشفوا عن وجهه، والجرن تحت قبّة عظيمة على عمد مرمر

ملوّنة، (وفي وسط القبّة جوهرة معلّقة كالسراج المضيء، وبين كلّ عمودين تمثال في يده أعجوبة، وجعلوا حول الجرن توابيت مملوءة) «1» جوهرا ودرّا نفيسا ومصاحف الحكمة «2» ، وسدّوا «3» على جميع ذلك الصخور والرصاص ورمزوا عليه كما رمزوا على ناووس أبيه. 945 وتولّى «4» بعده ابنه قفطويم، وكان جبّارا عظيم الخلق، وفي أيّامه هلكت عاد بالريح. وبقي ملكا أربعمائة سنة، وكان قد عمل لنفسه قبل موته سربا تحت الأرض معقودا على آزاج في الجبل الغربي قرب مدينة العمد، ونقر تحت الجبل كهيئة الدار العظيمة، وجعل تحت دورها خزائن واسعة منقورة، وجعل في أعلاها مسارب الرّياح، وبلطت جميع الدار بالمرمر. وجعل في وسط الدار مجلسا مثمنا ملوّنا «5» مصفّحا بالزجاج الملوّن والذهب، وجعل في سقفه جوهرا وحجارة تسرج، وفي كلّ ركن من أركان المجلس تمثال ذهب بيده كالبوق الّذي يبوّق به، وجعل تحت القبّة دكّة مصفّحة بالذهب (مطوّقة بالزبرجد، وفرش فوق الدكّة فرش خزّ منسوج بالذهب) «6» ، وجعل جسده عليها بعد أن طلي بالأطلية المجفّفة وجعل حواليه آلات كافور مخروطة، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج مكلّل وعلى صدره من فوق الثياب سيف صاعقي قائمه «7» زبرجد، وعلى جوانب الدكّة أربعة تماثيل مجوّفة «8» من زجاج مسبوك في صور النساء وألوانهنّ وبأيديهنّ كالمراوح من ذهب. وجعل في تلك الخزائن من الزبرجد والياقوت «9» والذهب المسبوك وفاخر الجوهر والدرّ وبرابي (؟) الحكمة «10» وأصناف العقاقير والطلسمات والمصاحف الحاوية لجميع العلوم ما لا يحصى قدره كثرة. وجعل على مدخل «11» كلّ أزج صورتين من نحاس

مشوّهتين بأيديهما سيفان كالبرق، وقدّامهما بلاطة تحتها لوالب، فمن وطئها ضرباه بسيفيهما فقتلاه «1» . وسدّت أبواب الآزاج بالأساطين المرصّعة ورصّوا «2» على سقف البلاط بالصخور «3» العظام وردموا فوقها الرمال ورمزوا على باب الأزج: هذا المدخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم السيّد قفطويم ذي الأيد والفخر والغلبة والقهر، فلا يصل أحد إليه ولا يقدر عليه أفل شخصه وجسمه «4» ، وبقي ذكره وعلمه. 946 ثمّ ملك بعده ابنه البودشير، وهو الذي بعث هرمس المصري إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته «5» حتّى عمل له هناك هيكل التماثيل من النحاس وعدل البطيحة التي ينصبّ إليها ماء النيل، وعدل جنبي النيل وقد كان يغيض وربّما انقطع في مواضع. والبودشير هو الّذي أمر بعمارة بلاد الواحات في المغرب وحوّل إليها جماعة من أهل بيته، فعمروها. وكانت أرضا واسعة متخرقة بالمياه والعيون كثيرة الكلأ والعشب، وأقاموا كذلك مدّة وخالطهم البربر ونكح بعضهم في بعض، ثمّ وقع بينهم تحاسد وبغي (وجرت لهم حروب) «6» ، فخرب البلد وباد أهله إلّا بقية يسيرة. وللبودشير في السحر عجائب سيأتي ذكر شيء منها بعد هذا إن شاء الله. 947 ثمّ ملك بعده ابنه عديم «7» ، وهو أوّل من صلب، وذلك أنّ امرأة ورجلا زنيا فأمر بصلبهما على منارين بنيا لهما، وجعل ظهر كلّ واحد منهما إلى ظهر «8» صاحبه، وزبر «9» على المنارين اسميهما وما فعلا وتأريخ الوقت الذي عملا.

ذلك فيه، فانتهى الناس عن الزنى. وناووس عديم هذا من أعاجيب الدنيا، وهو في صحراء قفط على وجه الأرض، قبّة عظيمة من زجاج أخضر قطرها مائة ذراع براق معقود على ثمانية آزاج، وارتفاع القبّة في الهواء أربعون ذراعا يخضرّ بخضرتها ما حولها من الأرض، وعلى رأس القبّة طائر من ذهب منشور الجناحين موشّح بجوهر يمنع من الوصول إليها «1» وجسده في وسط القبّة على سرير من ذهب مشبّك، وهو مكشوف الوجه عليه ثياب منسوجة بالذهب منظومة بالجوهر، وفي جنبات القبّة مائة وسبعون مصحفا من مصاحف الحكمة وسبع موائد عليها آوانيها، منها مائدة من أدرك روماني أحمر وأوانيها منها، ومنها مائدة ذهب فليموني تخطف الأبصار، وهو الذهب الذي يعمل منه تيجان الملوك وآنيتها منها، ومنها مائدة من حجر الشمس المضيء بآنيتها، ومائدة من الزبرجد الذي يخالط لونه شعاع أصفر بآنيتها. وهذا الزبرجد إذا نظرت إليه الأفاعي سالت عيونها. ومائدة كبريب أحمر مدبّر «2» على ما ذكروه من تدبيره في مصاحف حكمتهم «3» بآنيتها، ومائدة من «4» ملح أبيض برّاق يكاد نوره يخطف (الأبصار بآنيتها) «5» ومائدة من زئبق أحمر معقود) «6» ، وحافتاها وقوائمها من زئبق أصفر معقود وآنيتها (من زئبق أحمر معقود) «7» 948 وجعل في القبّة معه جواهر عظيمة وبرابي صنعة مدبّرة، وجعل حوله سبعة أسياف صاعقية وكاهنية، وجعل معه تماثيل أفراس من ذهب عليها سروج من ذهب وعدّة «8» توابيت مملوءة من الدنانير «9» التي ضربها وصوّر عليها صورته. وقد ذكر من رأى القبّة وأقاموا عليها أيّاما، فما قدروا على الوصول

إليها وأنهم إذا قصدوها وكانوا على مقدار ثمانية أذرع منها دارت القبّة عن أيمانهم وشمائلهم وقد عاينوا ما فيها. ومن أعجب ما فيها أنّهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا أزجا فلا يرون من أزج من الآزاج إلا مثل الذي يرون من الآخر على معنى واحد لا يختلف. وذكروا أنهم رأوا وجهه في قدر ذراع ونصف بالذراع الكبير ولحيته كبيرة وقدّروا طول بدنه عشر أذرع وزيادة ورأوا بها عجائب عظيمة. 949 ثمّ ملك بعده «1» ابنه شدات «2» ، وهو أوّل من اتّخذ الجوارح للصيد وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب وعمل البيطرة وعلاجات الدوابّ، واتّخذ من الطلسمات والمصانع «3» ما لا يحصى كثرة، وجمع التماسيح بطلسم عمله لها في بركة بناحية أسيوط وكانت تنصبّ إليها من النيل انصبابا، فيقتلها ويستعمل جلودها في السفن وغيرها. وعمل صورة صنم قائم له إحليل ظاهر، إذا أتاه المعقود والمسحور والمعترض ومن لا ينتشر فمسحه بكلتا يديه أنعظ وذهب ما به. وعمل صورة بقرة لها ضرعان كبيران إذا مسحت عليها المرأة التي لا يدرّ لبنها (درّ لبنها لحينه) «4» . فأقام شدات تسعين سنة ملكا. وخرج يطرد صيدا فأكبّه فرسه من وهدة فقتله. وكان قبل ذلك قد خالفه «5» بعض خدمه في أمر، فألقاه من أعلى جبل إلى أسفله فتقطّع جسده «6» وندم على فعله ذلك، فرأى «7» أنّه سيصيبه مثله. فكان يتوقّى أن يعلو «8» جبلا أو شرفا، وأمر أن يجعل ناووسه في الموضع الذي يلحقه فيه ما يلحقه ويزبر «9» عليه: ليس ينبغي لذي القدرة أن يخرج عن الواجب ولا يفعل ما لا يجوز له فعله. هذا ناووس شدات الملك، عمل ما لا يحلّ له فكوفىء عليه بمثله.

950 ثمّ ملك بعده منقاوش «1» ابنه، وهو الذي نشر الحكمة في الناس وبثّ «2» منها ما كان مكتوما، وأمر بنسخ مصاحفها بخطوط العامّة ليتعلّموها. وهو أوّل من عمل الحمّام من ملوك مصر، ويقال إنّه «3» هو الذي بنى مدينة منف لبناته وكنّ ثلاثين بنتا، ورحلن إليها. وكان له عدّة من النساء من بنات عمّه وبنات الكهنة. وعمل تمثالا روحانيّا من صفر مذهب، فكان لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده. فكان الناس يمتحنون بذلك «4» ، فامتنعوا من الزنى. وبنى هيكلا للسحرة على جبل القصير وقدّم عليهم رجلا منهم، وكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب إلا بضريبة يأخذونها من أهلها. وكان إذا ركب عملوا بين يديه التخاييل الهائلة فتعجّب الناس من أعمالهم. وقسم خراج البلد أرباعا، وكان منتهاه حينئذ مائة الف «5» ألف وثلاثة آلاف ألف، فربع للملك خاصّة يصرفه فيما يشاء «6» ، وربع لأرزاق جنده، وربع ينفقه في مصالح الأرضين والمدن وما يحتاج إليه من عمل جسور وحفر خليج وبناء آبار «7» وتقوية أهلها على العمارة، وربع يكنز «8» ويدفن عدّة للملك. وهلك منقاوش بعد احدى وسبعين سنة من ملكه من طاعون أصابه، وقيل سمّ في طعامه، وعمل ناووسه في صحراء المغرب. 951 ثمّ ملك بعده ابنه مناوش؛ وهو أوّل من عبد البقر، وذكروا أنّ السبب في ذلك أنه كان اعتلّ علّة يئس فيها من نفسه «9» ، وأنه رأى في منامه صورة روحانيّ عظيم يخاطبه ويقول له: لا يخرجك من علّتك إلّا عبادتك للبقر لأنّ الطالع كان عند حلولها به «10» في صورة ثور بقرنين. فأمر بأخذ (ثور

أبلق) «1» حسن الصورة، وعمل له مجلسا في قصره عليه قبّة مذهّبة «2» ووكّل به سادنا، وكان يبخّره ويطيّبه ويتعبّد له سرّا من أهل مملكته. فبرىء من علّته وعاد الى أحسن أحواله. 952 وقال آخرون إن السبب في ذلك أنه كان أوّل من عملت له العجل ورصعت بالذهب وعملت له عليها قباب من خشب وفرشت بفاخر الفرش، وكانت البقر تجرّه، فإذا مرّ بالمكان النزه أقام فيه، وإن «3» مرّ بالمكان الخرب أمر بعمارته، وقيل إنه نظر إلى ثور من البقر التي كانت تجره أبلق حسن الشبه، فأمر بترفيهه وسوقه بين يديه، وجعل عليه حللا «4» من فاخر الديباج، فتفرّد به يوما ينظر إليه، فبينما هو قائم بين يديه إذ خاطبه الثور فقال: لو رفهني الملك كفيته جميع ما يريد وعاونته على أموره «5» وقوّيته على ملكه وأزلت عنه جميع علله. فارتاع الملك «6» لذلك وأمر به حينئذ «7» أن يغسل ويطيّب ويدخل الهيكل، وأمر بعبادته، فأقام ذلك الثور يعبد مدّة وكانت فيه آية: لا يروث ولا يبول ولا يأكل إلا أطراف ورق الشجر في كل شهر مرّة. فافتتن الناس به وصار ذلك أصلا لعبادة البقر. 953 ثم إن ذلك الثور بعد مدة «8» من عبادته أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف وتؤخذ من رأسه شعرات ومن ذنبه ومن لحا قرونه شيء ومن أظلافه وتجعل في ذلك التمثال، وعرّفهم أنه يلحق بعالمه، وأمرهم أن يجعلوا جسده

في جرن من حجارة وينصب في الهيكل وينصب تمثاله عليه، ويكون ذلك وزحل في شرفه والشمس مسعودة تنظر إليه من تثليث والقمر زائد، وتنقش على التمثال علامات الكواكب السبعة، ففعلوا ذلك «1» . وعملت صورة الثور من ذهب وكلّلت بأصناف الجواهر وصنعوا سائر «2» ما أمرهم به في الوقت الذي حدّه لهم. فكانت تلك الصورة تخبرهم بالعجائب وما يحدث وقتا وقتا وتجيبهم عن جميع ما يسألونه، وعظم أمر ذلك التمثال ونذرت له النذور وقربت له القرابين وقصده الناس من الآفاق، وكان يخبرهم بما يريدون. 954 وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس، وقد جاز بها قوم ضلّوا الطريق، فسمعوا بها عزيف الجنّ. ورأوا ضوء نيرانهم. وأقام مناوش ملكا تسعا وثلاثين سنة وعهد إلى ابنه مرنيش، وكان مضعفا لم يعمل في وقته أعجوبة، وبقي ملكا احدى عشرة سنة. 955 وانتقل الملك إلى أشمون بن قفطيم أخي قفطويم، وكان ينزل الأشمونين «3» سمّاها باسمه، وكان طولها اثني عشر ميلا في مثلها، ونقل إليها أهله وولده. وهو اتّخذ الملاعب بأنصنا، وبنى البهنسا وغيرها من المدن وأكثر فيها «4» من العجائب. والقبط تقول إنه أكثر ملوكهم أعجوبة وسحرا وأطول ملوكهم مدّة، ملك ثمانمائة سنة (وثلاثين سنة) «5» ، وانتزع قوم عاد الملك منه بعد ستمائة سنة «6» (من ملكه) «7» ، فاستوبؤوا «8» بلده وانتقلوا الى الدثنية من

طريق الحجاز الى وادي القرى، فعمّروها واتخذوا بها المنازل، فسلّط الله «1» عليهم الذرّ فأهلكتهم. فعاد ملك مصر الى أشمون وبنى مدينة في المشرق في سفح الجبل سماها أوطيراطيس وجعل لها أربعة أبواب على كلّ باب منها «2» طلسم، وأسكنها الروحانيين بسحره، فكانت تنطق إذا قصدها القاصد وتخبره بما يريد ولا يقدر على الدخول إليها إلّا بإذن الموكّلين بها. وجعل فيها شجرة يطلع فيها كلّ لون من الفاكهة، ومنارا في وسطها طوله ثمانون ذراعا على رأسه «3» قبّة تتلون كل يوم لونا حتّى تمضي سبعة أيام، ثم تعود الى اللون الأول، فتكسو المدينة تلك الألوان. وأسكنها السحرة وكانت تعرف بمدينة السحرة- (وهي معنى أوطيراطس) «4» - ومنها كانت تخرج أصناف السحر. وهو أول من عمل النيروز إكراما للكواكب، ودفن في احد الأهرام الصغار القبلية. 956 وملك بعده ابنه أشاد، وكان جبّارا معجبا، أكثر همه اللهو واللعب والنساء، فجمع كل مله وقصده من الأقطار كل من هذه سبيله، ورفض العلوم والهياكل والكهنة، وملك خمسا وسبعين سنة. 957 وملك بعده ابنه صاه. وبعض القبط يزعم أن صاه ابن مرقونيس «5» أخي أشاد، فنفى الملهين وردّ الكهنة إلى مراتبهم، وهو بنى أكثر مدينة «6» منف، وبنى في أقصى الواحات مدينة جعل طول سورها «7» في الارتفاع خمسين ذراعا وأودعها أموالا وحكما كثيرة، وهي التي وقع عليها «8» موسى بن نصير

في زمن بني أمية وغلب عليها الرمال، (وكانت تحت الأرض) «1» . وكانت مدة حياته وسنّه ست مائة سنة «2» وسبعين سنة، وناووسه في وسط منف تحت الارض والمدخل إليه من خارج المدينة (في غربيّها) «3» ، وكان فيه أربعة آلاف تمثال من ذهب مختلفة الصور برّية وبحرية وأموال عظيمة وجوهر كثير. 958 وعهد الى ابنه ندراس «4» ، وكان محكما مجربا ذا أيد وقوة، وبنى غربي منف بيتا عظيما للزهرة (رمز «5» فيه العلوم وكساه الحرير وعمل له عيدا عظيما، وكان صنم الزهرة) «6» من لازورد مذهب متوّج بذهب يلوح، وسوّره بسواري زبرجد أخضر، وكان في صورة امرأة لها ضفيرتان «7» من ذهب أسود مدبّر، وفي رجليها خلخلان من حجر أحمر شفاف «8» ونعلان من ذهب، وفي يدها قضيب مرجان، وهي تشير بيدها كالمسلّمة على من في الهيكل. وحذاءها مطهرة من أخلاط الأجساد على عمود من مرمر مجزّع، وفي المطهرة ماء مدبر للزهرة «9» يستشفى به من كلّ داء، وجعل فيه كراسي الكهنة مصفّحة بالذهب والفضّة، وكان يقرّب له ألف رأس من الضأن «10» والوحش والطير. وكان في قبّة منه صورة زحل «11» راكب على فرس له جناحان ومعه حربة في سنانها رأس إنسان معلّق. وبقي هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر وهو الذي هدمه. وعلى رأس ثلاثين سنة من ملكه طمع الزنج والنوبة في أرضه، فخرجوا إليها «12» وعاثوا فيها، فجمع الجيوش وغزاهم في البرّ ثلاثمائة ألف وفي البحر ثلاثمائة سفينة، (في كلّ سفينة) «13» كاهن وساحر يعمل أعجوبة (من عجائب السحر) «14» ، فلقوا جيوش السودان في زهاء ألف ألف، فهزموهم وقتلوهم (أقبح قتل) «15» وأسرّوا منهم خلقا كثيرا عظيما.

959 ثم ملك بعده ماليق «1» بن ندراس وكان موحّدا على دين قفطيم ومصريم، وكانت القبط تذمه «2» لذلك، وكانت عبادتهم للكواكب والبقر. وكان يستعمل «3» الغزو والجولان في البلاد ليغيب عن أهل مصر، وزعم بعض أهل مصر أن الله أيّده بملك من الملائكة يعضده ويرشده، وربما أتاه في نومه فأخبره ونهاه وأمره، وهو جمع الجيوش واتّخذ في بحر المغرب أربعمائة سفينة، وغزا جموع «4» البربر برّا وبحرا فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إلى إفريقية وقتل أكثر أهلها وسار منها «5» . وكان لا يمرّ بأمّة إلّا أبادها الى أن غزا من ناحية الأندلس يريد إفرنجة، وكان بها ملك عظيم يقال له أرقيوش «6» ، فحشد عليه أمما نواحيه وأقام يحاربه شهرا، ثم طلب سلمه وأهدى إليه هدايا كثيرة فسار عنه. ودوّخ الأمم المتصلة بالبحر الأخضر وأطاعه أكثرها، وعمل أعلاما على البحر زبر عليها اسمه وخرب مدن البربر حيث كانت وألجأهم الى ذرى الجبال ورجع «7» ، فتلقاه أهل مصر بصنوف اللهو والطيب والرياحين «8» وفرشت له الطرقات، ودخل قصره موفورا. وأمر أن يعمل له ناووس، فكان «9» يحضره ويتعبد فيه، وأمر أن لا يدفن معه ذهب ولا جوهر، فلم يدفن معه سوى الطيب وصفيحة مكتوبة بخطّه فيها: هذا ناووس الملك ماليق، مات مؤمنا بالله لا يعبد معه «10» غيره بريئا من الأصنام وعبادتها، مؤمنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، فمن أحب النجاة من عذاب الآخرة فليدن بما دان به. 960 واستخلف بعده ابنه حريبا، وقد شرح له التوحيد وأمره أن يدين به ونهاه عن عبادة الأصنام، وكان معه على ذلك في حياته، ثمّ رجع عنه بعد وفاته الى.

دينهم. وكان سبب رجوعه الى عبادة الأصنام أن أمه كانت من بنات كبير من الكهان نقلته بعد موت أبيه الى دينها، وكان ليّنا سهل الخلق مجيبا. وكان ملك من ملوك الهند يقال له مسور «1» خرج على عهد حريبا، فعمل حريبا مائة سفينة (على سفن الهند) «2» وتجهّز «3» . وحمل امرأته معه، وكانت من بنات عمّه قد غلبت عليه وهام بها يسجر قهرمانة كانت له «4» ، وكانت تسمى أسيوط، ساحرة لا تطاق، (وكانت أوحشت ما بين الملك وأمه لتستبدّ امرأته به، فآلى في غزوته أن ينصرف في البلاد ولا يرجع إلى مصر أو تموت أمه) «5» . ففعل ذلك، وغزا بلاد الهند، واستخلف على مصر ابنه كلكلن «6» وجعل معه وزيرا من الكهان يقال له ويسموس «7» ، فخرج ومرّ على ساحل اليمن «8» وعاث في سواحله وبلغ سرنديب، فأوقع بأهلها وغنم منها أموالا عظيمة، وحمل معه حكيما لهم، وكان لا يأخذ مدينة إلا أقام بها صنما وزبر عليه اسمه ومسيره ووقت أخذه لذلك الموضع. 961 وجعل ينتقل في تلك الجزائر عدّة سنين، ويقال إنه أقام في سفره سبع عشرة سنة ورجع الى مصر غانما «9» موفورا بعد ان هلكت أمه. وهابته الملوك، وبنى عدة هياكل وأقام بها اصناما (للكواكب لأنها هي التي أيدته في سفره بزعمه. وأظهر الحكيم الذي حمل من الهند بمصر) «10» عجائب مشهورة، وحمل معه صنمين (من أصنام الهند) «11» من الذهب مرصعين بالجوهر ونصبهما في بعض الهياكل، وكان حكيم الهند يقوم بهما ويخدمهما ويقرب لهما على رسمه «12» ، وكان يخبرهم بما يريدونه منهما. وغزا حريبا الشام، فأدّى اليه أهلها الطاعة، وأخاف النوبة والسودان فصالحوه على خراج يحملونه اليه. وأقام في ملكه خمسا وسبعين سنة وعمل لنفسه في صحراء الغرب «13» ناووسا على نحو ما تقدم ذكره من نواويس آبائه.

962 وملك بعده ابنه كلكلن «1» فعقد تاج الملك على رأسه بالأسكندرية بعد موت أبيه وأقام بها شهرا ورجع الى منف. وكان يحب الحكمة وإظهار العجائب وتقرّب أهلها، ولم يزل يعمل الكيمياء طول ملكه، فخزن أموالا عظيمة واستغنى أهل ذلك الزمان عن معادن الذهب، (فلم يثيروها) «2» ولم يكن الذهب قطّ أكثر منه في وقته. وكان يطرح المثقال الواحد على القناطير الكثيرة فيصبغها. وتحكي القبط عنه أنه اخترع أشياء تخرج عن العقل حتى كانوا يسمونه حكيم الملوك، وغلب على جميع الكهنة في علومهم حتى كان يخبرهم بما يغيب عنهم، فخافوه واحتاجوا الى علمه. 963 وفي وقته كان نمرود إبراهيم عليه السلام. وكان جبارا مشوّه الخلق يسكن سراة العراق، وكان قد أوتي قوة وبطشا فغلب على أكثر الأرض، فاستزار النمرود كلكلن فوجه اليه كلكلن أن يلقاه منفردا عن أهله وحشمه بموضع كذا، فسار النمرود الى الموضع «3» الذي ذكره، فأقبل كلكلن تحمله أربعة أفراس ذوات أجنحة، وقد أحاط به (نور كالنار) «4» وصور مهيبة قد خيل بها، وهو متوشح تنّينا عظيما والتنّين فاغرفاه، ومعه قضيب آس، فكلما رفع التنّين رأسه ضربه بالقضيب. فلما رآه النمرود هاله أمره واعترف له بجليل حكمته وسأله أن يكون له ظهيرا.

964 فزعم القبط أن كلكلن كان يجلس على الهرم الغربي في قبّة تلوح على رأسه ويجتمع أهله وحشمه ورعيته حول الهرم، ويزعمون أنه أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، واستتر عنهم مدة حتى توهموا أنه هلك، وهابته الكهنة هيبة لم تهبها أحدا «1» قبله حتى صوّرته «2» في هياكلهم. وبنى في آخر زمانه هيكلا لزحل من صوان أسود وجعل له عيدا «3» ، وجعل في وسطه ناووسه وحمل اليه ما أراد من الذهب والجوهر والحكم. وعرّفهم بموته «4» ، وجعل على الناووس «5» طلسمات مانعة وغاب عنهم فلم يقفوا على شيء من أمره (ولا عرفوا موته) «6» . 965 وعهد الى اخيه ماليا، وكان همه في الأكل والشرب والرفاهية غير ناظر في شيء من الحكمة، وإنما استقام له الأمر مدة كونه فيهم لهيبة أخيه كلكلن وتقديرهم أنه لم يمت. وكان أكبر بنيه يقال له طوطيس «7» ، وكان يستجهل أباه، فأعمل الحيلة في قتله وحملته على ذلك أمه وبعض وزراء أبيه «8» ، فهجم على أبيه «9» في رواقه وهو سكران، فقتله وقتل معه امرأة كانت له «10» من بنات ملوك منف كانت قد غلبت عليه، وحمته «11» النساء فقتلها وصلبها، ثم جلس على سرير الملك، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهيبا، والقبط تزعم أنه أول الفراعنة بمصر وأنه فرعون ابراهيم عليه السلام وأن الفراعنة سبعة هو أولهم. واستخف بأمر الهياكل والكهنة. وكان ابراهيم عليه السلام من كوثى من سواد العراق، فلما هرب من النمرود حذر إن أقام

بالشام أن يلحقه قومه فيردوه الى النمرود، فاستمر الى مصر فجرى له ما هو مذكور عند ذكر إبراهيم، (وأخدم سارة بهاجر) «1» . 966 وإنما سمي فرعون لأنه أكثر القتل حتى قتل قرابته «2» وأهل بيته وخدمه ونساءه وكثيرا من (الكهنة والحكماء) «3» ، وكان حريصا على الولد، فلم يرزق غير ابنته حوريا، وكانت تسدده كثيرا وتمنعه من أمور «4» سوء يريدها، فلما رأت أمره يزداد فسادا خافت على زوال ملكهم فسمته بعد أن ملكهم سبعين سنة «5» . 967 وتنازعوا تمليكها. ثم اجتمعوا عليها الا أهل مدينة أبريت «6» ، فانهم ملّكوا عليهم رجلا من ولد أبريت بن مصريم بن بيصر بن حام الذي سميت به المدينة يقال له أنداحس «7» ، وجرت بينهم حروب كانت الدائرة فيها على أنداحس، ففرّ «8» ، الى الشام وبها الكنعانيون من ولد عمليق، فاستغاث بملكهم وأخبره بأمره وقرّب عليه أمر مصر وسهّل تصييرها اليه، فجهز معه جيشا عظيما الى مصر واستقود عليه رجلا يقال له جيرون «9» . (فلما «10» قرب من مصر بعثت حوريا ظئرا لها الى جيرون) «11» (تستجلبه وتظهر الميل اليه والمحبة فيه وأنها داخلة في طاعته) «12» ، (تعرفه وصيتها بتزويجها لانها لا تختار أحدا من أهل بيتها وأنها إن قتل أنداحس تزوجت وصيرت اليه ملك مصر ومنعت منه صاحبه) «13» . (فلما بلغ ذلك جيرون سرّ سرورا عظيما ورغب فيه وسمّ أنداحس بسمّ أنفذته اليه فقتله) «14» .

968 فبعثت اليه أنه لا يجوز لي أن اتزوجك حتى تظهر في بلدي قوتك وحكمتك وتبني لي مدينة عجيبة أدخل عليك بها، فإني أكره أن أدخل عليك في مدينتي وبين أهلي وأهل بلدي، وان مدينة حصينة كانت لأوائلنا قد خربت، فاقصد موضعها واظهر حكمتك فيها. فمضى وجدّ في عمل الإسكندرية، وبعثت اليه مائة ألف ألف عامل «1» ، فأقام في بنائها مدة وأنفق جميع ما كان معه من الأموال. فلما فرغ من بينان المدينة وجه اليها يعلمها ويحثها على القدوم اليه. فوجهت اليه (فرشا فاخرة) «2» وآلات عجيبة وقالت: اقسم جيشك أثلاثا وانفذ الي ثلثا حتى اذا بلغت ثلث الطريق فانفذ الثلث الثاني، فاذا بلغت نصف الطريق فانفذ الثلث الثالث «3» ، فيكون من ورائي لئلا يراني أحد. فاذا دخلت اليك فلا يكون عندك الا صبية يخدمونك «4» . ثم أقامت تنفذ اليه الجهاز والأموال حتى علم مسيرها، فوجه اليها ثلث جيشه. فعملت لهم الأطعمة والأشربة والطيب المسموم، فلما لقوها استنزلهم حشمها وأقبلوا اليهم «5» بالأطعمة والأشربة والطيب المسموم، فلم تصبح منهم عين تطرف. فسارت ثم فعلت بالثلث الثاني كذلك، ثم بالثلث الثالث كذلك. 969 وهي توجّه اليه: انما أنفذت الجيش الى مصر «6» يحفظونها، الى ان دخلت اليه «7» هي وظئرها وجوار كنّ معها. فارتعدت مفاصله وخدرت قواه ولم يملك من نفسه شيئا فقال: من ظن أنه يغلب النساء فقد كذب نفسه، ثم فصدت عروقه وأسالت دمه حتى مات نزفا وقالت: دماء الملوك شفاء. وأخذت رأسه فوجهت به «8» الى قصرها فنصبته عليه وحملت (بيوت

الأموال) «1» الى منف، وبنت منار الإسكندرية وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلت به «2» وتأريخ الوقت «3» 970 ولما اتصل خبرها بالملوك الذين يتاخمون بلدها هابوها، وأقطعت أهل بيتها وقوادها وحشمها أقطاعا كثيرة، وبنت حصنا على حدّ مصر من ناحية النوبة وأجرت ماء النيل اليه تحت قنطرة. واعتلّت حوريا ولم يكن في زمانها أحد من ولد أبيها ولا أهل بيتها يصلح «4» للملك، فقلدت الملك ابنة عمها دليقة بنت فاقوم ودفعت اليها مفاتيح خزائن الأموال وأطلعتها على مواضع الكنوز وأماكن الخبايا وهلكت من علّتها. 971 فخرج على دليقة (أيمين الأتريي) «5» يطلب ثأر خاله انداحس، فاستنصر بملك العمالقة صاحب الشام، فجدّ في نصره لفعل حوريا بقائده، وجرت بينه وبين دليقة حروب كثيرة وأخبار طويلة كان الظهور فيها لأيمين (لأجل ساحر) «6» كان معهم من أهل قفط (لا يقوم له أحد) «7» غلب بسحره دليقة. فكان أصحاب دليقة إذا هرب أصحاب أيمين أظهر بسحره نارا تحول بينهم وبين أصحاب دليقة، وتسمع أصوات تفزع القلوب وتؤلم الأسماع. فلما أيقنت دليقة بالغلبة- وقد حسرها أيمين بقوص- سمّت نفسها فهلكت.

972 ثم ان أمير العمالقة غلب على مملكة مصر، وهو الوليد بن دومع العملقي، وأباد الامم حتى بلغ جبل القمر (الذي ينبعث النيل منه، وانما سمي جبل القمر) «1» لأن القمر لا يطلع عليه لأنه خارج عن خط الاستواء، وبلغ هيكل الشمس فدخله وبلغ أرض الذهب، وهو «2» قضبان نابتة، وهي «3» آخر بلاد علوة. واستعبد الوليد القبط وملكهم مائة وعشرين سنة. وركب في بعض الأيام متصيّدا، فوقص «4» به فرسه فقتله، ودفن في بعض الأهرام «5» . 973 وملك ابنه الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه نقراوش، وكان عظيم الخلق جميل الوجه عاقلا محسنا الى الناس، أسقط عنهم الخراج ثلاث سنين وفتح الخزائن وفرّق أكثر ما فيها على الناس، فأحبّوه وشكروا أيامه «6» ، إلا أنه مال الى الراحات وغلبت عليه اللذات، وملك أمر الناس رجلا من أولاد الوزراء من أهل بيته يقال له أطفير «7» ، وهو الذي يسميه اهل الأثر العزيز. وكان عاقلا حصيف «8» الرأي نزيه النفس مؤثرا للعدل، وأمر أن ينصب له في قصره سرير من فضة يجلس عليه ويكون الكتّاب وجميع «9» الوزراء بين يديه. فكفى نقراوش أحسن كفاية وقام بجميع أموره، ونقراوش غير ناظر في شيء من أمور الناس وقد عملت له مجالس الزجاج الملون والبلّور المصبوغ، وأرسل (حولها المياه) «10» ووضع فيها السمك، وكان إذا وقعت عليه الشمس أرسل شعاعا عجيبا يبهر «11» العيون. وعملت له

عدة متنزّهات على عدد أيام السنة ينتقل كل يوم الى متنزه منها معلوم اليوم، (ثم يعود الدور في اول السنة الثانية تمّ عددها) «1» ، وفي كل موضع منها من الفرش والآنية ما ليس في غيره. 974 فلما اشتغل عن أمور الناس (واتصل نزهه) «2» طمع فيه ملوك النواحي، فقصده رجل من ملوك العمالقة يقال له علكن بن شجوم «3» ويكنى أبا قابوس، فأنفذ اليه العزيز جيشا فأقام يحاربه ثلاث سنين، ثم كان الظفر للعملقي، فدخل حدود مصر وعاث في أرضها وهدم مصانع كثيرة، فضجّ أهل مصر (واجتمعوا الى قصر الملك، فسمع ضوضاءهم وسأل عن شأنهم، فأخبر بأمر العملقي وما انتهى اليه حاله وأنه قاصد قصر الملك) «4» . فارتاع لذلك الريان واستيقظ من غفلته وانتبه من سنته، فعرض جيشه وأصلح أمره وخرج الى العملقي (في سبعمائة الف مقاتل سوى الأتباع. فالتقوا من وراء الأجواف في تلك الصحراء، فاقتتلوا قتالا شديدا) «5» ، (وانهزم العملقي) «6» واتبعه نقراوش الى حدود الشام وقتل في أصحابه (وأسر، وقيل إنه بلغ) «7» الى الموصل «8» وضرب على أهل الشام خرجا. ثم انصرف واستعد لغزو ملوك المغرب «9» فخرج في تسعمائة ألف «10» واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحّى عن طريقه ومنهم من دخل تحت طاعته. فأتى إفريقية وقرطاجنة فصالحوه «11» على شيء يؤدونه اليه، ومر حتى بلغ مصبّ البحر الأخضر «12» الى بحر الروم، وهو موضع أصنام النحاس، وأقام هناك صنما «13» وزبر عليه اسمه.

975 وضرب على أهل تلك النواحي خرجا وعبر الى الأرض الكبيرة وإفرنجة والأندلس، وصاحبها لذريق الأصغر، فحاربه وقتل من أصحابه جماعة وصالحه على ذهب مضروب عليهم، وانصرف راجعا وجاز «1» حتى عبر البحر مشرقا، فشقّ بلاد البربر، (فلم يمرّ بموضع إلا أهدوا اليه ودخلوا في طاعته ولا بأمة إلّا أثر فيها الى ان بلغ بلاد النوبة، فصالحهم على مال يحملونه اليه، ثم أتى) «2» دمقلة «3» . فأقام بها علما «4» وزبر عليه اسمه، ثم انصرف الى منف، فهناك تلقّاه جميع أهل طاعته مع العزيز بأصناف الرياحين والطيب والملاهي «5» والهدايا، وأقام هناك مع الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة في مصانع أعدّها له العزيز من الزجاج الملون مفروشة (بالفرش المذهبة) «6» قد غرس حولها جميع الرياحين (والأشجار الطيبة) «7» . 976 وفي أيامه كان من أمر يوسف عليه السلام ما كان وخبره مع امرأة العزيز هذا، وهي زليخا ابنة صاحب عين شمس، ثم تزوجها يوسف - صلى الله عليه وسلم - «8» بعد ذلك. وقيل إنّ نقراوش آمن بيوسف وكتم إيمانه خوفا من فساد ملكه. وهو الذي امتحن يوسف ليعلم مبلغ علمه، فأمره بعمل الفيوم لابنته وكانت مغايض ماء النيل، والنيل لا يجري حينئذ، فأقامها وبنى اللهون وأتى بتلك الحكمة «9» المعجزة والآية البيّنة في أربعة أشهر، وقيل في سبعين يوما، وشقّ تلك الخلج الثلاثة وكان ذلك ابتداء جري النيل. فلما نظر اليه الملك قال لوزرائه: هذا عمل ألف «10» يوم. فسميت الفيوم. ذكر ذلك عبد الرحمان (بن عبد الله) «11» بن الحكم عن هشام بن إسحاق.

ذكر ما نقله القبط من أمر يوسف عليه السلام

977 فهلك الريان فاستخلف ابنه دريموس «1» ، وهو فرعون الرابع ويسميه أهل الأثر دارم، وكان يوسف - صلى الله عليه وسلم - «2» خليفته، أمره بذلك أبوه، وكان يوسف يسدّده إلا أنه خالف «3» (دينه وما اعتقده من ذلك أبوه) «4» . فكان يخدم القمر لأن «5» طالعه كان السرطان* فكان يصنع له أصنام الفضة وينصبها في قصر الرخام «6» الذي كان أبوه بناه في شرقي النيل. وقبض يوسف عليه السلام بعد سنين من ولايته، فأمر دارم فكفن في ثياب «7» الملوك وجعل في تابوت رخام ودفن في الجانب الغربي فأخصب ونقص الشرقي، فحوّل اليه فأخصب فنقص الغربي، فاتفقوا على أن يجعلوه في الغربي عاما وفي الشرقي عاما، ثم ظهر لهم رأي أن يجعلوا للتابوت حلقا وثاقا ثم شدّوه بالحبال ودلّوه (في وسط النيل) «8» . فأخصب الجانبان كلاهما. ذكر ما نقله القبط من أمر يوسف عليه السلام 978 قالوا: أدخل مصر غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته وباعوه، وكانت قوافل الشام تعرس بناحية الموقف اليوم، فأوقف الغلام ونودي عليه (وهو يوسف عليه السلام) «9» ، فبلغ وزنه ذهبا وورقا، فاشتراه أطفير العزيز ليهديه الى الملك. فلما أتى به منزله ورأته امرأته زليخا بنت صاحب عين شمس بنت «10» عم أطفير قالت له: اتركه لنا نربيه. ففعل، فكان من أمر «11» افتتانها به ما نصه الله تعالى في كتابه، وكانت تكتم ذلك حتى غلب الأمر عليها.

فجاءت له «1» وتزينت له «2» وعرّفته إنها تحبّه وأنّه إن (واتاها على ما تدعوه إليه) «3» جاءته بمال عظيم وأحلّته المحل الكريم. فامتنع عليها «4» ورامت أن تقبّله ولم تزل تمارسه وهو يمتنع بجهده الى أن أتى زوجها ووافقه وهو هارب منها. وكان زوجها عنينا لا يأتي النساء. فجعل يوسف يعتذر إليه، وقالت هي: كنت نائمة فأتاني يراودني عن نفسي، ففطن أن الأمر منها فقال ليوسف: اعرض عن هذا، أي عن اعتذارك. وقال لها: استغفري لذنبك، واتصل خبر زليخا ويوسف بنساء أصحاب الملك فخضن فيه، وقد كان خبر الغلام بلغ الملك وابتياع أطفير له، وسأل عنه فأنكره ومنعه الخروج عن قصره، وكان محجوبا لا يراه أحد. 979 والملك غير عادل عن العكوف على لذّاته والاحتجاب عن الناس. فأحضرت جماعة منهن وأحضرت لهن طعاما وشرابا وجلست في مجلس حذاء مجلس مذهبين جميعا وفرشتهما بالديباج الأصفر المذهب وأسدلت عليهما «5» ستور الديباج المذهب، وأمرت المواشط بتزيين يوسف واخراجه الى المجلس الذي كانت مع النسوة فيه، وكان ذلك المجلس محاذيا للشمس «6» . فنظم المواشط شعر يوسف «7» بأصناف الجواهر، وألبسنه ثوب ديباج أصفر منسوج بذارات حمر مذهبة، فيها اطيار صغار خضر مبطّن ببطانة خضراء، وأكمامه جوهر ملون ومن تحته غلالة حمراء، ووضعن على رأسه تاجا منظوما بدرّ وجوهر نفيس، وأخرجن من تحته طرر شعر على جبهته ورددن ذوائبه على صدره «8» وعقربن صدغيه على خدّيه وكحلن عينيه ودفعن اليه «9» مذبّة ذهب شعرها أخضر. فلما أكلن وفرغن من طعامهن أحضرت الشراب والفاكهة وسقتهن

أقداحا، وقدمت إليهن سكاكين نصبها «1» جوهر. فقالت لهن: اقطعن من هذه الفاكهة، وقيل إن الذي كان بين أيديهن اترج وهو المتكأ، فلمّا أخذن في شربهن، قالت لهن: قد بلغني ما خضتنّ فيه من أمري مع عبدي. قلن لها: الأمر كما بلغك لأنك أعلى قدرا من هذا وأنت تجلّين «2» عن أولاد الملوك، فكيف رضيت بغلامك؟ فقالت: لم يبلغكن الصدق عني، ولو كان لكان أهلا لذلك. ثم ارسلت الى المواشط في اخراجه ورفعت ستور المجلس الذي يحاذي مجلسها وأقبل يوسف خارجا منه مستقبلا للشمس. فأشرق المجلس وما فيه (من وجه) «3» يوسف وما عليه، وأرسل ذلك شعاعا كاد أن يخطف أبصارهن، وأقبل يوسف والمذبّة معه وهن يرمقنه حتى وقف على رأسها يذبّ عنها، وهي تخاطبهن وهن لا يفهمن خطابها «4» للذي أذهلهن من النظر اليه، فقالت: ما لكنّ قد اشتغلتن عن خطابي بالنظر الى عبدي؟ 980 قلن لها: معاذ الله، ما هذا عبدك «5» وما هذا الّا ملك كريم. ولم تبق منهن واحدة الا حاضت وأنزلت شهوة من محبته. فقالت لهن زليخا عند ذلك: فهذا الذي لمتنّني فيه. فقلن: ما ينبغي لأحد أن يلومك بعدها، ومن لامك فقد ظلمك فدونكه. قالت: قد فعلت فأبى عليّ فخاطبنه لي. فكانت كل واحدة منهن تخاطبه وتدعوه سرا الى نفسها وتبذل له، وهو يمتنع منها. فإذا يئست منه لنفسها خاطبته لزليخا ووعدته (بالحظوة والرفعة) «6» والأموال فيقول: ما لي بذلك من حاجة فلما رأين ذلك أجمعن «7» على أخذه غصبا، فقالت زليخا: لا يحسن ذلك ولا يقع موقعا، ولكنه ان لم يفعل لأمنعنّه اللذات ولأسجنّنه. فقال يوسف عليه السلام: ربّ السجن أحب إليّ مما تدعونني اليه. وأقسمت «8» بإلاهها- وكان صنما من زبرجد أخضر باسم

عطارد- انه ان لم يفعل ذلك لتجعلنّ به ذلك. فأبى عليها فأمرت بنزع ثيابه وألبسته الصوف وسألت زوجها حبسه ليزول عنها ما قذفت «1» به. فمال الى قولها ليميط عن أهله القبيح وينفي عنها المقالة «2» . فأمر به فحبس في السجن سبع سنين. 981 فرأى الملك في منامه كأن آتيا أتاه فقال: إن فلانا وفلانا قد عزما على قتلك، يريد صاحبي طعامه وشرابه. فلما أصبح قررهما فاعترف أحدهما وأنكر الآخر، فأمر بحبسهما، وكان اسم صاحب الطعام راشان وصاحب الشراب مرطش «3» . فأخبرا يوسف برؤياهما كما نطق به القرآن، ثم أخرجنا من السجن فقتل الذي أقرونجا الذي لم يقر وهو صاحب الشراب. فلما رأى الملك رؤياه في البقر «4» عرفه الساقي «5» خبر يوسف فأرسل اليه الى «6» السجن ففسّرها «7» له. 982 وقيل ان الملك قال للرسول: سله عن الرؤيا قبل ان تقصها «8» عليه. ففعل «9» ، فأعلمه بها وعبر له معناها، فقال الملك «10» عندها: جئني به، فقال يوسف: لا أخرج حتى يكشف أمر النسوة اللواتي من أجلهن حبست. فلما كشف عن ذلك واعترفت زليخا بالقصة وجّه اليه الملك «11» فأخرجه وأمر بغسله من درن السجن «12» وألبسه من ثياب الملوك. فلما دخل عليه وراه امتلأ به سرورا وألقيت عليه منه محبة وسأله عن الرؤيا، ففسرها له كما قال الله عزّ

وجلّ في كتابه. فقال له الملك: ومن يقوم لي بذلك؟ فقال: أنا فإني عليم به «1» . فخلع عليه وألبسه تاجا وأمر «2» ان يركب معه الجيش ويطاف به فيردّ الى قصر الملك ويجلس على سرير العزيز- وكان العزيز قد هلك- فاستخلفه الملك على ملكه وسماه العزيز مكانه وزوجه امرأته، فقال لها يوسف: هذا أصلح مما أردت. فقالت له: اعذرني فإن زوجي كان عنينا ولم ترك امرأة في حسنك وهيئتك «3» إلا صبا قلبها اليك. 983 فلما جاءت سنو «4» الخصب أخذ يوسف في توفير الغلّات والاستكثار من الأقوات، ثم جعل في سني الجدب لما نقص النيل وتوالى نقصانه يحسن التدبير والسياسة، ولولا ذلك لهلك الناس. فصار الى يوسف «5» بما باع من الطعام جميع أموال أهل مصر من الذهب والفضة والجوهر والثياب والدواب والآنية والعقار. 984 وقحط أهل الشام عند ذلك، فكان من أمر يوسف مع إخوته «6» ما قصّ الله تعالى في كتابه، ووجه يوسف الى ابيه فحمله «7» من الشام بجميع أهله وخرج في وجوه أهل مصر وكبرائهم فتلقاه وأدخله على الملك. (وكان يعقوب عليه السلام نبيّا جميلا، فقرّبه الملك) «8» وأحبه وأعظمه، وكان له يومئذ عشرون ومائة سنة. فأقام يعقوب مع نقراوش يعظّمه ويجلّه ويعقوب يدعوه الى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام والآلهة ويوسف يعقبه بمثل ذلك، فيقال إنه آمن وكتم إيمانه خوفا من فساد ملكه.

985 ولم يزل يعقوب مكرما معظما عنده «1» حتى حضرته الوفاة في حياة نقراوش، فأوصى ان يدفن بمكانه من الشام، فوضع في تابوت وخرج معه يوسف وكبار أهل «2» مصر حتى بلّغوه إلى موضعه. فمنعهم عيصو من دفنه هناك لأن إسحاق وهب له الموضع، فاشتراه يوسف منهم (ودفن فيه يعقوب) «3» . وولد ليوسف بمصر. 986 وملك نقراوش مائة وعشرين سنة كما تقدم، وكان من أمر ابنه مع يوسف ما ذكرناه. واستوزر دارم «4» بعد يوسف رجلا من الكهان يسمّى بلاطش فأطلق له ما كان يوسف يحذره عنه «5» وحمله على أذى الناس وأخذ أموالهم وغلبتهم على كلّ امرأة حسناء يسمع بها في النواحي. ومكث كذلك «6» زمانا قد «7» بلغ من الناس أشد مبالغ الأذى (ونال منهم) «8» كل مكروه حتى ركب يوما في النيل متنزها، فعصفت به ريح أغرقته «9» ومن كان معه واستراح الناس من شرّه. 987 وملك «10» بعده ابنه معدايوس «11» ، وهو خامس الفراعنة، وأهل مصر يسمونه معدان. فأسقط عن الناس الخراج وأحسن فيهم السيرة ولزم الإقبال

على الهياكل والتعبد لها. فتذكر القبط أنه كان يوما في هيكل زحل وحذاء صورته، وكان قد جهد نفسه في التعبد له «1» الى ان تغشّاه نور وتجلّى له زحل وخاطبه فقال له: قد جعلتك ربا وحبوتك بالقدرة وسأرفعك إلي فلا تخل من ذكري «2» . فأخبر الناس سدنة الهيكل بما رأوه من النور وسمعوا من الخطاب، فأعظم الناس أمره وسموه ربّا بأمر زحل. فجمع الناس وقال لهم: قد (وقفتم على) «3» ما خصصت به دون الملوك، وهذه موهبة يلزمني الشكر عليها لواهبها، ولست اتفرغ (للنظر في أموركم) «4» وقد جعلت (أمر الملك) «5» الى ابني أقشامش «6» وأكون من ورائه الى أن يغيب شخصي عنكم كما وعدت، وقد أيدته بالناظرين «7» ، فانظروا كيف تكونون فإنكم منّي بمرآى ومسمع. فرضوا ذلك. 988 وجلس اقشامش على سرير الملك وتتوّج بتاج أبيه، وهو الذي يسميه أهل الأثر كاشم بن معدان بن دارم «8» بن الريان بن الوليد بن دومع، وهو سادس الفراعنة. وسمّوا فراعنة بفرعان الأوّل، فصار اسما «9» لكل من تجبّر وعلا أمره. واحتجب معدايوس أبوه عن الناس، وكان أقشامش أوّل من ذلّل الإسرائيلين للقبط وقال للقبط: هم عبيد لكم، حتى صار «10» رجالهم خدما لرجالهم ونساؤهم خدما لنسائهم، وإن ضرب الإسرائيلي القبطي قتل به. وقيل إنّ منارة الإسكندرية بنيت في زمانه وإنه هو الذي جعل عليها المرآة.

989 وكان قد استوزر رجلا من أهل بيت المملكة يقال إنه من ولد أشمون الملك يسمى طلمى بن قومس، وكان شجاعا حكيما كاهنا داهيا «1» . فتغيب «2» أقشامش بعد إحدى وثلاثين سنة من ملكه وطلمى يدبر «3» أمر المملكة، فيقال انه سلب عقله، ويقال ان طلمى سمّه وقتله «4» لأن نفسه كانت تنازعه الملك. فلما فقد الناس الملك اضطربوا على طلمى وتغيروا عليه «5» . فولّى لاطش بن أقشامش وأجلسه على سرير الملك وألبسه التاج. فاستقر له الأمر وكان حدثا معجبا، فصرف طلمى عما كان عليه من خلافته واستخلف رجلا يقال له لاهوف من ولد ندراس الملك، وتجبر ودعا إلى عبادته وأمر أن يجلس أحد في قصره لا كاهن ولا غيره، بل يقوموا على أرجلهم إلى أن ينصرفوا. (وزاد في أذى الناس والعسف «6» . بهم «7» ورتبهم على الأبواب «8» ، وجمع أموالهم وكثرها، وطلب النساء وابتز «9» منهنّ خلقا كثيرا) «10» . وفعل من ذلك أضعافا مما فعله من تقدم ذكره «11» . واستعبد بني إسرائيل، وهو الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى، فأما أهل الأثر فيزعمون أنه الوليد بن مصعب العملقي «12» . 990 وقد تنازع الناس فيه، فمنهم من رأى أنه من العماليق، ومنهم من رأى أنه من لخم من بلاد الشام، ومنهم من رأى أنه من الفرس من مدينة إصطخر، وقد زعم قوم من الأعاجم أنه من الأندلس من مدينة قرمونة، ومنهم من رأى أنه

ذكر فتح مصر

من القبط (من ولد مصريم بن بيصر، والقبط) «1» تثبت ذلك، ونسبه ونسب أهل بيته مشهور عندهم وتقول «2» إن دليل ذلك ميله إليهم ونكاحه فيهم. وذكر قوم أنه دخل مدينة منف على أتان تحمل خباء أحمر ليبيعه، وكانوا قد اضطربوا في تولية ملك، فأجمعوا على أن يملّكوا عليهم أول من يطرأ من الناس، فكان هذا. 991 فبذل الأموال ورغب من أطاعه وقتل من خالفه «3» . وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى الحصون على حدود مصر. واستخلف هامان وكان منه بقربى وهو حفر خليج سردوس «4» . وهو أول من عرّف العرفاء على الناس، وكان من أمره مع موسى عليه السلام ما هو مذكور في موضعه «5» . ذكر فتح مصر «6» 992 قال عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الحكم «7» : لما كانت سنة ثماني عشرة وقدم عمر رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص، وكان قد دخل مصر في الجاهلية وديارها وعرف أحوالها، فجعل يعظّم عنده أمرها ويهوّن عليه فتحها، حتى ركن لذلك عمر وعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكّة، ويقال ثلثهم من غافق. فقال له «8» عمر: سيروا وأنا مستخير الله

وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله، فإن أدركك كتابي «1» آمرك فيه بالانصراف (عن أرض مصر قبل ان تدخلها فانصرف، وإن أنت دخلتها) «2» قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك فاستعن بالله واستنصره «3» . فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد. 993 واستخار عمر رضه فكأنه تخوّف على المسلمين (فكتب إلى عمرو) «4» أن ينصرف بمن معه، وأدركه الكتاب وهو برفح، فتخوف عمرو إن قرأ «5» الكتاب أن يكون فيه أمر «6» بالانصراف كما عهد إليه. فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش. فسأل عنها فقيل له إنها من مصر، فدعا «7» بالكتاب فقرأه على المسلمين «8» ، ثم قال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ (فقالوا: بلى) «9» . قال لهم: فإن أمير المؤمنين عهد إليّ إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع اليه، وإن كتابه لم يلحقني حتى دخلنا أرض مصر فسيروا وامضوا على بركة الله تعالى. 994 قال: فلما بلغ المقوقس أمر عمرو توجه الى الفسطاط، وكان يجهز الى عمرو الجيوش. وقال جماعة من مشايخ أهل مصر إن أسقفا كان بالاسكندرية للقبط يقال له أبو بنيامين «10» لما بلغه قدوم عمرو الى مصر كتب الى القبط يعلمهم «11» أن ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقّي عمرو. فأول موضع قوتل فيه عمرو

الفرما، قاتله فيه الروم نحوا من شهر، ثم فتحها الله عليه، فيقال إن القبط الذين كانوا «1» بالفرما كانوا لعمرو أعوانا لما أعلمهم به أبو بنيامين. ثم تقدم عمرو لا يدافع الا بالأمر الخفيف حتى فتح بلبيس وأم دنين، وكتب «2» الى عمر يستمده، فأمدّه بأربعة آلاف. ثم سار عمرو الى الحصن وقد خندقوا حوله وجعلوا للخندق أبوابا وجعلوا سكك الحديد موتدة بأفنية تلك الأبواب، وكان عمرو يفرق أصحابه «3» ليرى العدو أنهم أكثر مما هم ويغدوا في الأسحار فيصفّهم على أبواب الخندق وعليهم السلاح. 995 ثم قدم على عمرو الزبير بن العوّام في اثني عشر ألفا فتقوّى المسلمون، وجعل عمرو يلح عليهم بالقتال ووضع المنجنيق على الحصن، وكان عمرو إنما يقف تحت راية بلى. قال: وكانت أمّه بلوية. (قال المؤلف رحمه الله: هذا من قائله وهم، وإنما هي عنزية «4» . فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير رضه: أنا أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك للمسلمين، فوضع سلما الى جانب الحصن من ناحية سوق الحمّام، ثم أمرهم اذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا «5» . فما شعروا الا والزبير واقف على رأس الحصن يكبّر (والسيف في يده) «6» ، فتحامل المسلمون على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن يكسر، فهرب أهل الحصن جميعا وعمد «7» الزبير الى باب الحصن ففتحه واقتحمه المسلمون.

996 ثم حاصر المسلمون باب اليون وبه أكابر الروم والقبط ورؤساؤهم وعليهم المقوقس، فقاتلوهم بها شهرا. فخاف المقوقس على نفسه (ومن معه) «1» فتنحّى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا على الباب القبلي وترك هناك جماعة يقاتلون فصار بالجزيرة- موضع دار الصناعة اليوم- وأمر بقطع الجسر، وذلك في مجرى النيل. فأرسل المقوقس الى عمرو «2» : إنكم قد دخلتم في بلادنا «3» وطال مقامكم بأرضنا «4» وإنّما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم، جهزوا إليكم الجيوش، وقد أحاط بكم هذا النيل وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فعسى أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون «5» ونحب، وينقطع عنا وعنكم «6» هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فتندموا. 997 فردّ عمرو مع رسله أنه ليس بيننا وبينكم إلا احدى ثلاث خصال: إمّا دخلتم في الإسلام وكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد، وهم صاغرون «7» ، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال: حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين «8» . فلما جاءت رسل المقوقس اليه قال: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب الى أحدهم «9» من الحياة والتواضع أحب الى أحدهم «10» من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على الركب وأميرهم كواحد منهم، يغسلون أطرافهم بالماء واذا حضرت الصلاة لا يتخلف عنها أحد منهم، يتخشعون في صلاتهم. فقال

المقوقس: والذي يحلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها، وما يقوى على قتال «1» هؤلاء أحد وإن لم يغتنم صلح هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الارض. [وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه] «2» والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة ولا يقدرون على النفوذ الى الصعيد ولا غيره من القرى. 998 وبعث عمرو إليهم عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت وأمره أن (يكون متكلم) «3» القوم وأن لا يجيبهم الى شيء إلا الى احدى هذه الثلاث خصال. فركبوا السفن الى المقوقس فدخلوا عليه، فتقدم عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وقال: نحّوا عني هذا الأسود وقدّموا غيره. فقالوا جميعا: إن هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وعلما «4» . فكلمه عبادة فازداد المقوقس له هيبة وقال لأصحابه: لقد هبت (منظره وإن قوله عندي لأهيب) «5» ، وإن هذا وأصحابه إنما أخرجهم الله لخراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. (فقال له المقوقس) «6» : يعطى كل رجل منكم دينارين دينارين فأميركم مائة دينار وخليفتكم «7» ألف دينار. فلم يجبه عبادة إلّا على احدى الثلاث خصال. فقال المقوقس لأصحابه: ما ترون؟ فقالوا: أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا ما لا يكون «8» . نترك دين المسيح الى دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا أن يجعلونا عبيدا أبدا فالموت أيسر «9» من ذلك. ولو رضوا منا ان نضعف لهم ما أعطيناهم كان «10» أهون علينا.

999 فانصرف عبادة ولم يتّفقوا على شيء. وألحّ المسلمون في القتال حتى أذعن «1» المقوقس بالجزية عن القبط خاصة والروم مخيّرون «2» في المقام على مثل «3» ذلك أو الخروج الى أرض الروم. فأحصي يومئذ من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط (خاصة و) «4» رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة فكانوا ستّة آلاف ألف ممن بلغ الحلم سوى الشيخ الفاني والصغير والنساء. ففرض على كلّ نفس دينارين دينارين، فكانت فريضتهم اثني عشر ألف ألف دينار. ثم كانت بمن استقر هناك من النصارى وساكنيهم من النوبة خمسين «5» ألف ألف دينار. 1000 [وجعل عمرو يبحث عن الأموال ويضمّها الى بيت المال] «6» . وذكر لعمرو أنّ عند عظيم الصعيد مالا، فبعث اليه، فقال: ما عندي مال. فسجنه، فسأل عمرو من يدخل عليه هل يسمعونه يذكر أحدا. قالوا: نعم راهبا بالطور. فبعث عمرو فأوتي بخاتم المسجون وكتب كتابا على لسانه بالرومية وختم عليه وبعث به الى الراهب فأتى بقلّة من نحاس مختومة برصاص، فإذا فيها (كتاب فيه) «7» : يا بني آدم «8» إذا أردتم مالكم فاحفروا تحت الفسقية. فبعث عمرو أمناء «9» الى الفسقية- وهي السقاية- فحفروا واستخرجوا «10» خمسين أردبا من دنانير [والأردب قنطار ونصف] «11» .

[ذكر الفسطاط]

[ذكر الفسطاط] 1001 [ثم أمر عمرو رضه المسلمين ببناء دور يسكنونها بالفسطاط، وهي مدينة مصر اليوم] «1» وإنما سميت مصر الفسطاط لأن عمرو بن العاص لمّا أراد التوجه الى الإسكندرية لقتال من بها من الروم أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه بمام «2» قد فرّخ. فقال عمرو رضه: لقد تحرّم منا «3» بمتحرم. فأمر بالفسطاط فأقرّ كما هو، وأوصى به «4» صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الاسكندرية بعد فتحها قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، فسطاط عمرو الذي كان خلّفه. وكان مضروبا في موضع الدار التي تعرف اليوم بدار الحصى «5» ، وهي عند دار عمرو الصغيرة. 1002 وبنى عمرو بن العاص رضه المسجد. قال الليث بن سعد: وكان [ما] حوله حدائق وأعنابا. ونصبوا الحبال حتى استقام لهم ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة، هو وأصحاب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) «6» ، واتخذ فيه منبرا. قال أبو تميم الجيشاني «7» : وكتب عمر بن الخطاب رضه اليه: أما بعد، فإنه «8» بلغني أنك اتخذت منبرا ترقى فيه على رقاب المسلمين. أو ما بحسبك «9» أن تقوم قائما والمسلمون تحتك؟ فعزمت عليك «10» لما كسرته. وكان أبو مسلم الغافقي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذّن لعمرو وكان يخدم المسجد.

1003 واختطّ المسلمون بمصر، فاختطّ عمرو بن العاص داره التي هي اليوم عند باب المسجد بينهما الطريق، وداره الأخرى اللاصقة الى جانبها، وفيها دفن عبد الله ابنه. واختط عبد الله ابنه الدار الكبيرة التي عند المسجد الجامع وبناها قصرا على تربيع الكعبة الأولى. واختطّ حول دار عمرو والمسجد قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة. 1004 واختط وردان مولى عمرو- ويكنى بأبي عبيد- القصر المنسوب الى عمر بن مروان اليوم، اشتراه عبد العزيز بن مروان فوهبه لأخيه. واختطّ قيس بن سعد بن عبادة دار الفلفل في قبلة الجامع، وأوصى عند وفاته أنها للمسلمين ينزلها «1» ولاتهم. وسميت دار الفلفل لأن أسامة بن زيد التنوخي «2» حين ولي مصر اختزن فيها فلفلا بعشرين ألف دينار كان الوليد بن عبد الملك أراد أن يهديه الى صاحب الروم. واختطّ مسلمة بن مخلّد دار الرمل وكانت من رحى الكعك الى حمام «3» سوق وردان. ثمّ وهبها لمعاوية، واختطّ له معاوية داره التي بسوق وردان. وكانت بجنبها دار لعقبة بن عامر، فوهبها لرملة بنت معاوية فيها سميت دار الرّمل، حرّفته العامة، وقيل إنما سميت دار الرمل لكثرة ما ينقل اليها من الرمل لدار الضرب «4» . 1005 واختطّ قيس بن أبي العاص السهمي داره التي عند دار ابن رمّانة، [وكانت دار ابن رمّانة] «5» بينها وبين المسجد ودخل بعضها الى المسجد حين زاد عبد

الله بن طاهر في عرضه. وكان عمرو ولّى قيسا الفضاء. واختطّ عبادة بن الصامت الى جانب دار ابن رمّانة وأنت تريد الى سوق الحمام. (واختطّ خارجة «1» بن حذافة غربي المسجد الى اصحاب الحنّاء وأصحاب السويق) «2» . واختط عبد الرحمان بن عديس الدار البيضاء ومروان بن الحكم بناها بناءها «3» اليوم لما ولي مصر سنة ستين. واختطّ ثقيف في ركن المسجد الشرقي الى السّرّاجين. واختط أبو ذر ومن معه من غفار من زقاق القناديل راجعا الى قصر ابن جبر الى سوق بربر. 1006 واختطّ كعب بن يسار بن ضنّة- وهو ابن بنت خالد بن سنان العبسي التي قال لها (رسول الله) «4» - صلى الله عليه وسلم -: ابنة نبي ضيّعه قومه- الدار المعروفة بدار النّخلة في طرف زقاق القناديل، وكان يقال لزقاق القناديل زقاق الأشراف لأن عمرو بن العاص كان في طرفه وفي الطرف الآخر كعب بن يسار، وبينهما دار أبي ذرّ وزكريا بن الجهم وعبد الرحمان بن شرحبيل وغيرهم من الأشراف. واختطّ كعب بن عدّي القيسارية، فلما «5» أراد عمر بن عبد العزيز بناءها اشتراها منهم وخطّ لهم دارهم التي في بني وائل. والحمام الذي يعرف اليوم «6» بحمام أبي مرة كان خطة لرجل من تنوخ. فسأله إياه عبد العزيز بن مروان فوهبها له فبناه حماما لزبّان ابنه وبزبان «7» كان يعرف، وفيه يقول الشاعر يصف صنم رخام «8» كان فيه على خلقة المرأة [كامل] : من كان في نفسه للبيض منزلة ... فليأت أبيض في حمّام زبّان لا روح فيه ولا شفر يقلّبه ... لكنه صنم في خلق إنسان في أبيات وكسر هذا الصنم وكان عجبا من العجائب «9» حين أمر يزيد بن عبد

الملك بكسر الأصنام سنة اثنتين ومائة. واختطّ الزبير بن العوّام داره التي بسوق وردان وفيها السّلّم «1» الذي كان الزبير نصبه وصعد عليه «2» الى حصن «3» الروم، وكان عبد الملك بن مروان قد اصطفاها «4» فردها أبو جعفر على هشام بن عروة، وكانت لهشام منه ناحية. وقال أبو جعفر: ما مثل أبي عبد الله يؤخذ له شيء يعني الزبير. 1007 واختطّ أبو بصرة الغفاري عند دار الزبير. واختطّ أسلم مما يلي دار أبي ذرّ ومن خططها دار الصبّاح والزقاق الذي فيه دار ابن بلادة «5» ، ولهم أيضا من قصر ابن جبر «6» الى الحجامين الذين بسوق بربر. واختط اللّيثيون عند أصحاب القراطيس واختطّ خلفهم بسر بن أبي أرطأة. واختطّ بنو «7» معاد في زقاق عبد الملك بن مسلمة. واختطّ عنزة في أصل «8» العقبة التي عند دار ابن الصامت. واختطّ بلىّ [خلف] دار خارجة بن حذافة، ثم مضوا بخطتهم من دار عمرو بن يزيد الى دار سلمة والى دار واضح الى درب «9» الزجاج، ثم مضوا الى أصحاب الزيت، ثم مضوا يشرعون في قبلة سوق وردان حتى بلغوا مسجد القرون «10» ، ثم داخل الزقاق الى «11» مسجد عوف، وهو من خطّة بلىّ، وإنما كثرت بلىّ بمصر لأنّ رجلا نادى بالشام: يا آل قضاعة (فبلغ [ذلك] عمر بن الخطاب فكتب الى عامل الشام أن يصير ثلث قضاعة الى مصر، فنظر فاذا بلى ثلث قضاعة) «12» فسيروا الى مصر.

1008 واختطّ بنو بحر وهم من الأزد مما يلي بلى، ثم شرعوا الى البحر. واختطّ مهرة موضع دار الخيل وما والاها على «1» سفح الجبل الذي يقال له جبل يشكر مما يلي الخندق الى شرقي العسكر الى جنان «2» بني مسكين اليوم، وهناك كان مسجد مهرة وأدخله طريف الخادم في دور الخيل «3» حين بناها. واختطت لخم قبلي ثقيف وانحدروا الى مسجد عبد الله، واختطّت غافق بين مهرة ولخم، ومضوا بخطتهم حتى برزوا الى الصحراء مما يلي الموقف، ولغافق من درب السّراجين الى درب بني وردان. فما كان عن يمينك وأنت تريد المسجد الجامع في الطريق الى دور الوردانيّين من مسجد عبد الله، فهو للخم «4» . وما كان عن يسارك فلغافق «5» . والموقف لابنة مسلمة بن مخلّد، فتصدقت به على المسلمين. واذا سلكت زقاق أشهب فما كان عن يمينك وأنت تريد الموقف فهو لغافق، وما كان عن يسارك فهو للأزد، ثم مضت الأزد حتى أخذت (ما شرع) «6» في السويقة قبال «7» دار سعيد بن عفير وزقاق السّراجين «8» حتى انتهت الى دار حوى ودار عبد الرحمان بن هاشم «9» . ثم اختطت مما يلي السويقة العنقاء، واذا هبطت من وادي حوى وقعت «10» في هذيل، فما كان عن يمينك وأنت تريد الخندق فلهذيل، وما كان عن يسارك فلدهنة «11» من الأزد. 1009 واختطّت الصّدف قبلي مهرة، فمضوا بخطتهم حتى لقوا حضرموت دون الصحراء ولقوا مما يلي القبلة بني سعد من تجيب «12» . واختطت تجيب شرقي

الحصن وقبلي منزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح (ومضوا بخطتهم حتى لقوا مهرة والصدف من مهبّ الشمال. واختطت خولان قبلي الحصن من مهبّ الجنوب ومضوا بخطتهم حتى لقوا بني وائل) «1» والفارسيين في السهل حتى لقوا تجيب «2» ورعينا في الجبل ولقوا مرادا في الشرق ولقوا تجيبا من «3» مهب الشمال. واختطت مذحج بين خولان وتجيب. 1010 فأما الجيزة فإن معظم خططها للحمراء وهم قوم من العجم والفارسيين، وكانوا دخلوا مع عمرو بن العاص، منهم بنو ينّة «4» وبنو الأزرق وبنو روبيل، والى ابن ينّة تنسب السقيفة التي بفسطاط مصر، وانما أرادوا ان ينفردوا عن العرب ونزلها معهم قوم من همدان وذي أصبح ومنهم شمر بن أبرهة. 1011 قد تقدم ذكرنا لبناء عمرو المسجد بمدينة الفسطاط، ثم مسلمة بن مخلد الأنصاري (أخذ في زيادته) «5» ، وذلك سنة ثلاث وخمسين، وبنى المنار وكتب عليه اسمه، ثم هدم عبد العزيز بن مروان المسجد كله (في سنة سبع وسبعين) «6» وبناه. ثم كتب الوليد بن عبد الملك الى قرّة بن شريك العبسي وهو واليه على مصر سنة بضع وتسعين، (فهدمه كله) «7» وبناه بناءه هذا اليوم وزخرفه ونجره وذهّب رؤوس العمد التي في مجالس قيس خاصة وحوّل قرّة المنبر الي قيسارية العسل «8» . وكان الناس يصلون فيها الصلوات ويجمّعون

فيها الجمع حتى «1» فرغ من بناء المسجد والقبلة في القيسارية الى اليوم. وكان الوليد قد عزل عبد الله بن عبد الملك عن مصر وولّاها قرة (بن شريك) «2» . وقال الشاعر (في ذلك) «3» [خفيف] : عجبا ما عجبت حين أتانا ... أن قد أمّرت قرّة بن شريك وعزلت الفتى المبارك عنّا ... ثمّ خالفت «4» فيه رأي أبيك ثم زاد بعد ذلك موسى بن عيسى الهاشمي في مؤخره سنة خمس وسبعين ومائة، ثم زاد عبد الله بن طاهر بإذن المأمون له فيه سنة ثلاث عشرة ومائتين وأدخل في الزيادة «5» دار الرمل كلها إلا ما بقي منها من دار الضرب «6» ودار ابن رمّانة وغيرها. 1012 ثم أول مسجد بني بمصر بعد مسجد عمرو المسجد الذي في أصل حصن الروم عند باب الرّيحان بإزاء الموضع المعروف بالقالوس ويسمى مسجد القلعة «7» . ومن مساجدها المشهورة مسجد عبد الله، وهو عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان أبوه ولاه مصر سنة ستّ وثمانين، وكان أهل مصر يسمونه مكيّسا، قاله الليث بن سعد. (وهو أول من نقل الدواوين الى العربية، وانما كانت بالعجمية) «8» ، وهو أول من نهى الناس عن لبس البرانيس. ومسجد ملك «9» وهو مسجد ينسب الى ملك «10» بن شرحبيل الخولاني القاضي، وكان ولي القضاء بمصر سنة ثلاث وثمانين، وكان الحجاج يبعث اليه في كل عام بحلّة وثلاثة آلاف درهم، ولم يزل على القضاء حتى مات.

1013 وأما قيساريات مصر فقيسارية العسل (وقيسارية الحبال) «1» وقيسارية الكباش وقيسارية عبد العزيز، وهي التي يباع فيها البزّ، وقيسارية هشام يباع فيها البزّ أيضا وهو هشام بن عبد الملك «2» 1014 وأوّل ما بنى المسلمون بمصر من الحمامات حمام الفأر، وكانت حمامات الروم ديماسات كبارا، فلما رأوا هذا الحمام وصغره قالوا: من يدخل هذا؟ هذا حمام الفأر، فغلب عليه. 1015 وبين الفسطاط ومدينة القاهرة نحو ميلين في خراب كانت مساكن لكتامة وغيرها، وهناك اليوم ثلاثة مشاهد على الطريق من الفسطاط الى القاهرة بناها الحاكم ولها السّدنة والخدمة، وتوقد فيها السّرج الكثيرة الليل كلّه. وزعموا أنه كان أراد نقل جثة (رسول الله) «3» - صلى الله عليه وسلم - وجثّة أبي بكر وجثّة عمر رضي الله عنهما إليها، وقد كانت توجهت له الحيلة في ذلك حتى أظهر الله أهل المدينة على أمره وقاية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وردّا لكيد عدوّه «4» لعنه الله. وذلك أن الحاكم بذل الأموال لرجال من شيعته احتفروا في بعض الدور المجاورة لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سربا تلقاء القبر، وقد رفعوا ذرع ما بين الدار والقبر، فاذا وازوا «5» موضع القبر خرقوا في البيت غلوة «6» وتمكنوا من إرادتهم. فأطلع الله على ذلك أهل المدينة وقد أمعنوا في الحفر وأشرفوا على ما

ذكر كور مصر

يريدون، فقتلوا أولئك الفعلة الفسقة ومثّلوا بهم ورصفوا تلك الحفرة «1» بالحجارة وأفرغوا عليها الرصاص، فلا يطمع في الوصول اليها طامع أبدا. ذكر كور مصر 1016 الفيوم. الدير «2» ، السرداب، عين شمس، نوبة، شطا، الكوير «3» ، سجامك «4» ، هيت، سطيطس «5» ، كفرطس، السما «6» ، الفرما، سابور صير، المحلّة، دميرة، دمقلة «7» ، تنّيس، دمياط، منف، وسيم «8» . الاسكندرية، أنطابلس. دلاص، أهناس «9» ، العمر «10» ، طحا أسبوط، قهقى، البهنسا «11» . وقال: البهنسا «12» اثنان، هذه المذكورة وبهنسا الواحات. أنصنا، أبنود «13» ، قفط، أرمنت، أسوان، القلزم، الطور، أيلة، مسطل، البلندس، قرطسا «14» ، بوسى، الملقون، الأوضية، طرة، ميذق العليا، ميذق السفلى، قسيس «15» ، برلس «16» ، النجوم «17» ، صعيرة، البحيرة، سمنّود، الحوف الغربي، الحوف الشرقي، أسفل الأرض، بطن الريف، السرور «18» ، المغيرة، أطرابية «19» ، برسط «20» ، الجيزة «21» ، المدقوق، الشراك، ترنوط، أسمير، أسيوط، الأشمون بورة. وهذا الأشمون موضع وأشمون طناح موضع آخر والأشمونان ثالث، وقال: الأشمون وهما اثنان: أشمون بن كرسلة «22» وأشمون الفراص.

ذكر المسافات من هذه الكور والمشهور من مدنها وغرائبها

ذكر المسافات من هذه الكور والمشهور من مدنها وغرائبها «1» 1017 منف: بين منف ودلاص تسعة «2» فراسخ، ومدينة منف هي التي كان نزلها فرعون، اتخذ لها سبعين بابا وجعل حيطان المدينة بالحديد والصفر، وفيها كانت الأنهار تجري تحت سريره وكانت أربعة أنهار. وحدث شيخ من آل أبي طالب (من ولد علي) «3» قال: رأيت بمنف دار «4» فرعون (وكنت أمشي) «5» في مشاربه ومجالسه وغرفه وسقائفه، واذا ذلك كله حجر واحد منقور، فإن كانوا «6» أحكموا بناءه «7» حتى صار في الاستواء والاملاس (حجرا واحدا) «8» لا يستبان فيه مجمع حجرين ولا ملتقى صخرتين، فهذا عجب، وان كان جبلا واحدا فنقرت الرجال فيه بالمناقير حتى خرقت فيه «9» تلك المخاريق، فإن هذا لأعجب. وليس بمصر كلها جبل. وقال إبراهيم بن منذر الخولاني: خرجت الى منف فاذا بعثمان بن صالح جالس على باب كنيسة «10» ، فسلمنا عليه فقال لنا: أتدرون ما هذه الكتابة على باب هذه الكنيسة؟ قلنا: وما هي؟ قال: هي أنا فلان بن فلان يلومونني «11» على صغر هذه الكنيسة، واني اشتريت الذراع منها بمائة دينار «12» . قلنا: إن لهذا قصة. قال: هاهنا وكز موسى عليه السلام الرجل «13» فقتله.

1018 ودلاص مجمع سحرة «1» مصر «2» ، وبين دلاص والفيوم (ثمانية وعشرون فرسخا) «3» . وبين الفيوم وأهناس «4» خمسة فراسخ، (وبين أهناس والبهنسا ستة عشر «5» فرسخا، وبين البهنسا والعمر ثلاثة فراسخ، وبين العمر وطحا ثمانية فراسخ) «6» ، وبين طحا والأشمونين خمسة عشر فرسخا، وبين الأشمون والقهقى ثمانية فراسخ، وبين القهقي وأخميم ثمانية فراسخ، وبين أخميم وإنسانة ثمانية فراسخ، وبين إنسانة وبورة ثمانية فراسخ، (وبين بورة وبوصير) «7» أربعة فراسخ «8» . وقال: هما بوصيران، بوصير الصعيد وبوصير أسفل الأرض وهي بوصير سمنّود. (وبين بوصير وأرمنت ثمانية، وبين أرمنت وأسمير ثمانية فراسخ) «9» ، وبين أسمير وأسوان تسعة فراسخ، وبين بوصير وسمنود فرسخان، وبين سمنود وبوسى فرسخ، وبين بوسى ودميرة ثلاثة فراسخ، (وبين دميرة ودمقلة عشرة فراسخ، وبين دمقلة ودمياط ثمانية فراسخ) «10» ، وبينهما نوبة «11» ودبقوا جزيرتان يصنع فيهما الدبيقي، وبين دمياط وجزيرة تنيس اثنا عشر فرسخا. 1019 والمسافات التي ذكرناها من بوصير (الى تنّيس) «12» هو الطريق في عمل مصر مما يلي أسفل الأرض، وطريق آخر أيضا في أسفل الأرض من الفسطاط الى ميذق العلياء ستة عشر فرسخا، (ومن ميذق العلياء الى السفلى ستة

ذكر جبل المقطم وما ورد فيه

فراسخ) «1» ومنها الى فيد سبعة فراسخ، ومن فيد الى السرور ستة فراسخ ومن السرور الى المغيرة ثلاثة، ومن المغيرة الى البرلس ثلاثة. 1020 وعين شمس بناؤها كلّه «2» من الصخر وبيوتها كلها منقورة في «3» الصخر، كل بيت صخرة واحدة طولها عشرون ذراعا وأكثر، وقد سقف كلّ بيت بصخرة واحدة وحيطانها في الاملاس والاعتدال كالمراقي، فيها أساطين منحوتة من الصخر عليها تماثيل ونقوش، (وفي صخرة من تلك الصخور) «4» بحيرة منقورة كالنهر الصغير كان يصبّ فيها الشراب لفرعون اذا جلس هناك. وعلى أبواب تلك القصور تمثال «5» امرأة من صخرة يذكرون أنها كانت ماشطة بنت «6» فرعون فمسخت حجرا. وتلقى قبل أن تصل الى هذه القصور (أزيد من) «7» عشرين منارة فيها ما طوله مائة ذراع عليها كلها كتابة لا تفهم ولا تفكّ. وعين شمس هي كانت هيكل الشمس وفيها عجائبها وملاعبها، وفيها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما ولا من شأنهما. ليس لهما أسس وطولهما في السماء نحو خمسين ذراعا، وعلى رؤوسهما شبه طوقين من نحاس فوقهما صورة إنسان على دابة، فإذا كان آخر الليل جرى من آخر العمودين «8» من تحت الطوق ماء فيرى موضع جريانه من العمود أخضر. ذكر جبل المقطّم وما ورد فيه 1021 وهو متصل بجبل «9» الزمرد، والمقطّم ما بين القصير الى مقطع الحجارة وما بعد ذلك من التخوم. وذكر بعض أهل العلم «10» أن المقطّم من الطور وأنه

داخل فيما وقع عليه القدس، (وكذلك ذكره كعب الأحبار) «1» . وقال كعب: كلّم الله عزّ وجلّ موسى بالطور فالمقطّم من القدس، وروي في التوراة أن موسى عليه السلام كان يناجي ربّه بالوادي الذي فيه المقطّم عند مقطع «2» الحجارة. وكان في أعلى جبل «3» المقطّم بناء للأوّل ويذكر «4» أنه كان مطبخ فرعون فغيّر وبنيت فيه المساجد والناس يقصدونها «5» ليالي الجمع ويتهجّدون فيها، ويقال إن ذلك البنيان «6» على المقطّم كان موقدا يوقد فيه اذا ركب فرعون من منف الى عين شمس ومن عين شمس الى منف، وكان على القصير موقد آخر، فإذا رأوا النار علموا بركوبه فأعدوا له ما يريد. والله أعلم. 1022 وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع ابن لهيعة بالمقطّم فجلسنا حوله فقال: إن عيسى عليه السلام «7» تصفّح هذا الجبل وأمه الى جانبه، فالتفت اليها وقال: يا أماه هذه مقبرة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - «8» 1023 وبينا عمرو بن العاص يسير في صفح المقطّم «9» ومعه المقوقس اذ «10» قال له «11» : (ما بال جبلكم) «12» ؟ هذا أقرع (ليس عليه نبات) «13» ، ولو

شقّقنا «1» صفحه بنهر من النيل وغرسناه «2» . فقال له المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجارا ونبتا «3» وفاكهة، وكان المقطّم بن مصريم «4» بن بيصر «5» بن حام بن نوح «6» ينزله «7» ، فلما كانت الليلة التي كلم الله (عزّ وجلّ) «8» فيها موسى (عليه السلام) «9» أوحى الله «10» الى الجبال: إني مكلّم نبيّا من أنبيائي على جبل فسمحت الجبال كلّها وتشامخت الا جبل «11» بيت المقدس فإنه تضاءل وهبط، فأوحى الله تبارك وتعالى اليه «12» : لم فعلت هذا وهو أعلم؟ فقال: إعظاما لك وإجلالا يا ربّ. قال: فأمر الله الجبال أن يحبوه كل جبل بما «13» عليه (من النبت) «14» ، فجاد له «15» المقطّم بما عليه حتى بقي كما ترى. فأوحى الله (عزّ وجلّ) «16» إليه «17» : إنّي معوّضك «18» على فعلك بشجر الخلد «19» وغراس الجنّة. وكتب بذلك عمرو بن العاص «20» الى عمر بن الخطاب «21» ، فكتب اليه عمر: اني لا أعلم شجر الجنة غير «22» المسلمين، فاجعله لهم مقبرة. وروي أن عمرا سأل رهبانهم لم تركوا «23» جبل المقطّم من غير بنيان ولا غرس «24» ، فأخبروه «25» أنهم سمعوا مشايخهم عن أوائلهم يقولون ان هذا فحص سيغرس فيه غروس من أغراس الجنة، (فلذلك تركناه من غير عمارة) «26» ، فكتب بذلك عمرو الى عمر (بن الخطّاب رضه) «27» فكتب اليه عمر: إني لا أعلم شيئا) «28» في الدنيا من غراس «29» الجنّة الا أجساد المؤمنين «30» ، فاجعل ذلك الفحص لهم مقبرة. )

1024 وروى ابن لهيعة أن كعب الأحبار أرسل في جراب من تربة المقطّم «1» ، فلما حضرته الوفاة أمر أن يفرش في لحده تحت جنبه الأيمن «2» . وقيل إن أوّل من قبر فيها رجل من المعافر يقال له عامر، وقيل عمرت. وقد قيل إنّ أوّل من قبر فيها عمرو بن العاص، ولا يصح هذا لأن عمرا جعلها مقبرة وتوفي عمرو بعد ان ولي مصر لمعاوية ثلاث سنين، وتوفي يوم الفطر سنة ثلاث وأربعين. 1025 وليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أطيب منها تربة «3» ، تربتها مثل الكافور. وقبر فيها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعلومين عمرو بن العاص وعبد الله بن حذافة السهمي وعبد الله «4» بن الحارث «5» الزبيدي وأبو بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني ومسلمة بن مخلد «6» الأنصاري. 1026 والفيوم قد تقدم ذكرها «7» في مواضع «8» من هذا الكتاب. وسابور صير وخليج الفيوم يصل «9» إليها (من خليج سابور صير وهو الخليج الكبير، فاذا وصل الى نصف الطريق وجد حجرا مصنوعا وهو حجر اللهون. وفي) «10» أرض سابور صير نحو مائة «11» ضيعة في بساط واحد، فاذا زاد النيل أحدق بها الماء «12» وصارت كل ضيعة منها «13» كالجزيرة وصارت مواشيهم محصورة

معهم. وفي سابور صير القبور القديمة التي لا يدرى «1» من أي زمان هي، فيها أموات صحاح الأجسام عليهم أكفانهم لم يتغير منظرهم «2» ، وتجمع في هذه القبور الموميا القبورية التي لا تعدل ثمنا. 1027 ومدينة أخميم، وهي مدينة مسوّرة في الضفة الشرقية من النيل فيها أسواق وحمامات ومساجد، وهي كثيرة المساجد، وداخل سورها البربى المذكور لم يتغير منه شيء، وفيها مسجد جامع جليل. 1028 مدينة أسيوط «3» ، وهي على الشاطئ الغربي من النيل، وهي مدينة مسوّرة (جميلة النصبة) «4» كثيرة الخير والفوائد «5» ، وفيها أيضا بربى (في وسط سوقها) «6» قد تهدم بعضه. وأسيوط أكثر بلاد الصعيد قصب سكر وأطيبه. 1029 مدينة أنصنا «7» ، وأكثرها اليوم خراب، وهي كانت مدينة السحرة وكان (بها أيضا بربي لم يبق منه اليوم إلا بيت واحد كأنه من صخرة واحدة حيطانه وأعلاه «8» ، ومارية التي أهداها المقوقس الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كورة أنصنا من قرية يقال لها جفن «9» ، ومدينة أنصنا) «10» لا يقربها تمساح والناس منها «11» آمنون هناك، وأكثر ما يكون عدوانا من الشاطئ الغربي الذي يحاذي

أنصنا في قرية يقال لها الأشمون، لا يقدر «1» أحد أن يقرب من شاطئها «2» ، واذا كان التمساح في حدّ أنصنا تحول على ظهره مستلقيا حتى يخرج منها، وكذلك يصنع من فسطاط مصر على نحو عشرة أميال حتى يخرج عن حدها بمثل ذلك. 1030 ومدينة قوص «3» ، وهي على شرقي النيل بين أسوان وأخميم وبينها وبين أسوان مسيرة ثلاثة أيام، وهي مدينة كبيرة وفيها آثار عظيمة للأوائل «4» ، وفيها أسواق وحمامات ومعاصر للسكر يخدم الدار الواحدة منها «5» مائة رجل، ولها ضياع جليلة، وبينها وبين أسوان غيران منحوتة في جبال «6» هناك فيها قبور «7» أموات تستخرج منها الموميا الطيبة، وهم يجدونها في رممهم وبين أكفانهم. ويقال ان في تلك الصحراء التي بين قوص وأسوان الجبل الذي فيه معدن الزمرد الأخضر، إلّا أنّ الخوف من البجاة «8» والنوبة وقبائل عرب تلك الصحارى تمنع منه، مع أنّ غيرانه بعدت وانهارت «9» وتهدمت لبعد العمارة وانقطاع الناس. 1031 ومدينة قفط «10» ، وهي متوسطة المقدار بينها وبين النيل ثلاثة أميال، عليها سور ولها جامع وسوق «11» ، وبينها وبين مدينة قوص أربعة أميال، وفيها بربى وبغربيها شعرى كثيفة، (ليس بينها وبين مدينة قوص) «12» شيء إلا شجر

الطريق من أسوان إلى عيذاب

السنط «1» الذي هو حطب مصر. ومن مدينة قفط الى مدينة أخميم ثلاثة أيام. 1032 ومدينة أسوان، وهي (آخر مدن الإسلام وثغرهم «2» من بلاد «3» مصر، وهي متصلة ببلاد النوبة. وبين أسوان- وهي آخر بلاد الإسلام- والعريش، وهو آخر حدّ مصر، حائط العجوز قد حوّط «4» أرض مصر كلها) «5» . وبين مدينة أسوان ومدينة صور التي هي أول بلاد النوبة صحراء فيها أعراب يعرفون ببني حمار «6» وبني هلال وبني كنانة وبني جهينة يؤدون أعشارهم الى صاحب مصر. وأسوان في أول الصحراء الى ساحل بحر النعم الى مدينة على ساحل البحر تسمّى عيذاب، وهي في «7» صحراء تتجوّل فيها قبائل السودان من البجاة. ومسجد الردّ بني آخر عمل أسوان وهو رباط أسوان. الطريق من أسوان إلى عيذاب 1033 وعيذاب مدينة على (ضفة البحر الغربي) «8» ، وهي مرفأ الحجاج ومن سلك الى اليمن وغيرها. ويسكنها قوم يعرفون ببني يولس «9» ، ويقال إنهم من البجاة، ويقول آخرون إنهم من العرب وإنهم فزارة «10» ، قوم نفاهم «11» أبو

بكر الصديق رضه. والى أسوان من عيذاب طريقان، طريق يعرف بالوضح «1» ، وهو ثماني عشرة مرحلة في قفر ورمال ليس فيها عمران، وهي رمال (قليلة الماء) «2» متهيلة «3» تمور مع «4» الرياح فتعفي الآثار ولا يهتدى فيها لمسلك ولا سبيل، وإنما يقتدي «5» فيها الجمّالون (بإبل معروفة يقدمونها) «6» فيهتدون بها. 1034 والطريق الآخر يعرف بطريق العلاقين، وهي ثماني عشرة مرحلة أيضا وليس فيها عمران إلا مدينة في وسط الطريق تنسب الى نهر «7» هناك يعرف بالعلّاقين، وهي كثيرة الثمار والخير ويسكنها (أناس كثيرة) «8» يزعمون «9» أنهم من العرب من كلب بن وبرة، وهم على استقامة وحفظ لمن مرّ بهم. وأكثر جبال هذه الطريق فيها معادن الذهب والفضة، ويسكن في الجبال الممتنعة منها البجاة، منهم مسلمون «10» يتاجرون المارة بهم ويبايعونهم. وفي هذه الصحراء من أسوان الى عيذاب الى رأس القلزم الفيلة والزرافات. 1035 وعلى القرب من أسوان جزيرة بلاق، وهي جزيرة يحيط بها النيل وبها مدينة ومنبر وخلق من المسلمين من بلاد مصر وأسوان، وهذه الجزيرة بالموضع المعروف بالجنادل.

الطريق من الفسطاط إلى دمياط إلى جزيرة تنيس

الطريق من الفسطاط الى دمياط الى جزيرة تنّيس 1036 تسير في النيل منحدرا حتى تأتي محلّة المحروم، وهي على ساحل طنرثى، وطنرثى مدينة كبيرة فيها الحمامات والفنادق الكثيرة «1» والأسواق، وهي غير مسورة، وبينها وبين ساحل محلّة المحروم ثلاثة أميال، وهي بين خليجين من النيل وبينها وبين النيل من ناحية الشرق ميلان «2» . وهو الخليج الذي ينزل الى دمياط (ومن عبره يأتي) «3» مدينة مليج «4» ، وهي مدينة كبيرة في أول منبعث هذا الخليج، ووراء مدينة مليج «5» خليج آخر يذهب أيضا الى دمياط، وهناك مدينة تسمّى نيطائي «6» وهي مدينة جليلة فيها أسواق كثيرة «7» ومسجد جامع. وتسير من مدينة نطائي «8» مع النيل الى مدينة دمسيس «9» ، (وهي كبيرة كثيرة الخير والبساتين) «10» ، وهي على شاطىء النيل، وبإزائها من العدوة الثانية مدينة تسمّى شبرى دمسيس، (وهي مدينة كبيرة «11» كثيرة الخير والبساتين. وعلى مقربة منها مدينة فجنجين واسعة ذات أسواق، ويخرج عندها خليج من النيل يجري الى بحيرة تنيس) «12» ، ويسمّى أول مدخل الى هذه البحيرة الديجور، وهي كالبحر عظما. ومن مليج المذكورة الى مدينة صهرجت نصف يوم. وعلى مقربة من صهرجت مدينة بلبيس، مدينة جليلة بين الشرق والشمال من مصر وبينها وبين مصر بحيرة الأسرا «13» ، ويخرج اليها الماء من خليج يقرب مدينة رشيد من الضفة الشرقية، وهي بحيرة ملحة، وفيها مدينة سنجار، وبهذه المدينة أكثر السفن التي تجري الى مصر في النيل بالأطعمة كل عام.

1037 (وبين هذه البحيرة وبحيرة أخرى) «1» جسر يتصل «2» بالبحر الكبير، وهو جسر من بنيان الأول متقن الصناعة محكم التدبير، وفي هذا الجسر حفائر وكوى مصنوعة يأوي اليها الحوت، واذا أرادوا صيده فتحوا أسدادا «3» هناك بين البحرين فيدخل الماء من البحيرة التي تلي البحر الكبير الى هذه البحيرة الثانية، فإذا أحسّ الحوت بدخول الماء تواثب من تلك الكوى فتساقط «4» على الجسر، فيأخذون منه ما شاؤوا بلا كلفة ويبيعونه بالأمول الكثيرة من أصحاب الدواب بعد إخراجه الى البر الكبير، فيحمل الى مصر على رتب. 1038 وينحدر الخليج الذي يدخل «5» من طنرثى الى مدينة تسمّى الملحة، وهي مدينة جليلة لها مسجد جامع وأسواق وحمامات، وهي قاعدة العمال من مصر. ويسير منها الى مدينة تسمى دميرة، وهي قاعدة كبيرة ومجمع للناس ولها أسواق عظيمة ومنها يسير الى دمياط. وخليجها على القرب منها (يفترق فرقتين) «6» ، فتأخذ شعبة منه على شرقيها وشعبة على غربيها، ثم تلتقيان في البحيرة، فتصير الى المدينة في جزيرة، وهي مدينة مسورة لها خمسة أبواب وفيها مساجد كبار ولها حصون تسمى بالمحاريس يسكنها الفقراء «7» والصالحون. وبقربها «8» موضع يعرف بالصحراء فيه يقصر القصارون «9» تلك الثياب الشروب، وهي تكتفي عند اعتدال هوائهم وموافقته لهم بقصارة اليوم الواحد فتبيض.

1039 وهذه البحيرة يسلكها الملّاحون ذاهبين الى تنّيس من دمياط وراجعين من تنّيس اليها بريح واحدة بحكمة في سفنهم وشراعها «1» تزاحم به الريح. وجزيرة تنّيس في وسط هذه البحيرة، وهي بحيرة تعذب عند زيادة النيل فتبقى ستة أشهر حلوة ثم تملح ستة أشهر أخرى. وقال قوم إنها تعذب (إذا هبّت) «2» الجنوب فيطرقون لها عند ذلك الى مصانع قد اتخذوها، فاذا هبّت الشمال ملحت. 1040 ومدينة تنّيس كبيرة لها مسجد جامع وأسواق، وأهلها ذوو يسار وثروة وأكثرهم حاكة وثيابها الشروب لا يصنع مثلها في الدنيا، فصنع بها لصاحب مصر قميص لم يدخل فيه من الغزل لحما «3» سوى أوقيتان ونسج فيه من الذهب أربعمائة دينار، وقد أحكمه الصانع حتى لم يخرج فيه «4» الى تفصيل ولا خياطة غير الجيب «5» ، فبلغت القيمة فيه ألف دينار. وليس في الدنيا طراز كتّان «6» يبلغ الثوب منه، وهو ساذج دون ذهب مائة دينار عينا غير طراز تنّيس ودمياط. 1041 وبجزيرة تنّيس أزيد من عشرة آلاف من النصارى ولهم على شاطىء البحر كنائس كثيرة. وقبور المسلمين في جزيرة تنّيس بأفنية دورهم لضيق

مساكنهم، وهم يصيدون (الطير من) «1» السّمانى وغيرها على أبواب دورهم بشباك يمدونها على سككهم. وقد ذكرنا في أخبار مصر خبر الأكوام التي بتنّيس وأن تنّيس كانت جزيرة عظيمة وكانت كثيرة الجنّات «2» والمتنزهات والقصور فغلب الماء على أكثرها. وقد (زعم قوم) «3» أنها كانت مقسومة بين ملكين من ولد ابرويت «4» بن مصريم «5» وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا.، فأنفق المؤمن ماله في وجوه البر حتى باع من أخيه الكافر حصّته من تنّيس، فزاد فيها غروسا «6» فجرّ فيها أنهارا وبنى مصانع، واحتاج أخوه الى ما في يده، فمنعه وسطا «7» بماله وحشمه عليه وحقره لفقره. فقال له أخوه: فما أراك شاكرا لله تعالى «8» على ما رزقك ويوشك أن ينتزع ذلك منك ويغير نعمته عندك «9» . فأرسل الله على جناته ومصانعه الماء فأصبحت خاوية على عروشها. فهما اللذان عنى الله تعالى بقوله في سورة الكهف «10» . فتركب السفن من جزيرة تنّيس الى الفرما، وهي مدينة جليلة كثيرة الخير وهي في الساحل. ويذكر أن هاجر أمّ إسماعيل من قرية من قراها تسمّى أمّ العرب وهي على مقربة منها. 1042 والفرما قديمة البناء، ويذكر أهل مصر أنّه كان منها طريق الى جزيرة قبرس في البرّ فغلب عليه البحر، وكان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام المجزّع الأبيض. وقال يحيى بن عثمان: أرابط «11» بالفرما وبينها وبين البحر قريب من يوم يخرج المرابطون الى ساحله فيقيمون «12» عليه، ثم غلب البحر على ذلك كله. فالفرما اليوم على البحر، فصار ما بين الفرما والقلزم هو الحاجز الذي ذكره الله تعالى (في كتابه فقال) «13» : وجعل بين البحرين حاجزا «14» ، وهما

بحر الروم وبحر «1» الصين، ولا يتقاربان في بقعة من الأرض تقاربهما في هذا الموضع، فإن الذي ما بين الفرما والقلزم مسيرة ليلة واحدة وبينهما في غير هذا الموضع مسيرة شهور «2» . 1043 ووجّه ابن المدبر الى الفرما، وكان بتنّيس في هدم أبواب لها من حجارة في شرقي الحصن، فاحتاج أن «3» يعمل منها كلسا، فمنع «4» من ذلك أهل الفرما فخرجوا «5» الى رسله في السلاح وقالوا: هذه من الابواب التي قال الله عزّ وجلّ فيها على لسان يعقوب (عليه السلام) «6» : لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة «7» . 1044 ومن عجائب الدنيا نخل الفرما، فإنه يثمر حين ينقطع البسر والرطب من تلك البلاد «8» ، ويبتدئ هذا بالأرطاب حين «9» تلد النخل في الكوانين فلا ينقطع أربعة أشهر، ولا يوجد هذا في بلد من البلاد سوى الفرما، ويكون منه ما وزن البسرة عشرون درهما وطولها فتر.

الطريق من الفسطاط إلى الإسكندرية

الطريق من الفسطاط الى الإسكندرية 1045 تخرج من الفسطاط فتعبر النيل (الى الجزيرة) «1» الى الجيزة، وهي الضفة الغربية من النيل، وبقرب الفسطاط على رأس ميل منها قرية (يقال لها) «2» وسيم. وعن بكر بن سوادة «3» عن أبي عطية «4» عن عبيد بن رفيع «5» قال: قال لي عمر بن الخطاب رضه: يا مصري أين وسيم (من قراكم؟) «6» قال: فقلت: على رأس ميل يا أمير المؤمنين، قال: ليأتينكم أهل الأندلس حتى يقاتلوكم بها. فلما قام الوليد بن عابرة الأندلسي ببرقة وحشد الناس وغزا مصر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة نزل يحاصر مصر من قرية «7» وسيم، وهي على ثلاثة فراسخ من مصر. ثم تسير من الجيزة الى ذات الكرم الى ترنوط ويحدو الجمالون، فيقولون: من ترنوط الى ذات الساحل مرحلة أعيت على المراحل. وتسير من ترنوط الى تروجى «8» - قال الحكيم تورح- ثم الى مدينة الاسكندرية. 1046 وطريق أخرى تركب السفن من الفسطاط الى محلّة المحروم ثم الى مدينة رشيد، وهي مدينة على كثيب رمل «9» عظيم «10» متهيل، اذا هبت الريح الغربية وهي تشتد عندهم ملأت عليهم منه «11» بيوتهم ولا يقدرون على التصرف في أسواقهم. ومن أعجب متنزهات الدنيا ضفتا النيل من مصر الى مدينة رشيد ولا غلة لثمار الأرض كغلات هذه الناحية. أخبرني غير واحد أن ضيعة كانت لرجل بقرية «12» منها (تعرف بذيبة) «13» ، وهو رجل من أهل

مصر يعرف بابن داود، يغلّ رمانها وموزها في العام خمسة عشر الف مثقال، وأشجار رمانهم تطعم من سنتها وتزداد نماء وفائدة الى العام الرابع، ثم تذوي وتيبس، وهناك كانت ضيعة الليث بن سعد رحمه الله. 1047 قال قتيبة بن سعيد: سمعت «1» الليث بن سعد يقول: يدخل علّي (في كلّ سنة) «2» خمسون ألف دينار «3» (ما وجبت عليّ زكاة قطّ) «4» . وكان أجود الناس لا يبقي شيئا يزكّيه. وتسير من مدينة رشيد إلى مصبّ النيل في البحر، وهو موضع مخوف على السفن لأنّ أمواج البحر تعظم «5» هناك مع قوّة جريان النيل، فيثير ذلك أكوام رمال تحت الماء، فربّما حمل شدّة «6» جريان الماء «7» السفن إلى تلك الرمال فهلكت، ثمّ تسير السفن من هذا الموضع في البحر مسيرة يوم أو أقلّ إلى الإسكندرية. 1048 (فأمّا الطريق من مدينة رشيد إلى الإسكندرية) «8» على البرّ «9» تسير منها نحو ثلاثة أميال إلى الغرب في رمال، ثمّ تفضي إلى فوهة بحيرة قد دخلت في البرّ أميالا كثيرة فتخوض الدوابّ الماء حتّى تقطع «10» تلك البحيرة نحو نصف ميل بعلامات «11» قد وضعت في البحيرة، فإذا حادت دابّة «12» عن تلك العلامات سقطت في بحر بعيد القعر فهلكت وهلك ما عليها من المتاع أو فسد إلّا إن تدورك وخلص. ويسمّى ذلك الموضع الأشتوم. فإذا عبروا تلك

ذكر مدينة الإسكندرية

البحيرة صاروا إلى «1» أجم وغياض وهضاب رمال فساروا فيها نحو عشرة أميال. ويستعمل «2» الصيّادون في هذا الموضع من الطير غلات جزلة من لحمها وريشها «3» ، والطير تخرج من البحر إلى مصايدهم. ثمّ تسير بعد ذلك نحو خمسة أميال إلى باب مدينة الإسكندرية، وبقرب هذا الباب من خارج سورها صور أصنام. فإذا دخلت الباب فهناك قبّة خضراء على ستّة عشر عمودا من الرخام، ويسرة هذه القبّة بساتين كثيرة فيها جميع الفواكه وأكثرها الجمّيز «4» ، ويمنة من هذه القبّة المدينة والبحر. ومن تروجى إلى مدينة الإسكندرية خمسة وعشرون ميلا. ذكر مدينة الإسكندرية 1049 وذكر أنّ اسمها رقودة ولها خمس عشرة كورة. قال عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الحكم: كانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض: منّة وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية وهي «5» موضع قصبة السلطان اليوم، ونقيطة «6» . وكان «7» على كلّ واحدة منها سور. وقال عبد الله بن طريف الهمداني: كان على الإسكندرية سبعة حصون وسبعة خنادق. وقال إنّ الإسكندر لمّا استقام ملكه في بلاده «8» سار يختار أرضا صحيحة الهواء والتربة والماء، فأتى موضع الإسكندرية فأصاب أثر بنيان «9» وعمد رخام منها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند- وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد- أنا شدّاد بن عاد شددت «10» بساعدي الواد وقطعت عظيم العماد من الجبال الأطواد وبنيت إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في

البلاد، أردت أن أبني هاهنا كإرم وأنقل إليها كلّ ذي قدم من جميع العشائر والأمم، وذلك أن لا خوف ولا هرم ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما «1» أعجلني وعمّا ذهبت إليه قطعني، حال طال مع وقوعها همّي وشجني، وقلّ أعجلني وعمّا ذهبت إليه قطعني، حال طال مع وقوعها همّي وشجني، وقلّ نومي ووسني، فارتحلت عن هذه الدار لا لقهر جبّار ولا خوف جيش جرّار، ولكن لتمام المقدار وانقطاع الآثار وسلطان العزيز الجبّار. فمن رأى أثري وعرف خبري وطول عمري ونفاذ «2» بصري (وشدّة حذري) «3» فلا يغترّ بالدنيا بعدي. وقال ابن لهيعة: بلغني أنّه وجد حجر «4» بالإسكندرية مكتوب فيه «5» : أنا شدّاد بن عاد وأنا الّذي نصب العماد (وجيّد الأجياد) «6» وسدّ بذراعه الواد، بنيتهنّ «7» إذ لا موت ولا ميت، وإذا الحجارة في اللّين مثل «8» الطين. ثمّ قال ابن لهيعة: الأجياد المعادن «9» . 1050 فبعث الإسكندر إلى البلاد فحشر «10» الصّنّاع واختطّ الأساس وجعل طولها وعرضها أميالا واستجلب العمد والرخام وأنواع المرمر والأحجار في البحر من جزيرة صقلّية وبلاد إفريقية وإقريطش، ووضع على كلّ قطعة من الأرض خشبة قائمة ووصل بها حبالا منوطة بعضها ببعض يرجع جميعها إلى عمود رخام كان أمام مضربه، وعلّق «11» على العمود جرسا عظيما مصوتا وعلّق على كلّ قطعة من الحبال جرسا «12» صغيرا، فإذا حرّك حبل الجرس الكبير الّذي عند العمود خفق الجرس وتحرّكت سائر الحبال وخفقت الأجراس «13» بحركات فلسفية وحيل حكمية. وأمر الصّنّاع أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة إذا أذنتهم تلك الأجراس.

1051 فأخذت الإسكندر نعسة في حال ارتقابه للوقت «1» المحمود الطالع «2» ، فوقع غراب على حبل الجرس الكبير فحرّكه فتحرّكت الأجراس، فوضع الأساس (وارتفع الضجيج) «3» بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته وسأل عن الخبر، فأعلم (بصحّة ذلك) «4» ، فعجب (من ذلك) «5» وقال: أردت أمرا وأراد الله غيره «6» ويأبى الله إلّا ما يريد، أردت طول بقائها وأراد الله سرعة فنائها. فلمّا شيّدت أمر أن يكتب على بابها: هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنّجاح واليمن والسّرور والثبات على الدهور، فلم يرد الله تعالى ذلك «7» ، فبنيتها على ما أراد وأحكمت بنيانها «8» وشيّدت سورها، وآتاني الله من كلّ شيء علما وحكما «9» وسهّل عليّ وجوه الأسباب فلم يتعذّر «10» عليّ في العالم شيء ممّا أردتّه صنعا من الله تعالى لي وصلاحا لعباده من أهل عصري «11» ، والحمد لله ربّ العالمين. ورسم (بعد هذا) «12» كلّ ما يحدث فيها بعده «13» في مستقبل الأزمان من الخراب والعمران. 1052 وبنى سورها آزاجا وطبقات قد عمل لها «14» مخاريق ومتنفّسات للضياء يسير فيه «15» الفارس بفرسه «16» وبيده رمح لا يضيق به حتّى يدور جميع تلك الآزاج. وكذلك أسواقها وشوارعها وسككها مقنطرة كلّها لا يصيب أهلها شيء من المطر. وكانت الإسكندرية تضيء في الليل بغير مصباح لشدّة بياض

الرخام «1» ، (وربّما علّق فيها شقاق الحرير الأخضر) «2» لاختطاف بياض الرخام أبصار الناس. وقد كان لها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة ألوانها بينها خنادق بين كلّ خندق وسور فصيل. 1053 وكان سكّان البحر (على ما زعموا) «3» يؤذون بالليل ويختطفون، فاتّخذ الإسكندر على أعمدة «4» هناك تدعى المسالّ الطلسمات وهي باقية إلى هذه الغاية، كلّ عمود منها على هيئة السروة «5» طولها ثمانون ذراعا على عمد من نحاس، وجعل تحتها صورا وأشكالا (وكتابة تدفع) «6» وتمنع. وقد ذكر أيضا في غير هذه القصّة وفي غير هذا الكتاب ما كان من دخوله البحر في التابوت ورؤيته أشخاص تلك الدوابّ المضرّة للبناء وغير ذلك. فلمّا صنع أمثالها وجعلها على الأسوار خرجت من النيل تلك الصور على حالها وظنّت أنّ ذلك يصنع بها إذا خرجت وامتنعت عن الخروج. والله أعلم (بكيفية ذلك كلّه) «7» .

[ذكر منارة الإسكندرية]

[ذكر منارة الإسكندرية] 1054 فأمّا المنارة فذهب كثير (من الناس) «1» أنّ الإسكندر بناها على حسب ما ذكرنا «2» في المدينة، ومنهم من رأى أنّ دلوكة الملكة بنتها، وقال بعضهم إنّ العاشر من فراعنة مصر بناها، وقيل إنّ الّذي (بناها هو الّذي بنى مدينة رومة) «3» . وبنى الإسكندرية والأهرام بمصر، وإنّما أضيفت الإسكندرية إلى الإسكندر «4» (لشدّة استيلائه) «5» على ممالك العالم «6» . وإنّ الإسكندر لم يطرقه (في البحر عدوّ ولا هاب) «7» ملكا يرد «8» إليه فيكون يجعل «9» مرقبا. 1055 وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: كان أوّل من «10» ملك الإسكندرية فرعون اتّخذها مصانع ومجالس، وهو أوّل من عمّرها، ثمّ تداولها «11» الملوك (بعد فرعون) «12» (فبنت دلوكة بنت زبّان «13» منارها، ثمّ تداولها «14» الملوك) «15» . فلمّا كان سليمان - صلى الله عليه وسلم - «16» اتّخذها مجلسا وبنى فيها مسجدا. ثمّ إنّ ذا القرنين هدم ما كان (فيها من بناء الملوك) «17» إلّا بناء سليمان، فإنّه أصلح ما كان رثّ فيه وأقرّ المنارة على حالها وبنى الإسكندرية من أوّلها (هذا البناء) «18» . ثمّ تداولها ملوك الروم وغيرهم، فكلّ ملك أبقى فيها أثرا.

فيقال إنّ فيلبس «1» «3» بن الإسكندر المقدوني المعروف بالبنّاء هو الّذي بنى الإسكندرية، (وهو الّذي كان معلّمه أرسطاطاليس) «2» «4» ، وبين بناء الإسكندرية وبين الهجرة (تسعمائة سنة وخمس وأربعون سنة واحد وأربعون يوما) «5» . 1056 وقد ذكرنا في أخبار ملوك مصر أنّ أوّل من بناها (جيرون بأمر حوريا على ما سقناه من أمرها، ومنهم من رأى أنّ أوّل من بناها) «6» قلوبطرة «7» ، وهي الّتي ساقت خليجها حتّى أدخلته الإسكندرية «8» وهي الّتي بلطت قاعته. وإنّ الّذي بنى المنارة جعلها على كرسي من زجاج (على هيئة) «9» السّرطان في جوف البحر على طرف اللسان «10» الّذي هو داخل في البحر من البرّ، وجعل طولها في الهواء ألف ذراع، وجعل فيها المرآة وتماثيل النحاس «11» ، (فمنها تمثال) «12» قد أشار بسبّابة يده «13» اليمنى نحو الشمس حيثما كانت من مغرب أو مشرق أو أفق، وتمثال يشير بيده (إلى البحر) «14» إذا صار (العدوّ فيه) «15» على نحو ليلة، فإذا دنا وأمكن أن يرى بالبصر سمع له صوت هائل على ميلين أو ثلاثة، وتمثال كلّما مضى من الليل «16» والنهار ساعة سمع له صوت مطرب «17» بخلاف الصوت الّذي كان منه في الساعة قبل.

1057 وهذه المنارة من دخلها تلف «1» فيها إلّا أن يكون عالما بها لكثرة بيوتها وحجراتها وطبقاتها «2» . وذكر أنّ المغاربة حين وافوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولم المنارة فتلفوا «3» فيها، وفيها طرق تؤول إلى مهاو إلى سرطان الزجاج «4» ومخاريق إلى البحر، فتهوّروا «5» بدوابّهم وفقد منهم عدد كبير. 1058 وفيها مسجد في هذا الوقت يرابط فيه المطوّعة. وكان حول المنارة مغاوص «6» تستخرج منها أنواع جوهر يتّخذ منه فصوص الخواتم منها الاسباذجشم والكركهن والباقلمون «7» ، وهذا الباقلمون «8» ، حجر يتلوّن في المنظر ألوانا مختلفة كتلّون ريش الطاووس «9» الهندية، فإنّها تتلوّن ألوانا لا تحصى ولا تشبه بلون «10» من الألوان لما يترادف من تموّج الألوان في ريشها. ولتلك الطواويس شأن عجيب وخلق عظيم، وما خرج منها من أرض الهند صغر جسمه وكدر لونه كما يفعل ما نقل منها «11» من النارنج والأترجّ «12» ، فإنّها تصغر وتعدم تلك الأرواح «13» العطرية لعدم ذلك الهواء والتربة. فمن الناس من رأى أنّ الإسكندر غرق هذه الأنواع من الجواهر حول المنارة لكي لا تخلو من الناس لأنّ من شأن الجواهر أن تكون مطلوبة على الأعصار «14» . وقيل إنّها كانت آلات شراب الإسكندر، فلمّا مات كسرتها أمّة ورمت بها في تلك المواضع.

صفة المنار اليوم وارتفاعه

1059 وقد كان ملك الروم في خلافة الوليد (بن عبد الملك) «1» أنفذ خادما من خواصّ خدمه ذا دهاء ورأي ووطأة على ما يذكره. فجاء مستأمنا إلى بعض الثغور فحمل إلى الوليد «2» ، فأعلمه أنّه كان من خواصّ الملك وأنّه أراد قتله لموجدة لم يكن لها أصل، وأنّه رغب في الإسلام فأسلم. وأظهر له النصح للوليد في دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من الشام (بكتب كانت له) «3» . فلمّا صارت إلى الوليد «4» تلك الأموال والجواهر شرهت نفسه واستمكن طمعه وباحث عمّا عنده من علم هذا، فقال «5» : إنّ الإسكندر لمّا استولى على الأموال والجواهر التي كانت لشدّاد بن عاد وملوك العرب وغيرهم بنى لها الآزاج والسّراديب والأقباء وأودعها تلك الذخائر من الأموال والجواهر، ثمّ بنى «6» فوق تلك المنارة. فبعث معه الوليد بأناس «7» من خواصّه وثقاته، فهدم نصف المنارة وأزيلت المرآة. فضجّ الناس من أهل الإسكندرية وغيرها وعلموا أنّها مكيدة وحيلة. فلمّا استفاض ذلك هرب «8» في الليل في مركب قد كان أعدّ له، فبقيت المنارة على ما ذكرنا «9» إلى هذا الوقت «10» . صفة المنار اليوم وارتفاعه 1060 [وأمّا المنار اليوم فهو ثلاثة أحزم، الأوّل مربّع البناء قد عمل أحسن عمل] «11» من الحجارة المربّعة التي قد أخفي إلصاقها حتّى صارت كالحجر

الواحد لم يغيّر الزمان من ذلك شيئا، وارتفاع هذا المربّع ثلاثمائة ذراع وعشرون ذراعا بالذراع المعروفة. ثمّ ترك في أعلاه غلظ حائط «1» البناء وهو ثمانية أشبار ونحو عشر أذرع سوى ذلك الغلظ، ورفع على ما بقي من البناء «2» بناء مثمّن الشكل «3» طوله ثمانون ذراعا، ثمّ بني على هذا البناء المثمّن بعد أن ترك (غلظ حائطه) «4» وهو أقلّ من غلظ الأسفل وثماني أذرع سوى ذلك الغلظ عليه بناء مربّع ارتفاعه خمسون ذراعا أو نحو هذا. 1061 وفي أعلى ذلك مسجد محكم البناء [ينسب لسليمان] «5» ، وفي الناحية الشمالية من البناء المثمّن كتابة بالنحاس لم يفكّها أحد. وباب المنار من حديد [لا يعلم له عهد] يرقى إليه [من أسفل المنار] في علو ويصعد من أسفلها إلى (أعل بنائها الأوّل) «6» [في طريق يمشي فيه] فارسان متواكبان في أرض سهلة، لا يكاد يعلم الراقي فيه هل (هو راق أو ماش) «7» (في سواء من الأرض) «8» . وفي كلّ عطف من هذا المصعد باب دار داخلها بيوت مربّعة سعة كلّ بيت من عشرين ذراعا إلى عشر أذرع، قد فتح لها مضاو «9» متنفّسات للهواء [ولئلّا تهدّمها الرياح] . وعدد ما فيها من البيوت (ثلاثمائة وستّة وستّون بيتا) «10» ، وعطف مطالعها من أسفلها إلى أعلاها اثنان وسبعون عطفا، في كلّ عطف اثنتا عشرة درجة، وبيوتها كلّها آزاج معقودة، (وبناء المنار كلّه معقود) «11» بخشب الساج، وعدد أبوابها الظاهرة من خارجها اثنان وعشرون بابا فتحت فيها لئلّا تهدمها الرياح.

1062 والبحر قد أثر في «1» أسفل المنارة من غربيّها حتّى صار تحتها كالكهف العظيم، فسدّ بعض أمراء مصر ذلك الثلم بأساطين الرخام بعضها فوق بعض، فالبحر يضرب اليوم في تلك الأساطين [ولا يؤثّر فيها شيئا] . 1063 وفي الشمال من المنارة بناء عريض واسع قد رفع من قعر البحر حتّى ظهر على الماء، يدلّ على أنّه كانت عليه مصانع قد ذهبت، ويسمّى ذلك البنيان الفاروس «2» ، وفي أسفله ترفأ «3» السفن لأنّ ذلك البناء يكفّ عنها الموج. وقد زعم قوم أنّ ذلك الظاهر ليس ببناء، إنّما هو ممّا هدم «4» من حجارة المنارة، والله أعلم. 1064 وتسير من الإسكندرية إلى المنارة فتخرج على باب الأشتوم وتسير على ضفّة البحر نحو نصف ميل، ثمّ تميل نحو الشمال فتسير نحو ذلك «5» ، ثمّ تسير على بناء في البحر كالقناطر، ولها منافس والبحر يضرب من جانبيه، نحو أربعمائة خطوة، فإذا خرجت من ذلك «6» البناء صرت «7» في فضاة داخلة في البحر كأنّها جزيرة، والمنار في أعلى هضبة منها، وقد أحاط البحر بالمنارة من «8» ناحية الجنوب والشمال والغرب.

1065 ولهذه المنارة مجمع «1» في العام في يوم يسمّونه بخميس العدس، وهو أوّل خميس من شهر بابه «2» لا يتخلّف في مدينة الإسكندرية أحد «3» إلّا خرج إلى المنارة وقد تقدّموا في إعداد الأطعمة ولا بدّ في ذلك الطعام من عدس، (فيفتح بابها) «4» للناس فيصيرون فيها. (فمن ذاكر الله) «5» عزّ وجلّ ومصلّ «6» ومن لاه متفرّج، فيقيمون إلى نصف النهار ثمّ ينصرفون «7» . وسمع الليث بن سعد مسلمة بن علي يقول: بارك في العدس سبعون نبيّا «8» . قال الليث: إلّا نبي واحد وإنّه لردي مؤذ. ومن ذلك اليوم يبتدأ بإحراس البحر، ولهم [في المنارة] قوم مرتّبون لذلك من النصارى، فهم يوقدون النار الليل كلّه في أعلى الحزام الأوّل من ناحية البحر، فيؤمّ «9» أهل السفن من جميع البلاد سمت تلك النار (ويوقد صاحب السفينة) «10» النار، فإذا رأى المحترس نارا في البحر زاد «11» في وقوده وأوقد نارا أخرى إلى ناحية المدينة،/ فإذا رأى ذلك الّذين بالمدينة زادوا في ضرب البوقات والأجراس حذرا من العدوّ، فاستعدّ أهل المدينة لذلك. 1066 قال: والقصر الأعظم بالإسكندرية اليوم «12» خراب، وهو على ربوة «13» عظيمة بإزاء باب «14» المدينة، طوله خمسمائة ذراع وعرضه على النصف من ذلك أو نحوه «15» ، ولم يبق منه إلّا سواريه، فإنّها قائمة لم يسقط منها شيء،

وبابه أحكم البناء وأتقنه، كلّ عضادة منه «1» حجر واحد «2» . وعدد أساطين القصر أزيد من مائة أسطوانة غلظ كلّ أسطوانة نحو عشرة أشبار. وفي ناحية الشمال منه أسطوانة عظيمة غلظها ستّة وثلاثون شبرا، وهي من الارتفاع بحيث «3» لا يدرك أعلاها قاذف بحجر، وعليها رأس محكم الصناعة يدلّ أنّ بناء كان عليها، وقاعدتها حجر أحمر مربّع محكم «4» عرض كلّ ضلع من أضلاعه اثنان وعشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار. والأسطوانة منزّلة «5» في عمود قد خرقت به الأرض، فإذا اشتدّت الرياح جعلت تحت الأسطوانة الحجارة فتطحنها «6» لشدّة حركتها. 1067 وبمدينة الإسكندرية كان الهيكل الأعظم الّذي اجتمع فيه ثلاثمائة أسقف وثمانية عشر «7» أسقفا فأسّسوا «8» القول بالتثليث وكفّروا من خالفهم، وذلك في زمن قيصر يولش «9» . 1068 وقال حمزة بن محمّد المصري إنّ بعض ولاة مصر دخل الإسكندرية فنظر إلى قصر عظيم من بناء الأوّلين، فدعا الصنّاع فسألهم أن يبنوا له مثله. فقام إليه شيخ منهم فقال له «10» : أنا أبني لك مثله إن أزحت «11» عليّ. فقال: سل. (قال ائتني) «12» بثورين مطيقين وعجلة. (فأمر له بذلك) «13» ،

فدخل مقابر الإسكندرية واحتفر «1» في قبورها فاستخرج جمجمة عظيمة فوضعها في العجلة، فما جرّها الثوران إلّا بعد جهد، فجاءه بها فقال: أصلح الله الأمير، إن أعطيتني من تكون رؤوسهم مثل هذا الرأس بنيت لك مثل هذا القصر. فعلم أنّه لا حيلة له فيه. وقال حمزة بن محمّد المصري «2» : رأيت بالإسكندرية عند قصّاب ضرس إنسان يزن به اللحم زنته ثمانية أرطال. 1069 والإسكندرية كلّها دفائن وكنوز، فإذا أمطرت مطرا شديدا وسال ترابها مع الماء خرج الرجال والنساء والصبيان من المدينة يلتمسون حواليها فيجدون قطع الذهب والفضّة من الحلى وغيره والدرّ «3» والياقوت والزمرّد، وليس يرجع أحد منهم بغير شيء. 1070 وإذا زاد النيل في أيّام زيادته دخل في الخليج الّذي صنع لذلك حتّى يصل إلى الإسكندرية، فإذا وصل إلى أعلى المدينة، ولهم هناك آبار مصنوعة ومواجل «4» ، فيسقون منها بالسواني من ماء النيل ويصبّون فيها فيجري الماء منها في قنى قد أحكمت إلى آبار (في دور المدينة من عمل الأوّل، وذلك أكثر من ثلاثة أميال، وليس بمدينة الإسكندرية دار إلّا فيها بئر وماجل «5» فإذا وصل الماء إلى الآبار) «6» استسقى أهل الآبار وصبّوا في المواجل فيشربون منه «7» باقي عامهم.

1071 وكان بالإسكندرية دار ملعب قد بنيت بضرب «1» من الحكمة لا يرى أحد فيها شيئا دون صاحبه ووجه كلّ جالس «2» فيها تلقاء وجه صاحبه، إن عمل أحد منهم شيئا أو تكلّم أو نفث «3» سمعه «4» ونظر إليه جميعهم سماعا ونظرا متساويا قريبهم وبعيدهم. وكانوا يترامون فيها بالكرة، فإذا وقعت في كمّ (أحد منهم) «5» فلا بدّ له من ولاية مصر، كان هذا عندهم معروفا لا يشكّون فيه. وإنّ عمرو بن العاص سافر إلى الإسكندرية قبل الإسلام تاجرا بالقطن والأدم، فحضر ذلك الملعب فلعبوا بالكرة فدخلت كمّه ثلاث مرّات فقالوا: كذّبتنا هذه الكرة «6» هذه المرّة. فأتى الله عزّ وجلّ بالإسلام وفتحت مصر ووليها عمرو ثلاث مرّات. 1072 وقال عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الحكم: لمّا غزا عمرو بن العاص الإسكندرية من مصر فلم يقدر عليها، وذلك بعد تسعة أشهر من موت هرقل، غمّة ذلك فاستلقى على ظهره مطرقا، ثمّ جلس فقال: إنّي فكّرت في هذا الأمر، فإذا هو لا يصلح آخره إلّا ما أصلح «7» أوّله، يريد الأنصار. فدعا عبادة بن الصامت فعقد له على حربها، ففتحها الله على يديه وفتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم سنة عشرين عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن (بصلح ولا بأمن) «8» . ولم يكن بالإسكندرية خطط، إنّما كانت أخايذ، من أخذ منزلا نزل فيه هو وبنو أبيه. ونزل عمرو بن العاص القصر الّذي صار لعبد الله بن أبي سرح «9» ، ويقال إنّ عمرا وهبه له لمّا وليها.

قال يزيد بن أبي حبيب «1» : وكان المسلمون ينزلونها في رباطهم، فإذا قفلوا «2» ابتدر الواردون منازلها. فمن ركز رمحه في دار كانت له، فتنزل «3» الدار القبيلتان والثلاث. فكان يزيد بن أبي حبيب يقول: لا يحلّ من كرائها شيء ولا يبيعها ولا يورّث منها شيء، إنّما كانت للمسلمين يسكنونها في رباطهم. 1073 فقال عوف بن ملك «4» لأهل الإسكندرية: ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية. فقالوا إنّ الإسكندر قال حين بناها: إنّي أبني مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية، فبقيت بهجتها. وإنّ الفرما- وهو أخو الإسكندر- بنى الفرما وقال «5» : إنّي أبني مدينة (عن الله غنية) «6» وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها ولا يزال ينهدم منها كلّ يوم شيء ولا ينجبر، وبقيت الإسكندرية بجدّتها. وروى بعض المصريّين أنّ عمر بن عبد العزيز رضه لمّا دخل الإسكندرية- وهو إذ ذاك أمير مصر- قال لعاملها لمّا رأى آثارها وعجائبها: أخبرني كم كان عدد أهل الإسكندرية في «7» أيّام الروم. فقال: والله يا أمير «8» ما أدرك علم هذا أحد، ولكن أخبرك كم كان بها «9» من الملوك، فإنّ ملك الروم أمر بإحصائهم فوجدهم ستّمائة ألف. قال: فما هذا الخراب الذي أرى بأطرافها؟ قال: بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر أنّه أمر بفرض دينار على كلّ محتلم بمصر «10» لعمران الإسكندرية. فأتاه كبراء أهلها فقالوا: أيّها الملك لا تتعب «11» في هذا، فإنّ ذا القرنين أقام على بنائها مرّة وانتهت عمارتها وتمّت بعد ثلاثمائة سنة وأنّه أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون إلّا بخرق سود في أيديهم خوفا على أبصارهم من شدّة بياضها.

1074 وذكر الليث بن سعد عن زهرة بن معبد قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أين تسكن من مصر؟ قلت: أسكن الفسطاط. قال: أف «1» فأين أنت عن الطيّبة؟ قال: قلت: فأيتهنّ الطيّبة؟ قال: الإسكندرية، فعزمت عليك لتسكنها أبا عقيل. ثمّ قال: ما على الأرض بلدة أحبّ إليّ أن يكون قبري فيها من «2» الإسكندرية. قال الليث: ثمّ عدنا أبا عقيل وهو شديد الوجع ونحن خائفون عليه، فعدناه «3» غداة يوم فقال: رأيت الليلة «4» عمر بن عبد العزيز (في النوم) «5» فقال: أين تسكن أبا عقيل؟ قلت: الإسكندرية (كما عزمت عليّ) «6» . قال: أبشر في ذلك بما يسرّك في دنياك وأخراك مرّتين. فقلت «7» : الحمد لله. 1075 وقال أحمد بن صالح: قال سفيان بن عيينة: الإسكندرية كنانة الله يجعل «8» فيها خير سهامه. وقال عبد الله بن مودق الصدفي: لمّا نعي إليّ ابن عمّي خالد بن يزيد، وكان توفّي بالإسكندرية، لقيني عبد الله بن لهيعة والليث بن سعد مفترقين كلاهما «9» قال لي: أليس قد مات بالإسكندرية؟ فأقول بلى. فيقول: هو حيّ عند الله يرزق ويجزى عليه أجر رباطه ما قامت «10» الدنيا وله أجر شهيد حتّى يحشر على ذلك.

1076 وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ إرم ذات العماد هي «1» الإسكندرية. وقال الناظرون فى الأعمار «2» والأهوية والبلدان وترب «3» الأقاليم والأمصار: لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان طولها بمريوط «4» ، قرية من قرى الإسكندرية ووادي فرغانة، ومريوط بقرب مدينة الإسكندرية قرية كبيرة لها بساتين كثيرة ومنها تجلب الفواكه إلى الإسكندرية، ولوزها رقيق القشر يحتّ «5» باليد. 1077 وقد (ظهر فيمن) «6» بقي بالإسكندرية بعد فتحها من الروم منوئيل الخصّي وعادوا حربا على المسلمين. قال الليث بن سعد: قال يزيد بن أبي حبيب: جاءت الروم وعليهم منوئيل الخصّي في المراكب حتّى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها «7» من الروم «8» ، وقد كان عثمان عزل عمرو بن العاص «9» وولّي (عبد الله بن سعد) «10» بن أبي سرح، فسأل أهل مصر عثمان أن يقرّ عمرا حتّى يفرغ من قتال الروم ففعل. وكان على الإسكندرية سور لا يعدل به في الحصانة والإتقان والمنع «11» . فنذر عمرو لئن أظهره الله عليهم ليهدمنَّ سورها حتّى تكون مثل بيت الزانية «12» يؤتى من كلّ مكان.

1078 فجيّش إليهم «1» عمرو في البرّ والبحر. قال الليث: وكان معه المقوقس فيمن أطاعه من القبط، فأمّا الروم فلم يعطه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر عددهم ولا أمن أن تنتقض (مصر كلّها) «2» . فقال عمرو: لا ولكن أَدَعهم حتّى (يسيروا إليّ) «3» فيصيبوا من مرّوا به من الروم فيخزي الله ببعضهم بعضا. فخرجوا من الإسكندرية فجعلوا ينتهون ما مرّوا به، فلم يعرض لهم عمرو حتّى بلغوا نقيوس «4» ، فلقوهم في البرّ والبحر، فرمت الروم بالنشّاب رميا شديدا حتّى أصابت يومئذ لبّة فرس عمرو فعقر واستأخر «5» المسلمون عنهم فحملوا حملة ولّى المسلمون منها، وانهزم يومئذ شريك بن شحيم في خيله. ثمّ نصّر الله (عزّ وجلّ) «6» المسلمين وهزم «7» الروم وقتلوهم قتلا ذريعا «8» إلى أن أمر عمرو بن العاص برفع السيف في الموضع الّذي يسمّى بمسجد الرحمة، وإنّما سمّي بهذا الاسم لرفع عمرو السيف هناك. وهدم سورها كلّه وذلك سنة خمس وعشرين. وأقام عمرو بعد فتحها شهرا ثمّ عزل. وقد كان عثمان رضه أراد أن يكون عمرو «9» على الحرب وعبد الله (بن أبي سرح) «10» على الخراج، فأبى عمرو «11» وقال: أكون كماسك البقرة بقرنيها «12» وغيره يحلبها.

ذكر المشهور من المدن والقرى في الطريق من مصر إلى برقة والمغرب كله

ذكر المشهور من المدن والقرى في الطريق من مصر إلى برقة والمغرب كلّه 1079 ترنوط وهي قرية جامعة على النيل «1» ، بها أسواق ومسجد جامع وكنيسة وخراب كثير، خربتها كتامة إذ كانوا هناك مع أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي «2» ، وأكثر بنيانها بالآجر وبها معاصر سكّر. فمن ترنوط إلى المنى، وهي ثلاث مدن قائمة البنيان خالية، فيها قصور شريفة في صحراء رمل ربّما قطع فيها الأعراب على الرفاق «3» ، وتلك القصور (محكمة البناء منجّدة الجدر وأكثرها على آزاج معقودة) «4» يسكن بعضها رهبان، وبها آبار عذبة قليلة الماء. 1080 ومنها إلى أبي مينى، وهي كنيسة عظيمة فيها عجائب من الصور والنقوش توقد قناديلها ليلا ونهارا لا تطفى، وفيها قبو «5» عظيم (في أحد مبانيها) «6» فيها صورة جملين من رخام عليهما صورة إنسان قائم رجلاه على الجملين، إحدى يديه مبسوطة والأخرى مقبوضة، يقال إنّها صورة أبي مينى، كلّ ذلك من رخام. وفي هذه الكنيسة صور الأنبياء عليهم السلام كلّهم، صورة زكريا ويحيى وعيسى في عمود رخام عظيم على ذات يمين الداخل يغلق عليها باب، وصورة مريم قد أسدل عليها ستران «7» ، وصور سائر الأنبياء. ومن خارج الكنيسة صور جميع الحيوان وأهل الصناعات «8» ، من جملتها

صورة تاجر الرقيق ورقيقة معه وبيده خريطة مفتوحة الأسفل، يعني أنّ التاجر بالرقيق لا ربح له. وفي وسط الكنيسة قبّة فيها ثماني صور يزعمون أنّها صور ملائكة «1» ، وفي جهة من الكنيسة مسجد محرابه إلى القبلة (لا يصلّي فيه إلّا المسلمون) «2» حولها ثمار كثيرة (وعامّتها اللوز الأملس والخروب المعسّل الرطب ويعقّد منه الأشربة، وكروم كثيرة) «3» تحمل أعنابها وشرابها إلى مصر. 1081 ويقولون إنّ سبب بنيان هذه الكنيسة أنّ قبرا كان في موضعها وكان بالقرب منه قرية وأنّ رجلا من أهلها كان مقعدا «4» ، فزال عنه حماره فزحف في طلبه ليصرفه حتّى وصل إلى «5» القبر، فلمّا صار عليه (يتبصّر القبر) «6» انطلق ماشيا «7» ، فمشى إلى حماره واستوى «8» عليه راكبا «9» (وانصرف إلى موضعه صحيحا. فتسامع الناس ذلك فلم يبق عليل إلّا قصد ذلك القبر فجلس عليه) «10» فأفاق، فبنيت عليه هذه الكنيسة، وقصدها أولو الأسقام ليستشفوا بها، فبطل ذلك بعد بنائها. ويؤدّى من القسطنطينية «11» إلى هذه الكنيسة (في كلّ عام ألف دينار) «12» .

1082 وذات الحمام، وهي سوق (جامعة بها) «1» جامع بناه زيادة الله بن الأغلب منصرفا من المشرق إلى إفريقية، بإزائه بئر طيّبة «2» حولها جباب «3» وبساتين وبها قصر خرب يتداول سكناه «4» روابط صاحب مصر. وسمّيت ذات الحمام لأنّ كلّ من شرب من مائها حمّ إلّا من عافاه الله، ولذلك يقول الحداة: ربّ سلّمنا من الحجاز وغلاها ومن مصر ووباها ومن ذات الحمام وحماها. 1083 وأمّا الحنية فهي شطر حنية قائمة «5» في وسط فحص بينها وبين البحر شرف يقال إنّها كانت باب الإسكندرية، وينزل حولها لواتة ومزاتة خصائص، وبين الحنية وذات الحمام مائدة رخام أسود يقال إنّها كانت مائدة فرعون تحتها جبّ يعرف بالتيس. 1084 والكنائس، وهي ثلاثة قصور مهدّمة بالقرب منها عقبة تعرف بآبار قيس، وهما بئران عذبتا الماء بعيدتا الأرشية. ومن جب العوسج «6» إلى قباب معان بينهما ثلاثون ميلا، وهي جباب حولها هذه القباب وهي المعروفة بخرائب القوم «7» . قال محمّد «8» : خرائب القوم «9» مدينة خرّبها الروم، فيها جباب، وبغربي خرائب القوم «10» قصر أبي معد نزار «11» بن خالد بن يحيى بن بابان، (فنزله من قريش من قرابه جبير بن مطعم نحو عشرين بيتا وأحياء) «12» كثيرة

من بني مدلج «1» ، ومن قبائل البربر نحو ألف بيت من فاضلة وبني عقيدان «2» . ويذكر أنّ كثيرا ما تتبدّل صورة المولود عندهم فتصير في خلق الغول والسعلاة «3» وتعدو على الناس حتّى تغلّ وتقيّد. قال محمّد «4» بن يوسف: أخبرني محمّد بن قاسم صاحب استجة «5» أنّه صحّ عنده ذلك أو شاهده. 1085 (ومنها إلى) «6» مدينة الرمادة، وهي مدينة لطيفة بقرب البحر، لها سور ومسجد جامع وحولها بساتين بأنواع الثمار، وبالقرب منها قصر الشماس وفيه عمارة يسيرة. ومن خرائب القوم «7» إلى مدينة الرمادة خمسة وثلاثون ميلا، ومنها إلى خرائب أبي حليمة «8» ، وهو قصر معمور به سوق وآبار خمس وجباب على البعد، فإذا أتيت قصر الروم، وهي أقباء طوب يشرف عليها جبل في سفحه جباب ماء (أكبرها تعرف بالمطفّلة، فإذا جئت وادي مخيل، وهو حصن فيه جامع وله سوق عامرة حواليه جباب ماء) «9» وبرك، وليس ينبط فيه ماء، وهو راخي السعر كثير الخير بينه وبين أجدابية خمس مراحل. 1086 برقة «10» ، واسمها بالرومية الإغريقية بنطابلس تفسيره خمس مدن. وصار إليها عمرو بن العاص حتّى صالح أهلها على ثلاثة عشر ألفا يؤدّونها إليه جزية على أن يبيعوا من أحبّوا من أبنائهم في جزيتهم. قال الليث بن سعد: كتب

ذكر مدينة أجدابية

عمرو بن العاص على لواتة في شرطه عليهم أن تبيعوا أبناءكم فيما عليكم من الجزية، وسمع عمرو يقول على المنبر لأهل أنطابلس عهد يوفي لهم به. ووجّه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتّى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. 1087 ومدينة برقة في صحراء حمراء التربة والمباني فتحمرّ لذلك ثياب ساكنيها والمتصرّفين فيها. وعلى ستّة أميال منها الجبل «1» ، وهي دائمة الرخاء كثيرة الخير تصلح بها السّائمة «2» وتنمى على مراعيها «3» ، وأكثر ذبائح أهل مصر منها، ويحمل منها إلى مصر الصوف والعسل والقطران، وهو يعمل بها بقرية من قراها يقال لها مقّة فوق جبل وعر لا يرقى إليها فارس على حال، وهي كثيرة الثمار من الجوز والأترج والسفرجل وأصناف الفواكه، وتتّصل بها شعراء عريضة «4» من شجر العرعر. وبمدينة برقة قبر رويفع صاحب رسول الله «5» - صلى الله عليه وسلم -، وحول مدينة برقة قبائل من لواتة ومن الأفارق. وفي الطريق من برقة إلى إفريقية وادي مسوس «6» فيه قباب خربة وجباب يقال إنّ عددها ثلاثمائة وستّون، وبها بساتين، وفي هذا الوادي التربة الّتي (يغلى منها العسل) «7» . ذكر مدينة أجدابية 1088 وهي مدينة كبيرة في صحراء أرضها صفا «8» وآبارها منقورة في الصّفا طيّبة الماء، (وبها عين ماء عذب ولها بساتين لطاف ونخل يسير، وليس بها من

ذكر مدينة سرت

الأشجار إلّا الآراك) «1» ، وبها جامع حسن البناء بناه أبو القاسم بن عبيد الله، له صومعة مثمّنة بديعة العمل، ولها حمّامات وفنادق كثيرة وأسواق حافلة مقصودة وأهلها ذوو يسار وثروة «2» أكثرهم أقباط، وبها نبذ من صرحاء «3» لواتة، ولها مرسى على البحر يعرف بالماحور له ثلاثة قصور بينه وبينها ثمانية عشر ميلا. وليس لمباني مدينة «4» أجدابية سقوف خشب، إنّما هي أقباء طوب لكثرة رياحها ودوام هبوبها. وهي راخية الأسعار كثيرة التمر يأتيها من مدينة أوجلة أصناف التمور «5» . ذكر مدينة سرت 1089 وهي مدينة كبيرة على سيف «6» البحر، عليها سور طوب وبها جامع وحمّام وأسواق، ولها ثلاثة أبواب قبلي وجوفي «7» وباب صغير إلى البحر ليس حولها «8» أرباض، ولهم نخل وبساتين وآبار عذبة وجباب كثيرة، وذبائحهم المعز ولحمانها «9» عذبة طيّبة ليس يؤكل بطريق مصر أطيب من لحومها «10» . وأهل سرت من أحسن خلق الله خلقا وأسوأهم معاملة لا يبيعون ولا يبتاعون «11» إلّا بسعر قد اتّفق جميعهم عليه، وربّما نزل المركب «12» بساحلهم موسوقا بالزّيت، وهم أحوج الناس إليه، فيعمدون إلى الزقاق الفارغة «13» فينفخونها ويوكونها ثمّ يصفّونها في حوانيتهم وأفنيتهم ليرى أهل المركب «14» أن الزيت عندهم كثير بائر، فلو أقام أهل المركب «15» عندهم «16» ما شاء الله أن

يقيموا ما باعوا منهم إلّا على حكمهم. وأهل سرت يعرفون بعبيد قرلة وهم يغضبون من ذلك «1» . قال الشاعر «2» يهجوهم [وافر] : عبيد قرلة شرّ «3» البرايا ... معاملة وأقبحهم فعالا فلا رحم المهيمن أهل سرت ... ولا سقاهم عذبا زلالا وقال آخر [سريع] : يا سرت لا سرّت بك الأنفس ... لسان مدحي فيكم أخرس ألبستم القبح فلا منظر ... يروق منكم لا ولا ملبس بخستم في كلّ أكرومة ... وفي الخنا واللوم لم تبخسوا «4» ولهم كلام يتراطنون به ليس بعربي ولا عجمي ولا بربري ولا قبطي لا يعرفه غيرهم، وهم على خلاف أخلاق أهل أطرابلس، فإنّ أهل أطرابلس أحسن خلق الله معاشرة وأجودهم معاملة وأبرّهم بغريب. 1090 ومن سرت إلى أطرابلس عشر مراحل ومن سرت إلى أجدابية ستّ مراحل ومن أجدابية إلى برقة ستّ مراحل أيضا.

ذكر مدينة أطرابلس

ذكر مدينة أطرابلس 1091 ويذكر أنّ تفسير أطرابلس بالأعجمية الإغريقية ثلاث مدن، وسمّاها اليونانيّون طربليطة «1» وذلك بلغتهم أيضا ثلاث مدن: طر معناه ثلاث وبليطة يعني مدينة. ويذكر أنّ أشفاروش قيصر هو الّذي بناها. وتسمّى أيضا مدينة أطرابلس مدينة إياس «2» . وعلى مدينة أطرابلس سور صخر جليل البنيان وهي على شاطىء البحر، ومبنى جامعها أحسن مبنى «3» ، وبها أسواق حافلة جامعة وحمّامات كثيرة فاضلة «4» . وبأطرابلس مسجد يعرف بمسجد الشعاب مقصود، وحولها أقباط «5» في زيّ البربر كلامهم بالقبطية، في قرارات في شرقيّها وغربيّها مسيرة ثلاثة أيّام إلى موضع يعرف ببني السابري «6» ، وفي القبلة مسيرة يومين إلى حدّ هوارة. وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون أعمرها وأشهرها مسجد الشعاب، ومرساها مأمون من أكثر الرياح. 1092 ومغداس «7» ، ومنها إلى قصور حسّان مرحلة، ومن سرت إلى مغداس مرحلة، ومن قصور حسّان إلى الراشدة- وهي بئر شرّيب سمّاها بهذا الاسم حسّان بن النعمان هذا، وأنت تتوجّه من مصر إلى المغرب. ومغداس هو صنم قائم على شاطىء البحر حوله أصنام وبه قصر بناه الأعرابي عامل سرت لبني عبيد الله. وبمغداس التقى أبو الأحوص بن عمرو العجلي مع أبي الخطّاب

عبد الأعلى بن الشيخ القائم بدعوة الإباضية، فاقتتلوا على البحر فانهزم أبو الأحوص العجلي إلى مصر واحتوى أبو الخطّاب على معسكره وقتل بشرا كثيرا من أصحابه وانصرف إلى أطرابلس، وذلك سنة اثنتين وأربعين ومائة. ولمّا قتل زهير بن قيس ببرقة استعمل عبد الملك بن مروان حسّان بن النعمان الغسّاني على إفريقية، فخرج إليها في المحرّم سنة ثمان وستّين، فلقي عساكر الكاهنة بأرض قابس وعلى مقدمتها القائد الّذي كان مع كسيلة بن لهزم، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل صاحب خيل حسّان بن النعمان، وانهزم حسان وأصحابه إلى المنهل المعروف بقصور حسّان بطريق مصر، وقتل من أصحابه عدد كثير وأسر منهم نحو ثمانين رجلا، فأحسنت الكاهنة إليهم وأطلقتهم غير واحد وهو يزيد بن خالد القيسي، فوصلوا إلى حسّان وأخبروه بخبر يزيد، فسرّ بذلك حسّان وكتب إلى عبد الملك يعلمه بما نزل به من الكاهنة ويسأله أن يمدّه بالجيوش. فكتب إليه عبد الملك أن يقيم بمكانه، فبنى هناك قصرين وهما اليوم خربان حولهما ماء زعاف برز في بئرين وبها جباب كثيرة. والقصر الأبيض وهو قصر خرب وهو أدنى المراحل إلى خرائب أبي حليمة على ظهر العقبة بقرية جب خرب. قال محمّد- وهو حدّثنا وآخر ذات الحمام- قال محمّد: حدّثني تميم عن أبيه عن فرات عن أبي المهاجر قال: أخبرني بعض الإسكندرانيّين أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كثرت ذنوبه فليلقى لوبيا وراء ظهره. قال: والقصر الأبيض آخر حدّ لواتة أيضا، ويسكن تحت تلك العقبة مزاتة. 1093 ومدينة أطرابلس المذكورة «1» كثيرة الثمار والخيرات ولها بساتين جليلة في شرقيها، ويتّصل بالمدينة سبخة كبيرة يرفع منها الملح الكثير. وداخل مدينتها بئر يعرف ببئر أبي الكنود (وهم يعيرون به ويحمق من شرب منه، فيقال للرجل

إذا أتى بما يلام «1» عليه: لا يعتب عليك لأنّك شربت من بئر أبي الكنود) «2» . وأعذب آبارها بئر القبّة. وذكر الليث بن سعد قال: غزا عمرو بن العاص مدينة أطرابلس سنة ثلاث وعشرين حتّى نزل القبّة الّتي على الشّرف من شرقيّها، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم «3» على شيء. فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم (من عسكر عمرو) «4» متصيّدا في سبعة نفر، فمضوا غربيّ «5» المدينة فاشتدّ عليهم الحرّ فأخذوا راجعين على ضفّة البحر، وكان البحر لاصقا بسور المدينة «6» ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور، وكانت سفن البحر شارعة «7» في مرساها إلى بيوتهم. ففطن المدلجي وأصحابه، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة، فدخلوا منه حتّى أتوا من ناحية الكنيسة فكبّروا، فلم يكن للروم مفزع إلّا سفنهم، وأقبل عمرو بجيشه حتّى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلّا بما خفّ لهم في مراكبهم، وغنم عمرو ما كان في المدينة. وإنّما بنى سور مدينة أطرابلس ممّا يلي البحر هرثمة بن أعين حين ولايته القيروان. 1094 ولمدينة أطرابلس فحص يسمّى سوبجين يصاب فيه بعض السنين للحبّة مائة حبّة، وهم يقولون فحص سوبجين يصيب «8» سنة في سنين. 1095 ومن أطرابلس إلى جبل نفوسة مسيرة ثلاثة أيّام. وجبل نفوسة على ستّة أيّام من القيروان، وطول جبل نفوسة من الشرق إلى الغرب ستّة أيّام، وتليه

قبيلة يقال لها بنو رمور ولهم حصن يسمّى تيرقت «1» في غاية المنعة لا يطمع فيه أحد ولا يقدر عليه. وبعد هذا الحصن قبيلة بني تدرميت لهم ثلاثة حصون، وفي وسط هذه القبائل مدينة كبيرة تسمّى جادوا لها أسواق ويسكنها يهود كثير. قال محمّد بن يوسق: أمّ قرى جبل نفوسة مدينة شروس وهي كبيرة آهلة جليلة، أهلها إباضية ليس بها جامع ولا فيما حولها من القرى، وهي أزيد من ثلاثمائة قرية آهلة لم يتّفقوا على رجل يقدّمونه للصّلاة بهم «2» . وبين أطرابلس ومدينة شروس خمسة أيّام بينهما حصن لبدة حصن من بناء «3» الأوّل بالصاروج والحجر حوله آثار عجيبة للأوّل وخرائب كثيرة، يسكن هذا الحصن قوم من العرب جملتهم نحو ألف فارس وهم محاربون لجميع «4» من يجاورهم من قبائل البربر، وهم أزيد من عشرين ألفا بين راجل وفارس «5» وظاهرون عليهم. (ويروى في هذا الحصن في كتب الحدثان أمور شنيعة من العسكر الغربيّ الصادر إلى افتتاح مصر وذلك في آخر الزمان. والله أعلم) «6» . وفي وسط جبل نفوسة النخيل والزيتون الكثير والفواكه، ويجتمع فيما حوله من القبائل إذا تداعوا ستّة عشر ألف رجل. وافتتح عمرو بن العاص رحمه الله نفوسة وكانوا نصارى، ومن نفوسة رجع عمرو بكتاب «7» عمر رضه. 1096 ومن أراد الطريق من نفوسة إلى مدينة زويلة فإنّه يخرج إلى مدينة جادوا المذكورة، ثمّ يسير ثلاثة أيّام في صحراء ورمال إلى موضع يسمّى تيرى، وهو في سفح جبل فيه آبار كثيرة ونخيل، ثمّ يصعد في ذلك الجبل فيمشي في صحراء مستوية نحو أربعة أيّام لا يجد ماء، ثمّ ينزل على بئر تسمّى أودرف، ومن هناك يلقى جبالا شامخة تسمّى تارغين يسير فيها الذاهب ثلاثة أيّام حتّى

يصل إلى بلد يسمّى تامرما «1» فيه نخيل كثير يسكنه بنو قلدين «2» وفزانة. وعندهم غريبة وهو أنّ السارق إذا سرق عندهم كتبوا كتابا يتعارفونه، فلا يزال السارق يضطرب في موضعه ذلك «3» ولا يفتر حتّى يقرّ ويردّ ما أخذ، وما يسكن عنه ما به حتّى يمحى ذلك الكتاب. ويسير من هذا البلد إلى بلد يسمّى سباب يومين، وهو بلد كثير النخل وكذلك الّذي قبله. وأهل سباب يزدرعون النبات الّذي يكوّن منه الصبغ المعروف بالنيل. ويسير من سباب في صحراء مستوية «4» لا شيء فيها غير رمل رقيق لا يشوبه حجر ولا مدر، (إذا رأى الرائي العظم «5» في تلك الصحراء من بعيد حسبه قصرا، وإن رأى بعرة حسبها رجلا) «6» . ومن هذه الصحراء إلى زويلة يوم. 1097 وهي بجوفيّ «7» مدينة أجدابية، وهي مدينة غير مسوّرة في وسط الصحراء، وهي أوّل حدّ بلاد السّودان، وبها جامع وحمّام وأسواق يجتمع بها الرفاق من كلّ جهة «8» منها، ومنها يفترق «9» قاصدهم وتتشعّب طرقهم، وبها نخيل وبساط للزرع يسقى بالإبل، ولمّا فتح عمرو برقة بعث عقبة بن نافع حتّى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. وبزويلة قبر دعبل بن علي الخزاعي الشّاعر. قال بكر «10» بن حماد [كامل] : الموت غادر دعبلا بزويلة ... وبأرض برقة أحمد بن خصيب

1098 وبين زويلة ومدينة أجدابية أربع عشرة مرحلة. ولأهل زويلة حكمة في احتراس بلدهم، وذلك أنّ الّذي عليه نوبة الاحتراس منهم يعمد إلى دابّة فيشدّ عليها حزمة حطب كبيرة من جرائد النخل ينال سعفها «1» الأرض، ثمّ يدور بها حوالي المدينة، فإذا أصبح من الغد ركب ذلك المحترس ومن يتبعه «2» على جمال السروج وداروا بالمدينة، فإن رأوا أثرا خارجا من المدينة أتبعوه حتّى يدركوه «3» أينما توجّه لصّا كان أو عبدا أو أمة أو بعيرا. 1099 وزويلة من أطرابلس بين المغرب والقبلة، ويجلب من زويلة الرقيق إلى ناحية إفريقية وما هنالك ومبايعتهم بثياب قصار حمر. وبين زويلة وبلد كانم أربعون «4» مرحلة، وهم وراء صحراء بلاد زويلة لا يكاد أحد يصل إليهم وهم سودان مشركون. ويزعمون أنّ هنالك قوما من بني أميّة صاروا إليها «5» عند محنتهم بالعبّاسيّين، وهم على زيّ العرب وأحوالها. 1100 وبين مدينة زويلة ومدينة سبهى مسيرة خمسة أيّام، وهي مدينة كبيرة بها جامع وأسواق، وبين مدينة سبهى ومدينة هلّ مثل ذلك، وهي مدينة عامرة كثيرة النخل وعيون الماء. ومن مدينة هلّ إلى مدينة ودّان يوم، ولها «6» قلعة حصينة وللمدينة دروب وهي مدينتان، فيها قبيلتان من العرب سهميّون

وحضرميّون، فتسمّى مدينة السهميّين دلباك ومدينة الحضرميّين مدينة بوصى «1» ، وجامعهما واحد، وبين الموضعين والقبيلتين تنازع وتنافس قد آل ذلك بهم مرارا إلى الحرب والقتال. وعندهم فقهاء وقرّاء وشعراء، وأكثر معيشتهم من التمر ولهم زرع يسير يسقونه بالنضح. 1101 ومن مدينة ودّان إلى مدينة تاجرفت ثلاثة أيّام، وهي مدينة آهلة بها جامع يسكنها أهل ودّان، والتمر بها كثير، وأكثر أجناسه البرني، ومنها يخرج إلى مدينة سرت وبينها وبين زويلة مسيرة اثني عشر يوما، وبينها وبين ودّان مثل ذلك، وهي متوسّطة بينهما زويلة بغربيّها وودّان بشرقيّها. هكذا قال محمّد بن يوسف «2» . 1102 والّذي مرّ هناك من ذكر المسافة بين تاجرفت وزويلة أربعة عشر يوما على الطريق الأقصد، ومن تاجرفت إلى الفسطاط تسع وعشرون مرحلة. وطريق آخر من زويلة إلى تاجرفت: من زويلة إلى مدينة تمسّى «3» يومان، ومدينة تمسّى كبيرة بها جامع وأسواق يسيرة، ومنها إلى مدينة زلهى ثمانية أيّام في صحراء. وفي وسط الطريق منزل لأهل ودّان «4» ، ومدينة زلهى كبيرة واسعة فيها جامع ولها نخل كثير وعين ماء نزّة «5» ، يسكنها مزاتة. ثمّ تمشي ستّة أيّام إلى فحص بركانة ثمّ إلى الفاروج، وهو قصر (قد خرب) «6»

بجواره جبّ وحوله سبخة وبينه وبين سرت خمس مراحل. ثمّ إلى مدينة أجدابية مرحلة، ثمّ منها ثلاثة أيّام «1» إلى قصر زيدان الفتى، ثمّ تمشي أربعة أيّام إلى مدينة أوجلة وهي مدينة عامرة كثيرة النخل، وأوجلة اسم الناحية واسم المدينة أرزاقية «2» ، وأوجلة قرى كثيرة فيها نخل وشجر كثير وفواكه وبمدينتها مساجد وأسواق. ثمّ أربعة أيّام إلى مدينة تاجرفت. ومن سلك من أطرابلس إلى ودّان فإنّه يسير في بلد هوارة نحو الجنوب في قياطن وبيوت شعر، وهناك مرأيات ومنازل إلى قصر ابن ميمون، وذلك كلّه من عمل أطرابلس. ثمّ من قصر ابن ميمون ثلاثة أيّام إلى صنم من حجارة مبنيّ على ربوة يسمّى كرزة «3» ، ومن حواليه من قبائل البربر يقرّبون له القرابين ويستشفون به من أدوائهم ويتبرّكون به في أموالهم إلى اليوم. ومن هذا الصنم ويستشفون به من أدوائهم ويتبرّكون به في أموالهم إلى اليوم. ومن هذا الصنم إلى ودّان مسيرة ثلاثة أيّام. 1103 وكان عمرو بن العاص قد بعث إلى ودّان بسر «4» بن أرطأة وهو محاصر أطرابلس فافتتحها، وذلك سنة ثلاث وعشرين. وقال ابن عبد الحكم: ثمّ إنّهم نقضوا «5» عهدهم ومنعوا ما كان بسر بن أرطأة فرض عليهم، فخرج عقبة بن نافع الفهري «6» إلى المغرب بعد معاوية بن حديج، وذلك سنة ستّ وأربعين، ومعه بسر بن أرطأة وشريك بن سحيم المرادي، فأقبل حتّى نزل بغدامس من سرت، فخلّف عقبة جيشه هنالك واستخلف عليهم زهير بن قيس البلوي «7» ، ثمّ سار بنفسه في أربعمائة فارس وأربعمائة بعير وثماني مائة قربة ماء حتّى قدم ودّان فافتتحها وأخذ ملكهم فجدع أذنه «8» ، فقال: لم فعلت هذا وقد عاهدني المسلمون؟ قال: أدبا لك، إذا مسست أذنك ذكرت ذلك «9» فلم تحارب العرب. واستخرج منه ما كان بسر فرض

عليه ثلاثمائة رأس وستّين رأسا. ثمّ سألهم عقبة: هل وراءكم أحد؟ قالوا: جرمة، وهي مدينة فزّان العظمى. فسار إليها ثماني ليال من ودّان، فلمّا دنا منها أرسل «1» فدعاهم إلى الإسلام فأجابوا، فنزل منهم على ستّة أميال وخرج ملكهم يريد عقبة، وأرسل عقبة خيلا حالت بينه وبين موكبه، فأمشوه راجلا حتّى أتى عقبة وقد لغب «2» وأعيى وكان ناعما، فجعل يبصق الدم فقال: لم فعلت هذا وقد أتيتك طائعا؟ قال عقبة: أدبا لك، إذا ذكرته لم تحارب العرب. وفرض عليه ثلاثمائة عبد وستّين عبدا. ثمّ مضى عقبة من فوره إلى قصور فزّان فافتتحها قصرا قصرا حتّى انتهى إلى أقصاها، ثمّ سألهم: هل وراءكم من أحد؟ قالوا: نعم أهل خاوار «3» ، وهو قصر عظيم على رأس المفازة على رأس جبل وعر، وهو قصبة كوّار «4» . فسار إليهم خمس عشرة ليلة فحاصرهم شهرا فلم يستطع لهم بشيء، فمضى أمامه على قصور كوّار فافتتحها حتّى انتهى إلى أقصاها وفيه ملكها، فأخذه وقطع إصبعه، فقال: لم فعلت هذا بيّ؟ قال: أدبا لك، إذا أنت نظرت إلى إصبعك ذكرت فلم تحارب العرب. وفرض عليهم ثلاثمائة وستّين رأسا. 1104 ثمّ سألهم: هل من ورائكم أحد؟ (فلم يعلموا من ورائهم أحدا) «5» . فكرّ راجعا إلى قصر خاوار فلم يعرض له ولم ينزل به وسار ثلاثة أيّام فأمنوا وانبسطوا. وأقام عقبة بمكان اسمه اليوم ماء الفرس فنفد ماؤهم وأصابهم عطش كاد يهلكهم، فصلّى عقبة بأصحابه ركعتين ودعا الله عزّ وجلّ، فجعل فرس عقبة يبحث «6» بيديه في الأرض حتّى انكشف عن صفاة، فانفجر منها الماء، فنادى عقبة في الناس أن احتفروا «7» ، فاحتفروا ماء معينا طيّبا فسمّي لذلك ماء الفرس.

الطريق من أوجلة المتقدمة الذكر إلى الواحات

1105 ثمّ كرّ راجعا إلى خاوار من غير طريقه الّتي أقبل منها، فلم يشعروا به «1» حتّى طرقهم ليلا فوجدهم مطمئنّين قد آمنوا، فاستباح ما في مدينتهم من ذراريهم ونسائهم وأموالهم وقتل مقاتلتهم «2» . ثمّ انصرف راجعا حتّى أتى زويلة، ثمّ ارتحل حتّى قدم عسكره بعد خمسة أشهر، فسار متوجّها إلى المغرب وجانب الجادّة وأخذ إلى أرض مزاتة فافتتح كلّ قصر بها، ثمّ صار إلى قفصة فافتتحها وافتتح قسطيلية، ثمّ انصرف إلى القيروان. الطريق من أوجلة المتقدّمة الذكر إلى الواحات 1106 من أوجلة إلى بلد شنترية عشر مراحل في صحراء ورمال قليلة الماء. وشنترية هذه كثيرة العيون والثمار والحصون، أهلها بربر لا عرب فيهم. وتسير من شنترية على طرق شتّى إلى أودية الواحات، ومن شنترية إلى بهنسى الواحات عشر مراحل- (وهي غير بهنسى الصعيد) «3» - ومن بهنسى الواحات إلى أريش الواحات ثماني مراحل. 1107 (بهنسى الواح مدينة مسوّرة فيها أسواق ومساجد) «4» . وذكر محمّد بن سعيد الأزدي رجل من أبناء مدينة سفاقس أنّه دخلها ورأى فيها في يوم عيد

النصارى- وأهلها عرب مسلمون وقبط نصارى- تابوتا فيه رجل ميّت يجعلونه على عجلة يسمّونه ابن قرمى، ويزعمون أنّه من الحوّاريّين يتطوّفون به في سكك البلد ويتبرّكون بذلك ويتقرّبون إلى الله وتجرّ تلك العجلة البقر، فإن نفرت من موضع ولم تسر «1» فيه علموا أنّ في ذلك الموضع نجاسة. 1108 وأريش بلد كثير العيون الجارية «2» والثمار والنخيل مياهها كلّها حامّة. ومن أريش ثلاثة أيّام إلى الفرفرون، وبالفرفرون معادن الشبوب المريّش والقصبى وفيه أنواع الزاج وفيه العيون الحامضة وغير ذلك من المياه المختلفة الأطعمة. والفرفرون هذا بلد كثير الأشجار والنخيل وفيه قرى كثيرة وأهلها قبط نصارى. وتسير من الفرفرون إلى ألواح الداخل أربع مراحل في صحراء «3» لا ماء فيها ولا عمارة، وهذا الواح الداخل كثير الأنهار والعمارات والحصون، منها حصن يسمّى بالقصر، في وسطه عين ماء ثرثار تتشعّب منه أنهار تسقي زرعهم ونخلهم وثمارهم. 1109 وتسير منه في قرى متّصلة إلى حصن يسمّى قلمون مياهه حامضة منها يشربون ويسقون، وبها قوامهم، وإن شربوا سواها من المياه العذبة استوبئوه. وآخر هذا الواح الداخل قرية كبيرة تسمّى القصبة لها مياه عذبة سائحة تسقي نخلها وثمارها، ولها ثلاث عيون ملحة يجتمع ماؤها في سباخ فيكون ملحا: ملح العين الواحدة أبيض وملح العين الثانية أحمر وملح العين الثالثة أصفر، وهذا الأصفر هو المستعمل بمصر وبرقة «4» .

1110 ومن هذا الواح إلى الواحين الخارجين ثلاث مراحل، وهو آخر بلاد الإسلام وبينه وبين بلاد النوبة في صحراء ستّ مراحل. وفي بعض الواحات قبائل من لواتة. وزعموا أنّ في أقصى الواحات بلد يقال له واح صبرو وأنّه بلد لا يقع عليه إلّا من قد ضلّ في الصحراء في النادر من الزمان، فالواقع عندهم يقول إنّه يكون في بلادهم ما شاء وهم في أخصب عيش، فإذا أراد الرجعة أروه صوب بلاده. وقد وقع في هذا البلد من عرب بني قرّة رجمة بن قائد «1» القرّي ورجع إلى موضعه، ثمّ طلبه بعد ذلك فلم يقدر عليه. فأعدّ مقرب بن ماضي أمير بني قرّة بعد عشرين وأربعمائة من الهجرة زادا وماء كثيرا وظهرا وذهب في الصحراء يطلب واح صبرو وبقي يجوّل في الصحراء مدّة فلم يقدر عليها حتّى خاف نفاد الزاد، فكرّ راجعا فنزل ذات ليلة ربوة من الأرض في بهماء تلك الصحاري، فوجد بعض أصحابه في ناحية من تلك الربوة بنيانا للأوّل، فبحثوا عنه «2» فإذا هو لبن نحاس أحمر محيط بالربوة أساس سور الأوّل، فأوقروا منه جميع ما كان عندهم من الظهر ورحلوا عنه، فلو قدروا على إصابة موضعه لم يفرغ من نقل ما فيه من النحاس إلّا في الزمان الطويل. 1111 وأتى مقرّب (في منصرفه) «3» الواح الخارج، فأخبره رجل من أهله أنّه غدا إلى حائطه. فوجد أكثر تمره قد أكل ووجد أثر قدم إنسان لا يشبه هذا الخلق في العظم، فاحترسه هو وأهله ليالي حتّى طرقهم في بعض الليالي خلق عظيم لم يعهد مثله، وجعل يأكل التمر. فلمّا أهمّوا به وأحسّ بهم بارى «4» الريح حضرا «5» ولم يعلموا له أمرا، فنهض معهم مقرب إلى الأثر حتّى وقف عليه،

الطريق من مدينة أطرابلس إلى قابس

فاستعظمه وأمرهم أن يحفروا زبية «1» في الموضع الّذي كان يدخل منه ويغطّوا «2» أعلاه بالحشيش ويرقّبوه ليالي (تباعا، ففعلوا) «3» . فلمّا كان بعد ليال أقبل على عادته فتردّى في الزبية فبدروا فغلبوه بكثرتهم وترديه، فإذا هي امرأة سوداء عظيمة الخلق مفرطة الطول والعرض لا يفقه منها كلمة. فكلّموها بكلّ لسان علم هناك فلم تجاوب منهم أحدا، فبقيت عندهم أيّاما يأتمرون في أمرها، ثمّ اتّفقوا على إرسالها وركوب «4» الخيل والنجب في أثرها إلى أن يقفوا منها ومن موضعها على حقيقة خبر. فلمّا أرسلت لم يكن طرف العين يلحقها وفاتت شأو النجب والخيل ولم يقف أحد من أمرها على حقيقة. ويذكرون أنّ هناك رمالا عظيمة تعرف بالجزائر كثيرة النخل والعيون لا عمران فيها ولا أنيس بها وأنّ عزيف الجنّ يسمع بها الدهر كلّه. وربّما أقام بها غزاة السودان ولصوصهم لانتهاز الفرصة في المسلمين، ويتكادس التمر هناك أعواما لا يقع عليه أحد ولا يبلغ إليه حتّى ينتجعه الناس في السنين الجدبة وعند الحاجة والضرورة. الطريق من مدينة أطرابلس إلى قابس 1112 من أطرابلس إلى صبرة، وهو بلد معمور يسكنه زواغة، ثمّ الطريق من صبرة على ما تقدّم قبل هذا عند ذكر الطريق إلى القيروان «5» . ومدينة قابس مدينة جليلة مسوّرة بالصخر الجليل من بنيان الأوّل ذات حصن حصين وأرباض وأسواق وفنادق وجامع سري وحمّامات كثيرة، وقد أحاط بجميعها خندق كبير يجرون إليه الماء عند الحاجة فيكون أمنع شيء. ولها ثلاثة أبواب بشرقيّها وقبليّها أرباضها، ويسكنها العرب والأفارق، وفيها جميع الثمار

والموز بها كثير، وهي تمير القيروان بأصناف الفواكه، وبها شجر التوت الكثير ويقوم من الشجرة الواحدة منها من الحرير ما لا يقوم من خمس شجرات «1» من غيرها، وحريرها أطيب الحرير وأرقّه وليس في عمل إفريقية حرير إلّا في قابس، واتّصال بساتين ثمارها مقدار أربعة أميال ومياهها سائحة مطّردة يسقى بها جميع أشجارها، وأصل هذا الماء من عين خرّارة «2» في جبل بين القبلة والغرب منها يصبّ في بحرها. وبها قصب السكّر كثير. وبقابس منار منيف، ويحدو الحادي عند قدومه من مصر إلى إفريقية فيقول [رجز] : لا نوم لا نوم «3» ولا قرارا ... حتّى أرى قابس والمنارا 1113 وساحل مدينة قابس مرفأ «4» للسفن من كلّ مكان، وحوالي قابس قبائل من البربر لواتة ولماية ونفوسة ومزانة وزواغة «5» وزواوة وقبائل شتّى أهل أخصاص. وكانت ولايتها منذ دخل عبيد الله «6» إفريقية تتردّد في بني لقمان الكتامي. قال الشاعر [سريع] : لولا ابن لقمان حليف الندى ... سلّ على قابس سيف الردى 1114 وتجاورها جزيرة في البحر تعرف بجزيرة رازو «7» بينهما مسيرة أكثر من يوم عامرة آهلة وكثيرا ما يمتنع أهلها على السلاطين «8» ، وبين مدينة قابس والبحر ثلاثة أميال. وممّا يذكرون من معائبها أنّ أكثر دورهم لا

مذاهب فيها «1» وإنّما يتبرّزون في الأفنية ولا يكاد أحد منهم يفرغ من قضاء حاجته إلّا وقد وقف عليه من يبتدر أخذ ما يكون منه لتدمين البساتين، وربّما اجتمع على ذلك النفر فيتشاجرون «2» فيه فيخصّ به من أراد منهم، وكذلك نساؤها لا يرين «3» في ذلك عليهنّ حرجا إذا سترت إحداهنّ وجهها ولم يعلم من هي. ويذكر أهل قابس أنّها كانت أصحّ البلاد هواء هواء حتّى وجدوا بها طلسما ظنّوا أنّ تحته مالا، فحفروا موضعه فأخرجوا منه تربة غبراء، فحدث عندهم الوباء من حينئذ بزعمهم. 1115 وأخبر «4» أبو الفضل جعفر بن يوسف الكلبي، وكان كاتبا لمؤنس صاحب إفريقية، أنّهم كانوا في ضيافة ابن وانّمو الصّنهاجي صاحب مدينة قابس، فأتاه جماعة من أهل البادية بطائر على قدر الحمامة غريب اللون والصورة ذكروا أنّه لم يروه قبل ولا عهدوه، كان فيه من كلّ لون أجمله وهو أحمر المنقار طويله. فسأل ابن وانمّو من حضره من العرب والبربر وغيرهم هل رآه أحد منهم، فلم يعرفه أحد ولا سمّاه. فأمر ابن وانمّو بقصّ جناحيه وأرسل في القصر، فلمّا جنّ الليل جعل في القصر مشعل نار، فما هو إلّا أن رآه ذلك الطائر فقصد قصده «5» وأراد الصعود إليه، فدفعه الخدّام وجعل يلحّ في التكرار على المشعل، فأعلم ابن وانمّو بذلك فقام وقام من حضر معه. قال جعفر «6» : وكنت فيمن حضر، فأمر ابن وانمّو بترك الطائر وشأنه، فصار في أعلى المشعل وهو يتأجّج نارا واستوى في وسطه وجعل يتلقّى كما يفعل سائر الطير في الشمس، فأمر ابن وانمّو بزيادة الوقود في المشعل من خرق القطران وغير ذلك، فزاد تأجّج النار والطائر فيه على حالته

الطريق من مدينة قابس إلى سفاقس

لا يكثرت ولا يبرح، ثمّ وثب من المشعل بعد حين يمشي لم يربه ريب. وأخبر قوم من أهل إفريقية أنّهم سمعوا خبر هذا الطائر بمدينة قابس، والله أعلم بحقيقة ذلك. 1116 وعلى مقربة من قابس جزيرة جربة فيها بساتين كثيرة وزيتون كثير، وأهلها مفسدون في البرّ والبحر وهم خوارج، وبينها وبين البرّ الكبير مجاز. وقال حنش بن عبد الله الصنعاني: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة فقام فينا خطيبا فقال: أيّها الناس لا أقول فيكم «1» إلّا ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ما زرع غيره، يعني إتيان الحبالى من السّبي. الطريق من مدينة قابس إلى سفاقس 1117 من مدينة قابس إلى عين الزيتونة، وهي عين جارية على بحر ميّت عليها مرصد لجابي إفريقية، وهي عين مذكورة «2» في كتب حدثان إفريقية. قال ابن أعقب في أرجوزته الّتي يذكر فيها وقائع إفريقية: عند حلول الجيش بالزيتونة ... تكون هناك الوقعة الملعونة ومن عين الزيتونة إلى تاورقى، وهو منزل عامر في طرف ساحل الزيتونة «3» ، ومن هناك إلى غافق وهو بلد معمور، ومنه إلى مدينة سفاقس

وهي مدينة على البحر مسوّرة، ولها أسواق كثيرة ومساجد وجامع وسورها صخر وطوب ولها حمّامات وفنادق وبواد عظيمة وقصور جمّة وحصون ورباطات على البحر، منها محرس بطوية «1» وهو أشرفها، وفيها منار مفرط الارتفاع يرقى إليه في مائة وستّ وستّين درجة، ومحرس حبلة ومحرس أبي الغصن ومحرس مقدمان ومحرس اللوزة ومحرس الريحانة. 1118 وسفاقس في وسط غابة زيتون ومن زيتها يمتار أهل مصر وأهل المغرب وصقلّية والروم، وربّما بيع الزيت منها أربعين ربعا قرطبية بمثقال واحد. وهي محطّ السفن، فإذا جزر الماء بقيت السفن في الحصاة وإذا مدّ رجعت السفن. يقصدها التجّار من الآفاق بالأموال الجزيلة لابتياع المتاع والزيت، وعمل أهلها في القصارة والكمادة كعمل أهل الإسكندرية وأكثر وأجود. 1119 ويقابل سفاقس في البحر جزيرة تسمّى قرقنة، وهذه الجزيرة في وسط القصير بينها وبين مدينة سفاقس في ذلك البحر الميّت القصير القعر نحو عشرة أميال، وليس للبحر هناك حركة في وقت، وبحذاء هذا الموضع في البحر على رأس القصير بيت مشرف مبني بينه وبين البرّ الكبير نحو أربعين ميلا، فإذا رأى قلب البيت أصحاب السفن الواردة من الإسكندرية والشام وبرقة أداروها إلى مواضع معلومة. وجزيرة قرقنة المذكورة فيها آثار بنيان ومواجل للماء، ويدخل فيها أهل سفاقس دوابّهم ومواشيهم لأنّها خصبة «2» .

الطريق من سفاقس إلى مدينة القيروان

الطريق من سفاقس إلى مدينة القيروان 1120 من مدينة سفاقس إلى طرفى «1» وهو بلد معمور، ومنه إلى قصر رباح وهو معمور أيضا، ومن قصر رباح إلى القيروان. الطريق من سفاقس إلى المهدية 1121 من سفاقس إلى لجم وهو حصن الكاهنة وهو طرف سوق الحسيني، وفي هذا السوق قرية كبيرة آهلة تعرف بأرزلس «2» بها جامع وحمّام وأسواق وهي من قرى الساحل، ومن لجم إلى مدينة المهدية «3» .

ذكر إفريقية وبلادها وحدودها ولم سميت إفريقية وذكر غرائبها

ذكر إفريقية وبلادها وحدودها «1» ولم سميّت إفريقية وذكر غرائبها 1122 قال «2» قوم إنّها أفريقية أي إنّها «3» صاحبة السماء، وقال آخرون: سمّيت إفريقية لأنّ إفريقش بن أبرهة بن الرائش (غزا نحو المغرب) «4» حتّى انتهى إلى طنجة في أرض بربر، وهو الّذي بنى إفريقية وباسمه سميّت. وقيل سميّت بأفريق «5» بن إبراهيم عليه السلام من زوجته الثانية «6» قطورى. وقال قوم إنّما سمّوا الأفارقة وبلدهم إفريقية لأنّهم من ولد فارق بن مصريم «7» . وقد زعموا أنّ اسم إفريقية ليبية فسمّيت ببنت يافوه «8» بن يونش الّذي بنى مدينة منفيش بمصر، وهي الّتي ملكت ملك إفريقية أجمع فسمّي بها. 1123 وحدّ إفريقية طولها من برقة شرقا إلى مدينة طنجة الخضراء غربا، واسم طنجة مورطانية «9» ، وعرضها من البحر إلى الرمال الّتي هي أوّل بلاد السودان، وهي جبال رمال عظيمة متّصلة «10» من الغرب إلى الشرق وفيه «11» يصاد الفنك الجيّد. وروى جماعة من سحنون بن سعيد وموسى بن معاوية جميعا «12» عن ابن وهب عن سعيد بن أبي أيّوب عن شرحبيل بن سويد عن عبد الرحمان الجبلي «13» قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فقفلوا «14» فذكروا

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدّة برد أصابهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكن إفريقية أشدّ بردا وأعظم أجرا. 1124 وأسنداه «1» أيضا عن ابن وهب عن ابن لهيعة «2» عن بكر بن سوادة الجذامي أنّ سفيان بن الحارث حدّثهم عن أشياخهم أنّهم قالوا لمقداد بن الأسود «3» صاحب النّبي - صلى الله عليه وسلم -: إنّك ثقلت وأنت تخرج في هذه المغازي؟ فقال: خفيفا كنت أو ثقيلا لا أتخلّف «4» عنها لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: أنفروا خفافا وثقالا «5» . ثمّ قال: قدمت سرية على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا البرد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ البرد الشديد والأجر «6» العظيم لأهل إفريقية. وروى ابن أبي العرب قال: حدّثني (فرات حدّثني) «7» عبد الله بن أبي حسّان عن عبد الرحمان (بن زياد بن أنعم عن أبي عبد الرحمان) «8» الجبلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينقطع الجهاد من البلاد كلّها فلا يبقى إلّا بموضع (في المغرب) «9» يقال له إفريقية. فبينما القوم بإزاء عدوّهم نظروا إلى الجبال قد سيّرت فيخرّون لله تبارك وتعالى سجدا، فلا ينزع عنهم أخلاقهم «10» إلّا خدّامهم في الجنّة. 1125 وكان عبد الرحمان بن زياد بن أنعم يقول: ينقطع الجهاد من كلّ بلد وسيعود إلى إفريقية وليضربنّ القبائل من الآفاق إلى إفريقية لعدل إمامهم ورخص أسعارهم. وروى ابن أبي العرب عن عبد الله بن عمر العمري عن ابن لهيعة

ذكر مسجد القيروان

عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو أنّه قال: والله ليباعنّ الجمل بمصر بعشرة دنانير، ثمّ ليباعنّ بمائة دينار لمغالاة الناس بها، وكأنّي أسمع صرير المحامل على عقبة الثنية من مصر إلى إفريقية يطلبون بها الجهاد والعدل، وليملكنّ إفريقية رجل يعدل فيهم اثنتين وعشرين أو أربعا وعشرين سنة. ذكر مسجد القيروان 1126 قد تقدّم أنّ أوّل من وضع محرابه «1» وبناه عقبة بن نافع «2» ، ثمّ هدمه حسّان حاشى المحراب وبناه وحمل إليه الساريتين الحمراوين الموشّاتين بصفرة اللّتين لم ير الرّاءون مثلهما من كنيسة كانت للأوّل في الموضع المعروف اليوم بالقيسارية بسوق الضرب «3» ، ويقولون إنّ صاحب القسطنطينية بذل لهم فيهما قبل نقلهما إلى الجامع زنتهما ذهبا، فابتدروا الجامع بهما. ويذكر كلّ من رآهما أنّه لم ير في البلاد ما يقترن بهما. 1127 فلمّا كانت خلافة هشام بن عبد الملك كتب إليه عامله على القيروان يعلمه أنّ الجامع يضيق بأهله وأنّ بجوفيه جنّة «4» كبيرة لقوم من فهر، فكتب إليه هشام يأمره «5» بشرائها وأن يدخلها في المسجد الجامع، ففعل وبنى في صحنه ماجلا وهو المعروف بالماجل القديم بالغرب من البلاطات، وبنى الصومعة في بئر الجنان ونصب أساسها على الماء، واتّفق أن وقعت في نصف الحائط الجوفي. وأهل الورع يكرهون الصلاة في هذه الزيادة ويقولون إنّه

أكره أهل الجنّة «1» على بيعها. والصومعة اليوم على بنائه «2» طولها ستّون ذراعا وعرضها خمس وعشرون، ولها بابان شرقي وغربي وعضائد بابيها رخام منقّش «3» وكذلك عتبتهما. 1128 فلمّا ولي إفريقية يزيد بن حاتم سنة خمس وخمسين ومائة هدم الجامع كلّه حاشى المحراب وبناه واشترى العمود الأخضر بمال عريض جزل ووضعه فيه، وهو الّذي كان يصلّي عليه القاضي أبو العبّاس عبدون. فلمّا ولي زيادة الله بن إبراهيم (بن الأغلب) «4» هدم الجامع كلّه وأراد هدم المحراب فقيل له: إنّ من تقدّمك من الولاة توقّفوا عن ذلك لما كان واضعه عقبة بن نافع ومن كان معه. فلجّ في هدمه لئلّا يكون في الجامع أثر لغيره حتّى قال له بعض البناة: أنا أدخله بين حائطين ولا يظهر في الجامع أثر لغيرك. فاستصوب ذلك وفعله فهو على بنائه إلى اليوم. والمحراب كلّه وما يليه مبنيّ بالرخام الأبيض من أعلاه إلى أسفله، وهو مخرّم «5» منقوش كلّه منه كتابة تقرأ، ومنه تدبيج مختلف الصناعة يستدير «6» به أعمدة رخام في غاية الحسن، والعمودان الأحمران المذكوران يقابلان المحراب عليهما القبّة «7» المتّصلة بالمحراب. وعدد ما في الجامع من الأعمدة أربعمائة وأربعة عشر عمودا، وبلاطاته سبعة عشر بلاطا، وطوله مائتان وعشرون «8» ذراعا وعرضه مائة وخمسون «9» ذراعا. وكانت فيه مقصورة فلم يزل بناء زيادة الله فيه، والمقصورة اليوم إنّما هي دار بقبلي الجامع بابها في رحبة الثمر، لها باب عند المنبر، يدخل منه الإمام بعد أن ينزل في هذه الدار حتّى تقرب الصلاة. وبلغت النفقة في بنيانه ستّة وثمانين ألف مثقال.

ذكر مدينة القيروان

1129 ولمّا ولي إبراهيم بن أحمد بن الأغلب زاد في طول بلاطات الجامع «1» وبنى القبّة المعروفة بباب البهو «2» على آخر بلاط المحراب، وفي دورها اثنتان وثلاثون سارية من بديع الرخام، وفيها نقوش غريبة وصناعات محكمة عجيبة يشهد كلّ من رآها أنّه لم ير مبنى «3» أحسن منه. وقد فرش من الصحن بين أيدي البلاطات نحو خمس عشرة ذراعا. وللجامع عشرة أبواب، ومقصورة للنساء في شرقيّها بينها وبين الجامع حائط آخر مخرّم محكم العمل. ذكر مدينة القيروان «4» 1130 ومدينة القيروان في بساط من الأرض مديد، في الجوف منها بحر تونس وفي الشرق بحر سوسة والمهدية وفي القبلة بحر سفاقس وقابس وأقربها منها البحر الشرقي، بينها وبينه «5» مسيرة يوم (وبينها وبين الجبل مسيرة يوم) «6» وبينها وبين سواد الزيتون المعروف بالساحل مسيرة يوم، وشرقيّها سبخة (ملح عظيم طيّب نظيف) «7» وسائر جوانبها أرضون طيّبة كريمة، وأحسنها الجانب الغربي وهو المعروف يفحص الدّرارة يصاب فيه في السنة الخصبة للحبّة مائة، وهواء هذا الجانب طيّب صحيح. وكان زياد «8» بن خلفون المتطبّب إذا خرج من القيروان يريد مدينة الرقّادة وحاذى باب أصرم رفع العمامة عن رأسه يباشر الهواء برأسه كالمتداوي به لصحّته. وللقيروان من القديم سبعة محارس أربعة خارجها وثلاثة داخلها.

1131 وكان للقيروان في القديم سور طوب سعته «1» عشر أذرع بناه محمّد بن الأشعث بن عقبة الخزاعي سنة أربع وأربعين ومائة، وهو أوّل قائد دخل إفريقية للمسودّة. وكان في قبليّه باب سوى الأربعة وهو بين القبلة والمغرب، وبين القبلة والمشرق باب أبي الربيع، وفي شرقيّه باب عبد الله وباب نافع، وفي جوفيّه باب تونس، وفي غربيّه باب أصرم وباب سلم. فهدم هذا السور زيادة الله بن إبراهيم المعروف بالكبير (سنة تسع ومائتين لمّا قام عليه أهل القيروان مع المنصور المعروف بالطنبدي) «2» . فلمّا انهزم «3» عن القيروان يوم الأربعاء للنصف من جمادي الأولى من هذه السنة وخرج أهل القيروان إلى زيادة الله فرغبوا في العفو عنهم والصفح هدم سور القيروان عقوبة لهم. ثمّ بناه المعزّ بن باديس بن منصور الصنهاجي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ومبلغ «4» تكسيره اثنان وعشرون ألف ذراع، وجعل السور ممّا يلي صبرة كالفصيل، حائطان متّصلان إلى مدينة صبرة وبينهما نحو نصف ميل. ولا سبيل لتاجر ولا وارد أن يدخل مدينة القيروان ما يجب عليه فيه المكس إلّا بعد جوازه على مدينة صبرة «5» . وللمدينة اليوم أربعة عشر بابا منها المذكورة وباب النخل والباب الحديث، وللفصيل بابان وباب الطراز (والباب الحديث) «6» وباب القلّالين وباب أبي الربيع «7» وباب سحنون الفقيه. 1132 ومدينة صبرة متّصلة بالقيروان، بناها إسماعيل سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة واستوطنها وسمّاها المنصورية، وهي منزل الولاة إلى حين خرابها، ونقل إليها

معد بن إسماعيل أسواق القيروان كلّها وجميع الصناعات، ولها خمسة «1» أبواب: الباب القبلي والباب الشرقي وباب زويلة وباب كتامة- وهو جوفي- وباب الفتوح ومنه كان يخرج بالجيوش. ويذكر أنّه كان يدخل واحد أبوابها كلّ يوم ستّة وعشرون ألف درهم. وكان سماط سوق القيروان قبل نقله إلى المنصورية متّصلا من القبلة إلى الجوف، وطوله من باب أبي الربيع إلى الجامع ميلان غير ثلث ومن الجامع إلى باب تونس ثلثا ميل، وكان سطحا متّصلا فيه جميع المتاجر والصناعات، وكان أمر بترتيبه هكذا هشام بن عبد الملك. 1133 وخارج مدينة القيروان خمسة عشر ماجلا للماء سقايات لأهلها من بنيان هشام بن عبد الملك وغيره، أعظمها شأنا وأفخمها منصبّا ماجل أبي إبراهيم أحمد «2» بن محمّد بن الأغلب بباب تونس، وهو مستدير متناهي الكبر في وسطه صومعة مثمّنة في أعلاها قصبة لرقبة «3» مفتّحة على أربعة أبواب (على أحد عشر رجلا لا خلل «4» بينهم كيلا يصل مخط «5» ، فإذا امتلأ الماجل كان دلكا «6» ، وسطح هذه القصبة «7» نحو ذراعين، كان ابن الأغلب يدخل إلى هذه القبّة في مركب يسمّى بالزلّاج «8» . ويتّصل بهذا الماجل في قبليّه أقباء طويلة معقودة آزاجا على آزاج «9» . وكان زيادة الله قد بنى على غربيّ هذا الماجل (قصرا، وبجوفيّ هذا الماجل ماجل لطيف متّصل به يسمّى الفسقية) «10» يقع فيه ماء الوادي، إذا جرى (على جنبتين كبيرتين) «11» تنكسر فيه شدّة جريان الماء، ثمّ يدخل منه إلى الماجل الكبير

إذا ارتفع الماء في الفسقية قدر قامتين على باب بين الماجلين يسمّى السرح «1» ، وهذا الماجل عجيب الشأن «2» غريب البنيان. وكان عبيد الله يقول: رأيت بإفريقية شيئين لم أر مثلهما بالشرق: الحفير «3» الّذي بباب تونس يعني الماجل والقصر الّذي بمدينة رقّادة المعروف بقصر البحر. وفي القيروان ثمانية وأربعون حمّاما. وأحصي ما ذبح بالقيروان في بعض أيام عاشورا من البقر خاصّة فانتهى تسعمائة وخمسين رأسا. ومن عجائب القيروان أنّهم يحتطبون الدهر «4» من زيتونها ليس لهم محتطب غيره، وإنّ ذلك لا يؤثّر في زيتونها ولا ينقص منه. 1134 وسنة اثنتين وخمسين سبيت القيروان وأخليت ولم يبق فيها إلّا ضعفاء أهلها. 1135 والقفيز بالقيروان وأعمالها ثماني ويبات والويبة أربعة أثمان والثمنة ستّة «5» أمداد بمدّ أوفى «6» من مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومقدار تلك الزيادة في القفيز كلّه اثنا عشر مدّا، فصار (القفيز القروي) «7» مائتي مدّ وأربعة أمداد بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بكيل قرطبة خمسة أقفزة غير ستّة أمداد. ورطل اللحم والتين وسائر المأكولات عشرة أرطال فلفلية، وقفيز الزيت عندهم ثلاثة أرطال فلفلية (والمطر عندهم كيل يسع خمسة أقفزة من زيت) «8» .

ذكر مدينة رقادة

ذكر «1» مدينة رقّادة 1136 وهي من القيروان على أربعة أميال، ودورها أربعة وعشرون ألف ذراع (وأربعون ذراعا) «2» ، وأكثرها بساتين وليس بإفريقية أعدل هواء ولا أرقّ نسيما ولا أطيب تربة من مدينة رقّادة، ويذكر أنّ من دخلها لم يزل ضاحكا مستبشرا من غير سبب. وذكروا أنّ أحد بني الأغلب «3» أرق وشرد عنه النوم أيّاما، فعالجه إسحاق الّذي ينسب إليه اطريقل إسحاق فلم ينم، فأمر بالخروج والمشي، فلمّا وصل إلى موضع رقّادة نام، فسمّيت من يومئذ رقّادة واتّخذت «4» دارا ومسكنا وموضع فرجة «5» للملوك «6» . 1137 والّذي بنى مدينة رقّادة واتّخذها دارا ووطنا إبراهيم بن أحمد وانتقل إليها من مدينة القصر القديم وبنى بها قصورا عجيبة وجامعا، وعمرت بالأسواق والحمّامات والفنادق ولم تزل بعد ذلك دار ملك لبني الأغلب إلى أن هرب عنها زيادة الله من أبي عبد الله الشيعي. وسكنها عبيد الله إلى أن انتقل إلى المهدية سنة ثمان وثلاثمائة. وكان ابتداء تأسيس إبراهيم لها سنة ثلاث «7» وستّين ومائتين. فلمّا انتقل عنها عبيد الله إلى المهدية دخلها الوهن وانتقل عنها ساكنوها، ولم تزل تخرب شيئا بعد شيء إلى أن ولي معدّ بن إسماعيل، فخرب ما بقي منها وعفا أثرها وحرث «8» منازلها ولم يبق منها غير بساتينها. ولمّا بناها إبراهيم بن أحمد وجعلها داره منع بيع النبيذ بمدينة القيروان وأباحه بمدينة رقّادة. فقال بعض ظرفاء أهل القيروان [منسرح] : يا سيّد الناس وابن سيّدهم ... ومن إليه الرقاب منقادة ما حرّم الشرب «9» في مدينتنا ... وهو حلال بأرض رقّادة

1138 قال محمّد بن يوسف: إنّما سمّيت بهذا الاسم لأنّ أبا الخطّاب عبد الأعلى بن السمح المعافري القائم بدعوة الإباضية بأطرابلس لمّا نهض «1» إلى القيروان لقتال ورفجومة- وكانوا قد تغلّبوا عليها مع عاصم بن جميل- التقى بهم بموضع رقّادة وهي إذ ذاك منية، فقتلهم هناك قتلا ذريعا فسمّيت رقّادة لرقاد «2» جثثهم بعضها فوق «3» بعض. 1139 فأمّا مدينة القصر القديم «4» فإنّ الّذي أسّسها إبراهيم بن الأغلب بن سالم سنة أربع وثمانين ومائة، وصارت دار أمراء بني الأغلب، وهي بقبلي مدينة القيروان وعلى ثلاثة أميال منها، بها جامع له صومعة مستديرة مبنية بالآجر والعمد سبع طبقات لم يبن أحكم منها ولا أحسن منظرا، وحمّامات كثيرة وفنادق وأسواق جمّة ومواجل للماء. وإذا قحطت القيروان وفقد الماء في مواجلها نقلوا «5» الماء من مدينة القصر «6» . وكان لها من الأبواب باب الرحمة قبلي وباب الحديد قبلي وباب غلبون شرقي وباب الريح شرقي وباب السعادة غربي يقابل المقبرة الكبيرة. وداخل المدينة رحبة كبيرة واسعة تعرف بالميدان. (ويجاور مدينة القصر بنية) «7» تعرف بالرصافة. ولمّا أتى إبراهيم مدينة القصر وانتقل إليها خرب دار الإمارة الّتي كانت بالقيروان بقبلي الجامع منذ فتحت.

ذكر مدينة المهدية

1140 وإذا خرج المتوجّه إلى مصر من القيروان على باب الطراز «1» تلقّى «2» مدينة القيروان يسرة ويسلك بين مدينة رقّادة ومدينة القصر، فأوّل ما يلقى وادي السراويل شتوي، ثمّ المنية المعروفة وهي كبيرة آهلة، ثمّ قرية زرور «3» وهي كثيرة البقول لاسيما الجزر وأهلها قوم يضرب بهم المثل في سوء الحال بإفريقية، ويقال مشايخ زرور «4» شهد منهم سبعة على قبضة اسفنارية، فقال الحاكم للطالب: زد بيّنة. ثمّ وادي الطرفا كبير شتوي إذا حمل أهلك ما حوله من القرى والمنازل، وسعته إذا حمل أزيد من ثلاثة أميال. ثمّ مدينة قلشانة «5» ومن القيروان إليها اثنا عشر ميلا، كبيرة آهلة بها جامع وحمّام ونحو عشرين فندقا، وهي كثيرة البساتين وشجر التين، وأكثر تين القيروان الأخضر منها. وأبواب الدور بمدينة قلشانة قصار ليس تدخلها الدوابّ، فعلوا ذلك خوفا من نزول العمّال والجباة «6» . ذكر مدينة المهدية 1141 مدينة المهدية منسوبة إلى عبيد الله المهدي الّذي بناها على ما ذكر في التاريخ، وبينها وبين القيروان ستّون ميلا. تخرج من القيروان فتنزل منزل كامل، ثمّ تخرج منها فتأتي المهدية. وطريق آخر: تخرج من القيروان إلى مدينة تماجر مرحلة، إلى المهدية (مرحلة أخرى) «7» . ومدينة تماجر كبيرة آهلة بها جامع وأسواق وفنادق وحمّام وماؤها زعاق، وفي وسطها غدير ماء وحولها غابة زيتون وشجر أعناب، وبين مدينة تماجر والمهدية الوادي الملح

الّذي كانت فيه الوقعة المشهورة بين أبي يزيد وأبي القاسم قتل فيها من أصحاب أبي القاسم عدد لا يحصى (ففرّ منه «1» أبو القاسم فيمن كان يختصّ به) «2» . 1142 والبحر قد أحاط بها من ثلاث جهاتها وإنّما يدخل إليها من الجانب الغربي، ولها ربض كبير يعرف بزويلة فيه الأسواق والحمّام ومساكن أهلها، وبنى على الربض المعزّ بن باديس سورا يحيط به، وطولها اليوم نحو ميلين وعرضها يضيق ويتّسع وأوسعه أقلّ «3» من بسط طولها، وجميع بنيانها بالصخر (ولمدينتها بابا حديد) «4» لا خشب فيهما وزنة كلّ باب ألف قنطار، وطوله ثلاثون «5» شبرا في كلّ مسمار من مساميرها ستّة أرطال، وفي البابين صور الحيوان. 1143 وفي المهدية من المواجل العظام ثلاثمائة وستّون غير ما يجري «6» إليها من القناة الّتي فيها، والماء الجاري بالمهدية جلبه «7» عبيد الله من قرية منانش «8» وهي على مقربة من المهدية في أقداس ويصبّ في صهريج داخل المهدية عند جامعها، ويرفع من الصهريج إلى القصر بالدواليب، وكذلك يستقي أيضا بقرية «9» منانش من الآبار بالدواليب ويصبّ في محبس يجري منه في تلك القناة.

1144 وهي مرفأ «1» لسفن الإسكندرية والشّام وصقلّية والأندلس وغيرها ومرساها منقور في حجر صلد يسع ثلاثين مركبا، على طرفي المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد، فإذا أريد إدخال سفينة فيه أرسل حرّاس البرجين أحد طرفي «2» السلسلة حتّى تدخل السفينة، ثمّ مدوّها كما كانت بعد ذلك تحصينا «3» لئلّا تطرقها مراكب الروم. وعرض المدخل إلى المهدية من القبلة إلى الجوف قدر غلوة. وردم عبيد الله من البحر مثل ذلك وأدخله في المهدية فاتّسع الموضع. وفيه ستّة عشر برجا ثمانية منها في السور الأوّل وثمانية في الزيادة، منها برج أبي الوزّان النحوي وبرج عثمان وبرج عيسى وبرج الدهّان «4» نسبت إليهم لقرب مساكنهم منها. (والجامع ودار البحر «5» ودار المحاسبات فيما ردم من البحر وغير ذلك من المنازل) «6» والجامع سبع بلاطات متقن البناء حسنه. وقصر عبيد الله كبير سري المباني بابه غربيّ وقصر ابنه «7» أبي القاسم بإزائه بابه شرقيّ بينهما رحبة فسيحة. ودار الصناعة بشرقي قصر عبيد الله تسع أكثر من مائتي مركب، وفيها قبوان «8» كبيران طويلان لآلات المراكب وعددها لئلا ينالها شمس ولا مطر. 1145 وكان سبب بنيان عبيد الله للمهدية قيام (أبي عبد الله) «9» وجماعة كتامة عليه وما حاولوه من خلعه وقتل أهل القيروان رجال كتامة. فكان ابتداؤه بالنظر فيها سنة ثلاثمائة وكمل سورها سنة خمس وانتقل إليها سنة ثمان في شوال. وكان لها أرباض كثيرة آهلة عامرة أقربها إليها ربض زويلة فيه الأسواق

والحمّامات، وربض الحمى كان مسكنا لأجناد إفريقية من العرب والبربر، قصر أبي سعيد وبقّة وقاساس «1» والغيطنة «2» وربض قفصة وغيرها. ولم تزل دار ملك «3» لهم إلى أن ولي الأمر إسماعيل بن القاسم سنة أربع وثلاثين «4» وثلاثمائة فسار إلى القيروان محاربا لأبي يزيد واتّخذ مدينة صبرة واستوطنها بعده ابنه معدّ وخلت أكثر أرباض المهدية وتهدّمت. 1146 ومن المهدية إلى مدينة سلقطة «5» ثمانية أميال، ومن المهدية إلى قصر لجم «6» وهو المعروف بقصر الكاهنة ثمانية عشر ميلا. وذكر أنّ الكاهنة حصرها العدوّ في ذلك القصر فحفرت سربا في صخرة صمّاء من هذا القصر إلى مدينة سلقطة يمشي فيه «7» العدد الكثير من الخيل، وكان ينتقل إليها فيه الطعام سائر ما تحتاج إليه. ومن مدينة سلقطة إلى قصر لجم «8» هذا ثمانية عشر ميلا أيضا. وفي دور قصر لجم «9» نحو ميل، وهو مبني بحجارة طول الحجر منها خمسة وعشرون شبرا ونحوها، وارتفاعه في الهواء أربع وعشرون (قامة، وهو من داخله مدرّج كلّه إلى أعلاه وأبوابها طاقات بعضها فوق بعض بأحكم صناعة) «10» . 1147 وترنوط فحص على ستّة أميال من المهدية، (ومنها زاحف أبو يزيد مخلد المهدية) «11» وبهذا الفحص كانت محلّته «12» أيّام حصاره المهدية. وفي كتب

[مدينة جلولا]

الحدثان: إذا ربط الخارجي خيله بترنوط لم يبق لأهل السواد محلول ولا مربوط- أهل السواد أهل الساحل- وفيها «1» : ويل لأهل السواد من مخلد بن كيداد. 1148 والأخوان منزل بين القيروان والمهدية، وفي هذا المنزل قتل أبو يزيد لمسيرة الفتى يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. قال علي بن علي «2» بن ظفر يمدح أبا يزيد هذا [كامل] : هذا وكم من وقعة مشهورة ... أبقيتها مثلا لكلّ ممثّل بثنية الأخوين يوم تركتهم ... متوسّدين وسائدا من جندل [مدينة جلولا] 1149 ومن مدينة «3» القيروان إلى مدينة جلولا أربعة وعشرون ميلا. وبجلولا آثار وأبراج قائمة للأوّل وآبار عذبة وخرائب «4» وجد فيها بعض الرعاة تاج ذهب بجوهرة، فأخذه منه ابن الأندلسي. وبقرب جلولا منتزه «5» يعرف بسردانية ليس بإفريقية موضع أجمل منه، فيه ثمار عظيمة وفيه من النارنج خاصّة «6» نحو ألف أصل. وجلولا مدينة لها حصن وهي مدينة أوّلية «7» قديمة مبنية بالصخر وفيها عين ثرّة في وسطها، وهي كثيرة الأشجار والثمار وأكثر رياحينها الياسمين، وبطيب عسلها يضرب المثل لكثرة ياسمينها

وجرس «1» نحلها له، وبها يربّب «2» أهل القيروان السمسم بالياسمين للنزبق «3» وبالورد والبنفسج، وبها قصب السكر كثير، ومنها كان يرد إلى القيروان (كلّ يوم) «4» من أحمال الفواكه والبقول ما لا يحصى كثرة. وحولها (الجنات وقبائل) «5» ضريسة في القرارات. 1150 وفتح مدينة جلولا كان على يدي عبد الملك بن مروان، وذلك أنّه كان في جيش معاوية بن حديج التجيي «6» ، فبعثه إلى مدينة جلولا في ألف رجل، فحاصرها أيّاما فلم يصنع شيئا، فانصرف راجعا فلم يسر إلّا يسيرا حتّى رأى في ساقة الناس غبارا شديدا فظنّ أنّ العدوّ يتبعهم، فكّر «7» جماعة من الناس لذلك وبقي من بقي على مصافّهم، فإذا مدينة جلولا قد تساقط من سورها حائط، فدخلها المسلمون «8» ، وغنموا ما فيها، فانصرف عبد الملك إلى معاوية بن حديج. فاختلف الناس في الغنيمة فكتب (في ذلك) «9» إلى معاوية فراجع يقول إنّ العسكر ردة «10» للسرية فقسّم الفيء بينهم، فأصاب كلّ رجل منهم لنفسه مائتي درهم وللفرس سهمان. قال عبد الملك: فأخذت لنفسي ولفرسي ستّمائة درهم واشتريت بها جارية. 1151 ويقال: بل نازلها معاوية بن حديج، فكان يقاتلهم على باب المدينة صدر النهار، فإذا مال الفيء انصرف فقاتلهم يوما، فلمّا انصرف نسي عبد الملك قوسه معلّقة بشجرة فانصرف إليها، فإذا جانب من المدينة قد انهدم، فصاح

ومن الغرائب ببلاد إفريقية ببلاد كتامة منها

في أثر الناس فرجعوا فقد رأوا غبرة شديدة فظنّوا أنّ العدوّ قد ضرب في ساقتهم فغنموها. 1152 قالوا: فلمّا كان من عبد الملك بن مروان ما كان ومنازعته لمعاوية بن حديج على فيئها «1» ثقل على معاوية بن حديج، فكان يتجهّمه ولا يقبل عليه، فرأى حنش الصنعاني عبد الملك بن مروان وهو متفكّر متغيّر اللون فقال له: ما شأنك؟ فقال: إنّي أبعد قريش مجلسا من الأمير. فقال له حنش: لا تغتمّ فوالله لتلينّ الخلافة (بعد هذا) «2» وليصيرنّ هذا الأمر إليك. فلمّا أفضت الخلافة إلى عبد الملك «3» وبعث الحجّاج لقتال عبد الله بن الزبير رحمه الله أخذ حنشا الصنعاني أسيرا فبعث به إلى عبد الملك، فقال له عبد الملك: ألست الّذي بشّرني بالخلافة؟ قال: بلى. قال: فلم ملت عنّي إلى ابن الزبير؟ قال: رأيته يريد الله ورأيتك تريد الدنيا فملت إليه، فعفا عنه وأطلقه. ومن الغرائب ببلاد «4» إفريقية ببلاد كتامة منها 1153 قال أبو جعفر أحمد بن محمّد بن أبي خالد «5» المتطبّب وقد ذكر الماء «6» الّذي يجري في الأشهر الحرم خاصّة: إنّ عندنا بالمغرب (ببلاد كتامة) «7» عين الأوقات معلومة، إنّما يجري ماؤها في اليوم والليلة خمس مرّات في

[مدينة سوسة]

أوقات الصلوات الخمس وينقطع ما بين ذلك، وقد ذكرنا موضع هذه العين عند ذكر المراسي بعد هذا. وقد حدّث جماعة ممّن قصد إليها ورءاها ووقف عليها بمثل ذلك. 1154 وببلاد كتامة حجر اللازورد الجيّد ومعادن النحاس والحديد. وكانت بكنيسة شقبنارية «1» في سلطان الروم أعجوبة مرآة كانت إذا اتّهم الرجل امرأته فنظر في تلك المرآة يرى وجه المبتلى بها. وكانت البربر قد تنصّرت فكان منهم بربري قد أظهر اجتهادا في النصرانية حتّى صار شمّاسا واتّهم رجل من الروم امرأته، فنظر في المرآة فإذا بوجه البربري الشمّاس، فدعا به الملك فقطع أنفه ومثل به وطرده من الكنيسة، فطرق قومه المرآة فكسّروها، فأرسل الملك إلى حيّهم فاستباحه. [مدينة سوسة] 1155 ومن القيروان إلى مدينة سوسة ستّة وثلاثون ميلا قد أحاط بها البحر من ثلاث نواح: الشمال والجنوب والشرق، وسورها صخر منيع حصين متقن البناء يضرب فيه البحر ويدخل إلى دورها من قنى من الجهة الشرقية، وفي ركن مدينة سوسة الّذي بين المغرب والقبلة منار عال يعرف بمنار خلف الفتى، وبها ثمانية أبواب أحدها باب كبير جدّا شرقي يعرف (بباب دار الصناعة) «2» منها تدخل المراكب وتخرج. ولمدينة سوسة بابان غربيان «3» يقابلان الملعب،

والملعب بنيان عظيم للأوّل أقباء مرتفعة واسعة معقودة بحجر النشفة «1» الخفيف الّذي يطفو على الماء المجلوب من بركان صقلّية، وحوله أقباء كثيرة يفضي بعضها إلى بعض. وحول مدينة سوسة آثار عظيمة للأوّل، وبنيان سوسة كلّها بالصخر المحكم. وبسوسة أسواق كثيرة وهي مخصوصة بكثرة الأمتعة والثمر «2» ، ولحم سوسة أطيب اللحوم وهي رخيصة الأسعار والفواكه كثيرة الخير، وهي قديمة البناء. 1156 وكان «3» معاوية بن حديج قد بعث إليها عبد الله بن الزبير في جمع كثيف، وكان بلغه أنّ نقفور بطريقا من بطارقة الروم أنفذه ملكهم في ثلاثين ألف مقاتل فنزل بذلك الساحل، فسار عبد الله حتّى نزل شرفا عاليا ينظر منه إلى البحر بينه وبين سوسة اثنا عشر ميلا. فلمّا بلغ ذلك نقفور رجع إلى مراكبه وصدر عن ذلك الساحل، فركب عبد الله بن الزبير في جيشه حتّى بلغ البحر ونزل على باب مدينة سوسة وانحطّ عن فرسه وصلّى بالناس صلاة العصر والروم يتعجّبون من أمره وقلّة اكتراثه بهم. (فأخرجوا إليه جمعا منهم «4» كثيرا من كماتهم «5» رجالا وركبانا، فزحفوا إليه) «6» وهو مقبل على صلاته لا يروعه ذلك ولا يهوّله حتّى إذا قضى صلاته شدّ على فرسه فركبه وحمل عليهم، فانكشفوا عنه «7» فهزمهم وولّوا أدبارهم حتّى لجؤوا «8» إلى مدينتهم فانصرف عنهم.

1157 ومدينة سوسة ممتنعة على من رامها قد جبل أهلها على الشدّة والبأس، وحاصرها أبو يزيد مخلد شهورا، ثمّ انهزم عنها وكان عليها في ثمانين ألف حصان، ففي ذلك يقول سهل «1» بن إبراهيم الورّاق [كامل] : إنّ الخوارج صدّها عن سوسة ... منّا طعان السّمر والأقدام وجلاد أسياف تطاير بينها «2» ... في النقع دون المحصنات الهام وقال أحمد بن بلج «3» السوسي [وافر] : ألمّ بسوسة وبغى عليها ... ولكن الإله لها نصير مدينة سوسة للغرب «4» ثغر ... تدين لها المدائن والقصور لقد لعن الّذين بغوا عليها ... كما لعنت قريظة والنضير أعزّ الدين خالق كلّ شيء ... بسوسة بعد ما التوت الأمور ولولا سوسة لدهت دواه ... يشيب لهولها الطفل الصغير سيبلغ ذكر سوسة كلّ أرض ... ويفشي «5» أهلها العدد الكثير 1158 والخروج إلى القيروان من سوسة على الباب القبلي المعروف بباب القيروان، ومقبرة سوسة عن يمين هذا الطريق. وكان زيادة الله بنى سورها وكان يقول: ما أبالي ما قدمت عليه يوم القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات:

بنياني المسجد الجامع بالقيروان وبنياني قنطرة الربيع وبنياني حصن مدينة سوسة وتوليتي أحمد بن أبي محرز «1» قضاء إفريقية. 1159 وخارج مدينة سوسة محارس وروابط ومجامع للصالحين، وداخلها محرس عظيم كالمدينة مسوّر بسور متقن يعرف بمحرس الرباط، وهو مأوى للأخيار والصالحين. داخله حصن ثان يسمّى القصبة، وهو بجوفي المدينة متّصل بدار الصناعة بسفح الجبل الّذي هي في سنده شرقي وأعلى المدينة غربي. ومدينة سوسة في سند عال ترى دورها من البحر، ووراء سورها هناك هيكل عظيم يسمّيه البحريّون الفنطاس «2» ، وهو أوّل ما يرون من البحر إذا قصدوا من صقلّية وغيرها، ولهذا الهيكل أربعة أدراج يصعد من كلّ واحد منها إلى أعلاه، وهو هيكل واسع بين بابه الّذي يدخل منه والثاني الّذي يخرج منه مسافة طويلة. 1160 والحياكة بسوسة كثيرة ويغزل بها «3» غزل يباع زنة المثقال منه بمثقالين من ذهب، وبسوسة تقصر ثياب القيروان الرفيعة. وجباية ساحل القيروان سوسة والمهدية وسفاقس وتونس لبيت المال خاصّة غير الدخل والخراج «4» الّذي لغير بيت المال ثمانون ألف مثقال.

[مدينة مستير]

[مدينة مستير] 1161 ومن محارس سوسة المذكورة محرس المنستير الّذي جاء فيه الأثر المتقدّم الذكر، ويذكر أنّ الّذي بنى القصر الكبير بالمنستير هو هرثمة بن أعين سنة ثمانين ومائة، وله في يوم عاشورا موسم عظيم ومجمع كثير. وبالمنستير البيوت والحجر والطواحن الفارسية ومواجل الماء، وهو حصن عالي البناء متقن «1» العمل. وفي الطبقة الثانية منه مسجد لا يخلو من شيخ خير فاضل يكون مدار القوم عليه، وفيه جماعة من الصالحين والمرابطين قد حبسوا أنفسهم فيه منفردين «2» دون الأهل والعشائر. 1162 وقال محمّد بن يوسف: هو قصر كبير عال داخله ربض واسع وفي وسط الربض حصن ثان كبير «3» كثير المساكن والمساجد، والقصاب العالية طبقات بعضها فوق بعض، وفي القبلة منه صحن «4» فسيح فيه قباب عالية متقنة البناء «5» تنزل حولها النساء المرابطات تعرف بقباب جامع. وبها جامع متقن البناء وهو آزاج معقودة كلّها وأقباء لا خشب فيها، ولها حمّامات كثيرة. وكان أهل القيروان يخرجون إليهم بالأموال والصدقات الجزلة. وبقرب المنستير ملّاحة عظيمة تشحن «6» فيها السفن بالملح إلى البلاد، وبقربه محارس خمسة «7» متقنة البناء معمورة بالصالحين.

[ذكر مدينة تونس]

[ذكر مدينة تونس] 1163 ومن القيروان إلى مدينة تونس مائة ميل، وهي ثلاث مراحل: فإلى فندق شكل مرحلة وإلى منستير عثمان مرحلة وإلى القيروان مرحلة. وطريق آخر: إلى منزل باشو «1» إلى الدواميس إلى القيروان. 1164 ودور مدينة تونس أربع وعشرون ألف ذراع. وفي سنة أربع عشرة ومائة بنى عبيد الله بن الحبحاب الجامع ودار الصناعة بمدينة تونس. وأهلها موصوفون بدناءة «2» النفوس. واسم مدينة تونس في الأوّل ترشيش، ويقال لبحرها بحر رادس وكذلك يسمّى مرساها مرسى رادس. وافتتحها حسّان بن النعمان (بن عدي بن بكر بن مغيث بن عمرو مزيقياء «3» بن عامر الأزدي. وروى جماعة عن أبي المهاجر قال: سار حسّان بن النعمان) «4» إلى أرطة فقاتل الروم بفحص تونس، فسأله الروم ألّا يدخل عليهم وأن يضع الخراج عليهم ويقوموا له بما يحمله وأصحابه، فأجابهم إلى ذلك. وكانت لهم سفن معدّة من ناحية الباب الّذي يقال له باب النساء، فاحتملوا فيها أهلهم وأموالهم وهربوا ليلا وأسلموا المدينة. فدخلها حسّان فحرق وخرب فبنى فيها مسجدا وبقي هناك طائفة من المسلمين. وكذلك كان من مكر صاحب قرطاجنّة أيضا بحسّان بن النعمان، إنّ الروم لمّا فرّوا عنها وبقي فيها مرناق صاحبها ليس معه إلّا أهله بعث إلى حسّان: هل لك أن تعاهدني وولدي وتقطع لي قطائع أشترطها عليك وأفتح لك بابا «5» فتدخل المدينة على من

فيها؟ فأجابه إلى مسألته فاشترط عليه المنازل الّتي بين الجبلين الّتي يقال لها فحص مرناق، وهي إذ ذاك ثلاثمائة وستّون «1» قرية، ثمّ فتح لهم الباب، فلم يجد فيها أحدا غيره وغير ولده وأهله «2» ، فتمّم له حسّان ما اشترطه «3» وانصرف إلى القيروان. 1165 قال: وأغارت الروم من البحر على من كان بقي من المسلمين في مدينة تونس وخرجت إليهم في المراكب فقتلوا «4» من بها وسبوا وغنموا، ولم يكن للمسلمين شيء يحصنهم من عدوّهم، إنّما كانوا معسكرين هناك. وبلغ «5» حسّان ذلك فرحل إلى تونس وأرسل أربعين رجلا من أشراف العرب إلى عبد الملك بن مروان وكتب إليه بما نال المسلمين من البلاء وأقام هناك مرابطا ينتظر رأي عبد الملك. فلمّا بلغ ذلك عبد الملك عظم عليه، وكان إذ ذاك التابعون متوافرين فيهم اثنان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنس بن مالك وزيد بن ثابت، فقالا للمسلمين: من رابط برادس يوما فله الجنّة حتما. وقالا لعبد الملك: امدد هذه البلاد وانصر أهلها ليأمنوا من العدوّ ويكون لك ثوابها وأجرها، فإنّها من البلدان المقدّسة المرحوم أهلها وهي حرس لمقدونية، يريدون القيروان. 1166 وروي أنّ ببحر رادس خرق الخضر عليه السلام السفينة وأنّ الملك الّذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا الجلندي ملك قرطاجنة، فخرق الخضر السفينة ببحر

رادس وقتل الغلام بطنبدة، وهي اليوم تسمّى المحمّدية «1» ، وهناك فارق موسى الخضر عليهما السلام. وطنبدة على أميال يسيرة من تونس. 1167 فكتب عبد الملك بن مروان إلى أخيه عبد العزيز وهو والي مصر أن يوجّه إلى معسكر تونس ألف قبطي بأهله وولده وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم حتّى يصلوا إلى ترشيش وهي تونس. وكتب إلى ابن النعمان أن يبني لهم دار صناعة تكون قوّة وعدّة للمسلمين إلى آخر الدهر، وأن يجعل على البربر جرّ الخشب لإنشاء المراكب ليكون ذلك جاريا عليهم إلى آخر الدهر، وأن يصنع بها المراكب (ويجاهد الروم في البرّ والبحر، وأن يغار منها على سواحل الروم فيشتغلوا «2» عن القيروان نظرا للمسلمين وتحصينا لشأنهم «3» . فوصل القبط إلى حسّان وهو مقيم بتونس، فأجرى البحر من مرسى «4» رادس إلى دار الصناعة وجرّ البربر الخشب وجعل فيها المراكب) «5» الكثيرة وأمر القبط بعمارتها. 1168 وبشرقي مدينة تونس بحيرة كبيرة دورها أربعة وعشرون ميلا في وسطها جزيرة تسمّى شكلة مقدار ميلين «6» تنبت الكلخ، وبها آثار قصر خرب، فصارت دار صناعة تونس متّصلة (بالمينى والمينى متّصل) «7» بالبحيرة (والبحيرة متّصلة بالبحر) «8» . وعلى شاطى المينى مسجد يعرف بمسجد عبد الله، وبقبلي المينى قصر مبنيّ بالحجارة متقن البناء، وفي الجوف منه حائط صخر

كالسور، فصار المدخل بالسفن في هذا المينى بين حائط القصر (وهذا السور، وتعرض بينهما سلسلة حديد تمنع المراكب من الدخول والخروج ما دامت متعرّضة «1» ، وهذا القصر) «2» يعرف بقصر السلسلة. وبقبلي القصر صهريجان كبيران كان ملوك بني الأغلب يرسلون فيهما ماء البحر ويملأونهما بالسمك. 1169 وقد تقدّم أنّ عبيد الله بن الحبحاب بنى دار الصناعة «3» ، فلعلّ من روى ذلك يريد أنّ عبيد الله جدّدها وزادها تحصينا. فلم تزل تونس معمورة من يومئذ يغزو منها المسلمون بلاد الروم ويكثرون فيهم النكاية ولهم الإذاية. 1170 ومدينة تونس في سفح جبل يعرف بجبل أمّ عمرو، ويدور بمدينتها خندق حصين، ولها خمسة أبواب: باب الجزيرة قبلي ينسب إلى جزيرة شريك ويخرج منه إلى القيروان، ويقابله الجبل المعروف بجبل التوبة وهو جبل عال لا ينبت شيئا في أعلاه قصر مبنيّ مشرف على البحر، وبشرقي هذا القصر (غار منحني الباب يسمّى المعشوق، وبالغربي منه عين ماء، وبغربي هذا) «4» الجبل جبل يعرف بجبل الصيادة فيه قرى كثيرة الزيتون والثمار والمزارع، وفي هذا الجبل سبعة مواجل للماء أقباء على غرار واحد، وبغربي هذا الجبل أيضا أشراف ومزارع متّصلة بموضع يعرف بالملعب فيه قصر لبني الأغلب قد غرس بجميع الثمار وأصناف الرياحين. وبشرقي مدينة تونس المينى والبحيرة الّتي

ذكرناها وسبخة «1» ، وبشرقيها أيضا باب قرطاجنة دونه داخل الخندق بساتين كثيرة وآيار بسوان تعرف سواني المرج. وباب السقائين جوفي نسب إلى السقائين لأنّ بئرا تعرف ببئر أبي القفار «2» تقابله، وهي بئر كبيرة عزيزة عذبة المائة نميرة، وهناك قصور لبني الأغلب وبساتين فيها أصناف الثمار والرياحين، ويتّصل بها جبل أجرد يقال له جبل خفاجة في أعلاه آثار بنيان. وباب أرطة غربي وتجاوره مقبرة تعرف بمقبرة سوق الأحد، ودون الباب من داخل الخندق غدير كبير يعرف الفحّامين، وربض المرضى خارج عن المدينة،. وبقبلي ربض المرضى ملاحة كبيرة منها ملحهم وملح من يجاورهم. 1171 وجامع «3» مدينة تونس رفيع البناء مطلّ على البحر ينظر الجالس «4» فيه إلى جميع جواريه، ويرقى إلى الجامع من جهة الشرق على اثني عشرة درجة، وبها أسواق كثيرة ومتاجر عجيبة. وبمدينة تونس خمسة عشر حمّاما وفنادق كثيرة رفيعة. وعضادات أبواب دور «5» مدينة تونس كلّها رخام بديع لوحان قائمان وثالث معترض عليهما مكان العتبة. ومن أمثالهم: دور تونس أبوابها رخام وداخلها سخام. 1172 ومدينة تونس دار علم وفقه ولي منها قضاء إفريقية جماعة كثيرة، ومع هذا الفضل الّذي فيها هي مخصوصة بالقيام على الأمراء والخلاف للولاة، خالفت

نحو عشرين مرّة، وامتحن أهلها أيّام أبي يزيد بالقتل والسبي وذهاب الأموال. وقال الجربي صاحب الحدثان [طويل] : فويل لترشيش وويل لأهلها ... من الحبشي الأسود المتغاصب وقال بعض الشعراء [طويل] : لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها ... ولكنّني ألفيتها وهي توحش 1173 وتصنع بتونس «1» آنية للماء من الخزف تعرف بالريحية شديدة البياض في نهاية الرقّة تكاد تشفّ ليس «2» يعلم لها نظير في جميع الأقطار وعامّة الأمصار. ومدينة تونس من أشرف مدائن إفريقية وأطيبها ثمرا وأنفسها «3» فاكهة، فمن ذلك اللوز الفريك يفرك بعضه بعضا من رقّة قشره ويحتّ «4» باليد وأكثره حبّتان في كلّ لوزة مع طيب المضغة وعظم الحبّة. والرمّان الضعيف «5» لا عجم لحبّه البتّة مع صدق الحلاوة وكثرة المائية، والأترج الجليل الطيّب «6» الطعم الذكي الرائحة البديع المنظر، والتين الخارمي أسود كبير رقيق القشر كثير العسل لا يكاد يوجد له بزر، والسفرجل المتناهي كبرا وطيبا وعطرا، والعناب «7» الرفيع في قدر الجوز «8» ، والبصل القلوري «9» في خلق الأترج مستطيل سابري القشر صادق الحلاوة كثير الماء. وبها من أجناس الحوت الّذي لا يكون مثله في غيرها ما لا يحصى كثرة، أجناس تجري في البحر مع شهور العجم في كلّ شهر من تلك الشهور يجري فيه جنس منه «10» لا يوجد في البحر إلى دخول ذلك الشهر من العام

[ذكر مدينة قرطاجنة]

المقبل، فهم «1» من تجدّدها في لذّة موصولة ونعمة غير مملولة وكلّ جنس منها يصيّر ويبقى السنين صحيح الجرم طيّب الطعم، منها جنس يعرف بالعبانق «2» وجنس يعرف بالأكتوبري وجنس يعرف بالأشبارش وجنس يعرف بالملكوس «3» وجنس يعرف بالبقونس، ومن أمثالهم: لولا البقونس لم يخالف أهل تونس. 1174 وفي الطريق بينها وبين القيروان منزل يقال له مجقّة «4» ، إذا كان أوان طيب الزيتون بالساحل قصدته الزرازر فباتت فيه، وقد حمل كلّ طائر منها زيتونتين في مخلبيه فيلقي الزيتون هناك وله غلّة عظيمة تبلغ سبعين ألف درهم. [ذكر مدينة قرطاجنة] 1175 ومن مدينة تونس إلى قرطاجنة اثنا عشر ميلا. ويقال إنّ الّذي بنى قرطاجنة ديدون «5» الملك زمن داود عليه السلام. ويقال إنّ بين بناء قرطاجنة وبناء مدينة رومية «6» اثنتان وسبعون سنة. ولو دخلها الداخل أيّام عمره وتدبّر فيها «7» لرأى كلّ يوم مستأنف أعجوبة لم يرها في السالف. وهي على شاطىء البحر يصيب سورها أمواجه، وكان تكسير سورها أربعة عشر ألف ذراع.

1176 وقال أبو جعفر أحمد بن إبراهيم المتطبّب القيرواني في مغازي إفريقية: إنّ موسى بن نصير لمّا دخل الأندلس فأتى على ما أراد منها قال لهم: دلّوني على أسنّ شيخ فيكم. فأتي بشيخ قد وقعت حاجباه عن عينيه من الكبر، فقال له موسى: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من قرطاجنة إفريقية. فقال له موسى: فما الّذي أصارك هنا وكيف كان خبر قرطاجنة؟ (قال له: أتعرف من بنى قرطاجنة؟) «1» . قال له الشيخ: بناها قوم من بقية العادين الّذين هلك قومهم بالريح فبقيت بعدهم خرابا ألف سنة حتّى بناها (أردمين بن لاودين) «2» بن نمرود الجبّار، وجلب إليها الماء العذب من دلالا «3» فحفر له في الجبال وبنى القناطر في بطون الأودية حتّى استوى جري الماء فيها بعد عمل أربعين سنة. قال: فلمّا حفر أساس تلك القناطر (في طول الأودية) «4» أصيب فيه حجر عليه كتابة، فإذا فيه «5» : إنّ هذه المدينة ليست تخرب إلّا إذا ظهر فيها الملح. قال الشيخ: فبينا نحن ذات يوم في مجرى قرطاجنة جلوس إذا بملح على حجر، فعند ذلك رحلت إلى هاهنا. 1177 وكان سبب خراب قرطاجنة أنّ أنيبل ملك إفريقية- وكانت قرطاجنة دار ملكه- مضى إلى بلد «6» إيطالية الّذي فيه مدينة رومة ولاقى قوّاد رومة، وكان أهل رومة يومئذ لا ملك لهم، إنّما كان تدبير مملكتهم إلى سبعين رجلا «7» من كبائرهم يخرجون من أنفسهم كلّ عام اثني عشر قائدا يقرعون بينهم على نواحيها، فيخرج كلّ واحد إلى الناحية الّتي وقعت عليها قرعته.

فهزمهم أنيبل وقتلهم في عدّة مواطن حتّى بعث إلى إفريقية بثلاثة أمداء من خواتم الذهب الّتي كانت في أيدي أشراف من قتل منهم وملوكهم، فكتب إليهم: هذا عدد من قتلته من الأشراف والقوّاد فضلا عن غيرهم. فأقام في بلاد إيطالية محاربا لمدينة رومة ومضيقا على نواحيها «1» نحوا من ستّ عشرة سنة. فركب قائد من قوّادهم يقال له شبيون المراكب خفية حتّى أتى صقلّية، فحشر من اجتمع له بها، ثمّ مضى إلى بلد إفريقية وترك أنيبل محاصرا لبلد رومة «2» ، فنصر على الإفريقيّين وعمّ بلد إفريقية قتلا وسبيا واحتراقا، وبقي محاصرا لقرطاجنة فبعث أهلها إلى أميرهم أنيبل يعلمونه بما دهمهم «3» من أهل رومة ويسألونه الإسراع لغياثهم. فعجب عند ذلك أنيبل وقال: إنّي كنت أرى «4» أنّ التزامي «5» محاصرة هذه المدينة يقطع اسم الرومانيّين من الدنيا، فأظنّ أنّ إله السماء لا يأذن بذلك. ثمّ ركب المراكب وأسرع الرجوع إلى إفريقية، فزحف إليه شبيون قائد الرومانيّين فهزمه في كلّ مشهد. 1178 فجعل أنيبل يخاطبه ويقول: أين كنتم معشر الرومانيّين من هذه النجدة إذ كنّا نقاتلكم ونهزمكم في أفنيتكم؟ فقال له شبيون: إذ كنتم في بلدنا قد بعد عنكم بلدكم وحصونكم ونحن في حصوننا وبلدنا كنّا أشدّ منكم خورا وكنتم أشدّ منّا استثباتا «6» ، فلمّا صرنا في بلدكم انتقل الأمر وتبدّل الحكم. فغلب عند ذلك أهل رومة على أهل إفريقية وهدموا مدينة قرطاجنة.

1179 وأعجب ما بقرطاجنة دار الملعب وهم يسمّونها الطياطر، قد بنيت أقواسا على سواري وعليها مثلها ما أحاط بالدار، وقد صوّر في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات وجعلت فيه صور الرياح، وجعل صورة الصبا وجه مستبشر وصورة الدبور وجه عابس «1» . ورخام قرطاجنة لو اجتمع أهل إفريقية على نقله واستخراج جميعه ما أمكنهم ذلك لكثرته. وفيها قصر يعرف بالمعلّقة مفرط العظم والعلو، أقباء معقودة وطبقات كثيرة مطلّ على البحر، في غربيّه قصر يعرف بالطياطر وهو الّذي فيه دار الملعب المذكورة، (وهو كثير الأبواب والتراويج وهو أيضا طبقات على كلّ باب صورة حيوان رخام وصور جميع الصنّاع، وقصر يقال له قومش «2» طبقات كثيرة أيضا في سواري رخام مفرطة الكبر والعظم) «3» يتربع «4» على رأس السارية منها اثنا عشر رجلا وبينهم «5» سفرة طعام أو شراب، (وهي مشطّبة كالثلج بياضا والمهاة صفاء، بعض تلك السواري قائمة وبعضها ساقطة «6» ، وبها قبو «7» عظيم لا يدرك الطرف آخره) «8» فيه سبعة مواجل للماء كبار تعرف بمواجل الشياطين فيها ماء قديم لا يدرى متى دخلها. وبقرب قصر قومش «9» سجن أقباء بعضها فوق بعض مظلم مهيب الدخول فيه جثث الموتى على حالهم إلى اليوم، فإذا مسّوا تلاشوا. 1180 وداخل المدينة مينى كانت المراكب تدخلها بشرعها، وهي اليوم ملاحة عليها قصر «10» ورباط يعرف ببرج أبي سليمان. وفي وسط المدينة صهريج كبير

(حوله في وقتنا هذا ألف وسبعمائة حنية قائمة سوى ما انهدم منها، وكان يجري إلى هذا المصنع «1» الماء المجلوب من عين جقار «2» إلى قرطاجنة) «3» على مسيرة أيّام في قناة عظيمة تغيب مرّة تحت الأرض وتكون في موضع آخر «4» في قناطر فوق قناطر حتّى تساوي السحاب. ومن عين جقّار كان عبيد الله الشيعي يشرب الماء يرد عليه كلّ يوم منه أحمال معروفة. 1181 وبقرطاجنة قصران من رخام يعرفان بالأختين ليس فيهما حجر سواه محكم البناء رخامه كلّه مدخل بعضه في بعض، وبهذين القصرين ماء مجلوب يأتي من قبل الجوف لا يعرف من أين منبعثه يصبّ في البحر وعليه نواعير لقرى قرطاجنة. وبها سواري قائمة طول الظاهر فوق الأرض منها أربعون ذراعا، قد عقد عليه قبو من حجر النشفة، وهو الحجر الخفيف الّذي يطفو فوق الماء. وبها قبّة لا يلحقها الرامي بأشدّ نزع السهام علوّا وسمّوا، حولها «5» سطح مفروش بالفسيفساء خمسون ذراعا في مثلها. وخرائب قرطاجنة اليوم قرى «6» رفيعة مفيدة عامرة، وأصناف ثمارها متناهية في الطيب لا يكاد يرى ما يفضلها. 1182 وروى الثقات عن عبد الرحمان بن زياد بن أنعم قال: كنت وأنا غلام مع عمّي (بقرطاجنة نمشي في آثارها ونعبر «7» بعجائبها، فإذا بقبر مكتوب عليه بالحميرية: أنا عبد الله) «8» بن الأواس رسول رسول الله صالح. وفي

رواية أخرى «1» : أنا معتب «2» بعثت إلى (أهل هذه) «3» القرية أدعوهم إلى الله، أتيتهم ضحى فقتلوني ظلما فحسيبهم الله. وقال إسحاق بن عبد الملك «4» الملشوني «5» : لم يدخل إفريقية نبيّ قطّ، وأوّل من دخلها بالإيمان حواري عيسى بن مريم عليه السلام. 1183 وفيما بين مدينة سوسة ومدينة تونس جزيرة شريك، (تنسب إلى شريك العبسي كان عاملا عليها، وأمّ إقليم «6» جزيرة شريك) «7» منزل باشو، وهي مدينة كبيرة آهلة بها جامع وحمّامات وثلاث رحاب وأسواق عامرة وبها قصر أحمد بن عيسى القائم على ابن الأغلب. وبجزيرة شريك اجتمعت الروم بعد دخول عبد الله بن سعد بن أبي سرح المغرب وتبادروا «8» منها إلى مدينة إقليبية وما حولها، ثمّ ركبوا منها إلى جزيرة قوصرة وهي بين صقلّية وإفريقية وكانت إذ ذاك عامرة. فيقال إنّهم أقاموا بها إلى خلافة عبد الملك بن مروان، فأغزى عبد الملك بن مروان (عبد الملك) «9» بن قطن في البحر، ففتح ما كان هنالك من الجزائر والقصور وخربها وقفل ظافرا «10» . 1184 ومن تونس إلى منزل باشو هذا مرحلة بينهما قرى (كبيرة آهلة) «11» كثيرة وحامة «12» جليلة مجرّبة النفع. ثمّ من باشو إلى قرية الدواميس مرحلة، وهي قرية كبيرة آهلة كثيرة الزيتون والشجر بينهما قصر الزيت ووادي الدمنة وفندق

ريحان ووادي الرمّان «1» . ومن قرية الدواميس إلى القيروان مرحلة بينهما قصور ومنازل وقرى «2» . 1185 وبحذاء جزيرة شريك في البرّ نحو الجنوب جبل زغوان، وهو جبل منيف مشرف يسمّى كلب الزقاق «3» ، لظهوره وعلوّه واستدلال المسافرين به أينما توجّهوا، فإنّه يرى على مسيرة الأيّام الكثيرة، ولعلوّه ترى السحاب دونه وكثيرا ما يمطر (سفحه ولا يمطر) «4» أعلاه. وأهل إفريقية يقولون لمن يستثقلونه من الناس: هو أثقل من جبل زغوان وأثقل من جبل الرصاص، وهو على تونس. وقال الشاعر يخاطب حمامة «5» أرسلها بكتاب من القيروان إلى تونس [وافر] : وفي زغوان فاستعلي علوّا ... وداني في تعاليك السحابا وبزغوان قرى كثيرة آهلة كثيرة المياه والثمار والبساتين، منها فندق شكل المحلّة «6» المعروفة وهي على مرحلة من تونس قرية كبيرة آهلة، ومنها قرية قلمجنة «7» كان أبو القاسم بن عبيد الله شرع في بنيانها واتّخذها مدينة يسكنها الغريب السّابل من هوارة ونفوسة. وهذا الجبل مأوى للصالحين وخيار المسلمين.

1186 وبغربي جبل زغوان مدينة لربس «1» بينها وبين القيروان مسيرة ثلاثة أيّام، وهي مدينة مسوّرة لها ربض كبير، وبأرضها يكون أطيب الزعفران ويعرف ببلد العنبر، وبها صار إبراهيم بن أبي الأغلب «2» حين خرج من القيروان. وفي سنة ستّ وتسعين ومائتين زحف إليها أبو عبد الله الشيعي ونازلها وبها جمهور أجناد إفريقية مع إبراهيم، ففرّ عنها ابن أبي الأغلب في جماعة من القوّاد والجند إلى أطرابلس ودخلها الشيعي عنوة، ولجأ أهلها ومن بقي فيها من فل «3» الجند إلى جامعها وركب بعض الناس بعضا، فقتلهم الشيعي أجمعين حتّى كانت تسيل الدماء من أبواب المسجد كسيلان الماء بوابل الغيث. وقيل إنّه قتل داخل المسجد ثلاثين ألفا، وذلك من وقت صلاة العصر إلى آخر الليل. وكانت ولاية بني الأغلب إفريقية مائة سنة وإحدى عشرة سنة. 1187 ومن مدينة لربس «4» إلى مدينة الأنصاريّين «5» مسيرة يوم. نسبت إلى قوم نزلوها من الأنصار من ولد جابر بن عبد الله، وهي طيّبة الأرض كثيرة الريع وحنطتها أجلّ حنطة بإفريقية. 1188 ومن مدينة القيروان إلى مدينة قفصة ثلاثة أيّام، وهي مدينة مبنيّة كلّها على

أساطين وطيقان رخام قد بني خلالها «1» بالصخر الجليل بأحكم عمل. ويذكر أنّ باني هذا السور شنتيان «2» غلام نمرود «3» ، وقد زبر «4» عليه اسمه وهو مقروء فيه إلى اليوم، وسورها كأنّما قد فرغ من عمله بالأمس. وداخل مدينة قفصة عينان نضّاختان تنبعان بنهرين خرّارين يسقيان بساتينها ومزروعاتها «5» ، وفي داخل جامعها عين كبيرة مبنية بالصخر من بنيان الأوّل أربعون باعا «6» في مثلها. وقفصة أكثر بلاد القيروان فستقا ومنها ينتشر بإفريقية ويحمل إلى مصر والأندلس وسجلماسة. وبها تمر مثل بيض الحمام وهي تمير القيروان بأنواع الفواكه والتمر. وحولها أكثر من مائتي قصر عامرة آهلة تطّرد فيها وحواليها المياه تعرف بقصور قفصة. وجباية قفصة خمسون ألف «7» دينار. ومن قصور قفصة مدينة طراق «8» وهي في منصف الطريق من قفصة إلى فجّ الحمار «9» وأنت تريد القيروان. ومدينة طراق كبيرة آهلة بها جامع وسوق حافلة وإليها ينسب الكساء الطّراقي وهو من جهاز «10» مصر، وهي كثيرة الفستق. 1189 وتسير من القيروان إلى مدينة نفزاوة في ستّة أيّام نحو الغرب، ولمدينة نفزاوة عين تسمّى بالبربرية تاورغى وهي عين كبيرة لا يدرك لها قعر. ولمدينة نفزاوة سور صخر وطوب ولها ستّة أبواب وبها جامع «11» وأسواق حافلة، (وهي على نهر كثير النخل والثمار، وحواليها عيون كثيرة وبقبليّها مدينة أوّلية «12» تعرف بالمدينة عليها سور وبها جامع وحمّام وسوق) «13» وحولها عيون وبساتين. وبين مدينة نفزاوة وقابس ثلاث مراحل، (وبينها وبين قفصة مرحلتان، وهي على ثلاث مراحل) «14» من قيطون بياضة، ومن قيطون

ذكر بلاد قسطيلية

بياضة إلى مدينة نفطة «1» مرحلة، إلى مدينة توزر مرحلة، إلى مدينة نفزاوة مرحلة. ومن نفزاوة تسير إلى بلاد قسطيلية وبينهما أرض سوّاخة لا يهتدى الطريق «2» فيها إلّا بخشب منصوبة، وأدلّاء تلك الطريق بنو موليت لأنّ هناك ظواعينهم، فإن ضلّ أحد يمينا أو شمالا غرق في أرض دبياس «3» تشبه في الرطوبة بالصابون، وقد هلكت فيها العساكر والجماعات ممّن دخلها ولم يدر أمرها. (وتسمّى هذه الأرض بالسوّاخة) «4» ، وتصل هذه الأرض السواخة إلى مدينة (غواسين، وقيل إلى مدينة) «5» غدامس. ذكر بلاد قسطيلية «6» 1190 فأمّا بلاد قسطيلية فإنّ من مدنها توزر والحمّة «7» ونفطة، وتوزر هي أمّها وهي مدينة كبيرة عليها سور مبني بالحجر والطوب ولها جامع محكم البناء وأسواق كثيرة، وحولها أرباض واسعة آهلة، وهي مدينة حصينة لها أربعة أبواب (كثيرة النخل والبساتين والثمار إلّا أنّ قصب السكر واللوز) لا يصلحان بها. وحولها سواد عظيم من النخل، وهي أكثر بلاد إفريقية تمرا ويخرج منها في أكثر الأيّام ألف بعير موقورة تمرا وأزيد. شربها من ثلاثة أنهار تخرج من رمال كالدرمك «8» رقّة وبياضا، يسمّى ذلك الموضع بلسانهم شرش «9» . وإنّما تنقسم هذه الثلاثة الأنهار بعد اجتماع مياه تلك الرمال بموضع يسمّى وادي الجمال يكون قعر النهر هناك نحو مائتي ذراع، ثمّ ينقسم كلّ نهر من هذه الأنهار الثلاثة على ستّة جداول وتتشعّب من تلك الجداول سواق لا تحصى كثرة تجري في قنوات مبنيّة بالحجر «10» على قسمة عدل لا

يزيد بعضها على بعض شيئا. كلّ ساقية سعة شبرين في ارتفاع فتر يلزم كلّ من يسقي منها أربعة أقداس «1» مثقال في العام. (وقيل: يلزم كلّ من يسقي نهارا أربعة أسداس المثقال في العام) «2» وبحساب ذلك في الأكثر والأقلّ، وهو أن يعمد الّذي يكون له دولة السقي إلى قدس في أسفله ثقبة «3» بمقدار ما يسدّها وتر قوس الندّاف، فيملؤها بالماء ويعلقه ويسقي حائطه أو بستانه من تلك الجداول حتّى ينفد ماء القدس، ثمّ يملأوه ثانية. وهم قد علموا أنّ سقي اليوم الكامل هو مائة واثنان وتسعون قدسا «4» . 1191 ولا يعلم في بلد مثل أترجها جلالة وحلاوة، وبها الترنجبين والمخيطا والأملج. وجباية قسطيلية مائتا ألف دينار. وأهلها يستطيبون لحم الكلاب ويسمّنونها في بساتينهم ويطعمونها التمر ويأكلونها. وأخبرني من ضاف «5» منهم رجلا فأطعمه لحما استطابه «6» واستحسنه، فسأله عنه فقال له: لحم جرو مسمّن. 1192 ولا يعرف وراء قسطيلية عمران ولا حيوان إلّا الفنك، إنّما هي رمال وأرضون سواخة، وهم يخبرون أنّ قوما منهم أرادوا معرفة ما وراء بلادهم، فاستعدّوا الأزواد وذهبوا في تلك الرمال أيّاما فلم يروا أثر العمران وهلك أكثرهم في تلك الرمال.

الطريق من مدينة القيروان إلى قلعة أبي طويل

الطريق من مدينة القيروان إلى قلعة أبي طويل 1193 وهي قلعة كبيرة ذات منعة وحصانة. (فلمّا كان) «1» خراب القيروان انتقل إليها أكثر أهل إفريقية، وهي اليوم مقصد التجّار وبها تحلّ الرجال من العراق والحجاز ومصر والشام وسائر بلاد المغرب، وهي اليوم مستقرّ مملكة صنهاجة. وبهذه القلعة كان احتصن أبو يزيد مخلد بن كيداد بن اسماعيل على ما نذكره (في موضعه من هذا الكتاب) «2» إن شاء الله. 1194 تخرج من القيروان إلى وادي الرمال أربعون ميلا، وهي قرية «3» زيتونها كثير ورمالها حمر، ومنها إلى سبيبة وهي مدينة أوّلية «4» ذات أنهار وثمار، ومنها إلى قلعة الديك، ومنها إلى السكّة «5» قلعة جليلة وبها مجمع سوق، ومنها إلى مدينة مجانة المطاحن وهي مدينة قديمة وبها مقطع حجارة الأرحاء ليس على الأرض مثله، ومنها إلى نهر ملّاق نهر عظيم عليه آثار قديمة، وفي الشرق منه مدينة تبسّا «6» وهي مدينة أوّلية «7» فيها آثار للأوّل كثيرة وهي كثيرة الثمار والأشجار، ومنها إلى قرية مسكيانة وهي على نهر. وهذه المواضع كلّها محلّاة باسم من يأتي بعد إن شاء الله. ومنها إلى مدينة باغاية «8» وهي مدينة جليلة أوّلية ذات أنهار وثمار ومزارع ومسارح على مقربة منها جبل أوراس وهو المتّصل بالسوس، وبهذا الجبل قام أبو يزيد مخلد بن كيداد الزناتي.

1195 ومن باغاية إلى مدينة قاساس وهي مدينة قديمة على نهر وفي غربيّها جبل شامخ، ومنها إلى قبر مادغوس وهو قبر مثل الجبل الضخم مبنيّ بآجر رقيق قد خرق وبني طيقانا «1» صغارا وعقد بالرصاص وصوّرت فيه صور الحيوان من الأناسي «2» وغيرهم، وهو مدرّج النواحي وفي أعلاه شجرة نابتة، وقد أجمع على هدمه من سلف فلم يقدروا على ذلك. (وفي الشرق من هذا القبر بحيرة مادغوس) «3» وهي مجمع لكلّ طائر، وتسير من هناك إلى بلزمة لمزاتة حصن أوّلي، وهو في بساط من الأرض كثير المزارع والقرى، (وفي قراه حصون كثيرة، وتسير منها إلى مدينة نقاوس) «4» وهي مدينة كثيرة الأنهار والثمار والمزارع، وبشرقيّها مدينة اللوز. 1196 وتسير من نقاوس إلى مدينة طبنة، وهي مدينة كبيرة سورها اليوم من بناء المنصور أبي الدوانيق، وهي ممّا افتتح «5» موسى بن نصير فبلغ سبيها عشرين ألفا وهرب ملكهم كسيلة، وسورها مبنيّ بالطوب وبها قصر وأرباض، وداخل القصر جامع وصهريج كبير يقع فيه نهرها ومنه تسقى بساتينها. ويقال إنّ الذي بناها أبو جعفر عمر بن حفص المهلّي المعروف بهازرمرد «6» ، يسكنها العرب والعجم بينهما الاختلاف والحرب، ويسكن حولها بنو زقراح «7» . وقال محمّد بن يوسف إنّ قصر طبنة قديم أوّلي كبير جليل مبني بالصخر الضخم «8» عليه آزاج كثيرة ينزله العمّال، وهو ملاصق لسور المدينة من جهة القبلة عليه باب حديد (هو شرقيّ) «9» .

1197 ولمدينة طبنة من الأبواب باب خاقان مبني بالحجر عليه باب حديد وهو سريّ «1» ، وباب الفتح غربيّ باب حديد أيضا بينهما سماط يشقّ المدينة من الباب إلى الباب، وباب تهوذا «2» قبلي عليه باب حديد (وهو سريّ) «3» أيضا، والباب الجديد «4» حديد أيضا وباب كتامة جوفي. وخارج المدينة بإزاء باب الفتح سور مضروب على فحص فسيح يكون مقدار ثلثي مدينة طبنة بناه عمر بن حفص هازرمرد «5» . ويشقّ سكك المدينة جداول الماء العذب، وبها أسواق كثيرة غير السماط المذكور، ولها بساتين يسيرة ملاصقة للربض، ومقبرتها بشرقيّها وبقرب المقبرة غدير يعرف بغدير فرغان وهو بجوفي «6» مصلّى العيد. وليس من القيروان إلى مدينة سجلماسة مدينة أكبر منها. واسم نهرها بيطام، وإذا حمل سقى جميع بسائطها «7» وفحوصها، ويقول أهلها: بيطام بيت الطعام، لجودة زرعها. وإذا كانت الحرب بين العرب والمولّدين استمدّ العرب بعرب مدينة تهوذا وسطيف واستمدّ المولّدون بأهل بسكرة وما والاها. وقال أحمد بن محمّد المروذي «8» في قصّة إسماعيل بن أبي القاسم [سريع] : سرنا وقد حلّ بقرب «9» طبنه ... وصار منها اهلها في محنة فأعظم الله العزيز المنّه ... وبدّلوا من بعد نار جنّه

وفجّ زيدان يطلّ على مدينة طبنة وإيّاه عنى أبو عبد الله الشيعي في قوله [كامل] : من كان مغتبطا بلين حشيّة ... فحشيتي وأريكتي سرجى من كان يعجبه ويبهجه ... نقر الدفوف ورنّة الصنج فأنا الّذي لا شيء يعجبني ... إلّا اقتحامي لجّة الوهج سل عن جيوشي إذ طلعت بها ... يوم الخميس ضحى من الفجّ 1198 ومن «1» طبنة إلى مدينة مقّرة وهو بلد كبير ذو ثمار وأنهار ومزارع، ومنها إلى قلعة أبي طويل. ومن باغاية إلى بلد بسكرة أربعة أيّام. وبسكرة كورة فيها مدن كثيرة وقاعدتها بسكرة، وهي مدينة كبيرة كثيرة النخل والزيتون وأصناف الثمار، وهي مدينة مسوّرة عليها خندق «2» وبها جامع ومساجد كثيرة وحمّامات، وحواليها بساتين كثيرة، (وهي في) «3» غابة كبيرة مقدار ستّة أميال فيها أجناس التمور، منها جنس يعرفونه بالكسبا وهو الصيحاني يضرب به المثل لفضله على غيره، وجنس يعرف باللباري «4» أبيض أملس كان عبيد الله الشيعي يأمر عمّاله بالمنع من بيعه والتحظير عليه وبعث ما هنالك منه «5» إليه، وأجناس كثيرة يطول ذكرها لا يعدل بها غيرها «6» . وحول بسكرة أرباض خارجة عن الخندق المذكور. وببسكرة علم كثير وأهلها على مذهب «7» أهل المدينة. ولها من الأبواب باب المقبرة وباب الحمّام وباب ثالث، سكّانها المولّدون وحولها من قبائل البربر سدراتة وبنو مغراوة أهل بيت بني خزر وبنو يزمرتي.

وداخل مدينة بسكرة آبار كثيرة عذبة منها في الجامع بئر لا تنزف، وداخل المدينة جنان «1» يدخل إليها الماء من النهر، وبها جبل ملح يقطع منه الملح كالصخر الجليل، ومنه كان عبيد الله الشيعي وبنوه يستعملون في أطعمتهم. وتعرف ببسكرة النخيل. قال أحمد بن محمّد المروذي [سريع] : ثمّ أتى بسكرة النخيل ... قد اغتدى في زيّه الجميل 1199 ومن مدنها مدينة جمونة «2» ومدينة طولقة ومدينة مليلى ومدينة بنطيوس (وهي من بنيان الأوّل) «3» . وشرب بسكرة من نهر كبير يجري في جوفيّها منحدر من جبل أوراس «4» . وقرية من قرى بسكرة تسمّى ملشون منها أبو عبد الله الملشوني وابنه إسحاق عالمان يحمل عنهما العلم، (سمع منهما أبو عبد الله) «5» بن ميمون ومقاتل وغيرهما. 1200 أخبرني أحمد بن عمر بن أنس قال: أخبرني قاسم بن عبد العزيز أنّ في الطريق إلى يسكرة جبلا يعرف بزيقيزي «6» في وسطه كهف فيه رجل قتيل لم يغيّره مرّ الزمان وتقادم الدهور تبضّ جراحه دماء كأنّما قتل منذ يومين، وتخبر الكافّة عن الكافّة أنّهم لا يعلمون متى قتل قدما، وقد نقله أهل تلك النواحي ودفنوه في أفنيتهم تبرّكا به، ثمّ لم ينشبوا «7» أن وجدوه في الكهف

وطريق آخر من القيروان إلى قلعة أبي طويل

على حاله، يحدّث بذلك ثقات أهل تلك الناحية، والله فعّال لما يشاء. وقال محمّد بن يوسف في كتابه إنّ هذا القتيل في شقّ جبل بشرقي عين أربان، وهذه العين بين مدينة مرماجنة «1» ومدينة سبيبة المذكورة أيضا، وذكر أنّه يظهر «2» كما ذبح من يومه وأنّه هناك من قبل فتوح إفريقية، ولم يذكر أمر دفنه، والله أعلم بأمره. وطريق آخر من القيروان إلى قلعة أبي طويل 1201 من القيروان في قرى وعمارات إلى مدينة أبّة «3» ثلاثة أيّام، وهي مدينة أوّلية يكون بها الزعفران الجيّد، وعلى ستّة أميال منها مدينة لربس «4» المذكورة قبل هذا. ومن مدينة أبّة «5» إلى نهر ملّاق وهو نهر عظيم يسقي نواحي فحص بل. ومن نهر ملّاق إلى مدينة تامديت «6» وهي مدينة في مضيق بين جبلين في سند وعر، ولها مزارع واسعة وحنطتها موصوفة. ومنها إلى مدينة تيفاش وهي مدينة أوّلية شامخة البناء، وتسمّى تيفاش الظالمة وفيها عيون ومزارع كثيرة، وهي في سفح جبل، وفيها آثار للأوّل كثيرة. ومنها إلى قصر الإفريقي وهي مدينة جامعة على شرف من الأرض ذات مسارح ومزارع كثيرة. ومنها إلى واد يعرف بوادي الدنانير وهو واد خصيب. ومنها إلى مدينة تيجس وهي مدينة أوّلية شامخة البناء كثيرة الكلأ والربيع. ومنها إلى مدينة توبوت على بلاد كتامة. ويسمّى هذا الطريق بالجناح الأخضر. ومنها إلى مدينة تابسلكى «7» وهي صغيرة في سفح جبل يسمّى أنف النسر «8» . (ومنها إلى النهرين وهي

الطريق من القيروان إلى مدينة بونة

قرى كثيرة في فحص عريض وبساط من الأرض مديد) «1» . ومنها إلى مدينة تامسلت وهي مدينة جليلة الزرع والضرع. ومنها إلى مدينة دكمة «2» وهي على نهر كبير ذات مزارع ومسارح. ومنها إلى مدينة الغدير تخرج منه عيون نهر سهر، وهو نهر المسيلة وهو المعروف بالوادي الرئيس على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ومنها إلى قلعة أبي طويل. الطريق من القيروان إلى مدينة بونة 1202 من القيروان إلى جلولا كما تقدّم. (ومنها إلى أجرّ ولها حصن وبها قنطرة، وهو موضع وعر كثير الحجارة متكابد المسالك ماسدة لا يكاد يخلو من أسد دائم الريح العاصفة. ولذلك يقولون: إذا جئت أجرّ فعجّر فإنّ فيه أسدا يفري وحجرا يبري وريحا تذري. وحولها قبائل) «3» من العرب والبربر ضريسة ومرنيسة «4» . ومنها إلى الفهمين وهي قرية كبيرة «5» وبها سوق جامعة. ومنها إلى جزيرة ابن حمامة. ومنها إلى الأنصاريّين وقد تقدّم ذكرها. وبقرب هذا الموضع فحص بل وهو من أطيب أرض إفريقية مزدرعا. ومن جزيرة ابن حمامة خمس مراحل إلى مدينة بونة في قرى وعمارة. أوّل المراحل من مدينة بونة إلى القيروان زانة خصوص «6» وقرارات للبربر، بها عيون ماء في شعراء عظيمة شجرها كلّه زان ومنه يجلب إلى إفريقية.

ذكر مدينة بونة

ذكر مدينة بونة «1» 1203 مدينة بونة مدينة أوّليّة «2» وهي مدينة أقشتين «3» العالم بدين النصرانية، وهي على ساحل البحر في نشر من الأرض منيع مطلّ على مدينة سبوس، وتسمّى اليوم مدينة زاوي، وبينها وبين المدينة الحديثة نحو ثلاثة أميال، ولها مساجد وأسواق وحمّام، وهي ذات ثمر وزرع، وقد سوّرت بونة الحديثة بعد الخمسين وأربعمائة. وفي بونة الحديثة بئر على ضفّة البحر منقورة في حجر صلد تسمّى بئر النشرة منها يشرب أكثر أهلها. وبغربي هذه المدينة ماء سائح يسقي بساتينها وهو منتزه «4» حسن. ويطلّ على بونة جبل زغوغ وهو كثير الثلج والبرد. ومن العجائب أنّ فيه مسجدا لا ينزل عليه شيء من ذلك الثلج وإن عمّ الجبل كلّه. ومدينة بونة (قرية بحرية) «5» كثيرة اللحم واللبن والحوت والعسل وأكثر لحمانهم البقر. إلّا أنّها يصحّ بها السودان ويسقم البيضان «6» . وحول بونة قبائل كثيرة من البربر مصمودة وأوربة «7» وغيرهما، وأكثر تجّارها أندلسيّون. ومستخلص بونة غير جبابة بيت المال عشرون ألف دينار. 1204 وبشرقيّ مدينة بونة مدينة مرسى الخرز فيه المرجان، وهي مدينة قد أحاط بها البحر إلّا مسلكا لطيفا ربّما قطعه البحر في الشتاء، عليها سور وبها سوق

الطريق من القيروان إلى طبرقة

عامرة «1» ، وقد صنع بها مرفأ للسفن منذ مدّة قريبة. وفي هذه المدينة تنشأ السفن والمراكب الحربية الّتي يغزى بها إلى بلاد الروم. وإلى هذه المدينة «2» يقصد الغزاة من كلّ أفق لأنّ مقطعها يقرب من جزيرة سردانية بينهما نحو مجرأين. وبإزاء مدينة مرسى الخرز بئر وبية الماء تعرف ببئر أزراق، يقول أهلها: طعنة بمزراق خير من شربة من بئر أزراق. وهذه المدينة كثيرة الحيّات فاسدة الهواء، يمتاز أهلها من غيرهم بصفرة ألوانهم ولا يكاد يخلو عنق أحد منهم من تميمة. وجباية هذه المدينة عشرة آلاف دينار. الطريق من القيروان إلى طبرقة 1205 من مدينة القيروان إلى منستير عثمان ستّ مراحل، وهي قرية كبيرة آهلة بها جامع وفنادق كثيرة وأسواق وحمّامات «3» وبئر لا تنزف وقصر للأوّل مبنيّ بالصخر كبير. وأرباب المنستير قوم من قريش من ولد الربيع بن سليمان وهو اختطّها عند دخوله إفريقية، وبها عرب وبربر وأفارق. ومنها إلى مدينة باجة ثلاث مراحل في قرى غير متّصلة. 1206 ومدينة باجة كبيرة كثيرة الأنهار، وهي على جبل يسمّى عين الشمس في هيئة الطيلسان تطرد حواليها المياه «4» وفيها عيون الماء العذب، ومن تلك العيون عين تعرف بعين الشمس هي تحت سور المدينة، والباب هناك منسوب

إليها، ولها أبواب (غير هذا) «1» . وفي داخل الحصن عين أخرى عذبة غزيرة الماء، وحصنها أوّلي مبني بالصخر الجليل أتقن بناء، ويقال إنّه من عهد عيسى عليه السلام. ولها ربض كبير في شرقي الحصن، وسور الحصن ممّا يلي الربض مهدوم، وبها جامع متقن البناء قبلته سور المدينة، وفيها خمسة حمّامات ماؤها من العيون وفنادق كثيرة، وبها ثلاث رحاب لبيع الأطعمة وعيون خارجها (لا تحصى كثرة، وهي دائمة الدجن والغيم، كثيرة الأمطار والانداء قلّما يصحى هواؤها، وبها يضرب المثل في كثرة المطر) «2» . ولها نهر (من جهة الشرق) «3» جار من الجوف إلى القبلة على ثلاثة أميال منها، وحولها بساتين عظيمة تطرد فيها المياه، وأرضها سوداء متشقّقة يجود بها جميع البزور، وبها حمص وفول قلّما يرى مثله، وتسمّى هري إفريقية لريع زرعها وكثرة رفائعها، وإنّها خصيبة ليّنة الأسعار أمحلت البلاد أو خصبت، وإذا كانت أسعار القيروان نازرة «4» لم يكن للحنطة بها قيمة، ربّما اشتري وقر البعير من الحنطة بدرهمين ويردها كلّ يوم من الدوابّ والإبل العدد العظيم «5» الآلاف والأكثر لانتقال الميرة، فلا يؤثّر ذلك في سعرها لكثرة طعامهم. ثمّ تسير منها مرحلة إلى باسلي «6» ، وهي قرارات للبربر ببلد ورداجة على عيون عذبة. 1207 (ومن قرى باجة المغيرة شريفة) «7» فيها آثار عظيمة عجيبة «8» للأوّل من كنائس قائمة البنيان محكمة «9» العمل كأنّما رفعت عنها الأيدي بالأمس، وكلّها مفروشة بالرخام النفيس يقف عليها من الغربان عدد «10» لا يحصى كثرة حتّى يظنّ المرء أنّ غربان الأرض قد تجمّعت هناك، ويزعمون «11» أنّ بها طلسما.

وامتحن أهل مدينة باجة أيّام أبي يزيد بالقتل والسبي والحرق. قال الراجز في هجوه لأبي يزيد [رجز] : وبعدها باجة أيضا أفسدا وأهلها أجلى ومنها شرّدا وهدم الأسواق «1» والقصورا والدور قد فتش والقبورا ولم يزل الناس يتنافسون في ولاية باجة وكان المتداولون فيها لذلك بنو علي بن حميد الوزير، فإذا عزل منهم أحد لم يزل يسعى ويتلطّف ويهادي ويتاحف حتّى يرجع إليها. فقيل لبعضهم: لم ترغبون في ولاية مدينة باجة؟ فقال: لأربعة أشياء، قمح عندة وسفرجل زانة وعنب بلطة وحوت درنة. وبها حوت بوري ليس له في الآفاق نظير يخرج من حوت واحد عشرة أرطال شحم وأكثر إذا كان من جلّتها «2» ، وكان يحمل إلى عبيد الله حوتها في العسل فيحفظه ويصل طريّا. ودرنة بين طبرقة وباجة. 1208 ومنها إلى مدينة طبرقة، وهي على شاطىء البحر، وفيها آثار للأوّل وبنيان عجيب، وهي عامرة لورود التجّار فيها. وبها نهر كبير تدخله السفن الكبار وتخرج في بحر طبرقة. وروي أنّ الكاهنة قتلت بطبرقة.

1209 وبشرقي مدينة طبرقة على مسيرة يوم وبعض آخر قلاع تسمّى بقلاع بنزرت، وهي قلاع «1» يأوي إليها أهل تلك الناحية إذا خرج الروم غزاة إلى بلادهم، فهي مفزع لهم وغوث وهي رباطات للصالحين. وقال محمّد بن يوسف (في ذكر) «2» الساحل من طبرقة إلى مرسى تونس فقال: مرسى القبّة عليه بنزرت «3» وهي مدينة على البحر يشقّها نهر كبير كثير الحوت ويقع «4» ، البحر وعليها سور حصين «5» وبها جامع وأسواق وحمامات وبساتين «6» ، وهي أرخص البلاد حوتا. وافتتحها معاوية بن حديج سنة إحدى وأربعين، وكان معه عبد الملك بن مروان، فشدّ عن الجيش فمرّ بامرأة من العجم من عمل بنزرت فقرته وأكرمت مثواه، فشكر ذلك لها، فلمّا ولي الخلافة كتب إلى عامله بإفريقية في المرأة وأهل بيتها فأحسن إليهم وظاهر النعم لديهم. وتوالي هذه المراسي «7» مذكور بعد هذا في موضعه من هذا الكتاب «8» إن شاء الله. 1210 وعلى ساحل هذه القلاع بحيرة تنسب «9» أيضا إلى بنزرت يدخل إليها ماء البحر الكبير، فيوجد فيها في شهر ما من السنة صنف من الحوت لا يشبه غيره ولا يوجد هناك في غير ذلك الشهر. وفي هذه البحيرة أعجوبة وهو أنّ الصيّاد فيه إذا أتاه التجّار لشراء الحوت يقول لهم: على أيّ شيء أرسل شبكتي؟ فيتّفق معهم على عدّة معلومة فيأتي الصيّاد بحوت يقال إنّه أنثى الصنف

الطريق من قلعة أبي طويل إلى مدينة تنس

المعروف بالبوري، فيرسلها في البحيرة ثمّ يتبعها بشبكته فيخرج العدّة الّتي اتّفقوا عليها لا يكاد يخطئ. وعلى مقربة من هذه البحيرة بحيرتان إحداهما حلوة والأخرى ملحة، فيصبّ كلّ واحدة منهما في الأخرى نصف العام على السواء ولا يتغيّر لواحدة منهما طعم. 1211 وبغربي مدينة بونة بركة وبين بونة مسيرة يوم طولها ثلاثة أميال في مثلها، وفيها سمك جليل وفيها الطائر المعروف بالكيكل يعشّش على ماء تلك البحيرة ويفرخ (فيها، فإذا أحسّ بحيوان في البرّ دفع عشّ فراخه قدّامه) «1» إلى وسط البركة، وهو الطير الّذي يسمّى بمصر بالخواص. ويصنع من جلوده الفراء «2» ويباع بأثمان الغالية. الطريق من قلعة أبي طويل إلى مدينة تنس 1212 يخرج من العقلة إلى مدينة المسيلة، وهي مدينة جليلة على نهر يسمّى بنهر سهر «3» ، أسّسها أبو القاسم إسماعيل بن عبيد الله سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وكان المتولّي لبنائها علي بن حمدون بن سماك بن مسعود بن منصور الجذامي المعروف بابن الأندلسي «4» ، واستعمله علهيا فلم يزل عليها «5» إلى أن هلك في فتنة أبي يزيد، وبقي ابنه جعفر فيها وصار أميرا على الزاب كلّه إلى

أن خرج عنها في سنة ستّين «1» وثلاثمائة على ما نحن ذاكروه في موضعه إن شاء الله تعالى. وهي مدينة في بساط من الأرض عليها سوران بينهما جدول ماء جار يستدير بالمدينة «2» (وله منافذ يسقى منها عند الحاجة) «3» . وللمدينة أسواق وحمّامات وحولها بساتين كثيرة. ويجود عندهم القطن، وهي كثيرة اللحم رخيصة السعر، وبها عقارب مهلكة لا يتخلّص من لسعها «4» . 1213 وبقرب منها جبل عجيسة «5» وهوارة وبني برزال، ولهم كانت «6» أرض المسيلة. (وبقبلي مدينة المسيلة) «7» موضع يعرف بالقباب فيه قباب من بنيان الأوّل، وعلى مقربة منها مدينة للأوّل خربة ياق لها بشيلقة «8» فيها جدولان من ماء عذب جلبته الأوّل إليها يقال لها تارقا أنوودي «9» ، تفسيره ساقية السمن «10» . وقال أحمد بن محمّد المروذي يذكر نزول إسماعيل بالمسيلة والشيعة تسمّيها المحمّدية [رجز] : ثمّ إلى «11» مدينة مرضية ... أسّت على التقوى محمّدية أقبل حتّى حلّها ضحيّة ... بالنور1» من طلعته المضية فحلّ في عسكره المسيلة «13» ... في هيئة كاملة جميلة للنصر في أرجائه مخيلة ... بنعمة من ذي العلى جليلة «14»

1214 ونهر سهر الّذي عليه مدينة المسيلة منبعثه من عيون داخلة مدينة غدير وارّوا، وهي مدينة كبيرة أوّلية «1» بين جبال فيها عين ثرّة عذبة عليها الأرحاء وعين أخرى وتحتهما عين خرّارة يقال لها عين مخلد تجتمع فيها، ومن هناك منبعث نهر سهر «2» . 1215 وبمدينة الغدير جامع وأسواق عامرة وفواكه كثيرة، وهي رخيصة الطعام واللحم وجميع الثمار، قنطار عنب فيها بدرهم. وسكّانها هوارة يعتدون في ستّين ألفا. وبشرقيّ مدينة الغدير قرية أوّلية يقال لها طرفلة لا تعدل بها قرية، وهم يقولون طرفلة طرف من الجنّة. ومدينة الغدير ما بين سوق حمزة وطبنة وهى على مرحلتين من طبنة. 1216 وتسير من مدينة المسيلة إلى نهر يسمّى جوزة «3» ، ومن جوزة إلى مدينة أشير. وقال محمّد بن يوسف إنّ الّذي بنى أشير زيري، والدليل على ذلك ما أنشده عبد الملك بن عيشون «4» [سريع] : يا أيّها السائل عن غربنا «5» ... وعن محلّ الكفر أشير عن دار فسق ظالم أهلها ... قد شيّدت للكفر والزور أسّسها الملعون زيريها ... فلعنة الله على زير

وهي جليلة حصينة يذكر أنّه ليس في تلك الأقطار أحصن منها (ولا أبعد) «1» متنا (ولا مراما، ولا) «2» يوصل إلى شيء منها بقتال إلّا من موضع يحميه عشرة رجال، وهو في شرقيها الّذي ينفذ إلى عين مسعود وسائر نواحيها تزلّ عنها العيون فكيف الأقدام. وهي مع ذلك بين جبال شامخة محيطة بها دائرة عليها. وداخل مدينتها عينان ثرّتان «3» لا يبلغ لهما غور ولا يدرك قعر، إحداهما تعرف بعين سليمان والأخرى بعين تالانتيرغ «4» . والّذي بنى سورها بلجّين «5» يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي سنة سبع وستّين وثلاثمائة، وخربها يوسف بن حماد بن زيري واستباح أموالها وفضح حرمها وذلك بعد أربعين وأربعمائة، ثمّ تراجع الناس إليها بعد خمس وخمسين وأربعمائة. 1217 وتسير من مدينة أشير إلى قرية تسمّى (سوق هوارة، ومنها إلى قرية تسمّى) «6» سوق كرام وهي على نهر شلف، ومنها إلى مدينة مليانة وهي مدينة رومية فيها آثار وهي ذات أشجار وأنهار تطحن عليها الأرحاء، جدّدها زيري بن مناد وأسكنها ابنه بلجّين «7» ، وهي عامرة، ومنها إلى مدينة الخضراء وهي مدينة جليلة كثيرة البساتين وهي على نهر إذا حمل دخل بعضها، ومنها إلى مدينة قديمة مدينة بني واريفن «8» وهي واسعة المسارح كثيرة الكلأ، ومنها إلى مدينة قارية «9» وهي مدينة لطيفة ذات أعين كثيرة وهي في سفح جبل، ومنها إلى مدينة تنس.

1218 ومدينة تنس بينها وبين البحر ميلان، وهي مسوّرة حصينة داخلها قلعة صغيرة «1» صعبة المرتقى ينفرد بسكناها العمّال لحصانتها. وبها مسجد جامع وأسواق كثيرة، وهي على نهر (يسمّى تناتين) «2» يأتيها من جبل على مسيرة يوم فيأتيها من القبلة ويستدير بها من جهة الجوف والشرق ويريق في البحر، وبها حمّامات. وتنس هذه هي الّتي تسمّى تنس الحديثة، (وعلى البحر حصن يذكر أهل تنس أنّه كان القديم المعمور قبل هذه الحديثه، وتنس الحديثة) «3» أسّسها وبناها البحريّون من أهل الأندلس منهم الكركرني «4» وأبو عائشة والصقر وصهيب وغيرهم، وذلك سنة اثنتين وستّين ومائتين «5» ، ويسكنها فريقان من أهل الأندلس من أهل ألبيرة وأهل تدمير، وأصحاب تنس من ولد إبراهيم بن محمّد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي (بن أبي طالب) «6» ، وكان هؤلاء البحريّون من أهل الأندلس يشتون «7» هناك إذا سافروا من الأندلس في مرسى على ساحل البحر، فتجمّع إليهم بربر هذا القطر ورغبوا في الانتقال إلى قلعة تنس وسألوهم أن يتّخذوها سوقا ويجعلوها سكنى، ووعدوهم «8» بالعون والرفق وحسن المجاورة والعشرة، فأجابوهم إلى ذلك وانتقلوا إلى القلعة وخيّموا بها، وانتقل إليهم من جاورهم من أهل الأندلس وغيرهم. فلمّا دخل عليهم الربيع اعتلّوا واستوبوا الموضع، فركب البحريّون من أهل الأندلس «9» مراكبهم وأظهروا لمن بقي منهم أنّهم يمتارون، فحينئذ نزلوا قرية بجّانة «10» وتغلّبوا عليها (على ما يأتي ذكره إن شاء الله) «11» . ثمّ إنّ الباقين بتنس لم يزالوا في تزيّد ثروة وعددا «12» ، ورحل إليهم أهل سوق إبراهيم وكانوا في أربعمائة بيت، فتوسّع لهم أهل تنس في منازلهم وشاركوهم في أموالهم

وتعاونوا على البنيان واتّخذوا الحصن الّذي فيها اليوم. (ولها بابان إلى القبلة) «1» وباب البحر وباب ابن ناصح وباب الخوخة شرقي يخرج منه إلى عين تعرف بعين عبد السّلام ثرّة عذبة «2» . 1219 وكيلهم يسمّى الصحفة «3» وهي ثمانية وأربعون قادوسا والقادوس ثلاثة أمداد بمدّ النّبي - صلى الله عليه وسلم -، ورطل اللحم بها سبع وستّون أوقية ورطل سائر الأشياء اثنتان وعشرون أوقية، ووزن قيراطهم ثلث درهم «4» عدل بوزن قرطبة، والجاري عندهم قيراط وربع درهم وصقل وحبّتان مضروبة كلّها، ودرهمهم اثنتا عشرة صقلية عددا. وقال سعيد بن واشكل التيهرتي في علّته الّتي مات منها بتنس [طويل] : نأى النوم عنّي «5» واضمحلّت عرى الصّبر ... وأصبحت عن دار الأحبّة في أسر وأصبحت عن تيهرت في دار معزل ... وأسلمني مرّ القضاء من القدر إلى تنس دار النحوس فإنّها ... يساق إليها كلّ منتقض العمر هو الدهر والسّياق والماء «6» حاكم ... وطالعها المنحوس صمصامة الدهر بلاد بها البرغوث يحمل راجلا ... ويأوي إليها الذئب في زمر الحشر ويزحف فيها العامّ في كلّ ساعة ... بجيش من السودان تغلّب «7» بالوتر ترى أهلها صرعى دوى أمّ ملدم ... يروحون في سكر ويغدون في سكر وقال غيره [رمل] : أيّها السائل عن أرض تنس ... مقعد اللوم المصفّى والدنس

الطريق من القيروان إلى مرسى الزيتونة

بلدة لا ينزل القطر بها ... للندى في أهلها حرق درس فصحاء النطق في لا أبدا ... وهم في نعم بكم خرس فمتى تلمّم بها جاهلها ... يرتحل عن أرضها قبل الغلس ماؤها من قبح ما خصّت به ... نجس يجري على ترب نجس فمتى تلعن بلادا مرّة ... فاجعل اللعنة ذابا لتنس 1220 فأمّا الطريق من تنس إلى تيهرت «1» (فإلى باجنة إلى مدينة الغزاة إلى تيهرت) «2» خمس مراحل. الطريق من القيروان إلى مرسى الزيتونة 1221 من القيروان إلى مجانة على ما تقدّم ومنها إلى مدينة تيجس، ومدينة تيجس عليها سور صخر رومي ولها ربض وبها أسواق وجامع وحمّام وبها «3» من قبائل البربر نفزة ورغروسة وبنو ونموّ وكزناية وحمزة من زناتة «4» . ثمّ تسير من مدينة تيجس إلى مدينة قسطنطينة، وهي مدينة أوّلية كبيرة آهلة ذات حصانة ومنعة ليس يعرف أحصن منها، وهي على ثلاثة أنهار عظام «5» تجري فيها السفن قد أحاطت بها تخرج من عيون تعرف بعيون أشقار تفسيره سود، وتقع هذه الأنهار في خندق بعيد القعر متناهي البعد قد عقد في أسفله قنطرة على أربع حنايا، ثمّ بني عليها قنطرة ثانية (ثمّ على الثانية قنطرة ثالثة) «6»

من ثلاث حنايا، ثمّ بني فوقهنّ بيت ساوي حافتي الخندق يعبر عليه إلى المدينة ويظهر الماء في قعر هذا الوادي من هذا البيت كالكوكب الصغير لعمقه وبعده. ويسمّى هذا البيت العبور لأنّه معلّق «1» في الهواء. ويسكن قسطنطينة قبائل شتّى من أهل ميلة ونفزاوة وقسطيلية وهي لقبائل «2» من كتامة. وبها أسواق جامعة ومتاجر رابحة، وبينها وبين مرسى سقدة مسيرة يوم. (1222 ومن مدينة قسطنطينة إلى مدينة ميلة وفي سنة ثمان وسبعين وثلاث مائة في شوال خرج المنصور من القيروان غازيا لكتامة «3» . فلمّا قرب من ميلة زحف إليها بانيا على استلام أهلها واستباحتهم، فخرج إليه النساء والعجائز والأطفال بعد أن عبّا «4» جيوشه لمحاربتها، ونشر البنود وضرب الطبول. فلمّا رأى من خرج إليه منها بكى وأمر أن لا يقتل فيها «5» من أهلها أحد وأمر بهدم سورها وتسيير من فيها إلى مدينة باغاية. فخرجوا بجماعتهم يريدونها وقد تحمّلوا ما خفّ من أمتعتهم، فلقيهم ماكسن «6» بن زيري بعسكره فأخذ جميع ما معهم. وبقيت ميلة خرابا ثمّ عمّرت بعد ذلك، وعليها سور صخر اليوم وبها جامع وأسواق وحمّامات، والمياه تطرد حولها، يسكنها العرب والجند والمولّدون وهي من غرر مدن الزاب. ولمدينة ميلة باب شرقي يعرف بباب الروس، (وعلى مقربة منه جامعها وهو ملاصق لدار الإمارة، وباب جوفي يعرف بباب السفلى، ويليه) «7» داخل المدينة عين تعرف بعين أبي السباع مجلوبة تحت الأرض من جبل بني ياروت يشقّ منها سوقها ساقية، فإذا قلّ الماء في الصيف أجريت يوم السبت والأحد من الجمعة لا غير. ولها

الطريق من مدينة أشير إلى مرسى الدجاج

حمامان في ربضها، وبها عين تعرف بعين الحما يرش منها على المحموم فيبرأ لبركتها وشدّة بردها. ثم تسير من مدينة ميلة الى مرسى الزيتونة وهو جبل جيجل «1» الطريق من مدينة أشير الى مرسى الدجاج 1223 تخرج «2» من مدينة أشير الى شعبة وهي قرية، ومنها الى مضيق بين جبلين، ثمّ تفضي الى فحص أفيح تجمع فيه عروق عاقر قرحا، ومن هذا الموضع تحمل الى الآفاق. وهناك مدينة تسمّى حمزة نزلها وبناها حمزة بن الحسن بن سليمان بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضه، والحسن بن سليمان هو الذي دخل المغرب وكان له من البنين حمزة هذا وعبد الله وابراهيم وأحمد ومحمّد والقاسم وكلّهم أعقب وعقبهم «3» هناك. 1224 وتسير من حمزة الى بلياس وهي في جبل عظيم، ومن بلياس الى مرسى الدجاج، (ومدينة مرسى الدجاج) «4» قد أحاط بها البحر من ثلاث نواح وقد ضرب بسور من الضفة الغربية الى الضفّة الشرقية، ومن هناك يدخل اليها وأسواقها، ومسجد جامعها داخل ذلك السور له باب واحد، ولها مرفأ غير مأمون لضيقه وقرب قعره، وبها عيون طيبة، يسكنها الأندلسيون وقبائل من كتامة. وبشرقيّها مدينة بني جناد «5» وهي أصغر منها.

1225 ومن أراد الطريق من القيروان إلى مرسى الدجّاج فإنّه يأخذ إلى «1» المسيلة على ما تقدّم، ثمّ إلى أوزقور وهي عين عذبة باردة عليها شجرة عظيمة، وهذا آخر حدّ «2» بلد صنهاجة إلى سوق ماكسن، وهي مدينة على وادي شلف لصنهاجة عليها سور ولها عيون. إلى سوق حمزة وهي مدينة عليها سور وخندق وبها آبار عذبة وهي لصنهاجة. وكان نزلها حمزة بن الحسن بن سليمان بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي (بن أبي طالب رضه) «3» . إلى بني جنّاد «4» ، وهي مدينة صغيرة على جبل بينها وبين البحر نحو ميل، ومنها إلى مرسى الدجّاج.

الطريق من مدينة أشير إلى مدينة جزائر بني مزغنى

الطريق من مدينة أشير إلى مدينة جزائر بني مزغنّى «1» 1226 من أشير «2» إلى المدية وهي بلد جليل قديم، ومنها إلى قزرونة «3» وهي مدينة على نهر «4» كبير عليه الأرحاء والبساتين (ويقال لها متيجة) «5» ، ولها مزارع ومسارح وهي أكثر تلك النواحي كتّانا ومنها يحمل، وفيها عيون سائحة وطواحين ماء. ومنها إلى مدينة أغزر. ومنها إلى مدينة جزائر بني مزغنّى «6» ، وهي مدينة جليلة قديمة البنيان فيها آثار «7» للأوّل وآزاج محكمة تدلّ أنّها كانت دار مملكة لسالف الأمم، وصحن دار الملعب فيها قد فرش بحجارة ملوّنة صغار مثل الفسيفساء فيها صور الحيوان بأحكم العمل وأبدع صناعة لم يغيّرها تقادم الزمان ولا تعاقب القرون، ولها أسواق ومسجد جامع. وكانت بمدينة بني مزغنّى كنيسة عظيمة بقي منها جدار مدير من الشرق إلى الغرب، وهو اليوم قبلة الشريعة للعيدين مفصّص «8» كثير النقوش والصور. (ومرساها مأمون له عين عذبة يقصد إليه أصحاب السفن من إفريقية والأندلس وغيرهما) «9» . 1227 ومن أشير إلى تامغلت ثلاثون ميلا، وهي مدينة مبنيّة في سفح جبل على رأس الصحراء.

الطريق من القيروان إلى تنس

الطريق من القيروان إلى تنس 1228 من القيروان إلى مدينة الغزّة «1» على ما تقدّم، ثمّ إلى مدينة تاجنّة وهي مدينة سهلية آهلة عليها سور وبها جامع سكّانها برقجانة وحولها كزناية، ومن مدينة تاجنّة إلى مدينة تنس. [الطريق من الغزّة إلى تيهرت] 1229 فإن أردت من الغزّة إلى مدينة تيهرت «2» فمن مدينة الغزّة إلى تاجموت على مضيق مكناسة إلى عين الصبحى عين خرّارة في سفح جبل لمطماطة، إلى تاغريبت إلى مدينة تيهرت. 1230 ومدينة تيهرت مسوّرة لها ثلاثة أبواب: باب الصفاء «3» وباب المنازل وباب الأندلس وباب المطاحن وغيرها. وهي في سفح جبل يقال له جزول «4» ، ولها قصبة مشرفة على السوق تسمّى المعصومة، وهي على نهر يأتيها من جهة القبلة يسمّى مينة وهو في قبليّها. ونهر آخر يجري «5» من عيون تجتمع تسمّى

تاتش «1» ومن تاتش «2» شرب أرضها وبساتينها وهو في شرقيها. وفيها جميع الثمار، سفرجلها يفوق سفرجل الآفاق حسنا وطعما وشمّا، وسفرجلها يسمّى الفارسي «3» . وهي شديدة البرد كثيرة الغيوم والثّلج. قال بكر بن حمّاد، وهو أبو عبد الرحمن وكان ثقة مأمونا حافظا للحديث سمع بالمشرق من ابن مشدّد وعمر بن مرزوق وبشر بن حجر وبإفريقية من سحنون وغيرهم وسكن بتيهرت وبها توفّي، فقال [سريع] : ما أخشن «4» البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتيهرت تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنّها تنشر من تخت فنحن في بحر بلا لجّة ... تجري بنا الريح على السمت نفرح بالشمس إذا ما بدت ... كفرحة الذمّي بالسبت 1231 ونظر رجل من أهل تيهرت إلى توقّد الشمس بالحجاز فقال: احرقي ما شئت، فوالله إنّك بتيهرت لذليلة. وهذه تيهرت الحديثة (وعلى خمسة أميال منها تيهرت القديمة، وهي حصن لبرقجانة وهو في شرقي الحديثة. ويقال إنّهم لمّا أرادوا بناء تيهرت كانوا يبنون النهار، فإذا جنّ الليل وأصبحوا وجدوا بنيانهم قد تهدّم، فبنوا حينئذ تيهرت السفلى وهي الحديثة) «5» . وبقبليها لواتة وهوارة في قرارات وبغربيّها زواغة وبجوفيّها مطماطة وزناتة ومكناسة، وقد ذكرنا أنّ بشرقيها حصنا لبرقجانة وهو تيهرت القديمة.

1232 وكان صاحب تيهرت ميمون (بن عبد الرحمان بن عبد الوهّاب بن رستم بن بهرام- وبهرام هذا مولى أمير المؤمنين عثمان رضه وهو بهرام بن ذي شرار بن سابور بن بابكان) «1» بن سابور ذي الأكتاف الملك الفارسي. وكان ميمون رأس الإباضية وإمامهم وإمام الصفرية والواصلية، وكان يسلّم عليه بالخلافة. وكان مجمع الواصلية قريبا من تيهرت وكان عددهم نحو ثلاثين ألفا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها. وتعاقب مملكة تيهرت بنو ميمون وبنو أخويه عبد الرحمان وإسماعيل بن الرستمية إلى سنة ستّ وتسعين ومائتين. فوصل أبو عبد الله الشيعي إلى مدينة تيهرت فدخلها بالأمان، ثمّ قتل فيها من الرستمية عددا كثيرا وبعث برءوسهم إلى أخيه أبي العبّاس وطيف بها بالقيروان ونصبت على باب رقّادة. وملك بنو رستم تيهرت مائة وثلاثين سنة. 1233 وذكر محمّد بن يوسف أنّ عبد الرحمان بن رستم كان خليفة لأبي الخطّاب عبد الأعلى بن السمح «2» بن عبيد بن حرملة أيّام تغلّبه على إفريقية. فلمّا قتل محمّد بن الأشعث الخزاعي أبا الخطّاب، وذلك في صفر سنة أربع وأربعين ومائة، هرب عبد الرحمان بأهله وما خفّ من ماله وترك القيروان، فاجتمعت إليه الإباضية واتّفقوا على تقديمه وبنيان مدينة تجمعهم. فنزلوا موضع تيهرت اليوم وهو غيضة «3» أشبة، ونزل عبد الرحمان منه موضعا مربّعا لا شعرى فيه، فقال البربر: نزل تاقدمت «4» تفسيره الدفّ، وشبّهوه بالدفّ لتربيعه. وأدركتهم صلاة الجمعة فصلّى بهم هنالك، فلمّا انقضت الصلاة ثارت صيحة عظيمة «5» على أسد ظهر في الشعرى فأخذ حيّا وأتي به إلى

[الطريق من تنس إلى أشير]

الموضع الّذي صلّوا فيه وقتل هناك، فقال عبد الرحمن بن رستم: هذا بلد لا يفارقه سفك دم ولا حرب أبدا. وابتدؤوا من تلك الساعة فبنوا في ذلك الموضع مسجدا وقطعوا خشبة من تلك الشعرى، فهو كذلك إلى اليوم وهو مسجد جامعها وهو من أربعة بلاطات. قال: وكان موضع تيهرت ملكها لقوم مستضعفين من مراسة وصنهاجة، فأرادهم عبد الرحمان على البيع فأبوا فوافقهم على أن يؤدّوا إليهم الخراج من الأسواق ويبيحوا لهم بنيان المساكن، فاختطّوا وبنوا وسمّي الموضع معسكر عبد الرحمان بن رستم إلى اليوم. 1234 قال: وبتيهرت أسواق عامرة وحمّامات كثيرة يسمّى منها «1» اثني عشر حمّاما، وحواليها من البربر أمم كثيرة. ومدّهم الذي يكتالون به خمسة أقفزة ونصف قرطبية، وقنطار الزيت وغيره عندهم قنطاران غير ثلث إلّا المجلوب من الفلفل وغيره فإنّه قنطار عدل، ورطل اللحم عندهم خمسة أرطال. [الطريق من تنس إلى أشير] 1235 وإن أردت طريق الساحل من تنس إلى أشير زيري «2» فمن تنس إلى بني جليداسن «3» مدينة لطيفة لمطغرة «4» يسكنها الأندلسيّون والقرويّون ولا يدخلها برقجاني من وقت غدرهم بها. وهي بلدة طيّبة بها عيون عذبة، وهي

[الطريق من تيهرت إلى البحر]

مطلّة على فحص شلف، وهناك مدينة شلف على نهر، بها سوق عامرة تعرف بشلف بني وطيل «1» لزواغة، ومنها إلى بني واريفن لمطغرة «2» على نهر شلف بها حوانيت، إلى مدينة مليانة، وهي أوّلية شريفة جدّدها زيري بن مناد وأسكنها ولده بلجّين، وهي مشرفة على جميع «3» ذلك الفحص الّذي فيه بنو واريفن وغيرهم، وهي عامرة آهلة على نهر ولها آبار عذبة وسوق جامعة. ومنها إلى مدينة أشير. [الطريق من تيهرت إلى البحر] 1236 وإن أردت الطريق من تيهرت إلى البحر فإنّك تمرّ بين قبائل البربر حتّى تأتي شلف بني وطيل «4» ، ومن هناك إلى الغزّة يومان، والغزّة ساحل تيهرت، وبقرب هذا الموضع على البحر قلعة مغيلة دلول، وهي في أعلى جبل منيف هناك شديد الحصانة بينها وبين البحر خمسة فراسخ، وبها عين ماء تسمّى عين كردي. وبين قلعة دلول هذه ومدينة مستغانم مسيرة يومين وهي على مقربة من البحر، وهي مدينة مسوّرة ذات عيون وبساتين وطواحين ماء، ويبذر في أرضها القطن فيجود، وهي بقرب مصبّ نهر شلف في البحر، وبغربي هذه المدينة على نحو «5» ثلاثة أميال منها مدينة تامزغران «6» وهي مدينة مسوّرة لها مسجد جامع. وعلى مقربة (منها قلعة) «7» هوارة ويسمّونها تاسقدالت «8» ، وهي قلعة في جبل لها ثمار ومزارع، وتحت هذه القلعة يجري نهر سيرات وهو النهر الّذي يسقى به فحص سيرات، وطول الفحص نحو أربعين ميلا ليس منه «9» شيء إلّا يناله ماء هذا النهر، إلّا أنّه اليوم غامر غير عامر لا أهل فيه لأنّ الخوف أجلى أهله.

1237 وفي ساحل هذا البحر مدينة أرزاو، وهي مدينة رومية خالية فيها آثار عظيمة للأوّل باقية «1» يحار من دخل فيها لكثرة عجائبها. وبقرب مدينة أرزاو جبل كبير فيه قلاع ثلاث مسوّرة ورباط يقصد إليه. وفي هذا الجبل معدن للحديد وللزئبق «2» . وإذا أرسلت (النار في شجره) «3» تفاوحت منه أرياح «4» عطرة. وبين مدينة أرزاو هذه ووهران أربعون ميلا. 1238 ومدينة وهران حصينة ذات مياه سائحة وأرحاء ماء وبساتين، ولها مسجد جامع. وبنى مدينة وهران محمّد بن أبي عون ومحمّد بن عبدون وجماعة من الأندلسيّين البحريّين الّذين ينتجعون مرسى وهران باتّفاق منهم مع نفزة وبني مُسقن وهم من أزداجة، وكانوا أصحاب القرشي سنة تسعين ومائتين، فاستوطنوها سبعة أعوام. وفي سنة سبع وتسعين ومائتين زحفت قبائل كثيرة إلى وهران يطالبون أهلها بإسلام بني مسقن إليهم لدماء كانت بينهم، فأبى أهل وهران من إسلامهم إليهم فنصبوا عليهم الحرب وحاصروهم ومنعوهم الماء. فخرج عنهم بنو مسقن ليلا هاربين واستجاروا بأزداجة وأجاروهم «5» وتغلّبوا على أهل مدينة وهران وخرجوا عنها مسلّمين في أنفسهم وأسلموا ذخائرهم وأموالهم، وخربت وهران وأضرمت نارا، وذلك في ذي الحجّة من هذه السنة. ثمّ عاد أهل وهران إليها في السنة بعدها، سنة ثمان وتسعين ومائتين بأمر أبي حميد دوّاس بن صولات- ويقال داود- عامل تيهرت، وابتدؤوا بنيانها في شعبان من هذه السنة، فعادت أحسن ممّا كانت وولّي عليهم داود

الطريق من وهران إلى القيروان

بن صولات اللهيصي محمّد بن أبي عون. ولم تزل في عمارة وكمال وزيادة وحسن حال إلى أن أوقع يعلى بن محمّد بن صالح اليفرني بأزداجة بجبل قيدر وفرق جماعتهم، وكانت الوقيعة بينهم يوم السبت للنصف من جمادي الأولى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. فدخل يعلى مدينة وهران وملكها ثمّ نقل أهلها إلى مدينته المعروفة «1» وذلك في ذي القعدة من العام المؤرّخ، وخرب مدينة وهران ثانية وحرقها وبقيت كذلك سنين، ثمّ تراجع الناس إليها وبنيت. 1239 وفي عمل وهران قرية أهلها موصوفون بعظم الأجساد ومعروفون بشدّة الأيد. أخبرني غير واحد أنّه رأى الرجل الكاهل في الخلق المعهود يكون إلى دون منكب الرجل منهم، وأنّه كان منهم رجل يحمل ستّة نفر ويخطو بهم خطوات يحمل على عاتقه اثنين ويتأبط اثنين ويحمل على ذراعيه اثنين، وأنّ رجلا منهم أراد عمل بيت فاقتطع ألف كلخة وحملها على ظهره وسوّى منها بيتا تامّا معرّشا. الطريق من وهران إلى القيروان 1240 تخرج من وهران إلى تانسالمت قرية لأزداجة بها سوق وعين عذبة، وهي في طريق جبل قيدر «2» . ومنها إلى جراوة لعزيزوا وهي سوق عبيدون بن سنان الأزداجي «3» ، (ومنها إلى قصر ابن سنان) «4» ، ثمّ الجادّة على ما تقدّم، وهي خمس وعشرون مرحلة.

1241 وطريق آخر من وهران إلى القيروان على بلد «1» قسطيلية، من وهران كما ذكرنا إلى قصر منصور بن سنان «2» ، ثمّ إلى العلويّين وهي مدينة يعلى بن باديس عليها سور، وهي على نهر كبير وداخلها عيون. ومنها إلى نهر سي «3» بن دمر «4» وهو نهر كبير عليه بساتين كثيرة. ومنها إلى أحساء «5» عقبة بن نافع القرشي، وهي آبار كثيرة مبنيّة بخشب العرعار وتعرف بآبار العسكر يريدون عسكر عقبة ويسمّى بالبربرية أرسان. ثمّ تمشي في مفاوز (ربّما نزلها) «6» بنو مغراوة ثلاث مراحل أو أربعا إلى ساقية ابن خزر يسمّونها إزمّرين (عليها قصر خرب «7» حوله ثمار ونخيل. إلى مدن بنطيوس وهي ثلاث مدن) «8» يقرب بعضها من بعض، وفي كلّ مدينة جامع. فالاثنان لأهل السنة والثالث لقوم من الخوارج «9» يعرفون بالواصلية إباضية إحداهما يسكنها قوم من الفرس يعرفون ببني جرج «10» . وبغربيها نهر جار ينحدر إليها من ناحية «11» الجوف «12» ، وهذا النهر يسقي الثلاث المدن والثانية يسكنها المولّدون والثالثة يسكنها البربر. وأكثر ثمارها النخل والزيتون. والثلاث المدن في سهلة عريضة أريضة عليها كلّها أسوار وخنادق. وبغربيها صحراء بنطيوس تسقى بثلث النهر المذكور. وإذا كمل الرجل فيها زريعته عرف مبلغ إصابته من الطعام لا يخطئ. وآبارها ملحة، وبقرب منها قرى كثيرة، وبجوفيّ بنطيوس طولقة وهي ثلاث مدن كلّها عليها أسوار طوب وخنادق وحولها أنهار، وهي كثيرة البساتين بالزيتون والأعناب والنخل والشجر وجميع الثمار، إحداها يسكنها المولّدون والثانية يسكنها اليمن والثالثة يسكنها قيس.

1242 ثمّ من بنطيوس إلى مدينة بسكرة وقد تقدّم ذكرها. ومنها إلى مدينة تهوذا وتعرف بمدينة السحر «1» ، وهي مدينة آهلة كثيرة الثمار والنخل والزرع، وتهوذا مدينة أوّلية بنيانها بالحجر ولها أموال كثيرة وحولها ربض قد خندق على جميعه واستدار بالمدينة، وبها جامع جليل ومساجد كثيرة وأسواق وفنادق ونهر ينصبّ في جوفيّها من جبل أوراس، سكّانها العرب وقوم من قريش، وإن كانت بينهم وبين من يجاورهم حرب أرسلوا ماء النهر في الخندق المحيط بمدينتهم فشربوا منه وامتنعوا (من عدوّهم) «2» به. (وفي المدينة بئر لا تنزح أوّلية) «3» وآبار كثيرة طيّبة. وأعداؤهم هوارة ومكناسة إباضية وهم بجوفيّها، وأهل تهوذا على مذاهب أهل العراق. وحولها بساتين كثيرة من أصناف الثمار وضروب البذر يجود بها، وحواليها أزيد من عشرين قرية. 1243 وروى أبو المهاجر عن رجاله عن شهر بن حوشب أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سكنى هذه البقعة الملعونة الّتي يقال لها تهوذا، (ويقال إنّه قال) «4» : سوف يقتل بها رجال من أمّتي على الجهاد في سبيل الله ثوابهم ثواب أهل بدر وأهل أحد، والله ما بدّلوا حتّى ماتوا. وكان شهر بن حوشب يقول: وا شوقاه إليهم. وكان يقول: سألت بعض «5» التابعين عن هذه العصابة فقال: ذلك عقبة بن نافع قتله البربر والنصارى بمدينة يقال لها تهوذا، فمنها يحشرون يوم القيامة وسيوفهم على عواتقهم حتّى يقفوا بين يدي الله تعالى. قال أبو المهاجر: قدم عقبة بن نافع مصر وعليها عمرو بن العاص في خلافة معاوية (بن أبي سفيان) «6» ، فنزل منزلا من بعض قراها ومعه عمرو بن

العاص وعبد الله بن عمرو وجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع بين أيديهم سفرة فيها طعام، فلمّا تناولوا من الطعام ضربت حداة على الطعام الّذي بين أيديهم فأخذت منه عرقا، فقال عقبة: اللهمّ دقّ عنقها. قال: فأقبلت الحداة منقضّة حتّى ضربت بنفسها الأرض فاندقّ عنقها. فاسترجع عمرو فسمعه عقبة يترجّع «1» فقال: ما بالك يا أبا عبد الله؟ قال: بلغني أنّ نفرا من قريش يخرجون إلى هذا الموضع فيستشهدون جميعا. فقال عقبة: اللهمّ وأنا منهم. ثمّ إنّ عقبة بن نافع خرج من عند يزيد بن معاوية في جيش على غزو المغرب، فمرّ على عبد الله بن عمرو- (وقيل بن عمرو) «2» - وهو بمصر، فقال له عبد الله: يا عقبة لعلّك من الجيش الّذين يدخلون الجنّة برحالهم. قال أبو المهاجر: فبلغ عقبة بن نافع في غزواته إلى السوس الأدنى والأقصى والبحر المحيط وأدخل فيه فرسه (حتّى بلغ الماء لبب فرسه) «3» وانصرف إلى إفريقية، فلمّا دنا منها تفرّق أصحابه عنه فوجا فوجا. فلمّا وصل إلى مدينة طبنة أذن لسائر «4» من بقي معه وبقي في عدّة يسيرة وقال في طريقه: أمرّ إلى مدينة تهوذا وإلى مدينة باديس وأعرف ما يكفيهما من العدّة والجيوش، وكانتا في ذلك الوقت من أعظم مدائن المغرب. فلمّا انتهى إلى مدينة تهوذا اعتمده كسيلة بن لهزم في جيوش الروم وأقبلت إليه (جيوش الروم) «5» وعساكر البربر وقد علموا بافتراق عساكر عقبة، فزحفوا إليه فكسر عقبة وأصحابه أجفان سيوفهم وقاتلوا حتّى قتلوا جميعا. 1244 وقبر عقبة معروف بمدينة تهوذا: ولمّا أراد معدّ بن إسماعيل بن عبيد الله تحريف قبلة مسجد القيروان وقلع من محرابه آجرا، وذلك سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، بلغه أنّ أهل القيروان يذكرون دعاء عقبة للقيروان

وتأسيسه جامعها وأنّهم يقولون إنّ الله عزّ وجلّ يمنعه منه «1» بدعاء صاحب نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. فأمر معدّ لعنه الله بنبش قبر عقبة وإحراق رمّته بالنار، وبعث إلى مدينة تهوذا لذلك خمسمائة بين فارس وراجل. فلمّا دنوا من قبره وحاولوا ما أمرهم به هبّت ريح عاصفة ولاحت بروق خاطفة وقعقعت رعود قاصفة كادت تهلكهم، فانصرفوا ولم يعرضوا له. 1245 ومنها إلى مدينة باديس مرحلة. وبمدينة باديس حصنان فهما جامع وأسواق وبسائط ومزارع جليلة يزدرعون بها الشعير مرّتين في العام على مياه سائحة كثيرة عندهم. ومن باديس إلى قيطون بياضة وهو أوّل بلد سماطة، ومنه يفترق الطريق إلى بلاد السودان وإلى أطرابلس وإلى القيروان. إلى مدينة نفطة مرحلتان، وهي مدينة «2» مبنيّة بالصخر عامرة آهلة بها جامع ومساجد وحمّامات كثيرة، وهي كثيرة المياه السائحة، وشرب جميع «3» بلاد قسطيلية بوزن إلّا نفطة فإنّ شربها جزاف. وجميع أهلها شيعة وتسمّى الكوفة الصغرى. إلى مدينة توزر وهي آخر أقاليم بلد قسطيلية وقد تقدّم ذكرها، وبينها وبين بسكرة خمسة أيّام. ثمّ تسير منها إلى قفصة مرحلتان، ومن مدينة قفصة مرحلتان «4» إلى فجّ الحمار وبه فندق وماجل للماء. إلى الهروية وهي آخر قرى كورة قمونية. إلى مدينة مذكود وهي أمّ أقاليم بلد قمونية بها جامع وحمّامات وأسواق ومساجد كثيرة وفنادق عدّة وآبار عذبة الماء بعيدة الرشاء، وحولها ثمار كثيرة من جميع الأصناف أكثرها شجر التين «5» وهو يفوق تين إفريقية طيبا. ومنها يحمل التين زبيبا إلى القيروان فيكون أغلى من سائر التين ثمنا وأكثر طلبا. وهي في غابة من شجر التين الأخضر «6» لا تظهر لمن قصدها حتّى يبلغها. ومن مدينة مذكود إلى جمونس «7» الصابون قرية

[الطريق من تنس إلى تيهرت]

كبيرة آهلة بها آبار عذبة، وهي في سند جبل حولها رمل كثير وشجر الزيتون، وبها جامع وسوق عامرة «1» وحمّام. وفيها قصر كبير وهو مخزن لجماعة أهلها، بها غدير ماء كبير ولها قرى كثيرة عامرة مفيدة. إلى قرية «2» مجدول آهلة (كبيرة أيضا مثل الّذي قبلها صفة، ولها غدير أيضا يعرف ببحيرة مجدول) «3» منه شربهم، ولهم آبار كثيرة طيّبة. ومنها إلى بني دعام قرية جامعة عامرة، إلى مدينة القيروان. وذلك من وهران إلى القيروان على قسطيلية ثلاث وأربعون مرحلة. [الطريق من تنس إلى تيهرت] 1246 ومن أراد الطريق من تنس إلى تيهرت فمن تنس إلى الغزّة على ما تقدّم، إلى تاجموت على مضيق مكناسة، إلى عين الصبحى عين كبيرة في سند جبل لمطماطة، إلى تاغريبت إلى مدينة تيهرت. 1247 ومدينة الخضراء «4» على مقربة من تنس وهي مدينة «5» كبيرة على نهر خرّار «6» عليه الأرحاء، وإذا حمل دخل المدينة، وحولها بساتين كثيرة، ويكتنفها من قبائل البربر مدغرة وبنو دمّر ومديونة وبنو واريفن، وهي بين مدينة تنس ومدينة إغزر، وقد تقدّم ذكرها (وهي أقزرنة «7» متيجة) «8» .

ذكر مدينة تلمسان وما والاها من المغرب

1248 ومدينة سطيف على مرحلتين من المسيلة، تخرج من المسيلة إلى غدير وارّوا يسكنه بنو يغمراسن من هوارة (على عيون طيّبة) «1» يعتدّون في ستّين ألفا، وقد تقدّم ذكرها. ومنها إلى مدينة سطيف، وهي مدينة كبيرة جليلة أوّلية كان عليها سور خربته كتامة مع أبي عبد الله الشيعي لأنّها كانت في الأوّل لكتامة غلبتهم عليها العرب، وكانوا يعشّرونهم إذا دخلوها، وهي اليوم دون سور لكنّها عامرة جامعة كثيرة الأسواق رخيصة الأسعار. وبين سطيف والقيروان عشر مراحل، وبينها وأقزرنة «2» عشر مراحل أيضا، ومدينة تاناجللت «3» على مرحلة (من مدينة سطيف وعلى مقربة من مدينة ميلة المذكورة قبل هذا. وتاناجللت) «4» مدينة لكتامة عامرة آهلة ليس بها مسجد. 1249 وغدير وارّوا المذكور على مرحلتين من طبنة. وبين تاناجللت ومدينة القيروان ثماني عشرة مرحلة. وبين مدينة وهران ومدينة تلمسان مرحلتان. ذكر مدينة تلمسان وما والاها من المغرب 1250 وهي مدينة مسوّرة في سفح جبل شجره الجوز، ولها خمسة أبواب ثلاثة منها في القبلة: باب الحمّام وباب وهب وباب الخوخة، وفي الشرق باب

العقبة، وفي الغرب باب أبي قرّة. وفيها آثار للأوّل قديمة، وبها بقية من النصارى إلى وقتنا هذا ولهم بها «1» كنيسة معمورة. وكثيرا ما يوجد الركاز في تلك الآثار. وكان الأوّل قد جلبوا إليها ماء من عيون تسمّى لوريط بينها وبين المدينة ستّة أميال. وهذه المدينة تلمسان قاعدة المغرب الأوسط لها أسواق ومساجد ومسجد جامع وأشجار وأنهار عليها الطواحين، وهو نهر سطفسيف. وهي دار مملكة زناته وموسطة قبائل البربر ومقصد لتجّار الآفاق. ونزلها محمّد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب رضه، ومن ولده عيسى أبو العيش بن إدريس بن محمّد بن سليمان الّذي بنى جراوة، وكان أميرها وبها توفّي. ولم تزل تلمسان دارا للعلماء والمحدّثين وحملة الرأي «2» على مذهب مالك. 1251 وفي الجنوب من تلمسان قلعة ابن الجاهل وهي قلعة منيعة كثيرة الثمار والأنهار، ويتّصل بها جبل تارني «3» وهو وما يليه جبال معمورة «4» . إلى مدينة تيزيل «5» وهي أوّل الصحراء، ومنها يسافر إلى مدينة سجلماسة وإلى وارجلن وإلى القلعة، وهي مدينة معمورة فيها آثار للأوّل وبها مسجد. وفي الشمال من تلمسان منزل يسمّى باب القصر فوقه جبل يسمّى جبل البغل ينبعث من أسفله نهر سطفسيف ويصبّ في بركة عظيمة من عمل الأوّل ويسمع لوقوعه فيها خرير شديد على مسافة، ثمّ ينبثق «6» منها بحكمة مدبّرة إلى موضع يسمّى المهماز «7» وإلى ولج الحناء إلى جنان الحاج حتّى يصبّ في نهر أسر «8» ، ثمّ ينصبّ في نهر تافنا وهو النهر الّذي يصل إلى «9» مدينة

أرشقول، (وهناك ينصبّ في البحر. وأرشقول) «1» ساحل تلمسان، بين مدينة أرشقول (على نهر تافنا) » وتلمسان فحص أزيدور «3» طوله خمسة وعشرون ميلا. 1252 ومدينة أرشقول على نهر تافنى يقبل من قبليّها ويستدير بشرقيّها ويدخل فيه السفن اللطاف (من البحر إلى المدينة وبينهما ميلان، وهي مسوّرة) «4» . وبمدينة أرشقول مسجد جامع (حسن فيه سبعة بلاطات) «5» وفي صحنه جبّ كبير وصومعة متقنة البناء، وفيها حمّامان أحدهما قديم. ولها من الأبواب باب الفتوح غربي وباب الأمير قبلي وباب مرنيسة شرقي محنّية كلّها عليها منافس، وسعة سورها ثمانية أشبار، وأمنع جهاتها جوفيّها. وبها آبار عذبة لا تغور تقوم بأهلها ومواشيهم «6» ، ولها ربض من جهة القبلة. وكيلهم ستّون مدّا بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسمّونه عمورة «7» ، ورطلهم اثنتان وعشرون أوقية، ودرهمهم ثماني خراريب والخروبة أربع حبّات. وكان يسكنها التجّار ونزلها عيسى بن محمّد بن سليمان المذكور قبل هذا ووليها وتوفّي فيها سنة خمس وتسعين ومائتين، وولد له فيها إبراهيم بن عيسى الأرشقولي ووليها بعده (ابنه يحيى بن إبراهيم) «8» وهو الّذي حبسه أبو عبد الله الشيعي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

ذكر الحصون التي بساحل تلمسان سوى مدينة أرشقول

1253 وتقابلها جزيرة في البحر تسمّى جزيرة أرشقول بينها وبين البرّ قدر صوت رجل «1» جهير الصوت «2» في سكون (البحر، وهي مستطيلة) «3» من القبلة إلى الجوف عالية منيفة. وإليها لجأ الحسن بن عيسى بن أبي العيش صاحب جراوة وتخلّى (ممّا كان بيده لمّا غلب) «4» على ذلك موسى بن أبي العافية على ما نبيّنه بعد هذا إن شاء الله تعالى. فكتب موسى بن أبي العافية إلى صاحب الأندلس عبد الرحمان بن محمّد يسأله نصرته عليه ويقرّب له المأخذ، وأعانه على ذلك أبو محمّد عبد الملك بن أبي حمامة عند موسى «5» بن محمّد بن جدير. فأمر عبد الرحمان أهل بجانة وغيرهم من أهل السواحل بإقامة خمسة عشر مركبا حربية ثمّ جهّزها بالرجال والسلاح والأزودة والأموال، فأحاطت بهذه الجزيرة وقتلوا كثيرا ممّن كان فيها وحاصروهم حتّى كادوا يهلكون عطشا لمّا نفدت مياه جبابهم حتّى تداركهم الله بغيث وابل. فلم يطمع فيهم أهل الأسطول حين سقوا وانصرفوا قافلين، فوصلوا إلى المرية في شهر رمضان سنة عشرين وثلاثمائة. ثمّ ظفر البوري بن موسى بن أبي العافية بالحسن بن عيسى الّذي لجأ إلى أرشقول وبعث به إلى عبد الرحمان بن محمّد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. ذكر الحصون الّتي بساحل تلمسان سوى مدينة أرشقول 1254 مدينة أسلن «6» وهي شرقي أرشقول حصينة، وهي مدينة قديمة عليها سور صخر وبها جامع وسوق، يسكنها مغيلة، ولها نهر يصبّ في البحر من شرقيها

يسقى منه بساتينهم وثمارهم، وهي مقطوعة منحوتة السور بنهر من كلّ ناحية، ولها (عيون تجري) «1» بينها وبين البحر. وكان عبد الرحمان افتتحها وبعث إليها محمّد بن أبي عامر حميد بن يزل فبناها وجدّدها «2» . 1255 (فأمّا الطريق من أرشقول إلى القيروان فمنها إلى مدينة أسلن ومن أسلن إلى قصر ابن سنان مرحلة لطيفة، ثمّ الطريق على ما تقدّم من أسلن إلى تيهرت أربع مراحل، ومن تيهرت إلى القيروان تسع عشرة) «3» . ومنها إلى حصن تانكرمت «4» ، وهو أيضا على الساحل، ستّة أميال وله مزارع واسعة وبسائط خصيبة. وعلى مرحلتين من أسلن مدينة فكّان (بينهما نهر سي وعليه المنزل في المرحلة الأولى «5» . ومدينة فكّان) «6» كانت سوقا قديمة من أسواق زناتة فمدّنها يعلى بن محمّد بن صالح اليفرني، وكان ابتداء تأسيسه لها سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وارتحل إليها أهل المعسكر من أهل تيهرت ويلل وشاطىء بني واطيل ووهران وقصر الفلوس فعمّرت وتمدّنت وعظمت، وهي في سفح جبل أوشيلاس «7» وهو بجوفيّها، ولهذا الجبل شعراء غامضة. وبقبليّها نهر سيرة ومنبعثه من عيون بشرقيها عليه الأرحاء والبساتين من كلتا ضفّتيه. (وبغربي فكّان) «8» أسفل بساتينها مجمع الأودية: وادي سيرة ووادي سي ووادي هنت. وعلى مدينة فكّان سور طوب وبها جامع وحمّام وفنادق «9» . وبين هذا الحصن وحصن مرنيسة البير ثلاثة أميال وهو حصن حصين، ومنه إلى حصن ابن «10» زينى ثلاثة أميال أيضا، ولهذا الحصن نهر كثير الثمار.

1256 ومن بني زينى إلى حصن الفروس ميلان، وهو على قنّة «1» جبل على ضفّة البحر، ومنه إلى حصن الوردانية ميلان، وهو مثله على جبل بساحل البحر. ومن الوردانية إلى حصن هنين أربعة أميال، وهو على مرسى جيّد مقصود، وهو أكثر الحصون المتقدّمة الذكر بساتين وضروب ثمر يسكنها قبيلة تسمّى كومية. وبين هذا الحصن ومدينة ندرومة الجبل المعروف بتاجرة، ومسافة ما بين الحصن والمدينة ثلاثة عشر ميلا. ومدينة ندرومة هي في طرف جبل «2» تاجرا، وغربيها وشماليها بسائط طيّبة ومزارع وبينها وبين البحر عشرة أميال. وساحلها وادي ماسين، وهو نهر كثير الثمار، وله مرسى مأمون وعليه حصنان ورباط حسن مقصود يتبرّك به، إذا سرق أحد فيه أو أتى بفاحشة لم تتأخر عقوبته، قد تعارفوا ذلك من بركته وحسن صنع «3» الله فيه. ومدينة ندرومة مسوّرة جليلة لها نهر وبساتين وفيها من جميع الثمار، (ولها سور ومساجد وجامع) «4» . 1257 وبين مرسى ماسين وترنانا «5» عشرة أميال، وهي مدينة مسوّرة (ولها أسواق ومساجد وجامع) «6» وبساتين كثيرة وبينها وبين ندرومة ثمانية أميال. ويسكن مدينة ترنانا «7» فخذ من بني دمّر يسمّون بني يلول، وكان بها عبد الله الترناني «8» بن إدريس بن محمّد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي (بن أبي طالب رضي الله عنهم) «9» . وعلى ساحل ترنانا حصن تونت «10» ، وهو حصن منيع على جبل منيف قد أحاط به البحر من

ثلاث جهات، وله مرتقى وعر من ناحية الشرق ولا يطمع فيه أحد. وينزله قبيل من البربر يعرفون ببني منصور. وفي جبل الحصن معدن الإثمد، وله بساتين وشجر كثير يحمل من زبيب تينه «1» إلى ما يليه من النواحي. وعلى هذا الساحل أيضا حصن أبي جنون «2» وحصن كاربيوا «3» . 1258 قال «4» : ومن مدينة ترنانا إلى تابحريت عشرة أميال، وهي مدينة مسوّرة على ساحل البحر لها مسجد جامع متقن البناء مشرف على البحر، ولها أسواق جامعة، وهي محطّ السفن ومقصد التجّار لقوافل سجلماسة وغيرها، ويسكنها من البربر مدغرة وهم أعدل من هناك من قبائلهم. وفي الشرق من تابحريت مدينة مصكاك «5» بينهما نحو ثلاثة أميال، وهي مدينة مسوّرة على شاطىء البحر ذات بساتين، وسوقهم بتابحريت، وهي أقدم من تابحريت وإنّما جدّد مدينة تابحريت الحاج بن مرامر بعد العشرين وأربعمائة. وتابحريت ساحل مدينة وجدة بينهما أربعون ميلا. ومن تلمسان إلى مدينة وجدة ثلاث مراحل، ومن تلمسان إلى الحمّة، ومن الحمّة إلى قرية تسمّى بالشهباء، ومنها إلى مدينة وجدة. 1259 ومدّ وجدة يسمّى بالوجدات، وهي مدينتان مسوّرتان أحدث احداهما يعلى بن بلجّين الورتغنيني بعد الأربعين وأربعمائة يسكن في المحدثة التجّار وفيها الأسواق والجامع خارج المدينتين على نهر قد أحدقت به البساتين، وهي

الطريق من وجدة إلى فاس

كثيرة الأشجار والفواكه طيّبة الغذاء جيّدة الهواء يمتاز أهلها من غيرهم في نضارة ألوانهم ونعمة أجسامهم، ومراعيها «1» أنجع المراعي وأصلحها للظلف والحافر، ينتهى «2» شحم شاة من شياههم مائتي أوقية. 1260 وعلى مقربة من تابحريت مدينة تافرجنّيت «3» وهي ساحل جراوة «4» . وعلى مدينة وجدة طريق المارّة والصادرة من بلاد المشرق إلى سجلماسة (وغيرها من بلاد المغرب، والطريق منها إلى سجلماسة) «5» تخرج من وجدة إلى صاع، (وهي قرية ذات نهر وثمار ومزارع) «6» ، ومنها (إلى تامللت، ومنها إلى جبل نبي يرنييان، ومنه إلى قير، ومنه إلى الأحساء، ومنها إلى الأمسلي «7» ، ومنه إلى دار الأمير، ومن دار الأمير إلى سجلماسة. الطريق من وجدة إلى فاس 1261 تخرج منها أيضا إلى صاع ومنها) «8» إلى تابريدا «9» ، (تفسيره تلّ الأمير) «10» ، ومنه إلى مكناسة وهم أهل أخصاص، ومنها إلى عين الطين، ومنها إلى مدينة فاس.

1262 فأمّا الطريق من وجدة إلى مليلة فإلى صاع ومنها إلى أجرسيف «1» مرحلة، وهي قرية عامرة على نهر ملوية يأتيها من جانب مطغرة، والمخاضة إليها من جهة القبلة. ومن أجرسيف إلى قلوع جارة وهي حصن منيع في أعلى جبل لا متناول له ولا مطمع فيه، ومنه إلى مدينة مليلة، وهي مدينة مسوّرة بسور حجارة وداخلها قصبة مانعة وفيها مسجد جامع وحمّام وأسواق. وهي مدينة قديمة ويذكر أنّ بني البوري «2» بن أبي العافية المكناسي جدّدوها، ويسكنها بنو ورتدى وهم يقترعون على من يدخل عندهم من التجّار، فمن أصابته قرعة الرجل منهم كان تجره على يديه ولم يصنع شيئا إلّا تحت نظره وإشرافه، فيحميه عمّن يريد ظلمه ويأخذ منه الأجر على ذلك ويأخذ منه الهدية لنزوله «3» عنده. 1263 وذكر محمّد بن يوسف وغيره أنّ عبد الرحمان الناصر لدين الله افتتحها سنة أربع عشرة وثلاثمائة وبنى سورها معقلا لموسى بن أبي العافية. وقال أحمد بن محمّد (بن موسى الداراني) «4» الرازي يذكر ذلك [طويل] : والملك الناصر لدين الله ... فيما يحوط الدين غير ساه بنى لموسى عدّة مدينة ... منيعة شاهقة «5» حصينة ذلّت لها تيهرت والأفارقة «6» ... ولم يطق بنيانها العمالقة وكيلهم يسمّونه المدّ وهو خمسة وعشرون مدّا بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورطلهم (مثل رطل نكور) «7» اثنتان وعشرون أوقية، والأوقية خمسة عشر «8»

ذكر المراسي واتصالها

درهما، وقنطارهم من جميع الأشياء بهذا الرطل، والدراهم بها عدّة قراريط كلّ قيراط خمسة أثمان درهم. 1264 فأمّا الطريق من القيروان إلى مليلة فمن القيروان إلى صاع على ما تقدّم قبل هذا، ومن صاع إلى مليلة على ما ذكرنا آنفا، وذلك ثلاث وثلاثون مرحلة، وذلك من مليلة إلى مدينة جراوة مرحلتان، ثمّ الطريق من جراوة كما يأتي بعد هذا في الطريق من فاس إلى القيروان كذلك إحدى وثلاثون مرحلة. وبقبليّ مدينة ترنانا على مقربة منها حصنان أحدهما حصن الزنجراعة والآخر حصن بنى، منازلهما منيعة ومزارعهما طيّبة متّسعة وحنطتهما تقاوم حنطة سائر تلك النواحي، وهي بلاد سهلية جبلية. ذكر المراسي واتّصالها «1» 1265 ومن المراسي «2» مرسى مليلة صيفي يوازيه من برّ الأندلس مرسى مدينة شلوبينة «3» ، وسنذكر اتّصال المراسي من نكور آخذا إلى الشرق وما يحاذيها من مراسي الأندلس إلى مرسى مليلة. ويلي «4» مرسى مليلة إلى الشرق مرسى مدينة جراوة، وهو مأمون وله نهر يريق في البحر وبينه وبين جزائر ملوية في البرّ ثمانية أميال. ويقابله من برّ الأندلس مرسى قمجلة بينهما مجريان. ويليه إلى الشرق مرسى عجرود، وهو مرسى صيفي يكون بغربيّه وفيه آبار وهو مسكون. ويوازيه من برّ الأندلس مرسى دلاية بينهما مجريان. ويليه إلى

الشرق مرسى ترنانة «1» ، (وهو صيفي) «2» وعليه سكنى وله آبار ماء، وبينه وبين مرسى عجرود عشرة أميال. ويحاذيه من برّ الأندلس مرسى مرية بجانة. ويليه مرسى مدينة أرشقول (المذكور قبل هذا، وجزيرة أرشقول في هذا المرسى) «3» . ويقابل هذا المرسى من بر الأندلس قابطة «4» بني أسود بينهما مجريان. ويليه إلى الشرق مرسى أسلن. 1266 فأمّا اتّصال المراسي من مرسى أسلن إلى الشرق فأدنى المراسي إليها مرسى الماء المدفون والسكنى منه على مقربة، وله عيون ماء تسيل في البحر، وبينهما ثلاثة عشر ميلا، ويقابله من برّ الأندلس مرسى الراهب «5» بينهما مجريان وثلث «6» . ويليه مرسى جبل وهران مرسى كبير شتوي سكن من كلّ ريح، بينهما ستّة أميال. ويقابله من برّ الأندلس مرسى أشكوبرش «7» المرسى القديم الّذي نزله البحريّون قبل نزولهم بجّانة بينهما مجريان ونصف. ويليه إلى الشرق أيضا مرسى عين فرّوج «8» ، وهو مرسى شتوي مأمون وله آبار ماء والسكنى منه على مقربة، وبينه وبين وهران في البرّ أربعون ميلا. ويقابله من برّ الأندلس مرسى آقلة، وهو مرسى مدينة لورقة وبينهما ثلاث مجار. ويليه إلى الشرق مرسى قصر الفلوس، وهي مدينة على البحر غير مسكونة، وفيها ماء مجلوب، (وأحساء ماء) «9» ومرساها غير مأمون. ويوازيه من برّ الأندلس مرسى قرطاجنة.

1267 ويليه مرسى مغيلة بني هاشم، وهو مرسى صيفي (لا يكنّ من ريح) «1» ، وله رباط على ضفّة البحر مسكون وماؤه كثير، وبينه وبين قصر الفلوس خمسة وثلاثون ميلا. ويقابله من برّ الأندلس مرسى قبطيل تدمير. ويليه مرسى مدينة تنس وهو صيفي يكنّ بشرقيه وغربيه وله ماء معين، بينهما مراس لطاف. ويقابل مرسى تنس من برّ الأندلس مرسى شنتبول. ويلي مرسى تنس إلى الشرق مرسى جزيرة وقور بينهما أزيد من عشرين ميلا، وله نهر لطيف يصبّ في البحر، والجزيرة قريبة من البرّ، ويقابل من برّ الأندلس مرسى لقنت يقطع البحر بينهما في خمس مجار. ثمّ مرسى شرشال «2» عليه مدينة عظيمة للأوّل غير مسكونة، وله أحسا ماء، يكنّ «3» بشرقيه وغربيه. ويقابل من برّ الأندلس مرسى مريرة «4» ، بينهما خمس مجار ونصف. وكانت لمدينة شرشال مبنى ارتدم وفيها رباطات يجتمع اليها في كلّ عام خلق كثير. 1268 ويليه جبل شنوة وله مرسى يسمّى البطّال «5» وهو غير مسكون، يكنّ بغربيه وله ماء يسير. ويقابل من عدوة الأندلس جبل قرون «6» بينهما خمس مجار ونصف. ثمّ مرسى هور، ثمّ إلى أنف القناطر، (وهناك آثار قناطر قائمة. ثمّ إلى مرسى الذبّان، ويليه مرسى جنابية وله جزيرة) «7» وهناك مدينة للأوّل غير مسكونة لها نهر يريق في البحر. ويقابل من برّ الأندلس مرسى دانية وبينهما ستّ مجار. ويليه مرسى الجزائر وتعرف بجزائر بني مزغنّى وقد تقدّم ذكر مدينتها، وهو مرسى مأمون شتوي بين جزيرة سطفلة «8» من الشرق إلى

الغرب (وبين البرّ) «1» وبالمرسى عين عذبة. ويقابل من برّ الأندلس مرسى بنشكلة «2» بينهما ستّ مجار. 1269 ويلي هذا المرسى من المراسي المشهورة مرسى الدجّاج وهو صيفي غير مأمون. ويقابل من جزائر الأندلس جزيرة ميورقة، (وبقرب منها) «3» مرسى مدينة بجاية أوّلية آهلة عامرة بأهل الأندلس، وبشرقيها نهر كبير تدخله السفن محملة، وهو مرسى مأمون شتوي قد خرج عن محاذاة جزيرة الأندلس. (ثمّ مرسى بونة مرسى مأمون) «4» ، ومرسى بجاية هو ساحل قلعة أبي طويل. وعلى هذا المرسى في تلك الجبال قبائل كتامة وهم شيعة يكرمون من مال إلى «5» مذاهبهم ويبرّرون من وافق اعتقادهم. وجزيرة جوبة قبل مرسى بجاية. ثمّ يلي مرسى بجاية مرسى سبيبة، وعلى مرسى سبيبة في جبال كتامة عين الأوقات معروفة، إذا كانت أوقات الصلوات جرى الماء فيها، فإذا خرجت الأوقات غاص وانقطع. ومن هذا المرسى تدخل السفن إلى جزائر العافية. ثمّ مرسى جيجل فيه آثار للأوّل، وهو معمور اليوم. وعلى هذه المواضع كلّها من جبال كتامة معادن النحاس ومنها يحمل إلى إفريقية وغيرها. وبهذا الجبل حجر الأزورد الطيّب. ومن هذا المرسى إلى مرسى الزيتونة وقد تقدّم وصفه «6» . وهذا الجبل أوّل حدّ الجبل الّذي «7» يعرف بجبل الرحمن، وهو جبل عظيم خارج «8» في البحر يقابل جزيرة سردانية، وهو كثير الثمار والأنهار يسكنه قبائل البربر من كتامة وغيرها، وفيه مزارع كثيرة ومراع مريعة ومنه يحمل عود الخرط إلى إفريقية وما والاها. وفيه أسواق كثيرة ومراس، منها مرسى الخرّاطين ومرسى الشجرة، وفي آخره مرسى القلّ.

1270 ومنه تسير إلى مرسى أستورة، وهو مرسى مدينة تاسقدة وهي مدينة أوّلية قديمة فيها آثار للأوّل عجيبة. ثمّ إلى مرسى الروم وهو شتوي «1» مأمون، إلى جزيرة عمر إلى مرسى تكوش مرسى مأمون فيه قرى كثيرة يتّصل به جبل كثير الفواكه والخير. ثمّ إلى رأس الحمراء. ثمّ إلى مرسى ابن الألبيري. ثمّ إلى مرسى الخروبة. ثمّ إلى مرسى منيع وهو مرسى بونة، وبقربه بئر النثرة «2» المذكورة وهي بئر منقورة في صخرة صمّاء من عمل الأوّل على ضفّة البحر، إذا ارتجّ البحر وصل إليها. ومن مرسى بونة تخرج الشواني غازية إلى بلاد الروم وجزيرة سردانية وكرسقة وما والاها «3» . 1271 ثمّ مدينة مرسى الخرز، ثمّ مرسى طبرقة. ويلي طبرقة من المراسي المشهورة مرسى قرطاجنة، وبينهما من المراسي الصغار مرسى أنف أبي خليفة قبالته جزائر الأخوين. ثمّ مرسى الروم، ثمّ مرسى القبّة وهو مرسى بنزرت، وعلى مقربة منه جزيرة قملارية منه يقطع قواطع الطير من الأندلس وغيرها إلى بلاد الروم، وهناك ترتقب سكون الريح لطيرانها فتستعلي على أوطانها. ثمّ مرسى رأس الجبل وهو مشتى مأمون. ثمّ مرسى الثنية، ثمّ رباط قصر أبي الصقر، وقبالته جزائر الكرّات الّتي قتل فيها زيادة الله عمومته وإخوته. ثمّ مرسى رباط قصر الحجّامين، ثمّ مرسى قرطاجنة.

1272 ثمّ مرسى قصر الأمير بينه وبين مدينة تونس ثمانية أميال في البرّ، وهو متّصل بها في البحيرة المحفورة، وهذا القصر على الخليج المحفور في البحر إلى مدينة تونس. ثمّ مرسى كبير يسمّى رادس وقد تقدّم ذكره وما ورد فيه عند ذكر مدينة تونس. ويلي مرسى تونس إلى القبلة من المراسي الكبار مرسى سوسة، وبينهما من المراسي الصغار رباط الحمّة، ثمّ جون النخلة، ثمّ مرسى بونة في قبليّه جزيرتان إحداهما تعرف بالجامور الكبير والأخرى بالجامور الصغير وهي أصغر. ثمّ جبل أدار يظهر منه جبل صقلية، وفي هذا الجبل قوم متعبّدون تخلّوا عن الدنيا وسكنوا في هذا الجبل مع الوحش، لباسهم البردي وعيشهم من نبات الأرض ومن صيد البحر يتناولون من ذلك ما يكون بلغة لهم إذا جاعوا، والدعوة من أكثرهم مستجابة، وهذا الجبل معروف بالتزام هؤلاء فيه منذ فتحت إفريقية. ثمّ جون الملّاحة، ثمّ مرسى مدينة إقليبية مدينة كبيرة آهلة. ثمّ المرسى المدفون وهو بحر صعب كثيرا ما تعطب فيه السفن. ثمّ مرسى مدينة ريهان، ثمّ مرسى هرقلة، ثمّ مرسى قصر ابن عمر الأغلبي، ثمّ مرسى مدينة سوسة. 1273 ثمّ تسير من مرسى سوسة إلى ناحية القبلة إلى مرسى خفانص، وهو مشتى عليه قصر كبير محرس رباط. ثمّ إلى مرسى محرس المنستير وليس بإفريقية أجلّ من هذا المحرس وقد مضى ذكره. وبقرب هذا المرسى ملّاحة لمطة، وهي ملّاحة كبيرة وملحها لا يفوقه ملح، ومنها يحمل إلى ما جاورها من البلاد. ثمّ إلى مرسى قصر القوريتين، وهما جزيرتان في البحر كبيرتان تشقّ السفن بينهما، ومنهما إلى مدينة المهدية على ساحل القيروان ومحطّ للسفن لمن قصدها من جميع الجهات.

1274 فأمّا سلوك السفن من المهدية إلى الإسكندرية فمن مرسى المهدية إلى مرسى سلقطة وعليه قصر، إلى مرسى قبودية وهي قصور، إلى رأس الجسر وهو أوّل القصير، إلى الزرقاء الكبيرة والصغيرة وهما جزيرتان من تحت الماء، إلى جزيرة قرقنة وهي جزيرة كبيرة فيها سبعة أجباب وفيها آثار قديمة، ويدخل فيها أهل الساحل مواشيهم ويبذر أكثرها، وهي قبالة «1» مدينة سفاقس. ثمّ إلى رأس الرملة، ثمّ إلى الجرف، ثمّ إلى قصر الروم وهو بحر ميّت، ثمّ إلى مدينة قابس، ثمّ إلى جزيرة جربة وهي جزيرة معمورة يسكنها قوم من البربر خوارج، وهي كثيرة الذهب، وبينها وبين البرّ الكبير مجاز، وهي آخر القصير إلى الشرق، وأهلها غدّارون شرار لا تؤمن ناحيتهم. وطول هذا القصير في البحر نحو خمسين ميلا. وفي داخل البحر من داخل القصير بنيان من بنيان الأوّل فهو يسمّى قصير البيت، وتجري من قصير البيت إلى الشمال نحو خمسين ميلا إلى جزيرة نموشت وجزيرة أنبدوشة. ثمّ تخرج السفن من جزيرة جربة إلى مرسى الأندلسيّين، ثمّ إلى قصر الدرق وهو بحر ميّت، ثمّ إلى عقيبلات يدخل إليها في مجله في البحر. ثمّ إلى جبل قنطبير. 1275 وجبل قنطبير المتقدّم الذكر هو موضع مخوف في البحر. ثمّ إلى مرسى مدينة أطرابلس، ومرساها مأمون جيّد، ولها دار صناعة للأساطيل «2» . ثمّ تخرج منه إلى رأس الشعراء، ثمّ إلى لبدة، ثمّ إلى رأس قانان، ثمّ إلى قصر العبادي، ثمّ إلى سرت، ثمّ إلى أجدابية، ثمّ إلى اليهودية، ثمّ إلى حجر عبدون، ثمّ إلى عين أبي زياد، ثمّ إلى رأس أوتان وفي رأس أوتان قالة

فأما سلوك السفن من الإسكندرية إلى أنطالية

الشيني. ثمّ إلى سوسة برقة، ثمّ إلى شقّة الفلفل، ثمّ إلى شقّة التيس، ثمّ إلى مرسى درنى، ثمّ إلى مرسى تينى، ثمّ إلى طبرق، ثمّ إلى جزيرة القرشي، ثمّ إلى جزيرة الطرفا، ثمّ إلى جزائر الحمام، ثمّ إلى وادي ملالي إلى رأس الملّاحة إلى مرسى الزيتونة إلى مرسى عمارة إلى مرسى السلوم إلى رأس العوسج إلى الكنائس إلى الشقراء إلى بوصير إلى مينى الزجاج إلى مينى الأندلسيّين إلى منار الإسكندرية «1» . فأمّا سلوك السفن من الإسكندرية إلى أنطالية 1276 فإنّها تخرج من مدينة الإسكندرية إلى بوقير، ثمّ إلى دمياط، ثمّ إلى بحيرة تنّيس، ثمّ إلى جزيرة دبقو وهي الّتي تصنع فيها الثياب الدبيقية. ثمّ إلى تيدار ميماس وفيها قصر مبنيّ للصحابة رضي الله عنهم، ثمّ إلى غزّة، ثمّ إلى ملّاحة الواردية، ثمّ إلى عسقلان، ثمّ إلى قيسارية، ثمّ إلى يافى، ثمّ إلى رأس الكرمان، ثمّ إلى حيفى، ثمّ إلى عكّة، وفيها قنطرة مبنية للأوّل تدخل تحتها السفن بشرعها، ثمّ إلى مدينة صور وهي داخل البحر وهي ساحل بيت المقدس، ثمّ إلى صيدا، ثمّ إلى بيروت، ثمّ إلى أطرابلس الشام، ثمّ إلى اللاذقية، ثمّ إلى أنطاكية، (ثمّ إلى أنطالية) «2» ، ومن أنطالية تدخل إلى الجزائر المؤلّفة.

1277 فهذا مسلك المراكب من مدينة أسلن «1» على التوالي إلى هذا الموضع. وقد بقي في أقاصي المغرب مراس نذكرها إن شاء الله حتّى نوصلها بأصيلى. 1278 أخبر مؤمن بن يومر الهوّاري أنّ بجزيرة آوى مرسى مشتى على ضفة البحر، وهذه الجزيرة تمشي منها «2» الرفاق مواجهة للمشرق شهرين مشي الإبل إلى مدينة نول، ومدينة نول آخر بلد الإسلام وأوّل العمران من الصحراء. وتسير السفن من ساحل نول إلى وادي السوس ثلاثة أيّام، ثمّ من وادي السوس إلى مرسى أمقدول، وهو مرسى مشتى مأمون وهو ساحل وادي السوس. ثمّ إلى مرسى قوز، وهو رباط يعمّره الصالحون وهو ساحل أغمات، ثمّ إلى مرسى أسفى، ثمّ إلى البيضاء وهو رأس جبل داخل في البحر، ثمّ إلى جزيرة فضالة وهو ساحل بلد تاسمنى بلد برغواطة، ثمّ إلى مرسى ماريفن «3» ، ثمّ إلى وادي سلى وهناك مدينة أوّلية آثارها قائمة تسمّى شلّة. وفي ناحية الشرق من وادي سلى على البحر غار عظيم وفي أعلاه منافس كأفواه الآبار، وظهر الغار مزروع. ثمّ إلى وادي سبو، ثمّ إلى وادي سفدد، ولا يسكن في وادي سفدد أبيض اللون إلّا اعتلّ وقلّ ما يسلم من علّته، وإنّما يسكنه السودان. وإذا رأوا رجلا أبيض اللون قد دخل عندهم ينادي بعضهم بعضا: ميز ميز. ثمّ من وادي سفدد إلى حوض أصيلة، ثمّ على ما تقدّم.

ذكر بلد نكور وحده

ذكر بلد نكور وحدّه 1279 ينتهي من جانب الشرق إلى زواغة جراوة» الحسن بن أبي العيش ومسافة ذلك نحو خمسة أيّام. ويجاورهم من هاهنا مطماطة وأهل كبدان «2» ولمرنيسة الكدية البيضاء وغساسة «3» أهل جبل هرك وقلوع جارة الّتي لبني «4» ورتدى. وينتهي من جانب الغرب إلى قبيل من غمارة يعرفون ببني مروان وبني حميد إليهم تنسب الحميدية، وإلى مسطاسة وصنهاجة، ومن ورائهم أوربة حزب فرجون «5» وبنو وليد وزناتة أهل تابريدا وبنو يرنيان وبنو مراسن «6» حزب قاسم صاحب صاع والكدية المعروفة بتاوررت. 1280 والمراسي المنسوبة إلى نكور مرسى ملوية وهرك وكرط ومرسى الدار وأوفتيس من مراسي تمسامان، وهو الجبل المعروف بأبي الحسن الّذي لجأ إليه بنو صالح. ووادي البقر والمزمّة، بينه وبين مدينة نكور خمسة أميال، والمزمّة «7» في القبلة من المرسى. ويقابله من برّ الأندلس مدينة مالقة ويقطع الغدير بينهما في مجرى ونصف، ومرسى باديس ومرسى بقوية وبالش مرسى صنهاجة وغيرها.

1281 ومدينة نكور بين رواب منها جبل يقابل المدينة يعرف بالمصلّى، وبها جامع على أعمدة من خشب العرعار، وهو والأرز «1» أكثر خشبها. ولها أربعة أبواب: في القبلة باب سليمان وبين القبلة والجوف باب بني ورياغل وفي الغرب باب المصلّى وفي الجوف باب اليهود. وسورها من اللبن وبها حمّامات كثيرة وأسواق عامرة مفيدة. وهي بين نهرين أحدهما نكور ومخرجه من بلاد كزناية من جبل بني كوين، والثاني نهر غيس منبعثه من بلد بني ورياغل، ومسافة مجرى كلّ نهر منهما إلى مصبّه في البحر مسيرة يوم وبعض ثان. وعلى نهريها الأرحاء. ومن جبل كوين أيضا ينبعث النهر المعروف بنهر ورغة وهو (من مشهور أنهار أرض المغرب) «2» ، ويجتمع نهر نكور وغيس بموضع يقال له أكدال، ثمّ يتشعّب هناك جداول. وفي طرف هذا الموضع رباط نكور. وعلى نهر «3» غيس بنى سعيد (بن صالح مسجدا على صفة مسجد الإسكندرية بمحارسه وجميع منافعه. وعدوة غيس هذه) «4» يقال لها تاكراكرى «5» وهي منيعة وفيها يتناتج كراع آل صالح. وبين مدينة نكور وبين البحر خمسة أميال وهو في جوفيّها- وهي كثيرة البساتين والفواكه لا سيّما الكمّثرى والرمّان. وقال أيّوب بن إبراهيم النكوري [وافر] : أيا أملي الّذي أبغي وسؤلي ... ودنياي الّذي أرجو ودين أأحرم من يمينك ريّ نفسي ... ورزق الخلق في تلك اليمين ويحجب عن يمينك لحظ طرفي ... ونور الأرض من ذلك الجبين وقد جبت المهامة من نكور ... إليك بكلّ ناحية أمين

1282 وكيل نكور يسمّونه الصحفة وهي خمسة وعشرون مدّا بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسمّون نصف الصحفة السدس، والرطل عندهم في جميع الأشياء اثنتان وعشرون أوقية، وقنطارهم مائة رطل، ودراهمهم عدد بلا وزن. 1283 والّذي أسّسها وبناها سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور الحميري، وصالح بن منصور هو المعروف بالعبد الصالح وهو الّذي افتتحها زمان الوليد بن عبد الملك ودخل أرض المغرب في (الافتتاح الأوّل) «1» ، فنزل مرسى تمسامان «2» على البحر بموضع يقال له بدكون «3» (بوادي البقر، وبين مرسى تمسامان ومدينة نكور عشرون ميلا) «4» . وهو مرسى صيفي لا يكنّ، ويقابله من برّ الأندلس مدينة طونيانة «5» . وعلى يديه أسلم بربرها وهم صنهاجة وغمارة، ثمّ ارتدّ أكثرهم لمّا ثقلت «6» عليهم شرائع الإسلام وقدّموا على أنفسهم رجلا يسمّى داود ويعرف بالرندي «7» وكان من نفزة «8» ، وأخرجوا صالحا من البلد. ثمّ (تلافاهم الله) «9» بهداه وتابوا من شركهم وقتلوا الرندي واستردّوا صالحا، فبقي هناك إلى أن مات بتمسامان ودفن بقرية يقال لها الأقطى على شاطىء البحر وقبره بها يعرف إلى اليوم. وكان له من الولد المعتصم وإدريس أمّهما صنهاجية وعبد الصمد. فولّوا المعتصم ومكث فيهم يسيرا ومات فولي (سعيد بن إدريس) «10» وهو الّذي بنى مدينة نكور على ما تقدّم.

1684 وقد كان صالح بن منصور أنزل نفرا من البربر موضعا يحاذي مدينة نكور (في الضفّة الثانية من النهر، وكانوا يقيمون هناك سوقا، فنقلهم سعيد إلى المدينة الّتي أسّسها. وغزا المجوس- لعنهم الله- مدينة نكور) «1» سنة أربع وأربعين ومائتين، فتغلّبوا عليها وانتهبوها وسبوا من فيها إلّا (من خلصه الله بالفرار) «2» . وكان فيمن سبوا أمة الرحمن وخنعولة ابنتا واقف بن المعتصم، ففداهما الإمام محمّد بن عبد الرحمن. وأقامت المجوس بمدينة نكور ثمانية أيّام. 1285 وقامت البرانس على سعيد بن إدريس وقدّموا على أنفسهم رجلا يسمّى سكن وتألّبوا عليه من كلّ جهة «3» وغزوه في عقر «4» داره، فأظهره الله عليهم وهزمهم وقتل رئيسهم وافترق جمعهم ورجع من بقي منهم إلى الطاعة. ومات سعيد بن إدريس بعد أن ملكهم سبعا وثلاثين سنة وولي ابنه صالح بن سعيد. وكان لسعيد من الولد منصور وحمود وصالح وزيادة الله والرشيد وعبد الرحمن الشهيد «5» ومعاوية وعثمان وعبد الله وإدريس. وكان عبد الرحمن فقيها بمذهب مالك وحجّ أربعا وعبر إلى الأندلس للجهاد «6» ، فقطع عليه ابن حفصون الطريق «7» فقتل من كان معه وتخلّص عبد الرحمن على فرسه وحضر غزوة أبي العبّاس القائد واستشهد فيها.

1286 وقام على صالح أخوه إدريس في بني ورياغل وكزناية، فالتقوا بجبل كزناية المعروف بكوين، فانهزم صالح وانتهب إدريس معسكره واستمرّ إلى مدينة نكور ليدخلها، (فامتنعوا عليه ومنعه خليفة صالح عليها، فقال له) «1» : إنّ صالحا قد قتل، فقال «2» : إذا صحّ عندي «3» ذلك لم أدافعك. فلمّا لم يجد عندهم ما يريد نزل الجبل المطلّ على المدينة، وأتى صالح في جوف الليل في (خاصّة من) «4» أصحابه فدخل المدينة. فلمّا كان من الغد أقبل إدريس على فرسه وعليه درعه وهو لا يعلم بأمر أخيه، فأدخلوه المدينة فأرجله فتيان صالح عن دابّته وأتوا به صالحا أخاه. فأمر بحبسه في داره. ثم أشار عليه قاسم الوسناني صاحب صاع والكدية بقتله وألحّ عليه في ذلك، فأمر الموالي بقتله فامتنعوا، فأمر فتى من فتيانه يقال له عسلون فقتله. 1287 وامتنعت مكناسة على صالح وحبسوا مغارمهم، فكتب إليهم يوعدهم فختم الكتاب وأدخله في مخلاة وشدّها على حماره وبعثه مع ثقة من ثقاته وقال له: إذا توسّطت بلاد مكناسة فاترك الحمار بما عليه وانصرف. ففعل فأصابت «5» مكناسة حمار صالح وكان معروفا بينهم وأخذوا المخلاة. فلمّا قرأوا الكتاب ائتمروا على عقر الحمار والتمادي على امتناعهم. ثمّ انصرف رأيهم إلى جمع ما كان عليهم لصالح، فجمعوه وجلّلوا الحمار بملحفة مروية «6» وأتوا صالحا بالحمار مجلّلا ومغارمهم موفاة (واستعتبوه فأعتبهم) «7» . ومات صالح بن سعيد بعد أن ملك ثمانية وعشرين عاما.

1288 فولوا ابنه سعيدا وكان أصغر ولده. فلمّا توطّد له الأمر واستوسق دخل عليه عبيدهم الصقالبة فسألوه العتق فقال لهم: أنتم جندنا وعبيدنا وأنتم كالأحرار «1» ، لا تدخلون في المواريث ولا تجري عليكم المقاسم «2» فما طلبكم للعتق؟ فألحّوا عليه في ذلك فأبى، فناله منهم جفاء وغلظة «3» وقدّموا أخاه عبيد الله وعمّه الرضى المكنّى بأبي علي وزحفوا بهما إلى القصر، فحاربهم سعيد من أعلى القصر بالفتيان والنساء حتّى انهزموا. وقامت عليهم العامّة فأخرجوهم إلى قرية فوق المدينة تعرف بقرية الصقالبة، فتحصّنوا بها سبعة أيّام، وحشر سعيد وخرج إليهم وظفر بهم بعد حرب شديدة. وكان الرضى عمّه وصهره كانت ابنته طالت تحته فحبسه مع أخيه عبيد الله وقتل من خرج معهما من بني عمّه، منهم الأغلب وأبو الأغلب. ثمّ وكل بأخيه عبيد الله من أوصله إلى مكّة فأقام بها حتّى مات. 1289 فامتعض سعادة الله بن هارون، وهو ابن عمّ الأغلب، لقتل «4» ابن عمّه وقال: قتل سعيد ابن عمّي وأبقى عمّه وأخاه وذنبهما واحد. فألّب عليه (بنو يصليتن) «5» أصحاب جبل أبي الحسن، ثمّ عقد أمره معهم وسعادة الله مع سعيد بنكور وهو لا يعلم. فلمّا أعلن (بنو يصليتن) «6» بالخلاف على سعيد جمع أصحابه وخرج إليهم ومعه سعادة الله. فلمّا التحمت الحرب تحيّز سعادة الله فيمن تبعه إلى بني يصليتن وخذل سعيدا، فانهزم سعيد «7» وأخذت بنو يصليتن بنوده وطبوله وقتلوا من مواليه نحو ألف رجل وأتوا مع سعادة الله حتّى حاصروه بنكور. فكانت لسعيد الكرّة عليهم فهزمهم وأسر ميمون بن هارون أخا سعادة الله وقتله «8» . وسار سعادة الله إلى تمسامان

وخرق سعيد دوره وخربها، ثمّ (صالح سعيدا) «1» ، فانصرف إلى نكور، وكان شجاعا بئيسا. فخرج سعادة الله «2» بعد ذلك في خاصّته إلى بلاد بطوية وبني ورتدي، فأدخلوه قلوع جارة ونهد «3» بهم إلى مرنيسة وزنانة، فقتل «4» فاستملك «5» له جميع ذلك البلد. وانصرف سعادة الله إلى مدينة نكور، فأقام بها مصافيا لسعيد. 1290 وتزوّج أحمد بن إدريس بن محمّد بن سليمان بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضه أخت سعيد أمّ السعد «6» بنت صالح وابتنى بها وسكن معها مدينة نكور إلى أن مات. ولمّا تغلّب عبيد الله الشيعي كتب إلى أهل المغرب يدعوهم إلى الدخول في طاعته والتديّن «7» بإمامته وكتب بمثل ذلك إلى سعيد بن صالح وكتب بأسفل كتابه أبياتا كثيرة، منها [طويل] : فإن تستقيموا أستقم لصلاحكم ... وإن تعدلوا عنّي أر قتلكم عدلا وأعلو بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عفوا وأملؤها قتلا فأجاب رجل من شعراء الأندلس من أهل طليطلة أمره يوسف بن صالح وتلقّب بالأحمس وكان شاعر آل «8» صالح في ذلك العصر بأبيات كثيرة، منها [طويل] : كذبت وبيت الله لا تحسن العدلا ... ولا علم الرحمن من قولك الفضلا

فما كنت إلّا جاهلا ومنافقا ... تمثّل للجهال في السنّة المثلا وهمّتنا العليا لدين محمّد ... وقد جعل الرحمن همّتك السفلى 1291 فكتب عبيد الله الشيعي إلى مصالة بن حبوس عامله على تيهرت يأمره بالمسير إلى بلد نكور ومحاربة سعيد بن صالح، فخرج مصالة لذلك من تيهرت غرّة ذي الحجّة سنة أربع وثلاثمائة فنزل من مدينة نكور على مسيرة يوم بموضع يقال له نسافت، فخرج إليه سعيد بن صالح فحاربه ثلاثة أيّام مكافيا له. وكان مع سعيد رجل من شجعان البرابر وأعلامهم يقال له حمد «1» بن العياش من بني يطوفت دعته نفسه إلى أن يقصد محلّة مصالة فيفتك به، فوافى المحلّة في سبعة فوارس واقتحم على مصالة، فتصايح الناس فكاثروهم «2» ، فأخذ حمد أسيرا ومن معه، فأمر مصالة بضرب أعناقهم فقال حمد: ليس مثلي يقتل. قال مصالة: ولم؟ قال: لأنّك لا تطمع في سعيد إلّا بي وعلى يدي. فاستبقاه وقرّبه وألطف مكانه حتّى أنس به. ثمّ أعطاه (قطعة من العسكر) «3» فقصد بها من جانب كان يعلم الغرّة به حتّى دخل عسكر سعيد من المأمن ومن حيث لا يظنّ به، ففرق جمعه وغشي سعيدا ما لم يتأهّب له وتتابعت عليه العساكر، فنظر أمرا لا يستطيع المقام عليه، فبعث إلى مدينة نكور فأخرج كلّ ما كان في قصره وما معهم وصاروا بجزيرة في مرسى نكور ومعهم صالح بن سعيد وإدريس والمعتصم ابنا سعيد أخواه.

1292 وظاهر سعيد بين درعين هو وفتيانه وخاصّته وقاتل حتّى قتل واستبيح «1» عسكره. ودخل مصالة مدينة نكور (يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم سنة خمس وثلاثمائة وانتهب مدينة نكور) «2» وسبى النساء والذرية وبعث بالفتح إلى عبيد الله وبعث برأس سعيد بن صالح «3» ومنصور بن إدريس بن صالح وغيرهم من بني صالح بن منصور، فطيف بها في مدينة القيروان ونصبت بمدينة رقّادة. وفي ذلك يقول أبو جعفر أحمد بن المروذي في أرجوزة [رجز] : لمّا طغى الأرذل وابن الأرذل ... في عصبة من الطغام «4» الجهّل قال نكور دون ربّي معقلي «5» ... أتاه مختوم القضاء الفيصل من الإله كالحريق «6» المشعل ... فحلّ أرضا طال ما لم تحلّل حطّم أهل كفرها بالكلكل ... وجاء رأس رأسها المبذّل على القنا من الرماح الذبّل ... ذو لمّة شاعثة لم تغسل ولحية غبراء لم ترجّل 1293 وركب من نجا من ذرية سعيد بن صالح وأهله البحر من مرسى نكور ونزلوا مالقة وبجانة «7» ، فأمر عبد الرحمان بن محمّد الناصر لدين الله بإنزالهم والتوسّع لهم وحباهم بالكساء الرفيعة والصلات الجزلة «8» وخيّرهم بين المقام بدار مملكته أو المقام بمالقة، فاختاروا المقام بمالقة لقربها من بلدهم ورجائهم

العودة إليه. وتكرّر مصالة في البلد نحو ستّة أشهر، ثمّ استخلف عليه رجلا من أصحابه (يقال له دلول) «1» وانصرف إلى تيهرت، فافترق عن دلول من كان معه من المشارقة وبقي في قليل من أصحابه. فلمّا صحّت الأنباء بذلك عند بني سعيد أزمعوا الانصراف إلى بلدهم ثقة بمحبّة رعيتهم لهم وميلهم إليهم، فاتّفقوا على ركوب البحر (في مراكب مختلفة، فمن وصل منهم قبل صاحبيه «2» فالولاية له، وهم إدريس والمعتصم وصالح. فركبوا البحر من مالقة «3» في ليلة واحدة (ووقت واحد وريح واحدة) «4» ، فوصل أصغرهم سنّا صالح بن سعيد إلى مرسى نكور من ليلته وأصبح له بالمرسى المعروف بوادي البقر بتمسامان. فتسامع البربر بقدومه فتسارعوا إليه من كلّ جانب وأتوه من كلّ جهة وعقدوا له الأمرة ولقبوه باليتيم لصغره وزحفوا إلى دلول فأخذوه وجميع أصحابه فصلبوهم أجمعين على ضفّتي نهر نكور. 1294 وكتب صالح بالفتح إلى عبد الرحمن بن محمّد، فقرئ كتابه بجامع قرطبة ونسخه في سائر «5» بلاد الأندلس، وأمر بإمداد آل «6» صالح بما يجلّ من الأخبية الشريفة والآلة العجيبة والكساء الرفيعة والسروج والحلى والبنود والطبول والدروع وجميع السلاح حتّى عوّضهم «7» الله عزّ وجلّ أكثر ممّا زال عنهم. فتوطّد الملك لصالح بن سعيد واعتاق البحر أخويه شهرين يتردّدان «8» فيه، ثمّ وصلا بعده إلى نكور سالمين، فسلّما له الأمر. ومات صالح بن سعيد بعد أن ملك عشرين سنة. ولم يزل آل صالح على السنّة والجماعة والتمسّك بمذهب مالك بن أنس رضه. وكان (صالح وابنه سعيد) «9» يصلّيان بالناس ويخطبان ويحفظان القرآن.

1295 فولي الأمر المؤيّد بن عبد البديع «1» بن صالح بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور. فزحف إليه موسى بن أبي العافية فحاصره حتّى تغلّب عليه، فقتله واستباح المدينة وانتهبها «2» وهدم أسوارها وخرب ديارها ونسف آثارها وتركها بلاقع تسفي عليها الرياح وتعاوى فيها «3» الذئاب، وبلغ منها ما لم يبلغ بعضه مصالة بن حبوس، وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة. 1296 ثمّ ولي أبو أيّوب إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح، فبنى المدينة القديمة الّتي أسّسها صالح بن منصور وعمّرها وأعاد السوق فيها وسكنها «4» إلى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. ففيها أخرج أبو القاسم الشيعي صاحب إفريقية صندلا الفتى الأسود إلى أرض المغرب مددا لميسور الفتى إذ أبطأ خبره عليه. فخرج صندل من المهدية في جمادي الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فوصل إلى جراوة الحسن بن أبي العيش فاستراح فيها أيّاما، ثمّ سار إلى هراس وكتب إلى إسماعيل بن عبد الملك صاحب نكور يأمره بالقدوم عليه وقد كان خرج من نكور وصار بقلعة أكرى «5» . فبعث إليه رسلا وكتب أنّه في الطاعة، فلم يرض منه صندل بذلك وبعث إليه رسلا يستحثّونه في المسير إليه، فقتلهم إسماعيل عن آخرهم. فلمّا أتى صندلا خبر قتلهم زحف إلى قلعة أكرى فنزل قريبا منها بموضع يقال له نسافت، وهو الموضع الّذي قتل فيه مصالة بن حبوس سعيد بن صالح. فغلب صندل على القلعة بعد قتال ثمانية أيّام ومعارك قتل في آخرها إسماعيل وأكثر أصحابه، وذلك يوم الجمعة في شوال من السنة

المذكورة. وغنم صندل كلّ من كان في القلعة من نساء إسماعيل وقرابته وأخذ له ولدين «1» طفلين، وولّى على المدينة رجلا من كتامة اسمه مرمازو، وصار إلى صاحبه ميسور وهو على فاس يحاصرها. 1297 وكان موسى بن المعتصم بن محمّد بن قرّة بن المعتصم بن صالح بن منصور- وموسى هو المعروف بابن رومي- بجبل أبي الحسن مع بني يصليتن. فلمّا زال صندل تراجع أهل نكور وقدّموا على أنفسهم ابن رومي وقتلوا مرمازو وجميع من كان معه وبعثوا برأس مرمازو وجميع أصحابه إلى أمير المؤمنين عبد الرحمان بن محمّد. وقام على موسى ابن رومي عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح (بن إدريس بن صالح بن منصور، فأخرجه من بلد نكور، وذلك سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. فصار موسى إلى الأندلس ونزل بجانة «2» بأهله وولده ومعه أخوه هارون بن رومي، ونزل بمالقة ابنا عمّه جرثم بن أحمد ومنصور بن الفضل. ثمّ استدعى أهل نكور جرثم بن أحمد بن محمّد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح) «3» ، فعبر البحر إليهم فولّوه على أنفسهم، وذلك سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة، وكان بها إلى ذي الحجّة سنة ستّين. 1298 وتوالت الولاية هناك في بني جرثم إلى سنة عشر وأربعمائة، فغلبت عليهم أزداجة وانتقل بنو جرثم إلى مالقة. ثمّ انتقلت أزداجة إلى بلدهم بناحية وهران ورجع بنو جرثم إلى بلد نكور وهي مدينة المزمّة. ثمّ غلب على بلد

نكور يعلى بن الفتوح الأزداجي وأخرج «1» بني جرثم من جميع بلاد نكور، وهي اليوم بأيدي ذرية يعلى بن الفتوح، وذلك سنة ستّين وأربعمائة. 1299 ويلي مرسى تمسامان المذكور إلى الشرق مرسى كرط وهو غير مكنّ، وفيه آبار، بينهما خمسة عشر ميلا. ويقابله من برّ الأندلس مرسى قرية بلس ويقطع الغدير بينهما في يوم وليلة. ويليه إلى جانب الشرق طرف هرك بينهما عشرة أميال تشتي فيه المراكب الصغار، وله أحساء. ويقابله من برّ الأندلس مرسى شاط «2» . ويقطع «3» الغدير بينهما في مجرى ونصف. ويليه إلى الشرق جون بين طرف هرك ومدينة مليلة. ويقابل هذا الجون من برّ الأندلس مرسى المنكّب «4» بينهما مجريان. ويليه إلى جانب الشرق مرسى مليلة، ونهرها يريق في البحر بينه وبين طرف هرك (مسيرة أميال) «5» . ويقابله من برّ الأندلس مرسى مدينة شلوبينية «6» 1300 فأما الطريق من مدينة نكور إلى مدينة القيروان فمن نكور الى بني يصليتن على نهر تمسامان ومنها إلى نهر قرط مرحلة، ثمّ إلى قلوع جارة مرحلة، إلى وادي ملوية مرحلة، (إلى مدينة جراوة مرحلة) «7» . فذلك ستّ مراحل. ثمّ الطريق كما تقدّم.

1301 ويجاور بلد نكور بلد غمارة فمنه مجكسة. وتنبّأ بذلك الصقع أبو محمّد حاميم بن منّ الله بن حريز بن عمرو بن وجفوال (بن وزروال) «1» الملقّب بالمفتري. وببلد مجكسة جبل حاميم المنسوب إليه، وهو على مقربة من مدينة تيطاوان. وأجابه بشر كثير أقرّوا بنبوّته، وجعل لهم الصلاة صلاتين عند طلوع الشمس وعند غروبها يسجدون على بطون أكفّهم، ووضع لهم قرآنا بلسانهم، فممّا ترجم منه بعد تهليل يهلّلونه: حلّني من الذنوب يا من يحلّ البصر «2» ينظر في الدنيا، حلّني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر. ومنه: آمنت بحاميم وبأبي خلف- يريدون أبا حاميم وكذلك كان يكنّى- وأمن رأسي وعقلي وما أكنّه صدري وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت بتانفيت، وهي عمة حاميم أخت أبي خلف (منّ الله) «3» وكانت كاهنة ساحرة، (وكانت لحاميم أيضا أخت تسمّى دجّو وكانت ساحرة كاهنة) «4» من أجمل الناس وكانوا يستغيثون إليها في كلّ حرب وضيق ويزعمون أنّهم يجدون نفعها «5» . وفرض عليهم صوم (الخميس كلّه ويوم الأربعاء إلى الظهر، فمن أكل فيهما غرم خمسة أثوار «6» لحاميم. ووضع لجميعهم صوم) «7» سبعة وعشرين يوما من رمضان وأبقى فرض صوم ثلاثة أيّام ويوم الفطر الرابع وجعل عيدهم في الثاني من الفطر. وفرض زكاتهم العشر من كلّ شيء وأسقط عنهم الحجّ والطهر والوضوء وأحلّ لهم أكل أنثى الخنازير وقال إنّما حرم ذكورها، وذلك في قرآن محمّد - صلى الله عليه وسلم -. وحرّم عليهم الحوت حتّى يذكّى وحرّم عليهم البيض من جميع الطير. وأنشد أبو العبّاس فضل بن مفضّل بن عمر المدحجي لعبد الله بن محمّد المكفوف الطنجي يهجو حاميم ويذكر فسقه [طويل] : وقالوا افتراء إنّ حاميم مرسل ... إليهم بدين واضح الحقّ باهر

فقلت كذبتم بدّد الله شملكم ... فما هو إلّا عاهر وابن عاهر فإن كان حاميم رسولا فإنّني ... بإرسال حاميم لأوّل كافر رووا عن عجوز ذات أفك فهيمة ... تفاوق في أسحارها كلّ ساحر أحاديث إفك حاك إبليس نسجها ... يسرّونها والله مبدي السرائر 1302 وقتل حاميم المفتري بمصمودة الساحل من أحواز طنجة سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وكان له من البنين محمّد وبه كان يكنّى وعبد الله وعيسى. ودخل عيسى الأندلس زمان عبد الرحمان بن محمّد. ولعيسى في بلادهم قدر ويعرف بابن المفتري. وبنو وجفوال «1» رهط حاميم ينزلون على نهر رأس «2» ، وهو على ثلاثة أميال من مدينة تيطاوان «3» . وكان في بعض جبال مجكسة رجل من السحرة المهرة «4» يعرف بأبي كسية، وكان أهل موضعه يسمعون منه ولا يعصونه طرفة عين، وإذا عصاه أحد أو خالفه حوّل كساه الّذي يلتحف فيه فتصيب ذلك الرجل «5» عاهة لحينه أو جائحة، وإن كانوا جماعة أصابهم مثل ذلك. وكان يخيّل إليهم كأنّ «6» برقة تلوح من تحت كسائه. ولبنيه وعقبه حتّى الآن مزية في تلك الناحية ومنزلة وحظوة على من سواهم. 1303 ومن أعاجيب بلد غمارة امرؤ بوحلاوت «7» وكان في بني شداد منهم، وكان معه «8» عدل مملوء برءوس الحيوان وأنيابها من برّيها وبحريها قد نظّمها في حبل واتّخذها كالسبحة، فإذا سأله أحد عن (شيء من الحدثان) «9» وما هو كائن علّق منه تلك السبحة وقلّده إيّاها، ثمّ (قلقلها عليه) «10» وانتزعها

وجعل يشمّها قطعة قطعة إلى أن تمسك في يده ما أمسك منها، ثمّ طفق «1» يخبره خبره وما الّذي سأله عنه وعمّا يدور له من مرض أو موت أو ربح أو خسارة أو إقبال أو إدبار (أو عبرة أو غير ذلك) «2» فلا يكاد يخطئ. 1304 ومن أعاجيب بلد غمارة أنّ عندهم قوما يعرفون بالرقّادة وهم في وادي لو عند بني سعيد وعند بني قطيطن وعند بني يروتن يغشى على الرجل منهم يومين وثلاثة فلا يتحرّك ولا يستيقظ، ولو بلغ به أقصى مبلغ من الأذى ولو قطع قطعا، فإذا كان بعد ثلاثة من غشيته استيقظ كالسكران ويكون يومه ذلك كالواله لا يتّجه لشيء (ولا يخبر بشيء) «3» . فإذا أصحّ «4» في اليوم الثاني أتى بعجائب ممّا يكون في ذلك العام من خصب أو جدب أو حرب «5» أو غير ذلك، وهذا أمر مستفيض لا يخفى. 1305 وأخبرني غير واحد أنّه رأى بمرسى باديس رجلا قصير القامة مصفر اللّون يكرمه أهل ذلك الموضع ويقدّمونه ويذكرون أنّه ينبط المياه في المواضع الّتي لا يعهد فيها ماء عيونا وآبارا، وأنّه يخبر بقرب الماء وبعده، وأنّه إنّما يستدلّ «6» على ذلك باستنشاف هواء ذلك الموضع لا غير.

ذكر مدينة سبتة

1306 والمواربة «1» عند أهل غمارة كلّها كثيرة متعارفة يفخر «2» بها نساؤهم، وذلك أنّ الرجل إذا دخل بامرأته البكر واربها شباب أهل ناحيتها فاحتملوها وأمسكوها «3» عن زوجها شهرا أو أكثر، ثمّ يردّونها. وربّما فعل ذلك بها مرارا على قدر جمالها وبمقدار الرغبة فيها (تفضّل لذّاتها) «4» . ولا يتمّ إكرام الضيف عندهم إلّا بأن يؤنّسوه بنسائهم الأيامى منهنّ، يبيت الرجل مع ضيفه أخته الشيب أو بنته أو من لم تكن ذات زوج من نسائه. ولا يتركون ذا عاهة يستقرّ ببلدهم ويقولون إنّه يفسد النسل. وهم يرغبون في الرجل الجميل الشجاع، وهم مخصوصون بالجمال ولهم شعور يسدلونها كشعور النساء ويتّخذونها ضفائر ويطيبونها ويتعمّمون «5» بها. ذكر مدينة سبتة 1307 وهي على ضفّة البحر الرومي وهو بحر الزقاق الداخل من البحر المحيط، وهي في طرف من الأرض داخل (من الغرب إلى الشرق) «6» ضيّق جدّا والبحر محيط بها شرقا وشمالا «7» وقبلة، ولو شاء ساكنوها أن يوصلوه من ناحية الشمال لوصلوه فتكون جزيرة منقطعة. وقد حفر من تقدّم في ذلك الموضع نحو غلوتين. وهي مدينة كبيرة مسوّرة بسور صخر محكم البناء بناه عبد الرحمان الناصر لدين الله. وحمّاماتها يجلب الماء إليها على الظهر من البحر. وبمدينتها حمّام قديم يعرف بحمّام خالد. ولها ربض من جانب الشرق فيه ثلاثة

حمّامات، وجامعها على البحر القبلي المعروف ببحر بسول له خمسة بلاطات وفي صحنه جبّان. ولها مقبرة في الجبل (مطلّ على البحر) «1» ومقبرة أخرى بجوفيّها على بحر الرملة. وأهلها عرب وبربر، فعربها تنسب إلى صدف وبربرها من ناحية أصيلة والبصرة، ولم تزل دار علم. وبشرقيّ مدينتها جبل منيف كان محمّد بن أبي عامر ابتدأ فيه بناء سور لم يتمّ، وهذا الجبل مطلّ على الربض المذكور الّذي فيه الحمّامات، وما بينهما كروم. ودار الإمارة في جوفيّ المدينة. وطولها من السور الغربي الّذي يدخل منه إلى المدينة قاطعا إلى الشرق إلى آخر الجزيرة خمسة أميال، والمدينة في الجانب الغربي منها. ولسورها الغربي تسعة أبراج والباب في البرج الأوسط. وبين يدي هذا السور سور لطيف يستر الرجل ويتّصل به خندق عميق عريض عليه قنطرة خشب أمامها بستان وآبار ومقبرة. والسور القبلي على أجراف عالية، والشرقي والجوفي فيه تطامن. ولها باب ثان ممّا يلي الجوف في برج يعرف ببرج سابق يدخل منه إلى دار الإمارة، وذرع المدينة من السور الغربي إلى الشرقي ألفان وخمسمائة ذراع وذرع ما يأخذه ثقاف الربض المتّصل بالسور الغربي سبعة آلاف وأربعمائة ذراع. 1308 وهي مدينة قديمة سكنها الأوّل وبها آثارهم بقايا كنائس وحمّامات، وماؤها مجلوب من نهر أويات مع ضفّة البحر القبلي «2» في قنا إلى الكنيسة الّتي هي اليوم الجامع.

ذكر طنجة

1309 وكان صاحبها أليان، وهو الّذي أجاز طارق بن زياد وأصحابه إلى الأندلس. فلمّا غزا عقبة بن نافع القرشي أرض المغرب وصار إلى سبتة خرج إليه أليان بهدايا وتحف ورغب إليه في الأمان، فأمّنه وأقرّه في موضعه. ثمّ دخلها العرب بعد ذلك بالصلح وعمّروها. ثمّ قام عليهم بربر طنجة فأخرجوهم منها وأقفروها، فبقيت خرابا يعمرها الوحش مدّة. ثمّ دخلها رجل من غمارة يسمّى ماجكن وكان مشركا، فعمّرها وأسلم ورأس فيها. ثمّ وليها بعد هلاكه ابنه عصام، ثمّ ابن ابنه مجبّر «1» بن عصام. وفي دولتهم دخلها قوم كثير من أهل قلشانة أيّام المحل «2» ، فاشتروا من البربر وبنوا فيها واستوطنوها، وكانوا مع ذلك يؤدّون الطاعة إلى قريش العدوة من الحسنيين حتّى افتتحها عبد الرحمان الناصر لدين الله ووليها الرضى بن عصام «3» بعد موت أخيه مجبر «4» ودخلها عامله وقائده فرج بن عفير يوم الجمعة في صدر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة. والمسلك من سبتة إلى طنجة على طرق، وهي مساكن قبائل مصمودة كلّها. ذكر طنجة 1310 فأمّا كورة طنجة فهي مساكن صنهاجة، وطريق الساحل من مدينة سبتة إلى طنجة تخرج من المدينة في بسيط تعمره نحو ميل، ثمّ تدخل في حدّ بني

سمغرة «1» وهم أهل جبل مرسى موسى، ثمّ تخرج إلى (وادي مدينة اليمّ) «2» والقصر الأوّل، (وبطون مصمودة تتشعّب من أربع قبائل: دغاغ وأصادة وبني سمغرة وكتامة، وبطون صنهاجة تفترق من قبيلتين: من قار بن صنهاج وحزمار بن صنهاج. وفي القصر الأوّل) «3» سكنى بني طريف وحوله غراسات كثيرة. وتدخل المراكب في هذا الوادي إلى حائط القصر، وبين مخرج هذا الوادي وموقعه في البحر نحو سكّتين، ومن سبتة إلى هذا القصر مرحلة، ومن القصر إلى طنجة مرحلة. 1311 قال محمّد بن يوسف: إذا خرج الخارج من طنجة إلى سبتة في البحر فإنّه يأخذ إلى جانب الشرق، وأوّل ما يلقى جبل المنارة، ثمّ مرسى باب اليمّ وهو غير مكنّ وفيه سكنى ورباط وواد لطيف يريق في البحر، وبين طنجة وبينه ثلاثون ميلا في البرّ وفي البحر نصف مجرى. ويقابل باب اليمّ من جزيرة الأندلس مرسى جزيرة طريف وبينهما ثلث مجرى «4» . ثمّ يلقى» بعد باب اليمّ (وادي زلول «6» عليه ثمار وعمارة كثيرة. ثمّ وادي باب اليمّ) «7» يصبّ في البحر، حوله بساتين وعليه سكنى وعمارة لمصمودة. ثمّ حجر نابت في البحر يعرف بالمبخة «8» . ثمّ مرسى موسى، وهو مرسى مأمون (مشتى إلا من اللبش) «9» ، وفيه نهر يريق في البحر. وكان عليه حصن هدمه بنو محمّد ومصمودة سنة اثنتين وثلاثمائة، ثمّ بناه أمير المؤمنين الناصر فهدموه أيضا سنة أربعين. وحول هذا الحصن في غربيّه قبائل من البربر في ساحل رمل فيه ماء طيّب وهو متصيّد أهل سبتة. وبين مرسى موسى ومرسى باب اليمّ في البرّ ثمانية أميال. وبإزاء مرسى موسى (من برّ الأندلس بورت لبّ ويقطع الغدير بينهما في نصف مجرى. ومرسى موسى) «10» موضع «11» أكثر بقع الأرض

قردة وهي تحكي ما ترى من فعل من مرّ بها «1» من الناس، فإذا رأت النواتي يجذفون في القوارب «2» أخذت عيدانا وجعلت تحكي عملهم. ويليه مرسى جزيرة تورة «3» ، وفي برّه قرية تعرف بتورة «4» فنسبت الجزيرة والمرسى إليها، وهي جزيرة في البحر كهيئة جبل منقطع عن البرّ يقابلها في البرّ على شاطىء البحر أجراف عالية، والمرسى بينها وبين تلك الأجراف. 1312 ثمّ مرسى بليونش، وبليونش قرية كبيرة آهلة كثيرة الفواكه وبغربيّها نهر يريق في البحر عليه الأرحاء وبينه وبين مرسى جزيرة تورة في البرّ خمسة أميال. ثمّ موضع يعرف بالقصر على خندق يجري فيه ماء كثير في الشتاء ويقلّ في الصيف، وبهذا القصر آثار للأوّل من أقباء وغير ذلك. ثمّ موضع يعرف بماء الحياة، عيون على ضفّة البحر منبعثة بين «5» أحجار من تحت شرف رمل طيّبة عذبة يصل إليها الموج وينبط الماء العذب في هذا الرمل بأيسر حفر. ويذكر أنّ بهذا الموضع نسي فتى موسى الحوت «6» ، ويوجد في ذلك الموضع خاصّة دون غيره حوت ينسب إلى موسى، عرضه مقدار ثلثي شبر وطوله أكثر من شبر لحمه في أحد جانبيه والجانب الآخر لا لحم فيه إنّما جلدته على الشوك، ولحمه طيّب نافع من الحصاة مقوّ للباه. ثمّ مرسى لطيف يعرف بمرسى دنّيل «7» ، بإزائه في البرّ قرية تعرف بهوارة «8» عامرة بها عيون عذبة. ثمّ حجر نابت في البحر «9» يعرف بحجر السودان. ثمّ مدينة سبتة.

[الطريق من سبتة إلى تيطاوان]

[الطريق من سبتة إلى تيطاوان] 1313 وطريق البرّ من سبتة إلى موقع وادي المناول «1» في البحر القبلي من سبتة ستّة أميال. ثمّ إلى وادي نفزة «2» ، ومخرجه من جبل أبي جميل وعليه مساكن بني عفان بن خلف. وعلى هذا النهر الموضع المعروف بالقصر، وهو قصر للأوّل قائم فيه حمّام، وعلى هذا النهر آثار للأوّل كثيرة. ثمّ إلى نهر أسمير «3» ومنبعثه من جبل الدرقة وجريته من الغرب إلى الشرق، وعلى ضفّته قرارات لبني كترات من مصمودة. ثمّ إلى الموضع المعروف بقب منت، وهو الجبل الداخل في البحر بقبلي سبتة يسكنه أيضا بنو كترات وبنو سكين. ثمّ إلى نهر اليلى ومنبعثه أيضا من جبل الدرقة. ثمّ إلى موضع يعرف بتاورص «4» قرية عبد الرحمن بن فحل من بني سكّين من مصمودة، لها مزارع وأرضون (ومياه عذبة) «5» . ثمّ إلى مدينة تيطاوان وهي بسفح جبل إيشقار، وهو متّصل بجبل الدرقة ويبلغ إلى جبل رأس الثور إلى مرسى موسى بالبحر الغربيّ. 1314 ومدينة تيطاوان «6» على أسفل وادي راسن «7» ، (وقال محمّد وادي مجكسة) «8» ، وهذا النهر يتّسع هناك وتدخله المراكب اللطاف من البحر إلى أن تصل تيطاوان. ومسافة ما بين البحر وبينها عشرة أميال. وهي قاعدة بني سكّين فيها قصبة للأوّل ومنار وبها مياه كثيرة سائحة عليها الأرحاء. وبجوفيّها جبل يعرف ببلاط الشوك يركب منه «9» لبني سكّين مائة فارس. وبين مدينة

تيطاوان وجبل الدرقة سكّة، وهو قاعدة بني مرزوق بن عون من مصمودة وسكناهم منه بموضع يقال له صدينة، قرية ذات مياه سائحة وهي أطيب تلك البلاد مزارع. وهذا الجبل في غاية المنعة وفي أعلاه مسارح واسعة ومروج خصبة للماشية. وهذه القرية المذكورة في قبليّ الجبل، وبين القبلة والغرب منه الجبل المنسوب إلى حاميم المفتري المتقدّم الذكر. 1315 وجبل الدرقة يتّصل ببلاد غمارة ويسكن آخره من غمارة بنو حسين بن نصر. ثمّ إلى نهر راسن، ومنبعثه من موضع يعرف بتيطسوان «1» من جبل بني حاميم. ثمّ إلى سوق بني مغراوت «2» ، وهو آخر بلد مجكسة في غربي نهر راسن. ومجتمع هذه السوق يوم الثلاثاء وهي جامعة. ثمّ إلى فجّ الفرس وبه قرارات لقبائل من مصمودة ويركب لهم (مائتا فارس) «3» . ثمّ إلى مدينة ويناقام، وهي كانت قاعدة حمّود بن إبراهيم، وهي في سفح جبل ولها ثمار ومياه كثيرة على نهر سسهور، (وهو بلد طيّب، ومنبعث سسهور من) «4» جبل تامورات وهو من مساكن متنة من صنهاجة. وبين ويناقام وجبل الدرقة ميلان، وهو ما بين الغرب والقبلة من المدينة، وهو الجبل الّذي يمتنع فيه صنهاجة إذا خالفوا على الملوك. وبجبل الدرقة يتّصل جبل حبيب بن يوسف الفهري. وبين الدرقة وطنجة سكّتان.

فأما الطريق من سبتة إلى مدينة تيقيساس

فأمّا الطريق من سبتة إلى مدينة تيقيساس «1» 1316 فإلى نهر راسن كما تقدّم. ثمّ تدخل أرض غمارة. ثمّ تسير في بني جفو «2» . ثمّ في بني نفقاوة وهم من بني حميد من غمارة أيضا وهم على نهر لاو، وهو نهر كبير تجري فيه السفن، ولهم نتاج معروف وخيلهم معروفة بالحميدية. ثمّ إلى بني مسارة وهم السكّان حول تيقيساس وهم أيضا من بني حميد. 1317 ومن المواضع المشهورة والمنازل المعمورة «3» ما بين سبتة وطنجة نهر أليان وقصر أليان فيه آثار للأوّل كثيرة. وفي غربي هذا النهر موضع يعرف بكروشت، وهو آخر غمارة ومصمودة. ويتّصل بهم هناك متنة من صنهاجة. (ونهر الخليج وهو شرقي طنجة وموقعه في البحر تدخله المراكب. وجبل رأس الثور يسكنه قبائل كثيرة من مصمودة) «4» . ونهر مجاز الفروق «5» نهر كبير جدّا، ونهر فرميول وعنصره من جبل عين الشمس وجبل مترارة «6» ، وهو جبل وعر كثير الشجر والمياه. ومن هذا الجبل إلى البحر المعروف بالزقاق وادي الرمل، وهو كثير الثمرة طيّب المزارع. وعين الشمس عين ثرّة في قرية نصر بن جرو عامرة آهلة بها جامع وبساتين كثيرة وأسواق «7» ، ويوم سوقها يوم الجمعة. ومن سبتة إليها مرحلة. ويتّصل بعين الشمس جبل تارمليل قاعدة بني راسن لها قرارات حسان وبساتين ومسجد جامع، وهي وسط بلد

ذكر مدينة طنجة وتعرف بالبربرية وليلي

مصمودة. وهذا الموضع يقابل «1» تيطاوان. ويتّصل هذا الجبل إلى مدينة باب اليمّ إلى البحر الغربي. ومجاز فكّان، وهو موضع ملواثة «2» يركب لهم خمسمائة فارس. وهناك الموضع المعروف بالرصافة وكدية تافرغالت، وفيها قرارات كثيرة لمتنة يركب لهم منها نحو ثمانين فارسا. ونهر أوربة، وعنصره من قرية تعرف بالأقولس، وحواليه أرضون كثيرة الربيع طيّبة الزرع وهي قنبانية «3» طنجة. ذكر مدينة طنجة وتعرف بالبربرية وليلي 1318 افتتحها عقبة بن نافع وقتل رجالها وسبى من فيها، وهي على شاطى البحر المعروف بالزقاق مسوّرة متقنة البناء، وهي محطّ السفن اللطاف لأنّ الريح الشرقية توذي «4» فيه، وهي طنجة البيضاء القديمة المذكورة في التواريخ، وفيها آثار للأوّل كثيرة. قصور وأقباء وغيران وحمّام، وماؤها «5» مجلوب في قنا ورخام كثير وصخر منجور وتحفر خرائبها «6» فيوجد فيها أصناف الجواهر في قبور أوّلية وغيرها من المواضع. وهي آخر حدود إفريقية في الغرب، وقيل إنّ عمل طنجة مسيرة شهر في مثله وإنّ ملوك المغرب كانت دار مملكتهم مدينة طنجة وإنّ ملكا من ملوكها كان في عسكره ثلاثون فيلا «7» .

الطريق من مدينة طنجة إلى مدينة فاس

1319 ومسافة ما بين مدينة القيروان وطنجة ألف «1» ميل. وقد غلب على مدينة طنجة القديمة الرمل والعمارة اليوم فوقها. وهناك جامع حسن وسوق عامرة. وبإزاء طنجة في البحر المحيط وإزاء جبل أدلنت الجزائر المسمّاة فرطناتش (أي السعيدة) «2» ، سمّيت بذلك لأنّ شعراءها وغياضها كلّها أصناف الفواكه الطيّبة العجيبة دون غراسة ولا عمارة، وأنّ أرضها تحمل الزرع مكان العشب وأصناف الرياحين العطرة بدل الشوك، وهي بغرب بلد البربر مفترقة متقاربة في البحر المذكور. الطريق من مدينة طنجة إلى مدينة فاس 1320 من مدينة طنجة إلى قلعة ابن خروب «3» مرحلة، وهي مدينة كبيرة على ظاهر لها ثمر وشجر وهي كثيرة الزرع والضرع، وهي لكتامة من بطون مصمودة. وبقرب هذه القلعة قرية كبيرة لعرب خولان آهلة كثيرة الخير، وهي على نهر زلول، وهذا النهر تلقاه قبل الوصول إلى قلعة ابن خرّوب «4» . وبالقرب منها أيضا دمنة عشيرة بلد طيّب لصنهاجة. ثمّ قرى متّصلة لكتامة، إلى حاضرة سوق كتامى وهي قاعدة إدريس بن القاسم بن إبراهيم كبيرة شريفة على نهر وادلكس «5» بها سوق عامرة وجامع. ثمّ تسير إلى قصر دنهاجة «6» ، وهو على تلّ وتحته نهر عظيم وفيه آثار للأوّل، وبه كان ينزل ملوك المغرب في قديم الدهر. وجبل صرصر بقبلي هذا القصر ينزله بطون كتامة وأصادة. ثمّ تسير من هذا القصر إلى مدينة البصرة. وهي مدينة كبيرة واسعة «7» وهي أوسع

تلك النواحي مرعى وأكثرها ضرعا، ولكثرة ألبانها تعرف ببصرة الذبّان، وتعرف أيضا ببصرة الكتّان (كانوا يتبايعون في بدء أمرها في جميع تجاراتهم بالكتّان) «1» ، وتعرف أيضا بالحمراء لأنّها حمراء التربة. وسورها مبني بالحجارة والطوب «2» ، وهي بين شرفين، ولها عشرة أبواب وجامعها سبعة بلاطات وبها حمّامان، ومقبرتها الكبرى في شرقيها في جبل، ومقبرتها الغربية تعرف بمقبرة قضاعة. وماء المدينة زعاف وشرب أهلها من بئر عذبة على باب المدينة تعرف ببئر ابن ذلفا «3» . وخارجها في جناتها (عيون كثيرة) «4» وآبار عذبة. ونساء بصرة مخصوصات بالجمال الفائق والحسن الرائق ليس بأرض المغرب أجمل منهنّ. 1321 قال أحمد بن فتح المعروف بابن الخرّاز التيهرتي يمدح أبا العيش «5» بن إبراهيم (بن القاسم) «6» [رجز] : قبّح الإله اللهو إلّا قينة ... بصرية في حمرة وبياض الخمر في لحظاتها «7» والورد في ... وجناتها والكشح غير مفاض في شكل مرجى ونسك مهاجر ... وعفاف سنيّ وسمت إباض تاهرت «8» أنت خلية وبرية ... عوضت منك ببصرة فاعتاض «9» لا عذر «10» للحمراء في كلفي بها ... أو تستفيض بأبحر وحياض ما عذرها والبحر عيسى «11» ربّها ... ملك الملوك ورائض الرواض ومدينة البصرة محدثة أيضا أسّست في الوقت الّذي أسّست فيه أصيلة أو قريبا منه.

1322 ومن مدينة البصرة إلى نهر ردات مرحلة، وهو في أصل جبل وفي أصل جبل وفي أعلى الجبل مدينة تسمّى كرت «1» وهي اليوم خربة. ومن كرت إلى موضع يقال له حنّاوة «2» - قال محمّد جنيارة- ويعرف بالجبل الأشهب، وهي قرى كثيرة عامرة. ومنه إلى قرية صغيرة على نهر عظيم يسمّى سبو مرحلة، ومنه إلى مدينة فاس مرحلة. ومن أخذ من طنجة على أصيلة «3» فمن طنجة إلى مدينة أصيلة مرحلة، ثمّ إلى سوق كتامى المذكور قبل هذا. 1323 ومن مدينة البصرة طريق آخر إلى مدينة فاس، فمنها إلى وادي ورغة، ثمّ إلى مدينة «4» ماسنة مرحلة، وهي مدينة عيسى بن حسين الحسني المعروف بالحجّام، وهي على نهر كبير. ثمّ إلى مدينة سداك في بلد مغيلة، وهي قاعدة خلوف بن يحمد المغيلي. ثمّ إلى مدينة فاس. فذلك سبعة أيّام «5» . 1324 ومدينة أصيلة أوّل مدن العدوة من جانب الغرب، وهي في سهلة من الأرض حولها رواب لطاف والبحر بغربيّها وجوفيّها، وكان عليها سور له خمسة أبواب وجامعها خمسة بلاطات، وإذا ارتجّ البحر بلغ الموج إلى حائط الجامع. وسوقها حافلة يوم الجمعة. وماء آبار المدينة شرّيب «6» ، وبخارجها آبار عذبة: بئر عدل وبئر السانية وآبار كثيرة. ومقبرتها في شرقيّها ومرساها

مأمون والمدخل إليه من الشرق، ويستدير بالمرسى من ناحية الجوف جسر من حجارة مخلوقة تكفّ عن السفن المرفّاة «1» فيها هيجان البحر. 1325 ومدينة أصيلة محدثة، وكان سبب بنيانها أنّ المجوس خرجوا في مرساها مرّتين. فأمّا الأولى فأتوا قاصدين وزعموا أنّ لهم بها أموالا وكنوزا، فاجتمع البربر لقتالهم، فقالوا: لم نأت بالحرب وإنّما لنا كنوز في هذا الموضع، فكونوا ناحية حتّى نستخرجها ونشاطركم فيها. فرضي البربر بذلك فاعتزلوا، وحفر المجوس موضعا فاستخرجوا دخنا كثيرا عفنا. فنظر البربر إلى صفرته فظنّوه ذهبا فبدروا إليه «2» ، فهرب المجوس إلى مراكبهم وأصاب البربر الدخن فندموا ورغبوا إلى المجوس في الخروج واستخراج المال، فأبوا وقالوا: قد نقضتم عهدكم فلا نثق بعذركم. وساروا إلى الأندلس، فحينئذ خرجوا بإشبيلية، وذلك سنة (تسع وعشرين ومائتين) «3» في أيّام الإمام عبد الرحمن بن الحكم. 1326 وأمّا خروجهم (الثاني هناك) «4» فإنّ الريح قذفتهم في ذلك المرسى من الأندلس «5» وعطبت لهم على باب المرسى من ناحية الغرب مراكب كثيرة، ويعرف ذلك الموضع بباب المجوس إلى اليوم. فاتّخذ الناس موضع أصيلة رباطا وانتابوا إليه «6» من جميع الأمصار. وكانت تقوم فيه سوق جامعة ثلاث مرّات في السنة، وهو وقت اجتماعهم وذلك في شهر رمضان وفي عشر

ذي الحجّة وفي عاشوراء. وكان الموضع ملكا للواتة، فابتنى فيه قوم من كتامة واتّخذوه جامعا، وتسامع الناس أمرها من الأندلس وأهل الأمصار فقصدوها في الأوقات المذكورة بضروب السلع وخيّموا فيها. ثمّ بنوا شيئا بعد شيء فعمّرت، فقدمها القاسم بن إدريس فملكها (وبنى سورها وقصرها وبها قبره. ووليها إبراهيم ابنه، ثمّ حسين بن إبراهيم، ثمّ القاسم بن حسين، ثمّ صار أمرها إلى حسن الحجّام منهم) «1» ، حتّى استولى عليهم ابن أبي العافية على ما تقدّم. وكان الحجّام يستعمل عليها الولاة. قالوا: وتفسير أصيلة جيّدة. وبقبلي أصيلة قبائل لواتة وبنو زياد من هوارة زلول، وبغربيها هوارة الساحل. وغار كبير على البحر، إذا مدّ وصل إليه. وبين القبلة والغرب منها عين تعرف بعين الخشب ثرّة، وبقبليها خندق يعرف بخندق المعزة وخندق آخر يعرف بخندق السرادق «2» ، وبغربيها خندق يعرف بتاشت «3» فيه مراعي مواشي أهلها. وكيلهم يسمّى مدّا وهو عشرون مدّا بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الفنقة «4» القرطبية، وكيل الزيت يسمّونه قليلة وهي مائة واثنتا عشرة «5» أوقية، في القنطار عشرون قليلة. 1327 وأصيلة بغربي طنجة، وأوّل ما يلقى الخارج من مدينة أصيلة واديها «6» وهو يخاض، ثمّ مسجد عن يمين الطريق، ثمّ وادي «7» نبرش يخاض أيضا. وهي قرية آهلة عامرة كثيرة الثمار والعيون، وهي للواتة، بينها وبين البحر قدر نصف ميل. ثمّ ساحل رمل. (ثمّ نهر كبير يعبر في المراكب عليه سكنى أهل تاهدارت وهي قرية كبيرة عامرة بها ملّاحة. ثمّ ساحل رمل) «8» . ثمّ بركة عذبة وهي بركة قدر مائتي ذراع فيها ماء عذب بينها وبين البحر نصف ميل،

الطريق من سبتة إلى مدينة فاس

في قبليّها حجارة عالية، تهبّ من هذه البركة ريح عاصفة شديدة تؤذي المراكب وتقلّبها إذا غفل ركّابها. ثمّ ساحل يقابله بلد سطة «1» . ثمّ جرفة يصعد منها إلى قرية كقمارية «2» بها يقطع الطواحن عامرة لصنهاجة. ثمّ جبل اسبرتيل «3» داخل في البحر متّصل بالبرّ فيه عيون عذبة ومسجد رباط، وبين الجبل ومدينة أصيلة ثلاثون ميلا. وإذا خرجت المراكب من أسبرتيل بالريح الشرقية لم يكن لها بدّ من البحر المحيط إلّا أن تدور «4» الريح الغربية. ويقابل جبل أسبرتيل من برّ الأندلس (جبل الأغر على سمت واحد ويقطع الغدير بينهما في ثلثي مجرى بالريح القبلية من ذلك البرّ، ومن الأندلس بالرّيح) «5» الجوفية. ثمّ تسير من هذا الموضع إلى موضع يعرف بالقالة، ثمّ إلى مدينة طنجة. ومن جبل أسبرتيل إلى مدينة طنجة أربعة أميال. الطريق من سبتة إلى مدينة فاس 1328 من سبتة إلى دمنة عشيرة المذكورة مرحلة، ومنها إلى موضع يعرف بالكنيسة قرية مفيدة على ظاهر لكتامة. ثمّ إلى وادي مغار لكتامة أيضا قرار كبير «6» ، بلد للزرع والضرع، إلى الحجر المعروف بحجر النسر قاعدة بني محمّد في الغرب منه بلد رهونة «7» ، وفي الشرق بنو فتركان «8» من غمارة. وتفترق الطريق من الحجر، فمن تيامن أخذ إلى أفتيس مدينة جنّون بن إبراهيم لكتامة، وهي مدينة صالحة كثيرة الخير وهي من الحجر غربا، وهي على نهر وادلكس «9» المذكور قبل هذا، وجريته من الشرق إلى الغرب وهو يلقاه عند أفتيس إليها. ثمّ يهبط إلى مدينة سوق كتامى فيسمّى هناك وادلكس.

ثمّ إلى مدينة تشومّس مدينة ميمون بن القاسم، وهي مدينة أوّلية عليها سور صخر كبيرة آهلة كثيرة المياه والثمار، ويسمّى بذلك الموضع بسفدد، ويتّسع هناك وعليه رباط يعرف برباط حارة الأحشيس وهي قرية آهلة يتّصل بها فحص مديد يعرف بفحص أبي شيار «1» . ثمّ تسير من أفتيس إلى زهجوكة مدينة إبراهيم بن محمّد، ومنها قام إبراهيم وبنوه وملكوا دار طنجة إلى حدّ سبتة وهي لزرهونة «2» . وبعدها مدينة يجّاجين «3» مدينة جيّدة مفيدة على نهر عذب بها جامع وأسواق وحمّام، ويعرف بالجبل الأشهب وهو على نهر سوسق نهر كبير كنهر قرطبة، وهي من بلد جنيارة وفيها عيون، وهي لجنّون بن محمّد سكّانها بنو مسارة من مصمودة. وبعدها مدينة أصادة «4» فيها آثار للأوّل ذات أعناب وأشجار كثيرة، وهي بقبلي يجّاجين بينهما ستّة أميال أو نحوها «5» . ويجاورها على الطريق أربعة أصنام. 1329 ثمّ تأتي مجاز الخشبة على وادي ورغة في بلد شريف وقرارات» كثيرة شبيهة بالمدن. ثمّ قرى متّصلة وأكبرها قرزاوة «7» بني حصين، إلى بلد مغيلة، فترقى عقبة الأفارق وتلقى حصن زالغ على يسار الطريق. ثمّ قلعة ورطيطة، ثمّ فحص محلّى، ثمّ قرية خندق سدرواغ يفترق من هناك الطريق إلى كلتا عدوتي فاس. وذلك من مدينة سبتة إلى مدينة فاس ستّة أيّام. 1330 وطريق آخر إلى فاس من سبتة: إلى تيطاوان مرحلة، أوّل ما يلقى الخارج من سبتة وادي أويات يجري في خندق عليه أرحاء شتوية، وبينه وبين المدينة

ذكر مدينة فاس

ميلان، ومنه جلب أليان الماء إلى سبتة على آزاج، وبعضها قائم في تلك الخنادق إلى اليوم. (ثمّ إلى وادي المنازل) «1» . ثمّ إلى وادي نكرة «2» . ثمّ الطريق كما تقدّم من سبتة إلى طنجة حتّى تأتي فجّ الفرس. ثمّ إلى فجّ الصاري بطرف جبل حبيب بن يوسف وهو جبل كثير العيود «3» ، وبسند هذا الفجّ ممّا يلي الجوف حارة تعرف بمراد، وبين هذا الفجّ ومدينة أفتيس مرحلة. ثمّ من أفتيس كما تقدّم آنفا. وبين الفجّ وأفتيس قلعتان إحداهما قلعة ابن خرّوب المذكورة «4» . ذكر مدينة فاس 1331 ومدينة فاس مدينتان مقترنتان مسوّرتان بينهما نهر يطرد «5» وأرحاء وقناطر. وعدوة القرويّين في غربي عدوة الأندلسيّين. وعلى باب دار الرجل فيها رحاه وبستانه بأنواع الثمر وجداول الماء تخترق داره. وبالمدينتين أزيد من ثلاث مائة رحى وفيهما نحو عشرين حمّاما. وهي أكثر بلاد المغرب يهودا يختلفون منها إلى جميع الآفاق. ومن أمثال أهل المغرب: فاس بلد بلا ناس. وكلتا عدوتي فاس في سفح جبل والنهر الّذي بينهما مخرجه من عين غزيرة في وسط مرج ببلاد مطغرة «6» على مسيرة نصف يوم من فاس. وأسّست عدوة الأندلسيّين في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وعدوة القرويّين في سنة ثلاث وتسعين ومائة في ولاية إدريس بن إدريس. ومات إدريس بمدينة وليلي من أرض فاس على مسافة يوم من جانب الغرب، وكانت وفاته سنة ثلاث عشرة ومائتين في شهر ربيع الأوّل.

1332 ولعدوة الأندلسيّين من الأبواب باب الفتوح قبلي منه يخرج إلى القيروان، وباب الكنيسة شرقي يقابل ربض المرضى، وباب أبي خلّوف شرقي، وباب حصن سعدون جوفي، وباب الحوض غربي يقابل عدوة القرويّين، وباب سليمان مثله، ومن هذين البابين يخرج أهل هذه العدوة إلى الحرب إذا كان بينهم اختلاف، وتقوم الحرب حينئذ بموضع يعرف بكدية الفول، وباب الفوّارة. وبها جامع حسن فيه ستّة بلاطات طولها من الشرق إلى الغرب وعمده أرجل كذان، وله صحن فسيح فيه أصول جوز وشجر وساقية تعرف بساقية مصمودة غزيرة الماء. وبهذه العدوة تفّاح «1» حلو يعرف بالأطرابلسي جليل حسن الطعم يصلح بها وله غلّة ولا يصلح بعدوة القرويّين، وسميد عدوة الأندلسيّين أطيب من سميد (العدوة الثانية) «2» لحذقهم بصنعته. وكذلك رجال عدوة الأندلسيّين أشجع وأنجد من القرويّين، ونساؤهم أجمل من نساء القرويّين، ورجال القرويّين أجمل من رجال الأندلسيّين. ولعدوة القرويّين من الأبواب باب الحصن الجديد قبلي يخرج منه إلى زواغة، وباب السلسلة شرقي يخرج منه إلى عدوة الأندلسيّين، وباب القناطر شرقي، وباب سياج يحيى بن القاسم جوفي يخرج منه (أيضا إلى زواغة و) «3» إلى المخاض وإلى وشتاتة ومغيلة، وباب سوق الأحد غربي منه يخرج إلى زواغة. وبها جامع فيه ثلاثة بلاطات طولها من الشرق إلى الغرب بناه إدريس بن إدريس وله حصن كبير فيه زيتون وشجر وله سقائف. وبها نحو من عشرين حمّاما وهي أكثر بساتين ومياها.

1333 وعدوة الأندلسيّين يجري الماء عليهم أوّلا ويجود بهذه العدوة الأترج ويعظم ولا يجود بعدوة الأندلسيّين. وكلتا العدوتين جليلة الخطر عظيمة القدر. وموقع وادي فاس بوادي سبو، وبغربي عدوة القرويّين في بلد مغيلة موضع يقال له السيخ ساخ بأهله، ومن هذا الموضع انهزم البوري بن أبي العافية سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة هزمه بنو محمّد واحتووا على معسكره. وبنهر فاس الحوت المعورف باللبيس كثير. وقال محمّد بن إسحاق المعروف بالبجلي «1» (يمدح عدوة القرويّين) «2» [بسيط] : يا عدوة القرويّين الّتي كرمت ... لا زال جانبك المحبور ممطورا ولا سرى الله عنك «3» ثوب نعمته ... أرض تجنّبت الآثام والزورا 1334 وأنشد إبراهيم بن محمّد الأصيلي والد الفقيه أبي محمّد المفضّل بن عمر المدحجي (يهجو فاسا) «4» [بسيط] : دخلت فاسا ولي شوق إلى فاس ... والجبن «5» يأخذ بالعينين والرأس فلست أدخل فاسا لو حييت ولو ... أعطيت فاسا بما فيها من الناس وقال أحمد بن فتح قاضي تيهرت في كلمة له (يهجو أهل فاس) «6» [بسيط] :

أسلح على كلّ فاسيّ مررت به ... في العدوتين معا لا تبقين «1» أحدا قوم غذوا اللؤم حتّى قال قائلهم ... من لا يكون لئيما لم يعش رغدا 1335 ومدّهم يسع من الطعام ثمانين أوقية، ومديهم يسمّونه اللوح وفيه من هذا المدّ مائة وعشرون مدّا، وجميع المأكولات من الزيت والعسل واللبن والزبيب يباع عندهم بالأواق. وحواليها من قبائل البربر ترهنة «2» ومغيلة وأوربة وصدينة وهوارة ومكناسة وزواغة. 1336 ولمّا وصل موسى بن نصير إلى طنجة مال عياض بن عقبة إلى قلعة يقال لها سقوما على مقربة من فاس ومال معه سليمان بن أبي المهاجر وسألا موسى الرجوع معهما، فأبى وقال: هؤلاء قوم في الطاعة. فأغلظا له القول حتّى رجع فقاتل أهل سقوما، فكان لهم على العرب ظهور. ثمّ تسوّر عليهم عياض بن عقبة من خلفهم في قلعتهم، فانهزم القوم واشتدّ القتل فيهم فبادوا وقلّت أوربة إلى اليوم. فذكر ابن أبي حسان أنّ موسى لمّا افتتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك: أنّه صار إليك يا أمير المؤمنين من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد: ويحك أظنّها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمم.

[ذكر بني إدريس]

[ذكر بني إدريس] 1337 وفاس هي دار مملكة بني إدريس بن عبد الله بن حسن «1» بن حسن بن علي بن أبي طالب رضه. وكان نزول إدريس عند دخوله المغرب بوليلي «2» ، (وهي طنجة بالبربرية، وذكر محمّد أن وليلي على مسافة يوم من فاس وفيها مات إدريس بن إدريس، فهذه غير طنجة) «3» . وهي بغربي مدينة فاس مدينة عظيمة أوّلية. فنزل على إسحاق بن محمّد بن عبد الحميد الأوربي المعتزلي فتابعه «4» على مذهبه، وذلك في سنة اثنتين وسبعين ومائة «5» . وخرج إلى ما سنة في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة «6» وخرج أيضا إلى تازى، وهو موضع من أعمال بني العافية يوجد في جبل منه الذهب وهو أعتق الذهب وأجوده، وكان خروجه إليها في جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين ومائة «7» ، ومات بوليلي. 1338 وذكر أبو الحسن علي بن محمّد بن سليمان النوفلي عن أبيه وغيره في خروج إدريس إلى أرض المغرب غير ما ذكره المؤرّخون، قال إنّ إدريس بن عبد الله انهزم فيمن انهزم من وقعة حسين صاحب فخّ، وكانت وقعة فخّ يوم السبت يوم الترويه سنة تسع وستّين ومائة «8» ، فاستتر مدّة وألحّ السلطان في طلبه. فخرج به راشد مولاه «9» وكان عاقلا شجاعا أيّدا ذا حزم ولطف في جملة الحاجّ منحاشا عن الناس بعد أن غيّر زيّه وألبسه مدرعة «10» وعمامة

غليظة وصيّره كالغلام يخدمه، وإن أمره ونهاه أسرع في ذلك. فسلما حتّى دخلا مصر ليلا. فبينما هما متحيّران يمشيان في بعض طرقها لا هداية «1» لهما بالبلد إذ مرّا بدار مشيّدة يدلّ ظاهرها على باطنها ونعمة أهلها، فجلسا في دكّان على باب الدار. فرآهما صاحب الدار فعرف فيهما الحجازية وتوسّم في خلقتهما الغربية فقال: أحسبكما غريبين «2» . قالا نعم. قال: وأراكما مدنيّين. قالا: نعم نحن كما ظننت. فإذا الرجل من موالي بني العبّاس، فقام إليه راشد وقد توسّم فيه الخير فقال له: يا هذا قد أردت أن ألقي إليك شيئا ولست أفعل حتّى تعطيني موثقا أن تفعل إحدى خلّتين «3» : إمّا أويتنا وتتقرّب «4» إلى الله بالإحسان إلينا وحفظت فينا نبيّك محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وإن كرهت ما ألقيته إليك سترته علينا. فأعطاه على ذلك موثقا. فقال له: هذا إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب خرج من موضعه (مع الحسين بن علي) «5» فسلم من القتل، وقد جئت به أريد بلاد البربر فإنّه بلد ناء لعلّه يأمن فيه ويعجز من يطلبه. فأدخلهما منزله وسترهما حتّى تهيّأ خروج رفقة إلى إفريقية، فاكترى لهما جملا وزوّدهما وكساهما. 1339 فلمّا عزم القوم على الشخوص «6» قال لهما: إنّ لأمير مصر مسالح «7» لا يجوز أحد إلّا فتّشوه، وهاهنا طريق أعرفها لا يسلكها الناس، فأنا أحمل هذا الفتى معي- يعني إدريس- في هذه الطريق الغامضة (البعيدة فألقاك به- يقول لراشد- في موضع كذا وهنالك تنقطع مسالح مصر. فركب راشد في أحد شقيّ المحمل ووضع متاعه في الشقّ الآخر ومضى مع الناس في القافلة،

وخرج الرجل على فرس له وحمل إدريس على فرس آخر فمضى به في الطريق الغامضة) «1» وهي مسيرة أيّام حتّى تقدّما الرفقة وأقاما ينتظرانها حتّى وردت. فركب إدريس مع راشد حتّى إذا قربا من إفريقية تركا دخولها وسارا في بلاد البربر حتّى انتهيا إلى بلاد فاس وطنجة. فأقام إدريس بين ظهراني البربر حتّى انتهى إلى الرشيد خبره. فكرّبه وشكا ذلك «2» إلى يحيى بن خالد البرمكي فقال: أنا أكفيك خبره «3» يا أمير المؤمنين. فأرسل إلى سليمان بن حريز الجزري، وهو رجل من ربيعة وكان متكلّما من يرى رأي الزيدية وكان حلوا شجاعا أحد شياطين الانس وكانت له إمامة في الزيدية إذ كان متكلّمهم «4» ، وهو الّذي جمع الرشيد بينه وبين هشام بن الحكم حين ناظره في الإمامة. 1340 فأرغبه يحيى بن خالد في مال ووعده عن نفسه وعن الخليفة بمواعد عظيمة ودعاه إلى قتل إدريس والتلطّف في ذلك. فأجابه، فأجابه، فأعطاه مالا جزلا ووجّه معه رجلا يثق به وبشجاعته ودفع إلى سليمان قارورة فيها غالية مسمومة، فانطلق مع صاحبه فلم يزالا يتغلغلان حتّى وصلا إلى إدريس، وكان إدريس عالما بسليمان ورئاسته في الزيدية. فلمّا وصل إليه قال: إنّما جئت إليك وحملت نفسي على ما حملتها عليه لمذهبي الّذي تعرفني به، وإنّ السلطان طلبني لمحبّتي في الخروج معكم أهل البيت، فجئتك لآمن في ناحيتك «5» وأنصرك بنفسي. فسرّه قوله وقبله وأحسن مثواه وأكرم نزله وأنس به. وكان سليمان يجلس في مجالس البربر ويظهر الدعاء إلى ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحتجّ لأهل هذه المقالة كاحتجاجه بالعراق، فأعجب ذلك إدريس منه فمكث

عنده مدّة وهو يطلب غرّته ويرصد «1» الفرصة في أمره ويرمق باب الحيلة «2» عليه حتّى غاب راشد مولاه غيبة في بعض أموره، فدخل عليه ومعه القارورة، فلمّا انبسط إليه وخلا وجهه قال: جعلني الله فداك في هذه القارورة غالية حملتها معي، وليس ببلدك من الطيب ما يتّخذ هذا منه، فجئتك بها لتطيب «3» بما فيها. ووضعها بين يديه، ففتحها إدريس وتغلّف منها وشمّها. وانصرف سليمان إلى صاحبه، وقد أعدّا فرسين قبل ذلك مضمّرين، فركباهما وخرجا مركضين يطلبان النجاة. فلمّا وصل السمّ إلى دماغ إدريس وكان «4» في خياشيمه سقط مغشيا عليه لا يعقل ولا يدري من يختصّ به ما شأنه، فبعثوا إلى راشد فجاء مسرعا فتشاغل بمعالجته والتخبّر في أمره. وقطع سليمان وصاحبه على فرسيهما بلادا في مدّة ذلك «5» . 1341 وأقام إدريس في غشيته عامة نهاره وعروقه تضرب ثمّ مات. وتبيّن راشد أمر سليمان بن حريز فركب في طلبه في جماعة من أصحابه، فجعلت الخيل تنقطع تحت أصحابه ويتخلّفون لشدّة السير. وحثّ الطلب (حتّى لحقه راشد) «6» ، فانحرف إليه سليمان ليمنعه من نفسه فخبطه راشد بالسيف فكنع يده وضربه بالسيف على وجهه ورأسه ثلاث ضربات، كلّ ذلك لا يصيب مقتلا مع دفع سليمان عن نفسه وما كان عليه من الجنّة. وقام فرس راشد لشدّة حمله عليه، ونجا سليمان بحشاشة نفسه وصاحبه قد خذله، فلم يغن عنه شيئا ولم يكن عنده إلّا الهرب. ثمّ نزل سليمان بعد أن أمن الاتباع وعصب جراحه. قال أبو الحسن النوفلي: فحدّثني من رآه بعد قدومه العراق مكنّعا.

1342 وذكر أحمد بن الحارث بن عبيدة اليماني نحو رواية النوفلي فقال إنّ إدريس بن عبد الله أفلت من وقعة فخّ فوقع «1» بمصر وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور وكان يتشيّع، فحمله على البريد فوقع بأرض طنجة، فوجّه إليه الرشيد رجلا من مواليه يقال له الشمّاخ في هيئة المتطبّب. وكان بإدريس وجع يجده «2» في أسنانه، فوضع الشمّاخ في ذلك الموضع ذرورا مسموما «3» وخرج من ساعته، فقتل السمّ إدريس فطلب الشمّاخ فلم يظفر به حتّى أتى الرشيد فولاه بريد مصر. 1343 وقال غيره: إنّما أمره أن يستعمل ذلك الذرور والسنون في السحر وفرّ هو في جوف الليل. قال محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن القاسم: الصحيح عندنا أنّه سمّه في دلاعة «4» قطعها بسكّين قد سمّ أحد جانبيه، فلما قطعها ناوله الّذي باشر السمّ وأكل هو الآخر. وكان واضح مولى صالح بن المنصور يميل إلى آل أبي طالب، فبلغ الرشيد ما صنع بإدريس فأمر بضرب عنقه وصلبه. 1344 قال النوفلي: وكانت مدّة إدريس الّتي أجابته فيها البربر إلى أن مات بوليلي سنة خمس وسبعين ومائة ثلاثة أعوام وستّة أشهر. وقال غير هؤلاء إنّ داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب هو الّذي أفلت من وقعة فخّ وهرب إلى المغرب، وذرية داود هذا بفاس وبنو إدريس

يناكحونهم، وانصرف داود إلى المشرق فإنّه إنّما فرّ حين خرج أخواه على المنصور. 1345 قال علي النوفلي: أخبرني عيسى بن جنّون «1» قاضي أرشقول لإدريس بن عيسى ودخل الأندلس غازيا أنّ سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن دخل المغرب أيضا ونزل تلمسان، وبه كمل عدد ولد عبد الله «2» بن حسن ستّة لأنّهم محمّد وإبراهيم وإدريس وعيسى (ويحيى وسليمان كما ذكروا. قال) «3» : فولد سليمان بن محمّد بن سليمان (فمن ولده محمّد ويحيى وسليمان كلّ قريشي في القبلة) «4» . 1346 قال النوفلي: ومات إدريس ولا ولد له وجارية من جواريه حبلى. فقام راشد بأمر البربر حتّى ولدت غلاما فسمّاه باسم أبيه إدريس، وقام بأمره وأدّبه وأحسن تأديبه، وكان مولده في ربيع الآخر سنة خمس وسبعين ومائة. وتوفّي راشد سنة ستّ وثمانين ومائة. ولهذا التبنّي والاتّصال قال محمّد بن السمهري يهجو القاسم بن إدريس بن إدريس [كامل] : قل للزنيم زنيم طنجة عش بها ... لا يحسدنّك في بلادك حاسد منّتك نفسك أن تكون خليفة ... هيهات هذا من حديثك بارد لمّا رأيتك لليام مصافيا ... أيقنت حقّا أنّ جدّك راشد

1347 وقيل إنّ راشد مولى عيسى بن عبد الله «1» أخي إدريس بن عبد الله، قام بأمر الغلام أبو خالد يزيد بن ألياس الفارسي «2» وأخذ بيعة البربر له (يوم الجمعة السابع من ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن إحدى عشرة سنة. وقتل أبا ليلى إسحاق وهو القائم به وبأبيه) «3» يوم السبت لستّ خلون من ذي الحجّة سنة اثنتين وتسعين ومائة، وبعث رأسه «4» إلى المشرق مع أحمد وسليمان ابني عبد الرحمان «5» . ثمّ نزل مدينة فاس في عدوة الأندلسيّين وأقام بها شهرا «6» ، وذلك سنة اثنتين وتسعين ومائة. وكانت عدوة القرويّين «7» غياضا في أطرافها أبيات من زواغة، فأرسلوا إلى إدريس فدخل عندهم فأسّس مدينة القرويّين سنة ثلاث وتسعين ومائة. ثمّ خرج إلى نفيّس في المحرّم سنة سبع «8» وتسعين، ثمّ غزا نفزة وتلمسان ورجع سنة تسع وتسعين ومائة. 1348 قال داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر: كنت مع إدريس بن إدريس في المغرب، فخرجت معه يوما إلى قتال الخوارج فلقيناهم وهم في ثلاثة أضعاف عددنا، فقاتلناهم قتالا شديدا، فأعجبني إدريس في ذلك اليوم وجعلت أديم النظر إليه فقال: وايحك لم توالي النظر إليّ؟ قلت: لخصال، أمّا أوّلها فإنّك تبصق بصاقا مجتمعا وأنا أطلب قليل ماء أبلّ به حلقي فلا أجده. قال: ذلك لاجتماع قلبي وذهاب بصاقك لذهاب عقلك. قال: قلت والثانية لما أرى من منّتك «9» . قال: إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى علينا.

فقلت: والثالثة لما أرى من حركتك وقلّة قرارك على الدابّة. قال: ذلك زمع إلى القتال فلا تحسبه رعبا وأنا الّذي أقول [طويل] : أليس أبونا هاشم شدّ أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب فلسنا نملّ الحرب حتّى تملّنا ... ولا نتشكّى ما نؤول من النصب «1» 1349 وتوفّي إدريس بوليلي سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بحبّة عنب غصّ بها «2» فلم يزل مفتوح الفم سائل اللعاب حتّى مات. وولد إدريس محمّدا وأحمد وعبيد الله وعيسى وإدريس وجعفرا ويحيى وحمزة وعبد الله والقاسم وداود وعمر. وتولّى الأمر (بعده ابنه) «3» محمّد وفرّق البلاد على إخوته على رأي جدّته كنزة أمّ إدريس بن إدريس. واتّخذ محمّد بن إدريس مدينة فاس قرارا فولّى القاسم أخاه البصرة وطنجة وما والاهما «4» . وولّى عمر صنهاجة وغمارة، وولّى داود هوارة تاسلمت «5» ، وولّى يحيى داي وما والاها، وولّى عيسى وازقّور «6» وسلى، وولّى حمزة «7» الأودية بقرب وليلي، وولّى عبد الله لمطة وما والاها. وتصاغر الباقون من إخوته أن يقسم لهم فصاروا مع إخوتهم. 1350 فقام عليه عيسى أخوه صاحب وازقّور ونكث طاعته، فكتب إلى القاسم يأمره بمحاربة عيسى أخيهما إذ كان يحاذيه في البلد. فأبى القاسم من ذلك

وخالف أمر محمّد. فكتب محمّد إلى أخيه عمر بمثل ذلك، فأجابه وسارع إلى نصرته وخرج يريد عيسى بمعسكره. فلمّا قرب من أحواز فاس كتب إلى محمّد يستمده ومضى لوجهه، فأوقع بأخيهما عيسى قبل لحاق مدد محمّد وأخرجه عن بلد وازقّور وهرب إلى سلى. ثمّ أمر محمّد أخاه عمر بمحاربة القاسم أخيهما، (فحاربه وتغلّب على ما كان من بلده) «1» بيده. فتزهّد القاسم وبنى مسجدا على ضفّة البحر بأصيلة ولزمه. وتوفّي عمر بن إدريس بقرب «2» ذلك ببلد صنهاجة بموضع يقال له الفرس وكان منية له، ونقل إلى مدينة فاس فدفن بها. وهو جدّ الحمّوديّين القائمين بالأندلس على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله. 1351 ثمّ هلك محمّد بن إدريس وولي الأمر بعد محمّد ابنه علي باستخلافه له. ثمّ هلك قولي الأمر بعده ابن أخيه يحيى بن يحيى بن محمّد بن إدريس. ثمّ إنّ يحيى بن يحيى دخل على يهودية في الحمّام يقال لها حنّة وقد راودها «3» على نفسها فتغيّر عليه أهل فاس ووثب عليه عبد الرحمان بن أبي سهل الجذامي، وهو جدّ أحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمان الّذي هو صاحب فاس، فأخرجه عن مدينة فاس «4» فهرب إلى عدوة الأندلسيّين فمات بها من ليلته. وكانت زوجة يحيى بن يحيى هذا عاتكة بنت علي بن عمر بن إدريس بن إدريس، فلم تخرج مع زوجها يحيى بن يحيى. فأتى علي بن عمر أبوها بجنده فدخل عدوة القرويّين وملكها «5» ، وانتقل الأمر عن بني محمّد بن إدريس إلى بني عمر بن إدريس. ثمّ قام على علي بن عمر عبد الرزاق الخارجي وكان صفريّا، ويقال إنّه من ثغر الأندلس، وكان قيامه من جبل مديونة وهو بقبلي فاس، فدارت بينهم حروب كانت الدائرة فيها على علي، فهزمه الخارجي

وأخرجه عن مدينة فاس وفّر علي إلى بلد أوربة. وأجاب عبد الرزّاق أهل عدوة الأندلسيّين ولم يجبه أهل عدوة القرويّين وبعثوا إلى يحيى «1» بن القاسم الّذي يعرف بالعدّام «2» ، فولّوه على أنفسهم فلم يزل بها حتّى قتله ربيع بن سليمان في سنة اثنتين وتسعين ومائتين «3» . فتقدّم يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس إلى مدينة فاس فدخلها ورجع الأمر إلى بني عمر، فلم يزل بيد يحيى حتّى قدم مصالة بن حبوس سنة سبع وثلاثمائة على ما ذكرنا قبل هذا. 1352 فلمّا أجلى بني صالح عن بلد نكور تقدّم إلى مدينة الزيتون، وهي كانت قاعدة يحيى بن إدريس (بن عمر قبل دخوله فاس وكانت مويله) «4» الذي يعتدّ بها (ويعول عليها) «5» . فخرج إليه يحيى مدافعا له فانهزم يحيى وانقضّ جمعه ولم تقم له قائمة بعد إلى أن هلك في سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة، وكان هلاكه بالمهدية أيّام حصار أبي يزيد لها، وكان أعلى بني إدريس قدرا بالمغرب لم يبلغ أحد منهم مبلغه. 1353 قال النوفلي: (وكان مصالة بن حبوس لمّا قدم المغرب قدمته «6» الأولى سنة خمس وثلاثمائة ابتدى موسى) «7» بن أبي العافية بالإحسان وقدّمه في المغرب، وكان موسى كلّما رجا بالظهور عزّه «8» يحيى بن إدريس وقطع به عن أمله. فلمّا رجع مصالة بن حبوس إلى المغرب ثانية سنة عشر وثلاثمائة سعى موسى بيحيى عنده، فأجمع مصالة على القبض عليه وطمع في ماله وما عنده، فلم يزل يتحيّل له «9» حتّى أقبل على معسكره، فقبض عليه

وانتزع جميع ما أتى به وأمره باستجلاب ما عنده من الأموال، فأحضره مالا عظيما وأخرجه عن بلده وصار ما كان بيده من البلدان إلى حسن بن محمّد الحجّام وإلى موسى بن أبي العافية. 1354 قال القاضي محمّد بن عمر الصدفي «1» : لمّا أجلى مصالة بن حبوس يحيى بن إدريس التاثت «2» به الحالة وانفضّ جمعه ومن كان معه. ثمّ أخذه بعد ذلك موسى بن أبي العافية فخرب مدينته وسجنه دهرا طويلا بمدينة لكاي. ثمّ أطلقه (ثمّ نزع بنفسه) «3» إلى أصيلة وسكنها وأقطعه بنو إبراهيم شيئا يقوم منه معاشه. قال: وكان أبوه إدريس قد دعا الله بأن يميته «4» بأرض غربة جوعا. فلمّا كان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة توجّه نحو المهدية فوافق قيام أبي يزيد وفعل الشيعة بأنفسهم، فلم يصل إليهم ومات جوعا في حصار أبي يزيد بإفريقية «5» . 1355 وقدّم مصالة بن حبوس على فاس ريحان بن علي الكتامي وذلك سنة سبع وثلاث مائة، (فأقام بها إلى سنة ستّ عشرة وثلاثمائة) «6» . فقام حسن بن محمّد بن القاسم بن إدريس الّذي يعرف بالحجّام فنفاه ودخلها وملكها عامين، وإنّما سمّاه حجّاما عمّه أحمد بن القاسم بن إدريس الكرتي، وذلك أنّه جرى بينهما أمر أفضى بهما إلى الاختلاف والتدابر حتّى زحف كلّ واحد منهما إلى الآخر، فالتقيا بموضع يعرف بالمدالي من بلد صنهاجة، فحمل

حسن على غلام لعمّه فدعسه بحربة أثبتها في مكان المحجم، فأخبر عمّه بفعله، ثمّ شدّ على آخر فأصابه في ذلك الموضع، وقيل لأحمد أيضا، وضرب ثالثة فوافق ذلك الموضع. فقال أحمد: صار ابن أخي حجّاما. فلزمه ذلك. ولذلك قال شاعر من شعرائهم [طويل] : وسمّيت حجّاما ولست بحاجم ... ولكن لضرب في مكان المحاجم 1356 وكان حسن الحجّام في آخر بلد المدالي يملك فاسا، فأوقع بموسى بن أبي العافية رجل من رؤساء البربر وقعة شنعاء لم يكن بالمغرب بعد دخول إدريس فيه أعظم منها أجلت «1» هزيمته له عن أزيد من ألفي قتيل، وقتل في جملتهم ابنا لموسى يسمّى منهل. فغدره على أثر ذلك بفاس حامد بن حمدان الهمداني ويعرف باللوزي نسب إلى قرية بإفريقية، فحبسه عند نفسه وأغلق أبواب المدينة دون عسكره، وذلك كان شأن أهل فاس لا يتركون «2» عسكر رئيس يدخل مدينتهم. فلمّا صار في سجن حامد أرسل إلى موسى بن أبي العافية فأتاه ودخل فاسا وتغلّب على عدوة القرويّين وتغلّب بعد ذلك (على العدوة الأخرى. ثمّ جعل يلحف على حامد في قتل حسن الحجّام بابنه منهل، وحامد يدافعه عنه ويكره المجاهرة بقتله. فسمّه حامد وأخرجه على السور ليلا، فسقط عنه واندلقت ساقه «3» ، وجاز) «4» إلى عدوة الأندلسيّين فمات بها. وقتل موسى عبد الله بن ثعلبة بن محارب الأزدي وقتل معه ابنيه محمّد ويوسف وهرب ابنه محارب بن عبد الله، فلحق بقرطبة (وقيل بالمهدية) «5» . وأراد أيضا قتل حامد بن حمدان الهمداني فهرب إلى المهدية.

1357 واستولى موسى بن أبي العافية على جميع المغرب وأجلى آل إدريس أجمعين عن مواضعهم وانحاشوا عن البلد، وسار جميعهم في حجر النسر مقهورين، وهو حصن بناه إبراهيم بن محمّد بن القاسم بن إدريس بن إدريس «1» سنة سبع عشرة وثلاثمائة، واعتزم موسى على محاصرتهم واستئصالهم حتّى عذله في ذلك أكابر أهل المغرب وقالوا: قد (أجليتهم وأفقرتهم، أتريد) «2» أن تقتل آل إدريس أجمعين وأنت رجل من البربر؟ فانكسر عن ذلك ولاذ عنهم بعسكره وتخلّف «3» لمراقبتهم ومنعهم من التصرّف قائدا جليلا كان عنده يكنّى أبا قمح، فكانت محلّة أبي قمح بتاوررت «4» واستخلف موسى ابنه مدين بفاس حتّى قدم حميد بن يصلى في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة إلى المغرب ومعه حامد بن حمدان الهمداني. فلمّا أيقن مدين بقدومهما هرب من فاس وولّى حميد حامدا «5» على فاس، وتظاهر بنو إدريس على أبي قمح فهزموه وغنموا أكثر عسكره «6» . قالوا: فبذلك سمّوا ذلك الموضع الكوم «7» وتفاءلوا به وجعلوه شعارا بينهم. 1358 ووثب بفاس أحمد بن بكر بن عبد الرحمان بن أبي سهل الجذامي، فقتل حامدا وبعث برأسه وولده إلى موسى «8» بن أبي العافية، فبعث بهما موسى إلى قرطبة مع سعيد بن الزرّاد. وكان صار حميد بن يصلى «9» عن موسى وعن المغرب بغير عهد، فهو كان سبب سجنه بإفريقية حتّى هرب إلى الأندلس.

1359 ثمّ قدم ميسور الفتى إلى «1» المغرب في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة على ما تقدّم قبل هذا، فخرج أحمد بن بكر صاحب فاس يومئذ إلى معسكره، فحبسه ميسور ووجّه به إلى المهدية. فقدّم أهل فاس على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي وحارب ميسور مدينة فاس سبعة أشهر، ثمّ قفل عنهم فلم يزل حسن «2» واليا عليها إلى أن قدم أحمد بن بكر منطلقا من المهدية، فتخلّى له حسن عمّا كان بيده، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. ولمّا ورد ميسور إلى «3» المغرب حاصر موسى بن أبي العافية وتولّى معاظم تلك الحروب بنو إدريس (حتّى جلى موسى بن أبي العافية إلى الصحراء وصار كما كان بيده إلى آل إدريس والرئاسة منهم في بني محمّد بن إدريس بن إدريس) «4» ، وهم حسن وجنّون وإبراهيم بنو محمّد بن القاسم، وكان محمّد متخلّفا في إخوته وعشيرته لا قدر له. ثمّ صارت النباهة والقدر لبنيه، وإبراهيم بن محمّد هو المعروف بالرهوني، وكان الّذي يلزم صخرة النسر منهم جنّون وحنّون من أبناء إبراهيم واسم جنّون القاسم. 1360 ولمحمّد بن إسحاق الشاعر المعروف بالنحيلي «5» في جنّون هذا أهاج كثيرة مقذعة، وذلك أنّه غلب على أمّ ولد كانت له، فهويها جنّون وصارت عنده فاستعان عليه بابن عمّه أحمد بن القاسم بن إدريس، فكتب إليه يرغب أن يصرفها إليه وأعلمه بما يلحقه في فعله من قبح الأحدوثة، فلم يلتفت إلى مقالته ولا انتفع محمّد بن إسحاق بشفاعته، فاستأذن محمّد بن إسحاق أحمد بن القاسم في هجائه، فأذن له في ذلك وعاهده أن لا يرى منه على هجائه له مكروها أبدا. فممّا هجاه به [كامل] :

أترى سلاحك إذ كدتك قصيدتي «1» ... ينقيه سيل قد طما من سفدد أو بحر طنجة في عصوفات الصبى ... (وبحر سبتة يا لئيما) «2» فردد أو نيل مصر إذا ارتمى أذيه ... تعلو سواحله بموج مزبد جنّون يزعم أنّه متلوط ... وهو المنيك «3» إذا خلا بالأمرد ابنا محمّد «4» الزنيم لأنتم ... شرّ الورى ممّن يروح ويغتدى إن كان جنّون من آل محمّد ... فأنا كفور بالنبيّ محمّد وقد ذكرنا خبر سفدد واختلاف أسماء هذا النهر باختلاف المواضع. (فأمّا قوله: أو بحر طنجة في عصوفات الصبى، فإنّ الريح الشرقية تؤذي فيه أشدّ إذاية وكذلك في جرفيه) «5» . 1361 وكان أعلى بني محمّد كلّهم أيدا أبو العيش بن جنّون بن محمّد وكان له من البلد ما بين أجاجن (وقيل ايزاجن) «6» . وهو بقبلي حجر النسر إلى مدينة فاس. وكان أحمد بن إبراهيم بن محمّد عالمهم، كان يحفظ السير والتواريخ وكان نسّابة عاقلا حليما «7» وكان مبجلا لعلمه، وكان يعرف أحمد الفاضل، وكان له ما جرّ من أجاجن «8» إلى مدينة سبتة، وكان شديد الميل إلى خلفاء بني أميّة وكثير التشيّع فيهم. وهو الّذي استشار محمّد بن عبد الله بن أبي عيسى قاضي الجماعة في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة «9» في دخول الأندلس والغزو مع أمير المؤمنين عبد الرحمان. فلمّا أعلم عبد الرحمن بذلك أمره بمخاطبته واستحثاثه في القدوم وأن يعلمه أنّه لا ينزل مرحلة من الأندلس ما بين نزوله بالجزيرة الخضراء إلى نزوله بمحلّه بلاط حميد من أقصى الثغر

- وذلك ثلاثون محلّة- «1» إلّا أمر أمير المؤمنين ببنيان قصر في كلّ محلّة «2» ينزلها ينفق فيه ألف مثقال «3» ليكون أثر إقباله إلى الأندلس باقيا مع الأيّام. 1362 ولم يكن في بني إدريس من شهر بالعلم شهرته إلّا أحمد الأكبر بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهو المعروف بالكرتي، وكان له علم وقدر بالمغرب، وهو الّذي استجلب بكر بن حماد ووفد على أمير المؤمنين عبد الرحمان منهم حسن «4» بن القاسم المعروف بجنّون وعيسى بن جنّون بن محمّد بن القاسم، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، فأقاما في كرامته إلى شهر صفر من العام الّذي يليه، ثمّ انصرفا إلى بلدهما. ولمّا دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة أجمع بنو محمّد بن القاسم على هدم مدينة تيطاوان فهدموها، ثمّ تعقّبوا ما فعلوا وأرادوا بنيانها، فضجّ أهل مدينة سبتة من بنيانها وزعموا أنّها تضرّ بمدينة سبتة وتقطع عنها مرافقها، فأعجل عبد الرحمان أمير المؤمنين إخراج الجيوش إليهم وتجهيز العساكر نحوهم، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، والقائد (أحمد بن يعلى) «5» ، (حتّى وصل إلى مدينة سبتة ونفذ عهد عبد الرحمان إلى حميد بن يصلى وكان والي تيجيساس «6» بالتقدّم إلى سبتة والتظافر بأحمد بن يعلى) «7» على حرب بني محمّد. واجتمع العسكران فسفر حميد بن يصلى إلى بني محمّد علي بن معاذ، فأجابوه إلى التخلّي عن مدينة تيطاوان على أن يبعثوا بأبنائهم إلى أمير المؤمنين. فقدم أحمد بن يعلى عليه بحسن بن أحمد الفاضل بن إبراهيم بن محمّد ومحمّد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم، ووصلا إلى قرطبة يوم السبت لتسع خلون من رجب سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة. وعيسى هو أبو العيش. فبعث حسن في ابنه يحيى وبعث محمّد في ابنه

حسن، فوصلا إلى قرطبة يوم الاربعاء لأربع بقين من ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، فمكثا بقرطبة وصدر أبواهما إلى بلادهما بالحباء والكرامة المجدّدة. 1363 وولد ليحيى وحسن «1» بقرطبة البنون، ثمّ هلكا: هلك يحيى سنة تسع وأربعين وهلك حسن سنة خمسين، ودفنا بمقبرة الربض وصلّى عليهما منذر بن سعيد القاضي. وتخلّف يحيى ابنا يسمّى حسينا «2» وتخلّف حسن «3» ابنين يسمّيان محمّدا وحسينا أيضا. فلم يزالوا مستقرّين بقرطبة إلى خلافة المستنصر بالله. فبعث بهم أعلاما من ثقات أهل مملكته، وذلك في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، فوصلوا بهم إلى أحمد وحسن «4» ابني إبراهيم بن محمّد بن القاسم، ويحيى بن أحمد «5» أبو هذا الغلام قد هلك، فأنزل أحمد بن إبراهيم ابن ابنه حسين بن يحيى على ما كان لأبيه. 1364 فأمّا ذرّية «6» عمر بن إدريس بن إدريس جد الناجمين بالأندلس فإنّ عمر ولد عليّا بسرية، وإدريس أمّه زينب بنت عبد الله بن داود بن القاسم الجعفري، وعبيد الله لجارية يقال لها ربابة، ومحمّدا. فأمّا علي فإنّه أعقب من الذكور اثني عشر ذكرا وابنة واحدة وهي عاتكة الّتي تقدّم ذكرها، امرأة يحيى بن يحيى بن محمّد بن إدريس، وأكثر عقب هؤلاء بأوربة ومنهم بمدينة فاس ومنهم بكتامة. وحمزة بن علي منهم، قتله موسى بن أبي العافية بيده،

ظفر به بمدينته الّتي كانت تدعى بني عوسجة، وقتل معه ولديه هارون ويحيى. وكان حمزة هذا قد حضر مع حسن «1» بن محمّد الحجّام هزيمته لموسى وحضر قتل منهل ابنه، وكان حمزة قد علّق منهلا على بابه ببني عوسجة فقتلهم بثأره. وحسن بن عبيد الله بن علي منهم ابتلى بالجذام وجنّون بن إدريس بن علي، أجلاه موسى بن أبي العافية إلى زناتة فسبته «2» برغواطة فعقبه هناك عندهم. 1365 وعقب أبي العيش بن علي منهم بالأندلس. وأمّا إدريس بن عمر بن إدريس فهو لباب ولد عمر بن إدريس، وبولده تكرّر الأمر إلى أن كثرهم بنو محمّد بن القاسم بن محمّد بن إدريس. ومحمّد بن إدريس بن عمر هو المعروف بابن ميّالة ويكنّى أبا العيش، ولم يزل مواليا للناصر عبد الرحمان رحمه الله، وقد ذكرنا خبر ابنه يحيى بن إدريس وملكه لمدينة فاس، وأنّه كان أعلى بني إدريس حالا بالمغرب، وذكرنا موته بالمهدية. قال علي النوفلي: كان يشهد مجلس يحيى بن إدريس العلماء والشعراء، وكان أبو أحمد الشافعي من جلسائه وممّن يتكلّم عنده في العلم، وكان ينسخ «3» له عدّة الورّاقين وينتجعه الناس من الأندلس وغيرها، فيحسن «4» إلى جميعهم وينصرفون عنه أكرم منصرف.

1366 وكان لإدريس بن عمر «1» خمسة من الولد الذكور غير هذين ولهم عقب كثير. فأمّا عبيد الله بن عمر بن إدريس فولد حمزة والقاسم وأبا العيش، لم (تسمّ لنا أمّهم وهي مملوكة بربرية) «2» ، وعليّا وإبراهيم ومحمّدا، ويقال لمحمّد الشهيد، أمّهم زواغية. فأمّا حمزة فكان شجاعا جوّادا متقدّما وله عقب كثير ببلد غمارة وزنانة. وأمّا علي بن عبيد الله فلم يعقب من ولده إلّا جنّون «3» وهم بكورة الجزيرة. وأمّا إبراهيم فكان عقبه بحجر النسر وأحد بنيه أعقب ببلد زناتة. (وأمّا القاسم بن عبيد الله فله عقب كثير ببلد زناتة، ومحمّد الشهيد عقبه أيضا ببلد زناتة) «4» . وأمّا أبو العيش بن عبيد الله فولد حمّودا ويحيى. فأمّا يحيى فله بنون بتازغدرا. وأمّا حمّود فولد القاسم وعليّا وفاطمة. فأمّا علي فولي الخلافة بالأندلس سنة سبع وأربعمائة واغتاله فتيان من الصقالبة في حمّام بقصر قرطبة فقتلاه ثمّ قتلا به، وكان له من الولد يحيى وإدريس وولّى عهده منهما يحيى، وكان صاحب المغرب وكان إدريس أخوه صاحب مدينة مالقة. فلمّا قتل علي استدعى البربر القاسم أخاه وأدخلوه القصر وبايعه الناس وخطب له بالخلافة، فأنف من ذلك ابن أخيه يحيى لما تقدّم من عهد أبيه له وتظافر مع إدريس أخيه على عمّهما لتصوّره عليهما في خلافة أبيهما، واتّفقا على أن يعبر يحيى إلى مالقة لطلب حقّه ويعبر إدريس إلى المغرب. فجاز يحيى إلى إشبيلية سنة أربع عشرة وأربعمائة واستمرّ إلى قرطبة. فاستخلف يحيى بقرطبة وتسمّى «5» بالمعتلي وخطب له بالخلافة. ثمّ إنّ البربر اضطربوا عليه ففرّ من قرطبة إلى مالقة، ورجع عمّه القاسم إلى قرطبة مرّة أخرى وتسمّى بالمأمون. ثمّ عزله ابن أخيه يحيى، فخرج من قرطبة إلى إشبيلية ومكث بها (إلى أن أخرجه محمّد بن عبّاد وصار بشريش، فحصره بها ابن أخيه يحيى حتّى أخذه وبنيه هناك فسجنهم) «6» ، واستوسق الأمر ليحيى بن علي حتّى قتل في المحرّم سنة سبع وعشرين وأربعمائة.

1367 فلمّا وصل الأمر إلى أخيه خطب له بالخلافة في سبتة وتسمّى بالعزيز بالله «1» . ثمّ عبر البحر إلى مالقة فتسمّى بالمتأيّد بالله وخطب له بالخلافة بمالقة وأعمال البربر بالأندلس وبالمرية وأعمالها. وتوفّي يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت للمحرّم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة «2» . وكان ولّى عهده حسن بن يحيى صاحب سبتة فتسمّى بالمستنصر بالله، فجاز إلى الأندلس وبويع له بمالقة ونواحيها وبغرناطة وجهاتها إلى أن توفّي سنة أربع وثلاثين وأربع مائة. فولي إدريس بن يحيى أخوه وبويع له يوم الخميس لستّ خلون من جمادي الآخرة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وتسمّى بالعالي وخطب له بذلك بمالقة وغرناطة وقرمونة وأعمالها إلى أن خلع سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة. وقام محمّد بن إدريس بن علي وتسمّى بالمهدي وخطب له بالخلافة هناك إلى أن توفّي سنة أربع وأربعين وأربعمائة. وقام بالأمر بعده ابن أخيه إدريس بن يحيى بن إدريس بن علي وتسمّى بالموفّق ولم يخطب له بالخلافة وبقي أشهرا يسيرة، ثمّ دخل عليه العالي إدريس بن يحيى وبويع له مرّة ثانية بمالقة وبقي إلى أن توفّي سنة ستّ وأربعين وأربعمائة «3» . وقام بالأمر بعده ابنه محمّد بن إدريس وتسمّى بالمستعلي «4» ولم يخطب له بالخلافة، فأقام بمالقة إلى أن تغلّب عليها باديس بن حبوس بن ماكسن في صدر سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فانقطعت «5» دولة بني علي بن حمّود من يومئذ. ثمّ استدعى محمّد بن إدريس هذا من مدينة مليلة «6» ، وهو مستقرّ بالمرية لا يعرف مكانه لخمول ذكره، فعبر إليها وذلك في شهر شوال سنة تسع وخمسين وأربعمائة، (فقام به جماعة) «7» بني ورتدى بمليلة وبقلوع جارة ونواحيهما، وهو هناك باق على ذلك إلى وقتنا هذا وهو آخر سنة ستّين وأربعمائة «8» .

ذكر ممالك برغواطة وملوكهم

ذكر ممالك برغواطة وملوكهم 1368 أخبر «1» أبو صالح زمّور بن موسى بن هشام بن وارديزن البرغواطي، وكان صاحب صلاتهم حين قدم على الحكم المستنصر بالله رسولا من قبل صاحب برغواطة أبي منصور بن عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي عفير يحمد بن معاذ بن أليسع بن صالح بن طريف، وكان وصوله إلى قرطبة في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وكان المترجم عنه بجميع ما أخبر به الرسول الّذي قدم معه، وهو أبو موسى عيسى بن داود بن عشرين السطاسي «2» من أهل شلة مسلم من «3» بيت خيرون بن خير «4» . فأخبر زمّور أنّ طريفا أبا ملوكهم من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق وأنّه كان من أصحاب «5» ميسرة المطغري «6» المعروف بالحقير ومغرور بن طالوت. وإلى طريف نسبت جزيرة طريف. فلمّا قتل ميسرة وافترق أصحابه احتلّ «7» طريف ببلد تامسنى، وكان إذ ذاك ملكا لزناتة وزواغة. فقدّمه البربر على أنفسهم وولي أمرهم، وكان على ديانة الإسلام إلى أن هلك هناك وتخلّف من الولد أربعة، فقدّم البربر ابنه صالحا منهم «8» . 1369 قال زمّور: وكان مولد «9» صالح بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة عام سواء. قال: وحضر صالح مع أبيه حروب ميسرة الحقير وهو صغير. قال: وكان من أهل العلم والخير فتنبّأ فيهم وشرع لهم الديانة الّتي هم عليها إلى اليوم،

(وادّعى أنّه نزل) «1» عليه قرآنهم الّذي يقرءونه إلى اليوم. قال زمّور: وهو صالح المؤمنين الّذي ذكره الله عزّ وجلّ في قرآن محمّد - صلى الله عليه وسلم - في سورة التحريم «2» . 1370 وعهد صالح إلى ابنه الياس بديانته وعلّمه شرائعه وفقّهه «3» في دينه وأمره ألّا يظهر ذلك إلّا إذا قوي وأمن، فإنّه يدعو حينئذ إلى ملّته ويقتل من خالفه. وأمره بموالاة أمير الأندلس. وخرج صالح إلى المشرق ووعد أنّه ينصرف إليهم في دولة السابع من ملوكهم، وزعم أنّه المهدي الأكبر الّذي يخرج في آخر الزمان لقتال الدجّال، وأنّ عيسى بن مريم يكون من أصحابه ويصلّي خلفه، وأنّه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتكلّم لهم في ذلك كلاما كثيرا نسبه إلى موسى الكليم عليه السلام وإلى سطيح الكاهن وإلى ابن عبّاس. وزعم أنّ اسمه في العربي صالح وفي السرياني مالك «4» وفي الأعجمي عالم وفي العبراني وربيا وفي البربرية ورياورى، أي الّذي ليس بعده شيء. وتولّى ألياس الأمر بعد خروج أبيه يظهر ديانة الإسلام ويسرّ «5» الّذي عهد إليه به أبوه خوفا وتقية، وكان طاهرا عفيفا لم يلتبس بشيء من الدنيا إلى أن هلك بعد أن ملك خمسين سنة. 1371 وولد ألياس جماعة منهم يونس، فتولّى الأمر بعد أبيه فأظهر ديانتهم ودعا إليها وقتل من لم يدخل فيها حتّى أخلى ثلاثمائة مدينة وسبعا وثمانين مدينة، حمل جميع أهلها على السيف لمخالفتهم إيّاه وقتل منهم بموضع يقال له

تاملّوكاف، وهو حجر نابت عالي وسط السوق، سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين «1» قتيلا، وقتل من صنهاجة خاصّة في وقعة واحدة ألف وغد، والوغد عندهم المنفرد الوحيد الّذي لا أخ له ولا ابن عمّ، وذلك في البربر قليل وإنّما أحصوا الأقلّ ليستدلّ به على الأعظم «2» الأكثر. قال زمّور: ورحل يونس إلى المشرق وحجّ ولم يحجّ أحد من أهل بيته قبله ولا بعده. ومات يونس بن الياس «3» بعد أن ملك أربعا وأربعين سنة. 1372 (وانتقل «4» الأمر عن بنيه بقيام أبي غفير يحمد بن معاد بن أليسع بن صالح بن طريف عليهم، فاستولى على الملك) «5» ودان بدين آبائه واشتدّت شوكته وعظم أمره، وكانت له وقائع كثيرة في البربر مشهورة لا تنسى مع الأيّام «6» ، منها وقيعة تيمغسن، وكانت مدينة عظيمة، أقام القتل في أهلها ثمانية أيّام من الخميس إلى الخميس، حتّى شرقت دورهم ورحابهم وسككهم «7» بدمائهم، ومنها وقعة بموضع يقال له بهت عجز الإحصاء عن عدد من قتل فيها. وكانت لأبي غفير من الزوجات أربع وأربعون زوجة كان له منهنّ من الولد بعددهنّ. ومات أبو غفير بعد أن ملك تسعا وعشرين سنة، وذلك عند ثلاثمائة من الهجرة. 1373 وولي الأمر بعده من بنيه عبد الله أبو الأنصار، وكان سخيّا ظريفا يفي بالوعد والعهد ويحفظ الجار ويكافي على الهدية بأضعافها «8» ، وكان أفطس شديد

أدمة الوجه ناصع بياض الجسم طويل اللحية، وكان يلبس السراويل والملحفة ولا يلبس القميص، ولا يعتمّ إلّا في الحرب ولا يعتمّ أحد في بلده إلّا الغرباء، وكان يجمع جنده وحشمه في كلّ عام ويظهر أنّه يغزو من حوله، فتهاديه القبائل وتستألفه، فإذا استوعب هداياهم وألطافهم فرّق أصحابه وسكنت حركته. فملك في دعة اثنتين وأربعين سنة ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده من بنيه ابنه أبو منصور عيسى بن أبي غفير، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فسار بسيرة آبائه ودان بديانتهم واشتدّت شوكته وعظم سلطانه «1» . وكان أبوه قد وصّاه قبل «2» موته بموالاة صاحب الأندلس، (وكذلك يوصّي جميعهم المرشّح للملك بعده. قال زمّور) «3» : وقال له: يا بنيّ أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف كما وعد. انتهى كلام زمّور. 1374 وقال أبو العبّاس فضل بن مفضّل بن «4» عمرو المدحجي: إنّ يونس القائم بدين برغواطة أصله من شدونة من وادي بربط، وكان قد رحل إلى المشرق في عام «5» واحد مع عبّاس بن ناصح وزيد «6» بن سنان الزناتي صاحب الواصلية «7» وبرغوت بن سعيد التراري وجدّ «8» بني عبد الرزّاق ويعرفون ببني وكيل الصفرية، ومناد صاحب المنادية المنسوب إليه القلعة المعروفة بالمنادية قريبا من سجلماسة وآخر ذهب عنّي اسمه. فأربعة منهم فقهوا في الدّين وادّعى ثلاثة منهم النبوّة، منهم يونس صاحب برغواطة. قال: وكان يونس شرب دواء الحفظ فلقن «9» كلّ ما سمع حفظه، وطلب علم النجوم والكهانة والجانّ ونظر في الكلام والجدال، وأخذ ذلك من غيلان.

ثمّ انصرف يريد الأندلس، فنزل بين هؤلاء القوم من زناتة، فلمّا رأى جهلهم استوطن ببلدهم، وكان يخبرهم بأشياء قبل كونها ممّا تدلّ عليه النجوم عندهم فتكون على ما يقول أو قريبا منه، فعظم عندهم. فلمّا رأى ذلك منهم وعرف ضعف حلومهم وسخافة «1» عقولهم أظهر ديانته ودعا إلى نبوّته، وسمّى من اتّبعه بربطي «2» لما كان من بربط «3» ، ثمّ أحالوه بألسنتهم وردّوه إلى لغتهم فقالوا: برغواطي. 1375 قال فضل بن مفضّل: وقال سعيد بن هشام المصمودي في وقعة بهت قصيدة «4» طويلة اخترنا منها أبياتا [وافر] : قفي قبل التفرّق فاخبرينا ... وقولي واخبري خبرا مبينا هموم برابر خسروا «5» وضلّوا ... وخابوا لا سقوا ماء معينا ألايم أمّة هلكت وضلّت «6» ... وزاغت عن سبيل المسلمينا يقولون النّبيّ أبو غفير ... فأخزى الله أمّ الكاذبينا ألم تسمع ولم تر يوم بهت ... على آثار خيلهم رنينا رنين الباكيات فبين ثكلى ... وعاوية ومسقطة جنينا سيعلم قوم تامسنى إذا ما ... أتوا يوم النّشور مهيمنينا هناك يونس وبنو أبيه «7» ... يقودون البرابر مهطعينا إذا ورياورى زمّت عليه ... جهنّم قائد المستكبرينا فليس اليوم ردّتكم ولكن ... ليالي كنتم متميسرينا «8»

1376 هذا البيت يصدّق قول زمّور البرغواطي أنّ طريفا كان من أصحاب ميسرة ويشهد له. وأمّا هذا الضلال الّذي شرع لهم فإنّهم يقدمون مع الإقرار بالنبيّين الإقرار بنبوّة صالح بن طريف ونبوّة من تولّى الأمر بعده من ولده، وأن الكلام الّذي ألّف لهم وحي من الله تعالى لا يشكّون فيه، تعالى الله عن ذلك، وصوم رجب وأكل شهر رمضان وخمس صلوات في اليوم (وخمس صلوات في الليلة) «1» والتضحية في اليوم الحادي عشر من المحرّم، وفي الوضوء غسل السرّة والخاصرتين ثمّ الاستنجاء ثمّ المضمضة وغسل الوجه ومسح العنق والقفا وغسل الذراعين من المنكبين ومسح الرأس ثلاث مرّات ومسح الأذنين كذلك ثمّ غسل الرجلين من الركبتين. وبعض صلواتهم إيماء بلا سجود وبعضها على كيفية صلاة المسلمين. وهم يسجدون ثلاث سجدات متّصلة ويرفعون جباههم وأيديهم عن الأرض مقدار نصف شبر، وإحرامهم أن يضع إحدى يديه على الأخرى ويقول: ابسمن ياكش، تفسيره بسم الله، مقرّ «2» ياكش، تفسيره الكبير الله، ويضعون أيديهم «3» مبسوطة في الأرض طول ما يتشهّدون ويقرءون نصف قرآنهم في وقوفهم ونصفه في ركوعهم، ويقولون في تسليمهم بالبربرية: الله فوقنا لم يغب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ثمّ يقول مقرّ ياكش «4» خمسا وعشرين مرّة، إيحن ياكش «5» مثل ذلك ومعناه: الواحد الله، وردام ياكش مثل ذلك ومعناه: لا أحد مثل الله.

1377 وهم يجمعون يوم الخميس ضحى، وصيام «1» يوم من كلّ جمعة فرض من فروضهم ويصوم الجمعة الأخرى الّتي تليه أبدا. ويأخذون العشر من الزكاة من جميع الحبوب ولا يأخذون من المسلمين شيئا. ويتزوّج من النساء ما استطاع على مباعلتهنّ «2» والإنفاق عليهنّ بلا حدّ عدد. وأن لا يتزوج من بنات عمّه إلّا ثلاث جدود، ولا يتسرّون «3» ولا ينكحون للمسلمين ولا ينكحون فيهم «4» ويطلقون ويراجعون ما أحبّوا. 1378 ويقتل السارق بالإقرار أو بالبيّنة ويرجم في الزنا عندهم وينفى الكاذب «5» ويسمّونه المغيّر. والدية عندهم مائة من البقر. ورأس كلّ حيوان عليهم حرام، والحوت لا يؤكل إلّا أن يذكّى والبيض «6» عندهم حرام والدجاج مكروهة إلّا أن يضطرّ إليها. وليس عندهم أذان ولا إقامة وهم يكتفون في معرفة الأوقات بزقاء الديوك ولذلك حرّموها. وكان يبصق في أيديهم فيلعقونه تبرّكا به ويحملون بصاقه إلى مرضاهم يستشفون به. وصار أهل برغواطة أعلم الناس بالنجوم وأحذقهم بالقضاء بها. وكانوا أجمل الناس رجالا ونساء وأشدّهم أيدا، كانت الجارية البكر منهنّ تثب ثلاث حمر مصطفّة ولا يمسّ ثوبها شيئا من الحمر، ولا تقدر على ذلك ثيّب «7» .

ذكر كلمات مترجمة من أول سورة أيوب وهي استفتاح كتابهم

1379 وقرآنهم الّذي وضع لهم صالح بن طريف ثمانون سورة أكثرها منسوبة إلى أسماء النبيّين من لدن آدم، أوّلها سورة أيّوب وآخرها سورة يونس وفيها سورة فرعون وسورة قارون وسورة هامان وسورة ياجوج وماجوج وسورة الدجّال وسورة العجل وسورة (هاروت وماروت وسورة طالوت وسورة نمرود وما أشبه هذه من الأقاصيص وسورة الديك وسورة) «1» الحجل وسورة الجراد وسورة الجمل وسورة الحنش- وكان يمشي على ثماني «2» أرجل- وفيها سورة غرائب الدنيا، وهناك العلم العظيم عندهم. ذكر كلمات مترجمة من أوّل سورة أيّوب وهي استفتاح كتابهم 1380 باسم الله الّذي أرسل الله به كتابه إلى الناس، هو الّذي بيّن لهم به أخباره. قالوا: علم إبليس القضية، أبى الله ليس يطيق إبليس (أن يعلم) «3» كما يعلم الله. سل أيّ شيء يغلب الألسن في الأقولة، ليس يغلب الألسن (في الأقولة إلّا الله) «4» بقضائه باللّسان الّذي أرسل الله بالحقّ إلى الناس استقام الحقّ «5» . انظر محمّدا «6» . وعبارة ذلك بلسانهم أيمنى «7» مامت فمامت محمّد. كان حين عاش استقام الناس كلّهم الّذين صحبوه حتّى مات، ففسد الناس. كذب من يقول إنّ الحقّ يستقيم وليس ثمّ رسول الله. وهي سورة طويلة.

1381 قال زمّور: إنّ بني صالح بن طريف يركبون وقت أخباره في ثلاثة آلاف ومائتي فارس وإنّ قبائل برغواطة الّذين يدينون لهم وهم على ملّتهم جراوة وزواغة والبرانس (وبنو أبي ناصر ومنجصة «1» وبنو أبي نوح وبنو واغمر ومطغرة وبنو بورغ) «2» وبنو دمّر ومطماطة وبنو وزكسينت «3» ، وعددهم ينتهي أكثر من عشرة آلاف فارس. وممّن يدين لهم من المسلمين وينضاف إلى مملكتهم زناتة الجبل وبنو يليت «4» ونمالتة «5» وبنو واوسينت وبنو يفرن وبنو ناغيت وبنو النعمان وبنو أفلوسة «6» وبنو كونة وبنو يسكر «7» وأصادة وركانة وإيزمين «8» ومنادة وماسينة ورصانة وترارتة «9» ، ومبلغ عددهم نحو اثني عشر ألف فارس. قال زمّور: وليس في عسكرهم طبول ولا بنود. وعدّ زمّور من (أنهار بلادهم الجارية) «10» أزيد من مائة نهر أعظمها نهر ماسنات «11» ، وهو يجري من القبلة إلى الجوف، وبين عنصره وموقعه في البحر مسيرة ستّة أيّام، ونهر وانسيفن يقع في نهر شلة تحت الرباط في البحر المحيط. 1382 ولم تزل برغواطة في بلادها معلنة بدينها وبنو صالح بن طريف ملوكها إلى أن قام فيهم الأمير تميم اليفرني، وذلك بعد عشرين وأربعمائة من الهجرة، فغلبهم على بلادهم وسباهم وجلا من بقي منهم واستوطن ديارهم وانقطع أمرهم وعفا أثرهم ولم يبق لضلالهم باقية ولا من أواصر كفرهم آصرة. وتميم هذا كان

الطريق من مدينة فاس إلى مدينة القيروان

ذا جدّ وإيثار «1» للعدل، وهو الّذي قتل أحد بنيه لاغتصابه جارية من التجّار بوادي شلة. وجميع بلاد برغواطة اليوم على ملّة الإسلام. الطريق من مدينة فاس إلى مدينة القيروان 1383 وهي أربعون مرحلة نذكر مشهورها «2» . أوّل ما تخرج من فاس على باب الفتوح من عدوة الأندلسيّين إلى مرج ابن هشام إلى وادي سبو، وهو على نحو أربعة أميال من فاس، عليه قرى كثيرة. ثمّ تسير منه إلى موضع يعرف بعقبة البقر إلى خندق الفول لمكناسة، وفي قرى متّصلة وعمارات غير منفصلة وأنهار كثيرة لأزداجة وغيرها، إلى قلعة جرماط «3» ، وكانت معقل أبي منقذ بن موسى بن أبي العافية، وكان بها جامع وأسواق وحمّام. (وفي الجوف منها على عشرة أميال مدينة تسول المعروفة بعين إسحاق قاعدة موسى بن أبي العافية، وكانت على ثلاثة أجبل. وبها جامع وأسواق وحمّام) «4» وعين عذبة، بنى عليها موسى قبّة فخربها ميسور القائد الشيعي. ومن فاس إلى قلعة جرماط «5» يسكنها اليوم مطغرة مرحلتان، وقال محمّد مرحلة، إلى مدينة جراوة ستّ مراحل، وقال محمّد ثمان، منها اثنتان في الصحراء. فمن جرماط «6» إلى قرية «7» وليلي، وبها كان يسكن زاوي ابن أخي موسى بن أبي العافية، إلى فجّ تازى لمكناسة، إلى وادي ورّجين «8» نهر ملح لمكناسة، ثمّ إلى وادي صاع، ثمّ الصحراء إلى مدينة جراوة.

1384 وهي في سهلة من الأرض كان عليها سور مبني بالطوب، وداخلها قصبة وحولها أرباض من جميع جهاتها وعيون ملحة، وداخلها آبار عذبة وخمسة حمّامات أحدها ينسب إلى عمرو بن العاص وجامع من خمسة بلاطات على أعمدة حجارة أسّسها أبو العيش عيسى بن إدريس بن محمّد بن سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن سنة تسع وخمسين ومائتين، وكان لها بابان شرقيّان وثالث غربي ورابع جوفي، وحولها بسائط عريضة للزرع والضرع، وجبل ممالو «1» في قبليّها وفيه حصن بناه الحسن بن أبي العيش حواليه بساتين ومياه تطرد «2» وبينه وبين المدينة أربعة أميال. ويتّصل بالحصن في (أسفل الجبل) «3» شعاري أشبة لا تسلك. وحول جراوة عدّة قرى لقبائل (من البربر) «4» مطغرة وبني يفرن وودانة ويغمر الجبل وبني راسين وبني باداسن «5» وبني وريمش «6» وغيرهم. وكان لأبي العيش ومن خلفه مدينة تلمسان أيضا وما والاها. وأسر ابن ابنه الحسن في الحصن المذكور البوري بن موسى بن أبي العافية سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد انتقل إلى الحصن من جراوة بأهله وماله وولده، وفي ذلك يقول بكر بن حمّاد في شعر طويل [كامل] : سائل زواغة عن فعال سيوفه ... ورماحه في العارض المتهلّل وديار نفزة كيف داس حريمها ... والخيل تمرغ بالوشيج الذبّل غشي مغيلة بالسيوف مذلّة ... وسقى جراوة من نقيع الحنضل

1385 ولجراوة مرسى تافرجنيت «1» . ومن جراوة إلى ترنانة، وهي سوق عامرة، مرحلة. ومنها إلى مدينة تلمسان مرحلة، يسكنها زناتة، وقد تقدّم ذكرها. إلى مدينة تافدة «2» ، وهي مدينة كبيرة آهلة على نهرين أحدهما حمّة ومنه شربهم وعليه أرحاؤهم. إلى قصر ابن سنان «3» الأزداجي حوله بساتين كثيرة على نهر كدال. إلى مدينة يلل، وهي كبيرة آهلة كثيرة الأشجار يسكنها هوارة، وبها مسجد جامع. إلى مدينة الغزّة يسكنها مكناسة، وهي مدينة شريفة على نهر شلف كثيرة البساتين وبها مسجد جامع. ومنها إلى مدينة تيهرت وقد مرّ ذكرها ثلاث مراحل. إلى حصن تامغيلت «4» مرحلتان، وهو مبنيّ بالطوب على نهر، له ربض وسوق، يسكنه بنو دمّر من زناتة. إلى إيزمامة حصن له سوق وفيه فنادق، يسكنه لواتة ونفزاوة. إلى مدينة هاز على نهر شتوي «5» ، وهي خالية أجلى أهلها زيري بن مناد الصنهاجي. إلى بورة «6» نهر جار يسكن حوله بنو يزناتن وهم كانوا أصحاب هاز، وبورة كثيرة العقارب وبها سويقة. ومنها إلى حصن موزية وبقرب هذا الحصن قصر من بنيان الأوّل بالصخر يعرف بقصر العطش حوله ماء ملح، ومدينة عظيمة للأوّل أيضا خالية مبنية بالصخر الجليل «7» تسمّى مدينة الرمّانة تنفجر تحتها عيون ثرّة طيّبة تسيل إلى مدينة المسيلة، (وقد تقدّم ذكرها) «8» . ومدينة للأوّل أيضا خالية «9» تسمّى بالبربرية تاورست «10» تفسيره الحمراء، وهي مبنية بالصخر على نهر عذب. ومن حصن مورية إلى مدينة المسيلة، وقد تقدّم ذكرها.

1386 ومنها إلى مدينة أدنة، وهي خالية أخربها علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة في وقوع «1» ميسور الفتى إلى المغرب، وبلد أدنة بلد كثير الأنهار والعيون العذبة، هناك عين الكتان عين عذبة في مفازة عليها أربع نخلات بينها وبين المسيلة مرحلة، وبشرقيّها وادي مقرة عليه سبع قرى منها قرية يكسم وزيتها أطيب الزيوت، وبين عين الكتان وأدنة نهر سهر «2» ونهر النساء (ونهر أبي طويل وعين الغزال، وبين نهر سهر ونهر النساء) «3» ثلاثة أميال، وسمّي بذلك لأنّ هوارة أغاروا على نساء أدنة وذهبوا بهنّ فأدركهم أهل أدنة فاستنقذوا النساء هناك والغنيمة وقتلوا جماعة من هوارة. ومن أدنة إلى مدينة طبنة مرحلتان، وقد تقدّم ذكر مدينة طبنة، وحواليها بنو زنراج. ومنها إلى نهر الغابة. 1387 ثمّ تمشي ثلاث مراحل في مساكن العرب وهوارة ومكناسة (وكبينة وورفلة) «4» ، يطلّ عليها وعلى ما والاها جبل أوراس، وهو مسيرة سبعة أيّام، وفيه قلاع كثيرة يسكنها قبائل هوارة ومكناسة، وهم على رأي الخوارج الإباضية. ومن هذا الجبل قام أبو يزيد مخلد بن كيداد النفزي الزناتي على أبي القاسم بن عبيد الله، وفي هذا الجبل كان مستقرّ الكاهنة. إلى مدينة باغاية، وهي حصن صخر قديم حوله ربض كبير من ثلاث نواح، وليس فيما يلي الناحية الغربية ربض إنّما يتّصل بها بساتين ونهر، وفي أرباضها فنادقها وحمّاماتها وأسواقها وجامعها داخل الحصن، وهي في بساط من الأرض عريض كثير المياه، وجبل أوراس مطلّ عليه. ويسكن فحص هذه

المدينة قبائل مزاتة وضريسة وكلّهم إباضية، وهم يظعنون في زمن الشتاء إلى الرمال (حيث لا مطر ولا ثلج) «1» خوفا على نتاج إبلهم. وإلى مدينة باغاية «2» لجأ البربر والروم وبها تحصّنوا من عقبة بن نافع القرشي، فدارت بينهم حروب عظيمة وكانت الدائرة «3» فيها على أهل باغاية، فهزمهم عقبة بن نافع وقتلهم قتلا ذريعا، ولجأ فلّهم إلى الحصن وغنم منهم خيلا لم يروا في مغازيهم «4» أصلب ولا أسرع منها من نتاج خيل أوراس. فرحل عنهم عقبة ولم يقم عليهم كراهة أن يشتغل بهم عن غيرهم. وأهلها اليوم كلّهم على رأي الإباضية. وكيل الطعام بباغاية بالويبة «5» وهي أربعة وستّون مدّا بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، (وهو قفيز ونصف قفيز قرطبي) «6» ، وقفيز الزيت قروي وهو خمس ربع قرطبي، ورطل اللحم عندهم عشرون رطلا فلفلية. 1388 ومن باغاية إلى مدينة مجانة، وهي كبيرة (عليها سور طوب وبها جامع وحمّامات ومعادن كثيرة) «7» منها معدن فضّة للواتة يسمّى الوريطسي «8» ، وتعرف بمجانة المعادن، ولها قلعة مبنية بالحجر فيها ثلاثمائة وستّون جبّا قد تقدّم ذكرها. وهذه المدينة للعرب وحولها لواتة. وهذه القلعة تعرف بقلعة بسر لأنّ بسر بن أرطاة افتتحها عنوة، بعثه إليها موسى بن نصير وبعث خمس غنيمتها إليه. وبين باغاية ومجانة فندق مسكيانة ووادي ملّاق، وهو واد صعب كثير الدهس وعر المخائض. وتسير من مجانة إلى مرماجنّة «9» ، وهي مدينة لطيفة بها جامع وفندق وسوق وهي في بساط مديد. وهذه طريق الصيف.

1389 فأمّا طريق الشتاء فتأخذ «1» من مسكيانة إلى مدينة تبسا لأنّ وادي ملّاق يتّسع من سلوك تلك الطريق. ومدينة تبسا مدينة كبيرة (كثيرة الفواكه) «2» أوّلية مبنيّة بالصخر الجليل، أخرب بعض سورها أبو يزيد مخلد بن كيداد، وهي على نهر كبير كثير الفواكه والأشجار لا سيّما الجوز، فإنّ المثل يضرب بجلالته هناك وكبره وطيبه. وفيها أقباء يدخلها الرفاق بدوابّهم في زمن الثلج والشتاء، يسع القبو الواحد ألفي دابّة وأكثر. 1390 ومنها إلى مدينة سبيبة، أوّلية مبنية (بالحجارة أي) «3» بالصخر، بها جامع وحمّامات تطرد فيها المياه العذبة تطحن عليها الأرحاء، وهي كثيرة البساتين ويجود في أرضها الزعفران، وحواليها جبال كثيرة (يسكنها من العرب قوم يعرفون ببني المغلس وبني الكسلان وحولهم قبائل من البربر كثيرة) «4» من هوارة ومرنيسة. وفي الطريق إلى سبيبة مرصد «5» يعرف بعين التينة وعين تعرف بعين أربان ماء يجري من قناء للأوّل «6» . وبشرقيّ هذا العين جبل منيف محدّد فيه شقّ وفي ذلك الشقّ رجل مذبوح معروف هناك قبل فتوح إفريقية لا يحل منه قليل ولا كثير «7» ولا نال «8» منه سبع ولا دابّة، ويقال إنّه من الحوّاريين، وقد تقدّم ذكره. ومن مدينة سبيبة إلى قرية الجهنيّين، وهي قرية كبيرة آهلة كثيرة الفنادق والحوانيت ولها أشجار وفواكه، بينها وبين القيروان مرحلة، وعليها جبل يسمّى ممطور لأنّ معاوية بن حديج نزله فأصابه مطر فقال: جبلنا ممطور. ومنها إلى منزل يقال له الهرى يجاوره مرصد، ومنه إلى كدية الشعير، إلى مدينة القيروان. وقال محمّد بن يوسف: من مدينة

الطريق من مدينة فاس إلى سجلماسة

سبيبة إلى ساقية ممس قرية عامرة آهلة بها مسجد وفندق «1» ، ثمّ قرية المشفق «2» كبيرة آهلة بها ماجلان وبئر طيّبة عمقها ثلاثون قامة، ثمّ قصر الخير فيه ماء شرّيب «3» ، ثمّ قصر الزرادية ويعرف بالخطارة عامر آهل، ثمّ مدينة القيروان. الطريق من مدينة فاس إلى سجلماسة 1391 من مدينة فاس إلى مدينة سفروي مرحلة، وهي مدينة مسوّرة ذات أنهار وأشجار. ومنها إلى الأصنام مرحلة. ومنها إلى موضع يقال له المزي مرحلة، وهو بلد مكلاتة. ومنها إلى تاسغمرت مرحلة، وهي قرية على نهر. ومنها إلى موضع يقال له أمغاك «4» مرحلة كبيرة نحو الستّين ميلا. ومنها تدخل في عمل سجلماسة بين أنهار وثمار ثلاث مراحل إلى مدينة سجلماسة. 1392 وطريق آخر «5» من سجلماسة إلى مدينة فاس ذكرها محمّد بن يوسف: من مدينة سجلماسة إلى موضع يقال له أرفود جبل موت لا عمارة حوله فيه حمّة مرحلة. ومنه إلى موضع يقال له الأحساء رمل، يحفر فيه فينبعث الماء على ذراع ونحوه في بلد زناتة مرحلة. ومنه إلى حصن يرارة مرحلة، عامر آهل به سوق وجامع وله جدول ماء، وهو بلد يحسن فيه الغنم، ويقال إنّ أصول

ذكر مدينة سجلماسة

أغنامهم (من قيس) «1» من أرض فارس، وصوفها من أجود «2» الأصواف ويعمل منه بسجلماسة ثياب يبلغ الثوب منها أزيد من عشرين مثقالا مرحلة. ومنه إلى جبل درن المعروف بسنجنفو «3» ، وقد ذكرناه في عدّة مواضع من هذا الكتاب، وهو كثير الصنوبر والأرز والبلوط مرحلة. ومنه إلى مطماطة أمسكور «4» بلد كبير على نهر ملوية وهو منه في قبليّه، وهو بلد كثير الزرع يسقى كلّه من نهر ملوية كثير البقر والغنم وبها جامع وسوق مرحلة. ومنه إلى موضع يقال له سوق لميس فيه سوق ومسجد وحواليه مياه سائحة عامر آهل كان لمدين بن موسى «5» بن أبي العافية مرحلة. ومنه إلى مغيلة ابن تجامان «6» قرار لقوم من الصفرية (له ربض كبير) «7» ، وبنو تجامان على السنّة والجماعة ساكنون في ربوة تلاصق ربضهم مرحلة. وتسير منها في جبال شامخة إلى مغيلة القاط، حصن كبير له جامع وسوق كثير الأنهار والثمار، معظم شجره التين «8» ، ومنه يحمل زبيبا إلى فاس مرحلتان. إلى لواتة مدين «9» ، وقصبة لواتة منيعة لا ترام على نهر سبو مرحلة. إلى فاس. ذكر مدينة سجلماسة 1393 ومدينة سجلماسة بنيت سنة أربعين ومائة، وبعمارتها خلت مدينة تدغة وبينهما يومان وبعمارتها خلت زيز أيضا. ومدينة سجلماسة مدينة سهلية أرضها سبخة، حولها أرباض كثيرة وفيها دور رفيعة «10» ومبان سرية ولها بساتين كثيرة، وسورها أسفله مبني بالحجارة وأعلاه بالطوب، بناه أليسع أبو منصور

بن أبي القاسم من ماله لم يشركه في الإنفاق عليه أحد، أنفق فيه ألف مدى طعام، ولها اثنا عشر بابا ثمانية منها حديد. وكان بناء أليسع له سنة تسع وتسعين ومائة، وارتحل إليها (سنة مائتين) «1» وقسمها على القبائل على ما هي عليه اليوم. وهم يلتزمون النقاب، فإذا حسر أحدهم عن وجهه لم يميّزه أحد من أهله. 1394 وهي على نهرين وعنصرهما من موضع يقال له أجلف «2» تمدّه عيون كثيرة، فإذا قرب من سجلماسة تشعّب نهرين يسلك شرقيّها وغربيّها. وجامعها متقن البناء بناه أليسع فأجاده، وحمّاماتها رديئة البناء غير محكمة العمل. وماؤها زعاق وكذلك جميع ما ينبط «3» من الماء بسجلماسة، وشرب زروعهم من النهر في حياض كحياض البساتين، وهي كثيرة النخيل والأعناب وجميع الفواكه، وزبيب عنبها المعرّش الّذي لا تناله الشمس لا يزبّب إلّا في الظلّ ويعرفونه بالظلّي، وما أصابته الشمس منه زبّب في الشمس. 1395 ومدينة سجلماسة في أوّل الصحراء لا يعرف في غربيّها ولا في قبليّها عمران، وليس بسجلماسة ذباب ولا يتجذّم «4» من أهلها أحد، وإذا دخلها مجذّم «5» توقّفت عنه علّته. وأهل سجلماسة يسمّنون الكلاب ويأكلونها كما يصنع أهل مدينة قفصة وقسطيلية، ويأكلون الزرع إذا أخرج شطأه وهو عندهم مستطرف. والمجذّمون عندهم هم الكنّافون، والبنّاؤون عندهم يهود لا يتجاورهم «6» هذه الصناعة.

1396 ومن مدينة سجلماسة تدخل إلى بلاد السودان إلى غانة، وبينها وبين مدينة غانة مسيرة شهرين في صحراء غير عامرة إلّا بقوم ظاعنين لا يطمئنّ بهم منزل، وهم بنو مسوّفة من صنهاجة، ليس لهم مدينة يأوون إليها إلّا وادي درعة، وبين سجلماسة ووادي درعة مسيرة خمسة أيّام. 1397 وملك بنو مدرار سجلماسة مائة سنة وستّين سنة، وكان فيها أبو القاسم سمجو «1» بن واسول المكناسي أبو أليسع المذكور، وجدّ مدرار لقي بإفريقية عكرمة مولى ابن عبّاس وسمع منه، وكان صاحب ماشية وكان كثيرا ما ينتجع موضع سجلماسة، فاجتمع إليه قوم من الصفرية. فلمّا بلغوا أربعين رجلا قدّموا على أنفسهم عيسى «2» بن مزيد الأسود وولّوه أمرهم، فشرعوا في بنيان سجلماسة، وذلك سنة أربع ومائة «3» . 1398 وذكر آخرون أنّ مدرارا كان حدّادا من ربضية الأندلس، فخرج عند وقعة الربض فنزل منزلا بقرب سجلماسة، وموضع سجلماسة إذ ذاك براح يجتمع فيه البربر وقتا ما من السنة يتسوّقون لقرب «4» . وكان مدرار يحضر سوقهم بما يعدّ لها من آلات الحديد، ثمّ ابتنى بها خيمة وسكنها وسكن البربر حوله، فكان ذلك أصل عمارتها، ثمّ تمدّنت. والأوّل أصحّ في عمارتها. وأمّا مدرار فلا شكّ فيه أنّه كان حدّادا لأن ولده القائمين بأمر سجلماسة قد هجوا «5» بذلك.

1399 فأوّل من وليها عيسى بن مزيد «1» ، ثمّ أنكر أصحابه الصفرية عليه أشياء. فقال أبو الخطّاب يوما لأصحابه في مجلس عيسى: السودان كلّهم سرّاق حتّى هذا، وأشار إلى عيسى. فأخذوه وشدّوه وثاقا إلى شجرة في رأس جبل وتركوه كذلك حتّى قتله البعوض، فسمّي ذلك الجبل جبل عيسى إلى اليوم. ووليهم خمسة عشر عاما. 1400 ثمّ ولّوا أبا القاسم سمجو «2» بن مزلان بن نزول «3» المكناسي، فلم يزل واليا عليهم إلى أن مات فجأة في آخر سجدة من صلاة العشاء سنة ثمان وستّين، فكانت ولايته ثلاث عشرة سنة. 1401 ووليها ابنه أبو الوزير ألياس بن أبي القاسم إلى أن قام عليه أخوه أبو المنتصر أليسع فخلعه سنة أربع وسبعين ومائة. فولي أبو المنتصر، وكان جبّارا عنيدا فظّا غليظا، فظفر بمن عانده من البربر وذلّلهم وأخذ خمس «4» معادن درعة وأظهر الصفرية، وبنى سور سجلماسة على ما تقدّم، وتوفّي سنة ثمان ومائتين. وولي ابنه مدرار المنتصر بن أليسع- ومدرار لقب- فلم يزل واليا إلى أن اختلف الأمر بين ولديه ميمون المعروف بابن أروى بنت عبد الرحمان بن رستم وابنه ميمون أيضا المعروف بابن ثقية «5» . فتنازعا الأمر بينهما وتقاتلا

ثلاثة أعوام، ومال مدرار مع ابنه ميمون بن الرستمية فأخرج ميمون بن ثقية من سجلماسة. (وولّى ابن الرستمية وخلع أباه، ثمّ قام عليه أهل سجلماسة فخلعوه وأرادوا تقديم ميمون بن ثقية) «1» . فأبى أن يتآمر «2» على أبيه فأعادوا أباه مدرارا «3» . ثمّ أنس أهل سجلماسة أنّه استدعى ابنه ابن الرستمية فيمن أطاعه من درعة ليوليه، فحاصروا مدرارا وخلعوه وقدّموا ابنه ابن ثقية وهو المعروف بالأمير، (فلم يزل عليهم واليا إلى أن مات سنة ثلاث وستّين ومائتين، وفي إمرته مات مدرار أبوه مخلوعا. 1402 ووليها محمّد بن ميمون الأمير) «4» إلى أن توفّي في صفر سنة سبعين. فوليها أليسع بن المنتصر بن أبي القاسم إلى أن فرّ عنها لمّا تغلّب عليها أبو عبد الله الشيعي في ذي الحجّة، وذلك سنة سبع وتسعين ومائتين. وولّى عليها الشيعي إبراهيم بن غالب المزاتي، فقتله أهل سجلماسة ومن كان معه من رجال الشيعي بعد خمسين يوما. ووليها واسول «5» وهو الفتح بن الأمير ميمون، وذلك في ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين. وتوفّي في رجب سنة ثلاثمائة. فوليها أخوه أحمد إلى أن حاصره فيها مصالة بن حبوس وافتتحها عنوة فقتله، وذلك في المحرّم سنة تسع وثلاثمائة. وولّى مصالة أمرها المعتزّ بن محمّد بن سارو «6» بن مدرار إلى أن توفّي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. ووليها بعده ابنه محمّد بن المعتزّ إلى أن توفّي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ووليها ابنه أبو المنتصر سمجو «7» بن محمّد وهو ابن ثلاث عشرة سنة، تدبّر أمره جدّته فمكث كذلك شهرين، وقام عليه ابن عمّه محمّد بن الفتح بن الأمير فحاربه وتغلّب عليه وأخرجه وتملّك سجلماسة.

1403 وكان محمّد بن الفتح سنّيّا على مذهب المالكية يحسن السيرة ويظهر العدل، إلّا أنّه تسمّى بأمير المؤمنين سنة اثنتين وأربعين «1» وتلقّب بالشاكر لله وضربت بذلك الدراهم والدنانير، فمكث كذلك إلى أن قربت منه عساكر أبي تميم معدّ مع قائده جوهر الكاتب، فخرج عن سجلماسة بأهله وماله وولده «2» وخاصّته وصار بتاسجدالت «3» حصن منيع على اثني عشر ميلا من سجلماسة. ودخل جوهر سجلماسة وملكها، وذلك سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. وخرج محمّد من الحصن في نفر يسير من أصحابه إلى سجلماسة ليتعرّف «4» الأخبار مستترا، فعرفه قوم من مطغرة في بعض الطريق «5» فأخذوه فأتوا به إلى جوهر في رجب من ذلك العام. 1404 ويزرع بأرض سجلماسة عاما ويحصد من تلك الزريعة ثلاثة أعوام لأنّه بلد مفرط الحرّ شديد القيظ، فإذا يبس زرعهم تناثر عند الحصاد، وأرضهم متشقّقة فيرفع «6» ما تناثر منه في تلك الشقوق، فإذا كان في العام الثاني حرث بلا بذر وكذلك في الثالث. وقمحهم رقيق صيني، يسع المدّ منه مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وسبعين ألف حبّة، ومديهم اثنا عشر قنفلا، والقنقل ثماني زلافات، والزلافة ثمانية أمداد بمدّ النبي عليه السلام. ومن الغرائب عندهم أنّ الذهب جزاف عدد بلا وزن والكراث يتبايعونه وزنا لا عددا.

1405 ومن سجلماسة إلى مدينة القيروان ستّ وأربعون مرحلة، وقال محمّد بن يوسف ثلاث وخمسون مرحلة. فمن سجلماسة إلى قرار الأمير لبني مدرار، إلى حصن ابن مدرار، إلى جبل أكسرايغ «1» ، إلى مدينة أمسكور «2» لمطماطة وهم على مداراة لصاحب سجلماسة، (وقد تقدّم ذكرها، وبينها وبين سجلماسة) «3» خمس مراحل، ومنها إلى مدينة جراوة ستّ مراحل في عامر وغامر، منها موضع يعرف بالصدور «4» منه يخرج الطريق إلى مدينة مليلة، وهو موضع معروف قريب من العمارة على ماء طيّب، ثمّ من جراوة إلى القيروان كما تقدّم. 1406 فأمّا الطريق من سجلماسة إلى مدينة مليلة فمن سجلماسة إلى الصدور كما ذكرنا، ثمّ إلى أجرسيف قرية عامرة على نهر ملوية. إلى جراوة «5» موضع كثيرا ما ينزله البربر بالأخصاص، ويروى (فيه حدثان وأنّ بني أميّة) «6» سيعمّرونه، إلى قلوع جارة وهي مدينة عامرة في جبل على ماء ملح (وقد تقدّم ذكرها) «7» ، إلى مدينة مليلة. فذلك خمس عشرة مرحلة، وقد تقدّم ذكر مليلة

الطريق من سجلماسة إلى مدينة أغمات

الطريق من سجلماسة إلى مدينة أغمات 1407 من سجلماسة إلى تيحمّامين «1» يومان، وفي تيحمّامين معدن للنحاس. ومن تيحمّامين إلى وادي درعة يومان، وعلى وادي درعة شجر كثير وثمار عظيم وهناك شجر التاكوت يشبه شجر الطرفاء، وبهذا التاكوت تدبغ الجلود الغدامسية «2» . وعلى وادي درعة سوق في كلّ يوم من أيّام الجمعة في مواضع مختلفة منه معلومة، وربّما كان عليه في اليوم الواحد سوقان، وذلك لبعد مسافته وكثرة الناس عليه، وطول عمارته المتّصلة سبعة أيّام. ومن وادي درعة إلى موضع يقال له أدامست، ومنه إلى ورزازات يومان، وهو بلد هسكورة «3» ، وتمشي في بلد هسكورة أربعة أيّام إلى منازل قبيل «4» يقال له هزرجة، (وهناك جبل يقال له جبل هزرجة) «5» فيه أجناس من الياقوت المتناهي في الجودة وحسن اللون يتكون على حجارة الجبل إلّا أنّه خشن ضرس كالسفن، لا يأخذه العمل ولا ينفعل للسنبادج، وهو كثير موجود ثمّة «6» . ومن هناك مسافة يوم إلى أغمات. ذكر مدينة أغمات 1408 وهي مدينتان سهليّتان إحداهما «7» تسمّى (أغمات إيلان والأخرى) «8» أغمات وريكة وبها مسكن رئيسهم وبها ينزل التجّار والغرباء، وأغمات إيلان

لا يسكنها غريب، وبينهما ثمانية أميال. ولها نهر لطيف جريته من القبلة إلى الجوف ماؤه زعاق يقال له تاقيروت. وحولها بساتين ونخل كثير، وهو بلد واسع يسكنه قبائل مصمودة في قصور وديار «1» وأشجار، وهو راخي الأسعار كثير الخير يحمل إليه من مدينة نفيس تفاح جليل يباع منه وقر بغل «2» بنصف درهم، إلّا أنّه وخم الهواء ألوان سكّانه مصفرّة كثير العقارب القتّالة الّتي لا يداوى سليمها. وبها أسواق جامعة، فسوق أغمات وريكة يقوم الأحد بضروب السلع وأصناف المتاجر، يذبح فيها أكثر من مائة ثور وألف شاة وينفد جميع ذلك في ذلك اليوم. 1409 وكانت إمرة أهل أغمات دولا بينهم يتولّى الرجل منهم «3» سنة ثمّ يديلونه «4» بآخر منهم عن تراض واتّفاق. كذلك ذكر محمّد بن يوسف القيرواني. 1410 وساحل أغمات رباط قوز على البحر المحيط، وفيه تنزل السفن من جميع البلاد ولا تخرج منه السفن صادرة إلّا في زمان الأمطار وتكدّر الهواء واغبرار الجو، فحينئذ تصدق لهم الرياح البرّية، فإن تمادى ذلك لهم سلموا، وإن أصحى الجو وصفا الهواء هبّت لهم الرياح البحرية من الغرب فيهيج عليهم البحر ويقذفهم في البراري، فقلّما يسلمون.

والطريق من مدينة أغمات وريكة إلى رباط قوز

والطريق من مدينة أغمات وريكة «1» إلى رباط قوز 1411 من وريكة إلى نفيس خمسة وثلاثون ميلا، ومن نفيس إلى شفشاون «2» ثلاثون ميلا، ومنها إلى مرامر ثلاثون ميلا، ومنها إلى رباط قوز خمسة وعشرون ميلا، فذلك مائة وعشرون ميلا. الطريق من مدينة أغمات إلى مدينة فاس 1412 من أغمات إلى موضع يعرف بأبواب عبد الخالق بن سي «3» وهي أحقاف رمل مرحلة. ومنها إلى فحص أفيح فسيح يعرف بفحص نزار، ونزار بالبربرية الغربال، شبه به لأنّه مدوّر، وهو موضع مجوّف «4» مرحلة. ومنه إلى وادي وانسيفن «5» واد كبير انبعاثه من موضع يقال له حدود (بين بلد) «6» زواغة ومدغرة ويقع في البحر المحيط ويعبر على الزقاق المنفوخة مرحلة. ومنه إلى فحص يمللو «7» مديد واسع مرحلة. ومنه إلى موضع يعرف ببني وارث، وهو كثير شجر الفربيون وهي شجرة صغيرة شوكاء لها عساليج يسيل منها لبن مسهل مرحلة. ومنه إلى بلد زواغة مرحلة. ومنها إلى حصن داي، وهو في وسط غيضة كبيرة من أجناس الشجر، ولهم سوق حافلة يجتمع فيها رفاق فاس والبصرة وسجلماسة بضروب الأمتعة والمتاجر مرحلة. ومنه إلى وادي درنة نهر كبير يقع في «8» نهر وانسيفن المذكور مرحلة. ومنه

الطريق من مدينة درعة إلى سجلماسة

إلى مغيلة، وكان مقدّمهم موسى بن جليد، وكان شديد الأيدي يمسك بذنب الفرس الجواد ويهمزه فارسه فلا يكون له حراك مرحلة. ومنه إلى موضع يعرف بأوزقور كان يسكنه قوم يعرفون ببني موسى من ربضية الأندلس، فاستفسدوا «1» إلى من جاورهم وأساؤوا عشرتهم، فحاربوهم فغلب الأندلسيّون وقتل منهم كثير وافترق باقيهم ببلاد أغمات وبقي منهم بأوزقور نفر يسير بالآمان، فهم بها إلى اليوم، مرحلة. ومنها إلى سوق فنكور، سوق عامرة حافلة يعمل بها برانس سود، حصينة لا ينفذها الماء مرحلة. ومنها إلى ولهاصة مرحلة. إلى كزناية مرحلة. إلى مدينة ورزيغة، وهي آهلة كثيرة المياه والثمار والخير يباع فيها ألف حبّة أجاص بربع درهم، قتل ميسور الفتى أهلها وسبى نساءها بعد زواله عن مدينة فاس سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. ومن ورزيغة إلى مدينة أغيغى «2» ، ومعنى أغيغى حجارة يابسة لأنّها مبنيّة بالحجر بغير طين، وهي اليوم خالية، وكان القوم الّذين بنوها وسكنوها قوما من ربضية الأندلس أيضا فأجلاهم عنها البربر إلى وليلي، فهم بها بقيّة مسيرة مرحلة. فمنها إلى ماسيتة «3» بلد كبير، ويحسن فيه القطن ويجود وبه سوق لطيفة. ومنها إلى فاس مرحلة. (فذلك ثماني عشرة مرحلة) «4» . الطريق من مدينة درعة إلى سجلماسة 1413 مدينة درعة يقال لها تيومتين «5» ، وهي قاعدة درعة. وقد تقدّم ذكر وادي درعة وأنّ منبعثه من جبل درن. وهذه المدينة آهلة عامرة بها جامع وأسواق جامعة ومتاجر رابحة، وهي في شرف من الأرض والنهر منها بقبليّها وجريته من الشرق إلى الغرب ويهبط لها من ربوة حمراء. وكان صاحبها علي بن

الطريق من مدينة تامدلت إلى مدينة أودغست

أحمد بن إدريس (بن يحيى) «1» بن إدريس. فمن مدينة تيومتين «2» إلى تامجّاثت مرحلة، وهو موضع ينبت شجرا يسمّونه تامجّاثت وهو شجر يعظم ورقه هدب كورق الطرفاء ومنه آنية سجلماسة ودرعة وما والاهما. ومن هناك إلى أمان تيسّن «3» مرحلة، وتفسيره الماء الملح. ومنه إلى تنودادن «4» مرحلة، وتفسيره بئر «5» الأيائل، وهناك معدن نحاس. ومنه إلى أجرو «6» مرحلة، وهذا كلّه بلد سرطة قبيل من صنهاجة. ومن هناك إلى تونين أن وجلّيد «7» تفسيره آبار الأمير مرحلة. ومنه إلى أمان يسيدان تفسيره ماء النعام. ومنه إلى أجران ووشان «8» أي قدّان الذئب، إلى أمرغاد مرحلة، وأمرغاد آخر بساتين سجلماسة. ومنها إلى سجلماسة ستّة أميال. الطريق من مدينة تامدلت إلى مدينة أودغست 1414 من تامدلت إلى بئر الجمّالين مرحلة، وهذه البئر عمقها أربع قامات من أنباط عبد الرحمان بن حبيب. ومنها إلى شعب ضيّق لا تسير فيه الإبل إلّا متتابعة مرحلة. ثمّ تسير في جبل يسمّى أزور ثلاثة أيّام، وهو محجر تجفى فيه الإبل ينبت أمّ غيلان، ومن خرج فيه عن الطريق أصاب زبر حديد مثقّبة لا تذيبه النار. وهذا الجبل كثير الثعابين، طوله مسيرة عشرة أيّام من أوّل طريق سجلماسة إلى جانب البحر المحيط. ويقال إلّا جبل أزور متّصل بجبل نفوسة من جبال أطرابلس، وأحسبه جبل درن المذكور قبل هذا الّذي ينبعث من تحته وادي درعة. فتسير في هذا الجبل ثلاثة أيّام إلى ماء (يسمّى

تندفس) «1» آبار يحتفرها المسافرون، فلا تلبث أن تنهار وتندفن. ثمّ تسير منه ثلاثة أيّام (إلى بئر كبيرة يقال لها وين هيلون. ثمّ تمشي ثلاثة أيّام) «2» في أرض سواء صحراء ربّما وجد فيها الماء على صفاء تحت الرمل من بقية الأمطار. إلى ماء نزر يقال له تازقّى «3» وتفسيره البيت. 1415 ثمّ تسير منه إلى بئر أنبطها عبد الرحمان بن حبيب واحتفرها في حجر أدعج صلب طولها أربع قامات مرحلة. ثمّ تسير منها إلى بئر يقال لها ويطونان «4» ، وهي كبيرة لا تنزف، ماؤها زعاق يسهل شاربيه من الناس والأنعام، وهي من عمل عبد الرحمان بن حبيب أيضا طولها ثلاث قامات، ثلاث مراحل. ثمّ تمشي منه في أربع مراحل إلى موضع يقال له أوكازنت أرض زرقاء، ينبط أهل الرفاق فيها الماء على ذراعين وثلاث. ثمّ تمشي في مجابة «5» جبال رمل معترضة لا ماء فيها، وهو أصعب موضع بطريق أودغست، أربعة أيّام إلى موضع يقال له وانزميرن «6» آبار قريبة الرشاء فيها العذب والشريب، وعليه جبل طويل صعب كثير الوحوش. وبهذا الماء يجتمع جميع طرق بلاد السودان، وهو موضع مخوف تغير فيه لمطة وجزولة على الرفاق ويتّخذونه مرصدا لهم لعلمهم بإفضاء الطرق إليه وحاجة الناس إلى الماء فيه. ثمّ تمشي منه في بلد واران «7» خمسة أيّام مجابة في كثبان رمل إلى بئر عظيمة في حدّ بني وارث «8» قبيل من صنهاجة، على تلك البئر شجر يقال له السقنى، وهو شجر الإهليلج إلّا أنّه لا يثمر.

[ذكر مدينة أودغست]

1416 ثمّ تسير منه يومين إلى ماء يقال له أغرف «1» آبار ملحة تردها أذوات لصنهاجة فتصلح عليه وتصحّ به، وكلّ ماء ملح فموافق للإبل. ثمّ تسير منه ثلاثة أيّام إلى موضع يقال له (أقر تندى «2» تفسيره مجتمع الماء فيه أصناف كثيرة من الشجر وفيه الحناء والحبق. ثمّ تسير منه يوما في جبل يقال له) «3» أزجونان «4» يقطع فيه السودان. ثمّ تمشي يوما في رمال شجرة إلى ماء يقال له بئر واران ماؤها زعاق. ثمّ تمشي في أرض لصنهاجة كثيرة الماء من الآبار ثلاثة أيّام. ثمّ تسير منه إلى شرف عال مشرف على أودغست فيه طير كثير يشبه الحمام واليمام إلّا أنّه أصغر رؤوسا وأغلظ مناقر، وفيه أشجار الصمغ الّذي يجلب إلى الأندلس يصمغ «5» بها الديباج، مرحلة. ثمّ إلى أودغست. [ذكر مدينة أودغست] 1417 وهي مدينة كبيرة آهلة رملية يطلّ عليها جبل كبير موات لا ينبت شيئا، بها جامع ومساجد كثيرة آهلة في جميعها المعلّمون للقرآن، وحولها بساتين النخل، ويزدرعون فيها القمح بالفوس ويسقى بالدلاء يأكله ملوكهم وأهل اليسار منهم، وسائر أهلها يأكلون الذرّة، والمقاثي تجود عندهم. وبها شجيرات «6» تين يسيرة ودوال يسيرة أيضا، وبها جنان حناء لها غلّة كبيرة، وبها آبار عذبة والغنم والبقر أكثر شيء عندهم، يشترى بالمثقال الواحد عشرة

أكبش وأكثر. وعسلها أيضا كثير يأتيها من بلاد السودان. وهم أرباب نعم جزيلة وأموال جليلة، وسوقها عامرة الدهر كلّه لا يسمع الرجل فيها كلام حليسه لكثرة جمعه وضوضاء أهله. وتبايعهم «1» بالتبر وليس عندهم فضّة. 1418 وبها مبان حسنة ومنازل رفيعة، وهو بلد وبيء «2» ألوان أهله مصفرة وأمراضهم الحميات والطحال لا يكاد يخلو من إحدى العلّتين أحد منهم. ويجلب إليها القمح والثمر والزبيب من بلاد الإسلام على بعد. وسعر القمح عندهم في أكثر الأوقات القنطار بستّة مثاقيل وكذلك الثمر والزبيب. وسكّانها أهل إفريقية وبرقجانة ونفوسة ولواتة وزناتة ونفزاوة، هؤلاء أكثرهم، وبها نبذ من سائر الأمصار. وبها سودانيات طبّاخات محسنات تباع الواحدة منهنّ بمائة مثقال وأكثر، تحسن عمل الأطعمة الطيّبة من الجوزينقات «3» والقطائف وأصناف الحلوات وغير ذلك. وبها جوار حسان الوجوه بيض الألوان منثنيات «4» القدود لا تنكسر لهنّ نهود، لطاف الخصور ضخام الأرداف واسعات الأكتاف ضيّقات الفروج المستمتع بإحداهنّ كأنّه يتمتّع ببكر أبدا. 1419 قال محمّد بن يوسف: أخبرني أبو بكر أحمد بن خلوف الفاسي شيخ من أهل الحجّ والخير قال: أخبرني أبو رستم النفوسي وكان من تجّار أودغست أنّه رأى منهنّ امرأة راقدة على جنبها، وكذلك يفعلن في أكثر حالهنّ إشفاقا من الجلوس على أردافهنّ، ورأى ولدها طفلا يلاعبها ويدخل من تحت خصرها

وينفذ من الجهة الأخرى من غير أن تتجافى له شيئا «1» لعظم ردفها ولطف خصرها. والحيوان الّذي يعمل منه الدرق حوالي أودغست كثير جدّا. ويتجهّز إلى أودغست بالنحاس المصنوع وبثياب مصبّغة بالحمرة والزرقة مجنّحة، ويجلب منها العنبر المخلوق الجيّد لقرب البحر المحيط منهم. والذهب الإبريز الخالص خيوطا مفتولة، وذهب أودغست أجود ذهب الأرض «2» وأصحّه. 1420 وكان صاحب أودغست في عشر الخمسين وثلاث مائة تين يروتان «3» بن ويسنو بن نزار رجل من صنهاجة، وكان قد دان له أزيد من عشرين ملكا من ملوك السودان كلّهم يؤدّون إليه الجزية، وكان عمله مسيرة شهرين في مثلها في عمارة يعتد في مائة ألف نجيب، (واستمدّه معدّ بن ملك ماسين على) «4» ملك أوغام فأمدّه بخمسين ألف نجيب، فدخلت بلاد أوغام (وعساكره غافلة) «5» ، فغنمت البلد وأحرقته. فلمّا نظر أوغام إلى ما حلّ ببلده هان عليه الموت (فرمى بدرقته) «6» وثنى رجله عن دابّته وجلس عليها، فقتلته أصحاب تين يروتان. فلمّا عاينت نساء أوغام إليه قتيلا تردين في الآبار وقتلن أنفسهنّ بضروب القتل أسفا عليه وأنفة من أن يملكهنّ البيضان.

[الطريق من أودغست إلى سجلماسة]

[الطريق من أودغست إلى سجلماسة] 1421 فأمّا الطريق من أودغست إلى بلد سجلماسة فمن أودغست إلى تامدلت على ما ذكرنا أيضا، وذلك أربعون مرحلة. ومن تامدلت إلى سجلماسة على ما ذكرنا قبل هذا إحدى عشرة مرحلة. فذلك إحدى وخمسون مرحلة. وبين أودغست ومدينة القيروان مائة مرحلة وعشر مراحل. 1422 الطريق من مدينة أغمات إلى السوس على ما ذكره مؤمن «1» بن يومر الهواري: من أغمات وريكة إلى مدينة نفيس، وهي تعرف ببلد النفيس كثير الأنهار والثمار ليس في ذلك القطر موضع أطيب منه ولا أجمل منظرا، وهي قديمة أوّلية غزاها عقبة بن نافع (صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) «2» وحاصر بها الروم (والنصارى) ونصارى البربر وكانوا قد اجتمعوا بها لحصانتها وسعتها، فلزمهم حتّى افتتحها وبنى بها مسجدا (هو باق) «3» إلى اليوم. وأصابوا فيها غنائم كثيرة، وذلك سنة اثنتين وستّين، وهي اليوم آهلة عامرة بها جامع وحمّام وأسواق جامعة، بينها وبين البحر مسيرة يوم، يسكنها قبائل من البربر أكثرهم مصمودة. وكان صاحبهم «4» حمزة بن جعفر الّذي نسب إليه السوق من بني عبيد الله بن إدريس بن إدريس، مرحلة.

1423 ومن مدينة نفيس إلى مدينة أنيفن مرحلة، وهي مدينة في بطحاء كثيرة المياه والفواكه. ومنها إلى مدينة تامرورت مرحلة، وهي مدينة لطيفة طيّبة. ومنها ترقى في جبل درن، وهو جبل معترض في الصحراء معمور بقبائل صنهاجة وغيرها، وهو الجبل الّذي يقال إنّه متّصل إلى المقطّم بمصر. ومن هذا الجبل ينزل إلى بلاد «1» السوس. وذكر محمّد بن يوسف في كتابه أنّ تامرورت هو أوّل صعود هذا الجبل، ويقال إنّه أكبر جبال الدنيا وهو يتّصل بجبل أوراس «2» وبجبل نفوسة المجاور لأطرابلس. وفي الحديث أنّ في المغرب جبلا يقال له درن يزفّ (يوم القيامة) «3» بأهله إلى النار كما تزفّ العروس إلى بعلها. 1424 قال: وتمشي في الجبل إلى موضع يقال له الملّاحة، وفي أعلى الجبل نهر عظيم كبير، والجبل كثير الأشجار والشعراء والثمار. ومن الجبل إلى موضع يعرف بأسطوانات أبي علي في الجبل أيضا، وعن يمين هذا الموضع على مسيرة يوم الموضع المعروف بتازرارت «4» وفيه معدن فضّة قديم غزير المادّة. ومن أسطوانات أبي علي إلى قبيل من البربر يعرفون ببني ماغوس ولهم سوق عامرة. وعن يمين بني ماغوس قبيل يقال لهم بنو لماس، وهم كلّهم روافض ويعرفون بالبجليّين «5» نزل بين ظهرانهم رجل بجلي من أهل نفطة قسطيلية قبل دخول أبي عبد الله الشيعي إفريقية يقال له محمّد بن ورسند، ودعاهم إلى سبّ الصحابة رضوان الله عليهم وأحلّ لهم المحرّمات وزعم أنّ الربا بيع من البيوع، (وزادهم في الآذان) «6» بعد «أشهد أنّ محمّدا رسول الله» : أشهد أنّ

محمّدا خير البشر، ثمّ بعد «حيّ على الفلاح» : حيّ على خير العمل آل محمّد خير البريّة. وهم على مذهبه إلى اليوم، وأنّ الإمامة في ولد الحسن لا في ولد الحسين. وكان صاحبهم إدريس بن القاسم بن محمّد بن جعفر بن عبد الله بن إدريس بن إدريس. فإن صحّ الحديث الّذي ذكرنا فإنّ المراد به هؤلاء، والله أعلم. 1425 ويلي بني لماس قبيل من البربر في جبل وعر مجوس يعبدون كبشا لا يدخل أحد منهم السوق «1» إلّا مستترا. ومن بني ماغوس إلى إيجلى «2» قاعدة بلد السوس ومدينته مرحلة، وهي مدينة على نهر كبير كثير الثمر وقصب السكر، ومنها يحمل السكّر إلى جميع بلاد المغرب. وعلى هذا الوادي أسواق كثيرة إلى البحر المحيط، ويقال إنّ الّذي جلب الساقية إلى مدينة السوس عبد الرحمن بن مروان أخو محمّد الجعدي «3» ، وإنّه هو الّذي عمّر وادي السوس، إلى وادي ماست «4» مسيرة يومين عليه قرى كثيرة، وهو ينصبّ في البحر المحيط، وماست الّتي أضيف إليها الوادي رباط مقصود عندهم له موسم عظيم ومجمع جليل وهو مأوى للصالحين. ومن وادي السوس إلى مدينة نول ثلاث مراحل في عمارة جزولة ولمطة. ومدينة نول آخر مدن الإسلام وهي في أوّل الصحراء ونهرها يصبّ في البحر المحيط.

ذكر مدينة نول

ذكر مدينة نول «1» 1426 ومن مدينة نول إلى درعة ثلاث مراحل. ومدينة إيجلى «2» مدينة كبيرة سهلية بغربيها نهر كبير جار من القبلة إلى الجوف عليه بساتين كثيرة متّصلة، ولم يتّخذوا قطّ عليه رحى، فإذا سئلوا عن المانع لهم من ذلك قالوا: كيف يسخّر مثل «3» هذا الماء العذب في إدارة الأرحاء؟ وهي كثيرة الفواكه والخير، وربّما بيع حمل التمر بها بدون كراء الدابّة من البستان إلى السوق. وقصب السكر أكثر شيء بها يحمل الرجل بربع درهم منه ما يؤذيه ثقله، ويعمل بها السكّر كثيرا وقنطار سكرها يبتاع بمثقالين وأقلّ. ويعمل بها النحاس المسبوك يتجهّز به إلى بلاد الشرك. وبها مسجد جامع وأسواق وفنادق. والّذي «4» افتتحها عقبة بن نافع وأخرج منها سبيا لم ير (مثله حسنا وتماما) «5» ، كانت تباع الجارية الواحدة منهنّ بألف دينار وأكثر. ودخلها عبد الرحمان بن حبيب بعد ذلك وبها معسكره إلى اليوم. 1427 وبالسوس زيت «6» الهرجان وشجره يشبه شجر الكمّثرى إلّا أنّه لا يفوت اليد وأغصانه نابتة من أصله لا ساق له. وهي شوكاء وثمرها يشبه الأجاص، فيجمع ويترك حتّى يذبل، ثمّ يوضع على النار في مقلى فخّار فيستخرج دهنه، وطعمه يشبه طعم القمح المقلوّ، وهو جيّد محمود الغذاء يسخّن الكلى ويدرّ البول. وبالسوس عسل يفوق عسل الأمصار يلقي

النبيذيّون «1» على الكيل الواحد منه خمسة عشر كيلا من ماء فحينئذ يأتي شرابا، وإن كان أقلّ من ذلك بقي حلوا، ولا ينحلّ إلّا في الماء الشديد الحرارة، ولونه لون الرماد «2» . وتبايع أهل سوقه بالحلى المكسورة ونقار الفضّة، والدرهم المسكوك عندهم قليل، ومثاقيلهم (تعرف بالقزديرية لأنّ رجلا تولّى) «3» سكّتهم يعرف بأبي الحسن القزديري. وبالسوس توفّي عبد الله بن إدريس وبها قبره. 1428 وبقبلي إيجلى. وعلى ستّ مراحل منها مدينة تامدلت، أسّسها عبد الله بن إدريس بن إدريس، وهي سهلية عليها سور طوب وحجر وبها حمّامان وسوق عامرة ولها أربعة أبواب، وهي على نهر عنصره من جبل على عشرة أميال منها، وما بينهما بساتين، وعلى هذا النهر (أرحاء كثيرة، وأرضها أكرم أرض وأكثرها ريعا تعطى للحبّة مائة «4» ، وبها معدن فضّة غزير كثير المادّة. وبشرقيّ تامدلت) «5» مدينة درعة بينهما مسيرة ستّة أيّام «6» . وتسير من تامدلت إلى وادي درعة ثلاث مراحل. ومنها (إلى أجرو ستّ) «7» مراحل كلّها على مياه. ومنها إلى مرغاد مرحلة. ومنها إلى سجلماسة ستّة أميال. 1429 وأهل السوس وأغمات أكثر الناس تكسّبا وأطلبهم لرزق يكلّفون نساءهم وصبيانهم التحرّف والتكسّب. وبأرض أغمات والسوس شجر الهلجان لا

يكون إلّا هناك، يستخرج من حبّه زيت طيّب كثير النفع، وذلك أنّهم يجنون ثمره فتعلّفه الماشية، ثمّ يعمدون إلى عجمه فيطحن ويطبخ ويستخرج منه دهنه فيكادون يستغنون به عن جميع الزيوت لكثرته «1» عندهم «2» .

الطريق من وادي درعة في الصحراء إلى بلاد السودان

الطريق من وادي درعة في الصحراء إلى بلاد السودان 1430 من وادي درعة خمس مراحل إلى وادي تارجا «1» ، وهو أوّل الصحراء. ثمّ تمشي في الصحراء (فتجد الماء على اليومين والثلاثة حتّى تصل إلى رأس المجابة إلى البئر المسمّاة تزامت بئر معينة غير عذبة، وهي إلى الملوحة أقرب قد أنبطت) «2» في حجر صلد من عمل الأوّل، ويزعم قوم أنّ بني أميّة صنعتها. وفي الشرق منها بئر تسمّى بئر الجمّالين، وعلى مقربة منها أيضا بئر تسمّى ناللي «3» كلّها غير عذبة، وبين هذه الآبار الثلاث وبلاد الإسلام مسيرة أربعة أيّام. ومنها إلى جبل يسمّى بالبربرية (أدراران وزّال تفسيره) «4» جبل الحديد مثل ذلك. ومن هذا الجبل مجابة ماؤها على ثمانية أيّام، وهي المجابة الكبرى، وذلك الماء في بني ينتسر «5» من صنهاجة، ومن بني ينتسر إلى قرية تسمّى مدّوكن لصنهاجة أيضا. ومنها إلى مدينة غانة أربعة أيّام. ومن الآبار الثلاثة «6» المذكورة مجابة ماؤها على أربعة أيّام إلى ايزل، وهو جبل في الصحراء، إلى قبيل من صنهاجة يعرفون ببني لمتونة ظواعن رحّالة في الصحراء، مراحلهم فيه مسيرة شهرين في شهرين ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام ويصيفون في موضع يسمّى أمطلوس «7» وآخر يسمّى تاليوين، وهم إلى بلاد السودان أقرب. وبينهم وبين بلاد السودان نحو عشر مراحل، وليس يعرفون حرثا ولا يزرعون «8» زرعا ولا يعرفون «9» خبزا، إنّما أموالهم الأنعام وعيشهم من اللحم واللبن ينفد عمر أحدهم ولا رأى خبزا ولا أكله إلّا أن يمرّ بهم التجّار من بلاد الإسلام أو بلاد السودان فيطعمونهم الخبز ويتحفونهم بالدقيق، وهم على السنّة مجاهدون للسودان «10» .

1431 وكان رئيسهم محمّد المعروف بتارشنى «1» من أهل الفضل والخير «2» والدين والحجّ والجهاد، وهلك بموضع يقال له قنقارة- وقيل كنكارة» - من بلاد السودان، وهم قبيل من السودان بغربيّ مدينة بنكلابين «4» ، وهي مدينة يسكنها جماعة من المسلمين يعرفون ببني وارث من صنهاجة. (وخلف بني لمتونة قبيلة من صنهاجة) «5» تسمّى بني جدالة وهم يجاورون البحر وليس بينهم وبينه أحد. 1432 وهذه القبائل هي الّتي قامت بعد الأربعين وأربعمائة بدعوة الحق وردّ المظالم وقطع جميع المغارم، وهم على السنّة ومتمسّكون بمذهب مالك بن أنس رضه، وكان الّذي نهج ذلك فيهم ودعا الناس إلى الرباط ودعوة الحقّ عبد الله بن ياسين. وذلك أنّ رئيسهم كان يحيى بن إبراهيم من بني جدالة وحجّ في بعض السنين ولقي في صدره عن حجّه الفقيه أبا عمران الفاسي، فسأله أبو عمران عن بلده وسيرته وما ينتحلونه من المذاهب، فلم يجد عنده علما بشيء إلّا أنّه رآه حريصا على التعلّم «6» صحيح النيّة واليقين، فقال له: ما يمنعكم من تعلّم الشرع على وجهه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال له: لا يصل إلينا إلّا معلّمون لا ورع لهم «7» ولا علم بالسنّة عندهم. ورغب إلى أبي عمران أن يرسل معه من تلاميذه من يثق بعلمه ودينه ليعلّمهم ويقيم أحكام الشريعة «8» عندهم، فلم يجد أبو عمران فيمن رضيه من يجيبه إلى السير معه. فقال له أبو عمران: إنّي قد عدمت بالقيروان بغيتكم «9» وإنّ

بملكوس فقيها حاذقا ورعا قد لقيني وعرفت ذلك منه يقال له وجّاج «1» بن زلوي «2» ، فمرّ به فربّما ظفرت عنده ببغيتك. 1433 فجعل ذلك يحيى بن إبراهيم أوكد همّه فنزل به وعلّمه ما جرى له مع أبي عمران. فاختار له وجاج من أصحابه رجلا يقال له عبد الله بن ياسين (واسم أمّه) «3» تين يزامارن من أهل جزولة (من قرية تسمّى) «4» تماماناوت في طرف صحراء مدينة غانة، فوصل به إلى موضعه واجتمعوا للتعلّم منه والانقياد له في سبعين رجلا. فغزوا بني لمتونة وحاصروهم في جبل لهم فهزموهم وجعلوا ما اتّخذوا من أموالهم مغنما، فلم يزل أمرهم يقوى واستعملوا على أنفسهم يحيى بن عمر بن تلاجاجين «5» وعبد الله بن ياسين مقيم فيهم متورّعا عن أكل لحمانهم وشرب ألبانهم لما كانت أموالهم غير طيّبة، وإنّما كان عيشه من صيد البرية «6» . ثمّ أمرهم ببناء مدينة سمّوها أرتنّني «7» وأمرهم أن لا يشف بناء بعضهم على بناء بعض، فامتثلوا ذلك وهم يسمعون له ويطيعون إلى أن نقموا عليه أشياء يطول ذكرها، وكأنّهم وجدوا في أحكامه بعض التناقض. 1434 فقام عليه فقيه منهم كان اسمه (الجوهر بن سكّم) «8» مع رجلين من كبرائهم يقال لأحدهما أيار وللآخر اينتكّوا «9» ، فعزلوه عن الرأي والمشورة وقبضوا

منه بيت مالهم «1» وطردوه وهدموا داره وانتهبوا ما كان فيها من أثاث وخرثى. فخرج مستخفيا من قبائل صنهاجة إلى أن أتى وجّاج بن زلوي فقيه ملكوس. فعاتبهم وجّاج «2» على ما كان منهم إلى عبد الله وأعلمهم أنّ من خالف أمر عبد الله فقد فارق الجماعة وأنّ دمه هدر، وأمر عبد الله بالرجوع إليهم فرجع وقتل الّذين قاموا عليه وقتل خلقا كثيرا ممّن استوجب القتل عنده لجراية أو فسق واستولى على الصحراء كلّها: وأجابه جميع تلك القبائل ودخلوا في دعوته والتزموا السنّة به. ثمّ نهضوا إلى لمطة وسألوهم ثلث أموالهم ليطيب لهم بذلك الثلثان، وهكذا سنّ لهم عبد الله في الأموال المختلطة، فأجابوهم إلى ذلك ودخلوا معهم في دعوتهم. 1435 وأوّل ما أخذوا من البلاد المخالفة لهم درعة، ولهم في قتالهم شدّة وجلد ليس لغيرهم، وهم يختارون الموت على الانهزام ولا يحفظ لهم فرار من زحف، وهم يقاتلون على الخيل والنجب وأكثر قتالهم رجالة صفوفا بأيدي الصفّ الأوّل القنى الطوال للمداعسة والطعان، وما يليه «3» من الصفوف بأيديهم المزاريق يحمل الرجل الواحد منها «4» عدّة يزرقها فلا يكاد يخطئ ولا يشوى. ولهم رجل قد قدموه أمام الصفّ بيده الراية، فهم يقفون ما وقفت منتصبة، وإن أمالها إلى الأرض جلسوا جميعا فكانوا أثبت من الهضاب، ومن فرّ أمامهم لم يتبعوه. وهم يقتلون الكلاب لا يستصحبون منها شيئا. )

1436 وكان يحيى بن عمر أشدّ الناس انقيادا لعبد الله بن ياسين وامتثالا لما يأمره به، ولقد حدّث جماعة أنّ عبد الله قال له في بعض تلك الحروب: أيّها الأمير إنّ عليك حقّا أدبا. فقال له يحيى: فما الّذي أوجبه عليّ؟ قال له عبد الله: إنّي لا أخبرك به حتّى أؤدّبك وآخذ حقّ الله منك. فطاع له الأمير بذلك وحكمه في بشرته فضربه الفقيه ضربات بالسوط، ثمّ قال له: الأمير لا يدخل القتال بنفسه لأنّ حياته حياة عسكره وهلاكه هلاكهم. 1437 وغزا المرابطون مدينة سجلماسة بعد أن خاطبوا أهلها ورئيسهم مسعود بن وانودين المغراوي، فلم يجيبوهم إلى ما أرادوا، فغزوهم في جيش عدّته ثلاثون ألف جمل سرج، فقتلوا مسعودا واستولوا على مدينة سجلماسة وتخلّفوا فيها جماعة منهم، ثمّ عادوا إلى بلادهم. فغدر أهل سجلماسة بالمرابطين بالمسجد «1» فقتلوا منهم عددا كثيرا، وذلك سنة ستّ وأربعين وأربعمائة. وندم أهل سجلماسة على ما فعلوا وتواترت رسلهم على عبد الله بن ياسين أن يرجع إليهم العساكر ويذكرون أنّ زناتة زحفت إليهم، فندب عبد الله المرابطين إلى غزو زناتة ثانية، فأبوا عليه وخالف عليه بنو جدالة وذهبوا إلى ساحل البحر. فأمر عبد الله الأمير يحيى أن يتحصّن بجبل لمتونة، وهو جبل منيع كثير الماء والكلأ في طوله مسافة ستّة أيّام وفي عرضه مسافة يوم «2» ، وهناك حصن يسمّى أركى «3» حوله نحو عشرين ألف نخلة كان بناه يانّو بن عمر الحاج أخو يحيى بن عمر. )

1438 فصار يحيى في جبل لمتونة، (وذهب عبد الله بن ياسين إلى مدينة سجلماسة في مائتي رجل من قبائل صنهاجة ونزل موضعا يقال له تامدّولت حصن) «1» فيه مياه ونخل كثير، ويشرف عليه جبل فيه معدن فضّة معلوم هناك. فاجتمع لعبد الله جيش كثيف من سرطة وترجة ولهم هناك حصون. وكان أبو بكر بن عمر بدرعة مع أحمد بن أمدجنو «2» ، فأمّره عبد الله مكان أخيه يحيى المتخلّف بجبل لمتونة. ثمّ رجعت جيوش بني جدالة إلى يحيى بن عمر فحاصروه في الجبل، وذلك سنة ثمان وأربعين، وهم في نحو ثلاثين ألفا. وكان مع يحيى أيضا (عدد كثير) «3» ، وكان معه ليّي بن ورجاي «4» رئيس تكرور، وكان التقاؤهم هناك بموضع يسمّى تيفريلّى بين تاليوين وجبل لمتونة. فقتل يحيى بن عمر رحمه الله وقتل معه بشر كثير، وهم يذكرون أنّهم يسمعون في هذا الموضع أصوات المؤذّنين عند أوقات الصلوات، وهم يتحامونه ولا يدخله أحد ولا أخذ منه سيف ولا درقة ولا شيء من أسلحتهم ولا ثيابهم. ولم يكن للمرابطين بعد كرّة إلى بني جدالة. 1439 وفي سنة ستّ وأربعين غزا عبد الله بن ياسين أودغست، وهو بلد (قائم العمارة مدينة كبيرة فيها أسواق) «5» ونخل كثير وأشجار الحناء، وهي في العظم كشجر الزيتون، وهي كانت منزل ملك «6» السودان المسمّى بغانة قبل أن يدخل العرب غانة، وهي متقنة المباني حسنة المنازل، ومسافة ما بينها وبين سجلماسة مسيرة شهرين وبينها وبين مدينة غانة خمسة عشر يوما. وكان يسكن هذه المدينة زنانة مع العرب وكانوا متباغضين متدابرين، وكانت لهم

أموال عظيمة ورقيق كثير كان للرجل منهم ألف خادم وأكثر. فاستباح المرابطون حريمها وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئا، وقتل فيها عبد الله بن ياسين رجلا من العرب المولّدين من أهل القيروان معلوما بالورع والصلاح وتلاوة القرآن وحجّ البيت يسمّى زباقرة «1» ، وإنّما نقموا عليهم أنّهم كانوا تحت طاعة صاحب غانة وحكمه. 1440 وغزا عبد الله بن ياسين أغمات سنة تسع وأربعين، واستولى على بلاد المصامدة (سنة خمسين، وقتل ببرغواطة) «2» سنة إحدى وخمسين بموضع يسمّى كريفلت، وعلى قبره اليوم مشهد مقصود ورابطة معمورة. ولم يقتل عبد الله بن ياسين حتّى استولى على سجلماسة وأعمالها والسوس كلّه وأغمات ونول «3» والصحراء. 1441 وممّا يذكرونه ولا يشكّون فيه من براهين صلاح عبد الله أنّه ذهب في بعض أسفاره فعطشوا فشكوا ذلك إليه، فقال: عسى الله أن يجعل لنا من أمرنا فرجا «4» . ثمّ سار بهم ساعة وقال لهم: احفروا بين يديّ» . فحفروا فوجدوا الماء بأدنى حفر، فشربوا وسقوا واستقوا أعذب ماء وأطيبه. ويذكرون أنّه نزل منزلا تقرب منه بركة ماء وكانت كثيرة الضفادع لا يسكن نقيقها، فإذا وقف عبد الله على البركة لا يسمع لها ركز. وهم الآن لا تقدّم طائفة منهم أحدا للصلاة بها إلّا من صلّى وراء عبد الله وإن كان في تلك

ذكر ما شذ فيه عبد الله بن ياسين من الأحكام

الطائفة أقرأ «1» منه وأورع ممّن لم يصلّ وراءه. وكان عبد الله نكّاحا للنساء «2» يتزوّج في الشهر عددا منهنّ ويطلقهنّ، لا يسمع بامرأة حسناء إلّا خطبها، ولا يتجاوز بصدقاتهنّ أربعة مثاقيل. ذكر ما شذّ فيه عبد الله بن ياسين من الأحكام 1442 من ذلك أخذه الثلث من الأموال المختلطة، وزعم أنّ ذلك يطيب باقيها ويحلّه، وقد تقدّم ذكرها. هذا وأن الرجل إذا دخل في دعوتهم وتاب عن سالف ذنوبه قالوا له: قد أذنبت ذنوبا كثيرة في شبابك، فيجب أن تقام عليك حدودها وتطهر من إثمها، فيضرب حدّ الزاني مائة سوط وحدّ المفتري ثمانين سوطا وحدّ الشارب «3» مثلها، وربّما زيد على ذلك. وهكذا يفعلون بمن تغلّبوا عليه وأدخلوه في رباطهم، وإن علموا أنّه قتل قتلوه «4» سواء أتاهم تائبا طائعا أو غلبوا عليه مجاهرا عاصيا لا تنفعه توبته ولا تغني عنه رجعته. ومن تخلّف عن مشاهدة الصلاة مع الجماعة ضرب عشرين سوطا، ومن فاتته ركعة ضرب خمسة أسواط. ويأخذون الناس بصلاة ظهر أربعا قبل صلاة الظهر في الجماعة، وكذلك في سائر الصلوات، ويقولون: إنّك لا بدّ قد فرطت في سالف عمرك فاقض ذلك. وأكثر عوامّهم يصلّون بغير وضوء إذا أعجلهم الأمر جزعا من الضرب. ومن رفع صوته في المسجد ضرب على قدر ما يراه الضارب (له صلاحا) «5» . وزكاة الفطر يأخذونها وينفقونها على أنفسهم.

1443 وممّا يحفظ من جهل عبد الله بن ياسين أنّ رجلا اختصم إليه مع تاجر غريب عندهم، فقال التاجر في بعض مراجعته لخصمه: حاشى لله أن يكون ذلك. فأمر عبد الله بضربه وقال: لقد قال كلاما فظيعا وقولا شنيعا يوجب عليه أشدّ الأدب. وكان بالحضرة رجل قيرواني فقال لعبد الله: وما تنكر من مقالته؟ والله عزّ وجلّ (قد ذكر ذلك في كتابه فقال) «1» حكاية عن النسوة اللّائي قطعن أيديهنّ في قصّة يوسف: حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلّا ملك كريم «2» . فرفع الضرب «3» عن ذلك الرجل. 1444 وأمير المرابطين إلى اليوم- وذلك سنة ستّين وأربعمائة- أبو بكر بن عمر، وأمرهم منتشر غير ملتئم ومقامهم بالصحراء، وجميع قبائل الصحراء «4» يلتزمون النقاب وهو فوق اللثام حتّى لا يبدو منه إلّا محاجر عينيه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميّز رجل منهم وليه ولا حميمه إلّا إذا تنقّب، وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل وزال قناعه لم يعلم (من هو) «5» حتّى يعاد عليه القناع، وصار ذلك لهم ألزم من جلودهم وهم يسمّون من خالف زيّهم هذا من جميع الناس «6» أفواه الذبان بلغتهم. وطعامهم صفيف «7» اللحم الجافّ مطحونا يصبّ عليه الشحم المذاب أو السمن، وشرابهم اللبن قد غنوا به عن الماء، يبقى الرجل منهم الأشهر لا يشرب ماء، وقوّتهم مع ذلك مكينة وأبدانهم صحيحة.

1445 ومن سير أهل الصحراء في المتّهم بالسرقة أن يعمدوا إلى عود فيشقّ باثنين ويشدّ على صدغيه في مقدم رأسه ومؤخّره فلا يتمالك أن يقرّ ولا يصبر على ذلك الضغط لحظة «1» لشدّته. 1446 وممّا في هذه الصحراء من الحيوان اللمط، وهو دابّة دون البقر لها قرون دقاق حادّة لذكرانها وإناثها، وكلّما كبر منها الواحد طال قرناه حتّى يكون أكبر من أربعة أشبار. وأجود الدرق وأغلاها ثمنا ما صنع من جلود العواتق منها، وهي الّتي طال قرناها لكبر سنّها فمنع الفحل علوّها. ودوابّ الفنك أكثر شيء في هذه الصحراء ومنها يحمل إلى جميع البلاد. وعندهم الكباش الدمانية خلقها خلق الضأن إلّا أنّها أجمل «2» وشعرها شعر الماعز لا أصواف لها، وهي أحسن الغنم خلقا وألوانا. ولا تنبت هذه الصحراء ولا بلاد أغمات ولا السوس شجر المرسين، وهو شجر الآس وهو عندهم عزيز يجلب إليهم من سائر البلاد. 1447 ومن غرائب تلك الصحراء معدن ملح على يومين من المجابة الكبرى وبينه وبين سجلماسة مسيرة عشرين يوما، تحفر عنه الأرض كما تحفر عن سائر المعادن والجواهر، ويوجد تحت قامتين أو دونها من وجه الأرض وتقطع كما تقطع

الحجارة، ويسمّى هذا المعدن «1» تاتنتال وعليه حصن مبني بحجارة الملح، وكذلك بيوته ومشارفه وغرفه كلّ ذلك ملح، ومن هذا المعدن يتجهّز بالملح إلى سجلماسة وغانة وسائر السودان «2» ، والعمل فيه متّصل والتجّار إليه متسايرون وله غلّة عظيمة. ومعدن للملح آخر «3» عند بني جدالة بموضع يسمّى أوليل على شاطىء البحر، ومن هناك تتحمّله الرفاق أيضا إلى ما جاوره. 1448 وبقرب أوليل في البحر جزيرة تسمّى ايونى، وهي عند المدّ جزيرة لا يوصل إليها من البرّ وعند الجزر يوصل إليها على القدم، ويوجد فيها العنبر، وأكثر معاش أهلها من لحوم السلاحف وهي أكثر شيء عندهم «4» في ذلك البحر وهي مفرطة العظم، وربّما دخل الرجل منهم في محار «5» ظهورها فيتصيّد فيها كالقارب. (وسنذكر من كبر السلاحف بطريق تيرقى «6» ما هو أشنع من هذا) «7» . ولهم أغنام ومواش، وهذه الجزيرة مرسى من المراسي، والطريق منها إلى نول على ساحل البحر لا يفارقه مسيرة شهرين مشي العير في أرض أكثرها صفى ينبو عنه الحديد وتكلّ فيه المعاول. وإنّما يشربون في طريقهم من قلات «8» يحتفرونها عند جزر البحر فتبضّ ماء عذبا. وإذا مات لهم ميّت في طريقهم هذا لم يمكنهم مواراته لصلابة الأرض وامتناعها على الحفر، فيسترونه بالحطام والحشيش أو يقذفونه بالبحر.

ذكر بلاد السودان ومدنها المشهورة واتصال بعضها ببعض والمسافات بينها وما فيها من الغرائب وسير أهلها

ذكر بلاد السودان ومدنها المشهورة واتّصال بعضها ببعض والمسافات بينها وما فيها من الغرائب وسير أهلها 1449 المصاقبون «1» لبلاد السودان بنو جدالة، هم آخر الإسلام خطّة. وأقرب بلاد السودان منهم صنغانة «2» ، بين آخر بلادهم وبينها مسيرة ستّة أيّام، ومدينة صنغانة مدينتان على ضفّتي النيل وعمارتها متّصلة إلى البحر المحيط. ويلي مدينة صنغانة ما بين الغرب والقبلة على النيل مدينة تكرور أهلها سودان، وكانوا على ما كان «3» سائر السودان عليه من المجوسية «4» وعبادة الدكاكير، والدكور عندهم الصنم، حتّى وليهم وارجابي «5» بن رابيس فأسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها وحقّق بصائرهم فيها. وتوفّي وارجابي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فأهل تكرور اليوم مسلمون. 1450 (وتسير من مدينة تكرور إلى مدينة سلى، وهي مدينتان على شاطىء النيل أيضا وأهلها مسلمون) «6» أسلموا على يدي وارجابي رحمه الله. وبين سلى ومدينة غانة مسيرة عشرين يوما في عمارة السودان القبيلة بعد القبيلة. وملك سلى بحارب كفّارهم وليس بينه وبين أوّلهم إلّا مسيرة يوم واحد، وهم أهل مدينة قلنبو، وهو واسع المملكة كثير العدد يكاد يقاوم ملك غانة. وتبايع أهل سلى بالدرّة والملح وحلق النحاس وأزر لطاف من قطن يسمّونها الشكيات «7» . والبقر عندهم كثير وليس عندهم ضأن ولا معز، وأكثر نبات

أرضهم الأبنوس ومنه يحتطبون. وفيما يتّصل ببلادهم من النيل في موضع يقال له صحابي حيوان في الماء يشبه الفيل في عظم خلقته وفنطيسته «1» وأنيابه يسمّونه قفوا، وهو يرعى في البراري ويأوي إلى النيل، وهم يميّزون موضعه من النيل بتحرّك الماء على ظهره فيقصدونه بمزاريق حديد، فصار في أسافلها حلق قد شدّت فيها الحبال المديدة، فيرمونه بالعدد الكثير منها فيغوص ويضطرب في أسفل النيل، فإذا مات طفا على الماء، فجذبوه وأكلوا لحمه وصنعوا من جلده هذه الأسواط الّتي تسمّى السريافات، (ومن هناك تحمل إلى الآفاق. 1451 ويلي هذا البلد مدينة قلنبو بينهما «2» مسيرة يوم على ما تقدّم، وهي على النيل وأهلها مشركون. وتتّصل بمدينة قلنبو مدينة ترنقة، وهو بلد عريض، وعندهم تصنع «3» الأزر المسمّاة بالشكيات) «4» الّتي تقدّم ذكرها، وهي أربعة أشبار في مثلها. وليس في بلدهم كثير قطن غير أنّهم لا تكاد تخلو دار أحدهم من شجرة قطن «5» . 1452 وحكم أهل هذه البلاد «6» والمذكور قبلها من بلاد السودان أن يخيّر صاحب السرقة في بيع السارق أو قتله، وحكمهم في الزاني أن يسلخ من جلده.

1453 ومن ترنقة تصل العمارة بالسودان إلى بلد زافقو «1» ، وهم صنف من السودان يعبدون حيّة كالثعبان العظيم ذا عرف وذنب رأسه كرأس البختي، وهو في مغارة بالمفازة وعلى فم المغارة عريش وأحجار «2» ومسكن قوم منهم متعبّدين معظّمين «3» لتلك الحيّة، ويعلّقون نفيس الثياب وجرّ «4» المتاع على ذلك العريش ويضعون له جفان الطعام وعساس اللبن والشراب. وهم إذا أرادوا إخراجه إلى العريش تكلّموا كلاما وصفروا صفيرا معلوما فيبرز إليهم. وإذا هلك والي من ولاتهم «5» جمعوا كلّ من يصلح للمملكة وقرّبوهم إليها وتكلّموا بكلام يعلمونه، فتدنو الحيّة منهم فلا تزال تشمّهم رجلا رجلا حتّى تنكز أحدهم بأنفها، فإذا نكزته ولت إلى المغارة فيتبعها ذلك المنكوز بأجدّ ما يقدر عليه من السير، فيجذب من ذنبها أو من عرفها بأشدّ ما يقدر عليه من شعرات، فتكون مدّة ملكه لهم بعدد تلك الشعرات لكلّ شعرة سنة، لا يخطيهم ذلك بزعمهم. 1454 وتليهم بلاد الفرويين، وهي مملكة الفرويّين على حدتها، ومن غريب ما فيها بركة يجتمع فيها الماء ينبت فيها نبات أصوله أبلغ شيء في تقوية الباه والعون عليها، والملك يمنع منها ولا يصل منها شيء إلى غيره، وله من النساء عدد عظيم، فإذا أراد أن يطوف عليهنّ أنذرهنّ قبل ذلك بيوم، ثمّ استعمل ذلك الدواء فيطوف عليهنّ كلّهنّ «6» ولا يكاد ينكسر. وقد أهدى إليه بعض (ملوك المسلمين) «7» المجاورين له هدية نفيسة واستهداه شيئا من هذا النبات «8» . فعارضه على هديته وكتب إليه يقول: إنّ المسلمين لا يحلّ لهم

ذكر غانة وسير أهلها

من النساء إلّا قليل، وقد خفت عليك إن بعثت إليك الدواء أن لا تقدر على إمساك نفسك فتأتي بما لا يحلّ لك في دينك «1» ، ولكنّي قد بعثت إليك نباتا «2» يأكله الرجل العقيم فيولد له. وبلاد الفرويّين يبدّل الملح فيها بالذهب. ذكر غانة وسير أهلها 1455 وعانة سمة لملوكهم، واسم البلد أوكار واسم ملكهم اليوم- وهي سنة ستّين وأربعمائة- تنكامنين، وولي سنة خمس وخمسين. وكان اسم ملكهم قبله بسي «3» ، ووليهم وهو ابن خمس وثمانين سنة، وكان محمود السيرة محبّا للعدل مؤثّرا للمسلمين، وعمي في آخر عمره، فكان يكتم ذلك عن أهل مملكته ويريهم أنّه يبصر وتوضع بين يديه أشياء فيقول: هذا حسن وهذا قبيح وكان وزراؤه يلبسون ذلك على الناس ويلغزون للملك بما يقول، فلا تفهمه العامّة. وبسي هذا خال تنكامنين، وتلك سيرتهم ومذهبهم أنّ الملك لا يكون إلّا في ابن أخت الملك لأنّه لا يشكّ فيه أنّه ابن أخته وهو يشكّ في ابنه ولا يقطع على صحّة اتّصاله به. 1456 وتنكامنين هذا شديد الشوكة (عظيم المملكة مهيب السلطان) «4» . ومدينة غانة مدينتان سهليّتان «5» إحداهما المدينة الّتي يسكنها المسلمون، وهي مدينة

كبيرة فيها اثنا عشر مسجدا أحدها يجمعون فيه، ولها الأئمّة والمؤذّنون والراتبون، وفيها فقهاء وحملة علم. وحواليها «1» آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضراوات «2» . ومدينة الملك على ستّة أميال من هذه وتسمّى بالغابة «3» والمساكن بينهما متّصلة، ومبانيهم بالحجارة وخشب السنط «4» . وللملك قصر وقباب، وقد أحاط بذلك كلّه حائط كالسور. وفي مدينة الملك مسجد يصلّي فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس حكم الملك. وحول مدينة الملك قباب وغابات وشعراء يسكن فيها سحرتهم، وهم الّذين يقيمون دينهم. وفيها دكاكيرهم (وقبور ملوكهم) «5» ، ولتلك الغابات حرس ولا يمكن أحدا دخولها ولا معرفة ما فيها، وهناك سجون الملك، فإذا سجن أحد فيها انقطع عن الناس خبره. 1457 وتراجمة الملك من المسلمين، وكذالك صاحب بيت ماله وأكثر وزرائه، ولا يلبس المخيط من أهل دين الملك غيره وغير ولي عهده، وهو ابن أخته، ويلبس سائر الناس ملاحف القطن والحرير والديباج على قدر أحوالهم. وهم أجمع «6» يحلقون لحاهم ونساؤهم يحلقن رؤوسهنّ، وملكهم يتحلّى بحلى النساء في العنق والذراعين ويجعل (على رأسه) «7» الطراطير المذهّبة عليها عمائم القطن الرفيعة.

1458 وهو يجلس للنّاس «1» والمظالم في قبّة ويكون حوالي القبّة «2» عشرة أفراس بثياب مذهّبة ووراء الملك عشرة «3» من الغلمان يحملون الحجف والسيوف المحلاة بالذهب، وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا رؤوسهم بأنواع الذهب وعليهم الثياب الرفيعة، ووالي المدينة «4» بين يدي الملك جالس في الأرض وحواليه الوزراء جلوسا على الأرض. (وعلى باب القبّة كلاب منسوبة) «5» لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه، في أعناقها سواجير الذهب والفضّة يكون في الساجور عدد رمّانات ذهب وفضّة. وهم ينذرون بجلوسه بطبل يسمّونه دبا، (وهو خشبة طويلة منقورة، فيجتمع الناس، فإذا دنا أهل دينه منه جثوا على ركبهم ونثروا التراب على رؤوسهم، فتلك) «6» تحيتهم له. وأمّا المسلمون فإنّما سلامهم عليه تصفيقا باليدين. 1459 وديانتهم المجوسية وعبادة الدكاكير. وإذا مات ملكهم عقدوا له «7» قبّة عظيمة من خشب الساج ووضعوها في موضع قبره، ثمّ أتوا به على سرير قليل الفرش والوطاء فأدخلوه في تلك القبّة ووضعوا معه حليته وسلاحه وآنيته الّتي كان يأكل فيها ويشرب، وأدخلوا فيها الأطعمة والأشربة وأدخلوا معه رجالا ممّن كان يخدم طعامه وشرابه وأغلقوا عليهم باب «8» القبّة وجعلوا فوق القبّة الحصر والأمتعة، ثمّ اجتمع الناس فردموا فوقها بالتراب حتّى تأتي كالجبل الضخم، ثمّ يخندقون حولها حتّى لا يوصل إلى «9» ذلك الكوم إلّا من موضع واحد. وهم يذبحون لموتاهم الذبائح ويقرّبون لهم الخمور.

[الطريق من غانة إلى غيارو]

1460 ولملكهم على حمار «1» الملح دينار ذهب في إدخاله البلد وديناران في إخراجه، وله على حمل النحاس خمسة مثاقيل وعلى حمل المتاع عشرة مثاقيل. وأفضل الذهب في بلاده ما كان بمدينة غياروا، وبينها وبين مدينة الملك مسيرة ثمانية عشر يوما في بلاد معمورة بقبائل السودان مساكن متّصلة. وإذا وجد في جميع معادن بلاده الندرة من الذهب استصفاها الملك، وإنّما يترك منها للناس هذا التبر الرقيق، ولولا ذلك لكثر الذهب بأيدي الناس حتّى يهون. والندرة تكون من أوقية إلى رطل، ويذكر أنّ عنده منه ندرة كالحجر الضخم. وبين مدينة غيارو والنيل اثنا عشر ميلا وفيها من المسلمين كثير. وغانة بلدة مستوبية غير آهلة لا يكاد يسلم الداخل فيها من المرض عند امتلاء زرعهم، ويقع الموتان في غربانها عند استحصاد الزرع. [الطريق من غانة إلى غيارو] 1461 فأمّا الطريق من غانة إلى غيارو فإلى مدينة سامقندى «2» أربعة أيّام، وأهل سامقندى أرمى السودان بالنشاب. ومنها إلى بلد يسمّى طاقة يومان، وأكثر شجر طاقة شجر يسمّى تادموت، وهو شجر الآراك إلّا أنّ له ثمرا كالبطيخ داخله شيء يشبه القند تشوب حلاوته بحموضة نافع للمحمومين. ومن هناك إلى خليج من النيل يقال له زوغو مسيرة يوم تخوضه الجمال، ولا يعبره الناس إلّا في القوارب. ومنه إلى بلد يقال له غرنتل «3» ، وهو بلد كبير ومملكة جليلة لا يسكنه مسلمون ولكنّهم يكرمونهم ويخرجون لهم عن الطريق إذا دخلوا بلادهم، وتلد «4» عندهم الفيلة والزرافات. ومن غرنتل إلى غيارو.

1462 وملك غانة إذا احتفل (ينتهي جيشه مائتي ألف، منهم رماة أزيد من أربعين ألفا، وخيل غانة قصار جدّا. وعندهم الأبنوس الجيّد) «1» المجزّع. وهم يزدرعون مرّتين في العام مرّة على ثرى النيل إذا خرج عندهم وأخرى على ثرى أيضا. 1463 وبغربيّ غيارو على النيل مدينة يرسنى «2» (يسكنها المسلمون وما حولها مشركون) «3» . وفي يرسنى معز قصار، فإذا وضعت الماعزة ذبحوا الذكور وأبقوا الإناث، وعندهم شجر تحتكّ بها هذه المعزة فتحمل من ذلك العود تلد من غير ذكر، وهذا معلوم عندهم غير منكر، وحدّث به جماعة من المسلمين الثقات. ومن يرسنى يجلب السودان العجم المعروفون ببني نغمرانة وهم تجّار التبر إلى البلاد. وما وازاها من ضفّة النيل الثانية مملكة كبيرة أزيد من مسيرة ثمانية أيّام سمة ملكهم دو، وهم يقاتلون بالنشاب. 1464 ووراءه بلد اسمه ملل وملكهم يعرف بالمسلماني، وإنّما سمّي بذلك لأنّ بلاده أجدبت «4» عاما بعد عام، فاستسقوا بقرابينهم من البقر حتّى كادوا يفنونها ولا يزدادون إلّا قحطا وشفاء. وكان عنده ضيف من المسلمين يقرأ القرآن ويعلم السنّة، فشكا إليه الملك ما دهمهم من ذلك فقال له: أيّها الملك لو

آمنت بالله تعالى وأقررت بوحدانيته وبمحمّد عليه الصلاة والسلام وأقررت برسالته واعتقدت شرائع الإسلام كلّها لرجوت لك الفرج (ممّا أنت فيه) «1» وحلّ بك، وأن تعمّ الرحمة «2» أهل بلدك، وأن يحسدك على ذلك من عاداك وناوأك. فلم يزل به حتّى أسلم وأخلص نيّته وأقرأه من كتاب الله ما تيسّر (عليه وعلّمه من الفرائض والسّنن ما لا يسع جهله. ثمّ استأنى به إلى ليلة جمعة فأمره فتطهّر فيها طهرا سابغا) «3» وألبسه المسلم ثوب قطن كان «4» عنده، وبرزوا إلى ربوة من الأرض فقام المسلم يصلّي والملك عن يمينه يأتمّ به. فصلّيا من الليل ما شاء الله والمسلم يدعو والملك يؤمّن، فما انفجر الصباح إلّا والله قد عمّهم بالسقي. فأمر الملك بكسر الدكاكير وإخراج السحرة من بلاده، وصحّ إسلامه وإسلام عقبه وخاصّته وأهل مملكته مشركون، فوسموا ملوكهم مذ ذاك بالمسلماني. 1465 ومن أعمال غانة المنضافة إليها بلد يسمّى سامة ويعرف أهله بالبكم، بينه وبين غانة مسيرة أربعة أيّام، وهم يمشون عراة إلّا أنّ المرأة تستر فرجها بسيور تضفرها، وهنّ يوفرن شعر العانة ويحلقن شعر الرأس. وحدّث أبو عبد الله المكّي أنّه رأى منهنّ امرأة وقفت على رجل من العرب طويل اللحية، فتكلّمت بكلام لم يفهمه، فسأل الترجمان عن مقالتها فذكر أنّها تمنّت أن يكون شعر لحيته في عانتها. فامتلأ العربي غضبا «5» وأوسعها سبّا. والبكم لهم حذق بالرماية وهم يرمون بالسهام المسمومة. ويورثون الابن الأكبر مال الأب كلّه.

1466 وبغربيّ مدينة غانة مدينة أنبارة، وملكها اسمه تارم «1» وهو معاند لملك غانة. وعلى تسع مراحل من مدينة أنبارة مدينة كوغة وبينها وبين غانة مسيرة «2» خمس عشرة مرحلة، وأهلها مسلمون وحواليها المشركون. وأكثر ما يتجهّز إليها بالملح والودع والنحاس والفربيون، والودع والفربيون أنفق شيء عندهم. وحواليها من معادن التبر كثير، وهي أكثر بلاد السودان ذهبا. وهناك مدينة ألكن «3» وملكها يسمّى قنمر بن بسي ويقال إنّه مسلم يخفي إسلامه. 1467 وببلاد غانة قوم يسمّون بالهنيهين من ذرّية الجيش الّذي كان بنو أمية أنفذوه إلى غانة في صدر الإسلام، وهم على دين أهل غانة إلّا أنّهم لا ينكحون في السودان ولا ينكحونهم، فهم بيض الألوان حسان الوجوه. وبسلى أيضا قوم منهم يعرفون بالفامان. 1468 وببلاد غانة حكم الماء، وذلك أنّه من ادّعي عليه بمال أو دم أو غير ذلك عمد أمينهم إلى عود فيه حرافة «4» ومرارة ورقّة «5» وصبّ عليه من الماء قدرا معلوما «6» ، وسقاه المدّعى عليه، فإن رماه من جوفه علم أنّه بريء وهنّي بذلك، وإن لم يرمه وبقي في جوفه صحّت الدعوة عليه.

1469 ومن الغرائب ببلاد السودان شجرة طويلة الساق دقيقة تسمّى تورزى تنبت في الرمال ولها ثمر كبير منتفخ داخله صوف أبيض تصنع منه الثياب والأكسية ولا تؤثّر النار فيما صنع من ذلك الصوف من الثياب لو أوقدت عليه الدهر (كلّه لم يحترق) «1» . وأخبر «2» الفقيه عبد الملك أنّ أهل اللامس «3» بلد هناك ليس لهم لبس إلّا من هذا الصنف. ومن هذا الجنس حجارة بوادي درعة تسمّى بالبربرية تامطغست «4» تحكّ باليد فتلين إلى أن تأتي في قوام الكتّان فتصنع منها الأمرّة «5» والقيود للدوابّ، فلا تؤثّر النار في شيء من ذلك. وقد صنع منها كساء لبعض ملوك زناتة بسجلماسة، وأخبرني الثقة أنّه شهد تاجرا قد جلب منه منديلا إلى فردلند صاحب الجلالقة وذكر أنّه منديل لبعض الحواريّين وأنّ النار لا تؤثّر فيه، وأراه ذلك عيانا فعظم موقعه من فردلند وبذل له فيه غناه، وبعث به فردلند إلى صاحب قسطنطينية ليوضع في كنيستهم العظمى، فعند ذلك بعث إليه صاحب قسطنطينية التاج وأمره بالتتويج. وقد حدّث جماعة أنّهم رأوا منه هداب منديل عند أبي فضل البغدادي تحمى عليه النار فيزداد بياضا ويكون له النار «6» غسلا، وهو كثوب الكتان. 1470 وإذا سرت من غانة تريد مطلع الشمس فإنّك تسير في طريق معمورة بالسودان إلى موضع يقال له أوغام يحرثون الذرّة وهو عيشهم، ثمّ تسير من هناك أربعة أيّام إلى موضع يقال له رأس الماء، وهناك تلقى النيل خارجا من

بلاد السودان، وعليه قبائل من «1» البربر مسلمون يسمّون مداسة، وبإزائهم من الشط الثاني مشركو السودان. ثمّ تسير من هناك ستّ مراحل على النيل إلى مدينة تيرقى، ويجتمع في سوق هذه المدينة أهل غانة وأهل تادمكّة. وتعظم السلاحف بتيرقى وتتّخذ في الأرض أسرابا «2» يمشي فيها الإنسان ولا يطيقون استخراج واحدة منها إلّا بعد شدّ الحبال فيها واجتماع العدد الكثير عليها. وأخبرني الفقيه أبو محمّد عبد الملك بن نخاس الغرفة أن قوما عرسوا في طريق تيرقى، والأرضة هناك تأتي على ما تجده وتفسد ما وصلت إليه وتخرج من التراب أكواما كالروابي، ومن الغرائب «3» أنّ ذلك التراب ثّر ند والماء هناك غير موجود على أبعد حفر. فلا توضع الأمتعة إلّا على الحجارة المجموعة أو الخشب الموضوعة. فارتاد كلّ واحد من القوم لمتاعه حرزا من الأرضة، وبدر أحدهم فيما ظنّ إلى صخرة كبيرة فأنزل عليها وقر بعيرين كانا معه. فلمّا هبّ «4» من نومه سحرا لم يجد الصخرة ولا ما كان عليها، فارتاع ونادى بالويل والحرب «5» . فاجتمعوا إليه يسألونه عن خطبه فأخبرهم فقالوا: لو طرقك لصوص لأخذوا المتاع وبقيت الصخرة. فنظروا فإذا أثر سلحفاة ذاهبة من الموضع، فاقتفوه أميالا حتّى أدركوها وحملا المتاع على ظهرها، وهي الّتي حسبها صخرة. 1471 ومن تيرقى يرجع النيل نحو الجنوب في بلاد السودان، فتسير عليه نحو «6» ثلاث مراحل فتدخل بلاد سغمارة «7» ، وهم قبيل من البربر في عمل تادمكّة، ويحاذيهم من الشطّ الثاني مدينة كوكو للسودان. وسيأتي ذكرها وما والاها إن شاء الله.

[الطريق من غانة إلى تادمكة]

[الطريق من غانة إلى تادمكّة] 1472 فأمّا الجادة من غانة إلى تادمكّة وبينهما مسيرة خمسين «1» يوما، فمن غانة إلى سفنقو ثلاث مراحل، وهي على النيل وهي آخر عمل غانة. (إلى تادمكرة، وبينهما مسيرة عشرين يوما) «2» . ثمّ تصحب النيل إلى بوغرات فيه قبيل من صنهاجة يعرفون بمداسة. وأخبر الفقيه (أبو محمّد) «3» عبد الملك أنّه رأى في بوغرات طائرا يشبه الخطاف يفهم من صوته كلّ سامع إفهاما لا يشوبه لبس: قتل الحسين قتل الحسين يكرّر مرارا، ثمّ يقول: بكربلا مرّة واحدة. قال عبد الملك: سمعته أنا ومن حضر من المسلمين معي. ومن بوغرات إلى تيرقى. ثمّ تسير منها في الصحراء إلى تادمكّة، وتادمكّة أشبه بلاد الدنيا بمكّة (شرفها الله وزادها تشريفا وتعظيما) «4» . (ومعنى تاد عندهم هيئة إذ أنّها على هيئة مكّة) «5» ، وهي مدينة كبيرة بين جبال وشعاب، وهي أحسن بناء من مدينة غانة ومدينة كوكو. وأهل تادمكّة بربر مسلمون وهم يتنقّبون كما «6» يتنقّب بربر الصحراء، وعيشهم من اللحم واللبن ومن حبّ تنبته الأرض من غير اعتمال، ويجلب إليهم الذرّة وسائر الحبوب من بلاد السودان، ويلبسون الثياب المصبّغة (بالحمرة من القطن) «7» والنولي وغير ذلك، وملكهم يلبس عمامة حمراء وقميصا أصفر وسراويل زرقاء. ودنانيرهم تسمّى الصلع لأنّها ذهب محض غير مختومة. ونساؤهم فائقات الجمال لا تعدل بهنّ أهل بلد حسنا، والزنا عندهم مباح، وهنّ يبادرن التجّار أيّتهنّ تحمله إلى منزلها.

[الطريق من تادمكة إلى القيروان]

[الطريق من تادمكّة إلى القيروان] 1473 فإن أردت من تادمكّة إلى القيروان فإنّك تسير في الصحراء خمسين يوما إلى وارجلان «1» ، وهي سبعة حصون للبربر أكبرها يسمّى أغرم أن يكامن «2» ، أي حصن العهود «3» . ومنها إلى مدينة قسطيلية أربعة عشر يوما، (ومن قسطيلية إلى القيروان سبعة أيّام على ما تقدّم. وبين وارجلان وقلعة أبي طويل مسيرة ثلاثة عشر يوما) «4» . [الطريق من تادمكّة إلى غدامس] 1474 ومن تادمكّة إلى غدامس أربعون مرحلة في الصحراء، والماء فيها على مسيرة اليومين والثلاثة أحساء. وغدامس مدينة لطيفة «5» كثيرة النخل والمياه وأهلها بربر مسلمون. وبغدامس دواميس كانت سجنا للكاهنة الّتي كانت بإفريقية. وأكثر طعام أهل غدامس التمر، والكمأة تعظم عندهم حتّى تتّخذ فيها الأرانب جحرة. وبين غدامس وجبل نفوسة سبعة أيّام في الصحراء، وبين نفوسة ومدينة «6» أطرابلس ثلاثة أيّام على ما تقدّم.

1475 وطريق آخر من تادمكّة إلى غدامس: تسير من تادمكّة ستّة أيّام في عمارة سغمارة، ثمّ في مجابة أربعة أيّام إلى الماء «1» ، ثمّ في مجابة ثانية «2» أربعة أيّام، وفي هذه المجابة الثانية معدن لحجارة تسمّى تاسي النسمت، وهي حجارة تشبه العقيق وربّما كان في الحجر الواحد ألوان من الحمرة والصفرة والبياض وربّما وجد فيها في النادر الحجر الجليل الكبير، فإذا وصل به إلى أهل غانة غالوا فيه وبذلوا فيه الرغائب، وهو أجلّ عندهم من كلّ علق يقتنى، وهو يجلى ويثقّب بحجر آخر يسمّى تنتواس «3» كما يجلى الياقوت ويثّقب بالسنباذج، لا يعمل فيه الحديد شيئا إلّا بالتنتواس ولا يوصل إليه ولا يعلم موضعه حتّى ينحر الإبل على معدنه وينضج دمه، فحينئذ يظهر ويلقّط. وفي بونو معدن للتاسي أنسمت أيضا، ومعدن هذه المجابة أفضل. 1476 وتسير من هذه المجابة الثانية «4» إلى مجابة ثالثة، وفي هذه المجابة معدن الشبّ ومنه يحمل إلى البلاد. وتسير من هذه المجابة إلى مجابة رابعة أحد عشر يوما في رمال جرد لا ماء فيها ولا نبت، يتزوّد الرفاق الماء والحطب فيها كما يتزوّد الطعام والعلف، وعلى يسار السائر في هذه المجابة جبل الرمل الأحمر الّذي يتّصل بسجلماسة، وهو الّذي يكون فيه الفنك والثعلب الدهي «5» ، وهو آخر حدّ إفريقية.

1477 وإذا سار السّائر من بلاد كوكو على شاطىء البحر غربا انتهى إلى مملكة يقال لها الدمدم «1» يأكلون من وقع إليهم، ولهم ملك كبير وملوك تحت يده، وفي بلدهم قلعة عظيمة عليها صنم في صورة امرأة يتألهون له ويحجّونه. 1478 وبين تادمكّة ومدينة كوكو تسع مراحل، والعرب تسمّي أهلها البزركانيّين «2» . وهي مدينتان مدينة للملك ومدينة للمسلمين، وملكهم يسمّى قندا. وزيّهم كزي السودان (من الملاحف وثياب الجلود وغير ذلك بقدر جدّة الإنسان منهم، وهم يعبدون الدكاكير كما يفعل السودان) «3» . ويضرب لجلوس الملك الطبل وترقص النساء السودانيات بالشعور الجثلة «4» . المسترسلة، ولا يتصرّف أحد منهم في مدينته حتّى يفرغ من طعامه ويقذف باقيه في النيل، فيجلبون عند ذلك ويصيحون فيعلم الناس أنّه قد فرغ من طعامه. وإذا ولي منهم ملك دفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أنّ أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم. وملكهم مسلم لا يملّكون غير المسلمين، ويزعمون أنّهم إنّما سمّوا كوكو لأنّ الّذي يفهم «5» من نغمة طبلهم ذاك، وكذلك أزور وهيروزويلة يفهم من نغمة طبلهم زويلة زويلة. وتجارة أهل بلد كوكو بالملح وهو نقدهم، والملح يحمل من بلاد البربر يقال لها توتك من معادن تحت الأرض إلى تادمكّة، ومن تادمكّة إلى كوكو. (وبين توتك) «6» وتادمكّة ستّ مراحل.

ذكر نبذ من سير البربر وسياساتهم سوى ما وقع منها مفترقا في موضعه من هذا الكتاب

ذكر نبذ من سير البربر وسياساتهم سوى ما وقع منها مفترقا في موضعه من هذا الكتاب 1479 ذكروا أنّ رجلا شيخا خرج مع امرأته وكانت شابّة يريد قلعة حماد، فصحبه في بعض الطريق (فتى شابّ) «1» كلف بتلك المرأة وكلفت به، فتواطيا على أن يدّعي كلّ واحد منهما زوجيّة الآخر ويسقطا الشيخ. فلمّا وصلا إلى القلعة شكا ذلك الشيخ إلى حماد ما دهمه من أمرهما ووصف له حاله معهما. فوقف حماد الشاب والمرأة فتقارا على نكاحهما وأنكرا ما يدّعيه الشيخ. فجعل حماد يباحث الشيخ هل صحبهم في طريقهم أحد أو هل له شبهة «2» ، فقال: ما صحبنا في طريقنا أحد غير هذا الكلب، فأندلى لكلب كان معه. فأمر الشيخ بربط الكلب إلى تمرة أو وتد (كان هناك، ثمّ أمر المرأة بحلّه، فذهبت إليه فأرسلته) «3» . ثمّ أمرها بربطه والكلب لا ينكر شيئا من ذلك. ثمّ قال للشابّ: قم فارسل الكلب ثمّ اربطه. فلمّا همّ بذلك نبحه الكلب وأنكره، فقال للمرأة: هذا زوجك الشيخ وهذا الفاسق يخلّفك «4» عليه. وأمر بضرب عنق الفتى. 1480 وذكر أنّ رجلا «5» كان له امرأتان وكان كلفا بآخرتهما نكاحا. فقالت له الأولى: إنّ هذه الّتي تكلف بها تخونك وإنّها تفجر مع غلام لها. فاستعمل الركوب والسقوط عن الدابّة وسيق إلى منزل امرأته الأخيرة محمولا لا يقلّب

عضوا بزعمه، فاجتمع أهله ونساؤه إليه يمرّضونه ويلطّفونه إلى أن مضى هزيع من اللّيل «1» ، فعزم عليهم وصرفهم إلى منازلهم، وبقي مع امرأته واستعمل النوم والتثاقل حتّى كأنّه مغمى عليه. فرأى امرأته قد خرجت عنه إلى البيت الّذي كان فيه المتّهم بها، فجمع حسّه وصار عند باب البيت يستمع «2» ، فسمعه يقول لها: أبطأت عليّ وتركتني بلا عشاء. فقالت «3» : حبسني عنك شغلي بهذا الرجل، فلا تلمني فأنت للنفس وهو للولد. فصمت على ما سمع وتغافل عنه ورجع إلى مضجعه. فما كان إلّا ضحى الغد حتّى تنادى حي ذلك الموضع وأصباحاه. فثاروا إلى العدوّ ورأى هذا الساقط التحامل على نفسه والأنفة من تخلّفه، فلبس سلاحه وركب فرسه وحمل ذلك المتّهم فيمن حمل من أتباعه معهم السلاح. فلمّا برزوا إلى عدوّهم أمر ذلك المتّهم بالتقدّم بين يديه، فلم يجد الى الحيدة سبيلا. فلما خالط «4» به العدو وكلل عنه مدبرا، فكان اول صريع ولم يعلم احد شيئا من أمرهما. ثمّ انصرف إلى منزله فحمدت امرأته الله على سلامته، فقال لها: لكنّ الّذي للنفس لم يسلم، فإنّي إنّما للولد. فعلمت أنّه قد سمع مقالتها فقالت: أرسلني إلى أهلي. فقال: اذهبي. فلمّا أبطأت عليه أتى أهلها فقال: ما بال امرأتي لا تعود إلى منزلها؟ فقالوا له: إنّا لا نقدر على صرفها. فقال: وأنا لا أقدر على فراقها. فلجّ بهم الأمر حتّى افتدت منه بجميع ما حمل إليها في صداقها وما تكلّف لها عند إملاكها، فلمّا قبض ذلك ووصل إليه قال لهم: أمّا إذ وصلت إلى حقّي فإنّ الشأن كيت وكيت، وأخبرهم بالقصّة. فقرّرها أهلها واستبانوا الريبة فيها فقتلوها. فبلغ بسياسته إلى التشفّي منها بغير يده وتخلّص من عشيرته «5» وعشيرة امرأته واسترجع جميع حقّه.

1481 وشبيه بهذا عن بعض كبرائهم أيضا أنّه اتّهم امرأته وأخبر أنّه إذا غاب خالفه رجل من أهل ناحيته إلى امرأته. فاستعمل سفرا بعيدا وذكر ذلك لقبيله، فتجهّز معه نفرا لذلك «1» . فلمّا صاروا وانتهوا إلى أدنى مرحلة اعتذر لهم بعذر يضطرّه إلى الانصراف (وعزم عليهم في النفوذ لطيّتهم) «2» فكرّ راجعا حتّى أتى بعض الشعاب مساء، فأخفى فيه فرسه وسلاحه وأتى أهله متستّرا متجسّسا «3» ، فتسلّق جدارا أو مكانا يطلع منه على منزله آمنا أن يعلم به منه. فرأى امرأته على ما يكره مع ذلك الرجل المتّهم. فولّى راجعا إلى الشعب ولبس سلاحه وركب فرسه وأتى المنزل. فلمّا علم به أهله ارتاعوا وأخفوا ذلك الفاجر في بيت من الدار. ودخل ربّ المنزل غير مكترث واعتذر في رجوعه بعذر قبلته امرأته وجعلت «4» تحاول له طعاما. فلمّا كمل قربته إليه، فقال: احضري ضيفك. قالت: وهل لي من ضيف؟ قال: نعم هو ذاك في البيت الكذا. فناكرته فقام إليه واستخرجه وقال: هلمّ إلى طعامنا. فقال له: ما لي إلى الأكل من حاجة وإنّي إلى الموت أحوج لما نالني من هذه الفضيحة. قال: لا بأس عليك فقد افتتن من هو خير منك، ولم يزل به حتّى طعم. 1482 ثمّ أرسله عن منزله مستترا مسلّما لم يربه بريب. ثمّ أقبل على امرأته فقال: لا تعيي ممّا جرى لك فإنّ النساء قد يزللن ويملن بهواهنّ، والمعصوم من الناس قليل، وعندي من الستر لأمرك والطي لخبرك ما يسرّك، وقد علمت أنّه لم يحملك على ما صنعت إلّا هوى غلب عليك غيّه، وأنا تارك بينك وبين هذا الّذي أحببته تنكحينه وتتشفّين منه جهارا من غير ريبة، على أن تشترطي

لي شرطا وتعقد لي على نفسك عقدا تلتزمينه. فأجابته إلى ذلك وقالت: ما شرطك؟ قال: إنّك إذا أكملت عنده عاما أن ترسلي إليّ فأمرّ بك وهو حاضر، فتخرجين إليّ متزيّنة في ثياب تشفّ «1» وتتكلّمين معي في أمره وتتشكّين سوء عشرته فستحمله الغيرة على طلاقك، فأعود إلى حالي معك بعد أن تقضي حاجة نفسك وترتفع عنّي الريب في أمرك باختيارك لي على هذا الّذي قد مال بك. وقد علم سوء خلق صاحبه وتهافته إلى الشرّ وقلّة ملكه لنفسه «2» . فعاقدته على ذلك. 1483 ثمّ أرسل إلى أبيها وأهل بيتها فصنع لهم طعاما فأطعمهم، ثمّ قال لهم: سلوا ولّيتكم كيف كانت «3» صحبتي لها ومعاشرتي إيّاها. فسألوها فأثنت خيرا ووصفت مجاملة وبرّا. فقال: اسألوها ما بالها أتريد المقام عندي. فسألوها فقالت: إنّي أكرهه وأبغض قربه وأحبّ بعده ولا أجد من نفسي معينا على غير ذلك، وقد جاهدتها على الاستمرار «4» في صحبته، فعزفت بي عن ذلك عزوفا لا رجعة معه، فلا تتركوني معه فإنّ ذلك يقتادني إلى الحمام ويفضي بي إلى أنواع السقام، وقد تبرّأت إليه من جميع حقّه. والزوج في ذلك كلّه يظهر الرغبة فيها والاشفاق من مفارقتها. فما انفض «5» جمعهم حتّى ملكت أمرها ورجعوا «6» على زوجها ما صيّر إليها من حقّها وشكروه على برّه بها وولوها الملامة في جميع أمرها. فلمّا حلّت «7» للأزواج كان الغادر «8» بها أوّل خاطب لها، فتزوّجته ومكثت معه حولا وهي تستبطي مرور الحول لما خبرته من فضل الأوّل على هذا. فلمّا انقضى بعثت إلى الأوّل على ما عاقدته معه، فخرج مارّا على منزلها فتلقّته في قميص يصفها «9» وينمّ بجسمها تشكو زوجها وهو قاعد مع جماعتها «10» . فلمّا رأى ذلك لم يتمالك

غيرة أن قام إليها وطعنها طعنة كانت فيها نفسها. فعمد إليه أهلها وإخوتها فقتلوه. واختلف الفريقان وزحف بعضهم إلى بعض، فكادت الحرب تفنيهم. وتمّ للزوج الأوّل المراد فيهما ولم يرزأ في نفسه ولا في ماله بمقدار قلامة. 1484 وحدّثوا أنّ حمادا قال: ما تداهى أحد قطّ عليّ ولا خدعني إلّا امرأة وكعاء من البربر «1» . قيل له: وكيف كان ذلك؟ قال: نعم إنّ صاحبا كان لي بالقيروان نشأ معي نشأة واحدة لم يفرق بيننا مكتب ولا مشهد «2» ، وكنت قد خلطته بنفسي وجعلته محلّ أنسي. فلم يزل على ذلك حتّى صرت إلى ما أنا فيه ففقدته فجعلت أفتقده فلا أقدر عليه ولا أجد سببا للوصول إليه. فلمّا أن عتبت على أهل باغاية وشننت عليها الغارات لم أنشب «3» صبيحة ذلك اليوم أن سمعت مناديا ينادي: يا لله يا للأمير «4» . فقلت: ما بالك ومن أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان. فإذا به صاحبي المطلوب قد حبسه عنّي نسكه وغلب على هواه ورع يملكه. فأظهرت البشر بمكانه والجذل «5» بشأنه، ولو شفع في جميع أهل باغاية لشفعته. فجعلت ألطّفه وأؤنّسه وهو كالولهان، فسألته عن أمره فقال إنّه فقد بنته فيمن فقد من النساء. فقلت له: والله لو خرجت إليّ بالأمس لحقنت دماء أهل بلدك «6» لحرمتك عندي. فقال: القدر غالب والمحروم خائب.

1485 قال حماد: ثمّ أمرت القواد فأحضروا جميع ما كان في جيوشهم من النساء فعرف فيهنّ بنته. قال: فأمرت بسترها وحملها مع أبيها، فرفعت صوتها قائلة: لا والله يا حماد، لا رجعت مع أبي ولا رجعت مع الّذي غصبني. قلت: وما تريدين ويلك؟ قالت: إنّي لا أصلح إلّا للملوك فلا حاجة لي في السّوقة. فلمّا سمع ذلك أبوها سكن ما كان في نفسه وظنّ أنّها قد فتنت وفسدت عليه. قال حمّاد: فقلت لها: ومن أين لا تصلح إلّا للملوك؟ قالت: لأنّ عندي علما لا أشارك فيه ولا يدّعيه غيري. قلت: ألا أريتنا شيئا من ذلك؟ فقالت: نعم، تأمر بقتل إنسان «1» تحضر أمضى سيف أتكلّم عليه بكلمات تمنع من تأثيره «2» ويعود بيد حامله أكلّ من قائمه. قال حمّاد: فقلت: الّذي يجرّب هذا فيه لمغرور. قالت: أو يتّهم أحد أن يريد قتل نفسه؟ قلت «3» لا. قالت: فإنّي أريد أن يجرّب ذلك فيّ. فتكلّمت على سيف اختاروه ومدّت عنقها، فضربها السيّاف ضربة أبان رأسها. فاستيقظت من غفلتي وعلمت أنّها تداهت عليّ وكرهت العيش بعد الّذي جرى لها وعليها «4» . واستبان لأبيها من ذلك مثل الّذي بان لي، فجعل يلقي بنفسه عليها ويتمرّغ في دمها أسفا لما حلّ به منها واغتباطا بها لما رأى من عظم أنفتها واختيارها الموت على ما نزل بها. 1486 وبنو وارسيفان «5» قبيل من البربر إذا أرادوا مباشرة «6» الحرب تقرّبوا بذبح بقرة سوداء للشماريخ- وهم عندهم الشياطين- ويقولون: هذا ذبح للشماريخ، ويفتحون أوعيتهم في تلك الليلة من الطعام والعلف فلا «7» يكون له «8» وكاء ولا سداد، ويقولون: هذا طعام وعلف للشماريخ. فإذا غدوا

ذكر بلاد الأندلس وخواصها والمشهور من مدنها

للقتال توقّفوا «1» حتّى يروا زوابع الريح فيقولون: قد جاءت الشماريخ أولياؤكم لتفديكم «2» ، فيحملون عند ذلك فينتصرون بزعمهم. ويقولون إنّ ذلك لا يخطيهم وجماعتهم يعتقد ذلك غير مستترين به. وهم إذا أضافوا الضيف جعلوا من طعامه للشماريخ ويزعمون أنّه يأكلونه «3» الّذي يوضع لهم. وينهون عن ذكر اسم الله عند شيء من ذلك «4» . ذكر بلاد الأندلس وخواصّها والمشهور من مدنها «5» 1487 ذكر أنّ اسمها في القديم إبارية «6» من وادي أبره «7» ، ثمّ سمّيت بعد ذلك باطقة «8» من وادي بيطى «9» ، وهو نهر قرطبة، ثمّ سمّيت إشبانية من أجل «10» رجل ملكها في القديم كان اسمه إشبان. وقيل إنّما «11» سميّت بالاشبان لأنّ الأشبان سكنوها «12» في أوّل الزمان على جرية النهر وما والاه «13» . وقال قوم إنّ اسمها على الحقيقة إشبارية مسمّاة من بشيرى، وهو الكوكب «14» المعروف بالأحمر. وسمّيت بعد ذلك بالأندلس من أسماء الأندليش «15» الّذين سكنوها على ما يأتي ذكره.

1488 وحدّث الأوائل عن الأندلس بعبارات مختلفة، وحدّها قسطنطين حدودا ستّة جعل الجزء الأوّل من حدودها من مدينة نربونة «1» ، وهو حدّ ما بين غاليش «2» وبين الأندلس، وأضاف إليها سبع مدن بما حواليها وهي بطرّش وطليوشة ومقلونة «3» ونومشو وقرقشونة. وفي قرقشونة هذه الكنيسة العظمى عندهم تسمّى شنت مرية غراثية «4» فيها سبع سوار «5» من فضّة ولها يوم عيد يرده العجم من الآفاق. وبينها وبين برشلونة «6» مسيرة «7» خمسة وعشرين يوما. 1489 وجعل الجزء الثاني من مدينة براقرة «8» وهو حوز جليقية وشلطيانة «9» وهو بلد ابن غومس، وجعل لها اثنتي عشرة مدينة (بما حواليها، منها مدينة) «10» برطقال ومدينة توذي ومدينة أورية ومدينة لكّه ومدينة برطانية ومدينة أشتيرقية «11» ومدينة شنتا ياقو «12» ، وفيها كنيسة الذهب ولها يوم يرد «13» فيه من إفرنجة ومن رومة ومن جميع نواحيهم كلّها، ومدينة إيرية «14» ومدينة بطقة «15» ومدينة شارة.

1490 وجعل الجزء الثالث من مدينة طركونة وأضاف إليها مدينة سرقسطة «1» وأشقة ولاردة «2» وطرطوشة وتطيلة وأعمال بلد ابن شانجو كلّها وبلد بليارش وبرشلونة وجرندة «3» ومدينة أنبوريش «4» ومدينة بنبلونة ومدينة أوقة ومدينة قلهرّة ومدينة طرسونة ومدينة أماية. 1491 وجعل الجزء الرابع عشرين مدينة قاعدتها مدينة طليطلة وأضاف إليها مدينة أوريط ومدينة شقوبية ومدينة أركبيقة «5» ومدينة وادي الحجارة «6» ومدينة شقونسة ومدينة أكشومة «7» ومدينة بلنسية ومدينة بلازية ومدينة أوريولة ومدينة آلش «8» ومدينة شاطبة ومدينة دانية ومدينة بياسة ومدينة قسطلونة (ومدينة منتيشة ومدينة وادي آش) «9» ومدينة بسطة ومدينة أرش وهي بجّانة. 1492 وجعل الجزء الخامس قاعدته مدينة ماردة «10» وأضاف إليها اثنتي عشرة مدينة وهي باجة ومدينة أكشونبة (ومدينة صيوتلة) «11» ومدينة يابرة وشنترة وشنترين والأشبونة وقلنبرية وقورية وشلمنقة «12» وصمورة وهي محدثة برّا إلى شنت ياقوب «13» .

1493 وجعل الجزء السادس قاعدته مدينة إشبيلية وأضاف إليها لبلة وقرطبة وقرمونة ومورون ومدينة مرشانة والجزيرة وتاكرنا وريه وأشبونة واستجة «1» وقبرة وأعمالها إلى بجّانة وإلبيرة وجيان ومنتيشة «2» (وبيرة وأرجونة) «3» وملكونة وأبدة وبياسة. 1494 وبلد الأندلس مثلّث الشكل، فالركن الواحد منها الموضع الّذي فيه صنم قادس بين المغرب والقبلة بإزاء جبل إفريقية المسمّى أدلانية «4» ، ومنه يخرج إلى «5» البحر المتوسّط الخارج إلى الشام الآخذ بقبلي الأندلس. والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة نربونة «6» ومدينة برذيل بإزاء «7» جزيرتي ميورقة ومنورقة بمجاورة البحرين البحر المحيط والبحر الشامي المتوسّط، وبينهما المدخل الّذي يعرف بالأبواب، وهو المدخل إلى الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة، ومسافته بين البحرين مسيرة يومين، ويقابل مدينة برذيل مدينة نربونة على البحر المحيط. والركن الثالث حيث ينعطف البحر من الجوف إلى الغرب حيث المنارة في الجبل الموفي على البحر، فيه الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو البلد الطالع على بلد برطانية «8» . وقال أوروشيوش «9» : يسمّى البلد الّذي فيه الصنم برغشية، وحيث هذا الصنم ينقطع حوز جليقية.

ذكر فضل الأندلس وغريب أخبارها.

1495 فمن جوفي الأندلس وغربيه البحر المحيط، وفي قبليه البحر الشامي وهو البحر المعروف ببحر تيران، ومعناه الّذي يشقّ دائرة الأرض. وفي شرقيه منحرفا إلى الجوف يسيرا بلد البشكنش آخذا مع نهر أبره إلى بلد شنت مرية. وذكر بطليموس «1» أنّ قلوباطرة «2» فتحت في الجبل الحاجز بين الأندلس وإفرنجة طريقا بالحديد والنار والخلّ، وكان فعلها ذلك من العجائب. ذكر فضل الأندلس وغريب أخبارها. 1496 والأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظيم جبايتها «3» ، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواحلها. فيها آثار عظيمة (للأوّل من اليونانيّين) «4» أهل الحكمة وحاملي الفلسفة. وكان من ملوكهم (الّذين أثروا) «5» الآثار بالأندلس هرقلش، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جليقية والآخر «6» في مدينة «7» طركونة الّذي لا نظير له.

[ذكر جبال الأندلس

[ذكر جبال الأندلس 1497 ومن الجبال المشهورة بالعظم في بلد الأندلس، منها جبل إلبيرة وهو جبل الثلج، وهو متّصل بالبحر «1» المتوسّط منتظم بجبل ريه ولاصق بالجزيرة مع البحر. ويذكر ساكنوه أنّهم لا يزالون يرون الثلج نازلا «2» فيه شتاء وصيفا. وهذا الجبل يرى من أكثر بلاد الأندلس ويرى من عدوة البحر ببلاد البربر. وفي هذا الجبل أصناف الفواكه العجيبة، وفي قراه المتّصلة به يكون أفضل الحرير والكتّان «3» الّذي يفضّل على كتّان الفيوم. 1498 ومنها جبل ألبرت، وهو الحاجز بين بلاد الإسلام وبلد غاليش ومبتدأه من البحر القبلي (المتوسّط المجاور) «4» طرطوشة ومنتهاه إلى البحر الغربي بين الأشبونة وجليقية. ومنها الجبل الحاجز بين بلاد إفرنجة وبلاد الصقالبة.

ذكر ما خصت به الأندلس من الأشجار والمعادن والأحجار

ذكر ما خصّت به الأندلس من الأشجار والمعادن والأحجار 1499 يوجد «1» في ناحية دلاية من إقليم البشرة عود النضوح لا يقارنه العود الهندي ذكاء وعطرا، وقد سيق منه إلى خيران الصقلبي «2» صاحب ألمرية أصل كان منبته بين أحجار هناك. وبأكشنبة جبل يعرف بجبل الجنّة كثيرا ما يتضوّع منه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار. وببحر شحذونة يوجد أطيب العنبر العربي الوردي، وفي جبل المنتلون المحلب «3» الّذي لا يعدل به. قال أحمد بن محمّد بن موسى الرازي: وهو المقدم في الأفاوه المفضّل في أنواع الاشنان لا ينبت بشيء من الأرض إلّا بالهند وبالأندلس. 1500 وفي جبل بإلبيرة السنبل الفائق الطيب، وبنواحي المنتلون يكون البرباريس العجيب. وبجبل أندة يوجد القسط الطيّب المرّ المذاق، ويوجد أيضا بالجبل المنسوب إليه جبل القسط، وهو بين حصن «4» قاشتروا ومارتش. والجنطيانا يجلب «5» من الأندلس إلى جميع الآفاق، وهو عقير رفيع يوجد بلبلة. 1501 وبجزيرة سطين الزبد النفيس المصمّغ الطرفين، ويوجد بجبال قلعة أيوب المرّ الطيّب، وأطيب كهرباء الأرض بشذونة درهم منها يعدل دراهم من

المجلوبة. وأطيب القرمز قرمز الأندلس وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق. وبناحية لورقة «1» من ناحية تدمير يكون حجر الأزورد الجيّد، وقد يوجد في غيرها. وعلى مقربة من حصن منتون من عمل قرطبة معدن البلّور بجبل شجيران، وهو بشرقي قبرة. وحجر البجادي موجود بناحية مدينة الأشبونة، في جبل هناك يتلألأ فيه ليلا كالسرج. والياقوت الأحمر يوجد في ناحية حصن منت ميور من عمالة مالقة، إلّا أنّه دقيق جدّا لا يصلح للاستعمال لصغره. وحجر يشبه الياقوت الأحمر في ناحية مدينة بجّانة في خندق بقرب قرية ناشر يوجد أشكالا مختلفة كأنّه مصنوع حسن اللون صبورا على النار. 1502 وحجر المغنطيس الجاذب للحديد يوجد بموضع يعرف بالصنهاجيّين من كورة تدمير. وحجر الشادنة بجبل قرطبة كثير، وهو يرقي الدم ويستعمل في ذلك التذاهيب. والحجر اليهودي «2» في ناحية حصن البونت، وهو أنفع شيء للحصى. وحجر المرقشيتا الذهبية في جبال أنطاندة الّتي لا نظير لها في الدنيا ومن الأندلس يحمل إلى جميع الآفاق لفضلها. والمغنيسيا بالأندلس كثير، وكذلك حجر الطلق، ويوجد اللؤلؤ بناحية مدينة برشلونة، إلّا أنّه جامد اللون. والمرجان يخرج من بحر الأندلس، وقد خرج منه في ساحل بحر إلبيرة «3» من عمل المرية ما لقط منه في أقلّ من شهر نحو ثمانين قنطارا. ومعدن الذهب بنهر لادرة يجمع بها منه كثير، ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة.

1503 ومعادن الفضّة بالأندلس كثيرة في كورة تدمير وجبال حمّة بجّانة، وبإقليم كرتيش من عمل قرطبة معدن فضّة جليل. وبأكشونبة «1» معدن القصدير لا نظير له يشبه الفضّة، وله معادن بناحية إفرنجة وليون «2» . ومعدن الزئبق في جبل البرانس ومن هناك يتجهّز به إلى الآفاق. ومعدن الكبريت الأحمر بالأندلس ومعادن الأصفر كثيرة. ومعادن التوتيا الطيّبة بساحل إلبيرة بقرية تسمّى بطرنة، وهي أزكى توتيا وأقوى في صنع النحاس، وبجبال قرطبة توتيا وليست كالبطرنية. ومعدن الكحل المشبه بالاصبهاني بناحية مدينة طرطوشة يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشبوب والحديد والنحاس والرصاص بالأندلس أكثر من أن تحصى. 1504 والأندلس دار جهاد وموطن رباط قد أحاط بشرقها وشمالها وبعض غربها أصناف أهل الكفر. وروي عن عثمان بن عفان رضه أنّه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أمّا بعد فإنّ القسطنطينية إنّما تفتح من قبل الأندلس وإنّكم إن استفتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر والسلام. وروي عن كعب الأحبار أنّه قال: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة. 1505 ودخل الأندلس رجل واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال عبد الملك بن حبيب: اسمه المنيذر الإفريقي. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: من قال

رضيت بالله ربّا إلى آخرها فأنا الزعيم له لآخذنّ بيده فأدخله الجنّة. ودخلها من التابعين حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة بن نهر بن قنان بن ثعلبة بن ثامر النسائي يكنّى أبا راشد، وهو صنعاني من صنعاء الشام ويعدّ في المقرّبين، ويقال حنشن بن علي، والصواب بن عبد الله، وهو الّذي أسّس المسجد الجامع بسرقسطة، وكان مع علي بالرّقة. فلمّا قتل انتقل إلى مصر، وموضع محرابه وقبره بسرقسطة معلوم. ومنهم علي بن ربّاح «1» اللخمي البصري ويكنّى أبا موسى، لقي أبا هريرة وعمرو بن العاص وعلقمة بن عامر وروى عنهم، وقبره أيضا بمدينة سرقسطة معلوم. ومنهم حيوة بن رجاء التميمي وأبو عبد الرحمان بن عبد الله بن يزيد الجبلي «2» الأنصاري وعياض بن عقبة الفهري وموسى بن نصير بن عبد الرحمان بن يزيد يقال بكري ويقال لخمي. ويقال إنّ نصيرا وحمدان مولى عثمان من سبي عين التمر وإنّ نصيرا أعتقه صبيح مولى أبي العاص بن أميّة. ومن كتب الخزانة غير المترجم أنّ نصيرا أصابه خالد بن الوليد في علوج عين التمر وادّعوا أنّهم رهن وأنّهم من بكر بن وائل، فصار نصير وصيفا لعبد العزيز بن مروان فأعتقه، فمن أجل هذا يختلف فيه. 1506 وعقد الوليد لموسى على إفريقيّة سنة ثلاث وثمانين، وكان مولد موسى سنة تسع عشرة في خلافة عمر بن الخطّاب رضه. وكان معاوية قد جعل نصيرا أبا موسى على حرسه «3» ، فلم يقاتل معه عليّا رضه. فقال له معاوية: ما منعك في الخروج معي على علي ولم تكاف يدا لي عليك؟ فقال له: لم يمكنّي أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري منك. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى.

ذكر مدينة قرطبة

1507 ومسافة ما يملك المسلمون من الأندلس- وذلك من أكشونبة «1» إلى مدينة أشقة- فذلك ثلاثمائة فرسخ طولا، ومن قرطاجنة الحلفاء إلى الفهمين ثلاثون فرسخا عرضا. ذكر مدينة قرطبة 1508 ذكر أنّ تفسير قرطبة بلسان القوط قرظبة بالظاء المعجمة، ومعناه بلسانهم القلوب المختلفة، وقيل: معنى «2» قرطبة آخر «فاسكنها» . ودور «3» مدينة قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع، [ولها من الأبواب باب القنطرة وهو بقبليّها ومنه يعبر النهر على القنطرة، والباب الجديد وهو بشرقيّها، وباب عامر وهو بين الغرب والجوف منها، وغيرها. وقصر مدينة قرطبة بغربيّها متّصل بسورها القبلي والغربي. وجامعها بإزاء القصر من جهة الشرق، وقد وصل بينهما بساباط يسلك الناس تحته من المحجة العظمى الّتي بين الجامع والقصر إلى باب القنطرة] «4» . وكان طول مسقف البلاطات من المسجد الجامع وذلك من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وثلاثين ذراعا. (ثمّ زاد الحكم في طوله في القبلة مائة ذراع وخمس أذرع) «5» . فكمل الطول [ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا] «6» . وزاد محمّد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في (عرضه من) «7» جهة الشرق ثمانين ذراعا. فتمّ العرض مائتين (وثلاثين ذراعا) «8»

1509 وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطا عرض أوسطها ستّ عشرة ذراعا، [وعرض كلّ واحد من اللّذين يليانه شرقا واللّذين يليانه غربا أربع عشرة ذراعا] «1» وعرض كلّ واحد من الستّة الباقية إحدى عشرة ذراعا. وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية بلاطات عرض كلّ واحد عشرة أذرع. وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة وثمان وعشرون ذراعا، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس أذرع، وعرض السقائف المستديرة بصحنه عشر أذرع فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا. 1510 وعدد أبوابه تسعة منها ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا وأربعة في بلاطاته اثنان غربيان واثنان شرقيان، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان. وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا «2» عمود وثلاثة وتسعون عمودا أساطين «3» رخام كلّها. وقباب «4» مقصورة الجامع مذهّبة وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وثريات المقصورة فضّة محضة. وارتفاع الصومعة اليوم- وهي من بناء عبد الرحمان بن محمّد- ثلاث وسبعون ذراعا إلى أعلى القبّة المفتّحة الّتي يستدير فيها المؤذّنون. وفي رأس هذه القبّة تفّاح ذهب وفضّة وارتفاعها إلى مكان الآذان أربع وخمسون ذراعا، وطول كلّ حائط من حيطانها على الأرض ثماني عشرة ذراعا. وعدد المساجد «5» بقرطبة على ما أحصي وضبط أربعمائة وواحد وتسعون مسجدا.

ذكر مدينة إشبيلية

1511 وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة، وكانت جباية هذه الأقاليم في أيّام الحكم بن هشام «1» من ناضّ الحشر وناضّ الطبل وناضّ البيزرة للعام مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ومن وضيفة القمح مديا أربعة آلاف مدي وستّمائة مدّي وسبعة وأربعين مدّيا، ومن الشعير سبعة وأربعين ألف مدّي. 1512 قال المؤلّف: عقب الفتنة الّتي كانت على رأس أربعمائة من الهجرة واستمرّت إلى وقتنا هذا- وهو سنة ستّين وأربعمائة- عفت آثار هذه القرى وغيّرت رسوم ذلك العمران، فصار أكثرها خلاء بندب «2» ساكنيه. وكذلك حكم الله في كلّ جديد أن يبليه وفي كلّ أهل أن يخليه حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ذكر مدينة إشبيلية 1513 وهي قديمة أوّلية، زعم أهل العلم باللسان اللطيني «3» أنّ أصل تسميتها إشبال «4» معناه المدينة المنبسطة، ويقال إنّ الّذي بناها يوليش قيصر وإنّه أوّل من تسمّى قيصر. وكان سبب بنائه إيّاها أنّه لمّا دخل الأندلس ووصل إلى مكانها أعجب بكرم ساحته وطيب أرضه وجبله المعروف بجبل «5»

الشرف، فردم على النهر الأكبر مكانا وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوار «1» من صخر صلب، وبنى في وسط المدينة قصبتين متقنتين عجيبتين تعرفان بالأخوين، وجعلها «2» أمّ قواعد الأندلس واشتقّ لها اسما من اسمه ومن اسم رومية فسمّاها مدينة «3» رومية يوليش، ولم تزل معظّمة عند العجم من ذلك الوقت. وقد كان منها رجال ولوا قيادة العجم العظمى والمملكة بمدينة رومية. وروى ابن وضّاح أنّ المرأة الّتي قتلت يحيى بن زكريا عليه السلام من إشبيلية من قرية طالقة. وقد قيل إنّ رأس إشبيلية لقيصر أكتبيان «4» . 1514 ومدينة إشبيلية موفية «5» على النهر وهو في غربيّها. ويذكر في بعض الأخبار أنّ إشبان بن طيطش من ذرّية طوبيل «6» بن يافث بن نوح عليه السلام، كان أحد أملاك الاشبانيّين «7» خصّ بملك أكثر الدنيا وأنّ بدء ظهوره كان من إشبيلية، فغلظ أمره وبعد صيته وتمكّن في كلّ ناحية سلطانه. فلمّا ملك نواحي الأندلس وطاعت له أقاصى البلاد خرج في السفن من إشبيلية إلى إيليا فغنمها وهدمها وقتل بها من اليهود مائة ألف وسبى مائة ألف وفرّق في البلاد «8» مائة ألف، وأنقل «9» رخامها إلى إشبيلية وماردة وباجة «10» ، وأنّه صاحب المائدة الّتي ألفيت بطليطلة وصاحب الحجر الّذي وجد بماردة وصاحب قليلة الجوهر الّتي كانت بماردة أيضا على حسب ما ذكر (في فتح الأندلس) «11» ، وأنّه حضر خراب بيت المقدس الأوّل مع بخت نصر وحضر الخراب الّذي كان مع قيصر بشبشيان وأدريان «12» ، ويذكر أنّه من طالقة «13» إشبيلية. وفي سنة عشرين من دولته أتقن بنيان إيلياء. وكان

من «1» مضى من ملوك الأعاجم يتداولون بمسكنهم أربعة من مدن الأندلس: إشبيلية وماردة وطليطلة وقرطبة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها. 1515 وكان سور إشبيلية من بناء الإمام عبد الرحمان بن الحكم بناه بعد غلبة المجوس عليها بالحجر أحكم بناء. وكذلك جامعها اليوم من بنائه وهو من «2» عجيب المباني وجليلها، وصومعته بديعة الصنعة غريبة العمل أركانها الأربعة عمد (فوق عمد) «3» إلى أعلاها، في كلّ ركن ثلاثة أعمدة. فلمّا مات عبد الرحمان بن إبراهيم بن حجّاج- وذلك في محرّم سنة إحدى وثلاثمائة- (قدّم أهلها) «4» أحمد بن مسلمة، وكان من أهل البأس والنجدة، فأظهر العناد وجاهر «5» بالخلاف، فأخرج إليه (عبد الرحمان بن محمّد) «6» قائدا (من قوّاده) «7» بعد قائد حتّى افتتحها على يدي الحاجب يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة «8» ، (واستعمل عليها سعيد) «9» بن المنذر المعروف بابن السليم، فهدم سورها وألحق أعاليه بأسفله وبنى القصر (القديم المعروف بدار الإمارة) «10» وحصنه بسور صخر رفيع وأبراج منيعة «11» ، وهو على ذلك إلى اليوم. وبنى سور المدينة (في الفتنة بالتراب. وله من) «12» الأبواب باب أبي العاص «13» غربي ومنه الخروج إلى الشرق، وباب حميدة غربي أيضا (بإزاء المقبرة، وباب قرمونة) «14» شرقي. ويطلّ على إشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة فراسخ في فراسخ طولا وعرضا، لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه واشتباك غصونه. ولها كور جليلة ومدن «15» كثيرة وحصون شريفة.

[ذكر الجزيرة]

1516 وبإشبيلية آثار للأوّل كثيرة، وبها أساطين [عظام تدلّ على هياكل كانت بها] «1» . وإشبيلية من الكور (المجنّدة نزلها جند حمص) «2» ، ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق. 1517 ولإشبيلية من الأقاليم: إقليم المدينة، (إقليم ألية) «3» ، إقليم السهل، إقليم الشعراء، إقليم البصل، إقليم طالقة، إقليم الشرف «4» ، إقليم الوادي، إقليم طشانة، إقليم الفحص، إقليم قرطشانة «5» ، إقليم المنستير. وانتهت جبايتها في أيّام الأمير الحكم بن هشام خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار. وفي إقليم طالقة وجدت صورة جارية من مرمر (معها صبي وكأنّ حيّة تريده) «6» ، لم يسمع في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها جعلت في بعض الحمّامات وتعشّقها جماعة من العوامّ. [ذكر الجزيرة] 1518 ومدينة «7» الجزيرة على ربوة مشرفة على البحر ولها أقاليم «8» . وكانت جباية كورة الجزيرة ستّمائة دينار وثمانية عشر دينارا. قال محمّد بن وضّاح: حدّثنا زهير بن عبّاد الكلاعي عن ابن عمّ وكيع بن الجرّاح الكوفي [قال] : لقيته

ذكر ماردة وبطليوس

بمصر ولقيته في رحلتي الثانية بالشام وأخذت عنه علما كثيرا شيخ ثبت، قال: أهل الجزيرة من بلاد الأندلس هم الّذين أبوا أن يضيفوا موسى والخضر عليهما السلام. بها أقام الخضر الجدار وخرق السفينة وأسلم الجلندى، وكان يأخذ كلّ سفينة غصبا كما قال الله تعالى في كتابه العزيز «1» ذكر ماردة وبطليوس 1519 ماردة بجوفي قرطبة منحرفة إلى الغرب قليلا، وكانت مدينة ينزلها الملوك الأوائل «2» ، فكثرت بها آثارهم والمياه المستجلبة إليها. وكان قد أحدق بها سور عرضه اثنتا عشرة ذراعا وارتفاعه ثماني عشرة ذراعا، وعلى بابها كتابة ترجمتها: براءة لأهل إيليا من عمل في «3» سورها خمس عشرة ذراعا. ولماردة حصون وأقاليم، من ذلك مدلّين وحصن مورش (وحصن أمّ غزالة وحصن الأرش) «4» وحصن أمّ جعفر وحصن الجزيرة وحصن الجناح وحصن الصخرة المعروفة بصخرة أبي حسّان وحصن لقرشان وحصن سنت أقروج «5» في غاية الارتفاع لا يعلوه طائر البتّة لا نسر ولا غيره، وغيرها من الحصون (يكثر ذكرها) «6» . 1520 وبطليوس هي حديثة الاتّخاذ، بناها عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجلّيقي بإذن الأمير محمّد لمّا أخرجه من قلعة الحنش «7» ولجأ إلى حصن مرنيط «8»

ذكر مدينة طليطلة

من حصون جلّيقية، انعقد سلمه «1» على أن يستقرّ ببطليوس ويتّخذها دارا، وهي إذ ذاك خالية، فبناها لنفسه ومن معه. فلمّا توطّد «2» له الملك كتب إلى الأمير عبد الله- وقد تولّى الأمر- أن يجدّد له سجلّا على بلده وعقدا على قومه المولّدين، فأجابه إلى ذلك. ثمّ كتب إليه ألّا مسجد جامع له يعلن فيه الدعاء للأمير ولا حمّام يغتسل فيه، فهم على كثرتهم بادية وإن تحضّروا. وسأله أن يرسل إليه فعلة يبنون له الجامع والحمّام فيلحق البلد بالحواضر، فأجابه إلى ما أراد. ولبطليوس أقاليم وحصون كثيرة. ذكر مدينة طليطلة 1521 معنى طليطلة باللطيني تولاظو، معناه فرح ساكنها يريدون لحصانتها ومنعتها. وفي كتب الحدثان كان يقال: طليطلة الأطلال، بنيت على الهرج والقتال، إذا وادعوا الشرك، لم يقم لهم سوقة ولا ملك، على يد أهلها يظهر الفساد، ويخرج الناس من تلك البلاد. ومدينة طليطلة قاعدة القوط ودار مملكتهم، ومنها كانوا يغزون عدوّهم وإليها كان يجتمع جنودهم، وهي إحدى القواعد الأربع المتقدّم ذكرها وهي أقدمهنّ، ألفتها القياصرة مبنية، وهي أوّل الإقليم الخامس من السبعة الأقاليم الّتي هي ربع معمور الأرض، وإليها ينتهي حدّ الأندلس الأدنى ويبتدئ بعدها الذكر للأندلس الأقصى. وأوفت على نهر تاجه وبها كانت القنطرة الّتي كان يعجز الواصفون عن وصفها «3» ، وكان خرابها في أيّام الإمام محمّد. ومن خواصّها أنّ حنطتها لا تتغيّر ولا تسوّس على مرّ السنين (يتوارثها الخلف) «4» عن السلف، وزعفران طليطلة هو الّذي يعمّ البلاد ويتجهّز به إلى الآفاق، وكذلك الصمغ السماوي «5» .

[ذكر طلبيرة]

1522 وأوّل من نزل بها من ملوك الأندلس لوبيان، [وهو الّذي بنى مدينة رقوبل، وهي على مقربة من طليطلة، وسمّاها باسم ولده، ومنها ولّى الأساقفة على الكور وبها مجتمعهم للمشورة، وكان عددهم ثمانين أسقفا لثمانين مدينة من حوز الأندلس كجلّيقية وطركونة وقرطاجنة. وكانت قبل ولايته فرقا، فائتلف أمر الناس وانقطع الخلاف وأحبّه الخاصّ والعامّ. وهو الّذي بنى الكنائس الجليلة والمعالم الرفيعة، وبنى الكنيسة المعروفة بالمردقة واسمه مزبور على بابها، وهي بين حاضرة إلبيرة ووادي آش] «1» . (ولها أقاليم وحصون) «2» . [ذكر طلبيرة] 1523 ومدينة طلبيرة أقصى «3» ثغور المسلمين وباب من الأبواب الّتي يدخل منها إلى أرض المشركين، وهي قديمة على نهر تاجه «4» .

[ذكر تطيلة]

[ذكر تطيلة] 1524 وكان بتطيلة «1» بعد الأربعمائة من الهجرة أو على رأسها امرأة لها لحية كاملة سابغة «2» كلحى الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار وسائر ما يتصرّف فيه الناس حتّى أمر قاضي الناحية «3» نسوة من القوابل «4» بالنظر إليها، فأحجمن عن ذلك «5» لما عايّنه «6» من منظرها فأكرههنّ على ذلك فإذا بها امرأة، فأمر القاضي بحلق لحيتها وأن تتزيّا بزيّ النساء ولا تسافر إلّا مع ذي محرم. ولتطيلة مدن وبناءات، منها طرسونة «7» وغيرها، وقلعة أيّوب «8» محدثة. [ذكر مدينة بربشتر] 1525 ومدينة بربشتر من بلاد بربطانية «9» وبعضها في ملك المسلمين وبعضها للعجم اليوم. وحصن بربشتر على نهر تارة «10» ، وبربشتر من أمّهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة البائنة في الامتناع.

[ذكر مدينة برشلونة]

1526 وقد غزاها على غرّة (وقلّة عدد من أهلها) «1» وعدّة أهل غاليش والروذمانون، وكان عليهم رئيس يسمّى البيطين وكان في عسكره نحو أربعين ألف فارس، فحاصرها أربعين يوما حتّى افتتحها، وذلك سنة ستّ وخمسين وأربعمائة. فقتلوا عامّة رجالها وسبوا فيها من ذراري المسلمين ونسائهم ما لا يحصى كثرة «2» . ويذكر أنّهم اختاروا من أبكار جواري «3» المسلمين وأهل الحسن منهنّ «4» خمسة آلاف جارية وأهدوهنّ إلى صاحب القسطنطينية وأصابوا فيها من الأموال والأمتعة ما يعجز عن وصفه. وفتحها بعد ذلك أحمد (بن سليمان) «5» بن هود صاحب سرقسطة مع أهل الثغور واستنجد «6» بحلفائه من رؤساء الأندلس [ونهد إليها في جمع كثيف ذوي جدّ وحدّ، ففتحها الله عزّ وجلّ على يديه عنوة، فقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية] «7» وأدخل منها سرقسطة نحو خمسة آلاف سبية ونحو ألف فرس وألف درع وأموالا كثيرة وثيابا جليلة. وكان افتتاحه لها لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة. ومنذ ذلك تسمّى أحمد بن سليمان المقتدر بالله. ولبربشتر حصون ... [ذكر مدينة برشلونة] 1527 وأمّا مدينة برشلونة فهي من القسم الثالث من الأندلس مسوّرة على ساحل

البحر، واليهود بها يعدلون النصارى كثرة ولها ربض «1» خارج منها. وصاحب برشلونة اليوم راي مند بن بلنقير بن برّيل، وكان خرج يريد بيت المقدس سنة ستّ وأربعين وأربعمائة فنزل مدينة نربونة على رجل من كبراء أهلها، فتعشّق امرأته وتعشّقته، ثمّ تمادى في سفره حتّى وصل بيت المقدس، ثمّ كرّ راجعا حتّى أتى نربوتة فنزل على ضيفه بها، وليس له همّ إلّا امرأته، فتحكّم ذلك التعاشق بينهما واتّفق معها على أن تعمل الحيلة في الهروب إليه من بلدها فيزوّجها من نفسه. فلمّا وصل إلى برشلونة أرسل إليها قوما من اليهود في ذلك. ودخل «2» صاحب طرطوشة في الأمر فأوصلهم في الشواني إلى نربونة، فلم تتوجّه اليهود الحيلة في أمرها وأحسّ «3» زوجها ببعض شأنها وكان بها كلفا، فثقّفها فكان تثقيفه لها سببا لمعونة «4» أهلها على مرادها. فوصلت مع قوم منهم إلى برشلونة، فنزل راي مند عن امرأته وتزوّج النربونية، فلبست الأولى المسوح وخرجت مع جماعة من أهل بيتها إلى رومة حتّى أتت عظيمها وصاحب الدين بها، وهو الّذي يسمّونه البابه، فشكت إليه ما صنع زوجها وأنّه تركها بغير سبب، وهو أمر لا يحلّ في دينهم، وأنّه «5» لا يجوز لهم فعله، وإنّما حمله على ذلك عشقه للنربونية «6» . وشهد لها شهود قبلهم، فحرم البابه على صاحب برشلونة دخول الكنائس وأمر ألّا يدفن له ميّت وأن يتبرّأ منه جميع «7» من يعتقد النصرانية. فلمّا علم ذلك علم أنّه لا حيلة له معه ولا بقاء في أفق يكون فيه لنصراني حكم. فبذل الأموال ودسّ مشاهير الأساقفة والقسيسين وأوطأهم على الشخوص إلى البابه وأن يشهدوا له بأنّه تقصّى «8» عن نسب المرأة الّتي ترك فوجدها منه بقربى يحرّمها عليه، وأنّ النربونية فرّت من زوجها لذلك لأنّه كانت منه بنسب وكان يكرهها على المقام معه. فنفذ القوم إلى البابه وشهدوا للقومس «9» ما أوطأهم عليه، فقبلهم «10» وأباح له دخول الكنائس ودفن من مات له وسائر ما حجر عليه.

ذكر بلد جليقية

ذكر بلد جلّيقية 1528 قسمه الأوائل على أربعة أقسام، فالقسم الأوّل هو الّذي يلي «1» الغرب وينحرف إلى الجوف. وساكنوه هم الجلالقة وموضعهم جلّيقية، وكانوا حوالي مدينة براقرة الّتي هي متوسّطة الغرب. ومدينة براقرة هي مدينة أوّلية «2» من بنيان الروم، وقواعدهم ودور مملكتهم شبيهة «3» بمدينة ماردة في إتقان بنائها وصنعة أسوارها «4» ، وهي اليوم مهدومة الأكثر خالية هدمها المسلمون وأجلوا «5» أهلها. 1529 القسم الثاني هو المسمّى (بأشتورش وسمّي) «6» بذلك بواد لهم يقال له أشتر ومنه شرب جميع بلادهم. والقسم الثالث ما كان (من جلّيقية بين الغرب) «7» والقبلة ويسمّى أهله البرتقالش «8» . والقسم الرابع ما كان بين الشرق والقبلة ويسمّى بقشتيلة «9» ، وقشتيلة القصوى وقشتيلة الأدنى، فالأدنى «10» من حصونها (غرنون والقصير وبرغش وأماية) «11» .

جملة القول في بلاد الجليقيين وغيرهم من قبائل النصارى إلى بلد الصقالبة على ما أورده إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي

جملة القول في بلاد الجلّيقيّين وغيرهم من قبائل النصارى إلى بلد الصقالبة على ما أورده إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي 1530 قال إبراهيم «1» : بلد الجلّيقيّين سهل جميعه والغالب على أرضه «2» الرمل وأكثر أقواتهم «3» الدخن والذرّة، ومعولهم في الأشربة على شراب التفاح والبشكة «4» ، وهو شراب يتّخذ من الدقيق. وأهله أهل غدر «5» ودناءة أخلاق لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلّا مرّة أو مرّتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أنّ الوسخ» الّذي يعلوها من عرقهم تنعم أجسامهم (وتصحّ أبدانهم) «7» . وثيابهم أضيق الثياب وهي مفرّجة يبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم. ولهم بأس وشدّة «8» لا يرون الفرار عند اللقاء (في الحرب) «9» ويرون الموت دونه. ذكر بلاد إفرنجة 1531 في وسط الإقليم الخامس، وهواؤها غليظ لشدّة بردها ومصيفها معتدل. وهو بلد كثير الفاكهة غزير الأنهار المنبعثة من ذوب «10» الثلج، ومدائنه متقنة الأسوار محكمة البناء. وآخر حدودها بحر الشام وحدّ آخر البحر المحيط، البحر

الشامي بقبليّها والبحر المحيط بجوفيّها، وتتّصل ببلاد رومة أيضا [من ناحية القبلة وتتّصل أيضا] «1» من ناحية الجوف ببلاد الصقالبة بينهما شعراء ملتفّة مسيرة الأيّام الكثيرة، وتتّصل في الشرق أيضا بالصقالبة وتتّصل في الغرب بالبشكنس «2» ، وتتّصل أيضا ببلاد بيورة «3» وهم الّذين يعرفون بالأمانيش «4» ولهم كلام غير كلام الإفرنج. 1532 وتتمادى [أعمال] إفرنجة في الطول والعرض مسيرة شهرين في شهرين مع غيرها من القبائل، ويحجز بين بلاد إفرنجة وبلاد الصقالبة في الجوف والشرق الجبل المعترض بين البحرين. فيتمادى بلد الإفرنج مع ساحل البحر القبلي الشامي حتّى يلزق «5» بجزيرة رومة وبلد لنقبرذية «6» . ويتمادى مع الجبل المعترض في الجوف إلى البحر المحيط. ويتّصل بالصقالبة بلاد المجوس المعروفين بالأنقلش. وسيوف إفرنجة تفوق سيوف الهند. [ومنها يرد الرقيق من بلاد الصقالبة، ولا يكاد يرى ببلاد إفرنجة زمن ولا ذو عاهة. والزنا في غير ذوات الأزواج عند الإفرنج غير منكر، وإذا حلف أميرهم أو كبيرهم حانثا استهانوه ولم يزالوا يعيّرونه بذلك. وأبناء الأشراف عندهم يسترضعونهم في الأباعد ولا يعرف الابن أبويه حتّى يعقل، وإذا عقل ردّ إليهما فيراهما كالسيّدين ويكون لهما كالعبد. وكانت مملكتهم مجتمعة وأمرهم ملتئما حتّى ثار على رجل من ملوكهم يسمّى قارله قومس مع ملك يقال له رودبيرت، وذلك في عهد الإمام عبد الله، فحشد له قارله وزحف بعضهما إلى بعض فقتله قارله وأسر أصحاب رودبيرت قارله فمكث أسيرا أربعة أعوام، ثمّ هلك بأيديهم فافترق ملكهم واقتسم] «7» .

ذكر البرتونين

[ويحكى أنّ موسى بن نصير لمّا غزا الأندلس أراد أن يخرق ما بقي عليه من بلاد إفرنجة ويفتح الأرض الكبيرة حتّى يتّصل بالناس إلى الشام مؤملا أن يتّخذ مخترقة تلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البرّ لا يركبون بحرا، وأنّه أوغل في بلاد إفرنجة حتّى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار. فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا. فهاله ذلك فقال: ما كتب هذا إلّا بمعنى. فشاور أصحابه في الاعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه، فاختلفوا عليه. فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس، وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصّي الغاية] «1» ذكر البرتونين

§1/1