المسالك في شرح موطأ مالك
ابن العربي
الكتاب: المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك المؤلف: القاضي أبي بكر محمد عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) قدَّم له: يوسف القَرَضَاوي الناشر: دَار الغَرب الإسلامي الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 7 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك للقاضي ابي بكر محمد عبدالله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543هـ) قرأه وعلّق عليه محمد بن الحسين السُّليماني عائشة بنت الحسين السُّليماني قدَّم له الشيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المجلد الأول دَار الغَرب الإسلامي
دَار الغَرب الإسلامي جميع الحقوق محفوطة الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007م دَار الغَرب الإسلامي ص: ب.5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفرتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضي ابي بكر محمد عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة:543) المجلد الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
تقديم بقلم الشيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رحمته للعالمين، ومنَّته على المؤمنين، وحجَّته على الناس أجمعين، سيّدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. (أما بعد) فيسرُّني أن أقدِّم لهذا العمل العِلْمِي الجليل الذي قام به أخبرنا وصديقنا العالِم الباحث المدقِّق الدّؤوب الأستاذ محمد بن الحسين. السُّليماني، الذي عرَفتُه في ميادين العمل السياسي، رجلًا غيورا على وطنه الجزائر، عاملا لنصرة قضيته، حريصا على تثبيت هُويَّته العربية والإِسلامية، صابرا على الأذى والاغتراب من أجله. كما عرَفتُه في ميدان السلوك الإنساني: شخصية مهذَّبة محبُّبة، تتمسَّك بالقِيَم العليا، ومكارم الأخلاق، وتُحسِن التعامل مع الناس،
بكلِّ دَمَاثة وسماحة وبشاشة وأريحيَة وأصالة ... لعلّها تشيرُ إلى "ميراثه الحَسَنيّ" (¬1) من الأخلاق، فقد عرَفتُ كثيرا من الحَسَنِيِّين (¬2) على هذا المستوى من السُمُو الخُلُقي، الموصول بجدِّهم سيدنا الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. إلى جوار ذلك عرَفتُ الأخ السُّليماني في ميدان قد يستغربُ القارئ وجوده فيه بقوّة، وهو ميدان الحوار الإِسلامي المسيحي، حيث كان أحد العناصر المهمَّة التي قامت بدور فعّال في الجمع بين الفريقين: الإِسلامي والمسيحي في روما (أكتوبر 2001 م)، في صورة " قمَّة إسلامية مسيحية" أولى، بالتعاون مع جمعية سانت إيجديو المسيحية الشهيرة، ثم انعقدت بعدها قمَّة ثانية في برشلونة بإسبانيا، كان له جهد مقدور في انعقادها. وهذا الدور العمليّ الذي يقوم به صديقنا السُّليماني: لم يشغله عن دوره العلمي الذي تأهَّل له بدراسته وخبرته وممارسته وترهُّبه في سبيل العلم، وقد تجلَّى لنا السُّليماني العالِم الثبت في عمله المتميِّز في خدمة كتاب الإمام أبي بكر بن العربي "السالك في شرح موطأ مالك"، الذي يسمَّى في العرف العلمي اليوم "تحقيقا"، وهو لا يحبُّ ¬
أن يلتزم بهذه التسمية المُحدَثة. وأنا معه في هذا التوجُّه، فقد كان علماؤنا الكبار من المحدِّثين والمفسِّرين والفقهاء والأصولين وغيرهم، يقرؤون كتب مَن قبلهم، ويعتمدونها، ولا يسمُّون هذا "تحقيقا"، بل قراءة وتصحيحا واعتمادا. وظلَّ هذا سائدا إلى عصر الطباعة، فكانت مطبعة "بولاق" الشهيرة تخرج كنوز كتب التراث، ويقرؤها علماء معتبرون ويصحِّحونها، وقليلا ما كانوا يذكرون اختلاف بعض النسخ عن بعض، إذا وجدوا في ذلك فائدة علمية لها قيمة. وصدرت مئات الكتب ممهورة باعتماد هؤلاء "المصحِّحين" الأعلام، الذين اكتسبوا ثقة سائر علماء الأمة، مما شاهد الجميع من تحرِّيهم وإتقانهم، وإشرافهم على طبعات لأعداد هائلة من الكتب التي ظهرت مصونة من الأغلاط والتحريف والتصحيف، وكثيرا ما ظهر عملهم، واختفت أسماؤهم! ثم ظهر هذا المصطلح الجديد "التحقيق" وشاع، وقَبله جمهور العلماء، ولابأس بذلك إذا عُرِف الصطلح على وجه الدقَّة، فقد قال علماؤنا: لا مُشاحَّة في الاصطلاح. المهم هنا أن يتولَّى هذا الأمر مَن يحسنه، ويملك مؤهِّلاته، وأن يعطيه حقَّه من الوقت والجهد والفكر، حتى يخرج على الوجه المرضيِّ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كلِّ شيء"،
وهذا ما لم يتوافر اليوم في كثير مما يسمَّى "تحقيقا"! لقد امتلأت المكتبات ومعارض الكتب بكمٍّ غير قليل من كتب التراث (المحقَّقة)، ولكنك تجد التفاوت الشاسع بكم هذه التحقيقات بعضها وبعض. فبعض هذه الكتب المحقَّقة أقرؤها، فيضيق بها صدرى؛ لأني لا أجد فيها قراءة صحيحة ونافعة ومستنيرة للنصِّ، وبعضها أجد فيها مبالغة منكورة في تضخيم التحقيق في غير ضرورة. مثل ذكر كلِّ المخالفات بين النسخ بعضها وبعض، وأكثرها اختلافات غير مؤثِّرة، وهي تأخذ حيِّزا كبيرا ولا يكاد يستفيد القارئ منه شيئًا. ومثل الترجمة لكلِّ عَلم يَرِد في النصِّ، ولو كان من الوضوح بمكان، مثل الخلفاء الراشدين، والأئمة الأربعة، وأمثالهم. ومثل التوسُّع في تخريج الأحاديث بما لا لزوم له، وإن كان من الأحاديث الشهيرة المعروفة. ومثل التعليق على البَدَهِيات، مع إهمال التعليق في أماكن معيَّنة تتطلَّب التعليق، لإزالة الاشتباه ورفع اللبس. وإلى جوار هؤلاء "المحقِّقين" الذين ملأوا السوق، واتّخذوا من التحقيق تجارة رابحة، {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
[البقرة: 16]: أجد آخَرين يحترمون أنفسهم، ويحترمون العلماء الذين يحقِّقون تراثهم، ويحترمون قُرَّاءهم، فنجد أحدهم يعكف على النصِّ، فيعيد قراءته مرّة بعد مرّة، متفهِّما متأنِّيا، ويقابل نسخه بعضها بعض، ويملك من الحسِّ العلمي والنقدي ما يميِّز به نسخة على أخرى، وما يرجِّح به عبارة على أخرى. وقد يقف عند جملة أو لفظة يعييه فهمها على وجهها، ويراجع فيها المصادر، ويشاور فيها مَن يعرف من أهل العلم والرسوخ، حتى يطمئن إلى قراءة يرجِّحها. كما رأيتُ صديقنا أ. د. عبد العظيم الديب عمل في مواجهة بعض عبارات إمام الحرمين في (نهاية الطلب). هؤلاء هم الذين إذا نشر أحدهم مخطوطة ... فكأنما أحيا موءودة. وقد عرَفنا وعرَف أهل العلم في عصرنا: مدرسة آل شاكر (أحمد ومحمود) في التحقيق، ومَن سار على دربها، وما أرسته من قواعد احترمها كلُّ العاملين في هذا الحقل من سائر البلاد العربية: سورية، ولبنان، والأردن، والعراق، وبلاد المغرب العربي. ومن هذا النمط الرفيع: أخونا وصديقنا الأستاذ محمد بن الحسين السُّليماني، الذي قرأنا له من قبل" قانون التأويل" لابن العربي،
فكان تحقيقه وتعليقه موضع الترحيب والحفاوة والتقدير من كلِّ الدارسين. واليوم نقرأ له هذا الكتاب النفيس، وهو: "المسالك في شرح موطأ مالك"، يحقِّقه هو وشقيقته الدكتورة عائشة المدرَّسة في أم القرى. فهو لونٌ جميلٌ من التعاون العائليّ في خدمة العِلْم، وإن كان الشقيق يحمل العبء الأكبر في هذا العمل. ويبدو أن السُّليماني مُعْجَبٌ بشيخه ابن العربي، ومن حقِّه أن يعجب به، فالرجل من أعلام علماء الأمة الذي تهيَّأ له من أسباب تحصيل العلم ما لم يتهيَّأ لغيره، واكتمل له من الخصائص ما لم يكتمل لغيره، وأوتي من أدوات الفهم والتعبير ما لم يؤتَه إلا القليلون. "فهو الفقيه البصير الذي جانب التقليد والتزمُّت والعكوف على ترديد كلمات بأعيانها. وهو المحدِّث المستنير الذي يُعْمِلُ عقله وفكره فيما يقرأ أو يسمع، ويغوص على المعاني الدِّقَاق المُسْتَكِنَّة في أطواء النصِّ الحديثي. وهو المفسِّر المُقْتَدِر الذي أعدَّ العدَّة لعمله في التفسير، من تضلُّع من لغة العرب وأشعارها وروائع نثرها الذي يمتاز بإيجاز اللفظ وثراء المعنى.
وهو الأديب الذي يغوص على المعنى، ويفتنُّ في التعبير عنه، واستخراج العبرة من مطاويه. وهو المؤرخ الذي يقارن بين الروايات، ويَمِيزُ حقَّها من باطلها، ولا يكتفي بإيرادها كما هو شأن الكثيرين. وهو المثقَّف الواسعُ الثقافة الذي لا يَقْصُرُ نَفْسَهُ على فنٍّ أو فنون معدودة، وإنما يطوف بأرجائها، ويقطِفُ من ثمارها ما طاب له التَّطْواف والقِطاف. وهو المتكلِّم الذي درس عيون كتب الكلام، ونظر فيها نظراتٍ فاحصة مستقلَّة، لا يعنيها إلَّا كشفُ الحقِّ، ودحضُ الباطل الذي ران على كثير من أبحاث السابقين، واختيارُ الرأي الناضج الذي لا يتعارض مع حقائق الإسلام" (¬1). وأضيف إلى ذلك: وهو الأصولي المتمكِّن الذي عرَف الأدلَّة المتَّفق عليها والمختلَف فيها، وردَّ الفروع إلى أصولها، وعرَف الناسخ والمنسوخ. وهو المربَّي الذي يعمل على وصل العقول بمعرفة الله، والقلوب بحبِّ الله، والجوارح بطاعة الله، كمافي كتابيه" سراج المريدين" و"سراج المهتدين". ¬
وقد خلَّف ابن العربي مؤلفات عدَّة في شتَّى العلوم الإِسلامية، سَرَدَها السُّليماني في مقدِّمته (¬1). لا يزال أكثرها مخطوطا. ومنها كتابه الكبير "أنوار الفجر" في تفسير القرآن، الذي قضى في تأليفه عشرين سنة، في ثمانين ألف ورقة، وهو شبه مفقود، وإن كان صاحبنا السُّليماني نقل عن بعضهم أنه موجود في بعض المكتبات! هذا وقد كان السُّليماني حقق كتاب "قانون التأويل" لابن العربي من قبل، ونشرته دار الغرب الإِسلامي، وكان أول تجربة له في هذا المضمار، ولم يبلغ بعد أشدُّه، ولا غرو أن اعترف بشيء من التقصير في عمله، وهذا ضرب من الشجاعة الأدبية التي لا يصل إليها إلا القليلون، فقد قال في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب: "وقد صحَّحتُ بعض الأخطاء التي وقعْتُ. فيها في الطبعة الأولى، كما تبَّين لي أنني تعثرتُ في بعض المسائل تعثرا قبيحا، لغرارتي يومئذ، وجهلي بوعورة التحقيق، وتشعُّب مسالكه وأنا على يقين أن هذا القصور سيزول إن شاء الله، بتعاون أهل الخبرة بتراثنا الإِسلامي العريق، وذلك بإظهاري على أوهامي في التحقيق والتعليق، وتبيين ما دقَّ عن فهمي من معاني الكتاب، حتى أتجافى عن مواطن الزلل" (¬2). ¬
واستشهد بكلمات بليغة لصديقنا وبلديِّنا المحدِّث اللغوي المحقِّق الناقد الشيخ سيد أحمد صقر رحمه الله. واليوم وقد صلب عوده، وارتفع عموده، وآتت شجرته أُكلها بإذن ربها، واستجمع عدَّته وآلته، فعكف على هذه الذخيرة النفيسة من ذخائر ابن العربي، بعد أن عاش معها ومعه سنين عددا، ليخرجها لنا محرَّرة منوَّرة، ميسَّرة معطَّرة. يقول السُّليماني: "صحبنا ابن العربي وتراثه لأزيد من عشرين سنة دأبا، عكفتُ فيها على دراسة ما وصلنا من تراثه المطبوع والمخطوط، الذي تناثرت أسفاره بين خزائن الأرض، في بلاد الإسلام وديار الدعوة، وحصل لنا من الإنس والألفة بأسلوب الرجل، وطبعه: ما نحسب أنه يعصم الرأي من الشطط في الحكم، والزلل في القول، والتعسُّف في الاستنتاج" (¬1). أجل، أصبح السُّليماني اليوم يمتلك الأدوات اللازمة للتحقيق المنشود، من المعرفة الشرعية الوثيقة، والمعرفة الأدبية واللغوية المتينة، والمعرفة التاريخية الرصينة، والثقافة العامة المعينة، والحسِّ النقدي الضروري لكلِّ محقِّق أصيل، والصبر على قراءة النصِّ وفَهمه ¬
ومراجعته، دون كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، ولا تبرُّم ولا استعجال، فإن "العَجَلَة من الشيطان". وساعده على هذا: تمرُّسه بالتحقيق من قبل، ومعايشته فكريا وعمليا لتراث الأمة، وعشقه لمَن يحقِّق تراثه، فهذه العاطفة الدافقة التي يكنُّها لشيخه ابن العربي حبًّا وإعجابا وإجلالا: تجعله يُعنَى بكلِّ ما يصدر عنه عناية بالغة. ولقد عرَفتُ عددا من المحققين المعجبين بأئمُّتهم، ورأيتُ من آثارهم ما بهر الأبصار، منهم: الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم، المُعْجَب والمحبّ والمتأثِّر بشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أخرج له جملة من الروائع، أهمها: "منهاج السنة" في تسعة مجلدات، و"درء تعارض العقل والنقل" في عشرة كاملة. ومنهم: صديقنا الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الدِّيب، المُعْجَب والمُحِبّ والمُولَع بإمام الحرمين الجُوَيني، والذي تخصّص في تراثه الفقهي والأصولي، فأخرج له: "البرهان في أصول الفقه"، و"الغياثي"، و"الدُّرَّة المضيَّة"، وأخيرا: كتابه الكبير "نهاية المطلب ودراية المذهب"، فهو من الأمّهات في كتب الشافعية. وأخونا السُّليماني مُعجَب بشَيخه ابن العربي، وحقَّ له أن يُعجَب به، فأنا معه من المعجبين به، فقد تميَّز الرجل بعدَّة فضائل،
منها: الموسوعية، والاستقلال، والقدرة على الترجيح، بل رأى بعضهم أنه بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، وهو أهل لذلك، كما رُزق الشجاعة في التعبير عما يعتقد. ولقد أعجبني أنه -وهو رأس المالكية في عصره- رجَّح رأي أبي حنيفة في إيجاب الزكاة في كلِّ ما خرج من الأرض، فيقول في أحكام القرآن في تفسيره آية سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ...} [الأنعام: 141]: "فأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحقَّ فأوجبها في كلِّ ما أخرجت الأرض مأكولا أو غير مأكول ... " (¬1). كذلك في "عارضة الأحوذي" في شرح حديث: "فيما سقت السماء العشر". وقد ذكرتُ ذلك في كتابي "فقه الزكاة" (¬2). كتب السُّليماني مقدِّمة طويلة في التعريف بابن العربي تصلح أن تكون وحدها كتابا، ناقش فيها أمورا كثيرة تتَّصل بمصادر سيرة ¬
شيخه، وإنتاجه العلمي، والمترجمين له في مختلف العصور. كما تحدَّث عن الموطأ ومنزلته ورواياته ورواتة ونسخه وشروحه؛ عن معرفة واطلاع واقتدار، ونقد كثيرا من القدماء والمُحدَثين والمعاصرين، من أمثال: محمَّد فؤاد عبد الباقي، وبشار عواد معروف، ومحمد مصطفى الأعظمي، على ما لهم من فضل. قد توافق السُّليماني أو تخالفه في بعض انتقاداته على القدامى أو المعاصرين، أو على ابن العربي ذاته، ولكنك تحترم رأيه، الذي لم يصدر إلا عن دراسة واقتناع واجتهاد، ولكلِّ عالم رأيه، ولكلِّ مجتهد نصيب من الأجر أو الأجرين، أخطأ أم أصاب. فرغم إعجاب السُّليماني بشيخه ابن العربي لم يستطع أن يخفي لومه -بل ربما غضبه- على بعض مواقفه السياسية، وحرصه على القرب من أهل السلطان، وتنقُّله بالولاء من دولة الي دولة؛ من المرابطين إلى الموحدين، حتى قال "بل لا نبالغ اذا قلنا بأن خدمة السلطة، والسعي لرضاها، كان يجري في دمه، وأنه وارثه من أبويه وأخواله من الهوازنة، وأسرته المعافرية، اللتين لعبتا الأدوار الأساسية على عهد العبَّادية والمرابطية. فيصعب عليه أن يتخلص من شهوة السلطة والطموح والنفوذ والوجاهة؛ والعرق غلاَّب ودسَّاس؛ وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له.
قال: وكان الأجدر لصاحبنا -وهو في شيخوخته العالية- ألَّا يتجشَّم مشاقَّ الرحلة إلى مرَّاكش، ومتاعب الغربة عن الأهل في إشبيلية ... إلى أن قال: وربما كان رأي ابن العربي أن رئاسته لهذا الوفد: فرصة سانحة لربط الخيوط بالدولة الجديدة، والتنصُّل من أن يحسب على العهد القديم، فتنفتح له قلوب الموحدين، ويحظى بالوجاهة والمكانة ... ذلك ما نرجِّح -والله أعلم- أنه كان يلحُّ على خاطر ابن العربي، ويناسب طموحه المعهود فيه، ونرجو ألا يكون فيما استنتجناه أو تأوَّلناه شيء من القسوة أو التحامل ... " (¬1). ربما يؤخذ على الأخ السُّليماني هنا: أنه دخل في محيط النيَّات والسرائر، وهذه علمها عند الله، وقد أُمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولَّى السرائر، وقد نقول هنا -إذا استخدمنا طريقته في إلاسنتاج-: إن الطبع الجزائري الحارَّ قد غلب على الميراث الحسني الهادئ. أما العمل الذي يقوم السُّليماني على خدمته، فهو شرح ابن العربي للموطأ. وإن للموطأ لمكانة كبيرة عند الأمة بمختلف مدارسها ومذاهبها، وهو أول كتاب أُلِّف في شرائع الإسلام، ألَّفه الإمام مالك على مهل، حتى نضج واكتمل، وقد أراد الخليفة أبو جعفر المنصور ¬
أن يجعل منه قانونا عاما للمسلمين في عهده، يحملهم عليه حملا، فأبى عليه ذلك مالك رضي الله عنه. وهذا من إنصافه واخلاصه وتواضعه وحسن فقهه. والموطأ كتاب جامع، ففيه الحديث، وفيه الفقه، وفيه أصول الفقه، وفيه أصول الدين، وفيه الدعوة، وفيه التربية، وكلُّ هذه الجوانب يبدع فيها قلم ابن العربي ويحسن الشرح والتوجيه. فلا عجيب أن تراه -بوصفه محدِّثا- يرجح حديثا على حديث، أو رواية على رواية، ويصحِّح ويضعِّف بثقة واطمئنان. كما تراه -بوصفه فقيها- يناقش الآراء، ويوازن بين الأدلة، ويضعِّف ويقوِّي، ويرجِّح استنباطا على استنباط، ويختار ما يراه الأصوب والأرجح، فهو يقوم بعمل أساسي في صميم "الفقه المقارن". ولا يتَّسع المقام لضرب الأمثال، فالكتاب كلُّه واضح لمَن قرأه فأحسن قراءته. وقد حاول الكثيرون أن يكون لهم نصيب من خدمة الموطأ، في كلِّ الأعصار، وفي كلِّ الأقطار، ولكن شارحي الموطأ ليسوا سواء. وقد كان ابن العربي من أبرزهم وأميزهم، ولا ريب أنه استفاد من الأئمة الكبار الذين خدموا الموطأ من قبله، كما أقرَّ هو بذلك، من أمثال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتابيه "التمهيد" و"الاستذكار"، ومثل أبي الوليد الباجي صاحب "المنتقى في شرح الموطأ".
وهناك شروح وتفسيرات أخرى لم يعِرها ابن العربي اهتماما، وهو في شرحه تتجلّى شخصيته الموسوعية: شخصية المحدِّث المفسِّر الفقيه الأصولي المتكلِّم الداعية المربِّي الأديب. وهو يقدِّم للأحكام بمقدِّمات تتضمَّن معاني وأسرارا، قلَّما يلتفت إليها غيره. انظر إلى كتاب القول في الدماء والقسامة، يقول رحمه الله: "الدماء خطيرة القدر في الدين، عظيمة الرتبة عند ربِّ العالمين، وهي وإن كانت محرَّمة بالحكم والأمر، فإنها مراقة بالقضاء والحكمة، وهو الذي ضجَّت منه الملائكة، ورفعت قولها إلى الله عزَّ وجلَّ، فقالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]. ثم علَّمنا الله تعالى معنى ذلك وحكمته، وهي ما بيَّناه في "الأسماء"، وذلك أن الله سبحانه، له الصفات العلى والأسماء الحسنى، وكلٌّ أسمائه وصفاته لها متعلَّق لا بد أن يكون ثابتا على حكم المتعلق، ومنها عامَّة التعلُّق، ومنها خاصَّة، فلما كان من صفاته الرحمة، أخذت جزءا من الخَلق فكان لهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ولما كان من صفاته السَّخَط، أخذت هذه الصفة جزءا من الخَلق فوجب لهم العذاب، واستحقَّت عليهم النقمة، إلى آخر تحقيق هذا الفصل في الكتاب المذكور. فلما خلق الملائكة يفعلون ما يؤمرون، ويسبَّحون الليل والنهار لا يفترون، لم يكد -لما تقدَّم بيانه له- من أن يخلق مَن تجري عليه هذه الأحكام وهو الآدمي، تجري عليه
المقادير من خير وشرٍّ، وتنفذ فيه هذه المقادير من نفع وضُرٍّ، والحمد لله الذي بصَّرنا حكمته وأحكامه، وإياه نسأل نورا يتيسَّر به العمل. ولعظيم حرمة الدماء حذَّر النبي -عليه السلام-، أمَّته عنها، فقال في الحديث الصحيح: "لا يزال الرجل في فُسحة من دينه ما لم يسفك دما حراما". فالفسحة في الدين: سَعَة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تبقى به. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " أول ما يُقضى فيه يوم القيامة الدماء" لأن المهمَّ أبدا هو المقدَّم. وفي الترمذي؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "زوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم". وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة ة أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أهل السموات وأهل الأرض اشتركوا في دم رجل مؤمن لأكبَّهم الله في النار" (¬1) انتهى وقد استوقفني كثيرا أول الأمر: أن ابن العربي كتب شرحين للموطأ؛ أحدهما: "القبس شرح موطأ مالك بن أنس"، وقد نشرته دار الغرب الإِسلامي، بتحقيق محمد عبد الله ولد كريم ... والثاني: "المسالك شرح موطأ مالك"، الذي يعمل لخدمته أخونا السُّليماني وشقيقته، فما الفرق بين الشرحين؟ ¬
قد نبَّه على ذلك السُّليماني باختصار حين قال في المقدِّمة: "استوعب المؤلِّف رحمة الله عليه، في كتابه "المسالك" أغلب ما في كتابه "القبس"، وأضاف عليه إضافات كثيرة، والمتأمِّل في عنوان الكتابين يدرك هذا المعنى، فـ "القبس" عبارة عن لمحات دالَّة على المراد، جعله مؤلِّفه إملاءً على أبواب "الموطأ"، وجمعًا لِمَا فيها من الأحاديث والآثار، فهو لم يُعنَ بشرح كلِّ الأحاديث والآثار الواردة في "الموطأ"؛ بل كان رحمه الله، يأتي إلى الباب الذي تعدَّدت فيه الروايات، فإذا كان المآل فيها واحدا، شرح منها حديثا واحدا، وكأنه بذلك شرح جميع الباب. أما "المسالك" فقد تتبَّع فيه المؤلف ألفاظ الأحاديث حديثا حديثا (¬1)، مبيِّنا لمعانيها وموضِّحا لأحكامها" (¬2). رضي الله عن إمامنا، إمام دار الهجرة مالك بن أنس، الذي اعتبره شيخنا محمد أبو زهرة من أئمة الرأي، وهو جدير أن يعتبر حَلْقة الوصل بين المدرستين: مدرسة الحديث والأثر، ومدرسة الرأي والنظر، ولهذا قال فيه مَن قال: لولا مالك لضاقت المسالك! ورحم الله شيخنا الإمام أبا بكر بن العربي على عنايته بالموطأ وشرحه له. وجزى الله أخانا محمدا السُّليماني وشقيقته خيرا، على عنايتهما بهذا الكتاب، وبذل الجهد في إخراجه، وأعان الله محمدا على ما ¬
ينتويه من خدمة تراث ابن العربي، الذي لا يزال كثير منه حبيس المكتبات، وقد علمتُ أنه يعمل في خدمة "العواصم من القواصم"، مع أحد إخوانه من علماء الهند. وفَّقهما الله، وسدَّد خطاهما، وهدانا جميعًا سواء السبيل. وشكر الله لمن قام بنشر هذا الكتاب: (دار الغرب الإِسلامي) التي يقوم عليها أخونا الحبيب، وصديقنا العزيز الأستاذ الحبيب اللمسي، الذي نشر الكثير من روائع تراثنا العربي والإسلامي، وما ذلك إلا لخبرته ومعرفته بقيمة هذا التراث، وما فيه من كنوز نفيسة وجواهر ثمينة، لا يقدر قدرها إلا العارفون، كما قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. وإذا كانت الحكمة المأثورة تقول: من أخرج مخطوطة فكأنما أحيا موءودة! فإن هذا يشترك فيه محقّق المخطوطة بالدرجة الأولى، وناشرها بالدرجة الثانية. ولا سيما إذا كان الناشر من أهل العلم الذين لهم نظراتهم ولمساتهم في حسن الإخراج، وحسن التقسيم، وإبراز الكتاب في صورهَ مشرقة تسرّ الناظرين، وتشوِّق القارئين، وتعجب الباحثين، فإن الله جميل يحبُ الجمال. وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] الدوحة في ذي الحجة: 1427 هـ ديسمبر 2006 م الفقير إليه تعالى يوسف القَرَضَاوي
طليعة الكتاب
طليعة الكتاب يروي صاحبنا محمد بن الحسين السُّليماني- عَفَى الله عنه - أنَّ شقيقته عائشة فوَّضته لكتابة هذه الطليعة في هذه الأيام المباركة من ذي الحجة من عام 1427 للهجرة، وبعد تردُّدٍ وإحجام، عَلِمَ أنّه أمر لا سبيلَ له عنه، فشَحَذَ عَزمَه للكتابة، ونفض عنه غبار الكسل. وما إن أمسك بالقلم بين أنامله حتّى أحسَّ بخاطرٍ غريبٍ، إذ عادت به الذِّكرَى إلى ماضٍ بعيد، يوم كان طالبًا في قسم الدِّراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز، منذ نحو من ربع قرن، في يوم من أيام شتاء مكّة الدافئ، في بيت شيخه الوقور العالم الزاهد والتكلم النظار سليمان دنيا -برَّدَ الله مضجعه ونوُّرَ ضريحه- بحي الروضة (¬1)، كان صاحبنا يقرأ على شيخه مقدمة "قانون التأويل" لابن العربي، والّتي قال فيها: "ودعَتِ الضرورةُ إلى الرِّحلة، فخرَجنا والأعداءُ يَشْمَتون بنا، وآياتُ القرآن تَنزِعُ لنا، وفي عِلْم البارئ - جلَّت قدرتُه - أنه ما مرَّ عليَّ يومٌ من الدَّهر كان أعْجَبَ عندي من يوم خروجي من بَلَدي، ذاهبًا إلى ربِّي، ولقد كنت مع غزارة السَّبيبَة ونَضَارَةِ الشَّبيبةِ، أحرِصُ على طلب العلم في الآفاق، وأتمنُّى له حال الصَّفَّاقِ الأفَّاقِ، وأرى أنَّ التّمكُّن من ذلك في جَنْبِ ذهاب الجاه والمال، وبُعْدِ الأهل بتغَيُّرِ الحال، رِبْحٌ في التجارة، ونُجْحٌ في الطلب، وكان الباعث على التّشبُّث - مع هول الأمر- هِمَّةٌ لَزِمَت، وعَزْمَةٌ لَجَمَت، ساقَتها رحمةٌ سَبقَت". ¬
لم يخطر على بال صاحبنا آنذاك أنّ القَدَرَ يُخبِّئ له المصير نفسه، فقد امتحنه الله كما امتحن به شيخه ابن العربي، وابتلاه بالهجرة الاضطرارية، فتجَلَّدَ على مَضَضِ المحنة، وائتسى بابن العربي ورَضِيَ لنفسه ما رَضِيَه، وإليك - أخي القارئ- قبسا من سيرة هذه الهجرة وأسبابها، لعلها تشفع عندك إذا ما وقع بصرك على ما تُنكرُه أو تُقَبِّحُه من عمله في "المسالك". بعدَ عودة صاحبنا من رحلة طلب العلم في المشرق العربي، استقرَّ به المقام في جامعة الجزائر، مُدَرِّسَا للكلام والأصول، مجتهدًا - قَدْرَ الاستطاعة- في تشكيل خمائر النهوض العرفي المرتكز على قيم الوحي، واكتشاف الطاقات العلمية -وهي كثيرة والحمد لله- ومحاولة تذليل كلّ العَقَبات الّتي تُعطّل إمكاناتها، وتحاصر مَلَكاتها، لكن الإرهاب العلماني بتحالُفٍ مع قوى الشَّرِّ والبَغْي والاستئثار بالثروة والسُّلطة، غاظهم جو الحرية والانفتاح الّذي انتهجه النظام آنذاك، فقاموا بانقلاب على الشرعية، وصادروا اختيار الشعب، وتحدّوا عقيدة الناس، بأدوات القمع والقهر والاستبداد، وأدخلوا البلد في نفق مظلم أشد ما يكون الظلام ظلمة وسوادا، متذزِّعين بفلسفاتٍ ومُسَوِّغَاتِ علمانية تُعادي كلّ ما هو أصيل في هذه الأمة. وفي ظِلَّ مناخ التَّسَلُّط والظّلم والارتهان، والتّهديد والوعيد، اضطَرَّ صاحبنا إلى الهجرة اضطرارًا، فترك الجامعة والأهل والأحباب، ورَضِيَ بما سبق به القضاء المحتوم والأمر المختوم، فلا مُغَيِّرَ لنافذ الحكم، ولا مُبَدَّلَ لسابق العِلْم، وصبرَ على ما نزل به صبرا جميلا، وظلَّ يتنقَّلُ بين عواصم الفرنجة وشبه جزيرة العرب، سنين عددا، وتعَرَّفَ في ديار الدَّعوة على "الآخر" بكلِّ إنجازاته الحضاريّة ومنظومته العرفية بأبعادها الفلسفيّة، وخالط كثيرا من
المستشرقين، وتعرَّف دخائلهم، وخَبَر أهواءهم، واستفاد في ديار الإسلام من شيوخ العصر الوسطيّة في الفهم، وإقامة التوازن المطلوب بين الأمنيات والإمكانات في التعامل مع الأحداث والمواقف، مما مكَّنه من مُغالبة الأقدار، وتذليل العَصِيَّ وتقريب القَصِيَّ. كان صاحبُنا يقضي جُلَّ أوقاته في منفاه الاضطراريّ برُومِيَّة بالدِّيار الإيطاليّة، يختلسُ أوقاتَ الفراغ ليقضي بعض الوقت في سياحات ممتعة مع روائع التراث الإِسلامي المحفوظة بمكتبة الأمير ليون كايتاني وخزانة الفاتيكان، يستعينُ بحلاوة الفقه وأصوله والحديث ورجاله، على السِّياسة ومرارتها والسِّياسيِّين ونفاقهم، تلك الأيام الْمُمِضَّة الّتي بلغت فيها الخصومة بين أبناء وطنه أقصاها، فتَنَكَّرَ بعضُهم لبعضٍ، وأضمَر بعضُهم لبعض من الحقد والكراهية والعَداوة ما أدَّى إلى الاقتتال الدّاخلي، واستباحة الأعراض والأموال، وجرت الدماء أنهارا، دون أن تكون في هذا التعبير مبالغة أو غُلُوّ، في مَشهْدٍ مُرْعِبٍ تنخلعُ له القلوب، وتمِيدُ له الجبال فَرَقا. وفي وسط هذه الأهوال القاسية الفظيعة، كانت نفسُ صاحبنا تجدُ شيئًا كثيرا من الألم والحسرة، ولكن الضّعف لم يعرف إليه طريقا، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ الألم زاده عنادًا في محاولة إيجاد الحلول والبدائل الّتي تؤدِّي إلى شاطئ الأمان، أو إلى تخفيف المعاناة على أقلِّ تقدير، فسَعى بكلّ ما أوتي من قوة -مع المخلصين من أبناء الوطن- إلى جمع الفُرَقاء السِّياسيِّين الممثِّلين للشَّعب الجزائري في روما في: 12/ 8/ 1415هـ الموافق 13/ 1/ 1995 م، بعد أن تعذَّر التّلاقي في الوطن، فتمخَّض الاجتماع عن وثيقة العقد الوطني، هذه الوثيقة التي شخّصت الدّاء ووَصَفت الدُّواء بإجماع من أغلب التيارات
الإِسلامية والوطنية والديمقراطية، ومن أسفِ فإنّ "حزب فرنسا" في الجزائر رفض هذه الوثيقة جملة وتفصيلا، مما أدخل البلاد والعباد في دوامة من العنف والعنف المضاد، الّذي أشار إليه صاحبنا سابقا، ولا زال الوضع في حاجة إلى مزيد من فتح أبواب المراجعة والمصارحة والجادلة والحوار، لتوسيع دائرة التفاهم ومعرفة حقيقة ما جرى، ثم المصالحة، والاشتراك في بناء المتّفق عليه، ومعالجة الخلل والانحراف أينما وُجدَ. وكأننا بصاحبنا وقد جمح به القلم، لم يلتزم كما تعارَفَ عليه أهل العلم من كتابة المقدمات، وراح يجاري خواطره، ويبثُّ ما يجيشُ به صدره المكلوم، وعَدَلَ عن مُراعاة الأشكال والرُّسوم، فلنقنع من صاحبنا بهذا الاختصار المفهم، والإيماء الخاطف، ولنستنبئه عن قصة القاضي أبي بكر بن العربي وكتابه المسالك، لعلّنا نتجاوز عن هَنَاتِه، ونغتفر له ما فَرَطَ منه في حقِّ مناهج البحث العلمي. كان أوّل عهد صاحبنا باسم القاضي ابن العربي في بداية العقد التاسع من القرن الهجري الماضي، الموافق لبداية العقد السابع من القرن الميلادي، حيث دأبت وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية -آنذاك- على عقد ملتقيات منتظمة للتعرُّف على الفكر الإِسلامي، يشارك فيها كبار الفقهاء وأعلام الفكر والثقافة من عرب وعجم ومستشرقين، وكانت عواصم الولايات تتسابق في التشرف باستضافة المشايخ والعلماء، وكان من نصيب مدينة صاحبنا "المدية" زيارة الشيخ "محمد أبو زهرة " صاحب العلم الغزير، والحجة البالغة، والشخصية المؤثِّرَة، وعلى مائدة الغداء سمع من أبي زهرة نقدا لاذعا للشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، ثم أفاض في الحديث عما يحوكه
المغرضون من مكائد ضد الإسلام، ووقوف علماء الأمّة لهم بالمرصاد، ثمّ ضرب مثلا بالقاضي أبي بكر بن العربي وجهاده بالقلم واللِّسان ضدّ الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية والظاهرية والمقلِّدة، وفي هذه المناسبة طلب الشيخ من والد صاحبنا نسخة من كتاب "العواصم من القواصم" طبعة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وقد عظم قدر أبي زهرة في نفسه، ووقرت منزلته في صدره، فحث والده على إسعافه بحاجته، وتمكينه من بغيته، ومن يومها وصاحبنا حفي بابن العربي ومؤلَّفاته، يجمعها ويزيِّن بها خزانة والده، ويفاخر بها أكفاءه ونظراءه. أمّا أوّل عهده العلمي -أو العَمَلِيّ بصورةِ أدقّ- بأبي بكر بن العربي في حياته الدراسيّة فكان بعد حصوله على درجة الإجازة في العقائد والأديان من جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، وانتسابه إلى قسم الدراسات العليا الّذي كان يضم آنذاك كبار شيوخ وأساتذة الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، من أمثال سليمان دُنْيا، وسيد سابق، ومحمد قطب، ومحمد الغزالي، ومحمد كمال إبراهيم جعفر، وسيِّد أحمد صَقْر، ومحمد يوسف الشّيخ، ومحمد الصّادق عرْجُون، ومحمد محمد أبو شَهْبَة، ومحمد عبد النعم القِيعِيّ، وعليّ العَمَّاري، وتمَّام حَسَّان، ولطفي عبد البديع، وخليل عساكر، ومحمود الطناحي، وغيرهم من أساطين العلم وحُفَّاظ الشريعة، وفي ظلِّ هذه الكوكبة من شموس المعرفة أخذ صاحبنا يفكِّر في الإعداد لدرجة العالمية الأولى، كان فتى لا يملُّ الدُّؤوب والسعي، يتردَّدُ على أغلبهم في قاعات الدَّرس أحيانًا، وفي دورهم أحيانا أخرى، وأسبغوا عليه من برِّهم وإحسانهم وتشجيعهم، كما لا ينهض به ثناء، ولا يقوم بحقِّ شُكره لسانٌ.
وكان يسعدُ ويغتبطُ أشدَّ السَّعادة والاغتباط -ولا يزال- عندما يتشرَّف بخدمة أساتذته وشيوخه حُبًّا وكرامةً، فكثيرا ما كان يهديهم المطبوعات المغارببة، ومن جملتها كتاب "العواصم من القواصم" في طبعته الجزائرية، مما اضطرَّه للتوسُّع في البحث والاستقصاء عن مؤلَّفات ابن العربي، حتى يكون كلامه مع أساتذته كلام البصير العارف بمطبوعات بلاده. وهكذا وجدَ صاحبُنا نفسه يُقبل على مطالعة تراث أبي بكر بن العربي وُيحِيطُ به خُبْرًا، ويستكشفُ معالم فِكرِه، ويتعرَّف على مُجمَل مصنَّفاته، وكان أوّل ما نصحه أستاذه سَيِّد أحمد صقر بقراءته، "العواصم من القواصم" (¬1)، في مطبوعاته الثلاث، طبعة الشيخ عبد الحميد بن باديس، والقسم الأخير الذي طبعه الأستاذ محب الدين الخطيب، وطبعة الأستاذ عمار طالبي، ولا أكتمك أخي القارئ أن صاحبنا استثقل وكَرِه الرُّجوعَ في كلّ فقرة إلى مختلف الطّبعَات، واعتَبَره آنذاك -بجهله وغَرَارَتِه- نوعا من أنواع الضياع، ضياع الوقت والجهد، ولكن ما إن قرأ الصفحات الأولى من الكتاب، حتى تَبيَّنَ له أن الأمر ليس عَفْوا صَفْوا، بل محفوفٌ بكثيرٍ من المخاطر والمزالِق، فقد صَعُبَ ¬
عليه فهم مراد المؤلِّف وتَعَسَّرَ، فكان يكرِّرُ قراءة النَّصِّ مرّات ومرّات، يقلِّبُ النَّظَر في متن الطبعتين "ابن باديس والطالبي" وبخاصّة في هامش الثانية الّذي أخلَصَه صاحبها لِذِكْرِ فروق النُّسَخ وبعض التعليقات، وكان يقف السّاعات الطّوَال أمام لفظة أو جملة، يقتدح لها زناد الرَّأي، ويقلِّبُ وجوه النَّظَر، ثمّ يقف حائرًا وقد استعجمتْ عليه دَلالات الألفاظ، وتنَكَّرت له معاني الحروف، فكان هذا يُحْزِنُه وَيشُقُّ علَيَّ، فيلتجئ إلى أستاذه البارّ العَطُوف سَيِّد أحمد صقر يستعين به -بعد الله سبحانه وتعالي- في ما التبس عليه من وجه الصّواب، فيرشِدُه -رحمةُ الله عليه- إلى معالِمِ الطريق، ويدلُّه على مَقْطَع الحقِّ وفَصْل الخطاب، فجزاه الله خير الجزاء عما قدّم له ولجيله كلّه من توجيه ورعاية وإرشاد، وجعل كلّ ذلك في موازينه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خيرِ مُحضَرا. وهكذا كان هذا الكتاب خير مِرَانٍ لصاحبنا على التَّمَرُّس بكُنْهِ المخطوطات والتعلُّق بإرثنا المخطوط، وزَيُّنت له حِدَّةُ الشباب وعنفوانه آنذاك، تصوير نسخة من "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي من المكتبة الوطنية بالجزائر، قصْدّ قراءتها وضَبطِها ونشرِها، وعَرَضَها على أستاذه سيد أحمد صقر، يستنصحه الرأي والمشورة، فصرفه عن نيته وثناه عن مراده، وأشار عليه بالتَّأنِّي والتَّريُّث، وتَلَمُّس الأسباب من مظانِّها، وعلى رأس المطالب التي طلبها الأستاذ سيد: وجوب التَّضلُّع من مجمل العلوم العربية والشرعية التي ينبغي أن يتحلّى به المتصدِّي لقراءة وتصحيح كتب التراث، واستفراغ الوسع في جلب نُسَخِ الكتاب أينما وُجِدت في مكتبات العالم، كما حث صاحبنا على إشراك شقيقته عائشة في إخراج الكتاب، مع ضرورة التمهل وعدم
الاستعجال، فما كان من صاحبنا إلّا أن ينزل طائعا مختارا عند رأى شيخه، وأن يأتمر بمشورته ويقتدي بهَدْيه، راضيًا كلَّ الرِّضَى، ومثنيا كل الثناء الحسن على أستاذه رحمة الله عليه. ومَضَت الأيام، وتصَرَّمَت الشُّهور، وَمَحَت سَنَةٌ أختَها، وصاحبُنا يعود إلى "المسالك" بين الفينة والأخرى، كلّما آنَس فسحة من الوقت، أو غفلة من شواغل الدّهر والناس، فيقرأ ما أنجزته شقيقته عائشة، مراجعا ومستدركا، واضعا أمام عينيه وصية شيخه سيد أحمد صقر بوجوب إعطاء نص "المسالك" حظّه الكامل من النظر والتأمُّل وإنْ طال الزَّمن، وعدم العجلة في القراءة والضبط، ولم يدّخر صاحبنا وشقيقته سعيا في العمل بهذه الوصيّة، فتَطَلَّبا جلّ الوسائل المتاحة لهما في غربتهما من أجل إخراج النَّصِّ سليما معافى من آفات التّصحيف والتّحريف، ومع هذا لا يزال صاحبُنا يرى أنّه قد يكون من الحق لقرّاء هذه الأسفار أن يعترف هو وشقيقته لهم بأنّهما -وبعد الدَّأب والنَّصب وإنفاق شطر من العمر في إعدادها- ما كتبا مبحثا من مباحثها ولا قرآ نَصًّا من نصوصها إلّا وهما يعلمان أنه محتاجٌ إلى استئناف العناية به وتجديد النظر فيه، ولطَالَمَا مَنَّيا أنفسهما بهذا النظر، ولكنّهما تيقّنّا بأنّ الأمر يَضيقُ عنه نطاق الطَّمَع، فالأيّام تمضي، والظّروف تتعاقب، مختلفة متباينة أشدّ الأختلاف وأعظم التّباين، ولكنّها متَّفِقة على الحيلولة بينهما وبين ما كانا يريدانه ويأملانه من تجديد العناية وتدقيق النظر، ولكن مما لا يُدرَك كلّه لا يُترك جلّه؛ لأن صاحبنا يرى أنّنا أحوج ما نكون -في هذه الظروف- إلى بعث دفائن إرثنا المخطوط، الّذي يضمُّ بين جَنَبَاتِه ثروة فكريّة لا تفنَى، وكنوزا علمية لا تنفد، تمنحنا عِزَّ الأصالة وشُموخَ الكبرياء وشَرَفَ الانتماء، كلّ هذا تمهيدًا للمرحلة
الأهمّ والتي تُشكِّل المقصد، وهي فقه هذا التراث والإفادة منه في تشكيل الحاضر واستشراف المستقبل، من أجل استئناف الحياة الكريمة في ظلِّ مجتمعٍ إسلامي تسُودُه عقائد الإسلام، وتُزَكِّيه عبادات الإسلام، وتُحرِّكُه مشاعر الإسلام، وتَحكُمه تشريعات الإسلام، وتُوجِّه اقتصاده وفنونه وسياسته تعاليم الإسلام (¬1). وصاحبُنا على يقينٍ جازمٍ لا يعتريه فيه شكٌّ، أنه لا قوام للعِلْمِ بغير نقدٍ، لأنّ من مظاهر فساد حياتنا الأدبية المعاصرة؛ أنها أصبحت هادئة فاترة أشدَّ الفتور، أو بتعبيرٍ أدقّ راكدة أشدَّ الرُّكود، فقد أمسك العلماء الثقات عن إبداء الرّأي في ما تُخرِجه المطابع من عيون إرثنا الإِسلامي، فلا مُعَقَّبَ ولا مُناقشَ لهذه الكتب والأسفار الّتي تحتوي على جَيِّدِ العِلْمِ وسَفْسَافِه، ولا مُنْكِرَ ولا مُعْتَرِضَ على هذا العَبَث الكريه بإرثنا المخطوط الّذي أصبح كلأ مباحا لكل من هَبَّ ودَبَّ من المحقِّقين!! الذين لا يأنَفُون من العار، ولا يَتَصَوَّنون من المعايب، وصدق الأستاذ الطناحي عندما قال: "وقد قَصّرْنا كثيرا هذه الأيام في نقد النّصوص المنشورة، حتى اختلَطَتِ الأمور، وامتلأتِ السّاحةُ بالأدْعِياء، مما هو واضحٌ ومشهور، ويوم أن كان لدينا محقَّقون كبار كان معهم نُقَّادٌ كبار ... وهكذا يكون النقد ضرورة حين يَعْمِدُ إلى الأعمال الجيِّدة فيُبرِزها ويدلُّ على مواضع الجوْدة فيها والنَّفع منها، ويُنبِّه على ما يكون فيها من نقصٍ أو سَهْوٍ، ثم حين يتعقَّب الأعمال الرديئة فيُعَرِّيها ويكشف زيفها، فيكون ذلك ¬
رادعًا وزاجرًا لمقْتَرِفيها من المضِيِّ في هذا الطريق الّذي لا ينبغي أن يسلكه إلّا من أعدَّ له عدّته، وأخذ له أخذه، أمّا إذا ظلَّت أمورُنا تسيرُ على المصانعة والتَّجَمُّل وغَضِّ الطَّرف، فلا أمَلَ في تقدُّمٍ أو صلاحٍ" (¬1). وكم كانت فرحة صاحبنا غامرة عندنا تناول شيخه الإمام يوسف القَرَضَاويّ مقدّمة "المسالك" بالتّعليق والنّقد، فبَيَّنَ لصاحبنا وشقيقته بأسلوب العارف الخبير والنقّاد البصير ما اعترى بعض أحكامهما من اعْتسافٍ وشَطَطٍ، ودلّهما على ما شاب بعض اجتهاداتهما من مُجازفة وتهَوُّر، وحسب صاحبنا وشقيقته أنَّهما التزما الصِّدقَ فيما يُسَطِّران، بعد رويَّة وتفكير، وبعد تمهل وترجيح، والصدق في هذا النِّطاق خير شَفيعٍ إن شاء الله. ولا يملُّ صاحبنا من تَرْدَادِ ما قاله شيخه العلاّمة المحقِّق سَّيِد أحمد صَقر - بَرَّدَ الله مضجعه- في خاتمة مقدِّمته لكتاب "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري" للآمديّ (¬2): "وإنِّي -على نَهجي الّذي انتهجتُ منذ أوّل كتابٍ نشرتُ- أدعو النقّاد إلى إظهاري على أوْهامي فيها، وتَبْيينِ ما دَقَّ عن فهمي من معانيها، أو نَدَّ عن نظري من مَبَانِيها، وفاءً بحقِّ العِلْمِ عليهم، وأداءً لحقِّ النّصيحة فيه، لأبلُغ بالكتاب فيما يُستَأنَف من الزّمان أمثل ما أستطيع من الصّحة والإتقان. والنشرُ فَنٌّ خَفِىُّ المسالك، عظيمُ المزالق، جمُّ المصاعب، كثيرُ المضايق، وشواغلُ الفكر فيه متواترة، ومَتَاعِبُ البال وافرة، ومُبهِظاتُ العقل غامرة، وجهود الفرد في مضماره قاصرة، يؤودُها حفظ الصواب في سائر ¬
نصوص الكتاب، وُيعجزها ضبط شوارد الأخطاء، ورَجْعُها جميعًا إلى أصلها، فيأتي الناقد وهو موفور الْجَمَامِ، فيقصد قصدها، ويسهل عليه قَنْصها، ومن أجل ذلك قلت -وما أزالُ أقول-: إنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون ناشريها بذكر ما يراه فيها من أخطاء، لتخلص من شوائب التحريف والتصحيف الّذي مُنِيَت به، وتخرُج للناس -صحيحة كاملة، والله وليّ التوفيق". ولا يسع صاحبنا إلَّا أن يتقدَّم بالشكر الموصول لرفيق عمره الأستاذ محمد عُزَيْر شمس (¬1) والعلاّمة النبيل محمد الراوندي، والعالم الأخ أحمد حاج عثمان الّذين شاركوه وشقيقته هموم بعض ما أشكل من الكتاب، واجتهدوا في اقتراح ما يرونه صوابا، والشكر الخالص أيضا مع العرفان والتقدير للمجاهد الأستاذ حبيب اللَّمْسي صاحب دار الغرب الإِسلامي على اصطباره على تأخّرهما وعسر مطالبهما، غير مبال بجهد أو وقت أو مال، ولأساتذتهم الأفاضل بالمغرب الأقصى أطيب الثناء وإجزل الشكر على تفضُّلهم بقراءة الكتاب وإجازته، وتبصيرهم كما غاب عنهما من دقائق الأغراض ولطيف الإشارات، وهم: عصمت دندش، وأحمد الريسوني، والتهامي الراجي، ومحمد أمين السماعيلي، ومحمد بن شريفة، ومحمد الروكي، جزاهم الله عن العلم خير الجزاء. ¬
أما أستاذهما الشيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي -أطال الله عمره- فيسألان الله تعالى أن يبقيه سَقْفًا لهذه الأمّة (¬1)، محروسًا بالرّعاية، محفوفًا بالعافية، مُوَفَّقًا دائما للرّشاد. وفي الختام يقول صاحبنا: انتهيتُ من كتابة هذه الطَّليعة في يوم عرفة المشهود، الّذي تزول فيه الشرور، وترتفع الأحقاد، وتعمُّ المساواة، ويسودُ السّلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيدٍ واحدٍ، لباسهُم واحدٌ، يتوجّهون إلى رَبٍّ واحدٍ، ويصيحونَ بلسانٍ واحدٍ: لبّيكَ اللهمّ لبّيك، وفي ظل هذا الصوت القدسي المجلجل، أحسستُ كَأنني قد خرجتُ من نفسي، وانفصلتُ عن حاضري، وأصبحتُ في عالَمٍ طَلْقٍ لا أثرَ فيه لقيود الزّمان والمكان، وسمعتُ صوتًا آتيا من بعيد، يقول: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وفي شهركم هذا، وفي بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد" وفي صباح يوم عيد الأضحى المبارك، طالعتنا الأخبار -في استفزاز للمسلمين ظاهر- بما جرى في دار السلام بعراق الرشيد وصلاح الدين، وما آلت إليه الأوضاع في صومال العروبة والإِسلام، أخبار هائلة تصدع لهولها القلوب قلوب المؤمنين حُزنا وألَمًا، وتندى لها الجباه حَيَاءً وخَجَلًا، وتَكِلُّ عن وصفها الألسنة دَهشةً وتفظّعًا، فشعرتُ في صدري بنيران مشتعلة تخنقني، فعدتُ إلى القلم، وهو يكاد يصرخُ في يدي ويبكي، ويكاد ¬
يجري بالدَّم والدُّموع على القرطاس، من جزّاء الجراحات العميقة والظلمات والأهوال والتردي الّذي ليس له حدود، حيث تألَّبت علينا الصَّليبيّة المتصَهْينَة الحاقدة في تعصُّبٍ مسعورِ، متحالفة مع ميليشيا العجم أحفاد الفُرس والصَّفَويِّين، في جُنونٍ مجنونٍ، وحِقدٍ دَفينٍ، تَعُبُّ من دماء أهل السُّنَّة فلا تَشبَع، وتخرِّبُ مساجدهم فلا تَقنَع، وتَفْتِكُ بالزَّمْنَى والعاجزين، وتغتصب الحرائر، لا يصدُّها عن غيِّها خُلُقٌ أو رحمة، ولا يَرْدَعُها عن ضلالها ضميرٌ أو مُروءةٌ، فلا يحل لمسلم منذ اليوم أن يمالئ قومًا يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق، نعم، لا يحلٌّ أن نخدعَ أنفسنا عن حربٍ دائرة الرَّحَى بيننا وبين الصهيونية المغتصبة والصّليبية الحاقدة وأشياعهما من الميليشيات الصَّفَوِيَّة باسم السِّياسة والكياسة والتّسامح، كفانا استخفافًا وغَفلةً وإهمالًا وقلّة مبالاة، كفانا مهانةً وصَغَارًا وهَوانًا، لابدّ من الرّجوع إلى الله، والاستعداد لإصلاح ما اختلَّ من شئون هذه الأمَّة، والتّعاون على ردِّ البَلاَء، بالرِّفق في مواضع الرِّفق، والبَأْس في مواضع البَأْس، إنه تحَدٍّ تاريخيٌّ مَصيريٌّ يواجهُنا، ويحتاجُ منّا إلى أقصى درجات التجرُّد والتّضحية والبذل والجهد الخارق، أبتهلُ إلى الله تعالى أن يرزقَنا العلم النافع، وُيبَرّأ قلوبنا من الجبن والضّعف، وأن يؤيِّدنا بالصّبر والقوّة، إنّه سميع مجيب. وكتبه حامدًا ومُصلِّيًا، الفقير إلى الله تعالى: محمد بن الحسن السُّليماني، مكة المكرمة في 11 من ذي الحجة:1427 هـ الموافق 31 من ديسنبر: 2006 م
الباب الأوّل مدخل إلى سيرة أبي بكر ابن العربيّ
[مقدمة التحقيق]
الباب الأوّل مدخل إلى سيرة أبي بكر ابن العربيّ تمهيد: عصر المؤلِّف يتأثر الإنسان بالبيئة الّتي يعيش فيها، ويتفاعل معها، ويتجاوب مع أحداثها سَلْبًا وإيجابًا، وقد يكون تأثيره واضحًا -فيما بعد- في الأحداث الّتي تحيط به، ولذلك نعرضُ نُبْذَة مختصرة عن عصر القاضي أبي بكر بن العربي، لإلقاء الضوء على الظروف الّتي عاشها وكان لها أثرٌ كبير في حياته الشخصية وتكوينه الثقافي، وإنتاجه العلمي. ولن نستطيع -بطبيعة الحال- في هذا التّمهيد المختَصَر أن نتطرَّق إلى مُجمَلِ التاريخ الأندلسي في الحِقْبَةِ الّتي عاش فيها صاحِبُنا، ويزيدُ هذا استحالةً؛ أنّ ابنَ العربيّ عاصر نهاية عصر الطَّوائف وبزوغ وأفول نجم المرابطين وبداية دولة المُوَحِّدِين، وقد قام الباحثون المعاصرون بدراسة تلك الحِقَب باستفاضة يُحْمَدُون عليها (¬1)، وسنقتصر في هذا التمهيد على الناحية السياسية لأنّها تكشف الأضواء عن بعض المواقف ¬
عهد ملوك الطوائف
والعوامل الّتي ساهمت في تكوينه وأثرت في اتجاه حيائه (¬1). عهد ملوك الطَّوائف: وُلِدَ القاضي في أواخر القرن الخامس الهجري (468 هـ) في عهد ملوك الطَّوائف، وامتد به العمر إلى منتصف القرن السادس (543 هـ) في بداية عصر الموحدِّين، وكان العالم الإِسلامي آنذاك يعيش في ظلال الخلافة العَبَّاسيّة في المشرق والعراق، وفي ظِلِّ الخلافة الفاطميّة في مصر، وكانت بلاد الشام والحجاز واليمن بين مدِّ النّفوذ العباسيّ حينًا، وجذر النفوذ الفاطميّ حينًا آخر، أو مدِّ هذا وجذرِ ذاك أحيانًا؛ من خلال دُوَيلات مَحَلِّيَة تقوم واحدة إثر زوال أخرى، وقد بلَغَت الدّولة العَبَّاسية أحطّ درجات الضّعف والانحلال، وأَضْحَتْ أقرب إلى كونها اسْمًا يتردّدُ من كونها كيانًا دوليًا له وجودٌ محسوسٌ على السّاحة، كما تدهورت الأوضاعُ في الأندلس، حيث انهارت الدّولة الأموية، تلك الدّولة الّتي كانت ترهبُ جيرانها، وتفرض على ملوك النّصارى هيبتها واحترامها، وغَدَت الأندلس بعد الخلافة الأمويّة غنيمةً ونهبًا للطّامعين، الّذين قطّعوا جسدَها أشلاء ممزّقة، تنبئُ بسُوءِ الطّالعِ وظلامِ العاقبةِ وسُوءِ المصير، وأضحت الأندلس دويلات وإمارات صغيرة، وادَّعى كلّ حاكمٍ من ¬
هؤلاء أنّه مَلكٌ مُقْتَدِرٌ، بل إنّهم جميعًا تلقّبوا بألقاب تدلُّ، على سَعَةِ الْمُلْكِ وعَظيمِ الشَّأن، وقد قال أبو عليّ الحسن بن رشيق يصف حالهم: مّما يزهِّدُني في أرض أندلس ... أسماء معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرَّ يحكي انتفاخًا صولة الأسَدِ (¬1) ويصفُهُم ابن حزم الظّاهريّ بقوله: "فضيحة لم يقع في العَالَمِ إلى يومنا مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيّام في مثلها، كلّهم يتسمّى بأمير المؤمنين، ويُخْطَب لهم بها في زَمَنٍ واحدٍ، وهم خَلْفَ الحصريّ بإشبيلية على أنّه هشام ابن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء، ومحمد بن إدريس بن عليّ بن حمود بمالَقَة، وإدريس بن عليّ بن حمود ببُبَشْتَر (¬2) [Bobastro] ". ولعلّ خير من يُصَوَّر حالهم لسان الدِّين بن الخطيب، حيث يقول في كتابه "أعمال الأعلام ني من بُويعَ قبل الاحتلام من ملوك الإسلام" (¬3): "وذهبَ أهلُ الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق إلى حيث لم يذهب كثيرٌ من أهل الأقطار، مع امتيازهم بالمحلِّ القريب، والخطّة المجاورة لعُبُّادِ الصّليب، ليس لأحَدِهِم في الخلافة إِرْثٌ، ولا في الإمارة سَبَبٌ، ولا في الفروسيّة نسَبٌ، ولا ¬
في شروط الإمامة مكتسبٌ. اقتطعوا الأقطارَ، واقتسموا المدائن الكبارَ، وجَبَوا العُملات والأمصار، وجنّدوا الجنود، وقدَّموا القُضاة، وانتحلوا الألقاب، وكتَبَت عنهم الكُتاب الأعلام. وأنشدَهُم الشُّعراء، ودُوِّنَت بأسمائهم الدّواوين، وشَهدَت بوُجوب حقّهم الشُّهود، ووقَفَت بأبوابهم العلماء، وتوَسَّلَت إليهم الفُضَلاء، وهم ما بين مَجْبُوبٍ وبربريّ مجلوب، ومُجَنَّدٍ غير محبوب، وغُفْلٍ ليس في السَّرَاةِ بمحسوبٍ. فمنهم من يرضَى أن يسمَّى ثائرًا، ولا لحزْبِ الحق مغايرًا، وقُصَارَى أحَدِهم أن يقول: أقِيمُ على ما بيَدي حتّى يتعيّن من يستحقّ الخروج به إليه. ولو جاء عمر بن عبد العزيز، لم يقبل عليه، ولا لقي خيرًا لَدَيه، ولكنّهم استوفوا في ذلك آجالًا وأعمارًا، وخلَّفُوا آثارًا، وإن كانوا لم يُبالوا اغترارًا". وهكذا نلحظُ أنّ عصر ملوك الطّوائف كان الوارث لِتَرِكَة الخلافة، وأنّ خَيرات ذلك العهد الغابر قد توزّعَتْه طوائف وفئات مختلِفَة الأعراق جِنْسًا ودِينًا، فقد تفرّقت دولة الأندلس أيدي سَبَأ، وقام على أنقاضها زعامات متعدِّدَة ومختلِفَة فيما بينها، وهو ما فصم الوَحْدَة السّياسيّة الّتي كانت تربط بين إقطار الأندلس وأطرافه. ولم يخل هذا العصر من رجال مُخْلِصين لهم مواقف مُشَرِّفَة، ونلمسُ ذلك في سيرة المتوكَّل أمير بَطَليَوْس [Badajoz] الّذي رفض في إباءٍ وشَمَمٍ تهديدات ألفونسو له، وطلبه بعض قلاعه وحصونه وأداء الجِزيَة، فردَّ عليه المتوكِّل برسالة قويّة ختَمَها بقوله: "إمّا نصرٌ مؤزّزٌ يُعْلِي اللهُ به شَأْنَ المسلمين،
أو شهادةٌ غاليةٌ تُوصلُ إلى رِضَى ربِّ العالَميِن" (¬1). كما أنّ الإمام أبا الوليد الباجيّ هَالَهُ ما شاهَدَهُ من أوضاع المسلمين وتفرُّق شملهم فـ"رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة بصِلَةِ ما انْبَتَّ من تلك الأسباب، فقامَ مَقَامَ مؤمن آل فِرْعَون، لو صادف أسماعًا واعية، بل نفَخَ في عِظام نَخِرَة، وعَكَفَ على أطلالٍ داثرةٍ، بَيْدَ أنّه كلّما وَفَدَ على مَلِكٍ منهم في ظاهر أمْرِه، لَقِيَهُ بالتّرحيب، وأجْزَلَ حَظَّه بالتّأنيس والتَّقريب، وهو في الباطن يستجهلُ نَزْعَته، ويستثقل طَلْعَته، وما كان أفطن الفقيه -رحمه الله- بأمورهم، وأعلمه بتدبيرهم، لكنّه كان يرجوا حالًا تثوبُ، ومُذنِبًا يتوبُ" (¬2). ولكن رغم هذا التّمزُّق في الكيان السياسيّ للأندلس في عصر ملوك الطَّوائف، فإنّ هناك حقيقة هامّة ترتبط بهؤلاء الملوك، وهي أن تعدُّد بَلاَطاتِهم، واختلاف مُيُولهم العلميّة والأدبيّة، كان له الأثر الكبير في النّشاط المعرفي في العلوم المختلفة، فتَوَفَّرَ البعضُ على الإبداع في الدِّراسات اللُّغوية، والبعض الآخر في الأدب والشِّعْر، وآخَرون في العلوم البحتة، إلى ما هنالك ¬
العهد المرابطي
من فروع العلم (¬1)، كما يُلاحَظ نشاط الرّحلات العلميّة بين الأندلس والمشرق، وذلك في سبيل تحصيل العلوم والعارف، ولقاء أكابر علماء المسلمين بالمشرق والأخذ عنهم ونقل كتبهم ومصنّفاتهم إلى الأندلس (¬2). العهد المرابطي: وفي هذه الفترة الحرِجَة من تاريخِ الأندلسِ، كان الوَضعُ يتهيّأ في المغرب لظهور قُوَّةٍ إسلاميّة ضاربةٍ، ستقلبُ موازين القوى في التّعامل الدّوليّ بين المسلمين وغير المسلمين في الغرب الإِسلامي لصالح القوى الإِسلامية، وهذه هي دولة المرابطِين (المُلَثمين) والّتي ظَهَرت أوّل ما ظهرت في الصّحراء الكبرى، وتوسَّعَت أوّلًا جنوبًا في بعض المناطق الإفريقية مثل غَانَا، ثمّ بدأت تتّجه شمالًا حتّى ظهروا في المغرب عام 452هـ في الفترة نفسها الّتي ظهر فيها السَّلاجِقَة في المشرق، وتوّسعوا وإمتدُّوا على طُول ساحليّ البحر الأبيض المتوسَّط والمحيط الأطلنطي. وفي ذات الوقت الّذي كان المرابطون يتوسّعون فيه من قلب إفريقيا شمالًا صوب السّاحل، كان ألفونسو السّادس يتوسّعُ جَنوبًا صَوْبَ السّاحل أيضًا، ولكن على ضفَّتِه الأخرى، وهكذا بَدَا وكأنَّ المغرب يستعدُّ لتواجه الخصمين وجهًا لوَجْهٍ. وفي الوقت الّذي سقطت فيه طُلَيْطِلَة [toledo] لألفونسو عام 478هـ كان يوسف بن تاشفين أمير ¬
المرابطين يستكمل توسُّعَه في الجزائر ويضمّها عام 474 هـ وهكذا جذبت تلك القُوَّة المسلمة الصّاعدة في الغرب أنظارَ ملوك الطَّوائف في إسبانيا، فأرسلوا يستنجدون بها ويسنصرونها على نصارى الشّمال. ولا كانت دولة المرابطين نشأت في "رباط" دينيّ، وكان توجّهها توجُّهًا إيمانيًّا نَقِيًّا، كان الجهادُ سياسة أساسية لها، ونُصرة المسلمين رُكنًا من أركانها، فكانت استجابتهُم لطَلَب الذَّهاب إلى الأندلس؛ لأن "مجاهدة الإفرنج فريضة"، ولأنّ واجب السلم إغاثة أخيه السلم، فكان عُبور المرابطين للأندلس رغم توجُّس بعض ملوك الطَّوائف هناك من قوَّتهم، بل وتفضيلهم مداراة ألفونسو والاستعانة به للحيلولة دون تمكين المرابطن. ولقد كانت أوّل خطوة للمرابطين على أرض الأندلس نصرًا حاسمًا، عندما استطاعوا أن يهزموا قوات المعسكر الصّليي الحاقد في يوم الزّلّاقة العظيم عام 479 هـ/ 1086 م، ولقد ساهم هذا النّصر في استرداد المسلمين في الأندلس ثقتهم بأنفسهم، حيث استعادوا ذكريات الحاجب المنصور بن أبي عامر، كما أن الفتح أورثَ هيبة المرابطين في نفوس الممالك النصرانية، ثمّ الأهمّ من ذلك أنّ يوسف بن تاشفين كلّف والد قاضينا ابن العربيّ بنقل رسالة إلى الخليفة العباسيّ يطلبُ فيها الشّرعية لإمارته، فحصل عليها بفَتْوَى من الإِمامين الغزالي والطرطوشي (¬1). وكان هذا أوّل اتّصال بين الأندلس ¬
والخلافة العباسيّة منذ قيام الدّولة الأمويّة في الأندلس قبل أكثر من ثلاثة قرون. لقد كانت حركة المرابطين حركة رشيدة في الحكم، سديدة في السياسة، منقذة للإسلام من الخطر الّذي داهمه في الأندلس، فالمرابطون هم الّذين وحَّدُوا المغرب الإِسلاميّ لأوّل مرّة سياسيًّا ودينيًّا، وقَضَوا على التمزُّق السياسيّ والمذهبيّ، وهم الّذين أوقفوا التقدم النّصرانيّ في عدّة معارك حاسمةكالزّلّاقة -الّتي أشرنا إليها سابقًا- وأُقْليش [ucles] عام 501هـ/ 1108م، وإفْراغَه [fraga] عام 528 هـ/1143م، فكانت هذه الانتصارات سببًا في ثبات جبهة الأندلس بعد أن أوشكت على الانهيار في عصر الطَّوائف، فبَقِيَ الإسلام والمسلمون بعهدها ما يقرب من أربعة قرون (¬1). وفي أثناء هذا الصّراع الطّويل مع النصارى في الأندلس، تُوفِّيَ يوسف بن تاشفين سنة:500هـ/1107م بعد حُكمٍ دام سبعًا وثلاثين سنة:، حافلة بالعمل والجهاد، وخَلَفَه ابنه عليّ، فسار بأمور الدّولة سيرًا حثيثًا إلى الأمام، وسجّل اسمه بين عظماء تاريخ المغرب الإِسلامي. وبينما كان عليّ بن يوسف يواصل جهاده وجهوده في المغرب والأندلس، بدأ محمد بن تُومَرت المعروف بمهدي الموحدِّين دعايته ضد المرابطين، واجتهد في تشويه سُمعتهم واتِّهامهم بالتَّجسيم والمروق من الدِّين، وما كان ذلك في ¬
نظرنا إلّا عصبية مصموديّة، حملت ابن تُومَرْت على السَّعْي لانتزاع السُّلطان من صنهاجة الصّحراء. كما أن القول بالتّوحيد والمهديّة وعَصْمَة الإمام ما هي إلّا دعوات سياسيّة استخدَمها ابن تُومَرْت في تحقيق غاياته، وقد اجتهد أيّما اجتهاد في توجيه الاتّهامات إلى المرابطين دون حقّ، وجاء مؤرِّخُو الموحَّدين فحملوا على المرابطين حملة ظالمة، استغلّها في عصرنا كبار المستشرقين، أمثال الهولندي راينهارت دوزي [R.DozY] وغيره ممن يحملون بين جنباتهم قلبًا مفعمًا بكُرْهِ الإسلام وأهله، ومن أسَفٍ فإنّنا نرى بعض المؤرِّخين من بني جلدتنا يردِّدون كلام دُوزِي من غير بحثٍ ولا تمحيص. وفي هذا الموضوع تقول الأستاذة عصمت دندش في مقالها الماتع: "كلّمة حقّ في المرابطين" (¬1): "لقد وُصِمَ المرابطون بالقسوة، وأنّهم أجلاف بَدْوٌ، غزوا الأندلس طمعًا في خيراتها، فحكموها بالحديد والنار، ولكن من خلال المصادر يتبّين أنّ الحكم المرابطي كان نموذجًا متقدّمًا للحُكم الدِّيمقراطي -إذا جاز لنا أن نستعمل هذا اللفظ- الّذي تفتقِرُه الكثير من الدُّول المعاصرة في وقتنا. وكان للمرابطين الفضل في المزج بين ثقافة وحضارة الأندلس مع ثقافة المغرب والسّودان، وأياديهم البيضاء وجهادهم في نشر الإسلام والثّقافة العربية جنوب الصحراء، لا ينكره إلّا جاحد لا يقرّ الحقيقة. وبرغم النّقد الشديد الّذي وُجِّه لأمراء المرابطين بسبب ما أتاحوه للفقهاء من سُلْطَةٍ وسُلطانِ، فلم يكن للفقهاء في دولة المرابطين من السُّلطان أكثر مما كان لهم في ¬
بداية عصر الموحدين
غيرها من الدُّول، ويرجع للغالبية من هؤلاء الفقهاء الفضل في نشر العلوم الدينية في مجتمع لم يكن يجيد العربية". بداية عصر المُوَحَّدِين: بدأ العدّ التّنازليّ للمرابطين تحت وطأة الخطر الإسباني النّصراني، ومع انفجار مشكلات داخلية في المغرب والأندلس، فبعد هلاك ألفونسو السّادس، واهتزاز صفوف النّصارى الإسبان لفترة، ما لبثوا أن وَحَّدُوا موقفهم مرّة أخرى، فاستأنفوا غزواتهم ضدّ المدن الإِسلامية، وكان هدفهم المحوريّ هو سَرَقُسْطَة [zaragoza] الّتي تركها يوسف بن تاشفين لحكم بني هود، وما لبثت أن وقعت سرقسطة في يد النّصارى الإسبان عام 512هـ دون أن تُجْدِي حملات المرابطين المتوالية على المدينة، وكان سقوط سرقسطة هو الفاتح لسلسلة أخرى من سقوط كثير من المدن والمواقع في شرق البلاد وغربها. ولم يتمكن المرابطون هذه المرة من ضرب الخطر النصراني الإسباني واستعادة زمام الأمور كما حدث في معركة الزّلّاقة، ذلك أنّ المرابطين شغلوا بالثورات عليهم في الأندلس، وكانت فاتحة هذه الثورات ثورة قرطبة عام 515 هـ/ 1121 م، وزامن هذا بدء ظهور حركة معارضة قوية في المغرب بقيادة الهدي بن تُومَرْت الّذي سينجح بعد أعوام قليلة في تأسيس دولة المُوَحِّدِين على أنقاض دولة المرابطين. وبعد الانتشار السياسي والعسكري للموحِّدين في المغرب الأوسط والأدنى، كان من الطَّبيعي أن يتوجّه المُوَحِّدون بأنظارهم إلى الأندلس، خاصّة وأن ثوَرَات المتمردّين بها -والّتي تداخلت وتزامنت مع تحركات النّصارى
الإسبان- كانت قد أفقدت المرابطين هيبتهم هناك وبخاصّة بعد ثورة قرطبة عام 539 هـ وما تلاها من ثوَرَات (¬1). ولقد أبدى المرابطون بالرغم من ذلك بسالة كبيرة في الدفاع عما بأيديهم من البلاد، فلم يستطع عبد المؤمن بن عليّ الاستلاء على فاس إلّا بعد حرب طويلة وحصار شديد دام تسعة أشهر في ذي القعدة عام 540 هـ/ أبريل عام 1146 م، وفي محرم عام 541 هـ/ يونيو عام 1146م دخل مراكش وقتل إسحاق بن عليّ بن تاشفبن ونفرًا من أمراء المرابطين، وبذلك انتهت الدولة المرابطية، وأصبح الموحِّدون سادة المغرب وجزء كبير من المغرب الأوسط والأندلس (¬2). ¬
مصادر ترجمة أبي بكر ابن العربي
مصادر ترجمة أبي بكر ابن العربيّ نظرة نقدية أبو بكر بن العربي من الأعلام الّذين ملئوا الدنيا وشغلوا الناس وتجاوزت شهرتهم الآفاق، بحيث تظلّ أيهّ محاولة للتّعريف به لا تخلو من مغامرة، على أنَّ أفضل ما يمكن أن يقوم مقام هذه المحاولة، أن ننظر نظرة نقديّة في مصادر ترجمته ومراجعها، فربما تغني الدّارس عن التَّكرار المملول الّذي يتكلّفه مقدِّمو طبعات كُتُبه، ويتداولون نفس المعلومات على ما يشوبها من إخلال وتقصير وسَذاجَة في التّناوُل، وتبسيط في أمور في حاجة إلى تعمُّق. أوْلَى مُترجميه بالتقديم هو المترجم نفسه أبو بكر بن العربي، فقد كان حريصا غاية الحرص على أن لا يضيع المناسبات الّتي تسمح له ببسط الحديث عن جوانب من حياته وشخصيته، وشيوخه ومواقفه، وأحكامه وآرائه في أحداث عصره، وقضايا ذات طابع عَقَدِيّ أو فقهيّ أو تاريخيّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ، وما شابه ذلك. على أننا ناسف لضياع معجم شيوخه، بالقَدْر الّذي نأسف أيضًا على ضَياع ما كَتَبَه من رحلته، بنفس القَدْر الّذي نأسف على كلّ حرف خطَّه بقلمه؛ لأنَّ في الّذي ضاع ما يُسعفُ على جلاء الصورة، وتوضيح الرؤية،
ورفع اللَّبس، وتفصيل المجمل، والكشف عن كثير من القضايا الّتي اكتنفها الغموض والإبهام. ولا شكّ أنّه كانت لطبيعة حياته الّتي عرفت بعض القَلَق في بعض مراحلها دخلٌ في ما تعَرَّضَ له تراثه من ضَياعٍ أو إحراق وتدمير، على نحو ما حدَثنا هو نفسه عن هجوم الدّهماء عليه، وسلبه كتبه وذخائره ونفائسه. ولا نُلقي باللّوم على أبي بكر بن العربي نفسه، إذ لا حيلةَ له في طبيعة المرحلة الّتي عاشها، من تقلّباث عرفت انهيار دول وقيام دول، وذهاب شخصيات وأفولها، وصعود نجم شخصيات أخر، ولم يكن ابن العربي محايدًا في كلّ ذلك، إذ ارتبط مصيره دائمًا بالّذي أفل نجمه، وقد كان يبحث لنفسه عن مكانة تضمن له الشّفوف والظّهورة فتعلّقه المحموم بالسلطة لم يكن مصادفة، وإنما كان عن وَعْيٍ وحسابات دقيقة، فقد آمن بأن المكانة والوظيفة لن تكون هبة، وإنما هي أمور تتعلق برضا الحاكم وثقته. وتحفِلُ كتبه بالإشارات الدَّالة؛ إذ لا يكاد يخلو كتاب من كتبه، ولا رسالة من رسائله من إشارة تسهم في إضاءة جانب من جوانب حياته، من مثل أسماء شيوخه، ومروياته، ومؤلفاته، ورحلاته ومشاهداته، ... إلخ. على أنَّ بعض كتبه تحوز قصب السَّبق في غناها بالإشارات، فمن ذلك: أ- قانون التأويل: الّذي فصَّل فيه القول عن نشأته ودراسته وسيرته ورحلته .. الخ.
2 - سراج المريدين: الّذي أمَدَّنا فيه بجملة وافرة من المعلومات، فهو سخيّ العطاء فيه حول أحداث في حياته وذكرياته، وجوانب من حياته الروحية، إضافة إلى المعلومات العلمية المتعلّقة بشيوخه ومؤلَّفاته. ولانتَكَثر بتشقيق القول حول ما تضمَّنه كلّ مصنف من مصنفاته؛ إذ لا نجازف إذا ما زعمنا أنّه لا يخلو كتاب من كُتبه من مادَّة تصلحُ للاستمداد منها في ترجمته، وأحكام القرآن، وعارضة الأحوذي، العواصم، والقبس، وسراج المريدين، والمسالك، خير شاهدٍ على ذلك، فلا نغرب إذا وضعنا تراث ابن العربيّ المفقود والموجود، المطبوع منه والمخطوط في مقدِّمة مصادر حياته. تأتي بعدها مباشرة مصادر لطبقة من معاصريه، فيهم أصحابه الّذين ربطتهم به رابطة الدَّرْس والتّحصيل: كعياض، وابن بَشْكُوَال، أو من رَبَطَتْهُ به رابطة الزَّمالة كالفتح ابن خاقان. على أنَّه لا يحسنُ أن نغفل ذِكره الذائع في المشوق، حيث لا ببعُدُ أن تتناوله بالترجمة بعض الكتب المشرقية في مصر والشام والعراق والحجاز، كتاريخ دمشق لابن عساكر، وذيل تاريخ بغداد لابن النجار. ولعلَّ الأفيد أن نقدّم مُتَرجِمِيهِ على سياق التّاريخ، اعتبارا بتقدُّم وَفَيَاتهم، معتَذِرينَ عن خَرْق هذا السِّياق بخصوص اثنين من مُتَرجِمِيهِ وهما القاضي عياض وابن بشْكُوَال؛ نقدِّمهما لأنَّ ترجمتهما له العناصر ظَلَّ -يتودّدُ صَداهُ في كُتُب الّلاحقين إلى يوم الناس هذا، دون أن يغيب عنّا أنّ أصحاب أبي بكر ابنْ العربيّ الذين تحلَّقوا حوله ونهلوا من رحيق علومه من الكثرة بحيث لا يكاد يحيط بهم حَصْرٌ، حتىَّ غدا إجراء ذِكْرهم في مُعْجَمٍ من أغراض التأليف الّتي تصدّر لها كبار العلماء.
وما من شَكّ أنّ منهم نُبهاء تعرَّضوا لترجمته والتعريف به والإشادة بذِكْرِه، وتسجيل ما أخذوه عنه في فهارسهم وأثباتهم وبرامجهم ومعاجمهم ومَشْيخاتهم، وسائر أنواع التآليف الّتي تُعْنَى بذِكْرِ فحول العلماء، مما يمكن أن تنتمي إلى العصر القريب من عصر أبي بكر. ترجمة القاضي عياض بن موسى بن عياض اليَحْصُبيّ السَّبتي (ت. 544 هـ) لأبي بكر ابن العربيّ وصلتنا في كتابه "الغنية" (¬1) عاشر شيوخه، تناولَ فيها تقديم شيخه في منشئه في إشبيلية وقرطبة، وسَفَرِهِ صُحبةَ أبيه بعد انقراض دولة بني عبّاد إلى المشرق، ومن لَقِيَ من شيوخ العصر في مصر والشام والعراق والحجاز، إلى مُنْصَرَفِه إلى الأندلس، وتولِّيه وظائف القضاء والشّورى والتدريس، إلى أن قضى، دون إغفالٍ لما نالَه من طعن يصوّر الجانب السّلبيّ من حياة شيخه، ولقد لقيه وكتب عنه، وسمع من لفظه حين اجتيازه مُنْصَرَفِه من المشرق بسبتة، ولعلّ ذلك سنة: 495هـ، وفيها أجازه بجميع مروياته، وحدَّثه بكُتُبٍ في الرّجال من عيون ما جَلبَهُ من المشرق، ككتاب الدارقطني في "المؤتلف والمختلف"، وكتاب "الإكمال " للأمير ابن ماكولا، كما أتيحت له فرصة أخرى للّقاء بإشبيلية وقرطبة لا نعلم تاريخه، وإن كنّا نرجِّح أن هذا اللِّقاء كان متأخّرًا عن اللّقاء الأوّل الّذي تم في سبتة، والّذي نرجِّح فيه أنّه قرأ عليه فيه "مسألة الإيمان اللاّزمة" من تأليفه، وأجازه إجازة عامّة بمرويّاته ومؤلَّفاته. ¬
وينبغي أن لا يعزبُ عن بالنا أنّ أبا بكر ابن العربيّ من أعيان المالكيّة؛ فهو بذلك على شرط القاضي عياض، يدخل حَتْمًا ضِمْنَ نطاق كتابه "ترتيب المدارك" ولكن من العجب ألَّا يتضمّن مطبوع الكتاب هذه التّرجمة، وهو شيء يُلْقِي بظلالٍ داكنةٍ من الشَّكِّ والحيرة واللَّبس حول سلامة نصِّ "ترتيب المدارك" ولن يجلو سواد هذه السُّحُب إلّا استقراءُ كتب التقدِّمين الّذين تصدَّوا لاختصار المدارك أو الاستمداد منه، أمَلًا في أن نجده مع أهل طبقته عندهم، إمّا في نطاق الاختصار، أو في نطاق الاستدراك، وحتى يقدّر الله الإسعاف بذلك (¬1)، نُعوّلُ على ما جاء في مخطوطة برنستون (مجموعة يهودا رقم 4126/ 8540 اللوحة 28، وهي "اختصار ترتبب المدارك" لأبي عبد الله بن حَمَادُه الصّنهاجيّ السَّبْتِيّ تلميذ القاضي عياض (¬2)، بترتيب عبد الله بن سهل القضاعي، وبالقارنة بين هذه التّرجمة وبين ترجمة "الغنية"، يلاحظ التّشابه القريب من التّطابق، مِمّا يُوحِي بأنّ ابن حَمَادُه إن لم يكن قد نقل من نسخة من "الترتيب" فإنّه يحتمل أن يكون قد رجع إلى "الغنية" مع إضافات جعَلَتْنا ¬
نتردَّدُ في الجزم بالتّطابق، ونعبِّرُ بالقُرْب من التّطابُق. على أن في الأمر سَعَة للبحث والتّدقيق والتّمحيص. التّرجمة الثانية لأبي القاسم خَلَف بن عبد الملك بن بَشْكُوَال (ت. 578 هـ)، وهذه التّرجمة فيها من العناصر ما يتكامل مع ترجمة القاضي عياض، ولا نبعد في الادِّعاء إذا جنحنا إلى القول بأن ابن بَشْكُوال اتَّكَأَ على عياض، لا لأنّه تأخّرت وفاته عنه، ولا لأنّه اطلع على ترجمة أبي بكر عند عياض، ولكن لِمَا نعلَمُه من الصِّلات العلميّة بينهما، وكانا على تعاوُنٍ تامّ في ميدان التراجم، وقد أكثر ابن بَشْكُوال من النقل في صلته (¬1) عن عياض مصرِّحًا بذلك بعبارات منها: "أفادَنِيهِ عياض مِمَّا كتبَ به إِلَيَّ، تولَّى الله كرامته"، ويغلبُ ذلك في الغُرَباء. على أنّ ترجمة ابن بَشْكُوال فيها مكان لقائه بأبي بكر، مؤرَّخًا بضحوة يوم الاثنين لليلتين خَلَتَا من جمادى الآخرة من سنة: 516هـ وُيستشفُّ من هذه الترجمة التقدير البالغ الّذي يصلُ إلى حدّ التّهويل، مثل قوله: "وقدم بلده إشبيلية بعِلْمٍ كثيرٍ لم يُدخِله أحدٌ قبلَه مِمّن كانت له رحلة إلى المشرق"، وهو تهويل لا يمكن أن يخفِّف من غلوائه إلّا أن يُحملَ على أنّ إشبيليّة لم تنل حظّها من عطاء الرّاحلين إلى المشرق على توالي طبقاتهم؛ لأنّها لم تكن سوق العلم نافقة فيها نفاقها في جارتها قرطبة، يصوّر ذلك زعم من ذهب إلى أنّ العالِم إذا مات بإشبيلية تُحمل كتبه إلى قرطبة؛ لكساد سوق العِلْم بإشبيليّة ونفاقها بقرطبة. ¬
وقد صرَّح ابن بَشْكُوال أنّه سمع بقرطبة وإشبيلية كثيرًا من روايات شيخه وتآليفه، وهو أوّل مَنْ سجَّل تاريخ مولد أبي بكر بن العربي؛ لأنّه سأله عنه، كذلك نرجِّح لأنه ظَلَّ المورد الّذي نهل منه جُلّ من تكلم عن تاريخ مولد ابن العربيّ. وانحياز ابن بَشْكُوَال إلى شيخه ظاهرٌ جَلِيٌّ؛ فإنّه ضرَبَ صَفْحًا ووَرُّى علينا خبر المطاعن الّتي وُجِّهَت إلى شيخه، وأشار إليها قبلَه عياض في "الغُنية" وتداولتها الرُّواة، وتُحُدِّث بها في المجالس، وتمحَّض ابن بَشْكُوال لتسجيل الثّناء العَطر الّذي تصوّره هذه التّحلية: "الإمام، العالم، الحافظ ختام علماء الأندلس، وآخر أيمتها وحفّاظها". وتصوّره هذه الأحكام الّتي ننقُلها عنه في هذه الفقرة (¬1) على أنه كان ينظر إلى ابن العربيّ بعين واحدة كليلة هي عين الرضا: "وكان من أهل التفنُّن في العلوم، والاستبحار فيها، والجمع لها. متقدمًا في المعارف كلّها، متكلّما في أنواعها، نافذا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها. ويجمع إلى ذلك كلّه آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة ولين الكنف، وكثرة الاحتمال. وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الوعد. واستُقْضِي ببلده فنفع الله به أهلَه لصرامته وشدَّتِه ونفوذ أحكامه. وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، ثم صُرِفَ عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثِّه" (¬2). ¬
وهي فقرة تغضُّ الطَّرف عن الجوانب السلبية في شخصية الرجل، وتركِّز على مناقبه، وتختزل الحقيقة في شطر واحدٍ، كان ابن بَشْكُوال - رحمه الله - لم يضع في اعتباره أن الأجيال ستقرأ كلامه وتوازن بينه وبين معاصره وشريكه في التّلمذَة على المترجم عياض حين سجل في "غُنْيَتِه" (¬1): "ولكثرة حديثه وأخباره وغرائب حكاياته ورواياته كثر الناس فيه الكلام". بعد هذين المترحمَيْن نرجع إلى مترجِمِ تقدمت وفاتُه وفاة عياض وابن بَشكُوال. وهو الوزير الكاتب أبو نصر الفتح بن محمّد بن خاقان الإشبيلي (ت. 529 هـ) في كتابه: "مَطْمَحُ الأنْفُس ومَسْرَحُ التَّأَنُّس في مُلَحِ أهل الأندلس" (¬2)، وهو مُترجِمٌ تقدَّمت وفاتُه وفاةَ المُتَرجَم، وابن خاقان بلديُّ المُتَرْجَم، أديبٌ كاتب، طغت عليه صَنْعَةُ التَّرَسُّل والكتابة (¬3)، إن لم نقل جارت على التّرجمة، وأشاعت فيها روح المجاملة المتكلّفة، ولعله قصد بها مصانعته والتودُّد إليه، استدرارًا لجاهه. فهذه التّرجمة وان خَلَت من العناصر الّتي تُكسِبُها دفئا وحرارة، فإن إيرادها لقصيدة ابن العربيّ الرائية الّتي يتشوق فيها إلى بغداد ومصر والشام مما يُذكر لها: سقى الله مصرا والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين مُنْهمِلَ القَطْرِ ¬
وهذه التّرجمة وإن لم يتردّد صَداها عند المؤرخين والمحدِّثين، إلا أن أبا العباس المقَّريّ احتضنها واقتطف منها في "أزهاره " (¬1) و"نفحه" (¬2) إعجابًا بأسجاعها المتكلّفة الباردة. وقد استمرَّ ذِكْرُ أبي بكر ابن العربيّ عند طبقة تلاميذ أصحابه الّذين سجّلت ذواكرهم ما حدَّث به أشياخهم عن شيخهم الإمام ابن العربيّ، ويأتي في مقدِّمة هؤلاء أبو العباس أحمد بن يحيى بن عَمِيرَة الضَّبِّي (599هـ)، الّذي دوَّن في كتابه "بُغية الملْتَمِس في تاريخ رجال أهل الأندلس" (¬3) الّذي نلاحظ أنّه أورد أشعارًا وأخبارًا لابن العربيّ نقلت مسندة من طريق أصحاب أبي بكر بن العربي، كالقاضي أبي القاسم عبد الرحمن ابن محمّد وأبي الحسن يحيى بن نجبة، كما ذكَر من طريق هؤلاء التلاميذ أنهم حدّثوه بكتاب "القبس"، قال: "القبس في شرح مُوَطَّأ مالك بن أنس"، أملاه [ابن العربيّ]، بلفظه بقُرطبة في عدَّة مجالس، حدّثني به جماعة من أشياخي شاهدوا إملاءه إياه" ومن أسَفٍ فإنّه لم يعيِّن في هذا المقام أسماء شيوخه الّذين حدّثوه بالكتاب. وحاول الضّبي أن يقدِّم سردًا بعناوين مؤلفات القاضي، ذكَرَ منها: "أحكام القرآن" و"كتاب التَّلخيص" و"مُلْجِئَة المتفقِّهين" و"القَبَس" وختمها بقوله: "وعِدَّةُ تواليفه نحو الأربعين". ولا نعلم من سَبَقَه إلى مثل هذا التحديد، ¬
ولا أجرى ذكرًا لمؤلفاته، إلَّا أن تصحّ نسبة الترجمة الّتي عند ابن حمادُه للقاضي عياض في المدارك؛ لأنّ عياضًا لم يزد على ذِكْرِ "مسألة الإيمان اللازمة"، والباب مفتوح للمقارنة بين لائحة "مختصر ترتيب المدارك" و"بغية الملتمس"، وعلى كلّ حال، لو افترضنا جدلا أنها لا تصحّ نسبتها لعياض، فلنُسلِّم بنسبتها لابن حمادُه السَّبتيّ الّذي نجهلُ تاريخ وفاته، ولكنّنا على يقين بأنّه معاصرٌ لابن عَمِيرَة إن لم يكن أسنّ منه، فقد تتلمذَ على عياض المتوفّى سنة: 544هـ، ولا ندري متى ذلك، ولا كم كان عمره حين أخذ عن عياض، ولكن يغلبُ على الظّنِّ أن وفاته لن تتأخّر حتّى عَشر التّسعين. والمقام يقتضي الإشارة إلى صَنِيع هذا المؤرِّخ السَّبتي الّذي تتلمذ على عياض، فهو من أهل هذه الطبقة، أي طبقة تلاميذ أصحاب أبي بكر بن العربي، فهو أبو عبد الله محمّد بن حمادُه السبتي الصنهاجي الّذي اختصر "ترتيب المدارك" وقد وقفنا على ترتيب أبي محمّد عبد الله بن سهل القضاعي لهذا "المختصر" الّذي يتضمن ترجمة لأبي بكر ابن العربيّ في مخطوطة برنستون السابق ذكرها. والجديد في هذه التّرجمة هو التنصيص على أسماء مؤلّفات القاضي ابن العربيّ، ويحسن إيرادها بنصِّها، قال: "وصنَّفَ في غير فَنٍّ تصانيف مليحة كثيرة، حَسَنة، مفيدة، منها: "أحكام القرآن" كتاب حسن. و"المسالك في شرح مُوَطَّأ الإمام مالك". و"عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي".
و"القواصم والعواصم". و"المحصول في أصول الفقه". و"سراج المريدين". و"سراج المهتدين". و"كتاب المتوسِّط". و"كتاب المشْكِلَيْن". وله: "تأليف في حديث أم زرع". و"كتاب الناسخ والمنسوخ". وقال في "القبس": إنه ألف "أنوار الفجر في تفسير القرآن" في عشرين سنة، ثمانيها ألف ورقة، وتفرَّقت بين أيدي النّاس. و"تلخيص التلخيص". وكتاب "القانون في تفسير الكتاب العزيز". وله غير ذلك من التآليف رضي الله عنه ". ويبدو من عرض هذه التّرجمة -على ما بين أيدينا من تراجم- ما يلي: 1 - أنّ جزءًا منها تبدو آثار عياض فيه واضحة، وذلك مثل: "طعن النّاس في ابن العربيّ لكثرة رواياته وأخباره وغرائبه"، مما يدعو إلى الجزم بأنّ هذا كلام عياض الّذي لم يسبقه فيه أحد.
2 - تأثّره الواضح بابن بَشْكُوال، مثل: إيراده عبارات الإطراء باللّفظ كما وردت في "الصِّلَة". 3 - خروجُه عنهما عندما أورد قائمة بمؤلّفات أبي بكر بن العربي، لم تَرِد عند أيّ واحد منهما، وقد تضمّنت زيادات عل! ما عند ابن عميرة الضبّي، مما يفسح المجال لاحتمال أن تكون قائمة ابن حمادُه من أوائل القوائم الّتي عُنِيَت بسَرْدِ مؤلَّفات الإمام القاضي قبل قائمة ابن عميرة طبعًا. وممن ينتمي إلى هذه الطبقة أبو يحيى اليسع بن عيسى بن اليسع (ت. 575 هـ) (¬1)، الّذي يغلبُ على الظّنِّ لأنه ذكَرَ ابن العربيّ في كتابه: "المغرب في آداب المغرب"، الّذي ألّفه للملك صلاح الدِّين الأيوبي، والمؤلِّف فقيه مُشَاوَرٌ مقرىء، حافظ نسَّابةٌ، اتُّهِمَ في تأليفه لهذا الكتاب الّذي قال عنه ابن سعيد (¬2): "وكأنّه أراد معارضة "كتاب القلائد" فنهق إثر صاهل، فلم يأت في جميع ما أورد بطائل"، والكتاب سواء أتى فيه أولم يأت بطائل، فإنّه ضاع بمحاسنه ومساوئه، وبقيت منه نقول، يهمّنا منها ما أورده الذَّهبيّ في "التَّذكِرة" (¬3) و"السِّيَر" (¬4) بخصوص أبي بكر ابن العربّي معلقًا عليه بقوله (¬5): "وقد ذكَرَهُ الأديب أبو يحيى وبالغ في تعظيمه وتقريظه، وقال: ولي القضاء ¬
فمحن، وجرى في أعراض الإمارة فلحن. وأصبح تتحرك بآثاره الألسنة: ويأتي كما أجراه عليه القَدَر اليوم والسَّنَة، وما أراد إلّا خيرا. نصب الشيطان [وفي سير النُّبَلاء: السلطان] عليه شباكه، وسكن الإدبار حَرَكَه، فأبداه للناس على صورة تُذَمُّ، وسوأة تبلى [في سير النُّبَلاء: سورة تتلى] لكونه تعلَّق بأذيال الملك، ولم يجر مجرى العلماء في مجاهرة السّلاطين وحزبهم، [وفي سير النُّبَلاء وخربهم] بل داهن، ثم انتقل إلى قرطبة معظَّمًا مُكرّمًا، حتّى حول إلى العُدْوة فقضى نحبه". ولانستطيع حمل ما في النّصِّ على التّعظيم والتقريظ، إلّا أن يكون شمس الدِّين الذّهبي قد قرأ التّرجمة كاملة، فاستفاد من جزئها الأوّل ما يفيد التعظيم والتقريظ، وتجازوه، ونقل هذا الجزء الملئ بالإشارات والتلميحات الموحية، والّتي تُصَوِّر لنا أبا بكر ابن العربّي يجري لاهثا وراء الظُّهور والسُّلطة، فتتناوله الألسنة: باللَّوم، وينصب عليه السلطان أو الشيطان شباكه -والنّاس ضِعافٌ أمام السُّلطان والشّيطان، كما يملكان من التّرغيب والتّرهيب، وما يستندان عليه من هوى وضعف- فتكون نتيجة ذلك خسرانا مُبينا، إذ يصبح أبو بكر صورة تُذَمُّ؛ لأنّه داهَنَ في الحقِّ، في الوقت الّذي كان يتحتَّمُ عليه المجاهرة بالحقِّ، فتُسرع إليه السُّلطة تُنقذه بإبعاده إلى العدوة سترًا عليه، فيتولاّه الله الّذي يعلم السِّرَّ وأخفَى. والَّذي يؤكِّد ما ذهبنا إليه من أنّ المقام مقام تجريح، أنّ الذّهبي يسوقُ بعد ذلك من "معجم ابن مَسْدِيّ" قصّة حديث المغفر الّتِى اتُّهِمَ فيها ابن العربيّ، حتىّ قال الشّاعر:
فخذوا عن العربيِّ أسمارَ الدُّجَى ... وخذوا الرِّواية عن إمام مُتَّق ويتدخّل الذّهبيّ عقب النّقلين -نقل اليسع بن حزم ونقل ابن مَسْدِيّ- بأنهما غير كافيين في التجريح قائلا (¬1): "ولم أنقم على القاضي -رحمه الله - إلّا إقذاعه في ذمَّ ابن حزم واستجهَاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأيمّة والإنصاف عزيز". ونحن على يقين بأن الّذين ذكرناهم من أصحابه وتلاميذ أصحابه هم بعض من ترجموه، والغالب على الظّنّ أن تكون هناك تراجم طواها النسيان ولفّها الإهمال، نرجو أن يتاح لها النشر بعد الطَّيِّ واللَّف، وأن تبعث من مرقدها. وفي الوقت الّذي كان ذكره يملأ سماء العُدْوَتَيْنِ، كان صدى ذكره يتردّد في محافل الدَّرس المشرقيّة، وتستعيد ذكراه كتب التّواريخ، فيعقد له مؤرخ دمشق الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن بن عساكر (¬2) (ت. 571 هـ)، ترجمة مبكّرة، يسجِّل فيها دخوله دمشق، وسماعه من شيوخها: أبي الفتح المقدسيّ، وأبي البركات بن طاووس، وأبي الفضل بن الفُرات، وأبي محمّد عبد الله بن عبد الرزاق، وأبي القاسم نسيب، وأبا محمّد بن الأكفاني، وغيرهم. ويرصد خروجه من دمشق سنة: 491 هـ أثناء وجوعه إلى بلده، وكأنه يشير إلى أن ¬
دمشق لم يدخلها إلا أثناء قُفُوله، ويذكر أسماء من سمع عليه: ابني أحمد بن صابر عبد الله وعبد الرحمن، وأحمد بن سلمة بن يحيى الأبار، ولم يزد على هؤلاء الثلاثة، وكأنه يذكرهم للتمثيل لا للحصر، أو يمثِّل بالأعيان. ويسجِّل أنّه لما عاد إلى بلده صنَّفَ شرحًا على سُنن التّرمذيّ سماه: "عارضة الأحوذي في شرح كتاب الترمذي"، ونشير هنا إلى أنّ سُمْعَة أبي بكر ابن العربيّ ومساهمته في التّصنيف التقطَها ابن عساكر ليحلِّي بها جيد تاريخه، ويهمّنا أنّ "كتاب عارضة الأحوذي" كان مُسَجَّلاَ في كتابِ تاريخٍ يُعتبرُ من دواوين تاريخ الإسلام المشهود لها ولصاحبها بالإمامة. وإذا كانت التراجم المغربية قد تنوعت في هذا القرن، وكان منها مثل تأليف الفتح بن خاقان، فإن من عجائب الاتّفاق أن تعقد له ترجمة مشرقية في كتاب قريب من نهج "القلائد" و"المطمح" هو كتاب: "خَريدَة القَصْر وجَريدَة العَصر" (¬1) للكاتب العماد محمّد بن محمّد الأصفهاني الكاتب [ت. 597هـ]، أذ ترد لأبي بكر ابن العربيّ ترجمة قصيرة خَطَّطَه فيها بقاضي الجماعة بإشبيلية، وأضاف: "ورد العراق وطاف الآفاق، وقرأ على أبي حامد الغزالي، وتحلَّى من فضله البهيّ بأبهج الحلي، وعاد إلى بلاد الأندلس في سنة: سبع وخمس مئة، وألَّف على نمَطِ الغزالي كُتُبًا، وفرَّع بها رُتَبًا" ثمّ أورد له بواكير شِعْرِه قطعة رائية في ثلاثة أبيات. ¬
ويهلّ القرن السابع؛ فهذا نحن أمام ظاهرة شُحّ في ترجمة ابن العربيّ، إذ لا يكاد يبلغ عدد مترجميه أصابع اليد الواحدة، في مقدّمتهم المحدِّث المؤرِّخ أبو الحسن عليّ بن المفضل المقدسي المتوفى سنة: 611هـ، في كتابه: "وفيات النقَلَة" الّذي وصل به كتاب الحافظ أبي سليمان بن زَبْر، وذيل أبي محمّد الكتّاني، وأبي محمّد بن الأكفاني، وقد أرَّخ به وَفَيَات العلماء حتّى سنة: 581هـ، تكميلًا لابن الأكفاني الّذي وقف في سنة:485هـ والكتاب مفقود، ولكنّنا نعلمُ بوساطة الذّهبي في "السِّيَر" (¬1) و "التَّذكرة" أنّ الحافظ أبا الحسن بن المفضّل المقدسيّ أرَّخَه سنة:543 هـ. ثم يأتي بعده مؤرِّخ بغداد أبو عبد الله محمّد بن النجار [ت. 643 هـ] الّذي ذيَّل على الخطيب في تاريخه الموسوم: "التاريخ المجدِّد لمدينة السلام وأخبار فضلائها الأعلام ومن ورَدَها من علماء الأنام"، الّذي ربما يكون في خمسة عشر مجلدا، لم يظهر منها إلى الآن إلّا الجزء العاشر الموجود بظاهرية دمشق، والحادي عشر بالمكتبة الوطنية بباريس، والمجلّدان معًا فيهما بعض تراجم العين والفاء، فتكون تراجم المحمّدين في حُكم المفقود الآن، إلَّا أن الحافظ الذّهبيّ احتفظ لنا بنُتفَةٍ من ترجمة ابن النجار في "سِيَرِه" (¬2) و"تَذْكِرَتِه" (¬3) ونصّها: "حدَّث ببغداد ببسير، وصنَّف في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتواريخ، واتّسع حالُه، وكثُر ¬
إفضالُه، ومدحته الشّعراء، وعلى بلده سور أنشأه من ماله". ورغم وجازة هذه الفقرة؛ فإنّها لا تخلو من إشارات عميقة الدّلالة: أولاها: تحديثُه ببغداد بيسير، أي أنّ الكتب الّتي حدَّث بها قليلة، والّذي يَعنينا لا القِلّة والكثرة، ولكن أنه باشر التّحديث، وتحلَّق حوله طلبة العلم يستفيدون من روايته، وربما أعجله الرّحيل من أن يُطيل المكث ببغدادة فحال بينه وبين التّوسع في الرّواية. الثانية: أنّه سجّل اسمه في كتاب من أمهات كئب التاريخ والطبقات، مصنّفا في فنون من العلم: الحديث، والفقه، والأصول، وعلوم القرآن، والأدب، والنحو، والتواريخ. الثالثة: أنّ ابن النّجار يسوقُ ترجمة ابن العربيّ تسجيلًا لمفاخر المدرسة البغدادية الّتي تخرَّجُ النابهين الّذين يتقلَّدون الناصب العَليَّة، ويتولون سلطة القرار في بلدانهم عندما يعودون، مُزوَّدِين بما اكتسبوه من معارف وقطفوه من ثمار مجالس الدّرس على يد شيوخ بغداد، وذلك ما عناه بقوله: "واتّسعَ حالُه، وكَثُرَ إفضاله، ومدَحَته الشّعراء"، وهل أدلّ على النجاح من اتِّساع الحال، وهل أبلغ في المكانة الرفيعة من تَمَدُّحِ الشّعراء. الرابعة: أن يتفطّن أبو عبد الله بن النّجار إلى قصّة سور إشبيلية، ويسوقها في مناقب أبي بكر ابن العربيّ وأفضاله، عبَّرَ عن ذلك بقوله: "وعلى بلده سور أنشأه من ماله"، وقد تداولت كُتُب التّاريخ قصّة إصلاح أسوار إشبيلية وترميمها مقرونة بما يُشْبه تعسُّف أبي بكر ابن العربيّ الّذي فرض على النّاس،
وألزمَهُم أن يقدَّموا جلودَ أضحياتهم، ليستخدم ثمنها في تكاليف إعادة السُّور المنهار، وهو الإجراء الذي أثار حفيظة الإشبيليين، فنقموا على قاضيهم أبي بكر بن العربي، وثاروا عليه ونهبوا داره. وواضح أن هناك فرقا بَيِّنا بين من ينظر إلى قصّة السّور على أنّها دليل على مداهنة ولاة الأمر الّذين يتحكّمون في خزائن الأمّة، وتحت مسؤوليتهم يقع الإنفاق على المصالح العامّة، من بناء الأسوار وغيرها من المرافق، ولا يجوز تغريم الأمّة وإحلالهم محلّ الولاة وتكلّيفهم بما لا يطاق، وبين من ينظر إلى أن استنفار النّاس وحشد طاقاتهم وتعبئتهم لما فيه المصلحة العامة تصرُّفٌ رشيد. ومهما يكن من أمر، فإن خبر بناء سور إشبيلية قد تناهى إلى مؤرِّخ بغداد، فسجّله عنوان مَبَرَّة ومَنْقَبَةٍ من مناقب أبي بكر بن العربي، في الوقت الّذي يمكن أن يكون بناء السّور قد قام به ابن العربيّ بعد ثورة العامّة عليه ونهب داره واستباحتها، محاولة منه لاسترضائها، والتّكفير عمّا بدر منه من شدّة وصرامة، خدمة لولاة الأمر الّذين كانوا يحاولون أن يخفِّفوا على بيوت المال، ويثقلوا كواهل الجماهير، مستندين إلى فرض أنواع من الضّرائب أفتى بها بعض القُضاة والمتفقِّهَة. وهناك مؤرِّخ آخر من القرن السّابع، هو أبو محمّد حسن بن عليّ، المعروف بابن القطّان، الكتاميّ المراكُشيّ [المتوفَّى في منتصف القرن السّابع الهجري]- وهو ابن المحدِّث المشهور أبي الحسن بن القَطَّان صاحب كتاب:
"بيان الوَهْم والإيهام"- الّذي عرض لذِكْرِ ابن العربيّ في مواطن من كتابه: "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، إذ نجد في باب ذكر أنباء سنة: 528 هـ ـ، فقرة تُلقِي مزيدًا من الضّوء على واقعة بناء سور إشبيلية، يقول ابن القطان (¬1): "وولَّى [الأمير عليّ بن يوسف] على قضاء إشبيلية أبا بكر بن العربي (¬2)، وشرع في بناء سور إشبيلية من جهة الوادي، بأمر من عليّ بن يوسف". ومن مترجمي أبي بكر ابن العربيّ في القرن السابع أيضًا، مؤرِّخ من أيمة الأدب المؤرِّخين، هو عليّ بن موسى بن سعيد الغرناطي المغربي [ت. 685 هـ] عقد ترجمتن قصيرتين في كتابيه: "الْمُغْرِب في حُلَى الْمَغْرِب" (¬3) "ورايات المبّرزين وغايات المميّزين" (¬4) اعتمد في الأولى على أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم الْحِجَارِيّ في كتابه: "المسهب في غرائب المغرب" فنقل منه قوله: "لو لم ينسب إلى إشبيلية إلَّا هذا الإمام الجليل لكان لها به من الفخر ما يرجع عنه الطرف وهو كلّيل"، وعلى أبي عمر بن الإمام في كتابه: "سِمْطُ الْجُمَان وسِقْطُ اللآلئ وسِفْطُ الْمَرْجَان" ونقل عنه قوله: "بحر العلوم، ¬
وإمام كلّ محفوظ ومعلوم، وله أشعار تشوّق فيها إلى بغداد وإلى الحجاز"، وساق مقاطع من شعره. واعتمد في الثانية على أبي الوليد الشَّقُندي صاحب الرِّسالة المشهورة في فضل الأندلس، والمتوفَّى سنة: و 629هـ، في كتابه: "طُرَف الطرفاء"، وعلى أبي عمرو بن الإمام في "السَّمْط". وقيمة الترجمتين أنهما احتفظتا لنا بما يتردّد عن أبي بكر ابن العربيّ عند الأدباء مخضرمي القرنين السادس والسابع: أبي عبد الله الحجاري في "مسهبه"،، وابن الإمام في "سِمْطِه"، وأبي الوليد الشقندي في "طُرَفِه". ومن مؤرِّخي القرن السّابع شمس الدِّين أحمد بن محمد بن خلِّكان [ت. 684 هـ] صاحب الكتاب ذائع الصيت: "وَفَيَات الأعيان" وقد عقد لابن العربيّ ترجمة (¬1) كان له فضل النّقل الحرفيّ من "صِلَةِ" ابن بَشْكُوال، وأضاف إليها من عنده: "انتهى كلام ابن بَشْكُوال" وذكَرَ فيها كتاب "عارضة الأحوذي" شارحًا لفظتَي "العارضة" و"الأحوذي "، ضابطًا الأخيرة منها ضبطًا بالحروف، وقد تناقل المتأخِّرون تفسير اللَّفظتين معزوا إليه. كما تعرَّضَ في صُلب التّرجمة إلى التّعريف بوالد أبي بكر، على أن هناك شيئًا يستحقُّ التّعجُّب، وهو التّشويش على تاريخ مولد أبي بكر ابن العربيّ الّذي حدَّدَه بنفسه ونقله عنه ابن بَشْكُوال بتاريخ آخر، ليفسح المجال للقول بأنّ في تاريخ مولده قولين، في قضية لا تحتمل مثل هذا الاختلاف عقلًا وواقعًا، بعد تأكيد المعنيِّ بالأمر تاريخ مولده الّذي لا شكّ أن أبا بكر ابن العربيّ نقله عن أبيه أو ¬
أحد أفراد أسرته، وقد عاش في وسط متيقظ واعٍ يحتلُّ مكانةً مرموقة في الميدانَين العلميّ والسياسيّ. فإن كانت هناك فضيلة تُرْتجَى من مثل هذه التّرجمة، فهي أنّها أذاعت ترجمة أبي بكر في العصور المتأخِّرة، لذُيوع كتاب: "وَفَيَات الأعيان". واستمرّ ذِكْرُ ابن العربيّ موصولًا، تتواتر أخبارُه وتراجِمُه، ويحرصُ مؤلِّفو الطّبقات والتّواريخ على بيان منزلته قاضيًا وفقيهّا ومصنِّفًا من أعيان رجالات الإسلام، من ذلك ترجمة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن الزّبير الغرناطي [ت. 708 هـ] الّذي عقد لابن العربيّ ترجمة في صِلَتِه للصِّلَة البَشْكُوالية، وهذه التّرجمة وإن لم تصلنا في القسم الّذي سلم من عوادي الزّمن، فإنّ أبا العباس المقَّريّ قد احتفظ لنا بمعالم من ترجمة ابن الزّبير في "أزهاره" و"نفحه" وليس في هذه التّرجمة ما يتجاوز بكثير ما عند القاضي عياض، وأبي القاسم بن بَشْكُوال؛ بل إنّه زاوَجَ بين التّرجمتين، واستخلص زبدتهما، فإنْ يكن هناك جديدٌ عند ابن الزُّبير يعتدُّ به فليُلْتَمس ذلك في مجمَلِ تراجم أصحاب أبي بكر وتلاميذه الّتي تناثرت هنا وهناك. ومن ذلك أيضًا تردُّد ذِكْرِه عند أحمد بن محمّد المراكشي المعروف بابن عَذَارِي [الّذي كان على قيد الحياة سنة:712 هـ] في كتابه الجامع: "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" حيث تناثرت أخباره في أماكن متعدِّدة، حينما يتولّى القضاء سنة:528 هـ (¬1)، وعندما يثورُ عليه السَّفَلَة الإشبيليون (¬2)، ¬
مع التّفصيل في ذلك، ثمّ في قسم الموحِّدين في حوادث سنة:541هـ (¬1)، عندما يكون على رأس وقد أعيان إشبيلية الّذي ذهب لإبلاع عبد المؤمن بيعة الإشبيليين ودخولهم في طاعته، ويخطب خطبة يستجيدها الخليفة ويقبل بيعتهم، وينبسطُ لابن العربيّ فيُدْنِيه، لما له من صِلَةٍ بأبي حامد الغزالي شيخ إمامهم المهدي، فيسأله: هل لقي المهدي في مجلس الغزالي؟ فيجيبه ابن العربيّ جوابا يعرف أنه يُرضيه، ويهمّه أن يسمعه الحاضرون، وأن يشيع بين النّاس على أنّه شهادة من ابن العربيّ الفقيه العالم، مؤدَّاها أن الغزالي كان يقول: "لا بدّ من ظُهوره". وفي نهاية الخبر تفيدُ الرِّواية أنّ الوفد انفصلَ من عند الخليفة بخيرٍ كثيرٍ وإنعام كبيرٍ، وواضح من السِّياق أنّ ذلك كان بفضل ذلاقة ابن العربيّ وكياسته وحُسن تأتِّيهِ، ومعرفته بمقاصد سياسة الموحِّدين، وما من شكٍّ في أنّ الخليفة عبد المؤمن قصد إلى أن يستصدرَ من ابن العربيّ ما يُشبه الفتوى بشرعيّة القول بظهور المهدي، وتعين أنّ المقصود به هو ابن تومرت، وأن الغزالي الّذي كان قد أحتلّ مكانةَ متميِّزةَ في الوسط الفكريّ يقدِّر خطورتها رجال السّياسة، كان يقول بحتمية ظهور المهديّ وتوقيت الظّهور، وأنّ المهديّ ابن تُومرت هو الهديّ المنتظر. ولم يغب عن عبد المؤمن أنّ ابن العربيّ هو الّذي سعى في إضفاء الشّرعية على دولة المرابطين، باستصدار مباركة أبي حامد الغزالي، وكان أبو بكر ابن ¬
العربيّ مُتَفَطِّنًا للظّروف والملابسات ومقاصد السّؤال الموجَّه إليه، فلم يقتصر على مقتضى المتبادر من الألفاظ، وهو مجرد الرؤية أو اللُقيا، وإنّما أجاب عن سؤال مُضْمَر غير منطوق ومقتضاه: ما رأيُ الغزاليّ في محمّد بن تومرت، وهل كان يرى أنّه المهديّ المنتظر، وأنّه يتحتّم ظهوره؟ فكان الجواب أنّ الغزالي كان يقول: "لا بدّ من ظُهوره"، وهكذا يكون ابن العربيّ قد فتح صفحة جديدة في علاقته بالموحِّدين، يُكفِّر بها عن سوابقه مع غرمائهم المرابطن، الّذين تقدَّمت خدماتُه لهم وإكرامهم إياه، وإسناد الوظائف له والمهمّات، بل لا نبالغ إذا قلنا بأنّ خدمة المرابطن كانت إرثا تَأَثلَه عن أبيه، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن خدمة السُّلطة والسَّعي لرضاها كان يجري في دَمِهِ، وأنّه ورثه من أبوَيْه: أخواله الهوازِئة، وأسرته المعافريّة اللّتين لعبتا الأدوار الأساسية على عهد العبّادية والمرابطيّة، فيصعُبُ عليه أن يتخلَّص من شهوة السُّلطة والطُّموح والنُّفوذ والوَجَاهة، والعِرْقُ غلاّبٌ ودسّاسٌ، وكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له. وكان من الأجدر لصاحبنا وهو في شيخوخته العالية ألاّ يتجشّم مشاقّ الرِّحلة إلى مراكُش، ومتاعب الغُربة عن الأهل في إشبيلية، ولكن الّذين استحلّوا القُرْبَ من أصحاب السلطان، يحسبون أنّ كلّ صيحة عليهم، فيتوهّمون أنّ عدَمَ المشاركة في الوفد الّذي يقَدِّم فروض الولاء والطاعة، قد تفسِّرُه السُّلطة على أنّه استمرارٌ في الوَلاَء لأعدائهم المرابطين، وربّما كان يرى ابن العربيّ أنّ رئاسته لهذا الوفد فرصة سانحة لربط الخيوط بالدولة الجديدة، والتّنصُّل من أن يُحسبَ على العهد القديم، فتنفتح له قلوب الموحّدين، ويحظى بالوَجَاهة والمكانة، ولم لا بالمنصب الرّفيع: القضاء أو المُشَاوَرة، ذلك ما نرجِّح -والله أعلم- أنّه كان يلح على خاطر ابن العربيّ، ويناسب طموحه المعهود فيه.
ونرجو أن لا يكون فيما استنتجناه أو تأوّلناه شيء من القسوة أو التّحامل؛ فإنّنا صحبنا ابن العربيّ وتراثه لأزيد من عشرين سنة دأبا، عكفنا فيها على دراسة ما وصلنا من تراثه المطبوع والمخطوط الّذي تناثرت أسفاره بين خزائن الأرض في بلاد الإسلام وديار الدَّعوَة، وحصَلَ لنا من الأنْسِ والألْفَة لأسلوب الرّجُل وطَبْعِه ما نحسبُ أنّه يعصمُ الرّأي من الشّطَطِ في الحكْم، والزَّلل في القول، والتّعسُّف في الاستنتاج. وربما يقتضي المقام ونحن في سياق نقد المصادر المغاربية، أن نشيد بمؤرِّخي الرِّجال الّذين آل إليهم ونهل من معينهم كلّ من جاء بعدَهم من المؤرِّخين، ونقصد هنا محمّد بن عبد الله بن الأبار [ت. 658 هـ] في "تكملته لكتاب الصِّلَة" وابن عبد الملك املراكشي في "ذيله". أما ابن الأبار؛ فإنّه وإن لم يُترجِم لابن العربيّ -اكتفاءً بما جاء عند ابن بَشْكُوال في "الصَّلَة" -فإنّ كتابه كان سخيّ العَطَاء في التأريخ لطبقة تلامذته وحَمَلَة رواياته، والتّحديث بمصنَّفاته ومرويّاته، وانتشار إجازاته شرقًا وغربًا واختراقها الآفاق، وهو ما يرشِّح كتاب: "التّكملة" لأن يكون معينًا لمن أراد أن يتبيّن استمرار تأثير ابن العربيّ روايةً وتأليفًا، وعطاءً ممتدًّا، من خلال من تخرَّج على يديه من أصحاب وتلامذة ومريدين حملوا علمه وبثوا هديه، ونشروا مصنفاته وأذاعوا ذكره، وزيّنوا للنّاس حُسْن مقاصده ومذاهبه. ومحمد بن محمّد بن عبد الملك المراكشي [ت. 703 هـ] في كتابه "الّذيل والتّكملة لكتابي الموصول والصِّلة" لم يكن أقلّ مشاركة في رَصدِ تأثير ابن العربيّ الممتد خلال القرنين السّادس والسّابع في رجالهما، من خلال تداوُل
رواياته ومصنّفاته وذكر أخباره، في يمكن القول بأنّ كتب مؤرِّخي الغرب الإِسلامي: القاضي عياض وابن بَشْكُوال وابن الأبار وابن عبد الملك المراكشي وابن الزبير الغرناطي، تُكَوِّنُ منظومة تتكاملُ حلقاتها، وتترابط عناصرها من خلال الإفادات الّتي تأتي مُوزَّعة على التراجم بدون أن تنتظم تحت عنوان جامِعٍ، ويبدو كأنها جاءت عفوًا من غير ترتيب مُسبَق، وعوَّل كُتَّاب التراجم والطبقات في العصور التالية عليها تعويلًا مطلقًا، يشهد بذلك ما نشاهده من تراجم لأبي بكر في هذه الكتب أو تراجم أصحابه. ويعتبر الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذّهبيّ [ت. 748 هـ] أعظم مؤرّخ مشرقيٍّ عُني بأبي بكر ابن العربيّ، فإنَّه لم يُخل أيَّ كتاب تاريخيّ له من ذِكْرِه، ففد أورد ذكره في "تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام"، و"العبر" (¬1)، و"الدول" (¬2)، و"الإعلام" (¬3)، و"الإشارة" (¬4)، و"تذكرة الحفاظ" (¬5)، و"سير أعلام النُّبَلاء" (¬6). ونسجِّل باستغراب أن يؤرَّخ في "الإشارة" و"الإعلام" و"العِبَر" (¬7) ¬
وفاة ابن العربيّ سنة: 546هـ، مخالفًا بذلك ما أجمع عليه المؤرِّخون؛ وفيهم أصحاب ابن العربيّ الّذين لا قول بعد قولهم؛ بل مخالفًا صنيعه في سائر مؤلفاته الّتي وافق فيها رأيه الصّواب. وقد تنوّعت هذه التراجم إلى تراجم أوجز القول في بعضها إيجازا بالغا؛ كـ "دول الإسلام" و"الإشارة" و"الإعلام" وبعضها في سطور معدودة كـ "العبر" وأوسع منه كـ "تاريخ الإسلام" لكنه بسط القول في "التّذْكِرة" و"سير أعلام النُّبَلاء". ويبدو من خلال قراءة هاتين الترجمتين أنّ الذّهبيّ حاول إن ينظر إلى أبي بكر ابن العربيّ من زوايا متعدِّدة، لم يُسلِم قياده للأندلسيين، وقد ذكر منهم ابن بَشْكُوال وابن مَسندِيّ واليسع بن حزم، وإنما نوَّع مصادره، فاستند إلى بعض المؤرخين المشارقة كأبي القاسم ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وابن النجار في "ذيله على تاريخ بغداد"، والحافظ أبي الحسن بن المفضل في "وَفَيَاتِه"، وابن خلِّكان في "أعيانه"، وكان من عطاء التّرجمة في الكتابين "التّذْكِرة" و"السِّيَر" -هذا التركيز المنظَّم والاختيار الموفَّق، فقد حَرَصَ على أن يخصَّ بالذِّكر العناصر الدّالة، من مثل: تحديد المولد نقلًا عن ابن بَشْكُوال، وتسجيل سماعه على خاله أبي عليّ الهوزني وتخصيصه بالذِّكر، وإجمال سائر شيوخه بالأندلس، وارتحاله مع أبيه، وترتيب مشيخته على الحواضر: بغداد، دمشق، الحرمين الشريفين، مصر، وتسجيله لمصنَّفاته معقِّبا عليها: "وأشياء سوى ذلك لم نشاهدها" (¬1). ¬
فهل يُفهَم من ذلك أنّ الكتب الّتي نصَّ عليها مما وقع له؟ قد يكون ذلك مُستساغًا، فلنذكر الكتب كما سَرَدَها، مرَّجِحين أن يكون قد شاهدها: "صنَّفَ "كتاب عارضة الأحوذي في شرح جامع أبي عيسى الترمذي" وفسَّر القرآن الجيد، فأتى بكلّ بديع، وله كتاب "كوكب الحديث" و"المسلسلات" و"كتاب الإنصاف في الفقه" و"كتاب أمهات السائل" و"كتاب نزهة الناظر" و"كتاب ستر العورة" و"المحصول في الأصول" و"حسم الداء في الكلام في حديث السوداء"، "كتاب في الرسائل وغوامض النحويين"، "كتاب ترتيب الرِّحلة للتَّرْغيب في المِلَّة" و"الفقه الأكبر للقلب الأصغر" وأشياء سوى ذلك لم نشاهدها". هناك إشارات في ترجمة الذّهبيّ تثير الانتباه، منها أحكام تخصّ ابن العربيّ، كتَحْلِيَتِه بالإمام، العلاّمة، الحافظ، صاحب التّصانيف، ومثل قوله: "كان رئيسا مُحتشمًا، وافر المال بحيث أنشأ على إشبيلية سُورًا من ماله" و"كان القاضي أبو بكر ممن يقال إنّه بلغ رتبة الاجتهاد"، "أدخل الأندلس عِلْمًا شريفا وإسنادًا مُنيفًا" بعبارة "التّذْكِرة" (¬1)، "وأدخل الأندلس إسنادا عاليا وعِلْمًا جمًّا" حسب عبارة "السِّيَر" (¬2)، ولا نعتقد أن تغاير العبارتين من قبيل التَّفنُّن في التّعبير، وأن كان الموصوف بهما واحدا في الحالتين، إلَّا أنّنا نميل إلى اعتبار أن التّعبيرين يتكاملان؛ لأنّ "الإسناد المنيف" قد يكون لأسباب ومن جهات أولاها العُلوّ. ¬
ومن الأشياء الّتي تستحق التوقُّف، نقْلُه أنَّ والد أبي بكر ابن العربيّ -وقد كان حريصا على إيراد كلّ ما يتعلّق به في هذه التّرجمة- توفي بمصر سنة:493هـ، مناقضا بها ما سجله بقوله: "رجع [ابن العربيّ] إلى الأندلس بعد أن دفن أباه في رحلته، أظنه ببيت القدس". ومن تمام عنايته بوالد أبي بكر ابن العربيّ أن ينقل عن أبي بكر بن طُرخان عنه قوله (¬1): "صحبتُ ابن حزم سبعة أعوام، وسمعتُ منه جميع مصنَّفاته سوى المجلد الأخير من كتاب "الفِصَل" وقرأنا من كتاب "الإيصال" له أربع مجلّدات (¬2) ولم يفتني شيء من تواليفه سوى هذا". وكذلك ذكر أن والد ابن العربيّ كان من كبار أصحاب أبي محمّد ابن حزم الظّاهريّ، بخلاف ابنه القاضي أبي بكر فإنّه منافِرٌ لابن حزم، يَحُطٌ عليه بنفس ثائرة. وهذا الحرص على إثبات العلاقة بين والد ابن العربيّ وابن حزم؛ إنّما هو مقدِّمة ليَنْفُثَ من خلالها ما قد نستشعره من ضيق بهذه المنافرة، ومن تبرُّمٍ ¬
من هذه الثورة على ابن حزم، وكأنه يريد أن يقول لنا: إنّ أبا بكر ابن العربيّ كان مرجُوُّا ألّا يعقّ أباه في شيوخه، وأن يلتزم معهم الأدب والتّوقير. وقد صوَّر لنا هذا الضيق عندما ان في رى مدافعا عن ابن العربيّ فيما ناله من سهام النقد، -والمقام مقام دفاع- استطرد قائلًا: "ولم أنْقُم على القاضي -رحمه الله- إلَّا إقذاعَهُ في ذمِّ ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرةً من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايقَ كغيره من الأيمة، والإنصافُ عزيزٌ". وختم الذّهبيّ ترجمة ابن العربيّ في "السِّيَر"و"التّذكِرَة" بحديث من "جزء" قد يكون حديث هلال الحفار. ونعتقدُ أنّ صنيع الإمام شمس الدِّين الذّهبيّ في هذه التّرجمة، فيه من الحبكة، وحسن استعمال الصادر، واختيار العناصر الوحية؛ ما يُعتبَر أنموذجا لبناء التّرجمة المحرَّرَة. والتراجم الّتي كتبت في هذا القرن بعد الذّهبيّ، لم يستطع أصحابها أن يطاوِلُوه، أو أن يحلِّقوا إلما الآفاق الّتي حلَّقَ فيها متفرِّدَا، فابن فضل الله العمري [ت. 749هـ] في "مسالك الأبصارفي ممالك الأمصار" (¬1)، لم يعد ما في "صِلَةِ" ابن بَشْكُوال إلّا بديباجة صاغ فيها تحليات أظهر فيها إنشائية متكلّفة: "الحافظ المشهور، والحامل له الزمن آيات الظُّهور، تجَوَّلَ في الأرض طَلَبًا في ¬
العِلْم، وتقديما لأمره المهمّ، ورحلَ من أقصى الأندلس حتّى أتى الحجاز، وخيَّم بالعراق، وعاد من الشرق بما ملأ الغرب بالإشراق ... " ومن البابة نفسها ترجمة الكمال جعفر بن تغلب الأدفوي [ت. 748هـ] فى "البدر السَّافر في أُنْس المسافِر" (¬1)؛ فقد كان عالة على ماعند أصحاب الصِّلات الأندلسية. ومن مترجميه أيضا صلاح الدِّين خليل أَيْبَك الصَّفّدِيّ [ت. 764هـ] فى كتابه: "الوافي بالوَفَيَات" (¬2) ذهب فيها مذهب الإيجاز والاختصار، مقتفيا فيها خُطى شيخه الشمس الذّهبيّ، وإن لم يصرِّح بذلك، فإنّه لا يخفَى على من اعتاد مراجعة التّواريخ أن يلاحظ أنّ الصَّفدِيّ كان يكتب من محبرة شيخه الذّهبيّ. ونذكر كتابين يَسَّرَت الطِّباعة تداولهما، وهما: "مرآة الجنان وعِبْرَة اليقظان فى معرفة حوادث الزّمان" (¬3) لعفيف الدِّين عبد الله بن أسعد اليافعيّ [ت.768هـ] وكتاب "البداية والنّهاية" (¬4) للحافظ أبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كّثِير [ت.774هـ]؛ فلا جديدَ يُذكر عندهما، إلّا ما ذَكّر ابنُ كثير من أنّ وفاةَ ابن العربيّ كانت سنة:545هـ، ولا ندرى سبب هذا الوهم الغليظ. ¬
وفي نهاية هذا القرن تَرْجَمَهُ أبو الحسن عليّ البُنَّاهي المالقي [كان حيًّا سنة:793 هـ] في كتابه: "المرقبة العُليا فيمن يستحقّ القضاء والفُتيا" (¬1) ترجمة جمعَ فيها ما ذكَرَهُ أبو القاسم بن بَشْكُوال وأبو جعفر ابن الزُّبَيْر، وناقش هذا الأخير في مكان دَفْنِ أبي بكر ابن العربيّ، حيث وهَّمَ ابن الزُّبير وغَلَّطَهُ، وأكدَّ أنّه إنّما دُفِنَ خارج باب المحروق، لا بباب الجيسة، قال: "وقد زرناه وشاهدنا قبره بحيث ذكرناه أرضاه الله وغفر لنا وله". وترجمه أيضًا برهان الدين إبراهيم بن عليّ بن فرحون [ت. 799 هـ] في كتابه: "الديباج الْمُذْهَب في معرفة أعيان الْمَذْهَب" (¬2) ترجمةً توسع فيها توَسُّعًا ملحوظا، ومن البيِّن أنّه استفاد من المترجمين المتقدِّمين، من أمثال القاضي عياض وابن بَشْكُوال وابن الزُّبير والذهبيّ. ويستوقفُنا في هذه الترجمة خبر يتعلَّق بوجود كتاب "أنوار الفجر" في خزانة السُّلطان أبي عنان المريني، نسخة تامّة تقع في ثمانين مجلّدا، وصِحَّة الخبر تقع مسؤوليتها على من نقل الخبر، والله أعلم. وبمناسبة الحديث عن كتاب ابن فوحون المالكي، نُدرج معه ثلاثة كتب في رجال المالكيّة عُنيت بترجمة أبي بكر ابن العربيّ: أوّلها: "طبقات المالكيّة" مخطوط المكتبة الوطنية بالجزائر تحت رقم: 491، اللوحة: 34 لمؤلِّف مجهول، كان مقيما بتونس، ومن تلاميذ ابن عَرْفَة، ومن ¬
زملاء أبي العباس المسيلي [ت. 789 هـ]، فيكون من رجال القرن الثامن يقينا. والثاني: مخطوط الخزانة العامة بالرباط، مجموعة عبد الحي الكتّاني، تحت رقم:270، لمحمد بن عبد السلام بن إسحاق الأموي المالكي، من مخضرمي القرنين الثامن والتاسع، حاول فيه أن يُعَرِّف بالأعلام المذكررين في "مختصر ابن الحاجب الفرعي" وسماه: "الإعلام كما في ابن الحاجب من الأسماء والأعلام" (¬1). والثالث: "طبقات المالكيّة" مخطوط الخزانة العامة، تحت رقم: 3928 د، لمؤلَّف مجهول، متأخِّر عن القرن التّاسع. والمخطوط الأخير أعلى نَفَسًا من سابقَيْه، وأسْخى مادّةً، وآصل نقولا. وفي القرن التاسع نجد شمس الدين محمّد بن ناصر الدِّين الدِّمشقيّ [ت. 842] في منظومته "بديعة الزمان" وشرحها "التبيان" [مخطوطة الخزانة العامة بالرباط، تحت رقم: 1804 د] قد تناول ترجمة أبي بكر ابن العربيّ بإيجاز واختصار. كما نجد المؤرِّخ الشهّير أحمد بن عليّ المقريزيّ [ت.845هـ] يترجم ¬
لصاحبنا ضمن الطارئين والزائرين لمصر، في كتابه: "المقفَّى الكبير" (¬1) الّذي أخلصه لتراجم الأعيان الّذين ولدوا في مصر ونشأوا فيها، أو طرأوا عليها، ووترجمته من أوسع التراجم في القرن التاسع، إذ تمكن من الاستفادة من مجموعة لا بأس بها من المصادر، من أهمها: "تاريخ دمشق" لابن عساكر، و"الصلة " لابن بشكوال، و"المغرب" لابن سعيد. ونجد في القرن التاسع أيضا بدر الدين العيني [ت. 855 هـ] في كتابه "كشف القناع المرنى عن مهمات الأسامي والكنى" (¬2) فقد ترجم له بقوله: "ابن العربيّ، أبو بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ، الأندلسيّ، الإشبيلي، الحافظ المشهور، وله مصنفات منها: "عاوضة الأحوذي" في شرح الترمذي" مات سنة: ثلاث وأربعين وخمس مدّة، ودفن بمدينة فاس". وكذلك جمال الدين يوسف بن تَغرِي بَرْدي الأتابكي [ت. 874 هـ] قد تناوله في كتابه "النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (¬3)، وهي ترجمة مختَصَرة، يُلاحظ فيها أنّه أرَّخَ وفاته بسنة: 546هـ؛ وهو وهم بيِّن. ¬
وفي القرن العاشر نجد جلال الدِّين عبد الرحمن بن أبي بكر السُّيوطيّ [ت. 911هـ] قد ترجَمَهُ في "طبقات المفسَّرين" (¬1) و"طبقات الحفَّاظ" (¬2) ترجمةً اتَّكأَ فيها على الذّهبيّ في "سِيَر أعلام النُّبلاء" و"التّذْكِرة" (5). أمّا "طبقات المفسَّرين" لشمس الدِّين محمّد بن عليّ الدّاوديّ [ت. 945 هـ] فقد اعتمد فيها على ما عند ابن فرحون في "الدّيباج" (¬3). وببدو أنَّه كلّما تقادم العهد، كلّما تزايد إحساس الباحث بأنّ احتمال الوقوف على تراجم تتضمَّن جديدا لم يُسبق أمْرٌ من قبيل المستحيل، يؤكّد ذلك ما سنعرضُ له من مصادر ومراجع متأخرّة، من مثل: "جَذوَة الاقتباس في ذِكْرِ من حَلَّ من الأعلام مدينة فاس" (¬4) لأحمد بن القاضي المكناسي (ت. 1025هـ)؛ فهي ليست إلَّا نسخة مما عند ابن فرحون، لم يكن هو نفسه إلَّا مجرَّد مُرَدَّدٍ لما عند سابقيه. على عكس ترجمتي أبي العباس أحمد بن محمّد المقَّريّ (ت. 1041هـ)، الحفيلتين الّتين عقدهما له في ذخِيرَتَيْه: "أزهار الرِّياض في أخبار عياض" (¬5). ¬
و"نفح الطَّيب" (¬1). فقد استجمع فيهما ما تناثر من تراجمه في كتب المغاربة والمشارقة، كالحِجَارِيّ في "المسهب"، وأبي عمرو بن الإمام في "سمط الجمان"، وأبي الوليد الشّنقندي في "الطُّرَف" وابن بَشْكُوال في "الصِّلة" وعياض في "الغُنْيَة"، وابن عساكر في "التاريخ" وابن سعيد في "المغْرِب" وابن خاقان في "المطمَح" وابن الزُّبير في "صلته" هذا مع حُسن استغلاله لا يتصّلُ. بابن العربيّ، مُنْتَزِعًا من تآليفه كقانون التأويل وغيره ما يساعد على رسم صورة واضحة المعالم ظاهرة الرسوم لسيرة صاحبنا -رحمة الله عليه-، وتظهر براعته واقتداره من خلال مناقشاته لمكان دفن ابن العربيّ في فاس. على أنَّ المقارنة بين التّرجمتين ترجِّح كفّة "نفح الطَّيب"، وقد أوردها في سياق ذكر الرحالة المغاربة إلى المشرق، فجاء أبو بكر ابن العربيّ ثامن الرَّحالين في الذكر، في حين أنّ مناسبة ذكره في "الأزهار" كان في سياق أشياخ القاضي عياض. ولم تخل التّرجمتان من أشعارٍ حِسانٍ وفوائد غريبة ومستملحات نوادر. ولا نغادر القرن الحادي عشر دون أن نشير إلى صنيع مصطفى ابن عبد الله كاتب جلي، المعروف بالحاج خليفة (ت. 1067هـ)، الّذي ما زال الباحثون يستشيرونه كلّما تعلَّق الأمر بأسماء الكتب، فقد أورد أسماء مؤلَّفاته موزَّعة حسب عناوينها على حروف الهجاء، مراعاة للترتيب الّذي ¬
ارتضاه لكتابه (¬1)، مع الإشارة إلى التّرجمة المقتضبة الّتي عقدها له في "سُلَّم ¬
الوُصُول إلى طبقات الفُحول" (¬1)، وهي ترجمة لا يمكن وضعها مع الإفادات الّتي تضمنها "كتاب كَشْف الظّنون عن أسامي الكُتُب والفُنون" في موضع واحد؛ لأنَّ ترجمة "السُّلَّم" لم تتضمن أيَّة عناصر أصيلة، في حين أنَّ إفادته في "الكشف" لا تخلو من أصالة، خصوصا إذا تعلَّق الأمر بمخطوط وقف عليه ووصفه وذكَر مطلعه، أو أشار إلى ما يحتويه من فصول، أو حدَّد تاريخ الفراغ من تأليفه، مما أدى إلى أن يتصدّر "كتاب كشف الظُّنون" منزلة متميّزة في المدرسة التراثية المعاصرة. ثم نتوقف عند كتاب ألَحَّ الباحثون المحدَثون على الاستمداد منه، حتّى كاد يحجب الأصول، فاستمد قيمته من يُسر الحصول عليه، والقصد هنا إلى كتاب عبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي (ت. 1089 هـ) "شَذَرات الذّهب ¬
في أخبار من ذهَب" (¬1) وقد عقد له ترجمة في صفحة ونصف في وفيات سنة: 546هـ وقد وهم فيه؛ بل هو سنة: 543 هـ كما نصَّ على ذلك تلميذاه عياض وابن بَشْكُوال، وهو شاء غير مستغرب من رجل كان معوَّله على "عبر" الذّهبيّ، يقتفي أثره ويترصَّد خُطاه، فيزلُّ قلمه كلّما زلَّت قدم الذّهبيّ. على أنَّه له في هذه التّرجمة لم يكتف بما عند الذّهبيَّ، بل أضاف إلى ذلك النَّقل عن ابن ناصر الدِّين الدِّمشقي وابن بَشْكُوال وابن خلّكان، فإن تَعْجَب فاعْجَب لابن العماد تكونُ بين يدَيه ترجمة ابن العربيّ بقلم تلميذه ابن بَشْكُوال الّذي يعرض أخبار شيخه غضَّة طريَّة تنبض بالحياة، وتفوح بعطر الجدَّة والأصالة، يسأل شيخه عن تاريخ مولده، فيسجّله مباشرة من فيه إلى الورقة، ويثبت تاريخ وفاته الّذي قد يكون بلغه نعيه في الشهر نفسه إن لم يبلغه في الأسبوع نفسه، ومما يستعظم إلَّا يملَّ ابن العماد من نقل سطور ذات العدد، وأن يتَّسع صبره دون كَلَل للمعروف من أخبار أبي بكر ابن العربيّ، ينسخُها من "الصِّلة" ولكنّه يتحاشى الفقرة الّتي حدَّد فيها ابن بَشنكُوال تاريخ وفاة شيخه بالشّهر واليوم، حتّى تسلَم له المتابعة. كما ينبغي الإشارة إلى التّرجمة المقتضبة لأحمد بن محمد الأدنوي من علماء القرن الحادي عشر، في كتابه "طبقات المفسرين" (¬2) ولا جديد فيها يذكر، وهي نسخ لا عند شمس الدِّين الذّهبَي. ¬
وفي القرن الثّاني عشر وما يليه، سوف نقفُ على كُتبٍ تكادُ تتقارب أغراض التّأليف فيها، وها كُتُبٌ مرتبطة بالمدن، فكتاب ابن عَيْشُون في "أخبار الصَّالحين من أهل فاس" وقريب منه كتاب محمّد بن جعفر "الصُّلحاء والعلماء من أهل فاس" ولا يبعد كثيرا عنهما كتاب العبَّاس بن إبراهيم التّعارجي، فهو في الّذين حلّوا مرّاكُش وأغمات من الأعلام. وقد سبق كتاب "جَذْوَة الاقتباس" وهو من بابة هذه الكتب، يغترف مما تغترف منه، ويسير على منوالها. فأمّا ابن عَيْشُون الشَّرَّاط؛ فإنّ ترجمته لأبي بكر ابن العربيّ في كتابه "الرَّوْض العَطِر الأنفاس بأخبار الصّالحين من أهل فاس" (¬1) لا تخلو من جديد، إذ نقل عن أبي القاسم بن أحمد البلوي المعروف بالبُرْزُليِّ [ت.841 هـ] في "نوازله" (¬2) خبر حفظه من "كتاب ابن الصيرفي" أنّ ابن العربيّ كان له شُرَط يطلُبون أهل الخمر، أمّا ابن الصيرفي فالغالب أن يكون هو أبو بكر يحي بن محمّد بن يوسف الأنصاري الغرناطي (ت.557) فإن يكن هو المعْنِيّ؛ فإنّه يكون من معاصِرِيهِ، وتكون الأخبار الّتي يسجّلها مما ينبغي أن تُتَلَقَّي بمزيد الاعتبار، ولكن البُرْزُليّ أبهم اسم الكتاب، فاحتجنا إلى البحث والتنقيب، فغلب على الظَّنِّ أن لا يخرج عن أحد كتابيه: "الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية" والرّجل مؤرِّخٌ معاصِرٌ لهذه الدّولة، مرتبط بها بأقوى الوشائج؛ لأنّه ¬
تولَّى الكتابة للأمير تاشفين بن عليّ بغرناطة، أو في كتابه الثاني: "تقَصِّي الأَنْبَاء في سِيَاق الرُّؤسَاء" الّذي ينقل منه ابن عَذارِي في "البيان المغرب" (¬1). ومهما يكن من أمر؛ فإنّ الكتابين مفقودان، ومن محاسن هذه التّرجمة أنّها نَبَّهَثْ إلى خَبَرِ ذِكرِ ابن الصيرفيّ في كتاب ما له، ما ككن الاعتبار به في نسْجِ خيوط التّرجمة المحرّرة لأبي بكر بن العربيّ في مصادرها المبكِّرة. ننتقل بعد ذلك إلى النّظر في كتاب: "سُلوة الأنفاس ومُحادَثةُ الأكْياس بمن أُقْبرَ من العلماء والصُّلحاء بفاس" (¬2) لمحمد بن جعفر الكتّاني (ت. 1345هـ) الّذي قدَّم ترجمة حفيلة لأبي بكر بن العربيّ باعتباره من مقبري مدينة فاس، وقد صاغها بعبارات مسجعة في تحليتها، مستقصية في أخبارها، مُتجاوزا بذلك ما يوجد عند ابن القاضي في "الْجَذْوة" والشّرّاط في "الرّوض" وقد طَغَت عليها المناقشات الجانبيّة، وبخاصّة الجوانب الصّوفية من مثل: هل يدخل ابن العربيّ ضمن الصُّلحاء الّذين يُتَبَرَّكُ بهم وُيزَارُون لأنَّهم من أهل الباطن؟ أو أنّه من علماء الظاهر الّذين يشفع لهم رسوخ قدمهم في العلم في الالتحاق بعلماء الباطن منزلة ومقامًا؟. والملاحظة اللافتة أنّ هذه التّرجمة تُعتبر من أجود التّراجم المتأخِّرة، لا لطولها وإحاطتها فحسب، وإنّما لحسن اختيار المترجم، وتوفّقه في اختيار مادّة التّرجمة ومصادرها، وطريقة معالجتها. ¬
وتبدو أهمية ترجمة الكتّاني في منزلتها الحقيقية عندما نقارن بينها وبين ترجمة عبّاس ابن إبراهيم السّملالي التّعارجيّ، قاضي مراكش (ت. 1378هـ) في كتابه: "الإعلام بمن حلَّ مرَّاكُش وأَغْمَات من الأعلام" (¬1) الّذي نقل ترجمة الكتّاني بحذافيرها نقلا لم يراع فيه المقام والسِّياق، إذ إنّ المدفون وما يقال فيه من عبارات، لا تناسب الزّائر وما ينعت فيه من نعوت، فتبدو بعض العبارات المكررة والمقحمة في غير سياقها نشازا نابية. وقد يكون من المفيد أن نستمر في عرض ما كتبه المؤرخون والدارسون لسيرة أبي بكر بن العربيّ، لكن المجال يضيق في مثل هذه المقدمة لكتاب المسالك، وعسى الله أن ييسر بمنه وفضله الكتابة في الموضوع، بصورة أقرب ما تكون إلى الاستيفاء والإحاطة والشمول. وإلى أن يتحقق هذا الوعد، نرى من المفيد أن لا نخلي هذه المقدمة بذكر توطئة مختصرة عن الكتب الجامعة الهادية الّتي ساهمت في تقريب صورة أبي بكر بن العربيّ لدى الدارسين والباحثين، وتيسير الاهتداء إلى تراثه، بتحديد أماكن وجوده، والتّمييز بين المطبوع منه والخطوط، وذلك صنيع شيخ الستشرقين الألمان كارل بروكلمان" " c. Brockelmann" [هك.1375هـ]، في كتابه "تاريخ الأدب العربي" " Geschite der Arabischen Litteratyr" (¬2) و"ذيله" (¬3) في أصله الألماني ¬
وترجمته العربية الفاسدة الساقطة (¬1)، فقد قَرَّبَ بعيدا، وجمع شتيتَا، ويسَّر صعبَا، وكان نافذة أطللنا من خلالها على جهود الاستشراق في خدمة تراث ابن العربيّ، ولم يكن من التّيسير الاستفادة من إشارته إلى جهود كُتِبَت بلُغات مختلفة، لولا أن مَنَّ الله علينا في ديار الغُربَة بخزانة المستشرق الإيطالي الشّهير الأمير ليون كايتاني، الّذي ترك خزانة ينتفع بها النّاس، في حين يكابد كثير من طلحة العدم المصائب، وتقفل دونهم الأبواب في الخزائن الخاصة في أرض الإسلام، والّتي لا ترق قلوب القائمين عليها ولا تحن، فإلى الله المشتكى، ولا غالب إلا هو سبحانه. كما لا ننسى التّرجمة الواردة في "دائرة المعارف الإِسلامية" (¬2) الّتي أرشدت المثقّفين خارج دار الإسلام بأهمية القاضي ابن العربيّ. وبمناسبة ذكر دوائر المعارف، نلفت أنظار الباحثين إلى كتاب يعدُّ أوّل مَعْلَمَة تاريخيّة وجغرافية في اللُّغة العربية (¬3)، وهو كتاب: "آثار الأدهار: القسم التاريخي" من تأليف: سليم جبرائيل الخوري (هك: 1875م) بمعاونة: سليم مخائيل شحادة (هك: 1907م) (¬4)، وترجمة ابن العربي في ¬
هذا الكتاب (¬1) لا بأس بها، فقد اعتمد صاحبها على الصلة البشكوالية، ونفح الطيب، وطرافتها أنها من أوائل الترجمات الّتي احتلت مكانها في ما يسمى بكتب دوائر المعارف الحديثة. والسّياق يقتضي ذكر الجهود الّتي أسهم بها المسلمون ما يمكن أن يماثل ما قام به المستشرقون، نخص بالذكر إسماعيل باشا بن محمّد أمين البغدادي [ت.1339 هـ] في كتابَيْه: أ- "إيضاح المكنون في الذّيْل على كشف الظنون". 2 - "هديّة العارفين". فإن كان الأوّل منهما اختصَّ كما فات صاحب "الكشف" فإن الثّاني منهما قدَّم فيه قائمة جامعة لأسماء مصنّفات أبي بكر ابن العربيّ على سياق حروف الهجاء، ولا يغضُّ منها أن تشوبها أوهام أو أخطاء الطّباعة، فذلك ما لا يغيب عن فطنة أهل هذا الشّأن. وقريب من صنيع إسماعيل باشا ما قدّمه عمر رضا كحّالة في كتابه: "معجم المؤلفين" (¬2) والمعروف أنه قلَّده وسار على هَدْيه يصيب حيث يصيب، ويتابعه في أوهامه وأخطائه، وعلى الرَّغم من كلّ المآخذ الّتي يُمكن أن توجَّه إلى الكتاب، إلّا أنّه قد أفاد أجيالا من طَلَبة العِلْم بعامّة وطَلَبَة الدِّراسات العُليا بخاصّة، وهذا ما لمسناه عند طلحة وطالبات جامعات المشرق العربي؛ وذلك لأن ¬
كحّالة -رحمه الله- توَسَّعَ في ذِكُرِ المصادر والمراجع المختلفة الّتي توفِّرُ على الباحث كثيرًا من الوقت والجهد، بينما لم يول عنايته للترجمة نفسها، فهي في غاية الوجازة والاختصار، وهذا ينطبق على ترجمته لصاحبنا. أما خير الدين الزّركلّي، فإنّ إقامته الطّويلة بالمغرب أضْفَت على كتابه المسمى: "الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب المستعربين والمستشرفين" (¬1) حلّة من الجدة والطرافة غذَّتها صداقته لسَدَنَة الخزانة المغربية: محمّد الفاسي ومحمّد بن أبي بكر التطواني ومحمّد إبراهيم الكتّاني وغيرهم. والكتاب لا نظير له في المراجع الهادية الّتي ترشد وتدل على المصادر الكبرى، وقد تميزت ترجمته لصاحبنا بالدقة البالغة في إبراز أهم ملامح المترجم، مع الإشارة إلى ما وجد من تراثه المطبوع والمخطوط. ¬
ما جد من تراث ابن العربي
ما جدَّ من تراث ابن العربيّ سبق لمحمد بن الحسين السُّليماني -كان الله له- التّحدُّث بإسهابٍ عن تراث أبي بكر بن العربيّ الفكريّ (¬1)، فأثبتَ قائمة بيبلوغرافية مُوثقة، حاول فيها إتمام ما كَتَبَه المعاصرون (¬2) عن مؤلَّفات القاضي، ولا نريد هنا تَكرار ما سبق ذِكْرُه، وإنّما سنقتصر على إثبات بعض ما جدَّ عندنا من خبر بعض المصنّفات، أو تصحيح ما وقع فيه محمّد بن الحسين من أخطاء وأوهام، فليس يَغُضُّ من قيمة أيٌ جهد أن يظهر بعده ما يضاف إليه، أو يُعدّله، أو ينسخه ويلغيه. علم الكلام: 1 - "الأمد الأقصى": يضاف إلى نُسَخ "الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العُلَى" المشهورة، نسخة مكتبة رضا في مدينة رامبور بالهند (¬3). ¬
وذكر الشّيخ محمّد المختار السُّوسيّ في "خِلاَل جَزُولَة" (¬1) أنّه وقف في الخزانة الأزاريقية حوالي سنة: 1362 هـ، على مجلد ضخم في "أسماء الله الحسنى" لا أوّل له ولا آخر، وغالبه بخطٍ نفيس قديم، يذكر الاسم كالسميع، فيذكر الفصل الأوّل: في مورده شريعة، والفصل الثاني: في شرحه كما فعل في السميع الّذي قرنه بالبصير، فذكر فيهما أنّهما بمعنى فاعل أو مفعل ... فاستشهد للكلّ عربية وحديثا وقرآنا. والفصل الثالث: في شرحه حقيقة وعقدا، فذكر سبع مسائل، والفصل الرابع: في التنزيل، والمقصود بالتنزيل كيف معنى الاسم مع العبد، فمثلا إذا علم أنّه سميع، فإنّه يحرص على أن لا يخطر بباله ولا يهمس إلَّا بما يرضي به ربَّه يقول السُّوسِيّ: "وهكذا يطيل النفس حول كلّ اسم، وفي بالي أن من بين من ألفوا في "أسماء الله الحسنى" أبا بكر المعافري، ولعلَّ المؤلف له". قلنا: هذا الكتاب هو "الأمد الأقصى" بلا أدنى ريب أو شبهة. 2 - "الأفعال": يضاف إلى نسخة الخزانة العامة بالرباط: (4/ ق) نسخة مكتبة رضا، بمدينة رامبور بالهند، تحت رقم: (1326 M) ، وهي بعنوان: "قصد الإكمال بالنظَّر في الأفعال" كُتِبت بخطٍّ نسخيٍّ، عدد الأوراق: 36 ورقة (من194/ أ - 229/ ب) عدد الأسطر: 12 سطرا، وهي من مخطوطات القرن السابع الهجري، وفي حالة جيدة، إلَّا أنّها تأثرت قليلًا بالرطوبة. ¬
وقد اعتنى بها الأخ عبد المجيد ريَّاش وتقدمَّ بها لنيل شهادة الماجستير في العلوم الإِسلامية، بالمعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر سنة: 1414 هـ، واعتمد فيها على نسختي: المكتبة الوطنية بالجزائر، والخزانة العامة بالرَّباط. 3 - "رسالة في أصول الدين": ولدَيْنَا في خزانتنا الحمّوديّة الخاصّة نسخة مخطوطة من هذه الرِّسالة النّادرة، تقع في 18 صفحة من القطع الصغير، مقاسها: 17*12.5، كُتِبَت بخطٍّ مغربيٍّ يميل إلى التُّونسيّ ويقرُبُ من المجوْهَرِ، من القرن العاشر تقديرًا، مِدادُها صمغيٌّ، أتَت الأرَضَة على الوسط الأعلى منها، مما أدَّى إلى إلحاق الضَّرر ببعض العبارات. والنُّسخة غفلٌ من تاريخ النّسخ، ولا يُعرَف كاتبها، بدايتها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، صلى الله على سيدنا محمد وآله. قال الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر محمّد بن أحمد (¬1) بن عبد الله بن العربي -رحمه الله ورضي عنه -: الحمد لله والصلاة والسلام على المولى رسول - صلى الله عليه وسلم -، معرفة المعبود فرض بإجماع على جميع العبيد، أولهم الرسل وآخرهم من يأتي إلى يوم القيامة ... ". والّذي وصَلَنَا من هذا الكتاب هو قسم الإلهيات، وجزء بسيط من قسم النُبّوات، فقد تضمَّن باب العلم بالله وصفاته، والنظر في خلق الأعمال والقول في النبوات. ¬
علوم القرآن
وقارئ الكتاب يحسُّ بروح أسلوب ابن العربيّ وطريقته في العرض والمناقشة، كما يجد كثيرا من الآراء والتعريفات المعهودة والمعروفة لدى القاضي في مختلف مصنفاته (¬1). كما أنّه أحال في لوحة 9/ ب على "شرح الحديث" وهو من كُتُبه الّتي يُكثِر من الإحالة عليها. علوم القرآن: 4 - "أحكام القرآن": ذكر محمّد المختار السُّوسيّ في "خِلال جَزُولَة" (¬2): أنَّه وقف في الخزانة الأزاريقيّة على نسخة من "أحكام القرآن الكبرى" عتيقة للغاية، تلاشت أطرافها وسقط آخرها، فسقط ما لعلَّه يكون تاريخ النسخ. قلنا: وقد وقفنا على عدّة نُسخ يُكمَّلُ بعضها بعضا في الخزانة العامّة بالرباط، يمكن الاستفادة منها عند نشر الكتاب مرَّة أخرى فيما يستقبل من الأيام إن شاء الله. والغريب حقَّا أن جميع طبعات هذا الكتاب منذ الطبعة الأولى الّتي طبعت بأمر السلطان مولاي عبد الحفيظ العلوي سنة:1331 هـ إلى آخر طبعة في بيروت، خلت تماما من المقدّمة، وقد شغلنا هذا الأمر، فبحثنا عنها في مختلف خزانات الكتب، حتّى وفقنا الله إلى العثور عليها في مكتبة متحف طوب قبو، ¬
بإستانبول تحت رقم:1/ 130 A، رقم التصنيف: 1820.كما وجدناها أيضًا ثابتة في نسخة مكتبة برلين بألمانيا تحت رقم: 46 MF،801. ونظرا لأهميتها؛ رأينا من المفيد والمستحسن أن نثبتها في هذا المدخل، وهي كالتالي: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عونك اللهم برحمتك. قال الإمام القاضي أبو بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ -رضي الله عنه-: ذِكْرُ الله مُقدَّم على كلّ أمر ذي بال، ومن لم يطع الله فعمرهُ عليه وبال. فحقُّ على كلّ متعاطي أمرٍ أن يجعله مفتنحه ومختتمه، عسى الله أن يسامحه فيما اجترمه، فما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. ولو كنا مفيضين في غير الباب الّذي إليه تصدَّينا، وإياه انتحينا، لالتزمناه في كلّ فصل، وأعددناه ذخيرة ليوم الفصل. ولكنا بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده؛ في كتابه نتكلّم، وبذكره سبحانه نبدأ ونختتم، ومتناولنا القول في جمل من علوم القرآن، وإذ كانت علومه لا تحصى، ومعارفه كما سبق بيانه منّي لا تستقصى، وعلى الخبير سقطت، فإنَّا جعلناه أيام طلبنا غرضنا الأظهر (¬1) ومقصدنا الأكبر؛ لأنَّه الأوَّل في المعلومات، والآخر في المبادئ من المعارف والغايات. ¬
وقد انتحى العلماء هذا الغرض الّذي نحن فيه، فآخذ بحظٍّ ومقصّر في آخر، وربّنا تعالى يعلم المستقدم من المستأخر، فالعلم مقسوم كما أن الرّزْق محتوم وهو فيه. وقد نجز القول في القسم الأوّل من علوم القرآن وهو التوحيد، وفي القسم الثاني وهو النّاسخ والمنسوخ على وجه فيه إقناع؛ بل غاية لمن أنصف وكفاية؛ بل سَعَةٌ لمن سلَّم للحق واعترف، فتعيَّن الاعتناء بالقسم الثالث وهو القول في أحكام أفعال المكلّفين الشرعية، وهو باب قَرَعَهُ جماعة، فأولجوا وأغاروا فيه على صاحبه، فبحثوا فيه ما بحثوا واستخرجوا، والفضل للمتقدِّم. ولم يؤلَّف في الباب أحد كتابًا به احتفال إلَّا محمّد بن جرير الطبري، شيخ الدين، فجاء بالعجب العُجاب، ونشر فيه لباب الألباب ... ". 5 - "الأحكام الصغرى" تولت المنظمة الإِسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو) نشره، فتم طبع الجزء الأول باعتناء: سعيد أحمد أعراب سنة:1412هـ، والجزء الثاني باعتناء: محمّد الزيزي ومحمد البكاري، سنة:1415هـ، ثم طبع طبعة ثانية، سنة:1422هـ، ونشر بالاشتراك بين المنظمة الإِسلامية للتربية والعلوم ودار التقريب بين المذاهب الإِسلامية ببيروت، وراجع الجزء الأول: محمد توفيق أبو علي، والجزء الثاني راجعة: أحمد حاطوم. 6 - "معرفة قانون التأويل" ذكر أحمد بن محمّد بن داود الجزولي التملي الهشتوكي (ت. 1127هـ)، في كتابه: "هداية الملك العلام إلى بيت الله الحرام والوقوف بالمشاعر العظام
الفقه وأصوله
وزيارة النبي عليه الصلاة والسلام" (¬1) أنّ خزانة الإمام بلقاسم بن عبد الجبار الفجيجي (¬2) (ت. 1021هـ) كانت تحتوي على جزء من "القانون" لأبي بكر ابن العربيّ، من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ...} إلى قوله سبحانه في سورة الأعراف" {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ..} [الأعراف: 63] وهذا السِّفْر هو الخامس (¬3). الفقه وأصوله: 7 - "المحصول في علم الأصول" إلى جانب نسخة فيض الله أفندي بإستانبول، وقفت على نسخة خطية في مكتبة دعي الأسكوريال تحت رقم: 1191 من صفحة 60 - 108، وهي بعنوان: "نكت المحصول في علم الأصول". 8 - "الرِّسالة الحاكمة على الأَيْمَان الّلازمة" ذكر محمد السُّليماني في مقدَّمته على "قانون التأويل" (¬4) أنّه كان قد كتب تقريرا مفصَّلا عن هذه الرِّسالة، ولكن قدَّر الله أن يضيع الكُنَّاش المشتمل على ¬
تلك المعلومات، وها نحن الآن نثبت مقدِّمة الرِّسالة المحفوظة بالخزانة العامّة بالرباط تحت رقم: 37 ك، لوحة 45 إلى 48: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمّد. الرَّسالة الحاكمة في مسألة الأيْمَان اللازمة: تحرير الفقيه الحافظ القاضي أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن محمّد بن العربيّ الإشبيلي -رضي الله عنه-: الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمّد خاتم النَّبين، والعاقبة للمتَّقين، والرفعة في الدرجات للعالمين ... السؤال وكَثُرَ الاهتبال بمسألة الأيمان لبيان ما فيها منا الإشكال، وتعين الحق من الوجوه الّتي تتطرَّق إليها من الاحتمال، ولولا تعيين المفترض بإيضاح الغرض لفقد المعارف بموت العارف، لأمسكنا (¬1) عنها لوجهين: أحدهما: أن علماءنا المقدِّمتين لم يرو عنهم فيها ذكر. الثاني: أنّ من ذكرها منهم إنما ذكر المقالة عارية عن البرهان والدلالة. وهي مسألة متشعّبة الطرق، لتعلُّقها باللغة والأصول والفقه. فيجوز أن يضيق عنها عطن الفقيه، ويتحيَّر فيها الفطين النّبيه ... بيد أنَّه لإلحاح رغبتكم، تعيَّن إنجاح طلبتكم. فقرعت بالفكر بابها، وهتكتُ بالبيان حجابها. فاجتزت حوزتها، وافترعت عورتها، وخرجتُ فيها لكم عن نُكت يعزُّ وجودها ويعسُر ¬
دركها، تعينكم على الحقّ فيها، وسميتها: "الرِّسالة الحاكمة في الأيمان اللازمة". فاتحة: اعلموا -وفّقكم الله- أنَّ المتقدِّمين من أرباب المذاهب ليس لهم في هذه المسألة نصٌّ؛ لأنَّها لم تقع في زمانهم، ولا اعتادها أهل بلادهم، وإنَّما جرت على ألسنة: المتأخرين من الناس في بعض الأقطار. فتكلّم فيها من المفتين من جاءت في زمانهم، ووقعت في بلادهم. وقد نقل بعض المختالين؛ بل المحتالين في ذلك من كلام محمّد ابن سحنون عن أبيه ما نصُّه: وسألته عن الحالف بالأيمان اللازمة فقال: اختلف شيوخنا المتقدّمون، فقال محمّد بن مسلمة: تلزمه طلقة واحدة، وثلث ماله للمساكين وحجّ بيت الله الحرام ... ". قلنا: وقد بناها المؤلّف على أربعة أقطاب، ومن أسف فإنّها مبتورة الأخير، والّذي وصلنا هو القطب الأوُّل في إثبات أن الطلاق يمين ردًّا على من ينكر ذلك. والقطب الثاني: في تحقيق الفقهاء فيها. والقطب الثالث: في ذكر المسألة ومصادرها في الأدلة. 9 - "رسالة في الفقه" وقف الشيخ محمّد المختار السُّوسِيّ (¬1) في الخزانة الأزاريقيّة على مجموع يضمّ مؤلّفات شتّى تصل إلى اثنتي عشرة رسالة، والرسالة الأخيرة منه مؤلف فيه رسالة فقهية لمحمد بن عبد الله بن محمد بن العربيّ المعافري. قال السُّوسِيّ: "ولعلَّه ابن العربيّ المعافري الشهير". ¬
الزهد والتربية
الزّهد والتّربية: 10 - "سراج المهْتَدِين في آداب الصّالحين" وهم محمّد السُّليماني (¬1) وهما بيِّنا عندما ذكَرَ في مقدّمة "قانون التأويل" (¬2) أن ابن العربيّ كان كثيرا ما ينتقد في ثنايا "سراج الهتدين" آراء الصوفية في المحبَّة والعشق الإلهي وما إلى ذلك، مستظهرًا على خصومه بالحجج والبراهين، مؤيِّدًا مذهبه بشواهد المعقول والمنقول. وهذا الكلام لا ينطبق على كتاب "سراج المهتدين" وإنَّما ينطبق على كتاب "سراج المريدين"، وقد نشر الكتاب في تطوان، عن منشورات البعث الإِسلامي سنة:1412هـ، صحّحه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: أبو أويس محمّد أبو خبزة الحسَنِيّ. يقول ابن العربيّ في مقدمته لكتاب "سراج المهتدين": "وبعد: فإنَّ خير الكلام بعد كلام الله العزيز المجيد، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كلام سيد المرسلين، وإمام المتقين، الّذي أوتي جوامع الكلّم، وبدائع الحكم، الدَّال على مكارم الأخلاق ومحاسنها، والباعث على ممادح الآداب ومحامدها. وإني نظرتُ في كتاب القاضي أبي عبد الله ¬
محمّد بن سلامة القُضاعي المُسمَّى بكتاب "الشهاب في المواعظ والآداب" المستخرج من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فرأيته محتاجا إلى التحمير (¬1)، أخرج فيه كلّمات كثيرة من واهي الحديث وضعيفه ومرسله وموقوفه، فاستخرتُ الله تعالى على أن أخرج من حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المستقيم لا السّقيم، لكن من الصحيح المأثور، أو الحسن المشهور. كتابًا أنحو فيه نحوه، وأحذو حذوه، يشتمل على نحو ما اشتمل عليه كتاب "الشهاب" من الكلّمات والأبواب، وسمَّيته: "سراج المهتدين في آداب الصالحين" وقدمتُ بين يدي أبوابه بابا من كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربّنا جلّ وعزّ، وأختمه -إن شاء الله- بباب يشتمل على كثير من أدعيته في أحواله واستعاذاته -عليه السلام-، وبالله أستعين، وإليه أضرع في أن يجعل سعيي في ذلك كلّه في ذاته، وسببًا إلى نيل مرضاته، ولا حول ولا قوة إلا الله". ولاحظ العلاّمة بوخبزة أنّ القاضي ابن العربيّ لم يف بوعده في صيانة كتابه هذا عن الضعيف، فأورد فيه أحاديث كثيرة ضعيفة. كما لاحظ أنَّ المؤلِّف لم يرتب أحاديث الكتاب لا على الأبواب ولا على الحروف ولا على المسانيد (¬2)، كما لم يذكر الصحابي راوي الحديث ولا من خرَّجه من الأئمَّة. ¬
اللغة والأدب
اللغة والأدب: 11 - مسألة نحوية في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصروا الإبل" هذه الرِّسالة عبارة عن سؤال طرح على ابن العربيّ عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصروا الإبل" هل هي مبنية لما لم بسم فاعله، أم مركبة على الفاعل؟ وقد نشرت هذه الرِّسالة الأستاذة حياة قارة في مجلة الدراسات اللغوية الّتي تصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية بالرياض، المجلد: 2، العدد:2،جمادى الآخرة، سنة:1412هـ، من صفحة:191 - إلى: 208. واعتمدت الأستاذة على مخطوطة محفوظة بالزاوية الحمزاوية بإقليم الراشدية بالمغرب الأقصى، تحت رقم: 91، في ثلاث صفحات من حجم متوسط، نسخت سنة: 698 هـ 12 - "المجتبى في شرح الموطأ" نسبه إليه الشيخ محمَّد مختار السوسي في "خلال جزولة" (¬1) وذكر أنه وقف على نسخة منه بخزانة أدوز بسوس، ناقصة. قلنا: الظاهر أن هذه النُّسخة هي جزء من كتابنا "المسالك" والله أعلم. ¬
نقد واستدراك
نقد واستدراك: جدَّت لنا بعض المعلومات الّتي تتعلق بأسماء كتب ابن العربيّ وموضوعاتها، فأردنا أن نستدرك ما فات محمّد السُّليماني في مقدمته للطبعة الأولى لقانون التأويل، وقد صنفناها على حسب موضوعات العلوم. الفقه والأصول: كتاب: "نواهي الدواهي". ذكر أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في كتابه: "ابن حزم خلال ألف عام" (¬1)، أن محمَّد إبراهيم الكنّاني كتب له برسالة يفيده فيها بأنَّ محمّد زاهد الكوثري يزعم أنَّ من "النواهي والدواهي" لابن العربيّ نسخة خطيَّة بإحدى مكتبات مصر. قلنا: وقد خابرنا في هذا الموضوع الأستاذ محمّد الراوندي، فأفادنا بالكلام التالي: "في مرَّة فاتحتُ الأستاذ محمّد إبراهيم الكتّاني فيما يدَّعيه ابن عقيل الظّاهري، فقال: إن هذا الرَّجُل عريض الادِّعاءات، كثير المجازفة، لا يُعوَّل عليه في نقل، ولايُعتمَد في نقل خبر". - "كتاب الاستيفاء" ذكره المؤلِّف في أحكام القرآن: 2/ 755، مقرونا بالمحصول، مما يدُلّ على ¬
الكلام والفلسفة
أنَّه في أصول الفقه، كما نسبه إليه صاحب "عدّة البروق" (¬1). - "الإنصاف لتكملة كتاب الإشراف" أحال عليه المؤلِّف في المسالك (¬2) والظّاهر أنّه هو كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" الّذي أورده محمَّد السليماني - في مقدمة "قانون التأويل" (¬3)، ويحتمل أن يكون هذا الكتاب تتمة موضوعية لكتاب "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب، أو تذييلا عليه. الكلام والفلسفة: - "الإملاء على التهافت" (¬4) الظاهر أنَّ هذا الكتاب عبارة عن تعليقات على كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي، ويحتمل أيضًا أن يكون غير ذلك، وقد ذكره في "العواصم" فقال: "وسترى ذلك في "الإملاء على التهافت" إن شاء الله تعالى". ¬
- "أحكام العباد في المعاد" ذكره المؤلِّف في "أحكام القرآن ": 1/ 513،في إثناء كلامه على مسألة تتعلَّق بالمجاهرة بالظلم، والدعوة على الظالم، وذِكرِ الظُّلم من غير زيادة عليه. - "ورقات في الحيض" ذكره المؤلِّف في "العارضة" (¬1) فقال: "وقد كنا جمعنا فيه نحوا من خمس مئة ورقة، أحاديثه نحو من مئة، وطرقها نحو من مدّة وخمسين، ومسائله بتفريعها ودليلها مثلها". - "رسالة في الأيمَان المكروهة" ذكرها المؤلف في "أحكام القرآن": 2/ 445. - "رسالة تقويم الفتوى على أهل الدَّعوى" ذكرها المُؤلّف في "أحكام القرآن": 3/ 1212. - "جزء في تعليق الطلاق على أجل" ورد ذكره في "أحكام القرآن": 4/ 1968. - "جزء في مسح الأرجل" ذكره المؤلّف في "أحكام القرآن" (¬2) بقوله: "وقد بيَّنَّا أيضًا أنَّها تكون ممسوحة تحت الخُفَّين، وذلك ظاهر في البيان، وقد أفردناها مستقلَّة في جزء". ¬
الحديث وعلومه
الحديث وعلومه: - رسالة في حديث: "من كذب عليّ متعمدا ... " ذكره المؤلّف في العارضة: 10/ 126، وأشار إلى أنّه جمع في هذا الحديث جزءا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرمن أربعين رجلًا. - "شرح حديث الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" ذكره في المسالك: 2/ 233. - "الفوائد الخمسون " ورد ذكره في "العارضة": 3/ 264، في معرض شرحه حديث: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" قال ابن العربيّ: هذا حديث صحيحٌ عزيزٌ لم يقع لأحَدٍ من أهل المغرب قبل رحلتي، وهو من فوائد الخمسين الّتي انفردتُ بإبلاغها عن الشّريعة إلى أهل المغرب، فظنُّوا أنّه لا يوجد صحيحًا. قلنا: ويحتمل أن تكون هذه الفوائد مبثوتة في مختلف كتبه، ولم يجمعها في كتاب مستقل. "الصريح في شرح الصحيح" ورد ذكره عند ابن رُشَيْد السَّبْتي في "مِلْئ العَيْبَة بما جمع بطول الغَيْبَة" (¬1)، وذكَرَهُ المؤلف في "العارضة ": 2/ 141، ولعلَّه الكتاب الّذي رجع إليه ابن حجر في "فتح الباري":-1/ 83. ¬
"كتاب أوهام الصحابة" ذكره الؤلّف في "العارضة":1/ 215، بقوله: "وقد زعم الخطيب البغدادي أن حرام بن معاوية هو حزام بن حكيم الدمشقي، وقد بيَّنَّا ذلك في "كتاب أوهام الصحابة". "جزء في خبر الواحد". ذكره في "أحكام القرآن": 2/ 579. "مصافحة البخاري ومسلم" نسبها إليه ابن خير في فهرسته (¬1)، ورواها عنه، قال: "حدَّثني بها القاضي أبو بكر ابن العربيّ - رحمه الله - وهم أحد وأربعون رجلًا، خرَّج عن كلّ واحد منهم حديثا، قرإته على شيخنا القاضي أبي بكر ابن العربيّ - رحمه الله. كتاب "آداب الأكلّ": ذكَرَهُ المؤلِّف في "العارضة": 8/ 25، فقال: "قد ذكرنا آداب الأكلّ في القسم الرابع من علوم القرآن، وبلغنا نحوا من مدّة وثمانين أدبا، وقد كُنَّا تذاكرنا في مجلس الملك آداب الأكلّ، فقلت: هي نحو من مدّة وخمسين، فقال بعض الحاسدين من المتوسمين بالفتوى: ما جمعها اللوح المحفوظ، فأطلق الحسد لسانه حتّى أوقعه في الكفر، وسألني الملك جمعها ففعلتُ، فخزي المسكين، وباء به إلى حزبه اللعين". ¬
كتب اللغة والرحلات
كتب اللغة والرحلات: "الرحلة الصغرى" نسبه إليه المنتوري في فهرسته: الورقة 106، فقال: الرحلة الصغرى للقاضي أبي بكر بن عبد الله بن العربيّ المعافري "قرأت بعضها على شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمَّد بن محمَّد القيجاطي، وأجاز لي جميعها، وحدَّثني بها عن القاضي أبي البركات محمّد بن محمّد بن الحاج، عن الأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الغافقي، عن القاضي أبي عبد الله محمّد إنما محمّد الحجري عنه". ومما يتصلُ بهذا، ما ذكر عبد الحي الكتّاني في تقريظ كتاب "دليل الحجّ والسياحة" (¬1) لمؤلفه أحمد بن محمّد الهواري من أنَّه وقف على "ترتيب رحلة ابن العربيّ لشرف الدين المغيلي المالكي". قلنا: يغلبُ على الظَّنّ، أن كلّ ذلك يتعلَّق كما يسمَّى بمقدِّمة "قانون التأويل" الّذي عوَّضَ به رحلته الضائعة: "ترتيب الرحلة في الترغيب إلى الملة". - "المنار" ذكره المؤلِّف في "أحكام القرآن": 4/ 929، فقال: "كنت قيَّدت في فوائدي بالمنار". ¬
كتب منسوبة لابن العربي
- "أخبار سابق البربري" نسبه إليه ابن خير في فهرسته: 407. كتب منسوبة لابن العربيّ: 1 - كتاب الحق نسبه إليه الأستاذ سعيد أعراب في كتابه "مع القاضي أبي بكر ابن العربيّ" (¬1)، ونسبة هذا الكتاب خطأً نتج عن تصحيف في "العارضة" (¬2)، حيث ورد العبارة: داوقد بيَّنَّا في كتاب الحق" والصواب: "وقد بيَّنَّا في كتاب الحجّ". 2 - "الوقف والابتداء" نسبه إليه الشيخ سليمان النَّدْويّ في "مذكَّراته" (¬3) عند زيارته لكتبة رباط سيدنا عثمان بالمدينة النبوية المنورة. 3 - "لبّ العقول" نسبه إليه ابن كمال باشا في "رسالته في حال أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬4)، فقال: "الإمام أبو بكر ابن العربيّ، أكدَّ هذا في كتابه المُسمَّى بـ "لبّ العقول"، فقال: أما أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من أشراف الجنة ... ". ¬
هذا وإننا نشكّ في صحة نسبة كتاب "التقريب والتبيين في شرح التلقين" (¬1)، و"أحكام الآخرة والكشف عن أسرارها الباهرة" (¬2)، فقد كتبا بأسلوب لا ينسجم مع أسلوب ابن العربيّ، لا منهجا ولا روحًا ولا شكلًا ولا يمكننا الآن أن نُدَلِّل على هذا صحَّة ما ندَّعيه، لبعد الأصول المخطوطة لهذين الكتابين عنّاولعلَّنا نرجع لهما فيما يُستقبل من الأيام إن شاء الله تعالى. ¬
الباب الثاني موطأ الإمام مالك بن أنس وعناية العلماء به
الباب الثاني موطّأ الإمام مالك بن أنس وعناية العلماء به
موطأ الإمام مالك بن أنس وعناية الأمة به
موطّأ الإمام مالك بن أنس وعناية الأُمَّة به تمهيد: نبذة عن سيرة مالك لا يمكننا في هذه التوطئة أن نُتَرْجِمَ للإمام مالك ترجمة مستوفاة لعدّة اعتبارات، لا طليعتها سعَةٌ مجال مشاركته في مختلف المعارف والمواقع؛ في القرآن وعلومه، والحديث وفنونه، وفي المواقع السياسية والفكرية من تاريخ أمته، مما أفسح المجال للقول، فأسهم فيه على تتالي العصور القدامى والّمحدَثون. فقد كتب عنه المتقدَّمون عشرات المؤلّفات الّتي استقصت مناقبه وفضائله، واستوعبت سيرته بشكلّ دقيق، كما اهتم به المعاصرون، فألَّفوا عنه الكتب الماتعة الَّتي أبرزت أثره العظيم في الحياة الإِسلامية من القرن الثاني للهجرة إلى يوم النَّاس هذا، وقد ساق القاضي عياض قائمة حفيلة بالأيمة الَّذين تناولوا أخبار الإمام ومناقبه، مما يُغني عن الإعادة والتَّكرار (¬1). ولكن هذا لا يمنعنا من الإشارة باقتضاب إلى نبذة مختصرة عنه رحمة الله عليه. فهو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر وابن ¬
الحارث، الأصْبُحيّ صَلِيبةَ، نسبة إلى ذي أصْبُح من ملوك اليمن، الحِمْيَريّ، القَحْطانيّ، اليميىّ، ثم المدَنيّ (¬1). طلب العلم وه وابن بضع عشرة سنة: (¬2)، وطاف على شيوخ الحرمين وتخرَّج على أيديهم. يقول الإمام الذّهبيّ: "تأهَّلَ للفُتيا وجلس للإفتاء وله إحدى وعشرون سنة، وحدَّثَ عنه جماعة وهو شاب طريّ، وقَصَدَهُ طَلَبَة العِلم من الآفاق في آخِر خلافة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا في خلافة الرشيد إلى أن مات" (¬3). وقد عرف مالك بشذَّة التَّحرِّي في الحكم على رجال العلم، فكان يقول: لا يؤخذ العِلْم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من سَفِيهٍ مُعلن بالسَّفه وإن كان أرْوَى الناس، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتّهمه أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرفُ ما يحدِّث به (¬4). ¬
الموطأ
وقال: أدركتُ في مسجدنا هذا ستّين أو سبعين من التّابعين لم أكتب إلّا ممن يعرف حلال الحديث وحوامه وزيادته ونقصانه (¬1). ويقول سفيان بن عُيَيْنَة: ما كان أشدّ انتقاء مالك للرّجال وأعلمه بشأنهم (¬2). وقال: إن مالكًا لا يحدَّث إلّا عن ثِقَة (¬3). وقال الشّافعيّ: إذا جاء الحديث عن مالك فشدّ به يدك (¬4). وقال أبو حاتم: مالك نقيّ الرِّجال، نقيّ الحديث، وهو أنقى حديثا من الثوريّ والأوزاعي (¬5). الموطأ: لم يكن مالكٌ - رحمه الله - حريصًا على الإكثار من الرّواية، فكان يقول: ليس العلم بكثرة الرِّواية، وإنما هو نُورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء. بهذه الكلمة خطَّ الإمام منهجه في العلم، وعليها بَنَى صنيعه في كتابه، فقد جعل هذا الكتاب قليلًا من كثير، هو القليل الَّذي أثبته وحدَّث به وأشاعه في النّاس، من الكثير الَّذي رواه وحفظه وكتبه، ثم تركه فلم يحدِّث به ولم يعتمده. قال سليمان بن بلال: "لقد وضع مالك "الموطَّأ" وفيه أربعة آلاف حديث -أو ¬
قال أكثر - فمات وهي ألف حديث ونيف، يخلِّصها عامًا عامًا، بقدر ما يرى أنَّه أصلح وأمتن في الدِّين" (¬1)، وبذلك كان مالك لهذه الأُمَّة إمامًا هاديًا، أراها كيف تخدم الفقه بالعلم، وتجمع بين الأثر والنَّظَر، ونُقيم مِعْيار النّقد للأخبار المأثورة عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى لا يختلط عليها من أمر دينها ما يُنافي عِصمته ويخلّ بأحكامه. وقد أظهر مالك طريقته الَّتي سار عليها في الرِّواية في كتابه "الموطَّأ" فأثبت فيه أحسن ما صحّ عنده من الآثار المرويّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما رُوِي عن الخلفاء الرّاشدين، وفقهاء الصّحابة، ومَنْ بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم بالمدينة، مما يرجع إلى تَلَقَّي المأثور من عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الرّاشدين، وقضاة العدل وأيمّة الفقه (¬2). ¬
ذلك هو المنوال الَّذي نسج مالك بن أنس عليه موطّأه (¬1)، فوثق به النّاس، وأقبلوا عليه روايةً ودرسًا، ثم شرحًا وتعليقًا. وقد بوُّبَ مالك كتابه "الموطَّأ" على أبواب بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم وآدابهم، من معرفة العمل فيها الَّذي يكون جاريًا بهم على السَّنَنِ المرضيّ شرعًا؛ فإنّ الأُمَّة ما قصدت من حفظ كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله إلَّا الاقتداء به في أعمالهم، وقد تبعه على هذا التبويب البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم. وجعل مالك في كتابه بابًا جامعًا في آخره (¬2)، ذكَرَ فيه ما لا يدخل في باب خاصِّ من الأبواب المخصصة بفقه بعض الأعمال، وأضاف إلى ذلك ما استنبطه من الأحكام في مواقع الاجتهاد، مما يرجع إلى جمع بين متعارضين، أو ترجيح أحد الخبرين، أو تقديم إجماع أو قياس، أو عرض على قواعد الشريعة، فكان بحق كتاب شريعة الإسلام (¬3). ¬
وكان هذا العمل التمحيصي النّقدي الَّذي أتاه مالك في "الموطَّأ" مبنيَّا على أن بيئة الفقه في المدينة قد حوت من مختلف الآثار ورسوخ السُّنَنِ المتصلة، ما يُمكَّن القائم على فقه مجتهديها أن يجعل من مجموع المرويّ عنهم سندًا، لتصرُّفه في الأحاديث بالنقد والتمحيص، وذلك مرجع مذهبه في الاحتجاج بعمل أهل المدينة، احتجاجًا تسمو فنزلته على منزلة أخبار الآحاد؛ لأنّه ليس شيئًا مأثورًا عن واحد، وإنما هو معرفة مستنبطة من مجموع أشياء مأثورة عن كثيرين (¬1)، ففي "الموطَّأ" -كلما سبقت الإشارة إليه- الآثار النّبوية، وفيه المدارك الاجتهادية لأقوال الصّحابة والتّابعين، وفيه سُنَن عملية مأثورة منقولة بطريق الاستفاضة عند أهل المدينة، وفيه اجتهادات شخصية لمالك. فالآثار النبوية بعضها منقول بطريق الإسناد، وهي ست مئة حديث موصولة سلسلتها من مالك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذِكْر أسماء الرُّواة واحدًا عن واحدٍ ذِكْرَ تعيينٍ، وهي الَّتي اعتمدها المحدَّثون، وزكّوا أسانيدها، وخرّجوها عن مالك في كتبهم، ورُوَيت عنه في صحيحَي البخاريّ ومسلم. ومنها أحاديث لم تتّصل أسانيدها، إمّا لعَدَم التّصريح بسماعها من النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي الموقوفة، أو لعدم تعْيينِ الصّحابي الَّذي سمعها منه، وهي المُرْسَلَة، وهذه الأحاديث الموقوفة والمرْسَلة الَّتي في "الموطَّأ وإن لم يروها رجال الصّحيح بعد مالك عنه لأنّهم يختلفون معه في الاستدلال بالمرسل والموقوف، إلَّا أنهم رَوَوْها من طرق أخرى ليس فيها وقف ولا إرسال، فثبتت من تلك ¬
الطرق عن غير مالك موافقة لا خرّجها به مالك مُرْسَلَة أو موقوفة، فكان ذلك آية توثيق وحُجّة تزكية زائدة لحديث مالك عند أهل الصّحيح، بحيث أن كلّ ما ورد في "الموطَّأ" مُرْسَلًا أو موقوفًا قد ثبت مسندًا عند أهل الصحيح، إلَّا أربعة أحاديث معروفة. وأما المدارك الاجتهاديّة المتّفَق عليها، فهي الَّتي يقول مالك فيها: "الأمر الَّذي أدركتُ عليه أهل العلم ببلدنا" ويقول: "الأمر المجتمع عليه عندنا". وأما السُّنَن العمليّة المأثورة، فهي الَّتي يقول فيها: "الأمرُ عندنا". وأمّا اجتهاداته الشخصيّة، فهي الَّتي يقول فيها: "فيما نرى والله أعلم". وقد حَمَلَه جمعهُ لهذه الفنون من العلم على اختلافها، أن يسلك بينها مسلك الترجيح الَّذي لا يعتمدُ على سلامة الإسناد وثِقَةِ الرُّواة وإتقانهم فحَسْب؛ بل يتعدّى ذلك إلى النّظَر في المعاني والاجتهاد في الأقْيسَة والاستحسانات، حتّى ينتهي به ذلك إلى أن يروي الأحاديث مُسْنَدة من أوثق السلاسل عنده، وهي السِّلسلة المشهورة عند علماء الحديث بسلسلة الذَّهَب (¬1): مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، فيخرج بها حديث: المتبايعانِ كلّ واحد منهُما بالخيار على صاحبه ما لم يتفَرَّقا، إلّا بيعَ الخِيَار" (¬2) ثم يقول عقبة: "وليس لهذا عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به فيه" فيبقى ¬
الحديث المرويّ غيها مأخوذ به مع كونه سليم الإسناد، عملًا بمقتضى المعارض له من سُنَّةِ عمليّة مشهورةٍ، واجتهاد بالرّأي، فعلى ذلك بُنِيَ "الموطَّأ" على الاختيار والنقد، وشَدِّ الأثر بالنّظر، ومعارضة الأخبار والأقيسة والآثار والاجتهادات بعضها ببعض. فرَوَى عنه الآثار من وافَقَه على محاملها ومعانيها ومن خالفه في ذلك، فكان الرُّواةُ عنه من المخالِفِينَ له في المعاني والمحامل مجرّدين للأحاديث عما اتّصل بها من فقه، أو مصرِّحن بالمخالفة فيه (¬1)، فهم مقتبسون من الكتاب اقتباسًا، لا آخذون يحملته؛ لأنّه في جملته كتاب فقه بالأصالة لا كتاب حديث، لم يقصد منه تبيين ما روى، وإنما قصد منه تحقيق ما اجتهد وإسناد مانظر، فما مورد الأحاديث فيه إلّا مورد الأحاديث فيه إلّا مورد الأدلة للفقه والمدارك للأحكام (¬2). ومن هذا المعنى نشأ في "الموطَّأ" الترَّدد الَّذي لم يزل شاغلًا لبال الكثير من العلماء قديما وحديثا، وهو أن هذا الكتاب هل يُعتَبر كتاب فقه أو يُعتبر كتاب حديث؟ فإنَّه في منهجه جديرٌ بأن يثيرَ هذا الترَّدُد؛ لأنَّه منهج يقوم على الجمع بين الفقه والحديث بصورة لا يكاد يتبيَّن معها أنَّه يخلص إلى الفقه أو يخلص إلى الحديث. ¬
ويرى شيخ شيوخنا محمّد الفاضل بن عاشور (¬1) أن الَّذي يتأمّل "الموطَّأ" تأمُّلًا شافيًا، يتبيَّن له أن مالكا في "الموطَّأ" يعتبر الأحاديث أساسا لا يُبْنَي الفقه إلَّا عليها، فلا يمكن أن يُبْنَى الفقه على غير سُنُّةٍ، ولا يمكن أن يبادر إلى إقامة الفقه على قياس إلَّا عند الضّرورة، حيث يتعذَّر إقامته على مُدْرَكٍ من مدارك السُّنَّة، وهذا هو الَّذي يُكَوِّنُ التّمايز بمن طريقة مالك وطريقة أبي حنيفة من جِهَة؛ لأنَّه يقتصد جدًّا في إعمال القياس باعتبار أنَّه المرجع الأوَّل في ذاته، وبينه وبن الشّافعيّ باعتبار أنّ الشّافعيَّ لا يَقْبَلُ بحالٍ إلغاءَ دَلالةِ حديثٍ من الأحاديث أو تعطيل حمله، وبذلك يختلف مع مالك اختلافه الواضح الَّذي بَيُّنَه في كتاب "اختلاف مالك والشافعي" من كتاب "الأم". وبهذا المعنى كان للموطّأ تأثيره الواضح في تقرير مبدأ التّفاعل والتّواصل بين المذاهب الأربعة السُنِّيُّة؛ فإنَّ معنى تبويب الفقه وترتيبه على الطريقة الَّتي لم تزل مُتَّبَعَة بصورة تكاد تكون متحدَّة أكثر من كونها متقاربة بين المذاهب الأربعة، إنّما يرجع في ذلك إلى "الموطَّأ" نظرًا إلى أنَّه الوضع الأوَّل من بين جميع الأوضاع الفقهية، ولم يُعْطِ هذه الصّورة في التبويب والتّرتيب لكتب الففه فقط، ولكنّه أعطاها أيضًا لكُتُب السُّنَّة الَّتي سُمَّيَت فيما بعد ذلك بالمُصنُّفات والسُّنَن، وسارت على طريقة التّرتيب الفقهي الَّتي أصَّلها مالك بن أنس - رحمه الله -. ¬
وفي هذا الموضوع يقول شيخنا عبد الفتاح أبو غدة (¬1): "تأليف الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية، لا ينهض به إلَّا فقيه يَدْرِي معاني الأحاديث، ويفقهُ مداركها ومقاصدها، ويُمَيِّز بين لفظ ولفظ فيها، وهذا النّمَط من العلماء المحدِّثين الفقهاء يُعَدُّ نَزْرًا يسيرَا بالنّظر إلى كثرة المحدِّثين الرُّواة والحفّاظ الأثبات، إذ الحفظ شيءٌ؛ والفقه شيءٌ آخر أميز منه وأشرف، وأهم وأنفع، فإنّ الفقه دِقَّةُ الفهم للنّصوص من الكتاب والسُّنَّة - عبارةً وإشارة، صراحةً أو كناية - وتنزيلُها منازلَهَا في مراتب الأحكام، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، ولا تَهَوُّرَ ولا جمود. وهذه الأوصاف عزيزةُ الوجود في العلماء قديمًا، فضلًا عن شِدَّة عزّتها في الخَلَفِ المتأخِّر، ويخطئ خطأ مكعبًا من يظنّ أو يزعم أنّ مجرّد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه، يجعلُ من فاعل ذلك عارفًا بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط ... فلا شكّ في يُسْرِ الرِّواية بالنّظر لمن توجُّه للحِفْظ والتَّحَمُّل والأداء، وآتاه الله حافظةَ واعيةً، فلهذا كان المتأهِّلون للرِّواية أكثر من المتأهِّلين للفقه والاجتهاد، روى الحافظ الرَّامَهُرْمُزِي في كتابه " المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي" (¬2) بسنده عن ابن سِيرِين، قال: "أتيتُ الكُوفة، فرأيتُ فيها أربعةَ آلافٍ يطلبون الحديث، وأربعَ مدّة قد فَقهُوا". ¬
روايات "الموطأ"
روايات "الموطَّأ" شاع ذِكْرُ مالك بن أنس في عصره، فملأ العالم - الإِسلامي ما بين المشرق والمغرب، وتحدَّث النّاسُ بعِلْمِه وفِقْهه، وتذاكروا موطّأه وعجيب تصنيفه له، وعظيم تحَرِّيه فيه، فسرعان ما ضربت النَّاس إليه أكباد الإبل، يسألونه الفُتْيا، ويطلبون عنده العِلْم، ويتخرّجون بين يدَيه في الفقه، فكان مجلسه غاصَّا بالمستفتن والرّاوين والمتفقهين، بين المقيمين منهم والعابرين، وبذلك كَثُرَت الرِّواية عنه واختلفت أوجهها. وكان كتاب "الموطَّأ" نظام ذلك العِقْد وقُطب تلك الدّائرة. ولم يكن تأليف الإمام مالك للموطّأ كعادة الطّبقات المتأخِّرة في تصانيفهم، بل كَتَبَه بيده، لئلّا يغلط فيما يلقيه على الجماعة، ثم وكّل به كاتبًا له اسمه "حبيب" فنَسَخَه له، وكان يقرأه حبيب للنّاس في حلقته بين يديه، وهو على منصّته يسمع ورواد الحلقة يكتبون، وأحيانًا يقرأ من كُتُبٍ من إملاء حبيب، لتصحيح ما كَتَبَ بسماع مالك إياه وإقراره عليه (¬1)، وفي هذه القراءة ¬
يعرض التوقّف ويثور السؤال الَّذي يقتضي البيان، ولذا كان يزيدُ فيه وينقصُ منه حسبَ ما يبدو له في كلّ دورٍ من أدوار التسميع المختلفة، فاختلفت نُسَخُ "الموطَّأ" ترتيبًا وتبويبًا، وزيادة ونقصًا، وإسنادًا وإرسالًا، على اختلاف مجالس المستَمْلِين، فمنهم من سمع عليه "الموطَّأ" سبعَ عشرةَ مرّة، أو كثر أو أقل، بأن لازَمَهُ مُدَدًا طويلةً تسَعُ تلك المرات، ومنهم من سمعه عليه في ثمانية أشهر، ومنهم من سمعه في أربعين يومًا. وكان الإمام يعرف ما عاناه في تأليف الكتاب من جهد جهيد؛ فكان يطمح إلى أن يُقابَل بالصبر والتَّأني من المتلَقِّين، فلذلك نراه برمًا كن يتعجَّل التحمُّل، عاتبا على من لا يطيل في أيام الرِّواية، فيقول: "كتاب ألَّفته في أربعين سنة: أخذتموه في أربعين يومًا! ما أقلَّ ما تفقهون فيه .. ! " (¬1). ومنازل هؤلاء المستمْلِين تتفاوتُ فهمًا وضبطًا، وضعفًا وقوّةً، فتكون مواطن اتّفاقهم في الدّروة من الصِّحَّة عن مالك، ومواضع اختلافهم وانفرادهم متفاوتةً المنازل حسب ما لهم من المقام في كتب الرِّجال (¬2). وقد تكفَّلت كتب اختلاف الموطآت بإبراز ما فيها من فروق، ترجع مرَّة إلى التقديم والتأخير، أو إلى عدد الأحاديث أو طبيعتها من حيث كونها من المرفوعات أو الموقوفات أو المقاطع، أو من حيث كونها متصلَّة أو مرسلة. ¬
وقد نقل السُّيوطي في مقدِّمة "تنوير الحوالك" (¬1) "عن الحافظ صلاح الدين العلائي قوله: روى "المُوَطَّأ" عن مالك جماعات كثيرة، وبن رواياتهم اختلاف -من تقديم وتأخير وزيادة ونقص- ومن أكثر زيادة الرِّوايات زيادة رواية أبي مُصْعَب، فقد قال عنها ابن حزم: في موطَّأ إبي مصعب -زيادة على سائر الموطآت- نحو مائة حديث، وقال الغافقي فيْ "مسند الموطَّأ": "اشتمل كتابنا هذا على ست مئة حديث وستة وستين حديثا، وهو الَّذي انتهى إلينا من مسند مُوَطَّأ مالك. قال (¬2): وذلك أنِّي نظرت "الموطَّأ" من ثنتي عشرة رواية رُوَيت عن مالك -وعدَّدها- قال السُّيوطي (¬3): "وقد وقفتُ على "الموطَّأ" من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغافقيّ، إحداهما رواية سُوَيد بن سعيد، والأخرى رواية محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة". وينبغي التنبيه على أنَّ الَّذين رَوَوا عن مالك "الموطَّأ" هم طبقة أخصُّ من الرُّواة عن مالك بإطلاق، وأقلُّ عددا وأقربُ صلةً. وكان القُدَماء يُدركون تبايُن منزلتيهما ولا يخلطون بين الطّبقتين، وقد تصدَّى مؤرِّخ المذهب القاضي عياض -رحمه الله- في كتابه الحجّة "التّرتيب (¬4) لذِكْر هذه الطّبقة، فعَقَد لهم بابًا سَرَدَ فيه أسماءهم، معلِّقا على ذلك بقوله (¬5): "فهؤلاء الَّذين حقّقنا أنّهم رَوَوا عنه "الموطَّأ" ونصَّ على ذلك أصحاب الأثر، والمتكلِّمون في ¬
الرِّجال ... إنّما ذكرنا من بَلَغَنا نصًّا سماعُهُ له منه، وأخذُهُ له عنهُ، أو اتصلَّ إسنادا له فيه عنه، والَّذي اشتهر من نسخ "الموطّأ" ... نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة". وقد قيَّد القاضي عياض العشرين نسخة الَّتي ذكَرَها بكونها ممّا رواه أو وَقَفَ عليه، أو كان في رواية شيوخه، أو نقَلَ منه أصحاب "اختلاف الموطآت" وفي هذا التّقييد من الفوائد ما لا يخفى، إذ لولاه لتلقَّفه من يتعلَّق بالإغراب، فيدَّعي أنَّ القاضي عياضا رَوَى أو وقف على عشرين رواية، أو كان في عصره من شيوخه من يروي عشرين رواية إلى فذلك ما أراد دفعه عياض؛ لأنّه إنّما بلغ هذا العدد بضمِّ ما في روايته إلى ما في روايات شيوخه من جهة، إلى ما عند أصحاب "اختلاف الموطآت". ولعلَّ من المفيد أن نأتي على ذكر ما بَلَغَنا من هذه الرِّوايات، دون أن نتكثر بالتّفصيل فيها، إذ يكفي الإحالة على طبعاتها ليُسْتَغْنَى بذلك عن التّرجمة لرُواتها والتّعريف بنُسخها وخصائصها: 1 - رواية عليّ بن زياد التونسي (ت. 183هـ) وهي من أوائل الرِّوايات، إلَّا أنها كانت قليلة الانتشار، وقد تكفّل الشّيخ محمّد الشاذلي النيفر بالاعتناء بالقطعة الَّتي وصلتنا من الكتاب وطبعها سنة:1978م في الدار التونسية للنشر، ثم في دار الغرب الإِسلامي ببيروت، الطبعة الخامسة سنة:1984.
2 - رواية محمّد بن الحسن الشيباني (ت. 189هـ) (¬1) وقد تعدَّدت النّسخ الخطيّة لهذه الرِّواية، وطبعت طبعات مختلفة، أشهرها طبعة المجلس الأعلى للشئون الإِسلامية بالقاهرة، باعتناء الشّيخ عبد الوهاب عبد اللطيف. 3 - رواية أبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم (ت. 191هـ) ذكر الأستاذ محمَّد بن علوي المالكي أنه وقف في الكتبة الوطنية بتونس [ملف: 218 - 77] على قطعة نادرة من هذه الرِّواية، مكتوبة بخط مغربي واضح، تشتمل على بقية من باب أحكام الرقيق، ثم الأبواب المتعلقة بببع الثمار، ثم الأبواب المتعلقة ببيع النقدين والصرف، ثم الأبواب المتعلقة ببيع الطعام، إلى باب ما يجوز في السلف (¬2). وكان شيخ شيوخنا محمّد الفاضل بن عاشور قد أشار في مقال له (¬3) إلى هذه النُّسخة فقال: "رواية عبد الرحمن بن القاسم العتقي المصري، ¬
وتوجد منها قطعة ذات بال برواية الإمام سحنون عنه هي أيضًا مما اشتملت عليه مكتبة الجامع الأعظم بالقيروان"، كما أشار إليها أيضًا شيخنا محمّد الشاذلي النيفر في مقدمته لموطأ ابن زياد (¬1). ووصلنا تلخيص أبي الحسن عليّ بن محمّد القابسي (ت.403 هـ) الَّذي اقتصر فيه على الروايات المرفوعة، وما في حكم الرفع، وقد اعتنى بهذا الملخص الأستاذ محمّد بن علوي المالكي، ونشوه بدار الشروق بجدَّة، سنة:1405. 4 - رواية أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة القَعْنَبيّ (ت. 221هـ) وتوجد من هذه الرِّواية عدة نسخ من أجودها نسخة عند محمّد السّقّاط بالدّار البيضاء، بالمغرب الأقصى، حَصَلَت على جائزة الحسن الثاني للمخطوطات، وقد طُبعَت قطعة من هذه الرِّواية (¬2)، والقطعة تشكو من الخلل الواضح والنّقص الفاضح، جَبَرَ الله خللَها ونقصها، وقيَّض من يقول بقراءتها وضبطها وطبعها طبعة متقنة مجوَّدة (¬3). ¬
5 - رواية أبي عبد محمّد عبد الله بن وهب المصري (ت.197هـ) قال شيخ شيوخنا محمَّد حبيب الله الشَّنْقِيطِيّ (¬1): "وتوجد الآن نسخته بمكتبة فيض الله شيخ الإسلام بالأستانة العليّة كما أخبرني به بعض علماء التُّرك الأفاضل". قلنا: وصلتنا قطعة نادرة من هذه الرِّواية محفوظة بمكتبة القيروان بتونس، تحت رقم: 244، مكتوبة على الرّقّ، بخطَّ كوفيِّ قديم، وتشتمل على كتاب المحاربة، ونشرها مؤخرا المستشرق الأعجمي ميكلّوش موراني الألماني، في دار الغرب الإِسلامي، ببيروت، سنة: 2002. ونشر بعض أدعياء التحقيق (¬2) قطعة من كتاب ادَّعى جهلًا أنّها جزء من موطّأ ابن وهب، والصّحيح أنّها جزء مختصر من "الجامع" لابن وهب، باختصار أبي العباس محمّد بن يعقوب الأصَمّ [ت. 346 هـ] ومن أسفٍ طُبع الكتاب للمرّة الثانية في دار كنا نظنّ أنها من دُورِ النّشر المحترمة الَّتي تحتكم في طبع منشورائها إلى آراء أهل الذِّكْر، إلَّا أن واقع الحال يدلُّ أنها انضمُّت إلى دُورِ نشر الأُمِّيَّة بتعبير الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإِسلامي. ¬
6 - رواية سُوَيْد بن سعيد الحدَثاني (ت. 240 هـ) وقد تصدَّى للاعتناء بها عبد المجيد تركي، معتمدا على ثلاث نسخ خطية، وطبعها بدار الغرب الإِسلامي، سنة:1994، وفي السنة نفسها طُبعَت هذه الرِّواية في وزارة العدل والشؤون الإِسلامية بالبحرين، بالاعتماد على نسخة واحدة في ظاهرية دمشق. 7 - رواية أبي زكريا ير بن عبد الله بن بُكَير (ت. 231هـ) وقد وصلتنا أربع نسخ خطية: إلاَّولي: في المكتبة السُّليمانية في إستانبول (¬1)، تقع في 206 لوحة، كتبت سنة: 785هـ وهي كاملة، وعليها سماعات. والثانية: في ظاهرية دمشق، تحت رقم: 3780، في 273 ورقة، كتبت سنة: 600هـ، ناقصة الأبواب الأولى، وتبدأ من كتاب الزكاة، وهي مجزّأة إلى سبعة عشر جزءًا حديثيًّا، وتوجد في بداية كلّ جزء ونهايته سماعات لكبار العلماء الأثبات. ¬
والثالثة: في المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإِسلامية بالرياض، تحت رقم: 5987، ضمن مجموع رقم: 43، لم نقف عليها. والرابعة: في المكتبة الأزهرية، تحت رقم: 445، لم نقف عليها، وقد صوَّرَها شيخنا إسماعيل الدَّفتار للأستاذ محمّد مصطفى الأعْظَمِيّ الَّذي وصفها بالناقصة وبالمشوّشة التّرتيب (¬1). واختصر هذه الرّواية محمَّد بن تُومَرْت، مهدي الموحِّدين [ت. 524] رواها عبد المؤمن بن عليّ عن المهدي بسَنَدِهِ إلى يحيى بن عمر الكناني، عن يحيى بن عبد الله بُكَيْر بن المخزومي، وأملاه عبد المؤمن في مراكش يوم الاثنين: 3 ذي الحجة سنة: 544هـ، وأملاه الهدي في أول رمضان سنة: 544 هـ في هرغة من بلاد سوس، بالمغرب الأقصى، وقد أتبع الهدي كلام مالك بخلاف ووفاق، وطبع باسم: "السِّفر الأول من مُوطّأ الإمام المهديّ - رضي الله عنه -" في مطبعة فونتانا الشرقية بالجزائر، سنة: 1323هـ، 1905 م (¬2)، وقامت على نشره: ولاية عموم القطر الجزائرى، أيام إلاحتلال الفرنسي الكريه، وقام على تصحيحه ومقابلته على الأصل المخطوط: الحفناوي، هكذا ورد في آخر المطبوع، والغالب في الظن أنه أبو القاسم محمَّد ¬
الحفناوي صاحب كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" (¬1)، ويحتوي على: 751 صفحة، من: 741 إلى: 746 فهرست الخطأ والصواب، ومن: 747 إلى آخر الكتاب الفهرست العام (¬2). واعتمد الناشر على نسخة محفوظة بالمكتبة الوطنية بالجزائر، ويسمّى أيضًا: "محاذي الموطّأ" وأخطأ سزكين (¬3) عندما ذكر أنّه طُبعَ في عَليكرة بالهند سنة: 1907 (¬4). وقامت الطالبة هُدَى بكُّوش بالاعتناء كوطّأ المهدي، فألحقت ما أسقَطَهُ ¬
ابن تُومَرْت من أسانيد، وذلك بالاعتماد على نسخة السليمانية (¬1)، وربّما على غيرها، وتقدّمت به لنَيل شهادة العالمية العالية بعنوان: "الموطَّأ برواية يحيى بن بكير، لمحقيق وتأصيل لرواية المهدي ابن تومرت المختصر" جامعة ابن طفيل، كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، المغرب الأقصى. كما تقدمت الطالبة صباح الزخنيني لنيل شهادة عالية في كلّية الآداب بجامعة الحسن الأول بوجدة في المغرب الأقصى. 8 - رواية يحيى بنيبيح اللّيثي المصمودي (ت.234هـ) (¬2)؛ وقد كُتِبَ لها في القرون المتأخرة وبخاصة في العصر الحاضر ذيوعٌ وشُيوع، بتعدُّدِ الطَّبَعَات، وتوارد المعتنين بها: محمّد فؤاد عبد الباقي سابقا، وبشار عوَّاد معروف ومحمد مصطفى الأعْظَمِيّ لاحقًا. يقول الإمام عبس العزيز بن ولي الله الدهلوي (¬3): "وهي-أي رواية يحيى- أكثر الرِّوايات رَوَاجًا واشتهارًا وتداولًا بين العلماء، وإذا أطلق موطّأ مالك انصرف لها وتبادرَ الذِّهن إليها". ¬
وهذه الرِّواية انتشرف في الغرب الإِسلامي، وتوارد العلماء عليها نسخًا وروايةً وشرحًا وتعليقًا، وسنعودُ لتفصيل أوجُه العناية بها متنًا وإسنادًا. 9 - رواية أبي مُصْعَب أحمد بن أبي بكر الزُّهريّ (ت. 248 هـ)، وهي من الرِّوايات الَّتي حجَبَها عدم الإعمال حتّى كاد يطويها النّسيان، وُيعتبر راويها من آخر من روى "الموطَّأ" عن مالك من الثِّقات. قال ابن حزم: "آخر ما رُوي عن مالك: موطّأ" أبي مُصْعَب، و"موطّأ" أبي حذافة، وفيهما زيادات على الموطّآت نحو مئة حديث" (¬1)، وقد قام بالاعتناء بها بشّار عوّاد معروف ومحمود خليل، ونشرفها مؤسسة الرّسالة (عام: 1412 هـ) ومن أسَفٍ فقد اعتمدا على نسخة واحدة محفوظة بمتحف سالار جنك بحيدر آباد بالهند، تحت رقم: 84، مع توَفُّر نُسَخٍ جيِّدة، منها مخطوطة الظّاهرية بدمشق، تحت رقم: 1879 في ثمانية أجزاء حديثيّة. وفي الختام نقول: إنّنا لا نقطع بأنَّ هذا آخر ما يمكن أن يكون موجودًا من روايات "الموطَّأ"، فالرّجاء معقودٌ على هِمَمِ الباحثين، لنسعدَ بمزيدٍ من الجديد الَّذي يُثري ميدان البحث في مجال روايات "الموطَّأ". ومن أهم وجوه الاختلاف بن هذه الموطآت تتمثل في: - الاختلاف في الترتيب الكتب والأبواب. - الاختلاف في عدد الأحاديث المرفوعة. ¬
- الاختلاف في عدد الأحاديث المرسلة والموقوفة والبلاغات وأقوال الصحابة والتّابعين، وأقوال مالك. - الاختلاف في كثير من الألفاظ سواء كان ذلك في المرفوع أم المرسل، أم أقوال الإمام مالك. يحيى بن يحيى اللَّيثيّ وروايته للمُوَطَّأ: اعتمد أبو بكر ابن العربيّ على رواية يحيى بنيبيح اللّيثيّ (¬1)، فهي المشهورة المتداوَلة في الغرب الإِسلامي، الَّتي اتّصلت بها الأسانيد، وكُتِبَت عليها الشُّروح، يقول ابن العربيّ في مقدمة كتاب "المسالك" (¬2): "والكلام في شرح "الموطَّأ" إنَّما هو على كتاب يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ الَّذي دخل الأندلس وأدخله" وكان يحيى آخر من قَدِمَ على الإمام مالك من بلاد المغرب والأندلس، إذ كان ذِكْرُ مالك بن أنس وموطَّأه قد اشتهر، والرِّحلةُ إلى المدينة المنوَّرة قد عَمَّت، بحيث إذا ذكر "الموطَّأ" في تلك الأصقاع فإنما يُذْكَر مُوَطَّؤُهُ، ولا ينصرف الذِّهن إلَّا إليه، لتفرُّده بالانتشار بين الناس في تلك الأمكنة والأزمنة، تتلمذ يحيى على جملة من أصحاب الرِّحلة إلى المدينة النَّبويّة المنوَّرَة من فقهاء الأندلس، وبخاصُّة على زياد بن عبد الرحمن اللَّخمي ¬
[المعروف بشبطون] في قرطبة، وكان زياد قد سمعه من مالك في المدينة، فامتلأ يحيى إعظامًا لمالك، وشُغِف بعِلْمِه وفقهه وهَدْيه. وأشار عليه شيخه زياد بالرَّحيل إلى الإمام مالك وأخْذِ "الموطَّأ" منه ما دام حيَّا، فاتَّبع يحيى بن يحيى مقتضى همَّته السّامية، وامتثل لإشارة شيخه، فخرج من الأندلس يشدّ الرَّحلة إلى المشرق، وانتهى إلى المدينة، فلقي مالكا، وأقبل على ملازمته إقبالا عجيبًا، على نحو ما كان له من شوق إليه، وتعلّق به عن ظهر الغيب. وكان اتِّصال يحيى بمالك قد تقرَّر واستمرَّ حتّى السنَّة الأخيرة من حياته (¬1)، وبذلك استطاع يحيى أن يستجمع كلّ العناصر الَّتي تؤهله لأن يكون الأمين المؤتمن على علم مالك، فكانت شدة اهتمامه بالرِّواية وإتقانها، وحُسن إقباله على مالك وكثرة ملازمته له، إلى كونه آخر الرُّواة عنه أخذا للموطأ، بعد كلّ ما تعاقب على "الموطَّأ" من تهذيب وتنقيح متواصلين طيلة حياة مالك رحمه الله؛ مما جعل رواية يحيى للموطأ أهم الرِّوايات وأجدرها بالقبول، وأثبتها وأجلِّها وأوعبها. ورجع يحيى إلى الأندلس بهذا الكَنْز الفريد من العِلْم، وعرفَ النّاس فضل ما فاز به يحيى، فتعلَّقوا برواية "الموطَّأ" عنه، وطلبوه من طريقه، حتّى أصبحت أكثر الأسانيده في رواية "الموطَّأ" بالغرب الإِسلامي مقتصرة على رواية يحيى بنيبيح، وأغلب ما كُتِبَ على "الموطَّأ" شرحًا وتعليقًا وتبيينًا كان مبنيًّا على رواية يحيى. ¬
ومع كلّ هذه الشُّهرة الَّتي نالتها رواية يحيى في بلاد الغرب الإِسلامي، فإنَّها لم تكن مشهورة عند الشارقة في القرن الثّالث الهجري، بدَلالة أنَّ أحدًا من أصحاب الدّواوين الحديثيّة لم يعتمدها. ويرى الأستاذ بشّار عوَّاد معروف (¬1) أنَّ ذلك ربّما رجع إلى أمور منها: أ- قِلّة شُهرة يحيى بن يحيى اللَّيثى بطَلَب الحديث، ووقوعه في أخطاء حديثيّة ليست بالقليلة. (¬2) 2 - قِلَّة الاتّصال بين أهل الأندلس والمشارقة في تلك المدَّة، واعتناء أهل الأندلس يومئذٍ بالفقه أكثر من عنايتهم بالحديث. 3 - توفّر روايات "الموطَّأ" لِمَن هُم أكثر إتقانًا ومعرفةً بالحديث من يحيى، مثل: عبد الله بن مسلمة القَعْنَبي، وعبد الله بنيوسف التِّنيسي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي مُصْعَب الزّهري، ومَعْن بن عيسى القزَّاز، وقُتَيْبة بن سعيد، ويحيى بن سعيد القطّان، ويحيى بن يحيى النّيسابوري، ونحوهم ممن اعتمدهم أصحاب الكتب السِّتَّة، والإمام أحمد في "مسنده"، والدَّارميّ والطَّحاوِي وابن حِبَّان والدّرقُطْنِيّ والطَّبَرَانِيّ والبيهقي وغيرهم في مصنّفاتهم (¬3). ¬
وذكر شيخ شيوخنا محمّد الطّاهر بن عاشور في "كشف الُمغَطَّى" (¬1) أنَّ للنّاس في أسانيدهم الموصِلَة إلى "مُوَطَّأ" يحيى بن يحيى ثلاث طُرُقِ أصيلةٍ: 1 - طريق عُبَيْد الله (بضمِّ العين مصغّرا) بن يحيى بن يحيى اللّيثي (¬2)، سمع من أبيه، ولم يسمع من غيره، وسمع الناس منه رواية أبيه. 2 - والطريق الثّانية: طريق محمّد بن وضُّاح المروانيّ القرطبي (ت. 287 هـ)، قال عنه ابن الفرضي (¬3): "وبمحمد بن وضَّاح وبَقِيّ بن مَخْلَد صارت الأندلس دار حديثٍ، وكان محمّد بن وضَّاح عالمًا بالحديث، بصيرًا بطُرُقِه، متكلّمًا على عِلَلِه ... سمع منه الناس كثيرًا، ونفع الله به أهلَ الأندلس". وكان ابنُ وضُّاح من المتشدِّدين في نقد الحديث، فانْتُقِد لأجل ذلك، بل كان يُغيّر رواية يحيى في "الموطَّأ" إذا بدا له تصويب أو تخطئة (¬4)، مع صحَّة ما رُوِيَ عن يحيى في ذلك عند التأمّلِ، فكان يعتمدُ على فهمه لا على روايته. ¬
3 - والطريق الثّالثة: طريق محمّد بن أحمد الأندلسي، المعروف بالعُتْبّي [ت. 255 هـ]، (¬1)، كان من كبار الفقهاء، له رحلة إلى المشرق، ألَّفَ أجزاء فقهية سُمِّيَت: بـ"العُتْبيَّة" (¬2) وهي المستَخْرَجَة من الأسْمِعَة المسموعة من الإمام مالك (¬3). ومن كلّ طريقٍ من هذه الطُّرق تعدَّدت سَمَاعات وتفرَّعت أسانيد، وعن كلّ أصلِ كتابيٍّ من أصول هذه الطُّرق أخِدت نُسَخٌ، وقُوبلَت وحُقِّقَت، وانتقلت بالمناولة واشتهرت، ثم عُورضت بعضها ببعض، وضُبطَ ما بينها من اختلاف وتفاوُتٍ، في نُسَخٍ متقنَةٍ مدقّقة، كُتِبَت بخطوط أعلام الرُّواة وأيَّمة العلماء، فأصبحت مرجِعًا للنّاس، ومعوَّلًا يطمئنون بها إلى النَّقل الصّريح والضَّبط الصَّحيح، وتدورُ بها الرِّوايات على محورٍ من التثبُّت، عمادُه التأنُّق في الخطّ مع إثبات السّمَاعات، مع النَّقد والتَّرجيح بين الرِّوايات، ممَّا جعل كتاب "الموطَّأ" أصلًا لخزانة كاملة جليلة، تعتمدُ كلّها على رواية يحيى بن يحيى، إمَّا إفرادًا لها في الأكثر، وإمَّا جمعا لها مع غيرها في الأقلَّ (¬4). وقد ذكر شيخ شيوخنا محمّد الطاهر بن عاشور في مقدِّمة كتابه "كشف ¬
المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في المُوَطَّأ" (¬1) أن أشهر نُسَخِ "الموطَّأ" بالأندلس نُسْخة ابن الطَّلَّاع تلميذ ابن مُغِيث، ونُسْخَة ابن أبي الخِصَال تلميذ ابن عبد البرّ وأبي عمر الطَّلَمَنْكِيّ المقابَلَةُ على كتابَيْهِما بخطِّ يده، ونُسْخَة أبي مروان بن مَسَرَّة بخَطَّ يده، ونُسخة أبى محمّد بن عَتَّاب وهو من شيوخ ابن بَشْكُوَال، ونُسخة القاضي ابن فُطَيْس المتوفَّى ستة:402 هـ (¬2) قلنا: وقد يَسَّرَ الله لنا الوقوف على نُسخة أبي عبد الله محمَّد بن فَرَج، مَوْلَى ابن الطَّلَّاع القرطبي [ت.497] (¬3)، تلميذ يونس بن مُغِيث [ت.429] (¬4)، وهي نُسْخة عتيقةٌ مجوّدةٌ، على رقّ غزال، تحت رقم 708 ج، في الخزانة العامة بالرباط، كُتِبَت بخطٍّ أندلسىٍّ جميل، تشتمل على 356 ورقة، في كل صفحة: 27 سطرا، وشكلّت أغلب كلّماتها، وجاء في مقدمتها بعد التسميه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقوت الصّلاة، حدّثنا الفقيه أبو عبد الله محمّد بن فَرَج - رضي الله عنه - قراءة عليه وأنا أسمع، في مسجده بقرطبة في صدر ربيع الآخر سنة: أربع وتسعين وأربع مئة، قال: حدّثنا القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مُغِيث قاضي الجماعة بقرطبة، المعروف بابن الصفّار ¬
- رحمه الله -: قال: حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، عن عمَّ أبيه عُبَيْد الله بن يحيى، عن أبيه يحيى، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب ... ". وجاء في آخرهاة "كَمُلَ كتاب "الموطَّأ" والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيِّدنا محمّد خاتم النَّبيِّين، وعلى آله وصحبه الطَّيِّبين الطّاهرين وسلّم تسليمًا. وكان الفراغ منه في السّابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عام ثلاثة عشر وستّ مئة". ثم قال: "انتهت المقابلة والتّصحيح وكتب الطُّرر من أصل الشّيخ الفقيه الأجلّ، المحدِّث النّحويِّ، الضَّابط المُتْقِن اللّغويّ أبي العباس أحمل بن سَلَمَة الأنصاري - رضي الله عنه -[ت.598] وولده الشّيخ الفقيه المحدِّث الضّابط المُتْقِن اللُّغَويّ أبو عبد الله محمّد بن أحمد ابن سَلَمَة الأنصاري -أكرمه الله- يُمْسِكُ الأصل المذكور". وذكَرَ النّاسخ في نهاية الكتاب الرّموز والعلامات المستعملة في الدّلالة على مختلف الرِّوايات فقال: "كلّ ما فيه من العلامات: "هكذا عـ" بهذه الصّورة فهو لعُبَيْد الله وما في هذه الصّورة "ح" لابن وضّاح، إمّا رواية عن يحيى أو إصلاح عليه، وما فيه "هكذا ط " فهو لابن فُطَيْس، وما فيه "هكذا ش" فهو ابن المشّاط، و"هـ كذا" أبو الوليد الوقّشي، وما فيه "ك كذا" فإنّما هو تقييدٌ عن البكريّ في أسماء المواضع، وما فيه "ع هكذا" فه وابن عبد البرّ، وما فيه "ع كذا" فهو أبو علىّ الجيّانيّ، وما فيه "جـ هكذا" فهو الباجي، وقد أصرِّح فيه في بعض الأوقات باسم الرّاوي: "ابن سهل" و"ابن حمدين" وغيره، و"ش هكذا" ابن سراج أبو مروان، وإذا كَتَبْتُ "ق هكذا" فإنّما هو ما نقَلتُه
من كتاب شيخي أبي إسحاق بن قرقول - رحمه الله - وما فيه "ص هكذا" فهو الأصيليّ، وإذا كان "ط" في شرح لفظٍ فهو البَطَلْيَوْسِيّ". وتحتوي هذه النّسخة على سماعات مهمّة لكبار العلماء، زادت من قيمة الرِّواية، وأحاطتها بسياج دقيق من الضوابط المختلفة، والشيخ المسمِّع في محطوطنا هو الحافظ أبو عبد الله محمّد بن عمر بن رُشَيْد السَّبْتي [ت.721] حيث كتب بخطِّه: "قاله محمّد بن عمر بن محمّد ... بن رُشَيْد السَّبتِي الفِهرِيّ- وفقه الله - وكتبه في وسط محرّم عام عشرين وسبع مئة ... ". وقد اعتمد الأستاذ الأعْظَمِيّ في نشرته لموطأ يحيى (¬1)، على هذه النّسخة، ولكن استفادته منها كانت محدودة جدًّا في نظرنا، بدليل أنّه لم يحسن قراءة كلّ ما في المخطوط، وهذا ما صرَّحَ به في المقدمة (¬2) عندما قال: "الكتابة واضحة باهتة على وجه العموم، ولكن في أماكن باهتة جدًّا، خاصّة الهوامش، ولا يمكن قراءتها وليس هذا العيب في التصوير فحسب، ولكن في الأصل نفسه" قلنا: هذا الكلام فيه نظر؛ لأن العارف المتمرِّس بالخطِّ المغربي والأندلسيّ، لن يجد صعوبة في قراءة ما استشكلّه الأستاذ، بل والغريب حقا أن يقول (¬3): "حسب علمي، هذه النّسخة فريدة، ولم أطلع على آية نسخة أخرى تشتمل ¬
مع موطأ يحيى في نشراته
على فروق الرِّوايات بالتّوسُّع كما في هذه المخطوطة ... وبالرغم من كلّ المحاسن، ففيها عيب؛ لأنّها خالية من أيّه سماع، لا في البداية ولا في النهاية، ولا في داخل الكتاب في موضع ما". قلنا: وكأننا بالأستاذ الفاضل وقد استعجمت عليه الخطوط الأندلسية وغَمُضَت، فأصبحت نظراته في الكتاب يُعْوِزُها كثير من الصّبر والتَّأَنِّي والممارسة؛ وإلاّ كيف يخطئ نظره قراءة السّماعات المختلفة المثبتة في بداية المخطوط، وهي أبين من فَلَقِ الصُّبح وضوحًا، نرجو أن يتمكّن من مراجعة الأمر في الطبعة الثانية إن شاء الله تعالى. مع موطّأ يحيى في نَشَرَاتِه: وتكاد هذه العناية بدراسة "الموطَّأ"وتمحيصه وضبط نُسَخِه تؤولُ في مُعظَمِها إلى المدرسة الحديثيّة للغرب الإِسلامي، ولذلك فإنَّ خزائن الكتب في العالم تحتوي على نفائس من رواية يحيى، وبالرّغم من هذه الكثرة، فإنَّ هذه الرَّوإية لم تُرْزَق إلى حد الآن ما يليقُ بها من القراءة والنّشر العِلْميّ السّليم. وتُعتبَرُ رواية يحيى من أقدم الرَّوايات نشرًا، فقد أحصينا بعض الطّبعات المتوفرة في بعض الخزائن فوجدناها كالتّالي: 1 - "الموطَّأ" رواية يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ، طُبعَ في دهلي بالهند، سنة: 1216هـ،1801 م (¬1) ولم نقف عليه. ¬
2 - ""المُوَطَّأ" المطبوع في الطبع الأحمدي، بدهلي، في الهند، سنة: 1266هـ،1850م. (¬1) 3 - النّسخة المطبوعة بمطبعة الحجَر بخطٌ باب اللّوق بالقاهرة في مصر، في 7 رمضان 1280 هـ، في جزأين (¬2)، يشتمل الأول على: 215 صفحة، والثاني على: 253 صفحة، بخط مشرقي مشكول، بتصحيح الشّيخ مصطفى عز الشافعي الأزهري (¬3). 4 - ما طُبعَ في المطبعة الرّسمية بتونس عام: 1280 هـ (¬4)، بعناية كوكبة من ¬
علماء تونس الأفاضل: محمود الشّريف، وسالم بن عمر بو حاجب، ومحمد البشير البجائي التواتي، وأحمد الورتاني. تقع في مجلد كبير، يشتمل على: 407 صفحة، مع مقدّمة في: 4 صفحات، وفهرست للمحتوى مع قائمة بالخطأ والصّواب في صفحتين. 5 - نسخة "الموطَّأ" بشرح الزّرقاني (¬1)، طُبعَت بالطبعة الكَاسْتَّلَّيَّة بمصر عام1280هـ، بتصحيح العلامّة نصر أبي الوفا الهوريني، في أربع مجلدات، وبهامشها سنن أبي داوود. 6 - النّسخة المطبوعة في الطبع الفاروقي، بعناية محمّد معظم الحسَنِي، بدهلي في الهند، في 21 شوال 1291هـ،1874 (¬2) م. 7 - "الموطَّأ" برواية يحيى، مع شرح شاه ولي الله الدهلوي، باللغة الفارسية، المسمىَّ: "المصَفَّى" بعناية المولوي: بخش البهاري، طبع الجزء الأول ¬
في مطبعة الفاروقي، في 420 صفحة، والجزء الثاني في مطبعة متضوي في 280 صفحة، بدهلي، سنة:1293هـ،1867م. (¬1) 8 - النُّسخة المطبوعة في المطبع الْمُجْتَبَائِي الواقع في دهلي [دلهي] بالهند، عام1307هـ. (¬2) 9 - نسخة مطبوعة على الحجر في لاهور (¬3)، [بالهند يومئذ وباكسنان حاليا] سنة: 1307هـ،1889 م، في: 400 صفحة. 10 - نسخة مع شرح الزرقاني، طبعت في المطبعة الخيرية لصاحبها عمر حسين الخشاب، بحي الجمالية يحوار الأزهر الشريف، وتقع في أربع مجلدات، سنة: 1310هـ، 1892م (¬4). 11 - نسخة حَجَريّة مطبوعة بمطبعة العربيّ الأزرق بفاس عام: 1311هـ، 1893م، مع تعليق على الموطَّأ لأبي عبد الله محمّد بن المدني كَنُّون [الكبير] بتصحيح: أحمد بن المأمون البلغيثي، يشتمل الجزء الأول منها على: 426 ¬
صفحة، والثاني على: 368 صفحة (¬1). 12 - نسخةٌ حَجَرِيّة مطبوعةٌ بفاس، سنة:1318هـ،1900م، في أربعة أجزاء، ضِمْنَ مُجلَّدين، يشتملُ الجزء الأوّل على: 167صفحة، والثّاني على: 172،والثّالث على: 184، والرّابع على: 187، بتصحيح الشّيخ التّهامي بن المدَني كنُّون، [ت. 1331هـ] والناشران هما: محمّد التّهامي بن الفقيه العربيّ بن موسى، والعبّاس بن العلاّمة سيدي المختار حفيد الشّيخ أبي العبّاس البدَوي زوِيتن (¬2). 13 - نُسْخَةٌ حَجَرِيَّةٌ صدَرَت عن مطبعة "فَخْر المطابع" بدهلي، في الهند، سنة:1320هـ، باهتمام نياز أحمد، تشتمل على: 392 صفحة (¬3). 14 - نسخة طبعت في الطبعة الشُّرَفِيَّة بمنطقة الجمَّاليّة بالقاهرة، وذلك في ¬
طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي
غرّة شهر جمادى الاَّولي عام:1320هـ،1902م، وتقع في جزأين ضِمْن مجلَّد واحد، يشتمل الجزء الأوّل على: 191 صفحة، والثّاني على: 238 صفحة (¬1). 15 - نسخةٌ حَجَريّة مطبوعة في قازان، سنة:1328هـ، 1910م (¬2). 16 - النُّسخة المطبوعة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، عام: 1329هـ،1920م، في جزأين في مُجَلَّدٍ واحدٍ، يشتمل الجزء الأوّل على: 288 صفحة، والثّاني على: 344 صفحة، مشكولًا شَكْلًا تامًا. وهناك طبعاتٌ أخرج كثيرة، ذكَرَتها المصادر، ووقفنا على بعضها، وأهملناها عمدا؛ لأنّ أغلبها لم يقف على نشره أعلام المصحِّحين من علماء وطلبة الأزهر وغيره، فلا قيمة لها تُذْكَر في العالَميِن؛ ولكنّنا سنحاول أن ننظر بعين ناقدة إلى الطبعات المعتمدة الآن عند العلماء والباحثين. طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: تعتبر طبعة الأستاذ عبد الباقي عام: 1951هـ من كثر الطبعات ذيوعًا وانتشارًا، ومن الغريب حقًّا ألَّا يعتمدَ الأستاذ عبد الباقي على أيّ نُسخةٍ مخطوطةٍ، وإنّما اكتفَى في ظبط النَّص على بعض المطبوعات الَّتي أشرنا إليها ¬
عبد الباقي والأعظمي وتصرفهما في كتب وأبواب رواية يحيى
آنفا، وحول منهجه هذا يقول في مقدّمة طبعته للموطّأ: "فكنتُ أقارنُ نصوص بعضها [أي المطبوعات] ببعض، فما اتَّفق الجميع عليه وأيقنتُ أنَّه الصَّواب أثبتُّهُ، وما اختلف فيه رجَّحتُ الجانب الَّذي به شرح الزَّرقاني والنسخة المطبوعة في الهند عام: 1307هـ، بعد أن أرجع إلى معاجم اللّغة وكتب الحديث والرجال، فخلصت لي من هذه النُّسخ جميعها نسخة ما ألوتُ جهدًا في أن تكون أصحّ ما أخرجته المطابع العربية في العالم الإِسلامي". قلنا: لا شكّ أن هذا المسلك الَّذي سلكه الأستاذ محمّد فؤاد عبد الباقي - رحمه الله وغفر لنا وله- يُعدُّ خَرْقَا واضحًا للنَّهج الأمثل في قراءة النُّصوص وإعدادها للنّشر، فالتّهاون في البحث عن النُّسَخ المخطوطة، والاقتصار في النّشر على المطبوع عمل غير علميّ، وقد أدَّى هذا التّهاون إلى نتائج غير مرضية، فطبعةُ عبد الباقي المتداوَلَة بين النّاس اليوم لا يعتمدُ عليها، إذا ما طبَّقنا عليها موازين النَّقد عند المحدِّثين، وأصول التّوثيق العِلْميّ عند المعاصِرِين. عبد الباقي والأعْظَمِيّ وتصرّفهما في كُتُب وأبواب رواية يحيى: وأوُّل ما يُستَغرَب في صنيع الأستاذ محمّد فؤاد عبد الباقي، هو قيامه بالتصرّف في تقسيم كُتُبِ وأبواب "الموطَّأ"، فاجتهد في وضع كتب وأبواب لا توجد في أيّ من الأصول المخطوطة، ومُسْتَنَدُه في اجتهاده: هو أن ترقيم كتب وأبواب "الموطَّأ" سيتلاءم مع الأرقام الَّتي وضعها المستشرق الهولندي فنسيك في "مفتاح كنوز السنة"، وما صنعه جماعة المستشرقن الأعاجم في "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النّبويّ".
وبهذا الصّنيع لم يعد لكتاب الجامع الَّذي تَمَيَّزَ به الإمام مالك عن أترابه أيّ معنى، فقد قسمه الأستاذ عبد الباقي إلى سبعة عشر كتابا، كلّ كتاب يشتملُ على أبواب، والأبواب تشتمل على مجموعة من الأحاديث المختلِفَة الَّتي لا تنتظم تحت معنى مُعَيَّنِ، فنجدُ كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اندرج تحته باب: ما جاء في نَزْعِ المعَالِيقِ والجرَسِ من العُنُقِ، فأيّ علاقة ظاهرة أو خفيّة بين صِفَتِه - صلى الله عليه وسلم - وبين نزع المعاليق؟! وهكذا دواليك نجد هذا التَّحَكُّم الظّاهر في جلِّ الأبواب الَّتي ابتدَعَها الأستاذ عبد الباقي لتتماشى مع ما فَهْرَسَه المستشرقون الأعاجم، مما أدى إلى غُموضٍ مُرْبكٍ في فقه ترجمة الباب، تَنَكَّرَتْ معه واستعجمت حِكْمَةُ الإمام مالك في وضع تراجمه. ومن أسَفٍ، فقد قَلَّدَ الأعظميُّ (¬1) عبد الباقي في بدعته عن إرادة واختيار -بئس الاختيار- يقول في مقدِّمته (¬2): "وبما أنّ هذا التغيير [في الكتب والأبواب] يسبب بلبلة في أوساط طَلَبَة العلم؛ لأنّ عَشَرات الألوف من النُّسَخ المطبوعة منتشرة في العالم، فإذا غيّرنا التّرتيب حسب مخطوطة ما فقد قَضَينا على تلك النُّسَخ والبحوث الَّتي كتِبَت منذ مئة سنة أو كئو وهي ترمز إلا تلك الكتب والأبواب، لذلك قرّرنا اتِّباع المألوف، وتطويع المخطوطات في التّرتيب بما هو [في] المطبوع". ¬
ويقول في موضع آخر (¬1): "في المخطوطات كافة الَّتي اعتمدناها للتحقيق لا توجد عناوين الكتب الكثيرة خاصة في كتاب الصلاة وكتاب الجامع، لكننا وضعنا عناوين تلك الكتب في كلّ المخطوطات نظرا لترتيب الأحاديث على نسق الكتاب المطبوع، وكذلك العمل في كتاب الجامع". قلنا: وهذا المنهج الَّذي ارتضاه الأستاذ الأغظميّ منهج باطل جملةً وتفصيلًا، فهو نقبٌ يمكنُ أن يدخلَ منه أعداء الأمّة والملّة، فيعيثونَ في إرْثِنا الإسلاميّ فسادًا، بالتّبديل والتّغيير، والزِّيادة والنقص، بدون ضابطٍ ولا رادعٍ، متَّكِئينَ على ما أَلِفَهُ النّاس واستأنسوا به، وهذا المنهج الباطل هو الَّذي وقع فيه مَنْ قَبْلَنَا من أهل الكتاب، الّذين سمحوا لرهبانهم وقساوستهم التّصرُّف في كتبهم المقدَّسة زعموا، فكانت النتيجة ما نشاهده من فوضى عارمة في كتبهم الَّتي لا تثبت على النَّقْد، وفيها من المطاعن والمغامز ما ملأ الخزائن "الكبرى" كما هو معلوم عند الباحثين في علم مقارنة الملل والنحل [الأديان]. ونحن نجلّ الأستاذ الفاضل عن إتيان مثل هذا الفعل المشين، ونَرْبَأ به عن أن يكون أداةً لأعداء الدِّين في ما يضمرون وينتوون، من القضاء على إِرْثِ أمَّتِنا، بتهذيبه تارةً، وبتيسيره تارةً أخري، وبتغير مناهجه حتّى يتلاءم مع العصر. نسأل الله الثّبات، والاستقامة على الطريقة المثلى في العلم والمنهج والعمل. ¬
عبد الباقي وبشار والأعظمي وزياداتهم على رواية يحيى
عبد الباقي وبشّار والأعْظَمِيّ وزياداتهم على رواية يحيى: كثيرا ما كان الأستاذ محمّد فؤاد عبد الباقي يُرجِّح ما يظنُّه صحيحًا، على ما جاء في رواية يحيى، وهو أمر مخالفٌ لقواعد القراءة والنَّشر العلمي الدّقيق، وآية ذلك: أنَّ المعتني بالنَّصِّ إنّما يهدفُ إلى إثبات ما دوَّنه المؤلِّف أو الرّاوي عنه، بغضِّ النَّظَر عن الصّواب أو الخطأ، فإنْ تَعْجَب -أخي القارئ - فاعْجَب من صنيعه في حديث مالك (¬1) عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن محمد بن الصديق، عن عائشة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". فهذا الحديث لم يروه يحيى بن يحيى اللَّيثيّ باتِّفاق علماء هذا الشَّأن، يقول ابنُ عبد البرّ في "التّمهيد" (¬2): "طَلْحَةُ بن عبد الملك الأيليّ، رَوَى عنه مالكٌ حديثّا واحدًا مُسْنَدًا صحيحًا، وليس عند يحيى عن مالك، وقد رواه القَعْنَبِيُّ (¬3)، وأبو مصْعَب (¬4)، وابن بُكَيْرٍ (¬5)، والتِّنِّيسيُّ (¬6)، وابن وَهْبٍ (¬7)، وابنُ ¬
القاسم (¬1)، وجماعةُ الرُّواة (¬2) للمُوَطّأ ... وما أظنُّه سَقَطَ عن أحدٍ من الرُّواة إلّا عن يحيى، فإنِّي رأيتُه لأكثرهم، والله أعلم". قلنا: أقحم الأستاذ عبد الباقي هذا الحديث في رواية يحيى، مع أنه لم يرد في مخطوطة ابن الطَّلاَّع، وربّما وَرَدَ -وهو الغالب- في المطبوعات المصرية القديمة، وقد أدّت هذه الإضافة إلى جُنُوح بعض المعاصرين لتَخْطِئة ابن عبد البرّ بأسلوب فجٍّ قبيح، فقال (¬3): "لا يحزنك يا أبا عمر [في الأصل: عمرو] أنك لم تجده في مُوَطَّأ يحيى، فهو فيه تحت رقم: 1031، ك: النذور والأيمان، ب: 4 ما لا يجوز من النذور في معصية الله، ص: 296. ولم يشذّ [في الأصل: يشد] عن غيره من رواة "المُوَطَّأ"، ومن عجيب أنك لم تجده عنده، كان الأولى أن تتهم نسختك من "المُوَطَّأ" أو حفظك له، أو من رويته عنهم، وتحاول استقراء البحث قبل أن تقع في هذه الأعجوبة، ولكن لكلّ جواد كبوة". فانظر أخي القارئ إلى هذا التّعالُم الكَرِيه، والادِّعاء الأجوف، الَّذي لا يقع فيه من شَدا من علوم الحديث والرِّجال، وعُذْرُ الرّجل أنّه طَلَبَ هذا الفنّ من العلم بأَخَرَة، فهو قاصر الآلة، لا يمكن أن يستبطن دخائل علم الرِّواية ويقف على دقائق أغراضها، بدون تلق واع من الشيوخ، وممارسة ومدارسة لهذا العلم مع أهله. ¬
ولكن الغريب حقا أن يقع في هذا الخطأ نفسه عالم من العلماء الّذين لهم اشتغال بهذا العلم، وكتبوا فيه كتابات جيدة، ونقصد الأستاذ محمد مصطفى الأعْظَمِيّ (¬1)، الَّذي قَلَّدَ محمد عبد الباقي وقال في تخريجه: "هذا الحديث ليس في الأصل [أي نُسخة ابن الطَّلَّاع] ولا في "ق" [أي مخطوطة صائب سنجر بأنقرة] وقد أضيفت من النُّسخة المطبوعة، ومن رواية أبي مصعب الزهري". قلنا: وهكذا يُقْحِمُ الأعظميُّ ما ليس في رواية يحيى بحجَجٍ واهية، ظاهرة البطلان، فما قيمة النُّسخة المطبوعة وبين يديه نسخة ابن الطَّلاَّع الَّتي حقّقها [بالتعبير المعاصر] المحدِّث الثبت ابن رُشَيْد، وبين يديه أيضًا نسخة صائب سنجر الَّتي قرأ فيها أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني؟ هذا أمر منكر لا يرضاه أهل الحديث، بتعبير القاضي عياض (¬2). وأيضًا ما دخل رواية أبي مصعب حتى يستعين بها في الاستدراك والتعقيب؟ نعود إلى ذكر ما أفسد به الأستاذ عبد الباقي موطّأ يحيى، فنقول: يصعُبُ على الباحث تتبُّع كلّ كتب وأبواب الموطّأ، فهذا أمرٌ يحتاج إلى تفرُّغٍ كاملٍ، مع توفير أغلب النُّسخ المعتبرة، والمقارنة بينها، وإبراز نسخة مُتْقَنَة من رواية يحيى كما سمعها ورواها عن الإمام مالك. ولكن حسبُنا في هذا المقام أن ننبِّه القرّاء والباحثين إلى ضرورة الاعتناء بهذا الموضوع، وسنقتصر على ذكر بعض ¬
الأخطاء الواقعة في كتاب الصلاة وكتاب الجامع، لضيق المقام في مثل هذه المقدمة عدى ضرب الأمثلة من جميع كتب وأبواب "المُوَطَّأ". جاء في طبعة عبد الباقي (¬1) وبشار (¬2) في كتاب الصلاة، ما جاء في النداء، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أراد أن يتخذ خشبتين يُضْرَبَ بهما ليَجْتَمِعَ النَاسُ للصّلاة. وقوله: "لِيَجْتَمِعَ" هي رواية ابن القاسم ومُطَرَّف، أمّا رواية يحيى فهي بلفظ: "لِيُجْمَعَ" هذا ما وُفِّقَ فيه الأعظميّ في طبعته، وهو الثّابت في طُرَّةٍ من طُوَرِ نسخة ابن الطَّلاَّع. وجاء في طبعة عبد الباقي (¬3): "مالك، عن نافع، عن ابن عمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمَّى من فَيْحِ جَهَنَّمَ، فأطفئوها بالماء"، وهذا الحديث لا وجود له في موطّا يحيى باتِّفاق الحفَّاظ، إذ يشير الدَّارَقُطنِيّ في "أحاديث المُوَطَّأ" (¬4) إلى أنّ هذا الحديث هو من رواية ابنِ وَهْبٍ (¬5)، وابن القاسمِ (¬6)، وابن عُفَيْرٍ، والشّافعيّ (¬7)، كما يقول: ابن عبد البرّ في التّمهيد (¬8): "وهذا حديثٌ ليس في الموطّأ عند أكثر الرُّواة، وهو فيه عندَ ابنِ القاسمِ، وابنِ وَهْبٍ، وابنِ عُفَيْرٍ". ¬
اهتبال عبد الباقي وبشار والأعظمي بإصلاحات ابن وضاح وإثباتهم لها
وعن هذا الحديث أيضًا يقول الدَّانيّ في الإيماء (¬1): "هذا عند ابنِ القاسم، وابنِ عُفَيْرٍ، والشّافعيّ بهذا الإسناد [أي: مالك عن نافع عن ابن عمر] ". ومع هذا البيان فقد قَلَّد الأعظمِيُّ عبدَ الباقي وأثبته في طبعته. (¬2) اهتبال عبد الباقي وبشّار والأعْظَمِيّ بإصلاحات ابن وضّاح وإثباتهم لها: من نِعَمِ الله على هذه الأمّة أنْ قَيَّضَ لها علماء الحديث، الّذين وضعوا المناهج السّديدة، والقواعد العلميّة الضابطة، الَّتي تحيط إرثنا الإِسلامي بسياج قَوِيٍّ من الحماية والحفظ، تمنع عنه تحريفات الجاهلين، وتَعَسُّف وتأويلات المبطلين، وقد كان للمُحَدِّثين منهجهم الواضح في بيان اختلاف الرِّوايات للَّفظ الواحد، فلا يخلطون ولا يُلَفِّقُون؛ لما في التّلفيق من الالتباس، إلَّا أنّه دار نقاشٌ وخلافٌ حول إصلاح اللّحن الوارد في الرِّواية، لا نريد الدّخول فيه، ولكن حسبُنا ما كتبه القاضي عياض في "الإلماع" (¬3) فهو شافٍ كافٍ إن شاء الله تعالى، يقول -رحمه الله-: "الَّذي استمرَّ عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرِّواية كما وصلت إليهم وسمعوها، ولا يغيِّرونها من كتبهم ... ولكن أهل المعرفة منهم ينبِّهُون على خطئها عند السُّماع والقراءة في حواشي الكتب، ويقرءون ما في الأصول على ما بَلَغهُم. ومنهم من يجسر على الأصلاح، وكان ¬
أجرأهم على هذا من المتأخِّرين القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الوَقشِيّ؛ فإنّه لكثرة مطالعته وتَفنُّنِهِ ... جَسَرَ على الإصلاح كثيرا، وتَحَكَّمَ فيها بما ظهر له، وبما رآه في حديث آخر، وربّما كان الَّذي أصلحه صوابًا، وربّما غلط فيه وأصلح الصّواب بالخطأ ... وحماية باب الإصلاح والتغيير أولى؛ لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، ويتسلط عليه من لا يعلم، وطريق الأشياخ أسلم مع التبيين، فيذكر اللفظ عند السماع كما وقع، وُينَبَّه عليه، ويذكر وجه الصواب، إما من جهة العربية أو النقل، أو وروده كذلك في آخر، أو يقرؤه على الصواب، ثم يقول: وقع عند شيخنا أو في روايتنا كذا، أو من طريق فلان كذا، وهو أولى؛ لئلا يقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله". ويقول القاضي عياض أيضًا في "مشارق الأنوار" (¬1): "والصّوابُ من هذا كلَّه لمن رزقا فهمًا وأُوتي عِلْمًا، إقرار ما سَمِعَه ورواهُ كما سمعه ورواه، والتَّنبيه على ما انتقَدَهُ في ذلك ورآه، حتّى يجمع الأمرين، ويترك لمن جاء بَعْدُ النَّظَر في الحرفين، وهذه كانت طريق السَّلَف فيما ظهر لهم من الخلَلِ فيما رَوَوْهُ من إيراده على وجهه وتبين الصَّواب فيه، أو طرح الخطأ البَيِّنِ والإضراب عن ذِكْرِه في الحديث جملةً، أو تبييض مكانه والاقتصار على رواية الصّواب، أو الكناية عنه كما يظهر ويُفْهَم لا على طريق القطع، وقد وقَعَ من ذلك في هذه الأمّهات ما سنوقف عليه ونشير في مَظانِّه إليه، وهي الطّريقة السّليمة، ومذاهب الأيمة القويمة، فأمّا الجسارة فجسارةٌ، فكثيرا ما رأينا من نَبَّهَ بالخطأ على الصّواب، فعكسَ الباب، ومن ذهب مذهب الإصلاح والتّغيير، ¬
وهذه أمثلة من إصلاحات ابن وضاح التي أقحمها الناشرون في طبعات رواية يحيى بن يحيى الليثي
فقد سَلَكَ كلّ مسلكٍ في الخطأ، ودلاه رأيه بغرور ... وتحقق من تحقيقه أنّ الصّواب مع من وقَفَ وأحجَمَ، لا مع من صَمَّمَ وجَسَرَ، وتأمَّل في هذه الفصول ما تكلمنا عليه وتكلم عليه الأشياخ والحفَّاظ فيما أصلحه أبو عبد الله بن وضّاح في "الموطَّأ" على يحيى بن يحيى ... واظهار الحجَجِ على الغلَطِ في كثير من ذلك الإصلاح، وبيان صحَّة الرِّواية في ذلك من الأحاديث الصِّحاحِ". قلنا: لعلّنا بهذه النُّصوص الواضحة الَّتي تنمُّ عن إدراك واعٍ وحيطةٍ حازمة، نكون قل أوضحنا المنهج الحقّ الَّذي ينبغي أن يُتَّبَع في مثل. هذه الإشكالات المعاصرة في التصحيح والتصويب، وكم كنا نَوَدُّ من الفاضِلَين بشّار والأعظميّ -ومقامهما في علوم الحديث معلوم- لو سلكا مسلك شيوخ الرِّواية" لكانا قد أبدعا في خدمتهما لهذا المصدر الأول، مُوَطَّأ الإمام مالك. وهذه أمثلة من إصلاحات ابن وضّاح الَّتي أقحمها النّاشرون في طبعات رواية يحيى بن يحيى اللَّيثيّ: 1 - جاء في طبعة عبد الباقي (¬1)، وطبعة بشّار (¬2)، وطبعة الأعْظَمِيّ (¬3)، في كتاب الصلاة، القراءة في الغرب والعشاء: "مالك، عن أبي عُبَيْد سليمان بن عبد الملك، عن عُبَادَةَ بن نَسِيٍّ، عن قيس ... " يقول محمد بن الحارث ¬
الخشني (¬1): "وهم فيه يحيى فقال: عن عَبَّاد بن نَسِىٍّ، وإنما هو عبادة بن نسي، قاضي الأردن، هكذا رَوَتْهُ الرُّواةُ عن مالك". وبلفظ "عباد" ورد في نسخة ابن الطلاُع: لوحة23، والغريب أن الأعظَمِىّ قال في الهامش: "رمز في الأصل [وهو نسخة ابن الطَّلّاع] على "عباد" علامة عـ، وبهامشه في "ح" [أخطأ الأعْظَمِي فأثبت خ] عبادة". ومعنى هذه الرموز -الَّتي لم يستفد منها الأعْظَمِيّ شيئًا- أنّ علامة "عـ" معناها أنّ هذه هي رواية عُبَيْد الله بن يحيى، وعلامة: "ح" معناها أنّ هذا هو من إصلاح ابن وضّاح. 2 - جاء في طبعة عبد الباقي (¬2)، وبشار (¬3)، والأعْظَمِيّ (¬4)، في كتاب الصلاة، ما جاء في صلاة القاعد في النافلة، حديث "مالك، عن عبد الله بن يزيد، وعن أبي النضر، عن أبي سلمة ... "، يقول الخشني (¬5): "وهم فيه يحيى، إنما هو: عن عبد الله بنيزيد وأبي النَّضرِ، كما رواه أصحاب مالك"، والتّصرف في نَصِّ رواية يحيى وقع في نسخة ابن الطَّلّاع لوحة: 41، إلَّا أنّه جاء في طُرَّتِهَا ما يوضح اللّبس، ويكشف عن إصلاح ابن وضاح، فقال الْمحَشَّي: "الَّذي في داخل الكتاب من إصلاح ابن وضاح، وأمّا عبيد الله بن ¬
يحيى فرواه: مالك عن عبد الله بن يزيد عن أبي النضر، أسقط الواو، وهو خطأ، إنما لحديث مالك عنهما جميعا، وكذلك رواه سائر رواة الموطَّأ". والغريب أن بشّار عواد معروف لم يشر إلى إصلاح ابن وضّاح، مع أنه وعدنا في مقدِّمته (¬1) ببيان الأخطاء الواقعة في رواية يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ، وتوضيح وجه الصّواب فيها. أما صاحبُنا الأعْظَمِي فقد نقل طرَّة نسخة ابن الطَّلَّاع الَّتي اعتبرها أصلا، وأبقى على إصلاح ابن وضّاح. 3 - جاء في طبعة بشّار (¬2) والأعْظَمِيّ (¬3)، حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، قال: "بلغني أنّ أسعد بن زُرَارَةَ اكتَوَى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". هكذا وقع في الطبعتين: "أسعد" مصحّحًا، وأصل رواية يحيى: "سعد" وهو الثابت في طبعة عبد الباقي (¬4)، وتعَقبه بشّار بقوله: " في م [أي طبعة عبد الباقي]: وهو خطأ بين، وما أثبتناه من ن والتمهيد، وهو الموافق لروايتي أبي مُصْعَب وسُوَيْد". قلنا: هذه الرواية الَّتي أثبتها عبد الباقي هي عين الصواب، وإن كانت وهما ظاهرا ليحيى بن يحيى. ¬
ذكر بعض التصحيفات التي وقعت فيها الطبعات الثلاث
كما وقع الاسم مصَحَّحا في نسخة ابن الطَّلاعّ: لوحة 337، وعُلّمَ على لفظ "أسعد" بعلامة "ح"، أي أنّ هذا اللَّفظ هو من إصلاح ابن وضّاح، وقد أشار الأعْظَمِيّ إلى هذا في حاشيته، ومع هذالم يحافظ على أصل رواية يحيى. ذِكْرُ بعض التّصحيفات الَّتي وقَعَت فيها الطّبَعات الثلاث: قد يطول بنا المقام إذا ما حاولنا تَتبُّع الطبعات الثلاث في هفواتها وسقطاتها، ولكن لا بأس إن نشير إلى نماذج معدودة مما وقع فيه الأساتذة الأفاضل، حتّى ننبه الباحثين إلى ضرورة تكاثف الجهود للعمل من أجل نشر إرثنا الإِسلامي المخطوط على أسس علمية خالصة، مبنية على القواعد والمناهج الّتي قررها علماؤنا -رحمة الله عليهم-. 1 - جاء في طبعة عبد الباقي (¬1)، كتاب الجهاد، ما جاء في الغلول: "عن مالك، عن عبد الرحمن بن سعيد ... " وقولهم: "عبد الرحمن" خطأ ظاهر، والصواب كما في نسخة ابن الطّلاّع: لوحة 148، وطبعة بشّار (¬2)، وطبعة الأعْظَمِيّ (¬3): "مالْك، عن عبد رَبَّه بن سعيد ... ". 2 - جاء في طبعة عبد الباقي (¬4)، وبشّار (¬5)، كتاب الحج، ما جاء فيمن أحصر بغير عدو: "مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار؛ أن ¬
سعيد بن حُزَابَة ... "، وقولهم: "سعيد" تصحيف ظاهر، والصّواب كما في نسخة ابن الطّلاّع: لوحة 120، وطبعة الأعْظَمِيّ (¬1): "مَعْبَد بن حُزَابَة". 3 - جاء في طبعة بشّار (¬2)، كتاب البيوع، الحكْرَةُ والتَّرَبُّص: "مالك؛ أنه بَلَغه أنّ عمر بن الخطاب قال: لا حُكرَةَ في سُوقِنَا، ولا يَعْمِدُ رجالٌ بأيديهم فُضولٌ من أَذهَابٍ، إلى رِزْقٍ من رِزْقِ الله نزل بساحتنا، فَيَحْتَازُونَهُ علينا، فَيَحْتَكِرُونَهُ ... " ولا ندري من أيّ مصدر استقى الأستاذ بشّار زيادة: "فيحتونه علينا"؟ وأسقط كلّمة: "علينا" الَّتي تلي كلّمة: "فيحتكرونه"؟ على أن الصّواب الَّذي في نسخة ابن الطَّلّاع: لوحة 243، وطبعة عبد الباقي (¬3)، والأغظَمِيَ (¬4): " ... بساحتنا، فيحتكرونه علينا ... ". نكتفي بهذا القدر من ببان بعض الهفوات الَّتي لا يخلو منها كتاب، وأبى الله الحفظ إلا لكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وكم كنا نوَدُّ لو تمهَّل الأستاذان الفاضلان، فأرجآ نشر كتابيهما إلى حين، حتّى يتمكّنا من الاطلاع على عيون نُسَخِ "الموطَّأ" بالخزائن المغربية، وبعض النّوادر في إستانبول وغيرها من العواصم العالمية، ونعتقد أن ظروف الحصار الظالم قد حالت دون تحقيق هذه الأمنية لأخينا بشّار، وهو الَّذي صرَّح به في مقدمة كتابه عندما قال: "على أن نُسَخَ "الموطَّأ" في خزائن الكتب كثيرة تبلغ المئات، يتعذَّر على من هو في مثل ظرفنا ¬
جمعها والمقابلة بينها ودراستها ... فبدأنا ندرُس النُّسَخ المتوفرّة في بلادنا لا سيّما في مدينة السلام بغداد حرسها الله"، ولا ندري ما هو عذر الأستاذ الأعْظَمِيّ في عدم تقصِّيه، واقتصاره على النُّسَخ الَّتي اقتصر عليها؟ وفي ختام هذا المبحث، نرى من المناسب أن نذكر بعض النُّسَخ من "موطأ يحيى" الَّتي وقفنا عليها في الخزانة العامة في الرِّباط، تُمثِّل أنموذجًا جيِّدًا لما تحويه الخزائن المغربية من نوادر وعيون "مُوَطَّأ يحيى" (¬1)، وهي كالتالي: 1 - جزء من "الموطَّأ"، تحت رقم: 231 ك، وهو نسخة أندلسية عتيقة جدًا، بُتِرَ أوّلُها وآخرها، قديمة الخطِّ، كُتِبَت حوالي سنة: 500هـ تقديرًا، تشتمل على 144 ورقة، شديدة الضَّبط والإتقان، مقابلة بعناية، وعليها سماعات تدلُّ، على أنَّه قرئ منها على الإمامين: أبي القاسم خَلَف بن محمّد الشّاطبيّ [ت.520] وأبي الحسن عبُّاد بن سَرْحَان بن مسلم المعافري الشاطبي، صرَّح باسم الأول في موضعين: في أَخر باب ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا، وفي آخر كتاب القراض. ووقع التصييح بالسماع على الثاني آخر باب الطاعون. 2 - جزء من "الموطَّأ" تحت رقم: 2947 ك، 55 ورقة، كتب على رقِّ غزال، وهو الجزء الثاني والعشرون، وهو الثالث من كتاب البيوع وكراء ¬
الأرض، نهايته: باب ما جاء في الإحداد، وجاء في الورقة الأولى: "وهو مما كتبه لخزانة أمير المسلمين عليّ بنيوسف بن تاشفن -أدام الله تأييده ونصره- يحيى بن محمْد بن عبَّاد اللَّخْمِيّ" كما ورد في النسخة: "بلغ مقابلة عام: 503 هـ". كنا قد اطلعنا على هذه النُّسخة أيام كُلَّفنا من الاتّحاد الأُمَمِي للمجامع العلمية التابع للمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة [اليونيسكو] للبحث عن النسخ النادرة لموطأ يحيى، واقتصرنا في بحثنا -يومئذ- على الخزانتين العامّة والملكية بالرّباط، ومن حُسن الحظّ أن أحد الطّلبة النابهين المقتدرِين، استطاع بهمَّتِه الشَّمَّاء، أن يستقصي البحث عن النُّسخ العتيقة في الخزائن المغربية، واستنفد طاقته -مشكورا مأجورا إن شاء الله- وبذل جهده في تلَمُّسِ النوادر في مظانها، وقد تقدم ببحثه لنيل شهادة الدراسات العليا المعمقة في دار الحديث الحسنية، بالرباط، في الغرب الأقصى، تحت إشراف الأستاذ محمد الراوندي، وسنستعين به -بعد الله- في وصف القِطَعِ الموزَّعَة بين خزائن المغرب من هذه النُّسخة القيمة. القطعة الأولى: تحت رقم: 605 من محفوظات خزانة القرويَّين، عدد أوراقها: 72 ورقة، تشتمل على كتاب الصيام. القطعة الثانية: تحت رقم: 605 بخزانة القرويين أيضًا، عدد أوراقها: 59 ورقة، تشتمل على كتاب الجنائز. القطعة الثالثة: تحت رقم: 1988 بخزانة القرويين، عدد أوراقها: 24 ورقة، تشتمل على أوراق مبعثرة، لكتب ناقصة، وهو النكاح والطلاق والبيوع.
القطعة الرابعة: تحت رقم: 2005، بخزانة القرويين، عدد أوراقها: 55 ورقة، تشتمل على كتاب الرجم والحدود. القطعة السادسة: تحت رقم: 605 بخزانة القروين، عدد أوراقها: 81 ورقة، تشتمل على الجزء الثالث من كتاب الجامع. واسم الناسخ كما ذكرنا سابقا هو ولد المعتمد بن عباد، وخطها أندلسي، عدد الأسطر في الصفحة: 12 سطرا، مقاسها: 27 سم/ 20 سم. وهي نسخة عتيقة، ناقصة من الأول والوسط والأخير، وبعض القطع مبعثر الوراق غير مرتب، وقد أصابت الرطوبة هذه النُّسخة فمحت كثيرا من صفحاتها. وهذه النُّسخة معارضة بنُسْخَةٍ أُمَّ، ومقابلة، ففي كثير من المواطن أثبت الناسخ يحيى بن محمد في الحاشية: "بلغ العرض بالأمِّ فَصَحَّ" كما في الورقة الأولى من القطعة الأولى. (¬1) -3 - نسخة عتيقة جدًا، تحت رقم: 347 ق، من مخطوطات الزّاوية النّاصرية بتمكروت، وخطّها أندلسيٌّ قديم جدًا كتب على رقِّ غزالِ، وفي آخرها: "وكتبه شُرَيْح ابن محمّد بن شُرَيْح الرُعَيْني لابنه محمّد - وفقه الله وسدَّده وعصمه وأيَّده-" وفيها سماع كُتِبَ في بعضه: "قرأه جميعه على الفقيه الأجل الخطيب ... أبي الحسن شُرَيْح ابن محمّد بن شُريح، وأبي الأصبغ عيسى ... وسمعه بقراءة ابنه محمّد والفقهاء: أبو بكر بن المرابط، ¬
وأبو محمّد بن عصفور، ومحمد وأحمد أبناء ... وجماعة كثيرة سنة:528 هـ وعلى النُّسخة طُررٌ وتصحيحات ومقابلات. تكملة جعفرية (¬1): يبلغ عدد أوراق النُّسخة: 160 ورقة، عدد الأسطر: 27 سطرا، مقاس الصفحة: 25 سم/20 سبم، وفي النُّسخة خروم بفعل الأرضة، وقد سقطت منها بعض الأوراق ابتداء من الصفحة: 1 - 5، ومن: 24 إلى: 31، وقد استدركت هذه الأوراق بخط متأخر. ومما زاد هذه النُّسخة نفاسةً، أنها عُورِضَت من قبل عالم محدِّث هو عبد بن أحمد بن بليط، كان معتنيا بتقييد الحديث، سمع في إشبيلية من ابن العربّي، وفي قرطبة من ابن شُرَيْح، وله رواية عن غير هؤلاء. وتحتوي هذه النُّسخة على حواش علمية نفيسة، تشير إلى اختلاف الروايات عن مالك، واختلاف الطرق عن يحيى، وشرح الغريب. -4 - نسخة قديمة تحت رقم: 3386 د، بخط أندلسي جميل، كتب في القرن السادس تقديرًا، عدد صفحاتها 391 صفحة، وهي مبتورة الأول والأخير، إلَّا أنَّه في العقود المُتأخرة استدرك النقص وكمِّل من نسخة أخرى [من صفحة 1 إلى 9، وفي 386 إلى 391] وعلى النُّسخة طُررٌ وتصحيحات. -5 - السَّفْر الثاني من "الموطَّأ" تحت رقم: 3239 د، عنوانه مُذَهّب، بخطٍّ مشرقيٍّ، ويحتوي على 354 صفحة، وعليه تملُّك عام: 1198 لمحمد بن عبد الرحمن الحسني، وبدايته: كتاب البيوع. ¬
وفي النُّسخة رموز ومختصرات تشير إلى خلافات روايات "الموطَّأ" كابن بُكير وغيره، وآراء بعض الشارحين كالقنازعي والبوني وغيرهما. وفي اللوحة الأخيرة: 354 كتب بخطٍّ أسود: "تمَّ التصحيح والتقييد" وكتب بخطٍ أحمر: "وتَّمت القابلة، وتمَّ كتاب الجامع من مُوَطَّأ مالك بن أنس بحمد الله وعونه، وبتمامه كمل "الموطَّأ"، وصلى الله على محمّد نبيِّه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة: أربع وست مئة". -6 - نسخة عتيقة، تحت رقم 2911د، بخط أندلسيٍّ، وعليها بلاغات وتصحيحات وذكرٌ لاختلاف الرِّوايات، وبالأخصِّ القَعْنَبيّ وابن بُكَيْر ومُطَرِّف. وفي آخرها: "كمل كتاب الموطَّأ بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، وكان الفراغ منه مساء يوم الأحد السادس والعشرين من شهر شوال من ثلاث عشرة وستّ مئة، على يد ناسخه لنفسه عبد الله أحمد بن محمّد اللَّباد، وفقه الله وعفا عنه ". تكملة جعفرية (¬1): كتبت بخط أندلسي، سوى ما استدرك فهو بخط مغربي، وعدد أوراقها: 120 ورقة، وعدد الأسطر: 29 سطرا، مقاسها: 25 سم/18سم. تشتمل على حواش هامة تشير إلى اختلاف الروايات عن مالك، واختلاف طرق الرواية عن يحيى، وإصلاحات ابن وضاح. ¬
رواية أبي بكر بن العربي للموطأ
-8 - نسخة تحت رقم: 840 ج، بخطٍّ أندلسي جميل، وهي مكتوبة على رق ممتاز، وتحتوي على 401 صفحة، وعليها تصحيحات وبلاغات، وبعض الشروح عن ابن وضَّاح، وكان الفراغ من هذه النُّسخة سنة:595 هـ. ونرى أنّضه في ضوء هذه النسخ النَّادرة إالَّتي تحتويها مكتبة واحدة من مكتبات المغرب، ينبغي بل يجب على الأستاذين الفاضلين بشّار عوَّاد معروف ومحمد مصطفى الأعظمي أو غيرهما أن يعيدا النظر في نشرتيهما، حسب الأصول والقواعد المتفق عليها عند علماء الحديث، مستعينين بهذه النسخ الَّتي يكمل بعضها بعضا، وبغيرها مما هو محفوظ في مختلف المكتبات العالية. رَواية أبي بكر بن العربيّ للمُوَّطأ: ومما يثيرُ العَجَبَ أنَّه بالرّغم من شيوع رواية يحيى وذيوعها، واحتفال النّاس بروايتها، لم نقف لابن العربيّ على إسناد صريح لهذه الرِّواية، وإن كنَّا على يقين جازم بأنَّه قد تحملها كعادة أسلافه الأندلسيين، يؤكِّد هذا ما جاء في تكملة (¬1) ابن الأبّار في ترجمة أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الغُمَارِيّ، الواعظ الضَّرير (¬2) [ت.632 هـ] من أهل الجزيرة الخضراء، الَّذي روى عن أبي بكر بن العربيّ واستظهر عليه "الموَطَّأ" وأجازه له، بل وحدَّث عنه [أي عن الواعظ الضّرير] أبو عبد الله بن هشام النّحويّ وحكاه لابن الأبّار؛ أنّه سمع بلفظه بعض "الموطَّأ" يورده من حفظه، وأنّه كان يقول: هكذا كنت أعرضه على أبي بكر بن العربيّ. ¬
قلنا: لا شكّ أنّ هذا النَّصَّ يُوضِّح بجلاءٍ لا يَعْتَريه لُبْسٌ قيام أبي بكرٍ بتدريس "الموَطَّأ" في مجالس العلم والتحصيل، بدليل أن الواعظ الضرير استظهره عليه، أي أنه قرأ "الموَطَّأ" عليه، وهو ما يُعْرَف عند المحدِّثين بالقراءة على الشّيخ، وقد اتفق علماء الحديث على أنها رواية صحيحة (¬1). ولم يكتف الواعظ الضّرير بالقراءة، بل طَلَبَ من شيخِه ابن العربيّ الإجازة، وقد أجازه، والإجازةُ هي إذنُ المحدَّثِ للطّالب أن يروي عنه حديثا أو كتابا، ولا يعطي الإجازة إلَّا من له حقّ تحمُّل الأداء، فنحن هنا أمام صورة تمثل المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. كما ينبغي الإشارة في هذا المقام إلى وجود نسخة عتيقة من "المُوَطَّأ" في عصر السَّعْدِيِّين، هي أصل نسخة ابن العربيّ الَّذي عليها خطّه، ذَكَرَها محمد ابن العربيّ الفاسي (ت. 1052) في كتابه "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن" (¬2) في أثناء حديثه عن شيوخ محمد بن عبد الرحمن الفاسي، كما أشار إليها شيخنا محمد المنوني في كتابه "دور الكتب في ماضي المغرب" (¬3) وبالرغم من كلّ هذا، فقد رأينا من المُفيد أن نعوَّضَ عن هذا -الَّذي ربما اعتبره بعضهم خلَلًا- بما يسدُّه ويجبُرُه، وهو أن نعتمد على رواية نَبيهِ من أنباه تلامذته، وحافظٍ من حُفَّاظ مدينته (¬4)، لينوبَ عن شيخه أبي بكر ¬
ابن العربيّ؛ فلم نجد أصْلَحَ ولا أوْفىَ بالمواد من حافظِ عَصْرِه أبي بكر بن خَيْر الفاسي المولد، الإشبيلي الدّار، اعتمادًا على "فهرسته" الَّتي ضمَّنها رواية الكُتُب الرّائجة في عصره، بطُرُقها المُسْندَة المُفضَّلة عن شيوخه، وها نحن نسوق هذه الرِّوايات عن شيوخه معتذرين عن التَّكرار والإطالة، وعن التصحيف الَّذي ربما وقع في بعض الأسماء، فالأمر يحتاج إلى مراجعة المصادر؛ لأن نسخة فهرست ابن خير تحتاج إلى عناية. 1 - أبو مروان الباجي: " ... حدَّثني بها (أي بالرِّواية) الشّيخ الفقيه القاضي أبو مروان عبد الملك ابن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن عليّ بن شريعة ابن رفاعة ابن صخر بن سماعة اللّخميّ الباجيّ، - رضي الله عنه - وعن سلفه- سماعًا من لفظه، بقراءته علينا في شهررمضان المعظم سنة: 520هـ، وسمعته أيضًا عليه مرّةَ أخرى بقراءة بعض أصحابنا في رمضان المعظم سنة: 538هـ، قال: حدّثني بها أبي، وعمَّاي: أبو عمر، وأبو عبد الله محمّد، وابن عمي الفقيه المُشاوَر صاحب الصّلاة أبو محمّد عبد الله بن علي بن محمّد بن أحمد، قالوا كلّهم: حدّثنا بها الفقيه أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله، عن جدِّه الفقيه الراوية أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن عليّ بن شريعة، قال: 1 - حدّثنا بها أبو عمر أحمد بن خالد بن يزيد قراءةً عليه، وأبو عبد الله محمّد بن عبد الملك بن أيمن سماعًا عليه، قالا: حدّثنا بها أبو عبد الله محمّد بن وضَّاح، وإبراهيم بن محمّد المشهور بابن باز، قالا: حدّثنا بها يحيى بن يحيى.
2 - وحدّثني بها أيضًا أبو عبد الله محمّد بن عمر بن لُبابة سماعًا عليه، قال: حدّثني بها أبو عبد الله محمد بن وضَّاح المذكور، عن يحيى ابن يحيى المذكور، عن مالك بن أنس، -رضي الله عنه-" (¬1). 2 - أبو الحسن شُريح بن محمّد الرُعَيْنِيّ: " ... حدّثني شيخنا الخطيب أبو الحسن شُرُيْح بن محمّد بن شُرَيْح ابن أحمد الرُعَيْنِيّ، قراءة منِّي بلفظي مرارًا، وسَماعًا عليه بقراءة غيري مرارًا، قال: 1 - حدّثني أبي - رحمه الله - سماعًا من لفظه بقراءته عَلَيَّ، قال: سمعتُه على الشّيخ الإمام أبي عمرو عثمان بن أحمد بن محمّد بن يوسف اللَّخْميّ، المعروف بابن القيجطيلي المكَتب، قال: حدّثنا به أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، عن عمّ أبيه أبي مروان عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن مالك بن أنس -رحمه الله-". 2 - وحدّثني به أيضًا خالي الراوية أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن عبد الله بن عبد الرحمن الخولاني إجازةً، عن أبي عَمْرو عثمان بن أحمد القيجطيلي المكَتّب المذكور، سماعًا عليه بالسَّنَد المذكور. 3 - وحدّثني به أيضًا الفقيه المُشاوَر أبو محمّد عبد الله بن إسماعيل بن محمّد ابن خزرج اللَّخْميّ، سماعًا عليه، قال: 1 - حدّثني به أبو القاسم إسماعيل بن بدر الأنصاري الفَرَضِيّ، المعروف بابن الغَنَّام، قال: أخبرنا به أبو عمر أحمد بن نابت بن أحمد التّغلي، قال: أخبرنا به أبو مروان عُبيد الله بن يحيى بن يحيى بالسَّنَد المتقدِّم. ¬
2 - أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن زين القُرْطبُي، وأبو عمرو عثمان بن أحمد القيجطيلي المذكور، قالا: حدّثنا أبو عبد الله يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى بالسَّنَد المتقدم. 3 - وحدّثني به أيضًا أبي: إسماعيل بن محمّد بن خزرج -رضى الله عنه- قال: حدّثني به أبو عثمان سعيد بن أحمد القلاس، قالا: حدثنا أبو الحزم وَهْب بن مَسَرَّة الحجاري، قال: حدّثنا محمّد بن وضّاح، قال: أخبرنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا مالك بن أنس. 4 - وحدّثني به أيضًا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن يزيد اللَّخْمِيّ، المعروف بابن الأحدب، قال: حدّثنا الفقيه الراوية أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عليّ بن شريعة اللَّخْمِيّ الباجي، قال: 1. حدّثنا أحمد بن خالد بنيزيد، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، قالا: حدثنا محمّد بن وضّاح، وإبراهيم بن محمّد المشهور بابن باز، قالا: حدثنا يحيى بن يحيى ... 2. وحدثنا به أيضًا محمّد بن عمرو بن لُبابة، عن محمّد بن وضّاح، عن يحيى ابن يحيى، عن مالك. 3. وحدّثني ول أيضًا -إجازة- الفقيه المُشاور صاحب الصلاة أبو محمّد عبد الله ابن عليّ ابن محمّد الباجي، عن جده الفقيه أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله، عن الراوية أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن عليّ بن شريعة الباجي، بسنده المتقدم" (¬1). ¬
3 - أبو الحكَم ابن نجاح اللَّخمِيّ: " ... حدّثني بهذه الرِّواية أيضًا، الشّيخ الخطيب أبو الحكَم عَمْرو ابن أحمد بن محمّد بن أحمد بن نجاح اللَّخْمِيّ - رحمه الله -، مناولةً منه لي في أصل كتابه، قال: حدّثني به خالي أبو الحسن عليّ بن عبد الله ابن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عبد الله ابن محمّد بن عليّ بن شريعة اللَّخْمِيّ الباجيّ، سماعًا عليه مرّتين في سنَتَيْ: 486 و487هـ، في رمضان منهما، قال: حدّثني به أبي أبو محمّد عبده الله بن عليّ بن محمّد بن محمّد، سماعًا عليه في رمضان سنة:466هـ، قال: حدّثني به جَدِّي الرّاويةُ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عليّ، قراءةً مني عليه، قال: سمعتُه قراءة على محمّد بن عمر بن لُبابة، في ذي الحجة سنة: 310هـ، وسمعتهُ قراءة على أبي عبد الله محمّد بن عبد الملك بن أيمن، في ذي الحجّة من سنة:319هـ، وقرأتُ أنا عليه ما لا جوانب الكتاب من كلام ابن وضّاح، ومن كلامه، وقرأتُه على أحمد بن خالد بعد المقابلة بكتابه، في رجب سنة:320هـ: حدّثني به محمّد بن عبد الملك بن أيمن، وأحمد بن خالد كلاهما عن محمّد بن وضّاح، وإبراهيم بن محمّد بن باز كلاهما، عن يحيى بن يحيى، عن مالك بن أنس - رحمه الله -" (¬1). 4 - أحمد بن بَقِيّ وابن مُغِيث وابن أَصْبَغ والزُّهريّ: "حدّثني بهذه الرِّواية أيضًا: الشّيوخ الجلَّة الفقهاء المشاوَرون: أبو القاسم أحمد ابن محمّد بن أحمد ابن بَقِيّ، قراءة عليه بلفظي. وأبو الحسن ¬
يونس بن محمّد بن مُغِيث، سماعًا عليه. والقاضي أبو عبد الله محمّد بن أصْبَغ بن محمّد بن أصْبَغ الأزْديّ، قراءةً عليه أيضًا. والشيخ أبو الأصْبَغ عيسى بن محمّد بن أبي البَحْر الزُّهرِيّ، سماعًا عليه أيضًا. قالوا كلّهم: حدّثنا به الشّيخ الفقيه أبو عبد الله محمّد ابن فَرَج، المشهور بابن الطلَّاع. أمّا ابن مُغِيث وحْدَه فقرأه عليه، وأمّا الباقون فسمعوه عليه، وحدَّثهم به عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مُغِيث، سماعًا عليه، قال: حدّثني به أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، سماعًا عليه، عن عمِّ أبيه أبي مروان عُبَيْد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن مالك - رحمه الله-" (¬1). 5 - محمّد ابن طاهر القيسي: " ... حدّثني بهذه الرواية أيضًا، أبو بكر محمّد بن أحمد بن محمّد بن طاهر القيسي -رحمه الله- قراءة عليه في كتابي، وهو يُمسكُ عليَّ أصل كتابه، الَّذي خَطَّهُ بيَدِهِ من كتاب أبي محمّد الأَصِيلِيّ، الَّذي خَطَّهُ بيده من كتاب أبي محمّد الأصيلي، الَّذي كان بخَطِّ يَدهِ، قال: حدّثني به الشّيخ أبو عليّ حسين بن محمّد الغَسَّانيّ، ثم الجيّانِيّ - رحمه الله - قراءةً عليه في كتابه، وهو يُمسِكُ عليه أصل كتابه: 1. قال أبو عليّ الغَسَّاني: قرأتُه على أبي عمر يوسف بن عبد الله ابن محمّد بن عبد البر سنة:453هـ، في منزله بشاطبة: ¬
2. قال ابنُ عبد البرّ: أخبرني به أبو الفضل أحمد بن قاسم التُّاهِرْتِي البزَّاز، عن أبي عبد الملك محمد بن عبد الله بن أبي دُلَيم، ووهب بن مَسَرَّة الحِجَارِيّ جميعًا، عن محمّد بن وضاح، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. 3. قال ابن عبد البرّ: وأخبرني به أبو عمرو أحمد بن محمّد بن أحمد بن سعيد بن الجسور الأمويّ مولى لهم، قال: حدّثنا أبو عمر أحمد بن مُطَرِّف بن عبد الرحمن، يُعرف بابن المشّاط، وأبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم المنتجيلي جميعا، عن أبي مروان عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى ابن يحيى، عن مالك. 4. قال ابن عبد البرّ: وحدثني به إيضًا، أبو عمر ابن الجسور المذكور، عن وهب بن مَسَرَّة، عن محمّد بن وضاح، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. 3. قال أبو علي الغسَّانِيّ: وقرأتُه على أبي عبد الله محمّد ابن عتاب الفقيه سنة:453 هـ، ومنه ما قرأتُ عليه أيضًا قبل سنة: 448هـ، وقُرئ على أبي القاسم حاتم بن محمّد بن عبد الرحمن الطّرابلسي، وأنا أسمع سنة:447هـ: قال لي أبو عبد الله محمّد بن عتاب: 6. حدّثني به أبو القاسم خَلَف بن يحيى بن غيث الفِهْرِيّ الطُلَيْطِلِيّ، في سنة:398 هـ، وكان انتقل إلى قرطبة وسَكَنَها، وولد سنة:328 هـ، قال: حدّثنا أحمد بن مُطَرِّف، وأحمد بن سعيد بن حَزْم،
ومحمد بن أحمد بن محمّد بن قاسم بن هلال القيسي، قالوا: حدّثنا عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن مالك. 7. قال أبو عبد الله محمّد بن عتُّاب: وحدّثني به أبو عثمان سعيد بن سَلَمَة بن عبّاس، وأبو بكر يحيى بن واقد القاضي، قالا: حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، عن عمِّ أبيه عُبَيْد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن مالك. 8. قال لي أبو القاسم حاتم بن محمّد الطرابلسي: حدّثني به أبو المطَرِّف عبد الرحمن بن محمّد بن عيسى بن فُطَيْس، وأبو عبد الله محمّد بن عمر بن الفَخَّار، في شوال سنة:417هـ، قالا جميعا: حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، عن عمِّ أبيه عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن مالك. - قال أبو عليّ الغسانى: وحدّثني به أبو شاكر عبد الواحد ابن محمّد بن موهب التُجيي القبري، قال: حدثنا أبو محمّد عبد الله بن إبرأهيم الأصيلي، قال: 1 - حدثنا وهب بن مسرُّة الحجاري أبو الحزم، سنة:344 هـ بوادي الحجارة، قال: حدثنا محمّد بن وضُّاح، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. 2 - قال أبو محمّد الأصيلي: وحدثنا أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن بن المشاط، سنتي: 346 هـ و 348هـ، قال: حدثنا عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، سنة:297هـ، قال: حدثنا أبي: يحيى بن يحيى، عن مالك.
3 - قال أبو عليّ الغساني: وحدّثني به أبو العاصي حكم بن محمّد بن حكم الجذامي، وُيعرف بابن إفرنك، قال: حدّثنا أبو بكر عباس بن أصبغ بن عبد العزيز الهمداني، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الملك بن أيمن، قال: حدّثنا: محمّد بن وضّاح، وأبراهيم ابن محمّد بن باز الفقيه، قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، عن مالك -رحمه الله- (¬1). 6 - ابن عتاب وابن موهب: " ... وحدّثني به أيضًا، أبو محمّد عبد الرحمن ابن عتاب، وأبو الحسن عليّ بن عبد الله بن موهب، إجازة فيما كتبابه إليّ، قالا: حدّثنا أبو عمر ابن عبد البرّ الحافظ، قال: إخبرني به أبو عثمان سعيد بن نصر، قراءة منه علينا، قال: حدّثنا أبو محمّد قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمّد بن وضّاح بن بزيغ، قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، عن مالك ابن أنس - رحمه الله -" (¬2). 7 - ابن عتاب وابن مُغِيث بسند مغاير: " ... وحدّثني به أيضًا، أبو محمّد عبد الرحمن ابن عتاب، بالإجازة المذكورة (¬3)، وأبو الحسن يونس ابن محمّد بن مُغيث المذكور، بالسماع المذكور، عن الشّيخ أبي عمر أحمد بن محمّد بن إلحذاء التميمي القاضي، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، ووَهْب بن مَسَرَّة، قالا: حدّثنا محمّد بن وضاح، عن يحيى بن يحيى، عن مالك بق أنس، رحمه الله" (¬4). ¬
8 - ابنُ عَتَّاب بسَنَدٍ مُغايرٍ: " ... وحدّثني به أبو محمّد عبد الرحمن ابن عتاب، بالإجازة المذكورة، عن أبيه، أبي عبد الله محمّد بن عتاب، وأبي القاسم حاتم ابن محمّد الطرابلسي المذكورين، قالا: حدّثنا أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن قاسم التُجيي- يُعرف بابن حوبيل- قال: حدّثني أبو عمر أحمد بن مُطرّف بن عبد الرحمن بن المشاط، وأحمد بن سعيد بن حزم المنتجيلي، وأبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، قالوا: حدّثنا أبو مروان عُبيد الله بن يحيى بن يحيى، قال: حدّثنا أبي: يحيى بن يحيى، عن مالك" (¬1). ¬
شروح موطأ يحيى بن يحيى الليثي إلى عصر ابن العربي
شروح مُوَطَّأ يحيى بن يحيى اللَّيثيّ إلى عصر ابن العربيّ شروح الموطّأ من الكثرة بحيث تدلُّ، على أنّ هذا الكتاب قد شغل الناس، واهتبلوا به كأشدّ ما يكون الاهتبال والتقدير، ويلاحظ الباحث أن مصنِّفي هذه الشروح مختلفو الأمصار والديار، فمنهم القرطبي والبغدادي، والمصري والشامي، مما يدلُّ أيضا على أنّ الموَطَّأ طار صِيته في مُخْتَلِف الرُّبوع والأمصار، ونظرا لكثرة هذه الشروح فقد اقتصرنا في هذا البحث المختصر على بعض الشروح الَّتي وصلتنا من "مُوَطَّأ يحيى بن يحيى اللَّيثيّ" ووقفنا على بعضها، والَّتي هي في الوقت نفسه كانت المعين الَّذي استقى منه ابن العربيّ مادَّته العلميّة في "المسالك" وأهمّ الشروح هي كالآتي: 1 - "تفسير غريب الموطَّأ" (¬1) لعبلى الملك بن حبيب (ت. 238 هـ) (¬2). ويعودُ الفضلُ- بعد الله سبحانه وتعالى- لاكتشاف هذه النُّسخة للعالِم ¬
الفاضل، والخبير الطُّلَعَة عبد الرحمن العُثَيْمِين (¬1)، فهو الَّذي استطاع أن يكشف عنها القناع، وُيظهِر مكنونها، وُيزيح عنها ظلال الإبهام الَّذي ظلَّت ترسخُ فيه القرون الطِّوال، وذلك في صيف عام: 1417 هـ، بمكتبة الحرم المكي الشريف، حيث أهديت أو بيعت من طرف الحاج نجيب الدَّمْنَاتي، كاتب العدل بدينة دَمْنَات، الَّذي آلت إليه الخزانة الخاصّة للقائد عمر الكلاوي. والنسخة الآن محفوظة بمكتبة الحرم المكي الشريف، شريط رقم: 2782، وهي نسخة نفيسة، كتبت في تاريخ 27 رجب سنة: 608هـ، تقع في: 188 صفحة. وقام الأستاذ العُثَيْمِين بالاعتناء بها ونشرها سنة: 1421هـ، في مجلدين (¬2)، وقدم لها بفصول عن سيرة المؤلف، وذكر شروح "المُوَطَّأ"، المخطوط منها والمفقود، ودراسة موجزة عن الكتاب وما اشتمل عليه من علوم وفوائد. وعبد الملك بن حبيب من كبار فقهاء الأندلس، تحفلُ سيرته برصيد من الخصوصيات ذات المزايا المتنوِّعة، ويأتي في طليعتها عمله الواضح لترسيخ ¬
المذهب المالكي بالأندلس، وقد كانت له رحلة إلى المشرق، لقي خلالها أصحاب مالك وأخذ عنهم، منهم: عبد الملك ابن الماجِشُون، ومُطرِّف بن عبد الله، وأَصْبَغ بن الفرج، وغيرهم من شيوخ الرِّواية والفقه. وكلّ هؤلاء لهم سماعات من الإمام مالك، وقد روى عنهم ابن حبيب من طريق الرِّواية المباشرة، وكتبه تحفل بذلك. وقد توفَّر على خدمة "الموطَّأ" خدمة جليلة رواية ودراية؛ فهو حلقة مهمة من حلقات الاتصال الثقافي الَّذي وصل بين المشرق والغرب الإِسلامي، ويدُّلُنا كتاب "تفسير غريب الموطَّأ" على شخصيته الجامعة بين فني الرِّواية والدِّراية، فهو في الكتاب محدِّثا، وفقيها، ولُغَوِيًّا، ونحويًّا، ومفسِّرَا، ومؤرِّخًا نسَّابة. وتبرز أهمية هذا الكتاب العلمية في المعارف والعلوم الَّتي تضَّمنها، ففيه التفسير، والفقه، والحكم والأمثال، والشِّعر والرَّجَز، واللُّغة والنَّحو والإنساب. أما عن منهج المؤلِّف في كتابه، فقد تكفَّل الأستاذ العُثَيْمِين ببيانه على أفضل وجه فقال (¬1): "يشتمل الكتاب على مسائل مشكلة من "المُوَطَّأ"، ابتدأها المؤلف من بداية "المُوَطأ" إلى نهايته؛ ... والتزم فيه رواية يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ - غالبا - وهو معاصر له في بلده الأندلس، مع فساد ما بينهما من علاقة الود والصفاء، ألَّفه على طريقة السؤال والجواب، فَيُسْأَلُ المؤلِّفُ عن لفظة مشكلة ¬
في الحديث الوارد في "المُوّطَّأ"، فيورد الحديث بسنده ... ويتبين أنه لم يشرح من أحاديث "المُوَطَّأ" إلَّا ما ورد فيه لفظٌ مُشْكِلٌ يسأل عنه؛ لذا لم يشمل الشرح أحاديث الموَطَّأ كلّها, ولا أغلبها؛ فإطلاق "تفسير غريب الموطَّأ" فيه تَجَوُّزٌ، لكن هذا منهجُ شُرَّاح المشكل والغريب دائما ... ومفهوم المشكل والغريب عند ابن حبيب أوسعُ مما يُظَنُّ، فهما يقصد بهما غريب أو مشكل اللفظ المعنى، كذا أظن، لذلك تطرَّق إلى شرح مسائل فقهية لا إشكال فيها من حيث اللغة، ولعل الَّذي جرَّه إلى ذلك سيطرة تخصُّصِه عليه، فالمؤلِّف معدود في الفقهاء والمفتين، أكثر مما هو معدود في النُّحاة واللُّغويِّين، وقد أبدع في المسائل الفقهية وأجاد وأفاد، بينما في اللغة لا يعدو أن يكون مختلسا لكلام أبي عبيد القاسم ابن سلام -دون غيره- مفسدا قصد أبي عبيد في ذلك؟ إذ جرَّده من أغلب الشواهد الَّتي امتاز بها الكتاب، وأسقط عَزْوَ النصوص التي نقلها أبو عُبَيْد عن أبي عُبَيْدَة والأصْمَعِيّ، وأبي عَمْرو الشَّيباني، وأمثالهم، فجاءت اللغة في كتاب ابن حبيب مبتسرة غير موثقة، وكأنه هو الَّذي نقلها, وليس الأمر كذلك ... ". ومع كلّ ما يمكن أن يُوَجَّه للكتاب من نَقْدٍ، إلّا أنه يشتمل على فوائد نادرة، نذكر منها مباحثه الفقهية الَّتي نقلها من شيوخه، وخاصة من تلاميذ الإمام مالك الّذين شافهوه ونقلوا آراءه الَّتي أفتى بها في مجالسه ودروسه، التي لا يضمها كتاب، وإنَّما رُوَيت عنه، وحكاها ابن حبيب عنهم، فكتاب ابن حبيب سِجِّلٌّ حافلٌ لمثل هذه الآراء، وهي -وإن كانت قليلة نظرا لصغر حجمه- فهي نادرة ومفيدة، وقد أسهم في حفظها وروايتها" (¬1). ¬
2 - "تفسير غريب الموطأ" لأحمد بن عمران بن سلامة الأخفش (كان حيا قبل سنة:250 هـ).
2 - "تفسير غريب الموطَّأ" لأحمد بن عمران بن سَلاَمَة الأَخْفَش (كان حيًّا قبل سنة:250 هـ). وقفنا على نسخة قيِّمة منه في مكتبة صائب بأنقرة، تحت رقم: 2180 (من صفحة 182/ أ - إلى 200/ ب) كُتِبَت في القرن السّادس، سنة:563 هـ (¬1)، والمخطوط ضمن مجموع نفيس يحتوي على نسخة من "موطَّأ مالك" نفيسة في آخرها: "تسمية من روى الموطَّأ عن مالك" لأبي محمّد بن الأكفاني، والكتابان معًا مما سمعه الفقيه المقرئ أبو العباس ابن القصَّار الصِّقِلِّيّ، وأُجيزَ به من عبد الله ابن عبد الرحمن العُثْمانيّ الدِّيباجيّ المعروف بابن اليابس، سنة: 563 هـ. ومؤلِّفُ الكتاب أحمد بن عِمْرَان الأخْفَش، المعروف بالأَلْهَانيّ، محدِّث ولُغويّ، أحدُ الأخافش (¬2)، وليس من مشهوريهم الثلاثة؛ ولذا نجد ترجمته عند مؤرخي طبقات المحدِّثين، كما نجد ترجمته عند مؤرخي طبقات اللغويين والنحويين. كما أنَّه عانى الشِّعر، وله أشعار كثيرة في أهل البيت، أنشد نماذج منها ياقوت في "معجم الأدباء" (¬3)، وكان ينقُل عن أبي بكر الصّوليّ من كتابه الَّذي ألَّفه في "شعراء مصر". ¬
ومهما يكن من أمر؛ فإن أصل الرَّجُل من الشَّام، وقد تردَّد بين الحجاز والعراق ومصر. وكان يمارسُ مهنة التأديب والتعليم؛ فقد أدَّب لإسحاق بن عبد القدوس ولدَهُ في طبرية وكتب عنه أبو حاتم بمكة المكرمة. ويبدو أن أسباب انتشار ترجمته أملتها نوازع متعدِّدة، فأدخله الصُّوليّ في كتابه الَّذي ألفه في "شعراء مصر" واحتفظ لنا ياقوت بقطعة من هذه التّرجمة، وشيء من شعره الَّذي غلب عليه التشيُّع. ولهذا السبب ترجمهُ الخُونساري في "روضات الجنات" (¬1). وتنَّقُلهُ بين الشام ومصر والحجاز والعراق يُرشحهُ ليدخل في كتب حواضر هذه الأقاليم، وقد وصلتنا ترجمة الخطيب له في "تاريخ بغداد" (¬2) نقل فيها عن عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" (¬3)، نقل توثيقهُ عن أبيه أبي حاتم الَّذي قال عنه: "كتبتُ عنه بمكة وهو صدوق"، ولعلَّ هذا أيضًا ما يحملُ أبا حاتم بن حبَّان على إدراجه في كتابه "الثقات" وتلقانا ترجمته في اللغويين في كتاب "البغية" للسيوطي (¬4). وكتاب "تفسير غريب الموطَّأ" من الشروح المُبكِّرة الَّتي دخلت الغرب الإِسلامي في النِّصف من القرن الثالث الهجري، فإننا نعلم من خلال الفهارس أن سنده ينتهي إلى مؤلِّفه عن طريق يحيى بن عمر الأندلسي (ت. 289هـ) (¬5) ¬
الَّذي رواه مباشرة عن أحمد بن عمران الأخفش مؤلِّفه. ويبدو أن يحيى بن عمر تصدَّى لنشر الكتاب وإشاعته بين طلبة العلم من أعيان أهل القيروان والأندلس. وقد كانت الرحلة إليه في وقته، مع الضبط والحفظ. وقد حمله عنه أبو عبد الله بن أحمد البياني، وابن مسرور العسال، وأبو بكر بن اللَّباد، ومن هؤلاء حملته طبقة أخرى من مشاهير القرويين والأندلسيين وسائر طلبة العلم، فيهم أبو الحسن القابسي، وأبو محمّد ابن أسد، وأبو محمَّد بن أبي زيد القيرواني، ثم عن هؤلاء كبار الحفاظ والرواة، من أمثال: حاتم الطرابلسي، وأبو بكر بن مسلم، وأبو محمّد مكِّي بن أبي طالب القيسيّ. فلا نستغرب إذن أن نقف على نقول من الكتاب عند أبي العرب، وأبي بكر ابن العربيّ في "المسالك" والقاضي عياض وغيرهم. والنسخة الَّتي وصلنا من الكتاب من رواية يحيى بن عمر؛ بل الكتاب هو عبارة عن مسائل مما سأل عنه يحيى بن عمر الرّاوي شيخه الأخْفَش مؤلِّف الكتاب. ومما يزيد ما ذهبنا إليه تفسيرا وتوثيقًا وتأكيدًا، ما احتفظ لنا به ابن خير في "فهرسته" (¬1) من أسانيد للكتاب، ونجدنا مضطرِّين إلى نقل الفقرة معتذرين عن طولها: "كتاب "تفسير غريب الموطَّأ". تأليف أحمد بن عمران بن سلامة الأخفش رحمه الله - حدَّثني به أبو الحسن يونس بن محمَّد بن مُغِيث - رحمه الله - قراءة ¬
3 - "تفسير الموطأ" في ليحيى بن زكري ابن إبراهيم بن مزين (ت.259 هـ).
عليه في منزله، قال: حدّثني به أبو القاسم حاتم بن محمّد الطرابلسي سماعا مني عليه، عن يحيى بن عمر الفقيه الأندلسي، عن الأخفش مؤلفه. قال شيخنا يونس بن محمّد رحمه الله: وقرأته على الشّيخ الصالح أبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن بشير، وحدّثني به عن أبي بكر مسلم ابن أحمد الأديب، عن أبي محمَّد بن أسد، عن محمّد بن مسرور العسَّال، عن يحيى بن عمر عن الأخفش. وحدّثني به أيضًا الشّيخ أبو الأصبغ عيسى بن محمّد بن أبي البحر الزهريّ قراءة منِّي عليه، والشّيخ أبو القاسم أحمد بن محمَّد بن بقي -رحمه الله- قالا: نابه الفقيه أبو عبد الله محمّد بن فرج، عن المقرى أبي محمّد مكِّي بن أبي طالب، عن أبي محمّد عبد الله بن أبي زيد الفقيه، عن أبي بكر بن محمَّد اللَّباد، عن يحيى بن عمر، عن الأخفش. وحدّثني به أيضًا الشّيخ أبو محمّد بن عتاب، إجازة عن مكِّي بن أبي طالب - رحمه الله - بالسَّنَد المتقدم". وذكر الأستاذ عبد الرحمن العُثَيْمِين (¬1) أنه توجد نسخة من الكتاب في مكتبة القيروان، وأخرى كانت في مكتبة أحمد عُبَيْد بدمشق. 3 - "تفسير الموطَّأ" في ليحيى بن زكري ابن إبراهيم بن مُزَيْن (ت.259 هـ) (¬2). ¬
4 - "شرح الموطأ" لخلف بن فرح الكلاعي (ت. 371 هـ)
أبو زكريا الطُّلَيْطلِيّ ثم القُرطُبيّ، من كبار علماء الأندلس، روى عن يحيى بن يحيى اللّيثي، ورحل إلى المشرق، فروى في المدينة النبوية المنوّرة عن مُطَرِّف صاحب مالك، وحبيب بن أبي حبيب، كما سمع في العراق من القَعْنَبيِّ، وذكروا في ترجمته أنه كان يحفظ "الموطَّأ" ويتقن ضبطه، وكان قليل الرِّواية, قال ابن الفرضي (¬1): "لم يكن عنده علم بالحديث". وصلتنا قطعة من تفسيره للموطّأ في مكتبة القيروان: [1354 - 1 - 318] و [6 - 39 - 19] ذكر الأستاذ فؤاد سزكين (¬2) أنَّها كتبت سنة: 394 هـ. وهو عبارة عن شرح للموطّأ كان مما سأل عنه المؤلِّف يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ، وأصْبَغ بن الفَرَج، وعيسى بن دينار، ومحمد بن عيسى، ويملك الأستاذ محمّد أبو الأجفان - رحمه الله - صورة منها، وذكر لنا أنّه تصعب قراءتها لما لحقها من المَحو والطَّمس. 4 - "شرح الموطَّأ" لخلَف بن فَرَح الكَلاَعِيّ (ت. 371 هـ) أبو محمَّد الإلبيري، سمع من محمَّد بن فُطَيْس الإلبيري، ورحل إلى المشرق حاجًّا، فلقى في رحلته أبا مروان محمَّد بن مروان قاضي المدينة النبوية المنورة، وعبد الله بن نافع، ومحمد بن الحسن الآجُرِّي، ولِّي قضاء إِلْبيرَة (¬3). له شرح على "الموطَّأ" منه نسخة في مكتبة القيروان بتونس، تشتمل على ¬
5 - "تفسير الموطأ" لأبي المطرف القنازعي (ت.413هـ)
تفسير كتاب الحدود، وكتاب العقول، وكتاب القَسامة، ولعلّها ضمن المجموع السّابق مع كتاب ابن مُزَيْن المكتوب سنة:394 هـ (¬1). 5 - "تفسير الموطَّأ" لأبي المطرِّف القَنَازِعِيّ (ت.413هـ) (¬2) وعبد الرحمن بن مروان القَنَازِعِيّ، ترجَمَ له الحُمَيدِيّ في "جَذْوة المقتبس" (¬3)، فقال: "قرطبيّ، فقيه، محدِّثٌ، وله رحلة إلى المشرق، سمع فيها من بعض أصحاب البغَويّ ومن جماعة. روى عنه أبو عمر بن عبد البرّ، وله كتاب في الشروط على مذهب مالك بن أنس". كما عقد له أبو الفضل عياض ترجمة حفيلةً (¬4)، تَوَسَّعَ فيها في ذِكْرِ مَشْيَخَتِه وأخبار رحلته المشرقيّة. أمّا ترجمته في "الصلِّة" لابن بَشكُوَال (¬5) فهي غَنيّةٌ، اعتمدَ فيها على مصدَرَين مفقودَيْن. ذكرت المصادر السابقة أنّ له كتابا في "تفسير الموطَّأ" ضَمَّنَه ما نقَلَه يحيى بن يحيى في موطَّئِه، ويحيى بن بُكَيرٍ في موطَّئِه أيضًا. وقد وصلتنا نسخة من هذا الكتاب النادر، محفوظة بالخزانة العامة بالرباط ¬
تحت رقم: 64 ج، عدد أوراقها: 146، في كلّ ورقة صفحتان، وفي كلّ صفحة بين 24 و 25 سطرًا، وخطّها مغربي، مبتورة الأول والآخر. تبدأ من كتاب الصلاة، افتتاح الصلاة، في أثناء شرح حديث مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ؛ أنّ أبا هريرة كان يُصَلِّي لهم فَيُكَبِّرُ كلَّما خَفَضَ ورَفَعَ .... وتنتهي عند كتاب الجامع، باب اللباس والنعال. وذكر في الصفحة الأولى تعليق مضمونه: "هذا السفر من باب افتتاح الصلاة الَّتي هي التّرجمة: 43 من الموَطُّا رواية يحيى بن يحيى، وقد فاته منها ثلاثة أحاديث، حديث أبي هريرة وهو الَّذي يقول في آخره: والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو رابع أحاديث الباب، ووصل هذا السفر إلى أبواب اللباس والانتعال، فنقص من آخره نحو: 68 ترجمة". ومصادر هذا التفسير متنوعة، منها ما نقله عن يحيى بن مزين، وعن الأخفش، وابن عبد الحكم، كما رجع إلى الْمُدَوَّنَة وأغلب مصادر الحديث، كابن أبي شيبة والبخاري وغيرهما. وتوجد قطعة من هذا التفسير في المكتبة العتيقة بالقيروان [رقادة] وقفنا عليها، تقع في: 75 صفحة، خطبها قديم، ملئت صفحاتها بالحواشي والتعليقات الكثيرة، وتبدأ القطعة بتفسير ما في أبواب العقول، جامع العقل، حديث مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ ... " وتنتهي القطعة بكتاب العقول، ما جاء في الغيلة والسِّحْر.
6 - "تفسير الموطأ" لأبي عبد الملك مروان بن علي البوني [ت.440].
كما تحتفظ خزانة الحاج حبيب اللَّمسي بنسخة جيِّدة من هذا الشّرح. أما النُّسخة الثالثة فقد وقف على نسخة مخطوطة منها الشّيخ محمَّد المختار السُّوسيّ (¬1) في خزانة تيلكالت بالمغرب الأقصى، وقد وصَفَهَا بأنّها شرح للموطّأ، جمع صاحبه فيه بين روايتي يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ وأبي زكريا بن بُكَيْر، واعتمد صاحب الشرح على أبي محمَّد الأصيلي. قلنا: من خلال هذا الوصف -وإن كان مختصرا- نكاد نجزم بأن هذه النُّسخة هي نفسها "تفسير القَنَازِعِيّ" فهو الَّذي جمع في شرحه بين روايتي يحيى وابن بكير، وأكثر من الرجوع إلى الأصيلي، والله تعلى أعلم. 6 - "تفسير الموطّأ" لأبي عبد الملك مروان بن علي البُونِي [ت.440]. من كبار علماء الغرب الإِسلامي، فقيه ومحدِّثٌ، رَوَى بقرطبة عن أبي محمَّد الأصيلي، ورحلَ إلى المشرق وصحب أحمد بن نصر الدَّاوُدِيّ مدّة خمسة أعوام، وأخذ عنه مُعْظَم ما عنده من روايته وتآليفه، كما روى عن أبي الحسن القابسي، وغيره (¬2). قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (¬3): "وكان من الفقهاء المتفننين، وألف في "شرح الموطَّأ" كتابا مشهورا حسنًا، رواه عنه النّاس". ¬
وقد أنعم الله علينا بمنِّه وكَرَمِه، فوفَّقَنا إلى الكشف عن نسخة من هذا الكتاب النّفيس، بعد أن ظَل زمنًا طويلًا مجهولَ الذِّكْر مَغمُور النَّسَب، ومما زَهَّدَ النَّاس في فحص واختبار محتواه، أنّ بعض القائمين على خزانة القرويِّين في القرن الماضي الهجريّ، كَتب على الصفحة الأولى من المخطوط: "لعلّه للإمام الدَّاوُديّ" وسرعان ما انتشرت هذه الإشارة في الخافقين، فتناقلها كلّ من كتب عن شروح "الموطَّأ" (¬1)، والغريب حقًّا أن الجميع تواطئوا واتَّفقوا على نسبة هذا الكتاب المسمَّى "النامي" إلى الإمام أحمد بن نصر الدّاوديّ، مع أنّ عالم القرويِّين عندما كتب ما كتب على نسخة الغلاف، قال: "لعَلُّه للإمام الدّاوديّ" و"لعلّ" -كما هو معلوم- كلّمة شَكّ، ورجاءٍ، وطَمَع، فعالِمُ القَرَوِيِّين توقَّعَ وترَجَّى أن يكون الكتاب للإمام الدَّاوُدِيّ، بعد أن غَلَبَ هذا الهاجس على ظَنِّه، وتبادَرَ إلى ذِهْنِه، ولم يقطع بصِحَّة نِسْبَتِه إليه، ولكن آفة الأخبار رواتها، والحمد لله على كلّ حال، فقد استطعنا بعد أن التمسنا كلّ وسائل البحث والتّقصي، وسلكنا إليها كلّ سبيلٍ، أن ندفع هذا الإشكال، فازحنا عنه حجاب الكتم، وخرجنا به من ظلمات الغموض، إلى نور البيان. وتحتفظ خزانة القرويين بهذه النُّسخة النادرة تحت رقم: 175، عدد أوراقها: 124 بترقيمنا، كتبت بخطٍّ أندلسيٍّ يميلُ إلى صنفِ المسندِ، قابلها الناسخ بالأصل أو بنسخة أخرى، وألحق السقط في الهامش. ¬
7 - 8 - كتابا: "التمهيد" و"الاستذكار" لابن عبد البر (463 هـ)
وتبدأ النُّسخة من كتاب الصلاة (¬1)، [باب العمل في الوضوء] في أثناء شرح حديث مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ... ". وتنتهي عند كتاب الحدود، باب الرجم، في أثناء شرح حديث "مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أنه قال: جاءت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا ... ". والكتاب شرح لطيف لموطأ مالك، محكم الوضع، مبسوط العبارة، جامع لشتيت المسائل الحديثية والفقهية والأصولية، بصير صاحبه باستنباط الفوائد من الموَطَّأ، عارف بمواضع الحق، خبيرٌ بالتَّصرُّف في نصوص الإثبات من علماء الأمّة، والكتاب بهذا التّفَنُّن واللَّطافَة جديرٌ بالعناية، وحَسبُنا أنّنا فَضَضْنَا خَتْمَ سِرِّهِ، فها هو الآن بين نظر الباحثين، نرجو من الله أن يوفِّقَ الكرامَ منهم لتصحيحه وتنقيحه، والاستفادة منه قدر الإمكان. 7 - 8 - كتابا: "التمهيد" و"الاستذكار" لابن عبد البُّر (463 هـ) وهما مطبوعان متداولان، وسنشير إليهما في مبحث مصادر ابن العربيّ في كتابه "المسالك". 9 - "التعليق على الموطَّأ في تفسير لغاته وغوامض إعرابه ومعانيه" لأبي الوليد هِشَام بن أحمد بن هشام الوَقَّشِيّ (ت.489) كنا قد وقفنا على نسخة خطّيّة في مكتبة دعي الأسكوريال بإسبانيا، تحت ¬
رقم: 1067، وتقع في: 135 ورقة، كُتِبَت بخطٍّ أندلسيٍّ جميل سنة:-714 هـ (¬1). وتوجد منه نسخة أخرى بعنوان "الجامع الغريب" محفوظة بخزانة الزاوية الحمزاوية بإقليم الراشدية بالمغرب الأقصى، تحت رقم: 91، وفي الخزانة العامَّة بالرباط صورة على شريط المايكروفيلم تحت رقم: 151 حم، كتبت يوم الخميس خامس شهر ربيع الكرم سنة:698 هـ وقد اعتنى بهذا الكتاب وأخرجه في حلّة قشيبة تسرّ النّاظرين (¬2)، الأخ الأستاذ عبد الرحمن العُثَيْمِين، ومن أسَفٍ لم يطَّلِع على نسخة الزّاوية الحمزاوية، وقد أمددناه بصَوَّرة منها، نرجو أن تُمَكِّنَه من استدراك ما فاته من ضبط, وإكمال ما وقع فيه من سقط وتصحيف. ومهْد الأستاذ العُثَيْمِين للكتاب بمقدِّمة مختصَرَةٍ نافعة عن سيرة أبي الوليد الوَقَّشِيّ، ومنهجه في كتابه، وذكَرَ أنّه نحَا في شَرْحِه مَنْحَى التَّصحيح والضَّبط للموطَّأ، فشرَحَ ما أبهم من ألفاظه وتراكيبه ومعانيه، بشكل مختصَرٍ مُوجَزٍ، فهو عبارة عن تقريرات وإشارات إلى المواضع الشكلة من الموطَّأ، وذلك بالقارنة بين الرِّوايات المختلفة ما أمكَنه ذلك. ويرى العُثَيْمِين أن شخصية المؤلِّف تظهرُ واضحة جليّة في المباحث اللَّغوية عند عَرْضِه لأراء العلماء وأقوالهم، فكان -رحمة الله عليه- يُوازِنُ بين الأقوال والأراء، ويصحِّح وُيفَنِّد، ويُرجِّح ويضعِّف، ويستدلّ على ترجيحاَته وأحكامه الَّتي يصدرها بالشّواهد من كلام العرب، ويعضد ذلك بأقوال المشاهير من علماء النّحو واللُّغة (¬3). ¬
10 - "الدرة الوسطى في مشكل الموطأ" لأبي عبد الله محمد ابن خلف بن موسى الأنصاري الإلبيري (ت. 537 هـ)
10 - "الدُّرَّة الوُسطى في مشكل الموطَّأ" لأبي عبد الله محمَّد ابن خلف بن موسى الأنصاري الإلبيري (ت. 537 هـ) وتوجد من هذا الكتاب نسخة فريدة في التحف البرّيطاني تحت رقم: 191، إضافات 1/ 9519، الأوراق من 1 إلى 182، كُتِبَت سنة: 810 هـ ولدَينا صورة منها. والمؤلِّفُ من النابهين ذوي التُّمَكن من العربية والحديث وعلم الكلام، المتعَمِّقِينَ في دراسة الاعتقادات، وخصوصًا آراء الأشاعرة، مع مشاركة في الطِّبِّ. وفي الأسكوريال نسخة من مؤلف له في الرَّد على الغزالي، عنوانه: "النُّكَت والأمالي في الرَّد على الغزالي". وقد ذكَرَ ابن عبد الملك المراكشيّ في "الذَّيل والتَّكْمِلة" (¬1) ما يُلقي الضوء على ظروف تأليفه لشرح مشكل ما وقع في "الموَطَّأ" وكان قد شرع في تصنيفه عام ثمانية عشر وخمس مئة في شوال منه وأبلغ، وبلغ بالكلام فيه إلى النكتة الرابعة والخمسن لتسع خلون من صفر تسع عشرة، ثم قطعت به قواطع من المرض مختلفة وعلل جمة، ومطالعة طببة، في معالجة العين لرؤيا رآها، كان يُقال له فيها: ألَّفتَ في نور البصيرة فألف في نور البصر، تنفع وتنتفع، فاضرب عن إكمال النكت، وأقبل على تأليفه النافع في مداواة العين، وهو كتاب جمّ الإفادة، ثم أخطر الله بباله إكمال النكت في مستهل ربيع الأول من سنة: ست وثلاثين وخمسمائة، فكملها في يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة من العام". ¬
يقول المؤلف في خطبة الكتاب: "الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المانِّ على أوليائه بمعرفة وحدانيته في ذاته وصفاته ومباينته لمحدثاته، وصلى الله على محمّد الصادق بآياته ومعجزاته. هذا؛ ولما رأيتُ أغراض المؤلفين، وألفيتُ مقاصد المصنِّفين قد انقسمت في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البحث عن الأسانيد، واستنباط الفقه، وتفسير المذهب. ولم ألف أحدًا من المتكلِّمين ألَّف في المشكل منه كتابًا, ولا بوُّب فيه بابًا، سوى الشّيخ أبي بكر محمّد بن الحسن بن فورك الأصفهاني من أيمتنا (¬1) - رضي الله عنه -؛ فإنَّه قصد منه إلى معنى واحد لم يزد عليه ولا خرج عنه إلَّا إليه. وهو كلّ خبر أوهم التشبيه، لو أجري على صريحه وتُركَ على تصريحه، فعَدل به إلى صحيح التأويل الثابت بالدليل الَّذي يجب حمله عليه، وردُّه لا محالة إليه، براءة من التَّشبيه ونزاهة عنه، وحذارًا من التجسيم، وفرارًا منه. وترك - رحمه الله - ضروبًا من المعاني المتعلِّقة بمش [كل] لم يتكلّم عليها، ولا وجَّه مقاصده إليها، وما ذلك منه إلَّا حذارًا من التطويل في الكلام، وتقريبًا على الأفهام. وإنِّي لما رأيتُ مُوَطَّأ مالك بن أنس - رضي الله عنه - كثيرًا ما يتناوله الكهل والصبي والراسخ الذكي (¬2)، بعثت فيها على مئة نكتة وخمسين نكتة، كلها مشكلة تحتاج إلى بيان، وتفتقر إلى برهان، لم يعرج عليها المفسرون، ولا ¬
أمَّها المستنبطون ولا نبَّه عليها المؤلفون، ولا أشار إليها المتكلّمون، وربما تشبث بها ما يُشاكلها من غيره فأبرزتُها لذوي الألباب، وجعلتها نخبة هذا الكتاب الَّذي سمّيتهُ "الدُّرَّة الوسطى في مشكل الموطَّأ" وأضفتُ إليها ما يُشاكلها من المقدِّمات، ويليق بها من التشبيهات، وُيفصل من الاعتراضات، وجعلتُ النكت على التوالي، حتّى إذا انقضت عدَّتها، ونفذت جملتها، رجعتُ إلى بيان الأوَّل فالأوَّل منها، بالعبارة والمعاني الواضحة الجليَّة، اقتداءً بمفسِّري الغرائب (¬1) من أئمة اللّسان وحفَّاظه، لأكون فائزًا بحظٍ لم أسبق إليه ولا وجَّه من ذكرتُ من الأيَّمة نظرهُ إليه فأُقرب بعيده ... شريده، حتّى يدنو من النفوس ... ويألفُه أهل الفهم والنُهى، ويرفُلُ في ثوب البيان فيُكتب، وتألفهُ الأسماعُ فيُطلب، وكذا ... غناؤهُ فيُكتسب، ويُقرَب فلا يُستسهب، رجوتُ بذلك الذخر عند الله تعالى، والملك الأجلّ المولى". قلنا: وليس بعد هذه المقدِّمة المبينَّة الفصيحة، الواضحة الموضحة مزيدٌ من البيان، فالمؤلف يستشعر حاجة الناس إلى شرح يعني بالمشكلّ العقدي الوارد في الحديث الشريف، ويرى في الجهد الَّذي بذله ابن فُورَك -رغم أهمّيته- عوزًا يحتاج إلى مزيد تعميق وتحرير، وهذا ما حاول أن يستدركه في كتابه، وهو شديد الاعتزاز بعمله، لا يخفي اهتباله به، ولا يتحرَّجُ من سوق الثناء عليه، ونرى أنَّه لم يعد الحقيقة ولم يجانب الصواب فيما ذهب إليه. ¬
الباب الثالث المدخل إلى كتاب المسالك
الباب الثالث المدخل إلى كتاب المسالك
عنوان الكتاب
عنوان الكتاب لا شك أن العنوان في حقيقته هو الكلمة أو الكلمات الَّتي تختصر الكتاب بصفحاته ومجلداته، وتعتصر جميع معانيه في تلك الأحرف الَّتي تُرَقم على واجهة الكتاب، وهذا أمر له دلالته وخطره، لعظيم أهميته وشديد دقَّته، ولذلك؛ فإنَّ أقدر الناس على مثل هذه المهمة الجليلة كاتبُ الكتاب ومنشئهُ، إذ هو الَّذي فكر في تأليفه وهو الَّذي وضع عناصره وقسَّم أبوابه وحرَّر قضاياه ومسائله، فهل هناك أقدر من المؤلِّف في وضع عنوان كتابه؟ الحق أنَّه وَاجَهَتْنا هذه المعضلة, وذلك أنُّ الكتاب الَّذي نحن بصدد، قراءته والتعليق عليه، اختلفت عناوينه زيادة ونقصا، كما اختلف المترجمون لابن العربيّ في تسميته. ولم نجد للكتاب نسخة بخطِّ المؤلِّف، كما لم نجد على واجهة الكتاب أو طُرَّته عنوانه بخطِّ المؤلِّف، ولوجدنا هذا لكان من أقوى وسائل معرفة العنوان الصحيح دلالةً. كما لم نجد المؤلِّف يُسمِّي كتابه في مقدمته كما هي عادة كثير من المصنِّفين الّذين يختتمون مقدِّمات كتبهم بمثل قولهم: "وسمَّيتُه بكتاب كذا"، أو"هذا الكتاب المسمَّى بكذا" ونحو ذلك من العبارات الصريحة في بيان اسم الكتاب.
ومن حُسْنِ الحظِّ أنَّ نسخة الزّاوية الحمزاويّة "غ" القريبة من عهد المصنِّف، والّتي كُتِبَت سنة:579هـ نجد عنوان الكتاب مثبتًا في واجهتها على الشكلّ التالي: "كتاب المسالك على مُوَطَّأ مالك". وفي آخر هذا الجزء ورد اسم: "كتاب المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك". وورد في الصفحة الأولى من نسخة محمَّد بن عبد الكريم الفَكُّون العنوان بالصّيغة التالية: "المسالك شرح مُوَطَّأ مالك" كما ورد في اللوحة 128/ ب بصيغة: "المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك" وكتبت هذه النُّسخة في القرن السابع. أما نسخة القرويين؛ فعنوانها: "المسالك". واختلف عنوان نسخة الجزائر، فهو في السِّفْر الأوَّل: "المسالك على موطّأ الإمام الأعظم مالك"، وفي نهاية السفر الثاني: "المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك"، وفي نهاية السفر الثالث: "المسالك شرح مُوَطَّأ مالك"، وفي نهاية الجزء الرابع: "ترتيب المسالك على موَطَّأ الإمام مالك". وفي نسخة الشيخ محمَّد المنوني، ورد العنوان بصيغة: "المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك". وهكذا فنحن أمام عدَّة صيغٍ هي على النحو التالي: 1 - "المسالك على مُوَطَّأ مالك". 2 - "المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك".
3 - "المسالك شرح مُوَطَّأ مالك". 4 - "المسالك على مُوَطَّأ الإمام الأعظم مالك". 5 - "ترتيب المسالك على موطّأ الإمام مالك". 6 - "المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك". هذا بالنِّسبة لعناوين النسخ الَّتي وقفناَ عليها واعتمدناها في القراءة والنشر (¬1). أمّا بالنسبة للمصادر الَّتي ذكرت الكتاب، سواء من المُترجمين أم من المؤلِّفين الّذين استفادوا من الكتاب ورجعوا إليه، نقد تباينت تسمياتهم كتباين تسميَات النسخ المخطوطة، وقبلا عرض ما عرض ما في المصادر نذكِّر بأنَّنا عثرنا على إحالات للمؤلِّف نفسه في "واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل" نسخة القرويين، على كتاب "المسالك" مما نعتبرهُ الفيصل في الخلاف الدائر في هذه المسألة، ففي لوحة 20/ ب، يقول المُؤلِّف - رحمه الله -: "كفارة النذر كفارة اليمين، وقد بيَّناه في المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك"، وُيسميه في لوحة 3/ أ، وفي لوحة 15/ ب: "المسالك لشرح مُوَطَّأ مالك". وبالتسمية الأولى نفسها سماه ابن فرحون في الديباج المُذهب (¬2)، والداودي في "طبقات المفسرين" (¬3). ¬
وقريبٌ من هذا الاسم، بزيادة لفظ: "الإمام" أي: "المسالك في شرح مُوَطَّأ الإمام مالك"، سمَّاه ابن حَمَادُه في "اختصار ترتيب المدارك": الورقة: 28/ ب (¬1)، وصاحب "طبقات المالكيّة": لوحة 307 (¬2). وسمَّاهُ الهشتوكي في رحلته: "هداية الملك العلَّام إلى بيت الله الحرام والوقوف بالمشاعر العظام وزيارة النبيّ عليه الصلاة والسلام" لوحة: 102 - 104 (¬3): "المسالك على مُوَطَّأ مالك". ونجد أوَّل من سماه بـ "ترتيب المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك" هو محمَّد بن عبد السلام الهواري (ت. 749 هـ) في "الإعلام بما في ابن الحاجب من الأسماء والأعلام" لوحة 95/ ب. (¬4) وبهذه التسمية سمَّاه المقَّري في "نفح الطيب" (¬5)، و"أزهار الرياض" (¬6)، والكتاني في "سلوة الأنفاس" (¬7)، وعباس بن إبراهيم التعارجي في "الإعلام" (¬8)، والشيخ محمَّد الطاهر بن ¬
عاشور في "كشف المغطى" (¬1)، والشيخ محمَّد الفاضل ابن عاشور في مقال له عن "الموطَّأ" (¬2). وهكذا فإنَّه يتحصلُ لنا من مجموع هذه التسميات عدَّة صيغ على النحو التالي: 1 - "المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك". 2 - "المسالك لشرح مُوَطَّأ مالك". 3 - "المسالك في شرح مُوَطَّأ الإمام مالك". 4 - "المسالك على موطّأ مالك". 5 - "ترتيب المسالك في شرح موطّأ مالك". وباستعراض كلّ هذه التسميَات، لا يسعُنا إلَّا اختيار واعتماد ما اختاره واعتمده المؤلِّف نفسه في واضح السبيل، حيث أحال -كما سبق أن ذكرنا- على كتابه "المسالك" بصيغتين: الأولى: "المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك" والثانية: "المسالك لشرح مُوَطَّأ مالك"، ورجَّحنا الصِّيغة الأولى؛ لقُربها من صيغة النُّسخة الَّتي كُتِبَت في عصر المؤلِّف، ونسخة الشيخ محمَّد المنوني. ¬
توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه
توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه في المبحث السابق توصَّلنا إلى العنوان الصَّحيح الَّذي اختاره مؤلِّفه لكتابه "المسالك"، وبإثباتنا لعنوان الكتاب، نكون قد أثبتنا صحَّة نسبته إلى مؤلِّفه. ولكن ما يُدرينا أنَّ الكتاب الَّذي بين أيدينا هو كتاب "المسالك" الَّذي أحال عليه ابن العربيّ في مؤلَّفاته الأخرى، ونَسَبَهُ إليه أصحاب كتب التراجم؟ الجواب هو أن نقول: 1 - إنَّ وجود اسم المؤلِّف على جميع مخطوطات الكتاب، دليلٌ يُسْتَأنَسُ به في الإثبات. لأنَّه لم ينازع أحد في ذلك، ولم ينسب الكتاب إلى غيره. 2 - التّوافق المنهجي والفكري بين "المسالك" وكتب ابن العربيّ الأخرى، دليل يستأنس به أيضًا في إثبات صحة نسبة الكتاب، فالمحتوى الفكري والعلمي والعَقَدَيّ هو نفسه المعروف والمسجَّل في مختلف كتبه الأخرى المشهود لها بصحَّة النِّسبة. 3 - إحالتهُ في "المسالك" على مختلف كتبه، "كالعواصم من القواصم (¬1) "، ¬
و"أنوار الفجر" (¬1)، و"أحكام القرآن" (¬2)، و"سراج المُريدين" (¬3)، و"الأمد الأقصى" (¬4). 4 - أكثر العلماء من النقل من كتاب المسالك، منهم ابن الزهراء الورياغلي الَّذي نقل في كتابه "الممهدّ الكبير" أبوابًا كاملة من المسالك (¬5)، والسخاوي في "فتح المغيث" (¬6)، وابن مريم في "البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان" (¬7). ¬
سبب تأليف الكتاب
سبب تأليف الكتاب للمؤلِّف نَصُّ في كتابه "عارضة الأحوذي" في غاية الأهمية؛ لأنّه يضع الضوابط المنهجية الدقيقة الَّتي ينبغي أن يراعيها من يتصدَّى للكتابة والتصنيف، فالمؤلِّف في نَظَر صاحبنا يجب أن يتوَخَّى إحدى الغايتن: إمّا أن يخترع معنى من المعاني، بمعنى أنه يأتي بشيء جديد مُبْدِعٍ، وبذلك يُسهِم في مسيرة العِلْم الصّحيحة، وهي الابتكار والتجديد، طبقا لقوانين الحياة المتجدِّدة. وإمّا -وهو أضعف الإيمان- أن يبتدع وصفًا ومتنًا، وهذا الجانب أيضًا له أهميّته، فكما يظهر التّجديد في جانب الاخترل والابتكار -وهو الجانب الموضوي - يظهر أيضًا في جانب ابتداع الوصف واعادة الصِّياغة، وهو الجانب الشكليّ. وكلّ تأليفٍ لا يستهدف إحدى هاتين الغايتين، فهو لا يستحقّ أن يُطلَق عليه لقب التأليف العلمي الصحيح، وكلّ ما يُمكن أن يقال في شأنه، أنه عبارة عن عملية تسويد الوَرَق بالمداد، وسرقة وسطو على أعمال من سَبَق؛ ذلك لأنّ التأليف الَّذي لا يستهدف إحدى الغايتين المذكورتين، يكون عبارة عن اجترار وإعادة لما قيل، وأية فائدة ترجى من إعادة تدوين ما دُوِّنَ؛ (¬1). ¬
يقول ابن العربيّ (¬1): "ولا ينبغي لحصيف إذ (¬2) يتصدّى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وصفا ومتنا ... وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورَق، والتحلي بحلية السرق". بهذا التحديد المنهجيّ الدّقيق رام صاحبنا ابن العربيّ استبعاد المتطَفِّلِين على موائد الكَتَبَة، ووضع الحواجز المانعة أمام كلّ ضعيف الأداة قاصر الآلة من الولوج إلى ميدان صناعة التأليف، ومع هذا فقد سلَّم صاحبنا بأن إبداع المعاني أصبح متعذّرا في زمانه فقال (¬3): "فأما إبداع المعاني فهو أمر مُعْوِزٌ في هذا الزمان، فإنّ العلماء قد استوفوا الكلم، ونصبوا على كلّ مشكل العلم، ولم يبق إلَّا خفايا في زوايا، لا يتوَلّجها إلّا من تَبَصَّر معاطفها، واستظهر لواطفها ... " ونزعم أن صاحبنا كان من جملة المصنفين البارعين الّذين حملوا هذه الأمانة، وقاموا بهذا الواجب، حين أجادوا الكشف عن الغوامض، وأحسنوا الغوص على الحقائق، بفِكْرِ صائبٍ ورَوِيّةٍ ثاقبة، فابدعوا كأشدِّ ما يكون الإبداع تألُّقًا وجمالًا، في صياغة إرثنا الثقافي صياغة دانية القطوف، مُتَسَنِّية التحصيل للمبتدئ والنتهي على السواء. وهذا المنهج الأمثل هو الَّذي بَوَّأَ الثقافة الإِسلامية تلك المنزلة الرفيعة والرتبة السامية بين مختلف الثقافات العالية، وإلى هذا المزيّة الظاهرة الَّتي تُقِرُّ بتفرُّد أمَّتِنا عن النُّظَراء أشار صاحبنا ¬
في كتابه "العارضة" عندما قال (¬1): "ولم يكن قطُّ في الأمَم من انتهى إلى حدِّ هذه الأمَّة من التصرُّف في التصنيف والتحقيق ... وجاء بها إلى الحقائق من أبوابها، وسائر الأمَم غَمَرتهم الآفات، وتوَالت عليهم الحادثات ... ولما صان الله هذه الأمّة عن المحنة، وبسط لها في الدَّوحة، فتبسّطَت في بحبوحنها، وتصرّفت في فروع مِلَّتِها، فاستفتح السيف العلق، واستولوا على الظلف". ونعود إلى ذكر السبب المباشر الَّذي دفع صاحبنا إلى تصنيف هذا المجموع، فنقول: تكفَّل -رحمة الله عليه- ببيان السَّبب الَّذي حمله على تأليف كتابه "المسالك" فقال (¬2): "اعلموا- أنار الله قلوبكم للمعارف، ونبَّهنا وإيِّاكم على الآثار والسُنن السَّوالف- أنَّه إنَّما حملني على جمع هذا المجموع كما فيه- إن شاء الله- كفاية وقنوع أمور ثلاثة، وذلك أنَّه ناظرتُ يوما جماعة من أهل الظَّاهر الحزمية الجهلة بالعلم والعلماء وقلَّة اللهم، على مُوَطَّأ مالك بن أنس، فكلّ عابه وهزأ به، فقلت: ما السبب الَّذي عبتموه من أجله؛ فقالوا: أمور كثيرة: أحدها: أنَّه خلط الحديث بالرّأي. والثاني: أنَّه أدخل أحاديث كثيرة صحاحًا، وقال: ليس العمل على هذه الأحاديث. والثالث: أنَّه لم يُفرق فيه بين المرسَل من الموقوف، والمقطوع من البَلَاغ، ¬
وهذا من إمام قد صحَّت عندكم إمامته في الفقه والحديث نقيصةٌ، إذ قد أسند كلّ مصنّف في كتابه أحاديثه. فقلت لهم: اعلموا أنَّ مالكًا - رحمه الله - إمامٌ من أئمة المسلمين، وأنَّ كتابه أجلّ الدواوين، وهو أول كتاب ألّف في الإسلام، لم يؤلِّف مثله لا قبله ولا بعده، إذ قد بناه مالك - رحمه الله - على تمهيد الأصول للفروع، ونبَّه فيه على علم عظيم من معظم أصول الفقه الَّتي ترجع إليه مسائله وفروعه، وأنا -إن شاء الله- أنبهكم على ذلك عيانًا، وتُحيطون به يقينًا، عند التنبيه عليه في موضعه إن شاء الله. وإن من سلف من الأيِّمة المتقدمين من الفقهاء والمحدثين قد وضع فيه كتبا كثيرة وان كانت كافية شافية، وبالغرض الأقصى وافية، لكن لم يسلكوا فيها هذا الغرض من أصول الفقه وعلوم الحديث، واستخراج النُكت البديعة والعلوم الرفيعة". وهكذا فإنه يظهر لنا جليًا واضحًا أن ابن العربيّ رام من وضع كتاب "المسالك" الرُّدْ على الظاهرية الَّذين عابوا "الموطَّأ" والمالكية، والحق أن الظاهرية لم ينطلقوا من فراغ، وإنَّما كانوا ردّ فعل عنيف للنزعة التقليدية الالتزامية الضيِّقة الَّتي طالما ناءت بكلّكلّها على أهل البحث والنَّظر، وأحرقت مواهب العلم الحقّ والفقه الصّحيح، إذ صارت على طريقة التّقليد، بحيث أصبح عمل المتقدِّمين حُجُّة لا يُلتفتُ بعدها إلى الأيِّمة الأوّلين. وبالرغم من أنّ ابن العربيّ كان شديدًا على الظّاهرية، إلَّا أنَّه تأثر بطريق غير مباشر بابن حَزْم، فابن العربيّ الوالد كان من كبار أصحاب وتلاميذ ابن
حَزْم، ولا شكّ أنَّه أثر في ابنه، بدليل ما نراه ماثلًا عند أبي بكر ابن العربيّ أعظم المثول وأشدَّه، من سَعَةٍ في الفكر، وجنوحٍ إلى تضييق دائرة التقليد، وإيراد الأقوال المخالفة، وتوسيع دائرة الخلاف، والإشارة إلى الأدلّة، وهذا ما نلمسهُ ونراه عيائا في "المسالك" فابنُ العربيّ لا يلتزم فيه غالبا بالانتصار لتقليد مذهب معيَّن؛ بل يفتح باب النّظَر في الأدلَّة، ولو في حدود النَّظر المذهبيّ، وهو الطريق الَّذي نعتبره الطّريق الوَسَط بين الاجتهاد والتّقليد. كما أنَّ من الأسباب الَّتي دفعت ابن العربيّ إلى وضع كتابه "المسالك" هو ما رآه من قُصورِ لدى العلماء في عصره وهذا هو الَّذي حكاه في "العواصم" (¬1) عندما قال: "صار التقليد ديدنهم، والاقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحدهم بعلم حقَّروا أمره، ودفعوا في صدره، إلَّا أن يستتر عنهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علوم على رسم التبعية؛ فإن جاءهم بفائدة في الدين وطريقة من سلف الصالحين، وسرد لهم البراهين غمزوا جوانبه ونتجوا عجائبه، وعيبوا حقَّه استكبارًا وعتوًا. وجحدوا علمه وقد استيقنته أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وسعوا في إخمال ذكره, وتحقير قدره، وافتعلوا عليه، وردُّوا كلّ عظيمة إليه". ¬
متى ألف الكتاب
متى أُلِّفَ الكتاب إنّ الجواب عن هذا السؤال في غاية العُسْرِ؛ لأنّنا لم نعثر في الكتاب على ما يحدد بصراحة الفترة الَّتي أمْلى المؤلِّف فيها مصنّفه، إلَّا أنَّ بعض الإشارات يمكن الاستئناس بها في معرفة الفترة الَّتي أملي فيها الكتاب، فالَّذي لا شكّ فيه أنّ كتاب "أحكام القرآن" انتهى المؤلِّف من تقييده في ذي القعدة سنة: 530هـ (¬1)، وكتاب "الأحكام" من جملة الكتب الَّتي أحال عليها المؤلِّف في "المسالك" (¬2)، كما أحال على كتابه المفقود: "أنوار الفجر في مجالس الذكر" (¬3)، و"العواصم من القواصم" (¬4)، و"سراج المُريدين" (¬5)، و"النيِّرين" (¬6)، و"عارضة الأحوذي" (¬7)، و"مسائل الخلاف" (¬8)، و"الأمد الأقصى" (¬9)، ولولا احتمال ¬
رجوع المؤلِّف إلى كتبه بالتهذيب والزيادة؛ لأمكننا الجزم بأنَّه كتب "المسالك" في أواخر حياته؛ لأننا نجد الإحالة فيه على معظم تراثه الفكري، وتبقى هذه المعضلة قائمة، إلى أن نقف على دليل قاطع نقطع به دابر الشكِّ.
مصادر ابن العربي في كتابه المسالك
مصادر ابن العربيّ في كتابه المسالك الوقوف على مصادر ابن العربيّ في "المسالك" أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر؛ فقد عانينا فيه صَعَدًا، وكلفنا خُطة شديدة، فلطالما قرأنا الكتاب مرَّات ومرَّات، واستصحبنا مصادرهُ الَّتي صرُّح بها، وأصُول مادَّته العلمية الَّتي وثقها، إلَّا أننا وقفنا عاجزين أمام كثير من النُّصوص، هل هي من بنات فكره وحرِّ لفظه، أم هي مقتبسة من غيره؟ ونعتقدُ أن الوعي بهذه المسألة قادنا إلى محاولة معرفة كيف يقرأ ابن العربيّ كتب من تقدَّمه؟ وإلى أيِّ مدى كان يعيش في أفكارها ومسائلها؛ ثم أيّ الكتب كان حضور ساطع في نفسه وهو يُملي عِلْمه على طَلَبَتِه ومُرِيدِيه؟ وما هي المصادر الَّتي تُمثِّلُ الفكر الُّذي قدح عقل هذا العالِم فاستفاض علمه؟ إنَّه ليس باستطاعتنا في هذا الدخل أن نُجيبَ عن هذه التّساؤلات الهامَّة والمشروعة في ذات الوقت، ولكن حسبُنا في هذا المبحث الآن أنّنا سندُلُّ القارئ على المصادر الَّتي صرَّح بها الْمُؤلِّف في ثنايا بحثه، وكذلك بعض المصادر الَّتي أغفلها واستطعنا تحديد بعض الواضع المنقولة منها، وبصَنِيعِنا هذا لم نحاول أن نضع ابن العربيّ في غير موضعه، أو نرتفع به على من سبقوه، فإنَّ من آفات البحث العلمي العصبيّة الطائشة للكتاب المدروس ولصاحبه، ومحاولة نسبة كل إبدل وفكر جديد له خاصّة دون غيره, وهذا مخالف للحقيقة، مجانبٌ للصّواب، فقد جاء ابنُ العربيّ وقد استوت العلوم الإِسلامية
على سُوقها أو كادت، فقد فرغ ابنُ حبيب والبُونيّ والقَنَازِعِيّ والباجيّ من شَرْحِ "الموطَّأ" ووضعوا الأصول ومهَّدوا الفروع، ولم يكد ابن عبد البرِّ القرطبي يضع قلمه المُبدع بعد تأليفه للتّمهيد والاستذكار، حتَّى كان هذا إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من التّصنيف في شرح الحديث، عكفَ فيها العلماء - ومنهم ابن العربيّ- على هذا الموروث العظيم الَّذي آل إليهم، شارحين للمُوطَّأ، ومتعقِّبين وناقدين، ومُضيفينَ ومستَدْرِكينَ، فمِن الممتع حقًّا أن يرقبَ الباحث حركة الأفكار وهي تتحاور، ويفتح بعضها لبعض، ويخرج بعضها من بعض، ويأتي بعضها في إثر بعض، وكيف يقوم الثّاني على المراجعة الدّقيقة للأوَّل، وإخراج ما يقتضي الرَّأي إخراجه، وإضافة ما يقتضي الرّأي إضافنه، ثم ترى الحذق واليقَظَة في استخراج رَسِيسَ الصّواب من تحت أنقاض الخطأ، وهكذا نجد المراجعة الدائمة هي الَّتي تتولَّد منها -بإذن الله- المعرفة، وهذا لا يوجد إلَّا إذا عكف الثاني على عِلْمِ الأوَّل، واستخرج منه صافيات الصّواب وخافيات الخطأ. وابنُ العربيّ واحدٌ من هذا النَّفَر الكريم الَّذين أحسنوا النَّظَر في ذلك الحصاد الطِّيب الَّذي سبق به الأوائل؛ كما أخذ بنصيب وافر من ثقافة وعلوم عصره، وكان يمدّه في كل ذلك ذكاء قويٌّ، وطَبعٌ سليمٌ، وشَغفْ بالاطِّلاع والتّحصيل شديدٌ وكانت الثمرة كتاب "المسالك" الَّذي يعتبر معرِضًا لأراء كبار علماء اللّغة والكلام والفقه والأصول والحديث على اختلاف مذاهبهم وتعدد مشاربهم، فيه النُقُول المُستفيضة عنهم، وتظهر أهمية هذه النقول فيما حكاه عن كُتبهم الضائعة، من مثل: "الواضحة" لابن حبيب و"المبسوط" لإسماعيل القاضي، و"المجموعة" لابن عبْدُوس، و"كتاب ابن المَوَّاز" وما إلى ذلك.
مصادره في شرح الحديث
وليس يعنينا هنا أن نتحدّث عن كلّ الأعلام الَّذي حَكَى عنهم ابن العربيّ القول والقولين، وإنَّما نذكرُ مِن هؤلاء الأعلام مَنْ أكثرَ ابن العربيّ من النَّقل عنهم والاستفادة من علومهم، وها نحن نذكُرهم بحسب موضوعات العلوم. مصادره في شرح الحديث: 1 - "الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطَّأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار" و"التمهيد لما في الموَطَّأ من المعاني والأسانيد" لأبي عمر بن عبد البرِّ القرطبي (ت.463). ابنُ عبد البرّ مُحدِّث الفقهاء، وفقيهُ المحدِّثين، لا يخلو شرح من شروح "الموطَّأ" من الأخذ عنه والنَّقل منه، وقد استكثر ابن العربيّ من حكايته أقواله، ونقل الفقرات الطويلة من "التمهيد" (¬1) و"الاستذكار" (¬2) بخاصَّة، وقد انتقده في مسائل معدودة، غير أننا رأيناه في كثير من المواضع يُتابعُ آراءه وُيضمِّنها ¬
شرحه دون أن يُصرِّح بالنّقل أو العَزْوِ إليه، وقد بيَّنَّا في هوامش "المسالك" ما استطعنا الوقوف عليه من هذه النُقُول (¬1). ولكن في الحق أن ابن العربيّ لإمامته وطول اشتغاله بشرح الحديث والغوص في دقائق علمي الكلام وأصول الفقه يمتاز بتشقيق المسائل، والتفَنُّن في وضع العناوين الدَّالة والتراجم المعَبِّرَة، على حين نرى الحافظ ابن عبد البر يُدْمِجُ المسائل الكثيرة تحت الباب الواحد، وهو منهج لا تبعَةَ فيه عليه؛ قد ارتضاه كبار الأيمة الّذين تَصَدَّوا لشرح الحديث. وشرح ابن عبد البرّ في "الاستذكار" جميع ما في "الموَطَّأ" من المسند والموقوف والمقطوع والبلاغ، وركّز على استعراض آراء علماء السَّلَف وفقهاء المذاهب والأمصار، مع ذِكْرِ أوْجُه استدلالهم واستنباطاتهم، قال عنه ابن حزم الظّاهريّ: "لا أعلمُ في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه! " (¬2). واعتنى ابنُ عبد البرّ في "التّمهيد" بالأحاديث المسنَدَة، وعن أحوال رواتها وأنسابهم، ومعاني الأحاديث، وأقاويل العلماء في تأويلها وناسخها ومنسوخها، ورتَّبَ شرحه على حسب شيوخ مالك في "الموطَّأ". 2 - "المنتقى" لأبي الوليد الباجي (ت. 474 هـ). أكثر المؤلِّف - رحمه الله - من النقل من كتاب المنتقى للباجي، حيث يمكن ¬
أن نزعم بأن جلّ المادة الفقهية في "المسالك" هي منتقاة من "المنتقى" والباجي فقيه عظيم، ورُكنٌ من العلم باذخٌ، فهو موصول النَّسَب الفقهيِّ، فلا عَجَبَ أن يأوي إليه ابن العربيّ في نقل المسائل الفقهية، وقد ظهر لنا أنّ جلّ المسائل المنقولة لم يعزها إلى الباجي، وساقها كأنها من عند نفسه، ولا سبيل إلى ذكر كلّ المواضع الَّتي أفاد فيها ابن العربيّ من الباجي، فهي إلى الكثرة ما هي (¬1)، وحسبنا أننا ذكرنا ذلك في هوامش "المسالك". وذهب الباجي في كتابه "المنتقى" مذهب الاجتهاد في تقرير المسائل، فكان يتبع منهج النّظر والاستدلال، والإرشاد إلى طريق الاختيار والاعتبار. والنّاظر في هذا الشرح الجليل يرى أن الشارح - رحمه الله - له في كثير من المسائل اختيارات وترجيحات خاصة، وآراء وإستنباطات مفيدة، واستظهارات شخصية، ولذلك قدّم عذره متواضعًا في مقدِّمته فقال (¬2): "وذلك أن فتوى المفتي في المسائل وكلامه عليها وشرحه لها، إنما هو بحسب ما يوفقه الله تعالى ¬
إليه ويعينه عليه، وقد يرى الصواب في قول من الأقوال في وقت ويراه خطأ في وقت آخر، ولذلك يختلف قول العالم الواحد في المسألة الواحدة؛ فلا يعتقد الناظر في كتابي أن ما أوردته من الشرح والتأويل والقياس والتنظير طريقهُ القطع عندي حتّى أعيب من خالفها، أو أدُّم من رأى غيره. وإنما هو مبلغ اجتهادي وما أدى إليه نظري. وأمّا فائدة إثبات أنه فتبيين نهج النظر والاستدلال والإرشاد إلى طريق الاختيار والاعتبار؛ فمن كان من أهل هذا الشأن فله أن ينظر في ذلك ويعمل بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده من وفاق ما قلته أو خلافه". ولم يعتن الباجي- رحمة الله عليه- في هذا الشرح بالأسانيد والكلام على الرّجال، وما يتبع ذلك من المباحث الحديثية؛ كوصل المرسَلِ والمتابعات والشواهد مما يقتضيه المقام، وإنّما اعتنى بتخريج فروع المالكيّة على أصولهم في "الموَطَّأ"، فهو كثيرا ما يربط المسألة بالحديث الَّذي تندرج تحته، مع الإشارة إلى قاعدتها من أصول الفقه وقواعده. ونعتقد أن هذا الكتاب من الكتب الأصول عند السادة المالكيّة، ومع هذا فإنّه لم يؤتَ حظَّه من الدُّرس الجادِّ والتّأمُّل العميق، مع أنه اشتمل على جملة صالحة من الأقوال والآراء لكبار علماء المذهب لا تكاد توجد في كتب المذهب المالكي المتداولة اليوم، فقد نقل الباجي كثيرا عن أعلام المذهب، وتظهر أهمية هذه النقول فيما حكاه عن كتبهم المفقودة، من مثل كتاب المبسوط للقاضي إسماعيل، وثمانية أبي زيد، وكتاب ابن سحنون، وغيرها من عيون كتب المذهب. وُيعَدُّ "المنتقى" بهذه الْمَثابة مصدرا مهما للفقيه الَّذي يريد الاطلاع على ما دق وخفي من أصول المذهب وفروعه.
3 - "تفسير غريب الموطَّأ" لعبد الملك بن حبيب (ت.238 هـ). ابنُ حبيب من شرّاح "الموطَّأ" المعدودين، الّذين استطاعوا أن يؤثروا فيمن جاء بعدهم، فشاع ذكره، وكثر النقل منه، وقد أفاد منه ابن العربيّ في بعض ما عرض له من غريب حديث "الموطَّأ" (¬1). 4 - "تفسير الموطَّأ" لأبي المطرِّف القَنَازِعِيّ (ت. 413 هـ). القَنَازِعِيّ عَلَمٌ من أعلام الفقه والحديث في القرن الرابع والخامس، وقد أغار ابن العربيّ في مواضع على كلام القَنَازِعِيّ، دون أن يُصرِّح بالنقل عنه أو الإفادة منه (¬2)، ويبدو أن ابن العربيّ كان في نفسه شيء من القَنَازِعِيّ، بدليل أنّه ذكَرَهُ في مقدمة "المسالك" فأشار إلى أنّ كتابه ليس بمُفيد للطَّالب، فينبغي ألّا يُلتفت إليه. 5 - "تفسير الموطَّأ" لأبي عبد الملك البُوني (ت. 440 هـ). اقتبس ابن العربيّ أيضًا من كلام البوني في تفسيره للموطّأ، وذكر كلامه بألفاظه، دون أن يُصرِّح بالنَّقل عنه (¬3)، كما أنَّه في بعض المواضع يقول: قال ¬
علماؤنا" (¬1)، أو"قال بعض الأشياخ" (¬2)، وصرَّح باسمه في مواضع معدودة. (¬3) 6 - "شرح صحيح البخاري" (¬4) لأبي الحسن علي بن خَلَف بن بطَّال القُرطُبيّ ثم البَلَنْسِيّ (ت. 449) يعتبر هذا الشرح من أقدم شروح صحيح البخاري، فهذا ما استثنينا شرح الإمام أبي سليمان الخطابي (ت. 386 هـ) (¬5)، وشرح العلّامة المهلَّب بن أحمد بن أبي صُفْرَة (ت. 435 هـ) (¬6)، فإن هذا الشرح يعد أوّل شرح موسّع جمع فيه صاحبه بين الفقه الَّذي هو العمدة في الكتاب، وبين ¬
الفوائد اللَّغوية والبيانيّة والعَقَدِيُّة والزُّهْدِيُّة، مع شرح الغريب، وقد استفاد منه صاحبنا في كثير من الواضع، والغريب حقًّا أنّه لم يذكره صراحة في أيّ من الواضع الَّتي وَفَّقَنا الله سبحانه وتعالى إلى معرفة أصولها، فهو يشير تارة ب "قال علماؤنا" (¬1)، أو: "قال بعض الأشياخ" (¬2)، أو: "قال بعض العلماء" (¬3)، أمّا في الغالب الأعمّ؛ فإنّه لا يُشير إلى المصدر لا تصريحا ولا تلميحا (¬4)، وهذا أمرٌ لا يَليقُ ولا يَجْمُلُ بمقام ابن العربيّ، وهو العالم الواسع الاطِّلاع، البليغ العبارة، المتضَلِّع من فنون الأدب وحِكَمِ التّشريع، الَّذي باستطاعته أن يعبِّر عمّا يريد بأبلغ البيان وأجلى العبارات، فهو أجلّ من أن يُرمَى كما يُعرَف بالسَّرقات الأدبيّة، وهذا أمر لم ينفرد به صاحبنا, ولم يتميَّز به عن نظرائه من علماء الحديث والتفسير واللّغة والتاريخ, فهو منهجٌ مُتَّبَعٌ عند عدَدٍ غير قليل من الأعلام، لا يمكننا في هذه العجالة أن نعرض بعض الأمثلة، فهي معلومة عند الباحثين، وكم كنّا نودُّ أن نقف وقفةً طويلةً مع هذه المسألة، نكشف عن ملابساتها، وندلُّ على وجه العُذْر فيها, ولكن حسبنا هذه الإشارة الدالة واللمحة الخاطفة. 7 - "المعلم بفوائد مسلم" لأبي عبد الله المازَرِيّ (ت. 536 هـ). يعتبر الإمام المازَرِي آخر المشتغلين من شيوخ إفريقيا [تونس] بتحقيق ¬
الفقه، وممن بلغ رتبة الاجتهاد (¬1)، وهذا ما استوجب على "سيدي" خليل اعتباره أحد الأربعة الَّذين اعتمد عليهم في "مختصره". ولم يستوعب الإمام المازَرِيّ في "المُعْلِم" شرحَ جميع كتاب مسلم، وإنّما تعرَّض لبعض الجزئيات من كل باب بالتّعليق والشرح، فيذكر أحيانا المسألة الخلافية ويستجلب أقوال العلماء فيها، وأدلّتهم، مع مناقشتها والترجيح بينها، ويكتفي أحيانا بذكر الخلاف في المسألة دون تَوَسُّع في جلب الأدلّة ومناقشتها. اعتمده صاحبُنا ابن العربيّ كمصدَرٍ من المصادر الأصيلة في فهم الحديث واستخراج دُرَرِه، فذَكَرَه مرّة بعنوان: "الْمُعْلِم" (¬2)، وتارة ذكَرَ مؤلِّفه بقوله: "قال الإمام الحافظ أبو عبد الله المازري" (¬3)، وتارة أخرى بصيغة: "قال أبو عبد الله المازري" (¬4)، وربما اكتفى أحيانا بـ "قال علماؤنا" (¬5)، وفي مواضع ليست بالقليلة، اقتبس المؤلِّف الفقرات الطِّوال بدون أدنى إشارة إلى المؤلِّف أو المؤلِّف (¬6). ولم يقتصر المؤلِّف على الرجوع إلى هذه الشروح الكبرى فقط، بل اعتمد على جملة من المصادر الَّتي لا يمكننا -الآن على الأقل- الجزم بأنه رجع إليها ¬
مباشرة، ولكن الغالب في الظّن أنه رجع إليها بواسطة، مثل "شرح الموطَّأ" لأبي زكريا يحيى بن مُزَيْن (ت. 259 هـ) (¬1)، و"شرح الموطَّأ" المسمَّى: "الدَّلائل على أمّهات المسائل" لأبي محمَّد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي (ت. 392 هـ) (¬2)، إضافة إلى شروح غريب الحديث، مثل: "تفسير غريب الموَطَّأ" لأحمد بن عمران الأخْفَش (¬3) , و"غريب الحديث" لأبي سليمان الخطابي (¬4)، و"غريب الحديث" لأبي عُبَيْد القَاسِم بن سَلَّام (ت. 224 هـ) (¬5)، و"غريب الحديث" لأبي محمَّد عبد الله بن مسلم بن قُتَيْبَة (ت. 276 هـ) (¬6)، و"تأويل مختلف الحديث" أيضًا (¬7). و"الغرِبَيْنِ" غريب القرآن والسُّنَّة، لأبي عُبَيْد أحمد بن محمَّد الهرويّ (ت. 401) (¬8). ¬
مصادره في الفقه
مصادره في الفقه 1 - " الْمُدَوَّنَة" لعبد السلام بن سعيد التنوخي، اللقب بسحنون (ت.240 هـ) وهي أصل علم المالكيِّينَ، وهي مقدَّمَةٌ على غيرها من الدَّواوين بعد موطّأ مالك. وُيروَى أنَّه ما بعد كتاب الله أصَّح من موطّأ مالك - رحمه الله - ولا بعد الموطَّأ ديوان في الفقه أفيد من المدوَّنة، هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل النحو، وككتاب أُقليدس عند أهل الحساب، وموضعها من الفقه موضع أم القرآن من الصلاة، تجزئ عن غيرها, ولا يجزئ غيرها عنها (¬1). وأصل "الْمُدَوَّنَة" هو ما دَوَّنه عليّ بن زياد في كتابه الَّذي سمّاه "خير من زنته"، ثم كتاب "الأسَدِيَّة" لأسَد بن الفُرَات (ت.213 هـ) أو كما يسميها البعض: "مدونة أسد" واستدراك سحنون عليها؛ في القصة الشهورة، الَّتي حكاها شيخ شيوخنا محمَّد الفاضل بن عاشور (¬2)، وهي أنّ سحنونا لاحظ فيما كتَبَه أسَد بن الفُرات نَبوات أو اختلافات عمّا يظنُّ لأنه سمِعَه من عليّ بن زياد، فحَدَا به ذلك -إخلاصًا في خدمة دين الله ونُصحًا لله ولرسوله ولعامّة ¬
المسلمين - حَدَا به ذلك إلى أن يرجع في تحقيق ما وقع له فيه الشّكّ، وما اتّهم فيه ما أخذَه من أسَد بن الفُرات بالاضطراب، أن يرجع إلى الَّذي كان مُسَلَّمًا له من بين أصحاب مالك جميعًا بأنّه أتمهم قيامًا على فِقْهِ مالك، وأكثرهم ملازمة له، وأكثرهم إتقانا لضبط ما روى عنه من المسائل، وهو عبد الرحمن بن القاسم، فتوجَّه سحنون إلى مصر كما هو معروف، وصدرت عنه "المدوّنة" الَّتي تُعتبر في الحقيقة أثرًا لأربعة من الرِّجال على التّعاقُب، هم: عليّ بن زياد المدَوِّن الأوّل , وأسدُ بن الفُرات مُدَوِّن "المدونّة" الَّتي عوضها سحنون على ابن القاسم، وابنُ القاسم الَّذي صُحِّحَت لدَيْه مدوَّنة أسَد بن الفُرات "الأسَدِيَّة"، وسحنون الَّذي كتب خلاصة ما سمع من ابن القاسم، مع ما سمع من غيره من أصحاب مالك بإفريقية وبمصر. وقد أصبحت "المُدَوَّنَة" دستور المالكيّة الَّذي يحتكمون إليه أيَا كانت مدارسهم، حتَّى إنَّه أذا أطلق "الكتاب" فإنُّما يريدونها, لصيرووته عندهم علمًا بالغلبة عليها، وهي الَّتي تُسَمَّى "الأم" (¬1). فلا غرو أن يُكثر المؤلِّف عن النقل عن هذا المصدر (¬2). ¬
2 - "الواضحة في السنن والفقه" لعبد الملك بن حبيب السُّلَميّ، (ت.238 هـ) ثانية الأمّهات والدَّواوين، وقد اعتنى بها مالكية الأندلس بخاصَّة، فهي إحدى المفاخر عند التّفاخر، وفيها يقول ابن حزم الأندلسي: "وألِّفتْ عندنا تآليف في غاية الحسْن، لنا [أي معشر أهل الأندلس]، في بعضها ... ومنها في الفقه الواضحة" (¬1)، وظلَّت "الواضحة" مرجعًا فقهيًا لا يُنافس في الأندلس، حتَّى غلب عليها بعد حين من الدَّهر، ضاع أغلبها فيما ضاع من عيون إرثنا الإِسلامي، وبقيت منها أجزاء في الوضوء بخزانة القَرَويِّين تحت رقم: 809، استفدنا منها في قراءة النَّصِّ وتحريره، كما وصلتنا قطع مختلفة محفوظة بمكتبة رقادة في القيروان بتونس، تحتوي على شذرات من صلاة السَّفَر، ومناسك الحجّ، والشّهادات، ونشر بعضها أحد المستشرقين الأعاجم بألمانيا (¬2). وقد أكثر المؤلِّف من الرُّجوع لهذا الكتاب في كثير من المواضع، بواسطة الباجي في المنتقى (¬3). ¬
3 - "العُتْبيَّة" أو"المستخرجة من الأسْمِعَة" لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد العتبي (ت.255). وهي ثالثة الأمّهات والدّواوبن، يقول عنها ابن خلدون في مقدِّمته: "اعتمد أهل الأندلس كتاب العُتْبيَّة وهجروا الواضحة" (¬1). فالعُتْبيَّة كتاب قد عوَّل عليه الشيوخ المتقدِّمون من القروِّيين والأندلسيِّين، واعتقدوا أنَّ من لم يحفظه، ولا تفقَّه فيه كحفظه للمدوَّنة وتفقُّهه فيها، بعد معرفة الأصول وحفظه لسُنَنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس من الرّاسخين في العِلْم , ولا من المعدودين فيمن يُشار إليه من أهل الفقه (¬2). و"العُتْبيَّة" عبارة عن حصر شامل لمسائل فقهية يرجع معظمها لابن القاسم العتقي عن مالك بن أنس، وهي برواية من جاءوا بعده مباشرة، كما أنَّها تحتوي على آراء فقهية لتلاميذ مالك وخلفائه (¬3). فالمستخرجة إذا هي سماعات أحد عشر فقيها، ثلاثة منهم أخذوا عن مالك، وهم: ابن القاسم، وأشهب، وابن نافع المدني، وابن وهب، ويحيى اللَّيثيّ، وسحنون وغيرهم. فالعُتْبيّ حفظ لنا في "المستخرجة" -فضلًا عن الرِّوايات المسموعة - سماعات كثيرة عن مالك وتلاميذه، ورَتَّبه على السماعات؛ فجمع سماع ¬
ابن القاسم من مالك على حدة، وكذلك فعل بسماع أشهب وابن نافع وغيرهما، ثم جمع سماع سحنون من ابن القاسم على حدة، وكذلك فعل بسماع يحيى بن يحيى منه، ثم جعل كلّ سماع في دفتر، وجعل بكلّ دفتر عنوانا يعرف به، وهي أول كلمة منه، ولولا أنّ الله سبحانه ألهمه إلى حفظ هذه السماعات لضاعت، إلَّا أن العُتبيَّ لم يتمكن من تمحيصها وعرضها على أصول المذهب ومقارنتها بالرِّوايات الأخرى. وكان من حسن حظّ "العُتْبيَّة" أن يهتم بها ابن رشد الجدّ فقام بهذه العملية النقدية في "البيان والتحصيل والشرح والتوجبه والتعليل في مسائل المستخرجة" (¬1)، وأصبحت "العُتْبيَّة" -بعد أن تميَّز فيها الصحيح من السقيم- خيرًا وبركة. وقد أكثر ابن العربيّ من الوجوع إلى "العُتْبيَّة" بواسطة الباجي في "المنتقى" (¬2).، وربما رجع إليها مباشرة بدون واسطة (¬3). 4 - كتاب "المجموعة" لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس (ت. 260 هـ). وقد رجع إليه كثيرا (¬4)، ويعتبر هذا الكتاب من الأصول عند المالكيّة ¬
كالمدونة، ويقع -فيما ذكر القاضي عياض (¬1) - في خمسين كتابًا، وقد أعجلتهُ المنيَّة قبل تمامه، والكتاب يُعدُّ مفقودًا. 5 - "الموَّازِيَّة" لمحمد بن إبراهيم، المعروف بالمَوَّاز (ت.269 هـ). يذكر أحد الباحثين أن "الموّازيّة" صارت في القرن الرابع الهجري أحد أشهر كتب الفقه في شمال إفريقيا، حيث ضمَّت كلّ المسائل العويصة في الفقه المالكي، فضلًا عن الاهتمام بفروع المالكيّة (¬2). ويتميَّز منهج ابن الموّاز في كتابه بأنَّه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم؛ لأنّ غيره إنَّما قصدَ جمع الرِّوايات ونقل منصوص السّماعات والاختيارات وأجوبة المسائل. ويُعتَبر هذا الكتاب من جملة ما فُقِدَ من إرثنا الفقهي الخالد. وقد وصلتنا قطعة نادرة في المكتبة العاشورية بتونس، تقع في 15 ورقة (¬3)، يقوم الأخ الأستاذ حميد لحمر الفاسي بالاعتناء بها تمهيدا لنشرها. وأغلب الاقتباسات والإحالات على هذا الكتاب -إن لم نقل كلّها- بواسطة الباجي في "المنتقى"، وقد تعددت الصيغ في الإشارة إلى الكتاب، فتارة ¬
يسمِّيه؛ "الموّازية" (¬1) وتارة: "كتاب محمَّد" (¬2) وتارة أخرى: "كتاب ابن المواز" (¬3) وفي بعض المواضع يقتصر على: "قال محمَّد" (¬4). 6 - "المبسوط في الفقه" للقاضي إسماعيل بن إسحاق (ت. 282 هـ). يعتبر إسماعيل القاضي أحد الّذين شهد لهم بالاجتهاد بعد مالك، حيث قال الباجي (¬5): "ولم تحصل هذه الدرجة بعد مالك إلَّا لإسماعيل القاضي" والدرسة العراقية الَّتي يتزعمها إسماعيل القاضي هي وليدة مدرسة المدينة النبويّة المنوّرة، غير أنَّ منهجها الفقهي تأثر بالبيئة الفقهيّة بالعراق، والَّتي كان منهج مدرسة أهل الرأي هو المتغلِّب فيها، ونتيجة لهذا التأثر، تميَّز مالكية العراق بميلهم إلى التّحليل المنطقي للصُّور الفقهيّة والاستدلال الأصولي، وذلك بإفراد المسائل وتحرير الدّلائل على رسم الجدَليِّين وأهل النَّظر من الأصوليِّين، وهو المنهج الَّذي يُشار إليه عند المالكيّة المتأخِّرين بطريقة العراقيّين، ويمثلُهُم في ذلك القاضي إسماعيل، ومِن بَعْدِه ابن القصَّار وابن الجلاب، والقاضي عبد الوهّاب، والقاضي أبو الفَرَج، والأبهري، ونظراؤهم. ¬
ومن أسفٍ فإنُّ كتاب "المبسوط" لا زال إلى يوم الناس هذا في حكم المفقود، يَسَّر الله من يبحث عنه بحِدٍّ وَسَطَ المجاميع الأجزاء المجهولة النِّسْبة في مكتبة القرويِّين بفاس. وقد أكثر المؤلِّف من الرُّجوع إليه بواسطة الباجي في "المنتقى" (¬1). 7 - "التفريق" لأبي القاسم عُبَيْد الله بن الحسن بن الجلَّاب (ت.378 هـ). يعتبر كتاب "التفريع" مثالا رائدًا لنوع جديد من المؤلَّفات الفقهيّة، وهي المختَصَرات الجامعة الَّتي تتناول عددًا ضخمًا من المسائل المندرجة تحت أبواب الفقه كلّها، بصورة شاملة، وبصِيغَةِ مُوجَزة. ولقد اختار ابن الجلَّاب في كتابه "التفريع" منهجَا يُلائم الغرض الَّذي كان يرمي إليه من وراء تأليف كتابه التفريع، فاعتمد خطَّة محكمَةً لإخراج مؤلَّف جامع يقوم على أركان أربعة: 1 - التفريع والتفصيل، سعيا لتغطية أكثر ما يمكن من المسائل الحادثة، أو المتوقعة الحدوث. ب- الإيجاز والاختصار. جـ- تقرير الآحكام لمختلف المسائل، لتحديد الشارع من كلّ أمر. ¬
د- التبسيط والتوضيح، مع شدَّة الضَّبط والدّقة والتمحيص (¬1). وقد تأثر المؤلِّف بمنهج ابن الجلاّب في تناوله لبعض القضايا الفقهية، ونقل أقواله في عدة مواضع (¬2). 8 - "النّوادر والزِّيادات على ما في المدوَّنة من غيرها من الأمّهات" لأبي محمَّد ابن أبي زَيْد القيروانيّ (ت. 386 هـ). يعتبر ابن أبي زيد مالكًا الصّغير، فهو الَّذي لَّخص المذهب، وضمَّ نشره، وذبَّ عنه (¬3)، ونقل الدّبَّاغ في "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان" (¬4)، قال: يقال: لولا الشيخان، والمحمَّدان، والقاضيان، لذهب المذهب، فالشيخان: أبو محمَّد بن أبي زيد وأبو بكر الأبهري. والمحمدان: محمَّد بن سحنون ومحمد بن المَوُّاز. والقاضيان: أبو محمَّد عبد الوهاب وأبو الحسن بن القصّار". وقد استطاع ابن أبي زيد أن يرجع بالفقه إلى صفائه العِلْمِيّ، ويَفُكّه من قيود الجدليّات والعصبيات، وأن يسلك في خدمة المذهب المالكي مسلكًا فريدًا، ويضبط ما تناثر في مصادره من الأقوال، مما قاله مالك وخالفه فيه أصحابه، أو ما وافقوه فيه، أو ما انفرد أصحاب مالك ومن بعدهم بتقريره من الأحكام. فدرَسَ الأقوال الفقهيّة، وحقَّق الصُّوَر الَّتي تتعلَّق بها، حيث كان ¬
صورة واحدة واختلفت فيها الأنظار، أو صورًا مختلفة يرجع كلّ قولٍ إلى أحَدٍ منها (¬1). وذلك هو المنهج الَّذي سار عليه ابن أبي زَيْد في كتبه الموسَّعة, ويعتبر "كتاب النوادر" الَّذي طبع في بيروت بدار الغرب الإِسلامي، بمثابة الجامع" في أمهات الكتب الفقهية المالكيّة من المسائل والخلاف والأقوال، فهو مَعْلَمَةٌ فقهيّة شاملةٌ. كما يعتبر "كتاب النوادر" في نظر شيخ شيوخنا محمَّد الفاضل بن عاشور (¬2) من أعظم الكتب الفقهيّة وأعونها على تكوين الملَكَة الفقهيّة الحقّ، والتّخريج على حُسْن الفهم ودِقَّةِ التّنزيل وبَراعة التّعليل، فقد جمع فيه صُوَرَ الحوادث الَّتي لم تنصّ أحكامها في "الْمُدَوَّنَة"، واهتم بأكثر الصُّوَر الَّتي تعرض في عصره في القيروان، فبيَّنَ أحكامها بحسب تنزيل النُّقول وتحقيق مناطها، أو الجواب عنها مما يتخرَّجُ من الأصول أو من النُّقول على سُنُّةِ الاجتهاد في المسائل. وأغلب النقول عن ابن أبي زيد (¬3) وكتابه "النّوادر" كانت بواسطة "المنتقى" للباجي (¬4). ¬
9/ 10 - "المعونة" و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب ابن نصر البغدادي (ت.422 هـ) نالت مؤلّفات القاضي عبد الوهاب شهرة عند المالكيّة المغاربة، بَلْه المشارقة، فهو وإن كان عراقيًا في مدرسته المالكيّة، إلَّا أنَّ آراءه اتَّسمت بتبنِّيها لمبادئ وقواعد الترجيح القيروانية المصرية، ولذا فكتبه تعتبر جسرَا يربط بين آراء الفرع المالكي العراقي، وترجيحات الفرع المصري القيرواني، وقد ظهر تأثير القاضي عبد الوهاب على المدرسة الأندلسية متمثلة في زعيمها أبي الوليد الباجي وكتابه "المنتقى"، الَّذي يتردَّد على صفحاته آراء الفاضي معزوَّة إلى كتبه "التلقين" و"الإشراف" و"المعونة" و"شرح الرسالة"، وربما مال الباجي في بعض القضايا إلى ترجيح رأي القاضي عبد الوهاب (¬1)، والظاهر أن ابن العربيّ نقل ما نقل من كتب القاضي بواسطة الباجي (¬2). ¬
مصادر ثانوية
11 - "المقدِّمات لبيان ما اقتضته رسوم الْمُدَوَّنَة من الأحكام الشَّرعيات والتّحصيلات المحكَمَات لأمّهات مسائلها المشكِلاَت" لأبي الوليد محمّد ابن أحمد بن رشد (ت. 520 هـ) يمثل كتاب "المقدِّمات" حلقة جديدة في التآليف المالكيّة، ونظرة جديدة إلى "الْمُدَوَّنَة" وإلى التّصانيف الفقهية لشيوخ المذهب" (¬1) ومن الغريب حقا أن يُكثِر ابن العربيّ من النّقل عن المقدِّمات، بدون إشارة إلى ابن رشد (¬2)، وفي أحسن الأحوال كان يستعمل صيغة: "قال علماؤنا" (¬3). مصادر ثانوية: ذكرنا فيما سبق أهم المصادر الَّتي أكثر المؤلِّف من الرّجوع إليها والاستمداد منها، وهذا لا يعني أنّه اقتصر في تحوير مجموعِهِ عليها، بل استطاع إن يوظّفَ مجموعة لا بأس بها من المصادر الأصيلة (¬4) لاستيفاء الكلام على حديث مالك، وشرحه شرحًا مُوَسَّعًا، على منهج النَّظَر والاستدلال، والتُّفَقُّه ¬
في المعاني، فلا غَرْوَ أن نراه يرجع إلى "سماع ابن وهب" (¬1)، والمقصود هو سماع عبد الله بن وَهْب (ت. 197 هـ) عن الإمام مالك، ويُعتبر من الكتب المفقودة (¬2). كما استفاد المؤلِّف من جملة من المصادر منها: 1 - "كتاب "الْمَدَنِيَّة" (¬3) لأبي زَيد عبد الرحمن بن دينار الغافِقيّ الطُّلَيْطِلِيّ (ت. 201) يقول عنه القاضي عياض (¬4): "كانت له رحلات استوطن في إحداهنّ المدينة، وهو الَّذي أدخل الكتب المعروفة بالمدنية لا إلى الأندلس، وذكَر القاضي عياض أيضًا أنّه لَقِيَ ابن القاسم في رحلته الأخرى، ورَوَى عنه سماعه، وعرض عليه "المدذنِيَّة" وفيها أشياء من رأيه، وكان من الحفّاظ المصُونين، والأخيار الصّالحين. ومن أسَفٍ تعدُّ "المدنية" من إرثنا المفقود (¬5). ¬
2 - "المختصر" (¬1) لأبي محمَّد عبد الله بن عبد الْحَكَم بن أعْيَن المصري (ت. 214) من كبار تلامذة الإمام مالك، وصديق للإمام الشّافعيّ، قال عنه أبو إسحاق الشِّيرازيّ (¬2): "وكان أعلمُ أصحاب مالك بمختلف قوله، وأفضَت إليه الرِّياسة بعد أشهَب" (¬3)، من تآليفه "المختصر الكبير" وهو الراد عند ابن العربيّ، و"المختصر "الأوسط" و"المختصر الصغير" قال عياض (¬4): "وقد اعتنى الناس بمختصراته ما لم يُعتَن بكتاب من كُتُب المذهب بعد "الموطَّأ" و"المدوَّنة" ... ذكرَ بعضُهُم أنّ مسائل "المختصر الكبير" ثمانية عشر ألف مسألة". وصلتنا من هذا الكتاب قطع متفرِّقة، منها قطعة القروِّيين بفاس (¬5)، تحت رقم: 810، يبلغ عدد أوراقها 33 ورقة، كتبت بخطّ أندلسيٍّ، وتشتمل على جملة من كتاب الحج، والجهاد، والوصايا، والمدبّر، والمكاتب، والعتق، والولاء، وأمّهات الأولاد، ¬
وتنتهي هذه القطعة عند كتاب الجامع (¬1). كما وصلتنا قطعة أخرى محفوظة بمكتبة القيروان بتونس، تحتوي على الجزء الثاني من كتاب الشهادات (¬2). وطُبعَ مؤخَّرا "شرح جامع مختصر ابن عبد الحكم" لأبي بكر الأبهري (ت. 375 هـ) (¬3). 3 - "كتاب ابن سحنون" (¬4) لأبي عبد الله محمَّد بن سحنون التَّنُوخيّ القيروانيّ (ت. 256) قال عنه ابن حارث الخشني في قضاة قرطبة وعلماء إفريقية (¬5): "كان في مذهب مالك من الحفّاظ المتقَدِّمين، وفي غير ذلك من المذاهب من النّاظرين المتصَرِّفِينَ، وكان كثير الوضع للكتب، غزير التأليف، يُحْكَى أنه لما تصفَّح محمدُ ابنُ عبدِ الحكَمِ كتابَه ... قال: ... هذا كتابُ رَجُل سَبَحَ في العِلْمِ سَبْحًا" (¬6). ويذكر فؤاد ¬
سزكين (¬1) أنَّه لم يبق من مؤلَّفات ابن سحنون إلَّا أربع قطع، نشر أغلبها حديثا. 4 - "الثمَانِيّة" (¬2) لأبي زَيْد عبد الرحمن بن إبراهيبم القرطبيّ، وكان يُعرَف بابن تارك الفرس، وقد اشتهر بكنيته، توفِّي عام: 258 هـ, رحل إلى المدينة النّبويّة المنوَّرة، فسمع فيها من ابن كنانة وابن الماجشُون ومُطَرِّف ونظرائهم من المدنيِّين (¬3)، و"ثمَانيّةُ أبي زَيْدٍ" هي عبارة عن ثمانية كتب أو أجزاء دون فيها صاحبها أسئلته الَّتي سألها مشايخه من المدنيين (¬4)، وتعد من الكتب المفقودة. 5 - "مسائل الخلاف" (¬5) لأبي بكر أحمد بن محمَّد بن الْجَهْمِ المروزي، ثم البغدادي، المعروف بالوراق (ت. 329 هـ) قال عنه أبو الوليد الباجي (¬6): "أبو بكر مشهور في أيمة الحديث، وألّف كتبا جليلة على ¬
مذهب ملك، منها "كتاب الرد على محمَّد بن الحسن"، و"كتاب بيان السنة" -خمسن كتابا-، و"كتاب مسائل الخلاف والحجة لمذهب مالك"، ... وكان ابن الجهْم صاحب حديثٍ وسَمَاعٍ وفقهٍ" وذكَر الخطيب البغدادي (¬1) حكايته عن أبي بكر الأبْهَرِيِّ: "أنّه كان فقيهًا مالكيًّا, وله مصنَّفاتِ حِسَانٍ، محشُوَّةٍ بالآثار" يَحتجُّ فيها لمالك، وَينصُرُ مذهَبَهُ، ويردُّ على مَن خالفه" (¬2)، وتوجد نسخة نادرة من "مسائل الخلاف" في خزانة القرويين، تحت رقم: 489، (¬3) كُتِبَت بخطٍّ أندلسيٍّ، مبتورة الأوّل والآخِر، (¬4) والكتاب متين الوضع، بديع المنزع، يجنحُ إلى الطّريقة العراقيّة الَّتي تَعتمِدُ على القياس والتأصيل، وتحقيق المسائل، وتقرير "الدلائل" ونرجو الله أن يقيّض له من ينفض عنه غبار القرون المتطاولة، وينشره، لينتفع به كرام العلماء في اجتهاداتهم في فقه الحالة (¬5). ¬
6 - "كتاب الحاوي" (¬1) لأبي الفَرَج عمر بن محمَّد اللَّيثيّ البغداديّ (ت. 331 هـ) من كبار الفقهاء، لُغَوِيٌّ فصيحٌ، روَى عن أبي بكر الأَبْهَرِيّ، وأبي عليّ بن السَّكَن، وغيرهما (¬2)، يُعتبر كتابه "الحاوي في مذهب مالك" في حكم المفقود، يَسَّرَ الله تعالى العثور عليه. 7 - "كتاب الزَّاهي" (¬3) و"كتاب مُختَصَر ما ليس في المخْتَصَر" (¬4) لأبي إسحاق محمَّد بن القاسم بن شعبان، المعروف بابن القُرطُبيّ، المصريّ (ت. 355 هـ)، قال عنه المؤرِّخ أبو منصور أحمد بن عبد الله الفَرْغَانيّ (¬5): "كان رأس الفقهاء المالكيِّين بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنُّن في سائر العلوم، من الخبر والتاريخ والأدب، إلى التَّدَيُّن والوَرَع، وذُكِرَ أنّه كان يلحن، ولم يكن له بَصَرٌ بالعربيّة مع غزارة عِلْمِه، وكان واسع الرِّواية، كثير الحديث، مليح التّأليف" وقال القاضي عياض (¬6): "وذكِرَ لي أن أبا الحسن بن القابسيّ ... كان يقول في ابن شعبان: إنَّه لَيِّنٌ في الفقه، ¬
وأمّا كتبه ففيها غرائب من قول مالك، وأقوال شاذَّةٌ عن قوم لم يشتهروا بصُحبته، ليست مما رواه ثقاة أصحابه واستقَرَّ من مذهبه" وقال أبو إسحاق الشيرازي (¬1): "ووافق موته دخول بني عُبَيْد الرّوافض، وكان شديد الذَّمِّ لهم، ويقال إنَّه كان يدعو على نفسه بالموت قبل دولتهم، يقول: اللهم أَمِتْنِي قبل دخولهم مصر (¬2)، فكان كذلك" (¬3)، والكتابان لم يبق منهما في أيدينا شيء اليوم، وعسى أن يظهر منها شيء فيما بعد إن شاء الله. 8 - "الشرح الكبير" (¬4) لأبكر محمَّد بن عبد الله التّمِيمِيّ الأَبْهَرِيّ (ت. 375) قال أبو القاسم الوهراني في الجزء الَّذي أملاه في أخبار الأبهَرِيّ (¬5): "كان رجُلا صالحا ... فقيها عالمًا ... يحفظُ قول ¬
الفقهاء حفظا مشبعا"، وقال الخطيب البغدادي (¬1): "وله تصانيف في شرح مذهب مالك بن أنس، والاحتجاج له، والرَّدّ على من خالفَه، وكان إمام أصحابه في وقته"، ووصلتا أجزاء من كتابه: "شرح المختصر الكبير" محفوظة بالمكتبة الأزهريّة بالقاهرة، تحت رقم: 1655 فقه مالكي، يحتوي الجزء الثالث على: 318 ورقة، والجزء السابع على: 140 ورقة، والجزء الثاني عشر على: 86 ورقة (¬2)، كُتِبَت حسب سزكين (¬3) سنة: 604 هـ 9 - "عُيون الأدلة في مسائل الخلاف بين علماء الأمصار" (¬4) ¬
لأبي الحسن علي بن عمر بن القصّار البغداديّ (ت. 397 هـ) (¬1)، قال عنه أبو ذر الْهَرَوِيّ: "هو أفقه من رأيت من المالكيين" (¬2)، وقال القاضي عبد الوهاب: "تذاكرت مع أبي حامد الإسفرايني الشّافعيّ في أهل العِلْم - وجرى ذِكْر أبي الحسن بن القصّار وكتابه في الحجّة لمذهب مالك - فقال لي. ما تركْ صاحبكم لقائل ما يقول" (¬3)، وقال أبو إسحاق الشيرازي (¬4): "وله كتاب في مسائل الخلاف لا أعرف لهم [أي للمالكية] كتابا في الخلاف أحسن منه". وَصَلَنا السِّفْر الأول من هذا الكتاب القيِّم، وهو محفوظ بمكتبة دير الأسكوريال تحت رقم: 1088، ويشتمل على كتاب الطهارة وبعض المسائل من كتاب الصلاة، ويقع في 187 ورقة، بالخط المبسوط الأصيل (¬5). كما احتفظت لنا خزانة القَرَوِيِّين تحت رقم: 467 (¬6) ببضعة أسفار من هذا الكتاب العجيب العُجاب - على حد تعبير شيخ شيوخنا عبد الحي الكتاني (¬7) - منها: ¬
السِّفْر الثامن عشر، ويقع في 206 ورقة، يشتمل على قطعة من كتاب النكاح، وكتاب الإيمان والنذور، وكتاب الجهاد، وكتاب الجزية، وكتاب الصدقات. والسِّفر الثامن والعشرون، ويقع في: 113 ورقة، يشتمل على كتاب الحجر، وكتاب الصلح، وكتاب الحوالة، وكتاب الضمان، وكتاب الكفالة، وكتاب الشركة، وكتاب الوكالة، وكتاب الإقرار. والسّفْر الحادي والثلاثون، ويقع في: 87 ورقة، يشتمل على كتاب المكاتب، وكتاب الفرائض والمواريث. و"عيون الأدلة" كتابٌ في الخلاف العالي، يتناولُ فيه مؤلِّفُه بأسلوب مُتْقَنٍ ومركَّز آراء المذاهب المختلفة وأدلّتهم في القضايا الفقهيّة المختلَف فيها، ثمّ يذكر أدلّة المالكيّة باسطًا الكلام على أوجُه النّظَر المختلِفة فيما يعرضه من أدلّة، مناقشا لها مناقشة دقيقة عميقة، تدلُّ دلالة واضحة على اطّلاعه وتعمُّقه في دراسة المذاهب المختلفة (¬1). وقد اختصر القاضي عبد الوهاب البغدادي هذا ¬
الكتاب في "عيون المجالس" (¬1) نقل فيه لفظ القاضي حرفا حرفا، إلّا في بعض المسائل اختصرها بعض الاختصار، من غير إخلال بالمعنى (¬2). 10 - "الخصال الصغير" (¬3) لأبي يعلى أحمد بن محمَّد العبدي، البصري، المعروف بابن الصواف (ت. 489). من كبار علماء المالكيّة في العراق، قال عنه القاضي عياض (¬4): "إمام المالكيّة بالبصرة، وصاحب تدريسهم، ومدار فتواهم، وذو التآليف في وقته مذهبا وخلافا"، وكتاب "الخصال الصغير"مختصر مفيد على الطريقة العراقية، التزم فيه صاحبه الاقتصار على الراجح في المذهب، باتقان في الضبط، وإبداع في التحرير، ودقة في الاختصار، ونعتقد أن هذا الكتاب هو من جملة الكتب الَّتي مهّدت لظهور المختصرات ¬
المشهورة في المذهب المالكي. ومن العجيب أن تهمل جلّ كتُب التراجم وكتب الفقه هذا الكتاب (¬1)، فلم نجد في ضوء المصادر المتوفِّرة لدينا مَنْ ذكرَهُ أو نَقَلَ منه، ما عدا ابن الأبار (¬2) الَّذي نصَّ على أن أبا الربيع سليمان بن حَكَم الغافقيّ (ت. 618) صنع رجزا في الفقه على مذهب مالك، تتبّع فيه كتاب "الخصال الصغير" وأبوابه. ومن العجيب أيضأوالطريف في ذات الوقت أن يكون صاحبنا ابن العربيّ هو أول من أدخل هذا الكتاب إلى الغرب الإِسلامي ضمن النفائس الَّتي جلبها معه من رحلته إلى المشرق العربيّ (¬3)، ومن عجائب الاتفاق الإلهي أن تصمد هذه النُّسخة أمام غمرات الحوادث وكتاف الشدائد، وتنجو من أعين جواسيس محاكم التفتيش، وثقافة الحقد الصليي الكريه، فتصل إلينا ¬
هذه النُّسخة من رواية صاحبنا ابن العربيّ، نشرت أخيرا في بيروت (¬1). ونكتفي بهذا القَدْرِ من العَرْض التفصيلي للمصادر الَّتي رجع إليها المؤلِّف، سواء بطريقة مباشرة أو بالواسطة. ونُذَكِّر القارئ الكريم أنه ليس من مهمتنا ذكر كلّ المصادر التي رجع إليها المؤلِّف، ولكن نرى من المستحسن أن نشير إلى نماذج منوعة من بعض المراجع الإضافية الَّتي استقى منها المؤلِّف مادة كتابه، فقد رجع إلى كتاب "العين" (¬2) للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت. 170 هـ)، و"تهذيب اللغة" (¬3) لأبي منصور الأزهري (ت.371 هـ)، و"نُزهة الألباء في طبقات الأدباء" (¬4) لأبي البركات الأنباري (ت.577 هـ)، و"الزاهر في معاني كلّمات الناس" (¬5) و"المذكَّر والمؤنَّث" (¬6) لأبي بكر الأنباري (ت.328 هـ)، و"جامع البيان عن تأويل القرآن" (¬7) لابن جرير الطَّبَرِيّ (ت. 310هـ)، ¬
و"معاني القرآن وإعرابه" (¬1) لأبي إسحاق الزجّاج (ت. 311 هـ)، و"كتاب الزِّينَة في الكلّمات الإِسلامية العرببة" (¬2) لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرّازي (ت. 322)، و"التَّمهيد في الرَّدِّ على الملحِدَة والرّافضة والخوارج والمعتزلة" (¬3) لأبي بكر محمَّد بن الطيب بن الباقلانيّ (ت.403 هـ)، و"التَّنبيه والرَّدّ على أهل الأهواء والبدع" (¬4) لأبي الحسين محمَّد بن أحمد الْمَلَطِي (ت.377 هـ)، و"مشكلّ الحديث أو تأويل الأخبار المتشابهة" (¬5) لأبي بكر بن فُورَك (ت. 406 هـ)، و"التأكيد في لزوم السُّنَّة" (¬6) لأبي عاصم خُشَيْش بن أصرم النسائي (ت.253 هـ)، و"السِّراج في ترتيب الحِجَاج" (¬7) لأبي الوليد الباجي (ت.474 هـ)، و"العزلة" (¬8) لأبي سليمان حَمْد بن محمَّد الخطّابي (ت.388 هـ)، و"إحياء علوم الدين" (¬9) لأبي حامد الغزالي ¬
(ت.505 هـ)، و"الشِّفَا بتعريف حقوق المصطفى" (¬1) للقاضي عياض (ت.544 هـ)، و"التاريخ الكبير" (¬2) لأبي عبد الله البخاري (ت.256 هـ) و"التاريخ الكبر" المعروف بـ "تاريخ ابن أبي خَيْثمَة" (¬3) لأبي بكر أحمد بن أبي خَيْثمَة (ت.279 هـ)، و"الاستيعاب في أسماء الأصحاب" (¬4) لأبي عمر بن عبد البرّ (ت.463 هـ)، وغيرها من الأسفار والأجزاء القيِّمة، ونُحيلُ من أراد الاستزادة على الفهرست الَّذي صنعناه في المجلد الثامن للكتب الواردة في المتن، وفهرست الأعلام. ¬
ملامح من منهج ابن العربي في كتابه "المسالك"
ملامح من منهج ابن العربيّ في كتابه "المسالك" نَوَدُّ أن نُنَبِّه بادئ ذي بدءٍ إلى معضلة سبقت الإشارة إليها، وهي أنَّ كتاب "المسالك" تضمّن آراءا كثيرة في الفقه والأصول والحديث والكلام واللغة، ساقها ابن العربيّ غير معزُوَّةً إلى أحد ممن تقدُّمه، ولم نستطع أن نقطع بنسبتها إليه، لاحتمال نسبتها إلى غيره ممن سبقه، وقد أمكننا الله بتوفيقه أن نرُدَّ بعض هذه الآراء إلى أصحابها (¬1)، وبقي الكثير الَّذي لم نوفق إلى ردِّه، ولهذا فإنَّنا نعتقدُ أنَّ محاولة دراسة منهج ابن العربيّ وموارده في "المسالك" أمر في غاية العُسْرِ والصُّعوبة، ومحفوفٌ في ذات الوقت بكثير من المخاطر والمزالق، وهو الَّذي يقع لكثير من الباحثين الّذين يدرسون عَلَمًا من الأعلام، يحشُدون آراءه حشدًا, تبيينًا لمنهجه زعموا، دون فصْل بين ما قال وما حَكَى. وهو الأمر الَّذي حاولنا اجتنابه في عملنا؛ لأنَّ ابن العربيّ لم يُعْن في "المسالك" بعَزْوِ كل رأي إلى قائله، وربما كان ذلك منه خوفًا من الإملال والإطالة، ولا نظنُّ به إلَّا خيرًا، والأمرُ من قبلُ ومن بعدُ موكولٌ إلى ثقافة الدّارس والدّارسة ومحاولتهما التّعرُّف على مسار التأليف العربيّ، وإدراك العلائق بين الكتب: تأثرًّا أو نقدًا أو شرحًا أو اختصارًا أو تذييلًا. وهذا أمرٌ زاولناه - بحمد الله - فتوصَّلنا إلى ¬
نتائج لا بأس بها، إلَّا أنَّ فُقدان كثير من المصادر وقفَ عائقًا دون إتمام العملية النقدية الَّتي لو قُدِّر لها أن تتمّ، لسهّلَت علينا وعلى الباحثين والباحثات من بعدنا دراسة منهج المؤلِّف وآرائه بدقَّة متناهية لا تشوبها شائبة. وحَسْبُنا الآن أنَّنا قرأنا وضبطنا نَصّ "المسالك" مع محاولة توضيح مُبهَمِه وتوثيق مسائله، مع أملِ أن يأتي بعدنا من يكمِّل المسيرة، فيستخرج نفائسه، ويستلهم غوامضه بالتأمُّل الصّادق والصَّنعة الكاملة (¬1). أوَّل ما يستوقف النَّاظر في كتاب "المسالك" هو ذلك التّسلسُل المنطقي في البناء الفكريّ لمحتويات الكتاب، فقد وضع المؤلِّف - رحمه الله - لشرحه خُطة مُحْكَمَة، اتَّبَعَها بدقّة في جميع الأبواب الَّتي فسّرَها، فجاء الشرحُ -بحمد الله- نَسَقًا واحدًا يدل على عقل يُتقِنُ التصنيف والتبويب، فعمد ابتداءً إلى كتابة مقدِّمات كاشفة، تُرشِد الباحثَ للوُلوج إلى "الموطَّأ"، وتُمكِّنُه من فهم الحديث على الوجه الصحيح. وتكلم المؤلِّف في مقدِّمته الأولى عن فضل مالك - رحمه الله - ومناقبه,. وسَلَفِه، مع ذِكْرِ موطَّئه وشَرَفِه. وأخلص المقدِّمة الثانية للردَّ على نُفاة القياس من الظّاهرية الحزْمِيَّة، ومن الغريب حقا أن تتفق جميع النُّسَخ على إسقاط هذا البحث، فهل أهمله المؤلِّف بعد أن وعَدَ به في طليعة الكتاب، إمعانا في تجاهل الظّاهريّة والحطِّ من قدرهم، ¬
أم أنّ أيادي آثمة - من المعجَبين بابن حزم - تلاعبت بالنُّسخة الأم، فحذفت ما حذفت. وتكلم في المقدِّمة الثالثة عن علوم الحديث؛ فتطرَّق لموضوع معرفة الأخبار، وقَبول خَبَر الواحد العَدْل، وتبيين المرسَلِ من المسْنَد، والموقوف من المرفوع والبَلاغ، كما تكلم عن الرِّواية والإجازة والمناوَلة، والقول في "حدّثنا" و"أخبرنا" هل هما واحد أم لا؟ ثمَّ شرع المؤلِّف في شرح "مُوَطَّأ يحيى" على وجهه ونسق أبوابه، فيبدأ غالبًا بالكلام على الإسناد، فإن جاء الحديث منقطعا وصَلَهُ من طريق مالك، أو من غير طريقه، معتمدًا في ذلك على نقل الأيمُّة وما رواه الثقات، وبهذا يرى الناظر في "المسالك" موقع آثار "الموطَّأ" من الاشتهار والصِّحَّة. كما أنَّه كثيرا ما تطرَّق لمعاني الآثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب، على ما عوَّل على مِثْلِه الفقهاء أولو الألباب، واستجلب أطايب أقاويل العلماء في تأويل الحديث وناسخه ومنسوخه, وأتى من الشواهد على المعاني والأسانيد جملة وافرة عظمت بها فائدة الكتاب. عنايته باللغة والغريب: على الرغم من أن اللغة ليست بضاعة هذا الكتاب الأساسية، فإن فيه الكثير من الملاحظات والاستطرادات اللغوية، فقد أشار في مواطن كثيرة إلى شرح ما استعجم من الألفاظ, شرحا بسيط موجزا، وربما تَوَسَّعَ فأورَد مواد لُغَوِيّة مفَصُّلَة، معتمدًا على كبار أهل اللِّسان كالخليل بن أحمد، وابن السِّكّيت وغيرهما.
ومن الملاحظ أنّ المؤلِّف اختصر الكلام في بعض الأبواب والمسائل اختصارا اكتفى فيه بإشارات خاطفة غير وافية الراد، لقضايا كان للشرُّاح فيها كلامٌ مسهبٌ، مما أدى إلى بقاء بعض النصوص المستغلقة من "الموَطَّأ" لم يُوَطَّأ كنفها, ولم يكشف عن وجوه الإشكال فيها. بقي أن نذكر أنُّ لابن العربيّ في بعض المواضع من "المسالك" نزعة للإغراب في الأسلوب، يُغربُ أحيانًا في ألفاظه فيختارها من المعجم غير المألوف، رغبة منه في السُّموّ والتألُّق والارتفاع، وقد ساعدهُ على بلوغ مبتغاه علمه الواسع باللُّغة والأدب. ومن الملاحَظ على أسلوبه أيضًا كثرة الاعتراض والفواصل، فقد يفصل بين المبتدأ والخبر بجملة تمتدّ سطرًا أو أكثر، كما يكثر البعد بين المتعاطفات مثلًا، ولذلك فقد اَثرنا شكل النَّصِّ في مواطن كثيرة حتّى يستبين القارئ تعلُّق الكلام بعضه ببعض. ولئن كان يبدو أسلوبه في بعض الأحيان معقَّدًا غامضًا، فرُبما كان مرجعُ ذلك -في نظرنا- إلى طبيعة الطريقة الَّتي كان يكتب بها؛ فأغلبُ الظَّنِّ أنَّه كان يُملي مؤلَّفاته إملاةً على تلاميذه، كما أنُّ طبيعة النُقوُل الكثيرة من كتب السّابقين قد أوقعتهُ في هذا التّعقيد الَّذي نَزعَمُه. كما أن كثرة النقول أوقعت المؤلِّف في شيء من التَّكرار، وأحيانا في شيء من الاختلاف، وربّما التناقض أيضًا. وبالرغم من كثرة هذه النقول، فإن شخصية ابن العربيّ واضحة قويّة، تبرز في أكثر صفحات الكتاب من بين التعليقات الَّتي علَّق بها على آراء
عنايته بالرواة
العلماء وأقوالهم، كما تظهر أشدّ وضوحا في أحكامه الَّتي أطلقها جازمة قويّة، شأن العالِمِ المعتدِّ بعِلْمِه، الواثق من صحّة رأيه وسَداد اختياره، فهو لم يكن مجرّد ناقل، وإنّما كان ناقلا ناقدا، ومحقِّقا بصيرا، لا يحجم عن تأييد ما يراه حَسَنا، ونقض ما يراه قبيحا (¬1). عنايته بالرواة: وذكر في بعض المواطن أحوال بعض الرُّواة وأنسابهم، كما لم يفُتهُ في كثير من الأحاديث ذكرُ اختلاف نُسخ "الموطَّأ". إبداعه في وضع العناوين الدالة: كما أنَّه - رحمه الله تعالى- اعتنى أشدَّ الاعتناء باختيار عناوين مباحثه في أثناء شرحه الحديث، وتأنَّق في ذلك أشدَّ التأنّق، وإن كان لا يتحرَّج أحيانا من استعارة بعض هذه الأسماء ممن سبقوه كابن عبد البرّ والباجي، ولكن الغالب الأعمّ هو من حُرِّ فكره وخالص إبداعه. ويطولُ بنا المقام لو حاولنا ذكر إبداعاته في هذا المجال، ولكن إليكم بعض الأمثلة التي تدل على صدق ما ادعيناه، ففي مجال تأصيل المسائل وتقعيدها يستعمل العناوين التالية: "تأصيل ¬
وإلحاق" (¬1) "إلحاق وتبيين" (¬2) "استطلاع في النظر" (¬3)، "تنزيل وتقريب" (¬4) كما أنه في مجال النقد والاستدراك يستعمل ما يلي: "انتصار لمالك" (¬5) "استدراك وتبيين" (¬6) "اعتراض من مستريب " (¬7) "تنبيه على وهم وتعليم على جهل" (¬8) "تنبيه على مقصد" (¬9) "تنبيه على إغفال" (¬10) "تنبيه معنوي" (¬11) "تنبيه على مسألة أصولية" (¬12) "تنبيه على التّرجمة" (¬13) "تنبيَه وتفسير" (¬14) "تنبيه على وهم قبيح في إسناد يحيى" (¬15) "تنبيه على شرح" (¬16)، وفي تبيين المبهم وتوضيح ¬
عنايته بالأصول والضوابط
المشكل كان - رحمه الله - يستعمل العناوين التالية: "شرح مشكل" (¬1) "إيضاح مشكل معضل" (¬2) "كشف وإيضاح يبين المذهب في ذلك" (¬3) "توفية ومزيد إيضاح" (¬4) "تفسير فقهي شرعي" (¬5) "نازلة معضلة ومشكل" (¬6)، كما أكثر من ذكر النكت الشارحة لمقاصده، فكثيرا ما كان يستعمل: "نكتة لغوية" (¬7) "نكتة أصولية" (¬8) "نكتة أصولية اعتقادية" (¬9) "نكتة فقهية مذهبية " (¬10) "نكتة على تفسير بديع" (¬11) "نكتة في الإسناد" (¬12). عنايته بالأصول والضوابط: وَيذكُر المؤلِّف غالبًا في كلّ حديث المسائل الفقهية الفرعية الَّتي تتعلَّق بالباب، ولو بأدنى مناسبة أو أضعف تعلُّق، والظَّاهرُ أنّه يقصد من هذا أن ¬
يوصل مسائل الفقه المالكي بحسب الإمكان بالأصول، ويرجع ما يستطيع إرجاعهُ إلى أصل من الأصول، ليكون ذلك الحديث أصلًا تُسْتَخْرَج منه هذه المسائل، فهو بهذا الصَّنيع كان يُنَقِّح الفقه المالكي بتحقيقه لمناط الأحكام ونَظَره في الأدلَّة، ونقضه على الفقهاء ما كانوا يفتون به تقليدًا أو عن ضعف دليلٍ. وهكذا؛ فإنَّ الناظر في شرح حديث "المسألك" يرى بوضوح سمة طرائق علماء الأصول في الفكرة والعَرْضِ والمصطلح. ونعتقدُ أنَّه في عمله الاجتهادي هذا، كان مُتأثرًا أكبر التأثر وأشدّه بالإمام الجليل أبي الوليد الباجي في "المنتقى" في إيراد الأقوال المختلفة في المذهب وغيره، فيتوسَّع في الخلاف، ويجنح إلى التّخفيف من التزام التّقليد، وذلك بفتح باب النَّظَر في الأدلَّة، ولو في حدود النَّظر الذهبي أحيانًا. كما نُلاحظ أنَّ المؤلِّف اهتمٌ في كثير من المواطن بالضَّبط والتنظير، فأكثر من البحث والنّظَر والاستشكال، فنقد كثيرًا من الأقوال داخلَ المذهب وخارجَهُ واستبعدها، مُبيِّنًا ذلك بتصوير الوقائع، وملاحظة ما يتحققُ فيها من الصالح المقصودة للشَّرع وما لا يتحقَّق، وبهذه الأبحاث القيِّمة المُمحَّصة للنّصوص: نقدًا وتحريرًا، ومشاركة في المباني والمدارك، ظهرت براعتهُ في تنزيل القواعد والمقاصد, مِمّا يجعلنا نزعم أنّه بنزعته التجديديّة هذه، أنتهج بالفقه المالكي نهجًا متطوِّرًا جديدًا عدلَ فيه عن المنهج الالتزامي، وسار على المنهج التصرّفي (¬1) الَّذي مهَّد سببله ابن عبد البّر في "الاستذكار". ¬
ومن الأشياء الَّتي ينبغي ملاحظتها أيضًا أن المؤلِّف - رحمه الله - كثيرا ما يذكر تقسيما معيَّنًا للكلام إلى أكثر من مسألة أو وجه أو فصل أو فرع، ثمّ يقتصر على ذِكْرِ مسألة أو وجه واحد فقط، غير ذاكر لسائر ما وَعَدَ به، مما أوقعنا في حيرة من أمرنا! وكثيرا ما كنا نتساءل: هل سقطت باقي الوجوه والمسائل والفصول من النُّسَخ المعتمدة لدينا؟ أم أنّ ناسخ الأصل سها عن ذِكْرِها؟ وهو أمر مُسْتَبْعَدٌ أشدَّ الاستبعاد؛ لأنه تَكَرَر في مواضع كثيرة، فانتهى بنا الرأي إلى أنّ الأمر لا يعدو من أن يكون طريفة ومْنهجا ارتضاه المؤلِّف في سيرته في التأليف، فكأنّه يَوَدَّ أن يقول: إن للكلام أوجها عدّة، أو مسائل كثيرة، أهمُّها كذا وكذا، وهذا أمرٌ لا يتطلَّب ذِكْرَ الأوجُه أو المسائل الباقية. وعليه فإذا ما وجد القارئ تقسيما ذَكِرَ فيه الوجه الأوّل أو الفصل الأول دون أن يجد لذلك بقيّة، فهذا يعني أن المؤلِّف قصدَ بذلك أهمّ الأوجُه أو الفصول أو المسائل، والله أعلم. وليست جميع مسائل الشرح قائمة على كلام مالك في موطئه، وإنما جاءت في الشرح مباحث وفصول اقتضاها المقام، فأوردها تفريعا أو استطراد، بدون أن يخل هذا التفريع والاستطراد بالنّسق العام للموضوع الشروح، فهو تفريع ذكي للمسائل، واستطراد مقصود، يساعد القارئ على تصور الموضوع، واستيعاب فهمة على أحسن وجه وأقومه. هذا مُجمل ما توصّلنا إليه بتأمُلاتنا في الكتاب، وهي تأملات نعتقد أنها قاصرة، ولكن قد يكون في الإجمال بعض الغَناء؛ لأنه لا يخلو من تنبيه إلى مشارف الآراء، ومعاقد الأفكار، مع أمل العودة إلى الكتاب بالدّرس والتّمحيص فيما يستقبلُ من الأيام إن شاء الله تعالى.
بين "المسالك" و"القبس"
بين "المسالك" و"القبس": استوعب المؤلِّف -رحمة الله عليه- في كتابه "المسالك" أغلب ما في كتابه "القبس" (¬1)، وأضاف عليه إضافات كثيرة، والمتأمِّلُ في عنوان الكتابين يدركُ هذا المعنى، فالقَبَس عبارة عن- لمحات دالَّة على المُراد، جعلهُ مؤلِّفُه إِملاءً على أبواب "الموطَّأ"، وجمعًا لما فيها من الأحاديث والآثار, فهو لم يُعنَ بشرح كلّ الأحاديث والآثار وأقوال مالك الواردة في "الموطَّأ"؛ بل كان - رحمه الله - يأتي إلى الباب الَّذي تعددَّت فيه الرِّوايات، فهذا كان المآل فيها واحدًا، شرحَ منها حديث واحدًا، وكأنَّه بذلك شرح جميع الباب، فهو أشبه بالتفسير الموضوعي للموطأ. أمّا "المسالك" فقد تَتَبَّعَ فيه المؤلِّف ألفاظ الأحاديث حديثًا حديثًا (¬2)، مُبيِّنا لمعانيها وموضِّحًا لأحكامها، مقتفيا آثار من سبقوه، كالبوني والقَنَازِعِيّ والباجي وابن عبد البر -رحمة الله عليهم-. ¬
وصف النسخ المعتمدة في القراءة والضبط
وصف النسخ المعتمدة في القراءة والضبط نسخة الجزائر: تقع في ثلاثة أجزاء، سجلت في المكتبة الوطنية بالجزائر تحت أرقام: 425، 426، في ثلاث مجلدات (¬1)، وهي نسخة في أصلها رباعية، بدليل أنَّ آخر جزء فيها كتب عليه: "كمل السِّفْر الرابع بحمد الله وحسن عونه، وبتمامه تم جميع الديوان من ترتيب المسالك على مُوَطَّأ الإمام مالك، على يد العبد الفقير محمّد بلوم، وذلك أواخر رمضان (28) سنة: 1209 هـ". وفي نهاية جزء آخر تلقانا عبارة: "تمَّ السِّفْرُ الثالث من كتاب المسالك شرح مُوَطَّأ مالك، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر بن العربيّ - رضي الله عنه - وذلك يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الثانية [كذا] عام تسعة ومئتين وألف" (بالحروف). وأوَّل هذا الجزء: "باب ما يجوز أكلّه من الصيد". كما تلقانا عبارة يستفاد منها أنّها نهاية السِّفْر الثاني ونصها: "كمل السِّفْر ¬
الثاني من المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك، تأليف الإمام القاضي أبي بكر بن العربيّ - رضي الله عنه - وذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة:1208 هـ". أما النُّسخة فتبدأ بمقدمة الكتاب، وهي الجزء الأوّل بطبيعة الحال، بغضِّ النَّظر عما وقع في الكتاب من سقط وقع التنبيه عليه في موضعه. إذا فالكتاب مُنْتَسَخٌ في بداية القرن الثالث عشر الهجري، بين سنَتي رمضان 1208 هـ ورمضان 1209 هـ وهو ما يقابل نهاية القرن الثامن عشر الميلادي كما نصَّ على ذلك أحد الأعاجم باللّغة الفرنسية بالحروف اللاتينية. ونلاحظ أنَّ على النُّسخة خواتمَ على أشكال ثلاثة: الشكل الأوّل: لم نستطع تبيُّنه وهو دائري، ولعلَّه مكتوب بالعربية، والثاني شبه دائري كتبت فيه: مكتبة الجزائر بالحروف اللاّتينية، أمّا الثالث فهو بيضاوي الشكل وكتبت فيه عبارة "المكتبة الوطنية بالجزائر". وعلى السِّفْر الأوَّل صيغة تملّك بخطِّ لا شكّ أنَّه متأخر عن تاريخ النسخ، وبخطِّ يدويّ نصُّ عبارته: "الحمد لله، تملك محمّد العربيّ بن محمّد بن عيسى هذا السِّفْر الأول من "المسالك على مُوَطَّأ الإمام الأعظم مالك" للقاضي أبي بكر بن العربيّ من ورثة أبي محمّد الحفصي، لطف الله بالجميع، أواخر شعبان سنة: ... [وهناك كلّمتان لم نتبينهما] " على أنَّ معرفة شخص المتملك [محمّد بن العربيّ بن محمّد بن عيسى] وشخصية الموروث [أبي محمّد الحفصي] قد تفيدنا في معرفة تواريخ التّمَلُّكَين، ولم يفصل بينهما.
على أن ما ورد عند سزكين في تاريخ التراث العربيّ في مادة الفقه المالكي (مالك- الموَطَّأ)؛ بأن النُّسخة ترجع إلى 1029هـ إن لم يكن خطأ في الطبع تولد عن أن الصفر تقدم رقم (2)؛ فإنَّه خطأ في القراءة لا محالة، خصوصا أن النّاسخ نصَّ على ذلك في نهاية السِّفْر الثالث بالعبارة. ومهما يكن من أمر؛ فإنُّ التنصيص على سنة: 1209 هـ قد يفهم منه على أن النُّسخة قد كتبت كلّها في هذه الحسنة، على حين أن قراءة أواخر الأجزاء كلّها يفيد أنَّ الجزء الثاني كمل في العشر الأواخر من رمضان 1208 هـ. وأن السِّفر الرابع تمَّ في 28 رمضان سنة: 1029هـ. والنُّسخة كتبت بخط مغاربي واضح، إلَّا بعض العناوين فقد كتبت بخط مشرقي، ولعلَّ النّاسخ ورَّاق يَحتَرِف النّسخ ويُجيدُ الخطّ المغربي والمشرقي. ومقاسها: 205/ 300 مم، وكُتبت العناوين بالخطِّ الأحمر. ومن أسفٍ؛ فإنَّ كتاب البيوع ساقط منها، مما اضطرّنا إلى اعتماد نسخة القرويِّين فقط، وهذا النقص هو الَّذي أشار إليه قديما شيخ النهضة الإِسلامية في الجزائر عبد الحميد بن باديس في ترجمته لأبي بكر بن العربيّ (¬1)، حيث قال: "وكتاب المسالك ومنه نسخة في مكتبة الجزائر (يقصد هذه النُّسخة) بها نقْصٌ، وعندنا منه جزء فيه ما يكمِّل ذلك النقص" (¬2). ¬
وإلى جانب هذا النقص، نجد هذه النُّسخة نفسها تُسعِفُنا بعدّة أبواب في كتاب الحج، انفردت بها دون سائر النسخ، ففي نهاية السِّفْر الثاني منها ومن النُّسخة "غ" [وهو ما يعادل: 4/ 352 من المطبوع من المسالك] احتفظت لنا "جـ" بباب ما يجوز للمحرم أكلّه من الصيد، إلى آخر كتاب الحج [وهو ما يعادل: 4/ 477 من المطبوع من المسالك]. ¬
نسخة الزاوية الحمزاوية
وقد رمزنا لهذه النُّسخة بـ "جـ"، إشارة إلى أنّها من الجزائر. نسخة الزاوية الحمزاوية (¬1): تتكون مخطوطة الزاوية الحمزاوية من نسخة كانت في الأصل رباعية سَلِم طرفاها: السِّفْر الأول، والسِّفْر الرابع وهو الأخير؛ وهما معًا بخطِّ واضح أندلسي من خطوط القرن السادس، يرجع إلى سنة: 579 هـ, وهو المنصوص عليه ذلك في نهاية الجزء الرابع صفحة 327، وبقي مقروءًا منه: " ... في شهر شعبان من عام تسعة وتسعين وخمس مائة، وبهذا كمُل الديوان". وهي نسخةٌ نفيسةٌ كُتِبت بعد وفاة المؤلِّف بعهدٍ قريبٍ، أي في العهد الَّذي يحتمل أن يكون أبناؤه وتلاميذه وحملة تراثه ما زالوا على قيد الحياة في المغرب والأندلس، ويظهر أنَّ هذه النُّسخة كانت في القرن الثامن بغرناطة كما تشهد بذلك طُرَّة على آخر صفحة (301)، من السِّفْر الأوَل، يُقْرَأ منها بخطٍّ مُغايرٍ لخطِّ النُّسخة كُتبَ متداخلًا، وبعضه يُقْرَأ من أسفل إلى أعلى: "أكملتُ هذا السِّفر مطالعةَ بغرناطة ... من ... المعظم من عام ثمانية ... بعد سبع مائة". ¬
وفي أوّل هذا السّفر تملّك هذا نصُّه: "لأحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد القرشي -وفقه الله- اقتناه بمدينة وجدة -حرسها الله- بالشراء الصحيح، ثم صار لابنه" وفي الزاوية اليسرى مكتوب مُنَكَّسًا: "تملَّكَه الطا ... سنة: ... ". وعلى الصفحة نفسها ترجمة للمؤلِّف يحسن إيرادها، بيانًا لنباهة المتَمَلِّكِين الّذين يقْدُرون المؤلِّف ويحرصون على التعريف به أوَّل النُّسخة تنويها بإمامته، ونثبتها على ما قد شابها من تآكلّ في الأطراف جار على بعض الألفاظ, ولعلَّه من أثر عدم التحري عند التصوير، وفي النية بحول الله الرحلة إلى الربوع الأطلسية للوقوف على النُّسخة لجَبْر واستكمال الفوات، وهذا نصُّها: "المؤلّف - رضي الله عنه -: هو محمّد بن عبد الله بن محمّد بن أحمد المعافري من أهل إشبيلية، يُكنى [أبا بكر] ويعرف بابن العربيّ. مولده سنة: خمس وستين وأربع مائة، وتأدب بإشبيلية، ورحل عند انقراض دولة بني عباد سنة: خمسة وثمانين وأربع مائة من نحو سبعة عشر [عاما] ولقي أشياخا أعلاما أخذ عنهم كأبي حامد الغزالي، وأبي بكر الشاشي، وأبي بكر [الطّرطوشي] ودخل بغداد مرتين، وأقام في الإسكندرية عند الطّرطوشي، وبها توفي أبوه رحمه الله. ثم [عاد إلى] الأندلس سنة: خمس وتسعين، فسكن بلده، وشُووِرَ فيه، وسمَّع ودرَّس الفقه و [الأصول- أو الأصلين] وجلس للوعظ والتّفسير، ورُحل إليه. وهو فصيحٌ حافظٌ ذاكرٌ، عظيم القَدْرِ، عالم ... من تواليفه: "أحكام القرآن" وهو من كتبه الحسان.
وهذا التأليف "المسالك" و ... و"العارضة". و"سراج المريدين": وهو كتابٌ جليلٌ مُفيدٌ في معناه، نحا فيه منحى التصوُّف. و"الإنصاف في مسائل الخلاف". و"تلخيص التلخيص". وتُوُفِّيَ على مقربة من مدينة فاس، في شهر ربيع الأوُّل، وقيل: في الآخر من سنة: ثلاث ... وقيل: مولده لثمان بقين من شعبان سنة: ثمان وستِّين وأربع مئة. ويبدو أن مالك النُّسخة كان من العلماء، فلخّص هذه التّرجمة الَّتي تقتربُ في صياغتها وترتيب معلوماتها من صيغة ترجمة ابن الزُّبير في "صلته"، كما يتجلى ذلك من المقارنة بينهما من خلال ما احتفقالنا، البُنَّاهي مثلا في "قضاته": 106 (ط. بروفنسال) من نقول عن ابن الزبير. بقيت الإشارة إلى أن المرحوم بكرم الله تعالى أستاذنا العلّامة محمّد المنوني؛ قد تناول هذه النُّسخة بالذِّكر الموجَزِ في مقالة له بعنوان: "مكتبة الزّاوية الحمزاوية صفحة من تاريخه"، نشره في مجلة "تطوان" صفحة: 116، تحت رقم: 24 (¬1) وهو بالنُّصّ: ¬
"كتاب "ترتيب المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك"، لأبي بكر محمّد ابن عبد الله ابن العربيّ المعافري، الأندلسي، الإشبيلي، المتوفَّى سنة: 546 هـ 1151م. مجلّدان: الأوّل والرّابع الَّذي يبتدئ من كتاب "الشُفْعة"، وهما معا مكتوبان بخطِّ أندلسيِّ عام: 579 هـ". ولنا ملاحظات على ذلك: الملاحظة الأولى: خُلُوُّ التّعريف من معالم التّعريف العلميّ، فلا تنصيص على عَدَد الصّفحات، ولا على بدايات كلّ مجلَّد على حِدَة، ولا على المعلومات الضرورية في مقاس الكتاب وعدد الأسطر وغير ذلك، مما يدل على أنَّه لم يحظ عنده بالتّأمُّل اللاّزم، ولا شكٌّ أنّ وراء ذلك ضيق الوقت، وعدم توفُّر العوامل المساعدة على التّحقيق والتّدقيق. الملاحظةُ الثانية: تحديد وفاته سنة: 546 هـ هو إثباتٌ للمرجوح وإعراضٌ عن الرّاجح المشهور. الملاحظة الثالثة: أنّه سمَّى الكتاب: "ترتيب المسالك"، ولم يُعِر اهتماما لما جاء في أوُّل السِّفْر الأوَّل صفحة: 3، ونهايته في صفحة: 301 من أنَّه كتاب "المسالك في شرح موطّأ مالك"، ولعلَّ الشّيخ كان متأثرًا بما وقَر في ذِهْنِه عند بعض مُتْرجِمِي أبي بكر بن العربيّ أنَّ له كتاب "ترتيب المسالك"، فتابع ما عندهم مقلِّدًا إياهم، وليس الأحوط والأوْلى، إذ إعمال ما جاء على هذه الذخيرة أولى من إهماله؛ إلَّا إذا كان يقصد من طرف خفيِّ إلقاء ظلال من الشَّكِّ على العنوان المثبت على النُّسخة، وتقديم بديل عنه، وهو ما عرضنا له بالمناقشة في أثناء تحقيق عنوان الكتاب (¬1). ¬
تتكون نسخة الزاوية الحمزاوية من سِفْرَيْن كما سبقَ الإيماء إلى ذلك، أوّلهما يبتدئ بالمقدِّمة إلى ما قبل جامع الصلاة. وقد أثبت النّاسخ في نهاية الجزء الفقرة التالية: "كمل السِّفْر الأوَّل والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمّد الخاتم وعلى آله وسلم تسليما، وذلك من كتاب "المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك" رضي الله عنه وغفر له ورحمه، ويتلوه في الثاني: جامع الصلاة، مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن إبي قتادة الأنصاري؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل إمامة بنت زينب بنت رسول الله ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها". ومعنى ذلك: أن هذا الجزء قد تضمن من الكتب: وقوت الصلاة، والطهارة، والصلاة، والسهو، والجمعة، والصلاة في رمضان، وصلاة الليل وصلاة الجماعة، وقصر الصلاة في السِّفْر، وشارف كتاب العيدين. أمّا السِّفر الرّابع فعذرنا في الإشارة إليه والتعامل معه، أنَّه كان لنا مضيئا لا يتصلّ بالنُّسخة على العموم، حيث استطعنا أن نصل إلى بعض الإفادات: أوّلها: التّقسيم الرُّباعي المستفاد من نهاية النُّسخة. ثانبا: أنَّ السِّفْرين معًا بخطِّ واحدٍ. ثالثا: تأكيد أنَّ اسم الكتاب "المسالك" اعتمادًا على الصّفحة الأولى من السِّفْر الرّابع الَّتي جاء فيها: "الرّابع من المسالك لابن العربيّ رضي الله عنه".
نسخة الفكون
رابعا: تاريخ نسخ الكتاب المثبث على الصّفحة الأخيرة من السِّفْر الرّابع وهو: سنة: 579 هـ. خامسا: خصائص الخطّ، والّذي هو واحد في السِّفْرَيْن من كونه أندلسبا فيه الضَّبط بالقلم لبعض الكلمات المشكلة، وفيه علامات المقابلة والإهمال وغير ذلك. وقد رمزنا للسِّفْر الأوّل من هذه النُّسخة بحرف: "غ"، وابتداء من السِّفْر الرابع والّذي بدايته كتاب الشُّفْعَة، رمزنا للنُّسخة بحرف: "م". نسخة الفكّون (¬1): بدايتها: جامع الصلاة وينتهي آخرها في أثناء كتاب الحجّ، وتتكون من 129 لوحة، بخط أندلسي مليح، كتبها محمَّد بن عبد الله ابن محمّد الصولاتي [كذا] في القرن السابع (670 هـ). وهي مِلْك الحاج نجيب الدَّمْنَاتي [كاتب العدل بمحكمة دَمْنَات بمرّاكش] وقد آلت إليه من تَرِكَة القائد عمر الكلاوي، وكان قد اشترى قصره بمحتوياته، ¬
ومنها: خزانة كتب نادرة، ظلَّ الحاج نجيب يُزوِّد بها جائزة الحسن الثاني للمخطوطات، من ذلك هذه النُّسخة الَّتي عرضت سنة: 1971 م، و"شرح غريب الموَطَّأ" لابن حبيب الَّذي استقرَّ أخيرا بمكتبة الحرم المكِّي الشَّريف. والكتاب قبل أن يستقر في خزانة القائد الكلاوي كان من محتويات المكتبة الفكونية (¬1) الّتي سارت بذكرها الركبان، واحتوت ذخَائر وأعلاقا ذهبت شذر مذر، وانتهبتها يد الاستذمار الفرنسي عند دخوله الجزائر غازيا. وعلى الصفحة الأولى منها: "الثاني من المسالك شرح مُوَطَّأ مالك، تأليف الإمام أبي بكر ابن العربيّ - رضي الله عنه -"، وذلك بخط أندلسي مغلظ، وأسفل منه بقلم دقيق: "في نوبة الفقير لربِّه: محمّد بن عبد الكريم الفكّون غفر الله له". وفي اللوحة 128/ ب، تلقانا عبارة: "كمل السِّفْر الثاني من كتاب المسالك في شرح مُوَطَّأ أبي عبد الله مالك". وفي اللوحة 129/ أ، ما يتمم ذلك وهو: "تأليف الإمام أبي بكر ابن العربيّ - رضي الله عنه -، والحمد لله رب العالمين، يتلوه في الثالث: وكان الفراغ منه خامس ذي الحجة عام 690هـ, على يد الفقير إلى ربِّه: محمّد بن عبد الله بن محمّد (الصولاتي) [كذا] أمات الله كاتبه مُحِبًّا ... لأصحاب النَّبي مع النَّبيّ ¬
نسخة القاهرة
وأسكنه بذلك دار عدن ... جوار الله ذي العرش العليِّ" وهي نُسخَة بخطِّ أندلسيِّ مَلِيحٍ، غير مشكول، وقع تمييز العناوين فيه والفصول والفروع والفوائد والأقوال بتغليظها، والتزم فيها الناسخ بالإشارة إلى ترابط شطري الورقة بالتعقيبة المعروفة بالرَّقاص. كما وقعت الإشارة في النُّسخة إلى بعض الحروف المهملة، بإثبات علامات الإهمال، ولكن ذلك غير مُطَّرد. وقد رمزنا لهذه النُّسخة ب "غ"، إشارة إلى أنَّها من المغرب، وابتداء من كتاب الجهاد رمزنا لها بحرف (م) إشارة إلى أنها من المغرب. نسخة القاهرة: وهي من محفوظات دار الكتب المصرية بالقاهرة، حديث طلعت 793، وتشتمل على 130 لوحة, تنتهي عند الكلام على آخر حديث من كتاب قصر الصلاة في السَّفَر، باب العمل في جامع الصلاة، حدثنا ابن شهاب، عن ابن المسيب؛ أنه قال: "ما صلاة يُجلس في كلّ ركعة منها ... "، ويليه في الجزء الثاني "باب جامع الصلاة". قال النّاسخ: "كمل السِّفْر الأوَّل من كتاب المسالك في شرح الموَطَّأ للإمام أبي عبد الله مالك على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمّد بن عبد الله بن محمّد الصولاتي، في خامس عشر محرم سنة: واحد وتسعين وستّ مئة". وواضح أن هذه النُّسخة تُشكِّل الجزء الأوّل، وتمامُها هو الَّذي يملكه الحاج نجيب الدّمناتي؛ لأنّهما معًا متكاملتان، تَقَاربَ تاريخ نسخهما إحداهما في ذي الحجة عام 690هـ, والثّانية: في 15 محرم 694 هـ.
نسخة القرويين
أي استغرق نسخ أحد السِّفْرين شهرًا على يد ناسخ واحدٍ، وهو محمّد بن عبد الله بن محمّد الصولاتي، ويشاء الله أن يتفرَّق السِّفْران؛ أحدهما ظلَّ بالغرب بعد أن طاف في أماكن نعرف منها قسنطينة عند آل الفكّون، والآخر نجهل مساره إلى أن استقرَّ عند طلعت بالقاهرة. وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما ... يظنان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا وقد رمزنا لهذه النُّسخة بـ "في" إشارة إلى أنّها من القاهرة. نسخة القرويين (¬1): أما وصف النُّسخة؛ فقد أغنانا عن ذلك الأستاذ العابد الفاسي في "فهرس مخطوطات خزانة القرويين": 1/ 188 (رقم: 180)، الَّذي جاء فيه ما يلي: "السِّفْر الثاني منه بخط مغوبا صحيح، عار عن وثيقة التحبيس، أوَّله كتاب الجهاد وأحكامه، وآخره أسماء النَّبيّ -عليه السلام-. وبآخر هذا السِّفْر ما صورته: "تم الكتاب بحمد الله وعونه، على يد عمر بن يوسف الفناني، في يوم الأربعاء لاثني عشر خلون من شهر ذي القعدة سنة: أحد عشر وسبع مئة، فرحم الله كاتبه وقارئه وكاتبه، ومن دعا بالغفرة والرحمة، آمين رب العالمين". وعقب هذا ورقتان في مناقب بعض (ح) أوَّله مناقب أبي ذر، وآخره مناقب سعد بن معاذ، مخروم من آخره، ويظهر أنَّه من صنيع أبي بكر المذكور، والكلٌ بخطٍّ مغربي، أوراقه: 122، مسطرته: 42، مقياسه: 32/ 23. ¬
وما لم يتعرّض له الأستاذ العابد هو ما يتعلّق ببعض خصائص النُّسخة من الإسقاط والإلحاقات والمقابَلَة؛ ولم نجد عبارة صريحة في آخر النُّسخة تدل أنَّ على النُّسخة مقابلة على الأصل المنتسخ منه، ولكن يقوم مقام العبارة الدالة على المقابلة وجود دارات بين فقرات النُّسخة، وفي "خلها نقطة إشارة المقابلة كما هو متعارف على ذلك عند علماء الضبط. ولا نجازف إذا قلنا بأن الأصل الَّذي تفرعت منه هذه النُّسخة له صلة ما بنسخة كتبت في عهد المؤلِّف - رحمه الله -؛ لأننا لم نجد الترحم المعتاد في مثل هذه الحالة، بل على العكس فإنّ عبارة "وَفَّقَهُ الله تعالى وسدَّده" الَّتي وردت في أصل السِّفر لا يمكن أنّ تكون دعاء يتّجه إلى الميِّت؛ بل الأرجح أنّ تكون دعاء للحَيِّ، وفي ذلك ما يدلُّ على أنّ الأصل أو أصل الأصل احتياطًا يرجعُ إلى عهد المؤلِّف الَّذي وقع الدُّعاء له بالتّوفيق والتّسديد. وأورد الناسخ مناقب أبي ذر ومعاذ وأبي هريرة وعمرو بن العاص والبراء بن عازب وبلال وسعيد بن معاذ. وقد سبق إلى المخاطر أنَّ ذلك قطعة من العارضة، وبالرجوع إلى مطبوعة العارضة تبيَّن أنَّ ما جاء في الوقتين أوسع وأطول وغير متطابق مع ما في العارضة، وقام احتمال أنّ تكون مطبوعة العارضة من أصل غير تام، ولكن ذلك غير مُتَّجه؛ لأنَّ سياق المناقب في العارضة هو غيره في الورقتين، إضافة إلى أنَّ المؤلِّف يتكلّم عن أبي عيسى الترمذي في سياق لا يدُّل على أنَّه يتناول أحاديث مؤلِّفه بالشرح. أمّا نسبة ما في الوَرَقَتَيْن إلى أبي بكر ابن العربيّ فهي نسبة صحيحةٌ، تفطَّن إلى ذلك المرحوم بكرم الله تعالى الأستاذ العلَّامة العابد الفاسي في "فهرست
نسخة محمد المنوني
مخطوطات خزانة القرويين ": 1/ 88. ونصُّ عبارته: "ويظهرُ أنه من صنيع أبي بكر، ولعلَّه كان مترددًا في ذلك كما يشهد بذلك قوله: "يظهر"، ونحن لم يظهر لنا ذلك، وإنما تأكد لنا؛ لأن فقرات في الورقتين بعينها قد وردت في العارضة مثل: كلامه في مناقب أبي ذر، وهو في العارضة: 13/ 209 - 210. وكلامه في مناقب أبي هريرة، هو في العارضة: 13/ 225 - 226. - إحالته على كتاب المشكلين [مشكل القرآن والسنة:]. - ونقله في مناسبتين عن شيخه الفهري، ويقصد به الطرطوشي نزيل الإسكندرية، وطريقة عرضه للقضايا وترتيب للمسائل، هي نفسها كما في مختلف كتبه، وهو منحى قد ألِفناه واستأنسنا به، بحيث لا يكاد يخفى علينا كلامه. واحتمال أنّ تكون الورقتان نقلا من كتاب "سراج المريدين" احتمال قوى، ولولا الاحتياط لجزمنا، وتحدث نفس أحدنا أنَّ ما ورد في الصفتن سبق أنّ قرأناه في "سراج المريدين"، وحال بيننا وبين المقابلة بُعد أصولنا عنّا. وقد رمزنا لهذه النُّسخة ب "ف" إشارة إلى كونها من فاس. استدراك: نسخة محمَّد المنوني: كان شيخنا محمَّد المنوني -رحمة الله عليه- يمتلك جزءا من كتاب "المسالك في شرح مُوَطَّأ مالك" يبدأ بكتاب الزكاة، وينتهي في أواخر كتاب الصيام، وباَخره نقص يسير، كُتِبَ على وَرَقٍ مشرِقِىٍّ، بخطٍّ أندلسيٍّ، يعودُ إلى
نسخة علال الفاسي
أوائل القرن التاسع الهجري تقديرًا. ومن أسف لم نستطع تصوير هذه النُّسخة في أثناء حياة الشيخ، وبعد وفاته رحمه الله، بيعَت مكتبتُه للقصر الملكي بالرباط، وتسرَّبت بعض المخطوطات والكتب النّادرة خارج الغرب، ولا ندري إن كانت هذه النُّسخة لازالت داخل المغرب أم هاجرت أسوة بمثيلاتها إلى خزائن العالم الَّذي يبذل بسخاء لا نظير له للحصول نفائس إرثنا الإِسلامي. نسخة علال الفاسي: بعد انتهائنا من قراءة وضبط نَصِّ "المسالك" قمنا بزيارة خزانة مؤسسة الزعيم المغربي علال الفاسي، فأطْلَعَنا -مشكورا- الأستاذ عبد الرحمن الحريشي -رحمة الله عليه- على مجلَّد يتضمّن السِّفْر الأوّل والثاني من "كتاب المسالك" والمخطوط نسخة عتيقة كتبت بخط أندلسي، من خطوط القرن السابع الهجري ظنا وتخمينا، وقع بترٌ بأوّل وآخِر كلّ سِفْرٍ منهما، وفي ثناياهما أيضًا، ووقع جبرها باستكمال البتر بخط مغربي حديث، وهو ظاهر في الصفحات العشر الأولى. ولم نعتمد هذه النُّسخة في القراءة والضبط لوقوفنا عليها بأخَرَة. نسخة محمَّد الطاهر بن عاشور: لم نقف عليها، والراجح أنها الآن من محفوظات المكتبة العاشورية بتونس، وقد اعتمدها الشيخ ابن عاشور في "كَشْف الْمُغَطَّى" (¬1) وذكر أنها جزء هو ربع ثالث من شرح أبي بكر بن العربيّ المسمى "ترتيب المسالك". ¬
الخطوات المتبعة في قراءة النص وضبطه
الخطوات المتَّبَعَة في قراءة النَّصِّ وضَبْطِه وقد اتّبعنا الطريقة التالية: بدأنا بقراءة الأصل ونسْخِه في صبرٍ وأناةٍ، وقد استغرق ذلك سنين عددًا، نظرًا لعدم توفّر نُسْخة مصحّحة محرَّرة، وقد راعينا في عملية النَّسْخِ ما يلي: - التزمنا في نسْخِ المخطوط بالرَّسم الإملائي المعاصر، فاجتهدنا في جُلّ الواضع رسم همزة الابتداء؛ لإنّ عدم رسمها يؤدِّي إلى تغيير المعنى، مثل: أعذار وإعذار، وأعلام وإعلام، وأنّ وإنّ، كما وضعنا نقطتي الياء لئلّا تلتبس بالألف المقصورة مثل: أبي وأبى، والهَدْي والهُدَى، كما حوصنا على وضع علامة التّشديد في موضعها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. - أوْلَينا اهتمامنا وعنايتنا بعلامات التّرقيم وتقسيم الفقرات، حتّى يتمكّن القارئ من فهم مراد المؤلِّف بيسر وسهولة. - أثبتنا ما نعتقد أنّه صواب في المتن، بعد عملية اختيار وانتقاء مقارن، مصاحب لتأمُّل بصيرٍ دونَ كَلَلٍ أو مَلَلٍ، ثمّ أشرنا في الهامش إلى ما رأيناه مرجوحًا أو مخالفًا للصّواب. وقد اقتضى منّا هذا تخصيص هامشين: الهامش الأوّل بالأرقام الهندية، وقد اقتصرنا فيه على ذِكْرِ الفروق بين النُّسَخ، وأخلصنا الهامش الثّاني المرقَّم
بالأرقام العربية لمختلف التّعليقات على المتن. ولم نلتزم هذا المنهج في كلّ أجزاء الكتاب، بسبب ظروف الطِّباعة. كما أنّ العمل بصفة عامة لم يجر على وتيرة واحدة، بسبب انعدام المشاركة التامة في كل المواضع، ولكن حاولنا توحيد العمل، ودمج ما اتّفقنا عليه، مما أوجد -ولله الحمد- نوعا من الانسجام في القراءة والضبط والتعليق. - وأوْلَينا اهتمامنا أيضًا بالفروق الَّتي لها أثرٌ في قراءة النّصِّ، حيث يترتّب على إختلاف رسم الكلمة فيها تغيير المعنى, وأهملنا مُتعمِّدين -في الغالب الأعمّ- ما كان واضحًا بَيِّنَا أنّه من سَهْوِ النُّسَّاخ أو جَهْلِهم، وكذلك لم نشأ أنّ نُثْقِل الحواشي بإثبات الفروق الطّفيفة، كحروف العطف، ومجيء الفاء مكان الواو أو العكس، أو سقوط نفطة من الذال أو التاء أو الياء. - وجدنا في مواضع ليست بالقليلة أنّ سياق الكلام يحتاج إلى إضافة حرف أو كلّمة يظهر أنها ساقطة من المتن، ولم نجد في النّسخ ما يُرشِد إلى إكمال ذلك النّقص، فاستجزنا للضّرورة إدراج الإضافة في الصُّلب، مع التّنبيه على ذلك في الهامش، إلَّا أنّنا حاولنا قَدْرَ الإمكان إلَّا نتسرع في إكمال السَّقط باجتهاد منِّا، بحيث نضع ألفاظًا وعبارات ونقحمها في الصّلب على غير أساس علميّ، بل راعَيْنا أنّ نكمِّل النّقص في حالة واحدة، وذلك عندما يكون المؤلِّف قد ذكر هذا النّصّ في كُتُبه الأخرى كالقبس أو العارضة أو الأحكام، أو يكون قد نقل نصًا عن الباجي أوابن عبد البر أوابن رشد أو المازَرِيّ وغيرهم، ففي هذه الحالة استجزنا الاستعانة بتلك المصادر لسَدِّ النقص الموجود بالنُّسَخِ؛ لأننا نعتقد أنّه لا يجوز بحال من الأحوال التصرُّف في من النُّسخة بالزيادة أو النُّقصان.
- اعتنينا بضبط آيات القرآن الكريم على ضوء ما جاء في الصحف المتداوَل ضبطًا تامًّا، وأهملنا الإشارة إلى الأخطاء الواردة في رسم بعض الآيات وكتابتها، وذلك بعد التّثبُّت إنّ ما حَدَثَ هو خطأ مقطوعٌ به، ولا وجْهَ له لا قراءةٍ من القراءات القرآنية، وكنّا لا نتسرّع لا التّخطئة بمجرد النّظَر في الصحف الشريف الَّذي بين أيدينا [رواية حفص أو ورش] لاحتمال أنّ يكون المؤلِّف قصد من إيراد الآية على إحدى القراءات، فيكون التصرّف فيها مجانبا للصّواب. وكنّا نوَدُّ لو استطعنا إثبات نصّ رواية ورش، ولكن من أسَفٍ لم نستطع الحصول على برنامج هذه الرِّواية المعتمدة في الغرب الإِسلامي. وكذلك اجتهدنا في ضبط أغلب الأحاديث النَّبويّة الشريفة بالشّكل ضبطًا تامًا، على ضوء ما جاء لا مصادر الحديث النّبوي، كما لم نُغفِل ضبط بعض الكلمات الَّتي تدعو الحاجة إلى ضبطها، أمْنًا من اللّبس، وحفاظا على أداء المعنى، وراعَيْنا في ذلك اختيار الوجه المشهور في الضّبط بالشَّكل عند علماء النّحو واللُّغة، كما تجنّبنا ضبط الكلّمات التي تحتمل مختلف الأوجه، وقد نضبطها أحيانا بإثبات أكثر من وجه، إذ لا شَكَّ عندنا أنّ الضّبط بالشَّكْلِ هو سبيل لإدراك المعاني والتمييز بين الدّلالات المتعدّدة للكلمة الواحدة الَّتي يتنوعّ معناها باختلاف حركاتها, ولذلك جاء اجتهادنا في شكل الأحاديث النبويّة والأشعار تشكيلاً يُزيلُ عنها الإبهام والوهم، وكذلك الأمر في تشكيل بعض الألفاظ الَّتي يلتبس معناها إذا أهمِلَ شكلها، كالمبنيّ للمجهول، والكلّمات الَّتي فيها تصغير أو تشديد، وقد حاولنا -قَدْرَ الاستطاعة- الدِّقَّة والحرص، مع التّريُّث والتّحرُّز من الانسياق إلى المسموع المألوف، وذلك بالرّجوع إلى المعاجم اللَّغوية.
- استعنّا في تقويم النَّصِّ وتحريره بالمصادر الَّتي نقل منها المؤلِّف أو استفاد منها، إلا أننا كنا حَذِرين شديد الحَذر؛ لأنّه يحتمل أنّ يكون المؤلِّف قد تصرَّفَ في المادة المنقولة زيادة ونقصًا، تغييرًا وتبديلًا، وقد كان الأمر سهلًا ميسورًا في النّصوص الَّتي عزاها المؤلِّف إلى أصحابها, ولكن جلّ الأقوال والاقتباسات أوردها المؤلِّف دون عَزْوِها إلى قائلها، وإنّما أوردها مُصَدَّرَة ببعض العبارات المبهمة نحو: وقيل، وقال بعض العلماء، وقال علماؤنا، وربّما أهمل هذا أيضًا، ممّا استَوْجَب مِنّا جُهدَا مضاعَفًا في الكشف عن النّقول، وقد ألهمنا الله الصّواب في الكشف عن كثير من النّقول، فوثّقناها بفضل الله تعالى ومَنِّه وكَرَمه، واجتهدنا في إثبات جُلّ الفروق في الهامش، باعتبار أنّ تلك المصادر نُسَخٌ أخرى من المخطوط، مع العلم أنّ المؤلِّف -رحمة الله عليه- يُورِد أحيانًا بعض النّصوص من حِفْظِه دون الرُّجوع إلى الأصل، أو يحتمل أنّ يكون قد غّيَّرَ عمدًا بعض الألفاظ وتصرُّفَ فيها، وفي هذه الحالة كنا نعلِّق في الحاشية على ما ظهر لنا من المقارنة بالأصل المنقول منه. - ربطنا الكتاب ب "الموطَّأ" طبعة الأستاذ بشار عواد معروف، وذلك بالإشارة إلى كلّ حديث مشروح في الهامش. - قارنا قَدْرَ المستطاع بين "كتاب المسالك" ومؤلِّفات ابن العربيّ الأخرى، وقد دعانا إلى ذلك سببٌ منهجيٌّ عامٌّ، من حيث إن فكر كلّ عالِمٍ يُمثِّلُ وَحْدَة واحدة؛ فالإشارة وربط الأفكار بعضها ببعض يساعدُ على فهم مراد المؤلِّف، ويزيدنا طمأنينة إلى صحّة النَّصِّ ووثاقته.
- حاولنا أنّ نكون مقتَصِدِين أشدَّ الاقتصاد في التّعليق على النّصّ؛ لأنّنا مؤمنون بأنّ الاستكثار في هذا الجانب سيكون على حساب تحرير النَّصِّ وتحريره من التّصحيفات والتّحريفات؛ ولأنّ الهدف من القراءة والضَّبْط هو محاولة إخراج النُّصِّ بصورة صادقة كما وَضَعَه مؤلِّفه كَمًّا وكيفًا، بقَدْرِ الإمكان، فالغاية القُصوى من قراءتنا هي تحرير النَّصِّ، ومحاولة فهمه فهما صحيحًا، ومع ذلك فلقد سمحنا لأنفسنا بالتّعليق على بعض المواضع ممّا رأينا أنَّه يخدم النّصُّ ويقرِّبُه من الباحثين. - خَرَّجنا أحاديث أغلب "مُوَطَّأ يحيى" وذلك بتَتَبُّع من رواه عن مالك من تلامذته، سواء كانوا من أصحاب الموطّآت، أم من الرُّواة الَّذين رووا عنه خارج "الموطَّأ". - عَزَوْنَا الآيات القرآنية، وخرّجنا جلّ الأحاديث النّبويّة الشريفة والآثار, بصورة نرجو أنّ يكون التّوفيق قد حالَفَنا في جُلِّها. - ترجمنا لبعض الأعلام الّذين وَرَدَ ذِكْرُهُم في النّصِّ ترجمة موجَزَة، وكرهنا التّعريف بكل الأعلام لقلّة الجدوى. - كما عرُّفنا بالغمور والمبهَم من الواضِع والبلدان، بالقَدْرِ الُّذي يخدم النَّصِّ ويوضِّحه وييسِّر الانتفاع به، وتغاضَينا مُتَعمِّدين التّعريف بالمشهور. - شرحنا بعض الألفاظ الغريبة. - خَرُّجْنا -بقَدْرِ الاستطاعة- الأشعار والأرجاز بالرّجوع إلى الدّواوين ومجاميع الشِّعْر وكُتُب الأدب.
- ذيَّلْنا كل جزء بفهرست إجمالي للموضوعات، وأخلصنا الجزء الثامن للفهارس الفنية المختلفة، الَّتي تُيسِّر على الباحث الوصول إلى المعلومات والمعارف المتضمّنة في الكتاب في يُسْرٍ لا يشوبهُ عُسر. وأخيرا، فلقد توخَّينا لهذا الكتاب كلّ أسباب النُّجح، وتَلَّمسناها من مظَانِّها، ومع ذلك فهناك جملة من العبارات الَّتي لم تستقم لنا، فلم نوفَّق إلى إقامتها، فنرجو ألَّا نكون قد أسأنا وأفسدنا من حيث أردنا "الإحسان والإصلاح. فالباحث مهما بذل من جهد، وتَكَبَّد من عَناءٍ، فلن يكون بمَنْجَاةٍ من الزَّلَل والقُصور، وبمأمَنِ من الكَبْوَة والعِثَار. نسأل الله سبحانه أنّ يكتب لنا السداد في أعمالنا كلّها، وأن يمدَّنا بالتّمكن والنشاط في هذا الجهاد الشريف، من أجل إحياء إرثنا المخطوط، ومنه وحده نرجو الرِّضا ونلتمسُ المثوبة. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وكتب ذلك بمكة المكرمة: عائشة السليمانية ومحمد السُّليماني أولاد الشّيخ الحسين السُّليمانيّ الحمُّوديّ الإدريسي الحسَنِيّ في اللَّيلة الَّتي يُسْفِرُ صباحُها عن يوم الثّلاثاء 24 من شهر رمضان المبارك عام 1427 من هجرته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بمنزلهم بحي الروضة
نماذج مختارة من النسخ المعتمدة في القراءة والضبط
نماذج مختارة من النُّسَخ المُعْتَمَدة في القراءة والضَّبْط
نماذج مختارة من نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر (ج)
نماذج مختارة من نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر (ج)
الصفحة الأولى من نسخة الجزائر (ج)
بداية نسخة الجزائر (ج)
نهاية السفر الثاني من نسخة الجزائر (ج)
الصفحة الأخيرة من نسخة الجزائر (ج)
نماذج مختارة من نسخة الزاوية الحمزاوية بالراشدية بالمغرب الأقصى
نماذج مختارة من نسخة الزاوية الحمزاوية بالراشدية بالمغرب الأقصى السفر الأوَّل (غ) السفر الرابع (م)
صفحة عنوان السفر الأوَّل من نسخة الزاوية الحمزاوية (غ)
بداية السفر الأوَّل من نسخة الزاوية الحمزاوية (غ)
نهاية السفر الأوَّل من نسخة الزاوية الحمزاوية (غ)
صفحة عنوان السفر الرابع من نسخة الزاوية الحمزاوية (غ)
بداية السفر الرابع من نسخة الزاوية الحمزاوية (م)
آخر صفحة من السفر الرابع من نسخة الزاوية الحمزاوية (م)
نماذج مختارة من نسخة محمد بن عبد الكريم الفكون المغربية ملك الحاج نجيب الدمناتي (غ) (م)
نماذج مختارة من نسخة محمَّد بن عبد الكريم الفكون المغربية ملك الحاج نجيب الدمناتي (غ) (م)
صفحة عنوان نسخة الفكون وهو السفر الثاني
بداية السفر الثاني من نسخة الفكون
نهاية السفر الثاني من نسخة الفكون
آخر لوحة من نسخة الفكون
نماذج مختارة من نسخة من خزانة القرويين بفاس (ف)
نماذج مختارة من نسخة من خزانة القرويين بفاس (ف)
بداية نسخة القرويين (ف)
نهاية نسخة القرويين (ف)
نموذج من نسخة علال الفاسي بالرباط
نموذج من نسخة علال الفاسي بالرباط
بداية نسخة علال الفاسي
نموذج من نسخة علال الفاسي
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالِك لأبي بكر محمَّد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمَّد وآله وسلَّم تسليمًا قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربيّ - رضي الله عنه -: الحمدُ للهِ الَّذي أكرمَنَا بأفضَلِ المِلَلِ، وَشَرفَنَا بأكْرم النِّحَل، ونَبَّهَنَا على قواعد الأحكام، وبَيَّنَ لنا الحلال من الحرام، وهدانا إلى الصّواب، وعلَّمَنا الكتاب، حتّى عرفنا بتوفيقه مثار الآراء ومنشأ الاختلاف، ومآخذ العِلَل ومواقع الزَّلَل، وأقدرنا إلى الحقِّ المنزل من السَّماء. وإنّ آراء المجتهِدينَ في أحكام الدِّين ليست على سوانح النّصائح وفواتح المناهج، وإنَّ ما لا يوافقُ الشّرعَ المنقول، مطروحٌ وإنْ قبلته ظواهر العقول. ثمّ إنّ أحكام الله تعالى في الوقائع تفوت الحدّ وتتجاوز المَرَاد، مع استنباط المُرَاد الَّذي هو الأساس ومنه الاقتباس، وذلك في إبدل البدائع، فَسُبْحان منْ بعثَ في الأميِّينَ رسولًا منهم بشريعة، يحارُ (7) فيها فحصُ الفاحصين وقصدُ القائسين. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} الآية، إلى قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬1)، وقال جلّ ثناؤُه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآية، إلى قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (¬2) ¬
اعلموا -أنارَ اللهُ قلوبَكُم للمعارف، ونبَّهَنا وإياكُم على الآثار والسُّننِ السّوالف- أنّه إنَّما حملني على جَمْع هذا المجموع بما فيه -إن شاء الله- كفاية وقُنوع أمور ثلاثة، وذلك أنّه ناظرتُ يومًا جماعة من أهل الظّاهر الحَزْميَّة، الْجَهَلَةِ بالعِلْم والعُلَماء، وقلَّة اللهم، على موطأ مالك بن أنس، فَكُلٌّ عَابَهُ وَهَزَأَ بِهِ. فقلت لهم: ما السّبب الَّذي عبتمُوهُ من أجله؟ فقالوا: أمورٌ كثيرةٌ: أحدها: أنّه خَلَطَ الحديثَ بالرَّأيِ. والثاني: أنّه أدخل أحاديثَ كثيرة صِحَاحًا وقال: ليس العمل على هذه الأحاديث. والثالث: أنّه لمْ يفرِّق فيه بين الْمُرْسَلِ من الموقوت، والمقطوع من البلاغ، وهذا من إمام -قد صَحَّتْ عندكم إمامَتُه في الفقه والحديث- نقيصةٌ، إذ قد أَسْنَدَ كلُّ مُصَنِّفٍ في كتابه أحاديثَهُ. فقلت لهم: اعلموا أنّ مالكًا - رحمه الله - إمامٌ من أيِمَّة المسلمين، وأنّ كتابه أجلّ الدّواوين، وهو أوَّلُ كتاب أُلِّفَ في الإسلام، لم يُؤَلَّف مثله لا قَبْلَهُ ولا بعدَهُ، إذْ قد بناه مالك - رحمه الله - على تمهيد الأصول للفروع، وَنَبَّهَ فيه على عِلْمٍ عظيمٍ من مُعْظَم أصول الفقه التي ترجع إليه مسائله وفروعه. وَأَنَا - إِنْ شاء الله- أنبِّهكمَ على ذلك عِيَانًا، وتُحيطونَ به يقينًا، عند التّنبيه عليه في موضعه إن شاء الله. وإن كان مَنْ سَلَفَ من الأيمّة المتقدِّمين من الفقهاء والمحدِّثين قد وضع فيه كُتُبًا كثيرةً، وإن كانت كافية شافية، وبالغَرَضِ الأقصى وافية، لكن لم يَسْلُكوا فيها هذا الغَرَض من أصول الفقه وعلوم الحديث، واستخراج النُّكَتِ البديعة والعلوم الرّفيعة. وأقدِّم في صدر هذا الكتاب مقدِّماتٍ ثلاثًا:
المقدِّمةُ الأولى: في التّنبيه على معرفة فضل مالك - رحمه الله - ومناقبه وسَلَفِهِ، وذكر موطَّئه وشرفه. المقدِّمةُ الثانية (*): في الردِّ على نفاة القياس من الظّاهريّة الحزميَّة، وإثبات ذلك من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله -عليه السلام- والإجماع. المقدِّمةُ الثّالثة: في معرفة الأخبار وقَبُولِ خبر الواحد العدْل، ومعرفة علوم الحديث، وتبيين الْمُرسَلِ من الْمُسنَد، والموقوف من المرفوع والبلاغ. والكلام في الرِّواية والإجازة والمناولة، والقول في حدّثنا وأخبرنا، هل هما واحدٌ أم لا؟ وإن كان الشّيخ الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ قد نَبَّهَ أيضًا على ذلك في "كتاب التّمهيد لما في الموطَّأ من الأسانيد" ولكنَّه كتابٌ صَعْبٌ على الطّالب اكتسابه، ويملّ القارئ قراءته، ولم يُشْبعْ فيه من فروع المسائل وقواعد النّوازل. وقد كان الإمام القاضي أبو الوليد الباجي قد أشبع أيضًا القول في هذا الفنّ، وَأَغفَل أيضًا كثيرًا من علوم الحديث الَّذي تضمنه "كتاب الموطَّأ". وأما غير هؤلاء من المؤلِّفين والشّارحين لكتاب "الموطَّأ" فلا يُلتفَتُ إليهم؛ لأنّها كتُبٌ ليست بمفيدةٍ للطّالب، مثل القَنَازِعِي (¬1) والْبُونيّ (¬2) وابن مُزَيْن (¬3) فلا يُعَوَّلُ عليها. وآخر كتابٍ قيّد فيه علوم جليلة وفوائد خطيرة، فه و"كتاب القبس لشرح موطَّأ مالك ابن أنس" رضي الله عنه. ¬
والكلامُ في شرح "الموطَّأ" إنما هو على كتاب يحيى بن يحيى اللّيثي، الَّذي دخل الأندلس وأدخله. قال الإمام- الحافظ رضي الله عنه -: أذكر في هذا المجموع- إنْ شاء الله تعالى- ما قّيَّدْتُه عن العلماء والمَشيخة العُلْيَا، من نوادر الغريب في اللّغة والفقه الخطير، بعد أنّ أَذْكُرَ فيه فضائل مالك ولُمَعًا من أخباره. أمّا يحيى بن يحيى الرّاوي عنه هذا الكتاب، فهو يحيى بن يحيى بن كثير اللَّيثيّ،- يُكنَى أبا محمَّد، وهو بَرْبَرِيّ الأصل من مصمودة من بني ليث، وكان خَيِّرًا وَقُورًا عاقلًا، آخذًا في هيئته بزيِّ مالك وسَمْتِهِ. سمع من مالك"الموطَّأ"، وسمع بمكَّةَ من سفيان بن عُيَيْنة، وسمع بمصر من اللّيث بن سعد، ومن عبد الرحمن بن القاسم. وقَدِمَ الأندلس بعِلْمٍ كثير، فَفَشَتِ الرِّواية على رأي مالك. ولم يُعْطَ أحدٌ في الأندلس من الْحُظوَة وعظيم الجاه ما أعطِيَهُ يحيى بن يحيى (¬1). وكان متغلِّبًا على الإمام عبد الرحمن بن الْحَكَم، حتى إنّ كان لا يقدَّم قاضيًا ولا كاتبًا ولا وزيرًا إلَّا بمشورته (¬2)، وكان يلبس ثوب الوَشْيِ الرَّفيع، قيمته المال الكثير، ويدخل به على الأمراء (¬3)، وكان غنيا. لكنّه عابَهُ أهل الأندلسَ بكثرة الوهم في كتابه، وكان الَّذي انْتُقِدَ عليه مواضع كثيرة نحو من ثلاثين موضعًا (¬4)، وكان يقول في روايته: إلا بأس أنّ يدخل يخفيه ويعليه" وهو تصحيفٌ ¬
المقدمة الأولى
والتصحيح بخُفَّيْهِ ونَعْلَيْهِ، فسئل يحيى عن تفسير ذلك، فقال: يسنده ويحسنه (2) وهذا خطأ وَوَهَمٌ. وكان يروي أيضًا فيما رأيتُه له في حديث عائشة (¬1) أنّها قالت: "تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَ حافتي وذافتي" والصواب: "بين حَاقِنَتِي وذاقِنَتِي (¬2) " (¬3). وتوفي سنة أربع وثلاثين ومئتين، في أيام عبد الرحمن بن الحَكَم. المقدِّمة الأولى وهي تنقسم على نوعين: النّوع الأوَّل: في التّرغيب في الحضِّ على قراءة "الموطَّأ"، وذكر لُمَعٍ من أخبار مالك بن أنس، وذكر فضائله، وشرف موطّئه، وذكر فضيلة طلب العِلْم. قال الله العظيم: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬4). وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬5). ¬
قال الشّافعيّ - رضي الله عنه -: العِلْمُ (¬1) يدورُ على ثلاثةٍ: مالكُ بنُ أنسٍ، وسفيانُ ابنُ عُيَيْنَةَ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ (¬2). وقال أحمدُ بنُ شُعَيْبِ النَّسائيّ: أُمناءُ الله على عِلْمِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -: شُعْبَةُ بنُ الحَجَّاجِ، ومالكُ بنُ أنس، ويحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ (¬3). قال (¬4): وما أحَدٌ عندي أجلَّ بعد التّابعين من مالك بن أنس، ولا أوثقَ ولا آمَنَ على الحديث منه، ثمّ بعدَهُ شعبةَ في الحديث، ثم بعده يحيى بن سعيدٍ القطّانِ، ليس بعد التَّابعين أوثقُ منهم على الحديث، ولا أقلُّ روايةً عن الضعفاء منهم. وكان الشّافعيُّ - رضي الله عنه - يقولُ: لولا مالكُ بنُ أنسٍ وسفيانُ بن عُيَيْنَةَ لذَهَبَ عِلْمُ الحِجَازِ (¬5). وقال الشّافعيُّ: كان مالكُ إذا شكَّ في الحديث طَرَحَهُ كُلَّه (¬6). وقال محمدُ بن عبدِ الْحَكَمِ: سمعتُ الشّافعيَّ يقولُ: إذا ذُكِرَ العلماءُ فمالكٌ النَّجْمُ (¬7). قال (¬8): والثُّوريُّ إمام، إلَّا أنّه يَرْوِي عن "الضُّعفاء" قال: وكذلك ابنُ المبارَك من أجَلِّ أَهْلِ زمانِهِ، إلَّا أنّه قَيَّدَ (¬9) عن الضُّعفاء. ¬
وقال عبدُ الرحمن بن مهديِّ: لا يكونُ إمامًا في العِلْم من يأخذُ بالشَّاذِّ من العِلْمِ، ولا يكونُ إمامًا في العِلْمِ من يروي كلّ ما يَسمَعُ. قال: والحفظُ: الإتقانُ (¬1). قال أبو عمر (¬2) - رضي الله عنه -: "ومعلومٌ أنّ مالكًا كان أشدَّ النّاس تَرْكًا للشّذوذِ في العِلْمِ، وأقلَّهم تكلُّفًا، وأتقَنَهُم حِفظًا، ولذلك صار إمامًا". وقال مالك: لاَ يُؤخذُ العِلْمُ من أربعةٍ، وَيؤخذُ مِمَّا سوى ذلك، لا يؤخذ من سَفِيهٍ. ولا من صَاحبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إلى هَوَاهُ. وَلاَ مِنْ كَذَّابٍ يكذِبُ في أحاديثِ النّاس وإنْ كان لا يُتَّهَمُ في أَحَادِيثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا ممن له فضلٌ وَوَرَعٌ وَعِبَادَةٌ إذا كان لا يعرفُ مَا يَحْمِلُ وما يُحَدِّثُ به (¬3). قال مالك - رضي الله عنه -: أدْركتُ بهذ البلدةِ مَشْيَخَةً أَهْلَ فّضْل ودِينٍ وصلاحٍ يُحَدِّثونَ النَّاس، ما سمعتُ مِنْ أَحَدٍ منهم قَطُّ شيئًا. قِيلَ لَهُ: يا أبا عبد الله، ولِمَ؟ قال: ما كانوا يعرفون مَا يُحَدِّثون بِهِ (¬4). وكان مالكٌ - رحمه الله - يقولُ: إنَّ هذا العِلْمَ دِينٌ، فانظُروا عمَّن تأخذُون دِينَكُم. قال: ولقد أدركْتُ سبعينَ ممّن يقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذه الأساطينِ- وأشار إلى المسجد مَسْجِدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فما أخذتُ عنهم شيئًا، وإنّ أحدَهُم لو أؤتُمِنَ على بيتِ مالٍ لكان أمينًا، إلَّا أنّهم لم يكونوا من أهل هذا الشَّأنِ. قال: وقَدِمَ علينا ابنُ شِهَابٍ ¬
وكنّا نتزاحمُ على بابِه (¬1). وقال يحيى بنُ مَعِينٍ: آلةُ هذا الحديث الصِّدقُ (¬2). وقال بِشْرُ بنُ بَكْرٍ: رأيتُ الأوزاعيَّ في المنام مع جماعةٍ من العلماءِ في الجنَّةِ، فقلتُ: وأين مالكُ بنُ أنسٍ؟ فقال: رُفِعَ، قلتُ: بِمَ ذا؟ قال: بِصِدْقِهِ (¬3). وقال مُصْعَب بن عبد الله الزُّبَيْريُّ قال: سمعتُ أبي يقول: كنت جالسًا مع مالكِ ابنِ أنسٍ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذْ جاء رجلٌ فقال: -أيُّكُم أبو عبدِ الله؟ فقيل له: هذا: فجاءَ وسلَّمَ عليه واعتنَقَهُ وقَبَّلَ بين عيْنَيه وضَمَّه إلى صَدْرِه، وقال: واللهِ لقد رأيتُ البارحةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في هذا الموضع، فقال: عليَّ بمالكٍ، فَاُتِيَ بك وأنت تَرْتَعِدُ فرائصُك، فقال لك: ليس بك بأسٌ يا أبا عبد الله، وكَناكَ، وقال لك: اجلِسْ، فجلستَ، فقال: افتَحْ حَجْرَكَ، ففتحتَ، فملأه مِسكًا منثورًا، وقال: ضُمَّه إلى صدرك وبُثَهُ في أمتِي، قال: فبكَى مالكٌ بكاءَ طويلًا، وقال: الرُّؤيا بُشْرَى، وإنْ صَدَقَتْ رؤياك، فهو العِلْمُ الَّذي أودَعَنِي اللهُ سبحانه (¬4). وكان الشّافعيُّ يقول: ما بعدَ كتابِ الله تعالى كتابٌ أكثر صوابًا من موطّأ مالكِ بن ¬
أنسٍ (¬1). وقال أيضًا: ليس بعد كتاب الله تعالى أنفع منه (¬2). وقال عَمْرُو بنُ أبي سَلَمَةَ: ما قرأتُ كتابَ الجامع من موطّأ مالكِ بنِ أنسٍ إلَّا جاءَني آتٍ في المنامِ، فقال لي: هذا كلامُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حقًّا (¬3). وقال ابنُ عبد الواحد صاحب الأوزاعيّ: عَرَضْنَا على مالكٍ الموطَّأ في أربعينَ يومًا، فقال: كتابٌ أَلَّفْتُهُ في أربعين سنةً، قرأتموه عليّ في أربعين يومًا، ما أَقَلَّ ما تفقَهُونَ فيه (¬4). وقال له أبو جعفَرٍ المنصور: دَعْنِي أكتبُ الموطَّأ بالذَّهَب وأحرقُ الكُتُبَ، وأبعثُ بِنُسَخٍ من الموطَّأ إلى البلدانِ، فقال له مالكٌ: يا أميرَ المؤمنينَ، فإنّ العِلْم كثيرٌ (¬5) وأما نَسَبُه فمعروفٌ، قد ذَكَرَهُ ابن قُتَيْبَةَ في "المعارف" (¬6) والواقديُّ (¬7) وغيرُ ذلك (¬8). ¬
وأمّا مولدُه فذكَرَ ابنُ بُكَيْرٍ أنّه وُلِدَ سنة ثلاثٍ وتسعينَ (¬1). وقال محمدُ بنُ عبدِ الحَكَم: وُلِدَ مالك سنةَ أربعٍ وتسعينَ، وفيها وُلدَ اللَّيثُ بن سَعْدٍ (¬2). وقيل: وُلدَ مالكٌ سنةَ أربع وتسعين، وتوفِّي بالمدينة لعشرٍ خَلَوْنَ من ربيعِ الأوّلِ سنةَ تسع وسبعين ومئةٍ (¬3). ومَرِضَ يومَ الأحدِ لتمام اثنين وعشرين يومًا، وغسَّلَهُ ابنُ كِنانَةَ وسعيدُ بنُ دَاوُدَ (¬4). قال حبيبٌ: وكنتُ أنا وابنُه يحيى نَصُبُّ عليه الماءَ، وأَنْزَلَهُ في قَبْرِهِ جماعةٌ (¬5). قال أبو عمر (¬6): "كان لمالكٍ - رحمه الله - أربعةٌ من الوَلَدِ: يحيى، ومحمّدٌ وحمّادٌ، وأمُّ أبيها (¬7)، فأمَّا يحيى وأمّ أبيها فلم يُوصِ بهما إلى أحَدٍ، وأمّا حمّاد ¬
ومحمّدُ فأَوْصَى بهما إلى إبراهيمَ بن حبيبٍ رجلٌ من أهل المدينة. وأَوْصَى مالك - رحمه الله - أنْ يُكَفَّنَ في ثياب بيضٍ، وُيصلَّى عليه في موضع الجنائز، فصلّى عليه عبدُ الله (¬1) بنُ محمَّدِ بن إبراهيمَ بن محمدٍ بن عليَّ بنِ عبدِ الله بن عبَّاسٍ؛ وكان واليًا على المدينة (¬2)، وبلَغَ كَفنُه خمسةَ دنانيرَ. وترك - رحمه الله - من النَّاضِّ (¬3) ألْفَيْ دينارٍ وستَّ مِئَةِ دينار (¬4) وألفَ درهمٍ (¬5). قال الإمام (¬6): فكان الَّذي اجتمعَ لوَرَثَتِهِ ثلاثةَ اَلافِ دينار (¬7). وقال سُحْنُونٌ: تُوُفي مالك -رحمه الله- وهو ابنُ سبعٍ وثمانينَ سنةً، وأقام بالمدينة مُفْتِيًا بين أظهُرِهِم ستّين سنةً (¬8). ¬
وقيل: حَمَلَتْهُ أمهُ سَنَتَيْن (¬1)، وقيل ثلاثَ سنينَ (¬2)، كلُّ ذلك أقام في بَطنِ أمِّهِ (¬3). وكان -رحمه الله- أشقر شديد البياض، كبير الرّأس أصلع، ولم يكن بالطّويل (¬4). وكان (¬5) رجلًا مَهِيبًا، لم يكن في مجلسه شيءٌ من المِرَاءِ واللَّغط ولا رفع صوت، وكان القُرّاء يسألونه عن الحديث فلا يُجِيبُ إلَّا في الحديثِ الواحدِ (¬6)، وربّما أذنَ لبعضهِم فقرأ عليه، وكان له كاتبٌ قد نسخ كتابه (¬7)، يقال له حَبِيب، يقرأ فيه للجماعة، فليس أحدٌ ممِّن يحضر مجلسه يدنو ولا يَنْظُرُ فيه (¬8) ولا يَستفهم، هَيبةً لمالك، وإجلالًا له، وكان حبيب إذا قرأ وأخطأ، فَتَح عليه مالك، وكان ذلك قليلًا. ¬
فصل اختلف الناس أي كتاب وضع في الإسلام أول
وكان مالك يجلسُ في منزلٍ له على ضِجَاعٍ، وكان له نَمَارق مطروحة يَمْنَةَ ويَسْرَةً. وكان يحيى بن عبد الحميد يروي حديثًا (¬1)؛ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوشَكُ أنّ يَضْرِبَ النَّاسُ أكْبَادَ الإِبِلِ، فلا يَجِدُونَ عالِمًا أَعلَمَ من عَالِمِ المدينةِ" (¬2). فقال يحيى بنُ معينٍ: سمعتُ ابنَ عُيَيْنَةَ يقول: أظنّ أنّه مالك بن أَنَس (¬3). والكلام في فضلِه وأخبارِه أكثر من أنّ تُحْصَى، أضربنا عن ذِكْرِها. فصل اختلف الناسُ أي كتابٍ وُضِعَ في الإسلام أوّل على ثلاثة أقوال: القول الأوَّل - قيل: إنّ أوَّلَ كتاب صُنِّف في الإسلام، وقُرِىءَ على النّاس "موطَّأ مالك بن أنس"، وهو قولُ جماعة كثيرة. وكان مالك من أصحاب الحديث، ثمّ اتَّبَعَ ربيعةَ بنِ إبي عبدِ الرَّحمن فقال برأيه. وألَّفَ كتابًا في الحلال والحرام والفرائض والأحكام والشّرائع سمّاه "الموطَّأ"، ورَوَى فيه أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفها وقال: "ليسَ العَمَلُ عليها" والعملُ عندَه ما أدركَ عليه العمل بالمدينة دون سائرِ الأمصارِ؛ لأنّها دار الهجرة ومنزلِ الوحيِ، ومنها تفرقّتِ الصّحابةُ في الأمصارِ، فَهُمُ الْحُجَّةُ على ¬
غيرِهم، وليس غيرُهم حُجّة عليهم. وجوَّزَ القولَ بالاجتهادِ في طلَبِ الحقِّ من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وهو إجماعُ أهل المدينةِ ممّا أدركَ عليه العمل خاصّة دونَ غيره. والقولُ الثاني - قيل: إنّ أوَّلَ كتابِ أُلِّفَ في الإسلام "جامع سفيان الثّوريّ" (¬1) ثمَّ نَدِم على ذلك وأَوْصَى إلى عمّار بن يوسف (¬2) أنّ يحرق كُتُبَه، فبقيت في أيدي النَّاس. والقولُ الثّالث - قيل: إن أوَّلَ كتابٍ صُنِّفَ في الإِسلامِ "كتاب ابن جُرَيْج" (¬3) في التّاريخِ والتّفسيرِ أيضًا. والّذي اشتهر خَبرُه عند النَّاس؛ أنّ أوَّلَ كتابٍ ألِّف في الإسلام "الموطَّأ" لمالك - رضي الله عنه -. قال الإمام الحافظ: وهو أنفعُ للمسلمينَ وأشملُ في حَمْلِ الآثارِ والدِّينِ، فهذا عِلْمُ مالكٍ في الأحاديث، ونَقْلُه العِلْمِ عن أهله، وأكثرُ عِلْمِه في موطَّئِهِ إنّما هو في أبوابه، وأنا أنبِّهُ عليه إن شاء الله. ¬
المقدمة الثالثة في معرفة علم الحديث ومراتبه، والقول في أخبار الآحاد والمراسل من الأحاديث، والموقوفة والمقطوعة والبلاغ، والقول في الإجازة والرواية والمناولة، والفرق بين حدثنا وأخبرنا هل حكمهما واحد أم لا
المقدمةُ [الثالثة] (*) في معرفة علم الحديث ومراتبه، والقول في أخبار الآحاد والمراسل من الأحاديث، والموقوفة والمقطوعة والبلاغ، والقول في الإجازة والرِّواية والمناوَلة، والفرق بين حدّثنا وأخبرنا هل حكمهما واحد أم لا؟ قال الإمامُ الحافظ - رضي الله عنه -: اعلموا- أنارَ اللهُ قلوبَكُم بالمعارفِ - أنَّ عِلْمَ الحديثِ على خمسِ مراتبَ: مُسْنَدٌ، وَمُرْسَلٌ، وَمَقْطُوعٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَبَلاغٌ. المرتبةُ الأولى: معرفةُ المُسْنَدِ والْمُسنَدُ ما اتّصلَ إسناده للرّسول من طريق صحيح (¬1)، كقولك: مالكٌ، عن نافعٍ, عن عبدِ الله بنِ عمرَ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال كذا وكذا. وكقولك: مالكٌ، عن الزُّهريِّ، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هريرةَ، عن النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال كذا وكذا. فهذا هو المُسْنَد الصّحيحُ، أنّ يُحدِّث العالِمُ بسَنَدٍ صحيحٍ متَّصِلٍ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬
المرتبة الثانية: معرفة المرسل
المرتبةُ الثانية (¬1): معرفة الْمُرْسَل والمرسلُ ما انقطعَ سَنَدُه (¬2)، وهو أنّ يكون في رُواتِه من يروي عمّن لم يره، فيكون مرسلًا لا يصح الاحتجاج به عند الشّافعيّ وعند أهل العراق، وهو مثلُ قولِكَ: مالكٌ، عن نافعٍ، أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، فَهذا سَنَدٌ مقطوعٌ، وهو أنّ يحدِّث العالِمُ عن التّابعيّ، ولا يدرك الصّاحب الَّذي أدركَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماءُ في المَرَاسِلِ من الأحاديثِ؟ فقالت طائفةٌ من أصحابنا (¬3): مراسلُ الثِّقاتِ أوْلَى من المُسْنَداتِ، واعتلُّوا بأنّ مَنْ أسندَ ذلك فقد أحالَكَ على البحثِ والنَّظرِ. ومذهبُ مالكٍ في إِنْفَاذِ الحُكْمِ بخَبَرِ الواحدِ العدْلِ (¬4)، وإيجابِ العمَلِ بِمُسْنَدِهِ وَمُرْسَلِهِ ما لم يعترضه العمل في بلده، ولا يُبالي في ذلك مَن خَالفَهُ في سائر الأمصار، كأخذه بحديث التّغليس (¬5)، وحديث الْمُصَرَّاة (¬6). وقد خالَفَهُ في ذلك بالمدينة وغيرِها جماعةٌ من العلماءِ. ¬
وكذلك المرْسَل عنده سواء (¬1)، ألا ترى أنّه يُرسِلُ حديثَ الشُّفْعَةِ (¬2) ويعملُ به (¬3). وُيرْسِلُ حديثَ اليمينِ مع الشَّاهِدِ (¬4)، وُيوجِبُ العملَ به (¬5). ويُرْسِلُ حديثَ ناقةِ الْبَرَاء بن عازِبٍ في جِنَايَاتِ المَوَاشي (¬6)، ويرى العملَ به (¬7)، ولا يرى العملَ بحديثِ خِيَارِ المتبايِعَتيْنِ (¬8)، ولا بنجاسة ما ولغ الكلب (¬9) فيه، ولم يدر ما حقيقة ذلك كلَّه (¬10). وقال أبو جعفر الطّبريّ: "إنّ التَّابعين بأسرهم أجمعوا على قَبُولِ المُرْسَلِ، ولم يأتِ عنهم إنكاره، ولا عن أحدٍ من الأيمَّةِ بعدّهُم إلى رأس المئتين" كأنّه يعني أنّ الشَّافعيَّ أوّل من أبَى أن يقولَ بالمرسَلِ أو يأخذ به. وأمّا أبو حنيفةَ وأصحابه؛ فإنّهم يقبَلُونَ المُرْسَلَ ولا يردّونَه إلَّا بما يردُّون به المُسْنَد من التَّأويل والاعْتِلاَل. واختلَفَ الناسُ في مَرَاسِلِ الحسنِ بنِ أبي الحسن البصريّ (¬11)، فقَبِلَها قومٌ، ورَدَّها آخَرُون. ¬
وأمّا كلّ من عُرِفَ بالأخذِ عن الضّعفاءِ، فلم يُحْتَجَّ بما أرسَلَهُ، تابعيًّا كان أو دونَهُ. وأمّا كلُّ من عُرِفَ أنه لا يأخُذُ إلَّا عن ثِقَةٍ، فتَدْليسُه ومُرْسَلُه مقبولٌ, كمراسلِ سعيدِ بنِ المسيَّبِ، ومحمد بن سِيرِينَ، وإبراهيم النَّخعي، فهي عندهم صِحَاح. وقالوا: مَراسِلُ عطاءٍ والحَسَنِ لا يُحْتَجُّ بها؛ لأنّهما كانا يأخُذان عن كلِّ أحدٍ، وكذلك مراسلُ أبي قَلاَبَةَ وأبي العاليةِ. وقالوا: لا نعملُ بتدليسِ الأعْمَشِ؛ لأنّه إذا أَوْقَّفَ أحالَ على غير مَلِيءٍ، يَعْنُونَ: على غير ثِقَةٍ، إذا سُئلَ عمّن هذا؛ قال: عن مُوسَى بن طَريفٍ، وعبايةَ بنِ ربعيٍّ، والحسنِ بنِ ذَكْوَانَ (¬1). وقالوا: نعمَلُ بتدليسِ ابن عُيَيْنَةَ؛ لأنَّه إذا أوقَفَ أحالَ على ابنِ جُرَيجٍ ومَعْمَرٍ ونظائرِهِما. وقالوا: التَّدلِيسُ في مُحَدِّثي الكوفة كثيرٌ. وقال يزيدُ بنُ هارونَ: لم أَرَ في الكوفةِ أحدًا إلَّا وهو يُدَلِّسُ، إلَّا مِسْعَرًا وشَرِيكًا. وأمّا (¬2) ابنُ المبارَكِ فكان يُحَدِّثُ عن الضّعفاءِ والمتروكينَ. ¬
واختلف العلماء في مراسِلِ سعيد بن المسيَّب، فأكثرُ العلماءِ عوَّلُوا عليها؛ لصحَّةِ عَقلِهِ ودِينِه وثِقَتِه، وعليها عوَّلَ مالك -رضي الله عنه-. وهذا كلُّه إنَّما هو لقوله صلى الله عليه: "مَنْ كَذبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ" (¬1). وقال رَجُلٌ لابنِ المُبَارَكِ: هل يمكنُ أحدٌ أنّ يَكْذِبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار بيده وانتَهَرَهُ، وقال: وما الكَذِبُ!. وقال حَمَّادُ بنُ زَيدٍ: وَضَعَتِ الزّنادقةُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثْنَىْ عشرَ أَلْفَ حديث (¬2)، بَثُّوها في النّاس، وكذلك (¬3) مُسَيْلِمَة الكذّاب لَعَنَهُ الله. قال الإمام (¬4): تخويف النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَهُ من النَّار على الكَذِبِ عليه, دليلٌ أنّه كان يَعْلَم أنّه سَيُكْذَبُ عليه. وقال ابنُ عَوْنٍ: لا تأخُذوا الحديثَ إلَّا عن ثِقَةٍ، أو عمّن يُشْهَدُ له بالطَّلَبِ (¬5). وقال (¬6): إنّ هذا العلم دِينٌ، فانظُروا عمّن تأخذونَه (¬7). ¬
المرتبة الثالثة: في معرفة الحديث المقطوع
المرتبةُ الثّالثةُ: في معرفة الحديث المقطوع والمقطوعُ هو أنّ يقطع المحدِّثُ جميع السَّنَد، كقول مالك (¬1) وغيره من أهل العلم: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا, ولم يذكر من حدَّثَهُ بذلك، فهذا هو المقطوعُ من الحديث عند جماعةِ المُحَدِّثينَ. المرتبةُ الرابعةُ: في معرفة البلاغ وهو أنّ يقول العالم: بلغني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا, ولا يقف على من حدّثه، لكنه بلغه إمّا مشافهةً وإمّا سماعًا. المرتبةُ الخامسة (¬2): في معرفة الحديث الموقوف مثلُ قولِ مالكٍ (¬3): عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عمر (1)؛ أنّه قال: مَنْ باعَ عبدًا وله مالٌ، فمَالُهُ للبائعِ إلَّا أنّ يَشْتَرِطَهُ الْمُبتَاعُ. ومثلُ قولِ مالكٍ: عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ؛ أنّه قال: كذا وكذا, ولم يذكر من حدّثه، فهذا وشبهه من الحديث موقوفٌ، لا يذكرُ الصّاحِبَ ولا مَنْ سمِعَه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬
فصل في معرفة الرواية والمناولة والإجازة وقول العالم حدثنا وأخبرنا هل هما واحد أم لا؟
فصل في معرفة الرِّواية والمناولَة والإجازة وقولُ العالِم حدَّثنا وأخبرنا هل هما واحدٌ أم لا؟ قال الإمامُ الحافظُ: فإن قال قائل: كيف يصِحُّ اليوم أنّ يقول القارئ لكتاب "الموطَّأ": حدّثني يحيى عن مالك، ولم يحدِّثه (¬1)؟ وإنما هو نقل تواتر؛ لأنّ الخبر على ضربين: تواتر وآحاد. فالتَّواترُ: ما يقعُ العِلْمِ بعَقِبه ضرورة (¬2)، وما لم يقع العِلْمِ بعقبه فليس بتواترٍ. وقال جماعة من المحدِّثين: إنّ التَّواتُرَ ما عُلِمَ خبرُهُ ضرورةً. وقيل: الأخبارُ على ثلاثةِ أقسامٍ: تواتر؛ وهو الَّذي ينقله العَدَدُ الكثيرُ عن الكثيرُ، وهو يُوجِبُ العِلْمَ الضروريَّ لسَامِعِهِ، كعِلْمِنا أنّ الكعبةَ بمكّةَ، وأنّ الرّسولَ مقبورٌ بالمدينةِ. ¬
والثاني: خَبَرُ الاستفاضةِ، وهو الَّذي نقَلَهُ عددٌ وانتشر، لكنه لم يبلغ التّواتر، ولا يوجد له مُنْكِرٌ (¬1). فإن قال قائل: هل أخبرنا وحدّثنا واحدٌ أم لا؟ فالجواب عن ذلك (¬2): أنّ بعض المحدِّثين قال: حدّثنا أبلغ من أخبرنا؛ ولأنّ الخبر قد يكون صفة للموصوف، والمُخْبِرُ من له الخبر. وقيل: الْمُخْبِرُ هو الواصفُ للموصوفِ، فكلُّ مُخْبِرٍ واصفٌ، وكلُّ واصِفٍ مُخْبِرٌ، وهو مذهبُ مالكٍ في أخبارِ الآحادِ أنها تُوجِبُ العملَ دونَ العِلْم عند العلماء (¬3)، وهذا أشهر عند العلماء من أن يُحتاج فيه حكاية عن مالك؛ لأنّه أصلٌ من أصول الحديث، وعليه العلماء من لَدُن الصّحابة إلى زماننا هذا على قَبُولِ خَبَرِ الواحدِ، وإيجابِ العمَلِ به إذا ثيتَ، ولم ينسخه غيره من أَثَرٍ أو إجماعٍ، وعلى هذا أجمعَ الفقهاءُ في كلِّ عصرٍ، إلَّا طائفة من الخوارجِ وأهل البِدَعِ (¬4). وأمّا الرِّوايةُ، فهي نوعٌ من كتاب الأخبار، وكتابُ الأخبار أصلٌ من أصول الفقه، عليه مدار أكثر الأحكام. وأما تحصيلُ الرَّوايةِ، فلها خمسُ صُوَرٍ على حَسَبِ ما تقدّمتِ الإشارةُ: الصّورة الأولى: قراءةُ العالِم على النّاس ولا خلافَ فيها، وهي أصلُ الدِّينِ، وكذلك أخذَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، وكذلك أخذ ¬
جبريل عن ربِّ العالمين، وكذلك قال الله تعالى للنّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (¬1) الآية. الصّورةُ الثّانيةُ: هي القراءةُ على الشّيخ (¬2) وهي التي ثبتت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "الَرِبَاطُ يَوْمِ في سَبِيلِ الله" (¬3) الحديث (¬4). وله نظائر كثيرة، ولا خلافَ فيه. الصّورةُ الثّالثةُ: سماعُه منه لما يعرض ويقرأ عليه كما فعل أنس في قصَّة ضِمَام (¬5)، وكما فعلَ جميعُ الصّحابةِ. الصّورةُ الرّابعةُ: وهي المناولةُ وهي ثلاثة أنواع: - إمّا أن تكونَ من يَدِ الشّيخِ كفاحًا (¬6)، كما فعلَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن جَحْش (¬7). - وإمّا أن تكونَ بواسطةٍ، كما ثبتَ عنه صلى الله عليه حين أرسلَ إلى كِسْرَى (¬8) وقَيْصَر وغيرهما على الخصوص. ¬
- وإمّأ أن تكون بواسطة على العموم، كإرسال عمر المصاحف إلى الآفاق، وكما رُوي في الآثار من إرسال الكُتُب إلى القبائل (¬1). الصورة الخامسة: في الإجازة وهي على قسمين: - خاصّةٌ، كما يقول الرَّجُل للرَّجُل: أذنتُ لك في أن تحدِّث عني بكذا، لشيءٍ مُعَيَّنٍ. - أو يقولُ: حدِّثْ عنِّي، أو يقول له: أذِنْتُ لك في أن تحدِّثَ عنِّي بجميعِ رواياتي. واختلف النَّاسُ في المناولةِ خاصّة؟ فمنهم من قال: لا فائدةَ فيها، وكفى أن يحيلَهُ الشيخ على كتابه، أو يأذنَ له في الرِّواية. ولا شكَّ في أن التعيين مع الإذن أقوى من الإذن مطلَقًا؛ لأنّ التّعيين يرفعُ الإشكالَ وينفِي الاحتمالَ، ويمنعُ من تعيين غير الشّيخ، ويُوجِبُ الطّمأنينةَ واليقينَ للنَّفسِ. وأمّا مجرّد الإذن، فإن وجهَ الروايةِ على الشيخ شهادةٌ عليه، فإذا أسْمَعَكَ قوله، أو سَمِعْتَهُ منه، قصدَ إليك به أو إلى غيرك، وقد يحصلُ لك ما نقَلَه وشهد لك تَكرَارُكَ إذا قال لك: حدِّث عنِّي بكذا، فقد ألقَى إليك الرِّواية وقلَّدَكَ الشّهادة، فأداؤها صحيحٌ في الدِّين، وأصلٌ صحيحٌ عند جميعِ المحقِّقينَ (¬2). قال الإمامُ الحافظُ: أنكرَ بعضُ المحدِّثين الاعتماد على الكُتُب، وقالوا: لا يُعَوَّلُ إلَّا على السّماعِ والحفْظِ، وقد كتبَ النبيُّ صلى عليه لأمير السَّرِيَّة في الدّعوة، وكتب الصّدقات عمر بن الخطّاب عند أبي بَكّرٍ. ¬
وأنكر بعضُ المحدِّثين الإجازة، وقبِلَها بعضُهم. وقال بعضُهم: تُجزِىءُ في أمور الآخرة ولا تُجْزِىءُ في الأحكام، وهذا الحُكْم - بأنّ العدالةَ هي المنتقاة والإقرارَ للرّواية - هو الشرط المعوَّل عليه إن شاء الله. تنبيهٌ على مقصدٍ (¬1): اختلفت مقاصدُ المؤلِّفينَ في استفتاح كُتُبِهِم على ستَّةِ أنحاءٍ: 1 - فمنهم من بدأ بالوَحْيِ (¬2). 2 - ومنهم من بدأ بالإيمانِ (¬3). 3 - ومنهم من بدأ بالاستنجاء (¬4). 4 - ومنهم من بدأ بالوضوء (¬5). 5 - ومنهم من بدأ بالصلاة. 6 - ومنهم من بدأ بالوقت (¬6)، وهو أسعدُهُم في الإصابة؛ لأنّ الوحيَ والإيمانَ عِلْمٌ عظيمٌ مُنفَرِدٌ بنَفْسِه، إن ذَكَرَ منه قليلًا لم يُغْنِهِ، وإن ذَكَرَ منه كثيرًا صُرِفَ عمّا تَصَدَّى له. وأمّا من بدأ بغير ذلك، فإنّه لا يُلْزِمُ الاستنجاءَ ولا الوضوءَ ولا الصّلاةَ إلَّا عندَ دخولِ الوقتِ، ولذلك قال محقِّقو علمائنا -رحمة الله عليهم-: إنّه ليس في الشّريعة نَفْلٌ يُجْزِىءُ عن فَرْض إلَّا الوضوءُ قبلَ الوقتِ. ¬
قال الإمام الحافظ: سمعتُ الشّاشي (¬1) بمدينة السلام يقولُ: إنّ الوضوءَ واجبٌ عليه في وقت غير مُعَيَّنٍ، فمتى فعَلَه أجزَأَه، وهذا ضعيفٌ لأنّه لا يَصِحُّ وجوبُ الفَرْعِ مع عدَمِ وُجُوبِ الأصلِ، ولا وُجُوبَ الشّرْطِ مع عدَمِ وُجُوبِ المشروط. قال: وإنّما بدأ مالك بذِكّرِ أوقاتِ الصّلاةِ في "كتابه"؛ لأنّه أوّل ما يراعَى من أمرِ الصّلاة؛ لأنه حينئذٍ يجب عليه فعلا الطّهارة بحَسَبِ وجوبِ الصّلاة، فكان الابتداءُ بذِكرِ أوقات الصّلاة أوْلَى في الرُّتبة، وبالله أستعين. ¬
وقوت الصلاة
وقوتُ الصّلاة قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: الكلامُ في هذا البابِ يشتملُ على ثلاثةِ فصولِ: الفصل الأوَّل: في الكلامِ على التّرجمةِ. الفصل الثاني: في شرح لغته. الفصل الثّالثُ: في معنى لفظ الصّلاة. قال الإمام الحافظ: اختلفت رُواةُ الموطأ عن مالك - رحمه الله - في ترجمة هذا الباب على ثلاث رواياتٍ: الرِّوايةُ الأُولى: رَوَى عنه يحيى بن يحيى: "وُقُوتُ الصّلاةِ" الرِّوايةُ كما هي في كتابه (¬1). الثانية: رَوَى ابنُ بُكَيْر المصري: "بابُ أوقاتِ الصَّلاة" وكذلك وقع في أكثر الرِّوايات. الثالثة: روى ابن القاسم: "وقتُ الصّلاة". فأمّا يحيى بن يحيى فكأنّه ذهبَ في تبويبه في روايته "وُقُوت الصّلاةِ" إلى كثير العَدَدِ، ففي تبويبه دليلٌ على أن لكلِّ صلاةٍ ثلاثة أوقات. وأمّا رواية ابن بُكَيْر "أَوْقاتُ الصَّلاة" فإنّها تقع لِمَا دون العشرة، ففي روايته دليلٌ على أنّ لكل صلاة وقتين، إلَّا المغرب وَحْدَها فإنّ لها وقتًا واحدًا، وعلى هذا أكثر المالكيّة. ¬
وأمّا ابنُ القاسم في روايته "وَقْتُ الصّلاة" فإنّ ها مُحتَمِلةٌ للمعنيين المذكورين؛ لأنّ "وقت" مصدرٌ، والمصدرُ يقعُ على القليلِ والكثيرِ. وهذه الأوقاتُ التي اختلفت فيها عباراتُ العلماء" هي أوقاتُ الاختيارِ، وأمّا غيرها من الأوقات فإنّ محمَّد بن مَسْلَمَة (¬1) ذكر في "النّوادر" (¬2) أنّ الأوقات ثلاثة: وقت واجب، ووقت ضرورة، ووقت نسيان. ثم إنّه ذكر لكلِّ صلاةٍ وقتين كما ذكرناه. (¬3) ¬
الفصل الثاني في شرح لغته
الفصلُ الثاني (¬1) في شرح لغته قال الإمام: قد اتّفقَ أربابُ اللُّغةِ على أن فُعُولاَ جَمْعُ كثرةٍ، وأفعالًا جَمْعُ قِلَّة، وكذلك فَعَل مالكٌ، وذلك أنّه أدخل تحت هذه التّرجمةِ ثلاثةَ عَشَرَ وَقْتًا، كلُّ وقتٍ منها ينفَرِدُ عن صاحبه بحُكمٍ، ويغايِرُهُ من وَجْهٍ. وقيل (¬2): وُقوتٌ جَمْعُ وقتٍ، ووقتُ الصّلاةِ يَتَّسِعُ لتَكْرَارِ فِعلِهَا مِرَارًا، وجميعُه وقتٌ لجَوَازِ فِعْلِها. وقيل (¬3): وُقُوتٌ جَمْعُ وَقْتٍ، كقولك فَلْسَّ وفُلوسٌ. الفصلُ الثّالث في معنى لفظ الصّلاة والصّلاةُ في اللّغة تُتَصَوَّرُ على وجوهٍ: فمنها: الدُّعاء لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} الآية (¬4) ومنها: الاستغفارُ والتَّرَحُّمُ. ¬
ومنها: الصّلاةُ على الجنائز. وقيل: الصّلاةُ من الله رحمةٌ (¬1)، ومنَ الملائكةِ استغفارٌ، ومنَ المؤمنينَ دُعاءٌ. وذهب عبد الوهّاب (¬2) إلى أنّها مُجْمَلَةٌ، وإن هذا اللّفظ يقعُ على الرُّكُوعِ والسُّجودِ وسائر ما تشتمل عليه الصّلاة من سائر الأقوالِ والأفعالِ. وذهب علماؤُنا (¬3) إلى أنّها لفظةٌ عامَّةٌ، إلا أنّها واقعةٌ على الدُّعاء فيها خاصّة، وأنّ سائرَ الأقوالِ والأفعالِ سردت فيها ومعانٍ تقترن بها. واشتقاق الصّلاة الّتي هي ركوعٌ وسجودٌ من الصَّلاَ، وهو عِرْقٌ في موضعِ الرِّدْفِ، وهما صَلَوَان. وقيل: هو العظمُ الّذي فيه مَغْرِزُ الذّنب، فمعنى قوله: صلّى فلانٌ، أي حنا ذلك الموضع. وقيل: هو السابق من المُصَلِّي من الخيل (¬4)؛ لأنّ النبي -عليه السّلام- أوّل من صلَّى مع جبريل فكان سابقًا، وكان كلّ مَنْ بَعْدَه مُصَلِّيًا. وقيل: الصّلاةُ مأخوذة من التّصلية، من قولهم: صَليتُ العُودَ، إذا ليّنته بالنّار، وهو أن تُدْنِيهِ من النَّارِ إذا كان يابسًا، فإذا أصابه حَرٌّ النّار لاَنَ فيسهل تقويمُه، قالوا: فصلاةُ العبدِ من هذا؛ لأنّه إذا قام بين يَدَي الله تعالى أصابه من معرُوفِهِ ورحمتِهِ ما يلينُ به ويستقيم اعوجاجُه. ¬
والصّلاة من ذوات الواو، والجَمْعُ صَلَوَات، وصَلَوَات اليهود كنائسهُم، واحدُها صلوتا فعُرِّبَت، ومنه قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} الآية (¬1)، إنّما أراد كنائسهم، والله أعلم. تنبيه على مقصد: فإن قيل: لِمَا قدّم الصّوامع والْبِيع والصّلوات على المساجد؟ فالجواب عن ذلك: أنّه إنَّما قدَّمَ ذلك لقرب الساجد من ذكر الله تعالى، كما قدَّمَ الظَّالم على المقتصِد والسّابق، لقُرْبِ السّابقِ من جنَّاتِ عَدْنٍ. والصّلواتُ كنائسُ اليهودِ. وقد جعلَ الله في الصّلاة خِصَالًا، منها أنْ جعل قيامها مقرونًا بالبِشَارة، وقراءتها مقرونة بالشّهادة، وركوعها مقرونًا بالمغفرة، وسجودها مقرونًا بالقُرْبَة. واعلموا أن للصّلاة سبعة أسماء: مفتاحٌ، وشِعَارٌ، ونُورٌ، وبرهانٌ، ورُكْنٌ، وتحريمٌ، وتحليلٌ. مفتاحُها: الوضوء، وشعارُها: الأذان، ونورُها: الرّكوع، وبرهانُها: السّجود، وركنُها: التَّشهْد، وتحريمُها: التكبير، وتحليلُها: التسليم. وقد فضَّلها اللهُ تعالى على سائر الطّاعات بأربعة أشياء: وهي الخضوع، والخدمة، والقُرْبَة، والمناجاة. السَّجدةُ في الصّلاة أفضل من الصّلاة، والقربةُ لله أفضل من السَّجْدَة. وبيان ذلك: أنّ السّجدة سببٌ للقُرْبِ، قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬2). وقيل: الصّلاة هي الطَّلَب، والسُّجود هو الوجود. وقد صرَّحَ الله جلّ ذِكْرُهُ بذكر الصّلاة، وسمّاها صلاة في أزيد من عشرة مواضع: ¬
- الأول- قيل: سمَّى صلاةَ الخَوفِ صلاةً، فقال عزّ من قائل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} الآية (¬1). - وسمَّى جميعَ الصّلواتِ صلاةً، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} الآية (¬2) , كقوله (1): {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3). - وسمى العبادةَ صلاةً، فقال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الآية (¬4)، وما كانت عبادتهم إلَّا ضحكًا وتصفيقًا. - وسَمّى الخضوعَ صلاةً، فقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الآية (¬5). - وسمى السَّجدةَ صلاةً، فقال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬6). - وسمَّى قراءنَ الفَجْرِ صلاةً، فقال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬7). - وسمَّى صلاةَ النّافِلَةِ صلاةً، فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية (¬8). - وسمَّى القرآن صلاةً، فقال سبحانه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} (¬9) أي بقراءتك. وفي القرآن من هذا كثيرٌ. ¬
ذكر الأحاديث في هذا الباب التي ساقها مالك في أول كتابه في معرفة أوقات الصلاة
ذِكْرُ الأحاديثِ في هذا البابِ الّتي ساقَها مالكٌ في أوّل كتابِهِ في معرفة أوقاتِ الصّلاةِ الحديثُ الأولُ الّذي صَدَّرَ به مالك (¬1)، حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬2) وفيه فصول: الفصل الأول في إسناده وهو قوله (¬3): "إنَّ المُغِيرَةَ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا" إلى آخره، هكذا رواهُ مالكٌ فيما بَلَغَنِى، وظاهرُ مَسَاقِهِ في رواية مالك يدُلُّ على الانقطاع، لقوله: "أَنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يومًا، فدخلَ عليه عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ" ولم يذكر فيه سَمَاعًا (¬4) لا من عُرْوَة ولا سماعًا من ابن أبي مسعود، وهذه اللّفظةُ - أعني "أنّ" - عند جماعة المحدِّثين- محمولةٌ على الانقطاعِ حتَّى يتبيَّنَ السَّماعُ واللِّقاءُ. ومن المحدِّثين أيضًا من لا يَلتفِتُ إليها، ويَحْمِلُ الأَمْرَ على المعروفِ من مُجالَسَةِ بعضِهِم بعضًا (¬5)، وأخذِ بعضِهِم عن بعضٍ، فإن كان معروفًا لم يسأَلْ عن هذه اللَّفظةِ، وكان الحديثُ عنده على الاتِّصالِ. ¬
قال الشّيخ (¬1): وهذا أشبه أنْ يكونَ مذهبَ مالكٍ - رضي الله عنه -؛ لأنه في "مُوَطئِه" لا يفترق بين شيء من ذلك. قال علماؤنا (¬2): هذا حديث مُتَّصِلْ صحيح مُسنَدْ عند جماعة أهل النقل، و"أنَّ" في هذا الموضع محمولةٌ على الاتِّصال حتى يتبيَّنَ الانقطاع" (¬3). وفي روايتهم (¬4) عن ابن شهاب في ذلك؛ أنّ الصّلاة التي أخَّرَهَا عُمَرُ هي صلاةُ العصرِ، وهي الصّلاة التي أَخَّرَها الْمُغِيرَة أيضًا. وليس في روايتهم في هذا الحديث أكثر من أنّ جبريل -عليه السلام- صلى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس صلوات في أوقاتهنّ على ما في ظاهر الحديث. وليس في رواية هؤلاء أيضًا ما يدلُّ على أنَّ جبريلَ صلى به مرَّتين، كل صلاةٍ في وقتين، فتكونُ عشر صلوات كما في سائر الأحاديث المرويّة في إمامة جبريل. وفي حديث مَعْمَر وابن جُرَيْجٍ عن ابنِ شهابِ؛ أنّ النّاس صَلَّوا خَلفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلَّى به جبريل -عليه السلام- (¬5). قال الإمام: والصحيح أنّ جبريل نزلَ من الْغَدِ من ليلةِ الإسراءِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقام له وقت الصّلاة على السَّعَة في اليومين، وبذلك جاءتِ الآثارُ الْحِسَانُ المتَّصلةُ في إمامةِ جبريل من حديث ابن عبّاس وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبي سعيد الْخُدريّ (¬6). ¬
واختلف النَّاس في تاريخ الإسراء: فقال الذهبي: أُسْرِيَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مَبْعَثِهِ بثمانيةَ عشرَ شَهْرًا (¬1). وقال ابنُ. سُحنون: أُسْرِيَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ سبعٍ وعشرينَ من ربيعِ الأوَّلِ قبلَ الهجرة بسَنَةٍ، وفُرِضَت الصَّلاةُ عليه (¬2). وقال مُوسَى بنُ عُقْبَةَ، عن ابن شهاب: إنّ الإسراءَ كان قبلَ الهجرةِ بسَنَةٍ (¬3). ورُوِيَ عن ابنِ شهابٍ؛ أنّ الصلاة فُرِضَتْ بمكَّةَ بعد ما أَوْحَى اللهُ إليه بخَمْسِ سنينَ (¬4). وهذه آثار مختلفة، والصّحيح منها -إن شاء الله-؛ أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بسَنَة. واختلف النَّاسُ هل كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبلُ بصلاته وهو بمكّة الكعبة أم لا؟ على قولين عن السَّلَف مَرْويَيْن: - أحدُهما: أنّه كان يستقبلُ بمكَّة الكعبة بصلاتِه، فلمّا قَدِمَ المدينة استقبلَ بيتَ المَقْدِسِ سِتَّة عشرَ شهرًا (¬5)، أو سبعةَ عشرَ شهرًا (¬6). - وقيل: إنّه كان يستقبلُ بمكَّةَ بيتَ المَقْدِسِ (¬7). ¬
والصَّحيحُ أنّه كان يستقبِلُ الكعبةَ والبيتَ أحيانًا، والله أعلم. وقال الشيخ أبو عمر (¬1): "إنّه كان يستقبِلُ بمكَّةَ الكعبة، فلمّا قدِمَ المدينةَ استقبَلَ بيتَ المَقْدِسِ ستّةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، ثمّ وجّهه اللهُ إلى الكعبة، وهذا أصَحُّ القولينِ عندي". والقول الثاني: روى يُونُسُ بنُ بُكَيرٍ عن ابنِ إسحاقَ؛ قال: إنّ جبريلَ أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صبِيحَةَ الإسراءِ، فهمزَ له بِعَقِبِهِ في ناحية الوادي، فانفَجَرَتْ عينٌ من ماءٍ، فتوضَّأَ جبريلُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْظرُ إليه، فتوضَّأَ إلى الكعبين (¬2) ونَضَحَ فَرْجَهُ، ثمّ قامَ فصلَّى ركعتين وأربعَ سَجَدَاتٍ (¬3). وهذا- والله أعلم- إنما أخذَهُ ابنُ إسحاق من حديث زَيْد بن حارثة، رواه عُقَيلُ ابنُ خالدٍ، عن ابنِ شهابٍ، عن عُروَةَ، عن أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، عن أبيه زَيْدِ بنِ حارثةَ؛ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أوّل ما أُوحِيَ إليه أتاهُ جبريلُ فعلَّمه الوضوءَ والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غَرْفَةً من ماء فنضح بها فَرْجَهُ (¬4). قال الشّيخُ- أَيَّدَهُ الله (¬5) - قوله: "أوَّلُ ما أوحِيَ إليه في الصّلاة" وهذا يدلّ على أنَّه ¬
لم يُصَلِّ قَطُّ صلاةً بغيرِ طَهُورٍ، ولهذا قال مالك في آية الوضوء، وآية الوضوء وإن كانت مَدَنِية والصّلاة مكيَّة، فإنّ مالكًا روَى في حديث عِقْد عائشة فقال: وهم على غير ماء فنزلت آية التَّيَمُّم، ولم يقل: ونزلت آيةُ الوضوء دليل على أنّ الوضوء كان قبل. تنبيه على مقصد: اختلف العلماء -رضوان الله عليهم- هل كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي قبلَ الإسراءِ أم لا؟ فقالت جماعة المُحَدِّثين: إنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلِّي قبلَ الإسراءِ صلاةً مفروضةً، إلَّا ما كان أُمِرَ به من قيام اللّيلِ من تحديد ركعاتٍ معلوماتٍ لا في وقتٍ مَحْصُورٍ. وقال جماعةُ الفقهاءِ الّذين ليسوا من أهل النَّقل للحديث، مثل ابن حبيب وغيره: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي ركعتين بالغَدَاةِ وركعتين بالْعَشِىِّ، ويصومُ ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وتأوَّلَ فيه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (¬1) وقال: هي صلاة مكَّة حين كانتِ الصّلاةُ ركعتين غُدوة وركعتين عشيّة، ولم يزل ذلك فرض الصلاة حتى أُسْرِيَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففرضت الصلواتُ الخمسُ. قال الإمامُ الحافظُ: وهذا الّذي رواه عبد الملك بن حبيب باطلٌ لا أصلَ له عند جماعة المحدِّثين، ولا ثبت نَقْلُه، وقد تابعه عليه جماعة من أهل الفقه في مصنّفاتهم، وهي لا تثبتُ بوجهٍ ولا على حالٍ. قال أبو عمر: "ولم يختلف العلماءُ أنَّ فرضَ الصّلاةِ كان في الإسراءِ, وأنّه قد تقرَّرَ إجماعُ الأُمَّة على عَدَدِ فَرْضِ الصّلاةِ، وأنّها خمس صلوات وعدد ركوعها وسجودها، غير أبي حنيفة فإنّه شَذَّ وزاد أنّ الوتر فرضٌ (¬2)، وليس ذلك في حديث الإسراءِ، وأدخل البخاريُّ (¬3) حديثَ عائشة، فبيَّنَ أنّ الصّلوات المفروضات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَمسٌ." ¬
الفصل الثاني في شرح ما تقدم ذكره من حديث جبريل -عليه السلام-
الفصل الثاني (¬1) في شرح ما تقدَّم ذِكْرُهُ من حديث جبريل -عليه السلام- قال الإمام: ذكَرَ مالكٌ (¬2) حديثَ جبريلَ مُعَدَّدًا على خمسِ، وفي حديث مسلمٍ؛ أنّه مُعَدَّدٌ على عَشْرٍ (¬3)، وذكَرَهُ مالك مُجْمَلًا، وكذلك ذكَرَهُ مسلمٌ (¬4) وغيرُه (¬5)، من طريق ابنَ عَبَّاسِ وغيرِه مُفَسَّرًا؛ أنّه قال: "أَمَّنِي جبريلُ عند البيت مرَّتينِ" الحديث إلى آخره. قال الإمام: وفيه نُكتَةٌ بديعةٌ أَغفَلَهَا علماؤُنا -رحمة الله عليهم-، وذلك قوله: "فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الأَوَّل" معناه: ابتداءً، وكذلك في جميع الصّلوات،* "وَصَلَّى بِيَ الظُّهرَ في اليومِ الثاني" معناه: فرَغَ من جميعِ الصّلواتِ* وبذلك يتحدَّدُ الأوَّلُ من الأوقاتِ. ¬
إشكَال وحَلُّهُ: فإذا: ثبت هذا، فجاء في لفظ الحديث: "وَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في اليَوْمِ الثَّاني حِينَ صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ لِوَقتِ الْعَصرِ بِالأَمْسِ" فاحتَمَلَ أنّ يكونَ معنى قوله "فَصَلَّى" بدأ أو خَتَمَ، فأنشأَ هذا بين العلماء اختلافًا في اشتراك الظُّهر والعصر، وتالله ما بينهما اشتراكٌ، ولقد زَهَقَتْ فيه أقدام العلماء، ولأنّه إن لم يكن معنى قوله: "وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ في اليوم الثّاني حينَ صارَ ظلُّ كلِّ - شيءٍ مثلَهُ لوقتِ العصر بالأمسِ": فَرَغَ، لم يَكُن بيانٌ، وإن كان معناه: فَرَغَ ضرورةً، لم يكن اشتراكٌ، فتبيَّنَ بهذا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ في اليوم الأوّل بالعصر حينَ صارَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه، وفَرَغَ في ذلك اليوم من الظّهر، فصارَ آخرُ الظُّهرِ أوَّلُ العصرِ، والله أعلم. إلحاقٌ: كما ثبتَ وبيَّنَهُ جبريلُ للنَّبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، كذلك بَيَّنَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للسّائل في حديث أبي موسى الأشعريّ وغيرِه الّذي أدخل مالك منه جزءًا وترَكَ سائِرَهُ، إذ لم يَبْنِ كتابه على التّطويلِ والاستيفاءِ، وخَصَّ مِمّا ذكَرَ صلاةَ الصُّبحِ. وكانت الفائدةُ في ذلك أنّ يبيِّنَ أنّ في الصُّبحِ وقتًا واسعًا اختياريًا مُتَعَدِّدًا، ردًّا على من يقولُ: إنّه واحدٌ وإنَّه وقتُ ضرورةٍ. كشفٌ وإيضاحٌ: نزَلَ جبريلُ -عليه السلام- مأمورًا مكلَّفًا بتعليم النّبيِّ صلى الله عليه لا بأصل الصّلاة؛ لأنّ الملائكةَ وإن كانوا مُكَلَّفِينَ فَبِغَيْرِ شرائِعِنا, ولكنّ الله تعالى كلَّفَ جبريلَ -عليه السلامُ- الإبلاغَ والبيانَ، كيف ما احتِيجَ إليه قولًا وفعلًا. تنبيهٌ: فإن قال قائل: ما حُجَّة من قرأ "بهذا أُمِرْتُ" بضم التاء؟ قيل له: إذاكان هذا، صَحَّ أنّ يُخْبِرَ به جبريلُ عن نفسه، وإن قرأها:، بهذا أُمِرتَ"
حديث
بفتح التاء (¬1)، فمعناه: أنّ الّذي أُمِرْتَ به البارحةَ من الصّلاةِ مُجَمَلًا، هذا تفسيرُه اليومَ مُفَصَّلًا، وهو الأقوى في الرِّوايتين. وبهذا يتبيَّنُ بُطلانُ قولِ من يقولُ: إنّ في صلاة جبريلَ -عليه السلام- جوازَ صلاةِ المُعَلِّمِ بالمتعلِّمِ، أو المُفْتَرِضِ خلْفَ المُتَنَفِّلِ، والكلامُ معهم على هذه المسألة مُشْكِلٌ جدًّا. حديث: قوله (¬2): وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ في حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ. قال الإمام: إنّما أدخل مالك - رضي الله عنه - هذا الحديث وقَصَدَ به تبيين تعجيل صلاة العصر، وذلك (¬3) إنَّما يكونُ مع قِصَرِ الحيطانِ، وإنما أراد عُرْوَةُ بذلك ليُعْلِمَ عمرَ ابنَ عبدِ العزيزِ، عن عائشة. أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي العصرَ قبل الوقت الّذي أخَّرها عمرُ إليه، وفيه للعلماء ثلاثة ألفاظ: اللّفظ الأول: قولُه: "قَبْلَ أنّ تَظهَر". قيل معناه: قبل أنّ يظهرَ الظِّلُ على الجِدِار، يريدُ: قبل أنّ يرتفعَ ظلُّ حُجرتها على جِدَارها (2)، وكلُّ شيءٍ علا شيئًا فقد ظهر، قال الله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} الآية (¬4)، أي يعلوه. ¬
وقال (¬1) الهَرَوِيّ (¬2) في قوله: "لم تظهر" أي: لم تعل السَّطح (¬3). ومنه قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (¬4) ومنه الحديث الآخر: "لا تزالُ طائفةٌ من من أمَّتي ظاهرينَ على الحَقِّ" (¬5). أي: عالين عليه. وقال الجعدي (¬6) في ذلك: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدَنَا وَجُدُودَنَا ... وَإِنَّا لَنَرْجُوا فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا الثاني: قيل معناه: حتى يخرج الظِّلَّ من قاعة الحُجْرةِ، وكلُّ شيءٍ خرجَ أيضًا فقد ظَهَرَ. *والحجرةُ: الدّارُ إذا كانت ضيِّقَة امتنع ارتفاعُ الشّمس منها, ولم يكن موجودًا فيها إلَّا والشمس مرتفعة في الأُفُقِ جدًّا* (¬7). فالحجرةُ: الدّارُ، وكلُّ ما أُحِيطَ به حائطٌ فهو حُجْرةٌ، وفيه دليلٌ على قِصَرِ بُنْيَانِهِم. رَوَى الحسن بن أبي الحسن البصري - رضي الله عنه - أنّه قال: كنتُ أدخلُ بيوتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مُحْتَلِمٌ، فأنالُ سُقُفَها بيدِي، وذلك في خلافة عثمانَ (¬8). ¬
قال الأوزاعيُّ: كان عمر بن عبد العزيز يصلِّي الظُّهرَ في السَّاعةِ الثامنةِ، والعصرَ في السَّاعةِ العاشرةِ (¬1) حينَ يدخُل (¬2). وفي هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى (¬3): فيه دليلٌ على قَبُولِ خَبَرِ الواحدِ، لأنّ عمرَ قَبِلَ خبرَ عُرْوَة وحدَهُ فيما جَهِل من أَمْرِ دِينِهِ. لأنّ عمر كان لم يَصِلْه الحديث فأنكره عليه. وأمّا قولنا: "إنَّه دليلٌ على قَبُولِ خَبَرِ الواحدِ" إنّما هو على الشّبهة، فإن قَبُولَ خَبَرٍ الواحدِ مستفيضٌ عند النّاس، مُسْتَعْمَلٌ لا على سبيل الْحُجَّةِ؛ لأنّا لا نقولُ: إنَّ خبرٍ الواحدِ حُجَّة في قَبُولِ خَبَرِ الواحدِ على من أنكرَهُ. الفائدة الثانية (¬4) في هذا الحديث: هو ما كان عليه السَّلَف والعلماء من صُحْبَةِ الأُمُراءِ، وكان عمر بن عبد العزيز يَصْحَبُ جماعةً من العلماءِ، منهم: رَجَاء بن حيوةَ، وابن شهاب، وعُروَة، وعُبَيْد الله بن عبد الله، وَأَخْلِق بالأمير إذا صحب العلماء أنّ يكون عَدْلًا فاضلًا (¬5). ورَوَى حمّادُ بنُ زَيدِ عن محمّدِ بن الزُّبير؛ أنه قال؛ دخلتُ على عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ فسألني عن الحَسَنِ كما يسألُ الرَّجُلُ عن وَلَدِه، وقال: وكيف طُعْمَتُه؟ وهل رأيتَهُ ¬
حديث ثان
يدخلُ على عَدِيِّ بن أَرْطَأَة؟ وأين مجلِسُهُ منه؟ وهل رأيتَهُ يَطْعَمُ عند عَدِيِّ؟ فقلتُ له: نعم (¬1). وكانوا يقولون: خيرُ الأمراء من صحِبَ العلماء، وشرُّ الأمراء من بَغَضَ العلماء، وشرُّ العلماء من صَحِبَ الأمراء إلَّا من قال الحقّ، وأمر بالمعروف، وأعان الضّعيف. حديث ثان: وفيه فصول: الفصل الأول (¬2) في الإسناد مالكٌ (¬3)، عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عَطَاء؛ أنّه قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن وقتِ صلاةِ الصُّبحِ. الحديث. قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: لم تختلف الرواية عن مالكٍ في إرسالِ هذا الحديثِ، وقد نُقِلَ معناهُ من وجوهٍ صِحَاحٍ مُتَّصلةٍ، من حديث جابرِ، وأبي موسُى، وعبد الله بن عَمْرو، إلَّا أنّ فيها سؤال السائل لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصّلاة جملةً، وأجابه فيها كلّها في الصُّبح بمعنى حديث مالك. وقد رَوَى حُمَيْد الطَّويل (¬4)، عن ابِن عُيَيْنَةَ حديثًا مثل هذا. والصّحيحُ في حديثِ ¬
الفصل الثاني في سرد الأصول
عطاء الإرسال كما رواه مالك، وحديثُ حُمَيْد الطَّويل عن أنس حديثٌ صحيحٌ مُتَّصِلُ الإسنادِ (¬1). الفصل الثاني في سرد الأصول وفيه فوائد: الفائدة الأولى (¬2): قوله (¬3): "حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ": يحتَمِلُ أنّ يكون أراد البيان للجماعة؛ لأنّه لو أخبر القائل لانفردَ السْائلُ بذلك، والصّلاةُ جامعةٌ يحضرُها كثيرٌ من الصّحابة، فيكونُ ذلك تعليمًا للجميعِ. واختلَفَ المتكلِّمونَ من أهلِ الأصولِ في هذا الحديث، هل يقتضي تأخير البيان أم لا، على قولين: فقال قومٌ: ليس هذا من تأخيرِ البيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ. والفرقةُ الثّانيةُ أجازَتة، واحتجَّت بهذا الحديثِ. فأمّا الأبهَرِيُّ وغيرُه من الشّيوخِ فمَنَعُوا منه (¬4). ¬
وجوَّزَهُ القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب الباقّلانيّ (¬1) وجمهورُ أصحابهِ (¬2)، وقالوا (¬3): قد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قادرًا على أنّ يُبَيِّنَ للسائل ميقات تلك الصّلاة وسائر الصّلوات بقوله في مجلسه ذلك، ولكنّه أخَّر ذلك ليبيِّنَه عملًا وقولًا وفعلًا (¬4). ولذلك قال علماؤنا (¬5): "قد يكونُ البيانُ بالفعل -فيما سبيلُه العَمَلُ- أثبتَ في النّفوسِ من القولِ، دليلُه قوله -عليه السلام-: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ" رواه ابنُ عبْاسٍ عنه (¬6)، ولم يَرْوِهِ غيرُه". ووقتُ الخطابِ بالصّلاةِ وبيان أحكامها وأوقاتها قَد تقدَّمَ قبل السُّؤال؛ لأنّه لم يسأل إلَّا عن عبادةٍ ثابتةٍ، ولم يختَلِفْ أحدٌ في أنَّ للنَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ يؤخِّر جواب السّائل، وقد فعَلَ ذلك في أشياء كثيرةٍ، وقد تكلَّم العلماءُ في تأخير جوابِ السّائلِ، وما في ذلك من التغريرِ بفوَتِ العِلْمِ، لجوَازِ أنّ يكونَ السّائلُ قد ماتَ قبْلَ وَقْتِ التّعليمِ الّذي أُخِّر إليه. والجوابُ هو: أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما حملَ ذلك على العادةِ واسْتِصْحَابِ الحَالِ (¬7). وأيضًا: فإنّ الظّاهر من هذا الحديث أنّه سأل من بعد صلاة الصّبح من يوم سؤاله؛ لأنّه بدأَ بتعلِيمِهِ من صلاة الصُّبحِ من الغَدِ، فلم يتخلّل بين وقتِ السُّؤال ووَقْتِّ التَّعَلُّمِ وقت صلاة يخافُ عليه فيها الجَهْل بالوَقْت. وعلى قولنا: إنّه سأل عن تحديد الوقت، فالأمرُ أسهل، ووجه جَوَازِ التأخيرِ أبين، ولو مات السائلُ قبلَ وقتِ التّعليمِ، لكان قد ¬
أُثِيبَ على بحثه وسؤاله عن العِلْمِ. قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: "لم يمتنع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجوابِ له، لِمَا يخافُ عليه من اخْتِرَامِ المَنِيَّةِ؛ لأنّ الله تعالى قد أنبَأَهُ* بأنّه لا يفوته سائله -والله أعلم- وأنّه قد أَوْحَى إليه* أنّه لا يَقْبِضُه حتّى يُكمِلِ به الدِّينَ، وُيبَيِّنَ للأُمَّةِ على لسانه ما يُتَوَصَّلُ به إلى معرِفَةِ الأحكامِ، وكذلك فعلَ - صلى الله عليه وسلم -". الفائدة الثانية (¬2) في هذا الحديث: أنّ أوَّلَ صَلاةِ الصُّبْحِ طلوعُ الفَجْرِ، وأنّ آخِرَ وقتِها ممدودٌ إلى الإسفارِ. وقوله: "صلَّى الصُّبْحَ حينَ طلعَ الفجرُ" يريدُ بعدَ أنّ طلعَ الفجرُ، ولكنَّه جاءَ باللَّفظِ على المبالغةِ. وكذلك قولهُ: "بَعْدَ أنّ أسْفَرَ" إنّما يريدُ بعد أنّ بدأ الإسفار, لأنّه لو صلَّى بعد جميع الإسفار، لكانت الصّلاةُ عند طلوع الشّمسِ، وإنّما قصدَ من ذلك إلى الإخبار بتقديم الصّلاة في أوّل ما يمكن فعلها فيه، وتأخيرها إلى طلوع الشّمس، وهو آخر ما يمكن فعلها فيه. الفائدة الثالثة (¬3): في هذا الحديث: بيان أنّه ليس لصلاةِ الصُّبحِ وقتَ ضَرُورةٍ، وأنّ وقتَ الاختيارِ لها متَّصِل بطلوعِ الشّمسِ، وقد. اختلفَ عن مالكٍ في ذلك، فمرَّةَ قال: ليس لها وقت ضرورةٍ (¬4) على مقتضى الحديثِ، ومرّةَ قال: لها وقتُ ضرورةٍ. ¬
فأمَّا ما يقتضي أنّ جميع وقتها وقت اختيار: أنّ من رجا أنّ يُدْرِك الماءَ قبلَ طُلوعِ الشّمسِ لم يتيمّم، فلو كان وقت الاختيار إلى الإسفار، لرَاعَى الإسفارَ في جوازِ التيمُّمِ، كما راعَى مَغِيبَ الشَّفَقِ في التّيمُّمِ للمغربِ. الفائدة الرّابعة: صلَّى الصُّبْحَ في اليومِ الثّانِي حينَ طلعَ الفجرُ، وطلوعُ الفجرِ هو ظهورُهُ في الأُفُقِ. والفجرُ (¬1) عندنا هو البياضُ -أعني بياضَ النّهارِ- الظّاهِرُ في الأفُقِ المُنْتَشِرِ المُسْتَّطيرِ البيِّنِ المستنيرِ، تُسَمّيه العربُ الخيط الأبيض، كما قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الآية (¬2) يريد بياض النَّهارِ من سَوَادِ اللَّيلِ، قال أبو دُؤَادٍ الإيادِيُّ (¬3): فَلَمّا أضَاءَت لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وتسميه العرب أيضًا الصَّديع، ومنه انصداع الفجرِ. والفجرُ مصدرٌ من قولهم: فجر الماء وتفجَّر فجرًا، إذا جرى وانبعثَ (¬4). والفجرُ فجران، فالأوّل تسمِّيه العرب الكاذب، وهو البياضُ المرتفعُ في الأُفُقِ، وُيشَبَّهُ بذنب السّرحان لارتفاع ضوئه، لا يحل الصّلاة ولا يحرّم الطّعام. والفجر الثاني هو الصّادق، وهو المعترض في الأفُقِ، آخذا من القِبْلةِ، إلى دُبرِ القِبلَة، وهو الّذي يحرِّمُ الطعامَ ويحلِّلُ الصّلاةَ. ¬
واختلَفَ العلماءُ في التّغليسِ بها، هل هو أفضل من الإسفار أم لا؟ فذهب (¬1) الكوفيونَ والعراقيونَ أبو حنيفةَ وأصحابُه (¬2) إلى أنّ الإسْفارَ بها أفضَلُ من التغْلِيسِ في الأزمنة كلِّها. فالّذي كان يُغَلَّسُ بالفجرِ: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو موسى الأشعريّ، وابن الزّبير، وبه أخذ مالك (¬3)، واللّيث، والشّافعيّ (¬4)، وأحمد (¬5)، وإسحاق. والذي كان يُسفِر بالفَجْرِ من الصّحابة: ابن مسعود (¬6) هوأبو الدَّرداء (¬7) واسمه عُوَيمِر. وقال ابنُ سِيرِين: كانوا ينصرفون من الصُّبح وأَحدُهُم يرَى موقع نبله (¬8)، وبه تعلَّق أبو حنيفة. واحتج أبو حنيفةَ بالحديثِ المرويِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَسْفِرُوا بالفجر فهو أعْظَم للأَجْرِ" (¬9). واحتجّ مالكٌ - رضي الله عنه - والشّافعيّ بمُداوَمَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - ومُداوَمَةِ أصحابِه على التّغليسِ، ألا ¬
ترى إلى قولها (¬1): "كُنَّ نساءُ المؤمناتِ يَشهَدْنَ الصَّلاةَ ... الحديث" (¬2)، وهو إخبار على أنَّه كان يُدَاوِمُ على ذلك، وأنه أكثر فعله، ولا تحصل المداومة إلَّا على الأفضل. وزعم الطّحاويّ (¬3) أنّ آثار هذا الباب إنَّما تتّفقُ بأن يكون دخوله -عليه السلام- في صلاة الصُّبح مُغَلِّسًا، ثم يطيلُ القراءةَ حتّى ينصرف عنها مُسْفِرًا. قال الإمام الحافظُ - رضي الله عنه (¬4) -: وهذا فاسد من قوله، لمخالفته قول عائشة؛ لأنها حكَتْ أَنَّ انصرافهنَّ من الصّلاة كان ولا يعرفن من الْغَلَس. قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: الإسفار الّذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو أنّ يتّضِحَ الفجرُ، فلا يشكّ فيه أنّه قد طلعَ (¬5). قال الإمام: والإسفارُ في اللُّغةِ هو الانكشافُ، يقال أَسْفَرَتِ المرأةُ عن وجهها إذا كَشَفَتْهُ، فكأنّه قال: أسفِرُوا بالفَجْرِ، أي بيّنوه ولا تُغَلِّسُوا بالصّلاة وأنتم تشكّون في طلوعه حِرصًا على طلب الأجر لفضل التَّغليس، فإنّ صلاتكم بعد تيقُّنِ طلوعه أعظم للأجر، وعلى هذا التّأويل لا تتضادّ الآثار. وممّا يشهد لصحّة هذا التّأويل، حديثُ ابن مسعودة أنّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أيِّ الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأوَّل وقتها" (¬6). ¬
ذكر أوقات الصلوات وتحديد المواقيت
وأمّا من جعلَ الإسفار تأخير الصّلاة عن أوّل وقتها، فمحجوجٌ بهذا الحديث، وحملُ الآثار على ما ينفي التضاد عنها أَوْلَى، وبالله سبحانه أستعين. ذِكْرُ أوقات الصّلوات وتَحديدُ المَوَاقيتِ (¬1) فأمَّا وقتُ الظّهرِ، فهو زوالُ الشّمسِ عن كَبد السّماء (¬2). وآخر وقتها المستحبّ، أنّ يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيءٍ مثله بعد الّذي زالت عليه الشّمس (¬3). وأوَّلُ وقتِ العصر، إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله بعد ظلِّ الزّوال. وآخرُ وقتها المستحبّ، أنّ يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيءِ مِثْلَيْه (¬4). وآخرُ وقت الظّهر والعصر للضّرورة، إلى غروبِ الشّمس (¬5). وأوَّلُ وقت المغرب، إذا غربتِ الشّمس (¬6)، وقتٌ واحدٌ، لا يجوز تأخيرها إلَّا لعذرِ، مثل الجمع بين الصّلاتين للمسافر والمريض وفي المطر. وقيل: إنَّه لا يجوز تأخير المغرب عن غروب الشّمس لشيء من هذه الأعذار، ويجمع بين الصّلاتين عند الغروب. ¬
وقيل: إن لها وقتين في الاختيار (¬1)، وإنّ آخر وقتها المختار مَغِيب الشَّفَق من غير عُذرٍ، وهو ظاهرُ قولِ مالك رضي الله عنه، ذكر ذلك في موطئه (¬2). إلَّا أنّ أوّل الوقت أفضل، فحصل الإجماعُ في المغرب على أنّ المبادرة بها عند الغروب أفضل. وأمّا وقتُ العشاءِ المستحبّ، فَبِمَغِيبِ الشَّفَقِ -وهي الْحُمْرَةُ- عند مالك وجميع أصحابه (¬3)، وغيره يجعله المستحبّ لها. واختلف العلماء -رضوان الله عليهم- في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: إلى ثُلُثِ اللَّيل (¬4). والقول الثاني: إلى نِصْفِهِ (¬5). والقول الثالث: أنّ آخر وقتها طلوع الفجر للضّرورة (¬6). قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه (¬7): "الأوقاتُ تنقسم على خمسة أقسام: 1 - وقتُ اختيارٍ وفضيلةٍ، وهو أنّ يصلي قبل انقضاء الوقت المستحب. 2 - ووقتُ رخصةٍ وتوسعةٍ، وهو أنّ يصلّي في آخر الوقت المستحب. 3 - ووقتُ الرخصةِ للعُذرِ، وهو (1) أنّ يؤخّرَ الظّهرَ على ما ذكرناه من الاختلاف. ¬
4 - ووقتُ تضيق من ضرورة، وهو أنّ يؤخِّر الظّهر والعصر إلى غروب الشّمس، والصّبح إلى طلوع الشّمس، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. 5 - ووقتُ سُنَّةٍ، أخذ بحظٍّ من الفضيلة للضّرورة، وهو الجمع بين الصّلاتين بعرفة والمزدلفة. وأوَّلُ الأوقات كلّها أفضل، قال الله العظيم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (¬1) الآية، وقال عزّ من قائل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬2) ومعلوم أنّ مَن بادر إلى طاعة الله أفضل ممن تأخَّرَ عنها". واختلف العلماء رضوان الله عليهم في وقت الوجوب منه على أربعة أقوال (¬3): أحدها: مذهب مالك؛ أنّ الصّلاة تجب بأوَّل الوقت وجوبًا مُوَسَّعًا، وأن جميع الوقت وقت للوجوب. والقول الثاني: قول أصحاب الشّافعيّ: أنّ الصّلاة تجب بأوَّل الوقت، وإنّما ذكر آخره تمييزًا للأداء من القضاء، وهذا فيه نظر؛ لأنَّك إذا أطلقت القول بوجوب الصّلاة في أوّل الوقت، لزمك ألّا تجيز له تأخيرها عن وقت الوجوب، وهو أوّل الوقت، وهذا ما لا يقوله أحدٌ بوجهٍ ولا على حال. والقول الثالث: قال أصحابُ أبي حنيفة (¬4): إنّ الصّلاة لا تجب إلَّا بآخر الوقت، وهو الحين الّذي يأثم المكلَّف بتأخير الصّلاة عنه، وهذا أيضًا فيه نظرة لأنّ الصّلاة إذا لم تجب عنده في أوَّل الوقت فينبغي ألّا تجزئه إنْ صلّاها فيه، كما لا تجزئ من صلَّى قبل الوقت. ¬
حديث ثالث
والقول الرّابع: قال علماؤنا (¬1): "إنّ وقت الوجوب منه وقت غير معيَّن، وللمكلَّف تعيينه بفعل الصّلاة فيه. وهو أظهرُ الأقوال وأَسَدُّها وأجراها على الأصول (¬2)؛ لأنّ معظمهم قالوا: إنّ الأفعال المخيَّر فيها كالْعِتْقِ والإطعام والكسوة في الكفَّارة* الواجب منها واحد غير معيّن، وللمكلَّف تعيين وجوبه وفعله، ولم يخالف في ذلك إلَّا ابن خويزمنداد فإنّه قال*: إنّ جميع ذلك واجب، فإذا فعل المكلَّف أحدها، يسقط وجوب سائرها، وما قدَّمناهُ هو الصّحيح إنّ شاء الله؛ لأنّ الأفعال الواجبة جميعها لا يسقط بعضها بفعل البعض". حديث ثالث: مالك (¬3)، عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَةَ، عن عائشة؛ أنّها قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُصَلِّي الصُّبحَ، فينصرفُ النِّساءُ مُتَلَفِّفَاتٍ (¬4) بِمُرُوطِهِنَّ، ما يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. قال الإمام الحافظ (¬5): وروى يحيى "مُتَلفِّفَات" بالفاء، وتابعه على ذلك طائفة من رواة الموطأ (¬6)، وأكثر الرُّواة (¬7) على "مُتَلَفِّعَات" بالعين، والمعنى واحد (¬8). ¬
حديث رابع
شرح (¬1): قال الإمام الحافظ: والمُرُوط: أكسيةُ الصُّوفِ. وقيل: إنّه كساء صوف مُرَبَّع. وقيل (¬2): هي أكسية من صوف رقاق، واحدها مِرْطٌ. وقوله: "مُتَلَفِّعَات" يعني مشتملات، تقول -العرب: تلَفَّعَ الرَّجلُ بثوبه، إذا اشتمل به، وتَلَفَّعَ الرَّجلُ بالشيبِ، إذا شَمِلَهُ، قاله صاحب "العين" (¬3). وقال صاحب "الأفعال" (¬4): "لفاع المرأة كالْقِناع". قال الإمام الحافظ (¬5): وقد غَلِطَ بعضى من شَرَحَ الموطّأ -وهو القنازعي (¬6) - فزعَمَ أنّ هذا الحديث رواه ثوبان- مَوْلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا غَلَطٌ بَيِّنٌ، إنَّما أرسَلَه محمَّد ابن عبد الرحمن بن ثوبان، وليس بينه وببن ثوبان نَسَبٌ. حديث رابع: مالك (¬7)، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عَطاء وعن بُسْرِ بنِ سعيدٍ وعن الأعْرَجِ، كلُّهُم يحدِّثُ (¬8) عن أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً من الصُّبْحِ" الحديث. ¬
قال الإمام الحافظ -رضي الله عنه (¬1) -: يروي هذا الحديث حَفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ، عن زَيْدٍ، عنِ الأعْرَجِ، وبُسْرٍ، وأبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ (¬2)، فجعلَ مكانَ عطاءٍ أبا صالح، والحديثُ صحيحٌ (¬3). قولُ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً" الحديث، اختلَفَ العلماءُ في هذا الحديث على خمسة أقوال (¬4): القولُ الأوّل: قال بعضُ علمائنا في تأويل هذا الحديث، معناه: من أدرك من الصّلاة شيئًا فقد أدرك فَضْلَ الجماعةِ، واستدلُّوا على ذلك: بأنّ السّاعي إلى الصّلاة ومنتظرها في صلاةٍ. وبما رُوِيَ عن أبي هريرة (¬5)؛ أنّه قال: إذا انتهى الرَّجُلُ إلى القوم وهم قعودٌ في آخر صلاتهم، فقد دخل في التَّضعِيفِ (¬6). وقال عطاء: إذا خرج الرَّجلُ من بيته وهو ينويهم (¬7)، فقد دخل في التَّضْعيفِ أيضًا. القولُ الثاني - قيل (¬8): من أدرك التَّشهُّدَ فقد أدرك فضلها، قالوا: والفضائلُ لا تُدْرَكُ بقياسٍ. القولُ الثالثُ - قال آخرون: معنى هذا الحديث: أنّ من أدركَ ركعةً من الصّلاةِ هو مُدْرِكٌ لحُكمِها كلِّها، وهو كمن أدركَ جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه. القولُ الرابعُ: قال الشيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬9) -: "معنى هذا الحديث يقتضي ¬
فساد قول من قال: من أدرك قَدْرَ تكبيرةٍ؛ لأنّ دليلَ الخطابِ يقتضي أنّه مَنْ لم يُدْرِك من الوقتِ مقْدَارَ ركعةٍ فقد فَاتَهُ خيرٌ كثيرٌ، وغير هؤلاء ساقطون عن الوقت، كالحائض والمُغْمَى عليه ومن كان مثلهما، مثل السّكران، وشارب السّم عامدًا، والذاهب عقله". قال القاضي أبو الوليد (¬1): "قوله: "من أدركَ ركعةً من الصُّبْحِ" يحتمل عندي وجهين: أحدُهما: أنّ يكون ذلك في أهل الأعذار، وهذا قولُ ابن القاسم. والوجهُ الثاني: يحتملُ أنّ يريدَ من أدركَ ركعةً من الصُّبحِ قبلَ أنّ تَطلُعَ الشّمسُ، فقد أدرك أداء الصلاة، وإن لم يكن قاضيًا لها بعد وقتها, ولم يخرجه فعل بعضها بعدَ طلوعِ الشّمسِ عن حُكْمِ الإدراكِ. وإذا قلنا: إنّ المراد به إدراك وقت الوجوب، فإنّ المرادَ به: من أدرك مقدارَ ركعةٍ من صلاةِ الصُّبحِ. وإذا قلنا: إنّ المرادَ به إدراك وقت الوُجُوبِ للأداءِ؛ فإنّ تقديرَهُ: مَنْ أدركَ ركعةً من صلاة العصرِ يقتضي أنّه أقلّ ما يكون به المدرِكُ مُدْرِكًا، وبه قال الشّافعيّ (¬2). ¬
الفصل الثالث في شرحه وتنقيح هذه الأقوال جملة وتفصيلا
الفصل الثالث في شرحه وتنقيح هذه الأقوال جملة وتفصيلًا قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي- رضي الله عنه - (¬1): اعلموا أنّ قولَه في حديث أبي هريرة "مَنْ أدركَ ركعةً من الصُّبحِ" الحديث بظاهره يقتضي أنَّ ركعةً واحدةً تُجْزِئُهُ وتكفِيهِ، ولكنّ الأُمَّةَ أجمعَت على أنّه لابدّ أنّ يُضيفَ إليها أخرى، كما روى النّسائيُّ (¬2) وغيرُه (¬3)؛ أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أدركَ ركعةً من الجُمُعَةِ فقد أدركَ الجمعةَ". تفصيلٌ (¬4): قولُه: "من أدركَ ركعةً من الصُّبحِ قبلَ أنّ تَطْلُعَ الشَّمسُ" استوى هاهنا وقتُ الضّرورةِ ووقتُ الاختيارِ؛ لأنه ليس بعدَ طلوعِ الشّمسِ وقت للصُّبح، ولا قبلَها وقتُ ضرورةٍ لها، وكذلك كنّا نقولُ في العصر كما قال الأوزاعيُّ (¬5) وأبو حنيفةَ (¬6): لولا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من طريقِ أنسٍ وغيرِه: "تلكَ صلاةُ المنافقينَ - قالها ثلاثًا- يَجْلِسُ أحدُهُم حتَّى إذا اصْفَرَّتِ الشَّمسُ وكانت بين قَرْنَي الشيطانِ، قام فَنَقَرَ أربعَ نَقَراتٍ لا يَذْكُرُ اللهَ فيها إلَّا قليلًا" (¬7). فإن قيل: إنّما وقَعَ الذَّمُّ بالنَّقْرِ وقلِّةِ الذكْرِ؟ قلنا: إذا ذَكَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصْفَينِ وعلَّقَ الحُكْمَ بهما، لم يَجُزْ إلغاءُ أحَدِهِما، فلذلك قال ¬
حديث خامس
علماؤنا: هذا الحديثُ للحائضِ تَطْهُرُ، والصَّبيِّ يحتَلِمُ، والكافرِ يُسْلِمُ، فهؤلاء هم أهل الأعذارِ. فأمَّا النّاسي يَذكُرُ، فكلُّ وقتٍ يَذْكُرُ له وَقْتٌ. وكذلك المُغْتَمَّ مَتَى ما ذَكَر فهو وَقْتُهُ، وإن تمادَى الذِّكرُ به فكلُّ ذلك له وقتٌ، وهذا داخل تحت قوله: "من نَامَ عن الصَّلاةِ أو نَسِيَهَا" (¬1) والنّاسي هو التّارك لغةً. اسْتلْحَاقٌ (¬2): لمّا جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقتَ العُذْرِ في العصر متَّصِلًا بغروبِ الشّمسِ وقتَ الصّلاةِ الّتي بعدَها، ركَّبَ عليه علماؤنا وقتَ ضرورةِ العَتَمَةِ، فجعلوا طلوعَ الفجرِ وقتَ الصّلاة الّتي بعدَها، وهذا إلحاقٌ صحيحٌ وتشبيهٌ بالغٌ. غَائِلَةٌ وإيضاحٌ: جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - آخرَ الأوقاتِ الخَمْسِ في الصّلواتِ محدّدًا بمُشاهدَةِ العيَانِ، لا يَصِحُّ فيه اختلافٌ، ولا يُدْرَكُ فيه ارتيابٌ، إلَّا العَتَمَةَ، فإنّه جعَلَ آخرَ وقتِها مُقَدَّرًا بالحَزْرِ والتَّخْمِينِ. ولذلك اختلفتِ الرِّوايات ما بين ثلُث اللَّيل ونصفه، ولهذا أدخل مالكٌ (¬3): "إِلَى شَطْرِ اللَّيلِ، ولا تَكُن من الغافلينَ" لأنّه أحَدُ وَجْهَي التّحديدِ، والحِكْمَةُ في أنّ جُعِلَ موقوفًا على التّخمِينِ؛ أنّ الظِّلَّ بالنّهار علامةٌ مُعَايَنَةٌ، فعلَّقَ النَّظرَ بها, وليس باللّيل علامةٌ مُعَايَنَةٌ، ولا يكلِّف اللهُ نفسًا إلَّا وُسْعَها، فَوُكِّلُوا إلى التّقدير وعُذِروا في التّقصيرِ. حديث خامس: مالكُ (¬4): عن نَافِعٍ مَوْلَى عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ؛ أنّ عمرَ بنَ الخطابِ كَتَبَ إلى عُمَّالِهِ، ¬
الفصل الأول في فوائده
هكذا رواهُ مالكٌ، ورواه عُبَيْدُ الله بن عمرَ، عن نافعٍ، عن صَفِيَّةَ بنتِ أبي عُبَيْدٍ؛ أنّ عمرَ بن الخطابِ كتَبَ إلى عُمَّالِهِ، فذَكَرَ مثلَه. فيه فصلان: الفصل الأوّل في فوائده الثّاني: في شرحه وفيه من الفوائد ستّ: الفائدة الأولى (¬1): فيه ما كان عليه عمر بن الخطّابِ من الاهتبال بأمور المسلمينَ إذ وَلّاهُ اللهُ أَمْرَهُم، وإنّما خاطبَ العُمَّالَ؛ لأنّ النّاسَ تَبَعٌ لهم، كما جاء في المَثَلِ: "النَّاسُ على دِينِ المَلِكِ" (¬2) وقد رُوَّينَا في المأثور؛ أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صنفانِ من أُمَّتِي إذا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وإذا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ: الأمراءُ والعُلماءُ" (¬3)، ومن استَرْعَاهُ الله رَعِيَّةَ لَزِمَهُ أنّ يحُوطَها بالنّصيحةِ، ولا دِينَ لمن لا نَصِيحة له. وكان عمر رضي الله عنه كالأب الشَّفِيقِ الحَدِب؛ لأنّه كان يَعْلَمُ أنَّ كلَّ راعٍ مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ؛ لأنَّه رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من استرعاهُ اللهُ رَعِيَّةً فلم يُعَامِلْهَا بالنَّصيحةِ, لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ" (¬4). ¬
الفائدة الثانية (¬1): قوله (¬2): "حفظها": يكونُ بأحدِ أمرينِ: إمّا من المحافظة الّتي قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية (¬3)، أو يكون "حَفِظَها" عِلْمُ ما لا تتمُّ إلَّا به؛ من وضوئها وسائرِ أحكامِها. أمّا قوله: "وحافَظَ عليها" فيَحْتَمِلُ المحافظةَ على أوقاتها، والمبادرةَ والمسابقةَ إليها، والمحافظةُ إنَّما تكونُ على ما أُمِرَ به العبدُ *من أداءِ فريضةٍ, ولا تكونُ إلاَ في ذلك أو في معناه؛ من فِعْلِ ما أُمِرَ به العبدُ*، أو تَرِك ما نُهِيَ عنه، ومن هنا لا يَصِحُّ أنّ تكونَ المحافظةُ من صفات البارئ، ولا يجوزُ أنّ يقالَ: مُحَافِظٌ، ومن صفاته أيضًا: حفيظٌ وحافِظٌ جلَّ وتَعَالَى. الفائدةُ الثّالثةُ: قولُه: "من حافَظَ عليها" يريدُ من عَلِمَ وضوءَها ومواقيتَها وعدَدَ ركوعِها وسجودِها، و "حافَظَ عليها" يعني: لازَمَها وواظَبَ عليها "حَفِظَ دينَهُ" ومن ضَيَّعَهَا فهو لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ". الفائدة الرّابعة: قولُه:؛ أنّ صَلَّوا الظُّهْرَ إِذَا كانَ الفيءُ ذِرَاعًا" يعني: إذا زاد في الشّمس بعدَ نُقصَانِه، وذلك أنّ ترجعَ الشمسُ بعد استوائِها في كَبِدِ السَّماءِ إلى ناحيةِ المغربِ، فتزيدُ على كلَّ شيءٍ قائم وذلك رُبُع قامةٍ، ومعنى (¬4) ما قدّمناه إنّما هو لمساجدِ الجماعاتِ؛ لِمَا يَلْحَقُ الناسَ من الاشتغالِ واختلافِ أحوالِهِم؛ لأنّ فيهم الثَّقيلُ والخفيفُ في حَرَكَاتِهم. ¬
الفائدة الخامسة (¬1): والفَرْسَخُ: ثلاثةُ أميالٍ (¬2)، واختلفوا في الْمِيلِ؟ وأصحُّ ما قيل فيه: ثلاثةُ آلافٍ وخَمْسُ مِئَةِ ذراعٍ، وهذا كلُّه (¬3) على معنى التَّقريبِ، وليس في شيءٍ من ذلك تحديدٌ، ولكنَّه يدلُّّ على سَعَةِ الوقتِ. الفائدة السادسة (¬4): قوله (¬5): "وأَخِّرِ الْعِشَاءَ مَا لَمْ تَنَمْ" فكلامٌ ليس على ظاهره، ومعناه: النّهيُ عن النّوم قبلَها؛ لأنّه قد ثبتَ النّهيُ عند العلماء عن النّوم قبلَها، واشْتُهِرَ عند الجميع منهم شُهْرَةَ تُوجِبُ القطعَ بأنّ عمرَ لا يَجهَلُ ذلك، ومن تأوّلَ عليه (¬6) إباحة النّومِ قبلَها فقد جَهِلَ، ويدلُّ على ذلك: دعاؤه على من نام قبلَها، وقد رخَّص فيها قومٌ من الفقهاء، ولا معنى له عندي (¬7). وقوله (¬8): "ولا تكُنْ منَ الغافِلينَ" يعني: لا تكن من الّذين يغفلون عن صلاتهم حتى يخرج وقتها. وقال أبو عمر (¬9): إنَّما يكون من الغافلين من صلَّى العِشَاء بعدَ نصفِ اللَّيل، إنّما هذا لمن يتخذه عادةً، وقد سُئِلَ مالكٌ (¬10) عن الحَرَسِ يُؤَخِّرُونَ العِشَاءَ إلى ثُلُثِ اللَّيل أو نِصْفه، ¬
الفصل الثاني في حظ الأصول والشرح
فأنكر ذلك، وقال: "لم يكن النّاس يؤخِّرون هذا التأخير، وقد عرفت أوقات الصّلاة" والحمد لله وبه استعين، وهو حسبي ونعم الوكيل. الفصلُ الثاني في حظِّ الأصول والشَّرح قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬1): نبّه مالك - رحمه الله - بحديث عمر على أصلٍ كبيرٍ من أصول الفقه (¬2)؛ لأنّ عُمَرَ كتبَ إلى الأمصارِ بكتابِه فما اعترَضَهُ أحدٌ فيه. توصيل (¬3): ونَبَّهَ به أيضًا على أصل آخر من أصول الفقه؛ وهو اتِّصالُ عَمَلِ الخُلَفَاء بحديث النَّبيِّ، فتَقْوَى النّفسُ به، أو يأخذُ أحدٌ أحاديثَه فيرجّحُ بها على غيره. ولم يوجد هنا لأبي بكبر - رضي الله عنه - في هذا الباب كلامٌ، فأردَفَهُ بكلام عُمَرَ، ووجَدَ في الزّكاة كلامَ أبي بكير وعُمَرَ، فَأردَفَهُ بكلامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. تقدير (¬4): ذكر عمرُ بن الخطَّابِ في كتابِه (¬5): "أنّ صَلُّوا الظّهرَ إذا كان الْفَيءُ ذِراعًا" والمُصَلُّونَ على قسمينِ: واحدٌ، وجماعةٌ. فأمّا الواحدُ، فأوّلُ الوقتِ له أفضَلُ، بلا خلافٍ بين المالكيةِ (¬6) والشّافعية، نعم (¬7) وقد وَهِمَ بعضُ المالكيةِ في هذه المسألة، كما بيّنّاه في موضِعِه. ¬
وأمّا الجماعةُ، فأوّلُ الوقتِ أفضلُ لها بلا خلافٍ. مزيد إيضاح (¬1): لمّا كتب عمرُ بنُ الخطاب إلى عُمَّاله (¬2) في إقامة الصّلواتِ بالنّاسِ جماعةً، قَدَّرَ لهم رُبعَ القَامَةِ، ولمّا كَتَبَ إلى أَبي موسى الأشعريِّ في خاصَّة نَفْسِهِ (¬3)؛ قال له: "صَلِّ الظُّهْرَ إِذا زَالَتِ الشَّمْسُ" فهذا هو الفرقُ بينهما. تنبيه (¬4): لمّا رأى مالك - رحمه الله - حديثَ جبريلَ -عليه السلام- في تقديرِ الأوقاتِ بالظِّلِ لم يَصِحَّ، أدخلَ حديثَ أبي مسعودٍ الْمُجْمَلَ (¬5)، وذلك قوله: "فَصَلَّى، فصَلَّى رَسُولُ اللهِ" ثمّ أدخلَ حديثَ أبي هريرةَ في الظِّلِّ المُفَسِّرِ (¬6)، فقال: " أنَا - وَايمُ اللهِ (¬7) - أُخْبِرُكَ؛ صَلِّ الظُّهْرَ إِذَا كَانَ ظِلُّكَ مِثْلَكَ، والْعَصْرَ إِذَا كَانَ ظِلُّكَ مِثْلَيْكَ". قال الإمامُ: وقد غاصَ البخاريُّ على هذه المسألةِ فَقَلَبَهَا، فصار يُتَرْجِمُ بما لم يَصِحَّ عندَهُ، ويُعْقِبُهُ بتفسيرِ الصّحيحِ. ¬
حديث سادس
حديث سادس: مالك (¬1)، عن يَزِيدَ بن زِيادٍ، عن عبدِ الله بنِ رَافِعٍ؛ أنّه سألَ أبا هريرةَ عن وقتِ الصّلاة ... قال الشيخ أبو عمر (¬2): "هذا حديثٌ موقوفٌ عند جميعِ الرُّواة، والمواقيتُ لا تُؤخَذُ بالرَّأْيِ، ولا تُدْرَكُ إلَّا بالتّوقيفِ، وقد رُوِيَ عن أبي هريرةَ حديثُ الوقتينِ مرفوعًا (¬3)، وجعلَ للمغربِ وَقْتًا واحدًا" على ما مضَى عليه القولُ من أَخبار العلماء، وقد مضَى القولُ في الأوقات. تَنْبِيهٌ على إغفالٍ (¬4): روى يحيى بنُ يحيى (¬5): "بغَبَسٍ" بالسِّينِ (¬6)، ورواه ابن وضَّاح: "بِغَبَشٍ" بالشِّين المنقوطة (¬7). وكذلك رواه عن سُحنون عن ابنِ القاسم عن مالك، وكذلك رواه أكثر الرُّواة للموطّأ (¬8)، ومعانيها متقاربةٌ، وهو اختلاطُ النُّورِ بالظُلْمَةِ (¬9). ¬
حديث سابع
حديث سابع: مالك (¬1)، عن إسحاقَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: "كنَّا نُصلِّي العصرَ، ثمَّ يخرُجُ الإنسانُ إلى بني عَمْرِو بنِ عَوْنٍ، فيجِدُهُم يُصَلُّون العصرَ". قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه - (¬2): هذا الحديثُ يدخلُ في الْمُسْنَدَاتِ (¬3)، وهو الأغلبُ من أمْرِهِ، وكذلك رواه جماعةُ الرُّوَاةِ للمُوَطَّأ عن مالك (¬4)، وقد أسْنَدَهُ ابنُ المُبارَكِ، فذَكَرَ عن مالكٍ، عن إسحاقَ، عن أنسٍ؛ قال: كنَّا نصلِّي العصرَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَهُ مُسْنَدًا (¬5)، وكذلك رواه عَتِيقُ بن يعقوب عن مالك. وهذا الحديث يدلُّ على معنيين: أحدُهما: تعجيلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصّلاةَ في أوَّلِ الوقت. والثّاني: سَعَةُ الوقت. وأنّ النّاس في ذلك الوقت -وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن صلاتهم في فَوْرٍ وَاحِدٍ؛ لِعِلْمِهِم بما أُبيحَ لهم من سَعَةِ الوقت، والآثار كلُّها تدلُّ على أنّ أكثرَ وقتِها ممدودٌ. ¬
شرح معنويٌّ (¬1): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: أمّا حديثُ أنَسٍ في خروجِهم بعدَ انقضاءِ الصلاةِ إلى بني عَمْروِ بن عَوْفٍ في قُبَاء، فيجدُهم يُصَلُّون العصرَ، فإنّما جاء به لبيان تَفَاوُتِ النَّاس في تقديم الصّلاة وتأخيرها على حَسَبِ أعمالِهم وأشغالِم. * واختلفَ النّاس في الشغل* الصّلاة إذا تَعَارَضَا مع سَعَة الوقت، فقال أحبارُهُم: من فِقْهِ الرجُل أنّ يبدأ بشُغلِهِ قبلَ صلاتِه حتى يُقِيمَها بقَلْبٍ فارغ لها (¬2)، وإلى هذا وقعتِ الإشارةُ بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح (¬3): "إَذَا حضَرَ العَشَاءُ والصَّلاةُ - زاد الدّارقطني (¬4): وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ- فَلْيَبْدَأ بِالعَشَاءِ" (¬5). وههنا اختلفَ النّاسُ قديمًا وحديثًا، إذا ترَكَ الصّلاةَ عن أوَّلِ الوقتِ بعدَ عِلْمِهِ بها، هل يترُكُها إلى بَدَلٍ، أو يترُكُها ترْكًا مُطْلَقًا؟ فمن العلماء من قال: إنّه يترُكُها إلى بَدَل، وهو العَزمُ على الفعلِ (¬6). ومنهم من قال: يترُكُها مُطْلَقًا. وليس بشيءٍ؛ لأنّ في ذلك تَسْوِيَةً بينَها وبين النَّقْل. ¬
حديث ثامن
فإن قيل: لو كان العَزمُ على الفعلِ بَدَلًا لأسقطها إذا فُعِلَ، كسائرٍ الأبدالِ إذا فُعِلَت سَقَطَتْ مُبْدَلاَتُهَا. الجوابُ: أنّ سائرَ المُبْدَلاتِ إنّما سقَطَت بأبدالها؛ لأنّها جُعِلَت بَدَلًا عن أصل الفعل، وفي مسألتِنَا جَعَل العَزمَ بَدَلًا عن تأخيرِ الفعلِ، وقد أدخل الدارقطنيُّ (¬1) هذا الحديثَ (¬2) في أوهام مالكٍ؛ لمخالفَةِ الجماعةِ له فيه، وانفرادِهِ دونَهم به، والله أعلم. حديثٌ ثامن: مالك (¬3)، عن ابنِ شهابٍ، عن أنسٍ؛ أنَّه قال: كنّا نُصَلِّي العصرَ، ثمَّ يذهَبُ الذّاهبُ إلى قُبَاءٍ، فَيَأتِيهِمْ والشَّمشُ مُرتَفِعَةٌ. الإسناد: قال الإمام (¬4): هذا حديثٌ مرفوعٌ عند أهل العِلْمِ بالحديثِ؛ لأنّ مَعْمَرًا وغيرَهُ من الحُفَّاظِ قالوا فيه: عن الزُّهريِّ، عن أنس؛ أنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي العصرَ، ويذهبُ الذَّاهبُ إلى الْعَوَالِي والشَّمسُ مرتفعةٌ. قال الإمام (¬5): ولم يختلف فيه عن مالك أنَّه قال فيه: "إلَى قُبَاءٍ" (¬6) ولم يتابِعْه على ذلك أحدٌ من أصحاب ابنِ شهابٍ، وسائرُ أصحابه (¬7) يقولون: "ثمَّ يذهبُ الذاهبُ إلى الْعَوَالِي" وهو الصّواب عند أهل الحديث والنقل، والمعنى في ذلك قريبٌ. ¬
حديث تاسع
وقد رواه خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، عن مالكٍ فقال فيه: "إلى العَوَالِي" (¬1) كما قال سائرُ أصحابِ ابنِ شهابٍ. والعَوَالِي مختلفةُ المسافةِ، فأقربُها إلى المدينة مِيلاَنِ وثلاثة، وأبعدُها ثمانية ونحو ذلك (¬2). تنبيه على مقصد: قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬3) -: " والمعنى الّذي أدخل مالك له هذا الحديث، تعجيل العصر، خلافًا لأهل العراق الّذين يقولون بتأخيرها، فنقلَ ذلك خَلَفُهم عن سَلَفِهم بالكوفة والبصرة". وأمّا أهل الحجاز، فعلى تعجيلِ العصرٍ نقلَ سَلَفُهُم عن خَلَفِهِم. حديث تاسع (¬4): مالك (¬5)، عن رَبِيعَةَ، عن القاسِمِ بنِ محمدٍ؛ أنّه قال: ما أَدرَكْتُ (1) النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِعَشِىِّ. قال مالك: يريدُ الإبرادَ بها. وأهلُ الأهواءِ يُصَلُّونَ الظُّهرَ عند الزّوالِ، بخلافِ ما هم النّاسُ عليه، وكان مالكٌ يكرَهُ أنّ تُصَلِّى الظُّهرُ عند الزّوال، وكان يقولُ: هي صلاةُ الخوارجِ وأهلِ الأهواءِ. ¬
وقت الجمعة
وقتُ الجمعةِ قال الإمامُ: في هذا الباب للعلماء ثلاثة فصول وثلاث فوائد: الفصل الأولى في الإسناد مالك (¬1)، عن عَمِّهِ أبي سُهَيْلِ بنِ مالكِ، عن أبيه؛ أنّه قال: كنتُ أَرَى طِنْفِسَةً لعَقِيلِ بنِ أبي طالبٍ. الحديث. قال الشّيخ أبو عمر (¬2): "يَرْوِي هذا الحديث عبدُ الرّحمن بنُ مهديِّ، عن مالكٍ، عن عَمِّهِ، عن أبيه، فقال فيه: كان لعَقِيل طِنْفِسَةٌ ممّا يلي الرّكْنَ الغربيَّ، فإذا أدركَ الظِّلَّ الطِّنْفِسَةَ خَرَجَ عُمَرُ ... ". قال (¬3): "فجعلَ مالكٌ الطِّنْفِسةَ لعَقيل، وجعَلَها محمدُ بن إسحاق للعبّاسِ في حديثٍ آخر (¬4)، والله أعلمُ. والمعنى في طرحها لعَقيل؛ أنّه كان يجلسُ عليها ويجتمعون (1) إليه (¬5) ". ¬
الفصل الثاني في الترجمة
الفصل الثاني في التّرجمة قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬1): أَتْبَعَ مالكٌ - رحمه الله - ذِكْرَ الأوقاتِ بوقتِ الجمعةِ، وهو الثّالثَ عشرَ من أوقاته الّتي بَنَى عليها. وقال الشّيخ أبو عمر رضي الله عنه (¬2): "إنّما أدخلَ مالكٌ هذا الخبرَ دليلًا على أنّ عُمَرَ لم يكن يُصلِّي الجمعةَ إلَّا بعدَ الزّوالِ، ردًّا على من قال: إنْ عمر وأبا بكر كانا يصلّيانها قبلَ الزّوالِ، وإنكارًا لمن قال: إنّها صلاةُ عِيدٍ، فلا بأس أنّ تُصَلَّى قبل الزّوال". وأما من قال: كنا نُصَلِّيهَا ضُحىً (¬3)، فباطل عند مالك؛ لأنّه محجوجٌ بحديث (¬4) أبي بكرٍ بنِ عَيَّاشِ، عن أبي إسحاق؛ قال: صلَّيتُ خَلْفَ عليّ بن أبي طالب الجمعة بعد الزَّوالِ (¬5)، وعلى هذا مذهبُ الفقهاءِ كلِّهم (¬6)، لا تَجوزُ الجمعةُ عندَهُم ولا الخُطبةُ إلَّا بعدَ الزَّوالِ. ورَوَى (¬7) ابنُ القاسم عن مالك، أنّه قال: وقتُ الجُمُعَةِ وقتُ الظُّهْرِ (3) لا تَجِبُ إلَّا بعدَ الزَّوالِ، وتُصَلِّى إلى غروبِ الشَّمسِ. ¬
ومن العلماء من قال: وقتُها وقتُ الظُّهرِ (¬1). وقد اضطربَ المذهبُ في ذلك على أقوال: فقيل (¬2): "إنّ أوّل وقتِ الجُمعةِ زوال الشّمسِ، وآخرَ وقتِهَا عند ابنِ القاسم وأَشْهَب ومُطَرِّف آخر وقتِ الظّهرِ (¬3). وآخر وقتها عند ابن عبد الحَكَم وابن الماجِشُون وأَصْبَغ إلى صلاة العصر (¬4) "، حكاه القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله. نكتةٌ لُغَوِيّةٌ (¬5) قولُه: "كنتُ أَرَى طِنْفسةً لعَقِيل يَوْمَ الجمعةِ" الطّنافسُ هي البسط، واحدُها طِنْفسة. وعرض الغالب فيها ذراعان، ويحتمل أنّ يكون سجوده (¬6) على الْحَصْبَاءِ وجلوسه عليها وقيامه (2) ومعنى ذلك (¬7): أنّ السُّجودَ على الطّنافِسِ مكروهٌ عند مالك، وكذلك كلّ ما ليس من نباتِ الأرض (¬8)، إلَّا من ضرورةٍ شديدةٍ من حَرٍّ أو بَرْدٍ. وأمّا بَسْطُها في المسجد، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن مالك: ألّا بأس أنّ يُتَّقَي بَرْدُ الأرض بالحُصُرِ والمصلّيات (¬9) في المساجد، ومعنى ذلك (¬10): أنّ الجُلوسَ على الفراشِ والاتِّكاءَ على الوسائدِ يُنَافِي التّواضعَ المشروعَ في المساجدِ. ¬
الفصل الثالث في الشرح
نُكْتَةٌ: قال. ابن حبيب (¬1) وعيسى بن دينار: بين المدينة ومَلَل (¬2) ثمانيةَ عشرَ ميلًا. الفصل الثّالث (¬3) في الشرح قال الإمامُ الحافظُ: نصّ العلماء من قال: إنّها صلاةٌ كصلاةِ الظُّهر. ومنهم من قال: إنّها كصلاة الضُّحَى. ومنهم من قال: كصلاة العِيدَيْن، قاله مجاهد. وعرضت ههنا مسألةٌ تعلَّقَ بها شيءٌ من هذا الخلافِ، وهو أنَّ الجمعةَ هل هي أصلٌ بنفسها والظُّهر بَدَلٌ، أو هي بَدَلٌ والظُّهرُ أَصلٌ؟ فاختلف في ذلك العلماءُ، ووقَعَ في "الكتاب" (¬4): إذا دخَلَ يومَ الخميس يَظنُّهُ يومَ الجمعةِ، أو يومَ الجمعةِ يظنُّهُ يومَ الخميسِ، وذَكر فيهْ القولين. وفيها قولٌ ثالثٌ: إنَّه يُجْزِئُ فيهما، وفيها قول رابع: إنّه لا يجزىءُ في واحدٍ منهما. ونظيرُها: إذا دخل المسافرُ خَلْفَ المقيمِ، أو المقيمُ خلفَ المسافرِ بنيَّةٍ مُطْلَقةٍ، أو بنيَّةِ الْقَصْرِ، أو بنيَّةِ الإتمامِ، موافقًا لنيَّةِ إِمَامِهِ، أو مخالفًا لها، والصّحيحُ أنّها إذا اختلفت نِيَّتُه مع نيَّةِ إمامه بَطَلَتْ صلاتُه؛ لأنّه إذا دخلَ يومَ الخميسِ وزادَ ركعتينِ، فقد زادَ في صلاته ما لم يَنْوِ. وإن دخلَ يومَ الجُمعةِ وهو يَظُنُّهُ يومَ الخميسِ، فقد نقص ما يَلْزَمُهُ، وكلاهما لا يجوزُ. ¬
قال الإمامُ الحافظُ أبو بكر بن العربي: والّذي يَصِحُّ، أنّ الظُّهرَ أصلٌ والجمعةَ بَدَلٌ؛ لأنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظّهرَ أوّلًا ثمّ رجَعَ إلى الجُمعةِ بعدُ. نكتة: واختلَفَ العلماءُ -رضوانُ الله عليهِم- في أوَّل جمعةٍ جُمِّعَتْ؟ فقيل: إنّ أوَّلَ جمعة جمعت بعد المدينة بِجُوَاثَاءَ (¬1) من البحرين من بلاد عَبْدِ الْقَيْسِ (¬2). وقيل: بأمَجٍ. (¬3). ولكنّها بَدَلٌ يُفْعَلُ مع القُدْرَةِ على الأصلِ، كرامةٌ أكرمَ اللهُ بها هذه الأُمَّةَ، وشيءٌ يَسَّرَهُ اللهُ إليهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحنُ الآخِرُونَ" السّابِقونَ يومَ القيامةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكتابَ من قَبْلِنَا وَأوتينَاهُ من بَعْدِهِم، وهو اليومُ الّذي اختلفوا فيه، فهدَانَا اللهُ إِليْهِ، فالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: اليهودُ غَدًا، وَالنَّصارَى بَعْدَ غَدٍ" (¬4). ومن الآثار المأثورة؛ أنّ جبريلَ -عليه السلام- جاءَ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بمرآةٍ وفيها نُكتَةٌ، فقال له النّبيُّ -عليه السلام-: "ما هذه المرآة وهذه النكتة؟ " فقال: "هي الجمعة، والنُّكْتَةُ: السَّاعةُ" (¬5). ¬
وفي ذلك أربع فوائد: الفائدة الأولى: أنّ السَّبقَ بالفِعْلِ لا بالزِّمانِ. الفائدة الثّانيةُ: أنّ ابتداءَ حِسَابِ الجُمعةِ يومُ الجمعةِ، وخاتِمَتُهُ الخميسُ، إلَّا أنّ النّاسَ أصابَتْهُم رائحةٌ يهوديِّةٌ، فأخَّرُواَ أنفسَهُم وقد قَدَّمَهُمُ اللهُ، فيبتَدِئونَ بيومِ السَّبتِ، وَيخْتِمُون بيومِ الجمعةِ، وإلى مِثْلِه وقَعتِ الإشارةُ بقوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} الآية (¬1). الفائدة الثالثة: هي أَنْ جعلَ الجُثَثَ (¬2) محمولةٌ للظُّروفِ، والظُّروفَ خبرًا عنها في قوله: "اليهودُ غَدًا" (¬3) وقد قال عبدُ المَلِكِ بنُ مَرْوَانَ: نحن الدُّنيا فمن رفعناهُ ارتفعَ. الفائدة الرابعة: أنّ الله تعالى هدانا للتَّمَسُّك بالشّريعة، وأنّ أهلَ الكتابِ بَدَّلُوا، فهدانا اللهُ للحقِّ. تنبيهٌ وتبيينٌ: ثُبت في الصّحيح أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصَلِّي الجمعةَ، فينصَرِفُ وليس للحيطانِ ظِلُّ (¬4)، وهذايدلُّ على (¬5) التّبكير إليها, إلى التّبكير بها، وأدخل مالك (¬6) حديث عمر موافقًا له؛ فإنَّ الطَّنْفسة إنّما كان يغشاها الظِّلُّ، ظلُّ الجِدارِ في أوَّلِ الوقتِ، وذلك يُعرَفُ بثلاثةِ شروطٍ: أحدُها: صوبُ الْقِبْلَةِ بالمدينة. والثّاني: الجِدَارُ. لأنّ الظِّلَّ يَختَلِفُ فيه. ¬
الثالثُ: عَرْضُ الطِّنْفِسَةِ. لأنّها قد تكونُ بقَدْرِ الظِّلَّ أو زَائدًا. وقد أُخِذَ على مالكٍ في تحديده وقتَ صلاةِ الجمعةِ بهذا القَدْرِ الّذي لا يمُكنُ الوصولُ إليه إلَّا بعدَ جهْدٍ، وهذا لا يتوجَّهُ عليه؛ لأنّه إنّما ساقَ ذلكَ من فعلِ عمرَ حُجَّةَ على من قدَّمَ الجمعةَ بالمدينةِ (¬1)، وبهذا أشارَ إلى أوَّلِ الوقتِ وهو حدُّها، وأوَّلُ الوقتِ يُدركُ في كلٍّ موضع بهيئتِهِ. وقد كان الأمُراءُ يؤخِّرونَها جدًّا حتّى يُخرِجُوها عن أوَّلها، فذكر مالكٌ (¬2) أيضًا حديثَ عثمانَ؛ أنّه كان يُصَلِّي الجمعةَ بالمدينةِ، والعصرَ بِمَلَلٍ، وبينهُما نحوٌ من خمسةِ فَراسِخَ. حديث مالك (¬3)، عن عَمْرِو بنِ يحيى، عنِ ابنِ أبي سَلِيطٍ؛ أنَّ عثمانَ صلَّى الجمعةَ بالمدينةِ، وصلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ. قلتُ: قال البخاريُّ (¬4): "ابنُ أبي سَلِيطٍ هو عبدُ الله بن أبي سَلِيط"، وأبوهُ: أبو سَلِيط بن عمرو بن قيس الأنصاري من بني النّجّار، شَهِدَ بَدْرًا (¬5)، قال الواقديّ (¬6): "اسْمُه مَيْسَرَه بالهاء (¬7) "، وقيل: لا يُعرَف اسْمُه (¬8). ¬
باب من أدرك ركعة من الصلاة
واختلف النَّاسُ فيما بينهُما (¬1)؟ فقال ابنُ وضاح: بينهما اثنانِ وعشرونَ ميلًا ونحوها. وقال غيرُه: ثمانية عشر مِيلًا (¬2). ورُويَ عن مالك أنّه قال: بين المدينة ومَلل نحو من أحد وعشرين مِيلًا، وهذا يدلُّ على أنّه صلّاها في أوَّلِ الوقتِ. باب من أدرك ركعة من الصّلاة مالك (¬3)، عنِ ابن شهاب، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرةَ؛ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَن أدركَ ركعةً من الصّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ". الإسناد قال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ -رضي الله عنه (¬4) -: "هكذا رَوَى هذا الحديث جماعة رُوَاةِ المُوَطأ" (¬5). وقد ذكر في حديثِ ابنِ شهابٍ لفظة شاذّة (¬6) لم يروها عنه غير عبد الوهاب (¬7)، ¬
فقال: "من أدركَ ركعةً من الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ وفَضْلها". واختلفَ العلماءُ في معنى هذا الحديث (¬1)؟ فقيل: ليس معناهُ أنّه تُجْزِئه عن باقِيها، وإنّما معناه: أنّه أدركَ الفَضْلَ، ولَزِمَهُ حُكْمُ الإمامِ الّذي نَوَاهُ ولَزِمَهُ الاقتداء به. ونشأت ههنا مسألة ليس فيها عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نصِّ، وهو أنّه إذا كان مُدْرِكًا بركعةٍ للصّلاةِ، هل يكون ذلك أوّل صلاتِه أو آخِرَها؟ فاضطربَ العلماءُ في ذلك، وضُرِبَ بينه وبين الأكثر منهم باب لم ينفُذُوا فيه على معنّى، ولا يَحتَمِلُ هذا الكتابُ إدراكَ ظُلمةِ الإشكالِ فيه. قال الإمامُ: والذي يجبُ أنّ يُعَوَّلَ عليه، أنّ الّذي أدرَكَ من الصّلاة، يَبْنِي عليها في الجُلوسِ والقراءةِ، وهذا فصلٌ تعرفونَهُ إنّ شاءَ الله، فلا معنى للإِطنَابِ فيه. إلَّا أنّه دخلَ عليه فرعان اختلَف في ذلك أشياخُنا، وهي اختلاطُ القضاءِ بالأداءِ في صلاةِ الرَّاعِفِ، وفي صلاةِ الخوفِ. ونشأَ منه فرع في تخريجُ صلاةِ المُسافِرِ مع المُقِيمِ، والّذي يَهْدِيكُم فيه، أنّ تجعلُوا أوَّلَ صلاتِهِ ما أدركَ، ثمّ تُركِّبوا عليه الجلوسَ وتُركِّبُوا عليه القراءةَ، فإن أدركَ ركعةً وقامَ إلى ثانيةٍ في صلاةِ الجَهْرِ، جهرَ بالثّانيةِ (¬2). والصّحيحُ أنّه يأتي بهما عندنا؛ لأنّه لو أدركَ ركعتينِ من رُبَاعِيَةِ الجهرِ وقامَ إلى القضاءِ, يجهرُ ويقرأُ السُّورةَ. ¬
والأصلُ في هذا نُكتةٌ بديعةٌ؛ وهو أنّه إذا أدركَ ركعةً، أو ما يكونُ به مُدْرِكًا، فقد فاتَتْهُ أركانٌ وصفةُ أركانٍ، فَليَقضِ ما فاتَهُ من رُكنٍ أو صِفَةٌ لرُكنٍ (¬1). ومن العلماءُ من قال: يَقضِيها في محلِّ مِثْلِهَا، وهو الصّحيحُ كما تقدَّمَ. وقد سمعتُ أبا الوفاءِ (¬2) إمام الحنابلةِ ببغدادَ يقولُ: من نَسِيَ الفاتحة في الثّلاثِ ركَعاتٍ، قرأَهَا في الرّكعةِ الرّابعةِ أربعَ مرّاتٍ، وكان يُسْنِدُ ذلك إلى أبي بكرٍ الصِّديقِ، وهذا لا يقولُ به إمامٌ مثلُ أبي الوَفَاءِ. حديثُ مالكٍ (¬3)، عن نافعٍ؛ أنّ ابنَ عمرَ كان يقولُ: إذا فَاتَتْكَ الرَّكْعةُ فقد فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ. آخر: حديثُ مالكٍ (¬4)؛ أنّه بَلَغَهُ أنَّ ابنَ عمرَ وزَيْدَ بنَ ثابتٍ، كانا يقولان: من أدركَ الرَّكعةَ فقد أَدْرَكَ السَّجْدَةَ. هكذا رواه يحيى، وأمّا القعنبيُّ (¬5) وابن بُكَيْر (¬6) وأكثر الرُّواة للموطّأ (¬7)، فرَوَوْهُ عن مالكٍ؛ أنّه بلَغَهُ أنّ ابنَ عمر وزيدَ بنَ ثابتٍ كانا يقولان: مَنْ أدركَ الرّكعةَ قبلَ أنّ يَرْفَعَ الإمامُ رأسَهُ فقد أدركَ السَّجْدَةَ. ¬
* مالك (¬1)، أنّه بَلَغَهُ أنّ أبا هريرة كان يقول: من أدركَ الرّكعَةَ فَقَدْ أدركَ السَّجْدَةَ*، ومَن فَاتَتهُ قراءةُ أُمِّ القرآنِ، فقد فَاتَهُ خيرٌ كثيرٌ. قال الشيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬2) -: معنى قوله: "مَن أَدْرَكَ الرّكعةَ" الإدراكُ ههنا هو أنّ يركَعَ الإمامُ فيُدْرِكُهُ المأمومُ رَاكعًا فيركَعُ برُكُوعِه, فهذا معنى قوله, وهذا قولُ مالكٍ وأكثرِ العلماءِ، وفي ذلك خلافٌ من أجلِ حديثِ أبي هريرةَ؛ أنّه قال: منْ أَدركَ القومَ رُكُوعًا فلا يُعْتَدُّ بصَلاَتِهِ أو لا يُعْتَدُّ بها. قال الإمام الحافظ (¬3): وهذا قولٌ لا أعلم أحدًا من فقهاءِ الأمصارِ قال به، وفي إسناده أيضًا نظر (¬4). وأمّا قوله (¬5): "ومَن فاتَهُ قراءةُ أُمِّ القرآنِ فقد فاتهُ خيرٌ كثيرٌ" قال ابنُ وضّاح (¬6) وجماعة من الفقهاء (¬7): ذلك مَوضِعُ التّأمينِ واللهُ أعلمُ، يَعْنونَ قولَهُ: "من وَافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬8). ¬
باب ما جاء في دلوك الشمس وغسق الليل
باب ما جاء في دُلُوك الشّمس وغسَقِ اللّيل فيه فصول: الفصل الأوّل (¬1) في الترجمة أدخل مالكٌ - رحمه الله - هذا البابَ لنُكْتَةٍ واحدةٍ - وإن كان فيه كلامٌ كثيرٌ- ليُبَيِّنَ من قول ابنِ عمرَ (¬2) وابن عبّاس (¬3) - وهما أصلانِ في اللُّغةِ- أنّ الدُّلوكَ الزَّوَالُ، حتّى يكونَ قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} الآية، إلى قوله: {مَشْهُودًا} (¬4) مُتَنَاوِلًا للصّلوات الخمس (¬5). تأصيلٌ: بَيَّنَ مالكٌ - رضي الله عنه - في هذا الباب أصلًا من أصول الفقه؛ وهو أنَّ الحُكْمَ إذا تعلَّقَ باسْمٍ له أوَّلٌ وآخرٌ، تعلَّق بأوَّلِهِ. وقد اختلفَ العلماءُ في ذلك اختلافًا كثيرًا، تتعلَّق به الفروعُ من "كتاب الطهارة" إلى "أُمَّهَات الأولاد". ¬
الفصل الثاني في الإسناد
قال الإمامُ: وللدّلوكِ أوّلٌ وهو سقوطُ الشّمسِ عن كَبِدِ السّماءِ وآخِرٌ وهو الغروبُ في رَأْيِ العينِ. الفصل الثّاني في الإسناد قال الإمامُ الحافظُ الشّيخُ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: قولُ مالكٍ (¬2): "أَخبرني (¬3) مُخْبِرٌ؛ أنّ ابنَ عَبَّاسِ كان يقول: دُلُوكُ الشَّمْسِ: إِذَا فَاءَ الْفيءُ، وَغَسَقُ اللَّيلِ: اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وظُلْمَتُهُ" إنّ الْمُخبِرَ هاهنا هو عِكْرِمَةُ، وكذلك رواه الدّراوَرْديُّ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبَّاسِ، وكان مالكٌ يَكْتُمُ اسمَه، لكلامِ ابن المسيَّب فيه، وقد صرَّحَ به مالكٌ في "كتاب الحجِّ" (¬4)، وقد ذكرنا السَّبَبَ المُوجِبَ لذلك (¬5)، وذكرنا فضلَ عِكْرِمَةَ والثّناءَ عليه مع فضائلِ التّابعينَ في جُزءٍ مُفْرَدٍ (¬6)، ومات عِكْرِمَةُ عند داوُدَ بنِ الْحُصَيْنِ بالمدينةِ. واختلفت ألفاظُ المتأوِّلينَ في ذلك؟ ¬
فمنهم من يقولُ: دُلوكُها مَيْلُها بعدَ نصفِ النّهار (¬1). ومنهم من يقولُ: دلوكُها زيغُها (¬2) ومنهم من يقولُ: دلوكُها غروبُها (¬3). ولم يُخْتَلَفْ عنِ ابنِ عمرَ أنّه كان يقولُ: دلوكُها ميلُها (¬4). وأمّا (¬5) ابنُ مسعودٍ، فلم يُخْتَلَف عنه أنّ دُلُوكَها غُروبُها، وكان يُقْسِمُ على ذلك (¬6)، والوجهان في اللغة معروفان (¬7). وقال بعضُ أهلِ اللُّغةِ: دُلوكُها: مِنْ زوالِها إلى غروبِها (¬8). وأما غَسَقُ اللّيل، فالأكثرُ على أنّه أُرِيدَ به صلاةَ العِشاءِ. ورُوِيَ عن مجاهدٍ أنّه قال: غَسَقُ اللَّيلِ هو غروبُ الشَّمسِ (¬9). وقال غيره: غَسَقُ اللَّيلِ: المغربُ والعشاءُ. ¬
جامع الوقوت
جَامِعُ الوُقُوت قال الشيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: هذه التّرجمة عند يحيى (¬2)، وأمّا عند ابن القاسم في موطِّئِهِ في هذا الموضع: "وقتُ صلاة الظُّهرِ والعصرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، والمغربِ والعشاءِ إلى طُلُوعِ الشَّمسِ". تنببهٌ على مقصد (¬3): أدخلَ مالكٌ هذا الحديثَ في "جامِعِ الوُقُوتِ" لِمَا رَأَى من تَضْيِيع النَّاسِ لها خصوصًا، حتى أخرجُوها عن وقتها المختارِ لها، وهو البياضُ الغَالِبُ على الشَّمسِ، وقد أدخل فَضْلَ غيرِها في مَوْضِعِه، وقَدِّمَ الصّلاةَ للحاجةِ إلى تقديمِها. وفي "البخاريِّ" (¬4) عن بُرَيْدَةَ: "مَن فاتَتْهُ صلاةُ العصرِ فقد حَبِطَ عَمَلُهُ" ومعناه: ذهب , ففي حديث ابنِ عمرَ (¬5) جعَلَها قرينةَ الأهلِ والمالِ، وفي حديث بُرَيْدَةَ جعَلَها مُعَادِلَةَ العملِ، والمعنيانِ متقارِبَان مشترِكَان في التّأويل إنّ شاء الله؛ لأنّ المرادَ بقولِه: "وُتِرَ أَهلَهُ ومَالهُ" يعني: سُلِبَ، فضَرَبَ بِه مَثَلًا (¬6). ¬
قال الإمام الحافظ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: معناه عند أهل الفقه واللُّغة: أنّ الّذي يُصابُ بأهله ومَالِهِ يَجتَمِعُ عليه غَمَّانِ: غَمٌّ لذَهَابِ أهلِهِ ومَالِهِ، وغَمٌّ لما يُقَاسِي من طَلَبِ التَّرّة (¬2)، كأنّه يقول: الّذي تفوتُه صلاةُ العصرِ لو وُفِّقَ لِرُشْدِهِ وعرفَ قَدْرَ ما فاتَهُ من الفضلِ والخيرِ، كان كالّذي أُصيبَ بأهلِهِ ومالِهِ، وأنشدُوا في المعنى (¬3): كَأنَّمَا الذِّئبُ إذْ يَعْدُو عَلَى غَنَمِي ... في الصُّبحِ طَالِبُ وِتْرٍ كانَ فاتَّأَرَا قال علماؤنا (¬4): هو أنّ تفوتَهُ صلاةُ العصرِ من غيرِ (1) عُذْرٍ حتْى تغربَ الشّمسُ، ولا يُدْرِكُ منها ركعةً قبلَ الغروبِ. وأمّا من قال: إنّ ذلك أَنْ يؤخِّرَهَا حتّى تَصْفَرَّ الشّمسُ، فليسَ بشيءٍ. والدّليلُ على ذلك: قولُه: "الّذِي تَفُوتُهُ" والفَوْتُ الذَّهابُ. وقال علماؤنا من أهل الحديث (¬5): قد يَحتَمِلُ أنّ يكونَ تخريجُ قولِه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على جوابِ سائل سألَ، كأنّه قالَ: يا رسولَ الله، الّذي تفوتُه صلاة العصر؟ فقالَ رسولُ الله: هو كَمَن وُتِرَ أهلَهُ وَمَالَهُ، فإن كان هذا، فقد دخَلَ في معنى العصر (¬6)، والله أعلمُ. واختَلَف العلماء (¬7) في معنى "الفَوْت"؟ فقال الأَصِيلِىُّ: هو الّذي تَغرُبُ الشّمسُ ولم يُدْرِك شيئًا، وهذا أشبه بالفَوْتِ. ¬
وقال ابنُ وهبِ: الفوتُ هو إذا لم يُصلِّ في الوقتِ المُختارِ، وهو أنّ يَصِيرَ ظِلُّكَ مِثلَيْكَ، واختار هذا القول الدّاوديّ. وقال في قوله: (وُترّ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" يَحْتمِلُ أنّ يريدَ به: وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ دون أجْرٍ ولا ثواب يُذَّخَر له على ذلك. وقال غيرُهُ: معناه أنّ هذا الّذي فاتَتْهُ الصّلاة يلحقه من الأسَفِ والاسترجاعِ ما يلحق مَنْ قد وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ (¬1). حديث مالكٌ (¬2)؛ عن يحيى بنِ سعيدٍ؛ أنّ عمرَ بنَ الخطَّابِ انْصَرَفَ من صلاةِ العصرِ، فَلَقِيَ رَجُلًا لم يَشْهَدْ صلاةَ العصرِ. الحديث. تنبيه على مقصد: قال الإمامُ الحافظُ الشّيخُ أبو عمر - رضي الله عنه (¬3) -: إنَّما أردفَ مالكٌ - رضي الله عنه - حديثَهُ هذا (¬4) بحديثه عن يحيى بنِ سعيدٍ؛ أنّ عُمَرَ انْصَرَفَ من صلاةِ العصرِ. الحديث؛ يقول مالك (¬5). ¬
وقولُ (¬1) مَنْ تَقَدَّمَ لشرح المُوَطَّأ (¬2): إِنّ هذا الرّجلَ الّذي لَقِيَهُ عمرُ هو عثمان، وهذا لا يوجدُ في أَثَرٍ عَلِمْتُهُ (¬3)، وإنّما عثمانُ هو الّذي جاءَ وعمرُ يَخْطُبُ، فقال له عمرُ: أيّةُ سَاعَةٍ هي هذه؟ رُوِي ذلك من طريقٍ ثابتٍ (¬4). وأمّا الرَّجلُ الّذي لَقِيَهُ عمرُ، فهو رجلٌ من الأنصارِ من بني حَدِيدَةَ، صاحب النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وقولُه في هذا الحديث (¬6): "طَفَّفْتَ" معناه: أنّك نَقَضْتَ نفسَكَ حظَّها من الأجْرِ، بتأخُّرِكَ عن الصّلاة في الجماعة في (¬7) مسجد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان (¬8) يُدْركُ فضيلةَ المسجدِ بصلاةِ الفَذِّ، ويُدْرِكُ فضيلةَ الجماعةِ في غيرِ ذلكَ المسجدِ. ¬
وأمّا "التَّطفيفُ" في لسان العَرَبِ، فهو الزِّيادةُ على العدْلِ والنُّقصانُ منه، وذلك ذَمٌّ لفاعلِهِ، قال اللهُ تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الآية (¬1). ومَن ذمَّهُ اللهُ استحقَّ عقابَهُ، كما أنّ مَنْ مدَحَهُ استَوْجَبَ ثوابَهُ. تبيين: قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬2) -: "وأمّا قولُ مالكٍ: "يُقَالُ لِكُلِّ شيءٍ وَفَاءٌ وتَطفِيفٌ" فإنّه يعني: أنّ هذه اللّفظةَ تدخُلُ في كلِّ شيءِ مذمومٍ، زيادةً كان أو نقصانًا". ورُوِيَ عن ابنِ وهبٍ أنّه قال: الصّلاة كالمِكْيَالِ مَنْ أَوْفَى اسْتَوْفَى، أو قالَ: فَمَنْ أَوْفَى قُبِلَ مِنْهُ. وقيل: تَرْكُ المُكافَأةِ مِنَ التَّطْفِيفِ (¬3). قال الهروي (¬4) في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (¬5) قال: التّطفيفُ عبارة عن كلَّ شيءٍ مذمومٍ (¬6)، أو قال: عني النّقص (¬7). والتّطفيفُ أيضًا في الوضوءِ والصّلاةِ والمكيالِ والميزانِ مذمومٌ (¬8). حديث مالكٌ (¬9)، عن يحيى بن سعيدٍ؛ أنّه كان يقولُ: إنّ المُصَلِّيَ ليُصَلِّي الصَّلاةَ وما فَاتَهُ وَقْتُها. الحديث. وفيه فصلان: ¬
الفصل الأول في إسناده
الفصل الأوّل في إسناده قال الشّيخُ الإمامُ الحافظُ أبو عمر (¬1): "هكذا رواه في الموطّأ، وهذا الحديث موقوفٌ على يحيى بن سعيدٍ، وهذا مرويٌّ من طُرقٍ ضعيفةِ الإسنادِ (¬2)، وتردُّها أيضًا أصولُ الآثارِ الصِّحَاحِ. لطائفةٌ تروِيه عن يحيى بن سعيدٍ، عن يَعْلَى بن مُسْلِمٍ، عن طَلْق بن حبيبٍ، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مُرْسَلٌ. وطَلْق ثِقَةٌ فيما نَقَلَ، إلَّا أنّه رأسٌ من رؤوس المرجئة (¬3)، وكان مع ذلك فاضلًا عابدًا (¬4)، وكان مالكٌ يُثْنِي عليه لعبادته وفضله، ولا يرضاهُ لمذهبه. وقد رُوِي مُسْنَدًا (¬5)، إلَّا أنّه يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث (¬6) ". ¬
الفصل الثاني في حظ الأصول
الفصل الثّاني في حَظِّ الأصول الإمام الحافظ (¬1): والأصولُ الّتي تَرُدُّ هذا الحديث، منها حديثُ نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أنَّه قال: "من فَاتَتْهُ صَلاةُ العَصْرِ فكأنما وُتِرَ أهلَهُ وَمَالَهُ" (¬2)، فلم يقع المثل ههنا والتّشبيه "إلَّا لمن فاته وقت الصّلاة كلّه، بدليل قوله: "مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً من العصرِ" (¬3) وبدليل قوله- حين صلَّى في طرفَي الوقتْ -: "ما بَينَ هذيْنِ وقّتٌ" (¬4). وقد حَكَى ابنُ القاسم عن مالكٌ أنّه لم يُعجِبه هذا الحديث (¬5). قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬6): "قوله "إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ" قال مالكٌ: لايُعْجِبُنِي ذلكَ، ويصلِّي الناسُ في أوّله وَوَسَطِه، وكَرِهَ التّضييقَ في ذلكَ". تنببهٌ على مقصدٍ: قال (¬7):؛ وكراهيةُ مالكٍ (¬8) لهذا الحديثِ: أنّ ظاهرَهُ يعارضُ الحديثَ الّذي لا خلافَ في صِحَّتِه، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الذِي تَفُوتُهُ صلاة الْعَصْرِ." الحديث" (¬9). ¬
وقولُه (¬1): (مَن تَرَكَ الصلاةَ (¬2) سَاهِيًا" السَّهْوُ: الذّهولُ عن الشيءِ تَقَدّمَهُ ذِكْرٌ أو لم يتقدِّمه. وأمّا النِّسيان فلابُدَّ أنّ يتقدَّمه الذَّكر" (¬3). واختلفَ العلماءُ في الشَّفَقِ على قولين (¬4): 1 - فمذهبُ مالكٍ - رحمه الله (¬5) - والثوريِّ والشافعيِّ (¬6) وغيرِهم يقولونَ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، وقاله ابنُ عبّاس وابنُ عُمَرٍ. 2 - والقولُ الثاني: رُوِيَ عنه أيضًا أنّه قال: الشَّفقُ البياضُ، وبه قال أبو حنيفةَ (¬7) وأصحابُهُ وعمرُ بن عبد العزيز (¬8). حديثُ مالكٍ (¬9)، عن نافعٍ؛ أنّ ابنَ عمرَ أُغَمِي عليه، فذهبَ عقْلُهُ، فلم يَقْضِ الصَّلاةَ. قال مالكٌ: وذلك فيما نَرَى أنَّ الوقتَ قد ذَهَبَ ... (¬10). فمالكٌ والشَّافعيُّ (¬11) وأصحابُهُما (¬12) على مذهبِ ابن عمرَ في الْمُغْمى؛ أنّه لا يقضِي ما فاتَهُ من الصّلوات الّتي أُغْمِي عليه فيها حتى خرجَ وقتُها. ¬
قال الإمام: وقد خالفَ ابنَ عُمَرَ في ذلك عمَّار وعِمْرَانُ بنُ حُصَينٍ، فَرَأيا القضاءَ وإن خرجَ الوقتُ. وذكر ابنُ أبي شَيْبَةَ في مصنَّفِه (¬1)؛ أنّ عَمَّارَ بن ياسرِ أُغْمِي عليه الظُّهرَ والعصرَ والمغربَ والعِشَاءَ، فأفاقَ في بعضِ اللَّيل فقضاهُنَّ. وقد رُوِيَ (¬2) عن عِمْرَانَ بنِ حُصينٍ؛ أنّه قال: يَقْضِىِ المُغْمَى عليه الصّلواتِ كلِّها. وأمّا (¬3) من أفاقَ وأدْرَكَ من الوقتِ ما يَقْضِي فيه الصَّلاةَ، فلا خلافَ بين الأَيِمَّة فيه أنّه إذا أفاقَ في وقتِ يُمْكِنُهُ الأداء أنّها تَلْزَمُهُ. قال الإمامُ الحافظُ - رضي الله عنه -: وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ومَن ذهبَ مَذْهَبَهُ؛ أنّ القَلَمَ مرفرعٌ عن المُغْمَى عليه، قياسًا على المجنون المتّفَقِ عليه؛ لأنّه لا يحْزُبُ المُغْمَى عليه إلَّا أصلان: أحدُهما: المجنونُ الذّاهبُ العقلِ. والآخرُ: النّائمُ. ومعلوم أنّ النّومَ لذَّةٌ، والإغماءَ عِلَّةٌ وبليَّةٌ، فهي بحالِ الجنونِ أَشْبَهُ. قال الإمامُ الحافظُ: وهذه مسألةٌ ليس فيها حديثٌ مُسْنَدٌ، ولا أَثَرٌّ يعْضُدُهُ نصٌّ جَلِيٌّ، وهي مُعْضِلَةٌ جدًّا (¬4)، وفيها عن ابنِ عمرَ وعمَّارِ بنِ ياسرٍ خلافٌ، فابنُ عمرَ لا يقضِي ما خرَجَ وقتُه، وعمَّارٌ يَقضِي. ¬
باب النوم عن الصلاة
باب النوم عن الصلاة مالكٌ (¬1)، عن ابن شهاب، عن ابنِ المسيَّب؛ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قَفَلَ من خيبر أَسْرَى ... الحديث. فيه فصولٌ: الفصلُ الأوّل (¬2) في الإسناد قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: هذا حديث مُرْسَلٌ في المُوَطَّأ عند جميعِ رُوَاتِهِ (¬3) فيما عَلِمْتُهُ وقيَّدْتُه، وكذلك رواه ابنُ إسحاق (¬4)، وابنُ عُيَيْنَة (¬5)، ومَعْمَر في رواية عبدِ الرزَّاقِ (¬6) عنه مُرْسَلًا كما رواه مالكٌ، وَوَصَلَهُ أبَان، عن مَعْمَرٍ (¬7). وَوَصَلَهُ ¬
الفصل الثاني في الفوائد المنثورة والتفسير
الأوزاعيّ أيضًا (¬1)، وُيونُس، عن الزّهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة (¬2). وقد (¬3) رُوِيَ في نومه -عليه السلام- آثار كثيرةٌ من وجوه، رواها جماعة منهم (¬4): ابنُ مسعودٌ (¬5)، وأبو قتادة (¬6)، وعِمْرَان بن الحُصَيْن (¬7)، وأبو هريرة (¬8). الفصل الثّاني في الفوائد المنثورة والتفسير قال الإمامُ الحافظُ - رضي الله عنه (¬9) -: قولُ ابنُ شهابٍ (¬10) في هذا الحديثِ: "حِينَ قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ" هو أصحُّ من قولِ من قال: إنّ ذلك كان حين مَرْجِعَهُ من غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ. أنّ نومَهُ ذلك كان في عامِ الحُدَيْبِيَّةِ (¬11)، وذلك في زَمانِ خَيْبَرَ. وقد ثبتَ في الصّحيحِ؛ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نامَ عنِ الصّلاةِ ثلاثَ مَرَّاتٍ (¬12): ¬
الأوُلَى: كان - صلى الله عليه وسلم - أوَّلُهُم اسْتيقاظًا (¬1). المرّةُ الثانيةُ: استيقظَ قبلَهُ أبو بكرٍ، فكَبَّرَ حتَّى استيقظَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). المرّةُ الثالثةُ: لم يحضُرْها أبو بكرٍ ولا عمرُ، وإنّما كان في رَكْبٍ ثمانيةٍ أو نَحوِها (¬3). وكلُّ ذلك ثابتٌ بنَقْلِ العدلِ عن العَدْلِ. فائدةٌ لغويةٌ (¬4): قولُه: "قَفَلَ" القُفُولُ: الرُّجوعُ من السَّفَر، ولا يقالُ قَفَلَ إذا سَارَ مُبْتَدِئًا، قال صاحب "العين" (¬5): "قفلَ الجيشُ قُفُولًا وقَفْلًا: إذا رَجَعُوا"، وقَفَلْتُهُم أنا أيضًا هكذا. الفائدة الثانية (¬6): فيه: أنّ خروجَ الإمامِ بنَفْسِهِ في الغَزَواتِ من السُّنَنِ، وكذلك إرسالَهُ السَّرايا، كلّ ذلك سنَّةٌ مَسْنُونَةٌ. الفائدةُ الثالثةُ: أَسْرَى وسَرَى باللّيلِ بمعنى واحدٍ (¬7)، وهي (¬8) لفظةٌ مؤنّثةٌ، يقالُ: سَرَى وأَسْرَى لُغتانِ، ولا يقالُ لمَشْيِ غيرِ اللَّيلِ سُرَى (¬9)، ومنه الْمَثَلُ السّائرُ: "عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ ¬
السُّرَى" (¬1) وعليه ينطلقُ قولُه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الآية (¬2). الفائدةُ الرابعةُ (¬3): قوله: "عَرَّسَ" والتّعريسُ: النزولُ آخرَ اللَّيلِ، ولا يقالُ للنّزولِ أوّل اللَّيلِ تعريسًا (¬4). الفائدةُ الخامسةُ (¬5): قولُه لبلالٍ: "اكْلأ لَنَا الصُّبْحَ" معناه: ارقُبْ لنا الصُّبحَ (¬6)، واحفَظ علينا وقتَ صلاتِنا، وأصلُ الكِلاَءةِ الحِفْظُ والرِّعَايةُ والمَنْعُ، وهي كلمةٌ مهموزَةٌ (1). الفائدةُ السادسةُ (¬7): فيه: إباحةُ المَشْيِ على الدَّواب باللَّيلِ، وذلك على قَدْرِ الاحتمالِ، ولا ينبغي أنّ يثقلَ عليها بالمشيِ ليلًا ولا نهارًا، وقَد أَمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالرِّفقِ بها وأَنْ يُخَفَّفَ عنها. الفائدة السّابعة (¬8): فيه: أَمْرُ الرَّفيقِ بما خفَّ من الخدمةِ والْعَوْن في السَّفَرِ، وذلك محمولٌ على ¬
العُرْفِ في مِثْلِه، وإنّما قلنا بالرَّفيق ولم نَقُلْ بالمَمْلوكِ؛ ولأنّ بِلالًا كان حُرًّا يومئذٍ أعتقَهُ أبو بكرٍ بمكَّةَ، وكانت غزوةُ خيبر سنةَ ستٍّ من الهجرةِ. وقال القاضي أبو الوليد الباجيّ (¬1) - رضي الله عنه -: "إنّ قولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: "اكْلأ لَنَا الصُّبْحَ دليلٌ على صِحَّةِ خَبَرِ الواحِدِ؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - رَجَعَ في وقتِ الصّلاةِ -وهو من أهمِّ أمورِ الشّريعةِ- إلى قولِ بلالٍ وَحْدَهُ. وقولُه: "وَكَلأَ بلاَلٌ مَا قُدِّرَ لَهُ" إخبارٌ منه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ فِعْلَ بلالٍ كان بِقَدَرٍ من اللهِ، وفي هذا ردٌّ على القَدَرِيَّةِ الذين يقولون: لا قَدَرَ، وينفونَ ذلكَ". الفائدة الثّامنة: قوله (¬2): "فاسْتَيْقَظ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والشَّمْسُ قد طلعَت" ههنا هو موضعُ الكلامِ على نَوْمِهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإن قال قائل (¬3): وكيفَ نَامَ - صلى الله عليه وسلم - وقد قيَّدْنَا عنه أنّه قالَ: "إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولا يَنَامُ قَلْبِي" (¬4) وقد نامَ هُوَ ههنا حتى طلعتِ الشَّمسُ؟ الجوابُ عنه - قلنا: إنّ من أهلِ العِلْم من تأوَّلَ ذلكَ من قوله: "إنَّ عَيْنَيَّ تنامان ولا ينامُ قلبي" على أنّ ذلك كان غالبًا من حَالِهِ (¬5). ومن العلماءِ من تأوَّل قوله: "ولا ينَامُ قَلبِي" ¬
على أنَّه لا تستغرقه آفة النوم حتى يوجد منه الْحدَثُ ولا يشعر (¬1)؛ لما رُوِيَ عنه -عليه السّلام- أنّه كان مَحْرُوسًا (¬2)، وأنّه كان يَنَامُ حتّى (¬3) يُسّمَعُ غَطِيطُهُ (¬4)، ثمّ يُصَلِّي ولا يَتَوَضَّأُ (¬5). الجوابُ الثاني - قال شيخُنا القاضي أبو الفضل في "الشِّفَا" (¬6) له: "قد قيَّدنا فيه أنّ معنى قوله: "لاَ ينَامُ قَلْبِي" أنّ قلْبَه لا ينامُ من أَجْلِ أنّه يُوحَى إلَيْهِ في المَنَامِ، وليسَ في قصَّةِ الوَادِي إلَّا نَوْمُ عَيْنَيهِ عن رؤيةِ الشَّيءِ (¬7). فإن قيل: فلَوْلاَ عادَتُه من اسْتِغْرَاقِ النَّومِ، لَمَا قالَ لبلالٍ:، "اكْلَأْ لنَا الصُّبْحَ. الجوابُ عن ذلك - قيل: إنَّه لمّا كان من شأنِهِ -علَيه السلام- التّغْلِيسُ بالصُّبح، ومُرَاعَاةُ أوَّلِ الفَجْرِ، إذ لا يَصِحُّ لمَنْ نَامَتْ عَيْنُهُ، إذ هُوَ ظاهرٌ لا يُدْرَكُ إلَّا بظاهرِ، فَوَكَّلَ لبِلاَلٍ مراعاة أَوَّلِه لِيُعْلِمَهُ بذلك". قال الشّيخ أبو عمر (¬8) - رضي الله عنه -: "والنّكتةُ في نَوْمِهِ - صلى الله عليه وسلم - مع قوله "إنَّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قَلْبِي" أنّ الأنبياءَ عليهم السّلام تنامُ أعينُهم ولا تنامُ قلوبُهم؛ ولأجل ذلك ¬
كانت رؤياهُم وَحْيًا، وكذلك قال ابن عبّاسٍ: رُؤيَا الأنبياءِ وَحْيٌ، وتَلا قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} الآية (¬1). وقد رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّا مَعْشَرَ الأنبياءِ تنامُ أَعْيُنُنَا ولا تنامُ قلوبُنا" (¬2) ونومُه -عليه السّلام- في السَّفَر من باب قوله:، إِنِّي لأنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ" (¬3) فخرقَ نومُه ذلك عادةً، ليسُنَّ لأُمَّتِهِ، ألا ترى أنّ قولَه في حديث العَلاَءِ بنِ خَبَّاب (¬4): "لو شاءَ اللهُ لأَيْقَظَنَا" ولكنّه أرادَ أنّ تكونَ سُنَّةً لمن بعدَكُم" (¬5). وقد قال غير واحد من علمائنا (¬6): إنّ نومَهُ كان يَنَامُ أحيانًا نَوْمًا يُشْبِهُ نومَ سائر الآدمِّيينَ، وقد يكونُ نومه في وَقْتٍ دونَ وقْتٍ، ونومُه ذلكَ إنّما كان منه غِبًّا، لمعنّى يريدُ اللهُ إِحْدَاثَهُ، ولِيَسنَّ لأُمَّتِهِ بعدَه ذلك (¬7). ¬
وقال بعضُ الصّوفية: إنّ معنى قوله: " إنّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبِي" معناه: أنّ عينَيْه تنامُ عن الدُّنيا, ولا ينامُ قَلْبُه عن المَلَكُوتِ الأعْلَى. قال الإمامُ الحافظُ أبو عمر (¬1) - رضي الله عنه -: "أمّا طَبْعُه وعادَتُه المعروفةُ منه ومِنَ الأنبياءِ قَبْلَهُ، فيما حَكَى عن نفسِهِ: "إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، ولا يَنَامُ قَلْبِي" (¬2) فأطلَقَ ذلكَ على نفسِهِ إطلاقًا غيرَ مُقَيَّدٍ بوَقْتٍ، وفي حديث آخرَ: "إنا مَعْشَرَ الأنبياءِ تَنَامُ أَعْيُنُنَا ولا تَنَامُ قُلُوبُنَا"، فأخبرَ أنَّ كلَّ الأنبياءِ كذلكَ". قال الإمام الحافظُ أبو بكر بن العربي -رضي الله عنه (¬3) -: اعلم أنّ الله تعالى خَلَقَ العبدَ حيًّا دَرَّاكًا مفكِّرًا قادرًا، في أحسنِ تقويمٍ، ثمّ ردَّهُ أسفلَ سافِلينَ، ثمَّ سلَّط عليه السَّهوَ والغَفْلَة، ليتبيَّنَ قُصورَ هذه الفضائِلِ الّتي فيه، حتى لا يقول: أنا كذا وأنا كذا. وسلَّطَ عليه النّومَ، وهيَ آفة تُدْرِكُ الحواسَّ، وركودٌ يقومُ بالجوارحِ، لا يَلْحَقُ القلبَ ولا الرُّوحَ ولا النَّفْسَ منها شيءٌ؛ ولذلك قال علماؤنا - رضي الله عنهم-: إنّ الرُّؤيا إدراكٌ حقيقةً وعِلْمٌ صحيحٌ، والمَرْءُ في يَقَظِتِه ومنامِهِ لا ينفَكُّ عن حالَتِهِ الّتي هو عليها, إنّ كان في اليقَظَةِ في تخليطٍ وتلاعُبٍ مع البطَّالينَ، انتقَلَ إلى مِثْل ذلك في المَنَام. وإن كان في يقَظتِهِ في عِلْم وتحقيقٍ وعبادةٍ؛، انتقلَ إلى مِثْلِ ذلكَ في المنامِ، فَلَقَفَهُ مَلَكُ الرُّؤيا إلى نَفْسِهِ، وألْقَى عليه مِثْلَ ما كان فيه من التّحقِيقِ. ولكنَّ الرؤيا أكثرُها حَقًّا؛ لأنّها أقربُ إلى الله، ولأنّها تأتي بواسطةِ الْمَلَكِ وليس عندَهُ إلَّا الحقُّ، فلذلك كانت جزءًا من النُّبوَّة؛ لأنَّ الْمَلَك يُلقيها إلى كلِّ عبدٍ، ولذلك كانت بُشْرَى؛ لأنّها خَبَرٌ من الْمَلَكِ عن الله تعالى. ونظيرُها في اليَقَظَةِ الفَأْلُ، فقد كان -عليه السّلام- يُصْغِي إليه ويُعَوَّلُ عليه، لكنّ الفَأْلَ ¬
أدنّى منزلةً، إذ يكونُ من الطِّفل والمرأة، ومِنْ مؤمنٍ وكافرٍ في دار الشُّعُوب (¬1) " (*) وهي اليَقَظَةُ، والرُّؤيا تكونُ من المَلَكِ مُخْلِصَةً في حالةِ الخُصُوصِ، لكن لغَلَبَةِ الشَّهوَاتِ (*) للآدميِّينَ، واستيلاءِ الغَفلاتِ على العِبَادِ، وأولئك في إقبالٍ على شَهْوَةِ البطْنِ والفَرْجِ. وقد يقعُ العبدُ من النّوم في غَمْرَةٍ، فلا يرى شيئًا، حقيقةً ولا خَيالًا، لا تكونُ نِسْبَةُ تلكَ الْغَمْرةِ في المنام نسبةَ السُّكَرِ أو الوَلَهِ في اليقَظَةِ. تنزيه وتشريف (¬2): قال الإمام: فإذا ثبتَ هذا الكلامُ، فالنّبيُّ عليه السّلام في حُكْم الآدميَّة وجِبِلَّةِ البشريّة مُطَهَّرٌ عن ذلك كلِّه وعن أشباهه، في ابتدائِهِ وفي مَآلِهِ، وكيفَ ما اختلفت حالُهُ من نومٍ أو يقَظَةٍ، في حقٍّ وفي تحقيقٍ، ومع الملائكةِ في كلِّ يومٍ وفي كلِّ طريقٍ. إنّ نَسِيَ فَبآكَدَ من ذلك اشتغلَ. وإن نامَ فبقَلِبه ونَفْسِهِ على الله تعالى أقبلَ. وهذا القَدْرُ الّذي ألقيناهُ إليكُم قد عَلمَتْهُ الصّحابةُ -رضوانُ الله عليهم-؛ فإنّها قالت في الصّحيح: وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لا نُوقِظُه حتّى يستَيقِظُ، لأنّا لا ندري ما هو فيه (¬3)؛ لأنّ نومَه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه عن آفةٍ، وإنّما كان بالتصرُّفِ من حالةٍ إلى حالةٍ، ليكونَ لنا سُنَّةَ. وقد قال -عليه السلام-: "إنّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُم أَنْسَى كما تَنْسَوْنَ" (¬4) فإذا ثبتَ هذا، فتبين الاشتراك في البشريّةِ والنِّسيانِ (¬5). ¬
الفائدةُ التاسعةُ: قوله (¬1): " ففَزعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اختلف العلماء في ذلك: فقال القاضي أبو الوليد الباجي (¬2): "إنّ فَزَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - لما فَاتَه من وقتِ الصّلاةِ، ولم يكن عنده قبلَ ذلك الوقت ما يجِبُ على من نَابَهُ مثل ذلك، فَفَزعَ له، وهذا أشبه بالخَبَرِ. وقال الأصيليُّ: إنّ فَزعَه كان لأجل المشرِكِينَ الّذين رَجَعَ من غَزْوِهِم (¬3) ". وقال الإمام الحافظ (¬4): أخَّرَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ عند الهبوبِ من النّومِ حتّى اقتادوا لأجل خمسة أوجه: أحدُها: انتظارُ الأمرِ من اللهِ تعالى، كيف يكونُ العملُ في ذلكَ. الثاني: تَحَرُّزٌ من العدوِّ واستشرافٌ له. الثّالثُ: كراهيةُ البقعةِ الّتي وقَعَت فيها الآفةُ. الرَّابعُ: ليَعُمَّ الاستيقاظُ والنّشاطُ إذا رحَلَ جميعُهُم. الخامسُ: قال أصحابُ أبي حنيفةَ (¬5): إنّما فعل ذلكَ لكي يذهبَ الوقتُ المنهيّ عن الصّلاةِ فيه، وفي الحديث: "حتَّى إذا ارتفعتِ الشَّمسُ وابيَضَّت، نَادَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصّلاةِ" (¬6). قال الشّيخ أبو عمر (¬7): "إنّما كان فَزَعُهُ إشفاقًا منه وحُزْنًا على ما فَاتَه من وقتِها بالنّوم الغالِبِ عليه، وحِرْصًا على بُلُوغِ الغايةِ من طاعةِ ربِّهِ. كما فَزعَ حينَ قامَ إلى صلاةِ الكُسوفِ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ (¬8)، وكان فَزَعُ أصحابِهِ لأنّهم لم يَعرِفُوا حُكْمَ من نامَ عن الصّلاةِ ¬
في رَفْعِ المَأثَمِ عنه وإباحةِ القضاءِ؛ ولذلك قال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "إنّ اللهَ قبضَ أرواحَنَا" الحديث (¬1). الفائدة العاشرة: قال الشّيخُ أبو عمر (¬2) - رضي الله عنه -: "في هذا الحديثِ تخصيصُ قولِهِ: "رُفِعَ القلمُ عنِ النّائمِ حتّى يَستَيْقِظَ" (¬3) وبيانُ أنّ من رُفِعَ المأثمُ عنه إنّما ذلك لما غَلَبَهُ من النّوم، ولم يرفع عنه وُجُوبَ الإتيانِ بالصّلاةِ إذا نسيت الصّلاة". الفائدة الحادية عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4): "اقتَادُوا" اختلَفَ العلماءُ والشّارِحونَ للحديثِ في معناه، وفي تأويل ذلك، فالّذي يحضُرُني، من ذلك وجهان (¬5): أحدُهما: أنّه - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بالاقتياد لِئَلَّا يبقَى من أصحابِه نائمٌ؛ إذ الرّحيلُ يَعُمُّ جميعهم. الثاني: أنّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَّلَ وَجْهَ الاقتيادِ بما ذَكَرَهُ في حديث زَيْد بن أَسْلَمَ: "إنّ هَذَا وَادٍ بِهِ شيطانٌ" (¬6). ¬
قال. القاضي أبو الوليد (¬1): "وهذه علّةٌ لا طريقَ لنا نحن إلى معرِفَتها، فلا يلزمُنا العمل بها. وأبو حنيفةَ (¬2) يقولُ: إنّ تأخيرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وأمرَهُ بالاقتيادِ إنّما كان لأنّه انتبهَ في حينِ طُلوع الشَّمسِ، ولا يجوزُ قضاءُ الفوائتِ في ذلك الوقتِ عنده. قال الإمام (¬4): وهذا الّذي ذهبَ إليه أبو حنيفةَ ليس بصحيح؛ لأنّ وقتَ طلوعِ الشّمسِ لا يكونُ لها ضوءٌ يضربُ شيئًا ممّا على وجهِ الأرضِ، وقد قال في حديث عِمْرَان بن حُصَينٍ (¬5): "فما استَيْقَظنَا إلا لحرِّ الشَّمْسِ". تفريع (¬6): قال (¬7): ولم يَخْتَلِف أحدٌ من رُوَاةِ الأحاديثِ في نومِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في الصَّحيحِ؛ أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا استيقظَ أَذَّنَ بالصّلاة وأقامَ لها، وفي ذلك اختلافٌ بينَ العلماءِ، وفي بعضِ طُرُقهِ: "أَذَّنَ وأَقَامَ" (¬8)، أو:"أَذَّنَ" (¬9)، واليقين في الأحاديثِ الصِّحاحِ أَوْلَى أنّ يُتَّبعَ من الشَّكِّ، كما أنّه لابدَّ من رَكْعتَي الفَجْر. لأنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَّهُما قبل صلاة الصُّبح (¬10)، فلا تلتَفِتُوا لروايةِ من قال بتَرْكِهِما. ¬
وأمّا (¬1) ما رواهُ جميعُ رواةِ المُوَطَّأ؛ أنّه "أَذَّنَ وأَقَامَ" (¬2) على اليقينِ، رواهُ كلُّهم (¬3)، ورواه ابن بُكَيْر "فَأذَّنَ أو أقَامَ" (¬4) على الشكّ، وقولُ الجماعةِ أَوْلَى وأصحّ. مسألة (¬5): اختلَفَ الفقهاءُ في الأذانِ للفوائتِ على مذاهب: 1 - المذهبُ الأوَّل: مذهبُ مالكٍ (¬6) الّا يؤذَّن لشيءٍ منها، وبه قال الشّافعيُّ (¬7) والأوزاعيُّ. 2 - وقال أبو حنيفةَ: يُؤَذَّنُ لها ويقامُ (¬8)، وبه قال أحمدُ بن حنبل. قال الإمامُ الحافظُ (¬9): والمنصورُ من هذه الأقوالِ (¬10)، قول من قال: لا يُؤذَّنُ لها. والدّليلُ على أنّه لا يؤذذَنُ لها: أنّ الأذانَ إنَّما هو إعلامُ للنّاسِ بالوقْتِ، ووقْتُ القضاءِ ليس بوقتِ إعلامٍ. وأيضًا: فإنّ الأذانَ في غيرِ وقْتِهِ تخليطٌ على النَّاسِ، وإذا اختصَّ بأوقاتِ الصّلواتِ، لم يُشْرَعْ في الفَوَائِتِ، إِذِ الفوائتُ لا تختصُّ بوقتٍ كالنّوافلِ. فإذا ثبتَ ذلكَ؛ فإنّ الأذانَ المذكورَ في الحديثِ هو إعلامٌ بالصّلاةِ دونَ الأذان المشروعِ. ¬
قال الإمام الحافظ (¬1): والدّليلُ أيضًا على أنَّ الإقامةَ مشروعةٌ في الفَوَائِتِ: الحديث المتقدّمِ (¬2). ومن جهة المعنى: أنَّ الإقامةَ ذِكْرٌ شُرعَ في استفتاحِ الصّلاةِ لا يجوزُ أنّ ينفصلَ عنها. مسألةٌ: قال الإمام: وَمنْ ذكرَ صلاةً يخافُ فواتَهَا، إنّ أَذَّنَ لها وهو في جماعةٍ يَلْزَمُهُم الأذان في الوقت، فليصلّوا (¬3) جماعةً ويتركُوا الأذانَ. وأيضًا إنّ خافوا الفَوَاتَ بالإقامةِ صلُّوا بغيرِ إقامةٍ (¬4)، قاله أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (¬5). تكملةٌ: قال الشّيخُ أبو عمر (¬6) - رضي الله عنه -: "الدّليلُ القاطع لمالك - رحمه الله - أنّ الإقامة تُجْزِىءُ في الفَوائِتِ عن الأذَانِ: فعلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخَنْدَقِ حينَ حُبِسَ يومئذٍ عن صلاةِ الظّهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ إلى هَوِيِّ من اللَّيلِ، ثمّ أقام لكل صلاةٍ ولم يذكر أَذانًا. رُوِيَ من حديث أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ (¬7)، وابنِ مَسْعُودٍ أيضًا" (¬8). ¬
الفائدة الثّانية عشر (¬1): في الكلام على مَنْ نام عن الصّلاةِ حتّى فاتَ وَقْتُها، هل يصلِّي ركعتَي الفجرِ أم لا؛ هذا في الفوائتِ. فمذهبُ مالكٍ - رحمه الله - أنّه قال: "ييدأُ بالمَكْتُوَبةِ"، ولم يعرِف ما ذُكِرَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك في ركعتَي الفجرِ يومئذٍ (¬2). وقال مالكٌ: إنّه من نَامَ عن صلاةِ الصُّبحِ حتّى طَلَعَت الشّمسُ إنّه لا يركَعُ ركعتَي الفجرِ، ولا يبدأُ بشيء سِوَى الفريضةِ؛ لأنّه لم يَبْلُغنا أنّ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتَيِ الفجرَ حينَ نامَ عن الصّلاةِ حتّى طَلعَتِ الشّمسُ (¬3). وليس في حديثه الّذي رواهُ مالكٌ أنَّه ركَعَهُما. وعلى هذا هو مذهبُه وجمهورُ أصحابِه، إلَّا أشْهَبَ وعليَّ بن زيادٍ فإنّهما قالا: يركَعُ ركعَتَيِ الفجرِ قبلَ أنّ يُصَلِّيَ الصُّبح، وقالا: قد بلَغنا أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلّاهُما يومئذٍ (¬4). وأمّا الإمامُ الشّافعيّ (¬5) وأبو حنيفةَ (¬6) والثوريّ فإنّهم قالوا: يركَعهُما إنّ شاءَ الله ولا ينبغي أنّ يتركَهما، وإلى هذا ذهبَ أحمدُ بن حنبلٍ وإسحاق، ورُوِيَ في ذلك حديث عن عِمْرَان بن حُصَين (¬7). الفائدة الثالثة عشر: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نامَ عن الصَّلاةِ أَوْ نَسِيَهَا فَليُصَلِّها إِذا ذَكَرَهَا، فإنَّ الله تعالى يقولُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (¬8) ". ¬
قال الإمام الحافظ: والنِّسيانُ في لسانِ العربِ وفي مُعْظَمِ اللُّغةِ يكونُ بمعنى الترك عَمْداَ، قال الله العظيم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (¬1) أي: تركوا طاعةَ الله والإيمانَ بما جاءَ به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فتركهم اللهُ من رحمته، وهذا ما لا خلافَ فيه. الجواب في ذلك (¬2) - فإن قيلَ: فَلِمَ خصَّ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النّائمُ والنّاسي بالذِّكر في قوله:"مَن نَامَ عَنْ الصَّلاةِ أَوْ نَسِيَها"؟ قيل: خصّ (¬3) بالذِّكر ليرتفع الوهمُ والظَّنُّ فيهما، لرفعِ القَلَم في سقوطِ المَأثَمِ عنهما بالنَّومِ والنِّسيانِ، فبيَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سقوطُ الإثمِ عنهما، وأَنّ ذلك غير مسقطٍ لِمَا يلزمهما من فرضِ الصّلاة، وإنّما أَوْجَبَهُ عليهما بذكرها. ولم يَحْتَجْ إلى ذِكْر العامِدِ؛ لأنّ العلَّةَ المتوهّمةَ في النّاسي والنّائمِ ليست فيه، ولا عُذرَ له في ترك فرضٍ وَجبَ عليه إذا كان ذاكرًا له. وقال أهلُ الظّاهر (¬4): أمّا العامدُ لترك الصّلاة، فإنّه لا يردّها أبدًا؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر العامد، وإنّما ذكر النّائم والنّاسي (¬5). ¬
تنبيهٌ على مقصد (¬1): قد بيّنّا أنّ مالكًا - رحمه الله - قَصَدَ في كتابِه هذا تبيينَ أصولِ الفقهِ وفروعِهِ، ومن جُمْلَتِها أنّه ذَكَرَ مسألتين بيَّنَ فيهِما أنَّ شرعَ من قَبْلَنَا شرعٌ لنا: المسالةُ الأولى: احتجاجُه بالآية في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬2). وهذا خطابٌ لموسى -عليه السّلام-، وأنّه أيضًا متَوجِّهٌ إلينا كتوجُّهِهِ لموسى -عليه السّلام- وأُمَّتِه. المسألةُ الثانيةُ: ذَكَرَهَا في "كتابِ الدِّياتِ (¬3) "، على ما نُبَيِّنُه إن شاء الله. استدراكٌ وتبيينٌ (¬4): قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2) وهنا نكتةٌ بديعةٌ: احتِجَاجُه بها؛ لأنّها مسألةٌ لُغَوِيّةٌ، وهي إضافةُ المصدَرِ إلى المفعولِ، المعنى: أَقِمِ الصَّلاةَ إذا أخْلَفْتُ لك الذِّكْر إليها. وغيرُ ذلك من التّأويلاتِ، يعضدُها (3) الاشتقاق وتشهد بذلك سائر الأدلّة. ¬
واختلف العلماء في معنى ذلك: فيمن قرأ: "للذِّكْرَى" (¬1) و"لذكري"، فأمَّا مجاهد فقال: معنى لِذِكْري، ان تذكُرَني فيها، فأوصل ذكر ربِّهِ بذلك (¬2). وقال النَّخعي (¬3) والشّعبي وأبو العالية: معنى لذكري، هو أنّ يصلِّي الصَّلاة إذا ذكرها (¬4)، كأنّه يقول: إذا ذكرتَها فذلك وقتها، هذا على تأويل الزّهريّ للآية. تفريع (¬5): واختلفَ العلماءُ فيمن ذَكَرَ صلاةً وهو في صلاةٍ (¬6)؟ فقال قومٌ: فسدت. عليه الّتي هو فيها حتّى يصلي الّتي ذَكَر (¬7). ومن علمائنا من قال: يصلِّيها لأنّه مأمورٌ يإقامة الصّلاة المذكورة في حين الذّكْرِ، فصار ذلك وقتًا لها، فإذا ذكَرَها وهو في صلاةٍ، فكأنّها مع صلاة الوقت صلاتان من يومٍ واحدٍ، اجتمعتا عليه في وقتٍ واحدٍ، فالواجبُ عليه أنّ يبدأ بالأوّل منها، فلذلك فسدت عليه الّتي كان فيها، كما لو صلّى العصرَ قبلَ الظّهر من ذلك اليوم. قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬8) -: "وفسادُها من جهةٍ التّرتيبِ، وكذلك عندَ العلماءِ. وأمّا مالكٌ وأصحابُه (¬9) ومن قال بقولِهِم: لا تجبُ إلَّا مع الذّكْرِ وحصولِ الوقْتِ ¬
وقلَّةِ العددِ، وذلك صلاة يومِ وليلةٍ فما دون (¬1). فإذا خرج الوقتُ سقطَ التّرتيبُ، وكذلك يسقط التّرتيب مع كثرة العدد، لِمَا في ذلك من المشقَّةِ الّتي لا يُطاق عليها". قال الإمام الحافظ (¬2): "واحتجّ بعضُهُم في التّرتيب (¬3) بحديث أبي جُمُعَةَ - واسمُهُ حبيبُ بن سِبَاع له صحبةٌ (¬4) -؛ قال: صلَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - المغربَ يومَ الأحزابِ، فلمّا سَلَّمَ قال: "هل عَلِمَ أَحَدٌ منكُم أَنِّي صليتُ العصرَ؟ " قالوا: لا، قال؛ فصلَّى العصر، ثمّ أعادَ المغرِبَ" (¬5). قال الشّيخ أبو عمر (¬6): "هذا حديثٌ لا يُعرفُ إلَّا عن ابن لَهِيعَةَ، عن مجهولين، لا تقومُ بهما حُجَّة (¬7). وقال الشّافعيّ (¬8) والطّبريّ: لا يَلْزَمُ التّرتيبُ في شيء من ذلك، وقالوا: مَنْ ذَكَرَ صلاةَ وهو في صلاةٍ وحدَهُ أو وراءَ إمام تَمَادَى في صلاتِه، فإذا أَتَمَّهَا، صلّى الّتي لم يذكر ولم يُعِدِ الأخرى بعدَها، فسقَطَ التّرتيبُ عندهم، ولا يُوجِب عندهم شيئًا إلَّا في صلاة اليوم وحدَهُ. وحجَّتُهُم: إنّما يجبُ التّرتيبُ في اليوم وحدَهُ وأوقاته، فإذا خرج الوقتُ سقطَ التَّرتيبُ، كما يجبُ ترتيب رمضان لا في غيره (¬9)، وإذا خرج الوقتُ سقطَ التّرتيبُ فصامَ متى شاء". ¬
قال المؤلِّف - رحمه الله -: قد مَضَى القولُ في فوائد هذا الحديث، وبَقِيَ الكلامُ في إثبات الجنِّ والشّياطين في قوله (¬1): "إِنَّ هَذَا وَادٍ به شيطانٌ". الفائدة الرابعة عشر (¬2): في الكلام في النَّفس والرُّوحِ في قوله: "إنّ الله قبض أرواحنا" الحديث قال الإمامُ الحافظُ: قولُه -عليه السلام-: "هذَا وَادٍ بِهِ شيطانٌ" نصٌّ في وجودِ الشّياطينِ، (*) ولا خِلاَفَ فيه بين أهلِ السُّنَّةِ، وهم نوعٌ من الخَلْقِ خَلَقَهُم الله تعالى ويَسَّرَ لهم التبدُّل (*) في الصُّوَرِ باختيارهم، كما يسَّرَ لنا التَّصرفَ في الحركاتِ. وسلَّطَهُمُ اللهُ تعالى على الخَلْقِ تسليطًا سبق به الوعدُ الحقُّ، ليتميَّزَ المطيعُ من العاصي بِفِتْنَتِه، كما يتميَّز عند الله تعالى في عِلْمِهِ وكَلِمَتِهِ، فسلّطَهُ على بلالٍ حتّى أضجَعَهُ وشغَلَه عنِ ارتقابِ الصّلاة حتّى فاتت لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وظنَّ الشيطانُ أنّه قد حصَلَ على صَفْقَةٍ، فهيَّأَ اللهُ لنا فيها سُنَّةَ كلِّ من نام عن الصّلاة أو نَسِيَهَا. وكملت لنا فيها المثُوبَةَ. وهكذا يفعلُ اللهُ بالأولياءِ إذا طالَبَهُم الأعداءُ، لِيُنْفِذَ مُرادهُ فيهم، ولكن يُعْقِبُهُم بعدَ ذلك عُقْبَى جميلةً، حتّى يتبيَّن للعدُوِّ أنّه لم يكن ما أرادَ فيهم. مزيد إيضاح: قال: وقوله: "هذَا وَادٍ بهِ شَيْطَانٌ" قال بعض علمائنا: هذا خصوصٌ لذلك الوادي، ومعنى الكلام في ذلك: أنّ في هذا الوادي شيطانًا نَوَّمَنَا عن صلاتِنَا حتّى خَرَجَ وقتُها، فلا تجوزُ الصّلاةُ فيه. وقال غيرُه: والصّلاةُ في الأودية مباحةٌ إلَّا في ذلك الوادي، لتركِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الصّلاة في ذلك الوادي. فإذا أصابَ المسافرُ مثل ما أصابَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه، فينبغي له الخروج من ¬
ذلك الموضع كما فعلَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لأنّه موضعٌ مذمومٌ معلومٌ، كما رُوي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّه قال: نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن الصّلاة بأرضِ بَابِل لأنّها ملعونة (¬1)، ورُوي عنه أنّه أتى أرضَ ثمود فأسرع في الوادى (¬2) وقال: "هذا وادٍ ملعون" (¬3). ورُوِي عنه صلّى الله عليه أنّه أَمَرَ بالعجين الّذي عُجِنَ بماءِ ذلك الوادي أنّ يُطْرَحَ فطرحَ (¬4). وقال: "لا تدخلُوا على هؤلاء المعذَّبينَ، إلَّا أنّ تكونُوا بَاكِينَ، أنّ يُصِيبَكُم مثلُ مَا أصَابَهُم" (¬5)، وخَمَّرَ رأسَهُ وأسرع السَّيرَ (¬6). فلا تجوزُ الصّلاةُ في ذلك الوادي، وذلك الوادي مخصوصٌ. قال الإمام الحافظ (¬7): وهذا الكلامُ فيه نظرٌ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَت لِي الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" (¬8). فقيل: إنَّه منسوخٌ بهذا، وقيل: إنّ هذا لا يجوزُ فيه النّسخ؛ لأنّه من فضائله، وما خَصَّ اللهُ به نبيِّه - صلّى الله عليه وسلم - فلا يجوزُ عليه النّسخُ ولا التبديلُ ولا النّقْصُ. وأمّا قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "وَأَمَرَ بِلاَلًا أنّ يُؤَذِّن أو يُقِيمَ" فهكذا رواه مالكٌ على الشَّكِّ، وقد مَضَى القولُ فيه. ¬
الكلام في إثبات الجن والشياطين
الكلام في إثبات الجنِّ والشّياطين قال علماؤنا من أهل الأصول: اعلموا أنَّ اللهَ تعالى جعل في النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قوة يميِّزُ بها الشّياطين في الهواء؛ لأنّ الشّياطين أجسامٌ لطيفةٌ تتشبَّثُ بالهواء، كما أنّا نُدرِكُ في الهواءِ الشيءَ الّذي لا يتميَّز ولا يتبيَّن لنا إلَّا عند دخول الشَّمس في البيوت من الكُوَى. وقال آخَرونَ: إنّ الله تعالى قَوَّى أبصارَ الأنبياءِ عليهم السّلام على تَمْيِيزِ أشخاصِ الشّياطين، كما جعلَ في النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قوة لطيفة كان يرى بها من وراء ظهرهِ، كما يرى بها من أَمَامِه. وكذلك جُعِلَت أيضًا في يده قوة لطيفة قَدرَ بها على أَخْذِ الشّياطين، وقد أخذَ الشّيطانَ ورَبَطَه، كما قال -عليه السّلام-: "لولاَ أنِّي ذكرتُ دعوةَ أخِي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (¬1) لَوَجَدْتُمُوهُ مربوطًا بأَحَدِ سَوَارِي المسجد" (¬2). وقال أهلُ الحديثِ: يجوزُ أنّ تراه أنتَ، ومَنْ معك لا يراه، واعْتَلُّوا بالحديث الّذي رواه أَيُّوب؛ أنّه قال؛ جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُ كالهرة، فقال له: "ذلك مِنَ الجِنِّ" (¬3)، وقد كانتِ الجنُّ تُرَى في عهد سليمان بن داود - صلّى الله عليه وسلم - ويكلِّمون النّاس، ثمّ إنّ اللهَ حَجَبَهُم. وقالت الكفَرةُ من الأطبّاء: محالٌ أنّ يكون شيءٌ إلَّا ما أَدْرَكَهُ الحسُّ والعيانُ, وما لم يُدْرِكهُ الحسُّ والعيانُ فباطلٌ، إنّما هي الْمِرَّةُ (¬4) السّوداء تهيجُ على الإنسانِ، فيذهب عقله وتتخيّل له الأوهام الكاذبة (¬5). ¬
الكلام في النفس والروح من قوله: "إن الله قبض أرواحنا" وقول بلال: "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله"
وقالت فرقةٌ من المعتزلة: إنّه لا يُرى بوجهِ ولا على حالٍ، لقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬1) الآية، وقالوا: إنّ الأبصار لا تدركُ غيرَ الألوانِ. وقالوا: إنَّه ليس تدركُ العينُ ما ليس بلونٍ، فلو كان لها ألوانٌ لأدرَكَها النَّاس كلّهم إدراكًا واحدًا (¬2). قال الإمام الحافظ: وهذا باطلٌ، والخوضُ معهم ضلالٌ؛ لأنّ الآثار والقرآن قد تواتر بذلك كلِّه، والله أعلم. الكلام في النّفس والرُّوح من قوله: "إنَّ الله قبضَ أرواحَنا" وقولُ بلال: "أخذَ بنفسي الّذي أخذ بنفسك يا رسول الله" قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: أمَّا القول في الرُّوح، فالإمساكُ عنه أقرب إلى التَّخلُّص، وإنّما خُضْنَا فيه كما خاضَ أوائلُنا. والأظهرُ فيه أحد وجهين: 1 - إمّا أنّ يكون عَرَضًا، كما قال القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب (¬3) والإسفراينيون (¬4). 2 - وإمّا أنّ يكون جسْمًا لطيفًا مشابِكًا للأجسامِ المحسوسة، كما اختاره أبو المعالي (¬5). ¬
قال الشّيخُ أبو الحسن (¬1): إنَّه النَّفسُ الدّاخلُ والخارجُ. وقال القاضي: هو الحياةُ، وهو عَرَضٌ. وقال الطُّوسي أبو حامد (¬2): هو من عَالَمِ الأمر ليس بمخلوقٍ. ولكلِّ واحدٍ في مَنْزَعِهِ هذا وجهٌ يتعلَّق به، يطول الكلام بذِكْرِهِ, ويخرج الكتاب عن مقصده بالتَّعَرُّضِ لشرحه (¬3). والَّذي يليقُ بما نحن فيه؛ أنَّ من قال: إنّه النّفسِ، ورأى أنّ قِوَامَ الجسم بالتَّردُّد فيه من دخولي وخروح، فعبَّرَ عنه به. والَّذي قال: إنَّه عَرَضٌ، بناه على أنَّ العَرَضَ هو الموجود بالجسم المتردِّد فيه الّذي بناه الجسم، فإنّ الله لا يخلُقُ شيئًا منه. والذي قال: إنَّه جسمٌ مُشَابِكٌ، تعلَّق بظواهر الآثار" وما وُصِفَت به الرُّوح من الأفعال الّتي حقيقتها في الأجسام لا في الأعراض، فحفظَ للظواهرِ حقيقتها، وكلُّ ذلك عندي جائزٌ. وأمّا الّذي ذهب إليه الطُّوسي أبو حامد، فهي عبارةٌ فلسفيّةٌ، وهي عن سبيل الشَّرْعِ قَصِيَّةٌ، وقد حام على الكلام عليها في أكثر كُتُبه فقال: إنَّه من عالَمِ الأمر، ولله عَالَمَانِ: عالَمُ الخَلْقِ وعالَمُ الأمر. وعالَمُ الأمر: هو ما لا كميَّةَ له، وعالَمُ الخَلْقِ: هو ما له كميّة ومقدار. وهذا قولٌ غير مخلص؛ لأنّ الّذي لا كمية له شيئان: أحدُهما: اللهُ سبحانه، ونَفْيُ الكميّة والمقدار عنه تقديس. ¬
والثّاني: العَرَضُ لا كميَّةَ له، ونفيُ الكمية عنه تحقيقٌ، فإنْ أراد به العَرَض - كما قال القاضي- فلم يدخل في هذا. مزيد إيضاح: فإن قيل: فما معنى الرُّوح عندكم؟ وهذه التسّمية على ما تَقَعُ؟ قلنا: قد تقعُ على أشياء، منها: الرُّوح بمعنى الحياة الموجودة بنفس. ومنها: الروح بمعنى النَّفس المتردِّد في الأجسام الباردة والحارة. وقد قيل: إنَّه جبريل. وقد قيل: إنَّه مَلَكٌ عظيمٌ ليس في الملائكة أعظم منه. نكتةٌ لغويّةٌ: وأمّا موقعه في اللّغة وأصله؛ فإنّه مأخوذٌ من الانْبِسَاطِ. ومنه قولُهم: رجلٌ أَرْوَح، إذا كان صدر قَدَمَيه منبسطًا. ومنه قولُ العرب: قَدَمُ فلانٍ رَوْحًا، يعنون منبسطة. تنبيه على مقصد: قال أبو الحجّاج الكفيف (¬1) في معنى قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا" فقال: إنَّ ذلك يرجعُ إلى قبضِ العلومِ والإدراكاتِ بترك تجديدها على الذّوات، وسميت روحًا لأنّ الحيَّ بها يصحُّ له التَّصرُّف والانبساط. ¬
وقال: وقد رأيتُ لابن فُورَك في "مشكل القرآن" أنّ الرُّوحَ رقيقٌ هوائي من جنسِ الرِّيح مُتَردِّدٌّ في جوانب الإنسان (¬1). وقال قوم: إنّ الرُّوح عَرَضٌ، وهو خطأٌ من قائله. قلنا: وليس الرُّوح بَعَرَضٍ؛ لأنّه هو الّذي يديرُ الجسمَ ويقيمُه، والجسمُ جوهرٌ، والعَرَضُ لا يُديرُ الجوهرَ ولا يُقِيمُه، فالنَّفسُ جوهرٌ على هذا القولِ، ومحالٌ أنّ تديرَ الأعراضُ الجواهرَ؛ لأنّ الجواهرَ هي الّتي تديرُ الأعراضَ، فالنَّفسُ والرُّوحُ إذاَ جوهرٌ وليستَا بعَرَضٍ. وقال قومٌ: إنّ الرُّوح هو الدَّم، وليس هذا القول بشيءٍ؛ إذ نجد كثيرًا من الحيوان ليس فيه دَمٌ، وهذا القولُ هو قوله مُعْظَمِ الأطبّاءِ. تنبيه على أصل: قال: واحتجَّ قومٌ بأن الرُّوحَ غير معلومة، بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية (¬2). فهذا قدِ احتجَّ بأصلٍ؛ لأنّ ما يردُّ من ظواهر القرآن يجب حملُه على ما يوافقُ أدلَّةَ العقولِ. وقد اختلف النّاسُ في منحى اليهود عن السُّؤال بهذا اللّفظ على خمسة أقوال: القولُ الأوّل: أنّ الرُّوح هو جبريل -عليه السّلام- (¬3)، وهو عدوّ اليهود من الملائكة. فقيل: إنّهم سألوا عن عظيم أَمْرِه، لِمَا ورد فيه من الآثار بأنّ أحد جنَاحَيّه بالمشرق والآخر بالمغرب، فقال الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، يعني بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} كبَرَ جَسَدِهِ وعِظَمَ جِسْمِهِ، وَترَدُّدِهِ وصعوله بأمر الله في اليسير من الزّمان. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في الآية دليل على أنّ الرُّوح غير معلوم. ¬
القولُ الثّاني- قيل: إنّ الرُّوح مَلَك عظيمُ الْخْلْقَةِ، يعادلُ وحدَهُ جميعَ الملائكةِ في المقدارِ، ويساويهم يوم القيامة (¬1)، وهو المراد في أحد التأويلات بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ} الآية (¬2)، المعنى: الرُّوحُ صفًا، والملائكةُ صفًا. القول الثالث - قيل: إنّه روحُ الإنسانِ المختصّةِ بجَسَدِه. والقولُ الرّابع - قيل: إنّهم سألوهُ عن كيفيةِ الرُّوحِ في الجَسَدِ ومجراه فيه، وعن حقيقته، وعن مكانه من الحياة في الجسد. وهذا أمر لا يعلمه إلَّا علّام الغيوب، فلم يأتهم بذلك ولا أجابهم عليه. وقد قال علماؤنا: إنّ هذا من أحد معجزاتِ الرَّسول صلّى الله عليه؛ لأنّه في التوراة أنَّه لا يُجيبُهُم عن الرُّوح، فإنْ أجابهم في ذلك بشيء فليس بنبيٍّ. القولُ الخامس - قيل: إنّهم سألوه عن عيسى عليه السّلام؛ لأنّه قد سمَّاهُ اللهُ روحًا، وهو من أسمائه في "التّوراة" و "الإنجيل". وهذا ما انتهى إلينا من الكلام فيه عن العلماء في كيفية منحى اليهود في سؤالهم ذلك. حقيقة (¬3): قال الإمامُ الحافظُ القاضي أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: قال علماؤنا في قوله عليه السّلام: "إِنَّ اللهَ قبضَ أرواحَنَا" هذا دليلٌ على أنّ الرُّوح يُقْبَضُ في الحياة ثم يعود. وقوله عن بلال: "أَخَذَ بنفسي في الَّذِي أخذَ بنفسِكَ" دليلٌ على أنّ الرُّوح النَّفْس شيءٌ واحدٌ (¬4). ¬
فصل من كلام المتصوفة والباطنية في الروح ما هو
واعلموا أنّ مسألةَ الرُّوحِ والنَّفْسِ ليس لها في الشريعة نصٌّ صريحٌ، وإنّما كلامُها فيها تلويحٌ، حَجَبَهَا اللهُ عن الخَلْقِ بالغَيْب. وهي مسألةٌ عَسُرَت على الْخَلْقِ، وأشكلَ فيها وجه الحقِّ، فعَظُمَ لذلك فيها التّأليف، ولم يَفُزْ أحدٌ فيها بتمييزٍ ولا تعريف (¬1). قال أبو المعالي الجُوَيْنِيُّ إمامُ الحرمينِ: اعلموا أنّ البارئ سبحانه أراد أنّ يعجز الخلْقَ بأن حجبَ عنهم معرفة موجودٍ اشتملت عليه أُهَبُهُم، فكيف يجهل أحدٌ حقيقةَ ما في إهابه ثم تستطيل به دعواهُ إلى معرفة ربِّهِ، وهو لا يقدِرُ أنّ ينكِرَهَا لظهورِ أفعالِها, ولا يستطيعُ معرفةَ حقيقتِها لخفائِها, ولله الْمَثَلُ الأعلَى لا يقدرُ أحدٌ أنّ يُنكِرَ أفعالَه، ولا يستطيعُ أحدٌ معرفةَ حقيقتِه لعِظَم مِقْدارِه. وعن هذا عبَّرَ بعض أهل الزُّهد فقال: لا يعرفُ الله بالحقيقة إلَّا الله، وغاية الَعبد أنّ يقول في ذلك معترفًا مُقِرًّا بالتّقصير، متعلِّقًا بأذيال المعاذيرِ، بَعْدَ بَذْلِ الوُسْعِ بالْجدِّ والتَّشميرِ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} الآية (¬2). فصلٌ من كلام المتصوِّفة والباطنيّة في الرُّوح ما هو قال الشّيخ - قدَّس الله روحَهُ ونَوَّرَ ضريحه -: اعلموا أنّ الرُّوح سرٌّ باطنٌ موصوفٌ بصفاته، معلومٌ بأفعاله وأسمائه، ولا يكيِّفُه العقل ولا يحيط به العِلْم، يحدُّه الإنسان ولا يُكَيِّفُهُ، ولا يُحيطُ عِلْمًا به. جعلَهُ اللهُ جلّ جلالُه في هذه العاجلةِ دليلًا وآيةً على الإيمانِ به، وليس الإيمانُ صفةَ إحاطةٍ ولا تكييفٍ. ولذلك يؤمن الرُّوح بما هو أعلى منه ¬
من غير تكييفٍ ولا إحاطةٍ. والإيمانُ وجودُه عن صفاتِ الله سبحانه، وهو نورٌ من نُورِهِ. والرُّوح عبدٌ رُوحَانيٌّ وأمرٌ ربانيٌّ ونفسٌ جِسمانيٌّ، حبَسَهُ الله جلّ جلالُه في الجسمِ ابتلاءً له، وأسكَنَهُ في جِوارِه، وأجرَى عليه محنته، فواقَعَ المكروهَ بواسطة الجسم، فعاقَبَهُ على ذلك بأنْ أَهْبَطَه إلى الأرض كُرْهًا لا اختيارًا منه لذلك، بل جعلَ ذلك سِجْنًا وشَقَاءً. ثمّ أَوْرَثَهُ ذلك نبيَّه - صلّى الله عليه وسلم - من بَعْدِهِ. فلئن كان عبدًا مفطورًا، ابتلاهُ وعافاهُ، وأَمَرَهُ ونهاهُ، ونَعِّمَهُ أو عذبَه. ولئن كان جسمانيًا، افتقر إلى الغذاء الجِسمانيِّ، وإلى أنّ يكون محمولًا في جِسْمٍ، وإلى أنّ يَأْلَم بالموت في خروجه عن جَسَدِهِ الّذي رُكِّبَ فيه. ولئن كان عن أَمْرِ ربِّنا جلّ جلاله، كان باقيًا، ولم يُوصَف بالموت لأجل ذلك؛ لأنّه لم يكن عن حقيقة عين التّراب، ثم يرجع إلى التراب ليأكله. ولَمَّا لم يُوصَف ما كان عنه بالموت، لم يرجع إلى الموت، وإنّما الموتُ مفارقته لجَسَدِه، وموتُ الجَسَدِ هو خلُوُّهُ منه وبقاؤه دونَهُ، والجَسَدُ هو الميَّتُ، والروحُ هو الحيُّ الباقي، فالجسمُ موصوفٌ بالموتِ حتّى يَحْيَى بالرُّوحِ، وموتُه مفارقةُ الرُّوح إياه، فهذا فارقَ الحيُّ الميِّتَ - أعني هذا العبد الرُّوحانيّ الجسم صعدَ به، فإنْ كان مؤمنًا فُتحت له أبواب السّماء حتّى يصعد إلى ربِّه جلّ جلاله، فيُؤْمَر بالسُّجود فيسجد، ثمّ تجعل حقيقته النّفسانية تعمر السُّفلي من قبره إلى حيث شاء الله من الجوّ. وحقيقتُه الرُّوحانية تعمر العُلُوَّ من السّماء الدّنيا إلى السّماء السّابعة في سرورٍ ونعيم؛ قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الآية (¬1). وقد قرئ بضم الرّاء (¬2)، أي: فحياة دائمة. والرَّوْحُ بفتح الرّاء: حالُ الرُّوح في الحبور والسّرور؛ لذلك لَقِيَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - موسى -عليه السّلام- قائمًا في قبره يُصَلِّي (¬3)، وإبراهيم تحت الشّجرة قبل صعوده إلى السّماء الدّنيا في طريقه إلى بيت المقْدِس، ولَقِيَهُما في صعوده إلى السّماوات العُلَى. فتلك أرواحُهما، وهذه نفوسُهُما وأجسادُهما في قبورهما. وإن كان الميَّتُ شقيًّا، لم تُفْتَح له أبواب السّماء، فيُرْمَى من علوَّ إلى ¬
فصل في الكلام في النفس
سفلِ، إلى أسفل سافلين، في شقاءٍ وعذابٍ إلى يوم الدِّين، نعوذُ بالله من ذلك الشَّقاء وسوء ما سبقت به المقادير. فصل في الكلام في النَّفس وقول (¬1) بلال - رضي الله عنه -: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ" يعني من النّوم، فذلك ضربٌ من الاحتجاج لطيفٌ، كأنّه يقول: إذا كنت أنت في منزلتك من الله قد غَلَبَتْكَ عينك وقُبِضَت نفسك، فأنا أَحْرَى بذلك. ودخلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وفاطمة وهما نائمان؛ فقال: "ألا تُصَلُّونَ؟ " فقال عليّ: يا رسولَ الله، إنَّما أنْفُسُنَا بيَدِ الله، فإذا أراد أنّ يبعثَنَا بَعَثنَا، فانصرت رسولُ الله وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (¬2) هذا مطابقٌ لقول بلال -رضي الله عنه -. فإن قيل: فما معنى النَّفس عندكم؟ وما المفهوم من إطلاقه في مُوجبِ اللِّسان؟ الجواب عن ذلك- قيل: هذه لفظةٌ مُشْتَركَةٌ عن عينِ الشَّيء ونَفْسِهِ وذَاتِهِ، من قولهم: هذا مالُ زيدٍ نفسُه وذاتُه وعينُه. وقيل: هو مأخوذ من النفس، وهو ظهورُ الشّيء؛ ولهذا يقولون في المرأة: نُفَسَاء، لظُهورِ دَمِها (¬3). تلفيق (¬4): قال الأستاذ أبو المظفر الإسفرايينيُّ: قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية (¬5). فأخبرَ تعالى أنّه يتوفّاها في الموضعين، وقال تعالى في مَوْضِعٍ آخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ¬
{مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الآية (¬1)، وقال تعالى في موضع ثالثٍ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الآية (¬2). ووجهُ الجمع في ذلك: هو أنّ الله تعالى هو الفاعلُ الأوَّلُ للكُلِّ. جعلَ إلى مَلَكِ الموتِ جزءًا مِنْ أفعالِهِ، وهو قَبْضُ الأرواحِ، قَرَنَ به جنودًا من ملائكَتِهِ، وأوحَى إليهم أنّ يتصرَّفُوا بأمْرِهِ. فإذا أَمَرَ اللهُ الْمَلَكَ، بادرَ إلى أمرِهِ أعوانُه وتولَّوا حينئذٍ أمرَ ربَّهِم. فإذا نَسَبْتَهُ إلى الأوّل في الحقيقة؛ قلت: إنّ الله قبضَ أرواحَنَا. وإذا نَسَبتَهُ إلى الواسطة؛ قُلتَ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الآية (¬3). وإذا نَسَبْتَهُ للمباشِرِينَ للفِعْلِ؛ قُلتَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الآية (¬4). وانتظَمَتْ تلك (3) الآياتُ الثلاثُ المُختَلِفَاتُ في الظّاهِرِ في سِلْكِ الانتظامِ الواحدِ. ¬
باب النهي عن الصلاة بالهاجرة
بابُ النَّهي عن الصّلاة بالهاجرة مالكٌ (¬1)، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عطاءِ بنِ يَسَار؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرَّ من فَيحِ جَهَنَّمَ ... ". وقد أَسْنَدَ مالكٌ هذا الحديثَ (¬2)، وهذا الحديثُ من مَرَاسِل عَطَاء الّتي تكلّم النّاسُ فيها. قال الشّيخ أبو عمر (¬3) - رضي الله عنه -: "هذا حديثٌ صحيحٌ عند أهل العلمِ بالنَّقلِ". والكلامُ على هذا الحديث يشتملُ على فصلين: الفصلُ الأوّلُ في شَرْحِهِ وفيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬4): قوله: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فيحِ جَهَنَّم" الفَيْحُ: سطوعُ الحرِّ وشدَّة القيظِ، قاله صاحب "العين" (¬5). قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬6): هذا وقتٌ أنشأتْهُ الحاجةُ، ورَخَّصَتْ فيه الشّريعةُ؛ رَفعًا للمشقَّةِ، وليس له تحديدٌ في الشّريعة إلَّا ما وَرَدَ في الحديثِ، حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي الظُّهرَ في الصَّيْفِ من الثَّلاثةِ ¬
أقدامٍ إلى أربعةِ أقدامٍ. وفي الشِّتاءِ من خَمْسَةِ اقدامٍ إلى سِتَّةِ أقدام. وذلكَ بعد طَرْحِ ظِلِّ الزَّوالِ (¬1). أمّا إنَّه قد ورَدَت فيه إشارةٌ واحدةٌ، وهوَ الحديثُ: "كُنَّا نُصَلِّي الجمعةَ وليس للحِيطَانِ ظِلٌّ" (¬2) فلعلَّ الإبرادَ كان وَقْتَ ما يكونُ للجدارِ ظِلٌّ يأوي إليه المُجْتَازُ، وهو وقتٌ يختصُّ بالجماعةِ. فأمّا الفَذُّ فليس له إلَّا وقتٌ واحدٌ، وهو (¬3) يختصُّ بصلاةِ الهاجِرَةِ ليس للعصر فيه حظٌّ، فلا يُلْتَفَتُ إلى ما اختلَفَ فيه ابنُ القاسِم وأَشْهَبُ بأنّ مع العصر ابرادٌ. فأمّا (¬4) ابنُ القاسم فَحَكَى عن مالكٌ (¬5)؛ أنّها تُصَلَّى إذا فَاءَ الفيءُ ذراعًا، في الشَّتاءِ والصَّيفِ، للجماعة والمُنْفرِدِ، وهذا على كتابِ عمر (¬6). وقال أَشْهَبُ وابنُ عبدِ الْحَكَمِ (¬7): إنّ معنى كتَاب عمر هو لسائرِ الجماعاتِ، وأمّا الفَذُّ، فأوَّلُ الوَقْتِ أَوْلَى به، وهو في سَعَةِ الوقتِ كلِّه، وإلى هذا مالَ فقهاءُ المالكيّةِ من البغداديِّين (¬8). قال الإمام القاضي أبو الوليد الباجي (¬9) - رضي الله عنه -: "فإذا ثبتَ هذا، فهل يُبْرَدَ بصلاة العصر أم لا؟ فعلى قولين: القولُ الأوَّل - قال أَشْهَبُ: أحبُّ إليَّ أنّ يزيدَ المصلِّي ذِرَاعًا على القَامَةِ، ولا سِيَّمَا في الحرِّ (¬10). ¬
القولُ الثاني- قال ابنُ حبيبٍ: وقتُها واحدٌ تُعَجَّلُ ولا تُؤَخَّرُ، إلَّا في الجمعة فإنّه يُعَجَّلُ بها أكثر من سائرِ الأيامِ (¬1) ". شرح (¬2): أمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالإبراد، وعَلَّلَ ذلك بأنَّ شدَّةَ الحرِّ من فَيْحِ جهنَّم، ولم يَأْمُر بتأخير الصّلاة في شدَّةِ البردِ، فلا يتعلَّق به حُكْم التّأخير. والأصلُ في ذلك: ما رواه أَبُو خَلْدَةَ، عن أنس؛ قال: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إذا اشْتَدَّ البَرْدُ بَكَّرَ بالصَّلاةِ، وإذا اشْتَدَّ الحرُّ أبردَ بها (¬3). ومن جهة المعنى: أنّه لا رِفْقَ بتأخيرها، بل الرِّفق بتقديمها؛ لأنّ بتأخير البرد رُبَّمَا تمكَّنَ العَشِىُّ وقَرُبَ اللَّيلُ. فائدة لغوية (¬4): قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "أبْرِدُوا عنِ الصَّلاة". قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: هذا كلامٌ قَلِقٌ في الظَّاهر، ونظامُه الْبَيِّنُ: أبرِدُوا الصّلاةَ. يقالُ: أبردَ الرَّجلُ، إذا دَخَلَ في زمانِ البَرْدِ أو مَكَانهُ، ولكنَّه مجازٌ عبّرَ فيه بأحد أسبابِ المجازِ وهو التّسْبِيبُ، حَسَبَ ما بيّنّاه في أصول الفقه (¬5)، فكنّى عن الشّيء بثَمَرَته وهو التأخيرُ، فكأنّه قال: أبْرِدُوا عن الصّلاة؛ صيانةً لها عن أنّ يُنَاطَ بها التّأخيرُ لفظًا، فكيف فعلًا! وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ: "أَخِّرْ عَنِّي أنتَ يَا عُمَرُ" (¬6) يعني نَفْسَكَ. ¬
الفصل الثاني في حظ الأصول
الفائدة الثّانية: قال الشّيخ أبو عمر (¬1) - رضي الله عنه -: "الإبرادُ بالصّلاة هو تأخيرُها عن أوَّلِ وَقْتِها، حتّى يزولَ سَمُومُ الشّمسِ بالهاجرةِ؛ لأنّ الوقتَ فيه سَعَة. وقد اختلَفَ العلماءُ في هذا المعنَى، فالمحصولُ من مذهبِ مالكٍ (¬2)، أنّ يُبْرَد بالظُّهر وَتُؤَخَّرَ في شِدْةِ الحَرِّ، وسائرُ الصّلواتِ تُصَلَّى في أوَّل الوقتِ. قال أبو الفَرَجِ: اختارَ مالكٌ لجميعِ الصّلواتِ أوَّلَ أوقاتِها، إلَّا الظُّهرَ في شدَّةِ الحَرِّ؛ لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا اشتَدَّ الحَرُّ فأَبردُوا عن الصّلاةِ": الفصلُ الثّاني في حظِّ الأصول قولُه (¬3): "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا" في هذا الفصل فوائد: الفائدة الأولى: في هذا الحديث دليلٌ بأنّ النَّارَ مخلوقةٌ (¬4)، ردًّا على من قال: إنّها لم تُخْلَق وإنّما تُخْلقُ وقتَ الحاجةِ إليها. الفائدة الثانية (¬5): قولُه: "اشتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّها" اختلف النَّاسُ ههنا، هل هي هذه الشَّكْوَى حقيقةٌ بكلامٍ؟ أم هي مجازٌ عَبَّرَ فيها بلسانِ الحالِ عن لسانِ المقالِ، كما قال الرّاجزُ (¬6): يَشْكُو إِلَىَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ¬
وفي الحديثِ الصّحيح؛ أنّه قال: "من كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمِّدًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ من النَّارِ" (¬1) وفي حديث آخر: "فَليَتَبَوَّأ بينَ عَينَي جَهَنَّمَ مَقعَدّهُ من النّار"، قالوا يا رسول الله: أو لِجَهَنَّمَ عَينَانِ؟ قال: "أَمَا سَمِعتُم الله يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} الآية (¬2) " (¬3). وفي الخبر الصّحيح عن يوم القيامة؛ أنّه قال: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَلْتَقِطُ - أو قال يَلْقُطُ - الكُفَّارَ لَقْطَ الطَّائِرِ حَبَّ السِّمْسِمِ" (¬4). يعني: يَفصِلُهُم عن الخَلْقِ في المعرفَةِ كما يَفصِلُ الطَّائرُ حَبَّ السِّمْسِمِ عن التُّربَةِ. وليسَ مَن شروط الكَلامِ عندنا والعِلْمِ في القيامِ بالجِسْمِ إلَّا الحياةُ، فأمّا الهيئةُ واللّسانُ والْبُلَّة (¬5) فليسَ من شُروطِ الكلامِ، وليس أيضًا من شُروطِ الحياةِ، فالجسمُ وُجُودُ هَيئَةٍ ولا بُلَّةٍ. وسمعتُ شيخَنا الفِهرِيَّ الطّرطوشيّ (¬6) يقولُ: أمّا قوله: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلى رَبِّهَا" الحديث، إذا قلنا: إنّه حقيقةٌ، فليسَ يحتاجُ إلى أكثرَ من وجودِ الكلامِ في الجِسمِ. وأمّا قولُه: "تحَاجْتِ النارُ والجنةُ" (¬7) فلابدَّ من وُجودِ العِلم مع الكلام؛ لأنّ المُحَاجَّةَ تقتضِي التَّفَطُّنَ لوجهِ الدَّلالة. وقال لنا الإمام أبو سعيد الشّهيد الزّنجانيّ (¬8): ألا تَرَى إلى قول الهُدْهُدِ: {وَجَدْتُهَا ¬
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ} الآية (¬1)، فلم يُدْرِك حديثَ الشّمسِ، وزَخرَفَةَ الشّيطانِ، وصُدُوفَ الخَلقِ عن الحقِّ، ووجودَ الإلَهِ ومعرِفَتهُ بالخَفِيَّاتِ، واستواءَهُ على العرشِ العظيمِ إلَّا بالعِلمِ، وهذا هو التّوحيدُ كلُّه. وقال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ (¬2): "قوله: "اشتَكَتِ النَّارُ إلَى رَبِّهَا" الحديث، إنّ ذلك على المَجَازِ، وقيلَ: على الحقيقةِ" (¬3) وهذا القولُ يَعضُدُهُ عُمومُ الخِطَابِ. الفائدة الثالثة (¬4): قولُه (¬5): "فَأَذِنَ له بنَفَسَينِ في كلِّ عَامٍ" إشارةٌ إلى أنّها مُطبَقَةٌ مُحَاطٌ عليها بجِسمٍ يَكتَنِفُها من جميعِ نواحِيهَا، لم يُتَصَوَّر لاضطرابها أنّ يَشُقَّهُ، كما يفعَلُ كلُّ دَأبٍ في مُجَوَّف، حتّى النّباتُ في الصَّخرةِ المَلسَاءِ. وكانت الحكمةُ في التَّنفُّسِ عنها إعلامَ الخَلْقِ بأُنمُوذجٍ منها، فأشَدُّ ما يُوجَدُ من الحرِّ فَمِن حرِّها، وأشدُّ ما يوجَدُ من البَرْدِ فَمِن بَرْدِها. ¬
تنبيه على مقصد: فإن قيل: وهل في النّار بَرْدٌ؟ قلنا: هي دارُ عذابٍ، وعذابُ الأبدانِ ابتلاؤُها بما لا يلائمُها، والحَرُّ عند الإفراط يمزقُ الجِلدَ كما يُمَزِّقُهُ البردُ، ولهذا سَمَّتِ الأطبّاءُ نَبَاتًا يَقطَعُ اللَّحْمَ: النّارَ البارِدَ، وعَبَّرَ عن نَوْعَيِ العذابِ بأَحَدِهِمَا كما تفعَلُه العربُ. وقال بعضُهم: لا ينكرُ أنّ يكونَ في جهنَّمَ بردٌ وحرٌ مجتمعانِ، فإنّ الله قد ذَكَرَ في القرآنِ ما يؤيِّدُ هذا، ألا ترى قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} الآية (¬1)، وقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} (¬2) فدلَّ بذلك أنَّ في جهنّم النّبات والحيوان، والحرّ والبرد. وقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} الآية (¬3). نكتَةٌ: قال بعضُ العلماء الباطنيّة: ولمّا كان نزولُ "الإنجيل" وحلولُ "التّوراة" بموضعِ من الأرض الغالب على ذلك القطر هو الحرّ، كان الغالبُ في الإنذارِ هنالكَ التّهدّد بالنّار والسَّعِيرِ وتوابع ذلك؛ لأنّه أعقل لذلك الخطاب وأفهم، لكثرة تعذيبهم بالحرِّ ومقاساتهم حرّ سَمُومِهَا. وإنّما يدافعون ذلك بالبردِ وإراقةِ المياهِ، حتّى ظهرَ ذلك في أدعيتهِم، فقالوا: أَقَرَّ الله عينك، وبَرَّدَ ضريحَك، وأَثْلَجَ بِبَرَدِ اليقينِ صدرَك، وسَقَى معهدك ماء الغوادي وسحاب المُزن، ونحو هذا. وقد جاء في الكتاب الّذي يذكر أنّه "الإنجيل": مُكَرّرًا: "اقذفوا بهذا العبد السُّوء في الظُّلمات السُّفْلَى حيثُ يطولُ العويلُ وقلقلة الأضراس" (¬4) وهذه عبارة عن البرد، وإنّما ذلك لأجل ذلك القطر الّذي سكن أولئك الّذين بعثَ اللهُ إليهم عيسى -عليه السّلام- ¬
ليعذبهم في الدُّنيا بالبرد في قُطرِهِم ذلك. وكانوا يدافعونه بالحرِّ ويستجيرون به من إذايته، بضدِّ حال أهل القطر المنزل فيه القرآن. وإنّما كان التّبليغ على هذا التّقسيم؛ لِحكمَةٍ بالغةٍ في ذلك، ليكون ذلك أَهْيَبَ في نفوسهم، وأوجعَ لسَوْطِ الخَوفِ في قلوبِهِم، وأجلبَ لفرَقِهِم وجَزَعِهِم، وأشدَّ تحريكًا لِبَوَاطِنِهِم إلى الهرب من الوعد الوارد عليهم. وهنا يتبيَّن فضل رحمته بأن جهنّم خلَقَها جلّ جلاله من سوط رحمته، ليسوق عباده بالهرب منها إلى جنَّتِه. تتميم: قال الشّيخُ -أيَّدهُ اللهُ-: فجملةُ الكلام في العالَمِ؛ بأنّ الدّنيا نبذةٌ من الآخرة وقطعةٌ منها، فانشرحَت بذلك فوائدُ معانِيها، وتشابهت فنونُها، وأَشكَلَت صُوَرها بشَكلٍ مشكلٍ من صفاتها، حتّى ما ينقلبَ متقلبٌ، ولا يسكنَ ساكنٌ، ولا يَتنفَّسَ متنفِّسٌ، إلَّا بينَ الجنَّةِ والنَّارِ في معنّى من معانِيها, لكن بالتزوُّج لا بالانفرادِ، وبالقِلَّة لا بالكَثرَةِ. فنَعِيمُها آيةُ نَعِيمِ ما هنالِكَ، وشِفَاؤُها آيةُ شِفَاءِ ما هنالِكَ، قليلٌ بقليلٍ، وكثيرٌ بكثير. تكملةٌ في سَردِ الأحاديث: قوله (¬1): "إنّ النَّارَ اشتكتْ إلى ربِّها، فقالت: يَا رَبِّ! أَكَلَ بعضِي بعضًا، فأذِنَ لها بنَفَسَين في العام" الحديث. فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ فمِنْ جهنَّم، وأشدُّ ما تجدون من البرد فَمِنَ الزَّمهَرِير (¬2). وفي حديث آخر: "فَأذِنَ لها في كلِّ عامٍ بِنَفَسَينِ، فما وجدتُم من بَردٍ أو من زَمهَرِيرٍ فَمِن نَفَسِ جَهَنَّمَ" (¬3). ¬
تفسير: قال الماوردي (¬1) في قوله: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} (¬2) أي أنّ الدّنيا دار عذابٍ، عذّبَ الخَلْق فيها بالبرد والحرِّ، فليس في الدُّنيا أحدٌ إلَّا وهو يجدُ من الحرِّ والبرد كثيرًا، فأخبرَهُم البارئ أنّ ليس في الجنَّة هذا النّوع من العذاب، بل هي دار نعيم لا عذابَ فيها، فقال جلّ جلاله مُعلمًا لهم بذلك: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} وقال بعضهم (¬3): إنّ الزَّمهَرِيرَ ههنا هو القمر، ولم أَرَهُ لأحدِ من المفسِّرين، ولا حكاه أحد غير الماوردي. واستشهد (¬4) على ذلك بقول الشّاعر (¬5): وليلةِ ظلامُها قدِ اعتَكَرْ ... قَطعتُها والزَّمهريرُ ما زهر وهذا بعيدٌ جدًّا. فإن قال قائل: أليس اللهُ تعالى قد جعلَ الشّمسَ والقمرَ في دار الدُّنيا للزّينِ والمنفعةِ، والجنَّة أَوْلَى أنّ يكون ذلك فيها؟ فأجاب بعضُ علمائنا عن ذلك بجوابين: أحدُهما: أنّ البارىءَ جَلَّت قُدْرَتُه لم يخْلُق الجنّة إلَّا رحمةً منه ولطفًا بعباده، فشَوَّقَهُم إليها بانواع من التّزيينات والشّهَوَاتِ، فأقلُّ قليلٍ من الجنَّة خيرٌ من الدّنيا وما فيها، كما قال - صلّى الله عليه وسلم -: "لموضعُ سوط في الجنَّة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" (¬6). ¬
الجواب الثاني: وذلك أنَّ الله تعالى لم يجعلهما في الجنَّة لئلّا يشقّ ذلك على أوليائه بأن يروا في داره معبودَينِ قد عُبِدَا من دون الله. فالبردُ نوعٌ من العذاب، والحرُّ كذلك أيضًا. وفي ذلك للدُّنيا وللعالَمِ صلاحٌ وحِكمَةٌ وتدبيرٌ، لا يعلمها إلَّا اللّطيفُ الخبيرُ. فائدة لغوية: قوله:"إنَّ جهنَّم اشتَكَت إلَى رَبِّهَا" فأمّا جهنَّم، فمأخوذة من الجهامة، ويظهرُ ذلك في قوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (¬1) وفي قول مالِكِ خَازِنِ النَّارِ حكايةً عنه: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (¬2) وذلك بَعْدَ طُولِ نِدَائِهِم ثمانين سَنَة. تنبيهٌ على شرحِ: قولُه:؛ اشتَكتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فقالت: يا رَبِّ! أكلَ بعضي بعضًا الحديث (¬3)، قال بعض علمائنا في خَلقِه النّار وعجائبها نكتة عجيبة فقال: "إنّ النّار خلقت على أربع: فنارٌ تأكلُ ولا تَشرَبُ. ونارٌ لا تأكلُ ولا تَشرَبُ. ونارٌ تشرَبُ ولا تأكُلُ. ونارٌ تأكُلُ وتشرَبُ (¬4) ". شرح (¬5): "فأمّا النّار الّتي تأكُلُ ولا تشرَبُ، فنارُ الدُّنيا. والنّارُ الّتي لا تأكُلُ ولا تَشرَبُ، فنارُ جهنَّم. والنّارُ الّتي تأكُلُ وتَشرَبُ، فالنّار الّتي خُلِقَت منها الملائكة. والنَّارُ الّتي تَشرَبُ ولا تأكُلُ، فالنّار الّتي خُلِقَت منها الشّمس، ومنها خُلِقَتِ الشّياطين". ¬
وعن ابن عبّاس رضي الله عنه؛ أنّه قال: خَلَقَ اللهُ النَّارَ على أربعٍ: فنارٌ تأكلُ ولا تشرَب، ونارٌ تأكل وتشرب، ونارٌ تشرَبُ ولا تأكل، ونارٌ لا تأكل ولا تشرَب. فأمَّا النَّارُ الّتي تأكل ولا تشرَب، فناركم هذه تأكل ولا تشرَب، وكذلك نارُ جهنَّم تأكل ولا تشرَب. فنارُ جهنَّم تأكل لحومهم وعظامهم ولا تشرَب دموعهم ولا دماءهم ولا قَيحَهُم، يسيل ذلك إلى عين الخبال فيزدادون بذلك عذابًا. وأمّا النّار الّتي لا تأكل ولا تشرَب، فالنّارُ الّتي في الحجارة، وهي الّتي لا تأكل ولا تشرَب. وقيل: هي النَّارُ الّتي رفع اللهُ لموسى بن عمران ليلة المناجاة. وأمّا النّار الّتي تشرَب ولا تأكل، فالنّار الّتي في البحر. وسُئِلَ ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عن هذه النّار، مِمَّ خُلِقَت؟ فقال: خُلقَتْ من نار جهنَّم، ولقد ضُرِبَت بالماء سبعين مرّة، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق. ثم خُلِقَت ناركُم هذه من نار جهنّم، خلِقَت سوداء مُظْلِمَة لا ضوءَ لها ولا لهب، لها سبعة أَدْرَاكٍ (¬1)، كما قال جلَّ ثناؤه: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} الآية (¬2). ¬
النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر
النّهي عن الصّلاة بعد الصُّبح وبعد العصر قال الإمامُ الحافظُ الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: "هكذا ترجمةُ هذا الباب عند جماعة الرُّواةِ للموطَّأ، وكانت حقيقَتُه أنّ يقالَ فيه: بابٌ النّهي عن الصّلاة عند طلوعِ الشّمسِ وعند غروبِها، ثم يذكر النّهي عن الصّلاة بعد الصُّبح وبعد العصر". وهذا الباب مُؤَخَّرٌ في رواية يحيى بنيحيى، فرأينا أنّ نُتبعَهُ بباب النَّهيِ عن الصّلاة بالهاجرة ليكون أَليَق به (¬2). أمّا مجالُ الكلامِ في هذا الحديثِ، فيشتملُ على ثلاثةِ فصولٍ: الفصل الأوّل (¬3) في الإسناد مالكٌ (¬4)، عن زيد، عن عطاء، عن عبد الله الصُّنَابِحِىِّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِن الشّمس تطلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيطَانِ" الحديث. قال الإمام الحافظ: تابعَ يحيى على هذا الحديث واللَّفظ قوله: "عبد الله الصُّنَابِحِيّ" ¬
جمهورُ الرُّواةِ، منهم القَعْنَبِيُّ (¬1) وغيره (¬2). وقال فيه مُطَرِّف (¬3): عن مالكٌ، عن أبي عبد الله الصُّنَابِحيِّ، وتَابَعَهُ إسحاق بن عيسى الطّبّاع (¬4) وطائفة، وهو الصّوابُ. وهو أبو عبد الله الصُّنابحيُّ، واسمه عبدُ الرحمنِ بن عُسَيلَةَ، وهو من كبار التّابعين، لا صُحْبَةَ له (¬5)، ورُوِيَ عنه (¬6)؛ أنّه قال: لم يكُنْ بيني وبينَ رسولِ الله إلَّا خَمْسُ ليالٍ، تُوُفِّيَ وأنا بالجُحْفَةِ، فقَدِمْتُ وأصحابُه يتوافدون. قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬7) -: واضطرب ابنُ مَعِين في أحاديثه، فمرّةٌ قال: يشبه أنّ تكون له صُحْبَة (¬8). ومرّة قال: أحاديثُه مُرْسَلَة، ليست له صُحْبَةٌ (¬9). وهو الصّحيحُ (¬10). وأحاديثُه في الموطَّأ مشهورةٌ، جاءت عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من طُرُق صحاحٍ من أحاديثِ أهل الشّام. ¬
الفصل الثاني في الشرح والفوائد المنثورة
الفصل الثاني في الشّرح والفوائد المنثورة قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: اعلموا- أنارَ اللهُ قلوبَكُم للمعارِفِ - أنَّ هذا حديثٌ مُشكِلٌ من مشكلاتِ الأحاديثِ، وقد خاضَ النّاسُ فيه قديمًا وحديثًا، يتأولون بوجوهٍ من التّأويلات، وفيه للعلماء أقوال أربعة (¬1): القولُ الأوّل - قال الدّاوديّ: "إنّ الشّمس تَطلُعُ ومعها قرنُ الشّيطانِ" فذهب (¬2) إلى أنّ له قَرنَين على الحقيقة تطلُعُ مع الشّمس؛ لأنّه قد رُوِيَ أنّها تطلع مع قرني الشّيطان (¬3). القولُ الثاني - قيل: إنه لا يمتنعُ أنّ يخلقَ اللهُ تعالى شيطاناَ تطلُعُ الشّمسُ مع قَرْنَيه وتغربُ. القولُ الثالث - قيل: يحتملُ أنّ يريد بقوله: "قرنَ الشَّيطانِ" أي قرنه الّذي يضلّ به النّاس، ويستعين به على النَّاس، ولذلك يسجدُ حينئذٍ الكفّارُ (¬4). القولُ الرّابع - قيل: يحتملُ أنّ يريدَ قبائل من النّاس يستعينُ بهم الشّيطانُ على كفره (¬5). وقد رَوَى أبو مسعود؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أشار بِيَدِهِ نحو اليَمَنِ، فقال: "أَلاَ ¬
الفصل الثالث في سرد المسائل
إنّ الإيمانَ ههنا، وإنَّ القَسوَةَ وغِلَظَ القلوبِ في الفَدَّادينَ، عند أصول أَذنَابِ الإِبِلِ، حيث يَطلُعُ قرنا الشَّيطَانِ، وذلك في رَبِيعَةَ ومُضَرَ" (¬1). وقال في الخبر (¬2): "ما طَلَعَتِ الشَّمس قطُّ حتّى يَنخُسَها سبعون ألف مَلَكٍ؛ فيقولون لها: اطلُعِي اطلُعِي، فتقولُ: لا أطلُعُ على قومٍ يعبُدُونَنِي من دونِ الله، فيأتيها مَلَكٌ عن أمرِ الله فيأمُرُها بالطُّلوعِ، فيأتيها الشّيطانُ يريدُ أنّ يَصُدَّها عن الطّلوع، فَتَطلُعُ من قَرْنَيهِ، فَيَحْرِقُهُ الله تحتها، وما غَرَبَت قطُّ إلَّا خَرَّت له ساجدةً، فيأتيها الشّيطانُ يريدُ أنّ يَصُدَّها عن السَّجدَةِ، فَتَغرُبُ بين قَرْنَيهِ فَيَحرِقُهُ الله تحتَها"، ولذلك قالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا طَلَعَت شَمسٌ إلَّا بين قَرنَي شَيطَانِ، ولا غَرَبَت إلَّا بين قَرْنَي شَيطَانِ" (¬3). قال الشّيخ أبو عمر (¬4): "بلغني عن أبي محمَّد الأَصِيليّ؛ أنّه قال وقد سُئِلَ عن تأويلِ حديثِ زَيدٍ هذا، فقال: يُمكِنُ أنّ يكونَ للشّيطانِ قَرْنٌ يَظهَرُ عند طُلوعِ الشَّمسِ وعند غروبها، وهذا إشارة إلى الظّاهِرِ وحمله على الحقيقة" وقال آخَرُونَ: معناه على المَجَازِ، وأنّه أراد بقَرْنَي الشّيطانِ ههنا أُمَّة يعبدون الشّمس من دُونِ الله (¬5). الفصل الثالث في سرد المسائل وفيه ذِكرُ الأحاديثِ الواردةِ في ذلك: قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬6): أجمع العلماءُ - رضوانُ الله عليهم- أنّ نهيَهُ -عليه السّلام- عن الصّلاة عند الطلوعِ والغروبِ صحيحٌ غيرُ منسوخٍ، وأنَّه لم يعارِضهُ شيءٌ، إلَّا أنّهم اختلفوا في تعليله: ¬
فقال علماء الحجاز - مالكٌ (¬1) والشّافعيّ (¬2) وغيرهما -: إنّ المنعَ عن الصّلاةِ إنّما هو للنّافلةِ دونَ الفريضةِ، ودونَ الصّلاةِ على الجنازةِ، هذا جملة قولهم. مسألة (¬3): وقال أهلُ العراقِ (¬4): إنّ نهيَهُ - صلّى الله عليه وسلم - عن كلِّ صلاةٍ نافلةٍ أو فريضة أو جنازة، فلا تصلَّى عند الطّلوع، ولا عند الغروب، ولا عند استوائها؛ لأنّ الحديثَ لم يخصّ نافلة من فريضة إلَّا للضّرورة، لقوله: "مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ العَصرِ قَبلَ تغربَ أنّ الشَّمْسُ" الحديث (¬5). مسألة (¬6): وإنّما اختلف العلماء في الصّلاة عند الاستواءِ: فقالَ مالكٌ وأصحابُه (¬7): لا بأسَ بالصّلاة نصف النّهار إذا استوتِ الشّمسُ. وقال أيضًا: لا أكرهُ الصّلاةَ نصفَ النّهارِ إذا استَوَت وَسَطَ السّماءِ، لا في يوم جمعة ولا غيره. هذا ما حكاه ابن القاسم (¬8) وغيره، إذ لم يعرف النّهي في ذلك. غايةْ وإيضاحٌ: قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: أحاديثُ هذا الباب ثمانيةٌ: ¬
الحديثُ الأوَّل: "نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -عن الصّلاةِ بعدَ الصُّبحِ حتّى تَطلُعَ الشّمسُ، وعن الصّلاةِ بعدَ العصرِ حتّى تَغرُبَ الشَّمْسُ" الحديث (¬1). الحديثُ الثّاني: قولُه: "لا تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُم طُلُوعَ الشَّمسِ ولا غُرُوبَها (¬2) " الحديث الثّالث: هو الّذي ذَكَرَهُ مالكٌ في الموطَّأ (¬3) عن أبي عبد الله الصُّنَابِحِيِّ، حديثٌ مُرْسَلٌ ويُسنَدُ من طُرُقٍ. الحديثُ الرابعُ: قولُه: وإذًا بَدَا حَاجِبُ الشَّمس، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حتَّى تَبرُزَ. وإذا غابَ حَاجِبُ الشّمس، فأخِّرُوا الصَّلاة حتَّى تَغِيبَ" (¬4). الحديثُ الخامس: نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن الصّلاةِ بعدَ الصُّبحِ حتَّى تَطْلُعَ الشّمسُ، وعن الصَّلاةِ بعد العصرِ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، إلَّا بمَكَّةَ. خَرَّجَهُ الدَّارقطنيُّ (¬5). الحديثُ السّادسُ: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يَا بَنِي عَبدِ مَنَافٍ، لا تَمْنَعُوا أحدًا طافَ بهذا البيتِ أنّ يُصَلِّي أَيَّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نَهَارٍ" الحديث (¬6). الحديثُ السّابعُ: حديثُ أمِّ سَلَمَةَ؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - صَلَّى في بيتها ركعتين بعد العصر (¬7). ¬
الحديثُ الثامنُ: حديثُ عائشة - رضي الله عنها -؛ أنّها قالت: ما تركَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - قطُّ في بيتي ركعتينِ قبلَ الصّبح، وركعتينِ بعد العصرِ حتّى توفّاهُ الله. خَرَّجَهُ البخاريُّ (¬1). تفريع (¬2): اختلفَ العلماءُ في قولِه: "لا تصلُّوا بعد العصر" الحديث (¬3): قلنا: هل يريدُ بذلك الوقتَ، أو نَفسَ الوَقتِ من الصّلاةِ؛؟ وعلى هذا انبنىَ الخلافُ للعلماءِ في صلاةِ الجنازةِ بعدَ العصرِ، إذا بَقِيَ من الوقتِ شيءٌ. فإن قلنا: إنّ المرادَ به بعدَ صلاةِ العصرِ، لم يُصَلَّ على الجنازةِ. وإن قلنا: إنّ المرادَ به بعد وَقتِ العصرِ، صُلِّيَ على الجنازةِ. والصّحيحُ: أنّ المرادَ به بعدَ صلاةِ العصرِ، لوجهينِ: أحدُهما: أنّ العصرَ والظُّهرَ والمغربَ قد صار ذلك أعلامًا للصّلواتِ، فمُطلَقُ اللَّفظِ إليها يَرْجِعُ، والخطابُ عليها يُحْمَلُ. الثّاني: أنّه قال: "لا صلاةَ بعدَ الصُّبح حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ" ولو أراد الوقتَ لاستحالَ هذا الكلامُ؛ لأنّه ليس بين وقت الصُّبح وبينَ طلوعِ الشّمس حدٌّ للنَّهيِ المذكورِ. واتفَقَ العلماءُ على تأويل الوقتين. ¬
فإن قيل: إنّه قد رُوِيَ في حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ؛ أنّه قال: نَهى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عنِ الصَّلاةِ بعدَ الزَّوالِ إلَّا يومَ الجُمعةِ (¬1). قلنا: هذا حديثٌ باطلٌ، والعمدةُ فيه ما قدّمناهُ من قول من قال: إنَّ الفعلَ مختصٌّ بالنَّبيِّ لا يتعدّاه إلى غيره إلَّا بدليلِ، فَبَقِيَ النَّهيُ على حالِهِ، وبَقِيَ فِعْلُ النَّبِيِّ مختصًّا بحالِهِ وبِصِفَتِهِ، وَيعتَضِدُ ذلك بضَرْبِ عمرَ بن الخطّاب - رضي الله عنه -عليها النّاس (¬2)، ولو كان ذلك من شرائعِ الدِّينِ ما ضَرَبَ عمرُ، ولا أَقَرَّتْهُ الصّحابةُ على ذلك. وأمّا حديثُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الّذي فيه: "لا تَمْنَعُوا أحَدًا طافَ بهذا البيتِ أنّ يُصَلِّيَ أَيَّةَ ساعةٍ شاءَ من لَيلٍ أو نَهَارٍ" (¬3) فإنّه عامٌّ يَخُصُّهُ ما تقدَّمَ من الأحاديثِ. وأمّا ما قاله الدَّارقطنيُّ: "إلَّا بمَكَّةَ" فإنّه لا يَصِحُّ، فلا يُشتَغَلُ بِهِ. نكتةٌ أصوليّةٌ (¬4): قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: لا خلافَ بين المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ من العلماء أنّ العامَّ والخاصَّ إذا تَنَافَيَا فإنّهما يتعارضَانِ، كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬5) فإنّه أمرٌ بالقتلِ، وكقوله: إنّه نَهَى عن قتل النِّساءِ والصِّبيَانِ (¬6). وذلك منعٌ من القتلِ، مُخرِجٌ للمرأةِ عن قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬7) بنَصِّ عن نَصِّ، ومُخرِجٌ لقتل الصِّبيان (¬8) عن قتل المشركين بظاهرٍ عن نصِّ. ¬
فأمّا إذا تماثَل الخَبَرانِ في الحُكْمَينِ، وأحدُهما عامٌ والآخرَ خاصُّ، فلا خلافَ بين العلماءِ المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ إلى زماننا هذا أنّهما يتوافقان، كقوله: "لا صلاةَ بعدَ الصُّبحِ حتّى تَطلُعَ الشَّمْسُ"، وكقوله: إلا تَحَرَّوْا بصلاتِكُم طُلُوعَ الشَّمسِ ولا غُرُوبَها" فإنّهما متماثلان في الحُكم، وأحدُهما أعَمُّ من الآخر فيتماثلُ العامُّ والخاصُّ، لكن يُفِيد الخاصَّ مَزيْدُ تأكيدٍ في الحكم المبين بِهِ، فتأمَّلُوا هذا الفصل فإنّه زلَّت فيه أقدامُ جماعةِ (¬1) مزيد إيضاح (¬2): قال: (¬3): ثمّ وجدنا النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قد قال: "مَنْ نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَهَا فَليُصَلِّها إذا ذَكَرَهَا" (¬4) فتعارضَ هذا الأمرُ إذا ذكَرَها بعدَ الصُّبحِ مع النَّهي عن الصَّلاة بعد الصُّبح. فأمّا مالكٌ (¬5) - رضي الله عنه - والشّافعيّ (¬6) فقدَّمَا الأمرَ على النَّهيِ، وقدَّمَ أبو حنيفةَ (¬7) النّهيَ على الأمرِ. ولقد كان على قِبلَةٍ لو تَمَادَى عليها, لكنّه ناقضَ الجماعةَ في ذلك فقال: إن ذَكَرَ صُبحَ اليومِ أو عَصْرَ اليومِ في وقتِ النّهيِ صلّاها, فناقضَ مناقَضَةً بيِّنةً, لكنّه تعلَّق بقوله: "لاَ صلاةَ بَعْدَ العَصْرِ" يعني: بعدَ صلاةِ العصرِ من يَوْمِهِ (¬8). فنقول: قد تقدَّم الأمرُ على النَّهيِ ههنا بتأكيد قوله: "لا وقتَ لها إلّا ذلك". ¬
باب النهي عن دخول المسجد بريح الثوم
بابُ النَّهي عن دُخولِ المسجد برِيِح الثُّومِ مالكٌ (¬1)، عن ابنِ شهابٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَكَلَ من هذهِ الشَّجَرَةِ، فلا يَقرَبْ مَسَاجِدَنَا" الحديث. قال الإمامُ الحافظُ الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬2) -: "هذا حديثٌ مُرْسَلٌ في "الموطَّأ" عند جماعة الرُّوَاةِ (¬3) ". ومجالُ الكلامِ في هذا الحديث على أربعة مآخذ: المأخذُ الأوَّلُ في إسناد الأحاديثِ الواردةِ في هذا المعنَى وقد أُسنِدَ (¬4) هذا الحديث من طُرُقٍ كثيرةٍ، وَصَلَهُ مَعْمَرٌ، ويُونُس، وإبراهيم بن سَعد (¬5). وعبد الرزّاق (¬6)، عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيَّب، عن أبي هريرةَ، عنا النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه قال: "مَنْ أَكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ" الحديث. ¬
والحديث الثاني (¬1): ذَكَرَهُ ابنُ وهبٍ، عن يونس، عن ابن شِهَاب كذلك مُسنَدًا. وروى (¬2) يحيى (¬3) وجماعة (¬4): "مَسَاجِدنا" ورَوَت طائفةٌ (¬5): "مَسْجِدنَا" والمعنى واحد، و "مساجدنا" أعمّ، وإن كان. الواحد من الجنس في معنى الجماعة. وفي بعض الأحاديث المسندة "فَلاَ يَقرَبَنَا، وَلاَ يُصَلِّي مَعَنَا في مَسجِدِنَا" (¬6) وفي بعضها "فَلَا يَغشَانَا في مَسَاجِدِنَا" (¬7). والحديث الثالث (¬8): ورد في الصّحيح من طريق ابن عمر (¬9)، وجابر (¬10)، وأَنَس (¬11)، وأبي سعيد (¬12)، ووقع طرفٌ منه في حديث سَلَمَة بن الأَكوَع (¬13)، وهو قوله: "أَصَابَتنَا مَخمَصَةٌ بخَيبَرَ" لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قد نَهَى عن أكل الثُّوم والبصل، فأصابتهم مجاعة بخَيبَر، فوقعوا في زراعة بصل فأكلوها من الجوع، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أكلَ من هذه الشَّجرَةِ فلا يَقرَبْ مسجدَنَا" فقال النَّاسُ: حُرِّمَت، فبلغَ ذلك رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ، ليس لي تحريمُ ما أحلَّ اللهُ، ولكنّها شجرةٌ أَكرَهُ رِيحَهَا" (¬14). وذَكر - صلّى الله عليه وسلم - أحاديثَ كثيرة في المصنَّفات، مُعْظَمُها سردناه لك في هذا "المختصر". ¬
المأخذ الثاني في التعليل
رَوَى جابر بنُ عبدِ الله؛ أنّه قال: قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أكلَ ثُومًا أو بَصَلًا فَليَعتَزِلنَا، أو قال: فَليَعتَزِل مَسْجِدَنَا، وَليَقعُدْ في بَيتِهِ" (¬1). ورَوَى ابنُ وهب، عن يونس، عن الزُّهريّ؛ أنّه قال: "أُتِيَ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بطَبَقٍ من خضرَواتٍ"، الحديث (¬2). تنبيه على مقصد (¬3): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي -رضي الله عنه -: أدخل مالكٌ - رحمه الله - هذا الباب في هذا الموضع ليبيِّن لك أنَّ أوقاتَ الصّلواتِ للواحدِ والجماعةِ سواء، وذَكَرَ التَّحضِيضَ عليها. وعَلِمَ أنّها تتعلَّقُ بمحَلَّينِ: زمانٍ وهو الّذي بَيَّنَ. ومكانٍ وهو المسجدُ. فأراد أنّ يُفيدَكَ أنّ الصّلاةَ في الجماعةِ ليست بفَرْضٍ، إذ لو كانت فَرْضًا لما جازَ أنّ يُتَخَلَّفَ عنها بأكلِ الثُّومِ. المأخذ الثّاني (¬4) في التّعليل اختلف العلماءُ في معنى هذا الحديث، هل هو مُعَلَّلٌ أو غير مُعَلَّلٍ؟ قال القاضي أبو بكر: فيه ثلاث عِلَلٍ: العلَّةُ الأوُلى- قيل (¬5): إنّما ذلك من أجل المَلَك، وهذا بَيِّنٌ في قوله: "إِنِّي أُنَاجي ما لا تُنَاجِي" (¬6). وقولُه: "فإنَّ الملائكةَ تَتَأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى منه بَنُو آدَمَ" (¬7). ¬
قال الإمام الحافظ: وفي هذا دليلٌ على أنّهم مُرَكَّبونَ من ريشٍ وجِسمً، لا كما تقولُ الفلاسفةُ: إنّهم بسائِطُ، وتقول: إنّهم يَكبُرُونَ حتّى يَملأَ أحدُهم الأُفُقَ، ويَصغُرُونَ حتّى يصيرَ أحدُهم كالرَّضِيعِ، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم - لصاحبه: "كُل مِنَ القِدرِ الّذي فيه الخَضِرَات، فإنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي" (¬1) إشارة إلى أنّ المَلَكَ يأتيه من غير وَعدٍ، فربّما وَجَدَهُ على تلك الحالِ. وفي بعضِ الآثارِ المُرْسَلَةِ: "إنَّ الرَّجُلَ يَكذِبُ الكَذبَةَ فيتباعَدُ عنه المَلَكُ من نَتنِ رائِحَتِه" (¬2) وذلك كثيرٌ في الشّريعةِ. العلَّةُ الثانيةُ - قولُه: "فَلاَ يَقرَب مَسَاجِدَنَا" و"مَسَجِدَنَا" فذَكَرَ الصِّفةَ في الحُكمِ وهي المسجديّةُ، وذِكرُ الصِّفةِ في الحُكمِ تعليلٌ؛ لأنّ الأسماءَ الّتي عُلِّقَت عليها الأحكامُ على قسمين: أحدُهما: مشتقّةٌ، والأخرى جامدةٌ. فإذا علّقَ الحُكمَ على اسم مشتقٌّ، أفادَ الحُكمَ والعلّةَ، كقوله: أَكرِمِ العالِمَ، معناه: لِعِلمِهِ. وإذا كان الاسمُ جامدًا لم يُفِدْ إلَّا ما تفيدُهُ الإشارةُ، وهو بيان المَحَلِّ، كقولك: أَكرِم زيدًا، وعلى القسمِ الأوّلِ جاءَ قولُه (¬3). وتنبني فيه مسألةٌ من الأصولِ، وهو تعلَّق الحُكم الشّرعي بعِلَلٍ كثيرةٍ، كالامتناعِ من. وطْءِ الحائضِ المُحْرِمَةِ الصّائمةِ، بخلافِ العِلَلِ العقليّةِ؛ لأنّ الحُكمَ لا يتعلَّقُ منها إلَّا بواحدةٍ. ¬
وقولُه: "فَلاَ يَقْرب مَسَاجِدَنَا" قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬1): "والمواضعُ الّتي يحصلُ فيها اجتماعُ النَّاس على ضربين: أحدُهما: ما اتُّخِذَ للعبادات، كالجامع والمساجد، فهذا يُكرَهُ دخولُهُ برائحة الثُّومِ، وقد نَصَّ أصحابُنَا على المسجدِ والجامعِ، وعندي أنّ مُصَلَّى العِيدَين والجنائز كذلكَ". إلحاق (¬2): قال الإمامُ الحافظُ: والمساجدُ على ضربين: مُختَطَّةٌ، كمُصَلَّى العيد ومُصَلَّى المسافرينَ إذا نزَلُوا، وشبه ذلك. ومَبنِيَّةٌ، كسائرِ المساجدِ. فإن كانت المساجدُ مختطَّةٌ، فإنّه يتعلّقُ الحُكمُ بعلَّتين: إحداهُما: إذايةُ الملائكة، والأخرى: إذايةُ النَّاس؛ لأنَّ المسجدَ غيرَ المُختَطِّ لا حُرْمَةَ له، إنَّما الحُرْمَةُ للمختطِّ والمَبنِيِّ؛ ولهذا قلنا: لا يدْخُلُ آكِلُ الثُّومِ مجالسَ العلماءِ، ولا مشاهِد الرَّأي والمَشُورَةِ في الحربِ، ولا الأسواقَ المُختَطَّةِ الّتي لا يمكنُ أحدٌ أن ينفصلَ عن مَوضِعِهِ إلَّا بتَبديدِ تجارَتِه، والدّليلُ على ذلك؛ قولُ عمر بنِ الخطَّابِ في الصّحيحِ: كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا وجدَ رِيحَها، أَمرَ بِهِ وَأُخرِجَ إِلَى البقيعِ (¬3). ¬
المأخذ الثالث في الفوائد المنثورة في هذا الحديث
المأخذ الثالث في الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي تسع فوائد: الفائدة الأوُلى (¬1): قوله: "مَنْ أَكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ" قال علماؤنا (¬2): هذا الكلام منه - صلّى الله عليه وسلم - لا يقتضي إباحةً ولا حَظرًا، وقد رُوِيَ مثل ذلك في الحَظرِ، كقوله: "مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا" (¬3)، ومِثلُه في الإباحة كقوله: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيان فهو آمِنٌ" (¬4) وإنّما ذلك شرطٌ يتنوّعُ جوابُه (¬5). الفائدة الثّانية (¬6): قوله: "فلا يَقْرَب مساجدَنا" مَنع لمن أكلَ هذه الشّجرة، وقد بيَّنَ ذلك بقوله: "يُؤذِينَا بريحِ الثُّومِ". وقال بعضُ العلماءِ: إنّما خرجَ النَّهْيُ من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على مسجدِه من أجلِ جبريلَ ونزوله فيه على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وقال آخَرونَ -وهم الأكثرونَ -: إنّ مسجدَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وسائرَ المساجدِ في ذلك سواءٌ، وملائكة الوحيِ وغيرها في ذلك سواء؛ لأنّه قد أخبرَ أنّه يتأذَّى منه ابن آدم. الفائدة الثّالثة (¬7): في هذا الحديث من الفقه: إباحة أكل الثُّوم. لأنّ قولَه: "مَنْ أَكَلَ" لفظ إباحة لغيره؛ لأنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - إنَّما مُنِعَ من أكل الثّوم والبصل والكُرَّاثِ لعلَّةٍ ليست موجودة في غيره، فصارَ ذلك خصوصًا له. ¬
وفي حديث أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أنّه قال: "كُلُوهُ، وَمَق أَكَلَهُ فَلاَ يَقرَب المسجدَ" (¬1) فيه دليلٌ على إباحةِ أكلِها, لا على تحريمِها كما زَعَمَ ابن حزم (¬2) وأهلُ الظّاهرِ الذين يُوجِبُونَ إتيانَ المسجد للجماعة ويرونَ ذلك فَرضًا، ويمنعون من أكل الثُّوم والبصلِ؛ لأنّ من أَكَلَهُ لا يقرب المسجد لصلاة الجماعةِ عندَهُم بوجهٍ ولا على حالٍ. الفائدة الرابعة (¬3): في هذا الحديث دليلٌ على أنّ صلاة الجماعةَ ليست بفريضةٍ، خلافًا لأهل الظّاهر الّذين يُوجِبُونَها، ويحرِّمون أكلَ الثُّومِ من أجلِ شهودِها، وقد أكلَ الثُّومَ جماعةٌ من السَّلَفِ (¬4). فإن قيل (¬5): لا يَمتَنِعُ أنّ يُسقِطَ المباحُ الفَرْضَ، كالسَّفَرِ يُسْقِطُ الصّومَ وشَطرَ الصّلاةِ. الجوابُ- قلنا: السَّفَرُ لم يُسقِطُ الصّومَ والصّلاةَ، وإنّما نَقلَها إلى بَدَلٍ، بخلافِ أكل الثُّوم فإنَّه يُسقِطُ الجماعةَ، فدلَّ على أنّها ليست بفَرْضٍ. الفائدة الخامسة (¬6): فيه دليلٌ على أنّ الْخُضَر كانت عندَهُم بالمدينةِ. وفي إجماعِ أهلِهَا على أنّه لا زكاةَ فيها، دليلٌ على أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - لم يأخذ منها الزّكاة، ولو أخذَها لم يَخفَ عليهم، ولنُقِلَ ذلك عنهم. ¬
الفائدة السّادسة (¬1): قولُه: "أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي" دليلٌ على أنّ الملائكةَ أفضلُ من بني آدمَ (¬2)، وهي مسألةٌ عظيمةٌ فيها للعلماءِ زحَامٌ كبير. وفيه أيضًا: أنّ بني آدم يَلزَمُ من بِرِّ بعضِهِم ما لا يَلْزَمُ لجمِيعِهِم، ألا ترى أنّه لم يُؤمَر آكل الثُّومِ باجتنابِ أهل الأسواقِ. الفائدة السّابعة (¬3): فيه: أنّ من تَركَ طعامًا لا يحبُّه أنّه لا لَوْمَ عليه، كفِعْلِهِ عليه السّلام بالضَّبِّ. الفائدة الثّامنة (¬4): قوله: "البدْر" (¬5) قال الخطّابي (¬6): فَسَّرَ ابنُ وهب البِدْر أنّه الطَّبَق، وأراه سُمِّيَ بدرًا لاستدارته، ولذلك سمي القمر بَدْرًا عند امتلائه، ومنه: عَينٌ بَدْرَةٌ إذا كانت واسعة. الفائدة التّاسعة: قولُه: "من أكلَ من هذه الشّجرةِ الخبيثةِ" (¬7). ¬
المأخذ الرابع في سرد المسائل في هذا الباب
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: والخبيثُ في اللُّغة عبارةٌ عن كلِّ ما يُؤلِمُ الحاسَّةَ من الشَّمِّ والذَّوقِ، وُيستَعَارُ في غير ذلكَ. فالخبيثُ في الشّريعةِ: عبارةٌ في الأطعمةِ عن المُحَرَّمِ، وهو معنى قولِه: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1) يريد: يُحَرِّمُ عليهم المُحَرَّمَاتِ، أي يُبيِّنُها. وقال غيرُ مالكٍ من العلماءِ: الخبائثُ ههنا كلُّ مُستَكرَهٍ، كما بيناه في "كتاب الأحكام" (¬2)، فهذه فائدةُ لُغَوِيَّةٌ شرعيّةٌ. المَأخَذُ الرّابعُ في سَردِ المسائلِ في هذا البابِ وفيه ثمان مسائل: المسألة الأولى: رَوَى ابنُ وَهْب عن مالكٍ أنّه قال: من أكلَ الثُّومَ يومَ الجُمعةِ لا أَرَى له أنّ يشهَدَ الجُمعةَ في المسجدِ ولا في رِحَابِهِ (¬3)، وبِئْسَ ما صَنَعَ حينَ أكلَ الثُّومَ وهو من أهلِ الجُمعةِ (¬4). المسألة الثانية (¬5): قال علماؤنا (¬6): فيه دليلٌ على أنّ كلّ ما يُتَأَذَّى به كالمَجذُومِ وشِبْهِهِ يُبْعَدُ عن المسجدِ وحِلَقِ الذِّكرِ. وقال سُحنون: "لا أَرَى الجمعةَ تجبُ على المَجذُومِ" واحتجَّ بقوله عليه السّلام:"مَنْ أَكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ". ¬
المسألة الثالثة (¬1): قال (¬2): وأفتى أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام (¬3) في رجلٍ شَكَاهُ جيرانُه أنّه يؤذِيهِم في المسجد بلسانه (¬4)، فقال: يُخْرَج عن المسجد وُيبعَد عنه (¬5). ونزع بهذا الحديث. وقال (¬6): أَذَاهُ أكثر من أذى الثُّوم، وهذا الحديث أصل في نفي كلِّ ما يُتَأذَّى يه (¬7). المسألة الرابعة: هل لآكل الثُّوم أنّ يتصرَّفَ في الأسواق أم لا؟ فقال مالكٌ: ما سمعتُ في آكِلِ الثُّومِ كراهيةً في دُخولِ السُّوقِ، وإنّما ذلك في المسجدِ. ذَكَرَهُ ابنُ أبي زَيد في "نوادره (¬8) ". وقال: آكِلُ الثُّومِ لا أرى عليه جُمُعَة، ولا أرى أنّ يشهدَها في رِحَابِه (¬9)، ولا يجوزُ أنّ يدخلَ المسجدَ من أَكَلَهُ. المسألة الخامسة (¬10): وأمّا الرَّوائحُ الّتي تَقرُبُ من الثُّوم، كالبَصَل والكُرَّاث، فقال مالكٌ: هما كالثُّومِ، وإن كان الفُجلُ يُؤذِي فلا يدخلُ من أَكَلَهُ المسجدَ. ¬
ورُوِيَ عنه أنّه قال: لم أسمع في الكُرَّاثِ والبصَلِ مَنْعًا، وما أُحِبُّ أنّ يُؤذَى النّاسُ، ومن النَّاس من تبدو عليه الرائحة، ومنهم من لا تبدو عليه، قاله مالكٌ في "العتبية" (¬1). المسألة السادسة (¬2): قال الإمامُ الحافظُ: والصّحيحُ أنّ كلَّ الخُضَرِ الكريهةِ الرائحةِ في ذلك كالثُّومِ، والدّليلُ على ذلك: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من أكلَ البصلَ والكُرَّاثَ والثُّومَ فلا يقربنَّ مسجِدَنا؛ فإنَّ الملائكةَ تَتَأذَّى ممّا يتأذَّى منه بنو آدم" (¬3). المسألة السابعة (¬4): قال (¬5): فإن كان أكَلَهُ أحدٌ وأتَى المسجدَ، أُخرِجَ مِنْهُ؛ لما رُوِيَ عن عمرة أنّه قال: ثمَّ إنكُم أيْها النّاسُ تأكلونَ شجرتين ما أراهُما إلَّا خبيثتين، ولقد رأيت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إذا وَجَدَ ريحَهُمَا من الرَّجُلِ أَمَرَ به فاُخرِجَ إلى البقيع، من أكَلَهُمَا فليُمِتهُمَا طَبخًا ونضجًا (¬6). المسألة الثامنة (¬7): قوله (¬8): " إذا رَأَى الإنسانَ يُغطِّي فَاهُ جَبَذَه" فروى ابنُ القاسم، عن مالكٌ (¬9)؛ أنّه قال: المصلِّي لا يَلْتَثِمُ ولا يغطِّي فَاهُ؛ لأنّه نَفْيٌ للخُشُوعِ، ومعناه الْكِبر. ¬
وقال مالكٌ في "المختصر": "لا يطوفُ رَجُلٌ مَلَثَّمًا، أو قال: مُتَلَثِّمًا، ولا امرأةٌ مُتَنَقِّبة". وذلك لأنّ الطّوافَ صلاةٌ (¬1). المسألة التّاسعة (¬2): قال ابنُ حبيب: لا ينبغي أنّ يغطِّي فاه ولا ذَقنه ولا لحيته في الصّلاة. وحكَى ابنُ شعبان في "مختصره" الخلاف في تغطيه الذَّقن عن مالكٌ، فرُوِيَ عنه أنّه لا بأس (¬3)، وَرُوِيَ عنه (¬4) أنّه كرهه. ولا تصلي المرأةُ مُتَنَقِّبةَ (¬5)، ورَوَى ابنُ وهْب عن مالكٌ أنَّه قال: ولا مُتَلَثِّمَة (¬6) فإن فَعَلَت، فقد روى ابنُ القاسمِ (¬7) عن مالكٌ أنّها لا تعيدُ. المسألة العاشرة: قال (¬8): "وأكره التَّقَنُّع لغير عُذْرٍ، وما علمتُه حرامًا" قال: "وهذا في غير الصّلاة " (¬9) حكاه القاضي أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (¬10). ¬
تَمَّ بحمدِ اللهِ المجلَّد الأوّل بالتجزئة السليمانية، ويَليهِ المجلد الثّاني، وأوّلُهُ: "العمل في الوُضُوء"
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالكٌ للقاضي أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) قراه وعلّق عليه محمد بن الحسين السُّليماني عائشة بنت الحسين السُّليماني قدَّم له الشّيخ الإمام يسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المجلد الثاني دَار الغرب الإسلامي
دار الغرب الإسلامي جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 هـ دار الغرب الإسلامي ص: ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالكٌ للقاضي أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) المجلد الثاني
[الطهارة]
العملُ في الوضوءِ قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: أشبع مالكٌ - رضي الله عنه - هذا الباب بالأحاديث، ولكنّه عَوَّل على حديث ابنِ زَيد، وإن كان قد رَوَى وضوء رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جماعة، منهم عبد الله هذا، ومنهم عثمان (¬1)، وعليّ (¬2)، وعبد الله بن عبّاس (¬3)، وجماعة، هؤلاء عدّتهم. والأحاديث الّتي ذكر مالكٌ في هذا الباب ستّة أحاديث: الحديث الأوّل: مالكٌ (¬4)، عن عَمْرِو بن يحيى المازِنىِّ، عن أبيه؟ أنّه قال لعبد الله بن زَيْد بن عاصم، وهو جَدُّ عمرو بن يحيى - وكان من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: هل تستطيعُ أنّ تُرِيَنِي كيف كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يتوضَّأ؟ قال عبد الله بن زيد: نعم، فَدَعَا بِوَضُوءٍ في إناءٍ ... الحديث. الكلامُ في هذا الحديث يشتمل على فصول: الفصل الأوّل في الإسناد وهم وتنبيه (¬5): وقع في "الموطَّأ": "مالكٌ، عن عَمْرِو بن يحيى المازِنِىِّ، عن عبد الله؛ أنّه قال لعبد الله ابنِ زَيدِ بنِ عاصمٍ، وهو جدُّ عمرو بن يحيى" وهذا وهمٌ قبيحٌ من يحيى بن يحيى (¬6) ¬
وغيرِه (¬1)، وأعجَبُ منه أنّه سُئِلَ عنه ابنُ وضَّاحٍ - وكان من الأيمّة في الفقه- فقال: هو جدُّه لأمِّه، ورحمَ اللهُ مَنِ انتهى إلى ما سمعَ، ووقف دون ما لا يعلم، وكيف جاز هذا على ابن وضّاح، والصّوابُ في "المدوّنة" (¬2) الّتي كان يقْرِئها ويرويها عن سحنون، وهي بين يديه ينظر فيها كلَّ حين. قال الإمام الحافظ: وصوابُ الحديث: مالكٌ، عن عمرو بن يحيى المازِنىِّ، عن أبيه؛ أنّ رجلًا قال لعبد الله بن زيد، وهذا الرَّجُلُ هو عمارة بن أبي حسنٍ المازِنىِّ، جدّ عمرو بن يحيى المازنيّ (¬3). قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬4): "لا يخلو وضوء عبد الله بن زيد هذا أنّ ينوي به مع التّعليم استباحة عبادة، أو لا ينوي، فإن لم ينو لم تصحّ به الصّلاة". ¬
تنبيه على مقصد (¬1): قال الإمامُ الحافظُ: والوضوءُ أصلٌ في الدِّين، وطهارةٌ للمسلمين، وفضيلةٌ لهذه الأُمَّة في العالَمِينَ. وقد رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه توضَّأَ وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قَبْلِي، وَوُضُوءُ إبراهيم خليل الرحمن" (¬2) وذلك لا يصحُّ (¬3). والوضوءُ مشروعٌ في الدِّين على ستَّةِ أقسامٍ: وضوءٌ للدعاء. ووضوءٌ لردِّ السّلام. ووضوءٌ للنوم. ووضوءٌ للقراءة عن ظهر غيب. ووضوءٌ للدُّخول على الأمراء. ووضوءٌ للفضيلة وتجديد العبادة. مزيد إيضاح: قال بعضُ القَرَوِيِّينَ: سبعة أوضية يُصَلَّى بها: من توضّأَ لنافلة. ومن توضّأ لجنازة. ومن توضّأ لرفع الْحَدَثِ. ¬
ومن توضّأَ لقراءة المصحف نظرًا. ومن توضّأ للعيدين، وكذلك للكسوف. ومن توضّأ للاستسقاء. فصل وقال بعض البغدايِّين: ستّة أوضية لا يصلَّى بها: أؤلها: من توضّأ تَبَرُّدًا. والثّاني: من توضَّأَ تنظُّفًا. وكذلك من توضّأ مُكرَهًا. ومن توضّأَ لقراءة القرآن للتّعَلُّم. ومن توضّأ لدخول المسجد. والمِرْبَد (¬1). قال الشّيخ -أيَّدهُ اللهُ (¬2) -: والأصلُ في هذا رَفْعُ الْحَدَثِ، وقد اختلف علماؤنا في هذا التقسيم اختلافًا كثيرًا، فلا يطال الكلامُ معهم. والَّذي يَرْبُطُ فيه المرام؛ أنّ الرَّجُل إذا توضَّأ بنيَّةِ رفع الْحَدَثِ الطّارئِ عليه، فإنّه يجوز له أنّ يفعل كلّ شيءٍ كان الْحَدَث مانعاً له، ولا خلافَ فيه بين العلماء. إلَّا أنّه قد ذكر القاضي أبو الحسن (¬3)؛ أنّ رفعَ الْحَدَثِ إنّ كان مُطلَقًا صحَّ هذا القول، وإن كان مُقَيَّدًا بفعلٍ، لم يَجُز إلَّا ذلك الفعل، مثل أنّ يتوضّأ للظُّهر، فلا يجوزُ أنّ يصلِّيَ به العصر. وهذا قولٌ ساقطٌ؛ لأنَّ الْحَدَثَ. ¬
ليس بمحسوسٍ، وإنّما معناه المنعُ، وإذا زال المنعُ لم يَعُد (¬1). وأمّا الوضوءُ بنيَّةِ الأقسام المتقدِّمة، فإنّ الصّلاةَ وأمثالها ممّا يمنع الْحَدَثُ منه، تَجُوزُ به؛ لأنّه إنّما يتوضّأ ليكون على الكمال، أو كمال الأحوال، فيقول في النّوم: أَلْقَى رَبِّي على طهارة إنْ أنا متُّ، ويقولُ في دخول الأمراء: لا أدري قَدْرَ ما أحبس، فربّما تَحِين الصّلاة فَتجِدُني طاهرًا. وأمّا ذِكْرُ الله تعالى، فيقول: لا نتكلَّمُ إلَّا به. وبَقِيَ وضوءُ الفضيلة، فقال سحنونٌ ومحمدُ بنُ عبدِ الحَكَم: لا يصلَّى به. وقال أشهب: يجزئُ، وقد رويتُ الوجهان عن مالكٌ - رحمه الله -، والصّحيح أنّه لا يُجْزِئُهُ؛ لأنّه لم يتوضّأ وهو ينوي به الطّهارة؛ إنّما نَوَى به الكمال والفضيلةَ. نكتة لغوية: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَدَعَا بِوَضُوءٍ" الْؤَضُوءُ بالفتح عبارة عن الماء، والْوُضُوءُ بالضمِّ المصدر، مثل قوله: الوَقُود والوُقُود، والعرب تسمِّي الشيءَ باسمِ ما قَرُبَ منه، وهو واقع في الشّرع على النّظافة، لقولهم: فلانٌ وضيء الوجه، بمعنى نظيفه. وقال الفَرَّاء: الوَضوءُ بالفتح اسم الماء الّذي يُتَؤضَّأ به، وبالضَّمّ هو الفعل، مصدر وضوء وضاءة ووضوء (¬2). وقال الخليل بن أحمد (¬3): "أقول بالفتح فيهما، والضَّمّ لا أعرفه" (¬4). ¬
ويقال: قد وَضُؤَ وجهُ الرَّجُل، أي حَسُنَ، يوضأ وضاءةً. والميضاة: المطهرة الّتي يتوضّأ فيها. وقيل: الوُضوءُ بالضَّمّ: هو الاسم، وبالفتح المصدر. وقيل: إنّهما شيءٌ واحدٌ. قال الإمام الحافظ (¬1): والوُضوءُ يكونُ بخمسة أعضاء: العُضوُ الأوَّل: الكفّان وليس غَسلُهما مشروعًا لنفسه؛ وإنّما هو للتَّأَهُّبِ للوضوء، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَيقَظَ أَحَدُكُمْ من نَوْمِه، فلا يَغمِسْ يَدَهُ في الإِنَاءِ حتّى يَغسِلَهَا ثلاثًا، فإنَّ أَحَدَكُم لا يدري أينَ باتَتْ يَدُهُ" (¬2) فأمر بغسلها استطهارًا. وقد كنّا نقول كما قال أحمد بن حنبل وإسحاق: إنّ غسلَهُما واجبٌ؛ إلا أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أعقب الأمر الأوَّلَ في الحديث بقوله: "فإنَّ أحدَكُم لا يدري أين باتَتْ يَدُهُ" فعلّله، والشّكُّ لا يُوجِبُ حُكْمًا في الدِّينِ. بَيدَ أنّه لَمَّا واظبَ عليها النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - في جميع وضوئه، وبدأَ بها في كلِّ حالةٍ من أحواله، عدَّها العلماءُ من جملة الوضوءِ، وحَسَبُوهَا من جملة الأعضاء، اقتداءً بفعل النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ومُحافظتَهُ عليها، حتّى قال علماؤنا: لو أنَّ رجلًا غسل يَدَيه ووَجْهَهُ، ثمَّ طرأَ عليه الحدَث في أثناء وضوئه، وجبَ عليه أنّ يَبْتَدِىءَ الوضوءَ، واستحبُّوا له أنّ يعود إلى غَسلِ يديه؛ لأنّهما من جُمْلَتِهِ. شرح: قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬3): "اختلف العلماء (¬4) في صفة غَسْلِ اليدين على قولين: أحدُهما: رَوَى أشهب عن مالكٌ؛ أنّه استحبَّ أنّ يُفْرِغَ على يده اليمنَى فيغسلها، ثمّ يدخلها في إنائه، ثم يصبُّ على اليُسْرَى. والرِّوايةُ الثّانية: رَوَى عيسى (¬5) عن ابن القاسم؛ أنّه قال: أحبّ إليَّ أنّ يفرغ على يديه، كما جاء في حديث عبد الله بن زيد هذا. ¬
وقولُه (¬1):"فَغَسلَ يَدَيْه مرَّتَيْن" دليلٌ على أنّ الغسلَ للعبادة دون النّجاسة؛ لأنّ غسل النّجاسة لا يعتبر فيه العدد (¬2). والعددُ المشروع في ذلك اثنان وثلاثة، للحديث". مزيد إيضاح: قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: اختلف علماؤنا في غَسْلِهما، هل غَسْلُهما عبادة كالوضوء؟ أم هَي باقية على معقول معانيها فتكون كغسل النجاسة؟ على ثلاثة أقوال: 1 - القول الأوّل - قال أشهب: هي جاريةٌ مَجْرَى العبادة؛ لأنّه رأى محافظة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الفعل قائمًا من النّوم وغير ذلك. 2 - وأبقاها ابنُ القاسم على أصلها. 3 - والصّحيح أنّه حُكْمٌ لم ينقل عن أصله إلى غيره، بخلاف الحدَث، إلَّا أنّها نجاسةٌ مظنونةٌ غير محقَّقة، فكان الغسل لها استحبابًا، وهو مذهبُ مالكٌ - رضي الله عنه (¬3) -. وأمّا حديثُ عبد الله بن زيد: "فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَينِ" ليس يقتضي الإفراد لكلِّ يدٍ- والله أعلم-، وإنّما هو عبارة عن فعل الجمع مرَّتين. شرح: قوله (¬4): "ثُمَّ مَضمَضَ" المضمضةُ ليست بواجبة عند مالكٌ في الطّهارة الصُّغْرَى (¬5)، وبه قال أبو حنيفة (¬6)، والشّافعيّ (¬7). ¬
واتّفق أيمَّةُ الأمصار على أنّها سُنَّة في الوضوء والجَنَابة يجزئان دونهما، والأفضل استعمالهما. وقال أحمد وإسحاق بوجوبهما في الوضوء والجنابة. وقال أبو ثور بوجوب الاستنشاق وحدَهُ. وقال أبو حنيفة (¬1) بوجوبهما في الغسل من الجنابة دون الوضوء. وقال القاضي أبو الوليد في كتاب "السِّراج في ترتيب الحِجَاج" (¬2): "المضمضة والاستنشاق في الطهارتين عندنا سُنَّتَانِ غير واجبتين" (¬3). توصيل: قوله في الحديث: "من غَرْفةٍ واحدةٍ" (¬4) وقال أيضًا فيه "ثلاثًا" (¬5) من ثلاثِ غرفاتٍ، ومن غرفة واحدة، كما تقدَّمَ (¬6). قلنا: ذلك -والله أعلم- بحسب الحاجة إلى النّظافة، والزيادة على الحاصل فيها للاستكثار منها، وسيأتي بيانُه في موضعه إنّ شاء الله. العُضْو الثّاني (¬7): وهو الوجه ¬
قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) واختلف العلماء هل يتناولُ هذا الأمرُ باطنَ الفَمِ والأنفِ أم لا (¬2)؟ وقد ذهب ابنُ حنبلٍ وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك. وقال عامّةُ الفقهاء: لا يَجِبُ؛ لأنّ الأمر عندنا إنّما يتناول الظّاهر دون الباطن، والعرب لا تسمِّي وجهًا إلَّا ما وقعت به المواجهةُ، لكنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - واظبَ على المضمضة والاستنشاق، فكان ذلك مأخوذًا من فعله، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للأعرابي: "تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ" (¬3) فأحاله على القرآن. واختلف العلماء في حدِّه؟ وأمّا صورته المطلقة فبيِّنَةٌ حقيقةً ولغةً (¬4)، بَيْدَ أنّه لاختلاف النَّظرِ فيه افتقر إلى بيانه، والله أعلم. فهو للأمْرَدِ من الأُذُن إلى الأُذُن عَرْضًا (¬5)، ومن منبتِ شَعر الجبهة إلى طَرَفِ الذَّقنِ طُولًا، ولا خلافَ فيه. وأمّا الملتحي، ففي رواية ابن وهب (¬6) عن مالكٌ أنّه مثله. وقال غيره: من العارض إلى العارض، وأسقط البياض الّذي بين العارض والأُذُن (¬7). ¬
تنبيه: فإن قيل: فما الفائدة في غسل اليدين والرَّجْلَين مرَّتين مرّتين والوجه ثلاثًا؟ الجواب -قلنا- والله أعلم:- لأنّ الوجه ذو غضون وتكسُّر، بخلاف اليد والرَّجْل فإنّهما معتدلتا الهيئة طُولًا، فافتقر الوجهُ إلى مزيد غسلٍ، ليعمّ بذلك غضونه، وأنّه أبهى الأعضاء منظرًا، وأعمّها نفعًا، وهو محلّ الإحساس وموضع الإدراكات ومغنى الجمال، فَخُصَّ بمزيد طهارة لاختصاصه بمزيد فضيلة؛ لقوله -عليه السّلام-: "لا تضربوا الوجه؛ فإنّ اللهَ خَلَقَ آدمَ عَلَى صُورَتِهِ" (¬1) أشار - صلّى الله عليه وسلم - إلى شَرَفِ الوجه. العضو الثّالث: غسل اليدين وفيهما للعلماء خمس مسائل: المسألة الأولى: في حدّهما ولا خلافَ بين أربابِ اللُّغة أنّ اليدَيْن من الأظفار إلى مَغْرِز الْمَنْكِب، جميع ذلك ينطلق عليه اسم يد، وإن احتجتَ في التَّفصيلِ إلى أصبع وكفّ وذراع ومَرْفِق. إلَّا أنّ الشَّرعَ قسم هذا المحلّ في مدركات الأحكام، فجعلَ القطع إلى الكُوع، وجعلَ الطهارة إلى المرفِقَين باتَّفاقِ، وإلى الكُوع والْمَنْكِب، باختلافِ معانٍ يطولُ ذِكرُها في هذا المختصر (¬2). المسألة الثّانية: لا خلاف بين الأُمَّة في أنَّ منتهَى الغسل في الوضوء في اليد الْمَرْفِق، واختلف في دخول المرفق في الغسل على ثلاثة أقوال: القول الأوّل -وهو المشهور-: دخولهما (¬3). ¬
القول الثّاني - قال أبو الفرج: هما غير داخلتين في الفرض (¬1). القول الثالث - قال عبد الوهاب: غسلهما أَحْوَطُ (¬2)، وهو اختيار أشهب. فما طبق المفصل غير القاضي أبي محمد عبد الوهاب؛ فإنّه قال (¬3): قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬4) حدّ للمتروك من اليدين لا للمغسول منهما، ولذلك يدخل المرفق في الغسل، وعلى هذا عوَّلَ أشياخنا فقالوا: الصّحيح دخولهما لغةً وشرعًا (¬5). أمّا اللّغة، فقد قال المبرّد (¬6): إذا كان الحدّ من جنس المحدود دخل فيه، كقولك: بِعتُك هذه الدار من هاهنا إلى هاهنا، وإذا كان من غير جنسه لم يدخل فيه، كقولك: بِعتُك هذا الفدّان من هذه الشّجرة إلى هذا الجدار، لم تدخل الشّجرة والجدار في البيع. وأمّا الشرع، فقد رَوَى جابر بن عبد الله؛ أنّه رأى الماء على مرافقه (¬7) في الوضوء (¬8). ¬
المسألة الثّالثة: إذا ثبت وجوب غسل اليدين، فقد اختلف العلماء في تخليل الأصابع فيهما وفي الرِّجْلَيْن؟ فقال ابن وهب: هو واجبٌ في اليدين، مُسْتَحَبٌّ في الرِّجْلَيْن (¬1). قال الإمام الحافظ؛ ووجهه: أنّ ما بين أصابع اليدين ظاهر، فكان ذلك كالكفِّ والسّاعد، وما بين أصابع الرِّجْلَيْن باطنٌ، فلم يدخل ذلكِ في وجوب غسل الظّاهر. المسألة الرابعة: يبدأ في الغسل باليمنَى قبل اليسرى، فإن بدأ باليسرى قبل اليمنَى أجزأه بلا خلافٍ فيه (¬2)، رواه الدّارقطنيّ (¬3)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.؛ أنّ رجلًا سأله، هل يبدأ بميامنه أم بمياسره؟ فقال له عليّ: ما أبالي بأيهما بدأت في الوضوء. قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: ووجهه: أنّ البارئ سبحانه جمع اليدين في الوضوء، كما جمع الرِّجْلَيْن، فلما جاء ذِكرُهُما مجموعا كمجيء العضو الواحد حين ذكرهما، جَرَيَا مَجْرَى العضو الواحد، فلا تبالي بأيّهما بدأتَ، بَيْدَ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - شرع للنّاس في جميع أفعاله، فوجب الاقتداء به. المسألة الخامسة: وهي إذا طالت أظفار الرَّجُل فمن العلماء من أوجب غسلها؛ لأنّها من جملة أجزاء اليدين. ومنهم من قال: لا يجب غسلها، قياسًا على ما استرسل من اللِّحية على الذَّقنِ. ¬
ورأيت لبعض أشياخنا فيها قولين: أحدهما: وجوب غسلها. والثّاني: استحباب قطعها. فهذه عدِّةُ أقوالِ العلماءِ في ذلك. العضوُ الرّابع: وهو الرّأس (¬1) وهو رأسٌ في مسائل الوضوء، وهو في اللُّغة عبارة عمَّا احتوت عليه الجمجمةُ إلى العينِ، إِلاّ أنّه في الشريعةِ المطلقةِ في الوضوءِ عبارةٌ عن منبت الشَّعر على الجُمْجُمَةِ (¬2). واختلف العلماء في حدِّه على قولين: أحدهما - قيل: حدُّه من منابت الشَّعر مما يلي الجبهة إلى آخر العظم في القَفَا طُولًا. القول الثاني - قال الشّافعي: حدُّه إلى منتهى الشّعر في القَفَا (¬3)، وهو فاسدٌ؛ لأنّ الرّأس منفصلٌ عن القَفا حقيقةً ولغةً، فلا يدخل فيه حُكم إلَّا بدليلِ. وحدَّهُ عندنا عَرْضًا: من الشَّعر النّابتِ عند شحمة الأُذُنِ، إلى مِثْلِهِ من الجانب الآخر في مشهور المذهب (¬4). قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: فلمّا كان الرّأس أصلًا في الْخِلْقَةِ، كان أصلًا في العبادة، فتعلّقت به أحكامٌ وتوجّبت عليه، ومنه مُعْظَم الحلال والحرام، واختلف العلماء في كيفية مسحه على أحد عشر قولًا (¬5): ¬
القولُ الأوّل: مسح جميعه، قاله مالكٌ - رضي اللهُ عنه (¬1) .. القولُ الثّاني: إنْ تركَ اليسير من غير قصد أجزأه. القولُ الثالث: قال محمد بن مَسْلَمَة: إنْ تَرَكَ الثُّلُث أجزأَهُ (¬2). القولُ الرّابع: قال أشهب: إنْ مسحَ مقدّمه أجزأهُ (¬3). القولُ الخامس: قال أبو الْفَرَج: إنْ مسحَ ثُلُثَهُ أجزأَهُ (¬4). القولُ السادس: إنْ مسحَ اليسير من غير تقدير أجزأه، وهو ما يقع عليه الاسم (¬5). القولُ السّابع: إنْ مسح ثلاث شَعَرات أجزأه، قاله الشّافعيّ. القولُ الثامن: قال أبو المعالي: قال الشّافعيّ (¬6): إنْ مَسَحَ شعرة واحدة أجزأه. القولُ التّاسع: قال أبو حنيفة: إنْ مَسَح الرُّبُع أجزأه (¬7). القولُ العاشر: قال بعض العراقيِّين: إنْ مَسحَ دون النّاصية أجزأه. القولُ الحادي عشر: قال بعض القَرَوِيِّين: لا يجزئه إلَّا أنّ يمسح النّاصية بأربع أصابع أو بثلاث. فهذه معظم أقوال العلماء من فقهاء الأمصار، والصّحيح منها مسح الجميع، وهو ختاره مالكٌ وبنى عليه، وإختاره أيضًا البخاري - رضي الله عنه - فقال في كتابه (¬8): ¬
بابُ مَسْحِ جميعِ الرَّأْسِ كلِّه، قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الآية (¬1). قال (¬2): وقد مسح رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - رأسه في الإقبال والإدبار (¬3)، فبيَّنَ فعله - صلّى الله عليه وسلم - قولًا وفعلًا. مزيد إيضاح: فإن قيل: فما وجوبُ تعميمه؟ قلنا: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬4) فوجب غسل الجميع بظاهر القرآن، كذلك قال أيضًا: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬5) فوجب مسح الجميع بظاهر القرآن. غاية وإيضاحُ مُشْكِلٍ: فإن قيل: فما فائدة الباء ههنا؟ قلنا: للعلماء في ذلك جوابان: أحدُهما أنّ نقول: فائدتُها ههنا فائدةُ قوله في التّيمُّم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (¬6) فلو كان مقتضاها التّبعيضُ لأَفَادَتْهُ في هذا الموضعِ، وهذا قاطعٌ بهم في كلِّ جواب لهم. فإن قيل: ما فائدتها؟ ولأي شيء جيء بها وهي مستغنى عنها، وقد قال بعضُ أصحاب الشّافعيّ - أظنُّه أبا إسحاق الإسفراييني-: إنْ الباء هي للتّبعيض وهو معنى ذلك في اللغة، وأنكر ذلك حُذَّاقُ أهل العربيّة واستجهلوا قائل ذلك، وقالوا: إنّ الباء لاتِّصال الفعل بالاسم حيث لا يتّصل إلّا به، كقولك: جئت بزيد، فالباء في الاتِّصالِ هاهنا أصلٌ، إذ لإيصالِ المعنى في الفعل إلى الاسم، كقولك: مررتُ بزيدِ، فإن حذفتها قلتَ: مررتُ زيدًا. ¬
قال الإمام الحافظ (¬1): وقد طال بحثي عن هذه المسألة وإتعاب خاطري فيها، حتّى مَرَّ بي رجلٌ في بعض أسفاري من أهل العِلم واللغة، كبير مشهورٌ، فقال لي: إنَّ الباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2) جاءت لفائدة، وذلك أنّ المسح يقتضي ممسوحًا وممسوحًا به، والممسوح به قد يكون آلة لاتِّصال الفعل كاليد، وقد يكون محصّلًا لمقصود المسح كالمنديل (¬3)، فإذا تقرَّرَ هذا، فالمعنى كما تقدَّمَ. فلو قال البارئ سبحانه وتعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬4) بإسقاط الباء، لأجزأَ المسح باليد مرورًا على الرّأس من غير ماء ولا شيءٍ، فدخلتِ الباءُ لتُفيدَ ممسوحًا به وهو الماء. فكأنّه قال سبحانه: "وامسحوا برءوسِكُم الماءَ" وهذا من باب القلب الفصيح في اللغة المستعمل في العادة، خصوصًا في المسح، قال الشاعر (¬5): وَمَسَحَت باللِّثتَيْنِ عَصْفَ الإِثْمِدِ واللَّثَّةُ هي الممسوحة بعَصْفِ الإِثمِد، فقلَب، ولكن المعنى ظاهر والفصاحة قائمة. تكملة: قال الشّيخُ أبو محمد (¬6) - رضي الله عنه -: "اختلف في معنى قوله: "بَدَأَ بمُقَدَّمِ رَأسِهِ"؟ فقيل: إنّه بدأ من حدِّ منابت الشَّعر. وقيل: بَدأَ بنَاصِيَّتِهِ. وكلُّ واسعٌ، والأوَّلُ أصْوَب (¬7)، وقد روى أشهب عن مالكٌ؛ أنَّه يبدأ من حدِّ منابتِ الشَّعر". ¬
وقال غيرُهُ: إنّ الرّتبة المستحبّة أنّ يبدأ بأوّل كلّ عُضْوِ، قال أبو إسحاق: وهذا هو الأشبه، ويكون معنى "فَأَقْبَلَ بهما وَأَدْبَرَ": فأدبر بهما وأَقْبَلَ. وقال الشّيخ الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ (¬1): "قد توهَّمَ بعضُ النّاس أَنَّه بدأ بمؤخِّر رأسه لقوله: "فَأَقبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ". وتوهّمَ آخرون أنّه بدأ بواسطة رأسه، فأقبل بيدَيْهِ وأدبرَ، وهذا كلّه ظنونٌ". تحقيق: قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه (¬2) -: "وفي قوله: "بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رأسِهِ" ما يرفعُ الإشكالَ لمن أُلْهِمَ رُشدَه؛ لأنّه مفسَّرٌ لقوله: "فأقبلَ بهما وأدْبَرَ" وهو كلامٌ يحتمل أنّ يكون على التّقديم والتّأخير، كأنّه قال: "فأدبرَ بهما وأقبلَ" والواو لا تُوجِبُ رُتبةً ولا تعقيبًا، وإذا احتمل التّأويل كان قولُه: "بدأَ بمقدَّمِ رأسهِ ثمَّ ذهبَ بهما إلى الْقَفَا" يُوضِّح ما أشكل من ذلك، وهذا كله مذهب مالكٌ"، وإشارَتُه تقريرٌ. وقال في حديث عبد الله بن زيد، حين وصف وُضوءَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "بدأَ بمقدَّمِ رأسه، ثم ذهب بهما إلى الْقَفَا، ثم ردَّهُما إلى المكان الّذي بدأ منه" (¬3). قلنا: ولا خلاف أنّ ردّ اليدين ثانية بعد استيعاب مسح الرأس ليس بفَرْضٍ، وهو عند مالكٌ وأصحابه سُنَّةٌ (¬4). وقال ابن القصّار (¬5): "لو بدأ بالمسح من مؤخّر الرّأس، لكان المسنونُ أنّ يردّ يَدَيه من المقدَّم إلى المؤخّر" (¬6). ¬
وقال ابنُ شعبان: والمشهورُ أنّ يبدأ بالمقدَّم، وينْهَى من بدأ بالمؤخّر عن العودة، قال: ولا يمسح الرّأس على حائل في مذهب مالكٌ (¬1)، وأما غيرُهُ فيراه، منهم أحمد (¬2) وغيرُه. قال القاضي أبو الوليد (¬3): "قال الشّافعيّ (¬4): الفرضُ أقلّ ما يقع عليه الاسم، ولأصحابه في ذلك وجهان: منهم من قال: إنّ اسم الرّأسِ ينطلقُ على الشَّعرة الواحدة. ومنهم من قال: لا ينطلق إلَّا على ثلاث شعرات فَأكثر. والدّليل على الاستيعاب قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الآية (¬5)، هذا يقتضي الجميع، وهو مذهب مالكٌ في الاستيعاب". وأمّا حكم النِّساء في المسح، فقال (¬6): "وإذا كَثَّرت المرأةُ شعرها بصوف أو شعر لم يجز أنّ تمسح عليه؛ لأنّه لا يصل الماء إلى شعرها (1)، وإن وصل فإنَّما يصل إلى بعضه". العضوُ الخامس: الرِّجلان في ذلك للعلماء خمسة أقوال: القول الأوّل: في حقيقتها وهي عبارة عن الجارحة اللّاصقة بالأرض المنتهية إلى السّاق والمنعقدة معه ¬
بالكعب. واختلف العلماء من أهل اللُّغة هل تدخل السّاق في التّرجمة أم لا؟ والصّحيحُ أنّها لا تدخل. القول الثاني: في الكَعْبِ قال (¬1) في "الأشراف" (¬2): "هما اللّذان على ظهر القَدَمَيْن عند معقد الشّراك". القول الثالث: قال الخليل (¬3): "الكَعْبُ هو الّذي بين السّاق والقدم" (¬4) والعَقِبُ هو معقد الشّراك. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: حُكِيَ عن ابن القاسم أنّه قال: "هما اللذان على ظهر القدمين" (¬5). قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: والَّذي يصحُّ في اللّغة؛ أنّ كلّ ناتىءٍ كعبٌ، ومن ذلك: كعَبَ ثَدْيُ المرأةِ (¬6)، ومن ذلك سُمِّيت الكعبةُ كعبة لأنّها ناتئة بطن الوادي، وليس يختص ذلك بالمرتفع، وليس الأمر كذلك، بل ينطلق ذلك على كلِّ ناتىءٍ. إلحاق وتبيين: وقد وردت في الرِّجْلَين أحاديث كثيرة في الصّحيح وغيره، وفي البخاري (¬7) ومسلم (¬8): "غسل رِجْلَيْه إلى الكَعْبينِ". ¬
وفي الصّحيح أيضًا عن أبي هريرة (¬1)، وعبد الله بن عمرو (¬2)؛ أنّهما رَأَيَا أقدامًا تلوح أعقابهما فقالا (¬3): وَيلٌ للأعقابِ من النَّارِ. القولُ الرّابع: قال: وفرضُ الرِّجْلَيْن الغسلُ، لا خلاف فيه بين أهل السُّنَّة ونَقَلَةِ الآثار. وقال محمد بن جرير الطّبريّ: الفرضُ فيهما التّخيير بيِن الغسل والمسح (¬4)، وهذه وهلةٌ عظيمةٌ من الطّبريّ. وقالت الإماميّة: الفرضُ فيهما المسح (¬5)، والّذي أوقعَ الإمامية في هذا نصب اللام، وقد قرئ بكسرها وفيها ثلاث قراءات: فرفع اللام نافع (¬6)، وخفضها غيره (¬7)، ونصبها أيضًا نافع (¬8) وغيره (¬9). وقال القاضي أبو الوليد الباجي في كتاب "السّراج في ترتيب الحِجَاج" (¬10) والّذي أوقع المبتدعة في المسح: القراءة بالنّصب عطفًا على الأيدي، وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحَفْص (¬11) وعاصم، وذلك يقتضي الغسل، قالوا: وقد قرئ بالخفض والقراءة بالخفض تقتضي المسح، ولما تعارضت القراءتان كان التخيير بينهما أوْلَى من اطِّراح إحداهما. ¬
الجواب- قلنا: هذه غلَطةٌ؛ لأنّ التّخيير إنّما يكون في شيء من أشياء غير معيّنة. قالوا: إنّ القراءتين كالآيتين لا يعلم تاريخهما، فيكون التّخيير بينهما أولَى من اطِّراح إحداهما. الجواب عنه - قلنا: إنّه لا يجوز النَّظر في تاريخهما، ولو احتاج أحدهما (¬1) ما أمكن الجمع بينهما، ونحن نجمع بينهما، فنجعلُ القراءتين تقتضي الغسل: قراءةُ النّصب حملًا على الرّأس، وقراءةُ الخفضِ حملًا على الجِوَار، وهو شائعٌ في لسان العرب، قال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} الآية إلى قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} (¬2) والحورُ لا يطافُ بهنّ، وإنّما يطفن بأنفسهن، وانشد النّابغة (¬3): لَمْ يَبْقَ إلَّا أَسِيرٌ غَيْرَ مُتفَلِتٍ ... أَو مُوثَقٍ في حِبَالِ القِدِّ مَسْلُوبُ فإن قالوا: إنّ كنتم تجعلون الخفض للجوار، فنحن نجعل النَّصب عطفًا على الموضع. قلنا: هذا كله ممّا لا تقوى به حُجة عندنا؛ لأنّ الأحاديث الواردة عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - فيه أقوى، فلا معنى للكلام معهم على هذه البدعة، والمشهور عند الجماهير من فقهاء الأمصار الغسل، وعليه عكفت أهل السُّنَّة. حديث مالك (¬4)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال (¬5): "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتنْثرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" الحديث (¬6). ¬
الفصل الأول في الترجمة
الكلام فيه على ثلاثة فصول: الفصلُ الأوّل في التّرجمة قال الإمامُ الحافظُ - رضي الله عنه -: عقَّب مالكٌ - رضي الله عنه - بحديث أبي هريرة ليبيِّنَ التَّرجمة في تأكيد المضمضة والاستنشاق، وأنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - كما فعلهما فعلًا فكذلك أمر بهما قولًا، فجعلهما مالكٌ أصلًا في هذا الباب. الفصل الثاني في الإسناد وحديث (¬1) ابن شهاب (¬2)، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "من توضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِر، ومَنِ اسْتجْمَرَ فَلْيُوتِر" وعند بعض الرُّواة (¬3) في حديث أبي الزِّناد: "فليجعل في أنفِه ماءً" (¬4) وبعضهم يرويه وليس عندهم "ماء" والمعنى قائم. وليس في الموطّأ في حديث مُسْنَدٍ لفظ "الاستنشاق" ولا يكون الاستنثار إلَّا بعد الاستنشاق، ولفظ "الاستنشاق" موجودٌ في حديث أبي هريرة (¬5)، وفي حديث أبي رَزِين بن العُقَيلي (¬6)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشقَ، من حديث عثمان (¬7) وعائشة وغيرهم. ¬
تأصيل (¬1): واختلف العلماء في هذا المعنى؟ فذهب مالكٌ والشّافعيّ (¬2) إلى ألاَّ فرض في الوضوء واجبٌ إلَّا ما في القرآن، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المِرْفقين ومسح الرأس وغسل الرَّجْلَين. نكتة لغوية: قال: والمضمضةُ على وزن افعل، أو على وزن الفعللة، من مضَّني الدَّهر، أي عركني. فقيل لها المضمضة؛ لأنّك تعرك الماء بلسانك من شِدْقٍ إلى شِدْقٍ وتَجْذِبه. والاستنشاق: قبضُك الماء بلسانك تَجذِبُه بريح أنفك إلى نفسك. والاستنثار: طرحُك الماء من أنفك. والغَمَرُ -بفتح الميم-: هو الوَدَكُ، والغَمرُ- بإسكان الميم-: الرّجل الكثير العطاء (¬3). وقال ابن قُتَيبَة في "شرح غريب الحديث" (¬4): الاستنشاق والاستنثار واحد، سُمِّيَ بذلك لأنَّ النَّثْرَةَ هي الأنف، وإذا دخل الماء في نثرته. قيل: استنشق واستنثر. وقال ابنُ حبيب في "شرح غريب الموطَّأ" (¬5):"الاستنشاق جَذبُك الماء إلى خياشيمك، والاستنثار؛ نَثْرُكَ الماء إلى خارج". قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: المضمضةُ في عبارة عن تحريك الماء في الفم لتنظيفه. والاستنشاقُ: هو عبارة عن إدخال الماء في الأنف لجذب الاسترواح، ومنه اشتقت الرّائحة، إذا استجذبها إلى محلّ الإدراك من الأنف. ¬
نكتة أصولية: قال الشّيخ -أيَّدَهُ اللهُ-: ولأجل هذه المعاني قُدِّمت في الوضوء. فإن قيل: قدّمت المضمضةُ والاستنشاقُ في الوضوء على غسل الوجه والذَّراعين وهي سنّة، والفرضُ أبدًا مقدَّمٌ على السُّنَّة في جُلِّ العبادات؟ الجواب - قلنا: تقدَّمَ ذلك لفائدتين: أحدها الاختبار. والثّانية: الطّعم. وأيضًا: فإنّ على الإنسان أنّ يقدِّم الاختبار على النّية، أعني بالاختبار اختبار الماء، كان حكمه أنّ يختبر بالفم، وهي المضمضة، ليتَوصَّل إلى طعمه بعد نَظَرِه بعينه إلى لونه ثم رائحته، وذلك هو الاستنشاق، فأفاد ذلك فائدتين: إحداهما: الاختبار، والأخرى: تخصيصها بالعضو المذكور. وأما ما رُوِيَ عنه أنّه تمضمض واستنشق من غَرْفَةٍ واحدةٍ (¬1)، فذلك كما بيّنّاهُ، فيختلف بسبب اختلاف كثرة الماء وقلَّته، وحاجة العضو إلى النّظافة واستغنائه إلى التّعديد فيها. وأمّا قوله (¬2): "منِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر" فإنّه يعني بذلك حجرًا واحدًا أو ثلاثة أو خمسة، ولا يكون ذلك شفعًا؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ الوِترَ في أفعاله كلِّها (¬3). وقد رَوَى مسلم (¬4): "الاستجمارُ تَوِّ، والطوافُ تَوٍّ" يعني وِتْرًا، فهو معنى قوله: "فَلْيُوتِر". نكتةٌ لغوية: قال: والاستجمار في لغة العرب هو إزالة النَّجْوِ من الْمَخرَجِ بالجمار، والجمار عندهم الحجارة الصِّغار. ¬
واحتج الفقهاء بهذا الحديث، في أنّ عدد الأحجار في الاستنجاء غير واجب، والدَّليل على ذلك: ما روي عن أبي هريرة؟ أنَّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "منِ استجمرَ فلْيُوتِر، ومن فعلَ فقد أحسن، ومن لا فلا حَرَجَ" (¬1) فدلّ هذا الحديث أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما أمر بالوتر استحبابًا منه للوِترِ. مزيد بيان (¬2): واختلَفَ العلماءُ في التَّطيِيبِ، هل هو مِثلُهُ أم لا؟ فكان مالكٌ إذا أراد أنّ يَسْتَجْمِرَ طِيبًا كَسَرَ العُودَ ثلاثًا كي يكونَ وِتْرًا (¬3). ورَوَى بعضُ أصحابنا؛ أنّ أعرابيًا قال له: إنا نسمِّي الحجارة في الغائط استجمارًا، فرجع مالكٌ إليه (¬4). ومالك كان أوْسَعَ حَوْصَلَةً من أنّ يكون ذلك الأعرابىُّ يلقِّنُه أنَّ استعمالَ الحجارة هنالك يُسمَّى استجمارًا، وإنّما أصغى إليه مالكٌ؛ لأنّه رآه يقتصِرُ على ذلك الموضع، ولم يَفهم حملَهُ على العُمومِ للَّفظةِ المشتَرَكةِ في الطِّيب والحِجَارة، وكلُّه نظافةٌ واستطابةٌ. وقال القاضي عبد الوهاب (¬5): والاستجمار موضع المسح للحدَثِ بأحجار مشتقّة من الجمار، وهي الحجارة الصِّغار. تتميم: قال القاضي أبو محمد عبد الوهّاب: فالاستجمارُ في اللُّغة على ثلاث عبارات: ¬
1 - الاستنجاء. 2 - الثّاني: الاستجمار. 3 - الثّالث: الاستطابة. فالاستنجاءُ مأخوذٌ من النَّجْوَةِ، وهي المكانُ المُرتَفِعُ من الأرضِ، وذلك أنّهم كانوا إذا أرادوا حاجة الإنسان طلبوا النّجوة من الأرض يستترونَ بها، فقالوا لمن التمسَ ذلك: ذهبَ يَنْجُو، ثمَ اشتقّ منه استنجاء. كما قالوا: ذهب يتغوّط، أي يطلب الغائط؛ وهو ما انخفض من الأرض، ثمّ سمّوا الْحَدَثَ باسم الموضعِ. وقال غيره: هو مشتقٌ من النَّجَا، وهو القشر، يقال: نجوت القشر، إذا قشرته، بمعنى الاستنجاء، أي قشرت الحدَث عنه. فقه: قال أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه (¬1): "وليس الاستنجاءُ من سُنَنِ الوضوء ولا من فرائضه، وهو من باب إيجابِ زوال النَّجاسة، ويُجزِئُ فعلُه بغيرِ نيةٍ" ولا يُسْتَنْجَى من الرِّيح ولكن من الغائط والبول، ولما رُويَ أيضًا عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "ليس منّا من استنجى من الرِّيح" (¬2). حديث مالك (¬3)؛ أنّه بَلَغَهُ، أنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق دخلَ على عائشةَ، فَدَعَا بوَضُوءٍ، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن أَسْبغِ الُوضُوءَ، فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ- صلّى الله عليه وسلم - يقولُ "وَيل لِلأَعقَاب مِنَ النَّارِ" (¬4). ¬
قال الإمام الحافظ أبو عمر - رضي الله عنه (¬1) -: "هذا حديث صحيح متَّصِلٌ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من وجوه شتَّى وطرق كثيرة (¬2)، من حديث عائشة (¬3)، وأبي هريرة (¬4)، وعبد الله بن عمرو (¬5)، بأسانيدَ حسانٍ لا مقالَ فيها لأَحَدٍ بوجهٍ". فقه: اختلف العلماء في العراقيب؟ وفيها ثلاثة أقوال، وقد مضَى القولُ فيها في الكلام على الرَّجْلَين، فليُنْظر هنالك. مسألة (¬6): قال مالكٌ: ليس على أحدٍ تخليل أصابع رِجْلَيه في الوضوء ولا في الغسلِ، ولا خير في الْغُلُوِّ والجفاءِ (¬7). وقد رَوَى عنه أيضًا ابن وهب أنّه قال: تخليلُ أصابع الرِّجْلَيْن في الوضوء مُرَغَّبٌ فيه، ولابدّ من ذلك في أصابع اليدَيْن، فإن لم يخلَّل أصابع رِجْلَيْه فلابد من إيصال الماء إليهما. مسألة (¬8): وروى ابنُ القاسم عن مالك؛ أنّه قال فيمن توضّأَ في نَهَرٍ فحرَّكَ رِجْلَيه في الماء: إنّه لا يُجزِئُهُ حتّى يَغسِلَهُما بيدَيه. ¬
الفصل الأول في الإسناد
مسألة (¬1): قال ابنُ القاسم: فإن غَسل إحداهما بالأُخرى أجزأَه. فإن قيل: كيف قال ابنُ القاسم هذا وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان إذا توضَّأَ يَدْلُكُ أصابعَ رِجلَيه بخِنصَرِهِ (¬2). الجواب عنه - قال علماؤُنا (¬3): هو محمولٌ عندنا على الكمال والنّظافة. حديث مالك (¬4)، عن يحيى بن محمد بن طَحْلاء، عن عثمان بن عبد الرّحمن؛ أنّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ؛ أنّه سَمِعَ عمرَ بن الخطابِ يتوضَّأُ بالماءِ وُضُوءًا لِمَا تحت إِزَارِهِ (¬5) الحديث. قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: الكلامُ في هذا الحديث في ثلاثة فصول: الفصل الأوّل في التّرجمة. الثّاني في الإسناد. الثالث في سرد المسائل. الفصل الأوّل في الإسناد قال الشّيخ أبو عمر (¬6): "يحيى هذا مَدَنِيٌ. ويحيى هذا قليل الحديث جدًّا. وأمّا عثمان فَمَدَنِيّ قُرَشِىُّ، وهو عثمان بن عبد الرحمن، يجتمعُ مع طلحة في عُبَيدِ الله". ¬
الفصل الثاني في الترجمة
الفصل الثاني في الترجمة أدخل (¬1) مالكٌ - رحمه الله - هذا الحديث ردَّا على من قال عن عمر: إنّه كان لا يستنجي بالماء، وإنّما كان استجمارًا (¬2)، كان يستجمرُ هو والمهاجرون بالأحجار، وذكر قولَ ابن المسيَّب في الاستنجاء بالماء: إنّما ذلك وضوء النِّساءِ (¬3). وقد اختلف العلماء من السَّلَفِ في الاستنجاء بالماء؟ فأمّا المهاجرون، فكانوا يستنجون بالأحجار دون الماء. وأنكر الاستنجاء بالماء جماعة، منهم: سعد بن أبي وقّاص، وحُذَيفة (¬4)، وابن الزّبير (¬5)، وسعيد بن المسيِّب، وقالوا: إنّما ذلك وضوء النِّساء. وكان الحسن لا يغتسل بالماء. وقال عطاء: غسل الدُّبُر محدَثٌ (¬6). وكانت الأنصار يستنجون بالماء، وكان ابن عمر يرى الاستنجاء بالماء بَعْدَ أَنْ لم يكن يراه، وهو مذهب رافع بن خَدِيج (¬7). ورُوِيَ عن حُذَيفَة وأنس أنّهما كانا يستنجيان بالحَوْضِ (¬8)، قالت عائشة: استنجَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالماء، وقال: هو شفاءٌ من الباسور (¬9)، بالباء والنون. ¬
الفصل الثالث في سرد المسائل التي أدخل مالك في هذا الباب
كشف وإيضاح: قال الشّيخ -أيَّدهُ اللهُ-: وصحيحُ النَّظَرِ يدلُّ على أنّ الاستنجاءَ بالماء أحسن وأفضل (¬1)، وهو مذهب مالك - رحمه الله. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} الآية (¬2) فطلبنا تأويل ذلك، فوجدنا السَّلَفَ قد تأولوا ذلك على قولين: فقال عطاء: إنّ الله يحبُّ التّوَّابِينَ من الذّنوب والمتطهِّرين بالماء (¬3). وقال الشَّعْبِىُّ: لمّا نزلت هذه الآية قال النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "يا أهلَ قباء، ما هذه الطّهارة الّتي أَثنَى اللهُ بها عليكم؟ " قالوا: ما مِنَّا أحدٌ إلَّا وهو يستنجي بالماء. أو قالوا: نجمع يا رسول الله بين الماء والحَجَر (¬4). الفصل الثّالث في سَرْدِ المسائل الّتي أدخل مالك في هذا الباب وفيه مسألتان: المسألة الأولى (¬5): قَالَ يَحْيَى: سئلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُل تَوَضَّأَ فَنَسِيَ، فَغسَلَ وَجْهَهُ قَبلَ أَنْ يَتَمَضمَضَ، أَوْ غَسَل ذِرَاعَيْهِ قَبل وَجههِ. المسألة كما هي في "الموطّأ" (¬6). ¬
قال الإمام: قولُه هذا يدلُّ على أنّ الترتيبَ عنده لا يُرَاعَى في المسنون مع المفروض، وإنّما يُرَاعَى ذلك في المفروض من الوضوء، إلَّا أنّ مراعاتَه لذلك ما دام في مكانه، فإن بَعُدَ شيئًا استأنَفَ الوضوءَ، ولو صلَّى لم يُعِدْ صلاتَهُ، وكذا ذكر ابنُ عبد الحكم وابنُ القاسم وسائر أصحابه عنه، إلَّا عليَّ بن زيادٍ فإنّه روى عنه؛ أنَّه قال: من نَكَسَ وضوءَهُ فإنّه يعيدُ الوضوءَ والصّلاةَ، ثم رجع فقال: لا إعادةَ عليهِ (¬1). وقال ابنُ حيب (¬2):"لا يُعجِبُني هذا؛ لأنّه إذا فعلَ ذلك فقد أخَّرَ من الوضوء ما ينبغي أنّ يُقَدَّمَ، فالصّوابُ غَسلُ ما بعدَه إلى تمام الوضوء". قال (¬3): "وكذلك قال لي ابن الماجِشُونِ ومُطَرِّفٌ" (¬4). مزيد بيان (¬5): قال الإمام الحافظ: أجمع المتأخِّرون من المالكيِّين على أنّ ترتيب الوضوء عند مالك سُنّة (¬6)، ولا يعيد صلاته من صلَّى بوضوءٍ منكسٍ. وبمثل هذا قال أبو حنيفة (¬7). تكملة: قال الإمام جمال الإسلام (¬8): أَهْدَى شيء في مسائل الخلاف التّرتيب، عند الشّافعيّ (¬9) مستحقٌ في الوضوء، وعند مالكٌ غير مستحق (¬10)، والمسألة مشكلة جدًّا. وليس في الواو ما يدلُّ على ترتيب الوضوء، فإن قال قائل: رأيت زيدًا وعمروًا، لم يدلّ على مصادفة الرُّؤية أنّهما في زمان واحدٍ أو في زمانَينِ. ¬
وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة
وضوء النّائم إذا قام إلى الصّلاة مالكٌ (¬1)، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَج، عَنْ أَبي هُرَيْرَة؛ أَن رسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَال: "إِذا استَيقَظَ أَحَدَكُمْ من نَوْمِهِ فَلْيَغسِل يدَهُ قبل أنّ يُدْخِلَهَا في إنائِه" الحديث. وفيه فصول: الفصل الأوّل في الإسناد قال أبو عمر (¬2): "لم يَختَلِف الرُّواة عن مالكٌ (¬3) في قوله: "فليَغسِل يَدَهُ" بغير تحديد، ولم يقل مرّة ولا مرَّتين ولا ثلاثًا. وقد تابعه على ذلك جماعة من أصحاب أبي هريرة (¬4)، ورواه ابنُ المسيِّب وغيره فقالوا فيه: حتّى يغسلها ثلاثًا، وبعضهم قال فيه: مرّتين أو ثلاثًا (¬5)، وروى ابن عُيَينَة عن أبي الزِّناد بإسناده (¬6)، قال فيه: ثلاثًا، فغلط فيه، وحمله على حديثه عن ابن شهاب في ذلك". قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: وهذا حديثٌ فيه للعلماء مآخذ كثيرة، ونحن نشرحه بأوعب كلامٍ إنّ شاء الله، والحمدُ لله. ¬
قال أبو عبد الله المازَرِي (¬1): "اختلفَ العلماءُ في غسلِ اليد قبل إدخالها في الإناء عند الوُضوءِ، هل ذلك عبادة، أو مُعَلَّلٌ بالنّظافة؟ فاحتج من قال: عبادة بقوله: "ثلاثًا" قالوا: ولو كانت علّته النّظافة، ما احتيج إلى التّكرير، إذ ذلك يحصل في مرَّةٍ واحدةٍ. وهذا الّذي قالوا مثل ما احتجّ به بعض أصحاب الشّافعيّ في غسل الإناء من ولوغ الكلب، وأنَّه لو كان من النّجاسة لأجزأت المرّة. واحتج من قال معلَّل بالنّظافة، بقوله عليه السّلامْ: "فإنَّ أحدَكُم لا يَدْرِي أينَ باتَتْ يَدُهُ". وفائدة الخلاف في هذه المسألة: هل يؤمر المتوضِّئ بغسل يده وإن كانت نقية، إنّ كان قد عرض له في أثناء وضوئه ما ينقض طهارته، هل يُؤمَر بغسل يده ثانية وإن كان غسلها أو لا؟ ". قال (¬2): "فمن جعل ذلك عبادة، أمره بالغسل في الوجهين جميعًا. ومن قال: إنّه معلَّل بالنّظافة، لم ير ذلك مأمورًا به". وقال الفقهاء: هذا حديثٌ معلَّلٌ، والعلَّةُ فيه أنّه قد ربّما مسّ نجاسة خرجت منه لا يعلم بها أو غير ذلك (¬3). وقال آخرون: قد يكون ذلك؛ لأنّ أكثرهم كان يستنجي بالحجارة وقد مسّ موضع ذلك بيده، والله أعلم (¬4). ¬
وقال أبو الحسن (¬1): معنى ذلك في الجنب من الاحتلام. قال ابن حبيب (¬2): "أو جنب لا يدري ما أصابت بده من ذلك"، قال: "فإن أدخل يده قبل أنّ يغسلها أفسد الماء" (¬3). ولمالك في "العُتْبِيّة" (¬4) و"المختصر" فيمن أدخل يده في الإناء قبل أنّ يغسلها من جنب أو حائض، أو مسَّ فَرْجًا أو أُنْثَيَيهِ في نومه، فلا يفسد الماءكان كان قليلًا، إلَّا أن يوقن بنجاسته في يده فلا ينبغي له ذلك وإن كانت يده طاهرة، وكذلك من انتقض وضوؤه. هذا جلّ كلام الفقهاء في هذا الحديث. وأمّا أهلُ الظّاهر فيرون الحديث على عمومه، وَيرَونَه أيضًا فَرْضًا واجبًا (¬5). وأكثرُ أهل العِلم ذهبوا إلى أنّ ذلك نَدْبٌ لا إيجابٌ، وسُنَّةٌ لا فَرضٌ، وكان مالكٌ يستحبُّ لكلِّ من قام من نومه أو غيره -إذا كان على غير وضوء- أنّ يغسل يده قبل أنّ يدخلها في وَضُوئه. وكان مالكٌ - رحمه الله - مرَّةً يأمرُ بذلك، ومرَّةً يقول: لا بأس بذلك أنّ يُدْخِلَ الرَّجُل يده إذا كانت طاهرة في وَضُوئه مطهرة كان الإناء أو غير مطهرة، ورَوَى أشهب ذلك عنه تأكيدًا واستحبابًا. ¬
الفصل الثاني في الفوائد المنثورة في هذا الحديث
الفصل الثّاني في الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي ثلاث فوائد: الفاندة الأولى (¬1): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: في هذا الحديث فوائد كثيرة أمّهاتُها ثلاثة: 1 - أحدُها: ما تقدَّم من أنّه رُوِيَ في بعضى الآثار ألفاظ: "فَلْيغسِل يَدَة قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا في وَضُوئِهِ" بلفظ الأمر. 2 - ورُوِيَ: "فَلاَ يَغمِسْ يَدَة في الإنَاءِ حَتَّى يَغسِلَهَا ثَلاَثًا" (¬2) والأمرُ على الوجوب عندنا، والنّهيُ يقتضي الحَظرَ؛ لأنّا قد بَيّنا أنّه عَقَّبَ في آخر الحديث بما ردَّ الأمْرَ من الوجوب إلى الاستحباب، ورَدَّ النَّهيَ من الحَظرِ إلى الكراهةِ، وهو قولُه: "فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَينَ بَاتَت يَدُهُ" (¬3). فمن علمائنا من قال: هذا شكٌّ، والشّكُ لا يُوجِبُ حكمًا في الشّرعِ بإجماعٍ من علمائِنَا. ومن علمائنا من قال: إنّ هذا ظاهرٌ، وإنّ الغالبَ من الإنسان أنّ تجول يدُه في نومه على جسده ومغابِنِه (¬4) ومنافِذِه، والأصلُ في اليد الطّهارة وهو الغالب، والطّاهر قد طرأَ عليه. فأنشا ذلك: ¬
مسألة أصوليّة (¬1): وهي إذا تعارض أصلٌ وظاهرٌ، فقد اختلَفَ علماؤنا أيُّهُما يُقَدَّم؟ وقد بيّنّاه في موضعه، فإنّه مُختلِفَ المآخِذِ، متباينُ المباني، يفتقرُ إلى مزيدِ بيانٍ واحتفالٍ في الاهتبالِ، سمعتُ أبا بكرِ الفِهرِيَّ يقول بالمسجد الأقصى -طهَّرَهُ الله- يقولُ: خرجتُ من الأندلسِ وقد تفقَّهتُ بالباجىِّ، ولَزِمَتُه مُدَّةَ، ودخلتُ بغدادَ، فأتيتُ المدرسةَ، وكان النائب في إقامةِ التَّدْريس بها أبا سَعْدٍ المُتوَلِّيَ (¬2)، فسمعتُه يقولُ: خذوا مسألة، إذا تعارض أصلٌ وظاهرٌ بأيَّهِمَا يُحْكَمُ؟ فما علمتُ ما يقولُ! ولا دريتُ إلى ماذا يشيرُ، قال: ثمَّ لزمتُه حتّى فَتَحَ اللهُ، وبلغتُ ما بلغتُ من العِلْمِ. الفائدة الثّانية (¬3) إنّ لفظ الحديث وإن كان غسلُ اليَدِ فيه منوطًا بالقيام من النّوم، فإنّه محمولٌ على المقصود به من جَوَلاَنِ اليد في البَدَنِ، وتصرُّفِها في الأعضاء المستكرهَةِ والمستقذَرة، وهذا يقتضي غَسْلَ اليد عند محاولة الوضوء، سواءٌ كان قائمًا من النوم أو مُقبِلًا على وضوء، لوجود العلَّة فيها. وأَعْجَبُ لأحمدَ بنِ حَنبلٍ - رحمه الله - مع سَعَةِ علْمِهِ كان يقول: هذا مخصوصٌ بنوم اللَّيلِ، والقولُ الّذي ورَدَ على نوم الليل هو آيةُ الوضوءِ. الفائدة الثّالثة (¬4): وهي بديعة جدًّا، قال علماؤُنا -رحمةُ الله عليهم-: في هذا الحديث أصلٌ من أصول الفقه الشّرعية، وهو الفرق بين أنّ يَرِدَ الماءُ على النّجاسةِ، أو تَرِدَ النّجاسةُ على الماءِ. فاقتضَى هذا الحديثُ أنّ الماءَ إذا وَرَدَ على النّجاسةِ أذهَبَهَا. كما أنّه أفاد أيضًا: أنّ ¬
النّجاسة إذا ورَدَت على الماء أثَّرَث فيه، والملاقاةُ واحدةٌ، إلَّا أنّ الشّرعَ لمّا رأى أنّ الضرورةَ داعيةٌ إلى إفراغِ الماءِ على النّجاسة قَصْدَ إزالتِها، ألغَى حُكمَها. تفسير (¬1): إذا ثَبَتَ أتى النّجاسةَ تؤثِّرُ في الماءِ باتِّفاقٍ من العلماءِ؟ فإنّهم اختلَفوا في تفصيل ذلك؟ فقال العراقيون وإمامُهُم أبو حنيفةَ (¬2): كلُّ موضع تحقَّقنا وصولَ النّجاسة من الماء إليه نَجِسٌ كثيرًا كان أو قليلًا؛ إلَّا أنّ أصحابه حدّدوه وعبّروا عنه بالبِركَة إذا كانت عظيمة وحرّك أَحَد طرَفَيها ولم يتحرَّك الطّرفُ الآخرُ لم تَتَنَجَّسْ بوقوعِ النّجاسة فيها. وفي "المجموعة" (¬3) نحو هذا. وأمّا إذا كان الماءُ يسيرًا، فإنّه يَنْجُسُ بوقوع النّجاسة فيه -عند ابن القاسم- مطلقًا، وعند الشّافعيّ (¬4) مُقَيَّدًا بأقلِّ من قلَّتينِ. وتعلّق الشّافعيُّ (¬5) بحديث رواة عن ابن جُرَيْج؛ أنّه إذا بَلَغَ الماء قلّتين لم يَحْمِل الْخَبَثَ (¬6)، وهو حديثٌ لم يصحّ (¬7). ¬
وروي عن مالكٌ رضي الله عنه -وهو اختيار العراقيّين (¬1) - أنّ الماء لا ينجِّسُه إلَّا التغيّرُ. وروَى بعضُ المدنيِّين عن مالكٍ؛ أنّه إنّ لم يتغيّر وكان يسيرًا أنّه مشكوكٌ فيه، منهم عبد الملك (¬2) ومحمدُ بن مَسْلَمَةَ. قال الإمام الحافظ: والصّحيحُ الّذي يُدَانُ الله به أنّ الماء لا ينجِّسُهُ إلَّا ما غيَّرَ أحدَ أوصافه، وأنّه ما دام قائمًا على ما خَلَقَهُ اللهُ فيه من الصِّفات فإنَّه على أصله في الطّهارة؛ لأنّه إنّما كان ماءً بما هو عليه من الصِّفات، طهورًا كما أنزلَهُ الله من السماء، فما غيّره فهو الّذي سلَبَ حكمه، حتّى غلا في ذلك بعض المدنيِّين، فروى ابنُ نافع، عن مالكٍ؛ أنّ يسيرَ النّجاسةِ إذا وقعت في الكثيرِ من المائعاتِ، كالزّيت واللَّبَن، فإنّه لا يُنَجِّسُهُما، وهو قولٌ ضعيفٌ من وجهين: أحدُهما: أنّه سَاوَى بين الماء والمائعات، ولا مساواةَ بينَهُما. والثّاني: أنّه صَدَمَ الحديث الصَّحيحَ؛ وهو قولُه: "إذا وقَعتِ الفأرةُ في سَمنِ أحَدِكُم، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولَها" الحديث الخ (¬3). إذا ثَبَتَ أنّ الماءَ لا يؤثَّرُ فيه إلَّا التّغيّرُ، فإنّه يتركَّبُ على هذا الأصل عشرُ صُوَرٍ (¬4): الصّورة الأولى: هو أنّ يكون معه إناءٌ شكٌّ فيه، هل وقعت فيه نجاسةٌ أم لا؟ فعلى القول بأنّه طاهرٌ؛ يتوضّأُ ويصلِّي به، وعلى القول بأنّه نَجسٌ؛ فإنّه لا يتوضّأُ به عندنا؛ لأنّ الشَّكَّ ¬
لا يوجِبُ حُكمًا في الدِّين، وعلى قول ابن شهاب فإنّه قال: هذا شيء وقع في النَّفْس منه شيءٌ، فإنّه يتوضأُ به ويتيمّمُ (¬1). الصّورة الثّانية: هو إذا تحقّق وقوع النّجاسة فيه، لكنها لم تغيِّره، فعلى القول الأوّل إنّه طاهِرٌ: يتوضَّأُ به. وعَلى القول الثّاني بِإنّه نَجِسٌ: يتيمَّمُ. وقيل: يتوضّأُ ويتيمَّمُ كما تقدّم. وإذا قلنا بذلك، فهل يبدأ بالوضوء أو بالتيمّم؟ فقد اختلف فيه علماؤنا؟ والصحيح عندي أنّه يبدأ بالتيمُّمِ؛ لأنّه إنّ كان ماءَ نَجِسًا فقد تيمَّمَ وصلَّى بأعضاءٍ طاهرةٍ، وان كان ماءً طاهرًا فقد جازَت بعدَ ذلك صلاتُه. الصّورة الثّالثة: هو إذا كان معه إناءان أحدُهما طاهرٌ والآخرُ نَجِسٌ (¬2)، ففيهما للعلماء خمسة أقوال: الأوّل منها: أنّه يتَوضّأُ بهما، ويصلِّي صلاتَينِ، على تفصيلٍ (¬3). القول الثّاني:، أنّه يَدَعُهُمَا (¬4). القول الثالث: أنّه يتحرَّى فيهما وَيجتهِدُ، فإذا أدَّاهُ اجتهادُهُ إلى الطَّاهر، توضَّأَ به (¬5). القول الرّابع: هو مِثلُ ما تقدَّم أو قريبٌ منه، زاد: وُيرِيقُ الباقي. القول الخامس: هو أنّ الأواني إذا كانت يسيرةً تحرَّى، وإن كانت كثيرةً سقطَ عنه ¬
التحري للمشقّة، وتوضأّ بأيّهما شاء، قاله القاضي أبو الحسن (¬1). ترجيح هذه الأقوال: أمّا وجه القول الأوّل؛ أنّه لماّ شكَّ فيه -أعني في الطّاهر منها- وجَبَ عليه استعمالُهما، حتّى يحصُل الطّاهرُ يقينًا. والوجه الثّاني: أنّه يترُكُها لئلاّ يُوَاقِعَ المحظورَ. والوجه الثّالث: يتحرَّى ويجتهد؛ لأنّ الاجتهادَ والتّعويلَ على العلاماتِ والأماراتِ أصلُ الشّريعةِ في المشكلاتِ، وهو المَفْزَعُ في الأَمْرِ والنَّهْيِ والحلال والحرام، فمسألتُنا بذلك أوْلَى، إذ هي مِثلُ ما ذَكَرنا. وأمّا من قال: يُريقُه، فإنّه قَصَدَ إزالةَ الإشكال لئلاّ يعودَ ثانيةً. وأمّا من فَرَّقَ بين القِلَّةِ والكَثرَةِ، فلا معنى له؛ لأنّه سواءٌ كَثُرَتِ الشّبهاتُ في المشكلاتِ أو قلَّت، فإنّما المُعَوَّلُ فيها على الدَّلالات والأمارات، إلَّا أنّ يخرُجَ الأمرُ عن حدِّ الحصر، فيسقطَ فيه التّكليفُ. الصُّورة الرابعة: إذا كان معه إناءان، أحدُهما طاهرٌ مُطَهَّرٌ، والآخرُ من ماءٍ مستعمَلٍ؛ فإنّه يتوضّاُ بهما جميعًا؛ لأنّهما ماءان مطلقان لا نجاسةَ فيهما عندَنا، وعند أبي حنيفةَ: يتركُهما جميعًا، رواه أبو يوسفَ القاضي، وقد بيناه في "مسائل الخلاف". ¬
الصّورة الخامسة: إذا كان معه إِنَاءَانِ طاهران، أحدُهما ماءٌ، والثّاني ماءُ وَرْدٍ، فشكّ أيضًا فيهما، توضَّأَ بكلِّ واحدٍ منهما وصلّى صلاةً؛ لأنّهما طاهران، هذا حُكمُهُ عندنا. الصّورة السّادسة: إذا كانا رَجُلَين، وكانا إناءين مشتبهين، فاجتهدا، فإنِ اتَّفقَ اجتهادُهما على واحد، استعملاهُ وأراقا الثّانيَ، وأَمَّ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه. فإن أدى اجتهادُ كلِّ واحدٍ منهما إلى إناءٍ غيرِ الّذي رآه الآخرُ، عَمِلَ كلُّ واحد منهما بمُوجَبِ اجتهادِه، ولم يَؤُمَّ واحدٌ منهما بصاحبه، وهي: الصّورة السّابعة. الصّورة الثامنة: وهو أنّ تكون الأواني ثلاثةً، والرَّجالُ اثنين أو ثلاثةً، فاختلف اجتهادُهم، ولزم كلّ واحدٍ منهم أنّ يتوضَّأ بالإناء الّذي يراه طاهرًا، ويؤمُّهُم أحدُهم، فإذا جاءتِ الصلاةُ الثّانية، جاز أنّ يؤُمُّهُم الآخرُ، ولا يجوز أنّ يكون الثّالثُ إمامَهُم؛ لأنّه إذا أَمَّ الأوَّل، احتمَلَ أنّ يكون النّجِسُ وقع في قسمِ أحدِ المأمُومَينَ. وإذا أمَّ الثّاني، يقولُ الثّالثُ: يجوز أنّ يكون وقع النّجسُ في حقِّي، فصلاةُ إمَامِي صحيحةٌ. وإذا أَمَّ الثالثُ لم يبقَ مَنْ تعلَّق به الإناءُ النّجِسُ، فلم يَجُز، وهكذا فُرَّعَ أبدًا، ما زادَت الأواني أو زاد عدَدُ الرِّجال، فإذا بقِيَ واحدٌ طاهرٌ، جازَتِ الإمامةُ أبدًا حتّى يبقَى واحدٌ، فَقِسْ عليه تَصِب إنّ شاء الله. الصّورة التاسعة: فإن أمَّ أحدُهما بالآخرِ وقدِ اختلفَ اجتهادُهما في الأواني، فاتَّفقَ علماءُ الأمصار على أنّ أحدَهما لا يجوزُ أنّ يؤُمَّ الثّانيَ، وقال أبو ثورٍ: يجوزُ لكلِّ واحد منهما أنّ يكون إمامًا لصاحبه؛ لأنَّ خطأه عنده ليس بيقينٍ، وإنّما هو اجتهادٌ، وهو يرَى أنّ صلاةَ صاحبِه في نفسه صحيحةٌ يلْزَمُه حكمُها ولا يجوزُ له العملُ بغيرها، فكذلك يجوز له أنّ يؤمَّه
فيها. وهذه مسألة عظيمة الموقع (¬1). الصّورة العاشرة: إذا اشتَبَةَ عليه إناءُ ماءٍ وإناءُ بولٍ، وتُتصوَّرُ هذه المسألةُ في إناء فيه ماءٌ تغيَّرَ بطُولِ المُكثِ حتَّى أنتنَ، ثم اشتبه بعد ذلك بإناءِ بولٍ، فقال الشّافعيُّ (¬2) وأبو حنيفة: لا يتحرَّى فيهما ويترُكهما، وقال أبو زيد المالقي (¬3) من أصحاب الشّافعيّ: يتحرّى فيهما (¬4)، وهو الّذي تقتضيه أصولنا، وبه أقول. تتميم: ذكر مالكٌ - رضي الله عنه - وترجم له (¬5): "باب وضوء النّائم" يريد: أنّ النّوم يُوجبُ الوضوء، واختلف هل هو حَدَثٌ، أو سبب للحَدَثِ؟ فعند الْمُزَنىِّ وأبي الْفَرَج: إنّه حدَثٌ في نفسه، وهي قَوْلَةٌ ضعيفةٌ، لما رواه مسلم (¬6) عن أنس قال: "كان أصحابُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلُّونَ ولا يتوضَّؤونَ" والأحاديث في ذلك مشهورةٌ. وإذا ثبت هذا، فللنّائم إحْدَى عَشرةَ حالة (¬7): قائمٌ، ومَاشٍ، وراكبٌ، ومستنِدٌ، وراكعٌ، وساجدٌ، وجالسٌ، ومُحْتَبٍ، ومضطجعٌ، ومستَنِدٌ قائمٌ، ومستنِدٌ جالسٌ (¬8)، فهذه إحدَى عشرةَ حالةَ للنّائم، والضّابطُ للمذهب فيها؛ أنّ مَنِ استثقلَ نومًا فعليه الوُضوءُ، وإذا كانت السِّنَةُ والخَفْقَةُ، فلا وُضوء عليه. ¬
وقال أبو حنيفةَ: من نام قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فلا وضوءَ عليه (¬1)، ونحوُه لابن حبيب، إلَّا في السّجودِ (¬2)، واحتجّ بما رُوِيَ (¬3) عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "ليس الوضوءُ على من نام قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا، إنّما الوضوءُ على من نام مضطجعًا؛ لأنّه إذا نام مضطجعًا استرخت مفاصله" (¬4). قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: هذا حديثٌ ضعيفٌ منكَرٌ (¬5)، يرويه أبو خالد الدَّالانيّ، عن قتادة، عن أبي العالية، وهو باطلٌ ومنقطعٌ لضَغفِه (¬6). وتعلّقوا أيضًا بما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "إذا نام العبدُ في سجوده بَاهَى اللهُ به الملائكة، يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي روحُة عندي وبدنُه في طاعتي" (¬7) وهو أيضًا ضعيفٌ لا أصلَ له (¬8)، على أنّه يحتمِلُ أنّ يكونَ الله سبحانه أَبْقَى عليه الأجرَ بعدَ ¬
النّوم؛ لأنَّ رُوحَهُ قبضها على طهارةٍ وفي طاعةٍ. وأمّا الحالةُ الثّانيةَ عشرةَ: وهو إذا استَثفَرَ (¬1) وارتبطَ ثمَّ نام، فكان شيخُنا أبو بكرٍ الفِهريُّ يقولُ: نحن على المذهب، أنّه لا وضوءَ عليه، وكذلك قال أبو المعالي الجُوْينِيُّ من أصحاب الشّافعيِّ. إلحاقٌ وتبيينٌ: قال الفقيه الحافظ شيخنا أبو القاسم جَرِير بن مَسْتلَمة (¬2): اختلَفَ العلماءُ - رضوان الله عليهم- في النوم في موضعين اثنين: أحدُهما: هل له تأثير في نقض الوضوء أو لا؟ والثّاني: هل هو حَدَثٌ في نفسه، أو سببٌ للحَدثِ؟ فذهب مالكٌ - رضي الله عنه - وجلّة العلماء إلى أنّ له تأثيرًا في نقض الوضوء. وذهب طائفةٌ من الصّحابة إلى ألّا تأثيرَ له في نقض الوضوء. ونكتتهم في ذلك: حديث ابن عبّاس؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نام حتّى سُمِعَ غَطِيطُه، ثمّ صَلَّى ولم يتوضّأ (¬3). ومن طريق القياس: أنّ الطَّهارةَ قد ثبتت بيقين، فلا تُرفَع إلَّا بيقينٍ؛ لأنّ الشَّكَّ لا يقدَح عندَهُم في اليقينِ. وقوله: "إنّما الوضوء على من نام مضطجعًا؛ فإنّه إذا نام مضطجعًا استرخت مفاصله"، وهذا يدلُّ على أنَّ النّوم سبب الحدَث. ¬
حقيقة: مذهب مالكٌ - رحمه الله - أنّ النّوم يستغرق فيه النّائم، فهذا ينقض الوضوء على أيّ هيئةٍ كان فإن كان مضطجعًا أو ساجدًا، فلا خلافَ فيه في المذهب أنّ الوضوءَ ينتقض؛ لأنّه على هيئة يتأتَّى خروج الحدَث منه بسرعةٍ. قال: وإن كان قائمًا أو جالسًا، فلا خلاف في المَذهَبِ أنّ الوضوءَ لا ينتقض؛ لأنّ الحدثَ لا يتأتّى خروجه منه إلَّا بيقين. وأمّا الرّكوع، فاختلف فيه على قولين، فمرّة قال: يجري مجرى القائم والجالس فلا ينقض الوضوء. إكمال (¬1): قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} قال: فَجَمَعَ الله تعالى في هذه الآية أسبابَ الوضوءِ، ولأجل هذا ذَكَرَ مالكٌ (¬2) هذه الآية في هذا الباب، وأعقبها بقوله: "لاَ يَتَوَضاُ من رُعَافٍ، وَلاَ من دَمٍ، وَلاَ من قَيحٍ" إلى قوله: "أَوْ نَوْمٍ" (¬3). واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فمنهم من رَاعَى الخارجَ النَّجِسَ من أيِّ مخرجٍ كان، وبه قال أبو حنيفةَ. ورَاعَى الشّافعيُّ الخارج المعتاد من أيِّ مخرجٍ كان. ¬
ووفَّق الله مالكًا - رضي الله عنه - فَرَاعَى الخارجَ المعتادَ من المخرج المعتادِ، وعنه روايةٌ؛ أنّه ينتقِضُ الوضوءُ بالخارجِ المعتادِ من المخرجِ النّادر، والصّحيحُ اعتبارُ الخارجِ والمخرجِ المعتادَيْنِ، وعلى ذلك تدلُّ الآيةُ؛ لأنّها جاريةٌ على العادة فتُحمَلُ عليها، وبالله أستعين.
باب الطهور للوضوء
باب الطَّهور للوضوء الكلام في هذا الباب في أربعة فصول: الفصلُ الأوّل (¬1) في الترجمة قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: هذه الترجمةُ تحتَمِلُ أربعةَ أوجهٍ: أحدُها: أنّ تكون الطّاءُ من الطُّهور والواوُ من الْوُضوء مرفوعتين. الثّاني: أنّ تكونا منصوبتين. الثّالث: أنّ تكونَ الطّاءُ مرفوعةَ، والواوُ منصوبةً. الرَّابع: بعَكسِهِ، وهو حرفٌ لم تَضبِطهُ الرّواةُ، إمّا عن جَهالةٍ أو عن غفلةٍ لمن كان يتقَّنُ. نكتة لغوية: واختلَفَ أربابُ اللّغة في معناها على هذا الضّبط اختلافًا كثيرًا، والأشهرُ الّذي استقامَ على الأمثلةِ واستمرَّ؛ أنّ يكونَ الْفُعولُ بضم الفاء للفعل وفتحها للمفعول به، وهي ¬
الفصل الثاني في الإسناد
الآلةُ. فالطَّهور والوَضوء بفتح الطّاء والواو للماء، وبضمِّهما للفعل، فعلى هذا يكونُ مساقُ التّرجمةِ: باب الطَّهُورِ للوُضُوءِ بفتح الطّاء وضمِّ الواو (¬1). الفصلُ الثّاني (¬2) في الإسناد مالكٌ (¬3)، عن صَفوَانَ بنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ سَلَمَةَ -من آل بني الأزرق-، عن المُغيرَةِ بْنِ أبي بُرْدَةَ -وهو من بَنِي عَبدِ الدَّارِ-؛ أنّهُ أخبَرَهُ أنّه سمع أبا هريرةَ يقول: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنا نَرْكَبُ الْبَخرَ، وَنَحمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ المَاءِ، الحديث. اختلف العلماء في إسناد هذا الحديث: فقال التّرمذي (¬4): سألتُ البخاريَّ عنه فقال: هو حديثٌ صحيحٌ (¬5)، فقلت له: إنّ هُشَيمًا يقول فيه المُغِيرةُ بن أبي بَرزَةَ، فقال: وَهِمَ فيه، إنّما هو المغيرةُ بن أبي بُرْدَة، وهُشيمٌ ربّما وَهِمَ في الإسناد، وهو في المُقطَّعَات أحفظُ. وقال غير البخاريّ: سعيد بن سَلَمَة رجلٌ مجهولٌ، لم يَرْوِ عنه غير صفوان بن سُلَيم وحدَهُ (¬6). ¬
الفصل الثالث في حظ الأصول والمعاني
واختلَفَ رُوَاةُ "الموطّإِ"، فبعضهم يقول: من آل الأزرق، وكذلك قال ابنُ القاسم وابنُ بُكَير (¬1). قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬2): لم يرو هذا الحديث عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - إلَّا أربعة: أبو هريرة، وجابر (¬3)، والفِراسِيّ (¬4)، والعركي (¬5). قال الإمام: وأمثلُها حديث أبي هريرة هذا الّذي رواه مالك. الفصل الثّالث (¬6) في حظِّ الأصول والمعاني قال الإمام الحافظ: اتَّفقتِ الصَّحابة- رضوان الله عليهم- على جواز الوضوء بماء البحر، إلّا رواه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو كان يقول: هو طبق جهنّم (¬7)، ورُوِيَ عنه أنّه كان يقول: هو ماء سخط وعذاب فلا يُتَوَضَّأ به. ¬
كما نهى النّبيُّ عليه السَّلام عن الوضوء بماء ثَمُودَ، وحضَّ على بِئرِ نبىِّ الله صالح الّتي كانت النّاقة تَرِدُها (¬1). وهذا ضعيفٌ، فإنّه لو كان ماءَ سَخطٍ وعذابٍ لما أَذِنَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في رُكُوبه، وكيف لا يُتوضَّأ به وهو مُنَزَّلٌ من السَّماء، مُخرجٌ بالقدرة إلى التهيُّؤِ للمنفعةِ، وليس فيه أكثرُ من أنّه لا يصلح للشَّفة (¬2)، وذلك لا يمنَعُ من جواز الوضوء كالماء الأُجَاجِ، وقد ركِبَ الصّحابة البحرَ على زمان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. وقد جاء أيضًا عن جابر بن عبد الله كراهية الوُضوءِ بماءِ البحرِ. وليس لأحدٍ حجَّة مع خلاف السُّنَّة، قد ركبه الصّحابة ركوبًا طويلًا مِرَارًا، فما رُوِيَ عن أحدٍ منهم أنّه احتمل تُرابًا للتيمُّمِ. وقال شيخُنا جرير بن سلمة (¬3): اعلم أنّ ماءَ البحرِ طاهرٌ مطهرٌ للنّجاساتِ، هذا قولُنا وقولُ جماعةِ العلماءِ، وهو قولُ أكثر الصّحابةِ والتّابعين، إلَّا أبا هريرة وابن عمر فإنّهما أجازا التّطُّرَ به ومنعا التّطهير به أيضًا. والدلالةُ على صحة قولنا: قولُه تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} الآية (¬4)، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬5)، وقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬6)، وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "خلقَ اللهُ ¬
الماءَ طَهُورًا لا ينجِّسه شيءٌ" (¬1)، وهذا الحديث رواهُ سِمَاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عبّاس (¬2). فإن قيل: وكيفَ يجوزُ الوضوء بماءِ البحرِ والبحرُ هو غطاء جهنَّم، فكيف يكون ذلك مطهِّرًا؟ الجواب عنه: وذلك أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما قاله لشدة غَرَرهِ وخَطَرهِ وهَولِهِ، وعلى باب العِظَةِ به والاعتبارِ. تنببهٌ على مقصدٍ: قال الإمامُ: لَمَّا لم يكن هذا الحديثُ من شرطِ البخاريَّ، بَوَّبَ (¬3) عليه فقال: "بابُ إجابة السّائل بأكثر ممّا سألَ عنه"، وأدخلَ حديثَ ابن عُمرَ؛ سُئلَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَمَّا يَلبَسُ المُحْرِمُ (¬4)، وإنّما قصد التّنبيه على هذا الباب والحديثُ أيضًا الّذي فيه جواب السّائل بأكثرَ ممّا سألَ عنه في موضعين: الموضعُ الأوَّل: قولُه: "هو الطَّهور ماؤُهُ" فإنّه لو قال له: نعم، لكان جوابًا على السؤال، وكان لا يقتضي جوازَ الوضوءِ بماء البحر إلَّا عند خَوْفِ العطشِ وقلَّةِ الماء، فاطلَقَ النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - القولَ إطلاقًا؛ ليبيِّنَ أنّه طَهورٌ مطلَقٌ وحُكْمٌ عامٌّ. الموضعُ الثّاني: قولُه: "الحلُّ مَيتَتُهُ" وكأنَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فهِمَ من السّائل استنكافَ أمْرِ البحر، فأراد - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يبيِّنَ أنّه بَرَكَةٌ كلُّهُ، ماؤهُ طَهُورٌ، ومَيتَتُه حلالٌ، وظهرُهُ مَجَازٌ، وقَعْرُهُ جواهِرُ وزمرّد. ¬
وقال جماعة منهم أبو حنيفةَ (¬1): لا تحلُّ ميتةُ البحر، وتعلَّقَ بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬2) وهذا عُمومٌ ظاهرٌ. إيضاحُ مُشكِلٍ: وما قلناه أوضحُ لثلاثةِ أوجُهٍ: أحدُها: هذا الحديثُ الّذي تلوناه آنفًا. الثّاني: حديثُ أبي عُبَيدَةَ، حين ألقَى لهم البحرُ حوتًا يقال له العنبرُ، فأكلوه (¬3). فإن قيل: كانت تلك حالَ ضرورةٍ. قلنا: قد أكل القومُ منه وشَبِعُوا وادَّهنوا وتزوَّدوا، ولو كانت حال ضرورةٍ ما جازَ شيءٌ منه. وقد وافقنا أبو حنيفة (¬4) على ما صاده المجوسيّ من السّمك، فلو كان الصّيد تذكيةً كما زعموا، ما جاز من المجوسيّ؛ لأنّه ليس من أهل الذّكاةِ. تفسير فقهيّ شرعيّ: فإذا ثبت أنّ الماء طهورٌ لا يَنْجَسُ إلَّا بما غيَّرَ صفاته، لكنّه يستحبّ صيانة قليله عن النّجاسات؛ لأنّه أكملُ في الطّهارة وأقوى للنّظافة وأَطيَبُ على النّفس. فأمّا المياهُ الكثيرةُ، كالآبارِ العظام والأنّهار الكبار، فإنّه يجوزُ رَمْيُ النّجاسات والأقذارِ فيها قصدًا، وعلى ذلك هي الأمَّة كلها في البلاد الّتي تكون على الأنّهار، وتد سُئِلَ عن بئر بضاعة وما يطرح فيها من الأقذار والجيفِ، فقال: "خلقَ اللهُ الماءَ طَهُورًا لا ينجِّسُهُ شيءٌ" (¬5). ¬
إلحاق وتبيينٌ: ههنا هو الكلام في المياه، والمياهُ عند مالكٌ - رحمه الله - تنقسم على سبع مراتب، فأربعةٌ يُتوَضَّأ منها، وثلاثة لا يُتوَضَّأ منها. فالّتي يُتوَضَّأ منها: ماءُ البحار كما خلَقَها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لقوله: "الطَّهورُ ماؤه". وماءُ الأنّهار كما أجراها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. ومَاءُ الأعيُنِ والآبار كما أنبعها اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-. وماءُ الشِّتاء إذا نزل في بقعةٍ طاهرةٍ. فهذه المياه الّتي أوجب منها العبادة، وأَطبَقَ عليها العلماء أجمع. وأمّا المياه الّتي لا يُتوَضَّأ منها فثلاثة: أوّلها: الماء المضاف. والماءُ النَّجِس. والماءُ المشكوك فيه. تقسيم: قال بعضُ علمائنا المصريِّين في قسمة الماء، قال: الماء على أربعة أقسام: طاهرٌ مطلَق، وطاهرٌ مضافٌ، ونجسٌ مضافٌ، ومشكوكٌ. قلنا: وأخصرُ من هذه القسمة أنّ يقال: الماءُ على قسمين: مطلَقٌ ومقيَّدٌ، والمقيَّدُ على ضربين: مقيَّدٌ بإضافة، ومقيَّدٌ بنجاسةٍ. فإمَّا المقيَّدُ بالنّجاسة فعلى ¬
الفصل الرابع في الفوائد المنثورة
وجهين: إذا لم يتغير أحد أوصافه، وقال علماؤنا: من توضَّأ به وصلَّى أعادَ ما كان في الوقت استحبابًا، كمن تيمَّمَ على موضع نجسٍ. فإن تغيَّرَ أحد أوصاف هذا الماء عند مالك أعاد أبدًا. الفصل الرّابع في الفوائد المنثورة الفائدة الأولى: قوله: "الحِلُّ مَيتَتُهُ". قال القاضي أبو الوليد الباجي رضي الله عنه (¬1): "الحيوان جنسان: بحريٌّ وبرَّيٌّ، فأمَّا البحريٌّ فنوعان: نوعٌ لا تبقَى حياته في البِرِّ كالحُوتِ، ونوعٌ تبقَى حياتُه كالضُّفْدَعِ والسَّرَطَان والسُّلحفاة. فأمّا الحوتُ، فإنّه طاهرٌ مباحٌ على أيِّ وجهٍ فاتت نَفْسُهُ، وبهذا قال مالكٌ والشّافعيّ، وقال أبو حنيفةَ: ما مات منه حتف أنفه فإنّه غيرُ مُباحٍ. والدّليلُ على قولنا: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية (¬2)، قال عمر ابنُ الخطَّاب: صَيدُهُ ما صِدْتَهُ، وطَعامُه ما رَمَى به (¬3). وأمّا ما تدومُ حياتُه كالضُّفْدَعِ، فهو عند مالكٍ طاهرٌ حلالٌ لا يحتاجُ إلى ذكاته (¬4)، وقال ابنُ نافعٍ: هو حرامٌ نجِسٌ إذا ماتَ حتف أنفه (¬5) ". ¬
الفائدة الثّانية (¬1): وأمّا حيوانُ البَرَّ، فعلى نوعين أيضًا: ما له نَفسٌ سائلةٌ، كالطَّير والفأرةِ والحَيَّةِ والوَزَغَةِ وشحمةِ الأرض، وزاد ابن القصّارِ (¬2): والبراغيث، فإنّ ذلك كلّه يَنْجُسُ بالموتِ. وقال سحنون في برغوث وقع في ثريد: لا بأس أنّ يُؤكَل. وفي "كتاب ابن حبيب" (¬3) عن مالك: ما ليس له لحمٌ ولا دَمٌ كالخُنْفُسَاءِ والنَّمْلِ (1) والدُّودِ والبَعُوض، وما أشبه ذلك، من احتاجَ شيئًا منه لدواءٍ ذَكَّاهُ بما يُذَكِّى به الجراد، فجعلَ البعوضَ من صنفِ ما ليس له دمٌ وفيه دمٌ ينتقلُ إليه. فعلى هذا لا يُرَاعَى في الدَّمِ إلَّا أنّ يكونَ من نَفسِ الحيوانِ، فيكونُ ممّا ليس له دَمٌ قولٌ واحدٌ أنّه لا يَنْجُسُ بالموتِ، وما له دمٌ قولٌ واحدٌ أنّه يَنْجُس بالموتِ. وما ليس له دمٌ وفيه دمٌ القولانِ: يَنْجُسُ على قول ابن القصَّار، ولا ينجس على قول سحنونٍ ومالكٍ. ويحتمل وجهًا آخر أنّ يكون البرغوث ينجس بالموت إذا كان فيه الدّم، ولا يَنْجُس إذا لم يكن فيه دم. وأما فائدة المسألةِ، فسيأتي الكلامُ عليها، فلابُدّ من تحقيق الكلام في المياه. تأصيلٌ وإلحاقٌ: قول مالكٌ - رحمه الله - في هذا الباب: "هو الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ مَيتَتُهُ" ففي هذا للعلماء تسع عشرة مسألة: المسألةُ الأولى: قوله: "الطّهورُ ماؤه" فالماءُ الطّهور هو الّذي لم يتغيَّر أحد أوصافه الّتي هي اللّون والطعم والرائحة، أو أحدهما بما لا ينفكّ عنه غالبًا، أو بما ليس بقرار له ولا متولّد عنه. ¬
نكتةٌ لغوية: وأمّا قوله: "الطَّهورُ" ففيه مسألتان: الأولى: عندنا أنّ الطّهورَ ما طهَّرَ غيره. وقال أبو حنيفة: هو الطّاهر في نفسه ولا يفيد تطهيرًا في غيره. ودليلُنا: أنّه "فَعُولٌ" ومعناه: ما يفعل به، مثل غَسُول بما يُغسَل به، وقد بيَّنَاهُ في أوَّل الباب. وأمّا من الشّرع: فقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية (¬1)، فكان تفسيرًا لقوله: {طَهُورًا}. المسألة الثّانية: عندنا أنّ الطهور يفيدُ التَّكرار (¬2)، ورواه ابن أبَان عن الشّافعيّ، وروى الجمهورُ عنه أنّه لا يفيد التّكرار، وبه قال أصبَغ. وفائدة الخلاف أنّه يتصوَّر في الماء المستعمل، على ما يأتي بيانُه إنّ شاء الله. إلحاق: قال علماؤنا: والماءُ الطَّهورُ على سبعة أقسام: 1 - الأوّل: مُطلَقُ الأوصاف، كماء الآبار والْغُدُرِ والأنّهار، ولا خلاف أنّه طهورٌ ما لم تُلاَقه نجاسة تغيِّره، أو طهارة تنفكّ عنه غالبًا، كماء الثّلج والبرَدِ. 2 - والْجَمْدُ إذا ذاب جاز التّوضؤُ به، وإن توضَّأ به على صفته، فعلى وجهين: إنّ كان رخوًا يجري على الأعضاء ماؤه صَحَّ، وإن كان صلْبًا لا يذوب لم يصحّ إلّا في مسح الرّأس؛ لأنّ المسح يجزئ فيه إصابة البَلَل. ¬
3 - الثّالث: الماءُ المتغيِّر بصفة لا تزايله غالبًا، كالمتغيِّر من طُولِ المكْثِ وبالحمأةِ والطِّين. 4 - والجاري على السِّباخ والمعادن. 5 - والمتغيِّر بماء يتولَّد عنه، كالطُّحْلُب والورد، لا خلاف أنّه طهور. المسألة الثّالثة: الماء المطلق إذا طرح فيه التّراب فتغيَّر فهو طهورٌ؛ لأنّ التّراب وما لا ينفكّ عنه بطرحه فيه كطرحه عليه فإنّه لا يغيِّره. وإذا طرح فيه الزَّرنِيخ، والزُّجاجُ، والآجُرُّ المدقوق، فتغيَّرَ فهو غير طَهورٍ. والفرقُ بينهما من وجهين: أحدهما: ممّا ينفك عنه الماء في الغالب، والترابُ لا ينفكُّ عنه بحالٍ. والثّاني: أنّ هذا دخلَتْه صنعة الآدميِّ والأجُرَّة مصنوعة. قال ابن القصّار: المسألة محتملةٌ، فإن قلنا إنّه طهورٌ، فإنّ المِلحَ من جنس الأرض؛ لأنّ التيمُّمَ يجوز عليه كماء الطِّين والرَّمْل، وإنْ قلنا إنّه غير طهور، فإنّه ممّا ينفكَّ عنه غالبًا (¬1). وفصل الباجي بين الْمِلْح الجَبَلِيّ والمائيّ فقال: الجَبَلِىُّ هو الّذي اختلف فيه شيوخنا بالعراق، وأمّا المائيّ فلم يختلفوا فيه أنّه غير طهور؛ لأنّه دخلته صنعة آدمي (¬2). ¬
قال الإمام: وهذا التّفصيل بالعكس أوْلَى؛ لأنّ الجَبَلِيّ أصله الماء، وقد جمد فهو كالجمدِ، ولأنّ الزَّرنِيخ والمائيّ أصله الماء فهو كالْجَمدِ. وقيل إنّ الملْحَين سواء؛ لأنّ أصلهما الماء. المسألة الرّابعة: وهي إذا تَغَيَّرَ الماء بورق الشَّجر النَّابت عليه، فقال بعضهم: إنّه غير طهور (¬1)، وظاهر المذهب أنّه طهورٌ؛ لأنّه مِمَّا لا ينفكّ عنه غالبًا. ولأصحاب الشّافعيّ (¬2) فيه وجهان: أحدهما: أنّه طهورٌ. والثّاني: إنْ كان خريفيَّا فطهورٌ، كان كان ربيعيَّا فغير طهورٍ. وفرَّقوا بينهما بوجهين (¬3): 1 - أنّه تخرجُ من ورق الشَّجر الرّبيعيّ رطوبة مختلطة بالماء، بخلاف الخريفىّ فإنّها يابسات. 2 - والثّاني: أنّ الرّبيعي قلَّ ما يتأثَّر من الشَّجر، فيُمْكِن صَوْن الماء عنه، بخلاف الخريفي فلا ينفكّ عنه. المسألةُ الخامسة: ماءُ البحار المملَّحة فإنّها طهورٌ، لقوله: "الطُّهورُ ماؤُهُ". وقد حُكِيَ عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاصي أنّهما كرها استعماله وقالا: التّيَمُّم أحبّ إلينا منه (¬4). وهذا يردّه نصّ الحديث الّذي صدَّرَ به مالكٌ - رحمه الله - هذا الباب، وما رواه أبو هريرة أنّه قال عليه السّلام: "من لم يطهِّره البحرُ فلا طَهَّرَهُ اللهُ" (¬5). ¬
المسألةُ السادسة: ماءُ الآبار كلّها طهور. وقال أحمد بن حنبل: يكرهُ الوضوءُ بماءِ زمزم (¬1). ودليلنا: قولُه عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2) وهذا ماءٌ، ولأنّه نابع عن محلٍّ شريفٍ كعين سُلْوَان. المسألة السّابعة: الماءُ المقيَّدُ بصفةٍ تزايلُه، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المسخَّنُ بالنَّار فهو طهورٌ، خلافًا لمجاهد في كراهيته لذلك، ولأحمد بن حنبل أيضًا (¬3)، لما رُوِيَ أنّ عبد الله بن عبّاس دخل حمَّامًا بالجُحْفَةِ وهو مُحْرِم، ولأنّ الأصل الطّهارة والتّسخين لا يُحدِثُ فيه كراهية، كالماء المسخَّنِ بالفَلاَةِ. المسألة الثّامنة: الماءُ المشمَّسُ كله طهور، إلَّا أنّ يكون في أواني الصُّفْر فيكره ذلك في البلاد الحارّة؛ لأنّه يُحْدِث البَرصَ، فمن توضَّأَ به أجزأه؛ لأنَّ النَّهيَ لخوف العلَّة. المسألة التّاسعة: الماءُ المتغيِّر بالمجاورة، مثل أنّ يكون ميتة على شاطئ البحر. أو على شاطئ نهرٍ فيريحُ الماء برائحتها، فقال عبد الملك (¬4): إنّه طهورٌ، كأنّه على هذا لا يعتبر التّغيير إلَّا بالمخالطة دون المجاورة، ويلزم على هذا استعمال كلّ ما تغيَّر بالمجاورة، كماء العُود والعنبر؛ لأنّهما سواء. ¬
المسألةُ العاشرة: إذا سقط في الماء عُود الطِّيب، فأخرج، وعَلِقَتْ بالماء الرّائحة، فهو طهورٌ على قول عبد الملك (¬1)، والمسألة محتملة. وانظر لو انصَبَّ على ثوب خمرٌ، فغُسِلَ حتّى ذهب اللّون دون الرّائحة، فما رأيت لشيوخنا فيها نَصَّا، فإن قلنا بطهارة الثّوب فلا حُكمَ للرّائحة، كما قالوا: لا حُكمَ لبقاء لون النّجاسة بعد الغسل، وكذلك في الماء لا تضرّه الرّائحة مع زوال اللّون. وإن قلنا لا يطهر مع بقاء الرّائحة، فالماءُ غير طهورٍ، وانظر ما في الفرق بين بقاء الرّائحة واللّون، والأظهر أنّهما سواء. المسألة الحادية عشر: في الماء الطّهور غير المطهِّر، ويسمَّى الماء المضاف، وهو كلّ ماء تغيَّر بما ينفكّ عنه في الغالب من الطهارات فيسلبه حكم التّطهير فقط، فيصير طاهرًا غير مطهِّر، وهو على قسمين: 1 - أحدهما: مضافٌ إلى ما خرج منه، كماء الورد والأس والشّجر، فهذا عندنا غير طهور كالأوّل سواء. 2 - وقال الشّافعيّ (¬2): إنّ غلب عليه ونسب إليه ماءٌ بلّ فيه زعفران، أو ماء بلّ فيه خبز، فهو طهورٌ غير مُطَهِّر. ودليلنا: أنّه تغيَّرَ بماء ليس بقرارٍ له ولا بمتولِّد عنه، بل بماء ينفكّ عنه غالبًا، فأشبه المتغيِّر بالنّجاسة والطَّبْخ. المسألة الثّانية عشر: هي إذا دخل في الماء مائعٌ طاهرٌ فلم يغيِّره، فظاهر المذهب أنّه طهورٌ، وقد قال ¬
القابسي (¬1): إذا توضّأ به أعاد صلاته في الوقت على مذهب ابنِ القاسم، كما أنّه إذا خالطه نجس لم يغيِّره. وهذا غير صحيح. قال: فإن اختلط بالطَّهور مائع لا يخالفُ لون الماء ولا طعمه ولا ريحه كالْعَرَق وماء الشَّجر، فالظاهر أنّه طَهورٌ. وقال بعض الشّافعية: اعتبره بغَيرِه ممّا يغيِّره، فإن خالطه قَدْرٌ ما، لو كان ممّا يغيّره لغَيَّره، فغير طهور. وقال غيره: إنّما اعتبره بالغالب، فاحكُم له به: قال الإمام: فهذا كانت المائعات مختلفة فبأيّها يعتبر. فإن قيل بأعلاها صفة، عُورِضَ بأدناها. وإن قال بأدناها، لَزِمَه أنّ يعتبر المخالطة بنفسه فإنّ لها صفة تنفرد بها عين الماء ولم تغيِّره، فيجب أنّ يكون طاهرًا. فإن قال: لا أعتبره فإنّه لا يعتبر بحالٍ. قيل له: هذا مستحيل؛ لأنّه إذا كان أكثر من الماء تبِعَه الماءُ في صحَّتِه. المسألة الثّالثة عشر: وهي: إذا كان عنده من الطَّهور دون الكفاية، فَكَمَّلَه بمائع لم يغيَّره حتّى استهلكه فيه، فالظّاهر أنّه طَهُور، ويحتمل أنّ يكون غير طهور؛ لأنّه توضّأ بمائع بَيِّنٍ، والأحوطُ أنّ يتوضّأ به ثمّ يتيمّم. وقال بعضُ علمائنا: إنّ توضَّأَ به وبقي من الماء بمقدار المائع الّذي حلّ فيه، أجزأه. ¬
قال الإمام الحافظ: وهذا غير صحيح؛ لأنّ المستعملَ بعضُه ماءٌ وبعضُه مائعٌ، فكذلك الباقي، ولا يجوزُ أنّ يكونَ الباقي هو المائع. قال الإمام: فإذا قلنا إنه طهورٌ، فانظر ما الفرق بينه وبين من حلف ألّا يأكل تمرة، فاختلطت بتمرٍ فأكل جميعه، فإنّه يَحْنَثُ بإجماعٍ، والفرقُ أنّ الحالف أكل التّمرة المحلوف عليها قطعًا لأنّها غير مستهلكة، وبخلافه المتوضِّئ بماءٍ قد استهلك فيه المائع، فصار كمن حلف ألَّا يأكل خَلًا فأكل مَرَقَةَ خَلٍّ قد استهلك في الطّبخ، لا حِنْثَ عليه. ومن حَلَفَ ألّا يأكل سَمْنًا فأكل سَوِيقًا مَلثُوثًا بالسَّمنِ أنّه يَحْنَث؛ لأنّ طعم السَّمْن حقيقة موجودة في السَّوِيقِ غير مستهلكة. وقد ذهب الشّافعيّ (¬1) في التّمر لو بقيت منه واحدة، لم يحنَث على أصله في الْحِنْثِ بالشَّكِّ، إذ يجوزُ أنّ تكون التَّمرة الباقية هي المحلوف عليها. ومالك يُحَنِّثُه بأكل واحدة، على أصله في الحِنْثِ بالشَّكِّ، إذ يجوز أنّ تكون التّمرة المأكولة هي المحلوف عليها. المسألة الرّابعة عشر: إذا تغيّر لون الماء الّذي في الآبار من الحبل الجديد، أو طعمها أو رائحتها، يكون في الدَّلالة غير طهور؛ لأنّه ممّا ينفكّ عنه في الغالب. وعندي في المسألة وجهان: أحدُهما: إنّ كان في آبار الصّحَارِي فهو طهور؛ لأنّه ممّا لا يوجد منه بدّ، ولا تنفكّ عنه الآبار في الغالب. الثّاني: إذا تغيّر ريح الماء فقط دون اللّون والطعم، بقَطِرَانٍ كان في الدّلو وبخورِ الْمُصْطَكَا، فهو عندنا غير طَهور. وقال عبد الملك (¬2): هو طَهورٌ على أصله في ترك اعتبار الرّائحة. وقد نصَّ ابن ¬
عبد الحَكَم (¬1) عن مالكٌ في "المختصر" (¬2) أنّ الرّائحة معتبرة. المسألة الخامسة عشر: لا يجوز الوضوء والغسل عندنا عند عدَم الماء بنبيذ التَّمر (¬3). وقال أبو حنيفة يجوز (¬4)، واحتجَّ بقوله (¬5): "ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ ومَاءٌ طَهُورٌ". وهذا لا يصحّ بحالٍ، والدَّليلُ القاطع عندنا: قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬6) فلم يجعل بين الماء والصّعيد واسطة. وأيضًا: فإنّه مائع لا يجوز الوضوء به حَضَرًا فلم يجز سَفَرًا كسائر المائعات عكسها، لَمَّا جاز التّطهُّر بسائر أنواعه حَضَرًا جاز به سَفَرًا. وعندنا أيضًا: أنّه لا يجوز الوضوء والغسل عند عدم الماء بمائعٍ. المسألة السادسة عشر: وعندنا لا تجوز إزالة النّجاسة بمائعٍ سوى الطّهور (¬7). وقال أبو حنيفة: يجوز إزالة النّجس بكلِّ مائعٍ (¬8). والدّليل القاطع عليه: قولُه عليه السّلام في دم الحيض: "حُتِّيهِ، ثمَّ اقرُصِيهِ، ثمّ اغسليه بالماء" (¬9). ¬
ولأنّه أيضًا لا يرفع النّجاسة عن نفسه، فلم يرفعها عن غيره. وإذا وقع يسيرٌ من الكافور في ماء، فأخرج مكانه ولم يذب منه شيءٌ، فهو كالعود. وإن ماع منه شيء فهو كالزّعفران. المسألة السّابعة عشر: في الماء الّذي يَنْجُس والّذي لا تضرّه النّجاسة، وهو على ثلاثة أقسام: قسم أجمع العلماء على أنّه نجسٌّ، وهو كلّ ما تغيّر أحد أوصافه بما يخالطه من النّجاسات. القسم الثّاني: مجتمعٌ على أنّه طهورٌ لا تضرّه النّجاسة، وذلك إذا كان كثيرًا جدَّا لم يتغيّر، كماء الأنّهار وما أشبهها. القسم الثّالث: اختلف العلماء في نجاسته، وذلك إذا كان الماء قليلًا ولم تغيِّره النّجاسة. فقال مالكٌ فيما روى عنه المدنيون والعراقيون (¬1): لا يَنْجُس الماء وإن قلَّ إلَّا بالتَّغيُّر، وبه قال الحسن. وقال الشّافعيّ (¬2) وأبو حنيفة (¬3): يَنْجُس إلَّا أنّ يبلغَ بمقدارٍ ألّا يقبل النّجاسة، فإذا بلغه لم يَنْجُس الماء إلّا بالتَّغيير. ثم اختلفا في المقدار: فقال الشّافعيّ (¬4): قُلَّتان بقِلاَل هَجَر. وقال أبو حنيفة: يجب أنّ يكون عشرة في عشرة في عُنُقِ شِبْرٍ. ¬
وفي رواية أخرى عنه: إذا حُرِّكَ أحد جانِبَيه لم يتحرَّكِ الآخرُ. ومن الصّحابة من قال: النّجاسة إذا وقعت في الماء الكثير، غيّر الّذي وقع فيه دونَ الآخر. ودليلنا قولُه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬1) وهذا ماء. وقوله في بئر بضاعة: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه". المسألة الثّامنة عشر: إذا مات الإنسان في مائعٍ أو ماءٍ، فإنْ كان مؤمنًا لم يَنْجُس ما مات فيه من مائعٍ أو ماءٍ، إلَّا إنْ تغيَّر الماءُ بنجاسة تخرج منه؛ لأنّ المؤمنَ لا يَنْجُس بالموت. وأمّا إذا كان كافرًا فإنّه ينجُس المائع، ولا يَنْجُس الماء إلَّا بالتّغَيّر أيضًا. المسألة التّاسعة عشر: وإذا ماتتِ الدّابةُ في جِبَابِ اطرابلس. فقال مالكٌ: لا أحبّ أنّ يَشرَب ولا أنّ يغسل منه، ولا تسقَى (¬2) البهائم منه، وهذا على وجهين: 1 - إنْ تغيَّر فنجسٌ. 2 - وإن لم يتغيّر فطهورٌ، إلّا أنّه مكروهٌ مع وجود غيرِهِ. فإن تغيَّر بعض الْجُبِّ الكبير من النّجاسة أو الدّابة: فقال ابن وهب (¬3): يخرج وُينْزَح منه قَدْر ما يذهب بالرّائحة واللّون ودَسَمِ الْمَيتَة. وأنكره ابنُ القاسم، وقال الأخير فيه (¬4): ولم أسمع من أرخص (¬5) فيه قطّ (¬6). ¬
فصل في أسآر الحيوان وأعراقها وأبوالها وألبانها
فأمّا إنّ كان الْجُبُّ صغيرًا فحلَّت فيه نجاسة لم تغيِّره: فاستحبَّ الشِّيرازيّ (¬1) أنّ ينزح منه قَدْر ما تَطِيب النّفس ويُستعمل (¬2). وأمّا إذا انقطعت أجزاء ما لا نفس له من الْخَشَاشِ في الطّعام، لم يؤكل، إلَّا أنّ يكثر الطّعام فيؤكل. قال أبو إسحاق (¬3): هذا على قول من لا يجيز أكل الْخَشَاش إلَّا بذكاة، وأمّا من أجاز أكله بغير ذكاة فلا شيءَ فيه. فصل في أسْآر الحيوان وأعراقها وأبوالها وألبانها وفيه أربعة فصول: الفصل الأوّل في أسْاَر الحيوان أسْآر الحيوان كلّها عند مالكٌ طاهرة، المباح منها والمحرَّم والمكروه (¬4)، وكذلك أسْآر جميع الطَّير إلَّا ما لا يتوقَّي النّجاسة غالبًا، كأسْآر المشركين وأهل الكتاب وشارب الخمر والكلاب والخنازير والجلّالة من الخيل الّتي تأكل أرواثها، والدّجاج الْمخَلّاة مكروهة وفي الحكم طاهرة، إلَّا ما تغيّر منها عند إصابتهم النّجاسة فإنّه يَنْجُس. وقال ابنُ القاسم: لا يتوضَّأ بسُؤر ما يأكل النّجاسات، بناءً على أصله الّذي بَنَى (¬5). ¬
الفصل الثاني في أعراق الخيل
وقال مالكٌ (¬1) والشّافعيّ بذلك، واختلف قولُه في البازي. الفصل الثّاني في أعراق الخيل وهي على ضربين: فأما ما يتغذَّى الطّهارات، فلا خلافَ في طهارة عَرَقِهِ. وأما ما يتغذَّى النّجاسات، ففيه قولان: فالقاضي عبد الوهّاب يقول: إنّه يَنْجُس كعرق شارب الخمر والجلّالة. وشبَّهَهُ بعض القرويَّين بالبيضة الفاسدة تسلق مع غيرها أنّها لا تؤكل، وإن كان بين النّجاسة والطّاهر حجابٌ وهو الْقِشر، فكذلك العرق لأنّه رَشحٌ. وقال عبد الحقّ (¬2) والتّونسىّ (¬3) الأعراق كلّها طاهرة، إذ ليس العرَقُ نفسى ما يُؤكَل أو يُشرَب. وقال التّونسيّ: ويجوز أنّ يقال عين الخمر إذا خرج عرقَا كالخمر إذا تخلَّلَت. وقال عبد الحقّ: والتّمثيلُ بقشر البيضة غير صحيح؛ لأنّه جسمٌ رقيق لا يمنع خروج أجزاء المضاف من النّجاسة تصل إلى الطّاهر، ليس كذلك أجزاء بني آدم والحيوان. ¬
الفصل الثالث في ألبان الحيوان
الفصل الثّالث في ألبان الحيوان وهي على ثلاثة أضرب: 1 - فلَبَنُ بني آدم، ولبنُ كلِّ حيوان يُؤكل لحمه طاهرٌ باتِّفاقٍ. 2 - الضّرب الثّاني: ما لا يؤكل لحمه مكروهٌ. قال يحيى بن يحيى (¬1): من صلّى بلبن حمارة في ثوبه أعادَ في الوقتِ. 3 - الضّرب الثّالث: ألبانُ ما يَأكُل النَّجِس لا بأس به؛ لأنّ عين اللّبن انقلبت، قاله التونسيّ. وقال غيره: هو بمنزلة النَّحْل تغتذي نجسًا لا بأس بعَسَلِها. وقال عبد الوهّاب (¬2): هو كزرعٍ نبتَ من قمح نجسٍ. الفصل الرّابع في أرواث الحيوان وأبوالها قال الإمام الحافظ: والأبوالُ عند علمائنا على ثلاثة أضرب: فبَولُ ما يؤكل لحمه طاهرٌ. وبول ما يُكرَه لحمه مكروه كَلَحْمِه. وبول ما لحمه محرَّمٌ كلحمه. غير أنّ ما حرم أكله على وجهين: فلحمٌ حرم من أجل حرمته لا لنجاسته كابن آدم. ولحم حرم لنجاسته لا لحرمته، وهو الخنزير. فكلٌّ بولٍ مردود إلى لحمه، وكذلك الأرواث. ¬
قال أبو حنيفة (¬1) والشّافعيّ (¬2): الأبوال والأرواث كلّها نجسة، واستثنى الشّافعيّ في أحد قَوْلَيه بول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ونجوه فقال: إنّهما طاهران. قال الإمام: ودليلنا أنّهما طاهران: قولُه عليه السّلام: "ما أُكِلَ لَحْمُهُ فلا بأسَ ببولِهِ" (¬3)، ولأنّه -عليه السّلام - أباح للعُرَنِيِّينَ شرب أبوال الإبل (¬4)، وقوله: "ولا شِفَاءَ فيما حرَّمَ اللهُ" (¬5) ولأنّه - صلّى الله عليه وسلم - طاف بالبيت على بعير (¬6)، فدلّ أنَّ بوله غير نجس. وفي هذا الفصل فرعان: الأوَّلُ: أبوال ما يُؤكَل لحمه ممّا يأكل الجِيَّفَ وأرواثه نجسة. قال عبد الوهّاب: لأنّ استحالته لا تنقل النّجس إلى الطّهارة، وإنّما هي على أحد حُكمَين: إمّا أنّ ينقل الطّاهر إلى النّجس، وذلك ممّا لا يُؤكَل لحمه، أو ليبقيه على حاله فيما يُؤكَل لحمه. وإمّا أنّ يكسب النّجس إلى الطّهارة. الفرعُ الثّاني: في أبوال الظِّباءِ قولان: قال (¬7) في "المجموعة" (¬8): ليست من الأنعام وإنّما هي من الوحش، ولست أدري ما أبوالها. ¬
ورَوَى ابنُ القاسم (¬1) عنه؛ أنّه لا بأس بأبوال الظِّباءِ وما أشبهها، ولا أرى أنّ يُتَقَرَّبَ بشيءٍ منها، يعني في الهدايا والضّحايا. وأمّا ما كان في البَرَارِى ممّا يمشي على أربع مثل اليَرْبُوع وفأرة المِسكِ (¬2)، فقد قال أبو إسحاق (¬3): هي ميتة ويصلَّى بها. وتفسير ذلك عندي (¬4): أنّها كجُرْحٍ يحدثُ بالحيوان يجتمع فيه مِدَادٌ، ثمّ يستحيل مسْكًا، ومعنى كونها ميتة؛ أنّها يؤخذ منها في حال الحياة أو بذَكَاة من لا تصلح ذكاته من أهل الهند؛ لأنّهم ليسوا أهل كتاب، وإنّما حكم لها بالطّهارة لاستحالتها، كما يستحيل الدّم وسائر ما يتغذّى به الحيوان من النّجاسات. النوع الثّاني (¬5): هو ما ليس له نفس سائلة، كبنات وَرْدَان (¬6) والصّرار والخُنْفُسَاء والذُّباب والحشرات، فإنّ ذلك لا يَنْجُس بالموت. وقال الشّافعيّ: يَنْجُسُ بالموت (¬7). والمنصور (¬8) من هذه الأقوال قولُ مالكٌ أنّها لا تَنْجُس. ¬
تكملة: قولُه: "الطّهورُ ماؤه والحلُّ مَيتَتُه". اعلموا أنّه لم يرد في المصنَّفاتِ لفظة "الطَّهور" إلّا في "الموطَّأ" وفي "كتاب مسلم" فقط (¬1). فأما مالكٌ - رحمه الله - فإنّه ترجم به فقال (¬2): "الطّهور للوضوء" وكان من حقِّه وبيانه أنّ يقول: الماء الطّاهر للوضوء. وأما مسلم - رحمه الله - فإنّه ساق في كتاب الطهارة فقال: "الطّهورُ شَطرُ الإيمانِ ... " الحديث (¬3)، أعني بالألف؛ لأنّ البخاريّ قال أيضًا: "لا يقبلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طَهُورٍ" (¬4) وأمّا أنّ يذكر مصنِّفٌ الطَّهورَ بالألفِ واللّام فلا يوجد إلَّا في "الموطَّأ" وفي "كتاب مسلم" في قوله: "الطّهورُ شطرُ الإيمانِ". ويحتمل (¬5) ذلك وجهين: أحدهما: أنّ يكون المراد بقوله: "شَطرُ الإيمَانِ" أي أنّه ينتهي تضعيف الأجْر فيه إلى نصف أجر الإيمان من غير تضعيفٍ، وهذا كأحد التّأويلات في قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ قُل هوَ اللهُ أَحَد تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ" (¬6) كما بينّاه في باب "ذِكرِ الله والدّعاء". والوجهُ الثّاني: هو أنّ يكون "شَطرُ الإيمان" أنّ الإيمان يَجُبُّ ما قَبلَه من الآثام، وقد أخبرَ النبيُّ عليه السّلام أنّ الوضوءَ يُذهِبُ عن الإنسان الخطايا، إلَّا أنَّه قد قام الدّليل أنّ الوضوء لا يصحّ الانتفاع به إلَّا مع مُصَاقَبَةِ الإيمان له، فكأنّه لم يخصّ به ¬
رفع الإثم إلَّا مع شيء ثانٍ. ولَمّا كان الإيمانُ يَمحُو الآثامَ المتقدَّمة عليه بانفراده، صار الطّهور في التّشبيه كأنّه على شطرٍ منه. وفي الحديث أيضًا حُجّة على من يرى أنّ الوضوء لا يفتقرُ إلى نيةٍ، وهذه المسألة اختلف النّاس فيها على ثلاثة أقوال: 1 - القولُ الأولي: قال الأوزاعي وغيره: إنّ الوضوء والتّيمّم لا يفتقران إلى نيةٍ. 2 - وقال مالكٌ في المشهور عنه: إنّهما يفتقران إلى نية (¬1). 3 - وقال أبو حنيفة: أمّا التيمم فلا بدّ فيه من نية، وأمّا الوضوء فلا (¬2). والمنصور منها قول مالكٌ (¬3). حديث مالكٌ (¬4)، عن إسحاقَ بنِ عبد الله، عن حَمِيدَةَ بنتِ أبي عُبَيدَة بن فَرْوَةَ، عن خالتها كَبْشَةَ بنتِ كعْبِ بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قَتَادَة -؛ أنّها أخبرتها: أنّ أبا قتادةَ دخل عليها، فَسَكَبَتْ له وَضُوءًا، فجاءت هِرَّةٌ لِتَشربَ، فأَصْغَى لها الإناءَ حتّى شَرِبَتْ. قالت كَبشَةُ: فرآني أنظرُ إليه، فقال: أتَعْجَبِينَ يا ابنةَ أختي؟ قالت: نعم. فقال: إنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنّها ليست بِنَجسٍ، إنّما هي من الطوَافِينَ عليكمُ أو الطوَّافاتِ". تنبيه على وهم: قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه - (¬5): "هكذا رواهُ يحيى عن حَمِيدَة بنت أبي عُبَيدَة بن فَرْوَة، وهو غَلَطٌ لم يتابعه عليه أحد، وقال سائر رواة "المُوَطَّأ" (¬6): حُمَيدَة ¬
بنت عُبَيد بن رِفَاعَة، إلَّا أنّ ابنَ الْحُباب (¬1) قال فيه: مالكٌ عن حُمَيدَة بنت عُبَيد بن رافع، والصواب فيه: رِفَاعَة، وهو رِفَاعَة بن رافع الأنصاري (¬2) وانفرد يحيى بقوله: "عَنْ خَالَتِهَا" (¬3). واخْتُلِفَ في فتح الحاء من حَمِيدَة وضمّها، فبعضهم يقول: حَمِيدَة، وبعضهم يقول: حُمَيدَة وهم الأكثر. وحُمَيدَة أمَّ يحيى، وهي امرأة إسحاق بن عبد بن أبي طَلْحَة، ذكر ذلك يحيى القطّان (¬4) في هذا الحديث عن مالك (¬5) ". تأصيل (¬6): قوله: "إنّها ليست بِنَجَسِ، إنّما هي من الطَّوَّافِينَ عليكم أو الطَّوَّافاتِ" وقد روى الدارقطني (¬7)؛ أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه دُعِيَ إلى دار قومٍ فأجابَ، ودُعِيَ إلى دارٍ أخرى فلم يُجِبْ، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ في دار بني فلان -يعني الّتي لم يُجِبْ إليها- كَلْبًا. فقيل له: فما في دار بني فلان - يعني الدّار الّتي أجاب إليها؟ فقال: هِرٌّ، والْهرُّ سبْعٌ، يعني أنّها تَسْبَعُ المؤذياتِ للآدميِّين من الفأر والْخِشَاشِ والهوام. وقال في الحديث: "إنها من الطَّوَّافين عليكُم أو الطَّوَّافاتِ" فأشار عليه السّلام إلى أنّ الحاجة إليها أسقَطَت الاعتبارَ بها في نجاسة سُؤرِهَا، رفعَا للحرَجِ وتنبيهًا على أصل من أصول الفقه، وهو أنَّ كلَّ ما دَعَت الضّرورةُ إليه من المحظورِ، فإنّه ساقطُ الاعتبارِ على حَسَبِ الحاجةِ وبقَدْرِ الضّرورة. ¬
ذكر فوائد هذا الحديث: وهي ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى: في إصغاءِ الإناء لها طَلَبُ الأجرِ في ذي الْكَبِد الرَّطْبةِ. الفائدة الثّانية (¬1): فيه إباحةُ اتِّخاذِ الهرِّ للانتفاعِ به، ومعلومٌ أنّ ما جازَ الانتفاعُ به جازَ شراؤُه وبيعُه، إلّا ما خُصَّ بدليلٍ، وهو الكلبُ الّذي نُهِيَ عن ثمنهِ. الفائدة الثّالثة (¬2): فيه أنّ الهرَّ ليس يُنَجَّسُ ما شرِبَ منه، وأَنَّ سُؤرَهُ طاهرٌ، هذا قولُ مالكٍ والشّافعىِّ وأصحابه (¬3) وجماعة. قال الإمام الحافظ أبو بكر - رضي الله عنه (¬4) -: الابتداء بتمكينها من الماء؛ إشارة إلى أنّ طهارةَ سُؤرِها أصليةٌ، وأنّ ما يَعْرِضُ من حالتها المتوهّمة بأكلها النّجاسات ساقطة الاعتبارِ. وهذا إذا لم تر في فمها أذًى (¬5)، أو تمشي على عينك من النّجاسة إلى الماء؛ فإن ذلك لا يجوزُ حتّى تغيبَ عنك فتعودَ إلى أصلها الّذي حَكَمَ لها به النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -. حديث: أمّا حديث عَمْرو بن العاصي حِينَ ورد الْحَوْض (¬6)؛ فالكلامُ عليه كالكلام في سُؤر السِّباع. قوله (¬7): "إِنَّا نَرِدُ على السِّباعِ" يقتضي أنّ أسْآرَ السِّباع طاهرةٌ، وبه قال مالك (¬8) والشّافعيّ. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): هي نجسة، واستثنى سُؤر سباع الطَّير والهوام. مسألة (¬2): وحكَى ابنُ حبيب (¬3) أنَّ بعضَ العلماء كره أسآر الدّوابّ الّتي تأكل أرواثها. وحَكَى عن ابن القاسم أنّه قال: لا بأس بها ما لم يُرَ ذلك في أفواهها عند شربها (¬4). وأمّا الجلاّلة (¬5)، فلا يتوضَّأ بسُؤرها وليتيمَّم. وأمّا سُؤر الخنزير فيكره، وروى أبو زَيْد (¬6) في حياض الرِّيف ألاّ بأس بالوضوء منها وإن ولغت فيه الكلاب. وإن ولغت فيه الخنازير فلا يُتوضَّأ به ولا يشرب؛ لأنّه لا يجوز اتِّخاذها بوجهٍ ولا على حالِ. وقد حَكَى ابنُ القصّار (¬7) أنّ الخنزير طاهر في حال حياته، وهذا هو حقيقة المذهب، وغير ذلك محمول على الكراهية. والمقدار الّذي لا يكره استعماله (¬8) الحوض ونحوه. ¬
إكمال: قوله (¬1): "لَيسَت بِنَجسٍ" هذا لفظٌ ينفي نجاسة العين (¬2). وقال بعضُ العراقيين: سُؤر السِّباع طاهرٌ إلَّا الكلب والخنزير. قال القاضي أبو بكر بن العربي (¬3): وأمّا أسآرُ السِّباع إذا ورَدَت مياهَ الفَلَاةِ، فإنّها ساقطةُ الاعتبارِ أيضًا، لِعِلَّة أنّه لا يمكنُ الاحترازُ منها، وقد ثبت أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سئل عن المياه ترِدُ عليها السِّباعُ فقال: "لَهَا مَا حَمَلَت في بُطُونِهَا؟ ولنا ما بَقِيَ شرابًا وطَهورًا" (¬4)، ويُخالفُ هذا الدّوابّ الّتي تكون في البيوت، فإنّه يمكن الاحتراز منها وتدعو الحاجةُ إليها، ويُخَالِفُ سُؤرُ النّصرانىّ وشارب الخمر؛ لأنّ ذلك معصيةٌ لا رُخصَة فيها ولا اعتبارَ بها. ويتركَّبُ على هذا أسآر النِّساء، فإنّ جماعة منهم قالوا: لا يُتَوَضَّأ بسُؤر المرأة، منهم أحمد (¬5) وغيره. حديث مالكٌ (¬6)، عن نَافِعِ، عَنْ عَندِ اللهِ ننِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ في زَمَانِ رَسُولِ - صلّى الله عليه وسلم - لَيَتَوَضَّؤُونَ جَمِيعًا. قال الإمام الحافظ (¬7): ظاهر الحديث دليلٌ واضحٌ على إبطال قول من قال: لا يُتَوَضَّأ ¬
بفَضل المرأةِ. وقد ثبتَ في الصَّحيحِ (¬1) مخالطة الرِّجال والنّساء في الوضوء معهن وبما فضل عنهُنّ. والَّذي احتجّ به أحمد بن حنبل (¬2) في أنّه لا يُتَوَضَّأَ بفضل المرأة حديثٌ مُعَارضٌ لِمَا رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، إذ نَهَى أنّ يَتوضَّأ الرَّجل بفَضل المرأة (¬3)؛ لأنّه معلوم أنّهما إذا اغترفا جميعًا من إناء واحدٍ، كما جاء في الحديث من غير رواية مالكٌ (¬4)، رواه هِشَام (¬5) عن مالك كذلك. فكلّ واحدٍ منهما متوضِّئ، وقد صحّ حديث عائشة قالت: "كُنْتُ أَغتَسِلُ أَنَا وَرَسُول الله من إِنَاءٍ واحدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ تَختَلِفُ أَيدِينَا فِيهِ" (¬6). قال الإمام الحافظ: اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القولُ الأوّل: أحدها الكراهية، بأنْ يتطهْر الرَّجُل بفَضل طهر المرأة، وأن تتطهَّر المرأة بفَضْل طهره. القولُ الثّاني: أنّهما إذا شرعًا جميعًا في التَّطهُّر فلا بأس به، وإن خَلَتِ المرأةُ بالطّهور فلا خيرَ في أنّ يتطهّر هو بفضل طَهُور صاحبه شرعًا، جميعًا أو خلا كلّ واحد منهما. القولُ الثّالث: أنّه لا بأس أنّ يتطَهَّر كلّ واحدٍ منهما بفضل طَهُورِ صاحبه، ما لم يكن الرَّجُل جُنُبًا، أو المرأة حائضًا أو جُنُبًا، وهو قول ابن عمر (¬7). ¬
قال الإمام الحافظ: والَّذي عليه جمهور فقهاء الأمصار؛ أنّه لا بأس بفضل وضوء المرأة وسُؤْرها، حائضًا كانت أو جُنُبًا، خَلَت بالطّهور، أو شَرَعَا مَعًا، إلَّا ابنَ حنبل فإنّه قال: إذا خَلَت المرأةُ بالطّهورِ فلا يُتَوضَّاَ منه الرّجل (¬1). إنّما الّذي رخّص فيه أنّ يتوضأَ جميعًا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: قد ثبت في الصّحيح مخالطةُ الرِّجال والنّساء، والوضوء معهنّ وبما يفضل عنهنّ، وليس من جملة نْواقض الوضوء ذلك (¬2). ¬
باب ما لا يجب منه الوضوء
باب ما لا يجبُ منه الوضوء مالكٌ (¬1)، عن محمد بنِ عُمَارَةَ، عَنْ محمدِ بْنِ إبراهيمَ، عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لإبراهيم، عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ؛ أنّها سألت أمَّ سَلَمَة زوجَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت: إِنِّي امْرَاَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي، وَأَمْشِي في الْمَكَانِ الْقَذِرِ. قَالَث أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ ". غايةٌ وإيضاحٌ: اختلف العلماء في طهارة الذّيل على المعنى المذكور في هذا الحديث على أربعة أقوال (¬2): القولُ الأوّل: قال مالكٌ (¬3): معناه في القَشْبِ اليابس، والقَذَر الجافِّ الّذى لا يتعلّق منه بالثّوب شيءٌ، فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة يُطَهِّر الثّوب، وهذا عنده ليس بتطهيرٍ للنّجاسة؛ لأنّ النّجاسة عنده لا تطهير إلَّا بالغسل بالماء. القولُ الثّاني: قال الأَثرَم (¬4): سمعت ابن حنبل يُسأَلُ عن حديث أم سَلَمَة: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ" فقال: ليس هذا عندي على أنّه أصابه بول فمرّ بعدَهُ على أرض فطهَّرهُ، ولكنه يمرُّ بالمكانِ يتقذّره، فيمرّ بمكان أطيب منه فيطهِّرهُ. القول الثّالث: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: كلّ ما أزال عين النّجاسة فهو طاهر، ¬
والماء وغيره في ذلك سواء. وقالوا: لو زالت بالشّمس أو بغيرها حتّى لا يُدْرَك عينها ولا يُرَى ولا يُعْلَم موضعُها، نذلك تطهيرٌ لها. وهذا قول داود وأصحابه (¬1). القولُ الرَّابع: أنّ الماء يطهِّر ذلك، ولا يكون الحديث على ظاهره لما فيه من رأي العين. فقه: سئل مالكٌ (¬2): هل في الْقَيءِ وُضُوءٌ؟ الحديث. (¬3) قال الإمام الحافظ (¬4): لا يخلو أنّ يكون القَيءُ مغيّرًا أو غير مغيّر، فإن كان غير مغير فغسلُ الْفَم منه على الاستحباب لإزالة رائحته، كان كان مغيّرًا فهو نجسٌ وغسلُ الفمِ منه واجبٌ. ومذهب أبي حنيفة (¬5) إذا ملأ الفم البَلْغَم. وقال أبو يوسف: وفي البَلْغَم الوضوء إذا ملأ الفم. وقال الأوزاعيّ: لا وضوءَ فيما يخرج من الْجَوْفِ إلى الفم من الماء والْمِرَّة، إلَّا الطعام فإن في قليله الوضوء (¬6)، وهو قول ابن شهاب؛ أنّ في الْقَيءِ الوضوء (¬7). ¬
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: من أوجب الوضوء منه، فبحديث ثَوْبَانَ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قاء فأفطر، قال: وأنَا صببتُ له وَضُوءَهُ (¬1). قال بعض المُحَدِّثين (¬2): هذا حديث لا يثبت عند أهل العلم (¬3)، ولا في معناه ما يُوجِب حُكمًا؛ لأنّه يحتمل أنّ يكون غسل فمه ومضمضه، وهذا أصل لفظ الوضوء. حديث مالكٌ (¬4)، عن نافع؛ أنّ ابنَ عمر حَنَّطَ ابْنًا لسعيدِ بنِ زيدٍ، وحَمَلَهُ ثمّ دخلَ المسجدَ، وصلّى ولم يتوضّأ. تنبيةٌ على مقصدٍ (¬5): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: إنّما أدخل مالكٌ هذا الحديث إنكارًا لما رُويَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنْ غَسَّلَ ميِّتًا فَلْيَغتَسِل، ومن حَملَهُ فليتوضَّأْ" (¬6) وهذا حديثٌ يرويه ابنُ أبي ذئبٍ (¬7). قال الإمام: معناه -والله أعلم- أنّه من حمل ميِّتًا فليكُن على وضوء، لئلّا تفوته الصّلاة عليه، وهو قد حَمَلَه وشيَّعَه، لا أنَّ حمله حدَثٌ يُوجِب الوضوء. هذا تأويلُه والله أعلم. ¬
باب الوضوء مما مست النار
باب الوضوء ممّا مسَّت النّار قال الإمام - رضي الله عنه -: في هذا الباب للعلماء جملة كلام يفتقر إلى مزيد بيان. كشفٌ وإيضاحٌ (¬1): وقد جاء مالكٌ - رحمه الله - بأصلٍ بديعٍ فقال (¬2): "تركُ الوضوء ممّا مسَّتِ النّار"، ثمّ أدخل اختلاف الأحاديث، ثمّ أدخل عمل الخلفاء بترك الوضوء ممّا مسّت النّار (¬3)، وهي مسألةٌ من أصول الفقه؛ إذا اختلفتِ الأحاديث عن النّبيِّ صلّى الله عليه، فما عمل به الخلفاء أرجح (¬4). مزيد بيان (¬5): وأمّا اختلاف الأحاديث، فإنّ مالكًا - رحمه الله - أشبع هذا الباب وقوَّاهُ لشدَّةِ الاختلاف بين السَّلَف بالمدينة وغيرها، فذكر فيه حديثَيْن مُسْنَدَين: حديث ابن عبّاس هذا (¬6)، وحديث سُوَيد (¬7)؛ أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه أكل السَّوِيقَ ولم يزد على أنّ تمضمضَ وصلّى، وحديثًا ¬
مُرسَلًا أيضًا، وهو: مالكٌ (¬1)، عن محمد بن الْمُنْكَدِر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - دُعِيَ لطعام ... ، وذُكِرَ عن أبي بكر (¬2) وعمر (¬3) وعليّ (¬4) وابن عبّاس (¬5) وعامر بن ربيعة (¬6) وأبي طلحة (¬7)؛ أنّهم كانوا لا يرون الوضوءَ على من أكل شيئًا مما مسّته النّار. قال الشّيخ أبو عمر (¬8):"ودلَّ ذلك من فعل مالكٌ على عِلْمِهِ باختلاف الآثار الْمُسْنَدَةِ في هذا الباب، فأَعلَمَ النّاظرَ في "موطّئه" أنّ عملَ الخلفاء بترك الوضوء ممّا مسّت النّار دليلٌ على أنّه منسوخٌ، وأنّ الآثار الواردة بالوضوء ممَّا مسّت النّار ناسخةٌ للآثار المرويّة (¬9). وقد جاء هذا المعنى عن مالك أيضًا، روى محمد بن الحسن (¬10)؛ أنّه سمع مالكًا يقول: إذا جاء عن النّبيِّ حديثان مختلفان وبلغَنا أنّ أبا بكر وعمر عمِلَا بأحدهما وتركا الآخر، كان في ذلك دلالة أنّ الحقَّ فيما عملاَ به". تكملة (¬11): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: أمّا روي عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قُرِّبَ إليه خُبْرٌ ولحمٌ، فأكل منه ثمّ توضّأ وصلّى (¬12)، فقضيةُ عَينٍ وحكايةُ حالٍ ونَقْلُ صُورَةٍ، لم يكُنِ ¬
الوضوءُ من الأكل، وإنّما كان الوضوءُ من سَبَبِهِ الواجب لأجل الصّلاة. وقد أنكر أُبَيُّ بنُ كعب وأبو طلحةَ على أنَس مسألتَهُ الّتي جاء بها من سَفَرِه؛ وهي الوضوءُ مما مَسَّتِ النّارُ، فندَمَ أنسٌ ورجَعَ عن قوله (¬1). والمسألةُ اليومَ ساقطة الاعتبار؛ لإجماع علماء الأمصار عليها (¬2)، وإنّما خَصَّ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لحومَ الإبلِ بذكر الوضوء في الحديث؛ للإشارة إلى غِلَظِها وزُهُومتِها (¬3)، والصّلاةُ ينبغي أنّ تكون على أكمل نظافةٍ؛ ولأجل ذلك شُرِعَت فيها الطّهارةُ. وأمّا مذهبُ (¬4) ابن شهابٍ، فلا نقولُ به، كان يتوضأ ممّا مسَّتِ النّار، وقد قيل له: إنّ الوضوءَ مما مسَّتِ النّار كان في أوّل الإسلام ثمّ نُسِخَ، فقال: أعيا الفقهاء أنّ يعرفوا النّاسخ من المنسوخ من حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وقال: لو كان منسوخًا لما خَفِيَ على أمَّ المؤمنين (¬5). وقد قال بعضُ من تكلّم في شرح غريب الحديث؛ إنّ قولَهُ: "توضّأ ممّا مسَّتِ "النّار" (¬6) إنّما أراد به غسل اليد، قال: لأنّ الوضوء مأخوذ من الْوَضَاءَةِ وهي النّظافة، فكأنّه قال: نَظَّفُوا أيديكم ممّا مسَّتِ (5) النّار، ومن دَسَمِ ما مسَّت النّار. ¬
جامع الوضوء
قال الإمام الحافظ (¬1): وهذا لا معنى له؛ لأنّه لو كان كما قال، لكان دَسَم ما لم تُغيَّره لا يتنظّف منه ولا تُغسَل منه اليد، وهذا يدلّ على ضعف تأويله. والمسألةُ (¬2) اليوم عند فقهاء الأمصار ساقطة الاعتبار. جامع الوضوء فيه للعلماء ثلاثة فصول: الفصلُ الأوّل (¬3) في الترجمة قال الإمام أبو بكر - رحمه الله -: ترجم مالكٌ - رحمه الله - ونَبَّه على إزالة النّجاسة بالوضوء نَفْيًا، فقال (¬4): ما لا يجبُ منه الْوُضوءُ، وإثباتًا أيضًا، فقال (¬5): جامِعُ الوضوء. الفصل الثّاني في الإسناد مالكٌ (¬6)، عن هشام بنِ عُرْوَة، عن أبيهِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - سُئل عن الاستطابةِ، فقال: أَوَ لا يجدُ أحدُكُم ثلاثةَ أحجارٍ. الحديث. هكذا (¬7) وقع هذا الحديث في "الموطَّأ" عند جماعة الرُّواة (¬8)، إلَّا ابن القاسم في رواية سحنون، رواها عن مالكٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي هريرة. ¬
وكذلك في رواية عن ابن بُكيْر (¬1) عن مالكٌ. وذلك خطأٌ وغَلطٌ ممَّن رواه عن مالكٌ هكذا، أو عن هشام أيضًا، أو غيره. وأمّا الاختلاف فيه عن هشام بن عُرْوَة؛ فطائفة ترويه عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خُزَيمَة المدني (¬2)، عن عُمَارة بن خُزَيمَة بن ثابت الأنصاريّ، عن أبيه؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ... الحديث (¬3)، ورواه الحُمَيدِيّ (¬4) عن ابن عُيَينَة، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن النّبيِّ مُرْسَلًا كما رواه مالكٌ، وكذلك رواه ابن جُرَيج مُرْسَلًا. إيضاح مشكل: قولُه: "الاستطابة" وهي الطَّيب والتَّنَظُّف وإزالةُ الأذى عن المَخْرَجِ بالأحجار أو بالماء. واختلف أصحاب مالكٌ - رحمه الله - في حُكمِها على أربعة أقوال (¬5): القول الأوّل - قال أشهَبُ: إزالتها مستحبّةٌ. القول الثّاني - قال ابنُ القاسم: هي واجبةٌ مع الذِّكر، ساقطةٌ مع النِّسيان. القول الثّالث - قال ابنُ وهْبٍ: هي فرضٌ في كلِّ حالٍ، وبه قال الشّافعيُّ (¬6). ¬
القول الرّابع - قال أبو حنيفةَ (¬1): هي لازمةٌ يَلْزَمُ إزالتها إذا كانت مجتمعةٌ في موضع واحد على قَدْر الدِّرْهَم، وإنّما سمح في هذا المقدار منها قياسًا على المَخْرَجِ، فإنّ الشّرعَ يسمَحُ فيما بقيَ من أثر النّجاسة عليه بعد الاستنجاء، فقاس هذا عليه. مزيد إيضاح (¬2): قولُه: "وَسُئِلَ عن الاسْتِطَابَةِ" يعني استعمالَ الطِّيب، وهو إزالةُ الأقذار والأنجاس. وقيلَ: هو استعمالُ الماء فإنّه أطيبُ الطِّيبُ؛ لأنّ كلَّ طَيِّبٍ يعودُ قَذَرًا في آخرِ الأمر ويزول بالماء. والماءُ طَيِّبٌ أبدًا لا استحالةَ فيه، وهو من فروض الشريعة ومحاسن المِلَّة، وأوَّلُ كلمة سمِعَها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من ربَّه، قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬3) ولا يُلتفَتُ إلى تأويل فيها لا تعضُدُه لغةٌ، ولا تشهد له شريعةٌ، وبذلك كانت العربُ تمدحُ، ولذلك قال الشّاعر شاعرهم الأوّل (¬4): ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَاَرى نَقِيَّةٌ ... وأوْجُهُهُمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانُ نكتة لغوية: تقولُ العربُ: استطاب الرَّجُل وأطاب إذا استنجى بالماء، ويقال: رَجلٌ مُطِيبٌ، إذا فعل ذلك. والاستطابة والاستنجاء والاستجمار أسماء لمعنى واحد (¬5). وقد كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يتطيَّب بالماء، وقال: "الاستنجاءُ بالماءِ أمانٌ من الناسور" (¬6)، ويُرْوَى بالباء والنّون. ¬
كشف وإيضاح (¬1): قال (¬2): وهي واجبةٌ من طريق الأَوْلَى، فإنّ الله إذا أَوْجَبَ الوضوءَ في الأعضاء لزوال الدِّرَنِ الظّاهر، فَأَوْلَى وأَخرَى أنّ يُوجِبَ إزالةَ النّجاسة، وقد أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بغَسْلِ الدَّم بالماء، وفي الصّحيح: "اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغسِلِيهِ" (¬3)، ثمَّ أمر النّبيُّ عليه السّلام بالتَّنَرُّهِ من البَوْلِ، ثمّ قال: "إنَّ عامَّةَ عَذَابِ القبرِ منهُ" (¬4). وقال في الصّحيح وقد سمع عذاب رجل يُعذَّب في قبره، فقال: "كانَ هذا لا يَسْتَتِر من البَوْلِ" (¬5). وكان مَنْ مضَى من الأُمَمِ قبلَنا إذا أصابَ ثَوْبَ أحدِهِم البَوْلُ قَرَضَهُ بالمقراضِ، وسمَحَ اللهُ لنا فأعطانا الطّهارة بالماء. لكن خفَّفَ اللهُ تعالى في الاستنجاء لإزالة النَّجْو بالجِمَارِ، ولا يضُرُّهُ أثَرُهُ مع عَدَمِ الماءِ اتِّفاقًا. فإن وُجِدَ الماءُ، فقال ابنُ حبيبٍ: لا يجوزُ الاستنجاءُ إلَّا بالماء (¬6)، وهي زلَّةٌ، فإنّه إنّما شُرِعَ والماءُ موجودٌ، واستحبَّتِ الشريعةُ الجمعَ بين الاستجمارِ والماء، وَمَدَحَ به أهلَ قُباءٍ، فقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} الآية (¬7) ¬
الفصل الثالث في فقه هذا الحديث والفواند المنثورة فيه
الفصلُ الثّالث في فقه هذا الحديث والفواند المنثورة فيه وهي ثلاث: الفائدة الأولى (¬1): قوله: "الاسْتِطَابَة" وهي: الاستجمار بالأحجار، وإنّما نصَّ على الأحجار لأنَّه أكثر ما يُستعمَل في الاستطابة، ورَوَى ابنُ عبد الحكَم عن مالكٌ؛ - أنّه كان يستحبُّ الاستطابة بها. (¬2) مسألة: فإن استجمرَ بالْعُشب وما في معناه جازَ، خلافًا لزُفَر، فإنّه قال: لا يجوزُ شيءٌ من ذلك. مسألة: وأمّا الاستجمار بالعَظْمِ أو الرَّوْثَة أو الْحَمْأَة (¬3)، فَرَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ النَّهي عن ذلك. (¬4) ورَوَى عنه أشهب أنّه قال: ما سَمِعتُ في العَظمِ بنَهْىٍ، وأمّا أنا فلا أرى به بأسًا. ومنع الاستجمار بما كان نجسًا أو مكروهًا، وبكلِّ شيء مأكولٍ، فإن فعل، قال الأَبْهَرِيُّ: لا أعرفُ فيه نَصًّا لمالك ولا لأحدٍ من أصحابه، وعندي أنّه قد أساءَ ولا شيءَ عليه، كمن استجمر بيمينه (¬5). ¬
وقال أَصْبَغُ: يُعِيدُ في وقتِ الصّلاة المفروضة. (¬1) قال الإمام (¬2): وقد رأيتُ عبد الوهّاب يشترطُ الطّهارة فيما يُستَجْمَر به. الفائدة الثّانية (¬3): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أوَ لاَ يجدُ أحدُكُم ثلاثةَ أحجار" الحديث (¬4)، اختلف العلماء -رضوان الله عليهم- في اعتبار العدد. فذهب مالكٌ - رحمه الله - إلى الاعتبار بالإنقاء دون العدد، وبه قال أبو حنيفة (¬5). وقال أبو الفَرَج (¬6) وابنُ شعبان (¬7): الاعتبار بالعدد مع الإنقاء (*)، وبه قال الشّافعيّ (¬8). تنقيح: فوَجْهُ قول مالكٌ - رحمه الله - ودليلُه: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "وَمَنِ اسْتَجمَرَ فَلْيُوتِر" (¬9) والْوِتْرُ يكون واحدًا، وهو أقلّ من الثّلاثة الأحجار. ومن جهة المعنى: أنّ هذه إزالة نجاسة، فلم يعتبر فيها العدد. ¬
وأمّا وجه قول أبي الفَرَج وابن شعبان وقول من قال (¬1): لا يجزيه (¬2) حَجَر له ثلاثة حروف، وحكمه حكم الحجر الواحد، خلافًا للشّافعىّ في قوله يجزئ. وإن قلنا بقول مالكٌ، ووقع الإنقاء بأقلّ من ثلاثة أحجار، فإنّه يُسْتَحَبَّ أنّ يكمِل ثلاثة أحجار ليخرج من الخلاف. وإن قلنا بقول أبي الفَرَج، فيعضده ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في حديث سلمان: نهانا أنّ نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار (¬3). مزيد بيان: قال (¬4): وصِفَةُ الاستجمار: أنّ يبدأ بمَخرَجِ البَوْلِ فيمسحه، والبدأ به أفضل، لئلّا يقطر على يده منه شيءٌ، ثمّ يمسح مخرج الغائط، وصِفَةُ ذلك- على قول أكثر العلماء-: أنّ يعمَّ بكلِّ حجر موضع النَّجْوِ (¬5). مسألة: ومن استجمر، فلبس ثوبًا، فعَرِقَ فيه، فأصاب موضع الاستجمار، فقد قال ابنُ القصّار: ينجّسه. وعندي؛ أنّه لا يَنْجُس بعد الانقاء، وهو مما لا يمكن الاحتراز منه، وتلحق به المشقة كموضع النَّجْوِ. مسألة: ¬
ومن نسي الاستجمار وصلَّى، فقد روُيَ عن أشهب عن مالكٌ؛ أنّه قال: أرجو ألاّ تكون عليه إعادة. وقال ابن مَسْلَمَة (¬1) في "المبسوط": من تَغَوَّطَ أو بال فلم يغسله ولم يمسحه حتّى صلّى، فإنّه يعيد في الوقت؛ لأنّه كسائر الجسد، إلَّا أنّه يجزئ فيه المسح ولا يجزئ في الجسد. تكملة (¬2): قال الإمام أبو بكر: وفائدةُ تخصيصه: بثلاثة أحجار بالذِّكر؛ لأنّه كان يحبُّ الْوِتْرَ في جميعِ أفعاله، ولأنّها كافية في الأغلب: حجران للصَّفحتين وحجر للسّوأة، والله أعلم. خرَّجَهُ الدّارقطني (¬3). حديث مالكٌ (¬4)، عن العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - خرجَ إلى المقبرة الحديث إلى آخره. فيه من الفوائد سبع عشرة فائدة: الفائدة الأولى: قوله: "خَرَجَ إِلَى المقبَرَةِ" يقتضي إباحة زيارة القبور، وهذا مجتمعٌ عليه للرِّجال، مختَلَفٌ فيه للنِّساء. ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "كنت نهيتُكُم عن زيارة القبور فزُورُوها" ¬
الحديث (¬1). وقد ثبت عنه أنّه زار قبر أُمِّهِ آمنة في ألف مَقنَعٍ يوم الفَتحِ (¬2)، وزار ابنُ عمر قبرَ أخيه عاصم (¬3). قال الشّيخُ -أيّده الله-: هذه حُجَّة من رأى زيارة القبور. وأمّا من كره ذلك للنِّساء، احتجّ بحديث ابن عبّاس؛ قال: "لعنَ رسولُ الله زوّارات القبور والمتَّخِذِينَ عليها المساجد والسُّرُج" (¬4). ومن العلماء من قال (¬5): هذا منسوخٌ بقوله: "زُوروا القبورَ فإنّها تُذَكِّرُكُم الآخرة" (¬6) وبقوله: "السّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنينَ، وإنّا إنّ شاءَ اللهُ بكم لاحِقُونَ" (¬7)، ورُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه دخل البقيع فقال: "السّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنينَ، أنتم لنا فَرَطٌ ونحن لكم تبعٌ، اللَّهمَّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تَفْتنّا بعدهم" (¬8) وفي بعضها: "اسأل الله لنا ولكم العافية" (¬9). ورُوي عن أبي هريرة أنّه قال: من دخل المقابر فاستغفر الله لأهل القبور، فقال: اللهم رَبَّ هذه الأجساد البالية، والعظام النّخرة، خرجت من الدُّنيا وهي مؤمنة، فَأدْخِلْ عليها روْحًا وسلامًا، كانت له بعددهم حسنات (¬10). ¬
وقد رُوي عنه أنّه قال: "السّلامُ عليكم أهلَ الدِّيارِ من المؤمنين والمؤمنات ... " الحديث (¬1). ومن حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما من أَحَدٍ يمرُّ بقبرِ أخيه المؤمن كان يعرفه في دار الدّنيا فسلَّم عليه إلَّا عرفه وردّ عليه السّلام" (¬2). الفائدة الثّانية: قوله (¬3): "خرجّ إلى المقبرة" يحتمل أنّ يكون اتِّفَاقًا، ويحتمل أنّ يكون اعتبارًا، ويحتمل أنّ يكون بوحي للتَّرَحُّمِ. الفائدة الثّالثة (¬4): قوله: "السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنينَ" يريد يا أهل دار قوم مؤمنين، كما قال عزَّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5) يريد أهل القرية. الفائدة الرّابعة (¬6): فيه: أنَّ من دخل المقبرة فينبغي له أنّ يسلِّم عند دخوله. يقال: مقبَرة بفتح الباء وضمّها. وقال مالكٌ - رحمه الله -: وهي السُّنَّة لكلِّ من دخل المقبرة أنّ يقول مثل قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهي السُّنَّة في كلِّ مارٍّ بمقبرةٍ. ¬
وقد رُوِيَ أنَّ رجُلًا دخل عليه فقال: عليك السّلام، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "هي تَحِيَّةُ المَيِّتِ" (¬1). فقيل: أشار به إلى التَّأبين كقوله (¬2): عَلَيْكَ سَلاَمُ اللهِ قَيْسَ بنَ عَاصِمٍ ... وَرَحمَتُهُ مَا شَاءَ أنّ يَتَرَحَّمَا وكقوله (¬3): عَلَيكَ سلامٌ من أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللهِ في ذَاكَ الأَدِيمِ المُمَزَّقِ وقيل: هو منسوخٌ بهذا الحديث، وهو أصحّ منه. الفائدة الخامسة (¬4): في قوله -عليه السّلام-: "دَارَ قومٍ مؤمنينَ" كَنَى بالدّار عن العَمَرَةِ لها، وذلك كثيرٌ في فصاحة العرب، تُعَبِّرُ بالمنزل عن أهله (¬5). وقوله: "مؤمنين" حَكمَ لهم عليه السّلام بالإيمان، إمَّا لما عَلِمَ من حالهم وكُشِفَ له عن غيبهم، وإمّا بظاهر الحال الّذي فارقُوة عليها، والحُكْمُ بظاهر الحال في الإيمان واجبٌ؛ من مَوْتٍ بشهادةٍ، أو التّكلُّمِ بكلمةِ التّوحيدِ عند المَنيَّةِ، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم -: "أنا شَهِيدٌ على هؤلاءِ" (¬6). الفائدة السّادسة (¬7): قوله: "وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكُم لاحقونَ" اختلف تأويل الشّارحين للحديث في هذا الاستثناء على خمسة أقوال: ¬
القولُ الأوّل - قال قوم: معناه: إذا شاء الله، وليتهَم لم يُخْلَقُوا ولم يتكلَّمُوا به. القولُ الثّاني - قيل: معناه القطعُ في الشّيء الواجب، والتّأَدُّب أيضًا بآداب الله حين قال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1)، فاستعمل الأدبَ حتّى في الواجب الّذي لابدَّ منه، وهذا هو أحسن التّأويلات. القولُ الثّالث - قيل: معناه وإنّا إنّ شاء الله بكم لاحقونَ في هذه البُقْعَة، يعني المدينةَ. وقيل -وهو القول الرّابع- قوله: "وإنا إنّ شاء الله بكم لاحقون" على الإيمان، ويعود ذلك إلى النّبيّ صلّى الله عليه وأصحابه معًا، إذ قد علمنا منه - صلّى الله عليه وسلم - خاصًّا مطلقًا موته على الإيمان وحُسْن الخاتمة له. القول الخامس (¬2) - قلنا: الاستثناء في لسان العرب في الشَّيءِ الواجبِ جائزٌ. وقال أحمد بن حنبل: في هذا الحديث حجَّة الاستثناء في الشيء الواجب (¬3)، مثل قوله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} الآية (¬4)، واحتجّ بهذا الحديث في قول عَلْقَمَة: "مؤمن إنّ شَاء اللهُ" (¬5). الفائدة السّابعة: احتجَّ بعضُ علمائنا بهذا الحديث بأنَّ الأرواح على أفنية الْقُبور (¬6). وقال قوم: كانت الأرواح وَقتَ سَلاَمِهِ في قُبورها، أو على أفنية قُبورها (¬7). وقال بعض العلماء: يحتمل أنّ يسمعوه حيث ما كانوا، واللهُ أعلم (¬8). ¬
وقيل: هذا خصوصٌ للنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ويدلُّ عليه حديث الْقَلِيب يوم بَدْر، فقال: "يا فلان ويا فلان، هل وَجَدْتُم ما وعَدَ ربّكُم حقًّا"، حتّى قال عمر: يا رسولَ الله، كيف تُكَلَّمُ أجسادًا لا أرواحَ فيها؟ فقال: "ما أنتم بأسْمَعَ منهم، غيرَ أنّهم لا يستطيعون أنّ يردّوها" (¬1). وقال بعضُ العلماء: هذا خصوصٌ للنَّبىِّ صلّى الله عليه، وهذا يدلُّ على أنّ الأرواح هي المخاطَبَة، كما خاطب هنا أهل القبور لا الأجساد. الفائدة الثّامنة: في قوله -عليه السّلام- (¬2): "وددت أني قد رأيتُ إخواننا" قال (¬3): تمنَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ما لا يكونُ، والتَّمَنِّي هو تعلُّق الإرادة بما في المستقبَلِ، والأسفُ تعلُّق الإرادة بالماضي. والتَّمَنِّي لا يجوزُ إلّا في أمور الدَّين. وقولُه (¬4): "وددتُ أني قد رأيتُ" الحديث، تَمَنٍّ منه، وقد علِمَ أنّه لا يراهم إلَّا بعد الموت، وقد قال -عليه السّلام-: "لا يَتَمَنَّينَ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ" (¬5) وإنّما معنى ذلك ألّا يتعلّق التَّمَنِّي بالموت، وقد بيَّنَّا ذلك وشرحناه في "كتاب التَّمَنِّي (¬6) ". وفيه أيضًا: تشريفُ شَرَف هذه الأمَّة بتَمَنِّي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يراها، فنحن أوْلَى أنّ نكون لرؤيته أشدَّ تمنِّيًا وأكثر تَطَلُّعًا. ¬
الفائدة التّاسعة (¬1): قوله: "إخواننا" هو بيان لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2) قالت له الصّحابة (¬3): أَلَسنَا بإخْوَانِكَ؟ قال لهم: "بَلْ أنتُمْ أصحابِي"، فأعطاهم اسْمًا هو أخصُّ من الأُخُوَّةِ وأشرَفُ منه. والأسماءُ ثلاثةٌ: صحابىٌّ، وتابعىٌّ، ومؤمنٌ، ولكلِّ اسمٍ مرتبةٌ شرحناها في "كتاب الزّهد" (¬4) عند ذكر مراتب الخَلْقِ. وفي قوله: "وَدِدْتُ أنِّي قد رأيتُ إخوانَنَا" دليلٌ على أنّ أهل الدِّين والإيمان والعِلْم والفضل إخوانه (¬5). وأمّا (¬6) قوله: "وإخوانُنَا الّذينَ لم يَأتُوا بَعْدُ" رُويَ عن أبي عمرة (2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سُئِلَ فقيل له: يا رسولَ الله، أرأيتَ من آمَنَ بك ولم يَرَك، وصَدَّقَكَ ولم يرك؟ قال: "أولئكَ إخواني، أولئك مَعِي، طُوبَى لمن آمَنَ بي ولم يرني" (¬7)، ورُوِيَ أنّه قال ذلك سبع مرات (¬8). وعنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أعظمُ النّاسِ إيمانًا قومٌ يُؤمِنُون بي ولم يروني، أولئك هم إخواني حقَّا" (¬9). ¬
وخرَّجَ مسلم حديثًا صحيحًا عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدُ النَّاسِ حُبًّا لِي أُنَاسًا يكونونَ بعدي يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رآني لقاسَمَنِي في مَالِهِ وأهْلِهِ". خرجه مسلم في "كتابة" (¬1). الفائدة العاشرة: قولُه: "بَل أَنتُم أصحَابِي" فسمّاهم باسمٍ هو أفضل من الأخُوَّةِ، وهم مع ذلك إخوانه. وقد رُوِيَ في حديث أنّه ذَكَر مَنْ يأتي بعدَهُ، فقال: "للعامل منهم أجر خمسين منكم"، قالوا: بل منهم. قال: "بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون هم عليه أعوانًا" (¬2). قال الإمام: فإن كان هذا الحديث صحيحًا، لهم على قلَّة ما يجدون من الخير أجر خمسين لو لم تكن للصّحابة صُحْبَة، ولكن للصّحابة فضل الصُّحبة لا يعدله شيءٌ، وهذا على التّفضيل والخصوص. وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية (¬3) وإنّما كانوا كذلك لما وصفهم الله أنّهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فَمَنْ فعلَ فعلهم فهو منهم. وقوله: "خير النَّاسِ قَرْنِي" (¬4) أي خيرُ النَّاس في قرني؛ لأنّ هذا الكلام ليس على عمومه؛ لقوله -عليه السّلام-: "أُمَّتِي كالْمَطَرِ لا يُدْرى أوَّلُه خيرٌ أم آخِرُهُ" (¬5). قيل: إنّ هذا الحديث يقضي على الأوّل؛ لأنّ قرْنَهُ قد كان فيه الزِّنا والسَّرقة وغير ذلك، فليس هو على عمومه. وقال علماؤنا: يحتمل أنّ يكون خاطبَ بذلك أصحابه وهو يريد من يأتي بعدَهُم، ¬
كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الآية (¬1)، فكان الخطاب للنبي - صلّى الله عليه وسلم - والمراد به غيره. وكقوله: "كيف بكم إذا نزلَ فيكُم عيسى بن مريم حكمًا مُقْسِطًا ... " الحديث (¬2)، فخاطبهم وهو يريد بذلك آخر الأمّة. الفائدة الحادية عشر: في قوله (¬3): كيفَ تعرِفُ من يأتي بعدَكَ من أُمَّتِكَ؟ قال: "أَرَأَيتَ لو كان لرَجُلٍ خَيلٌ غُرُّ مُحَجَّلَةٌ في خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألَا يعرِفُ خيْلَهُ؟ ... " الحديث. قال الإمام الحافظ: أمّا قولُه: "دُهْمٌ بُهْمٌ" قال الهرويّ (¬4):"في حديث النّبيّ: "يحشر النّاس يوم القيامة عُراةً حُفَاةً بُهْمًا" (¬5) الْبُهْمُ واحدُها بهيمٌ، وهو الّذي لا يخالطُ لونَهُ لونٌ سواه". وقال الهروي (¬6) في قوله: "بَيْنَ ظَهري خيل بُهْم دُهْم" (¬7) هذا مطابق لقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} (¬8) قال (¬9): والدَّهْمَةُ عند العرب السّواد. ¬
وقال مجاهِد في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {مُدْهَامَّتَانِ} أي: مُسْوَدَّتان (¬1). قال الإمام الحافظ: وفيه فائدتان: 1 - الفائدة الأولى: فيه تشبيه الرَّجُل الكريم بالخيل، كما شبه الرّجُل اللئيم بالحمار. 2 - الفائدة الثّانية: فيه أنَّ الأَغَرَّ من الخيل أشرف من البهيم. الفائدة الثّانية عشر: في قوله (¬2): "فإنَّهُم يأتونَ يومَ القيامة غُرَّا مُحَجَّلِينَ من الوُضوء". قال علماؤنا: الوضوءُ مخصوصٌ بهذه الأمّة بنصِّ الحديث. وقيل: هو أيضًا لسائر الأُمَم، لكن خُصَّتْ هذه الأمَّةُ بتبلُّجِ نورهِ عليهم؛ ليتميَّزُوا لنَبيِّهم - صلّى الله عليه وسلم - في عَرَصَاتِ الموقفِ. وقوله: "غُرًّا مُحَجَّلِينَ من أَثرِ الوُضُوء" قد استوفَى - صلّى الله عليه وسلم - في قوله: "غُرًّا مُحَجَّلِينَ" جميع أعضاء الوضوء؛ لأنَّ الغُرَّة بياضٌ في جبهة الفَرَسِ، والتّحجيلَ بياضٌ في يَدَيه ورِجْلَيه، فاستعار للنّور الّذي يكون بأعضاء الوضوء يوم القيامة اسم الغُرَّة والتَّحجيل على جهة التَّشبيهِ (¬3). وقال الهرويّ: الغُرَّة: البياض الّذي في جبهة الخليقة (¬4). ¬
الفائدة الثّالثة عشر: قوله (¬1): "وأنَا فَرَطُهُمْ على الْحَوْضِ". قال الإمام: فالْفَرَطُ (¬2) والْفَارِطُ هو متقدِّمُ القوم إلى أيِّ شيءٍ أرادوا، والْفَرَط أيضًا ما أصيب به الرَّجُل من وَلَدِه وحميمه (¬3)، فكأنّه يتقدّمُهم إلى الحوض، فالفَرَطُ: المتقدِّم على أي حالٍ كانَ، فكأنَّه هو عند حَوْضِهِ ينتظرهم حتّى يَرِدُوا عليه. الفائدة الرّابعة عشر: قوله: "فلا يُذَادَنَّ رِجَالٌ عن حَوْضِي" (¬4) ويروى: "رَجُلٌ عَنْ حَوْضِي" (¬5) بالإفراد وهو جلَّ نصّ الموطّأ، والرِّواية الثّانية في الصِّحاح (¬6). وقال: "عَنْ حَوْضِي" وهذه معجزة؛ لأنّه أخبر عن مغيّبين (*): أحدهما: ما وقع من التّبديل في النَّاس بعد موته - صلّى الله عليه وسلم -. الثّاني: ما يكون الحْكم يوم القيامة مما لا يعلمه أحد غيره. قال الإمام الحافظ: قوله: "فلاَ يُذَادَنَّ" وقع على جهة النّهي، ومعناه على هذا: لا تفعلوا ما يكون سببًا لذَوْدِكُم عن حَوْضي، فأكثر الرِّوايات: "لَيُذَادنَّ" بلام التّأكيد (¬7). ¬
الفائدة الخامسة عشر: قوله (¬1): "فَأَقُولُ: ربِّ أصْحَابِي" إشارة منه إلى أنّه يأخذهم بالظّاهر، فيقال: "إنّهم قد بدَّلُوا بعْدَك، قال: "فأقولُ كمَا قالَ الْعَبْدُ الصّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} الآية (¬2) ". قال (¬3): "فَأَقُولُ: فَسُحْقَا فَسُحْقًا" أي: بُعْدًا بُعْدًا" (¬4). تنبيه (¬5): فإن قيل: وكيف يكون عليهم نُور الوضوء، ثمّ يقال لهم: فَسُحْقًا؟ قيل: فيه وجهان: 1 - أحدهما: أنّهم يُبعَدُون في حال ويقرَّبُونُ بعد المغفرة في آخر هذا، إذا كان التّبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد. 2 - وقيل: هم المنافقون كانوا يُظْهِرون الإيمانَ وُيسِرُّونَ الكُفْرَ، فيُؤتَى كلّ واحد منهم نورًا حتّى يَظُنَّ أنّه على شيءٍ، ثم يكشفُ له الغطاءُ في قوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية (¬6)، وقولُه: "تُحْشَرُ هذه الأمّة وفيها منافقوها" (¬7). وقيل: هم أهل الأهواء. وقال القاضي أبو الوليد الباجي (¬8): "قيل في معنى ذلك: غيَّرُوا سنَّتك. ويحتمل أنّ يكون ذلك: من بدَّل بعدَهُ من أهل الرِّدَّة. ويحتمل أنّ يكون أهل عصره، أو مَنْ يأتي بعدَهُ إلى يوم القيامة. ¬
وقال الدّاودي: إنّه ليس هذا ممّا يختم به للمذادِّين عنه بدخول النّار؛ لأنّه يحتمل أنّ يذادوا (¬1)، ثم يشفع لهم بعد ذلك، وهذا يدلُّ على أنّه جوَّزَ ذلك على أهل الكبائر من المؤمنين". الفائدة السادسة عشر: قوله -عليه السّلام-: "يا أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات، نسألُ الله لنا ولكم العافية" (¬2). قال الإمام الحافظ: في هذا الحديث الدُّعاء للأموات مندوبٌ إليه، لمن دخل البقيع أنّ يدعُوَ لمن عرف ولمن لم يعرف. وفي الخبر الصّحيح؛ أنّ من بلغه موت أخيه المؤمن فترحَّمَ عليه، واستغفرَ له، كان كمن شهد جنازته وصلّى عليه. ورُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "مَثَلُ الميِّتِ في قَبْرِهِ كمَثَلِ الغَريقِ يتعلَّق بكلِّ شيءٍ، يَنتظِرُ دعوة من وَلَدِه أو ولد وَلَدِه، أو أخ أو قريب، وإنَّه ليدخل قبور الأموات من الدّعاء أنوار أمثال الجبال" (¬3). وقال بعضُ السَّلَفِ: الدُّعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء، فيدخل المَلَكُ على الميِّت ومعه طبق من نُورٍ عليه منديل من نور، فيقول: هذه هدية لك من عند أخيك فلان، ومن عند صديقِكَ فلان، قال: فيفرحُ بذلك كما يفرح الحيّ بالهدايا. والأخبار في ذلك كثيرة، قد تكلّمنا عليها في "الكتاب الكبير" وأوضحنا طرفًا منها في "كتاب الجنائز" من هذا "الكتاب ". ¬
الفصل الأول في الإسناد
حديث مالكٌ (¬1)، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن حُمْرَانَ مَوْلَى عثمانَ بن عفَّان؛ أنَّ عثمانَ جلس على المقاعد الحديث. فيه فصول: الفصل الأوّل (¬2) في الإسناد قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: حُمْرَان هذا هو. حُمْرَان بن أَبَان، وكان من سَبْيِ عين التّمر (¬3)، وهو أوَّلُ سَبْيِ قَدِمَ المدينةَ في زمان أبي بكر، سبَاهُ خالد بن الوليد، وكان حُمْرَان أحد العلماء الْجِلَّة، ورَوَى عنه جماعة من كبار التّابعين بالحجاز والعراق. تنبيه على مقصد: قال الإمام: وهكذا الحديث عند جماعة الرُّواة "للموطَّأ" (¬4) ليس فيه صفة الوضوء ثلاثًا ولا اثنتين، وقد رواه جماعة عن هشام بإسناده (¬5)، فذكروا فيه صفة الوضوء والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين ثلاثًا ثلاثًا، واختلفوا في ألفاظه والمعنى واحد. ¬
الفصل الثاني في ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث
الفصل الثّاني في ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: قولُه (¬1): إنّ عثمان جلس على المقاعد، فجاءهُ المؤذِّنُ فآذَنَهُ بصلاةِ العَصْرِ، فدَعَا بماءِ فتوضَّأ، ثم قال، واللهِ لأُحَدِّثُكُمْ حديثًا، لوْلاَ أنّه في كتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثمّ قال: سمعتُ رسول - صلّى الله عليه وسلم - الحديث. قوله: "جَلَسَ على المقاعِدِ" والمقاعدُ عبارة عن الموضع المقصود الّذي يجلس عليه، وتختصّ بهذا الاسم إذا كانت مرتفعة فإنّه أيسر للقعود، وهي حجارة كِبَار بِقُرْبِ دار عثمان (¬2). الفائدة الثّانية: قولُه: "لَوْلاَ أنَّه في كتاب اللهِ مَا حدَّثتُكُمُوهُ" اختلف الرُّؤاةُ في ضبط هذا الحرف؟ فمنهم من ضَبَطهُ بالياء المعجمة (¬3). ومنهم من ضبطه بالنُّون، "ولولا أنَّه" بالنّون هي رواية يحيى بن يحيى (¬4)، والصحيح ما رواه مسلم (¬5) والقَعْنَبِيّ (¬6)، وذلك أنّهما قالا: "لَوْلاَ آيَةٌ في كتابِ اللهِ" بالياء. كشفٌ وإيضاحٌ: لكنّهما اختلفا في تعيينِ الآية: فقال عُرْوَة: الاَيةُ قولهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية (¬7). ¬
وقال مالكٌ (¬1) - رحمه الله: قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الآية (¬2). وقولُه (¬3): "لَوْلاَ آيةٌ في كتاب اللهِ" خَشِيَ إنّ لم يحدِّث به أنّ يدخل في قوله عزَّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} ... الآية (¬4)، كما فسَّرَهُ عُرْوَة في "البخاريّ" (¬5)، فعلى تفسير عروة تكون الرِّواية: "لولا آيةٌ في كتاب اللهِ"، والَّذي فَسَّرَهُ مالكٌ يحتملُ الرِّوايتين جميعًا: "لَوْلاَ آيَةٌ" وتأوّل مالكٌ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬6). فعلى تفسير مالكٌ أنّ عثمان إنّما أراد: لولا ما جاء تصديق هذا الحديث في كتابِ اللهِ ما حدَّثتُكُمُوهُ. وقيل: يحتمل إنّ كان الّذي أراد عثمان هذه الآية الّتي تأوَّل مالكٌ، يريد بقوله: "لَوْلاَ أنَّه في كتاب الله ما حَدَّثتُكُمُوهُ" أنّ الوضوء والصّلاة يكفِّران الذنوب لِئلّا تَتَّكِلُوا، ولكن قد نصَّ اللهُ ذلك في كتابِه بقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬7) فلذلك أعلمتكم به. وعلى تفسير عُزوَة: لولا الميثاق الّذي أخذ على العلماء، وما وُعِدُوا على كِتمَانِ ذلك ما حَدَّثتُكُمُوهُ. الفائدة الثّالثة (¬8): قوله (¬9): "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ" وقوله (¬10): "غُفِرَ لَهُ ما بَينَهُ وبينَ الصَّلاةِ الأُخرَى حتَّى يُصَلِّيهَا". ¬
قال الإمام الحافظ: وهذا الحديث خرجَ مخرجَ العموم يراد به الخصوص، وخصوصُه ما بينه وبين النّاس ممّا قد نُهِيَ عنه ففعله، وأمّا ما أُمِرَ به أنّ يفعله فلم يفعله مثل الصّلاة والصّيام والزّكاة، فلا بدّ من فعل ذلك، ولا كفّارةَ له إلَّا الوفاء به. وأمّا ما بينه وبين العباد من الدُّيون وغير ذلك، فقد أجمعتِ الأُمَّةُ أنّه لا ينفكّ من الدَّيْنِ إذا كان له مالكٌ حتّى يؤدِّيه. والحديث الّذي رُوِيَ "يغفر له كلَّ شيءِ إلَّا الدَّين" (¬1) فمن العلماء من قال: هذا تغليظٌ وتهديدٌ لكي يتحفَّظ النَّاسُ ممّن عليه دَيْن حوطةً على أرباب الأموالِ وصَوْنًا لعَرَضِ من عليه الدَّيْنُ. وقيل: يحتمل أنّ يكون فيمن هو قادرٌ على أدائه ولا يؤدِّيه. وقيل: إنّ ذلك منسوخٌ بقوله: "من تركَ مالًا فلِوَرَثَتِهِ، ومن تركَ كَلأ فإلَينَا" (¬2) يريد من أراد القضاء ولا يجد ما يقضي، وسنذكر هذا بكماله في موضعه إنّ شاء الله تعالى. الفائدة الرّابعة: قوله: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". قال الإمام: قد سبق بيان وجه المغفرة، وإنّما العبادات إنّما تكفِّر الصّغائر دون الْمُوبِقَات، وإن الصَّغيرة من السَّيِّئات لا بقاء لها مع الحسنات قطعًا. فأمّا كبيرةٌ سيِّئَةٌ بكبيرةٍ حسَنَة، فإنّما يقع التّكفير والمغفرة بعد الموازنة لها، فما رجح كان الْحُكم له، ولأجل هذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (¬3) لأنّه إذا تصدَّقَ ثمّ منَّ على المتصدَّق عليه وآذاه، فربّما رجح المنّ والأذى بثواب الصَّدَقَة فلم تكن لها فائدة، وذلك مَبْنِيٌّ على ما قدَّمناهُ. ¬
الفائدة الخامسة: قول مالكٌ - رحمه الله - وتأويله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1) فإن مالكًا - رحمه الله - نظر تكرار الآية في القرآن فلم يجد أكثر من سبعة مواضع لتبديل السَّيِّئات بالحسنات، فكان هذا التّأويل من جملة تلك السّبعة المواضع، وأنا أذكرها إنّ شاء الله: الموضع الأوّل- قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬2). الموضع الثّاني - قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬3). الموضع الثّالث - قوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} (¬4) الموضع الرّابع: في أزواج النّبيّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية (¬5). الموضع الخامس: الأرض، قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} (¬6). الموضع السّادس: الجلود، جلود أهل النّار، قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (¬7). الموضع السّابع: الطعام، قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬8). مزيد إيضاح: اعلم أنّ الله ذَكَرَ حسنات المؤمن بستَّةِ أشياء: أوّلها: حياة طيِّبَة. الثّاني: الممهّد الموطَّأ، قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (¬9). الثّالث: الأمنُ من القطيعة، قولُه عزَّ اسْمُه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} الآية (¬10). الرّابع: الدّرجات، قوله جلّ ذِكْرُهُ: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} (¬11). الخامس: الأضعاف، قوله جلَّ اسْمُه: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬12). السادس: الإحسان والتّبديل، قولُه -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬13). ¬
الفصل الأول في الإسناد
تنبيه على مقصد: فإن قيل: فما الحكمةُ في أنّ الحسنات يُذهِبْنَ السَّيِّئات، ولا يذهبن السيئات الحسنات؟ الجواب- قيل: لأنّ النُّور يتعدَّى والظُّلمة لا تتعدَّى، والطَّاعة نورٌ والمعصية ظلمةٌ. حديث مالكٌ (¬1)، عن زَيد بن أَسْلَم، عن عطاء بن يَسَارٍ، عن عبد الله الصُّنَابِحِىِّ؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضَّأَ العبدُ المؤمنُ، فتمَضْمَضَ، خرجتِ الخطايا مِنْ فِيهِ، وإذا استنثَر، خرجتِ الخطايا من أَنْفِهِ، فإذا غَسلَ وَجههُ خرجتِ الخطايا من وَجهِهِ ... " الحديث. فيه فصلان: الفصل الأوّل (¬2) في الإسناد قال التّرمذيُّ (¬3): "سألتُ البخاريّ عن هذا الحديث فقال لي: وَهِمَ فيه مالك - رحمه الله - في قوله: عبد الله الصُّنابحىّ، وإنّما هو أبو عبد الله الصُّنابحىّ، واسمه عبد الرحمن بن عُسَيْلَة، ولم يسمع من النّبيِّ صلّى الله عليه شيئًا، والحديث مُرْسَلٌ". قال أبو عمر (¬4): "وهو كمال قال البخاريّ" (¬5). الفصل الثّاني (¬6) في الكلام على تكفير الذّنوب استدلَّ بعضُ العلماء بحديث الصُّنابحىّ هذا أنّه لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وقال: خروجُ الخطايا مع الماء يُوجِبُ التَّنَزُّه عنه، وسماه بعضهم ماءَ الذّنوب. قال الإمام الحافظ: وهذا لا وَجْهَ له عندي؛ لأنّ الذّنوب لا أشخاص لها عندي تمازج الماء فتفسده، وإنّما معنى قوله: "خرجتِ الخطايا مع الماءِ" فهو إعلامٌ بأن الوضوء للصلاة عَمَلٌ يكفِّر الله به السَّيِّئات عن عباده المؤمنين رحمةً منه. ¬
فقه وشرح: اختلف الفقهاء -رضوان الله عليهم- في الوضوء بالماء المستعمل، وهو الّذي قد تُوُضِّىءَ به مرَّة. فقال الشّافعيّ (¬1) وأبو حنيفة (¬2) وأصحابه: لا يُتَوَضَّأ به، ومن توضَّأ به أعاد؛ لأنّه ليس بماء مُطلَقٍ، وعلى من لم يجد غيره التّيمُّم؛ لأنّه ماء الذّنوب، وقال بهذا القول أبن الفَرَجِ (-) والأوزاعي، وقد رَوَياهُ عن مالك. قال الإمام (¬3): وهذا الّذي حُكِيَ عن مالكٌ لا يوجَد في شيءٍ من كتب المالكيّة، وأراه نَقَلَهُ من كتاب "اختصار المدوّنة" (¬4) لابن أبي زَيد، وقد وقع في بعض نُسَخِه (*) كذلك. والمشهور عنه أنّه لا يُجَوِّز التّيمُّم لمن وجد الماء المستعمل. وروي عنه أيضًا أنّه قال: لا يتوضّأ به إذا وجدَ غيره من المياه ولا خير فيه، ثم قال: إذا لم يجد غيره توضّأَ به ولم يتيمّم؛ لأنّه ماء طاهرٌ لم يُغَيِّره شيءٌ (¬5). وقال أبو ثور وداود (¬6): الوضوءُ بالماء المستعمل جائزٌ؛ لأنّه ماء طاهرٌ، إلَّا أنّ يضاف إليه شيء، وإذا لم يكن في أعضاء المتوضِّىء نجاسة، فهو طاهرٌ بإجماع. ¬
الفصل الثالث في الفوائد
واختلف أيضًا عن الثَّوريِّ في هذه المسألة: فقيل: المشهور عنه أنّه لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وأظنّه حُكِيَ عنه أنّه قال: هو ماءُ الذُّنوب. ورُوِيَ عنه خلاف هذا أيضًا؛ لأنّه قال فيمن نسي مسح رأسه، فقال: يأخذ من بَلَلِ لحيته فيمسح به رأسه، وهذا استعمال منه للماء المستعمل. وقد رُوِي أيضًا عن عليِّ وابن عمر وأبي أُمَامَة وعَطَاء والحسن والنَّخعي وابن شهاب أنّهم قالوا: من نَسِي مسح رأسه فوجدَ في لحيتة بلَلًا: إنّه لا يجوز أنّ يمسح بذلك البلَل رأسه، وقال بذلك بعض أصحاب مالك (-) والشافعى وأبي حنيفة (¬1). الفصل الثّالث في الفوائد ومنه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬2): قولُه (¬3): "ثمّ كان مَشْيُهُ وصَلاتُه نافلَةً له" فيه فضل الوضوءِ، وأراد بخروج الخطايا تكفيرها. وقولُه: "نافلةً" يريد أنّ خطاياهُ كلّها قد خرجت في وضوئه، وكان مَشيُهُ وصلاته له زيادة في الدّرجات، والنّافلةُ الزِّيادة، لأنّ الصّلاة تكون نافلة. ¬
المأخذ الأول في الإسناد
الفائدة الثّانية (¬1): فيه: أنّ فَرْضَ الرِّجْلَيْن الغسلُ -كما بيَّنَّاه- لا المسح (¬2). الفائدة الثّالثة (¬3): فيه: أنّ الأُذُنَيْن من الرّأس، لقوله: "فإذا مسحَ برَأْسِهِ خَرَجَتِ الخطايَا من رَأسِهِ حتَّى تخرُجَ من أُذُنَيْهِ". حديث مالكٌ (¬4)، عن سُهَيلِ بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرةَ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضَّأَ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغسل وَجْهَهُ، خرجت كلُّ خطيئةٍ" الحديث. الكلام في هذا الحديث يشتمل على ثلاثة مآخذ: المأخذ الأوّل (¬5) في الإسناد رَوَى هذا الحديث ابن وهبٍ (¬6) عن مالك، فذكر فيه الرِّجْلَيْن، كما ذكر اليدين، ولم يذكر فيه عن مالك ذلك غيره، وذلك (¬7) في رواية ابن وهب ويحيى (*) على التّثنية، وليس بالجيَّد؛ لأنّ التّثنية إنّما هي لليدين لا للخطيئة، وكذلك في رواية ابن وهب (¬8): "كلّ خطيئة بَطَشَتهُمَا يَدَاهُ" على التثنية، وكذلك: "كلّ خَطَيئة بطشتها ¬
المأخذ الثاني فى ذكر الفوائد
رجلاه"، وفي ذلك ما لا يَخْفَى من الوَهْمِ، ولم يقل ابنُ وهب: "ونحوُ ذلك"، وسائر الرُّواة (¬1) قالوا فيه كما قال يحيى، ولم يذكر فيه أحد من الرُّواة مسح الرّأس غيره. المأخذ الثّاني فى ذكر الفوائد وفيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬2): قولُه: "العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ" هذا شكٌّ من المحدِّث. الفائدة الثّانية (¬3): قوله: "معَ الماءِ، أو مع آخِرِ قَطْرِ الماءِ" هو شكّ أيضًا من المحدِّث، ولا يجوزُ ذلك من النّبيِّ علية السّلام، وإنّما حَمَلَ المحدِّث على هذا التّحريِّ لألفاظ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. الفائدة الثّالثة: قولُه: "المؤمنُ أو المسلمُ" اختلف علماؤنا هل الأيمان والإِسلام اسم واقعٌ على مسمّى واحد أم لا؟ فقال أبو المعالي إمام الحرمين الجويني: هما شيئان لا يتمُّ هذا إلَّا بهذا. وقال عامَّةُ الفقهاء: إنّ الإسلام والإيمان شيءٌ واحدٌ، بدليل قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (¬4). وبحديث جبريل أخذ أبو المعالي حين سأله عن الإسلام وعن الإيمان ففرَّقَ بينهما، وبقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الآية (¬5). ¬
وهي مسألة قد تنازع العلماء فيها، والّذي عندي أنّهما شيء واحدٌ، وقد بيَّنَّا ذلك في "الكتاب الكبير". الفائدة الرّابعة: فيه تكفير الخطايا بالوُضوءِ، وأن أعمال البرّ تكفَّر الذّنوب بها، كما أخبر عليه السّلام أنّ الذنوب تقطر مع قَطْرِ الماء، والذنوب ليست لها أشخاصٌ وأعلامٌ ظاهرةٌ يرى سقطها، فثبت أنّ الغسل لهذه الأعضاء في الوضوء إنّما هو من دَنَسٍ باطنٍ، لا من دَنَسٍ ظاهرٍ للعيون في وقت الغسل، ولا يعلم ذلك؛ لأنّ الأمر بغسل الدّنس. الظّاهر من هذه الأعضاء ومن سائر الجسد، فلمّا خصّت هذه الأعضاء بالذِّكر، عُلِمَ أنّه لم يرد به غسل الدَّنَس الظَّاهر، وإنّما المراد به غسل هذه الجوارح ممّا اجترحت من الخطايا والذّنوب بالتوبة الصّادقة النّافية لها عن مكانها، المزعجة لها عن أوطانها، ولا يُخرِجُ سَاكِنَ الدّار عن داره إلَّا من هو من أقوى منه، فهذا طهر القلب ظهرت طهارته على الجوارح، وإذا تدنَّسَ ظهر تدنيسه عليها، وطهارة القلب لا تكون إلّا بالتّوبة الصّادقة، وَجَدَّ الإصرار، ودوام الحزن والانكسار. تنببه على مقصد: قولُه: "خرجتْ كلُّ خطيئةٍ نَظر إليها مع الماءِ، أو مع آخِر قَطرِ الماء، حتَّى يخرُجَ نَقِيًّا من الذُّنُوبِ". قال الإمام: وإنّما هذا في الصّغائر دون الكبائر؛ لأنّ الله يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية (¬1)، فجعل اجتناب الكبائر شرطًا في غفران ما دونها. إيضاح مشكل: واعلم أنّ كلَّ منِ اعتقدَ أنّ خطاياه وذنوبه كلّها تسقط مع وضوئه، فهو فاسدُ السَّريرةِ، مُصِرٌّ على كلّ كبيرة، فإن كان جاهلًا فينبغي أنّ يتعلّم، ويتوب إلى الله من جهله. وإن كان عالمًا، فإنّما هو للنّاس فتنة وبلاءٌ وسَخَطٌ، وأنا أبرأُ إلى الله تعالى منه، ونسأله التّوبة من فضله وطَوْلِه. ¬
واعلم أنّ مدار الأعمال إنّما هو على القلب، وأنّ تحقُّقَ النّجاسة والطّهور والعمى والبصائر إنّما هو في القلب، كما قال بعض الحكماء: القصدُ بالقلوب أبلغ من حركات الجوارح. وقال حاتم الأَصَمّ (¬1): النَّاس متشاغلون في أداء الفرائض غُفُولًا عن قَبُولها. حديث مالكٌ (¬2)، عن إسحاقَ بن عبد الله، عن أنس؛ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - وحانَت صلاةُ العصرِ، فالتمسَ النَّاسُ وَضُوءًا فلم يجدوه ... الحديث. قال الإمام - رضي الله عنه -: فيه من الفوائد ثلاث: الفائدة الأولى (¬3): فيه تسميةُ الماء وَضُوءًا، ألا ترى إلى قوله: "فَاُتِيَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بوضوءٍ في إناءٍ" والوَضوء بالفتح: الماء، وبالضَّمِّ: المصدر، مثل قوله: وَقُود وَوُقُود، والعرب تُسَمِّى الشَّيءَ باسم ما قَرُبَ منه. الفائدة الثّانية (¬4): فيه إباحةُ الوضوء للجماعة من إناءٍ واحدٍ يغترفونَ منه في حينٍ واحدٍ، ولم يراع هل أصاب أحدهم مقدار مُدِّ فما زاد من الماء، كما قال من ذهب إلى أنّ الوَضُوء بأقلّ من مُدٍّ لا يجوز، ولا الغسل بأقلّ من صاعٍ لا يجوز. وهذا يردّ عليه. الفائدة الثّالثة (¬5): فيه الْعَلَمُ العظيم من أعلام نُبُوَّته - صلّى الله عليه وسلم - والبرهان الواضح، وهو نبعُ الماء من بَيْنِ أصابعه، وكم له - صلّى الله عليه وسلم - من مِثْل ذلك، والّذي أُعْطِيَ نبيّنا محمد - صلّى الله عليه وسلم - هو أعظم وأوضح من آيات الأنبياء ¬
وبراهينهم، وممّا أُعطي موسى - صلّى الله عليه وسلم - إذ ضرب بعصاه الحَجَر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وذلك أنّ من الحجارة ما يشاهد منه انفجار الماء، كما قال الله عزّ وجل (¬1)، ولم يُشَاهد قطُّ أحدٌ من بني آدم يخرُجُ من بين أصابعه الماء غير نبيّنا - صلّى الله عليه وسلم -. (¬2) قال الإمام الحافظ أبو بكر: هذه خصيصةٌ للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ولم تكن لأحدٍ قبله (¬3)، ولا تكون لأحدٍ بعده، لأنّا قد بيّنّا في "معجزات الأنبياء" أنّ ما مِنْ نبىِّ أُعْطِيَ معجزة إلَّا وقد أُعْطِي محمد - صلّى الله عليه وسلم - أفضل منها صلوات الله عليه وعليهم. حديث مالكٌ (¬4)، عن نُعَيم بن عبد الله المُجمِر؛ أنّه سمع أبا هريرة يقول: "من توضَّأَ فأحسنَ وُضُوءَهُ، ثمَّ خرجَ عامدًا إلى الصّلاة، فإنّه في صلاةٍ ما كان يعْمِدُ إلى الصّلاة" الحديث. فيه فائدتان: الفائدة الأولى (¬5): في هذا الحديث التّرغيب في إسباغ الوضوء وإتقانِهِ، والمشي إلى الصّلاة، وترك الإسراع إليها لمن سمِعَ الإقامة، والأخبارَ والآثار في ذلك كثيرة (¬6). وكان ابنُ عمر وجماعة من الصّحابة والتابعين يُسرِعون إذا سمعوا الإقامة، وخالفوا في ذلك أبا هريرة، وإنّما قال ذلك أبو هريرة وتأوَّلَ ذلك الحديث الّذي رواه: "إذا نودي للصلاة فلا تَأتُوهَا وأنتم تَسعَوْنَ، وَأتُوها وعليكم السّكينةُ والوقار" (¬7). حديث مالكٌ (¬8)، عن يحيى بن سعيد؛ أنّه سمعَ سعيد بن المسَيِّب يَسأَلُ عن الوضوءِ من الغائطِ بالماء، فقال: إنّما ذلك وُضُوءُ النِّساءِ. الحديث. ¬
قال الإمام (¬1): هذا مذهبُ المهاجرين في الاستنجاء بالأحجارِ والاقتصارِ عليها، وابن المسيَّب من أبنائهم وفقهائهم. وليس في عيب ابن المسيَّبِ الاستنجاءَ بالماءِ ما يُنمقِطُ فضلَه؛ لثناءِ الله تعالى على أهل قُبَاء. (¬2) وقد ثبت عن النبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الاستنجاءُ بالماء، وإنّما الأحجار رخصةٌ وتَوسِعَةٌ في طهارة المَخرَجِ. وقد أوضحنا ذلك والحمد لله. حديث مالكٌ (¬3)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا شَرِبَ الكلبُ" الحديث. قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ (¬4): "لا أعلم أحدًا قال فيه "إذا شَرِبَ" غير مالكٌ - رحمه الله-، وسائر رُوَاةِ هذا الحديث يقولون: "إذا ولغ" (¬5)، وقد رواه عن أبي هريرة جماعة: "إذا وَلَغَ" منهم الأعْرَجُ، وأبو صالح، وأبو رزين، وثابتٌ الأَحْنَفُ، وهمّامُ بن مُنَبَّهٍ، وجماعة، بمعنى حديث مالكٌ، ولم يذكروا فيه: "إذا شَرِبَ" ولا "التُّراب" لا في أوّل الحديث ولا في آخِرِه، وقد رواه ابن سِيرِين عن أبي هريرة. قال الإمام (¬6): واختُلِفَ عنه في ذلك، فمن رواه وق الذيه: "أُولاهُنَّ بالتراب" ومنهم من قال: "السّابعة بالتراب". ومنهم من لم يذكره". ورواه الحسن البصري، عن عبد الله بن مغفّل، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إذا وَلَغَ الكلبُ في الإناء، فاغسلوه سبع مرّاتٍ وعَفِّرُوهُ الثّامنة بالتراب" (¬7). ¬
وكذلك كان الحسن يُفْتِي، ولا أعلم أحدًا أفتى بذلك غيره. وممن كان يُفْتِي بغسل الإناء دون شيءٍ من التّراب من سَلَفِ الصّحابة والتّابعين: ابن عبّاس، وأبو هريرة، وعُرْوَة، وابن سيرِين، وطاووس، وعمرو بن دينار. وأمّا الفقهاء من أَيِمَّةِ الأمصار، فقد اختلفوا في تعليله: فقيل: إنّ علَّته التّغليظ في منع اقتناء الكلاب الّتي لا يجوز اتِّخاذها لأجل إذاية النَّاس؛ لأنّ الصّحابة كانوا يُبَكِّرُونَ بالأسحار لمسجد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَشَكَوْا إليه أنّ الكلاب تؤذيهم، فقال: "إذا وَلَغَ الكلبُ" الحديث، ولأجل هذا قال أيضًا: "من اقتَنَى كَلبًا نقص من عمله كلَّ يومٍ قِيرَاطَانِ" (¬1) ولا يجوز أن ينقص من عمل قد مَضَى. تنبيه على مقصد (¬2): قال القاضي أبو بكر بن العربي: "إذا شَرِبَ الكلبُ من إناء أحدِكُم" الحديث، فيه استعمال الشُّرب في كلِّ حيوان، والحديثُ مُعْضلٌ، وقد اختلف النّاسُ فيه، هل يَغسِلُ للعبادة أو للنّجاسة؟ والصّحيحُ أنّه يَغسِلُ للعبادة؛ لأنّه عَدَّدَ وأدخل فيه الترابَ، ولا مَدْخَلَ للعدَدِ ولا للتّراب في إزالة النّجاسة (¬3). ولَمَّا كان الحديث مُعْضَلاَ، قال فيه مالكٌ (¬4): قد جاءَ هذا الحديث وما أدري ما حقيقته. وكان يرى الكلب كأنّه من أهل البيت وليس كغيره من السِّباع. وكان يقول (¬5): يُغسَلُ بالماء وَحْدَه. ¬
مزيد بيان: قوله: "مَا أَدْرِي ما حَقِيقَتُهُ، يحتمل ثلاثة معان: الأوّل: لا ندري أنّ ذلك على الوُجُوب أو النَّدْب. الثّاني: لا ندري هل ذلك في الكلب الممنوع اتِّخاذُه دون المباح اتِّخاذه أم لا. الثّالث: لا ندري هل ذلك في الماء دون اللَّبَن أم فيهما. وهذا أظهر الأقوال على نسق المسألة. وقد رُوِيَ عنه؛ أنّ غسل الإناء من وُلُوغِ الكلب في الكلب الممنوع اتِّخاذه. (¬1) ورُويَ عنه؛ أنَّ ذلك عامٌّ في جميع الكلاب (¬2). وكذلك أيضًا اختُلِفَ عن مالك في هذه الثّلاثة فصول: فروي عنه؛ أنّ غسله على النَّدب. وروي أنّ ذلك على الوجوب. وروي أنّه للعبادة فقط. كشف وايضاح يبيّن المذهب في ذلك: 1 - المذهب الأوّل - قال أبو حنيفة وأصحابُه (¬3): الكلبُ نجسٌ، ويغسلُ الإناءُ من وُلُوغه مرَّتين أو ثلاثًا كسائر النّجاسات من غير حدٍّ، وردّوا الأحاديث في ذلك. 2 - المذهب الثّاني - قال داود (¬4) وأصحابه (¬5): سؤر الكلب طاهر، ويغسل الإناء منه سبعًا، وإن كان فيه طعام لم يغسل. ¬
3 - المذهب الثّالث - قال الشّافعيّ (¬1): يُغسَلُ الإناءُ من وُلُوغه، وُيؤكَل الطّعام، وُيتَوَضَّأ بالماء. 4 - المذهب الرّابع - مذهبُ مالكٌ - رضي الله عنه -، قال ابنُ القاسم: تحصيلُ مذهبِ مالكٌ وأصحابه؛ أنّ غسل الإناء من ولوغه (¬2) استحبابٌ، وكذلك يستحبٌ لمن وجدَ غيره ألّا يتوضَّأ به، وقد اختلف في هذا المعنى أصحابه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنّه يتيمِّم ولا يتوضَّأ به، وهو مذهب ابن القاسم. الثّاني: أنّه يتوضّأ به ويتيمّم، وهو مذهب ابن الماجِشون. الثّالث: أنّه يتيمّم ويصلِّي، وهو قول سحنون. (¬3) إكمال (¬4): وقد اختُلِفَ في معنى ما وقع في "المدوَّنة" (¬5) من قول ابن القاسم: وكان يُضَعِّفُه. فقيل: إنّه أراد بذلك أنّه كان يضعِّف الحديث؛ لأنّه حديث آحاد وظاهرُ القرآن يعارضه. وما ثبت أيضًا في السُّنَّة من تعليلِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في طهارة الهرَّة بالطّواف علينا والمخالطة لنا (¬6). ¬
واختلف قولُ مالكٌ - رحمه الله - في غسل الإناء من وُلوغِ الخنزير، فرُوِيَ عنه في ذلك روايتان. إحداهما: أنّه لا يُغْسَل (¬1). الثّانية: أنّه يغسل سبعًا قياسًا على الكلب، وهي رواية مُطَرِّف (¬2)، حكى الرِّوايتين ابن القصّار (¬3). قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه (¬4) -: وإذا قاس الخنزير على الكلب، يلزمه ذلك في سائر السِّباع لوجود العلَّة فيها، وهي أيضًا أكثر أكلًا للأنجاس من الكلب. وأيضًا: فإنَّ الكلب اسمٌ للجنس، يدخل تحته جميع السِّباع؛ لأنّها كلاب، وقد رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال في عتبة بن أبي لَهَب: "اللهمَّ سَلَّط عليه كلبًا من كلابك" (¬5) فعدى عليه الأسد فقتلَهُ. حديث مالكٌ (¬6)؛ أنّه بلغه أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "استَقِيمُوا ولن تُحْصُوا، واعمَلُوا وخيرُ أعمالِكُم الصّلاةُ، ولا يحافظُ على الوضوء إلَّا مؤمنٌ". فيه فصلان: ¬
الفصل الأول في الإسناد
الفصل الأوّل في الإسناد قال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ - رضي الله عنه (¬1) -: "هذا حديثٌ بَلاغٌ، ويتّصلُ معنى هذا الحديث ولفظه مُسنَدًا من حديث ثَوبَان (¬2)، وابن عمرو بن العاصي (¬3)، عن النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم-، وقد رواه ابن عُيَينَة، عن يحيى بن سعيد، عن رَجُلٍ يقال له إسماعيل بن أوسط، شامِيٌّ، فقال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "اعملوا وخيرُ أعمالِكُم الصّلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلَّا مؤمنٌ (¬4) "، قد رواه أيضًا منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "استقيموا" الحديث (¬5). الفصل الثّاني في الفوائد وفيه فائدتان: الفاندة الأولى: في تأويله اعلموا أنّ قولَه: "لَن تُحْصُوا" فيه للعلماء أربع تاويلات: التّأويل الأوّل - أنّ قوله: "لَن تُحْصُوا" يريد مالكم من الثّواب على إكراه الأعمال. الثّاني- قال عيسى بن دينار: لن تنجوا من الخطايا. ¬
الثّالث - قال ابن حبيب (¬1): "لن تُحْصُو": لن تطيقوا أنّ تفعلوا كلّ ما أَمَرتكم به، ومن ذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} الآية (¬2). الرّابع (¬3): قال القاضي أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: معناه لن تُطِيقُوا أنّ تستقيموا، فَسَّرَهُ الحديثُ الثّاني قولُه: "إذا أَمَرتُكُم بأَمرٍ فَأتُوا منه ما استطَعتُم" (¬4) والله أعلم. الفائدة الثّانية (¬5): قوله: " ولا يُحافِظ على الوضوءِ إلَّا مؤمنٌ" أراد به لا يحافظ على وضوئه ولا يصبر عليه إلَّا مؤمن كامل الإيمان، لثِقَلِهِ عليه في البرد وفي حين الشّغل، واللهُ أعلم. ¬
باب ما جاء. مسح الرأس والأذنين
باب ما جاء. مسح الرأس والأذنين وفيه فصول: الأوّل في التّرجمة قال الإمام الحافظ: غاص مالكٌ - رحمه الله - على مذهبه في هذه الترجمة بأن أراد أنّ يُبيِّن لك أنّ الأُذنَين من الرَّأس، إلّا أنّه يستأنف لهما الماء. ثمّ إنّه احتَجَّ بالأثر؛ بأنّ ابنَ عمر كان يأخذ لأُذُنَيه ماء غير الماء الّذي مسح به رأسه، وبه قال أحمد (¬1) وإسحاق، والشّافعيّ (¬2). إلَّا أنّ الشّافعيّ قال: هما سُنّة على حيالهما، لا من الوجه ولا من الرّأس، كالمضمضة والاستنشاق. فقه: اختلف العلماء -رضوان الله عليهم- في الأُذُنَيْن: فروى أبو أمامة الباهِلي - واسمه صدي بن عجلان (¬3) - أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: "الأُذُنَان من الرَّأسِ" (¬4) ويستأنف لهما الماء. وهما فرض عند محمد بن مَسلَمَة. وهي أيضًا عند ابن حبيب (¬5) سُنَّة، وهو المشهور (¬6). ¬
نكتة وإيضاح: قال القاضي أبو الوليد (¬1):" الّذي يقتضي حديث ابن عمر تجديد الماء للأُذُنَين، ويحتَمِل أنّ يكون عبد الله بن عمر يأخذ الماء بأصبعين من كلِّ يد، فيمسح بهما أُذُنَيه، وهذا أشبَهُ بحديثِ ابنِ عمرَ. ونحوه ما رُوِيَ في حديث ابن عبّاس؛ أنّ باطن الأُذُنَين يُمسَحُ بالسَّبَّابة وظاهرهما بالإبهام، وهذه طهارة الأُذُنَين عند مالكٌ (¬2) وأبي حنيفة (¬3) والشّافعىّ (¬4). وقال الزّهريّ: تُغسَلُ مع الوجه. وقال أيضًا الشّافعيّ: يغسل باطنهما مع الوجه، ويمسح ظاهرهما مع الرّأس". مزيد بيان (¬5): وصِفَةُ مسحهِمَا: أنّ يمسحَ ظاهرَهُما وباطِنَهُما (¬6)، وقال مالكٌ في "المختصر": يُدخِلُ أصبعيه في صِمَاخَيهِ (¬7). وقال ابن حبيب: لا يتبع غضونهما (¬8). نكتة فقهية (¬9): قال (¬10): فإذا ثبت هذا فهل يُمسَحَانِ فرضًا أو نَفلًا؟ ¬
فذهب ابن مَسلَمَة والأبهريّ (¬1) أنهما يمسحان فرضًا. وذهب سائر أصحابنا أنّهما يمسحان نَفلًا، وهو الظّاهر من مذهب مالك. والظاهر من المذهب استئناف الماء لهما (¬2). وقال ابن حبيب (¬3): من لم يُجَدِّد لهما الماء فهو بمنزلة من لم يمسحهما. وقال ابن مَسلَمَة: إنّ شاء جدَّدَ لهما الماء، وإن شاء مسحهما بما فضل من مسح رأسه. وأبو حنيفة يقول: لا يستأنف لهما الماء (¬4). مسألة (¬5): قال مالكٌ: من مسح رأسه بِبَلَلِ ذِرَاعَيه أو لحيته وصلّى، أعاد الوضوء والصّلاة وإن ذهب الوقت، وليس هذا بِمَسحٍ. قال ابن الماجِشُون: وان كان بحضرته ماء، فلا يمسح بما ذكر من البَلَلِ، وإن لم يكن بحَضْرَتِه ماء فليمسح به، وبه قال عطاء. تأصيلٌ (¬6): قال الإمام (¬7): فقولُ مالك يحتمل أنّ يكون موافقًا لقول أَصبَغ؛ أنّ الماء المستعمل في الوضوء لا يرفع الحَدَث، وله وجه آخر. ويحتمل أنّ يريد أنّ ما تعلَّق باليَدَين من البَلَلِ من غسل الذِّراعين يسيرٌ لا يتأَتَّى المسح به، وهو الأظهر، لقوله: وهذا ليس بمسح. إكمال (¬8): قال الإمام: اختلف العلماء في الأُذُنَين على ثلاثة أقوال: ¬
القول الأوّل - أنّهما من الرّأس، قاله ابن المبارَك والثّوريّ (¬1). القولُ الثّاني - قال الزّهريّ: هما من الوجه، وقاله الشّعبيّ والحسن (¬2) وقالا (¬3): ما أقبل منهما من الوجه، وما أدبر منهما من الرّأس، واختاره الطّبريّ (¬4). واحتجّ من قال إنّهماذك لم يذكروهما. تنقيح: قلنا: أمّا حديث أبي أُمَامَة، فضعّفَه الدارقطني (¬5) والتّرمذي (¬6)، وقالا: إنّ الصّحيح فيه وَقفُه على أبي أُمَامَة، ولم يُسنِده إلَّا ضعيف. وأما اعتقاد الصحابة، فقد ورد حديث ابن عبّاس (¬7) وغيره؛ بأنّ النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- مَسَحَهُمَا مُفرَدَين. وأما من قال: إنّهما من الوجه، فاحتجَّ فيه بحديثٍ قال فيه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "سجدَ وَجهِيَ للّذي خَلَقَهُ وصوَّرَهُ وشَقَّ سَمعَهُ وبصرَهُ" (¬8) وهذا يردّه مسح النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لهما، والمراد في هذا الحديث: سجدَت جُملتي ورأسي، وقد يكنى بالوجه عن الجملة، فكيف عن الرّأس، قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬9) قالوا في أحد التأويلات: إلَّا هو، أي ذاته. ¬
الفصل الأول في الإسناد
ولم يثبت عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- في مسح الأُذُنَين شيء، إلَّا ما ذكرنا في فضل الوضوء: "فإذَا مَسَحَ برَأسِهِ خرجتِ الخطايا من رأسه حتّى تخرُجَ من أُذُنَيهِ"، وقد خرَّجَ النّسائي (¬1) حديثًا؛ أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- توضَّأ ومسح برأسه وأُذُنَيه. حديث مالكٌ (¬2)؛ أنّه بلغه أنّ جابِرَ بن عبد الله سُئِلَ عنِ المسحِ على العِمَامَةِ، فقال: لا، حتَّى يُمسَحَ الشَّعَرُ بالماءِ. فيه فصلان: الفصل الأوّل (¬3) في الإسناد قال الإمام: هذا حديث رواه عبدُ الرحمنِ بنُ إسحاقَ، عن أبي عُبَيدَةَ بن محمد بن عمارِ بنِ ياسرٍ قال: سألتُ جابرًا عن المسحِ على العِمَامة فقال: امِسَّ الشَّعَرَ بالمَاءِ (¬4). لا أعلَمُه يتّصلُ بغير هذا الإسناد، رواه عن عبد الرحمن بن إسحاقَ، يزيدُ بنُ زُرَيع وبِشرُ بنُ المفضل، وغيرهما. مالكٌ (¬5)، عن هشام؛ أنّ أباه كان يَنزِعُ العِمَامَةَ، ويَمْسَحُ رَأسَهُ بالمَاءِ. *مالكٌ (¬6)، عن نافع؛ أنّه رأى صفيةَ بنتَ أبي عُبَيدٍ امرأةَ عبدِ الله بن عمرَ تَنزِعُ خمارَها وتمسحُ على رأسِها* ونافعٌ يومئذٍ صغيرٌ. ¬
الفصل الثاني في فوائد هذا الحديث
الفصل الثّاني في فوائد هذا الحديث وفيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬1): قوله: "وَنَافِعٌ يومئذٍ صغيرٌ" ففي هذا الحديث جوازُ شهادة الصّغير إذا أدَّاها كبيرًا، وفي قياسها شهادةُ الفاسقِ إذا أدّاها تائبًا صالحًا، وشهادةُ الكافر إذا أداها وهو مسلمٌ. الفائدة الثّانية (¬2): قوله أيضًا: "ونَافِعُ يومئذٍ صغيرٌ" أراد اعتذارًا من النَّظَرِ إلى شَعَرِ المرأة. فهذا يدلُّ أنّ عَبدَ الرَّجُلِ لا ينبغي له إذا كان كبيرًا أنّ ينظر إلى شعر زوجة سيِّدِه وإن كان وَغدًا. وأمّا عَبْدُها، فإن كان وَغدًا، فلا بأس أنّ يرى شَعَرها، وإن كان غير وَغدٍ، فلا ينبغي له أنّ يرى شعرها. تفسير مطابق لهذا الحديث (¬3): وهو قولُه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬4) أراد بذلك الوجه والكفَّين والشَّعَر، وقيل: الثياب، والوجه الأوّل أحسن وأبين في النّظر (¬5). ¬
تنبيه (¬1): فإن قال قائل: فإذا كانت الزّينة الّتي ذكر اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الكفَّين والشَّعَر، فَلِمَ كَرِهَ مالكٌ لعَبْدِ المرأة إذا كان غير وَغد أنّ ينظرَ إلى وجهها؟ الجواب عنه - قيل له: إنّما كره ذلك على وجه الاستحسان لفساد الزّمان. وقد رُويَ عنه أيضًا أنّه قال: لا بأس أنّ تُبْدِي المرأةُ شَعرها لعبدها إذا كان وَغدًا. فإن كان ممن تُخشَى فتنته، فالأَولَى أنّ تَستَتِر، فدلَّ أنّ هذا من مالكٌ على وجه الاستحسان لفساد الزّمان، والله أعلم. الفائدة الثّالثة (¬2): في قوله (¬3):"لاَ، حتَّى يُمسَحَ الشَّعَرُ بالماءِ". اعلموا أنّ المسح على العمامة هو بابٌ اختلف النّاسُ فيه، والآثارُ فيه مختلفة، وعن النَّبيِّ صلّى الله عليه؛ أنّه مسَحَ على العمامة من حديث عمرِو بن أميّةَ الضَّمريَّ (¬4)، وبلالٍ، والمغيرةِ بنِ شُعبَةَ، وأنسٍ، وكلُّها معلومةٌ. ورواه أيضًا جماعة من السَّلَف والتّابعين، ذَكَرَهُم ابن أبي شيبَة وعبد الرزّاق (¬5) وأبو داود (¬6). ¬
قال الإمام (¬1): واختلافُ هؤلاء فيمَن مسَحَ على العِمَامَة ثمَّ نزَعَها، كاختلافِهِم فيمَن مسَحَ على الخُفَيَّن ثم خلَعَهُما. وأما (¬2) قولُه: " حتَّى يُمسَحَ الشَّعَرُ بالماءِ" فهو ظاهرُ كتاب الله تعالى، لقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬3) ولا يجوز المسح على عُضوٍ مستورٍ إلَّا الخفَّين فإنّه يُمسَحُ ذلك بالإجماع (¬4). الفائدة الرّابعة (¬5): وهي إذا انحل كَورٌ منها، أو كَورَانِ، لم أر لذِكرِهِ وجهًا هاهنا. وقالت طائفة: يجوز مسح المرأة على الخمار، ورُوِيَ عن أمِّ سَلَمَة زوج النَبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّها كانت تمسح على خمارها (¬6). ومنه أيضًا (¬7): أنّ امرأة عبد الله بن عمر كانت تمسح على خمارها. فيه: الاقتداء بفعل المرأة الصالحة (¬8). تنبيه على مقصد (¬9): قال: وأمّا الّذين لم يَرَوا المَسحَ على العمامة والخمار فجماعةٌ منهم: عُروَة، ¬
والقاسم بن محمد، والشّعبىُّ، والنّخعىُّ، ومالكٌ (¬1)، وأبو حنيفةَ (¬2)، والشّافعيّ (¬3). والحُجَّة لهم ظاهرة، قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬4) ومن مسَحَ على العمامة لم يمسح على رأسه. وقد أجمعوا أنّه لا يجوزُ مَسْحُ الوجهِ في التَّيَّمم على حائلٍ دُونَهُ، فكذلك الرأسُ. والخطابُ في قوله: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (¬5) كالخطاب في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬6) ولا وجه لما اعتلُّوا به أنَّ الرّأس والرِّجلَين ممسوحانِ. مسألة فقهية: سئل مالكٌ (¬7) عمن توضَّأَ، فَنَسِيَ أنّ يمسحَ رأسَهُ حتَّى جَفَّ وَضُوءُهُ، قال: أَرَى أنّ يَمسحَ برأسه، وإن كان قد صلَّى يُعِيدُ الصَّلاةَ. قال الإمام (¬8): وهذا يدلُّ من قوله أنّ الفَورَ عنده لا يَجِبُ إلَّا مع الذِّكرِ، وأنّ النِّسيانَ يُسقِطُ وجوبه، ولذلك أوجَبَ على العامدِ لتَركِ مَسحِ رأسه مؤخِّرًا لذلك، أو لشيءٍ من مفروض وضوئهِ استئنافَ الوضوءِ من أوَّلِه، ولم يَرَه على النّاسي. قال الإمام الحافظ: من ههنا عرف مذهب مالكٌ في الفور، وقد اختلف أصحابه فيه على ثلاثة أقوال (¬9): أحدهما: أنّه فرضٌ على الإطلاق، وهو قولُ عبد العزيز بن أبي سَلَمَة (¬10). ¬
والثّاني: أنّه سُنَّة على الإطلاق، وهو المشهور من المذهب. والثالث: "أنّه فرضٌ فيما يغسل، وسُنَّة فيما يُمْسَح، وهو قول مُطَرِّف وابن الماجِشون عن مالكٌ، وهو أضعف الأقوال. تنقيح: قال الإمام الحافظ (¬1): فعلى القول بأنّه فرضٌ، يجبُ إعادة الوضوء والصّلاة على من تَرَكَهُ، ناسيًا أو متعمِّدًا. وعلى القول الثّاني أنّه سنّة، إنْ تركه (3) ناسيًا، فلا شيء عليه، وإن تركه (3) عامدًا، ففي ذلك قولان: أحدُهما: أنّه لا شيء عليه، وهو قولُ محمد بن عبد الحَكَم. والثّاني: أنّه يُعيدُ الوُضوءَ والصّلاةَ لترك سنّة من سُنَنها (¬2)، وهذا مذهب ابن القاسم؛ أنّ الفور عنده واجبٌ بالتَّذَكُّر ساقطٌ بالنِّسيان (¬3). ¬
ما جاء في المسح على الخفين
ما جاء في المسح على الخُفَّيْن مالكٌ (¬1)، عن ابن شهاب، عن عبَّادِ بن زياد - وهو من ولَد المُغِيرَة بن شُعبةَ - عن أبيه المُغِيرَةِ بن شُعبَةَ؛ أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- ذهب لحاجَتِه في غزوة تَبُوك الحديث. تنبيهٌ على وَهمٍ: قال الإمام الحافظ: هذا الحديث مما يُعَابُ على مالك؛ لأنّه جعل عَبَّاد بن زياد من وَلَدِ المغيرة بن شُعبة، وليس هو من ولد المغيرة، وإنّما هو عَبَّاد بن زياد بن أبي سفيان، وأظنُّه من ثَقِيف، وليس ذلك عندي بعلم حقيقة (¬2)، ولم أقف له على وفاة، ولا أعلم له خَبَرًا. وقول مالكٌ (¬3): "وهو من وَلَدِ المغيرة بن شُعبَة" لم يختلف عنه رُواةُ "الموطَّأ" في ذلك (¬4)، وهو غَلَطٌ ووهْمٌ، ولم يتابعه أحد من رواة ابن شهاب ولا غيرهم. وقال مُصعب الزُّبيري: أخطأ مالك ووهَمَ وهمًا قبيحًا في هذا الحديث (¬5). وقد ذكره عبد الرزاق (¬6)، عن معمر، عن الزهري، أنّ المغيرة بن شعبة قال: كنت في سَفَرٍ مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- الحديث، هكذا مقطوعًا. وفيه للعلماء فوائد كثيرة وسُنَن جمّة غزيرة: ¬
الفائدة الأولى (¬1): في هذا الحديث من العلم ضروبٌ: منها خروجُ الإمام بنفسه في الغزْو والجهاد للعَدُوِّ، وكانت غزْوة تَبُوك آخرَ غزوةٍ غزاها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بنفسه، وذلك سنة تسع من الهجرة. قال ابن إسحاق (¬2): خرج رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- إلى تَبُوك فصالح أهل أيلَةَ (¬3)، وكتب لهم كتابًا. وذكر خليفة بن خيّاط (¬4) أنّ خروجه إليها كان في رَجَب. ولم يختلفوا أنّ ذلك كان في سنة تسعٍ. الفاثدة الثّانية (¬5): فيه: أدب الرَّجُل أنّ يبعد عند حاجته عن أَعيُن النّاس. وفيه - على ظاهر حديث مالكٌ وأكثر الرِّوايات -: تركُ الاستنجاءِ بالماء، وإنّما ذكر أنّه (¬6) صَبَّ عليه بالإدَاوةِ (¬7)، وفي الآثار كلّها أنّ الإداوة كانت مع المغيرة، وليس في شيء منها أنَّه ناولها رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فذهب بها، ثمّ لَمَّا انصرف ردَّها وأمره أنّ يصبّ عليه، ولو كان ذلك فيها أو في شيءٍ منها، بأن بذلك أنّه استنجَى بالماء، ولكنه لم يذكر في شيءٍ منها الماء. قال ابن جُرَيج في هذا الحديث: "فتبرَّزَ لحاجته قِبَلَ الغائطِ فَحَمَلتُ معه إداوةً" (¬8). ¬
وقال معمرٌ: "فتخلَّفَ وتخلَّفنا معه بإدَاوَةٍ" (¬1). فاستدلَّ بهذا أو ما كان شبهه أو مثله من كره الأحجار مع وجود الماء جماعة من العلماء. وإن صحّ أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- استنجى بالماء يومئذٍ، من نقل مَنْ يُقبَلُ نقلُه (¬2)، وإلّا فالاستدلالُ بهذا، أو ما كان مثل حديث مالكٌ صحيحٌ، فإنَّ في هذا الحديث تركَ الاستنجاءِ بالماء، والعدولَ عنه إلى الاستجمار مع وجود الماء، وأيُّ الأمرينِ كان؛ فإن العلماء اليوم مُجمِعون على أنّ الاستنجاء بالماء أطهرُ وأطيبُ، وأن الأحجارَ رخصةٌ وتَوسِعَةٌ، وأنّ الاستنجاء بها جائزٌ في السَّفَر والحضَر، وقد مضى القولُ في حكم الاستنجاء. الفائدة الثّالثة (¬3): في هذا الحديث: لُبس الضَّيِّق من الثياب؛ بل ينبغي أنّ يكون ذلك في الغزو مستحسنًا، لِمَا في ذلك من التأهُّب والتَّأسيِّ برسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في لباسه، مثل ذلك في السَّفَر، وليس به بأس في الحضَر؛ لأنّه لم يوقف على أنّ ذلك لبسٌ لا يكون إلَّا في السَّفَر. الفائدة الرّابعة (¬4): في هذا الحديث: لباس (¬5) صوف الميتة؛ لأنّ الجُبَّة كانت شامية، والشّامُ في ذلك الوقت للرُّوم وهم لا يُذَكُّون. قال الإمام (¬6): وهذا فيه نظر، لا يقطع بذلك لِمَا فيه من ضَعفِ الكلام. الفائدة الخامسة (¬7): في هذا الحديث: أنّ العمل الّذي لا طول فيه جائز أنّ يُعمَلَ بين أثناء الوضوء، كاستقاءِ الماءِ، ونَزعِ الخُفِّ، وغَسلِ الإناءِ وشِبهِهِ. فإن أخَذَ المتوضِّئُ في غير عملِ ¬
الوضوء، وطالَ تَركُه للوضوء، استأنَفَه من أوَّله. ولا ينبغي لأحد أنّ يُدخِل على نفسه شُغلًا وهو يتوضَّأ حتَّى يَفرُغَ من وضوئه. لماذا كان العمل اليسير في الصّلاة لا يقطعها، فأَحرَى ألَّا يقطع الوضوء. الفائدة السادسة (¬1): قال الإمام: وفي هذا الحديث من الفقه: أنّ الرجُل الفاضل والعالِمَ والسُّلطان جائزٌ أنّ يُخدَمَ وُيعَان على حوائجه، وإن كان أعوانُه على ذلك أحرارًا ليسوا بعبيدِ رقّ. الفائدة السابعة (¬2): في هذا الحديث: الوضوء بما لا تدخلُ فيه اليدانِ (¬3) فإذا كان كذلك، جَازَ الصَّبّ حينئذٍ منه على المتوضِّيء. الفائدة الثامنة (¬4): فيه من الفقه: إذا خِيفَ فواتُ وقتِ الصّلاةِ، أو فواتُ الوقتِ المختارِ منها، لم يُنتَظَرِ الإمامُ وإن كان فاضلًا خَيِّرًا. وقد احتج الشّافعىُّ (¬5) بأن أوَّلَ الوقتِ أفضلُ بهذا الحديث وغيرِه من الأحاديث، وقال: معلومٌ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -لم يكن ليشتغِلَ عن الصّلاةِ حتّى يخرجَ وقتُها كلُّه. وقال: لو أُخِّرت الصّلاة عن أوَّلِ وقتها لشيء من الأشياء لأُخِّرَت لإمامة رسولِ الله وفَضل الصّلاة معه، إذ قَدَّموا عبد الرحمن بنَ عوفٍ في السَّفر. الفائدة التّاسعة (¬6): فيه: جوازُ تقديم النّاس في مساجدهم إمامًا لأنفسهم بغير إذن الوالي، ولأنّ ذلك ¬
ليس كالجمعة الّتي هي إلى الولاة، ولا يُعَابُ عليهم في ذلك إلَّا أنّ يعطِّلُوها، أو تَنْزِل نازلة ضرورة. الفائدة العاشرة (¬1): فيه: جوازُ ائتمامِ الوالي في عَمَلِهِ برَجُل من رعيَّتِهِ. الفائدة الحادية عشر (¬2): فيه: بيان بأنّ قوله -عليه السّلام-: "لا يَؤُمَنَّ أحدٌ في سلطانه إلَّا بإذنِهِ" (¬3) يعني بدليل هذا الحديث، إلَّا لفَضل الوقت أو خوفِ فَوتٍ، وفي معنى ذلك ما كان أشدَّ ضرورة من ذلك أو مثلها. الفائدة الثّانية عشر: فيه من الفقه: جوازُ إمامةِ الفاضل خَلفَ المفضولِ (¬4)، والعالِم خَلف الجاهل ومن هو دونه في العلم والقراءة، هذا كلّه جائزٌ. الفائدة الثّالثة عشر (¬5): فيه: أنّه لم يتأخر ابن عَوف للنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - حين قَدِمَ كما تأخَّر أبو بكر، فدلَّ هذا الحديث أنَّ حديث أبا بكر كان قبل حديث عبد الرحمن؛ لأنهم صفَّقُوا في حديث أبى بكر ولم يُصَفِّقُوا في حديث عبد الرحمن، ولم (¬6) يتأخّر عبد الرحمن للنبي - صلّى الله عليه وسلم - كما تأخّر أبو بكر. ¬
الفائدة الرّابعة عشر (¬1): فيه: أنّه إذا تأخر الإمامُ ثم تقدم آخر (¬2)، لم يخرج الإمام المستخلف للإمام الرّاتب، وإنّما كان فعلُ أبي بكر خصوصًا للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -. فلا (¬3) يجوزُ اليوم لأحدٍ أنّ يتأخَّر للإمام إذا قدم. الفائدة الخامسة عشر: (¬4) فيه من الفقه: أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- حين صلّى مع ابن عَوف ركعة جلس معه في الأُولَى، ثمَّ قَضَى ما فاته في الأُخرَى، فكان فعلُه ذلك أحسن دليل على أنّه ينبغي أنّ يُحمَد ويُشكَر كلُّ من بادر إلى أداء فريضته، وعمل فيهَا ما يجب عليه عمله. الفائدة السّادسة عشر (¬5): فيه: بيان فضل عبد الرحمن بن عَوفِ، إذ قَدَّمَهُ جميعُ الصّحابة لأنفسهم في صلاتهم بَدَلًا من نبيِّهم - صلّى الله عليه وسلم -، ولأنَّه (¬6) أيضًا من جُملةِ العشرة المذكورة، وفضائله أكثر من أنّ أُنبِّهَ عليها. الفائدة السّابعة عشر (¬7): فيه: الحُكمُ الجليلُ الّذي به فُرِّقَ بين أهلِ السُّنَّةِ وأهل البِدَع، وهو المسحُ على الخُفَّين، لا يُنكِرُهُ إلّا مخذولٌ مبتدِعٌ، خارجٌ عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثرِ، لا خلافَ بينهم فيه، إلَّا قومٌ ابتدعوا وأنكروا، وقالوا: إنّه خلافُ القرآن وغير (4) القرآنِ قد ¬
نسخَهُ، ومعاذَ الله أنّ يُخَالِفَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- كتابَ الله، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية (¬1). والقائلون بالمَسحِ هم الجماهيرُ من العلماء، والجَمُّ الغفيرُ والعدد الكثير الّذي لا يجوزُ عليهم الغَلَطُ، وهم جمهورُ الصّحابةِ والتابعينَ وفقهاء المسلمين (¬2). وقالت (¬3) الخوارج لا يجوز أصلًا؛ لأنّ القرآن لم يَرِد به (¬4). وقالت الشِّيعة: لا يجوز؛ لأنّ عليًّا امتنع منه (¬5). والحجةُ للجماعة من الطُّرُق الّتي اشتهرت، وعن الصّحابة الّذين كانوا لا يفارقونه في الحَضَر والسَّفَر، فممن نَقَل عنه - صلّى الله عليه وسلم -: عمر بن الخطاب (¬6)، وعليّ (¬7)، وسعد (¬8)، والمغيرة (¬9)، وابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر (¬10)، وعمرو بن العاصي، وأبو أيوب (¬11)، وأبو أُمَامَة الباهلي، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعري، وأبو سعيد، وحُذَيفَة (¬12)، وعَمّار، والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال (¬13)، ¬
وصفوان (¬1)، وغير هؤلاء، حتّى قال الحسن بن أبي الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب محمد - صلّى الله عليه وسلم - أنّه مسح على الخُفَّينِ (¬2)، فجرى هذا مَجرَى التّواتُر. وحديث المغيرة كان في غَزوة تَبُوك- كما بيَّنَّاهُ- سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول: إنّ آية الوضوء مَدَنِيَّةٌ والمسح منسوخٌ بها؛ لأنّه متقدِّم، وغَزْوة تَبُوك متأخِّرة، وهي آخر غزواته من المدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا. حتّى تأوّل جماعة من العلماء قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬3) في قراءة من خفض (¬4) إنّه أراد إذا كانا في الخُفِّين. وممّا يدلُّ على أنّ المسح غير منسوخ، حديث جرير؛ أنّه رأى رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- يمسحُ على الخُفِّين، وكان يعجبهم (¬5)؛ لأنّ جريرًا أسلم بعد المائدة حين رَوَى المسح عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- (¬6). وأيضًا: فإنّ حديث المغيرة في المسح كان في السَّفَر، فأعجبهم استعمال جرير له في الحَضَر وأنّه لم ينسخه شيءٌ: مزيد بيان: فإن قيل: قد روي عن مالكٌ إنكار المسح على الخُفَّين في السَّفَر والحَضَر. الجواب عنه من وجهين: أحدهما (¬7): أنّ هذه رواية أنكرها أكثر القائلين بها، والرِّوايات عنه بإجازة المسح ¬
في السَّفَر والحَضَر، والحضر أشهر وأكثر، وعلى ذلك بَنَى مُوَطَّأَهُ، وهو مذهبه عند كلِّ من سلك اليوم سبيله، لا ينكره منهم أحدٌ (¬1). الجواب الثّاني - قلنا: قد يعتقد العالِمُ في شيءٍ أنّه كذلك، حتّى يتبيَّن له أنّ فعله ذلك من طريق غير صحيحٍ، فيرجع عنه، كما فعل أبو هريرة في حديث الصّائم إذا أصبح جُنُبا (¬2) فرجعَ عنه، وهذا ممّا لا يُعَابُ على أحدٍ من العلماء، والرُّجوع إلى الحقِّ أَولَى. كشف وإيضاح في تحقيق هذا الباب: قال الإمام الحافظ (¬3): المسحُ على الخُفَّين سُنَّةَ من سُنَنِ الدِّين، ورُخصَة للمسلمين، ورد به الكتاب والسُّنَّة، واجتمعت عليه الأُمَّة. أمّا الكتاب، فقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الآية (¬4)، فأحد التّأويلات فيمن قرأ بالخفض أنّه أراد به المسح على الخُفَّينِ، إذ لا حالَةَ للرَّجُل يمسح فيها إلّا تلك الحالة. وأما السُّنَّة، فما نبيِّنه لكم من أنَّ جماعة من الصّحابة رَوَتِ المسحَ على الخفَّين، فصار كالإجماع الّذي لا يجوز خلافه. قال الإمام الحافظ: ومَن نظر إلى مقاطع الشّريعة وقوانينها، لم يستبعد المسح على الخُفَّين، ولم يشكّ أنّ وضع شَطْر الصّلاة وإباحة الفِطر أعظم في الرُّخصة من المسح على الخُفَّين، لِمَا في نزعهما من المشقَّة، والمسح على الخفَّين رخصةٌ وتخفيفٌ، وتكلُّف الوضوء على الرجلَين والمشقَّة بعيدة والسّيرُ متَّصِلٌ. وأما ما أردته من تحقيق مذهب مالكٌ، فإنه قال: لا تَوقِيتَ على المسافرِ، ومسحه على الخُفَّين (¬5) جائز دائمًا، ما لم يقع في جنابة، وهذا مأخوذ من النَّظَرِ ليس من الأثرِ. ¬
والنظر الّذي اقتضى جواز المسح للمسافر من غير توقيت فُسحةٌ للمقيم؛ لأنّه قد يستغرق بشُغلِه نهاره كلّه، وقد يفوته بِنَزع الخُفَّين أمرٌ عظيمٌ، لكنّه في آخر نهاره يرجع إلى قراره وَيأوِي إلى مسكنه، فيشقّ عليه حبس الخُفَّين للصلاة عن أنّ ينزعها، فلأجل هذا قلنا: إنّ الصّحيح جواز المسح مؤقَّتًا على ما جاء في الحديث عن علي بن أبي طالب (¬1). ولا يمسح عليها إلَّا إذا لبسها على الطّهارة (¬2)، لقول النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- في حديث المغيرة: "دَعهُمَا فإنِّي أَدخَلتهما طاهرتين" (¬3). فإنْ لبسَ خُفَّين، فليمسح على الأعلى خاصة، وقد روي أنّ المسح على أعلى الخُف وأسفله (¬4)، وذلك غير لازمٍ؛ لأنّ المسحَ مبنىٌّ على التّخفيف، فلا يستوفى فيه ما كان يستوفى في الأصل. والخفُّ هو قشر من جلدٍ مخروزٍ يكون على الرَّجل، يمكن متابعة المشي عليه (¬5)، فهذا هو الّذي تتعلَّق به الرُّخصة، ويكون بَدَلًا عن الرِّجلَين، ولا يبالي لبس منهما واحدًا أو أكثر من ذلك؛ لأنّ حكم الآخر حكم الأوّل. ويعتبر في لبسهما الحاجة دون الرّفاهية، فإن لبسهما للرّفاهية، لم يَجُز المسح عليهما؛ لأنّ الرُّخصةَ موقوفة على الحاجة، تجوزُ بجوازِها وتمنعُ بعدَمِها. تنبيه على مقصد: فإن قيل: فما وجهُ ذِكرِ العِمَامَةِ في هذا الحديث؟ الجواب- قلنا (¬6): قال الأصيلي (¬7): العمامةُ في هذا الحديث من خطأ الأوزاعيِّ (¬8) ¬
لأنّ شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبي كثير ولم يدكر العمامة، وقد وقع في "مصنَّف عبد الرازق" (¬1)؛ أنّه - صلّى الله عليه وسلم - مسح على خُفَّيهِ ولم يذكر العمامة، وأبو سَلَمَة لم يسمع من عمرو وإنّما سمع من ابنه جعفر، فلا حُجَّة في هذا، وقد مضَى القولُ فيه. تكملة (¬2): قوله (¬3): "فَفَزعَ النَّاسُ" قال علماؤنا (¬4): يحتملُ أنّ يكون فزعهم في حديث عبد الرَّحمن خِيفَةَ أنّ يكونوا لم يبالغوا في انتظاره. وقوله (¬5): "أَحسَنتُم" يحتمل أنّ يكون أراد أنّ يسكن ما بهم من الفزع. والوجه الثّاني: يحتَمِلُ أنّ يكون تقديمُهم لعبد الرحمن أنّ أبا بكرٍ وعمر كانا غائبين مع النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم-، فقال لهم: أَحسَنتُم الّذي لم تؤخِّروا الوقتَ. والوجه الثّالث - قال الأصيليُّ: إنّما كان ذلك لأنهم كانوا مشاة، فصلّى عبد الرحمن بأصحابه، فأتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو يصلّي بالصَّحابة (2). والوجه الرّابع: قال جماعة أهل الحديث (¬6): كان ذلك في غزوة فنزلوا متباعدين، فصلّى عبد الرحمن بمن كان معه، فَمَرَّ بهم النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-، فلذلك فزعوا حين رَأَوا النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم-، وظنُّوا أنّ يكون أتاهم لأمر حَدَثَ، والله أعلم. وقال بعضُ المحدِّثين: بل هو تصديق لقوله: " ما مات نبىٌّ قَطُّ حتّى أَمَّهُ رَجُلٌ من قومه" (¬7) يحتمل أنّ يكون عبد الرحمن، ويحتمل أنّ يكون أبو بكر حين أمَّه في مرضه ¬
الّذي توفّي فيه. حديث مالكٌ (¬1)، عن نافع، وعبد الله بن دينار؛ أنّهما أخبراهُ أنّ عبد الله بن عمر قَدِمَ الكوفةَ على سعدِ بن أبي وقّاص، وهو أميرُها، فرآه عبدُ الله بن عمر يَمسَحُ على الخُفَّينِ، فأَنْكَرَ ذلك عليه، فقال له سعد: سَل أباكَ إذا قدِمتَ عليه، قال: فقدِمَ عبدُ الله، فنَسِيَ أنّ يسألَ عمر عن ذلك، حتّى قدِمَ سعدُ، فقال: أسألتَ؛ فقال: لا، فسأله عبدُ الله، فقال عمرُ: إذا أدخَلتَ رجلَيكَ في الخُفَّينِ وهما طاهرتان، فامسَح عليهما، قال عبدُ الله بن عمر: وإن جاءَ أحَدُنا من الغائط؛ قال عمرُ: نعم، وإن جاءَ أحدُكُم من الغائطِ. فيه خمس فوائد: الفائدة الأولى (¬2): فيه: المسح على الْخُفَّينِ في الحضَر؛ لأنّ سعد بن أبي وقاص كان أمير الكوفة. وقال الأصيلي: كان سعد حين أنكر عليه ابن عمر المسح محاصرًا لجلولة، وجلولة موضع بالعراق (¬3). الفائدة الثّانية (¬4): وفيه: فضلُ عمر وعلمُه، وأنهم كانوا يردّون ذلك له. الفائدة الثّالثة (¬5): وفيه: الاحتجاج في العلم والمراجعة فيه. الفائدة الرّابعة (¬6): وفيه: التكلم في العلم بما يظنُّ المرءُ أنّه جائزٌ. ¬
وقول سعد لابن عمر حين قدم المدينة: هل سألت أباك؟ يحتمل أنّ يكون أراد به أنّ يعلم ما عند عمر في ذلك ليثبت عليه. ويحتمل أنّ يكون أراد تحقيق قول عبد الله بن عمر (¬1). الفائدة الخامسة (¬2): وفيه: أنّ المرء يستظهرُ بسؤالِ مَنْ هو أعلم منه إذا رُوجِعَ في شيءٍ. حديث مالكٌ (¬3)، عن نافع؛ أنّ عبد الله بن عمرَ بالَ في السُّوقِ، ثمَّ توضَّأَ الحديث. فيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬4): المسحُ في الحضَر، وإنّما فعل ذلك ابن عمر بعد الّذي عرض له مع سعد بن أبي وقّاص. الفائدة الثّانية (¬5): فيه: دخولُ العالِم السُّوق، والبول فيها، ولم يأخذ مالكٌ بظاهر تأخير ابن عمر المسح، ولم يكن مسح ابن عمر يبعدُ ممّا تقدَّم من الوَضُوء؛ لأنّ السُّوق قريبٌ من المسجد. ويحتمل أنّ يكون إنّما أَخَّر ابن عمر المسح لأنّه كان برِجلَيه علّة، فلم يمكن له الجلوس في السُّوق، فلمّا أتى باب المسجد تمكّن من الجلوس ومسح عَلى خُفَّيه، وذلك لقُربِ المسجد من السّوق. ¬
العمل في المسح على الخفين
ويحتمل أنّ يكون ابنُ عمر نَسِيَ حين توضَّأَ، فذَكَر ذلك حين دُعِيَ للجنازة. ويحتمل أنّ يكون ابنُ عمر كان يرى أنّ غسل الأعضاء على الفور في الوضوء ليس من الواجب، ومالك يرى الفَورَ في الوُضوء سُنَّة واجبة. ومن ترك ذلك عامدًا استأنف الوضوء، ومن ترك ذلك ناسيًا، فإن كان بحضرة الماء غسل ما نسِيَ وما بعدَهُ استحبابًا ليأتي بالرُّتبة في الفور. وإن لم يكن بحضرة الوَضُوء غسل الّذي نَسِيَ فقط، ولا غسل عليه لما بعده؛ لأنّه لا يقدر أنّ يأتي بجميع الوضوء في الفَوْر. إلَّا أنّ يبتدىء جميع الوضوء، وهذا لا يجب على النّاسي؛ لأنّ الرُّتبة في الوضوء عند مالك ليست بفرضٍ، ولو كانت الرّتبة عنده فرضا لوجب على المتوضِّيء إذا نَسِيَ من فرضه شيئًا وذكر ذلك بعد أنّ تطاول أنّ يبتدىء الوضوء من أوَّله، كما يجب في الصّلاة إذا نسي من فرضها شيئًا وذكر ذلك بعد أنّ تطاول. وذكر ابنُ حبيب (¬1) عن مالكٌ أنّه فَرَّقَ بين ما يغسل وبين ما يمسح فقال: إذا نَسِيَ ممّا يغسل شيئًا فلم يذكر ذلك حتّى تطاوَلَ، فإنه يبتدىء الوضوءَ من أوَّله، وإذا نَسِيَ مسحَ رأسه فإنّه يمسح برأسه فقط. قال الإمام الحافظ: وهذا الّذي حكاهُ ابن حبيب ليس بالقويّ؛ لأنّه لا فَرقَ بين ما يغسل وبين ما يمسح (¬2)، إلَّا أن يخصّ ذلك ما يجب به التّسليم من نصِّ أو إجماعٍ، وهما لا يوجَدَان في هذه المسألة. العملُ في المسحِ على الْخُفَّيْن قال الإمام الحافظ: انظروا فِقه مالك - رحمه الله - كيف ساقَ الأثرَ، ثمّ بَيَّنَ كيفية العمل، وقد قيَّدنا في هذا الباب عن أشياخنا ممّا يحتاج إليه ولا بدّ منه عشر مسائل: ¬
المسألةُ الأولى (¬1): 153 قال مالكٌ (¬2): لو مسح الأسفل دون الأعلى لم يجزه وُيعِيدُ أبدًا، قال سحنون وابنُ حبيب: هذا المشهور من المذهب (¬3). وروى ابن عبد الحَكَم عن أشهب أنّه يجزئه، وبه قال الشّافعيّ (¬4). المسألة الثّانية (¬5): قال ابنُ نافع: من ترك مسح باطن الخفّ أعاد أبدًا. وعلى رواية ابن القاسم، إنّ مسح أعلى الخفَّ وترك أسفله أعاد في الوقت. وقال سُحنون: لا إعادة عليه، وهو* عندي الأظهر؛ لأنّها رخصةٌ والرُّخَصُ أبدًا مبنية على التَّخفيفِ* (¬6)، وإن كان الظّاهر من المذهب وجوب الاستيعاب، وهو مقتضى رواية موسى بن معاوية عن ابن القاسم في "العُتبِيَّة" (¬7)، ويقتضي قول ابن مسلمة: ليس شأن المسح الاستيعاب، أنّ ذلك غير واجب. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قال (¬2): وان كان الخَرق يسيرَا جاز المسح عليه (¬3)، خلافًا لأحد قولي الشّافعيّ (¬4)، وان كان كثيرًا لم يجز المسح عليه. وفَرَّقَ العراقيون من علمائنا بين القليل الّذي لا يمنع المسح، وبين الكثير الّذي يمنعه، بأنّ القليل يمكن متابعة المشي معه غالبًا (¬5). وقال ابنُ القاسم: إنَّ الخَرقَ إذا ظهر منه القدم منع المسح، وإذا لم يظهر منه القَدَم لم يمنعه، ولم يحدّ فيه أحد من أصحابنا ربعًا ولا ثلثًا، خلافًا لأبي حنيفة (¬6) في قوله: إنّ كان الخَرق أقلّ من ثلاثة أصابع جازَ المسح عليه. فإن أشكلَ الخَرقُ فلم يدر أهو من الكثير أم من القليل، فقال ابن حبيب: يخلعه ولا يمسح عليه. المسألة الرّابعة (¬7): واختلف قوله في الجُرمُوق (¬8): واستدلّ عبد الوهّاب (¬9) في ذلك بأنّه ملبوس على ممسوح فلم يجز أنّ يمسح عليه في الوضوء لغير ضرورة كالعِمَامَة، فاقتضى استدلاله أنّه خفٌّ ملبوس على خُفٍّ. وقال ابن أبي زيد في "نوادره" (¬10): اختلف قول مالكٌ في مسح خُفٍّ ملبوسٍ على ¬
خُفٍّ، فقال مرة: يمسح (¬1)، وقال مرة: لا يمسح (¬2)، هكذا ذكره الشّيخ أبو بكر الأَبهَرِيّ في"شرحه" (¬3). وقال ابنُ حبيب: هو (¬4) غليظ لا ساقَ له (¬5). المسألةُ الخامسة (¬6): قال (¬7): ومن لبس مهاميز (¬8) فوق خُفه، فقال سحنون: يمسح على المهاميز (¬9). ووجه ذلك على قول من يرى تبعيض المسح بَيِّنٌ، وعلى قول من لا يرى ذلك: أنّه لَمّا سُومِحَ في يسير الخَرقِ سُومِحَ أيضًا في يسير الحائل الّذي تدعو الضّرورة إليه. إكمال (¬10): قال (¬11): فلو توضّأ، فغسل إحدى قَدَمَيه، ثمّ لبس الخفّ (¬12)، ثمّ غسل الأخرى، ثمّ لبس الآخر، فالمشهور من مذهب مالكٌ - رحمه الله - أنَّه لا يمسح عليهما (¬13). ¬
ما جاء في الرعاف
وقال مُطَرِّف: يمسح عليهما، وبه قال أبو حنيفة. قال الإمام الحافظ (¬1): ووجه الرِّواية الأولى: أنّ كلَّ ما كانتِ الطّهارةُ شرطًا في صِحَّتِهِ وجبَ أنّ يَتَقَدَّم على جميعه كالصّلاة. ووجه الرواية الأخرى: أنّه حَدَثٌ وردَ على طُهرٍ كاملٍ فأشبه إذا ابتداء اللّبس بعد غسل القَدَمَين. ما جاء في الرُّعاف قال الإمام الحافظ (¬2): أخذ مالكٌ بفِعلِ ابنِ عمر بالبناء في الرُّعَاف (¬3)، ولم يأخذ بفِعلِهِ في الوضوء (¬4)، وليس الوُضوء ممّا يلزَمُ الرَّاعفَ. وفي فعل ابنِ عمرَ إجازة العمل اليسير في الصّلاة إذا كان من مصلحة الصّلاة، والوُضوء من مصلحة الصّلاة؛ فلذلك استحقَّهُ ابن عمر وابن المسيِّب. وقد زعم بعضُ العلماء أنّ وُضوءَ ابن عمر إنّما كان غسلُ الدَّم فقط؛ لأنّ العرب تسمِّي غسل الأذى وضوءًا، وهذا التّأويل حَسَنٌ، لولا أنّ مالكًا حَمَلَهُ على أنّ ابنَ عمر أكمل الوضوء فقال في "السَّمَاع": "إنّما هذا من ابن عمر على وجه التَّوَقِّي" أو نحو هذا الكلام، فلولا مخالفة مالك لكان هذا التّأويل حَسَنًا. نكتةٌ لُغَويَّة: قال: الرُّعَاف هو دمٌ يخرج بسرعة؛ لأنَّ أصل الرُّعَاف السُّرعة، يقال منه رَعَف، بفتح الراء والعين، ولا يقال رَعِف بكسر العين (¬5). ¬
غايةٌ وإيضاحٌ (¬1): قال الإمام الحافظ: قال مالكٌ بالبناء في الرُّعاف، وهي مسألة مُعضِلَةٌ ليس في المذهب أشكلُ منها، وَرَدَّها عامَّةُ الفقهاء، إلَّا أبا حنيفة (¬2) فإنّه قال: يَبنِي فيها وفي الحَدَثِ كلِّه، ووقَعَ مثلُ مذهبِ أبي حنيفة لأشهبَ. فأمَّا البناءُ في الحَدَثِ فإنّما يُبنَى على أصلٍ، وهو القولُ بتبعيض الصّلاة في الصِّحَّةِ، وقد قال الشّافعيّ (¬3): إذا رأى المصلِّي حريقًا أطفأَه، أو غريقًا استنقذَهُ، وبَنَى على صلاته، وخالَفَه مالكٌ وأبو حنيفة (¬4)، والأصولُ كما تَرَى متعارضةٌ. قال الإمامُ الحافظُ: والصّحيحُ أنّ الصّلاة تَبطُلُ بِطَرَيَان الحَدَثِ وبالاشتغال مع الحريق والغريق وما أشبَهَهُ. وليس للعلماء فيه متعلّقٌ قويٌّ في البناء في الرّعَافِ إلّا حديث ابن عمر (¬5) وابن عبّاس (¬6)، ومن التّابعين أيضًا سعيد بن المسيَّب (¬7)، وسالم بن عبد الله (¬8)، فإنهم كانوا يرعُفُونَ في الصّلاة حتّى تختضِبَ أصابعهم -أي الأنامل الأُولَى منها- من الدَّم الّذي يخرج. نكتةٌ أصوليةٌ: وهي تنبني على أصل من أصول الفقه، وهو أنّ الصّاحب إذا أَفتَى بخلاف القياس، هل يكونُ أصلًا يُرجَعُ إليه أم لا؟ والصّحيحُ أنّه لا يرجع إليه، ولضَعفِ المسألةِ استَحَبَّ مالكٌ للرَّاعِفِ إنّ تكلَّمَ ألَّا يبني (¬9). وقد أكثرتِ المالكية التّفريع فيها، وليست عندي من المسائل الّتي يُعَوَّلُ عليها، فإنه ليس فيها نصٌّ ولا لها نظيرٌ، ولكنِّي أربطُ لك هذا ¬
الباب بجملة مسائل يعضدها القياس ويقبلها العقل. وأما البناء في الرعَافِ فقال علماؤنا (¬1) - رضوان الله عليهم-: "لصحّة البناء في الرُّعَافِ أربعة شروط متَّفَقٌ عليها: أحدُها: ألَّا يجد الماء في موضعٍ فيتجاوزه إلى غيره؛ لأنّه إن وجدَ الماءَ في موضع فتجاوزه إلى غيره بطلت باتِّفاقٍ. الشرط الثّاني: ألَّا يطأ على نجاسة رطبةٍ؛ لأنّه إذا وطئ على نجاسة رطبة انتفضت صلاته باتِّفاق أيضًا. الثّالث: ألَّا يسقط من الدَّم على جسده أو ثوبه ما لا يُغتَفَر لكثرته، وقد تقدَّم الكلام في حدِّه (¬2)؛ لأنّه إنّ سقط من الدَّمِ على ثوبه أو جسده كثيرٌ بطلت صلاته باتِّفاق منهم (4). الرّابع: ألَّا يتكلّم جاهلًا أو متعمِّدًا؛ لأنّه إنّ تكلَّم جاهلًا أو متعمِّدًا بطلت صلاته باتِّفاقٍ. فهذه أربعة شروط متَّفق عليها، وبقي شرطان مختلف فيهما: أحدهما: أنّه لا يتكلّم ناسيًا؛ لأنّه قد اختُلِفَ إنّ تكلّم ناسيًا: فقال ابنُ حبيب: لا يبنى؛ لأنّ السُّنَّة إنّما جاءت في بناء الرّاعف ممّا لم يتكلّم، ولم يخصّ في ذلك ناسيًا من متعمِّدٍ. وحَكَى ابن سحنون (¬3) عن أبيه؛ أنّه يبني على صلاته ويسجد للسَّهو، إلَّا أنّ يكون الإمامُ لم يفرغ من صلاته فإنّه يحمله عنه. ¬
الثّاني: ألَّا يطأ على قِشبٍ يابس؛ لأنّه قد اختُلِفَ فيه إنّ وطئ على قِشْبٍ يابس: فقال ابن سحنون: تنتقض صلاته. وقال ابن عبدوس (¬1): لا تنتقض صلاته". تنبيه على مقصد (¬2): قال الإمام الحافظ (¬3): وليس البناء في الرُّعاف بواجبٍ، وإنّما هو من قبيل الجائز، وقد اختُلِف في المختار المستحبّ من ذلك: فاختار ابنُ القاسم القطع بسلام أو بكلام على القياس، فإن ابتدأ ولم يتكلّم أعاد الصّلاة. واختار مالكٌ - رحمه الله - البناء على الاتِّباع للسَّلَف الصّالح وإن خالف في ذلك القياس والنَّظَر، وهو في هذا على أصله أنَّ العمل عنده أقوى من القياس؛ لأنَّ العملَ المتَّصِلَ لا يكون أصله إلَّا عن توقيفٍ. مزيد بيان (¬4): ولا يخرج الرّاعف عن حُكمِ الصَّلاةِ وحرمتها على مذهب من يجيزُ له البناء إلَّا أنّ يقطعَ بسلامٍ أو كلام أو فعل لا يصحُّ فعله في الصّلاة، وهذا وجهُ قول ابن حبيب: إنّ من رعَفَ وهو جالس وسطَ صلاته، أو راكع، أو ساجد، أو قيامه من الجلوس، أو رفعه من الركوع أو السجود؛ فإنه يعتدّ به من الصّلاة. ¬
واختُلف إنّ كان مأمومًا فانصرف لغسل الدَّم وهو يريد البناء، هل يخرج من حُكم الإمام أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنّه يخرجُ من حُكمه حتّى يرجع إليه جملة من غير تفصيلٍ. الثّاني: أنّه لا يخرج من حُكمِه جملة من غير تفصيلٍ. الثّالث: إن رَعَفَ قبل أنّ يعقد معه ركعة خرج من حُكمه حتّى يرجع إليه، وإن رعَفَ بعد أنّ قيَّدَ معه ركعة لم يخرج عن حُكمِهِ. الرّابع: أنّه إنّ أدرك ركعة من صلاة الإمام بعد رجوعه كان في حُكمِهِ (¬1) وإن لم يُدرِك من صلاته ركعة بعد رجوعه لم يكن في حُكمه. قال الإمام (¬2): وكذلك أيضًا اختلفوا في من رَعَفَ قبل أنّ يركع وبعدَ أنّ أَحرَمَ، هل يصحُّ له البناء على إحرامه أم لا؟ فعلى أربعة أقوال: أحدُها: أنّه ينبني على إحرامه جملةً من غير تفصيلٍ، وهو قولُ سحنون (¬3). الثّاني: أنّه لا يبني على إحرامه جملةً من غير تفصيلٍ، ويستأنفُ الإقامةَ والإحرامَ، وهو قولُ ابن عبد الحكَم، ومثله في سماع ابن القاسم (¬4). الثّالث: أنّها إنّ كانت جمعة ابتدأَ الإحرامَ، وإن كانتِ غير جمعة يبني على إحرامه، وهو قولُ مالك في رواية ابن وهب عنه، وظاهر ما في "المدوّنة" (¬5) عندي. واستحبّ أشهب في الجمعة أن يقطع. الرّابع: إنّ كان وحدَهُ أو إمامًا ابتدأ الإحرام، وان كان مأمومًا بنى على إحرامه. ¬
قال الإمام الحافظ (¬1): وحُكمُ الإمام عندي في الرُّعاف كحُكْمِ المأموم في جميع الأشياء؛ لأنّه يستخلفُ عند خروجه من يُتمّ بالقوم صلاتهم، فيصير المستخلَفُ له إمامًا يصلي معه ما أدرك من صلاته بعد غسل الدَّمِ، ويقضي ما فاته، ويكون في حُكمِهِ حتّى يرجع إليه على الاختلاف المذكور (¬2). فإنْ ظنَّ الإمامُ أنّه قد رعَفَ فانصرف، ثمّ تبيَّنَ له أنّه لم يرعف، بطلت صلاته. واختُلِفَ في صلاة القوم على قولين: 1 - نقال ابن عبدوس: لا تبطل، وحكى ذلك عن سحنون في "المجموعة". 2 - وقال ابن سحنون: تبطل. قال (¬3): فإذا رَعَف الرَّجُل خَلف الإمام فغسل الدَّم عنه، فإن عَلمَ أنَّه يُدرِك الإمام في صلاته، رجع إليه فَأَتَمَّ معه، وإن عَلِمَ أنَّه لا يُدرِك صلاته، أتمّ في موضعه (¬4). تكملة (¬5): قال الإمام (¬6): وحُكمُ الراعفِ خَلف الإمام في الجمعة وغيرها سواءٌ، إلَّا في موضعين: أحدهما: أنّه إذا رَعَفَ بعد أنّ صلّى مع الإمام ركعة، فلم يفرغ من غسل الدَّم حتّى أتمّ الإمام الصّلاة؛ أنّه لا يصلِّي الرَّكعة الثّانية إلَّا في المسجد الّذي ابتدأ الصّلاة فيه؛ لأنّ الجمعة لا تكون إلَّا في المسجد. فإنْ حال بينه وبين الرجوع إلى المسجد أَمْرٌ غالبٌ، أضاف إليها ركعة وصلّى أربع ركعات ظهرًا أربعًا قاله المغيرة. ¬
العمل في الرعاف
والثّاني: إذا رعَفَ قبل أنّ يتمّ مع الإمام ركعة بسجدَتَيْها (¬1). وإذا رعَفَ الإمام في صلاة الجنائز أو صلاة العيد، استخلف من يُتمَّ بالقوم بقيَّة صلاته، كصلاة الفريضة سواء. وأمّا إنّ رعَفَ المأموم فيهما، نإنه ينصَرِف ويغسل الدَّم، ثم يرجع فيتمّ مع الإمام ما بَقِيَ من تكبير الجنائز أو صلاة العيد. فإن علم أنّه لا يدرك شيئًا من ذلك مع الإمام، أتمَّ في موضعه حيث يغسل الدَّم، إلا أنّ يعلم أنّه يدرك الجنازة قبل أنّ ترفع، فإنه يرجع حتّى يتم ما بقي من التّكبير. قال أشهب: فإن رَعَفَ قبل أنّ يعقد ركعة من صلاة العيد، أو قبل أنّ يُكبِّر على الجنازة بشيءٍ، وخَشِيَ إنِ انصرفَ يغسل الدَّم أنّ تفوته الصّلاة، لم ينصرف وصلَّى على الجنازة، وتَمَادَى على صلاته في العيد. وكذلك لو رأى في ثوبه نجاسة، وخاف إنِ انصرفَ يغسلها أنّ تفوته صلاة الجنازة أو صلاة العيد، إنه يتمادَى على صلاته ولم يرجع؛ لأنّ الصّلاة على الجنائز وصلاة العيد مع الرَّعاف والثّوب النَّجِس أَولَى من فواتهما أو تركهما، بخلاف صلاتهما بالتّيمُّم لمن لم يجد الماء (¬2). قال المؤلِّف - رحمه الله -: فهذه جملة كافية في مسائل الرَّعاف، وهي لُبابُ ما قاله جماهير الفقهاء المالكيِّين والحنفيِّين أيضًا، فيجب الوقوف عليها. العمل في الرَّعاف قال الإمام: وهذه الأبواب أيضًا مثل الّتي تقدَّمت، في تنبيه مالكٌ على ما جاء من الآثار، ثمَّ بيَّنَ بعد ذلك بالعمل. ¬
مالك (¬1)، عن عبد الرحمن بن حَرمَلَة؛ أنّه قال: رأيتُ سعيدَ بن المسيَّبِ يَرعُفُ، فيخرُجُ منه الدَّمُ، حتّى تختضِبَ أصابعُهُ من الدَّم الّذي يخرُجُ من أنفهِ، ثم يصلِّي ولا يتوضَّأُ. قال الإمام (¬2): هذا يقتضي أنّها كانت تختضبُ كلّها، وهذا في حَيِّز الدَّم الكثير، ولعلّه أراد الأنامل العليا من أصابع يده، فإنّ ذلك في حَيِّزِ اليسير. والرَّعافُ على ضربين: كثير، وقليل. فأما الكثير: فهو الّذي يخرجُ الرّاعفُ إلى غسله، ثم يبني على ما تقدَّم من صلاته كما بيَّنَّاهُ. وأمّا القليلُ: فإنه يَفْتِلُه بأصابعه حتّى يجفّ ويتمادى، وهذا لا خلاف فيه. والكثيرُ أنّ يسيل أو يقطر، لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الآية (¬3)، وهو الجاري، فعَفَا عن اليسير وحرَّمَ الكثير (¬4)، فإن زاد على الأنامل العليا فإنّه كثير ولينصرف، قاله ابن نافع في "المجموعة" (¬5) عنه. وفي "كتاب ابن المواز" (¬6) نحوه، ومعنى انصرافه في هذا: قطع صلاته. ¬
العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف
العمل فيمن غَلَبَهُ الدَّمُ من جُرْحٍ أو رُعاف مالك (¬1)، عن هشام بن عُروَة، عن أبيه؛ أنّ المِسوَرَ بن مخْرَمَةَ أخبره، أنّه دخل على عمرَ بن الخطّاب من اللَّيلةِ الّتي طُعِنَ فيها. الحديث. كذا (¬2) رواه مالكٌ في "الموطَّأ"، ورواه الثّوريّ، عن هشام، عن أبيه، قال: حدّثني سليمانُ بنُ يسار؛ أنّ المِسْوَر بن مَخرَمَة أخبره؛ قال: دخلتُ أنا وابن عبّاس على عمر حين طُعِنَ، فقلنا له: الصّلاة، فقال: أما أنّه لاحظَّ لمن ترك الصّلاة، أو قال: لمن أضاعَ الصّلاة، فصلّى وجرحه يَثعَبُ دَمًا (¬3). نكتةٌ لغوية (¬4): قوله: "يثعب دَمًا" أي: ينفجر، وانثعَبَ: انفجَرَ، وثَعَبَ الماءَ فَجَّرَهُ، قاله الخليل بن أحمد (¬5). قال الإمام (¬6): هذا الحديث أصلُ هذا الباب عند العلماء فيمن لا يرقأ جُرحُهُ ولا ينقطِعُ رُعَافُه، لا بدّ له من الصّلاة في وقتها إذا أيقن أنّه لا ينقطِعُ قبلَ خروجِ الوقت، وليس حال من وصفنا بأكثر من سَلَسِ البول والمَذْيِ؛ لأنَّ البول والمَذيَ متَّفَقٌ ¬
ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث
على أنّ خروجَهما في الصِّحَّة حَدَث. واختلفوا في الدَّمِ اختلافًا كثيرًا، وكذلك اختلفوا في البول والمَذي الخارِجَينِ لعلَّة مرضٍ أو فسادٍ، هل يوجِبُ خروجهما الوضوء كخروجهما في الصِّحة أم لا؟ ففي ذلك كلامٌ طويلٌ لا يحتمله هذا "المختصر". ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي خمس فوائد: الفائدة الأولى (¬1): قوله: "أنّه دخلَ على عمرَ من اللَّيلةِ الّتي طُعِنَ فيها" ظاهرُهُ أنّ وقت صلاة الصُّبح من اللّيل؛ لأنّ الّذي صحّ عن عمر أنّه طُعِنَ في صلاة الصُّبح في أوَّل ركعة، ولعلّ هذا مخالفٌ لتلك الرِّواية. ويحتَمِلُ أنّ يريدَ بذلك: من الوقت المتَّصِلِ بتلك اللَّيلة، وعند مالك؛ أنّ النهار من طُلوعِ الفجرِ، وروى عيسى (¬2) عن ابن القاسم عن مالكٌ؛ أنّ عمر مات من يومه الّذي طُعِنَ فيه. الفائدة الثّانية (¬3): قوله: " فَصَلَّى وَجُرحُه يَثعَبُ دمًا" يريد: يسيل؛ لأنّ خروج الدَّم على وجهين: أحدهما: أنّ يكون متَّصلًا غير منقطعٍ. والثّاني: أنّه يجري في وقتٍ دون وقتٍ. فإنِ اتَّصل خروجه، فعلى المجروح أنّ يصلِّي على حالِهِ، وليس عليه غسله إلَّا إذا كثر. وأمّا ما لا يتّصل خروجه، فإنّه يقطع الصّلاة ويغسله ويستأنف العمل (¬4). ¬
الفائدة الثّالثة (¬1): قول سعيد (¬2): "أَرَى أنّ يُومِيء بِرَأسِهِ إِيمَاءً". اختلف علماؤنا في توجيه ذلك: فقال ابن حبيب: إنّما ذلك ليدرأَ عن ثوبه الدَّم (¬3)، فكان ذلك من الأعذار الّتي تبيح الإيماء، كما يُبيح التَّيمُّم الزِّيادة في شراء الماء (¬4). وقال محمد بن مَسلَمَة: إنّما. ذلك إذا كان الرَّعاف يضرُّ به في ركوعه وسجوده؛ كالرَّمَد ومَن لا يقدِر على السجود. الفائدة الرّابعة: قول عمر بن الخطّاب: "ولا حظَّ في الإِسلامِ لمن تركَ الصَّلاة". اختلف العلماء في تأويل ذلك على ثلاثة أقوال: 1 - القول الأوّل (¬5): قال الخطّابي (¬6) الحظ: النَّصيب، يقال: لا نصيب له في الإسلام. قال الإمام: وقول عمر هذا يحتمل وجهين: أحدُهما: خروجه عن الإسلام بذلك. والثّاني: أنّه يريد لا كبيرَ حظٍّ له في الإسلام، كما قيل: "لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلَّا في المسجدِ" (¬7) و"لا إِيمَانَ لمَن لا أمَانةَ لَهُ" (¬8) وكلام نحو هذا، وهو كلامٌ خرج على ¬
ترك الصّلاة لا على جحودها. وأجمع العلماء أنّ جاحد فرض الصّلاة كافر حلال الدَّم، كسائر الكفّار بالله وملائكته. 2 - التّأويل الثّاني (¬1): قوله: " لاَ حَظَّ في الإِسلامِ لمن تركَ الصَّلاةَ" أراد حَظًّا كاملًا وليس كحظ من لم يترك الصّلاة. ومن ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزَّاني حينَ يَزْنِي وهو مؤمنٌ" (¬2) أراد مستكمل الإيمان" وليس إيمانُه كإيمان من لم يفعل فعله، ولا يجوز أن يخرج الإيمان منه كلّه، إذ لو خرج الإيمان منه كلّه لكان إنّ مات في نفس فعل الزِّنا أو نفس السَّرقة كافرًا، ولكن تأويله على ما ذكرنا، والله أعلم. ومنه قوله: "مَنْ غَشَّ فَلَيسَ مِنَّا" (¬3) أراد -عليه السّلام- أنّ من غَشَّ ليس على طريقتنا، وأنّ الغشَّ ليس مِنْ أعمال أهل الإيمان، ولا مِنْ أخلاق أهل الإسلام، ولا مِنْ طريقهم، إنّما هو من طريقة اليهود وغيرهم، وقال ابن عُيَيْنَة: ليس مثلنا (¬4). وأمّا اختلاف العلماء في تارك الصّلاة عمدًا وهو قادرٌ عليها مُقِرٌّ بها، فإنّه يُهَدَّد ويُضرَب، فإن لم يرجع وإلّا انتظر به أقرب الأوقات، فإن صلَّى وإلّا ضُرِبَت رقبته، يقتله مالك - رحمه الله - حَدًّا لا كُفرًا، والشّافعيّ يقتله قَتْلَ كُفْرٍ (¬5). وأمّا الجاحدُ لها ولفَرضِها، فإنّه كافرٌ حلال الدَّمِ، ولا يصلَّى عليه، وما له فيءٌ للمسلمين. وأمّا الّذي هو مُقِرٌّ بفرضها؛ فإنه يُقتَل وُيورَث ويصلَّى عليه، بخلاف الجاحد، فهذه أقوال العلماء ومذاهبهم في هذه المسألة. ¬
الوضوء من المذي
الوضوءُ من المَذي مالك (¬1)، عن أبي النَّضْر مَوْلَى عمرَ بن عُبَيد الله، عن سليمانَ بن يَسَارٍ، عن المِقداد ابن الأسود؛ أنّ عليَّ بن أبي طالب أَمَرَهُ أنّ يَسألَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -عن الرَّجُلِ إذا دَنَا من أهله، فخرجَ منه المَذيُ، ماذا عليه؟ قال عليُّ: فإنّ عندي ابنةَ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، وأنا أستحِي أنّ أسأله، قال المقدادُ: فسألتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "إذا وَجَدَ أحدُكُم ذلك فَلَيَنضَح فَرجَهُ وليَتَوَضَّأ وُضُوءَهُ للصّلاة". فيه فصول: الفصل الأوّل في الإسناد قال (¬2) أبو محمد الأصيلي: هذا حديثٌ مُرسَلٌ؛ لأنّ سليمان بن يَسَار لم يُدرِك المقدادَ ولا سمع منه (¬3)، والمقدادُ ليس هو ابن الأسود لصُلبِه إنّما رَبَّاهُ الأسود (¬4). وسليمان (¬5) بن يَسَار لم يسمع من المقداد ولا مِنْ عليّ؛ لأنّه لم يدركهما، وإنّما رَوَى سليمان هذا الخبر عن ابنِ عبّاس، قال: قال عليّ: أرسلنا المقداد إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يسأله عن الْمَذي. الحديث (¬6). ¬
وسماعُ سليمانَ من ابن عبَّاسِ صحيحٌ أيضًا، والحديثُ ثابتٌ عند أهل العلم، وله طرقٌ شَتَّى عن عليّ، وعن المقداد، وعن عمار، كلّها صِحَاحٌ حِسَانٌ، وأحسنُها ما ذكر عبد الرزّاق (¬1) عن ابن جُرَيْج، قال: قلت لعطاء: أرأيتَ الْمَذيَ أكنت تمسحه مسحًا، قال: لا، المَذيُ أشدُّ من البول، يُغسَلُ غسلًا. ثمّ حدَّث بحديث عمار عن المقداد. نكتةٌ أصوليّة: قال الإمام الحافظ أبو عبد الله المازَرِيّ (¬2): "لم يبيِّن في هذا الحديث - حديث المقداد- على أيِّ وجه وقع سؤاله؟ هل سأله سؤالًا يخصّ السّائل أو يعمّه وغيره؟ والّذي عندي أنّه لم يبيِّن على أيِّ صفةٍ أَمَرهُ عليّ أنّ يسأل له، فإن كان لم يلتفت على أيِّ وجهٍ وقعَ سؤالُه، ففيه دليلٌ على أنّه كان يرى أنّ القضايا في الأعيان تتعدَّى، وهي مسألةُ خلافٍ بين أهل الأصول؛ لأنّه لو كان يقول ما يَتَعَدَّى لأَمَرَهُ - رضي الله عنه - أنّ يبيِّنَه له، إذ قد أبيح له ما أبيح لغيره، إلَّا أنّه قد ذكر في إحدى الرِّوايات أنّ سؤالَ المقداد لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وقع على صفةٍ تَعُمُّ. وفيه أيضًا: أنّ عليًّا كلَّفَ من يسأل له مع القدرة على المشافهة، فإن كان أراد أنّ يكون سؤال الرّسول - صلّى الله عليه وسلم - بحضرته فيسمع منه، وإنّما احتشم من مشافهته لكون ابنته عنده، فلا اعتراضَ في ذلك. وإن لم يرد ذلك فإنّه يقال: كيف يجزئ خبر الواحد عن الرّسول مع القدرة على القطع وسماع قوله. وهل يكون هذا كالاجتهاد مع القدرة على النَّصِّ؟ وفي الظاهر من الرِّواية المذكورة فيها أنَّه قال: "فأَرْسَلْنَا المِقْدَاد" إشارة إلى أنَّه لم يحضر مجلس السُّؤال". ¬
نكتةٌ لغوية (¬1): قال الإمام: وأكثرُ الفقهاءِ يقرؤون "الوَذي" بالذال المنقوطة. وقومٌ من أهل اللّغة يقولون: صوابه (الْوَدْيَ) بالدال مجزومة غير منقوطة، والمدي أيضًا عند أهل اللغة بجَزمٍ الذال. وقيل: المذيّ والوديّ مشدّدان. وقيل: مخفَّفان. قال أبو عبيد (¬2): المني عندنا مشدَّدٌ (¬3)، والمَذيُ والوَذيُ مخفّفان. ويقال: مذيتُ أَمذَيتُ، وأَمَنَيتُ، ومَنَيتُ. قال: والوَذيُ بالذّال منقوطة، وهي اللُّغة العالية، ويقال فيه أيضًا: الوَدي بالدال غير منقوطة، وهي اللغة السّافلة. قال: وله شهوة دون شهوة الجماع، وهو في لونه أصفر، يقال منه: مذى يمذي مذيًا، وأمذى يمذي إمذاءً، ومذي اللغة العالية، والمَذي هو على وزن الفعل (¬4). نكتةٌ فقهيّة: اختلف (¬5) علماؤنا - رضوان الله عليهم- في المَذي هل يجزئ منه الاستجمار كالبول، أو لا بدّ من الماء؟ فقال من فَرَّقَ بينهما: إنّه رخّص في ذلك للأحداث؛ لأنّها تعتري الإنسانَ في مواضع لا يتّفق وجود الماء فيها، ويشقّ الصّبر إلى وجوده، وهي أيضًا متكرِّرة، والمَذيُ لا يتكرَّر ويكون غالبًا مُكتَسَبًا، ففارق الحَدَثَ. ¬
واختلف القائلون في غسل الذَّكَرِ من المَذْيِ، هل يجزئ أنّ يغسل منه ما يغسل من البول، أم لا بدّ من غسل جميعه؟ والخلافُ ينبني على ما تعلَّق الحكمُ بأوّل الاسم أو بآخره؛ لأنّ في بعض الرِّوايات: "يغسل ذَكَره" (¬1) واسم الذّكَرِ ينطلقُ على البعض والكلِّ. فقد قالت طائفة (¬2) يغسل الذّكَر كلّه من المَذيِ، ويتوضّأ منه مثل وضوء الصّلاة، وروي هذا عن ابن عمر وابن عبّاس، وهو قول مالكٌ في "المدونة" (¬3). وحجّتهم قولُه -عليه السّلام-: "توضأ واغسل ذَكَرك" (¬4) وهو ظاهر العموم. وقال آخرون: إنّما يجب غسل موضع الأذى من الذّكَر فقط مع الوضوء، لا غسل الذَّكَر كلّه، وهذا قول الكوفيِّين، لِمَا رواه الأعمش (¬5)، وما رواه أيضًا أبو حصين عن أبي عبد الرحمن؛ قال: قال عليّ: كنت رجلًا مذّاءً فأرسلت إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- فقال: "توضَّأ واغسله" (¬6). قال علماؤنا البغداديون من أصحاب مالكٌ: الدّليل على صحَّتِهِ أنَّ مالكًا رَوَى في موطَّئه حديث المقداد في غسل المذي وفيه: "فَليَغسِلْ فَرجَهُ وَليَتَوَضَّأْ" هكذا رواه القَعنَبِيّ (¬7) وابن وهب (¬8)، وابن بكير (¬9)، وجماعة (¬10). ¬
قال: والفَرجُ في اللُّغة الشَّقٌّ بين الجَبَلَينِ، فحقيقةُ الفَرجِ إنّما تقع على موضع خروج البول والمذي فقط. نكتةٌ فقهيّة: قال الإمام: واختلف علماؤنا هل يفتقر في غسله إلى نية أم لا؟ والصّحيحُ أنّه لا يفتقر إلى نية، كإزالة النّجاسة، قياسًا عليها (¬1). ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: الأولى (¬2): فيه من الفقه: الوضوءُ من المَذي، وفيه غسل المَذي وأنّه لا يُجزىء فيه الاستنجاء بالأحجار كما يجزئ في البول والغائط، لقوله: "فَليَنضَح فَرجَهُ" والوَذيُ بمنزلة البول عند مالك يجزئ فيه الاستنجاء بالأحجار. الفائدة الثّانية (¬3): فيه: استعمال الحياء مع الأَصهَارِ، وفيه غير ذلك من الأدب مع الأهل. الفائدة الثّالثة: قولُ عليّ للمقداد إذ سأل له رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، هو أصلٌ في التعاون على طَلَبِ العِلم والنِّيابة فيه. الفائدة الرّابعة: وفيه: قبول خبر الواحد العدل الثِّقة فيما ينقل منه (¬4). حديث (¬5): وروى زيد بن أَسلَم، عن أبيه؛ أنّ عمر بن الخطّاب قال: إنِّي لأَجِدُهُ ¬
يَنحدِرُ مِنِّي مثلَ الخُرَيْزَةِ عَلَى فَخذِي، فإذا وَجَدَ أَحَدُكُم ذَلِكَ فَليَغْسِل ذَكَرَهُ وَليَتَوَضَّأ. وقد روي عنه أيضًا أنّه قال: إِنِّي لأَجِدُهُ يَنحَدِرُ عَلَى فَخِذِي كَانحِدَارِ اللُّؤلُؤ، فَمَا انصَرفُ حتَّى أَقضِي صَلاَتِي (¬1). أراد المستنْكَح (¬2). نكتةٌ لغوية: قوله: "المستنكَح" يريد داخَله ودام به (¬3)؛ لأنّ النِّكاح دخولُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، ومنه قول العرب: نكحتِ الحَصَى أخفافَ الإبلِ. إكمال (¬4): قول سعيد (¬5): "لَوْ سَالَ عَلَى فَخِذِي ما انصرفتُ" إنّما ذلك لأنّه عنده ممّا لا ينقض الطّهارة، فحمل مالك - رحمه الله - ذلك على سلس البول. وإنّما وردت هذه اللّفظة عامّة في البَلَلِ، فكان مذهب حُذَيفَة وزيد بن ثابت والحسن وعطاء وقَتَادة أنّ البَلَلَ لا يُبطل الوضوءَ في الصّلاة، وإن قطر وسال فقد بطلت صلاته ووضوؤه، وكان سعيد بن المُسَيَّب يقول: لا يبطل الوضوء في الصّلاة وإن قطر وسال، فهذا وجه الحديث. وهذه (¬6) وهلةٌ عظيمةٌ من سعيد لا تليقُ بمنصبِه. ¬
وقد اختُلف في غسل من لدَغَتهُ عقرب، أو ضرب بسوط، أو كانت به حكَّة، فاغتسل بماء سُخنٍ فأنزلَ، فالاختيارُ أنّ يغتسل لإنزال، فيجيء على اختياره هذا؛ أنّ معنى خروجه على معنى الصِّحَّة، أنّ يخرج لسبب سواء كان السّبب لذّة الماء أو غيره. وقال سحنون في "كتاب إبنه": مَنْ أمنَى للَدْغَة عقرب أو ضرب سيف فلا غسلَ عليه، وإنّما الغسل على من خرج منه ذلك للذّة، مثل أنّ يستنكح فيمني، أو يلتذّ في الحوض، فَفُهِمَ من مذهبه أنّ ما يعتبر به اللَّذَّة فقط. وقال مالكٌ (¬1): ومن به سَلَس فإنّه يجب عليه، لوضوء إذا تعمد البول، كالّذي به سلَس المَذي لا يجب عليه الوضوء حتّى يقصد اللّذة بأن يلاعب فيخرج منه المذي للَّذَّة. نكتةٌ لغويّة (¬2): قوله (¬3): "وَالهَ عَنْهُ" يريد اغفل عنه، يقال منه: لهى يلهي، ولها يلهو، من اللَّهو يقال: لَهَيْتُ عن كذا فأنا ألهى عنه، إذا غفلت ولهوت، فأنا ألهو من اللَّهْو (¬4). ¬
الوضوء من مس الفرج
الوُضوء من مَسِّ الفَرْجِ مالكٌ (¬1)، عن عبد الله بن أبي بكير بن عمرو بن حَزمٍ؛ أنّه سمع عُرءوَة ابن الزُّبيرِ يقولُ: دخلتُ على مروان، فتذَاكَرنَا ما يكونُ منه الوضوءُ. الحديث. تنبيه على وهم قبيحٍ في إسناد يحيى بن يحيى: وذلك (¬2) أنّه قال في كتابه: "مالكٌ، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن حزم"، فجعَلَ في مَوْضعِ "ابن": "عن"، فأفْسَدَ الإسنادَ، وجعَلَ الحديثَ لمحمد بن عَمْرِو بن حَزمٍ، هكذا حدَّثَ به عنه ابنُه عُبَيْد الله. وأمّا ابنُ وضَّاحٍ فلم يُحدِّث به هكذا، وحدَّث به على الصِّحةِ فقال: مالكٌ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرِو بنِ حَزمٍ، وهذا هو الّذي لا شكَّ فيه عند جماعة أهل العلم بالرِّجال. قال الإمام (¬3): وفي جَهْلِ عُرْوَةَ بهذه المسألة -على ما في حديث مالك وغيره- دليلٌ على أنّ العالِمَ لا ينقصه علمه في جهل اليسير من العلم (¬4). وقد سُئِلَ ابنُ مَعِين: أيُّ حديثٍ يَصِحُّ في مسِّ الذَّكَر؛ فقال: لولا حديثٌ جاءَ عن عبد الله بن أبي بكر لقلتُ: لا يَصِحّ في مسِّ الذَّكرِ حديث (¬5). فصحَّح ابنُ مَعين حديث بُسْرَة من رواية مالكٌ، وكان يقول بالوضوء من مسِّ الذَّكَر، وبُسرَة هي خَالة مروان. ¬
قال القاضي أبو الوليد (¬1): "اختلفت الآثار عن النّبيِّ صلّى الله عليه في إيجاب الوضوءِ من مسِّ الذَّكَر، فَرَوَى عنه الأمر بالوضوء من مسِّ الذَّكَرِ جماعةٌ، منهم: أبو هريرة (¬2)، وسعد بن أبي وقّاص (¬3)، وزيد بن خالد الجهني (¬4)، وأبو أيّوب الأنصاري، وابن عمر (¬5)، وجابر (¬6)، وبُسرَة (¬7)، بألفاظٍ مختلفة ومعانٍ متَّفقة، في بعضها: "مَنْ مسَّ ذَكَرَهُ فَليتوضَّأ"، و"مَنْ مسَّ فَرجَهُ فليتوضَّأ" و"مَنْ مسَّ ذكَرَهُ فلا يُصَلِّيَنَّ حتّى يتوضَّأْ وضوءَهُ للصّلاة"، و "مَنْ أفضَى بيده إلى فَرجِهِ ليس بينها وبينَهُ حجابٌ فقد وجبَ عليه الوضوء" (¬8)، و"وَيلٌ للَّذين يمُسُّونَ فُروجَهُم ثمَّ يصلُّونَ ولا يتوضَّأون (¬9) ". وأما (¬10) حديث طَلق (¬11)، فلا يَصِحُّ عند العلماء، وأصحّها حديث بُسرَة. غاية وإيضاح (¬12): اختلفَ العلماءُ -رضوان الله عليهم- في تخريج هذه الأحاديث (¬13)، وفي المعمول منها. فذهبت طائفةٌ منهم إلى أنّ الأثرَ يُوجِبُ بالوضوء من مسِّ الذَّكَرِ جملة من غير تفصيل، ¬
وصَحَّحُوا الآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسِّ الذكَر، وضعَّفُوا حديثَ طَلق بن عليّ. ومنهم من جعله منسوخًا بحديث بُسرَة (¬1)، واستدَلَّ على نسخِهِ بإيجاب الوضوء من مسِّه إذ ذلك من جهة الشَّرع. وقوله: "هل هو إلَّا بَضعَةٌ مِنْك" (¬2) حجّةٌ عقليّة، فجازَ أنّ يُنسخَ ما في العقل بالشَّرع، ولا يصحّ أنّ يُنسخ الشَّرعُ بما في العقل. ومن العلماء من تأوّله فقال: ليس فيه نصٌّ لإسقاط الوضوء. ومنهم من ذهب إلى أنّ لا وضوءَ من مسِّ الذَّكَر جملةً من غير تفصيلٍ، وهم أهل العراق (¬3)، وصحّحُوا حديث طلق، وضَعَّفُوا الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء منه (¬4). تحقيق (¬5): قال الإمام الحافظ: ولأجل هذه الاختلافات أعرض الإمامان مسلمٌ والبخاري عن حديث بُسرَة ولم يُخرِجاه، والعَجَبُ لإمامنا مالكٌ - رضي الله عنه - أنّه يرويه في كتابه وُيقَوِّيه، فتارةً يَعتَبِرُ فيه الشَّهوةَ، وتارةً يُسقِطُها (¬6)، ونحن نقبلُ روايتهُ فنقولُ: الحديث الصّحيحُ أوَّلًا، ولا نقبلُ تفريعه، فنقول: ينتقض الوضوء بمسِّه بقصدٍ أو بغير قصدٍ، اتِّباعًا لظاهر الحديث، ونأخذ بمُطلَقِ الرِّواية فيه، وفروعه معلومة فلا معنى لسردها. بَيدَ أنَّ بعضَ شيوخي ذَكَرَ لي منه فَرعًا غريبًا، وهو: إذا مسِّ الخُنْثَى ذكرَهُ وفَرجَهُ انتقضَ وُضُوؤُه، فإذا مسَّ أحدَهما- وقلنا إنّ المرأة ينتقضُ وضوؤها بمسِّ فرجها - فمن يغلِّب الشّكّ ينقض الوضوء، لاحتمال أنّ يكون قد لمَسَ ما يجبُ عليه منه الوضوء، ومن لا يرى تغليب الشَّكِّ -وهو صحيحٌ- لا يَنقُضُ الوضوءَ إلَّا بمسِّه لهما جميعًا. ¬
نكتةٌ فقهية مذهبية: مذهبُ مالكٍ - رحمه الله - في هذه المسألة لا يتحصّل؛ لأنّه قد رُوَيت عنه فيه أقوال كثيرة، والّذي (¬1) تحصَّلَ منها ثلاثة أقوال: أحدها: ألَّا وضوءَ من مسِّ الذّكَرِ ناسيًا كان أو متعمدًا، كمذهب أهل العراق، وهي رواية أشهب الأُولَى عن مالكٌ؛ لأنّ الإعادة في الوقت استحبابٌ، وهذا قول سحنون ورواية ابن القاسم في "العُتْبِيّة" (¬2). القول الثّاني: إيجابُ الوضوء من مسّه ناسيًا كان أو متعمدًا، إنّ مسَّه بباطن الكَفِّ والأصابع، التَذِّ أو لم يلتذّ؛ لأنّه الموضع المقصود بمسِّه، فخرج الحديث عليه، وإنْ مسَّهُ بظاهر الكفِّ والذِّراع لم يجب عليه الوضوء وإنِ التَذَّ. وقيل: إذا الْتَذَّ بمسِّه بباطن الكفِّ أو ظاهره أو أيِّ عُضوٍ كان فعليه الوضوء. القولُ الثّالث - قيل: إنّه وإنْ كان مسَّه ناسيًا فلا وضوءَ عليه بحالٍ، وإن كان متعمِّدًا فعليه الوضوء على التّأويلين المذكورين. تنقيح (¬3): أمّا التّأويل الأوّل، فهو لبعض أهل النّظر على قول مالكٌ في "المدوّنة" (¬4). وأما التّأويل الثّاني، فمنهم من تأوله على ما في "المدوّنة" ويقول: إنّ تخصيصه بباطن الكَفِّ من ظاهره تنبيهٌ منه على مراعاة اللَّذَّة. وأما (¬5) القولُ الثّاني: فمنهم من تأوّله على مذهب أهل العراق. مزيد بيان (¬6): وأمّا مسِّ المرأة فرجها، فقد روي عن مالكٌ في ذلك أربع تأويلات: ¬
أحدها: سقوط الوضوء. الثّاني: إيجابه. الثّالث: استحبابه. الرّابع: التّفرقة بين أنّ تَلْطُف أو لا تَلْطُف (¬1)، وهي رواية ابن أبي أويس. قال الإمام (¬2): وأمّا الرِّواية الأُولَى والثّانية، فهما واحدة في سقوط الوجوب، وذهب أبو بكر الأبهريّ إلى أنّ ذلك ليس باختلاف رواية، وإنّما هو اختلاف أحوال (¬3). وأمّا إذا مسَّتِ المرأة فَرْجَها ولم تَلْطُف ولا التذَّت، فلا وضوء عليها عند مالكٌ، ولم يختلف عنه في ذلك. ولم يختلف قول مالكٌ أيضًا في أنّه لا وضوء على الرَّجُلِ في مسِّ دُبُرِهِ (¬4). تكملة (¬5): قال الإمام: ولمّا كان هذا الحديث أصلًا في نفسه، اختلفَ العلماءُ هل يُعَلَّلُ أم لا؟ فمن علَّلَهُ بأنَّ لَمسَهُ ربّما أفضَى إلى خروج الخارج، ألحقَ المرأةَ به؛ لأنّ لَمْسَها أيضًا لفَرجِها قد يُفضِي إلى خروج الخارج، لا سيَّما وقد رَوَى الدَّارقطنيّ (¬6) عن أبي هريرة أنّه قال: "إذًا أَفضَى أَحَدُكُم بيَدِهِ إِلى فَرجِهِ فَليَتَوَضَّأ" وهذا عامٌّ في الرَّجُلِ والمرأة. وأعْجَبُ من هذا، ما حكاهُ الدَّارقطنىّ (¬7) أيضًا عن أحمد بن حنبل ويحيى بن مَعِينٍ أنّه ليس في مسِّ الذَّكَرِ حديثٌ صحيحٌ، مع أنّهم يتلون حديث مالكٍ عن بُسْرَة، إلَّا إنْ مالوا إلى طريق المعنى، وقالوا بقول أبى حنيفة (¬8) بأنَّ قَبول بُسرَة -وهي امرأة- في مثل ¬
هذه النّازلة الّتي تتعلّقُ بالرِّجال ولا يَروِيْهَا أحدٌ سواها بعيدٌ، وهذا قول ضعيفٌ؛ لأنّ الله تعالى لم يُرِدْ أنّ يجري السُّنَّة مجرى القرآنِ حتّى يتولَّى حِفْظَها كما تولَّى حِفْظَهُ، وإنّما أراد تعالى أنّ يكون القرآن محفوظًا معلومًا قطعًا، وأن تكون السُّنَّةُ تلتقِطُها الرُّواةُ التقاطًا، ويؤخذ عن كلِّ أحدٍ ما سمع منه حتّى من النِّساء، ولذلك قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية (¬1)، فما اجتمع من السُّنَّة اجتمع، وما خَفِيَ منها في وقتٍ سيَظهَرُ في آخر. بل كان كثيرٌ من الصحابة يصدُّون أنفسهم عن ذكرها، فلا تستبعدوا -بَصَّرَكُمُ اللهُ- والحالةُ هذه أنّ تَضبِطَ المرأةُ أوامِرَهُ، وأن يذكر امرؤٌ ما نَسِيَ آخرُ (¬2). ¬
الوضوء من قبلة الرجل امرأته
الوضوء من قُبْلَةَ الرَّجُلِ امرأته مالكٌ (¬1)، عن ابن شهابٍ، عن سالم. الحديث. قال الإمام الحافظ (¬2): البابُ يقتضي القولَ في القُبلَة وسائرِ المُلامسةِ، وفيها معانٍ ومسائلُ جَمَّة: 1 - أحدُها: هل الملامسةُ الجماعُ، أو ما دونَ الجماعِ ممّا يُجانِسُه مثل القُبلةِ وشبهِها؟ 2 - ثمّ هل اللَّمسُ باليدِ خاصةً أو بسائرِ البدنِ؟ 3 - وهل اللَّذَّة من شرطها أم لا؟ وكلّ ذلك قد تنازع فيه العلماء. كشف وإيضاحٌ في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬3): قال علماؤنا (¬4): والملامسة تنقسم على أقسام: الأوّل منها: الملامسة بمعنَى الطَّلَب قال الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} (¬5) أي طلبنا السّماء وأردناها، فوجدناها ملئت حَرَسًا أي حفَظَة يحفظونها. ومنه أيضًا: قولُه عليه السّلام للّذي أراد أنّ ينكح المرأة الموهوبة: "هَلْ معكَ من شيءٍ تُصْدِقُها"؟ قال: ما عندي إلَّا إزاري هذا، فقال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "التَمس شَيئًا"، أي اطلب، فقال: ما أَجِدُ شيئًا، فقال له: "التَمس وَلَو خَاتمًا من حديدٍ"، فالتمس فلم يجد شَيئًا (¬6). ¬
قال الإمام (¬1): فلا يقالُ لمن مسَّ شيئًا قد لمسه على هذا، إلَّا أن يكون معنى طلبه من حرارة أو برودة أو صلابة أو علم حقيقةٍ، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} الآية (¬2)، فلا يكون المعنى المقصود من مسِّ النساء إلَّا الالتذاذ بهنّ (¬3). ولم يختلف (¬4) عن ابن مسعود أنّ الملامسة ما دُونَ الجماعِ (¬5). وقد قال قوم: إنّ الملامسة هي الجماع، وهذا قد تناوله القرآن بالبيان قال الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬6) وهي قراءةٌ قائمة بنفسها حُجَّةٌ في تناولها (¬7). وقد روي عن جماعة من الصحابة (¬8) والتابعين (¬9)، وأجازه أبو حنيفة (¬10)؛ أنّ الآية كناية عن الجماع، حتّى رُوِيَ عن ابنِ عبّاس أنّه قال: إنَّ اللهَ حَيِىٌّ كريمٌ يعفّ، يكني باللَّمْسِ عن الجماع (¬11). قال الإمام: وليس إلى ذلك حاجة داعية ولا ضرورة مُوجِبَة، وإنّما يعدل عن الصَّريحِ إلى الكناية بدَليلٍ يقتضي ذلك. وأما مُطْلَقُ القول وصريحُ اللُّغة فيقتضي ما أشرنا إليه من ظاهر اللَّمسِ، وبذلك قال مالكٌ إمامنا (¬12): "قُبْلَةُ الرَّجُلِ امرَأَتُهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنَ ¬
المُلاَمَسَةِ"، وقد قال أهل اللُّغة: إنّ الملامسة هي التقاء بَشْرَتَيْن (¬1). تحقيق: قال الإمام الحافظ جرير بن مَسلَمة: حقيقةُ مذهب مالك - رحمه الله - أنّ الملامسة تُوجِبُ الوضوءَ إذا قصد بها اللَّذَّة، من غير اعتبار أنّ يكون الملموس زوجة أو غير زوجة، ولا اعتبار في أيّ عُضْو كان ووقعت الملامسة من اللّامس والملوس. وذهب المشارقةُ من أصحاب مالكٌ منهم إسماعيل القاضي، والشيخ أبو بكر الأبهري، وأبو الفَرَج المالكي، إلى أنّ المعنى المراعى في ذلك وجود اللَّذَّة بأي عُضوِ كان الملموس واللَّمس. ثم اختلف هؤلاء على فرقتين: هل ذلك منصوصٌ عنه، أو مقيس عليه على مذهبه؟ فمنهم من قال: هو مَقِيسٌ على مذهبه. ومنهم من قال: هو منصوصٌ عنه، رواه جماعة. قال: وإنّما خصّ بباطن الكفّ والأصابع؛ لأنّ اللَّذَّة إنّما تقع بهما في الغالب. وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الملامسة لا تنقض الوضوء، قصد بها اللَّذَّة أو لم يقصد (¬2). ودليله على ذلك؛ أنّ هذا ممّا تعمُّ به البَلْوَى، ولو كان ذلك لما فَعَلَهُ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-. ودليل آخر: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ القُبْلَةَ لا تنقض الوضوءَ" (¬3) وأنّه كان - صلّى الله عليه وسلم - يقبِّلُ وهو صائم ولا يتوضَّأ، هذا مذهب أبي حنيفة. وأمّا مذهب مالكٌ فلا يوجّه، والملامسةُ عنده تنقض الوضوء، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. ¬
تكملة (¬1): قال الإمام: فإذا ثبت ذلك فهو (¬2) على ضربين: أحدهما: أنّ يفعل على وجه اللَّذَّة، فهذا يُوجِبُ الوُضُوءَ. والثّاني: أنّ يكون بغير لذَّةِ، فهذا لا يجب به الوضوء. وبه قال مالك. والشّافعيّ يُوجِبُ به الوضوء على كلِّ حالٍ (¬3). والدّليلُ على صحَّةِ ما ذهب إليه مالكٌ: حديثُ عائشة الّذي بعدَه (¬4). ومن جهة القياس: أنّ اللّمس عَرَا عن اللَّذَّة، فلم ينقض الوضوء كلمس الذَّكَر. تتميم (¬5): والَّذي تحقَّقَ عند مالكٌ وأصحابه؛ أنّ الوضوءَ إنّما يجب باللَّذَّةِ دون وجودها، فمن قصد اللَّذَّةَ فقد وجبَ عليه الوضوء التذَّ أو لم يلتذّ، وهذا مرويٌّ في "العُتْبِيّة" (¬6) من رواية عيسى عن ابن القاسم. ¬
العمل في غسل الجنابة
العمل في غُسْلِ الْجَنَابَة حدّثني يحيى (¬1) عن مالكٌ، عن هشام بن عُروةَ، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -كان إذا اغتسلَ مِنَ الجنابة، بدأَ فَغَسلَ يَدَيْهِ، ثم توضَّأ كما يتوضَّأُ للصّلاة، ثم يُدخِلُ أصابِعَهُ في الماءِ، فَيُخَلِّلُ بها أُصولَ شَعرِهِ، ثمَّ يَصُبُّ الماءَ على رَأْسِهِ ثلاثَ غَرفَاتٍ بيَدَيهِ، ثمَّ يُفِيضُ الماءَ على جِلْدِهِ كلِّه. قال الإمام الحافظ: أنا حديث عائشة في صفة غسل النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فذكره أبو داود (¬2) بإسناده. وقولُها: "يَصُبُّ على رأسهِ ثلاثَ غَرفَاتٍ" والعدد في ذلك استحباب، وما أَسْبَغَ وعَمَّ وبالغ في ذلك أجزأه (¬3). وأمّا الوضوءُ بعد الغسل، فلا معنى له عند العلماء. ولم (¬4) تذكر عائشة في هذا الحديث التَّدَلُّك، إذ فيه دليلُه بقولها: "كان إذا اغْتَسَلَ" والاغتسالُ لا يكون إلَّا بالتَّدَلُّكِ (¬5). إبضاح مشكل (¬6): قولُها: "ثمَّ يُدخلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّلُ بها أصولَ شَعْرِهِ" فقيل: معنى التّخليل: ليقلّ صبّ الماء بعد ذلك في الغسل، فيكون ذلك أبلغُ مع قلَّة صبِّ الماء؛ ¬
لأنّ قِلَّةَ الماءِ في الغُسْلِ هو السُّنَّة، ولم يذكر في حديث ابن عمر (¬1) التّخليل في غسله من الجنابة، فيحتمل أنّ يكون صَبَّ ماءً كثيرَا، فكان ذلك عِوَضًا من التخليل، أو سكتَ عنه لعِلْمِ السَّامع، والله أعلم. الفقه (¬2): قال القاضي أبو محمد (¬3): ويتخرَّج في تخليل شَعْر الرّأس روايتان: على رواية ابن القاسم أنّ ذلك جائز. وعلى رواية أشهب لا يجوز. وهذا عندي فيه نظر؛ لأنّ بشرة الرَّأس ممسوحة في الوضوء مغسولة في الغسل، فلذلك اختلف حكم شعرها، وليس كذلك بَشْرة الوجه فإنّها مغسولة في الحالتين. واختلفتِ الرِّوايةُ في تخليل شّعْر اللّحية في الطهارة: فروَى ابنُ القاسم (¬4) عن مالكٌ أنّه ليس على المغتسل من الجنابة تخليل. وروى عنه أشهب (¬5) أنّ ذلك عليه. تنقيح (¬6): فوجه رواية ابن القاسم: أنّ الفرض قد انتقل إلى الشَّعَر النّابت على البشرة (¬7). ووجه قول أشهب هو قول عائشة في هذا الحديث: "ثمّ يُدْخِل أصابِعَهُ في الماء، فَيُخلِّلُ بِهَا أُصُولَ شعرِهِ". ¬
ومن جهة المعنى: أنّ استيعابَ جميع الجسد في الغسل واجب (¬1)، وإنّما انتقل الفرض إلى الشّعر في الطهارة الصّغرى لأنّها مبنية على التخفيف ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة، ولذلك جاز المسح على الخفَّين. نكتةٌ فقهية (¬2): قوله: "ثم يُفِيضُ الماءَ على جِلْدِهِ كلِّه". قال الإمام: وإفاضةُ الماء على الجسد يَكونُ بإرسال الماء باليد إلى الجسم، وقد يكون إمرار اليد مع الماء مُعينًا في الإفاضة. وقد يجوز الإمرار دون الإفاضة، إلَّا أنّ مذهب مالكٌ أنّ إمرار اليد معتبرٌ مع الإفاضة، وأنّه لا تصحّ الطّهارة إلَّا بإمرار اليد على الجسد، وأنّ هذا عنده شرطٌ في صحَّةِ الطّهارة. تنويع (¬3): قال الإمام: وأمّا الغسل فإنه يتنوَّعُ، فمنه واجبٌ، ومنه مسنون، ومنه مستحَبٌّ. فالواجب منه الغسل من الجنابة والحيضة والنِّفاس. والمسنون منه غسل الجمعة. والمستحب منه غسل العِيدَين، وغسل المستحاضة إذا انقطع عنها دم الاستحاضة، والغسل للإحرام، ودخول مكّة، وللوقوف بعرفة. فهذه (¬4) الأغسال الّتي أجمع عليها العلماء. حديث مالك (¬5)، عن ابن شهاب، عن عُروَة، عن عائشة؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَغتَسِلُ هو وأنا من إناءٍ، هو الفَرَقُ من الجَنَابَةِ. الحديث. ¬
هكذا (¬1) رواه مالكٌ في الموطَّأ، وتابعه عليه ابن عُيَينَة (¬2) واللَّيْث (¬3) على إسناده ومَتْنِهِ، إلَّا أنّهما زادا فيه: "وكنتُ اغتسلُ أنَا ورسول الله من إناءٍ واحدٍ"، وهذا اللّفظ عند مالكٌ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. تنبيه (¬4): قال الإمام: ليس في حديث هشام هذا إلّا الاقتصار على ما يَكْفي من الماء من غير تحديدٍ، وأنّ الإسراف فيه مذمومٌ، وفي ذلك ردٌّ على الإباضية ومَن تمذهب بمذهبهم في الإكثار من الماء، وهو مذهبٌ ظَهَرَ قديمًا، وقد سُئِلَ عنه بعضُ الصّحابة والتّابعين. فلذلك حمل مالكٌ الآثار المنقولة عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أنّها تدلُّ على أنّ لا توقيتَ فيما يكفي من الماء وفي الغُسل والطّهارة. ولذلك ما استحبَّ السَّلف ذِكر المِقدَارِ من غير كيلٍ، وقد سأل رَجُلٌ من أهل العراق ابن المسيَّب عمَّا يكفي الإنسان في غُسْلِ الجنابة؟ فقال: إنّ لي تَورًا (¬5) يسعُ مُدَّينِ أو نحوهما، وأغتسلُ به فيكفيتي، ويفضُل منه. فقال الرَّجُل: والله لأَنَا أكثر من ذلك وما يَكفِينِي، فقال له: إنّ الشيطان يلعبُ بكَ، الخبر مذكرر (¬6). وفي (¬7) البخاريّ (¬8) عن أنس؛ أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يَغتَسِلُ بالصَّاعِ إلى خَمسَةِ أَمدَادٍ، ثم يتوضأ بالمُدِّ. ¬
نكتةٌ أصولية (¬1): قال الإمام: اختلف علماؤنا من أهل الحجاز والعراق في مبلغ المُدِّ والصَّاعِ كم هو؟ فذهب أهلُ العراق (¬2) إلى أنَّ الصَّاع: ثمانية أرطال، والْمُدَّ: رِطْلانِ، واحتجّوا بما رواه أنس بن مالكٌ قال: "كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- يتوضأ برِطلَين، ويغتسل بالصَّاع" (¬3)، قالوا: فإذا ثبت أنّ المدَّ رِطلاَن ثبت أنّ الصَّاع ثمانية أرطال. وذهب أهل المدينة إلى أنّ المُدَّ رُبُع الصَّاع وهو رطلٌ وثُلُث، والصّاع خمسة أرطال وثُلُث، وهو قول أبي يوسف (¬4)، وإليه رجع حينَ نَاظَرَهُ مالك في زِنَةِ الْمُدِّ وأتاه بمُدِّ المهاجرين والأنصار. قال الإمام (¬5): وأما حديث أنس فلا حُجَّة لأهل العراق فيه؛ لأنّه قد روي بخلاف ما ذكروه، رواهُ شُعبة عن عبد الله بن جَبْر؛ أنّه سمع أنس بن مالكٌ يقول:"كانَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- يتوضَّأ بالمَكُوكِ، ويغتَسِلُ بخَمسَةِ مَكَاكيَّ" (¬6)، وهذا بخلاف ما رواه أنس. قال الإمام (5): المَكُوكُ عندهم: نصفُ رِطلٍ إلى ثمانية أَوَاقٍ. تفريع (¬7): واختلف العلماء هل يجزئ الوضوء بأقلّ من الْمُدِّ، والغُسل بأقلّ من الصاع، على قولين: ¬
القول الأوّل - قال قوم: لا يجزئ بأقل من ذلك، لوُرُودِ الخبر في ذلك، هذا قول الثّوري والكوفيِّينَ. القول الثّاني - قال آخرون: ليس المدُّ والصّاع في ذلك بحَتمٍ، وإنّما ذلك إخبارٌ عن القَدرِ الّذي كان يكفيه - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّ المُدَّ لا يُجزِىء دونَهُ، وإنّما قصد به التّنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السَّرَفِ، واستحبّ لمن يقدر على الإسْباع بالقليل أنّ يُقَلِّلَ ولا يزيد على ذلك؛ لأنّ السَّرَفَ ممنوعٌ في الشّريعة، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّه سيكونُ في هذه الأُمَّة قومٌ يتعدّون في الطَّهور والدُّعاء" (¬1)، وإلى هذا ذهب مالكٌ وطائفة من السَّلَف، وهو قولُ الشّافعيّ (¬2) وإسحاق. نكتةٌ لغوية (¬3): قولها: "هُوَ الفَرَقُ" يقال بتحريك الرَّاء، وقد رُوِيَ عن يحيى وغيره بإسْكانها. قال الخليل (¬4): الفَرَقُ: مِكيَالٌ. وقال ابن وهب: الفَرَقُ مِكيالٌ من خشَبٍ، كان ابنُ شهاب يقول: يسع خمسة أقساط بأقساط بني أميّة (¬5). وقد فسَّرَ (¬6) أنّ الفَرَقَ ثلاثة أصْوُعٍ. تكملة: قال القاضي أبو الوليد (¬7):"قولُه: "الفرق" يحتمل معنيين: ¬
أحدهما: أنّه كان يغتسل من هذا الإناء، وأن يستعمل اليسير من مائه ويبقَى أكثره. والمعنى الثّاني: يحتمل أنّ يستعمل جميع ما فيه وزيادة معه، فيتناول ذلك إباحة الوضوء بذلك الإناء. وقد أجمع العلماء على جواز الوضوء بكلِّ إناءٍ طاهرٍ ليس فيه ذهب ولا فضة، إلّا ما رُوِيَ عن ابن عمر؛ أنّه كان يمنع الوضوء بإناء الشَّبَهِ (1)، ونحا به مَنْحَى الذهب، وقد روى عن عائشة أنّ الإناء الّذي أشارت إليه كان من شَبَهٍ. وقال ابنُ شعبان: لا يجزئ في الغسل أقلّ من صاعٍ، ولا في الوضوء أقل من مُدٍّ، والمشهور من المذهب أنَّ منِ اغتسل أو توضَّأ بأقلّ من ذلك أنّه يجزئه"
واجبُ الغُسل إذا الْتَقَى الخِتَانَان الحديث (¬1): قال الإمام (¬2): هذا حديث صحيحٌ عن عثمان بأنّ الغُسل يجب بالتقاء الختانين، وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن؛ أنّ عطاء بن يَسَارِ أخبره؛ أنّ زيد بن خالد الْجُهَنِي أخبره؛ أنّه سأل عثمان قال: فقلت: أرأيتَ إذا جامع الرَّجُلُ امرأتَهُ ولم ينزل؟ فقال عثمانُ: يتوضَّأ كما يتوضَّأ للصّلاة، ويغسل ذَكَرَه، سمعتُه من رسول الله. قال: وسألَ عن ذلك عليًّا والزُّبَير وطلحة وأُبَيّ بن كعب، فأمروه بذلك (¬3). قال الإمام الحافظ (¬4): هذا حديثٌ مُنكَرٌ لا يُعرَفُ من مذهب عثمان، ولا من مذهب عليّ، ولا المهاجرين، انفرد به يحيى بن أبي كثير، وهو ثقة إلَّا أنّه جاء بما شَذَّ فيه وأنكر عليه (¬5)، ونَكَارَتُه أنّه محال أنّ يكون عثمان سمع من النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- ما يُسْقِط ¬
الغُسلَ من التقاء الخِتَانَين،*ثم يُفتِي بإيجاب الغُسلِ منه. ولا أعلم أحدًا قال بأنّ الغُسل من إلتقاء الخِتَانين* أنّه منسوخ، بل الجمهورُ قالوا: إنّ الوُضُوءَ منه منسوخٌ بالغُسلِ (¬1). فإن قيل (¬2): قدِ اختلفتِ الأحاديثُ في ذلك كما تقدَّمَ، وجُهِلَ المتأخِّر فلم يُعلَم النّاسخ من المنسوخ، وبَقِيَ الإشكالُ قائمًا فتعيَّنَ الاحتياطُ. الجواب عنه من وجهين: أحدُهما: أنَّا نقول: ما جُهلَ التّاريخ؛ لأنّ الصّحابةَ - رضوانُ الله عليهم- قد صرَّحت بأنّ المتقدِّم كان: "الماء من الماء"، والمتأخِّرَ وجوب الغُسل من إلتقاء الخِتَانَين (¬3). الجواب الثّاني: أنّ المَاءُ مِنَ المَاءِ"، وعدَمَ الغُسل من التقاء الخِتَانَيْن ليس فيه فائدةٌ مُجدَّدَةٌ؛ لأنّ الأصل براءةُ الذمةِ، وفراغ الساحة وعدم تعلق الحكم بالأسباب. ثم جاء بعد ذلك وجوب الغُسل من التقاء الخِتَانَين، فكانت فائدة مجدّدة وحالة ثانية، فقضى بها على ما قبلَها. تلفيق (¬4): فإن قيل: كيف خَفِيَ على عثمان حتّى كان يُفتِي بأنّ الماءَ من الماءِ بعدَ النّبيِّ صلّى الله عليه؟ الجواب عنه: الآن حَانَ لكم تنزيل الأحكام في الشّريعة، فقد خَفِيَ ذلك على كثيرٍ ممّن يُعدّ من العلماء، وهو أنّ الله تعالى كان إذا أنزل على رسوله الحكم، يُخبِر - صلّى الله عليه وسلم - من حَضَرَهُ، ثمّ يبدأ البلاغ شيئًا بعد شيء، وتتناقله الألسنة وقتًا بعد وقت، نعم، وربّما أرجأَ بيان الحكم إلى حالة الوقوعِ ولم يُسلّمْهُ ابتداءً في النّازلة قبل أنّ تقعَ، وكلُّ من ¬
عمل بالحكم السّابق قبل بيان هذا الثّاني، أو قبل بلوغه إليه، فعملُه صحيحٌ وأَجرُهُ قائمٌ، وعلى هذا السبيل تكون السُّنَّة سَمحَة، ويكون الدِّين خاليًا عن الحرَجِ. وقد روى الدَّارقطنىُّ (¬1) عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: " إذا التَقَتِ المَوَاسِي فقد وَجَبَ الغُسلُ" فَبَيَّنَ بقوله: "إذا التَقَى الخِتَانَان" أوّل الفعل، وبَيَّنَ بقوله: "إِذَا التَقَتِ المَوَاسِي" آخر الفعل، وأوضح أنّ الحكمَ فيهما واحدٌ. وقولُه (¬2) في الحديث؛ "إذا قَعَدَ بين شُعَبِهَا الأَربَعِ فَقَد وَجَبَ الغُسْلُ" (¬3) قال الهروي (¬4): "قيل: هي اليدان والرِّجلان. وقيل: بين رِجْلَيْها وشَفريْها". إيضاح مشكل: قوله: "إنَّمَا الماءُ مِنَ المَاءِ". قال أبو عبد الله المازَرِيّ (¬5): "هذا الحديث يحتجُّ به من لا يُوجِبُ الغُسْلَ من التقاء الخِتَانَين، وإنّما الحُجَّةُ به من جهة دليل الخطّاب، وقد اختلفَ أهل الأصول (¬6) في القول به: فمن نفى دليل الخطّاب لم يكن عنده في الحديث حُجَّة. ومن أثبته صحَّ الانفصال بوجوه: أحدها- أنّه قد قيل: إنّ ذلك كان في أوّل الإسلام ثم نُسِخَ. والثّاني: أنّه قد يكون محمولًا على المنام أنّه لا يجب الاغتسال فيه إلَّا من الماء. وأمّا الحديث الّذي فيه أنّه خرج النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - ورأسه يقطر ماءً، فقال له: لعلّنا أَعجَلنَاكَ (¬7). فإن لم يُحمَل على الوَطْء في غير الفَرجِ، فيحمل على أنّه منسوخ" أصلًا. ¬
وقال (¬1) لنا الشّيخ الإمام فخر الإسلام (¬2): الفَرْجُ أشبه شيءٍ بخمسمةٍ وثلاثين، وأخرجَ يَدَهُ وعقَدَها، قال: فَمَسلَكُ البولِ ما تحت الثّلاثين، ومسلكُ الذَّكَر والحَيض ما اشتملت عليه الخمسة. تفسير وتقسيم (¬3): قال الإمام: فإذا ثبت أنّ الغُسْلَ يجب بالتقاء الخِتَانَين، وبخروج الماء تارةً أخرى؛ فإنْ الماء قد يخرُجُ بلذَّة، وقد يخرج لغير لذَّةٍ، وقد يخرج عند الضَّربِ والحَكِّ. وقد اختلف علماؤنا فيه اختلافًا كثيرًا تضمَّنَتْه كتب المسائل، ولكن ينحصر مجال الكلام في موضعين: أحدُهما: إذا خرج الماءُ بغير لذَّة، فلا إشكال عندي في وجوب الغُسل فيه؛ لإجماع الأُمَّة على أنّ من استيقظَ وَوَجَدَ المَنِيَّ ولم يرَ احتلامًا فعليه الغُسلُ؛ لانّه قد تحقَّقْنَا خروجَ الماء، فلم يُبَالِ أَحَدٌ عن وجود اللَّذَّةِ. والموضع الثّاني: إذا أَولَجَ ولم يُنْزِل، فقلنا: عليه الغُسْل بإجماعٍ. فإن أنزل بعد أنّ اغتسل، فقد اختلف العلماء في هذا الفرع، وهو موضع إشكالٍ، بّيْدَ أنّ النَّظَر إذا حُقِّقَ، فإنَّه يقتضي وجوب الغُسل ثانيًا؛ لأنّهما سببان مختلفان، فأوجب كلّ واحدٍ منهما حكمه وإن كانا متعاقبَيْن، كمن بال وتوضَّأ، ثمّ خرج منه الوَدْي فإنّه يتوضَّأُ ثانيةً. تنبيه (¬4): فإن قيل: إنّ ههنا نازل غريبة، وهو إذا أَوْلَجَ فاغتسل فصلَّى، ثم أَنْزَلَ، هل يُعِيُد الصّلاة أم لا؟ ¬
قلنا: فيه احتمال بعيدٌ، والصّحيح لا يعيدها لأنّها قد وقعت موقعها بعد وجود شَرطِها وهو الغُسْلُ، ونزولُ الماء بعد ذلك أمرٌ ثانٍ، كما لو جامع ثانية أو تَذَكّرَ فأنزل. تتميمٌ: قال الإمام الحافظ: والتقاءُ الخِتَانَينِ يُوجِبُ الغُسل قرآنًا وسُنَّةً. أمّا القرآن، فقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) وإن كان اللّمس في أحد التّأويلات يُرَادُ به الجماع فهو يتناول الغُسل. وأمّا السُّنَّة، فقول عائشة - رضي الله عنها -؛ إِنَّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم- كان يغتسلُ بالتقاء الخِتَانَينِ دون إراقة الماء، ثم تأكّد البيان بما رَوَت عائشة - رضي الله عنها -؛ أنّ رَجُلًا سأل النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- وعائشة جالسة: هل يجب على الرَّجُل غسل إذا التقى الخِتَانَانِ وإن لم يُنزِل؟ فقال: "إني لأفعل أَنَا وَهَذِهِ هذا ثمَّ نَغتَسِل" (¬2)، فأجابه النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- في البيان عن فعله. ثم تأكَّدَ البيانُ ثالثًا بما رَوَى أبو هريرة؛ أنَّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا جَلَسَ بَينَ شُعبِهَا ثمَّ جَهَدَهَا، فَقَد وَجَبَ الْغُسلُ وإن لَمْ يُنْزِل" (¬3)، وتأكّد البيان أيضًا رابعًا في إرسال المهاجرين والأنصار إلى عائشة، فأعلمت بالأمر على نصِّه وأَعلَمَتْهُم بما وقع الاتِّفاق وارتفعَ الخلاف واستقرَّ الحُكْم في الدِّين، ولا أعلم في ذلك خلافًا بين أحد من المسلمين، إلَّا أنّه قد وقع للبخاريّ في "جامعه ومصنّفه" (¬4) لفظةٌ مُنكَرَةٌ، فإنّه ذكر اختلاف الأحاديث ثم قال: "والغُسلُ أحوطُ، وإنّما بيَّنَّا ذلك لاختلافهم" (¬5)، وهذا خطأ ¬
فاحشٌ، كيف ينقل الغُسْل من الوجوب إلى الاحتياط بعد ما ثبت ما قدّرناه وقدَّمناهُ، وصحَّ من الأحاديث ما أوردناهُ. إيضاح مشكل: قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: الخارج من الذَّكر على أربعة أقسام: 1 - بَوْلٌ. 2 - وَوَدْيٌ: وهو الخارج بعدهُ -أعني البَوْل- وموجبهما واحدٌ وهو الوُضُوء. 3 - والمَذيُ: ماءٌ يخرج عند الملاعبة أو التّذكاَر، ومُوجِبُه الوضوء كالأوّل، ورُويَ عن مالكٌ فيه إيجاب غسل الذّكرِ، لقوله: "فَليَغْسل ذَكَرَهُ" (¬1) ولم يرد هذا الحديث بإيجاب غسل الذَّكر تعبُّدًا، وإنّما المقصود به بيان نجاسة الْمَذْيِ، وإنّما يلزم غسله كما يلزم غسل البَوْل. 4 - والرّابع المَنِيُّ: وهو الخارج عند غاية اللَّذَّة، وهو الّذي يكون به المكلَّف جُنُبًا، ويلزم منه الغُسْل، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2). تكملة هذا الباب: قال المؤلِّف- عفا الله عنه - قد قيَّدنَا في هذا الباب عن أشياخنا؛ أنّ ذِكر ما يُوجِب التقاء الخِتَانَين سبعون قصَّة، وقيل: ثمانون قصّة، ونحن نسردها: 1 - فأوّل ما يوجب على التّقارب المودّة بين الزَّوجين. 2 - وُيوجِبُ خوف النُّشُوز والإعراض عنها. 3 - وُيوجب الغُسْل. 4 - وُيوجِبُ المَهْرَ. 5 - وُيوجِبُ الحدَّ. 6 - ويُوجِبُ الإحصانَ. ¬
7 - 8 - ويُحِلّ المطلَّقة في الزّوجين العبدَين إذا أعتِقَا، ثم إذا جاوز الختان بعد العِتْق. 9 - وُيوجِب الرّجعة. 15 - ويُفسِد الصّوم. 11 - ويُفسِد الحجَّ. 12 - ويفسِد العُمرَة. 13 - وُيوجِب العمرة على الواطىء بعد رَمي جَمْرَة العَقَبَة وقبل الإفاضة. 14 - 15 - وُيوجِبُ الهَديَ في العمرة بعد الطَّوافِ، والسَّعْيَ إذا كان قبل الحلاق والتّقصير. 16 - ويُفسِد صوم النّافلة في العمرة. 17 - وُيوجِب معه القضاء. 18 - وُيوجِب افتراق الزّوجين إذا كانا مُحْرِمَيْن في حَجَّة القضاء. 19 - وُيوجِبُ العِدَّةَ في الطّلاق. 20 - وتحرمُ معه الرِّبِيبَة. 21 - وتَبِينُ به المرأة من زوجها المفقود. 22 - ويُبقِي بينها وبين الأخرى العِصْمَة. 23 - وتبينُ من زوجها المطلَّق وقدِ ارتَجَعَ ولم يَعلَم. 24 - ويُفْسِد الاعتكاف. 25 - وُيوجِبُ الكفَّارة في التَّظَاهُر. 26 - وُيوجِبُ استئنافَ الكفّارة على المتظاهِر بعد أنّ شرع فيها ولم يتمّها. 27 - وُيوجِبُ التّحريم على المتزوِّج في العدّة. 28 - وُيوجِبُ القِيمَة على الواطىء بجارية أحلّ له إياها. 29 - وَيمنعُ الاعتصارَ على الأَبِ. 30 - وُيوجِبُ القيمة على الموهوب له على الثّواب. 31 - وُيوجِبُ تفويت البيع الفاسد على أَحَدِ قولي ابن القاسم.
32 - وتحرم به الأخت الثّانية بمِلْك اليمين. 33 - وتحرم به العمّة علي بنت أخيها بالمِلْك. 34 - وَيصِحُّ به النّكاح الآخر من الزّوجين في إنكاح الوَلِيَّيْن إذا أنكح الوَلِيّ من رجلٍ، وأنكح الآخر، ولا عِلْمَ لهما، وكان قد فَوَّضَ كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه. 35 - ويَصِحُّ به المِلك للمشتري الآخر إذا كان السَّيِّد قد وكلَّ على بيع جاريته، فباع السَّيِّدُ من رَجُلٍ والوكيلُ من الآخر، ولا عِلْمَ لواحدٍ منهما بِبَيْعِ صاحبه. 36 - ويَصِحُّ به النِّكاح إذا عقد بصداقٍ فاسدٍ. 37 - ويسقطُ به الإيلاء عن المولّي. 38 - وُيوجِبُ استبراءَ الملك دون استبراء النِّكاح فيمن اشترى زوجته ثم وطئها بعد الشِّراء بمجاوزة الختان. 39 - 40 - يُوجِبُ القِيمَةَ على الأب في جارية ابنه، وكذلك الجدّ إذا وطء جارية ابنه. 41 - وُيوجِبُ فسخ نكاح الابنة إذا تزوّج الأمّ بعد أنّ وطئها بجواز الختان. 42 - ويُوجِبُ استئذان الابنة إذا أنكحها أبوها بعد ذلك من زوجٍ آخرَ. 43 - وُيوجِبُ إسقاط النَّفَقَة عن الأب إذا رجعت إليه. 44 - وُيوجبُ إسقاطَ خيار الأَمَةِ إذا أعتقت تحت العبد. 45 - وُيوجِبُ بيع الأمَةِ على مالكها إذا كانت من ذَواتِ المحارم ممّن لا تعتق عليه بالمِلْكِ. 46 - ويسقُطُ به رهن الجارية إذا كانت رهْنًا في غير ثِقَافٍ. 47 - وُيوجِبُ التَّمليكَ للمُشتَرِطَةِ على زوجها ألَّا يَتَسَرَّى عليها. 48 - وُيوجِبُ الجناية في رقبة العبد في الاعتصار. 49 - وُيوجبُ الكفّارة على الزَّوج المُكْرِهِ؛ لزوجته في نهار رمضان. 50 - وُيوجِبُ القيمة على غاصب رقبة الجارية. 51 - وُيوجبُ إفساد الصّوم المتتَابع مع العَمْدِ. 52 - وُيوجِبُ قطع الخيار في البيع. 53 - وُيوجِبُ القيمةَ على أحدِ الشَّريكن.
54 - ويُوجِبُ إسقاطَ اللِّعان في الرُّؤية إذا تقدمت الرَّؤية ويخيّر الزّوج. 55 - ويُوجِب الكفارة على الحالف ألَّا يطأ ونيته الفَرج بعيْنِهِ. 56 - وُيوجِبُ الصَّداق في اغتصاب الزِّنا. 57 - وُيوجِبُ برّ الحالف: لَيَطَأنَّ زوجته. 58 - وُيوجِبُ الرّجعةَ للعبد وإن كرِه السَّيِّد. 59 - وُيوجِبُ الرّجعة للمُحرِم إذا كان وَطْؤُهُ قبل الإحرام. 60 - ويُوجبُ العقوبة في المتعة. 61 - وُيوجِبُ التّحريم - في أحد قولي مالكٌ رحمه الله - على المزوج في الإحرام للأبد. 62 - ويُوجِبُ قطعَ حدّ العنِّينَ وتبقى زوجته له. 63 - وُيوجِبُ بقاءَ العصمة وإن عجز بعد ذلك عن الوطء. حديث مالكٌ (¬1) عن أبي النَّضر، عَنْ أَبِي سَلَمَة؛ أَنَّه سَأَلَ عَائِشَة، مَا يُوجِبُ الغُسْلَ؟ فَقَالَتْ: هَل تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَة. الحديث. قال الإمام: في هذا الحديث جواز التّقليد؛ لأنّ هذا الخبر فيه دليلٌ على أنّ أبا سّلَمة كان ممَّن لا يقول بذلك المعنى، وإنّما قلَّد فيه عائشة؛ لأنّها كانت أعلم النّاس بذلك المعنى، لمكانتها من رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- (¬2). نكتةٌ: قال الإمام الحافظ: لا أعلم بين أصحابنا اختلافًا في وجوب الغُسْلِ من التقاء ¬
الختانين، إلَّا طائفة ضعيفة، منهم عليّ ابن حزم (¬1)، وداود بن عليّ الأصبهاني (¬2)، فإنّهما لا يَرَيَانِ الغسل من ذلك. ودليلنا عليه: حديث عائشة - رضي الله عنها - هذا، وما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: " إذا قعد بين شُعَبهَا الأربعِ ثم أجْهَدَهَا" (¬3) وما سردناه عليكم من الأحاديث. حديث مالكٌ (¬4)، عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيَّب؛ أنّ أبا موسى الأشعريّ أَتَى عائشة، فقال لها: لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ اختِلافُ أصحَابِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. الحديث. قال الإمام (¬5): وهذا الحديث وإن لم يكن مُسنَدًا في ظاهره، فإنّه يدخل في المُسْنَدِ بالمعنى والنَّظر؛ لأنّه مُحَالٌ أنّ ترى عائشة نفسها في رأيها حُجَّة على غيرها من الصّحابة في حين تَنَازُعِهِم في هذه المسألة، ومحالٌ أيضًا أنّ يُسَلّم أبو موسى لعائشة رأيها في مسألةٍ قد خالَفَها فيها كثيرٌ من الصّحابة؛ لأنّ كلَّ واحدٍ منهم ليس بحُجَّةِ على صاحبه عند التَّنَازُع في الرّأي، فلم يبق إلَّا تسليم أبي موسى لعائشة؛ لأنّ ما احتَجَّت به إنّما كان عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، فسلَّمَ لها أبو موسى وقنع بذلك. نكتةٌ على تفسيرٍ بديعٍ (¬6): قال الإمام الحافظ: قول عائشة (¬7): "هَل تَدرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ." الحديث إلى قوله: "يَسمَعُ الدِّيَكَةَ تَصرُخُ فَيَصرُخُ مَعَهَا". يحتمل معنيين: أحدهما: أنّ أبا سَلَمةَ كان في حدِّ الصِّبا يسألُ مسائلِ الجِمَاعِ، ويتكلَّمُ فيها وهو ¬
لا يعرِفُها إلّا بالسماع، كالفرُّوج يسمَعُ الدِّيَكَةَ الّتي بلغت حدَّ الصُّراخِ تَصرُخُ، فَيَصْرُخُ معها وإن لم يَبلُغْ ذلك الحدّ. والمعنى الثّاني: هو أنّ أبا سَلَمة كان صَبِيًّا لم يبلُغ مَبْلَغَ الكلام في العِلمِ، إلَّا أنّه كان يسمعُ الرِّجالَ والكُهولَ يتكلَّمونَ في العلمِ فيتكلّم معهم، فلأجل ذلك شُبِّه بالفَرُّوجِ.
باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم
باب وُضُوء الْجُنُب إذا أراد أنْ ينام أو يَطْعَم وَرَوَى ابن عمر؛ أنّ عمر بن الخطّاب ذَكَرَ لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ تُصِيبُهُ جَنَابَةٌ مِنَ اللَّيلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّأ، واغسِل ذَكَرَك، ثُمَّ نَمْ" (¬1). قال الإمام الحافظ: هذا بَابٌ مشكل جدًّا، أُشكِلَ على العلماء قوله: "اغسِلْ ذَكَرَكَ، ثُم تَوَضَّأ، ثُمَّ نَم" كذا رواه الثوري (¬2) وشعبة، وقد رواه جماعة كذلك (¬3). تنبيه على شرح: قوله: "اغسِل ذَكَرَكَ ثُمَّ تَوَضَّأ" قال أشهب (¬4): قلتُ لمالك: فالوضوءُ قبل الغُسل غسلِ الذَّكَرِ! قال: قد يتقدّم الشّيءُ في اللَّفظِ وليس في الفعل. وقيل: هذا يدلُّ على أنّ الواو لا تعطى رتبة عند جميع النُّحاة. وقال الأبهريُّ: أمرَ النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- بالوُضُوء عند النوم؛ لأنّه ربما كان الوضوء سببًا للغُسْلِ، وقد وقع في "الموطآت" (¬5): "توضَّأ، واغْسِل ذَكَرَك، ثُمَّ نَمْ" ومن رواية شُعْبَة: "اغسِل ذَكَرَكَ، ثم تَوَضَّأ، وَارقُد" وهذا هو الصّحيح، أمر بالغُسْل غسل الذَّكَر قبل الوضوء. وروى الشّعبي عن الأسود بن زيد عن عائشة قالت: كان رسول -صلّى الله عليه وسلم - ينام وهو جُنُب من غير أنّ يمسّ ماء (¬6). وذكر ابن أبي زيد (¬7) عن ابن حبيب (¬8) وجوب ذلك. ¬
قال الإمام الحافظ: والوضوءُ للجُنُب قبل أنّ ينام، الّذي وقع عند علمائنا (¬1) هو على الاتِّباعِ والاستحسانِ، وليس من واجبات الأمور، والوضوءُ أحبّ إليهم لما في ذلك من الآثار. تلفيق: وأمّا وضوءُ الجُنُب قبل أنّ ينام، فقد وقع لمالك أنَّه قال: هو شيء ألزمه الخوف عليه. قال أبو عبد الله المازَري (¬2):"اختلفَ علماؤنا في تعليله: 1 - فقيل لِيَبِيتَ على إحدى الطّهارتين خشية أنّ يموتَ في منامه. 2 - والمعنى الثّاني، قيل: بل العلّة فيه أنْ ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه، كما ذكره الأبهري (¬3). ويجري الخلافُ في وُضُوء الحائض قبل أنّ تنام على الخلاف في هذا التّعليل، فمن عَلَّلَهُ بالمَبِيتِ على إحدى الطّهارتين أجاب فيه: أنّها تتوضّأ". وأمّا الوُضُوء قبل الأكل، فإنّ ذلك عندنا غسل اليد، ولعلّ ذلك لأذى أصابَهُ في يده. نكتةٌ لغوية: قال الهَروي في (¬4): يُسَمى الْجُنُبُ جُنُبَا؛ لأنّه نُهيَ أنّ يقرب مواضع الصّلاة ما لم يتطهَّر فيجتنبها. وأجنبَ عنها: إذا تباعد عنها. وقال القُتْبِيّ (¬5): يُسَمَّى بذلك لمجانبته النَّاس وبعده منهم حتّى يغتسل، والجنابة: البُعْدُ. قال الأزهري (¬6): يقال: جنب الرَّجُل وأجنب، من الجنابة. وقال الزّجاج (¬7): "يقال: رَجُلٌ جُنُب، ورَجُلان جُنُبٌ، وقومٌ جنُبٌ، وامرأةٌ جُنبٌ، ¬
كما يقال: رَجُلٌ رِضى، وقومٌ عَدْلٌ، وإنّما هو على تأويل ذووا أَجنُب، والمصدر يقومُ مقامَ ما أُضِيفَ إليه، ومن العرب من يُثنِّي ويجمعُ ويجعل المصدر بمنزلة اسم الفاعل، وإذا جمع جنب قلت في رجال: جُنُبُون، وفي النِّساء: جُنُبات، وللاثنين: جُنُبَان" وقوله في الحديث: "كنَّا في السَّرِيَّةِ فَأجنبْنَا" (¬1). مزيد إيضاح: وقال (¬2): وفي الحديث أنّ عبد الله بن أبي قَيْس قال: سألتُ عائشة - رضي الله عنها - عن وِتْر رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، وذكر الحديث وقال: قلتُ: كيف كان يصنَعُ في الجَنَابَةِ، أكان يغتسلُ قبل أنّ ينام، أو ينام قبل أنّ يغتسل؛ قالت: كُلٌّ ذلك كان يَفعَل (¬3). قال أبو عبد الله المازَرِي (¬4): "يحتملُ أنّ يكون وجه سؤاله عن هذا؛ لأنّ في بعض الأحاديث أنّ الجُنُبَ لا تقربه الملائكة، ومعلومٌ من حاله - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه لا يبقى على حالة تبتعد الملائكة عنه، ألَّا ترى أنّه - صلّى الله عليه وسلم - كان يتقي أكل الثّوم ويتجنّبُهُ، وعلَّلَ ذلك بأنَّ المَلَك يُنَاجِيهِ". ويحتمل حديث عائشة تأويلات: أحدها أنّ يكون آخر الغُسْلِ عن وقتٍ وَجَبَ عليه فيه الاغتسال لحضور الصّلاة، فيصيرُ حينئذٍ عاصيًا، فلا تقربه الملائكة بعصيانه، ورسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يتنزّه عن هذا الحال، وهذا تأويل لا يُلتَفَتُ إليه. ¬
تفريعٌ (¬1): قوله: "اغسِل ذَكرَكَ، ثُم نَمَّ" يريدُ - والله أعلم- أنّ له تأخير الغُسل ما لم يأت وقت الصّلاة، وندبه إلى الوُضُوء وغَسْل الأذى ثمّ ينام. وليس هذا بواجبٍ على من أراد النّوم. وروى ابن نافع (¬2) في "المجموعة": من لم يفعل فليستغفر الله تعالى. وقال الدّاودي (¬3): من ترك ذلك لم تسقط عَدَالَتُه، وهذا هو الأظهر من أقوال الفقهاء، قال (¬4): ومن توضّأ فلا يبطل هذا الوضؤء بِبَوْلٍ ولا غائطٍ، قاله مالكٌ في "المجموعة"، ولا يبطل بشيءٍ إلَّا بمعاودة الجماع. وقولُها (¬5): "وضُوءَهُ للصّلاة" يريد وضوءًا كاملًا، وكذلك قال ابنُ حبيب: إن أخذ بقول ابن عمر فتركَ غسل رِجلَيه، فذلك وأسعٌ، وقولُ مالكٌ أَوْلَى، لما في حديث النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - من إطلاق لفظ الوضوء، وذلك يقتضي الوُضوء الشّرعيّ. المسألة الثّانية (¬6): قوله (¬7):"إذا أرادَ أنّ ينامَ أو يَطْعَمَ" كان ابن عمر يُسَوِّي بينهما في الوضوء لهما، وبه قال عطاء. وأمّا مالكٌ فقال: لا يَتَوَضَّأ إلَّا من أراد أنّ ينام فقط، وأمّا من أراد أنّ يطعم أو يُعَاوِدَ الجِمَاعَ فلا. ¬
تكملة: قال الطُوسيِّ الأكبر (¬1): إنّما أمرَهُ بالوضوء عند النّوم؛ لأنّ الأرواح تصعد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن الأرواح تُبعَثُ على ما فارقت الأجساد في دار الدُّنيا. وأنشدوا لبعض الصُّوفية في ذلك (¬2): هب الفؤادَ لذكْرِ اللهِ مفتاحًا ... واجعل لقَلبِكَ نورَ الذِّكرِ مِصْباحَا فَللمُطِيعينَ أجسادٌ مضمَّنَةٌ ... على الطّهارةِ في التّركيبِ أرْوَاحَا للهِ عبدٌ جَنَى ذنبًا فأَخزَنَهُ ... فَظلَّ حَيران يُذري الدَّمعَ سَفَّاحَا مستغفرًا قَلِقَا مستيقظًا فَطِنًا ... كأَنَّ في قلبه للنُّور مِصْباحَا يَا عينُ جُودِي كما جَادَت مَدَامِعُهُ ... فَرُبَّ دَمْعِ جَرَى لِلخَيرِ مِفتَاحَا ورُبَّ عين رآها اللهُ بَاكِيَةَ ... من خَوفِهِ سَوفَ تَلقَى الرَّوْحَ وَالرَّاحَا وأما قولُه: "اغسِل ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ" لم يمكنه القيام تلك اللَّيلة للعبادة، ولا قَرَبَتهُ الملائكة. ¬
إعادة الجنب الصلاة وغسلة إذا صلى ولم يذكره، وغسله ثوبه
إعادة الجُنُبِ الصلاةَ وغُسْلُةُ إذا صلّى ولم يَذكُره، وغَسْلُه ثوبَه قال الإمام الحافظ: هذا الحديث يشتملُ على أربعة فصول: الفصلُ الأوّل في الإسناد مالكٌ (¬1)، عن إسماعيل بن أبي حكيم؛ أنّ عطاءَ بن يَسَارٍ أخبرهُ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كَبَّرَ في صلاةٍ من الصَّلواتِ، ثمّ أشار إليهم بِيَدِهِ أَنِ امكُثُوا، فذهبَ، ثُمَّ رجعَ وعلى جِلدِهِ أَثَرُ الماءِ. قال الإمام (¬2): ولم يذكر البخاريّ (¬3) أنّه كَبَّر، وإنّما ذكر أنّه استوى في الصَّفِّ، وكلٌّ ذلك سواء؛ لأنّ مالكًا إنّما ذكر أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كَبَّرَ ولم يذكر أنّ القوم كَبَّرُوا، وإذا لم يُكَبِّر القوم فلا بأس بانتظارهم إمامهم، وقد ذكر ابن مُزَيْن (¬4) أنَّ القوم كَبَّرُوا، وليس في "الموطَّأ" بيان أنَّهم كَبَّرُوا. تنبيه على إغفال: قال الشّيخ أبو عمر - رضي الله عنه (¬5) -: هذا حديث منقطعٌ، وقد رُوِيَ مُسْنَدًا" متَّصِلًا من حديث أبي هريرة وأبي بكرة (¬6)، وفي بعضها أنّه "كَبَّرَ"، وفي بعضها أنّه "قام ¬
في مُصَلَّاهُ"، وفي بعضها أنّه " لمَّا انصرف كبَّرَ". قال الإمام (¬1): ومن ذكر أنّه كَبَّرَ زاد زيادة (¬2) يجب قَبُولها. ومن روى أنَّه لم يُكَبَّر، فقد أراح نَفسَهُ من الكلام في هذا الباب. أمّا القول والترجمة فيه على رواية من روى أنَّه كَبَّرَ، فقد ظَنَّ بعض شيوخنا؛ أنّ في إشارته إليهم: أنِ "امكُثُوا" دليلًا على أنّه إذا انصرف (¬3) بنَى بهم؛ لأنّه لم يتكلّم. قال الإمام الحافظ (¬4): وهذا جهلٌ عظيمٌ، وغلطٌ فاحش من قائله، إذ لا يجوز عند أحد من العلماء أن يَبْني أحدٌ على ما صنع من صلاتة وهو غير طاهر، ولا يخلو أمره من أحد ثلاثة أوجُهٍ (¬5): الأوّل: إمّا أنّ يكون بني على التكبيرة الّتي كَبَّرَها وهو جُنُبٌ، وبَنَى القوم معه على تكبيرهم، فإنْ كان هذا فهو منسوخٌ بالسُّنَّةِ والإجماع. وأمّا السُّنَّة فقولُه -عليه السّلام-: "لا يقبلُ اللهُ تعالى صلاةً بغيرِ طُهُورٍ" (¬6)، فكيف بَنَى على ما صلَّى وهو غير طاهر! وتكبيرةُ الإحرام رُكنٌ من أركان الصّلاة، فكيف يجزئه بناؤُه وقد عملها على غير طهارةٍ، وهذا لا يَظُنَّهُ ذُو لُبٍّ، ولا يقولُه أحدٌ؛ لأنّ علماء المسلمين مجتمعونَ على أنّ الإمام وغيره من المصلِّين لا يَبني أحدٌ منهم على شيءٍ عمله في صلاته وهو غيرُ طاهرٍ. وإنّما اختلفوا في بناء المُحدِثِ على ما صلَّى وهو طاهرٌ قبل حَدَثِه، وقد بيَّنَّا ذلك في باب الرُّعَافِ (¬7). والوجة الثّاني: هو أنّ يكون رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- حين انصرف بعد غُسلِهِ استأنفَ صلاته واستأنفها أصحابه معه بإِحرامٍ جديد، وأبطلوا إحرامهم إنّ كانوا قد أَحْرَمُوا. وقد كان لهم ¬
الفصل الثاني فى سرد المسائل
أنّ يعتدَّوا به لو استخلف من يتمّ بهم، فإن كان هذا، فليس يُشكِل في الحديث معنى حينئذٍ على مذهب مَنْ روى أنّه كبَّرَ ثم أشار إليهم أَنِ امْكُثُوا وانْصَرَفَ. وأمّا من رَوَى أنّه لم يكبِّر أوَّلًا، وَكَبَّرَ لَما انصرفَ، فليس في روايته شيءٌ يحتاج إلى قولٍ غير انتظار الإمام إذا كان في الوقت سَعَة، وهذا أمرٌ مجتمعٌ على جوازه لا مَدخَلَ أيضًا للقول فيه. والوجهُ الثّالث: هو أنّ يكون النّبيّ -عليه السّلام- كبَّرَ مُحرِمًا مُستأنفًا لصلاته، وبَنَى القومُ خَلفَهُ على ما مضَى من إحرامهم. فهذا وإن كان فيه النّكتة المجيزة لصلاة القوم خلف الإمام الجُنُب لاستحرامهم بإحرامهم خَلْفَه، فإنّه لا يصحُّ ولا يُخَرَّجُ على مذهب مالكٌ؛ لأنّه حينئذ يكون إحرام القوم قبل إحرام إمامهم، وهذا غير جائز عند مالكٍ وجمهور الفقهاء، وإنّما اختاره الشّافعيّ في أحد قوليه، والصّحيح عنه مثل قول الجماعة (¬1)، ولا يحتمل الحديث غير هذه الثلاثة الأوَجُه، ولا يخرج عن واحد منها، وليس في شيءٍ منها ما يدلُّ على جواز صلاة المأموم الطّاهر خَلْفَ الإمام الجُنُبِ على مذهب مالك. الفصلُ الثّاني فى سرد المسائل وفيه ثلاثة مسائل: المسألة الأولى (¬2): اختلفَ العلماءُ في القوم يصلُّون خَلفَ إمام ناسٍ لجَنَابَتِهِ؟ فقال مالكٌ وأصحابه (¬3) والثّوريُّ والشّافعىُّ: لا إعادةَ عليهم. ورُوِيَ ذلك عن عمر وعثمان وعليّ، وعليه أكثر ¬
العلماء، وحَسْبُكَ حديث عمر (¬1)؛ فإنّه صلّى بجماعة من أصحابه صلاة الصُّبح، ثمّ غَدَا إلى أرضِهِ بِالجُرفِ، فَوَجَدَ في ثَوبِه احتلامًا، فَغَسَل واغتَسَلَ، فأعاد صلاته وَحْدَهُ ولم يأمرهم لإعادة، وهذا في جماعة، ولم يُنكره واحدٌ منهم. ورُوِيَ عنه (¬2) أنّه أفتى بذلك. المسألة الثّانية (¬3): اختلف مالكٌ والشّافعيّ - في المسألة بحَالها- في الإمام يتَمَادَى في صلاته ذاكرًا لِجَنَابَتِهِ، أو ذاكرًا أنّه على غير وُضوءٍ، أو ابتدأَ صلاته كذلك (¬4)، قال مالكٌ (¬5) وأصحابه (¬6): إذا عَلِمَ أنّه على غير طهارةٍ، وتمادَى عامدًا، بَطَلَت صلاتُه وصلاتُهُم. وقال الشّافعيّ (¬7): صلاةُ القوم جائزةٌ تامّةٌ، ولا إعادةَ عليهم إذا لم يعلموا حال إمامهم؛ لأنّهم لم يكلَّفُوا عِلْم الغَيْب، إذ قد صلَّوا خَلفَ رَجُلٍ طاهرٍ في علمِهم. المسألة الثّالثة: قول مالكٌ (¬8) - فيمن رأى في ثوبه احتلامًا ولا يدري مَتَى كانَ، ولا يَذكُر شيئًا رآه في منامه-: إنّه يغتسل ويُعيدُ ما صلَّى من أَحدَثٍ نَوْمِهِ. المسألة الرّابعة (¬9): في هذا الحديث إعادةُ الصّلاةِ وإن خرج الوقتُ إذا صلّاها وهو جُنُب. وقوله (¬10):"وأَنضِحُ" والنَّضحُ هاهنا: الرَّشُّ (¬11)، وفعلُه استطابة للنَّفس، ومدافعة ¬
للشَّيطان. قال ابنُ حبيب (¬1): "فمن جَهِلَ وصلَّى ولم يَنْضَح الثَّوب الّذي شكَّ فيه وقد غَسَل ما رَأَى، فإنّ صلاته مجزئة عنه؛ لأنَّ النَّضح في هذا استطهارٌ من بعد الغُسلِ لتطِيب النَّفسُ، فمن جَهِلَهُ فتركه لم ينقض ذلك صلاتَه، وكذلك سمعت مُطَّرِّفًا يقول". وقال عيسى في "تفسير ابن مُزين": يُعيدُ في الوقتِ. نكتةٌ أصولية: قوله (¬2): "فغَسَل ثَوبَهُ" من فعل عمر، وقد روي عن النّبيِّ صلّى الله عليه من حديث عائشة أنّها قالت: كنت أغسِلُ الجَنَابَةَ مِنْ ثوبِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَيَخْرُجُ إلى الصَّلاةِ وإنَّ بُقَعَ الماءِ في ثَوْبِهِ (¬3). اختلف العلماءُ (¬4) في المنىِّ هل هو نجسٌ أو طاهر؛ فمذهب مالكٌ (¬5) والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة (¬6) أنّه نجس، إلَّا أنّ مالكًا - رحمه الله - لا يجزىء عنده في رطبه إلَّا الغُسْل (¬7)، والفَركُ (¬8) عنهده باطلٌ. وعند أبي حنيفة يُغسَل رطبه، ويُفرَك يابِسُه. وقال الثّوريّ: إنّ لم يَفرُكه من ثوبه أجزأته صلاته. وممّن رأى الفَرك سعد بن أبي وقّاص وابن عبّاس. قال الإمام (¬9): وحُجَّةُ الّذين قالوا بنجاسته قول عائشة: كنت أغسلُ الجَنَابَةِ من ثَوبِ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-. الحديث. ¬
واحتجّ الّذين قالوا إنّه طاهر بآثارٍ مخالفةٍ لهذا الحديث. قولُها: كُنتُ أَفرُكُ المنِيَّ من ثوب رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- الّذي يصلِّي فيه (¬1). قال الإمام (¬2): وليس هذا ممّا يدلُّ على طهارته كما زعموا، فقد يجوز أنّ يفعل ذلك النّبيّ يطهر بذلك الثّوب، والمنِيُّ في نفسه نَجسٌ. وقال ابنُ القصار (¬3): وأمّا دليلُ القياس، فقد اتّفقنا على نجاسة المذي، فكذلك المني، فَعِلَّتُه أنّه خارج من مَخرَجِ البَول (¬4). فإن قيل: هو طاهرٌ؛ لأنّه خَلَقَ منه الأنبياء عليهم السّلام، فلا يجوز أنْ يكون نَجِسًا. الجواب عنه - قلنا: وكذلك أيضًا خَلَقَ منه الطُّغَاةَ والفراعنة، فوجب أنْ يكون نجِسًا. فإن قيل: اللهُ خَلَقَ آدم من ماء وطينٍ، وهما طاهران، ويكون متولّدًا عن نجسٍ، كاللّبن فإنّه متولِّدٌ عن الدَّمِ، فالماءُ والطِّينُ طاهران. قيل: هذا لا يلزم؛ لأنّه لا يشارِكُه أحدٌ في ابتداء خَلقِه، لم تجب مساواته فيما ذكرتم؛ لأنّ آدم لم ينقل من رَحِمٍ فيكون نُطفَة ثم عَلَقَة، والعَلَقَة دَمٌ حكم لها بالنّجاسة إذا انفَصَلَت. تنبيه على مقصدٍ (¬5): قال الإمام الحافظ: وقد وجدنا الخارجات من البدَنِ على ضربين: 1 - ضَربٌ مائعٌ طاهرٌ، ليس خروجه لحَدَثٍ، ولا ينقضُ الوضوء، كاللبن، والعَرَقِ والدُّموع، والبُزَاقِ، والمُخَاطِ. ¬
2 - وضَربٌ آخر نجِسٌ، وخروجه حدَثٌ ينقض الطّهر ويجب غَسله، كالبول، والغائط، ودم الحائض، والمذي، وثبت الإجماع؛ أنّ المذي ينقض الوضوء وُيوجِبُه، وكذلك المنىّ. نكتةٌ بديعة (¬1): قول عمر في الحديث (¬2): "إنَّا لَمَّا أَصَبنَا الوَدَك لاَنَتِ العُرُوقُ" وذلك أنَّه لَمَّا ولي الخلافةَ قدِمَتْ عليه وفودُ الملوكِ فصنع لهم طعامًا وأكل معهم تواضُعًا. وقال في حديث آخر: "لا آكل سَمنًا حتَّى يحيى النّاسُ من أوّل ما يحيَوْنَ" (¬3) يريدُ المجاعة الّتي كانت نزلت بالنّاس، فَكَرِهَ أنّ يأكل السَّمْن لتَسْتَوِي حالُه وحالُ النّاس معه (¬4). وإنّما أصابه الاحتلام من أجل الوَدَكِ والسَّمْن. فالنُّكْتَةُ البديعة - في ذلك؛ أنّ المَنِيَّ شيءٌ ثان يتغذّى من الرُّطُوبات، خلافًا لمن قال: إنّ المنىَّ إنّما هو في أصل الْخِلْقَةِ، ولو كان هذا صحيحًا لوُجِدَ في الإنسان من حِين نشأ، وهذا محالٌ، وإنّما يخلقه الله عند الحاجة إلى الكمال والدّخول في حدِّ الرِّجال، فالمنيُّ قد يتقوّى بالرُّطوبات كما قلنا وكما قال عمر، وقد يضعفُ بالصَّوم والحسومة (¬5) أيضًا، فهذه نكتةٌ بديعة جدًّا. ¬
غسل المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل
غُسْلُ المرأةِ إذا رأت في المنام مِثْلَ ما يرَى الرَّجُلُ مالكٌ (¬1)، عن ابن شهاب، عن عروة؛ أنَّ أم سُلَيْم قالت *لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: المرأة تَرَى في المنامِ مثل ما يَرَى الرَّجُلُ، أَتَغْتَسِلُ؟ فقال لها رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "نعم، فَلتَغتَسِلْ" الحديث. مالكٌ (¬2)، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سَلَمَة، عن أم سَلَمَة زوجُ النّبيّ أنّها قَالَتْ: جاءت أُمُّ سُلَيْم امرأة أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلم فقالت*: يا رسول الله هل على المرأةِ من غُسلِ إذا هي احتَلَمَتْ؟ الحديث. قال الإمام (¬3): هكذا رواه مالكٌ (¬4)، ولم يذكر فيه عن عائشة؛ أنّ أُمَّ سُلَيْم قالت: "يا رسول الله". ورواه عبد الأعلى السَّامي عن مَعمَر كرواية يحيى. وأكثر الرُّواة يروونه عن عُرْوَة عن عائشة (¬5)، وجمهور رواة الموطَّأ (¬6) عن مالك عن ابن شهاب عن عُرْوَة، ولم يذكروا فيه عن عائشة. وفيه فصول ثلاثة: ¬
الفصل الأول
الفصل الأوّل قد تقدَّم في الإسناد لهذا الحديث. الفصل الثّاني في ذكر الفواند المنثورة وفيه أربع فوائد: الفائدة الأولى (¬1): في هذا الحديث: إيجابُ الغُسل على النِّساء إذا احتلمن ورأَيْنَ الماء، فحكمُهُنَّ في ذلك حُكم الرِّجال في الاحتلام إذا كان معه الإنزال، وهذا ممّا لا خِلاَفَ فيه. وأكثرُ أصحاب ابن شهاب يقولون: نعم، إذا وَجَدْتِ الماءَ (¬2)، وقد روي: "إنّ النِّساءَ شقائق الرِّجال" (¬3)، يعني (¬4): أنَّ الخِلقَة فيهم واحدةٌ، والحكمُ فيهم بالشّريعة سواء. الفائدة الثّانية (¬5): فيه: بيان ما كان عليه نساء ذلك الزّمان من الاهتبال بأمر دينهنّ، وهذا يَلزَمُ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ إذا جَهِلا شيئًا من دينهما أنّ يسألا عن ذلك، وقول الرسول - صلّى الله عليه وسلم -: "شِفَاءُ العيِّ السُّؤَالُ" (¬6) وقول عائشة: "يرحمُ اللهُ نساءَ الأنصارِ، لم يمنعهنّ الحياءُ أنّ يسألنَ عن ¬
أَمْرِ دِينهِنَّ" (¬1) وكانت أم سُلَيْمٍ من فواضل الأنصار، ولذلك (¬2) قالت لها عائشة: "فَضَحْتِ النِّساء" (¬3) لما علمت من دِينِهَا وفَضْلها. الفائدة الثّالثة (¬4): فيه أيضًا: دليلٌ على أنّ النِّساء كلّهن ليس يحتلمن، ولهذا أنكرت عائشةُ ذلك من أمِّ سُلَيْم. وقيل: إنّما أنكرت عائشة ذلك على أمِّ سُلَيم، لأنّها لم تَفقِد رسول الله صلّى الله عليه قطُّ، ولم تكن رأت ذلك، فأنكرته ولم تبلغ ذلك الحدّ، وأكثر ما يحدث ذلك للنِّساء إذا كان زوجها قد أطال الغيبة عنها. الفائدة الرّابعة: قول عائشة (¬5): "أُفٍّ لَكِ، وهَلْ تَرَى ذلكَ المرأةُ؟ فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: تَرِبَت يَمِينُكِ، وَمِن أَينَ يكون الشَّبَهُ". نكتةٌ لغوية (¬6): قوله: "من أَينَ يَكُونُ الشَّبَهُ". قال الإمام: الشَّبَهُ والشِّبهُ لغتان، إذا فتحت الشِّين فافتح الباء، لماذا كسرت الشِّين فاجزم الباء. تحقيق: قولها: "أُفٍّ لَكِ" فيه للعلماء من أهل اللُّغة عشر لغات (¬7): ¬
"- أُفَّ لك بضم الألف وفتح الفاء مشدَّدة. 2 - وأُفِّ لك بكسر الفاء. 3 - وأُفُّ بضمِّها. 4 - وأُفَّا لك بالنَّصب والتّنوينِ. 5 - وأُفٍّ بالخَفض والتّنوين. 6 - وأُفٌّ بالضَّمِّ والتّنوين. 7 - وأُفْ بإسكان الفاء. 8 - وأُفِّي بياء الإضافة. 9 - وإِفَّ بكسر الألف وفتح الفاء. 15 - وأُفَّه بضمِّ الألف وإدخال الهاء. والحروف الّتي هي الزّوائد عشرة، جمعت في قولك: اليوم تنساه. وأفّ (¬1): هو ما غَلُظَ من الكلام وقَبُحَ. وقال غيره: معنى هذه اللّفظة جوابٌ لِمَا يُستَثْقَلُ من الكلام وما يُضجَر منه، وقالوا الأُفُّ والتُّفُّ واحدٌ، قالوا: والأُفُّ وَسَخُ اللأُذُنِ، والتّفّ وسَخُ الأظفار (¬2). إيضاحُ مُشكِلٍ: قوله (¬3): "تَرِبَت يَدَاكَ، وَمِن أَينَ يكونُ الشَّبَهُ" فيه للعلماء أقوال جَمَّةٌ، وهو حرفٌ أشكلَ على العلماء، والّذي يحضرُني من ذلك في هذه العاجلة ثلاثة أقوال: القولُ الأوَّل (¬4): هو أن يكون أراد: اسْتَغنَت يَدَاك، كأنه يُعَرِّضُ لها بالجهل إذْ ¬
أنكَرَت ما لا ينبغي أنّ ينكره مخاطبها. 2 - وقال علماؤنا (¬1): هي كلمةٌ جَرَت على أَلسِنَة العرب لا يريدون بها الدُّعاء، وكذلك قولُه (¬2): "عَقرًا حَلقًا"، لم يرد بها الدُّعاء، وتفسير عَقرًا حَلقًا: عَقَرَهَا اللهُ وحلقَهَا. 3 - والقولُ الثّالث: قوله: "تَرِبَت يَدَاكَ" قيل: بمعنى افتقرت (¬3)، وذَكر ابنُ حبيب (¬4)؛ "أنّ مالكا كان يقول: معناه استغنت يمينُك، ذهب إلى أنّ الرسول صلّى الله عليه لم يكن يدعو على عائشة ولكن دعا لها". وكذلك روى عيسى بن دينار؛ أنّ قوله: "تَرِبَت" بمعنى: استَغنَت. وقال الهروي (¬5) في "تفسير قوله سبحانه: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬6) أي: لصقَ بالتّراب من فَقرِهِ". نكتةٌ لغوية: تقولُ (¬7) العربُ: تَرِب الرَّجُل: إذَا افتقر، وأَترَبَ: إذا اسْتَغنَى، وفي الحديث: "عليكَ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يدَاكَ، أو يمينك" (¬8). ¬
وقال ابن عرفة (¬1): أراد تَرِبَت يداك إنّ لم تفعل ما أمرتُك (¬2). وقال ابنُ الأنباريّ (¬3): معناه لِلهِ دَركَ إذا استعملت ما أمرتُك به، واتَّعَظْتَ بِعِظَتِي. قال في "رسالة البديع": قوله: "ترِبَت يداكَ" (¬4) يدلُّ على أنّه ليس بدعاءٍ، والعربُ تقولُ: لا أبَ لك، ولا أمَّ لك، يريدون بذلك: لله دَرُّكَ، ومنه قول الشّاعر (¬5): هَوَتْ أُمّهُ مَا يَبعَثُ الصُّبحَ غَادِيًا ... وَمَاذَا يُؤَدِّي اللَّيْلُ حِينَ يَؤُوبُ فظاهرُه: أَهلَكَة اللهُ، وباطِنُه: لله دَرُّه. ومنه الحديث (¬6):"وَيلُ أمِّهِ، مسعَرَ حَربٍ" وويل أمّه وهو يريد مدحه. وهذا (¬7) القول كله من قائله فرارٌ من الدُّعاء على عائشة، وإنّما هو بمعنى استغنت، يقال أَترَبُ الرَّجُل: إذا استغنى، وتَرِبَ: إذا افتقر. وقالوا معنى قوله: "تَرِبَت" أي: افتقرت من العِلم بما سألت عنه أمّ سُلَيْم. وهذا التّأويل أَبيَن، وأحسن التّأويلات، والله أعلم. فهذا جملة أقوال العلماء الشّارحين للحديث، ولا يشذّ منها قوله إلَّا وقد قيَّدنَاهَا لكم. ¬
الفصل الثالث
الفصل الثّالث في شرحِ قولِهِ -عليه السّلام-: "إذا سَبَقَ ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أَو عَلاَ، أَشبَهَ الرَّجُلُ أَعمَامَهُ، وإذا سبقَ ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ أَو عَلاَ، أَشبَهَ الرَّجُلُ أَخوَالَهُ" (¬1)، وقوله في الحديث الآخر: "إذا سبقَ أحدهما الآخر". قال علماؤنا: في هذا دليلٌ قويٌ على أنَّ الولَدَ يُخلَق من الماءين، ولا يكون من ماء واحد بوجهٍ، ولا على حالٍ؛ لأنّ الكَفَرَةَ من الأطِّبَاء قالوا: قد يكون الولد من الرَّغوَة أو الزَّبَد الّذي يتولَّدُ بينهما. إيضاح مشكلٍ (¬2): فإن قيل: قد تعارض الحديثان في الظّاهر، فكيف الجمعُ بينهما؟ قلنا: وذلك أنّ تعلم أن للماءين أربعةَ أحوال (¬3): الأوّل: أن يخرُجُ ماءُ الرَّجُل أوَّلًا. والثّاني: أن يخرجَ ماءُ المرأة أيضًا أوَّلًا. الثّالث: أن يخرُجَ ماءُ الرَّجُل أوَّلًا ويكون أكثر. والرّابع: أن يخرجَ ماءُ المرأة أوَّلًا ويكون أكثر. أو بالعكس من ذلك، ويجب على هذا الوجودُ الّذي أشار إليه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بقوله (¬4): "من أَينَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ " وإذا خرجَ ماءُ الرَّجُل أوَّلًا وعَلاَ وكان أكثر، جاء الوَلَدَ ذَكَرًا لحُكم السَّبْقِ، وأَشبَهَ الولدُ أعمامَهُ بحُكمِ الغَلَبَةِ والكَثرةِ. وإن خرج ماءُ المرأةِ أوَّلًا وكان أكثر من ماءِ الرَّجُلِ أو عَلاَ، جاء ¬
الولدُ أنثَى بحُكم سَبقِ ماء المرأة، وأشبه أخوالَه بحُكمِ الغَلَبَةِ والكَثرة. وإن خرجَ على السَّبق والأَعلَى، فلا يخلو من هذا التّقسيم، والله أعلم. قال بعض أشياخي: وبَقِيَ هاهنا نكتةٌ، وهي إذا استوى ماءُ الرَّجُلِ وماءُ المرأةِ، ولم يَعلُ ذا على ذا، ولا ذا على ذا، فإنّه يكون خُنثَى. قال الإمام الحافظ: وقد كانتِ الخِلقَةُ مستويةً ذَكَرًا وأُنثَى، إلى أنّ وقع في الجاهلية الأُولى خُنثَى، فأتى به فرضيّ العرب ومعتمدها (¬1)، فلم يَدرِ ما يقول فيه، فلما جَنَّ عليه الليل، تنكَّرَ عليه مَضجعه، وجعل يتقلّب ويُطيلُ التَّفَكُّر فيه، إلى أنّ أنكرت عليه جاريته حاله، فقالت له: مالكٌ؟ فذَكَر لها الأمر، وقال لها: رَجُلٌ له ذَكَرٌ وفَرْجٌ، كيف يكون حَالُه في الميراث؟ فقالت له الأَمَةُ: يُوَرَّثُ من حيث يبولُ، فعلقها، وأصبح، ففرضها لهم وأمضاها عليهم، فانقلبوا بها رَاضِين، وجاء الإِسلامُ على ذلك، فلم تنزل إلّا في عهد عليّ بن أبي طالب (¬2)، فقَضَى فيها على ما قدَّمنا. ورُوِي عن الكَلبِىّ (¬3)، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس؛ أنّه سُئِلَ عنها وعن مولودٍ له قُبُلٌ ودُبُرٌ، من أين يُوَرَّث؟ فقال: يُوَرَّثُ من حيث يَبُولُ (¬4). ورُويَ أنّه أُتِيَ بخُنثَى من الأنصار إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-، فقال: "يُوَرَّثُ من حيث يَبُول" (4). قال أبو عبد الله الشّقاق (¬5)، فرضىُّ الإسلام، إنّ بال منهما جميعًا، ورثَ من الّذي ¬
يسبق منه البَوْل. وكذلك رواه محمد بن الحنفيّة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونحوه عن ابن عبّاس، وبه قال ابن المسيَّب (¬1) وأبو حنيفة (¬2)، وحكاه المُزنى عن الشّافعيّ (¬3). وقال قومٌ: لا دليل في البَوْل، فإن خرج البَولُ منهما جميعًا؟ قال أبو يوسف: يحكم بالأكثر (¬4)، وأنكَرَهُ أبو حنيفة، ولم يجعل أصحابُ الشّافعيّ للكَثرة حُكمًا. وقال إسماعيل القاضي: لا أحفَظُ عن مالكٌ في الخُنثَى شيئًا، وحُكِيَ أنّه جعله ذكَرًا، وحُكِيَ عنه أنّه جعل له نِصفَ ميراث ذَكَرِ،- ونصفَ ميراثِ أُنْثَى، وليس بثابتٍ عنه. وقد قيل: لا يُعتبَرُ بذلك إذا بلغ وزال الإشكال. وقد أنكر قومٌ من رؤوس العوامّ الخنثى، وقالوا: وقد قسم الله الخَلقَ ذَكَرًا وأُنْثَى، وهم أهل الظّاهر، فلا يعوَّل على ذلك (¬5)، وَليُعَوَّل على ما نقله الجمهور، واللهُ يوفّق للصّواب. ¬
جامع غسل الجنابة
جامعُ غُسْلِ الجَنَابَةِ روى نافع؛ أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأسَ أنّ يُغتَسَلَ بفَضلِ المرأةِ، ما لم تكن حَائِضًا أو جُنُبًا (¬1). قال مالكٌ: لا بأسَ بفَضلِ المرأةِ وإن كانت حائضًا أو جُنُبًا (¬2). قال الإمام (¬3): يدلُّ على ما قال مالك حديث عائشة؛ أنّها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناءٍ واحدٍ، تختلفُ أيدينا فيه (¬4). وقد اختَلَفَ في ذلك قولُ ابن عمر، ذَكَرَ نافع (¬5)؛ أنّ ابنَ عمر كان يَغسِلُ جَوَارِيهِ رِجلَيهِ ويُعطِينهُ الخُمرَةَ وهُنَّ حُيَّضٌ، فهذا خلاف قوله: "مَا لَمْ تَكُن حَائِضًا أَو جُنُبًا". قال مالك: وإنّما فعل ذلك ابن عمر لِعُذرٍ، والعُذرُ الّذي ذكر مالك: العلّةُ الّتي كانت برِجلَيه من فَدَعِ أهل خَيبَر (¬6)، والله أعلم. والخُمرَةُ: شيءٌ منسوجٌ يُعمَلُ من سَعَفِ النَّخلِ، وُيزملُ بالخيوط، وهو صغيرٌ قَدر ما يَسجُد عليه المصلِّي (¬7). وقال القاضي أبو الوليد (¬8): "كان ابنُ عمر يغسلُ جَوَارِيه رِجلَيهِ: يحتمل أنّ يريد في الوُضعوء، على ذلك حملَهُ سحنون في "العُتبِيّة" (¬9) ". وقولُه (¬10): "كان يَعرَقُ في الثَّوبِ وهو جُنُبٌ ثم يُصَلِّي فيه". ¬
قال الإمام (¬1): هذا ما لم يكن على جسد الجُنُب نجاسة، فإن كان على جسده نجاسسة فَعَرِقَ في الثّوب، نجس ومنع من الصّلاة فيه، وكذلك لو كان الثّوبُ نَجِسًا فَعَرِقَ فيه، نجس جسده (¬2). مسألة (¬3): قال: فإن أخذ الماء بِفِيهِ ليغسل به يده، فقدِ اختلفَ أصحابنا في ذلك؟ فرَوَى أشهب عن مالك في "العُتبِيّة" المنع منه (¬4). ورُوِيَ عن ابن القاسم (¬5) إباحة ذلك إذا نَوَى به الغُسل. وقد رأيتُ أنّ أَسرُدَ هاهنا جملة من مسائل الغُسلِ من الجَنَابة، واختلاف نيَّة المكلَّف في ذلك، وأختمُ بذلك جملة الكلام في الغُسلِ من الجنابة. والّذي يرتبطُ به النِّظام في هذا المقام، ثلاث عشرة مسألة. إحداها: هل على الجُنُب أنّ ينوي رفع الحَدَثِ الأكبر، بخلاف المتوضِّئ الّذي ينوي رفع الحَدَثِ فقط أم لا؟ قيل: الفرقُ بينهما؛ أنَّ الحَدَثَ الأصغر لا يحتاج فيه إلى تعيينٍ؛ لأنّ الحَدَثَ على ضربين: أكبر، وأصغر، فعلى أيّهما حمل نيَّته أجزأَه في الوضوء، للإجماع على أنّ نيَّةَ الجنابة تنوبه عن الوضوء، فإن حملناه على الحَدَثِ الأصغر، فذلك الّذي عليه، لكان حملناه على الأكبر، فقد أتَى بما عليه وأكثر. وبخلافه الجُنُب، فإنّ نِيّة الحَدَث الأصغر لا تجؤىء عن الأكبر، فلذلك وَجبَ عليه تعيين الحَدَث الأكبر في نِيَّتِهِ. المسألة الثّانية: هي إذا نوى الطّهارة مطلقة؟ فقال ابنُ شعبان: قال مالكٌ مرَّة: لا تجزئه، وقال مرّة: تجزئه، وتبعه على ذلك أكثر أصحابه، وقد تقدَّم وجه القولين في الوضوء. ¬
المسألة الثّالثة: إذا نَوَى الجُنُبُ بغُسلِه قراءة القرآن طاهرًا، أو مسّ المصحف؟ قال عبد الوهّاب: لا أحفظُ فيه نصًا، وذلك يجزئه؛ لأنّ هذه النّية تتضمَّن رفع الحَدَثِ الأكبر؛ لأنّ المُحدِثَ ليس له أنّ يمسّ بشيءٍ من أعضائه لأجل الحَدَثِ. وإنّما تختلف مُوجِبات الإحداث، وإلّا فالإحداثُ في الأصل واحدٌ، وإن حكمها لاحقٌ بكلِّ البَدَنِ. وإذا صحّ هذا، فمِن أجله منعناه إذا كان مُحدِثًا أنّ يمسَّ المصحف حتّى يتوضّأ، لوجود حُكْمِ الحَدَثِ، وهذا المعنى هو موجودٌ في الجُنُب، فيحب أنّ يجزئه إذا نَوَى بغُسْله مسّ المصحف. قال: ويجوز أنّ يقال لا يجزئه؛ لأنّه نَوَى ما ليس الغُسل من شروطه، واستباحته بالأوَّلِ أَوْلَى. المسألة الرّابعة: هي إذا تساوتِ الطّهارتان في الوُجوب، واختلفت مُوجباتها، كالحائض تجنب، والجُنُب تحيض، فليس على الحائض أنّ تغتسل لجنابتها، سواء تقدَّمتِ الجنابةُ أو تأخرت؛ لأنّ الحيضَ يمنعُ الوطءَ وجميع العبادات الّتي تمنعها الجنابة، ولا تمنعُ الجنابةُ الوطءَ الّذي يمنع الحيضَ. فإنِ انقطعت حيضتها، فاغتسلت ولم تنو الجنابة، أجزأها. وقال داود: لا تجزئها؛ لأنّ الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). ودليلنا: أنّهما حَدَثَان ترادَفَا موجِبهما واحدٌ، فناب عنهما طهرٌ واحدٌ، كما لو كانا من جنس واحدٍ كالجَنَابَتَيْن، ولأنّها أتت في نيّتها على ما يلزم الحائض والجُنُب، فلذلك لم يلزم ذكر الجَنَابَة مع الحَيض. المسألة الخامسة: هي إذا تطهّرت الحائضُ للجَنَابَةِ ولم تنو الحيضة ناسية لها؟ ففيها قولان: 1 - قال سحنون في "كتاب ابنه": لا يصحُّ (¬2). 2 - وقال ابن عبد الحكم وأبو الفَرَجِ وغيرهما: يصحّ. واحتجُّوا بأنّه فرضٌ نابَ عن فَرْضٍ، يعنون: أنّ الحَدَثَ موجبهما واحدٌ في صفة النّية والغُسْل. (¬3) ¬
ووجه قول سحنون: فلأنه إذا نوتِ الجنابة لم ترفع جميع مُوجِب الحيض، وصارت كمن نوت الطّهارة لفعل معيَّنٍ دون غيره. تفريع: فعلى القولين؛ إنّ قلنا بقول سحنون، فلا نبالي كانت الجنابة طارئة على الحيض أو متقدِّمة عليها. فإن قلنا بقول أبي الفَرَجِ وابن عبد الحكم، فالعلَّةُ على وجهين: 1 - إنّ كانت الجنابةُ قبلَ الحيض، فهي المختلَف فيها. 2 - وإن كانتِ الجنابةُ طارئة على الحيض، فلا يدخل فيها هذا القول، يريد أنّه (¬1) لا تجزيها قولًا واحدًاَ. والفرقُ بينهما أنّ طَرءَ الجنابة على الحيض لا حُكمَ له، إذْ لا قدرةَ لها على رفعها، وبخلافه تقدّم الجنابة على الحَيضَة؛ لأنّها كانت قادرة عليها وعلى رفعها قبل طروء الحيض، فلما حاضت صارَ الحكمُ للحيضِ، فلذلك قال سحنون: لا يجزئها، المسألة السّادسة: هي إذا تطهَّرَتِ الحائض الجُنُب للجنابة متعمِّدَة لتَركِ نية الحيضِ؟ فما رأيتُ فيها نصًّا، والظّاهر أنّه لا يجزئها؛ لأنّ نية الجنابة مع المعرفة بالحَيض لا تأتي على رفع ما يمنعه الحيض، فصار كمن نوى الطّهارة الصغرى على الكبرى متعمِّدًا. المسألةُ السّابعة: هي إذا أرادتِ الحائضُ الجُنُب أنّ تغتسل للجنابة لتقرأ القرآن طاهرًا؟ ففيها روايتان: 1 - قال عبد الوهّاب بوجه الجواز لذلك (¬2)، وهي رواية ابن وهب، وظاهرُ "المدونة" فلأنّها قادرة على رفع الحَدَثِ، وتَطُول مدّتها، فكانت معذورة في ذلك للمشقَّةِ الّتي تلحقها كما تلحق المُحدِثِ. 2 - ووجهُ المنعِ: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يقرأُ جُنُبٌ ولا حائضٌ شيئًا من القرآنِ" (¬3) ولأنّ الحيضَ أيضًا حَدَثٌ يُوجِبُ الغُسل، فأشبه الجنابة. ¬
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: وينبغي على قول ابنِ وهب أنّ تكون الجنابةُ سابقة للحَيض، وأمّا إنْ تقدّم الحيضُ فلا يصحُّ رفع حكم الجنابة، وظاهر "المدونة" (¬1) يشهد له بذلك في قوله (¬2) في المرأة تُوطَأ ثمّ تحيض: لا غُسْلَ عليها إنّ أجنبت حتّى تطهير، فقدّم ذكر الجنابة على الحيض، واللهُ أعلم. المسألة الثّامنة: هي إذا اغتسل للجنابة ناسيًا للجُمُعة، فلا خلافَ أنّه يجزئه لجنابته دون جُمعَتِه، قاله ابن حبيب، وزعم أنّه ممّا اجتمع مالكٌ وأصحابهِ عليه (¬3). قال الإمام الحافظ: وليس كما ظنّ؛ لأنّ ابنَ عبد الحَكَم والبرقي (¬4) قالا عن أشهب: يجزئه غسل الجنابة عن غُسْلِ الجمعة. المسألة التّاسعة: هي إذا اغتسل للجنابة، وقصد بنيّته لجنابته نيابة عن غُسْلِ جمعته، قال ابن الجلّاب (¬5): تجزئه. المسألة العاشرة: هي إذا اغتسل لجنابته وجُمعته غُسْلًا واحدًا وخَلَطَهُما في نيته؛ فقال ابن الجلّاب (¬6):"لا يجزئه عن واحدٍ منهما"، قال (¬7): "ويحتمل أنّ يجزئه لجمعته ويُعيدُ الغُسل لجنابته، وهذه المسألة مُخَرَجَّةٌ غير منصوصة، ذكرها الأبهري" (¬8). ¬
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: والفرقُ بينها وبين الّتي قبلها؛ أنّ الأولى جرَّدَ فيها نية رفعِ حَدَثِ الجنابة، ثمّ قصدَ بفَرضِه النِّيابة عنِ الفضيلة، كمن دخل المسجد وصلّى الفريضة يَنوِي النِّيابة عن تحيَّةِ المسجد إنّه تجزئه، وهو معنى قول مالك في "المدونة" (¬1) إذا اغتسلَ لجَنَابته وجُمُعته أجزأه، وبخلافه إذا خلطهما بنيّتهٍ؛ لأنّ الفَرْضَ حصل ولو لم ينوه، وبخلافه إذا خلَطَهُما بنيةٍ واحدةٍ؛ لأنّ النيةَ لا تتبعّض، فكانت نيته غير تامّة في رفع الحَدَثِ. قال الإمام الحافظ: والمسألةُ عندي على وجهين لا على قولين، والله أعلم. المسألة الحادية عشر: وهي إذا اغتسل لجُمعته ناسيًا لجنابته، فأكثرُ الرُّواة عنه: لا تصحّ، وروى ابنُ وهب وابن نافع وابن كنانة وابن الماجِشُون ومُطَرِّف وأشهب جوازه، واختاره ابن حبيب. قال عبد الوهّاب (¬2): فوجه ألَّا يجزئه؛ فلأنّ الغُسلَ ليس بشرطٍ في صِحَّة الجمعة، وكأنّه نَوى بغُسلِهِ ما ليس الغُسل شرطًا في صحَّتِه فلم يجزئه. ووَجهُ الصِّحَّة: أنّ نيَّةَ غُسْل الجمعة تتضمّن رفع حَدَثِ الجنابة؛ لأنّه قصد الاستِنَان، وذلك لا يحصلُ إلَّا بعد أداء الفَرض، كالمصلِّي فذَّا ثم يعيدها في الجماعة طَلَبًا لكمالها وطَلَبًا لكَثرَة أَجرِها، ثمّ إنّه ذكر فساد الأُولى؛ لأنّ النّية تجزئه، نصَّ مالكٌ على هذا، وليس ذلك لأنّ نيته لهذه الصّلاة إكمال فرضها فتتضمّن أداء الفَرْض، فكذلك ما قلناه. قال الإمام الحافظ: والفرقُ بينه وبين منِ اغتسلَ لجنابته ناسيًا لجُمعته في أنّه لا يجزئه عن جمعته؛ لأنّ نيةَ الفرضِ لا تتضمّن الفضيلة؛ لأنّه قد ثبت مع عَدَمِها، وليست كذلك نيّة الفضيلة إلَّا بعد صحة الفريضة، فبان بذلك افتراق الأمرين. المسألة الثّانية عشر: هي إذا تطهَّرَ ينوي إنّ كان أصابه جَنَابة، فهذا كنائمٍ ذكرَ أنّه كان جُنُبًا، ففيه روايتان كما قلنا، كمن شَكَّ في الوُضوء، فتوضّأ، ثمّ أيقن الحَدَثَ. ¬
المسألة الثّالثة عشر: هي إذا اغتسل للإحرام، أو دخول مكَّة ناسيًا للجَنَابة، فهل هي كمن اغتسل للجمعة ناسيًا للجنابة، أو يفرَّق بينهما؟ إنَّ غسلَ الجمعة شُرِعَ لصلاة الجمعة، وبخلافه غسل الإحرام، فإنّه مشروع للصّلاة ولغير الصّلاة، بدليلِ لُزُومِه للحائض.
أبواب التيمم
أبوابُ التّيَمُّم وهي ثلاثة أبواب: الباب الأوّل التيَمُّم قال الفقيه الإمام الحافظ: هكذا ترجمة مالك (¬1) - رحمه الله - وكان حقُّه أنّ يُتَرجِمَ فيها: باب سبب نزول آية التيمُّم. إسناده: الحديث (¬2) صحيح مُتَّفَقٌ عليه (¬3)، خرَّجه الأيمَّةُ من طُرُقٍ كثيرةٍ. وأمّا قولُه تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬4) فإنّ هذه الآية نزلت سنة ستّ من الهجرة؛ لأنّ فيها قيل ما قيل في عائشة أمّ المؤمنين - رضي الله عنها - فأنزل اللهُ سبحانه آية التَّيَمُّم (¬5). عربية: قولُه: " {فَتَيَمَّمُوا} التيمُّم في اللُّغة: القَصد، معناه: اقصدوا، ورُوِيَ عن عبد الله بن عمر أنّه قرأ: فائتمُّوا (¬6)، والأوَّلُ أفصحُ (¬7). ¬
وللتَّيَمُّمِ ثلاثة أسماء: الأوّل: التَّيمُّم كما سماه الله عَزَّ وَجَلَّ. والثّاني: الوُضوء لقوله -عليه السّلام-: الصّعيدُ الطيِّبُ وُضُوءُ المسلمِ وَلَو لَمْ يَجِدِ الماءَ إلى عشرِ حِجَجٍ (¬1). الثّالث: الطّهور، لقوله -عليه السّلام-: "فُضِّلنَا على النّاسِ" وذكر خصالًا منها: "وجعل لَنا الأرض مسجدًا وطَهُورًا" (¬2)، وهو خصيصةٌ لهذه الأُمَّة. والصَّعيدُ وجهُ الأرضِ، قاله مالكٌ (¬3). وقيل: الأرضُ المستوية (¬4). وقيل: الأرضُ الملساء (¬5). قوله: {فَامْسَحُوا} (¬6) والمسحُ في اللُّغة عبارة عن جرِّ اليد على الممسوح خاصّة، فإن كان بآلةٍ فهو عبارة عن نَقْل الآلة إلى اليد وجرِّها على الممسوح بخلاف الغُسْل، وقد بيَّنَّا أنّ التَّيمُّم بمعنى القصد، فكأنّه قال: اقصدوا وتعمَّدُوا، لقول العرب يمَّمْتُ كذا إذا قصدته، ومنه قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (¬7) يعني: قاصدين. الأصول (¬8): قال علماؤنا: هذه رخصةٌ منَ الله تعالى، وخصيصةٌ امْتَنَّ الله بها على هذه الأُمَّة، وكرامةٌ لها على غيرها، وفيها حِكْمَتَان: ¬
إحداهما: أنّ طهارتهم الأصلية كانت بالماء، فنقل الله منها عند عَدَمِهَا إلى التراب الّذي هو أصل الخِلقَةِ، لتكون العبادةُ دائرةً بين قوام الحياة وأصل الخِلقَةِ. الحكمةُ الثّانية: هي أنّ النّفسَ خَلقَها اللهُ على جِبِلَّةٍ، وهي أنّها كلما تركت عنه أعرَضَت وكَسِلَت عنه ونَفَرَت، وكلّما حدبت عليه واعتادت أَنِست به واستمرّت عليه. فلو لم يوظّف عليها عند عدمِ الماء حركةٌ من الأعضاء وإقبالٌ على الطُّهورِ، لكانت عند وجود الماء تبعد عنها العادة، فتشقّ عليها العبادة، فشرعَ لها ذلك دائمًا، حتّى يَكون أُنْسها بها قائمًا، فالخير عادةٌ، والشَّرُّ لَجَاجَةٌ. تنبيه معنوي (¬1): فإذا ثبت أنَّه قائمٌ مقام الماء، فإنّه عاملٌ عمَلَهُ في إباحة الصّلاة ورَفعِ الحَدَثِ، فإنَّ الحَدَثَ ليس بمعنى حِسِّيٍّ، وإنّما هو عبارةٌ عن المنع عن الصّلاة، فإذا تيمَّمَ وصلَّى فقد زال المانعُ وارتفع حكم الحدَثِ. وهذا هو مذهب مالكٍ - رحمه الله- الّذي لا خلافَ فيه (¬2). وقد قال بلفظه في كتابه" (¬3) الّذي هو نُخبَةُ كلامه، ولُبَابُ عِلمِه: "ولا بأسَ أن يَؤُمَّ المتيمِّمُ المتوضِّئين؛ لأنّ المتيمِّمَ قد أطاعَ اللهَ، وليس الّذي وجدّ الماءَ بأطهر منه، ولا أتمَّ صلاةً"، وهذا نصُّ كلامه. فإن قيل: قد قيل: إنّه لا يصلِّي فَرضَان بتَيَمُّمٍ وَاحدٍ. ¬
قلنا: في ذلك تفصيلٌ مَذهَبِيٌّ. وبالجُملةِ، فيجب أنّ تعلموا أنّ الله تعالى مدَّ الطهارةَ -أعني طهارة الماء- إلى غاية، وهي وجود الحَدَثِ، ومد طهارة التَّيَمُّم إلى غاية، وهي وجود الماء، فإذا وُجِدَ الماءُ ارتفعَ حُكْم التيمُّم، كما إذا وُجِدَ الحَدَث ارتفع حُكم الماء. والذي نقول: إنّ عليه أنّ يطلبَ الماء لكلِّ صلاة، فإن وَجَدَ استعملَهُ وصلّى به، فإن لم يجده يبني على التَّيمُّم الأولِ. وقد كان نصر بن إبراهيم المقدسي (¬1) يقول: إذا تيمَّمَ للصَّلاة فالتَّيمُّمُ قُربَةٌ مبيحةٌ للمحظور وهو فعل الصّلاة، فلا يتعدَّى باجتهادٍ، كالكفَّارةِ في الظِّهار. فقلت له: إنّما هو للطّهارة ورفع المانع كالوضوء بالماء. فقال لي: لو كان كالوضوء بالماء، لما لزمه الماء إذا وجدَهُ بالحَدَثِ الأوّل. فقلت له: الكلام المتقدِّم، وهو أنّ الله تعالى مدَّ الطهارةَ بالماء إلى غاية هي وجود الحَدَث، ومدَّ طهارة التَّيمُّم إلى غاية هي وجود الماء، وجرى بيننا في ذلك كلامٌ أصله بَيِّنٌ في "كتاب نزهة النّاظر وتحفة الخاطر". فقه (¬2) وسرد مسائله: أمر الله تعالى المسافر والمريض بالتَّيمُّم للصلاة عند عَدَمِ الماء، وأجمعَ أهلُ العِلْم على وجوب التيمْم عليها؛ لأنّ الأمر لهما بالتيمُّم مع عدم الماء نصٌّ جَلِيٌّ في الآية لا يحتمل التّأويل، وإنّما اختلفوا في الصّحيح الحاضر العادم للماء، والمريِضِ الواجِد للماء العادمِ للقُدرةِ على مَسِّهِ، هل هما من أهل التَّيمُّم أم لا؟ لِمَا أجملته الآية من التّأويل. فَمَن حَمَلَ الآية على ظاهرها ولم يُقَدِّر فيها تقديمًا ولا تأخيرًا، رآهما من أهل التيمُّمِ؛ لأنّ شَرْطَ عَدَمِ الماء في الآية يعودُ على الحاضر. ويتأوّل إضماره في المريض والمسافر، وإضمارُ عدم القُدرة على مَسِّهِ في المريض أيضًا. ¬
ومَن قَدَّرَ في الآية تقديمًا وتأخيرًا، لم يرهما من أهل التَّيمُّم؛ لأنّ شرطَ عَدَمِ الماء على التّقديم والتّأخير لا يعود إلَّا على المريض والمسافر، وكذلك إذا حُمِلَتِ الآيةُ على التّأويل الّذي ذكرناه فيما تقدَّمَ من أنّ "أو" في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (¬1) بمعنى "الواو"، ولا يكونان من أهل التَّيمُّمِ، وهذا ظاهر من التّأويلين المتقدّمَين؛ لأنّ التّلاوة الّتي ذكرنا تبقى على ظاهرها دون تقديم وتأخيرٍ، ولا يُحتاج فيها إلى إضمارٍ، فينتقي حينئذ عنها الإشكال؛ لأنّ تقديرها على هذا التّأويل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} الآية كما هي إلى قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ} (¬2). الفقه في خمس عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬3): في صفته وكيفيته وتحديده قال اللهُ تعالى في التيميم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬4) فأطلقَ اللهُ تبارك وتعالى الأيدي في التَّيمُّم ولم يقيدها بالحدِّ الّذي تقف عنده، حتّى بيَّنَه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-. فطائفةٌ أفرَطَت فَمسَحَت أَيدِيَها إلى الآباطِ (¬5)، وقد رُوِيَ ذلك في الحديث (¬6)، ولم يصحّ. وطائفة فَرَّطت فَمَسَحَت إلى الكُوعَين (¬7)، وطائفةٌ توسّطت فَمَسَحَت إلى المرافقِ، وقالت ¬
بأنه بَدَلَ من الوضوءِ، فيُحمَلُ مَحمَل البَدَلِ والمبدولِ به، وفي الحديث: "إنّ التّيمُّمَ ضربةٌ للوَجهِ والذِّراعَينِ" (¬1)، وفي صَرِيح الصّحيح؛ أنَّه ضَربَة للوَجه والكفَّين (¬2)، فبيَّنَ ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للخَلْق، وعَلَّمَهُ للأُمَّة، فليس لأحدٍ في ذلك رأيٌ. حديث (¬3) عمّار بن ياسر؛ أنّه قال: لما نزلت آيةُ التَّيمُّم، عَمَدَ المسلمونَ مع رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَتَيَمَّمُوا إلى المناكِبِ والآباط (¬4). فيحتمل أنّ يكونوا فعلوا ذلك بناءً على ظاهر القرآن (¬5)، قبل أنّ يأمرهم النّبيُّ صلّى الله عليه بشيءٍ في ذلك، إذ لا يوجد ذلك للنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث، فافترقت من هاهنا المذاهب، حتّى ذهب ابن شهاب ومحمد بن مَسلَمة من أصحابنا إلى أنّ التَّيمُّم لا يجب إلَّا إلى المرفقين (¬6)، على ما رُوِيَ عن النّبيِّ صلّى الله عليه، وقياسًا على الوضوء كما تقدَّمَ ذِكرُه، وهو مذهبُ الشّافعيّ (¬7) وأكثر أهل العلم، وإليه ذهب ابن نافع وابن عبد الحَكَم. ومنهم من ذهب إلى أنّ التَّيمُّم لا يجب إلَّا إلى الكَوعَين، قياسًا على القَطع في السِّرِقَة. وقيل في ذلك: إنّه ضربةٌ واحدةٌ للوجه واليدين، والصّحيح (¬8) أنّه ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين. فهذه ستَّةُ أقوالٍ. ومن الغريب (¬9) قول الحسن وابن أبي لَيلَى أنّ ¬
التَّيمُّم يُضرَبُ ضربتين، فيمسح بكلَّ واحدةٍ منهما وجهه ويديه، وحكى ابن لُبَابَة (¬1) في "المنتخب" (¬2) قولًا ثامنًا في المسألة، وهو أنّ الجُنُبَ يتيمَّمُ إلى الكُوعَين بالسُّنَّة لا بالقرآن، وغير الجُنُب إلى المَنكِبَيْن على ظاهر ما في القرآن، واحتجّ على ذلك بأشياء ضِعَافٍ لا تصحُّ بحالٍ (¬3). المسألة الثّانية: اختلف (¬4) العلماء في الصّعيد ما هو؟ فقال قتادة: الصّعيد الأرض الّتي ليس فيها شجَرٌ ولا نباتٌ. وقال غيره: الصّعيد المستوي من الأرض. وقال الآخر: الصّعيد كلّ ما صعد على وجه الأرض من التّراب. ثم اختلفو إنهم في الصعيد الّذي يجوز به التَّيمُّم على قولين: 1 - فقالت طائفة: يجوز التّيميم على كلّ أرض طَاهرة، سواء كانت حجرًا لا تراب عليها، أو عليها تراب، أو رمل، أو زرنيخ، أو نُورة، أو غير ذلك، هذا قول مالك (¬5) وأبي حنيفة (¬6). 2 - القول الثّاني: قال أبو يوسف: لا يجوز التَّيمُّم على حجَرٍ لا تراب عليه (¬7)، وهو قولُ الشّافعيّ (¬8)، والتُّراب عندهم شرطٌ في صحَّةِ التَّيمُّمِ. ¬
واختلف (¬1) قول مالك في التَّيمُّم على الثَلْج إذا عدم الأرض؟ فأجازه في رواية عليّ بن زياد، ومنع منه في رواية أشهب وغيره (¬2). فحصلَ الإجماعُ على إجازة التَّيمُّم على التراب، والاختلاف فيما سواه إنّما هو ممّا شاكل الأرض، فالاختيار: أنّ لا يتمَّم على الحَصَى وما أشبهه إلَّا عند عدم التراب. فإن تيمَّمَ عليه وهو واجدٌ للتُّراب، فظاهر "المدوّنة" (¬3) ألَّا إعادة عليه. وقال ابنُ حبيب: يعيدُ في الوقت (¬4). وهذا كلّه على رواية عليّ بن زياد عن مالكٌ، وأمّا على رواية أشهب عنه، فيعيدُ أبدًا إنّ تيمَّمَ عليه كان يصلِّي على الأرض أو لا يصَلِّي عليها. وعن مالكٌ في التَّيمُّم بالتّراب على غير وجه الأرض: جائز أنّ يتيمَّم به، مثل أنّ يرفع إلى المريض التراب في طبق، أو إلى الرّاكب على مَحمَلٍ، أو يكون مريضًا فيتيمّم إلى جِدَارٍ بجانبه إنّ كان من طُوب نيىءٍ. وذهب ابنُ بُكير إلى أنّ العبادة إنّما هي القصدُ إلى وجه الأرض ما لم يجد شيئًا من ذلك (¬5). وهذا ضعيفٌ. فحصل من هذه الأقوال أنّ الّذي يتيمّم عليه إذا عدم الصّعيد سبعة أشياء: 1 - أوّلُها: الحَصَى. 2 - والجبلُ يكون عليه التُّراب. 3 - وطينُ المطرِ يضع يَدهُ عليه. 4 - والماء الجامد. 5 - والثَّلجُ. 6 - والسَّبخَةُ. ¬
7 - والجدار بقرب من المريض إذا كان من تراب أو طِينٍ، ولم يكن له من يوضئه فإنه يتيمّم. المسألة الثّالثة: هل عليه في ذلك أنّ ينوي رفع الحدَثِ أم لا؟ فقال عبد الوهّاب: لا أحفظ في ذلك نصًّا، وهي مجملة (¬1)، فإن قلنا: لا تجزئه؛ فلأنّ التَّيمُّمَ لا يتضمَّن رفع الحدَثِ، فإذا نوى به ما لا يتضمنه، صار كأنّه يتيمّم بغير نيةٍ. وإن قلنا: يجزئه، فلأنّ معنى رفع الحَدث يتضمَّن المقصود بالنية ويزيد عليه؛ لأنّ رَفْعَ الحَدَثِ معناه استباحة كلّ ما كان الحدث مانعًا منه، والتيمُّم موضوع لبعض هذا، فصار كمن تيمَّمَ ينوي فرضين فأكثر في أنّ تيَمُّمَهُ يصحّ للصّلاة الّتي حضر وقتها، ولا يريد نية فيما زاد. المسألة الرّابعة: عندنا (¬2) أنّه لا يصلي فَرضَين فأكثر بتيمُّم واحد. وقد اختلفت الروايات عنه في المنسيات، فالجمهور عنه لا يصحّ بحالٍ. وحكى أبو الفَرَجِ عن مالكٌ جواز الجمع بين المنسيات بتيمُّم واحدٍ (¬3). قال القاضي أبو محمد عبد الوهّاب: والنظر يقتضي أنّ يتيمّم لكلِّ صلاة بتيمُّمٍ مجدّد، وإلّا كان متيمِّمًا لكلَّ صلاة قبل وقتها، وكذلك الشّيخ أبو بكر الأبهريّ يُخَطِّئ أبا الفَرج في ذلك. والذي أوْجَبَ اختلاف أصحابنا في هذه المسألة اختلافهم في التّعليل، وجملة ذلك ثلاث: أحدهما: ألَّا يتيمَّمّ لكلِّ صلاة قبل وقتها، فمن علَّلَ بهذا أجازه؛ لأنّه يتيمَّم في وقتها؛ لأنّ وَقْتَها حال ذِكْرِها، ومنع المريض الّذي، لا يَقْوَى على مسِّ الماء أنّ يصلِّي صلاتين بتيمُّم واحدٍ لأنّه يتيمّم للثانية قبل وَقتْهِا، وعلى هذا التّعليل أجاز ابنُ القاسم وأَصبَغ في إحدى الروايتين فيمن صلّى بتيممِ الظهر والعصر أنّه يعيدُ في الوقت، لاشتراكهما في الوقت. ¬
والتعليلُ الثّاني: أنّ عليه طلب الماء لكلِّ صلاة، فمن علَّلَ بهذا، أجاز للمريض الّذي لا يَقدِر على استعمال الماء جمع صلاتين بتيمُّم واحدٍ لسقوط الطَّلَب عنه، ومنع من ذلك في الفوائت للْزُوم الطَّلَب والتَّعليلِ. والتعليلُ الثّالث: هو أنّ التَّيمُّمَ لا يرفع حَدَثًا. هذا تعليلُ جملة أصحابنا، وذلك يُوجِبُ ألَّا يصلِّي بالتّيمُّم الواحدِ إلَّا فرضًا واحدًا، هذا هو الأصلُ. المسألة الخامسة: إذا تيمَّمَ لنافلةٍ، جاز له أنّ يصلِّي نوافل عِدَّة، إلَّا أنّ يطول فيستأنف تَيَمُّمَهُ. فإن قيل: فما الفرق بين النَّوافل والفرائض، وكلاهما سواء في شرط الطّهارة بالماء؟ قلنا: إنّ اعتبار الفَرضِ بالنَّفلِ لا يصحّ؛ لأنّ حُكْمَ النَّفل أَخْفَض من الفَرْض، ولذلك يَتَنَفَّلُ جالسًا مع القُدرَةِ على القيام، وإلى غير القبلة إذا كان مسافرًا رَاكِبًا، وغير ذلك، فافترقا بهذا. المسألة السّادسة: إذا تيمَّمَ لنافلة، فلا يصلِّي به فريضة، واستَثْنَى الْبَرقِي عن أشهب في مسألة واحدة وهي: إذا تيمَّمَ لرَكعَتَي الفجرِ جازَ له أنّ يصلِّي به الصُّبح (¬1)، وهو ضعيفٌ. المسألة السّابعة: هو إذا تيمَّمَ لفَرضِه، جاز له أنّ يَتَنَفَّلَ به بعد الفَرض ما لم يطل، مثل إنّ يصلِّي بتيمُّمِ الفجر، وفي الوِتر وحدَهُ روايتان (¬2): سحنون يُجيزُه بتيمُّمِ العشاءِ، وغيرُه يَأبَى. المسألة الثّامنة: هو إذا تيمَّمَ لفريضةٍ فَتَنَفَّلَ قبلها، فهل يعيدُ تَيَمُّمَهُ استحبابًا أو إيجابًا؟ المسألة محتملة، قال في "المدوّنة" (¬3): يعيدُ التَّيمُّمَ إذا صلَّى بتيمُّمِ الصُّبح ورَكعَتَي الفجر، فَحَمَلَهُ الشّيخ أبو إسحاق (¬4) على الاستحباب، ويجوز حَملُه على الإيجاب، فإِن قلنا: لا يصحّ بخلاف تقدّم ¬
الفَرضِ؛ فإن النّافلة تبعٌ، وإن جوَّزنَاهُ؛ فلأنَّ رَكعَتَي الفجر -وإن تقدَّمت- في حُكم التَّبع، وقد تقدَّمَ التَّنازع فيها. المسألة التّاسعة: هو إذا تيممَ لِمَسِّ المصحف، فحُكْمُه حكم ما لو تيمَّمَ لنافلةٍ؛ لأنّ مَسِّ المصحفِ لا يجب عليه، وله أنّ يتنفل به قَوْلا واحدًا (¬1). المسألة العاشرة: هو إذا تيمَّم لنومٍ، فهل له أنّ يتنفَّل به أو يمسّ مصحفًا؟ ففيه قولان حكاهما التّونسي (¬2). المسألة الحادية عشر: هو إذا نوى الذّاكر لجَنَابَتِهِ رفع الحَدَثَ الأصغر دون الجَنَابَة، لم يجزئه، وقال ابنُ القصّار (¬3): لا يصح باتِّفاقٍ، كما لو اغتسل يَنْوِي الحَدَثَ الأصغر دون الجنابة، لم يجزئه ذلك. المسألة الثّانية عشر: هي إذا نوى الجُنُب استباحة الصّلاة، ولم يصرف النّية لغائطٍ ولا جَنَابَةٍ؟ فقال ابنُ القصَّار يجزئه باتِّفاقٍ، ولا أعرف هذا. المسألة الثّالثة عشر: هي إذا نَسِيَ الجنابة وهو مُحْدِث بَبْولٍ أو غائطٍ؟ فقال: التَّيمُّم لا يستبيح به الصّلاة. المسألة الرّابعة عشر (¬4): أجمع الجمهور من الفقهاء أنّ من طلب الماء فلم يجده وتيمَّمَ وصلّى، ثمّ وجدَ الماء في الوقت، وقد كان اجتهد في طَلَبِ الماء ولم يجده في رَحْلِهِ، فقالوا: إنّ صلاته تامّة ماضية، إلَّا أنّ منهم من يحبُّ له أنّ يُعيدَ صلاته بعد وضوئه، أو بعد غسله ما دام في الوقت. ¬
وأجمعوا على أنّ من تيمَّمَ بعد طلب الماء ولم يجده، ثم وجدَ الماء قبل دخوله في الصّلاة؛ أنّ تَيَمُّمَهُ باطلٌ لا يجزئه أنْ يصلَّي به؛ لأنّه قد عاد لحالِهِ قبل التّيَمُّم. واختلفوا إذا وجدَ الماء بعد دخوله في الصّلاة: فقال مالكٌ (¬1) والشّافعيّ (¬2) وأصحابهما وداود والطّبريّ: إنه يَتَمَادَى في صلاته ولا يقطع وتجزئه؛ لأنّه إذا وجد الماء ولم يكن في الصّلاة، وجب عليه الوضوء به للصّلاة، وإذا كان في الصّلاة لم يقطعها لرؤية الماء وهو فيها (¬3)؛ لأنّه لم تثبت في ذلك سنّة تُوجِب عليه قطعها بعد دخوله فيها، ولا إجماع يجب التّسليم له، قالوا: وليس قول من قال: "إنّ رؤيته الماء حَدَثٌ من الأحداث" بشيءٍ؛ لأنّ ذلك لو كان كذلك، كان الجُنب إذا تيمَّمَ ثمّ وجد الماء يعود كالمُحدِث لا يلزمه إلَّا الوضوء، فكان الّذي يطرأ عليه الماء وهو في الصّلاة بالتيمُّم - عند الكوفيين- يقطعها (¬4) وَيبْنِي كالمُحدِث. والصّحيحُ أنّه لا يقطع. نكتةٌ بديعة: قال الإمام الحافظ أبو بكر: العُريَان إذا صلَّى وطرأَ عليه فيها ثوبٌ، أَخَذَهُ. والمتيمِّمُ إذا طرأ عليه الماء في الصّلاة، لا يقطع. الفرقُ بينهما أنّ المتيمِّمَ صلَّى بِبَدَلٍ وهو التَّيمُّم، والعريانُ ليس به بَدَلٌ. وقال عبد العزيز: لا يتيمَّم لنافلة. قال الإمام: وهل على المتيمِّمِ تخليل أصابعه أم لا؟ فقال الشّيخ أبو إسحاق: عليه تخليل أصابعه، وليس عليه متابعة الغُضُونِ. قال الشّيخ أبو محمد: ولم أر تخليل أصابعه لغيره في التَّيمُّم إلَّا ما حكاه الشّيخ أبو إسحاق (¬5). ¬
المسألة الخامسة عشر: هل عليه أنّ يَنفُضُ يَدَيه أم لا؟ اختلف (¬1) العلماء في ذلك، فكان الشّعبيّ يقول: ينفضهما، وهو قول الكوفيِّين. وقال مالكٌ: ينفُضُهما نَفضًا خَفِيفَا (¬2). وقال الشّافعيّ (¬3): لا بأس بذلك (¬4). واختلفوا في النَّفخ؟ فقيل: لا بأس إنّ نفخ فيهما إذا تعلَّق بهما شيء. نكتةٌ: قال الإمام: في تيمُّمِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالجدار ردٌّ على الشّافعيّ وأبي يوسف (¬5) في قوليهما: إنّ التّراب شرطٌ في صحَّة التَّيمُّم؛ لأنّه - صلّى الله عليه وسلم - تيمَّمَ بالجِدَارِ، ومعلومٌ أنَّه لم يعلق بَيَدَيه منه ترابٌ، إذ لا ترابَ على الجدار، وقال يحيى بن سعيد (¬6): لا بأس بالتَّيمُّمِ على السَّبخَةِ، وأمّا فعل ابن عمر بالمِربَدِ (¬7)، فليس العمل عليه. ذكر فوائد هذا الحديث المتعلقة به: وهي أربع عشرة فائدة: الفائدة الأولى (¬8): في هذا الحديث: بدء التَّيمُّمِ وأينَ نَزل. ¬
الثّانية (¬1): فيه: أدبُ الرَّجُلِ ابنته؛ لأنّه ظنَّ أنّها فَرَّطَت في العِقد، ولم تحتفظ به حتّى سقط لها. الثّالثة: فيه: ما كانوا عليه من التّوقير لرسول الله- صلّى الله عليه وسلم -، لقولها (¬2): "فَلا يَمنَعُنِي منَ التَّحرُّكِ إلَّا مكانُ رَأسِ رَسولِ الله- صلّى الله عليه وسلم -. الرّابعة (¬3): فيه من الفقه: السَّفَر بالنِّساء. الخامسة: فيه من الفقه: النّهي عن إضاعة المال (¬4)؛ لأنّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم-أقام على تفتيش العِقد بالعسكر، وقد ذكر في غير هذا الحديث أَن العِقدَ كان لأُختِها، وكان مقدار اثني عشر دِرهمًا. السّادسة (¬5): فيه من الفقه: شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زَوجٌ. السّابعة (¬6): فيه: الإنصاف منها وإن كان لها زوج. الثّامنة (¬7): فيه من الفقه: أنّ للرَّجُل أنّ يدخل على ابنته وزوجها معها، إذا عَلِمَ أنّه معها ¬
في غير خَلوَة مُبَاشرة، وأن له أنّ يعاتبها في أمر الله ويعاقبها عليه. التّاسعة (¬1): وفيه: أنّه يعاتب من سبّب الذَّنب أو جريمة، كما عاتب أبو بكر ابنته على حَبْسِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - والنّاس بسببها. العاشرة (¬2): فيه من الفقه: نسبة الفعل إلى مَنْ سبَّبَهُ وإنْ لم يفعله، لقوله (¬3): "ألَّا ترى ما صَنَعَت عائشةُ بالنَّاسِ، أقامت بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه والنَّاس ... " فنسب الفعل إليها إذ كان بسببها. الحادية عشر (¬4): وفي الحديث: فُسحَة في إجازة السَّفَر في موضع لا ماءً فيه، وأنه ليس على الرَّجُل أنّ يعجل على حاجته، ولا عليه أدط يرجع إلى الماء إذا كان بعيدًا، ولوكان على النَّاس أنّ يتَّقُوا ما ذكرنا، ما أقام رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- على عِقْد عائشة على غير ماءٍ، وإنّما التَّيمُّم فُسحَةٌ للنّاس. الثّانية عشر (¬5): فيه: أنّ النِّساء كان لهنّ الحليّ. الثّالثة عشر (¬6): فيه: أنّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم- ما كان يعلمُ إلَّا ما عَلَّمَهُ الله، ولا يعلم الغيب إلَّا الله. ¬
الرّابعة عشر (¬1): فيه من الفقه: مدحُ الإنسان بما فيه إذا أَمِنَ منه الإعجاب بذلك، وما روي عن النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- في رَجُلٍ مَدَحَ رَجلًا فقال: " قَطَعْتُمْ ظَهْرَ أَخِيكُم" (¬2) إنّما خشِيَ عليه العجب، وأن يعجب بذلك، والله أعلم. تكملة (¬3): قال بعض العلماء: لم يصح عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الحَضَر شيءٌ، وإنّما صحَّ عنه هذا الحديث في السَّفَر، فجلُّ العلماء لا يرون التَّيمُّمَ إلا في السَّفَر، وقد بَوَّبَ البخاريّ في "كتابه" (¬4): "باب التَّيَمُّم في الحَضَر"، ثم جاء بحديثِ (¬5): أَقْبَلَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- من نَحْوِ بِئرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فسَلَّمَ عَلَيهِ، فَلَم يَرُدَّ -عليه السّلام-، حَتَّى أَقْبَلَ على الجدار، فمَسَحَ بوجهِهِ ويَدَيهِ، ثمَّ رَدَّ. عليهِ السَّلام. قال الإمام (¬6): والعادمون للماء على ثلاثة أَضْرُبٍ: أحدُها: أنّ يعلم أنّه لا يَقدِر على الماء في الوقت، أو يغلب ذلك على ظَنِّه. الثّاني: أنّ يشكّ في الأمر. الأمرُ الثّالث: أنّ يعلم أنّه يَقْدِر على الماء في آخر الوقتِ، أو يغلب ذلك على ظنِّه. فأمّا الضّربُ الأوّل: فإنه يستحبُّ له التَّيَمُّم والصّلاة في أوّل الوقتِ ليحوز فضيلة أوّل الوقتِ، إذ قد فاتته فضيلة الماء. وهذا حُكْمُ الّذي لا يَقْدِر على مسِّ الماء. وأمّا الوجهُ الثّاني: فإنّه يتيمّم في وسطِ الوقتِ، ومعنَى ذلك: أنّ يتيمَّمَ في ¬
الوقتِ في آخر ما يقع عليه اسم أوّل الوقت؛ لأنّه يؤخّر الصّلاة رَجَاءَ إِدْراك فضيلة الماء ما لم يَخَفْ فواتَ فضيلة أوّل الوقت. فإذا خاف فواتها تَيَمَّمَ وصلَّى لِئَلًا تفوته فضيلة أوّل الوقت ثمّ لا يُدْرِك الماء، فتفوته الفضيلتان. وأمّا الوجهُ الثّالث: إنّه يؤخِّر الصّلاة إلى أنّ يُدْرِك الماء في آخره؛ لأنّ فضيلة الماء أعظم من فضيلة أوّل الوقت؛ لأنّ فضيلة أوّل الوقتِ مختلفٌ فيها، وفضيلةَ الماء متَّفَقٌ عليها، وفضيلة أوّل الوقت يجوز تركُها دون ضرورة، ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلَّا لضرورة، واللهُ أعلم (¬1). وأمّا قوله (¬2) في حديث ابن عمر (¬3):"حتَّى إذًا كَانَا بِالْمِرْبَدِ" روى سفيان (¬4)؛ أنّ بينه وبين المدينة ميلا أو ميلين (¬5)، وهذا يقتضي اعتقاد عبد الله بن عمر جواز التَّيمُّم لِعَدَمِ الماء في الحَضَر؛ لأنَّ من يقصر التَّيمُّم على السَّفَر، لا يُجْزِئه من المسافات إِلَّا فيما تقصر فيه الصّلاة، قاله ابنُ حبيب. قال ابنُ مَسْلَمَة: إنّما يتيمّم ابن عمر بِالمِربَدِ وهو بِطَرَفِ المدينة ولم ينتظر الماء؛ لانّه خافَ فواتَ الوقتِ، وأراد بذلك الوقت المستحبّ. ¬
باب تيمم الجنب
باب تيمُّم الجُنُب قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه (¬1) -: هذه مسألةٌ اختلف العلماءُ والصّحابةُ فيها والفقهاء، فكان ابنُ مسعود يرى ألّا يتيمَّمَ الجُنُب ويقول: لَو رَخَّصنَا لَهُم في ذَلِكَ لأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ علَيْهِم الماءُ أنّ يَدَعُوهُ وَيتَيَمَّمُوا (¬2)، وهذا ردٌّ للنصِّ الجلىِّ بالذَّريعةِ، وذلك لا يجوز. وأنّما علينا أنّ نُنْزِلَ الشرع منازله ويوضع موضعه، فمن تَعَدَّى فقد ظَلَم نفسَهُ، وقد سأل رَجُلٌ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - عن الجُنُب هل يتيمَّم؟ فقال عمر: لا يتيمَّم، قال عمار: أمّا تذكر يا أمير المؤمنين إِذ كنّا في سَرِيَّةٍ، فأَجْنَبنَا فلم نجد الماء، فأمَّا أنا فَتَمَرَّغْتُ في التُّرابِ كما تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَأتَينَا رَسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال:"إنَّمَا كانَ يَكفِيكَ ضَرْبَةً لِلوَجْهِ وضَرْبّةّ لليَدَينِ" فقال عمر: اتَّقِ اللهَ يا عَمَّار. فقال عمارٌ: إنّ شِئتَ يا أميرَ المؤمنين لَمْ أُحَدَّث بهِ، فقال له: بَل نُوَلِّيكَ من ذَلِكَ مَا تَوَلَّيتَ (¬3). وهذا كلُّه ينبني على أصلين، وهما: الكلام على آية الوضوء، وقد أَطنَبنَا فيها في موضعها (¬4)، والنصُّ الجَلِيّ في الصّحيح عن عِمْرَانَ بن حُصَين؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - فرغ من صلاته فَنَظَرَ إلى رَجُلٍ لم يصلّ معهم، فقال له: " مَا مَنَعَكَ أنّ تُصَلَّي معَنَا؟ " فقال: إنِّي كنتُ جُنُبَا، فقال: "فعليكَ بالصَّعيدِ" (¬5)، وهذا نَصٌّ. فإن قيل: ما هذه الوهلة من عَمَّار؟ كيف قال لعمر: إنّ شِئْتَ يا أميرَ المؤمنين لَمْ أُحَدَّث بِهِ؟ ¬
قلنا: عن ذلك جوابان: أحدُهما: أنّ عمَّارًا ذكر أنّ ذلك جرى بحضرة عمر، فَرَدَّهُ عمر ولم يذكر. فتعارضَ الخَبَرَان، وصار ذلك كشَهَادَتَيْنِ متعارِضَتَيْنِ في وقت واحدٍ، فأحدهما يردُّ الآخر. فاستئذانُ عَمَّار لعمر في ذلك لأنّه الحاكم، فإن ردّها لم يفد شيئًا، ولا كان لذِكرِهَا معنى، وإنّ جوَّزها فحينئذٍ يرفعُها وينشُرُها. الثّاني: ما قدّمناه قبلُ من أنّ الرّاوي إذا كان عنده عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حديثٌ لم يلزمه أنّ يذكرَهُ، ولذلك كان أعيان الصّحابة وكبارهم لا يذكرون شيئًا ممّا سمعوا؛ لأنّ تبليغ الأحاديث فرضٌ على الكفايةِ. تلفيق وتبيين: فهذا مذهب عمر - رضي الله عنه - وكان عبدُ الله بن مسعود يقولُه ثّمّ رجع عنه، ومذهب (¬1) مالكٌ - رضي الله عنه - أنّ الجُنُبَ يتيمَّم بِنَصِّ القرآن؛ لأنّ الله تعالى أمرَ بالوُضُوءِ من الحَدَثِ، والغُسْلِ من الجنابة للصّلاة. ثم أمر بالتّيمُّمِ عند عَدَم الماءِ بالنَّصَّ على ذلك، وعند عَدَم القُدْرَة على استعماله بالتأويل (¬2)، ولا دليل على ذلك، بل قد دلّتِ السُّنَنُ الواردةُ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه في تيمُّمِ الجُنُبِ على خلافه، وأنّ التّيمُّمَ عنده -أعني عند مالك- من الجنابة أو الحَدَثِ الّذي ينقضُ الوضوءَ سواءٌ، وأنّ فَرْضَ التَّيمُّم فيهما ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكُوعَين، إلَّا أنّه يستحبُّ ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليَدَيْنِ إلى المَرْفِقَين. وإن تَيَمَّمَ إلى الكُوعَين أعادَ في الوقتِ. وإن تيمَّمَ بضربةٍ واحدةٍ لوجهه ويدَيْه إلى المَرفِقَيْنِ لم يُعِد، وقد تقدَّمَ. ¬
تكملة (¬1): وقد ذهب بعضُ النَّاس ممَّن ينتحلُ الحديثَ إلى أنَّ الجُنُبَ إذا عدم الماءَ يتيمَّم، ويتوضَّأ إذا وَجَدَهُ ولم يَقدر على مسَّه، قياسًا على ما رُوِيَ عن عمر وابن العاص؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَمَّرَهُ على جيش ذات السّلاسل، وفي الجيشِ نَفَرٌ من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطّاب، فاحتلم عمرو بن العاصي في ليلةٍ شديدةِ البَرْدِ، فأشفَقَ أنّ يموتَ إنِ اغتَسَلَ فتوضَّأ، ثم أمَّ أصحابه، فلما قَدِمَ، تَقَدَّم عمر بن الخطّاب فشكا عمرو بن العاصي حتّى قال: وأَمَّنَا جُنُبًا، فأعرضَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن عمر بن الخطّاب. فلمّا قدِمَ عمرو بن العاصي دخلَ على رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فجعل يُخْبِرهُ بما صنع في غَزَاتِهِ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: " أَصَلَّيتَ جُنُبًا يا عمرو؟ " فقال: نعم يا رسولَ الله، أَصَابَنِي احتلامٌ في ليلة باردة لم يمرَّ على وجهي مثلها قطُّ، فخيَّرتُ نفسي أنّ أغتسل فأموت، أو أقبلَ رخصةَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فقبلتُ رخصةَ اللهِ، وعلمتُ أنّ اللهَ أرحم بي، فتوضَّأْت ثمّ صلّيْتُ، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَحْسَنْتَ، ما أحببتُ أنَّكَ تركتَ شيئًا صنعته، لوكنتُ في القوم لصنعتُ كما صنعتَ" (¬2). ممّن كان يذهب إلى هذا أحمد بن صالح (¬3)، وقال: إنَّ الوضوء فوق التَّيمُّم، وليس ذلك بصحيحٍ؛ لأنّ الله جعلَ التَّيمُّمَ بَدَلَ الغُسْل من الجنابة، ولم يجعل الوُضُوء بَدَلًا منه، فليس بأرفع منه في ذلك، وإنّما هو إرفع منه في الحَدَثِ الأصغر حيث جُعِلَ بَدَلًاَ مِنْهُ. قال الإمام الحافظ (¬4): أمّا الحديث، فيحتملُ أنّ يكون ما كان من عمرو بن العاصي قبل نزول آية التَّيمُّم، والحُكمُ حينئذٍ في الجُنُبِ إذا عدمَ الماء أنْ يصلِّي بلا غُسْلٍ، فلمّا سقط عنه فَرْض الاغتسال بالخَوْفِ على نفسه، صار في حُكمِ مَنْ لا جَنَابَةَ ¬
عليه. توضَّأ وصلَّى كما يفعلُ من استيقظَ من نَوْمِهِ ولا جنابةَ عليه، وكما يُصَلَّي عُرْيَانًا من لا يجد ثوبًا (¬1). وقد صلّى أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قبل فَرْضِ التَّيمُّمِ وهم مُحْدِثُون على غير وضوءٍ فلم يُنْكِر ذلك عليهم رسول الله صلّى الله عليه، فَصَحَّ ما تَاَوَّلْنَاهُ، والله أعلم. والتَّيمْمُ عند مالك - لا يرفعُ الحَدَثَ الأكبرَ ولا الأصغر- وجميع أصحابه (¬2) وجمهور أهل العلم، خلافًا لسعيد بن المسيَّب وابن شِهَاب في قولَيهِما أنّه يرفعُ الحَدَثَ الأصغر دون الأكبر، وفي قول (¬3) أبي سَلَمة بن عبد الرحمن: يرفعُ الحَدَثَينِ جميعًا حَدَث الجنابة والحَدَث الّذي ينقضَ الوُضوءَ. ومعنى هذا أنه إذا تَيَمَّم للوضوء أو للجنابة صار (¬4) على طهارة أَبَدًا، ولم يجب الغسل ولا الوضوء وإن وجد الماءَ ما لم يُحْدِث أو يجنب. وإن كان التّيَمُّم عند مالك وأصحابه لا يرفعُ الحدَثَ جملةً، فلأنّه يستباحُ عندهم به ما يستباحُ بالوُضوءِ والغُسلِ من صلاة الفرائض والنّوافل وقراءة القرآن نَظَرًا وظاهرًا، أو لسُجودِ التِّلاوة، وما أشبه ذلك ممّا تمنعه الجَنَابة أو الحَدَث الّذي ينقضُ الوُضوءَ. تمت أبواب التيمّم والحمد لله ¬
كتاب الحيض
ذكر أبواب الحَيْض كتاب الحَيْض وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل ما يحلُّ للرَّجُلِ من امرأتِهِ وهي حائضٌ قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: كان من حقِّ مالك - رحمه الله - أنْ يقدَّم في صَدْرِ هذا الباب تفسير الآية -كما فعل المصنِّفُون البخاريّ (¬1) ومسلم (¬2) - قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬3). المحيض: مَفْعِلْ، من حاضَ إذا سال، حَيْضًا، تقول العرب: حاضتِ الشَّجَرَةُ والسَّمُرَة، إذا سالت رطوبتها، وحاضَ السَّيْلُ: إذا سالَ. قال الشّاعر (¬4): ............ وحَيَّضّتْ ... عَلَيهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّواحِمِ والحَيضُ: عبارة عن الدَّمِ يُرْخِيه الرَّحِم فيفيضُ، وله ثمانية أسماء: 1 - حائض. ¬
(2) عَارِك. (3) فَارِك. (4) طَامِس. (5) دَارس. (6) كَابِر. (7) ضَاحِك. (8) طَامِث. قال مُجاهِد في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَضَحِكَتْ} (¬1) يعني: حَاضَتْ (¬2). قال الشاعر: وَيهْجُرُهَا يَوْمًا إذا هي ضَاحِك (¬3) وقال بعضُ أهل التّفسير في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} (¬4) يعني حضن، وانشدوا (¬5): نَأتِي النِّساءَ على أَطهَارِهِنَّ ولا ... نَأتِي النِّساءَ إذا أَكبَرْنَ إكبارًا وقيل: الحيض عبارة عن زَمانِ الحَيْضِ وعن مكانه، وعن الحَيْضِ نَفْسِهِ. ¬
تحقيق: اختلف العلماء -رضوانُ الله عليهم- في ايتداءِ الحيضِ؟ فذهبت جماعة منهم إلى أنّ ذلك عقوبة لِنِساءِ بني إسرائيل، واحتجُّوا بحديث خَرَّجَهُ عبد الرزاق في "مصنّفه" (¬1) أنّ نساء بني إسرائيل كنّ قد اتَّخذن أَرْجُلًا من خَشَب يطلن بها ليُشرِفن على الرِّجال الّذي المساجد، فسلّطت عليهنّ الحَيْضَة، وحرّم عليهنّ المساجد. وهذا ضعيفٌ جدًّا، والصحيحُ ما خَرَّجَهُ البخاريّ (¬2) عن عائشة قالت: خرجنا لا نَرَى إلَّا الحَجَّ، فلمّا كنْتُ بسَرِفَ حِضتُ، فدخلَ علىَّ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وأنا أَبْكِي، فقال: "ما لَك، أَنُفِسْتِ؟ "، قلتُ: نعم، قال: "إنَّ هذا شيء كتَبَهُ اللهُ علي بناتِ آدَمَ ... " الحديث. قال الإمام (¬3): هذا الحديث يدلُّ على أنّ الحَيْضَ مكتوبٌ علي بناتِ آدمَ فمَنْ بعدَهُنَّ من البنات، كما قاله -عليه السّلام-، وهو من أضلِ خِلْقَتِهِنَّ الّذي فيه صلاحهنّ، قال الله تعالى في زكريا -عليه السّلام-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (¬4) قال أهل التّأويل: يعني ردّ الله إليها حيضتها لتحمل، وهو من حكمة البارئ سبحانه اتذي جعلَهُ سببًا للنَّسْل، ألَّا ترى أنّ المرأة إذا انقطعت عنها حيضتها أنّها لا تحمل، هذه عادة لا تنخرم. وقال بعض علمائنا: ليس فيما أتى به في قصّة زكرياء -عليه السّلام- دليلٌ قاطعٌ؛ لأنّ زكرياء من أولاد بني إسرائيل. وأمّا الحُجَّة القاطعة لمن تأوَّل قصّة إبراهيم في قوله: {فَضَحِكَتْ} (¬5) يعني: حاضت، تشهد له اللُّغة، والأثر يدلُّ أنّ الحَيضَ كان قبلَ بني إسرائيل من حديث عائشة. ¬
قال الإمام الحافظ (¬1): فهذه آفة كَتَبَهَا اللهُ علي بناتِ آدم، وهو على ضربين: عَادَةٌ، وعِلَّةٌ. فهذا كان علّةً فهي الاستحاضة. والمستحاضاتُ على عهد رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - ستٌّ: 1 - فاطمةُ ابنةُ أبي حُبَيْشٍ. 2 - وحَمْنَةُ بنتُ جَحْش، زوج طلحةَ بنِ عُبَيْدِ الله. 3 - وأمُّ حبيبة بنت جحشٍ، زوج عبد الرحمن بن عَوفٍ. 4 - وزينبُ بنتُ جَحْش، زوج رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. 5 - وسَوْدَة بنت زمعة إحدى أمّهاتِ المؤمنينَ. 6 - وسهلةُ ابنةُ سهيلٍ. قال الإمام الحافظ: والصّحيحُ منهنّ: فاطمة، وحَمْنَةُ، وأمُّ حبيبةَ، وإحدَى أمهاتِ المؤمنين غيرَ معيَّنَةٍ. تنبيه (¬2): قال الإمام الحافظ: وكتابُ الحيضِ مُعْضِلٌ في الفقه، ما رأيتُ في رحلتي من يُحسِنه إلَّا رجلين: أبو إسحاق بن الآمدية (¬3) بالمسجد الأقصى، وأبو منصور بن محمد بن الصَّبَّاغ (¬4) بمدينة السّلام. والحيضُ على خمسة أقسامٍ:- مُبتَدَأَةٌ.- يَائِسَةٌ.- مُعْتَادَةٌ.- مُختَلِطَةٌ.- مُتَحَيَّرةٌ. ¬
وأشدّها بلاءً المُتَحيَّرَة (¬1). وأحاديثُ الحيضِ أربعةٌ: الأوّل: قولُه -عليه السّلام-: " تَمْكُثُ إِحدَاكُنَّ الليَالِيَ والأَيامَ لاتُصَلِّي" (¬2). الحديث الثّاني: قوله -عليه السّلام-: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيالِي والأَيَّامِ الّتي كانت تحِيضُهُنَّ من الشهْرِ، قَبْلَ أنّ يُصِيبَهَا الّذي أصَابَهَا، فَلتَترُكِ الصَّلاةَ فِيهَا" (¬3). الحديث الثّالث: قوله - صلّى الله عليه وسلم - وقد سُئِلَ عن الاستخاضة فقال: " إنَّما ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيسَت بِالحَيْضَةِ، فإذا أَقبَلَتِ فَاترُكِي الصّلاةَ، وإذا أَدْبَرَت فَاغسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وصَلِّي" (¬4). الحديث الرّابع: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ دَمَ الحَيْضِ أسودُ يُعرَفُ، فإذا اقْبَلَتِ الحَيضَةُ فدَعِي الصّلاةَ" (¬5). وُرُوِيَ "فَتوَضَّئي لِكُلَّ صَلاَةٍ" (¬6). واختلط على العلماءِ أمرُ المُختَلِطَةِ، وتحيَّرُوا في أمرِهَا وأمر المتحيَّرةِ، ولو أردنا أنّ نَسْرُدَ الكلامَ أو نبيَّنَ المرَامَ لاتَّسَعَ الخرْقُ وخرَجَ الأمرُ عن الضَّبْطِ. وأَشبَهُ ما في ذلك أحدُ أصولِ مالكٍ، وهو أنّ دَمَ الحَيضِ إذا خرَجَ على غير الاعتيادِ، فهي مُستحاضة تصومُ وتصلِّي ويأتيها زوجُها، حتَّى ترى دمًا مُتَغيِّرًا فتعمَلُ عليه. فإنْ تَمَادَى بها، فلا يَخْلُو أنّ تكون مُبْتَدَأةً أو معتادةً، فإنْ كانت معتادة، فلتُمسِكْ قَدْرَ عادَتِها، وإن كانت مبتدأة فلتُمْسِك أيّام لِداتِهَا (¬7). وقيل: تستظهرُ بثلاثٍ، والاستظهارُ مشهورٌ في المذهب (¬8)، ضعيفٌ في الحديث (¬9). ¬
وقيل: تتمَادَى إلى خمسةَ عَشَر يومًا، وهو أكثر الحَيْض (¬1). وروي عن ابن نافعِ، وابن الماجشونِ؛ أنّ أكثر الحيض تسعة عشر يومًا، وهي روايةٌ ضعيفةٌ لا أصلَ لها. والدَّليلُ على صحَّة ذلك: أنّ الله تعالى جعل عدَّةَ الحائض ثلاثة أقراءٍ، وجعلَ عدَّةَ اليائسة ثلاثة أشهر، فقابل كلَّ قُرْء بشَهرٍ، ولا يخلو أنّ يقابِلَه بأكثرِ الحيضِ وأكثرِ الطُّهْرِ، وذلك محال؛ لأنَّ أكثر الطُّهر لا حدَّ له، أو بأقلِّيهما، وذلك أيضًا مُحَالٌ؛ لأنّ أقلَّ الحيض لا حدَّ له، فلم يبقَ إلَّا أنَّه قابله بأكثر الحَيضِ وأقلِّ الطُّهر، وذلك خمسة عشر يومًا، وعلى هذه الأصول الّتي بَيَّنَّا تتفرَّعُ جميعُ مسائلِ الحيضِ إنّ شاء الله. إيضاح مشكل: قال شيخنا جرير بن مَسْلَمَة: والدِّماءُ الّتي يرخيها الرَّحِم على ثلاثة أَضْرُبٍ: دَمُ حَيْضٍ، ودَمُ نِفَاس، ودَمُ عِلَّة ودَمُ فَسَادٍ، وإنّما صحَّت هذه القسمة وانْحَصَرَت إلى ثلاثة أقسام؛ لأنّه لا يوجد في الشَّرع قِسْمٌ رابعٌ. وأمّا دمُ الحَيض: فهو الدَّمُ الخارج من الفَرْجِ على وجه الصِّحَّة والعادة، لا بسبب الولادة. وقولنا "على وَجهِ الصِّحَّة احترازٌ من دَمِ الاستحاضة. وقولنا: إلا بِسَبَبِ الولادَة" تَحَرُّزٌ من دَمِ النُّفَسَاء. وأمّا دَمُ النِّفاس: فهو الخارج من الفَرْجِ على وجه الصِّحَّة والعادَةِ وبسَبَبِ الولادة. فإن قال قائل: قولُكُم "عَلَى وَجْهِ الصِّحَّة " والنِّفاسُ مَرَضٌ من الأمراضِ. الجواب عنه أنّا نقول: إنّ النفاس مَرَضٌ يُعْرَف سَبَبُهُ، وأمّا الاستحاضة فهو الدَّمُ الزائد على مُدَّةِ الحيض والنِّفاسِ، هكذا عَبَّر عنه بعض البغدَاديِّين. ومنهم من قال: هو الدَّمُ الزّائد على أكثر مدَّةِ الحَيضِ والنِّفاس، والعبارةُ الأُولى لا تصحّ عند أهل النّظر. ¬
وأمّا الطُّهر، فهو ما عَدَا زَمَن الحَيْض والنِّفاس، وقد عبَّرَ عنه بعضُهم بأنْ قال: هو الزَّمَانُ الّذي يُحْكَم فيه يكون المرأة غير حائض ولا نفساء، وكلا العبارتين صحيحة. وقال بعض القرويِّين: هو خُلُوُّ الفَرْجِ من الدَّم مُدَّة مخصوصة. مزيد إيضاح: قال شيخُنا جرير بن مسلمة: والنِّساءُ الواجداتُ للدَّماء على ثلاثة أضرب: صغيرةٌ:، وبالغةٌ، ومُسِنَّةٌ. أمّا الصَّغيرة، فينقسمُ حالها إلى حالتين: حالُ طفولية، وحال مراهَقَة ويَفَاع. أمّا حالُ الطفولية، فينبغي مَا وُجِدَ بِهَا أنّ لا يكون حَيْضًا. والدّليل على ذلك: أنّ الحَيضَ في النِّساء مقام الاحتلام في الرِّجال، فلمّا امتنع في الطّفولية أنّ يكون الاحتلام في الرِّجال، فكذلك الحيض في النِّساء، ولأن النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال وقد خطب النِّساء يومًا: "إنَكُنَّ ناقصاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ"، فقالت امرأةٌ: يَا رسولَ الله، وما نقْصَان دِينِنَا؟ قال: "ألَيْسَت إِحْدَاكنَّ تَترُكُ الصَّلَاةَ شطر عمرها" (¬1). قال علماؤنا: هذا دليلٌ على أنّ الحَيْضَ إنّما يوجد على من تتعيَّنَ عليه الصّلاة. قال: وهل يسمَّى ذلك الدَّم استحاضة أو لا؟ أو يزيد بذلك أنّه دم علّة وفسادٍ، فيسمَّى ذلك على المجاز. وأمّا حال المراهِقَة واليَفَاع، فما وَجِدَ به من ذَلك فيُحْكَم به على أنّه حَيضٌ. وأمّا البالغة فلها حالتان: 1 - ابتداءٌ، وهي الّتي ترى دمًا لم تره قبلُ، فهذا يأتي حكمه فيما بعد. 2 - وحالة اعتياد، وهي الّتي ترى دَمًا قَدْ رأَتهُ قبل ذلك، وهذا له حُكْم سبب الولادة. ¬
تركيب على تفسير آية: اختلف (¬1) العلماء من أهل التّأويل في معنى قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} (¬2) فقال جماعة منهم: ما تغيضُ الأرحام، معناه: ما تنقص من التِّسعة الأشهر، وروي ذلك عن ابن عبّاس (¬3) ومجاهد (¬4) والحسن (¬5). وقال آخرون: بل هو خروجُ الدَّمِ وظهورُه من الحائل واستمساكُه، روى ذلك أيضًا عن جماعة منهم عِكرِمَة والشّعبىّ وابن جُبَيْر (¬6). قال الشّيخ أبو عمر (¬7): "أجمع العلماءُ أنّ للدَّماء الخارجة من الأرحام ثلاثة أحكام: أحدها: دَمُ الحَيْض يمنع الصّلاة، وتسقطُ الصّلاة مع وجوده، من غير إعادةٍ لها على ما قدَّمناهُ عن جماعة العلماء. والثّاني: دَمُ النّفساء عند الولادة، وحُكمُه في الصّلاة حُكم دَمِ الحَيض بإجماعٍ. الثّالث: دَمُ عِلَّة (¬8) ". قال القاضي أبو الوليد (¬9): "ولا يتبيّن دم الاستحاضة من دَم الحَيضِ والنِّفاسِ إلَّا بمعرفة أكثر الحَيضِ والنِّفاس، وهو يزيدُ وينقُص، قال الله العظيم: {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ¬
تفسير الآية الأولى المتقدمة في هذا الباب
وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} (¬1) فأخبر بزيادته ونقصانه". وقال (¬2): "ودَمُ الحَيض إنّما هو يتحادرُ من أعماق الجسم إلى الرَّحِم (¬3) طول مدّة الطّهر، ومن ذلك يسمَّى الطُّهْرُ قَرْءًا من قولهم: قرأت الماءَ في الحَوْضِ، إذا جمعته، قال الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬4). وقد تدفعه الحائضُ في أيام الحَيض دفعًا متواليًا متَّصلًا، وتدفَعُه منقطعًا شيئًا بعد شيءٍ، فإذا كان بين الدَّمَيْنِ في الأيام أيامٌ يسيرةٌ لا تكون طُهْرًا فاصلاَ بين حيضتين، عُلِمَ أنّ الدَّمَ الثّاني من الدَّم الأوّل، وأنّها حيضة واحدة تقطَّعَت، وإن كان بينهما أيّام كثيرة تكون طُهرًا تَامًّا فاصلًا، عُلِمَ أنّ الدَّمَ الثّاني ليس من الأوّل، وأنّها حيضة ثانية ممّا تحادر إلى الرَّحِمِ وجمعته في هذا الطّهر الّذي قبله". تفسير الآية الأولى المتقدَّمة في هذا الباب قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬5). قال الإمام: وفي سبب سؤالهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن حَيْضِ النِّساء، وكيف اعتزالهنّ فيه، بين العلماء نزاعٌ كثيرٌ، واختلاف طويلٌ، وذلك يثشمل على فصول: ¬
الفصل الأول في اختلاف السبب الباعث لهم على ذلك
الفصل الأوّل في اختلاف السّبب الباعث لهم على ذلك فقال علماؤنا (¬1): إنّما كان ذلك؛ لأنّهم كانوا قبل بيان الله لهم لا يُسَاكِنُونَ حائضًا ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها كما كانت اليهود تفعل (¬2)، فعرَّفَهُم اللهُ بهذه الآية؛ أنّ الّذي بهنَّ من الدَّم لا يبلغ أنّ نحرّم به مجامعتهنّ في البيوت ومؤاكلتهن ومشاربتهن، لقوله عزّ وجلّ: {قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3)؛ لأنّ الأَذَى لا يُعَبَّر به إلَّا عن المنكر الّذي ليس بشديدٍ، قال الله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} (¬4) وقال: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} الآية (¬5)، فأعلمهمُ اللهُ أنّ الّذي عليهم في أيام حيض نسائهم تَجَنُّبُّ جِمَاعِهِنَّ لا غير. والدليلُ على ذلك: ما ورد في الآية قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬6) أي: فجامِعُوهُنَّ في موضع الجماع (¬7). وقيل: إنّما سألوه عن ذلك لأنّهم كانوا يجتنبون النِّساء في الحيض ويأتوهنّ في أدبارهن، فلمّا سألوا عن ذلك، أنزل اللهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية إلى قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬8) أي: في الفَرْج لا تَعْدُوهُ، وهذا أظهر من القول الأوّل وأبْيَن في المعنى. ¬
وقوله: {هُوَ أَذًى} (¬1) فيه ثلاثة أقوال (¬2): الأوّل: قيل قذَزٌ (¬3). الثّاني: قيل دَمَّ (¬4). الثّالث: قيل نجسٌ. وقيل: مكروه يُتَأذَّى بريحه وضَرَرِهِ ونجاسته، وهو الصّحيح بدليلين: أحدهما: أنَّه يَعُمُّها. الثّاني: شَاهِدُهُ. قوله: {أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (¬5) وتقديره: ويسألونك عن مَوْضِع المَحِيضِ، تل: هو أذىً. واختلف العلماء (¬6) في دَمِ الحَيْضِ: فقيل: هو كسائر الدِّماء يُعْفَى عن قَليلِه. وقيل: قليلُه وكثيرُه سواءٌ في التَّحريم، رواه أبو ثَابِت عن ابنِ القاسم، وابنُ وَهْب عن مالكٌ. ووجه الأوّل قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬7) وهذا يتناولُ الكثيرَ دونَ القليلِ. ووجه الثّاني: قوله: {هُوَ أَذًى} (¬8) وهذا يَعُمُّ القليلَ والكثيرَ (¬9). ¬
وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} (¬1) معناه: افعلوا العَزْلَ، أي اكتَسِبُوه، وهو الفَضلُ بين المجتمعين (¬2). واخْتُلِفَ في مورد العَزْلِ؟ قيل: جميعُ بَدَنِها، لا يُبَاشِرُهُ بشيءٍ من بَدَنِه، قاله ابن عبّاس، وعائشة، وعَبِيدَة السَّلْماني (¬3). وقيل: ما بين السُّرَّة إلى الرُّكْبة، قالته عائشة وهو مذهَبُها، وبه قال شُرَيح (¬4)، وسعيد بن المسيِّب، ومالك، وأبو حنيفة، والشّافعيّ. وقيل: الفَرْجُ، قا لله حَفْصَة، وعِكرِمَة، وقَتَادَة، والشَّعْبيّ، والثّوريّ، وأَصْبَغ. وقيل: الدُّبُر، قاله مُجَاهِد، وقد رُوِيَ عن عائشة معناه. وأمّا (¬5) قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} (¬6) سمعتُ فخر الإسلام أبا بكر محمد ابن أحمد الشّاشي في مجلس النَّظَرِ يقولُ: إذا قِيلَ: لا تقرَب -بفتح الرّاء- كان معناه: لا تلَبَّس بالفعل، د إذا كان بضَمَّ الرّاء، معناه: لا تَدْنُ منه. وقوله (¬7):إ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬8) يعني الغاية، وهي انتهاءُ الشيء وتمامُه. وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (¬9) وهما ملزمان (¬10)، على أقوال ثلاثة: الأوّل: ¬
قيل حتّى يطهرن، أي: حتَّى ينقطع دَمُهُنَّ، قاله أبو حنيفة (¬1)، ولكنه ناقضَ في موضعين، قال: إذا انقطع دَمُها الأكثر حينئذ تحلّ، وإذا انقطع دَمُها الأقلّ لم تطأ حتّى يمضي وقتُ صلاةٍ. وقيل أيضًا: حتّى تغتسل بالماء غُسْلَ الجنابة، وقاله الزّهريّ، واللَّيث، ورَبِيعَة، ومالك، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور. وقيل: تتوضَّأ لكل صلاةٍ، قاله طاوُوس، ومجاهِد. وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} مُخَفَّفًا، وقُرئَ مُشَدَّدًا (¬2)، والتَّحفيفُ وإن كان ظاهرًا في استعمال الماء، فإنَّ التَّشديدَ فيه أظهر، كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3) فجعلَ ذلك شرطًا في الإباحة، غايةً للتَّحريمِ. فإن قيل: المرادُ بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} حتّى ينقطع دَمُهُنّ. قيل: قد يستعملُ التّشديد موضع التخفيف، فيقال: تطَهَّرَ بمعنى طهر، كما يقال: قطّع وقطع (¬4). وقيل: إنّ قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} هو ابتداء كلام، لا إعادة لما تقدَّمَ. وقوله: {فَأْتُوهُنَّ} معناه: فجيؤهنّ. تَمَّ تفسير الآية. وأما قوله في الحديث في هذا الباب (¬5): "لِتَشُدَّ عليها إِزَارَهَا" فيه دليلٌ على أنّ سائر جسدها مباحٌ لَهُ. ¬
طهر الحائض
طُهْر الحائِضِ قوله (¬1) في هذا الباب: كان النِّساءُ يَبْعثنَ إلى عائشة - رضي الله عنها - بالدَّرْجَةِ فيها الكُرْسُفُ، فيه الصُّفْرَةُ من دَمِ الحَيْضِ. عربية (¬2): قال الإمام الحافظ: الدَّرَجَةُ جمعُ دُرْجٍ، مثل خُرْجٍ وخِرَجَة (¬3). والكُرْسُفُ هو: القُطن. والصُّفْرَةُ: بقيةُ الدَّمِ، كما أنّ الشَّفَق بقيّة من شعاعِ الشَّمس. تقول لهن: "لا تَعجَلنَ" بالغُسلِ إذا رأيتُنَّ الصفرة لأنهّا بقية الحَيضَة، "حتّى تَرَينَ القَصَّةَ البيضاء"، تعني الماء الأبيض الّذي يدفَعُهُ الرَّحِمُ عند انقطاع دَمِ الحَيْضِ (¬4). قال عيسى بن دينار: القَصَّةُ البيضاءُ أبلغ في براءة الرَّحِم من الجُفُوفِ (¬5). والجُفُوفُ هو أنّ تجعل المرأة الخرقة، ثم تُزِيلها فتجدها جافّة من الدَّمِ كما جعلتها، فإذا كانت عادتها أتى ترى القَصَّة البيضاء فرأت الجُفُوفَ، لم تغتسل حتّى ترى القَصَّة البيضاء، إلَّا أنّ يطولَ ذلك فتغتسل وتصلِّي، والطّول نحو اليوم (¬6). قال (¬7): عَابَت ابنةُ زيد بن ثابت (¬8) على النِّساء قيامهنّ من اللّيل، يَنْظُرْنَ إلى ذلك عند أوقات الصّلواتِ، وعند النَّومِ، وعند القيام منه، لا من جَوْفِ اللَّيلِ. ¬
جامع الحيضة
جامعُ الحيضَة حَدَّثني يَحيَى (¬1)، عَنْ مالكٌ، أَنهُ بَلَغَهُ أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، قَالَتْ في المَرْأةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ: إنَّهَا تَدَع الصَّلاَة. قال الشّيخ: هذا حديثٌ بَلَاغٌ عند مالكٌ - رحمه الله -. واختلف العلماء في هذا المعنى: فالمشهورُ من المذهب (¬2) أنّ الحامل (¬3) تحيض عندنا، خلافًا لأبي حنيفة (¬4) والشّافعيّ في أحد قوليه (¬5)، ولنا على ذلك أدلّة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، فإن تمادَى بها الدَّمُ، ففي ذلك ثمانية أقوال: أولها: أنّها تَبْقَى أيّامها المعتادة من غير استظهارٍ، ثمّ تغتسل وتصلَّي. الثّاني: أنّها تستظهِرُ على أيّامها المعتادة. الثّالث: أنّها تبقى إلى تمام خمسة عشر يومًا. الرّابع: التفرقةُ بين أوّل الحمل وآخره، فتُمْسِكُ عن الصّلاة في أوّل الحَمْلِ ما بين الخمسة عشر يومًا إلى العشرين، وفي رواية أُخرَى: ما بين العشرين إلى الثّلاثين. وهو القولُ الخامسُ. السّادس: أنّ تُمْسِك عن الصّلاة ضِعْفَ أيّامها المعتادة، وهو أَبْيَن (¬6). السابع: أنّه إذا أصابها ذلك في أوّلِ شهرٍ من شهور الحمل، أَمسَكَتِ عن الصّلاة قَدْرَ أيّامها المعتادة. وإن أصابها ذلك في الشهر الثّاني، أَفسَكَت مثلي أياهما ¬
المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشّهر الثّالث، أَمْسَكَت ثلاثة أمثال أيّامها المعتادة. وإن أصابها ذلك في الشّهر الرّابع، تركت الصّلاة أربعة أمثال أيّامها المعتادة. هكذا أبَدًا ما لم تجاوز أكثر مدّة النِّفاس. الثّامن: تفرقةُ أشهب في الاستظهار بين إنّ استبرأت من أوّل ما حملت، أو لا تستبرىء. في المسألة قول تاسعٌ حكاه ابن لُبَابَة (¬1)، وهو أنّ تتركَ الصّلاة عدد الأيّام الّتي كانت تحيض من أوّل الحمل (¬2)، من رواية أصبغ عن مالكٌ من"الثّمانية" (¬3). ¬
المستحاضة
المستحاضة مالكٌ (¬1)، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة؛ أنّها قالت: قالت فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيْشٍ: يا رسولَ الله، إِنِّي لاَ أَطهُرُ، أَفَاَدعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: "إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيسَت بِالحَيْضَةِ" الحديث. قال الإمام (¬2): وَهِمَ مالكٌ - رحمه الله - في قوله (¬3): "زَيْنَب ابنة جَحْشٍ الّتي كانت تحت عبد الرحمني بن عَوفٍ" ولم تكن قطُّ تحت عبد الرحمن بن عَوْف، وإنّما كانت تحت زيد بن حارثة، ثمّ بعدَهُ تحت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، والّتي كانت تحت عبد الرحمن هي أمّ حبيبة ابنة جَحْش أخت زينب بنت جَحْش (¬4). ولم يَختلف (¬5) رُواةُ الموطَّأ (¬6) في إسناده ولَفْظِه (¬7)، وخرَّجَّهُ أهل الصِّحَّة والمصنّفات (¬8)، مثل الدارقطني (¬9) والترمذي (¬10) وغيرهما (¬11). ¬
عربية: قال الخليلُ (¬1): المستحاضةُ هي الّتي لا يرقأ دَمُها، وَالحَيضَةُ -بالفتح- هي المرّةُ الواحد، والحِيضَةُ -بالكسر- الاسم، والجمع الحُيَّضُ. وأمّا الحَيضُ والمَحِيضُ (¬2) فمعروفٌ. فقه: قال جمهور الفقهاء: المستحاضةُ تصومُ وتصلَّي وتطوفُ بالبيتِ وتقرأُ القرآن ويأتيها زوجها. وكان أحمد بن حنبل يقول: أحبّ إلَّي ألَّا يطأها إلَّا أنّ يطول ذلك (¬3)، وفيه كلامٌ طويلٌ أضربنا عن أكثره. نكتةٌ لغوية: قوله في هذا الحديث (¬4): "فإذا ذهبَ قَدْرُهَا فَاغسِلِي الدَّمَ" قال الإمام: القُرْءُ كلمة مخملة للحَيضِ والطُّهْرِ، واتَّفَقَ أهلُ اللُّغة على أنّ القُرْءَ الوَقت (¬5). قلت: القَرْءُ في هذا الحديث الحَيض، والقُرْءُ والقَرْءُ لغتان، والجمع قُروء. وقد اختلف النَّاس في القُرْءِ ما هو؟ فقال أهل الحجاز: هو الطُّهر. وقال أهلُ العراق: هو الحيض. وكلٌّ مصيبٌ؛ لأنّ القُرْءَ عند العرب: خروج من شيءٍ إلى شيء، فهذا حاضت فقد خرجت من الطُّهر إلى الحَيضِ، وإذا طهرت فقد خرجت من الحَيْضِ إلى الطُّهر، وهذا قول أبي عُبَيدَة (¬6). ¬
وقال غيره: القُرْءُ الوقتُ، يقال: فلان رجع إلى قرئه ولقارئه، أي: لوقته الّذي كان يرجع فيه، فالحيض يأتي لوقتٍ، والطُّهرُ يأتي لوقتٍ. ومن الغريب قول ابن السِّكِّيت (¬1): "القَرْءُ: الحيضُ، والطُّهْرُ، وهو من الأضداد". وقيل: القَرءُ شبه حوض، والجمعُ أَقراء وقُروء، وذهب قائل هذا إلى أنّ القَرْءَ: أيام اجتماع الدَّم في الرَّحِمِ، أخَذَهُ من المقراة، وهي الحَوْض لاجتماع الماء فيه، والله أعلم. تنبيه على وهم: قال ابن عرفة (¬2): المَحِيضُ والحَيضُ هو اجتماع الدَّمِ إلى ذلك المكان، وبه سُمَّيَ الحوضُ، لاجتماع الماء فيه، وليس كما زعم، إنّما هو سيلان الماءِ (¬3) فيه وقد قلب القوس ركوة فافهم، والقَرْءُ مأخوذٌ من قرأت أي جمعت، فالقرْءُ اجتماع الدَّمِ، والحيضُ سيلانُه، فالقَرْءُ في الطُّهْرِ حقيقة، وهو في الحيض مجازٌ. مزيد إيضاح: قال الإمام الحافظ (¬4): قد بيَّنًا أنْ المستحاضات على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - خمسٌ: الأولى: حَمْنَة بنت جَحْش (¬5) بن رَبَاب بن أبي أسد بن خُزَيمَة، أخت زينب ابنة جَحْش، زوج رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وكانت تحت مُصعَب بن عُمَيْر، فلمّا قُتِل يوم أُحُد تزوَّجَها طلحة بن عُبَيد الله، فولدت له محمّدًا وعِمْرَان ابني طَلْحَة، فَرَوَى عنها ابنها حديثًا في الحيض (¬6). ¬
الثّانية: أُمُّ حبيبة (¬1)، ويقال: أمّ حبيب بنت جحش بن رباب الأسديّ، أخت حَمْنَة زوج عبد الرحمن بن عَوْف. الثّالثة: فاطمة ابنة أبي حبيش (¬2) بن المطّلب بن أسد بن عبد العزَّى بن قُصَيّ القُرَشِيّة الأسدية، وهي الّتي استحيضَت فشَكَتْ ذلك إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ... الحديث (¬3). الرّابعة: هي سَهْلَة بنت سُهَيل (¬4) بن عمرو القُرَشِيّ العامِريّ، ذكر حديثها أبو داود (¬5) وهو حديث معلولٌ (¬6)، كانت زوج أبي حُذَيفَة بن عُتْبَة بن رَبِيعَة، ثم خلف عليها بعدَهُ عبد الرحمن بن عَوْف، فولدت له سالم من عَوْف. الخامسة: سَوْدَة بنت زمعة (¬7)، زوج رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، رواهُ العلاء بن المسيَّب، عن الحَكَم، عن أبي حَفْص؛ أنّ سوْدَة استحيضَت (¬8). والصّحيحُ من، هذه الأحاديث ثلاثة: حديثُ فاطمة المتقدِّم، وحديثُ سَوْدَة، وحديث أمَّ سَلَمَة؛ أنَّ امْرَأَة كانت تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ على عهد رسول الله صلّى الله عليه (¬9). ¬
عربية: فيه إحدى عشرة لفظة (¬1): الأوّل: حائضٌ، وهي فاعل، من حاضَ إذا سالَ، يقالُ: حاضَ السَّيلُ إذا فاض. ويقال: حاضَتِ المرأةُ تحيضُ. ودَرَستْ وعَركَت (¬2). وطَمَثَت (¬3). وحاضَت تحيضُ حَيضًا ومحاضًا، إذا سالَ منها الدَّم في أوقاتٍ معلومةٍ. ومن عَبَّرَ عن المحيضِ يقال استحيضَت، قلت: فحقيقتُه أنّه فُعِلَ بها الحيض، وكلاهما مفعول به الحيض والاستحاضة. والثّاني: الكُرْسُف وهو القُطن، وله ستّة أسماء: أ- القُطن. 2 - الثّاني: الكُرسُف. 3 - الثّالث: البُرْسُ. 4 - الرّابع: العُصْبُ. 5 - الخامس: الطُّوطُ (¬4). 6 - السّادس: الخِرْفعُ. وصفاته كثيرة، وانّما وُصِفَ بها الكُرْسُفُ مع قِلَّتِه عندهم، وتُرِكَتِ الصُّوف مع كثرته لحكمة لَسْنَا لها. ¬
قوله (¬1): "تَلَجمِي" هي كلمة عربيّةٌ لم يقع إليَّ تفسيرها (¬2)، وإنّما أخذتُها استقراءً، قال الخليل: "اللَّجامُ معروف" (¬3)، فإن أخذناهُ من هذا كان معناه: افْعَلِي فِعْلًا يمنعُ سَيَلانه واسترساله، كما يمنعُ اللَّجامُ استرسالَ الدَّابة، واللَّجَمَةُ فيما يقال: فُوَّهَةُ النَّهر (¬4)، وفيه نَظَر، فإن صحّ هذا فهو مأخوذٌ منه، ويكون معناه عندي: اللَّجَمَةُ وهي الفُوَّهَة الّتي يسيل منها الدَّم، وهو غريبٌ بديعٌ. وقوله (¬5): "إنّما أثُجُّ ثَجَّا" والثَّجُّ السَّيلانُ، ومنه قوله تعالى: {مَاءً ثَجَّاجًا} (¬6) أي سيالًا، وفي الحديث: "أفْضَلُ الحَجَّ العَجُّ وَالثَّجُّ" (¬7) فالعَجُّ رفع الصّوت بالتّلبية، والثَّجُّ إسالةُ الدَّم، يعني الهَدْي. وقال الحسن في وصف ابن عبّاس: إنّه كان يثُجُّ ثَجًّا، يعني: أنّه كان يصبُّ القولَ صَبًّا حتّى يعلم السامع. تكملة: وقرله في حديث الحيض (¬8): إنّها كانت تدخل تحتها الطِّست فتخرجه بالدَّم ملآن، قال أهل اللُّغة (¬9): هي كلمةٌ مؤنّثةٌ، وتصغيرها طُسَيْسة، وجمعُها طِسَاس وطُسُوس، وفيه ¬
ما جاء في الأثر: "املؤوا الطُّسوس وخالِفُوا المَجُوس" (¬1). وفيها ثلاث لغات: طست، وطس، وطستة، والأصل في الطَّسْت الطَّسيس، إلَّا أنهم قلبوا إحدى السّينَين شاء استثقالًا للجمع بين السَّينَين، ولو جمعوا على الواحد لقالوا: طِسَات. ¬
باب ما جاء في عرق الحائض والجنب والسكران وثيابهم
باب (¬1) ما جاء في عرَق الحائض والجُنُب والسّكران وثيابهم عَرَقُ الحائضِ عندنا طاهرٌ، والجُنُب والسَّكران كذلك، والحائضُ والجُنُبُ يصلِّيان في ثوبَيْهِما إذا لم يوجد غيرهما، ولا فيهما أَذىً. والأصل فيه: ما فعله النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - ونساؤُه، كان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يَجْنَبُ في ثَوْبِه ويصلَّي فيه إذا لم ير فيه أذى، وتحيضُ إحدى أزواجه في ثوبه ويصلِّي فيه. ومسائل هذا الباب ستة مسائل: المسألة الأولى (¬2): في بيان القول فيما يَنسِجُهُ الكافر قال علماؤنا: تجوز الصّلاة به إجماعًا. وأمّا ما نَسَجَهُ المجوس، فاختلف أصحابنا فيه؛ لأجل أنّ ذكاتهم غير عاملة، والشَّعر والصُّوف عندهم يَنْجُسُ بالموت، هذا مذهب الشّافعيّة (¬3)، ونحن لا نُرَاعِي ذلك. المسألة الثّانية (¬4): ثيابُ شارِبِ الخمر ومن لا يتَّقي النّجاسةَ، لا يصلَّى فيها، وقال بعض المتأخِّرين: وكذلك السراويل لِقِلَّةِ تَحَفُّظِ النّاس في الاستنجاء. ¬
المسألة الثّالثة: قال علماؤنا: وكذلك ثياب الصَّبيان عندهم، والصّحيح عندي مفارقة ثياب الصِّبيان في الصِّغَر لثيابهم في الكِبَرِ، فثيابُهُم في الصِّغَر محمولة على الطّهارة حتّى يستقِلُّوا بأنفسهم، ويقضوا حاجات الإنسان مُنْفَرِدين، فحينئذٍ تُحْمَلُ ثيابُهُم على النَّجاسةِ. قال الإمام: والدليلُ على صحّة اختياري: صلاةُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو حاملٌ أُمَامة بنت أبي العاصّ (¬1). فان قيل: ولعلّ جبريل -عليه السّلام- أَعْلمَهُ بأنً الطّهارة حاصلة فيها، كما أخبره بالصّلاة بالنِّعال وفيها النَّجاسة، فخلَعَ وخلَعَ النَّاسُ معه (¬2). قلنا: إنّ الأحكام لا تتعلَّق بالبواطن، وإنّ ذلك من اعتراضات الجُهَّال والمبتدعة الّذين يُريدون إبطال الشّريعة، وإنّما تتعلَّق الأحكام بظواهر الأفعال. ومذهب مالكٌ في هذه المسألة كمذهبنا؛ أنّ ثياب الصِّبيان عنده محمولَةٌ على الطّهارة، فهذا الحديث من الأصول. المسألة الرّابعة (¬3): وهي إذا كان مع الرَّجُل ثوبان: نَجِسٌ وطاهرٌ، ولم يعيَّنهما: قال علماؤنا: الّذي يَغلِبُ على ظنَّه أنّه طاهر صلَّى به. وقيل: يصلّي بكلِّ واحدٍ صلاةً، والأوّلُ أحسن وأصحُّ في المعنَى. المسألة الخامسة (¬4): وهي إذا أصاب بعض ثوبه نجاسة ولبم يعلم موضعها، لم يجز التَّحَرَّي، وغسلَ جميعه، بخلاف الثَّوبين؛ لأنَّ أصلَ الثَّوبين الطّهارة، فإذا شكَّ في أحدهما النَّجاسة، أَسْنَدَ ¬
حديث كيفية غسل المستحاضة
اجتهاده إلى أصل الطّهارة، والثوب الواحد يبطل فيه حكم الأصل وهي الطّهارة، ولم يكن للاجتهاد مُسْتَنَدٌ، وهذا من دقيق الفقه وجليله لمن تأمّله، والله الموفّق للصَّواب. حديث كيفيّة غُسْل المستحاضة مَالِكٌ (¬1)، عَنْ سُمَيَّ مَوْلَى أَبِي بَكرٍ بن عبد الرحمن؛ أَنَّ القَعْقَاعَ بْنَ حَكِيمٍ وَزَيْدَ ابْنَ أَسلَمَ أَرسلاهُ إِلَى سَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ، يَسألُهُ، كَيفَ تَغتَسِلُ المستحَاضَةُ؟ فَقَالَ: تَغتَسِلُ من طُهْرٍ إلى طُهْرٍ، وَتَتَوَضَّاُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَإنْ غَلَبَهَا الدَّمُ استَثْفَرَتْ. "وَلَيسَ عَلَى المُستَحَاضَةِ إِلَّا أَنْ تَغْتَسِلَ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ" (¬2). شرح: قلت: قوله (فَإِنْ غَلَبَهَا الدَّمُ استَثْفَرَت" هذا نَصُّهُ في"الموطَّأ" (¬3) وقد اختلفت ألفاظ الرُّواة في ضبط هذه الكلمة، فأمَّا مُطَرَّف فرَوَى عن مالكٌ فيها أنّها "تَسْتَذْفِر" بالذّال المعجمة (¬4)، وقد رَوَاهُ غيره بالتاء والذال أيضًا، ومعناه واحدٌ ومتقاربُ (¬5)، ومن رواهُ بالذّال، فمعناه: تتجفَّفُ من الدَّم بالخِرْقَة. وقال ابنُ حبيب (¬6): "الاستثفارُ فيه معنيان: إمّا أحدهما، فمأخوذ من الثفَرِ، *لأنّه يكون تحت ذَنَب الدّابّة فَشُبَّه به. وأمّا الآخر فمأخوذ من الثفر*، والثَّفر: حَيَا البهيمة من الدّواب والسِّباع، فقيل للمرأة: "اسْتَثفِرِي" من هذا، كناية عن الفَرْجِ، كأنّه مأخوذٌ من ثَفر الدّابة" (¬7). ¬
قال الإمام: ولم يُحقّق هذا من طريق اللُّغة، إذِ الأمرُ فيه قريبٌ. واختلف علماؤنا (¬1) أيجبُ الغُسْلُ على المستحاضة لكلِّ صلاةٍ؟ ورُوِيَ في ذلك آثارٌ كثيرة عن النَّبيِّ صلّى الله عليه. وقال جماعة من العلماء: يجب عليها أنّ تغتسل من طُهر إلى طُهرٍ، وهذا انقضاء أيّامِ دمِهَا أو أقلّ استحاضتها، هذا قول مالك وسائر فقهاء الأمصار؛ لأنّ الحديث لم يذكر فيه الوضوء لكلِّ صلاة، وقد علّل ذلك - صلّى الله عليه وسلم - بقوله (¬2): "إِنمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيسَ بِالحَيضَةِ" ودَمُ العِرْق لا يُوجِبُ الوُضوء وضوء الصّلاة. واختلف العلماء في نَقضِ المرأة رأسها للاغتسال. فروي عن عبد الله بن عمر أنّه كان يأمر نساءه إذا اغْتسلن أنّ يّنْقُضْنَّ رؤوسهنّ (¬3). وقال طاووس: تنقضُ المرأةُ رأسَها من المحيض، ولا تنقضُ من الجنابة. قال الإمام: وهذه وَهْلَةٌ، إذ لا فَرْقَ بين الحَيضِ والجنابة. والمشهورُ عن مالك أنّه قال: ليس على المرأة نقْض شعرها من الحيض ولا من الجنابة، وهو قول الزّهريّ، والشّافعيّ (¬4)، والكوفيَّين، وعامة الفقهاء. مسألة (¬5): وأمّا أقلّ الطُّهْر فاختلف فيه على أربعة أقوال: أحدها: قولُ ابن المَاجِشُون وروايته عن مالكٌ (¬6)؛ أنّ أقلّه خمسة أيام، فكلّما قلَّ الطُّهْرُ كَثُرَ الحَيض، وكلّما قلَّ الحَيض كَثُرَ الطُّهر، وهذا قولٌ ضعيفٌ جدًّا؛ لأنّه يقتضي أنّ المرأة قد تحيضُ أكثر من نصف دَهْرِهَا، وذلك يردّه الأثر. ¬
القول الثّاني: قول سحنون، وهو دليل "المدوَّنة" (¬1) على ما تأوَّلَهُ ابن أبي زيد (¬2) أنّ أقلّه ثمانية أيّام. القولُ الثّالث: رواية المدنيَّين عن مالك، رواه أَصْبَغ وابن القاسم؛ أنّ أقلّه عشرة أيام. القولُ الرّابع: قول محمد بن مَسْلَمَة؛ أنّ أقلّه خمسة عشر يومًا (¬3)، وهذا القول الرّابع لا حظَّ له في القياس. قال الإمام (¬4): وأمّا أكثر الحيض، فخمسة عشر يومًا. بدليل قولِه -عليه السّلام- إذ خطب النِّساء، فقال: "إنكُنَّ ناقصاتُ عقلٍ ودِينٍ، فقيل: ما نقصانُ عقلها ودينها؟ فقال: إنّ إحداكُنَّ تَمْكُثُ نِصفَ عُمْرِهَا أو شَطرَ عُمْرِهَا لا تُصَلَّي، فَذَلِكَ نُقصَانُ بَيِّن" (¬5) فسوَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بين من تُصَلِّي ومن لا تُصَلِّي فجعلَهُ شطرين، وذلك يقتضي ألَّا يكون الحيض أكثر من خمسة عشر يومًا كلّ شهر؛ لأنّ الحديث خرج مَخرَجَ الذَّمَّ لهُنَّ، فَدَلَّ على أنه إِنَّما قصد إلى ذلك؛ لأنّه أقصى ما يترُكنَ الصّلاة بسبب الحيض، هذا قول مالك وأصحابه. مسألة (¬6): وأكثرُ الحيضِ، لمالك فيه قولان: أحدهما: خمسة عشر يومًا. والثّاني: أنّ أكثره على كلّ امرأة عدّة أيامها المعتادة، مع الاستظهار ما بينهما وبين خمسة عشر يومًا. ¬
وأبو حنيفة يرى أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام (¬1)، وهو قول لا يعضده أثرٌ ولا يُوجِبُه نَظَرٌ. مسألة (¬2): وأمّا النِّفاس عند مالك فلا حَدَّ له (¬3)؛لأنّهُ رَجعَ عن قوله: أربعين يومًا، ثمّ قال: يُسْأَلُ النِّساءُ عن ذلك. وذهب أبو حنيفة إلى أنّ أقلّه خمسة عشر يومًا (¬4) فرق بينه وبين أكثر الحيض. وأمّا أكثره، فقال مالكٌ: ستّون يومًا، والمشهور عنه أنّه لم يحدّ له حدًّا. وقال ابن المَاجِشُون: لا يُسأَلُ النِّساء عن هذابوَجْهِ. وقيل: إنّ أقصاه من السِّتِّين إلى السّبعين، والاقتصار على السّبعين عند بعضهم حسن، وهو مذهب الشّافعيّ (¬5). وقال أبو حنيفة: أكثره أربعون يومًا (¬6)، وقد قيل: إنّ هذا إجماع الصحابة. وذُكِرَ عن الحَسَنُ أنّ أكثره خمسون يومًا. قال الإمام: والّذي نقول به، أنّه ليس له حدٌّ؛ لانّه تختلف الدِّماء بحسب اختلاف الطّبائع والخِلْقَة، وليس يستوي النِّساء في ذلك بوَجهٍ وهذه الأقوال هي اجتهادٌ من الأيمَّة. تكملة (¬7) هذا الباب والأمر الضّابط له: قال الإمام: ودمُ الحَيضِ والنِّفاس يمنعُ من خمسة عشر شيئًا، العشرة الأشياءمتَّفَقٌ عليها، والخمسة مُختَلَفٌ فيها. ¬
فأمّا العشرة المتّفق عليها: فأحَدُها: رَفْعُ حُكم الحَدَثِ من جهتهما، لا خلاف أنّ التَّطَهُّر منْهُما لا يرفع حُكم الحَدَثِ ما داما متَّصلَيْن، وإنّما يرفعه بعد إنقضائه عنها. والثّاني: وجوبُ الصّلاة، لا خلافَ أنّ الصّلاةَ ساقطةٌ عن الحائضِ والنّفساء. والثّالث: صحَّةُ فعليهما؛ لانّه لا خلاف أنّ الحائض والنّفساء لا يصحّ منهما فعل الصّلاة أصلًا. الرّابع: صحَّةُ فِعْلِ الصِّيام من غير إسقاطِ وُجُوبه، لا خلافَ أنَّ الحيض والنِّفاس لا يصحّ معهما الصِّيام. الخامس: مَسُّ المصحف، وفي ذلك خلاف شاذٌّ في غير المذهب. السّادس: الوطءُ في الفَرْج، ولا خلاف بين الأُمَّة أنّ ذلك محظورٌ في حال الحَيضِ والنِّفاس. السّابع: دخولُ المسجد، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "لا أُحِلٌّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ" (¬1) الثّامن: الطّوافُ بالبيت. التّاسع: الاعتكاف. العاشر: مَنْعُ الصّلوات، ما عدا الصّلوات الخمس من السُّنَنِ والفَضَائِلِ والنّوافل. وأما الخمسة المختلف فيها: فأحدُها: الوطءُ فيما دون الفَرْجِ، أباحَهُ أَصْبَغُ من أصحابنا (¬2)، وجعل ما رُوِيَ عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - من قوله (¬3): "لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ شَأنُكَ بأَعْلاَهَا" من باب حماية الذرائع. ¬
الثّاني: قراءةُ القرآن ظاهرًا، اختلف فيه قول مالك. الثّالث: رَفْعُ الحَدَثِ من غيرهما. قيل: إنّهما يمنعانه، فلا يكون للمرأة إذا أجنبت ثمّ حاضت أنّ ترفع حكم الجنابة* عنها بالاغتسال لتقرأ القرآن ظاهرًا. وقيل: إنّ حكم الجنابة* مرتفع مع الحيض، فيكون لها أنّ تقرأ القرآن ظاهرًا كان لم تغتسل للجنابة، وهو الصَّوابُ. وقيل: إنّهما لا يمنعانه، فيكون لها إذا أجنبت ثمّ حاضت، أنّ ترفع الجَنَابَةَ بالغُسْلِ فتقرأ القرآن ظاهرًا لان طال ذلك، لبقاء حَدَثِ الحَيْضَة عليها خاصّة، فيأتي في المرأة تُجْنِب ثمَّ تَحِيض ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّ لها أنّ تقرأ القرآن ظاهرًا هان لم تغتسل للجنابة. الثّاني: أنّه ليس لها أنّ تقرأ القرآن ظاهرًا وإن اغتسلت للجنابة، وهذا قولُ أهل النَّظَر من المتأخِّرين. الثّالث: أنّه ليس لها أنّ تقرأه ظاهرًا إلَّا أن تغتسل للجنابة. الرّابع: مَنْعُ وطئها إذا رأت النَّقَاءَ تبل أنّ تغتسل بالماء. الخامس: منعُ استعمالِ فَضلِ مائها. اختلف في ذلك قول عبد الله بن عمر، فقال في ذلك في أحد قَولَيْه: لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضًا أو جنبًا (¬1). نُكْتَةٌ: ومن الغريب أنّه سُئِلَ بعضُ الأشياخ: لِمَ لا تَقْضِي الحائضُ الصَّلاة كما تقضي الصِّيام وكلاهما فرض؟ فأجاب عن ذلك قال: نعم؛ لأنّ حوّاء - رضي الله عنه - أتاها الحيض وهي في الصّلاة، فسألت آدم -عليه السّلام- عن ذلك، فَأوحَى اللهُ إليه أنّ مُرْهَا تترك الصّلاة. قال: ثم أتاها الحيض وهي صائمةٌ، فتركتِ الصِّيام قياسًا على الصّلاة، ولم تسأل عن ذلك. فأوْحَى اللهُ إلى آدم أنّ مُرْهَا تَقْضِي الصِّيام عقوبة لتَركِ السُّؤال. ¬
قلنا: هذه دَعْوَى فارغة طويلة عريضة لا برهان عليها، ولا أثرَ ولا خبرَ، وهي من أعظم حُجَجِ أهلِ الظَّاهِرِ في إبطال القياس، ومَنْعِ المُسْتَحْسَنِ في النَّظَرِ، والله أعلم. قال الإمام الحافظ: وإنّما ذُمَّتِ المرأةُ والنّساء أجمع بنقصان الدِّين، ولا ذَنْبَ لهُنَّ في ذلك؛ لأنّ حوّاء كانتِ السَّبب في دخول الشّيطان الجنّة على آدم. واختُلِف في السَّبب ما كان؟ فقيل: لسترها. وقيل: لأنسها، فعاقبها الله بالحيض، فلما كان هذا عقوبة عن ذنب ذُمَّت عليه، فالتزمت العقوبة جميع بنات آدم. والكلامُ على الحَيْضِ مُعْضِلٌ جدًّا، وفروعه كثيرةٌ:، اقتصرنا على هذه النُّبذة منها، وهي كافية. لأولي النُّهَى.
ما جاء في بول الصبي
ما جاء في بَولِ الصَّبِّي حدثني (¬1) يحيى، عَنْ مالك (¬2)، عَنْ ابْنِ شهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتبَةَ، عَنْ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ - وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجراتِ الأُوَل اللاّئي بَايَعْنَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وهي أخت عكَّاشة بن مِحْصَنٍ الأسديّ- قالت: أتيتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بِابْنٍ لِي صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في "حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثوْبِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ ولم يَغْسِلْهُ. قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬3)، رواه اللّيث عن الزّهري (¬4): "فَلَم يَزِدْ عَلَى أنّ نَضَحَ بِالْمَاءِ"، وفي حديث ابن عُيَينَة "فرَشَّهُ (¬5) " وكذلك خرّجه التّرمذي (¬6)، وفيه خمس مآخذ: 1 - الأوّل: في التّرجمة قال الإمام: وإنّما خصّ بَوْل الصَّبيان دون الكبار لوجهين: أحدهما: أَنّ الصَّغار إذا لم يطعموا كان الأخباث في أثفالهم أقلّ، وما يطرحونه شبه القَيْء، ألَّا ترى أنّ الرِّجال لو أطعموا طَيَّبًا خَبُثَت أثفالهم، وإذا أجربوا أُبعِدُوا كما تبعد الشّاة، وقد قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ الله ضَرَبَ لَنَا مَثلًا طَعَام ابن آدَم وإنّ قزْحَهُ ومِلْحَهُ (¬7) " (¬8). ¬
الثّاني: أنّ الكبيرَ يحفظ نفسَهُ، والصّغيرَ لا يحفظ نفسه، ولا يمكن الاحتراز منه ولا عن أخذه، فجرى الحُكم فيه على هذا. عربية: قال بعضهم: النَّضْحُ: الرَّشُّ حيث ما وَرَدَ في طُرُقِ الحديثِ، وليس به، وإنّما النّضح إمرار الماء من غير رَشَّ، ومنه يقال لبعير السّانية: ناضح (¬1)، وإنّما الفقهاء أطلقوا على الرَّشَّ اسم النَّضْح، بيدَ أنّ اللُّغة فرَّقَت بين النَّضْحِ بالحاء المهملة، وبين النَّضْخِ بالحاء المعجمة بالقِلَّة والكَثْرة. 2 - الأصول: قال بعض المتكلِّمين: بَوْلُ الصَّبى أشدَّ حرارة من بول الجارية، ولذلك كان أكثر لزومًا للثَّوب، ولذلك كان بَوْلُ المحمُومِينَ أشدَّ لونًا وأكثر لزومًا لشدّة حَرِّهِ، بخلاف بَوْل الأُنْثَى لبَرْد مزَاجها، وهذه دَعْوَى عريضة، فلا يُشتَغَل بها. ويحتمل قوله: صغيرًا جدًّا، أنَّه أجلسه، يريد: وَضَعَهُ، وسمّاهُ إجلاسًا (¬2). ويحتمل أتى يريد بقوله: أجلسه عنده ليُحَنِّكَهُ. ويحتمل أنّ يكون أجلسه معجزة وآية له - صلّى الله عليه وسلم -. وقوله (¬3): "فَنَضَخهُ " النَّضحُ في كلام العرب ينقسم قسمين: أحدهما: الرَّشُ. والثّاني: صَبُّ الماء الكثير على المغسول. وقيل: هو صبُّ الماء على المنَضُوح. ورواية "الموطَّأ" (¬4):"فأتبَعَهُ إِيَّاهُ" وليس فيه "فَنَضَحَهُ"، والنَّضحُ: الرَّشُ. ¬
3 - الأحكام: اختلفَ العلماءُ -رضوان الله عليهم- في ذلك على ثلاثة أقوال: القولُ الأوّل: أنّ بَوْلَ الجارية والغُلام يغسلان جميعًا وإن لم يأكلا الطّعام، قاله ابنُ القاسم (¬1) عن مالكٌ. القولُ الثّاني: ائهما لا يُغسَلان، رواه الوليد بن مسلم عنه (¬2)، الثّالث: أنّه يُغسَل بَوْل الجارية دون بَوْل الغُلام، رواه عنه ابن وهب، وبه قال الشّافعيّ (¬3) وأبو حنيفة (¬4). فوجهُ الأوّل: عموم قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أمّا أَحَدُهُمَا فكانَ لا يَسْتَبرِىءُ من البَوْلِ" (¬5) وكلُّ عمومٍ وردَ فيه. وجه الثّاني: أنّ العلَّةَ في بَوْل الغُلام ألاّ يُغسَل عدم أكل الطّعام، وهذا المعنى موجودٌ في الأُنثى، وإذا وُجِدَتِ العلَّة لزم الحُكْم. وجه الثّالث: ما رواه النّسائي (¬6)، وأبو داود (¬7)، والدارقطني (¬8)، وغيرهم، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: " يُغسَلُ بولُ الْجَارِيَةِ، وُينْضَح بَوْلُ الغلامِ مَا لَمْ يطعما" وقد اتَّفق العلماء من أهل النَّقْل للحديث أنّ هذا ضعيفٌ (¬9)، فلا معنى للتَّشاغُل به، وقد عَلّلَ النَّاسُ رواية ابن وَهْب بما لا أرضى أنّ أحكيه ههنا. 4 - تحقيق: قال الإمام: أطلق علماؤنا -رحمةُ الله عليهم- هذه الرَّوايات بهذه الألفاظ، ولم يحقِّقوا ولم يصحبهم بحثٌ. والقولُ الصّحيحُ في ذلك: إنْ كان المراد صبّ الماء ¬
مُطلَقًا، فسواءٌ فيه الصغير والكبير، والذَّكر والأنثى، يجري ذلك فيه من غير رَشٍّ ولا عصر. كان كان المراد به الرّشّ، فلا معنى له في النّجاسة المتيقّنة؛ لأنّه يزيدها رطوبةً وفسادًا، وإنّما هي عندنا عبارة في المشكوك فيه على ما بيَّنَّاه. وأما بَوْلُ الجارية والغلام، فليس لهذا النَّضْحِ فيه دَخلٌ عندنا بحالٍ، والله أعلم. 5 - ذكر فوائد هذا الحديث: وفيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬1): فيه بيان الغَسْل أنّه تحريكُ المغسول بالماء، خلافًا لأبي حنيفة والشّافعيّ (¬2)، ولِمَا توهَّمَ أبو الفَرَجِ المالكيّ أنّ الغُسلَ صبُّ الماء على المغسولِ خاصّةً، وفي هذا الحديث: "فَأَتْبَعَهُ " رسول الله بالماء في الحال ولم يغسله، فبيَّنَ أنّ الغُسْلَ معنى زائد على صبِّ الماء. الفائدة الثّانية (¬3): هي أنّ الغَرَضَ من إزالة النّجاسة زوالُ عَيْنِها وذهابها، فإذا زالت بصبِّ الماء عليها، لم تفتقر إلى تحويك اليد بالماء، وكان البَوْلُ من الصَّبيِّ قد وقع على الثّوب، فصبّ عليه الماء في الحال وهو طَرِيُّ، فأخذته أجزاءُ الماء، فلم يحتج إلى تحريكٍ. الفائدة الثّالثة (¬4): قولُه (¬5): "أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأكُلِ الطَّعَامَ" قد ظَنَّ بعضُ النّاس أنّ الصَّبيَّ إذا لم يأكل الطعام لم يُغسَل بَوْلُه، لقوله في الحديث (¬6):"فأتبَعَهُ إِيَّاهُ" فلم يغسله، فخَفِيَ عليه تفسير ذلك في اللُّغة، فصار يطلب التّأويل في بَوْلِ الصَّبيِّ في غير موضِعِهِ. وهذا بابٌ يقع فيه ¬
كثير من العلماء، بان يتأوّلوا غير موضع التّأويل في القرآن والحديثِ، فَتبطُلُ المسألة من أصلها. كما تأوَّلَ أيضًا بعضُهم من قوله (¬1): "أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأكُلِ الطَّعَامَ" أنّ بَوْلَ الأُنثى بخلاف بَوْلِ الذَّكَر، ويحتجُّون في ذلك بما لا أرضى أنّ أحكيه. وبَوْلُ الذَّكر والأُنثى سَوَاءٌ أَكَلَا الطّعام أو لم يَأْكُلا؛ لأنّ غذاءه من غذاء أمِّه، وما يستحيل عنه فحُكمُهُ كَحُكمِ ما يستحيل من أمَّهِ، وإنّما كان يكون للشافعيَّ (¬2) ومن وافَقَهُ كلامٌ لو خُلِقَ المولودُ ابْتِدَاءً، وإلَّا فهو مخلوقٌ في بطن أمِّه من لحمها ودمها ورطوبتها؛ ولا شكَّ في أنّ حُكمَهُ كحُكمِها، واللهُ أعلمُ. قال أبو محمد الأصيلي: لفظُ حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في حديث أمَّ قَيسٍ (¬3) إلى قوله: "فَدَعَا بمَاءٍ فَنَضَحَهُ" وما بعد ذلك هو من قول المحدَّث. وقوله: "وَلَمْ يَغسِلْهُ" هي زيادةٌ من الرّاوي (¬4)، والله أعلم. وفي الحديث: "يُغسَل بَوْلُ الصَّبيَّة ويُنْضَحُ بَوْلُ الغُلاَمِ ما لم يأكل الطَّعَامَ" (¬5) فأخذ ابنُ وهبٍ بهذا الحديث، واحتجَّ في ذلك بأنّ الصَّبيَّ خُلِقَ من التُّرابِ، إذا طرح في الماء طاب، وَأن الصَّبِيَّة خُلِقَت من ضِلْعٍ، والضِّلْعُ إذا طُرِحَ في الماء نَتَنَ. قال الشّيخ: ليس هذا الاستدلال بشيءِ، فلا يُعَوَّلُ عليه، والصّحيحُ الّذي لا غُبَارَ عليه هو ما قدّمناه، واللهُ أعلم، ¬
ما جاء في البول قائما
ما جاء في البَوْل قائمًا يَحْيىَ عَنْ مالكٌ (¬1)، عَنْ يَحيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمسْجِدَ، فَكَشَفَ غنْ فَرْجِهِ ليَبُولَ، فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ حَتَّى عَلَا الصَّوتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -:" اترُكُوهُ"، فَتَرَكُوهُ فَبَالَ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَصُبَّ عَلَى ذَلِكَ المكَانِ. قال الإمام الحافظ: هذا حديث مُرْسَلٌ في "الموطَّأ"وأسندَهُ البخاريّ (¬2) من طريق يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالكٌ. وخَرَّجَهُ مسلم (¬3) أيضًا. وقد روى هذا الحديث أبو هريرة؛ أنّ أعرابيًا بالَ في المسجدِ، فثارَ النَّاسُ إليه، فقال لهم رسولُ الله صلّى الله عليه: "دَعُوهُ، أَهرِيقُوا عليه سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثتُمْ مُيسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُغسِّرِينَ" (¬4). وفي رواية أخرى: "أنّ أعرابيًا أتى إلى طَائِفَةِ المسجد فبال" (¬5). عربية: قوله: "أَتَى طائِفَة المسجِد" يعني: جزءًا منه، وطائفةُ النّاس جزء منهم، وقد تطلق على الواحد والجماعة، وفي بعض طُرُقِهِ: "في نَاحِيَةِ المسجدِ" (¬6) و"في زاوية" (¬7) والمعنى واحد. وقولُه (¬8): "لا تُزرِمُوهُ " يعني: لا تقطعوا عليه بَوْله. والإزرام: القطع، يقال: ¬
زرمت النّاقة إذا قطعت بوْلها، وفي الحديث؛ أنّ الحسن بال على النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فأُخِذَ من حِجْرِهِ سريعًا، فقال: "لا تُزرمُوا ابْنِي" (¬1). وقوله: "ثَارَ النّاس إلَيهِ" معناه: قام النَّاسُ، ومنه ثَوَرَانُ البعيرِ، وثَوَرَانُ القائم على الوَالِي. وقوئه: "زَجرُوهُ" (¬2) يعني: زجروه عن الفعل، وقد يُزجَر عن القول. وقوله: "صُبُّوا عليه سَجْلًا" وهو الدّلو مَلأى، والسَّجْلُ يذكَّر والدَّلوُ يُؤَنَّث، فإن لم يكن فيها ماء فليست بسَجْلٍ، كما أنّ القَدَحَ لا يكون كأسًا إلَّا إذا كان فيه شراب. و"الذَّنُوب": الدَّلْوُ مَلأَي. وقولُه في حديث التّرمذي (¬3)؛ إذ قال له الأعرابي: اللَّهمَّ ارْحَمنِي ومحمدًا، ولا ترْحَمْ معنا أحَدًا، فقال له النّبيّ -عليه السّلام-: "لَحَجَّرْتَ وَاسِعًا" بلام القسم، وتدخل على الأفعال وتنوب عنه. ويُرْوَى: "تَحَجَّرْتَ" بالتاء المعجمة باثنين من فوقها، من الحَجْرِ الّذي هو المنع، معناه: لقد اعتقدتَ المنع فيما لا منع فيه، وفَسَّرَهُ بعضُ المُحَدِّثين بقوله: "ضيَّقْتَ" وهو وَهمٌ؛ لأنّ "حَجَّرْتَ" لا يتعدَّى الفاعل، و"ضَيَّقْتَ" يتعدّى، وإنّما يُفَسَّر المتعدِّي بالمتعدِّي واللاّزم باللاّزم، وإنّما يصح "لَضَيَّقْتَ" على رواية اللّام. الأصول: وفيه ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في هذا الحديث: المبادرةُ إلى تغيير المنكَرِ إذا اطَّلَع عليه المكلَّف، لمبادرة النّاس ¬
إلى الأعرابيّ حين بال في المسجد، وهو فَرْضٌ من فُروضِ الدِّين، كفاية عن المسلمين (¬1). الثّانية: في هذا الحديث دليلٌ على الرِّفْقِ في تغْيِير المنكر، والتّيسير في الشَّرْعِ كلِّه، وكذلك يجب أنّ ينكر على الجاهل ليجذب إلى الحقِّ بِلِينٍ، والمُجْتَرِئ إذا أَمِنَ أنْ يُؤخَذَ بعُنْفٍ، ولذلك خرَّجَهُ البخاريّ في باب (¬2): الرِّفْقِ بالأمر كلِّه. الثّالثة: في هذا الحديث: دليلٌ على جواز نقل حديث وسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على المعنى دون اللفظ، لقول أنس (¬3): "أو كما قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - " فلم يقطع على لفظه، ولكنّه عَوَّلَ على المعنى فيه. أحْكَامُهُ: وفيه إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى: في هذا الحديث دليلٌ على الفرق بين ورود الماءِ على النّجاسة، وورود النّجاسة على الماء، حسب ما تقدّم في أحاديث الوضوء، فإنّ ما صبَّ عليه ااصماء من البَوْل فَطَهَّرَهُ، أو وَقَعَ في الماء أفسده. المسألة الثّانية: فيه دليل على أنّ إزالة النَّجاسة لا تفتقد إلى الرَّشِّ والدَّلكِ، إلَّا أنْ يكون لها عين لا يرفعها ورود الماء، بخلاف غُسْلِ الجنابة، على حسَبِ ما يأتي بيانُه. ¬
المسألة الثّالثة: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الماء إذا أهلكَ النّجاسة أسقط حُكْمَها وقلبها طهارة. وقال لنا أبو حامد (¬1): في الماء قوّتان: قوّةٌ حِسَّيَّةٌ وهي الإزالة، وقوّةٌ شرعيَّةٌ وهي التّبديل والإحالة. والدليل عليه: أنّه إذا وقع الدَّم في الثّوب، فغسله بالماء حتّى لم يبق إلَّا الأثر، فإنّ المحلَّ طاهرٌ بأثره، والدّم باقٍ قطعًا، فإنّ بقاء اللّون دليلٌ على بقاء المتلوّن، لكن الماء يزيل عين النّجاسة إلى الطّهارة، وهذا معنى يختص بالماء (¬2). قال الإمام الحافظ: وهذا القولُ جار على مذهب الشّافعيّ (¬3)، وأبي حنيفة (¬4)، وأما أصل مالك فقد اختلف فيه، والمشهور مثل ما تقدّم. المسألة الرّابعة: لا يجوز إدخال الثّوب النجس في المسجد، لقوله (¬5):"إنّ هذه المساجد لا تصلُح لشيءٍ من هذا الحَدَث". المسألة الخامسة: في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ حرمة الآدميّة آكد من المسجد؛ لأنّ البّوْلَ لو قطع عليه لأضرَّ ذلك به في بَدَنِهِ، ولو تَلَقَّاهُ بثوبه لشقَّ ذلك عليه في غسله، ولو أخرج كما هو من المسجد لَمَرَثَ المسجد، فجمع رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في تركه بين هذه الوجوه. المسألة السادسة (¬6): إذا صُبَّ الماءُ على النّجاسة فَغَمرها، واستهلك البَوْل فيه بذهاب الرائحة واللّون، طَهُرت الأرضُ، وبه قال الشّافعيّ (¬7). ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): لا تطهير الأرض حتّى تحفر ويُجعَل عليها تراب طاهرٌ، وتعلّقوا بالحديث الّذي ذكرناه آنفًا في أمر النّبيَّ بالحَفْر (¬2). فأمّا الشّافعيّ فلا يلزمه؛ لأنّ الحديث السَّند فيه ضعيفٌ، والحديث الصّحيح عن عبد الله بن مَعْقِل مُرْسَلٌ، والشّافعيّ لا يرى القولَ بالمُرْسَلِ (¬3). وأما مالكٌ (¬4) وأبو حنيفة فلزمهما لصحَّةِ المُرْسَلِ عندهما، لكن رجّحنا حديث أنس على حديث عبد الله بن مَعْقِل لوجهين: أحدهما: أنّ المُسْنَدَ أَوْلَى من المُرْسَلِ. الثّاني: أنّ أَنَسًا نقلَ ما شَاهَدَ، وعبد الله بن مَعْقِل ما سمع، والشّاهِدُ أَوْلَى، والمعنى يُغْنِي. فإن حفَرَ الأرضَ ورماها في موضعٍ آخر؟ يلزم في ذلك ما يلزم في هذه كلِّها؛ لأنّ الأرض كلّها لنا مسجد. المسألة السّابعة (¬5): الدَّلْوُ غير مقدَّر، وإنّما يلزم التكلُّف بما يغلبُ على ظَنِّهِ أنّه قد غَمَرَ النّجاسة، وتطيبُ نفسه بعد ذلك منها، لا خلافَ فيه. المسألة الثّامنة (¬6): إذا بال رَجُلان كفاهُما دَلْوٌ واحدٌ، وقال بعض العلماء (¬7): لا بُدَّ من دَلْوَين؛ لأنّ النّبيَّ -عليه السّلام- إنمّا جعل دَلْوًا في مُقابلة بَوْل رَجُل، وهذا ضعيفٌ؛ لأنّ المقصودَ ¬
إهلاك عين النّجاسة، وطيب النّفس بعد ذلك منها، فكيف ما وقعَ يقعُ، لا سيّما وهذا يؤدِّي إلى أنّ تكون النّجاسة الكثيرة تطهير بمقدار لا تطهر به النّجاسة القليلة، مثالُه: رَجُلٌ بال بَوْلَةً كييرة، أجزأه دَلْوٌ عندهم. المسألة التاسعة (¬1): لو انهرق على الموضع ماءٌ، أو جاء عليه مَطَرٌ، طَهُرَ؛ لأنّ إزالة النّجاسة لا تفتقرُ إلى القصدِ، ونقلَ النَّقَلَةُ عن ابن سُرَيج أنّها تفتقر إلى النِّية، وما قاله قطُّ، وإنّما هي مسألة إجماع، قال لنا أبو حامد، قال لنا أبو المعالي (¬2): إنّما أخذوا هذه من مسألة قالها ابن سُرَيْج وهي: إذا رمتِ الرِّيح ثوبًا نَجِسًا في قِدْرِ صَبَّاغِ، نجس القِدْرُ ولم يطهر الثّوب. فظنّ الظّانّون أنّ ذلك لافتقار النّجاسة إلى النّية وليس كذلك، وإنّما هو لأنّ النّجاسة وردت على الماء ولم يرد عيها (¬3). المسألة العاشرة (¬4): اختلف علماؤنا في تطهير الشّمس دون الماء، والمشهور عندنا أنّها لا تطهير، وبه قال الشّافعيّ (¬5)، وأحمد (¬6)، وإسحاق. وقال الشّافعيّ (¬7) وأبو حنيفة: تطهير، ومعتمدهما على أنّ الشّمس تحيل الأعيان، وهي دَعْوَى عريضة تُقَابَلُ بمعنى طويل. ¬
ودليلنا: أنّه محلّ نَجِس، فلا يَطهرُ إلَّا بالماء كالثّوب. المسألة الحادية عشر (¬1): ولو كان بدل البَوْل خمر، فغُمِرَت بالماء حتّى يذهب اللّون والرّائحة، لكان كذلك (¬2)، فهذا زالتِ الرّائحة وبَقِيَ اللَّون لم يطهر بحالٍ، وإن زال اللَّونُ وبقيتِ الرائحةُ، ففي ذلك خلافٌ ينبني على هل الرّائحة لها حُكْمٌ في المخالطة أو المجاورة أم لا؟ وقد تقدّم بيان ذلك. حديث: روى أبو وَائِل، عن حُذَيفَةَ، قال: "أَتَى النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دعَا بمَاءٍ فَجِئتُهُ بِهِ" (¬3). الترجمة: قال: وإنَّما بَوَّبَ مالك (¬4) - رضي الله عنه - على هذه التّرجمة "باب البَوْل قائمًا وقاعدًا" فذكر قائمًا، لحديثٍ رواهُ النَّسائي (¬5)، والترمذي (¬6)، عن عائشة أنّها قالت: "مَنْ حَدَّثَكُم أَنَّ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بَالَ قَائِمًا فَلاَ تُصَدَّقُوهُ، مَا كانَ يَبُولُ إِلَّا جالِسًا" ولم يصحّ سنده (¬7). والحديث الثّاني: ما رواه الدّارقطني (¬8)، عن أبي هريرة، قال: "إِنمَّا بَالَ رَسُولُ ¬
اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَائمًا لِجُرْحٍ كَان بِمَأَبِضِهِ (¬1) " (¬2). وثبت (¬3) عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يرتادُ لبَوْلِهِ موضعًا، كما يرتادُ لإقامته مَنْزِلًا (¬4). وكان يتجنَّبُ العَزَازَ (¬5) من الأرض إذا أراد البَرَازَ، ويختار البُقْعَة اللَّيَّنَة، وذلك كله احترازٌ من تَطايُرِ التوْل وتعَدَّيه إلى البدَن والثوب، ولذلك بال على السُّباطَةِ قائمًا. وفي الصّحيح: أنّه يُعَذَّبُ في قَبْرِهِ من لا يتَنَزَّهُ من بَوْلِهِ (¬6). وفي الحديث الصّحيح: "تنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذابِ الْقَبْرِ مِنْهُ" (¬7). وقيل: البوْلُ وسائرُ النّجاساتِ كثيرُها وقليلُها سواءٌ، يَلْزَمُ اجتنابُها، ويجبُ غَسْلُ قليلها وكثيرها، ما خلا الدَّم فإنّه يُعْفَى عن يسيره لوجهين: أحدُهما: أنّه لم يحرَّم منه إلَّا الكثير، لقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬8). الثّاني: عَدَمُ إمكانِ الاحتراز منه، فإنّ البَدَنَ لا يخلو في الغالِبِ عنه، فسمَحَت الشريعةُ في يسيره رَفْعًا للحَرَج. ودمُ الحَيض كسائر النّجاسات لا يُعْفَى عن شيءٍ منه؛ ¬
لأنّه يمكنُ الاحتراز منه، هذا أصح الرَّوايات ولباب الدّلالات، فاحْذِفُوا ما عداهُ، وَعَوَّلُوا على ما سَطَّرْنَاهُ لكم. نكتة: قال بعضُ الأشياخ: معنَى النّهي عن البَوْل قائمًا إنّما هو على التَّادُّبِ لا على التَّحريم، وذكر أبو عبد الله المازري (¬1) في حديث حُذَيفَة؛ أنّه قال: كنْتُ مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فانْتَهَى إلى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فبَالَ قَائمًا (¬2). قال الإمام الحافظ (¬3): "اختلَفَ العلماءُ في وجهِ هذا على قولين: 1 - قيل: إنّما فعلَ ذلك، لأنّها حالةٌ يؤمن معها الحَدَث غالبًا"، وهذا ضعيفٌ لأنَّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان مُنَزَّهَا عن ذلك (¬4). 2 - "القولُ الثّاني - قيل: فَعَلَ ذلك لوَجَعٍ به" أو لحرجٍ كان به (¬5). 3 - "وفيه قول ثالث: إنّما فعلَ ذلك؛ لأنّ السُّباطةَ كانت فيها نجاسات رطبة وهي رِخوَةً، فأَمِنَ إذا بال قائمًا أنّ يتطاير إليه البَوْل، وخَشِيَ إذا جلس ليبول أنّ يبلَّ ثيابه لرطوبة الموضع"، والله أعلم. تكملة: قال المؤلِّف: وقد قَيَّدْنَا في آداب البَوْلِ وقضاءِ الحاجةِ آدابًا كثيرة، وأحاديث ¬
جمّة يَكْثُرُ تعدادها، والحاضر الآن منها في الخاطر خمسة أحاديث أغفلها مالكٌ. 1 - الحديث الأوّل روى صُهَيب، عن أنسٍ، قال: كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا دخلَ الخَلَاءَ قال: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ" وقال شُعْبَة مرَّة، قال: "أعُوذُ بِاللهِ مِن الخُبْثِ والخْبَائِثِ" (¬1) حسن صحيح (¬2) في المعنى. 2 - أبو إسحاق، عن أبي جُحَيفَةَ، عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"سَتْرُ ما بينَ أحدكم - أو قال: ما بين أَعْيُنِ الجِنِّ وعَوْرَاتِ بني آدمَ - إذا دخل أحدُهم الخَلاَءَ أنّ يقولَ: بِسمِ اللهِ" (¬3). قال الإمام: وهذا ضعيفٌ. عربية (¬4): الخَلاَءُ -بفتح الخاء ممدودًا-: هو المكان الّذي ليس به أحدٌ، فإذا قصرته فهو الرّطب من الحشيش (¬5). ويكون أيضًا بالقصر حرف استثناء، أو فعلًا بمعناه، تقول: جاء القوم خَلا زيد، أو خَلا زيدًا، والأوّل أفصح. فإن شددته وكسرت الخاء فهو في النّوق (¬6) كَالحِرَانِ في الخيل. قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لعائشة في حديث أم زرع: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرعٍ لأُمَّ زَزعٍ" (¬7) في الأُلْفة والرَّجاء، لا في الفرقة والخلاء. وقولُه: "اللَّهُمْ" معناه: يا الله، قاله الخليلُ بن أحمد (¬8)، وقال الفَرَّاءُ (¬9): معناه: يا ¬
الله أمَّنَا منك بخيرٍ (¬1)، وكلا القولين معترضان، والأوّل أمثلُ. وقوله: "أَعُوذُ" يعني: ألْجأ وأَلُوذُ، فإنه مكان العائذ، والعياذُ والملجأ: ما سكنت إليه النّفس عن محذورٍ. وقولُه: "مِنَ الخُبْثِ "- بِضَمِّ الخاء - يعني: من ذكرر الجنِّ وإناثهم، وإن كان بفتحها فإنّه يعني: من المكروه وأهله، و"الخبث" هو كلُّ مكروه، فإن كان من قول فهو فسق، كان كان من اعتقادٍ فهو كفرٌ واعتقاد سوءٍ. فإن كان من طعامٍ فهو حرامٌ، وقد غلَّطَ الخطّابيّ (¬2) لمن رواه (¬3) بإسكان الباء واستدرك الخطأ عليه. الفقه (¬4): كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - معصومًا حتّى من الشيطان الموكَّل بهِ بشرط استعاذته منه، كما غُفِرَ له بشرطِ استغفاره واستعاذته منه، ومع ذلك فقد كان اللَّعين تعرَّضَ له ليلة الإسراءِ فدفعه بالاستعاذة (¬5)، وعرض له في الصّلاة فشدَّ وثاقه ثم أطلقه (¬6). وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يحضُّ على الاستعاذة في هذا الموضع لمعنيين: أحدهما: أنّه خلاء، وللشّيطان قدرة في الخلاء ليست له في الملأ يصل بها إلى العبد، قال رسول - صلّى الله عليه وسلم -: "الرّاكبُ شيطانٌ، والراكبانِ شيطانانِ، والثلاثَةُ رَكبٌ" (¬7). ¬
الثّاني: أنّه موضع قذر يجب أنّ ينزَّه ذِكر الله عن الجري فيه على اللِّسان، فيغتنمُ الشّيطانُ عَدَمَ ذِكرِ الله، فإنّ ذِكرَهُ يطرده، فلجأ إلى الاستعاذة قبل ذلك، ليعقدها عصمةً بَينهُ وبين الشّيطان، حتّى يخرج من الخَلاَءِ. 3 - حديث: روى أبو بُرْدَة، واسْمُه عامر بن أبي موسى، عن عائشة؛ قالت: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إذا خرجَ من الخَلاَءِ قال: "غُفْرَانَكَ" (¬1). إسناده: قال أبو عيسى (¬2): "لِا يُعْرَفُ هذا الحديث إلَّا من رواية إسرائيل"، رواهُ عنه مالكٌ ابن إسماعيل أبو غسَّان النَّهْدي الشّامي، وإسرائيل أشهر وأقعد، وهو إسرائيل بن يونس، يروي عن مالكٌ، خرَّجَهُ البخاريّ في"التاريخ" (¬3) ولا يُعْرَف في هذا الباب إلَّا هذا الحديث. عربية: قوله: "غُفْرَانَكَ" هو مصدر كالغفر والمغفرة، ومثله: سُبْحَانَك، والأشهر في "سبحان الله" أنّه مصدر جاء على غير المصدر، ونصبه بإضمار فعل، تقديرُه: "هَبْ لَنَا غُفرَانَك". الأصول (¬4): كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يطلبُ المغفرةَ من ربِّه قبل أنْ يُعْلِمَه أنّه قد غُفِرَ لَهُ، وكان يسأله ¬
بعد ذلك؛ لأنّه غُفِرَ له بِشَرْطِ استغفاره. ورُفِعَ إلى أشرفِ منزلة بشَرْطِ أنّ يجتهد في الأعمال الصّالحة، والكُّل له حاصلٌ بفَضلِ اللهِ وفي وجه طَلَب المغفرة ها هنا محتملان: 1 - الأوَّل: أنّهَ سأل المغفرةَ من تَرْكَهِ ذِكر الله في تلك الحالة. فإن قيل: إنّما تَرَكَها بأمر ربِّه، فكيف سَأَلَ المغفرة من فِعْلٍ كَانَ أَمَرَهَ اللهُ به؟ الجواب: إنَّ التَّرك كان كان بأمر الله، إلَّا أنّه من قِبَلِ نفسه، وهو الاحتياج إلى الخَلاءِ فإن قيل: هو مأمور بما جرّهُ الدّخول إلى الخلاء، وهو الأكلُ؟ * قلنا: العبدُ مأمورٌ بالأكل المؤدِّي* إلى الاحتياج إلى الغائط، مقدور عليه خلوّ ذلك الوقت عن الذِّكرِ، والبارئ يعدّ على العبد ما يقوده إليه ويلزمه ما يخلقه فيه. وهذا الكلام فيه غموض لا يحتمله هذا "الكتاب". 2 - والفائدة: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سألَ المغفرةَ في العَجْزِ عن شُكرِ النِّعمة في تيسير الغذاء، وإنّما منفعته إخراج فَضْلَتَه على سُهولةٍ، ويحقّ أنّ يعتقد هذا المقدار نعمة يتأدّى قضاء حقِّها بالمغفرة. 4 - حديث رابع: روي عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: "إنمَّا أَنَا لَكُم بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ" الحديث (¬1). ¬
فجماع الآداب فيه ثلاثون أَدَبًا: الأوّل: أنّ يُبْعِدَ في المذهب، فكذلك ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه كان يفعل ذلك. الثّاني: يسْتَتِر. الثّالث: يستعيذُ من الخُبْثِ والخبائث. الرّابع: لا يرفعُ ثوبه حتّى يدنو من الأرض. الخامس: يلتفتُ يمينًا وشمالًا. السّادس: يغطِّي رأسه. السّابع: يُنْهَى عن الكلام في تلك الحال. الثّامن: يُنْهَى عن الاستنجاء باليمين. التّاسع: يغسلُ يدَه بالتّراب بعد الفراغ. العاشر: كان يستجمر بوترٍ. الحادي عشر: يُنهَى عن الوُضوء في المغتسل للحديث، "فإن عَامّةَ الوَسوَاسِ مِنْهُ" (¬1). الثّاني عشر: كان يَفْرِجُ بين فَخِذَيْه للبَوْل. الثّالث عشر: كان إذا خرج من الخَلاَءِ قال: "غُفْرَانَكَ" (¬2). وقال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي سَوَّغَنِيهِ طَيِّبًا، وَأَخرَجَهُ عَنِّي خَبِيثًا" (¬3) وبذلك سمَّيَ نُوحٌ عبدًا شكورًا. الرّابع عشر: كان يَنْضَحُ ثوبه بالماء. الخامس عشر: التَّسمية؛ لأنّه قال: "لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يذكر اسم الله عَليْهِ" (¬4) وقد بيّنَاه في موضعه أنّ المراد بذلك النّية، فإنَّ الذِّكر محلُّه القلب، وليس هذا من آداب الأحداث. ¬
السّادس عشر - من آدابه: أنّ يُفْرِغ الماء على يده، وَينْرِعَ الخاتم فيه اسم الله تعالى، فلا يحلّ لمسلم أنّ بستنجي به في يده. السّابع عشر: أنّ يكون الموضع دَمِثًا، يعني سَهْلًا لا عَزَازًا، يعني شديدًا. الثّامن عشر: ألَّا يتكلّم لا ابتداءً ولا جوابًا. التّاسع عشر: ألَّا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. العشرون: لا يبول قائمًا، وهو الغَرَضُ في هذا الباب من جُمْلة الآداب. الحادي والثّاني والثّالث والعشرون: لا يتخَلَّى في طريق النَّاس، ولا ظلِّهم، ولا في الجِحَرِ فإنّها مساكن الجنِّ، ولا في الماء الرّكد فإنّه يَفْسُد، ولا في مواضع الثِّمار، ولا في ضفَّة الأنّهار، فذلك ثمانية وعشرون. والتاسع والعشرون: أنّ يتَّكِىء على رِجْلِه اليُسْرَى. والموفَّى ثلاثين: أنّ يسْتَبرِىء نفسه بأن يَتَنَحْنَح قليلًا وَينْثُر ذَكَرَهُ. شرح مشكل: روى مالكٌ في "العتبية" (¬1): "لا بأس أنّ يستنجىء بالخاتَم فيه ذكر الله "، قال لي بعض أشياخي: هذه روايةٌ باطلةٌ، معاذَ الله أنّ تجري النّجاسة على اسمه، وقد كان لي خاتَم فيه منقوش "محمد بن العربي" فتركته لأنّ لا أستنجىء به لحرمة اسم محمد، وإن لم يكن ذلك للكريم الشّريف، ولكن رأيت للاشتراك حُرْمَة، وقد روي عن الأوزاعي مثل ما روي عن مالكٌ. ورُوِيَ في ذلك أنهم يرون حبسه في اليمين. وقال الحسن: لا بأس أنّ يدخل الخلاء وفي أصبعه الخاتَم. وقال إبراهيم: يدخل النّاس الخلاء بالدراهم، لا بُدَّ للنّاس من ذلك لحفظها (¬2). وقال مجاهد: ذلك مكروه في الدّراهم والخاتَم (¬3). ورُوِيَ عن مالكٌ أنّ الخاتم يحبس في الشّمال، ومع هذا لا يستنجئ به. قال: وقد كان مالكٌ لا يقرأ الحديث إلَّا على وضوء، وناهيك بهذا ترفيعًا لاسم الله تعالى (¬4). ¬
ما جاء في السواك
ما جاء في السِّواك قال المؤلَّف: وحديث مالكٌ (¬1)، عنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنِ ابِن السَّبَّاقِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ في جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ. الحديث. هذا حديثٌ مُرْسَلٌ (¬2)، واسمُ ابن السَّبَّاق: عُبَيد (¬3)، وأحاديثه مُرْسَلَة. وروى التّرمذي (¬4) قال: حدّثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ علىَ أُمَّتِي لأَمَرْتُهُم بالسِّواكِ عند كلِّ صلاةٍ" ومالك يرويه: "عند كلِّ وضوء". الإسناد (¬5): قال الإمام الحافظ: ومن الغريب رواية مالكٌ لهذا الحديث وترك التّصحيح له، وله عِلَلٌ لا يحتملها هذا "الكتاب". عرببة (¬6): السِّواكُ في العربية: الحركة، يقال. تساوكَتِ الإبلُ، إذا مشت ضربًا من المشي فيه ¬
لِين، وقد جاء أيضًا على معنى فعل: ومِنْ ذا تأولته الظّاهرية على الوجوب (¬1)، ولا حجّة لهم في ذلك. أحكامه: فيه سبع مسائل (¬2): المسألة الأولى: اختلف العلماء في السِّواك؟ 1 - فقال إسحاق (¬3): إنَّه واجبٌ، ومن تَرَكَه عمدًا أعاد الصّلاة. 2 - القولُ الثّاني: قال الشّافعيّ (¬4): هو سنّة من سُنَن الوُضوء. واستحبّه مالكٌ في كلِّ حالٍ، وقال: إنّما ذلك لتغيُّر الفَم. تنقيح: أمّا من فَرَضَهُ فظاهرُ الأحاديث يُبْطِل قوله. وأمّا القول بأنّه سُنَّةٌ واستحباب فمتقارِب، وكونه سُنَّة أَقْوَى. المسألة الثّانية: في وقته وهي أربع مراتب: ا- أولها: عند القيام من النّوم. 2 - وعند الإمساك عن الطّعام. 3 - 4 - والثّالثة: عند كلِّ وُضُوءٍ وإن لم يُصَلِّ، أو لكلِّ صلاة وإن لم يتوضّأ. وَقَدْ صَحَّ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه كان إذا استيقظَ من النَّومِ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّواكِ (¬5)، والسِّواكُ للصائم يأتي ذِكرُهُ إنّ شاء الله في "كتاب الصِّيام". ¬
المسألة الثالثّة: في السُّنَّة وفي قضبان الأشجار، اقتداءً بالنّبيِّ المختار، وأفضلُها قضبان الأراك؛ لأنّها كانت سواك النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولها أثرٌ حَسَنٌ في تصفية الأسنان وتَطيِيبِ النَّكهَةِ ولِينِ الجِرْمِ، فإنْ عُدِمَت فما في معناها ممّا يصفِّي الأسنان. المسألة الرّابعة: ظنّ بعضُ النَّاسِ أنّ كلَّ سواكٍ يَصْبُغُ اللَّثَاة والشِّفاهَ مكروهٌ، لما في ذلك من التَّشَبُّه بالنِّساء، وهذا ضعيفٌ، فإن الكُحْلَ جائزٌ وفيه التَّشَبُّه (2) بهِنَّ، فلا يُلتَفَتُ إليه؛ لأنّ مثل هذا التّعليل لا يستقلّ بدليلٍ. المسألة الخامسة: قال بعضُ المتأخِّرين من الأيمَّة: لو تَمضْمَضَ بغَاسُولٍ لم يجزئه، وهذا لا يصحُّ؛ لأنّ الغَرَضَ إزالة القَلَحِ، فبأيِّ وَجْهٍ حَصَلَ جَازَ. المسألة السادسة: في صفته وذلك عرضًا، لقوله: "كَانَ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ" (¬1) والشَّوْصُ هو الاستياك عَرْضًا، لأنّه إذا فُعِلَ بالطُّولِ أضرَّ باللَّثاة. وقال الحربيّ (¬2): الشَّوْصُ والمَوْصُ: الغُسْل. وقال: الشَّوْصُ بالطُّول، والسِّواكُ بالعَرْضِ. وقوله في هذا الحديث: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَشُوصُ فاهُ بِالسوَاكِ" أي: يستاك عَرْضًا، والعَرضُ أحسن من الطُّول، لما فيه من السُّهولة وقِلَّة المشقَّة. المسألة السّابعة: في فوائده وهي عشر فوائد: ¬
أوّلها: أنَّه مَطْهَرَةٌ للفَمِ. ومرضاةٌ للرَّبِّ. ومطردةٌ للشَّيطان. ومفرحة للملائكة. ويُذهبُ الحَفْرَ. وَيجْلُو البَصَر. ويُكَفِّر الخطيئة، قاله ابن عبّاس، وأَسنَدَهُ الدّارقطنيّ في "كتابه" (¬1). 2 - وقال عليّ: "السِّواكُ يزيدُ الرَّجُلَ فصاحةً" (¬2)، وذلك أنّ الرَّجُل إذا لم يستك بَخِرَ فمُهُ، فإذا حضر مجلس عِلْمٍ لم يتجرَّأ أنْ يتكلّم لأجل بخورة فمه، فحَرَمَهُ الكلام، وإذا اسْتاك عند كلِّ وُضوءٍ فاحَ فُوهُ، وتكلَّم في كلِّ وقتٍ. شرح حديث ابن السَّبَّاق (¬3): 3 - أنَّ رسول الله قال في جُمُعةٍ من الجُمعِ: "معْشَرَ النَّاس، إِنَّ هذَا يَومٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا، فَاغتَيسلُوا، وَمَنْ كانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّه أنّ يَمَسَّ مِنْهُ" الحديث. فيه خمس فوائد: الفائدة الأوُلى: قوله: "اغتَسِلُوا" فيه الأمر بالغُسلِ للجمعة، وذلك عند جماعة العلماء محمولٌ على النَّدْب، والأمرُ بالغُسْل فيه إنّما هو لِعِلَّة، والحديث مُعَلَّلٌ، وذلك أنّهم كانوا يأتون الجمعة من البَوَادِي ولا يغتسلون، وعليهم الرّوائح، فقيل لهم: "لَوِ اغتسلْتُم" (¬4)، لهذا المعنى. وفي قول عمر لعثمان: "وَالوضُوءُ أيْضًا" (¬5) بمعنى أنّه ليس بواجب الغُسل على كلِّ أَحَد، وسيأتي الكلام عليه في أبواب الجمعة من هذا "الكتاب". ¬
الفائدة الثّانية: فيه (¬1) استعمال الطِّيب لمن قدر عليه يوم الجمعة وفي العيدين، وذلك مندوبٌ إليه حَسَنٌ، مُرَغَّبٌ فيه، فقد كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُعْرَفُ خُرُوجُهُ برائحته إذا خرجَ للصّلاة، وإذا مَشَى، وقد قال بعضُ المعتنين بأخباره وفَضَائِلِه أنّ رائحته تلك كانت بلا طِيبٍ (¬2)، فإنَّهُ طَيِّب الرِّيح خَفِيف المَحْمَل (¬3). ومنه حديث أم سُلَيم في أخذها عَرَقِهِ في القَوارير، إذْ قالت له (¬4): "هو من أَطيَبِ الطِّيب" (¬5)، ومع هذا فقد كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قد حبّب إليه ذلك من دنياكم، لقوله صلّى الله عليه: "حُبِّب إِلَيَّ فِق دُنيَاكُمْ ثَلاثَ: النِّساءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصَّلاَةِ" (¬6). وقد كان أبو هريرة يُوجِبُ الطِّيبَ وجوب سنّة وأدبٍ. والله أعلم (¬7). وقد قيل لابن عبّاس: إنّ أبا هريرة يُوجِبُ الطِّيب، فقال: لا أعلَمُه ولكنّه حَسَنٌ. الفائدة الثّالثة: فيه التّرغيب في السِّواك، والآثار في ذلك كثيرة جدًّا أضرَبْنا عنها، والعلماء كلهم يندبون إليه، ويستحبّونه، ويحثّون عليه، وليس بواجبٍ عندهم. وذهب أهل الحديث لوجوبه (¬8)، وقال الشّافعي (¬9): لو كان واجبًا لأمرهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بذلك أَمْرَ وُجوبٍ، ¬
وقد تَقَدَّم الكلام عليه بما لا مزيدَ عليه. الفائدة الرّابعة (¬1): هذا الحديث يحمله أهل العلم على أنّ قولَه ذلك إنّما كان منه - صلّى الله عليه وسلم - وهو يخطُب على المنبر، فإذا كان هذا، ففيه دليلٌ على أنّ للخطيب أنّ يأتي في كلِّ خُطبة بكلِّ ما يحتاج إليه في فُضُول الأعياد، وترغيب النّاس في الجهاد، والتّرغيب في صيام الأيّام الفواضل وشهر رمضان وغيره، وجميع الفضائل، وللخطيب أنْ يَذكُر منها ما شاء ولا حَرَجَ عليه في ذلك فيما يحتاج النَّاس إلى معرفته. الحديث الخامس (¬2): في هذا الحديث دليلٌ على أنّه من حَلَفَ أنّ يوم الجمعة يومُ عِيدِ، فقد برَّ ولم يَحْنَث. وإن حَلَفَ بالطّلاق لم تطلق عليه، لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -:" إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا" والعيدُ في لسان العرب: كلّ مجتمع يعود إليهم، وهو مأخوذٌ من أسماء الفعل، من عاد يعود عَوْدًا. تمّ كتاب الطّهارة وجميع أبواب، والحمد لله ¬
[الصلاة]
كتاب الصّلاة الأوّل ما جاء في النداء للصلاة يحيى، عن مَالِك (¬1)، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ يُضْرَبُ بِهِمَا لِيُجْمَعَ النَّاسُ إلى الصَّلاَةِ ... الحديث بطُوله. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬2): "قصَّة عبد الله بن زَيْد ورُؤياؤهُ (¬3) في بَدْءِ الأَذَان رواه جماعة من الصَّحابة بألفاظٍ مختلفةٍ ومعانِ متقارِبَةٍ (¬4)، وهي متواترةٌ من طُرُقٍ شَتَّى (¬5)، من نَقْل أهل المدينة وأهل الكوفة، ولا أعلمُ فيها ذِكْر الخَشَبَتَيْن إلَّا في مراسيل يحيى بن سعيد هذا"، فإنّه: حديث مرسل. قال علماؤنا: أرسل مالكٌ في "الموطَّأ" حديث الأذان، وأسنده أبو داود (¬6) من طريق محمّد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن زَيْد، عن أبيه؛ قال: لمَّا أمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالنّاقوس. الحديث. ولم يُخْرِجْ مسلمٌ والبخاريّ حديث زيد هذا الّذي ذَكَرَهُ مالكٌ. تأصيل (¬7): روِيَ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - علَّمه اللهُ الأذانَ ليلةَ الإسراءِ في السَّماءِ، بهيئتِه ورُتْبَتِه ¬
وصِفَته (¬1). ثمّ كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بمكّة على تَقِيَّهَ من الكفّار، ولم تكن صلاتُه وصلاةُ أصحابه بمكّة إلَّا اختلاسًا، حتّى كانتِ الهجرةُ، ونزلَ بدار النّصرة، وتألّفت بالإِسلام الكلمة، والْتأَمَت على الصّلاةِ الجماعة، فلو تكلَّفَ كلّ أحد أنّ يترصَّد الوقت، مع ما هم فيه من التخوُّف وينتابهم من الأشغال (¬2)، لشقَّ عليهم ذلك. فتشاوَرُوا كيف يكون الاجتماع؟ فاختلفت في ذلك الرِّوايات اختلافًا كثيرًا، لو سردناها لطال المقال، ووقعَ المَلاَل. وأحاديثُه كثيرةٌ، لُبَابُها حديثان: الحديث الأوّل: ثبت في الصّحيح؛ أنّ النّاس تشاوروا مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ليربطوا الصّلاة بوعدٍ يجتمعون إليه. فقال عمر: ألَّا تبعثون مناديًا يُنَادي بالصّلاة؟ فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يا بِلَال، قُمْ فنَادِ بالصَّلاة" (¬3). الحديث الثّاني: ثبت أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أراد أنّ يتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ أو ناقوسًا يتعلّمون به وقت الصّلاة، فبينما عبد الله بن زيد نائمًا، إذ رأى بيدِ رَجُلٍ ناقوسًا، فقال: إنّ هذا لنحو ممّا يريد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال للّذي رآه بيده: أتبيعُه؟ فقال له: وما تريده؟ فأعلَمَهُ بالغَرَضِ، فقال له: أَوَلاَ أدلُّكَ على خيرٍ من ذلك. قال: وما هو؟ قال: تنادون للصّلاة، وألقى عليه الأذان، فلمّا أصبحَ جاء عبد الله بن زيد إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فذكَرَ ذلك له، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يا بلال، قُم فَنَادِ بالصَّلاَةِ" (¬4). وفي بعض طرق هذا الحديث؛ أنّ عمر لمّا سمع النّداء خرجَ فزعًا يجرُّ إزَارَهُ، فقال: يا رسول الله، لقد رأيت مثل الّذي رأى عبد الله بن زيد فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الحمدُ للهِ" (¬5). وبينَ هذين الحديثننِ من التَّعارضُ ما تَرَوْنَ. ¬
نكتةٌ (¬1): قال الإمام: ووجهُ الجمعِ بينهما؛ أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - تشاور مع أصحابه كيف يجتمعون (¬2) وقت الصّلاة، فقال بعضُهم: اتّخذُوا قرنًا مثل قرن اليهود. وقال بعضهم: اتَّخذُوا نَاقُوسًا مثل ناقوس النَّصارَى. وقال بعضهم: أَوْقِدُوا نَارًا. وقال عمر: نادوا بالصّلاة؛ كانّه يقول: الصّلاة الصّلاة، لا تفصيل الأذان وكيفيته. قال: فتوقَّفَ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - ينظر في ذلك، فرأى عبد الله بن زَيْد وعمر بن الخطّاب الرُّؤيَا فيه. وسبقَ عبد الله بن زيد إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فَأَعْلَمَهُ، وأمر رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بذلك، وقال: "إنّ هذه لَرُؤيَا حَقّ" (¬3) وسمعَ عمر الأمر، فأخبر برؤياهُ، فحمدَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - على ما كان من الإرشاد إلى الحقِّ، وألهم إليه من انتظام الأمر. نكتةٌ أصوليّة (¬4): قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ عظيمٌ على أصلٍ من أصولِ الفقه، وهو القولُ بالقياس في الدِّين والاجتهاد، ألَّا ترى إلى مشاوَرةِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - مع أصحابه في الأذان ولم ينتظر في ذلك وَحْيًا ولا طلبَ منه بيانًا، وإنّما أراد أنّ يأخذ فيه ما عند إصحابه من رَأي يستنبطونَهُ من أصول الشّريعة، ويَنْتَزعُونَه من أغراضها. فلما جاءت الرُّؤيا بنظم الأذَان وسَرْدِهِ، أمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - به (¬5) لكونه أَصْوب الآراء، لما فيه من الخروج عن التَّشَبُّه (¬6) بأهل الكتاب والمجوس، ولما فيه من ذِكرِ الله؛ ولأنّه معنى خُصَّت به هذه الأُمَّة لم يكن لأحدٍ من هذه الأُمَمِ قبلَها، ولله الحمد على ذلك. عربيته: أصلُ الأذان في اللّغة الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬7) أي: إعلام لهم. والعربُ تقول: رأيت فلانًا يعلم، أي يجهر بالصّوت. ومعناه: ¬
الإسماع، قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (¬1) أي: سمعت أمره وطاعته. ومنه الحديث: "مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيءِ ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ يتغنَّى بالقُرآنِ يَجْهَرُ بِهِ" (¬2)، معناه: ما استمعَ لشيءٍ كسماعه له. فائدة (¬3): الأذانُ شعارُ المسلمين، وكلمةُ الدِّين، والفرقُ بين المؤمنين والكافرين. يُسَكَّنُ الدَّهْمَاء وَيَحْقِنُ الدِّماءَ. ثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان إذا غَزَا، فجاءت عَمَايَةُ الصُّبحِ، انْتَظَر، فإن سمعَ أذانًا أمسكَ وإلّا أغار (¬4). وبهذا صار الأذانُ فَرْضًا من فُروضِ الكفايةِ، إذا أذَّنَ مؤذّنٌ واحد في القرية أَجْزَأَ. ولوِ اتَّفَقَت قرية على تركِ الأذان قُوتِلُوا عليه. وقد وقع لمالك - رحمه الله - لفظة تدلُّ على لُزُومه لكلِّ جماعةٍ، وهي قوله في الموطَّأ (¬5): "وإنّما يجبُ النِّداءُ في مساجدِ الجماعات" والّذي نقولُ نحن به: أَنَّ الأَذان (¬6) فَرْضٌ في القرية في الجملةِ، مَتأكّد في كلِّ جماعةٍ، مستحَبٌ للواحد، لحديث أبي سعيدٍ الخُدْريّ: إذا كنتَ في غَنَمِكَ أو بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بالصّلاةِ، فارْفَعْ صَوْتَكَ بالنِّدَاءِ. الحديث (¬7). فحصل من هذا أنّ الأذان من فروضِ الكفاية. وأمّا الإقامة، فتحصيلُ مذهب مالكٌ؛ أنّها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، آكدُ من الأذان عنده وعند أصحابه، فمن تركها فهو يسيرٌ ولا شيءَ عليه. وقال أهل الظّاهر (¬8): هي واجبة، يَرَوْن الإعادة على من تركها عامدًا أو ناسيًا، وهذا لا يُلْتَفَتُ إليه بوَجهٍ. تتميم: قال علماؤنا: الأذانُ سبع عشرة كلمة (¬9)، والاقامة عشر كلمات، كذا رواه ¬
هشام، عن أبيه، عن عائشة. ورَوَى همّام بن يحيى تسع عشرةَ كلمةَ (¬1) مع التكبير في أوَّلِه؛ ولأجل هذا قال ابن شهاب: ما أعرفُ شيئًا ممّا (¬2) أدركتُ عليه النّاسَ إلَّا النّداء بالصّلاة، يريد أنّه لم يتغيّر عمّا كان عليه في الزّمان الأوّل؛ لأنّ الأذان نُقِلَ نَقلَ التَّواتُرِ، نَقَلَهُ الكافَّةُ عن الكافَّةِ. فالأذَانُ شَفْعٌ، والإقامةُ وِتْرٌ، كما ثبت في الصّحاح عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - أنّه أمر بلالًا أنّ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيوْتر الإقامَةَ (¬3). وقال الشّافعيّ (¬4): الإقامة فرادَى، إلَّا قوله: قد قامتِ الصّلاةُ، فانه يقولُها مرَّتين. وفي "مختصر ابن شعبان" (¬5) مثله. وقال الثّوري وسائر الكوفيِّين (¬6): الإقامةُ مَثْنى مَثْنى. وتعلَّقوا بحديث أبي محذورة (¬7)، وهو حديثٌ ضعيفٌ لا يُلْتَفَتُ إليه. وقال علماؤنا: ولا يفصل بين كلمات الأذان، ويؤذّن به على رتبته، ولا يقدّم المتأخر ولا يؤخر المتقدِّم، لئلَّا يخرجَ من حدِّ الإعلام إلى الهَزْلِ واللَّعِبِ، بخلاف الوُضوءِ؛ لأنَّ الوُضوءَ يقدَّم ويؤخَّر ويجزىء؛ لأنّ المقصود بالوُضوء النَّظافة، والمقصود بالأذان الإعلام. وأَن يكون على صورته الّتي كان عليه النّاس من وقتِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى الصّحابة والتّابعين. حديث يحيى، عن مالكٌ (¬8)، عن ابنِ شِهَاب، عن عَطَاء بن يزيد اللَّيْثِيِّ، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال: "إذا سَمِعْتُمُ النِّداءَ فقولوا مِثْلَ ما يقولُ المؤذِّنُ" الحديث. قال الإمام: هذا حديثٌ مسنَدٌ صحيحٌ، اتّفق عليه الأيِمَّة (¬9)، إلّا أنهم اختلفوا في تأويله على ستّة أقوال: ¬
القول الأوّل - قال قوم: هو على الوُجوبِ. والقول الثّاني - قال قوم: إنه على الاستحباب والنَّدبِ. واحتجُّوا بما رواه مسلم (¬1) وانفرد به، قال: كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسمع مناديًا ينادِي وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "على الفطرة"، فقال: أشهدُ أنّ لا إله إلا الله. فقال رسول الله: "خَرَجَ من النارِ"، فابْتَدرناه، فإذا هو صاحب ماشية أَدْرَكَتْهُ الصَّلاة فَصلَّى. قال علماؤنا: فيِ هذا نكْتَةٌ بديعةٌ، فقالوا: هذا رسولُ الله يقولُ بخلافِ ما يقولُ المؤذِّن، فأين قوله: "فقُولُوا مثلَ ما يقولُ المؤذِّن" فيخرج من هذا أنّه على النَّدْب لا على الإيجاب. وقالت طائفةُ: يقول الرَّجُل مثل ما يقول المؤذِّن، وحملوا الحديثَ على ظاهِرِه وعُمُومِه. وقالت طائفة أخرى: إنّما يقول ذلك في الشّهادتين، ويقول في موضع: حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله. على ما جاء في حديث معاوية (¬2)، قالوا: وهذا مُفَسِّرٌ لحديث أبي سعيد؛ لأنَّ معاوية كان إذا سمع "حيّ على الصّلاة" قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله العَلِىِّ العظيم. فتأوّل علماؤنا في ذلك تأويلين: الأوّل: أنّه إنّما كان يقول ذلك لأنَّ "لا حَوْلَ ولا قُوَةَ إلَّا بالله" هي مفتاحٌ من مفاتِح الجنَّة. والتأويل الثّاني: أنّ معنى "حى على الصّلاة" أنّه ليس في حَوْلي ولا قُوَّتي الإتيان إلى ما يدعو إليه (¬3) هذا العبد، إلَّا بحَوْلكَ وقُوَّتك، وأنّ ذلك ليس من حَوْلِي ولا قوّتي، وهذا بديعٌ جدًّا. وقال مالك: إنّما ذلك فيما يقعُ في نفسي إلى قوله أشهدُ أنّ محمدًا رسول الله، ¬
ولو صنعَ صانعٌ لم أَرَ به بَأسًا (¬1). قيل: معناه لو صنع هذا الّذي وقعَ في نَفْسي صانعٌ لم يُؤثَم به. تفريع: واختلفَ النَّاسُ هل على الرَّجلُ إذا صلّى نافلة وسمع (¬2) المؤذّن، أنّ يقول مثل ما يقول المؤذّن، أم لا؟ فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: القولُ الأوّل: قال العراقيّون: المستحبُّ ألاّ يحكيه في قوله: "حيّ على الصّلاة" لأنّه دَعَا إليها. القولُ الثّاني: قال ابنُ القاسم: من كان في صلاة نافلةٍ فإنّه يحكيه إنّ شاء، ومنع منه في الفريضة. وقال ابن وهب: يحكيه في الفريضة والنّافلة. وقال سحنون: لا يحكيه لا في فريضة ولا نافلة، وخالفه عبد الملك بن حبيب في ذلك. وقال سحنون: إذا كان في قراءة تَمَادَى في قراءته ولا يحكيه؛ لأنّه إنّ حكاه خلط عبادةً بعبادةٍ. قلنا: والصّحيحُ ما قاله سحنون، وهو مذهب مالكٌ الّذي لا خلافَ عنه فيه، خلاف (¬3) ما رواه ابن شعبان وأبو مصعب (¬4) عن مالكٌ؛ أنّه يقوله في الفريضة والنّافلة، وهو قول ابن وهب واختارَه ابن حبيب. وحجّة سحنون أقوى، وهو مذهب الشّافعيّ (¬5)؛ لأنّ سحنونًا رأى أنّه أُرِيدَ بالحديث مَنْ ليس في صلاةٍ. وحجّةُ الشّافعيّ: أنّ المؤذّنين يؤذّنون يوم عَرَفَة والإمام في خطبته، فلا يقول مثل ما يقولون ويَتْرُك ما هو فيه، فالمصلِّي أَوْلَى بذلك. وقال الطّحاوي (¬6): ولم أجد لأصحابنا في هذا نصًّا جليًّا. غير أنّ أبا يوسف قال: من أذَّنَ في صلاته عامدًا بطلت صلاته (¬7). وهذا مذهب أبي حنيفة. ¬
وقال بعض الفقهاء (¬1): القياسُ (¬2) أنّه لا فرق بين المكتوبة والنّافلة في هذا الباب؛ لأنّ الكلام يحرمُ فيهما على المصلّي، فلا يقول: حيّ على الصّلاة؛ لأنّه كلام، والكلامُ يفسدُ الصّلاة. وقال ابن الموّاز: من قاله في صلاته عامدًا، أو قال: الصّلاة خيرٌ من النّوم، أنّها تفسد صلاته. تكملة: فإن قال قائلٌ: ما مِنَ الاذانِ للهِ، وما منه للناس، وما منه للرّسول، وما منه للمؤذِّن. قلنا (¬3): أمّا ما منه للمؤذِّن: فالله أكبر الله أكبر. ولله وَحْدَهُ: أشهد أنّ لا إله إلا الله. وللرسول: أشهدُ أنّ محمّدًا رسولُ الله. وللنّاس: حى على الصّلاة حيّ على الفلاح، لرسول الله وللنّاس (¬4). حديث: حدثني يحيى عن مالك (¬5)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: " لَو يَعْلَمُ النّاسُ مَا في النِّدَاء وَالصَفِّ الأوَّلِ، ثُمَ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيهِ لاَستَهّمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبوًا". قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬6)، خرّجه الأيمّة. والكلام في هذا الحديث يشتمل على سبع مسائل: المسألة الأولى: قوله: "لَوْ يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ" إلى آخره. قال الإمام: أمّا فضلُ النِّداء فمعلومٌ، وأحاديثُه كثيرةٌ جدًّا، ليس هذا موضع ذِكرِها. وأصوله أربعة: ¬
أولّها: الحديث المتقدِّم (¬1). الحديث الثّاني: حديث أبي سعيد الخدري، قال له: أراكَ تحبُّ الغَنَم والبادية، فهذا كنتَ في غَنَمِكَ أو بَادِيتَكَ فأَذَّنْتَ بالصّلاةِ، فارْفَع صوتَكَ بالنّداءِ، فإنّه لا يسمَعُ مَدَى صوتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ ولا إنْسٌ، ولا نسيءٌ، إلَّا شَهِدَ له يَوْمَ القيامةِ (¬2). الحديث الثّالث: في "مسلم" (¬3): المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه معاوية عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. الحديث الرّابع: روى التّرمذي (¬4) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -:"ثلاثةٌ على كُثبَانٍ من مِسْكٍ، أُرَاهُ، قال يومَ القيامةِ، يَغبطُهُمُ الأوَّلونَ والآخِرُونَ: رَجُلٌ ينادِي بالصّلوات الخَمْسِ كلَّ يومٍ وليلةٍ، ورَجُلٌ يَؤُمُّ قومًا وهم له رَاضُونَ، وعبدٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وحقَّ مَوَالِيهِ". عربية: الكُثبان: الكَثِيبُ المشرِفُ، والجمع كُثُبَان، والغِبْطَةُ: حُسْنُ الحالِ، ورجلٌ مغبوطٌ: إذا كان حسن الحالِ فيجبُ أنّ يكون مثله في حسن عبادته وطريقته، فذلك الغِبْطَة. وقوله (¬5): "الصَّفُ الأوَّلُ" ليس فيه أثرٌ صحيحٌ يُعَوَّلُ عليه، حاشا قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "خَيرٌ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا" (¬6) وقوله: "لِيَلِيَني مِنْكُمُ أُولُوا النُّهَي وَالأحْلاَمِ" (¬7) وهي أربع مراتب (¬8): الأولى: السَّبْقُ إلى المسجد ودخول الصَّفِّ الأولِ، وهو أفضلُها. ¬
ثانيها: تأخَّرَ إقباله، وصلَّى في الصَّفِّ الآخر (¬1)، فذلك شرُّها. ثالثُها: سَبَقَ إلى النِّداء لكنّه صلّى في الآخر. رابعُها: تأَخَّر عن إجابة الدَّاعي، فلمّا جاء المسجد دخل في الصَّفِّ الأوّل، قال العلماء: هما سواء. وعندي أنّ الرّابع أفضل من الثّالث، وفي ذلك تطويل لا يطال فيه النَّفَس في مثل هذا القَبَس. وأمّا قوله (¬2): "لاستَهَمُوا عليه" فَيتصوَّرُ الاستهامُ في الصَّفِّ الأوّل عند ضَيقه وإقبال الرَّجُلَين إليه في حالة واحدةٍ. فإن كان أحدهما أفضل فالموضعُ له، وإن تساوَت حالهما وتَشَاحَّا (¬3)، أقرع بينهما. وأمّا تَصَوُّرُ الاستهام في الأذان فمُشْكِلٌ، وقد اختصم قومٌ بالقادسيّة في الأذَان، فأَقرع بينهم سَعْد (¬4)، وهذا إنّما يكون بشرطين: أحدُهما: أنّ يتساوَيَا في الأَمانة (¬5)، قال النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الإمَامُ ضَامِنٌ، وَالمُؤَذِّنُ مُوتَمَنٌ" (¬6). الشّرطُ الثّاني: أنّ يكون صاحب الوقت، فهكذا يكون الاستهام إذا وقع التّشاحُّ. فهذا أذّن أمينُ الوقتِ، أَذَّنَ بعدَه من شاء من غير حَجْرٍ. ويُتَصَوَّرُ الاستهامُ أيضًا في صورة أخرى، وهي صلاة المغرب، فإنّه ليس لها إلَّا وقت واحد، كذلك لا يؤذِّن لها إلا مؤذِّنٌ واحدٌ. أمّا فضل التّهجير، فليس فيه حديثٌ صحيحٌ في الشّريعة، بل إنّه رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال:"أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ" (¬7) وفي الحديث الصّحيح فيه جملة كافيةٌ، وهي قولُه: "لا يزال أحدُكُم في صلاةٍ ما كان ينتظرُ الصَّلاةَ" (¬8). ¬
وأمّا فضلُ العَتَمَة والصُّبْح، ففيهما أحاديث صحاح كثيرة، أمّهاتها أربعة أحاديث: الحديث الأوّل - قولُه - صلّى الله عليه وسلم -:"لولا أنّ أَشُقَّ على أُمَّتِي لأخَّرتُ العِشَاءَ إلى شَطْر اللَّيْلِ" (¬1). الحديث الثّاني - قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَثْقَلُ صلاةٍ على المنافقينَ العَتَمَةُ والصُّبْحُ" (¬2). وهذا صحيح، لا يَنْشَطُ لهما إلا منشرح (¬3) الصّدر، خفيفٌ إلى العمل الصّالح، ثقيلٌ عن دواعي البِطَالة والرَّاحة. الحديث الثّالث - قوله: "يتعاقبُونَ فيكم ملائكةٌ باللّيلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ، إلى قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬4) " (¬5) نكتةٌ (¬6): واعلم أنّ الصّبح فاتحة الكتاب، وسيَّدُ الأعمال (¬7)، كما أنّ العَصْرَ والعَتَمَةَ خاتمة الصحائف، وربّما إذا صلّى العَتَمَةَ لم يصلِّ بعدَها أبدًا. الحديث الرّابع: حديث عثمان، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، أنّه قال: "مَنْ صلّى الصُّبْحَ في جماعةٍ، فكانَّما قامَ ليلةً، ومَن صلَّى العَتَمَةَ في جماعةٍ، فكأنّمَا قام نصف لَيلِهِ" (¬8)، فمَنْ عَلِمَ هذه الفَضَائلَ يقين علمها (¬9)، وقدَّرَهَا حقَّ قَدْرِها، سعَى إليها حَبْوًا وحَبْيًا، وجاء إليها يستقلٌّ (¬10) تارةً ويكبوا أُخْرَى، وما توفيقنا إلَّا بالله. ¬
حديث أبي سعيد الخدري (¬1): قولُه: "إِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ، فَارفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلَّاشَهِدَ لَهُ يَومَ الْقِيَامَةِ". قال الإمام (¬2): فإن قيل: وهل تعقلُ الجمادات حتّى تقول أو تسمع أو تشهد؟ بَيَّنُوا لنا هذا الإشكال؟ الجواب؛ إنا نقول: ممّا يجبُ أنّ تعلَمُوهُ من أصول الدِّين، وتعلموهُ في الفَرْقِ بين كَفَرَةِ الأطِبَّاء والمؤمنين، أنّ الكلام ليس بالهيئة، ولا العلم موقوفٌ على البنية، ولا هو مرتبطٌ بالرُّطوبة والبِلَّةِ، وإنّما البارئ سبحانه يخلُقُه متى شاء في أيِّ شيءٍ شاء من جمادٍ أو حيوان. ألَّا ترى أنّ المرءَ في حالِ نَوْمه لا يعلم ولا يتكلّم حتّى يَهَبه الله بإِذْنِهِ ويخلُق له ما يشاء من علمه، أَوَلَا ترى الطفل على الحالة الّتي أخبر في قولِهِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬3) كيف يعلّمه الثَّدْي، ويخلُق له العلم بالقَبْض عليه ليَمُصّه، ويلهمه إلى ازدراده، ويُعَرَّفه بقَدْرِ الحاجةِ منه، حتّى إذا انتهى إليها أَخرج الثَّدْيَ عن فِيهِ. والَّذي يخلُق هذه العلوم كلها للمولود، يخلُق ما شَاءَ منها في الجماد. وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّي لأعْرفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَن أُبْعَثَ، يَقُولُ: السَّلامُ عليكَ يا نبىَّ الله" (¬4). وَقال - صلّى الله عليه وسلم -: "لن تقومَ السَّاعةُ حتّى تُكَلَّمَ الرَّجُلَ شِرَاكُ نَعْلِهِ وَعَذَبَةُ سَوْطِهِ، وتُخْبِرَهُ بما صَنَعَ أهلُهُ من بَعْدِهِ" (¬5). وقد تكلّم الثّور للرَّجُلِ حين حمل عليه فقال، لم أُخْلَقْ لهَذَا، إنَّمَا خُلِقتُ للحَرْثِ (¬6) ولن تقوم السّاعة حتّى تتكلّم السِّباع والحيوانات كلّها، وتظهر الحقائق الخفيّة الّتي هي الآن معلومة عند المؤمنين، لما قدّمناه من الأدلّة. وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "العبدُ الفاجرُ يَستريحُ منه العبادُ والبلادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ" (¬7) وراحَتُها منه إنّما هي بأنّ الكفَر ¬
والذّنوب تَحِلُّ بالخَلْقِ العقوبات، فيلحق الضَّرَر لكلّ أحدٍ من النّاس، ولِكُلِّ مخلوقٍ من الشّجر والدّوابَّ، حتّى إِنه ليتَعَذَّر على البهيمة شربُ الماءِ ورعي النّبات بذنبِ العبدِ، إمّا بعَدَمِ القَطْر، وإمّا أنّ يكون موجودًا فَيُصَدُّ عنه. فما يكون من أَذانٍ وتلبيةٍ أوَ ذِكْرِ الله؛ فإَنّ البارىء تبارك وتعالى يخلُق به العِلْمَ لكلِّ شيءٍ إنّ شاء في الحين، ويكون مُدَّخَرًا (¬1) لوقتِ الحاجة. وإن شاء أنّ يعلِّمَهُم بذلك وقت الحاجة ويُقَدِّرَهُ عندهم، وذلك كلّه بتدبير الحكيم، وتقدير العزيز العلم. فَمَهِّدُوا لأنْفُسِكُم سبيل هذه العقائد، ووطِّنُوها على تحصيل هذه المعارف، فإنّها أصل من أصول التّوحيد. عارضة (¬2): قال الإمام: حديث عبد الله بن زيد (¬3) لم يصحّ له إلَّا هذا الحديث الواحد (¬4). والحديث الّذي فيه "القرن" صحيح أيضًا خرجّه الأيِمَّة (¬5). اللُّغة (¬6): قال: "قَرْنًا مِثل قَرْنِ اليَهُودِ" وفي كتاب أبي داود (¬7): "قنعًا" ورُوِي "قُبْعًا" وكلّه يرجع إلى القرن، والقاف والنّون فيه أصحّ، من قولهم: أقنع، إذا رفع الرّجُل رأسه (¬8). الفقه (¬9): الأذانُ من شعائر الدِّين، يَحّقُنُ الدِّماء ويُسَكِّن الدَّهماء، كان النّبيُّ عليه السّلام إذا سمعَ النِّداء أمسكَ، وإلا أَغارَ. فهو واجبٌ في البَلَدِ والحيِّ، وليس بواجبٍ في كلِّ مسجد، ولا على كلِّ فذٍّ، ولكنّه مستحبٌّ في مساجد الجماعات أكثر ممّا يستحبُّ في الفَذِّ. وقال عطاء: لا تجوز صلاة بغير أذان. وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنّه ليس في ¬
فرضيَّتِهِ أثرٌ صحيحٌ وفائدته: اجتماع النَّاس وتيسير الإقبال. وفضائله: أنّه يطرد الشّيطان، ويؤمّن الجبان، فمن فَزِعَ فليؤذِّن، ويجابُ بحضرته الدُّعاء؛ لأنّه لا تفتح أبواب السّماء إلَّا عند الأذان. نكتةٌ في حكمة الأذان وفائدتُه (¬1): الإعلام بالصّلاة بِذِكر الله وتوحيده وتصديقِ رسوله. الفائدة الثّانية (¬2): تجديدُ التّوحيد، فإنّها ترجمةٌ عظيمة من تراجم لا إله إلَّا الله (¬3). الفائدة الثّالثة (¬4): طردُ الشيطان، ولذلك روى مسلم (¬5) فيمن فَزِعَ في خَلوةٍ وخاف التّغويل أنّه ينادي بالصّلاة. وظنَّ بعضُ الجَهَلَةِ أنّه قول: "الصّلاة الصّلاة" وهي غَفْلَةٌ وَوَهْلَة، بل ينادي بها وإن لم يكن وقت الصّلاة؛ فإن الوعيد بِحُصَاصِ الشّيطان إنّما هو لصوت (¬6) الأذَانِ (¬7). حديثُ "الإمامُ ضامِنٌ والمؤذِّنُ مُوتَمَنٌ" هو حديثٌ قد تكلَّم النّاسُ فيه. ذكره الترمذي (¬8)، وصَحَّحَهُ البخاريّ (¬9) وغيره (¬10). ضعَّفه علي بن المديني (¬11) وقد خَرَّجَهُ ¬
أبو داود (¬1)، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. فمَنْ وثَّقَ الأَعمش صحّح الحديث، وما كان الأعمش ليستجيز الكذب على رسول الله، ولا على عائشة، والحقّ تصحيحُه. أصوله وعربيته (¬2): اختلف العلماء في معناه، فقيل معنى قوله: "الإمامُ ضَامِنٌ" أي: راعِ، والضّمانُ في اللّغة: الرِّعاية، وهذا (¬3) ضَعِيفٌ؛ لأنّ الضَّمان في اللّغة إنّما يكون بمعنى الرِّعاية، أو بمعنى الحِفْظ (¬4)؛ وأمّا موقعه في الشّرع واللّغة، فهو الالتزام (¬5). ويأتي أيضًا بمعنى الوِعاء؛ لأنّ كلّ شيءٍ جعلته في شيءٍ فقد ضمّنته إيّاه. فإذا عرف معنى الضّمان، فإنّ ضمان الإمام لصلاة المأموم هو التزام شروطها، وحفظ صلاته في نفسها؛ لأنّ صلاة المأموم تنبني على صلاة الإمام، فإن أَفْسَدَ صلاته فسدت صلاة من ائتمَّ (¬6) به، فكان غارمًا لها. فإن قلنا: إنّه بمعنى الوِعَاء، فقد دخلت صلاة المأموم في صلاة الإمام، لِتَحَمُّلِ القراءة عنه والقيام، إلى حُسْنِ (¬7) الرّكوع والسّجود والسّهو، ولذلك لم تجز صلاة المتنفَّل خلف المفترض؛ لأنّ ضمان الواجب بما ليس بواجب محالٌ. وهذه فائدة. قولُه (¬8): "اللهم أَرْشِدِ الايِمَّةَ واغفِرْ للمُؤَذِّنِينَ" فإنهّم إذا (¬9) رَشِدُوا بإجراء الأمور على وجوهها، صحّت عبادتهم في نفسها. "واغْفِرْ للمؤَذِّنين" يعني: ما قَصَّرُوا فيه من مُراعاة الوقتِ بتقدُّمٍ عليه أو يَأَخُرٍ عنه. وقد كنتُ أمليتُ في معنى هذا الحديث وتحقيقه "جزءًا" رأيت أنّ أذكر لكم منه أُنْمُوذَجًا تعتمدون عليه، وهو أنّ تعلموا أنّ النَّاس اختلفوا في معنى الضّمان شرعًا: ¬
فقيل: هو التزام ما على المضمون. وقيل: التزام مثله. والأدلَّةُ متعارضة، وفروعُ المذهبِ فيه مضطربةٌ، والصّحيحُ أنّه التزام مثله. فإن قيل: فأين هذا المعنى في هذا الحديث (¬1)؟ قلنا: قد ألقينا إليكم أنّه متى ورد في الشّريعة لفظٌ فاجروه على حقيقته، فإن لم يكن ذلك بدليلٍ يعارِضُه، فاحملوه على مَجَازِهِ. فإذا عُلِمَ هذا، فلا يمكن أنّ يحمل الإمام عين (¬2) صلاة المأموم، ولا يحمل (¬3) مثلها أيضًا لوجهين: أحدهما: أنّه يلزمه كما يلزمه، ولم يأت أنّها تسقط عنه بفعله، فزال عن (¬4) الحقيقة إلى المجاز. ووجه المجاز: منه (¬5) متَّفقٌ عليه، ومنه مختلف فيه، فالمتَّفقُ عليه: حملُ السَّهْوِ والقراءة في المسبوق بالقيام إذا أدرك الرُّكوع. والمختلَف فيه: حمل القراءة، ولأجل هذا لم تصحّ صلاة المفترض خلف المتنَفَّل، ولا جازتِ الإمامة من مختلفِي الفَرْض؛ لأنّه لا يصحّ الضّمان مع الاختلاف في الأصل والوصف، والله أعلم. حديث: قوله: "صَلُّوا عَلَيَّ، ثمَّ سَلُوا اللهَ لي الوَسِيلَةَ، فَمَنْ سألً لي الوَسِيلَةَ حَلَّت عليه شَفَاعَتِي" (¬6) يعني (¬7): غُفرَان الذنوب (¬8). وتحلّ عليه الشّفاعة بالإيمان بها والتّصديق بمقتضاها وتأكيد السؤال بها (¬9)، ومع هذا بخلوص التّوحيد يدخل الجنّة، كما في حديث عمر (¬10)، وفي حديث جابر (¬11) صفة الأذان والدّعاء وفيه الوسيلة، وقد تقدّمت الإشارة إليها. ¬
العربية: قال الإمام الحافظ: الوسيلةُ فعيلة، وهي التَّوسُّل، وهو التَّعلُّق بالأسباب المُحَصَّلة للأسباب. وهي غاية لا تُدْرك؛ لأنّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بَيَّنَ أنّ الوسيلةَ هي درجة في الجنّة، وأقرب المنازل إلى الله، وأعلى الغايات. الأصول: قوله (¬1): "والدَّعْوَةُ التّامَّة" قال علماؤنا هي: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، وتمامُها أنّها رحمة الدِّين حيثما وَصَلَت، فدعوتُه عامّة، ورحمتُه خاصّة وعامّة. وقوله (¬2):"الصَّلاة القَائِمَة" معناه: الدّائمة، وتكون من الملائكة على العموم، ومن الآدميَّين على الخصوص لمن وُفِّقَ لها ويُسَّرَت (¬3) له، حسب ما بيّناه في "تفسير القرآن". مزيد بيان: قلنا: ويحتمل أنّ يريد بقوله: "الدَّعوة التّامّة" أنّها ماضية نافذة لا مدّة لها (¬4) حتّى تبلغ غايتها. قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "والله لَيتُمَّنَّ هذا الأمرَ، حتّى تَسيرَ الظَّعِينَةُ (¬5) من مكَّة إلى الحَرَّة (¬6) لا تخافُ إلا الله" (¬7). ويحتمل أنّ يريد به: حتّى يدخل فيه من أنكره ويقرّ به من أباه، وآخره نزولُ عيسى بن مريم، ولا يبقى كافر، والله أعلم. حديث معاوية: "المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ الناسِ أَعناقًا يومَ القيامةِ" حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، خَرَّجَهُ مسلم في كتابه (¬8)، ولم يُخَرَّجْهُ البخارىّ لوجهين: ¬
إمّا أنّه لم يصله. وإمّا في طريقه من لا يأمنه ولا يثقه. شرحه وعربيتّه (¬1): قال الإمام الحافظ: يُرْوَى بكسر الهمزة وفتحها (¬2)، فإذا فُتِحَت كان جمع عُنُق، يريد: تطُول أعناقهم على الحقيقة، وأنّهم يزيدون (¬3) على الخَلْقِ بطُولِ الأعناق حتّى يظهر أمرهم وفَخْرهم، كما علوا عليهم في الدُّنيا في المنارات. أو يريد أنّهم آمِنون لا يخافون، فهم لا يتطأطئون ولا يستحذون (¬4)، وهو مجاز حَسَنٌ. وإن كَسَرَ الهمزة يريد به: العَنَق، ضرْبًا من السَّير، يعني: سرعتهم إلى الجنّة قبل غيرهم. وقيل "أطول النّاس أعناقًا" قيل: هم أعظم النّاس تَشوُّفًا إلى رحمة الله (¬5). حديث يحيى عن مالكٌ (¬6)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا نُودِيَ للصّلاة أَدْبَرَ الشّيطانُ، له ضُرَاطٌ، حتَّى لا يَسْمَعَ النِّدا" فإذا قُضِيَ النِّداءُ أقبلَ، حتّى إذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حتّى يَخْطِرَ بينَ المَرْءِ ونفسه ... " الحديث. أصوله (¬7): قال علماؤنا: هذا الحديث يحتمل الحقيقة والمجاز جميعًا. أمّا الحقيقة فليس يستحيل أنّ يكون للشّيطان حُصَاصٌ -وهو الضُّراط- لما بيَّنَّاه من قبلُ، وذكرنا أنَّه (¬8) جِسْمٌ من الاجسام مؤتلف من طعامٍ وشرابٍ، وفي بعض طُرُقِ الحديث: "إنَّ الشّيطان حسَّاسٌ" (¬9) أو"جَسّاس" أو"لحّاس" فلا يمتنَع أنّ يكون له حُصَاصٌ، لا سيّما وهو أذل له في الفرار وأبلغ لدخول الرُّعْبِ في قلبه، حتّى لا يملك نفسه من خوف ذِكْر الله. ¬
وفي الحديث "لا يَقُولنّ أحدكُم: أَخْزَى اللهُ الشيطان، فإنّه إذا سمع ذلك تعاظَمَ حتّى يصير كالجَبَلِ. وليَقُل أعوذُ بالله من الشيطان، فإنّه إذا سمع ذلك تَضَاءَلَ وتَصَاغَرَ" (¬1)، وهذا حديث صحيحٌ؛ لأنّ الله تعالى قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬2) فما أَثَّر ذلك فيه، فكيف يسأل عن اللّعنة من غير الله (¬3). وأمّا المجاز في معنى الحديث فهو متَّسَعٌ، ويكون أيضًا استعارةً وعبارةً عن فراره ذَليلًا خَاسِئًا، كما يفرُّ العَيرُ الضّروط. وقولُهُ: "حَتَّى يَخْطِرَ بين المرءِ وقَلْبِهِ، أَوْ قالَ: ونَفْسِهِ " يعني بذلك الوسوسة، وهذا أمرٌ مِنَ الله مكّنَ اللهُ منه الشّيطان في الإنسان، وجعل دَوَاءَهُ الاستعاذَة، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الآية (¬4). وهذا ما لم تتمكّن الشّهوات في القلوب، ولم تختلج (¬5) المعاصي في النُّفوس، ولا ارتبطت العلائق بالهَوَى حتّى غلبت (¬6) النّفس، فليس دَوَاؤُها حينئذٍ الاستعاذة، وإنمّا تنفعُ فيها التّوبة، بحَذْفِ الشّهوات وقطع العلائق، والاستبصار بالحقائق. مزيد إيضاح (¬7): فإن قيل: فما معنى هروبه عند الأذان؟ ولا يهرب من (¬8) الصّلاة الّتي هي معظم الذِّكر لأنّ فيها قراءة القرآن؟ قلنا: للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأوّل: إنمّا يَهْرُبُ ويَفِرُّ من اتِّفاق الكُلِّ على الإعلان بشهادة التَّوحيدِ، وإقامة الشّريعة، كما يفعلُ يوم عَرَفَة؛ لما يرى من الرَّحمةِ، فأصغر ما هو في ذلك اليوم. ¬
القولُ الثاني - قال بعضُ علمائنا (¬1): إنمّا يهرُبُ عند التأْذِينِ لئلًا يشهد لابْنِ آدم بشهادة التّوحيد، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يَسْمَعُ مَدَى صوتِ المُؤذِّنٌ ولاَ إِنْسٌ ولا شيءٌ، إلّا شَهِدَ لَهُ يومَ القِيامةِ" (¬2)، فَيَفِرُّ لئلّا يشهد له بالشّهادة، وهذا ضعيفٌ لا يُلْتَفَتُ إليه. القولُ الثّالث - قيل: إنّما يَفرُّ من الأذان لأنّه دُعِيَ إلى الصّلاة الّتي فيها السُّجود الّذي أباه وخَالَفَهُ. قلنا: وليس هذا أيضًا بشيٍ؛ لأنّه أخبر عليه السّلام أنّه إذا قُضِيَ التَّثْوِيب أَقْبَلَ يُذَكَّرُهُ ما لم يَذْكُر حتّى يخلط علَيه صلاته. وكان فراره من الصّلاة الّتي فيها السّجود أَوْلَى لو كان كما زعموا، ولكن هذا الحديث يردُّ عليه ورُوِيَ عن جابر بن عبد الله؛ أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "إذا نَادَى المؤذِّنُ بالأَذانِ هربَ الشَّيطانِ حتّى يكون بالرَّوْحَاء" وهي ثلاثون ميلًا من المدينة (¬3). فائدة معنوية: قوله في الحديث (¬4): "اذكُر كَذَا وَكَذَا" فيذكِّره أمور الدُّنيا ليفسد عليه الصّلاة ويُحْرمهُ الإخلاص فيها. وقال علماؤنا (¬5): في هذا الحديث من الفقه: أنّه من نَسِيَ شيئًا وأراد أنّ يذكُرَهُ، فَلْيُصَل ويجهد نفْسَهُ فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدّنيا، فإنّ الشّيطان لابدّ أنّ يذكَّره (¬6) أمور دُنْيَاه، ليصدَّهُ عن الإخلاص في صلاته، ولأجل هذا قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى ركعَتَيْنِ لا يُحَدِّث فيها نَفْسَهُ بشيءٍ من الدُّنيا غُفِرَ لَه" (¬7). حُكيَ عن أبي حنيفة؛ أنّ رَجُلًا أتاه وقد كان دَفَنَ مالًا وغابَ عنه سنينَ كثيرة، ثم قدم فطلبه، فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة مُتبَرِّكًا برأيه ورغبة في فضل دُعائه، فأعلمه بما دار عليه في ماله، فقال له أبو حنيفة: يا أخي صلَّ في جَوْفِ اللَّيل ¬
وأخلص نيّتك لله، ولا تجد على قلبك شيئًا من أمور الدّنيا، وعَرِّفْنِي بأمْرِكَ. قال: ففعل الرَّجُل ذلك، فَذَكَر في صلاته مكان المال. فلمّا أصبحَ، أتى أبا حنيفة فأعْلَمَهُ بذلك، فقال له بعض جُلَسَاءِهِ: مِنْ أينَ دَلَلْتَهُ على هذا؟ فقال: استدللتُ على هذا بالحديث، وعلمتُ أنّ الشّيطان سيرضَى أنّ يُصَالِحَهُ بأن يذكِّره بموضع المال ليمنعه الإخلاص في صلاتِهِ، قال: فعجبَ النَّاسُ من حُسْنِ استدلاله (¬1). حديث: قوله (¬2) "سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبوابُ السَّمَاءِ". قال الإمام (¬3): في هذا الحديث دليلٌ على أنّ أبواب السّماء مُغْلَقَة، وكذلك أبواب الجَنَّة لا تُفتَح إلّا لسببٍ، من عروجِ أمرٍ أو نزولِ قضاءٍ أو ما شاء الله. والبارىء سبحانه هو الّذي يسمع الأقوال، وهو الّذي يرفع الأعمال، وهو الّذي يقبل الدُّعاء. وقد جعلَ لذلك علامات، وقرنَهُ بأسبابٍ، وخَصَّ به أَوْقَاتًا، منها حَضرَةُ (¬4) الصّلاة. ومنها الاصطفاف عند القتال. فينبغي أنّ تغتنم تلك السّاعة وأمثالها، فإنّها متهيئة للقَبُولِ. وخصائصُهُ (¬5) وجماعها عشرون خصلة، وثمرتها الإجابة، وكلُّ دعاء مَقْبُولٍ لقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية (¬6). لكنّ الإجابة على ثلاثة اوجه: إمّا أنّ تُقضى له حاجتهُ الَتي عَيَّنَ. وإمّا أنّ يُعَوَّضَ خيرًا منها ممّا لم يعلم الدّاعي قَدْرها، ولو عَلِمَهُ الدّاعي لَرَضِيَ بالبَدَلِ. وإمّا أنّ تدَّخَر له إلى الآخرة، كذلك هو نصّ الحديث عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7)، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} الآية (¬8)، وسيأتي الكلام عليه وشرحه في أبواب الدُّعاء إنّ شاء الله. ¬
الفقه (¬1): إعلموا أنّ الأذان إنّما وضع كما بينّاه للإعلام بالوقتِ، فلا يكون إلَّا عند دخول الوقت، ولم يُشْرَع الأذانُ في الدِّين للنّوافل، وإنّما شرع للإعلام بوقت الفرائض، خَلَا صلاة الصُّبح، فإنّه يُنَادَى لها قبل وقتها بقليلٍ، ليتأهّب النّاس لها وتوقع (¬2) في وقتها. وقد غلا في ذلك بعضى الرُّواة (¬3) فقال:" يُؤَذّنُ لها عند الفراغ من العَتَمَةِ". وقيل: يؤذّن لها إذا انتصف اللّيل (¬4)، أو ثُلُثَه، وهذا كلّه ضعيفٌ؛ لأنّه ليس في هذه الأوقات صلاة فريضةِ، وإنّما هي أوقات فضيلة، ولم يشرع لها أذان، فلا ينبغي أنّ يُلْتَفَتَ إلى ذلك. كيفية الأذان (¬5): قال الإمام: اختلفتِ الرِّوايات في كيفيته عنِ النّبيَّ صلّى الله عليه من طُرُقٍ مرويّةٍ عن بلال وسَمُرَة وسَعْدٍ وأبي مَخذُورةَ، برواياتٍ لا يُعَوَّلُ على أكثرها، إلَّا ما رواه مالكٌ في "موطّئه "، وذلك أنّ مالكًا عوَّلَ على نقل أهل المدينة وعملهم (¬6)، وقد نقلَ الأذان سبع عشرة كلمة نقلًا متواترًا (¬7)، ولذلك قال (¬8):"لا أعرفُ شيئًا ممّا أدركتُ عليه النَّاسَ، إلَّا النَّداءَ للصّلاةِ" وكذلك نَقَلَتِ الإقامة فُرَادَى، هذا نقل أهل المدينة، فلا يُعَوَّل إلَّا على مذهب مالكٌ في هذا المعنى. توقيت (¬9): قال النّبيُّ صلّى الله عليه: " إذًا أُقيمتِ الصّلاةُ فلا تقوموا حتّى تَرَوْني" (¬10). ¬
قال الإمام الحافظ: لا يكون هذا إلَّا إذا كان الإمامُ غائبًا، فإن كان حاضرًا، فقال مالكٌ (¬1): ليس في ذلك حدٌّ معروفٌ، وإنمّا ذلك على قَدْرِ حال النَّاسِ. وقال غيره: وقت القيام عند قوله: قد قامت الصّلاة، وإنّما أخذوها من هذا اللّفظ، والله أعلم. تأصيل (¬2): انفرد مالكٌ - رحمه الله - عن الفقهاء بأنه لا يصلَّى في مسجدٍ واحدِ بجماعةٍ مرَّتين، وذلك أصلٌ من أصول الدِّين، وذلك أنَّ الجماعة إنّما شُرِعَت في الصّلاة لتآلُفِ القلوب، وجَمْعِ الكلمة، وإصلاح ذاتِ البَيْنِ، والتّشاور في أمور الإسلام، فلا تكون إلَّا واحدة، ولو طرق فيها إلى التبعيض والتّشتيت (¬3)، لانفسد هذا النّظام، وتنافَرَتِ (¬4) القلوب، وافترقت الكلمة، وتوصَّلَ أهل البدعة والنِّفَاقِ إلى الانفراد بآرائهم (¬5)، وإلى الدّاخلة على أهل الإسلام في دِينهم (¬6)، من تفريق الكلمة وتشتيت الجماعة، حتّى لو وقع بين أهل قرية كلامٌ، وأراد رجلٌ ان يَسْتَدْعي جيرانه لبناءِ مسجد ينفرد به (¬7)، لم يجز، ويُمنَع من ذلك ويُهْدَم عليه ويردّ إلى أصحابه؛ ولذلك هدم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مسجد الضّرار. معارضة (¬8): وقعَ في التّرمذيّ (¬9) عن أبي المُتَوَكِّل النَّاجي (¬10)، عن أبي سعيدِ الخُدْريّ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى المسجدِ وقد صلَّى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ مع ¬
هذا؟ " فقام رَجُلٌ فصلَّى معه. وروى أبو داود (¬1) وقال: "أيُّكُمْ يتصَدَّقْ عَلَى هَذَا" والمعنى واحد؛ لأنَّ التّجارة مع الله صدقة، وربحُ هذا معناهُ محفوظٌ في الشّريعة (¬2). فإن قال قائل: لأيِّ شيءٍ لا يأخذ مالكٌ بهذه الأحاديث في إعادة الصّلاة بجماعتين في مسجدٍ واحد؟ قلنا (¬3): إنمّا نظر مالكٌ - رحمه الله - إلى سَدِّ الذَّرائع، لئلّا يختلف على الإمام، وتأتي جماعة بإمامٍ آخر فيذهب حكم الجماعة. وإنّما يفعل هذا أهل الزيغ والبدع في تشتيت الجماعة على الإمام. وقال بعض علمائنا: لا يُفْعَلُ هذا إلَّا بإِذْن الإمام بأن يقول لهم: ادخلوا وصلُّوا معه، كما في حديث أبي سعيدٍ الخُدْريّ، وهو مبنيٌّ على أنَّ ذلك حقّ الإسلام أو حقّ الإمام. تركيب (¬4): فإن كان مسجدًا ليليًّا (¬5)، قال مالكٌ: تصلَّى فيه صلاة النّهار. وقد رُوِيَ عنه أنَّه لا يُصَلَّى فيه، وذلك منه سدُّ ذريعةٍ وضبطٌ للشّريعة. حديث مالكٌ (¬6)، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؟ أنّه كان يقولُ: مَنْ صلَّى بأرضِ فَلَاةٍ، صلّى عن يَمِينِهِ مَلَكٌ وعَنْ شِمالِهِ مَلَكٌ، فإن أذَّنَ وأقَامَ، صلَّى وراءَهُ من الملائكةِ أمثالُ الجبالِ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ من مَرَاسِلِ سَعِيدٍ، أدخلَهُ فيه مالك. وفيه مسألتان من أصول الفقه: إحداهما (¬7): إنَّ المراسل من الحديثِ كالمُسْنَدَةِ عندَهُ (¬8)، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشّافعيّ لا تُقبَلُ المراسل بحالٍ (¬9). وقال أصحابُه إلَّا مراسيل سعيد بن المسيَّب ¬
فإنَّها صِحَاحٌ. قال الإمام (¬1) وتتبّعتُ مراسل سعيد بن المسيَّب فوجدتها كلُّها صِحَاحًا مُسْنَدَةً (¬2). المسألة الثّانية (¬3): هي أنَّ الصّاحب إذا قال قولًا لا يقتضيه القياس، فإنَّه محمولٌ على المُسْنَدِ إلى النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهي مسألةً خلافٍ كبيرة (¬4)، ومذهب مالكٌ (¬5) فيها أنَّه (¬6) كالمُسْنَدِ، وقد بين ذلك في مسألة البِنَاء في الرُّعافِ بحديث ابن عمر (¬7)، وابن عبّاس (¬8). وزاد مالكٌ - رحمه الله - مسالةً ثالثةً وهي: إذا روى التّابعيّ ما لا يقتضيه القياس ولا يُوصَل إليه بالنَّظَر، ولذلك أدخل عن سعيدٍ صلاة الملائكة خَلْفَ المصلَّي، وقد بينَّاه في غير ما (¬9) موضع، وقد أسندَ هذا الحديث عن سعيد الرُّواة أجمع، وأنَّه حديث صحيح موثوق متَّفقٌ عليه (¬10). الفقه (¬11): قوله: "صلّى عن يمينه مَلَكٌ وعن يساره مَلَكٌ" قال الامامُ: في هذا الحديث دليلٌ على ما قاله ابن مسعود في أنّه إذا صلَّى وراء الإمام اثْنَانِ، صلَّى عن يمينه واحدٌ وعن يَسَارِهِ واحِدٌ (¬12). قال الإمام الحافظ: ومواقفُ الإمام مع المأموم سبعة: الموقف الأوّل: هو أنّ يكون واحدًا، فيقف عن يمينه، لحديث ابن عبّاسٍ، أنّه بات عند خَالَتِهِ ميمونة. الحديث في "البخاريّ" (¬13). ¬
الموقفُ الثّاني: هو أنّ يكونا اثنين، صلَّيَا خَلْفَهُ، لحديث أنس، قوله: "قمتُ أنا واليتيم وَرَاءَهُ " (¬1). الموقفُ الثّالث: أنّ تكون امرأةً صلّت خَلْفَهُ؛ لأنّه إذا كان معه رجُلٌ صلَّتِ المرأةُ خَلْفَهُما، لِمَا تقدَّمَ في حديث أنسٍ. فإن صلَّت المرأةُ بجَنْبِ الإمام، قال أبو حنيفة (¬2): تبطلُ صلاته. وهذا باطل؛ لاْنّه إنّ لم يعرف فإنهّا أساءت في موقفها، ولا تبطل صلاة الإمام بذلك ولا صلاتها، وإن عرف بها ونوى ائتمامها، فإنمّا وقعت النية على مقتضى السُّنّة، فإذا خالفت هى السّنّة في نفسها، فلا يتعدَّى فعلها إلى صلاة الإمام، كما لو أحدثت أو تجرَّدَت أو اسْتَدْبَرَت، أو وقف الرَّجُل أمام الإمام، وهو: الموقفُ الرّابعُ. وحَزَرَ علماؤنا هذا وقالوا: إذا وقفتِ المرأةُ بجَنْبِ الإمام، فإنّها إساءةُ مَوْقِفٍ (¬3)، فلا تبطل صلاة الإمام به، كما لو وقف الرّجُلُ أمامه. وعندنا نحن: إذا وقف الرَّجُلُ أمام إمامه صحّت صلاته (¬4). وقال الشّافعيَّ (¬5) وأبو حنيفة (¬6): تبطل صلاته، كما لو كان واحدًا وقف على يساره. وهو: الموقف الخامس. والموقف السّادس: أنّ يكونا رَجُلَين وامرأة، صلّا الرّجلان وراء الإمام، والمرأة خَلْف الرّجُلَين كما في حديث أنس. الموقف السّابع: أنّ يكنّ نساءً لا رَجُلَ فيهنّ، فالموقفُ من خَلْفِه، ولا متعلّق لابن مسعود في حديث سعيد؛ لأنّ قوله: "صلَّى عن يَمِينِهِ ملَكٌ وعن يَسَارِهِ مَلَكٌ"، يحتمل أنّ يريد الملَكين الملازِمَينِ له، فيكونان قد صلّيا معه بحُكم الاشتراك في العبادة، ولزما موقفهما الّذي رتَّبَ اللهُ لهما. ويقال: إنّ ذلك فعل الملائكة، والله أعلم. ¬
الأصول: فإن قيل: وهلِ الملائكة مكلَّفون يصلُّون؟ فأجاب عنه علماؤنا بأجوبة: الأوّل: أنّ هذا الحديث يدلُّ على أنّ الملائكة مكلَّفون، لكن لا يعرف كيفية هذا التّكليف، ولا كيفيّة هذه الصّلاة. فإن قيل: إنّ جبريل كان مصلَّيًا. قلنا: بل كان متنفَّلًا، والنبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مفترضٌ. فإن قيل: وكيف تجوز صلاة مفترضٍ خَلْفَ متنفَّلٍ؟ قلنا: بل كان معلِّمًا مُبَيَّنَا لجميع أفعال الصّلاة، فجاز الاقتداء به، كما خرّجه النَّسائي (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم -: "هَذَا جِبْرِيل جاءَكُمْ يعلِّمكُم دينكم، فصلَّى الصّبح حين طلع الفجر"، وأعلمه بكيفية الأوقات. فإن قيل: لا تكلِيفَ على مَلَكٍ في هذه الشّريعة، وإنّما هي على الجنِّ والإنْس. قلنا: ذلك لم يعلم عَقلًا وإنّما عُلم بالشّرع، وجبريلُ مأمورٌ بالإمامة بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُؤمَر غيرُه من الملائكة بذلك، فكما خُصَّ بالإمامة جاز أنّ يُؤْمَرَ بالفَريضة. وقد رأيتُ في حديث مالكٌ من قول جبريل (¬2): "بِهَذَا أمرتُ" برفع التّاء ونصيها. فأمّا رفعُ التاء فثابتٌ صحيحٌ، وهو في أمرِ جبريل صريحٌ، ولم نعلم صفة أمر الله تعالى له، وهل قال له: بَلِّغ إلى محمّد هيئة الصّلاة قولاً وفعلًا؟ وقد تقدَّمَ الكلام في صَدْرِ الكتاب على هذه المسألة بَأبْدَع بيانٍ، فلينظر هنالك، والله الموفّق للصّواب. ¬
قدر السحور من النداء
قدْرُ السُّحُور من النِّداء يحيى عن مالكٌ (¬1)، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ بِلالًا ينادِي بلَيْلٍ، فكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يُنَادِي ابن أُمِّ مَكْتُومٍ". وقوله في الحديث الثّاني (¬2): "وكانَ ابنُ أمَّ مكتومٍ رَجُلًا أَعْمَى، لا يُنَادِي حتَّى يقالُ له: أَصْبَحْتَ أَصبَحْتَ". التّرجمة (¬3): قال مالكٌ (¬4) - رحمه الله -: "قَدْرُ السُّحور من النِّداء" وهو لفظ مُشكِلٌ، والمعنى المراد به: أنّه أراد أنّ يبيِّن قَدْر وقت السُّحور من وقت نداء الصُّبح المحقّق لها. ويعرف أنّ السُّنَّة تأخير السُّحور، وتقدير الكلام: قَدْر وقت السُّحور من وقت النِّداء. وتبيينه (¬5) تمام الحديث الّذي ذكر مالك أطرافه، ونصُّه قال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ بلالًا ينادي بليلٍ، ليرجع قائمكلم، ويوقظ نائمكلم، فكُلوا واشرَبُوا حتّى يُنَادِي ابن أمّ مكتومٍ" ولم يكن بين ندائهما إلَّا أنّ ينزل هذا ويصعد هذا (¬6). الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ عند يحيى (¬7)، وأسندَهُ القعنبيّ (¬8) عن مالك، عن الزُهريّ، عن سالم، عن ابن عمر؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنّ بِلاَلًا يُنادي بلَيْلٍ، فكُلُوا واشرَبُوا، حتّى يُنَادِي ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ" صحيح حسن في الباب. ¬
الأصول (¬1): قوله: "إنَّ بِلالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ" توهَّمَ بعضُ علمائنا أنّ هذا الحديث دليلٌ على صِحَّة العمل بخبر الواحد، وليس موضوعُ الحديث هذا، وإنّما موضوعه أنّه يجوز الاكتفاء بالواحد عن الاثنين وعن الجماعة في صحة العمل على قوله، إذا جُعِلَ ذلك إليه وقُلِّدَ به، كما قال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: "واغدُ يَا أُنَيْس عَلَى امْرَأَةٍ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَت فَارْجِمْهَا" (¬2)، فاكتفَى بالواحد، وسيأتي تحقيق هذا في كتاب الحدود إنّ شاء الله. الفوائد المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي سبعُ فوائد: الأُولى: فيه من الفقه: جوازُ شهادة الأعمى، خلافًا لأبي حنيفة (¬3) فإنّه لا يُجيز شهادة الأعمى. وفيه: قَبُول خَبَرِ الواحد على من يرى ذلك قويًّا في الباب. وفيه: جوازُ الشّهادة على الصّوت (¬4). وفيه: أنّ الفِطرَ يجوز إلى طلوع الفَجْر. وفيه: دليل على أنّ المجاز يستعمل كما تستعمل الحقيقة؛ لأنّه لا يؤذّن حتّى يقال له: أصبحت أصبحت، أي: قاربتَ الصّبح، فاستعمل أصبحت على المجاز؛ لأنّه لو أصبح لم يصحّ الأكل، ولم يرد النّبي - صلّى الله عليه وسلم - بقوله: "حتّى يُنَادِي ابن أم مَكْتُومٍ" تفسير النِّداء، وإنّما أراد الصَّباح. تكملة: فالأذان إنّما هو الإعلام (¬5) بالصّلاة، وهو شعار المسلمين، وكلمة الدِّين، والفَرق بين المؤمينن والكافرين، يُسَكِّن الدَّهماء، ويحقن الدّماء، وهو فرض في الجملة، سنّة ¬
افتتاح الصلاة
في الجماعة، فضيلة للفَذِّ. وأحاديثه كثيرة، وفروعه متشعِّبهة، لبابها وعُمْدَتُها ما أوضحناهُ لكم في هذه العُجَالة (¬1)، والحمد لله ربِّ العالمين. افتِتَاحُ الصّلاة ذكر فيه مالك (¬2)، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان إِذَا افْتَتَحَ الصّلاةَ رَفَعَ. .. (¬3). الإسناد (¬4): قال الإمام: هكذا رواه يحيى، لم يذكر الرّفع عند الرّكوع، وتابعه جماعة من رُوَاةِ "الموطَّأ" (¬5) فذكروا فيه: رَفْعَ اليَدَينِ عند الافتتاح، وعند الرّكوع (¬6)، وعند الرَّفْعِ من الرُّكوعِ. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب، وهو الصّواب (¬7). تنبيه على وهم (¬8): قال بعض علمائنا: رَفْعُ اليدَين عند افتتاح الصّلاة من محاسِنِ الصّلاة. قلنا: بل رَفْعُ اليدَيْن عند الافتتاح وغيره، خضوعٌ واستكانَةٌ، وابتهالٌ وتعظيمٌ للرَّبِّ واتِّباعٌ لسُنَّة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وليس هذا (¬9) بواجبٍ. ومعنى رفع اليدين: الاستسلام، والتَّكبير: هو تعظيمُ الرَّبِّ. وكان عبد الله بن عمر يقول: لكلِّ شيءٍ زينةٌ، وَزِينَة الصّلاة التكبير ورفع الآيدي فيها (¬10). ¬
وقال عُقْبَة بن عامر: له بكلِّ إشارة عشر حسنات، بكلِّ أُصْبُعٍ حَسنَة (¬1). الفقه (¬2): اختلف العلماء في وجوب تكبيرة الإحرام، فذهب جمهور الأيمّة إلى وجوبها. وذهبت طائفة إلى أنّها سنَّة، وهو قول الحسن (¬3)، وابن المسيَّب والزُّهريّ، قالوا: إنّ تكبيرةَ الإحرام سنة وتُجْزِىء تكبيرة الرّكوع عن تكبيرة الإحرام. قال الإمام (¬4): ورُوِيَ عن مالكٌ في المأموم ما يدلُّ على أنّ ذلك سنّة، قال في "الموطّأ" (¬5) في رجُلٍ دخل مع الإمام، فنَسِيَ تكبيرة الإحرامِ وتكبيرةَ الرُّكوعِ حتّى صلَّى ركعةً، وذَكَرَ أنَّه لم يكن كَبَّرَ للافتتاح ولا للرّكوع، وكَبَّرَ في الرَّكعةِ الثّانية، قال: "يَبْتَدِىُ صلاته أَحَبُّ إِليَّ"، ورَوَى عنه ابن القاسم في "المدوّنة" (¬6) أنّ المأموم إِنْ نَسِيَ تكبيرة الافتتاحِ، وكبَّرَ للرُّكوع يَنْوِي بها الإحرامَ أَجزَأَهُ، وإن لم ينو إحرامًا تَمَادَى وأَعَادَ الصَّلاة. ولم يختلف قوله في الَمُنْفَرِد والإمام أنّ تكبيرةَ الإحرام واجبةٌ على كلِّ واحدٍ منهما، ومن نسيها منهما أعادَ (¬7) الصّلاة. وأمّا حُجَّةُ من قال بوجوبها: فقولُه عليه السّلام: "فإذا كَبَّرَ فَكَبَّرُوا" (¬8). فذكر عليه السّلام تكبيرة الإحرام دون غيره من التكبير، وقد أجمعوا أنّ من نسي (¬9) سائر التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام أنّ صلاته تامّة (¬10). فدلَّ ذلك على أنّ سائر التّكبير غير تكبيرة الإحرام ليس بلازِمٍ. واحتجُّوا بما رُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "تَحْرِيمُ الصَّلاةِ التَّكبيرُ، وتحليلُهما التّسليمُ (¬11) "، وكان أحمد (¬12) وإسحاق يحتجّان بهذا الحديث، وفيه تعليلٌ كثيرٌ نذكر منه طرفًا هاهنا. ¬
الإسناد: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ وتحريمها التَّكْبِيرُ وتحليلها التَّسليم، قال أبو عيسى (¬1): أصحّ شيء في هذا الباب حديث محمد بن الحنفية عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: "مفتاح الصّلاة الطّهور" الحديث (¬2). قال الإمام: وهذا حديثٌ لم يخرِّجه أهل الصِّحة، وقد رواه أبو داود (¬3) بسند صحيح أصحّ من سنَدِ الترمذي وأَقوَى. ورَوَى مُجَاهِد عن جابر؛ أنّه قال: "مفتاح الجنَّةِ الصّلاة، ومفتاحُ الصّلاةِ الوضوءُ " الحديث (¬4). عربيته (¬5): قوله: "مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ" مجازٌ (¬6) ما يفتَحُها من غَلَقِهَا، وذلك أنّ الحَدَثَ مانعٌ منها، فهو كالقُفْلِ موضوعُ على المُحْدِثِ (¬7)، حتَّى إذا توضَّأَ انْحَلَّ القُفْلُ. وهذه إستعارة (¬8) بديعةٌ لا يقدر عليها إلَّا النُّبوَّة. وكذلك قوله: "مفتاحُ الجنَّة الصّلاة": بَيَّنَ أنَّ أبواب (¬9) الجنّة مُغْلَقَة تفتحها الصّلاة والطّاعات والعبادات، فإنْ جئتَ بالمفتاح له أسنانٌ فُتِحَ لك، وإن لم تجىء لم يُفتح (¬10). وتتفاضلُ الأسنانُ في الفِعْلِ والصَّغَر والكِبَر، كقوله: "أوّل ما ينظر فيه من عمل العبد الصّلاة" (¬11) كذا إلى سائرالأعمال. ¬
الأصول (¬1): قوله: "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" هو مصدر، حَرُم يَحْرُمُ، ويَشْكُلُ استعمالُه هاهنا؛ لأنّ التكبير جزءٌ منها، فكيف يحرمها؟ فقيل: مجازُه (¬2) إحرامها، يقال: أحرمَ الرَّجُلُ، إذا دخل في الشّهر الحرام، أو البلد الحرام؛ ولمّا كانتِ الصّلاةُ تحَرَّمُ أشياء قيل لأوّل ذلك - وهو التكبير-: إحرام، واتبع الأوّل الثّاني، كما قالوا: أتَيْتُه بالغدايا والعشايا ونحوه. ويحتمل أنّ يجعلَها حرامًا لا يجوز أنّ يُفْعَلَ فيها شيءٌ (¬3) من غيرها، كما يقال: بلدٌ (¬4) حرامُ وشهرٌ حرامٌ. الأحكام: وفيه خمس مسائل: الأُولى (¬5): قولُه: "تَحْرِيمُهَا التَّكبِيرُ" يقتضي أنَّ تكبيرةَ الإحرام جُزءٌ من أجزائها، كالقيام والرُّكوع والسُّجود، خلافًا لسعيد والزُّهريّ اللّذين يجعلانها سُنَّة، ويقولان: الإحرامُ يكون بالنِّيَة، وقد قال النبيُّ عليه السّلام: "الأعمالُ بالنِّيات" (¬6)، والصّلاةُ أصلُ الأعمالِ، والتَّكبيرُ أوَّلُها، فاقتضى ذلك كونها منها بعد النِّية. المسألة الثّانية (¬7): قوله: "التكبِيرُ" يقتضي اختصاص إحرام الصّلاة بالتَّكبير، دونَ غيرِه من صفات تعظيم اللهِ وجَلاَلِه، وهو تخصيصٌ لعُمومِ قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬8). فَخُصَّ التَّكبيرُ بالسُّنَّة من الذِّكر المُطْلَقِ في القرآن، لا سيّما وقد اتّصل في ذلك فِعْلُه بقَوْلِهِ، فكان يكبِّر صلّى الله عليه وسلّم ويقول: "الله أكبر". وقال أبو حنيفة: يجوز بكلِّ لفظ فيه تعظيم الله، لعموم القرآن (¬9)، وقد بيَّنِّا أنّه ¬
تعلُّق ضعيفٌ. وقال الشّافعيُّ (¬1): يجوز بقوله: الله الأكبر. وقال أبو يوسف: يجوزُ بقوله: الله الكبير. تنقيح (¬2): قال الإمام: أمّا الشّافعيّ، فأشار إلى أنّ الألف واللّام زيادة لم تُخلّ باللّفظ ولا بالمعنَى. وأمّا أبو يوسف، فتعلقَ بأنّه لم يخرج عن اللَّفظِ الّذي في هذا الحديث (¬3)، فقد خرج عن اللّفظ الّذي جاء به الفعل بتفسير المُطْلَق في القَوْلِ (¬4)، وذلك لا يجوز في العبادات الّتي لا يتطرَّق إليها التّعليل. وهذا يردُّ على الشّافعي أيضًا؛ فإنّ العبادات إنمّا تُفْعَلُ على الرَّسْمِ الوَارِدِ دونَ نظرٍ إلى شيءٍ من المَغنَى. وقال علماؤنا:" تَحْرِيمُهَا التَّكْبيرُ" يقتضي اختصاص التكبير بالصّلاة دون غيره من اللّفظ؛ لأنّه ذَكَرَهُ بالألف واللّام اَلّذي هو بابٌ* شأنه التّعريف كالإضافة، وحقيقة الألف واللّام* (¬5) إيجَاب الحُكْمِ لِمَا ذُكِرَ، ونفيه عمّا لم يذكر وسلبه منه، وَعَبَّرَ عنه بعضُهم بأنّه الحَصْر، وقد بينّاه في، "الأصول". المسألة الثّالثة (¬6): قولُه:"افْتِتَاحُ الصّلاةِ" معناها: أنّ الصّلاة فعلٌ مُنْغَلِقٌ على المكلَّف مُمْتَنِعُ الفعل، لا يجوز المجيءُ بها إلَّا بعد تقديم مفتاحٍ يتألَّفُ من عَقدٍ وقولٍ وفعلٍ. فأمّا العَقْدُ فهي النِّية، وهي تجري من الإنسان كجَرْيِ الرُّوح في الجَسَدِ، ولا خلافَ فيها بين الأُمَّة، وحقيقتها: قصدُ التَّقَرُّبِ إلى الآمِرِ بفِعْلِ ما أَمَرَ به لحقِّ الآمِرِ خاصّةً. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية (¬7). وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الأعْمَالُ ¬
بِالنِّيَّاتِ" (¬1)، وأشرف الأعمال الصّلاة، هي أوّلها، وهي مراده بمعنى هذا الحديث فيها. والأصلُ في كلِّ نيّة أنّ يكون عَقْدُها مع التَلَبُّس بالفعل (¬2)، وقد رخّصَ في تقديمها في الصّوم لعظمٍ في اقترانها بأوّله (¬3). ووقع لعلمائنا مسامحةٌ في تقديمها على الوُضوء، فيمن يخرج يقصدُ النّهر للطّهارة، فعزَبَتْ نِيّتُه قبل البلوغ إليه؛ أنّه يجزئه، وحمل الجُهَّال الصّلاة عليه (¬4)، وإنّما كان ذلك في الطّهارة لاختلاف العلماء في افتقارها إلى النّية، بخلاف الصّلاة، فإن افتقارها إلى النّيّة مُجْمَعٌ عليه، فلا يجوز ردّ الأصل المتَّفَقِ عليه إلى الفرعِ المُختَلَفِ فيه. *قال لنا أبو الحسن القزوينيُّ بثغر عسقلان* (¬5): سمعتُ إمام الحرَمَين يقول: يُحضِرُ الإنسانُ عند التَلَبُّسِ بالصّلاة النِّية، ويجدِّد النَّظَرَ في الصّانع، وحَدَثِ العَالَمِ، والنُّبوَّاتِ، حتَّى ينتهي نَظَرُه إلى نيّة (¬6) الصّلاة قال: ولا يحتاج ذلك إلى زَمَنٍ طويلِ، وإنمّا يكون في أَوْجَزِ لَحْظَةٍ؛ لأنّ تعليم الجمال (¬7) يفتقرُ إلى زمانٍ طويلٍ، وتذكارُها يكون في لحظة. ومن تمام النّية أنّ تكون منسحبة على الصّلاة كلَّها، إلَّا أنّ ذلك لما كان أمرًا يَتَعذَّرُ، سمَحَ الشّرعُ في عُزُوب النِّية في أثنائها. وسمعت شيخنا الفهري بالمسجد الأقصى يقول: قال محمد بن سحنون (¬8): رأيتُ أبي سحنونًا ربمّا يكمل الصّلاة ثم يعيدُها، فقلت له: ما هذا يا أبت؟ فقال: عَزَبَت نِيَّتِي في أثنائها، فلأجل ذلك أَعَدْتُها. وسيأتي تمامُ القوِلِ فيه في باب: "النَّظَرِ في الصَّلاةِ إلى ما يشغلك عنها" إنّ شاء الله. وأمّا الأفعال فهي أربعة: ¬
االأوّل: السَّترُ. الثّاني: استقبال القبلة. الثّالث: السِّواك. الرّابع: رفع اليدين. أمّا السِّتر، فهو فَرْضٌ إسلاميٌّ بإجماع الأُمَّةِ (¬1)، واختلف العلماء هل هو من شرط الصّلاة أم لا؟ فمشهور مذهبنا أنّه ليس (¬2) من شروط الصّلاة (¬3). قال الإمام: والصّحيح في النَّظَرِ أنّه من واجباتِ الصّلاة المخصوصةِ بها، قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬4). وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يَحُجُّ بعدَ العَام مُشرِكٌ ولا يَطُوفُ بالبيتِ عُرْيَانٌ" (¬5). وأمّا استقبال القبلة، فلا خلافَ فيه. وأمّا السِّواك: فمن جُهَّال المحدِّثين من أَوْجَبَهُ، وذلك معاندة للنَّصِّ، ففي الصّحيح أنّه قال: "لَوْلًا أنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لأمَرْتُهُم بالِسَّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ" (¬6) فهو - صلّى الله عليه وسلم - قد صرَّحَ بنَفْيِ الوُجوبِ، فكيف يثبته أحدٌ! نكتةٌ أصولية (¬7): قال الإمام: في الحديث الّذي ذكرناه عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أصلان من أصول الفقه: أحدهما: أنّه يجوزُ للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يفرض بالاجتهاد على أُمَّتِهِ؛ لأنّه لو كان وَحْيًا من الله بنفيٍ أو إثبات لبلَّغَه، كان فيه حَرَجٌ أو لم يكن، وقد مهَّدنا ذلك كلّه في كتاب: "المَحصول في علم الأصول". ¬
* ثانيهما: النّصُّ على أنّ الأمر على الوجوب، لقوله: "لأمرتهم بالسِّواك"* (¬1) فهذا ارتفع الوُجوبُ بقي التّخصيص المستدعي (¬2) للنَّدْب. وقد تكلَّمنا عليه في بابه بأَبدعِ بيان. وروى الدّارقطني (¬3)، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: "في السِّواك عشر خِصَالٍ: مَطهَرَةٌ للفم، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ، مطردةٌ (¬4) للشّيطانِ، مَفْرَحَةٌ (¬5) للملائكة، يُذهِبُ الحَفْرَ، ويجلو البَصَرَ، ويشدّ اللِّثَّة، ويقطع البَلْغَم، ويطيب النّكْهَة، وهو من السُّنَّة". وزاد فيه أبو بكرٍ الفهري: مثراة للمال، منماة للعَدَدِ، ويزيد في الحسنات. المسألة الرّابعة (¬6): في رفع اليدين وهو الّذي صَدَّرَ به مالكٌ (¬7). وللعلماء فيه خمسة أقوالٍ، أوضحناها في "متن الصّحيح" و"كتب المسائل". واختلفت الرِّواية في الصَّحيح عن النِّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فيها، فرُوِيَ أنّه كان يرفع يَدَيْه حَذْوَ مَنْكِبَيهِ (¬8)، ورُوِيَ حَذْوَ أُذُنَيْهِ (¬9)، ورُوِيَ: حَذْوَ الصَّدْرِ، فهذه ثلاث رواياتٍ. فإمّا حيال المِنْكَب والأُذُن، فقد رُوِي ذلك عنه في الصّحيح. وأمّا حذو الصَّدْرِ فليس بشيءٍ (¬10)، والجمعُ بينهما أنّ تكون أطراف أصابعه بإزاء الأُذُنَيْن، وآخر الكَفِّ بإزاء المَنْكِبَيْن، فذلك جمعٌ بين الرِّوايتين، بان يجعل آخر الكفِّ مِمَّا يلي السّاعد حَذْوَ المَنْكبَيْن مبسوطة غير منشورة، وقد تقدَّمَ بيانُه. المسألة الخامسة: في التّكبير وقد أجمعتِ الأُمَّة على أنّها فَرْضٌ -أعني التّكبيرة الاُولى- فقط، خلافًا لسعيد بن المسيَّب وابنِ شهاب. ¬
باب القراءة في المغرب
تنبيه على إغفال (¬1): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: رَتَّبَ (¬2) مالكٌ الأبواب، ونبَّهَ على الآثار، وبيَّنَ أمرَ الصّلاة غاية البيان، وأَرْبَى فيه على المُصَنِّفين، وزاد مالكٌ عليهم بما فيها من الآثار، وكيف نَقَلَها النّاس جملةً كأبي سَعِيدٍ وأبي حُمَيْد السَّاعِدِيّ وأبي هريرة وغيرِهم، ونَقَلها أيضًا جملة من الصَّحابة مُفَصَّلة ومُجْمَلَة. واجتمع البيانُ في كلِّ طريقٍ، والّذي نقل عنه - صلّى الله عليه وسلم - منها في (¬3) هَيئَة الصّلاة بين (¬4) الأقوال والأفعال ستّ وثلاثون خَصْلة، اختلفت منِاهج العلماء فيها على ثلاثة أنحاء: المَنْحَى الأوّل: أنّها كلُّها واجبةٌ. المَنْحَى الثّاني: أنّ ما تضمَّنَ القرآنُ منها واجبٌ، وما خرج عنه فهو مَسْنُونٌ. المنحى الثّالث: المقابلةُ بين الأفعال والأقوال، فما يتحصَّلُ (¬5) منها إلى الوجوب أو السُّنَّة قُضِيَ به، وعلى ذلك بَنَى مالكٌ موطّأه، وهو المنهج الأسدّ الأقصد. بَسْطَةٌ (¬6): وأيضًا: فإن النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صَلُّوا كمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلَّي" (¬7). فوجب الانتهاء إلى هذا، وتَعَيَّنَ الاقتداء به، ثمّ نَظَرْنَا إلى جميع (¬8) السِّتِّ والثّلاثين فوجدناها مُفْتَقِرَة إلى بيان، يأتي إنّ شاء الله في كلِّ بابٍ في موضعه على البيان. بابُ القراءةِ في المَغْرِب أحاديث هذا الباب كثيرةٌ، أمهاتُها أربعة: ¬
الحديث الأوّل: مالكٌ (¬1)، عن ابن شهاب، عن محمّد بنِ جُبَيرْ بنِ مُطعمِ، عن أبيه؛ أنّه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقرأُ بالطُورِ في المَغْرِبِ. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬2): "والده جُبَيْر بن مُطعم أُتِيَ به أسيرًا في أسَارَى بَدْر، فسمع قراءة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في المغرب فاستحسنَها، فأَسْلَمَ حينئذٍ". الحديث الثّاني: حديث أُمَّ الفَضْل، قالت: خرجَ إلينا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عاصِبًا رأسه في مَرَضِهِ فصلَّى المغربَ، فقرأ بالمُرْسَلات عُرْفًا، فما صَلَّاهَا حتَّى لَقِيَ اللهَ. حديث صحيح (¬3). الحديث الثّالث: ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قرأ في المغرِب بالأعراف (¬4)، وقيل بِطُولَي الطُّولَينِ (¬5) في الحَضَر، وكانت قراءته في السَّفَر بالطُّور. الحديث الرّابع: ثبتَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قرأ بالتِّين والزَّيتون (¬6). العربية (¬7): قوله: "صلَّى في المغرب" المغربُ مَفْعِل من غرب، وهو عبارة عن زمَنِ الغُروب. وقوله: "صَلُّوا المَغْرِب" أضافها إلى الزّمان ثمّ حذف فقال: المغرب، وفي "صحيح البخاريّ" (¬8): "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ على اسْمِ صلاتِكُم إنّها المغرب" وهم يسمّونها العِشَاء. وقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬9). ولم يجىء للشّمس ذِكْرٌ ¬
قدر القراءة في العشاء الآخرة
كما جاء في القرآن، والوجه فيه: أنّه اقتضى تفهّم (¬1) السّائل، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ} الآية (¬2). ولم يجىء (¬3) للأرض ذِكْرٌ. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬4). ولم يجىء للقرآن ذِكْرٌ (¬5). قال الخطّابي (¬6): وقد قيل: إنّ الصّحابةَ لمّا جمعوا القرآن (¬7)، وضعوا سورة القَدْرِ عَقِبَ العَلَق، ليستدلُّوا (¬8) بذلك على أنّ المرادَ به (¬9) الكتاب (¬10) في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} إشارة إلى قوله: {اقْرَأْ} وهذا بديعٌ جدًّا. قدْرُ القراءة في العِشَاء الآخِرَةِ عبد الله بن بُرَيْدَةَ، عن أبيه؛ قال: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقرَأُ في العِشَاءِ الآخِرَةِ بالشَّمسِ وضُحَاهَا ونحوها (¬11). حديث حسن صحيحٌ. العربية (¬12): العِشاء -بكسر العين-: أوَّلُ ظلامِ اللَّيلِ، وذلك من المغرب إلى العَتَمَةِ (¬13) والعَشاءُ -بفتحها-: طعامُ (¬14) ذلك الوقت، والعشاءان: المغربُ والعَتَمَةُ. ¬
قدر القراءة في الصبح
قدْرُ القراءةِ في الصُّبح ثبت في الصّحيح؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يقرأُ في الصُّبْحِ بقد أفْلَحَ المؤمنون (¬1). ورُوِيَ عنه أنّه كان يقرأ في صلاة الصّبح: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (¬2)، وذلك على قَدْرِ الوَقتِ، وأخذ الخلفاء من بَعْدِهِ بذلك، فكان أبو بكر الصدِّيق يقرأ سورة البقرة في صلاة الصُّبح يقسمها (¬3)، وكان عثمان يقرأُ سورة يوسف في صلاة الفَجْرِ (¬4). خرَّج التّرمذي (¬5) عن قُطْبَةَ بن مالكٌ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ في صلاة الفَجْرِ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (¬6) حديث حسن صحيح (¬7). العربية (¬8): قوله: "في صَلاَةِ الفَجرِ" الفَجْرُ: مصدَرٌ من فَجَرَ يَفْجُرُ. وقوله: "لا يعرفنَ من الغَلَسِ" (¬9) وهو ظلام آخر اللّيل. قال الشّاعر (¬10): كذَبَتْكَ عَيْنُكَ هَلْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا قال أشياخنا: هو الغَبَشُ بالشين المعجمة، وهو الغَبَسُ بالسّين المهملة، وليس الغبس بمسموع (¬11) في اللّغة، إنّما الغَبَسُ لَوْنٌ (¬12) كلَوْن الرَّماد. ¬
وقال بعضُ المغاربة: إنّ الغَبَشَ -بالشّين المعجمة- يكونُ أوّل اللّيل وآخره. والغَبَسُ لا يكون إلَّا آخر اللّيل، وهذا وَهمٌ. بل قال ابنُ فارس (¬1): الغَبَشُ بقيّةُ اللَّيْل. والإسفار: الضّوء، مأخوذٌ من أَسْفَرَ، أي: تَبَيَّنَ وانكَشَفَ، وهو الصّباح، ويعضده ما رواه أبو داود (¬2): "أصبحوا بالصّبح (¬3) فإنّه أعظم للأَجْرِ" والفجرُ مأخوذ من تَفَجّر الشَّيء إذاظَهَر. تأصيل (¬4): اتّفق العلماءُ على أنّ أطول الصّلاة قراءة الفَجْر، وبعدها الظُّهر، بَيْدَ أنّ البخاريّ (¬5) لم يدخل غير حديث أبي (¬6) بَرْزَةَ؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصُّبحِ ما بين السِّتَّين إلى المِئَةِ، وذكر (¬7) عن أمّ سَلَمَة؛ أنّه قرأ بالطُّور، وعن ابنِ عبّاس في الباب بعد هذا (¬8)؛ أنّه -عليه السّلام- قرأ: بقُلْ أُوحِيَ إِليَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، السُّورة. وذكر ابنُ أبي شَيْبَة (¬9) حديث سماك، عن جابر بن سَمُرة؛ أنّ قراءة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كانت: بقاف والقرآن المجيد ونحوها. واختلفتِ الآثارُ عن الصّحابة في ذلك، فرُوِيَ عن أبي بكر أنّه قرأ بسورة البقرة في الرّكعتين (¬10). وعن عمر أنّه قرأ بيونس، وهود، وقرأ عثمان بيوسف وبالكهف. وقرأ عليّ بالأنبياء (¬11). وقرأ عبد الله بن مسعود بسورتين الآخرة منهما بنو إسرائيل (¬12). وقال معاذ بالنساء (¬13). وقرأ عُبَيْدة بن الجَرَّاح بسورة الرَّحمن ¬
قدر القراءة في الظهر
ونحوها (¬1). وقرأ عمر بن عبد العزيز بسورتين من طِوَالِ المُفَضَّل (¬2). قال الإمام (¬3): فدلَّ من هذا الاختلاف عن السَّلَفِ؛ أنّهم فهموا عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إباحة التَّطويلِ والتَّقصيرِ في قراءة الفجر، وأمّا اليوم فالتخفيفُ أجمل؛ لأنّ النَّاس لم يعتادوا ذلك، وللحديث؛ أنّ فيهم السَّقِيم والضَّعِيف والكبير وذا الحاجة (¬4). تنبيه: قال مالكٌ (¬5) - رضي الله عنه -: وليس العمل عندنا اليوم على قراءة أبي بكر الصدِّيق بسورة البقرة، ولا العمل أيضًا على قراءة عمر بن الخطّاب، فإنه لم يقرأ في المغرب بشيءٍ، فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الرّكوع والسّجود ... الحديث. وأمّا قراءة عثمان بسورة يوسف، فقال علماؤنا: إنّما كان يقرأها لأنّه كان يتصوّر فيها أمره وظُلمه، فهذا وصل إلى قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬6) خنقته العَبْرَة، كما كان يعقوب يفعل، وهذا بديعٌ فتأَمَّلْهُ. قدْرُ القراءة في الظُّهر فيه أبو قتادة، قال: كان النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول في الرَّكعتين الأُولَيَيْنِ من صلاة الظُّهر بفاتِحَةِ الكتابِ وسُورتَيْنِ، يُطَوِّلُ في الأولى، ويُقَصِّرُ في الثّانية، وكان يُسْمِعُنَا الآيةَ أحْيانًا (¬7). الحديث الثّاني فيه خَبَّاب، قيل له: أكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقرأُ في الظُّهْرِ والعَصْرِ؟ قال: نعم. قلتُ: بأيِّ شيءٍ كُنْتُم تَعْرِفُون ذلك؟ قال: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ (¬8). حديثٌ حَسَنٌ صحيح في الباب. ¬
وأمّا ما رُوِيَ عن ابن عبّاس؛ أنّه سالَهُ رجلٌ: أفي الظُّهر والعصر قراءةٌ؟ قال: لا (¬1). فإنّه لا يعارضه بحالٍ؛ لأنّ الأوَّلَ أثبت وعليه العمل عند جماعة العلماء. والحُجَّةُ القاطعة في ذلك: ما رُوِيَ عن أبي هريرة أنَّه قال: في كلِّ صلاةٍ قراءةٌ، فما أَسْمَعَنَا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَسمَعْنَاكُم، وما أَخْفَاهُ عَنَّا أَخْفَينَا عَنْكُمْ (¬2). تفريع: اختلف العلماء فيمن أسرَّ فيما يجهر فيه عامدًا على سِتَّةِ أقوال (¬3): الأوّل: روى أشهب عن مالكٌ؛ أنّ صلاته تامَّة. القول الثّاني - قال أَصْبَغُ: مَنْ أَسرَّ فيما يجهر فيه، أو جَهَرَ في الإسرار عامدًا، فليستغفر الله ولا إعادَةَ عليه (¬4). القول الثّالث - هو قولُ ابن القاسم: يُعِيدُ لأنَّهُ عابثٌ (¬5). القول الرّابع - قال اللّيث: إذا أسرّ فيما يجهر فيه، فعليه سجود السَّهْوِ. القول الخامس - قال الكوفيون: إذا أسرّ في موضع الجَهْر، أو جَهَر في موضع السِّرِّ ساهيًا وكان إمامًا سجد لسَهْوِهِ، وإن كان وَحْدَهُ فلا شيءَ عليه، وإن كان عامدًا فقد أساء وصلاته تامّة (¬6). القول السّادس - قال ابنُ أبي لَيلَى: يُعِيدُ بهم الصّلاة إنّ كان إمامًا. القول السّابع - قال الشّافعيّ: ليس في ترك الجَهْر والإخفاء سُجُودٌ (¬7). ¬
قدر القراءة في صلاة العصر
ترجيح (¬1): قال الإمام (¬2): وقولُ من لم يُوجِب السُّجود في ذلك أَسَدُّ (¬3)، بدليل هذا الحديث؛ لأنّه لما كان السِّرُّ والجَهرُ من سُنَنِ الصّلاة، وكان -عليه السّلام- قد جَهَرَ في بعض صلاة السِّرَّ ولم يسجد لذلك، كان كذلك حُكم الصّلاة إذا جَهَر فيها؛ لأنّه لو اختلف الحُكمُ في ذلك لبَيَّنَهُ -عليه السّلام-. ووجب بالدّليل الصّحيح أنّ يكون إذا أَسَرَّ فيما يجهر فيه أيضًا لا يلزمه سجود، والسرُّ (¬4) والجَهْرُ في المعنى سواء، ولا وجه لتفريق الكوفيَّين بين حكم الإمام والمُنْفَرِد في ذلك، إذ لا حَجَّةَ لهم فيه من كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا نَظَرٍ. تكملة: والَّذي يتحصّلُ في هذا الباب من مذهب مالك قولان: أحدهما: قال ابنُ القاسم: إنه من جهر فيما يسرّ فيه أنَّه لا سجودَ عليه إذا كان يسيرًا. القولُ الثّاني: ما رُوِيَ عن مالكٌ أنَّه إذا جَهَرَ الفَذُّ فيما يسرُّ فيه جَهْرًا خفيفًا، فلا بأس به. قدْرُ القراءة في صلاة العصر فيه (¬5) حديث خَبَّاب وأبي قتادة المتقدِّم؛ أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظُّهر والعصر. وقال أبو العالية: العصرُ على النِّصف من قراءة الظُّهر (¬6). وقال إبراهيم: يُضَاعفُ الظُّهر على العصر أربع مرَّات. قال الحسن البصري: القراءة في الظّهر والعصر سواء. وقال حَمّاد: القرَاءةُ في الظُّهرِ والعصرِ سواء. قال الإمام: والصّحيحُ من هذه الأقوال والآثار؛ أنّ تكون صلاة العصر أقصر من قراءة الظُّهر، لِمَا في ذلك من الآثار الّتي يَطُولُ بِذِكْرِها الكتاب. ¬
العربية (¬1): قال أبو قلابة: سُمَّيت العصرُ لأنّها تعصر (¬2)، فتَعلَّقَ بالاشْتِقَاقِ. وهذا غيرُ مسلَّمٍ له، فإن العصرَ في اللُّغة: الدَّهْر، والعصرُ: وقتٌ من اليوم وهو الغَدَاة والعَشِيّ، والعصر اللّيل، والعصرُ النّهار. ويقال أيضًا: العصران، كما في حديث فضالة؛ أنّه قال: قال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "من حافظ على العَصْرَيْنِ دخلَ الجنَّة". فقلت: وما العصران؟ قال: "صلاة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وصلاةٌ قبلَ غُرُوبها" خرَّجه أبو داود (¬3). ومعنى صلاة العصر: صلاة العَشِيِّ، يقال لهما: العصران. الفقه (¬4): رُوِيَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان أخفّ النّاس صلاةً في تَمامٍ (¬5). ورُوِيَ أنّ الرَّكعة الأولَى كانت مثل الثّانية منها في صلاة الظّهر، وأنّ الرّكعة الثّانيةً من العصر كانت على النِّصف من الأُولى (¬6). وروي أنّه كان يُطَوِّل الرَّكعة الأولَى من الظُّهر والصُّبح ويُقَصِّر في الثّانية (¬7)، وهذا كلّه ثابتٌ، وفيه ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬8): هي أنّ صلاته -عليه السّلام- تختلف بحسبِ اختلاف الأحوال والمَأمُومِين، وليست قراءته في السَّفَر كقراءته في صلاة الحَضر، ولا قَراءَتُه مع مأموم كقراءته وَحْدَهُ (¬9). وقال -عليه السّلام-: "إنِّي لأسمَعُ بكاءَ الصَّبِيِّ في الصّلاةِ، فأُخَفِّفَ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ" (¬10). ¬
العمل في القراءة
المسألة الثّانية (¬1): هي أنّ ركعاته لم تكن سواء في مقدار القراءة، كانت الأولى أَطوَل من الثّانية. وقد جهل الخَلْقُ (¬2) اليوم هذا المقدار من السُّنَّة، حتّى صار العالِمُ منهم -بِزَعْمهِ- يُسَوَّيهما، والجاهلُ ربّما طَوَّلَ الثّانية وقَصَّر الأُولى، فتراهم يلتزمون في صلاة الصُّبْحِ مِنَ الحُجُرَاتِ، ومنهم من يلتزم (¬3) من الحواريين سورة (¬4) تِلْو سورة، فتكون الثّانية أَطوَل من الأُولَى، وهكذا تفعلُ الجَهَلَة بِجَهْلِهِم السُّنَنَ في جميع الصّلاة (¬5). ومعنى قراءة القرآن على التَّوَالِي، هو أنّ يفرأ سورة، ثمّ يقرأ أخرى بعدها في الرّكعة الثّانية، ولا تكون تِلْوَهَا. المسألة الثّالثة (¬6): هي التزامُ (¬7) سورة معلومة في القراءة، كما بيّنّاهُ في ترتيب قراءة الجُهَّالِ، وهذا لا يلزم، وإنمّا يقرأ ما اتّفق، وبحَسَبِ ما يقتضيه الحالُ. العملُ في القراءة حديث عليّ بن أبي طالب (¬8) - رضي الله عنه -؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: نَهَانِي رسولُ الله عن لُبْسِ القَسِّيِّ، وعن تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وعن قراءة القرآن في الرُّكوعِ. الإسناد (¬9): قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ من حديث عليٍّ، رواه مالكٌ وجماعةٌ عن ¬
عبد الله بن حُنَين. وخرّجه مسلم (¬1) كذلك، وكذلك رواه القَعْنَبِيّ (¬2). أصوله (¬3): قولُه: "نَهَانِي ولا أقولُ نَهَاكُمْ" (¬4) "ولا نَهَى النّاس" (¬5) دليلٌ على منع (¬6) نقل الحديث على المعنى واتِّباع اللّفظ، وقد تقدّم. ولا شكَّ في أنّ نَهْيَهُ لِعَلِيٍّ نَهْيٌ لِسِوَاهُ؛ لأنّه - صلّى الله عليه وسلم - كان يُخَاطِبُ الواحدَ ويريدُ الجماعةَ في بَيَانِ الشَّرعِ. عربية: قوله: "نَهَانِي عَنْ لُبْسِ القَسِّيِّ" بفتح القاف وتشديد السِّين. القَسَّيُّ: ثياب الحرير (¬7) تنسب إلى القَسّ تُصْنَعُ في قرية (¬8). وروى (¬9) سُحنون في"تفسيره" عن ابن وهب؛ أنّها ثيابٌ مُضَلَّعَةٌ، يريد: مخطّطة بالحرير كانت تُعْمَلُ بالقَسِّيّ، فنهى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عن لبسها. وهذا في الحرير المَحْضِ، وأمّا ما الغالبُ عليه الحرير فإنّه يحرمُ لِبَاسُه في غير الغَزْوِ، وأمّا في الغَزْوِ فأجازَ ابنُ حبيب لِبَاسَهُ والصّلاة فيه. ومنعه غيره من أصحابنا. وقال الشّيخُ أبو محمد بن أبي زيد (¬10): ما حكاهُ ابنُ حبيبٍ هو خارجٌ عن مذهب مالكٌ. وقوله في بعض طُرُقِهِ (¬11): "وَعَنْ لِبَاسِ المُعَصْفَرِ" فالمعصفرُ: ما صُبغَ بالعُصْفُرِ، وهو نبات تُصْبَغُ به الثِّياب، فنهى عنه لأنَّه لباس شُهْرَةٍ، والله أعلم. ¬
الفقه: قال علماؤنا (¬1): ويمنع لُبْسُ الحريرِ على كلِّ وجهٍ، فلا يُفْرَشُ ولا يُبْسَط ولا يُتَّكَاُ عليه ولا يُلْتَحَفُ به ولا يُرْكَب عليه؛ لأنّ النّهي عن القَسِّىِّ نهي تحريم، والنّهي عن المُعَصْفَر نهي كراهة. وكذلك النّهي عن قراءة القرآن في الرّكوع نهي كراهة أيضًا؛ لأنّه مَنْ قرأَ في ركوعه لم تبطل صلاته. والنهي عن تختّم الذّهب نهي تحريمٍ، على ما يأتي بيانه في كتاب الجامع إنّ شاء الله. واختلف (¬2) العلماءُ فيمن صلّى بثوبِ حريرٍ، فرُوِيَ عن ابنِ وَهْب؛ أنّه مَنْ صلَّى به وهو واجدٌ لغيره لم يُعِدْ في الوقتِ ولا في غيره، وقال ابنُ الماجِشُون (¬3): سواءٌ صلّى به عامدًا أو ساهيًا. وقال أشهب: إنّ لم يكن عليه (¬4) غيره فلا إعادةَ عليه، وإن كان عليه غيره أَعَادَ أبدًا (¬5). وقوله: "وَعَنِ التَّخَتُّمِ بالذَّهَبِ" قال علماؤنا (¬6): نَهْيُهُ عن التَّختُّمِ بالذَّهب نهي تحريم ممنوع منه للرّجال، فمن صلَّى به؟ قال أشهب: لا إِعادةَ عليه، وهذا على قياس قولِهِ في الحَرِيرِ. وقال سحنون: يُعيدُ في الوقتِ. فرع (¬7): وأمّا من صلّى وهو حاملٌ حَلْيَ ذَهَبٍ على غير هذا الوجه الّذي يُلْبَس عليه، فلا بأس عليه. ¬
وقوله: "وَعَن قِرَاءَةِ القُرآنِ في الرُّكُوعِ" ممنوعٌ منه لهذا الحديث. وقد كره مالك (¬1) الدُّعاء في الركوع. حديث: وقوله (¬2) في حديث أبي حَازِم التَّمَّار، عن البَيَّاضِيِّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - خَرَجَ على النَّاسِ وهم يُصَلُّون وقد عَلَتْ أصواتُهُم بالقرآنِ، فقال: " إنّ المُصَلِّي يُنَاجِي ربهُ، فَليَنْظُر بِمَا يُنَاجِيهِ، ولا يَجْهَرْ بعضُكُم على بعضٍ في القرآنِ" (¬3). الإسناد: البياضِيُّ اسمُه فروة بن عمرو، وبياضة فَخْذٌ من الأنصار من الخَزْرجَ (¬4)، والحديث صحيحٌ، وله طُرُقٌ (¬5) أمثلُها ما أدخله مالكٌ، وكان ذلك في نوافل رمضان. حديث مالك (¬6)، عن حُمَيْدٍ الطَّويلِ، عن أنس بن مالكٌ؛ أنّه قال: قُمتُ وراءَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، فكلُّهم كان لا يقرأُ "بسم الله الرحمن الرّحيم" إذا افْتَتَحُوا الصّلاةَ. الإسناد: قال علماؤنا (¬7): هذا الحديث عند جماعة الرُّواة للموطَّأ مرفوعٌ (¬8)، ورواه الوليدُ بن مُسْلِم، عن مالك مرفوعًا أيضًا، عن حُمَيد الطّويل، عن أنس (¬9). والحديثُ صحيحٌ (¬10) ذَكَرَهُ ابن عُيَيْنَة مُسْنَدًا (¬11)، لا غُبَارَ عليه. ¬
الأصول: قول أنس:، فَكُلُّهم كان لا يقرأُ: بسم الله الرّحمن الرّحيم" يقتضي نفي ذلك جملة (¬1). وهذا (¬2) أصلٌ في أَنَّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ليست من أمِّ (¬3) القرآن كما قال بعضهم. ويَردُّ أيضًا هذا الحديث قول من قال: إنّه من لم يقرأ في صلاته "بسم الله الرحمن الرحيم" مع أُمِّ القرآن بَطَلَت صلاتُه، ويلزم من قال بهذا أنّ يبطل (¬4) صلاة هؤلاء الأيمّة الّذين كانوا لا يقرؤون "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" إذا افتتحوا الصَّلاة. وقد رَوَى أبو بكر بن أبي شَيْبَة (¬5) من طريق عبد الله بن مُغَفَّل؛ أنّ أَبَاهُ سَمِعَهُ يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصّلاة: مع أمِّ القرآن، فقال: يا بنيَّ إيّاك والحدث، فإنِّي صلَّيتُ مع رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعثمانَ، فلم أسمع أحدًا منهم يقوله، فإذا قرأتَ فَقُل: الحمدُ لله ربِّ العالمين. والعمدةُ فيه: قول أنس: "فلم أسمعه يبدأُ ببسم الله" (¬6). ولفظ سمعه يدلُّ على الاستماع (¬7)، ولولا ذلك لقيل له: إنّ كنتَ لم تسمع فغيرُكَ قد سمع. والمعارِضُ له حديث ابن عبّاس؛ أنّه سمع النّبي - صلّى الله عليه وسلم - يبدأ ببسم الله (¬8) الرحمن الرحيم. قال الإمام: والجمع بينهما أنّ ابنَ عبّاس قال: كنّا بمكّةَ فكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله (¬9)، فلمّا هاجرنا إلى المدينة لم أسمعه (¬10) يقرأ به في صلاته. ¬
تنبيه في بسم الله الرّحمن الرّحيم: أجمعَ النّاسُ على أنّ يُكْتبَ مع أمِّ القرآن وفيه، وثبوتة في الخطِّ. ولم يجمع أنّه قرآن. فمن حلَفَ أنّه قرآن لم يلزمه شيءٌ لما قيل إنّه قرآن. وكذلك من حَلَفَ أنَّه ليس بقرآن، لم يلزمه أيضًا شيءٌ لأنّه قد قيل. وإنمّا أُذخِلَ في القرآن للفصل بين السُّوَرِ. ومن النّاس من يجعله سابع آيات الحمد، فيعتمد عليه بقسمتها، فلو كان من الحمد لم يقسم بينهما وبين الله، كما روي في الحديث، وقال العلماء بهذا. الفقه: قال الشّافعيّ (¬1): هي آية من القرآن، وقال مالكٌ: ليست بآية من القرآن (¬2). وهذا (¬3) الحديث دليلٌ (¬4) على أنّ بسم الله ليست آية من القرآن. وأما قراءة "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" في النّوافل (¬5)، فالّذي عليه شيوخنا العراقيّون من المالكيَّين أنّه لا بأس به أنّ يقرأها (¬6) في النّافلة في أوّل الحمد، وفي أوّل كلِّ سورة، وقال مثل ذلك ابن حبيب. ورَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ في "العُتْبِيّة" (¬7): يستفتحُ القراءة بالحمد لله، ويقرأُ بعد ذلك بسم الله بين كلِّ سُورَتَيْن إلّا سورة براءة. فقد حصل لنا العلم الضّرورة بنقل الكافّة؛ أنّ الحمد لله سورة من القرآن، ولم يثبت ولا وقع لنا العلم الضّروريّ أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منها، فلا يجوز إثباته قرآنًا إلّا بنقل الكافّة. ووجدنا أهل المدينة بأسْرِهِم يقولون كونها من فاتحة الكتاب (¬8)، مع اتِّصال البلوى بقراءتها (¬9). والمسألة عظيمة الموقع وقد أملى الخطيب ¬
فيها "جزءَا" (¬1) لا أصلَ له (¬2). ما يقول الإمام بعد التّكبير: فيه (¬3): أبو هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يسكتُ بينَ التَّكبيرِ والقراءة إسْكَاتَةَ - قال: أَحْسِبُه هُنَيَّهً - فقلتُ: بَأبِي أنتَ وأُمَّي يا رسولَ الله إِسكَاتُكَ بين التَّكبيرِ والقِرَاءة، ما تقولُ؟ قال: "أقول: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبينَ خًطَايَايَ، كما بَاعَدْتَ بين المَشْرِقِ والمغربِ، اللهُمً نَقِّنِي من الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبيضُ من الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالمَاءِ والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ" (¬4). الإسناد: رَوَى التّرمذيّ (¬5)، عن الحسن، عن سَمُرَةَ؛ أنَّه قال: سَكتَتَانِ حَفِظْتُهُمَا عن رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -. فأَنكرَ ذلك عِمْرَانُ بنُ الحُصَيْن، قال: حفظتُ سكتةً واحدةً. فكتبتُ إِلى أُبَيّ بن كَعْب بالمدينة، فكتبَ: أنّ حَفِظَ سَمُرَة. وروى الدّارقطني (¬6): "أَنْ صَدَقَ سمُرَةَ". وفي هذا دليلٌ (¬7) على أنّ التّحديث بالمعنى، والَّذي أشار إليه عِمْرَان بن الحُصَيْن صحيحٌ. وهو قولُ البخاريّ (¬8) ومسلم (¬9). وروى غيرهم الحديث الّذي تقدَّمَ. ¬
الفقه (¬1): اختلف العلماء في هذه السّكتة على ثلاثة (¬2) أقوال: الأوّل: أنّها ساقطة، قاله علماؤنا. القول الثّاني: أنّها مشروعةٌ لتردّد (¬3) النّفس، قاله قتادة. القول الثّالث: أنّها مشروعة ليقرأ فيها المأموم. وقول ذلك (¬4) أحسن، والافتتاح بالذِّكر أجمل، وقد رُوِيَ عن مالك في "مختصر ما ليس في المختصر" أنّه كان يقول كلمات عمر، وكلمات النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أَوْلَى وأَحقّ. العارضة فيه (¬5): قال الشّافعيّ (¬6): أُحِبُّ للإمام أنّ تكون له سَكْتَة بين التّكبيرة والقراءة، ليقرأَ المأمومُ الحمد لله رب العالمين. وقال مالكٌ والكوفيّون: لا شيء بعد التكبير إلَّا قراءة فاتحة الكتاب (¬7). واستحبّ أبو حنيفة أنّ يسبّح بعد التكبير. وقال أبو يوسف (¬8): يُسَبِّح ويقول: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية (¬9). وقال الشّافعيّ (¬10): يقرأ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الآية (¬11) ولا يُسَبِّح. وقال غيره: بل يُسَبِّح، لقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (¬12). ¬
وقال مالكٌ: إنّما يجب التّكبير ثُمَّ القراءة. تناصف (¬1): قال الإمام (¬2): ولو كانت هذه الإسكاتةُ ممّا واظب عليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يْخفَ ذلك، ولنَقَلَهَا أهل المدينة عيانًا وعَمَلًا، فيحتمل أنّ يكون فَعَلَهَا في وقت، ثمّ تركها في وقت تخفيفًا على أُمَّتِه، فتركُها واسعٌ، والله أعلم. العربية (¬3): والهُنَيَّة: كلُّ شيءٍ صغيرٍ، ندر (¬4) مِنْ شَيْءٍ. قال الفسوي (¬5): يقالُ: موهن من الوهن، وهني هُنَيَّة، وقولهم: هُنَيَّة من الدَّهْر مصروفٌ إلى هني. وقال ثَغعْلَب: هُنَيَّة، وقال: هو الأكثر في كلامهم؛ لانّهم يؤَنَّثُون هذا الحرف، فيقولون: مَضَت بُرْهَة من الدهر وحُقْبَة. قال الفسوي: وقد يجوز هُنَيْهَة والأجود هُنَيَّة، من باب هَنَأَ، وهُنَيْهَة من باب هنة. فأمّا هُنَيْئَة بالهَمْزِ فلم أسمعه في لِسَانِ العَرَبِ. حديث يزيد بن رومان (¬6): أنّه قال: كنتُ أُصلَّي إلى جانب نَافِعِ بن جُبَيْرِ بن مُطعِمٍ، فيَغْمِزُنِي فَأَفَتَحُ عليه وأَنَا في الصَّلاةِ. الأصول: قال الإمام: يُعْتَرَضُ على مالك - رحمه الله - فَي أمر نافع بن جُبَيْر، ويقال: كان يجب عليه أنّ يسوق حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وفعل الصّحابة، وأمّا فعل نافع بن (¬7) جُبَيْر بن مُطعم فليس بُحجَّةٍ. فالجواب عنه: أنّ (¬8) مالكًا - رحمه الله - كانت عنده دلائل وقياسات وحُجَج، ¬
وإنّما ساقَهُ ونبَّهَ عليه لشُهْرَيهِ ورِضَى النّاس به ليَقْتَدُوا به، فإنَّ مالكًا لم يكن مشهورًا كشهرته، والله أعلم. الفقه (¬1): قوله: "فَيَغْمِزُني" في الصّلاة، قال عيسى بن دينار: يغمزُ بيَدِه دون الغَمْزِ بالعَيْنِ، يَستَدْعِيهِ أنّ يفتح عليه. وقد أجاز مالكٌ وغيره الفَتْح على الإمام في صلاة الفريضةِ والنَّافِلَةِ، وذلك أنّ المُرتجَ عليه والفَاتِح لا يخلوان أنّ يكونا في صلاةٍ واحدةٍ، أو في صلاتَيْنِ. أو يكونَ المُرْتَج عليه في صلاة، والفاتح عليه في غير صلاةٍ. فإن كانَا في صلاةٍ (¬2)، فلا خلافَ أنّ الفَتْحَ عليه لا يُبْطِلُ الصّلاة (¬3)، ولم ير بِه مالك (¬4) بأسًا، وكرهه الكوفيّون (¬5). وإن كانا في صلاتين فلا يفتح أحدهما على الآخر، فإن فتح عليه، فقد قال ابنُ القاسم في "المجموعة": قد أبطلَ صلاتَهُ وهو بمنزلةِ الكلام. وقال ابنُ حبيب: لا يعيدُ. وبه قال أشهب. ولا بأس أنّ يفتحَ من ليس في الصّلاة على من هو في صلاة، قاله مالكٌ في "المختصر" (¬6). والفَتْحُ على الإمام إنّما يكونُ إذا أُرْتِجَ عليه وإذا غَيَّرَ قِرَاءَته. فأمّا عند الإرْتجاج (¬7)، فهو إذا وقفَ ينتظرُ التَّلْقِينَ. وأمّا إذا غّيَّرَ القراءة، فلا يُفْتَح عليه وإنْ خرجَ من سورةٍ إلى سورة، أو قرأ آية أخرى (¬8) ما لم (¬9) يَخْلِط آية رحمة بآية عذابٍ، فإنّه يُنَبَّه على الصّواب لئلَا يخرج إلى الكفر. ¬
ما جاء في أم القرآن
وإن لم يفتح المأموم على الإمام مع التَّوقُّفِ، فوَجْهُ العَمَلِ أنّ يتردد (¬1) ويُخَطرِف تلك الآية، فإنْ تَعَذَّرَ عليه ركَعَ وسجَدَ وسلَّمَ. قال مالك: "ولا ينظر في المصحف إنّ كان بين يَدَيْهِ"، وهذا كلُّه إنّ أُرْتِجَ عليه في غير أُمِّ القرآن وأمّا إنّ أُرْتِجَ عليه في أمّ القرآن. فليستدع الفَتْح من حيث أَمْكَنَهُ، وَلْيَغْمِزْ من يصلِّي معه، ولينظر في مُصْحَفٍ إنّ كان بين يديه أو قريبًا منه. فإنَّ ذلك ممّا تدعو الضّرورة إليه ليُتِمَّ فَرْضَه. ما جاء في أمِّ القرآن مالك (¬2)، عن العلاءِ بن عبد الرّحمن بن يعقوبَ؛ أنّ أبا سعيدٍ مَوْلَى عَامِر بنِ كُرَيْزٍ؛ أَخْبَرِهُ: أَنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - نَادَى أُبَيَّ بن كَعْبِ وهو يُصَلِّي، فلمَّا فَرغَ من صَلاته لَحِقَهُ، فَوَضعَ رسولُ الله يَدَهُ على يَدِهِ، وهو يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ المَسْجِدِ. الحديث. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬3): "هذا حديثٌ مُرْسَلٌ عند جميع رواة الموطّأ" (¬4) ويُسْنَدُ من طريق أبي هريرة (¬5). ومن الغريب ما رُوِيَ في المصنَّفَات عن أُبيّ بن كَعْبِ - رضي الله عنه - أنّه قال: أخذ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بيدي، فقال لي: "يا أُبىّ، أنا أُحِبُّكَ في الله عَزَّ وَجَلَّ"، قال: فقلتُ: وأنا أُحِبُّك في الله عَزَّ وَجَلَّ يا رسولَ الله، فقال لي: "يا أُبىّ، لا تَدَعْ أنّ تقول في سُجُودِكَ: ربِّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (¬6) حديث غريبٌ، إلَّا أنَّه لم يُخَرِّجْهُ أهل الصِّحّة. ¬
التَّرجمةُ (¬1): قال شيخُنا الإمام: إنمّا أدخله مالكٌ حُجَّةً في تعيِينِ الفاتحةِ في الصّلاةِ؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لأبيٍّ بن كعبِ: "كيفَ تقرأُ إذا افتتحتَ الصّلاة؟ " فقال: الحمد لله ربّ العالمين، فعيَّنَها قولًا وفعلًا وبيانًا وتنبيهًا (¬2). وفيها أيضًا: الحُجَّة القاطعة في إسقاط بسم الله الرحمن الرّحيم، وأنهّا ليست بآية، لمَا أقَرَّهُ النَّبيّ -عليه السّلام- على ذلك. وفيه نُكتَهٌ بديعة في إسقاط التعوُّذِ، خلافًا لمن يقول: يتعوَّذُ لأنّه يستغنِي عن الاستعاذة عند تكبيرة الإحرام؛ لأنّ الشيطان حينئذٍ يدبرُ عنه من أجل الإقامة ثمّ يرجع بعد ذلك. وقوله (¬3): "باب ما جاء في أمِّ القرآن" فيه كلامٌ لأهل العربيّة. العربية: قوله: "أمِّ القرآن" فكلُّ شيءٍ يضمُّ إليه ما يليه فهو أمٌّ منه: امِّ الرّأس للدِّماغ، وأمُّ الطّريق (¬4) لوسطها، وأمُّ القُرَى هي مكّة، وأمّ الرُّمح أَعْلاَهُ؛ لانّه مقدّمه وما بعده مضموم إليه. وسُمَّيت أمّ القرآن لأنّه ليس فيها زائد على ما تَضَمَّنَه البيان لمُجْمَلِهَا (¬5). الأصول (¬6): أمّا قوله: "مَا أَنزلَ في التَّوْرَاة والأنْجِيلِ والقُرآنِ مثلَها" وذكر "الفُرْقَان" أيضًا وسكت عن سائر الكُتُب والزَّبُور والصُّحف؛ لأنّ هذه أفضلها، وإذا كان الشّيءُ أفضل الأفضل، كان أفضل الكلّ (¬7)، كقولك: زيدٌ أفضل العلماء، فهو أفضل النّاس. وفَضلُهَا يكون على غيرها بوجوهٍ: الوجهُ الأوّل: أنّ الشَّيءَ قد يشرُفُ بذاته كشَرَفِ الله على مخلوقاته، وليس هذا ¬
لفاتحة الكتاب؛ لأنّ الذّاتيّة في الكُلِّ واحدةٌ وهي كلامُ الله (¬1). الوجه الثّاني: أنّ الشيءَ قد يشرُفُ بصفاته، وذلك للبارىء على الحقيقة (¬2) والإطلاق دون سائر المخلوقات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬3) وفي الفاتحة شيءٌ من هذا الشَّرَفِ، وبه شرف النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على سائر الآدميِّينَ؛ لأنّ الذَّاتَ له ولهم واحدةٌ، وإنمّا يشرفُ بالصّفات وهي متعدّدةٌ وقعتِ الإشارةُ إلى فَضْلِهَا في قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} الآية (¬4)، ووقعَ التّنبيه على جميعها في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬5). وفي الفاتحة من الصّفات ما ليس لغيرها، حتّى قيل: إنّ جميع القرآن فيها، وهي خمسة وعشرون (¬6) كلمة تضمَّنَت جميع علوم القرآن، ومن شَرَفِهَا أنّ الله تعالى قسمها بَينَهُ وبين عَبْدِهِ، وهو الوجه الثّالث. الوجه الرّابع: أنّه لا تَصِحُّ القراءة (¬7) إلَّا بها. الخامس: أنّه لا يلحق ثوابُ عملِ بثوابها (¬8)، والله عَزَّ وَجَلَّ يفاضلُ بين الثّواب في الفِعْلَينِ وإن اسْتَوَيَا. وبهذه المعاني كلّها صارت القرآنَ العظيم، كما صارت {قُلْ هوَ اَلله أحدٌ} تعدل ثُلُث القرآن (¬9)، إذِ القرآنُ توحيدٌ وأحكامٌ وَوَعْظٌ و {قُلْ هوَ اَلله أحدٌ} (¬10) فيها التوحيد كلّه. وبهذه المعاني وقع البيان في قوله - صلّى الله عليه وسلم - لأبَّىِّ بن كعبٍ: " أيُّ آيةِ في القرآنِ ¬
أعظمُ؟ " قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قال: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ يا أبا المُنْذِرِ" (¬1). وإنّما كانت أعظم؟ لأنّها توحيدٌ كلّها، كما صار قوله: "أفضلُ ما قُلتُه أنا والنّبيُّونَ من قَبْلِي: لا إله إلَّا الله" الحديث (¬2)، أفضلُ الذِّكر؛ لأنّها كلمةٌ حَوَت علوم جميع التّوحيد، والفاتحةُ تضمّنت التّوحيدَ كلّه والعبادة والوعظ والتّذكير، ولا يُسْتَبعَدُ ذلك في قُدْرَة الله، فإن الله جَمَعَ التوحيدَ كله في آية الكُرسيِّ، ثم جَمَعَه (¬3) في أقل حروفًا منها التّوحيد، وهو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬4). ثمّ جمعه لرسوله في كلماتٍ يوم عرفة المتقدِّمة (¬5). ثمّ جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬6). وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (¬7). الوجه السّادس: قوله: "السَّبْع" فهي سَبْعُ آياتٍ تضمّنت من العلوم ما لم يتضمّن سواها في قَدرِها. الوجه السّابع: قوله: "المَثانِي" وهي مثانٍ لمعانٍ: منها: ما تشتركُ فيه مع القرآن في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية (¬8). ومنها: ما تنفردُ به، وهي أنّها تُثَّنى في كلّ ركعةٍ. ومنها: أنّ الله جعلها قِسْمَين بينَهُ وبين عَبدِهِ: "ولعبدي ما سَألَ" (¬9) ومنها: أنّها قسمان أيضًا: عبادة (¬10) ودُعَاء. ¬
ومنها: أنّها وردت على الازداوج؛ اثنين اثنينِ، قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وهذا كلّه مَثْنَى، ويصحّ أنّ تكون مثاني بهذه المعاني كلّها. وقد ذكرنا أنّها سبعٌ، كما ذكرها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. وذُكِرَ أيضًا أنّه قال: "سورةُ المُلْكِ ثلاثونَ آية" (¬1) وتعدِيدُ الآيِ من مُعضِلِ القرآن. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬2): قال علماؤنا (¬3): إنْ حملنا الخبرَ على أنّ النَّبىَّ صلّى الله عليه عَلِمَ بصلاةِ أُبِيّ، ففي ذلك مناداةُ (¬4) المُصَلِّي، وذلك بالأمر اليسير ممّا لا يشغله في الصّلاة. وقال ابن حبيب: سواءٌ كان في مكتوبة أو نافلة، فامّا إنّ كان كثيرًا لا يَعِيهِ (¬5) إلّا مع الإقبال والاشتغال عن صلاته، فلا يجوز؛ ولذلك لم يخبر النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أُبيًّا في الصّلاة بما أَخْبَرَهُ به بعد الفراغَ منها. وقال الدّاودي: معنى ذلك أنَّه أَمِنَ على أُبَيّ أنّ يجيبَهُ في الصّلاة لِعِلْمِهِ، وفي هذا نَظَرٌ؛ لأنّ النَّبىَّ قد احتجَّ على أبىّ بَعْدَ إخبارهِ بأنَّه كان يصلِّي، بقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية (¬6)، وهذا يقتضي أنّ الأمر يقتضي إجابة النّبيّ في حالِ الصّلاة. ويحتمل أنّ يكون جواب أُبيّ النّبيّ لو أجابَ بالتلبية والصّلاة عليه، لا يقطع صلاته، ويكون هذا حُكمًا يختصُّ بالنَّبي -عليه السّلام-؛ لأنّ أُبَيًّا مأمورٌ بإجابته بالتّلبية (¬7)، والتّعظيم له والصّلاة عليه من الأذكار الّتي لا تُنَافِي الصّلاة. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله: "فَوَضَعَ يَدَهُ على يَدِهِ" هذا على معنى التأنيس له والتّقريب. وقولُه: "ما أنزلَ في التَّوْرَاةِ" الحديث، قال بعض أشياخنا: إنّ معنى ذلك أنّها تُجْزِئ عن غيرها في الصَّلاةِ، ولا يُجْزِىء غيرها عنها. المسألة الثّالثة (¬2): قوله: "فجعلتُ أُبْطِىء" دليلٌ على حِرْصِهِ على العلم وإفادته. وقوله: "الّذي أُعْطِيتُ" يريدُ الحمد، ومن هذا ذهب جمهورُ العلماء إلى أنّ القراءةَ شرطٌ في صِحَّة الصّلاة. فإذا ثبت هذا، فالّذي يجب قراءته أمّ القرآن، وبه قال مالك والشّافعيّ (¬3)، وأحمد (¬4)، وإسحاق، وأكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة (¬5)، والأوزاعيّ والثّوري: يَقرَأُ ما شاءَ من القرآنِ. ودليلُنا: خَبَرُ أبي قتادة؛ أنّه كان يقرأُ في الرَّكعَتَيْنِ المتقدِّمتين سورة مع أمّ القرآن، وفي الرَّكعَتَيْن الأُخْرَيَيْنِ بأُمِّ القرآن في كلِّ ركعة (¬6). ومَن قرأَ بأمّ القرآن في كلّ ركعة فقد أَتَى بما لا خلافَ في صِحَّتِه، وإن تركَ قراءَتُهَا فلا خلاف أنّ صلاته غير مجزئة، إلَّا رواية شاذَّة رواها الواقدي، والجمهور على خلافها. المسألة الرّابعة (¬7): فإن ترك الحَمدَ من ركعة، ففي "المدوّنة" (¬8) عنه ثلاث روايات كلّها عن مالك، هذا إذا كانت رُبَاعِيّة، فإن كانت ثُلاثية، فقد سُئِلَ ابنُ القاسم (¬9) عن ذلك فقال: الصّلاةُ عند مالك واحدةٌ، ومن تركها في ركعةٍ من الصُّبْحِ أعادَ، وتأوَّل ذلك بعض علمائنا أنّها بمنزلة الرُّباعية. وحكى هذا القول ابن الموّاز عن مالك - رحمه الله -. ¬
القراءة حلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة
القِراءَةُ حَلْفَ الإمامِ فيما لا يَجْهَر فيه بِالقراءَةِ الحديث (¬1)، قوله: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِاُمِّ القُرآنِ فَهِي خِدَاجٌ". الحديثُ صحيحٌ من طُرُقِ. الترجمة (¬2): قال أشياخنا (¬3): تَرْجَمَ مالك - رحمه الله - على هذا الحديث بالقِرَاءَةِ خَلْف الإمام فيما لا يَجْهَر فيه. وذهب جماعة من العلماء الشّارحين للموطَّأ؛ أنّ التّرجمة مَبْنِيَّةٌ على قوله: "كلُّ صلاةٍ لا يُقرَأُ فيها بأُمِّ القرآن فهي خِدَاجٌ" (¬4) وهذا لا يجوز؛ لأنّ معناه ما قدّمناه من أنّها غير تامّة ولا مجزئة. قال الإمام (¬5): والأظهرُ عندي أنّ رَسمَ التّرجمة مبنيٌّ على قَوْلِ أبي هريرة: "اقرَأ بِهَا في نَفْسِكَ يَا فَارِسيُّ"، والقراءةُ في النّفس في الصّلاة هي تحريكُ اللِّسانِ وإن لم يسمع نفسه. العربية: قولُه: "فَهِيَ خِدَاجٌ" قال الخليل (¬6): "خَدَجَتِ النَّاقةُ: إذا وضعت وَلَدَهَا ناقصًا غير تامٍّ" وهذا (¬7) معناه في اللُّغة لا غير (¬8). ¬
وقد يقال: خَدَجتِ النَّاقَةُ فهي: خِدَاجٌ، وأَخْدَجَتِ فهي مُخْدِجٌ: إذا أَلْقَتْ وَلَدَها قبل تَمَام خَلْقِهِ. ويقال: خَدَجَتْ: إذا أَلقَت دمًا (¬1)، فالمعنى أنّ الصَّلاةَ إذا لم يقرأ فيها بأُمِّ القرآن فهي ناقصةٌ. الأصول (¬2): قال الإمام (¬3): وقد تعلَّقَ بعضُ علمائنا في هذا بهذا اللّفظِ، وجعلَهُ دليلًا على الإجزاءِ؛ لأنّه سمَّاهُ (¬4) صَلاةً، ووصفَها بالنُّقْصان. وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنّ اسْمَ الصّلاة ينطلقُ على المُجْزِىء منها وغير المُجْزِى، وإطلاقُ اسم النُّقصان عليها يقتضي نقصانَ أجزائها، والصّلاةُ لا تتبَعَّض، فهذا بَطَلَ بعضُها بَطَلَ جميعُها، وقد أكّده بقوله: "غَيرُ تَامٍّ" فإن قرأَ في بعض ركعاتها دون بعض، فهذه قضيَّةٌ لم يذكر (¬5) حكمها في هذا الحديث. وأمّا لفظه من جهة المعاني: فيُخْرِجُ فسادَ كلِّ (¬6) ركعةٍ لا يُقْرَأُ فيها بأمِّ القرآن على ما قدَّمناهُ. وقول أبي السَّائِبِ: "فقُلتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وراءَ الإمَامِ". فقال: "اقرْأ بِهَا في نفَسِكَ يَا فَارِسِيٌّ". قال الإمام الحافظ: مذهبُ أبي هريرة القراءة خَلْفَ الإمام، ولذلك قال: "اقرَأْ بِهَا في نَفْسِكَ يَا فَارِسِيٌّ" وهي حُجَّةُ الشّافعيّ (¬7) في ذلك، يقول: يقرأُ في السِّرِّ والجَهرِ؛ لأنّ أبا هريرة يقولُ: "قال الله: قَسَمْتُ الصّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبدِي" قال: فلمّا كانت فَرْضًا على الإمام، كذا هي فرضٌ على المأموم. قلنا: الدليلُ في قول أبي هريرة؛ لأنّه قال: "اقرَأْ بِهَا في نَقسِكَ يَا فَارِسِيُّ". والقراءةُ في النَّفسِ تُسَمى قرآنًا حقيقةً. كما قال الأَخْطَل (¬8): ¬
إنّ الكَلامَ لَفِي الفُؤَادِ وإنَّمَا ... جُعِلَ الكَلاَمُ عَلَى اللِّسانِ (¬1) دَلِيلًا وسيأتي الكلام على هذا في الباب الّذي يليه إنّ شاء. حديث: "قَسَمتُ الصّلاة". قال الإمام: الّذي يتعلَّقُ بهذا الحديث من العِلْمِ طريق الأصولِ في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: قوله: "يَقُولُ اللهُ: قَسَمْتُ الصّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي" الحديث. قال علماؤنا: لا ترجعُ هذه القسمة إلى الحروف ولا إلى الآيات، وإنّما ترجعُ إلى المعاني، والدّليل على ذلك أنّه إذا قال العبدُ: الحمدُ للهِ، قال اللهُ: حَمِدَني عَبْدِي. وإذا قال: كذا، قال الله مثل ذلك، فقابَلَ اللّفظَ بما يَنُوبُهُ (¬2)، الحمدُ بالحَمْدِ؛ لأنّه أراد المعاني. تنبيه: فإن قال قائل: كيف جازتِ القِسْمَةُ في هذه الآية وهي مُشْتَرَكَة؟ فالجواب: أنّها وإن كانت مشتركَة في (¬3) اللَّفظ، فهي منقسمةٌ في المعنى؛ لأنّ صُنْعَ عبادة العبد لربِّه لا يشارِكُه فيها الرَّبّ، كما أنّ الاستعانة (¬4) باللهِ لا يشارِكُ فيها العبد، فإنّما أراد بالقِسْمَةِ عدد الآي خاصّة دون عَدَدِ الحروف والألفاظ، ومن ذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬5) ثم إنه قسم الصّلاة بينه وبين عبده بنِصْفَيْنِ، ثم عدّ آي القرآن فسمّاها صلاة؛ لأنّ الصّلاة الدُّعاء كما بينّاه. فالصّلاةُ لا تتمُّ إلَّا بالحَمْدِ والدُّعاء كما قال - صلّى الله عليه وسلم -: "الحجّ عرفة" (¬6) لمّا كان الحجّ لا يتمُّ إلَّا بعَرَفَة, فصحّ المعنى فيها، والله أعلم. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قولُه: "يقولُ اللهُ: حَمِدَنِي عبْدِي" أي أّثْنَى عليَّ. فالثّناءُ حَمْدٌ وتمجيدٌ (¬2)، وكلُّ واحد منهما يُعَبَّر به عن صاحبه (¬3)، ولكن خصَّ كلَّ واحدٍ بمعناه الأخصّ، فخصيصةُ الحَمْدِ التّحميدُ، هُوَ هُوَ، وهو أعمُّ صفاتِ الثّناءِ؛ لأنّه يتضمّن الثّناءَ بما هو المُثْنَى عليه في ذاته، وما صدر من فعله (¬4)، والثناءُ هو ذِكْرُ محاسِنِ أفعاله. والتّمجيدُ (¬5) هو الإخبار عن صفاتٍ (¬6) فيها العُلُوُّ والعَظَمَةُ؛ لأنّ المَجْدَ (¬7) نهايةُ الشَرَفِ، ولله الأسماء الحسنى، والصِّفات العُلَى، والأفعال الّتي لا تُدَانَى، فهو المحمودُ، ومنه إفاضة النِّعمة ابتداءَ، وإقالة العَثرة، وحُسْنِ التَّدارُكِ بعد الزَّلَّةِ. وذلك (¬8) كلّه مصدره الرّحمَة، وله أنّ يهلك الخَلْقَ بأجمعهم، وأن يُحْسِنَ إليهم كلّهم، ولا يَخَافُ عاقبةً (¬9)، ولا يرجوا عِوَضًا، فهو المالِكُ حَقًّا، وخصَّ يوم الدِّين لعظيم الأفعال الّتي فيه، ومَنْ مَلَكَ الأعظمَ والنّهايةَ فقد مَلَكَ الأقَلَّ والبدايةَ. والتسليم بالكُلِّ والتّفويض؛ لأنّه إنّ أعان العبدَ عَبَدَهُ، وإن خَذَلَهُ جَحَدَهُ (¬10). مزيد إيضاح: فإن قيل: وهل يكون الحمد غير الثّنَاء، أو هو عين الثّنَاء؟ الجواب: قلنا: لعلمائنا فيه خمسة أقوال: قيل: إنّ الحمدَ هو الشُّكر، فالمعنَى: الحمدُ لله، أي الشّكر لله، فالحمدُ والشّكرُ مترادفان. القول الثّاني: أنّ الحمدَ هو الخَبَرُ عن الشّيء بما فيه من صفات حَسَنَةٍ، والشّكرُ هو الخبرُ عنه بما هو من أفعاله. ¬
واحتجّ مَنْ زعمَ أنهما شيءٌ واحدٌ بقول العرب: حمدتُ فلانًا وشكرتُه، فلا يفرقُون بينهُما، وعَضَدُوا ذلك بقول العرب: الحمد لله شكرًا، فجعلوا الشُّكرَ مصدرًا للحَمدِ، ولولا أنهُما شيءٌ واحدٌ ما صَدروا به عنه. تحقيق: قال الإمام الحافظُ: والذي اتّفق عليه المحقِّقون من علمائنا أنّهما شيءٌ واحدٌ، وأن العربَ لا يفرِّقون بينهما، وهو وَهمٌ منهم. وأمّا قولهم: إنهما شيء واحدٌ، فدَعْوَى، ومِن أين عَلِمُوا هذا الاعتقاد! ونحن نقول: إنّما جمعوا بينهما لمّا أُخبِرُوا أنّهم أَثنَوا عليه بصفاته وأفعاله معًا. وأمّا حُجَّتُهُم: الحمدُ لله شكرًا، فهو ضعيفٌ؛ لأنّ العربَ قد تُجري المصدر على غير المصدر، وتذكُرُه من غير لفظ الفعل، ولكن تحمله على لفظه. وأمّا الحمدُ، ففيه أقوال خمسة: القولُ الأوّل: أنّ يكون "فَعِيلًا" من حامد، كقولنا: "عليم" من عالم، و"حكيم" من حاكم. القول الثّاني: أنّ يكون "فعيلًا" بمعنى مفعول، كقولك: كفّ خضيب، ورجل قَتِيل. القولُ الثّالث: أنّ يكون "فعيلًا" من الرِّضَى بالوجهين. القولُ الرّابع - قال بعضهم: الحمدُ هو الرِّضَى، من قولك: حمدتُ كذا، إذا اخترته فرضيته، وحمدته إذا خَبِرْتَهُ محمودًا. قال الإمام: والذي عندي من القولِ الصَّحيح ما قدَّمناهُ، من أنّه بمعنى الحمد الّذي هو الثّناء والمَدْحُ، وأنّه يجوز أنّ يكون فعيلًا من فاعلٍ، وفعيلًا من مفعولٍ. وقال جماعة من العلماء: إنّ الحميد هو المستحقّ للحمد والمدح والثّناء, وإن البَشر لا يحمدونه في الحقيقة (¬1)، وما قدرَ أحدٌ أنّ يحمدَهُ إلَّا هو حمد نفسه، ألَّا تَرَى أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: "لا أُحصِي ثَنَاءً عليكَ أنتَ كما أَثنَيتَ على نَفْسِكَ" (¬2). ¬
تنبيهٌ: واعلم أنّ الحمدَ لا يتصوَّر من الذّام (¬1)، إلّا في حقِّ البارئ تعالى، فإنَّ كُفْرَ الكافر به حمدٌ له. ويجب أنّ تَعلَمَ أنَّه لا يحمد المحمود على غير فِعْلِهِ إلَّا هو، فإنه حَمِدَ الخَلْقَ وأثْنَى عليهم وليس لهم فِعْلٌ، إنّما الفعلُ له، والحمدُ له ومنه. تنزيهٌ: فينبغي للعبد أنّ يحمدَ مولاَهُ وينزِّهَهُ عن كلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ، فإنّه الّذي استوجبَ الحمدَ والثّناءَ، وإنه العالِم الّذي لا يَخْفَى عليه شيءٌ, وإنّه الرّقيبُ الّذي أَحْصى كلَّ شيءٍ، وإنّه الشّهيد الّذي لا يغيبُ، وإنّه الحافظ بكلِّ معنى، وإنّه الّذي يجب له الكمال، وإنه الّذي يستحيل عليه الزّوال، وإنّ التّصديقَ والتَّكذيبَ إليه، والصَّادقُ الّذي يستحيلُ الكذبُ عليه. المسألة الثّالثة: قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2) فالعبدُ به يستعين وهو المُعين، إذ لا مُعينَ سِواهُ. "فَهَذ بَينَهُ وَبَيْنِ عَبْدِهِ"، نصٌّ على أنّها آيةٌ واحدةٌ. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} (¬3) "فَهُؤُلاَءِ لعَبْدِي" نصٌّ أيضًا على أنّها أكثرُ من آيةِ واحدةٍ. وبذلك صارتِ الفاتحةُ سبعَ آياتٍ بإسقاط "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". خاتمة: فإن قيل: أين القِسْمَة في الفاتحة؟ قيل: إنّ القِسْمَةَ عند قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} هو لله (¬4) تعالى، والنّصف الثّاني من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلى آخر السُّورة للعَبْدِ بلا خلافٍ. ¬
ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه
تركُ القراءة خَلْفَ الإمام فيما جَهَرَ فيه الفقه: اختلف العلماء في قراءة المأموم على ثلاثة أقوال (¬1): القول الأوّل: أنّه يقرأ إذا أَسَرَّ، ولا يقرأ إذا جَهَرَ، وهو المذهب (¬2). القولُ الثّاني: يقرأ في الحالَتَيْن. القول الثّالث: لا يقرأ في الحالتين. قال بالقول الأوّل: مالك وابن القاسم. وقال بالقولِ الثّاني: الشّافعيّ (¬3) وغيره، ولكنّه قال (¬4): إذا جَهَرَ الإمام قرأ هو في سَكَتَاتِهِ. وقال بالقول الثّالث: ابنُ حبيب، وأشْهَب، وابن عبد الحَكَم. قال الإمام: والصّحيح وجوب القراءة (¬5)، لقوله: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمَّ القرآن" (¬6). حديث مالك (¬7)، عن ابن شهاب، عن ابنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - انصرفَ من صلاةٍ جَهَرَ فيها بالقراءةِ، فقال: "هلْ قرأَ معي مِنْكُم أحَدٌ آنِفًا؟ " فقال رجل: نعم، يا رسولَ الله. قال: فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّي أقُولُ مَالِي أُنَازعُ القرآن" فانْتهى النَّاسُ عن القراءةِ مع رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فيما جَهَرَ فيه رسولُ الله بالقراءةِ حينَ سمِعُوا ذلك من رسولِ الله. ¬
الإسناد: قال الإمام: انفردَ عامر بن أُكَيمَةَ بهذا الحديث، وقال البخاريّ (¬1): "اسمه عُمَارة. وقيل اسمه عامر (¬2) بن أُكَيمَةَ، وكنيته: أبو الوليد" والحديث عنه (¬3) صحيحٌ ثابت، وبه قال مالك وأهل المدينة في ترك القراءة خَلْف الإمام فيما جَهَرَ فيه الإمام بالقراءة. وخرّج التِّرمذِّي (¬4)، عن عُبَادَة بن الصَّامِت، قال: صَلَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في الصُّبْحَ، فَثقلَت عليه القراءةُ، فلمَّا انْصَرَفَ قال: "إنِّي لأرَاكُم تَقْرَأُونَ القُرآنَ وراءَ إمَامِكُم؟ " قالوا: قلنا: يا رسولَ الله، إي والله، قال: "لا تفعلوا إلَّا بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها" حديث حَسَنٌ في الباب (¬5). الأصول: قولُه: "مَالِي أُنَازَعُ القُرْآنَ" يريد أنكم إذا جهرتم بالقراءة فقَرَأْتُم معي في الصّلاة، نَازَعْتُمُوني في قراءتي، إذ لا تنصتونَ، لقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬6). قيل: إنّها نزلت في الصّلاة، قيل: فانْتَهَى النَّاسُ عن القراءة. قال الإمام (¬7): وحديث عُبَادة مفسَّرٌ، والمُفَسَّرُ يقضِي على المُجْمَل. واختلفوا في قوله: "إلَّا باُمِّ القُرآنِ" (¬8) هل هو على العموم أو الخصوصِ؟. فقالت طائفة: هو على العموم، ويجب على المرء في كلِّ ركعةٍ (¬9) كان إمامًا أو مأمومًا (¬10). ¬
ما جاء في التأمين خلف الإمام
واستثنت طائفة فقالوا: يقرأ، إلَّا أنّ يكون خَلْف إمامٍ (¬1). وقالت طائفة: لا بُدَّ من أمِّ القرآن في كلِّ ركعة. خاتمة: أمّا قوله: "أمّ القُراَن" فذكر قَبِيصَة بن ذُؤَيْب من طريق رواه؛ أنَّه لا يقال أو لا يقولنّ أحدكم: أمّ القرآن، ولْيقُل: فاتحة الكتاب، رواهُ ابن سَلّام عن قَبِيصَة بن ذُؤَيْب أيضًا (¬2). ويقال: أمُّ القرآن على معنَى أنّها أصل القرآن، وأوَّلُ ما يُقرَأُ من القرآن، والله أعلم. ما جاء في التَّأمين خَلْفَ الإمامِ قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ (¬3). وقوله (¬4): "إذا أَمَّنَ الإمَامُ" قيل معناه: إذا بلغَ مَوْضِعَ التَّأمينِ، كقولهم: أَحْرَمَ، إذا بَلَغَ الموضعَ الحرامِ، وأنْجَدَ إذا بلغ موضعَ العُلُوِّ، وذلك كقوله (¬5): "إذَا قَالَ الإمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬6) فقولُوا آمِينَ" ليجتمع الحديثَانِ، وعليه ثبتت روايةُ المصريِّين عن مالك؛ أنّ الإمام لا يُؤَمِّن. وأمّا على رواية المَدَنِيِّين؛ أنّه يؤمِّن الإمام سِرًّا. وعند الشّافعيِّ (¬7) أنّه يؤمِّن جَهْرًا، وقال ابن شهابٍ: كان رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلم - ¬
يقول: آمين (1). وفي "البخاريّ" (2): يقولُها النّاس حتّى إِنّ للمَسْجِدِ لَلَجَّةً. قال الإمام الحافظ: وكنت بجامع الخليفة، إذ قال الإمام يوم الجمعةِ: {وَلَا الضَّالِّينَ} فجَهَر النّاسُ بآمين، حتّى إنّي أقول قد انقضَّ المسجد. والصّحيح عندي أنّه يسرُّ بها الإمام، وبذلك يجتمع الحديثَانِ. العربية: قلت: معى آمين عند خاتمة أمِّ القرآن: كذلك يكون. وقيل: هو اسمٌ من أسماء الله تعالى، فإذا قال: آمين، فكأنه. قال: يا أمين اغفر لنا واغفِر لي. وقيل: معناه اللهمّ اسْتَجِب (3). ولا يصحُّ عندي أنّ يكون اسمًا للبارىء سبحانه؛ لأنّه لم يرد به نصٌّ ولا خَبَرٌ. وفي آمين عند أهل اللّغة روايتان ولغتان: المدُّ والقَصْرُ كلاهما. والقَصْرُ أَفْصَحُ (4). وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: ما حسدتكم النصارى على شيء كما حسدتكم على آمين (5). الأصول (6): قولُه (7): "وقالتِ الملائكةُ في السَّماءِ: آمِينَ" كان يحتملُ أنّ يريدَ به الحاضِرِينَ للصّلاة الشّاهِدينَ لها، إلَّا أنّه قال في الحديث: "وقالتِ الملائكةُ في السَّماءِ آمينَ" وَوَجهُ الجمعِ بينهُما؛ أنّ الملائكةَ الحاضرينَ تقولُها، ويقولُها مَنْ فوقهم، حتّى تنتهيَ إلى ملائكة السَّماء، فإنهم صافُّون بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ إلى العَرْشِ، على ما
ورد في الخَبَرِ والأثَر (¬1). وفي هذا الحديث: إثباتُ وجودِ الملائكةِ. ومعنى موافقة تأمين الخَلق تأمين الملائكة، فيه للعلماء خمسة أقوال: القول الأوّل: الموافقةُ للابتداء، وهي النِّية والإخلاص، ولا قَبُولَ إلَّا بهما، وعلى هذا التّركيبِ الأعمالُ. القولُ الثّاني: الموافقةُ في الفائدة، وهي الإجابةُ، والمعنى: من اسْتُجِيبَ له كما يُستجابُ للملائكةِ غُفِرَ له (¬2) ما تقدَّمَ من ذَنْبِه. القولُ الثّالث: من وافَقَهُ في الوقتِ حينَ (¬3) يَتَوَارَدُوا (¬4) عليه جميعًا، فَتَعُمُّ النّاس البركة الكائنة مع الاشتراك مع الملائكة. القولُ الرّابع: الموافقةُ في الكيفية، وهي بأن يَدْعُو لنفسه وللمسلمين كما تفعلُ الملائكةُ؛ لأنّها تدعوا لجميع الخَلْقِ، كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬5). القولُ الخامس: أنّ يَدْعُوَ في طاعة ولا يَمْزُجُها بدنيا، فإنّها أقرب إلى الإجابة. وقوله: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فيه فائدة حَسَنَةٌ، وهو أنّه يُغْفَرُ له وإن لم يَسْألَ المغفرة؛ لأنّ الملائكة سألتها له، لقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬6). تأصيلٌ: وأمّا وقوعُ المغفرةِ للذّنوب، فإنها تكون على الوجه الّذي بيّنّاه في التّفصيلِ بين الكبائر والصّغائر في "كتابِ الوُضوء". وقيل: إنّ ذلك في الزّمان، واللهُ أعلم. ¬
حديث مالكٌ (¬1)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بَكرٍ، عن أبي صالحٍ السَّمَّان، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:، إذا قالَ الإمامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فقولوا: اللهمَّ ربَّنَا ولَكَ (¬2) الحَمدُ، فَمَن وَافَقَ قَوْلُهُ قَولَ الملائكةِ غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنْبِهِ". الإسناد: وقعَ في روايةِ ابنِ بُكَيْر (¬3) عن مالكٌ: "وإذا قالَ: سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَهُ، فقولوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، وفي رواية يحيى (¬4): "رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ" فروايةُ ابن بُكَيْر بزيادة "واو" معناه: ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا ولك الحمدُ، فعطف بالواو على كلام مُضْمَرٍ في الحديث، كأنّه قال: اسْتَجِبْ لنا ولك الحمد على ذلك، والله أعلم. الأصول (¬5): قوله: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" يحتَمِلُ أنّ يكون خبرًا عن فَضلِ اللهِ تعالى، ويحتملُ أنّ يكونَ دُعاءً إلى الله وإن جاءَ بلفظ الخبر، وهو أظْهَرُ. وقولُ المأموم: "رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ" جوانبٌ لهذا الدّعاء وامتثالٌ لمقتضاه، تقوله الملائكة كما يقوله المأمومُ، حَسَبَ ما وردَ في الخَبَر والموافقة المتقدِّمة. الفقه: قد اختلفَ علماؤُنا في مسائل من الفقه تتعلَّقُ بهذا الحديث (¬6). أحدها (¬7): قولُ الإمام (¬8): "سَمعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ" هل يقولُ معها: "ربّنا ولك الحمد" أم لا؟ ¬
ذهب مالك إلى أنّ الإمام لا يقولها. وقال ابنُ دينار وابنُ نافع: يقولُ الإمام اللّفظتين وكذلك المأموم، وبه قال الشّافعيّ (¬1). ودليلنا: الحديث المتقدِّم. وأمّا المنفردُ، فإنه يقولهما (¬2). تحقيق (¬3): قال: قولُه "رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ" يدلُّ على أنَّ سُنَّةَ الإمام أنّ يقولَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" في موضع مخصوصٍ. وقال ابنُ شعبان: يقولُ الإمام "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" على معنى الدُّعاء، فمعناه: اللهمَّ اسْتَجِب (¬4) لِمَن حَمِدَكَ. المسألة الثّانية (¬5): ولا خلافَ في صِفَةِ ما يقولُه الإمام من ذلك، وقدِ اختلفَ العلماءُ فيما يقولُه المأموم، واختلفتِ الاَثارُ في ذلك: فرُوِيَ في هذا الحديث: "اللَّهُمَ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ" (¬6). وروي في حديث أبي هريرة: "اللهُم رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ" (¬7) بوَاوٍ. وروي عن مالكٌ أنّه كان يأخذ برواية أبي هريرة، واختارَهُ ابنُ القاسم، واختار أشْهَب: "رَبَّنَا لَكَ الحَمدُ". ¬
العمل في الجلوس في الصلاة
العَمَلُ في الجُلُوسِ في الصّلاةِ قوله (¬1): "رَآني عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ" يحتَمِلُ (¬2) أنّ يكون ابنِ عمر في الصّلاة أيضًا، وينظر إليه على غير قَصْدٍ، فأخَّر تَعْلِيمَهُ بسبب الصّلاة، فلمّا فرَغَ، عَلَّمَهُ سُنَّةَ الصّلاة. وقوله: "فَكيف كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ؟ " حِرْصًا على العلم ومبادرة (¬3) بالسّؤال عنه. وقوله: "وَقَبَضَ أَصَابِعَهم" يعني غير السَّبَّابة؛ لأنّه فَسَّر ذلك بقوله:"وَأَشَارَ بِأصْبُعِهِ الَّتي تَلِي الإبْهَامَ" وهذه الصِّفة مثل عَقْد ثلاثة وخمسين. ومعنى إشارته (¬4) بالسَّبَّابة: رَوَى ابنُ عُيَيْنَة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مَرْيَم، وزاد فيه مسلم فقال: هي مُدْيَةُ (¬5) الشَّيطانِ، لا يَسْهُو أَحَدُكُم ما دَامَ يُشِيرُ بأصْبُعِهِ (¬6). وقيل: إنّ الإشارةَ معناها التَّوحيد (¬7). وقال الدّاوُدِي (¬8): قيل يتذكّر بفعل ذلك أنّه في الصّلاة. وقد رُوِيَ عن مالكٌ أنّه كان يُخرِجها من تحت البُرْنُس، ويُوَاظِب على تحريكها. وقال ابنُ القاسم: يَمُدُّها من غير تحريكٍ، ويجعل يمين الأيسر من فوق، وقاله ابن مُزَنن (¬9). ¬
فأما من ذهب إلى تحريكها، فيتناول في ذلك الاشتغال بها عن السَّهْوِ وقَمْع (¬1) الشيطان. وأمّا من ذهب إلى مدِّها، فيتناوَلُ التّوحيد. تحقيق (¬2): قال الإمامُ الحافظُ: لم يثبت عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في تحريكها شيءٌ، إلّا ما رَوَى أحمدُ بنُ حَنْبَل (¬3)، عن خُفَاف بن إيمَاء، قال: "كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إذا أشار بأُصْبَعِهِ في الصَّلاة تَقُولُ قريش: هذا محمّد يَسْحَرُ النّاسَ، وإنّما كان يُوَحِّدُ اللهَ تعالى". فنصَّ على فائدةِ الإشارةِ، ولهذا ينبغي أنّ يقبضَ الإبهامَ ولا يَمُدّ، ويعقد ثلاثةً وخمسينَ، كما رُوِيَ في الأَثَر الصّحيح (¬4). وأمّا تحريك الأصبُع، فليس بمَقْمَعَةٍ للشّيطان، فإنَّكَ إنْ حرَّكتَ به واحدة، حرَّك لَكَ عِشرِين، وإنّما يَقمَعُه التَّوحيدُ والإخلاصُ. حديث عبد الله بن دينار (¬5)؛ أنَّه سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنّ عُمَرَ، وَصَلًّى إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ، فلَمَّا جَلَسَ الرَّجُلُ في أَرْبَعٍ، تَرَبَّعَ وَثنَى رِجْلَيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ، عَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. الفقه (¬6): وصِفَةُ الجلوس في الصّلاة، هو أنّ يَنْصبَ رِجْله اليمنى، ويثني رِجْلَهُ اليُسْرَى ويخرجها من جهة وَرِكِه الأيمن، ويفضي بأَلْيَتِه إلى الأرض، ويجعل باطن إبِهَامه اليُمْنَى إلى الأرض، ولا يجعل جنبها ولا ظاهرها إلى الأرض، وهذا مذهب مالكٌ. وعند الشّافعيّ (¬7) خلاف هذا. وقولُه: "فلمَّا جلَسَ الرَّجُلُ في أَرْبَعٍ تَرَبَّعَ" قال الإمام: التَّرَبُّعُ يكون على ضربين: ¬
1 - أحدُهما: أنّ يخالفَ بين رِجْلَيْه، فيجعلُ رِجْلَه اليُمْنَى تحت رُكْبَته اليُسْرَى، ورِجْلَه اليسرى تحت رُكبته اليمنى، ويُثني رجله اليسرى. 2 - أو إقران أحدهما وهو أنّ يثني رِجْلَيْه (¬1) إلى جانب واحدِ (¬2). وهذا خطأ. الإقعاء وشرحه: خرّج الترمذي (¬3) عن علي بن أبي طالب، قال: قال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يا عليُّ، أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنَفْسِي، وأَكرَهُ لكَ ما أَكرَهُ لنَفْسِي؛ لا تُقْعِ بين السَّجْدَتَينِ" والحديثُ ضعيفٌ. ورُوي عن طَاوُس؛ أنّه قال: قلنا لابن عبّاس في الإقعاء على القدمين؛ قال: هي السُّنَّة. قلنا: إنَّا لنرَاهُ جَفَاءً بالرِّجلِ -يعني بالقدم- قال: هي سُنَّةُ نَبِيِّكُنم (¬4). العارضة (¬5): قُلنا: الاقعاءُ هو أنّ يَنْصِبَ رِجْلَيه ويَقعُدَ (¬6) عليها بألْيَتَيْهِ، وهو جَفَاءٌ بالرِّجْلِ، يعني القَدمَ. ورُوِيَ جَفَاءٌ بالرَّجُلِ يعني الإنسان، وقد جاء الحديث مُفَسَّرَا بالوَجهَينِ في "مُسْنَدِ ابن حنبل" (¬7): "إنا لنَرَاهُ جفاءً بِالقَدَمِ" وهذا يشهد لمن رواه بكسر الرَّاءِ وجَزْم الجيم. وفي "كتاب ابن أبي خَيْثَمَة": "إنّا لنَرَاهُ بِالرَّجُلِ" وهذا (¬8) يشهد لمن رواه بفتح الرّاء وضم الجيم. ¬
التشهد فيى الصلاة
قال الإمام: الّذي عندي فيه: أنّهم لم يفهموا الحرف (¬1) فَصَحَّفُوه، ثمّ فَسَّرَهُ كلُّ واحدٍ منهم على مقدار ما صحِّفَ، واختاوه أبو حنيفة (¬2). وفي الحديث كراهية، وأنّه عقب الشّيطان، وكان ابن عمر يفعلُه ويقول: إنّ رجلَىَّ لا تَحْمِلاَني (¬3). العربية: الإقْعَاءُ: - بكسر الهمزة ووقف القاف وبالمدِّ- هو قعود الرّجُل على دَبُرِه، مقيمًا على رُكْبَتَيه إلى وجهه، كقَعْوِ الكلْب وإقعائه. العَضُدَانِ: ما بين المَنكِبَيْن إلى المَرْفِقَيْن (¬4). التّشهد فيى الصّلاة الأصول (¬5): التَّشَهُّدُ ركنُ من أركان الصّلاة، وليس بواجبٍ (¬6)، ولا محلّه واجبًا. ورَوَى التَّشَهُّد عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم - جماعة، أصولهم ثلاثة: ابنُ مسعود، وابن عبّاس، وعمر، واختلف الأيمّة في المختار منه. فاختار الشّافعيّ (¬7) تَشَهُّدَ المكّىّ (¬8). واختار أبو حنيفة (¬9) تَشَهُّد الكُوفيِّ (¬10). واختار مالكٌ (¬11) تَشَهُّد المَدَنىّ (¬12). وعَوَّلَ فيه مالكٌ - رحمه الله - على أصل من أصولِ الفقه؛ وهو أنّ عمر كان يعلِّمه النّاس على المِنبَرِ، ¬
فصار كالإجماعِ عنده؛ لأنّه قاله بحَضْرَةِ الصَّحابة وهو يخطُبُ، فلم ينكر عليه، فهو كالإجماع وشِبْهِهِ لا خفاءَ به. كما قال العالِمُ: ما جَهَرَ النَّبِيُّ -عليه السّلام- فيه جَهَرْنَا، وما أسرَّ فيه أَسْرَرْنَا. العربية: قولُه (¬1): "التحِياتُ لِلهِ الزَّاكِيَاتُ الطَّيِّبَاتُ" نَعْتٌ بعدَ نَعْتٍ. قوله: "الزَّاكِيَاتُ" يعني: النّاميات الّتي ليست بناقصة. و"الطَّيِّبَاتُ": ليست بخبيثة. و"الصّلوات": الرَّحَمَات، وهي أيضًا نعتٌ لما تقدَّمَ. وقيل له: "تَشَهُّد" لقول القائل فيه: أشهد أنّ لا إله إلَّا اللهُ، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُ الله ورسوله. التفسير (¬2): قوله: "التَّحِيَّاتُ" هي المُلْكُ، وهي البقاء، وهي السّلام، والكلُّ لله. أمّا "البقاء" فهو صِفَةٌ لله واجبةٌ (¬3). وأمّا "المُلْك" فهو بيده يصرِّفه كيف يشاء (¬4). وأمّا "السّلام" (¬5) فهو له شَرْعٌ ودِينٌ، فإن جُعِلَ لغيره فذلك خلاف الشّرع. وما كان من قبيل المشروعات فهو لله سبحانه أمرٌ ورِضا، وما وقع على غير طريق الشّرع فهو لله تقديرٌ وقَضَاءٌ، فلا يخرج شيءٌ عنه، بلِ الكُلُّ له وإليه. والمرادُ بالتَّحِيَّة هنا -من جملة أقسامها- السّلام؛ لأنّه موضوعه وسببه، على ما تقدَّمَ في حديث عبد الله بن مسعود. وأمّا "الزَّاكِيَاتُ" فالمراد بها: كلُّ عمَلٍ صالحٍ نَامٍ يضاعف عليه الأجر، وينمّى فيه الثّواب، وكلُّ عمَلٍ أيضًا ممحوق (¬6)، فهو لله تقديرٌ وخَلْقٌ، إلَّا أنّه تبارك وتعالى ¬
إذا أضافَ الشيءَ إليه أو رَبَطَهُ به على طريق الاختصاص، كان ذلك تشريفًا على سِوَاهُ، كما قال: {قُلْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (¬1) يعني ملكًا. وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} (¬2) يعني بهذه الإضافة تشريفًا. ثم قال أيضًا: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} (¬3) فزاد اختصاصًا. وأمّا قولُه: "الصَّلَوَاتُ للهِ" فهو بَيِّنٌ؛ لأنّ العبادات كلّها إنّما تقع بالنِّية والقُرْبَة، والمعاصي من الله بالتَّقديرِ والحِكمَة، حتّى إنّ قول الكافر في الله سبحانه: ثالث ثلاثة، تسبيحٌ لله وتقديسٌ له (¬4)، على الوجه الّذي شاء في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬5). فقوله: "التَّحِيَّاتُ للهِ" لا يعني السّلام كما قدّمنَاهُ. وقوله: "الزَّاكِيَات" هي الأعمال النامية. وقولُه: "الصَّلَوَات" لا يعني العبادات الّتي هي من جملة العبادات الزّاكيات. تنبيهٌ على وهمٍ عظيمٍ (¬6): قال الإمام الحافظ: ثبتتِ الرِّوايةُ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في التَّشَهُّد كما قدَّمناهُ، واستقرَّتْ ألفاظُ التَّشَهُّد عند جميع الأُمَّة، إلى أنّ جاء فيه أبو محمّد ابن أبي زيد بوَهْمٍ قبيحٍ، فقال (¬7) في ذِكرِ التَّشَهُّد: وأن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أَرسَلَهُ بالهُدَى ودِينِ الحقِّ، ليُظهِرَهُ على الدِّين كلِّه، إلى قوله: وإنّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ. وإنّما أَوْقَعَهُ في ذلك؛ أنّه رَأَى الأثر في تَشَهُّدِ الوصيّة بهذه الصّفة (¬8)، فرأى من قِبَلِ نفْسِهِ أنّ يلحقه بتشهُّدِ الصّلاة، وهذا لا يحلّ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا علَّمَ شيئًا وَجَبَ الوقوف عند تَعْلِيمِهِ، وإذا بّيَّنَ ذِكْرَيْن في قصَّتين (¬9)، لم يجز أنّ يبدلا فيُوضَع أحدهما ¬
موْضِع الآخر، ولا أنّ يجمع بينهُمَا، فإن ذلك تبديلٌ للشريعة، واستقصارٌ لما كَمَّلَهُ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في التَّعليمِ، هذا عهد نبيِّنا - صلّى الله عليه وسلم - إلينا وعَهْدُنا إليكم. وقوله (¬1): "السَّلاَمُ عليك أيّها النّبيُّ ورحمةُ الله وبركاته" النَبيُّ مشتقٌ من الإنباءُ وهو الإخبار، ومعنى نبىء أي مُنبأ، فعيل بمعنى مفعول. ويجوز نبي ونَبِيٌّ بالتّشديد، وهي لغة قريش تسهيل الهمزة (¬2)، ألَّا ترى قوله للرّجل الّذي قال له: "يا (¬3) نَبِىءَ الله لَسْتُ بِنَبِيءِ الله، وإنّما نبيُّ الله" (¬4)، فأنكر عليه الهمز وكان يَكْرَهُ التَقَعُّرَ. ومعنى قوله: "أشهدُ أنّ لا إلهَ إلَّا اللهُ" أي أعلم علم المشاهدة. ومعنى هذا: أي (¬5) لو شاهدتُ الله تعالى لَمَا علمتُ أكثرَ من هذا؛ لأنّي أشهدُ أنّ لا إله إلا اللهُ، ومعناه: أشهدُ إنّ شاء الله؛ لأنّه لا شَكَّ أنّ ليس معه من اليقين ما مع أبي بَكرِ وعُمَرَ، فكان أبو بكرٍ يقول: أشهدُ حقًّا أنك حقٌ، بذلك أشهدُ. فكان هذا الرَّجُل إنّ عرف عِلْمًا يقينًا، كان قولُه مثل قول أبي بكر، وإن كان غير ذلك، يقول: أشهدُ إنّ شاءَ الله، وهو حَسَنٌ. نكتةٌ أصولية: والناس في معرفة الله البارئ تعالى على ضربين: منهم من يعرفه بالاستدلال. ومنهم من يعرفه بغير استدلالٍ. وقد ذكر اللهُ ذلك في كتابه فقال فيمن يستدلُّ بمخلوقاته: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} الآية (¬6). وقال فيمن يعرفه بغير استدلالٍ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬7). فقالت طائفة: لا تصحُّ معرفة البارئ لبَشَرٍ على التَّحقيقِ، وإنّما يَعْرِفُ اللهَ اللهُ، ¬
وعبَّروا عن حقيقة الإيمان فيه: بأنّ العَجْزَ عَنِ الإدراكِ إدراك، ويُسْنِدُونه إلى أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -. ومنهم من قال: تصحُّ معرفَتُه، واختلفوا أيضًا في ذلك: فمنهم من قال: إنّ الخَلْقَ يتفاوتون في معرفته بحسب تَفَاوُتِ درجاتهم. ومنهم من قال: إِنَّ الخَلْقَ يتساوونَ في معرفته، من مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ونبىٍّ مُرْسَلٍ، وَوَلِيٍّ وَصِدِّيق، وقد بيَّنَّا ذلك في مَوْضِعِه. وأمّا قوله: "وأشهد أنّ محمّدًا رسولُ الله" فإنّه (¬1) له يشهد حَقًا؛ لأنّه (¬2) أقام الدَّليلَ القاطعَ، وهي معجزته العُظمَى الّتي أتَى بها وهي القرآن، فهو يَرَى المعجزة ويشهد بِهَا، بخلاف قوله: "أشهدُ أنّ لا إله إلَّا الله"؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ماتَ ومعجزته باقيةٌ (¬3)، وهي القرآن عند كلِّ أحَدٍ، بخلاف سائر الأنبياء؛ لأنّهم ماتوا وذهبت معجزاتهم، كعَصَا موسى ومائدة عيسى. الفقه: اختلف علماؤنا في صِفَةِ السّلام من الصّلاة، فثبتت (¬4) عنه في ذلك أحاديث كثيرة؛ أنّه كان يسلِّم تسليمة واحدة، وهي غير ثابتة. ورُوِيَ عنه أنّه كان يسلِّم تسلمَتَيْن (¬5) عن يساره ويمينه، ولم يخرجها البخاريّ وخرَّجها مسلم (¬6). وهي أخبار تحتمل التّأويل، والقياس يقتضي إفراد السّلام الّذي يَتَحَلَّل به، وما زاد على ذلك فإنّما هو على حكم الرَّدِّ. وقالت (¬7) طائفة من العلماء: يُسَلِّم تسليمتين عن يمينه وعن يساره، وروي ذلك عن زُمْرَةٍ كريمةٍ من الصّحابة: أبي بكر، وعمر، وعلىّ، وابن مسعود، وعمّار بن ¬
ياسر، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، والبَرَاء بن عَازِب، كلهم عن النَّبيَّ- صلّى الله عليه وسلم -، أسندها الطَّبَريّ (¬1). وقالت طائفة: يُسلِّم تسليمة واحدة فقط، وروي ذلك عن ابن عمر، وأنس بن مالكٌ، وعائشة، وسَلَمَة بن الأكْوَع، وطائفة كثيرة من التّابعين، وبهذا قال مالكٌ واللَّيْث، والأوْزَعيّ، ودفعوا أحاديث التَّسليمتَيْن، وقالوا: لا أصل لها. وقال الأصيلي، حديث أمّ سلمة المذكور في هذا الباب يقتضي تسليمة واحدة. وكذلك حديث ذي اليدين. وقال المُهَلَّب (¬2): لمّا كان السّلام تحليلًا من الصّلاة وعَلَمًا على فراغها، دَلَّتِ التَّسليمةُ الواحدةُ على ذلك، ولو كانت التسليمتان (¬3) كَمَالًا، فقد مَضَى العملُ بالمدينة في مسجِد رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك. فإن قيل (¬4): فقد رُوِيَ عن أبي بكرٍ وعمر تسليمتين، ومضى عملهما على ذلك في مسجد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فكيف يجمع بينهما؟ قلنا: قد روى الطَّبَرِيّ (¬5) بِسَنَدٍ مُتَّصلٍ غير منفصل، عن أنس بن مالكٌ قال: صلَّيتُ خَلفَ رسولِ الله وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمان، فكلُّهم كانوا يسلِّمون تسليمة واحدة (¬6)، والآخر يَقضِي على الأوَّلِ. تحقيق (¬7): قال الإمام: القولُ في ذلك عندنا أنّ نقول: كلا الخبرين الوَارِدَيْنِ عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
جائزٌ، ثَابِتٌ أنّه كان يسلم تسليمتين، وانه كان يسلِّم تسليمة واحدة، وأنّه من الأمور الّتي كان يفعل هذه مرّة وهذه مرّة، مُعَلمًا بذلك، ثمّ تركه (¬1). كما ثبت أنَّه كان يجلس في الصّلاة على قَدَمَيْه، ثمّ تَرَكَهُ ونَهَى عنه، وأشباه ذلك كثيرة. مزيد إيضاح: ثبت عن النّبيّ -عليه السّلام- أنّه كان يسلِّم تسليمتين، عن (¬2) اليمين: السّلام عليكم ورحمةُ الله، وعن يساره مثل ذلك، حتّى يُرى بياض خَدِّه (¬3). دخل (¬4) المدينة رَجُلٌ من أهل الكوفَةِ، فصلَّى في مسجد رسولِ الله، فلَمَّا سلّم قال: السّلام عليكم ورحمة الله، عن يمينه ويساره، وابن شهاب قاعد في ناحية المسجد، فقال (¬5): من أين الرّجل (¬6)، ومن أين لك هذا (¬7)؛ فقال له: ما سمعت هذا؛ قال: لا، قال له: فمن أنت؟ قال له: أنا ابنُ شهاب، قال له: فهل رويت (¬8) حديث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كلّه؟ قال: لا، قال فثُلثَه؟ قال: لا. قال فسُدُسه؟ قال: لا. قال: فاجعَل هذا فيما لم تَرْوِه (¬9). ونحو هذا كثيرٌ صحيحٌ من (¬10) غير شك فيه، ولكن نقل أهل المدينة أَقْوَى وأَصَحّ. قال العلماء: ينوى بالسّلام الخروج من الصّلاة، وإن كان إمامًا بمن معه، وإن كان عن يساره أحد يردّ عليه. ¬
قال الإمام: والَّذي أقول به: يسلِّمُ اثنتين (¬1)، واحدة عن يمينه وأُخرَى عن يساره، الأُولَى يعتقد بها الخروج عن الصّلاة، والثّانية الردّ (¬2) على الإمام والمأمومين، والتّسليمة الثّالثة: أَخِّرُوهَا فإنها بدعةٌ لم تثبت عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة، وحديث عائشة المتقدِّم (¬3) معلولٌ (¬4). واختلفت (¬5) الرِّواية عن مالكٌ بأيّ السّلام يبدأ؟. فروى أشْهَب ومُطَرِّف عن مالكٌ؛ أنّه يبدأ بالردّ على من سلّم عن يساره. وروى عنه ابنُ القاسم أنّه رجع إلى أنّ يبدأ بالرَّدِّ على الإمام. وحكى عنه عبد الوهّاب رواية ثالثة، وهي: التّخيير في ذلك (¬6). ومنْ فاته بعض صلاة الإمام، فسلَّمَ بعد القضاء، فقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ: أنّه لا يردّ على الإمام، ثم رجع، وقال: أَحَبُّ إليَّ أنّ يرد عليه، وبه أخذ ابنُ القاسم. تحقيق (¬7): قال الإمام: وجهُ القولِ الأوّل: أنّ مِن سنة الرَّدِّ الاتِّصال بالسَّلام، فهذا بَطَل ذلك بَطَلَ حُكمُهُ. ووجه القول الثّاني: أنّ حُكم الإمام باقٍ، فلزمه (¬8) منه ما يلزم لو بقيت صلاته. ويَجهرُ المأموم بأوّل السّلام جَهْرًا، يُسْمِعُ نَفْسَه ومن يَلِيهِ، ويسرع (¬9) الإمام بالسلام لِئلَّا يسبقه المأموم. ¬
وقد روى الترمذي (¬1)، وأبو داود (¬2)، عن أبي هريرة: "حَذفُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ". فإن قيل: ما معنى حَذف السّلام؟ قيل: هو الإسراع به. وقيل: ألّا يكون أحد يسلِّم قبله. وقيل: هو ألَّا يكون فيه "ورحمة الله"، فحُذِفَت منه "ورحمة الله". ورُوِيَ عن النَّخَعِيّ (¬3) أنّه كان يقول: التكبير جَزْمٌ، والكلام حَذْمٌ بالحاء والذال المعجمة (¬4)، فإن كان بالجيم والزّاي فهو رَدٌّ على مَنْ يقوله بتحريك الذَّال والمِيم على قراءة ابن كَثبر في الوقف، وإن كان: السّلامُ حَذمٌ، كما قيل بالذّال المعجمة، فمعناه: سريع الحَذم، والحَذمُ في اللِّسان السُّرعة، ومنه قيل للأرنب حَذمَة (¬5)، وفي الحديث: "إذًا أَذَّنْتَ فَتَرسَّل وإذا أقَمْتَ فَاخذِمْ" (¬6) أي أسرع. تكملة: قيل: إنّ السّلام من أسمائه تعالى؛ لأنّه لا يلحقه (¬7) نقصٌ، ولا تدركه آفات الخَلْقِ، فهذا قلتَ: "السّلام عليكم"، فيحتمل: اللهُ عليكم رقيب. وإن أردت به: بيني وبينكم عَقْد السّلام ودوام النَّجاة (¬8)، فيحتمل أنّ يكون: أنتَ مِنِّي في أمَانٍ، كأنّ المُصَلِّي إذا فعل ما أُمِرَ به من أداء الفريضة، قد أَمِنَ من العذاب على تَرْكِها، والله أعلم. العربية: وقيل في معنى: "السّلام عليكم": هو مصدر سَلِمَ يَسْلَمُ سَلاَمَةً وسَلاَمًا، قاله ابن السِّكِّيت (¬9). ¬
باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام
تنبيهُ على وهمٍ: قال جماعة العلماء: إنّ السّلام من الإمام والمأموم ينفصل به عن الصّلاة، وتَزَلزلَ فيه أبو حنيفة حين قال إنّ الحَدَثَ يقومُ مقامَ السَّلامِ في الخروج عن الصّلاة (¬1)، وكان الشّافعيّ ينشد في ذلك (¬2): يجزئ (¬3) الخروج من الصّلاة بضَرطَةٍ ... أينَ الضّراطُ من السَّلامِ عَلَيْكُم باب ما يَفْعَل مَنْ رَفَعَ رأسه قبل الإمام حديث أبي هريرة (¬4): الّذي يَرْفَعُ رَأْسَهُ ويَخْفِضُهُ قبل الإمَامِ، فإنَّما نَاصِيتُهُ بِيَدِ شَيطَانٍ. قال الإمام: الحديث صحيحٌ في المعنى، وله معانٍ كثيرة في التّأويل والفقه. الأصول (¬5): قد بيَّنَّا أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بَيَّنَ أنّ الشّيطانَ يُوَالِي (¬6) في إفساد الصّلاة على العبد؛ قولًا بالوَسوَسَةِ حتّى لا يدْري كم صلَّى، وفِعلًا بالتقدُّم على الإمام حتّى يفْسد الصّلاة على العبد فَرْض الاقتداء. ¬
أمّا الوسوسةُ، فدواؤها الذِّكْرَى والإقبالُ على ما هو فيه. وأمّا التَّقدُّمُ على الإمام بالمخالفة (¬1)، فَعِلَّةُ ذلك طَلَبُ الاستعجالِ، ودواؤه أنّ يَعلَمَ أنّه لا يسلِّم قَبْلَهُ، فَلِمَ يستعجلُ بهذه الأفعالِ؟ وفي الحديث: "أَمَا يَخْشَى الّذي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ، أنَ يُحَوِّلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ" (¬2) وليس يرادُ به عند العلماء المسخ صورةً (¬3)، وإنّما يريدون (¬4) الحمارِيَّةَ، وهو البَلَهُ، ضربَ له الحمار مَثلًا؛ لأنّه أشدَّ البهائم بَلَهًا, ولا حماريَّةَ أعظمُ من أنّ يلتزمَ الاقتداءَ مع الإمام ثمّ يخالفَهُ فيما التزم في تلك الحال، وهذا كقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَيَنْتَهِيَنّ أَقوَامٌ عن رفعِ أَبصارِهم إلى السَّماءِ أو ليَخْطِفَنَّ اللهُ أَبصَارَهُم" (¬5) وليس يريد بذلك إذهابها بالعَمَى (¬6) وإنّما يشيرُ به (¬7) إلى ذهابِ فائدتها من العِبرَةِ. الفقه: الّذي يرفعُ رأسه قبل الإمام لا تبطلُ صلاته عند مالكٌ. وقال الشّافعيّ (¬8) إنّ فعلَها في ركعة واحدةٍ فلا شيءَ عليه ولا بأس به، وان فعلها في ركعتين بطلت صلاته؛ لأنّها نصف صلاته، وإنّما قال ذلك لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى على المخالفةِ، والنّهي يقتضي فساد المنهي عنه، وخصّه مالكٌ في الإحرام والسّلام والتّكبير من الجَلْسَة الأُولى، والشّافعىّ في جميع الصّلاة. قال الباجي (¬9): "ومعنى قولُه: "إنّما نَاصِيتهُ بِيَدِ شَيطَانٍ" معنى هذا الحديث: الوعيدُ لمن رفعَ رأسه أو خفضه (¬10) قبل إمامه، وإخبار منه أنّ ذلك من فِعْل الشّيطان. ¬
قال الإمام الحافظ (¬1): وفي رفع المأموم وخَفْضِه مع الإمام ثلاث صفاتٍ: إحداها: أنّ يخفض ويرفع بعده، وهذه هي السنّة، والأصلُ في ذلك قولُه: "إنَّما جُعِلَ الإمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ" الحديث (¬2). والثّانية: أن يخفضَ ويرفع معه، فهذا يكرهه ولكنّه لا تبْطُلُ صلاته. والثّالثة: أن يخفضَ ويرفعَ قبل الإمام، وذلك غير جائز، لما رُوِيَ عن أنس؛ أنّه قال: صلّى بنا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ذات يوم، فلمّا قضى صلاته، أقيل علينا بوجهه، فقال: "أيها النّاس إنّىِ إِمَامُكُم، فلا تَسبقُوني بالرُّكُوع، ولاَ بالقيَام، ولا بِالانْصِرَافِ" (¬3). وفي ذلك أربع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال (¬5): فإن رفعَ رأسَهُ قبل الإمام ساهيًا، فلا يخلو أنّ يرفعَ رأسه من الرّكوع قبل ركوع إمامه، أو بعد ركوعه. فإن رفع رأسه قبل ركوعه، فعليه الرّجوع لاتِّباع إمامه إنّ أدرك ذلك، وحُكمُه حكم النّاعِسِ والغَافِلِ يفُوتُه الإمام بركعةٍ فيتبعه ما لم يفت. فإن رفع رأسه بعد ركوع إمامه، فلا يخلو من أحد حالتين: 1 - إحداهما: أنّ يكون قد تبع الإمام في مقدار الفَرْضِ. 2 - أو رفع قبل ذلك. فإن رفعَ قبلَ ذلك، فحُكمُه عندي حكم من رفع قبل ركوع الإمام. وإن كان قد تبع الإمام في مقدار الفَرْضِ، فركُوعُه صحيحٌ؛ لأنّه قد اتّبع إمامه في فَرضِهِ. ¬
المسألة الثّانية (¬1): لا يخلو أنّ يُدرِكَهُ راكعًا فيرجع لاتّباعه، أو يفوته ذلك (¬2)، فإن عَلِمَ أنّه يدركه راكعًا، فإنه يلزمه أنّ يرجعَ إلى متابعته، كما قال مالكٌ - رحمه الله -، وإن علم أنّه لا يدركه راكعًا، فهل يرجع أم لا؟ قال أشهب: لا يرجع، ورواه ابنُ حبيب عن مالك. وروى ابنُ سحنون عن أبيه؛ أنّه يرجع، ويبقَى بعد الإمام بِقَدْرِ ما انفردَ الإمامُ بعدَهُ، وهذا حُكمُ الرَّفْعِ. المسألة الثّالثة (¬3): وأمّا الخفضُ قبل الإمام للرّكوع أو السّجود، فإنّه غير مقصودٍ في نفسه بلا خلافٍ على (¬4) المذهب، وإنّما المقصود منه الرُّكوع والسُّجود (¬5). فإن أقام بعد ركوع الإمام راكعًا أو ساجدًا مقدار فَرضِهِ،* صَحَّتْ صلاته، إلّا أنّه قد أساءَ في خفضه قبل إمامه. وإن لم يقم بعد ركوع إمامه راكعًا أو ساجدًا مقدار فرضه* (¬6)، لم تصحّ صلاته، وعليه أنّ يرجع لاتِّباع إمامه بركوعه وسجوده. وهذا في الأفعال. المسألة الرّابعة (¬7): أمّا الأقوال، فعلى ضربين: فرائض وفضائل. فامّا الفرائض، فتكبيرةُ الإحرامِ، والسّلام، ومتى تَقَدَّم المأمومُ في تكبيرةِ الإحرام ساهيًا أو عامدًا بَطَلَتْ صلاتُه؛ لأنّ الإحرامَ دخولٌ في الصّلاة، فإذا دخل فيها قَبْلَ إمامه لم يصحّ أنّ يتبعه فيها؛ لأنّه غير مأمومٍ (¬8). وأمّا السّلام، فإن سلَّمَ قبل إمامه عامدًا بَطَلَت صلاتُه. وإن سلّم ساهيًا لم تبطل، وحمل عنه إمامه سهوه. ¬
باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا
باب ما يَفْعَل من سَلَّمَ من رَكْعتَيْن سَاهِيًا مالك (¬1)، عن أيُّوبَ بن أبي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانىِّ، عن محمّد بن سِيرِينَ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - انصَرَفَ مِن اثنَتَيْنِ، فقال له ذُو اليَدَيْنِ: أَقَصرَتِ الصَّلاَةُ. الحديث. الإسناد: قال الشّيخُ أبو عمر (¬2): ذكرَ مالك - رحمه الله - حديث أبي هريرة في قصَّةِ ذي اليدين مُسْنَدًا من طريقين: عن أيُّوب، عن ابن سيرين (¬3)، عن أبي هريرة (¬4). وعن داود بن الحُصَيْن (¬5)، وفيهما جميعًا قوله: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَينِ". وذَكَرَ الحديث عن ابن شهاب بإسنادين مُرسَلَيْنِ (¬6)، وقال فيه: "ذُو الشِّمَالَيْنِ" ولم يُتابَع عليه، واللهُ أعلم. وسائرُ الآثار إنّما فيها "ذُو اليَدَينِ" وليس فيها "ذُو الشِّمَالَيْنِ". وقال ابنُ وضّاح: إنّ ذَا اليدين استشُهِدَ يوم بَدْرٍ وإسلامُ أبي هريرةَ كان يوم خَيبَر (¬7). تنبيه على وهم: قال الإمام: وهمَ ابنُ وضّاح في هذا؛ لأنّ الّذي استُشْهِدَ يوم بَدرٍ ذو الشِّمالين لا ذو اليَدَيْن، وكان ذُو اليَدَيْنِ رَجُلًا من بني سُلَيْم، حَلِيفًا لبَنِي زهرة (¬8)، وكان يَبْطِشُ بيَدَيه جميعًا، فكان يقالُ له: ذو الشِّمالين، فكرِهَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يقالَ له ذلك؛ لأنّ ¬
أحدًا لا يكون ذَا شِمَالَين، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ" فكان أوّل ما سُمِّي به، وقد كان آخر يقال له ذو اليدين قُتِلَ يوم بَدرِ، وكان اسمه عُمَيْر بن عبد عمرو، من خزاعة (¬1). الأصول (¬2): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: هذا بابٌ عظيمٌ في الفقه، أحاديثُه كثيرةٌ، ومسائله عظيمةٌ، وفروعه متشعِّبَةٌ، يذهبُ العمرُ في تحصيلها, ولا يتمكَّنُ العَبْدُ من تحصيلها وتخليصها (¬3)، فعليكم أنّ تحفظوا أصولها وتَرْبِطُوا فصولها، ثم تُرَكِّبوا عليها ما يَلِيقُ بها، وتطرَحُوا الباقي عن أنفسكم منها. قال الإمام أبو بكر بن العربي: دخلتُ رِبَاطَ إفريقيّة، فلقيتُ المتعبِّدين الّذين أعرضُوا عن الدُّنيا وأَقبَلُوا على خدمة المَوْلَى، وسمعتُهم لا يقرؤون من الفِقْه إلَّا مسائلَ الوضوء والصّلاةِ الّتي تَخْتَصُّ بهم وبِمَا هُم فيه، فحدَّثوني أنّ أبا بكر (¬4) بن عبد الرحمن وكان من حُفَّاظِ أهلِ زمانِه بالمسائلِ، كان يَرِدُ عليهم في الأشْهُر الفاضلة بِنِيَّةِ إلاعتكاف، فيسألونَهُ عن المسائل، فإذا أَفْتَاهُم، قالوا له: الرِّوايةُ في "نوازِلِ سحنون" بخلاف هذا النَّصِّ في الكتاب الفلانيِّ على غيرِ ما قُلتَ، حتّى طال عليه ذلك، فقال لهم: إذا ذَكَرتُم المسألةَ فاذْكُروا جوابها معها، فإن كان جاريًا على الأصول، أَمَرْتكُمُ بالتَّمَسُّك به، وإن كان خارجًا عنها، عرَّفْتُكُم بالصَّوَاب فيه، أمّا هؤلاء الّذين يجلسون عند السَّوارِي من العوامّ، لا عِلْمَ عندهم إلَّا نوازل لا يذهبون بها إلَّا إلى طريق الجَدَلِ، فهم أشدَّ خَلْقِ اللهِ جَهْلا، وأَشَدّهم عند الله عذابًا، لتبكيتهم النّاس بذلك. قال الإمام: وفي هذا الباب عشر سؤالات: السَؤال الأوّل: كم أحاديث السَّهْوِ؟ السُؤال الثّاني: ما المَسْهُوُّ عنه؟ ¬
السُّؤال الثّالث: ما الّذي يُجْبَرُ بالسُّجود. السُّؤال الرّابع: ما الّذي لا يُجْبَرُ بالسُجودِ؟ السُّؤال الخامس: ما الّذي لا سُجُودَ فيه؟ السُّؤال السّادس: متَى يكونُ السُّجود؟ السُّؤال السّابع: لِمَ جُعِلَ السُّجودُ عَقِبَ السُّهْو؟ السُؤال الثّامن: إذا فات مَحَلُّهُ ما يصنع؟ السُّؤال التّاسع: هل هو من الصّلاة أو خارج عنها؟ السُّؤال العاشر: على كم ينقسم السّهو؟ فهذه عشر سؤالات. السُّؤال الأوّل: في معرفة أصول أحاديث السّهو، وهي ستّة أحاديث. الحديث الأوّل (¬1): حديث أبي هريرة؛ أنّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - صَلَّى إِحْدَى صَلاَتَي الْعِشَاء، فَسَلَّمَ مِنْ ركْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ إِلى جِذْع في جَانِبِ المسجِدِ، فَاسْتندَ إليه مُغضَبًا، فَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ يَقُولُونَ: أَقصُرَتِ الصَّلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ فَقَالَ: وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرِ وَعُمَرُ، فَهَابَا أنّ يتكلَّمَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَينِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَم نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ " فَقَال النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ -عليه السّلام- وَصَلَّى الرّكْعَتَيْنِ اللَّتَينِ بَقِيَتَا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ سَلَّمَ (¬2). الحديث الثّاني (¬3): روَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ؛ أَنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصرَ فَسَلَّمَ مِنْ ثَلاثٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الخِرْبَاقُ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَلَّمْتَ مِنْ ثَلاَثٍ، فَخَرَجَ مُغْضَبَا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَقالَ: "أَحَقَا مَا يَقُولُ هَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَت" عَلَيْهِ, ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ" (¬4) كما تقدّم. ¬
الحديث الثّالث (¬1): روى أبو سعيد الخُدْرِيّ (¬2) وابن مَسْعُود؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - والحديث لابن مسعود-: أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ، تَوَشْوَشَ النَّاسُ أَوِ القَومُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا شَأنُكُمْ؟ " قَالُوا: أَزِيدَ في الصَّلاةِ؟ قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَكَبَّر النّبيُّ- صلّى الله عليه وسلم - ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ زَادَ في صَلاَتِهِ أَونَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجدَتَيْنِ" (¬3). الحديث الرّابع (¬4): رَوَى عبد الله بن مالكٌ بن بُحَيْنَةَ؛ أَن النَّبِيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ، فقَامَ مِنِ اثنَتينِ وَلَمْ يَجلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ سَجدَ سَجدَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ (¬5). الحديث الخامس (¬6): رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ؛ أَن النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا شَكَّ أحَدُكُم في صَلَاتِهِ، فَلَم يَذكُر أَصَلَّى ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَبنِ عَلَى اليَقِينِ، وَليَطرَحِ الشَّكَّ"، وفي رواية: "فَليُصَلِّ ركعَةً، وَلْيَسجُد سَجدَتَينِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبلَ التَّسلِيمِ، فَإنْ كَانَتِ الرَّكْعَةُ الَّتي صَلَّى خَامِسَةً، شَفَعَهَا بِهَاتَينِ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِن كَانَتْ رَابِعَةً، فَالسَّجْدَتَانِ تَرغِيمٌ لِلشَّيطَانِ" (¬7). الحديث السادس (¬8): رَوَى أبو هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأتِيهِ الشَّيطَانُ في صَلاَتِهِ فَيَلبِسُ عَلَيْهِ، فَإذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسجُد سَجْدَتَيْنِ" (¬9)، قال الإمام الحافظُ: وحديثُ عطاء (¬10) أيضًا، والأحاديث تكرّرت في المعنى. قال الإمام أبو بكر بن العربي: أمّا الحديثُ الأوَّلُ، فقد رأيتُ في الثَّغرِ (¬11) مَنْ تجاوزَ فيه الحدَّ، فأخرج منه مئةً وخمسينَ مسألةً من الفقهِ (¬12)، وقد استوفيناها في ¬
"الكتاب الكبير" المعروف (¬1) "بالنَّيِّرَيْن" والقول الّذي يُتَصَوَّر الآن، أنّ العلماء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال (¬2): القولُ الأوَّل: أنّ هذا الحديث إنّما كان في صدر الإسلام إِبَّانَ كانَ الكلامُ مباحًا في الصّلاة، ثمّ نسخَ ذلك تبارك وتعالى، فأمرَ بالقُنُوتِ، فصار الحديث منسوخًا لا متعلّق به، وهي رواية المَدَنِيِّينَ عن مالك. القولُ الثّاني: أنّ هذا إنّما يكونُ فيمن سلَّم من اثنتين خاصّةً دون غيرِه، وإلى هذا صَغَى (¬3) سحنونٌ. القولُ الثّالث: أنّ معنى هذا الحديث كلّه مُسْتَرسِلٌ على الأزمانِ، عامٌ في جميع الأقوالِ والأفعالِ، وهو المشهور من قول علمائنا- رحمة الله عليهم-، وبه قال الشّافعيّ (¬4) وعامّة العلماء. وأمّا اختيارُ المدَنِيِّينَ أنّه منسوخٌ، فقولٌ باطلٌ؛ لأنّ من شروط النّسخ معرفة التاريخين، وقد جُهِلَت ههنا. ومن شروطه تضادُّ الأَمْرَيْن حتّى لا يصلح أنّ يجتمِعَا، ولا مضادَّةَ ههنا؛ لأنّ الكلام المنهىّ عنه هو النُّطقُ، وهذا كلامٌ في إصلاحِ الصَّلاةِ لا بُدَّ لها منه، ولا تتمّ دُونَه. وأمّا اختيار سُحنونٍ، فهو عند العلماء ضعيفٌ؛ لأنّ النّبىَّ صلّى الله عليه قد جَرَى له ذلك في السَّلام من خَمْسٍ على حسب حديث ابنِ مسعودٍ، وهذا جمودٌ لَا يَليقُ بمَرتَبَتِهِ ولا بتدقيقه للفروع، والصّحيحُ أنّه جائز كما قُلنَاهُ في كلِّ مسألةٍ. وأمّا الحديثُ الثّاني حديث عِمْرَانَ، فهو نظيرُ حديثِ ذِي اليَدَيْنِ في النُّقصانِ، والسُّؤال، والرُّجوع، والعمل في السُّجود (¬5). وأمّا حديث ابن مسعود: "فَتَوَشْوَشَ القَوْمُ" أي: اضْطَرَبُوا. وَيُرْوَى "تَوَسْوَسُوا" (¬6) ¬
أي: تكلّموا بكلام خَفِيٍّ (¬1)، وسألهم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - فأجابوه، وليس فيه زيادةٌ على ما تقدَّم إلَّا فصلان: أحدهما: أنّ ذلك كلَّه كان بعد تمام الصّلاة، بخلافِ حديثِ أبي هريرة وعمران، فإنّها (¬2) كانت مراجعة في أثناء الصّلاة. وأمّا الفصلُ الثّاني: سجودُه للرَّكعةِ الزّائدة (¬3)، كما سجد في الحديثَيْن المتقدّمَين للسّلام الزّائد. وأمّا حديثُ ابن بُحَيْنَةَ، ففيه سُقوطُ الجلسة الوُسْطَى، وجَبْرُها بالسُّجودِ كما تقدّم بيانُه، وفيه السُّجود قبلَ السَّلام. وههنا احتمالانِ نشأ للعلماء منه (¬4) نظران: أحدهما: أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - تذَّكرَ ههنا (¬5) للنّقصان من قِبَلِ نفسه، فسَجَدَ قبلَ السّلام، وفي تلك الأحاديث تذكّر بعد السّلام، فسجد بعد السّلام، ولم يرجع النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى الجلوس الآخر. 2 - ويحتَمِلُ أنّ يكونَ تَذَكَّر فيما بينهما (¬6). وقد رَوَى المُغِيرَةُ بن شُعْبَة، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7): "أنّه من نَسِيَ الجلسة الوُسطَى، فإن تذكّر قبل أنّ يَستَوي قائمًا، فَلْيَتَمَادَ ولا يَرجِع" (¬8). وقيل عنه: "إِنّه يَرجع للجُلوس" "وإن تَذَكَّرَ بَعْدَ أَنِ استَوىَ قائمًا فَليَتَمَادَ وَلاَ يَرجِع" (¬9). وهو المشهور اليوم من المذهب. وهنا أصلُ التّركيب، اختلف العلماء فيمن (¬10) قاس عليها: فقال بعضُهم: إنّما تفيدُ هذه الأحاديث التّخيِير للمُكَلَّف أنّ يفعل أيّ ذلك ¬
شاءَ (¬1) من السُّجودِ، بَعْدُ وقَبْلُ، في نقصٍ أو زيادةٍ. وقال أبو حنيفةَ: الأصلُ ما فيه السُّجود بعد السّلام، وَرَدَّ بقيَّة الأحاديث إليه (¬2). وقال الشّافعيُّ (¬3): الأصلُ ما فيه السُّجود قبلَ السّلام، وردَ بقيَّة الأحاديث إليه. ورأى (¬4) مالكٌ ما فيه النّقص يكن السُّجود فيه قبلَ السّلامِ، وأن ما فيه الزيادة يكونُ السّجودُ فيه بَعْدُ. ورُوِيَ عن ابنِ شهاب؛ أنّه قال: كان آخر الأمرَيْن من رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - السّجود للسّهو قبل السّلام وبعد السّلام (¬5). وبه أخذَ الشّافعيّ في كلّ حالٍ. ومذهبُ أهل العراق: أنّ السّجودَ كلّه بعد السّلام، زيادةً كانَ أو نقصانًا؛ لأنّ حديثَ ابن بُحَيْنَة نُقصَانُ فِعْلٍ، وسائر الأحاديثِ زيادةُ قَوْلٍ، فكيف يَصِحُّ أنّ يقالَ: إنّ أحدَهُما رَفعٌ للآخَرِ والجمع بينهما مُمكِنٌ؟ أمّا حديثُ أبي هريرة، فاختلف العلماءُ فيه: فمنهم من قال: هو تَقَصٍّ (¬6) لِمَا تقدَّمَ من الأحاديث وتمامٌ له، فتارةً رُويَ مضافًا، وتارةً رُوِيَ مفصولًا. وقال آخرون (¬7): بل هو حديثٌ بّيَّنَ فيه حُكمًا آخرَ، وهو الرَّجل الّذي يكثر عليه السَّهو والوَهْم في صلاته، وقد غَلبَ عليه، لا يمكن الاحتراز منه، فهذا يُلْغِيه ويسجد سَجدَتَين بعد السّلام، وبذلك اْفْتَى القاسم بن محمدٍ لمن سألَه، ورُوِيَ عن مالكٍ أنّه قال به. وأمّا السَّجدتان اللّتان قال: "هما تَرْغيمَتَان (¬8) للشّيطان" فإنّ معنى: ذلك أنّ ¬
الشيطان أراد أنّ ينقص من صلاته ويفسدها عليه، بإدخال ما ليس منها، والله أعلم. نكتةٌ أصولية (¬1): قال الإمام الحافظ: قد بيَّنَّا في "كتاب المتوسِّط" (¬2) و"المقسط" وغيرهما القول في عِصمَة الأنبياء عن السَّهْوِ والخَطَأ والذُّنوب المتعمَّدَة، وبيّنَّا في "كتاب المُشْكِلَيْن" تأويل ما ورد في ذلك من القرآن ظاهرًا، ورَدَدْنَاهُ إلى أصل العِصْمَةِ بالدَّليلِ القاطعِ، وهو الّذي يُدَان الله به، ويحرمُ القولُ بخلافِ العِصْمَةِ. وإن كان النَّاس قد اختلفوا في الذُّنوب المتعلِّقة بالأفعال، فقدِ اتَّفقُوا على أنّ الكذب لا يجوز أنّ يقعَ منهم، لا بسَهْوِ ولا بِعَمْدٍ؛ لأنّ القول هو الّذي يتبيّن به الشّرع فلو جاز أنّ يتطرّق له (¬3) خَلَلٌ، لمَا وَقَعَتِ الثِّقةُ فيه بالبيَانِ. فهذا ثبت هذا، فلا بدّ من الكلام على هذا المعنى، وهو ينبني على ثلاث قواعد: القاعدةُ الأُولَى (¬4): قال القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب (¬5): أجمع الأيِمَّةُ من علماء المسلمين على عِصْمَةِ الأنبياء من الفَوَاحِشِ والكبائر والمُوبِقَاتِ، وهو مُستَنَدُ الجمهورِ، ومعهم على ذلك دليل العقل من الإجماع (¬6). وأمّا الصّغائر، فجوَّزَها جماعةٌ من السَّلَفِ وغيرُهم على الأنبياء، وهو مذهب أبي جعفر الطَّبريِّ وغيرِه من المُفَسِّرين والفقهاء والمُحَدِّثِين، وقول قلائل من (¬7) المتكلِّمين، وسنذكر ما احتجُّوا به في مَوْضِعِه. ¬
وذهبت طائفةٌ أُخرى من المحقِّقين إلى أنّ عصمتهم من الصّغائر كعصمتهم من الكبائر. واحتجَّ قومٌ بقول ابنِ عبّاس وغيره (¬1)؛ إنّ كلَّ ما عُصِي اللهُ بِهِ فهو كبيرةٌ (¬2)، وإنّما سَمَّى (¬3) منها (¬4) الصّغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها. ومخالفة البارئ تعالى في أيِّ نَوعٍ (¬5)، كان يجب كَونُه كبيرةً (¬6)، وهذا (¬7) مَعْنًى أشكل على النَّاس معرفة الكبائر من الصّغائر. وقال القاضي أبو محمدً عبد الوهّاب: لا يمكن أنّ يقال: إنّ في (¬8) معاصي الله صغيرةً، إلَّا على معنى أنّها تُغْفَر باجتناب الكبائر، ولا يكونُ لهم كذلك في العَفْوِ سواء (¬9)، وهو أيضًا قولُ القاضي أبي بكرٍ وجماعةٍ من الأشعريّة ومن الفقهاءِ والأيمّة. وقال بعضُ علمائنا: ولا يجبُ على القَولَيْن أنّ يُختَلَفَ أنّهم معصومونَ عن تَكرَارِ الصّغائر وكَثْرَتها، إذ يُلحِقُها ذلك بالكبائر، ولا صغيرة إذا زَالتِ الخشيةُ (¬10) وأسقطتِ المروءة وأوجبتِ الإزْراء. وهذا ممّا يُعْصَمُ عنه الأنبياءُ إجماعًا؛ لأنّ مثل هذا يَحُطُّ مَنصِبَ المتَّسِمَ به (¬11). وذهب بعضهم -من الأيمّة- إلى عصمتهم من مُوَاقَعَةِ المكروه قَصْدًا (¬12). ¬
وجمهورُ الفقهاء على ذلك من أصحاب مالكٌ والشّافعىّ وأبي حنيفة من غيرِ تَوْقيفٍ فيه، بل ذلك مطلقٌ (¬1). واختلفوا في حكم ذلك: فحَكَى أبو الفَرَج عن مالكٌ التزامَ ذلك واعتقاده (¬2)، وهو قول الشّيخ أبي بكر الأبْهَرِيّ وابن القصَّار وأكثر المالكيّة، وقول أكثر أهل العراق وأكثر الشّافعيّة على ذلك (¬3). القاعدة الثّانية (¬4): في (¬5) الكلام في عصمتهم (¬6) قبل النُّبوّة. فمنعها الأكثر، ومنعوا من ذلك منعًا قويًا بأخبارٍ (¬7) يَطُولُ ذِكْرُها، وجوَّزَهَا آخَرون (¬8). والَّذي نقول به -إنّ شاء الله (¬9) -: تنَزُّههم عن كلِّ عَيْبٍ، وعِصْمَتُهم عن كلٍّ ما يُوجِبُ الذَّنبَ (¬10). فكيف والمسالةُ تَصَوُّرَهَا كالمُمتَنِعِ، فإنَّ المعاصي والنَّواهي إنّما تكونُ بعد تَقَرُّرِ الشَّرعِ. وقد اختلفَ العلماءُ في مُعْتَبَرِها في حقِّ نبيِّنا -عليه السّلام-: فذهب القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب سيفُ السُّنَّة ومُهتَدَى (¬11) فِرَقِ الأُمَّة إلى المنع من ذلك (¬12)، وأنّه كان معصومًا - صلّى الله عليه وسلم - قبل المبعث وبعد المبعث. وذهبت طائفة إلى التَّوقُّفِ قبل المبعث. القاعدةُ الثّالثة (¬13): في الكلامِ في السَّهْوِ والنِّسيَانِ والغَفَلاَتِ في حقِّه -عليه السّلامُ. ¬
فذهبت طائفةٌ إلى منع السّهو والنِّسيان والغفلات، وهم علماء (¬1) المُتَصوِّفة وأصحاب علم القلوب والمقاماتِ، ولهم في هذه الأحاديث مذاهبُ. قال علماؤنا المحقِّقون (¬2): إنّ النِّسيانَ والسَّهوَ في الفعل في حَقِّه -عليه السّلام- غيرُ مضادٍّ للمُعجِزة ولا قادِحٍ في التّصديق، وقد قال -عليه السّلام-: "إنّما أَنَا بشرٌ أَنْسَ كمَا تنَسَونَ، فإذا نَسِيتُ فذكِّرُوني" (¬3) وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ فُلاَنًا ذَكَّرَني كذا وكذا آية" (¬4) وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأسُنَّ" (¬5). وقيل: إنّ هذا اللفظ (¬6) شكُّ من الرَّاوي. وقد رُوِيَ: "لا أُنْسَى ولكنْ أُنَسىَّ لأَسُنَّ" (¬7). وذهب ابنُ نَافِعٍ وعيسى (¬8) بن دينار إلى أنّه ليس بِشَكٌّ، ومعناه التَّقْسِيم، أي: أَنْسَى أَنَا. أَوْ: يُنْسِيِني اللهُ. وقال أبو الوليد الباجي (¬9): "يحتمل ما قَالاَهُ أنّ يريد: أني أَنِّسَى في اليقَظَةِ، أو أنسى في النّوم، أو أنسى على سبيل عادة البَشَر من الذُّهول عن الشَّيء والسَّهْو. وأَنْسَى (¬10) مع إقبالي عليه (¬11). فأضاف إحدى النِّسْيَانَين إلى نفسه (¬12)، إذ كان له ¬
بعضُ السَّببِ فيه، ونَفَى الآخر عن نفسه إذ هو فيه كالبشر" (¬1). وذهبت طائفةٌ من أهل الحديث والمعاني والشُّروحات (¬2) إلى أنّ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يكن يسهو (¬3) في صلاته، ولا ينسى عَمدًا ولا سَهْوًا ولا غَفْلَةً؛ لأنّ النِّسيانَ ذهولٌ وغَفْلَةٌ وآفَةٌ، قالوا: والنّبيُّ عليه السّلام مُنَزَّهٌ عنها، والسَّهوُ شُغْل (¬4)، فكان صلّى الله عليه يَسهُو في الصّلاة ويُشغِلُه عن حركات الصَّلاةِ ما في الصّلاة شُغْلًا بها, لا غَفْلَةَ عنها، وهذا القائل هذا القول يقول في الرِّواية الأخرى: "إنِّي لأنْسَى". وذهبت طائفةٌ إلى منع هذا كلِّه عنه، وقالوا: إنّ السَّهوَ منه -عليه السّلام- كانَ عَمدًا وقَصدًا ليُبَيِّنَ ويَسُنَّ. وهذا قولٌ متناقضُ المقاصدِ؛ لأنّه كيف يكون مُتَعَمدًا ساهيًا في حالٍ؟! ولا حُجَّةَ لهاتين الطَائفَتَين في قوله: "إنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ" (¬5). ولو تتبّعنا القول على معاني هذا الحديث، والاحتجاج لكلِّ فرقة لطالَ وخرجنا عن المقصد. الفقه: لُبَابُه في ستِّ مسائل: المسألة الأولى: أنّ نقول: السَّهوُ عنه لا يخلو أنّ يكون فَرْضًا أو سُنَّةً أو فضيلةً. فإن كان فَرْضًا، فلا يجزئ فيه سجود السَّهو أَلْبَتَّةَ. وإن كان سُنَّةً، جُبِرَ بالسُّجود دون خلافٍ عندنا، إلَّا ما رُوِيَ عن سحنون؛ أنَّه قال: إذا كثرت السُّنَن لا يسجد لها. فإن كان (¬6) فضيلة، ففيها قَوْلان، والفضائل عشر أو نحوها، وإن كانت ¬
فضيلة (¬1) لا يسجد فيها (¬2). المسألة الثّانية: قال مالكٌ وابنُ القاسم: إنّ مَنْ سلَّم من اثنتين، وفعل (¬3) كما فعل النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - يوم ذِي اليَدَينِ، تَمَّتْ صلاتُه. وقال ابن كنانة ووافَقَهُ أبو حنيفة: إنّه لا يصحّ ذلك؛ لأنّ زمان الرّسول عليه السّلام يصحّ فيه النَّسخ بخلاف هذا الزّمان. وقال داود: لا يجوز هذا اليوم إلَّا فيمن سَلَّم من ركعتين (¬4)، فقاس على هذه الصّلاة مع إنكاره القياس. ووجه قول ابن كنانة في أنّه لا يجوز إلَّا في ذلك الزّمن: أنّ هذا إنّما كان بعد أنّ جاء مشركو قريش أو العرب فسلَّمُوا عليه وهو في الصّلاة، فلم يردّ حتّى سَلَّمَ، وقال: "إنّ اللهَ يُحْدثُ مِن أمْرِهِ ما شَاءَ" (¬5) يريد: أنّ الله قد حرَّمَ علينا الكلام في الصّلاة، وكانت قصّة ذي اليدين في الصّلاة بعد ذلك. ووجه قول ابن القاسم: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك وجرى حكمه، فمن ادَّعى غيره فعليه الدّليل. المسألة الثّالثة (¬6): اتّفق العلماء أنّها كانت صلاة رُبَاعيّة، واختلفوا في تعيينها، فالصّحيحُ أنّها العصر، وكانت في المسجد، وذلك يقتضي الحَضر. فقال له ذو اليدين -واسمه الخرباق-: "أَقَصَرْتَ الصَّلاةَ أَمْ نَسِيتَ؟ " إنكارًا لفعله، مع أنَّه يشرِّعُ الشَّرائع وعنه تُؤْخَذُ، إلَّا أنَّه جَوَّزَ عليه النِّسيانَ لقوله: "أَوْ نَسِيتَ" وجوَّزَ أنّ يكون حَدَثَ فيها تقصيرٌ، فطُلِبَ منه بيان ذلك، فقال النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَينِ" فرجع إلى اليقين. ¬
وكذا (¬1) يجب على الإمام اليوم إذا خرج من محرابه وذُكِّر بالسَّهْوِ, أنّ يرجعَ إلى الجماعة ويقول لهم: أحقّ ما لِقول. فإن كانوا متَّفِقِينَ، رجعَ إلى تمام صلاتِهِ وإصلاحها. فيدلُّ من هذا أنّ الشَّكَّ بَعْدَ السّلامِ على يقينٍ مؤثّر، وتَرِدُ مسائل تدلُّ على أنّه غير مؤثِّرِ. قال ابنُ حبيب: إذا سلَّمَ الإمامُ على يقينٍ، ثمّ شَكَّ، بَنَى على يقينه، فإن سأل مَنْ خَلْفَهُ، فأخبروه (¬2) أنّه لم يتمّ، فقد أحسن، فليتم صلاته وما بقي ويُجزئُهم، ولو كان الفذُّ سلَّمَ من اثنتينِ ثمّ تَيَقَّنَ ثمّ شَكَّ، فقال أَصِبَغُ: لا يسأل من حَوْلَهُ، فإن فعل فقد أخطأ، بخلاف الإمام الّذي يلزمه الرّجوع إلى يقينِ مَنْ معه. فهذه المسألة مبنيةٌ على أنّ الشَّكَّ بعد السّلام مؤثِّرٌ مُوجِبٌ للرّجوع إلى الصّلاة، إلَّا أنَّه مع ذلك لم يجعلوا له حكم الشكّ إذا دخل الصّلاة (¬3)، قاله ابن حبيب، وكذلك إذا سلَّم على شكّ ثمّ سألهم، وقاله (¬4) ابن القاسم، وأَشْهَب، وابنُ وَهْب. وقال عبد الملك (¬5): إنّها تُجْزِئه. المسألة الرّابعة (¬6): إذا سلَّم ثمّ قام من مجلسه، فقال ابنُ القاسم: يجلس ثمّ يقوم ويتمّ صلاته. وقال ابنُ نافع: لا يجلس. وقال ابنُ حبيب: لو سلَّم من ركعة أو من ثلاث ركعات دخل بإحرَامٍ ولم يجلس. وهذا نظير (¬7) على مذهب أبنِ نافع, ولا فرقَ بين أنّه يسلِّم من ركعة أو ركعتين؛ لأنّ الجلوس للرّكعتين قدِ أنقضَى، والقيام من الرّكعتين كالقيام بعد السّجود من ركعة. المسألة الخامسة (¬8): قال علماؤنا (¬9): والتّكبير للرُّجوعِ للصّلاة مستحقٌّ. ¬
قال ابن القاسم عن مالكٌ: وكلُّ من جاز له أنّ يَبْنِيَ بعد إنصرافه بقُرْبِ ذلك، فليرجع بإحرامٍ (¬1). وقال ابن نافع: وإن لم يكبِّر بطلت صلاته؛ لأنّه قد خرج عنها بالسَّلام، فلا يعود إليها إلَّا بإِحرامِ (¬2). وحكى أبو محمد عبد الحقّ (¬3) في "نكته" (¬4) أنّه إذا سلَّم من اثنتين، وذُكِّر وهو جالسٌ في مقامه لم يكن عليه أنّ يُحْرِم إذا رجع إلى صلاته بالقُربِ؛ لأنّه لم ينصرف ولم يعمل عَمَلًا، وإنّما حصل فيه السّلام فقط، وهو ككلام تكلّم به سَهْوًا. وحكى ابنُ القاسم أنّه يُكَبِّر ثم يجلس ولا يصحّ له تأخير. وقال (¬5) الطُلَيطِلّىّ (¬6) - فيمن ذُكِّرَ بعد أنّ سلّم وهو جالس-: " إنّه يُكبِّر تكبيرة يَنْوِي بها الرُّجوع إلى الصّلاة، ثمّ يُكَبِّر تكبيرة أخرى يقوم بها". وسنتكلّم عليه في باب السّهو من هذا الكتاب، ونَزِيدُه بيانّا إنّ شاء الله تعالى. ¬
باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها
باب النَّظرِ في الصّلَاةِ إلى ما يَشَغَلُكَ عَنْها مالِك (¬1)، عَنْ عَلقَمَةَ بنِ أَبِي عَلقَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوجَ النَّبِىِّ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَتْ: أَهْدَى أَبُو جهْمٍ بنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللهِ- صلّى الله عليه وسلم - خمِيصَةً شَامِيَّةً لَهَا عَلَمٌ، فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلاَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ" الحديث إلى قوله (¬2): "وَائْتُوني بِأَنْبَجَانِيَّة". الإسناد: تنبيه على وهم: قال الشّيخ أبو عمر (¬3): "هذا الحديث رواه رواةُ "الموطَّأ" كلّهم (¬4) عن مالكٌ، عن علقمة بن أبي عَلقَمَة، عن أمِّه، عن (¬5) عائشة زوج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وسقط ليحيى وَحْدَهُ: عن أُمِّهِ. وأبو جَهْم اسمه عُبَيْد بن حُذَيْفَة بن غانم العدوي القرشي، من بني عديّ بن كعب" (¬6). وهذا (¬7) الحديث (¬8) مُرْسَلٌ عند جميع الرُّواةِ عن مالكٌ (¬9)، إلَّا مَعْن بن عيسى، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: لبس خَمِيصَة، وذكر الحديث (¬10)، وأصحاب مالكٌ يرفعونه. ¬
العربية: (¬1) قولُه: "وائْتُؤنِي بِأنْبِجَانِيَّة" هكذا في حديث الزُّهري (¬2) بالتَّذْكير، وهو كِسَاء صوف، فإنّ أردتَ الكِسَاء ذكّرت، وإن أردتَ الخَمِيصَة أنَّثت. ويقالُ بفتح الباء وبكسرها، ويقال في كلِّ ما التَفَّ وكَثُفَ، يقال: شاةٌ أنْبَجَانِيّة، إذا كان صوفُها كثيرًا مُلْتَفًا. والخميصة كِسَاءُ صوفِ رقيقٍ يكون بعَلَمٍ، وقد يكون بغَيْرِ عَلَمٍ. والخَمَائصُ لباس الأَشْرافِ في أرض العَرَبِ، وقد يكون العَلَمُ فيها أحمر، وقد يكون أصفر وأخضر (¬3). وأمّا الأَنبِجَانيُّ: فكساءُ صُوفٍ غليظٍ لا عَلَمَ فيه. وقال ابنُ قُتَيبَةَ (¬4): "إنّما هو كِسَاء مَنْبَجَانِيّ. ولا يقال: أَنبِجَاني؛ لأنّه منسوبٌ إلى مَنْبِج (¬5)، وفُتِحَتْ باؤه في النَّسَبِ؛ لأنّه خَرَجَ مَخْرَجَ مَنْظَرَانىّ ومَخْبَرَانيّ (¬6) ". وقال غيره: جائزٌ أنّ يقال أنْبِجَانيّ كما هو في الحديث. وقال ثعلب: إنبِجَانِيّة بفتح الباء وكسرها كما تقدّم. الفوائد المتعلّقة بهذا الحديث: وهي ست فوائد: الفائدة الأولى (¬7): في هذا الحديث من الفقه: قَبُول الهديّة، وكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقبل الهديَّةَ ويأكلها, ولا يقبلُ الصَّدقةَ. والهديةُ من أفعال المسلمين الكُرَمَاء والصَّالحين الفُضَلاء، واستحبَّهَا العلماءُ ما لم يُسْلَكْ بها طريق الرّشْوَة لدفْعِ حقِّ أو تحقيقِ باطلِ. ¬
الفائدة الثّانية (¬1): فيه: دليلٌ على أنّ من رُدَّت عليه هديّته يشقّ ذلك عليه، فلذلك أَنَّسَهُ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بأن أخذَ منه كِسَاءَهُ الّذي لا عَلَمَ فيه، ليَعلَم أنّه لم يَرُدّ عليه هدِيَّته. الفائدة الثّالثة (¬2): فيه من الفقه: أنّ كلَّ ما يشغل المرء في الصّلاة، إذا لم يمنعه من إقامة فَرَائضها وأركانها لا يُفْسِدُها, ولا يجب (¬3) عليه إعادتها. الفائدة الرّابعة (¬4): فيه: أنّ شهوده - صلّى الله عليه وسلم - فيها الصّلاة يدلُّ على جواز الصّلاة فيها؛ وذلك لمعنيين: أحدهما: أنّ الصُّوفَ والشِّعر لا يَنْجُس بالموت. والثّاني: أنّ ذبائح أهل الكتاب حلالٌ لنا، وهم كانوا سكّان الشَام، فيُحْمَلُ ما وردَ من جهتهم على الذَّكَاةِ، لما علم أنّ ذلك كان عملهم. الفائدة الخامسة (¬5): قولى (¬6): "وَرُدِّي هَذه الْخَمِيصَةَ إِلَى أَبِي جَهْمٍ" قد بيَّنَّا جواز ردِّ الهدية إلى مهديها باختيار المهدي إليه. وقوله (¬7): "فإنَّي نَظَرتُ إلَى عَلَمِهَا" يحتملُ مَعْنَيَيْن: أحدُهما: أنّه بين عِلَّةً ردِّها, ليقتدى به في ترك لباسها من غير تحريمٍ. والثّاني: أنّه بيّن أنَّ الفِتنَةَ لم تقع، وإنّ صلاته كاملة، لقوله: "فَكَادَ يَفْتِنُنِي". الفائدة السادسة (¬8): قول أبي جهم (¬9): "يا رسولَ الله، ولِمَ" فهو سؤالٌ عن معنى كراهية الخميصة ¬
مخَافَةَ أنّ يكون قد حدثَ فيها تحريمٌ، فقال النّبيُّ صلّى الله عليه: "إنِّي نظرتُ إلى عَلَمِهَا" وهذا يدلُّ على كراهيّة الاشتغال عن الصَّلاةِ بالنَّظرِ إلى غيرها ممّا يقابل فيها (¬1) دون تَكَلُّفِ ولا قَصْدٍ. وإن لم يحرم علينا أنّ نلبس من الثّياب خيرها, ولا ما (¬2) يمكن النّظر إليه في الصّلاة، فلذلك لم يمنع أبا جَهْمٍ من لباسها. ويحتمل أنّ يفعل ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لأحد معنيين: 1 - أحدهما: أنّ يكون ذلك واجبًا. 2 - أو مندوبًا إليه. حديث مالك (¬3)، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أنّ أبا طَلحَةَ الأنصاري كان يُصَلي في حائِطِه، فطارَ دُبْسِيٌّ، فَطَفِقَ يَتَرَدَّدُ يَلتَمِسُ مَخرَجًا، فأعجَبَهُ ذلك، فجعلَ يُتْبِعهُ بَصَرَهُ ساعةً. ثمّ رجعَ إلى صَلاتِهِ. الحديث صحيحٌ، وله طُرُقٌ ومعانٍ (¬4). الأصول (¬5): قوله (¬6): "لَقَدْ أَصَابَتْنِي في مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ" قال الإمام: وأَصْلُ الفتنة: الاختبار، قال الله العظيم: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (¬7) إلَّا أنّ لفظ الفتنة إذا أُطلِقَ فإنّما يُستَعمَلُ غالبًا فيما أخرجه الاختبار إلى غير الحقِّ (¬8)، يُقالُ: فلانٌ مفتونٌ، بمعنى أنّه اخْتُبِرَ فوُجِدَ على غير الحقِّ. وتكون الفتنة بمعنى الميل (¬9) عن الحقِّ، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (¬10) أي: تميل إليهم. ¬
وقوله (¬1): "هُوَ صَدَقةٌ للهِ" يريد بذلك: إخراج ما فُتِنَ به من ماله وتكفير (¬2) اشتغاله عن صلاته. وهذا يدلُّ على أنّ مثل هذا كان يَقِلُّ منهم ويَعظُمُ في نفوسم. وفي الجملة: إنّ الإقبال على الصّلاة، وترك الالتفات فيها، مأمورٌ بأحكامها (¬3)، قال الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬4). قال أهل التّفسير (¬5): هو الاقبال عليها والخشوع فيها. وقد كرهَ العلماءُ كلّ ما يكون سببًا للالتفات، ولذلك كره النّاس تزويق المسجد بالذَّهب والفِضَّة والنُّقوش المُزَخْرَفَةِ. وقوله: "هُوَ صَدَقَةٌ" يقتضي الصّدقة برقبه المال (¬6)، وإنّما صُرِفَ ذلك إلى اختيار النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، لعلمه بأفضل ما تُصْرَفُ إليه الصّدقات، وحاجته إلى صَرْفِهَا في وجوهها. حديث عَبْد اللهِ بْن أبِي بكرٍ (¬7)؛ أَن رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطٍ لَهُ بِالقُفِّ- وَادٍ مِن أَودِيَةِ المَدِينَةِ- في زَمَانِ الثَّمَرِ، وَالنَّخْلُ قَد ذُلِّلَت، فَإذَا هُوَ لاَيَدْرِي كَم صَلَّى؟ فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي في مَالِي هَذَا فتْنَةٌ، فَجَاءَ عُثمَانَ بْنّ عَفَّانَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ، فَاجْعَلْهُ في سَبِيلِ اللهِ (¬8)، فَبَاعَهُ عُثمَانُ بِخَمسينَ أَلفًا، فَسُمِّيَ ذَلِكَ المَالُ: الخَمْسِينَ. العربية (¬9): قوله: "بِالْقُفِّ" القُفُّ ما صَلُبَ من الأرض واجتمعَ، ومنه قَفَّ شعري، أي اجتمعَ وتقبَّضَ (¬10). ¬
العمل في السهو
وقوله: "قَدْ ذُلِّلَت" يريد بالثَّمَرِ (¬1). ويقالُ: تَبَرَّزَتْ للخُرْصِ وظَهَرَتْ. والأظهرُ أنّ الثَّمَرَةَ إذا عَظُمَت وبَلَغَت حدَّ النَّضْج ثَقُلَت فمالت بعراجينها، وهو من قوله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} (¬2). الفقه (¬3): قوله: "هِيَ صَدَقَةٌ" هذه اللّفظة تقتضي البِرَّ وإن لم يقل صدقة لله، وذلك أَنَّ من تصدَّقَ (¬4) على ابنه لم يكن له اعتصار صدقته، بخلاف الهبة فإنّ له اعتصارها حتّى يقول: هبة لله. وتفارقُ الصّدقة الهِبَة في مواضع (¬5)، وذلك إذا قال: "صدقة" ولم يبيِّن المتصدِّق عليه، كَمُلَتِ الصَّدَقة ولم تفتقر إلى ذِكْرِ المصدَّق عليه، والهِبَةُ تفتقرُ إلى ذِكْر الموهوبِ له. وقال عبد الملك: في الحديث دليلٌ على مَنْ تصدَّق بشيءٍ مُعَيَّنِ وإن كان أكثر من الثُّلُثِ فإنّه يلزَمه، وليس ذلك بِبيِّنِ؛ لأنّه ليس في الحديث (¬6) أنّ ما أخرجه كان أكثر من ثُلُثِ مَالِه، وما عرفنا ذلك، وليس في الحديث ما يدلُّ على أنّه يلزمه ذلك ويحكم عليه به مع (¬7) امتناعه منه. العَمَلُ فِي السَّهْوِ قال الإمام الحافظ (¬8): لم يذكر في هذا الحديث (¬9) ما يعمل عند شكّه (¬10) في صلاته من البناء على يقينه، أوغير ذلك. ¬
ويحتمل أنّ يكون ذلك موافقًا لحديث أبي سعيدٍ (¬1)، فيكون الأخذ بالزّائد المفسَّر أَوْلَى. وقد ذهبت طائفة من العلماء أنّ هذا في المستنكح الّذي يسهو سهوًا كثيرًا (¬2). الفقه: قال أشياخنا: ووجوه (¬3) أحكامِ السَّهوِ سبعٌ: سهوٌ يدخل على المرء في صلاته، لا يسجد له قبل السّلام ولا بعده؛ وهو إذا سَهَى عن رَفْع يَدَيه لتكبيرة الإحرام، أو عن الإقامة. وإذا لم يقل: "آمين" عند الفراغ من الحمد. وإذا لم يقل: "اللهم ربَنَا ولكَ الحمد". وإذا سَهَى عن القنوت في الصُّبح، وعن تكبيرة واحدة، وعن قوله: "سمع الله لمن حمده" مرّة واحدة. وإذا ترك التسبيح في الرُّكوع والسُّجود. الحُكْم الثّاني: سهوٌ يدخلُ عليه فيسجد له قبل السّلام، فإن نَسِيَ فبعد السّلام، فإن نَسِيَ فبقُرب ذلك، فإن نَسِىَ حتّى طَالَ فصلاتُه تامّة؛ وهو من نَسِيَ تكبِيرَتَيْن أو تحميدَتَين أَو السُّورَتَين إو التَّشَهدَين، أو أسرَّ فيما يَجْهَر فيه، وما أشبه ذلك. الحُكْم الثّالث: سهوٌ يدخلُ عليه يسجد له قبل السّلام أيضًا، فإن نَسِيَ فبِقُرْبِ ذلك، فإن نَسِيَ حتّى طال أعادَ الصّلاة؛ وهو من نَسِيَ الجلسة الوُسْطى أو ثلاث تكبيرات، أو ثلاث تحميدات، أو ما يقوم مقامها. الحُكُم الرّابع: هو سهوٌ يدخلُ عليه لا عملَ له فيه إلّا بالابتداء؛ مَنْ نَسِيَ إحضارَ النّية عند الإحرام، ومَنْ صلّى إلى غير القِبْلَة، ومَنْ صلّى قبل الوقت، ومَنْ صلَّى بغير وُضوءٍ ومَنْ خرج من مكتوبة بغير سلام، فليس لهؤلاء إلا الابتداء على كلِّ حال. ¬
الحُكْم الخامس: سهوٌ يدخلُ عليه، فيها (¬1) يسجد له قبل السّلام، ويعيد الصّلاة من أسقطَ أمّ القرآن من ركعة على أحد الأقوال المنصوصة (¬2) في الكتب (¬3). الحُكْم السادس: هو سهو يدخلُ عليه يسجد له بعد السّلام، فإن نَسِيَ فمتَى ما ذُكِّرَ مَنْ كانَ له جلوسٌ زائد، أو قام إلى خامسة، أو جهر فيما أسرَّ فيه، وما أشبه ذلك؛ فإنَّ حُكمَهُ السّجود بعد السّلام. الحُكْم السّابع: هو سَهْوٌ يدخلُ عليه في صلاته يسجد له قبل السّلام، وهو منِ اجتمعَ عليه سَهْوَانِ: زيادةٌ ونقصانٌ، فإن نسي قبل السّلام فبعد السّلام أو بقُرْبِ ذلك. فإن نَسِيَ حتّى طال، فينظر من أين يكون السَّهْو في النُّقصان، فإن كان من معظم الصّلاة أعادّ الصّلاة، وإن كان من غير ذلك فصلاته تامّة. فهذه أحكام السّهو وأقسامه. تكمِلة هذا البَاب (¬4) قوله (¬5):"إنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ" ذهب بعض المُفَسِّرين إلى أنّ "أو" للشكّ. وقال ابنُ دِينَار وابنُ نافِعٍ: ليست للشكِّ، ومعنى ذلك: أنسى أنا، أو يُنْسيني الله تعالى، ويحتاج هذا إلى بيان؛ لأنّه (¬6) أضاف أحد النِسْيَانَيْن إليه. والثّاني: أنّه من قِبَلِ الله، وإن كنّا لنَعلَمُ (¬7) أنَّه إذا نَسِيَ أنّ (¬8) الله أنساه، وذلك يحتمل معنيين: ¬
أحدهما: أنّ يريدَ: لأنْسَى في اليقظة، أو أَنْسَى في النّوم، لأنّه لا ينام قلبه، فأضاف نِسْيان اليقظة إلى نفسه؛ لأنّه لا يمكن التَّحرُّز منه. وأضاف نِسْيَانَ النّوم إلى الله (¬1). وقد أشبعنا القول فيه في حديث "ذي اليدين" بأوعبِ بيانٍ، والله الموفّق للصّواب. ¬
كتاب الجمعة وأبوابه ومقدماته
كتاب الجمعة وأبوابه ومقدِّماته اللُّغة: قال بعضُ علمائنا: الجمعة مأخوذةٌ من الجمع، كأنّه أشار فيه إلى أحدِ وجهين: أحدهما: أنّه جمع فيه آدم من جميع أديم الأرض، من أحمرها، وأبيضها وأسودها، ومن جميع أنواعها. الوجه الثّاني: أنّ الله تعالى يُقيمُ فيه السّاعة، ويجمع فيه الخلائق. وتعلّقه بالاشتقاق ليس بالقَوِيِّ، ولابدّ في هذا الباب من ثلاث مقدِّمات في صدر هذا الكتاب. المقدّمة الأولى في معرفة وجوبها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1) الآية، وهذا ظاهرٌ في أنّ الخطّاب بالجمعة المؤمنون (¬2) بهذه الآية دون الكفّار. وقد بيَّنَّاه أنّ الكفَّارَ مخاطَبُونَ بفروع الشّريعة وأصولها (¬3)، وإنّما خصَّ المؤمنون دون الكفار بهذه الآية، تشريفًا لهم بالجمعة وتخصيصًا لهم دون غيرهم، للحديث: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَنَا، ثُمَّ هَذَا يَومُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ، وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ. الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصاَرَى بَعْدَ غَدٍ" (¬4). وقال بعض علمائنا: هذا الحديث أصلٌ في وجوبِ الجمعة أنّها فرضٌ على الأعيان. وَقَدْ وَهِمَ بعضُ العلماءِ في هذا، فقال: هي فرضٌ على الكفاية. وهي ¬
وهلةٌ، والصّحيحُ ما حكاهُ عبد الوهّاب (¬1) أنّ الجمعة فرضٌ على الأعيانِ. وفي "الدّاودي" (¬2) عن طارق بن شهاب، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "الجُمُعَةُ حَقٌ وَاجِبٌ على كلِّ مسلمٍ إلَّا أربعة" الحديث. شرح (¬3): قوله: "نَحْنُ السَّابِقُونَ" يريد بقوله -عليه السّلام-: "نَحْنُ الآخِرُون السّابقونَ" أنَّه -عليه السّلام- آخر الأنبياء والرُسُلِ، وهو خاتم النَّبيِّين لا نَبِىَّ بعدَهُ. وقوله: "السّابقون" يعني أنّه وأُمتّه يسبقون سائر الأُمَم بدخول الجنّة، وهو الشافِع ليقضي بين الخلائق يوم القيامة إذا اشتدَّ بالنّاس العَرَق، وطال بهم الوقوف، فيأخذ حَلْقَة الباب، فيومئذٍ يبعثه الله المقامَ المحمودَ، ويَحمَده أهل الجَمْع كلهم. وأيضًا: فقد قال -عليه السّلام-: "إنّ أُمَّتِي أعطيت أجر أهل الكتابين: التّوراة والإنجيل" وحديث آخر: "إنّما أنا مثلكم فيمن خلا من الأُمَمِ قَبْلَكُم" الحديث (¬4). وقوله: "فهذا يَوْمُهُمُ الّذي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فاخْتَلُفوا فيه، فهدانا اللهُ إليه" قال بعض الأشياخ (¬5): في هذا دليلٌ (¬6) أنّ يوم الجمعة فرض عليهم بعَينِهِ فتركوه؛ لأنّه لا يجوز لأحدٍ أنّ يتركَ فَرْضَ الله تعالى ويكون مؤمنًا، وإنّما يدلُّ - والله أعلم- أنّ فَرْض يوم الجمعة وُكلَ (¬7) إلى اختيارهم ليُقِيمُوا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيِّ الأيّام يكون ذلك، ولم يهدهم الله تعالى ليوم الجمعة، وذَخَرَهُ لهذه الأمّة وهداها له، تَفَضُّلًا منه عليها، ففضلت به سائر الأمَم، إذ هو خير يَومٍ طَلَعَت فيه الشّمس، وفَضلَهُ الله بساعةِ يُسْتَجَابُ فيهما الدُّعاء. ¬
المقدمة الثانية في شروط الجمعة
المقدّمةُ الثّانِيَةُ في شُروطِ الجُمُعَةِ وللجمعة شروط لا تجب إلَّا بها وتصحُّ دُونَها، وشرائط لا تجب الجمعة إلَّا بها ولا تصحُّ دونَها، وفرائض لا تصحُّ إلَّا بها, وسُنَنٌ وفضائل لا تكمل (¬1) إلَّا بها. تفسيرُ هَذِهِ الجُملَةِ: أمّا الشّرائطُ الّتي لا تجب إلَّا بها وتصحّ دونها، فهي ثلاثة: الذّكورة، والحريّة، والإقامة؛ لأنّ العبد والمسافر والمرأة لا تجب عليهم جمعة، ولهم أنّ يصلّوها. وأمّا الشرائط الّتي لا تجب الجمعة إلَّا بها ولا تصحُّ دونها، فهي ثلاثة أيضًا. قال الإمام الحافظ: وهي الجماعةُ وموضع الاستيطان، قرية كانت أو مصرًا، على مذهب مالكٌ - رحمه الله - وقيل في الإمام والجماعة: إنّهما من شرائط الصِّحَّةِ، كالوُضوء والنِّية والتَّوَجُه إلى القِبلةِ، وما أشبه ذلك. وقيل أيضًا: إنّهما من شرائط الوجوب. قال الإمام: ولا يصحّ أنّ يقال فيهما: إنّهما من شرائط الوجوب دون الصِّحَّة، ولامن شرائط الصِّحَّة دون الوجوب. وإنّما الصّحيح أنّ يقال: إنّهما من شرائط الوجوب إذا عُدِمَا، ومن شرائط الصِّحَّة إذا وُجِدَا. وبيان هذا: أنّ القومَ متى لم تكن لهم جماعة تصحّ بهم الجمعة، ولم يكن لهم إمامٌ يُحْسِنُ الإقامةَ بهم، سقَطَ عنهم فَرْض الجمعة. ومتى كانت لهم جماعة تصحّ بهم الجمعة, وإمامٌ يُحسِن إقامة الجمعة، وجبت عليهم إقامة الجمعة به، ووجبت عليهم إقامة الجمعة بالجماعة والإمام. ومتى لم يَمْتَثِلُوا ذلك، وجب عليهم إعادة الصّلاة الّتي صّلوا في الوقت، جمعة وظهرًا بعد الوقت، وكذلك موضع الاستيطان. تفصيل (¬2): قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: أمّا قولُ مَنْ قال: "من شروطها الّتي لا تجب إلّا بها الذّكورة" فنعم؛ فلأنَّ الأُنوثة نقصانٌ يخلٌّ بالعقل، حسب ما نصَّ ¬
عليه، ويوجب الحجابَ، ويمنعُ من الخُلْطَة بالجماعة، فلا تنتظم منهنّ عُصبَة، ولا تنعقد منهنّ جماعة في جمعةٍ. بل إنّ الله أَذِنَ لهنّ في الجماعات على معنى التَّبَعِيَّة للرِّجال، رحمةً لهن، وتوسعةً في الأجر عليهنّ. وأمّا الحريّة، فإنها أيضًا شرطٌ في وجوبها؛ لأنّ العبد مستَغْرِقٌ بخِدْمةِ سيّده استغراقًا حَجَبَهُ عن الشَّهاداتِ. وأمّا إنّ حَضَرَها العبدُ والمرأةُ كانا من أهلها, ولا تجوز إمامة العبد فيها (¬1)، ولا يلتفت إلى رواية من جوّزها (¬2). فأمّا القُدرَةُ، فلا خلاف فيها بين الأُمة؛ لأنِ المكلَّف إنّما يكلّف بشرط القدرة، والقدرةُ قد تتعذَّرُ على الإنسان، كالمرض والسّجن وما أشبه ذلك. وأمّا الإقامةُ، فلا خلافَ فيها؛ لأنّ الله تعالى وضع عَنِ المسافر شطر الصّلاة، فكيف يتكلّفها ومن شرطها الخُطْبَةُ والإمامُ. وأمّا القريةُ، فلا خلاف فيها، وهي مرتبطةٌ بالشرط السّابق الّذي قدّم؛ وليس لها قَدرٌ مُقَدَّرٌ، ولا يوجدُ لها في الشّريعة أثرٌ ولا دليلٌ، بَيْدَ أنَّ العلماء قالوا في ذلك قولًا صحيحًا، قالوا: إنّ التزمت جماعةٌ موضعًا يُمكِنُهم فيه الاستيطان، ويستغنون عن غيرهم، فقد وجبَ الأمرُ كما يجب. وأمّا شروط الآدمي (¬3)، وهي الإسلام، فصحيحٌ؛ لأنّ العبادةَ لا تصحُّ من كافرٍ، وقد وَهَلَ بعض العلماء، فجعل الإِسلامَ من شروط الوُجوبِ، ولا خلاف في مذهب مالكٍ وجميع الرُّواةِ عنه من أصحابه أنّ الكفّار مخاطَبُونَ بفُروع الشّريعة. ومن شروطها: الخُطبة المعدودة المفصولة بجلوسٍ. ومن شروطها: الإمامُ، ولسنا نعني به الأمير، وإنّما نعني به مَنْ يقيمُها؛ لأنّ الصّحابة أقامت الجُمُعَة وعثمان محصورٌ، واجتمع عثمان معهم على ذلك. وقد قيل: إنّها من عمل الأُمراء تُصَلَّى خَلْفَ كلّ من قام بها. وقد قيل: إنه يُصَلِّي لنا إِمامُ فِتْنَةٍ؟ فقال: الصّلاةُ أَحْسَنُ (¬4) مَا يَفْعَلُ (¬5) ¬
النَّاسُ، فإِن أحْسَنُوا فأحْسِنْ معهم، وإن أساءوا فَاجْتَنِبْ إساءَتَهُمْ (¬1). ولا تُصَلَّى ألْبَتَهّ خَلْفَ عبدٍ، أمير كان أو غير أمير؛ لأنّ الجمعة تسقطُ عنه. ومن النُّكتِ البديعة في سقوط الجمعة عن العبد، قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2) فإنّما خاطب اللهُ بالجمعة من يبيع ويشتري، والعبدُ والصبيُّ لا يبيعان؛ لأنّ العبدَ تحت حِجْرِ السَّيِّد، والصَّبِىَّ تحت حِجْرِ أبيه. أمّا الصّبي أيضًا؛ فلأنّه عدم العقل، ولا يزال يتدرّج في المعرفة بالسُّنَنِ والشّرائع حالًا بعد حالٍ، حتّى يصل إلى حدِّ الاحتلام، فتلزمه الفرائض. وأمّا العددُ، فليس في صلاة الجمعة أصل يُعَوَّلُ عليه في العدد إلَّا حديثان: الحديث الأوّل: "أنّ الّذين بَقَوْا معه كانوا أربعين رَجُلًا" (¬3) وهذا لا يلزم ولم يُدخله أهل الصِّحَّة. وأمّا الحديث الثّاني: فهو الّذي ثبت أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَخطُبُ فتفرَّقُوا عنه، إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فلم يقطع خُطبَتَهُ، ولا تَرَكَ صَلاتَهُ، فعاتَبَهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ على ذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} الآية إلى قوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬4). وقد تعلَّق بعض علمائنا بهذا فقال: تجب الجُمُعة على اثني عَشَرَ رَجُلًا. ولكنّه عندنا لا تنعقدُ إلَّا بأكثر منهم، رواه أشهبُ عن مالكٍ. قال الإمام الحافظ: والصّحيحُ أنّ ما جاوزَ ثمانية كان انعقادُها عليهم. كما أنّه لا إشك الّذي تضعيف قول من قال: إنّ الجُمعةَ تنعقد باثنين؛ لأنّ فائدتها لا تُوجَدُ (¬5) لا يوجد في ذلك، وكلُّ صورةٍ تذهب بفائدة الحكم والعبادة فلا حكم لها، وإن كان الفقهاء والسَّلَف قد اختلفوا في أقلِّ من تقام بهم الجمعة، على أربعة أقوال: 1 - القول الأوّل: قال عمر بن عبد العزيز والشّافعيّ: أربعون رجلًا، وقيل: ثمانون وقيل: خمسون. وقيل: اثنا عشر. ¬
2 - وقال أبو حنيفة: أربعة إذا كانوا في مصر (¬1). 3 - وقال غيره: ثلاثة. 4 - وقال غيره: الإمام وواحدٌ معه. وهذا لا يكون إلَّا بِنَظَرٍ منهم: فمن رأى واعتمد أنّ أقلّ الجمع ثلاثة وال إمام منفصلٌ عن أقل الجمع، قال بقول أبي حنيفة. ومن قال: أقلّ الجمع ثلاثة والإمام معدودٌ فيها، قال بالقول الآخر. ومن قال: إنّ أقلّ الجمع اثنان والإمام منفصل عنهما، وافقَ هؤلاء في الثّلاثة. وأمّا مالكٌ - رحمه الله - فلم يجد فيه (¬2) شيئًا (¬3). مسألة: قال علماؤنا: ومن شروطها: المُسَقَّفُ، وهو المسجد، ولا أعلمُ وجهه إلى الآن، وعلى هذا جماعة المغاربة في السَّقف والجماعة. وأمّا السَّقْفُ ليس لي فيه عِلْمٌ. وأمّا الجماعة والعدد، فليس لذلك عندنا حدٌّ، وإنّما حَدّه: جماعة تَتَقَرَّى بهم بُقْعَة. وقد قيل (¬4) في المسجد: إنّه معدودٌ من شرائط الوجوب والصِّحَّة جميعًا كالإمام والجماعة، وهذاعلى قول من يرى (¬5) أنّه لا يكون مسجدًا إلَّا ما كان بَيْتًا وله سَقفٌ، بدليل قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} الآية (¬6). وقولى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَنَى مسجدًا ولو مثل مَفْحَصٍ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ له بيتًا في الجَنَّة" (¬7) إذ قد يُعْدَمُ مسجدٌ ¬
يكون على هذه الضفة وقد يوجد، فإذا عُدِمَ كان من شرائط الوجوب، وإذا وُجِدَ كان من شرائط الصِّحَّة. وعلى قياس هذا القول أَفْتَى القاضي أبو الوليد الباجي في أهل قرْيَةٍ انهدمَ مسجدهم، وبقي لا سَقْفَ له، فحضرتِ الجمعةُ قبلَ أنّ يبنوه أنّه لا يصحّ لهم أنّ يجمعوا فيه (¬1) ويصلّون ظهرًا أربعًا. قال الإمام: وهذه وهلة من القاضي أبي الوليد (¬2)؛ لأنّ المسجد إذا جعل (¬3) مسجدًا لا يعودُ غير مسجدٍ أبدًا إذا انهدم، بل يبقى على ما كان عليه من التّسمية والحُكم، وإن كان لا يُسَمَّي (¬4) الموضع الّذي يُتَّخَذ لبناءِ المسجد مسجدًا قبل أَنْ يُبْنَى وهو فضاءٌ. وقد (¬5) اختلف في المسجد الخَرِبِ إذا وُجِدَ قد خَرِبَ. وقال قوم من العلماء: إنّ المسجد من شرائط الصِّحَّة (¬6)، وهذا على قول من يقول: إنّ المكان مِن الفضاء يكون مسجدًا بتعيينه وتحبيسه للصّلاة (¬7) فيه. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬8): ومذهبي في هذه المسألة: أنّ الجمعة في كلّ موضعٍ، في جامع، وفي مسجد، وفي الفلاة، وليس من شرطها عندي السَّقْف خاصّة. وأمّا الخطبة فقيل أيضًا (¬9): إنها شرط في صلاة الجمعة (¬10). وذهب ابن المَاجِشُون إلى أنّها سنّة. والدّليلُ على وجوبها: قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬11) فهي فرض. ومن ¬
العمل في غسل يوم الجمعة
شروطها (¬1) أنّ تكون قبل الصّلاة. واختلفَ العلماءُ هل هي من شرط الجمعة أم لا (¬2)؟ وظاهر "المدوّنة" (¬3) أنّ من شرطها صحّة الجماعة فقط، والكلام على هذه المعاني يطولُ سَرْدُهُ في هذا الكتاب. العملُ في غُسل يومِ الجُمُعَة الحديث: "مَنِ اغتسلَ يومَ الجمعةِ غُسْلَ الجنابةِ، ثُمَّ راحَ في السَّاعةِ الأُولَى" (¬4). الحديثُ صحيحٌ متّفق عليه (¬5)، وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى (¬6): قولُه: "مَنِ اغْتَسَلَ" إشارة إلى كيفيّة الغُسلِ لا إلى وُجوبِ الغُسلِ وسَنُبَيِّن تأويل من اغتسل وغسل أنّه على الرّأس (¬7)، للاستيفاء له في جميع البدن. والدّليل على أنّه لم يرد الوجوب ثلاثة أدلّة: الأوّل: ما تقدّم من الأحاديث. الثّاني: أنّه لو كان الغُسل واجبًا فَرْضًا على مذهب الظّاهرية (¬8)، لكان من فرائض الجمعة لا تُجْزِىء إلَّا به، وقد أجمع العلماءُ على جواز صلاة من صلّى ولم يغتسل. والدّليل الثّالث: حديث عمر؛ أنَّه دخل عليه عثمان، فقال له: والوضوءُ أيضًا (¬9). ¬
فإن قيل: الحديث الثّاني يقضي على الأوّل، وهو حديث (¬1) أبي سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "غُسْلُ يومِ الجُمُعَةِ وَاجِب على كلّ مُحْتَلِمٍ" (¬2) وحديث ثالث، قوله: "حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أنّ يغتسلَ في كلِّ أسبوعٍ يومًا (¬3). الجواب - قلنا: هذه الألفاظ غَرَّرَت بقَوْمٍ من الجُهَّال أنّ قالوا بقولكم أنّ غُسْلَ يوم الجمعة فريضةٌ بظاهر هذه الأحاديثِ، وليس كذلك، إنّما هو سُنّة مؤكَّدة. قال أشهب: قلت لمالكٍ: غُسلُ يوم الجمعة واجب؟. قال: ليس كلّ ما جاء في الحديث يكون هكذا. وهو كلام مُجْمَلٌ بديعٌ على عادة السَّلَف، إذ كانوا يجملون في الأقوال ولا يبسطونها (¬4). والدّليل على سقوطه أربعة أوجه: الوجه الأوّل: قال شيخُنا الفهريُّ، قال: قال لنا قاضي القضاة الدّامغانيُّ (¬5)، قال: حدّثنا (¬6) أبو الحسين" (¬7)، رئيس (¬8) الحنفيّة في وقته، قال: قولُ النَّبيِّ عليه السّلام: "غُسْلُ يومِ الجمعةِ واجبٌ" يعني: ساقطًا، يحتمل أنّ يسقط بسقوط الفرائض، ويحتمل أنّ يسقط بسقوط السُّنن، فلا يكون له في الحديث متعلّق. الوجه الثّاني: رَوَى النَّسائي (¬9)، وأبو داود (¬10)، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "من ¬
توضَّأ يومَ الجمعةِ فبِهَا ونِعْمَتْ، ومن اغتسلَ فالغُسْلُ أَفْضَلُ" وهذا نصّ. والوجه الثّالث: حديث عمر إذ دخلَ عليه رجلٌ، فقال: ما زِدْتُ على أنّ تَوَضَّأتُ. الحديث إلى آخره (¬1). وجه التَّعَلُّق به (¬2): أنّ عمر وأصحابه أَعلَمُوا ذلك (¬3) الرّجل بتأكيد الغُسْلِ وأقرُّوه على تركه، ولو كان فَرْضًا ما سمحوا له، لأنّ القوم كانوا أجلّ من أنّ يُقِرُّوه على مُنْكَرٍ. والوجه الرّابع: أنّ النّبيَّ -عليه السّلام- أمر بالغُسْلِ لسبَبِ عِلَّةِ، رَوَت عائشة في الصّحيح الثّابت: أنّ النّاس كانوا يأتون الجمعة من العوالي وغيرها، وكانوا عُمَّال أنفسهم (¬4)، ورُوِيَ أنهم كانوا يلبسون الصُّوف، فتظهر مثهم رائحة الضّأن (¬5). زاد النّسائي (¬6): وكان يكون عليهم الوسَخ (¬7) وتخرجُ روائحُهُم فيتأذَّى النّاسُ، فأمر رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالغُسلِ. فبيّنت عائشة- رضوان الله عليها- وجه العلَّة في ذلك، وارتبط الغسلُ بها، والفرائضُ المطلقة لا تتعلَّقُ بالعِلَلِ العارضة. المسألة الثّانية: قوله (¬8): "كلِّ مُسْلِمٍ مُحْتَلِمٍ" دليلٌ أنَّه لا تجبُ الجمعةُ على الصَّبِيِّ، وهذا إجماعٌ. وكذلك أجمعوا أنّه لا جُمُعَةَ على النِّساء بحالٍ. ففي (¬9) هذا القول يقتضي تعلُّقَ هذا الحكم من العبادات بالاحتلام، وهي الخمس عشرة. ويقتضي أيضًا اختصاصه بالرِّجال؛ لأنّ اللّفظ تذكير مع أنّ الاحتلام معتبرٌ فيه. وأما الاحتلام في النِّساء فنادرٌ، وإنّما الاعتبار فيهنّ الحيض (¬10). ¬
وقولى (¬1): "إذا جاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ" جعل الجمعة اسمًا للصّلاة، وأَمَرَ بالاغتسال من جاءها، وذلك يقتضي تعلُّق الاغتسال بالصّلاة دون اليوم. المسألة (¬2) الثّالثة (¬3): مذهب (¬4) مالك (¬5)؛ أنّ الغسل للجمعة لا يكون إلا متّصلًا بالرّواح لها. وقال ابن وهب في "العُتْبِيّة" (¬6): "يصحّ أنّ يغتسل لها بعد طلوع الفجر، قال: وأفضل له أنّ يتّصل غسله برواحه" وبه قال أبو حنيفة (¬7)، والشّافعيّ (¬8). والحجّة في ذلك لمالك من حديث ابن عمر عن النّبي عليه السّلام؛ أنّه قال: "إذا جاءَ أحَدُكُم الجمعةَ فَليَغْتَسِل" (¬9). قال الإمام: ووجه الدّليل منه، أنّه لمّا أمر مَنْ جاء للجمعة بالاغتسال، كان الظّاهر أنّ اغتساله للمجيء، ويجب على ذلك أنّ يبقَى أثره إلى وقت الإتيان لها، وذلك لا يصحُّ، إلّا أنّ يكون متّصلًا برواحه. فأمّا من اغتسل أوّل نهاره، ثمّ نام وانصرف (¬10)، فإنّ ذلك الغسل (¬11) لا يجزئه عند مالك (¬12). المسألة الرّابعة (¬13): هل يفتقر غسل الجمعة إلى نيّة أم لا؟ قال أشهب، وابنُ شعبان: إنّه لا يفتقر إلى نيّة. ¬
وهذه وَهْلَةٌ وغَفْلَةٌ منهما (¬1). والدّليلُ على أنّه يفتقر إلى نيّةٍ: أنّه غُسْلٌ من غير نجاسةٍ، فافتقر إلى النِّية. وذلك أنّه لو اختصّ الموضع بإزالة الرّائحة لاختصّت المواضع المُوجِبَة لذلك، وبمن (¬2) يتوقّع ذلك منه. المسألة الخامسة: من اغتسل للجمعةِ وهو ناسٍ للجنابة، لم يجزئه غسله للجمعة عن غسل الجنابة؟ فهذا (¬3) قلنا: إنّه يفتقر إلى النّية، فهل ينوى به الجمعة والجنابة (¬4)؟ مسألة (¬5) خلاف طبوليّة. قال ابن القاسم: يُجْزِئه ذلك. والفروعُ كثيرة، أمّهاتها هذه فركّبوا عليها ما أردتم، واللهُ الموفِّق بمَنِّهِ. المسألة السادسة (¬6): قوله (¬7): "ثُمَّ رَاحَ" قال مالك: الرَّواحُ في الجُمُعةِ إنّما يكون بعد الزَّوالِ، وهو أوَّلُ التَّبكيرِ الّذي ابتدأت (¬8) عليه التّجزئة المذكورة في هذا الحديث من البقرة إلى العصفور. وهي كلّها ساعات في ساعة واحدة، إذ السّاعة في العربيّة جزءٌ من الزّمان غير مُقَدَّرِ. وقال غيره: إنّما هي ساعات النّهار، لقوله عليه السّلام: "يوم الجمعة اثنا عشر ساعة" (¬9) وذكر الحديث، فأَنبأنا (¬10) أنّ المراد ساعات الزّمان الّتي قسمها أهل الحساب، وهي تكون مُسْتَوِية وتكون معوجّة، على حكم تداخل اللّيل والنّهار، ولو صحّ هذا الحديث لكان أصلًا يُرْجَعُ إليه، وإنّما اعتضد (¬11) مالك - رحمه الله - بقوله: "راحَ " والرَّواحُ عند العرب لا يكون إلَّا بالعَشِىِّ، وذلك من زوال الشّمس إلى آخر ¬
النّهار. كما يكون الغدوّ من طلوع الشّمس إلى الزّوال، وذلك عند المتأخّرين (¬1) محمولٌ على المجاز، كما قالوا "القافلة" وهي لا تكون في ابتداء سيرها قافلة حتّى ترجع، فأطلقوا (¬2) عليها في الابتداء اسم الانتهاء. وقالوا: "حاج" و"غاز" ولا يكون إلَّا بعد الرُّجوع من (¬3) البلوغ. قال الإمام: وإنّما يكون هذا على مقتضى السُّنَّة، لا على عادة الخَلِيفَة اليوم في أنّ يجعلوا الأذان كلّه بعد جلوس الإمام، وليس ذلك بشيءٍ. وأمّا أيمّةُ الأمصار من الفقهاء والمحدِّثين، فاختلفوا في ذلك فذَهبت (¬4) طائفة إلى أنّها أوّل طلوع الشّمس، هذا قول الكوفييّن وجماعة من المُحَدِّثة. وأجاز الشّافعيّ (¬5) البكور إليها قبل طلوع الشّمس. وقال مالكٌ: لا يكون الرَّواحُ إلَّا بعد الزَّوالِ (¬6)، والَّذي يقع في قلبي أنّه أراد عليه السّلام ساعة واحدة فيها هذا التّقسيم (¬7). قال الخطّابي: وحجّة مالك في هذا كلِّه؛ أنّ السّاعات كلّها ساعة واحدة، كقولهم: جئت من ساعة (¬8) وقعدتُ عند فلانٍ ساعة، ويريد جزءًا من الزّمان غير مُقَدَّر ولا معلوم، غير السّاعات الّتي هي أوراد اللّيل والنّهار وأقسامها. واختار ابنُ حبيب (¬9) القول الأوّل، وقال: "تأويل مالكٌ لهذا الحديث محالٌ وتحريفٌ، وذلك أنّه لا تكون ساعات في ساعةٍ واحدةٍ، والشّمس إنّما تزول في السّادسة من النّهار، وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة". قال الإمام الحافظ (¬10): وقولُ ابن حبيب خطأٌ لا خفاءَ فيه؛ لأنّ أهل العلم ¬
بالأوقات والحساب لا يختلفون أنّ الشّمس لا تزول إلَّا في آخر السّاعة السّادسة (¬1)، ثمَّ تقعُ الصّلاة إذا فاء الفَيءُ ذراعًا، وذلك في السّاعة الثّامنة بعد مسير خمسها (¬2) في زمان الصّيف، وبعد مسير نصفها في زمان الشِّتاء. وقولُ العرب يردُّ قولَ ابن حبيب؛ لأنّهم لا يسمّون الرَّوَاح إلَّا عند الزَّوال. المسألة السّابعة (¬3): قوله: "مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ رَاحَ" كلمة تقتضي المُهْلَة، ولا يلزم عنها احتمال أنّ يكون الرَّواح متَّصلًا بالغُسْلِ، وإنّما يُعْطي المعنى - أنّ المقصودَ النّظافة لليوم بالغُسْلِ والطِّيبِ، حتّى يذهب التَّفلُ (¬4) والشَّعثُ (¬5). وقوله: "فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً" إنباءٌ عنِ اسْتيفاء الأَجْرِ في الشُّكر، ثمّ ينقصُ الأَجْرُ عن الاستيفاء نُقْصانًا مقدَّرًا، بالبقرة مع البدنة، وكذلك مَنَازِلُه (¬6) إلى البَيْضَة والعُصْفُور. المسألة الثّامنة (¬7): أمّا البدنة والبقوة والشّاة، فهي قربان. وأمّا البيضةُ والعصفورُ - على ما ورد في بعض الأحاديث (¬8) -، فلا يكونان (¬9) قربانًا بحالٍ، ولكن تصحُّ الصَّدَقةَ بهما. وتسمَّى الصَّدقة قُربَانًا لأنّه قَرَنَها بالقُربان، على معنى تسميّة الشَّيء باسم صاحبه وقرينه أو ملازمه في القرينة (¬10). المسألة التّاسعة (¬11): قوله: "فَإذَا خَرَجَ الامَامُ حَضَرَتِ الملائِكَةُ" ثبت عن أبي هريرة؛ أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَتِ الملاَئِكةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسجِدِ، فَيَكتُبُونَ مَنْ أَتَى (¬1) الْجُمُعَةَ، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَتِ الصُّحُفَ. والمُهَجِّرُ إلى الجُمُعَةِ، كالمُهْدِي بَدَنَةً، ثم بَقَرَةً، ثمَّ شَاةً، ثُمَّ بَطَّةً، ثمّ عُصْفُورًا، ثم بَيْضَةً" (¬2). وقوله: "طَوَتِ الملائكةُ الصُّحُفَ" يعني صحف السَّابقين، وبَيَّنَ ذلك قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الآية (¬3). يعني: السّابقين المسارعين، وذلك أنّ البارئ سبحانه جعل للملائكة صُحُفًا لا يشاركهم فيها أَحَدٌ, ولا يُكْتَب معها عملٌ، فتُطوَى عند انقضاء منزلة السَّبْقِ, ويُكْتَبَ من جاء أَوَّلًا في صُحُفِ الأعمال الصَّالحة والعبادات. وجعلَ مراتب الرَّواح في هذا الحديث سبعة: بَدَنَة، ثمّ بَقَرَة، ثم شَاة، ثم بَطَّة، ثمّ عصفورًا (¬4)، ثمّ بيضة، وفي بعض الطُّرُقِ: "كَبْشٌ أَمْلَح". قال الإمام الحافظ: وفائدةُ ذِكْر البَطَّة في هذا الحديث؛ أنَّه حيوانٌ متوحِّشٌ لا يوصَل إليه إلَّا بصَيْدٍ وكُلْفةِ، فكان أفضل من الدّجاجة في التّقرّب به (¬5). المسألة العاشرة (¬6): قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ القُرْبَانَ بالبَدَنَة أفضل منها بالشّاة، ولا خلاف فيه في الحجِّ، واختلفوا في الأُضْحِية. فمذهب مالكٌ أنّ الأُضْحِية بالغَنَم أفضل، وهو قويٌّ في الباب؛ لأنّ النّبىَّ عليه السّلام كان يضحِّي بالغنَم ويهدي البُدُنَ، فاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ. حديث: وقع في "البخاريّ" (¬7) و"مسلم" (¬8) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوء ثُمَّ أتَى الجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ" الحديث. ¬
ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
وحديث سَمُرَة أيضًا في "الدّاودي" (¬1) و"النّسائي" (¬2)، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ تَوَضَّأَ يوم الجُمُعَةَ فَبِهَا ونِعْمَتْ، ومَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ لَهُ أَفْضَل". لغته (¬3): قال أبو حاتم (¬4): معناه ونِعْمَتِ الخَصْلَةُ هيَ، أي (¬5) أنّ الطّهارة للصّلاة في الغسل أفضل، ومن الجَهَلَةِ والغَفَلَةِ من يرفع التّاء، وهو لحنٌ محضٌ فلا تَلْتَفِتُوا إليه. وقوله: "وَنعْمَتْ" فيه قولان: أراد ونعمت الخَلَّةُ (¬6) والفعْلَة، ثمّ حَذفَ الخَلَّة اختصارًا. ويقال نِعْمت: بكسر العين وتسكين الميم، أي: نعمك الله. ما جاء في الإِنْصاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يخطب مالكٌ (¬7)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: إذا قلتَ لصاحبِكَ أَنْصِت والإمامُ يخْطُبُ (¬8) فقد لَغَوْتَ. التّرجمة: قال الشّيخ أبو عمر (¬9): "بعضُ الرُّواةِ لهذا الباب يقول فيه: والإمامُ يخطُبُ يومَ الجُمعَةِ" (¬10) ففي التّرجمة تقديمٌ وتأخيرٌ عند بعض الرُّواةِ، والحديثُ الصّحيح خرّجه الأَيِمّة (¬11). ¬
لغته (¬1): قال أهل العربيّة: اللَّغو كلُّ شيء من السّلام ليس بِحَسَنٍ، قاله أبو عُبَيْدَة (¬2). وقال قتادة في قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬3). قال: لا يساعدون أهلَ الباطل على باطلهم (¬4). والفحش أَشدُّ من اللَّغْوِ. وقوله: "لَغَوْتَ" أي جئت بالباطل وما ليس بحقّ، واللَّغْوُ واللَّغَا لغتان. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬5): قال الإمام: ولا خلاف بين العلماء من فقهاء الأمصار في وجوب الانصات للخُطْبَةِ على من سمعها، وإنّما الخلافُ فيمن لم يسمعها (¬6)، أنّهم كانوا يتكلّمون والإمام يخطُب، إلَّا في حين قراءة القرآن في الخُطبَة، لقوله: {وَأَنصِتُواْ} (¬7) خاصّة، وفِعلُهم هذا مردودٌ بالسُّنَّة. فمذهب (¬8) مالكٌ والشّافعيّ (¬9) والثوريّ أنّه يلزمه الإنصات، سمع أو لم يسمع، وقد كان عثمان - رضي الله عنه - يقول: استمعوا وأَنْصِتُوا، فإنّ للمُنْصِتِ الّذي لا يسمع من الأجر مثل ما للمنصت السّامع (¬10). وقال ابنُ حَنْبَل: لا بأس أنّ يَدْعُوَ ويقرأ ويذكر الله من لا يسمع الخُطْبَة، يفعل هذا (¬11). ¬
وقال ابنُ وَهْب: من لغا كانت صلاته ظُهْرًا أربعًا, ولم تكن له جمعة، وحُرِمَ فضلها (¬1). المسألة الثّانية (¬2): قال الإمام: وقد رخَّصَ جماعةٌ من التّابعين في الكلامِ والإمامُ يخطُبُ إذا كان من أيمّة الجَوْرِ، أو أخذ في خُطْبَتِه في غير ذِكْرِ الله. وقد كانتِ الصُّوفيّة إذا سمعت الإمامَ يثْنِي على الأمراء السُّوء، قاموا يُصلُّون أو يتكلَّمون مع إخوانهم؛ لأنّ كلامه على المِنْبَرِ بما فيه لَغْوٌ. ورُوِيَ عن الشَّعْبِيّ (¬3)، والنَّخَعِيِّ وسعيد بن جُبَيْر (¬4)؛ أنّهم كانوا يتكلّمون والحَجَّاج يخطُبُ، وقال بعضُهم: إنّا لم نُؤْمَر أنّ نُنصِتَ لمثل هذا الفاجر (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): اختلف العلماء في ردّ الكلام، وتشميت العاطس، أو الرَّجُل يسلِّم إذا دخل والإمام يَخْطُب، هل يشمت أو يردّ السّلام، أم لا؟ فعلى قولين: قال الشّافعي (¬7) وأحمد (¬8) وإسحاق: يُشَمِّتُ ويَرُد السّلام. وخالَفَهُم فقهاءُ الأمصار؛ فإنَّ العاطس ينبغي له أنّ يخفض من صوته في التَّحميدِ، وينبغي للرَّجُل إذا دخل أنّ لا يسلِّمَ، فإن فعلَ ذلك فالفَرْضُ الّذي هم فيه يضادّه. وإذا (¬9) جاء الإمامُ، فحُكْمُهُ أنّ يصعدَ المِنْبَرَ، ويجلس ولا يسلِّم، هذا هو المشهور من مذهب مالك. وقال ابنُ حبيب: إنّ كان ممّن إذا دخل، وقف بإزاء المِنْبَرِ، أو إلى جانب ¬
ما جاء فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة
المِخرَابِ (¬1)، فليسلِّم على النّاس عن يمينه وعن شماله. وقال الشّافعيّ: يُسَلِّم إذا جلس على المِنْبَرِ (¬2). والدّليلُ على ما ذهب إليه مالكٌ من عمل اْهلِ المدينة المتَّصِل في ذلك، وهو حُجَّةٌ قاطعةٌ (¬3). قال الإمام: قول ابن شهاب (¬4) "إنّ خروج الإمامِ يقطعُ الصّلاةَ، وكلامُه يقطعُ الكلامَ" هو تفسير لحديثِ ثَعْلَبَة (¬5) وتقديرٌ لمعناه (¬6). ما جاءَ فيمنْ أدركَ ركعةً يومَ الجُمعةِ قوله (¬7): "مَنْ أَدْرَكَ رَكَعَةً مِن صَلَاةِ الْجُمُعَةِ" في ذلك أربع مسائل: المسألة الأولى (¬8): هو أنّ يُدْرِك بعض الخُطْبَةِ، فهذا لا خلافَ فيه أنّه أدرك الجمعة. هو أنّ تفوته جميع الخطبة، فعندنا والّذي عليه فقهاء الأمصار أنّ صلاته صحيحة تامّة. تنبيه على وهم (¬9): قال الإمام: وقد زعم عطاء؛ أنّ من فاتته الخُطْبة فقد فاتته الصّلاة. وهذه ¬
وهلةٌ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أدركَ من الصَّلاةِ ركعةً فقد أَدْرَكَ الصَّلاة" (¬1). ففهَّمَكَ أنّ الخطبة بَدَلٌ من الرّكعتين، أليس من أدركَ ركعةً مِنَ الظُّهر يكون مُدْرِكًا لها. فإن قال: إذا أدركَ ركعةً فقد أدرك طَرَفًا من الصّلاة. قلنا: بل ذلك في جميع فعل الصّلاة، وهذا عامٌّ إلَّا ما خَصَّهُ الدَّليل. ومن جهة المعنى: أنّ هذه صلاة، فَوَجَبَ أنّ تُدْرَكَ مع الإمام، بإدراك ركعة (¬2) منها كسائر الصّلوات. المسألة الثّالثة (¬3): هو أنّ يدركَ الإمامَ جالسًا، قال: فذهب مالكٌ والشّافعيّ (¬4) وجماعة من الفقهاء إلى أنّ الجمعة قد فاتته، وعليه أنّ يصلِّي ظهر أربعًا. وقال أبو يوسف وأبو حنيفة (¬5): يصلِّي ركعتين لأنّه مُدْرِكٌ للجمعة، يعني أنّ الجمع لم يفترق. ودليلنا على ذلك أنّ نقول: إنّ هذا لم يُدْرِك من صلاة الإمام ما يعتدُّ به، فلم يكن مُدْرِكًا لها، كما لو لم يدركه إلَّا بعد السّلام. المسألة الرّابعة (¬6): قوله (¬7): "فِي الَّذِي يُصْيبُهُ زِحَامٌ" الظّاهر أنّ الزِّحامَ يكون (¬8) في الرَّكْعَةِ الأُولَى بعد أنّ رفع رأسه من ركوعها فلم يَقْدِر على السُّجود، فإن قدرَ على السُّجود والإمامُ قائمٌ في الثّانية سَجَدَ، وإن لم يقْدِر حتّى فرغ الإمامُ، فعليه أنّ يصلِّي ظُهْرًا. ¬
باب فيمن رعف يوم الجمعة
ويتعلّق بهذا الباب أسبابٌ أربعةٌ: الأوّل: في بيان السّبب الّذي يجب به اتِّباع الإمام. والثّاني: في اختلاف محلِّ الأسباب. والثّالث: في بيان ذوات الاتِّباع فيما يجب فيه. والرّابع: فيما يدركه (¬1) المصلِّي. أمّا الأوّل فعلى ثلاثة أضرب: نعاس، وغفلة، وزحام. فأمّا النّاعس والغافل، فلم يختلف قول مالكٌ وأصحابه في أنّهما يتبعان الإمام. واختلفوا في المزاحم، فقال مالكٌ: يتبعُ الإمامَ، وعلى ذلك أصحابنا، غير ابن القاسم وأَصْبَغ في رواية ابنِ حبيب عنهما؛ أنّ المزاحم لا يتبع الإمام بوجهٍ. ورَوَى سحنون عن ابن القاسم أنّ المزاحم يتبع الإمام. والصحيح: أنّه لا يتبعه؛ لأنّه قد خرج عن حكم الاقتداء به. باب فِيمَنْ رَعَفَ يَوْمَ الجُمُعَةِ في هذا الباب مسألتان (¬2): المسألة الأولى (¬3): في قوله (¬4): "لَيْسَ عَلَيهِ أَنْ يَستَأذِنَ الإمَامَ" به قال جمهورُ الفقهاء المشهورين، وذهب قومٌ من التّابعين إلى أنّه لا يخرج حتّى يستأذن. والدّليل على صحّة ما ذهب إليه الجمهور: أنّ الإمامَ إنّما يُستَأذَنُ فيما فيه النّظر إليه (¬5) والمنع منه؛ لأنّ ذلك فائدة الاستئذان، وما ليس له منعه فلا يُسْتَأْذَن فيه، ولذلك لا يستاذنه النّاس (¬6). ¬
باب: ما جاء في السعي يوم الجمعة
بابُ: ما جاء في السَّعْيِ يوم الجمعة قال الإمام: صدَّر مالكٌ -رحمه الله- في هذا الباب (¬1) بالآية الّتي سُئِلَ عنها ابن شهاب (¬2)، وفيها تسع مسائل: المسألة الأولى (¬3): في قوله: {إِذَا نُودِيَ} النِّداءُ هو الأَذَانُ، وقد كان الأذَانُ على عهد رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - في الجمعة كما في سائر الصلوات، يؤذِّن (¬4) واحد إذا جلس النّبي - صلّى الله عليه وسلم - على المنبر، وكذلك كان يفعل عمر وعلىّ بالكوفة. ثمّ إنّ عثمان زاد أذَانًا ثانيًا على الزَّوْرَاء حين كَثُرَ النَّاسُ بالمدينة، فإذا سمعوه أقبلوا، حتّى إذا جلس عثمان على المِنْبَرِ، أذَّنَ مؤذِّن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ثمّ يخطُبُ عثمان. وفي الحديث الصّحيح (¬5)؛ أنّ الأذان كان على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - واحدًا، فلمّا كان زَمَنُ عثمان، زاد النداء الثّاني (¬6) على الزَّوراء حين كَثُرَ النّاسُ بالمدينة، فإذا سمعوا (¬7) أقبلوا، حتّى إذا جلسَ عثمان على المِنْبَرِ، أَذَّنَ مؤذِّنُ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ثمّ يخطُب عثمان، وسمّاه أهلُ الحديث ثالثًا؛ لأنّه أَضافهُ إلى الإقامة، فجعله ثالثًا، كما قال عليه السّلام: "بينَ كلِّ أذانَيْنِ صلاةٌ لمَنْ شاءَ" (¬8) يعني: الأذانُ والإقامةُ؛ فتوهَّمَ النّاسُ أنّه أذان ثَالثٌ (¬9)، فجَعَلُوا المؤذِّنين ثلاثة، فكان وَهْمًا، ثم جمعوهم في وقتٍ واحدٍ، فكان وَهْمًا على وَهمٍ، ورأيتهم بمدينة السّلام (¬10) يؤذِّنون بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المِنْبَر في جماعة، كما كان يُفْعَلُ عندنا في الدُّوَل الماضية؛ وكلُّ ذلك مُحْدَثٌ. المسألة الثّانية (¬11): قوله {لِلصَّلَاةِ}. ¬
قال الإمام: يعني بذلك الجمعة دون غيرها. قال بعض العلماء: كونُ الصّلاة هاهنا الجمعة معلومٌ بالإجماعِ لا مِنْ تفسير اللّفظ. وعندي أنّه معلومٌ من نفس الصّلاة لنكتة، وهي قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وذلك يُفِيدُه؛ لأنَّ النِّداء الّذي يختصُّ بذلك اليوم هو نداءُ تلك الصّلاة، فأمّا غيره (¬1) فهو عامٌ في سائر الأيام. وقال بعضُ علمائنا: كان اسم الجمعة في العرب الأوّل عَرُوبَة، فسماها الجمعة كَعْب بن لُؤَيّ؛ لاجتماع النّاس فيها إلى كعب (¬2). المسألة الثّالثة (¬3): قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬4). اختلفَ العلماءُ في معناه على أربعة أقوال: القولُ الأوّل - قيل: المرادُ به النِّية، قاله الحسن (¬5). القول الثّاني - قيل: إنّه العمل (¬6)، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} الآية (¬7). وكقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (¬8) وهذا قول الجمهور. القولُ الثّالث - قيل: المراد به السّعي على الأقْدَام (¬9). ويحتمل ظاهِرُهُ رابعًا: وهو الاشتدادُ والجَرْيُ، وهو الّذي أنكره الصّحابة الأعلمون، والفقهاء الأقدمون، قرأها عمر {فامضوا} الآية (¬10)، فرارًا عن طريق ¬
الجَرْيِ والاشتداد الّذي يَدُلُّ عليه الظّاهر. وقرأها ابن مسعود كذلك، وقال لو قرأت {فَاسْعَوْا} لسعيت حتّى يسقط رِدَائِي (¬1). وقرأها ابن شهاب: {فامضوا إلى ذكر الله} (¬2) سَالِكًا تلك السُّبُل، وهو كلُّه تفسيرٌ منهم، لا قراءة قرآنٍ منزلٍ، وجائزٌ قراءةَ القرآن بالتفسير في معرض التّفسير. والسّعي إلى الجمعة عند مالكٌ (¬3) هو الفعل والعمل. ومعنى قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬4) أي افعلوا، وهو المشيُ لإفائدةٍ، غير أنّه جملة السّير، وقد تقدّم هذا القول. وفيه ابن (¬5) رِفَاعَة قال: أَدْركَنِي أبو عَبْسٍ وأنا أذهبُ إلى الجمعة، فقال: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سبيلِ اللهِ حَرَّمَهُمَا اللهُ على النَّارِ" (¬6). وفيه أبو هريرة؛ قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصّلاة فلا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيكُمُ السَّكينَةُ وَالوَقَارُ" الحديث (¬7). وفيه أبو قَتَادَة، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُوا حتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَة" (¬8). المسألة الرّابعة (¬9): قال علماؤنا (¬10): السّعيُّ إلى الجمعة واجبٌ على كلِّ من تلزمه الجمعة، وقد ¬
يباحُ التَّخلُّف عند الأعذار. ورَوَى ابنُ القاسم عن مالك؛ أنّه قال: لا يجوز أنّ يتخلّف عنها. وروى عنه، أنّه يجوز (¬1) أنّ يتخلّف عنها لجنازة أخٍ من إخوانه ينظر في أمره. وقال ابن حبيب: ويتخلّفُ لغَسْلِ ميِّت عنده، أو مريض يخاف عليه الموت. واختلف علماؤنا في تخلُّف العروس والمجذوم عنها (¬2)، وفي اليوم المطير: فقيل: يأتي، وقيل: لا يأتي (¬3). المسألة الخامسة (¬4): إذا ثبت هذا، فللسَّعْيِ إليها وقتان: 1 - وقت استحبابٌ، وقد تقدَّمَ ذلك. 2 - ووقت وجوب، وهو وقت النّداء، إذا جلس الإمامُ على المنبر. هذا الّذي حكاه عبد الوهّاب (¬5)، ويجب أنّ يكون في ذلك تفصيل: وذلك أنّا إذا قلنا: إنّ حضور الخُطبة واجبٌ، فيجب رواحه بمقدار ما يعلم أنّه يصل ليحضر الخطبة. وإن قلنا: إنّ ذلك غير واجبٍ، فيجب عليه الرّواح بمقدار ما يدرك الصّلاة، وقد رأيت لابن شعبان مثله. المسألة السادسة (¬6): قوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬7). اختلف العلماء فيه: فقيل إنّه الخُطْبَة (¬8). وقيل: إنه الصّلاة. ¬
والصّحيحُ أنّه الجميع، أَوَّلُه الخُطبة، فإنها تكون عَقِبَ النِّداء، وهذا يدلُّ على وجوب الخُطْيَةِ، وبه قال علماؤنا، إلَّا عبد الملك بن المَاجِشُون فإنّه رآها سُنَّة. والدّليلُ على وجوبها: أنّها تُحَرِّمُ البَيْعَ، ولولا وُجُوبُها ما حَرَّمَت (¬1)؛ لأنّ المُسْتَحَبَّ لا يحرمُ (¬2). واختلف النّاس في صِحَّةِ الخُطْبَةِ دُون جماعةٍ (¬3). فقيل هي شرطٌ، وقد تقدّم. المسألة السابعة (¬4): قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬5). هذا مُجْمَعٌ على العمل به، ولا خلاف في تحريم البيع. واختلف العلماء فيه إذا وقع, فوقع (¬6) في "المدوّنة" (¬7) أنّه يُفْسَخ. وقال المُغِيرة: يُفْسخ ما لم يفت، وقاله (¬8) ابن القاسم في "الواضحة"، وقاله أشهب أيضًا: البيعُ ماضٍ، وهو نصّ قوله في "المجموعة". وقال الشّافعيّ: يفسخ بكلِّ حال (¬9)، وهو الصّحيح، فَسْخُه على أي وجهٍ وقَعَ. والنِّداء الّذي يحرمُ به البيع هو النِّداء والإمام على المنبر (¬10). المسألة الثّامنة (¬11): واختلف العلماءُ في عَقدِ النِّكاح: فقيل: إنّه مثل البيع يُفْسَخُ (¬12). ¬
ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة
ووجه القول فيه: أنّ الفساد في العَقْدِ لا في العرضِ (¬1) المسألة التّاسعة: إذا ثبت هذا، فالسَّعيُ إلى الجمعة يجبُ على من كان على ثلاثة أميال من المدينة، لوجهين: أحدهما (¬2): أنّ أهل العَوَالِي كانوا يأتونَها في عَهدِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والعادة أنّ يسمع النِّداء من رَجُلٍ صَيِّتٍ من ثلاثة أميال وما قرب منها، وهذا هو الصّحيح (¬3)، وما قيل فيه من الأقوال لا يصحّ منها شيءٌ. ما جاء في الإمام يّنْزِلُ بِقَرْيَةٍ يومَ الجمعة فيه مسائل: المسألة الأولى (¬4): 1 - قوله (¬5): "إِذَا نَزَلَ الإمَامُ بِقَرْيَةٍ" هذا كما قال؛ لأنّ شروط الجمعة قد وجدت، والإمام وإن كان مسافرًا فإنّ وَالِيه النّائب عنه مستوطنٌ تجِبُ عليه الجمعة، فإذا كانتِ الجمعةُ تجبُ بحقِّ النِّيابة عن الإمام، وجبت أيضًا على الإمام الّذي ينوب عنه الوالي. والفرقُ بين الجمعةِ والقَصْر، أنّ من كان فَرْضه الإتمام أَتَمَّ (¬6) وراء من يقصر، ومن كان فرضه في الجمعة أنّ يصلِّي أربعًا لم يجز له أنّ يصلِّيها وراءَ من يصلِّي الجمعة. والمستحبُّ عند علمائنا؛ أنّ يصلِّي بهم الإمامُ دون الوَالي؛ لأنّ القرية المجتمع بها من عمله ونظره، وإنّما ينوبُ الوالي عنه مع غيبته، فهذا حضر كان أحق بالصّلاة. ¬
فإن صلَّى الوالي جازتِ الصّلاةُ، كما لو استخلفَ الإمام (¬1) في وطنه من يصلِّي الجمعة وهو حاضر. المسألة الثّانية (¬2): قال ابنُ القاسم: لا يؤُمُ المسافرُ النُّزَلاَءَ ولا مُسْتَخلفًا (¬3). وقال أشهب وسحنون: يؤمُّ الحالتين (¬4). وقال ابن المَاجِشُون ومُطَرِّف لا يؤُمُّ مستخلفًا ولا يَؤمُّ ابتداءً، لقوله: "لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ" (¬5). المسألة الثّالثة: في أوّل جمعة جمعت وأين جمعت؟ فعلى ثلاثة أقوال: القولُ الاول - قيل: إنّ أوّل جمعة جُمِعَتْ بِجُوَاثَي (¬6). القولُ الثّاني - قيل: إنّ أوَّلَ جمعة جُمِعَت في بني سالم، بعدَ قُدُومِ النَّبيِّ صلّى الله عليه (¬7). القول الثّالث: وهو الاشهر, أنّ أوّل جمعةٍ جُمِعَت ببني النّبيت (¬8). وقد قدّمنا ذلك في أوّل الكتاب. المسألة الرّابعة (¬9) اختلفَ العلماءُ هل هي الظُّهر أوغيرها: ¬
فقال الشّافعيّ: ظُهرٌ حتّى يصحّ أداء الظّهر بتحريمة (¬1) الجمعة، نصَّ عليه, ويدلُّ عليه قول مالكٌ في يوم الخميس والجمعة في "المدوّنة" المسألة المذكورة (¬2). وقال أبو حنيفة: هي صلاة غير الظّهر، وهو الأصحّ؛ لأنّ الصّلاتين مختلفتان في الشّروط، والأصل بمكّة الظُّهر، ثم صارت (¬3) الجمعة بالمدينة وغيرها. ويحتمل أنّ تكون الجمعة الأصل؛ لأنّها (¬4) سقطت لعدم القدرة عليها (¬5)، ولأجل هذا إذا تعذّرت الجمعة صلِّيت ظُهْرًا. المسألة الخامسة (¬6): اتّفق العلماء عن بَكْرَةِ أبيهم على (¬7) أنّ الجمعة لا تجب إلّا بعد الزَّوال. وقال أحمد بن حنبل (¬8): تصلّى قَبْلَ الزَّوالِ؛ لأنّها تُشْبه صلاة العيد، وقد خالف في ذلك الجمهور، وقد بيَّنَّاهُ في أوّل الكتاب، فَلينْظَر هنالك. المسألة السّادسة: هل يرفع الخطيب يَدَيْه على المِنْبَرِ أم لا؟ قال علماؤنا: رفع الأيدي على المنبر للدُّعاءِ جائزٌ إذا احتاج الإمام إليه. وفي (¬9) "البخاريّ" (¬10) عن أنس قال: رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يخطُبُ يومَ الجمعةِ، إذ قامَ رجلٌ فقال: يا رسول الله، هَلَكَتِ الكُرَاعُ، هَلَكَتِ الشَّاءُ، فَادعُ اللهَ لَنَا أَن يَسْقِينَا، فمدَّ يَدَيَهْ - صلّى الله عليه وسلم - وَدَعَا. ¬
وقد رُوِيَ رفع اليدين عن جماعةٍ كبيرةٍ (¬1) من العلماء. العربية (¬2): قال الإمام: الكرَاعُ فيه كلامٌ. وأصله؛ أنّ الكرَاعَ هي القوائم، وكأنّه عَبَّرَ به عن ذوات الأربع. وتحقيقه: أنّ الكُرَاعَ من الإنسان ما دُونَ الرُّكْبَة، ومن الدُّوابَّ الكَعْب، وهو الوَظِيفُ (¬3)، والكُرَاعُ أيضًا السِّلاَحُ، وفيه كلامٌ كثير، يأتي بيانُه في "كتاب الاستسقاء" إنّ شاء الله. وقد توقَّفَ مالكٌ في رفع اليَدَيْن فقال: إنّ كان الرَّفْعُ فهكذا، وجعل بطونهما ممّا يلي الأرض وظهورهما ممّا يلي السّماء، كأنه فعل راهبٍ خائفٍ، وغيرُه يجعل بطونَهُما ممّا يلي السّماء فعل الطَّالِبِ إذا طَلَبَ. المسألة السّابعة (¬4): الخُطْبَةُ على المِنْبَر سُنَّةٌ ماضيةٌ؛ رُوِيَ عن ابن عمر؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يخطُبُ إلى جِذْعٍ، فلما اتَّخذَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْبَرًا حَنَّ الجِذْعُ، حتَّى أتَاهُ فالْتَزَمَهُ، فَسَكَنَ (¬5). حديث حسن صحيحٌ (¬6). وخرَّجَ البخاريُّ (¬7) عن سَهْل بن سَعْد؛ أنّ النّبيَّ -عليه السّلام- كان يَخطُبُ عَلَى جِذْعٍ، ثم أنّه أرسل إلى امرأةٍ أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهَا إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ. قال الإمام الحافظ: قد بَيَّنَا في "كتب الأصول" و"أنوار الفجر" أنَّ للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَلْفَ مُعْجِزة، جمعناها، وهي علي قسمين: منها ما هي في القرآن وهو تواتر (¬8)، ومنها نقل آحاد، ومجموعها خَرْقُ العادةِ على يَدَيْه، وعلى وجهٍ لا ينبغي إلَّا لنَبِيِّ ¬
يتَحَدَّى (¬1) بها، فحنين (¬2) الجِذْع اليابسِ وأنينه أغرب من اخْضرَارِهِ وإثماره؛ فإن الإثمار يكون فيه بطبعه (¬3)، والحنين والأنين لا يكون في جِنْسِهِ (¬4) بحالٍ، وإنّما حَنَّت على فَقدِ ما كانت تأْنَس بِه من الذِكْرِ وَخُصَّتْ به من الشَّرَفِ وَالبَرَكَةِ. المسألة الثامنة (¬5): قال علماؤنا: القَصدُ من الخُطْبة الإسماع (¬6)، وذلك يكون بالعُلُوِّ على المكان الّذي يكون منه السّماع عادةً، ولأجل هذا جُعِلَ الأذانُ على موضعٍ مُرتَفعٍ ليكون أسمع، وجُعِلَ موضع الخُطْبَة دُونَه لمن اجتمع. ولو خطب على الأَرض جازَ عند جماعة العلماء، كما كان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يفعل قبل أنّ يتَّخِذَ المِنْبَرَ. قال الإمام: والعُلُوُّ على ارتفاع أعوادٍ (¬7) للخُطْبَة أفضلُ؛ لأنّه أسمع. المسألة التّاسعة (¬8): قال علماؤنا (¬9): إذا كان الخَليفَةُ هو الّذي يخطُبُ، فسُنَّتُه أنّ يجلسَ على المِنْبَرِ. وإذا خطَبَ غير الخليفة (¬10)، قام إنّ شاء على المِنْبَرِ، وإن شاء على الأرض. وكان أبو بكر الصّديق ينزلُ في المِنبَرِ درجةً من مقامِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، ولم ير نفسه أهلًا لمَوضع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وكذلك فعلَ عمر نزل بعد أَبى بكر درجةً أُخرَى تَوَاضُعًا منه أيضًا. المسألةُ العاشرة (¬11): قال علماؤنا: لا تُجْزِىء الخُطبةُ عندنا إلَّا قائمًا، لفعلِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال أنس: كان ¬
النّبي صلّى الله عليه يخطُبُ قائمًا (¬1)، ولقوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). وقال أبو حنيفة: تجزئ الخُطْبة قاعدًا؛ (¬3) لأنّ القَصْدَ الإسماع وقد حصلَ. قلنا: صحَّ من حديث ابن (¬4) سَمُرَةَ؛ أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ قائمًا، ثم قَعَدَ قعدةً لا يتكلّم (¬5). فمَنْ أخبر (¬6) أنّ النَّبىَّ خَطَبَ قاعدًا فلا تصدِّقه. قال الإمام: وملازمةُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والصّحابة القيام أصلٌ في الوجوبِ المختصِّ به، والعمدةُ فيه ما قدَّمناهُ من قوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} فَذَمَّهُم، وذلك دليل الوجوب المختصّ به، لا سيّما وقد قلنا إنه عِوَضٌ من الرَّكعتين، والقيامُ واجبٌ في العِوَضِ، فوجب في المُعَوّضِ. المسألة الحادية عشر: قال علماؤنا: ولابدَّ للخطيب أنّ يجلسَ بين الخُطبَتَيْن؛ لأنّها عند مالك إمام دار الهجوة سُنَّةٌ. وعند الشّافعيّ (¬7) وإجبة. وعند أبي حنيفة بالخِيَارِ إنّ شاء فَعَلَ، وإن شاء لم يفعل. والعمدةُ فيه: إنّما قصرت الجمعة لأجل الخُطْبَة، فجاء من هذا أنّ الخُطْبَة عِوَضٌ من الرَّكعتين، والجمعة ركعتان، ولابدَّ فيهما من الجلوس ليفصل بينهما بسكوتٍ. المسألة الثّانية عشر (¬8): قال علماؤنا: والخُطبَةُ عندنا كلامٌ له بالٌ، وأقلّه الحمدُ لله والصّلاة على رسوله، ويحذِّر ويبشّر (¬9). وقال بعضُ القَرَوِييِّن: لابدّ أنّ يأتي في خُطْبَتِه بسَجْعٍ تنتظمُ به خطبته. وتكونُ ¬
قَصْدًا، وصلاتُه أيضًا قصدًا؛ (¬1) لأنّ من فقه الرّجل قصر خطبته وطُول صلاته (¬2). وحَكَى المؤرِّخون عن عثمان كذبة عظيمة؛ أنّه صَعِدَ المِنْبَرَ فَأُرْتجَ عليه، فقال كلامًا منه: وأنتم إلى إمام فَعَّالٍ أَحْوَج منكم إلى إمام قَوَّالٍ (¬3)، فيا لِله لقائل هذا وللعقول (¬4)، إنّ أقَلَنَّا اليوم لا يُرْتَجُ عليه، فكيف عثمان؟ لا سيّما وأقوى أسباب الحَصْر في الخُطْبَة أنّه لا يدري (¬5) ما يُرْضِي السّامعين ويستميل (¬6) قلوبهم؛ لأنّه يقصد الظهور عندهم. ومن كانت خطبته لله، فليس يُحصَر عن حَمْدٍ وصلاةٍ، وحَضً على فعلِ خيرٍ، وتحذيرٍ من شَرِّ أي شيء (¬7) كان، ولم يخلق من يحصر إلّا من كان له غرض غير الحقِّ، فربّما أعانه عليه بالفصاحة فتنة، وربّما خَلَقَ اللهُ له العِيَّ في ذلك المقام (¬8). وقوله (¬9): "كانَتْ صَلاَتُهُ قَصْدًا، وخُطْبَتُهُ قَصدًا" والقصدُ في العربيّة: كلُّ شيءٍ جاء على وجه الحقِّ. المسألة الثّالثة عشر (¬10): قال علماؤنا: ويقرأُ الخطيب القرآنَ على المِنْبَرِ في خطبته، وبه قال الشّافعيّ (¬11)، ولو لم يقرأه أعادَ الخُطْبَة، ولو اقتصر على القرآن لأجزَأَهُ. ¬
ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة
وقد خرّج الترمذي (¬1)، عن جابر بن سَمُرَة؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قرأَ عَلَى المِنْبَرَ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} (¬2). وقد خرّج الأيِمَّة (¬3)، عن أمِّ هشام ابنة حارثة بن النُّعمان، قالت: حفظتُ مِن في رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على المِنْبَرِ يوم الجمعة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (¬4). ما جَاء في السّاعة الّتي في يومِ الجُمُعَة مالك (¬5)، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مسلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يصَلِّي، يَسأَلُ اللهَ شيئًا, إلا أَعطَاهُ إِيَّاهُ" وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. الإسناد (¬6): هكذا يقول عامة رواة "الموطَّأ" (¬7): "وَهُوَ قَائِمٌ يصَلِّي"، وأسقط بعض الرُّواة "يُصَلِّي" (¬8) وأثبتها بعضهم، وهي ثابتة في حديث أبي الزِّناد (¬9). وكذلك رواها (¬10) قُتَيْبَة بن سعيد (¬11)، وابن أبي أُوَيْس (¬12)، وأبو مُصْعَب (¬13). الفوائد فيه خمسٌ: الفائدة الأولى: فيه من الفقه: أنّ في يوم الجمعة ساعة هي (¬14) أفضل السّاعات، وفضل اليوم ¬
على سائر الأيام، وإذ جازَ أنّ يكون يوم أفضل من يومٍ، جاز أنّ تكون ساعة أفضل من ساعة، والفضائل لا تُدْرَكُ بالقِيَاسِ، وإنّما تدرك من لَفْظِ الشّارع لا غير، والله يفضِّل ما يشاء على ما يشاء ويختاروله الخِيَرَة (¬1). الفائدة الثّانية (¬2): قوله: "سَاعَةٌ" يقتضي جزءًا من اليوم غير مُقَدَّرٍ ولا مُعَيَّنٍ، وبيان ذلك ما أشار إليه من تقليلها, ولو كانت مُقَدَّرَة لما كان لتقليلها معنى. الفائدة الثّالثة: قوله: "لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ". قال علماؤنا: هذا تخصيصٌ، والدُّعاءُ للمسلمين بالإجابة في تلك الصّلاة, والموافقة لا تكون إلَّا لأهل السّعادة من عباده المؤمنين. الفائدة الرّابعة (¬3): قوله: "وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلَّي" قال علماؤنا (¬4): قوله: "قَائِمٌ" يحتملُ القيامَ المذكور المعروف. ويحتمل أنّ يكون القيام هنا المواظبة على الشّيء والملازمة, من قوله: {إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬5) أي مواظبًا، والاقتصار على هذا التّأويل تُخَرَّجْ جميع الأقاويل (¬6). ولا يبعدُ أنّ تكون بعد العَصْرِ. الفائدة الخامسة (¬7): قوله "يُصَلِّي" اختلفَ العلماءُ في تأويل هذا اللَّفظ كاختلافهم في تَعْيِينِ السّاعة فقيل: أنّ يصلِّي بمعنى أنّ له حُكم المُصَلِّي. ويصلحُ أنّ يُتَأوَّلَ أيضًا "يُصَلِّي" بمعنى يَدْعُو، وذهب إلى ذلك جماعة من المُتَأخِّرينَ في معنى "يُصَلِّي" أي يواظبُ (¬8)، كما تقدّم. ¬
الفقه (¬1): اختلف العلماء في تعيين هذه السّاعة على أقوال: فمذهب أبي هريرة: أنّ السّاعةَ مِنْ بعدِ طُلوعِ الفَجْرِ إلى طلوع الشَّمْسِ، وبعدَ صلاةِ العصرِ إلى غُروبِ الشّمسِ. القولُ الثّاني: قال أبو ذرّ: هي ما بين أنّ تَزِيغَ الشّمسُ بشِبْرٍ إلى ذِرَاعٍ (¬2). القول الثّالث: قال ابن عمر: هي الّتي اختار اللهُ فيها الصّلاة، وهو قول أبي بُرْدَة (¬3)، وابن سِيرِين (¬4). القول الرّابع: قالت عائشة: هي إذا أذَّنَ المؤذِّنُ، وإذا جَلَسَ الإمامُ (¬5). القول الخامس: قال أبو أمامة: إنِّي لأرجو أنّ تكون في حياتي هذه السّاعة، إذا أذَّنَ المؤذِّنون، أو إذا (¬6) جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة. القول السادس: قيل: هي ما بين أنّ يجلس الإمام إلى أنّ تنقضي الصّلاة (¬7)، ورُوِيَ في ذلك حديث حسنٌ (¬8). قال (¬9): ورُوِي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا زالتِ الأفْيَاءُ، وراحَتِ الأرواحُ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، فإنّها ساعة الأوَّابِينَ: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (¬10). وحجة من قال إنّها بعد العصر: قولُه: "يتعَاقَبُونَ فيكُمْ ملائكةٌ باللَّيْل والنَّهارِ، ¬
ويجَتمِعونَ في صلاةِ العصرِ، ثُمَّ يَعرُجُ الّذين بَاتُوا فِيكُم" (¬1) قال (¬2): فهيَ وقت العرُوج وعَرْض الأعمال على الله عَزَّ وَجَلَّ، فيُوجِبُ اللهُ تعالى فيهِ مغفرته للمصلِّين (¬3) من عباده. ولذلك شدَّدَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على من حَلَفَ على سِلْعَةٍ بعد العصرِ، لقد أعطي بها أكثر، تعظيمًا للساعة. وفيها يكون اللِّعان والقَسَامَة. وقال المفسِّرون في (¬4) قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬5) إنّها بعد صلاة العصر (¬6)، وأكثر العلماء على أنّها بعد العصر (¬7). قال الإمام: والّذي عندي فيها أنّها في يوم الجمعة كلَّه، وأنّها مبهمةٌ فيه، كَلَيْلَةِ القَدر والصّلاة الوسطى، لكي يجتهد النَّاس فيها بالدّعاء والصّلاة، والله أعلمُ. حديث أبي هريرة (¬8)؛ قال: خَرَجْت إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ الأَحْبَارِ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنْ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثتُهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فَكان مِمَّا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ: قَالَ رَسُوُل اللهِ: "خَيرُ يَومٍ طَلَعَت فِيهِ الشَّمسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" الحديث. صحيحٌ حَسَنٌ (¬9). وفيه ثمان (¬10) مسائل: المسألة الأولى (¬11): قوله "خَرَجْتُ إلَى الطُّورِ" الطُّور في كلام العرب واقع على كلِّ جَبَلٍ، إلّا أنّهُ يطلق في الشّرع على جبلِ بعينه، وهو الّذي كُلِّمَ فيه موسى -عليه السّلام-. وقوله: "فحدَّثَنِي عن التّوراة" يعني: أخبره بما في التّوراة على وجه القصص ¬
والأخبار، ما يوافق (¬1) منها ما عند أبي هريرة عن النَّبيّ عليه الصّلاة والسلام. والمسألة الثّانية (¬2): قوله "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ" قال الإمام الحافظ: يكون الخَير المتناهي (¬3) في الأشخاص والأمكنة (¬4)، وللبارىء سبحانه أنّ يفضِّل (¬5) ما شاء ويقدِّمه على غيره. فخيرُ الأشخاص محمدّ - صلّى الله عليه وسلم -، وخيرُ الأُمَمِ أُمَّته، وخيرُ البِقَاع مكَّة، والمدينة، على إختلاف يأتي ذِكْرُهُ (¬6) إنّ شاء الله في "كتاب الجامع"، وخيرُ الأزْمِنَةِ يوم الجمعة، وخيرُ ساعاتها أظنّه حين يجلس الإمام على المنبر، وهي الّتي تستجاب فيها الدَّعوة. المسألة الثّالثة (¬7): قوله (¬8) "فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ". قال علماؤنا: خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ يوم السَّبتِ، أو الأحَد على الاختلاف، وخَلَقَ آدم يوم الجمعة، ففيه خَتَمَ الخَلِيقَة (¬9)، وهو أشرف المخلوقات، ولأجله خُلِقَت جميع الأشياء، من جليلها وصغيرها. المسألة الرّابعة (¬10): قوله (¬11) "وفيهِ أدْخِلَ الجَنَّةَ" وهي الّتي نرجوا دخولَها، وهو (¬12) فضلٌ عظيم (¬13). وأمّا إخراجُه منها، فلا فَضْلَ فيه ابتداءً، إلَّا أنّ يكون لما كان بعده (¬14) من الخيرات ¬
والأنبياء (¬1) والطاعات، وأن خروجه منها لم يكن طَرْدًا كما كان خروج إبليس، وإنّما كان خروجه منها مسافرًا لقضاء أوطارٍ ويعود إلى تلك الدّار. وقوله: "وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ" وذلك أعظم لفضله، لما يظهر الله فيه من رَحْمَتِه، وينجز من وَعْدِه. المسألة الخامسة: قوله (¬2): "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَ وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينَ تُصْبِحُ حتَّى تَطْلُعُ الشَّمسُ شَفَقًامنَ السَّاعَةِ، إلَّا الجِنَّ والإنْسَ". فإن قيل: لأي شيء لا تصيخُ الجنّ والإنس؟ قلنا (¬3)؛ لأنّهم مُكَلَّفون، فلذلك لم يعلمهم اللهُ بذلك قَطْعًا، كقوله: "إنَّ الكافِرَ لَيُضْرَبُ بِمِطْرَقةٍ يَسْمَعُ صِيَاحَهُ كلّ شيءٍ إلَّا الثَّقلاَنِ" (¬4) وإنّما لم يسمع ذلك الجنّ والإنس؛ لأنّ الله لم يُرِد للأنبياء، ولأنّهم لو سمعوه لازدجروا، وإنّما يدعهم ليطيع مَنْ يطيع ويعصي مَنْ يعصي. نكتةٌ أصولية: قال الإمام: وقد احتج الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني بهذا الحديث (¬5) في أنّ البهائم تعقل وتعرف الله سبحانه، واستدلَّ أيضًا على قوله حكايته عن الهُدْهُد في قوله لسليمان (¬6)، الآية كلّها فيها استدلال على الصَّانع وعلى حَدَثِ العالَمِ. فإن قيل: هذه معجزة لسليمان، فلا دليل فيها. قلنا: إنّما المعجزةُ في قصَّةِ سليمان؛ أنّ الله فَهَّمَهُ منطِقَ الطَّير لا غير، ولو كان أكثر من ذلك، لكان خبر الله بخلافِ مُخْبره، وفَهْمُ الطَّيرِ للقُدْرَةِ إنّما هو شيءٌ بلا آخَرَ. ¬
المسألة السادسة (¬1): قوله (¬2): "وَفِيهَا سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ" وقدَّمنا اختلاف العلماء من الصّحابة والتّابعين في تحديدها. وأَصْفَقَ (¬3) جِلَّةُ العلماء على أنّها بعد العصر، وهو مذهب أبي عيسى (¬4)، وروى الدّارقطني أنّها عند نزول الإمام (¬5)، وروى مسلم (¬6) أنّها حين يجلس الإمام على المنبر حتّى تقوم الصّلاة، وهو أصحّه، وبه أقول؛ لأنّ ذلك العمل في ذلك الوقت كلّه صلاة، فينتظم به الحديث لفظًا ومعنىً. المسألة السّابعة (¬7): قَوْلُ بَصْرَة بن أَبِي بَصْرَةَ (¬8): لَوْ أَدْركْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ، مَا خَرَجْتَ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لاَ تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِد الحَرَام، وَإِلَى مَسجِدِي هَذَا، وإِلَى مَسْجِدِ إِيلْيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". فقوله: "لاَ تُعْمَلُ المَطِيُّ"يقتضي أنّ مَنْ نذَرَ صلاةً في مسجدِ البَصْرَةِ أوِ الكوفَةِ، فإنه يُصلِّي بمَوْضِعِه ولا يأتيه، لحديث بَصْرَةَ المنصوص، وذلك أنّ النَّذر إنّما يكون فيما فيه القُرْبَة، ولا فصيلةَ لمساجد البلاد بعضها على بعضٍ. وأمّا من نَذَرَ الصَّلاة أو الصِّيام، أو في شيءٍ من مساجد الثُّغُورِ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء بِنذره؛ لأنّ نَذْرَهُ لم يمن بمعنى الصّلاة (¬9)، بل قد اقترنَ بذلك الرِّباط، فوجب الوفاء به. ولا خلافَ في المنع من ذلك في غير المساجد الثّلاثة، إلَّا ما قالَهُ ابن مَسْلَمَة في "المبسوط" فإنه أضافَ إلى ذلك مسجدًا رابعَا وهو مسجد قُبَاء، فقال: من نذرَ أنّ ¬
الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة
يأتيه فيصلِّي فيه، كان عليه ذلك. المسألة الثّامنة (¬1): قول ابنُ سلام (¬2): "كَذَبَ كَعْبٌ" يعني أخبر بالشَّيءِ على غير ما هو به، سواء تعمَّدَ ذلك أو لم يتعمَّد. وقال بعض العلماء: إنّ الكذب هو أنّ يتعمَّدَ الإخبارَ عن المخبرِ على ما ليس به، وليس ذلك بصحيحِ، قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (¬3)، فأخبرَ اللهُ عنهم أنّهم يعلمون إذا بُعِثُوا بعدَ الموتِ أنّهم كانوا كاذبين في قولهم (¬4): {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (¬5) وإن كانوا في حالِ قولهم ذلك يعتقدون أنّهم صادقونَ. الهَيْئَةُ وتخَطِّي الرّقاب واستقبالُ الإمامِ يَوْم الجُمُعَةِ مالكٌ (¬6)، عن يَحيىَ بْنِ سَعِيدٍ؛ أنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا عَلَى أَحَدِكُم لَوْ اتَّخَذَ ثَوبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ، سِوَى ثَوْبَي مَهْنَتِهِ". الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬7): "هكذا يرويه أكثر رواة "الموطَّأ" (¬8) والحديث مُرْسَلٌ مُنْقَطِعٌ، ويَتَّصِلُ من أوجه صحاح" (¬9). العربية (¬10): والمَهنَةُ -بفتح الميم- الخِدْمة. قال الأصمعي: ولا يقالُ بالكسر. وأجاز الكسائي فيه الكسر، مثل: الخِدّمَة والجِلْسَة والرَّكْبَة. ¬
ومعنى: "ثَوْبَي مَهْنَتِهِ" أي ثوبي بِذْلَتِهِ. يقال منه: امْتَهَنَنِي القوم، أي ابتذلوني. والثَّوبان -والله أعلم-: قميصٌ ورِدَاءٌ، أو جُبَّةٌ ورِدَاءٌ. الفقه (¬1): قال علماؤنا (¬2) - رحمة الله عليهم-: في هذا الحديث من الفقه النَّدْب لكلِّ مَنْ وجَدَ سَعَةً أنّ يتَّخِذَ الثِّيابَ الحسان للأَعْيَادِ والجُمُعات، ويتجمّل (¬3)، وكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يفعلُ ذلك، ويلبس الحَسَنَ ممّا يجد (¬4)، ويتطَيَّب، وهو مطابقٌ لقوله عليه السّلام: "إذا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْكُم فَوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ" (¬5) وسيأتي الكلام على هذا المعنى في "كتاب العيد" إنّ شاء الله. حديث أبي هريرة (¬6)؛ أنّه كان يقول: لأنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ بِظَهرِ الحَرَّةِ، خّيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْعُدَ، حَتَّى إِذَا قَامَ الإمَامُ يَخْطُبُ، جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. الفقه (¬7): مسألة التخطّي يوم الجمعة على ضربين: أحدهما: قبل أنّ يجلسَ الإمامُ على المِنْبَرِ. والثّاني: بعد ذلك. فأمّا التَّخطِّي قبل الجلوس لمن رأى فُرْجَةً لجُلُوسِه، فإنّه مباحٌ. ورواهُ (¬8) ابنُ القاسم عن مالكٌ؛ لأنّ للدَّاخِلِ (¬9) حقًّا في الجلوس في الفُرْجَةِ ما لم يجلس فيها غيره؛ لأنَّ جلوس الجَالِسِ دونهما (¬10) لا يمنعُ هذا الدّاخل من ¬
الجلوس فيها؛ لأنّه لم يتَأخَّر عن وقتِ الوُجوب، ولابُدَّ له من طريق إليها، إلَّا أنَّه يُومَرُ بالتَّحَفُظِ من إذاية النَّاسِ، والرِّفْقِ في التَّخطِّي إليها. وأمّا الدَّاخلُ بعد جلوس الإمام على المنبر، فلا يتخطَّى إلى (¬1) فُرْجَةٍ ولا غيرها؛ لأنّ تأخيره (¬2) عن وقت وجوب السَّعْي قد أبطلَ حقَّه من التَّخَطِّي إلى الفُرْجَةِ، بَيَّن ذلك مَا رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال للداخل يوم الجمعة: "اجْلسْ فَقَد أَذَيْتَ" (¬3) ويروى (¬4): "آذَيتَ وآنيْتَ". نُكتَةٌ فقهيّة بدِيعَةٌ (¬5): رُوِي في الحديث؛ أنّه إذا دَخَلَ ولم يُفَرِّق بين اثنَيْنِ كان له أَجرٌ (¬6). ورُوِيَ عن عثمان بن الأرقم بن أَبي الأرقم، عن أبيه (¬7) - وكان من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: " الّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اثنَيْنِ يَومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الأمَامِ كالْجَاعِلِ قُصبَهُ في النَّارِ" (¬8). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثنَين إلَّا بِإِذْنِهِمَا" (¬9). ¬
وقال سلمان الفارسيّ: "إِيَّاكَ وَالتَّخَطِّي، وَاجْلِسْ حَيْثُ تبلغك الْجُمُعَة" (¬1)، وهذا قول عطاء، والثّوري، وأحمد بن حنبل (¬2). وكره التَّخَطِّي أبو هريرة (¬3)، وكعب، وسلمان الفارسي. وقال كعب: "لأنْ أَدَعَ الْجُمُعَةَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" (¬4). وقال الحسن البصري: "لا بَأسَ بالتَّخَطِّي إِذَا كَانَ في المسجِدِ فُسْحَةٌ" (¬5). قال الشّافعيّ (¬6): "أَكرَهُ التَّخَطِّيَ قبل دخولِ الإمام وبعدَهُ". وروي عن أبي نضرة؛ (¬7) إنّه يتخطَّى بإذنهم. وأمّا مذهب مالكٌ، فإنّه قال (¬8): "لا يُكْرَهُ التخطِّي إلَّا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بَأسَ به قَبْل دخول الإمام إذا كان بين يديه فَرْجٌ". ونشأت هنا مسألتان: المسألة الأُولَى: هل للرّجل أنّ يقيم أخاه؟ قيل: قد جاء النّهيُ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ألَّا يُقَام الرَّجُل من مَوْضِعِه (¬9)، وإن كان دونَه في العِلْمِ والمَرْتَبَةِ، إلَّا إنّ كان سَبَقَهُ إلى ذلك الموضع، فهو أحقّ منه، ويقيمه منه. المسألة الثّانية: إذا بسط الرّجل في الجامع سجّادة، واتَّخَذَ موضعًا، هل له أنّ يختصّ به أم لا؟ ¬
خاتمة هذا الباب
خاتمة هذا الباب قال مالك (¬1): "السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يَسْتَقبِلَ النَّاسُ الإمَامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخطُبَ، مَنْ كَانَ مِنْهُم (¬2) يَلِي القِبْلَةَ وَغَيْرَهَا". قال الإمام: وهذا الّذي ذَكَرَهُ مالكٌ في خاتمة هذا الباب، أَمْرٌ مجتمعٌ عليه عند علماء الصّحابة والتّابعين ومَنْ بَعْدَهم، واسّتقبلَ ابنُ عمرَ وأَنَسٌ الإمامَ" (¬3)، وأستقبالُ الإمام سُنَّةٌ ماضيةٌ لكلِّ من يقابله ويصرف وجهه إليه. وقال عبد الله البجلي: كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا خطبَ استقبله أصحابه بوجوههم (¬4). والعمدةُ فيه -والله أعلم- في معنى استقبالهم لكي يتفرَّغُوا لاستماع مَوْعِظَتِه، وتَذَكُّرِ كلامه، ولا يشتغلوا بغير ذلك. وقال الشّافعيّ: هي السُّنَّةُ استقبال الإمام (¬5). قال ابن المُنْذِر: هو قول ابن شُرَيح، وعَطَاء، ومالك، والثّوريّ، والكُوفيِّين. القراءةُ في صلاة الجمعة والاحتباءُ ومَنْ تَرَكَهَا من غير عُذْرِ وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولَى: في القراءة في الجمعة. المسألة الثّانية: في الاحتباء. المسألة الثّالثة: في بيان الأعذار الّتي يُتَخَلَّف بسببها عن الجمعة. المسألة الأولَى (¬6): في القراءة في الجمعة ثلاث روايات: الأولى: سورة الجمعة والمنافقون (¬7). أمّا قراءة سورة الجمعة فهي سنّة، قال مالك في "المجموعة": وهو أمرٌ أدركتُ ¬
عليه العمل في المدينة (¬1). وأما الثّانية فمرّة كان يقرأ فيها بهل أتاك حديث الغاشية (¬2)، وروي أنّه كان يقرأ بسبح اسم رَبَّكَ الأَعْلَى (¬3). قال الشّافعيّ (¬4) وأبو حنيفة: هي وغيرها سواء (¬5). ودليلنا: حديث ضَمرَة المذكور (¬6). ومن جهة المعنى: أنّ هذه السُّورة تختصُّ بتضَمُّنِ أحكام (¬7) الجمعة، فكانت أَوْلَى بذلك من غيرها وأشبه بالحال. ورُوِيَ في حديث النّعمان بن بشير (¬8)؛ أنَّه كان يقرأُ بِسَبِّح، وهلْ أتَاكَ حديثُ الغاشية، ولا خلافَ أنّ المراد بذلك الثّانية، لا يختصّ بأحدهما (¬9)، وهي عند مالكٌ، وأبي حنيفة (¬10) لا تختصّ بغيرهما. وقال الشّافعيّ (¬11): لا يقرأ فيها إلَّا بالمنافقين. مسألة (¬12): ويتضمَن هذا الحديث جَهر النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - بالقراءة، وبذلك علموا ما قَرَأَ به، ولو أسرَّ بالقراءة لذهبوا إلى التّغرير في ذلك، كما ذهبوا في ذلك في قراءة الظّهر والعصر وصلاة الكسوف. ¬
المسألة الثّانية: في الاحتباء قال علماؤنا: ذكر مالك -رحمه الله- في (¬1) هذه التّرجمة الاعتباء، ولم يجىء له ذِكْرٌ في هذا الباب (¬2). ولأصحابنا في صفَةِ الجلوسِ أقوال نذكرها إنّ شاء الله. فأوّلها الإحتباء؛ رَوَى ابنُ نافع عن مالكٌ أنّه لا بأس أنّ يحتبي يوم الجمعة والإمام يخطبُ (¬3)، وله أنّ يمدّ رِجْلَيه؛ لأنّ ذلك مَعُونَة له على ما يريده من أمره، فليفعل من ذلك ما هو أَرْفَق به (¬4). المسألة الثّالثة: في الأعذار قال الإمام: وروى مالكٌ (¬5) هذا الحديث قوله: "مَنْ تَرَكَ الجُمَعَةَ ثلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللهُ على قَلْبِهِ بطابع النِّفاق" (¬6). وخرّج التّرمذي (¬7) في حديث أبي الجَعْدِ الضَّمْرِيِّ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ ثلاثًا تَهَاوُنًا، طبعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ" الحديث. قال الإمام: أبو الجعد هذا لم يرو عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد (¬8). قال الحاكم: اسمه عمرو بن بكر (¬9). وقال التّرمذي (¬10): "هو حديث حسن" وعندي: أنّه صحيح. قال علماؤنا- رضوان الله عليهم-: لا تُتْرَكُ إلاَ لعُذرٍ، والأعذار أربعة: 1 - عُذرٌ في البَدَنِ، كالمرض. ¬
الترغيب في الصلاة في رمضان
2 - وعُذْرٌ في المال، كمن له شيءٌ يخافُ إنّ ذهب (¬1) إلى الجمعة يذهب. 3 - وعُذرٌ في الأهل، كمن له زوجة مريضة، أو قريبٌ، أو جارٌ يخاف بتركه له أنّ يهلك. 4 - وعذر في الدِّينِ -وهو أشدُّها- كالصّلاة وراء الفاجر البيِّن الفجور، إلَّا أنّ يُخَافَ منه. فإن كان على الرَّجُل دَيْنٌ؟ قال سحنون: يخرج وإن لم يكن له مال (¬2). وقال غيره: لا يخرج إلَّا أنّ يكون له مال يؤدِّيه منه. النَّاسِ أنَّه يتخلَّف لأنّه حقّ لها بالسُّنَّةِ (¬3). ويخرجُ على هذا القول: أنّ الجمعةَ فَرْضٌ على الكفاية، وليس كذلك؛ لأنّ المسألةَ مبنيَّةٌ هل السّابع من حقِّ الزوجِ أو من حقِ الزوجة (¬4)، على الحسب الّذي بينّاه في "كتاب النِّكاح". فإن كان من حقِّها لم يجز له الخروج، وإن كان من حقِّه جاز له الخروج. تكملة: قوله: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَة ثَلاَثَا" قال علماؤنا: إنّما خص الثّلاثة لكَثْرتِهَا، أو أنّ تركَ المرَّةِ خفيفٌ وهو عاصِ، فمرّة يثبتُ العِصيَان، وثلاثة يثبتُ النِّفاق، واللهُ أعلم. التَّرغيبُ في الصَّلاةِ في رمضان وفيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬5): قوله (¬6): "التَّرْغِيبُ في الصَّلَاةِ في رَمَضَانَ" روى ابنُ عبّاس أنَّه قال: "إِنَّ ¬
رَمَضَان اسْمٌ مِنْ أَسْمَاء اللهِ، وإِنَّ القَائِلَ إِذَا قَالَ: شَهر رَمَضَان؛ أنّ المُرَاد بِذَلِكَ شْهر الله" (¬1) وهذا ضَعِيفٌ سَنَدًا ومعنىً. أمّا طريقه فلم (¬2) يصحّ، وأمّا معناه فساقطٌ، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا جَاءَ رَمَضَان" (¬3) وهذا يدلُّ على أنَّه اسمٌ من أسماء الشَّهر، وقد كانت العرب تُسَمِّيه في الجاهلية قبل أنّ يأتي الشّرع (¬4)، وهذا بَيِّنٌ في بابه، وسيأتي الكلام عليه في "كتاب الصّيام" إنّ شاء الله. وشهر رمضان مُرَغَّبٌ فيه على الجملة والتّفصيل، ولفَضْلِهِ أنزلَ اللهُ القرآنَ فيه جملةً إلى سماءِ الدُّنيا، ثم أُنْزِلَ نجومًا بعد ذلك مرَّة أخرى، حتّى استوفاه اللهُ تعالى، فلمّا استوفاه، استأثر اللهُ برسوله، ورفَعَهُ إليه، إلى الرّفيق الأعلى. الفائدة الثّانية: قوله (¬5): "مَا مَنَعَنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُم إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ" فيه لعلمائنا ثلاث روايات: إحداها: أنّ الله أَوحَى إليه ما قاله، فقال النّبيُّ: إذا كانْ الفَرضُ بسبَب التّمادي فأنا أقطعه. الثّاني (¬6): أنّ الله رَفَعَ التَّكليفَ عن عباده لكَيْ يُثِبَهُم على ذلك، فإذا تكلَّفْنَا ما رفَعَ عنَّا، أُلْزِمْنَاهُ، كقول الله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (¬7) فردَّ عليهم الذَّمَّ، لأنّهم التزموا أمرًا لم يلزموهُ ولم يُرَعوا حقّه (¬8). الثّالث (¬9): إنّ مَنْ كان قَبلَنَا كان إذا عمل عملًا لزمه، وكانت عقوبة، فخَشِيَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنْ تُوخَذَ أُمَّته بذلك، والله أعلم. ¬
حديث (¬1): قولُه: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يَأمُرُ بقيام رمضانَ من غيرِ أَنْ يَأْمُرَ بعَزِيمَةٍ، فيقول: "من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنْبه" (¬2). الفوائد: الأولى (¬3): يريد بقوله: "إيمَانًا" أي أنَّ فَرْضَهُ من عند الله، واحتِسابًا أجْره على الله. فإذا كان هذا، فإنَّ الله يُثِيبُ العَبْدَ على أمرِ الطَّاعة، وامتثالِ أَمرِهِ والتَّقَّرُّبِ إليه، كمن توضَّأ نيةً خالصةً للصّلاة، فأمّا إذا كان ذلك لغير الله، فهو كمن تَوَضَّأ تَبَرُّدًا لا يتَعَبَّد بِهِ (¬4) تَعَبدًا (¬5). وكذلك من صام يومًا قَبلَ رمضانَ احتياطًا لمقدمة رمضان، فإنّه لا يُعتَد به. وقوله: "احتِسَابًا" فمذهبُ المنقطعينَ إلى الله تعالى أنّ معناه: يصومُه امتثالَ الأمر (¬6)، لا لِطَلَبِ الأجرِ. ومَذْهَبُهُم: أنّ الإخلاص في العبادات إنّما يكونُ بأن يُطِيعَ الرَّجلُ رَبَّهُ مَحَبَّةً فِيهِ، لا يستجلبُ بذلك جَنَّةَ، ولا يدفعُ بذلك نَارًا (¬7). ويروُونَ في ذلك حديثًا عن عمر بن الخطّاب؛ أنّه كان يقول إذا نظرَ إلى صُهَيْبٍ: "نِعْمَ العَبد صُهَيْب، لو لم يخف الله لم يعصه" (¬8) وآثارًا في ذلك كثيرة. وأنكر ذلك الفقهاء، وقالوا: لو كان ذلك لم تكن لأحد عبادة تامّة، ولولا رجاء الجَنَّة وخوف النّار ما عَبَدَ اللهَ أَحَدٌ، وهو الصّحيح عندي؛ لأنّ العبادة حظّ النّفس وخالصة منفعتها, لا يبالي البارئ عنها، إذ العبادةُ وتركها إلى جلاله واحدةٌ، ولكنّه بحِكمَتِهِ البالغة، ومشيئَتِه النَّافذَةِ, جعلَ الدُّنيا دارَ عَمَلٍ، وجعلَ الآخرةَ دارَ أَجْرٍ وجزَاءٍ. ¬
وقد صرّح النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بذلك في الحديث المتقدِّم إذ قال: "إِنَّ مَثَلَكمْ ومَثَلَ أهْلِ الكتابِ مِنْ قَبْلِكُم، كَمَثَلِ رَجُلٍ استَأَجَرَ أُجَرَاء" الحديث إلى آخره (¬1)، فصرّح أنّها أجرة. وقال بعض علمائنا: يكون معنى قوله: "احتسابًا" أنّه يعتدّ بالأجر عند الله يَدَّخِرُهُ إلى الآخرة، لا يرجو أنّ يتعجَّلَ شيئًا منها في الدُّنيا؛ لأنّ ما يفتح اللهُ على العبد في الدُّنيا من المال ويناله من لَذَّةِ، فمَحْسُوبٌ من أَجرِهِ، ويحاسَبُ يوم القيامة به، فعلى العبدِ أن ينفي ذلك من قَلْبِه، وأن ينوي بِعَمَلِىِ الدّار الآخرة خاصّةً، فإن يَسَّرَ اللهُ له في هذه الدّار مالًا، فذلك فضلٌ منه يُؤتِيهِ من يشاء. ولمّا استنكر عمر بن الخطّاب على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ ينامَ على سريرٍ منسوجٍ بالحِبَالِ، ليس بينه وبين جَنبِهِ حجابٌ، حتّى أَثَرَ في جَنْبِهِ، فقال له: "أَوَفِي شَكٍّ أنت يا ابنَ الخَطَّابِ؟ أولئك قومٌ عُجِّلَت لهم طَيِّباتُهُم في الحياةِ الدُّنْيَا" (¬2). ورُوِيَ أنّ عمر بن الخطّاب جاء يزورُ جابر بن (¬3) عبد الله فوَجَدَهُ قد اشترى لحمًا بدرهم فقال: أمّا تخاف قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية (¬4). وأمّا قوله: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فعلى نحو ما سَبَقَ بيانُه من تبديل (¬5) الصَّغائرِ مع الكبائر في باب الموازنة والإسقاط المَحْضِ. ومن مُعْظَمِ فضائله، قوله -عليه السّلام-: "إذا دخلَ رمضانُ فُتَّحَت أبوابُ الجَّنَةِ، وغُلِّقَت أبوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتْ الشَّيَاطينُ، ونَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ، ويا بَاغِيَ الشَرِّ أَقْصِرْ" (¬6). على ما يأتي بيانه في "كتاب الصّيام" إنّ شاء الله. ¬
الأصول (¬1): قال في الحديث الّذي صدر به مالك (¬2) "باب التّرغيب في صلاة رمضان"، إنّ النّبيّ عليه السّلام صلَّى والنّاس اللّيالي، ثم تَرَكَ النّبيُّ الصّلاةَ واعْتَذَرَ لهم بأنه خَشِيَ إَنْ يفرضَ عليهم. وذلك أنّه سأل لأُمَّتِه ليلةَ الإسراءِ التَّخفيفَ عنهم من خمسين إلى خَمْسٍ (¬3)، فلو اجتمعوا على هذه الصّلاة لجاز (¬4) أنّ يقال: سألتَ التَّخفيفَ عنهم فخَفَّفْنَا، فتراهم قد التزموا ذلك من قِبَلِ أنفُسِهم زيادةً على ذلك، فيلزمهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا. وهذا يدلُّ على فَضلِ الجماعة وعِظَمِ (¬5) موقعها في الدِّين؛ لأنّ كلَّ أحدِ يصلِّي وحدَهُ في بيته ليلًا، ولم يخف النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - توجّه الفريضة بذلك، وإنّما خافَها عند إلاجتماع، فتركَها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مدَّته، وأبو بكرٍ في خِلاَفَتِه، اشْتِغَالًا بتأسيس القواعد ورَبطِ المعاقد، وبنيان الدَّعائم، وسَدِّ الثُّغور بأهل النَّجْدَة من المؤمنين. ثمّ جاء عمر والأمورُ منتظمة، والقلوبُ لعبادة الله فارغة، والنّفوسُ إلى الطَّاعة مُحِبَّة. فلمّا رآهم في المسجد أَوْزَاعًا، رأى أنَّ نَظْمَ جميعهم على إمامٍ واحدٍ فَضْلًا ودينًا، فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب (¬6) اقتداءً بالنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - في لياليه الثّلاث الّتي صلَّى بالنّاس فيها, ولعِلمِهِ أنّ العلَّةَ الّتي تركَ لها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الصّلاةَ من خَوفِ الفَرِيضَةِ قد زالت، فصار قيامُ رمضان سُنَّةَ، للاقتداءِ بالنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - بَعْدَ زوال العِلَّةِ الّتي تركها لأجلها، وصار بدعة؛ لأنّه لم يكن مفعولًا فيما سَلَفَ من الأزمنة، ونِعْمَت البِدْعَة، سنّة أُحْيِيَت وطاعةً فُعِلَت. والبدعة بدعتان: بدعة هُدى واقتداء، وبدعة ضلالةٍ واعتداءٍ (¬7)، قال علماؤنا: هذا يدلُّ على أنّ الحُكمَ إذا ثبت لعلَّةٍ، وُجِدَ بِوُجُودِهَا وعُدِمَ بِعَدَمها. قال لنا (¬8) فخرُ الإسلام الشّاشىّ بمدينة السّلام في الدَّرس: إذا ثبتَ الحُكمُ ¬
في الشّريعة بِعلَّةِ، وُجدَ بوُجُودِهَا وعُدِمَ بعَدَمِها، ما لم تثر العِلَّةُ نصًّا (¬1) مطلقًا، فإن أثارتِ العلّةُ نصًّا (1) مَطلقًا، تعلَّقَ الحُكمُ به ولا يُنْظَر إلى العلَّةِ وُجِدَت أو عُدِمَتْ، مثالُه: ما رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه سَعَى في الطَّوَافِ لإظهارِ الجَلَدِ للمُشْرِكينَ (¬2)، وقد زالتِ العلّةُ، ولكن بَقِيَ قولُه لأصحابه: "اسْعَوْا" (¬3). وسَعْيُه - صلّى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاع (¬4)، والعلّة قد زالت، فتعلَّقَ الحُكم بذلك، وسقَطَ اعتبارُ العِلَّةِ. تقدير (¬5): ليس لصلاةِ رمضانَ ولا لغيرها تقديرٌ، إنّما التَّقديرُ للفرائض، وإنَّما هو قيامُ اللّيل كلّه إلى طلوعِ الفجر لمن استطاع، أو بعضه، على قَدْرِ ما تنتهي إليه قُدْرَتُه. ومن (¬6) النّاس من يصلِّي في القيام تسعًا وثلاثينَ ركعة، يختصّ الإمام باثني عَشْرَةَ ركعةً (¬7). والقديرُ: اثنا عشر ركعة، أو سبع عشرة ركعة (¬8)، حسبما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في قيام اللّيل، وحَسَبَ عدد ركعاتِ الصّلواتِ في الفريضة في العَدَدِ الآخر منها، فأمّا غير ذلك من الأعداد فلا يتحصَّل في تقديرِ، ولا ينتظم (¬9) بدليلٍ (¬10)، والله أعلمُ. الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬11): قوله (¬12): "فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ يُصَلُّونَ" يعني جماعاتٍ في ¬
نواحي المسجد. وقوله (¬1): "يُصَلِّي الرَّجُل لِنَفْسِهِ، وَيُصَلّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ" فيحتمل معنيين: أحدهما: يصلِّي رجلٌ لنفسه، ويصلِّي آخر ومعه الرَّهْطُ يُصَلُّون بصلاته، فيون الضّمير عائدًا على غير مذكورٍ، ويدلُّ عليه قوله: "الرَّجُلُ" فتكون الألف واللام للجنس. والوجه الثّاني- أنّ يريدَ: يُصَلِّي، ويُصَلِّي بصلاة ذلك الرَّجُل الرَّهْطُ، فيصحُّ أنّ تكون الألف واللّام للعهد أو للجنس، ويقتضي أنّ المأمومَ يصحُّ له أنّ يقتدي بالمصلِّي وإن لم يقصد المصلِّي ذلك. المسألة الثّانية (¬2): قال ابنُ حبيب (¬3): ولا بأس من أنّ يُصَلِّيَ مَنْ حَوْلَ المسجدِ في دُورِهِم بصلاةِ الإمامِ إذا سمعوا التَّكبيرَ، ولا بأس أنّ يُسْمِعَ النَّاسَ رَجُلٌ التَّكْبِيرَ، ولا يفعل ذلك في الفرائضِ. المسألة الثّالثة (¬4): قولُه (¬5) -أعني عمر-: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ" تصريحٌ منه أنَّه أوّل من جَمَعَ النَّاسَ في قيام رمضان على إمامٍ واحدٍ، بِقَصْدِ الصّلاة بهم، ورتَّبَ ذلك في المساجد؛ لأنَّ البدعةَ هي ما ابتدعه الإنسان، ولم يسبق إليه، ولم يتقدّمه أحد إلى ذلك (¬6)، وهذا بيِّن في صحّة القول بالرَّأي والاجتهاد. المسألة الرّابعة (¬7): ويُكرَهُ للقارىء التَّطْريب في قراءته، ولا بأس أنّ يُحَزِّنَ قراءَته من غير تَطْرِيبٍ ¬
ولا تَحْزِينٍ فاحِشٍ كالنَّوْحِ، أو يُخْفِي حروفه (¬1)، ولكن على معنى التَّرَسُّلِ والخشوع، قاله ابنُ حبيب (¬2)، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬3). المسألة الخامسة (¬4): قال: ولا بأس بالاستعاذة للقارىء في رمضان في رواية ابنِ القاسم (¬5)، وروى عنه أشهب في "العَتْبِيَّة" (¬6): تَرْكُ ذلك أحبّ إليَّ. ووجه قول ابن القاسم: قوله تعالي: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية (¬7). ووجهُ قول أشهب: أنّ الآية محمولهُ على- القراءة في غير الصّلاة؛ لأنّ هذا اللّفظ ليس من المُعْجِزِ، فلم يسنّ الإتيان به مع القراءة إلَّا (¬8) كسائر الكلام. المسألة السادسة (¬9): وإذا قلنا بجواز ذلك، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن مالكٌ: لا بأس بالجَهْرِ في ذلك (¬10). ورَوَى أشهب كراهية ذلك (¬11). ورَوَى ابنُ حبيب أيضًا؛ أنّ ذلك في افتتاح القارئ، قال: وأحَبُّ إليّ أنّ يفتتح بها في كلِّ ركعةٍ. المسألة السابعة (¬12): اختلفتِ الرّوايةُ فيما كان يصلِّي به في رمضان في زمان عمر: ¬
فروى السائب بن يزيد (¬1): إِحدَى عَشْرَةَ ركعة. ورَوى يزيد بن رُومَان ثلاثًا وعشرين (¬2). ورَوَى نافع (¬3): تسعًا وثلاثين: يُوتِرُونَ منها بثلاث, وهذا الّذي اختاره مالك. واختار الشّافعيّ (¬4) عشرين غير الوتر، على حديث ابن رُومَان. المسألة الثّامنة (¬5): قوله: "إحْدى عَشْرَةَ" ويحتمل أنّ يُرَاعَى الخلاف في ذلك؛ لأنّ جماعة من أهل العلم يقولون: الوتر (¬6) ثلاث لا سلامَ بينهُما، فأراد مالكٌ إبقاءَ الصُّورة إِذْ لم يجز عنده اتِّصالها. وقد جرت عادةُ الأيمّة أنّ يفصلوا بين كلِّ وِتْرٍ (¬7) بركعتين خفيفتين يصلّونهما أفذاذًا, ولذلك وجهان: أحدهما: أنّ يكون ذلك أقرب إلى تصحيح عَدَدِ الرَّكَعات، وأبعد من الغَلَطِ فيها. والثّاني: أنّ يتمكَّنَ من فَاتَهُ الإمامُ بركعةٍ من قضاءِ ما فاتَهُ في تلك المُدَّة. المسألة التّاسعة: قوله (¬8): "وَالتِي تنَامُونَ عَنْهَا أَفضَلُ" فيه ثلاث تأويلات: 1 - قيل: عن صلاة الصُّبحِ (¬9)، قاله الباجى (¬10). 2 - والثّاني - قيل: يحتمل أنّ يكون ذلك من كلام مالكٌ. 3 - والثّالث - قيل: أي الّتي تغفلون عنها وتتركون أفضل، عَبَّرَ عن النّوم بالترك. ¬
ما جاء في صلاة الليل
وقيل: إنّما قال ذلك لأجل صلاة آخر اللّيل، لأنّها أفضل، وحضَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عليها. وفي هذا الباب "نكتةٌ": وهي أنّ صلاة عائشة خلف ذَكْوَان مُدَبّرها في رمضان (¬1)، فيه دليلٌ على أنَّ إلامامة ليست إلى النِّساء في فريضةٍ ولا نافلةٍ، وأنه لا بأس بصلاة العَبْدِ (¬2) في النَّافلةِ. تكملة: قال الإمام الحافظ: والعمدة فيما تقدّم: أنّه ليس في قيام اللّيل شيءٌ معلومٌ، وذكر في "المدوّنة" (¬3): تسعًا وعشرين ركعة. والّذي يصح أنّه لا حدَّ لها. وقيل: إنّ قيامه سُنَّةٌ من سُنَنِ المسلمين. واختلف العلماء في السُّنَّةِ: فقيل: ما قرّره الشّرع، ولا زيادة ولا نقصان. وقيل: ما واظَبَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عليه في جماعة فلم يتركه. ما جاء في صلاة اللّيل مالكٌ (¬4)، عن مُحَمَّدِ بْنَ المُنْكدِرِ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَن رَجُلٍ عندَهُ رِضًا، أنّهُ أَخبَرَهُ؛ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا مِنْ امرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلاَة بِلَيلٍ، يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ، وكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً". الإسناد: قول مالكٌ: "الرَّجُلُ الرِّضًا" الّذي حدَّثَ سعيد بن جُبَيْر عن عائشة هو الأسود ¬
بن يزيد، وكانت عائشة تحبُّه لفَضلِهِ ودِيِنهِ (¬1). تنبيه. قال الإمام: وقوله: "إلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجرَ صَلاَتِهِ" مطابقٌ لقوله -عليه السّلام-: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَم يَعْمَلهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٍ" (¬2). وكقوله: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى" (¬3). التّرجمة (¬4) - قوله (¬5): "صَلَاةُ اللَّيلِ" اعلم أنّ الله سبحانه لو شاء لسوَّى بين الأزمنة والأمكنة في الفَضل، ولكنّه بِبَالِغِ حِكمَتِه، وواسع رَحْمَتِه، جعلَ لبعضِهَا مزيدًا (¬6) على بعض في الأجرِ، وخصَّ كلَّ واحدٍ منها بعملٍ من الطّاعة، وإلى هذه الإشارة من قول الصِّدِّيق (¬7) - رضي الله عنه -: "إِن لله عَمَلًا بِاللَّيلِ لاَ يقبَلُهُ بِالنَّهارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لاَ يَقبَلُهُ بِاللَّيلِ" (¬8) فالأوّلُ كالمغرب، والعشاء، والصّبح، والوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، وليالي منًى، والثّاني كالظُّهرِ، والعصرِ، والصّومِ. معلمة (¬9): قال الإمام الحافظ: اعلم أنَّ اللَّيلَ خَلْقٌ من خَلْقِ الله عظيم، جعَلَهُ تعالى سَكَنًا ولِبَاسًا، كما جعل النَّهار سِرَاجًا (¬10) وضِيَاءً ومَعَاشًا, ولكلِّ واحدٍ منهما حظّه، وخصَّ اللهُ اللّيلَ بأن جعلَهُ موضعًا لإجابةِ الدُّعاءِ، وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "جَوْفُ اللَّيل أَسْمَعُ" (¬11)، فأضافَ السَّماعَ إليه وهو القَبُولُ، كما تقول العرب: ليلٌ نامٌ، وسيأتي الكلام عليه ¬
في موضعه من قيام النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حديث: قول عائشة (¬1): "كُنْتُ أَنَامُ بَينَ يَدَي رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَرِجْلاَيَ في قِبْلَتِهِ، فإذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجلَىَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ". الفقه:. قال علماؤنا: فيه ثلاث تأويلات، وأربع مسائل: الأولى: فيه من الفقه: أنّ المرأة لا تقطع الصّلاة. الثّانية (¬2): فيه من الفقه: أنّ الملامسة إذا لم يقصد بها اللّذة لم تنقض الوضوء، وذلك أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُبَاشِرُ عائشة بيده عند سجوده (¬3). الثّالثة: فيه من الفقه: أنّ العملَ القليلَ مُبَاحٌ في الصّلاة. الرّابعة (¬4): فيه من الفقه: الصّلاة إلى المرأة وهي إلى القِبلَةِ، وقد كَرِهَ مالكٌ الصّلاة إلى المرأة، لِئَلَّا يتذكر منها ما يشغله عن صلاته، والنبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - معصومٌ من هذا الأمر. الخامسة: كان نومُها معترضة من المشرق إلى المغرب، ورِجْلَاها تصلُ إلى موضع سجوده، وقد رُوِيَ أنّها قالت: إنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يصلِّي من اللَّيلِ، وأنا معترضة بينه وبين القِبْلَةِ كاعتراض الجنازة (¬5). ¬
السادسة: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ إِلَى حِزْبِهِ وَامرَأَتُهُ نَائِمَةٌ، فلينضح وَجْهَهَا بالماءِ لينبِّهَهَا" (¬1) قيل: إنّ ذلك على النَّدْبِ لا على الوجوب. خاتمة (¬2): قولها (¬3): "وَالبُيُوتُ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ" فيه التَّزَهُّد في الدُّنيا وأخذ البُلْغَةِ (¬4) منها، وترك الاتِّساع في البُنْيَانِ. وفيه: أنّ الصّلاةَ في الظَّلامِ مأمورٌ بها, لتكون له نورًا يوم القيامة، ولقوله: "أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ" (¬5). حديث: قوله -عليه السّلام-: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُم في صَلاَتِهِ، فَلْيَرْقُد، فَإِنَّهُ لَا يَدرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللهَ فيَسُبّ نَفْسَهُ" (¬6). قال علماؤنا: فيه دليلٌ على أنّ العِلْمَ شرطٌ في صحَّة الصّلاة، وهذا المعنى موجودٌ في القرآن، قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية (¬7) فالعلمُ شرطٌ في صحَّة الصّلاة، وقد قال جماعة من المفسِّرين معنى سكارى من النّوم (¬8). وإذا (¬9) قلنا بالعموم، فنحملُهُ على سُكْرِ النَّوْمِ وغيره، وهو عامٌ في كلِّ صلاة، والنوم أخصَّ به، ولذلك أدخله مالكٌ في صلاة اللّيل، وقد وافقه على ذلك جماعة ¬
من العلماء؛ لأنّ (¬1) النّوم الغالب لا يكون في الأغلب إلَّا في صلاة اللّيل، وليس في الشّريعة دليلٌ على وجوب الوُضوء من النَّوم سوى هذا الحديث. قوله: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُم": ووجهُ التَّعلُّق به أنّه لعلَّهُ يذهب يستغفر فيسبّ نفسَهُ، فأشار إلى اختلال الحسّ (¬2)، وذهاب العقل الّذي يكون معه التّحصيل، فربَّمَا استرسلَ دُعَاؤُهُ (¬3)، وانحلَّ وِكَاؤُهُ، فانتقضت طهارته، وهو الغالب من حاله؛ لأنّها جِبِلَّةٌ لا تُنْكَر، وحالةٌ لا تُرَدّ، فيعارض أصل الطّهارة ظاهر هذه الحالة، فيُسقِطُ الطَّاهِرُ الأصلَ، وهي مسألة من أصول الفقه بديعةٌ، وهو إذا تعارضَ أصلٌ وظاهرٌ، تختلف فيها الأحوال وتتعارض فيها الأدلّة، وقد بيَّنَّاهُ في موضعه. حديث مالكٌ (¬4)، عن إسماعيل بن أبي حَكِيمٍ؛ أنّه بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - سَمِعَ امرَأَةَ تُصَلِّي من اللَّيلِ، فَقَالَ: "مَنْ هَذ؟ " فَقِيلَ لَهُ: الحَوْلاَءُ بنتُ تُوَيْتٍ، لَا تنَامُ اللَّيلَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - حَتَّى عُرِفَتِ (¬5) الْكَرَاهِيَة فِي وَجهِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، اكلَفُوا مِنَ الَعمَلِ مَا لَكُم بِهِ طَاقَةٌ". الإسناد (¬6): قال الإمام الحافظ: هذا حديثٌ منقطعُ السَّنَدِ، ولم يختلف الرّواة للموطَّأ (¬7) في ذلك من رواية إسماعيل بن أبي حَكِيم كذلك، وقد يتَّصل معنىً ولفظًا عن النَّبيِّ صلّى الله عليه من طُرُقٍ كثيرة -من حديث مالكٌ وغيره صِحَاحٍ ثابتةٍ (¬8). والحَوْلاَءُ هذه امرأةٌ من قُرَيش، وهي الحَوْلاَءُ بنت تُوَيتٍ بن حبيب بن أسدّ بن عبد العزَّى بن قُصَي، وقيل: من بني أسد (¬9). ¬
الأصول والفقه والفوائد: وفيه ثنتا عشرة مسألة: الأولى (¬1): قوله: "سَمعَ امرَأَةً مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّي لا: يحتمل أنّه سَمِعَ ذِكْرَ صلاتِهَا من اللَّيل. ويحتمل من جهة اللَّفظ أنّ يسمع قراءتها، وهذا ممنوعٌ للنّساء؛ لأنّ أصواتهنّ عَورَة، وإنّما حكمها فيها تَجْهَرُ فيه أنّ تُسْمِعَ نفسها خاصّة. الثّانية (¬2): قوله: "لا تنَامُ اللَّيلَ" يريد أنّها تُصَلِّي في جميع ليلتها، وإنّما كره النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنّه عَلِمَ أنّه أمرٌ لا يُستطَاع الدَّوام عليه، وكان يعجبه من العمل ما داوم عليه صاحبه وان قَلَّ. وقد اختلف قولُ مالك فيمن يُحْيى اللَّيْلَ كلّه: فكرهه مرّة، وأَرْخَصَ فيه مرَّة، وقال: لعلّه يصبح مغلوبًا، وفي رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أُسْوَة، كان يصلِّي أَدْنَى من ثُلْثَي اللَّيلِ ونصفه، فإذا أصابه النّوم فَلْيَرقُدْ حتّى يذهبَ عنه. ثمّ رجع (¬3) عن هذا وقال: لا بأس به ما لم يَضُرَّ بصلاة الصُّبح. وإن كان يأتيه الصّبح وهو ناعس فلا يفعل. الثّالثة: فيه من الفقه: جواز السُّؤال عن المرأة لقوله: "مَنْ هَذِهِ؟ " وأمّا السؤال عن الرِّجال فلا إشكالَ فيه. الرّابعة: الغضَبُ والكراهيةُ في وجهه - صلّى الله عليه وسلم -، والغضبُ هو من تغير النفس، بيانه في "كتاب الجامع" إنّ شاء الله. الخامسة: فيه: الزّجر عن ذلك كلِّه، وأنّ قوله (¬4): "مه" يحتمل زَجْرًا عن ما مَضَى مِنَ ¬
القولِ، وزجرًا عما جاء بعد من تكليف العمل. السّادسة: فيه: دليلٌ على الزَّجْر عن الدَّوام على الأعمال، فإنّ العبدَ خُلِقَ خَلْقًا ضعيفًا عاجِزًا, ولأجل ذلك كره له التّعاطي. السّابعة: قال علماؤنا: وفيه الحضّ على الاقتصاد بني أصل العمل كما بالدّوامِ، وهو قوله: "اكلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا لَكُم بِهِ طَاقةٌ". قيل: إنّ في هذا إسقاط التكليف فيما لا يُطَاق. وقيل: هو كلُّ فعلٍ وطاعةٍ كلَّفها الله لعباده. وقال أبو المعالي إمام الحرمين (¬1): كلُّ تكليفٍ في الشّريعة فإنّه تكليفُ ما لا يُطَاق حقيقةً؛ لأنّ المكلَّفَ مأمورٌ بالقيام في حال القعود، والقُدْرةُ معدومة حينئذٍ، إذ الاستطاعة مع الفعل، فإن أعان تعالى على ما أَمَرَ به، وخَلَقَ القُدْرةَ، ويَسَّرَ الفعلَ، كان الامتثال ووجبَ الجزاء. وإن لم يخلق القُدْرَةَ، ولا يَسَّرَ الفعلَ، كان العجز ووقع التّعزير وتعيَّنَ العقاب؛ فإنّ الأمر كلّه لله، وبيان ذلك في "كتاب الأصول". الثامنة: قوله: "اكلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا لَكمْ بهِ طَاقَةٌ"، قال أهل العربية: اكلَفُوا بفتح اللّام، يقال كلِف الرَّجُلُ- بكسر-، العين يَكْلَفُ -بفتحها-: إذا بالغَ في الشَّيءِ. التّاسعة: قوله: "فَإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتى تَمَلُّوا" قال الإمام: قوله: "فَإنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ" عبارة عن التَّرك لأنّه فائدته؛ لأنّ العرب تعبِّر في المجاز عن الشَّيء بجنسه وفائدته، كما تُعبِّر بسببه، وهو أحد قِسمَي المجاز كما بينّاه (¬2). ¬
العاشرة: معناه: لا يقطع وبترك حتّى تتركوا وتقطعوا، كما تقدّم، يريد: لايترك ثوابكم حتّى تتركوا طاعتي (¬1). الحادية عشر: يكون معنى "حَتَّى" بمعنى الواو، والتّقديرُ: فإن الله لا يملّ وتمَلّوا (¬2). وفيه نظرٌ من طريقِ الإعراب، لضَعْفِهِ عندي ها هنا. الثّانية عشر: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يقتضي هذا إضافة الملل إلى الله تعالى، إنّما هو كما تقول العرب: لا ينقضي الزّمان حتّى ينقضي عمرك، ولا ينقطع الطريق حتّى تهلك إبلك، المعنى: أنّ ذلك لا يكون وهذا يكون. الثّالثة عشر: قال بعض النَّاس: له في التّأويل تقديمٌ وتأخيرٌ؛ حتّى تملّوا فإنّ الله لا يملّ. الرّابعة عشر: قال الكوفيون: فيه "لا" مضمرةٌ، التّقدير: فإنّ الله لا يملّ حتّى لا تملّوا، بيانه: قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (¬3) التقدير: ألَّا تضلّوا، وهذا فاسدٌ، فإنّه أبطل الكلاَمَ وأذهبَ الفائدةَ. والصّحيحُ فيه: أنّ الله لا يقطع الثواب للعامل ما دام يعمل، فهذا قطع الخِدْمَةَ انقطعَ عنه الثّواب. نكتةٌ أصوليّة: قال القاضي أبو الوليد (¬4): قوله: "اكلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ" يحتمل معنيين: ¬
أحدهما: النَّدبُ لنا إلى تكلُّفِ ما لنا به طاقة. الثّاني: النّهي عن تَكَلُّفِ ما لا نطيق (¬1)، والأمر بالاقتصار على ما نطيقه، وهذا أَليَق بنَسَق (¬2) الحديث. وقوله: "مِنَ الْعَمَلِ" الأظهر أنّه أراد به عمل البرِّ؛ لأنّه ورد على سَبَبِهِ، وهو قول مالكٌ؛ أنّ اللَّفظَ الوارد على سببه مقصورٌ عليه. الثّالث: أنّه لفظٌ وردَ من جِهَةِ صاحب الشَّرْعِ، فيجب أنّ يُحمَلَ على الأعمال الشرعيّة. وقوله: "مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ" يريد -والله أعلم-: ما لكم بالمداومة به طاقة. وقوله: "فَإنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" قال ابنُ وَضَّاح: معناه ترك العطاء (¬3)، والمَلَل مِنَّا السآمةُ والعَجزُ عن الفعل، إلَّا أنّه لمّا كان معنى الأمرين التّركُ، وصفَ تركه بالملل على معنى المقابلة. وليس في هذا ما يدلُّ على أنّه يملّ العطاء إذا مللنا العمل، إلَّا من جهة دليل الخطّاب أذا عُلِّق بالغاية، وبه قال أبو بكر بن الطَّيِّب. وذكر الدّاوُدي في هذا المعنى (¬4) فقال: معناه أنّ الله سبحانه لا يملّ وأنتم تملّون، فالخَلْق تلحقهم السآمة والغَفْلَة والعجز، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلك. قال ابن مسعود (¬5): "إِن لِهَذِهِ الْقُلُوب شَهْوَةً وإِقْبَالًا، وَإِنَّ لَهَا فَتْرَةً وَإِدبَارًا، فخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، وَدَعوُهَا عِنْدَ فَترَتِهَا وَإِدْبَارِهَا" (¬6). ¬
حديث (¬1): قوله (¬2):"يُكرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ العِشَاءِ، والحديثُ بَعْدَهَا". قال الإمام: إنّما هذا لِمَا فيه من التّغرير بصلاة العشاء وتعريضها للفَوَاتِ. ومعنى كراهية الحديث بَعْدَها: أنّ ذلك يمنع من صلاة اللّيل، وقد أرخصَ في ذلك لمن تحدَّثَ مع ضيفٍ، أو قرأَ عِلْمًا. وزادَ الدّاوديّ: أو لعروسٍ أو مسافرٍ. حديث: قوله (¬3): "إنّ عَبْدَ اللهِ بنِ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: صَلَاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مُثْنَى، يُسَلِّمُ مِن كُلِّ رَكْعَتَيْنِ" قال مالكٌ: "وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا". حديث حسن صحيحٌ، يُسْنَدُ من طُرُقٍ (¬4). وفيه من الفقه ثلاث، مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله: "صَلاَةُ اللَّيْلِ" يريد النّافلة، ولذلك أضيفَ إلى اللّيل والنّهار، وبَيَّنَ ذلك بقوله: "يُسَلِّمُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ" فإضَافَتُهما إليهما (¬6) يقتضي أنّ للّيل نافلة، وللنّهار نافلة، وأفضل أوقاتِ صلوات اللّيل ما تَقَدَّم ذِكْرُه، وأفضل النّهار الهَاجِرَة. المسألة الثّانية (¬7): كره مالكٌ (¬8) الصّلاة بين الظُّهر والعصر. ووجهُ ذلك: أنّ هذا وقت التَّصَرُّف والاشتغال بأمر الدّنيا، وإنّما يجب أنّ تكون الصّلاة في وقت النّوم والدَّعَةِ كصلاة اللّيل. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله: "مَثْنَى مَثْنَى" يريد أنّ كلَّ ركعتين منها صلاة قائمة بنفسها, ولذلك قال مالك (¬2): "وذلك الأمرُ عندنا" يريد: أنّ النّوافلَ لا يُزَادُ فيها على ركعتين، وبهذا قال الشّافعيّ (¬3) وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة (¬4): إنّ شاء سلَّمَ من ركعتين، وإن شاء من أربع. وقال الثّوري والحسن بن صالح: صلِّ ما شئت بسلامٍ واحدٍ بعد أنّ تجلس في كلِّ ركعتين. والدّليل على ما ذهب إليه مالكٌ: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "صلاةُ اللَّيلِ مَثنَى مَثْنَى". ودليلنا من جهة المعنى: أنّ هذه صلاة نَفْلٍ لم تجز الزِّيادة فيها، كصلاة العيد. ¬
صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -في الوتر
صلاةُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -في الوِتْرِ فيه ثمان مسائل: المسألة الأولى: في الإسناد روى (¬1) هذا الحديث (¬2) جماعة عن ابن شهاب؛ فزادوا فيه: " يُسَلَّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ". ورواه مالكٌ عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة، في عدد ركعات النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الوِتْرِ موافقًا لما رواه هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، فقال فيه: "إِنّ النّبيَّ عليه السّلام كان يُوتِرُ بثلاث عشرة ركعة". والصّحيح في هذا عن عائشة ما رواه الزُّهريّ وسعيد بن أبي سعيد؛ أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه كان يُوتِرُ بإحدى عشرة ركعة (¬3). قال الإمام: والغَلَطُ فيه من طريقِ هشامٍ لا غير. وقوله: "يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ" يقتضي أنَّ الوِتْرَ واحدةٌ (¬4). وقد (¬5) اختلف النَّاس في الوِتْرِ في ثلاث مسائل: أحدها: وجوبه. والثّانية: عدده. والثّالثة: إفرادُه من الشَّفْعِ. فأمّا وُجُوبُه، فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالكٌ - رضي الله عنه - إلى أنّه غير واجبٍ (¬6)، وبه قال الشّافعيّ (¬7). وقال أبو حنيفة (¬8): هو واجببٌ وليس بفَرْضٍ، والوجوبُ عنده دون الفَرْضِ وفوق السُّنَنِ، ومزيّته على السُّنَنِ أنّه يجوز ترك السُّنَنِ ولا يجوز ترك الوجوب (¬9) ¬
ونقصه من الفَرْضِ؛ أنّه يَكفُر جاحد الفَرْض ولا يكفر جاحِدَ الوَاجِبِ. وقال عبد الوهّاب (¬1): الواجب عندنا والفَرْضُ، واللّازم، والخَتْمُ والمستحقّ، بمعنى واحد، فيتحقّق معهم الكلام في هذه المسألة، فإن أرادوا بالوجوب أنّه ممّا يحرمُ تركُه (¬2)، فهو خلافٌ في عبارة، فلا معنى بالاشتغال بالمناظرة في ذلك. وإن قالوا: إنّه ممّا يحرم تركه، فهو خلافٌ في معنى. والدليل على نفي وجوبه: قوله - صلّى الله عليه وسلم - للأعرابي الّذي سأَلَهُ عن الخمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" (¬3). فوجه الدّلالة منه: 1 - أنّه سأل عن الفَرْضِ، فأجابَ بالخمس، وهذا يقتضي أنّ الخمس جميعٌ فَرْض الصّلاة. 2 - والثاّني: أنّه قال: هل عَلَىَّ غيرها؟ قال:" لا" فَنَفَى الوجوب عن غيرها. 3 - والثاّلث: أنّه قال: "إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" فوصف ما زاد على الخمس بالتَّطَوُّعِ. المسألة الثّانية (¬4): في عدد الوتر، فإن مالكًا - رحمه الله - ذهب إلى أنّ الوِتْرَ واحدة (¬5)، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: الوِتْرُ ثلاثٌ في تسليمةٍ واحدةٍ. والدليلُ على ما نقوله: قول عائشة في هذا الحديث: "يُوترُ مِنْهَا بَواحِدَةٍ". ودليلٌ ثانٍ (¬6): قوله في هذا الحديث: "كان رسولُ الله صلّى الله عليه قد أسن ¬
وبدن" (¬1). يقال بَدَنَ وبَدُن بفتح الدّال وضمّها، أي كَثُرَ لَحْمُه، وأنكره أبو عُبَيْد (¬2). وله معان كثيرة في غير هذا الموضع (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): وهي أنّ الوِتْرَ لا يكون إلَّا عَقِبَ شَفْعٍ، وأقلّه ركعتان، قالَهُ ابن حبيب عن مالكٌ، وهو المشهور من المذهب (¬5)، وقال سحنون في "كتاب ابنه" عن مالكٌ: إنّ المسافر يُوترُ بركعةٍ واحدةٍ، وقد أَوْتَرَ سحنون في مَرَضِهِ بركعة واحدة، وذلك يدلُّ على تخفيف ذلك على أهل الأعذار، وأنّ الشَّفْعَ ليس بشَرْطٍ في صِحَّتِهِ (¬6). المسألة الرّابعة: في ذكر المسنون والمفروض من الصّلاة قال الإمام الحافظ - رضي الله عنه -: فرضَ اللهُ من الصلوات نوعًا واحدًا، وهي الخُمسُ. واختلفَ العلماءَ فيما شرع: فقال أبو حنيفة: شرع أربعة أنواع فَرْضًا، وسنَّةً واجبةً، وسنةٌ غير واجبةٍ، ونفْلًا. وقال أشياخنا: شَرَعَ أربعًا: فَرْضًا، رَغِيبَةً، سُنَّةً، ونَفْلًا. قال الإمام: وهذه اصطلاحات منهم لم تجىء على لسان الشَّرع إلَّا بعضها، فلا ينبني عليها حُكْمٌ. وقال أبو حنيفة: الفَرْضُ ما ثبتَ في كتاب الله، والواجبُ ما ثبت بسنَّتِهِ وسنّة رسوله (¬7)، كالوِترِ. وقلنا: الفَرْضُ: ما ورد الذَّمُ بِتَرْكِهِ. والسُّنة: ما فَعَلَهُ رسول الله صلّى الله عليه في جماعةٍ. والنَّفْلُ: ما وعد بالثّواب على فعله. والرَّغَائب: ما أكّد الثّناء عليها وخصّها بالذِّكْر. ¬
وأمّا الفرائض فخمسٌ. وسَنَّ أيضًا رسولُ الله صلّى الله عليه خَمْسًا: الوِتْر، والخسوف، والاستسقاء، والفطر، والأضحى، وما سوى ذلك نافلة، إلّا ركعتي الفجر فهي من الرَّغائب. ومِنْ أَوْجَبِ النّوافل وأَعْظَمِها ما رُوِيَ في الحديث الحسن؛ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه قال: "إنَّ اللهَ أَمَرَكُم بِصَلاَةِ هي خَيرٌ لكم من حُمْرِ النَّعَمِ، وهي ما بين صلاة العشاء وطُلُوع الفَجْرِ، الوِتْرُ الوِتْرُ" (¬1). وقال:" لا تدعوا رَكْعتي الفجر وإن كانت الخَيْلِ مُغِيَرة في أَثَركِمْ، فإنّ فيها الرَّغائب والخير كلّه" (¬2). المسألة الخامسة (¬3): وهل يتعيَّن للوِتْر قراءة على الوجوب أو الاستحباب؟ قال ابنُ نافع في "المجموعة": إنّ النَّاس يَلْتَزِمُونَ في الوِتْر قراءة قُل هو الله أحد والمعوّذتين (¬4) وما هو بلازم، وهذا ينفي الوجوب. وروى عنه ابنُ القاسم؛ أنَّه قال: إنِّي لأفْعَلُه، وذلك يدلُّ على الاستحباب. ورَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ: من قرأَ في الوِتْرِ سَهْوًا باُمِّ القرآن فقط، فلا سجود عليه. وأمّا الشَّفْع، فقد رَوَى ابنُ زياد عن مالك: أنّه قال: ما عندي شيء يستحبّ به القراءة دون غيره، وهذا يدلُّ على أنّ الشَّفْع من جِنْسِ سائر النّوافل، وهذا عندي لمن كان وِتْرُهُ (¬5) عَقِبَ صلاتِه باللّيل، وأمّا مَنْ لم يُوتِر إلَّا عَقِبَ شَفْعٍ، فإنّه يستحبُّ له أنّ يقرأَ بسَبَّح وقُلْ يا أيّها الكافرون، على ما تقدَّمَ في حديث ابن عبّاس. ¬
المسألة السادسة (¬1): قوله (¬2): "اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَن" قال علماؤنا (¬3): هذه الضّجعة ليست بقُرْبَةٍ، وإنّما كان - صلّى الله عليه وسلم - يضطجعُ راحةً وإِبقَاءً على نفسه. وقال مالكٌ: مَنْ فَعَلَها راحةً فلا بأس به، ومن فعلَها سُنَّةَ فلا خَيْرَ في ذلك. وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء. وأهل (¬4) الظاهر بجَهْلِهِمْ يُوجِبُونَها ويجعلونها سُنَّة (¬5)، وليس هذا بشيءٍ، وأنكر هذه الضَّجْعَة جماعةٌ. وقال ابنُ عمر: هي بدعة لمن لم يقم اللّيل. المسألة السّابعة: وقولُه في الحديث (¬6):" كانَ يَنَامُ قَبْلَ أنّ يُوتِر" (¬7) يحتمل معنيين: 1 - إحدهما: أنّه كان ينام بإثْرِ صلاة العشاء قبل أنّ يُوتر. 2 - ويحتمل أنّ يكون أراد به: صلَّى أَرْبَعًا ثُمَّ نامَ قبلَ أنّ يُوتِر، فقالت ذلك، فقال: "يا عائشةُ، إنَّ عَيْنَيَّ تنَامُ ولا يَنَامُ قَلْبِي" (¬8) يريد أنّه لا ينامُ عن مراعاة الوقت، وهذا ممّا خُصَّ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - به من أَمْرِ النُّبُوَّةِ والعصمة؛ ولذلك كان لا يحتاج إلى الوضوء من النّوم، لعلمه بما يكون منه، وإن كان محروسًا من الحَدَثِ. المسألة الثّامنة: الوِتْرُ قبلَ النَّومِ فيه حديث أبي هريرة؛ قال: "أَوْصَاني خَلِيلي أبو القاسم بصيامِ ثلاثةِ أيّامٍ من كلِّ شهرٍ، وركعَتَي الضُّحى، ولا أنام إلّا على وِترٍ" (¬9). قال أهلُ الزُّهد: في هذا ثلاث فوائد: ¬
الفائدة الأولى: فيه تحصيل الوِتْر من أوَّل اللّيل ومن آخر اللّيل، أوَّلًا لفَضْلِهِ، فإن أوْتَر أوَّل اللّيل، حَصَلَ له بذلك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: قَصْرُ الأمل وتحصيل الوِتْر. والثّانية: أنّه قد أدّى سنّة، والوِتْرُ من آخر اللّيل لأهل الأوراد أفضل. وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُوترُ إذا أراد أنّ يأتي فِرَاشَه، وكان عمر بن الخطّاب يُوتر بواحدةٍ آخِرَ اللّيل، وكذلك كان فعل السَّلَفِ. قال سعيد بن المسيِّب: فامّا أنا فإذا جئتُ فراشي أَوْتَرْتُ. حديث مالك (¬1)، عن مَخرَمَة بن سليمانَ، عن كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عبّاس؛ أنَ عبد الله بن عبّاس أخبرهُ: أنّه باتَ عند ميمونة زوج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهي خَالَتُه - قال: فَاضْطَجَعْتُ في عَرْضِ الوِسَادَةِ، واضْطَجَعَ رسولُ الله وأَهْلهُ في طُولِهَا، فنامَ رسولُ الله حتّى إذا انتصفَ الليلُ أَوْ قَبْلَهُ بقليل الحديث إلى آخره. فيه ست عشرة مسألة: المسألة الأولى: في السَّندَ قال جماعة المحدِّثين: هذا الحديث مُسْنَدٌ صحيحٌ من طُرقِ (¬2)، وخرجَّه الأيمّة مسلم (¬3)، والبخاريّ (¬4)، وغيرهما (¬5). المسألة الثّانية: فيه من الفقه: جواز مبيت الغلمان عند ذوات أرحامهم (¬6)، والدخول عليهنّ. المسألة الثّالثة: "الاضطجاع" قال علماؤنا: هو مأخوذٌ من قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (¬7) والمضاجِعُ جمعُ مضجع، وهي مواضع النّوم، ويحتمل وقت الاضطجاع، ولكنه مجازٌ والحقيقةُ أَوْلَى، وذلك كناية عن السَّهَرِ في طاعة الله. ¬
وقوله: {تَتَجَافَى} فيه قولان: أحدهما: ذكر الله، والآخر: الصّلاة. المسألة الرّابعة (¬1): قوله: "في عَرْضِ الوِسَادَةِ" قال علماؤنا: هي الفراش الّذي ينامُ عليه، فكان ابنُ عبّاس في عَرضِها عند رؤوسهما، أو عند رجليهما. وقال الدّاوديُّ: الوِسَادةُ ما يضعون رؤوسهم عليه للنّوم، فوضع سول الله - صلّى الله عليه وسلم - وأهله رؤوسهما في طُولِها، ووضع ابن عبّاسٍ رأسه في عرضها. نكتةٌ لغوية (¬2): قال أهل اللُّغة: والعُرْضُ -بالضَّمَّ- هو الجانب، يريد الجانب الضَّيَّق منها. وهذا ليس بالبَيَّينِ عندي، ولو كان ذلك لقال: يَتَوسَّد رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - طول الوِسَادة، وتوسّد ابن عبّاس عرضها. وأمّا قوله: "فَاضْطَجَعَ" فإنّه يقتضي أنّ يكون العُرْض مَحَلًّا لاضطجاعه، ولا يصحّ ذلك إلَّا بأن يكون فراشًا له، وما قالوه في العُرْضِ فغير صحيحٍ من جهة النَّقل، ومن جهة المعنى، فإن العُرْضَ الجانبُ، الّذي كان يتوسَّدُ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عليه إنّما كان الجانب، بلا فرق بينهما إلّا بالطُول والعَرْضِ، والله أعلم. ومن جهة المعنى أيضًا: أنَّه لم يرو أحدٌ من علمائنا بالضَّمِّ (¬3)، وإنّما الرِّواية فيه بالفتح، وإذا كان هذا، فإنّ العرض الجانبُ، فلا فرق بينهما إلَّا بالطُّول والعرض. المسألة الخامسة (¬4): فيه: إباحة هذا لمن كان في سِنِّهِ، ويحتمل أنّ يكون سِنُّهُ في هذا الوقت نحو العشرة الأعوام؛ لانّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - تزوّج ميمونة في ذي القعدة من سنة سبعٍ من الهجرة، وكان عبدّ الله في ذلك الوقت على ما ذكرنا من السِّننَّ، وهو سِنُّ يُمنع أنّ يَرْقُدَ من بَلَغَهُ مع أحدٍ من الأجانب، أو ذي المحارم دون حائل بينهما، ذَكَرًا كان أو أُنْثَى. وقد رَوَى ابنُ وهب (¬5)؛ أنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يُؤْمَرُ الصِّبيانُ بالصلاة لسبع، ويُضرَبُون عليها لعَشْرٍ وَيُفَرَّق بينهم في المضاجع " ولا يكون التّفريق إلَّا إذا بلغ عشر سنين. ¬
المسألة السادسة (¬1): قوله: "حتَّى انتصفَ اللَّيْلُ، أو قَبْلَهُ بقَليلٍ، أو بعده بقليل" فيه التَّحَرَّي في اللّفظ والمعني؛ لقوله: "أو قَبلَهُ بقليلٍ" وهذا فرارٌ من الكَذِبِ، وَوَرَعٌ صادقٌ، ومثلُ (¬2) هذا من أفعال الصِّدْقِ. المسألة السَابعة: قوله: "يَمْسَحُ النَّوْمَ عن وَجْهِهِ بِيَدِهِ" إنّما فعل ذلك لكي يزول النّوم، ويستجلب اليقظة. المسألة الثّامنة (¬3): قوله: " وقرأَ العَشْرَ الأَوَاخِرَ من سُورة آل عِمْرَانَ" قال علماؤنا: فيه من الفقه: قراءةُ القرآن على غير وضوءٍ؛ لأنّه نام النَّوْمَ الكثير الّذي لا يختلف في مِثْلِه. وأمّا قراءة القرآن على غير وُضُوءٍ" فلا أعلم خلافًا في جوازه ما لم يكن حَدَثَ جَنَابَةٍ، وعلى هذا جماعة العلماء. وَرُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: كانَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يحجزُهُ عن قراءةِ القرآن شيءٌ إلَّا الجَنَابَة (¬4). المسألة التّاسعة (¬5) قوله: "ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ" قال علماؤنا: هي القِرْبَةُ، والإداوة الخَلَقُ، ويقال لكلِّ واحدٍ منهما: شَنٌّ، وشِنَانٌ وهو الجمع (¬6). المسألة العاشرة: قوله: " فتوضَّأَ منها فأحسن وضوءَهُ، ثمَّ قامَ يُصَلَّي " قد تكلَّم النّاسُ في قيام اللّيل، هل هو فَرْضٌ على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أم لا؟ فقيل: كان فَرْضًا على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وعلى النَّاس، ثمّ نُسِخَ عن النّاس بقوله تعالى: ¬
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (¬1) وبقِيَ فَرْضًا على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وقيل: بَقِيَ منه فرض القليل، وهو قول البخاريّ (¬2). نكتةٌ أصولية: فإن قيل: فايُّ شىءِ بَقِيَ فَرْضًا على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وقد دخل عليه السّلام في العموم بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (¬3). قلنا: إنه لا صِيغَة للعموم، وبهذا يحتجُّ مَنْ لا يقول بالعموم مثلنا. فإن قيل: وبأيّ شيء يحتجّ من يقول به؟ قلنا: الإجماع انعقدَ عليه أنّه فَرْضٌ على النَّبِيّ - صلّى الله عليه وسلم -. المسألة الحادية عشر (¬4): قوله: "فَصَنَعْتُ مثلَ ما صنَعَ" يحتمل أنّ يريد به جميع ما فعله النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على وجه الاقتداء به. ويحتمل أنّ يريد به فعل الوضوء والصّلاة، أعني القيام إلى جَنْبِه. المسألة الثّانية عشر (¬5): قوله: "فقامَ إلى جَنبِهِ" يريد أنّه قام يُصَلَّي يصلاتِهِ , وهذا يدلُّ على أنَّ الإمام يَأْتَمُّ بمن لم ينو أنّ يَوُمَّ به. وبهذا قال مالك (¬6). وقال الشّافعيّ: لا يجوز أنّ يأتمَّ به حتَّى ينوي ذلك الإمام عند إحرامه. وقال أبو حنيفة: يأتمُّ به الرِّجال ولا يأتمّ به النِّساء. ودليل مالكٌ: فعلُ ابن عبّاس هذا. وأقَّرَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهو دليلٌ على جوازه؛ لأنّه لا يُقِرِّهُ على المنكر. فإن قيل: يحتمل أنّ يكون ابن عبّاس صادفَ دخوله في الصّلاة حين افتتح ¬
النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ركعتين بعد أنّ سلَّمَ مِمَّا قبلهما، فَنَوَى النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إمامته. فالجواب: أنّه لا يصحّ؛ لأنّه كان يقيمه على يمينه (¬1)، ولم يكن ليُقرِّهُ على أنّ يقوم على يساره فيديره في الصّلاة. وقد (¬2) بيَّنَّا مواقف المأموم مع الإمام على سبعة مواقف في بَدْءِ الأذان في حديث ابن المسيَّب. وقال بعضهم: جائزٌ لكلِّ مَنِ افتتح الصّلاة وحدَهُ، أنّ يكون إمامًا، وينقله عن شماله إلى يمينه. تركيب (¬3): قال آخرون: أمّا الامامُ والمؤذِّن إذا أَذَّنَ فقد دعا النّاسَ إلى الصّلاة، ثمّ (¬4) انتظر فلم يأته أحدٌ، فيقيم (¬5) وحدَهُ ويصلِّي، فيدخل رجلٌ، فجائزٌ أنّ يدخل معه في الصّلاة ويكون إمامه؛ لأنّه قد دعا النّاسَ إلى الصّلاةِ ونوَى الإمَامَةَ، والقولُ في هذا الحديث أنّ الإمَامَةَ صحيحةٌ. المسألة الثّالثة عشر (¬6): في هذا دليلٌ على صحَّةِ صلاته وإن لم يبلغ الحُلُم إذا عقل صلاته، وهذا (¬7) في صلاة من قولها هذا الحديث أصلٌ في هذا المعنى. المسألة الرّابعة عشر (¬8): قولى: "فأَخَذَ بِأُذُنِي اليُمنَى يَفْتِلُهَا" يدلُّ على يسير العمل في الصّلاة لا يمنع صحّتها (¬9) ويحتمل أنّ يفعل ذلك تأنيسًا. ويحتمل أنّ يفعله إيقاظًا له، وقد رُوِيَ عنه أنّه قال: فجعلتُ إذا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي (¬10). ¬
المسألة الخامسة عشر (¬1): قوله (¬2): "ثُمَّ صَلَّى ركعتين وهما دون اللَّتَيْنِ قَبْلَهُما"، يعني في الطُولِ، ومعنى ذلك: أنّ آخر الصّلاة مبنيٌ على التّخفيف عمّا (¬3) تقدم في أوّلها, ولذلك شرع هذا المعنى في صلاة الفَرْضِ. المسألة السادسة عشر (¬4): قوله: "ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ثلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً" بَيِّنٌ أنّ الوِتْرَ منها ركعة واحدة. حديثُ (¬5) زيد بن خالد الجهنيّ (¬6)؛ أنّه قال: لأرْمُقَنَّ اللَّيلَةَ صلاةَ رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -. الحديث. الأصول: فإن قيل: كيف جاز هذا لزَيْدٍ وهو تَجَسُّسٌ منه، وقد قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تَحسَّسُوا ولا تَجَسَّسُوا" الحديث إلى آخره (¬7). وإذْنُ (¬8) الرَّجل لمنزل صاحبه يسمع ما يحتاج إليه، كذلك يسمع ما يستغني عنه، أو ما لا يجوز له سماعه. قلنا: الجواب عنه من وجهين: 1 - أحدهما: أنّ يكون ذلك بِعِلْمِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بمكان زَيْد، وإذا عَلِمَ صاحب المنزل، فذلك جائز التّحسُّسِ والتّجسُّسِ (¬9). 2 - ويحتمل أنّ يكون بغير علمه، ولكن زيدًا كان على بُعْدٍ حتّى سمع النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يتوضَّأ أو يقرأ، فحينئذٍ دَنَا، وذلك جائز مع كلَّ أحدٍ. ¬
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّي سنة:543 هـ) قرأه وعلّق عليه محمد بن الحسين السُّليماني ........ عائشة بنت الحسين السُّليماني قدَّم له الشّيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المجلد الثّالث دَار الغَرب الإسلامي
دَار الغرب الإسلامي جميع الحقوق محفوظة 1428 هـ -2007 م دار الغرب الإسلامي ص: ب. 5787 - 113 ببروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّي سنة:543هـ) المجلد الثّالث
الأمر بالوتر
الأَمْرُ بالوِتْرِ قال علماؤنا: الوِتْرُ عبادةٌ مؤَقَّتَهٌ، رَوَى مسلم (¬1)؛ أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أوتر من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر. ويعضده حديثُ مالكٌ (¬2)، وذلك قوله: "فإذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصّبْحَ" دليلٌ على الخوفِ، بَيْدَ أنّ مالكًا قال: يجوزُ وإن طلعَ الفجرُ مالم يصلّ الصُّبح. وبالغ فيه حتىّ قال: تقطع به صلاة الصُّبح بدخوله فيها، فإن فعل بعد الفجر، فإنّما يكون على معنى القَضَاء، كما يفعل بركعتي الفجر بعد طلوع الشّمس وقبل صلاة الصُّبح على معنى القضاء، والأمرُ في ذلك قريبٌ. نكتةٌ لغوية: قوله في التّرجمة (¬3): "الأمرُ بالوِتْرِ" فيه لغتان: بفتح الواو، وكسرها. والتّاءُ في اللُّغتين ساكنة، وأهل نجد يفتحونها، وأهل الحجازي يكسرونها. والوَتْرُ: الفَرْدُ الّذي لا ثاني له، والوِتْرُ -بكسر الواو- طلبك الدَّم. إلحاق: قوله في هذا الباب: "صَلاةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى" (¬4) قد تقدّم الكلام عليه. اختلف العلماء أيُّهما أفضل في النّوافل، أَطُول القيام وإن قلّ الرّكوع والسّجود، أم الإكثار من الرّكوع والسجود وإن قصر القيام؟ فعلى قولين: القول الأوّل - قيل: طُولُ القيام أفضل، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الصّلاةِ طُولُ القُنُوتِ" (¬5). القول الثّاني - قيل: بل الأفضل الإكثار منَ السُّجود وإن خَفَّ القيام، لحديث أم هانئ المذكور في صلاة الضُّحَى، ولقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أعِنِّي على ذلك بِكَثْرَة السُّجود" (¬6). ¬
تفصيل: أمّا في النّهار، فكثرةُ السُّجود أفضلُ، لحديث أم هانئ (¬1). وأمّا اللّيل، فطُولُ القيام أفضل، لما رُوِيَ فيه من فِعْلِهِ - صلّى الله عليه وسلم -. فقه: اختلف العلماء في العدد الّذي يجمع من الرَّكَعات في صلاة النّافلة على قولين: القولُ الأوّل - قال مالكٌ: لا يُجْمَعُ في النّوافل أكثر من اثنتين (¬2)، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَثْنَى مَثْنَى". الثّاني - قال أبو حنيفة (¬3): يُصَلِّي ما شاءَ أرْبَعًا، أو خَمْسًا, أو ثمانيًا، ولا يزيد على الثّمان. والحُجَّةُ فيما (¬4) اعتمد عليه مالكٌ - رحمه الله -: الحديث الّذي صَدَّرَ به هذا الباب، ومصاحبة العمل له وغير ذلك. واحتجَّ المخالفُ أبو حنيفة بحديث أمّ هانئ، وحديث عائشة؛ قالت: كان يُصَلَّي الضُّحَى أرْبعًا (¬5). وحملَ مالكٌ ذلك على أنّه كان يُسَلَّم من كلِّ ركعتين، وليس في الأحاديث بأنّه لم يسلِّم. تنبيه على وهم (¬6): قال الإمام: رَوَى الرُّوَاةُ فيه: "صَلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى" وهو وَهْمٌ قبيحٌ، وإنمّا الصّحيح الثّابت؛ أنّ كلَّ صلاةٍ رُوِيت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في النّهار، إنّما هي مَثْنَى شَفْع، وكلُّ صلاةٍ رُوِيَت عنه باللّيل (¬7) فإنمّا عقبها الوِتْر. قال علماؤنا: فإذا ثبت هذا، فإن الوِتْر سُنَّةٌ غير مفروض، وفي فعله ثوابٌ تفضَّلَ الله به على عباده، في تركه عقاب، إنّ شاء ربّه أنّ يعاقبه، وإن ئساء غفر له برحمته. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): هو واجب يعاقَبُ تارِكُهُ، وهو في المشيئة. وليس له في هذه المسألة دليلٌ يُعَوَّلُ (¬2) عليه، وكلّ حديث تعلَّقَ به فباطلٌ، وقد نزع سحنون بهذه المسألة إلى رَأْي أبي حنيفة، فقال: إنّ من تركَ الوِتْرَ يُؤَدَّبُ، وإنّما الْتَقَفَهَا من أسَد بن الفرات (¬3)، وحديث الأعرابي يقطعُ به قوله: "إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" (¬4). تكملة (¬5): اعملوا -نور الله قلوبكلم بالمعارف- أنّ الوِترَ خاتمة النّوافل، وذلك أنّ البارئ تعالى شرع الفرائضَ وِتْرًا شرعًا مفروضًا، فشرع لكلِّ (¬6) النّوافل وترًا (¬7) شرعًا مسنونًا؛ لأنّ الله وِترٌ يحبُّ الوِتْرَ، ولولا الوِتْرُ ماخلقَ الشَّفْع، وإنّما خلقَ الشَّفْع ليتبيَّنَ الوِتْر به. فغاية الفَرْضِ سبع عشرة ركعة، وإلى هذا العدوإنتهى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بالنوافل في صلاة اللّيل، ولم يزد عليه. وإنّما يكون الوِتْرُ باللّيل دون النهار، لقوله صلّى الله عليه: "صلاةُ اللّيْل مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى ركعَةً واحدةً تُوتِر لَهُ مَا قَدْ صَلَّي" (¬8) فلا تلتفتوا إلى قول أبي حنيفة؛ لأنّه جاء بشَيْءٍ: شَاذًّ، وهو خَرْقٌ في الشّريعة لا يرقع , وليس له فيه حديث أشبه من قوله: "أَوتِرُوا يا أَهْلَ القُرآنِ" (¬9) ولم يصحّ من جهة السَّنَدِ، ولا قوي من جهة المعنى، فإنّما يريد به أهل القرآن الّذين يقومون به ليلًا، وقيامُ اللّيل ليس بمفروضِ في أصله، فكيف يكون فرْضًا في وصفه؟ وقد ناقض فقال: إنّ الوِتْرَ يُفعَلُ على الرّاحلة. فحجَّتُنَا أنّ نقول: صلاة تُفْعَلُ على الراحلة مع الأمن والقُدْرَةِ، فلا تكون واجبة كركعتي الفجر، عكسهُ الصُّبح. ¬
حديث عبادة (¬1)؛ قال: كَذبَ أبو محمدٍ، سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "خَمْسُ صلواتٍ كَتبَهُنَّ اللهُ على العِبَادِ" الحديث. قال الإمام: هذا حديثٌ من معظم أُصولِ العبادات، وقال بعض العلماء (¬2): سَنَدُ (¬3) هذا الحديث في "الموطَّأ" مجهولٌ (¬4)، وهو حديث رواه يحيى بن سَلّام عن يحيى بن سعيد (¬5). والمتعلّق منه الكلام على معنى قوله: "اسْتِخفَافًا بِحَقَّهِنَّ " فاعلم أنّ تارك العبادات على ضربين: غير قاصدٍ، كالنّاسِي والنائم وما أشبههما، واللَّومُ عنه مرفوعٌ شَرْعًا. وقاصدٌ تركها، إمّا للاشتغال بغيرها، أو تركًا (¬6) مجردًا, ولا يكون ذلك على إلاستخفاف الّذي هو في لسان العرب: التّهاونُ والاحتقارُ، مشتقٌ من الخِفَّةِ؛ فإن المرءَ إذا اعتقد الشَّيءَ عَظيمًا هَابَهُ ووفّاهُ من الخدمة حَقَّه. وإذا اعتقدَهُ خفيف الوَطْأَة هَيَّنَ المَدْرَكِ احْتَقَرَهُ. وهذا الاستخفاف إمّا أنّ يكون عن رَبِّ الرُسُلِ (¬7) تعالى، أو في المُرْسَلِ - صلّى الله عليه وسلم -، فيكون بهذا كافرًا مُخَلَّدًا في النَّارِ. وأمّا أنّ يكون عن تغَافُلٍ عن عذاب الله تعالى واغتِرَارٍ بالأمَلِ، فذلك فاسقٌ عند أكثر العلماء. وهو القسمُ المراد في الحديث، بدليل قوله: "إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ, وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ" (¬8) ولو كان القسم الّذي يكون به كافرًا لما جَعَلَهُ تحت المشيئة. وقد ينقسم التَّرْكُ للاشتغال بعد هذا، إلَّا أنّ يكون الشُغْلُ بفَرْضٍ يتعيَّن، كإنجاء الغَرْقَى، وإنقاذ الهَلْكَى، وشِبْهِ ذلك، فهذا قسمٌ محمودٌ. فهذا اشتغل بهذين وتركهما، كان أيضًا مُسْتَخِفًّا؛ لأنّه ترك الأَعْلَى للأَدْنَى، والأكبر للأَجَلَّ، والله أعلم. ¬
قال القاضي أبو بكر: والعهدُ في القرآن: كلُّ ما كان فيه الوَعْدُ على العمل الصّالح، مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية (¬1)، وكذلك: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (¬2). وقال القاضي أبو الوليد الباجي (¬3): "في هذا الحديث، "استخفَافًا بحَقهِنَّ" هو احترازٌ من النِّسيَانِ والسَّهْوِ الّذي لأ يمكن لأحدٍ الاحترازَ منه، إلَّا مَنْ تفضَّلَ اللهُ عليه بالعِصْمَةِ، فمن نقصَ منهُنَّ شيئًا استخفَافًا وهو عالِمٌ بذلك، فذلك المستخفُّ قَطْعًا الّذي لا عَهدَ له. وقوله: "مَنْ لَمْ ياتِ بِهِنَّ" نصٌّ في أنَّ مرتكبَ الكبائر في المشيئة، ومانِعٌ من قول من قال: لا يغفر له، ومانعٌ أيضًا من قول من قال: إنّه كافرٌ (¬4). ومعنى الحديث: ألاّ يأتي بها وهو مؤمنٌ بها، فحُكمُهُ في الدُّنيا أنّ ينتظر به وقت (¬5) الصّلاة، فإن صلّاها وإلّا قُتِلَ حَدًّا. وإنّ مَنْ تركها مُكَذِّبًا بِهَا اسْتُتِيبَ ثلاثًا، فإن تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كُفْرًا". نكتةٌ (¬6): تقديم أبي بكر الوِتْرَ (¬7) للاحتياط، وكان عمر قد عَلِمَ من نفسه القوّة على القيام , فكان يؤخِّره. ومن حُكمِ الشَّفْعِ؛ أنّ يتَّصِلَ بالوِتْر فيما رواه ابنُ القاسم (¬8) فيمن تنفَّلَ بعد ¬
ما جاء في ركعتي الفجر
العشاء ثم انصرفَ، فلا ينبغي أنّ يُوتِر حتَّى يأتي بشَفْعٍ. وقال عنه (¬1) ابنُ نافع: لا بأس أتى يُوتِرَ بواحدةٍ في بيته. فوجه رواية ابن القاسم: فعلُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه بعدَهُ. ومن جهة المعنى: أنّ وقتها واحدٌ، لاختصاص هذا الشَّفْع بالوتر، حتّى نسب إليه وسُمِّيَ باسمه، فوجب أنّ يُفَارِقَه. ووجه رواية ابن نافع: أنّه أَوْجَدَ الوِتْرَ في وقته ليفعل (¬2) في الحين (¬3). ما جاء في رَكْعَتَي الفجر قال المؤلِّفُ: في هذا الباب تسع مسائل: المسألة الأولَى: قد بيَّنَّا أنَّ الوِتْرَ سُنَّةٌ. وأمّا ركعتا الفجر، فقيل فيهما: إنّهما من الرَّغائب. وقيل: إنّهما من السُّنَنِ المؤكَّدَةِ. وليس في الشّريعة بعد الصّلوات الخمس آكد من الوِتْرَ ورَكْعَتَي الفجر. ولذلك أسكتَ عُبَادَةُ المؤذِّنَ (¬4). وقد يكون التّرغيب في الشَّيْءِ الواجب، لكنّ (¬5) الفقهاء أوقفوا هذا اللّفظ على ما تَأَكَّدَ من المندوب إليه (¬6). المسألة الثّانية (¬7): اختلفَ العلماء في المعنى الّذي تستحق به النّوافل الوَصْفَ بالسُّنَنِ. فعند أشهب أنّ السُّنَنَ منها: كلُّ ما تَقَرَّرَ ولم يكن للمكلَّفِ الزِّيادة فيه بحُكْمِ التَّسمية المختصَّةِ به كَالْوِتْرِ، ولذلك قال في "المجموعة": رَكْعَتَا الفجر من السُّنَنِ. وعند مالكٌ: إنّ السُّنَنَ من النّافلة، ما تكَرَّرَ فعلُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الجماعات، كصلاة العِيدَيْن ¬
والاستسقاء. ومن (¬1) لم يكن له هذا الحكم، فمقصورٌ عن رتبة السُّنَنِ. وإنّما تُوصَفُ بأنّها من الرَّغائِبِ. وهذه كلُّها عبارات واصطلاحات بين أهل الصِّناعة، ولا خلافَ بين الأُمَّة في تأكيد رَكْعَتَي الفجر، كما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها قالت: لم يَكُن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النَّوافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً منه على رَكْعَتَي الفَجْرِ (¬2). المسألة الثّالثة (¬3): ومن شرطهما التّعيين بالنِّية. ووجه ذلك: أنّ ما كان من الصّلوات له وقتٌ مُعَينٌ، فإنّه يجب أنّ يُعَيَّنَ بالنِّية، كرَكْعَتَي العيد. المسألة الرّابعة (¬4): ومن سُنّتِهما التّخفيف، لحديث عائشة (¬5). واستحبَّ مالك أنّ يقرأَ فيهما بأمِّ القرآن، لقولها: "حتّى أَقُولُ: أَقرَأُ فِيهَا بأمِّ القُرآن أم لا؟ " والظّاهر من تقرير (¬6) عائشة لقراءته مع عِلمِهِا بحاله في ذلك وتَرَسُّلِهِ (¬7)، أنّه كان لا يقرأ بغيرها. ومن جهة المعنى: أنّها مع صلاة الصُّبح من جهة الصُّورة، كالرُّباعية أنّ تكون ركعتان يقرأ فيهما بأمِّ القرآن فقط. وفَرْضُ الصُّبح قد سنَّ فيه سورة مع أمِّ القرآن , فوجبَ أنّ تكون سُنَّة ركعتي الفجر الافراد بأمِّ القرآن. وقد رَوَى ابنُ القاسم (¬8)؛ أنّه يقرأ فيهما بأمِّ القرآن وسورة من قِصَارِ المفضَّلِ. ورَوَى ابنُ وَهْب؛ أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - قرأ فيهما بأم القرآن، وقيل يا أيّها الكافرون، وقيل هو الله أحد، وذكر الحديث لمالك فأَعْجَبَهُ، والمشهور من مذهبه الإفراد بأمِّ القرآن. ¬
المسألة الخامسة (¬1): ومن سنّتهما القراءة فيهما بالإسرار، قاله (¬2) ابن زياد عن مالك، بَيَّنَ ذلك قول عائشة: "حتّى إني أقولُ أقرَأُ فيها بأُمِّ القرآنِ أمْ لَا" وأَيضًا فقد تقدَّمَ أنّهما بمنزلة الرّكعتين من الرُّباعية، وسنّتهما الإسرار، وقد أجمعنا أنّ الجَهْرَ من سُنَّةِ الفَرْضِ، فوجبَ أنّ تكون سنّتهما الإسرار. المسألة السّادسة: قد بيَّنَّا إنّ مِن سُنَّتهما الإسرار والإسراع إلى فعلهما؛ لأنّهما مفتاح عمل النّهار، كما أنّ الوِترَ مختتم عمل اللّيل. فيسرع أنّ يتلقَّى الحياة المُسْتَقْبَلَة بعمل صالحٍ. ولذلك إذا انتبه بعد النَّومِ وحَيًا بعد مَوْتِهِ، وجَبَ عليه أنّ يذكر الله ويتوضّأ ويُصَلِّي ركعتين، فتأتي فاتحة صحيفته تتلألأ. ومن هاهنا قال أشهب: إنّها سُنَّة، وإنّ القراءة فيهما بسورة أفضل من القراءة بآية، لقراءة أبي بكر فيهما {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية (¬3)، والفضل إنّما وقع بسورة، وهو أفضل. المسألة السّابعة (¬4): قال: ومَنْ ركعهما في بيته، ثم أتى المسجد، فهل يركعهما أم لا؟ فعلى قولين: 1 - القول الأوّل: رُويَ عن مالكٌ فيهما الخلاف، فقال مرّة: يركعهما، رواه (¬5) عنه ابن القاسم وابن وهب. 2 - وروى عنه (¬6) ابن نافع؛ أنّه لا يعيدهما (¬7). تنقيح: فوجه القول الأوّل: أنَّ دخوله المسجد قد شرعَ له الرُّكوع، والوقتُ يمنعُ من ذلك، الّا من ركعتي الفجر فلزمه إعادتهما لذلك. ¬
ووجه القول الثّاني: أنّه قد أتى بهما, ولم يُشْرَع له إعادتهما كسائر الصلوات. المسألة الثّامنة (¬1): قوله: "لا صلاةَ بعد رَكعَتَي الفَجْرِ إلَّا الفَجْرِ" (¬2) قال الإمام: فهذا وإن لم يصحّ سَنَدُه صحيح المعنى؛ لانه -كما قدَّمنا- وقت يُبَادَرُ فيه إلى الصّلاة، فلا يشرع قبلها صلاة سواها؛ ولذلك نقول له: إذا دخلتَ المسجد فلم تصلّهما، فصلّهما تجمع بين فضل التّحيّة وبينهما، وإن كان صلّاهما في بيته* فقال مالكٌ وابن وهب عنه: يركعهما. وروى ابن نافع: لا يعيدهما. وهذا لفظ قَلِقٌ، إنّما يقال هل يُحَيِّى المسجد بركعتيه* (¬3) ولم (¬4) يجلس دون تحية. * فقيل: لا يُحَيِّى، للحديث المأثور: " لا صَلَاة بعد طُلُوعِ الفَجْرِ إلَّا ركعتي الفجر" وهو المتقدِّم، وليس بصحيح. وقيل: يُحَيِّى، وهو الصَّحيح، وبه أقول* (¬5) المسألة التّاسعة: قوله (¬6): "فَاتَتْهُ رَكعَتَا الفَجْرِ، فَقَضَاهُمَا بَعْدَ أنّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ" يحتمل أن يذكرهما بعد الصُّبح ويؤخِّر ذلك، وهو مذهب مالك. وقال الشّافعيّ: يصلِّيهما قبل طلوع الشَّمس (¬7). والدليل على ما نقوله: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن الصَّلاة بعد الصُّبح حتَّى تطلع الشَّمس. إكمال: رَوَى التّرمذيّ (¬8) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم: "رَكْعَتَا ¬
فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ
الفَجرِ خَيْرٌ منَ الدُّنيَا وما فيها". قال الإمام: هذا حديث صحيح بلا خلافٍ، ومن ألفاظه في الصّحيح: "أَحَبُّ إِليَّ من الدُّنيا وما فيها" (¬1). وللعلماء في هذا الحديث أغراض حِسَانٌ وفوائد جَمَّة، وتهليلةٌ واحدةٌ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، هذا بينهم أَمْرٌ متَّفَقٌ، إنّه لا خلاف في ذلك، فكيف بركعتي الفجر؟ والفائدة الثّانية فيه (¬2): التّفضيلُ بين الدُّنيا والآخرة، وإن كان لا نسبة بينهما، إلَّا على أنّهما داران ومنزلان وحالتان، إحداهما أفضل من الأخرى، وأهنأ وأبلغ في القُدْرَةِ، مع عدم الآفات والهموم. فإن قيل: إنّ ذلك خرج على مذهب من يرى أنّه لا دار إلَّا الدُّنيا, ولا وجودَ سواها. فقيل لهم: لو علمتم تلك الدّار، لحكمتم أنّها أفضل لا محالةَ، لما أَخْبَرنَا به الصّادق المختار. فضلُ صلاةِ الجماعةِ على صلاةِ الفَذِّ قال الإمام الحافظ: أدخلَ مالك - رحمه الله - في هذا الباب أربعة أحاديث: 1 - الحديث الأوّل: حديث عبد الله بن عمر (¬3)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الجماعةِ تَفْضُلُ مِنْ صلاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً". 2 - وحديث أبي هريرة (¬4)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صَلاَةُ الجماعةِ أفضلُ من صلاةِ أَحَدِكُمْ بِخَمْسةٍ وَعِشرِينَ جُزْءًا". الإسناد: قال الإمام: هذه الأحاديث صِحَاحٌ حِسَانٌ، خَرَّجَهُمَا الأيمَّة (¬5)، وأجمعت عليها الأُمَّة. ¬
الأصول (¬1): عند علمائنا وعند أبي حنيفة والشّافعيّ (¬2)؛ أنّ صلاةَ الجماعة من فروض الكفاية؛ لأنّها من شعار الدِّين، وليست عامة في جميع المسلمين، وعليها ترجم مالكٌ (¬3) بقوله: " فَضْلُ صلاةِ الجماعةِ على صلاةِ الفَذِّ" ولولا أنّ صلاة الفَذِّ مجزئةٌ، ما كان بينها وبين صلاة الجماعة فضلٌ؛ لأنّ الفضلَ فرع الإجزاء، ومن المُمْتَنِعِ ثبوت الفرع مع عدم الأصل. فإن قيل: لعلَّ المفاضلة تقع بينهما إذا كانت صلاة الفَذِّ عن عُذْرٍ؟ قلنا: هذا لا يجوز (¬4). الفقه: قال الإمام في "العارضة" (¬5): إنّ في صلاة الجماعة ثلاثة أقوال: القول الأوّل: أنّها مستحبّة، وهو الأكثر، وعليه الجمهور الأعظم؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فاضَلَ بينها وبين صلاة الفَذِّ، ولم نجد بين صلاة الجمعة مفاضلة؛ لأنّها فرضٌ على كلّ أحَدٍ. القول الثّاني: أنّها فرضٌ، قاله داود (¬6) وأهل الظاهر (¬7) الّذين لا معرفةَ لهم بأصول الشّريعة، ولا بخطاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّها لو كانت فَرْضًا لما صَحَّ للفَذِّ صلاة، واحتجوا بحديث ابن أمِّ مَكتُومِ الّذي خَرَّجَهُ أبو داود (¬8) ومسلم (¬9)؛ إذ جاءه فقال: يا رسول الله، إنِّي رجلٌ ضرِير البَصَرِ، شاسع الدَّار، ليس لي قائد يقودُني، فهل لي من رخصة؟ قال: "لا". وقال الّذي حديث: "هل تسمعُ النِّداءَ؟ " قال: نعم، قال: "أَجِب" فجعلوها فَرْضًا بهذا الحديث. ¬
الجواب عنه من ثلاثة أوجه (¬1): الأوّل: اتِّفاقُ الأُمَّة على أن العُذْرَ مُسْقِطٌ للجماعة، نعم ولأصلِ الصّلاة (¬2). وكان النّبىَّ - صلى الله عليه وسلم - يرى ما ذَكِرَ من ضَرَرِ البصر ليس بعُذرٍ، لانّه كان يتَصرَّف في حوائج نفسه، فعبادةُ رَبِّه أَوْلَى. الثاني: أنه زمانُ نفاقٍ، فَكَرِهَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له، ولو رخّص له لتَسَبَّبَ المنافقون بذلك بالأعذار الكاذبة، فكان ذلك منه تَشَدّد أو سَدّ (¬3) ذَريعةٍ، لِئَلّا تبطل صلاة الجماعة. الثّالث: قال علماؤنا: إنّ هذا السُّؤال إنّما كان في صلاة الجمعة، وهي فريضةٌ على الأعيان، وليست فريضة عامّة، ويعضدها قوله: "ما منكم مِنْ أحَدٍ إلاّ وله مسجدٌ في بَيتِهِ، ولو صَلَّيتُم في بُيُوتكُم لتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكْمْ، ولو تَرَكْتُم سُنَّةَ نبيكُم لَكَفَرْتُمْ" (¬4) فليس بمثل هذا الدليل يثبتُ فرض الإِسلام؛ لأنّ المنافقين كانوا في ذلك الزّمان يتكاسلون، فلو رخّص لأحدٍ في ذلك لبَطَلَتْ صلاة الجماعة، كما تقدَّم بيانُه، وامتزجَ المنافقُ مع الموحَّدِ المُخلِصِ فحسم الباب. القول الثاني (¬5) - قيل: إنها سُنّة، لقوله: "تَرَكتُنم سُنَّةَ نَبِيكُمْ". وقد قال بعض المتاخِّرين: إنَّ صلاةَ الجماعة ليست بفَرْضٍ ولا سُنَّةٍ، وإنّما هي فضيلةٌ لا غير، فإنْ فَعَلَها الفذُّ أجزأته صلاته؛ لأنّه قد أدّى الفَرْضَ الواجبَ عليه، وهو القول الثّالث. والصّحيحُ عندي أنَّها سُنَّة مؤكَّدة؛ لأن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دَاوَمَ على الصّلاة في الجماعة، والسُّنَنُ هي ما دَاوَمَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِعْلِها، أو ندب إليها وجعل في فعلها الثّواب. ¬
الشرح والفوائد المنثورة (¬1): قال الإمام حافظ أبي بكر -رضي الله عنه -:تحديدُ التَّفضيلِ بين صلاة الجماعة وصلاة الفَذِّ بخمسة وعشرين جزءًا، وبسبع وعشوين درجة أيضّا، هذا مِمّا لا يُوقَف عليه ولا على تعيينه، وقد تَكَلَّفَ النَّاسُ جمعها على وجه لا أَرْضَاهُ، أُنَبِّهُ عليه إنّ شاء الله تعالى. أمّا أنّه قد جاء في الصّحيح إشارة إلى ذلك في قوله: "صلاةُ احَدِكُمْ في المسجدِ تزيدُ على صلاتِهِ في سُوقِهِ، وصلاتهِ في بيته بخمسٍ وعِشْرِينَ دَرَجَة" وذلك أنّه لا يخطو خطوة إلَّا كتبَ اللهُ له بها حَسَنَة، ومحا عنه بها سيِّئَة (¬2)، وهذا ممّا لا يُدْرَكُ بالقياس، فاستعمال النّظر فيه جَهلٌ وعَنَاء. وقولُه: "في سُوقِهِ " يعني إذا صَلَّى وَحْدَهُ (¬3). مزيد بيان: قال أبو عبد الله في "المُعْلِم" (¬4) هذا المعنى في الدّرجات والأجزاء ممّا اختلفَ العلماءُ في تحصيله، فقالوا: إنّ الدرجة أصغر من الجزء، فكأَنَّ الخمسة والعشرين جزءًا جُزِّئَتْ درجات كانت سبعًا وعشرين درجة. قال الإمام الجزءُ والدَّرجة هي الصّلاة، ذكر ذلك مسلم في "كتابه" (¬5)، والتّفاضُل بينهما, أنّ تارك الصّلاة في جماعة لغير عُذْرٍ، تزيدُ عليه صلاة المصلِّى في الجماعة بسبع وعشرين صلاة. وقد قيل: إنّ قومًا خوطِبُوا بالحديث الأوّل، وْقومًا بالثّاني. وقيل: إنّ الفضل الزّائد للفَضْل في الجماعة. ¬
قال أبو عبد الله (¬1): "والأشبه (¬2) عندي بقوله: "بخَمسِ وَعِشرِينَ وسَبعٍ وعِشرِينَ جُزْءًا، راجعٌ إلى أحوال المصلِّي وحال الجماعة، فإذا كانت (¬3) متوافرة، وكان المصلِّي على غاية من التَّحْفُظِ هاكمال الطّهارة، كان هو الموعود بسبع وعشرين. وإذا كان على دون تلك الحال، كان هو الموعود بخمس وعشرين، والله أعلم". الفائدة الثّانية (¬4): في الكلام على الدّرجات والأجزاء منها في حديث أبي هريرة أربعة، لقوله: لأوذلك أنَّه إذا تَوَضَّأَ، ثمَّ خَرَجَ إلى المسجدِ" (¬5) لأنّ ذلك إشارة إلى تفسير المُجْمَلِ (¬6) المذكور في أوَّلِ الكلام، " بقوله: "لم يَخْطُ خَطْوةً إلَّا كتبَ اللهُ له بِهَا درجةٌ، وحَطَّ عنه بها سيِّئَةٌ" وقوله: "لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيتِهِ إلَّا الصّلاة - أي بِنيَّتِهِ - إلَّا رُفِعَت لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ" وقوله: "إذا صَلَّى، لم تزَلِ الملائكةُ تُصَلِّي عليه ما دَامَ في مُصَلِّاهُ " فهذه ثلاثة. وقولُه أيضًا: "فهو في صلاةٍ ما دَامَ في الصّلَاة" أو"مَا انتَظَرَ الصَّلاةَ" وفي حديث آخر: "لوْ يَعلَمُ النَّاسُ مَا لَهُم في النِّداءِ أَوِ الصَّفِّ الأوَّلِ" (¬7) الحديث. وقوله: "تَجْتَمعُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةُ اللَّيل وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ" (¬8). ومنها: لزومُ الخضوعِ والخُشوع في السَّيْرِ إلى المسجد، لقوله -عليه السّلام-: "ائتُوا الصَّلَاة وَعَلَيْكمُ السَّكِينَةُ وَالوَقار" (¬9). ومنها: لزومُ الذِّكْرِ في مسيره، وقوله - صلّى الله عليه وسلم - من حديث أبي سعيد الخُدرِيِّ، قال: "من قال إذا خرجَ إلى المسجدِ أو إلى الصّلاةِ: اللهُم إِنِّي أسأَلُكَ بحقِّ السَّائلينَ عليكَ، وبِحَقِّ مَمْشَايَ إليكَ، لم أَخْرُج أَشَرًا ولا بَطَرًا, ولا رِيَاءً ولا سُمعَةً، خرجتُ اتِّقَاءَ سخْطِكَ، وابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنّ تُبعدني من النَّارِ، وأن تُدْخِلَنِي الجَنَّةَ، وأن ¬
تغْفِرَ لي ذُنُوبِي , فإنّه لا يَغْفِرُ الذنُوبَ إلّا أنتَ. خرجَ معه سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يستغفرونَ له، وأقبلَ اللهُ عليه بوَجْهِهِ حتّى يقضي صَلاَتَهُ" (¬1) ومثلُ هذا لا يُدْرَكُ بالرَّأْيِ، ولا يكون إلَّا عن النّبيِّ -عليه السّلام-. ومنها: السّلام على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، والدُّعاء عند دخول المسجد، وعند خروجه، فهاتان درجتان. وَرَوَى النّسائي (¬2) من حديث المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدُكُم المسجدَ، فَلْيُسَلِّم على النَّبيِّ: - صلّى الله عليه وسلم - ولْيَقُلْ: اللهمَّ افتح لي أبوابَ رَحْمَتِكَ وإذا خرجَ فَلْيُسَلِّم على النَبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وليقل: اللهُمَّ اعْصِمْنِي من الشَّيطَانِ". ومنها: السلامُ عند دخول المسجد ولو كان فارغًا؛ فقد رُويَ عن ابن عبّاس في قوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية (¬3)، قال: هو المسجد إذا دَخَلْتَهُ فَلْتَقُل: السَلاَمُ علينا وعلى عباد الله الصّالحين (¬4). ومنها: الرُّكُوع في المسجد عند دخوله، فقد أمر النّبيُّ -عليه السّلام- بذلك، وهي تحيّة المسجد. ومنها: تَرْكُ الخوضِ في أَمْرِ الدُّنيا، لحرمة المسجد والصّلاة، وذِكرُ الله تعالى فيه، لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية (¬5).وكان عمر يضرب النَّاسَ على ذِكْرِ الدُّنيا في المسجد، واتَّخَذَ البطيحاء لمن أراد اللَّغَطَ فيه. ومنها: إجابةُ الدَّعوةِ حضرة النِّداء للصلاة، فقد قال -عليه السّلام-: "ساعتان تفتح فيهما أبواب السَّماء للدُّعاء: حضرة النِّداء للصَّلاة، والصَّف في سبيل الله". ومنها: اعتدالُ الصُّفوفِ وإقامتها، والتّراصّ في الصّلاة، وإلزاق الْمَنْكِبِ ¬
بالمْنْكِبِ، والقَدَم بالقَدَمِ، فقد جاء الحديث أنّ ذلك من تمام الصّلاة (¬1). ومنها: استماع قراءة الإمام والتَّدَبُّرِ لها، وقد جاء في قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} الآية (¬2) أنّ ذلك في الصّلاة. ومنها: قوله: "ربَّنَا ولَكَ الحمدُ" إذا قال الإمام: "سَمعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ" كما جاء في الحديث (¬3). ومنها (¬4):التَّأمِينُ، وموافقةُ تأمين الملائكة، ودعائهم للمصلَّين، كما جاء في الحديث (¬5). والموافقةُ هنا ما قدَّمنَاهُ في باب التأمين على الأقوال الخمسة: إمّا أنّ يوافقَ اللَّفْظُ اللَّفظَ. وقيل: هو الإخلاص. وقيل: في المُدَّةِ. وظاهرُ اللَّفظِ يشهد للزَّمان. وأمّا أنّ يوافِقُ اللَّفظَ اللّفْظَ، فهو خطأٌ؛ لأنّ المُصِرَّ على الكفْرِ لو وافَقَ تأمين الملائكة لم يغفر له. والصّحيح أنّه لا يوافق تأمين الكُفَّار، وإنّما يوافقُ تامينَ المخلِصين للهِ في العبادة (¬6) , لقوله: "موافقة" المعنى: وحينئذ يغفر له. ومنها: شهادةُ الملائكةِ لمن حضَرَ الجماعة، لقوله مُخْبِرًا عن الملائكة: "أتيناهم وهم يُصَلُّون، وتركناهم وهم يُصَلُّون" (¬7). ومنها: تَحَرِّي موافقة الإمام، فلا يختلف على الإمام في القول والعمل، لقوله -عليه السّلام- "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُوتَمَّ به فلا تختلفُوا عليه" (¬8). ¬
ومنها: الاعتصام من سَهوِ الشَّيطان، لقوله: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ" (¬1) ولا يجوز على الجماعة كلِّها السَّهو، فَتَمَّتْ سبعًا وعِشْرِينَ دَرَجَة. نكتةٌ (¬2): فإن قال قائل: ما مَعْنى اختلاف الدَّرَجَة والأجزاء في الآثار" فمرَّة قال: "بخمس وعشرين" ومرة قال: "بسبع وعشرين درجة". الجواب: أنّ الفضائل لا تُدْرك بالرَّأي، وإنّما تُدْرَك بالتَّوقيفِ، وهذا الاختلاف له معنى صحيح يُؤَيَّد بعضه بعضًا. وذلك أنَّه يحتمل أنّ يكون النّبيَّ -عليه السّلام- أَعْلَمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أنّ فضل صلاة الجماعة على صلاة الفَذِّ بخمس وعشرين جُزْءًا، ثم زاد عَزَّ وَجَلَّ في فضل الجماعة درجتين، فَكَمُلَتْ سَبْعًا وعشرين. وفيه وجه آخر: يحتمل أنّ تكون السَّبع والعشرون الدَّرجة للعِشَاء والصُّبح، وتكون خمس وعشرون لسائر الصلوات، والله أعلم. 3 - الحديث الثّالث: مالكٌ (¬3)، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "وَالَّذي نفسي بِيَده، لقد هَمَمْتُ أنّ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَب، ثمَّ آمُرَ بالصّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لها، ثمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُم النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رجالٍ فَاُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُم. والَّذِي نفسي بِيَدِهِ لو يجدُ أحدُهم عَظْمًا سمينًا، أو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاءَ". الإسناد: قال الإمام هذا حديثٌ صحيحٌ خرَّجَهُ الأيمّةُ (¬4) اقتداءً بمالك - رضي الله عنه -: الفو ائد: فيه ثلاث فوائد: ¬
الفائدة الأولى: استدل جماعة من العلماء بهذا اللَّفْظِ على أنَّ شُهودَ الجماعة ليس بواجبِ، لما لم ينفذ ما أهمَّ به، وليس هذا بصحيح (¬1)؛ لانّه قد توعَّد على التخلُّف عن الصّلاة، ولا يتوعّد إلَّا في ترك الواجب. قال الإمام: والصحيحُ في هذا -والله أعلم- أنّ هذا الحديث في قومٍ مخصوصينَ من المنافقين ممّن كان لا يعتقد فَرْضَ الصّلاة، ويعلم من حاله الاستخفاف بها. تَبَيَّنَ (¬2) بذلك أنّه لابدّ أنّ يكون. هؤلاء المتخلِّفونَ عنها مَوْسُومِينَ عندَهُ بذلك بالتّكرَارِ لفعلهم لذلك، أو بِوَحْيٍ أو بغير ذلك؛ لأنّه لا يجوز أنّ يهمَّ بذلك إِلَّا فيمن يعتقد منه الاستخفاف والتّضَييع. ولذلك أُعْلِمَ صلّى الله عليه من حالهم أنّهم أشدَّ مسارعةً إلى مِرمَاتَين، ولا يكون هذا إلَّا فيمن استخفَّ أَمْرَها ولا يعتقد وُجُوبَها (¬3). الفائدة الثّانية (¬4): قوله: "ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا، فَيَؤُمَّ الناَّسَ ثم أُخَالِفُ إلى رجالٍ فَأحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ" قال علماؤنا (¬5): هذا دليلٌ واضحٌ أيضًا على أنّ حضور الجماعة ليس بفَرْضٍ على ¬
الأعيان؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يخبرُ عن نفسه بما يكون فيه معصية. الفائدة الثّالثة (¬1): قوله: " فَأحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ" فيه بيان أنّه هَمَّ أنّ يُوَدِّبَ بإتْلافِ الأموالِ على سبيل الإبلاغ في النّكاية (¬2). ويحتمل أنّ يريد: تشبيه عقوبتهم بعقوبة أهل الكُفْرِ في تحريق بيوتهم وتخريب. ديارهم. نكتةٌ لغوبة: قوله: "لو يَعْلَمُ أَحَدُهُم أنْه يَجِدُ عَظْمًا سمينًا" يعني بذلك لحمًا، فكَنَّى بالأَدْنَى عن الأَعْلَى، ومِنَ العرب من يفعل ذلك كثيرًا. وقولُه: "مَرْمَاتَيْنِ" اختلف الشّارحون للحديث في هذه اللفظة، فقال الأخفش (¬3): "المَرْمَاتَانِ وَاحِدُها مرماة، وهي حديدةٌ لها طرفٌ كَطَرَفِ السِّنَانِ كانوا يقاتلون (¬4) بها في الجاهلية". وقال (¬5) ابنُ وَضاح: هي حديدة كالسِّنان كانوا يُكَوِّمُونَ كَوْمًا من تُرابٍ، ويقفون منه على أَذْرُعٍ يرمونه بتلك الحديدة، فايّهم أثبتها فقد غلب. وقيل: المِرْمَاتَان السَّهمان، رواه ابنُ حبيب (¬6) عن مالكٌ. وقال أبو عُبَيْد (¬7): "المرماتان: ما بين ظلفَي الشّاة" وقال (¬8): "هذا حرفٌ لا أدري ما هو ولا ما وجهه، إلَّا أنّ هذا تفسيره". قال الإمام: وإنّما قال ذلك النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على معنى التّحقِيرِ لما يُؤْثِرُهُ المنافقون ويبادرون إليه. ويتخلَّفون مع ذلك عن العشاء والصُّبح. ¬
ما جاء في العتمة والصبح
حديث مالكٌ (¬1)، عن أبي النَّضْرِ، حديثٌ موقوفٌ (¬2)، وهو أيضًا حديثٌ مرفوعٌ عن زيد، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬3)، ويَتَّصلُ من وجوه صِحَاحٍ (¬4). الفقه (¬5): قوله (¬6): "أفضلُ الصّلاةِ صَلاتُكُم في بيوتِكُم، إلَّا المكتوبةِ" يعني بذلك أنَّ المكتوبةَ إظهارها والاجتماع إليها أفضل، وأمّا التّنفُّل ففي البيوت أفضل؛ لانّ الإخفاءَ (¬7) والاستتار بها أفضل وأسلم من الآفات، وقد رَوَى ابنُ القاسم عق مالك؛ أنّ التَّنفُل في البيوت أفضل من التَّنفُلِ في مسجد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - صلّى الله عليه، إلَّا للغُرَبَاء فإنّ تَنَفُّلَهُمْ في مسجد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ. ما جاء في العَتَمَة والصُّبْح الترجمة: روع ابنُ بُكَيْر في "موطئه" (¬8) أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "بَينَنَا وبينَ المنافقينَ شُهُودُ العَتَمَةِ والصُّبْحِ" فتعلَّقَ بالتَّرجمةِ، وكذلك رواه القَعْنَبِيُّ (¬9)، وعند يحيى بن يحيى (¬10) "شهودُ العِشَاءِ والصُّبْحِ" بخلاف التَّرجمةِ، وهو الصّحيح. الفقه (¬11): قال أشياخنا (¬12): هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الّذين كانوا يتخلَّفونَ عن الصّلاة ¬
هم المنافقون، وأن بحضور (¬1) هاتين الصّلاتين يَتَمَيَّزُ المؤمنُ من المنافقِ. وقد جمع معنى الحديثين أبو صالح في روايته (¬2)، وقد قال النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬3): "لا يَسْتَطِيعُونَهُمَا"، والظاهر من هذا الحديث أنّه أراد به التأكيد في حضورهما في الجماعات والمساجد، ومفارقة حال المنافقين بالتّخَلُف (¬4) عنها. تكملة (¬5): وقوله: " أَوْ نَحْو هذا"،: يحتمل أنّ يكون شَكًّا من الرَّاوي. ويحتملُ أنّ يكون على معنى التَّوَقِّي في العبارة عنهما، مع ما رُوِيَ عن ابن مسعود؛ أنّه كان يفعل ذلك في حديث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. حديث مالكٌ (¬6)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بَكرٍ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: بَينَمَا رجلٌ يمشِي بطريقٍ، إذ وَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ على الطَّرِيق، فأَخَّرَهُ (¬7)، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ، خرَّجَهُ الأيمّة (¬8)، وهو أشهر من أَنْ أُنَبِّهَ عليه. قال علماؤنا (¬9): نبَّهَ بذلك على تعلُّقه (¬10) بالتّرجمة في أوّل الباب على رواية يحيى؛ أنّه ذكر المنافقين، وقال: "بَيْنَنَا وَبَيْنَهُنم إتيانُ العِشَاءِ والصُّبْحِ" ثمّ أدخلَ هذا الحديث، وبَيَّنَ به أنّ الفعلَ وصِغَرِهِ في نفسي، فكف العشاء والصّبح (¬11) ¬
! وهذا حَضٌّ على المبادرة إلى إتيانها. إيضاح مشكل (¬1): قوله: "فَشَكَرَ اللهُ لَه" يحتمل أنّ يريد: جازاهُ الله على ذلك يالمغفرةِ، وأَثنَى عليه بما اقتضى المغفرة له. ويحتمل أنّ يريد به أحد (¬2) المؤمنين بشكره له (¬3) والثناء عليه (3). وقد وصف الله تعالى نَفْسَهُ بالشُّكرِ، فقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} (¬4) وقوله: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ" يأتي بيانُه في كتاب الجنائز إنّ شاءَ اللهُ. حديث عمر بن الخطّاب (¬5)؛ أنّه فَقَدَ سُلَيْمَانَ بن أبي حَثْمَةَ في صلاة الصُّبحِ. فيه فوائد: الفائدة الأولى (¬6): قوله: "فَقَدَ سُلَيمَانَ" يدلُّ على مواظبة الصّلاة في الجماعةِ، الصُّبح وغيرها، ولذلك أَوْجُه: أحدها أنّه مختص به للقَرَابَةِ الّتي بينهما، وسؤاله عنه من مكارم الأخلاق ومواصلة الأهلين، فسأل عنه لأنّه قد يجوز أنّ يحبس سليمان عن الجماعة عُذْر مرضٍ أو غيره. الفائدة الثّانية: قوله: "لأنّ أَشهَدَ صلاةَ الصُّبْحِ في جماعةٍ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنّ اْقُومَ ليلةً" هو حضٌ على شُهُودِ الجماعةِ. حديث: قولُ عثمان بن عفُان في صلاة العِشَاءِ والصُّبحِ (¬7)، صحيحٌ ¬
إعادة الصلاة مع الإمام
لفْظًا (¬1). وقوله: "جاءَ عثمانُ إلى صلاةِ العِشَاءِ فرأَى أهلَ المسجدِ قَلِيلًا، فاضْطَجَعَ في مُؤَخَّرِ المسجدِ". قال علماؤنا (¬2): إنّما فعل ذلك لأنّه من آداب الأيمّة ورِفْقِهِمْ بالنّاسِ، وانتظارهم الصّلاة إذا تأخّروا، وتعجيلها إذا اجتمعوا، وقد رَوَى جابِر عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه كان يفعلُ ذلك في صلاة العشاء، فكان (¬3) فعل عثمان لذلك اقتداءً به - صلّى الله عليه وسلم -. الفائدة الثّالثة (¬4): قوله: "فَأَتَى (¬5) ابن أبي عَمْرَةَ فَجَلَسَ إَلَيهِ" يحتمل أنّ يكون جلس إليه ليقتبسَ منه عِلْمًا، ويقتدي به في عَمَلٍ، أو يسأله حاجة، فسأله مَنْ هُوَ وما معه من القرآن. قال علماؤنا (¬6): وهذا أيضًا اهتبالٌ من الأيمّة بأحوال النّاس وبما يحصلُ معهم من العلم والقرآن، وتعرف منازلهم بذلك (¬7). وإخبارُ عثمان له بذلك بما كان معه (¬8) من العلم في صلاة الصُّبحِ والعِشَاء لَمَّا رآه أهلًا لذلك، ولَمَّا رَجَا أنّ ينشط بذلك على المواظبة عليها. وهذا يدلُّ على أنّ حُضُورَ الجماعةِ ليس بفَرْضِ على الأَعْيَانِ؛ لأنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سَاوَى بينها (¬9) وبين النّوافل، ولا يعدل الفَرْضُ النَّفْلَ ولا يساويه، أَلَاَ ترى أنّه مَنْ تركَ صلاة فَرْضٍ لا يُجْزِىء عنه قيام ليلة. إعادةُ الصّلاةِ مع الإمام مالكٌ (¬10)، عن زيد بن أسلم، عن رَجُلٍ من بني الدِّيلِ، يقال له: بُسْرُ ابْن ¬
محجَنٍ، عن أبيه (¬1)؛ أنّه كان في مَجلِسٍ مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَأُذِّن بالصلاةِ. الحديث إلى آخره. الإسناد: قال الإمام: حديثُ مِحْجَنٍ صحيحٌ (¬2)، واخْتُلِفَ في اسمه. فقيل: بسر. وقيل: بشر (¬3). وأحاديثُ إعادة الصّلاة مع الإمام ثلاثة: الحديث الأوّل: حديث مِحجَن هذا الّذي ذَكَرَهُ مالك. وحديث سعيد ابن المسيَّب (¬4). والثّالث حديثُ يَزِيد بن الأَسوَد، رواه التّرمذي (¬5)، قال: "شَهِدْتُ مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حَجَّتَهُ، فصلَّيتُ معه صلاةَ الصُّبحِ في مسجدِ الخَيْفِ، فلمَّا قَضَى صلاتَهُ وانْحرَفَ؛ إذ هو برَجُلَيْنِ: أحدُهما جالسٌ في آخرِ المسجدِ، أو في آخِرِ القَوْمِ، لم يُصَلِّيَا معه، فقال: "عَلَىَّ بِهِمَا" فجيءَ بهما تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا. فقال: "ما مَنَعَكُمَا أنّ تُصَلِّيَا معنَا؟ " فقالا: يا رسولَ الله، إنَّا كُنَّا قد صَلَّينَا في رِحَالِنَا. قال: "فلا تَفْعَلَا، إذا صَلَّيتُمَا في رِحَالكما ثمّ أتَيْتُمَا جماعة، فَصَلِّيَا مَعَهُمُ، فإنّها لَكُمَا نَافِلَةٌ". العربية (¬6): قوله: "فَجيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا" الفريصةُ: لحمة في الجنب تَتَّصِلُ بالقَلْبِ ترعد عند الفَزَعِ (¬7). ¬
الأصول: اعلموا - أنار اللهُ قلوبكم للمعارف - أنّه لا صلاةَ في يوم واحدٍ مرَّتَين، إلَّا أنّ الشّريعة أذنت في إعادة صلاة الفَذِّ في الجماعة لفائدتين: إحداهما خاصّة، وهي استجلاب الأَجْرِ للمصلِّي. والثّانية عامّة، وهي تنقسم قسمين: أحدهما: إظهار شعار الدِّين. والثّاني: نفي الرّيبة والتُّهمة وسوء الظَّنّ، أَلاَ ترى إلى قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "ألَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمِ". وقال القاضي أبو الوليد (¬1): "قوله: "أَلسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ" يقتضي (¬2) معنيين: أحدهما: التّوبيخ، وهو الأظهر، أَنَّه إنّما ذهب إلى توبيخه على ترك الصّلاة مع الجماعة الّتي لا يتركها مسلم، لكانما تركها من علامات النِّفاق. والوجه الثّاني: قد يحتمل أنّ يريد بقوله: "أَلسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ" الاستفهام والتّوبيخ أيضًا, ولا يقتضي قولُه أنَّ من لم يُصّلِ مع النّاس فليس بمسلمٍ، وهذا ممّا لا يقوله أحد، وإنّما ذلك كما يقول القائل لمن علم أنَّه قرشيٌّ: مالك لا تكون كريمًا، ألَسْتَ قرشيًا؟ لا يريد بذلك نفيه عن قريش، وإنّما يُوبِّخه لأنّه ترك أخلاق قريش". الفقه: إذا صلّى وَحْدَهُ ثمّ أدرك الجماعة، هل يصلِّي معهم أم لا؟ فيه للعلماء أربعة أقوال (¬3): القول الأوّل: أنّه يصلِّي معهم كلّ صلاةٍ، قاله الحسن، والزّهري، وأحمد، وإسحاق، والشّافعىّ. الثّاني: يصلِّي معهم كلّ صلاة إلَّا الصُّبح والمغرب، قاله ابن عمر، والنّخَعي، والأوزاعي. ¬
الثّالث: لا يعيدُ الصُّبح والعصر والمغرب، قاله أبو حنيفة (¬1). القولُ الرّابع: لا يعيدُ المغرب وحدها، قاله مالكٌ (¬2)، والثّوريّ. تنقيح: قال الإمام: وَوَجْهُ القول الأوّل: عمومُ الحديث. ووجهُ القول الثّاني: أنّ مالكًا قال: وجدتُ العملَ في المدينة على المغرب وحدها (¬3). ووجه (¬4) القول الرّابع: أنّه قال: يعيد إلَّا الصّبح، فلا يعمل به ولا يُعَوَّل عليه. وسقطَ قولُ أبي حنيفة. تركيب (¬5): فإذا صلّاهُمَا، فأيّتهما صلاته؟ فرُوِيَ عن عبد الله بن عمر (¬6) وسعيد بن المسيِّب (¬7)؛ أنّهما قالا: ذلك إلى الله تعالى، يَعْنِيَانِ القَبُول، فيتركَّب على هذا: أنّ الرَّجُل إذا صلَّى وأعَادَ في الجماعة، وكانت إحدى صلاته على غير وضوء، والثّانية بوضوء, وذلك (¬8) سَهْوٌ، فأيّهما صلاته؟ فقال ابنُ القاسم: تُجْزِئه. ووبَّخهُ ابن الماجِشُون وقال: كيف تجزئ سُنّة عن فَرْضٍ. وهو كلامٌ قَوِيٌّ. فإن صلّاها ثانية، فذكر في أوّل ركعةٍ قبل أنّ يعقدَهَا خَرَجَ. فإن عقَدَها أضافَ معها أخرى وسلَّمَ. ¬
فإن سَهَا، فليأتِ برابعةٍ لها بِالقُرْبِ، فإن طالَ ذلك، فلا شيءَ عليه. نَصَّ عليه مالك. وقال غيره من العلماء: يُصَلِّي المغرب ثالثه بعد أنّ يسلِّم مع الإمام فيعودُ شَفْعًا. والأوَّلُ أصحّ. وإذا صلّى في جماعةٍ، فلا يصلِّي في جماعةٍ أخرى، إلَّا في المساجد الثَّلاثةِ. ومنَ علمائنا من قال في الجوامع فضل على المساجد، ولا يُعَوَّلُ على ذلك؛ لأنّه ليس فيه أَثَرٌ ولا دَلِيلٌ (¬1). المسألة الثّالثة (¬2): قوله (¬3): "إذا جِئْتَ فَصَلِّ معَ النَّاسِ" يريد إذا جئت المسجدَ فهذا أَمْرٌ، له أنْ يصلِّي مع النّاس. ولا يخلو أنّ يأتي قبل أنّ تُقَامَ الصلاةُ، أو حين إقامتها، أو بعد إقامتها. فإن أَتَى قبلَ أَنْ تُقَامَ، فإنَّ لَهُ أنّ يخرجَ من المسجدِ ما لم تقم الصَّلاة وهو في المسجد، قاله ابن الماجِشُون. ووجه ذلك: أنّ الصّلاة لا تلزمه معهِم إلَّا بإقامتها عليه؛ لأنّ الصَّلاة إنّما تلزم بالأذَانِ لمن كان في المسجد ولم يكن أَدَّى فَرْضَها. المسألة الرّابعة (¬4): فإنْ أَتَى المسجدَ فوجدَ الصَّلاةَ تُقَامُ، أو وَجَدَهُم قد شَرَعُوا في الصّلاة، فعليه أَنْ يصلِّيها معهم. ووجه ذلك: أنّ الصّلاة قد تَعَيَّنَتْ عليه لدخوله المسجدَ في ذلك الوقت، أو دخول (¬5) موضع لا تجوز له فيه ركعتا الفجر. فامّا مَنْ رأى النَّاس يصلُّون وهو مارٌّ، فإنّه لا تلزمه إعادة الصّلاة. وقال في ¬
"المبسوط": ولا يدخل المسجدَ وليرجع، فإنَّ (¬1) بدخوله يُوجِبُ على نفسه أن يتعمَّدَ الصّلاة مع الإمام بعد أنّ صَلَّى وَحْدَهُ، وذلك ممّا لا ينبغي. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3): "وإنْ كُنْتَ قد صَلَّيْتَ" فيحتملُ أيضًا فَذًّا أو في جماعةٍ. ويحتملُ الفَذِّ خاصّةً؛ لأنّه (¬4) إنّ حملَ على الأغلب من أحوال النّاس في أنّ مَنْ صلَّى في بيته صلَّى فَذًّا، قصر (¬5) على الفذِّ، وبهذا قال مالكٌ وأبو حنيفة والشّافعيّ. وقال (¬6) أحمد وإسحاق أنّ ذلك في الفَذِّ وغيره. والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور: ما رُوِيَ عن سليمان بن يَسَار؛ أنّه قال: رأيت ابن عمر جالسًا على البلاط والنّاسُ يصلُّونَ. قلتُ: يا (¬7) أبا عيد الرحمن، مالكٌ لا تُصَلِّي؟ قال: إنِّي قد صلَّيْتُ، إنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُعَادُ الصَّلاةُ في يوم مَرَّتَيْن" (¬8). قال الإمام (¬9): ودليلُنا من جهة القياس: أنَّ هذه الصّلاة فَرضٌ أداؤها مع الإمام، فلم يكن مأمورًا بإعادتها مع إمام غيره كالْعَصْرِ، وهذا في الجماعات ومساجد الآفاق (¬10). نكتةٌ لغوية (¬11): قوله (¬12): "فإنْ فَعَلتَ فَلَكَ (¬13) سَهْم جَمعٍ، أو مِثْلَ سَهْم جَمْعِ" قال ¬
العمل في صلاة الجماعة
الأخفش (¬1): "الجمعُ الجيشُ، قال الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} (¬2) وقال (¬3): وسهم الجمع هو السَّهْمُ من الغَنِيمَةِ". وقال ابنُ وهب: معنى ذلك أنَّ له سَهْمَينِ من الأَجْرِ. ويحتمل عندي (¬4)؛ أنّ ثوابه مثل سهم الجَمْعٍ (¬5) من الأجر كما قال. ويحتمل أنّ يريد به: مِثْلُ سَهْم من يَبِيتُ بالمزدلفة في الحَجِّ (¬6)؛ لأنّ جَمْعًا اسم المزدلفة، حكاهُ ابن سحنون عن مُطَرِّف، فلم يعجب سحنونًا. ويحتمل أنّ يريد به: سهمًا بين الصّلاَتين: صلاة الفَذِّ وصلاة الجماعة، والله أعلم. العمل في صلاة الجماعة مالك (¬7)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا صَلَّى أَحَدُكُم بالنَّاس، فَليُخَفِّفْ؟ فإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمُ وَالضَّعِيفُ وَالكَبِيرُ (¬8)، وإذا صلَّى أحدكم لنَفْسِهِ فَليُطِل مَا شَاءَ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬9)، خرَّجَه الأيمّة (¬10) بألفاظ مختلفة. ¬
الفقه: قوله (¬1): "فَلْيُخَفِّفْ " يريد التّخفيف من القراءة والرّكوع والسجود الّذي لا يبلغُ الإخلال بالفَرْضِ، وإنّما التَّخفيف ممّا زاد على الفَرْضِ الّذي لا تُجْزِى (¬2) إلَّا به. والدّليلُ على ذلك: ما رُوِيَ عن أنس؛ انّه قال: "كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يُوجِزُ الصَّلاة ويُكْمِلُهَا" (¬3) وحديث معاذ بن جبل؛ أنّه طوّل في الصّلاة, وقرأ فيها بسورة البَقَرَة، فشكاهُ قَوْمُهُ إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: " أفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ، إذا صلَّى أحدكم بالنّاس فَلْيُخَفَّفْ، فإن فيهم الضّعيف والسّقيم وذَا الحَاجَةِ" (¬4) فَأَمَرَهُ بالتَّخْفِيف في القراءة بعد أنّ يُتِّم الرُّكوع والسُّجود. وقد قال بعض العلماء: مِنْ حديثِ معاذ يخرج جواز صلاة المفترض خَلْفَ المُتَنَفِّلِ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. حديث مالكٌ (¬5)، عن يحيى بن سعيد؛ أنّ رَجُلًا كان يَؤُمُّ بالعَقِيقِ، فأَرْسَلَ إليه عمرُ بن عبد العزيز ونهاه. وقال (¬6) إنّما نهاه, لأنّه كان لا يُعْرَفُ أَبُوهُ. الفقه: اختلفَ (¬7) النّاسُ في وَلَدِ الزِّنَا، هل يكون إمامًا راتبًا أم لا؟ على قولين: الأوّل: مذهب (¬8) مالك - رحمه الله - أنّه يكره ذلك (¬9). فإن أمَّ جازَتْ صلاة من ائتَمَّ به، وبه قال اللَّيْث والشّافعيّ. والقولُ الثّاني: قال ابن دينار: لا تُكْرَهُ إمامته إذا كان في نفسه أَهْلًا لذلك، وبه ¬
قال الأوزاعيّ (¬1) والثّوري وابن عبد الحَكَم. والدليل على ما ذهب إليه مالكٌ: أنّ موضعَ الإمامة موضع رِفْعَةٍ وكمالٍ (¬2)، وصاحِبُهُ يُنَافَسُ ويُحْسَدُ، ومن كان على هذا (¬3)، يكره له أنّ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ (¬4) لألسنة النَّاسِ. والدليل على رفعة ذلك: أنّ الخلفاء يقومون بذلك، فيُكْرَهُ أنّ يقومَ بذلك من فيه شيءٌ من النّقائص، أَلاَ ترى أنّه لا تكون المرأة إمامًا لنُقْصَانِهَا. المسألة الثّانية (¬5): في ذِكْرِ الأسباب المانعة من ذلك (¬6)، وهي على ضربين: أحدهما: يمنع صحّتها. والثّاني: يمنع فضيلتها. فامّا ما يمنع صحّة الإمامة عند مالكٌ، فعلى ثلاثة أَضْرُبٍ. أحدها: الاُنوثةُ. والثّاني: الصِّغَرُ وعدم التّكليف. والثّالث: نقصُ الدِّين. تفصيل: أمّا الأنُوثة، فإنّ المرأةَ لا تَؤُمُّ رجالًا ولا نساءًا في فَرْضٍ ولا في نافلةٍ (¬7). ولا يثبت فيها أثرٌ ولا شيء يُعَوَّلُ عليه، وبهذا قال أبو حنيفة (¬8) والشّافعيّ (¬9) وجمهور ¬
الفقهاء. وروى ابن أَيمن (¬1): تَؤُمُّ المرأةَ (¬2)، ووافقه الطّبرّيّ وداود (¬3). قال: لا تؤمُّ المرأة الرِّجال ولا النِّساء. والدّليلُ على صِحَّةِ هذا (¬4) القول: أنّ هذا جنْسٌ وُصِفَ في الشَّرعِ بنقصان العقل والدِّينِ، فلا تصحّ إمامته كالكافر (¬5). فإذا ثبتَ هذا، فمن صلَّى خَلْفَ امراة أعاد أبدًا، قاله ابنُ حبيب، وهي: المسألة الثّالثة. المسألة الرّابعة (¬6): وفي "نوازل سحنون" إنْ كان الخُنْثَى ممّا يُحكَم له بحُكْمِ النِّساء، أعادَ أَبَدًا مَنِ ائْتَمَّ به. وإن كان ممن يُحْكَمْ له بحُكْمِ الرِّجال فلا إعَادَةَ عليه. المسألة الخامسة (¬7): إمامةُ الصّغير روى ابنُ القاسم عن مالك في "المدوّنّة" (¬8) أنّه لا يؤمّ الصّبىّ رجالًا ولا نساءً، في فريضة ولا نَافِلَةٍ. وفي"العُتْبِيّة" (¬9) من سماعِ أشهب، عن مالكٌ: "فأمّا النّوافلُ، فالصِّبيانُ يَؤُمُّونَ النَّاسَ فيها، ويقومون في رمضان ولا بأس بذلك". وقال أبو مصعب (¬10): إنْ أمَّ الصّبيُّ مَضَتْ صلاة من ائتَمَّ به، وبه قال الشّافعيّ (¬11). ¬
والدّليل على ما نقوله: أنّ هذا غير مكلَّفِ، فلم يجز الائتِمَام به كالمجنون، فَمَنْ صلَّى معه، فإنّه يعيدُ أَبَدًا، قاله ابنُ حبيب، وبه قال أبو حنيفة (¬1). قال القاضي (¬2): وهذا مَبْنِيٌّ على أنّه (¬3) لا يجوز أنّ يصلِّي أحدٌ الفريضةَ وراءَ من يصلِّي النّافلة. وقول أبِي مُصْعَب يحتملُ عندي وجهين: 1 - أحدُها: أنّ هذه الصّلاة جازت وراء الصّبىِّ لَمَّا صلّاها بنِيَّة الفَرْضِ، فعلى هذا لا تجوز الصّلاة وراء المُتَنَفِّل. 2 - ويحتملُ أنّ يُبْنَى على تجويز صلاة الفريضة خَلْفَ المُتَنَفِّل؛ لأنّ صلاة الصَّبىِّ نافلةٌ، وهو مذهب الشّافعيّ. والدَّليلُ على المنع من ذلك: أنّ كلَّ مَنْ أدَّى بنيَّةِ إِمَامِهِ أجزأته (¬4)، فإذا أَدَّاها بغير نيَّتِهِ لم تجزئه كالجمعة. المسألة السادسة (¬5): أمّا الّنقصان في الدِّين، فإنه فِسْقٌ وكُفْرٌ. فأمّا الفسقُ، فقد حَكَى القاضي أبو محمد عبد الوهّاب (¬6) عن مالك؛ أنّه يمنع صِحَّةَ الإمامةِ، وحكاه ابن القصّار (¬7). والدليل على ذلك: أنّ هذا نوع فِسْقٍ يجب أنّ يمنع الإمامة كالكُفْر. المسألة السابعة (¬8): من صلَّى وراءه (¬9)، فقد قال الأبْهَرِيُّ: إنّ ذلك على قسمين (¬10): فما كان بتأويلٍ أَعَادَ في الوقت. وما كان فسقًا باجماعٍ أعاد أبدًا. ¬
وليس هو ممّن تجوز (¬1) إمامته، إلَّا أنّ يكون الوالي الّذي تؤدَّى إليه الطّاعة، فلا إعادة على من صَلَّى وراءَهُ، إلّا أنّ يكون في وقت ذلك سكران، وكذلك قال لي من لقيتُ من العلماء من أصحاب مالك، وقد خَالَفَ ابن وهب من رواية ابن الحسن عنه (¬2)، فقال: لا يصلَّى خَلْفَ عاصرِ الخمر، فمن صلَّى وراءَهُ لم يُعِدْ، وهذا يقتضي أنّ الفِسْقَ بإجماعٍ لا يمنعُ صِحَّةَ الائْتِمَامِ. ووجه القول الأوّل: أنّ الإمامةَ مبنيَّةٌ على الفضيلة في الدِّين، ولا شكَّ أنَّ المرأةَ أَتَمّ دِينًا من الفاسقِ، ومن صلَّى وراءها أَعَادَ أيدًا. ومن صلَّى وراءَ الفاسقِ أوْلَى وأحرَى أنّ يُعِيدَ. المسألة الثامنة (¬3): وأمّا النقائص الّتي تمنعُ فضيلة الإمامة فالأُنوثة وما يَقرُبُ من الأُنوثة، والنّقائص الّتي تحطُّ المنزلةَ. فأَمّا ما يمنعُ كمالِ الفَرْضِ، فمنه الرِّقّ، فيُكْرَهُ للعبدِ أنّ يكون إمامًا رَاتِبًا. فروى ابنُ زياد عن مالكٌ؛ أنّه قال: لا يؤُمُ العبدُ الأحْرَارَ، إلَّا أنّ يكون يقرأ القرآن وهم لا يقرؤون في موضع الحاجة. وقال ابن الماجِشُون: يَوُمُّ العبدُ راتبًا دائِمًا. والدليل على ذلك: إمامة سالم مَوْلَى إبي حُذَيْفَة يالمهاجرين وكبار الصحابة؛ لأنّه كان أقرؤُهُم؛ لأنّه كان ممّن جَمَعَ القرآن. المسألة التّاسعة: إمامةُ الأعرابىّ للحضَريِّين وإن كان أقرؤهم (¬4). وقال علماؤنا: إنْ كان الأعرابيُّ عالمًا فهو والحَضَريّ سواءٌ. ولكن الكلام خرج ممّن كره إمامته على الأغلب ممّن جهلهُمْ بحدود الصّلاة، وكرهَ إمامَتَهُ مالكٌ وأبو مجلز، وأجازَ إمامته الثّوريّ وأبو حنيفة (¬5) والشّافعي إسحاق. ¬
قال الإمام (¬1): ويحتملُ هذا الكلام وجهين: أحدهما: ما ذَكَرَهُ ابن حبيب، وهو جَهْلُه بِسُنَنِ الصَّلاة. والثّاني: وهو الأصحّ (¬2) عندي أنّ يكون ذلك لأنّه يستديم نقص الفضائل والفرائض فامّا نقص الفرائض، فلأنّه ليس من أهل الجمعة. وأمّا نقص الفضائل، فلأنّه لا يشهد الجماعات. المسألة العاشرة (¬3): أمّا ما تقْرُبُ من الأُنوثة، فكالخصيَّ، فقال مَالك (¬4): لا يكون إمامًا راتبًا، قال ابنُ حبيب - رحمه الله -: فَنَجَا به ناحية التأنيث. وقال ابن الماجشُون وابن دينار: لا بأس أنّ يكون الخصيُّ إمامًا راتبًا في الجُمُعَة وغيرها. توجيه: قال الإمام: ووجه قول مالكٌ: أنّ حَالَهُ تقربُ من الأنُوثة، فوجبَ أنّ يكون ما قَرَبَها مثلها, ولا يلزم سوى ذلك. ووجه القول الثّاني: أنّ قطع عضوٍ من أعضائه لا يمنع من استدامةَ الائْتِمَام به، كقطع اليد والرِّجْلِ، فعلى (¬5) هذا يكونُ إمامًا عند الضّرورة ولا يكون إمامًا راتبًا. المسألة الحادية عشرة (¬6): وأمّا ماكان نقصًا في الخِلْقَةِ، فإنه على ضربين: أحدهما: أنّ يكون العُضْوُ الناقص له تعلُّقٌ بالصّلاة، أو لا تَعَلُّقَ له بها ولم يقرُبْ من الأنُوثة، فإنّه لا يمنع صحَّة ولا فضيلتها، كالأعمى والأصمّ. وإن كان له تعلّق بالصلاة، فلا يخلو أنّ يتعلَّق بها تعلّق فضيلةٍ أو فريضةٍ، كاليد الّتي يتعلّق بها السُّجود وغيره. فالّذي عليه جمهور أصحابنا؛ أنّ ذلك يمنعُ الائْتمامَ ¬
صلاة الإمام وهو جالس
بِهِ , ورَوَى ابن الحسن (¬1) عن ابن وهب منع هذا. المسألة الثّانية عشرة (¬2): إمامةُ الأقطع قال ابنُ وهب: لا أرى إمامته كان حَسُنَتْ حالُه. المسألة الثّالثة عشرة (¬3): الأشلُ هل يكون إمامًا أم لا؟ فقال علماؤنا (¬4): إنّ لم يَقدِر أنّ يضع يده بالأرضِ فلا يكون إمامًا، وإن كان يقدر على ذلك فيكون إمامًا. المسألة الرّابعة عشرة: إمامةُ الأعمى هي جائزة عند علمائنا المالكية أجمع. المسألة الخامسة عشرة: إمامةُ الأصمَّ إنّ كان من أهل القرآن والذِّكر، فإنّ إمامته جائزة بإجماعٍ. المسألة السادسة عشرة: إمامة الأعرجِ، قد تقدم الكلام على الأقطع، فلا فائدة في تكرَارِهَا هنا. خاتمة (¬5): فعلى القول الأوّل: إنّ ما نقص من خَلْقِهِ لا يمنعُ شيئًا من فروض الصَّلاةِ، فلا يمنعُ الائتمامَ به , كالأصَمِّ والأَعْمَى. صلاة الإمام وهو جالس مالك (¬6)، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ، فَجُحِشَ شِقُهُ الأَيْمَنُ، فصلَّى صلاةً من الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قاعدٌ، وصَلَّيْنَا وراءَهُ قعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قال:،"إنّما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فإذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا ¬
قِيَامًا. إلى قوله: فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ خَرَّجَهُ الأيمّة (¬1)، وفيه للناس أغراضٌ وكلامٌ طويلٌ. العربية (¬2): قوله: " فَجُحِشَ" الجَحْشُ: الخَدْشُ والتَّوَجُعُ (¬3). وقوله: "فَصَلَّى صَلاَةً من الصَّلَوَاتِ" يحتمل أنّ تكون "أل" (¬4) للعهد. ويحتمل إنّ تكون للجنس (¬5). وقوله: "قَاعِدٌ" يحتملُ ذلك، لعدم القُدْرةِ على القيام، إنّ جعلنا الألف (¬6) للعهد راجعًا للصّلوات المفروضة. ويحتمل أنّ يكون في نافلة مع القدرة على القيام طلبًا للرِّفْقِ (¬7). الفقه: قال علماؤنا: اختلف النَّاس (¬8) في الإمام يؤمُّ القوم قاعدًا على قولين: القول الأوّل: تعلّق أحمد بن حنبل (¬9) والمُحَدِّثَه؛ أنّ مَنْ فَعَلَ هذا اليوم، صَلَّى ¬
من خَلْفَهُ قُعودًا وإن لم تكن لهم علّة تمنعهم القيام. واحتجُّوا بالحديث، لقوله: "فَإذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا اجْمَعُونَ" وأنّه عليه السّلام صلَّى بهم قاعِدًا، فَأَمَرَهُم بالقُعُودِ (¬1). القول الثّاني: قال الشّافعيّ (¬2) وفِرَقٌ كثيرة (¬3): إنّ هذا الحديث منسوخٌ؛ لأنّه - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى آخر صلاةٍ صَلَّاها قاعدًا والناسُ قيامٌ، فائْتَمَّ أبو بكرٍ برسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وائْتَمَّ النّاسُ بابِي بكرٍ (¬4)، وهذا آخر الأمْرَينِ من فعله - صلّى الله عليه وسلم -، فإنّ هذا كان يوم مات - صلّى الله عليه وسلم -، وأَمرُ النَّاسِ بالقُعُودِ كان يوم جُحِشَ شِقُهُ قَبْلَ مَرَضِهِ الّذي تُوُفيَ فيه. وقال الأوَّلون ابنُ حنبل وغيره: إنّ صلاة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - هذه لا تُشْبِهُ الصَّلاةَ الّتي أَمَرَ فيها بالقُعُودِ، وتلك الصّلاة ابتدأَ فيها الإمام قاعدًا، فعليهم القُعُود بِسُنَّةِ النَّبيِّ عليه السّلام، وهذه صلاةٌ ابتَدَأَ فيها أبو بكرٍ بالقيامِ فقاموا خَلْفَهُ، ثم جاءَ النَّبيُّ بعد ذلك فقعدَ إلى جَنْبِهِ وهو مريضٌ، فالصلاةُ ما ابتدئت، فلا تُشْبِهُ هذهِ هذهِ، ولا تنسخُ هذِهِ هذِهِ والأُولَى سُنّة على معناها, والأُخْرَى سنة على معناها. نكتةٌ: ثمّ افترقوا، فقالت فرقة أحمد وغيره: إِنْ وَجَدَ الإمامُ من نفسه خِفَّةً أمامَ العامَّةِ، فجاءَ وقد تقدَّمَ غيرُهُ وهو مريضٌ، قَعَدَ إلى جَنْبِهِ، وصلَّى الإمامُ الأوَّلُ على ما ابتدأَ الصَّلاة قائمًا، وصلَّى الإمامُ الجائي وهو مريضٌ قاعدًا كما فعل النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ معه. وقالت فرقةٌ: كان خاصًّا للنّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا لغيره، إلّا أنّ الفِرْقَتَيْنِ جميعًا اجتمعتا على أنّ الصّلاة اليوم خَلْفَ الجالس سُنَّةٌ من سُنَنِ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، وإن فعل النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ سُنَّة أُخْرَى لا تشبه إحداهما الاُخْرَى. وقالت طائفة أخرى منهم مالكٌ وأبو يوسف: لا يَؤُمُّ النّاس جالسًا؛ لانّها منسوخةٌ، وقعودُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بِجَنْبِ أبي بكرٍ خاصٌّ للنّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّهما كانا إمامَيْنِ، ولا يجوز اليوم أَنْ يَؤُمُّ النّاس إمامان في الصّلاة. ¬
وروى مالكٌ عن رَبِيعَةَ؛ أنَ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى خَلفَ أبي بَكرٍ بقباء (¬1)، وليس هذا يدفع صلاته خَلْفَ أبي بَكرِ في مَرَضِهِ، مع أنّ هذا الحديث منقطع السَّنَد، فلم يأخذ مالك (¬2) وأبو يوسف بأمر الرَّسُول -عليه السّلام- الأوّل أنّ يصلُّوا خَلْفَهُ قُعُودًا, ولا فعله في مَرَضِهِ الآخر، فلم يأخذ بالنّاسخ ولا بالمنسوخ في الاختلاف. واحْتَجَّ أبو يوسف بحديث جَابِر الجعفي، عن الشَّعْبِيّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا يَؤُمُّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا" (¬3) وجابر قد شَهِدَ عليه غير واحدٍ بالكذِبِ في الحديث، ولو كان الحديثُ عن صادقٍ لما ردَّت الأخبار عنه في الصِّحَّة، والأخبارُ عنه في مَرَضِهِ عليه السّلام أنّه صلَّى بهم جالسًا بهذا الحديث، ولا ردّت السُّنَّة بغير السُّنَّة، ولا يثبت منقطعٌ، وإنّما اختلف العلماء قديمًا في نَسخِ صلاةِ المؤتَمَّ، ولم يختلفوا في صلاة الإمام جالسًا. إشكال وحلّه: قال الإمام: أَعْيَا العلماء هذا الحديث النّاسخ منه من المنسوخ، والصّحيح عندي والأظهر؛ أنَّه لا يُعْرَفُ نَسخُه، فلا حُجةَ لأحدِ في أنَّه منسوخٌ؛ لأنّ كلَّ واحدٍ منهم قد تعلَّقَ ببعض تلك الأحاديث، وقال: إنّ أبا بكر كان الإمام، لما رَوَى الأسود ابن يزيد عن عائشة؛ أنّ النّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - صلَّى خَلْفَ أبي بَكرٍ في مَرَضِهِ (¬4). وقال قوم: بل النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - كان الإمام، لقوله: "ما كان لابن أبي قُحَافَةَ أنّ يتقدَّمَ أمَامَ رسول الله " (¬5). ومن العلماء من جوَّزَ أنّ يؤمَّ القاعدُ القائمَ بهذا الحديث. قال الإمام: الّذي عندي؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان الإمام، لما رُوِيَ أنّ أبا بكرٍ قام ¬
عن يمينه في موضع المأموم، وقوله: " فَصَلَّى أبو بَكْرٍ بصلاةِ النَّبِيِّ" (¬1)، وزاد آخر في روايته؛ أنّ النّبيَّ -عليه السّلام- بدأ بالقراءةِ. سرد المسائل في خمس: المسألة الأولى (¬2): قال ابنُ القاسم في "العُتْبِيّة" (¬3): لا بأس أنّ يَؤُمَّ في الفريضة؛ لأنّ حالَهُم قد اسْتَوَت كما لو طاقوا القيام، وبه قال الشّافعيّ (¬4)، ومُطَرِّف، وابن الماجِشُون، وابن عبد الحَكم، وأَصْبَغ، هذا في القَوْم إذا عجزوا عنءالقيام. وقد روي عن سحنون أنّه قال: سألتُ ابن القاسم عن هذه المَسالة فقال: لا يؤمُّهُم؛ لأنّ هذا عاجزٌ عن القيام، فلا يَؤُمُّ مَنْ يَقْدِرُ عليه ولا من لا يَقْدِر عليه (¬5) ولا من يعجز عنه، كما لو لم يقدر إلَّا على الاضطجاع، فإنه لا يَؤُمُّ مَنْ ساواهُ فيه. وقد روى (¬6) ابن القاسم أنّه قال: لا يَؤُمُ المضطجع المضطجعينَ. فإنْ قلنا: لا يَؤُمُّ الجالسُ الجلوسَ، فوقع ذلك، فقد قال سحنون عن ابن القاسم: يجزئ للإمامِ ويُعيدُ من ائتَمَّ (¬7). المسألة الثّانية (¬8): فإنْ لم يقْدِر الإمامُ على الجلوس ولا من وراءَهُ، فقد رُوِي عن ابنِ القاسم: ألَّا إمامةَ في هذا. وقال يحيى بن عمر: فإن صلُّوا على ذلك أجزَأَته وأَعَادُوا. المسألة الثالثة (¬9): قال: فإن كان مَنْ وراء الإمام قادرين على القيام، فالمشهورُ (¬10) أنَّه لا يجوز أنّ ¬
يأتمُّوا به، وبه قال ابن الحسن (¬1) وسحنون. وقد اختلف في هذا قول مالك في "النوادر" (¬2) فرَوَى الوليد بن مسلم عن مالكٌ؛ أنَّه يجوز لهم الائتمام به قيامًا، وبه قال أبو حنيفة (¬3)، والشافعيّ (¬4)، والأوزاعي. توجيه: قال الإمام (¬5): وَجْهُ القولِ الأوَّل: أنّ هذا رُكْنٌ من أركان الصّلاة، فلا يصحُّ الائتمام بمن عجز عنه كالقراءة. ووجه الرِّواية الثّانية: أنَّ النَّبيَّ -عليه السّلام- أَمَّ هو جالسٌ وأبو بكر والمسلمون معه (¬6)، يقتدي أبو بكر بصلاة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ويقتدي النّاس بصلاة أبي بكر. فإن قلنا برواية الجمهور: فصَلّوا على ذلك، فقد قال مُطَرِّف وابن الماجشُون: تجزئه وعليهم الإعادة أبدًا (¬7). وقوله: "إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" هذا يفيد الاقتداء به في كلِّ شيءِ إلَّا ما خَصَّهُ الدليلُ. المسألة الرّابعة (¬8): اختلف العلماء (¬9) فيمن ائْتَمَّ بمأمومٍ: فَرَوَى ابن سحنون عن أبيه؛ أنّه (¬10) إذا استخلفَ الإمامُ مَنْ فاتته ركعة، فَأَتَمَّ بهم الصّلاة، ثمّ قام يقضي، فَأْتَمَّ به من فاتته تلك الرّكعة أنّها تُجزئهم. قال (¬11): ثُمَّ رجع فقال: أحبُّ إليّ أنّ يُعِيدُوا. وفي ¬
"الموازية" أنّه من اتَّبَعَهُ فيها فصلاته باطلةٌ. فإذا قلنا: تبطلُ صلاة من صلَّى معه فإنّ ذلك لمعنيين: أحدهما: أنّ من ائتَمَّ به فيها لزمه حُكم الإمام الأوَّلِ، فلا يجوز له أنّ يُتِمَّ صلاته متي ذلك المُستَخلَف ولا متي غيره، وإنّما حُكْمُه أنّ يقضي ما فاته (¬1) وحدَهُ. وقد روى موسى (¬2) عن ابن القاسم؛ أنّ من فاتته ركعة فقضاها بإمامٍ فاتَتْهُ من الجماعة، فأحبُّ إليّ أنّ يعيدَ أبدًا، وروى ابنُ الموّاز: تبطل عليه. وقاله سحنون في "المجموعة". وقال ابنُ عبد الحَكَم: من لزمه أنّ يقضي فَذًّا فقضَى بإمامٍ بطلت صلاته. والوجهُ الثّاني: أنَّ مَنِ ائْتَمَّ بمأمومٍ فعليه (¬3) القضاء. فإذا قلنا بجواز ذلك، فيحتمل أنّ يكون أبو بكر يأتم بالنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والنّاس يأتمُّونَ بأبي بكر. وإن قلنا بالمتي من ذلك، فتاويلُه ما تقدَّمَ، ويحتمل أنّ يكون ذلك خاصًّا بالنّبيِّ عليه السّلام. خاتمة (¬4): قال ابنُ حبيب عن مالكٌ: إنه منسوخٌ بتَرْكِ أبي بكر وعمر وعثمان وعلىّ الإمامةَ في حال الجلوس (¬5). وهذا فيه نظر؛ لأنّ النَّسْخَ لا يكون بعدَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، إلَّا أنّ يريد أنّ الإمامة في حال الجلوس منسوخة (¬6). قال القاضي أبو الوليد (¬7): "يدلُّ على ذلك النَّسْخ: إجماع الأُمَّة على الامتناع من إمامة الجالس" (¬8). ¬
قال (¬1): "وهذا أيضًا يحتاج إلى أنّ يثبت عنهم ثبوتًا شائعًا مع عدم المخالف لهم، وإلّا لم يكن إجماعًا". المسألة الخامسة (¬2): وهي إذا ائْتَمَّ الواقفُ بالجالسِ، فقد قال أبو القاسم في "تفريعه" (¬3): "يُكْرَهُ، فإن أمَّهُم أَعَادُوا في الوقتِ"، وهذا عندي على رواية ابن مسلم عن مالكٌ (¬4). وأمّا على المشهور من قول مالكٌ، فإنّهم يعيدون (¬5) أبَدًا. نكتةٌ أصولية (¬6): فإن قيل: فأين عصمة النُّبُوَّة حين جُحِشَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في سقطته؟ الجواب: أنّ عِصْمتَهُ من كلِّ شيءٍ يقدحُ في النُّبُوَّةِ، والسقوط عن الدَّابة لا يقدحُ فيها. فإن قيل: فأين العصمة يوم أُحُد حين جُرِحَ وَكُسِرَت أضراسُه؟ فالجواب: أنّ هذه الآية (¬7) نزلت في القَتْلِ خاصّة كما عُصِمَ منه. وكان سبب هذه الآية؛ أنَّ أعرابيًا جاء إلى النَّبيِّ -عليه السّلام- ليقتلَهُ، فاخْتَرَطَ سيفُهُ (¬8) ورفعه، فاستيقظَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وكان راقدًا تحت شجرة وحدَهُ - فقال له: من يعصمُك منِّي؟ فقال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الله"، فرفع يده ليضربه فتجَمَّدَ ذِرَاعه، فلم يستطع أنّ يرفعه، حتّى رغب لمحمَد -عليه السّلام-، فدعا اللهَ محمَّدٌ - صلّى الله عليه وسلم - فأطلقَ يَدَهُ (¬9). ففزع النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وعلم أنّما عَصَمَهُ اللهُ، وخشيَ أنّ يأتيه آخر فيقتله دون أنّ يوقظه، فنزلت الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬10) ¬
فضل صلاة القائم على صلاة القاعد
فضل صلاةِ القائمِ على صلاةِ القاعدِ مالك (¬1)، عن إسماعيل بن محمد بن سَعْدِ بن أبي وقَّاص، عن مولَّى لعَمْرِو بن العاصِ، أو لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال (¬2): "صَلاةُ أَحَدِكُم وهو قاعِدٌ، مِثْلُ نِصْفِ صَلاَتِهِ وهو قائمٌ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ (¬3) من مراسيلِ ابنِ شهاب. وهكذا رواهُ جماعةُ الرُّواةِ للموطَّأ (¬4). ويتّصلُ من وجوهٍ صِحَاحٍ (¬5)، وقد خرَّجَهُ الأيمَّةُ في مُصَنَّفَاتِهِم (¬6). التّرجمة (¬7): قال الإمام: هذا التّرجمة تداني (¬8) التّرجمة السّابقة (¬9) في المعنى، من أنَّ النَّظَر في التّفاضل لا يكون إلَّا بعد التَسَاوِي في الأجر (¬10). الأصول (¬11): قولُه: "مِثْلُ نِصْفِ صَلاَتِهِ" يريد إلأجر (¬12)؛ لأنّ الصّلاة لا تتبعَّض (¬13)، ¬
وهذا (¬1) وإن كان عامًّا (¬2)، فإنّ الدَّليلَ قد دَلَّ على أنّ المرادَ بذلك بعض الصّلوات وبعض الحالات، وأصلُ ذلك: أنّ القيام رُكْنٌ من أركان الصّلاة، وشرطٌ في صحَّةِ الفَرْضِ منها مع القُدْرَة عليه. والدّليلُ على ذلك: قولُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) ولا خلافَ في ذلك، فوجب (¬4) بذلك القيام. وروي أنّ (¬5) النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال "صَلِّ قائمًا، فإنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لم تستطعْ فَعَلَى جَنْبِ" (¬6) فخَصَ بهذا الخبر منَ الآية من لا يستطيع القيام، وبقيت الآية على عمومها في المستطيعين. وقد ثبت بحديث عائشة المرويّ بعد هذا (¬7)، جواز التَّنَقُّل جالسًا مع القدرة على ذلك، فَخُصَّتْ (¬8) بذلك الآية على قول من زعم أنّها تتناول (¬9) الفَرْضَ والنَّفْلَ، وبقيت عامة في المستطيعين القيام في الفريضة، وثبت بذلك أنَّ صلاةَ القاعد إنّما تكون مثل نصف صلاة القائم في موضعين. أحدهما: من صلَّى الفريضة غير مستطيعٍ القيام. والثّاني: من صلَّى النَّافلة مستطيعًا أو غير مستطيعٍ. وقال ابنُ حبيبٍ عن ابن الماجِشُون في تأويل قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ الْقَاعِدِ مِثْلُ نِصْف صَلَاةِ الْقَائِمِ": إنَّهم كانوا يستطيعون أنّ يُصَلُّوا قيامًا، إلَّا أَن القعودَ كان أَرْفَق بهم. فأمّا من أقعدَهُ المرض والضَّعف في مكتوبةٍ أو نافلةٍ، فإنّ صلاته قاعدًا في الثَّواب مثل صلاته قائمًا. وقد قيل (¬10): إنّ الحديث ورد في النّوافل (¬11)، وهذا تخصيص يحتاج إلى دليلٍ. ¬
الفقه (¬1): وفي هذا مسألتان: إحداهما: في وَصْفِ مَنْ تجوز له صلاة الفريضة قاعدًا. * والثّانية: في وصف صلاته. فامّا من تجوزُ له صلاة الفريضة قاعدًا* (¬2)، فهو المُقْعَدُ الّذي لا يقدر على القيام، والمريض الّذي لا يستطيع القيام بحال. وقال ابن مَسْلَمَة: من لا يقدر على القيام إلَّا بمشقَّة صَلّى جالسًا. وعندي أنّه كالمريض والمائد (¬3) في السفينة. ووجه ذلك: قولُه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "صَلَّ قائمًا، فإنْ لم تستطع فَقَاعدًا" وقد تقدم بَيَانُه. مسألة (¬4): ومن أراد أنّ يقدحَ عينيه ويصلِّي جالسًا أربعين يومًا، ففي "الواضحة" عن مالكٌ: لا بأس بذلك (¬5). مسألة (¬6): ومن صلَّى جالسًا مع العجز عن القيام، ثمّ قدر على القيام في الوقتِ، لم يُعِدْ، رواه موسى عن ابن القاسم في "العُتْبِيّة" (¬7). ووجه ذلك: أنّه أتَى بصلاةٍ على ما يلزم من فرضها، فلم تجب عليه إعادة في وقتها، كما لو صلَّى بتَيَمُّمٍ ثم وجدَ الماءَ. ¬
مسألة (¬1): ومن لم يقدر على القيام إلّا مُسْتَنِدًا أو مُتَوَكِّئًا، فإنّ ذلك أَوْلَى من صلاته جالسًا، قاله في "المختصر". ووجه ذلك: أنّ هذه الحال أقرب إلى الفريضة، فلا يجوز له الانتقال عنه مع القدرة عليه. مسألة (¬2): ويصلِّي المريضُ جالسًا مُسْتَنِدًا أحبُّ إليَّ من أنّ يصلِّي مضطجِعًا، قاله ابن القاسم في "المدوّنة" (¬3). ووجه ذلك: أنّ الجلوس هيئةٌ من هَيْئَاتِ الصّلاة، فلم يجز تركها مع القدرة عليها كالقيام. فإن لم يستطع ذلك كلّه، أَدَّى فرضه مضطجِعًا، ودليلُه: الدّليل المتقدِّم. مسألة (¬4): والسُّنَّةُ أنّ يصلِّيَ على جَنْبِهِ الأيمن، وَوَجْهُهُ إلى القِبْلَةِ، ورَأْسُهُ إلى المغرب، وَرِجْلَاهُ إلى المشرق؛ لأنَّ التَّيَامُنَ مشروعٌ، ولا يمكن استقبال القِبْلَةِ معه إلّا على هذه الحال. فإن عجز أنّ يصلِّي على جَنْبِه الأَيْمن، فهل (¬5) يصلِّي على الأيسر، أو على ظهره؟ قال ابنُ القاسم: يُصَلِّي على ظهره (¬6). وقال ابنُ الموَّاز: يُصَلِّي على جَنْبِه الأيسر. ووجه القول الأوّل: أنّه لَمَّا عجزَ عن التَّيَامُنِ، كان الاضطجاع أَمْكَن في ¬
ما جاء في صلاة القاعد في النافلة
استقبال القِبلَة، والأشبَه بحال القيام الّتي هي الأصل. ووجهُ القولُ الآخر - قوله: "فَإن لم يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ" ولم يفرِّق، فإنْ صلَّى على جَنْبهِ الأيسر، فإنَّهُ يُصلِّي ورأسُه إلى المشرق ورِجْلاَهُ إلى المغرب؛ لأنّه لا يَتَأَتَّيَ (¬1) الاستقبال إلَّا كذلك. فإنْ عجز عن ذلك، صلَّى على ظهره وَرِجْلَاهُ إلى القبلة، وهو مستقبلٌ القِبلَةَ بوجهه؛ لانّ استقبالَها مشروعٌ. نكتةٌ (¬2): قولُه في الحديث (¬3) عن حَفْصَة: "ما رَأيْتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - صَلَّى في سُبحَتِهِ قَاعِدًا قَطُّ، حتّى كان قَبلَ وفاتِهِ بعَامٍ، فكان يُصَلِّي في سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، ويَقْرَأُ بالسُّورَةِ فَيُرَتَّلُهَا". قال القاضي: السُّبحَةُ النّافلة، وقيل في قوله: {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (¬4) يريد المصَلِّين. وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} (¬5) أي: حين تصلّون، قاله ابن عبّاس (¬6). وقوله (¬7):"نِصْف صَلاةِ القَائِمِ" هو تنشيط لهم على القيامِ، ونَدْبٌ لهم إلى فضيلته (¬8). ما جاء في صلاةِ القَاعِدِ في النّافِلَةِ في هذا الباب حديث السّائب بن يزيد (¬9)، قَدَّمَهُ المؤلِّفُ في هذا الباب الأَوَّلِ على طريقِ البيان. قولُ السَّائِبِ؛ إنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ولم يروه عنه (¬10). ¬
الصلاة الوسطى
وفي هذا الباب مسألتان: المسألة الأولى (¬1): مَنِ افتتحَ نافلة قاعدًا ثمّ أرادَ القيام، فإنَّ ذلك له أنّ يفعله. ولو افتتح قائمًا ثمَّ أراد الجلوس، فإنَّ ذلك يجوز له عند ابن القاسم (¬2). وقال أشهب: لا يجوز له ذلك (¬3). المسألة الثّانية (¬4): والجلوسُ في الصّلاة ليست له صفةٌ مخصوضةٌ لا يجزئ إلَّا عليه، بل يُجْزِىء على كلِّ صفةٍ من الاحتباء والتَّربُّع والتَّوَرُّك وغيرها. قال القاضي: غير أنّ أبا محمد عبد الوهّاب ذكر (¬5) أنّ أفضلَها التَّربُّع؛ لأنّه أقرب (¬6) هيئات الجلوس، إلّا أنَّ الاحْتِبَاءَ مع ذلك جائزٌ، وليس في احتباء سعيد وعُروة (¬7) دليل على اختيارهما له، وإنّما فيه دليلٌ على أنّه كان يتكرّر منهما, ولعلّه كان يتكرّر عند السّآمة للتَّرَبُّع أو غير ذلك. واللهُ أعلمُ. الصّلاةُ الوُسْطَى التّرجمة: قال الإمام الحافظ: الألف واللّام في "الوُسْطَى" الّتي في القرآن (¬8) هي للعَهْد (¬9)؛ لأنّ الرَّبَ تعالى قد كان علَّمَها نبيَّهُ، فلمّا ذكرها له كأنّه قال: هذه الّتي أعلمتك بها. ¬
الإسناد: الأحاديث (¬1) صِحَاحٌ في هذا الباب لا ارتيَاب فيها، خرَّجها الأيمّة. العربية: يحتمل أنّ يريد بالوُسط الفضل، من قولهم: وسطا، أي خيارًا. ويحتمل أنّ يريد بها الوَسَط، وهو التّسَاوِي في البُعْد لكلِّ واحدٍ من الطّرفين. وقيل: الوسطُ العدلُ. الفقه (¬2): اختلف العلماء في الصّلاة الوُسْطَى على سبعة أقوال (¬3): أحدها: أنّها كلّ واحدة من الصّلوات. والثّاني: أنّها الجمعة. *والثّالث: أنّها الصّبح (¬4). والرّابع: أنّها الظهر (¬5). والخامس: أنّها العصر (¬6). والسادس: أنّها المغرب* (¬7). والسابع: أنّها لا تُعْلَم. ¬
واختار مالك (¬1) أنّها الصُّبح، واختار أبو حنيفة أنّها العصر (¬2). وحُجَّةُ من قال: إنّها الصُّبح، فإنّها فاتحة العمل وإنّ القنوت لا يكون إلَّا فيها، لقوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3). وأيضًا: فإنّ صلاتها تعدلُ قيام ليلة. واحتجَّ من قال: إنّها الظّهر، أنّها إذا صلّاها ظهرت ووقع الابتداء بها، فكان لها فضل؛ لأنّها أوّل صلاةِ صلّاها جبريل بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. واحتجَّ من قال: إنّها العصر، بما تقدَّمَ من الأحاديث الصِّحاح في "مسلم" (¬4) و"البخاريّ "، ولم يصحِّحه البخاريّ ولا أَدْخَلَهُ في كتاب الصّلاة، وإنّما أدخله في كتاب المغازي في غزاة الخَندَق (¬5). واحتجّ من قال: إنها المغرب، بأنّها ذات وقتٍ واحدٍ لا تأخيرَ لها. واحتجّ من قال: إنّها الجمعة، بأنّ شروطها أكثر، فدلَّ بها أنّها أفضل. واحتجّ من قال: إنّها أُخْفِيَت في الصّلوات، كما أخفيت ليلة القَدْر في الشَّهر. قال الإمام: والصّحيحُ عندي أنّها مخفيةٌ؛ لأنّ الأحاديث لم تُبيَّنها, ولا صحَّحَها أبو عبد الله (¬6) لاختفائها زيادةً في فضلها، فعلى هذا هي مخبوءةٌ في جُمْلَةِ الصّلوات كما الكبائر في جملة الذّنوب، ترغيبًا منه في فضل الطاعة، وترهيبًا لاجتناب المعصية. الأصول (¬7): قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية (¬8) ¬
قال الإمام: افترقَ النّاسُ في الكلام في هذه الآية على أزيد من ثمانية أقوال: الأولُ: قولُه: {حَافِظُوا} المحافظةُ هي المداومةُ على الشيءِ والمُواظَبَةُ عليه، وذلك بالتمادي على فِعْلِها والاحتراس عن تَضْيِعها أو تضييع بَغضِها. نكتةٌ (¬1): وبناء المسألة؛ أنّ "وس ط " في تركيب لسان العرب عبارة عن أحد معنيين: إمّا عن الغاية في الجيد (¬2). وأمّا عن معنى يكون ذا طرفين نِسْبتُهُ إلى الطّرفين من جهتيهما سواء، وذلك يكون بالعدد والزّمان والمكان. فأمّا الصّبح، فهي وسط في الزّمان، فإنّها زاهقةٌ عن ظُلمة اللّيل، مشرفةٌ على ضوء النّهار. وهي أيضًا وسطٌ في العدد؛ لانّها اثنتان، وللعدد طرفان: واحدٌ وأربعة. وهي وسطٌ في الفضل لأنّها مشهودَةٌ ويشاركها العصر؛ لأنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجَنَّةَ" (¬3) وصلاة الصُّبح في أولها، وهي وسطٌ في الفضل؛ لأنّها أثقل الصّلوات على المنافقين، ولقوله: "لو يعلمونَ ما في العَتَمَة والصُّبْح" (¬4) وتشاركها فيه الْعَتَمَة، ولأنّها وسط في الفضل أيضًا، إذ مصلَّيها في جماعة كأنّما قام ليله، وهي خصيصةٌ لها لا يشاركها فيه واحدةٌ من الصّلوات. وأمّا الظُّهر، فهي وسطٌ في الزّمان؛ لأنّها نصف النّهار، ووسطٌ في الفَضْلِ؛ لأنّها أوّل صلاة صُلَّيت، كما تقدَّم ذِكْرُهُ. وأمّا العصر، فإنّها وسط في الفضل، فإنّها مشهودة، وبأنّها في أحد البَرْدَين، ولقول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهم" خرَّجَهُ البخاريّ (¬5)، وحديث البخاريّ (¬6): "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسطَى صَلاَة العَصْرِ" وهذا نَصٌ، وقد تَأَوَّلَهُ ¬
بعضُهم بانها كانت وُسْطَى الثلاثة الّتي فاتتها، وهذا ضعيفٌ. وأمّا المغرب، فإنّها وسطٌ في الزمان؛ لأنّها مفعولة (¬1) عن إدبار النّهار والإشراف على اللّيل، ولأنّها وسطٌ في العدد، ولأنّها وِتْرُ النّهار، والوِتْر أفضل من الشَّفع، والله وِترٌ يحبُّ الوِتر (¬2)، ولأنّها جمعت أحوال الصّلوات كلّها حتىّ الجَهْر في القراءة والسَّرّ. وأمّا العَتَمَة، فإنها وُسطَى في الفضل كما تقدم من فضائلها, ولأنّ الصّحيفة بها تُخْتَم كما تفتتح (¬3) بالصُّبح، ولأنّها مصونة بالنَّهي عن الحديث بعدها برًّا بها. وأمّا الجمعة، فإنّها وسط في الفضل لكثرة شروطها، وكثرةُ شروط الشَّيء دليلٌ على فضله، ولأنّها مخصوصةٌ بهذه الأُمّة. هذا منتهى الإشارة إلى جماع الفضائل، فمن نظر إلى تعارض الأدلّة، قال: كلُّها وُسْطَى. ومنهم من قال -كما قلنا -: هي مخبوءةٌ ليحافظ على الكُلَّ. قال الإمام: وإذا أردت أنّ تقف على الصّحيح في ذلك لسلوك مدرجة النّظر إليه، فاعلم أنّ حديث عائشة في "الموطَّأ" (¬4) على أنّ القراءة الشّاذَّة لا توُجبُ عِلْمًا ولا عَمَلًا (¬5)، وأمّا سائر الأدلّة في سائر الصذلوات فَبَيَّنَةٌ، وإنّما يكون الإشكال بَيْنَ الصُّبح والعصر، والصّبح أكثر فضائل منها حسب ما سطَّرناه قَبْلُ. تنبيه (¬6): وربَّما توهّم أنّ قوله: "مَنْ تَرَكَ صلاةَ العصرِ حَبِطَ عَمَلُهُ" *مزيَّةٌ لها على غيرها، وهو وهم؛ لأنّ من ترك صلاة المغرب حِبَطَ عَمَلُهُ* (¬7) على الوجه الّذي يحبط بترك صلاة العصر, وكذلك بترك سائر الصلوات، فقد بهذا كلّه أنّها الصُّبح، حسب ما ¬
الرخصة في الصلاة بالثوب الواحد
ذهب إليه مالك، ولله دَرُّهُ، ما كان أرحب (¬1) ذراعه في النّظر واطِّلاعه على الأدِلَّة. وقد (¬2) استدلَّ القاضي أبو محمد عبد الوهّاب (¬3) شيخ المالكية بهذه الأدلّة أنّها الصُّبح (¬4)، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬5) والقنوتُ لا يكون إلّا في الصُّبح، وأنّها ركعتان لا نظير لها في سائر الصّلوات. وهذه مسألة عظيمة الخلاف، وربُّكَ إعلمُ بها. الرُّخْصَةُ في الصَّلاةِ بالثّوبِ الواحدِ الأسانيد في ذلك صِحَاحٌ. رأى عمر بن أبي سَلَمَةَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في بَيْتِ أُمِّ سَلَمِة مُشْتَمِلًا (¬6)، يعني (¬7) أنّه كان لباسه في صلاته تلك، وإنّما عَنَى بنَقْلِ ذلك؛ لأنَّ اللِّباس من أحكام الصّلاة، والكلام عليه فيه فصول: الفصلُ الأوّل في كيفية اللِّباس والملبوس أمّا الصورة والكيفية والهيئات، فإنّه ورد منها خمس هيئات (¬8): 1 - الأُولَى: الالتفاعُ، وهو الاشتمال الّذي يستر فيه الرَّأْس. 2 - والالتحافُ: وهو اللِّباسُ المطلَقُ من غير تفاريج. 3 - والاشتمال: هو تعميمُ البَدَنِ بالملبوس، وهو على ضربين: صمّاء. ¬
ومنفرج. واختلف العلماء في تفسير "اشتمال الصَّمَاءِ". - فقيل: هو أنّ يلبس الثَّوبَ ليستتر به، ويكون فَرْجه مُنْكَشِفًا (¬1). والثّاني: أنّ تكون يداهُ تحته فلا يتّخذ (¬2) لها مخرجًا. والصّلاةُ في الأوّل لا تجوز، والنّهي فيه (¬3) على التحريم. والنّهيُ في الثّاني على الكراهية؛ لأنّه ذريعة إلى أنّ يسقط الثّوب فينكشف الفَرْجُ، إلّا أنّ يكون تحته إزار أو سراويل، فإنّ النّهي يسقط حرامًا ومكروهًا. فإن كان ليس تحته ثوب، فليشتمل به على بَدَنِهِ، وليجعل طرفيه مخالفًا (¬4) على عاتقيه (¬5) وليعقده على عنقه، أو يفعل كما قال النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - لسَلَمَة بن الأكْوَع: "زُرَّهُ ولو بِشَوْكَةٍ" (¬6). 4 - فإن لم يجعل طَرَفَيه على عاتِقَيْه وشَدَّه تحت ذراعيه، فهو (¬7) الاضطباع، افتعال من الضّبع. 5 - فإن شَدَّهُ كذلك وهو جالسٌ من الرَّكبة إلى القَفَا، فهو الاحتباء. الفقه (¬8): قال الإمام: وهذا تنبيهٌ على ستر العورة في الصّلاة. واختلف العلماء في ذلك: فرَوَى أبو الفَرَجِ عن مالكٌ؛ أنّ الْبَدَنَ كلّه عورةٌ في الصّلاة من الرِّجَالِ، وهي روايةٌ ¬
ضعيفةٌ؛ (¬1) لأنّه قد صلّى جابر (¬2) في ثَوْبٍ واحدِ اتَّزرَ بِهِ وثيابُه على المِشْجَبِ، وقال لمن أنكر عليه: "إنمَّا فعلتُ ذلك لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ" (¬3). فعلى (¬4) قول أبى الفَرَجِ؛ إنّ ستر العورة فرضٌ من فروض الصّلاة (¬5)، وبه قال أبو حنيفة (¬6)، والشّافعىّ (¬7). وقال إسماعيل القاضي: إنّها من سُنَنِ الصّلاة، وبه قال ابن بُكَيْر والأبْهَرِيّ. المسألة الثّانية (¬8): في التوجيه فائدة الخلاف في ذلك؛ أنّا إذا قلنا: إنّها من فروض الصّلاة، بطلت بعدم ذلك. وإذا قلنا: إنّها ليست من فروض الصّلاة، أَثِمَ التّاركُ ولم تبطل. ووجه القول الأوّل: الحديث المروي عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا يَقبَلُ اللهُ صلاة حائضِ إلَّا بِخِمَارٍ" (¬9). ومن جهة القياس: أنّ هذه عبادة من شرطها الطّهارة (¬10)، فوجب أن يكون من شرطها ستر العورة، كالطواف بالبيت عريانًا، والصحيح أنّه فرض إسلاميّ جاء به صاحب الشَّرعِ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): في حدّ العورة وقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: أنّ العورة الّتي يجب سترها: ما بين السُّرَّةِ إلى الرُّكْبة، هذا الّذي ذهب إليه جمهور أصحابنا (¬2). وبه قال أبو حنيفة (¬3)، والشّافعىّ (¬4). القول الثّاني: قال علماؤنا (¬5): العورة القُبل والدُّبُر والفخذان. القول الثّالث: رأى أهل الظاهر (¬6) أنّ العورةَ القُبُل والدُّبُر خاصّة. والدليل على ما ذهب إليه الجمهور: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "غطِّ فَخِذَكَ فإنَّ الفَخِذَ عَوْرةٌ" (¬7). ومن جهة المعنى: أنّ هذا موضع سترة، فوجب أنّ يكون من السُّتْرَةِ كالقُبُلِ والدُّبُر (¬8). المسألة الرّابعة (¬9): قال الإمام: فإذا ثبت هذا، فقد رُوِيَ عن أبي حنيفة أنَّه قال: العورة على ضربين: مغلّظة، ومخفّفة. فالمغلّظة: هي القُبُل والدُّبُر. والمخفَّفَة: سائر ما ذكرنا أنّه من العورة (¬10). ¬
الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار
وقد قال مالكٌ: في "الواضحة": إنّه من صلَّى وفخذه مكشوفة، فلا إعادةَ عليه (¬1). الرُّخصةُ في صلاة المرأة في الدِّرْع والخِمَارِ الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا حديث بلاغٌ، ويَتَّصلُ من حديث هشام بن عروة (¬3)، وأمَّ سَلَمَة (¬4). تنبيه على إغفال: قال الإمام: كان ينبغي لمالك - رحمه الله - أنّ يُصَدَّرَ في صدر هذا الباب الأوّل (¬5) الآية، قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬6) فلم يفعل، وكان من حقِّه أنّ يلحقها في هذا الباب الثّاني (¬7). وفي هذه الآية لعلمائنا بدائع؛ لأنّه كنى بالمعاني لانه قال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} فالزِّينةُ: الأَرْدِيَةُ والثِّياب، والمساجدُ هي الصّلوات. وقد رأى ابن عمر نافعًا يُصَلَّي في ثوبٍ، فقال له: خُذْ عليك رداءك، فإنَّ اللهَ تعالى أحقّ من تجمل له (¬8). وقد كان بعض من مضَى من شيوخ الزُّهد من له ثياب مطوية لا ينشرها إلَّا إذا صلّى، فإذا فرغَ من الصّلاة أعادَهَا، ويقول: لقاءُ اللهِ أفضل حالة يزيّن لها. الفقه في سبع مسائل: الأولى (¬9): قوله في الحديث: "كَانَتْ تُصَلِّي في الدَّرعْ والْخِمَارِ" يقتضي أنّها كانت تقتصر عليهما. ¬
والنِّساءُ على ضربين: حُرّة، وأَمَةٌ. فامّا الحُرّة فجسدُها كلّه عَوْرَة، غير وجهها وكفّيها. وذهب بعض النّاس أنّه يلزمها ستر جسدها (¬1). واستدلَّ علماؤنا في ذلك بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية (¬2)،- قالوا: الوجه واليدان، وعلى هذا أكثر أهل التفسير (¬3). وممّا يدلُّ على ذلك: أنّ هذا عضوٌ يجب كَشْفُه بالإحرام، فلم يكن عورة كوجه الرَّجُلِ، وسائر ما ذكرناه من جَسَدِ الحُرَّةِ يجري مجرى عورة الرَّجُل في وجوبِ سَترهِ في الصّلاة. المسألة الثّانية (¬4): قال علماؤنا (¬5): وأَقَلُّ ما يجزئ لها الصّلاة فيه الدِّرْعُ الّذي يستر قَدَمَيْها (¬6)، والخمار الّذي تَتَقَنَّعُ به. والأفضلُ أنّ يكون تحت الثوبِ مئزرٌ، فإن لم تفعل أجزأها، قاله ابن حبيب (¬7). وإن التحفت في ثوب وصلَّتْ به وسَتَرَ منها ما يجب سُتْرتُه ولم (¬8) تشتغل بإمساكه، فلا بأسَ به، وإن اشتغلت بِهِ فلا خيرَ فيه (¬9). المسألة الثّالثة (¬10): أمّا الأَمَةُ، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن أَصْبَغ؛ أنّها تستر ما يستر الرَّجُل، وعورتها ¬
من السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَتَينِ (¬1). وقال ابن القاسم: تستر الأَمة في الصّلاة جميع جسدها (¬2) المسألة الرّابعة (¬3): وهي إذا أعتقت في الصّلاة قال ابنُ القاسم وغيره: تختمر في بقيَّةِ صلاتها وتجزئها. وقال سحنون: تستأنف الصلاةَ، وكذلك العريان يجد الثَّوبَ في الصّلاة. التّوجبه: أمّا وجه (¬4) قول ابن القاسم وغيره: أنّ سترَ العورةِ شرطٌ في صِحَّةِ الصّلاة (¬5). ووجه قول سحنون: أنّ الصّلاةَ غير متبعِّضَة (¬6)، فإذا لزم تغطية الرّأس في بعضها لزم في جميعها (¬7). المسألة الخامسة (¬8): إنّ كان الدِّرع والخمار خفيفين يصفان ما تحتهما، لم يجزئ (¬9). ويُكْرَهُ الرَّقيق الصَّفِيقُ؛ لأنّه يلصق بالجسد فيُبْدِي ما تحته. المسألة السادسة (¬10): "إذًا غَيَّبَ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا" (¬11) هذا هَو مذهب مالك. ¬
وقال أبو حنيفة: ليس عليها أنّ تُغَيِّب ظهور قَدَميها (¬1) والدليل على ذلك: أنّ هذا عُضوٌ لا يكشف للإحرام، فوجب على الحُرَّةِ (¬2) ستره كالذِّراع والعَضُد. المسألة السّابعة (¬3): وهي إذا صلَّت بادية الشَّعر أو الصَّدْر أو ظهور القَدَمَيْن، استحبّ لها أنّ تعيدَ في ذلك الوقت، وقد أَثِمَتْ لمخالفتها السُّنَّة إِنْ قصدت ذلك. وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنْ يكون هذا على قول من رأى إعادة الصّلاة من كشف العورة، وقد رأى ابن القصّار (¬4) أنّ تعيد الصّلاة من ذلك في الوقت، مع كونها عنده فَرْضًا. الثّاني: أنّ يكون ذلك عنده (¬5) أخفّ من كشف العورة. المسألة الثّامنة (¬6): رُوِيَ عن مالك الفرق بينهما في الحُرّة يكون بجسدها عَيْبٌ أنّه ينظر (¬7) إليه أهل البصر. فإن كان في العورة، لم ينظر إليه إلّا النِّساء، ولا ينظر إليها أهل البصر من الرِّجال (¬8). ¬
الجمع بين الصلاتين فيى الحضر والسفر
الجمعُ بين الصَّلاتين فيى الحَضَر والسَّفَر الإسناد (¬1): الحديثُ صحيحٌ، مُتَّفَقٌ عليه (¬2)، خَرَّجَهُ الأيمّة (¬3)، وكلُّهم قال: كان ذلك في غزوة تَبُوك. الأصول: قوله: في هذا الحديث: "كَانَ يَجمَعُ بَينَ الظُّهرِ وَالعَصْرِ" إنّما ذلك على وجه الرَّفْقِ بالمصلِّي (¬4)، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى نصب أوقات الصّلوات وَقْتًا يختصُّ بها ثمّ لمّا عَلِمَ من ضَعْفِ العباد وقِلَّة قدرتهم على الاستمرار في الاعتياد (¬5)، وما يطرأ عليهم من الأعذار الّتي لا يمكلنهم دفعها عن أنفسهم، أرخصَ لهم في نقل صلاة إلى صلاة (¬6)، وجمع المفترق منها، كما أذِنَ في تفريق الجمع أيضًا، رخصةً في قضاء رمضان إذا أفطَرَهُ لعُذرِ المرض والسَّفَر، وقد (¬7) ثبت عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك. وأطنب فيه مالكٌ، لأجلِ قول أبي حنيفة في أهل العراق (¬8): إنّ الجمع بدعةٌ، وبابٌ من أبواب الكبائر؛ لأنّ فيه إخراج الصّلوات عن أوقاتها، تعلُّقًا بحديث ابنِ عبّاس ¬
الّذي خَرَّجَهُ التّرمذيّ (¬1) ومسلم (¬2) أيضًا؛ أنّه قال: "مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلاَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ". والَّذي أوقَعَ أبا حنيفة في هذا أنّه رأى أصل الصّلوات ثبت من طريق التّواتر بالقرآن، والجمع من طريق الآحاد، فكيف ينسخ الآحادُ التَّوَاتُرَ؟ وهذا ضعيفٌ؛ لأنّه يقال له: كما ثبتت أوقاتُها كذلك ثبتت أعدادُها تواترًا، وأحاديثُ الجَمْعِ نقلته الكافَّة عن الكافّة، وثبتَ من كلِّ طريقِ وعلى لسان كلِّ فريقٍ، والجمعُ بين الصّلاتين نسخ للقرآن (¬3) بالسُّنَّة؛ لأنَ القرآن جعلَ لها أوقاتًا معلومةً مخصوصةً بها، والسُّنَّة بَيَّنَتْهَا. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬4): الأعذار الّتي تبيحُ الجمعَ أربعةٌ: سَفَرٌ وَمَطَرٌ، ومَرَضٌ وخَوْفٌ. والجمعُ إنّما يكون بين صلاتين بينهما اشتراك في الوقت (¬5)، وأمّا كلّ صلاتين لا اشتراكَ بينهما فلا جمعَ. المسألة الثّانية (¬6): وللجمع حالتان: حالةُ سفَرٍ، وحالةُ إقامةٍ. وللإقامة حالتان: حالةُ مطَرٍ، وحالةُ مرضٍ. فأمّا جمع المسافر: فمن رَحَل قبل زوالِ الشَّمسِ من منزله، أو قبل أنّ تغرب الشّمس، أخَّر الأولى إلى وقتِ الثّانية. ومَنْ رحلَ بعد زوال الشَّمس وبعد غروبها، قدَّم الثّانية إلى الأُولى. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قال الشّافعيّ: الجمعُ في السَّفَر رُخصَةٌ متعلَّقةٌ بعين السَّفَر، سواءٌ ارتحلَ المسافِرُ أو أقامَ يومه في منزله، يجمع بين الصّلوات كلّها ويقصر (¬2)، وهذا ضعيف؛ (¬3) لأنّ صورةَ الجمع للمسافر إنّما وردت مع الرّحيل وجَدَّ السَّيْرِ، والرُّخَص لا يتعدَّى بها محلّها. اعتراض في المسألة (¬4): فإن قيل: قد روي في الموطّأ (¬5)؛ أنّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - خرج فصلَّى المغربَ والعشاءَ، ولا يُعَبَّر بدَخَلَ ولا خَرَجَ إلّا عن حال المقيم، فأمّا المسافر فإنّما يقال فيه: ركبَ ونزلَ. قلنا: هذه حكايته حال (¬6) وقضية عينِ، فيحتمل أنّ يكون النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى الظّهر في آخر وقتها (¬7)، ثمَّ أقام العصر فصلَّى (¬8) في أوَّل وقتها، فيكونُ جَمْعًا من حيث الصُّورةُ لا مِن حيث المعنى، وكذلك رواهُ أشهب عن مالك كما أوردناه، وإذا احتمل هذا (¬9) سقط الاحتجاج (¬10) به. ومذهب أشهب أنَّ الجمع بين الظُّهر والعصر في الحَضَر، وحُجَّتُهُ: أنّ معاذًا قال في كون النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في الخَيمَةِ: دخلَ وخرجَ فصلَّى المغرب. وحديثُ ابن عبّاس أيضًا (¬11)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى سَبْعًا وثمانيًا بالمدينة وهي الظُّهر والعصر، والسّبع العشاءُ والمغربُ. فهذا جمع صورة. ويحتمل أنّ يكون ذلك لِغَيمٍ، فأخَّرَ لاستبراء الوقت. ¬
وأمّا الجمعُ من حيث المعنى والصُّورة، فما رواه معاذ بن جبل؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - جمعَ بينَ الظُّهر والعصر في سَفَرِهِ إلى تَبُوك (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): قال علماؤنا: والجمعُ على وجهين: إذا جدَّ به السَّير وكان راكبًا، جَمَعَ في آخر الوقت الظّهر أوّل وقت العصر. وإن ارتحل في أوّل الزّوال، أو جَدَّ به السّير جمع الصّلاتين في أوّل الوقت. نكتةٌ أصولية: وهي إذا اجتمع الوَصْفُ والسَّبَبُ، فاختلف أبو حنيفة والشّافعيّ في ذلك، فعند الشّافعيّ أنّه يبدأ بالسَّبب، وإليه يشير ابنُ القاسم. وأبو حنيفة يبدأُ بالوَصْفِ، وإليه ذهب ابن حبيب. والكلام على هذا في مسألة (¬3)؛ وذلك أنّ ابنَ القاسم يقول في الجمع ليلة المطر: إنه يؤخِّر الصّلاة قليلًا حتّى يدخل الظّلام، يريد بعد أنّ يدخل من السَّبَبِ شيءٌ , وهو الظّلام الّذي أَوْجَبَ الجَمْعَ. وحُجَّتُه: أنّ الجمعَ لا يوجد إلَّا بعد وجود السَّببِ. وابنُ حبيب يجمعُ بإثر ذلك -يعني أذان المغرب - لتكون الصّلاة في وقتها، ويُرَاعِي الوصف. والصَّحيحُ قولُ ابن القاسم؛ لأنّ السَّبب يَعُمُّ الوصفَ، والسّبب والوصف لا يعمّهما. وأعجب (¬4) منهما أنّه رُوِيَ عن مالكٌ؛ أنّه يجمعُ المغرب والعشاء في المطر والطِّين في أوَّل الوقتِ (¬5). ¬
ورَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ؛ (¬1) أنّه يؤخّر المغرب حتّى يكون الظّلام فيصلِّي حينئذٍ جَمعًا وينصرف، وعلى النّاس إسْفَارٌ. والرَّوايةُ الأُولَى أصحّ؛ لأنّه إذا أَخَّرَ المغرب عن أوّل وقتها، وقلنا: إنّ لها وقتًا واحدًا، يكون قد أخرج الصّلاتين معًا عن وقتيهما، وسُنَّةُ الجمع أنّ يؤخّر (¬2) الواحدة عن وقتها, ولا يطمئنّ إلى الجمع ولا يفعله إلّا جماعة مطمئنة النفوس بالسُّنَّة، كما أنّه لا يكيعُ عنها إلا أهل البداوة والجفاء. المسألة الخامسة (¬3): أمّا المرلض، فإنه على ضربين: أحدهما: أنّ يغلب (¬4) على عقله إنْ أَخَّرَ العصر إلى وقتها المختار، أو يخاف مانعَا أو حُمَّى (¬5) في وقتها. والثّاني: أنّ يأمن ذلك، ولكنّه يشق عليه تجديد الطّهارة، ويخافُ من ذلك زيادة المرض. فأمَّا الأوّل، فقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك (¬6)؛ أنّ له أنّ يجمع عند زوال الشّمس، وإذا غربت المغرب والعشاء، ونحوه في "العُتْبِيّة" (¬7) ولسحنون (¬8) لا يجمع الّذي يخافُ أنّ يذهب أو يُغلَبَ على عقله، إلَّا في آخر وقت الظّهر. ووجه ما قاله مالك: أنّ هذا احتياطٌ للصّلاة؛ لأنّ تأخيرها ربّما أَدَّى إلى تضييعها، وإذا جاز أنّ يقدِّمَ العصر مع الظُّهر إذا جَدَّ به السَّيْر، فإنّه يجوز له ذلك إذا خاف أنّ يغلب على عقله أَوْلَى (¬9). ¬
المسألة السّادسة (¬1): وهي إذا جمعَ قومٌ المغربَ والعشاءَ، ثم أَتَى رجلٌ المسجدَ بعد أنّ صلَّى في بيته، هل يصلِّي معهم أم لا؟ فقال أصْبَغُ وابن عبد الحكم: لا يعيدها (¬2). وقال ابنُ القاسم (¬3): يصلِّي معهم العشاء، ورُوِيَ عنه في "المبسوط " أنّه لا يصلّيها معهم، فإن صلّاها معهم، قال أَصْبَغُ وابن عبد الحكم: لا يعيدها (¬4). ووجه ذلك: أنّ هذا عندهم على الاستحباب لما قدّمناه من الاشتراك. المسألة السّابعة (¬5): فإن وجدهم قد صلوا، فقال مالكٌ (¬6): لا يصلّيها وحده في المسجد قبل الشَّفَقِ؛ لأنّ الجماعة الّتي أبيح لها تقديم الصّلاة قبل الشَّفَق قد فأتت، فيجب تأخيرها إلى وقتها. إلَّا أنّ يكون في مسجد مكَّة أو المدينة، فقال مالكٌ: يُصَلِّيها بعد الجماعة قبل الشَّفَقِ؛ لأنّ إدراك الصّلاة في هذه المساجد أعظم من إدراك فضيلة الجماعة. المسألة الثّامنة (¬7): وهي إذا فرغ من المغرب (¬8)، فهل يتنفَّل أحدٌ ممّن في المسجد؟ فعلى قولين: قال ابنُ حبيب: من شاء تَنَفَّلَ. وقال ابنُ نافع عن مالكٌ: لا يتنفَّل بعد العِشَاءين ليلة المطر، وعلى هذا هو العمل (¬9). تكملة: والجمعُ في السَّفَر والأعذار رخصةٌ وتخفيفٌ، والجمعُ في المزدلفة بين الصلاتين سُنَّةٌ، والحمدُ لله. ¬
قصر الصلاة للمسافر
قَصْرُ الصّلاة للمسافر الإسناد (¬1): الأحاديثُ في هذا الباب صِحَاحٌ، خَرَّجَهَا الأيمّة. وهو بابٌ عظيمٌ اضطربَ النّاسُ فيه؛ لأنّ أحاديثه كثيرة، ومسائله متشعِّبَةٌ. وقد جمع العلماءُ فيه أوراقًا، ونصبوا للبيان فيه رِوَاقًا (¬2)، فيها للطالب ظلٌّ وارفٌ، وكلُّ واحدٍ من علمائنا بها عارِفٌ، فنقول: لابدّ من مقدِّمات في سرد الأحاديث، وتفسير الآيات الواردة في القرآن في ذلك. والأحاديث الواقعة في الموطّأ حديثان: أحدهما: حديث عائشة (¬3): "فُرِضتِ الصّلاةُ ركعتينِ ركعتينِ، فَأُقِرَّت صَلاَةُ السَّفَرِ، وزيدَ في صلاةِ الحَضَرِ". الحديث الثّاني: حديثُ يَعْلَى بن أُمَيَّهَ (¬4)؛ قال لعُمَرَ بن الخطّاب: إنَّا نَجِدُ صَلاةَ الحَضَرِ في القرآنِ وصلاة الخَوفِ، ولا نجدُ صلاةَ السَّفَرِ فقال له عمر: سألتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم: كَمَا سَأَلتَنِي فَقَالَ: "هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". والحديثُ الّذي ذَكَرَهُ مالكٌ (¬5)، عن ابن شهاب، عن رَجُلٍ من آلِ خالدِ بن أَسِيدٍ؛ أنَّه سأَلَ ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نَجِدُ صلاةَ الخَوْفِ. الحديث. تنبيه على إسناده: قال الشّيخ أبو عمر (¬6): "لم يختلف رُواةُ الموطّأ في إسناده، والرَّجُلُ الّذي لم يسمِّه هو أُمَيَّة بن عبد الله (¬7) بن خالد بن أَسِيد بن أبي العيص بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن ¬
عبد مناف. وقد أقام إسناده جماعة من رُوَاةِ ابن شهاب وسمّو الرَّجُل، منهم: معمر، ويونس، والليث" (¬1). التفسير (¬2): قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية (¬3)، اعلموا أنّ ظاهر القرآن يقتضي أنّ القَصْرَ مشروطٌ بالخَوْفِ والسَّفَر، فَبّيَّنَ عمر بن الخطّاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ القصرَ مع الأمْن في السَّفَر صدقةٌ من الله، ثبتت (¬4) بفعل رسول الله عيَهتَ حين كان يقصر الصّلاة وهو مسافرٌ خائفا وآمِنًا. وإلى هذا السَّفَر أشار عبد الله بن عمر (¬5) في جوابه لأسِيد حين قال له: "إنّ اللهَ بعثَ إلينَا محمَّدًا ونحنُ لا نَعْلَمُ شَيئا، فإنّما نفعلُ كما رأيناهُ يفعلُ". إلَّا أنّ الإشكالَ الأكبر ما رواه مسلم (¬6) عن ابن عبّاس؛ أنّه قال: "فرَضَ اللهُ الصلاةَ على لسانِ نبِيِّكُم في الحَضَرِ أربعًا، وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ وَاحِدَةٌ". قال علماؤنا: هذا الحديث مردودٌ بالإجماعِ. جواب: إنّ هذا الخبر لمِ يُخبِر به ابن عبّاس عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7)، وإنّما أخبر به عن الله والدِّين، فيحتملُ أنّ يكون أَخَذهُ من ظاهر القرآن؛ لأنّه قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬8) فخاطبَ المسافرينَ الّذين صلاتهم ركعتان بالقَصْرِ لِعِلَّةِ الخوف، فلابدّ أنّ تكون واحدة. وأمّا حديث عائشة (¬9): "فُرِضتِ الصَّلاةُ ركْعَتَيْنِ" فأجاب عنه علماؤنا بخمسة أوجه: أحدها: - أنّها لم تخبر بذلك عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنّما أخبرت عن حال قد يدركها كل أحَدٍ (¬10)؛ لأنّ المسافر فَرْضهُ ركعتان، والمقيم فَرْضُه أربع، وهذا ثابتٌ في الدِّين قطعًا. ¬
فإن قيل: لو كانت مخبرة عن حالٍ ولم تستند من النَّبيِّ (2) إلى مقالٍ، لما كان في ذلك فائدةٌ؛ لأنّ كلَّ أحدٍ كان يعلم ما ذَكَرَت، وهي كانت أَفْقَه من ذلك. قلنا: رَوَى الدَّارقطنى (¬1)؛ أنّها - رضوان الله عليها - سافرت مع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فأتَمتْ، والنّبيُّ (¬2) يقصرُ مع غيرها، وصَامَتْ والنّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يفطر، وإنّما هذا كلّه تخريجٌ على أنّ المسافر هل يجوز له أنّ يصلِّي أربعًا أم لا؛ وهي مسألة خلافٍ مشهورةِ، والأدلّة فيها كثيرة، وعُمدَتُها: أنّ المسافر عندنا فَرْضُهُ التَّخيير بين الاثنين والأربع، إلَّا أنّ القَصْرَ له أفضل؛ لمواظبة النَّبيِّ -عليه السّلام- عليه، ولِفِعْلِ الصّحابة. وقد أتَمَّت عائشة في السَّفَر (¬3)، وأتَمَّ عثمان في السَّفَر (¬4). وقد رَوَى أنس بن مالكٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - انه قال: "أَمَا عَلِمتَ أنَّ اللهَ وَضَعَ عن المسافِر الصَّوم وشَطرَ الصَّلاةِ،" (¬5) فنَصَّ عليه السّلام على أنّ الأربع أَصْلٌ، وأن صلاةَ السَّفَر حطٌّ من الأصل. وهذا أَوْلَى من حديث عائشة؛ لأنّه لفظ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يحتمل تأويلًا، وحديثُ عائشة إخبارٌ منها، والله أعلم كيف تَلَقَّنَتْهُ؟ ومن أين تَلَقَّنَتْهُ؟ وهذا أيضًا يحتملُ التَّأويلَ. والنكته القاطعة عليهم في حديث عائشه هي: أنّ الرّاوي إذا رَوَى بخلافِ ما يفعل، سَقَطَ كلامُهُ، ولا يُعُمَلُ بِفِعْلِهِ أصلًا. التفسير الحسن والتّأويل القويّ في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} إلى قوله: {عَدُوًّا مُبِينًا} (¬6) ¬
الأحكام: قال الإمام: الضَّربُ في الأَرْضِ هو السَّفَر (¬1). وينقسم على أقسام: الأوّل (¬2):الهجرة وهي الخروجُ من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فَرْضًا في أيّام النّبيَّ عليه السّلام، وهذهَ الهجرةُ باقيةٌ إلى يوم القيامة، والّتي انقطعت بالفَتْحِ، هي القَصْدُ إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حيث كان، فمن أسلم وكان في دار الحربِ، وجبَ عليه الخروج إلى دار الإسلام. قال القاضي أبو الوليد (¬3): "الأسفارُ تنقسم على خمسة أقسام: الأوّل: سَفَرٌ واجبٌ. والثّاني: سَفَرٌ مندوبٌ إليه. الثّالث: سَفَرٌ مباحٌ. الرّابع: سَفَرٌ مكروةٌ. الخامس: سَفَرٌ محظورٌ. أمّا الثّلاثة، فلا يجوز القَصْر فيها، وإنّما يجب في السَّفَر الواجب والمندوب بلا خلاف في قَصْر الصّلاة فيهما" (¬4). ¬
الثّاني (¬1): الخروج من أرض البدعة قال ابنُ القاسم: سمعتُ مالكًا يقول: لا يحلُّ لأحدِ أنّ يقيم بأرضِ يُسَبُّ فيها السَّلَفُ (¬2). وهذا صحيحٌ؛ لأنّ المنكر إذا لم يُقْدَرْ على تغييره لم (¬3) يقم في تلك الأرض. القسم الثاّلث (¬4): الخروج من أرضٍ غلبها الحرام فإن طَلَبَ الحلالِ فَرْضٌ على كلً مسلمٍ. وقد قيل في قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ" (¬5) أنّه طلب علم الحلال من الحرام. القسم الرّابع (¬6): الفرار من الإذاية في البدن (¬7) وذلك واجبٌ على المؤمن (¬8) إذا خَشِيَ على نفسه في موضعِ فَرَّ منه إلى موضع آخر، فقد أَذِنَ اللهُ في الخروجِ عنه والفرار بنفسه. وأوَّلُ من فعلَ ذلك الخليل إبراهيم -عليه السّلام- لَمَّا خافَ من قومه، قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (¬9) وكان بعده موسى عليه السّلام، قال الله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} الآية (¬10). وله نظائر كثيرة، وتلحق (¬11) به، وهو: ¬
الخامس (¬1): خوف المرض في البلاد الوَخِيمَةِ (¬2)، والخروج منها إلى أرض النُّزْهَةِ، وقد أَذِنَ اللهُ للنّبيَّ -عليه السّلام- في الدُّعاء حين اسْتَوخَمُوا (¬3). السّادس (¬4): الفرارُ خوف الإذاية في المال فإن حُرمَةَ مَالِ المسلم كحرمةِ دَمِهِ، وهذا قسم الهرب، وأمّا قسم الطَّلَبِ، فينقسم إلى قسمين: طلبُ دِين، وطلب دُنيا. فامّا طلب الدِّين، فيتعدّدُ بِتَعَدُّدِ أنواعه، ؤلكن أمّهاته الحاضرة الآن في الخاطر (¬5) سبعة: الأوّل: سَفَرُ العْبرَةِ. قوله سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬6). ويقال: إنّ ذا القرنين إنّما طاف (¬7) ليرى عجائبها. وقيل: لينفذَ الحقَّ فيها. الثّاني: سَفَرُ الحجِّ. والأوَّلُ وإن كان نَدْبًا فهذا فَرْضٌ، وقد بيَّنَّاهُ في موضعه. والثّالث: سَفَرُ الجهاد، وله أحكامٌ كثيرة يأتي إنّ شاء الله بيانها في "كتاب الجهاد". الرّابع: سَفَرُ المعاش؛ فقد يتعذَّر على المرء معاشه مع الإقامة، فيخرج في طلبه لا يريد غيره ولا يزيد عليه، وهو فَرضٌ عليه. الخامس: سَفُر التجارة والكَسبِ الكثير الزّائد على القُوتِ، وذلك جائزٌ بفضل الله سبحانه، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬8) يعني التِّجارة، وهذه نعمةٌ. ¬
السّادس: في طلب العلم والرِّحلة، وهذا مشهور. السّابع: السَّفر لفضل (¬1) البُقّعِ الكريمة، وذلك لا يكون إلَّا في نوعين: أحدهما: المساجدُ الثّلاثة، لقوله: "لا تُشَدُّ الرَّحَالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجد" (¬2). الثّاني: في الثَّغور للرِّباطِ بها، وتكثُرُ الشَّواهدُ عليه (¬3)، وله فضلٌ كثيرٌ وأجرٌ عظيمٌ، يأتي بيانُه في "كتاب الجهاد" إنّ شاء الله. الثّامن: السَفَر في زيارة الاخوان والأولياء في الله تعالى، وله شواهد كثيرة، وآثارٌ حِسَانٌ، يأتي بيأنّها في "كتاب الجامع" إنّ شاء الله. الفقه في ست مسائل: المسألة الأولى (¬4): اختلف العلماءُ في قَصْرِ الصّلاة للمسافر مع الأَمْنِ، على أربعة أقوال: أحدها: أنّ القصر لا يجوزُ. والثّاني: أنّه واجبٌ فَرْضًا (¬5). الثاّلث: أنّه سُنَّةٌ مسنونَهٌ من السُّنَنِ المشهورة. الرّابع: أنّه رُخصَةٌ وتوسِعَةٌ. واختلف الذين، رأوه رخصةً وتوسعةً في الأفضل من ذلك: فمنهم من رأى القصر أفضلَ. ومنهم من رأى الإتمام أفضلَ. ومنهم من تَحَرَّى الأمرين (¬6) من غير أنّ يفضِّلَ أحدهُما على صاحبه. والأصل في اختلافهم في فَرْضِ الصّلاة كيف فُرِضَتْ؟ ¬
المسألة الثّانية (¬1): اختلفَ العلماءُ في القصرِ الّذي رفعَ اللهُ الجُنَاح فيه بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية (¬2)، على خمسة أقوال: الأوّل: أنّه أراد به القصر من طُولِ القراءة والرّكوع والسّجود، دون أنّ ينقص من عدد الرَّكعات عند الخوف قبل أنّ تنزل صلاة الخوف. والقولُ الثّاني: أنّه (¬3) القصر من حدود الرَّكعات (¬4) بصلاتهم إيماءًا إلى القِبْلَةِ، وإلى غير القبلَةِ عند شِدَّةِ الخوف والتحام الحرب، كقوله في آية البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬5). والقولُ الثّالث: أنّه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين عند الخوف. الرّابع: أنّه القصر من ركعتين إلى ركعة عند الخوف، وعلى هذا يأتي ما رُوِيَ عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه صَلَّى بكلِّ طائفةٍ ركعة ولم يقضوا (¬6) (¬7). والخامس: أنّه القصر من أربع إلى ركعتين في السَّفَر من غير خوفٍ، على ما رُوِيَ عن علي بن أبي طالب؛ أنّه قال: سأل قومٌ من التُّجَّارِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّا نضربُ في الأرض، فكيف نصلِّي؟ فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وانقطعَ الوحيُ، فلمّا كان بعد ذلك بحَوْلٍ، غَزَا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فصلَّى الظُّهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمدٌ وأصحابُه منَ ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إنّ لهم أخرى مثلها في إثرها. فأنزل اللهُ بين الصّلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية (¬8)، فنزلت في صلاة الخوف (¬9). ومن هنا قال بعض ¬
العلماء: إنّ القصر مشروط بالخوف. قال أبو جعفر الطَّبري (¬1):" وهذا تأويلٌ حَسَنٌ في الآية، صحيح لو لم يكن في الكلام "إذا"؛ لأنّ "إذا" تؤذن (¬2) بانقطاع (¬3) ما بعدها على معنى ما قبلها" (¬4)، وسيأتي الكلام عليه في صلاة الخوف إنّ شاء الله. والقصر في الصّلاةِ فَرْضٌ عند أبي حنيفة (¬5)، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي وجماعة كثيرة، وأبو بكر (¬6) بن الجهم (¬7)، ورأيتُ لمالك من رواية أشهب عنه؛ أنّ فرضَ المسافر ركعتان، وذلك خلاف ما حكاهُ عنه ابن الجهم (¬8). تفريع في خمس مسائل: المسألة الأولى: في حد القَصْر فعن مالك - رحمه الله - في ذلك أربع روايات: إحداها: يومٌ وليلةٌ. الثّانية (¬9): يومان. الثّالثة (2): فستة وثلاثون مِيلًا. الرّابعة (2) - وهو الظّاهر-: ثمانية وأربعون مِيلًا. وقال الشّافعيّ (¬10) وأحمد وإسحاق والثّوريّ: لا يجوز القصر إلّا في سَفَر ثلاثة أيّام، ورُوِيَ ذلك عن ابن مسعود وسُوَيْد بن علقمة وابن جُبَيْر والنَّخَعىّ. ¬
وقالت جماعة أخرى: تُقصَرُ الصّلاةُ في قليل السَّفَر وكثيره، واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الاَية (¬1) وهذا عامٌ، وقال قوم: ليس بعامٍّ، وإنّما هو مُجْمَلٌ. قلنا: لا نُسَلِّم أنّه من باب المُجْمَلِ؛ لأنّ المُجْمَلَ ما لا يفهم المراد منه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، مثل قوله: {وَءَاتُواحَقَّهُ يَومَ حصاده} (¬2). وأمّا (¬3) مذهب مالكٌ أنّه قال: يوم وليلة، فرَوَى ابنُ القاسم أنَّه رجع عنه. وقال ابن حبيب: تُقصَرُ في أربعين مِيلًا، وهو قريب من أربعة بُرُدٍ. ورَوَى أشهب عن مالكٌ القصر في خمسة وأربعين مِيلًا. ورَوَى ابنُ القاسم أنّه من قصرَ في ستّة وثلاثين مِيلًا أنّه لا يعيد. وقال ابنُ الموَّازِ عن ابن عبد الحَكَم: إنه يعيد في الوقت، فإن قَصرَ في أقلّ من ذلك أَعَادَ أَبَدًا. وقال أبو حنيفة: لا تُقصَرُ الصّلاة في أقلّ من مسيرة ثلاثة أيّام (¬4). المسألة الثّانية (¬5): إذا ثبت هذا من مراعاة المسافات في الْبَرِّ، فإنّ حُكمَ البحر في ذلك كحُكمِ الْبَرِّ، فإن كان السَّفَر بَرٌّ وبَحْرٌ، فقد قال ابن الماجِشُون: إنّ كان في أقصاه باتِّصال الْبَرّ والبحر مسافة القصر قصر. وقال ابن الموّاز: إنْ لم يكن في الْبَرِّ مسافة قَصْرٍ (¬6)، وكان المركب لا يبرح إلّا بِالرَّيح، فلا يقصر في الْبَرِّ حتّى يركب البحر ويبرز عن الْبَرِّ بشيءٍ (¬7)، وإن كان يجري بالرَّيح وغيرها، فليقصر من حين يخرج بالبرّ (¬8). ¬
قال الإمام (¬1): وأهلُ البحر في ذلك بمنزلة أهل البرّ، وقد قيل: لا يقصر أهل البحر إلَّا في مسافة يوم وليلة. المسألة الثّالثة (¬2): ذهب مالك - رحمه الله - إلى أنّ المسافر لا يقصر حتّى يجاوز بيوت القرية، والتّجاوزُ عنده هو ألَّا يكون أَمَامَهُ ولا عن يمينه ولا عن يساره منها شيءٌ، وهو المشهور عنه من رواية ابنِ القاسم. وقال ابن الماجِشُون (¬3): لا يقصر حتّى يجاوز بيوت القرية بثلاثة أميال، وأمّا ما كان من القرى الّتي لا يجمع فيها، فإنّه يراعى الحيطان والجدران (¬4). المسألة الرّابعة: وهو أنّ يكون سَفَرُهُ من شَرْطِهِ أنّ يكون وجهَا واحدًا، يريد الإتمام (¬5) أربعة بُرُدٍ. فرعٌ غريبٌ: وهو مُشْرِكٌ خرجَ إلى سَفَرس يقصرُ المسلمُ في مِثلِهِ، فلمّا مَشَى شيئًا من الطّريق أسلمَ، هل يقصر أم لا؟ ففي ذلك قولان: قيل: لا يقصر؛ لأنّه لم يبق له من الطريق ما يقصر في مِثْلِهِ، فإنْ بَقِيَ له وجبَ عليه. وقيل: إنه مخاطَبٌ بفروع الشّريعة (¬6)، فيجب عليه القصر من حين خروجه، وهذا ضعيفٌ، والصّحيحُ أنَّه لا يقصر في ذلك السَّفَر. فرعٌ ثانٍ: مسافرٌ صلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ، فيه ثلاثة أقوال: قال مُطَرِّف: لا يجوز ذلك لمسافر إلَّا في الأمصار الكبار، مراعاةً لفضلِ كَثْرَةِ الجماعة فإنّه يجوزُ. ¬
القولُ الثّاني - قيل: إنّه يصلَّي وراءه ركعتين ويجلس حتّى يتم الإمامُ المقيمُ ويسلَّم ويسلِّم. القولُ الثّالث - قيل: إنه يُتِمُّ معه؛ لأنّه دخل في حُكمِهِ. وفيه قولٌ رابعٌ - قيل: يصلِّي معه ويعيدُها سَفَرِيّة، والنّكْتة أيضًا في قول ابن عمر: "لو صَلَّيتُ النَّافِلَةَ في السَّفَرِ لأَتْمَمْتُ صلاَتي" (¬1) فهو منه فقهٌ حَسَنٌ؛ لأنّ القَصرَ إنّما هو للتّخفيفِ، ولذلك يقول النّاسُ عن عبد الله بن عمر: إنّه لا يرى النّافلة في السَّفَرِ. فرعٌ ثالثٌ: إذا صلَّى المسافرُ الجمعةً في قريةٍ من عَمَلِه لا تجبُ فيها الجمعة، فصلاتُه وصلاةُ المسافرين جائزةٌ، ويُتمُّ أهل الحَضَرِ صلاتهم ظهرًا أربعًا، وليس عليهم أنّ يعيدوا، قاله ابن عبد الحكم. وقال ابنُ القاسم: يُعيدون كلّهم صلاتهم في الوقت. فرعٌ رابعٌ: إذا نَوَى أربعًا ثم سَلَّمَ من ركعتين، قال في "الكتاب" (¬2): لا يُجزئه؛ لأنّه قد لزمه الإتمام بدخوله فيه بنية الإمام، واختلف فيه ابن القاسم. فرع خامس: إذا نوى ركعتين ثم أتَمَّ أربعًا، يعيدُ في الوقت؛ لأنّ نيته لزيادة العدد لم تتقدَّمه نيةٌ. فرع آخر: إذا نوى الأربع فصَلَّى (¬3) ثلاثًا، لَزِمَهُ الأربع؛ لأنّ الثّلاثة لم تشرع قطّ. فرع آخر: إذا صلّى ونوى أربعًا جهلًا منه، فظَنَّ أنّ صلاة الحَضَر والسَّفَر سواءٌ، مضت صلاته على قول الاختيار، وأعاد في الوقت على قول من راَهُ سُنَّة. ¬
صلاة المسافر إذا كان إماما
صلاةُ المسافر إذا كان إمامًا في هذا الباب مسائل: المسألة الأولى (¬1): "كانَ عمرُ إذا قَدِمَ مكَّةَ صلّى بهم ركعتين" (¬2) لأنّه كان لا يستوطن مكَّةَ، وإن أقام اليومين والثّلاثة؛ لأنّ المهاجر ممنوعٌ من استيطإنها؛ لأنّه (¬3) قد هجرها لله تعالى، فكان حُكمُهُ فيها حكم المسافر. تنبيه على إشكالٍ (¬4): قال الإمام: وقع الإشكال الّذي هذه الإقامة بمكّة، وإنَّي لأعجب من قول ابن عبَّاس- مع سَعَةِ عِلْمِهِ وتَبَحْبُحِهِ في الأخبار والآثار-: أقام رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ خمسة عشر يومًا يقصرُ الصّلاة، فنحنُ إنّ أقَمْنَا خمسة عشر يومًا قصرنَا، وإنْ زِدْنَا أَتممْنَا (¬5). ورُوِيَ سبعة عشر يومًا (¬6)، وإقامةُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذه المرة لم تكن بنيّة الإقامة، وإنّما كان متوكِّفًا للرّحيل مُتَشَوِّقًا إلى القفول، والعوارض تلويه، حتّى تجرَّدَ عنها. ومَنْ أقام على هذه الحال سَنَة قصر الصّلاة، لكن مالكًا - رحمه الله - رأى حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -:"يمكثُ المهاجرُ بمكَّةَ ثلاث ليالٍ" (¬7) فركّب عليه. وجهُ التَّركيبِ (¬8): وذلك أنّ الله حرم على المهاجرين الإقامة بمكَّة؛ لأنّهم تركوها لئه، فلم يجز الرُّجوع فيها، كما لا يجوز الرّجوع في الصَّدَقَةِ. فلمّا اْذِنَ النَبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لهم في ثلاثة أيّام ¬
بعد قضاء الحَجِّ، دلَّ على أنّ الثلاثة ليست في حُكْمِ الإقامة المحرَّمَة، فعدلَ عن هذا الحديث وترَكَهُ؛ لأنّه من رواية الوحْدَانِ، واللهُ أعلم. وسمعتُ بعض علماء المالكية وأحبارها يقول: إنّما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حُكْمِ الإقامة؛ لأنّ الله تعالى أَرْجَأَ فيها مَنْ أنزلَ به العذاب وتيقَّنَ الخروج عن الدُّنيا، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الآية (¬1). وأدخل (¬2) قول سعيد بن المسيَّب: "مَنْ أَجْمَعَ إقَامَةَ أربعة أيّامٍ (¬3) وهو مسافرٌ، أتَمَّ الصّلاَة" إذ لم يجد أَنصَّ منه في الغَرَضِ، وإن كان ليس بحُجَّةٍ يُتَوَسَّل به إلى طلب الحُجَّة. تكملة (¬4): لم يختلف العلماء في مكثه عام الفتح بمكَّة -عليه السّلام-، واختلفوا في قَدْرِ ذلك على أقوال: القول الأوّل: ما ذكره مالكٌ (¬5)، وقوله (¬6): "أَحَبُّ ما سمعتُ إِلَيَّ في ذلك" لأنّه سمع الخلاف فيه. القول الثّاني: قال الشّافعيّ (¬7): إنّ عزم أنّ يقيم بموضع أربعة أيّام ولياليهنّ أَتَمَّ الصّلاة، ولا يجب ذلك يوم نزوله. وأسند أبو بكر بن أبي شَيبَة في مُسْنَدِه (¬8)، عن ابن المسيَّب قال: إذا أجمعَ الرَّجُلُ إقامةَ خمسة عشر أتَمَّ الصّلاة، وهو حديثٌ صحيحُ الإسناد. وقال اللَّيث: إنّ نَوَى إقامة خمسة عشر فما دون قَصرَ، وإن نَوَى أكثر من ذلك أَتَمَّ الصّلاة، وزعم أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لم يقصر، مقيمًا في سَفَرِهِ أكثر من هذه المدّة، فمن زاد عليها شيئًا لَزِمَهُ الإتمام. ¬
صلاة الضحى
قال الإمام: وهذا لَعَمرِي وجهٌ لو لم يختلف في مقامه -عليه السّلام- عام الفتح بمكّة. وفيه قول آخر عن ابن المسيَّب؛ أنَّه قال: إذا أقمت ثلاثًا فأتم الصّلاة (¬1). وفيها قولٌ سادس؛ قال أحمد بن حنبل (¬2) وداود، ورواه ابن حنبل عن عائشة وجابر، عن النّبيِّ عليه السّلام؛ أنّه قَدِمَ مكَّةَ صَبِيحَةَ رابع من ذي الحجّة. قال أحمد ابن حنبل: وقد أزمعَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - على مقامِ أَربعة أيّام فقصر، فمن زاد على ذلك فإنّه مُقِيمٌ يُتِمُّ. صلاةُ الضُحَى مالك (¬3)، عن موسى بن مَيسَرَةَ، عن أبي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيل بن أبي طالب؛ أنّ أُمَّ هانئ بنتَ أبي طالبِ، أَخْبَرَتهُ؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - صَلَّى عامَ الفتحِ ثمان (¬4) ركعاتٍ، مُلتَحِفًا في ثوبٍ واحدٍ. الإسناد: قال: أصحُّ شيءِ في هذا الباب حديث أم هانئ هذا (¬5)، والصّحيحُ (¬6) في أبي مُرَّة أنّه مَوْلَى عَقِيل كما قال مالكٌ. ولكنّه يقال فيه مولى أمّ هانئ. واسمه يزيد، واسم أم هانئ فاختة. تنبيه على وهم (¬7): أمّا قولُ الشّارحين للحديث: "أصحُّ شيءِ في هذا الباب حديث أمّ هانئ" فإنّ ¬
تلك الصّلاة لم تكن صلاة الضُّحى، ولا كان المقصود بها الضُّحَى، إنّما كان المقصود بها شكر الله تعالى على ما وهب من الفتح وجَميلِ الصُّنْعِ والعافية والنَّصْرِ. وقد صحَّ في صلاة الضُّحَى أحاديث صِحَاحٌ، وأقلُّها ركعتان (¬1). تنبيه على تفسير بديع: قال علماؤنا: إنّ صلاة الضُّحَى كانت صلاة الأنبياء عليهم السّلام قبل محمّد (¬2)، قال الله تعالى مخبرًا عن داود -عليه السّلام-: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (¬3). العربيّة (¬4): قال الإمام: الضُّحَى- مقصور مضموم الضّاد-: هو طلوعُ الشّمسِ. والضُّحاء ممدود مفتوح الضّاد هو إشراقها وضياؤها. قال الشاعر (¬5): أعْجَلَهَا أقْدُحِيُّ الضَّحَاءَ ضُحًى ... وهي تُنَاصِي (¬6) ذَوَائِبَ السَّلَمِ يصف إبلًا ضرب عليها بالمسير ضُحى، فقمرها ونَحرَها قبل أنّ تبلغ الضُّحى. قاعدة في سرد الأحاديث الواردة في هذا الباب: وهي ثمانية أحاديث، وهي آثار حسان مرغوب فيها (¬7)، وفيها فضلٌ كثيرٌ. الحديث الأوّل: حديث أم هانئ المتقدِّم. ¬
الحديث الثّاني: الّذي في مسلم (¬1)، قال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "على كلَّ سُلَامَى من أَحَدِكُم صَدَقَةٌ، فكلُّ تسبيحة صَدَقَةٌ، وكلُّ تحميدةِ صَدَقَةٌ، وكلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صَدَقَةٌ، والأمرُ بالمعروفِ صَدَقَةٌ، والنَّهيُ عن المنكرِ صَدَقَةٌ، ويُجْزئ من ذلك رَكعَتَا الضُّحَى". الحديث الثّالث: وقع في سنن أبي داود (¬2)، عن أبي هريرة؛ أنّه قال: "أَوْصَاني خَلِيلي أبو القاسم - صلّى الله عليه وسلم - بثلاثٍ: صوم ثلاثة أيّامٍ من كلِّ شَهرٍ، وألَّا أنام إلَّا على وِتْرٍ، ورَكعَتَي الضُّحَى". الحديث الرّابع: روى الأعمش، عن ثابت، عن أنس، قال: قال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: " يا أنس، صَلِّ صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوَّابِينَ" (¬3) وإليه الإشارة إلى الاقتداء بداود -عليه السّلام- في قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} الآية (¬4). الحديث الخامس: حديث أبي هريرة قال: "من حافَظَ على صلاة الضُّحَى غفرت ذنوبه" (¬5). الحديث السادس: رُويَ من حديث زيد بن أرقم، قال خرجَ على أَهلِ قباء وهم يصلُّونَ الضُّحَى فقال: "صلاة الأوَّابِينَ" (¬6). الحديث السّابع: في الأخبار الواردة "أنّ للجنَّةِ بَابًا يسمَّى باب الضُّحَى، لا يدخله إلَّا مَنْ دَاوَمَ على صلاة الضُّحَى" (¬7). وهو ضعيفٌ، لكنّه حَسَنٌ في الباب في معنَى التَّرغيبِ. الحديث الثّامن: عن أبي أيّوب الأنصاريّ، قال: رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى ¬
أربع ركعات عند زوال الشَّمس. فسألته عن ذلك. فقال: "يا إنّ أيوب إنّ أبوابَ الجنَّةِ تفتح عند زوال الشَّمسِ، فأحبّ أنّ يصعد لي في تلك السّاعة خير" قال: قلت: يا رسول الله، نفصلُ بينها بسلام أو كلام؟ قال: "لا" (¬1). ذكر الفوائد المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي أربع عشرة فائدة: الفائدة الأولى: رُوِيَ أنّه صلَّى بالاتِّفاقِ (¬2) لا بالقَصْدِ. وقد اخْتُلِفَ في حديث أمِّ هانئ، فرُوِيَ أنّ ذلك كان في بيتها، ورُوِيَ أنّها قالت: جئت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو بالأبطَح يغتسل في قُبَّهٍ له، وابنته فاطمة تستره، فعاجلتُهُ بالكلام قبل أنّ يكمل غسلَهُ، وكلَّمَهَا النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في تلك الحالة (¬3). وإذا كان الرَّجُلُ على حاجةٍ لايتكَلَّم ولا يُكَلَّم. وإذا كان في غسلهِ ووضوئه، فقد رُوِيَ أنّ الافضلَ ألَّا يتكلَّم. وحديث أم هانئ أصَحّ. الفائدة الثّانية (¬4): فيه من الفقه: الاغتسال بالعَرَاء إلى سُتْرَةٍ؛ لأنّ اغتسالَهُ ذلك كان منه وهو بالأبطَح، وفيه كان نزوله يومئذٍ. الفائدة الثّالثة: قوله (¬5): "مَنْ هَذهِ؟ فقالت: أم هانئ. فقصَّتْ عليه القِصَّة، فقال لها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: قد أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أمَّ هَانِيء" اختلف العلماء في أمان المرأة، وفي هذا ردٌّ على أشهب، وذلك أنّه يرى إجارة المرأة المشرك لا تجوز، إلَّا أنّ يجيزها الإمام، وجوّزها ابن القاسم. وأمّا الأيمّة قال بعضهم (¬6): هذا دليلٌ على جواز أَمَانِ المرأة، وأنّها إذا أَمَّنَتْ مَنْ أَمَّنَتْ حرمَ قَتْلُه وحُقِنَ دَمُهُ، وأنّها لا فرقَ بينها وبين الرَّجُل ¬
وإن لم تقاتل. هذا مذهبُ جمهور الفقهاء بالحجاز والعراق: مالكٌ (¬1) والشّافعىّ وأبي حنيفة وابن حنبل وأصحابهم وداود والأوزاعي. وقال ابن الماجِشُون: أَمَانُ المرأةِ موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جازَ، وإن رَدَه رُدَّ؛ لأنّها ليست ممن يُقاتل، ولا لها سهمٌ في الغنيمة. واحتجَّ بها من ذهب إلى أنّ أمان أمِّ هانئ لم يكن جائزًا على كلِّ حالٍ دون الإمام، ولو كان كذلك لقتل من لا يجوز قتله، لا أمان من لا يجوز أمانه (¬2)، ولو كان أَمَانُهَا جائزًا، لقال لها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: من أمّنت أنت أو غيرك من النِّساء، فلا يحلّ قتله، فلمّا قال لها: " قد أمّنا من أمّنتِ، وأَجَرْنَا من أَجَرْتِ"، كان ذلك دليلًا على أنّ أمانَ المرأة موقوفٌ على إجازة الإمام أو ردِّه. نكتةٌ أصولية (¬3): قال الإمام: هذه المسألة تبيِّنُ أنّ المرأة وإن (¬4) كان لا يلزمها القتال، فلها أن تقاتل، ولها أنّ تُؤَمِّن، وهذا أيضًا ينبني على أصل: وهو أنّ الأَمان هل هو ولاية، أم عقد يعقد؟ فعندنا أنّه عَقْدٌ. وقال أبو حنيفة: هو ولاية (¬5) , لأنّ فيه إنفاذ قول الغَيْرِ، وتحجيرُ ما كان مُبَاحًا في الأصل. والعُمدَةُ فيه: قولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تتكافأ دِمَاؤُهُم، ويسعَى بذِمَّتِهِم أَدَنَاهُمْ، ويَرُدُّ؛ عليهم أَقْصَاهُمْ، وهم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم" الحديث إلى آخره (¬6). تنبيهٌ على إغفالٍ: قال الإمام: وهذا الرّجل الّذي أجارته أمّ هانئ، قيل: إنّه زوجها. وقيل: حموها، وهو الّذي ذَكَرَهُ ابن إسحاق. ¬
وقد قيل -كما قدمناه-: إنّه هبيرة بن أبي وهب (¬1)، والله أعلم. الفقه (¬2): واختلفَ أيضًا العلماء في جواز إجارة الصّبيِّ والعبد، فجوَّزَ ذلك مالك، والشّافعي، والثّوري، وابن حنبل، وداود، وسواءٌ قاتلَ أو لم يقاتل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: أَمَانُهُ غير جائز إلَّا أنّ يقاتل، وروي عن ابن عمر معناه. وأمّا العبدُ والصبيُّ فسواء عندهم، على الخلافِ فيهم وفي المرأة. أصطلام (¬3): قال الإمام: ليس في حديث أمِّ هانئ بيان بجواز إجارة المرأة إلَّا من حيث أقرها على قولها: "قد أَجَرْتُه" ولم ينكر ذلك عليها. الفائدة الرّابعة (¬4): قوله (¬5) "وفاطمةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ" فيه من الفقه: ستر ذوي المحارم من النِّساء لمن يحرم عليهنّ من الرِّجال، وهو حَسَنٌ مُبَاحٌ. الفائدة الخامسة (¬6): فيه من الفقه: جواز السّلام على من يغتسل، وفي حُكمِ ذلك السّلام على من يتوضَّأ، وردُّ المتوضِّئ السّلام في حال عمله ذلك، كُرِهَ ذلك لو لم تكق تلك حَالُهُ؛ لأنّه أخذَ بالأَدَبِ في قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬7) ولم يخصّ حالًا من حالٍ، إلّا حالًا لا يجوز فيها الكلام. ¬
الفائدة السادسة (¬1): قوله (¬2): "مَنْ هَذ؟ " يحتمل أنَّه لم يعرفها بنطقها بالسّلام. وقد استدلَّ بهذا من زعم أنّ شهادةَ الأعمى لا تجوز؛ لأنّ (¬3) الأصوات لا يقع التّمييز بها. وهذا ليس فيه تعلّق؛ لأنّ من يجيزُ ذلك لا يقول: إنّ كلّ من سمع متكلَّمًا يميِّز صوته، ولكنّه يقول: إنّ منها ما يقع التّمييز به. الفائدة السّابعة (¬4): فيه: التّرحيب بالزّائر (¬5)، وما كان عليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من الأخلاق الجميلة الحسنة، وصِلَةِ الرَّحِمِ، وطِيب الكلام، ألَّا ترى إلى قوله: "مَرْحَبًا يا أمَّ هانئ". ويروى" مرحبًا بأمِّ هانئ" (¬6). والتّرحيب والابتهال (¬7) ممّا يستدلُّ به على فرح المزُورِ بالزّائر، وفرح المقصود إليه بالقَاصِد، وهذا معلومٌ عند العرب، قال شاعرهم في ذلك وهو عمرو بن الأهتم (¬8): فقلت له (¬9) أَهْلًا وَسَهلًا وَمرحبًا ... فهذا مَبِيتٌ (¬10) صَالحٌ وَصَدِيقٌ الفائدة الثّامنة (¬11): "زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَليٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْتُهُ" (¬12) فيه من الفقه: ما كانوا عليه من تسمية كلِّ شقيق (¬13) بابن أُمّ، دون ابن أَبٍ عند ¬
الدُّعاء لهم والخَبَرِ عنهم، ليدلُّوا بذلك على قُرْبِ المحلِّ من القلب، والمنزلة من النّفس، إذا جَمَعَهُنم بطنٌ واحدٌ، وبهذا نطقَ القرآنُ على لغتهم، قال الله تعالى حاكيًا عن هارون أخي موسى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ} (¬1). الفائدة التّاسعة (¬2): قوله (¬3): "صَلَّى حينَ طلعتِ الشّمْسُ (¬4) ثمانِ رَكَعَاتٍ" يريد بذلك انّها صلاة نافلة (¬5)، ولم يبيِّن ذلك في الحديث. وليست (¬6) صلاة الضُّحى من الصّلوات المحصورة بالعدد فلا يزاد عليها ولا ينقص منها, ولكنّها من الرّغائبِ الّتي يفعلُ الإنسانُ منها ما أمكنه. وإن قصدَ بذلك التَّأسَّي بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فليصلّها (¬7) ثمان ركعات من غير أنّ يجعل ذلك حدًّا ولا (¬8) بأس به. وليس في الحديث ما يدلُّ أنّه يسلِّم من كلِّ ركعتين، ولا أنّه صلّاها بإحرامٍ واحدٍ، وإنّما قَصَدَت إلى ذِكْرِ عدد الرَّكعاتِ. وقد رَوَى ابن وَهْب في حديث أمِّ هانئ أنّه سلَّم من ركعتين (¬9). الفائدة العاشرة (¬10): في وقتها وذلك أنّ صلاته كانت إذا أشرقت الشّمسُ وأّثَّرَ حرُّها على الأرض، والجُهَّالُ يصلُّونها عند طلوع الشّمس (¬11)، وليس ذلك وقتها، وإنّما وقتها إذا طلعت مقدار ثلاثة أعصية (¬12). ¬
وقولها (¬1): "وذلك ضُحىً" يريد أنّها ليس بوقت صلاة فَرْضً. وهذا أصل في صلاة الضحى. الفائدة الحادية عشر (¬2): قول أمّ هانئ (¬3) "وذَلِكَ ضُحًى" فيه: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يصلِّي الضُّحَى، وليس في (¬4) قول عائشة (¬5): "ما سَبَّحَ رسولُ الله سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وإنِّي لأَسْتَحِبُّهَا" (¬6). وقولها (¬7): "سُبْحة الضُّحَى" تعني صلاة الضُّحَى، والسُبْحَةُ صلاةُ النَّافلة في الأغلب، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬8) قال أهل التّفسير: يعني من المصلِّين، إلَّا أنّ السُبْحَةَ إنّما لزِمت النّافلة في الأغلب. الفائدة الثّانية عشر (¬9): وأمّا الصّحابة - رضوان الله عليهم - فمنهم من كان يُصَلِّي الضّحَى، ومنهم من كان لا يصلِّيها. قال الشّعبي (¬10)، سمعت ابن عمر يقول: ما صَلَّيْتُ الضُّحَى منذ أسْلَمْتُ (¬11). وقال ابنُ عمر ما صَلّاها أبو بكر ولا عمر (¬12). وقال غيره: لم يخبرني أحد أنّه رأى ابن مسعود يصلِّي الضُّحَى (¬13). ¬
جامع سبحة الضحى
الفائدة الثّالثة عشر (¬1): أمّا التّابعون فكانوا يُصلُّون الضُّحَى، ويكرهون أنّ يدعوها كالمكتوبة، وصلّاها أيضًا ابن عبّاس (¬2) وابن المسيَّب (¬3) والضَّحَّاك (¬4) وجماعة ذكرهم ابن أبي شَيْبَة (¬5) وغيره. وكانوا أيضًا يختلفون فيها، فمنهم من كان يواظبُ عليها، ومنهم من لم يصلِّها قَطُّ. وأمّا عائشة، فكانت تصلَّيها ثمان ركعات، وكانت تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتهن (¬6). جامعُ سُبْحَة الضُّحى مالك (¬7)، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، عن أنس بن مالكٌ؛ أنّ جدَّته مُلَيْكة دَعَت رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى طعامٍ، فأكلَ منه، ثمّ قال: "قُومُوا فَلأصَلِّيَ لَكُمْ" قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا قد اسْوَدَّ من طُولِ ما لُبِسَ، فنضَحْتُهُ بماءٍ. فقام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وصَفَفْتُ أنا واليتيمُ وراءَهُ، والعجوزُ من ورائنا، فصَلَّى لنا ركعتين، ثمّ انْصَرَفَ. التّرجمة (¬8): قال الإمام: أدخل مالك - رحمه الله - حديث أنس في صلاته مع اليتيم في جامع سُبْحَةِ الضُّحَى، وليس للضُّحَى فيه ذِكْرٌ، وإنّما تَلَقَّفَهُ مِنْ قوله فيه: "أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى طعامٍ صَنَعَتْهُ". والظّاهرُ أنّ ذلك كان في وقتِ الغَدَاةِ عند تناول الغداء، وإن كان يحتمل سائر أوقات النّهار. ¬
الإسناد: قال أبو عمر (¬1):"في هذا الحديث أنّ جدَّته مُلَيْكَة، بعض الشّارحين يقول: إنّ الضمير الّذي في جَدَّتِهِ عائدٌ على إسحاق، وهي جدَّة إسحاق أمّ أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أمّ سُلَيم ابنة مِلْحَان زوجِ أبي طلحة الأنصاريّ، وهي أمّ أنس بن مالك، كانت تحت أبيه مالكٌ بن النَّضر، فوَلَدَت له أنس بن مالكٌ، والبراء بن مالكٌ، ثم خلف عليها أبو طلحة". الفوائد المتعلّقة بهذا الحديث: وهي ثمان فوائد: الفائدة الأولى (¬2): دعوةُ مُلَيكة للنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وإجابته إياها، فيه من الفقه: إجابةُ دعوة المرأة الصّالحة، وأكل الطّعام عندها، هذا إذا كانت من القواعد الّتي قال الله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية (¬3)، وأمّا الشّابّة وغير المتجالة فلا يجوز، وقيل أيضًا: إنها كانت من خالات النّبيّ -عليه السّلام- من الرّضاعة، وذلك أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان مسترضعًا في الأنصار، فلذلك أجاب دعوتها وتناول طعامها في بيتها. الفائدة الثّانية (¬4): قوله: "فقمتُ إلى حَصِيرٍ لنا قد اسْوَدَّ من طُولِ ما لُبِسَ" يقتضي قلَّة ما عنده من الحُصُرِ، وإلّا فلم يكونوا يخصُّون النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلّا بأفضل ما عندهم ممّا يصلح للصّلاة. الفائدة الثّالثة (¬5): فيه من الفقه: أنّ من حَلفَ ألَّا يلبسَ ثوبًا, ولم تكن له نية، ولا كان لكلامه بِساطٌ يعلمُ به مخرج نيته (¬6)، فإنّه يحنث بما يتوطّأ ويبسط من الثّياب؛ لأنّ ذلك ¬
يسمَّى لباسًا، ألَّا ترى إلى قوله: "قد اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ". الفائدة الرّابعة (¬1): في نَضْحِ الحصير للعلماء فيه كلامٌ طويلٌ، لبابه وجهان: أحدهما: أنّه إنّما فعل ذلك لِيلينَ الحصير لا لنجاسةٍ فيه. قال ذلك إسماعيل القاضي وجماعة من أصحابنا. الثّاني: قال علماؤنا: إنّ النَّضْحَ طهارةٌ لما شكَّ فيه لتطيب (¬2) النّفس عليه، اتِّباعًا لعمر في قوله: "أَغْسِلُ مَا رَأَيتُ، وأَنْضِحُ ما لم أَرَ (¬3) " (¬4). تركيب (¬5): وتركّب على هذا ثوب المسلم، أمّا ثوب المسلم فمحمولٌ عندنا على الطّهارة حتّى يتيقَّن النّجاسة، وأنّ النَّضْحَ فيما يُحْبَس (¬6) لا يزيدُه إلّا تنجيسًا (¬7). وقد يسمَّى الغسل نَضْحًا، وقد ذكرنا في ذلك مَنْ قَصَدَ بالنَّضْحِ الّذي هو الرَّشُّ إلى قطع الوسوسة وحزازة النَّفْسِ فيما شكَّ فيه، اتِّباعًا لعمر وغيره من السَّلَفِ، واتِّباعًا للأصل في الثّوب أنّه على طهارته محمولٌ حتّى نَضْحِ النّجاسة، إلَّا أنّ في النَّفسِ شيئًا من ذلك يُقْطَعُ بالرَّشَّ (¬8)، على ما قدجاء من الفعل لاحَرَجَ عليه فيه. نكتةٌ لغوية (¬9): وأمّا قوله: "النّضخ" بالخاء، فالنَّقطُ فيه أشهر، يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (¬10). ¬
ونَضْحُ أنس (¬1): إنمّا ذلك الفعل لتطييب نفس النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهذا يردّ قول من قال: ليس النَّضْح بشيءٍ، والنَّضْحُ طهرٌ لما شكّ فيه من الثِّياب وغيرها. اصطلام (¬2): قال الإمام: وجهُ الدّليل أنّه أمرٌ بالنَّضْحِ، وظاهر الأمر الوجوب، وهو - والله أعلم- لما أخبرته من لبسهم البساط مع تصرف الطِّفل الّذي لا يتوقَّى النّجاسة. وأمّا قولُ إسماعيل القاضي: إنّما ذلك النَّضح لِيَلين الحصير، فليس بِبّيِّنٍ؛ لأنّه قد تقدَّمَ من كلامه ما يدلُّ على أنَّ نَضْحَهُ لم يكن لقساوةٍ، وإنّما كان لَأجل لونه وطُولِ لبسه، والله أعلم (¬3). الفائدة الخامسة (¬4): قوله (¬5): "فقامَ عليه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -" فيه دليل على جواز القيام في الصّلاة على ما كان من نبات الأرض، ولم يتغيَّر عن حُكمِ الأرض (¬6). الفائدة السّادسة (¬7): قوله (¬8): "فَصَفَفْتُ أنا واليتيمُ وراءَهُ " هو ضُمَيْرَة، وهو جَدُّ حسين بن عبد الله بن ضُمَيرَة، وهذا يقتضي أنّ يكون اليتيم ممّن يعقلُ الصّلاة، وإلَّا لم يعتدَّ به في جماعة المُؤْتَمَّين. ¬
التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي
الفائدة السّابعة (¬1): فيه: إباحة الإمامة في النّافلة. وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أنّ المصلِّين يقفون وراء الإمام. وقوله: "والعجوز من ورائنا" دليلٌ على تأخير النِّساء عن صفوف الرَّجال. ويقتضي أنّ المرأةَ المفردة إذا صلَّت خَلْفَ الصَّفِّ صَحَّت صلاتُها, ولا خلافَ في ذلك نَعْلَمُه. وأمّا الرَّجُل يصلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فقد قال مالك: صلاتُه صحيحةٌ، وبه قال أبو حنيفة (¬2) والشّافعيّ (¬3). وقال ابنُ حنبل وأبو ثور: تبطل صلاته. الفائدةُ الثّامنة (¬4): فيه ردٌّ؛ على الكوفيِّينَ الذين يقولون: إذا كانوا ثلاثة وأرادوا أنّ يصلُّوا جماعة، قام إمامُهُم وسطهم، لحديث رَوَوْهُ (¬5) عن علقمة والأسود؛ أنّ ابن مسعود صلَّى بهما فقام في وسَطِهِمَا (¬6). وقال أهل الحجاز وأكثر أهل العلم: يقومون خَلْفَهُ (¬7). وقد بيَّنَّا مواقف الصّلاة مع الإمام في باب الأذان في حديث سعيد بن المسيَّب، فلينظر هناك، وأنّها سبعة مواقف وحكمها على الاختلاف، والحمدُ لله على ما وَهَبَ من الصّواب. التَّشديدُ في أنّ يمرّ أَحَدٌ بين يَدَي المُصَلِّي في هذا الباب أحاديث كثيرة، الْمُعوَّلُ منها على ثمانية أحاديث (¬8): أحدها: حديثُ أبي سعيد الخدريّ (¬9): "إذا كان أَحَدُكُم يُصَلِّي، فلا يَدَعْ أَحَدًا ¬
يَمُرُّ بين يَدَيْهِ" الحديث. الحديثُ الثّاني: حديث أبي جُهَيْم (¬1). الحديث الثّالث: حديثُ ابن عبّاس: إذا جاءَ أَحَدُكُم رَاكبًا عَلَى الأَتَانِ بِمِنىً (¬2). الحديث الرّابع: حديث ابن عمر؛ كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - تُركز له الحَربَة يوم العيد، فَيُصَلِّي إليها والنَّاسُ يمرُّونَ من ورائها" (¬3). الحديثُ الخامسُ: حديث طلحةَ بن عُبَيد الله: "إذا صلَّى أحدُكم، فليجعل بين يَدَيْهِ مِثل مُؤخِرَةِ الرَّحْلِ، ولا يُبَالِ مَا مَرَّ وراءَهَا" (¬4). الحديثُ السادسُ: حديث سَلَمَة بن الأَكوَع؛ كانَ بَينَ مُصَلَّى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وبَينَ الجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ (¬5). الحديثُ السّابعُ: حديث أبي ذَرّ عن النبيّ صلّى الله عليه؛ أنّه قال: "يقطع الصّلاة الحمار والمرأة والكلب الأَسْوَد" قلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود؟ قال: "الكلبُ الأسودُ شيطانٌ" (¬6). الحديثُ الثّامنُ: حديث عائشة، وقد ذُكِرَ عندها ما يقطع الصّلاة، فقالت: بئسما عَدَلْتُمُونَا بالكِلاَبِ، لقد رَأَيْتُنِي نائمةً في قِبْلَةِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي، فإذا سجدَ غَمَزَني فَقَبَضْتُ رِجْلىَّ، فإذا قامَ بَسَطْتُهُمَا، والبيوتُ يَومِئذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ (¬7). وفيه حديثٌ تاسعٌ: خرَّجهُ التّرمذيّ (¬8)؛ حديث زيد بن خالد الجُهَنِيّ؛ أنّه أَرْسَلَ ¬
إلى أبي جُهَيْم يسألُهُ ماذا سمع من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في المارِّ بين يدَي المصلِّي؟ قال أبو جُهَيْم: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لو يعلمُ المارُّ ما له في ذلك، لكان له أنّ يقف أربعين" الحديث. وغَرَّبَهُ أبو عيسى، وقال فيه: "حديث غريب" (¬1) وهو عندي صحيحٌ. الإسناد (¬2): أبو جُهَيْم هذا: هو أبو عبد الله بن جُهَيْم (¬3)، روى عنه بُسْر (¬4) مولى ابن (¬5) الحضرمي، ورَوَى هذا الحديث ابن عُيَيْنَة (¬6). العربية (¬7): يُروَى برفع "خير" ونصبه. فهذا رفعت "خيرًا" فخبر كان في جملة: "أَنْ يقفَ". وإذا نصبته فهو الخبر. وهاتان الجملتان نكرتان تعرفتا (¬8) بالإضافة، والثّانية الّتي في "خَيرٌ لَه" أعرف من الأُولَى. الفوائد (¬9) المتعلِّقة (¬10): قوله (¬11): "أَرْسَلَ إلى أبي جُهَيْمٍ" فيه: طلب العلم. وفيه: جواز الاستنابة (¬12) فيه. ¬
وفيه: طلب العُلُوِّ في السَّنَدِ. وفيه: قَبول خبر الواحد. وفيه: جواز التكلَّم بِلَوْ في باب الوعيد والتّهديد (¬1) في الشّريعة. وفيه: إخفاء مقدار الإثم كما خفي مقدار الأَجْرِ، وعلمه عند ربِّنَا. ومعنى قوله: "أَنْ يقفَ أربعينَ" رَدٌّ على طَلَبِهِ الاستعجال في المشي، فلو علم مقدار الإثم في المرور، لاختار أنّ يقف أربعين من الدَّهْرِ، لما فيه من الوعيد والوزر. وفيه: وجوبُ التوقُّفِ في الحديث عمّا لم يحفظ. وقد قال مالكٌ (¬2)، عنّ كعب: "لكانَ أَنْ يُخْسَفَ به خَيرًا لَهُ" يعني أنّ عقوبة الدُّنيا وإن عَظُمتْ أهون من عقوبة الآخرة وإن صَغُرت. وفيه (¬3): أنّه يجوز أنّ يقال للرَّجُل إذا فَتَنَ في الدِّين: شيطانٌ، ولا عقوبةَ على من قال ذلك. وفيه (¬4): أنّ الحُكمَ للمعاني لا للأسماء، بخلاف ما يذهب إليه أهل الظاهر في نفيهم القياس؛ لأنّه يستحيل أنّ يصير المارّ بين يدي المصلِّي شيطانًا، وإنّما أراد به أنّه فعلَ فعل شيطان، لا أنّه انقلب شيطانًا بمروره. فثبت أنَّ الحكْمَ للمعاني لا للأسماء، وهو قول جمهور الأيمّة. وفيه: قول أبي النضرِ: "لا أدري، أقال أربعينَ يومًا أو أربعينَ شهرًا أو سَنَةً" قال المؤلِّف (¬5): وقد رُوِيَ: "مئة عام" ذكره ابن أبي شَيْبَة (¬6) قال: أخبرنا وكيع عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب (¬7)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لو ¬
يعلم أَحَدُكُم ما له في أن يمرَّ بين يدي المصلِّي معترضًا، لكان أنّ يقف مئة عام خيرٌ له من الخطوة الّتي خطاها". فهذا الحديث يدلٌّ أنّ الأربعين الّتي وجدت في حديث أبي جُهَيْم هي أربعون عامًا. الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬1): العلماء متَّفِقُونَ على دفع المارّ بين يدي المصلِّي إذا صلّى إلى سُتْرةٍ وليس له إذا صلّى إلى غير سترة (¬2) أنّ يدفع من يمرّ بين يديه؛ لانَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - جعل ما بينه وبين العَنَزَةِ (¬3) من حقّه الّذي يجب له منعه ما دام مصلِّيًا. فأمّا إذا صلَّى إلى غير سُتْرَةٍ، فليس له أنّ يردَّ (¬4) أحدًا؛ لأنّ التَّصَرُّفَ والمشي مباحٌ لغيره في ذلك الموضع الّذي صلّى فيه، هو وغيره فيه سواء، فلم يستحق أنّ يمنع شيئًا، إلَّا ما قام الدّليل عليه وهي السُّتْرَة الّتي وردت السُّنَّة بمنعها. المسألة الثّانية (¬5): قال مالك: لا يرده وهو ساجدٌ، وإنّما (¬6) استحقّ المقاتلة؛ لائه لا عذر (¬7) له بعد أنّ جعل له عَلَمًا يمرّ من ورائه. والمقاتلة هنا المدافعة في لُطفٍ (¬8). المسألة الثّالثة (¬9): أجمع العلماءُ أنّه لا يقاتله بسيفٍ ولا يخاطبه، ولا يبلُغ به مَبْلَغًا يُفْسِدُ به صلاته؛ لأنّه إنّ فعل ذلك كان أضَرّ على نفسه من المارّ بين يَدَيْهِ. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): وهي: إذا دَفَعَ المصلِّي المارّ بين يَدَيْه فماتَ، ففيه عن مالكٌ ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ عليه دِيَته، وكذلك رَوَى عنه ابن شعبان؛ أنّ عليه الدَّيَة في مَالِهِ كاملة (¬2). والرَّوايةُ الثّانية: أنّ الدِّيَة على عاقلته. والرَّوايةُ الثّالثة: أنَّه لا شيءَ عليه. تنقيح: أمّا وجه من قال: لا شيء عليه، أنَّه قال: فيه شيطانٌ ومن قتل شيطانًا فلا شَيْءَ عليه، لقوله -عليه السّلام-: "إنّما هو شيطانٌ". قال المؤلِّفُ: وهذا باطلٌ قطعًا؛ لأنّه قتلَ إنسانًا. ووجه من قال: عليه ديته؛ لأنّه تَعَمَّدَ - دفعه، ومن تعمَّدَ لزِمَهُ دون غيره. ووجه من قال: على عاقلته، أنّه دفعه لأمْرِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بذلك، ولم يقصد قتله، فهو (¬3) خطاٌ والخطاُ على العاقلة. نكتةٌ لغوية: قال أهل العربية في قوله -عليه السّلام-: "فَلْيُقَاتِلْه" معناه: فليلعنه (¬4)؛ لأنّ القتال في لسان العرب اللَّعْنَة، ولذلك قال سبحانه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} الآية (¬5)، أي لعن. {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (¬6) أي لعن. نكتةٌ أصوليهّ: قال بعض الأصوليين: المرورُ يصلح أنّ يقال فيه: مكروةٌ، ومحرمٌ. أمّا المكروه فمِنْ قوله: "لكان أَنْ يَقِفَ أربعينَ خيرًا لَهُ" ومن لفظ "خير" يعرف وجه ¬
الكراهية، ولا يُوجِبُ التّحريم. ومن لفظ: {فَلْيُقَاتِلْهُ} يعرف التّحريم؛ لأنّ القتال لايكون إلَّا على الحرام. وإذا قلنا: إنّ اللَّعْنَ هو مراد قوله: " {فَلْيُقَاتِلْهُ} فاللَّعنُ لا يكون إلَّا لمن ارتكبَ محظورًا، وقد يكون معنى: {فَلْيُقَاتِلْهُ} الدَّفع، وقد يكون التوبيخ. وقول كعب (¬1): "لكانَ أنّ يَخْسِفَ بِهِ" لا دليل فيه؛ لأنّه تابع. وأيضًا: فإنّما يخبر عن التّوراة، وقد قال -عليه السّلام-: "لا تُصَدِّقُوا أهلَ الكتابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ" (¬2). المسألةُ الخامسة (¬3): اختلف العلماء إذا جاز بين يَدَيْهِ ثمّ أدركه، هل يردّه أم لا؟ على ثلاثة أقوال: الأوّل: قال ابن مسعود: يردّه، ورُوِيَ ذلك عن سالم (¬4) والحسن البصريّ. القول الثّاني: قال الشّعبي: لا يردّه إذا جاز بين يَدَيْه؛ لأنّ ردَّهُ مرورٌ ثانٍ، ولا وجه له. وهذا قول مالك والثّوري وإسحاق. المسألةُ السّادسة (¬5) - وهي مسألة أصولية-: قوله (¬6): "فإنّما هو شَيْطَانٌ" اعلم أنّ الشَيطانَ ليس آدميًا, ولا الآدميّ شيطانًا، ولكنّه لمّا أراد أنّ يفعل فعل شيطان (¬7) في الشَّغْلِ عن الصّلاة وقطع المرء عن العبادة جعل له مَثلًا، فكان تقدير الكلام: فإنّما هو شيطان شَغْلًا عن الصّلاة وقَطْعًا. الّذي بَيَّنهُ ما رواه مسلم (¬8) عن ابن عمر في هذا الحديث بعينه، قال الّذي: "فإنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ، فإنَّ معه القَرِين" إشارةَ بأنَّ صاحبَهُ من الشيطان هو الّذي قَادَهُ إلى القطع لصلاته. وقد ثبت عن النَّبيِّ -عليه السّلام- أنَّه قال: "مَا مِنكُمْ مِن أَحَدٍ إلا وَلَهُ شَيْطَانٌ" قيل له: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: "ولا أنا، إلَّا أَنَّ الله أَعَانَنِي عليه فأَسْلَمَ، فلا يَأمُرُنِي إِلَّا بِخَيرٍ" (¬9). ¬
المسألةُ السّابعة (¬1): اعلم أنّه لا يقطع الصّلاة شيءٌ كائنًا ما كان، وبه قال عامّةُ العلماء من الصّحابة فمن دونَهُم، وللهِ دَرُّ، مالكٌ فإنه ذَكَرَ (¬2) الأحاديث الّتي تمنع القَطعَ، وعلم أنّ هناك أحاديث سِوَاها، فأدخل (¬3) عن عليَّ بن أبي طالب آخر الخلفاء؛ (¬4) أنّه قال: "لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شيْءٌ" وإذا عمل أحَدُ الخلفاءُ بأحَدِ الحديثين كان ترجيحًا له. المسألةُ الثّامنة (¬5): قال ابنُ عمر والحسن بن أبي الحسن البصري (¬6): يقطعُ الصّلاةَ المرأةُ والحمارُ والكلبُ الأسودُ. القولُ الثّاني: قال أحمد بن حنبل: في نفسي شيءٌ من الحمار والمرأةِ (¬7). القول الثّالث - قيل: يقطعها الكلبُ الأسود خاصّة (¬8). القول الرّابع - قيل: تقطعها المرأة الحائض. المسألة التاسعة (¬9): في ترجيح هذه الأقوال وتنقيحها أمّا ما رواه أهل الخلاف عن عبد الله بن عمر، فضعيفٌ؛ لأنَّ مالكّا روى (¬10) عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه؛ أنّه قال: "لا يقطَعُ الصّلَاةَ شيءٌ" ومالك أصحُّ روايةً ممّن سواه، وسالم ابنه أقعد به من غيره. وأمّا الحائض، فقد رُوِي عن ابن عبّاس مُسْنَدًا إلى النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "يقطع الصّلاة ... " فذكر حتّى قال: "والحائض" (¬11) وهو حديث ضعيف أيضًا (¬12)، ذكره ¬
الرخصة في المرور بين يدي المصلي
الدّاودي (¬1) والدّراقطني (¬2) وضعّفاه. وأمّا سائر الأقوال فقد أسقطها حديث عائشة: "بِئْسَ ما عَدَلتُمُونَا بالكِلَابِ"، وأقواها ما رواه مسلم (¬3) عن أبي ذرّ في قوله: "الكلب الأسود شيطانٌ". وقد قال في ذلك علماؤنا قولًا بديعًا: إنّ معنى قوله: "يَقطَعُ الصَّلَاةَ" يشغل عنها، ويَحُولُ دون الإقبال عليها, ولو أراد غير ذلك، لقال: يفسد الصّلاة ويبطلها. فأمّا المرأةُ، فعند علمائنا أنّها تقطعها بفتنتها. وأمّا الحمار، فَبِبَلاَدَتِهِ ونكُوصِهِ؛ فإنّه إذا زُجِرَ لم يَنزَجِر، وإذا دُفِعَ لم يَندَفِع. وأمّا الكلب الأسود، فتنفرُ النَّفس منه، فإنّ الأسودَ والسَّوَادَ مكروةٌ عند النَّفْسِ، فإذا رأيتَ معه لمعة بيضاء سَكنَتْ إليه، فإنّها خُلِقَت من نُورٍ، ولذلك تستوحش الظلام والغيم، وجعلت جهنم سوداء كالقارْ، ولذلك جعل علامة العذاب اسوداد الوجوه، وجعلت علامة النّجاة ابيضاض الوجوه. الرُّخصةُ في المرور بين يَدَي المصلِّي الحديثُ صحيحٌ في البابِ. الترجمة (¬4): هذه التّرجمة تحتمل معنَيَيْنِ: أحدهما: أنّ تكون الألف واللّام لاستغراق جِنْس المصلِّي، وتكون الرُّخْصَة تناولت بعض أحواله، وهو أنّ يكون مأمومًا. ويحتمل أنّ تكون الألف واللّام للعهد، فتكون الإباحة تناولت مصلِّيًا معهودًا تقدَّمَ ذِكرُهُ، وهو المأموم. ¬
الأصول: قال علماؤنا (¬1): "الرُّخْصةُ في الشَّرعِ بمعنى الإباحة للضَّرورة أو الحاجة، وقد تُستعمل في إباحة نوعٍ من جنسٍ ممنوعٍ"وهذا من فقه مالكٌ - رحمه الله -؛ فإنه بَوَّبَ في التّشديد ثُمَّ أَرْخَصَ فيه. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "وأَنا يومئذِ قد ناهزتُ الاحْتِلاَمَ " أي قَارَبْتُه. ووصفُه بذلك نفسه يفيدُ أنّ إقرار النّبيِّ -عليه السّلام- له (¬4) على المرور بين يدي بعض الصَّفِّ دليلٌ على إباحته؛ لأنّه قد كان يعقل الأمرَ والنَّهيَ، ويصحّ منه امتثالهما وقد ورد الشَّرعُ بتقرير (¬5) من هو دون ذلك السّنّ على الشّرائع ومنعه من المحظور. المسألة الثّانية: في حدِّ إلاحتلام والبلوغ اختلف علماؤنا فيه: فقيل: خمس عشرة، ذَكَرَهُ ابن وهب. وقال ابنُ القاسم: ثمانية عشر. وحديث ابنُ وهب في ذلك حديث ابن عمر؛ أنّه قال: عرضت على النَّبيِّ صلّى الله عليه في جيش وأنا ابن أَربع عشرة، فلم يقبلني، وعرضت عليه من قابل في جيش وأنا في خمس عشرة، فقبلني (¬6). العارضة: قال: رفعَ اللهُ الحرجَ عن الآدميّ حتّى يبلغ الحُلُم وينتهي إلى النّكاح بالإجماع ونصّ القرآن، فإذا قال الغلامُ: احتلمت، في سنِّ احتمالِ ذلك وعادته، قُبِلَ منه، إلَّا ¬
سترة المصلي في السفر
أنّ يعارضَه ريبٌ (¬1). فإن لم يكن احتلام، ففي الإنْبَات عن مالكٌ في ذلك روايتان: 1 - إحداهما: أنّ ذلك علامةٌ. وقال الشّافعيُّ: إنّ ذلك علامة في الكفّار بلا خلاف، وقال: في المسلمين قولين. وقال أبو حنيفة: لا يعتبر الإنبات بحالٍ. 2 - وقال في الرِّواية الأخرى عن مالكٌ: لا يعتبر إلَّا السّنّ. وقد صَحَّ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قتل من بني قُرَيْظَة من جرت عليه المواسي (¬2) فصارت ثلاث طرق: أحدها: الاحتلام. الثّاني: الإنْبات. الثّالث: السِّنّ. وفي كلِّ ذلك حديث وآية ومذهب، فأيّها بلغ الغلام فقد صار في حدِّ التكليف. وأمّا الزيِّادة على خمس عشرة سنة إلى ثمان عشرة سنة، فدَعْوَى ليس لها في الشَّرْعِ أصلٌ، فلا ينبغي لأحدٍ أنّ يعوِّلَ عليها، والحمدُ الله. سُتْرَةَ المُصلِّي في السَّفر الكلامُ في هذا الباب في ثلاث مآخذ: المأخذ الأوّل في سَرْدِ الأحاديث وهي أربعة: الحديث الأوّل: قال الإمام: هذا بابٌ لم يذكر فيه حديثًا مُسْنَدًا ولا مرفوعًا عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وإنّما ذكر فعل الصَّحابة: ابن عمر (¬3) وغيره (¬4). ¬
والصّحيح عندي: أنّه لم يبلغه ما في هذا الباب من الآثار، فيه ابن عمر؛ كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إذا خرجَ يومَ العيدِ أَمَرَ بِالْحِرْبَةِ فَتُوضَعُ بين يَدَيهِ، فيصلِّي إليها، والنّاسُ وَرَاءَهُ، وكان يفعلُ ذلك في السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الاُمَرَاءُ (¬1). الحديث الثّاني: فيه أبو جُحَيفَةَ؛ أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بهم في البَطْحَاءِ الظُّهْرَ والعَصْرَ، وبين يَدَيهِ عَنَزَة، تَمُر بين يَدَيْهِ المرأةُ والحمارُ (¬2)، وحديث ابن عبّاس المتقدِّم. الحديث الثّالث: رَوَى طَلْحَةُ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: " إذا وَضَعَ أحدٌ بين يَدَيْهِ مثلَ مُؤَخِّرةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، ولا يُبَالِي من مَرَّ وراءَ ذلك" حديثُ حَسَنٌ صحيحٌ في الباب، خَرَّجَهُ التّرمذيّ (¬3). إسناده (¬4): ومن غريب (¬5) الحديث عن طلحة، خَرَّجَهُ مسلم في صحيحه (¬6) عنه، قال: كنَّا نُصَلِّي والدَّوَابُّ تَمُرَّ بين أيدينَا، فذكر ذلك لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "فَلْيَكُن مثل مُؤخِرَةِ الرَّحْلِ بَين يَدَي أحَدِكُم، ثم لا يضرُّه مَنْ مرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ". لغته (¬7): مُؤخِرَةُ الرَّحْلِ بضمّ الميم، وهو المعروف، وصوابُه آخرة الرَّحْلِ، والمحدِّثون يروونه مُؤّخِّرة الرَّحْلِ مشدَّدًا، ومُؤخِرات الضُّلوع بضمِّ الميم وخفض الخاء والهمز كالأَوَّل. وقد قيل: إنّ المُؤخِرة إنّما هو في العين (¬8). الحديثُ الرّابع: فيه في البخاريّ (¬9): أبو سعيد؛ أنّه كان يصلِّي إلى سُترَةٍ، فأراد شابٌ من بني أبي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بين يَدَيْه، فدفَعَ أبو سعيدٍ في صَدْرِهِ، ¬
فَنَظَرَ (¬1) الشّابُّ فَلَمْ يجد مَسَاغًا إلَّا بَين يَدَيهْ الحديث. العربية: قولُه: "لمْ يجد مَسَاغًا" يعني طريقًا يمكنه المرور منها. يقال: سَاغَ الشَّرابُ في الحَلْقِ سَوْغًا: سلس، وساغّ الشَّيء: إذا طَابَ، من "كتاب الأفعال" (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلفَ العلماءُ في وجوبِ وضعِ السُّتْرَةِ بين يدي المصلِّي على ستة أقوال: القول الأوّل: أنّه واجبٌ، فإن لم يجد وضعَ خَطًّا، قاله أحمد (¬4) وغيره. والخطُّ باطلٌ عند مالك (¬5). الثّاني: أنّها مستحبَّهٌ، قاله الشّافعيّ (¬6) وأبو حنيفة (¬7) ومالك. وفي "المدوّنة" (¬8) و"العُتْبيّة" (¬9) جواز تركها، وهذا إذا كان في موضعٍ يُؤْمَنُ من المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن من المرور فيه، فإنّه عند علمائنا تأكيد، وعند بعض علمائنا أمرٌ وَاجبٌ. والحكمة فيه (¬10): ما قال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - من منع المرور، فإنّ المصلِّي لا يستحقّ بصلاته أكثر ممّا يشغل (¬11) بها من الأرض في قيام ركوع وسجود، فذلك حقٌّ له، وما وراء ذلك ليس فيه حقّ. فإن لم يجعل سُترة، فلا يخلِّي أحدًا يمرُّ بين يَدَيْهِ ما استطاع. فإن أَبَي، فليدافعه، وهي المقاتَلَة، وهي أيضًا المنازعة بالأيدي، وقد جَهِلَ قومٌ هذا المقدار اليوم. ¬
المسألة الثّانية: في هيئة السُّتْرَةِ فقال قوم: تكون في طُولِ الذِّراع، فإنّها بقَدْرِ الرَّحْلِ الوارد في الحديث. وأن تكون بغلظ الرُّمْحِ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يصلِّي إِليه، وقد تفطَّنَ مالك لهذا، فجَمَعَ بينهُمَا حين قال (¬1): السُّتْرَةُ قَدْر الذِّراع في جلَّة الرُّمْحِ، فإذا وضعها بين يَدَيْهِ فلا يجعلها قِبْلَةَ وَجْهِهِ، لحديثِ المِقْدَادِ، قال: ما رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى إلى عَمُودٍ أو شيءٍ يَصْمُدُ إليه صَمْدًا، إنّما كان يجعلُ ذلك عن يمينه ويساره (¬2). وليجعل بينَهُ وبين سُتْرَيهِ من المسافة (¬3) بمقدار ما يحتاج إليه لسُجُودِهِ، ولا يتأخّر عنها تاَخُّرًا كثيرًا, ولا يتقدّم إليها تَقَدُّمًا كبيرًا، حتّى إذا أراد أنّ يسجد تَأخَّرَ عنها؛ لأنّ ذلك عملٌ في الصّلاة. وقد رأيتُ بعض الغافلين ممّن ينتصبُ للتَّعليم يفعلُ ذلك، وهي جَهَالَةٌ، فإذا تركها خالية بمقدار السُّجود، فأراد ماشٍ أنّ يمرَّ بينَهُ وبينها فَلْيَمْنَعْهُ. كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يصلِّي، فارادت شاة أنّ تمرَّ بينه وبين السُّتْرَةِ، فَدَرَأَها حتَّى أَلْصَقَ بالحائط، فمرَّت من ورائه (¬4). وكذلك يُفْعَلُ بِكُلِّ مريدٍ أنّ يدافعَهُ ويشير إليه، كذلك قال أشهب عن مالك. المسألةُ الثّالثة: قال: لم يحدّ مالكٌ في ذلك حَدًّا. وقال غيره: يجعل بينه وبين القِبْلَةِ ستَّة أَذْرُعٍ، وهذه جَهَالَةٌ. وقال الآخر نحوه، وهي فرجة. وقال مالكٌ: يُجزِئه غلظ السَّوْطِ والرُّمحِ والعَصَى، وارتفاع ذلك قَدْر عَظْمِ الذِّراع. ولا تفسد صلاة من صلَّى إلى غير سُتْرَةٍ، وإن كان مكروهًا له، وهو قولُ ¬
الشّافعيّ (¬1)، وقال عامّة الفقهاء - رأسهم أحمد (¬2) - بحديث أبي هريرة: إذًا صلَّى أَحَدُكُم فليجعل بين يَدَيْهِ ما يستره، فإن لم يجد فَعَصا، فإنه لم يجد فليخطّ خَطًّا. خَرَّجَهُ أبو داود (¬3) وغيره (¬4). وقد اختلفوا في صورة الخطِّ: فمنهم من قال: متقوّسًا كهيئة مِحْرَابه. ومنهم من قال: يكون طولًا. ومنهم من قال: يكونُ من المشرق إلى المغرب. ومنهم من قال: من الشّمال إلى الجنوب. وهذا الحديث لو صَحَّ لقُلْنَا به، إلَّا أنَّه معلولٌ (¬5)، فلا معنى للنَّصبِ فيه معهم. نكتةٌ بديعة (¬6): اعلم أنَ السُّتْرَةَ من محاسن الصّلاة ومُكمِّلَاتِها، وفائدتها قبض الخواطر عن الانتشار، وكفّ البصر عن الاسترسال، حتّى يكون العبدُ مجتمعًا للمناجاة الّتي حضرها وألتزمها، وبه قال عامّة الفقهاء. خاتمةُ هذا الباب: قولُه (¬7): "كان ابن عمر يَسْتَتِرُ بِراحِلَتِهِ" يجب أنّ تكون مناخَة؛ لأنّها على الصِّفَة الّتي يُؤمَن معها مشيها، وإمّا أنّ يستترَ بالخيل وبالبغال والحمير، فقد نهى عنه مالكٌ من رواية ابن القاسم. واحتجَّ لذلك بنجاسة أَرْوَاثِها. ووجه آخر: وهو أنّها في الاغلبِ قائمةٌ لا يُؤمَن مَشْيُها. تركيب: قال مالكٌ فيمن قام للقضاء بعد سلام الإمام: إذا كان عن يمينه أو عن يساره ¬
مسح الحصباء في الصلاة
فيما يقرب منه سُتْرَة مشَى إليها، وإن كانت وراءَهُ رجعَ القَهقرى، فإن بَعُدَ منه صلَّى في موضعه. تركيب: وهو إذا كان أمامه أُسطُوَانَة، مَشَى إليها إنّ كانت بالقُرْبِ، وصَحَّتْ صلاتُه، والحديث له حُجَّة، لقوله: "الإمامُ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ" وعند جماعة العلماء: سُنَّةٌ مندوبٌ إليها، والله أعلم. مَسْحُ الحَصْباءِ في الصَّلاة قال الإمام: هذا الباب ليس فيه حديثٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، إنّما فيه الآثار وفعل الصَّحابة. أمّا فعلُ أبي ذَرٍّ (¬1)، فهو الاختيار أنّ يمسح موضع السُّجود مرَّةً واحدةً؛ لأنّ تركَ ذلك من التّواضع والتَّذَلُّلِ. وكذلك لا يمسح وجهه من التُّراب إلَّا مرَّةً واحدةً أيضًا في آخر صلاته. وأمّا فعل ابن عمر (¬2)، فإنّه من العمل الخَفِيفِ الّذي لا يشغله عن الصّلاة. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬3): مسحح الحَصْبَاء في الصَّلاة ليزيلَ ما عليه من التّراب، وهو في الجملة ممنوع لمعنيين: أحدهما: الاشتغال عن الصَّلاة. الثّاني: تركُ التّواضع لله، فإذا دعت إلى ذلك ضرورة من تراب يتأذَّى به، فليمسح مَرَّة واحدة. ¬
ما جاء في تسوية الصفوف
المسألة الثّانية (¬1): قوله (¬2) "مرّة (¬3) واحِدَة" يقول: المباحُ من ذلك مرَّة؛ لأنّ في الزِّيادة على ذلك شُغْلًا. وأمّا المسحة الواحدة، فإنّه يحتاج إليها المصلِّي ليُزِيلَ ما يشغله عن الصّلاة، واستحبّ له مرّة لأنّه أخفّ ممّا يؤول إليه. العربية: قوله عن أبي ذَرٍّ: "تَرْكُهَا خَيرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعمِ" قال صاحب "العين" (¬4): النَّعم: الإبل العتاق، وقيل: حُمْرُ النَّعمِ هي: الإبل الحمر، وهي أعتقها وأحسنها، وأغلاها ثَمَنًا، والحُمْرُ منها أرفعُها. رُوِيَ عن جابر بن عبد الله؟ أنّه قال: سألتُ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - عن مَسْحِ الحَصُبَاءِ في الصَّلاة؟ فقال: واحدةٌ، ولأن تُمْسِكْ عنها خيرٌ لكَ من مئة ناقة كلّها سُود الحدقَةِ (¬5) وفي (¬6) "المبسوط" عن مالكٌ: من صلَّى على ترابٍ يُؤذِيهِ فينتثر (¬7) على وجهه إذا رفع رأسه من السجدة، لا بأس أنّ يمسحه. ما جاء في تسْوِيَةِ الصُّفوف قال الإمام (¬8): أمّا تسويةُ الصُّفوف، فالآثار فيها متواترة من طُرُقٍ شَتَّى صِحَاحٍ، كلّها ثابتة (¬9) في أَمْرِ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بتسويةِ الصُّفوفِ، وعملَ الخلفاءُ الرَّاشدونَ بذلك بعدَهُ، وهذا ما لا خلافَ فيه بين العلماء. ¬
والأحاديث في ذلك أربعة: الحديثُ الأوّل: روى أنس عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "سَوُّا صُفُوفَكُمْ، فَإِن تَسْوِيةَ الصَّفُوفِ من إقامَةِ الصَّلاةِ" (¬1). الحديثُ الثّاني: "لَتُسوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْلَيُخَالِفَنّ اللهُ بينَ وُجُوهِكُمْ" (¬2). الحديثُ الثّالث: روى أنس أيضًا؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُم وَتَرَاصُّوا، فَإنِّي أَركُمْ مِنْ وَرَاء ظَهرِي" (¬3). الحديثُ الرّابع: روى أَنس؟ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: رُّصُّوا صُفُوفَكُم وقارِبُوا بينَها، وحاذوا بالأعنَاقِ، فوالَّذي نفسِي بيَدِهِ إِنِّي لأَرى الشَّيطَانَ يدخلُ من خلالِ الصَّفِّ، كأنَّهُ الحَذَف (¬4). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى: تسويةُ الصّفوف مندوبٌ إليه، وتسويةُ الصُّفوف من هيئات الصّلاة أيضًا، والتّراصّ فيها وهو من إتمامها. المسألةُ الثّانية (¬5): قوله (¬6) في هذا الباب: "فلم أَزلْ أُكُلِّمُه حتّى جاءَهُ رِجَالٌ" دليل على جواز الكلام بعد إقامة الصّلاة قبلَ الإحرامِ فيها (¬7)، وبهذا قال فقهاء الأمصار، غير أهل الكوفة فإنّهم قالوا: الكلامٌ ممنوعٌ بَعْدَ إقامة الصّلاة وقبل الإحرام لها. ¬
وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة
المسألة الثّالثة (¬1): الدّليلُ على صِحَّةِ ما ذهب إليه مالك والجمهور من جواز ذلك: ما رواه أنس ابن مالكٌ قال: أُقِيمَتِ الصَّلاةُ والنبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يناجي رجلًا في جانب المسجد، فما. قام إلى الصَّلاة حتّى قام القوم (¬2)، وإنّما كان يكلّمه في أنّ يفرض له اغتنامًا لخلوته. المسألة الرّابعة (¬3): قوله "حتّى جَاءَهُ رِجَالٌ" فيه دليل على اهتبال الأَيمَّة بتسويتها؛ لأنّه أمرٌ يلزم الأيمَّة مراعاته، على حسبِ ما تقدَّم من فعلِ عثمان وعليّ. قال ابن حبيب: وقد رأيتُ أميرَ المدينة قد وكَّلَ رِجَالًا لتسويةِ الصُّفُوفِ في مسجد رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فمن وجده دون الصَّفِّ وهو يمكنه أنّ يدخل فيه ساروا به بعد الصَّلاة إلى السِّجْن. المسألة الخامسة (¬4): قال: ويلزم الإمام أنّ يتربّص بعد الإقامة يسيرًا، حتّى يعتدل النّاس في صفوفهم، رواه ابنُ حبيب عن مالكٌ. وضعُ اليَدَيْنِ إحداهُما على الأُخْرَى في الصَّلاةِ مالكٌ (¬5)، عن عبد الكريم بن أبي المخَارِقِ البَصْرِيّ؛ أنّه قال: مِنْ كلامِ النُّبُوَّةِ: "إذًا لَمْ تَسْتَحْي فَافْعَل مَا شِئتَ" ووضعُ اليَدَينِ إحْدَاهُمَا على الأُخْرَى في الصَّلاةِ، يَضَعُ اليُمْنَى على اليُسْرَى، وتعجيلُ الفِطرِ، والاسْتِينَاءُ بالسُّحُورِ. الإسناد: قال أبو عمر (¬6): أرسلَ مالكٌ هذا الحديث ولم يُسْنِدْهُ، ويُسْنَدُ من حديث أبي ¬
مسعود الأنصاري عن النَّبيِّ أنّه قال: ممّا أدركَ النَّاس من كلام النَّبُوَّةِ: "إذا لم تسْتَحْي فَافْعَل مَا شِئتَ" (¬1) هو حديثُ مُسنَدٌ، وفي حديث مالك المُرْسَل زيادة من قوله: "وَضْعُ اليُمْنَى على اليُسْرَى في الصَّلاة". الأصول: قال بعض أهل الأصول (¬2): هذا الحديث لفظه الأمر، ومعناه التّوبيخ. وقيل: إنّه على الإباحة. وكلا الأمرينِ ضعيفٌ. وفي هذا الحديث وعيد لمن ترك الحياء. وقال علماؤنا (¬3): "لفظ هذا الحديث يقتضي التّحْذِير والذَّم على قلَّة الحياء، وهو أَمرٌ في معنى الخبر. فإنَّ مَنْ لم يكن له حياء يحجزهُ عن محارم الله، فسواءٌ عليه فعلُ الكبائر منها والصّغائر". وأمّا (¬4) قوله: "مِنْ كَلاَم النُّبُوَّةِ" أي من حِكَمِهِمْ على أَلْسِنَةِ النّاس: إذا لم تستحي فافعل ما شئت. وقد تأول النّاسُ هذا الحديث تأويلين: أحدهما: إذا كنت لا تستحي من القبيح الّذي يستحي النَّاس منه وأهل الصّلاح (¬5)، فاصنع ما شئت، فلا مانع لك، وهذا وإن كان لفظه لفظ الأمر فإن معناه التّوبيخ. التّأويل الثّاني: أنّه إنّ كان ما تفعله ممّا لا يُسْتَحْيَا منه، فافعل ما شئت، فإنه لا يرتدع أهل الدِّين إلَّا بما يُسْتَحْيَا منه، ويكون قوله: "فَافْعَل مَا شِئتَ" على الإباحة، وهذه (¬6) صفة أهل النِّفاق. قال الله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬7). ¬
وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآية (¬1)، أي سترون عاقبة أمركم ما يؤول أمرها في الآخرة، وهذا تهديدٌ ووعيدٌ. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: قوله: "وَضْعُ اليُمْنى على اليُسرَى في الصّلاة" حديثٌ مسْنَدٌ صحيحٌ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬2). رواه شُعبة والثّوريّ (¬3) وشريك (¬4). وقد اختلفتِ الرِّوايات عن مالك في ذلك، فعنه في ذلك ثلاث روايات (¬5): إحداهما: تَرْكُها، ورواية ابن القاسم عنه إرسالهما في الصَّلاة، وهو قول اللّيث (¬6)، وقد يتركها في كلِّ الصَّلاة؛ لأنّها عملٌ واعتمادٌ يستعينُ به عندَ فِعْلِهَا. الرِّواية الثّانية: رُوِي عنه أنّه يفعل ذلك في التافلة دون الفريضة (¬7)؟ لأنّها ¬
استكانَهٌ وخُضوعٌ، وهو الصّحيح (¬1). روى مسلم في "صحيحه"، (¬2): أمرنَا أنّ نضعَ أيماننا على شمائلنا في الصَّلاة. وقد رُوِي أيضًا عنه ذلك. وروى (¬3) أشهب عن مالكٌ (¬4)؛ أنّه لا بأس بذلك في الفريضة والنّافلة (¬5). وروى مُطَرِّف وابن المَاجِشُون (¬6) عن مالكٌ؛ أنّه استحسنه. ورَوَى العراقيُّونَ من أصحابنا عن مالكٌ في ذلك روايتين أيضًا: الاستحسان. والثّانية: المنع. وما رأيتُ من فهِمَ المسألةَ غير الشّيخ (¬7) أبي محقمّد عبد الوهّاب؛ فإنّه قال (¬8): ليس هذا من باب وضع اليُمْنى على اليُسرى، وإنّما هو من باب الاعتماد. والّذي قاله هو الصّواب. ¬
القنوت في الصبح
وقال عبد الوهّاب (¬1): المذهب وضعهما تحت الصَّدْرِ وفوق السُّرَّة، وبه قال الشّافعيّ (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3): السُّنَّة وضعها تحت السُّرَّة (¬4). وقال ابنُ حبيب: ليس لذلك موضعٌ (¬5). المسألةُ الثّانية (¬6): الدَّليلُ على صِحَّةِ مذهب مالك: أنّ ما تحت السُّرَّة محكوم له بأنّه من العورة، فلم يكن مَحَلًّا لوَضعِ اليُمْنَى على اليسرى كالفخذ (¬7). ورُوِيَ عن الأوزاعي أنّه قال: من شاء فعل، ومن شاء ترك (¬8)، وهو قولُ عطاء. وعند أحمد بن حنبل (¬9)، وابن رَاهُويَة، وداود (¬10)، والطَّبريّ: يضعُ المصلِّي يمينه على شماله في الفريضة والنّافلة، وهو عندهم حَسَنٌ وليس بواجبٍ. ومنهم من قال: إنه سُنَّةٌ مسنونةٌ. والحديثُ يشهدُ لمن قال: انه سُنّة. القُنُوتُ في الصُّبح أمّا القنوتُ في الصُّبْحِ، فاختلفتِ الآثارُ المُسْنَدَة في ذلك، وكذلك اختلف الفقهاء من أصحاب النّبيِّ (¬11) في ذلك أيضًا. ¬
التّرجمةُ (¬1): ذكر مالكٌ هذه التّرجمة: "القُنوتُ في الصُّبْحِ" ولم يُدْخِل في الباب ما فيه القنوت في الصُّبح على ما كان يعتقده من القنوت، ثمّ أدخل فعل ابن عمر مخالفًا لما يعتقده هو في ذلك. العرببة: المراد بالقُنوت هاهنا الدُّعاء في آخر الصَّلاة، وهو في اللُّغة على أربعة أضرب (¬2): 1 - قيل: الدُّعاء (¬3). 2 - والضربُ الثّاني: القنوتُ بمعنى السُّكوت (¬4). 3 - والثّالث: القنوت الطّاعة (¬5). الدّليل على أنّه الدُّعاء: قوله في الحديث: قنَتَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - شَهْرًا يَدْعُو على رِعْلٍ وذَكوَانَ وعُصيَّةَ (¬6). والدليل أيضًا على أنَ القُنوتَ بمعنى السُّكوت: حديث زيد بن أرقم؟ قال: كُنَّا نتكلَّمُ في الصَّلاة حتّى نَزَلَت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬7) أي: ساكنين صامتين، فأمرنا بالسُّكوت. والدّليل أيضًا على أنّه بمعنى الطّاعة: قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} الآية (¬8)، أي طائعًا لله تعالى. ¬
4 - والقنوتُ أيضًا بمعنى القيام؛ الدليلُ عليه قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} (¬1). الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬2): اختلفَ الفقهاءُ في القُنوتِ، فذهب مالك (¬3) والشّافعيّ (¬4) إلى أنَّ القُنوتَ مشروعٌ في الصُّبْحِ، وأنّه من فضائل الصَّلاة (¬5). المسألة الثّانية (¬6): قال أبو حنيفة والثّوريّ: لا يقنتُ في شيءٍ من الصَّلاة (¬7)، وإليه ذهب يحيى بن يحيى (¬8) من أصحابنا. والدّليلُ على صحَّةِ مذهب مالك: ما رُوِيَ عن عاصم؛ أنَّه قال: سألتُ أنس بن مالكٌ عن القُنوتِ، فقال: إنه كان يَقنُتُ، قلتُ: قبلَ الرُّكُوع أو بعدَهُ؟ قال: قبله. قال: فإنّ فلانًا أخبرني عنك أنّك قلتَ بعد الرُّكوع، قال: كَذَبَ، إنّما قنتَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بعد (¬9) الرُّكوع شهرًا، أَرَاهُ بَعَثَ قومًا يقالُ لهم القُرَّاءُ، وكانوا (¬10) سبعين رَجُلًا، إلى قومٍ من المشركين دونَ أولئك، وكان (¬11) بينهم وبين رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَهْدٌ (¬12)، فقتلوا القُرَّاء، فقنتَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَدْعُو عليهم (¬13). ¬
المسألة الثّالثة: فهذا ثبت هذا، فنقول: إنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قنتَ في الصُّبحِ والمغرب والعشاء، فاستقرَّ عمل أهل المدينة على أنَّ القنوتَ في الصُّبح. وهو الدُّعاء، وهو الطّاعة، ولا يكون إلَّا في قيامٍ كما فَعَلَهُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقد اجتمعتِ الثّلاثة في معنى واحد. المسألة الرّابعة (¬1): إذا ثبت هذا، فالقنوتُ عند مالكٌ (¬2) قبل الرُّكوع أفضل، وهو الّذي اختاره مع جملة من أصحابه. واختار الشّافعيّ (¬3) بعد الرُّكوع، واختاره أيضًا ابن حبيب (¬4). والدّليلُ على مذهب مالك: خبر أنس المذكور، وهو نَصٌّ في موضع الخلاف. ودليلنا من جهة المعنى: أنَّ القنوتَ قبل الرُّكوع أَوْلَى؛ لأنّه سبب لإدراك صلاة بعض من يأتي بعده (¬5). وإذا جعل بعد الرُّكوع لم تكن فيه فائدة لمدرك الصَّلاة. المسألة الخامسة (¬6): رأى ابن حنبل (¬7): أنّ قُنوتَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما كان لسببٍ فيما كان (¬8) ينزل بالمسلمين، والأحكامُ إذا كانت معلولة بالأسباب زالت بزَوَالها. ورأى مالكٌ والشّافعيّ أنّ ذلك من كَلَبِ العدوّ ومفزعته، معنى دائمًا، فدامَ القنوتُ بدَوَامِهِ، ونظروا أيضًا إلى أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - استمرَّ عليه فقَضَى باستمراره (¬9). ¬
المسألة السّادسة: وقد وهمَ فيه محمد بن عبد الحَكلم لأنّه يرى القُنوتَ سُنَّة، وأنّه يسجد له قبل السّلام. وهو في المذهب مستحبٌّ ولا سجودَ عليه فيه. واختلف قولُ مالكٌ في سجود السَّهْوِ لمن تركه، فلم يُدْخِل في ترجمة الموطَّأ فيه إلّا رواية نافع عن ابن عمر (¬1)؛ أنّه كان لا يَقْنُتُ في صلاة (¬2)، تنبيهًا على أنّه خفيفٌ لا يلزم في أصله فعلًا ولا يشرع له سجودُ وجبرانٌ. المسألةُ السّابعة (¬3): قال علماؤنا (¬4): ليس في القنوت دعاء مُؤقَّتٌ (¬5)، وليدعُ في القنوت بما شاءَ من حوائجه، رواه عليّ بن زياد عن مالكٌ، ويختصّ عند مالكٌ بصلاة الصُّبح. المسألة الثّامنة: في تحديد القنوت قال أبو محمد بن أبي زَيْد في الرِّسالة (¬6): "والقنوتُ عندنا: اللهُمَّ إنا نستعينُك، ونَسْتغفرُك، ونُومِنُ بك ونَخنعُ لك ونَخلَعُ، ونترُكُ من يَكفُرُكَ، اللَّهُمَّ إيّاكَ نَعْبُدُ، ولكَ نصلَي ونسجُدُ، وإليك نسعَى ونَحْفِدُ، نرجوا رَحْمَتك، ونخافُ عذابَكَ الجدَّ، إنّ عذابَكَ بالكافرين مُلْحِقٌ" (¬7). شرحٌ وعربيةٌ: قوله: "نَخْلَعُ" أي نترك من يكفرك ونطرحه بأخرة، فلا يكون منّا في شيءِ، كما نخلع الثّوب عن الظّهر (¬8). ¬
النهي عن الصلاة والإنسان على حاجته
وقوله: "نَسْعَى ونَخفِدْ" بكسر الفاء. أي: نخدم باجتهاد (¬1). والحَفْدُ والعَسَلاَنُ والنَّسَلاَنُ: تقارب الخَطو مع الإسراع. "ونَخَافُ عَذَابَكَ الجِدَّ" بكسر الجيم وفتحها، وكسرها أحسن، والجِدُّ: الحقّ. قوله: "إنَّ عَذَابَكَ بالكافرين مُلْحِقٌ " بكسر الحاء؛ لأنّه مفعل بمعنى فاعل، ويقال: مُلْحَق بفتح الحاء، قد ألحق بالكافرين، والأوّل أحسن. تتميم: قول مالكٌ: القنوتُ في رمضان، أي إدامة الصَّلاة فيه باللّيل، هذا معناه عندي. وزاد (¬2) عليّ عن مالك: وفي الوِتْرِ منَ النِّصف الآخِرِ من رمضان. وروى عنه ابن نافع المَنْع عنه في رمضان (¬3). النَّهيُ عن الصَّلاةِ والإنسانُ على (¬4) حَاجَتِهِ الحديث (¬5) صحيحٌ متَّفَقٌ عليه. قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا أرادَ أَحَدُكُمُ الغَائِطَ، فَلْيَبْدَأ بِهِ قَبْلَ الصَّلاَةِ". الحديث الثّاني: قوله من حديث عائشة: "لا يُصَلِّي أَحَدُكُم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين" يعني: الغائط والبول (¬6). الحديث الثّالث: "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ضَامٌّ بَيْنَ وَرِكَيهِ" (¬7). واختلف العلماء في تعليله بعلّتين - إحداهما أَقْوَى من الأُخْرَى-: 1 - قيل: إنّه إذا كان ضامًّا بين وَرِكَيْهِ كان حاملًا لنجاسة. ¬
والثّانية: أنّه يشتغل سرُّه كما قال: "إذا حضرتِ الصَّلاةُ والعَشَاءُ، فابدؤوا بالعَشَاءِ" (¬1). وقيل: عِلّتُه عدم الخُشوع معه، والإقبال على أفعال الصَّلاة. ومنهم من قال: إنّ علّته أنّه انصبَّ للخروج، فإذا حقنه فكأنّه حبسه في ثوبه. وأغفلوا علّة ثالثة، وهو إذا حقنه، فكأنّه قد نقضَ طهارته، فيكون مصلِّيًا بغير وضوء، وهذا إذا أخْرَقَه وحزقه. وأمّا إذا كان يسيرًا فلا اعتبار فيه (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): أجمعَ العلماءُ على أنّه لا ينبغي لأحدٍ أنّ يصلِّي وهو حاقنٌ، إذا كان حَقنُهُ ذلك يشغلُهُ عن الصَّلاة، أو عن إكمال الصَّلاة (¬4). المسألة الثّانية (¬5): قال مالكٌ (¬6): إذا كان الرَّجُلُ حاقنًا كان إمامًا أو مأمومًا، فإنّه ينصرف، وإن لم ينصرف وتَمَادَى في الصَّلاة، فإنَّ عليه الإعادة. وقال في، "المجموعة": أحبّ إِليَّ أنّ يعيد في الوقت وبعدَهُ. قال الإمام- ووجه ذلك: أنّه مأمور بتقديم الغائطِ لمعنى التَّفَرُّغِ (¬7). وقال أبو حنيفة (¬8)، والشّافعيّ (¬9): إنّ فَعَلَ، فبئس ما صنع، ولا إعادةَ عليه. والدّليلُ على ما نقوله: الحديث المذكور؛ أنّه أمر بتقديم الحاجة، وفيه النّهي ¬
عن تقديم الصَّلاة، والنَّهيُ يقتضي فساد المنهي عنه، فوجب أنّ يكون مفسدًا لها. المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا: إنّ ما يجده الإنسان من ذلك على ثلاثة أضرب: أحدها: أنّ يكون خفيفًا، فهذا يصلِّي ولا يقطع. والثّاني: أنّ يكون ضَامًّا بين وَرِكَيْهِ، فهذا يقطع، فإنْ تمادَى صَحَّتْ صلاتُه، ويستحبُّ له أنّ يعيدَ في الوقتِ. والثّالث: أنّ يشغله ويعجله عن استيفائها، فهذا يقطعُ، فإنْ تَمَادَى أعادَ أبدًا. المسألةُ الرّابعة (¬2): قال ابن القاسم (¬3): والقَرْقَرَةُ (¬4) في البَطْنِ بمنزلة الحَقْنِ. وأمّا الغَثَيَان: فلم يُجِب عنه. وعندي: ألّا (¬5) تقطع له الصَّلاة، والفَرْقُ بينه وبين الحَقنِ، أنّ الحَقنَ يقدر على إزالته، والغَثَيَانَ لا يقدر على إزالته، فلا معنى لقطع الصَّلاة من أجله. المسألة الخامسة (¬6): رَوَى ابنُ نافع عن مالكٌ؛ أنّه من أصابَ ذلك في صلاته، خرج واضعًا يده على أَنفِهِ كالرَّاعِفِ. ومعنى ذلك: أته قد يمنعه (¬7) خَجَلُهُ من الخروج على ذلك من التَّمَادِي على الصَّلاة. فإذا خرج على صفة الرَّاعِفِ، سهل عليه وبَادَرَ إلى الخروج، والله أعلم. ¬
انتظار الصلاة والمشي إليها
انتظارُ الصَّلاة والمشيُ إليها الأحاديث في هذا النَّوع صِحَاحٌ متَّفَقٌّ عليها، خَرَّجَهَا الأيمَّة. قوله (¬1): "إنَّ الملائكة تُصَلِّي على أَحَدِكِمُ - ويُرْوَى: تُصَلِّي على العبدِ (¬2) - ما دَامَ في مُصَلَّاه، وما دامَ ينتظر الصَّلاة، فيه ثمان فوائد: الفائدة الأولى: قوله: "تُصلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ" يريد تدعو (¬3)؛ لأنّ الصّلاةَ في كلام العرب تنقسم على أقسام: فمَد تكون بمعنى الترَحُّم. وبمعنى الدُّعاء. وبمعنى الرُّكُوع والسُّجود، كما بينَّاهُ في أوَّلِ الكتاب. ويحتمل أنّ يكون بعد ما صلّى، إذا جلس للذِّكْرِ ولانتظار صلاةٍ أخرى. الفائدة الثّانية (¬4): قوله (¬5): "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ" بَيَّنَ معنى الصَّلاة الّتي أضافها إلى الملائكة. الفائدة الثّالثة (¬6): قوله (¬7): "لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ" فَبيَّنَ معنى قصده المسجد (¬8). والخيرُ يشتملُ على جميع أنواع الصَّلاة وغيرها، وإدخاله (¬9) في هذا الباب، وليس فيه ذكر الصَّلاة، على أنَ الصَّلاة من جملة الخير، فكلٌّ من جلسَ في المسجد فإنه في خيرٍ. ¬
وقيل: المنافقُ في المسجدِ كالطَّيْر في القَفَصِ (¬1) يغلق فيه (¬2) وينظر موضعًا للخروج. الفائدة الرّابعة (¬3): ويدخل في هذا الحديث المرأة، فإنّها لو قعدت في مصلَّى بيتها تنتظر دخول الوقت للصّلاة، فإنّها تدخل في معنى هذا الحديث؛ لأنّها حبست نفسها عن التَّصرُّفِ رغبةً في الصّلاة، فهي داخلةٌ في معنى الحديث، واللهُ أعلمُ. الفائدة الخامسة: قوله (¬4): "مَا لَمْ يُحْدِث" اختلف العلماء في معناه على أربعة أقوال: الأوّل (¬5) - قال مالك (¬6): هو الحَدَث الّذي ينقضُ الوضوءَ والطّهارة، وهو قولٌ صحيحٌ؛ لأنّ المُحْدِثَ القاعدَ في المسجد على غيرِ وضوء لا يكون منتظرًا للصلاةِ في حال تجوزُ له الصَّلاة. القولُ الثّاني - قال غيره: هو حَدَثُ الاثم، يريد ما لم يعص، فإذا قطع صلاة الملائكة حدَث الوضوء، فحدَثُ المعصيةِ أَوْلَى وأَحْرَى أنّ يقطع (¬7). القولُ الثّالث - قال أبو هريرة: هو حدَثُ البَطْنِ. ومذهب سعد بن أبي وقّاص أنّه حدث الإثم. القولُ الرّابع - قال عبد الملك: إنه ما أحدثَ النّاس اليوم من الكلام في المساجد. الفائدة السّادسة (¬8): فيه: التّرغيب في عمارة المسجدِ لمشاهدة صلاة الجماعة، فإن لكلِّ امريءٍ مَا نَوَى. ¬
الفائدة السّابعة: قوله (¬1):"مَنْ رَاحَ إلى المَسجِدِ لا يريدُ إلَّا تعلّم خير لا غيره، كان كَالمُجَاهِدِ في سبيلِ اللهِ" فيه من الفقه (¬2): أنّ العالم والمتعلِّم في الأَجْرِ سواء. وقوله (¬3): "كالمُجَاهِدِ يرجع بالغَنِيمة" يحتمل أنّ يريد: إنّما يرجع من الأجر كاجر المجاهد الغانمِ، واللهُ أعلم. حديث مالكٌ (¬4)، عن العَلاَء بن عبد الرّحمن، عن أبيه؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُخبِرُكُم بما يمحو اللهُ به الخطايا، ويرفَعُ به الدَّرجاتِ؟ إسباغُ الوُضُوءِ عند المكارِهِ، وكَثرْةُ الخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصّلاة بعد الصّلاة. فذَلِكُمُ الرِّباطُ، فذلكمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ " ثَلاَثًا. الإسناد: حديثٌ صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه، خرَّجَهُ مالك (¬5) ومسلم في صحيحه (¬6)، وهو حَسَنٌ في الباب في التّرغيب، ومن أفضل حديث يُرْوَى في فضل الأعمال، وفيه سبع فوائد: الفائدة الأولى (¬7): فيه من الفقه: طرح المسألة على المتعلِّم، وإبتداؤُه بها، وعَرْضُها على من يرجو حِفْظَهَا وحملَها. الفائدة الثّانية: قوله (¬8): "يَمْحُو اللهُ به الخَطَايَا" هذا كنايةٌ عن العَفْوِ عنها. وقد يكون مَحْوُها من كتابِ الحَفَظَة دليلًا على عَفْوه تعالى عمّن كتبت عليه باكتسابه لها، وقد بَيَّنَّا في ¬
تفسير قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) في تمثيل الملكوت على ثلاث وخمسين قولًا للعلماء فلتنظر هنالك (¬2). الفائدة الثّالثة (¬3): قوله: "ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرجاتِ" يريد المنازل في الجَنَّة. ويحتمل أنّ يريد به درجته في الدنيا بالذِّكرِ الجميل، وفي الآخرة بالثَّواب الجزيل. الفائدة الرّابعة (¬4): قوله: "إسباغُ الوُضُوءِ عِنْدَ المَكَارِهِ" قال علماؤنا (¬5): الإسباغ: الإكمال والإتمام (¬6). قال المفسِّرون في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} (¬7) يعني: أتَمَّها عليكم وأكملها. وإسباخُ الوُضوءِ هو أنّ يأتي بالماءِ على كلِّ عُضْوٍ يَلْزَمُهُ غسله مع إمْرَارِ اليد، فهذا فعلَ ذلك وأكملَ، فقد توضَّأَ كما أَمَرَهُ اللهُ. الفائدةُ الخامسة (¬8): قولُه: "على المَكَارِهِ" يريد: على أنواعهِنَّ من شدَّةِ بردٍ، وألم جسمٍ، وقلّة ماءٍ، وحاجة نوم، وعجلةٍ، وغير ذلك. وقال الشّيخ أبو عمر في "الاستذكار" (¬9): "أراد بقوله: "على المكاره" شدّة البَرْد، وكلّ حالِ يكره المرء عليها (¬10) نفسه على الوضوء". ¬
الفائدة السادسة (¬1): "وانتظارُ الصَّلاةِ بعد الصَّلاةِ، فذلكمُ الرِّبَاطُ " أمّا قوله: "انتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ" يريد: كالعصر بعد الظّهر، والعِشَاء بعد المغرب. وأمّا انتظار الصُّبْح بعد العِشَاء، فلم يكن من عمل النّاس؛ لأنّه وقتٌ يتكرَّر فيه الحَدَث، وكذلك الظُّهر بعد الصُّبْح. وأمّا المغرب بعد العَصْرِ، فلا أذكرُ (¬2) فيه نَصًّا، وحكمه عندي حكم الصُّبْح (¬3) بعد العِشَاء؛ لأنّه ينتظر صلاةً ليس بينها وبين الّتي صَلَّى اشتراكٌ في وقتٍ. الفائدة السّابعة (¬4): قوله: "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" يعني أنّه من الرِّباطِ المُرَغَّبِ فيه؛ لأنّه قد ربطَ نفسَهُ على هذا العمل. ويحتمل التّفضيل لهذا الرِّباط على غيره من الرِّباط في الثُّغُور، يريد أنّه أفضل أنواعه، ولذلك يقال: جهاد النّفس هو الجهاد. قال الشّيخ أبو عمر في الاستذكار (¬5): "الرِّباطُ هاهنا الملازمةُ في المسجدِ لانتظارِ الصّلاةِ، وذلك معروف في لُغَةِ العربِ. قال صاحب العين (¬6): "الرِّباطُ: ملازمة الثُّغور (¬7). والرِّباطُ: مواظَبَةُ الصَّلاة" (¬8). قال أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن (¬9): في قوله: {اصْبِرُوا} (¬10) قال: ما كان الرِّباط ¬
على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، ولكن نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصَّلاة (¬1). وقال محمد بن كعب في ذلك: "اصبروا على دِينكُم، وصَابِرُوا على الوَعْدِ الّذي وَعَدْتكم، ورابِطُوا عَدُوِّي وعدوَّكُم حتّى يتركَ دينَهُ لديِنكُم، واتَّقوني فيما بيني وبينكم (¬2) " (¬3). وقال في قوله: {اصْبِرُوا} على صلاة الصُّبْح {وَرَابِطُوا} على الظُّهرِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في العصر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في المغرب والعشاء. ومن حديث عليّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إسْبَاغُ الوُضوءِ في المكارِهِ، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، يغسلُ الخطايا غسلًا" (¬4). حديث أبي قَتَادَة الأنصاريّ (¬5)؛ أنّ رسول الله قال: "إذا جاءَ (¬6) أحَدُكُمُ المسجدَ، فَلْيَرْكَع ركعتين قبلَ أنّ يجلِسَ". الإسناد: قال الإمام: حديث حسن صحيح (¬7) في الباب، خرَّجه الأيمَّة: مسلم (¬8) والبخاري (¬9). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬10): اتَّفَقَ جماعةُ أَيِمّة الفَتْوَى على أنّ تأويل هذا الحديث محمولٌ على النّدب ¬
والإرشاد، مع استحسانهم (¬1) الرُّكوع لكلِّ مَنْ دخلَ المسجدَ وهو طاهرٌ، في وقتٍ تجوزُ فيه النّافلة. وقال مالكٌ (¬2): هو حسنٌ وليس بواجب. وأوجب أهلُ الظّاهر (¬3) ذلك فَرْضًا على كلِّ من دخلَ المسجدَ في كلّ وقت؛ لأنّ فعلَ الخير لا يُمْنَعُ منه إلَّا بدليلٍ مُعَارِض. قال الإمام: وهذا القولُ لا يُلْتفَتُ إليه، فإن الأدلَّةَ مَعَنَا قائمةٌ، ولا يقوم بقوله أهل الظّاهر حُجَّة. قال الطّحاوي (¬4): وحُجَّةُ الجماعة في ذلك: اْنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - سُلَيْكًا حين جاء يوم الجمعة وهو يخطبُ أنّ يركعَ ركعتين (¬5)، وأمر مرّة أخرى رجلًا رآه يتخطَّى رقابَ النَّاسِ بالجلوس (¬6)، ولم يأمره بالرّكوع عند دخوله. وفي حديث آخر: "اجلس فقد آنيتَ وآذَيْتَ" (¬7). فهذا يخالفُ حديثَ سُلَيْك، فاستَعْمل الأحاديث على ما تأوَّلَها جماعة الفقهاء (¬8). وقول أهل الظّاهر في ذلك خطأ، لقوله: "ونهيه عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها" (¬9) وغير ذلك من الأوقات المنهي، فمن دخل المسجدَ في هذه الأوقات، فليس بداخلٍ في أَمْرِهِ -عليه السّلام- بالرُّكوع عند دخوله. المسألة الثّانية (¬10): قال علماؤنا (¬11): قوله: "إذا دخلَ أحدُكُم المسجدَ فَلْيَرْكَعْ ركعتينِ" لَفْظُه لفظ الأمر وهو محمولٌ على النَّدْبِ، بدليل أنّه لا يجب من الصَّلوات ¬
إلَّا الخمس. ومعنى ذلك: أنّ المساجد إنّما بُنِيَت للصّلاة، وإنّما تُقْصَدُ للصّلاة، فَيُسْتَحَبُّ أنّ يبدأ فيها بالصّلاة، ليأمن بذلك ذوات ما قصد له بحَدَث أو غيره. المسألة الثّالثة (¬1): قال أشياخنا (¬2): ولا يخلو أنّ يدخل للصّلاة أو لغيرها. فإنْ دخلَهُ للصّلاة، فإنه يستحبُّ له أنّ يركع ركعتين قبل أنّ يجلس، تحيّة المسجد. المسألة الرّابعة (¬3): قال علماؤنا (¬4) فيمن أتَى العيد (¬5): إنّه يجلس ولا يركع. واختُلِفَ فيمن أتى الجامع لصلاة العيد: ورَوَى ابنُ القاسم عن مالكٌ؛ أنّه يركع. وروى ابنُ وَهْب وأشهب؛ أنّه لا يركع. ويحتمل ذلك معنيين: أ- أحدهما: أنّ يكون المنعُ من الصَّلاة لأجل المكانِ. 2 - ويحتمل أنّ يكون لأجل الصَّلاة. فإن قلنا لأجل المكان، فإنّ الصَّلاة في الجامع لمن أتى (¬6) العيد غير ممنوعة، وفي غيره ممنوعة. ووجه ذلك: أنّه فِعْلٌ متَّخَذٌ لصلاة سُنَّ لها البُرُوز، ولم يُسَن الرُّكوع قَبْلَها كصلاة الجنازة. * وإن قلنا: إنَّ المنع لأجل الصَّلاة، فلائها صلاة قد لحقها التّغير، وسُنَّ لها ¬
البروز، فلم يُشْرَع لمن جاء الرُّكوع قبلها كصلاة الجنازة* (¬1)، فعلى ذلك (¬2) لا يركع من أتى المسجد للعيد، ولا يمنع من أراد أنّ يركع في المصلَّى إذا خرج إلى الاستسقاء. وكذلك قال مالكٌ: يركع في المصلَّى من خرج (¬3) قبل الإمام أو بعده. المسألة الخامسة (¬4): ومن دخل المسجدَ لغير صلاة، فلا يخلو أنّ يريد الجلوس أو الجواز. فإن أراد الجلوس، فلا يجلس حتَّى يركع. وإن أراد الجواز،، فقال مالكٌ: ليس عليه أنّ يركع. ورُوِيَ عن زيد بن ثابت؛ أنّه قال: يركع. وجه ما قاله مالكٌ: أنّ الأمر إنّما تَوَجَّه على مَنْ يريد الجلوس، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم - (¬5): "فَلْيَرْكَغ رَكعَتَيْنِ قبلَ أنّ يَجْلِسَ". وأمّا المارّ فلم يَتوَجَّه إليه الأمر، والأصلُ عدمه. المسألة السّادسة (¬6): قال علماؤنا (¬7): وهذا إنّما يكون في مساجد الآفاق، وأمّا المسجد الحرام، فقد قال مالكٌ في العُتْبِيّة (¬8): يبدأ بالطواف قبل الرُّكوع. ووجهه: أنّ الطّواف صلاة، وهو مختصٌّ بهذا المسجد، فلذلك ابتدأَ به قبل الصَّلاة الّتي لا تختصّ به، بل يشاركه فيها سائر المساجد، على أنّ الطّواف لا بد بعده من ركعتين، فيجتمع له (¬9) الأمران. ¬
وضع اليدين على ما يوضع عليه الوجه في السجود
المسألة السّابعة (¬1): قال علماؤنا (¬2): وأمّا في مسجد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال مالكٌ (¬3): يبدأ بالسّلام (¬4) على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، قال: وكلُّ ذلك واسعٌ (¬5). قال ابنُ القاسم: يبدأ بالرُّكوع أحبُّ إليَّ (¬6). ويتفرَّع على هذا مسائل كثيرة يطولُ بسردها الكتاب. وضعُ اليَدَيْنِ على ما يُوضَعُ عليه الوَجْهُ في السُّجود الفقه في ثلاث مسائل: قوله (¬7): "يضع كَفَّيهِ على الّذي يَضَعُ عليه وجْههُ" هو السُّنَّة؛ لأنّ اليَدَيْن ممّا ترفع وتوضع في السُّجود كالوجه، بخلاف سائر الأعضاء، فلزم أنّ يكون حكمهما حكم الوجه. فإن كان على الكَفِّ غشاءٌ، فلا يصلّي (¬8) به، رواه ابنُ القاسم عن مالكٌ. ومعنى ذلك: أنّها (¬9) من اليد، فيلزم أنّ يباشر بها الأرض ما يسجد عليها. المسألةُ الثّانية (¬10): الأَنْفُ أمّا الأنفُ، فهو عند ابن القاسم تَبَعٌ للجبهة، فإن سجد عليها دون الأَنْفِ ¬
أجزأَهُ، وإِنْ سجد على الأَنْفِ دونها لم يجزه. وقال ابنُ حبيب: هما سواء، ومن لم يسجد عليهما لم يجزه. التوجيه: أمّا وجه قول ابن القاسم: فمعناه أنّ الأنفَ ليس مع الجبهة عظمًا واحدًا، وإنّما هو مضافٌ إلى الوجه، ولذلك لم تكن فيه مُوضِحَة، وإنّما يدخلُ مع الوجه على معنى التَّبَعِ. ووجه قول ابن حبيب: ما روي عنه؟ أنّه قال - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سَبْعِ ولا أَكْفِتَ الشَّعْرَ ولا الثِّيَابَ، الجَبْهَةِ، والأَنْفِ، وَاليَدَيْنِ، والرُّكْبَتَيْنِ، والقَدَمَيْنِ (¬1) " (¬2). حديث (¬3): خَرَّجَ التّرمذيّ (¬4)، عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِديِّ، أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا سجدَ أمكنَ أَنْفَهُ وجَبْهَتَهُ منَ الأرضِ، وَنَحَّى يَدَثهِ عن جَنْبَيهِ، ووضع كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، حديث حسن (¬5). قيل للبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ: أين كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَضَعُ جَبْهَتَهُ إذا سجد؟ قال: بَيْنَ كَفَّيْهِ. حديث حَسَنٌ غريبٌ (¬6). حديث العبّاس بن عبد المُطَّلِب؛* أنّه سمع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "إذا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ معه سَبْعَةُ آرَابِ: وَجْهُهُ، وكَفَّاهُ، ورُكبتاهُ، وقَدَمَاهُ" حَسَنٌ صحيحٌ (¬7). ابن عبّاس * (¬8)؛ قال: أُمِرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْظُمٍ (¬9)، ولا يَكُفَّ شَعْرًا ولا ثَوْبًا. حَسَنٌ صحيحٌ (¬10). ¬
العربية (¬1): الآرابُ: هي الأعضاء، واحدها إِرْبٌ (¬2). الأصول (¬3): قوله (¬4): "أُمِرْتُ بالسُّجُودِ" مخصوصٌ في الظّاهر. واختلف العلماءُ فيما فُرِضَ على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من ذلك، هل تدخل معه الأُمَّةُ فيه؟ فقيل: تدخل. وقيل: لا تدخل إلّا بدليلٍ، وهو الأَصَّحُّ. وقيل: إذا خُوطِبَ النّبيُّ بأَمْرٍ ونَهْيٍ فالمرادُ به الأُمَّة مَعَهُ، وهذا أيضًا لا يثبت إلَّا بدليلٍ. والدَّليلُ على تَوَجُّه ذلك علينا: إجماع الأُمَّة على وجوب السُّجودِ على هذه الأعضاء، ولعلّ ذلك أيضًا مأخوذٌ من قوله: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" (¬5) أو مِن دليلٍ آخر سِوَاهُ، ولا دليل (¬6) أَعْلَمُهُ في الأعضاء السَّبعة، إلَّا الوجه، فإن فيه عُضْوَيْنِ يلصقان بالأرض: الجبهة والأَنْفُ. واختلف علماؤنا في وجوبِ السُّجودِ عليهما على ثلاثة أقوال: القولُ الأوّل: أنّ يسجد عليهما جميعًا، يعضدُه قولُه: "الوَجْه" في حديث ابن عبّاس، وقوله في الصّحيح: "الجبهة"، وأشار بيده إلى (¬7) أنفه، فدخلت الجبهةُ في الوجه (¬8) باللَّفظِ. والأنفُ با لاشارة. وقال ابن حبيب -وهو الثّاني (¬9) -: سقط وجوب (¬10) السّجود عن الأَنْفِ؛ لأنّ ¬
الالتفات والتصفيق في الصلاة عند الحاجة
النَّبيَّ لم يذكره، إنّما قال: "والجبهة" وإلاّ فهو ظَنٌّ من الرّاوي لا تقوم به حُجَّة، وقاله أيضًا ابن القاسم. والقولُ الثّالث: ذكر أبو الفَرَج المالكي (¬1) في "الحاوي": أنّه من صلَّى فسجدَ على أَنْفِه دون جبهته أنّه لا يعيد؛ لأنّ بعض الوجه وَجْهٌ، كما أنّ بعضَ الرَّأسِ رأسٌ. وقد بيَّنَّا فساده في "الكتاب الكبير". وأمّا السُّجودُ على العمامة، فقد أجازَهُ ابن القاسم. الالتفاتُ والتّصفيقُ في الصَّلاة عند الحاجة مالك (¬2)، عن أبي حازِم بن دينار، عن سَهْلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عَمْرو بن عوْفٍ لِيُصْلِحَ بينهم، وحَانَتِ الصّلاةُ، فجاءَ المُؤَذِّنُ إلى أبي بكرِ الصِّدِّيق، فقال: أتُصَلِّي للنَّاسِ فَأُقيمَى؟ قال: نعم، فَصلَّى أبو بكرٍ، فجاء رسولُ الله والنّاسُ في الصَّلاةِ، فَتَخَلَّصَ حتَّى وَقَفَ في الصَّفِّ الحديث. التّرجمةُ (¬3): بوَّبَ مالكٌ - رحمه الله - على الالتفات في الصّلاة؛ لأنّه عَمَلٌ خارج عنها، مضادّ لإقبال، ولكن سمح في اليسير عند الحاجة. وبَوَّبَ أيضًا عليه، لِمَا رُوِيَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يلتفتُ في صلاتِهِ يَمِينًا وشِمَالًا، غيرَ أنَّهُ لا يَلْوِي عُنُقَهُ. رواه الشّعبي وغيره (¬4). قال علماؤنا: وإنّما نخافُ أنّ يدخل في قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وأَمَّا الآخرُ فأَعْرَضَ، فأَعْرَضَ اللهُ عنه" (¬5). ¬
ذكر الفوائد المتعلقة بهذا الحديث
الإسناد (¬1): اختلفت ألفاظُ النَّاقلين لهذا الحديث (¬2) عن أبي حازم، وبانَ في ذلك أنّ الصَّلاةَ الّتي صلَّاها أبو بكرٍ كانت صلاةَ العصرِ، وأن المُؤَذِّنَ كان بِلاَلًا. وروى حمّاد بن زيد هذا الحديث عن أبي حازم مُسْنَدًا، وقال فيه النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لبلالٍ: "إذا حَضَرَتِ الصّلاةُ فقدّم أبَا بكرٍ" (¬3). ذكر الفوائد المتعلقة بهذا الحديث وهي أربع عشرة فائدة: الفائدة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): فيه من الفقه: إصلاحُ الامامِ على رعِيَّتّه إذا تقاتَلُوا، لئلّا تفترق كلمتهم فيدخلها (¬6) الفساد. وفيه: الحُكْمُ والإصلاحُ بين النّاس (¬7)، وهو مندوبٌ إليه. قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية (¬8). وفيه أيضًا (¬9): أنّ الإمام والحاكم قد يذهب بنفسه فيما يحتاج إليه من المشاهدة للأمر من القضايا والأحكام. الفائدة الثّانية: قوله: "وَحَانَتِ الصَّلاة"، في هذا دليل على فضل الصَّلاة في أوّل الوقت، وإذا ¬
خشي فَوْت وقتها المختار، إنّه لا ينتظر الإمام فيها وإن كان فاضلًا (¬1) لأنّه قال: "وَحَانَتِ الصَّلاة" ولم يقل: فخيف فوت الوقت، وفي ذلك آثارٌ كثيرةٌ. الفائدة الثّالثة: قال علماؤنا: وإنّما استعجلوا بالصّلاة خَلْفَ أبي بكرٍ؛ لأنّ ظَنَّهُم أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سَيُبْطِيءُ عن الصَّلاة، فكان يطول ذلك عليهم من انتظاره. الفائدة الرّابعة (¬2): فيه من الفقه: أنّ الإقامة إلى المُؤَذِّنِ وهو أَوْلَى بذلك، وقد اختلف العلماء في هذا المعنى: فقال قائلون: مَنْ أَذَّنَ فهو أَوْلَى بالإقامة، ورَوَوْا فيه حديثًا مسنَدًا عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬3). وقال مالكٌ (¬4) والكوفيون (¬5): لا بأس بأذان مؤذِّنِ وإقامة غيره. واستحبَّ الشّافعيّ (¬6) أنّ يقيمَ المؤذِّن، وإن أقام غيره فلا بأس به. الفائدة الخامسة (¬7): قوله (¬8): "تُصَلِّي فَأُقِيمُ" بيانٌ أنّ الإقامةَ متّصلةٌ بالصّلاةِ، ولذلك استفهمه، ولم يحتج ذلك في الأذان؛ لأنّه ليس بِمُتَّصِلٍ (¬9) بالصّلاة. ¬
الفائدة السّادسة (¬1): جواز تَخَلُّلِ (¬2) الصّفوف، والإتيان إلى الصَّفِّ، الأوّل حتَّى يصل إليه من يليق (¬3) به الصَّلاة فيه؛ لأنّ شأن الصَّفِّ الأوَّل أنّ يكون فيه أفضل القوم وأعدلهم، لقوله - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الثّابت الصّحيح: "لِيَلِني منكم أُولُو الأحلام والنُّهَى، وإيّاكُمْ وَهيْشَاتِ الأَسْوَاقِ" (¬4). نكتةٌ لغويةٌ: قال أبو عبيْدٍ في غريبه (¬5): "إياكم وهَوْشَات الأسواق. الهوشةُ: الفِتْنَة والهيج والاختلاط، يقالُ: هوشَ القوم إذا اختلطوا" أو ما قرب من هذا المعنى. وقوله (¬6): "أولو الأحلام والنُّهَى" يعني العقلاء الفضلاء الّذين يحفظون عنه صلاته، ويَعُونَ (¬7) ما يكون منه في صلاته. وكذلك ينبغي أنّ يكون في الصَّفِّ الأوّل من يصلُحُ أنّ يُلَقِّنَه، ومن يصلُح أيضًا للاستخلاف في الصَّلاة. الفائدة السابعة (¬8): قوله (¬9): "حتّى وقفَ في الصَّفِّ" يريد الصَّفّ الأفضل، والألف واللّام للعهد، وهذا أصلٌ فيمن دخلَ فوجدَ النَّاسَ يصلُّونَ، فرأَى فُرْجَة في الصَّفِّ المتقدِّم أنّه يشقُّ إليها. وروى ابن القاسم عن مالكٌ: أنّه لا بأس أنّ يخترقَ صَفَّا إلى فُرْجَةٍ يراها في صف آخر. ¬
قال ابن حبيب: إنّ كان عن يمينه ويساره فليدعها. الفائدة الثامنة (¬1): قوله (¬2): "فصفَّقَ النّاسُ" وإنّما صَفَّقُوا لمّا كانوا ممنوعين من الكلام. ورأَوْا ما استعظموه من تقديم أبي بكرٍ بحَضرةِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وفيه: أنّ التّصفيقَ لا يفسدُ صلاة الرِّجال (¬3) وإن فعلوه فيها؛ لأنهم لم يُؤْمَرُوا بإعادة الصَّلاة، وإنّما قيل لهم (¬4): "مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ في صَلاَتِهِ فَلْيُسَبَّحْ". نكتةٌ أصولية (¬5): قوله: "إنّمَا التَّصْفِيقُ للنِّسَاءِ" قال الشّافعيّ: أراد به شرعًا، أو بيان شرع (¬6). وقال مالكٌ: أراد به بيان حالٍ؛ لأنّ هذا حُكمٌ (¬7) في الشّريعة، والحقُّ أحقُّ أنّ يُتَّبَعَ (¬8) قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشّيطانَ تَعَرَّضَ لي في صلاتي، فإن كان شيءٌ فَلْيُسَبِّح الرِّجالُ، وليصفّق النِّساءُ" (¬9) وهذا نصّ، وقوله: "فإن أنساني الشّيطان شيئًا من صلاتي فليسبح الرِّجال، وليصفِّق النّساءُ" (¬10). اعتراض (¬11): فإن قيل: كيف سُلِّطَ الشَّيطانُ عليه والعصمةُ قد ضمنت له؟ الجواب عنه من ثلاثة أَوْجُهٍ: أحدها - أنا نقول: إنّما ضمنت له العصمة *في الآية من النّاس لا من الشيطان. ¬
وضمنت له العصمة * (¬1) بدليلِ آخر من الشّيطان في المعاصي، دون الوسوسة والفَزَع، ألَّا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الآية (¬2). الثّاني: أنّه إنّما أضاف السَّهْوَ إلى الشيطان، اقتداءً بموسى -عليه السّلام- في قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه} الآية (¬3). وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬4) فاقتدى به. الثّالث: أنّه إنّما كان معصومًا من شيطانه، قال - صلّى الله عليه وسلم -: "ما منكمْ من أحدٍ إلَّا وله شيطانٌ. قيل: ولا أنت؟ قال: ولا أنا" الحديث (¬5). فأمّا مِنْ غيره، فقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ عِفْرِيتًا تَفَلّتَ عَلَيَّ البارحةَ في الصّلاةِ، فأخذتُهُ وهممتُ أنّ أُوثقَهُ إلى سارِيَةٍ من سَوَارِي المسجد، ثم ذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} الآية (¬6) فَدَعَتُّهُ" (¬7). نكتةٌ لغوية: قوله: "التَّصْفِيقُ للنِّسَاءِ" التّصفيقُ: صوتُ الكَفِّ يقعُ على الكَفِّ، ولذلك قالوا في الصفقة إذا تمّت صفقة؛ لأنهم إذا أتمّوا النكاح جعلَ المنكح يده في يد النّاكح، فكان ذلك عندهم دليلًا على تمام العَقْدِ، فكان للكَفَّيْن حينئذٍ صوتٌ. والتصفيق بالسِّين والصّاد لأنّها قبل القاف، ذُكِرَ ذلك في كتاب العين (¬8) عن الخليل بن أحمد: أنّ كلّ سين أو صاد تكون قبل القاف، فإنّ السِّين في مكان الصّاد جائز، والصّاد مكان السِّين أيضًا. ¬
مزيد بيان: فإن قيل: فلم خَصَّ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - النِّساء بالتّصفيق والرّجال بالتّسبيح؟ أجاب علماؤنا عن ذلك بأجوبة: أحدها: أنّ المرأة عورةٌ، وكلامها عورةٌ فَخَشِيَ الفتنةَ؛ لأنّ صوتَها فيه لِينٌ، فأمرَ الرِّجالَ بالتّسبِيحِ والنّساء بالتَّصفيقِ، على ما جاء في الحديث. الفائدة التّاسعة (¬1): قوله (¬2): "وكانَ أبو بكرٍ لا يتلفتُ في صلاته" هذا من فضائل الرَّجُل الفاضل أنّه لا يلتفتُ في الصّلاةِ، ولذلك وصف به أبا بكر مدحًا له. "فلمَّا أكثرَ النَّاسُ منَ التّصفيقِ الْتَفَتَ" وفي ذلك دليلٌ على أنّ الالتفاتَ القليل لا تعاد منه الصَّلاة. وقوله: "كانَ لا يَلْتفِتُ" فيه دليلٌ على أنّ مِنْ سُنَّةِ الصّلاة أنّ يكون نظره في قِبْلَتِهِ؛ لأنّ أبا بكر دام على ذلك حتّى وُصِفَ به. وأنكر مالكٌ (¬3) أنّ ينكس الرّجل رأسه، ولا يتكلَّف رفعه ولا خَفْضه. وقوله: "فَالْتَفَتَ" دليل على أنّ ذلك ليس بواجبٍ (¬4). الفائدة العاشرة (¬5): قوله: "فأشارَ إليه أَنِ امْكُثْ" قال علماؤنا (¬6): في ذلك دليل أنّ الإشارة في الصَّلاة للعُذرِ لا تبطلها؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فعل ذلك. الفائدة الحادية عشرة (¬7): أنّ الإشارة في الصَّلاةِ باليد والغَمْزَ بالعينِ لا تضرُّ المصلِّي، وقد روى نافع، ¬
عن ابن عمر؟ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "كان يشير في الصَّلاة" (¬1). وقد اختلف في هذا المعنى؟ فقالوا: إشارة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى أبي بكرٍ تحتمل معنيين: أحدهما: أنّ يثبت مكانه إمامًا. والثّاني: أنّ يثبتَ مأمومًا. والأوّل أظهر. والإشارة (¬2) في الصَّلاة للعُذْرِ لا تبطلها؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فعل ذلك. الفائدة الثّانية عشرة (¬3): فيه ردّ السّلام بالإشارة باليد والرّأس؛ لأنّهما ممّا جرت بهما العادة، قال ابنُ الماجِشُون: ولا بأس بالمصافحة في الصّلاة. وهذا فيه نظر (¬4). وروي عن ابن وهب: لا بأس أنّ يشير في الصَّلاة بلا ونعم. قال ابنُ الماجِشُون: وأمّا أنّ يشيرَ إليه بالشّيءِ يُعطِيهِ إيّاه، فلا أحبُّ ذلك. الفائدة الثّالثة عشرة (¬5): فيه دليلٌ على أنّ رفع اليدين في الصّلاة حَمْدًا وشُكْرًا ودعاءً وضَرَاعَةً إلى الله، لا يضرُّ ذلك الصَّلاة، وهو جائز. وقد رُوِيَ عن مالكٌ جواز رفع اليدين في موضع الدّعاء. الفائدة الرّابعة عشرة (¬6): قوله: "فَحَمِدَ الله" يريد على ما فَضَّلَهُ وأَهَّلَهُ له النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من تَقَدُّمِهِ وصلاته به. وقد رُوِي عن ابن القاسم (¬7): فيمن أُخبِرَ في صلاته بما يَسُرُّهُ، فحمد الله، قال: لا يعجبني، وصلاته مجزئةٌ عنه. وقال أشهب: إلَّا أنّ يريد بذلك قطع صلاته. ¬
الفائدة الخامسة عشرة (¬1): قوله: "فَاسْتأخَرَ أَبُو بَكرٍ" في ذلك مسألتان: إحداهما: تأخّر أبي بكر. والثّانية: تقدّم النَّبيّ (¬2). فأمّا تأخر الإمام لغير عذر، فليس بجائزٍ؛ لأنّه قد لزمه إتمامها، ولزم النّاس الائتمام به، فلا يجوز له إبطال (¬3) ما دخل فيه ولا إبطال صلاة من قد ائْتَمَّ به. الفائدة السّادسة عشرة (¬4): فيه دليل على جواز الاستخلافِ في الصّلاة إذا أحدثَ الإمامُ، أو مَنَعَهُ من إتمامِ صلاته مانعٌ، وقد تأَخَّرَ أبو بكرٍ من غير حَدَثٍ. الفقه في ذلك في أربعة فصول: الفصل الأوّل: في حكم الإمام إذا طرأ عليه ما يمنعه حكم الاستخلاف والمستخلف. الفصل الثّاني: في عمل المستخلف فيما بَقِيَ عليه. الفصل الثّالث: في عمل من استُخلِفَ للصّلاة بهم. الفصل الرّابع: في عملهم بعد إتمام صلاة الإمام. الفصل الأوّل (¬5) قال علماؤنا (¬6) في إمامٍ أَحْدَثَ فاستخلفَ، ثمّ أَتى فأخرج (¬7) المستخلفَ وأتمّ صلاتَه: إنّ ذلك ماضٍ، واستدلَّ بفعلِ أبي بكرٍ حيثُ (¬8) تأخّر، وذلك يدلُّ على أنّه يرى أنّ هذا الفعل لا يختصّ بالنّبىّ - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
وقال يحيى بن عمر (¬1): إنّ ذلك مخصوصٌ بالنّبيّ عليه السّلام، وذلك يفيد أنّ مثل هذا لا يصحّ من غيره، وهو الأظهر بتلك العلّة الّتي لها تأَخَّرَ، وهذا حُكمٌ يختصّ بالنَّبيِّ عليه السّلام، ولو كان لابنِ أبي قحافة أنّ يصلّي بين يدي من هو أفضل منه، وأقره النّبيُّ (¬2) على ذلك، لجَاز (¬3) اليوم أنّ (¬4) يتأخّرَ الإمامُ لمن يرى أنّه أفضل منه. والعملُ اليوم عند جماعة العلماء؛ أنّ (¬5) ذلل مخصوصٌ بالنَّبيِّ عليه السّلام، وكلّهم لا يجيز إمَامَين في صلاةٍ واحدةٍ من غير حَدَثِ يقطعُها على الإمام. وفي إجماعهم على هذا دليلُ (¬6) خصوصِ هذا الموضع، لفضل (¬7) رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وأنّه لا نظيرَ له. ولا يجوز لأحدٍ أنّ يتقدَّمَ قوْمًا إلَّا بإذنهم، أو إِذْنِ من له الإذْن منهم، ولا ضرورة بأحدٍ اليومَ إلى مثل هذا الفعل، فلذلك بانَ فيه الخصوص. وموضعُ الخصوصِ في هذا الحديث: هو تأخّر الإمام عن غير حَدَثٍ. وأمّا من تأخّر لعلّة الحدث، فذلك جائزٌ لما وصفنا. المسألة الثّالثة: وأمّا تأخّر الإمام لعُذرٍ، فلا خلافَ في ذلك (¬8). والأعذار على وجوه: منها: ما يوجب للإمام كونه مأمومًا، وذلك إذا عجز عن شىءٍ من فَرْضِ الصَّلاة. الثّاني: يحدُث به ما يمنعُ صِحَّة الصَّلاة كالحَدَثِ، فإنّه يُقَدَّم (¬9) وينصرف (¬10). ¬
المسألة الرّابعة: وعندنا أنّ المستخلفَ لا يكون إمامًا إلّا بعد أَخْذِهِ في الإمامة، وأَخْذِ النَّاس في الاقتداءِ به. ولمّا عدم ذلك في المستخلفَ لم يكن إمامًا، ولمّا وُجدَ ذلك في اَلّذي تقدَّمَ، صَحَّ ائتمامهم به. وقد قال ابن القاسم في "المدوّنة" (¬1): لم أسَمع من مالك أنّ المستخلفَ يكون إمامًا قبل أنّ يبلغ موضع الإمام. المسألة الخامسة: وعندنا لا يجوز أنّ يستخلف إلَّا مَنْ قد أحرَم. ولو استخلف مَنْ لم يحرم، لبطلت صلاة من ائتمَّ به، بمنزلة قومٍ أحرموا قبل إمامهم، قاله (¬2) ابن القاسم في "الْمُدوّنة" (¬3). فإذا أحدثَ بعد الرُّكوع وقبل السُّجود، فلا يستخلف من لم يدرك معه تلك الرّكعة. ورُوِيَ عن ابن القاسم في، "العتبيّة" (¬4) قال: فإن فعل فليقدّم (¬5). المسألة السادسة: قال: وان لم يستخلف الإمام أحَدا فصلوا أفذاذا، فقد قال ابن القاسم في "المدوّنة" (¬6): لا يعجبني ذلك، فإن صلُّوا أجزأئتهم صلاتهم. المسألةُ السّابعة: قال علماؤنا (¬7): ويستحبُّ للإمام أنّ يستخلفَ من الصَّفِّ الّذي يَلِيهِ. رواه ابن زيّاد عن مالكٌ في "المجموعة". ووجه ذلك: أنّه أقرب إليه وأقلّ لعمل المستخلفِ في التَّقدُّم إلى موضع ¬
الفصل الثاني في عمل المستخلف
الإمام، ولذلك شرع أنّ يلي الإمام أهل الفقه والعلم (¬1)، فيستخلف منهم إنِ (¬2) احتاج إلى ذلك. الفصل الثّاني (¬3) في عمل المستخلف وفيه أربع مسائل: المسألةُ الأولَى: أمّا عمل المستخلف فيما بقي من صلاة الإمام، فجملته أنّه إنّ كان استخلفه بعد أنّ قرأ بعض القراءة، فقد قال ابنُ القاسم في "العُتْبيّة": يقرأ من الموضع الّذي انتهى إليه الإمام، وءان استخلفه بعد تمام القراءة، فليركع ولا يعيدها (¬4). المسألة الثّانية: روى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬5) أنّه إنّ أحدثَ راكعًا، استخلفَ من يدبُّ راكعًا إلى موضع الإمام ويرفع بهم. المسألةُ الثّالثة: روى ابن معاوية عن ابن القاسم (¬6)؟ أنّ المستخلفَ في الجلوسِ يدبُّ جالسًا، وفي القيام يتقدّمُ قائمًا. ومعنى ذلك: أنّ المستخلفَ مَنْ حُكمُهُ أنّ يعملَ مثل عمل الإمام، ويتقدَّم إلى موضعه ليتمّ الاقتداء به على سُنَّتِه، وبذلك يعلم تقدّمه للإمامة؛ لأنّه ربّما اعتقدَ الاقتداءَ بغيره، وذلك يمنعُ صِحَّةَ الاقتداء به. المسألة الرّابعة: ولو صلّى وحده ركعةً من الصُّبْحِ، ثمّ دخل معه في الرَّكْعَةِ الثّانية من ائتمَّ به، ¬
الفصل الثالث في عمل من استخلف للصلاة بهم
فركع معه، ثمّ أحدثَ الإمامُ فاستخلف (¬1)، فقد قال ابن المواز: يُتِمُّ ركعته ويجلس، ثمّ يقومُ فيقضي * الأوّل. ووجه ذلك: أنّه قد لزمه حكم صلاة الإمام، فعليه أنّ يُتمَّ ما بَقِيَ من صلاة الإمام حتّى يبلغ محلّ السّلام، ثم يقوم فيقضي* (¬2) ما فاتَهُ قبل أنّ يسلِّم، ثم يسلّم ويتمّ صلاته، وهذا يقتضي أنّ الجماعةَ إذا أحدث إمامُهُم فخرجَ ولم يستخلف وصلّوا أفذاذًا، فإنّ كلَّ واحدٍ منهم إنّما يبني على صلاة الإمام من فاته منهم بعض صلاة الإمام ومن لم يفت. الفصلُ الثّالث (¬3) في عمل من استخلف للصلاة بهم وفي ذلك ثلاث مسائل: المسألة الأُولَى: قال علماؤنا في عمل المأموم مع المستخلفِ: إنّ حكم ذلك المأموم أنّ يتبع المستخلفَ فيما يبني (¬4) عليه من صلاة الإمام. وذلك أنّه لا يخلو أنّ يكون المستخلف أدرك مع الإمام ابتداء ركعةٍ، أو لم يدركها معه، فإن أدرك معه الركعة، وكانت أوّل صلاة الإمام، فإنّ صلاتهم باقية على سنّتها لا يلحقها تغيير، ولو فاته ركعة من صلاة الإمام ثم استخلفه الإمام بعد أنّ أدرك معه الثّانية، فإنّه يتمّ بهم صلاة الإمام ثم يسلِّم بهم. المسألة الثّانية: فإذا قلنا: إنّ المأموم يقضي ما فاته قبل صلاة المستخلف، فقد حَكَى سحنون (¬5) في "المجموعة": إنّ ائتمّ بالمستخلف بَطَلَت صلاتُه. وروى ابن سحنون ¬
الفصل الرابع في عملهم بعد إتمام الصلاة
أيضًا عن أبيه (¬1)؟ أنّه تجزئه، قال: ثمّ رجع وقال: يعيد أحبّ إليَّ. الفصلُ الرّابع في عملهم بعد إتمام الصّلاة وهذا الفصل فيه فروع كثيرة مهدناها في "الإنصاف" (¬2) فلتنظر هنالك، والحمدُ لله. ما جاءَ في الصَّلاة على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الإسناد: الأحاديث في هذا الباب صحَاحٌ، خرَّجها الأيمّة: مسلم (¬3)، والبخاريّ (¬4)، والترمذي (¬5). وهي ثمانية أحاديث: الحديث الأوّل: ما في "الموطّأ" (¬6). الحديث الثّاني: روى الدّارقطنيّ أحاديث كثيرة لكنّها ضعاف. الحديث الثّالث (¬7): حديثُ ابن مسعود؛ أنَّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا أراد أحدُكُم أنّ يسألَ الله حاجته، أو قال شيئًا، فليبدأ بحمد الله، والثنّاء عليه بما هو أهله، ¬
ثم يصلِّي على النّبيِّ، ثمّ يسأل الله حاجته، فإنّه أجدر أنّ ينجح" (¬1). الحديثُ الرّابع: عن جابر، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوني كقَدَحِ الرّاكبِ، فإنَّ الرّاكبَ يملأ قَدَحَهُ ثمّ يضعُه، ويرفعُ مَتَاعَهُ، فإن احتاج إلى شرب شربه، أو لوضوء (¬2) توضَّأَ منه وإلّا إهراقه، ولكن اجعلوني في أوّل الدّعاء وأوسطه، وآخره" (¬3). الحديثُ الخامس: عن عمر بن الخطّاب؟ أنّه قال: الدّعاء والصّلاة معلّقان بين السّماء والأرض، ولا يصعد إلى الله منه شيءٌ بلا حتّى يصلِّي على النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4). وفي حديث آخر: إنّ الذعاءَ محجوبٌ حتّى يصلِّي الدّاعي على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬5). نكتةٌ صوفية (¬6): قال ابنُ عَطَاء: للدّعاء أركانٌ وأجنحةٌ وأسبابٌ وأوقاتٌ، فإن وافق أركانه قَوِيَ. وإن وافق أجنحتَهُ طارَ في السَّماء. وإنْ وافق مواقيتَهُ فازَ. وإن وافق أسبابَهُ أنجح. فأركانُه: حضورُ القلبِ، والرّأفة (¬7)، والاستكانة، والخشوع، وتعلّق القلب بالله، وقطعه من الأسباب. وأجنحته: الصِّدقُ. ومواقيتُه: الأسحار. وأسبابُهُ: الصّلاةُ على محمد المختار. وفي الخبر: "إنّ الدُّعاءَ بين الصَّلاتينِ عَلَيَّ لا يردُّ" (¬8). ¬
وفي آخر: "محجوبٌ بين السّماء والأرض (¬1)، فهذا جاءتِ الصلاةُ صعدَ الدُّعاءُ". تمهيد على قاعدة: قد نخلَ العلماءُ من أهل الحديث هذه الأحاديث فقالوا: قد اختلفت الرِّواية في لفظ الحديث الصّحيح على ثلاثة أوجه: أحدها (¬2): طريق كعب بن عُجْرَة؛ أنَّه قال: قلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نُسَلِّم عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ فسكتَ حتّى أنزل الله الآية، فقال: "قولوا: اللهمّ صلِّ على مُحَمَّد" الحديث (¬3). فتولّى الله بيان فضل الصَّلاة على النَّبيّ (¬4)، وأنزله بالوحي، فصار حدًّا محدودًا، لا يحلُّ لأحدِ الزّيادة فيه ولا النّقصان منه. تنبيه على وهم (¬5): إلَّا أنّه وهم في ذلك شيخُنا أبو محمد بن أبي زيد وهمًا قبيحًا خفي عليه فِيه علم الأثر والنّظر، فقال (¬6) في صفة (¬7) الصَّلاة على النَّبيّ (4): "اللهمَّ صلِّ على محمّد .. وارْحَمْ مُحَمَّدًا" وقوله: "وارْحَمْ محمَّدًا" كلمة ليس لها أصلٌ إلَّا في حديث ضعيفِ وردت فيه زيادة خمسة ألفاظ: اللَّهمَّ صَلَّ، وارْحَمْ، وبارِكْ، وتحتَّنْ، وسَلِّم (¬8). ومثلُ هذا الحديث لا ينبغي أنّ يُلْتَفَتَ إليه في العبادات. ثمّ نزلَ أبو محمد ¬
إلى درجة النَّظَر، فليته اختار قوله: "وسلّم" ولكنّه اختار: "وارْحَم" وخَفِيَ عليه أنّ قوله: "ارْحَم" معنى قوله: "صل"؛ لأنّ الصَّلاة رحمة، فحذار من أنّ تقولها، ولتقتد بالعالِمِ الأكبر محمّد - صلّى الله عليه وسلم - (¬1). الحديث الثّاني: من الصّحيح: "اللهم صلَّ على محمّدٍ، وعلى آل محمّدٍ، كما صلّيتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركتَ على إبراهيم" (¬2). الحديثُ الثّالث: روي: "كما باركتَ على إبراهيم وآل إبراهيم" (¬3). الحديث الرّابع: رُوِيَ: "وآل محمّد، وأزواجه، وذرتته" (¬4). الحديث الخامس: وقع في الصّحيح لمسلم (¬5)، وخَرَّجَهُ الترمذيّ (¬6) وصحَّحَهُ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "من صلَّى عليَّ صلاةً، صلَّى الله بها عليه عَشرًا"، وهو مطابقٌ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬7). الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬8): في وجوب الصَّلاة عليه لا اختلاف (¬9) بين الأُمَّة في أنّ الصّلاةَ على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فرضٌ في العمر. ¬
وقيل (¬1): إنّ الصّلاة على النَّبيِّ فرضٌ في (¬2) الجملة، غير محدود (¬3) بوقت، لأَمْرِ الله تعالى بالصّلاة عليه، وحمل الأُمَّة والعلماء ذلك على الوجوب، وأجمعوا عليه أنّه واجبٌ على الجملة (¬4). وحكى أبو جعفر الطَّبريّ؛ أنّ مَحْمَلَ الآية عنده على النَّدْبِ، وادَّعَى فيه (¬5) الإجماع فيما زاد (¬6) على مَرَّةٍ، والواجبُ منه الّذىِ يسقُطُ (¬7) به الحَرَج، وما تمَّ بذلك الفَرض (¬8) مرّة، كالشّهادة له بالنُّبُوَّة، وما عدا ذلك منه فمُرَغَّبٌ فيه، من سُنَنِ الإسلام وشِعَارِ أَهْلِه. قال الإمام (¬9): والمشهور عند علمائنا أنّ ذلك واجبٌ على الجملة، وفرضٌ على الخَلِيقَة (¬10) بأنْ يأتي (¬11) بها مرَّةً من دَهْرِهِ مع القُدْرة على ذلك. وقال القاضي أبو بكر بن بُكيْر (¬12): افترضَ اللهُ على خَلْقِه أنّ يصلُّوا على نَبيِّه ويسلِّمُوا تسليمًا، ولم يجعل ذلك لوقتٍ معلومٍ؛ فالواجبُ على المرءِ أنّ يُكْثِرَ منها ولا يغفل في طُولِ عمره. وقال القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب بن نصر - رحمهُ الله-: الصَّلاةُ على النَّبيِّ واجبةٌ في الجملة (¬13). ¬
وقال (¬1): قد نقل عن مالكٌ أنّه قال: الصَّلاة (¬2) على النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فَرضٌ بالجملة بعَقدِ الإيمان (¬3) بذلك، وأن مَنْ صلَّى عليه مَرَّةً واحدةً من عمره سقَطَ عنه الفرض. المسألة الثّانية (¬4): أمّا الصَّلاة عليه في صلاة الفريضة، فحكى الإمامان أبو جعفر الطّبريّ والطحاويّ (¬5)؛ أنّ إجماع جميع المتقدِّمين والمتأخِّرين من علماء الأُمَّة على أنّ الصَّلاة على النَّبيّ في التَّشَهُّدِ غير واجبةٍ. وشذَّ الشّافعيّ (¬6) في ذلك فقال: من لم يصلِّ على النَّبيّ (¬7) بعد التّشهّد الآخر، وقبل السّلام فصلاته فاسدة، وإن صلّى عليه قبل ذلك، لم يجزه. وهذا قول ساقط. وقال أبو بكر بن المنذر: ويستحبُّ ألاّ يصلِّي أحدٌ صلاةً إلَّا صلَّى فيها على النَّبيِّ (7)، فإن تركَ، فصلاتُه مجزئةٌ في مذهب مالكٌ وأهل المدينة. وقال سفيان الثّوري بذلك وأهل الكوفة، وهو قولُ جُمْلَة أهل العلم. وقال أبو حنيفة: الصّلاة على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الصَّلاة مستحبَّةٌ. وحَكَى ابنُ القصّار (¬8)، وعبد الوهّاب (¬9)؟ أنّ محمّد بن الموّاز يراها فريضة في الصَّلاة كقول الشّافعيّ. نكتةٌ قاطعة بهم (¬10): الدّليل على أنّها ليست من فروض الصَّلاة: عملُ السَّلفِ وأهل المدينة (¬11) قبل ¬
الشّافعيّ، وقد شَنَّعَ النّاسُ عليه في (¬1) هذه المسألة جِدًّا، وإنّ (¬2) تشهُّدَ ابن مسعود الّذي اختاره الشّافعيّ (¬3) ليس فيه الصَّلاة على النّبِيِّ -عليه السّلام- (¬4). وكذلك كلُّ من روى التَّشَهُّد عن النِّبيِّ (¬5) كأبي هريرة، وابن عبّاس، وجابر، وأبي سعيد، وابن عمر، وأبي موسى الأشعريّ، كلُّهم كان يقول: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التَّشَهُّد كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن. المسألة الثّالثة (¬6): في ذِكْرِ المواطن الّتي يُستحبُّ فيها الصَّلاة على النَّبَيَّ -صلى الله عليه وسلم - وترغّب. فمن ذلك: التَّشَهُّد كما قد جاء (¬7)، وكذلك بعد التَّشَهُّد، وبعد الدُّعاء وقَبْلَهُ، وعند طلب الحاجات. وقال مالك في "المجموعة": وأُحِبُّ للمأموم إذا سلّم أنّ يقول: السّلام على النَّبيّ ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال علماؤنا (¬8): واستحبُّ أهلُ العلم أنّ ينوي الإنسانُ حين سَلامِهِ كلَّ (¬9) عبدٍ صالحٍ، في السَّماء والأرض، من الملائكة والإنس والجنّ. وقال (¬10): قد كرِهَ ابن حبيب ذِكْر النَّبىِّ (¬11) عند الذّبح. وكَرِهَ سحنون الصّلاةَ عليه عند التَّعجُّب، وقال: لايصَلًى عليه إلَّا عن طريق الاحتساب وطَلَبِ الثؤاب. وقال أَصْبَغُ عنِ ابْنِ القاسم؟ أنّه قال: مَوْطِنَانِ لا يُذْكَر فيهما إلَّا الله: الذّبح، ¬
والعُطاس؛ فلا يقال فيهما بعد ذِكْرِ الله: محمّدٌ رسولُ الله، ولو قال بعد ذلك: صلّى الله على محمّد، لم تكن تسمية له مع الله، وقاله أشهب. المسألةُ الرّابعة (¬1): قال علماؤنا: ولا ينبغي أنّ تجعل الصَّلاة على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فيه (¬2) استنانا (¬3)، فقد أسندنا حديثًا رواهُ النَّسَائى (¬4) عن أوس بن أوس، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الأمْرَ بالإكثارِ من الصَّلاة عليه يوم الجمعة. قال ابنُ شَعْبَان: وينبغي لمن دخل المسجد أنّ يصلِّي على النَّبِيِّ وعلى آله، ويبارك، ويقول: "اللهمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحْمَتِكَ، واغفِر لي ذُنُوبي" (¬5)، وإذا خرج قال مثل ذلك، وجعلَ مَوْضِعَ: "رحمتك" "فضلك" (¬6). قال عمرو بن دينار (¬7) وجماعة من المُفَسِّرِينَ في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (¬8) قال: إنّ لم يكن في البيت أحدٌ، فقل: السّلامُ على النَّبيِّ ورحمةُ الله وبركاته. قال ابنُ عبّاس: والمراد بالبيوت ها هنا المساجد (¬9). وقال النّخَعى: * إذا لم يكن في المسجد أحدٌ، فقل: السّلامُ على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، إذا لم يكن في البيت أحدٌ فقل: السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين* (¬10). قال علماؤنا (¬11): ومن مواطن الصَّلاة عليه أيضًا: الصّلاة على الجنائز. وذكر عن أبي أُمَامَة؛ * أنّها من السُّنَّة. ¬
ومن مواطن الصَّلاة الّتي مَضَى عليها عمل الأمّة ولم تنكرها: الصّلاةُ على النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬1) في الرّسائل، والكتابة بعد البسملة، ولم يكن هذا في الصّدْرِ الأولِ، وأُحْدِثَ عند ولد (¬2) بني هاشم، فمَضَى به عملُ النَّاس في أقطار الأرض، ومنهم من يختُم به أيضًا الكُتُب (¬3). المسألةُ الخامسةُ (¬4): قال علماؤنا: ويستحبُّ الصّلاة عند الأذان وعند الإقامة، لقوله: "ثُمَّ سَلُوا لي الوَسيلَة" (¬5). ورُوِيَ عن ابنِ عبّاس أنّه كان يقول: اللَّهُمَّ تقبَّلْ شَفَاعته الكبرى، وارفع درجته العليا، وآتِهِ سُؤلَهُ في الآخرة والأُولَى، كما آتيتَ إبراهيم وموسى (¬6). وعن وهيب بن الوَرْد؛ أنّه كان يقول في دعائه: اللهم أعْطِ محمّدًا أفضلَ ما سأَلَكَ لنفسه، وأعْطِ محمّدًا أفضلَ ما سألك له أحدٌ من خَلقِكَ، وأَعْطِ محمّدًا ما يسئل له (¬7) إلى يوم القيامة. الأصول والعربيّة (¬8): قال الإمام: العارضةُ هاهنا؛ أنّ يقالَ: الصّلاةُ على النَّبِيِّ (¬9) معروفة عربيةً وشرعًا (¬10): من الدّعاء والعبادة المخصوصة، والكُلُّ واحدٌ. قال علماؤنا: هي من الله رحمةٌ، ومن الخَلْق دُعَاءٌ. ¬
تنبيه (¬1): قال الإمام: هذا وهمٌ؛ لأنّ هذا في حَقِّ البارئ سبحانه تفسير لها بما بيّنَ (¬2) في العربية. ووجهه: أنّ فائدةَ الصّلاة الرّحمة، فسمّى اللهُ الرّحمةَ باسمِ سَبَبِها، كما بيّنّاه في كتب الأصول (¬3) في حقيقة المجاز من تسمية الشَّيءِ باسم سَبَبِه أو فائدته. وقد صلَّى اللهُ على محمَّدٍ قبلَ حقيقة وبعد خَلْقِهِ إلى يوم بعْثِهِ، وهذا الّذي شرع من القول لنا، إنّما ترجعُ فائدتُهُ ومنفعَتُهُ إلينا في نُصُوعِ العقيدة وخُلُوصِ النِّيةِ، وإظهارِ المحبَّةِ والمداومة على الطَّاعة، والاحترام للواسطة الكريمة. فإن قيل: فإن كان اللهُ تعالى صلَّى عليه وكذلك هو، فما فائدة طلب الحاصل وإيجاد الموجود؟ قلنا: تلك عبادةُ الخَلقِ، وقد قَدَّرَ اللهُ المقاديرَ، وكتب الكائنات وقسم الدَّرجات، ووهب التَّوْبَة وغفرَ الحَوْبَة، وتعبَّدَ الخَلْقَ بطلَبِ ما قدر من ذلك، ليظهره لهم ويتم (¬4)، ألَّا ترى أنّ الملائكة يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (¬5)، وجعل ذلك في البركات المبثوثة فينا، والخيرات المنزّلة علينا، وسبل الحسنات المكتوبة لنا (¬6). اعتراض آخر (¬7): فإن قيل: وكيف قال: "كما صَلَّيْتَ على إبراهيم" وهو أكرمُ على الله من إبراهيم؟ فالجواب من أوجه (¬8): ¬
أحدها: أنّه قيل له ذلك قبل أنّ يعرف شفوف منزلته. الثّاني: أنّه سأل ذلك لنفسه وأهل بيته، ليتمّ النَّعْمَةَ عليه والبركة كما أتَمَّها على إبراهيم. الثّالث: أنّه سأل ذلك لنفسه ولأُمَّتِه (¬1). الرّابع: أنّه سأل ذلك ليضاعفَ له، فيكون لإبراهيم عليه السّلام أصليًا وله مضاعفًا. الخامس: أنّه سأل الدَّوامَ فيه ليجري (¬2) ذلك إلى يوم القيامة، كما قال إبراهيم: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬3) أراد به جَرَيَان العمل والثّناء الحَسَنُ. السّادس: أنّه يحتمل أنّ يكون ذلك له بدعاء أُمَّتِهِ، أعطاهم اللهُ هذه الفضيلة بان يُكرم رسوله على أَلسِنَتِهِم. السّابع: أنّ الله شرعَ ذلك ثوابًا لهم، قال - صلّى الله عليه وسلم -: "من صلَّى عَلَيَّ صلاةً، صلّى اللهُ عليه عَشْرًا، (¬4) مطابقٌ لقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬5). فإن قيل (¬6): فهذا كان هذا فما فائدته؟ قلنا: أعظمُ فائدةٍ، وذلك أنَّ القرآنَ اقتضَى أنَّ من جاء بالحسنةِ تضاعفَ له بعشرٍ، والصلاة على النَّبيِّ حسنةٌ، فيقتضي القرآن أنّ يُعْطَى عشر درجات في الجنّة. فأخبر اللهُ سبحانه أنّه يصلِّي على من صلَّى على نبيِّهِ (¬7) عشرًا، وذِكْرُ اللهِ للعَبْدِ أعظم من الجنَّة مضاعفة. وتحقيق ذلك: أنّ اللهَ تعالى لم يجعل جزاء ذِكرهِ إلَّا ذِكرُهُ، كذلك جعلَ جزاءَ ذِكْرِ نبيِّه ذكره لمن ذَكَرَهُ وصلَّى عليه، وقد خَرَّجَ أبو داود (¬8) والنّسائي (¬9)؛ أنّ النَّبيَّ ¬
صلّى الله عليه قال: "صلاتكم معروضة عليَّ" قالوا: وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد رمت -يعني بليت- قال: "إنَّ اللهَ حرَّمَ على الأرضِ أنّ تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ" ولم يثبت سَنَدُه (¬1). وقد رُوِّينَا في المنثور من الأحاديث: أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ وكِّلَ بالصَّلاة عليَّ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي صلاةَ كلِّ من يصلّي علىَّ مِنْ أُمَّتِىِّ" (¬2). الثّامن - قيل: أراد به أنّ يبقَى له ذلك لسان صِدْقٍ في الآخِرِين، مقرونًا بما وهب اللهُ من ذلك لإبراهيم عليه السّلام. التّاسع - معناه: اللَّهُمَّ ارْحَمهُ رحمةً في العالَمِينَ تَبْقَى له إلى يوم القيامة (¬3). العاشر - معناه: اللهُمَّ صلَّ عليه صلاةً تتَّخذه بها خليلًا، كما اتخذتَ بها إبراهيم خليلًا، لا جرمَ فإنّه صلّى الله عليه قال في آخر خُطْبَةٍ خطبَهَا "لو كنتُ متَّخِذًا خليلًا لاتّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، لكن صاحبكم خليل الله" (¬4). وقد تتبّعنا هذه الأقوال بالتَّنْقيحِ، وشرحناها بأوضح بيانِ في "شرح الصَّحيحِ" فخذوها هنا جملة، واطلبوها هناك تفصيلاً. والعمدةُ فيه (¬5)؟ أنّ بعضهم (¬6) قال: كان ذلك قبل أنّ يبيِّنَ (¬7) اللهُ حالَهُ ومنزلته، ولذا قال له رجلٌ: يا خَيْرَ البَرِيَّةِ، فقال: "ذلك إبراهيمُ" (¬8). ¬
قلنا: قد قال بعض الشَّارحينَ للحديث: إنّما سأل ذلك لكي ينال المثوبة معه، فجعله الله أفضل منه. إيضاحُ مُشكِلٍ (¬1): واختلفَ العلماءُ في الآلِ اختلافًا كثيرًا، بيِّنَّاهُ في "النهَّيِّرَينِ"، والحاضرُ الآنَ في الخاطرِ قولان: الأوَّل: أنّ الآل هم أمّةُ محمّدٍ (¬2)، وقد صغا إلى ذلك مالكٌ. أمّا أنّ أبا هريرة رَوَى حديثًا فزاد فيه: "اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ النّبيِّ الأميِّ" وهو حديثٌ لا بأسَ به خرَّجَه الدَّاوُديّ (¬3). القولُ الثّاني - قيل: إنّ الآلَ هم آلُهُ وأهل بيته (¬4). وإن كان النّاس قد اختلفوا في الصَّلاة على غير الأنبياء هل هو جائز أم لا؟ فقيل: ذلك جائز. وقيل: الصّلاة للنّبيِّ، والرِّضوانُ لأصحابه، والرحمةُ لسائر المؤمنينَ. وقيل: الرحمةُ مبثُوثَةٌ للخَلْقِ (¬5). وإن كنّا نقول نحن: إنّ الصّلاةَ على غير الأنبياء جائزةٌ، فإنّا لا نرى أنّ نُشْرِكَ في هذه الخصيصة أحدًا منَّا مع محمَّدٍ - صلّى الله عليه وسلم - وآله، بل نقفُ بالخَبَرِ حيث وَقَفَ، ونقول (¬6) ما عرف، ونرتبط بما اتُّفِقَ عليه فيه دون ما اخْتُلِفَ. إشكال ثانٍ (¬7): قوله (¬8): "وعلَى أَزْوَاجِهِ وُذُزيَّتِهِ" أمّا الأزواج فمعروفات، وأمّا الذُّرِّيِّة فمن كانت عليه ¬
للنَّبيِّ صلّى الله عليه ولَدِهِ من وَلَدِهِ وولد وَلَدِهِ، ومن اتَّبعَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأطاعه، وقد قال إبراهيم -عليه السّلام-: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (¬1). وقوله (¬2):"وآل إبراهيم" يريد أَتْبَاعُه ورهطُه، والأظهر عندي: أنّ الآل أتباع، من الرَّهطِ والعشيرة. إشكال ثالثٌ: فإن قيل: وما معنى السّلام عليه في قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3) الّذي أمرَ اللهُ به عبادَهُ أنّ يسلِّموا عليه. قال علماؤنا: نزلتِ الآيةُ على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فأمر أصحابه أنّ يسلِّموا عليه، وكذلك من بَعْدَهُم أمرهم أنّ يُسَلِّموا عليه عند حضورهم قَبْرَهُ عند ذِكْرهِ. وفي معنَى السّلام ثلاثة أوجهٍ (¬4): أحدها: السّلامة لك ومعك، وتكون السّلامةُ مصدرًا، كالدَّارَةِ والدَّارِ. والثّاني: يكون السّلامُ بمعنى السَّلامة والانقياد، كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬5) أي: ينقادوا لك انقيادًا. حديث مالكٌ (¬6)، عن عبد الله بن دينارِ؛ أنَّه قال: رأيتُ عبدَ اللهِ بنِ عمرَ يَقِفُ على قَبْرِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَيُصَلِّي على النّبىِّ (¬7) وعلى أَبِي بكرٍ وعمرَ. الإسناد: رواه ابنُ القاسم:، يصلِّي على النَّبيّ (¬8) ويدعو لأبي بكرٍ وعمر" (¬9) والقَعنَبِيُّ (¬10) ¬
يرويه كما رواهُ يحيى. وهذه الرِّواية تشهد لمن قال إنه جائزٌ أنّ يصلَّى على غير الأنبياء. ومن حُجَّةِ من يرى ذلك: قولُه (¬1) "اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتَهِ" ومعلومٌ أنّ أزواجَهُ وذُرِّيَّتَهُ غَيْرُه. وفي الحديثِ أيضًا حُجَّة، قولُه: "اللهم صلِّ على آل أَبِي أَوْفَى" (¬2) وأمّا مذهب ابن عبّاس فإنه قال: لا يصلِّي أحدٌ إلَّا على النَّبِيِّ -عليه السّلام- (¬3). وقال علماؤنا: لا حُجَّةَ فيمن تعلّق بحديث ابن أبي أَوْفَى؛ لأنّه كان مخصوصًا بالنَّبيِّ -عليه السّلام-، أُمِرَ أنّ يصلِّي على من جاء بصدَقَةٍ عِوَضًا له منها، فقيل له: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬4) وهذا معنى يختصّ به. وهذه مسألة اجتهادية قد بيَّنَّاها في موضعمها. والصحيحُ عندي؛ أنّ الصَّلاة مخصوصةٌ بالنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وأمّا (¬5) ما رُوِيَ عن ابنِ عمر (¬6)؛ أنَّه كان يصلِّي على النّبيِّ وعلى أبي بكرٍ وعمر؛ فإنّ معناه: يَدْعُو لأبي بَكْرٍ وعمرَ، كما رواهُ ابن القاسم، ولكنّه ألحق الثّاني في الأوّل لَفظًا، كما قال الشّاعر (¬7): أعلفتها (¬8) تِبنًا وماءً بارِدًا وكما قال الآخر (¬9): ورَأيتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيفًا ورُمحًا ¬
الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): فهذا ثبت هذا، فإنّ من دخل المسجدَ وخرجَ، لم يلزمه أنّ يقف بالقَبْرِ، قال مالك في "المبسوط": وإنّما ذلك على الغُرَباء إذا دخلوا وخرجوا. قال ابنُ القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا أرادوا الخروج منها أتَوا القبرَ فسلَّمُوا، وإذا دخلوا فعلوا مثل (¬3) ذلك. وقال ابنُ القاسم: هو رأيي. وفرَّقَ مالكٌ بين أهل المدينة والغُرَباء؛ لأنّ الغُرَباء قصدوا لذلك، أمّا أهل المدينة فهم مقيمون بها لم يقصدوها (¬4) من أجل القبر والمسجد. المسألة الثّانية (¬5): والّذي يُشرَعُ لمن وقفَ بالقبر؛ أنّ يسلِّم على النّبيِّ (¬6) وعلى أبي بكرٍ وعمرَ (¬7)، على ما تقدَّم من الخلافِ. ورأيتُ لابنِ وهبٍ عن مالكٌ؛ أنّ المُسَلِّمَ على النَّبِّي (¬8) يدنو فيسلِّم ولا يمسّ القبر بيده. المسألة الثّالثة (¬9): قال مالكٌ في "المبسوط": لا أرى أنّ يقف الرَّجُلُ عند القبر يدعو، ولكن يسلِّم ثمّ يمضِي، ورَوَى عنه ابن وهب (¬10) أنَّه يدعو وهو مستقبل القِبْلة وظَهْره إلى القبر (¬11). ¬
العملُ في جامعِ الصَّلاة مالك (¬1)، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي قبلَ الظُّهرِ ركعتين، وبعدَهَا ركعتينِ، وبعد المغرب ركعتين في بَيْتِه، وبعدَ العِشَاء ركعتينِ. وكان لا يُصَلِّي بعد الجمعة حتَّى ينصرفَ، فيركعَ ركعتينِ. الإسنادُ: قال أبو عمر (¬2): "هكذا روى هذا الحديث يحيى ولم يذكر فيه: * "في بيته" إلّا بعد المغرب فقط، وتابعه القَعْنَبِيّ (¬3) على ذلك. وقال ابن بُكيْر (¬4) في هذا الحديث * (¬5): "في بيته" في موضعين: أحدهما في الرّكعتين بعد المغرب، والآخر في الرّكعيتن قبل الجمعة في بيته". وفي الباب في المعنى حديث أمّ حبيبة قالت: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -:"مَنْ صلَّى كلّ يومٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ ركعةً بَنَى اللهُ له بَيْتَا في الجَنَّةِ" (¬6). قال بعض العلماء: لو لم يبيّنها لتَقَطَّعَتْ فيها الرِّقاب، ولمن قال (¬7): "هي أربع قبل الظّهْرِ، واثنان بعدَهَا، وركعتَانِ بعدَ المغربِ، وركعتان بعد العِشَاءِ". الفقه في ثلاث مسائل: المسألةُ الأولى (¬8): اختلفتِ الآثارُ في صلاة النّافلة في المسجد بعدَ المغربِ، فَكَرِهَهَا قومٌ لهذا الحديث، ولأنَّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - نظر إلى قومٍ يصلُّونَ بعد المغرب في المسجدِ، فقال: "هذه صلاةُ البيوتِ" (¬9). ¬
ورخَّصَ فيها آخَرُونَ لحديث ابن عبّاس؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -كان يُطِيل القراءةَ في الرَّكعتين بعد المغربِ حتَّى يفترق أهل المسجد (¬1). المسألة الثّانية (¬2): في المعمول من هذه الأحاديث قال الإمام (¬3): والّذي عليه العلماءُ؛ أنّه لا بأس بالتَّطَؤُع في المسجد لمن شاء، إلَّا أنّهم مجتمعون على أنّ صلاةَ النَّافلةِ في البيوت أفضلُ، لقوله صلّى الله عليه: "صلاةُ المرءِ في بيته أفضلُ من صلاته في مسجدي هذا (¬4) إلَّا المكتوبة" (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): أمّا قوله (¬7): "وكان لا يُصَلِّي بعدَ الجُمُعَةِ حتَّى يَنْصَرِفَ" فإنَّ الفقهاء اختلفوا في ذلك - أعني التَّطوُّعُ بعد الجمعة خاصّة -: فقال مالكٌ (¬8): "ينبغي للإمام إذا سلَّمَ منَ الجمعة أنّ يدخُلَ منزله ولا يركع في المسجد، ويركع الرَّكعتيَنِ في بيته إنّ شاءَ"، على حسب ما رواه في ذلك. قال (¬9): "وأمّا مَنْ خَلْف الإمام، فأحبُّ إلَيَّ أنّ ينصرفُوا أيضًا ولا يركعوا في المسجد، وإن ركعوا فذلك واسعٌ". وقال الشّافعيّ: ما أكثرَ المُصَلِّي التَّطَوُّعُ بعد الجمعةِ فهو أحبُّ إلَيَّ (¬10). وقال أبو حنيفة: يصَلِّي أربعًا. وقال في موضع آخر: يُصَلِّي ما شاءَ (¬11). ¬
وقال الثوّريّ يصلّي سِتًّا أو أربعًا (¬1). وأمّا الرّكعتان بعد المغرب، فاختار العلماء أنّ تكون في البيت. المسألة الرّابعة: اختلفَ العلماءُ في تخصيصه الرَّكْعتَين بعد المغرب بالبَيْتِ على خمسة أقوال (¬2): الأوّل - قيل: لأنّها من صلاة اللّيل، وصلاةُ اللّيل مخصوصة بالبيت. الثّاني - قيل: كان ينصرف إلى فطره، وتقديم الفطر أفضل من صلاة النّافلة. الثّالث - قيل: إنّما كان ينصرف لينصرف أصحابه إلى عشائهم وراحتهم؛ لأنّه كان يشقُّ عليهم أنّ يتركوه في المسجد ويذهبوا عنه. الرّابع - قيل: إنّما كان ينصرف إلى بيته ويخصُّه بالصَّلاة فيه في ذلك الوقت؛ لأنّه الوقت الّذي قال الله فيه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (¬3) فكان يحبّ أنّ يجعل من صلاته في مضجعه في ذلك الوقت، وكذلك الرّكعتان بعد الجمعة كان يصلِّيهما في بيته (¬4). وأمّا المأموم فيصلِّيهما حيث شاء. الخامس - قيل: إنّما كان يصلِّيهما في ذلك الوقت؛ لأنّه وقت غفلة، وهو الوقت الّذي خرج فيه موسى خائفًا يترقّبُ (¬5). حديثٌ ثانٍ: مالك (¬6)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أتَرَوْنَ قِبْلَتِي هاهنا؟ فَوَاللهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ، إنِّي لأَرَاكُم مِن وَراءِ ظَهْرِي". ¬
كان (¬1) - صلّى الله عليه وسلم - يعلم مَنْ وراءَهُ، ومَنْ كان على يمينه ويساره، فإنّه كان يلتفتُ إليه التفاتًا لا يلوي عنقه. وهذا ضعيفٌ لا يميل إليه إلَّا ضعيف الحَوْصَلَةِ في العِلْمِ، بل كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يرى ما وراءَهُ كما يرى ما أمامه. الأصول (¬2): قال الإمام: وقد وقعت طائفةٌ من أهل الزَّيْغِ في معنى هذا الحديث، ونفوا أنّ نقول هذا المعنى (¬3)، واعترضوا بأحاديثَ وقالوا وذكروا حديث أبي بكرة أنّه ركعَ دونَ الصَّفِّ، وذكروا حديث الرّجل الّذي أسرع المشيَ فقال: "مَنِ الراكع دون الصَّفِّ؟ " قالوا: أبو بَكْرَةَ (¬4). وحديث الّذي انتهى إلى الصّف، فقال: الحمدُ للهِ حَمْدًا كثيرًا، مُبَارَكًا فيه، فلمّا قَضَى رسول الله صلّى الله عليه صلاته، قال: "منِ المُتكلِّمُ آنِفًا" الحديث (¬5). قالوا: ألَّا تَرَوْنَ أنَّ النّبيَّ (¬6) لم يعلم مَنِ الرّاكعُ دون الصفِّ ولا مَنِ المتكلِّمُ حتّى أُعْلِمَ. فأجاب علماؤنا عن ذلك بثلاثة أَوْجُهٍ: الجواب الأوّل (¬7): قال علماؤنا المتكلِّمون: بل كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يرى ما وراءَهُ حقيقةً، كما يرى ما أمامه حقيقةً، وذلك بأحد وجهين: إمّا بقوَّةِ المعرفة الّتي جعلَ اللهُ في قَلْبهِ، لمعرفته بهم ومعرفته بأفعال المنافقين. وأمّا بالإدراك الّذي خَلَقَ اللهُ له في العَيْنِ على قَدْرِ ما يريدُ أنّ يُبْصِرَ الرَّائي من المرئيات، أَوَلاَ تراه يرى الجَنَّةَ في عُرْضِ الحائطِ (¬8)، ولا يراها أحدٌ، ويرى جبريل ¬
-عليه السّلام- (¬1)، ولا يراه أحد غيره. فهذا أدرك نبيّك أنّها العبد ما لم تدرك، فاعلم أنّه يَرَى مِنْ حيث لا تَرَى وذلك سواءٌ، ولا يستبعدُ ذلك إلَّا جاهلٌ فقد خَلَقَ اللهُ المرآةَ دليلًا على غَيْبِ القُدْرةِ، فانظر (¬2) ترى فيها نفسك وترى فيها ما وراءك، وليس الّذي تراه في المرآة مثالًا، بل هو نفس المرئيّ بعينه. والدّليلُ القاطع على ذلك: أنّ المرآة تكون في غِلَظِ قِشْرِ البيضة، ثم تقابلُ بها وجهَكَ، فَتَدْنُو من المرآة فَتَرى الدُّنُوَّ فيها، وتبعدُ عنها فترى البُعْدَ فيها، ومحالٌ أنّ يكون ذلك الدُّنُّوُّ والبُعْدُ الكثير في غِلَظِ قشر البيضة، فدَلَّ على أنّ الّذي تُدْرِك إنّما هو حقيقة المرئيّ. الجواب الثّاني (¬3): وقال آخَرون من علمائنا (¬4): إنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كانت فضائله تزيدُ في كلّ يومٍ وفي كلِّ وقتٍ إلى أنْ ماتَ، ألَّا ترى أنّه كان عبدًا عربيَّا ثم كان نبيًّا ثمّ رسولًا (¬5)، ولم يعرف أنّه خير من موسى ولا يُونُس بن مَتَّى حتّى أَوْحَى اللهُ إليه أنّه خير وَلَدِ آدم (¬6)، وفي ذلك الوقت قال "إنِّي أراكُمْ مِن وَرَاءِ ظَهْرِي". وقد تَعَرَّض بعضُ الشّارِحِينَ للحديث فقال: قوله: "إنِّي أَرَاكُمْ" إنّما هي بمعنى أعلم، كما قال حاكيا عن شُعَيب - وكانَ أَعْمَى-: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} (¬7) أي: أعلم، فأرى بمعنى أعلم في لسان العرب. فأراد بقوله: "فإِنِّي أَرَاكُمْ" أعلم خشوعَكُم وتمامَ ركوعكم، بما يُلْقِي اللهُ في قلبي من العِلْمِ بذلك والمعرفة باحوالكم. وهذه دَعْوَى فيها تحديدٌ للمُخَالفةِ للظَّاهر (¬8). ¬
وقال بعضهم (¬1): بل ذلك مِنْ رؤية العين لا رؤية المعرفة. وقال جماعة (¬2) من المتكلِّمين: بل خلقَ اللهُ إدراكًا في قَفَاهُ، وهي له خَرْق عادة وأعلام نبوّة، ويكون ذلك في مُدَّةٍ (¬3)، فيكونُ قولُنا على ظاهِرِ ما قالَهُ - صلّى الله عليه وسلم -، وإن كان لا سبيلَ إلى كيفيته، وهو علم من أعلام النُّبُوَّةِ (¬4)، وإنّما (¬5) استنكرتِ المعتزلةُ هذا؛ لأنّ البِنْيَةَ عندهم شرطٌ في الإدراك مخصوصة، والردّ عليهم مستقصَى في كُتُب الأصول (¬6). تتميم (¬7): قال الأثرمُ: قلتُ لأحمد بن حنبل: قولُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنِّي أراكُم مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي" فقال: كان يرى مَنْ خَلْفَهُ كما يرى مَنْ بينَ يَدَيْهِ، فقلت له: إنّ إنسانًا قال لي: هو في ذلك كغيره، وإنّما كان يراهم كما ينظرُ الإمامُ عن يمينه وشمالِهِ. قال: فأنكر ذلك إنكارًا، شديدًا (¬8). وصحيحُ قول أحمد؛ أنّ النّبيَّ كان لا يلتفتُ في صلاته، وإنّما كانت هذه الخصيصة فيه معجزة. وقد رَوَى مجاهد في قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (¬9) قال: كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يرى مَنْ خَلْفَهُ ممّن يسجد، كما يرى مَنْ أمامه في الصَّلاة (¬10). حديث (¬11) مالكٌ (¬12)، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَأْتِي قُبَاءً ماشيًا وراكِبًا. ¬
الإسناد: قال أبو عمر (¬1): "هكذا رَوَى (¬2) عن مالك عن نافع، وتابعه القعنبيّ (¬3) وإسحاق بن عيسى (¬4)، وابن نافع، ورواه (¬5) جلُّ رواة الموطّأ عن نافع، عن عبد الله بن دينار (¬6)، عن ابن عمر (¬7). والحديث صحيحٌ لمالك عن نافع". وعبد الله (¬8) فيه ضعيف من حديث أهل المدينة، إنّ قَصْدَ مسجد قُبَاء والصَّلاةَ فيه تعدلُ عمرة. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬9): قال علماؤنا (¬10): ليس في إتيانه مسجد قُبَاء ما يعارضُ قوله: "لا تُعْمَلُ المَطِيُّ إلَّا إلى ثلاثَةِ مساجِدَ" (¬11)؛ لأنّ معنى ذلك عند جماعة العلماء؟ أنّه من نَذَرَ على نفسه الصَّلاة في أحد المساجد الثَلاثة؛ أنَّه يلزمه إتيانّها دون غيرها. المسألة الثّانية (¬12): ثبتَ فضلُ هذه المساجد الثّلاثة، وليس في الأرضِ مسجدٌ فُضِّلَ على غيره إلَّا مساجد الثّغور، لما فيها من فضل الرِّباطِ. ولكن تفطّنَ مالكٌ - رضوانُ الله عليه- بِسَعَةِ بَاعِهِ في العِلْم وعِظَمِ اطِّلاعه في النَّظَر إلى مسألة فاتت سواهُ، وذلك أنّه ¬
قال (¬1): "من نَذَرَ أنّ يصومَ في مسجدِ الرِّباط لَزِمَهُ أنّ يأتيه. ومن نَذَرَ أنّ يصلِّي فيه لم يكن عليه شيءٌ" وذلك لأنّ حمايةَ الثُّغور تجتمع مع الصّوم، ولا تجتمع مع الصَّلاة. وقال بعض علمائنا: ثبت في صحيح مسلم (¬2)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يأتي قُبَاء كلّ سَبْتٍ ماشيًا وراكبًا، فيصلِّي فيه، فبيَّنهُ بالفضلِ. وقد قال بعضُ الأشياخ: إنه تُشَدُّ الرِّحالُ إليه، وقال: إنّه مَنْ نَذَرَ صلاةً في رباطٍ لا يلزمه إلَّا أنّ تكون ركعتان، ومن نَذَرَ صومًا فيه لَزِمَهُ، وفرق بينهما، فإنّ الصّلاةَ تشغله عن الجهاد ولا يشغله الصّوم. قال الإمام: هذا باطلٌ، بل يشغله الصّوم، ألَّا ترى أنّه يُضعفه ولا يقدر على القتال. نكتةٌ بديعةٌ: قال ابنُ العربي: والنُّكتُة الّتي أشار إليها مالكٌ، إنّما تنبني على أنّ من قال: أصومُ يوم كذا وكذا، لزمه ذلك. فإن قال: عَلَىَّ أنّ أصلِّي كذا وكذا، لم يلزمه تلك السّاعة ولا عينها. والفرقُ بينهما: أنّ للزَّمن في الصوم تأثيرٌ ليس للصّلاة، وهذا التّاثير إنْ قُدِّرَ الصَّومُ بالزّمان، والصّلاةُ مُقدَّرةٌ بالأفعال، والّذي يتقَدَّرُ بالزَمان يُعَيَّرُ باليوم، واليومُ معيارُ الصّوم، ولم يُعَيَّر الوقت بالصّلاة؛ لأنّ الوَقْتَ ليس للصّلاة بمعيارٍ ولا بمُقَدَّرِ به، وهذا حسن؛ لأنّ النّافلةَ تصلِّى بكلِّ موضعٍ، وليست من المندوب، والصّومُ مندوبٌ إليه؛ لأنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صيامَ يومٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" (¬3) فندب إلى الصّوم ولم يندب إلى الصَّلاة، مع الإجماع على أنّ الصّلاة أفضل، ولم ينقل من الصَّلاة إلى الصوم إلّا بدليل، وهو أنّ الصَّلاة في السَّفَر والحَضَر واحدٌ، بخلاف الصَّوْمِ. ¬
المسألةُ الرّابعة (¬1): اختلفَ العلماءُ في المسجد الّذي أسس على التَّقْوَى، فذهب مجاهد وقتادة إلى أنّه مسجد قُبَاء. وذهبَ ابن عمر (¬2) وابن المسيَّب (¬3) إلى أنّه مسجد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقاله مالكٌ من رواية أَشْهَب عنه (¬4)، وهو المَرْوِيُّ عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّه سئل عن ذلك فقال: "هو مسجدي" (¬5). والّذين (¬6) بنوا المسجد الّذي أُسِّسَّ على جرفٍ هارٍ هم بنو عمرو بن عوف؛ استأذنوا النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - في بُنْيَانِهِ، فأَذِنَ لهم، ففرغُوا منه يوم الجمعة، فصلّوا فيه السّبت ويوم الأحد، وأنّهار يوم الإثنين في نار جهنَّم. وقال ابن جُرَيْج، وابنُ جُبَيْر (¬7): هو مسجد الضِّرار. قال الإمام: وكلامُ ابنُ جُرَيج لا أدري ما هو، والَّذي أنّهار في جهنَّم هو مسجد المنافقين، لا يختلف العلماء في ذلك، فلا حاجةَ إلى تفسير ابن جُرَيْج في هذا المعنى. عربية: قُباء هي لفظةٌ ممدودةٌ، وتقصر أيضًا. وهو موضعُ سُكْنَى الأنصار ببني عمرو ابن عَوْف وقريتهم (¬8). وفيه دليل أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يأتي ذلك على معنى الزِّيارة للأنصار، ويتفرّج ¬
في حيطانهم، ونحو هذا. والأوّلُ أحسن. حديثٌ رابعٌ: مالكٌ (¬1)، عن يحيى بن سعيد، عن النُّعمان بن مُرَّةَ؟ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَرَوْنَ في السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالزَّانِي؟ " وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ ينْزَلَ فِيهِم شَيْءٌ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ" قَالُوا: كَيفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا". الإسناد: قال أبو عمر (¬2): "هذا الحديث يُسْنَدُ ويتَّصِلُ من وجوهٍ صِحاحٍ من حديث أبي هريرة (¬3)، وأبي سعيد الخُدْري (¬4) عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وفي حديث عِمْرَان: "ما تَرَوْنَ (¬5) الكبائر فِيكُم"؟ قالوا: الشِّركُ، والزِّنَا، والسَّرقةُ، وشُربُ الخمرِ، قال: "هنَّ كذلك كبائرُ، وفيهنَّ عقوباتٌ" وذكر الحديث (¬6) " (¬7). قال الحاكم: النَّعمان بن مُرَّة ليست له صُحْبَة (¬8). قال: سُئلَ عن ثلاثة فأجاب عن شيءٍ بواحدٍ، وقال: إنّها مثلها؛ لأنّها جنايات كلّها. الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ستّ فوائد: ¬
الفائدة الأولى (¬1): قوله: "مَا تَرَوْنَ في السَّارِقِ والشَّارِبِ؟ " هو اختبار منه بمسائل العِلْم على حسب ما يختبر به العالِمُ أصحابَهُ، هذا الّذي قاله علماؤنا. وهو من بابِ طرح المسألة على المتعلِّمين (¬2). الفائدة الثّانية (¬3): ويحتمل عندي وجهًا آخر، وهو أنّ يكون أراد تقريب (¬4) العلم (¬5) عليهم، فقرَّرَ (¬6) معهم حُكم قضايا تسهل (¬7) عليهم بما (¬8) أراد تعليمهم إياه؛ لأنّه إنّما قصدَ أنّ يعلِّمهم أنّ الإخلال بإتمام الرُّكوع والسُّجود كبيرةٌ من الكبائر، وهو أسوأ ما يُقَدَّر (¬9). الفائدة الثّانية (¬10): قال علماؤنا (¬11): وسؤاله أصحابه عن حُكمِ الشَّارب والسَّارق والزَّاني قبل أنّ ينزل فيهم، صريحٌ في جواز الحُكمِ بالرَّأيِ؛ لأنّه إذا (¬12) لم ينزل عليه (¬13) حكمٌ ما سألهم عنه. فلم يسالهم إلّا ليقولوا بآرائهم وعلمهم (¬14). الفائدة الثّالثة (¬15): وقولُه: "وذلكَ قَبْلَ أنّ يَنْزِلَ فِيهِم" دليلٌ على أنّه قد نزلَ في شارِبِ الخمر حدّ بعد ذلك. ¬
الفائدة الرّابعة (¬1): قوله: "فِيهِنَّ عُقَوبَة" قال علماؤنا (¬2): العقوبةُ ما يعاقَبُ به (¬3) المعتدي، ولا يختصّ ذلك بجنسٍ منها ولا بِقَدْرٍ. الفائدة الخامسة (¬4): قوله: "وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الذِي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ" كذا رواه يحيى في "الموطّأ" (¬5): "أَسْوَأُ السَّرِقَةِ" بكسر الراء، والمعنى: أسوأُ السَّرِقَة سرِقَة من يسرقُ صلاتَه. وقد جاء في القرآن: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (¬6) والمعنى: ولكن البَرَّ من آمن بالله، بفتح الباء. نكتةٌ لغويّة (¬7): قال أهل العربيّة: ورُوِيَ: "أَسْوَأُ السَّرَقَةِ" بفتح الراء، يريد: أسوأُ السَّرقَةِ فِعْلًا (¬8)، والسَّرَقَةُ جمعُ سارِقٍ، كالفاسق، والفَسَقَةِ، والكافر والكَفَرَة (¬9) الفائدة السّادسة: فإن قيل: ما معنى هذه السَّرقة؟ قلنا: قد قَيَّدنَا فيها عن علمائنا ثلاثة تأويلات: 1 - أحدها: أنّه يسرق من الملائكة صلاته، كأنه شيء أرادتِ الملائكةُ كتابته فأعدمهم إياه. 2 - وقال غيرُ وَاحِدٍ من المتكلَّمين: السَّرقة إنّما هي إعدام شيءٍ، فهذه أحد معاني السَّرقة في هذا الحديث، وهو أَقوَى من الأوَّلِ. 3 - والثّالث: أنّه أُؤْتُمِنَ على الصَّلاة فَخَانَ. ¬
الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): في هذا الحديث: أنّ شُربَ الخمر والسَّرقةِ فواحش، والزِّنَا، وكلُّ ذلك فيه الحدّ؛ لأنّ الله تعالى قد حرَّمَ الفواحش ما ظَهَرَ منها وما بطن، ومفهوم (¬3) من قوله: "ما تَرَوْنَ في الشَّارِبِ" أنّه لم يرد به شارب الماء، وكذلك كلُّ ما أباح الله شُرْبَهُ، إلَّا أنّه أراد شُرْبَ ما حرَّم اللهُ عليه. ولا أعلم شرابًا مجتمعٌ على تحريمه إلّا الخمر، وكلُّ مُسْكِرٍ عندنا حرامٌ (¬4)، على ما يأتي بيانه في "كتاب الأشربة". وفيه دليل على أنّ الشّارب يُعَاقَبُ ويُحَدُّ، وعقوبتُه كانت مردودة إلى الاجتهاد، فلذلك جمع عمرُ الصّحابة، فشاورهم في ذلك في حدِّ الخمر، فاتَّفقوا (¬5) على ثمانين، فصارت سُنَّةً وحُكمًا مَاضِيًا، وعليه العمل عند جمهور العلماء، على ما يأتي بيانه في "كتاب الأشربة" إن شاء الله تعالى. المسألة الثّانبة (¬6): أمّا السّرقة والزِّنا، فقد أَحْكَمَ اللهُ الحَدَّ فيهما في كتابه، وعلى لسان نبيِّه، بما لا مدخل للرَّأي فيه، على ما يأتي بيانُه في "كتاب الحدود" إنّ شاء الله. المسألة الثّالثة (¬7): قال علماؤنا (¬8): فيه من الفقه: أنّ تركَ الصّلاةِ وتركَ إقامتها على حدودها من أكبر الذُّنوبِ، ألَّا ترى أنّه ضربَ المثلَ لذلك بالزِّنا والسَّرقة وشُرْبِ الخمر، ومعلومٌ أنّ السَّرقة وشُرْبَ الخمر من الكبائر، ثمّ قال: "وشَرُّ السَّرِقَةِ" (¬9) وفي رواية ¬
مالكٌ (¬1): "وَأَسْوَأُ السِّرِقَةِ الّذِي يسرقُ صلاتَهُ" يريد: وشرٌّ من ذلك كلِّه من يسرقُ الصَّلاة فلا يتمّ ركوعها ولا سجودها. وقد مَضَى القولُ في ذلك في تَارِكِ الصّلاة وما للعلماء في ذلك. المسألة الرّابعة (¬2): أمّا من لم يُتمّ ركوعها ولا سجودها، فلا صلاةَ له، وعليه الإعادة. وقولهم: "كيفَ يسرقُ صلاتَهُ؟ ": سؤالٌ عن تفسير ما أَجْمَلَهُ، فقال مُفَسِّرًا لذلك: "لا يتمّ ركوعها ولا سجودها" وإنّما خَصَّهُمَا؛ لأنّ الإخلالَ في الغالب إنّما يقعُ بهما. وأقلُّ ما يجزئ من ذلك أنّ يضعَ يَدَيْه على رُكبَتَيْه، ويعتدلَ قائمًا وراكعًا متمكنًا. وأقلّ ما يقع عليه اسم الرُّكوع أنّ تطمئنَّ مفاصله. وكذلك لا يجزئه في السّجود أقلّ من وَضعِ وجهه بالأرض ويَدَيْهِ متمكنًا، وهو أقلُّ ما تقَعُ عليه اسم ساجدٍ غير ناقرٍ. خاتمة (¬3) في حديثين: الحديثُ الأوّل: رُوي عن أبي مسعود (¬4) حديث متَصل غير منفصلٍ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاةَ لِمَنْ لم يُقِمْ صُلْبَهُ في الرُّكوعِ والسُّجود" (¬5). الحديث الثّاني: رَوَى واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن حُذَيْفَة بن اليمان؛ أنّ رأَى رَجُلًا لا يتمُّ ركوعَهُ ولا سجودَهُ، فلما قَضَى الصَّلاةَ، دعاهُ فقال له: مُذْ كَمْ صلَّيتَ هذه الصّلاة؟ فقال: صلّيتُ مُذْ كَذَا وكذَا. فقال حُذَيْفَةُ: ما صَلَّيتَ لله صلاةً (¬6). ¬
وفي حديث آخر قال: لو ماتَ هذا، ماتَ على غيرِ الفِطْرَةِ. خرَّجَهُ البخاريّ (¬1). حديثٌ خامسٌ: مالكٌ (¬2)، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه؟ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "اجْعَلُوا من صَلاَتِكُم في بيوتكم، ولا تَتَّخِذُوهَا (¬3) قُبُورًا" (¬4). الإسناد (¬5): وقد رُوِيَ هذا الحديث مُسْنَدًا من وجوهٍ صحاحٍ (¬6)، وأَسْنَدَهُ أبو داود (¬7)، ولم يسنده مالك. وقد رُوِيَ أيضًا عن أنس بن مالك؛ أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَكرِمُوا بيوتَكُم بِبَعضِ صَلاَتِكُم" (¬8). الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬9): للعلماء في معنى هذا الحديث قولان: أحدهما: أنّه أراد النّافلة، كأنّه قال: اجعلوا صلاةَ النّافلة في بيوتكم، وتكون "مِنْ" زائدة، كما قالوا: ما جاءني من أَحَدٍ، يريدون: ما جاءني أحدٌ. ¬
والقولُ الثّاني (¬1): ذهب بعض النّاس إلى أنّ المراد بذلك: أنّ يجعلَ بعض فرْضِهِ في بيته ليقتدي به أهله. وهذا ليس بصحيحِ؛ لأنّ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يختلف عنه أنّه قد أنكر التَّخَلُّفَ عن الجماعات، والنِّساء كنَّ يخرجنَ في ذلك الزّمان إلى المساجد فيتعلَّمنَ ويقتدين بصلاة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. ووجه آخر: وقد كان أيضًا يقدر أنّ يعلِّم اْأهله بالقول؛ وإنّما معنى ذلك عندي أنّه أراد به صلاة النّافلة، وكذلك رواه (¬2) ابن مُزَيْن عن عيسى ابن دينار وابنِ نافع. ووجه ذلك: أنّ إتيانَهُ في بيته بالنّافلة أفضل من أنّ يأتي بها في مسجده، هذا حكم النوافل كلّها ليستتر بها أفضل، بَيَّنَ ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: " أفضلُ الصَّلاةِ صلاة أحدكم في بَيتِهِ إلَّا المكتويةَ" (¬3) فلا كلامَ لأحدٍ مع هذا الحديث، والحمدُ لله. حديث مالك (¬4)، عن نافع؛ أنّ عبد الله بن عمر مَرَّ على رَجُلٍ وهو يصلِّي، فسَلَّمَ عليه، فَرَدَّ الرَّجُلُ كلامًا، فرجع إليه عبد الله بن عُمَرَ، فقال له: إذا سُلِّم على أَحَدِكُم وهو يصلِّي، فلا يتكلِّم وَلْيُشِرْ بِيَدِهِ. الفقه في ستّ مسائل: المسألةُ الأولى (¬5): أجمعَ العلماءُ على أنّه ليس بواجبٍ ولا سُنَّةِ أنّ يسلّم على المصلِّي. والسَّلام على المصلِّي جائزٌ، والأصلُ في ذلك: ما رَوَى جابر بن عبد الله قال: بعثني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لحاجة ثمّ أدركته وهو يصلِّي، فسلَّمْتُ عليه، فأشارَ إليَّ، فلمّا فرغ دعاني فقال: "إنَّكَ سلِّمتَ عَلَيَّ آنِفًا وأنَا أُصلِّي" (¬6). فوجهُ الدّليلِ منه: أنّه سلّم عليه ولم ينكر عليه، وإنّما أظهر المانع له من ردِّ السّلام عليه نُطقًا. ¬
المسألة الثّانية (¬1): واختلفَ العلماءُ، هل يجوز أنّ يسلَّمَ عليه في المسجد أو غيره أم لا؟ فذهب منهم ذاهبون إلى أنّه لا يجوز أنّ يُسَلَّمَ عليه؛ لأنّه في شُغُلٍ عن ردِّ السّلام، وإنّما السّلامُ على من يمكنه رَدُّهُ. واحتج صاحب هذا القول بحديث ابن مسعود، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه سلّم عليه والنَّبيُّ يصلِّي فلم يردَّ عليه، فلمّا سلِّمَ، قال: "إنّ في الصّلاةِ شُغُلًا" (¬2). قال الإمام: والحُجَّةُ لنا حديث جابِر المتقدِّم (¬3)، وحديث ابن عمر عن صُهَيبٍ؛ أنّه حدَّثَهُ، قال: "كنتُ مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في بني عَمْرو بنِ عَوْفٍ، وكان الأنصار يدخلون عليه وهو يصلِّي فَيُسَلِّمون (*)، فيردّ عليهم إشارةً بِيَدِهِ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4).- رواه مالك وأيّوب عن ابن عمر عن صُهَيب بمعنى حديثِ مالك. المسألة الثّالثة (¬5): قال الإمام: وقد تأوَّلَ بعض أهل العلم في حديث صُهَيْب؟ أنّ إشارته - صلّى الله عليه وسلم - كانت إليهم (¬6): لا تفعلوا، وهذا وإن كان محتملاَ، ففيه بُعْدٌ، والأوّلُ أظهرُ. المسألة الرّابعة (¬7): ولم يختلف الفقهاء أنّ من ردَّ السّلام وهو يُصلِّي كلامًا مفهومًا مسموعًا أنّه قد أفسدَ صلاتَهُ، وعلى هذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشّافعيّ، وأحمد، وجمهور الأيِمَّة وأهل العلم. المسألة الخامسة (¬8): وقد رخّص قومٌ من أهل العِلْم مِنَ التّابعين منهم الحسن وقَتَادَة (¬9)، أنّهم ¬
أجازوا أنّ يردَّ المصلِّي السَّلامَ كلامًا، وقالوا: إنّ الكلام المنهيّ عنه في الصَّلاة هو ما لا يَحتاجُ إليه المصلِّي، وأمّا ردُّ السّلام فهو فرضٌ على كلِّ مُسلِمٍ سلّم عليه كان في صلاة أوغيرها، فمن فعل ما يجب عليه لم تبطل صلاته. وقال المخالِف: وقد أجازَ ابنُ القاسم الكلام في شأن إصَلاح الصَّلاة. المسألة السّادسة (¬1): قال قومٌ (¬2): والحجةُ في هذا الباب: حديثُ زيد بن أَرْقَم: كنّا نتكلَّمُ في الصّلاةِ حتّى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) فاُمِزنا بالسّكوت ونُهينا عن الكلام (¬4). وحديث ابن مسعود؛ إنّ الله يُحْدِثُ مِنْ أمْرِهِ ما يشاءَ، وإنّ ممّا أحدثَ ألّا يتكلَّم في الصَّلاة (¬5). فلا يجوزُ الكلامُ في الصَّلاة؛ لأنّه أمرٌ نُسِخَ، والمنسوخُ لا يجوز العمل به، وقد أعلمتكلم ما عليه مذاهب أهل الفتوى من أيِمَّةِ الأمصار؛ أنّ الكلام في الصّلاة لا يجوز، وهم الجمهور الأعظم. المسألةُ السّابعةُ (¬6): عندنا أنّه إذا سلّم على المصلِّي أنّه يرذدّ بالإشارة، ولا يردّ المؤذَّن. وقال علماؤنا (¬7): وأمّا المؤذِّن والمصلِّي، فلا يسلِّم عليهما ولا يرد واحد منهما (¬8). والفرقُ بينهما: أنّ المصلِّي يقطعُ الكلامُ صلاتَه، والمؤذِّنُ والمُلَبِّي لا يقطع عبادتهما الكلام. وقال ابنُ العربي (¬9): الفرقُ بينهما: أنّ المصلِّي يطولُ أَمْرُه، والمؤذِّن يقرُبُ ¬
أَمْرُه، والأحسن أنّ مالكًا - رحمه الله - منع السّلام بالاشارة؛ لأنّ الأصل يقتضي ذلك. فوردَ النَّصُّ في الصَّلاة من النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وبَقِيَ الأذانُ على الأصل. وسمَّى الأصوليّون هذه المسألة "ضد المقتضَى" (¬1) ولذلك كان الكلام في الصَّلاة بَدَلًا، ولم يكن فيها بَدَلٌ (¬2)، وهذا كما قلنا: إنّ غسلَ الجنابة شرطٌ في صحَّةِ الصّلاة، وغسلَ الجمعة ليس بشرطٍ في صحّتها، وهما مشروعان. فكان للغسل من الجنابة بَدَلٌ وهو التّيمُّم، ولم يكن لغُسْلِ الجمعة بَدَلٌ، فكذلك في مسئلتنا. حديث مالك (¬3)، عن رَبِيعَةَ، أنّ ابنَ عمر كان إذا دخل المسجد، أو جاءَ المسجدَ، وقد صلَّى النَّاسُ، بدأَ بالصّلاةِ المكتوبةِ، ولم يصلِّ قَبلَها شيئًا. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال الإمام: وإلى هذا ذهب جماعةٌ من أهل العلم قديمًا وحديثًا، ورخَّص آخَرون في الرُّكوع قبل المكتوبة إذا كان وقتٌ تجوزُ له فيه الصّلاة، وكان فيه سَعَةٌ، فإنه يركعُ ركعتين تحيَّةَ المسجدِ، ثمّ أقام الصَّلاة، فإنّه مباحٌ له، وذلك حسنٌ. وقد رُوِيَ ذلك عن مالكٌ؛ أنّه قال: إذا كان في الوقتِ سَعَة. وأمّا المسجد وقد صُلِّيَ فيه، فلا بأسَ أنّ يتطوَّع قبل المكتوبة، وهو أيضًا قول أبي حنيفة والشّافعيّ وداود. وقال الثَّوْريُّ: يبدأ بالمكتوبة ثمّ يتطوّع ما شاءَ. وقال الحسن (¬5): يبدأ بالفَريضةِ ثمَّ يتطوَّع بعدَها. المسألةُ الثّانية (¬6): قال اللّيثُ: كلُّ واجبٍ من صلاةِ فريضةٍ، أو صلاةِ نَذْرٍ، أو صيامٍ، بدأَ بالواجبِ قبلَ النَّفْلِ. وقد رَوَى ابنُ وَهبٍ عنه خلاف هذا؛ قال في الّذي يُدْرِكُ الإمامَ في قيام رمضان ¬
ولم يصلِّ العِشَاءَ؛ أنّه يدخلُ معهم ويصلِّي بصلاتهم، فهذا فَرَغَ صلَّى العِشَاء، قال: وإن عَلِمَ أنّهم في القيام قبلَ أنّ يدخل المسجدَ، فوجدَ مكانًا طاهرًا، فليصلِّ العِشَاءَ ثمّ يدخل معهم، والمسألةُ لمالكٍ أظهر (¬1)، والله أعلم. حديث مالك (¬2)، عن نافع، عن ابنِ عمر؛ أنّه كان يقولُ: من نَسِيَ صلاةً فلم يَذْكُرْهَا إلَّا وراءَ إمامٍ (¬3)، فهذا سلَّم الإمامَ، فَلْيُصلِّ الصَّلاةَ الّتي نَسِيَ، ثمّ يصلِّي بعدَها الأُخْرَى. الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬4): اختلفَ العلماءُ قديمًا وحديثًا في هذه المسألة، فجملةُ قولِ مالكٍ: أنّه من ذَكَرَ صلاةً وهو في صلاةٍ، أو في آخِرِ وَقتِ صلاةٍ، فإنّه يبدأُ بالفَائتةِ قبلَ الّتي هو في آخر وقتها. وإن فات الوقت، فإن كان في صلاةٍ (¬5) تَمَادَى معه (¬6) وصلَّى الفائتةَ، ثمّ عادَ إليها فصلّاها. المسألة الثّانية (¬7): قال علماؤنا (¬8): في هذا الحديث دليلٌ على أنَّه إنّما يتمادَى لئلّا تفوته فضيلة الإمام، وأنّه (¬9) لا يقطع بفساد صلاته مع الإمام فيتمادَى، ثمّ يعيدُ صلاتَه تلك عند مالكٌ، وأبي حنيفة (¬10)، وأحمد. وقال الشّافعيّ (¬11): يعتدُّ بصلاته تلك، ويقضِي الفائتة خاصّة. ¬
قال الإمام (¬1): وهذه المسألة مبنيَّةٌ على مراعاة التّرتيب في الصّلوات، وذلك أنّ تكون قليلة أو كثيرة، فإن كانت قليلةٌ، فلا يخلو أنّ يذكرها في صلاةٍ أو في غير صلاةٍ. فإنْ ذكرَها في صلاةٍ، فلا يخلو أنّ يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًّا. فإن كان إمامًا قَطَعَ ما هو فيه، وَوَجَبَ عليه أنّ يبدأ بما عليه من الفوائت. فرع: فهذا كان إمامًا، هل تبطلُّ الصّلاة على مَنْ خَلفَهُ؟ في ذلك عن مالكٌ روايتان روَاهُما عنه ابن القاسم: إحداهما: أنّها تبطلُ على مَنْ خَلْفَه. ووجه ذلك: أنّ التّرتيب شرطٌ في صحَّةِ الصَّلاة، لا يُتَصَوَّرُ انفصالُه من الصَّلاة، فهذا بطلت (¬2) صلاة الإمام لعَدَمِه، تَعَدَّى ذلك إلى صلاة المأمومِ، كتكبيرة الإحرام. والرِّواية الثّانية (¬3): أنّ صلاتَه تامّةٌ. ووجه ذلك: أنّ هذا معنى لو ذَكَرَهُ الإمامُ قبلَ دخوله في الصَّلاة لم تجز له الصَّلاة مع عَدَمِهِ، فإذا ذَكَرَهُ في نفس الصَّلاة لم تفسد بذلك صلاة مَنْ خَلفَهُ، كالحَدَثِ. المسألة الرّابعة (¬4): قال ابنُ حبيب: إنّ ذَكَرَ في العَصْرِ ظُهْرَ يَوْمِهِ، قطع على شَفْعٍ أو وِترٍ. وكذلك إنّ ذَكَرَ مَغرِبَ لَيْلَتِهِ في العِشَاءِ، فإنّه (¬5) يَتَمَادَى مع الإمام ذَاكِرًا لصلاة خَرَج وَقتُها. وأمّا من ذَكَرَ صلاةً وهو في خنَاقٍ مع وقتها، فاستدراكُهُ لوقتها أفضل (¬6) من صلاته. المسألة الخامسة (¬7): ¬
فهذا فعلَ ذلك من الإعادة فإنّما صلاته (¬1) مذهبُ ابنُ القاسم أنّها فرضه، وإنّما يعيدُ الّتي ذَكَرَهَا لفضيلة التَّرتيبِ. وقال ابنُ حبيب: هي نافلةٌ. المسألة السّادسة (¬2): هل يرى ترتيب الصَّلاة المفروضة؟ أو هل التّرتيب شرطٌ في صحّة الصَّلاة أم لا؟ فذهب عبدُ الوهّابِ (¬3) إلى أنّه شرطٌ في صحَّةِ الصَّلاة، ورَوَى ابنُ الماجِشُون عن مالك معناه. المسألةُ السّابعة (¬4): احتجَّ الشّافعيّ (¬5) بأنّ (¬6) الترتيبَ إنّما يلزمُ في صلاة اليوم واللّيلةِ في ذلك اليوم وفي تلك اللّيلة، فإن خرجَ الوقتُ سقطَ التّرتيب، استدلالًا بالإجماع على أنَّ شهرَ رمضان يجبُ التَّرتيبُ فيه ما دام قائمًا، فإذا انقضَى سقطَ التّرتيبُ على (¬7) كلِّ مَنْ يصومُه عن مَرَضٍ أو سَفَرٍ، وجازَ له أنّ يأتي به على غيرِ نَسَقٍ، وكذلك ترتيبُ الصّلوات الخمسِ (¬8). والله أعلم. حديث مالك (¬9)، عن يحيى بن سعيد، عن محمّد بن يحيى، عن وَاسِع بن حَبَّانَ؛ أنّه قال: كنتُ أصلِّي وعبد الله بن عمر مُسْنِدٌ ظَهرَهُ إلى جدارِ القِبْلَةِ، فلمّا قُضِيَتِ الصَلاةُ (¬10)، انصرفتُ إليه مِنْ قِبَلِ شِقِّي الأيسر (¬11)، فقال عبدُ الله بن عمر: ما منعكَ أنّ تنصرِفَ عن يمينك؟ فقلت: رأيتُك، فانصرفتُ إليكَ. فقال عبد الله: فإنّك ¬
قد أصبتَ، إنَّ قائلًا يقولُ: انصرف عن يمينك، فهذا كنتَ تصلِّي فانصرف حيثُ شئتَ، على يمينك أو يسَارِكَ. الإسناد (¬1): قال الإمام: هكذا رَوَى عنه يحيى هذا الحديث: عن مالكٌ، عن يحيى بن سعيد، عن محمّد بن يحيى، وتابعه طائفة من رُوَاةِ الموطّأ (¬2). ورواه أبو مُصْعَب (¬3) وغيره (¬4)، عن مالك عن محمّد بن يحيى، ولم يذكروا يحيى بن سعيد. الفقهُ في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬5): قال علماؤنا (¬6): فيه من الفقه: الاستنادُ إلى جدَارِ القِبْلَةِ في المسجد، إلَّا أنّ ذلك لا يفعله (¬7) من يستقبل المصلِّي، ولا ينبغي للمصلِّي أَن يَبْتَدِىءَ صلاتَه مواجِهًا بها غيرَهُ، فهذا مكروه، لما رُوِيَ أنّ عمر أَبْصَرَ رَجُلًا يصلِّي وآخرَ مستقبله، فَضَرَبَهُمَا جميعًا (¬8). وأيضًا: فلا يستند إلى القِبْلَةِ إلَّا أهل الأعذار والكِبَرِ، وأهل العِلم والدِّين الأفضل ألّا يستند (*). المسألة الثّانية (¬9): أمّا انصرافُ المصلِّي إذا سلِّم عن يمينه أو يساره، فإن السُّنَّةَ أنّ ينصرفَ كيف شاءَ. وأكثرُ العلماءِ على أنّ الأفضلَ في الانصرافِ من الصَّلاة على اليمين، هانِ انصرفَ على شماله فسواءٌ أيضًا لا حَرَجَ. ¬
المسألة الثّالثة: هذا في الخروج، وأمّا الدُّخول، فعلى اليمين أفضل، لما رُوِيَ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يحب التَّيَامُنَ في جميع أحواله (¬1). فرع: وهل ذلك في كلِّ وقتٍ، أو في سائر الأيّام سواء؟ فقال ابنُ عبّاس: ذلك كلّه سواء إلّا يوم الجمعة، فإنّه يراعى يمين الخطيب، فهذا فيه نَظَرٌ. وأمّا السُّنَّة الآن الّتي لا خفاءَ فيها، فهي أنّ يدخلَ على اليمينِ ويخرجَ على اليسار. وكان (¬2) الحَسَنُ وطائفةٌ من أهل العلم يَسْتَحِبُّون الدُّخول (¬3) والانصراف على اليمين، لحديث وكيع وغيره (¬4) عن سفيان، عن السُّدِّي (¬5)، عن أنس؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يَنْصَرِفُ عن يمينِهِ (¬6). وقوله: "كانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ في أَمْرِهِ كُلِّه" كما بيناه في "كتاب الطّهارة"، وحديثُ وكيعٍ ليس بالقَوِيِّ (¬7). حديث مالك (¬8)، عن هشامِ بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن رَجُلٍ من المهاجرين، لَمْ يَرَ به بَأسًا؛ أنّه سألَ عبد الله بن عمرو بن العاصي: أَأُصَلِّي في عَطَنِ الإبِلِ؟ فقال عبدُ الله: لا، ولكن صَلِّ في مُرَاحِ الغَنَمِ. الإسناد (¬9): قال الإمام: هكذا هو في الموطّأ عند جميع الرُّواة (¬10)، ورواه ¬
وكيع (¬1)، وعبدة بن (¬2) سليمان (¬3) عن هشام، قال: حدَّثني رَجلٌ من المهاجرين. وبعضهم يقول: عن هشام، عن رجلٍ من المهاجرين، لا يذكر فيه: عن أبيه. وزعمَ مُسْلِمٌ أنّ مالكًا وهِمَ فيه، وأن وكيعًا ومن تَابَعَهُ أصَابُوا. تنبيه على وهم (¬4): قال الإمام: وهذا عندي وَهْمٌ لا دليلَ عليه، ومعلوم أنّ مالكًا كان أحفظ ممّن خالَفَهُ في ذلك، وأعلم بهشامٍ، ومالك في نَقْلِهِ حُجَّةٌ، ومثل هذا من الفرق بين الغَنَم والإبِل لا يُدرَكُ بالرَّأْيِ. الفقه في ثمان مسائل: المسألةُ الأولى: قال الإمام: أعطانُ الإبِلِ، جمعُ عَطَن -بفتح العين والطّاء- وهي المواضعُ الّتي تبركُ الإبل فيها. قال الإمام (¬5): هذا الحديث ذكر النَّاسُ فيه عِلَلًا كثيرةً مختلفةً، فقال بعضهم: لأنّها لا تكادُ تسلَمُ من النَّجاسة، وعلى هذا التّعليل تجوزُ الصّلاةُ فيها إذا أَمِنَتِ التجاسةُ ببَسْطِ ثوبِ وغيره، وقد رُوِيَ ذلك عن ابنِ القاسم (¬6). المسألةُ الثّانيةُ: قال بعضُ العلماء: إنَّ المنعَ (¬7) من ذلك لانّها (¬8) خُلِقَتْ من الشّياطين (¬9)، أو ¬
خلِقَت مِن جَانٍّ (¬1)، تعلُّقًا بظاهر الحديث، وقد كُرهت الصّلاةُ في مواضع الجِنِّ، لقوله صلّى الله عليه يوم الوادي: "اقتادوا، إنّ هذا وادٍ به شَيْطَانٌ" (¬2). وكان أبو حنيفة يذهب إلى أنّ العلَّة في ذلك طُلوع الشّمس (¬3)، وليست هذه بعلَّةٍ عند العلماء، لأنّ العلّة في ذلك نِفَارُ الإبِلِ، وذلك يُؤَدِّي إلى ترك الخُشوع في الصَّلاة. وقيل: إنّ العلةَ فيها؟ أنّ الصّحابةَ كانوا يستترون بها (¬4) عند اتيانهم الغائطَ، فلا تجوزُ الصّلاةُ فيها. ومن قال من العلماء أنّ ذلك شرطٌ، لم يُجِز أيضًا الصَّلاة فيها بحالٍ، ولذلك قال أهلُ الحديث: إنّ أوامرَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - محمولةٌ على الوُجوبِ. المسألةُ الثّالثة: اختلفَ العلماءُ في هذا المعنى، هل هو نهيٌ معلَّلٌ، أو شَرْعٌ بغير عِلَّةٍ، أو نهي تنزيهٍ، أو نهي تحريم؟ فأجمع العلماءُ على أنّه نهى تنزيهٍ، إلَّا ما رُوِيَ عن عبد الملك بن حبيب؛ أنَّه قال: من صَلَّى فيها عامدًا أو جاهلًا، أعادَ الصَّلاةَ أبدًا (¬5). وكذلك ذهب أكثر العلماء إلى أنّ النَّهيَ معلَّلٌ، واختلفوا في العِلَّةِ المُوجِبَةِ لذلك، على ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ. ورُوِيَ عن عبد الله بن مغفّل؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صلّوا في مُرَاح الغَنَمِ، ولا تُصَلُّوا في مَبَارِكِ الإبِلِ، فإنّها خُلِقَتْ من جَانٍّ" (¬6). ¬
المسألةُ الرّابعة (¬1): أمّا الصلاةُ في مُرَاحِ الغَنَمِ، فإنّها جائزةٌ لسلامتها من العِلَلِ المذكورة، لا خلافَ في ذلك نَعْلَمُه. والأصل في ذلك: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "جُعِلَت لِي الأرضُ مَسجِدًا وطَهُورًا" (¬2). ويدلُّ على جواز ذلك أيضًا: طهارةُ أَبْوَالِهَا وبَعْرِها، وكذلك ما يُؤكَلُ لَحْمُه. وكذلك قال مالك (¬3) وابن حنبل (¬4). وقال الشّافعيّ (¬5) وأبو حنيفة (¬6): أَبوَالُها نَجِسَة. والدّليلُ على ذلك: ما تقدَّمَ في "كتاب الطّهارة" فَلْيُنْظَر هناك. المسألة الخامسةُ: في ذِكْرِ المواضع الّتي لا تجوز فيها الصَّلاة رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه نَهَى عن الصّلاةِ في المقبرة والحَمَّامِ (¬7)، وعلى قارعة الطّريق (¬8)، وعلى ظَهْرِ الكعبة (¬9)، وفي الجُحْرِ (¬10). أمّا المقبرةُ، فإنّها تنقسمُ قسمين: مقبرةُ المشركينَ، ومقبرةُ المسلمين. فأمّا مقبرة المشركين، فلا تجوز الصّلاة فيها بحالٍ، فإنّهم يعذَّبُونَ والسّخط نازلٌ عليهم، ولا تجوز الصَّلاة فيها، ولا يجوز المقام فيها. وأمّا مقبرة المسلمين، فعلى ضربين: قديمة، وحديثة. ¬
فإن كانت لا نتنَ فيها، فالصّلاةُ فيها جائزةٌ في قولِ أكثرِ أهل العلمِ من أصحاب مالك (¬1). ومنهم من ذهب إلى أنّ الصَّلاة لا تجوز فيها، أخذًا بظَاهِرِ الحديث وعُمُومِهِ. وأمّا إنّ كان فيها نتنٌ، فالصّلاةُ فيها ممنوعةٌ. المسألة السّادسة: أمّا الصّلاةُ في الحمّام، فإن كان فيه موضع طاهرٌ، وبسطَ ثوبًا طاهرًا، جازت صلاته إلا أنّ يكون ... (¬2) فالصّلاةُ فيه ممنوعة؛ لأنّه قد رُوِيَ أنّها مأْوى للجِنِّ، ولأنه ليس من البناء المختصِّ بالصَّلاة، وإنّما هو للرَّاحة والتَّنظيف. وأمّا الجُخر (¬3)، فإنها ممنوعةٌ؛ لأنّه لا تخلو في الأغلب من النَّجاسة. المسألة السّابعة (¬4): وأمّا الصّلاةُ في البِيعَةِ والكنائس، فكره عمر وابنُ عبّاس الصَّلاة فيهما من أجل الصُّوَر (¬5)، وقال عمر بن الخطّاب: انضحوها بماءِ وسِدْرٍ (¬6)، وهو قول مالك (¬7). وذَكَرَ إسماعيل بن إسحاق عن مالكٌ، قال: أكرهُ الصّلاة في الكنائس لِمَا فيها من لُحُومِ (¬8) الخنازيرِ والخمور، وقِلَّةِ أحتياطهم (¬9) من النَّجس. وكره الصَّلاة فيها الحسن. وأحلّ الصّلاة فيها إبراهيم النَّخَعيّ، والشَّعبىّ (¬10)، وعطاء (¬11)، وابن سِيريِن، وهو قول الأوزاعىّ. ¬
وصلّى أبو موسى الأشعري في كنيسة بالشَّامِ (¬1). ومالك يجيز ذلك للضّرورة (¬2). المسألة الثامنة (¬3): الصَّلاة في موضع الخَسْفِ والعذاب فذُكِرَ أنّ بعضَ العلماء كره الصَّلاة بخَسْفِ بابل، لقوله: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبِينَ" الحديث (¬4). قال المُهَلَّب: إنّما ذلك من جهة التّشاؤُم بالبُقْعَةِ الّتي نزلَ فيها العذاب، يدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية (¬5)، فوَبَّخَهُمُ اللهُ على ذلك، وتشاءم - صلّى الله عليه وسلم - بالبُقعة الّتي نَامَ فيها. نكتةٌ (¬6): قال علماؤنا: وكراهيةُ الخَسْفِ أَوْلَى؛ إلَّا أنّ (¬7) إباحته عليه السّلام الدُّخول فيها على وجهِ البكاءِ والاعتبار، يدلُّ أنّ مَنْ صلَّى هناك لا تفسد صلاته؛ لأنَّ الصَّلاةَ موضع بكاءٍ وخشوعٍ وتَضَرُّعٍ واعتبارٍ. فرع (¬8): فإن صلَّى هناك غير باكٍ، لم تبطل صلاته. وزعم أهل الظّاهر أنّ من صلَّى في الحِجْرِ في بلاد ثَمُود وهو غير باكٍ، فعليه سجود السَّهْوِ قبلَ السّلام ان كان ساهيًا، وإنْ تعمَّدَ ذلك بطلت صلاته. فرع (¬9): ¬
وكذلك من صلَّى في موضع (¬1) مسجد الضِّرار، وهذا خلُفٌ من القول، لا يجوز من قولهم في هذا شيءٌ (¬2). تكملةٌ: قال ابن المنذر (¬3): "أجمعَ أهلُ العِلْمِ كلّ من يحفظ عنه العلم إلى إباحة الصَّلاة في مَرَابِضِ الغَنَم، إلَّا الشّافعيّ فإنه خالفَ في ذلك" (¬4). حديث مالك (¬5)، عن ابن شهاب، عن ابن المسيَّب؛ أنّه قال: ما صلاةٌ يُجْلَسُ في كلِّ ركعةٍ منها؟ قال سعيد: هِيَ المغربُ، إذا فاتَتْكَ منها ركعةٌ، قال: وكذلك سُنَّةُ الصَّلاةِ كُلِّها. الفوائد في ذلك ثلاث: الفائدةُ الأولى (¬6): في هذا الخبر من الفقه: طرح العالِمِ المسألة على جُلَسَائِهِ ومَنْ عِنْدَهُ، ومن يتعلَّم منه ليعلِّم من عنده (¬7)، فيجيبُ عمّا وُقِفَ عنه من ذلك. وهو بابٌ من أَدَبِ العالِمِ والمتعلِّم، على ما يأتي بيانه في كتاب الجامع (¬8) إن شاء الله. الفائدة الثّانية (¬9): أمّا قوله: "هي المغرب" فهو كما قال عند جماعة من العلماء، لا أعلم اختلافًا في ذلك، وكذلك سُنَّةُ صلاة المغربِ إذا فاتتك منها ركعة فهي جلوس كلّها (¬10). ¬
الفائدة الثّالثة (¬1): أمّا قوله: "وكذلك سُنَّةُ الصَّلاة كلُّها" فإنّما أراد أنّ سنة الصّلاة كلّها إذا فاتتِ المأموم منها ركعة * أنّ يقْعُدَ إذا قضاها؛ لأنّها آخر صلاته. وكذلك لو أدرك منها ركعة * (¬2)، قعد في الأولى لأنهّا ثانية له (¬3). وقوله: "وكذلك سُنَّةُ الصّلاةِ" يحتمل أنّ يكون اراد بقوله ذلك؛ أنّها سنّة صلاة المغرب وحدَها الجلوسُ في كلِّ ركعةٍ منها لمَن فاتَتْهُ منها ركعةٌ، وأدرك (¬4) ركعة، فإن (¬5) سنّته فيها الجُلوس في كلِّ ركعةٍ منها، وهي السُّنَّة (¬6). ¬
جامع الصلاة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلّى الله على سيدنا محمّد. عونك يا الله (¬1) جامع الصّلاة مالك (¬2)، عن عامر بنِ عبد الله بنِ الزُّبير، عن عمرو بن سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عن أبي قتَادَة الأنصاريّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي وهو حاملٌ أُمَامَةَ بنتَ زينبَ ابنةِ رسول الله ولأبي العاصي بن رَبيعَةَ (¬3) بن عبدِ شَمسٍ، فإذا سَجَدَ وضَعَهَا، وإذا قَام حَملَها. الإسناد: رُوِيَ في الصّحيح؛ أنّه كان يصلِّي بالنّاس (¬4)، ورُوِيَ؛ أنّه كان يَؤُمُّ النَّاسَ إذا خرج النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - وأُمَامَة على عُنُقِهِ وأحرمَ وهي كذلك، فلمّا أرادَ أنّ يركعَ وضَعَها في الأرضِ، فلمّا قام أخذَها فردَّها إلى مَوْضِعِها حتّى أكمل صلاته (¬5). الفقه في ثلاث مسائل: الأولى: اختلف العلماء في هذا (¬6) الحديث وفي تأويله: ¬
فقيل: كان ذلك في الفريضة (¬1). وقيل: كان ذلك في النّافلة، وقد رُوِيَ عن مالك (¬2)؛ أنّه قال: كان ذلك في النّافلة. المسألة الثّانية (¬3): تكلّم النّاسُ في هذا (¬4) الحديث، هل هو معمول به أم (¬5) لا؟ قال الإمام: فقرأنا من "موطَّأ عبد الله بنيوسف التّنيسي" أنّه قال: سألتُ مالكًا - رحمه الله - عن هذا الحديث، فقال: هو منسوخٌ، ؤالمنسوخُ لا يجوز به العمل. وقال غيره: إنّما احتملها لأنّه لم يجد كافلًا في الوقتِ. وقيل: إنّما احتملها لأنّها علقت به، فلو تركها لأضرَّ ذلك بها. وَسُئِلَ أحمد بن حنبل (¬6) عن الرَّجُلِ يأخذُ وَلَدَهُ وهو في الصَّلاة أَوَ هُوَ يصلِّي؟ قال: نعم، واحتجَّ بحديث أبي قتادة في قِصَّة أُمَامَة. نكتةٌ قاطعة (¬7): قال الإمام: والصّحيحُ عندي من هذه الأقوال، ما أشار إليه مالكٌ من أنّه متروك به العمل؛ لأنهّا إنْ علقتْ به فيمكن أنّ يشغلها بشيءٍ آخر سواه، لضَعْفِ عقل الصّبيِّ؛ إذْ لا (¬8) يثبت له إلَّا ما يراه، فهذا غاب عنه نَسِيَهُ، وإن احتاجَ الصّغيرُ إلى الضَّبط فليُدْفَعْه إلى غيره، ولو كانت أمّها زينب مشتغلة فَغَيرُها كان فارغًا، فليس يثبتُ إلَّا أنّ الصَّلاة كانت في صدر الإسلام تحتملُ العملَ والكلامَ، ثُمَّ نسخَ اللهُ ذلك، فلا يجوز فيها عمل ولا كلامٌ، إلَّا أنّ يعودَ إلى مصلحتها، على اختلافٍ بين العلماء قد تقدَّمَ بيانُه قبل هذا. ¬
الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: فيه (¬1) من الفقه: جوازُ العملِ الخفيفِ في الصَّلاة، والعلماءُ يُجمعونَ (¬2) على جوازه، وأنّ العملَ الكثيرَ لا يجوزُ، وأنّ ذلك مُفْسِدٌ للصّلاةِ. الفائدة الثّانية: فيه من الفقه: طهارةُ ثيابِ الصِّبيان (¬3). فإن قيل: وكيفَ تجوزُ الصلاةُ بثياب الصِّبيان وثيابهم غير طاهرة؟ الجواب - قلنا: أمّا ثيابُهُم في حالِ الصِّغَر، فمحمولةٌ على الطّهارةِ عند جماعةٍ من أهل العِلْمِ، بخلاف إذا كانوا كبارًا. جوابٌ آخر- قيل: يحتملُ أنّ يُخبِرَه بطهارتها جبريل -عليه السّلام-، كما جاء في حديث الصَّلاة بالنَّعْلِ، واللهُ أعلمُ. الفائدة الثّالثة: قد استدلّ بعضُ العلماءِ (¬4) على أنّ حملَ الطِّفل في الصَّلاةِ كان ذلك خُصوصًا بالنّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه لا يُؤمَن من الطِّفلِ البَولُ على حامِلِهِ. حديث مالكٌ (¬5)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، حمت أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يتعاقَبُونَ فيكُم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ" الحديث. الإسناد: الحديث صحيحٌ متّفق عليه (¬6). ¬
الأصول (¬1): قوله: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَة بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ" الحديث، البارىءُ سبحانه محيطٌ بالكلِّ، عالِمٌ بالجميعِ، له الحُجَّةُ البالغةُ الّتي لا يتطرَّقُ إليها اختلالٌ، ولا يتوجَّهُ عليها سؤالٌ، فلو شاء ما قرنَ الملائكة بالخَلْق لكَتْب الأعمال، ولكنّه كما جاء في الحديث؛ إنه قال: "عِبَادِي إنّما هي إعمالكم أُحْصِيهَا عَلَيْكم" (¬2) فيوقف كلُّ واحِدٍ (¬3) على عَمَلِهِ، فإن أقَرَّ أخذَ به (¬4)، وإن أنكرَ شهِدَتْ عليه كلّ جارحةٍ على نفسها، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} الآية إلى قوله: {تَعْمَلُونَ} (¬5). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي عشر فوائد: الفائدة الأولى (¬6): قوله: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ" خَلَقَ البارىءُ تعالى الأَزْمِنَة كما قدَّمنا سواء، وفَضَّلَ بعضها على بعضٍ بما شاء، حسب ما (¬7) تقدَّمَ بيانُه. فمن فضائل النهار: تعاقب الملائكة ونزولهم بالأَمْرِ. ومن فضائل اللّيل: نزولُ الرَّبِّ إلى السّماء الدُّنْيَا، على ما يأتي بيانُه في حديث النُّزُولِ إنّ شاء الله. الفائدة الثّانية (¬8): قال علماؤنا (¬9): فيه من الفقه شهودُ الملائكةِ للصّلوات، والاظهرُ أنّ ذلك في الجماعات. ويحتملُ الحديثُ الجماعات وغيرها. ¬
الفائدة الثّالثة: قوله: "الملائكة" يحتمل أنّ تكون الملائكةُ الّذين همُ الحَفَظَةُ الكرَامُ الّذين قال الله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬1). ويحتمل أنّ تكون المعقِّبات، لقوله: "يَتَعَاقَبُونَ". الفائدة الرّابعة (¬2): قوله: "يَتَعَاقَبُونَ" أي: طائفة بإِثْرِ طائفةٍ، وإنّما يكون التَّعَاقُبُ بين طائفتين، أو بين رَجُلَينِ، مرَّةً هذا ومرَّةً هذا، ومنه قوله (¬3): الإمامُ يعقب الجيوش، أي: يُرْسِلُ هؤلاء وَقْتًا شَهْرًا وشُهُورًا *. وأمّا قولُه: "يَتَعَاقَبُونَ" فجمع، وقد تقدَّمَ الفِعْلُ، وإنّما خاطَبَ بذلك مَنْ هذه لغته الّذين قالوا: "أكلوني البَرَاغِيث". الفائدة الخامسة (¬4): ومعنى الحديث: أنّ ملائكةَ النَّهارِ تنزلُ في صلاة الصُّبحِ فيُحصونَ علي بني آدم، وتَعْرُجُ (¬5) ملائكةُ اللَّيلِ الّذين باتُوا فيهم ذلكَ الوقت، أي: يصعدونَ، وكلُّ من صعدَ فقد عرجَ. فهذا كانت صلاةُ العصرِ نزلت ملائكةُ اللّيلِ فَأَحْصَوْا علي بني آدم، وعرجتْ ملائكةُ النَّهار، وهكذا أبدًا، حتّى ينفد عمر بني آدم (¬6). اعتراض: فإن قيل: فهذا ماتَ العبدُ، ما تصنعُ الملائكةُ الحَفَظَةُ المُوَكَّلُونَ به؟ قال بعض العلماء: إنّهم يستغفرون له. وقال غيره من المتأَخِّرِينَ: إنّهم يكتبونَ له الحسنات في كلِّ من سَبَّهُ وأخذ في عرضه، فتكتبها له، واللهُ أعلمُ. ¬
الفائدةُ السّادسةُ: قوله: "يَجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الفَجْرِ" خاصّة "والعصر" وأظنُّ من مال إلى هذه الرِّواية أنّه احْتَجَ بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1) ويحتملُ (¬2) أنَّه ذَكَرَ قرآنَ الفجرِ من أجلِ الجَهْرِ بالقراءة فيها؛ لأنّ العصرَ لا تُجْهَرُ فيها القراءة. الفائدة السّابعة: قوله: "قرآن الفجر" قال علماؤنا: فيه من الفقه: أنّه سَمَّى (¬3) القرآن صلاة، وقد تُسَمَّى الصّلاة قرآنًا. الفائدة الثّامنة (¬4): قال بعضُ أهلِ النظَر: في هذا الحديث فضل المُصَلِّين، لقولهم: "تَرَكْنَاهُمْ وَهُم يُصَلُّونَ، وأتَينَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" ولم يذكروا سائرَ الأعمال، ففيه دليلُ فَضْلِ المُصَلِّينَ من هذه الأُمَّة، وأن الصّلاةَ أفضل الأعمال. الفائدة التّاسعة (¬5): قوله تعالى (¬6): "كَيْفَ تَرَكْتُم عِبَادِي؟ " قال علماؤنا: سؤالُ الباريء سبحانه للملائكة ليس هو سؤال استخبارِ، فإنّه أعلَمُ بهم وبسِرِّهِم وجَهْرِهِم، وإنّما هو على معنى التَّعَبُّد الّذي كلَّفَهُم وأَمَرَهُم أنّ يكتبوا ويحصوا جميع أعمال العباد. قال ابنُ العربي: إنّما هو سؤالُ تشريفٍ شَرَّفَهُمْ بِذِكْرِهِ، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن كعب: "إنّ الله أَمَرَني أنّ أَقرَأَ عليكَ"، فقال: أَوَ ذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ (¬7). قال: فتقولُ الملائكةُ: "تَرَكنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" فيحبُّ البارئ أنّ يسمعَ ذِكرَهُم بالطَّاعةِ. قال أهلُ الإشارة: إنّما ذلك لتقوم الحُجَّةُ على الملائكة حين قالت: {أَتَجْعَلُ ¬
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية (¬1)، فكان سؤالُه لهم على معنى التَّوبيخِ لهم لِمَا قالوا، وهي الفائدة العاشرة، والحمد لله. حديث إمامة أبي بكر: مالكٌ (¬2)، عن هثايِم بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشةَ زوجِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مُرُوا أَبا بَكْرٍ يُصَلِّي (¬3) بِالنَّاسِ" الحديث. وفي بعض طُرُقِهِ، قالت عائشة لِحَفْصَة: إنّ أبا بَكرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ (¬4)، فَمُرْ عمرَ، فرُوِيَ أنَّ عمرَ صلَّى، فأَفَاقَ النّبِيُّ من غمرته، وسمع صوت عمر، فقال: "ما هذا؟ " قيل له: عُمَرُ يُصَلِّي بالنَّاسِ. فقال: "يَأْبَى اللهُ ذلك والمسلمون -ثلاثًا- مُرُوا أبَا بَكرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ" فأعادُوا عليه فأعادَ عليهم، إلى أنّ قال: "إنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ". الإسناد: قال الإمام: هكذا أخرجَهُ الأَيِمَةُ: مسلم (¬5)، والبخاريّ (¬6)، والتّرمذيّ (¬7)، وغيرهم من المصنِّفِينَ (¬8). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وفيه خمس عشرة فائدة: الفائدةُ الأولى (¬9): تَعْييرُ (¬10) الجنْس كلّه بما يفعله بعضه (¬11)، إذا عاد ذلك إلى حماية الدِّين ولم يكن بمتعلّقات (¬12) الدّنيا. ¬
الفائدةُ الثّانية (¬1): فيه من الإشارة إلى نقصان العقل -أعني عقلهنّ الّذي جُبِلْنَ عليه (¬2) - في أصل الفِطرَة. الفائدةُ الثّالثة (¬3): وهي أعظمها؛ أنّ معناه: أنا أدعوكنَّ إلى الحقِّ، وأنتنَّ تُرِدنَ أنّ تصرفننَي إلى الباطلِ، كما فعلت امرأة العزيز مع يوسف، فإنّه كان يَدْعُوها إلى العِصّمَة وهي تَدْعُوهُ إلى المعصية، وهذه شهادةٌ منه بالتَّبْرِئةِ ليُوسف عليه السّلام، وقد مَهَّدْنَا ذلك في موضعِهِ، وهذا كقوله: (اللهمّ أعِنِّي عَلَيهِم بِسَبعٍ كَسَبع يُوسُفَ" (¬4) معناه: أعنّي عليهم بجوع يُظهرني عليهم ويُبَيِّن صِدْقي، كما كان جوعُ مصرَ سببًا لتبرئة يُوسُفَ وظهور نُبوَّته. الفائدة الرّابعة (¬5): قد قيل: إنّ هذه الصَّلاة الّتي جَرَى فيها هذا، كانت صلاة العِشَاء الآخرة. الفائدة الخامسة (¬6): قوله: "مُرُوا أبا بَكرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ": قال علماؤنا (¬7): إنّما قال ذلك لأنّه أفضلُ الصّحابة وأعلَمُهم. وقد اختلف الفقهاءُ فيمن هو أحقّ بالامامة؟ فذهب مالك والأوزاعيّ وأبو حنيفة (¬8) والشّافعيّ (¬9) إلى (¬10) أنّ أَحَقَّهم بالإمامة أفضلهم، وإنِ اختلفت عباراتهم: ¬
فقال مالك (¬1): "يؤمُّ القومَ أفقهُهم (¬2) إذا كانت حاله حسنة". وقال ابنُ حبيب: ولا يكون عالِمًا حتّى يكون قارئًا. وقال الثّوريّ: يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهُم. قال الإمام (¬3): ومعنى المسألة والخلاف في ذلك؛ أنّ يكون الرَّجُل (¬4) فقيهًا عالمًا، ويقرأُ من القرآنِ ما يُقيمُ (¬5) به صلاته ولا يقرؤه كلُّه. ويكون الآخَرُ قارئًا لجميعِ القرآنِ حَسَنَ التِّلاوةِ له، ويَعْلَمُ إقامَة الصّلاةِ على وجهها، إلّا أنّه لا يفقه في أحكامها، ولا يعلمُ أحكام دقائقِ السَّهْوِ فيها، فيكون أحقّ بالإمامة الفقيه (¬6) إذا كانت له حالة حَسَنَة. والدّليلُ على ذلك: تقديم النَّبيِّ صلّى الله عليه لأبي بكرٍ لمّا كان أعلم الصّحابة وأفضلهم، وإن كان فيهم من هو أقرأ منه، وقد قال عمر: أُبيُّ بن كعب أقرؤنا للقرآن (¬7). ودليلُنا من جهة المعنى: أنّ المقدارَ الّذي تفتقرُ إليه الصّلاة قد اسْتَوَيَا فيه، والصّلاةُ لا يُؤمَنْ أنّ يطرأَ فيها ما لا يعلمه القارئ من أحكامها فيفسدها؛ لأنّ ذلك ممّا ينفرد به الفقيه. وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألة في أوّل الكتاب، وسترى ذلك -إنّ شاء الله- مُبيَّنًا في تفضيل الصَّحابة واحدًا بعدَ واحدٍ، وما زاد كلُّ صاحبٍ على صاحبِه من الفَضل والمناقب في كتاب الجامع مُفَسَّرًا مُبَيَّنًا على التّحقيق إنّ شاء الله. الفائدة السادسة (¬8): قولُ عائشة: "إنَّ أبا بَكرٍ إذا قَامَ مقامَكَ لم يُسْمِعِ النَّاسَ من البُكَاءِ" قال ¬
علماؤنا (¬1): في هذا دليلٌ على أنّ مِنَ الصّلوات ما حُكمُه الجَهْر. ودليلٌ على (¬2) أنّ البكاء لا يقطعُ الصَّلاةَ، إذا كان ذلك من خوفِ الله، أو على المصيبة في دِين الله، وقد رَوَى مُطَرِّف بن الشَّخير، عن أبيه، قال: رأيتُ (¬3) رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو يُصَلَّي ولجَوْفهِ أَزِيرٌ كَأَزِيرِ المِرْجَلِ منَ البُكَاءِ (¬4). فرع: واختلفَ العلماءُ في الأنِين والتأَوُّهِ (¬5) على ثلاثة أقوال: القول الأوّل - قال ابنُ المبارك: إنّ كان غالبًا فلا بأْسَ به. والثّاني - قال الشّافعيّ وأبو ثور: لا بأس به إلَّا أنّ يكون كلامًا مفهومًا. الثّالث - قالت طائفةٌ: يعيدُ الصلاةَ، هذا قول النَّخَعِي والكوفيَّينَ (¬6). الفائدةُ السّابعةُ (¬7): قول عائشة لحفصة: "إنّ أبا بكرٍ رجلٌ أَسِيفٌ" قال الهرويُّ (¬8): يعني أنّه سريع الحُزن والعِبْرَةِ والبُكاء، وهو الأسِفُ أيضًا، والأسف في غير هذا المعنى (¬9)، وأمّا الأسِفُ فهو الغضبان، وعليه ينطلقُ قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (¬10). الفائدةُ الثّامنةُ: قولُه: "إنكنَّ لانتُنَّ صواحبُ يُوسُفَ" يريدُ: إنّكُنَّ فتنتنَّ يوسُف وصددتنّه عن الحقِّ (¬11)؛ لأنّكنَّ سببٌ لاتَّباع الهَوى. وإنّهنَّ (¬12) لم يَزَلْنَ يَدعونَ إلى الباطل، ¬
ويصدّن (¬1) على الحقِّ، ولقوله: "إنّ منهُنَّ مائلاتٍ عن الحقِّ مُمِيلاَتٍ لأزواجِهِنَّ" (¬2) وقال: "ما تركتُ بعدِي فتنةً أَضَرَّ على الرّجالِ من النِّساءِ" (¬3) وخرجَ كلامُهُ هذا منه - صلّى الله عليه وسلم - على جهةِ الغَضَبِ على أزواجه وهُنَّ فاضلاتٌ، وإنّما أراد جِنْسَ النِّساء غيرهنَّ. وقد رُوِيَ في غير هذا الحديث في النِّساء: "هُنَّ صواحِبُ يوسُفَ، ودَاوُدَ، وجُرَيْج" (¬4) أراد به الفتنة والامتحان (¬5). الفائدةُ التّاسعة: قولُ حفصة لعائشة: "ما كنتُ لأُصِيبَ مِنْكِ خَيَرًا": فيه ما يدلُّ على ضِيقِ صُدورهنَّ (¬6)، ولأنّها هي الّتي تكلّمت فظنّت أنَّه قد غضب عليها وحدها. وروي (¬7) عن ابن عمر عن عائشة أنّها قالت: "واللهِ ما كان مراجعتي للنّبيِّ إذ قال: مُرُوا أبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنّاسِ إلَّا كَرَاهِيَّةَ أنّ يتشاءَمَ النَّاسُ بأَوَّلِ رَجُلٍ يقومُ مقامَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فيكونُ ذلك الرَّجُلُ أَبِي" (¬8). الفائدةُ العاشرة (¬9): قالت (¬10): "فوجد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في نفسه خِفَّةً، فخرجَ فهذا أبو بكرِ يؤُمُّ النَّاسَ، فلمّا رآه أبو بكرٍ اسْتأخَرَ، فأَوْمَأَ إليه أَنْ كما أنتَ، فجلسَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - حِذَاءَ أبي بَكرٍ إلى جَنْبِهِ، فكانَ أبو بكرٍ يصلِّي بصلاةِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، والنّاسُ يصلُّونَ بصلاةِ أبِي بكرٍ". قال علماؤنا (¬11): سُنَّةُ الإمامِ تقديم الإمام وتأخير النّاس عنه، ولا يجوز أن يكون أحدٌ مع الإمام في صَفٍّ واحدٍ إلَّا في موضعينِ: ¬
1 - العلةُ الّتي في هذا الحديث وما كان في معناه، مثل أنّ يضيقَ الموضع فلا يَقدِرْ على التّقدُّم، فيكون معهم في صفِّ وفي المواضع الّتي تضيق. 2 - والموضعُ الثّاني: أنّ يكون رجلٌ واحدٌ مع الامامِ، فإنّه يصلِّي على يمينه في صفٍّ واحدٍ معه، كما فعلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بابن عبّاس إذ أداره من خَلفه إلى يمنيه (¬1). فرع (¬2): فإن صلَّى الامامُ في صفِّ المأمومينَ لغير عُذرٍ، فقد أساءَ وخالفَ السُّنَّةَ، وصلاتُهُ تامّةٌ. قال الطّبريُّ: إنّما أقامَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ إلى جَنْبِهِ ليعلم النّاس تكبيره وركوعه وسجوده، إذ كان النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قاعدًا وفي القومِ مَنْ لا يراه ولا يعلم ركوعَهُ ولا سجودَهُ، فبان أنّ الأيمَّة إذا كانوا بحيثُ لا يراهُم من يأتمّ بهم، أنَّ لهم أنّ يجعلوا بينهم وبين من يأتمّ بهم عَلَمًا يعلمون بتكبيره وركوعه إذا كان الامامُ لا يُسْمع. الفائدة الحادية عشرة (¬3): قال علماؤنا: في إمامةِ أبي بكرٍ حجّةٌ لمن أجازَ الصّلاةَ بالمُسَمِّع، واختلف النَّاسُ في ذلك: فقال بعضهم: لا تصحُّ الصّلاةُ بالمُسَمِّع؛ لأنّ المقتدِي به اقْتَدَى بغير الإمام (¬4). وقال بعضهم: إذا أَذِنَ الإمامُ للمُسَمِّعِ في الإسماعِ صحَّ الاقتداء به؛ لأنّه يصيرُ حينئذٍ منِ اقتدَى به إقتدى بالإمام، لمّا كان ذلك عن إِذنِهِ، وهو حُجَّةٌ لمن أجازَهُ على ما في نصِّ الحديثِ (¬5). ¬
الفائدة الثّانية عشرة (¬1): قال علماؤنا (¬2): في هذا الحديث اختلاف، هل كان النّبيُّ (6) هو الإمامُ في هذه الصَّلاة أم لا؟، وفائدةُ الخلافِ فيه في إمامةِ الجالس بالقائم (¬3)، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه في الباب الّذي قَبْلَهُ. الفائدة الثّالثة عشرة (¬4): قوله: "فَلَمَّا رآهُ أبو بَكرٍ اسْتأْخَرَ": فيه دليلٌ واضحٌ أنّه لم يكن عندهم مسْتَنْكرًا أنّ يتقدَّمَ الرَّجُلُ عن مقامه الّذي قامَ فيه في صلاته ويتأخّر، وذلك عملٌ في الصَّلاة من غيرها، فإنّ من فعل ذلك في صلاته لأمرٍ دَعَاهُ إليه فصلاته جائزة. الفائدة الرّابعة عشرة: فإن قال قائل: لِمَ صَفَّقَ النَّاسُ لأبي بَكْرٍ حينَ ذهبَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى بني عَمْرو بن عوف ليُصْلحَ بينهم (¬5)، ولم يصفِّقوا في مَرَضِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إذ رَأَؤهُ؟ ولأيِّ شيءٍ عزلَ النبيُّ (¬6) أبا بَكْرٍ عن الصَّلاةِ وقتَ خُروجِهِ وهو مريض، ولم يعزل عبد الرحمن بن عوف وصلّى ركعة خَلْفَهُ؟ الجواب في ذلك من وجهين: الأوّل: أنهم لم يصفَّقُوا لأنّه قد كان تقدَّمَ لهم النَّهي عن التّصفيقِ، فقال: "إنّما التَّصفِيقُ للنِّساءِ" (¬7) فوقَفُوا عند هذا، وبَقِيَ حكمُ التّسبيحِ للرِّجال والتّصفيق للنّساء؛ لأنّ أصواتهُنَّ فيها لِينٌ، فخَشِيَ الفتنةَ لذلك، ومن أجل هذا لا تُؤَذِّن المرأةُ ولا تَؤُمُّ ولا تقرأُ جَهْرًا خشيةَ الفِتنَة بأصواتهِنَّ. الجوابُ الثّاني: أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وقتَ أبي بَكرٍ كان النَّاسُ خائفينَ من مَرَضِهِ، فلمّا خرجَ واستبشروا بخروجه وفرحوا، فصفَّقُوا فَرَحًا به واستبشارًا، وتَبَرُّكًا بصلاةِ ركْعَةٍ خَلْفَهُ. ¬
وأيضًا: فإنّ أبا بَكرٍ انعزل، ولم يكن شيءٌ من ذلك لعبد الرّحمن، ولا عرفَ النّاسُ يكون النَّبيّ (¬1) معهم، وكانت (¬2) نفوسُهُم واثقةٌ بصِحَّتِهِ، فصفَّقُوا عند مَرَضِه ولم يصفّقوا عند صلاته وراء عبد الرّحمن لهذا الوجه (¬3)، واللهُ أعلمُ. حديث مالكٌ (¬4)، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عُبَيد الله (¬5) بن عَديّ؛ أنّه قال: بَينَما رَسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - جالسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّه به (¬6)، حَتى جَهَرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَإِذَا هُوَ يَستأذِنْهُ في قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِينَ، فَقَالَ رسولُ الله حينَ جَهَرَ: "أليسَ يَشْهَد أنّ لاَ إِله إلَّا اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى! وَلاَ شَهَادَةَ لهُ. قَال: "أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ " قَالَ: بَلَى، وَلَا صلاَةَ لَهُ. فَقَالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولَئِكَ الّذِينَ نَهَانِي اللهُ عَن قَتْلِهِم" (¬7). الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ حَسَنٌ في البابِ (¬8). فقال أهل الحديث: إنّ الرَّجُلَ المنافِقَ هو مالكٌ بن الدُّخْشُم بن غنم (¬9)، شهد بدرًا وتخلَّفَ في شُهُودِ العَقَبَةِ. الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: ¬
الفائدة الأولى (¬1): فيه من الفقه: إباحةُ المناجاةِ والتَّسَارِّ مع الواحدِ دونَ الجماعة (¬2)، وإنّما المكروهُ بأن يتناجَى اثنان فما فَوْقَهُما دونَ الواحدِ، فإنّ ذلك يُحزِنُه، وأمّا مناجاةُ الاثنينِ دونَ الجماعة فلا بأس بذلك، بدليل هذا الحديث وغيره. ويحتملُ أنّ يحمل هذا الحديث (¬3) على الرَّجُل الرَّئيسِ المُحْتَاجِ إلى رؤيته (¬4) ورأيه ونفعه، فإنّه جائزٌ أنّ يُنَاجِيه كلُّ من جاءَهُ في حاجته. الفائدةُ الثّانية: قوله: "حَتَّى جَهَرَ رسولُ الله" فيه دليلٌ على جَوَازِ جَهْرِ من أسرَّ إليه بالسرِّ إذا أوجب ذلك الشّرعُ (¬5)، ومما يحتاج أهل المجلس إلى عِلْمِهِ وسماعه. الفائدةُ الثّالثة (¬6): فيه من الفقه: أنّ مَنْ أظهرَ الشّهادة بلا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله حَقنَت دمه، إلَّا أنّ يأتي بما يُوجِبُ إراقةَ دَمه بما افترضَ اللهُ عليه من الحقِّ المُبِيحِ لقَتْلِ النَّفْسِ الّتي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحقِّ. وفي قولِ رسولِ الله: "أَلَيْسَ يَشهَدُ ألَّا إله إلَّا الله" دليلٌ على أنّ الّذي يشهدُ بالشهادة ولا يصلِّي لا تمنعُ الشّهادةُ من إراقةِ دَمِهِ إذا لم يصلِّ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في أحكامِ تَارِكِ الصّلاة. الفائدةُ الرّابعة (¬7): قال علماؤنا (¬8): فيه دليلٌ على أنّ من شَهِدَ ألَّا إله إلَّا الله وأن محمّدًا رسول الله لم يجُز قتله، إلَّا أنّ يرتدَّ عن دِينهِ، أو يكون مُحْصَنًا فيَزْني، أو يسعَى في الأرض ¬
فسادًا، أو يقطع السّبيل. وإذا لم يجز قتلُ مَنْ يصلِّي، جازَ قتلُ من لا يصلِّي. وفي (¬1) قولِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولَئِك الّذِينَ نَهَانِي اللهُ عَنْهُم" رَدٌّ لقول القائل له: "بَلَى، وَلاَ صَلاَةَ لَهُ، بَلَى وَلاَ شَهَادَةَ لَه" لأنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قد أثبتَ له الشّهادةَ والصّلاةَ، ثمَّ أخبرَ أنَّ اللهَ نهاهُ عن قتلِ من هذه صفَتُه، وأنه لا يكلَّف أكثر من أنّ يُقِرَّ ظاهرًا ويُصَلِّي ظاهرًا، وحسابُه على الله. فهذا كان ذلك صادقًا من قلبه يَبْتَغِي بذلك وَجْهَ الله دخل الجنَّة، ومن خادع بها فهو منافقٌ من أهل الدَّركِ الأسفلِ من النّار، ولا يجوز قَتلُه مع إظهار الشّهادةِ والصّلاةِ. الفائدةُ الخامسة: قال علماؤنا: وإنّما امتنع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين لئلّا يقول النّاس: إنّ محمدًا يقتل أصحابه ويتحدّثون بذلك (¬2). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلفَ العلماءُ في استتابةِ الزِّنديق المشهودِ عليه بالكُفْرِ والتَّعطيلِ، وهو مُقِرٌّ بالإيمانِ مُظْهِرٌ له، جاحدًا لما (¬4) نشهد به عليه. فقال مالكٌ وأصحابه: يُقتلُ الزّنادقةُ ولا يستتابون. وسُئِلَ مالك عن الزندقة، فقال: ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلم -* من إظهار الإيمان وَكِتمَانِ الكفر هو الزّندقة عندنا اليوم. ¬
وقيل لمالك: فَلِمَ يُقتلُ الزِّنديق ورسول الله لم يقتل المنافقين * (¬1) وقد عرفهم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه لو قتلهم وهو يُقرُّونَ بالايمانِ لكان ذلك ذريعة إلى أنّ يمتنعَ خَلْقٌ كثيرٌ عن الدّخول في الإسلام، هذا معنى قول مالكٌ، ويشهد له قولُه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ألَّا يتحدَّثَ النّاسُ أنِّي أقتلُ أصحابِي" (¬2). احتجّ ابن الماجِشُون في قتل الزِّنديقِ بقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآية إلى. قوله: {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (¬3) يقول: إنَّ الحُكمَ فيهم أنّ يقتلوا حيث وُجِدُوا، ولم يذكر استتابةً، فمن لم يتب ولا انتهى عمّا كان عليه المنافقونَ في زَمَنِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قُتِلَ حيثُ وُجِدَ، ومالُه لوَرَثَته المسلمين. هذا تحصيلُ مذهب مالك. والحُجَّةُ له: أنّ الزِّنديقَ مُظهِرٌ لدِينِ الإسلام، والشّهادةُ عليه بأنه يُسرُّ الكُفرَ لا تُوجِبُ القَطعَ على عِلْمِ ما يشهده الشّهود. والعمدةُ فيه: أنّ مال كلِّ مقتولٍ ومَيِّتٍ لِوَرثتَهِ، إلَّا أنّ يصحّ أنهّم على دِينٍ سوى دينه. واختلف غيره في اسْتِتَابَةِ الزِّنديقِ المشهودِ عليه بالزَّنْدَقَة؛ أنّه لَوْ استُتيبَ لثبتَ قولُه أنّه مسلم، فلهذا كلِّه لم ير مالك نقل المال عن وَرَثَتِهِ. المسألة الثّانية (¬4): أمّا ابنُ نافع، فإنّه يجعل ماله فيئًا لجميع المسلمين، وكلاهما أيضًا مرويٌّ عن مالك. قال الإمام - ووجهُ روايةِ ابن نافع: أنّ الدَّمَ أعظم حُرْمَةَ من المالِ، والمالُ تَبَعٌ للدَّمِ. المسألة الثّالثة (¬5): اختلف قولُ أبي حنيفة وأبي يوسف في الزِّنديق، فقالا مرّة: يُسْتتابُ الزِّنديقُ. ¬
ومرَّةَ قالا: يُقتلُ الزنديقُ، فإنّ توبته لا تعرف (¬1)، وبهذا أخذ مالك (¬2). وقال الشّافعيّ: يستتابُ الزِّنديق كما يستتاب المرتدُّ ظاهرًا، فإن لم يتب قُتِلَ (¬3). المسألة الرّابعة (¬4): قال علماؤنا (¬5): إنْ شَهِدَ شاهدان عَدْلاَنِ على رَجُل بالزَّندقةِ قُبِلَا عليه (¬6). وإنّ الزِّنديقَ إذا أَظْهرَ الزَّندقةَ فإنه يُستتابُ عند أحمد بن حنبل (¬7)، قيل له: إنّ أهل المدينة يقولون: يُقْتَلُ ولا يُسْتَتَابُ. فقال: نعم يقولون ذلك، ثم قال: من أي شيءٍ يستتابُ وهو لا يظهر الكفرَ وهو يُظْهِرُ الإيمانَ، فتناقضَ قولُه. والحجّةُ (¬8) القاطعة لمالك بأنّه يُقْتَلُ ولا يستتاب؛ لأنّه (¬9) لا تعرف توبته، ولا يُوقَف على صحيحِ ذلك. المسألة الخامسة: اختلفوا أيضًا في السّاحر، فروى ابنُ حنبل أنّه لا يقتل ولا يلزم قتله ويستتاب (¬10). وأهلُ المدينة يقتلونه ولا يستتاب؛ لأنّه لا تعرف توبته (¬11). المسألة السادسة: أمّا الجاسوس من المسلمين، ففيه خمس روايات: قال مالك (¬12): الأمرُ فيه إلى الإمام. القول الثّاني - قال ابنُ القاسم: يُقْتَل (¬13). ¬
الثّالث - قال ابنُ وهب: إن تاب تُرِكَ. الرّابع - قال سحنون: يُؤَدَّبُ أَدَبًا وَجِيعًا. الخامس - قال ابنُ حبيب: يُنْظَر، فإن تكرَّرَ ذلك منه قُتِلَ، وإن لم يتكرّر أُدِّبَ. وسيأتي من هذا النوع في كتاب الحدود بدائع جمّة وغرائب من العلوم إنّ شاء الله. حديث مالك (¬1)، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَارِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مسَاجِدَ". الإسناد (¬2): قال الإمام: لا خلافَ عن مالكٌ في إرسال هذا الحديث على ما رواهُ يحيى سواء، وهو حديثٌ غريبٌ -أعني قوله: "لَا تَجْعَل قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدْ"- لا يكاد يُوجد إلّا عن مالكٍ (¬3). وأمّا قوله: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهم مَسَاجدَ" فهو حديثٌ محفوظٌ من طُرُقٍ كثيرةٍ صِحَاحٍ، خرّجها الأيمّة: مسلم (¬4) والبخاريّ (¬5). تنبيه على وهم (¬6): زعم البزّارُ (¬7) أنّه لم يتابع أحد مالكًا على هذا الحديث إلّا عمر بن محمّد، عن زيد بن أسلم، وقال: ليس بمحفوظٍ عن النّبيِّ إلّا من هذا الوجه، رواه زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. قال الإمام: ولا قولَ للبزَّار؛ لأنّه لا خلافَ بين علمائنا أهل الحديث بالخبر والأثر، أنّ الحديثَ إذا رواهُ ثقة عن ثقةٍ حتّى يتَّصلَ بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه حُجَّةٌ يعمل بها، إلَّا ¬
أنّ ينسخه غيره، ومالك عندهم ثقةٌ حُجَّةٌ فيما نَقَلَ، وقد أَسْنَدَ حديثه هذا جماعةٌ الثّوريُّ (¬1) وغيرُه (¬2). الأصول (¬3): قوله: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَل قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ" قاله -عليه السّلام- تواضُعًا والتزامًا للعبودية، وإقرارًا لله بالعبادة، وكراهية أنّ يُشرِكه أحدٌ في عبادته. وقوله: "اشتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا" الحديث. قال علماؤنا من أهل الأصول: غضَبُ الرَّبِّ سبحانه على قسمين: إمّا يرجع إلى إرادة العقاب، فذلك صفةٌ من صفاته لا تتغيَّر ولا تحول. والقسم الثّاني من الغضب: ما يرجعُ إلى الفعل من العقاب وغير ذلك. الفوائد المنثورة في هذا الحديث ثلاث فوائد: الفائدة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): إنّما منع من أنّ يصلِّى إلى قبره، فسائر آثاره (¬6) أحْرَى بذلك. وقد كره (¬7) مالك وغيره من أهل العلم طلب (¬8) موضِع الشَّجَرةِ الّتي بُويِعَ تحتها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بَيعَةَ الرِّضوانِ، وأنَّ ذلك - والله أعلم- مخافة لئلّا يتّخذ موضع عبادة كما فعلتِ اليهودُ والنّصارى في مثل هذا. الفائدة الثّانية (¬9): قوله: "وَثَنًا يُعْبَد" الوَثَنُ هو الصَّنَمُ، يقول: "اللهُمَّ لاَ تَجْعَل قَبْرِي" صَنَمًا يُصَلَّى ¬
إليه ويُعْبَد "اِشتَدَّ غَضَبُ اللهِ" على مَنْ فعلَ ذلكَ. وروى ابن سَنْجَر (¬1) في حديث عن عائشة؛ أنَّ ناسًا تَذَاكرُوا (¬2) عنده في مَرَضِهِ كنيسة رأوها (¬3) في أرضِ الحَبَشَة، فقال رسولُ الله: "أُولئكَ قومٌ إذا ماتَ الرَّجُلُ الصّالحُ عندهم، بَنَوا على قبره مسجدًا، ثم صوَّرُوا فيه تلك الصُّورة، أُولئكَ شرُّ الخَلْقِ عندَ اللهِ" (¬4). وذكر ابنُ إسحاق أيضًا (¬5)، عن عائشة؛ أنّها قالت: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الّذي لم يقم منه: "لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبورَ أنبيائهم مساجد"، ثمّ قالت: ولولا ذلك لأبرزَ قبره غير أنّه خَشِيَ عليه أنّ يُتَّخَذَ مسجدًا (¬6). وقوله: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ" يريد عذابه. الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬7): أمّا الصّلاة في مقابر المسلمين فغيرُ منهيٍّ عنها، قال مالكٌ في "العُتبِيّة" (¬8): لا بَأسَ بها في المقابر الّتي قد دريسَت وغيّرت (¬9). وقال: إنمّا هي مثل غيرها من الأرضِين. وهذا مبنيٌّ على أنَّ المؤمنَ الميِّتَ لا ينجسُ بالموتِ. المسألة الثّانية (¬10): أمّا مقابرُ المشركينَ، فقد نصَّ ابن أبي زَيدٍ على المنعِ من ذلك؛ لأنّها حُقرَةٌ من حُفَرِ النَّارِ (¬11). ¬
وقال بعضُ علماءنا: معنى ذلك؛ لأنّها (¬1) بُقْعَةٌ خُصّتْ بالعذاب وبالسَّخطِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذه المعاني في الباب الّذي قَبْلَهُ في حديثِ النَّهي عن الصّلاةِ في مرابِضِ الغَنَم. حديث مالك (¬2)، عن ابنِ شهابِ، عن محمود بن لبيد (¬3) الأنصاري؛ أنّ عِتْبَانَ ابن مالكٍ كان يَؤُمُّ قَومَهُ وهوِ أعمى، وأنّه قال لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -: إنّها تكونُ الظُّلمةُ والمَطَرُ والسَّيلُ، وأَنَا رجلٌ ضريرُ البَصَرِ، فَصَلِّ يا رسولَ الله في بيتي مكانًا أَتَّخِذُهُ مصلَّى، فجاءَهُ (¬4) رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "أينَ تُحبُّ أنّ أُصَلِّي؟ " فأشار إلى مكانٍ في البيتِ، فَصلَّى فيه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -. تنبية على وَهمٍ (¬5): قال الإمام الحافظ: هكذا قال يحيى فيه: "عن مالك، عق ابن شهاب، عن محمود بن لَبِيد" وهو من الغَلَط والوَهْم الشّديد، ولم يتايعه أحدٌ من رُوَاةِ "الموطّأ" (¬6) ولا غيرهم على ذلك، وإنّما رواه ابنُ شهاب عن محمود بن الرّبيع لا محمود بن لَبِيد، ولم يختلف أصحابه عليه في ذلك، وهو حديث محفوظٌ لمحمود بن الرّبيع لا لمحمود بن لَبِيد. الفقه والفوائد المنثورة: وهي خمس فوائد: الفائدة الأولى (¬7): قوله: "كانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وهو أَعْمَى" فيه دليلٌ على جواز إمامة الأعْمَى؛ لأنّ مثلَ ¬
هذا لا يخفَى على النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مع تَكَرُّرِهِ. الفائدة الثّانية (¬1): فيه من الفقه: جواز إمامة الزّائر إذا أَذِنَ له المَزُور؛ لأنّ السُّنَّةَ الثّابتة في حديث أبي (¬2) مسعود الأنصاري: "لا يُوَمَّ أحدٌ في سُلْطَانِهِ ولا في بَيْتِهِ، ولا يُقْعَدْ على تَكْرِمَتِهِ (¬3) إِلاّ بإذنِهِ" (¬4). ورُوْيَ عن ابنِ مسعود وجماعة (¬5) من السَّلَفِ أنّهم قالوا: صاحبُ البيتِ أعلمُ بعْورَةِ بيْتِهِ (¬6)، فلا يقعد الزّائر إلا حيث يُشارُ إليه من البيت. وفيه: جواز إمامة الأعْمَى، ولا أعلمُ أنّهم يختلفون فيه. الفائدة الثّالثة (¬7): فيه من الفقه: أنّ من تخلَّفَ عن الجماعة أنّ له أنّ يَجْمَعَ بأهله وجُلَسَائه، ولم يتخلّف عِتبانُ بن مالكٍ عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلّا لِعُذرٍ، فإن تخلَّفَ لِعُذرٍ فلا حَرَجَ عليه، كان تخلَّفَ لغيرِ عُذرٍ فقد بَخَسَ نَقسَهُ حَظَّهَا في فضل الجماعة. الفائدةُ الرّابعة (¬8): فيه أيضًا: جوازُ إِخْبارِ الإنسانِ عن نفسه بعَاهَةٍ نزلت به، وليس ذلك شَكْوَى منه لرَبِّهِ، لقوله: "أنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ". وقد قيل: إنّ هذا الرَّجُل هو عِتبُان بن مالك الّذي قيل له: "أتسمع النّداءَ؟ " قال: نعم. قال: "أجِبْ، ما أجِدُ لَكَ رُخصَةً" (¬9). ومن المحدِّثَةِ من قال: ليس هو هذا الرَّجُل (¬10). ¬
الفائدة الخامسة (¬1): فيه من الفقه: التَّبَرُّك بالمواضِعِ الّتي صلّى فيها النّبي - صلّى الله عليه وسلم - ووطئها وقام عليها. تنبيه على مقصد (¬2): قال الإمام: أدخل مالك هذا الحديث بإثرِ الّذي قَبْلَهُ -والله أعلم- ليُبَيِّنَ لك أنّ معنى هذا الحديث مخالفٌ للّذي قَبْلَهُ. والاقتداءُ بأفعالِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأخلاقِهِ، والإيمانُ والتّصديقُ والحبُّ في دِينِ الله (¬3)، وما كان عليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من حُسْنِ الخلق وجَمِيل الأَدَبِ في إجابةِ كلل من دَعَاهُ إلى ما دُعِيَ (¬4) إليه ما لم يكن إِثْمًا. حديث مالكٌ (¬5) عن ابن شهاب، عن عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ، عن عَمِّه؛ أنّه رأى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مُسّتَلْقِيًا في المسْجِدِ، واضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. تنبيهٌ على وَهْمٍ (¬6): قال الإمام: اعلم أنّ السَّبَبَ المُوجِبَ لإدخال مالك هذا الحديث في "موطّئه" للخلاف الّذي روى النَّاس في ذلك. ومِنَ النّهيِ عن مِثل هذا المعنى، ما روى جابر، قال: "نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَن يضعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجلَيهِ على الأخْرَى وهُوَ مُسْتَلقٍ على ظَهْره" (¬7) وهذا حديثٌ لم يَرْوِهِ أهل المدينة، والعمل عندَهُ بخلاف هذا. ثمَّ أَرْدَفَة في "موطّئه" (¬8) بما رواهُ ابنُ شهابِ عن ابن المسيِّب؛ أنّ أبا بَكْرٍ وعمر (¬9) كانَا يفعلانِ ذلك. فكأنه ذهب إلى أنّ نهيَهُ عن ذلك منسوخٌ بفِعْلِهِ، واستدلَّ على نسْخِهِ بفعلِ الخَلِيفَتَين بعدَة، وهما ممّا لا يَخْفَى عليهما النَّسْخ في ذلك وغيره من المنسوخِ في سائر سُنَنِهِ (¬10) - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
نكتةٌ أصولية (¬1): قال الإمام: وأقلُّ (¬2) أحوالِ الأحاديث المتعارضة في هذا الباب أنّ تكون متعارضة، فتسقطُ وترجع إلى أصلٍ، والأصلُ الإباحة حتّى يردّ الحَظْر، ولا يثبتُ حُكمٌ على مسلمٍ إلَّا بدليل لا معارِضَ له. حديث مالك (¬3) عن يحيى بن سعيد؛ أنّ ابنَ مسعودٍ، قال لإنسانٍ: إنَّكَ في زمانٍ كثيرٌ فقهاؤُهُ الحديث. الإسناد (¬4): قال الإمام: قد رُوِيَ عن ابنِ مسعود من وجوه متَّصلَةٍ متواترةٍ حِسَانٍ (¬5). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدة الأولى (¬6): قول ابن مسعود في ذلك: "إنَّك في زَمَانٍ (¬7) كثيرٌ فُقهاؤُهُ قليلٌ قرِّاؤُهُ" إنّه لم يُرِد بذلك أنّ مَنْ يقرأ القرآنَ كان قليلًا في زمانه، وإنّما أراد أنّ من يقرأ القرآن فيكون حظّه منه قراءته دون الفقه فيه قليل؛ لأنّ ابنَ مسعود إنّما قصدَ مدحَ الزَّمانِ الّذي كان فيه، وهو عصرُ الصّحابةِ وهو القرنُ الممدوح، فأَثّنَى عليهم لكثرة (¬8) العلماء والفقهاء. وجلّ فقه أهل ذلك العصر إنّما كان من القرآن والاستنباط منه، الّذي قال الله فيهم: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬9) ولم يكونوا أهلَ ديوانٍ، ولا صنّفوهُ في القراطيس، وإنّما كان عِلْمُهُم في صدورهم، واستنباطُهُم من محفُوظِهِم، ومحالٌ أنّ ¬
يستنبطَ من القرآن مَنْ لا يحفظه؟ لانّ أصل الفقه ومعظمه كتاب الله تعالى الّذي لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْه ولا مِنْ خَلْفِه، وهو الكتابُ الّذي قال الله فيه {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬2)، فمحالٌ أنّ يوصَفَ بالعِغِ مَنْ لا يقرأ القرآن، مع ما عُلِمَ من حال الصّحابةِ في اقتصارهم في العِلْمِ على القرآن. ولا يجوز أنّ يقصدَ ابن مسعود - مع فضله ومحلِّه من تلاوة القرآن وكونه أحد الأيمّة فيه - إلى أنّ يمدحَ زمنَ الصّحابةِ وصَدْرَ الأُمّةِ بِقِلَّةِ القُرَّاء فيه؛ لأنّ أهلَ ذلك العصر كانوا أَلْهَجَ (¬3) النَّاسِ بتلاوة القرآن وتَلَقِّيه من الرّكبان، وبدراسته (¬4) والعمل به في مواطن الشّدائد أين أصحاب البقرة ينادون بذلك (¬5). الفائدة الثّانية (¬6): قوله (¬7):"تُحْفَظُ فيه حدودُ القُرآنِ وتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ" (¬8) قال علماؤنا (¬9): لا يخلوا أنّ يريد بها حووف القرآن من أَلِفٍ ولامٍ (¬10)، أو يريد به لغاته، وفي تضييعِ أحد الأمْرَيْن على الإطلاق منعٌ مِنْ تحفظه، وهذا ممّا لا يستجيزه مسلم. وإنمّا قصدَ ابن مسعود بذلك وصف الزّمان بإظهار الحقِّ وإقامةِ الحدودِ، وأنّ ذلك عامٌّ من بين راغب فيه ومَجْبُولٍ عليه ممّن يخشى أنّ يكون من المنافقين أو المُسْرِفِينَ على أنفسهم؛ لأنّه يشهد لهذا حديثُ عُقْبَة بن عامِر وغيره (¬11): "أكثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قرّاؤها" (¬12). ¬
رَوَى مالكٌ أنّه قال: قد يقرأُ القرآنَ من لا خَيْرَ فيه (¬1)، والعِيَانُ في أهل هذا الزَّمانِ على صِحَّةِ هذا الحديث كالبرهان. الفائدة الثّالثة (¬2): قوله (¬3): "يُطِيلُونَ الخُطْبَةَ، ويَقْصُرونَ الصَّلَاةَ" يعني: أنهم يخالفون السُّنَّة في ذلك. وفيه معنى آخر: أنّ (¬4) الخُطبَةَ معناها الوعظ، والصلاةُ عملٌ من أعمال البِرِّ. فمعنى ذلك: أنّ وَعْظَهُم يكثرُ وعملهم يقلُّ. وفيه (¬5): أنّ طُولَ الصَّلاة محمودٌ ممدوحٌ عليها صاحبها (¬6)، وهذا للمنفرد، وأمّا من أمَّ جماعةَ، فإنّ التّخفيفَ له محمودٌ. وأمّا قصر الخُطبة، فسُنَّةٌ مسنونةٌ، كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يخطبُ بكلماتٍ قليلةٍ طيِّباتٍ حِسَانٍ، وأهل العلم يكرهون التشَدُّقَ والتَّقَيْهُقَ. وإنهم يكرهون من المواعظِ ما يُنْسِي بعضُه بعضًا لطُولهِ، ويستحبُّون من ذلك ما وَقفَ عليه السّامعُ الموعوظُ فاعتبرَهُ بعدَ حِفْظِه له، وذلك لا يكون إلَّا مع القِلَّةِ، وابنُ مسعود هذا هو القائل: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يتخَوَّلُنَا بالموعظةِ؛ مخافةَ السّآمةِ علينا (¬7). وها أنا أذكر خُطَبَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - والصّحابةِ على ما اقتضاهُ الخاطرُ والعارضةُ (¬8): روى عبد الرّحمن بن عابس (¬9)، عن رَبِيعَة (¬10) قال: كان عبد الله بن مسعود يخطبنا ¬
هذه الخطبة في كلِّ عشيّة خميس لا يَدَعُها، وذكر أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يخطبُ بها: "إنَّ أَحْسَنَ الحديث كتاب الله، وأَوْثَقَ العُرَى كلمة التَّقوَى، وخَيرَ المِلَلِ ملَّةَ إبراهيم عليه السّلام، وخَيْرَ السُّنَنِ سُنَّةَ محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، وأشرفَ الحديثِ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، وأحسنَ القصصِ هذا القرآن، وخيرَ الأمورِ عزائمها (¬1)، وشرّ الأمور مُحْدَثاتُها، وأحسنَ الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل (¬2) الشّهداء، وأَغْوَى الضَّلالة الضلالة بعد الهُدَى، وخير العمل ما نَفَعَ، وخير الهُدَى ما اتُّبعَ، وشر العَمَى عَمَى القلب. واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفْلَى، وما قلَّ وكَفَى خيرٌ ممّا كثر وأَلْهَى، ونَفْسٌ تُنْجِيها (¬3) خيرٌ من إمارةٍ لا تُحْصِيها، وشرّ المعاذِيرِ حينَ يحضرُ الموتُ، وشرّ النَّدامَةِ نَدَامَةُ يوم القيامة (¬4). ومن النَّاس من لا يأتي الجمعة إلَّا دُبرًا، ولا يذكر الله إلَّا هجرًا. وأعظم الخطايا اللِّسان الكذوبُ، وخير الغنى غِنَى النَّفْس، وخير الزَّادِ التَّقوَى، ورأس الحكمة (¬5) مخافة الله، وخير ما أُلقِيَ في القَلْب اليقينُ، والنَّوْح من عمل الجاهليّة، والشِّعر مَزَاميرُ (¬6) الشّيطان، أو قال إبليس. والخمر جِمَاعُ الآثامِ، والنِّساء حِبَالات (¬7) الشّيطان، والشّباب شُعْبَة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الرِّبا، وشرّ المآكِلِ أكل أموال اليتامَى. والسّعيد من وُعِظَ بغيره، والشَّقِيّ من شقي في بَطنِ أُمِّه، وإنّما يكفي أحدكم ما يغيثُ به (¬8) نفسَهُ، وإنمّا يصير إلى موضع أربعة أَذْرعُ، ومِلَاك العمل خواتمه، وشرّ الرِّوايا رِوَايا الكلذب، وكلّ ما هو آتٍ قريبٌ، وسِبَابُ المؤمنِ فِسْقٌ، وقتاله كُفْرٌ، وأكلُ لحمه معصية، وحُرْمة مَالِهِ كحُرْمة دَمِهِ. مَنْ تَأَلَّى على الله يُكَذِّبُه، ومن يَغْفِر يغفر الله له، ومَنْ يَعْفُ يعفُ اللهُ عنه، ومَن يَكْظِمُ الغيظ يأجره الله، ومن يصبِر على الرَّزَايَا يُعقِبه الله (¬9)، ومن يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرفه ينكره (¬10)، ومنْ يبتغ السُّمْعَةَ يُسَمِّع الله به، ومَنْ يستكبر يضعه الله، ومَنْ يتولَّى الدُّنيا يعجز عنه، ومَنْ ¬
يُطعِ الشّيطانَ يعص الله، ومَن يعصِ الله يعذِّبه" (¬1). مَنَحَنَا اللهُ وإياكم من معرفته ما يقطَعُنا به إليه شُغلًا عن جميع خَلْقِهِ، حتَّى نَسْلُوا به (¬2) عن كلّ محبوبٍ سِوَاهُ، برحمته إنّه عَلَّامُ الغُيُوبِ. قال الامامُ: فلأجل هذا قال ابقُ مسعود في حديثه: "يُطِيلُونَ الخُطْبَةَ ويَقصُرُونَ الصَّلاة" كأنّه عَابَ ذلك عليهم، لمّا كان حَفِظَ ذلك من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - هذه الخُطْبَة وشِبْهها، واللهُ أعلمُ. حديث مالكٌ (¬3)، عن يحيى بن سعيد؛ أنّه قال: بَلَغَنِي أنَ أَوَّلَ ما يُنْظَرُ فيه مِنْ عملِ العَبْدِ الصّلاة الحديث. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬4): "هذا الحديثُ عند مالكٍ بَلاَغٌ، ويُرْوَى من وُجوهٍ صِحَاحٍ من حديث تميم الدّاري (¬5)، ومن حديث أبي هريرة، قال: إذا أتيتَ أهلَكَ فأَخَبِرْهُم أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: أَوَّلُ ما يُحَاسَبُ به العبدُ المسلمُ الصَّلاةُ المكتوبةُ، فإنْ أتَّمَهَا، وإلَّا قيلَ: انظروا هل له من تَطَوُّعٍ، فإن كانَ له تطوُّعٌ أُكْمِلَتِ الفريضةُ من تَطَوُّعِهِ، ثم يفعلُ بسائر الأعمال المفروضةِ مثلُ ذلك" (¬6). ومن حديث أبي هريرة الصّحيح الثّابت؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أوَّلُ ما يحاسَبُ به العبدُ يوم القيامة الصَّلاة، فإن صَلُحَت فَقَد أَفْلَحَ، وإن فَسَدَتْ فَقَد خَابَ وَخَسِرَ" (¬7). ¬
الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وفيه خمس فوائد: الفائدة الأولى: اختلف النّاس في هذا النقصان وفي هذا التكميل على ثلاثة أقوال (¬1): 1 - أحدها: أنّ معناه من سَهَا عن فَرْضِهِ ونَسِيَهُ ولم يذكره فلم يأت به (¬2)، فهذا لا تُكْمل (¬3) له فريضة من تَطَوُّع أبدًا -والله أعلم- هذا إنّ كان عامِدًا، أمّا النّاسي، فأرجو له الكمال من تَطَوُّعِهِ؛ لأنَّ تركَ الصَّلاةِ عَمْدًا هو من باب الكبائر، فلا يُكفِّرها إلَّا الإتيانُ بها لمَن كان قادِرًا عليها، هي تَوْبَتُهُ لا يجزئه غير ذلك. الفائدة الثّانية (¬4): قولى: "أوَّلُ ما يُنْظَرُ فيه من عَمَلِ العبدِ الصَّلاَةُ" قال علماؤنا (¬5): هذا يقتضي تأكيدها؛ لأنّه بدأ بالنَّظَر فيها لمرتبتها (¬6)، ومن هذا قول عمر المتقدِّم: "إنّ أهمَّ أُمُورِكُمْ عندي الصَّلاة" (¬7). الفائدة الثّالثة (¬8): قوله: "فَإنْ قُبِلَتْ " فمعنى القَبُول هاهنا - واللهُ أعلمُ- أنْ توجدَ تَامَّة على ما يلزمه منها لزوم فَرْضٍ، فإذا وُجِدَتْ كذلك، قُبِلَتْ ونُظِرَ في سائر أعماله. قال الشّيخ أبو عمر (¬9): "وآثارُ هذا الباب تَعضُدُ هذا التّأويل، لا يصحُّ غيره على ¬
الأصول الصِّحاحِ، واللهُ أعلمُ". الفائدةُ الرّابعة: اختلفَ العلماءُ في قوله (¬1): "أُكْمِلَت لَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ". فمنهم من قال: إنْ تَرَكَ العصرَ مثلًا وصلّى أربع ركعات مُتنفِّلًا جبرت بها. وقالتِ الصُّوفية وأرباب القلوب: لا يرفع الجديد بالحذف (¬2)؛ لأنّه لو صلَّى مدّة ركعة تَطَوُّعًا لم تقم مقامَ فريضةٍ واحدةٍ. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: والّذي أراه -وهو الأوْلَى بنا والأقوى في النَّظَر وفي أدلتنا- أنّ الرّجُلَ إذا عَزُبَت نِيَّتُه مغلوبًا، إنّ صلاته كلّها مقبولة؛ لأنّ الله قد رَفَعَ الحَرَج عنَّا. وإنّما بقيت هاهنا نكتةٌ أصولية ننبِّهكم عليها حتّى تكونوا من أهلها إنّ شاء الله: وهو عُزُوبُ النِّيَّه إنّ كان بأمر حَضَرَ في الصَّلاة وبسببٍ عارِضٍ، فالمسألة (¬3) كما ذكرنا من غيرِ شَكٍّ، فإذا كانت بأسبابِ متقدّمةٍ قد لزمت العبد من الانهماك في الدُّنيا والتَعلُّق بعلائقها الزائدة، والتَشَبُّث بفصولها الّتي تسعى عنها، فيقوى هاهنا ترك الاعتذار بالصَّلاة؛ لأنّ ذلك من قِبَلِهِ، وسبَبُهُ وقع باختياره، ألَّا ترى أنّ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لمّا ألْهَتْهُ الخَمِيصَة عن لحظةٍ في الصَّلاةِ ونَظَرَ إلى عَلَمِها كيف أخرَجَها من بَيْتِهِ (¬4)، وأسقط المنفعة أصلًا حتّى لا يتعلّق بها خاطرٌ، فكان الّذي أصابه في الصَّلاة من الاقبال على الأعلام بحُكمِ التَّبْرِئَةِ، وكان إخراجها عن مُلْكِهِ حتّى تسلم عبادته مرتبة النُّبُوَّة، وقد روى أبو داود (¬5)؛ أنّه قال: "اذهبوا بهذه الخَمِيصَة إلى أبي جَهْمٍ، وَأْتُوني بكُرْدِيّة" قالوا: يا رسول الله، الخميصةُ كانت خيرًا من الكُرْدِيّ. فاختار رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الخيرَ من جهةِ العبادة على الخيرِ من جهَةِ المالية. تتميم: قال: ومن الغريب ما رَوَى بعض المُتَوَسِّمِينَ بطلب العلم؛ أنّه كان يقول في معنى الحديث: "أُكْمِلَتْ له من تَطَوُّعِهِ" إنّما أراد أنّ تكمل له المكتوبة من السَّهْوِ الّذي ¬
يدخل عليه فيها، إذ لا يصلحُ ولا يصحُّ أنّ تكون ألف ركعة من التَّطَوُّعُ تقومُ مقامَ صلاةٍ واحدةٍ مفروضةٍ بوَجْهٍ ولا على حالٍ. وهذا ضعيفٌ لا خفاءَ فيه، والصّحيحُ ما قدّمناهُ، واللهُ أعلمُ. حديث مالك (¬1)، عن هاشم بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشةَ زوجِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّها قالت: كانَ أَحَبُّ العَمَلِ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الّذي يَدُومُ (¬2) عليه صاحِبُهُ. قال الشّيخ: وهذا حديثٌ مرويٌ من طُرُقٍ كثيرةٍ صِحَاحٍ، في بعضها "أَحَبُّ العَمَلِ ما دَاوَمَ عليه صاحِبُهُ وإنْ قَلَّ" (¬3). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي أربعٌ: الفائدة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): المداومةُ على ضربين: أحد هما: بالنّيّة. والثّاني: بتكرَارِ العمل على الإتيان به مَتَى ما أَمْكَنَ. وأمّا تَكْرَارُ العملِ، فهو أنّ تكون له نافلة صومٍ أو صلاةٍ أو صَدَقَةٍ فيداومها، فتكون (¬6) هذه النّافلة أحبّ الأعمال إليه. فإن قَلَّت فتراها (¬7) أفضل من كثير النّافلة الّذي لا يداومها. ويحتمل أنّ يكون ذلك لمعنيين: أحدهما: أنَّ يَسِيرَ العملِ الّذي يُدَاوِم صاحبُهُ عليه، يكون منه في جميع العمر أكثر من الكثير الّذي يفعل (¬8). ¬
الفائدة الثّانية (¬1): قال علماؤنا (¬2): العزمُ على العمل الصّالح ممّا يُثَابُ عليه. والثّاني: أنّ العملَ الّذي يداومُ عليه هو المشروعُ، وأمّا ما توغّلَ فيه بعنفٍ ثمّ قطعَ (¬3)، فإنه غير مشروعٍ. الفائدة الثّالثة: قال الشّيخ أبو عمر (¬4): "معنى هذا الحديثِ مفهومٌ؛ لأنّ العملَ الدّائمَ يتَّصِلُ أَجْرُهُ وحَسَنَاتُه، وما انقطعَ منَ العملِ انقطعَ أَجْرُهُ". الفائدة الرّابعة (¬5): فيه من الفقه دليلٌ على أنّ اللهَ يحبُّ الرِّفْقَ في الأمور كلِّها ويرضَاهُ، ولا يَرْضَى العُنْفَ، وقد مَضَى القولُ على معنى هذا الحديث في حديث الحَوْلاَء بنت تُوَيْتٍ في باب صلاة اللّيل، فليُنْظر هناك. حديث مالكٌ (¬6)؛ أنّه بَلَغَهُ عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه؛ قال: كانَ رَجُلاَنِ أَخَوَانِ، فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قبلَ أنّ يَهْلَكَ الآخَر بأربعينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأوَّلِ عند رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: "ألم يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِمًا"؟ قالوا: بلى يا رسولَ، وكان لا بأس به. فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وما يُدْرِيكم اْين (¬7) بَلَغَت به صَلاَتهُ؟ إنَّما مَثَلُ الصَّلاةِ كمَثَلِ نَهْرٍ عَذبٍ غَمْرٍ بِبَابٍ أَحَدِكُمْ، يَقتحِمُ فيه كلَّ يومٍ خَمْسَ- مَرَّاتٍ، أتَرَوْنَ ذلك يُبْقِي مِنْ دَررَنِهِ؟ فإنّكم لا تَدْرُونَ ما بَلَغَتْ به صَلاَتُهُ". الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬8): "قصّةُ الأَخَوَين لا يعلمها أهل العلم بالحديث من ¬
حديث ابن أبي وقّاص. قال البَزَّارُ: لا نعرفُ قصّضةَ الأَخَوَين من حديث سعد بوَجْهٍ من الوجوه (¬1). قال الإمام (¬2): قال البزَّارُ هذا الكلام؛ لأنّه لا يعرف حديث ابن وهب، عن مَخرَمَة بن بُكَيْر، عن أبيه، عن عامر بن سعد عن أبيه (¬3). كذلك رواه ابن وهب بهذا الإسناد مثل حديث مالكٌ سواء. وقد يمكن أنّ يكون مالكًا أخَذَهُ من كُتُبِ بُكَيْر، أو خبَّرَهُ به ابنه مَخْرَمَة عنه. وهو مع ذلك حديثٌ انْفَرَدَ به ابن وهب ولم يروه بهذا الإسناد غيره. قال الإمام (¬4): وإنّما يُحْفَظُ حديث الأَخَوَيْنِ من حديث طَلْحَة بن عُبَيْدِ الله (¬5)، ومن حديث أبي هريرة (¬6)، ومن حديث عُبَيْدِ بن خالد صاحب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬7)، إلّا أنّ حديث ابن وهب، عن مَخرَمَة، عن أبيه، عن عامر بن سعد عن أبيه، أقوى من بعض الأسانيد عن هؤلاء". الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ستّ فوائد: الفائدة الأولى (¬8): قوله: "فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأوَّلِ" قال علماؤنا (¬9): فيه دليلٌ على جواز الثَنَّاءِ على الميِّتِ بما فيه من الخير، وقد رُوِيَ من طريق صحيحٍ عن أنس ابن مالكٌ؛ أنّه مُرَّ بجنازةٍ فأَثْنَوْا عليها خَيْرًا، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وَجَبَتْ" ثمّ مُرَّ بأُخْرَى فأَثْنَوا عليها شَرًّا، فقال: "وَجَبَتْ" فقال عمر: وما وجَبت يا رسول الله؟ فقال: "هذا أثنيتم عليه خَيْرًا فَوَجَبَتْ له ¬
الجَنَّةُ، وهذا أَثنَيْتُمْ عليه شَرًّا فَوَجَبَت له النارُ، أنتم شُهَدَاءُ اللهِ في الأرضِ" (¬1). قال الإمام: وإنّما يجوزُ الثّناءُ عليه بفِعْلِهِ، ولا يخبر عمّا يصير إليه فإنّه مغيبٌ عنّا، وكذلك (¬2) رُوِيَ عن أُمِّ العلاء أنّها قالت لعثمان بن مَظْعُون: رحمةُ الله عليكَ يا أبا السّائِب فشهادتي عليك لقد أَكرمكَ اللهُ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وما يُدْرِيكِ أنَّ اللهَ أَكرَمَهُ" (¬3). قال الإمام (¬4): هذا للميِّت، وأمّا الحيّ، فإنْ كان ممّا يخافُ عليه الفتنة بِذِكْرِ ما فيه من المحاسن، فهو ممنوعٌ (¬5)، لما رُوِيَ أنّ النّبى - صلّى الله عليه وسلم - قال لعمر ابن الخطّاب: "والَّذي نَفْسِي بِيَدِه مَا لَقِيَكَ الشَّيطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَهُ" (¬6). الفائدة الثّانية (¬7): قوله عليه السّلام: "ألَمْ يَكُنِ الآخرُ مُسْلِمًا" فانّه يحتمل أنّ يكون على معنى الاستفهام؛ لأنّه لم يعرف حاله، ويحتمل أنّ يكون على معنى التّقرِيرِ. وقولُه: "لاَ بَأْسَ بِهِ" هذا اللّفظ يستعمل في التّخَاطُبِ لما يقرُبُ معناه، ولا ترادُ (¬8) المبالغة في تفضيله. الفائدة الثّالثة: قوله: "إنَّمَا مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ" (¬9) قال الشّيخ أبو عمر (¬10): "هو حديثٌ ¬
متَّصِلٌ محفوظٌ من حديث أبي هريرة (¬1)، وجابر بن عبد الله (¬2)، وأبي سعيدٍ (¬3)، مِن طُرُقٍ صِحَاحٍ، ويُرْوَى: "مَثلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ" (¬4). ففيه من الفقه: أنّ الصَّلوات الخمس تُرْفَعُ بها الدّرجاتُ وتُمحَى بها السيِّئاتُ" (¬5). هذا إذا كانت على الكم الّذي إِتمَامِ الرُّكوع والسّجود، واستكمال الطّهارة. وأمّا إنّ كانت في جماعة، فهو أفضل وأكمل. قال سَهْل بن عبد الله التُّسْتَرِيّ: مَنْ صلَّى الصّلوات الخمس في جماعةٍ دَخَلَت عليه العبادة من غيرِ أنّ يدعيها. الفائدةُ الرّابعة (¬6): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "كَمَثلِ نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ" قال علماؤنا (¬7): وإنّما خصَّ العَذْبَ لأنّه أبلغ في الانقاءِ والنَّهْرُ الغَمْرُ هو الكثيرُ الماءِ. وقال بعضُ الأَشياخِ (¬8): هذا مَثلٌ ضرَبَهُ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للمُصَلِّي يُخْبِرُ بأنَّ صلاتَه تكفِّرُ عنه سيِّأَتِهِ، فهو محمولٌ عندنا على اجتناب الكبائر. الفائدة الخامسة (¬9): قوله: "بِبَابِ أَحَدِكُمْ" يريد بقُرْبِ موضعه منه، فإنه لا يتكلَّف فيه طول مسافة. "فَيقتَحِمُ فيه كلَّ يومٍ خَمسَ مرّاتٍ" يريد بذلك عدد الصّلوات، وهذا يدلُّ على نَفْيِ وُجُوبِ غيرها. ¬
الفائدة السّادسة (¬1): قولُه: "فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِن دَرنِهِ " الدَّرَنُ: الوَسَخُ. ومعنى ذلك التّقرير وإن كان بلفظ الاسْتِفْهام. وإذا كان هذا حكم الصّلاة، فإنّها (¬2) لا تُبْقِي ذَنبًا إلّا كفَّرته، فما علمكم أينَ بلغت بالثّاني صلاته مدّة حياته بعد أخيه؟ حديث مالك (¬3)، عن عَطَاء بن يَسَار، كان إذا مَرَّ عليه بعضُ مَنْ يَبِيعُ في المسجدِ، دَعَاهُ فسأَلَهُ مَا مَعَكَ؟ وما تريدُ؛ فإنْ أخبرَهُ أنّه يريدُ أنّ يبيعَ قال: عليك بسُوقِ الدُّنيا، فإنّما هذا سوقُ الآخرةِ. الإسناد: فهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ (¬4)، خرّجه الأيمّة: البخاريّ (¬5)، والتّرمذيّ (¬6) وغيرهما (¬7)، ورواه أبو داود (¬8) عن أبي هريرة حَسَنًا مثله، قال: إنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَمعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضالَّة في المسجدِ فليقُل: لا رَدَّهَا اللهُ إليكَ؛ فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لهذا". ومن غير طريق أبي داود، عن أبي هريرة؟ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "من رأيتم يبيع أو يبتاع في المسجدِ فقولوا: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارتَكَ" (¬9). وحديثُ مالكٍ في هذا الباب أحسن شيءٍ؛ لأنّ (¬10) عطاء بن يَسَار كان فاضلًا واعظًا من جُمْلَةِ أهل العلمِ، وَرَوَى عنه الثِّقات (¬11). ¬
الفقه والفوائد في مسائل (¬1): المسألة الأولى (¬2): اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من كرهه، ومنهم من رخَّصَ فيه. وقد أجمعَ العلماءُ على أنّ ما عُقِدَ من البَيْعِ في المسجد أنّه لا يجوز نَقْضُه، إلَّا أنَّ المسجد ينبغي أنّ يجتنب من جميع أمور الدُّنيا، ولذلك بَنَى عمر البطحاءَ خارج المسجدِ، وقال: منْ أرادَ أنّ يَلْغَطَ فَلْيَخْرُجْ إليها (¬3)، فوَجبَ تنزيه المسجد عمّا لم يكن من أمورِ الله تعالى. وهذا مبنيٌ على قوله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ} الآية (¬4)، وهي (¬5) أعمال البرَّ كلها الزّكية (¬6)، ولا عملَ أفضل من الصّلاة وانتظارها، ولزوم المساجد من أجلها. المسألة الثّانية: فيه من الفقه: حرمة المسجدِ، وأنّه إنّما وُضِعَ للعبادة كما قدّمناه، فلا يجوز فيه غير هذا. وفيه من الفقه (¬7): أنّ ذلك الزّمان كان فيه من عَوَامِّ أَهْلِهِ مَنْ يبيعُ ويَشْتَرِي في المسجد، ولكنّه كان فيه من يُنْكِرُ ذلك، وكان عطاءُ منهم، ولا يزال النَّاسُ بخيرِ ما أنكروا المُنْكَرَ بينهم، فإن تَوَاطَؤُا عليه ولم بنكروه هَلَكُوا. وسيأتي بيانُه في موضعه - إنّ شاء الله- وصفة الاحتساب والمُحْتَسب عليه بأَبْدَع بيانٍ. المسألة الثّالثة (¬8): أمّا التَّقَاضِي والمُلاَزَمَة في المسجد، فإنَّ البخاريَّ (¬9) ذَكَرَ فيه عن كعب ابن مالك؛ أنّه كان يَتَقَاضَى من ابن أبي حَدْرَدٍ دَيْنًا كان له عليه في المسجد، فارتفعتْ ¬
أصواتُهُمَا حتَّى سَمِعَها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخَرَجَ إليهما حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فنادى: "يا كَعْبُ " قال: لَبَّيْكَ يا رسولَ الله، قال: "ضَعْ مِنْ دَيْنكَ هذا" (¬1)، وأَوْمَأَ إليه، أي الشَّطْرَ. قال: قد فعلتُ يا رسولَ الله، قال: "قُمْ فَاقضِهِ". الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ستّ فوائد (¬2): الفائدةُ الأولى: فيه من الفقه: المُخَاطَبةُ (¬3) في المسجدِ في الحقوقِ والمطالبة بالدّيون، وقال مالكٌ: لا بَأْسَ أنّ يقضي الرَّجلُ الرّجلَ فيه دَيْنًا (¬4). فأمّا بمعنى التِّجارة والصَّرْف فيه، فلا أُحبُّه (¬5). الفائدةُ الثّانية: فيه من الفقه: الحضُّ على الوضع عن المُعْسِرِ. الفائدةُ الثّالثة: فيه: القضاءُ بالصُّلح (¬6) إذا رآه السّلطان صَلاحًا، ولم يشاوِر الموضوع عنه إنّ كان يقبل الوضعيّة (¬7) أم لا؟ الفائدةُ الرّابعة: فيه: الحُكمُ عليه بالصّلح (6) إذا كان فيه رُشْدٌ وصَلَاحٌ، لقوله: "قُمْ فَاقْضِهِ". الفائدةُ الخامسة: فيه: الملازمةُ في الاقتضاء. ¬
الفائدةُ السادسة: فيه: إنكارُ رفعِ الصَّوتِ في المسجد بغير القراءة، إلَّا أنّه -عليه السّلام- لم يعنفهما على ذلك، لما كان منهما ما لابدّ لهما منه. تركيب (¬1): قال مالك في السؤال الّذين يسألون النّاس في المسجد: أرى أنّ ينهوا عن ذلك. مسألة (¬2): وأمّا الكتابة في المسجد، ففي "المجموعة" عن مالكٌ (¬3) في ذِكْر الحقِّ يُكْتَبُ في المسجدِ، قال: أمّا الشّيءُ الخفيفُ فَنَعَم، وأمّا ما يَطُولُ فلا احبُّه، ولم أَرَ به بَأْسًا في كُتَّابِ المُصْحَفِ في المسجد. وقد كره سحنون تعليم الصِّبيان في المسجد، وإنّما كره ذلك لقلّة تَوَقِّيهِمْ. وأمّا الرَّجُل المُتَوَفِّي والذي يصونُ المسجدَ ويكتبُ المُصْحَفَ، فظاهره الجواز وإن كان منعه سحنون؛ لأنّه عملٌ ظاهرٌ على صورة الصَّنائِع (¬4)، فيلزم على هذا منع كتابة المصحف فيه (¬5). قال الإمام (¬6): والذي عندي جواز كتابة المُصْحَف فيه وغير ذلك من العلم النّافع للآخرة، واللهُ أعلمُ. مسألة (¬7): وأمّا الخياطة وغيرها من الأعمال الظاهرة الّتي لا تتعلَّق بالقُرَبِ، فقد قال ¬
سحنون: لا يجلس فيه للخياطة، ويلزم أنّ تكون سائر الأعمال الّتي تُشْبِه الخياطة على ذلك. مسألة (¬1): وأمّا الأكل في المسجد، ففي "المبسوط": كان (¬2) مالك يكره أكل الأطعمة (¬3) مثل اللّحم ونحوه في المسجد. زادَ ابنُ القاسم في"العُتْبِيّة" (¬4): أو رحابه. وأمّا الصّائمُ يأتيه من داره السَّوِيق ونحوه، فقال ابنُ القاسم (¬5): الطّعام الخَفيفُ لابَأْس به. وروى ابن نافع في "المجموعة" في القوم يفطرون في المسجد على كَعْك وتَمْرٍ منزوع النَّوَى، ثم يخرجون ويتمضمضون، قال: أرجو أنّ يكونَ خفيفًا. وقال ابنُ القاسم في "العُتْبِيّة" (¬6): وأرخصَ للبعيد الدَّارِ أنّ يأتيه فيه طعام (¬7). وقال ابن زياد عن مالكٌ: والمعتكِفُ والمضطرّ (¬8) والمجتازُ. قال ابن القاسم (¬9): وكذلك المساجد تُتَخَّذُ في القُرَى للأضيَافِ يبيتُونَ ويأكلون فيها. فاتّفقت أقوالهم على المنع على وجه الإكثار وإحضار الكثير من الطّعام، والغِنَى عن (¬10) ذلك، ويجوز (¬11) في الشَّيءِ اليسير كشرب الماء والسَّوِيقِ بغير عُذرٍ، وتجويزه في المتوسِّط مع الحاجة إلى ذلك، وكره (¬12) مع عدم الحاجة. مسألة (¬13): ¬
وأمّا المبيت في المسجد، فجوَّزَ مالكٌ للغُرَبَاء دون الحاضر، قال ابنُ القاسم في "العُتْبِيَّة" (¬1): لا بأس بذلك للحاضِرِ الضَّيف (¬2) دون من له منزل. وجوّز مالكٌ التَّعزير في المسجد الأسواط اليسيرة، دون ما كثر من الضَّرْبِ وإقامة الحدود، واللهُ أعلمُ. مسألة (¬3): وأمّا الجلوسُ في المسجد لما لا لَغْوَ فيه من إلحديث مِنْ غير رَفْعِ الصَّوت، فلا بأس به. قال مالكٌ في "العُتْبيّة" (¬4): وقد كان عمر يجلس في المسجد ويجلس إليه رجالٌ، فيحدِّثهم عن الأخبارَ، ويحدّثونه بالأحاديث، ولا يقولون كيف تقول، كما يصنع أهل الزّمان هذا. وإنّما (¬5) منعَ الكلامُ في مساجدنا اليوم من أجلِ أنّ يَقَعَ في النّاس، واللهُ أعلمُ. حديث مالك (¬6)؟ أنَّه بَلَغَهُ أنّ عمر بَنَى رَحْبَةً في المسجدِ (¬7) تُسَمَّى البُطَيْحَاءَ، وقال: من كان يريدُ أنّ يَلْغَطَ، وينْشدَ شِعْرًا، فَلْيَخرُجْ إلى هذه الرَّحْبَةِ. الإسناد (¬8): قال الإمام: وهذا الخبر عند القَعْنَبِىّ (¬9) ومُطَرِّف وأبي (¬10) مصعب (¬11)، عن مالكٌ، عن أبي النَّضر، عن سالم بن عبد الله؛ أنّ عمر بن الخطّاب بَنَى رَحْبَةً تُسَمَّى البُطَيْحَاء، ورواهُ (¬12) طائفةٌ كما رواه يحيى. ¬
وقد عارضَ بعضُ التاسِ هذا الخبر بحديثِ أبى هريرة؛ أنّ حسّان كان لما أَنْكَرَ عليه عمر إنشاده الشِّعْرَ في المسجد، قال: قد كنتُ أُنْشِدُ فيه وفيه مَنْ هُوَ خيرٌ منكَ، فسكتَ عمرُ (¬1). ووقع في البخاريّ (¬2) عن أبي سَلَمَةَ؛ أنّه سَمعَ حسَّانَ بنَ ثَابِتِ يَسْتشَهِدُ أبَا هُريرةَ: أَنْشُدُكَ اللهَ، هل سَمِعْتَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عن رسول الله، اللَّهُمَّ أَيّدْهُ بِرُوح القُدُسِ " قال أبو هريرة: نَعَمْ. قال الإمام (¬3): ليس في حديث هذا الباب أنّ حسّان أنشدَ شِعْرًا في المسجد بحَضْرَةِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، والظَّاهرُ أنّه كان ذلك في المسجدِ وأنّه أنشدَ فيه ما جاوبَ به المشِركينَ. الفقه في ثلاث مسائل (¬4): المسألة الأرلى: اختلف العلماء في إنشادِ الشِّعْر في المسجد، فاجازه طائفة إذا كان الشِّعْرُ ممّا لا بأس به (¬5)، وإذا كان فيه حِكْمَة، أو فيه ذِكر فخر النَّبيِّ (¬6) والصّحابة، فذلك جائزٌ لا خلافَ فيه؛ لأنّ الشِّعْرَ إنّما هو كلامٌ موزونٌ، فَحَسَنُهُ حَسَنٌ، وقبيحُه قبيحٌ. أمّا الحَسَنُ فجائزٌ لما قدمناه، ولما رَوَى عبد الملك بن حبيب، قال: رأيتُ ابن الماجِشُون ومحمد بن سلام يُنْشِدَانِ فيه الشِّعْرَ ويَذْكُران أيّام العَرَب. المسألة الثّانية: وأمّا ما كان قبيحًا ممّا لا حِكْمَةَ فيه ولا عِلْمَ، فينبغي أنّ يُنَزَّهَ المسجدُ عن ¬
باب جامع الترغيب في الصلاة
إنشادِهِ فيه. وأمّا الّذين منعوا ذلك ولم يُجَوِّزُوهُ، فاحتجُّوا بحديث رواه اللَّيث، عن ابنِ عَجلاَنَ، عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدَّه؛ أنَ النّبيّ صلّى الله عليه كره (¬1) إنشاد الشِّعْر في المسجد، وأن يُبَاعَ فيه أو يشترَى. ذكره أبو داود (¬2) وغيره (¬3). وحُجَّةُ أهل المقالةِ الأُولى أقوى لما روى البخاريّ وغيره بالجواز في ذلك (¬4). باب جامع التّرغيب في الصّلاة مالك (¬5)، عن عَمِّهِ أبي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِيهِ؛ أنَّهُ سَمْعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ الله، يقولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى- رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْ أَهلِ نَجْدٍ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ (¬6) مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنٍ الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ في الْيَوْم وَاللَّيْلَةِ". قَالَ: هَل عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أنّ تَطَّوَّعَ". قَالَ: * "وصيامُ شهر رمضانَ" قال: هل علىَّ غَيْرُهُ؟ قال: "لا" إلا أنّ تَطَّوَّعَ" قال* (¬7): وَذَكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَل عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وهُوَ تقُولُ: وَاللهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ إِن صَدَقَ". التّرجمة: قال الإمام ابن العربي: انظروا إلى فقه مالكٌ - رحمه الله - إنه ذَكَرَ "جَامِعَ التَّرغِيبِ" فإنَّه أراد بهذا الصّلاة وغيرها، ولم يذكر فيه إلَّا الصّلاة لما ذكر "جامع التَّرغيب " وإنَّما ذكره لقوله: هَل عَلَيَّ غَيرَهُنَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: "لَا إِلَّا أنّ تَطَّوَّعَ" فأراد أنّ ¬
يُبَيِّنَ أنّ فيه دليلًا على أنّ النّافلة تلزم بالشُّروع فيها، وحَعَلَهُ استثناءً من الجِنْس، وجعلَهُ الشّافعيّ استثناءً منقطعًا. الإسناد: قال الإمام: هذا الحديثُ صحيح مُتَّفَقٌ عليه، خرّجه الأيمّة، أمّا البخاريّ فخرّجه في خمسة (¬1) مواضع: في الإيمان (¬2)، والصّوم (¬3)، والحجّ (¬4)، والشّهادات (¬5). وروي هذا الحديث عن مالكٌ وإسماعيل بن جعفر المدَنىّ، عن أبي سُهَيْل نفسه -وهو عمّ مالكٌ بن أنس- فزادَ فيه: " أَفلَحَ وَأَبيهِ إِنْ صَدَقَ" (¬6). وقد رُوِيَ في نُسخَةٍ مشرقيَّةٍ بثَغْرِ الإسكندريّة: "أَفْلَحَ وَاللهِ إنّ صَدَقَ" وكلمة "وَأَبِيهِ" تقربُ أنّ تُصَحَّف بقوله "وَاللهِ" لأنّ جميع الرُّواة في الصّحيح اتفقوا على قوله: "وَأَبيهِ" والله أعلمُ. ورُوِيَ أيضًا عن مالكٌ؟ أنّه كان على ناقةٍ فأنَاخَها، ونهضَ النَّبيُّ- صلّى الله عليه وسلم - وكان كلامُه مِن بعد، ومن ذلك في الّذي الحديث: "وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ" لبُعْدِه، والله أعلمُ. وفي بعض طُرُقِهِ: "لَا نَفْقَهُ" و"لا يُفْقَه" بالياء والنون، قُيِّدَ فيه. وليس لطلحة بن عُبَيْدِ الله (¬7) في "الموطَّأ" غير هذا الحديث. ولم تكن (¬8) فريضة الحجِّ قد نزلت (¬9) في ذلك الوقت؛ لأنّ الإسلام بُنِيَ على خمس، كما في الحديث (¬10). ¬
ورُوِيَ عن أبي طَلْحَة؛ أنّ أعرابيًّا جاء إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الحديث (¬1). قال الشّيخ أبو عمر (¬2): " هذا الأعرابيُّ النَّجْدِيُّ هو ضِمَام بن ثَعْلَبَة السَّعْدِيّ، من بني سَعْد بن بَكْر، روى حديثه ابن عبّاس (¬3)، وأبو هريرة (¬4)، أكمل من حديث طَلْحَة هذا، وفيه (¬5) ذِكْر شرائع الإسلام، وشرائع الإسلام فيها الحجّ لا شكَّ فيه". العربية: وفيه ستّة ألفاظٍ: الأوّل: قوله: "ثَائِرُ الرَّأسِ" يريد: منتفش الشَّعر مرتفعه؛ لأنّه لم يسرِّحه بمشطٍ ولا دَهَنَهُ بدهنٍ. الثّاني: "الفقه" و"اللهم" و"العلم" ألفاظٌ متقاربةٌ، والفقهُ والفهمُ أخوان، كما أنّ العلم والمعرفة جاران، يقال: فَقِه يفقه بكسر القاف إذا فهم، وبضمِّها إذا صار فقيهًا، وهو الثّالث. الرّابع: قوله: "في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" اختلفَ العلماءُ فيه: فمنهم من قال: إنّ اليوم عبارة عن اللَّيل والنَّهارِ. ومنهم من قال: اليومُ عبارة في الصّوم عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، والنّهارُ عبارة عمّا تصحب (¬6) الشّمس من الزَّوال، والبحثُ عنه في اللُّغة قليل الجَدْوَى، فأمّا الشّريعة فقد استقرّت على أنّ اليوم عبارة في الصّوم عمّا بين طُلوع الفجر إلى غروب الشّمس، وما وراء ذلك لا يتعلّق به حُكم، إلَّا في باب اليمين، لو حلفَ ألَّا يأكل هذا اليوم كذا أو يوم كذا، أو لا يدخل داره يوم كذا أو يوم كذا، فإن كانت له نيّة فله ما نَوَى، وإن لم تكن له نيّة وكان بينهم عرف أو بساط حُمِلَ عليه، فإن عُدِمَ ذلك حُمِلَ على عُرْفِ الشَّرْعِ في الصَّوم. وقد تطلق العرب اليوم (¬7) على النّهار واللّيل معًا، وقد تطلق اللّيل على النهار ¬
واللّيل معًا، فتقول: سرتُ ثلاثين ليلة، تريد بنهارها. وقال أنس: "صُمنَا مَعَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - خَمْسًا" (¬1) معناه: أيّامًا، والقولُ فيه طويلٌ، وهذا القَدْرُ فيه كافٍ للَّبِيبِ. الخامس: قوله: "إِلاَّ أنّ تَطَّوَّعَ" يريد: تتنفَّل من الطّاعة، والطّاعةُ متعلّق الأمر، وهذا يدلُّ على أنّ المندوب مأمور به، وهي مسألة أصوليّة بيانُها في موضعها. السّادس: قوله: "أَفْلَحَ" الفلاحُ عند العرب هو البقاء؛ لأنَّ الصّلاةَ لمّا كانت هي الّتي تُوَرِّثُ بقاءَ للأَبَدِ، سُمِّيت به من باب تسمية الشّيء باسم فائدته، وهو أحد قسمي المجاز الّذي لا ثالثَ لهما. الأصول. فيه ثلاث مسائل: المسألةُ الأولى: سكوتُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لهذا الأعرابىّ عن ذِكْرِ التّوحيد؛ لأنّه فهم منه قَبُوله والاعتقاد به (¬2) حين سأله عن شرائعه، ولو كان ابتداء التّعليم (¬3) لبَدَأَهُ بالمبادىء والأوائل كما فعل بغيره - صلّى الله عليه وسلم -. المسألةُ الثّانية: أراد بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "الإسْلَام" الدِّين ها هنا، وهي جُمْلَةُ الطّاعات الّتي شهِدَ الله تبارك وتعالى أنّها الدِّين. و"الإسلام" على قراءة من فتح الهمزة والّتي أخبر على قراءة من كسرها (¬4)، وهو المراد بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬5) يعني: شرائع الإسلام على أحد الأقوال. المسألة الثّالثة: كان هذا الأعرابى قد عرف الصّلاةَ ولم يعرف الوُجُوب، وكذلك سائر الأركان الّتي ذكر له أو سمعها واعتقد وُجُوبها ولم يعلم الكيفيّة، فأرجا له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بيان الكيفيّة إلى وقت الحاجة، فإذ حَلَّ لم يعدم معلِّمًا. ¬
وقال علماؤنا (¬1): "إنّما ذكر له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - خمس صلوات لأنّها عُمْدَة الدِّين ولم يذكر الإيمان ولا إظهار الشّهادتين؛ لأنّ السائل قد كان آمن بذلك كلِّه". قال الإمام أبو بكر بن العربي: وفي قوله: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ" إنّما اقتصر له على الفريضة دون النّوافل؛ لأنّ الفريضة رأس المال والنّافلة ربْحٌ، ولا يَصُون رأس المال عن العارض إلّا الرِّبْح. وقال بعض الأشياخ (¬2): إنّما قال له ذلك لأنّه كان أوّل الإسلام، فأراد أنّ يطمئن فؤاده عليها، وبعد ذلك يفعل ما سواها بما يظهر من ترغيب الإسلام. ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثماني عشرة فائدة: الفائدة الأولى: فيه مشطُ الشَّعرِ وتسريحُهُ، ويأتي بيانُه في كتاب الجامع إنّ شاء الله. الفائدة الثّانية: فيه احتمالُ رَفْعٍ الصَّوتِ من الأعرابي الجافي، عَلَمَّهُ حُسْن الأدب حينَ (¬3) لم يسمع قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} (¬4). الفائدة الثّالثة: فيه: قُرْبُ طلحة من النّبيّ عليه السّلام ودُنُوَّ مَجْلِسِه منه، وَلِمَ لَا وهو أمينُه على أَهْلِهِ وقد وقاهُ بنفسه. الفائدة الرّابعة: سمعت بعض أشياخي يقول: النَّهيُ عن الجَهْرِ بالقَوْلِ إنّما هو في غير (¬5) السُّؤال عن الدِّين، وفيما لا يلزم البحث عنه (¬6) من الشّرائع. ¬
الفائدة الخامسة: قال علماؤنا: هذا كان قبل نزول قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} (¬1) فإن السّائلَ سَأَلَ في أوَّلِ الهجرةِ، وهذه الآية نزلت في آخر الإسلام وعند قُدوم الرَّسُول (¬2). الفائدةُ السّادسة: قال علماؤنا: فيه سقوط صلاةِ العيد أيضًا (¬3)، وقد تقدّم بيانُه في باب الوتر. الفائدة السّابعة: فيه أيضًا: سقوطُ الوِتْرِ، فإن النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يبيِّنه له، ولو كان واجبًا كما أَوْجَبَهُ أبو حنيفة لبَيَّنَهُ النّبيّ (¬4) له (¬5). الفائدة الثّامنة: ذِكْرُ الحَجِّ في حديث هذا السائل مختلَفٌ فيه؛ لأنّه قيل: إنّما سَكَتَ له عن الحَجِّ؛ لأنّه لم ينزل فَرْض الحَجِّ، ولأنّه قيل أيضًا: إنه فُرِضَ عامَّ سبع. وقيل: عام تسع، على ما نُبَيِّنُه في كتاب الحجّ إنّ شاء الله. الفائدة التّاسعة: ذَكَرَ له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - خمس صلوات، وذلك نصٌّ فيها، والأعداد نصوصٌ عند من يُثْبِت النَّصّ، وإثباتُه هو الصّحيحُ. وإذا كان نصًّا، نَشَأَ ها هنا سؤالٌ، وهو قول السّائل: "هَلْ عَلَىَّ غَيرُهُنَّ" ولو كان ذِكرُهُ للعدد نَصًّا، لَمَا كَرَّرَ السُّؤال والبحث في تحقيق نَفْي الزِّيادة عليها والنُّقصان منها. قال علماؤنا: إنّما فعل الأعرابيُّ ذلك تأكيدًا، وقد كان التّأكيد عندهم فيما يحقِّقونه شائعًا (¬6) مُقَيَّدًا، وعليه ينطلق قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬7) على أحَدِ التّأويلات العشرة. ¬
الفائدة العاشرة: قال علماؤنا: في هذا الحديث دليل على وجوب التَّطَوُّع إذا شُرِعَ فيه؛ لأنّه استثناءٌ من الوَاجِبِ، فيقتضي استثناؤُهُ أنّ يكون من جِنْسِهِ على حُكمِ الاستثناءِ وقد اختلفَ العلماءُ في ذلك، وبيانُه في موضعه إنّ شاء الله. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في مثل هذا النّوع من الاستثناء؛ كنتُ يومًا بالمسجد الأقصى - طَهرَهُ اللهُ- فجاءَ رجلٌ، فسأل عن حالف قال: امرأتي طالقٌ إنّ أَكَلَت من طعامكَ إلَّا هذا الرّغيف، ثمّ تركه ولم يأكله. فاختلفَ المفتونَ في ذلك: فمنهم من قال: يحنثُ، لقوله عليه السّلام للأعرابي: "إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" فهذا تطوَّع لزمه. ومنهم من قال: إنّ قوله عليه السّلام: "إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" لا يلزم، فلم يلزمه حنثٌ. والّذي عندي أنّه لا يلزمه أكل الرّغيف؛ لأنّ ما بعده مرتبطٌ بما قَبْلَهُ، ولم يكن الأكلُ واجبًا حتّى يكون أكل الرّغيفِ المُسْتَثْنَى واجبًا، إنّما كان الأكل مباحًا، فيمينُهُ حَرَّمَ على نفسه الأكل، إلَّا هذا الرّغيف فإنّه أَبْقَاهُ على الإباحة، فإن شاء أَكَلَهُ وإن شاء تَرَكَهُ. الفائدة الحادية عشرة: قال علماؤنا: في هذا الحديث دليل على فَرْضِ صلاة الجمعة، فلو كانتِ الجمعةُ نَفْلًا لوجبت صلاة الظُّهْر. الفائدة الثّانية عشرة: في هذا الحديث: دليلٌ على أنّ الجمعة بَدَلٌ من الظّهر، وقد اختلف النّاس في البَدَلِ منها، والأصلُ ما هو اختلاف متباينٌ (¬1). بيانُه في كتاب الجمعة. والصّحيحُ عندي أنّ الظُّهرَ أصلٌ والجمعةَ بَدَلٌ، ويُرَكَّبُ على هذا فرعٌ وهو: إذا صلّى الظُّهْرَ بنيَّةِ الجمعة، والجمعةَ بنيَّةِ الظّهر، اختلف علماؤنا في تفصيله، وأرادوا أنّ يُخرِجُوه على هذا الأصل وليس له به تعلُّق، على ما بَيَّنَاهُ في كتاب الجمعة. الفائدة الثّالثة عشرة: بدأ له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بصيام رمضان قبل الزَّكاةِ، والزَّكاةُ أَوْجَب من رمضان في مشهور الأقوال بِفعْلِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - جعلَ ذلك؛ لأنّ رمضان يلزم كلّ أحَدٍ، والزّكاة إلَّا من له ¬
مالٌ، فبدأَ بالعامّ الفريضة قبل الخاصّ تَارَةً، وبدأَ في موضع آخر بآكد منها مراعاةً للرُّتْبة. الفائدة الرّابعة عشرة: ذكر النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الزّكاةَ، ولا خلاف بين الأُمَّة في وُجُوبِها، ورضوانُ الله على من مَهَّدَهَا حين كادت أنّ تَخِرَّ دعائهما، وقال: "لأَقْتُلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَلَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - لَقَاتَلتُهُمْ عَلَيْهِ" (¬1). الفائدة الخامسة عشرة: ذَكَرَ له الزَّكاة مُجمَلًا؛ لأنّ اعتقاد وُجُوبِها على كلِّ مسلم، وترك له البيان إلى وَقْتِ الحاجة كما سبقَ، وكذلك فَعَلَ في الصّوم. الفائدة السّادسة عشرة: قولُه: "وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ" قَيَّدْنَا فيه عن علمائنا أربع تأويلات: الأوّل - يعني: لا أزيد على اعتقاد وجوبها اعتقاد وجوب سواه. التّأويل الثّاني - يعني: لا أزيد على إبلاغَ قَوْمِي ما سمعتُ منكَ. التّأويل الثّالث: لا أزيد عليه فِعْلا وَاجِبًا، وإن تطوَّعت فتطوَّعًا أُنْزِلُ الواجبَ واجبًا والتّطوَّعُ تَطَوَّعًا. التّأويل الرّابع: ظن ظانُونَ أنّه حلفَ ألّا يتطوَّع بخيرٍ، وإنّما حملهم على ذلك ما رواه ابن جعفر المَدَنِي (¬2) صاحب مالك في هذا الحديث؛ أنّه قال: "والَّذِي أَكْرَمَكَ بالحَقِّ لَا أَتَطَوَّعُ شَيئًا وَلاَ أَنْقُصُ مِنَ الْفَرْضِ" (¬3) وروايةُ مالك أصحّ، على أنَّه يحتمل أَن يكون النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قَبِلَ ذلك منه؛ لأنّه كان في ابتداءِ الاسلامِ (¬4). الفائدة السّابعة (¬5) عشرة: قوله: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" (¬6) ما كان يكون أرفع للشَّغبِ لو كان: "أَفْلَحَ وَاللهِ" كما رُوِيَ في تلك النُّسْخَة، وكان يَجِىءُ مطابقًا لقول السّائل: "لَا أَزِيدُ" لكنّ ¬
الأَيِمَّة قد قَيَّدُوا فيه ما قَيَّدُوا، ونَقَلُوا ما نَقَلُوا. وفي حلفِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ها هنا، فيه للعلماء خمسة أقوال، وفيه اعتراض. فإن قيل: كيف قال: "وَأَبِيهِ" وقد قال: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" (¬1)؟ قلنا: إنّ قولَه: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ" منسوخٌ بقوله: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ". وقيل فيه على وجه الجمع بينهما: إنه أراد بالنَّهيِ عن اليمين بالآباء الحلف في مقطع الحقِّ. وجواب آخر - قلنا: ليس هذا بتعارضِ؛ لأنّ القولَ والفعلَ من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يتعارضان، فالقولُ محمولٌ على عُمُومِه، والفعلُ مخصوصٌ بِهِ، ألَّا ترى إلى قوله: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِف بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬2) ثمَّ أقسمَ اللهُ بالسَّموات والأرض والسَّحاب والرِّياح والسُّفن، ولم يكن ذلك معارضة. جوابٌ ثالثٌ - قيل: إنّ ذلك كان في صدر الإسلام؛ لأنّ نفوسَهُم كانت مملوءة بتعظيم غير الله، فنهوا أنّ يعظِّموا غيرَهُ، فلمَّا امتلأت صدورهم من تعظيم الله، وتَيقَّنوا أنّه لا عظيم سِوَاهُ، رخّص لهم في (¬3) سائر الألسنة على الإقسام بما شاؤوا من الكلام، ما لم يكن ذلك من قَبيل الأصنام. جوابٌ رابعٌ- قيل: إنّما جَرَى ذلك في اللِّسان على غير قصد القَسَم، ألَّا ترى إلى قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}. الآية (¬4)، قالت عائشة رضي الله عنها: هُوَ قَوْلُكَ: أَيْ وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ (¬5). وإنّما كلامه إذا لم يقصد بها اليمين، ورأت أنّها لا تكون يمينًا إلَّا مع القَصْدِ إلى ذلك. وعَظَّم مالك حرمة اللَّفْظِ، ورأى أنّ ذلك يمينٌ بمجرَّدِ القَصْدِ إلى (¬6) الذِّكْر. عُدْنَا إلى سَرْدِ أقوال العلماء في الخمسة الأقوال المرويّة عنهم. فالأوّلُ: أنّه منسوخٌ بقوله: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ"- كما تقدَّمَ ذِكْرُهُ ¬
- وقال عمر: وَاللهِ مَا حَلِفتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا (¬1). الثّاني: أنّ النّبيَّ عليه السّلام جَرَى ذلك على لسانه على عادةٍ، كَلَغْوِ اليمين المَعفُوِّ عنه. قال الإمام: وهذا عندي لا يجوز على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والنَّبيُّ (¬2) كان أعظم قَدْرًا وأكثر معرفة من أنّ يجري على لسانه ذِكْر غير الله لَغْوًا، لا سيَّما وهو معصومٌ قولًا بالإجماع في العموم والخصوص. الثّالث - أنّ المعنى فيه: أفلح وربّ أبيه. الرّابع - قال بعض العلماء: ذلك جائزٌ عادةً، وإنّما نَهَى النّبيُّ (6) عن الحَلْفِ بالآباء على طريق التَّأكيد للخبر والتّعظيم للمُقْسَمِ به. الخامس: أنّ النّهي عن الحَلْفِ بالآباء إنّما هو في مقطع الحقوق. تكملة (¬3): قوله: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" قال علماؤنا (¬4): أمّا الصِّدق فاستعماله في الخبر عن المستقبل، وقد قال ابن قُتَيْبَة (¬5): إنّ الكَذِبَ في مخالفة الخبر عن (¬6) الماضي، والخُلْفُ في مخالفته في (¬7) المستقبل، ويجب أنّ يكون على هذا الصِّدق في الخبر الماضي، والوفاء في الخبر المستقل. وهذا الحديث دليلٌ على ذلك، وبالله التّوفيق. حديث مالك (¬8)، عَن أَبِي الزِّنَادِ، عَن الأعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يَعْقِدُ الشَّيطَانُ عَلى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ، إِذَا هُوَ نَامَ، ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضرِبُ مَكانَ كُلِّ عُقدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ، فَإِنِ استَيَقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقدَةٌ، فَإن صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُةُ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا، طَيَّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ". ¬
الإسناد: قال الإمام: هذا الحديثُ صحيح متَّفّقٌ عليه (¬1). الأصول (¬2): قال علماؤنا (¬3): قوله: "يَعْقِدُ الشَّيطَانُ" هذا العقد يحتمل أنّ يكون المعنى (¬4) السِّحر للإنسان والمنع له من القيام إلى الصّلاة، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (¬5). وقوله: "إِذَا هُوَ نَامَ" كان ظاهره أنّ عَقْدَهُ إنّما يكون عند النّوم. وفيه (¬6): وجودُ الشّيطان (¬7)، وأنّهم يفعلون أشياء تضرُّ بالإنسان. العربية (¬8): قال صاحبُ "العين" (¬9) القافية: مُؤَخَّرُ الرَّأسِ (¬10). وقال أيضًا: "وهو القفا، وقافيةُ كلِّ شيءٍ آخره، ومنه سمّيت قافيةُ البيت (¬11) "، ومنه قيل في أسماء النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: المُقَفَّى؛ لأنّه آخر الأنبياء (¬12). الفوائدُ المنثورةُ في هذا الحديث: وهي خمس: الفائدة الأولى (¬13): قولُه: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ" أمّا عَقْدُ الشيطانِ على قافية رأس ابنِ ¬
آدَم، فلا يُوصلُ إلى كيفيّة ذلك، وأظنُّه مجازًا كناية عن حَبْسِ الشّيطان وقِلَّةِ نشاطِ ابن آدم (¬1) عن القيام في آخرِ اللَّيلِ وعَمَلِ البرِّ. وقيل: إنها عُقَدُ السِّحْر، من قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} (¬2) كما تَقَدَّم ذِكرُ. الفائدة الثّانية (¬3): فيه دليلٌ على أنّ ذِكرَ الله عزَّ وجلَّ يُطرَدُ به الشّيطان، وكذلك الوُضُوء والصّلاة، لما فيهما (¬4) من ذكر الله تعالى، وطردُ الشّيطانِ بالتِّلاوة والذِّكْر، والأذان مجتمع عليه معلومٌ. كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّدُ ويقولُ: "اللَّهُمَ إِني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيطَانِ وَهَمْزِهِ وَنَفثِهِ وخَبْلِهِ" (¬5). قال عبد الملك (¬6): أمّا هَمزُه: فالخَبْطَةُ (¬7)، وأمّا نَفْثُهُ: فالسِّحْرُ، وأمّا خَبلُه: فالجُنون. الفائدة الثّالثة (¬8): قال أبو عمر (¬9): "يُرْوَى "عُقَدُهُ" ورُوِيَ " عُقدَةٌ" على لفظ الواحد. وقد زعم بعضى الشّارحين للحديث؛ أنّ معنى قوله: "أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ" معارضة (¬10) لما رُوِيَ عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - من حديث عائشة وغيرها: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسي، وَلْيَقُلْ: لَقِسَت نَفْسِي" (¬11). قال الإمام (¬12): وليس هذا بشيءٍ من المعارضةِ، وإنّما في حديث عائشة كراهية إضافة المرءِ إلى نفسه لفظة "الخُبْثِ"، كما رُوِي عنه أنّه سُئِلَ عن ¬
العقيقة (¬1) فقال: "لَا أُحِبُّ الْعقُوقَ" (¬2) وكأنّه كره الاسم". الفائدة الرّابعة (¬3): قوله: "فَيَنَامُ لَيْلًا طَوِيلًا" أمّا النّوم، فقد يكون آفة، وغير آفة، كما رُوِيَ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - انصرفَ من الصّلاة فلم ير عَلِيَّا، فأقبل إلى ابنته - رضي الله عنها - فألفاها نائمة معه، فَنَبَّهَهُ وأهله وعاتبهما، فقال عليٌّ: يا رسول الله، إنّما أَرْوَاحُنا بيَدِ الله إذَا نِمْنَا، يُرسِلُها اللهُ إذا شاء فانصرفَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو يقولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (¬4). وأمّا من كانت عادَتُه القيام إلى الصّلاة المكتوبة، أو إلى النّافلة (¬5) من اللّيل، فغلَبَهُ عنها (¬6) نومه، فقد جاء عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه يُكتَب له أجر صلاته، وكان نَوْمُهُ صَدَقَة عليه (¬7). وأمّا قول على: "وإِنَّمَا أَنْفسَنَا بيَدِ اللهِ" فهذا مطابقٌ لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية (¬8). ومعنى هذا الباب أنّه ندب على القيام آخر اللّيل، والذِّكر في الأسْحَار والاستغفار، فإنّ أحسن (¬9) أحواله أنّ يكون مستيقظًا عند الفَجْر، فيكون متأَهَبًا بالوُضُوء للصّلاة، والله أعلمُ. الفائدة الخامسة (¬10): قوله:"عَلَيْكَ لَيلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ" فيه تسويفٌ له بالقيام والإلباس عليه، فإنّ في بقيّةَ اللَّيلِ من الطُّولِ ما فيه فُسْحَة، واللهُ أعلمُ. والحمد لله ربِّ العالمين. ¬
كتاب صلاة العيدين والتجمل فيهما
كتاب صلاة العِيدَيْنِ والتَّجَمُل فيهما قال المؤلَّفُ: بَوَّبَ مالكٌ - رحمه الله - في صلاةِ العِيدَيْن سبعة أبواب: البابُ الأوّل العملُ في غُسْلِ العيدَيْن والنِّداءُ فيهما والإقامةُ التّرجمة: أشار مالكٌ في هذه التَّرجمة (¬1) أنَّ النِّداء والإقامة لم تُعْرَف بالمدينة، وأمّا في غيرها فقد عُرِفَ بها النِّداء والإقامة في العِيدِ (¬2)، فأراد أنّ يُظهِرَ أنّ الخلافَ في هذه المسألة. العرببة (¬3): قوله: "العيد" هو في العربيّة عبارة عن كلَّ شيءٍ يتكرّر لوقته، وهو يتكرّر فيه الفَرَح للمسلمين، فوجه المعنى فيه: أنّه اسم الفعل، من عادَ يعُودُ عَوْدَا، سمُّيَ به تفاؤلًا لأنّه يعودُ، كما سُمِّيَتِ القافلةُ في ابتداء خروجها إلى السَّفَرِ بذلك تفاؤلًا بعودتها، وهو يوم ينشرُ اللهُ فيه على العباد رحمته، ويُوَفِّيهم أجرهم، ويتقبّل فيه (¬4) طاعتهم، وقال أبو حاتم في "كتاب الزِّينَة" (¬5): "العيد* كلُّ يوم مجمع، وكذلك يقال لسائر الأعياد الّتي لغير أهل الإسلام. قال: واشتقاقه من عادَ يَعُودُ، كأنّه يوم كانوا اجتمعوا فيه، فإذا أتى كذلك مدّة عاد عليهم ذلك اليوم، فاجتمعوا وعادوا في مئل ذلك"* (¬6). ¬
الإسناد: قال الشّيخُ أبو عمر (¬1): "لم يذكر مالك في هذا الباب حديثًا مُسْنَدًا ولا مرفوعًا، وإنّما ذكرَ أنّه سمعَ غيرَ واحدٍ من علمائهم يقول: لم يكن في الفِطْر والأضحى نداءٌ ولا إقامةٌ على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال مالكٌ (¬2): "وتلْكَ السُّنَّة لَا خِلاَف فيها" (¬3) يعني عندهم في المدينة، وأمّا غيرها فالخلاف فيها لا يُلْتَفَتُ إليه. قال القاضي أبو الوليد (¬4): "هذا الحديث وإن لم يُسْنِدْه مالكٌ فإنّه يجري عنده مَجْرَى المتواتر من الأخبار، وهو أقوى من المُسْنَدِ؛ لأنّه سمع ذلك من غيرِ واحدٍ من علمائهم، ولا يقول ذلك إلَّا من سَمِعَهُ من عددٍ كثيرِ، والعلماءُ الّذين سمع ذلك منهم هم التابعون الّذين شاهَدُوا الصّحابة وصَلّوا معهم، وسمعوا منهم وحققوا ذلك وأثبتوه باتِّصالِ العمل إلى وقت إخبارهم به، ثمّ أكَّدَ مالك ذلك بقوله (¬5): وتلْكَ السُّنَّةُ الّتي لا خلافَ فيها عندنا". الفقه في خمس مسائل: المسألةُ الأولى (¬6): الغُسلُ للعِيدَيْن مستحبٌ عند جماعة العلماء بالمدينة، كان ابن عمر وابن المسيَّب وسالم بن عبد الله يغتسلون للعِيدَيْن. ويأمرونَ النّاس بالغُسْلِ، ورُوِيَ ذلك عن علماء الحجاز والعراق، منهم: علىّ وابن عبّاس، وجماعة من التّابعين: الحسن وغيره. ومنهم من كان أيضًا لا يغتسل كابن عمر وغيره، قال نافع: ما رأيتُ ابن عمر اغتسل قطّ للعيد (¬7). المسألة الثّانية (¬8): قال مالك: ولا أُوجِبُ غُسلَ العِيدِ كغُسْلِ يوم الجمعة. ¬
قال الإمام (¬1) - ووجه ذلك: الاتفاق على غُسْلِ الجمعة والاختلاف في غُسْلِ العِيدَين. المسألة الثَّالثة (¬2): قال مالكٌ: ويُستَحبُّ أنّ يكون غُسله متَّصِلًا بغُدُوَّهِ إلى الصّلاة (¬3). قال ابنُ حبيب: أفضل أوقات الغسل للعيد وقت صلاة العيد (¬4). قال مالكٌ في "المختصر": فَإِنِ اغتسلَ للعيدَيْن قبل الفجر فواسعٌ. المسألةُ الرّابعة (¬5): قوله: "ولا أذانَ فِيهِمَا ولا إقامَة" (¬6) لا خلافَ بين فقهاءِ الأمصارِ في أنّه لا أذَانَ فيهما (¬7) ولا إقامة في العِيدَين، ولا في شيء من الصّلوات المسنونات (¬8)، ولا في شيءٍ من النَّوافِلِ والتَّطوُّعُ، وهو الثاّبتُ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬9)، وعن ابن عبّاس؛ أنّه لم يكن يُؤَذذِن يوم الفِطْرِ ولا يوم الأضْحَى ولا يقام (¬10). المسألة الخامسة (¬11): قال في، "المختصر": ولا أذانَ في عيدٍ ولا في خُسُوفٍ ولا اسْتِسْقَاءٍ. قال الإمام (¬12): ودليلُنا على ذلك من جهة المعنى: أنّ الأذانَ والإقامةَ إنّما شُرِعَا للفرائض، وأمّا النّوافل فلا يؤذَّن لها (¬13) ولا يقام، وصلاةُ العِيدَئن نافلةٌ، فكان ¬
باب الأمر بالصلاة قبل الخطبة فيى العيدين
ذلك حكمها، وقد قال ابن حبيب (¬1): إنّ أوَّلَ من أحدثَ الأذان لها هشام. باب الأمر بالصَّلاة قبل الخُطبة فيى العِيدَين مالكٌ (¬2)، عن ابن شهاب؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يُصَلَّى يومَ الفِطْرِ ويومَ الأضْحَى قبلَ الخُطبةِ. الإسناد: قال الإمام: قد أسْنَدَ هذا الحديث أبو داود (¬3) من حديث جابِر وَصَحَّحَهُ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): لا خلافَ في هذا بين فقهاء الأمصار في الصّلاة قبل الخُطْبَة، واختلف العلماءُ فيمن بدأ بالخُطْبةِ قبل الصَّلاة على أربعة أقوال: القول الأوّل (¬6) - قيل: عثمان، وروى يوسف بن (¬7) عبد الله بن سلام، قال: كانت الصّلاةُ يوم العيد قبل الخُطبَة، فلمّا كان عثمان كَثُرَ النّاسُ، فقدَّمَ الخُطْبَةَ، وأراد بذلك ألَّا يفترق النّاسُ وأن يجتمعُوا (¬8). القولُ الثّاني - قيل: أوّل من قدَّمَها عمر بن الخطّاب. القولُ الثّالث: أوّل من قدّمها ابن الزّبير، وقال ابن عبد البرّ (¬9): "والصّحيحُ عندي أنّ أوَّلَ من قدّمها عثمان بن عفّان". ¬
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يصحّ أنّ عثمان قَدَّمها، وهو كذِبٌ عليه (¬1)، وأنّ الّذي قدَّمها هو ابن الزّبير، وقيل: مروان بن الحَكَم، وإنّما فعلا ذلك لأنهما كانا يسُبَّانِ عليًّا. فهذا سَبَّاهُ افترق النّاس فَرَدَّاهَا قبلَ الصّلاة (¬2). قال الإمام: وكذلك اختلفوا في أوَّلِ من أَحْدَثَ الأذان والاقامة من بني أميّة: فرُوِيَ أنّ أوَّلَ من فعل ذلك معاوية (¬3). ورُوِيَ أنّ أوّل من أَحْدَثَ ذلك ابن الزُّببر (¬4). وقيل: إنّ أوّل من قدّمها زياد. وقيل: إنّ أوّل من جلس على المِنْبَر في العِيدَيْنِ وأَذَّنَ فيهما هو زياد (¬5). وقال أبو عمر بن عبد الله (¬6): "والصّحيح عندي أنّ أوّل من أحدثه معاوية، وقولُ من قالَ: إنّه أَحدَثَهُ زياد موقوفٌ عليه" (¬7). المسألة الثّانية- قوله (¬8): "صلاة العيد" صلاةُ العِيدِ هي عند مالك سنّة. وعند أبي حنيفة واجبة (¬9)، وحجّته: مواظبة النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عليها. وهي بوقتٍ مخصُوصٍ، وتصلَّى في الجماعة، وشُرِعَت لها الخُطْبَة، فكانت واجبةٌ، أصله صلاة الجمعة. قال الإمام الحافظ (¬10): لا أعرفُ ولا أَعلمُ أحدًا قال: إنها فرض على الكفاية، إلَّا أبا سعيد الأصطخريّ من أصحاب الشّافعيّ (¬11)، وهي دَعْوَةٌ لا بُرْهانَ عليها، ¬
فتنعَكِسُ على قائلها فلا يَقدِر على الانفصال عنها. وقد أجمع العلماءُ على أنّها صلاةٌ مخصوصةٌ بوَقْتٍ، ليس لها أذانٌ ولا إقامةٌ، فكانت كالضُّحَى. المسألة الثّالثة (¬1): فإن قيل: فهل يقاتَلُ أهل بلدِ اتَّفقوا على تركها؟ قلنا: لا نقول ذلك. ومن أصحاب الشّافعيّ من قال: يُقاتَلُونَ؛ لأنّها من شعائر الإسلام، وفي تَرْكِها تهاونٌ بالشّريعة (¬2)، لقوله عزّ وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الاَية (¬3). والأوّلُ أصحُّ. المسألة الرّابعة (¬4): قال علماؤنا (¬5): ومن بدأ بالخُطبَةِ قبل الصّلاة أعادَهَا بعد الصّلاة. فإن لم يفعل، فذلك مجزىء عنه وقد أساءَ، قاله أشهب. قال الإمام: ووجه ذلك: أنّ تأخيرها ليس بشَرْطٍ في صحّة الصّلاة، وكذلك كلّ خُطبَةٍ بعد الصّلاة ليست بشرطٍ في صحَّتِها، ولكن السُّنَّة في العِيدَيْن أنّ يُؤْتَى بها بعد الصّلاة، فإذا لم يفعل فهو بمنزلة من لم يَخْطُب فصلاتُه صحيحةٌ، وقد أساء في تَرْكِ الخُطبَة. المسألة الخامسة (¬6): قولُ عمر في حديث مالك (¬7): إنّ هَذَيْنِ يومانِ نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن صِيَامِهِمَا. قال الإمام: لا خلاف بين العلماء في أنّ صيامَ يومِ الفِطْرِ والأَضْحَى لا يجوز بهذا الحديث وما كان مثله، لا لنَذْرٍ ولا لِتَطَوُّعِ. وقد اختلف العلماء في صيام أيَّام التّشريق للمُتَمتِّعِ الّذي لا يجد هَدْيًا ولم يصم ¬
باب الأمر بالأكل قبل الغدو في العيد
قبل (¬1) يوم عَرَفَة، على ما نذكره في كتاب الحج إنّ شاء الله. وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ الضَّحايا نسكٌ، وأنّ الأَكْلَ منها مباحٌ مندوبٌ إليه. باب الأمر بالأكل قبل الغُدُوِّ في العيد قال الإمام: ليس في هذا الباب حديث إلا ما رواهُ البخاريّ (¬2) عن أنس ابن مالك قال: "كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لا يَغدُو لِيَوْمِ العِيدِ حتّى يأكُلَ ثَمَرَاتٍ، ويأكُلُهُنَّ وِترًا". وكان يفعلُ ذلك يوم الفطر. الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام: الآثارُ والأمرُ بالأكل قَبْلَ الغُدُوِّ في العيدِ يدُلُّ على أنّ الأكلَ في الفِطر عنده مؤكَّدٌ، يجري مَجْرَى السُّنَّنِ المندوبِ إليها الّتي يُحْمَل النّاسُ عليها، وأنّه في الأَضْحَى من شاءَ فَعَلَهُ ومن شاءَ لم يَفعَلْهُ، وليس بسُنَّةٍ في الأَضْحَى ولا بِدْعَة. وغيرُ مالكٍ يَسْتَحِبُّ ألَّا يأكلَ في يوم الأضَحى إلَّا من أُضْحيته وَلَوْ مِن كبِدِها. رَوَى أبو سعيد الخدري؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان لا يخرج يوم الفطر إلى المُصلّى حتّى يأكل (¬4). وكان الصحابة والتّابعون يأمرون النّاس بالأكل يوم الفِطْرِ قبل الغُدُوَّ، ولا يأكلون يوم النَّحْر حتّى يرجعوا. المسألة الثّانية (¬5): قال الإمام (¬6): والَّذي عليه الأكثر من أهل العلم استحباب الأَكْلِ، والنكتة ¬
ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين
القاطعة (¬1) في ذلك: لِئلَّا يظنَّ ظانٌّ أنّ الصِّيام يَلْزَم يوم الفِطْر حتّى تُصَلَّى صلاة العيد، فخشي الذَّريعة إلى الزِّيادة في حدود الله، فاسْتَبْرَأَ ذلك بالأكل. والدّليل على ذلك: أنّه لم يكن يأمر بالأكل قبل الغُدُوِّ إلى المصلَّى في الأضحى. وأكله وِتْرًا هو إشعارٌ (¬2) للوحدانية، وكذلك كان يفعل في جميع أموره - صلّى الله عليه وسلم -. ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام الحافظُ ابن العربىّ: أمّا التكبير في صلاة العيد قبل القراءة، فاختلف فيه العلماء اختلافًا كثيرًا، وليس فيه حديث صحيح يُعَوَّلُ عليه، ولكن يترجَّحُ مذهب مالكٌ على غيره في عدد التّكبير فيه بالاصل الّذي مَهَّدْنَا لكم من نَقْلِ أهل المدينة للعبادات وهيئاتها. المسألة الثّانية (¬4): اختلفوا في ذلك على قولين: القول الأوّل: ذهب مالكٌ والشّافعىّ (¬5) وابنُ حَنْبَل (¬6) وأبو ثَوْر إلى أنّ التّكبير في الأُولى سَبْعٌ. وقال أبو حنيفة: التّكبيرُ في الاُولى ثلاث، غير تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الرُّكوع (¬7). والدَّليلُ على ما نقوله أنّ الحُجَّةَ لِمالك: الحديث المرويّ؛ ما رُوِيَ عن ¬
عائشة: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يُكبِّر من الأولى سبع تكبيرات، وفي الثّانية خمس تكبيرات قبل القراءة (¬1). وهذا الحديث وإن لم يمن ثابتًا إلَّا أنّه يترجّح به (¬2) المذهب (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): إذا ثبت هذا، فإنّه يُعْتَدُّ بتكبيرة الإحرام في السَّبْعِ عند مالكٌ والثَّوْريّ وأحمد. وقال الشّافعيّ (¬5): هي سبعٌ سِوَى تكبيرة الإحرام. والدّليلُ لمالك: العمل بالمدينة على خلاف ما قاله الشّافعيّ، وإطلاق الألفاظ بأنّه (¬6) كَبَّر سَبْعًا، يقتضي أنّ ذلك جميع ما كبَّر. وكذلك في الرّكعة الثّانية خمْس تكبيرات غير تكبيرة القيام. وقال الشّافعيّ (¬7): هي خمس تكبيرات سِوَى تكبيرة (¬8) القيام. والدّليل على ما نقوله: أنّ تكبيرة القيام هي في نفس القيام، ولا يعتدّ من التّكبير إلَّا ما كان عند الاعتدال. المسألة الرّابعة (¬9): إذا ثبت ذلك، فقد رُوِيَ عن مالكٌ؟ أنّه خَيَّرَ في رفع اليدين مع كلِّ تكبيرة من الزّوائد، وعنه (¬10) في "المدوّنة" (¬11): لا يرفع إلَّا عند الإحرام، وروى عنه مُطَرِّف وابن كنانة؟ أنّه قال: يستحبُّ أنّ يرفع يَدَيْهِ في العِيدَيْن مع كلِّ تكبيرة، وبه قال ¬
أبو حنيفة والشّافعيّ. والكلامُ في مثل هذا يَقرُبُ من الكلام في رفع اليدَيْن عند الرّكوع في الصّلاة. وقوله (¬1): "وَفِي الآخرَة خَمْسَ تكبيراتِ قبل القراءة" * لم يختلف فقهاء الأمصار أنّ التكبير في الركعة الأولى قبل القراءة. وأمّا في الرّكعة الثّانية فإن التكبير عند مالكٌ قبل القراءة* (¬2) أيضًا، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة: القراءة (¬4) قبل التكبير (¬5). والدّليل على حُجّة مذهب مالك: عمل أهل المدينة المُتَّصل بذلك. ودليلنا من جهة القياس: أنّها إحدى ركعتي صلاة العيد، فكان محلّ زَوائد التكبير فيها قبل القراءة كالأُولى. المسألة الخامسة (¬6): قال علماؤنا (¬7): ليس بين التكبيرات محلّ للدّعاء، ولا لغيره من الأذكار، وقاله أيضًا ابن حبيب. وقال الشّافعيّ: يقف بين كلِّ تكبيرَتَيْنِ مِقدارًا متوسَّطًا، يحمدُ الله ويُهَلِّله ويُكبِّره (¬8). المسألة السّادسة (¬9): قال الشّافعيّ (¬10): ومن السُّنَّةِ فيها أنّ يقرأ بسورة: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهما (¬11)، ويقول (¬12): ¬
ترك الصلاة قبل العيدين وبعدهما
يصلِّيها المسافر، والنّبي - صلّى الله عليه وسلم - إنّما كان يصلّيها في الحَضَرِ. فإن قيل: لما كانت تُصَلَّى في الحَضَرِ أو يبرز (¬1) عن المدينة، صارت كسائر النّوافل. قلنا: وَلِمَ لَم (¬2) ينظر إلى الجماعة والخُطْبَة، وذلك أقعد بها من البروز لها؟ وكذلكَ اختلفوا في التكبير المُطْلَق اختلافًا كثيرًا في مذهبنا وعند غيرنا، وأقواهُ في النَّظر أنّ يكون التكبير من غُروب الشّمس آخر أيّام الصّوم، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} الآية (¬3)، ففرَّقَ بينهما. المسألة السّابعة (¬4): وفي أيِّ المواضعِ تكون أو تلزم، فَرَوى ابن نَافِع وأَشْهَب عن مالكٌ (¬5): ليست (¬6) إلَّا على من عليه صلاة الجمعة. ورَوَى ابنُ القاسم عن مالك؛ أنّها تلزم لقرية فيها عشرون رَجُلًا، والنّزول إليها من ثلاثة أميال كالجمعة. ترك الصّلاة قبل العِيدَيْن وبعدَهُما الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬7): أجمعَ العلماءُ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - لم يصلَّ في المُصَلَّى قبل صلاة العيدِ ولا بَعْدَها، فصار (¬8) النّاسُ كذلك. ¬
وذهب الكوفيّون إلى ألَّا يصلِّي أحدٌ في المصلَّى قبل صلاة العيد، ويصلِّي بعدها إنّ شاءَ (¬1). قال الثّوريُ: يصلِّي بعدها (¬2) أربعًا، ان شاء يفصل بينهنَّ (¬3). وذهب البصْرِيُّون إلى إباحة ذلك في المصلَّى قبل الصّلاة وبعدها، وهو قول الشّافعيّ، وقال: يصلِّي كما يصلِّي قبل صلاة الجُمُعَة. نكتةٌ قاطعة لهم (¬4): قال الإمام: التَّنَفُّلُ في المصلِّى لو كان مفعولًا لكان منقولًا، وإنّما رأى من رأى جواز الصّلاة؛ لأنّه وقتٌ مُطْلَقٌ للصّلاة، وإنّما تَرَكَهُ مَنْ تركَه لأنَّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - لم يفعله، ومَنِ اقتدى فقد اهْتَدَى. المسألة الثّانية (¬5): قال علماؤنا (¬6): صلاةُ العِيدَيْن تُقَامُ بموضعين: أحدهما: الموضع المختصّ بها. والآخر: الجامعُ. فأمّا الموضعُ المختصُّ بها، فاختلفَ العلماءُ في التَّنَقُّل فيه قبل الصّلاة وبعدَها. فمذهب مالكٌ؟ ألَّا يتنقَّل قبل الصّلاة ولا بعدها. وأمّا الجامعُ فيركع فيه بعد الصّلاة (¬7). وقيل: إذا كان وقتَا واسعًا، والأحسن ألَّا يفعل. ¬
غدو الإمام يوم الفطر وانتظار الخطبة
غدُوُّ الإمامِ يومَ الفطر (¬1) وانتظار الخُطبَة الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬2): أمّا المشيُ، فرُوِيَ فيه حديث الحارث عن عليّ؛ أنّه قال: السُّنَّةُ أنّ يخرجَ ماشيًا (¬3). قال الإمام: لم يثبت في هذا الباب شيءٌ، إلّا أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال "مَنِ اغْبَرَتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ الله حَرَّمَهَا الله على النَّارِ" (¬4). المسألة الثّانية (¬5): جمهورُ العلماء يستحبُّونَ الرُّجوع يوم الفطر من طريق آخر. وقال أبو حنيفة: يستحبُّ له ذلك، فإن لم يفعل فلا حَرَجَ (¬6). قال الإمام (¬7): ورأيتُ للعلماء في معنى رجوعه -عليه السّلام- من طريقٍ آخر ثلاث روايات (¬8)، أَوْلاَهَا عندي -واللهُ أعلم- ليرى المشرِكُون كَثْرَةَ عَدَدِ المسلمين ويغلظ (¬9) بذلك عليهم. المسألة الثّالثة (¬10): اختلفَ العلماءُ فيمن فاتَهُ العيد مع الإمام: ¬
فقالت طائفة: يصلِّي ركعتين مثل صلاة الإمام، ورُوِيَ ذلك عن عطاء، والنَّخَعىّ، وابن سِيرِين، والحسن، وهو قوله مالك والشّافعىّ (¬1)، إلَّا أنّ مالكًا قال: أَسَتَحِبُّ (¬2) له ذلك من غير إيجابٍ. وقال الأوزاعيُّ: يصلِّي ركعتين ولا يجهر بالقراءة، ولا يكبِّر تكبير الإمام، وليس بلازمٍ. وقالت طائفة: يصلِّيها أربعًا (¬3). وقال أبو حنيفة: إنّ شاء صلَّى وإن شاء لم يصلِّ، وهو بالخِيَارِ بأن يصلِّي ركعتين أو أَرْبَعًا (¬4). قال الإمام (¬5): وأَوْلَى هذه الأقوال بالصّواب أنّ يصلِّيها كما سَنَّها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وهو الّذي أشار إليه البُخَارِيّ. المسألة الرّابعة: هل على الصِّبيان والنِّساء والمُخَدَّرَات صلاة العيد؟ وفي الحديث عن أم عَطِيَّة؛ قالت: كنا نُؤْمَر أنّ نخرجَ يومَ العِيدِ حتّى نُخْرِجَ البِكْرَ من خِدْرِهَا، وحتى نُخْرِجَ الحُيَّضُ فيكنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بتكبيرهم، ويَدْعُونَ بدعائهم، يَرْجُونَ بَرَكةَ ذلك اليوم (¬6). وقد (¬7) اختلفَ العلماءُ في خروجِ المخدّرات والعواتق من النِّساء لصلاة العيد، فرُوِيَ عن أبي بكرٍ وعلىّ؛ أنّهما قالا: لا حقَّ على كلِّ ذات نَطاقٍ أن تخرج إلى العيدَيْنِ. وكان ابن عمر لا يخرج من استطاع من أهله في العيد. ¬
وقال أبو حنيفة: (¬1) لا يخرجن لشيءٍ من الصّلوات، إلَّا للعيدَيْن، وأمّا اليوم فأكرهه (¬2). وقال الطّحاوي: أمرهُ عليه السّلام أنّ تخرجَ الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور إلى العيد، يحتملُ أنّ يكون ذلك في أوَّلِ الإسلام والمسلمون قليلٌ، فأراد التَّكثُّر بحضورهنّ؛ وأمّا اليوم فلا يُحتاجُ إلى ذلك. قال الإمام (¬3): وهذا التّأويل يحتاج إلى معرفة التّاريخ والوقت الّذي أمر فيه النّبيُّ- صلّى الله عليه وسلم - بذلك، ونسخ أمره لهنّ بالخروج إلىِ العيدَيْن، وهذا لا سبيل إليه، فالحديثُ باقٍ على عُمُومِهِ لم ينسخه بشيءٍ. نكتةٌ لغوية (¬4): قال ابن دُرَيْد (¬5): عَتَقَتِ الجاريةُ، أي صارت عاتِقًا، إذا أَوْشَكت البلوغ. وقال ابنُ السِّكِّيت (¬6): "فيما بين (¬7) أنّ تُدْرِك إلى أنّ تَعْنُسَ (¬8) ما لم تَتَزَوَّج". والخدور: البيوت. وقال غيره: العواتقُ جمعُ عاتقٍ. مسألة (¬9): قال أبو حنيفة: لا أرى على النِّساء تكبيرًا، وخالفاه صاحباه أبو يوسف ومحمد (¬10)، فقالا بِقَوْلِ مالكٌ إنّ التكبير على النِّساء كما هو على الرِّجال، وذكر حديث البخارىّ (¬11) في ذلك. ¬
صلاة الخوف
صلاةُ الخَوْفِ قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية (¬1). الأسانيد والأحاديث الواردة في هذا المعنى (¬2): قال: رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه صلّى صلاة الخَوْفِ أَربَعًا وعشرينَ مَرة، المُتَشَابِهُ منها ستّ عشرة مرّة، والصّحيحُ منها ما نَذْكُرُهُ الآن من الأحاديث والصِّفَاتِ. أمّا الأحاديث فستَّهٌ، وأمّا الصِّفات فثمانية على هيئاتٍ مختلفات (¬3). أمّا الأحاديث، فكانَ ابن حنبل والطّبريّ وطائفة من أصحاب الشّافعيّ يذهبون إلى جواز العمل بكلِّ ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في صلاة الخَوْفِ. الحديث الأوّل: حديثُ يزيد بن رومان (¬4)، وفيه أنّ طائفة صَفَّت معه، وطائفةٌ وَاجَهَتِ العَدُوُّ، فَصلَّى بالّتي معه ركعةً، ثمّ أَتَمُّوا لأَنْفُسِهِم. وجاءَت طائفةٌ اُخْرَى فَصَلّى بهم ركعةً، وأتَمُّوا لأنفسهم، ثمّ سلَّمَ بهم جميعًا. وهذا الحديث كتبه الأوزاعي عن مالك. وهذا الحديث رجع عنه مالك، وبه قال الشّافعيّ، واختاره ابن حبيب. وقال الشّافعيّ (¬5): المصيرُ إليه أَوْلَى من حديث القاسم (¬6)؛ لأنّه موقوفٌ. وحديثُ يزيد أَشْبَه بظاهر كتاب الله تعالى. قال الإمام: وموضِعُ الخلاف فيه بين مالكٌ والشّافعيّ؛ أنّ في حديثٍ أنّ الإمام لا يسلِّم من آخر صلاته حتّى تفرغ الطّائفة الثّانية ويسلِّم الإمام بهم قبل أنّ يقضي المأموم صلاته، في كلامٍ طويلٍ. ¬
الحديث الثّاني: حديث سهل بن أبي حَتْمَةَ (¬1)، فذَكَرَ مثل ما تقدَّمَ، لكنه قال: إنّ الطائفةَ الأُولى لمّا قضت الرّكعة، سَلَّمُوا وانْصَرَفُوا والامامُ قائمٌ، والطّائفةُ الثّانية صَلَّت مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ركعةً، ثمّ سلَّمَ النَّبيُّ (¬2)، ثم قَضَوْا بعدَ سَلاَمِهِ. الحديث الثّالث: حديث ابن عمر (¬3)، فذكر أنّهم كانوا طائفتين، فيصلِّي الإمامُ بطائفةٍ ركعةً ثمّ يستَأخِرُونَ، وتأتي الطائفةُ الأخْرَى فيُصَفلُّونَ معه ركعةً، ثمّ ينصرفَ الإمامُ وقد صلَّى ركعتينِ ويُسَلِّم، ثمَّ تقومُ الطائفتان فَيُصَلُّونَ لأنفسهم ركعةً ركعةً. والأحاديثُ كلها في صلاة الخوفِ مختلفة الصُّورِ والهيئات. الحديث الرّابع (¬4): حديث القاسم (¬5) الّذي رجع إليه مالك، وقال به أحمد بن حنبل وأبو ثور. قال الإمام (¬6): وحديثُ القاسمِ أيضًا على هذه الصّفة، موافقٌ لكتاب الله، لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬7) يعني: الباقين (¬8). {فَإِذَا سَجَدُوا} (¬9) يعني: المصلِّين {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (¬10) يعني: الّذين هم مواجهة العدو. فاشترط اللهُ تعالى أنّ تكون إحدى الطّائفتين في غير صلاة مواجهينَ للعَدُوِّ، والثّانية في الصّلاة، وقال سبحانه: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬11) فدلَّ على أنّ الأُولى قد صلّت تمام صلاتها (¬12). ¬
وقوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1). يقتضي بقيّة صلاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كلَّها، وإذا اقتضى ذلك، وَجَبَ أنّ يسلَّم؛ لان آخر صلاته السّلام. وقال غيرُه (¬2): وهذا أشبه بالأصول؛ لان المأمومَ أَبَدًا إنّما يقضي بعد فراغ إمَامِه وسلامه، فهو أَوْلَى. الحديثُ الخامس (¬3): حديث جابر (¬4)، حُكِيَ عن الشّافعيّ (¬5)؟ أنّه قال به، وقال: صلاةُ الخَوْفِ يُصَلِّي الإمامُ بكل طائفةٍ ركعتين، وهو على أَصْلِهِ في جواز صلاة المفترض خَففَ المُتنَفُّل، ولم يحفظ ذلك (¬6). وقال أصحابه: وهذا إذا (¬7) كان في سَفَرِ، وهو مُخَيَّرٌ عنده بين القَصْر والإتمام في السَّفَر. ولم يُحْفَظ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه صلَّى صلاةَ الخوفِ قطّ في حَضَرِ، ولم يَكن له حَرْبٌ في حَضَرٍ إلَّا يوم الخندق، ولم تكن نزلت عليه صلاة الخوف بَعْدُ. ودفع مالكٌ هذا التأويلَ مع أبي حنيفة (¬8)، وقال أصحابهما: إنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يكن مسافرًا، وإنّما كان في حَضَرٍ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ على باب المدينة. قال الإمامُ (¬9): لا يصحّ أنّه كان في حَضَرٍ؛ لأنّ جابرًا ذكر انّهم كانوا بذاتِ الرِّقَاع، وقد كانت صلاة الخوف قد نزلت؛ وكانت غَزْوَةُ ذات الرِّقَاع على خمسٍ من الهِجْرَةِ. وقوله (¬10): "يَوْمِ ذَاتِ الرِّقَاعِ" أضاف اليوم إلى جَبَلٍ يقال له الرِّقاع، فيه بياضٌ وحمرةٌ وسَوَادٌ. ¬
وقيل: إنّ غَزْوة ذات الرِّقاع سُمِّيَت بذلك لأنّ المسلمينَ لم يكن لهم إِبلٌ تحملهم، فكان أكثرهم مُشَاة، فتخرّقت نِعالُهُم، فلقُوا الرِّقَاع على أَرْجُلهم. وقال ابن حبيب (¬1) أنّ صلاة الخَوف نزلت بذات (¬2) الرِّقَاع. الحديث السّادس: حديث ابن مسعود (¬3)، كما ثبت في الصّحيح، وحديثُ حُذَيْفَة عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4). الأصول: قال الإمام الحافظ: اختلف العلماء في هذه الأحاديث وهذه الصفات على ستّة أقوال (¬5). القولُ الأوّل: قال أبو يوسف (¬6): هي منسوخةٌ ساقطةٌ كلها، لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية (¬7)، فإنّما أقام الصّلاة خَوْفِيّة (¬8) بشرط إقامة النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لها بهم. الجواب عنه من وجهين: الأوّل - قلنا له: الآن نرى ما تصنع، فإن قال بتَرْكِ الصّلاة مع الذِّكرِ لها والعِلْمِ بوقتها، لم يكن ذلك احتجاجًا واقتداءً. فإن قال بفعلها على الحالة المعتادة فيها، فلا يمكن، ولَا ينبغي (¬9) إلَّا الاقتداء بقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية (¬10)، والائتمامُ بالنِّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقد قال الّذي الصِّحَاحِ: "صَلُّوا كما رَأَيْتُمُويي أُصَلِّي" (¬11)، فالله (¬12) قال ¬
له (¬1): {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية (¬2)، وهو قال لنا (¬3): "صَلُوا كما رَأَيتُمُونِي أُصَلِّي". القولُ الثّاني: قالت طائفة: أيّ صلاة صلَّى من هذه الصّلوات الصِّحاح المرويّة جازَ ذَلِكَ، وبه قال أحمد بن حنبل. القول الثّالث: أنّ الّذي يعلم تقدُّمه ويتحقّق تأَخُّره (¬4)، فإن المتأخِّر ينسخ المتقدم، وإنّما يبقي الترجيحُ في ماجهل تاريخه. وقد تكلَّمْنَا في نَسْخِ الفِعْلِ للفعل في "الأصول" (¬5). القول الرّابع - قال قومٌ: ما وافق صِفَةَ القرآن منها فهو الّذي نقولُ به؛ لأنّه مقطوعٌ عليه (¬6). القول الخامس - قالت طائفة: صلاةُ الخوفِ إنّما هي صلاة ضرورة، فإنّما تكون بحال الضّرورة، ولذلك اختلفت صلاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه قَصَدَ الإمكان، وهو الّذي أختارُهُ (¬7). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬8): ¬
قال مجاهد (¬1): إذا اختلطوا رجالًا ورُكبَانًا، فليصلُّوا كيف ما أمكن. وقال بذلك ابن عمر في الموطّأ (¬2): "إنّ كان خوفُ شديدًا، صَلُّوا رجالًا قِيَامًا على أَقْدَامِهِمْ أو رُكبَانَا مُسْتَقبِلِي القِبْلَةِ أو غيرِ مُسْتَقبِلِيهَا". هذا قولُ طائفةٍ من التّابعين. وذهب آخرون إلى أنّ الرّاكِبَ إنّ كان يقاتِلُ فلا يصلّي، وإن كان رَاكبًا لا يمكنه النُّزُول ولا يُقَاتِل صَلَّى. المسألة الثّانية (¬3): أمّا الصّلاةُ عند مُنَاهَضَةِ الحصون (¬4) ولقاء العَدُوّ، فهي صلاة حال المُسَايَفَةِ. وقال الأوزاعي (¬5): إنّ كانَ تهيَّاُوا للفَتْح (¬6) ولم يَقدِرُوا على الصّلاة، صلُّوا إيماءً كلُّ امرئ لنفسه، وإن لم يَقدِرُوا على الإيماءِ أَخَّرُوا الصَّلاةَ حتّى ينكشفَ القتالُ ويَأمَنُوا فيُصَلُّوا ركعتين، وإن دم يَقدِرُوا صَلُّوا ركعةً وسجدتين، فإن دم يَقدِروا فلا يُجزِئهم التّكبيرُ، ويؤخِّرونها حتّى يَأْمَنُوا، وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك (¬7): حضرتُ مناهضةَ حِصْنٍ تُسْتَرَ عند صلاة (¬8) الفَجر، واشتَدَّ أشتغال النّاس بالقتال (¬9)، فلم يَقْدِرُوا على الصّلاة، فلم تُصَلّ إلّا بعد ارتفاع النهار، ونحن مع أبي موسى فَفُتِحَ لَنَا. قال أنس: وما يَسُرُّنِي بتلك الصّلاةِ الدُّنْيَا وما عليها (¬10). ¬
كتاب صلاة الكسوف
المسألة الثّالثة (¬1): صلاة الطّالب والمطلوب رَاكِبًا، فذهبتْ طائفةٌ إلى أنّ الطّالب لا يصلِّي على الدَّابّة وينزل فيُصَلِّي بالأرض، وهو قولُ عطاء والحسن، وإليه ذهب الشّافعيّ وأحمد. وقال الشّافعيّ: إلّا في حالة واحدةٍ، وذلك أنّ يَقطع الطّالبون (¬2) أصحابهم، فيَخَافونَ عَوْدَة المَطلُوبِينَ إليهم. فهذا كان هكذا جاز لهم (¬3). وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم؛ (¬4) أنّ صلاةَ الطَّالِب بالأرض أَوْلَى من الصَّلاة على الدَّوابِّ (¬5). وفيها قولٌ ثالثٌ - قال ابنُ حبيب (¬6): هو في سَعَةٍ من ذَلِكَ، وإن كان طالبًا لا ينزل ويصلِّي إيماءً؛ لأنّه مع عَدُوٍّ لم يصر إلى حقيقة أَمْنٍ (¬7)، وقاله مالك أيضًا، والحمدُ لله ربِّ العالمين. كتاب صلاة الكُسوف قال الإمام: بوَّب مالكٌ رحمه الله في هذا المعنى بابين: البابُ الأوَّلُ: العملُ في صلاة كُسوفِ الشَّمْس وإنّما بوَّبَ ذلك؛ لأنّه رَوَى الكُسُوفَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - سبعة عشر رَجُلًا، وفي كيفيّة فِعْلِها اختلافٌ، وأصولها هاتان الرِّوايتان على ما في الموطَّأ، على ما يأتي بيانُه إنّ شاء الله. ¬
العربية (¬1): قال علماؤنا: خسوفُ القمر (¬2) هو ذهاب نُورِه (¬3). وخسفُ الأرض ذهابُها إلى اَسْفَل. والكسوفُ: التَّغيُّر، يقال، كَسَفَ وتغَيَّرَ وخسف، وهذا (¬4) في الشّمس والقمر جميعًا (¬5). فالكسوفُ تغير لونها (¬6) بالسَوَادِ والصُّفْرة. وقيل: الكسوفُ والخُسُوف بمعنى واحد. الأصول (¬7): قال علماؤنا: خَسفُ الشَّمس والقمر وكسفُهما هو أمر يخلُقُهُ اللهُ تعالى خلافَ العادةِ، لما يشاءُ من معنى، فيكون آية. وقالت طائفة: هو أمرٌ معقولٌ من جهة الحساب، فأمّا كسوفُ الشّمس، فإن القمر يَحُولُ بينها وبين النَّظَر. وأمّا كسوفُ القَمَر، فإنَّ الشَّمسَ تخلع نورها عليه، فإذا وقع في ظلِّ الأرضِ لم يكلن له نورٌ. وبحسبِ ما تكون المقابلة ويكون الدُّخول في ظلِّ الأرضِ، يكونُ الكُسوفُ من كلِّ أو بعضٍ (¬8)، وهذا أَفر يدلُّ عليه الحساب ويصدقُ فيه البرهان. قلنا: كذبتم وبَيْتِ (¬9) اللهِ لا تعرِفُونَهَا". متى حاذَى (¬10) مَجرَاهَا ظلٌّ فواداها؟ قلتم بالبرهان: إنّ الشّمس أضعاف القمر في الجَرْمِيّة بالعقل (¬11). فكيف يحجبُ الصّغير الكبير إذا قَابَلَهُ ولا يأخذ منه عشره؟ جواب ثانٍ: وذلك أنّ الشّمس إذا كانت تُغَطِّيه بنورها، فكيف يحجب نورَهَا ¬
ونُورُهُ من نُورِهَا؟ وهذا اختلاطٌ لا يصحّ. جوانبٌ ثالثٌ: إذا كان نُورُ القمر قليلًا ونُورُ الشّمس كثيرًا، فكيف يظلم الكثيرُ بالقليل، لا سيّما وهو من جِنْسِه أو بعضه؟ جوانبٌ رابعٌ - قلتم: إنّ الشّمس أكبر من الأرض بسبعين ضِعْفًا أو نحوها، وقلتم: إنّ القمر أكبر منها بأقل من ذلك، فكيف يقطع الأعظم في ظل الأصغر؟ وكيف تحجبُ الأرضُ نورَ الشّمس وهي زاوية منها؟ جوابٌ خامسٌ: وذلك أنّه إنّ كان كما قالوا: إنّ الشّمس تخلعُ نورها على القمر، فهذا كسف رأيناهُ مُظْلِمًا (¬1)، فهذا يدلُّ على أنّه جرْمٌ مُظْلِمٌ والنُّور عرضٌ (¬2) يَعْلُوهُ. وعُمْدَتُهُم؛ أنّ الشّمس والقمر نورانِ مَحْضَانِ لا خلط (¬3) فيهما، والعِيَان تكذب (¬4) برؤية جرْمِهِ أسود عند الكُسُوف. جوابٌ سادسٌ -وهو الّذي يستقيم-: وذلك أنّ الشَّمسَ لها فَلَكٌ ومَجْرى، والقمرَ له فَلَكٌ ومجرى، ولا خلافَ أنّ كلّ واحد (¬5) منهما لا يعدُو مجراه كلّ يومٍ إلى، مثله من العام فيجتمعانِ ويتقَابَلاَنِ، ولو كان الكُسوتُ لِوُقُوعِه في ظِلِّ الأرض في وقتٍ، لكان ذلك الوقت محدودًا معلومًا؛ لأنّ المَجْرَى بينهما (¬6) محدودٌ معلومٌ، فلمَّا كان يأتي في الاوقات المختلفة والجريُ واحدٌ والحساب واحدٌ، عُلِمَ قطعًا فساد قولهم هذا، وأنت ترى القمر مُثَلَّثًا ومنصفًا، وهو مع الشَّمس في الأُفُقِ (¬7) الأعلى والأرض تحتهما، فعُلِمَ قَطعًا أنّ هذا التخليط لا يُقَدَّر له قَدْرٌ ولا يُقبَل لقائله عُذْرٌ. فإن قيل: فلم تُصَدِّقونَهُم في استخراج الغيب. قلنا: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬8) ¬
وهؤلاء الّذين يُصَدِّقون باستخراج الغَيْبِ من الكُهَّانِ، وفي ذلك حجة لهم في التّبرِّي من البُهْتَان، فالحمدُ للهِ على ما وَهَبَ للعَالِمِينَ من العلم (¬1) والدِّينِ بمقدارهم في العِلْمِ الّذي يَدَّعُونَه. الفقه في سبع مسائل: المسألة الأُولى (¬2): اختلاف (¬3) الروايات في صلاة الكسوف قوله: "فَصَلَّى ركْعَتينِ" (¬4) لا خلافَ في أنّها ركعتان في الأصل، ولكن اختلفتِ الرِّواية هل كلّ ركعة من ركعة، أو ركعتين، أو من ركعات. ففي رواية عائشة الّتي ذكر التّرمذيّ (¬5) أنّها كانت ثلاث في واحدة. وكذلك في "صحيح مسلم" (¬6) و"البخاريّ" (¬7) ورواية أبى: خمْس ركعات (¬8). وفي رواية أبي بَكرَة صلّى ركعتين (¬9)، وبه أخذ أبو حنيفة (¬10). وفي رواية قبيصة: صَلَّى كأّحْدَثِ صلاةٍ صَلَّيتمُوهَا (¬11). وفي روايات كثيرة: "صَلَّى حتَّى انْجَلَتِ الشَّمْس" (¬12) وكانت صلاتُه في الطُّولِ والقِصَرِ، وكَثْرَةِ الرَّكَعات وقِلَّتها (¬13). قال الإمامُ: والَّذي عندي أنّها كانت أفعالٌ في أحوالٍ، ولا يعلم المتأخّر من المتقدِّم منها، فيكون سواء، أو يرجَّح أكثر، والله أعلم. ¬
المسألة الثّانية (¬1): أجمعَ الفقهاءُ على (¬2) أنّ صلاةَ الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامةٌ، إلَّا أنّ الشّافعىّ (¬3) قال: يؤذَّن للصّلاة جامعة (¬4)، ليجيء النّاس إلى المسجد. المسألة الثّالثة (¬5): واختلفَ العلماءُ في القراءة فيها، فقال مالكٌ والشّافعيّ (¬6) وأبو حنيفة (¬7): القراءة فيها سِرًّا. وفي حديث ابن عبّاس (¬8) في هذا الباب قوله: "نَحْوًا من سورةِ البقَرَةِ" دليل على أنّ القراءة كانت سِرًّا. وقد رَوَى سَمُرَة بن جندب، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في صلاة الكُسوف، فقال: قام كأَطوَلِ ما قَامَ بنَا قَطّ لا نسمع له صوتًا (¬9). قال الإمام: وحُجَّةُ من قال بالجَهْر، إجماعُ العلماء على أنّ كلّ صلاة تكون في الجماعة من الصّلوات المسنونات، فسنَّتُها الجهر، كالعِيدَيْن والاستسقاء، قالوا: وكذلك صلاة الخسوف (¬10). المسألة الرّابعة (¬11): اختلف الفقهاء في وقت صلاة الكُسُوفِ، وهل تُصَلَّى في النَّهار أم لا؟ على قولين: ¬
القول الأوّل: روى ابنُ وَهْب عن مالكٌ، قال: لا تُصَلَّى إلَّا في وقت تجوُز فيه الصّلاة النّافلة، فإن كسفت (¬1) في وقت لا تجوز فيه الصّلاة لم يصلُّوا، فإن جَازَ وقتُ الصّلاة ولم تنجل صَلُّوا، كانِ انْجَلَت قبلَ ذلك لم يُصَلُّوا. القول الثّاني: روى ابنُ القاسم عن مالكٌ؛ أنّه قال: لا أرى أنّ يُصَلَّى للكُسُوفِ (¬2) بعد الزَّوال، وإنّما سنّتها أنّ تُصَلَّى ضُحىً إلى الزَّوال. قال اللَّيْثُ: *تُصَلَّى الكسوفُ نصفَ النَّهار؛ لأنّ نصف النهار لا يكاد يثبت لسرعة الشّمس* (¬3). وقال أبو حنيفة: لا تُصَلَّى *صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها (¬4). وقال الشّافعيّ: تُصَلَّى صلاة الكسوف في كلِّ * (¬5) وقت نصف النَّهار وبَعْدَ العَصْرِ، وهو قولُ أبي ثَوْر. وحجَّتُهم: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لم يَنْهَ عن الصّلاة بعد العصر والصُّبح إلّا عن النّافلة المُبْتَدَأَة، لا عن المكتوبات (¬6) ولا عن المسنونات. وأمّا قولُ ابن القاسم، فقد خَطَّأَهُ فية عبد الملك في "الواضحة"، فقال: لا تجوز (¬7). وقال إسحاق: تُصَلَّى في كلِّ وقتٍ إلَّا عند طلوع الشّمس وعند غروبها، إنّ شاء أربع ركعات في ركعتين، وإنْ شاءَ ستّ ركعات في ركعتين، كلُّ ذلك واسعٌ. قال الإمام (¬8): والصّحيحُ عندي أنّها تُصَلّى في كلِّ وقتٍ أربع ركعات في أربع سجدات، فعليه فَليُعَوَّل. ¬
المسألة الخامسة (¬1): وأمّا من قال: إنها ركعتان، فهي السُّنَّة، وعليه عَوَّلَ الفقهاء؛ إلَّا أنّ (¬2) في حديث عائشة وغيره (¬3):" في كلِّ ركْعَةِ رُكُوعَانِ" وهي زِيَادَةٌ يجب قَبُولها. وخالف الكوفيُّون في ذلك، وقالوا: إنّها ركعتان كصلاة الصُّبحِ. وقد استدلَّ قومٌ من العلماء بقوله: "فَصَلُّوا" أراد بذلك: ادعوا، وليس في هذا دليلٌ على ذلك. المسألة السّادسة (¬4): اختلف العلماءُ، هل فيها خُطْبَة أم لا؟ على قولين: القول الأوّل: قال الشّافعيّ (¬5) وإسْحاق والطّبريّ: يخطب بعد الصّلاة كالعِيدَيْن والاستسقاء. واحتجُّوا بحديث عائشة (¬6)؛ أنّه - صلّى الله عليه وسلم - خَطَبَ بعد ما صَلَّى، وانجَلَتِ الشَّمس قبل أنّ يَنْصَرِف، ثُمَّ قامَ وَأَثْنَى على الله بما هو أهله. القول الثّاني: قال مالكٌ والكوفيون (¬7): لا خُطْبَةَ في الكُسوف. واحتجوا (¬8): بأنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما خطبَ لأنّ النّاس قالوا: إنّما كسفت لموت إبراهيم ابن النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعرَّفَهُم أنّ الشَّمسَ والقمر آيتان من آيات الله لا يَكسِفَان لموتِ أحدٍ ولا لحياته، وأَمَرَهُم بالدُّعاء والصَّلاة والصَّدَقَة. ¬
قال الإمام أبو بكر بن العربي (¬1): والصحيحُ ليست في صلاة الكسوف خُطْبَة، وإنّما فيها كلامٌ بحسب الحالِ، وأفضله ما قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لما فرغ من الصّلاة، وذلك قولُه: "إنّ الشَّمس والقَمَرَ آيتان من آيات الله" (¬2). وهو كلامٌ له بالٌ. المسألة السّابعة (¬3): اختلف العلماءُ في صلاة كسوف القمر، فقال مالكٌ وأبو حنيفة (¬4): لا يجمع فيها، ولكن يصلّي النّاس أفرادًا (¬5) ركعتين ركعتين. والحُجَّةُ لهم من قوله: "صلاةُ المرءِ في بَيتِهِ أفضل إلَّا المكتوبة" (¬6) وخصَّ صلاة كسوف الشّمس بالجَمْعِ بدَلِيلِها وما ورد التّوقيف فيها، وبقيت صلاة كسوف القَمَر على حالها وما عليه النّوافل. وقال اللَّيث وعبد العزيز بن أبي سَلَمة: لا يجمعُ لها، ولكن الصّلاة فيها كهيئة الصّلاة في كسوف الشّمس. وقال: ذلك قولُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى الصّلاة" (¬7). وقال الشّافعيّ (¬8) وأحمد والطّبري وسائر أهل الحديث: الصلاةُ في القَمَرِ (¬9) كما في الشّمس سواء، وهو قولُ الحسن وعَطَاء. وحجتهم في ذلك قوله: "إنَّ الشَّمس والقَمَرَ" الحديث؛ لأنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جَمَعَ بينهما في الذِّكْر. قال أبو عمر بن عبد البرّ (¬10): "قد رُوِيَ عن ابن عبّاس وعثمان أنّهما صلَّيَا في ¬
القمر (¬1) جماعة ركعتين، في كلِّ ركعة رُكُوعان، مِثل قول الشّافعيّ". المسألة الثامنة (¬2): قال مالكٌ والشّافعيّ: لا يُؤتَى للصّلاة عند الزَّلْزَلَة، ولا عند الظُلْمَةِ والرِّيحِ الشَّديد. ورآها جماعة من أهل العلم، منهم: أحموإسحاق وأبو ثَوْر. ورُوِيَ عن ابن عبّاس أنّه صلَّى في الزَّلْزَلَة. وقال ابنُ مسعود: إذا سمعتم هادًّا (¬3) من السَّماء فَافْزَعُوَا إلى الصَّلاة (¬4). وقال أبو حنيفة: مَنْ فعلَ فقد أحسنَ، ومن لا فلا حَرجَ (¬5). ولم يأت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْ وجهٍ صحيحٍ أنّ الزّلْزَلةَ كانت في عَصْرِهِ، ولا صحّ عنه فيها شيءٌ، وقد كانت أوَّل ما كانت في الإسلام على عَهْدِ عمر فانكرها، وقال: أَحْدَثْتُمْ واللهِ، لَئِنْ عَادَت لأَخْرُجَنَّ من بين أَظْهُرِكُمْ. رواه ابن عُيَيْنَة (¬6). ورَوَى حمّاد بن سَلَمة، عن عبد الله بن الحارث، قال: زلزلت الأرضُ بالبَصْرَةِ، فقال ابنُ عبّاس: واللهِ ما أَدْري أَزلزلَتِ الأرضُ، فقام فصَلَّى بالنّاس مثل صلاة الكُسُوفِ (¬7). وهذا (¬8) ليس بمعمُول به. المسألة التّاسعة: ومن سُنَّةِ صلاة الكُسُوفِ أنّ تُصَلَّى في المسجد دون المُصَلِّى، حَكَى ذلك عبد الوهّاب (¬9) عن مالك. ووجه ذلك: أنّ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - صلاها في المسجد. ¬
ذكر الفوائد المنثورة في هذا الباب: وهي عشر: الفائدة الأولى: قوله (¬1): "الشَّمسُ والقَمَرُ آيتان من آيات الله، لا يَخسِفَانِ لِموْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيتُمْ ذَلِكَ" فَذَكَر ستّ خصالٍ عامّة وخاصّة: اذْكُرُوا الله، ادْعُوا الله، كَبِّرُوا، صَلُّوا، اعْتَقِوا، ذلك* قولُه: "آيَتَانِ منْ آياتِ الله". فإن قيل (¬2): وأَيُّ آيةٍ في الكُسُوفِ، وإنّما (¬3) هي حيلولة القمر (¬4)، وكسوف (¬5) القمر أنّ يقع (¬6) في ظلِّ الأرض، وهي أمورٌ حسابيّة؟. الجواب - قلنا: طُلوعُ الشّمس وغُرُوبها آية، والسّموات والأرض كلّها آيات، إلَّا أنّ الآيات على ضربين: منها: مستمرٌّ عادةً. ومنها: ما يأتي نادرًا يخالف الاعتياد. فأمّا المستمرُّ، فقد رتّبت الشّريعة ما رتبت عليه، وأمّا النّادرُ فيشق (¬7) أنّ يُحْدَثَ لها عبادة (¬8)، فيكون جريان ما يخالف الاعتياد ذكرًا لقلبه وصقلًا لصَدئه (¬9). مزيد إيضاح (¬10): اعلموا -وفقكم الله للرَّشادِ- أنّ شيئًا من الأمور العُلْوِيّة في السّموات ليس لها ¬
تأثيرٌ في الموجودات الأرضيّة، لا من الأَبْدَانِ ولا مِنَ الأَموال (¬1)، ولا من شيءٍ من الأشياء؛ لأنّه قال قوم من الّذين لا يعلمون: إنّ قوله: "لا يَخسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ" إشارةٌ إلى أنّها مُوجِبَة لمَوْتٍ وَفَقْرٍ وعَزل ونازِلَة سواء، وهذا كلام كافر ملحد لا يُلْتَفَتُ إليه مع هذا الحدَيث الصّحيح. ولأنَّ الكُلَّ يتعلَّقُ بقدرة الله سبحانه، وهو الّذي يخلقُ بعضها من بعض، ويخلق بعضها في إثر بعض. فإذا رآه الغافل (¬2) قال: هذا من هذا {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (¬3). نكتةٌ (¬4): قال الإمام: ومن أَغْرَبِ ما سمعتُ في الدُّنيا، ما أخبرنا أبو الحسن المبارَك بن عبد الجبَّار ببغداد، قال: حدَثنا أبو القاسم محمّد بن عبد الملك (¬5)، قال: حدّثنا محمّد بن عطية الزّاهد؛ أنّه قال: أَنْفَاسُ العَبْدِ الّتي تجري في بَدَنِهِ وتخرجُ على فَمِهِ، هي الّتي تُحرِّكُ الأفلاكَ في السّماوات عَدَدًا بعَدَدٍ، وتقديرًا بتَقْدِيرٍ. وذُكِرَ ذلك عن جماعةٍ من الأوائل الكَفَرَةِ، فاضْرب طائفة بطائفة، وارجع إلى الله في الجميع. الفائدة الثّانية: قوله (¬6):" يُخَوِّف اللهُ بهما عِبَادَهُ" أمّا على تقدير أهل الحساب، فيخوِّفُ اللهُ بهما عبادَه الّذين لا يعقلون من العَوَّامِّ، وأمّا أهل الخصوص الذين أَحَاطُوا بالسّماوات والأرض (¬7) {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} الآية (¬8). ووجه التّخويف: أنّ الشّمس والقمر إذا أدركه التّغيير مع عُلُوِّ شأنه وارْتِفَاعِ مكانه، فكلُّ شيءٍ دُونَه أَوْلَى بذلك منه أو مثله، وفي الّذي يُصيبُه من التّغيير اليسير الآنَ علامةٌ وإنذارٌ لما يصيب (¬9) من الفساد. ¬
الفائدة الثّالثة: قوله (¬1): "أمّا بعد: إنّ الشَّمس والقَمَر". قوله: "أمّا بَعْدُ" فهي كلمةٌ تقولُها العرب الاُوَل، وهي من أفصح ما انْفَرَدَت به، وهو حرفٌ وُضِع لتجديد الخبر عمّا سواه بعد ما تَقَدَّمَهُ، جعلت مقدّمة له وفاتحة لسَوْقِهِ. وقال بعض الشّارحين للحديث: هذا من أفصح الكلام، وهو فصل بين الثَّنَاءِ على الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين ابتداء الخَبَرِ الّذي يريدُ الخطيبُ إعلامَ النّاس به. وقال بعض أهل التّأويل في قوله تعالى عن داود -عليه السّلام-: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (¬2) إنه أمّا بعد (¬3). الفائدة الرّابعة (¬4): قوله (¬5): "يا أُمَّةَ محمَّدٍ، والله، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا". قال الإمامُ: هذا موضع هوَّلت به المبتدعةُ والمُلْحِدَةُ على أهل الدِّينِ، فقالوا: إنّ فيما أخبر النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - به من الأخبارَ الأُخْرَاوية أمورًا عظيمة ومعاني غريبة، وذكروا أَبَاطِيلَ كثيرة، وليس في قوله: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ" إلَّا أحد معنيين: أ- الأوّل - أنّ معناه: لو علمتم عذابَ اللهِ بالمشاهدة (¬6) كما رأيتُه أنا في النّار، لَبَكَيْتُم. 2 - أو يكون معناه: لو دام عِلْمُكم كما يدوم عِلْمِي؛ لأنّ علم الأنبياء صلوات الله عليهم متواصلٌ لا يقطعه (¬7) جَهْلٌ، ولا يُدْرِكه سَهْوٌ ولا خَيَالاَتٌ ولا غفلات. ¬
وقال بعضُ الشّارحين للبخاري: إنّ قوله: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُم كثيرًا" إنّما قال لهم ذلك؛ لأنّهم كانوا مُقْبلِينَ على اللَّهْو واللَّعِبِ، وكذلك كانت عادة الأنصار قديمًا، يُحِبُّونَ الغِنَاء واللَّهو والضَّحِك. ألَّا ترى إلى قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لعائشة في إقبالها من عُرْسٍ: "هل كان عندكم لَهْوٌ؛ فإنّ الأنْصَارَ تُحِبُّ اللَّهْوَ" (¬1) فدلَّ أنّ اللَّهْوَ من الذُّنوب ألتي تَوَاعد النّبيُّ (¬2) عليها بالآيات، ولقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (¬3) وهذا ضعيف جدًّا. الفائدةُ الخامسة: قوله (¬4): "فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ" يريد أنّه أتَى بكلامٍ على نَظْمِ الخُطْبَةِ (¬5). ثمّ قال (¬6): "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، واللهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَزْنِي، أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي". توجيه (¬7): قوله: "مَا مِن أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ" والغَيْرَةُ هي تغيّر النَّفْسِ عند الحِفَاظِ على الأهل والقيام بالأَنَفَةِ في حمايتمما، وذلك كله مُحَالٌ على الله تعالى؛ لأنّه الموجودُ الّذي لا يتغيّر. وإنّما ضَرَبَ ذلك مثلًا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عبّر به عن وعيد الله في الزِّنا، وعن (¬8) عقوبته عليه في الدُّنيا بِالجلْد والرَّجْمِ، وفي الآخرة بالنَّار. والغيور إذا وجد في- نفسه الحِفَاظ قالَ وفعلَ، فعبَّرَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عن وَعِيدِه وعَذَابِه بالغَيْرَةِ، تقريبًا له إلى الأفهام، على ما قدَّمنا لكم من قَبْلُ. قال المُهَلَّبُ (¬9): وفيه دليلٌ على أنّ أكثر ما يُهَدَّدنَ عليه في ذلك الوقت بالكُسُوفِ، كان ذلك من أجل الزِّنَا، وذَلك عظيمٌ. ¬
الفائدة السّادسة (¬1): قوله: "وَاللهِ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ" أقْسَمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وإن كان لا ارْتِيَابَ في صِدْقِهِ - على معنى التَّأكيد والابلاغِ، ونادَاهُم: "يا أُمَّةَ محمَّد" على إظهار الإشفاق عليهم. الفائدة السّابعة (¬2): في تحقيقِ قوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬3): "رأيتُ الجنَّةَ والنَّارَ في عُرْضِ هذا الحائط". قال الإمامُ: قد بَيَّنَّا لكم أنّ البارئ تعالى يخلقُ الإدراكَ لخَلْقِهِ لمن شاءَ إذا شاء حتّى يدرك وهو في مقامِهِ من العَرْش إلى الفَرْشِ، ومن آخِرِ المَلَكُوت إلى بَطْنِ الحُوتِ، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية (¬4). وقد قالت قُرَيْش للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: إنّ كُنْت دخلت بيتَ المَقدِسِ فَصِفْهُ لنا، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فَكَرِبتُ كُربَةً مَا كُرِبتُ مِثلَهَا قَطُّ، فَجَلَا اللهُ لِي عَنْ بَيْتِ المَقدِس عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ بالبَلَاطِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آياتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" (¬5). فيخرُجُ من هذا أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لَا تَخْلُو رؤيتُه للجنَّةِ والنَّار في عُرض الحائط من أَحَدِ معنيين: 1 - إمَّا أنّ يُمَثَّلَا له في عُرْضِ الحائِطِ، فينظر لذلك (¬6) المثال الشّبهىّ المِثْليّ. 2 - وإمّا أنّ ينظر إليها حقيقة، كمانظر إلى بيت المَقْدِس، وكما نظر إبراهيمُ إلى ملكوتِ الله تعالى ففرجت له السّماوات، فَنَظَرَ إلى ما فيهنَّ، حتّى انتهى بَصَرُهُ إلى العَرْشِ. وفُرِجَتْ له الأَرْضُون السَبع، فَنَظَر إلى ما فيهنّ، حتّى انتهى بَصَرُهُ إلى الفرش الّذي عليه الحُوت، إلى آخر الملكوت ملكوت السَّماوات والأرض. اعتراض (¬7): فإن قيل: وَكيف تكون الجنَّة والنّار في عُرْضِ الحائطِ، وهما أعظم من ¬
السماوات والأرض؟ قلنا: حضرتُ يومًا مجلسًا جرى فيه السُّؤالُ، فقال بعض الأشياخ: "صقلَ اللهُ له الحائطَ، ثم كشفَ له الحُجُبَ، فتمثَّلَت له الجنَّة والنَّار في ذلك الجِرْمِ الصَّقِيلِ" فهذا تقصير (¬1) عَظيمٌ، وذلك وإن كان جائزًا في حُكمِ الله وهو دون قُدْرَتِه، ولكن لا تَدعُو الحاجةُ إليه، وإنّما يُعدَلُ عن الظَّواهر إذا خَالَفَتْهَا أدلّة العقول. وقوله: "في عَرْضِ الحَائِط" متعلّقٌ بقوله: "رَأَيْتُ" كما قال (¬2): (وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَينٍ حَمِئةٍ" (¬3). فقيل: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} متعلق جـ {وجدها}، لابـ {تَغْرُبُ}، كما تقول: غَرَبتِ الشّمس في البَحْرِ، وذلك مجازٌ ما رأَتْه العين، وغاية ما أَدْركَهُ البصر. والقولُ الأوَّل أصحّ. وأمّا الثّاني، يجوز أنّ يكون قوله: {في عَين حمَئَة} متعلقًابـ: {تَغرُبُ}. نكتةٌ فقهية لغوية (¬4): قوله في الحديث (¬5): "رَأَينَاكَ تنَاوَلْتَ مِنْهَا شَيئًا ثُمَّ تَكَعْكَعْتَ" معناه عند أهل اللُّغَةِ: احْتَبَسْتَ وتَأَخَّرْتَ. ومعناه عند الفقهاء: تقهقرت، والمعنى واحدٌ (¬6). الفائدة الثّامنة (¬7): قوله (¬8): " تَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، فَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنيَا". قال علماؤُنا: وإنّما ذلك؛ لأنّ طعام الجنَّة مخصوصٌ بصِفَتَيْنِ: إحداهما: عدم التَّغيير والاستحالة. ¬
والثّانية: عدم الانقطاع بدَوَامِ البَقَاء، كلَّما قُطِعَت منه حبَّة نشأَت مئة، كطعام البَرَكَة. وقد قال بعض النَّاس (¬1): إنّ طعام الجنَّة إذا رآه العبدُ، خَلَقَ الله له مثله في البَطْنِ. وليس كذلك، بل نقول: يقطعه وياكله، ويخلف موضعه، وقد بيَّنَّا ذلك. الفائدة التّاسعة (¬2): قال علماؤنا (¬3): فيه الكلام با "لو"، وذلك أنّ العربَ تقولُ في "لو" إنّها تجيء لامتناع الشَّيْءِ بامتناع غيره (¬4)، كقوله -عليه السّلام-: "لوْ كان بَعْدِي نَبيٌّ لكان عُمَر" (¬5) ولا سبيل أنّ يكون بعدَهُ نبيٌّ، كما لا سبيلَ أنّ يكون عمر نبيًّا، فلم يأخذه - صلّى الله عليه وسلم - ولم يأكل منه في الدُّنيا؛ لأنّ طعام الجنَّة باقٍ أَبدًا لا يَفْنَى، ولا يجوز أنّ يكون شيءٌ من دار البَقَاء في دار الفَنَاءِ. وقد قَدَّرَ اللهُ تعالى أنّ رزق (¬6) الدُّنيا لا ينال إلَّا بالتَّعبِ فيه والنَّصب، ولا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيه. وأيضًا: فإن طعام الجنَّة إنّما شَوَّقَ اللهُ إليه عبادَه وَوَعَدَهُم نَيْله جزاءً لأعمالهم الصّالحة، والدُّنيا ليست بدار جَزَاء، فلذلك لم يصلح لهم أَكْلُه في دار الدُّنيا (¬7). الفائدةُ العاشرة: قوله (¬8): "وَرَأَينَا أَكثَرَ أَهْلِهَا النِّساء". وفي حديث آخر: "قمتُ على بَابِ الجَنَّةِ، عَامَّةُ من يدخلها المَسَاكِين. وإذا أَصحابُ الجَدِّ محبوسونَ، إلَّا أصحابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ، إلى النَّارِ وقمتُ على بَابِ النَّارِ، فإذا عَامَّةُ مَنْ يَدخلها النِّساءُ" (¬9) ¬
قالوا (¬1): لِمَ يا رسولَ الله، أيَكفُرْنَ باللهِ؟ قال: "لَا، ولكن يَكْفُرنَ العَشِيرَ، ويَكفُرْنَ الأحْسَانَ". تنبيه على وهم (¬2): قال الإمام: هكذا رواه يحيى: "وَيَكفُرْنَ العَشِيرَ وَيَكفُرْنَ الإحْسَانَ" بالواو، والمحفوظ فيه عن مالكٌ من رواية ابن القاسم (¬3)، والقَعْنَبِىّ (¬4) وابن وهب (¬5)، وعامّة رواة "الموطَّأ" (¬6):"يَكْفُرْنَ العَشِيرِ" بغير واو، وهو الصّحيح في الرِّواية في الظّاهر والمعنى. نكتةٌ لغوية: قال ابن السِّكِّيت وأهل اللُّغة (¬7): العشير الخليطُ من المخالطة والمعاشرة، وعليه ينطلق قوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} فالعشيرُ ها هنا هو الزَّوج، والكُفْرُ هو الكُفْرُ بإحْسَانِهِ. وقد أَمَرَ اللهُ تعالى بشُكْرِ (¬8) النِّعَم، وقد جاء في الحديث: "لا يَشْكُرِ اللهَ مَنْ لا يَشْكرِ النَّاسَ" (¬9) وكُفْرُ نِعْمَةِ الزَّوج هو من باب كُفْرِ نعمة الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنّ كلَّ نعمةٍ تصل إليها أو يصل بها العَشِير زوجَهُ، فمن نِعْمَةِ الله أَجْرَاها الله على يَدَيْهِ، وهو معنى قوله: "يَكفُرْنَ الإحسَانَ"، أراد كفرهنّ حق الزَّوج ونعمة الله الّذي ينعم بها عليها، فهي تُعَذَّبُ على ذلك في النَّار. وقد جاء في الحديث من طرق صحاح (¬10)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "لا ينظر اللهُ إلى امرأةٍ لا تعرفُ حقَّ زوجِهَا، ولا تشكره، وهي لا تستغني عنه" (¬11). ¬
ما جاء في صلاة الكسوف
قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ العَبْدَ يُعَذَّبُ على الجحد للفَضْلِ والإحسان وشُكْرِ المُنْعِمِ. وقد قيل: إنّ شُكْرَ المُنْعِمِ فريضةٌ. الأصول (¬1): اعلم أن الله تعالى خَلَقَ الجنَّةَ وخلقَ لها أَهْلًا، وخَلَقَ النَّار وخلَقَ لها أهلًا، ثمّ يسَّرَ كل أحدٍ لما خَلَقَهُ له، ويسَّرَهُ لعَمَل يُؤَدِّيه إليه وجَبَلَهُ (¬2) عليه. فخَلَقَ المعصيةَ في النِّساء أكثر، ونُقْصَان الجِبِلَّة فيهن أَوْفَى. فيكون في هذا الحديث: أن العبدَ يدخلُ النّار بالمعاصي، وإن كان معه الإيمان، ردًّا على المرَجئة، وقد بَيَّنَّاه في موضعه. ما جاء في صلاة الكسوف مالك (¬3)، عن هشام بن عُروَة، عن فاطمة بنت المُنْذِر، عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ؛ أنّها قالت: أَتيتُ عائشةَ زوجَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين خَسَفَتِ الشَّمسُ، فإذا النّاسُ قِيَامٌ يُصَلَّونَ، وإذا هي قائمةٌ تُصَلِّي. الحديث إلى آخره. الفوائد المتعلِّقة بهذا الحديث: الفائدة الأولى: قال علماؤنا: إنّما أرادت أسماء بقولها: "أتَيتُ عَائِشَةَ حينَ خَسَفَتِ الشَمسُ" أن تُبَيِّنَ بهذا الحديث رَدّ قول من قال: إن الكسوتَ للشَّمس والخُسُوف للقمر، لقوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (¬4) رُوِيَ ذلك عن عروة بن الزُّبير في الآثار (¬5) الثّابتة؛ أنّ الكسوف والخُسوفَ مقولان في الشَّمس والقمر جميعًا، فمنها حديث عائشة في هذا الباب؟ أنّهما آيتان من آيات الله لا يَخسِفَانِ لموتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ (¬6). وكذلك رواه أبو بَكْرٍ، وأَنَس، وابن عمر، والمُغِيرَة، وشُعْبَة، وأبو مسعود الأنصاري، فلا معنى لإنْكَارِهِ. ¬
الفائدةُ الثّانية (¬1): فيه من الفقه؟ حضورُ النِّساء صلاة الكُسُوف مع الجماعة، واختلفَ الفقهاءُ فيمن يشهدها من النِّساء. فرخَّصَ مالك والكوفيُّونَ للعجائز أنّ يحضرن ويخرُجْن في الكسوف، وكرهوا ذلك للشَّابَّةِ. وقال الشّافعيّ (¬2): لا أكرهه لهن -أعني العجائز- ولا لمن لا هيئة لها بارعة من النِّساء، ولا للصَّبِيَّةِ شهودَ صلاة الكسوفِ مع الإمام، بل أحبُّه لهنّ وأحِبُّ لذاتِ الهَيْئَةِ أنّ تصلِّي في بيتها. ورأى إسحاق أنّ يخرجن شبابًا كُن أو عجائز ولو كن حُيَّضًا، وتعتزلُ الحُيَّضُ المسجدَ ويعتزِلنَ منه (¬3). الفائدة الثّالثة (¬4): فيه من الفقه: جواز استماع المُصَلِّي إلى ما يُخْبِره به مَنْ ليس في الصّلاة. الفائدة الرّابعة (¬5): فيه جواز (¬6) إشارة المُصلِّي بَيَدِهِ أو بِرَأْسِه لمن يسأله مرَّة بعد أخرى؛ لأنّ أسماء قالت (¬7):"فَقُلْتُ: آيةٌ؟ فأشارت عائشة أنّ نَعَم" وإنّما أشارت نَعَمْ برأسها، وقد كانت أَشَارَت بِيَدِها إلى السَّماءِ (¬8). الفائدةُ الخامسة (¬9): فيه: أنّ صلاةَ الكُسوفِ قيامها طويلٌ (¬10)، لقولها: "فَقُمْتُ حتَّى تَجَلَّاني ¬
الغَشيُ" وهو حُجَّةٌ لمالك والشَّافعيّ (¬1) على أبي حنيفة في قوله: إنّ صلاة الكُسوفِ إنّ شاءَ قصرها كالنَّواَفِلِ (¬2). الفائدة السّادسة (¬3): قولها (¬4): "وجعلتُ أَصُبُّ فوقَ رَأْسِي المَاءَ" دليلٌ على جواز العمل اليسيرِ في الصّلاة. الفائدةُ السابعة (¬5): فيه (¬6): أنّ تفكُّرَ المصلِّي ونَظَرَهُ إلى القِبْلَة في صلاته جائزٌ، لقوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬7): "ما من شيءٍ كنتُ لم أَرَهُ إلَّا وَقَدْ رأيتُه في مقامِي هذا، حَتَّى الجنَّةُ والنّارُ". الفائدة الثّامنة: في تحقيق عذاب القبر قوله (¬8): "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُم تُفْتَنُونَ في القُبُورِ" فيه دليلٌ على أنَّ فِتْنَةَ القبر حقٌ لا رَيْبَ فيه (¬9)، وقد اصطفقت (¬10) عليه أهل السُّنَّة والجماعة. والدليل عليه: الحديثُ الصّحيح والقرآن الفصيحُ. أمّا الأحاديث، فهي كثيرةٌ لا تُحْصَئي، وأبين وأشهر من أنّ تُسْتَقصى. منها حديث أسماء في "الموطَّأ" (¬11)، و"البخاريّ" (¬12)، و"التّرمذيّ"، و"النّسائي" (¬13). ¬
وحديث العَبْدَيْن (¬1) اللَّذَيْن يُعَذَّبان على البَوْل والنَّميمة. وقولُه في مُنكر ونَكِير وهما: "مَلَكانِ أَسوَدَانِ" (¬2) عظيمان، وذَكَر رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - من غلظهما وفضَاعتهما أمرًا عظيمَا، يقيمان الميِّتَ أوَّل مدخَلِه بعد تسوية التُّرَابِ عليه، حتّى أنّه ليسمع قَرْع النِّعَالِ، فيقولان له مَنْ ربُّكَ؟ ومن نَبيُّكَ وما دِينُكَ. الحديث (¬3). ومن دعائه عليه السّلام؟ "أنّ يقِيَهُ اللهُ فِتْنَةَ القَبْرِ" وكان كثيرًا ما يستعيذُ من ذلك، وقولُه: "إنّ للقبر ضمّة" لا بُدَّ منها لكلِّ مَقْبُورٍ، حتّى يفسحها عليه حسن عمله، أو تزيدها ضيقًا سيِّئاته. وتلك الضّمة هي ضيق القبر وفتنته وظلمته ووحشته. وأمّا الدّليلُ والشّواهدُ على ذلك من القرآن العزيز، فشيءٌ ظاهرٌ لأهل البصائر والمعارف، وذلك في ثمان آيات: أحدها - قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} الآية (¬4) الثّانية - قوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} الاَية (¬5). الثّالثة - قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬6). الرّابعة - قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (¬7). الخامسة - قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الآية (¬8). السّادسة - قوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (¬9). السّابعة - قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الاَية (¬10). ¬
الثامنة - قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الآية (¬1). والآيُ في القرآن لا تُحْصَى. الأصول: قال المؤلِّفُ -أيَّدهُ الله-: قد بيَّنَّا في عذاب القبر الأحاديث الصِّحاح، والآيات الفِصَاح، النِّيِّرات مثل فَلَقِ الصَّباح، وإنّها أصلٌ من أصول السُّنَّةِ الّتي أَطْبَقَتْ (¬2) عليها الأُمَّة، وهذه المسألة لا يُنكرها إلَّا غَبِيٌّ أو جاهلٌ مُلْحِدٌ. فإن قيل: كيف قال: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الآية (¬3)، والموتُ موضع إشكالِ؟ الجوابُ - قلنا: اعلم أنّ المرءَ يُصَرَّفُ بين الحياة والموت منذ خُلِقَ إلى أنّ يدخلَ الجَنَّة أو النّار خمس مرات. الأولى: في صُلْبِ آدم، ولا يُؤمِن بها إلَّا سنِيٌّ، على ما يأتي بيانُه في "كتاب الجامع". والثّانية: حياةُ الدُّنيا ولا ينكرها أحدٌ؛ لانّها مشاهَدَةٌ. والثالثة: في القبر، ولا تَضِيقُ عنها إلَّا حَوْصَلَة مُلْحِد. والرّابعة: حياة الآخرة. والخامسة: رُوِيَ في بعض الآثار؟ أنّ الله أَمَرَ إبراهيم يُنَادِي: أيّها النَّاس حجُّوا، ثمّ أَوْجَد لهم الخَلْقَ وأسمعهم النِّدَاء، فَمَن أجابَ حَجَّ. وهذا جائزٌ في حُكْمِ الله سبحانه وقُدْرته لَوْ صحَّ. ومعنى قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬4) أي اعلِمْهُم أنّ لله عليهم هذه الفريضة. ¬
اعتراض (¬1): فإن قيل: فأنتم تقولون: يقام الميت ويقعد، ونحنُ نشاهِدُه ساكنًا لا يتحرّك بوَجْهٍ! قلنا: إنّ كان هذا السّائل كافرًا، فكلامُنَا معه في كُتُبِ الأصول، فيتبين متعلّق القدرة وكيفيّة الادراك، كان كان من القَدَرِيّة الّذين يقولون إنّ كان الميِّت يقام ويقعد ولا يُرَى، ويصيحُ فلا يُسْمَع، فهو من باب إنكار المحسوسات. قلنا: قد كان جبريل -عليه السّلام- ينزلُ على النّبي - صلّى الله عليه وسلم - بالوحي مثل صَلْصَلَةِ (¬2) الجَرَسِ (¬3)، فيفهم عنه ولا يسمع أحدٌ ما يقول. والذي تحومون عليه مع إخوانكم الفلاسفة الكَفَرَة على إنكار ذلك كلِّه. ونحن لا نشترط أنّ يسمع واحدٌ مِنَّا مَا يَسمعه الآخر معه في موضعه، ولا أنّ يراه كما يراه، وإنّما السَّمعُ والرُّؤية أمران يجعلهما الله تارة للحيِّ (¬4) بِجَرْيِ العادةِ ليستوي فيها المجتمعون. وتارةً يَخرُق العادة فيتقاولونَ في ذلك ويختلفون، ومَن لم يؤمن إلَّا بما يرى ويسمع فهو كافرٌ مُلْحِدٌ، وإنّما يسمع كلٌّ من حيث أُسْمعَ، ويُبصِر الّذي أُبْصرَ، ويختار الّذي اخْتِيرَ له. وهذا الغرض كافٍ والحمدُ لله، وسيأتي بيانُه في "كتاب الجنائز" (¬5) إنّ شاء الله. الفائدة الثّامنة (¬6): قوله (¬7):" وأمّا المنافقُ أوِ المُرْتَابُ" وقوله (¬8): "المُؤمِنُ أوِ المُوقِنُ " هو شكٌّ من الرَّاوي (¬9)، والأظهرُ أنّه المُؤْمِن، لقوله: "فآمَنَّا" ولم يقل: أَيْقَنَّا. "فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ" النّومُ ها هنا العودةُ إلى ما كان عليه. ووَصْفُه بالنَّوم وإن كان مَوْتًا لما يصحبه من الرَّاحة وصلاح الحالِ. ¬
وقولُهُ: "قَدْ عَلِمْنَا إنّ كنتَ لَمُؤمِنًا" يدلُّ على أنّه المُؤمِنُ المذكورُ في هذا الحديث لا المُوقِن. الفائدة التّاسعة (¬1): قوله (¬2): "وأمّا المُنَافِقُ أوِ المُرْتَابُ" فالمنافقُ عندنا هو الّذي ينطقُ بخِلاَف ما يُظْهِر، والمرتابُ هو الشَّاكُ، ومعناهما متقارِبٌ في الكُفْرِ. "تقُولُ لا أَدْرِي، سمعتُ النَّاسَ يقولونَ قَوْلاَ (¬3) فَقُلْتُهُ" وهو أقربُ إلى المَعْنَى من المُرْتَاب، وقد أوضحنا الحُكمَ فيمما تقدَّمَ، فَلْيُنْظَر هنالك، والحمدُ للهِ. ¬
كتاب الاستسقاء
كتاب الاستسقاء وفيه ثلاثة أبوابٍ: الباب الأوّل العمل في الاستسقاء العربية (¬1): الاستسقاء هو طَلَبُ السُّقيِ (¬2)، كما أنّ الاستصحاء هو طَلَبُ الصَّحْوِ (¬3)، وقد استسْقى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - واسْتَصْحَى. الإسناد: مالك (¬4)، عن عبد الله بن أبي بَكر بن محمّد بن عَمْرِو (¬5) بن حَزمٍ؛ أنّه سمعَ عَبَّادَ بن تَمِيمٍ يقولُ: سمعتُ عبد الله بن زَيْدٍ المَازِنِىَّ يقولُ: خرجَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى المصلِّى فَاسْتَسْقَى، وحَوَّلَ رِدَاءَهُ حينَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. تنبية على وَهْمٍ: قال الإمامُ: ومنَ الغريبِ قول ابن عُيَيْنَة على سَعَةِ مَعْرِفَتِهِ وبحبوحَتِه بالأخبار؛ أنَّه كان يقول (¬6): عبدُ الله بن زَيْد هذا هو صاحب الأَذَانِ. وهو (¬7) وَهَمٌ؛ لأنّ عبد الله بن زَيْد بن عاصِم المَازنى الأنصاري هو مازِنُ الأنصار. ومالك هكذا روى هذا الحديث الأوّل ولم يذكر فيه الصّلاة، رواه سُفْيَان ابن عُيَيْنَة، ¬
عن عبد الله بن أبي بكر، فذَكَرَ فيه: فَصَلَّى ركعَتَيْنِ (¬1). ورواه أبو داود (¬2)، عن معمر، عن الزَّهريِّ، عن عبَّاد بن تَمِيمٍ، عن عمَّه؛ أنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - خرج بِالنَّاسِ فَصَلَّى ركعتين جَهْرًا بالقراءة فيهما، وحوَّل رِدَاءَهُ، ورَفَعَ يَدَيهِ يَدْعُو، فدعى وَاسْتسْقَى واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. رواه البخاريُّ (¬3) عن أبي نُعَيْم (¬4)، عن ابن أبي ذِئْبٍ، عن الزُّهْرِيّ، عن عبّاد، نحوه، وهو حديثٌ صحيحٌ، والعملُ عليه بالمدينة؛ أنَّه صلّى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقِرَاءَةِ. والأحاديثُ فيه كثيرةٌ، فلا معنى للتَّطَوُّلِ بها عليكم. الفقه في أربع عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬5): قوله: "خرجَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى المُصَلَّى" قال علماؤنا (¬6): هو نَصٌ في البُرُوزِ إلى الاستسقاء، ولا خلافَ أنّه يبرزُ إليها؛ لأنّ (¬7) أهل العلم أجمعوا على جواز الخروج إلى الاستسقاء عند إمساك الغَيْثِ عَنْهُم. وصِفَةُ الخروجِ (¬8) عند مالك: أنّ يخرجَ الإمامُ إلى المصلَّى متواضعًا ماشيًا غيرَ مُظهِر لزِينَتِهِ. ووجه ذلك: أنّه خرج على وجه التَّضَرُّعِ والتَّذَلُلِ. وحُجَّتُه (¬9): الحديث الّذي أخرجه التّرمذيّ (¬10)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - خرجَ إلى الاسْتِسْقَاءِ مُتبَذِّلًا لَا مُتَقَنِّعًا (¬11). ¬
العربية (¬1): قوله (¬2):" مُتبَذلًا" يريد في بذلته، لم يجدِّد كسوته ولا استأنف لبسه (¬3) كما في العيد. "متواضِعَا مُتَضَرِّعَا": متخشعًا، فيَبْدُو عليه أثر التَّذَلُّلِ حال المُذْنِبِ الخَائِفِ، متوَسِّلًا إلى الله. والوسيلةُ: فعيلةٌ، وهي السبب الّذي يحاول به المطلوب. وقوله: "مُتَقنِّعًا" (¬4) يريد أَقْنَعَ إذا رَفَعَ رأسَهُ إلى السَّماء وصوته ويَدَيْهِ في الدُّعاء. وقال أهلُ اللُغة: أَقنَعَ، إذا رَفَعَ رأسَهُ لا يلتفتُ. وقوله (¬5): "قَحَطَ المَطَرُ" يعني قِلَّته وانقطاعه (¬6). كما يقال: زمانٌ قاحطٌ، وعامٌ قاحطٌ. قال الإمام (¬7): قحطَ المطرُ، وأَقحَطَ النّاسُ، يعني: دَخَلُوا في القَحْط. نكتَةٌ صوفيَّةٌ (¬8): قوله (¬9): "خَرَجَ مُبْتَذِلًا" يعني لم يتجمَّل كما يتَجَمَّل للعيد، والحكمة في ذلك - والله أعلم- أنّ الرَّجُلَ يخرجُ للعِيدِ بهيئته (¬10) وقد قدّم عمله ليَفِدَ بِهِ (¬11) على مَوْلَاهُ، فيتجمَّل تَجَمُّلَ الوَافِدِ، والمُسْتَسْقِي يرى أنّه معتوبٌ، فيخرجُ خروجَ الذَّليلِ المتوَسِّلِ، واللهُ أعلمُ. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قال علماؤنا: الخروج عندنا للاستسقاء سُنَّةٌ، والصَّلاةُ والخُطْبَةُ وتحويلُ الرَّداء. وقال أبو حنيفة: هي بدعةٌ (¬2). وما قلناه أصحّ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ثبت ذلك عنه مرارًا. أمّا أنّ أبا حنيفة له تعلُّقٌ بأنّه قد اسْتَسْقى في المسجد، ولو كان سُنَّة لما كان إلَّا بروزًا كالعيد (¬3). قلنا: استسقاؤُهُ في المسجدِ يحتملُ أنّ يكون قبلَ خروجه وخُطْبَتِهِ وصلاته ويحتملُ أنّ يكون بَعد، فلا تُتْرَكُ السُّنَّة بالاحتمال. ويحتمل أنّ يكون ذلك دعاءًا مطلقًا في المسجدِ، ويكون هذا خروجًا مقصودًا (¬4) للسُّنًّة. المسألة الثّالثة (¬5): قال أبو جعفر محمّد بن عليّ: استسقَى رسولُ الله وحوَّلَ رِدَاءَهُ ليتحوَّلَ القَحْطُ. قال الإمام: هذه إشارةٌ بَيْنَهُ وبينَ ربِّه لا على طريق الفَأْلِ، فإن من شَرْط الفَأْلِ أنّ (¬6) لا يكون بقصدٍ، وإنّما قيل له: حَوِّل رِدَاءَكَ فيتحوَّل حالك. فإن قيل؟ فَلَعَلَّ سَقَطَ رداؤه فَرَدَّهُ، فكان ذلك اتِّفاقًا. قلنا: الرَّاوي الشّاهد للحال أعْرَف، وقد قَرنَهُ بالصّلاة (¬7) والخُطبَة والدُّعاء، فَدَلَّ (¬8) على أنّه من السُّنَّةِ، وهو جَهْلٌ عظيمٌ أنّ يفسّر الفِعل مَنْ لم يشاهده بِخلافِ تفسير من شَاهَدَهُ. قال الإمام: والّذي حكاهُ النَّاس من تحويل الرِّدَاءِ إنّما هو على معنى التّفاؤل، والانتقال من حال الجِذْبِ إلى حال الخِصْبِ، وكان النّبيُّ -عليه السّلام- يحبُّ الفَأل الحَسَنُ. فالحُجَّةُ ما قدَّمناهُ، من أنّ ذلك لم يكن للفَأْل؛ لأنّ من شَرْطِ الفَاْلِ ألَّا ¬
يكونَ بمقصدٍ، وإنّما قيل له: حوِّل رِدَاءَكَ فيتحوّل حالك. المسألة الرّابعة (¬1): قوله (¬2): "وَاستَقْبِلِ القِبْلَةَ" يريد للشُّروع في الصّلاة، وإلّا فليس في الدُّعاء استقبالٌ، إنّما السّماء قِبْلَة الدُّعاء، والكعبةُ قِبْلَة الصّلاة، وهو أمر ممّا اختلفَ العلماءُ فيه: فقال مالكٌ والشّافعىّ (¬3): هو سُنَّةٌ. وقال أبو حنيفة: ليس ذلك من سُنَّةِ الاستسقاء. وحُجَّةُ مالك: أنَّه قال في حديث الزُّهريّ: "واسْتَقْبِلِ القِبْلَة" وهو نصٌّ في موضع الخلاف. وقد اختلفَ قولُ مالكٍ في استقبالِ القِبْلَةِ متى يكون؟ فَرَوَى عنه ابنُ القاسم أنّه يفعلُ ذلك إذا فَرَغَ من خُطْبَتِهِ. وقال عنه ابن زياد: يفعل ذلك في أثناء خُطْبَتِهِ يستقبلُ القِبْلَةَ ويَدْعُو ما شاءَ، ثم ينصرف فيستقبلُ النّاس ويُتمَّ (¬4) خُطْبَتَه. ورَوَى ابنُ حبيب عن أَصْبَغ؛ أنّه اختارَ ذَلِكَ. المسألة الخامسة (¬5): قولُهُ (¬6): "يبدأُ بالصَّلاةِ قبلَ الخُطبَةِ" هذه مسألةٌ اختلفَ فيها قولُ مالك، فكانَ يقولُ زَمَانًا: إنَّ الخُطْبَةَ قبلَ الصّلاة، وبه قال اللَّيث. ثمَّ رجعَ مالك إلى ما في المُوطّأ، فقال: "الصّلاةُ قبلَ الخُطْبة" كصلاة العيد (¬7)، وبه قال جماعة الفقهاء (¬8). ¬
وقال أبو حنيفة: لا صلاةَ فيها، وإنّما هي تذكيرٌ وتخويفٌ (¬1). واحتجَّ بالحديث الّذي لم تذكر الصّلاة فيه، حديث زيدٍ. والحُجَّة لنا: أنّه صلاةٌ كصلاةِ العيدِ ركعتان. المسألة السّادسة (¬2): قوله (¬3): "وكَبّر" قال الإمام: هذا أَمْرٌ تَفَرَّدَ به بعض الرُّواة عنِ ابنِ عبَّاس بضَعْفِ طريقه. ويحتملُ أنّ يكون من تَمَامِ تفسير الرَّاوِي لِصِفَةِ صلاة العيد المُجْمَلَة في سائر الطُّرُقِ، فلا تكون فيها حُجَّة. وقال (¬4) مالك: لا تكْبِيرَ في صلاة الاستسقاء. وقال الشّافعيّ (¬5) يُكَبِّرُ فيها كالعِيدَيْن. وحُجَّتُه (¬6) الحديث الّذي في التّرمذيّ (¬7)؟ أنَّه كَبَّرَ. قال الإمام: والأظهر عندي أنّه لم يثبت فيها تكبيرٌ، فهو كصلاةِ الكُسُوفِ سواء. المسألة السّابعة (¬8): هل يُخْرَجُ لها مِنبَرٌ أم لا؟ وقد رُوِيَ في ذلك حديث أبي داود (¬9)؛ الخروج بالمِنْبَرِ. قلنا: الحديثُ ضعيفٌ؛ لأنّه لم يكن للنَّبىِّ -عليه السّلام- مِنْبَرٌ، وإنّما كان في موضع مُرتَفِعٍ، أو وُضِعَ له شيءٌ لا مرتفعٌ للسَّمَاعِ لجميعِ النَّاسِ (¬10)، ورُبّما تعلَّقَ مروان ¬
بهذا في اتِّخاذه المِنْبَر للعيد، واللهُ أعلم. المسألة الثامنة: في القراءة فيها أمّا الحديث، ففيه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - صلّى ركْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بالقِرَاءَةِ (¬1). قال الإمام (¬2): وهي السُنَّةُ المجتَمَع عليها: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، وإنّما اختلف العلماء في صلاة الكسوف، كما تقدَّم بيانُه. ويُقرَأ فيهما بما تَيَسَّرَ وسهل وبآيات الرَّحْمَة. وقيل: يُقرَأبـ: {إنا أرسلنا نوحا} *، وهذا ضعيفٌ لم أره. المسألة التّاسعة: في الخُطْبَةِ قوله (¬3): "وَلَمْ يَخْطُبْ خُطبَتكُم هَذِهِ" لا حُجَّةَ فيه لأبي حنيفة في إسقاط الخُطْبَة (¬4)؛ لأنّه لم يقل بشيءٍ من الحديث، فلا تَعَلُّق له بِبَعْضِهِ. وإنّما أشارَ ابنُ عبّاس بذلك إلى عادة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في خُطَبِهِ؛ لأنّه لم يكن أَمْرُهُ كلُّه تكَلُّفًا ولا تَصَنُّعًا، وإنّما كان بحسبِ ما يقتضيه الحال وما يحضره من المقال، والخُطْبةُ عندنا في ذلك كصلاته. المسألة العاشرة: في الدُّعاء قال علماؤنا: ويَدْعُو الإمام قائمَا، وليس في الدّعاء شيءٌ مُوَقَّتٌ. ويُسْتَحَبُّ أنّ يَدعُوَ بدعاء النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - لما يُرْجَى فيه من البَرَكَةِ، ويكونُ ذلك مُسْتَقْبلَ القِبْلَةِ وظهره إلى النَّاسِ. وقال بعضُ العلماص (¬5): سُنَّةُ من برزَ إلى الاستسقاءِ أنّ يستقبلَ القِبْلَةَ ببعضِ دُعَائِه، وسُنَّةُ من خَطَبَ النَّاسَ مُعَلِّمًا لهم وواعظًا أنّ يستقبِلَهُم بوَجْهِهِ أَيْضًا، ثمَّ يدعو بدُعَاءِ الاسْتِسقَاءِ (¬6). ¬
المسألة الحادية عشرة (¬1): في رَفْعِ الأيدي في الدُّعاءِ في الاستسقاء وغيره قال علماؤنا: هو مُسْتَحبٌّ. ومنهم من قال: سُنَّة الدُّعاء رفع الأَيدِي؛ لانَّه خُضُوعٌ وتَذَلُّلٌ وتَضَرُّعٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. روى أبو داود (¬2)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؟ أنّه قال: إنّ اللهَ تعالى حَييٌّ كريمٌ يَستَحِي إذا رَفَعَ إليه عبده يَدَيهِ أنّ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. وحديثُ أنس بن مالك (¬3)؟ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يَدَيهِ في شيءٍ من دُعَائِهِ إلَّا في الاستسقاء (¬4). وفي التّرمذيّ (¬5)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يرفعُ يَدَيهِ حتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. قال الإمامُ: كان هذَا من جَمَالِهِ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّ كلَّ إِبطٍ أَسْوَد من سائر النّاس؛ لأنّه مغمومٌ مِرْواحٌ متفالّ، وكان منه - صلّى الله عليه وسلم - مُتَأرِّجًا عَطِرًا. المسألة الثّانية عشرة (¬6): في صفة رفعهما ذكر ابنُ حبيب قال: كان مالك يرى رَفْعَ اليَدَيْنِ في الاستسقاءِ للنّاسِ والإمامِ وبطونهما إلى الأرض، وهو الرَّهَبُ. وأمّا عند الرَّغْبَّةِ والمسألة فَتُبسَطُ الأيدي وهو الرَّغْبُ، وهذا أيضًا معنى قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} الآية (¬7). المسألة الثّالثة عشرة (¬8): في تحويل الرِّداء قال الإمام (¬9): ذهب مالك والشّافعيّ (¬10) وأحمد إلى أنّ الإمام يحولِّ رِدَاءَهُ، ويحوِّل النَّاس أرديتهم بتَحْوِيلِهِ. وقال اللَّيث وأبو يوسُف (¬11) وابن عَبْدِ الحَكَم: يقلبُ الإمامُ رداءَهُ وحدَهُ، ¬
وليس على النّاس ذلك. واحتجَّ ابن عبد الحَكم؟ أنّه ليس في الحديث أنّ النّاس حَوَّلُوا أَرْدِيَتَهُم. وكذلك كان ابن وهب لا يرى التَّحويل للنّاسِ. ويحوِّل الإمام رداءَهُ وهو يَدْعُو قائمًا؛ لأنَّ الإمام سنّته القيام في دعائه مستقبل القِبلَة، فكان تحويلُه رداءَهُ على تلك الحال؛ لأنّه معنًى يُفْعَلُ في نفس الدُّعاءِ. ويحوِّلُ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُم وهم قعودٌ، وهو مذهب مالك - رحمه الله -، ولا أعلم أحدًا قال: يحوِّل النَّاسُ أرديتهم قيامًا، وأمّا ابن وهب، فكان لا يرى ذلك على النّاس إلَّا على الإمام وَحْدَهُ؛ لأنّه من سُنَّتِهِ. واحتج علماؤنا عليه بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ بهِ، فلا تختلفوا عليهإ (¬1) فما فعلَ الإمامُ وجبَ على المأمومِ فعله. المسألة الرّابعة عشر (¬2): في صفة التَّحويل اختلِفَ في ذلك على ثلاثة أقوال: القولُ الأولُ: روى ابنُ القاسم عن مالك (¬3)، قال: يجعل ما على اليُمْنَى (¬4) على اليسرى، وما على اليسرى على اليمنى (¬5). القولُ الثّاني: قال ابن عبد الحَكَم: إذا فرخ من خُطْبَتِهِ استقبلَ القِبْلَة وحوَّلَ رداءَ ما على ظَهْرِه ممّا يَلِي السَّماء، وما كان يلي السَّمَاءَ يلي ظهره. وبه قال أحمد بن حنبل (¬6) وأبو ثَوْر. وقال الشّافعيّ (¬7) بمِصر: يُنكِّسُ أعلاهُ أسفله وأسفله أعلاه. قال (¬8) علماؤنا: التّنْكِيسُ لا يُطلَقُ عليه اسم التّحويل. ¬
ما جاء في الاستسقاء
وقولُه (¬1): "حينَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ" يقتضي أنَّ قَلْبَ الرِّدَاءِ لا يكونُ إلّا عند ذلك (¬2). وحجّته (¬3) الحديث: "ما على اليمنى على اليسرى، وما على اليسرى على اليمنى" (¬4). ما جاء في الاسْتِسْقَاءِ مالكٌ (¬5)، عن يحيى بن سعيد؟ عن عَمْرِو بن شُعَيب؟ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا استسقَى قال: "اللهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وبَهِيمَتَكَ، وانشُر رَحمَتَكً، وأَحْي بَلَدَكَ المَيِّتَ". الإسناد (¬6): قال الإمام هكذا روى مالكٌ هذا الحديث مُرسَلًا، وتَابَعَهُ جماعةٌ على إرساله، ورواهُ جماعةٌ عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدِّهِ مُسْنَدًا منهم حفص بن غيّاث، والثّوري (¬7) وعبد الرحيم بن سليمان (¬8). تمهيد على مخّ العبادة: قال الإمام: "الدُّعَاءُ مُخُّ العبادة" (¬9)، وقد استصرخَ النّاسُ إلى الله بالدُّعاء في الاستسقاء راغبين، وهي عادة الأنبياء والعلماء والصَّالحين والأخيار، صمامامهم ورأسهم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، فَرُوِيَ عنه أنّه اسْتَسْقَى مِرَارًا. وقدِ استَشْفَعَ جماعةٌ من المشركين بالمُسْلِمينَ عند القَحْطِ، منه حديث أبي سُفْيَان؛ أنّه جاء إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال (¬10): يا محمّد، إنَّكَ تَأْمُرُ بصِلَةِ الرَّحمِ وإنّ قَوْمَكَ قد هَلَكُوا، فادْعُ اللهَ لَهُم، فقرأ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (¬11) ثمّ عادُوا ¬
إلى كُفْرِهِم، فذلك قَوْلُه تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} الآية (¬1) فسقوا الغَيْثَ (¬2). حديث أنس بن مالكٌ (¬3)؟ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -: يا رسولَ الله، هَلَكَتِ المَوَاشِي، وتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادعُ اللهَ، فَدَعَا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَمُطِرْنا مِنْ جُمُعَة الى جُمُعَة، فجاءَ رَجُلٌ (¬4) إلى رسول الله. فقال: يا رسولَ الله، تَهَدَّمَتِ البُيُوت، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وهَلَكتِ المَوَاشِي، فقالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ رؤوسُ (¬5) الجبال وَالآكَامِ، وبُطُونُ الأَوْدِيَةِ، ومَنَابِتَ الشَّجَرِ" فَاْنجَابَتْ عن المدينةِ انْجيَابَ الثَّوْبِ. غريبه وفقهه (¬6): وفي ذلك عشرة ألفاظِ (¬7). وفيه (¬8) من الفقه فائدتان (¬9): الفائدة الأولى (¬10): فيه الدُّعاءُ إلى الله تعالى في الاسْتِصْحَاءِ كما يُدْعَى في الاستسقاء؛ لأنّ كلّ أذىً يُفْزَعُ (¬11) إلى الله تعالى في كشفه (¬12)، وقد سَمَّى اللهُ كثِيرَ (¬13) المطر أَذىً، فقال: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} (¬14). وفيه أيضًا: أنّه لا يحوَّل الرِّداء في الاستصحاء، إذْ لا بُرُوزَ فيه ولا صلاةَ له ¬
ينفرد بها، وإنّما يَكونُ الدُّعاء في الاستصحاء في خُطْبَةِ الجُمُعَة، أو في أوقات الصّلوات وأَدْبَارِها. الثّانية (¬1): فيه من الفقه: استعمالُ أدبه (¬2) الكريم وخُلُقِهِ العظيم (¬3)؛ لأنّه لم يدع الله (¬4) تعالى في أنّ يرفع الغَيْثَ جُملَةً، لئلّا يردَّ على الله بَرَكَتَهُ وما رَغِبَ إليه فيه وسأله إيّاه، فقال: "اللَّهُمَّ على رُؤُسِ الجِبَالِ والآكامِ، وبُطُونِ الأَوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ" وإنّما قال ذلك؛ لأنَّ المَطَرَ لا يضرّ نزوله في هذه الأماكن، وقال: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلينَا" (¬5). فيجب امتثال ذلك في نِعَمِ اللهِ تعالى إذا كَثُرَت، لا يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قطعها ولا صَرْفَها عن العباد. العربيهّ (¬6): قوله: " فَانْجَابَتْ" تقول العربُ: جِبْتَ (¬7) القَمِيصَ، إذا قَوَّرتَ (¬8) جَيبَه (¬9)، قاله ابن قُتيبَةَ (¬10)، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (¬11) أي قطعوه وثقبوه (¬12) ونحتوه. ومنه جِبْتَ الرَّحَا إذا ثقبت وسطها، مثل حبيب القميص، فَشَبَّهَ انْقطَاعَ السَّحَابِ عق المدينة بِتَدْوِيرِ انْجِيَابِ الثوّب إذا قوّرت جَيْبه. ¬
قوله: "الآكَام" هي الكُدَى واحدها أَكَمَة (¬1)، ويقال: آكَامٌ وإكَامٌ (¬2) وأكَمٌ قاله الخليل (¬3). والظَّرَابُ (¬4) الجبال الصِّغار، واحِدُها ظِربٌ، عن الخليل (¬5) وأبي عُبَيْدَة (¬6). وقوله (¬7): "ليس في السّماءِ قزَعَةٌ" سحابةٌ، القَزَعُ السَّحابُ الصِّغار، وهو من أَحَبِّ السَّحاب إلى النّاس. وقال أبو حنيفة (¬8): "وسَلْع" (¬9) جبل بقُرْبِ المدينة، بإسكان اللّام (¬10). وأمّا ما يقال عند المطر، فكان ابنُ عبّاس يقول (¬11): {كَصَيِّبٍ} (¬12) المَطَرُ (¬13). وقال أهلُ اللُّغة، صَابَ وأَصَابَ يَصُوبُ (¬14)، ومنه كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا رأى المطر قال: "صَيِّبًا نَافِعًا" (¬15) فيه الدُّعاء في الازدياد في (¬16) الخير والبركة والنفع به. وقال ابنُ عُيَيْنَة حفظناه: "سيبا نافعًا". قال الخَطّابي (¬17): "السَّيبُ العطاءُ، والسَّيبُ مَجرَى الماء، وجمعُه سُيُوب، ¬
وقد ساب سوبا إذا جرى. وأمّا الصَّيبُ فأصلُه (¬1) من صابَ يَصُوبُ إذا نَزَلَ، قال الشّاعر (¬2): تَحَدَّرَ مِن جَوِّ السَّمَاء يَصُوبُ وقال المُبَرّدُ: هو من صابَ إذا قصدَ" (¬3). وقوله (¬4): "حتّى صارتِ المدينةُ في مثل الجَوْبَة حتّى سألَ الوَادِي"، قال ابن دُرَيد (¬5): "الجَوبَةُ الفَجوَةُ بين البيوت، والجَوْبَةُ أيضًا: قِطعَة من الأرض". والجَوْبُ: الشّقُّ والقَطْعُ. فالمعنَى: أنّ السَّحاب تَقَطَّعَ حول المدينة مستديرًا، وانكشف عنها حتّى مالَتِ البيوت. وقال ابن دُرَيْد (¬6): "الجَوْبَةُ هي القِطْعَة السَّهلة من الأرض وما حَوَالَيها من الأَرْضِين الغِلَاظ". وقال غيره: الجوبُ المَطَرُ الغَزير. حديث: قال ابنُ عمر: ربّما ذكرتُ شِعْرَ أبي طالب وأنا أنظرُ إلى وَجْهِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يَسْتِسْقِي: وأبيض يُسْتَسْقَي الغَمَامُ بوَجْهِهِ ... ربيع اليتامَى عصمةٌ للأَرَامِلِ فما ينزل حتّى يجيش كلّ (¬7) ميزاب (¬8)، فَمُطِرَ النّاس جمعة. فقال رَجُلٌ: يا رسولَ الله. تقطَّعَتِ السُّبُلُ وانْهَدَمَتِ البُيُوتُ، وَهَلَكَتِ المَوَاشِي، فادْعُ اللهَ لَنا (¬9). ¬
وفيه (¬1): عن (¬2) أنس؛ أنّ عمر إذا قَحَطَ النَّاسُ اسْتَسْقَى بالعَبَّاس بن عبد المُطَّلِب، فقامَ عمر فحمد اللهَ وأَثْنَى عليه، ثم قال: اللهُمَّ إنَّا كنًا نتوسَّلُ إليكَ بنَبِيِّنَا محمَّد - صلّى الله عليه وسلم - فكنت تَسْقِينَا، ونحن نَتَوَسَّلُ إليكَ الآن بِعَمِّ نَبِيِّنَا محمَّد - صلّى الله عليه وسلم - فَاسْقِنَا (¬3)، فلَمَّا فرغ من دعائه، قام العبّاس فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثمّ صلّى على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ثمّ جعلَ يقول: اللَّهُمّ إنه لم ينزل من السَّمَاءِ بلاءٌ إلَّا بذَنْبٍ، ولن تكشفه إلَّا بتوبة، وقد تَوَسَّلَ القومُ بِي إليك لمكاني من نَبِيِّكَ، وهذه أَيدِينَا إليكَ بالذُّنُوبِ، ونواصينا إليك (¬4) بالتَّوبَة، وإنَّكَ الرَّاعِي لا تهمل الضَّالَّة، ولا تدع الكسِيرَ بدارِ مَضْيَعَةٍ، وقد ضرعَ الصَّغير ورقَّ الكبير، وازتَفَعَتِ الشَّكوَى، وأنتَ تعلمُ السِّرَّ وأَخْفَى، اللَّهُمَّ فَأَغِثْهُم بغَيثِكَ قبلَ أنّ يقنطُوا فيهلكُلوا، فإنّه لا ييأس من روح الله إلَّا القوم الكافرون. قال: فما تمَّ كلامه حتّى أَرْخَتِ السَّماء مثل الجِبَال (¬5). وقال في خبر آخر: فما اسْتكمَل الدْعاء (¬6) حتّى اكتست (¬7) السَّماء بالغَمَامِ، وجاء المطرُ من كلِّ مكانِ، وأنشدوا (¬8). سأل الخليفة (¬9) إذ تتابع جَدْبُه (¬10) ... فسَقَى الغَمام بغُرَّةِ العبَّاسِ عمُّ النّبيَّ وصِنْوُ وَالِدِهِ الّذي. ... وَرِثَ النّبيَّ بذاكَ دونَ النّاسِ أَحْيَا به الله البلاد (¬11) فَأَصْبَحَتْ ... مُخضَرَّةَ الأرجاءِ (¬12) بعدَ اليَاس ¬
وفي الحديث الحسن (¬1)؛ أنّ أعرابيُّا أَتَى النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فَوَجَدَهُ في المسجدِ، فقال له: يا رسولَ الله، أتَينَاكَ وما لنا بعيرٌ ينضحُ، ولا صبيٌّ يصطبح. ثمَّ أنشد يقول: أتَينَاكَ والعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُها ... وقد شُغِلَت أمُّ الصَّبِيِّ عن الطِّفلِ وأَلقَى بِكَفَّيهِ الصّغيرُ (¬2) استكانَةً ... من الجُوعِ موتًا (¬3) ما يُمِرُّ وما يُحْلِي ولا شيءَ ممّا يأكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا ... سِوَى الحَنْظَلِ المأكولِ في زَمَنِ المَحْلِ (¬4) وليس لنا إلَّا إليك وسيلةٌ (¬5) ... وأين فرارُ الخَلقِ (¬6) إلَّا إلى الرُّسْلِ قال: فقام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يجُرُّ رِدَاءَهُ حتَّى صَعِدَ المنبرَ، فرفع يَدَيهِ، فَحمِدَ الله وأَثْنَى عليه، وشَخَصَ بِبَصِرِه نحو السَّماء، وجعل يقول: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيثًا سريعًا غَدَقًا، مَرِيعًا طيبًا، هطلًا غيرَ رائثٍ، نافعًا غيرَ ضَارٍّ"، تملأُ به الضَّرْعَ، وتُنْبِتُ به الزَّرْعَ، وتُحِيي به الأرضَ بعد مَوْتِها، وكذلك تُخْرَجُونَ". فو اللهِ ما ردَّ يَدَيهِ إلى نَحرِهِ حتَّى أَلْقَتِ (¬7) السَّماءُ بأوْدَاقِهَا، وجاءَ المطرُ من كلِّ مكانٍ كأفْواه القِرَبِ، وجاءَ النَّاسُ والمَطَرُ قد دامَ منَ الجُمُعَةِ إلى الجمعة، وجاءَ أهل البطاح (¬8) يَصِيحُونَ: يا رسول الله، الغَرَق الغَرَق. قال: فرفَع رسولُ الله يَدَيْه نحو السَّماء، وجعل يقول: "اللَّهُمَّ حَوالَيْنَا لا عَلَينَا" قال: فانجَابَ (¬9) السّحابُ إلى المدينة انجِيَابَ الثَّوْبِ الخَلِقِ، حتّى أَحْدَقَ بها كالإكْليلِ، فضَحِك رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - حتّى بدَت نَوَاجِذُه، ثمّ قال: "للهِ دَرُّ أبي طالبٍ، لو كان حَيًّا لقرَّت عيناه". فقال علىّ رضي الله عنه: لَعَلَّكَ يا رسول الله تريدُ قولَهُ: وأبيضَ يُسْتَسْقى الغَمَامُ بوجهِهِ ... ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ يلوذُ به الهُلَّاكُ من آلِ هاشمٍ ... فهم عندَهُ في نعمةٍ وفَواضِلِ ¬
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجل. قال: فقام رَجُلٌ من كِنَانهً، فقال (¬1): لكَ الحَمْدُ والحمدُ مِمَّنَ شَكَرْ ... سُقِينَا بوَجهِ النَّبِيِّ المَطَرْ دَعَا رَبَّهُ المُصْطَفَى دَعْوَةً ... فأَسْلمَ مَعْهَا إليه البَصَرْ به يُنْزِلُ اللهُ غيثَ السَّماء ... فأهدى العبادَ لذاك الخَبَر ولم يَكُ إلَّا أنّ الْقَى الرِّداءَ ... وأَسْرعَ حتّى رأينا الدَّرَرْ (¬2) ولم يرجع الكَفّ عند الدُّعاء ... إلى النَّحْرِ حتّى أفاص الغُدُرْ فمن يَشكرِ اللهَ يلقى المزيدْ ... ومَنْ يكفُرِ اللهَ يَلْقَ الغِيَرْ سَحَابٌ وما في أَدِيمِ السَّماء ... سحابٌ يراهُ الحديدُ النّظر فكانا كما قالَهُ عمُّه ... وأبيضَ يسقي الغمام الغُرَرْ (¬3) قال موسى ابن عقبة: فأمر له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - برَاحِلَتَيْنِ وكَسَاهُ ثَوْبَانِ. ذكرُ الأخبار الواردة في الاستسقاء من أخبار الأنبياء والصَّالحين والعُلماء والخُطَبَاء الوَرِعينَ الخَائفِينَ الضّارعين إلى ربِّ العالمين قال علماؤنا؟ الأصلُ في ذلك "قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} الآية (¬4)، فكان الخروجُ سُنَّةَ ماضيةَ وأمرًا مُجتَمَعًا عليه من الاُمَمِ السَّالفة وطريقتهم، ولا يكون (¬5) الخروجُ والبروزُ إلَّا بإذْنِ الإمام، لما في الخروج للاجتماع من الآفات الدّاخلة على السُّلطان، وهي سُنَّةُ الأُمَمِ السَّالفة والقُرونِ الخالية. رُوِيَ في الأَثَر؛ أنّ بَنِي إسرائيل قالوا لموسى -عليه السّلام-: اسْتَسْققِ لنا (¬6) يا نبيّ الله، قال: تُوبُوا إلى الله وتَصَدَّقُوا. قالوا: نَعَمْ، فخرج فاستسقى، فقال: ما بالنا لم نسق؟! تُوبُوا بأّجمَعِكُم من النَّمِيمَة. قال: فَتَابُوا، فأرسلَ اللهُ عليهم الغَيْثَ (¬7) فسُقوا. ¬
رواه كعب الأحبار (¬1). فأصلُ (¬2) ذلك: الإجابة والتَّوْبَةُ وردُّ المظالِمِ، والإقبال على الله بكُنْهِ الهِمَّة، فذلك هو السَّبَب القريب للإجابة. وفي التّرمذيّ (¬3)، خرج سليمان يستسقي، فإذا بنَمْلَةٍ قائمةٍ على قوائمها تدْع الله، فقال سليمان: ارجعوا فإنّ الله قد سَقَاكُم بدُعَاءِ نَمْلَةٍ. نكتةٌ: قال علماؤنا: في هذا دليلٌ على أنّ البهائم لها عند الله رِزقٌ معلومٌ، ولها فيه سؤال، ولكن يحتمل إظهار ذلك للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - معجزة وآية، وجعلت له حُجَّة ولأهل زمانه عِبْرَة. ولا يكون ذلك على العموم، واللهُ أعلم. فجميع ما ذَرَأَ وبرَأَ، فإنّ اللهَ تعالى ينشر الرَّحمَة على جميع خَلقِه ممّن ذَرأَ وبَرَأَ بغُفْرَانِه لَهُم، فإذا أَمْطَرَ اللهُ قومًا عفَا عَنهُم، وأنشدوا: نشَرَ اللهُ علينا رحمةً ... وسَقَانَا الغيثَ سَقيًا والمَطَرْ قبلَ اللهُ دُعَانَا كُلّنا ... وعَسَى الرَّحمانُ عنَّا قد غَفَرْ يبسطُ الرَّزقَ علينا وكذا ... يرزق الدُّودَةَ (¬4) في بَطنِ الحَجَر وقيل (¬5) لمالك بن دينار: ألَّا تستسقي لنا؟ فقال: أنتم تنتظرون المَطَر وآنا أنتظر الحَجَر، ألَّا تشكرونَه على جميل سترِه وعافيته، فلو شكرتُموه ما رَزَقكُم، لسقَاكُم وأرضا كُم، وأنشدوا: جَلَّت أَيَادِيكَ عنِ الشُّكرِ ... وجلَّ في تحديدها فكر ما (¬6) ينقضي منك يد ثَيّب ... حتّى يوافي بيد بكر والشُّكرُ في عَفْوِكَ مُسْتَغْرقٌ ... كلجَّةِ الغَرِيقِ في وَسطِ البَحْرِ ¬
قال (¬1) عطاء (¬2): مُنِعْنَا الغَيثَ، فخرجنا نَسْتَسْقِي، فهذا نحن بِسَعْدُون المجنون في المقابر، فنظر إليَّ فقال: يا عَطَاء، أهذا يوم النُّشُور؟ أو بُعْثِرَ ما في القبور؟ فقلت: لا، ولكنا مُنِعْنَا الغَيْثَ فَخَرجنا نستسقِي. فقال: يا عَطَاء، بقلوب أَرْضِيَّةِ أم بقلوبٍ سماويةِ؟ فقلت: بل بقلوبٍ سماوية. فقال: هَيهَات يا عَطَاء، قُلْ للمُتبَهْرِجينَ لا تتبهرجوا فإنَّ النَّاقِدَ بصيرٌ، ثمّ رمقَ السَّماءَ بطَرْفهِ، وقال: إلهي وسيِّدِي، لا تُهْلِك بلادك بذنوب عبادك، ولكن بالمكنون (¬3) من أسمائك، وما وَارَاتِ الحُجُبُ من آلائك إلَّا ما سَقَيْتَنْا ماءً غَدقًا، تحيي (¬4) به العباد، وتروي به البلاد، يا مَنْ هو على كلِّ شيءٍ قديرٍ. قال عطاء: فما استتَمَّ من كلامه (¬5) حتّى أَرْعَدَتِ السَّماء وأبرقت، وجاء المطرُ كأفواهِ القُربِ، فَوَلَّى وهو يقولُ: نعْمَ (¬6) الزَّاهدونَ والعابدُونَ ... إذْ لِمَوْلاهُم أجاعوا البُطُونَا أسْهَرُوا الأعينَ العليَّة فيه (¬7) ... فانْقَضَى لَيلُهُمْ وهُم سَاهِرُونا شَغَلَتهُم عبادة الله حتّى قيل ... في النّاس (¬8) إنّ فيهم جُنُونَا هم ألباء ذووا عقولٍ ولكن ... قد شجاهم جميع ما يعرفُونَا (¬9) وأنشدوا لسعدون المجنون أيضًا (¬10): مَنْ عَامَلَ اللهَ بتَقواهُ ... وكان في الخَلوَةِ يَخشَاهُ ¬
سقَاهُ كَأسًا مِن لَذِيذِ الصَّفَا ... يَمْنَعُ لذَّةَ (¬1) دنياهُ وحُكِيَ (¬2) عن عبد الله بن المبارَك أنّه قال: قدمتُ المدينةَ في عامٍ شديد القَحْطِ، فخرجَ النَّاسُ يَسْتَسْقُونَ وخرجت معهم، إذْ أقبل غلامٌ أَسْوَد، عليه قِطْعَتَا خَيْشِ، قد ارتدَأ (¬3) بإحداهما وألقْى الأخرى على عاتِقِه، فجلس إلى جنبي فجعل (¬4) يقول: إلهي، أَخلَقتِ الوجوهُ عند (¬5) كثرة الذّنوب ومساوىء الأعمال، وقد حبستَ عنَّا غيثَ السَّماء لتُؤدِّب عبادك بذلك، فاسألك يا حليمًا ذَا أناةٍ، يا مَنْ لا يعرف عباده منه إلَّا الجميل، أنّ تسقيهم السّاعة السّاعة، فلم يزل يقول السّاعة السّاعة، حتّى اكتست (¬6) السّماء بالغمام، وأقبل المَطَرُ من كلِّ مكانٍ (¬7). قال ابنُ المبارَك: فجئت إلى الفضيل، فقال لي: مالي أراك كئيبًا؟ فقلت: أمر (¬8) سبقنا إليه غيرنا فتولّاهُ. قال: فقصصتُ عليه القِصَّة، فصاحَ الفُضَيْل وخَرَّ مغشيًّا عليه. وللإمام في ذلك أبياتٌ (¬9): إليك إلهَ الخَلْقِ قاموا تَعَبُّدَا ... وذلّوا خضوعًا يرفعون الْيَدَا بإخلاصِ قَلْبٍ وانتصابِ جوارحٍ ... يخِرُّونَ للأذقان يبكون سُجَّدَا نهارُهُمُ صومٌ وليلُهُمُ هُدى ... وَدِينُهُمُ سِرُّ ودنياهُم سُدَا ¬
وَرُوِيَ (¬1) أنّ الله -جلَّت قدرتُه- أَوْحَى إلى مُوسى -عليه السّلام- أنّ يستسقي ببني إسرائيل بعد أنّ قحطوا سبع سنين، فخرج موسى -عليه السّلام- يستسقي لهم (¬2) في سبعين ألفًا، فأَوْحَى اللهُ إليه: كيف استجيبُ لهم وقد أظلمت عليهم ذُنُوبهم سرائرهم، ويدعونَنِي على غير يَقِينٍ، ويَأمنون مَكْرِي، ارجع فإنّ عبدًا من عبادي يقالُ له: برخ، قل له: اخرج حتّى استجيب له. فسأل عنه موسى (¬3)، فبينما موسى عليه السّلام يمشي ذات يومٍ في طريقٍ، فإذا هو بعَبْدٍ أَسْوَد قد استقبلَهُ، بين عيْنَيْه ترابٌ من أثَرِ السُّجود وهو في شملةٍ قد عقدها في عُنُقِه، فَعرَفَهُ موسى -عليه السّلام- بنور الله عزّ وجلّ، فسلَّم عليه، وقال: ما اسْمُكَ؟ قال: اسمي برخ. فقال له: أنْتَ طلَبُنَا منذ حينٍ، اخرُج فاسْتَسْقِ لبني إسرائيل، قال: فخرجَ، فكان من كلامه: ما هذا من فِعَالِكَ، ولا هذا من حُكْمِكَ، فما الّذي بَدَا لك؟ أَنَقَصَت (¬4) عليك غيوثك؟ أم غارت الرِّياح عن طاعَتِكَ؟ أم نفد (¬5) ما عندك؟ أم اشتد (¬6) غضبك على المُذْنِبِينَ؟ ألستَ كنتُ غَفَّارًا قبل خَلْقِ الخَاطِئِينَ؟ خلقتَ الرَّحمة وأمرتَ بالعَطفِ فتكون لما تأمن (¬7) الخائفين، أم تُرِينَا أنّك تمنع؟ أم تخشى الفَوْت فتُعَجَّل العقوبة؟ قال: فما بَرِحنَا حتّى اختلط بنو إسرائيل بالمَطَرِ، فأنبتَ اللهُ العُشْبَ في نِصْفِ يومٍ حتّى بلغ إلى الرِّكَابِ. قال: فخرج برخ فاستقبله موسى -عليه السّلام-، وقال: كيف رأيتَ حين خَاصَمْتَ ربِّي كيف أَنْصَفَنِي، فَهَمَّ موسى -عليه السّلام- بِهِ، فأَوْحَى اللهُ تعالى إليه: إنّ برخًا يُضحِكني في كلِّ يومٍ ثلاث مرَّات. قال الإمام: ومعنى الضَّحِك من البارى تعالى هو بمعنى الرَّضَا، كان برخ يُرْضِي ربَّه في كلِّ يوم ثلاث مرَّات؛ ولأن ذلك لا يجوز على الله؛ لأنّ الضَّحك من صفات المخلوقين لا من صفات الخَالِقِ، وأنشدوا: ¬
جلَّ أمرُ الله في كلِّ حال ... فتعالى ربُّنْا ذو المِحَالْ مَلِكٌ يُعْطِي العَطَايَا الّتي ... لايُهْتَدَى فيها بحُسْنِ سُؤَالْ من مَعَاشٍ في سُهُولٍ (¬1) ... ومعاش واسعٍ في الجبالْ فَجَّرَت قُدْرَتُهُ الصَّخرَ فَجْرًا ... واسْتَقَلَّت بالسَّحاب الثِّقال ولقد قَسَّمَ من كلِّ رِزقِ ... في جَنُوبٍ مرَّةً أو شِمَال فهو اللهُ الكثيرُ العَطَايَا ... وهو اللهُ الجَزِيلُ النَّوالْ وخرجَ يعضُهم يستسقي، فقال نظمًا يأتي ذِكرُهُ: أروني لكم ربًّا دحا الأرضَ وحدَها ... وأرسى الجبالَ الصُّمَّ من فوقها أَلْقَى وأخرَجَ مَرْعَاهَا وأَجْرَى مِيَاهَهَا ... وسَهَّلَ في تَوْعِيرِها لكُم الطُّرْقَا أَرُونِي لكم ربًّا يريدُ وحدَه (¬2) ... وسوَّى كما سوَّى لنا الغَربَ والشَّرْقَا أرُونِيَ رَبًّا غّيْرَ رب سَمَائِنَا ... يُنَزِّلُ منها مثلَ تَتزِيلِهِ الوَدْقَا أَرُونِي له بحرًا أَرُوني له سَمَا ... أَرُونِي له رَعْدًا أَرُوني له بَرْقَا أَرُونِي له لَيلًا أَرُونِي له نَجما ... أَرُونِي له بَدْرًا أَرُونِي له الأُفْقَا أَرُونِي إلاَهًا غيرَهُ عزَّ وَجهُهُ ... إذا ماتَ كلُّ الخَلقِ يَبْقَى كما يَبْقَى إلاَهِيَ أنت الفَرْدُ والصَّمَدُ الّذي ... بعَفْوِكَ أؤجُو عفوتك (¬3) العَتْقَا تَوَحَّدْتَ يا قَيُّومُ بِالمُلْكِ حينَ لا ... سِوَاكَ وما أحْدَثتَ عَرْشًا ولا خَلقَا فلمّا خَلَقْتَ العَزشَ والخَلْقَ لم تَزَل ... على العَزشِ فَرْدًا حين لا يبصر الرّزقا وأنت الّذي لا شيء مثلُك، لم تلِذ ... إلاهِي ولم تُولَد فارْفَق بنا رِفْقا حُكِيَ عن بعض الخُطباء أنّه خرج يستسقي بقومه، فقال: الحمدُ لله المبدىء بالنِّعَمِ قبلَ الاستحقاق، المُتكَفِّل لجميع بَريَّتِهِ بالإرزاق، فالق الإصباح بقُدْرَتِهِ، خالق الأشياء (¬4) بِحِكمَتِه، ومُرْسِل الرِّياحَ نَشرًا بين يَدَي رحمته. الكريم الجواد، الّذي ليس لنعمائه نفاد، ولا يستغني عنه جميع العباد. سيحانه عمَّ الخلائقَ قضاؤُه، ووسع كلّ شيء رحمته، الّذي لا يكديه إلحاحٌ، الّذي لا يخاف الافتقار (¬5)، وكلَّ شيءٍ عنده ¬
بمقدار، عالم الغيب والشّهادة العزيز الغفار. المنزل الغَيْثِ من السّماء، والضّامِن لأقوات الوَرَى، النّاشر لرحمته، والعائد على خَفقِه بالنِّعمَة، والكاشف للكُرْبَة، والمُتَغَمِّد بحِلْمِهِ ذنوب المُذنِبينَ، والمادِّ جناح ستره على العاصين، الّذي شملَ فضلُه جميع العالَمِين من بريَّته منَ أهل طاعته ومعصيته، وعمَّ جُودُه جميع العَالَمين، كلُّ ذلك بفضل نبيه محمّد سيّد المُرسَلِين - صلّى الله عليه وسلم - وعلى آله وأهل بيته الطَّيِّبِين. أيها النّاس، اعلموا أنّه مَنْ أنعمَ عليه بنعمةٍ فلم يشكره، ابتلاهُ ببلاء يعجزُ عنه صبرُه، ومن استعتبَ فله العتاب، ومن أحسن فله الحُسْنَى، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كَثيرٍ، وقد أصابتكم مصيبةٌ عظماء (¬1). ونزلت بكم نازلة دهماء (3)، وحلت بكم رزيّة كرباء (¬2). وذلك (¬3) أنكم بَدَّلْتُم بِلينِ الأسعار شدَّتها، ويِبَسْطِ النِّعَم قبضها، وبرطوبة الأرضِ جَدْبَها، وأَمسَكَتِ السماءُ عنكم مطرها وبركتها، وفَوَّقَتْ إليكم الرَّزايا سِهَامَها، وأفضت إليكم المنايا حِمَامَها. فأنتم بقليل العيش تفرحونَ. وعلى سَيِّءِ الأعمال لا تبكون ولا تَنْتَحِبُون، فإنّا للهِ وإنّا إليه راجعون. كلُّ ذلك بتركِكُمُ التَّفَكُر في الآخرة، واشتغالكم بالأعمال الخَاسرة، وحلفكُم بالأَيْمان الفاجرة، فضعُف يَقينكم (¬4)، وكثرت ذنوبُكُم، وظهرت عُيُوبُكُم، ولم تُحْسِنُوا إلى فقرائكم، وبَعُدَت آمالُكُم، وتمادَيتُم في طُغيَانِكُم. أَذْهَبتُمُ الأمانةَ، وأظهرتُمُ الخيانة، وأخذتم نِعَمَ اللهِ بقِلَّةِ الشُّكر، أَطَلْتُمُ الأملَ، وقصَّرتمُ العملَ حتّى أتاكم الأجل، إنّما خَلَقكُم لتعبدوهُ، ورزَقَكُم لتشكرُوهُ، وأَنْذَرَكُم لتخافُوهُ، ودعاكُم لتُجِيبُوه، وقرَّبَكُم لتُطِيعُوهُ، وأَمهَلَكُم لتستغفرُوهُ، وحذركُم لترجوهُ، لئلّا يكون للنّاس على الله حُجَّة بعدَ الرُّسُل، استحللتم الرّيبة، وأَظهَرْتُم (¬5) الغِيبَة، وفعلتم كلّ عجيبة، وعَظُمت في أيديكم المُصِيبَة. قلَّلْتُم صدقاتِكُم، ومنعتم زكواتِكُم، وكَثَّرْتُم سيِّئاتِكُم. وزَهَدْتُم في المعروف، ولم تغيثوا (¬6) الملهوف، وقطعتم دَهرَكُم بالتَّواني، وأفسدتم أعماركم بالأَمَانِي، بسوف ولعَلَّ وعسى، ونَسيتم العرضَ على الموَلى، والوقوف بين ¬
يدي الله تعالى. اتّبعتُم الشهوات، ولزمتم السَّيِّئات، واشتغلتم بالتِّجارات الخاسرات، وتركتم الجماعات، وصلَّيتم في غير الأوقات، ورفعتم في المساجد الأصوات، ولم تراقبوا إله السماوات. فلو راقَبْتُمُوهُ وكنتم ممَّن تتوبوا إليه وتستغفروه، لكنتم أَهْلًا للإجابة وترجوه. استغفروا (¬1) الله وتوبوا إليه، فإنّه يقبل التّوبة من المُذْنِبِين، ويرحم الباكين والمتضرِّعين. قال الله العظيم في مُحكم كتابه المبين، في قوم نُوح الكافرين {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآية (¬2). قال: فما تَمَّ من خُطْبته حتّى (¬3) سُقوا. فقال بعضىُ المريدين: لِلَّه دَرّه من خطيبٍ لبيبٍ، يقرعُ مَسَامع كلّ عبدٍ مذنبٍ مريبٍ، وأنشدوا في صِفَتِه: لمَّا عَفَفْتَ وكلُّ النَّاسِ قد فسَقَا ... دعوتَ ربَّكَ فَاسْتَسْقَيْتَهُ فَسَقَا لله دَرُّ خَطِيبٍ إذ دَعَا وَرَقَا ... أَضْحَتْ (¬4) مزارعنا مخضرَّة وَرَقَا وفي الحديث الحسن؟ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لم يعرف الله في الرَّخاء لم يعرفه في الشِّدَّة" (¬5). وفي الحديث الحسن؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "ما مَنْ زَرع ولا (¬6) ثمار إلا وعليها مكتوب بسم الله الرحمان الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان" (¬7). ¬
باب الاستمطار بالنجوم
وقال بعضُ العلماء: ما مِنْ زَرعٍ إلا وعليه اسْم صاحبه مكتوبٌ، قال الله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1). ويحكى عن بعض الخُطَبَاءِ أنّه خرجَ يستسقِي، فأَنْشَدَ يقول (¬2): يا مَنْ إليه جميعُ الخَلق يبتهلُ ... وكلُّ حيٍّ على رُحمَاهُ يتَّكِلُ يا من نَأَى فرأى ما في الغيوب ... وما تحت الثرى وحِجابُ اللَّيل مُنْسَدِلُ يا مَنْ دَنا فنأَى عن أنّ تحيطَ به إلَّا ... فكارُ والعقلُ والأوهام والعِلَلُ أنت المَلَاذُ إذا سا أَزْمةٌ شَمِلَت ... وأنتَ ملجأُ من ضاقت به الحِيَلُ أنت المنادَى به في كلِّ حادثةٍ ... أنت الملاذُ وأنت الذُّخْرُ والأَمَلُ أنت الغيّاث لمن سُدَّت مذاهِبُهُ ... أنت الدَّليلُ لمن ضلَّت به السُّبُلُ إنّا قَصَدْنَاك والآمالُ واقفةٌ ... عليك والكلُّ ملهوفٌ ومُبْتَهِلُ فإن عفوْت فعن طَوْلٍ وعن كرمٍ ... وإن سَطَوْتَ فأنت الحَاكِمُ العَدلُ والأخبار في هذا الفنِّ كثيرةٌ، لُبابُها ما ذكرناه لكم، والحمدُ لله ربِّ العالمين. باب الاسْتِمْطَار بالنُّجوم مالك (¬3)، عن صالح بن كَيْسَان، عن عُبَيْدِ الله بن عبد الله بن عُتْبَة، عن زَيْد بن خالد الجُهْنِيّ، قال: صَلَّى لَنَا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سَمَاءٍ كانت من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ، أَقْبَلَ على النّاسِ، فقال؟ "أَتدْرُونَ ماذا قال رَبُّكُمْ؟ " قالوا: اللهُ ورسولُه أَعلَمُ، قال: "أَصْبَحَ من عبادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكافِرٌ بِي، فأمّا من قال: أُمطِرنَا بفَضلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ، فذلك مُؤمِنٌ بِي كافرٌ بالكوْكَبِ" ومن قال: أُمْطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ". ¬
التّرجمة (¬1): قال الإمام: بوَّبَ مالك - رحمه الله - "الاستمطار بالنّجوم" وأَدخلَ هذا الحديث في باب الاستسقاء لوجهين: أحدُهما: كانتِ العربُ تنتظر السَّقْيَا في الأنواء، فقطع النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - هذه العلاقة بين القلوب وبين الكوكب. والوجه الثّاني الّذي أدخلَ له مالك هذا الحديث وترجم هذه التّرجمة: وذلك أنّ النّاس أصابهم القَحط في زمان عمر، فقال عمر للعبَّاس: كم بقي لنوء الثُّريا؟ فقال له العبّاس: زَعَمُوا يا أمير المؤمنين أنّها تعترض في الأُفُقِ سَبْعًا، فمَا مرَّت حتّى نزل المطر (¬2)، فأراد مالكٌ أنّ يقطع أمرَ النُّجومِ ولا يكون لها ذِكْرٌ إلّا للخَالِقِ الوَاحِدِ. الإسناد (¬3): قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ، خرَّجه الأيمة: مسلم (¬4) والبخاريّ (¬5) وغيرهما (¬6)، وهو مُتَّفَقٌ عليه. والحُدَيْبيَةُ موضعٌ معروفٌ (¬7)، وفيه كانت بَيْعَة الرِّضوان تحت الشَّجَرَة. الفوائد المنثورة في هذا الحديث والأصول المتعلِّقة به: وهي أربع فوائد: الفائدة الأولى (¬8): قوله: "على إِثْرِ سَمَاءٍ كانَت منَ اللَّيْلِ" يعني بالسّماء المَطَر والغَيْث، وهي استعارةٌ حسنةٌ معروفة عند العربِ. ¬
الفائدة الثّانية (¬1): قوله حاكيًا (¬2): "أصبحَ من عبادي مُؤْمِنٌ بِي وكافرٌ بِي" قال علماؤنا: إذا اعتقد المرء أنّ المطر مَنْ الأنواء وأنّها فاعلة له من دون الله فهو كافرٌ، ومَنِ اعتقدَ أنّها فاعلةٌ لكن بما جعلَ اللهُ فيها فهو أيضًا كافرٌ؛ لأنّه لا يصحّ أنّ يكون الخَلْقُ والأَمْرُ إلّا لله، كما قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬3) ومن انتظرَها وتَوَكَّفَ (¬4) المطر منها على أنّها عادة أجراها اللهُ فلا شيءَ عليه، فإنّ الله قد أَجْرَى العوائد في السَّحَاب والرِّيَاح والأمطار بمعاني تَرَتَّبَت في الخِلْقَةِ، وجاءت على نسق (¬5) في العادة؛ ولهذاَ أدخل مالك هذا الحديث مُبيِّنَا لهذه الحقيقة، قوله: "إذًا أَنْشَاَتْ بَحْرِيَّة، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ، فتلكَ عَيْنٌ غدَيقَةٌ" (¬6)؛ لأنّ قدرةَ الباري تعالى قد يأتي المطر بالنَّوْءِ الثَّقيل، ومرَّة بغير نَوْءٍ كيف شاء، لا إله إلَّا هو. والَّذي أحبّ (¬7) لكلِّ مؤمن أنّ يقول كمَا قال أبو هريرة (¬8): مُطِرْنَا بفَضلِ اللهِ ورَحمَتِهِ (¬9)، ويتلو الآية: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الاَية (¬10). ورُوي (¬11) عن ابن عبّاس في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (¬12)، قال ذلك في الأنواء (¬13)، وهذا قولُ جماعة أهل التّفسير (¬14). ورُوي عن سعيد بن أُمَيَّة؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سمعَ رَجُلًا في بعض أَسْفَارِهِ يقولُ: مُطِرْنَا بِبَعْضِ عثانين الاسد. فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "كذبتَ، بل هو سُقْيَا الله وَرِزقُه" (¬15) ¬
قال سفيان: عثانين الأسد: الذِّراع والجَبْهَةُ. ورُوِيَ عن الحسن؟ أنّه سمع رَجُلًا يقولُ: طَلَعُ سُهَيلُ وبردَ اللَّيْلُّ، فكره ذلك، وقال: إنّ سُهَيْلًا لم يأت قَطُّ بِحَرٍّ ولا بَرْدٍ. وكره مالك أنّ يقول الرَّجُل للغَيْمِ والسَّحابة: ما أَخْلَفَها (¬1) للمطر، وهذا من قوله وروايته (¬2): "إذًا أَنْشَاَتْ بَحْرِيَّةً" تدُلُّ على انّ القوم احتاطوا فَمَنَعُوا النَّاسَ مِن الكلام فيه، إذْ هو متعلّقٌ من أمر الجاهليّة في قولهم: "مُطِرْنَا بنَؤءِ كذا وكذا" على ما مهَّدْنا. وقال الشّافعيّ في كتابه "المبسوط " (¬3) في غريب حديث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، قال: هذا حديثٌ يحتملُ (¬4) المعاني، وكان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قد أُوْتِيَ جوامع الكلم؛ لأنّه قال: "أَصْبَحَ مِن عِبَادِي مُؤمِنٌ بِي، وكافرٌ بي، فالمؤمنُ يقول: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللهِ ورَحمَتِهِ" وذلك إيمانٌ بالله؛ لأنّه لا يُمْطِر ولا يمنع إلّا الله وحدَهُ لا النَّوْء؛ لأنّ النَّوْءَ مخلوقٌ لا يملك لنفسه شيئًا ولا لغيره. وهذا قريبُ المأخَذ فافْهَمْ. حديث سُفْيان بن عُيَيْنَة (¬5)، عن عَمْرو بن دينار، عن عتاب بن حنين (¬6)، عن أبي سعيد الخُذرِي؟ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أمسكَ اللهُ القَطرَ عن عِبَادِهِ خمْسَ سِنِينَ، ثمَّ أَرْسَلَهُ، لأصبحت طائفةٌ منهم به كافرينَ (¬7) يقولونَ: مُطِرْنَا بنَوْءِ المِجْدَح. قال الإمام: هذا الحديث كحديثِ مالك سواء في المعنى. عربية: أمّا قوله: "بنَوءِ المِجْدَح" فإنّ الخليل زعم أنّه نَجْمٌ كانت العرب تزعم أنّها تمطر به، قال (¬8): "ويقالُ أَرْسَلَتِ السَّمَاءُ مَجَادِيحَ الغَيْثِ". قال: ويقالُ: مِجْدَح ومُجْدَح بضمِّ الميم وكسرها. ¬
حديث مالكٌ (¬1)؟ أنّه بَلَغَهُ أنَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يقول: "إِذَا أَنْشَاَتْ بَحْريَّة، ثُمَّ تَشَاءَمَت؟ فَتِلكَ عَين غُدَيْقَةٌ". الإسناد: قال الإمام: وهذا حديثٌ من الأحاديث الثّلاثة الّتي بلغَتْهُ عن النّبيِّ صلّى الله عليه وليس توجد لغير مالك. الحديث الأوّل: "إنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ" (¬2). الثّاني: "إذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ، ثمّ تَشَاءَمَت". الثّالث: "اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا" (¬3) وقد قيل: إنّ هذا وَحْدَهُ يأتي مُسْنَدًا (¬4). وممّا أدخل مالك أيضًا في كتابه ولا يوجد عن ابن عمر ولم يأخذ هو بها، قوله: لا بَأسَ بفَضْل المرأة ما لم تكن حائضًا (¬5). وترك القراءة خَلفَ الإمام (¬6). وقراءته في ركعة بسُورَتَيْنِ وأكثر. وتأخير المَسْح (¬7). وتشفيع الوِتْر (¬8). وحديثُه في صلاة الخوف (¬9). وَرَفْع اليَدَيْن عند الرُّكوع (¬10). والوُضوء من الرُّعاف (¬11). والإعادة من مَسِّ الذَّكَرَ بعد الوَقتِ (¬12). ¬
وقوله (¬1): تُعَادُ الصَّلاة مع الإمام إِلَّا الصُّبْح والمَغْرِب، وخالَفَه (¬2) في الصُّبح. ونَضَحَ (¬3) الماء في عَيْنَيْهِ، هذا كلُّه أَدْخَلَهُ عن ابن عمر ولم يأخذ هو به ولا عملَ به. قال الإمام (¬4): وحديثُ: "إذًا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثمَّ تَشَاءَمَتْ" لا أعرفُه بوجهٍ من الوجوه في غير الموطَّأ، ومَنْ ذَكَرَهُ إنَّما ذَكَرَهُ من طريق مالكٌ في الموطاْ، إلّا ما ذَكَرَهُ الشّافعيّ في كتاب الاستسقاء (¬5) عن إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى، عن إسحاق (¬6) ابن عبد الله؛ أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَنْشَاَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ استَحَالَت شَامِيَّةً فَهُوَ أَمْطَرُ لَهَا". قال الإمام: وإبراهيم بن (¬7) محمّد بن أبي يحيى مطعونٌ عليه متروك الحديث (¬8). وإسحاق بن عبد الله* هو ابن أبي فروة ضعيف أيضًا متروك الحديث (¬9). وهذا الحديث* (¬10) لا يحتجُّ به أحدٌ من أهل العلم بالحديث؛ لأنّه ليس له إسناد (¬11). ¬
وذكر الشّافعيّ (¬1) في حديثه هذا: "بَحْريّةً" بالنَّصْبِ، كأنّه يقول: إذا ظَهَرَتِ السَّحابةُ بحريَّةً من ناحية البحرِ. ومعنى "نَشَأَت" (¬2): ظهرت وارتفعت. وقد قيل: أنشأَت تُمْطِرُ، أي ابتدأت، ومنه قيل للشّاعر: أنشأَ يقول (¬3)، وإنّما سمِّيت (¬4) السَّحابةُ بَحْرِيّة لظُهورها من ناحية البَحْرِ. يقول: إذا طلعت سحابة من ناحية البحر، وأخذت ناحية الشّام نحو الشمال (¬5)، فهي عينٌّ غُدَيْقَةٌ تصدق (¬6) بنزول الماء. وقوله: "فتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ" العينُ: مَطَرُ أيَّامٍ لا يَقْلَع. كذلك قال أهل العلم باللَّغة. وقالوا أيضًا: ناحية القبلة (¬7). والعرب تقول: مُطِرْنَا بالعَيْنِ. وقد قيل: إنّ العين ماءٌ عن يمين قِبْلة (¬8) العراق. ¬
قال الإمام: وغُدَيقَة تَصغِيرُ غَدَقَة، والغَدَقَةُ: الكثيرةُ الماءِ، مصداقُه قولُه تعالى: {مَاءً غَدَقًا} (¬1) أي كثيرًا، وقد يكون التّصغير هنا أُريدَ به التّعظيم. قال عمر بن الخطّاب في ابن مسعود: كنُيفٌ مُلِىء عِلْمًا (¬2)، وقيل: إنّ قولَ عمر كان لِصغَرِ (¬3) قَدِّ ابن مسعود ولَطَافَةِ جِسْمِه. وقول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هذا القول خَرَجَ على العادة المعهودة من حِكْمَةِ (¬4) اللهِ وفَضلِهِ؛ لأنّه لا يعلم نزول الغَيْث إلَّا الله سبحانه، قال الله سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬5) هذا قولُ الجمهور من أهل السُّنَّة. الأصول: قال القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب (¬6): وكيف يجتمعُ في قَلْب مؤمنٍ تصديقُ الرُّسُل (¬7) وتصحيحُ الآيات، مع الاعتقاد بتصحيح أحكام النُّجوم، وقد سمع الآيات الواردة عليهم والأحاديث القاطعة بهم؟ أمّا الآيات، فقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬8) وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} الآية (¬9)، ولقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "من أَتَى كاهِنًا أو عَرَّافًا أو مُنَجِّمًا فَصَدَّقَه بما (¬10) يقول، فقد كفر بما أُنْزِلَ (¬11) على قلب محمّد (¬12) " (¬13)، ومن قال: غدًا ينزل الغيث، ضُرِبَ وسُجِنَ واسْتُتِيْبَ من ذلك، على هذا نَصَّ (¬14) أهل العلم من أهل السُّنَّة والجماعة، والحمدُ لله ربِّ العالمين. ¬
النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجته
النَّهْيُ عن استقبالِ القِبْلَةِ والإنسان على حَاجَتِه الأحاديث في هذا الباب ستّةُ أحاديث (¬1): الحديث الأوّل: حديث أبي أيُّوب (¬2). الثّاني: حديث ابن عمر (¬3)؛ كان يقول إنَّ ناسًا يقولون: إذا قَعَدْتَ على حاجَتِكَ فلا تستقبل القِبْلَة ولا تستدبرها (¬4) ولا بَيْتَ المَقْدِسِ. الحديث الثّالث: حديث سلمان؛ قال: إنّما أنَا لَكُمْ بمَنْزِلَةِ الوَالِدِ أُعَلِّمُكُم، لا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ لغَائِطٍ ولا بَوْلٍ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا (¬5). وهذه أحاديثٌ صِحَاحٌ لا إشكالَ في صحَّتِها. الحديث الرّابع: حديثُ أبي هريرة نحو حديث سلمان، خَرَّجَهُ أبو داود (¬6). الخامس: حديث جابر؛ نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ نسْتَقبِلَ القِبْلَةَ لِغَائِطٍ أو بَوْلٍ، ثُمَّ رأيتُه قبلَ أنّ يُقبَضَ بعامٍ يَسْتَقبِلُهَا، خَرَّجَهُ التّرمذيّ (¬7). السّادس: حديث عائشة؟ قالت: بلغَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ ناسًا يقولون: لا تُستقبل القِنلَة لبَوْلٍ ولا لغائطٍ، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَوَقَدْ فَعَلُوهَا، حَوِّلُوا بمقْعدِي إلى القِبْلَة" خَرَّجه الدّارقُطْنِي (¬8). ¬
العربية: فيه ثلاثة ألفاظ: الأوّل (¬1): قوله (¬2): "الغائط" هو المكان المطمئنّ من الأرض، وكانوا إذا أرادوا قَضاء الحاجة أتَوْهُ للتَّستُّر (¬3) فيه، فسُمِّيَتِ الحاجةُ به وغلب ذلك عليها، حتّى صار هذا اللِّفْظ في الحاجة أعرف منه في مكأنّها، وهذا أحد (¬4) قِسْمَي المجاز. الثّاني (¬5): قوله في حديث أبي أَيُّوب (¬6): "كَيْفَ أَصْنَعُ بهذه الكَرَابِيسِ" يعني بها المراحيض، وَاحِدُها كِرْبَاس (¬7). الثّالث (¬8): قوله في الحديث الآخر (¬9): "فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ مُسْتَقبَلَ القِبْلَةِ" المراحيض وَاحِدُها مِرْحَاض (¬10)، مِفْعال، من رحض إذا غسَل، يُقال: ثوبٌ رحيضٌ، أي غسيل، والرُّحَضَاءُ: عَرَقُ الحُمَّى، والمرحضة (¬11): اناءٌ يتوَضَّأ فيه. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬12): اختلفَ العلماء في العمل بهذه الأحاديث على ثلاثة أقوال. ¬
حديث (¬1) أبي أيوب فيه من الفقه: استعمالُ عُمُوم الخِطَابِ على كلِّ مَنْ سمِعَه في السُّنَّة (¬2)؛ لأنّ (¬3) أبا أَيُّوب سمع النّهي عن استقبال القِبْلَة واسْتِدْبَاره، فاستعمل ذلك مُطْلَقًا عامًّا في البيوت وغيرها، إد لم يخصّ شيئًا من ذلك في الحديث (¬4). وقال بهذا (¬5) أهل الظّاهر (¬6) الّذين ليسوا بحُجَّةٌ. وقالوا (¬7): هذا الحديث على من بَلَغَهُ أنّ يستعملَهُ على عُمُومِهِ حتّى يثبت عنده (¬8) ما يخصّصه أو ينسخه (¬9)، ولم يجمع معهم (¬10) أحدٌ على هذا (¬11)، وهو مذهب ابن حنبل وسُفيان. ورُوِي (¬12) أنّ ذلك في الصَّحَاري خاصّة وممنوع في البيوت، قاله ابن عُمَر ومالك والشّافعيّ (¬13)، ورُوِي عن مالكٌ؛ أنّ ذلك في مَوْضِعِ يقدرُ فيه على الانحراف، وأمّا المواضع الّتي قد عُمِلت لذلك (¬14) فلا بأس به. ومنهم من قال: حديثُ ابن عمر معارِضٌ لحديث أبي أيّوب، فتعارض القولان، واختلفَ النّاس في تعارُضِ القَوْلَين والفِعلَيْن والقولُ الفعل اختلافًا كثيرًا، بيَّنَّاه في كتب الأصول (¬15)، لُبابه: أنّ القَوْلَيْن إذا تعارَضَا بأن يتعلَّقا بمعنيين متنافيين ¬
في حق شخصٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ، فإن ذلك مستحيلٌ؛ لأنّ ذلك من باب تكليف المُحَالِ. فإن وردَا، فَأَحدهما ناسخٌ للآخر. وأمّا إنِ اختلفَ الفعلانِ، فلا تضَادَّ بينهما لذاتِهِما، كالقولين أيضًا لا تضادَّ بينهما لذاتيهما، فلا تعارض بينهما إلَّا أنّ يقتضيا بيان معنى ويتعلَّقا في بيانه تعلُّقَ القولين كما قدَّمْنَا، فالحُكمُ فيهما واحدٌ. وأمّا إذا تعارض القولُ والفعلُ، فقال قوم: يُقَدَّمُ القولُ لأنّه عَامٌّ، والفعْلُ مُخْتَصُّ بالنبي - صلّى الله عليه وسلم - فيقف عليه، ولا يكون هنالك تعارضٌ، وهذا كلامٌ إنّ ظَهَرَ عند الإطلاق لم يصحّ عند السَّبْر والتّقسيم لنُكْتَةٍ بديعة، وهي أنّ كلَّ أَمْرٍ واردِ من جهة الله تعالى على النّبيِّ (¬1) بتكليف الخَلْقِ، فإنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - داخلٌ فيه، يلزمه من ذلك ما يلزمهم، وهي مسألة خلافٍ في أصول الفقه، هل يدخل الآمِرُ تَحْتَ الأوامر أم لا؟ وهي مسألة مُعْضِلةٌ، قد بيّنّاها في أصول الفقه، فهذا ثبت أنّ (¬2) النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - داخلٌ في الأمر مع الخَلْقِ، ثمّ ثبت أنّه تركَ ذَلِكَ، فذلك نَسْخٌ في حَقِّه، وبَقِيَ أنّ يُنْظر هل يكون نَسْخًا (¬3) في حقِّ غيره أم لا؟ والصّحيح أنّ النَّسْخَ مقصورٌ عليه، إلَّا أنّ يدلُّ الدَّليلُ على تَعَدِّيه، وقد دَلَّ الدَّليلُ الصّحيح (¬4) العامّ (¬5) على تَعَدِّيه إلى غيره، فقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬6) فارشدنا إلى الاقتداء به، وثبتَ بالتّواتُر المعنَوِيِّ أنّ الصّحابة - رضوان الله عليهم- كانوا يلجاون إلى فعله عند المشكلات كما يلجاون إلى قوله، فهذا ثبت هَذَا وصَحَّ جواز الاستدبار في البُنْيان، فجوازُ الاستقبال يؤخذ من طريقين: أحدهما: طريق المعنى، وهو قياس الاستقبال على الاستدبار في البُنْيان في جوازه، كما استوى الاستقبال والاستدبار في الصّحراء في (¬7) منعه. وتحريره أنّ نقول: الاستقبال في البنيان أحد القَصْدَين إلى الكعبة للحاجة، فاستوى حكمها في محلّها، كالاستقبال والاستدبار في الصّحراء والبُنْيَان. ¬
الثّاني (¬1): التعلُّق (¬2) بحديث جابر (¬3) وعائشة (¬4) المتقدِّمَيْن، وإنّما قدَّمْنَا المعنى عليهما لعَدَمِ صحّتهما عند علمائنا -رحمة الله عليهم- فإنهم قالوا: إنّ الحديث بالنّهي عن الاستقبال والاستدبار لوْ وَرَدَ مطلقًا لما لزم تكليفه له في البيوت لوجهين: أمّا أحدهما: فقدل (¬5) النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا ذهبَ أحدُكُم إلى الغائط" (¬6) فجعل محلَّ الحُكم الصّحراء، وهذا تَعلُّقٌ بالظّاهر، لكن تبقى ههنا نُكْتَة، وهي أنّ العلماء اتّفقوا على أنّ الحُكم الواردَ لا تأثير له في المكان، ولا يختصّ به إلَّا بدليلٍ، وكذلك الزّمان وأنّ الحُكم يسترسلُ عليهما جميعًا حتّى يوقفه الدّليل أو يَصدَّه، وههنا دليلٌ قويّ (¬7) يوقف هذا الحُكْم على الصّحراء، وهو أنّ النّاس لو كُلَّفُوا ذلك في البُنْيَان لحرجوا وما استطاعوا، واللّفظ العامّ لا يتناول موضع المَشَقَّة ولا يتعلّق بما فيه حرج وكُلْفَة، واللهُ أعلم. المسألة الثّانية (¬8): في المحترم بهذا النّهي ما هو؟ فاختلف العلماءُ في تعليل ذلك في المنع في الصحّراء: فقيل: ذلك لحُرمَةِ المُصَلِّين. وقيل: لحُرْمَة الملائكة. وقيل: للمُصَلِّين من خَلْقِهِ (¬9)، يعني من الجِنِّ والإنْسِ، فلزم أن يحترموا ولا يكشف (¬10) عليهم. وهذا ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: أنّ الفعل (¬11) المباح لا يسقط بالاحتمال البعيد، ومِنْ أين يعلم ¬
المتوضِّىء أنّ هناك من يصلِّي ومن (¬1) أين يظنّه، والمُصَلِّي يلزمه أنّ يكون بصره بين يَدَيْه، على ما قاله كثير من العلماء، فذلك أجمع لخُشُوعِهِ وأضمّ لنشر خَاطِرِه. الثّاني: أنّ الله تعالى لم يَتَعَبَّدنا إلَّا بما نرى ونسمع، وهذا بَيِّنٌ عند العلماء (¬2). قال الإمام: والصّحيح عندي انّ التّعليل إنّما هو لحُرْمَةِ القِبْلَةِ، والدّليل على ما نقوله خمسة أوجه (¬3): أحدها: أنّه ذكرها بلفظها، وأضافَ الاحترام إليها (¬4). الثّالث: لِمَا رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في حُرمَةِ القِبْلَةِ؛ أنّه قال: "مَنْ جَلَسَ يَبُولُ قبالة القِبْلَةِ فتذكَّر وانحرف (¬5) عنها إجلالًا لها، لم يقم من مَجْلِسِهِ حتّى يغفر له". أخرجه البزّار في مصنِّفه (¬6). الرّابع: أنّ ظاهر الأحاديث يقتضي أنّ الحُرْمَة للقِبْلَةِ، لقوله (¬7): "لا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ" فَذَكَرَهَا بلَفْظِهَا. الخامس: "كنا ننحَرِف ونسْتَغْفِرُ اللهَ" (¬8) يحتمل ثلاثة أَوْجُهٍ (¬9): الأوّل: أنّ يستغفرَ من الاستقبال. الثاني: أنّ يستغفرَ اللهَ من ذَنْبِه، فالذَّنْبُ يُذْكَر بالذَّنْب. الثّالث: أنّ يستغفرَ الله (¬10)، فإنَّ الاستغفار للمُذْنِبِينَ سُنَّة. ¬
الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط
فإن قيل: فكيف جازَ لابنِ عمر أنّ ينظر إلى مقعد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. فالجوابُ عنه من وجهين: أحدهما: أنّه يجوزُ أنّ يكون حانت (¬1) منه التِفَاتَة، فرآهُ ولم يكن يقصد ذلك قصْدًا، فقال ما رأى، وقصدُ هذا لا يجوز، كما لا يتعمَّد الشُّهود النَّظَر إلى الزِّنا، ثمّ قد يجوز أنّ تَقَعَ أبصارُهم عليه، ويجوز أنّ يحملوا الشّهادة بعد ذلك. جواب الثّاني - قال علماؤنا: قد يحتمل أنّ يكون ابن عمر قصدَ ذلك ورأَى رأسه دون ما عَدَاهُ من بَدَنِه، ثمّ تأمَّل قُعُودَهُ، فعرف كيف هو جالسٌ ليستفيد فِعْلَهُ، فيقول ما شاهدَهُ. وقع (¬2) في "المبسوط" عن نافع عن ابن عمر؟ أنّه قال: كانت منِّي لفتة، فرأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - في المخدع مستقبلَ القِبْلَة، فاقتضى ذلك أنّ ابنَ عمر لم يقصد النَّظَرَ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على تلك الحالة. الرُّخصة في استقبال القِبْلَة لبَوْلٍ أو غائطٍ الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬3): اختلفَ العلماءُ في الرُّخْصةِ في ذلك، فرُوي عن أبي حنيفة -كما تقدَّم- الاستدبار في الصَّحَارِي، وفي (¬4) البُنْيَان جائز ولا يجوز الاستقبال. وقال عُرْوَة ورَبِيعَة: يجوز الاستقبال والاستدبار جميعًا في الصّحَارِي والبُنْيَان. وقال مالك (¬5) والشّافعىّ: لا يجوز ذلك في الصّحراء، ويجوز في الأبنية، كما تقدَّمَ. ¬
وأمّا أبو حنيفة فتعلَّقَ بجواز الاسْتِدْبَارِ بحديثِ ابنِ عُمَر هذا (¬1)، ورآهُ (¬2) ناسخًا فيه، وهذا باطلٌ؛ لأنّه قد بَيِّنَّا في "أصول الفقه" (¬3) أنّ (¬4) شروط النَّسْخ أربعةٌ، وهي ههنا مَعْدُومة، ولا يُسَلَّم له أنّ الأصل للإباحة. وأمّا مالك والشّافعيّ فَجَعَلَا حديث ابن عمر أصلًا في جواز الاستدبار في الأبْنيَة، وقاسَا (¬5) عليه جواز الاستقبال فيها. قال الإمام: والمختار من ذلك؛ أنّه لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار في الصّحراء ولا في البُنْيان؛ لأنّا إنّ نظرنا إلى المعاني فقد بيَّنَّا أنّ الحُرْمَة للقِبْلَة، فلا تختلف في البادية ولا في الصّحراء، وإنْ نظرنا إلى الآثار، فإن حديث أبي أيّوب عامٌّ في كلِّ موضعٍ، مُعَلَّل بحُرمَةِ القِبْلة، وحديثُ ابن عمر لا يعارِضُه ولا حديث جابر لأربعة أَوْجُهٍ: الأوّل: أنّه قولٌ وهذان فِعْلانِ، ولا معارضة بين القَوْلِ والفعل. والثّاني: أنّ الفعلَ لا صِيغَةَ له، وإنّما هو حكاية حالٍ، وحكاياتُ الأحوال (¬6) معارضة (¬7) للأعذار، والأسبابُ والأقوالُ لا يحتمل فيها مِنْ ذلك شيءٌ، كما تقدَّم بيانُه، فلا معنى للتّطويل (¬8). المسألة الثّانية (¬9): قال علماؤنا (¬10): فإن كان التّعليل لحُرْمَةِ القِبْلَةِ، فلا يجوز الوَطْءُ إلى القِبْلَةِ. قلنا: قد حَكى عبد الوهّاب (¬11) عن ابن القاسم إباحته، وعن ابن حبيب ¬
كراهيته، والذي في "المُدوّنة" (¬1) عن ابن القاسم؛ أنّه سُئِلَ: أيُجَامع الرَّجُل مستقبلَ القِبْلَةِ؟ فقال: لا أحفظُ عن مالكٌ فيه شيئًا، وأرى أنّه لا بأس به؛ لأنّه لا يرى بِالْمَرَاحِيضِ بأسًا في المُدُنِ والقُرَى مستقبلَ القِبْلَةِ، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنّ جوابه إنّما كان في البُنْيَان، وأمّا في الصّحارِي فلم يجب عنها. والثّاني: ما تأوَّله القاضي أبو محمّد (¬2)؛ أنّ المنع إنّما كان لاستقبال القِبْلَةِ بالغَائِط والبَوْل في الصَّحارِي إكرامًا للقِبْلَةِ لعَدَمِ السُّتْرَةِ، فإذا ستر البُنْيان جازَ ذلك. وإذا كان الوطءُ (¬3) لا يكون إلَّا تحت سترة، لم يكن فيه استقبال القِبْلَة (¬4)، والأولُ أظهر عندي، والله أعلم. تكملة الباب: قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬5): "أدخلَ مالك هذا الحديث في باب الرُّخْصَة في استقبال القِبلَة لبَوْلٍ أو غائطٍ، وإنّما الحديث في (¬6) استقبال بيت المَقْدِس دون مَكَّة (¬7)، ويحتمل ذلك معنيين: أحدهما: أنّ يريد أنّ الاستقبالَ والاستدبارَ في ذلك سواء. والمعنى الثّاني: أنّ تكون القِبْلَة في التّرجمة بيت المَقدِس؛ لأنّها قد كانت قِبْلَة ثُمَّ نُسِخَت الصّلاة منه إلى مكة، والله أعلم". ¬
النهي عن البصاق في القبلة
النهيُ عن البُصاقِ في القِبْلَةِ الحديث صحيح (¬1)، وفيه من الفقه سبع مسائل: المسألةُ الأولى (¬2): أمّا حَكُّهُ - صلّى الله عليه وسلم - البُصَاقَ منَ القِبْلَةِ، ففيه دليلٌ على تنزيه المساجد من كلِّ ما يُسْتَقْذَرُ وإنْ كان البُصَاقُ طاهرًا، ولو كان نَجِسًا، لأمَرَ بغَسْلِهِ في الحينِ، ودلَّ ذلك على طهارته. والحُجَّةُ لنا فيه: حديث حُذَيفَة (¬3) وأبي سَعيدٍ وأبي هُرَيرةَ (¬4)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أباح للمُصَلِّي أنّ يَتَنَخَّمَ ويَبْصُقَ في ثَوْبِهِ وعن يَسَارِهِ" ولو كان نَجِسًا ما أباح لَهُ حَمْله (¬5) في ثوبه. قال الإمام (¬6): ولا أعلمُ في طهارته خلافًا، إلَّا ما رواهُ سَلْمَان، والجمهورُ على خلافه، والسُّنَنُ الثّابتةُ وردَت بردِّه. نكتةٌ لغوية (¬7): قال الإمام: البُصَاقُ: ما خرجَ من الفَمِ، وفيه لغتان: بُصَاقٌ وبُزَاقٌ، ويُكتَب بالسِّين كما يُكتب بالصّاد. والنّخَامَةُ: ما خوجَ من الحَلْقِ، والمُخَاطُ: ما خرجَ من الأَنْفِ. المسألة الثّانية (¬8): قوله: "إذا كان أَحَدُكُم يُصَلِّي" خَصَّصَ بذلك حال الصّلاة، ويحتمل معانٍ: ¬
أحدها: أنّه نصَّ في الحديث على النَّهي عن البُصاق (¬1)، لفضيلة تلك الأحوال، فخصَّها بالذِّكر. ووجه ثان: وهو أنّ يكون خصَّ بذلك حال الصّلاة؛ لأنّه حينئذٍ يكون مستقبلَ القِبْلَةِ، وفي سائر الأعمال (¬2) قد تكون القِبْلَة عن يساره، وهي الجهة الّتي أمر بالبُصَاقِ إليها. المسألة الثّالثة (¬3): وأمّا من بصقَ في المسجد وسَتَرَهُ، فإنه لا إثْمَ عليه. والأصل في ذلك: ما رُوِيَ عن أنس بن مالك؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "البُصَاقُ في المسجدِ خطيئةٌ وكفَارَتُه دَفْنَه" (¬4) وذلك لطهارته، على ما قدَّمنَاهُ لكم. وأمّا الدَّم وهي: المسألة الرّابعة (¬5): قال علماؤنا (¬6): وأمّا الدَّم وما كان نَجِسًا، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن مالكٌ: مَنْ دَمِيَ فَمُه فلينصرف، ومع ذلك فإنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فيجب أنّ ينزَّه المسجد منه ظاهرًا أو باطنًا، والبُصَاقُ ليس بنَجِسٍ، ولكنّه كريه المنظر، فمنعَ من ظهوره ولا يمنع منه إذا سُتِرَ. المسألة الخامسة (¬7): فإن قيل: هل له أنّ يَبْصُقَ عن يمينه؟ قلنا: قد رُوي أنّه يَبصُق عن يمينه ويساره، قال مالكٌ: لا بأس بذلك عن يمينه ويساره. فإذا ثبتَ ذلك فإن الأفضل أنّ يبصُقَ عن يساره، وكذلك رَوَاهُ ابنُ نافع عن مالك. ¬
والأصل في ذلك: ما روى أبو هريرة، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إذا قام أحدُكم إلى الصّلاة فلا يَبصُق أَمَامَهُ، فإنّما يُنَاجِي اللهَ تعالى، ولا على يمينه فإنَّ على يمينه مَلَكٌ، ولْيَبْصُق عن يساره أو تحتَ قَدَمَيْه" (¬1). المساْلةُ السّادسة: قال علماؤنا: فإذا ثبتَ هذا، فهل هو حديث مُعَلَّلٌ أم لا؟ فقالى جماعة: إنّ ذلك لحُرْمَةِ المَلَكِ الّذي يكتُبُ الحَسَنَات. وقال قوم: إنَّ ذلك لشَرَفِ اليمين؛ لأنّ الله تعالى قد شَرَّفَهُ. المسألة السّابعة: قال علماؤنا: إذا بصقَ المرءُ عن يساره أو تحت قَدَمَيهِ، فلا يخلو ذلك من العبث في الصَّلاةِ. وفيه (¬2) في دليلٌ على النَّفخ في الصّلاة لا يضرُّها (¬3) إذا كان يسيرًا والتَّنَحْنُح (¬4) مثل النَّفْخ إذا لم يكن جوابًا ولا يوجد معه الكلام. واختلف العلماءُ في هذا النَّصِّ (¬5)، فكان مالك يكرَهُ النَّفْخَ في الصَّلاة، فإن فعَلهُ فاعلٌ لم يقطع صلاته، ذَكَرَهُ ابنُ وهب عن مالك. وقد رُوِيَ ذلك عن مالكٌ مُسْنَدًا؛ أنّه قال: التَّنَحْنُحُ (¬6) والنفْخُ في الصّلاة لا يقطعها، رواه ابن عبد الحَكَم عن مالكٌ (¬7). وقال ابنُ القاسم: التَّنَحْنُحُ والنَّفْخُ يقطعان الصَّلاة (¬8). وقال الشّافعيّ (¬9): كلُّ ما كان لا يُفْهَمُ منه حروفُ الهجاء فليس بكلامٍ، ولا ¬
ما جاء في القبلة
يقطعُ الصَّلاةَ إلَّا الكلامُ، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال ابن حنبل (¬2) وابن رَاهَوَيْه: لا إعادة على من نَفَخَ في صلاته، وهو عندنا مكروهٌ. توحيدٌ وتنزيهٌ: قوله: "فلا يَبْصُقْ في القِبْلَةِ فإنَّ الله قِبَلَ وَجْهِهِ" قال علماؤنا: إنّما قال ذلك تشريفًا للقِبْلَةِ، كما قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} الآية (¬3)، فإنّ البارئ تعالى يتنزَّهُ ويتقدَّسُ أنّ يحلَّ بالجِهَاتِ أو تكتَنِفُه الأقطار، ولكن في ذلك معْنيَان: أحدهما: ما قدّمناه لكم من أنّ الله بِلُطْفِهِ وسابِغِ نِعْمَتِهِ إذا أراد أنّ يُكرمَ شيئًا من خَلْقِهِ أضافَهُ إليه، أو أخبر بنَفْسِهِ عنه. والثّاني: أنّ هذا المصلِّي قد اعْتَقَدَ أنّه بين يَدَي اللهِ كما هو، والْتَزَمَ التَّعظيمَ لِمَن تَوَجَّه له، والبُصَاقُ إهانَةٌ، فكيف يصحُ أنّ يأتي بفعل يناقضُ اعتقاده، وهذا بديعٌ في فَنَّه فَتَأَمَّلْهُ (¬4). ما جاء في القبلة الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ (¬5). قوله (¬6): "بينَمَا النَّاسُ بقُبَاءٍ في صلاةِ الصُّبْحِ، إذ جاءَهُمْ آتٍ، فقال: انّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قد أُنْزِلَ عليه اللَّيلَةَ قُرْآنٌ، وقد أَمَرَ أنّ نستقبلَ الكَعْبَةَ، فاسْتَقبلُوهَا" الحديث. وقال ابنُ وضّاح: الآتي هو عبّاد بن بِشْر الأنصاري (¬7). ¬
وقيل: هو عباد بن نهيك الخطمي (¬1) الأنصاري (¬2). وهو مختلَفٌ فيه. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام: اختلف العلماء في أَمْرِ القِبْلَةِ اختلافًا كثيرًا: فقيل: أذِنَ اللهُ لنبيِّه - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يصلِّي إلى أيِّ قِبلَةٍ شاءَ، بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} الآية (¬4). فاستقبلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بيت المقدس حِرصًا على اتِّباع اليهود له، ثمّ تمادَى اليهودُ في غَيِّهم، فاحبَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ ينصرفَ (¬5) إلى الكعبة، فصُرف بقوله تعالي: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬6). وقيل: صَلَّى جبريلُ بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أوَّلَ صلاةِ صلَّاهَا العصر (¬7) إلى الكعبة مع بيت المَقْدِس، فلمّا هاجرَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى المدينة، حُوَّلَ إلى الكعبة كما أَحَبَّ، وكان دخولُه المدينة (¬8) في العشر الوسط من ربيع الأوّل، وصُرِفَ إلى الكعبة في رَجَب، في قول ابن شعْبان (¬9). وقيل: في شعبان يوم الثّلاثاء مُنْتَصَفه (¬10) في قول الوَاقِدِيّ (¬11). قال الإمام: فإذا أسقطتَ (¬12) ربيع الأوّل من العدد لا يدخل فيه (¬13)، وأسقطتَ رَجَبًا لا شعبان (¬14) لأنّها فُرِضَتْ فيه، بقيت أربعة عشر شهرًا. وإذا أسقطتَ أحدهما ¬
بقيت خمسة عشر. وإذا عددت بهما جميعًا كانت ستّة عشر شهرًا، وليس لقوله (¬1) "سَبعَةَ عَشَرَ شَهرًا" وجهٌ، إلَّا أنّ يصرف في رمضان فيعدّه. روى مالك في الموطَّأ (¬2)؛ أنّ القِبْلَةَ حُوَّلَت قبلَ بَدّرٍ بشَهرَينِ، فهذا يعضِّدُ قول ابن شَعبَان ويتركّب (¬3) عليه العَدَدَ. وقال في حديث البراء في التّرمذيّ (¬4): أَنَّه كان إعلام الرَّجُل في صلاة العصر، وفي حديث ابن عمر الّذي رواه مالكٌ (¬5)؛ أنّه كان في الصُّبح، وكلاهُما صحيحٌ. الأصول (¬6): نسخَ اللهُ تعالى أَمْرَ القِبْلَةِ مرَّتين، ونكاح المُتعَة مرَّتين، ولحم الحُمُر الأهليّة مرَّتين، ولا أحفظُ رابعًا، واللهُ سبحانه يَمْحُو ما يشاء ويُثّبِّت وعندَهُ أمّ الكتاب (¬7)، ينسخُ ما أراد ولا يُبدَّلُ القولُ لَدَيْه، وهو أوَّل شيءٍ نسخَ من القرآن شأن القِبْلَة. وهو أصلٌ قويُّ في المعنى. وقوله (¬8): "فَاسْتَقْبِلُوهَا" أكثر رُوَاة الموطَّأ رَوَوْا "فَاسْتَقْبَلُوهَا" على لفظ الخَبَر، بفتح الباء (¬9) وبكسر الباء على الأمر، وقد رواه بعضهم على لفظ الأمر (¬10). المسألة الثّانية (¬11): فيه كرامة النّبيِّ (¬12) - صلّى الله عليه وسلم -، فإنه أُعطِيَ من غير سُؤالٍ حين علِمَ اللهُ اختياره، فيسَّر ¬
له مراده في الوَجْهَيْن جميعًا، وكفاه (¬1) بِالتَعَرُّضِ عن التّصريح بالطّلَبِ لما كان فيه من الخشية حيث كان أمر الصّلاة إلى بيت المقدس باختياره (¬2). المسألة الثَّالثة (¬3): فيه من الفقه: أنّ نسخَ العبادةِ لا يلزم إلَّا عند البُلُوغ، ألَّا ترى أنّه اعتدَّ بما مَضَى من صلاتهم (¬4) إلى بيت المقدس. وقد كان استقبالهم إليه بعد نسخ ذلك. المسألة الرّابعة (¬5): فيه قبول خبر الواحد في مسائل الدِّين، وذلك إجماع المسلمين. ووجهُ الجمعِ بين اختلاف الرِّواية في الصُّبح والعصر؛ أنّ الأمر بلغَ إلى القوم في صلاة العصر، وبلغ إلى قُباء (¬6) في صلاة الصُّبح. المسألة الخامسة (¬7): فيه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه لم يقدم بالبعث والإرسال إلى قُباء يُعْلِمهم بذلك حتّى يصل الخبر من قوم إلى قوله؛ لأنهم كانوا أَوَّلًا على شريعة بأمر مبلّغ، فدَامُوا (¬8) عليها حتّى يصل الأمرُ الثّانى (¬9)، كان ذلك من حُكمِ الشّريعة ولا يلزم التَّهَمُّم بالارسال ولا التقَدُّم بالبعث (¬10)؛ لأنّ الكُلَّ دِينٌ حتّى يترتّب على وجهه ويبلَّغ (¬11) الكُلّ على طريقة المبلّغ وصفته. ¬
المسألة السّادسة (¬1): فيه جواز إبلاغ الدِّين، وإعلام الشّرع، ونقل الأخبار على من عَلِمَها ومن تحقّق عنده (¬2). المسألة السّابعة (¬3): فيه دليل على أنّ من عَلِمَ بفساد صلاته صحّ ما مضَى منها، كمن صلَّى في ثوبٍ نجِسٍ فتذَكَّرَ في نفسِ الصَّلاةِ فخلَعَهُ، فإنّه يعتدُّ بما صَلَّى. المسألة الثامنة (¬4): فيه ثبوتُ الوكالة حتّى يعلمَ الوكيلُ العزلَ، واللهُ أعلمُ (¬5). حديث مالك (¬6)، عن نَافع؛ أنّ عمر بن الخطّاب قال: ما بينَ المشرقِ والمغرب قِبْلَةٌ، إذا تُوُجِّهَ قِبَلَ البَيْتِ. الإسناد (¬7): صحيحٌ (¬8)، والزيادةُ (¬9) الّتي فَسَّرَهَا (¬10) عُمَر وابْن عمر مُعَيَّنَةٌ (¬11) في حديث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ثابتةٌ فيه، فلأَجْلِهِ أَسقَطَها الرَّاوي. ¬
الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا: قوله: "ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِب قبْلَةٌ" يصحُّ ذلك إذا كان الرَّجُلُ جَنُوبيًا أو شماليًا، فهذا كان ذلك، صحَّ أنّ يُقال فيه ذلك، وإذا كان مشرقيَّا أو مغربيَّا لم يصحّ أنّ يقال فيه ذلك بحال (¬2). وحيث ما كان فليعتمد (¬3) الجهة، وليحفظ (¬4) الميل والتّيامُنَ إلى المشرق إنْ (¬5) مالت داره في الشّمال إلى المغرب، ولْيَتَيَامَن (¬6) إلى المغرب إنّ (¬7) مالت داره في الشّمال إلى المشرق غ وهكذا مثله في جميع الجِهَات يتحرَّى (¬8) القصد، والقصدُ النحْوُ، والله أعلم. المسألة الثّانية (¬9): فهذا ثبتَ هذا، فالفرضُ في الاستقبال لِمن عَايَنَ البيتَ عينُه، ولمن غاب عنه (¬10) نحوه، قال الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية (¬11)، يعني نحوه. وقال بعض علماثنا: يلزمه طلب العَيْن، وهذا باطلٌ قَطعًا، فإنّه لا سبيلَ إليه لأحَدٍ، وما لا يمكن لا يقع به تكليفٌ، وإنّما المُمْكِن طلب الجِهَة، فكلُّ أَحَدٍ يقصدُ ¬
قصدَها وينحو نحوها حسب (¬1) ما يغلب على ظنِّه إنّ كان من أهل الاجتهاد، فإنْ لم يكن من أهل الاجتهاد قَلَّدَ أهلَ الاجتهاد. المسألة الثّالثة (¬2): إذا ثبتَ هذا، فالحواضرُ الّتي تُبنى فيها المساجد كيف العمل فيها وهي مختلفة المَباني متباينة الجهات في القِبْلَة؟ قلنا: إنّ الّذي تولَّى بُنْيَانَها عامّتُهُم جُهَّالٌ، فالذي وقع منها على وجه الخَطَإِ، فذلك مُوجب الجهل، والّذي وقع منها على الإصابة، فإمّا أنّ يكون وقع بالاتِّفاق، وإمّا أنّ يكون بُنيَ على علمٍ بالصّواب، فالعاميّ يصلِّي في كلِّ مسجدٍ، واللهُ حسيب كلِّ أَحَدٍ، والمجتهدُ يجْتنبُ المساجدَ المخالفة للحقِّ، فإذا دعَتْ (¬3) إلى ذلك ضرورة صلَّى وانحرفَ إنّ أَمِنَ الارتجاج والعقوبة (¬4)، هان لم يَأمَن صلِّى هناك وأعاد على الحقِّ في بيت أو مسجدِ مبنيٍّ على الصّواب، والله أعلمُ. المسألة الرّابعة (¬5): إذا صلّى الرَّجل إلى غير القِبْلَةِ في الغَيْمِ فروى عامر بن ربيعة عن أبيه (¬6) قال: كنَّا مع رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ في لَيْلَةٍ مُظلِمَةٍ، فلَم نَدْر أينَ القِبْلَةُ، فصلَّى كلُّ أَحَدٍ (¬7) منَّا على حِيَاله، فلَمَّا أصبَحْنَا ذَكَرْنَا ذلك للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَنَزَلَت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية (¬8). والحديث ليس بذلك الإسناد (¬9)، والآيةُ اختُلِفَ فيها على ثلاثة أقوال: ¬
قيل: نزلت في استِقبَالِ بيت المَقدِسِ حين عاتَبَهُ اليهود (¬1). الثّاني - قيل: نزلت في شأن النَّجَاشي (¬2). الثّالث - قيل: نزلت في نافِلَةِ السَفَر (¬3). وهي كلُها أقوالٌ ضعيفةٌ، وأصَحُّها أنّها نزلت في شأن قِبْلَةِ المسجد الأقصى. وعمومُ الآيةِ يَقَعُ فيمن اجتهدَ فأخطأَ فصلَّى إلى غير القِبْلَةِ، والمسألةُ عظيمة المَوقعِ (¬4). قال مالك وأبو حنيفة (¬5): تُجْزِئْهُ (¬6). وقال الشّافعيّ لا تُجزِئْهُ (¬7). والمسألةُ تُبْنَى (¬8) على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب أم لا؟ وعندي أنّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، كما بينَّاه في "المحصول" (¬9). المسألة الخامسة: فإن قيل: لِمَ جُعِلَتِ الصّلاةُ للكَعْبَةِ؟ قلنا: لفَضْلِها، ولذلك شُرِعَت إليها الصّلاة. وإنّما جُعلتِ الصّلاة لجِهَةِ واحدةٍ لتَوَفر (¬10) الهِمَّة وتغلّب الخُشوع، ولو جعلَ اللهُ الصلاةَ إلى جهاتٍ، لما كان فيها من الوَقَار والسّكينة ما في الجِهَةِ الواحدة؛ لأنّ الارتباط إلى شيءٍ واحدٍ أوفَر للنَّفْسِ وأجمع. ¬
ما جاء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -
المسألةُ السّادسة: فإن قيل: لأيَّ شيءِ لم يهتد للصّلاة أهل قُباء؟ قلنا: لأنهم كانوا يصلُّون لمكانٍ مشروعٍ ولم يبلغهم النَّسْخ، وهذه مسألة تتركَّبُ، هل النَّسْح يقعُ من ساعةِ النَّسْخِ، أو مِنْ وَقْتِ بُلُوغِهِ؟ وقد تقدَّم بيانُها في أَوَّلِ البابِ في رَجُلٍ وكَّلَ وكِيلًا وبعثَهُ إلى بلدٍ ليبيعَ له شيئًا، أو يبتاعه، ثم عَزَلَهُ وأَشْهَدَ على ذلك، هل تُرَدُ أفعالُ الوكيلِ من وقتِ عَزْلهٍ، أو بَعْدَ معرِفَةِ عَزْلهِ؟ وبيانُها في موضعها ان شاءَ اللهُ. ما جاءَ في مسجدِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مالك (¬1)، عن زَيْدِ بن رَبَاحٍ وعُبَيْدِ اللهِ بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله الأَغَرَّ، عن أبي هريرة؛ أنَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صَلاَةٌ في مسجدِي هذا، خَيْرٌ مِنْ أَلفِ صلاةٍ فيما سوَاهُ، إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامِ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬2)، خرِّجه الأيمّة (¬3). وليس لزَيْد ابن رَبَاح في المُوَطَّأ حديث غير هذا. وكذلك عُبَيْد الله بن أبي عبد الله لم يُذْكَر في المُوَطَّأ إلَّا ههنا. قال الإمام: ولهذا الحديث نظائر؛ لأنّه قد رُوِّينَا في الأحاديث المنثورات؛ إنّه قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى في مَسْجِدِ مَكَّةَ فهو خيرٌ من مِئَةِ أَلفْ صلاةٍ فيما سِوَاهُ" ولمْ أرْضَ أنّ أَكْتُبُه لبُطلانِه، ومِثْله في البُطْلَان والضَّعْفِ ما رُوِيَ في الكتب البعيدة؛ أنّه - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الرَّجُل في بَيْتِه بعَشرِ صلواتٍ، وفي مَسْجِدِ القبائلِ بخمسٍ وعشرينَ صلاةٍ، وفي المسجد الجامِعِ بخَمْسِ مِئَةِ صلاةٍ، وفي مسجدي هذا بخمسين ألف صلاة، وفي بيت المَقدِسِ بخمسين ألف صلاة، وفي مكّة بمِئَةِ أَلفْ صلاةٍ (¬4)، وصلاةٌ ¬
على السَّاحِلِ بِمِئَتَي (¬1) صلاة، وصلاة بالسِّواك بأربع مئة صلاة، وبالطِّيبِ بخمسين صلاة، وبالنَّعْل (¬2) اليماني بمئتي صلاة، وصلاة المناهل (¬3) بمئتي صلاة، وصلاة بعمامة تحت الذَّقَنِ بمئة صلاة، وركعتان في جَوْفِ اللَّيل خيرٌ من هذا كلّه". قال الإمام: وهذا كلُّه لا يصحّ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فلا يُلتَفَتُ إليه، وإنّما الصّحيحُ إلذى صحَّحَهُ أحمد بن حنبل وجماعة المحدِّثينَ: "صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من أَلفِ صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام، فإنّه يزيد على هذا بمئة صلاة" (¬4). الأصول: اختلفَ العلماءُ في معنى الاستثناء في هذا الحديث حيث يقول (¬5): "إلَّا المَسْجِدَ الحرامَ" فعندنا أنّ المراد بقولهِ: "إلَّا المسجدَ الحرام" أي مسجدي يفضله بدون الأَلْف، وهذا ينبني على أنّ المدينةَ أفضل من مكَّة، وهو مذهبُ مالك - رحمه الله-. قال الإمام ابن العربي: ليس في قوله: "صلاةٌ في مَسْجِدِي هذا خيرٌ من أَلْفِ صلاةٍ" دليلٌ على تفضيل مكَّة وغيرها، وإنّما الدّليل في قوله: "صلاةٌ في المسجدِ الحرامِ خيرٌ من مئة صلاةٍ في مسجدي هذا" (¬6). ¬
مسألة (¬1): قال علماؤنا (¬2): هذه المسألة مبنيَّةٌ على أي البلدين أفضل؟ وسنُبيّن الكلام فيه في كتاب الجامع إنّ شاء الله. وأمّا الّذي يقتضي (¬3) الاستثناء في هذا الموضع، فأَن يكون حُكم مكَّة خارجًا عن أحكام سائر المواطن في الفضيلة، ولا يعلم حُكْم مكَّة من هذا الخبر، فيصحُّ أنّ تكون الصّلاة في مكَّة أفضل، ويصحّ أنّ تكون في المدينة أفضل، ويصحّ أنّ يتساويا، والمسألةُ قريبة المَأْخَذِ. مسألة (¬4): وسُئِل مُطَرِّف عن حدِّ الفضيلة، هل هي في النَّافلة أيضًا؟ قال؟ نعم. ورواه ابن سحنون في "تفسيره للموطَّأ"، قال: قال لي عمر حدَّثه (¬5): جمعةٌ خيرٌ مِنْ جمعة، ورمضان خيرٌ مِنْ رمضان. حديث مالك (¬6): عن خُبَيْب بن عبد الرّحمن، عن حَفْصِ بنِ عاصِمٍ، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخُدريّ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -قال: "ما بَينَ مِنْبَرِي وبَيْتِي رَوْضَةٌ من رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي على حَوْضِي". الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ، كذا رواهُ يحيى وسائر الرُّواة للموطَّأ على الشَّكِّ (¬7). والجمع (¬8) بين أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة، ورواهُ عُبَيْد الله بن عمر، عن خُبَيْب بن عبد الرّحمن، عن حَفْص بن عاصم، عن أبي هريرة وَحْدَهُ، عنِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬9)، وعُبيد الله أحد أيِمَّة أهل المدينة في الحديث. ¬
الأصول: قال المتكلِّمون من أهل الأصول: هذا الحديث يحتمل معنيين (¬1): أحدهما: أنّ ملازمته بالطّاعة والصّلاة تؤدِّي إلى رياض الجَنَّةِ، لِفَضِيلةِ الصّلاة في ذلك الموضع؛ لأنّ مالكًا - رحمه الله - تأوَّل فيه هذا الوجه، ولذلك أَدْخَلَهُ مالك في بابٍ واحدٍ مع فضل الصَّلاة في مسجد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على الصّلاة في سائر المساجد. المعنى الثّاني: يحتملُ أنْ يريدَ أنَّ ملازمته والتَّقرُّب إلى الله فيه يؤدِّي إلى رياضِ الجنَّةِ، فلا يكون فيها للبُقعَةِ فضيلة إلَّا بمعنى الاختصاص بهذه المعاني، وكما يقال "الجنَّةُ تحتَ ظِلَالِ (¬2) السُّيُوفِ" (¬3). وقال بعضهم: إنّ هذه حقيقة وليس بمجاز من القَوْلِ؛ لأنّه إذا كان يوم القيامة، يُعِيدُ اللهُ ذلكَ المِنْبَرَ ويرفَعُه بعَيْنِهِ، فيكون يَؤْمئذٍ على حَوْضِهِ. وقال آخرون: إنّما عنَى به أنّ مِنْبَرَهُ في الجنَّة يُخْرَجُ ويُجْعَل له على حَوْضِهِ. وقالت فرقةٌ أخرى: بَلْ يُنقل ذلك الموضع إلى الجنَّة فيكون من رياضِهَا. والأوّل أصحّ، ويشهدُ له الحديث: "أَلاَ أَدُلُكم على رِيَاضِ الجنَّة قيل: وما هي يا رسولَ الله؟ قال: حِلَقُ الذِّكْر" (¬4). وقال بعض العلماء: يريد من صلّى فيه يصير إلى روضة من رياض الجَنَّة، وفي حديث: "إنَّ مِنْبَرِي على تُرْعَةٍ من تُرَعِ الجَنَّةِ" (¬5) يريد على باب من أبواب الجَنَّة. وهذا مثل ما تقدَّمَ. ¬
ما جاء في خروج النساء إلى المسجد
ما جاء في خروج النِّساء إلى المسجد مالك (¬1)؛ أنّه بَلَغَهُ عن عبد الله بن عمر؛ أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ". الإسناد: قال الإمام: ذَكَرَ مالك في هذا الباب أربعة أحاديث كلّها صِحَاح، الحديث الأوّل منها بلاغٌ لم يُسْنِدْهُ مالك، وأَسْنَدَهُ حمّاد (¬2)، عن نافع، عن ابن عمر (¬3). الفقه في أربع مسائل (¬4): المسألة الأولى (¬5): قوله: "لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ" قال علماؤنا (¬6): فيه دليلٌ على أنّ للزوج منعها من ذلك، ولا خُرُوجَ لها إلّا بإذْنِه، ولوْ لَمْ يكن للرَّجُل منع المرأة من ذلك، لَمَا خُوطِبَ الرِّجال (¬7) بالمَنع من الخروج كما خُوطِبْنَ بالصّلاة، ولم يخاطب الرِّجال (¬8) بأن لا يمنعوهنّ (¬9). المسألة الثّانية: الأصلُ في الشّرْعِ جوازُ خروج النِّساء، وهي مسألةٌ خلافيةٌ اختلفَ فيها الصّحابة. ¬
رُوِيَ عن عائشة وابن مسعود وجماعة المنع وأن يَلْزَمْنَ قَعْرَ (¬1) بيوتهنّ. واحتجَّ بذلك من رَوَى حديث سعيد بن المنذر عن أمّ حميد السّاعدية؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حُجرَتِها، وصلاتُها في حُجْرَتِهَا خيرٌ من دَارِهَا، ودارها خير لها من مسجِدِهَا. ومسجدُ عَشِيرَتهَا خيرٌ لها من مَسْجِدِي" (¬2) وهو حديث ضعيف. المسألة الثّالثة: تحصيل مذهب مالك - رحمه الله -: الإباحة في الخروج إلى المساجد، ويخرُجْنَ للعيد. وروي (¬3) عن مالك في "المبسوط" أنّه قال: لا تمنعوا النِّساءَ من الخروج. قال علماؤنا (¬4): يحتمل أنْ يريدَ به أنَّه يُحْكَم لهنّ بذلك على الأزواج. ويحتمل أنّ يريد به حضّ الأزواج على الإباحة لهنّ في ذلك. وقال (¬5) الثّوريّ: يُكرَهُ الخروج للمرأة لأنّها عَوْرَةٌ. وفرَّقَ أبو يوسف بين الشَّابَّةِ والمتجالَّة. وقال الثّوريّ: ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزًا. وقال ابن مسعود: المرأةُ عَوْرَةٌ، وأقربُ ما تكون إلى الله في قعْرِ بيتها، فإذا خَرَجَت اسْتشَرَفَهَا الشّيطانُ (¬6). وكان إبراهيم النَّخَعِيّ يمنعُ نساءَهُ الجمعة والجماعة. وسُئِلَ الحسن بن أبي الحسن البصريّ عن (¬7) امرأة حلفت إنّ خرج زوجها من السِّجن أنّ تصلِّي في كلّ مسجدٍ تجمع فيه الصّلاة بالبَصْرَةِ ركعتين، فقال الحسن: تُصَلِّي في مسجد قَوْمِها؛ لأنّها لا تُطِيق ذلك، ولو أَدْرَكَها عمر بن الخطّاب لأوْجَعَ رَأسها (¬8). ¬
الحديث الثّاني: مالك (¬1)؛ أنّه بَلَغَهُ عن بُسْر بن سعيد؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا شَهِدَت إِحدَاكُنَّ العِشَاءَ فلا تَمَسَّنَّ طِيبًا". العارضة: إنّما قال ذلك النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مخافةَ الفِتْنَة بريحِ المرأةِ، فنهى عن ذلك. الحديث الثّالث: مالك (¬2)، عن يحيى بن سعيد، عن عَاتِكَةَ بنتِ زَيْدِ بن عَمْرِو ابن نُفَيْلٍ امرأةِ عمرَ بن الخطَّاب، أنّها كانت تَسْتَأْذِنُ عمرَ بن الخطّاب إلى المسجدِ، فَيَسْكُتُ، فتقولُ: واللهِ لأَخْرُجَنَّ إلَّا أنّ تَمْنَعَنِي، فلا يَمْنَعُها. الإسناد: قال الإمام: كانت عاتِكَةُ زوج عبد الله بن أبي بكر (¬3)، فمات عنها، فتزوَّجها عمر، ثمّ تزوَّجَها بعد عمر الزُّبَيْر بن العَوَّام. الحديث الرّابع: مالك (¬4)، عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَةَ بنتِ عبد الرّحمن، عن عائشة زوجِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّها قالت: لَوْ أَدْرَكَ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ما أَحْدَثَ النِّساءُ لمَنَعَهُنَّ المساجِدَ، كما مُنِعَهُ نساءُ بَنِي إِسرَائيلَ. قال يحيى (¬5): فقلت لعَمْرَة: أَوَ مُنِعَ نِساءُ بَنِي إسرائيلَ المساجد؟ قالت: نعم. الإسناد (¬6): قال الإمام: سائر رُواة الموطَّأ (¬7) لهذا الحديث يقولون في هذا الحديث: ما أَحْدَثَ النِّساء لَمَنعهنَّ المَسْجِدَ، ولم يقولوا "المَسَاجِدَ"، ولا قاله أحد غير يحيى (¬8)، ولا يوجد في رواية إلَّا في روايته. ¬
العارضة: قولها: "ما أَحْدَثَ النِّسَاءُ" تعني الطِّيب (¬1) والتَّجَمُّل وقلَّة التَّسَتُّر وتسرُّع كثير منهنَّ إلى المناكر (¬2). أمّا التَّطَيُّب، فإنّه مكروهٌ للمرأة أنّ تَتَطَيَّبَ في غير بَيْتِها بِطِيبٍ، فإن تَطَيَّبَتْ فلا تَخْرُج. وقال بعضُ الأشياخ (¬3): يحتمل أنّ تريد ما أدركن (¬4) بعدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه من الملابِس والتَّجمل الّذي يفتتن به النّاس (¬5). ولهذا قال: "رُبَّ نسَاء مائلات مُمِيلَاتِ، كاسياتٍ عارياتٍ، لا يدخلن الجنَّة ولا يَجدْنَ رِيحَهَا، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خَمْسِ مِئَةِ عَامٍ" (¬6). وأمّا (¬7) قولها: "كما مُنِعَهُ نساءُ بَنِي إِسرائيلَ" يحتمل أنّ يكون في شريعة بني إسرائيل منع النِّساء من المساجد. ويحتمل أنّ يكون نساء بني إسرائيل إنّما منعن بعد إباحة ذلك لهنَّ (¬8)، لِمَا رواه عبد الرَّزَّاق في "مصنَّفه" (¬9) أنّ نساءَ بني إسرائيل اتّخذنَ رِجْلًا من خَشبٍ، فأَشْرَفْنَ بها على المساجد، فابْتُلينَ بالحَيْضِ، فَمُنِعْنَ المساجِدَ. الأصول (¬10): قال علماؤنا (¬11): وفي إطلاقه صلّى الله عليه لهنّ بالخروج إلى المساجد إباحة لا نَدْبٌ ولا فَرْضٌ، دليلٌ أنّ الإذن (¬12) لهنّ في كلِّ ما كان مُطلَقًا لَهُنَّ الخروج فيه، نحْو عيادة بعض أهلها، أو زيارة بعض الأهل والقرابات، وشُهُود عيد المسلمين، ¬
الأمر بالوضوء لمن مس القرآن
وزيارة قبر ميِّتٍ لها، وشبه ذلك، وإذا كان حقًّا عليهم أنّ يأذنوا لهنّ فيما هو مُطْلَقٌ لهنَّ الخروج فيه، فالإذْنُ لهُنَّ فيه (¬1). وروى ابن عمر قال: قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امرأةُ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَمْنَعْهَا" (¬2). قال علماؤنا: هذا عمومٌ ونُقَيِّدُهُ (¬3) بزيادة من زاد فيه: "فلا يمنعها باللَّيْلِ الصَّلاة في مساجد الجماعة". فيخرج من هذا الحديث أنّ الرَّجُل إذا استأذنته امرأته إلى الحَجِّ لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن منعها (¬4) المسجد الحرام لأداء فريضة الحجّ نهي إيجابٍ، وهو قولُ مالك والشّافعي في أنّ المرأة ليس لزَوْجِها منعها من (¬5) الحجِّ، ويكون على الوجه (¬6) الأوّل -أعني النّهي عن الصّلوات في المساجد- نهي أدب؛ لأنّه واجبٌ عليه ألَّا يمنعها. تتميم: رُوي في الحديث: "لا تَمنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مساجِدَ اللهِ باللَّيْلِ"، تفرَّدَ بهذه الزِّيادة نصر بن عليّ وحده. الأَمْرُ بالوُضُوء لمَنْ مسَّ القرآنَ مالك (¬7)، عن عبد الله بن أبي بكَر بنْ حَزْمٍ؛ أنّ في الكتاب الّذي كتب رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لعَمْرِو بن حَزْمٍ: "لا يَمسَّ القُرآنَ إلَّا طاهرٌ". الإسناد (¬8): قال الإمام: هذا الحديث لم يتَجَاوَزْ به مالك عبد الله (¬9) بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم. ¬
وروى ابن (¬1) داود (¬2) عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جدِّه؛ أنّ في الكتاب الّذي كَتَبَهُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى أهل اليَمنِ في السُّنَنِ والفَرَائِضِ والدِّيَات: "ألَّا يَمَسُّ القُرآنَ إلَّا طَاهِرٌ" (¬3). قال الإمام الحافظ (¬4): وكتابُ عَمْرو هذا قد تَلقَّاهُ العلماءُ بالقَبُولِ والعَمَلِ، وهو عندهم أشهر وأظهر؛ لأنّه لا يجوز أنّ يمسَّ القرآن إلَّا طاهرٌ. وبهذا (¬5) قال مالكٌ والشّافعىّ وأبو حنيفة وجماعة الفقهاء، إلّا داود (¬6) فإنّه قال: لا بأس أنّ يمسَّ القرآن الجُنُب والحائض والمُحْدِث. والدَّليلُ على صحة ما ذهب إليه مالكٌ، قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الآية (¬7)، هذا نَهْيٌ وإن كان لَفْظُه لفظ الخَبَر. الأصول (¬8): قال علماؤنا: لا يجوزُ للمُحْدِثِ أنّ يمسَّ المُصْحَف، لقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬9). فإن قيل: هذا خبرٌ، والخبرُ من الله لا يجوز أنّ يقَعَ بخلاف مُخْبره؛ لأنّه يكون كَذِبًا، وذلك يستحيل في وَصْفِهِ، فدلّ أنّ المرادَ به خبر الله تعالى عن الملائكة المُقَرَّبِينَ في الصُّحُفِ الّتي عندهم، هذا منتهى كلامهم، وهو ساقطٌ جدًّا؛ لأنّ الخَبَرَ لا يجوز أنّ يكون بمعنى الأمر، كما لا يجوز أنّ يكون الأمر بمعنى الخبر، كما لا يجوز أنّ يكون كلَّ واحِدٍ منهما بمعنى النَّهْيِ. ولا يجوز أنّ يكون النّهي (¬10) بمعناهما؛ لأنّ الكلام له حقيقة يتفرَّد بها عن العِلْم والإرادة، وكذلك أيضًا أقسامه (¬11) ¬
من الأمر والنّهي، والخبر والاستخبار، لها حقائق ينفرد كلّ واحدٍ منها بحقيقته عن صاحبه، ولهذا المعنى الّذي فهمه مالك - رضي الله عنه - من أنّ الخبر لا يجوز أن يقع من الله كذِبًا، ومن أنّ الخَبَرَ لا يجوز أنّ يكون بمعنى الأمر، أو بمعنى النّهي، ثمّ قال (¬1) - رضي الله عنه - إنّ هذه الآية (¬2) والّتي في: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (¬3) سواء، يريد أنّهما راجعتان إلى الملائكة وصُحُفِها، وهذا بديعٌ في البيان لمن كان له قَلْبٌ. بَيْدَ أَنِّي أقولُ في ذلك قولًا حسنًا، وهو أنَّ المُصْحَفَ لا يمسّه إلَّا طاهرٌ؛ لأنّ قَوْلَه {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) خَبَرٌ، والخَبَرُ لا يجوز أنّ يقع بخلاف مخبره من الله تعالى. ولكن ههنا دقيقة يجب أنّ يتفَطَّنَ لها اللَّبيب، وذلك أنّ قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬5) خبرٌ عن الشّرع وما بيّن (¬6) فيه. وكذلك قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬7) خبرٌ عن الشّرع وما بين فيه (¬8). فإنْ وجدنا مُحْدِثًا يمسُّ المصحف، ووجدنا مُطَلَّقة لا تلتزم التَّرَبُّص، فلا يكون ذلك من الشَّرْعِ، كما قال: "لا صلاةَ إلَّا بطَهُورٍ" (¬9) فلا يريد نفي الوجود (¬10)؛ لأنّا نجد كثيرًا ممّن يصلِّي وهو مُحْدِثٌ، وإنّما معناه: لا صلاةَ إلَّا بطَهُورٍ شَرْعًا، فإنْ وُجِدَت بغير طَهُورٍ فلا تكونُ من الشَّرْعِ. وهذا تفسير يجمعُ لك (¬11) فيه سلامة الحقيقة من خلطها (¬12) يغيرها، وبقاء اللّفظ على صيغة العربيّة الّتي وُضِعَ لها، وصِحَّة التّوحيد في تنزيه الله سبحانه عن الكَذِب، وقرار الشّريعة في نظامها، فلا (¬13) يشاركها في حكمها ما ليس منها. ¬
الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "وَلا يَحْمِلُ المُصْحَفَ أَحَدٌ بِعلاَقَتِهِ" هو كما قال، وبه قال الشّافعيّ (¬3)، وأبو حنيفة: لا بأس أنّ يحمله على علاقة ويحمله على وسادة (¬4). والدّليل على ما نقوله: أنّ هذا مُحْدِثٌ قاصِدٌ لحمْلِ المُصْحَف، فلم يجز له، كما لو باشَرَهُ بالحَمْل. ومن أصحّ الاستدلال فيه، ما استدلَّ به مالك في قوله (¬5): ولو جاز ذلك لحمل في أخبيته (¬6) إلى آخر الكلام. المسألة الثّانية (¬7): أدخل مالك الآيةَ في هذا الباب؛ ما يصحِّح هو (¬8) الاحتجاج به (¬9) على الأمر بالوُضوءِ لمن مَسَّ القرآنَ. وأدخلَ في آخر الباب ما يحتجّ به النّاس في ذلك وليس عندَهُ بحُجَّةٍ، فأتى به وبيَّنَ ضَعفَ الاحتجاج به. وهذا ممّا يدلُّ على سَعَةِ عِلْمه وحَوطته على الدِّين والإنصاف. ووجه آخر: وهو أنّه أَذخَلَهُ على وَجْهِ الاحتجاج في وُجوب الوُضوء، وذلك أنّ الله تعالى وصفَ القرآنَ بأنّه كريمٌ، وذلك أنّه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} الّذي {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬10) فوصفه بهذا تعظيمًا له. والقرآن المكتوب في اللّوح المحفوظ هو المكتوب في المصاحفِ، وقد أمرنَا بتعظيمها، فيجب أنّ نمتثلَ (¬11) ¬
ذلك بما وصف اللهُ القرآن بِه من أنّه لا يمسّ الكتاب الّذي هو فيه إلَّا مطهّر، وهذا وَجْهٌ صحيحٌ أيضًا. المسألة الثّالثة (¬1): وقد أُبِيحَ (¬2) مسّ القرآن بغير طهارة ضرورة التّعلّم (¬3)، وهل أبيح (¬4) ذلك ضرورة للمعلم (¬5)؟ فَرَوَى ابنُ القاسم عن مالك إباحته، وكره ابن حبيب ذلك. فوجه رواية ابن القاسم: أنّ المُعَلِّم يحتاجُ من تكرّر مسِّه ما تلحقه المشقَّة باستدامة الطّهارة له، فأَرْخَصَ له في ذلك كالمتعلِّم (¬6). ووجه رواية ابن حبيب: أنّه غير محتاج إلى مسِّه لمعنى التعلّم لأنّه حافظٌ، وإنّما ذلك لمعنى الصّناعة والتَّكَسُّبِ، وهذا في المُصْحَفِ الجَامِعِ لِلْكُلِّ. المسألة الرّابعة (¬7): وفي "العُتْبِيَّة" (¬8) كرهَ مالكٌ أنّ يكتب القرآن أَسْدَاسًا وأَسْبَاعًا في المصاحف، وشدَّدَ فيه الكراهية، وقال: قد جَمَعَهُ اللهُ وهؤلاء يُفَرِّقُونَه. المسألة الخامسة (¬9): ومنعَ مالكٌ نَقْط (¬10) المُصْحَفَ الّذي هو الإمام، قال (¬11): ويكتب من الهجاء على الكَتَبَةِ (¬12) الأوّل ولا يحكم (¬13) على ما جعله (¬14) النّاس من الهجاء اليوم. ¬
الرخصة في قراءة القران على غير وضوء
قال (¬1): يبيِّن ذلك أنّ "براءَة" لا يُكتَبُ في أوّلها بسم الله الرحمان الرحيم* لئلا يوضع شيء في غير موضعه، ويكتب في الألواح في أولها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * (¬2)، سواء بدأ بأوّل السّورة أو غيرها؛ لأنّه لا يجعل إمَامًا، قال (¬3): وإنّما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. المسألة السّادسة (¬4): أمّا الذِّكرُ من غير القرآن، فلا يمنع المُحْدِث (¬5) من النُّطق به ولا مِنْ مَسِّهِ، وبه قال جماعة العلماء (¬6). الرُّخصَةُ في قراءةِ القرانِ على غيرِ وُضُوء مالك (¬7)، عن أَيُّوب السَّخْتِيَانِيِّ، عن محمّد بن سِيرِينَ، أنّ عمرَ بن الخطّابِ كان في قَوْم وهم يقرؤونَ القرآنَ، فذَهَبَ لحاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وهو يقرأُ القرآنَ. فقال له رَجُلٌ: يا أَمير المؤمنين، أتَقْرَأُ وأَنْتَ على غَيْرِ وُضُوءِ؟ (¬8) فقال له عمرُ: من أَفْتَاكَ بهذا؟ أَمُسَيْلمَةُ؟ الإسناد: قال الإمام: القائل لعمر هذا الكلام اختلفَ النَّاسُ فيه: فقيل: هو رَجُلٌ من بني حنيفة (¬9) ممّن كان قد آمَنَ بمُسَيْلِمَة، ثمّ آمن بالله ورسوله. وقيل: إنّه الّذي قتل زيد بن الخطّاب باليمامة، فكان عمر لذلك يستثقله ويبغضه. ¬
وقال قوم من المُحَدِّثين (¬1): إنّه أبو مريم الحنفي، وأَنْكَرَ ذلك آخرون؛ لأنّ أبا مريم قد ولاَّهُ عمر بعض ولايته. وذكر بعضهم أنّ هذا الرَّجُل إياس بن صبيح يُكْنَى بأبي مَرْيَم (¬2). ومُسَيْلِمَةُ هو مُسَيْلِمَةُ الحَنَفِي الكذَّاب، كذّاب اليَمَامَة الّذي ادَّعَى النُّبُوَّة، اسمه ثمامة بن حبيب (¬3)، يُكْنَى أبا هارون، ذكر ذلك ابن عفير (*)، ومُسَيْلِمَة لَقَبٌ له وليس باسم. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬4): سئل مالكٌ عن قُرَّاء مصر الّذين يجتمع النّاس إليهم، فكلُّ رَجُلٍ (¬5) يقرأ في النَّفَر يفتح عليهم؛ إنّه حَسَنٌ لا بأسَ به. وقال مرَّة: إنه كرهه وعَابَهُ. وأمّا أنّ يجتمعَ القومُ فيقرؤون في السّورة الواحدةِ، مثل (¬6) ما يعمل أهل الإسكندرية -وهو (¬7) الّذي يُسمى القراءة بالادارة-؛ فكرهه (¬8) مالكٌ، وقال: لم يكن هذا من عمل النَّاسِ. ووجه تلك الكراهية: للمباراة في حفظه والمَبَاهَاة بالتَّقَدُّم فيه (¬9). المسألة الثّانية (¬10): وأمّا القوم يجتمعون (¬11) يقرؤون القرآنَ، أو يَقْرَأ عليهم رجلٌ حسن الصّوت، ¬
فإنّه ممنوع، قاله مالك؛ لأنّ قراءة القرآن على وَجْهِ العبادةِ (¬1)، والانْفِرَاد بذلك أَوْلَى، وإنّما يقصد بهذا صرف وجوه النّاس والأكل به خاصّة، ونوعٌ من السُّؤال بِهِ، وهذا ممّا يجب أنّ يُنَزَّهَ عنه القرآن. المسألة الثّالثة (¬2): قوله: "فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ" هو كنايةٌ عن البَوْلِ والغَائطِ. "ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ وَهُوَ يَقرَأُ" فلم يمنعه حَدثُه عن القراءة. والحَدَثُ عند علمائنا على ضربين: أكبر، وأصغر. فأمّا الأكبر فإنّه على ضربين: أحدهما: تُمْكِنُ إزالَتُه كالجَنَابَةِ. والثّاني: لا تُمْكنُ إزالَتُه كالحَيْضِ. وأمّا ما تمكن إزالته، فإنّه يمنع قراءة القرآن، وبه قال أبو حنيفة (¬3)، والشّافعيّ (¬4)، وقد رُوِيَ عن مالكٌ نحو ذلك في "مختصر ما ليس في المختصر" (¬5). والدَّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا ذِكْرٌ يتكَرَّرُ في الصَّلاة، فلم يكن للجُنُبِ فِعْله كالرّكوع والسّجود. المسألة الرّابعة (¬6): فإذا (¬7) ثبت هذا، فإنّه يجوز أنّ يقرأ اليسيرَ من القرآنِ الجنب وغيره، على وَجْهِ التَّعَوُّذِ والتَّبرُّكِ وذِكرِ اللهِ، ولا حدَّ لذلك (¬8). وقال أبو حنيفة: يجوزُ له أنّ يقرأ بعضى آية وليس له إتمامها. ¬
ما جاء في تحزيب القرآن
وقال الشّافعيّ: لا يجوز أنّ يقرأ منه كلمة واحدة. والدَّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا ممّا تَدْعُو الضّرورة إليه للتَّعَوُّذِ وذِكرِ الله على كلِّ حالٍ، فلم تمنع الجنابة منه كما لم يمنع الحَدَثَ من مسِّ الآية والشّيء اليسير من القرآن في الرِّسالة والخُطبَةِ. المسألة الخامسة (¬1): وأمّا القراءةُ في الطُّرُقِ على غيرِ وُضُوءٍ، فقد قال مالك في "العُتْبيَّهَ": أمّا الشيء اليسير لمن يتعلَّم القرآن، فلا بأس به، وأمّا الرَّجُل الّذي يطوفُ بالكعبةَ يقرأ القرآن في الطّريق، فليس من شَأنِ النَّاس. ما جاء في تحزيب القرآن مالك (¬2)، عن داوُدَ بن الحُصَينِ، عن الأَعْرَجِ، عن عبد الرّحمن بن عَبْدٍ القاريِّ؛ أنّ عمر بن الخطّاب قال: من فَاتَهُ حِزْبُهُ من اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ حِينَ تزولُ الشَّمْسُ إلى صلاةِ الظُّهْرِ، فإنّه لم يَفُتْهُ، أو كَأَنّهُ أَدْرَكَهُ. الإسناد (¬3): قال الإمام: هكذا هو في "الموطَّأ" عن داود، وهو وَهَمٌ ولا أدري ممّن هو؟! والغَالب أنّه من داود؛ لأنّ المحفوظ من (¬4) حديث ابن شهاب، عن السَّائِب بن يَزِيد وعُبَيْد الله بن عبد الله، عن عبد الرّحمن بن عَبْدٍ القاري، عن عمر بن الخطّاب (¬5) قال: من نَامَ عَن حِزبِهِ، فَقَرَأَهُ ما بين صَلاَةِ الفَجْرِ وصَلاَةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيلِ (¬6). ومن أصحاب ابن شهاب من يرفعه إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، منهم: عقيل بنيزيد من رواية ابن وهب (¬7)، وهو عند أهل العلم بالحديث أَوْلَى بالصَّوابِ من حديث دَاوُد ¬
حين جَعَلَهُ من زَوَالِ الشَّمْسِ إلى صلاة الظُّهرِ؛ لأنّ ضيق ذلك الوقت لا يُدْرِك فيه المرءُ حزبه من اللّيل. وَرُبَّ رَجُلٍ حِزْبُه نصفٌ وثُلُثٌ وَرُبُعٌ. وقد كان عثمان وتميم الدَّارِي وعَلْقَمَة وغيرهم يقرؤون القرآن كلّه في ركعةٍ واحدة (¬1). والَّذي رواهُ ابن شهاب أَوْسَع وقتًا، وابنُ شهابِ أَتقَنُ حِفْظًا وأثبتُ نَقْلًا. التّرجمة (¬2): اعلموا- نَوَّرَ اللهُ بصائركم- أنّ "ح ز ب" موضوعٌ عند العرب لجَمْعِ المفترِقِ وضَمِّ المنتشر، فالحزبُ: كلُّ مجموعِ من مفترقٍ قبله. وإنّما بوَّبَ مالك - رحمه الله - هذا الباب، لنُكْتَةٍ بديعةٍ، وهي أنّ الله قال لرسوله (¬3): {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬4) فأخبرَ (¬5) اللهُ أنّ جَمْعَهُ إليه، فوَجبَ أنّ يوقَفَ بذلك الإخبار عنه إليه، حتّى جاء قول عمر بن الخطّاب: "مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ من اللَّيْلِ" فصار ذلك قُدْوَة في الإذْنِ في إطلاقه، وهذا كما اختلفَ النَّاسُ هل يجوز أنّ يقال: حفظتُ القرآن، لقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬6) فَمِنَ العلماءِ من أَذِنَ فيه، ومنهم من مَنَعَهُ لهذه الخَصِيصة، وكما قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬7) كذلك قال؟ إنّ علينا قرآنه (¬8). ثم يجوز إجماعًا أنّ يقول: قرأت، كذلك يجوز أنّ يقول: جمعتُ وحفظتُ، والمعنى واحد. ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: الفائدة الأولى: قال مالكٌ: مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ فذَكَرَهُ بعدَ طُلُوعِ الفجر، فإنّه يُصَلِّيهِ فيما بَيْنَهُ وبينَ صلاةِ الصُّبْحِ. ووجه ذلك: أنّ كلَّ وقتٍ كان محلًّا لصلاةِ الوِتْرِ، فإنَّهُ محلٌّ لصلاة اللَّيلِ. فإن ¬
فاته حتّى صلّى الصّبح في وقت الفجر، فالأفضل أنّ يصلِّيه ما بينه وبين صلاة الظُّهر؛ لأنّه أقرب وقت يمكنه فيه فعله والإتيان به، واللهُ أعلم. الفائدة الثّانية: فيه فضل صلاة اللّيل على صلاة النَّهار، وقيام اللّيل من أعمال البرِّ وقوافل الخير، وقد ألَّفَ النَّاسُ في أخبار المجتهدين في اللّيل كتبًا كثيرةً حِسَانًا. قالت عائشة: قام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بآيةٍ من القرآنِ لَيْلَةً (¬1)، قال التّرمذيّ (¬2): "هو حديث غريب" وأبو المتوكِّل (¬3) مخصوصٌ بأبي سعيد، وعائشة منه بعيد. وقالت الصّوفيَّةُ: الليلُ أُنْسُ الأحباب، وميقاتُ مُنَاجَاتِ ربِّ الأرباب، وفي جَوْفِ اللَّيلِ المنازل والترقّي إلى أَشْرَفِ الطّاعات والفضائل، قال الله العظيم لنبيِّه الكريم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} الآية (¬4)، وقد تقدَّمَ الكلام عليها في "باب قيام اللّيل" في أوَّل الكتاب، فلتُنْظَر هنالك. مالك (¬5)، عن يحيى بن سعيد؟ أنّه قال: كنتُ أنا ومحمدُ بن يحيى بن حَبَّان جَالِسَينِ، فَدَعَا محمدٌ رَجُلًا، فقال: أَخْبِرْني بالّذي سَمِعتَ من أبيكَ. فقال الرَّجُلُ: أَخْبَرَنِي أبي أنَّه أَتَى زَيْدَ بن ثابتٍ، فقال له: كيفَ تَرَى في قِرَاءَةِ القُرآنِ في سَبْعٍ؟ فقال زيد: حَسَنٌ، ولأَنْ أقرأهُ في نصف شهر أو عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، وسَلْنِي لِمَ ذاك؟ قال: فإني أسأَلُكَ. قال زيد: لكي أتَدَبَّرهُ وأَقِفَ عليه. الإسناد: رُوِيَ في هذا الحديث: "أو عِشْرِينَ" لغيْر يحيى من رواة "الموطَّأ" (¬6)، وروايةُ عُبَيد الله: "أو عَشْرٍ" وزاد ابن وضّاح: "وعشرين" وليس في الحديث أَثَرٌ صحيحٌ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلَّا ما قال لعبد الله بن عمر: "اقرأه في شهر" (¬7) ثم انتهى تقسيم النّاس فيه ¬
إلى ستِّين جزءًا، والأمرُ في ذلك قريبٌ. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): اختلفتِ الصّحابةُ والتّابعون في كيفيَّهَ القراءَةِ: فمنهم من ختم القرآن في ركعة كعثمان. ومنهم من قرأَهُ رَاكِعًا كتَمِيم الدَّارِي. ومنهم من خَتَمَهُ في قَبْرهِ كبِشْر بن يسار (¬2)، ثمّ دُفِنَ فيه. ومنهم من كان يقرأه في ليلته. وعلى حال خَوَاطِرِهِم ومقاماتهم في الخوف والرَّجاء والاعْتِبَار، وكلُّ ذلك جائزٌ، والقليلُ مع التَّدَبُّر عندي أفضل. المسألة الثّانية (¬3): قد تكلّم النَّاسُ في التَّرتيلِ والهَذِّ (¬4)؛ فذهب الجمهور إلى تفضيل التّرتيل، قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬5)، وكانت قراءة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - موصوفة بذلك، قالت عائشة: وكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقرأُ السّورة ويُرَتِّلُها، حتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطوَلَ مِنْهَا (¬6). وهو المرويّ عن أكثر الصّحابة. وسُئِلَ (¬7) مالكٌ عن الهَذِّ فَقال: مِنَ النّاس من إذا هذّ كان أخفَّ عليه، وإذا رَتَّلَ أخطأَ. ومن النّاس من لا يحسن الهَذّ، والنّاس في ذلك على ما يخفّ عليهم ويسهل. والله أعلم. قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬8): "والّذي عندي أنّه يُسْتَحَبُّ لكلِّ إنسان ملازمة ¬
ما يوافِق طبعه ويخفّ عليه، فربّما تَكَلَّفَ ما يخالِف طبعه ويشقّ عليه، ويقطعه ذلك عن القراءة والإكثار منها، وليس هذا ممّا يخالِفُ ما قدَّمْنَاهُ من تَفْضِيل التّرتيل لمن تساوى في حال الأمرين" (¬1). المسألة الثّالثة: والنّاسُ في التِّلاوةِ على ثلاث مقاماتِ: أعلاهم مَنْ شهِدَ أوصاف المتكلِّم في كلامه وتعريف خطئه، وهذا مقام العَارِفِينَ من المُقَرَّبِين. ومنهم من يشهد أنّ الله سبحانه هو الّذي يُنَاجِيهِ بأَلْطَافِه، ويخاطبه بإنعامه وإحسانه، فمقامُ هذا الحياء والتّعظيم، وحَالُهُ الإصغاء والفَهْم، وهذا للمُعْتَرِفِينَ (¬2) من عُمُومِ المُقَرَّبِينَ. ومنهم من يرى أنّه يخاطبُ بالكلام؛ لأنّه سبحانه متكلِّمٌ بكلامِ نَفْسِهِ، وليس ذلك للعَبْدِ، وإن كان كلامه كلامًا، وإنّما جعل له حركة اللِّسان بوَصْفِهِ، وتبيين الذِّكْر بلسانه، بِحِكمَةِ ربِّه، جزاءً للعبد ومَكَانًا له، كما كانتِ الشّجرة وِجْهَة موسى عليه السّلام إذْ كلَّمَهُ ربّه. المسألة الرّابعة: في صِفَةِ الجَهْرِ بالقراءةِ، وما في ذلك من النّبات، وتفضيلِ حُكْمِ الجَهْرِ والسِّرِّ، وبيان حُكمِ الحالات والأخبارُ في ذلك كثيرةٌ، منها في الصّحيح أخبارٌ حِسَانٌ. رُوي أنّه قال: "فضلُ قراءَةِ السِّرِّ على العَلاَنِيةِ كَفَضلِ صَدَقَةِ السِّرِّ على صَدَقَةِ العَلاَنِيةِ" (¬3). وفي لفظٍ أشهر من هذا: "الجاهِرُ بالقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بالصَّدَقَةِ، والمُسِرُّ بهِ كَالْسِرِّ بِالصَّدَقَةِ" (¬4). وفي الحديث الحسن؛ "أنّ عَمَلَ السِّرِّ يفضلُ على عمل العلانية بسبعين ¬
ضعْفًا" (¬1). ومثله من العموم: "خَيْرُ الرِّزْقِ ما يَكْفِي، وخَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيّ" (¬2). وفي خبر أشهر من هذا: "لا يَجْهَر بعضُكُم على بعضٍ بِالقراءةِ بينَ المغربِ والعِشَاء" (¬3). وفي التّرمذيّ (¬4)، عن أبي قتادة؛ أنّ أبَا بَكْرٍ كان يُسِرُّ وعمر يجْهَرُ بالقِرَاءَةِ، فقال النبيُّ لأبي بكر - رضي الله عنه -: "ارْفَعْ قَلِيلًا"، ولعمر: "اخْفِضْ قَلِيلًا". وهو حديثٌ موقوفٌ على عبد الله بن رَبَاح، عن النّبِيِّ (¬5)، وقد يكون مُرْسَلًا، والمُرْسَلُ عندنا حُجَّةٌ في أحكام الدِّينِ من التَّحليلِ والتَّحريم، فكيف في الفَضَائِلِ وأَبْوَابِ العبادات. وقول عمر (¬6): يا رسول الله، أُرِيدُ بذَلِكَ أنّ أُوقِظَ الوَسْنَانَ، وَأَطْرُدَ الشَّيْطَانَ، وأُرضي الرّحمن (¬7). العربية (¬8): قال الإمامُ: والوَسْنَانُ هو الّذي خَالَطَهُ النُّعاس ولم يأخذه بَعْدُ، قال الله العظيم تنزيهًا عن ذلك: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬9). وقال الشّاعر (¬10): وسْنَان أَقصدَهُ النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ ولَيْسَ بِنَائِمِ ¬
المسألة الخامسة (¬1): في المتناجي اختلف العلماء في أيِّ العملين (¬2) أفضل: التّناجي سرًّا مع الله، أم الجَهْر؟ لما في ذلك من تَضَاعُف الأَجْر في تَذْكِرَةِ الغَافِلِ وطَرْدِ العَدُوِّ، وما حَكَمَ به النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بينهما، فإنّه لم يترك أبا بكرِ على صفته، ولا عمر، وقال لهذا: ارْفَعْ صوْتَكَ قليلًا حتّى يقتدي بِكَ من سَمِعَكَ، وقال لعُمَر: اخْفِض من صوتكَ قليلًا لئَلّا يتأذَّى بك (¬3) من يحتاج إلى النّوم (¬4)، وهذا إنّما كان في حقِّ أبي بكرِ للقَطْع على الخلوص بنيته (¬5)، وسلامَتِه عن الرِّياء، وتَصْدِيقِه له في (¬6) قوله: "أَسْمَعْتَ مَنْ نَاجَيتَ" وأمّا غيره فالسِّرُّ له أفضل؛ لأنّه أقرب له إلى الخلاص وأَسْلَم من الآفات. وقد ثبتَ عن عائشة في الصّحيحِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ربّما أَسَرَّ في قِرَاءَتِهِ، ورُبّمَا جَهَرَ، فقال الراوي -وهو عبد الله بن قَيس-: الحمدُ لله الّذي جعلَ في الأَمْرِ سَعَةً (¬7). ورواه غيره عنها. فَيَقْرَأ كُلُّ أحد بما قدر عليه من نشاطه وكسله، وبما سَلِمَ له من إخلاصه أو خَوْفِه الرِّياء والتَّصَنُّع على نفسه. وسمعَ (¬8) سعيد بن المسيِّب ذات ليلةٍ في مسجدِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عمر بن عبد العزيز يجهَر بالقراءة في صلاته- وكان صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ - فقال لغلامه: اذهب إلى هذا المصلِّي فَأْمُرْهُ أنّ يخفضَ من صوته". فقال الغلام: إنّ المسجدَ ليس لنا وإنّ للرَّجُلِ فيه نَصِيبًا. فرفَعَ سعيد صوته (¬9)، وقال: أَيّها الرَجُلُ المُصَلِّي، إنّ كنتَ تريدُ اللهَ بصلاتِكَ فاخفض من صوتك، وإن كنتَ تريدُ الدُّنْيَا والنّاس، فإنّهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئًا. فسكتَ عمر وخَفَّفَ ركعته، فلمّا سلَّمَ أخذَ نعليه وانْصَرَفَ وهو يومئذٍ أمير المدينة (¬10). ¬
وعلى ذلك فقد كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يسمع جماعة من الصّحابة يجهرون بالقراءة في صلاة اللّيل فيستمع إليهم، وقد أَمَرَ أيضًا بالجَهْرِ، فقال: "إذا قام أحدكم من اللّيل يُصَلِّي فليتهجَّد بقراءته، فإنّ الملائكةَ وعُمَّارَ دَارِهِ يسمعون إلى قراءته ويصلّون بصلاته" (¬1). ومرَّ على ثلاثةٍ من الصحابة باللّيل تختلف احوالهم، فمنهم من كان يخافِت وهو أبو بكرٍ، ومنهم من كان يجهَر وهو عمر. وهذا أصل المسألة. فنقول في ذلك -والله أعلم-: إنّ المُخَافَته بالقراءة هي أفضل إذا لم تكن للعبد نيّة في الجَهْرِ؛ لأنّه أقرب إلى السّلامة، وأبعد من دخول الآفة، وإن الجَهْرَ أفضل لمن كانت له نِيَّة في الجَهْرِ؛ لأنّه قد أقام سُنَّة قراءة القيام للهِ، ولأن المُخَافَتَةَ لنفسه والجَهْر منفعة له ولغيره، وخيرُ النَّاس من انْتفَعَ النَّاسُ به وانتفع بكلامِ اللهِ. وبالجُمْلَةِ: إنّه من حفظ جوارحه وقلبه عن الرِّياء، فقد عمل بالقرآن. المسألة السّادسة: قال علماؤنا: وفي القراءة بعد ذلك سبع مقامات: منها: التّرتيلُ الّذي أَمَرَ به. ومنها: حُسْنُ الصَّوت بالقرآن الّذي ندب إليه قوله: "زيَّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ" (¬2)، وقولُه: "لَيسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرآن" (¬3) أي يُحَسِّن به صوته، وهو أحد الأقوال المرويّة، فيه. ومنها: أنّ يُسْمِع أُذُنَيْه ويُوقِظَ قلبه لتَدَبُّر (¬4) الكلام، وتفهُّم (¬5) المعاني، ولا يكون ذلك كلّه إلا في الجَهْر به. ومنها: أنّ يطرد النّوم عنه برفع صَوْته. ¬
ما جاء في القرآن
ومنها: أنّ يرجو بقراءته وجهرته يقظة نائمٍ، فيذكر الله، فيكون سبب إحيائه وذِكْرِهِ، وربما اشتاق إلى القيام (¬1) والخدمة، فيكون هو مُعَاوِنًا له على البرِّ والتَّقوى، فتكون نيَّتُه طالبًا لهذه الحَسَنَات؛ لأنّه إنّما يفعل العمل بكثرة النيات فيه، وفضلَتْ أعمالهم بحُسْنِ معرفتهم بِنِيَّات العمل واعتقادهم لها، فقد يكون في العمل الواحِدِ عشر نياتٍ، يَعْلَمُ ذلك العلماءُ باللهِ فيعملون بها فَيُغطَوْنَ بها عشرة أجور. وأفضلُ النَّاسِ في العملِ أكثرهم نيّةً فيه وأحسنُهُم قَصْدًا. وفي غريب التّفسير، قولُه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬2) قال (¬3): قراءةُ القرآنِ، وفيه ورد الخبر: "مَنِ اسْتَمَعَ إلى آيةٍ من القرآنِ كانت له نُورًا يوم القيامةِ" (¬4) وهذا البسط في هذا النّوع كافٍ لأهلِ البَصِيرَةِ والتَّبْصِرَةِ، والحمدُ للهِ. ما جاء في القرآن مالك (¬5)، عن ابن شِهَاب، عن عُرْوَةَ بن الزُّبَيْر، عن عبد الرّحمن بن عَبْدٍ القاريِّ؛ أنّه قال: سمعتُ عمرَ بن الخطّاب يقولُ: سمعتُ هِشامَ بن حَكِيم بن حِزَامٍ يقرأُ سورةَ الفُرْقَانِ. الحديث. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬6): "رَوَى هذا الحديث مَعْمَر (¬7)، ويونُس (7)، وعُقَيْل (¬8)، وشُعَيْب بن أبي حمزَة (¬9)، وابن أخي ابن شِهَاب (¬10)، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة وعبد الرّحمن بن عبد القاريّ، جميعمًا سَمِعَا عمر، بمعنى حديث مالك، إلّا أنّ معمرًا قال فيه: عن عمر، فقلت: يا رَسولَ الله، إنِّي سمعتُ هذا يقرأ ¬
سورةَ الفُرقانِ على حُرُوفِ لم تقْرئنِيهَا وأَتتَ أَقْرَأْتَنِي سورةَ الفُرْقَانِ. فَبَانَ أنّ الخلافَ بين هشام وعمر كان في حروفٍ من السُّورَةِ، وهذا تفسير لروايةِ مالكٌ؛ لأنّ ظاهرَ ما في قوله: "يَقْرَأُ سورةَ الفرقانِ" يقتضي عموم السّورة كلِّها، وليس كذلك، وقد ظهرَ الخصحوصُ برواية مَعْمَر ومَن تَابَعَهُ، فارتفعَ الإشكالُ، والحمدُ لله. وأيضًا: معلومٌ عند الجميع أنّ القرآنَ لا يجوز في حروفِهِ كلها (¬1) ولا في سورةِ منه أنّ يَقْرَأَ أَحَدٌ حروفها كلّها على سَبْعةِ أَوْجُهٍ، بل لا توجد في القرآن كلّه كلمة تُقْرَأُ على سبعة أَوْجُهٍ إلَّا قليلًا، مثل قوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (¬2) وقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (¬3) وقوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (¬4) وكقوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (¬5) ". الأصول: قوله (¬6): "إنّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". أمّا نزولُ القرآن، فإنّه رُوِيَ عن ابن عبّاس؛ (¬7) أنّ القرآنَ أُنْزِلَ إلى السَّماء الدُّنيا جملة، نزل به رُوحُ القُدُس الأمين، ونجَّمه عليه. واحتجَّ بقوله عن الّذين كفروا {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (¬8) فكان نزولُه على قَدْرِ الحَاجَةِ إليه حتّى أَكمَلَهُ اللهُ تعالى. المسألة الثّانية: قوله: "إنَّ هَذَا القُرْآنَ" اعلم أنّ القرآنَ لا يتحدّد معناهُ، ولا يتقدَّر مقتضاه، فقد يُرَادُ به الكلام القديم الموجود بذَاتِ الرَّبِ تعالى. وقد يُرَادُ به القراءة الحادثة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (¬9) وقد يضاف إليه من حيث إنّه موجودٌ بذاتِهِ وصفةٌ من صفاتِهِ. ¬
وقد يراد به القراءة الحادثة، كما أنّها تُوصَفُ بأنّها كلامه، قال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1). والثّاني: أنّها دلالة على كلامه الموجود بذاته؛ لأنّه ذكر له على ضرب من التّفصيل، والدَّالُ دالٌّ على المَذْكُورِ وليس إياهُ، على ما قدَّمناه. المسألة الثّالثة: قوله: "على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" والحروفُ هاهنا هي القراءة بالأصوات، وهي ضدّ كلام البارئ سبحانه؛ لأنّ البارئ كلامه القديم الّذي هو صفةٌ من صفاتِهِ لا تُفَارِقُه، ليس هو بصَوْتٍ ولا حَرْفٍ. وقوله (¬2): "فَاقرَؤُا مَا تيَسَّرَ مِنْه" أضاف القراءة والتِّلاوةَ للتّالِي؛ لأنّها صفة للتّالي موجودٌ بذَاتِه، والمَتْلُوُّ صفةٌ للبارىء تعالى موجودٌ بذَاتِهِ، ولا يصحّ وجود الصِّفَةِ الموجودة بمَوْصُوفَيْن، كما لا يصحّ وجود الخَبَرِ في الزّمان الوَاحِدِ في مكانَين. والثّاني: أنّ (¬3) التِّلاوةَ حادثةٌ؛ لأنّها أصوات مُتَجَدِّدَةٌ، والمَتْلُوَّ قديمٌ يستحيلُ تجديدُهُ. والثّالث: أنّ التِّلاوةَ تُعْدَمُ بسكوتِ التّالِينَ وعَدَمِهِمْ، والمَتْلُوَّ قديمٌ قد ثبتَ قِدَمُهُ فيستحيلُ عَدَمُه. والرّابع: أنّ التِّلاوةَ تزيدُ بزيادةِ القُرَّاءِ وتنقصُ بنقصانِهِمْ، والمَتْلُوَّ صِفَةٌ واحدةٌ لا يصح فيها زيادة ولا نقصان. الخامس: أنّ التِّلاوةَ ترجعُ إلى الأصوات -أعني أصوات القُرَّاءِ أو نَغَمَاتِهِم الّتي تقعُ بكَسْبِهِم، ويسَتطَابُ من بعضهم- وتُوصف بالجَهْرِ والإخْفَاءِ والسُّرعَةِ والابْطَاءِ، واللَّحْنِ والإعراب، والخَطَإِ والصَّواب. والمَتْلُوَ لا يُنْعَتُ بشيءِ من ذلك كلِّه. السّادس: أنّ المَتْلُوَّ الموجود بذَاتِه لو صحَّ وجوده بذَوَاتِ خَلْقِه، لوَجَبَ القولُ بانتقاله، وذلك يُؤَدِّي إلى نوعِ من المُحَالِ وأجناسٍ من الكُفْرِ والضَّلال: أحدها: خُلُوُّ ذَاتِه من الكلام إلى ضِدِّه. ¬
الثّاني: جوازُ انتقالِ عِلْمِه وحيَاتِه وقُدْرَتِه وسائر صفاته. الثّالث: قَبُولُ ذاته وكلامه للحَوَادِثِ. الرّابع: تصحيحُ قولِ الحُلُوليَّة وقول النّصارى باتِّحاد الكَلِمَةِ. الخامس: القولُ بانْفِصَالِ الصِّفات بشَطْرٍ من العِلْم بحُدُوثِ العَالَمِ وثبوت مُحْدثه. وهذا كلُّه يتعالى اللهُ عنه، وليس هذا موضع البَسْط لهذا الكلام، وهذه النُّبْذَةُ تَكْفِي ذَوِي الأَفْهَام. المسألة الرّابعة (¬1): اختلفت قراءة عُمَر وهشام، فجوَّزَ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لكلِّ واحدٍ منهما قراءته؟ وقال (¬2): "إنَّ هذَا القرآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفِ، فاقرؤا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ". *قال علماؤنا: هذه السبعة أحرف قد درست منها ستّة، وبقي حرفٌ هو (¬3) الحروف، وترجع إلى حرفٍ واحدٍ" (¬4). قال الإمام: والّذي أنكر عمر على هشام بن حَكِيم إنّما هو حرفٌ واحدٌ؛ وذلك أنَّه قرأ (¬5) هشام: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْادِهِ} الآية (¬6) وقرأ عمر: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (¬7). فَأَنكَرَ عليه عمر، فقال له النّبيُّ حين قرأ عليه: كذلك أُنْزِلَتْ. واختلفَ (¬8) العلماءُ في ذلك اختلافًا مُتبَايِنًا، وذلك أنَّ جبريل -عليه السّلام- لمّا نزل على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالقُرآنِ بحَرْفٍ، قال له: "إنّ أُمَّتِي لا تطيقُ ذَلِكَ" فنزل بحَرْفَيْنِ، ثمّ لم يَزَلْ يستزيدُه، حتّى بلغ السَّبْعَة (¬9)، ولم تُعَيَّن هذه السَّبْعَة بنصٍّ من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولا بإِجْمَاعِ من الصَّحابة. ¬
واختلفت فيها الأقوال: فقال ابن عبّاس: اللُّغاتُ سَبْعٌ، والسَّماوات سَبْعٌ، والأرْضُون سَبْعٌ (¬1)، فكان معناه: نزل بلُغَةِ العَرَبِ كلِّها. وقيل: هذه الأحْرُفٌ في لُغَة واحدةٍ. وقيل: هي تبديل هذه الكلمات إذا استوى المعنى. وقال (¬2) الخليل: معنى "سَبْعَة أَحْرُفٍ" سبعُ قراءاتٍ، والحروف هاهنا القراءة (¬3). وقال غيرُه: هي سبعة أنحاء، كلُّ نحوٍ منها جزء من أجزاءِ القرآن خلاف غيره، كأنّه ذهب إلى أنّ كلَّ حَرْفٍ منها هو صِنْفٌ من الأصناف، نحو قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (¬4) فكان معنى الحرف الّذي يعبد الله عليه هو صنفٌ من الأَصنافِ ونوعٌ منها الّتي يعبد الله (¬5) عليها، فمنها ما هو محمود عند الله، ومنها ما هو بخلاف ذلك. فذهب هؤلاء إلى أنّ قولَه: "إنَّ القرآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" أنّها سبعة أنحاء وأَصْنَافٍ، فمنها زاجر، ومنها آمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها مُحْكم، ومنها مُتشَابِه، ومنها أمثال وعبر، وغير ذلك. واحتجُّوا بحديثِ ابن مسعود، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؟ قال: "كان الكتابُ الأوَّلُ نزلَ من بابٍ واحدٍ، على حَرْفٍ واحدٍ، وأنزِلَ (¬6) القُراَنُ من سَبْعَةِ أبواب على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" الحديث (¬7). قال: واختلفوا (¬8) فيها (¬9) كيف أُنْزِلَتْ: ¬
فقيل: أُنْزِلَتْ على لغة قريش. وقال ابن عبّاس: أُنْزِلَتْ على كلِّ حيٍّ من أحياء العرب، واحتج قائل هذا بقَوْلِ عثمان: اكتبوه بلغة قريش، فإنّه أكثر ما نَزَلَ بلِسَانِهِمْ (¬1). ورُوِي أنّه نَزَلَ بلسان الكعبَيْن: كعب بن عمرو وكعب (¬2) بن لُؤَي. وقيل: بلسان خزاعة. وقال آخرون: هذه اللُّغات كلّها في مُضَر. واحتجوا بحديث عثمان: "أنْزِلَ القُراَنُ بِلِسَان مُضَر" (¬3) وقالوا: جائزٌ أنّ يكون منها لقُرَيْش، وجائز أنّ يكون منها لكنانه، ومنها لأسْد، ومنها لهُذَيْل، ومنها لقَيْس، فهذه قبائل مُضَر (¬4). قال الإمام: وهذه الأقوال كلُّها مُختملَة التّأويل، قد طال التّنازع (¬5) فيها بين العلماء، وليس فيها شيءٌ قاطعٌ يرفعُ الإِشكالَ. والّذي (¬6) يتحصَّل من هذه المسألة -على عِظَمِ الاختلاف فيها- أمران: أمّا أحدهما: فسقوطُ جميع اللُّغات وجميع القراءات، إلَّا ما ثبتَ في المُصْحَفِ بإجماعٍ من الصّحابة، وأنّ ما كان أذِنَ فيه قبلَ ذلك ارْتَفَعَ وذَهَبَ. جاء حُذَيْفَةُ بن اليَمَانِ فقال: يا أمير المؤمنين، أَدْرِكِ النّاسَ قبلَ أنّ يَخْتَلِفُوا في القُرآنِ كما اختلفَ اليهودُ والنَّصارى في التوراة والإنجيل (¬7) فأجمعتِ (¬8) الصّحابةُ على ما في المُصْحَفِ وسقط ما وراءَهُ، وتمَّمَ اللهُ علينا هذه النعمة بما ضَمِنَ من حِفظِ كتابه للأُمَّة حين (¬9) قال: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬10) وذهبت كلُّ صحيفةٍ كانت في الأرض سواهُ، حتّى إنّ ابن مسعود كان قد كَرِهَ ذلك، وقال: يا أيّها النّاس، إنِّي غَالّ (¬11) مصحفي، فمن استطاعَ ¬
منكم أنّ يغلّ مُصْحَفَه فَلْيَفْعَل فإنّ اللهَ يقول: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1) فَمَا بَقِيَ على الأرض منها حرفٌ. الثّاني: أنّ القراءة لكلِّ أحدٍ إنّما تكون بقَدْرِ استِطَاعَتِه، فمن كانت يَاؤُهُ جِيمًا، أو كَافُهُ شينًا، أو لاَمُهُ مِيمًا، فإنّه يجوز (¬2) له أنّ يقرأ بذلك، وهذا هو المقدار الّذي تفتقوون إليه (¬3) وما سواه فمستراحٌ منه. نكتةٌ (¬4): فإن قيل: فما تقولون في القراءات السَّبْعِ الّتي أُلْفِيَت في الكتب؟ قلنا: إنّما أرسلَ أمير المؤمنين المَصَاحِفَ إلى الأمصار الخَمْسَة بعدَ أنّ كُتِبَتْ بلغة قريش؛ فإن القرآن إنّما نزلَ بلُغَتِهم، ثمّ أَذِنَ لكلِّ طائفةٍ من العَرَبِ أنّ تَقْرَأَ بلغتها على قَدْر استطاعتها، فلَمَّا صارتِ المصاحفُ في الآفاق غير مضبوطة بنقط ولا مُعْجَمَة بضَبْطٍ، قرأها النَّاسُ، فما أنَفَذُوه نَفَذَ، وما احتمل الوجهين طلبوا فيه السَّماعَ حتّى وجدوهُ. فلمّا أراد بعضُهُم أنّ يجمعَ ما شذَّ عن خَطّ المُصْحَفِ من الضَّبْطِ، جَمَعَهُ على سبعةِ أَوْجُهٍ، اقتداءً بقوله: "أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" وليست هذه الرِّوايات بأصلِ في التَّعْيِينِ، بل ربّما خرجَ عنها ما هو مثلها أو فوقها، كحروف أبي جعفر المدني (¬5) فإنّها فوق حروف عبد الله بن كثير المكِّي (¬6)؛ لأنّه أشهر منه وأعلم وأقرأ وأمثاله من قُرَّاءِ الأمصار. فإن قيل: وهل تُعَيِّنُونَ هذه الأحرف السَّبعة، أو حرفًا واحدًا منها؟ قيل: لا سبيلَ لنا إلى تعيينها من وَجْهٍ صحيحٍ؛ لأنّ الّذي ثبتَ من قوله: "سَبْعَة أَخرُفٍ" لم يتعيَّن، والمسألةُ مُشكِلَةٌ جدًّا، والكلامُ عليها طويلٌ عويصٌ (¬7). ¬
حديث مالك (¬1)، عن نَافِع، عن ابنِ عمر، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "إِنّما مَثلُ صاحِبِ القرآن كَمَثَلِ صاحبِ الإبِلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وإنْ أطْلَقَهَا ذَهَبَت". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه (¬2)، وله نظائر كثيرة. وفيه فائدتان: الفائدة الأولى: فيه: الحضُّ على دَرْسِ القرآن وتَعَاهُدِهِ والمُوَاظَبَة عليه، والتّحذير من نسيانه بَعْدَ حِفْظِهِ، لما رُوِيَ في ذلك من الآثار الواردة عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من حديثِ ابنِ مسعود وغيره؛ أنّه قال: "مَنْ تَعَلَّم القرآنَ ثمَّ نَسِيَهُ، لَقِيَ اللهَ تعالى يَوم القيامة أجذم" (¬3) يعني مقطوع الحُجَّة. ومن حديث أَنَس، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجورُ أُمَّتِي حتّى القَذَاةُ (¬4) يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ من المسجدِ، وعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فلم أرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ من سُورةٍ من القرآنِ أو آيةٍ من القرآن أُوتِيَها الرَّجُلُ ثُمَّ نَسِيها" (¬5). ومن حديث ابن مسعود أنّه كان يقول: تَعَاهَدُوا القُرآنَ فهو أشد تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا. قال: وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: بئس ما لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيةَ كَيْتَ، بل هو نُسِّيَ (¬6). وفي حديث ابن مسعود هذا كراهية قول الرَّجُل: نَسِيتُ، وإباحةُ قوله: أُنْسيتُ، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} الآية (¬7). ¬
وأمّا حديث الموطّأ (¬1): "إنَّي لا أَنْسَى أَوْ أُنَسَّى" فإنّما هو شَكٌّ من الرّاوي في اللَّفْظَيْن، على أنّه حديث لا يوجد في غير الموطّأ، وهو ممّا انْفَرَدَ به مالك. ومعلوم أنّ النِّسْيَانَ في لغة العرب بمعنى التَّرك، قال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية (¬2)، معناه: تَرَكُوا. وقيل: نسوا الله، أي تركوا طاعة الله فَتَرَكَ رحمتهم وهدايتهم. وكان ابنُ عُيَيْنَة يقول: ما جاء من الأحاديث في نِسْيَانِ القرآن، قال: هو تَرْكُ العَمَلِ بما فيهِ، كقوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} الآية (¬3)، قال: ليسَ من نَسِيَ حِفْظَه وتَفَلَّتَ منه بنَاسٍ، إنّما إذا كان لا يُحِلُّ حَلاَلَهُ ولا يحرِّمُ حرامه، قال: ولو كان ذلك ما نسِيَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - شيئًا منه، قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية (¬4)، وقد نَسِيَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - شيئًا منه فقال: "ذَكَّرَني هذا آية كنت نَسيتُها". وإنّما كان هذا لأنّه بَشَرٌ ومن جُمْلَة الآدميّة. حديث مالك (¬5)، عن هِشَام بن عُرْوَة، عن أبيه (¬6)، عن عائشةَ زوجِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ الحارِثَ بن هِشَامٍ سأَلَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -: كيفَ يَأتِيكَ الوَحْيُ؟ فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أحيانًا يَأْتينِي في مِثل صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهو أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَد وَعَيْتُ ما قالَ، وأحيانَا يَتَمَثَّلُ لي المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي ما يقولُ" قالت عائشة: ولقد رَأَيْتُهُ يَتزِلُ عليه في اليومِ الشَّديدِ البَرْدِ فَيفْصِمُ عنه وإنّ جَبِينَهُ لَيتَفَصَّدُ عَرقًا. الإسناد: قال الإمام: خَرَّجَ مالكٌ هذا الحديث ههنا على هذا المتن وهذا الإسناد، وقد ابتدأَ البخاريّ (¬7) بهذا الحديث لأنّه من باب الإيمان بالنُّبُوَّة. فقال: باب كيف كان بدْء الوحي إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وساق الآية: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية (¬8). ¬
قال الإمام: حديثُ كيف يأتيكَ الوَحْيُ؟ هو سؤال عن الكَيْفِيَّةِ؛ لأنّه كان يأتيه الوَحْيُ على ثلاثةِ أنواعٍ (¬1): أحدُها: كَدَوِيِّ النَّخل، رواه عمر (¬2). الثّاني: مثلُ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ في شدَّةِ الصَّوت، وهو أشدّ عليه (¬3). الثّالث: وقد كان يأتيه رجل فيكلِّمه، وهو أَخَفُّهُ (¬4). والحِكمَةُ في ذلك؛ أنّ البارى تعالى كان يقلِّب عليه هذه الأحوال زيادةً في الاعتبار وقوَّةً في الاستبصار، فبوَّب البخاريّ: باب كيف كان بدءُ (¬5) الوَحْي على (¬6) رسول الله (¬7). وفي حديث الحارث (¬8): كيفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فكانَ المرادُ حديث عائشة. والثّاني كان أوقع، إلَّا أنّ وجه تقديم حديث الحارث يظهر من طريقين (¬9): أحدهما: أنّ كلَّ ظُهُورٍ ابْتِدَاءٌ، وليس كلّ ابتداء ظهور، فَبَدَأ بالمعنى العامّ. ولنا في هذا الحديث ممّا قيَّدْنَاهُ عن علمائنا فوائد كثيرة. الفائدةُ الأولى: فيه أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يسأله أصحابُه عن أَمْرِ الدِّينِ، والسُّؤالُ في أمر الدِّينِ على قسمين: سُؤالٌ عن فَنِّ العقائد، وسؤالٌ عن فنِّ العَمَلِ. والسُّؤالُ عن فنِّ العمل عندهم مكروهٌ إلَّا عن ما يقع، وقد كانت المسألةُ تدورُ على الصَّدْرِ الأوّل، فيقال: دَعُوها حتّى تنزل. وأمّا السُّؤالُ عن العقائد فَمَذْمُومٌ، وكذلك عن الغريب، حتّى أنّ عمرًا ¬
- رضي الله عنه - ضرب صبيغًا عليها ونفاهُ وحرَّمَ مجالسة المسلمينَ له، حتّى كتب عامله إليه (¬1) بتوبته، فكتب إليه: لا أراه إلَّا صَدَقَ، فخَلِّي بينه وبين النّاس (¬2). وهذا السُّؤال الّذي وقعَ في الحديث عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وإن كان قد خرجَ عن قبيل الأعمال، فهو من فنِّ العقائد، وإنّما أَجَابَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو قد كَرِهَ السُّؤالَ- لأَمْرِ قد ظهر له في السَّائلِ، وإنّما كَرِهَ السُّؤال لكَثرة الإلْحَاح عليه بذلك، لقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬3) وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} (¬4) و {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (¬5) والنوع مثل هذا كثيرٌ، يأتي بيانُه إنّ شاء الله في "كتاب الأحكام في القضاء" من هذا "الكتاب" عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية (¬6)، وإنّما أَجابَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للحارث (¬7) بِمَا ظهرَ له من أَحَدِ وجهين: أحدهما: ما عَلِمَ من صِحَّةِ معتَقَدِه ومَقْصدِه، وأنّ غَرَضَه التّمييز لا المُعَانَدَة. الثّاني: أنّه لَمَّا كان إشكالٌ (¬8) لا يعمُّ وقوعُه، ويتلجلج في الصُّدور ريبةً، تَعَيَّنَ عند السُّؤالِ كَشْفُه. الفائدة الثّانية: فيه أنّه قد كان منهم طائفةٌ تسأل، وطائفة تحفظ، وكلُّهم أَدَّى وبلَّغَ ما عَلِمَ، ولم يكتم أحدٌ شيئًا حتّى أكملَ اللهُ دينَهُ. الفائدة الثّالثة: قوله (¬9): "كيفَ يَأْتيكَ الوَحْيُ" قد بيَّنَّا في "الكتاب الكبير" انقسام الوحي إلى ثمانية أقسام، لُبابُها أنّها الإعلام بكلام أو إشارة. والوحيُ هو من قولهم: وَحَى ¬
الرَّجُلُ وأَوْحَى، قاله صاحب "العين" (¬1). الفائدة الرّابعة: قوله: "مِثل صَلْصَلَةِ الجَرَسِ" الصَّلْصَلَةُ وقوعُ الحديدِ على الصَّفَا، وتحقيقه: الصّوتُ المرتفعُ، ويقالُ: الصّلْصَلةُ والصّليلُ: الصوتُ (¬2)، يقال: صالت أجواق الإبِلِ من العَطشِ، إذا يبست ثم شربت، فسمع للماء في أَجْوَافِها صوتًا (¬3). والجرسُ هي قطعةٌ مُجَوَّفَةٌ من حديدٍ أو نُحَاسٍ، في جَوْفِها حديدة معلَّقَةٌ تَضطَرِبُ باضْطِرَابه، إنّ كان صغيرًا فاسْمُه جرس، وإن كان كبيرًا فاسمه النَّاقوس، وخصَّ الجرس لأَنّه متدارك (¬4) غير مفهوم وشديد (¬5). الفائدة الخامسة: قوله (¬6): "فَيُفْصَمُ عَنِّي" والفَصْمُ -بالفاء-: الكسر، واسْتُعْمِلَ (¬7) مجازًا ههنا عن زوال الضَّيْقِ الوارد عنه - صلّى الله عليه وسلم -، وخَصَّهُ بالذِّكْر عن القَصْمِ -بالقاف-؛ لأنّ الفَصْم لا إِبانَةَ فيه، وانفصالُ جبريل -عليه السّلام- عنه كان بِنيَّةِ العَوْدَةِ (¬8). قال صاحب "العين" (¬9): فَصمْتُ الشَّيءَ فَصْمًا صَدَعْته من غير أنَ أبينه. وفصم الشَّيء ذهبَ، وفصمتُ العُقدَة حَلَلْتُها، ومنه قوله تعالى: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} الآية (¬10). وفيه لغة أخرى. قال الأصمعي (¬11): يَفْصِمُ يقلعُ، ومنه قولهم: أفصم المطرُ إذا أَقْلَعَ، فيقال منه: فعلَ وأَفْعَلَ. ¬
الفائدة السّادسة: قوله (¬1): "فَأَعِي مَا يَقُولُ" (¬2) الوَعْيُ: هو الفَهْمُ البليغُ. الفائدة السابعة: قولُه (¬3): "وإنَّ جَبِينَهُ" الجبينُ جانب الجبهة، ويُطلَقُ الجبينُ على الجبهة، كما في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (¬4). الفائدة الثّامنة: قوله (¬5): "يَتَفَصَّدُ عَرَقًا" وهو سَيلانُ المَرَاشِحِ من البَدَنِ كما يسيل الدَّمِ من البضع، وهو الشَّقُّ. الفائدة التّاسعة: قوله (¬6): "في اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ" إنّما كان ذلك لِمَا كان يَلْقَى من شِدَّةِ الهَوْلِ وعَظِيمِ الكَرْبِ، مع تحقيق الفَهْم والوَعْي تحقيقًا (¬7) لا يتبيَّن أحدهما، وعليه ينطلق أَيضًا قولُه تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (¬8). ولأنّه كان يأتيه في (¬9) "مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ" يعني (¬10) قوّة صوت المَلَكِ بِالْوَحْي ليشغله، وإن كان لا يقرع مسامع الخَلْقِ، فإنّه كان يَتَفَرَّغ من كلِّ مسموعٍ سواهُ؛ لأنّه كان يشغله عن أَمْرِ الدُّنيا، ويفرِّغ حواسّه للصّوت الشّديد؛ لأنّه لم يبق في سَمْعه مكان لغير صوت المَلَكِ ولا في قَلْبِهِ (¬11). وعلى مثل هذه الصِّفة تَتَلَقَّى الملائكةُ الوَحْيَ من اللهِ تعالى. ¬
ذكر البخاريّ (¬1) عن ابن مسعود قال: إذا تكلَّمَ اللهُ بالوَحْي سَمعَ أهلُ السّمواتِ مثل وقوع السِّلْسِلة (¬2) على الصّفا (¬3). وقال أبو هريرة (¬4): "إذا قَضَى اللهُ الأمْرَ في السَّماءِ، ضربتِ الملائكةُ بأَجْنِحَتِها خَضعًا لِقَوْلهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ على صَفْوَانٍ فإذا فُزِّعَ عن قلوبِهِم وسَكَنَ ذَلِكَ الأمْرُ (¬5)، عَرَفُوا أنّهُ الحَقُّ، ونادَوا: ماذا قال رَبُّكُم؟ قالوا: الحَقُّ، وهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ" (¬6). وفي حديث يعلي بن أميّة: إذا نزل عليه الوَحْيُ يحمرُّ وجهه، ويَغِطُّ غَطِيطَ البِكْرِ ويَنْفُخُ (¬7)، إلى ضروب كثيرة لستُ أحصيها من أحاديث ومعانٍ. تكملة: فإن قيل: ما الفائدةُ في قولِ البخاريّ في أَوّلِ كتابه (¬8) {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية (¬9)، ولم يقل: إلى آدم، وهو أوَّلُ الأنبياء. الجواب- قلنا: إنّما قال ذلك؛ لأنّ فيه معنى الوَعيد والتّهديد لأُمَّتِهِ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّ نُوحًا عليه السّلام أوّل نبيٍّ عُوقِبَ قَوْمُهُ فأُهْلِكُوا، فكأنّه قال: إنّا أوحينا إليك كما أوْحَينَا إلى نوح وقومه، فإن عَصَوْكَ لَقَوْا ما لَقِيَ قَوْمُ نوحٍ، واللهُ أعلمُ. حديث مالك (¬10)، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه؛ أنَّه قال: نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (¬11) في عبد الله بن أُمِّ مَكتُومِ، جاءَ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فجعلَ يقولُ: يا محمّد اسْتَدْنِني، ¬
وعند النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - رَجُلٌ من عُظَمَاءِ المشركينَ، فجعلَ النبيُّ يُعْرِضُ عنه ويُقْبِلُ على الآخَرِ. الحديث. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬1): "لا خلافَ عن مالكٌ في جميع رواة الموطّأ في إرساله، وهو يَسْتَنِدُ من حديث عائشة، من رواية يحيى بن سعيد (¬2)، ويزيد بن سِنَان" (¬3). وقيل: قد أسنَدَهُ من لا يُوثَق بحِفْظِهِ، وهي قصَّةٌ مشهورةٌ عند أهل السِّيَّر والتَّفْسير. ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثلاثة فوائد: الفائدة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): في هذا الحديث دليلٌ على اعتناء السَّلَفِ بالسَّيَر (¬6) وما ارتبطَ بها من عِلْمِ نُزُولِ القرآنِ، متَى نزلَ وفيمن نزلَ، والمَكِّيّ منه والمَدَنِيّ، والسَّفَرِيّ واللّيْلِيّ والنّهاري، وما نزلَ في الهواء وما نزلَ تحت الأرض، وما أشبه ذلك من عِلْمِ التّاريخ في مثل ذلك، فإنّه عِلْمٌ حَسَنٌ ينبغي الوقوف عليه والعناية به والميل بالْهِمَّة إليه. الفائدة الثّانية: قوله: "وكانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ من عُظَمَاءِ المُشْرِكِينَ" يعني رؤساؤهم. يقال: إنّه أُبَيّ بن خَلَف (¬7). ¬
ويقال: أميّة بن خَلَف (¬1). وقيل: شيبة بن ربيعة (¬2). وقيل: عُتْبَة (¬3). ولعلّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قصدَ بإعْرَاضِهِ عنه وإقباله على المُشْرِك طَمَعًا في الحِرْصِ على أنّ يُؤمِن، ولذلك كان يقول (¬4): "هَل تَرَى فِيمَا أقولُ بأسًا" فيقولُ المُشْرِكُ: لا، والدِّماءِ. عربية (¬5): قوله: "لا، والدِّمَاءِ" بكسر الدَّالِ وهي الدِّماء المهراقة، ويُرْوَى: "لا، والدُّمَى" جمعُ دُمْيَة، وهي الصُّوَر من الأصنام. ومن روى "الدِّماء" بالكسر فمعناه: دِماء الذّبائح الّتي يذبحون لآلهتهم، ومن روى: "الدُّمَى" بالضَّمِّ، فمعناه: الأصنام أنفسها. الفائدة الثّالثة (¬6): فيه أيضًا: ما كان عليه ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ من الحِرْصِ على القُرْبِ من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - والسّماع منه والأَخْذِ عنه، فأنزلَ اللهُ تعالى لأَجْلِهِ على رسولِهِ يُعَاتِبُه في ذلك: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآية (¬7). وفي حديثٍ مُسْنَدٍ (¬8) عن مسروق، قال: دخلتُ على عائشة وعندها مكفوفٌ تقطعُ له الأُتْرُجَ وتُطعِمُه إيّاهُ بالعَسَلِ، فقلت لها: من هذا يا أُمَّ المؤمنين؟ فقالت: ¬
هذا ابن أمّ مكتومٍ الّذي عاتَبَ اللهُ فيه نَبِيَّهُ - صلّى الله عليه وسلم -، أَتَى النَّبِيَّ (¬1) وعِنْدَهُ عُتْبَة أو شَيْبَة أو أُبَيِّ بن خَلَف الجمحي (¬2)، فأقبل عليه، فنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (¬3) وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لو كَتَمَ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - شَيْئًا من الوَحْيِ لكتَمَ هذا. وقيل: جاءَهُ وعِنْدَه رجلٌ من عُظَمَاء قُرَيْش، فقال له: علمني ممّا عَلَّمَكَ اللهُ، فأعرضَ عنه، قال: فنزلتِ السُّورة (¬4). حديث مالك (¬5)، عن زيد بن أَسْلَم، عن أبيه؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَسِيرُ في بعض أَسْفَارِهِ، وعمرُ يسيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فسأَلَهُ عمرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثمّ سأَلَهُ فلم يُجِبْهُ. فقال عمر: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ، نَزَرْتَ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذلك لا يُجِيبُكَ (¬6)، قال عمر: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي، حتَّى إذا كنتُ أمامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أنّ يَنْزلَ فيَّ قرآنٌ ... الحديث إلى قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية (¬7). ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث (¬8): وهي ثمان فوائد: الفائدة الأولى (¬9): فيه: من وجوه العلم: إباحةُ المشي على الدَّوَابِّ" باللَّيل، وهذا (¬10) محمولٌ عند أهل العِلْمِ على من لا يمشي بها نهارًا؛ لأنّه قد أمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالرِّفْقِ والإتيان عليها والإحسانِ إليها. الفائدة الثّانية (¬11): فيه: أنّ للعالِمِ إذا سُئِلَ عمّا لا يريد الإجابةَ فيه أنّ يَسْكُتَ ولا يُجيب بنَعَمْ، ولا ¬
يعلق الجواب بجوابٍ على المتعلِّم (¬1) بردِّ الاحتجاج عليه. الفائدة الثّالثة (¬2): فيه: النَّدَمُ على إيذاء العالم والإلحاح (¬3) عليه خوفَ غَضَبِه وحرمانِ فائدته في المستقبل، وفي الخبر: إنّه ما أغضبَ أحدٌ عالمًا إلَّا حُرِمَ الفائدةَ منه. وقال أبو سلمة (¬4) لو رفقتُ بابن عبّاس لاستخرجت منه علمًا (¬5). وقالوا: كان أبو سلمة يُبَارِي ابن عبّاس، فَحُرِم بذلك علمًا كثيرًا. الفائدة الرّابعة (¬6): فيه: ما كان عليه عمر من التّقوى وخوفِ الله تعالى؛ لأنّه خَشِيَ أنّ يكون عاصيًا بسؤاله رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ثلاث مرَّات، كلُّ ذلك لا يجيبُهُ، والمعلومُ أنّ سكوت العالِمِ عن الجواب مع علمه به دليلٌ على كراهية السؤال. الفائدة الخامسة (¬7): فيه: ما يدلُّ على أنَ السُّكوتَ عن السَّائلِ يعزُّ عليه، وهو أمرٌ موجودٌ في طبائع النّاسِ وجِبِلَّةِ الآدميَّة، ولهذا أرسل رسوله الله - صلّى الله عليه وسلم - في عمر يُؤَنّسُه. وفي ذلك ما يدلُّ على منزلة عمر عند رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وموضعه من قَلْبِه (¬8). الفائدة السّادسة (¬9): فيه: أنّ غُفرانَ الذَّنب للمؤمن خيرٌ له ممّا طلعت عليه الشّمس، فرأى عمر ذلك تحقيرًا منه - صلّى الله عليه وسلم - للدُّنيا وتعظيمًا منه للآخرة. وهكذا ينبغي للعالِمِ أنّ يُحَقِّرَ ما حَقَّر اللهُ ¬
ويُعظِّم ما عظَّم اللهُ. وإذا كان غُفرانُ الذَّنب كما وصفَ، فمعلومٌ أنَّه صلّى الله عليه لم يكَفَّر عنه إلا الصّغائر؛ لأنّه لا يأتي كبيرةً أَبَدًا، لا هو ولا أحدٌ من الأنبياء؛ لأنّهم معصومون من الكبائر، على ما تقدَّمَ بيانُه وتمهيدُه في "باب السَّهْوِ" في حديث ذي اليَدَين (¬1). الفائدة السّابعة (¬2): قال علماؤنا بالسِّيَرِ، والنّاقلين للخبر والأثر: إنَّ سَفَرَهُ المذكور في هذا الحديث كان حين مُنْصَرَفِهِ من الحُدَيْبيّة. وقال بعضهم: حين منصرفه من خَيْبَر. وقال بعضهم: الحُدَيْبِيَّة مَنْحَرُهُ ومَحْلَقُهُ. الفائدةُ الثامنة (¬3): قوله (¬4) "نَزَرْتَ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قيَّدْنَا عن علمائنا فيه أربعة ألفاظ: الأوّل: أَلْحَحْت عليه، قاله ابنُ حبيب (¬5). وقال (¬6): منه أعطى عطاء غير منزور، أي غير ملحّ عليه. الثّاني: نزرت أي راجعت، ذَكَرَهُ ابن حبيب عن مالك (¬7). الثّالث: نزرت بمعنى أبرمت؛ لأنّه بمعنى طرحت عليه كلامه فبرم منه. الرّابع: قال ابنُ وَهْب: معناه أكرهت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في المسألة (¬8). وقال ابن قُتَيْبَة (¬9): الصَّواب أنّه بمعنى ألححت عليه بالسّؤال. ¬
قال الإمام: والعَجَبُ كلّ العَجَبِ من قومِ رؤوس العوامّ، نصبوا أنفسهم للعِلْمِ وقراءته، يقولون في ذلك: يُرْوَى بالباء والنون بمعنى (¬1) بزرت، وهو تصحيف من سخيفٍ لا يعقِل ولا يهتدي، والحمدُ لله. خاتمة (¬2): قال الإمام: أدخل مالكٌ هذا الحديث في هذا الباب، في باب "ما جاءَ في القرآنِ" دليلًا على أنّه أراد التّعريف بأنّ القرآن كان ينزلُ على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في الأسفار على قَدْرِ الحاجةِ. أشار مالك بهذا الحديث وبالحديث الّذي قَبْلَهُ إلى تحصيل عِلْمٍ من علوم القرآن، وهو معرفة أسباب نزول الآيات والسُّوَر؛ فإنّ معرفةَ الأسباب مُعِينَةٌ على دَرْكِ التّأويل، وإليه أشار بحديث ابن أمِّ مَكتُومٍ في قوله: نَزلَت سورةُ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (¬3) في ابن أُمِّ مَكْتُوم؛ لأنّ في حديث ابن عمر أنّه نزلت عليه {إِنَّا فَتَحْنَا} (¬4) في تلك السَّفْرَة، فقال بعضهم: حين انصرفَ من خَيْبَر. وقيل: الحُدَيْبِيّة على ما تقدَّمَ بيانُه، وأنّه أراد أنّ القرآنَ لم ينزل على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جُمْلَةً واحدةً. حديث مالك (¬5)، عن يحيى بن سعيد، عن محمّد بن إبراهيم، عن أبي سَلَمَة، عن أبى سعيد الخُدْرِيّ؛ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "يَخرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مع صَلاَتِهِمْ." الحديث. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬6)، مُسْنَدٌ من طُرُقٍ كثيرةٍ صِحَاحٍ، خَرَّجه (¬7) وغيرُه. وفيه ضروبٌ من العِلْمِ، أوَّلُ ذلك: ¬
الأصول: قال الإمام: الحديثُ من إحدى معجزات النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لأنّه أَخْبَرَ بِارْتدَادِ من يَأْتِي بعدَهُ. وفيه (¬1): دليلٌ لِمَنْ يَرَى أنَّ البِدَعَ لا تُذْهِبُ الإيمانَ ولا يكفُر صاحِبُها. وقد اختلفَ العلماءُ في تَكْفِيرِ المتأَوِّلِينَ، وهم الّذينَ لا يقصِدُون الكُفْرَ، إنّما يَطلبون الإيمانَ فيخرجونَ إلى الكُفْرِ، وعِلْمُهُم يَؤُول بهم إلى الجهل. وهي مسألةٌ عظيمةٌ تتعارضَ فيها الأدِلّة، ولقد نظرتُ فيها مرارًا؛ فتارةً أُكَفِّر، وتارةً أَقِفُ، إِلَّا فيمن يقول: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وإنّ مع اللهَ خَالِقًا سِوَاهُ، فلا يدركني فيه ريب، ولا أُبْقِي له شيئًا من الإيمان. الفقه والفوائد المنثورة في هذا الحديث: الفائدة الأولى (¬2): أوّل ما في الحديث من المعاني: أنّ الخوارجَ إنّما قيل لهم خوارج لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ فِيكُمْ" ومعنى، "فيكم" أي عليكم (¬3)، كما قال تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬4) فكان خروجُهُم ومُروقُهُم في زمان الصّحابة، فسُمُّوا الخوارج، من قوله: "يَخْرُجُ فِيكُمْ". وسمُّوا أيضًا: "المارقة" (¬5) لقوله: "يَمْرُقُونَ مِن الدِّينِ" ولقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "تَقْتَتِلُ طائفتَانِ من أُمَّتِي، فَتَمْرُقُ بينهما مارِقَةٌ تَقْتُلُها أُولَى الطَّائفتين بالحَقِّ" (¬6). فهذا هو الأصلُ الّذي سُمِّيَتْ به الخوارج والمارقة (¬7). ¬
وهم طائفةٌ خرجت على المسلمين وخالفتهمِ، وتعلَّقَت بظاهر الكتاب بزَعْمِها، ونبذَت القول بالرَّأيِ الّذي (¬1) هو أسُّ الشّريعة وقد أمَرَ اللهُ به، وأجمعتِ الصَّحابةُ على صِحَّتِهِ، فقالت هذه الفرقة: لا حُكْمَ إلَّا الله ورسوله، فقال علي - رضي الله عنه -: كَلِمَهُ حَقٍّ أُرِيدَ بها باطِلٌ (¬2). ونَاظَرَهُم في ذلك ابنُ عبّاس فقال: إنّ اللهَ قد حَكمَ بين الزَّوجين، وفي جَزَاء الصَّيْدِ، فأَنْ يَحْكُم بين الطائفتين أَوْلَى. فلم يَلْتفِتُوا إلى كلامه، وخرجوا على المسلمين بأَسيافهم، وافترقوا على مذاهب جَمَّة. الفائدة الثّانية: قال الخطّابي (¬3): "اعلم أنَّ الفرقة فرقتان: فرقة الآراء والأديان، وفرقة الأشخاص والأبدان. والجماعة جماعتان: جماعة الهُدَى وهي (¬4) الأيِمَّة والأمراء، وجماعة العامّة والدَّهماء. فأمّا الافتراق في الآراء والأديان، فهو محظورٌ في العقول، مُحَرَّمٌ في قضايا الأصول؛ لأنّه داعية الضّلال وسبب التّعطيل والإهمال، ولو تُرِكَ النَّاسُ متفرِّقينَ لتفرَّقَتِ الآراء والنِّحل، ولكَثُرتِ الأديان والمِلَل، ولم تكن فائدة في بَعْثِ الرّسول، وهذا هو الّذي عَابَهُ اللهُ فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} الآية (¬5)، فذمَّهُ في كتابه، وعنه نهى - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح؛ قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتهً جاهليَّة" (¬6)، وذلك أنّ أهل الجاهليّة لم يكن لهم إمامٌ يجمَعُهُم على دِينٍ، ويتألَّفُهُم على رَأْيٍ واحدٍ، بل كانوا طوائفَ شتَّى وفرقًا مختلفة، وأراؤهم مُنْتَقَضَة، وأديانهم تَالِفَة (¬7)، وذلك الّذي دَعَا كثيرًا منهم إلى عبادة الأصنام وطاعَةِ الأزلام. فالخوارجُ على هذه الصِّفَة من الضّلال، وهم يظنُّونَ أنّهم مُهْتَدُون عُقَّال، فهم من الّذين قال الله فيهم: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآية (¬8)؛ لأنّهم خرجوا على الأُمَرَاء. وافترقوا فِرَقًا: ¬
الفِرْقة (¬1) الأُولى منهم: "الإباضيَّةُ" وهم أتباع (¬2) عبد الله بن إباض (¬3). و"الأزارقة" وهم أتباع عبد الله (¬4) بن الأزرق (¬5). و"الصُّفْرية" (¬6) أتباع النُّعمان بن صُفْر (¬7). وأتباعُ نجْدَةَ الحَروري يقال لهم "النّجدية" (¬8). و"الحروريّة" منسوبة إلى حروراء (¬9)، مَوْضِعٌ خرج فيهم أَوّلُهُم على الوُلاة، فَقَاتَلُوهُم بالنّهروان. قال خُشَيْش بن أَصْرَم (¬10) في كتاب "التّأكيد في لُزوم السُّنَّة وحُبّ خيار هذه الأُمّة" قال (¬11): "بلَغنَا أنَّ (¬12) أوَّلَ منِ افترقَ من هذة الأُمَّة (¬13) الزَّنادقة، وهم خمسُ ¬
فِرَقٍ، ثمّ "الجَهْمِيّة"، وهم ثماني فرق، ثمّ "القَدَرِيّة" وهم سبع فِرَقٍ، ثُمَّ "المُرْجِئة" وهم اثنتا عشرة فرقة، ثمّ "الرّافضة" وهم خمس عشرة فرقة، ثمّ "الحَرُوريّة" وهم خمس وعشرون فرقة. فذلك اثنتان وسبعون فرقة، فهذا (1) جِمَاعُ أوصافِهم وأصولهم" (2). ثمّ تَشَعَّبت كلُّ فرقةٍ من هذه الفِرَقِ على فِرَقٍ، فكان جِمَاعُهَا الأصل (3)، ثمّ اختلفت (4) في الفروع، فكَفَّرَ بعضُهم بعضًا، وجَهَّلَ بعضُهم بعضًا وبدَّعوهم (5). ثمّ افترقتِ الزَّنَادِقَةُ على خمسِ فِرَقٍ، وافتَرَقَت كلُّ فرقةٍ منهم على ستِّ فرقٍ (6)، فكان منهم "المُعَطِّلَةُ" (7) الذين يزعمون أنَّ الأشياءَ كلَّها من غير تكوينٍ، وأنه ليس لها مُكَوِّنٌ ولا مديرٌ، وأنَّ هذا الخَلْق بمنزلة النَّبَات في الفَيَافِي والقِفَار، يموتُ منه (8) شيءٌ ويحيى منه (8) شيءٌ وينبتُ منه شيءٌ، وإنّما (9) تغلبُ عليها الطَّبائع الأربع في أبدانهم (10)، فإذا غلبت عليه إحداهن قَتَلَتْه؛ لأنَّهم يَرَوْنَ أنّه يموتُ الصَّغيرُ ويَحْيَى الكبيرُ (11)، لا يعرفون آدمَ، ويزعمون أنَّ آدم له أبٌ، فهم (12) بذلك كُفَّارٌ، تعالى الله عن قَوْلِهِم. ومنهم "الثَّنَوِيَّة" (13) الّذين يزعمُون أنَّ ثَمَّةَ إِلَهَيْنِ خَالِقَيْن، أحدهما: خالقٌ للخَيْرِ والنُّور والضِّيَاءِ، والآخر: خالقٌ للشَّرِّ والظُّلْمَةِ والبلاء. وإنَّ ذلك (14) من قولهم أعظم الكُفْرِ والخُلُود به في نَارِ جهنّم.
والحُجَّةُ القاطعةُ عليهم: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} الآية (¬1)، وإنّما سمّوا "المانويّة" (¬2)؛ لأنّ رَجُلًا يقال له: مَانِي، كان يدعو إلى اثنين، وزعموا أنّه نبيّهم، وكان (¬3) في زمن الأَكاسرة، فقتله بعضهم. ومنهم فرقة يقال لها: "المزْدَكِيَّة" (¬4)، وذلك أنّهم زعموا أنّ الدُّنيا خَلَقَها اللهُ كلّها واحدة (¬5)، وخلَقَ لها خَلْقَا واحدًا آدمُ (¬6) عليه السّلام، وجعلَها له، يأكلُ (¬7) مِنْ طعامها ويشربُ من شرابها ويتلذَّذُ بلذّاتها، فلمّا مات آدم جَعَلَها ميراثَا بين وَلَدِهِ بالسَّوِيَّةِ، ليس لأحدٍ فضل في مالٍ ولا أهلٍ، فمن قدرَ على ما في أيدي النّاس وتناول منه شيئًا (¬8)، فهو له مباح سَائِغٌ، والفضل الزّائد في أيدي ذوي الفَضّل مُحَرَّمٌ عليهم، حتّى يصير (¬9) بالسَّوِيَّةِ بالحالتين (¬10) الغناء والفقر. وهذا كلُّه كفرٌ وخروجٌ عن شريعةِ الدِّين. والحُجَّةُ القاطعةُ عليهم، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬11). ومنهم "العَبْدَكيّة" زعَمُوا أنّ الدُّنيا كلّها حرامٌ محرّمة، لا يحلّ لأحد (¬12) منها إلَّا القُوت من حين ذهب أيِمّة العدل من الأرضِ، فلا تحلّ إلَّا بإمامِ عادلٍ، وإلاّ فهي (¬13) حرامٌ معاملةٌ أهلِهَا حرامٌ، والبيعُ والشِّراءُ حرامٌ، ومخالطةُ أهلِهَا حرامٌ، يحل لك أنّ تأخذَ القُوت من الحرام حيث كان، وإنّما سمُّوا العَبْدَكِيّهَ؛ لأنّ "عَبْدَك" هو الّذي وضع ¬
لهم هذا الرِّأي ودعاهم إليه وأمرهم بتصديقه (¬1)، وهم في ذلك كاذبون، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية (¬2)، وما أحلَّ الله القُوتَ من الحرام (¬3) اِلاَّ للمُضْطَرِّ، و" لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ" (¬4). ومنهم لا "الرُّوحانيّة" وهم أصناف، وإنّما سمُّوا الرُّوحانيّة لانّهم زعموا أنّ أرواحهم تنظر إلى الملكوت الأعْلَى، وتُعاين الحُور، وتشاهد الجَنَّة، وتتنعَّم برؤْية البارئ تعالى. وسمُّوا أيضًا "الفِكْرِيَّة" لأنّهم زعموا أنّهم يتفكّرونَ في هذا حتّى يعرفون الله، فجعلوا الفِكرَةَ غاية العبادة، وهو (¬5) مذهب الحَلّاجِ السَّاحرِ الكافرِ. ومنهم صنفٌ من الرّوحانيّة زعموا أنّ حبَّ الله تعالى يغلبُ على قلوبهم وأهوائهم، حتّى يكون حبّه أغلب الأشياء عليهم، فهذا كان كذلك (¬6)، كانوا عند الله بهذه المنزلة، و*إذا كانوا عندَه بهذه المنزلة وجبت لهم الجنّة، وارتفع عنهم التكليف، وأحلّ لهم المحظور، فهو (¬7) عندهم حلالٌ* (¬8)، ولم يعرفوا قصَّةَ إبراهيم عليه السّلام إذ يقول يوم القيامة: لست هناك (¬9)، ويذكر كذباته الثلاث. ومنهم صنفٌ زعموا أنّ تَرْكَ الدُّنيا اشتغال القلوب وتعظيم الدّنيا (¬10)؟ لأنّها لمّا عظمت عندهم، تركوا طِيب نَعِيمها وجميع شهواتها على وجه الكراهية الشّديدة، منهم (¬11) أبو حبيب ورَبَاح وكُلَيْب وحبّان (¬12). ورابِعَتُهم رَابِعَة، وإنّما سُمِّيَتْ رَابِعَة لأنَّها رابعتهم. وقيل: إنّها ليست رابِعَة العَدَوِيّة. ¬
ومنهم (¬1) فرق يقولون: إنّ الله لا شيءَ (¬2)، ولا في شيءٍ، ولا يقع عليه صفة (¬3) شيءٍ، ولا معرفة شيءٍ، ولا تَوَهّم شيءٍ (¬4). قال (¬5): وجاء رجل إلى بِشْر المريسيّ (¬6) فقال له كلامًا لا أحفظه عليه، فقال بِشْر: توَهَّمْ صحراء فيها نخلة لا شرقيّة ولا غربيّة، لا في الأرض ولا في السّماء، فكذلك الله تعالى. فقال العبّاس بن محمّد: هذا هو الكُفْر بعَيْنهِ، وإنّما تدور على (¬7) التّعطيل المحْض، فقال له الرَّجُل: يا بشر، هذا - والله- هو العَدَم، فقالَ: نعْم، الجهلُ به هو (¬8) المعرفة. قال القاضي - رضي الله عنه -: وهم أكثر من أنّ يقف على أخبارهم وأسرارهم، فلهذا وغيره قال - صلّى الله عليه وسلم -: "تفترقُ أُمَّتِي عَلى اثْنَيْنِ وَسَبْعينَ فِرْقَةٍ، كلُّها في النّار إلَّا النّاجية، قيل من الناجية يا رسول الله؟ قال: ما كُنْتُ عَلَيه أَنَا وَأَصْحَابِي" (¬9). والأصل في ذلك الزِّنادقة، ولا يقال لكلِّ منَ وحَّدَ الله تعالى وأَقَرَّ بالصّانع زنديقٌ، وإنّما يقع اسم الزِّنديق على المُعَطِّل الّذي لا يُقرّ بالصّانع، ويزعم أنّ النّاس يتكوَّنُونَ من غير خالقٍ لهم، ولا مبدىء لهم ولا معيد، وأنّ البارئ تعالى قد فرغ من جميع الأشياء، لا يُحْدِثُ شيئًا وإنّما تصدرُ عنه الحادثات، وإنّما هم قوم تَعَبَّدُوا بغير عِلْم، فكان علمُهُم وعبادَتُهم هَباءً منثورًا. فهذا رأيتَ مجتهدًا عابدًا فأعرض عَمَلَهُ على العِلْمِ، فإن وافَقَهُ وإلّا كان عمَله هبَاءً منثورًا، وتعدادُهم هم يطولُ به الكتاب، فاقتصرنا على هذه النُّبْذَة لنَكْشِفَ لكم عن أسرارهم. ¬
عُدْنَا إلى الفائدة الثّالثة (¬1): قولُه - صلّى الله عليه وسلم - (¬2): "يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" معناه أنّهم لم ينتفعوا بقراءته إذ تأوّلوه (¬3) على غير سبيل السُّنَّةِ المُبَيِّنَة، وإنّما حملهم على جَهْلِ السُّنَّة ومعاداتها تَكْفِيرُهُم (¬4) للسَّلَفِ ومن سَلَك سَبِيلَهُم، فتأَوَّلوا القُرآنَ بآرائِهِمْ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا (¬5). وإلى هذا أشار أبو بكر الصدّيق إذ قال: "لأنّ أَخِرَّ مِنَ السَّماءِ فتخطفني الطَّير أحبّ إليَّ أنّ أقولَ في كتابِ اللهِ بالرَّأيِ" (¬6) أراد الرّأي الّذي لا تشهد له الأصول، ولهذا ضَلَّت المُبْتَدِعَة وأنكرت القياس بالرَّأْيِ، فأَبْطَلَت رُكْنًا من أركان الشّريعة. الفائدة الرّابعة (¬7): قوله: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ" المروقُ الخروجُ من الشَّرْعِ كما يخرج (¬8) السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ، والرَّمِيَّةُ الطّرِيدَة من الصَّيد المَرْمِيَّة، والمرمية مثل المقتولة والقَتِيلَة. قال أبو عُبَيد (¬9): كما يخرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّميَّة يقول: يخرجُ (*) السَّهْمِ، ولم يمتسّك بشيءٍ، كما خرج هؤلاء من الإسلام ولم يتمَسَّكُوا بشيءٍ منه (¬10). الفائدة الخامسة (¬11): قوله: "وَتَتَمَارَى في الفُوقِ" هذا دليلٌ على الشَّكِّ في خروجهم جُمْلَةً عن ¬
الإسلام؛ لأنّ التَّمَارِي: الشَّك، وإذا وقع الشَّكُّ في خروجهم لم يقطع عليهم بالخروج الكلِّي عن الإسلام. واحتجّ القائلُ لهذا بلَفْظَةٍ رُوِيَتْ (¬1) في بعض طُرُقِ هذا الحديث والأحاديثِ الواردةِ فيهم، وهي قولُه: "يَخْرُجُ قَوْمٌ من أُمَّتِي" (¬2) ولو صحَّت هذه اللَّفْظَة لكانت شهادة منه لهم أنّهم من أُمَّتِهِ. وقال بعض العلماء معنى قوله: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي" معناه: في دَعْوَاهُمْ أنّهم مِن أُمَّتِهِ، وليسوا من أُمَّتِهِ. وأكثر طرق الأحاديث الصِّحاح عن أبي سعيد الخدري عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "تَلْتقِي من أُمَّتِي فِئتان، أو قال: تَقْتَتِلُ من أُمَّتِي فئتان، فَبَيْنَا هم كذلك، إذ مَرَقَتْ مارِقَةٌ بينَهُمَا تَقتُلُها أولى الطائفتين بالحقِّ" (¬3). وقال الأخفش (¬4): شَبَّهَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - مُرُقَهُم من الدِّينِ بِرميةِ الرَّامِي الشَّديدِ السَّاعِدِ الَّذي رَمَى الرَّمِيَّة فأَنْفَذَهَا سَهْمه في جانب منها وخرج من الجانب الآخر لِشِدَّةِ رَمْيِهِ، فلم يتعلَّق بالسَّهْمِ دَمٌ ولا فَرْثٌ (¬5)، وكأن الرّامي أَخذَ السَّهْمَ فَنَظَرَ في نَصْلِهِ -وهو الحديدُ الّذي في آخر السهم- فلم ير شيئًا من دَمٍ ولا فَرْثٍ، ثم نَظَرَ في القِدْحِ - والقِدْحُ عود السَّهْمِ- فلم يَرَ شَيْئًا، ونَظَرَ في الرِّيشِ فلم يَرَ شيئًا. وقوله: "يتَمَارَى في الفُوقِ" أي يشُكُّ فيه إنّ كان أصاب الدَّم الفُوق أم لا. والفُوقُ: آخر السَّهْمِ. وقال آخر: الفُوقُ هو الشَّقُّ الّذي يدخلُ فيه الوَتَرُ، فكذلك هؤلاء (¬6)، إذا نظرتَ في أقوالهم وأفعالهم لم تجد فيهم تعلُّقًا بالإِسلام، ولا أثر لهم، وتتمارى في اليسير من الدَّمِ، كذلك يُتمارى في اليسير من أَيْمَانِهم، وفيهم نزلت: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية (¬7). ¬
الفقه والأحكامُ في أهل البِدَعِ والخَوَارج: المسألةُ الأُولى: قال علماؤنا: الحُكْمُ في الخوارج المُقَاتَلَةُ؛ لأنّ عليًّا - رضي الله عنه - قاتَلَهُم على ذلك. وقال بعضهم: إنّه لم يقاتل عليّ أهل البَغْيِ على الشِّرْكِ ولا على كُفْرِهِمْ، وإنّما قاتَلَهُمْ على مُخَالَفَةِ السَّلَفِ والخروجِ عن الجماعة. وقال (¬1) إسماعيل القاضي: رأَى مالكٌ - رحمه الله - قَتل الخوارج وأهل القَدَر من أجل الفساد الدَّاخل من قبلهم (¬2)، وهو من باب الفساد في الأَرض، وليسَ فسادهم (¬3) بِدُونِ فسادِ قُطَّاع السُّبُل والمُحاربينَ للمسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لا على الكفر (¬4). وهذا (¬5) قولُ عامّة الفقهاء الّذين يَرَوْنَ قتلهم واسْتِتَابتهم، ومنهم من يقول: لا يتعرض (¬6) لهم باستتابةٍ ولا غيرها ما اسْتَتَرُوا ولم يبغوا حقًّا أو يُحَارِبُوا، وهذا مذهب الشّافعيّ وأبي حنيفة وأصحابهم، وجمهور الفقهاء، وكثير من أهل الحديث. وقال الشّافعيّ في كتابه (¬7) في قتال أهل البَغْيِ: "لو أنّ قومًا أَظْهَروا رَأْيَ الخوارج، وتَجَنَّبُوا جماعةِ المسلمينَ وكَفَّروهُم، لم تحلّ بذلك دماؤُهُم ولا قتالهم؛ لأنّهم على حُرْمَةِ الإيمانِ حتّى يصيروا إلى جانب يجبُ به قتلهم" (¬8) من خُرُوجِهم إلى قتل (¬9) المسلمين وإشهارهم السِّلاح، وامتناعهم ممّن يدعوهم إلى الحَقِّ (¬10). ¬
قال (¬1): "وبَلَغنَا أنّ عليًّا -رضي الله عنه- بينما هو يخطُبُ إذ سمع تحكيمًا من ناحية المسجدِ، فقال: ما هذا؟ فقيل: رجلٌ يقول: لا حُكْمَ إلّا للهِ. فقال عليّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُريدَ باطلٌ، لكم علينا ثلاث (¬2): لا نمنَعُكُم مساجدَ اللهِ أنّ تَذكُروا فيها اسم الله، ولا نَمْنَعُكُم الفَيءَ ما كانت أَيدِيكم مع أَيدِينَا، ولا نَبْدَؤكم بقتالٍ". قال الشّافعي (¬3): "وبهذا أقولُ". فإن قاتلوا (¬4) على ما وَصَفْنَا قَاتلْنَاهُم، فإنِ انْهَزَمُوا لم نتبعهم ولم نجهز على جريحهم. المسألةُ الثّانية: أجمعَ (¬5) العلماءُ على قَتْل من شقَّ العَصَا وفرَّق (¬6) الجماعة، وشَهَرَ على المسلمين السَّيْفَ والفسادَ في الأرضِ، أنَّه مُوجبٌ لإراقة الدَّمِ بإجماعٍ، إلا أَنْ يتوبَ فاعل ذلك من قَبْلِ أنّ يُقْدَرَ عليه، والانهزام عندهم ضَرْبٌ من التَّوْبَة وكذلك من عَجَزَ عن القتال، لم يقتل إلَّا بما يُوجب عليه القَتل قبل ذلك. ومن أهل الحديث طائفةٌ تراهُم كُفَّارًا على الظّاهر من الأحاديث، مثل قوله: "مَنْ حملَ علينا السِّلاح فليس مِنا" (¬7). وقيل -قوله: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينَ" هي آثارٌ يعارِضُها غيرها (¬8)؛ لأنّ إجماع المسلمينَ على تكفيرِ من خَطَّأَ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أو سَبَّهُ أو كَفَرَ ببعضٍ (¬9) من القرآن، فإنّه كافر حلال الدَّمِ. والكلامُ على هذا الحديث يطولُ معهم، فاقتصرنا على هذه النُّبْذَة في هذه العاجلة، وهي كافيةٌ من المعنى المشار إليه إنّ شاء الله. ¬
حديث مالك (¬1)؛ أنّه بَلَغَهُ أنّ عبدَ اللهِ بن عمرَ مَكَثَ على سُورة البقَرَةِ ثَمَاني سِنِينَ يتَعَلَّمُهَا. قال الإمام الحافظ (¬2): أراد به مالك -رحمه الله- أنّ يبيِّنَ مسألةً اختلفَ النَّاسُ فيها، وهي إذا قرأ القارىءُ القرآنَ هل يقرأه كذلك ذكرًا باللِّسان دون تبيين (¬3)، أم لا يرحل عن آيةٍ (¬4) حتّى يحكمها ذِكْرًا ودِرايَةً؟ فَنَبَّه مالك على ذلك رحمةُ اللهِ عليه، فما (¬5) كان أعظم فهمه للحدِيثِ والفِقْهِ؛ لأنّه نبَّهَ على ذلك بفعل ابن عمر في سُورَةِ البَقَرَة، وقد قال الله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} الآية (¬6)، قالوا: هو أنّ يذكُرَ الحرفُ ويعلم معناه ويعمل به، فهذا هو حقّ التِّلاوة. وقالوا أيضًا: إنّ قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (¬7) معناه: ليس عندَهُم من القرآن إلا الذِّكْر خاصّة باللِّسان، وأعظم ما يَلْقَى به العبد رَبّه يوم القيامة قرآنٌ جمع ولم يعمل به. وقد قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هريرة: "يُؤْتَى بِالقَارِىءَ يومَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ماذا عَمِلْتَ فيما عَلِمْتَ؟ فيقولُ: قرأتُ القرآنَ فِيكَ، فيقول اللهُ تعالى: كَذَبْتَ. وتقولُ الملائكة: كَذَبْتَ، بل أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ قارئ، فقد قِيلَ" (¬8). قال الشّيخ أبو عمر (¬9): حديث ابن عمر (¬10) في مَكْثِهِ على سُورة البقرة يتدبَّرها، لِمَا فيها من الفقه والأحكام والمعاني مطابِقٌ لحديث ابن مسعود في قوله: إنَّكَ في زمانِ كثيرٌ فقهاؤُه. قليلٌ قُرَّاؤُهُ (10)؛ لأنّ ابنَ عمر كان يَتَدَبَّرُها ويتعلَّمُها بأَحْكامِها وفِقهِهَا. قال الإمام والحافظ ابن العربي: سمعتُ بعض أشياخي يقول: إنّ في سُورةِ البقرة ألف أمرٍ، وألف خبرٍ، وألف نَهْيٍ، وألف حُكْمٍ، فلأجل ذلك أقامَ عليها ابن عمر ثمان سنين، واللهُ أعلم. ¬
ما جاء في سجود القرآن
ومعلومٌ (¬1) أنَّ مِنَ النّاس من يتعذَّر عليه حفظُ القرآنِ ويُفْتَح عليه (¬2) في غيره، وكان ابنُ عمر فاضلًا قد حفِظَ القرآنَ على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في جماعة (¬3)، منهم: عثمان، وعليّ، وأُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وسالم مَوْلَى أبي حُذَيْفَة، ومعاذُ بن جبل، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاصي. ما جاء في سُجُودِ القرآن قال الإمام (¬4): الأصلُ في هذا الباب قولُه تعالى: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬5). وآياتُ السُّجودِ في القرآنِ مدارُها على أربع مسائل: المسألة الأولى: في معرفة عزائم السُّجودِ من غيرِ عزائم السُّجود. الثّانية: معرفةُ وُجوب السُّجود فيها، ومعرفة من يجب عليه السُّجود فيها ممّن لا يجب. الثّالثة: في معرفة أحكام السُّجود وشرائِطِهِ. الرّابعة: في مَحَل وقت فعلها والسُّجود فيها. المسألة الأولى (¬6): قال مالك (¬7) - رحمه الله -: "الأمرُ عندنا أنَّ عزائم السُّجودِ إحدى عَشْرَةَ سَجْدَةً، ليس في المُفَصَّل منها شيء". كذا رواه يحيى عن مالكٌ، وهذه الرِّواية أَوْلى من رواية مَنْ روى عن مالكٌ في الموطّأ: الأَمْرُ المجتمع عليه عندنا (¬8)، كذلك (¬9) ¬
رواه ابنُ القَاسِم، والقَعْنَبِيّ (¬1)، وابنُ بُكَيْر (¬2)، والشّافعيّ (¬3)، وجماعة. وإنّما قلنا: إنّ روايةَ يحيى أَوْلَى؛ لأنّ الاختلاف في عزائم السُّجودِ في القرآن بين السَّلَفِ والخَلَفِ بالمدينَةِ معروفٌ عند العلماء بها وبغيرها، وروايةُ يحيى متأخِّرَةٌ عن مالك، وهو آخرُ من (¬4) رَوَى عنه (¬5) وشُهِدَ موته بالمدينة. ويحتملُ أنّ يكون قوله: "الأَمْرُ المجتمع عليه" أراد به: لم يجتمع على ما سوى الإحدى عشرة سجدة كما اجتمع عليها، تأوَّل ذلك من أصحابه ابن جَهْم، وهو تأويلٌ حَسَنٌ. والعزائمُ عند مالكٌ إحدى عشرة، ليس في المُفَصَّلِ منها شيءٌ؛ لأنّ الصَّحابةَ اختلفوا في عزائم السُّجود، فقال عليّ: عزائمُ السُّجودِ أربعٌ: ألم تنزيل، وحم تنزيل، والنّجم، واقرأ باسْمِ ربِّك (¬6). وعن ابنِ مسعود: العزائم خَمْسٌ: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنّجم، واقرأ باسْمِ ربِّك، وإذا السّماء انشقت (¬7). وقال (¬8) أبو حنيفة: أربع عشرة سجدة ليس فيها الأولى من الحَجِّ (¬9). وقال الشّافعيّ: أربع عشرة سجدة، ليس فيها سجدة "ص"، فإنّها سجدة شُكْر. وفي الحجِّ عنده سجدتان (¬10). وقال مالك (¬11): "عزائِمُ السُّجودِ إحدى عَشْرَةَ سَجْدَة" ومعنى عزائم السجود: الّتي عزم النّاس على السجود فيها. ¬
وذهبَ ابنُ وَهْبٍ من أصحابِ مَالِك إلى أنّها كلّها عزائم يسجدُ فيها، وهو اختيارُ ابنُ حبِيب وجماعة من العلماء من أهل الحديث (¬1)، وقد رَوَى ابن وهب ذلك عن مالكٌ في كتابه (¬2). نكتةٌ (¬3): قال بعضُ علمائنا: إنّ الّذي يُوجِبُه النَّظَر؛ أنّ يسجدَ من ذلك فيما جاء على سبيل الخَبَرِ، ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الأَمْر؛ لأنّ ما جاء منها على سبيل الأمر يُحْمَلُ على السجود الواجب في الصّلاة المفروضة، وعلى هذا يأتي مذهب مالكٌ إذا اعتبرته؛ لأنّ جميع ما لم يَرَ فيه السجودَ جاءَ على سبيل الأمر، وجميع ما رأى فيه السُّجود جاءَ على سبيل الخَبَرِ. فإن قيل: سجدةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} جاءت على سبيل الخَبَرِ، ولا سجودَ فيها عنده. قيل له: الوعيدُ المذكورُ فيها يقومُ مقامَ الأَمْرِ. فإن قيل: سجدةُ {حم} جاءَت على سبيلِ الأَمْرِ ويُسْجَد فيها عنده. قيل له: المعنى فيها الإخبارُ عن الكفَّارِ الّذين لا يسجدونَ للهِ ويسجدونَ للشَّمس والقمرِ، والنّهي عن التَّشَبُّه (¬4) بهم في ذلك الأمر بمجرد السُّجود لله (¬5). فحمل (¬6) على سجود الصّلاة. ويدلُّ على ذلك (¬7) قوله في آخر الآية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} الآية (¬8). ¬
وقد أجازَ بعضُ العلماء السُّجود عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬1) ليكون ذلك عنده على الأخبار، وعلى الأصل الّذي ذكرناهُ. المسألة الثّانية: في معرفة وجوب السُّجود (¬2) وهي مسألةٌ اختلفَ العلماءُ فيها، أعني وجوب سُجود التِّلاوة. قال مالكٌ (¬3) والشّافعيّ (¬4) واللّيث (¬5) والأَوزاعى: إنّ سجود القرآن سُنَّة وليس بواجبٍ. وقال أبو حنيفة: هو واجبٌ (¬6)، والأصلُ عنده في سجود التِّلاوة على الوجوب الآيات الواردة في ذلك والأحاديث، وذلك قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} الآية (¬7)، وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} الآية (¬8)، وقالوا: الّذي لا يتعلّق إلَّا بتَرْكِ الواجبِ. ولقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمِرَ ابنُ آدم بالسُّجودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنَّة" (¬9) والأمرُ على الوجوبِ، وهي مسألةٌ مشكلةٌ عَوَّلَ فيها أَبو حنيفة على مُطْلَقِ الأَمْرِ، وأن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يحافظ عليها. قال الإمام: والحُجَّةُ لنا عليهم من وجهين: 1 - أمّا قولهم (¬10): إنّ الذَّمَّ لا يتعلق إلّا بتَرْكِ الوَاجبِ. يقال لهم: إنّ الذَّمَّ ها هنا للكُفَّار خاصّة، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤْمِنُونَ} (¬11) و {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} الآية (¬12)، فعلَّقَ الذَّمَّ بتَرْكِ الجميعِ؛ لأنّهم لو سجدُوا ألفَ مرَّة بالنَّهار مع ¬
كونهم كُفَّارًا لكان الذَّمَّ لاحقًا بهم، فعلمنا (¬1) أنَّ الذَّمَّ لم يختصّ بالسجود (¬2). ويُؤَيِّد هذا قولُه تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} (¬3) ولم يقع الوعيد إلَّا على التّكذيب. وقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬4) هو أمرٌ له بالصَّلاةِ وتعليمٌ له، وقد تقدَّمَ أنَّ (¬5) سجودَ القرآن إنّما هو بلفظ الخبر، وما جاء بلفظ الأمر إنّما هو تعليم له بالصّلاة وأمرّ له بالسُّجودِ فيها. 2 - والحُجَّةُ الثّانية لنا- هو الّذي عوَّلَ عليه علماؤنا-: حديث عمر الثّابت (¬6) حين قال: "إنّ اللهَ لَم يَكْتُبهَا عَلَيْنَا" وهو على المِنْبَر، وسجدَ النَّاسُ معه. وقوله (¬7): "إلَّا أنّ نَشَاءَ" هي (¬8) عند أشياخنا على النَّدْبِ والتَّرغيب، وفي فعله دليلٌ أنَّ على العلماء أنَّ يبيِّنُوا كيفَ لزوم السُّنَن إنّ كانت على العَزْمِ أو النَّدْبِ أوِ الإباحة، وكان عمر -رضي الله عنه- من أشدِّ النّاس تعليمًا للمسلمين، كما تأوّل له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في الرُّؤيا أنّه استحالت الذُّنوب بيده فتأوّله (¬9) العلم. ألَّا ترى قول عمر حين رأى أنّه قد بلغَ من تعليم النَّاس إلى غاية رَضِيَها، قال: قد سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وفُرِضَتْ لَكُمُ الفرائِضُ وتُرِكْتُم على الواضِحَةِ (¬10)، فأَعْلَمَنَا بهذا القول أنّه يجبُ أنَّ يُفصل بين (¬11) السُّنَن والفرائض. فمالك (¬12) - رحمه الله - يرى السُّجود واجبٌ وجوبَ السُّنَنِ لا وُجوبَ الفَرائِضِ الّتي من تَرَكَها أَثِمَ. وأبو حنيفة يقول: هو واجبٌ وجوبَ الأَمْرِ، ومن تَرَكَهُ أَثِمَ. وقول مالكٌ هو الصّحيح؛ إذ ليس في وجوبِ ذلك عندَهُ نصٌّ في القرآن ولا في ¬
السُّنَّة، ولا اجتمعت عليه الأُمَّة، والفرائضُ الواجباتُ لا توجد إلَّا مِنْ أحَدِ هذه الوجوه. المسألة الثّالثة (¬1): في معرفة من يجب عليه السُّجود ممّن لا يجب، وشرائط السجود وفي ذلك تفصيلٌ؛ وأمّا التَّالِي للقرآن في صلاة أو (¬2) في غير صلاةٍ، فيجب عليه بإجماعٍ، إلَّا أنّه يُكرَهُ للإمام أنَّ يقرأَ السُّورةَ فيها سجدة لِئَلّا يخلط على النّاس -أعني على من خَلْفَهُ-. وقد قيل: إنّه يجوز أنَّ يقرأها إذا كان مَنْ خَلْفَهُ قليلًا، وَأَمِنَ من التَّخليطِ عليهم. وأمّا فيما لا يأمن (¬3)، فلا يقرأ بسورة فيها سجدة بحالٍ. وقد استحبَّ ابنُ القاسم للمنفرد ترك قراءة (¬4) سورة فيها سجدة في الفريضة، لِئَلَّا يُدْخِلَ على نفسه بذلك سَهْوًا في صلاته. وقال: هو الّذي ذهب إليه مالك (¬5). وأمّا المستمعُ للتِّلاوةِ، فإن جلسَ لاسْتِمَاعِ تِلاوةِ التَّالِي على سبيل التَّعَلُّم والتّحَفُّظِ سَجَدَ بسجودِهِ إِن سجدَ، واخْتُلِفَ هل يجب عليه السُّجود إنّ لم يسجد التالي؟ فقال قومٌ: إنّ جلس لاستماع تلاوة التالي ابتغاءَ الثَّوابِ في ذلك، لم يجب عليه السُّجود إنّ لم يسجد (¬6). واختُلِفَ أيضًا إنّ سجدَ هل يجب عليه السُّجود بسجوبٍ أم لا؟ فعلى قولين مَرْوِيَيْنِ. وهذا كلُّه إذا كان التّالِي ممَّن تصحُّ إمَامَتُه. وأمّا إنّ جلسَ إليه ليقرأ السّجدة، فلا يسجد لسجوده؛ لأنّ ذلك مكروهٌ عند مالك (¬7). واختُلِفَ أيضًا في المُعَلَّم والقَارِىء يجلسُ لقراءةِ القرآنِ عليه: ¬
فقيل: إنه يسجد في أوَّلِ ما تمرُّ به سجدة ويسجد القارئ عليه، هذا إذا كان بالغًا، وليس عليه سجودٌ بعد ذلك كلّما جاءت سجدة. وقيل: ليس ذلك عليه ولا في أوَّلِ مرَّةٍ. وأمّا من سمع قراءة رَجُلٍ دون أنّ يجلسَ لاستماعِ قراءته على وجهٍ من الوجوه، فليس عليه أنّ يسجدَ بسجوده. وقيل: إنّ ذلك عليه، وهو شذوذٌ من القول. المسألة الرّابعة (¬1): في معرفة أحكام السُّجود وشروطه ومَحَلِّه وأي وقت يفعل أمّا أحكامُه فأحكام صلاة النّافلة، في أنّه لا يكون بغير طهارةٍ، ولا في موضعٍ غير طاهرٍ، ولا في وَقْتٍ لا تحلّ فيه الصّلاة، ولا لغير القِبْلَةِ إلا للمسافِر على دابَّتِهِ حَيْثُما توجَّهَتْ به. فلا بُدّ فيها (¬2) من طهارة؛ لأنّها صلاةٌ، فوجبت فيها الطّهارة. واختلف (¬3) علماؤنا هل فيها تكبيرٌ مشروعٌ أم لا؟ فرُويَ عن مالك أَنّه قال: التكبير لسجود التِّلاوةِ مأمورٌ بِهِ، ومرة قال: لا يكبِّر، وخَيَّر ابنُ القاسم في ذلك. وَوَجْهُ القولِ عندي: أنّها عبادةٌ (¬4)، فشرع التّكبير لها في الخَفضِ والرَّفْعِ، كما لو كان في نفس الصّلاة لابدّ له أنّ يُكَبِّر. واختلفَ العلماءُ هل فيها تحليل بالسّلام أم لا؟ والصّحيحُ عند علمائنا أنّ فيها تحليلًا بالسّلام؛ لأنّها عبادةٌ لها تكبيرٌ، فكان فيها السّلام كصلاة الجنازة، بل هذه أَوْلَى؛ لأنّ هذه فعلٌ وصلاة الجنازة قولٌ. واختلف العلماء في أوقات السُّجود لها: فقال مالك: لا يسجد في الأوقات المنهيات. وقد رُوِيَ عنه وعن الشّافعيّ؛ أنّها يسجد ويُصَلَّى فيها. ¬
وقال أبو حنيفة: لا يُصلّى فيها ولا يُسجد (¬1). فتعلق (¬2) بالقول الأوّل لعموم الأمر، والقولُ الثّاني أَقوَى؛ لأنّ الأمر بالسُّجود عامٌّ بالأوقات، والنَّهْيَ خاصٌّ في الأوقات، والخاصُّ يَقْضِي على العامِّ. وقد رُوِيَ عن مالكٌ في "المدوّنة" (¬3) أنّه يصلِّيها ما لم تصفرّ الشّمس، وهذا لا وَجْهَ له عند أهل العِلْمِ. ورُوِي عن ابن القاسم (¬4)؛ أنّه أَرْخَصَ في السُّجودِ لها بَعْدَ العصرِ ما لم تصفرّ الشّمس. وقال ابنُ حبيب: يسجد لها بعد الصُّبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفرّ الشّمس، كصلاة الجنائز. ووجهُ قول ابن حبيب: ما احتجَّ به من طواف الطّائِفِ بعد الصُّبح أنَّه يجوزُ له أنَّ يركع بعد الصُّبح ما لم يسفر، ولا يجوز له ذلك بعد العصر (¬5). والّذي انْطوى عليه موطَّأ مالك - رحمه الله - الّذي هو معظمُ عِلْمِهِ ومَذْهَبِه؛ أنَّه لا يسجد في شيءِ من هذه الأوقات، قياسًا على النَّوافِلِ، ويعضده الأثر والخَبَر، ومذهبُه قَوِيٌّ في البابِ، واللهُ أعلم. المسألة الخامسة: في معرفة مواضع السُّجود أَيْنَ يكون فقال الشّافعيّ (¬6): السُّجودُ في آخر الحَجِّ، وهي المسألة الثّانية. وهي سجودُ عزيمةٍ عندَهُ وعند ابن وَهْبٍ من أصحاب مالك. وفي "النَّمْل" قال الشّافعيّ السّجدة (¬7) عند قوله: {وَمَا تُعْلِنُونَ} (¬8) عند تمام الآية الّتي فيها الأَمْر. ¬
وقال مالك وأبو حنيفة: يسجد عند قوله: {الْعَظِيمِ} (¬1) الّذي فيه تمام الكلام، وهذا قَوِيٌّ. وأمّا سجدة "ص" فهي عند الشّافعيّ سجدة شُكْر، وليست عنده من عزائم السُّجود. وقد خرج البخاريّ (¬2) والتّرمذيّ (¬3) عن ابن عبّاس؛ أنّه قال: سَجْدَةُ "ص" ليست من عزائِمِ السُّجودِ، وقد رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يسجدُ فيها. قال مالك: هذا قولُ ابن عبّاس وهي عزيمةٌ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أُمر أنّ يَعْتَدِيَ بهداهم قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (¬4). وروى أبو داود (¬5) عن أبي سعيد الخدري؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قرأ سورة "ص" وهو على المِنْبَرِ، فلمّا بلغَ السَّجْدَة نزلَ وسجدَ وسَجَدَ النَّاس، فلمّا كان يوم آخر قرأَهَا، فلمّا بلغَ السَّجْدَةَ، أَشَارَ النَّاسُ إلى السُّجود، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: إنّما هي توبةُ نبيٍّ، ولكنِّي رأيتُكُم قد أَشَرْتُم للسِّجُودِ، فنزلَ فَسَجَدَ وسَجَدُوا. وأمّا السَّجْدَة فيها، فعند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬6) لأنّه تمام الكلام وموضع الخضوع والإنابة. وقال الشّافعيُّ: يسجد عند قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} (¬7) لأنّه خبرٌ عن التَّوبَةِ. والأوَّلُ أَوْلَى بالصَّواب، رجاءَ الاقتداءِ بالاهتداء، والمغفرة بالامتثال، كما غفر لمن سبق من الأنبياء. نكتةٌ صوفيَّةٌ: قال الإمام: وقد كان قومٌ من المتصَوَّفة إذا سجدوا في سورة "ص" يقولون: اللهُمَّ تَقَبَّلْ كما تقبَّلْتَ من داود، وتُبْ علينا كما تُبْتَ على داود، ففي هذا طلب القَبُول في مثل ذلك. ¬
قال الإمام أبو بكر بن العربي: وأين ذلك اللِّسان؟ وأين تلك النِّيَّة؟ وأي ذنب مثل ذلك الذَّنب؟ فإن داود فَعَلَ جائزًا وعُوتِبَ على أنّه ذَنْبٌ على قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ، وأهلُ الكبائر يقول أحدهم: تَقَبَّل تَوْبَتِي، وهو على تخليطٍ، ولو كان من رؤوس التّائبينَ لما كان ينبغي له أنّ يطلبَ توبة كتوبَةِ الأنبياء، وهذا فيه نظر. وأمّا سجدة فُصِّلَت" فعند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الآية (¬1)؛ لأنّها انتهاء الأمر (¬2). وعند الشّافعيّ عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬3) لأنّه خَبَرٌ عن امتثالٍ. وأمّا سجدة "سورة النّجم" فسجدها رَسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وسجدها المسلمون والمشركون والجنّ والانس (¬4). وقال مالكٌ: لا يسجد فيها؛ لأنّه لم يسجد فيها من الصّحابة غير أبي هريرة وَحْدَهُ، وهو طريق آحادٍ. وأيضًا: فإنّه لم يجد العمل عليه بالمدينة. وأيضًا (¬5): فإنّه قد رَوى زيد بن ثابت؛ أنّه قرأ على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - النّجم فلم يسجد فيها (¬6). وهذا الحديث حُجَّة مالكِ والشّافعى أنّ سجود القرآن سُنّة؛ لأنّه لو كان واجبًا كما زعم الكوفيّون لم يترك زيد السَّجدة فيها، ولا تَرَكَهُ النّبي - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه بُعِثَ مُعَلِّمًا، وهذا حديث زَيْد (¬7) يُبيِّن حديث ابن مسعود؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - حينَ سَجَدَ في {وَالنَّجْمِ} (¬8) بمكّة؛ أنّ ذلك كان منه إعلامًا لأُمَّتِهِ أنّ قارىءَ القرآن بالخِيَارِ إِنْ شاءَ سجدَ وإنْ شاءَ لم يسجد، وكذلك فعل عُمر (¬9)، ليري النّاس أنّ ذلك ليس بواجبٍ. وأمّا سجدة "إذا السَّماء انْشَقَّت" قال أَبو سلمة: لم أر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يسجد فيها (¬10). ¬
ما جاء في قراءة
قال علماؤنا (¬1): كان أبو هريرة يرى السُّجود في المُفصَّل ولأجل ذلك (¬2) كان يسجد هو فيها. وعند مالك؛ أنّها ليست من عزائِمِ السُّجودِ، فحمل العلماء ذلك على هذا (¬3)، فمن قال بالسُّجود في المُفَصَّل، يرى السُّجود فيها. وقال بعضهم: لا يسجد فيها؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يسجد في المُفَصَّل منذ (¬4) تحوّل إلى المدينة؛ لأنّ أبا هريرة كان إسلامُه بالمدينة. وأمّا سجدة "القَلَم" فأكثر العلماء لم يُوجِب السّجود فيها، وبه قال مالكٌ وأهل الحجاز، والحمدُ للهِ. فإن قيل: مِنْ أينَ هو المُفَصَّل عند مالك - رحمه الله -؟ قلنا: قد اختلفَ عنه في ذلك: فقيل: المُفَصَّل عنده من آخر فُصَّلت. وقيل: من أوَّلِ النَّجْمِ. فإن قيل: لم سُمي المُفَصّل؟ قيل: لِكَثرَةِ الفَصْلِ بين السُّوَر بالبَسْمَلَةِ، واللهُ أعلمُ. ما جاء في قراءة {قُلْ هُوَ اللهُ أحدٌ} (¬5) و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (¬6) مالك (¬7)، عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أبي صَعْصَعَةَ، عن أبيه، عن أبي ¬
سعيدِ الخُدْريِّ أنّه سَمعَ رَجُلًا يقولُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) يُرَدِّدُها، فلمّا أصبحَ غَدَا إلى رسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فذَكَرَ له ذَلِكَ (¬2)، وكان الرَّجُلُ يتَقَالُّهَا. فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ". الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬3): "لم يتجاوز مالك بإسناده هذا الحديث أبا سعيدٍ، وقد رواهُ قومٌ من الثِّقاتِ عن أبي سعيدٍ عن أخيه لأُمِّهِ قَتَادَة بن النُّعْمَان، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4). وقد رواه (¬5) مالكٌ أيضًا كذلك، ورُوِيَ أنّ الرَّجُلَ القَارِىءَ لها الّذي كان يَتَقَالُّها -يعني الّذي يراها قليلًا- هو قَتَادَة بن النُّعمان" (¬6). الأصول: اختلفَ (¬7) العلماءُ في معناهُ، فقال قوم: يقال إنّه لَمّا سَمِعَه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُرَدِّدُها، قال له ذلك؛ لأنّه (¬8) لم يحفظ غيرها، ولِمَا رَجَاهُ من فضلها (¬9)، وأنّه لم يملّ ترديدها (¬10) حتّى بلغ داره، وبلغ بترداده لها (¬11) بالكلمات والحروف والآيات ثُلُثَ القرآن. فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ" على هذا الوجه، لما كان من تَكْرَارِهِ لها، وهذا تأويلٌ فيه بُعْدٌ عن ظاهر الحديث. وقال علماؤنا: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن" هذا على طريق المعنى لا من طريق اللّفظ والتِّلاوة؛ لأنّه مَنْ قرأها فكأنّه قد قرأ كلَّ توحيدٍ في القرآن، فجعل له أجر التّوحيد؛ لأنّ معناه واحدٌ وصفة (¬12) لواحدٍ سبحانه وتعالى، وإن كان الّذي تكرَّرَ ¬
بالتَّلاوةِ من الأجْرِ أكثرها لتكْرَارِ فائدة التّوحيد، كما أنّ من قرأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرارًا أكثر أَجْرًا. وقيل: تَعْدِلُ ثُلُث القرآن في الفَضْل فالقرآن ثلاثة أقسام: توحيد، وتكليفٌ، وإباحة؛ فلمّا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} توحيدًا كلّها كان كمن قرأَ ثلُثَ القرآن. فإن قيل: لو نظر القرآن لوجد أَكثَرَ توحيدًا. قلنا: يجوز أنّ يُسَمَّى الشيءُ بالثُّلُثِ والنَّصْفِ والرُّبُع وإن كان أقل أجزاء (¬1) من غيره. ثمّ نقول: إنّه يجوز من طريق التَّسميةِ ولا يجوز ذلك من طريق العَدَدِ، مثال ذلك: رجلٌ معه كيس فيه عشرة آلاف دِرْهَم، منها ألف درهم عبّادِيّة، وثلاث آلاف مصريّة، وثلاثة آلاف هاشِميّة، فجاز هذا من طريق التَّسْمِيَةِ لا من طريق العَدَدِ. وفيها قولٌ ثالثٌ (¬2)، قال قوم: إنّ القرآنَ ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} منها جزءًا يعدل (¬3)، وزعموا أنّ تلك الأجزاء على معانٍ: أحدها: القَصَص والأخبار. والثّاني: الشّرائع والأحكام. والثّالث: صفاته تعالى في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلذلك تعدلُ ثُلُث القرآن في الأَجْر. وهذا يشهد له ظاهر الحديث؛ لأنّها سورة (¬4) الأحد الفَرْدِ الصَّمَد. وأمّا قوله "كفُؤًا أحَد" قال أهل العربيّة: إنّه منصوبٌ على أنّه خبرُ كان، ولا يجوز نصبه على الحال؛ لأنّ "كفؤًا أَحَد" لو كان حالًا لأدَّى اِلى ما لا يجوز على الله تعالى، فكان المعنى: يكون له كفؤًا أحد، فنفى الكيفيّة عن الأَحَدِيَّة، وأثبتَ الكيفيّة لمن دون أحَد، وتحقيق الكلام: أنّ يكون له غير كفؤ أقلّ منه لا يكون له كُفُؤًا. فإذا نفيت الكيفية عن الأَحَدِيّة جازَ أنّ يكون له كُفُؤًا من غير الأَحَدِيَّةِ، وهذا تصحيحه. ¬
ومثلُه قوله تعالى: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (¬1) قال المتكلِّمون: إنّ "باطلًا" منصوبٌ على نَعْتٍ لمصدرٍ محذوفٍ، وهذا أحسن في المعنى المقصود؛ لأنّه لو كان حالًا -كما قال النّحويون- لجاز من هذا أنّ يكون معناه؟ ما خلقت هذا؛ لأنّ الحال لا يأتي إلَّا بعد تمام الكلام، فدلّ أنّ "باطلًا" لم ياتِ بعد تمام الكلام، إذْ لا يصحّ (¬2) الكلام من قوله (¬3): {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} ولا يتمّ، ولَوْ وقف أَحدٌ على قولِه: {بَاطِلًا} لكان كُفرًا. وقال النّحويون: الحالُ تقعُ ملازِمة للكلام. قلنا: هذه دَعْوَى،* لأنّا قد وجدنا حالًا بمعنى (¬4) ملازمة وغير ملازمة* (¬5)، فنحن بالخِيَارِ في هذا الموضع أَنْ نجعلها نَعْتًا لمَصْدَرٍ محذوفٍ مزيد إيضاح (¬6): قوله: "تَعْدِلُ ثُلُثَ" (¬7) قال بعض الأشياخ (¬8): هذا يدلُّ على أنّ البارئ تعالى يضعُ الفَضْلَ لأَوْليائه حيث شاءَ، ويخصِّص لهم من القرآن ما شاءَ اللهُ بما شاءَ. والقرآنُ كلُّه صفةٌ واحدةٌ من صفاتِ ذاتِهِ، وصفاتُ اللهِ تعالى لا يجوزُ أنّ يكون بعضُها في ذاتها أفضلُ من بعضٍ؛ لأنّ الفاضلَ إذا كان أكمل، كان المفضولُ أنقص، ولا يجوز هذا في صفات اللهِ عزّ وجل. نكتةٌ لغوية: يقال: فَضَلَ بالفتح يفضُل بالضم وبالكسر، وقد جاء شاذًّا بالكَسْر وبالفتح في الماضي والضَّمِّ في المستقبل. ¬
نكتةٌ أخرى لغويّةٌ (¬1): قال ابنُ وضّاح: قوله (¬2) "فخفتُ (¬3) أنّ يفوتني (¬4) الغَدَاء". قال (¬5): الغداءُ ههنا صلاة الغداة. قال الإمام: وهذا لا يعرف في كلام العرب، وإنّما الغداء ما يُؤْكَل بالغَدَاةِ، وكان أبو هريرة يلزم النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ليشبع (¬6) بطنه، وكان يتغدّى معه ويتَعشَّى. حديث ثانٍ في الباب: قوله (¬7): {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (¬8) تُجَادِلُ عن صاحِبَها" زاد فيه في الصّحيحِ: "وهي ثلاثون آية" (¬9) وكان ابن مسعود يسمِّي سورة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} المانعة؛ لأنّها تمنعُ من عذابِ القَبْرِ (¬10). شرح معنوي: قال علماؤنا: معنى "تُجَادِلُ" أي تدافع عنه بالحُجَّةِ، يعني لمن أراده من الملائكة بعذابٍ. وقيل: إنّها في التّوراة مكتوبة: سورة الملك من قرأها في ليلته فقد أكثر وأَطْنَبَ. وكذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ قرأَ آيةَ الكرسيّ في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ، ولم يقربه في تلك اللَّيلة شيطان" (¬11). ¬
وكذلك قوله: "من قرأَ آيتين من آخِر البقرةِ في ليلةٍ كَفَتَاهُ ". وكذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تُجَادِلُ عن صَاحِبِها" (¬1) يريد ثواب تبارك؛ لأنّ السُّورة لا تجادِل. فهذا (¬2) كلُّه يدلُّ على أنّ البارئ سبحانه يضعُ الفضلَ لأؤلِيَائِهِ حيثُ شاءَ ويخصِّص لهم من القرآن ما شاءَ بما شاءَ. ورُويَ عن عبد الله بن مسعود؟ أنّه قال: "إِذا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ أُتِيَ من قِبَلِ رِجْلَيْهِ فتمنع منه سورة المُلك، ويُؤتى من قِبَلِ بَطْنِهِ فتمنع منه، ويُؤْتَى من قِبَلِ رَأْسِهِ فتمنع منه كأنه تقول- والله أعلم- الرِّجلانِ: عَليَّ كان يقومُ بها، وتقول البَطْنُ: في وسماها. ويقول الرَّأس: بي كان يتلوها" (¬3). وهذه خصيصةٌ جعلَها اللهُ فيها لما تضمَّنَت من المعاني في التّوحيد، فإنّها مُجَرَّدَةٌ (¬4) لذلك، والتّوحيدُ مُوجِبٌ للنِّعَمِ ومُنْج من العذاب، ولذلك قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - للرجل الّذي كان يقرأ سورة الإخلاص: "وَجَبَت له الجَنَّة" (¬5) والحمدُ لله. ¬
كتاب الأذكار والدعوات
كتاب الأذكار والدعوات قال الإمام: ذكر مالك رحمه الله في هذا الكتاب ثلاثة أبواب: الباب الأوّل: ما جاء في ذِكْر الله تعالى. الباب الثّاني: ما جاء في الدُّعاء. الباب الثّالث: العملُ في الدُّعاء. وله في هذه الأبواب أغراضٌ حِسَانٌ لم يتنبّه إلى مِثْلِها إلَّا مالكٌ - رحمه الله -. وساق في الباب الأوّل ستّة أحاديثَ: الحديث الأوّل: مالك (¬1)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكرٍ، عن أبي صالحٍ السَّمَّانِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قالَ لا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وهو على كلِّ شيءِ قديرِ في اليوم (¬2) مئةَ مرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مئةُ حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عنه مئةُ سَيِّئَةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلك حتّى يُمْسِي، ولَمْ يَأتِ أَحَدٌ بأَفْضَلَ مِمَّا جاءَ به، إلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلكَ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه (¬3)، خرَّجَهُ أهل الصِّحَّةِ. الأصول (¬4): قوله: "إلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" هو تنبيهٌ على أنّ هذه الغاية في ذِكْرِ الله تعالى، وأنّه قلَّ من يزيد عليه، ولذلك قال: "وَلمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ ممّا جاءَ بهِ" ولو لم يُفِد ذلك لبَطَلَت فائدة الكلام؛ لأَنّ كلَّ ما أتَى الإنسانُ ببعضه فإن أحدًا لا يأتي ¬
بأفضل ممّا جاء به، إلَّا من جاء بأكثر من ذلك، ولكنه أفاد (¬1) بذلك أنّ هذا غاية في بابه. ثم قال: "إِلاَّ رَجُلٌ (¬2) عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذلك، لئَلّا يظنّ السّامع أنَّ الزِّيادةَ على ذلك ممنوعة كَتَكْرَارِ العمل في الوُضوءِ. ووجه ثانٍ: وهو أنّه يحتمل أنّ يُريدَ أنّه لا يأتي أحدٌ من سائر أبواب البِرِّ بأفضل ممّا جاء به، "إلّا رجلٌ عمل أكثر من ذلك" أي من عمله (¬3). الحديث الثّاني: مالك (¬4)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكرٍ، عن أبي صالحِ السَّمَّانِ، عن أبي هريرةَ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قال سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ في يَوْمِهِ (¬5) مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عنه (¬6) خَطَايَاهُ وإنْ كانت مِثل زبَدِ البَحْرِ". إسناده: حسن صحيح مُتَّفَقٌ عليه (¬7)، وفيه فوائد: الفائدة الأولى: قوله: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ" أمّا سبحانَ الله، فهو اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَر، وقيل: هو مصدرٌ جاءَ على غيِر الفعل. ومعناه: تنزيه الله تعالى، كانّه قال: أُنزِّه اللهَ تنزيهًا وأُسَبِّحُه تسيحًا. وقوله: "بحَمْدِهِ" لانّ الحمد لا ينبغي إلّا لله على الحقيقة. وقيل: إنّه تفعيلٌ، مِن سَبَّحَ يُسبِّحُ تسبيحًا، وهو مصدر كما تقدَّمَ لغةً. نكتةٌ أصولية (¬8): قوله (¬9): "غُفِرت ذُنُوبُهُ ولَوْ كَانَت مِثْل زَبَدِ البَحْرِ" اعلموا -وفقكم الله- أنّ غُفْرَانَ السَّيِّئاتِ يكون بثلاثة أَوْجُهٍ: ¬
إمّا بفَضْل اللهِ ورَحْمَتِه ابتداءً، كقوله في الحديث يقول الله له: "عبدي، أَتَذْكُر يوم كذا يوم فعلت كذا، حتّى إذا رأى الرَّجُل أنّه قد هَلَكَ، يقولُ: أنا سَتَرْتُهَا عليك في الدُّنيا، وأَنَا أغْفِرُها لك اليوم" (¬1). الثّاني: بالموازنة (¬2)، توضَع صحائف الحسنات في كَفَّةِ الحَسَنَاتِ، وتوضع صحائف السَّيِّئاتِ في كَفَّةِ السَّيِّئاتِ، ثمّ يخلق اللهُ الثِّقَل فيها بحسبِ ما يعلمه من إخلاصه بالطّاعة، وإصراره على المعصية، ونَدَمِه (¬3) على الذَّنب أو جُرأته، وَحِرْصِهِ على الخير وَكَسَلِه. الثّالث: إذا دخل النّارَ يأخذ منه بها ما شاءَ من الاقتصاص، وما يغفره أكثر ممّا يأخذه. فإمّا أنّ تكون هذه الأذكار عائدة بفضل الله، فتلحقه بالقسم الأوّل. وإمّا بالموازنة. وإمّا بالشّفاعة، وقد قال بعض العلماء في هذا الحديث: إنّما يغفر له في الحين الصّغائر دون الكبائر، واللهُ أعلمُ. الحديث الثّالث: مالك (¬4)، عن أبي عُبَيْد مَوْلَى سليمانَ بن عبد الملك، عن عطاء بن يزيد اللَّيْثِيِّ، عن أبي هريرة؟ أنّه قال: مَنْ سَبَّحَ دُبرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ، وكبَّرَ ثلاثًا وثلاثينَ، وحَمِدَ ثلاثًا وثلاثينَ، وخَتمَ المِئَةَ بلا إِله إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ. غُفِرَت ذُنُوبهُ ولَوْ كانت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث مُرْسَلٌ في الموطّأ، وأَسْنَدَهُ خالد (¬5) بن عبد الله الوَاسطي، عن سُهَيْل، عن أبي عُبَيْد، عن عطاء، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬6). وخَرَّجَهُ مسلم بن الحَجَّاج في "مُسْنَدِه" (¬7)، كذلك رواه إسماعيل بن ¬
زكريَّاء عن أبي سُهَيْل (¬1). والكلام عليه مثل ما تقدَّم من غُفْرَان الذُّنوب، فلا معنَى للتَّطوِيل، إلَّا أنّه يتعلَّق به من الشَّرح أربع معانٍ: المعنى الأوّل (¬2): ختم المئة جـ: لا إله إلَّا اللهُ، وذلك أنّ قوله: "لا إله إلَّا اللهُ" نفي لكلِّ إله سواهُ بجميع المعاني، وقوله: "وَحْدَهُ" تأكيد للنَّفْيِ من كلِّ وَجْهٍ وقوله: "لا شَرِيكَ لَهُ" إشارة إلى نفي أنّ يكون هو جعله مُعِينًا أو ظهَيرًا، كما كانت العرب تقول: لَبَّيْكَ لا شرِيكَ لكَ، إِلاّ شريكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ (¬3). الثّاني (¬4) - قوله: "لَهُ المُلْكُ " بيانٌ أنّ له الخَلْق والتّصريف والتّكْلِيف، والهداية والإضلال، والثّواب والعقاب، و"المُلْكُ" عبارة عما يتصرَّف في المخلوقات من القضايا والتَّقّديرات. الثّالث (¬5) - قوله: "وَلَهُ الحَمْدُ" بيانٌ بأنّ الخبر بوجود (¬6) ذلك راجعٌ إليه، والثناء فيه عائدٌ عليه؛ لأنّه لا يجب الحمدُ على الإطلاق والحقيقة إلَّا لَهُ. الرّابع (¬7) - قوله: "وَهُوَ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٍ" فيه بيانٌ ودليلٌ واضحٌ ألَّا قُدْرةَ لمخلوق من خَلْقِهِ، بَلِ القُدْرَةُ له في كلِّ ما ذَرَأَ وَبَرَأَ، وليست قُدْرَتُه فيما ظَهَرَ خاصّة، بل هو قادِرٌ على ما ظَهَرَ ومَا لَمْ يظهر، وعلى ما وُجِدَ وما لم يوجد (¬8). وأمّا قوله: "غُفِرَت ذُنُوبُه وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زبَدِ البَحْرِ" فإنّه قد تقدَّمَ الكلامُ عليها بالموازنة، أو بالمغفرة ابتداءً، أو بالشّفاعة، أو هي غفران الصَّغائر دون الكبائر. الحديث الرّابع: مالك (¬9)، عن عُمَارَةَ بن صَيَّادِ، عن سعيدِ بن المُسَيَّبِ؛ أنَّه سَمِعَهُ يقولُ في البَاقِيَاتِ الصّالِحَاتِ: إنّها قولُ العَبْدِ: اللهُ أَكبَرُ، وسُبحَانَ اللهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ. ¬
الإسناد: قال الإمام (¬1): هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه، خَرَّجَهُ أهل الصِّحَة: مسلمٌ والبخاريّ، وجميع المصنفات (¬2)، لا غُبَارَ عليه ولا خَفَاءَ فيه، وعُمَارَةُ بن صيَّاد هو عُمَارَةُ بن عبد الله بن صَيَّاد، يَروِي عن سعيد بن المُسَيِّب وعَطَاء بن يَسَار. الأصول (¬3): قال الإمام (¬4): قد بيَّنَّا في كتب الأصول أنَّ كلَّ موجودٍ - ما عدا الله تعالى وصفاته العُلَا - لَهُ أَوَّلٌ. وأنَّ كلَّ (¬5) ما عَدَا نَعِيمِ أَهلِ الجنَّة وعذاب أهل النّار له آخر. وكل ما لا آخِرَ له فهو البَاقِي حقيقة، ولكنّ الباقي بالْحَقِّ والحقيقةِ هو اللهُ سبحانه (¬6). وقد وَهَلَ المتكلِّمونَ في هذه المسألة - وهي مسألةُ البَقَاءِ-: هل هو باقٍ ببقاءِ الله أم لا؟ إِذْ هو صِفَةٌ من صفات ذاتِهِ، ومثلُ هذا لا يجب أنّ يُطلَقَ؛ لأنّ البارئ هو الباقي قبلَ كلّ حيٍّ، والباقي على الدَّوامِ إلى ما لا نِهَايَةَ له. وأمّا نعيم أهل الجَنَّةِ فأصول مُذْ خُلِقَت، ولم تَفْنَ ولا تَفْنَى بحَمْدِ (¬7) الله تعالى، وفروعٌ وهي النِّعَم (¬8)، هي أعراضٌ إنّما تُوصَفُ بالبقاءِ على معنى أنّ أمثالَها تَتَجَدَّدُ من غير انقطاع، كما أهل النّار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (¬9) فهذا فناءٌ (¬10) وتجديدٌ، فيجعله (¬11) بقاءً (¬12) مَجازًا (¬13) بالإضافة إلى غيره، فإنّه يَفْنَى (¬14) ولا يعود. ¬
فإذا ثبتَ هذا، فالأعمالُ الّتي تَصْدُرُ عن الخَلْقِ فإنّها باقيةٌ حتّى يقع عليها (¬1) الثّواب، فهي (¬2) باقياتٌ صالحاتٌ حسنات؛ لأنّه قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الآية (¬3)، يعني: خيرٌ من المال والنَّفس، وخير أَمَلِ فيما يستقبلون إرادته، واقتضى بهذا العموم أنّ الباقيات الصّالحات كلّ عملٍ صالحٍ، وهو الّذي وعد بالثَّواب عليه. وهذا العمل قد اختلف فيه العلماء -أي ما هو-؟ فقيل: إنّه ما وَرَدَ في الحديث (¬4). وقيل: إنّها الصّلوات الخمس، قاله ابن عبّاس وغيره، وبه أقولُ وإليه أميلُ، وليس في الباب شيءٌ يقطعُ به أنّها هي أكثر من الصّلوات. تكملة: أمّا قولُه (¬5): "لَا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ" فقد فسَّرَهُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعريّ. قال له: لا حول عن معصية الله إلّا بعِصمَةِ الله. ولا قوة على طاعة الله إلّا بتوفيق الله. وخُرِّجَ هذا الحديث في "مسند الحارث بن أبي أسامة" (¬6). الحديث الخاص: حديث أبي الدرداء (¬7)؟ قوله: "ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ، وأَرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عند مَليكِكُمْ." الحديث إلى آخره. الأصول (¬8): في هذا الحديث: أنّ ذِكْرَ الله تعالى أفضل الأعمال، وأنّه أفضل من الجهاد، والمفاضلةُ بين الأعمال قد بيَّنَّا تحقيقها في غير موضعٍ، كقوله: "مَنْ قَرَا القُرآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حرف عشر حسنات" وقولُه: "مَنْ قَرَأَ القُرآنَ وَأَعْرَبَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَة" (¬9)، ومثلُ ذلك كثيرٌ، وقد تفضلُ الأعمالُ الأعمالَ بذواتها، كالتوحيد فإنّه ¬
يفضلُ سائرَ الطَّاعات بذَاتِهِ؛ وقد تفضلُ الأعمالُ بثوابِها كما جعل ثواب الصّلاة أكثر من ثواب الصِّيام. والذِّكر أفضل (¬1) الأعمالِ؛ لأنّه توحيدٌ وعَمَلٌ. تنببه على مقصد (¬2): قال علماؤنا (¬3): الذِّكرُ على ضربين: أحدهما: ذكر باللِّسان (¬4). والثّاني: ذِكْرُهُ (¬5) عند الأوامر بامتثالها، وعند المعاصي باجتنابها، وهو (¬6) ذِكْر القلب. والذِّكرُ أيضًا بِاللِّسانِ على ضربين: واجب، ومندوب إليه. فالواجبُ، قراءةُ القرآن وما جرى مجراه في الصَّلاة. والمندوبُ إليه، سائرُ الأذكار من قراءة القرآن والتّسبيح والتّهليل وغَيرِ ذلك. فأما (¬7) الواجب من الذِّكْرِ، فيحتملُ أنّ يفضلَ على سائر الأعمال من الجهاد والزَّكاةِ وغيرهما. وأمّا المندوبُ إليه، فيحتملُ أنّ يفضلَ على سائر أعمال البِرِّ المندوب إليها لِمَعْنَيَيْن: أحدهما: أنّ الثّوابَ عليه أعظم، وهذا طريقهُ الخبر. والثّاني: تكرره، وهذا يُعْرَفُ بالمشاهدة والنَّظَر (¬8). وقد (¬9) ورد (¬10) في حديث عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّ الذِّكْرَ للهِ تعالى بِمَنْزِلَةِ الحِصْنِ ¬
الّذي يُعْتَصمُ فيه من العَدُوُّ (¬1)، وكذلك يُعْصَمُ (¬2) الذَّاكِرُ بالذِّكْرِ من الشيطان والنّار، لحديث مُعَاذٍ: "ليس للعَبْدِ شيءٌ أَنْجَى لَهُ مِن عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ" (¬3). وقد ثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه مشى يومًا مع أصحابه، حتّى وقفَ على جَبَلٍ يُقال له جُمْدَانُ، فقال: "سِيرُوا، سَبَقَ المُفرِدُونَ" قيل: يا رسولَ الله، ومن هم. قال: "الّذِينَ اهْتَرَوْا (¬4) بِذِكْرِ الله، يضعُ الذِّكرُ عَنْهُمْ أوْزَارَهُمُ" (¬5). وقوله: "مَفْرِدُونَ" يعني الّذين أفردوا الله بالوجود الحقيقيّ، وبعموم العِلْم والقُدْرة، وبعموم الخَلْقِ، فلا خَالِقَ سِوَاهُ، وباختصاص الإرادة يفعلُ ما يشاء، وبأنّ المرجِعَ إليه. ومعناه أنّهم لم يروا إلَّا الله، وكأنَّه يريد بالموحِّدين الَّذينَ يَرَوْا اللهَ واحدًا فَرْدًا. وقوله: "الذين أُهْتروْا بذِكرِ الله" يعني الّذين غلب عليهم الذِّكْر في الأقوال والأعمال والطّاعة، حتّى يكونوا كما روي عن الحسن البصري؟ أنَّه قال: أدركتُ قومًا لو رأيتموهم لقُلْتُم مجانين، ولو رَأَوْكُم لقالوا: فُسَّاقً (¬6). تنبيه على وَهَمٍ (¬7): قال الإمام: وغلطتِ الصُّوفيَّةُ فقالوا: إنّ المرادَ بحديث أبي ذَرٍّ: الذِّكر الدَّائم باللِّسان من غير فُتُورٍ، حتّى إذا رآه الرَّجُل قال: هذا مجنونٌ. وليس كذلك، إنّما المرادُ به الّذي ليس له عمَلٌ إِلاّ لله، إذا صلَّى وصامَ فَلَهُ، وإن جلسَ فيقول: أُجِمُّ نفسي لطاعة الله، فهذه طاعةٌ، وإن كان على أي حالٍ كان، إنْ أكلَ قال: آكلُ للتَّقَوِّي، ويذكر الله في جميع أحواله وأفعاله، فهذه عبادةٌ. وإن وطىءَ وطىءَ ليعصم نفسَهُ وأهلَه، فهذه طاعة، وإن تَطَيَّبَ يقول: أتَطَيَّبُ اقتداءً برسول الله صلّى الله عليه ومنفعةً للجليسِ وترفيعًا للملائكة، فلا يكون له عمل حتّى في النَّومِ إلَّا وَهُوَ للهِ. فهذا هو الذَّاكرُ الشَّاكِرُ لِلَّهِ، المقتدي بسُنَّةِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
الحديث السّادس: حديثُ عليّ بن يحيى الزُّرَقِيِّ (¬1)، عن أبيه، عن رِفَاعَةَ بن رافعٍ؛ أنّه قال: كُنَّا يومًا نُصَلِّي وَراءَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَفَعَ (¬2) رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ وقال (¬3): "سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ" قال رَجُلٌ وَرَاءَهُ: ربَّنَا وَلَكَ الحمدُ حَمْدًا كثيرًا طَيِّبًا مُبَاركًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رسولُ اللهِ، قال: "مَنِ المُتكَلِّمُ آنِفًا؟ " قال الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ الله. فقال له رسول الله: "لَقَدْ رَأَيتُ بِضْعَةً وثلاثينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يكتبُها أَوَّلًا" (¬4). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: فيه أربعة فوائد: الفائدة الأولى: قوله: "مَنِ المُتَكَلِّمُ آنِفًا" يعني به قَبْلَ هذا. ولا يُستَعْمَل إِلاّ فيما يقربُ (¬5) عند العرب وغيرها (¬6)، وفيه معانٍ غير هذا. الفائدة الثّانية (¬7): قوله: "رَأَيْتُ بِضعًا وَثَلاثِينَ" قال علماؤنا (¬8): البِضْعُ ما بين الثّلاث إلى التِّسْع. الفائدة الثّالثة (¬9): قوله: "يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلًا" فيه دليلٌ على عِظَمِ ثوابِها ورِفْعَةِ درجة صاحِبِها، وأنّ لكاتِبِهَا أوّلًا قُرْبَة (¬10) وإن كان جميعهم يكتبها. الفائدة الرّابعة (¬11): ¬
الباب الثاني ماجاء في الدعاء
لم ير مالك - رحمه الله - القول بها، وكَرِهَ أنّ يقولَ الرَّجُلُ ذلك في صَلاَتِهِ؛ لأنّه لم يجدها من الأقوال المشروعة، كالتَّكبير وسمع الله لمن حمده. وأمّا من قال ذلك ممّن يعلم أنّ ذلك ليس عليه بواجبٍ، ويَأْمَنْ أنّ يلبس على النّاس، فهو من ذلك في سَعَةٍ إنّ شاء الله. نكتةٌ بديعة: فإن قيل: من أين قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم -: "بضعًا وثلاثين" ولم يعيِّن من العَدَدِ ما هو أكثر أو أقلّ؟ فأَمْعَنَ النَّظر بعض المتأخِّرين في ذلك وأعملَ الفكرةَ فيه، فوجد حروف ذلك الكلام بضعًا وثلاثين حرفًا، فقال: إنّما أنزلَ اللهُ تبارك وتعالى لِكُلِّ حرفٍ مَلَكًا، فمن ههنا قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "بِضْعًا وثَلاثِينَ" واللهُ اْعلمُ. الباب الثّاني ماجاء في الدُّعَاءِ قال الإمام: ذكر مالك في هذا الباب تسعة أحاديث كلّها صِحَاح: الحديث الأوّل: مالك (¬1)، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، فأُرِيدُ أَن أَخْتَبِىءَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ". الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ أخرجه مسلم (¬2) والبخاري (¬3) والأيمة (¬4)، حسنٌ متّفَقٌ عليه في صِحَّتِهِ ومَتْنِهِ. ¬
الفوائد المنثورة في هذا الحديث: الأولى: قوله: "لِكُلِّ نَبِيِّ دَعْوَةٌ" صدَق - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّ مِنْ آدم إلى مَنْ دُونَهُ منَ الأنبياء دَعَا كلُّ واحدٍ منهم دعوة. أمّا آدم، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية (¬1)، فأجابه الله تعالى وتاب عليه بقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الآية (¬2). وأمّا نوح، فقد دَعَا على قومه، فأُجيبَتْ دعوته، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} الآية (¬3)، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} الآية (¬4)، فأجابَ اللهُ دعاءَهُ. وأمّا إبراهيم - صلّى الله عليه وسلم -، فدعَا اللهَ، فقال ما حكى الله عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} الآية (¬5). وموسى وهارون عليهما السّلام قالا: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ} الآية (¬6)، فقال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (¬7). وأمّا محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، فدعوتُه شفاعَتُه وشفاعتُه مَخْبُوءَةٌ لأُمَّتِه. وقيل: إنّ دعوتَه الّتي دَعَا بها كما دعا الأنبياء قبله، قوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية (¬8)، على أنّ أهل التّأويل قد اختلفوا في تفسير هذه الآية على خمسة أقوال: الأوّل - قيل: أدخلني في النُبُوَّة وأَخْرِجْنِي إلى الرِّسَالة مخرج صِدْقٍ. وقيل: أدخلني مدخَلَ صدقٍ في الهِجْرَةِ إلى المدينة، وأَخْرِجْنِي مخرجَ صِدْقٍ من مكَّة إلى الهجرة. ¬
وقيل: أدخلني في الشَّفَاعةِ للمُذْنِبِينَ، وأَخْرِجْنِي منها بالعِزِّ والكرامة للمُوَحِّدِينَ. قال: فأجيبت دعوته، وهذا هو الّذي عليه جمهور العلماء؟ أنّ دعوته المخبوءة لأُمَّتِهِ شفاعته (¬1) لأُمَّتِهِ؟ واللهُ أعلمُ. الفائدة الثّانية (¬2): قال الإمام: "الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة" (¬3) ولا أَحَدَ أحبّ من الله في السُؤال إليه (¬4)، والدُّعاء والتضَرُّع لَدَيه؟ وقد اختلفَ شيوخُ الصُّوفية أيّهما أفضل، الدُّعاء أم الذِّكْر المُجَرَّد؟ فمنهم من قال؟ الذِّكْرُ المُجَرَّد أفضل، لقوله: "مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عن مسْأَلَتِي أعطيته أفضل ما أُعْطِي السَّائِلِينَ" (¬5)؟ وقد قيل (¬6) في كَرَمِ المخلوقِينَ: إذا أثْنى عَلَيْكَ المرءُ يَوْمَا ... كَفَاهُ (¬7) مِن تَعَرُضِّهِ الثَنَاءُ فكيف بِرَبِّ العالَمِينَ؟ ومع هذا فإن البارئ تعالى يحبُّ السُّؤالَ ويُعْطِي عليه جزيلَ النَّوَالِ. وقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬8)، وقوله في الحديث: "هَلْ مِنْ داعٍ فأستَجيبَ لَه" (¬9) وقال لنَبِيِّهِ صلّى الله عليه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (¬10). قال الإمام: ومنَ الغريبِ في ذلك؛ أنّ الدُّعاءَ المأثورَ عن رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أكثر من الذِّكر المأثورِ عنه. وقوله: "مَنْ شَغَلَهُ ذِكرِي عَنْ مَسْأَلَتِي" معناهُ أنَّ العبدَ ليس في كلِّ حاله يدعو تارةً يدعو (¬11)، وتارةً يذكُر، وإذا دعاهُ استجابَ له، وإذا ذَكَرَهُ أَعطاهُ أفضل ما سأَلَه، فهو الكريمُ في الحالَتَيْنِ. ¬
قال الإمام: مذهب الصُّوفيَّة أنَّ الذِّكْرَ أفضل من الدُّعاء. وقالت طائفة: الدُعاءُ أفضل، لقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} الآية (¬1) وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} (¬2)، وقول ذي النُّون إذ نادى في الظلمات أنّ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية (¬3). وقال (¬4) الطُّوسي الأكبر (¬5): اعْلَم أنَّ مِنَ القضاء رَدّ البَلاَء بالدُّعاء، فالدُّعاء سببٌ لِرَدِّ البلاء واستجلاب الرَّحْمَةِ مِنَ المَوْلَى، وهو مفتاح الحاجة، واختلفت (¬6) لطائف (¬7) أهل (¬8) الإشارات (¬9) في الدُّعاء على أقوالٍ كثيرةِ: فقال قوم: الدُّعاءُ الفَاقَة بين يَدَيْه، وإلّا فالهروبُ إليه ليفعل بك ما يشاء (¬10). وقيل: الدُّعاء هو سُلَّمُ المُذْنِبِينَ (¬11)، وقيل: الموحِّدِينَ المُخْلِصِين. وقال قومٌ: الدُّعاء ترك الذُّنوبِ والإقبال على المحبوب. وقال قوم: الدُّعاءُ يُوجِبُ العطايا (¬12)، ويُوجِبُ المقام أيضًا على الباب (¬13). وقال قوم: الدُّعاءُ مواجهة الحَقَّ بلسان الحَيَاءِ (¬14). وقال قوم: الدُّعاءُ هو الوقوفُ مع القَضاءِ بِوَصْفِ الرِّضا (¬15). ¬
وقال بعضهم (¬1): كيف ينتظر (¬2) إجابة الدَّعوة وقد سُدَّت (¬3) طَريقُها بالهَفْوَةِ. وقال بعضهم: مَنْ طابت لُقمَتُه أُجِيبَت دَعْوتُه. وكلامهم على هذا كثيرٌ جدًّا. الحديث الثّاني: مالكٌ (¬4)، عن يحيى بن سعيد؛ أنّه بَلَغَهُ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَدْعُو فيقولُ: "اللَّهُمَّ فَالِقَ الإصْبَاح، وجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكنًا، وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ حُسْبَانًا، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأَغْنِنِي مِنَ الفَقْرِ، وَأَمْتِعْنِي (¬5) بِسَمْعِي وبَصَرِي وَقُوَّتِي في سَبِيلِكَ". الفوائد المنثورة في هذا الحديث سبعٌ: الفائدة الأولى: قولهُ: "فَالِقَ الاصْبَاح" يعني الصّباح نفسه؛ لأنّ البارئ تعالى هو الفالق لكلِّ ما ذَرَأَ وخَلَقَ وَبَرَأَ، وهذا مطابقٌ لقوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (¬6) وهو قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (¬7) قيل: هو فَلَقُ الصُّبح، يعني صباح النَّهار على اللّيل، وفيه أقوالٌ كثيرةٌ. الفائدةٌ الثّانية: قوله: "وَجَاعل الْلَيْلَ سَكنًا" مطابقٌ لقوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية (¬8)، وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه} الآية (¬9)، أي لتستقرّوا عليها بالرّاحة، فلو كانتِ الأرضُ تَمِيدُ بأهلها لما كان لأَحَدٍ عليها قرارٌ، وهذا من لُطْفِ الباريء تعالى بِخَلْقِهِ. الفائدة الثّالثة: قوله (¬10): "والْشَمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَانًا" وهذا منَ الكلامِ البديعِ؛ لأنّه ذَكَرَ أوّل ¬
المساكن وهو اللّيل، ثمّ ذَكَرَ الفَلَكَيْن المتحرِّكين الشّمسُ والقَمَرَ؛ لأنّ قولَه: "حُسْبَانًا" أي: هما في دوران (¬1) كَدَوَرَانِ الرَّحَى، لقوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬2) أي يعومون ويتحرَّكُون أَبَدَا إلى يوم الوَقْتِ المعلوم. الفائدة الرّابعة: قوله (¬3): "وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ" استعاذَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - من الدَّيْن؛ لأنّه رقٌ عظيم وهَمٌّ، فيه آثار كثيرةٌ ليس هذا موضع ذِكْرِها، وسيأتي في "البُيُوع" إنّ شاء الله. الفائدة الخامسة: قوله (¬4): "وَأَغْنِنِي مِنَ الفَقْرِ" أمّا الغنى فينقسم على ثلاثة أقسام: القسمُ الأوَّلُ: غنى النَّفس، وهو المطلوبُ المرغوبُ المحبوبُ. القسمُ الثّاني: الغِنَى بالله تعالى. القسمُ الثّالث: الغِنَى بالمَالِ، وهو موضع الخِلاَفِ. وقد سئل بعض العلماء عن ذلك- وقيل: إنّه الفُضَيْل- أيّهما أتمّ: الغِنَى باللهِ تعالى أم الافتقار إلى الله تعالى؟ فقال: الافتقار إلى الله تعالى يُوجبُ الغِنَى بالله، فإذا صحَّ الافتقارُ إلى الله كَمُلَتِ العنايَةُ (¬5)، فلا يقال أيُّهما أتمّ؛ لأنَّهما حالتان لا تتمُّ إحداهما إلَّا بتمام الأخرى، ومَن صَحَّ افتقارُه إلى الله صَحَّ غناؤُه بِهِ. فإن قيل: كيف استعاذَ النَّبيُّ (¬6) منه وقد كان جاءَهُ جبريل بمفاتيح خزائنِ الأرض (¬7)، فلم يقبل. قلنا: لا يخلو دُعَاؤُهُ من وجهين: أحدهما أنّه إنّما أراد أنّ يُعَلِّمَنَا ذلك (¬8). ¬
الثّاني: إنّما استعاذ من الفقر المريب (¬1). وقيل: إنّما استعاذَ من فَقرٍ لا يوجد معه قُوت. وقيل (¬2): أراد فَقرَ النَّفْسِ. وقيل: الفَقْرُ من المال الّذي يُخْشَى على صاحبه إذا اسْتَوْلَى عليه نسيان الفرائضِ وذِكْر الله، لما جاء في ذلك من الآثار: "اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بكَ من فَقْرٍ يُنْسِنِي وغِنًى يُطْغِيني" (¬3) وهذا التّأويل يدلُّ على أنَّ الكَفَافَ أفضل من الفقر ومن الغِنَى؛ لأنّ للفقر والغنى بَلِيَّتَانِ يختبرُ اللهُ بهما عبادَهُ (¬4). وقال قومٌ: أراد به الفقر من الحَسَنَاتِ، وهذا مُزَيَّفٌ، لقوله: "وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ" فيكون هذا الكلام مُكرَّرًا، لا يفيدُ. والدَّليلُ على القول الأوّل- قوله: "اللَّهُمَّ اجْعَل رِزْقَ آل محمّد قوتًا" (¬5). وقالت الصُّوفيَّهَ إنّما استعاذَ مِنْ فقرِ النَّفْسِ؛ لأنّ الفقرَ ينقسمُ أيضًا على ثلاثة أقسام: القسمُ الأوَّل: وهو فقرُ الخَلِيقَةِ إلى الله تعالى. القسمُ الثّاني: الفقرُ بمعنى عدم الإملاك، وقد تقدَّم معناهُ. القسمُ الثّالث: هو فقر النَّفْسِ، وهو الّذي استعاذَ منه رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-. وأمّا الفقر الّذي يكون صاحبه مستوجبًا لدُخولِ الجنَّة قبلَ الأغنياء بخمس مئة عام (¬6)، فسئل الجُنَيْد عن ذلك فقال: إذا كان الفقيرُ معاملًا للهِ بقَلْبِه، موافِقًا له فيما منَعَهُ من الدُّنيا، حتّى يعدّ الفقرَ نعمة من الله تعالى عليه، يخاف زوالها عنه كما يخاف الغَنِيُّ زوال النِّعمة عنه، وكان محتسبًا راضيًا باختيار الله تعالى له الفقر، مستغنيًا بِرَبِّه ¬
في فَقْرِه، وهذا هو الفقير الّذي يدخلُ الجنَّةَ قبل الأغنياء بخمس مئة عام (¬1)، وسيأتي الكلام عليه في "كتاب الجامع" (¬2) إنّ شاء الله تعالى. الفائدة السّادسة (¬3): قوله: "وَأَمْتِعْنِي (¬4) بسَمعِي وَبَصَرِي" وقد رُوِيَ في حديث: "وَاجْعَلْهُمَا الوَارِثَ منِّي" (¬5). فإن قيل: كيف يكون السَّمْعُ والبصرُ وارِثَيْنِ للبَدَنِ وهما يفنيانِ معه؟ الجواب - قال الأستاذ أبو المظفَّر: هو مجازٌ على أحد مَعنيي الوارث، وذلك أنّ الوارثَ هو الّذي لا يموتُ قَبْلَ المَوْرُوثِ، وهو الّذى يَبْقَى بعدَهُ، فيكون معنى قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: اللهمّ لا تعدمهما قبلِي. وقال بعضُ النّاس: المعنى فيه: ومَتِّعْنِي بأبي بكرٍ وعمرَ، لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في أبي بكر وعمر: "هما السَّمْعُ والبَصَرُ" (¬6) وهذا تأويلٌ بعيدٌ، إنّما المراد بهما الجَارِحَتَانِ. الفائدة السابعَة (¬7): قوله: "وَقُوَّتِي في سَبِيلِكَ" قال علماؤنا (¬8): يريد به جهاد العدوّ. ويحتملُ أنّ يريد به تبليغ الرِّسالة. وقيل: يريد به التّقوية في سائر أعمال البِرِّ، فإن ذلك من سبيل الله كلِّه (¬9)، وقد قال مالك (¬10) فيمن قال: مالي (¬11) هذا في سبيلِ الله-: سُبُلُ اللهِ كثيرةٌ، يُوضَعُ في بابِ الغَزْوِ. ¬
ووجه ذلك: أنّ هذه اللّفظة إذا أُطلِقَت فإن عُرْفَها الجهاد والغَزو، وإن جازَ أنّ تطلَق على سائر الأعمال بقَرِينَةٍ. الحديث الثّالث: مالك (¬1)، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنّ شِئتَ، لِيَعْزِم المَسْأَلَةَ، فإنّه لا مُكْرهَ لَهم". قال علماؤنا (¬2): أراد بهذا القول أهل الاستغناء، والعبادُ أَجْمَعُونَ مُفْتَقِرُونَ إلى الله تعالى بالالحاح، فإنّه أقرب إلى الإجابة (¬3). وكذلك قوله (¬4): "يُستَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَالَمْ يَعْجَلْ، فيقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُستَجَبْ لِي" لأنّه إذا عَجِلَ خُشِيَ عليه أنّ يكون كالذَّامِّ أو القَانِطِ من الإجابة، وإنّما يجب عليه الانقطاعُ والافتقارُ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا يقنط من الإجابة (¬5)؛ لأنّه بين ثلاث (¬6): إمّا أنّ يعجّلَ له، وإمّا أنّ يكفِّر عنه (¬7)، وإمّا أنّ يدَّخر له. الحديث الرّابع: حديث النزول مالك (¬8)، عن ابن شِهَابٍ، عن أبي عبد الله الأغَرِّ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلى سَمَاءٍ (¬9) الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فيقول: مَنْ يَدْعُوني فَأسْتَجيبَ لَه؟ مَنْ يَسْألنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ". الإسناد: قال الإمام (¬10): حديثُ النُّزُولِ حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ على صحَّته ¬
ومَتْنِه (¬1)، أَخْرَجَهُ الأيِمَّة بألفاظٍ مختلفةٍ ومعانٍ متقاربةٍ، وهي مرويّةٌ من ستَّةِ طُرُقٍ. الطريق الأوّل: حديث أبي هريرة هذا الّذي في الموطّأ، وهو أَصَحُّها وأَحْسَنُها مَسَاقًا. الطّريقُ الثّاني: حديثُ أبي الدَّرْدَاء (¬2)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ ينزلُ في ثلاثِ ساعاتٍ بَقَيْنَ من اللَّيلِ، فيفتحُ الذِّكْر في السّاعةِ الأُولَى الّذي لم يره أحدٌ غيره، فيمحو اللهُ ما يشاء ويثبت، ثمّ ينزل في السّاعة الثّانية إلى جنَّة عَدْنٍ، وهي دارُه الّتي لم ترها عين، ولم تخطر على قلبِ بشر (¬3)، لا يسكنها غير ثلاثة: النَبِيُّوُن، والصِّدِّيقُونَ، والشُّهداء. ثم يقول: طُوبَى لمن دَخَلَكِ، ثمّ ينزلُ في السَّاعة الثّالثة إلى سَمَاءِ الدُّنيا، فَتَلْتَطِي، يعني تَرْعُدُ. ثم يقول: قُومي بعِزَّتي. ثمَّ يطلعُ على عباده فيقول: هل من مستغفرٍ فأَغفر له، ألاَ هَلْ من سائلٍ يسأَلني فأُعطيه، ألَّا هل من دَاع يَدْعُوني فأجيبه، حتّى تكون صلاة الفجر، وذلك قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الآية (¬4)، يشهده الله وملائكته من ملائكة اللّيل وملائكة النّهار". الطّريق الثالِث: روي أيضًا من طُرُقٍ، ومدارُه على أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا بَقِيَ من اللَّيلِ ثُلُثَهُ، ينزلُ اللهُ تباركَ وتعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا فيقولُ: من ذَا الَّذي يَدْعُوبي فأستجيبُ لَهُ، من ذا الّذي يَستَغْفِرُني فأَغْفِرُ لَه، من ذا الّذي يَسْتَرْزِقُنِي فأرزقه، من ذا الّذي يستكشف الضُّرَّ فأكشفه عنه، حتّى ينفجر الفَجْر" (¬5). الطريق الرّابع: زاد عُبادَة بن الصّامت، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ينزلُ ربُّنَا تبارَكَ وتعالى كلّ لَيلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا حين يَبْقَى ثُلُث اللَّيل الآخر، فيقولُ: ألَا عبد من عبادي يدعوني فأسَتجيب له، أَلَا ظالم لِنَفسِهِ يَدْعُوني فأغفر له، أَلاَ مقتر عليه رِزْقِه يَدعُوني فأرزقه، ألَا مظلوم يَذكرني فأنصُره. قال: فيكون كذلك إلى الصُّبح. ¬
ويَعْلُو رَبُّنا تبارك وتعالى على كرسِّيِه من مَكَانِه من العِزَّةِ" (¬1). الطريق الخامس: حديث أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيلِ الأَوَّل نزل (¬2) رَبّنا إلى السَّماء (¬3) الدُّنْيَا ثم أَمَر بِأَبْوَابِ السَّماءِ فتفتح، فيقول: هَلْ مِن دَاعٍ أُجِيبهُ، هل من مُسْتَغْفِرٍ أَغْفر لَهُ، هل من مُغيثٍ أُغيثُه، هل من سائِلٌ أعطيه، فلا يزال كذلك حتّى يطلع الفجرُ، ثمّ كلُّ يومٍ من الدُّنيا يَفْعَلُ كذلك" (¬4). الطريق السّادس: من حديث عبد الرحمان بن البَيْلَمَانيّ (¬5) قال: "مَا مِنْ ليلةٍ إلّا ينزلُ رَبُّكُم إلى سماء، ومِن سماءٍ إلى سماءٍ، وما مِنْ سماءٍ إلّا وَلَهُ فيها كرسيّ، إذا نزلَ إلى سماء خَرَّ أهلها سجودًا حتّى يسترجع، فهذا أَتَى السَّماء الدُّنيا مَاطَتِ وارتعدت (¬6) من خشية الله، وهو باسِطٌ يَدَيْه يَدْعُو: عبادي، من يَدْعُوني فَأُجِيبه، من يَتُوب إِليَّ أتوب عَلَيْه، مَنْ يستغفِرُني أَغْفِر له، من يَسأْلُني أعطيه، من يقرض غير عديم (¬7) ولا ظلوم" (¬8). تنقيح: قال الإمام: وهذه الأحاديث لا يصحُّ منها شيءٌ غير حديث أبي هريرة المُتَقَدِّم، فإنّه حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬9)، وغير ذلك لا يُلْتَفَتُ إليه، وبالله التَّوفيق. وهذه الأحاديث مُسْتَخْرَجَةٌ من كتاب "التَّأكيد في لُزُومِ السُّنَّةِ" (¬10). ¬
الأصول (¬1): اختلفَ النَّاس في هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث المشكلات والآيات المتشابهات: فمنهم من ردَّ هذا الخبر؛ لأنّه خبر آحاد، وردَّ بما لا يجوز ظاهرُه على الله تعالى، وهم المُبْتَدِعَة. ومنهم مَنْ قَبِلَهُ وأَمَرَّهُ كما جاء ولم يتأَوَّله ولا تكلَّم فيه، مع اعتقاده أنّ الله ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. ومنهم من تأوَّلَهُ وفَسَّرَهُ -وبه أقول- لأنّه معنى قريب عربيٌ فصيح (¬2). أمّا إنّه قد تَعَدَّى إليه قومٌ ليسوا من أَهْلِ العِلْم بالتَّفسيرِ، فَتَعدّوا عليه بالقول النَّكِير (¬3). وأمّا المبتدعة، قالوا: هذا الحديث مُحَالٌ؛ لأنّه إذا نزلَ من يَخْلفُه؟ وهذا جهلٌ عظيمٌ؛ لأنّه يقال لهم: من يَخلفُه في الأرض حين (¬4) يصعَدُ علمه بما في الأرض، كما يصعد علمه بما في السّماء، وعِلْمُه بما في الأرض سواءٌ لا يَخْتَلِف. إيضاحُ مُشكِلٍ: قال الإمام أبو بكر بن فُورَك (¬5) في هذا الحديث والنزول والمجيء: "اعْلَمْ أنَّه أوّل ما يجبُ أنّ تعلمَ في ذلك قَبْلَ شُرُوعِنَا في تأويله، هو أنّ تعلمَ أوَّلًا أنَّ جميعَ أوصافه تعالى تتعلق (¬6) بما (¬7) لا يخرج عن وجهين: إمّا أنّ يكون اسْتَحَقَّه لنفسه، أو لِصِفَةٍ قامت به، أو لِفِعْلٍ يفعله. وأنّه لا يُطْلَقُ شيءٌ من الألفاظِ في أوصافه وأسمائه المُتفَرِّعَة من هذين (¬8) الأصلّين إلَّا بعد ورود التَّوقِيفِ في (¬9) الكتاب والسُّنَّة، وعن اتِّفاقٍ من الأُمَّةِ، ولا مجالَ للقياسِ في ذلك بِوَجْهٍ من الوجوهِ". ¬
"واعلم أنّه لا فرقَ بين الإتيانِ والمجيءِ والنُّزُولِ إذا أُضيفَ جميع ذلك إلى الأجسام الّتي تتحرَّك وتنتقل، أو تحاذي مكانَها أو مكانًا بعد مكان (¬1)، إنَّ جميعَ ذلك يُعْقَلُ من طريق (¬2) المعنى الّذي هو الحَرَكَة والنّقلة الّتي هي تفريغ (¬3) مكان شغل مكان، فهذا أُضِيفَ إلى ما لا يليق به الانتقال من مكانٍ إلى مكانٍ؛ لاستحالته (¬4) بأنّه جوهرٌ، أو جِسْمٌ، أو مَحْدُودٌ، أو مُتَمَكِّنٌ، أو مُمَاسٌّ". تحقيق وتبيين (¬5): اعلم أنّ معنى النُّزول في اللُّغة والقُرآن والسُّنَّة ينطلقُ على تِسْعَة معانٍ، منها معاني مختلفة، ولم يكن هذا اللّفظ ممّا يخصُّ (¬6) أمرًا واحدً حتّى لا يمكن العدول عنه إلى غيره، بل وَجَدْنَاهُ مشترك المعنى، فاحتملَ التّأويل والتّخريج والتّرتيب في ذلك. الأوّل - فمن ذلك: النُّزولُ بمعنى الانْتِقَال، والبارىء تعالى يتنزَّهُ عنه، وإنّما ذلك في (¬7) كون المخلوقات، مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬8)، هذا على معنى النّقلة والتّحويل. المعنى الثّاني: النزول بمعنى الإعلام، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (¬9) أي أَعْلَمَ به الأمينُ محمّدًا - صلّى الله عليه وسلم -. المعنى الثّالث: النُّزُولُ بمعنى القول والعبارة، وذلك في قوله تعالى حاكيًا عن مُسَيْلِمَة في قوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬10) فيما أخبر به عن المشركين الّذين يقولون ويعارضون القرآن {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬11). ¬
المعنى الرّابع: النزول بمعنى الإقبال على الشّيء، وذلك هو المستعمل في المجاز (¬1) لقولهم: إنّ فلانًا أخذ بِمكارم الأخلاق ثم نزل منها إلى سفسافها، أي: أقبل منها إلى رَدِيّها (¬2). ومثله في (¬3) نقصان المرتبة والدَّرَجَهْ؛ لأنّهم يقولون: نزلت منزلة فلان عند فلان (¬4). المعنى الخامس: النُّزول بمعنى الحُكم، من ذلك قولهم: قد كنَّا في خير وعافية (¬5) وعَدْلٍ وأَمْنٍ (¬6)، حتّى نزلَ بنا بنو فلان، أي (¬7) حكمهم، وكان ذلك في معنى النّزول، مُتَعَارَف من (¬8) أهل اللُّغة غير مدفوع عندهم اشتراك معناه. المعنى السّادس: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (¬9) فمن أهل التّأويل من قال: معناه وخلقنا الحديد. ومن العلماء من قال: إنَّ الحديدَ أنْزل على معنى النَّقلِ من عُلُوٍّ إلى سفل، وهذا (¬10) بعيدٌ جدًّا فَتَدَبَّرْهُ. ومن الفلاسفة من قال: إنّه يتكوَّن في الأرض بما تفعل الكواكب في الأقاليم، وهذا كُفْرٌ منهم ودَعْوى بغير دَليلٍ. والمعنى فيه: أنّ الإنزال بمعنى الخَلْق، معناه: خلقنا الحديد في الأرض فيه منافع للنّاس. المعنى السابع: قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬11) ليس هو بمعنى النَّقْل ¬
والتّحويل من عُلُّو إلى سفل، لاستحالة الانتقال على الكلام، وإنّما معناه: الإعلام والإسماع والإفهام إلى الموصل. المعنى الثّامن: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (¬1)، وهذا أيضًا يُبَيِّنُ لك أنّه (¬2) ليس كلّ نزول وإنزال نقل وتحويلٌ، بل ذلك لفظٌ يشترك المعنى فيه، وقد يكون نقلًا وتحويلًا، وقد يكون على غير ذلك من المعاني المُتَأَوَّلَة (¬3). المعنى التّاسع: قوله جلّ جلالُه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ} الآية (¬4). قال بعض علمائنا (¬5): المعنى فيه - أنّه خَلَقَ في الأرض الأنعام؛ لأنّه لَمْ يُرَ قطّ ولا سُمِعَ أنّه نزل من السّماء الحديد ولا الأنعام، ولو كان كذلك لكان أصل ذلك معلومًا مذكورًا. وهذه الوجوه من القرآن واللُّغة على أنّ البارىء تعالى لا يجوز عليه النّقل ولا الحركة، وأنّ نزولَهُ بخلاف مخلوقاته، إنّما نزوله نزول رحمةٍ وإحسانٍ، أو يكون كما قال بعضى العلماء (¬6) الصُّوفيّة: إنّ نزوله ثُلُث اللَّيل إنّما هو نزولٌ من حال الغَضَبِ إلى حالة الرَّحْمَة، وإلّا إذا أضفتَ النّزول إلى السّكينة لم يكن، وإذا أَضَفْتَهُ إلى الكلام لم يكن أيضًا تفريغ مكانٍ ولا شُغل مكانٍ، وإنّما أراد (¬7) به: إقباله على أهل الأرض بالرَّحْمَة، والاستعطاف بالتَّوْبَة والإنَابَة. هذا تفسيرُه عند علمائنا من أهل الكلام (¬8). وأمّا من تَعَدَّى عليه بالتّفسير والقَوْلِ النَّكِيرِ، فإنّهم قالوا: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الله تعالى في السَّماء على العَرْشِ من فَوْق سبع سماوات. قلنا (¬9): هذا جَهْلٌ عظيمٌ، إنّما قال: "يَنْزِلُ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا". ولم يقل في ¬
الحديث من أينَ ينزلُ، ولا كيف ينزل. قالوا - وحُجَّتُهُم ظاهرةٌ -: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1). قلنا: تعالى أنّ يكون (¬2) استواؤُه على العَرْشِ كاستوائنا على ظهور الدَّوابِّ. قالوا: وكما قال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (¬3). قلنا: تعالى الله أنّ يكون كالسَّفِينَةِ جَرَتْ حتّى لمست فوقفت (¬4). قلنا له (¬5): وما العرشُ؟ وما الاستواءُ في العربِيّة؟ فإنْ توقَّفَ، قلنا: هذا كلُّه مخلوقٌ، واسْتَوَى مخلوقٌ على مخلوقٍ بِارْتِفَاع وتمكينٍ في مكانٍ واتِّصالٍ ومُلاَمَسَةٍ، والبارىء تعالى يتقدّس عنه، وقدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ مِن قَبْلِ سَمَاعِ الحديثِ وسَرْدِهِ أنَّه ليس استواؤُه على شيءٍ من ذلك، ولا تضرب به الأمثال بشيءٍ من خَلْقِهِ (¬6). قالوا: قد قال قوم: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬7)، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (¬8). قلنا: تناقضت أقوال العلماء (¬9) في ذلك، تقول مَرَّةً: إنّه على العَرْشِ فَوْقَ السَّمَاواتِ، ثمَّ تقول: إنّه في السَّمَاءِ، لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (¬10). وقلت: إنّ معناه على السَّماءِ، ويَلْزَمُكَ أنّ تقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬11) أي إلى العَرْشِ. قالوا (¬12): وقد قال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} (¬13). ¬
قلنا: هذا صحيحٌ، ولكن ليس فيه لِبِدْعَتِكُمْ دليلٌ. قالوا: فما تقولون في هذا: إنّ الأُمَّةَ قد أَجْمَعَتْ (¬1) على أنّهم يرفعون أيديهم إلى السّماء في الدُّعاء، ولولا ما قال موسى: إلهي في السَّماء لفرعون، ما قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} (¬2). قلنا: كَذبتُم على مُوسَى، ما قالها قَطُّ، ومن يُوصِلكم إليه؟ إنّما أنتم أتباع فِرْعَون الّذين اعتقدوا أنّ البارئ تعالى في جِهَةٍ، فأراد أنّ يَرْقَى إليه بِسُلَّمٍ، فيهنئكم أنّكم أتباع فرعون وأنَّه إمامكم. قالوا: وهذا أُمَيَّة بن أبي الصَّلت يقول (¬3): فسُبْحَانَ مَنْ لَا يَقْدِرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ ... مَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مَوحَّدُ ملِيكٌ عَلى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجدُ وأُمَيَّة بن أبي الصَّلت قد قرأَ التَّورَاةَ والإنْجِيلَ والزَّبُور (¬4). قلنا: هذا الّذي يُشْبِه جهلكم أنّ تحتجَّوا بقول فِرْعَون وقول مُلْحِدٍ جاهلي، وتُحِيلُونَ به على التَّوْراة والإنجيل والزّبور والفُرْقَان والكتب المبدَّلَة (¬5) المحرَّفَة، واليهودُ هم أعظم خَلْقِ الله كُفْرًا، وأعظمهم تشبيهًا للهِ بالخَلْقِ. تنزيه (¬6): قال الإمام: والّذي يجب أنّ يُعْتَقَد في ذلك: أنّ الله كان ولا شيءَ معه، ثمَّ خَلَقَ المخلوقات من العَرشِ إِلى الفَرْشِ، فلم يتغيَّر (¬7)، ولا حدثت له جِهَة منها، ولا كان له مكان فيها، فإنّه لا يَحُول ولا يَزُول، قُدُّوسٌ لا يحولُ ولا يتغَيَّر. ¬
وللاستواء في كلامِ العَرَبِ خمسة عشر وجهًا ما بين حقيقةٍ ومجازٍ، منها ما يجوزُ على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز بحالٍ، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التّمكين والاستقرار والاتِّصال والمُجَاوَرَةِ (¬1)، فإنَّ شيئًا من ذلك لا يجوزُ على البارى تعالى، ولا تضرب له الأمثال في المخلوقات إلَّا كما قال مالك وغيره من العلماء: ان الاستواء معلومٌ، يعني أنّه قد وَرَدَ في اللُّغَةِ، واَلْكَيْفيَّةَ الّتي أراد اللهُ ممّا يجوزُ عليه من معاني الاستواء مجهولةٌ، فمن يقدر أنّ يعيِّنَها؟ والسُّؤالُ عنه بِدْعَة؛ لأنّ الاشتغال به قد ينشىء طلبًا للمُتَشَابِه (¬2) ابتغاءَ الفتنة. فيتحصَّل لك من كلام إمام المسلمين مالك؛ أنّ الاستواء معلومٌ، وأنّ ما لا يجوز على الله منه غير معقولٍ وغير متعيَّنٍ (¬3). وقد حَصَلَ لك التَّوحيد والإيمان بِنَفْيِ التَّشَبيه والمُحَالِ على اللهِ، فلا يلزمك سواهُ. وأمّا قوله: "يَنْزِل" و "يَجيء" و"يَأْتِي" وما أشبه ذلك من الألفاظ الّتي لا تجوز على الله في ذاته معانيها، فإنّها ترجع إلى أفعاله، وههنا نكتة، وهي أنّ أفعالَكَ أيّها العبدُ إنّما هي في ذَاتِكَ، وأَفعالُ اللهِ لا يَجوزُ أنّ تكونَ في ذَاتِهِ ولا ترجع إليه، وإنّما تكونُ في مخلوقاتِهِ فهذا سَمِعْتَ أنّ الله يفعلُ كذا، فمعناه في المخلوقات لا في الذَّاتِ، وقد بَيَّنَ ذلك الأَوزاعيّ حين سُئِلَ عن هذا الحديث، فقال: يَفْعَلُ اللهُ ما يَشَاء. وأمّا أنّ يعلَم أو يعتقدَ أنّ اللهَ لا يُتَوَهَّم على صِفَةٍ من المخلوقات (¬4)، ولا يُشْبِه شيئًا من المخلوقات، ولا يدخل بابًا (¬5) من التَّأويلات. قالوا: نقول: ينزلُ ربُّنا ولا نكَيِّف. قلنا: معاذَ الله أنّ نقول ذلك، إنّما نقول كما علَّمَنَا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وكما علِمْنَا من العربيّة الّتي نَزَلَ بها القرآنُ وتكَلَّمَ بها رسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬6): ¬
"يقولُ: عَبْدِي مرضتُ فلم تَعُدْنِي، وجعْتُ فلم تُطعِمْنِي، وعَطشتُ فلم تَسْقِنِي" وهذا لا يجوزُ على اللهِ تعالى بحالٍ، ولكن شرف هؤلاء بأن عَبَّرَ عنهم كذلك. وقولُه: "يَنْزِلُ رَبُّنَا" عَبَّرَ به عن عَبْدِهِ ومَلَكِهِ الّذي نَزَلَ بأمْرِه بِاسْمِه، فيما يُعْطِي من رحمته ويَهب من كَرَمِهِ ويفيض على الخَلْقِ من عَطَائِه، قال الشّاعر (¬1): ولَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ المُكَرَّمِ والنُّزولُ قد يكون في المعاني والأجسام كما تقدَّمَ بيانُه، والنُّزولُ الّذي أخبر اللهُ عنه إنْ حَمَلْتَهُ على أنّه جسمٌ فذلك مَلَكُهُ ورسولُه وعَبْدُهُ. وإن حملته على أنّه كان لا يفعلُ شيئًا من ذلك، ثمّ فَعَلَهُ عند ثُلُثِ اللَّيْلِ فاستجابَ (¬2) وغَفَر وأَعْطَى، وسَمَّى ذلك نزولًا عن (¬3) مرتبة إلى مرتبة، وصِفَةٍ إلى صِفَةٍ، فتلك عربيَّةٌ مَحْضَةٌ خَاطبَ بِهَا أَعرف منكم وأعقل وأكثر توحيدًا. وأقلّ بل أعدم (¬4) تَخلِيطًا. قالوا بجَهْلِهِم (¬5): لو أراد نزول رحمته لما خصّ بذلك الثُلُثَ من اللَّيل؛ لانّ رحمته تنزل باللّيلِ والنَّهَارِ. قلنا: هي باللَّيلِ، وفي يومِ عَرَفة، وفي ساعة الجُمُعَة، فيكونُ نزولُها باللَّيلِ أكثر، وعطاؤُها أَوْسَع، وقد بَيَّنَ اللهُ ذلك في قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬6). قالوا: لا حُجَّةَ لنا في التّأويل؛ لأنَّ السَّلَفَ قالوا في هذه الأحاديث وأمثالها: أَمِرُّوها كما جاءَت، فلا تُتَأَوَّلُ. قلنا: هذه جَهَالَة عظيمةٌ؛ لأنّه قد اشتهرَ التَّأويِلُ في ذلك عن السَّلَفِ، أمّا مالكٌ - رحمه الله - فقد بَدَّع السَّائل عن أمثاله، وصَرَفهُ عن إِشكَالِهِ، ووقَفَ عند الإيمانِ به، وهو لنا أفضل (¬7). ¬
وأمّا الأوزاعي (¬1) -وهو إمامٌ عظيمٌ- فقد نزع بالتَّأويلِ، قال: سئِل عن قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "يَنْزِلُ رَبُّنَا"؟ فقالَ: يفعلُ اللهُ ما يشاء. ففتحَ بابًا من المعرفةِ عظيمًا، ونهجَ إلى التّأويل طريقًا مستقيمًا. تشريفٌ: إنّ اللهَ سبحانه مُنَزَّةٌ عن الحركة والانتقال؛ لأنّه لا يَحْوِيهِ مكانٌ، كما لا يشتمل عليه زمانٌ، ولا يَشغَلُ جُزءًا، ولا يَدْنُو إلى مسافة بشيءٍ، ولا يغيبُ عن عِلْمِهِ شيءٌ. مُتَقَدِّس الذَّاتِ عن الآفاتِ، منزَّه عن التَّغير والاسْتِحَالاَتِ، إلهٌ في (¬2) الأرض إِلهٌ في السَّموات. وهذه (¬3) عقيدةٌ مستقرَّةٌ في القلوبِ، ثابتةٌ بواضِحِ الدَّليلِ في المعقولِ. إشكال ثانٍ: قال الإمامُ (¬4): وقد وردَ وراءَ هذا الحديث أحاديث وآيات مشكلات (¬5)، وإن قد خُضْنَا معهم في البَيَانِ، رأينا أنّ نعطفَ عليها العَنَانَ، بالإشارَةِ إلى التّحقيق والتِّبيان، حتّى لا يمرَّ القلبُ بها عليلًا، أو يكونَ ما يراه منها عنده مبهمًا مجهولًا، مثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬6) الآية وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} الآية (¬7)، وقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} الآية (¬8)، ومثل قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬9) وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الآية (¬10)، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية (¬11)، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬12). ¬
وقولُه فيه: و"بين يديه" و "إليه" و "عليه"، وألفاظٌ كثيرةٌ في القرآن والحديث يحتاجُ إلى بيانٍ شافٍ. أمّا "عَلَيْهِ"، ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} (¬1)، وقوله: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (¬2). وقوله: "لَدَيَّ" هو كقوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} (¬3). وأمّا "بَينَ يَدَيْهِ" فقوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} الآية (¬4). وأمّا قوله: "إِلَيهِ" ففي قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (¬5) وقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} (¬6)، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (¬7). وأمّا قوله: "عِنْدَ" ففي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (¬8) وقوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} (¬9) وقوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} (¬10) وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيد} (¬11)، وقوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} (¬12) وأمّا "مَعَ" ففي قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} (¬13). وكلُّ كلمةٍ من هذه الكلمات، فعندَ ذِكْرِ نظائرِها وتبيِيِنهَا، يَزُولُ التّشبيهُ (¬14) والتَّلبيس عن قلْبِ الجاهلِ بمعانيها، ويوقن (¬15) بالصّواب عند التَّثبيةِ عليها، واللهُ يوفِّقنا للصّواب. ¬
الآية الأولى: قولُه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} الآية (¬1)، اعْلَم أنَّه لم يُرِدْ به مجيءَ الانتقالِ والاتيانِ. وقال بعض العلماء (¬2): إنّ الواو هاهنا بمعنى الباء. ومنهم من قال: جاءَ أَمْرُ ربِّكَ وحُكْمُه، يريدُ أمر الله في القيامة وما يختصّ به ذلك (¬3). وقال آخر: يحتمل وجاءَ ربّك بالملائكة، فيكون المجيءُ للملائكة. وتحقيقُ القولِ في هذا: أنّ كلَّ فِعْلٍ يضافُ إلى اللهِ تعالى ممّا يتعلَّقُ بأبداننا يتعالى الله عنه، وانّما المرادُ به مخلوقاته، وذلك جائزٌ من وجهين: إمّا بأنْ يفعلَ فِعْلًا فيسمى إتيانًا. وإمّا أنّ تأتي الملائكة بآمْرهِ، كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬4) بخَفْضِ الهاء وبرفعها، فَبِرَفْعِها يكونُ الفعْلُ المسمَّى إثباتًا مخصوصًا بالظُّلَلِ. وبكسرها يكون الفعلُ المسمَّى إثباتًا عامًّا فيه (¬5). الآية الثّانية: قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (¬6) قال علماؤنا (¬7): المراد به مَنْ فَوْقَها، فإذا كان ظاهرًا في اللُّغة استعمال "في" بمعنى "فوق" وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (¬8) وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} الآية (¬9)، وقد أطلقَ المسلمونَ على (¬10) أنّ ¬
الله تعالى فَوْقَ خَلْقِهِ ومخلوقاته، كان حَمْلُه (¬1) على ذلك أوْلَى، وعليه يُتَأَوَّل أيضًا قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} الآية (¬2)، أي: هو فوقَ الأرضِ وفوقَ السَّماء إلهٌ. وقيل: إنّه بمعنى معبود في الأرض ومعبودٌ في السَّمَاءِ. وقال الإمام أبو بكر بن فُورَك (¬3): "اعلم أنّ قولنا: إنّه فوقها، يحتمل وجهين: أحدهما: أنّه يريد (¬4) أنّه قاهرٌ لها مُسْتَوْلٍ عليها إثباتًا لإحَاطَةِ قُدْرَتِه بها، وشُمُولِ قَهْرِهِ لها، وكونها تحت تدبيرِه جارية على حسبِ عِلْمِهِ ومشيئتهِ. الوجه الثّاني: أنّ المراد به فوقها، على معنى أنّه متباين عنها (¬5) بالصِّفَةِ والنَّعْتِ". قال الإمام: ويحتمل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (¬6) أَنْ يُرادَ به مَنْ فيها من الملائكة والزّبانية وخَزَنَة جهنَّم المُوَكَّلِينَ بعذابِ المُجْرِمين، ولذلك قال: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (¬7). الآية الثّالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية (¬8)، وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (¬9) قال علماؤنا: المراد به والّذين جاهدوا لنا وفي مَرْضَاتِنَا؛ وذلك أنّ "في" على ثمانية أَوْجُهٍ: تكون وعاءً، وتكون بمعنى "إلى"، وتكون بمعنى "مع"، وتكون بمعنى "عند"، وتكون بمعنى "عن"، وتكون بمعنى "على"، وتكون بمعنى "اللام" فيكون المراد به: والّذين جاهدوا فينا، أي عملوا لنا وفي ذَاتِنَا وأَخلَصُوا لَنَا. ¬
الآيةُ الرّابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬1) وقال: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬2)، قال علماؤنا: معناه يؤذون ويحاربون أولياءه وعباده المخلصين (¬3) المؤمنين، وكذلك قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} (¬4) معناه: آسَفُوا أولياءَنَا. الآبة الخامسة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (¬5) يريد: أصفياءَهُ والمُخْتَارِينَ من عباده، كما يقال: إنّ العلماء (¬6) عند السُّلطان بالمكان الرّفيع والمنزلة العالية. ويجوز أنّ يكون أراد به الموضع الّذي لا حُكْمَ فيه لأحَدٍ إلَّا لله. ويجوز {عِنْدَ رَبِّكَ} بمعنى: في ملك (¬7) ربِّك، كما تقول العرب: عندي من الخيل والمال كذا، يريد به: في مُلْكِي وفي قبضَتي (¬8)، وذكر الملائكة بذلك لعُلُوِّ شأنهم. الآية السّادسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية (¬9)، وقوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآية (¬10). قال علماؤنا: المَعيَّةُ في كتاب الله تنطلقُ على أربعة عشر وجهاً، ولم يرد مولانا سبحانه أنّه معهم من حيثُ المُجَامَعَةُ والمُرَافَقَةُ، وإنّما أراد من حيثُ العلمُ والإحاطةُ والرِّعَايَةُ لهم. وقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬11) معناه: بالنَّصْر والمَعُونةِ. ¬
الآية السابعة: قوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1) فإن الآية نزلت في نَفرٍ من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قَتَلُوا رجُلين من بني سُلَيْم بغير أَمْرِ اللهِ ورسوله، فأنزل اللهُ الآيةَ (¬2). الآية الثامنة: قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬3) قال علماؤنا: لم يرد به قُرْبَ المُجالَسَة ولا المُلامَسَة، ولا من حيث المجاورةُ ولا الملاصقةُ والمراقبةُ، وإنّما أرادَ قُرْبَ الرَّأفَةِ لا قُرْبَ المسافَةِ والقُرْبُ ينطلقُ على خمسة عشر وجهًا، بيَّنَّاهَا في موضعها. وقال: المرادي (¬4) في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬5) بالغَوْثِ والإحاطَةِ. الآية التّاسعة: قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (¬6) قال الإمام (¬7): قال بعضُ المبتدعة: كيف يصعدُ الكلِمُ الطِّيِّبُ وهو عَرَضٌ؟ هذا لا يُتَصَوَّر!. قلنا: إنّ البارئ تعالى ضربَ بصُعودِ العملِ مثلًا بقوله؛ لأنّ موضِعَ الثَّواب فوق، وموضع العذاب أسفل، والصعودُ رِفْعَةٌ والنُّزُولُ هَوَانٌ، والكلامُ الطَّيِّبُ هو التَّوحيد، فيكون صعودُ الكَلِمِ الطَّيِّبُ إلى المكان الّذي أمرَ اللهُ تعالى الملائكة أنّ تضعَهُ بالصُّحُفِ إليه؛ لأنّ الكلم (¬8) الطَّيِّب هو التّوحيد الصادق عن عقيدَةٍ طَيِّبَةٍ. وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬9) قال علماؤنا: هو العملُ الموافِقُ للسُّنَّةِ. وقوله: {يَرْفَعُهُ} فإن قيل: إنّ الفاعلَ في {يَرْفَعُهُ} مُضْمَرٌ يعود على الله، أي: هو الّذي يرفعُ العملَ الصالحَ كما أنّ إليه يصعدُ الكلم الطَّيِّب. ¬
قلنا: هذا كلامٌ صحيح، وهذان الوجهان صحيحان، فالأوَّلُ حقيقة أنّ الله هو الرّافع الحافظُ، والثّاني مجازٌ، ولكنه جائزٌ سائغٌ لُغَةً وشَرْعًا. الآية العاشرة: قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1) الكلامُ (¬2) في هذه الآية كالكلام فيما تقدَّم في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية (¬3)، وإنّما المرادُ به: إلى طاعة الله ورسوله، وإليه الإشارة بقَوْل إبراهيم الخليل في قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (¬4) ومعلومٌ أنّ الله سبحانه لم يكن حَالًّا في مدائن لُوط بالشّام، وإنّما أراد حيثُ أَمَرنِي رَبِّي، وحيث يُطَاعُ رَبِّي ويُعْبَد. الآية الحادية عشر: قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬5) أي بقُدْرَتِي، وكذلك قولُه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} الآية (¬6)، أي: بقوة، وهي تشريفٌ لآدَمَ. كذلك قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} (¬7) أضافَهُ إلى نفسه إضافةَ تشريفٍ وتخصيصٍ؛ لأنّ البارئ تعالى إذا أرادَ أنّ يشرِّفَ من مخلوقاته من (¬8) شاءَ، أضافَه إلى نفسه إضافة التّخصيص. الآية الثّانية عشر: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬9) قلنا: هذه الآية (¬10) نزلت على سَبَبِ آيةٍ أُخْرَى، وذلك أنّ البارئ تعالى لمّا أنزل هذه الآية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬11) قالت الملائكةُ: هلك أهل الأرض، وطمعتِ الملائكةُ في الخُلُودِ والبَقَاءِ وأنّهم لا يموتون، ¬
فأنزلَ اللهُ هذه الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬1) فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنَّ الملائكةَ من أهل السموات والأرض، وأنّهم يموتون، وأزال هذه الصِّفة من الملائكة والآدَميِّين؛ لأنّ من صِفَاتِهِ البقاء، فلا بقاءَ لأحدٍ من المخلوقين، وأمّا الجنّة فلا تبيد، وعرش ربِّنا لا يبيد؛ لأنّ العرشَ سقف الجنَّة (¬2). الآية الثّالثة عشر: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الآية (¬3)، وقد بيَّنَّا أنّ القُرْبَ من البارئ على الوجه الّذي تَقَدَّمَ. والوريدُ عِرْقٌ خَالَطَ القلبَ، والبارىء تعالى أقرب إلى قلب المؤمنِ من ذلك العِرْق، ومصداقُه قولُه: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} الآية (¬4)، وقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬5) اللّطيف عِلْمُهُ الخبيرُ بالسِّرِّ. الآية الرّابعة عشر: قولى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (¬6) قلنا: لفظُ "أتى" ههنا إنّما هو فعل الله فعلًا في بُنْيَانِهِم سمَّاهُ إتْيَانًا، هذا معنى قوله: "أتى" معناه: هَدَّهُ اللهُ من قَوَاعِدِه. الآية الخامسة عشر: قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الآية (¬7) قالت المبتدعة: هذا يقتضي المقابلة، ولو كان قريبًا لكان يُرَى بعضه أو كلّه، وكان في جهةٍ محاذية (¬8) مخصوصة. قال الإمام: وحُجَّتُهُم في ذلك باطلةٌ (¬9)، وهو أنّ يقال لهم: إنّ المرئيَّ إنّما يكون مرئيًا بوجودِهِ ووجودِ رُؤْيَتِهِ. فإن قالوا: ما الفائدة في رؤيته مع وجوده ووجود العطاء والرِّضَا؟ ¬
الجواب: أنّ في الرُّؤْيَةِ سبع فوائد: أحدها: إظهارُهُ. الثّانية: إدراك (¬1) الأُمْنِية. الثّالثة: كمال اللَّذَّة (¬2) والعِزِّ. الرّابعة: زوالُ الشُّبْهَةِ. الخامسة: سُكونُ الروية (¬3). السّادسة: ظهور قَدْرِ العبادة. السّابعة: بيانُ انقطاعِ المُعَايَنَةِ. التوجيه: على هذه المعاني احتجَّ العلماءُ عليها من القرآن العزيز، قالوا: لو لم يره المؤمن لما ظهر الفرق بين المؤمن المحبوب (¬4) والكافر المحجوب. أمّا الثّانية، لَوْ لم يره المؤمن لما أدرك أُمْنِيته، كالّذين عبدوه لا رغبةً في الجنَّةِ ولا رَهْبَةً من النَّار، وإنّما عَبَدُوهُ لأنّه أهل العبادة. وأمّا الثّالثة: فعِنْدَ رَفْعِ الحجابِ تسكن روعة الأحباب، فإنّه لم يبقَ عليهم حسابٌ ولا عذاب. الرّابعة: إذا رآه العبدُ عَلِمَ أنّه يستحسن أكثر من ذلك، أعني أكثر ممّا عنده. الخامسة: أنّ الملوكَ إذا رفعوا الحجاب تركوا العتاب، ألَمْ تسمع إلى قوله في يوسف لما تَعَرَّفَ إلى إخوته، قال: {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (¬5). وأمّا من السُّنَّةِ، فقولُه في الصّحيح: "إنكم سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ" (¬6) وقوله: "ما منكم من أحدٍ إلَّا سيكلِّمُه اللهُ، ليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ" (¬7) ¬
فصل في مفترقات من الآيات ومجموع الوظائف من الأحاديث المشكلات
وسترون رَبَّكُم كفَاحًا كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيلَةَ البَدْر (¬1) وغير ذلك من الآثار الّتي لو سردناها لطَالَ المَقَال. فصل في مفترقات من الآيات ومجموع الوظائف من الأحاديث المُشْكِلَات وهي ثمانية أحاديث: الحديث الأوّل: وقع في "الصّحيح" (¬2) لمسلم قوله: "إنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ والثَّرى على إصْبَعٍ، والخَلاَئِقَ على إصْبَعٍ، ثُمَّ يقولُ: أَنَا المَلِكُ". قال علماؤُنا: قد استقرَّ في عقائِدِ المسلمينَ أنَّ البارِىء تعالى مُنَّزَّةٌ عن الجَارِحَةِ؛ لأنّه إنّما يرادُ به القُدْرَة والاجْتِمَاع. وقال قوم: إنّ الإصبعَ هنا هي النِّعمة. وقال آخرون: إنّما أراد به أنّ اللهَ تعالى خَلَقَ السَّماوات والأَرَضَ وما بينهما في سِتَّةِ أيَّامِ، ولم يدركه في ذلك لُغُوبٍ ولا نصبٍ، كما قال (¬3). وقال آخرون: يحتملُ أنّ يريدَ بالإصبع بعض خَلْقِهِ. وهذا غير مُسْتَنكَرٍ في قُدْرَةِ اللهِ (¬4). وقال آخرون (¬5): قد يريد أنّ تكون المخلوقات (¬6) اسم (¬7) إصبع، فأخبر بخَلْقِ هذه الأشياء عليه (¬8). ¬
قال الإمام: والغَرَضُ في هذا الحديث إبطال أنّ تكون للهِ جارحة لإحَالَةِ العَقلِ. حديث ثانٍ: قوله: "إنّ اللهَ يَطْوِي السَّماواتِ يَومَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُن بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثمَّ يقولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا الجَبَّارُ، أَينَ المُتكَبِّرُونَ، ثُمَّ يَطوِي الأرضَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يقولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ المُتكَبِّرُونَ؟ " (¬1) قال الإمامُ: قد تقدَّمَ الكلام في اليَدَيْنِ واختلاف الأُصوليِّين في ذلك، وإنّهما بمعنى الصِّفَة لا بمَعْنَى الجارحة، وشرح قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2) ولكن تُذْكَرُ ههنا بمَعْنَى اليمين والشِّمال. قلنا: قد استحالَ عليه إثبات يد (¬3) الجارحة ووصفها باليمين والشِّمال، فلا بدّ من حَمْلِهِ على ما يجوز على اللهِ. وأمّا ذِكْرُ الشِّمال في هذا الحديث، فإنّه قَيَّدَهُ كذلك (¬4) مسلم في "صحيحه" (¬5)؛ وإنّما ذلك خَلْقٌ من خَلْقِ اللهِ يُسَمَّى يَمِينًا والآخر شِمَالًا، وهذا أَبْيَن وأَقْرَب إلى الخَلْقِ من أنّ يكون للهِ يمين أو شمالٌ جارحتَانِ، تعالى اللهُ عن ذلك. حديث ثالث: قوله عليه السّلام: "إنّ اللهَ خَلَقَ الملائكة من شَعَرِ ذِرَاعَيْهِ" (¬6). شرحه وتبيينه: قلنا: هذا حديثٌ مُنْكَرٌ وليس بثابتٍ (¬7)، ولكن له تأويلٌ عند علمائنا (¬8)، وذلك ¬
أنّهم قالوا: الذِّراعانِ مَلَكٌ من ملائكة اللهِ وخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ سِوَى الملائكة. وأمّا قوله: "مِن شَعْرِ ذِراعَيْهِ" فإضافته إضافة ملكٍ، كما تقول سماءُ اللهِ وأرضُ اللهِ، وكذلك ذِرَاعَيْهِ. وقوله (¬1): "كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ" معناه: أنّ إحداهما لا تنقص عن الأخرى. قال الإمام: ولمِثْلِ هذا وأشباهه مِمَّا لا يجوز على الله صَرَّحَ أحمد بن حنبل في تأويل ثلاثة أحاديث فقط: أحداهما - قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "الحَجَرُ الأسْوَدُ يمينُ الله في الأرْضِ" (¬2). الثّاني - قولُه -صلّى الله عليه وسلم-: "إنِّي لأجِدُ نفسَ الرَّحمن مِنْ قِبَلِ اليَمِينِ" (¬3). الثّالث - قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "قَلْبُ المُؤْمنِ بينَ إصْبعَيْنِ من أَصَابِعِ (¬4) الرَّحمنِ". قال: هذا يستحيل على الله فينبغي أنّ يردّ إلى قانون للتّأويل، وكان أسلم له. حديثٌ رابعٌ: قوله: "يضحكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ يقتلُ أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجَنَّة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثمّ يتوبُ اللهُ على القاتلِ فَيُقْتَلُ شَهِيدًا" (¬5). شَرْحُهُ: معناه: يُظْهِر لَهُما أدلّة الكرامة وعلامات الرِّضَا، كما يفعل الضَّاحك منَّا لِمَا يُسَرُّ به (¬6). حديث خامس: قوله: "عَجِبَ ربَّكُمْ مِن شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ" (¬7). ¬
شرحه: معناه: فعل به من الكرَامةِ فحل المتعجِّب من فِعْلِهِ. حديث سادس: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تَزالُ النَّارُ يُلْقَى فيها، حتَّى يضَعُ الجَبَّارُ فيها قَدَمَهُ" وفي بعض طُرُقِهِ: "حتّى يَضَعُ الجَبَّارُ فيها قَدَمَهُ، فتقولُ: قَطْ قَطْ" (¬1). شرحه: قال علماؤنا: معنى "قدمه" خَلْقٌ من خَلْقِهِ يُسَمَّى قَدَمًا، أضَافَهُ إضافَةَ الملك إلى نَفْسِهِ (¬2)، كما يقال: سماؤُه وأرضه، وبيانُه في قَولِه: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬3). وقال آخر: معناه أنّ البارئ تعالى يَخلقُ خَلْقًا يُسَمَّى قَدَمًا يملأُ بهم جهنَّم. حديث سابع: قوله: "إذا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ، فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتهِ" (¬4). شرحه: معناه: على صُورَةِ المَضْرُوبِ، فالهاءُ عائدةٌ على عَبْدِهِ (¬5)، وغير ذلك من الأحاديث المُشْكِلَات، والتَّأويلُ عليها يطولُ. خاتمةٌ: واعلم أنّ الآي المتشابهة والأحاديث المشكلات امتحنَ اللهُ بها عبادَهُ على ما قدَّمناهُ في صدر الكلام (¬6)، فلا يجوزُ لأحدِ أَنْ يتكلَّمَ بشكٍّ (¬7)، ويكلِّف سامِعَهُ أنّ يردَّه ¬
إلى مثل تأويله؛ لأنّ هذا المتكلِّم ليس له تكليف العبادِ، وإنّما ذلك إلى الله والرَّسولِ. وقال أبو بكر بن باقي (¬1): الشَّرطُ في طَلَبِ عِلْمِ الكلامِ ثلاثة أشياء: أحدها: أنّ يطلبه للهَ تعالى لا لما سواه. الثّاني: أنّ يُحْسِنَ العبارةَ فيه ما استطاعَ. الثّالث: ألَّا يتكلَّم فيه إلّا مع أهله، واللهُ الموفّق للصَّوابِ. الحديث الخامس: مالك (¬2)، عن يحيى بن سعيد، عن محمّد بن إبراهيم بن الحَارِثِ التَّيمِيِّ؛ أنّ عائشةَ أُمَّ المؤمنينَ قالت: كنتُ نَائِمَةً إلى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -، فَفَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصي ثنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ، ولم يدرك محمّد بن إبراهيم التَّيمِيّ عائشة ولا رَوَى عنها، وسَنَدُه من طريقِ عُبَيْدِ الله بن عمر، عن محمَّد بن يحيى بن حبَّانَ، عن الأَعْرَجِ، عن أبي هريرة، عن عائشة قالت: فَقَدْتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الفِرَاشِ (¬3). الأصول (¬4): قال علماؤنا: الرِّضَا هو تعلُّق الإرادة بالثَّوابِ، والسَّخطُ هو تعلُّق الإرادة بالعِقَابِ، والمُعَافَاةُ تعلُّق (¬5) الإرادة بالسَّلاَمَةِ، والعُقُوبَةُ تَعَلُّق الإرادة بالعَذَابِ والمِحَنِ. ¬
وقال شيوخ الزُّهْد: تَرَقَّى (¬1) النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الدُّعاء من مقامٍ إلى مقامٍ، حتّى انتهى إلى المقامِ الأَشْرَفِ، قال أوَّلًا: "أعوذُ برِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ". ثمّ قال: "وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ". ثمَّ نظرَ فهذا به لم يستطع في تلك الحالة أنّ يُحْصِي في تلك الحالة متعلّقات الصِّفات، فقال: "وَبِكَ مِنْكَ" فَرَدَّ الأَمْرَ إلى الذَّاتِ، فَنَقَلَهُ اللهُ أيضًا من مقامات الكرامات (¬2) من منزلةٍ إلى أخرى، فقال: {طه} (¬3) يا رجل. ثمّ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (¬4) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (¬5) يا من تزَمَّلَ بكسائه وتَدَثَّرَ به، قم إلى عبادةِ رَبِّكَ، على معنى المَلاَطَفَةِ في الخِطَاب، وكما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لعليّ بن أبي طالب: "قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ" (¬6). ثم نَقَلَهُ إلى مرتبةٍ أُخْرَى أشرف منها فقال: {يس} (¬7) أي يا سيِّد (¬8). ولم يَثْبُت هذا بالنَّقْلِ، ولو ثبت هذا بالنَّقلِ لكان حَسَنًا. وقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬9) فأقسم بحياته، ثم زادَهُ تشريفًا فأَقْسَمَ بغُبَارِ خَيْلِهِ، فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (¬10). ومقاماته في الشَّرَفِ كثيرة (¬11)، وهذا أنموذج منها، وقد حقَّقَنَا ذَلك وبيَّنَّاهُ في "الكتاب الكبير"، فَلْتُنْظَر هنالك. الحديث السّادس: مالكٌ (¬12)، عن زياد بن أبي زِيَاد، عن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله بن كُريزٍ؛ أنَّ رسولَ ¬
الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الدُّعاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وأَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أنَا والنَّبِيُّون مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه". الإسناد: قال: روايةُ يحيى: "كُريز" بضمِّ الكاف، ولابن وَضَّاح بفتحها. وهذا حديثٌ تتعلَّقُ به علومٌ كثيرةٌ، وهي أنّ يقالَ: إنّ أفضلَ الأقوالِ: لا إله إلّا اللهُ. وإنْ كان النّاس قد اختلفوا في هذه المسألة، أَيّها أفضل، لا إله إلّا الله، أو الحمدُ لله ربِّ العالمين؟ وفيه مآخذ وطرق كثيرة: المأخذ الأوّل- نقول (¬1): إنّ قولَ لا إله إلّا اللهُ أفضلُ من قول الحمدُ للهِ، عند التَّفْصيل وعلى الجُمْلَةِ. وأمّا على الجملة، فإنّ قولَ "لا إله إلا الله" إخبارٌ عن البارئ بصفاته العُلَى وأسمائه الحُسْنَى وأَفْعَالِه وأحكامه وتدبيره وتقديره. وقول "الحمدُ للهِ" إخبارٌ عن اسم من أسماء اللهِ عند فِعلٍ من أفعاله، فصارت لا إله إلَّا اللهُ أفضل وأشرف مذكور وأعمر مقصود. وأمّا عند التّفصيلِ، فقول "لا إله إلا اللهُ" عند النَّظَرِ إلى المُنْعِمِ أفضل من "الحمد لله" عند النَّظَرِ إلى النِّعْمَةِ، فقول "الحمدُ للهِ" أفضل. وشرحُ هذه النّجوى وبيان قصّة هذه الفَتْوَى، يكون بِبَسْطٍ يتبيَّن فيه القِسْط (¬2)، ولكِنا نُؤْثِر الإيجازَ لسرعة المجتاز، فنقول: من فهم المطالب للطّالب في أوّل ما افتتح به المسائل معرفة السّائل، فإنّها باب العِلْمِ الأكبر، فليس كلَّ من أجابَ يحسن السُّؤال، فإنّ قولَ القائلِ: كذا أفضل من كذا، لا يستحقّ عليه جوابًا في أكثر الأحوال مَهْمَا ذَكَرَهُ بهذا الإرسال، حتّى يفصِّل قولَه ويُحَصِّل محلَّه، وذلك كلّه يستدعي تقديم (¬3) قواعد موثقة بمعاقد، وتأسيس أصول مضبوطة بعقول (¬4)، حتّى ينفتحَ (¬5) المنهج الأبلج ويتّضح المَقْصِد الأسدّ. والّذي نراهُ أبلغ في البيان، سرد إرسالٍ من ¬
القولِ ممّا يتعلَّق بغرْضِ المسألةِ. فيتعلَّق من فَضْل قول: "الحمد" ظواهر منها، مبيِّنًا أنّ اللهَ جعلَها فاتحة كتابه، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وآخر دَعْوَى أهل الجنّة، قال: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2) وأوّل قول الخَلْقِ عند النُّشور والبَعْثِ، قال اللهُ تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (¬3) ولأنّه مُقَدَّمٌ على دَلاَلَةِ التَّوحيد، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬4) وأيضًا فإئه مقدَّمٌ على التّوحيد الّذي قُرِنَ بذِكْر الأنبياء، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (¬5) ثمّ ذَكَرَ دَلالةَ التّوحيدِ. وأمّا من طريق الأثر (¬6) فرُوِيَ عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يقول إِذا قام من نومه: "الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين"، ورُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من قال: سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ." الحديث (¬7). وروي عن سعيد بن جُبَيْر؛ أنّه قال: "أَوَّلُ ممّا يُدْعَى إِلى الجنَّةِ الّذين يحمدون اللهَ على كلِّ حالٍ" (¬8). وأيضًا ما رُوِيَ عن رسول الله صلّى الله عليه أنّه قال: "مَنْ قالَ: سُبْحَانَ الله فَلَهُ عَشر حَسَنَاتٍ، ومن قال: لا إله إِلاّ اللهُ فلَهُ عِشْرُونَ حَسَنَة. ومن قال: الحمدُ لله فَلَهُ ثلاثون حَسَنَة" وعمدَتُهُم ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: إنّ الله اصْطَفَى منَ الكلامِ أَرْبَعًا: سبحانَ الله، والحمدُ لله، والله أكبر، ولا إله إلّا اللهُ، فمن قال: سبحان الله، كُتِبَت له عشرون حسنة، وحُطَّت عنه عشرون سَيِّئَة، ومن قال: اللهُ أكبر، فمثل ذلك، ومن قال لا إله إلَّا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمدُ لله ربِّ العالَمين من قبل نفسه، ¬
كتِبَتْ له ثلاثون حسنة، وحُطَّت عنه ثلاثون سَيِّئَة (¬1). ورُوِيَ عن كعب الأحبار؟ أنّه قال: اختارَ اللهُ الكلامَ، فأَحَبُّ الكلامِ إلى الله: لا إله إله اللهُ، واللهُ أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله. ومن قال: لا إله إلا الله فهي كلمةُ الإخلاص، كُتِبَتْ له عِشْرونَ حَسَنَة، ومُحِيَتْ عنه عشرون سيِّئَة. ومن قال سبحان الله، كُتِبَتْ له بِهَا عشرون حَسَنَة، ومحيت عنه عشرون سَيِّئَة. ومن قال: الحمدُ لله، فذلك ثناءُ الله، وثنَاؤُهُ الحَمدُ، ومن قال آخر كلامه: لا إله الاّ اللهُ دَخلَ الجنَّة (¬2). وأيضًا: فإنه أحد دعائم الإسلام، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -"بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شهادة أنّ لا إله إلَّا اللهُ"، وذَكَرَ الحديث (¬3)، فَتبَيَّنَ أنَّ قولَه: لا إله إلا اللهُ دعامة الإسلام، وقولُ الحمد لله من تَمَامِهِ، ولأنّ الكربَ يذهبُ بها. والدَّليلُ عليه أمران: 1 - أحدهما: أنّ النّبيَّ كان يدعو عند الكرب "لا إله إلا الله". 2 - قالوا: ولأنّ عَمُود العَرْشِ يهتزُّ بها. ورُوِيَ في الأَثَرِ؛ أنّ العبدَ إذا قالَ: لا إله إلّا اللهُ اهتَزَّ عمود من نُورِ العَرْشِ. قالوا: وقد رُوِيَ في الأَثَرِ؛ أنّها اسمُ اللهِ الأَعْظَم، وليس هذا القول من الحَمْدِ للهِ. قالوا: ولأَنَّها دعوة ذِي النُّون عليه السّلام، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لم يدع بها أَحَدٌ فَي شَيءٍ إِلاّ أسْتُجِيبَ لَهُ" (¬4). قالوا: ولأَنَّها تُفْتَحُ لها أبواب الجَنَّةِ الثّمانية، كما رواه مسلم في كتاب الطّهارة (¬5). ¬
القاعدة الثانية في تنوع المعاني التي يقع عنها التعبير في التفضيل
القاعدةُ الثّانية في تنوّع (¬1) المعاني الّتي يقع عنها التَّعبير (¬2) في التفضيل وهي على نوعين: أحدهما: الصِّفات الّتي لا تَتَعَدَّى الموصوفَ بها إلى غَيْرِهِ (¬3)، كالطُول والقِصَرِ وما أشبه ذلك. الثّاني: ما يتعدَّاهُ إلى غيره، وأمَّهَاتُه ثلاثة: الأوّل: الثّوابُ. والثّاني: المصلحة (¬4). أمَّا الثّوابُ، مثل أنّ يقال: أيها أفضل: الصّلاة أم الصَّدَقَة؟ ومثل قولك: أيّها أفضل: لا إله إلا الله، أو الحمد لله؟ فيحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أيّها أفضل في المَعْنَى. الثّاني: في كَثْرةِ الثَّواب. الثّالث: في عَدَدِ الحروف. فهذه ثلاثة عقود: العِقْدُ الأوّل: في المعنى المراد ولا ريبَ فيه في أنَّ المراد بـ: "لا إله إلَّا الله" أفضل من المراد بقولك: "الحمد لله" وأشرف قَدْرًا. والدّليل عليه: أنّها كلّها ذكر الله، وفي معنى قول "لا إله إلّا الله" من المعاني ذكر الله أكثر وأفضل من الّتي في قول "الحمدُ لله" وأشرف؛ لأنّ قولك: "لا إله إلا الله" جملة من نَفْيٍ وإِثبَاتٍ، ففيها نفي الشِّركِ للبارىء من كلِّ وَجْهٍ، وتنزيه الرَّبِّ، وفيها إثبات الألوهيّة. ¬
العِقْدُ الثّاني: القولُ في كَثْرةِ الثَّوابِ وله خمس طرق: الطريق الأوّل: أنّ فائدةَ "لا إله إلَّا اللهُ" تجديدُ الإيمانِ وَانْشِرَاحُهُ بالمعرفة. وفائدةَ "الحمدُ لله" استدامةُ النِّعَمِ، وشَتَّانَ بينَهُما. الطريقُ الثّاني: أنّ قولَ القائل: "الحمد لله" حَسَنَةٌ تُكْتَبُ في جُمْلَةِ الحَسَنَاتِ، وتضاعَفُ بتضعيفها، وتُقَابَل بالسَّيِّئَاتِ، وتُوضَع بالمَوَازِينِ. كما رُوِيَ أنّ الحمدَ لله تَمْلأُ، المَوَازِينَ، وقول "لا إله إلا الله" يراد بها حسنة ولا تقابل سَيِّئَة ولا تُوضَع في ميزانٍ. والدَّليلُ عليه: ما رُوِيَ عنِ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ نُوحًا قال لابنه: إِنِّي مُوصِيكَ بوَصِيَّةٍ: أُوصِيكَ باثْنتَيْنِ، وأَنْهَاكَ عن اثْنتَيْن، أمّا الاثنتان اللّتان أُوصِيكَ بهما فيستبشر (¬1) اللهُ بهِمَا وصالح خَلْقه، وهما يكثران الوُلُوج على الله، أُوصِيكَ بلا إله إلّا الله، فإنّ السّماوات والأرض لو كانتا حَلقة قصمتهما، ولو كَانَتَا في كَفَّةٍ وزنتهما. وأُوصيك بسُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ، فإنّها صلاة الخَلْقِ وبِهَا يُرْزَقُونَ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} الآية (¬2). وأمّا الاثنتان اللّتان أَنْهَاكَ عنهُمَا، فَيَحْتَجِبُ اللهُ منهُمَا وصَالِحَ خَلْقِهِ: الشِّرْكُ والكِبْرُ (¬3). ويدلُّ على هذا أيضًا - أنّ "لا إله إلَّا اللهُ" أفضلُ -: قول موسى صلّى الله عليه: "كلُّ عِبَادِكَ يقولُ هذا، قال: قُلْ لا إله إلَّا اللهُ، ولا إله إلّا أنتَ، فلو أنّ السّموات السّبع وعامرهنّ والأَرْضِين السّبع في كَفَّةٍ ولا إله إلَّا اللهُ في كفَّةٍ، مالت بهنَّ لا إله إلَّا اللهُ" (¬4). الطريق الثّالث: إنّ من لم يقل: "لا إله إلَّا اللهُ" في (¬5) عمره فليس من الله في شيءٍ. ومن لم يقل: "الحمد لله" فلا حَرَجَ عليه، فلا معنى للتَّطْوِيلِ، والمسألةُ مُعَضِلَةٌ، وأكثر العلماء على أنّ "لا إله إلَّا الله" أفضل، لقوله - صلّى الله عليه وسلم - الله عليه: "أفضلُ ¬
ما قُلْتُهُ أَنَا والنَّبِيُّونَ من قَبْلِي: لا إله إلَّا اللهُ" الحديث (¬1). الحديث السّابع: حديث ابن عبّاس (¬2)؛ أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه كان يعلِّمنا هذا الدُّعاء كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن، يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وأَعُوذُ بِكَ من عَذَابِ القَبْر، وأَعُوذُ بكَ من فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وأَعوذُ بكَ من فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ". الإسناد: الحديثُ صحيح مُتَّفَقٌ عليه (¬3)، ويتعلّق به من الفوائد والشّرح ثلاث فوائد: الفائدةٌ الأُولى (¬4): قوله: "اللَّهُمَّ إني أعوذُ بِكَ من عَذَابِ جَهَنَّم" وجهنَّمُ دارٌ أُعِدَّت للكافرينَ، كما أُعِدَّت الجنَّة للمتَّقِينَ، وخُلِقَت قبل السماوات والأرض. وقالت المبتدعة: إنّها لم تُخْلَق بعدُ، لأنّه لا فائدةَ في خَلْقِها قَبْلَ الحاجةِ إليها. قلنا: وما الّذي يلزمه أنّ يفعلَ لفائدةٍ مُعَجَّلَة أو مُؤَجَّلَة؟ اللهُ يفعلُ ما يشاء ويحكمُ ما يريد، فإنْ شاءَ أنّ يُعَرِّفَنَا وجْهَ الحِكْمَةِ فيما فعلَ فَبِفَضْلِهِ (¬5)، وإنْ شاء أنّ يُبْقينا في حالةِ الجَهَالَةِ فبحقه (¬6)، له الحُجَّة، ومنه الفضلُ والِمنَّة، ولو لم يكن من فائدتها إلَّا معاينة الملائكة والأنبياء ورؤية المؤمنين والكافرين لها (¬7). وأمّا عذاب القبر، فقد تقدَّمَ الكلام عليه. الفائدةُ الثّانية (¬8): فتنةُ المسيح الدَّجَالِ وأَمَّا الدّجالُ، فسيأتي بيانُه في "كتاب الجامع" إنْ شاءَ اللهُ. وأمّا المَسِيح، فهو بالميم المفتوحة والسِّين المكسورة المُخَفَّفَة وبالحاء المُهْمَلَة، ولا يقوله بالسِّينِ المشدَّدة إلَّا من شدَّ الجهل عليه رِبَاطه، ولا بقولها بالخاء ¬
المُعْجَمة إلّا من أَدْركَتْه عجمة الضّلالة. وبناء "م س ح" في كلام العرب على ثمانية معانٍ، يشتركُ فيها مسيحُ الهُدَى ومسيحُ الضَّلالَةِ في معانٍ، وينفردُ مسيحُ الهُدَى عن مسيحِ الضَّلالة بمعنى (¬1)، وينفردُ ايضًا مسيح الضَّلالةِ عن مسيح الهُدَى في ذلك بمعانٍ. فممّا ينفردُ به عيسى بن مريم أنّه كان يمسحُ على ذي العاهة فيبرأ، فعيل بمعنى فاعل. وأمّا ما انفود به مسيح الضَّلالة، فإنّه كان ممسوح إحدى العَيْنَيْنِ، فعيلٌ بمعنى مَفْعُول. وأمّا ما يشتركان فيه، فالدَّجَّالُ يَمْسَحُ الأرْضَ مِحْنَة، والمسيحُ بن مريم يَمْسَحُها مِنْحَةً. الفائدة الثّالثة (¬2): قوله: "وَمِن فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ" أمّا المَحْيَا، فالمرادُ به ما يُفْتَنُ به المرءُ في الدُّنيا من الشَّهَوَاتِ. وأمّا فتنة الممات، ففتنةُ المُحْتَضَر عند هُبُوب الرِّياح (¬3)، ونزغَات الوساوس (¬4)، واجتهاد الشيطان في أنّ يقطعَ به في ذلك المقام عن قول "لا إله إلَّا الله"، وعند الموت عند إقبال المَلَكِ بالهول، إذ يقول له: مَنْ ربُّكَ إلى آخر الحديث (¬5). الحديث الثّامن: مالكٌ (¬6)، عن أبي الزُّبَيْر المَكِّيِّ، عن طَاوسٍ اليَمَانِيِّ، عن عبد الله بن عبّاس؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصّلاة من جَوْفِ اللَّيلِ يقولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّماوَاتِ والأرضِ، ولَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قيّام (¬7) السَّماوَاتِ والأرْضِ، وَلَكَ الحمدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّماوَاتِ والأرَضِ ... " الحديث إلى آخره. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ خَرَّجَهُ الأَيِمَّةُ: مسلم (¬8) والبخاري (¬9)، أمّا مسلم فذَكَرَ سبعة أنوار. ¬
توحيد: قوله: "أَنْتَ نُورُ السَّماوَاتِ والأرْضِ" مطابقٌ لقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1)، وفيه للعلماء سبعة أقوال، بيَّنَّاهَا في موضعِهَا (¬2). وقيل: هو الهادي؛ لأنّ الهُدَى نُورٌ. وقيل: معناه المُنَوِّر، وهذا صحيحٌ حقيقةً، فلقد نَوَّرَهَا، ويبعدُ لُغَةً. الفائدة الثّانية (¬3): قوله: "أَنْتَ قَيَّامُ السَّماواتِ" فيه للعلماء ثلاثة أقوال وثلاث لغات: القَيُّومُ. والقَيَّامُ، وبه قرأ عمر بن الخطّاب، والقَيِّم في مُصْحَفِ ابن مسعود. والقَيُّوم، والقَائِمُ والقَيَّامُ، فهو الّذي يُدَبِّرُها (¬4) {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} (¬5) ويصرِّفُ هيئاتِها، ويُجْرِي ما قَدَّرَ من الأقواتِ، وهو الرَّبُّ الّذي يُرَتِّبُها ويَنْقُلُها من حالةٍ إلى حالةٍ، ويركِّب شيئًا منها على شيءٍ حتّى تنتظم أجزاؤها، وتستوي في الكمال أنواعُها، وتستمرّ على الإقامة (¬6) دوامُها، وهو الحقُّ، أي الموجود الّذي ليس له أَوّل، ولا يكون له آخر. الفائدة الثّالثة (¬7): قوله: "أنتَ الحَقُّ" أي: الّذي لا يجوزُ عليه كذبٌ. "ولقَاؤُهُ (¬8) حَقٌّ" أي: لا بدَّ أنّ يكونَ. وقوله: " وَالجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ" أي: موجودتان. "والسَّاعَةُ حَقٌّ" وهي موضع اللِّقاء، أي قائمة موجودة، وكلُّ شيءٍ من ذلك حقٌّ، وأصدق كلمة قالها الشّاعر (¬9): ¬
ألَّا كلِّ شيءٍ مَا خَلاَ اللهَ باطِلُ ... وكلُّ نعيم لا محالةَ زَائِلُ وهي: الرّابعة والخامسة. الفائدة السّادسة (¬1): قوله: "لك أسْلَمْتُ" وهو متعدِّي سَلِمَ، وله معان كثيرة بيَّنَّاهَا في "النَّيِّرَيْنِ" وفي "الكتاب الكبير" ومعناه ههنا: نفيتُ ما سواكَ. وكذلك: "آمَنْتُ" متعدِّي آمن، ومعناه: على هذا: بك أخذتُ الأَمْنَ ورَجَوْتُه، وإلى هذا يرجعُ "صدقت" الّذي يظنُّ الناسُّ أنّه معنى "آمن"، نعم هو معناه بالمجاز (¬2) في الدَّرجة الثّانية. وقال القاضي أبو الوليد الباجي (¬3): "قولُه "وَبِكَ أسْلَمْتُ" معناه: انْقَدْتُ. وقوله: "وبِكَ آمَنْتُ" ظاهِرُهُ أنَّ الإيمانَ ليس (¬4) بحقيقة الإسلام، وإنّما الإيمان التّصديق، وقد وهم فيه القاضي أبو بكر بن الطيِّب الباقلاني قال: الإيمان هو المَعْرِفَة باللهِ (¬5)، والأوّلُ أَشهَر في كلامِ العَرَبِ، قال الله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (¬6) ". الفائدة السابعة (¬7): قوله: "وعليكَ تَوَكَّلْتُ"، البارئ تعالى وكيل الخَلْقِ، أَلْفَوْا إليه بمقاليدِهِم، وتَخلَّوْا له عن آرائهم وأفعالهم، إلّا ما أَذِنَ لهم فيه من العملِ والسَّعيِ في تحصيل المنافع، فإنْ أَسقَطُوا ما أَذِنَ لهم فيه من ذلك فهو التَّفْوِيضُ. الفائدة الثامنة: قوله: "وإليهَ أَنَبْتُ" قال علماؤنا: الإنابةُ: الرُّجوعُ إلى الخير، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} (¬8) أي: ارجعوا وعاودوا التَّوْبَة. وقيل: أنيبوا، أي أخلصوا لِلهِ وارْجِعُوا إليه. ¬
والرُّجوعُ (¬1) على قسمين: رجوعُ غافلٍ (¬2)، كرجوع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ورجوع تَارِكٍ، كرجوع الصَّحابة ومَنْ آمَنَ من الكُفّار، والعودةُ (*) بعد الغَفْلَةِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِنَابَةٌ. الفائدة التّاسعة (¬3): قوله: "وَبِكَ خَاصَمْتُ" يريد: بما أتيتني من البُرْهَان احتججتُ. والخِصَامُ هو المُنَازَعَةُ في المَقَال بالحُجَّةِ. الفائدة العاشرة (¬4): قوله: "وإلَيك حَاكَمْتُ" المحاكمةُ هي عرض الخِصَام على المُنَفِّذِ الأمرَ وخصيمه (¬5)، وقد نَفذَ البارئ تعالى الحقّ (¬6) بدليله، وأبانَهُ (¬7) لأوليائه بهدايته، ولعظيم (¬8) خَطَرِ هذا المقام وكَثْرَةِ ما يعرض فيه من تلاطم أمواج الشُّبَهِ في بحر الخِصَامِ، ما (¬9) كانَ النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول أوّل ما يستيقظ من النّوم: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ، عالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ أنتَ تَحْكُمُ بين عبادِكَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحَقِّ، فإنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ اِلَى صِرَاطٍ مستقيمٍ" (¬10). وقال البُوني (¬11): "وإِلَيكَ حَاكَمْتُ" يريد (¬12) عند القتال، يقول اللهُمَّ أَنْزِلِ الحَقَّ، ويستَنْصِر. ¬
الفائدةُ الحادية عشرة (¬1): قوله: "فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ" فدعوةٌ أُجِيبَت في خَاصَّتِهِ، وإنَّا لنَرْجُوها لأَنْفُسِنَا بِبَرَكَةِ قُدْوَتهِ. الحديث التّاسع: مالك (¬2)، عن عبد الله بن عبد الله بن عَتِيكٍ؛ أنّه قال: جاءَنَا عبدُ الله ابن عُمَرَ في بنِي معاويةَ، وهي قريةٌ من قُرَى الأَنْصَارِ، فقال (¬3): هل تَدْرُونَ أَيْنَ صلَّى رَسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا؟ فقلتُ له: نَعَمْ الحديث إلى آخره. الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ مشهورٌ، مُتَّفَقٌ على صِحَّتِهِ ومَتنِهِ (¬4). الفوأئد المتعلِّقةُ بهذا الحديث: الفائدةُ الُأولى (¬5): في هذا الحديث أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَأْتِي قُرَى الأَنصار ويُصَلِّي في مساجِدِها ودُورِها، ليُتَبَرَّكَ بالصَّلاَةِ فيها بَعْدَهُ. الفائدةُ الثّانية (¬6): فيه أنّهم كانوا يتحفَّظُونَ (¬7) بأَفْعَالِهِ (¬8). الفائدةُ الثّالثة (¬9): أنّه دَعَا جَهرًا حتّى أَسْمَعَهُم دُعَاءَهُ. ¬
الفائدةُ الرّابعة (¬1): فيه أنّ كلَّ مسجد لا تعمل المطيّ (¬2) إليه، ولا يتكلّف له كُلْفَة، فَلا بَأْس بإتيانه. ويكون (¬3) عبد الله بن عمر أراد أنّ يُعَلِّم عبد الله بن جابر بن عَتِيك إنّ كان لا يعلم، أو رجاء أنّ تكون عنده زيادة فيأخذها منه. الفائدةُ الخامسة (¬4): قوله: "أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِن غَيرِهِمْ" يريد على جميع أُمَّتِهِ؛ لأنّه قد يُظهِر عليهم في بعضِ المَوَاضِع. وكذلك قوله: "أَلَّا يُهْلِكَهُمْ (¬5) بالسِّنِينَ" يريد أَلَّا يعمَّهُم بالهَلاَكِ والقَحْطِ. الفائدةُ السّادسة (¬6): "ودَعَا أَلَّا يجعلَ بَأْسَهُم بَينَهُم، فَمُنِعَهَا" لما سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أنّ سيكون. ومعنى دُعائِهِ بذلك: أنّه طَمعَ أنّ يكون يجاب (*) له فيهم، ومن هذا أعقبَ مالك (¬7) بالحديث عن زَيد بن أَسلَم؛ أنّه كان يقول: مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو، إلّا كانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِما أنّ يُسْتَجَابَ لَهُ، وإمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وإمَّا أنّ يُكَفَّرَ عَنْهُ. ومنه قولُه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ} (¬8) إنّما ذلك خصوصٌ، وقد (¬9) يستجيبُ اللهُ تعالى في الشَّيءِ الّذي يُدْعَى (¬10) فيه، وقد (¬11) يصرفُه إلى غير ذلك من الادِّخار ودفع البلاء، يَدُلُّ على ذلك حديث سَهْل بن سَعْد السّاعديّ (¬12)؛ أنّه قال: ¬
الباب الثالث العمل في الدعاء
"ساعَتَان تُفْتَحُ فِيهِما أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوتُهُ حَضْرَةُ النِّداءِ للصَّلاةِ (¬1)، والصَّفُّ في سبيل الله" يريد أنّ (¬2) ثَمَّ من تُرَدُّ عليه (¬3)، ومعنى (¬4) الرّدّ منع (¬5) الإجابة في الشَيء الّذي دعا فيه، وهو بينَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وبَيْنَ أنّ يُدَّخَرَ لَهُ، وبين أَنْ يُكفّرَ عَنْهُ. الباب الثّالث العمل في الدُّعَاءِ ذكر مالك في هذا الباب سبعة أحاديث: الحديثُ الأَوَّل: مالك (¬6)، عن عبد الله بن دِينَارٍ؛ أنّه قال: رَآنِي عبدُ اللهِ بن عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو وأُشِيرُ بِإصْبَعَيْنِ، إصْبَعٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ، فَنَهِانِي. الأصول (¬7): قوله: "أشِيرُ بإصْبَعَيْنِ من كُلِّ يَدِ فَنَهَانِي" إنّما نهاهُ أنّ يُشِيرَ بإصبَعَيْنِ؛ لأنّ الدُّعاءَ إنّما يكون بالْيَدِين وَبَسْطِهِمَا (¬8) على معنى التَّضَرُّعُ والرَّغْبَة، أمّا الإشارة بالأُصبُع الواحدة؛ فإنّما ذلك على معنى التّوحيد. وقوله (¬9): وقال بِيَدَيْهِ إلى (¬10) السَّمَاءِ قال يحيى بن يحيى ومحمد بن عيسى: يَرْفَعْهُما يَدْعُو لأَبَوَيْهِ. قال ابنُ القاسم: رفعهما إشارة بيديه، وقال: هكذا يرفع إلى فَوْق. ¬
"وقالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ" إشارة بيده، وسمَّاهُ قَوْلًا؛ لأنّ الكلامَ هو المعنى القائم بالنَّفْسِ، فتارةً يُعَبَّر عنه باللَّفْظِ، وتارةً بالإشَارَةِ وتارةً بالكتابَةِ، فسمَّى ذلك كلّه قولًا (¬1)؛ لأنّه عبارة عنه (¬2). وإنّما نَهَاهُ لأجل مخالفة السُّنَّة؛ لأنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُشِيرَ بإصبع واحدٍ. ومن السُّنَّةِ أنّ يدعُوَ مبسوط الكَفَّيْن. والإشارة أيضًا بإصبعَيْن لا معنى لها؛ لأنّ قوله: يا الله (¬3)، بإصبَعٍ واحدِ يشير إلى أنّ اللهَ واحدٌ. فإذا ثبت هذا، فالدُّعاءُ إلى فَوْق وَرَفْع اليدَينِ إلى فوق فيه لعلمائنا أربعة أقوال، يجوزُ اعتقاد الثّلاثة ويسقط الرّابع: أحدهما: أنّ يعتقدَ أنّ الدُّعاءَ الّذي يدعوهُ إنَّمَا هو إلى جِهَةٍ فيها الله، وهو جهة فَوْق، وهذا لا يجوزُ على البارئ. الثّاني: أنّ اللهَ جعلَ الرِّزقَ وجميعَ الأرزاقِ في السَّماءِ الدُّنيا، كالخزائن والمطر، والإنسان من جِبِلَّتِهِ وعادَتِهِ أنّ يَدْعو ويرفع يدَيْهِ إلى جهة الرِّزقِ. الثّالث: أنّ يعتقدَ أنّ الله تعالى رفيعٌ عظيمٌ، فيعتقدُهُ في أرفع رُتْبَةٍ ومَنْزِلَةٍ، فلذلك نزَّهَهُ عن جِهَةِ أسفَل، ويدعوهُ إلى جِهَةِ فَوْق. الرّابع: أنّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعاءِ. فإن قيل: وكيف يكون هذَا والقِبْلَةُ مأخوذة من المُقَابَلَةِ وهو المحاذاة؟ قلنا: بل هو بمعنى الإقبال، وإنّما سُمِّيَت قِبْلَة لأنَّ اللهَ تعالى يتقَبَّل صلاةَ من صَلَّى إليها وتَوَجَّهَ نَحْوَها، كأنّها فِعْلَة، مِنْ قَبلَ قِبْلَةً وقَبُولًا، كما يقول: جَلَسَ يَجْلِسُ جلْسَةً وجُلُوسًا، وقَعَد يَقْعُدُ قِعْدَةً وقُعُودًا. الحديثُ الثّاني: مالك (¬4)، عن يحيى بن سعيد؛ أنَّ سعيدَ بن المُسَيَّبِ كان يقولُ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ. ورُوِيَ في معناه وأصّح منه وأَوْلَى، قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا ماتَ المرءُ، انْقَطَعَ ¬
عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلاثٍ" (¬1) فذكر أَوّلًا: "ولدًا صالحًا يَدْعُو لَهُ". وَرَوَى حمّاد بن سَلَمَة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنّ اللهَ ليرفعُ العبد الدَّرَجَة، فيقولُ: يا رَبّ، أنَّى لي هذه الدَّرَجَة؟ فَيَقُولُ: بِاستِغفَارِ ابْنِكَ لَكَ" (¬2) حسنٌ صحيحٌ متَفَّقٌ عليه. وأمّا رفع الأيدي، فقد تقدَّمَ الكلام عليها. الحديث الثّالث: مالك (¬3)، عن هشام بن عُرْوَة؛ أنّه قال: إنمّا أُنْزِلَتْ هذه الآيةُ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} الآية (¬4)، في الدُّعاء (¬5). قال (¬6) مالك (¬7): أحسنُ ما سمعتُ في ذلك؛ أنّه عَنَى به أَلَّا يجهرَ بصلاتِهِ في القراءةِ في صلاة النَّهارِ؛ لأنّها عَجْمَاءُ، ولا يُخَافِت بقراءته في صلاةِ اللَّيلِ والصُّبح من النَّهار، إلَّا أنَّه يَجهَرُ فيها (¬8). تنبيه على مقصد (¬9): قال الإمامُ: قولُ مالكٍ (¬10): "نزلت هذه الآية في الدُّعاءِ" هذا من العِلْمِ الّذي نبَّهَ عليه مالك في معرض أسباب نُزُولِ الآيات، وليس كما قال عُرْوَة، إنّما نزلت هذه الآية؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي بمكَةَ ويَجْهَر، فإذا سمع المشركون قراءَته سَبَّوا القرآنَ ومَنْ أَنزَلَهُ ومَن جاءَ به، فنزلت الآية المذكورة، ثُمَّ نسخَ اللهُ ذلك بظُهورِ الإسلام (¬11). ¬
مسألة (¬1): قوله (¬2):"لا بأس بالدُّعاءِ في الصَّلاةِ المكتوبة" هو كما قال، ويدعو بما شاءَ من أَمْرِ دِيِنهِ ودُنياهُ، سواء كان ذلك من القرآن أو غيره. وقال أبو حنيفة (¬3): لا يدعو في الصّلاة إلَّا بما كان من القرآن، فإن دَعَا بغير ذلك أَبْطَلَ صلاته. ودليلُنا: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان إذا رفعَ رأسَهُ من الرَّكْعَة الأخيرة بقول: "اللَّهُم أنْجِ الوَليدَ بْنَ الوَلِيدِ وعيّاش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، اللَّهُمَّ أنْجِ المستضعفين في الأَرْضِ، اللَّهُمَّ اشدُدْ وَطأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَلَيْهِم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ" الحديث (¬4). الحديث الرّابع: مالك (¬5)؛ أنّه بلغه أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ دَاعِ يدعو إلى هُدىً، إِلَّا كانَ له مثلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك من أُجُورِهِمْ شيئًا، وما مِنْ دَاعٍ يَدعُو إلى ضَلاَلَةٍ، إلَّا كان عليه مثلُ أوْزَارِهِمْ، لا يَنْقُصُ ذلك من أَوْزَارِهِم شيئًا". الإسناد (¬6): قال الإمام: هذا حديثٌ بَلاَغٌ، وهو حديثٌ صحيحٌ السَّنَدِ (¬7)، ثابتُ السَّبيلِ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال: مَنْ سَنَّ سُنَّةَ حَسَنَةً في الإِسلامِ، كان له أَجْرُها وأَجْرُ من عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، لا ينقصُ ذلك من أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن سَنَّ سُنَّةَ سَيِّئَةً في الإسلام، كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يومِ القِيَامَةِ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أَؤزَارِهِمْ شيئًا" (¬8). ¬
الأصول (¬1): فإن قيل: هذا الحديث مخالفٌ لظاهِرِ القرآن، قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2). قلنا: بل (¬3) هو موافق له، قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} الآية (¬4). ووجه الحكمة فيه والجمع بينه وبينه: أنّ كلَّ معصيةٍ اختصَّت بصاحِبِها ولم تتعَدَّهُ، فوِزْرُها مقصورٌ عليه، وكلّما تَعَدَّتْهُ فإنّه يتعدَّى، والتَّعَدِّي يكونُ بوجهين: يكون بالفعل نَفْسِهِ، ويكون بتعليم الجاهل وتنبيه الغافل. والتعليم من أعظم أنواع التَّعدِّي، وقد قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -:"مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ إلَّا وعَلَى ابنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ منها" لأنّه أوَّل من سَنَّ القَتلَ (¬5). ويشهدُ له قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية (¬6)، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} الآية (¬7). الحديث الخامس: مالك (¬8)؛ أنّه بَلَغَهُ أنّ أبا الدَّرْدَاءِ كان يقومُ من جَوفِ اللَّيْلِ، فيقول: نَامَتِ العُيُونُ، وغَارَتِ النُّجُومُ، وأَنْتَ الحَيُّ القَيُّومُ. الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "كان يقومُ من جَوفِ اللَّيْلِ" يريدُ للتَّهَجُّدِ وذِكْرِ اللهِ تعالى، فكان يشعر نفسه بهذا النَّظَر في صفاته الّتي يختصُّ بها، وأنّه منفردٌ بها دونَ غَيْرِه ممَّن توجد فيه صفات الحدوث، وذلك أنّ عيون الخَلْقِ في ذلك الوقت نائمةٌ، والنُّجومَ الّتي كانت ¬
طالعة غائرة، والنّوم في العيون، والغَوْر في النَّجُومِ دليلٌ على الحُدوثِ، وبذلك استدلَّ إبراهيم الخليل عليه السّلام على حدوثِ الكواكب، فقال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (¬1). وكذلك ينبغي لجميع المُتَعَبِّدِينَ إذا قاموا إلى أورادهم أنّ يَقْتَدُوا بفِعَال الأنبياء، والصّحابة والتّابعين. وللنَّومِ والقِيَامِ لصلاةِ اللَّيل آدابٌ كثيرةٌ: فمنها: أنّ يبيت على طهارةٍ، وإعداد السَّواكِ عند رأسه، وإعداد الطَّهُور. ويَنْوِي القيام للعبادة عند التَّيَقُّظ، وكلّما انْتَبَه اسْتَاكَ، كما فعل بعض السَّلَف، رُويَ عن رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يَسْتَاكُ في اللَّيْلِ مِرَارًا عند كلِّ نَوْمٍ وعِنْدَ انْتِبَاهِهِ (¬2). ومنها: أنّ يكتب وَصيَّته خوف موت الفَجْأةِ. ومنها: أنّ ينامَ تَائبًا من كلِّ ذنبٍ، سليمَ القلبِ لجميع المسلمين، قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وهو يَنوِي أَلَّا يظلم أحدًا، ولا يحقد على أحدٍ، غفرَ اللهُ له ما اجترمَ" (¬3). ومنها: أَلَّا يتنعَّمَ بتمهيد الفُرُش (¬4) النّاعمة، بل يترك ذلك، وكان بعضُ السَّلَفِ يتركُ التَّمْهِيدَ ويَرَى ذلك تَكَلُّفًا للنَّومِ، وكان أهل الصُّفَّةِ لا يجعلون بينهم وبين الأرض حاجِزًا. ويجتهد (¬5) أنّ يكون الغالب عليه الذِّكر والتَّفَكُر، كما فعل أبو الدَّرْدَاء؛ يقول: "نَامَتِ العُيُونُ، وَغَارَتِ النُّجُومُ " في هذا الحديث. الفائدةُ الثّانية (¬6): كان أبو الدَّرْدَاء يقول: "نَامَتِ العُيُونُ، وغَارَتِ النُّجُومُ، وأَنتَ الحَيُّ القَيُّومُ" وذلك أنّ اللهَ تعالى أَذِنَ في الدُّعَاءِ، وعَلَّمَ الدُّعَاءَ في كتابه لخَلِيقَتِهِ، وعَلَّمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
الدُّعَاءَ لأُمَّتِهِ. واجتمعت فيه ثلاثة اشياء: العِلْمُ بالتَّوحِيدِ، والعِلمُ بالقُدرَة" (¬1)، والنّصيحة لأُمَّتِهِ، فلا ينبغي لأحدٍ أنّ يَعدِلَ عن دُعائه، وقد اختالَ الشّيطانُ النَّاسَ في هذا المقام، فَقَيَّضَ له قوم سوءٍ يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقْتِدَاءِ بالنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأشدّ ما في الحال أنَّهم نَسَبُوهَا إلى الأنبياء، فيقولون: دعاءُ آدم، دعاءُ نوح، دعاءُ إدريس، دعاءُ يُونُس، دعاءُ أبي بكرٍ الصِّديق، فاتَّقُوا اللهَ في أَنْفُسِكُم، ولا تشتغلوا من الحديثِ بشيءٍ إلَّا بالصَّحيحِ منه. الفائدةُ الثّالثة (¬2): في إدخال مالك هذا الحديث عن أبي الدَّرْدَاء ههنا؛ أنّ الدُّعاءَ وإن كان الأفضل فيه التَّيَمُّن (¬3) بدعاء (¬4) الأنبياء عليهم السّلام بما روي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، والتَّبَرُّك بألفاظِهِ الفَصِيحة، فإنّه يجوزُ لكلِّ أحدٍ من العلماء أنّ يدعو بما شاءَ من غير المَأْثُورِ، ولكن لا يخرج عن التّوحيد. ألَّا ترى إلى قول أبي الدَّرْدَاء: "نَامَتِ العُيُونُ" وصَدَقَ. "وغَارَتِ النُّجُومُ، وأنت الحيُّ القَيُّومُ" وَصَدَقَ؛ لأنّه هو الحيُّ على الحقيقة، وهو الّذي لا ينام، والقيوم هو الّذي لا يحولُ ولا يزولُ. وقال أبو الوليد الباجي (¬5): "الحيُّ القَيُّومُ" يريد أنّه مع كونه حيًّا لا يجوز عليه النّوم، وهو مع ذلك قَيُّومٌ لا تجوز عليه الأحوال (¬6) ولا التَّغَيُّر ولا العَدَم" وهذا من الفصاحة البالغة في الدُّعاءِ. تنبيه: فإن قيل: قد كرهَ قومٌ من العلماء السجْع في الدُّعاء، لِما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إياكُم والسَّجْع في الدُّعاءِ حسب أحدكم أنّ يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسألك الجَنَّة وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعَمَلٍ، وأعوذُ بِكَ من النَّارِ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعَمَلٍ" (¬7). ¬
وقال (¬1) بعضهم: ادْعُ بلسان الذِّلَّةِ والاِفْتِقَارِ، لا بلسانِ الفَصَاحَةِ والانطلاقِ. ويقال: إنّ العلماء والأبدال (¬2) لا يؤيد أحدهم في الدُّعاء على سبعِ كلماتٍ فما دونَها. الجواب عنه - قلنا: قد بيَّنَّا قبلَ هذا أنّه يجوز لكلِّ أحدٍ من العلماء وأهل المعرفة بالدُّعاء أنّ يدعو بما شاءَ من الأدعيةِ غير المأثورة، ولمن لا يخرج عن التَّوحيدِ والتَّنزيهِ للهِ تعالى، فهذا كان الدُّعاءُ موافقًا للقرآن والحديثِ والتَّنزِيهِ عما ينبغي، فإنّه يدعو به وإنْ لم يكن ماثورًا. الفائدةُ الرّابعة (¬3): في أدعية النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - المطلقة في هذا المعنى، ثم أدعية الصّحابة، ثم أدعية التّابعين قوله (¬4): "اللَّهُمَّ إنِّي (¬5) أسْتَخِيرُكَ" معناه "اسْتَفعَلَ" (¬6) يُسْتَعمل في لسان العرب ويأتي على معان: منها سؤال الفعل، فتقدير الكلام: أطلب منك الخَيْرَ والخِيْرَة فيما هممتُ به. والخيرُ هو كلُّ فعْلِ سألَهُ العبدُ من اللهِ. وقوله (¬7): "وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدرَتِكَ" معناه: أسأَلُكَ هِبَةَ الخَيْرِ والقُدْرَةِ، وهذا دليلٌ على أَنَّ العبدَ لا يكون قادرًا إلَّا مع الفِعْلِ، لا قبلَهُ (¬8) كما تقولُه (¬9) القَدَرِيَّة؛ لأنَّ البارئ تعالى هو خالق العِلْمِ والكَسْب للعبد والقدرة عليه (¬10)، والفعلُ مع القدرة، وذلك كلّه موجودٌ بقُدْرَةِ اللهِ. وقوله (¬11): "وَأَسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ" كلُّ عَطَاءِ اللهِ فضلٌ، فإنّه ليس لأحدٍ عليه حقّ ¬
في نِعمَةٍ ولا في شيءٍ، فكلُّ ما يَهَبُ هو زيادة مُبْتَدَأَةٌ من عنده لم يقابلها عِوَضٌ منَّا فيما مَضَى، ولا يقابِلُها فيما يُسْتَقْبَل، فإن وفقّ للشُّكر والحَمْدِ فهو نِعْمَةٌ منه، وفَضْلٌ يفتقرُ أيضًا إلى حمدٍ وشُكْرٍ، هكذا إلى غير غايةٍ، خلاف ما تعتقده المبتدعة الّتي تقول: إنّه واجبٌ على الله أنّ يبتدى العبدَ بالنِّعمَةِ، وقد خَلَقَ الله له القُدْرَة وهي باقيةٌ، فيه دائمةٌ له أبدًا، تعالى الله عن ذلك. وقوله: "فَإنَّكَ تَقدِرُ وَلاَ أَقدِرْ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمْ" هذا تصريحٌ بعقد (¬1) أهل السُّنَّةِ، فإنّه نَفَى العِلْمَ عن العَبْدِ والقُدْرَة وهما موجودان، وذلك تنَاقُضٌ في بادئ الرَّأْيِ، والحقُّ والحقيقةُ فيه الاعتراف بأنّ العلمَ للهِ، والقُدْرَةَ للهِ، ليس للعبد من ذلك كلِّه شيءٌ، إلَّا ما خَلَقَ اللهُ له يقول: "فَأَنْتَ يَارَبِّ تَقْدِرْ وَلاَ أَقْدِرْ" معناه: تَقْدِر قبلَ أنّ تخلقني، وتقدر مع خَلْقِ القُدْرَةِ وبعد ذلك، وأنا على الحقيقةِ في الأَحْوالِ كلِّها مصرّفٌ لك، ومحلٌ لمقدوراتك (¬2)، وكذلك في العلم. قوله: "وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ" المعنى: أنا أطلب أمرًا مستَأْنَفًا لا يعلمه إلَّا أنت، فَهَب لي منه ما ترى أنّه خيرٌ لي في دِينِي ومَعَاشِي وعاجل أَمْرِي وآجله. والخيرُ (¬3) أربعة أقسام: الأوّل: يرى أنّه خيرٌ، يكون للعبد في دينه، ولا يكون له في دُنْيَاهُ، وهذا المقصودُ للأَبْدَالِ، ولكن ليس للخَلْقِ عليه صبرٌ في العُمُومِ. الثّاني: أنّ يكون له خيرٌ في دنياه خاصَة، ولا يعترض عليه في دِيِنهِ، فذلك حَظٌّ حقير. الثّالث: أنّ يكون خيرٌ في العاجل، وقد (¬4) يحتمل في الدُّنيا، ويحتمل في الابتداء، أو يكون في الآخرة. الرّابع: أنّ يكون له في الانتهاء خير، وذلك أَوْلاَهُ وأفضله، ويكون إذا جمعت كلها خير (¬5)، وكل فعل للهِ خير. ¬
الفائدةُ الخامسة: في سرد أدعية الصّحابة وقع في "كتاب مسلم " أنّ الصَّحابةَ -رضوان الله عليهم- روتْ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يقول إذا أَصْبَحَ: "أَصْبَحْنَا وأَصْبَحُ المُلكُ لِلَّهِ، والكبرياء، والعَظَمَة، والخَلْق، والأَمْر، والنَّهْي، واللّيل، والنّهار، وما سكن فيهما، لِرَبِّ العالَمِينَ، لا شريك له، اللهُم اجْعَل أوَّل هذا النّهار صلاحًا، وأوسطه فَلَاحًا وآخِره نَجَاحًا، اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ خير الدُّنيا وخير الآخرة، يا أرحم الرّاحمين" (¬1). ومن الأَدْعِيَةِ المأثورة؛ ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه كان يقول: "اللَّهُمَّ بارِكْ لي في دِيِني الّذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وفي دُنْيَايَ الّتي فيها مَعَاشِي، وفي آخِرَتي الّتي فيها بلاغي، واجعَل حَيَاتِي زِيَادَةً في كلّ خَيْرٍ، واجْعَلِ المَوْتَ رَاحَتِي من كلِّ شَرٍّ" (¬2). ومن الأَدْعِيَةِ المأثورة عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه كان يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ الثَّبَاتَ (¬3) في الأَمْرِ، والعزيمةَ في الرُّشْدِ، وأسألكَ شُكرَ نِعْمَتكَ، وأسألكَ حُسْنَ عِبادَتِكَ، وأسأَلُكَ قَلبًا سليمًا، ولسَانًا صادقًا، وأَسأَلُكَ من خيرِ ما تعلَمُ، وأعوذُ بك من شَرِّ ما تَعْلَم، وأستغفرُكَ ممّا تعلمُ أنَّكَ أنتَ عَلَّامُ الغيُوبِ" (¬4). ومن الأدعية المأثورة عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه كان لا يقوم من مجلسه إلَّا دعا بهذا الدُّعاء: "اللَّهم اقسِمْ لنا من خَشْيَتِكَ ما تَحُولُ به بَينَنَا وبينَ مَعَاصِيكَ، ومِنْ طَاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتك (¬5)، ومنَ اليَقِينِ ما تُهَوِّنُ به علينا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، ومتِّعْنَا بأسماعِنَا وأبصارِنَا، واجْعَلْ ذلك الوَارِثَ مِنَّا، وانْصُرْنَا على مَنْ عَادَانَا وظَلَمَنَا، ولا تجعل مُصِيبَتَنَا في دِيِننَا، ولا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا تُسَلِّطْ علينا من لا يَرْحَمُنَا، يا أرحم الراحمين" (¬6). ¬
دعاء الصدّيق: ومن المأثور، ما كان يدعو به أبو بكر الصدّيق: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ زَمَانِي آخِرَهُ، وخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وخَيْر أيَّامِي يومَ لِقَائِكَ" (¬1). دعاء الفاروق عمر بن الخطّاب: وممّا كان يدعو به: "اللَّهُمَّ لا تَدَعْنِي في غَمْرَةٍ، ولا تأخذني على غِرَّةِ، ولا تَجْعَلْنِي من الغَافِلِينَ" (¬2). دعاء ابن مسعود: رُوِيَ عنه أنّه كان يقول: "اللَّهُمَّ وسِّع عليَّ في الدُّنيا، وزَهِّدنِي فيها، ولا تُزْوِهَا عتي، ولا ترغبني فيها" (*). وممّا كان يَدْعُو به ابن عمر: "اللَهمّ اجعلني من أَيمِّةِ المتقين اقتداءً بالقرآن (¬3)، حيث يقول: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} " (¬4). أدعية التّابعين: كانوا يقولون: "الدُعاءُ سلاحُ المُومِن" (¬5) وهو رحمة من الله تعالى فتحها على عباده وأمرهم به فقال: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬6) وقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (¬7). وينبغي للدَّاعي إذا دَعَا أنّ يَتَخَشَّع، وأن يتواضع ويتمسكن، ويُخلص لله النِّيّة في دعائه، ويُقْبِل بقَلْبِه على ما يدعو به، قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ادْعُوا اللهَ وأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجابَةِ" (¬8). ¬
ومما كان يدعو به عامر بن قيس: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من أنّ تؤدبني بعُقُوبَتِكَ، اللَّهُمَّ لا تجعلني عِبْرَة لِغَيرِي، وأعوذُ بك أنّ أفرَّ إلى معصيَتِّكَ لضرٍّ ينزل بي، اللهم إِنِّي أستغفرُكَ من العمل الّذي عملته رغبةً، إنِّي أريد به وجهك خالصًا (¬1). وممّا كان يدعو به الأوزاعي إذا غدا إلى المسجد، يقول: اللَّهُمَّ غَدَتِ الطَّيرُ والوحوشُ إلى أرزاقها، وغَدَوتُ إليك رَبِّي لتغفر لي، فاغْفِز لي ما خَلَا من ذَنْبِي وما غَيَرَ. وممّا كان يدعو به عطاء السُّلَمى: اللَّهُمَّ ارحم غُرْبَتِي في الدُّنيا، ومَصْرَعِي عند الموت، وَوَحْدَتِى في القبر، ومقامي بين يَدَيْك (¬2). وإحصاء أدعيتهم أكثر مِمّا يأتي أحدٌ (¬3) على إحصائها. تنبيهٌ على مقصدٍ: قال قوم من المتصوِّفَة: لا ينبغي لأحدٍ أنّ يدعو اللهَ تعالى إلَّا بأسمائه وصفاته، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬4)، وفي الحديث الصّحيح؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنّ للهِ تعالَى تِسْعَةٌ وَتسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ" (¬5) فإذا أحصاها العبدُ دَعَا بأيِّ اسمٍ شاءَ منها استُجِيبَ لَهُ؛ لأنّه من أهل الجَنَّة؛ إذا قال: يا غَفُور اغْفِرْ لي، يا فتّاح افْتَح لي، يا تَوّاب تُبْ عَلَيَّ، ويَدعُو بكلِّ اسمٍ على ما يريد أنّ يُسْتَجَابَ له. قلنا: هذا لا يكون من كلِّ النَّاسِ، ولا يكون هذا إلَّا مِن عارِفٍ بالله تعالى. وإنَّ العلماءَ أيضًا قدِ اختلفوا في معنى الإحصاء (¬6)، وفي تَعْيِينِ هذه الأسماء الّتي إذا دُعِيَ بها أجابَ، فلا بُدَّ من معرفة الإحصاء والتَّعيينِ. أمّا الإحصاء ففيه لغتان: ¬
الأوّل: أحصأها - مهموز اللّام (¬1)، ومعناه: علم عدّتها (¬2) مستوفاةً كاملةً. الثّاني: أحصأها - غير مهموز -، وفيه خمس تاويلات: الأوّل: عَدَّدَهَا. الثّاني: أطاقها وعَمِلَ بها (¬3). الثّالث: عَلِمَها، من الحصاة وهي العقل، قال طرفة (¬4): وأنَّ لِسَانَ المَرءِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَصَاةٌ علَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ الرّابع: هو أنّ يقرأ جميع القرآن حتَّى يَخْتِمه، فإنّه مشتملٌ عليها قَطْعًا، ولذلك عَدَدْنَاهَا قرآنيةً لنستوفي جميعها (¬5). الخامس: حفظها كما رُوِي: "لا يحفَظُها عبدٌ مسلمٌ إلَّا دَخَلَ الجَنَّة" (¬6). واخْتُلِفَ في معنى هذا: فقيل - معناه: حفظها بالاعتقاد الحَسَنِ والعَمَلِ الصّالح. وقيل - المراد به: من عَلِمَها وكان عالِمًا بِعَدَدِها. وقيل - المراد به: من علمها مُفَصَّلَة. قال الإمام: والصّحيحُ عندي أنّ المراد به: مَنْ علمها وكان عالِمًا عادًّا، وكلُّ عادٍّ (¬7) عاملٌ، فتكمُلُ له الفائدةُ، أو غير عامل فتنقص. هذا كلامُ النَّاس في الاحصاءِ. وأمّا التّعيين ففيه اختلاف كثير (¬8): فقال الأستاذ ¬
أبو إسحاق الإسفراييني: من أحصاها على هذا العلم والتّعيين دخلَ الجنَّة، وذلك أنّ من اسمائه تعالى ثمانية وعشرون اسمًا من أسماء ذَاتِهِ، والاسم والمُسَمَّى فيه واحدٌ وهو الله، المَلِك، القُدُّوس، السّلام، المُؤْمن، المُهَيْمِنُ، العزيز، الجبَّار، المتكَبِّر، العظيم، الجليل، العليّ، الحقّ، المجيد، القَيُّوم، المَاجِد، الواجدُ، الصَّمَد، الأوَّل، الآخِرُ، الظّاهِرُ، الباطنُ، المُتَعَالِي، ذو الجَلاَلِ والإكرامِ، الغَنِيُّ، النُّور. ومنها ثمانية وعشرون اسمًا من أسماء صفات ذاتِهِ راجعة إلى الحياة، والعلم، والقُدْرَة، والإرادة، والسَّمع، والبَصَرِ، والكلام، والبَقَاءِ، فهذا لا يُقَالُ فيه: الاسم هو المُسَمَّى ولا غير المُسَمَّى، وإنّما يقالُ: هي صفاتٌ قائمةٌ بذاتِ البارئ تعالى، منها سَبعُ أسماء (¬1) للعلم، وعشرة للإرادة، وأربعة للقُدْرَة، وواحد للحَيَاةِ، وثنتان للسَّمع والبصر، وواحد للكلام، وثلاثة للبقاء، وذلك إنا نقول: العليمُ، الخبيرُ، الحكيم، الشّهيد، المُحصِي، المُحيط، القَهّار، الواحد، الرّحمان، الرّحيم، الغَفار، الحَلِيمُ، الغَفُور (¬2)، الكريمُ، الوَدُود الرَّؤوف، الصَّبور، القاهر، القَويُّ، القادر، المُقْتَدِرُ، الحيُّ السّميعُ، البصيرُ، الشَّكورُ، الرَّقيبُ بالعِلْمِ والسَّمْعِ والبَصَرِ، الوارث. ومنها ثلاثة وأربعون اسمًا من صفاتِ الفعلِ، والاسم غير المسمى؛ لأنّ الاسم هو الخَلق، والمُسَمَّى هو الخَالِق، والخَلْق غير الخالِق، وذلك مثل: الخَالق، البارئ، المُصَوِّر، الوهّاب، الرَّزَّاق، الفتَّاح، القابض، الباسط، الخافض، الرَّافع، المُعين، الحكم (¬3)، العَدْلُ، اللَّطيفُ، المُغِيثُ، الحَسِيبُ، المُجِيبُ، الواسعُ، الباعثُ، الوَكِيل، المُبينُ (¬4) المبدىُ، المعيدُ، المُحْيِي، المُمِيت، المُقدّم، المؤخِّر، الوَليّ، البرّ، التّواب، المُنْتَقِم، مالكٌ المُلْك، المُقْسِط، الجامِع المانع، الضّارّ، النّافع، الرّشيد. هذه أسماء الفعل. وأمّا أسماء صفات الذّات الرّاجعة إلى القُدْرَةِ، فمنها: "القاهرُ"، ومعناه: الغالب القاهر الّذي لا يُقْهَر ولا يُغْلَب. ¬
"القوي"، ومعناه؛ المتمكِّن في كلِّ مُراد. "المُقتدر" ومعناها: الّذي لا يردّه شيء عن المراد. "القادر" ومعناه: إثبات القدرة. "ذو القُوَّةِ المتين" ومعناه: إنفاذ القُدْرَة في تعميم المقدورات. وروي في بعض الآثار:"الغالب" ومعناه: أنّه يُكرِهُ على ما يُريدُ ولا يُكْرَهُ على مَا يُراد. وأمّا ما يرجع منها إلى العلم، فأوّلُ ذلك: "العليم" معناه تعليم (¬1) المعلومات. "الخبير" يختصُّ بأن يعلم ما يكون قبل أنّ يكون. وقد قيل: إنّ العليم والعالِم والخبير والعلّام بمعنى واحد. "الحكيم" يختصُّ بأن يعلم دقائق الأوصاف، وقيل: الحاكم والحكيم بمعنى. ويرجع الحكيم إلى العالِم، ويرجع أيضًا إلى الحَكَم (¬2)، فيكون من صفات الأفعال. "الشهيد" يختصُّ بأنْ يعلم الغائب والحاضر. ومعناه أنّه لا يغيب عنه شيءٌ. وقال غيره: الشّهيد هو العالِمُ، والشّاهد على الخَلْقِ بما اقْتَرَفُوا. "الحافظ" معناه: أنّه لا يَنْسَى ما عَلِمَ. وقيل: "الحفيظُ والحافِظُ" مانع المقدورات عن الخروج عن وجهها، فيعودُ إلى القدرة. "المحصي" يختصُّ بأنّه لا يشغله شيءٌ عن شيءٍ ولا (¬3) تشغله الكَثْرَة عن العِلْم، وذلك مثل بذر الحبوب (¬4)، واشتداد الرِّيح، وتساقُط الوَرَق، ويعلمُ عند ذلك عدد أجزاء الحركات في كلِّ ورقةٍ كيفَ تحرَّكَتْ، وكيف هي {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬5). وأمّا ما يرجع إلى الإرادة: الرَّحمن الرَّحيم. ¬
اْمّا "الرّحمن" فهو المريدُ لِرِزْقِ كلَّ شيءٍ في دار البَلْوَى والامتحان. "الرّحيم" المريدُ الإنعام لأهل الجنَّة. "الغَفَّار" المريدُ لإزَالَةِ العقوبة بعد الاستحقاق. "الوَدُودُ" المُحبّ، ويرجع إلى الإرادة، فمعناه: المريدُ لإحسان إلى أهل وُدِّهِ وأهل الولاَيَة. "الغَفور" المريدُ لتسهيل الأمور على أهل المعرفة. "الرَّؤوف" المريدُ التّخفيف عن العباد. "الحَلِيمُ" معناه: المريدُ لإسقاط العقوبة في الأصل على المعصية. وقد قيل: إنّ الحليم هو المُمْهِل مع استحقاق العقوبة. وقيل: إنّه من صفات الأفعال. "الكريم" هو المريدُ لكَثْرة الخَيْرَاتِ عند المحتاجِ. وقد قيل: إنه من صفات الذَّاتِ. "البرُّ" معناه: المريد لإعزاز أهل وَلاَيَتِهِ (¬1)، وهو من صفات الخَلقِ من يتوَّلى الله منه أعمال البرّ، ومن كان الله تعالى برًّا به عَظَّمَ عند المخلوقات نفسه، وأراج بفنون اللّطائف اسمه. ومعنى "البرّ" أنّه خالق البرّ والمُثيب عليه. "الصبور" معناه المُمهِل بعد استحقاق العقوبة. "الرشيد" قيل - معناه: المُرْشِد، فإنْ عادَ إلى البيان بالقولِ، كان من صفات الذَّاتِ، وإنْ عاد إلى خَفق الرُّشدِ، كان من صفات الفِعْلِ. "السّميع" راجعٌ إلى السَمْعِ. و"البصير" إلى البَصَر. و"الحَيُّ" إلى الحياة. و"الباقي" إلى البَقَاء. و"الشَّكُور" إلى الشُّكر. هكذا تتبع هذه الأسماء على قَدْرِ العِلْم والفَهْمِ. فهذا كان العبدُ بهذا النَّوعِ من العِلْمِ من الأسماء والصِّفات، عارفًا عن الله تعالى بإخلاصٍ وتحقيقٍ، أجابَهُ لا ¬
محالةَ، لقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1). والدُّعَاءُ لا يجوزُ إلَّا بعد المعرفة بالمَدعُوّ فيها، فإذا عرفَ ربه دَعَا بصفاتِ التَّعظيمِ، وذلك عبارة الرغبة لله، يرجُو وَجْهَ الرَّغبة لِمَا يليق (¬2) بها من الأسماء، كسؤالِ الرَّحْمَةِ بالرّحيم، والكفَايَة بالكافِي، والهِبَة بالوَهّاب، وفي التَّوبة بالتَّوَّاب، وفي العِزِّ بالعَزِيز، وما في ذلك من المعاني على التّرتيبِ. تنبيه: وذلك أنّ البارئ تعالى تعرَّفَ إلى أوليائه بصفاته وأسمائه، إذ لا يمكن أنّ يُعرف إلا بذلك، فبيّن لهم الواجب والجائز من ذلك، وعرَّفَهُم بما يستحيل عليه، وذلك أنّ العقول محجوبةٌ عن جَلَالِهِ، ممنوعةٌ عن إدراكه، فَأذِنَ اللهُ تعالى بالأسماء عبارة عن نفسه، وأَذِنَ لهم فيها، وجعلها طريقًا إلى معرفته، وسبيلًا في الرّغبة والطَّلَبِ، فلذلك اقْتَصَرَ العلماءُ على ما أَذِنَ لهم فيه ولم يتعدّوا إلى غيره. تنبيه ثانٍ: فإن قيل: ما معنى الحديث الّذي ورد في الاسم الأعظم، هل يعرفه أحدٌ ويدعو به؟ قلنا: قد يُعَرِّفه اللهُ إلى من يشاء من أوليائه، وذلك ما رواه بُرَيدَة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه سمع رَجُلًا يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ بأنّك الله الّذي لا إله إلَّا أنتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الّذي لم يَلِدْ ولم يُولَد ولم يكن له كُفوًا أَحَدٌ، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لقد دَعَا اللهَ باسْمِهِ الأَعْظَمِ الّذي إذًا دُعِيَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أَعْطَى" (¬3). وَرَوَى أنس بن مالك قال: دخل النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - المسجد ورَجُلٌ يُصَلِّي، أو قَدْ صَلَّى، وهو يَدْعُو وَلُقولُ في دُعائه: اللَّهُمَّ لا إله إلّا أنتَ المنان (¬4)، بَدِيعُ السّمواتِ والأرضِ، ذو الجَلاَلِ والإكرَامِ، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَتَدْرُونَ بمَا دَعَا اللهَ؟ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ، الّذي إذا دُعِيَ به أجابَ وإذا سُئِلَ بِه أَعْطَى" (¬5). ¬
نكتةٌ: فإن قيل: ما معنى: "الأعظم"؟ قلنا: أمّا "الأعظم" فهو عظيم الثّواب، فلا ثوابَ أعظم منه، ولا ثوابَ أعظم من الثواب على ذِكْرِ اللهِ، ويطابِقُ هذا قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬1) وهو الاسم الأعظم؛ لأنّه قسمُ العمومِ، والكثير المتعلّقات، فليس في الأسماء أكثر متعلّقات منه، ولا أعمّ (¬2) مقتضى من قولك: "الله" فإنَّ جميع الأسماء تدخلُ فيه، والصِّفَة تضم معانيها وتقتضيه، فإذا قيل: من الرَّبُّ؟ مَتِ المَلِكُ؟ من القُدُّوسُ؟ قيل: الله، وبه دعا يونس في ظُلُمَاتِ البَحرِ والحُوت. والصّحيحُ (¬3) أنّه ليس لله تعالى اسمٌ ولا صفةٌ إلَّا وقد أطلع عليه رسوله وأَعْلَمَه بهذا (¬4)، ألم تعلموا أنّه قد أطلع على ملكوت السّموات والأرض، والجنّة والنّار، وبلغ مَوْضِعًا سمع فيه صريف الأقلام، وعايَنَ التَّدبير والتقَّدير، ومقامات الملائكة تحت القَهْر والتّصريف (¬5). نكتةٌ بديعة: واعلم أنّ الاسم والصِّفة وإن اختلفا في اللَّفظ والاشتقاق، فهما في المقصد واحدٌ، والدّليلُ القاطعُ عليه قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فجعلها اسمًا واحدًا، وهي كلمة مشتقَّةٌ قطعًا، وسأبَيِّنُ ذلك في "كتاب التفسير" (¬6) بأَبْدَعِ بيانٍ، والحمدُ لله. ¬
كتاب الجنائز
كتاب الجنائز وفيه ستّة عشر بابًا: الباب الأوّل ما جاء في غسل الميت مالكٌ (¬1)، عن جعفرِ بنِ محمّد، عن أبيه؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - غُسِّلَ في قَمِيصٍ. التّرجمة والعربيّة: قال علماؤنا: الجِنازة فيها لغتان: بكسر الجيم وفتحها، وكسرها (¬2) أحسن، وقيل لها ذلك لأنّها تَجْنِز، أي تستر (¬3). قال الإمام (¬4): الجِنازةُ لفظٌ ينطلق على الميِّتِ، وينطلقُ على الأعواد الّتي يحملُ عليها الميت، ويقالُ بفتح الجيم وكسرها، وسمعت عن ابن الأعرابي (¬5) أنّه قال: إذا فتحت فهو الميِّت، وإذا كسرت فهي الأعواد، وإنِّي لأخاف أنّ يكون أخذ ذلك من هيئة الحال، وليس كما زَعَمَ علماؤنا أنّ ذلك لغتان، وإنّما الجنازة الميِّت نفسه، فإن سُمِّيت به الأعواد فذلك مَجَازٌ، والدَّليلُ عليه: الحديث الصّحيح عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ عَلَى السَّرِيرِ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلىِ أَعْنَاقِهِم، فَإِن كَانَت صَالِحَةً قَالَت: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَت: يَا وَيْلَهَا أيْنَ يَذهَبُونَ بِي" (¬6). ¬
تنبيهٌ وتأديب (¬1): اعلم أنّ الله تعالى جَبَل (¬2) الخَلْقَ على حُبِّ الحياة وكراهية الممات (¬3)، فإنْ كان رُكُونًا إلى الدُّنيا وحُبًّا لها (¬4) وإيثارًا، فله الويل الطّويل من الغبن. وإن كان خوفًا من ذنوبه ورغبةً في صلاح يستفيده، فالبُشْرَى له من المغفرة والنّعيم، وإن كان حياءً من الله لما اقتحم من مجاهرته، فاللهُ أحقّ أنّ يستحيَى منه، قال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: "إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه" (¬5). ورُوِيَ في الصَّحيح عن عائشة رضي الله عنها زيادة حسنة في هذا الحديث، قَالَت: قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّنَا يَكرَهُ المَوْتَ، قال لها: "لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قُبِضَتْ رُوحُهُ عَلَى بُشْرَى، أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، فَأَحَبَّ اللهُ لقَاءَهُ، وَإِذَا قُبضَتْ رُوحُهُ عَلَى غَضَبٍ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ" (¬6). وعلى هذا يخرجُ حديث أبي هريرة في الرَّجُلِ الّذي لم يعمل قطّ خيرًا، فقال لأهله: إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُوني، وَاذْرُوا رَمَادِي نِصْفَهُ في الْبَحْرِ، وَنصْفَهُ في الْبَرِّ الحديث (¬7). فإنّ هذا الرَّجُل كره الموتَ من خشيةِ اللهِ، فتلقَّاه اللهُ بمغفرته (¬8)، وقد تباينَ النَّاسُ في تأويل هذا الحديث؛ على ما يأتي بيانُه في موضعه إنّ شاء الله. وقوله (¬9): "إِن رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - غُسِّلَ في قَمِيصٍ". الإسناد: قال الإمام: حديث جعفر بن محمّد؛ "أنّ رسول الله غُسِّلَ في قَمِيصٍ" صدَّرَ به ¬
مالك في أوّلِ الكتاب (¬1)، ولم يُسْنِدهُ عن مالك في "الموطّأ" إلَّا سعيد بن عُفير، رواه عن مالكٌ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عائشة، وهو أصحّ ما رُوِيَ عن عائشة، وكل من رواه عن مالكٌ رواه مُرْسَلًا، إلّا ابن عُفَير فإنّه أَسْنَدَهُ عن عائشة (¬2). ورُوِيَ في حديث آخر أنّهم أرادوا أنّ ينزعوا القميص عنه - صلّى الله عليه وسلم -، فسمعوا صوتًا: لا تنزعوا القميص، فلم يُنْزَع القميصُ وَغُسِّلَ وهو عليه (¬3). قال أبو الوليد (¬4): "ذهب مالك إلى ذكر هذا الحديث (¬5) الأوّل على معنى أنَّه أشبه ما نُقِلَ في هذا الباب، ولم يُخْرِج أحدٌ ممَّن شرطَ الصّحيح في هذا الباب شيئًا" (¬6). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬7): قال علماؤنا (¬8): غسله - صلّى الله عليه وسلم - في قميصه ذلك خاصٌّ به - صلّى الله عليه وسلم -، وإكرامًا له وصيانةً وتعظيمًا، وأمّا غيره فينزع عنه القميص وتُسْتَر عَوْرَتُه، وفي الحديث ما يدلُّ على نزع القميص عن الميِّتِ، وذلك أنّهم أرادوا نزع القميص كما يفعلونه (¬9) بغيره، حتّى (¬10) سمعوا صوتًا. والمشهور من مذهب مالك (¬11) وجمهور الفقهاء أنّ الميِّتَ يُجَرَّد من القميصِ، وقال الشّافعيّ: لا يُجَرَّد الميت ويغسل على حاله (¬12). ¬
المسألة الثّانية (¬1): إذا ثبت هذا فإنّه تستر عورته. ووجه ذلك: أنّ هذه حالة لا يجب للحيِّ أنّ يطلع عليها غالبًا إلَّا لضرورةٍ، لبعدها عن التَّجَمُّلِ وحسن الزي، فلا يطّلع على الميِّتِ ما دام عليها إلّا لضرورة. وإذا (¬2) جرِّدَ، فلا يطّلع عليه إلَّا الغاسل ومن يَلِيهِ. وقال ابنُ حبيب: العورةُ في الميِّتِ من سُرَّتِهِ إلى رُكبته. وقد تعلّق الفقهاء في ذلك بما روي عن عليّ؛ أنّه قال: قال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تُبرِزْ (¬3) فَخِذَكَ، وَلاَ تَنْظُر إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ" (¬4). ومن جهة المعنى: أنّ حُرْمَةَ المسلم باقيةٌ بعد مَوْتِهِ، ولذلك يستر بالكَفَنِ. المسألة الثّالثة (¬5): إذا ثبت هذا، فإنّه تُسْتَر عورتُه بمِئْزَرٍ، ويجعل على صدره ووجهه خرقة أخرى، ذكر هذا أشهب في "كتاب ابن سحنون". والّذي عليه الجمهور من أصحاب مالكٌ (¬6)، أنّه لا تستر منه غير عورته على ما تقدّم. وقال بعضهم: إنّما أمر بتغطية الوجه للميِّت؛ لأنّ الميِّتَ ربما تَغَيَّرَ وجهُه تَغَيُّرًا وحشًا (¬7) من عِلَّةٍ كانت به، فاسْوَدَّ لذلك، فربّما نظر إليه الجُهَّال ومن لا معرفة له فيتأولون (¬8) فيه ما لا يجوز، وفي الحديث: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا وَلَمْ يَكشِفْ عَلَيْهِ (¬9)، خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتهُ أَمُّهُ" (¬10). ¬
حديث مَالِك (¬1)، عَنْ أيُّوبَ بْنِ أبي تَمِيمَةَ السَّخْتِيانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ؛ أنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتِ ابنَتُهُ فَقَالَ: "اغْسِلنَهَا ثَلاَثًا، اوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُورًا، أَو شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ" الحديث إلى آخره. الإسناد (¬2): قال الإمام: لم يذكر مالك في حديثه هذا من كانت المُتَوَفَّاةُ من بناتِه الّتي غَسَّلَتها أمُّ عَطِيَّة، وذكر ابن عُيَيْنَةَ وغيره عن أيّوب؛ أنّها كانت زَينَب ابنته (¬3). تنبيهٌ على وَهَمٍ (¬4): كلّ الرُّواة للموطآت (¬5) قالوا في هذا الحديث بعد قوله: "أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ" (¬6) وسقط ليَحْيَى قوله: "إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ" وهو مِمَّا عُدَّ من سُقُوطه، إذِ الجمهورُ على خلافِ مارَوَا يَحْيَى. وأمّا ابنته، فقيل: إنها زينب. وقال أهلُ (¬7) السِّيَرِ: هي أمّ كلثوم، والله أعلم. قال الإمام (¬8): كلُّ بناتِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تُوفّين في حياته، إلّا فاطمة - رضي الله عنها - فإنّها تُوفِّيت بعدَهُ بستِّةِ أشهرٍ، ولم يَشْهَد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جنازة رُقَيَّة ابنته؛ لأنّه كان يومئذٍ مشغولًا مع العرب في غَزْوَةِ بَدرٍ. العربيّة: قوله: "اغْسِلْنَهَا" قال ابن السِّكِّيت: الغسل بفتح العين هو الفعل، وبضمه هو الماء (¬9). ¬
وقال ابن القُوطيّة (¬1): "غسلَ الشيءَ غسْلًا، والغُسلُ ما يغسل (¬2) به، وهو أيضًا تمام الطّهارة"، والغسالة الماء الّذي يغسل به الثّوب وكلّ مغسولٍ. الأصول (¬3): خبرُ الواحدِ مقبولٌ في أحكام الشَّريعةِ باتِّفاقٍ من أَهْلِ السُّنَّةِ، واختلف الفقهاءُ هل يقبل الواحد فيما يعمّ البَلْوَى؟ فردَّه أبو حنيفة، وقد بيَّنَّاهُ في "أصول الفقه" (¬4) وأنّه قد ناقضَ في مسائل قبلَ فيها خبر الواحد، ومن هذا الباب غسل الميِّت، إذ ليس في الباب حديث سواه، غير أنّها سُنَّةٌ ماضيةٌ في الشَّرع؛ لاْنّه حديث آحاد رَوَتْهُ امرأة ثِقَة، وهو مقبولٌ في مِثْل هذه النّازلة. الفقه في أربع عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬5): قوله: "اغْسِلْنَهَا" هو لفظ الأمر، ولا أدري كيف يقال: إنّه غير واجب، وقد ورد (¬6) فيه القول (¬7) والعمل، حتّى غُسِّلَ الطّاهِرُ المُطَهَّر (¬8)، فكيف لا يُغَسَّل سواه. واختلف العلماء فيه؟ فالأكثر أنَّه واجبٌ، وليس فيه أمر وإنّما فيه أفعال النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وَغُسِّلَ هو أيضًا مع طهارته، وهذا يدلُّ على فَرضِهِ، ولم يرد بلفظ الأمر إلّا في حديثِ أمِّ عَطِيَّة هذا، وإن كان قد اختلفوا فيه هل هو سنة أو واجب؟ وسبب الخلاف فيه قوله: "إِنْ رَأَيْتُن" معناه: إنّ رأيتنّ الغسلَ، وإن رأيتنّ الزِّيادة في العَدَدِ، وهذا وأشباهه ممّا اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنّهم مختلِفُونَ في التَّقييدِ ¬
والاستثناء والشَّرطِ إذا تعقبت الجمل، هل يرجع إلى جميعها، إلَّا ما أخرجه الدّليل؟ أو إلى أقربها؟ في كلام لهم طويل لهم (¬1). وقال علماؤنا (¬2): غسلُ الميِّتِ عبادة ليس للنجاسة، والدليل عليه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "الْمُؤمِنُ لَا يَنجُس بِالْموتِ" فَذَكَرَ الصِّفَةَ في الحُكْمِ، وَذِكرُ الصِّفَةِ في الحُكمِ تَعْلِيلٌ، كأنه قال: لا ينجُس لإيمانه (¬3). وقيل: لو لم ينجُس الميِّت، لما كان ما يبينُ عنه (¬4) من أعضائه في حال الحياة نجسًا. قلنا: ليس للأبعاض حُكم الجُملة في الحقيقة ولا في الشّريعة، فهذا اعتبارٌ فاسدٌ. المسألة الثّانية (¬5): اختلف العلماء في غسله هل هو للنّظافة أو للعبادة؟ والّذي عندي أنّه تعبَّدٌ ونظافةٌ، كالعِدَّة عبادةٌ وبراءةٌ للرَّحِمِ، وإزالة النَّجاسة عبادة ونظافةٌ، ولذلك يُسَرّح رأسه تسريحًا خفيفًا، خلافًا لأبي حنيفة (¬6)؛ لأنّ في تسريحه وصبَّ الماء عليه زيادة في النّظافة، وكلُّ ما حقَّقَ المقصودَ فهو مشروعٌ. وَيُمَضْمَضُ، خلافًا لأبي حنيفة حين قال: لا فائدة في مضمضته؛ لأنّه لا يقذف الماء. قلنا: مرورُ الماء على المحلِّ وخروجه عنه تّنْظيف له، فإنّه غسل يعمّ جميع البَدَن، فشُرِعَت فيه المضمضة كغسل الجنابة. فالذي يتحصّل من هذه المسألة؛ أنّ الميِّتَ يغسل للنّظافة وللعبادة؛ لأنّه ربّما كان بَدَنُه نجسًا فيغسل للوجهين. المسألة الثّالثة (¬7): في حقوق الميت ¬
للميِّت ستَّة حقوق: حضوره. غسله. كفنه. حمله. الصّلاة عليه. دفنه. أمّا حضوره، فإنّه يجب عليهم تمريضه إذا مرض، والرِّفق به فيما يحتاج إليه، وتذكيروه (¬1) بالله إذا خيف عليه الموت، قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلهَ إلَّا الله" (¬2). المسألة الرّابعة: قوله لأمِّ عطيَّة: "ابْدَأنَ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ" لأنّ السُّنَّةَ في الغسل كلِّه أنّ يبدأ بمواضع الوضوء فيه. المسألة الخامسة (¬3): ممّا فيه (¬4): تنبيهٌ على التَيَّامِنِ، وهو مشروعٌ في آداب الشّريعة كلّها باتِّفاقٍ. المسألة السّادسة (¬5): قوله: "بِمَاءٍ وَسِدْرٍ" وهذا أيضًا أصلٌ في جواز التّطهير بالماء المُضَافِ بماءٍ لا يخرجه عن اسميّة التّطهير، ولا كلام فيه لأحدٍ، وقد قالوا: الأُولى بالماء القراح، والثّانية بالماءِ والسِّدْرِ، والثّالثة بالماء والكَافُورِ، وليس هذا في لَفْظِ الحديثِ، ولا يقمضيه لفظ الحديث من خلط الماء بالسِّدْرِ والكَافُور. ¬
المسألة السّابعة (¬1): قوله: "ثَلَاثًا أَو خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ" هذا كلُّه إشارةٌ إلى أنّ المشروعَ هو الوِتْر؛ لأنّه تعلَّق بالثّلاثة إلى الخمسة، وسكتَ عن الأربع، وكذلك هي وظائف الشَّرع وِتر وخاصّة في الطّهارة، وليس في الشّريعة غسل محدّد إلا (¬2) اجتهاد النِّسوة بحسب ما يرين من النَّظافة (¬3). وقد اختلفَ النّاسُ في قوله: "أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"؟ فقيل: سبعٌ. وقيل: ما يتعدّى إلى حُصُولِ النَّظافةِ. وقيل: لا يُزَاد على الثّلاثة، إلَّا أنّ يخرج منه الأَذَى، فيتبع (¬4) مواضع الأذى خاصّة، قاله أكثر أصحابنا. وأبو حنيفة يقول: إنْ خرجَ منه بعد الثّلاثة أذى وُضِّىءَ. وقال الشّافعيّ: يغسل إلى سَبْعٍ، ولا يزادُ على السَّبْعِ، وليس يغسل ما خرج منه بعد الثّلاثة ولا يُوَضَّأ (¬5)؛ لأنّه لا تَكْلِيفَ عليه، وإنّما يغسل عبادة، أو لما عليه من النّجاسة، وأمّا ما يخرج منه فهو مُوجِب غسل ذلك الموضع خاصّة. المسألة الثّامنة (¬6): يعْصَرُ بطنه، لِئلّا يفتضح في الكَفَنِ (¬7) عند الصّلاة عليه. ويُظْفَر شَعْر المرأة ولا يُتْرَك مسترسلًا، كما فعلت أمّ عطيَّة بزَيْنَب. ¬
المسألة التّاسعة (¬1): يُلْقَى (¬2) خلفها كذلك كلّه ثبتَ في الصَّحيحِ (¬3). المسألة العاشرة (¬4): كذلك يغسل شَعْر الرَّجُل ويُمشط. المسألة الحادية عشرة (¬5): فيه جواز تكفين المرأة في ثَوْب الرَّجُل. المسألة الثّانية عشرة (¬6): لم يأمرهنّ بغسل بعد غسلها، وهذه المسألة أجمع فقهاء الأمصار أنّ الميت إذا غَسَّلَهُ رَجُلٌ لا يجب عليه الاغتسال لا فَرْضًا ولا استِحْبَابًا، وأهل الظّاهر يُوجِبُونَه بخلافهم. وقالت جماعة أهل الحديث: حديثُ غُسْلِ غَاسِلِ الميِّت ضعيفٌ، وقد خرَّجَهُ التّرمذّي (¬7) والدّاودي (¬8)، ويغتسلُ من غسل الميِّت والحجامة، وقد روى الدّارقطني (¬9)، عن ابن عمر حديثًا صحيحًا، قال: كُنَّا نغسل الميَّتَ، فمِنَّا من يغتسل، ومِنَّا من لا يغتسل. المسألة الثّالثة عشرة (¬10): أنّه لم يأمر يتَقْلِيمِ أظفارها، خلافًا للشّافعىّ (¬11). المسألة الرّابعة عشرة (¬12): ¬
إنه لم يقل: "جَرِّدنَها" خلافًا للشافعيّ إنه يُغَسِّل الميِّتَ عريانًا (¬1). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): فيه من الفقه: التَّزَاوُرُ بين الأّهْلين إذا مات لهم ميِّتٌ. الفائدةُ الثّانية (¬3): فيه تعليم كيف تغسل (¬4)، وأنّ ذلك إلى النِّساء يفعلن في ذلك ما رأين، وأنّ النِّساءَ أحق بغسل المرأة وذوي المحارم من الرِّجال، كما أنّ الرّجل أحقّ بغسل الميِّت من الأزواج وإن جاز ذلك لهنّ، على تفصيلٍ يأتي بيانُه إنّ شاء الله. الفائدةُ الثّالثة: أنّه ليس على من غسلَ ميِّتًا غسلٌ، دمان كان قد رُوِيَ عن مالك رواية المدنييِّنَ عنه عن ابن القاسم؛ أنّه يغتسل، واختاره سحنون، ونفاهُ الشّافعيّ (¬5). الفائدة الرّابعة (¬6): في غريبه قال بعضهم: إنّما قيل لِلحَقوِ حقوٌ لأنّه يشدّ على الحَقْوَيْنِ وهو موضع الحَجْزَة، وهو بفتح الحاء. وقوله: "أَشعِرْنَهَا إِيَّاهُ" يريد اجْعَلْنَ ذلك ممّا (¬7) يلي جَسَدَها، والشِّعار: الثّوب الّذي يلي الجسد (¬8). والدِّثارُ: الثَّوْبُ الّذي فَوْقَه، وإنّما أراد بذلك أنّ تنال بركة ثوبه الّذي كان عليه - صلّى الله عليه وسلم - (¬9). ¬
وفيه قَبُول خَبَرِ المرأة. تنبيه على وَهَمٍ: روى التّرمذيّ (¬1) في حديث أم عَطِيَّة؛ أنّ الّتي تُوُفِّيَتْ من بناتِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هي أمّ كُلثوم، وهو وَهْمٌ منه، إنّما هي زَيْنَب كما ذكر عبد الرَّزَّاق (¬2)؛ لأنّ أمّ كلثوم توفيت ورسول الله - صلّى الله عليه وسلم - غائب. نكتةٌ لغوية: أمّ كُلْثُوم بضمِّ الكافِ من الكلثمة وهي الحُسْن. وقال الشّيخُ أبو عُمَر (¬3): "أَعْلَمُ النّاس بغسل الميّت ابن سِيرِين، ثمّ أيّوب بَعدَهُ، وكلاهُما كان غاسلًا (¬4) للمَوْتَى. وقال ابن علية (¬5): الحَقْوُ هو النّطاق. والحِقوُ في لغة هُذَيل (¬6) مكسور الحاء، وغيرهم يقولها بالفَتْحِ". حديث أسماء ابْنَةُ عُمَيْسٍ امْرَأَةُ أَبِي بكْرٍ الصِّدِّيق (¬7)؛ أَنَّهَا غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تُوُفَّيَ. وَالْحَدِيثُ الآخَرُ (¬8)؛ أنّ مَالِكًا سَمِعَ أَهل الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا مَاتَتِ المَرْأَةُ وَلَيْس مَعَهَا نِسَاءٌ يَغْسِلْنَهَا، وَلاَ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَحَدٌ يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا، وَلاَ زَوجٌ يَلِي ذَلِكَ مِمهَا، يُمِّمَت، فَمُسِحَ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيهَا مِنَ الصَّعِيدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا هَلَكَ الرَّجُلُ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ إلَّا نِسَاءٌ، يَمَّمْنَهُ أَيْضًا. ¬
الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى: أمّا قول أسماء ابنة عميس: "هَلْ عَلَىَّ مِنْ غُسْلٍ؟ فَقَالَ لَهَا الْمُهَاجِرُونَ: لَا غُسْلَ عَلَيْكِ" لأَنَّهُمْ تأوَّلُوه على الضّرورة لِلْبَردِ، فنقول: سقط حديثُنا وحديثُكم، وبَقِيَ الإجماعُ من الصَّحابةِ. المسألة الثّانية: قال ابنُ حبيب: ويغسّل أحد الزَّوجين صاحبه والميِّت منهما عريان من غير ضَرُورةٍ. قال الإمام - ووجه ذلك: أنّ كلَّ واحدٍ منهما يباحُ له النَّظر إلى عَوْرَةِ الميِّت منهما، والصّحيح أنّه يستر كلّ واحدٍ منهما عَوْرَةَ صاحبه؛ لأنّه موضع خشية (¬1)، فلا معنى لرؤية العورة، وهو نصّ "المدوّنة" (¬2). المسألة الثّالثة: اختلف العلّماء إذا طلّقها واحدة، هل يغسلها؟ ففي "المدوّنة" (¬3): لا يغسلها، وروى ابن القاسم أنّه يغسلها. قال الإمام - ووجه قول ابن القاسم: أنّ أسباب النكاح باقيةٌ في الميراثِ والنَّسَبِ. ووجه من قال لا يغسلها: أنّه لا سبيل له إليها إلَّا برجعة، وهو لم يراجع (¬4). المسألة الرّابعة: واختلف العلّماء إذا تزوّج أختها هل يغسلها أم لا؟ فإذا قلنا: إنّ الغسل لمكان الموارثة، جاز أنّ يغسلها يعد تزويج أختها، وقاله ابن القاسم. وقال أشهب: أَحَبُّ إليَّ أنْ لا يفعل. وقال ابنُ حبيب: ولها أنّ تغسله وإن وضعت ما في بطنها وانقضت عدّتها، ¬
وللأَمَةِ غسل سيِّدها (¬1) وإن ولدت منه، وللعبد غسل الأَمَة، ولها أنّ تغسله. المسألة الخامسة: إذا مات الرَّجُل وليس معه إلَّا ذو محارمه، ففي "المدونة" (¬2): يغسلنه ويسترنه، وظاهر هذا أنّهن يجرِّدنه. ورُوِيَ عن ابنِ القاسم أنّه قال: يغسلنه ذوات محارمه من فَوْقِ ثَوْب. المسألة السّادسة: إذا ماتت المرأة وليس معها إلّا ذو محارمها من الرِّجال، ففي "المدونة" (¬3) يغسلونها من فوق ثوب. وقال ابنُ حبيب: يصبُّ الماء من تحت الثّوب، ولا يلصقه بجسدها فيصف عورتها إذا لصق، ولكن يُجَافِيهِ ما قَدر، وإذا لم يجدوا الماء يَمَّمُوها إلى المرافق. تكملة (¬4): قال مالك والشّافعيّ: تغسلُ المرأة زوجها، والزّوجُ زوجته. وقال أبو حنيفة: لايغسلها (¬5). قال الإمام: ودليلُنا على أبي حنيفة؛ أنّ عليًّا - رضي الله عنه - غَسَّلَ فاطمة، وقال النّبيُّ صلّى الله عليه لعائشة: "إِنْ مِتِّ قَبْلِي غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ" (¬6) فحصلَ لنا إجماع الصّحابة على أنّ للرَّجُلِ أنّ يغسل زوجته، وقد قالت عائشة: "لَوِ اسْتَقبَلْتُ مِنْ أَمرِي مَا استَدبَرتُ مَا غَسَّلَ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - إلَّا نِسَاؤُهُ" (¬7). فإن قيل: نكاحُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لا ينقطع بالموتِ، لقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} الآية (¬8). ¬
ما جاء في كفن الميت
قلنا: إنِ انقطعَ النِّكاح بالموتِ، بقيت أحكامُه من الميراث والوَلاَءِ والعِدَّةِ، وهي محبوسة لحقه (¬1) إذا مات، فلذلك يكون له غسلها إذا ماتت؛ لأنّه حُكْمٌ من أحكام النكاح. المسألة السّابعة: في جهل حال الميِّتِ ولذلك ثلاث صورٍ (¬2): الصُّورة الأولى: أنّ ينهدم حائط على قومٍ من المسلمينَ وفيهم كافرٌ، فإنّهم يغسلون ويصلَّى علمهم، وينوي بالدُّعاء للمسلمين. الصُّورة الثّانية: هو أنّ يكونوا كلهم كفارًا إلَّا واحدًا لم يتعيّن في الصُّورتين، فإنّهم لا يغسلون ولا يصلَّى عليهم، وفي إحدى الرِّوايتين: يجعل (¬3) الأقلّ تبعًا للأكثر، ورُوِيَ في النّازلة الثّانية؛ أنهم يغسلون ويصلَّى عليهم أيضًا، وينوى بالدُّعاء للمسلمين. الصُّورة الثّالثة: هو أنّ يُوجَدَ رجل بفَلاَةٍ من الأرض، ولا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هو أم كافرٌ، فإنّه لا (¬4) يُصَلّى عليه. وقال ابنُ وهب: ينظر إليه على ثوبٍ، هل هو خَتِينٌ أم لا؟ قال الإمام: والصّحيحُ عندي أنّ ينظر إلى غالب أهل الأرض الّذي وُجِدَ فيها، فيُحْكَم له بحُكْمِ الغالبِ من أهلها، وهذا يتبين في مسائل اللَّقيط إنْ شاءَ الله. ما جاء في كفن الميت مَالِك (¬5)، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أَنَّ ¬
رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ بِيضٍ سَحُوليَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عمَامَةٌ. الإسناد: الحديث صحيحٌ، متَّفَقٌ على صحَّتِهِ ومَتْنِهِ (¬1). الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬2): قال الإمام: الكَفَنُ للرَّجُل بعد الوفاة كالكُسْوَة في الحياة لا بُدَّ له منها، وهي أصل في الدِّينِ مجتَمَعٌ عليه. سترُ عَوْرَتَهَ وغسلُه والصّلاةُ عليه والمواراة فَرْضٌ من فُروض الكفَايَة، إذا قام بأَمْرهِ من قامَ بفَرْضِ الكفاية سقطَ عن الباقِينَ. المسألة الثّانية (¬3): أمّا كَفَنُ الميِّتِ، فهو من رأس مالِهِ، أوّل ما يخرج هو، وَكُفِّنَ مُصعَب بن عميْر في نَمِرَةٍ لم يوجد له غيرها (¬4)، وَكذلك حَمْزَة (¬5). واختلفَ (¬6) العلّماءُ في الكَفَنِ هل يتعدّد أم هو واحدٌ؟ والصّحيح أنّه يتعدّد، وأنّه مَتَى احتاجَ إلى الكفَنِ أخذَهُ مرَّةً أو مرَّتينِ كما كان في حياته؛ إذْ ليس للوَرَثَةِ إلَّا الفَضْلَة عن حاجته. فإن ليم يكن له مال، فكَفَنُه على جميع المسلمين يُخرِجونه من بيت مَالِهِم، فإن عدم أو تعذّر، فعليهم أجمعين حتّى يقوم به أحدهم. المسألة الثّالثة: اختلفَ النَّاسُ في الكَفَنِ؟ فقيل: أقلُّه ثوبٌ واحدٌ. واختُلِفَ في أكثرِهِ؟ ففي المذهب، قيل: أكثره ثلاثة، وقيل: خمسة. ووجه الثلاثة: حديث عائشة. ¬
ووجه الخمسة: يدخل فيها القميص والعمامة. وقال علماؤنا (¬1): ثلاثة أثواب بِيضٍ: سَحُوليَّةُ، وقَميصٌ، وعِمَامَةٌ، وسَرَاوِيلٌ، فهذه ستٌّ، والقَطِيفَةُ الّتي فرشت له حين تنازع فيها شُقْرَان (¬2)، وهي السّابعة. وقول عائشة (¬3): "لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمامَةٌ" نفيٌ لوجودها (¬4)، أو نفيٌ لتعديدها في ثلاثة أثوابٍ، ورَوَى البزّار (¬5): "سَبْعَةُ أَثْوَابٍ" على ما ذكرناهُ، ورَوَى مسلم؛ أنَّه بسطَ تحتَهُ نَمِرَة، والصّحيح حديث عائشة، واللهُ اْعلمُ. نكتةٌ لغويّة: وقوله: "سَحُوليَّةٌ" رُوِي بفتح السِّين وضَمَّها، فمن رواه بالفتح نَسَبَهُ إلى قريةٍ باليمن اسْمُها سَحُول، ومن رواه بالضَّمِّ فهو جمع سُحل وهو الثّوب، ويجوزُ جمع سُحل على سُحول. وأمّا قوله: "لِلْمهنَةِ" أراد الامتهان، ومن روى: "الْمُهْلَة" أراد المادّة، وقيل: أراد تأنيث مهل كما يقال: مهل ومهلة (¬6). المسألة الرّابعة: فيه اختيار البياض في الكَفَنِ، وهو أصلٌ في الدَّين، لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ ثِيَابِكمُ الْبَيَاضُ" (¬7) وحديث آخر: "فَليُحْسِنْ كَفَنَهُ" (¬8)، وخرّج التّرمذيّ (¬9) فيه حديث أبي قتادة: "إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ" وقال فيه: هو حديثٌ حسنٌ (¬10)، وقال علماؤنا (¬11): يحسنه بالصَّفَاقَةِ (¬12) ليس بالغَلَاءِ. ¬
المشي أمام الجنازة
المسألة الخامسة: لا يغالي في الكَفَنِ، ففي ذلك رواية أبي داود (¬1)، عن عليّ؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا تُغَالُوا في الأَكفَاَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا". وقال أبو بكر (¬2): "الحَيُّ أَحوَجُ إلى الجَدِيدِ منَ الميِّتِ". المسألة السّادسة: حديث عبادة: "خَيْرُ الكَفَنِ الحلّة، وخَيْرُ الأُضْحِيةِ الكبشُ الأَقرَنُ" (¬3) يعني بالحلة: ثوبين واحد فوق واحد. وأمّا المرأة فإنّها تُكَفَّن في خمسة أثوابٍ. وقوله (¬4): "سَحُوليَّةٌ" منسوبة إلى سحول بلدة باليمن (¬5)، وقيل (¬6): هي منسوبة إلى القطن، والأمران يرجعان إلى أمرٍ واحد؛ لأنّ ثياب اليمن إنّما هي قطن. المشي أمامَ الجنَازَة قال الإمام: هذا بابٌ ليس للنَّظَرِ فيه مَدخَلٌ، وإنّما ذلك موقوفٌ على الأَثَر، رَوَى الثلاثة الأيِمّة المشي والسعي أمام الجنازَة عن ابنِ عمر؛ أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وأبا بَكْرٍ وعمر كانوا يمشون أمام الجنَازَة (¬7)، وليس في البابِ حديثٌ أَمْثَل من هذا. وأمّا حديث التّرمذيّ (¬8)، عن ابن مسعود، وحديث ثوْبَان (¬9)، في قوله: ¬
"أَمَا (¬1) تَستَحْيُونَ؟ ملائكةُ اللهِ على أَقْدَامِهِمْ وأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ " هو حديث موقوفٌ (¬2)، والصحيح أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ركب مرجعة من جنازة أبي الدَّحدَاحِ وأصحابه يمشون مَعَهُ (¬3). الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬4): اختلف العلّماء في ذلك (¬5)؟ فقال مالكٌ: ذلك سنّة مشروعة (¬6). وقال الشّافعيّ (¬7) وأحمد (¬8) وقوم؛ أنّ ذلك ممنوع (¬9). المسألة الثّانية (¬10): تكلّم النّاس في تعليل ذلك، وانتسبت (¬11) لمعانٍ ليست بالقويّة (¬12) منها: أنّ النّاس شُفَعَاء، والشّفيعُ يمشي بين يدي المشفوع له، وهذا حُكْمُ الرِّجال، وأمّا النَّساء فيمشين من وراء الجنازة؛ لأنّ ذلك أَسْتَر لهُنَّ، قاله ابن نافع، والله أعلم. المسألة الثّانية (¬13): ¬
قال (¬1): ويُكْرَهُ الرّكوبُ في المشي أمام الجنازة، قاله مالك. ولا بأس به في الانصراف، قاله ابنُ حبيب. تنبيه (¬2): قال الإمام - ووجه ذلك: أنّ المشيَ مع الجنازة فعل برّ وموضع تواضعٍ، ومشي إلى الصّلاة كالمشيِ إلى الجمعة والرُّجوع، فليس بعبادةٍ في نفسه، فالرّكوب فيه مطلق كالرُّكوب للمُنْصَرِفِ من الجمعة. فان ركبَ أحدٌ إلى جنازة، فحُكمُه أنّ يمشي خلفها والنِّساء خلفه والناس أمامهما. المسألة الرّابعة (¬3): في حمله أمّا حمله، فإنّه من فروض الكفاية، وهو أيضًا من فروضه إنّ لم يكن له مالٌ، فإن كان له مالٌ فماله يحمله، وقد رأيت في جميع ديار المشرق -صَانَها اللهُ- أنّه ليس للمَوْتَى حاملٌ مخصو، ولا فيه (¬4) إجارةٌ مشروعةٌ، ولكن إذا جُعِلَ الميِّتُ على السَّريرِ نادَى منادٍ: احملوا تُحمَلُوا، فيبادِرِ النَّاسُ إليه فيحملونَهُ دُولًا حتّى يُوضع على قَبْرِه. فهذا حُملَتِ الجنازةُ، فالسُّنَّة أنّ يُمْشَى أمامها للحديث، وليس في قوله: "مَنْ يَتْبَعْ جَنَازَةً" (¬5) حُجَّة، وإنّما أراد به أنّ له أجرًا كما لو تقدّم أمَامَها، والمذهب بالمشي خَلْفَها هو مذهب أهل العراق (¬6)؛ لأنّ المَشْيَ خَلفَها عندهم أفضل، للحديث: "مَنْ يَتْبَعْ جَنَازَةً" في كلِّ حديث ورد فيه ذكر ذلك (¬7). والتّتابُعُ يكون خَلْفَ المتبوع، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ التّابع للمَلِكِ قد يمشي بين يَدَيْه لما يحتاج إليه، فليس يلزم من الاتِّباع تأخُّر التَّابع عن المتبوع، وتلك جَهَالَةٌ باللُّغَة (¬8). ¬
المسألة الخامسة (¬1): قيل: إنّ الميت يحمل بين العمودين؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بين العَمُودَيْن. وقال أبو حنيفة: يحمل بين الأربع (¬2)؟ لأنّ ابنَ مسعود حملها كذلك. ولقد ماتَ العلّماءُ في بغداد فما حملهم إلَّا أصحابهم، ومات رجل من أصحابنا فما حمله أحدٌ إلَّا أنا والطّرطوشيّ، قاله ابن العربي (¬3). المسألة السّادسة: اختلفَ العلّماءُ في القيام للجِنَازة؟ فذهب قومٌ إلى أنَّ القيامَ لها منسوخٌ بقولِ عليّ: إنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم - وفي قام ثمّ قعد (¬4)، ويقول علىّ: ما فَعَلَهُ إلَّا مرّة واحدة، مرّ برَجُلٍ من اليهود - وكانوا أهل كتاب- فلمّا نهي انتهى، فما عادَ إليها (¬5) - صلّى الله عليه وسلم -. وقالت فرقةٌ من العلّماء: كلا القولين ثبتَ عنه - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه قامَ وقعدَ، ولم تثبت الرِّواية من قِبَلِ الإسناد؛ أنّ القعودَ كان بعد القيام، والناسِ في ذلك مخيَّرُون إنّ قاموا فهو أفضل، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "المَوْتُ فَزع، فَإذَا رَأَيْتُمْ جَنَازَةً فقُومُوا" (¬6) وقال في حديث آخر: "إِنَّمَا يُقَامُ إِعْظامًا لِلذِي يَقْبِضُ النَّفُوسَ وَفَزَعًا لِلْمَوتِ" (¬7) وقال في حديث آخر: "إِنَّمَا قُمْنَا لِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ" (¬8)، وَمنْ عَظَّمَ اللهَ فذَكَرَ الموتَ كان أفضل، ومن جلس فبغير حرج. ¬
المسألة السّابعة: كيف يدخل القبر؟ هذا باب اختلف العلّماء فيه: فقال أبو حنيفة: يؤخذ من جهة القِبْلَةِ (¬1). وقال الشّافعيّ: من يمين القبر؛ لأنّ ابن عبّاس رُوِيَ أنّه أخذ من يمين القبر، وتلك عادة أهل المدينة. وحُجَّةُ أبي حنيفة؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أمر بإدخاله من جهة القِبْلَةِ، وكذلك رواه الطحاوي عن ابن عبّاس، وقد بَيَّنَا في "أنوار الفجر" أنّ آدم كان دفنه من جهة القِبْلَةِ، وذكر ذلك النَّخَعِي. المسألة الثامنة: (¬2) فهذا أدخل الميت قبره، فإنّه يستحبُّ تلقينه في تلك السَّاعة، وهو مستحبٌّ، وهو فعلُ أهل المدينة والصالحين والأخيار؛ (¬3) لأنّه مطابِقٌ لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4) وأحوج ما يكون العبد إلى التّذكير بالله تعالى عند تغيّر (¬5) الحال وخروج الرُّوح وعند سؤال الملك؛ لأنّه يخاف عند ذلك أنّ يختلسه الشّيطان فَيُذَكَّر بالله تعالى، ولقوله: "لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إِلَهَ إِلا الله" (¬6). قال الإمام: ولهذه النكتة اختلفَ استفتاحُ المصنِّفينَ في كتبهم في الجنائز، فأمّا البخاريّ فقال في كتاب الجنائز (¬7): "مفتاح الجنّة: لا إله إلَّا الله" (¬8) وأمّا مسلم (¬9) فقال: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ: لَا إِلَهَ إلا الله" لهذا المعنى؛ لأنّه موضع يتعرّض الشيطان فيه لإفساد (¬10) اعتقاده ودينه وآخرته ويجتهد في ذلك، فأمَر النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بذلك ليكون تذكيرًا له وتَنْبِيهًا لما وعدَ به - صلّى الله عليه وسلم -، ولما وقعَ في الحديثِ الآخَرِ أنّه "مَنْ كَانَ آخِرَ كَلاَمِهِ لَا إِلَهَ ¬
النهي أن تتبع الجنازة بنار
إلَّا الله دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬1) عربيّة (¬2): قال الإمام: والتَّلقينُ هو تفعيل، من لَقِنَ أي فهم ما يذكر له، فهو يفهم ويذكر، وأمّا التّلقين في حال الحياة، فإنّه لا يخلو أنّ يكون الميِّت حاضر الذِّهن فهذا هو الّذي يُذَكَّر، وإن كان أُغْمِيَ عليه فليُذَكَّر أيضًا، وإن كان مرّة يُغمَى عليه ومرّة يتذكّر (¬3) فليذكّر؛ فإن قالها فلا تعاد عليه مرّة أُخْرَى فإنّه على ما قَالَ، وسيأتي بيان هذه المعاني في مواضعها بِأَوْعَبِ بيانٍ إنّ شاءَ الله. النّهي أنّ تُتْبَعَ الجنازةُ بنَارِ قال الإمام: في هذا الباب أربع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قولها (¬5): "أَجمِرُوا ثِيَابِي" يحتمل أنّ يكون منها على وجه التّعليم بالسُّنَّة، ويحتمل أنّ يكون على وجه الوَصِيَّة لمن قد علم جواز ذلك؛ لأنّها إنّما أرادت التّجمير للثِّياب. وقولُها: "ثُم حَنِّطُونِي" الحَنُوط ما يُجعَلُ في جَسَدِ الميِّت وكَفَنِه من الطِّيبِ وغير ذلك ممّا الغرض فيه ريحه دون لونه؛ لأنَّ المعهودَ منه ما ذكرنا من الرّائحة دون التَّجَمُّل واللّون، واللهُ أعلمُ. المسألة الثّانية (¬6): إذا ثبت هذا، فموضع الحَنُوطِ أين يكون؟ ¬
فقال أشهب: في لِحْيَتِه ورأسه، وهذا واسعٌ. وقال ابنُ حبيب: يُجعَلُ الكافور على مساجده وجبهته ورأسه وركبتيه (¬1) وقَدَمَيْهِ، ويُجْعَلُ في مسامّه وعينيه (¬2) وفَمِهِ وأُذُنَيْهِ ومنخره (¬3)، وعلى القُطْن الّذي يُجْعَلُ بين فَخِذَيْه، ويُجعَل بين أَكفَانِهِ كلِّها، ولا يُجْعَل على (¬4) ظاهر كفنه. المسألة الثّالثة (¬5): قال الإمام: وَيُفعَلُ هَذَا بِكُلِّ (¬6) مَنْ غسّلَ ميِّتًا وَصُلِّيَ عَلَيْهِ (¬7)، مُحْرِمًا كَانَ أو غير محرم (¬8)، وبه قال الحسن، وعكرمة، والأوزاعي، وأبو حنيفة. وقال الشّافعيّ: لا يقرب المحرم طيبًا. شرح (¬9): قال الإمام (¬10): والدّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا حُكْمٌ من أحكام الحجِّ، فوجبَ أنّ يبطل بالموتِ كالطّوافِ (¬11). وأمّا ما رُوِيَ عنِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه في الّذي المُحرِمِ الّذي وقع من رَاحِلَتِهِ فماتَ: "اغسلُوهُ بِمَاء وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُجَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبعَثُهُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا" (¬12) فليس بمانع من ذلك في غير ذلك الميّت، لأنّا لا طريق لنا ¬
باب التكبير على الجنائز
إلى معرفة ذلك (¬1). وتعليلُ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك إنّما هو طريقٌ لا سبيلَ لنا إلى معرفته، فهو دليلٌ على أنّه حُكْمٌ مخصوصٌ به، ولو كان حُكْمًا يتعدَّى إلى غيره لعلَّلَهُ بما لنا من طريق إلى معرفته. المسألة الرّابعة (¬2): وقولها: "لَا تُشَيِّعُوني (¬3) بِنَارٍ" دليل على ما قال ابن حبيب: إنّما ذلك للتّفاؤل بالنار. ويحتمل ما قال أيضًا أنْ يكون هذا من أفعال "الجاهلية، فَالشَّرِيعَةُ (¬4) مُخَالَفَتُهُ إذا لم يمن له وجه مقصود في الشّريعة. ويحتمل أنّ يمنع؛ لأنّه كان يُفْعَل على وجه الظّهور وللتَّعَالِي، والأوّل أحسن. وقد روي عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه قال: "لَا تُشَيِّعُوا الْجَنَازَةَ بِصَوتٍ وَلاَ بِنَارٍ" (¬5)، ولا أعلم بين العلّماء خلافًا في كراهيَّتِهِ. باب التَّكبير على الجنائز العربية: التّكبير هو التّفعيل، مِنْ كبر، من قولك: الله أكبر، قال أهل العربية: "الله أكبر" معناه كبيرٌ وعظيمٌ وجليلٌ، وكذلك التَّسَبيحُ هو تفعيل، مِنْ سبّح يسبّح، وهو مصدر. الفقه والفوائد المنثورة في هذا الباب: وهي تسع مسائل: ¬
المسألة الأولى: النّعي للميِّت روى الواقديّ، قال: نَعَى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للنَّاسِ النَّجَاشِي في اليوم الّذي مات فيه (¬1)، وذلك في رَجَب سنة تسع من الهجرة (¬2)، فكان ذلك من أَعْلاَمِ نُبُوَّتهِ - صلّى الله عليه وسلم -، وذلك لما بينَهُما من الثَّغرِ بين أرض الحجاز وأرض الحَبَشَةِ. ومِثْلُه إذ أخبر بقتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رَوَاحَة، وقد بيّنّاها وشرحناها في جملة المعجزات في "الكتاب الكبير". المسألة الثّانية (¬3): قال علماؤنا (¬4): النَّعيُ هو الإخبار بموته، وهذا النَّعْي غير محظور، وأمّا النَّعيُ الّذي معناه الصُّراخ والصّياح فإنّه محظورٌ، ولذلك كره مالك الانذار بالجنازة على أبواب المساجد والأسواق؛ لأنّه من النَّعْيِ. وقال علقمة بن قيس: الإنذار بالجنازة من النّعي، والنّعي من أمر الجاهلية. العارضة: قال الإمام: النّهي غير صحيحٌ؛ لأنّه - صلّى الله عليه وسلم - أعلم وأخبر بموت النّجاشي (¬5) واسمه أصحمة وهو ملك الحبشة، وكان آمن بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأخذ الإيمان عمّن جاء من الصّحابة، وهاجَرُوا إليه فآواهم، فلمّا مات، نَعاهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم، وهو من أعلام نُبُوَّتهِ ومعجزاته كما تقدّم. والنّعيُ هاهنا هو الإخبارُ بمَوْتِهِ، كما أخبر بمَوْتِ جعفر وزيد بن حارثة، فثبت من ذلك ثلاث حالات (¬6): 1 - الحالة الأولى: أنّ إعلامَ الأهلِ والقرابات (¬7) والصّالحين والعلّماء بمَوْته سُنَّةٌ. ¬
2 - وأن الجَفَلَى (¬1) والخِزْيَ (¬2) طلب التَّفَاخُر والمُبَاهَاة بِدْعَةٌ. 3 - وأَنَّ نَعْيَ الغائِبِ جائزٌ، والصَّلاةَ على الغائب جائزةٌ. وتركه للصّلاة على جعفر - وقد نَعَاهُ كما نعى النَّجاشي - فيه دليلٌ على أنّ الشّهيد لا يُصَلَّى عليه، وهذه سُنَّةٌ يفعلُها أهل بغداد وما وراء النّهر. إذْ لا يتبع الميِّت إلَّا أهل وُدِّهِ والصَّالحين من النّاس. المسألةَ الثّالثة: المرور للجنازة ففي الصّحيح؛ أنّه خرجَ إلى المُصَلَّى، وقد صلَّى أيضًا في المسجدِ، وقد صلَّى عند القبر، وإنّما جوّزَ للنجاشي ليكون الحال له أجمع. المسألة الرّابعة: (¬3) أنّه يصلّي على الغائب، قالت المالكية: ليس ذلك إلَّا لمحمد - صلّى الله عليه وسلم -. قلنا: وما عمله محمّد - صلّى الله عليه وسلم - يُعملُ به، وتعمل به الأُمَّة من بَعْدِهِ. فإن قيل (¬4): طويت له الأرض وأحضر روحه بين يَدَيْهِ. قلنا: إنّ ربَّنَا لقادِرٌ، وإن نَبِيَّنَا بذلك لأهلٌ، ولكن لا نقِرُّ بِهِ (¬5)؛ لأنّكم رويتموه من عند أنفسكم. فإن قيل: إنّ جبريل -عليه السّلام- جاءَهُ بروح جعفر أو بجنازته وقال: قم فصلّ عليها. قلنا: لا نتحدّث إلَّا بالثّابت من القَوْلِ، ودَعُوا الضَّعِيفَ؛ فإنَّه سبيل التَّلَفِ فيما ليس فيه صحيح (¬6). المسألة الخامسة: وقع في الصّحيح عن (¬7) النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِنَّ أَخَاكُمْ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا ¬
عَلَيهِ" (¬1) والأمرُ يقتضَي الوجوبَ، ولا فَرْقَ بين الصَّلاة على النَّجَاشِي وغيره، وفي حديث آخر أنّه قال: "تُوُفِّيَ في اليَومِ رَجُلٌ صَالِحٌ" فقام فصفّ بهم كما يفعل في صلاة الفَريضة (¬2). ومن أغرب (¬3) ما رُوِيَ عن مالكٌ؛ أنَّه استحبَّ أنّ يكون المصلُّون على الجنازة سطرًا واحدًا. قال الإمام: ولا أعلمُ لذلك وجهًا؛ لأنّه كلما كَثُرَتِ الصُّفُوفُ كان أفضل، وكذلك صحَّ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في أكثر صلاته عليها، وفي الصّحيح في صلاة النّجاشي: "فَقُمْنَا وَراءَهُ صفَّيْنِ" (¬4) وفي الصّحيح أنَّه قال: "استَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ" (¬5) معناه: سلوا الله المغفرة (¬6)، وهو أفضل ما يسأل (¬7) له. المسألة السّادسة (¬8): قال علماؤنا: صلاةُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على النَّجاشيّ هو مخصوص به لثلاثة أَوْجُهٍ: أحدها: أنّ الأرضَ دحيت له جَنُوبًا وشِمالًا، ورأى نَعْشَ النجاشي، ورأى أيضًا بَيتَ المَقْدِسِ. قال المخالفُ: وأي فائدةٍ في رؤيته! وإنّما الفائدةُ في لُحُوقِ بَرَكَتِهِ. الوجه الثّانِي: أنّ النّجاشي لم يكن له هنالك وَلِيٌّ من المؤمنين فيقومُ بالصَّلاةِ عليه (¬9)؛ لأنَّ (¬10) النَّجاشي كان مسلمًا وَليَهُ أهل الشِّرْكِ في بَلَدٍ آخر، فلم يكن له من يقومُ بسَبَبِه، فقام النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بها. الوجه الثالِث: أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما أراد بالصَّلاة على النّجاشيّ إدخال الرَّحْمَةِ ¬
عليه، واستئلاف بقيّة الملوك بعدَهُ إذا رَأَوْا الاهتمام به حيًّا وميّتًا. قال المخالف: بَرَكَةُ الدُّعاء من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ومواساته (¬1) تلحق الغائب (¬2). والذي عندي في صلاة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على النّجاشيّ: أنّه عَلِمَ أنّ النّجاشيّ ومن آمن معه (¬3) ليس عندهم من سُنَّةِ صلاة الميِّت أَثَرٌ، فعَلِمَ أنّه سيدفنونه بغَيْرِ صلاةٍ، فبادرَ إلى الصَّلاةِ عليه، والمسألةُ عريصة (¬4) المدرك، وحقيقتها في "مسائل الخلاف". وهنا نكتةٌ وهي (¬5): إذا تعذَّرَ غسل الميِّت لأمرٍ، فإنّه لا يمنع الصّلاة عليه، لأنّا نحن لا نعلمُ هل غُسِّلَ النّجاشيّ أم لا؟ ولهذا إذا عدم الوضوء لم يمنع ذلك من فعل (¬6) الصّلاة (¬7) على كلِّ حال. المسألة السابعة (¬8): قوله (¬9): "فكَبَّرَ عَلَيهِ أَرْبَعَ تَكْبيرَاتٍ" صحيحٌ حَسَن (¬10)، ولو كان التّكبير سَبَبًا لزيادة الفَضْلِ، لوَجَبَ زيادة التّكبير، ولما كان أحد أحقّ به مثله، لأنّه أمَّنَ من هاجر إليه من المسلمين وآواهم وأكرمَهُم (¬11). المسألة الثّامنة: اختلفَ العلّماءُ في التّكبير على الجنازة من ثلاث تكبيرات إلى سَبْعٍ، ولهم في ذلك أحاديث كثيرة، فقد رُوِيَ أنّه كان يُكَبِّر على الجنازة خمسًا وستًّا وسَبْعًا، حتّى جاء موت النّجَاشيّ فكَبَّرَ أربعًا وهو آخر فِعْلِهِ، وعلى هذا أهم أيِمَّة الأمصار لا زيادة ولا نقصان؛ لأنّه أَثَرٌ صحيحٌ لا مَدْفَعَ فيه. ولما روي أيضًا في الأَثَرِ؛ أنّ جبريل -عليه السّلام- كَبَّرَ على آدم أربع تكبيراتٍ، ¬
وأن الخلفاء أيضًا عملوا بذلك، فكبّر أيضًا على أبي بكرٍ الصِّديق أربع تكبيراتٍ، وعلى عمر كذلك، واستمرَّ العملُ على ذلك، والشِّيعةُ تُكَبِّرُ على الجنازةِ خمسًا. واختلفَ العلّماءُ في إمام كَبَّرَ على جنازة خمسًا؟ فقال ابنُ القاسم وابنُ وهب عن مالك: إنَّه لا يُكَبّر معه الخامسة، ولكنّه لا يُسَلِّم إلَّا بسَلاَمِه (¬1). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا كبّر الإمام خمسًا قطع المأموم بعد الرّابعة بسلام ولم ينتظر تسليمه (¬2). وقال أحمد وأهل الحديث: انه يكبّر معه خمسًا وسبعًا إنْ كبّر، لقوله: "لَا تَخْتَلِفُوا عَلَيهِ" (¬3) ولقوله: "إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبَّرُوا" (¬4) وهذه من المحدِّثة وَهلَةٌ لا مردَّ لها. المسألة التّاسعة: اختلف العلّماء في الّذي يفوته بعض التّكبير على الجنازة، هل يحرم في حين دخوله، أو ينتظر الإمام حتّى يدعو يكبِّر فَيُكبِّر بتكْبِيرِهِ، فإذا سَلَّم الإمامُ قَضَى ما عليه، ورواهُ ابنُ القاسم عن مالك. واحتج من قال ذلك (¬5) بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، ومَا فَاتكُمْ فَاقْضُوا" (¬6). وأجمع العلّماءُ بالعراق والحجاز في قَضَاءِ التَّكبِيرِ دون الدُّعاء (¬7)، وهو الصّواب. ¬
حديث مالك (¬1)، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مِسكِينَةُ مَرِضَتْ، فَاُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بِمَرَضِهَا، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَعُودُ المَسَاكِينَ وَيَسألُ عَنْهُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: "إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي بِهَا" فَخُرِجَ بِجَنَازَتهَا لَيْلًا، فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أَصْبَحَ أُخْبِرَ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهَا فَقَالَ: "أّلَمْ آمُرُكُم أَنْ تُؤْذِنُوني بِهَا؟ " الحديث إلى قوله: وَصَفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا، فَكَبَّرَ أَربَعَ تَكْبِيرَاتٍ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ، وخرّج الأيمة مثله (¬2)، رُوِيَ عن علي بن أبي طالب؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى على قَبرٍ مرّتين، وروى التّرمذيّ (¬3)؛ أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - صلّى على قبر بعد شَهْرٍ، والصّلاة بعد شهر كالصّلاة بعد يَوْمٍ. وبَيَّنَ أبو عيسى التّرمذيّ (¬4) المصلّى عليها بعد شهر وهي أمّ سَعد بن عبادة، من رواية ابن المسيَّب مُرْسَلًا، وقد روى الدارقطني (¬5) ذلك مُسْنَدًا عن ابن عبّاس؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى على قَبْرٍ بعد شَهْرٍ، تفرَّدَ به بشر (¬6) بن آدم عن أبي (¬7) عاصم. الفقه والفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي عشر فوائد: الفائدةُ الأولى (¬8): عيادةُ المريضِ وهي أصلٌ في الدِّين، وقد رُوِيتْ فيها آثارٌ كثيرةٌ. قال علماؤنا: الزّائر هو الّذي ينزل بالمَزُورِ (¬9)، ومنه يقال للطَّيْف: زَوْرٌ، والعائد هو الّذي يقصده على نية التَّكْرَارِ. ¬
أمّا البخاريّ (¬1) فقد بَوَّبَ وأدخل الحديث الصّحيح فقال: "أَطْعِمُوا الْجَائع، وَفكُّوا الْعَانِي، وَعُودُوا الْمَرْضَى" وفيه حديث صحّحه أبو عيسى فقال في ثواب المريض فقال: "مَا مِن امرِءٍ يَمرَضُ إلَّا حُطَّتْ عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ وَرُفِعَت لَهُ دَرَجَاتُه" (¬2) وفيه حديث آخر حسن خرّجه الترمذيُّ "إنّ المريض تَتَحَاتُّ خَطَايَاهُ كَمَا تَتَحَاتُ وَرق الشَّجَرِ" (¬3)، وهذه موعظةٌ للمريض. الأصول (¬4): قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية (¬5)، كلّ ذلك من فَضلِ اللهِ على عباده أنّ خلقَ المعصيةَ وكَفَّرَهَا (¬6) بحِكمَتِهِ وبرَأفَتِهِ، وكفَّارة الأَوْصَاب والأمراض للسَّيِّئاتِ -كما قدّمنا- إذا كانت صغائر مسحًا مسخًا، وإن كانت كبائر فكبائر (¬7). وقوله (¬8): "إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسلِم لَمْ يَزَلْ في خُرفَةِ الجَنَّةِ" فإنّ ممشاهُ إلى المريضِ لما كان له من الثّواب على كلّ خُطوَةٍ درجة، وكانت الخُطَى سببًا إلى نيلِ الدَّرجاتِ في النَّعيمِ المُقِيمِ، عَبَّرَ عنها (¬9) لأنّه سببها، فجاز كما بيَّنَّاهُ، وله إذا مشى في "الخُرفَةِ" وهي بساتين الجَنَّةِ أنّ يخرفَ منها ويتنعَّمَ بالأكل. وقوله (¬10):"إِن الْمَرِيضَ تَتَحَاتّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَتَحَاتُّ وَرق الشَّجَرِ" وهذه إشارة إلى أنّ المريض إنّما تنحطّ عنه أوّلا الصّغائر من الذُّنوب الّتي هي من شجر ¬
المخالفة، بمنزلة الوَرَقِ من شجر الدُّنيا، وشجر المخالفة شجرة خبيثة (¬1)، أصلُها الكفر وورقها صغائر الذُّنوب (¬2). وَرُوِيَ في حديث أنّه قال لمن لم يصب الله منه: "قم عنّا، فَلَستَ مِنَّا" (¬3) إشارة إلى أنَّه ناقص المرتبة عند ربِّه، وعلامة ذلك صحَّة بدنه على الدّوام، وهذا يخرج مخرج الغالب، أَوْ (¬4) علم من حال (¬5) ذلك في نقصانه ما أخبر بذلك عنه. الفائدةُ الثّانية (¬6): قال علماؤنا: يعادُ المريض من كلِّ ألم دقَّ أو جلَّ، ويعادُ من الرَّمَدِ، وقد رُوِيَ في الحديث أنّ زيد بن أرقم عادَه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - من رَمَدٍ أصابه (¬7). وقد رُوِيَ في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يُعَادُ مِنْ وجَعِ العَيْنِ، وَلا مِنْ وَجعِ الضّرسِ، وَلاَ مِن وَجعِ الرَّمَدِ" (¬8). وقد قال بعض أشياخي (¬9): إنّ هذا الحديث يقضي عليه الأوّل. الفائدةُ الثّالثة: قال الإمام (¬10): الصّلاة على القَبْرِ ليست مشروعة عند مالك، وهو الصّحيحُ من ¬
قولِ سائرِ العلّماء، وصلاته على القبر إنّما كانت لأنّها دفنت بغير صلاةٍ، إذ قال لهم: آذِنُونِي بها، فلم يَفْعَلُوا، فوقعتِ الصلاةُ غير مجزئة، فوجب إعادة الصّلاة، ولكن قال مالكٌ: إنّما يصلَّى على القبر إذا كان حَدِيثًا. والصّحيح عندي أنّه إذا دفن بغير صلاةٍ صلّي عليه أبدًا. الفائدةُ الرّابعة (¬1): قوله (¬2): "أنّ مِسْكِينَةً مَرِضَتْ" قال علماؤنا (¬3): في هذا الحديث دليل على اهتمام النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بأخبار ضُعَفَاءِ المسلمين. وكان (¬4) النّبيُّ يجالس المساكين ويحبُّهم، وهي عادة الأنبياء قَبْلَهُ. الفائدةُ الخامسة (¬5): قوله: "فَخُرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلًا" فيه أنّ الخروج في اللّيل بالجنازة جائزٌ، وإن كان الأفضل ترك ذلك إلى النَّهار ليحضرها مَنْ أمكنَ من المسلمين دون مَشَقَّةٍ، فإن (¬6) كان ذلك لضرورة (¬7)، فلا بَأْسَ به إنّ شاء الله، وروى ذلك ابن زياد (¬8). الفائدةُ السّادسة (¬9): قوله: "حَتَّى صَفَّ النَّاس عَلَى قَبْرِهَا" قال علماؤنا (¬10): هذا يقتضي أنّ الصُّفوفَ على الجنائز مسنونةٌ كسائر الصّلوات بالجماعة (¬11)، ولذلك لم يصلِّ عليها وحده. وإذا كان من يصلِّي على الميِّتِ النِّساء فقط، فقد قال ابنُ القاسم: يصلِّين أفذاذًا؛ لأنّ هذه صلاة، فلم تكن المرأة فيها إمامًا كسائر الصّلوات. وقد قال أشهب: تؤمهنَّ امرأة. ¬
قال الإمام (¬1): ويحتمل أنّ تكون هذه الرِّواية مبنية على رواية ابن أيمن عن مالكٌ في إمامة المرأة. الفائدةُ السابعة (¬2): قوله: "فَصَفَّ النَّاس عَلَى قَبْرِهَا" هذا بَيَّنٌ في جواز الصّلاة على القبر، وعلى هذا جمهور أصحابنا، غير أشهب وسحنون فإنّهما قالا: إنّ نَسِيَ أنّ يصلِّى على الميِّت فلا يصلّ على القبر (¬3)، إذا فاتت الصّلاة على الميِّت، فأمّا إذا لم تفت فيصلّى عليه (¬4). وقال ابن وهب عن مالك أنّ ذلك جائز، وبه قال الشّافعيّ. والدّليل على المنع من ذلك: أنّ هذا حكمٌ يجب فيه بعد موته، فوجب ألَّا يتكرّر مع بقاء حُكْم الأصل كالغُسْلِ. ووجه قول ابن وهب والشّافعىّ: تعلّقهما بصلاة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على هذه المرأة. والجواب: أنّه لا يجوز امتثاله لمعان: أحدها: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - علّل صلاته على القبور بما لا طريقَ لنا إلى العلّم بأنّ حكم غيره فيه كحكمه (¬5)، فقال: "إِنَّ هَذِهِ الْقُبُور مُمْتلِئَةٌ ظُلمة، وإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا بِصَلاَتِي عَلَيْهَا" (¬6). ووجه آخر: وهو أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -كان المستحقّ للجنائز (¬7) والوليّ عليها، فإذا صلّى غيره لم يسقط فَرْض الصّلاة عليها، وهو قولُ جماعة من أصحابنا. ومنهم من قال: إنّ الفَرضَ يسقط ولا تُعَادُ الصّلاة، غير أنّه كان منعهم من ¬
دفنها حتّى يصلّى عليها (¬1)، فلما كان قد نهى أنّ تدفن حتّى يصلّى عليها، لم تكن صلاتهم دونه تسقط فَرْض الصّلاة عليها. المسألة الثّامنة (¬2): فإذا ثبت أنّه لا يصلّى على قبرٍ إلَّا بعد أنّ تَفُوت الصّلاة على الميِّت، فبأيِّ شيءٌ يفوت ذلك؟ قال أشهب: تفوتُ الصّلاة عليه خارج القَبرِ، بأنْ يهال عليه التراب ويخرج، وإن وضع اللّبن عليه ما لم يهل التراب عليه. وروى يحيى عن ابن القاسم؛ أنّ ذلك لا يفوتُ حتّى يُخَاف عليه التّغيير، وأنّه يخرج ما لم يخف التغيير عليه. وقال أشياخنا: إنّما يفوتُ بالدَّفْنِ، والفراغ من الدّفن هو تسوية التُّراب. المسألة التّاسعة: قوله: "فَكَبَّرَ عَلَيهَا أَرْبَعًا" هو الصَّحيح المشهور الثّابت في الدِّين قطعًا، كما بيَّنَا قبلُ. واختلف العلّماء هل يقف الإمام بعد التكبيرة الرّابعة للدُّعاء أم لا؟ فقال سحنون: يقف بعد الرّابعة ويسلِّم بإِثْرِها. وفي "الَّتبْصِرَة" (¬3) قال ابنُ حبيب: يسلِّم عقب التكبيرة من غير دُعاءٍ، وحَكَى قول سحنون أيضًا. توجيه: قال الإمام - ووجه ما قاله سحنون: أنّ التكبير الآخر من صلاة الجنازة، فكان ¬
ما يقول المصلي على الجنازة
الدّعاء مشروعًا بعدَها، أصلُ ذلك الأُولى والثّانية والثّالثة. ووجه القول الثّاني الّذي قاله ابن حبيب في "التّبصرة": أنّ الدُّعاء في صلاة الجنازة بمنزلة القراءة في غيرها، ولو دَعَا بعد الرَّابعة لاحتاج إلى تكبيرة تفصلُ بين القراءة في غيرها، ولو دَعَا بعد الرّابعة لاحتاج إلى تكبيرة تفصلُ بين القراءة والتّسليم، كما يفصل الرّكوع بين القراءة والسّلام. المسألة العاشرة: هل يرفع يديه مع كلٍّ تكبيرة أم لا؟ فروى ابنُ وهب عن مالكٌ؛ أنَّه يستحبُّ ذلك. وروى ابن القاسم عنه؛ لا يرفع فيها بعد الأُولَى. وروى ابن حبيب عن ابن القاسم؛ اْنّه لا يرفع في الأُولَى ولا في غيرها. قال الإمام: والخلافُ في ذلك مبنيٌّ على الخلاف في رفع اليَدَيْنِ في الفَرِيضَة، كما بيَّنَّاهُ في موضِعِه. ما يقول المُصَلَّي على الجنازة الإسناد: روى مسلم (¬1)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا صَلَّيْتُنم عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ"، وفيه أحاديث كثيرة، وحديث أبي هريرة هذا ومروان قالا فيه: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبّهَا، وَأَنْتَ خَلَقتَها، وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وأَنْتَ أَعْلَمُ بسِرِّهَا وَعَلاَنِيِّهَا، جِئنا شُفَعَاء فِيهِ فَاغْفِر لِذَكَرِنَا وأُنْثانَا، وشَاهِدنَا وَغَائِبنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أًحْيَيْتَهُ مِتا فَاحْيِهِ عَلَى الإيْمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإسْلاَمِ، اللَّهُمَّ لَا تُحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعدَهُ" (¬2). ¬
وأمّا حديث وائلة، قال: سمعته يقولُ: "اللَّهُمَّ إنَّ فلان بن فلان في ذِمَّتِكَ فَقِهِ فتنةَ القَبرِ وعذابَ النَّارِ، وأنتَ أهل الوَفَاء والحقّ، اللَّهُمَّ اغفر له وارحمه، أنت الغَفُور الرّحيم" (¬1). وخرّج مسلم (¬2): "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعفُ عَنْهُ، وَأَكرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدخَلَهُ، وَاغْسِلهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الَخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَابْدِلْهُ دَارًا خَيرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجًا خَيرًا مِنْ زَوجِه، وَأَدخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَنَقِّهِ مِنَ النَّارِ -أَو قَالَ- وَأَعِذْهُ مِنَ النَّارِ". قال المؤلِّف: هذه الأحاديث الواردة الّتي ثبتت عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الدُّعاء، فلا يُلتَفَت إلى سواها، وإلى ما صنَّفَ النّاس فيها. الفقه والفوائد المنثورة: وهي ستّ (¬3): الفائدةُ الأولى (¬4): صلاة الجنازة عند أكثر العلّماء دعاء لا يفتقر إلى قراءة. وقال جماعة: يفتقرُ إلى قراءة الفاتحة، واختاره الشّافعيّ (¬5)، وخرَّجه البخاريّ (¬6) عن ابن عبّاس؛ أنَ السُّنَّة قراءة الفاتحة (¬7) في صلاة الجنازة. واتفَقُوا على أنّ الطّهارة لها فرضٌ، ما خلا الطّبريّ والشَّعبيّ فإنّهما قالا: إنّه دُعَاءٌ فلا يفتقر إلى طهارة (¬8). قال الإمام: والصحيح أنّها تَفْتَقِرُ إلى طهارة، لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا صَلاَة إلَّا ¬
بِطَهُورِ" (¬1) و "لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ بِغَيرِ طَهُورِ" (¬2) وهذه صلاةٌ بإجماعٍ، فوجبَ فيها الوُضوء. وأما القراءة، فلم ترد في رواية مُتَّصِلَةِ السَّند إلى النَّبيِّ (¬3)، وتحصيلُ مذهب مالك في هذه المسألة؛ أنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وبه قال أبو حنيفة والثّوريّ (¬4). وقال الشافعيّ وأحمد وإسحاق: يقرأ فيها بأمّ القرآن في أوَّلِ ركعةٍ خاصَّة، ويدعو في سائرها، وبه قال أشهب. وقال الحسن: يقرأ الفاتحة (¬5) في كلِّ تكبيرةٍ. قال الإِمام: والصّحيحُ عندي ما قاله أشهب؛ أنه يقرأ الفاتحة في أوَّلِ ركعةٍ ويدعو في سائرها، وهذا حسنٌ يعضده الحديث والنّظر والأثر؛ لأنَّ مالكًا لم يبلغه حديث ابن عبّاس، واللهُ أعلم. الفائدة الثانية (¬6): قوله (¬7): "اللَّهُمَّ إنا جِئْنَا شُفَعَاء فِيهِ" وقد يقال (¬8): فانفعنا به، والشّفيع لا يكون إلاَّ مُستَحَبًّا (¬9) في جميع أفعَاله فيشفع فيه، واللهُ أعلمُ. وكذلك قوله: "واغْفِر لصغِيرِنَا وكبيرِنا" وقد بَيَّنَاهُ في "كتاب التّفسير". قوله (¬10): "واحْيِنَا على الإيمَانِ وتَوَفَّنَا على الإسْلَامِ" فيه دليل على أنّهما بمعنى واحد، وقد تقدّم بيانُه بأن الإيمان هو التّصديق وأنّ الإِسلام هو الاستسلام، ولو كان الإِسلام العمل والإيمان الاعتقاد خاصّة، لكان الأمر بالقَلْبِ أَوْلَى، ويقال: وأمتنا ¬
على الإيمان وأحينا على الإسلام. الفائدةُ الثّالثة (¬1): قوله: "إنّ فلان بن فلان في ذَمَّتِكَ" والذِّمَةُ والذِّمام واحدٌ، وإنّما جعلوه في ذِمَّتِه لأنّهم كانوا يرونه يصلِّي الصُّبح، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى الصُّبح لَمْ يَزَلْ في ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي" (¬2) أو بشهادة الإيمان الّتي يشهدون له بها في قوله: "مَنْ قَالَ لَا إِلهَ إِلا الله وصلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحتَنَا" الحديث: "فَلَهُ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِ" وفي حديث آخر: "ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ" (¬3). الفائدةُ الرّابعة: قوله: "وَقِهِ عَذَابَ النَّارِ" وقال: "فِتْنَةَ الْقَبْرِ" وهذا سبيلٌ لابدّ لكلِّ ميِّتٍ منه، فللمُؤمِنِ النَّجاة، وللكافر الهَلَكَة، وللمُذْنِبِ المشيئَة، وقد تقدّم تحقيق عذاب القبر في صلاة الكسوف، فلينظر هنالك. الفائدةُ الخامسة (¬4): قوله: "وَأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ" يعني بالميعاد (¬5)، ولذلك معان كثيرة: أولها: الوَفَاءُ لمن مات على التّوحيد لا يعذبه البارئ؛ لأنّه أهل الوفاء ولَمَّا قال (¬6): إنّ الوفاءَ هو التّوحيد. وقد قال المفسِّرون في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬7) قيل: التّوحيد والجزَاء الأَوْفَى هو الإثابة على التّوحيد والنّجاة من النّار، والوفاء للشَّافِعِينَ فيه من المُصَلِّين، وشهادتهم له بالإيمان، على ما بيَّنَّاهُ في حديث عمر الصّحيح، قولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ"، قُلْنَا: وَثَلاَثَة؟ قَالَ: "وَثَلاَثَة"، قُلنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: "وَاثنَانِ"، وَلَمْ نَسأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ (¬8). ¬
في الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر
خاتمة: قال الإمام: وأخصر ما قيَّدْنَاه (¬1) في الدُّعاء على الميِّت، قوله: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابنُ عَبْدِكَ، مَاضٍ فِيهِ حُكْمُكَ، وَلَم يَكنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، أنزل بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، اللَّهُمَّ لَقِّنْهُ حُجَّتَهُ، وَأَلحِقْهُ بِنَبِيِّهِ، وَنَوِّر لَهُ قَبْرَهُ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِ مُدخَلَهُ، وَثَبِّتهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَأنَّهُ قَدِ افْتَقَرَ إِلَى رَحمَتِكَ وَاستَغنَيْتَ عَنْهُ، وَكَانَ يَشهَدُ أَلَّا إِلَهَ إلَّا الله، اللَّهُمَّ إنّ كَانَ زَاكِيًا فَزَكِّهِ، وَإِنْ كَانَ خَاطِئًا فَاغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا تَحرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ". هذا أخصر شيءٍ وأحسنه ممّا يقال على الميِّتِ. وأمّا ما يقوله الغاسل إذا غسّله، فإنّه ليس فيه أثرٌ غير ما رُوِيَ عن عليّ أنّه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: كَيفَ يَقُولُ الَّذِي يَغسل الْمَيِّتَ؟ قَالَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ عَفْوُكَ عَفْوُكَ، حَتى يَفْرَغَ مِن غسْلِهِ (¬2). وقال مالك: ليس عندنا في الدّعاء حد، وليقل وليجتهد ما أمكنَ، واللهُ أعلمُ. في الصّلاة على الجنائز بعدَ الصُّبْحِ وبعدَ العَصْر مالك (¬3)، عَن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرمَلَة، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحمنِ بْن أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حُوَيطِبٍ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنتَ أَبِي سَلَمَةَ تُوُفِّيَت، وَطَارقٌ أَمِيرُ المَدِينَةِ، فَأُتِيَ بجَنَازَتِهَا بَعْدَ الصُّبْحِ، فَوُضِعَتْ بِالْبَقِيعِ. قَالَ: وَكَانَ طَارِقٌ يُغَلَّسُ بِالصُّبْحِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ: فَسَمِعتُ عَندَ اللهِ بنَ عمر (¬4) يَقُولُ لأَهلِهَا إِمَّا أَنْ تُصَلُّوا عَلَى جَنَازَتِكُمُ الآنَ، وَإِمَّا أَنْ تَتركُوهَا حَتَّى تَرتَفِعَ الشَّمسُ. مَالِك (¬5)، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: يُصَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ العَصْرِ إِذَا صُلِّيَتَا لَوقتِهِمَا. ¬
الفقه في ثلاث مسائل: الأولى (¬1): قال علماؤنا: إنّما قال ذلك ابن عمر حماية أنّ يصلّى في الوقت المنهي عنه. وقوله: "لِوَقْتِهِمَا" يحتملُ أنّ يريد به لوقت الصّلاتين (¬2)، وهو الوقت المختار لهما في العصر إلى أنّ تصفرّ الشّمس، وفي الصُّبح إلى الإسفار، وهي رواية ابن القاسم في "المدونة" (¬3)، وفي "المختصر": يُصَلَّى عليها، إلَّا عندما يهمّ قرن الشيطان أنّ يطلع فلا يصلّى عليها (¬4)، إلَّا أنّ يخاف عليها. قال الإمام (¬5): وقوله في الصُّبح (¬6)، مبنيٌّ على أنّ الوقت المختار للصُّبح جميع وقتها، وأنّه ليس لها وقت ضرورة. ووجه رواية ابن القاسم: مبنية على أنّ لها وقت ضرورة، وهو من الإسفار إلى طلوع الشّمس. ويحتمل أنّ يريد بقوله: "إِذَا صُلِّيَتَا لِوَقْتِهِمَا" أي لوقت صلاتي (¬7) الجنازتين على ما تقدّم. المسألة الثّانية (¬8): فإنْ أخَّرَ الصّلاة عليها حتّى تغرب الشّمس؟ فرَوَى ابنُ القاسم وابنُ وهب عن مالك: يبدأ بالمغرب وذلك لضيق وقتها، أو لفضيلة تقديمها، وأمّا صلاة الجنازة فليس بعض الأوقات أخصّ بها من بعض، فإن صلّى عليها قبل المغرب فلا بأس به، وهو مبنيٌّ على سَعَةِ وقت المغرب، واللهُ أعلم. ¬
الصلاة على الجنازة في المسجد
عربية: قوله: "فَوُضِعَت بِالبَقِيعِ" البقيع: كلّ أرض سهلة، وهو القطيع من الأرض، وهو البقعة أيضًا. الصّلاة على الجنازة في المسجدِ الفقه (¬1): الصّلاة على الميِّتِ في المسجد له صُوَرٌ: أحدها: أنّ يدخل الميِّت في المسجدِ، وكرهه علماؤنا (¬2) لئلّا يخرج منه شيءٌ، وتعريض المسجد للنّجاسة لا معنى له، والحديث يحتمل أنّ يكون خوف أنّ ينفجر في المسجد، وإنّما أذنت عائشة (¬3) بالمرور عليها في المسجد؛ لأنّها أَمِنَت عليه أنّ ينفجرَ أو يخرجَ منه شيءٌ، بَيْدَ أنَّ مالكًا مَنَعَهُ للذَّرائعِ فمنع منه؛ لأنّ النّاس كانوا يسترسلون في ذلك، والله أعلم. تنبيهٌ على وَهَمٍ: قال جماعةٌ من الشّارحين للحديث منهم ابن شعبان (¬4): إنّما كره الصّلاة على الجنازة في المسجدِ؛ لأنّها ميتةٌ وجيفَةٌ، وليس هذا بشيءٍ؛ لأنّه لم يحسن عبارة المسألة، وإنّما المسألة مبنيةٌ على القول بنجاسة الميِّت، وهي مسألة خلاف. فعلى القول بنجاسته يتبيَّن وجه المنع، وعلى القول أنّه ليس بنجسٍ يكون المنع حماية للذَّريعةِ، لئلّا ينفجر منه شيءٌ. ويتعارض أيضًا حديث عائشة وحديث وقع في "كتاب أبي داود" (¬5) فيه: "إِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ في مَسْجِدٍ فَلَا شَيْءَ لَه" والجمع بينهما بعيدٌ جدًّا، واللهُ أعلم. ¬
جامع الصلاة على الجنائز
جامِعُ الصّلاة على الجنائز مَالِك (¬1)؛ أنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، كَانُوا يُصَلَّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالمَدِينَةِ، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيَجْعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الإمَامَ، وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ. الإسناد: قال أبو عمر (¬2): "هكذا رواه يحيى عن مالكٌ، وروته طائفةٌ من رواة "الموطّأ"عن مالكٌ، عن ابن شهاب، أنّه بَلَغَهُ أنّ عثمان وعبد الله مثَله سواء إلى آخره، ورواه محمّد بن مخلد العطار، عن أحمد ابن إسماعيل المديني، عن مالكٌ، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك؛ أنّ عثمان، وعبد الله بن عمر، وأبا هريرة، كانوا يصلّون، فذَكَرَهُ إلى آخره سواءً". وهو غريب ذَكَرَهُ عليّ بن عمر الدّارقطني عن ابن مخلد. الفقه في أربع عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬3): قال علماؤنا (¬4): يحتمل أنّ يصلّوا عليها للإمارة (¬5)، وأن يكون عبد الله بن عمر يصلَّي عليها لصَلَاحِهِ. ويحتمل أنّ يكون ذلك؛ لأنَّ كلّ واحدٍ منهم كانت له جنازة في الجملة. والجنازةُ يصلّى عليها بثلاثة معانٍ: 1 - الإمارة (¬6). 2 - والولاء والتّعصيب. ¬
3 - والصلاح والدَّين (¬1). فإنِ انفردَ كلُّ واحدٍ من هذه، مثل أنّ يموت أحدٌ فلا يكون له وليٌّ، ولا يحضر من يُشار إليه بصلاحٍ ويحضر الوَالِي، فلا خلافَ أنّه يصلّى عليه (¬2)؛ لأنّه أحق بالتّقديم عليها كصلاة الفَرضِ (¬3). فإني حضر وليّ ولم يحضر والٍ، ولا رجل مشهور بالصّلاح، فإن الوليّ أَوْلَى بذلك؛ لأنّ الصّلاة من حقوق الميِّت ومن حقوق الوليّ فإنّه أحق بالقيام بها من الأجانب. وكذلك إنّ حضر المشهور بالصّلاح دون الوالي والولي، فهو (¬4) أحقّ بذلك (¬5). فإن اجتمعوا فأحقهم الوالي (¬6)، وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ. وقال (¬7) مُطَرِّف وابن الماجشون وَأَصْبغ: إنِّما ذَلِكَ إلى الأمير الّذي تُؤَدَّى إليه الطّاعة (¬8). المسألة الثّانية (¬9): فهذا لم يكن والٍ، فأحقُّ التاس بالتقديم الوَليّ إذا كان ممّن تصحّ إمامته، ويستحقّ ذلك بالتَّعصيب، فأقوى عصبته وأقربهم منه أحقّهم بالصّلاة عليه، كولاية النِّكاح. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): وهي إذا اجتمع جنازتان فأكثر ولكلّ واحدة وليّ؟ فقد قال مالكٌ: إنّ أحقَّهُم بالصَّلاة أفضلهم، وإن كان وليّ امرأة وغيره وليّ رَجُل (¬2). وقال ابن الماجِشُون: أحقّهم وليّ الرَّجُل (¬3). المسألة الرّابعة (¬4): قوله: "فَيَجعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الإمَامَ" قال علماؤنا (¬5): هذا نوع من ترتيب الجنائز في الصّلاة عليها، وهي على ضربين: أحدهما: أنّ يقدّم مستحقّ الفضيلة. الثّاني: أنّ يجعلوا صفًا واحدًا ويقف الإمام وسط ذلك، فيجعل مستحقّ الفضيلة حذاء الإمام، ويجعل غيره عن يمينه وعن يساره. قال الإمام: وقد قيّدنا في ترتيبهم ثنتي عشرة مرتبة وهي: إذا اجتمعوا أنّ يقدّم الإمام: 1 - أعلمهم. 2 - ثم أفضلهم. 3 - ثم أسنّهم. وقيل: إنه يقدَّم الأفضل على الأعلم، وهذا بعيدٌ؛ لأنّ فضيلة العلّم مزيّة يقطع عليها، ومزيّة الفَضْل لا يقطع عليها، وأيّ درجة أفضل من العلّم. 4 - ثمّ الصِّبيان الأحرار. ¬
فإنْ تفاضَلُوا أيضًا في حِفْظِ القرآن ومعرفته، بشيءٍ من الدِّين والمحافظة على الصّلاة وفعل الطّاعة، قدِّم ذو المعرفة منهم على الّذي عرف بالمحافظة على الصّلاة وفعل الطّاعة. 5 - ثم الأسنّ، وإن لم يكن لأحدهم مزيّة السِّنِّ، قدِّم الأسنّ على غير الأسنّ. 6 - ثمّ العبيد الصِّغار. وإن تَفَاضَلُوا أيضًا في العِلْمِ والفَضْلِ والسِّنِّ، فعلى ما تقدّم في الأحرار؛ لأنّه قد أوضحنا أنّه يقدّم الرِّجال والنِّساء والأحرار والعبيد والصِّغار والكبار، فيقدّم الأحرار على العبيد صغارًا كانوا أو كبارًا، والذُّكور على الإناث صغارًا كانوا أو كبارًا، إلَّا إذا استوت مرتبتهم في الحرِّيَّة. 7 - ثم النِّساء الأحرار (¬1) الكبار. وقال ابنُ القاسم: إنّما قدّم العبيد الكبار على الأحرار الصِّغار؛ لأنّ العبد الكبير يؤمُّ الحرَّ الصَّغيرَ (¬2). ووجه القول الأوّل: أنّ نَقِيصَةَ العبوديّة أَثْبَتْ من نَقِيصَةِ الصِّغَر؛ لأنّ الصّغير يبلغ على كلِّ حالٍ مع حياته، والعبد قَدْ لا يعتق مع (¬3) حياته (¬4). 8 - ثمّ الخَنَاثَى المُشْكِلُون الأحرار الكبار. 9 - ثمّ الخَنَاثَى الأحرار الصِّغار. 10 - ثمّ النِّساء الأحرار الكبار. 11 - ثمّ النِّساء الأحرار الصغار. 12 - ثم الإمَاء الكبار، ثمّ الإمَاء الصِّغار، وباللهِ التّوفيق. وقال أبو الوليد (¬5) -رحمه الله-: "إنّ الفضائلَ المعتبرةَ في النّاسِ: الذكورةُ والبلوغُ والحرَّيَّةُ، كما أنّ النقائصَ ثلاثةٌ: الأُنوثة والصِّغر والرِّق، فيجب أنْ يقدَّم في ¬
الصّلاة من كملت فضائله، وهي الذكورة والحرية والبلوغ". فهذا حصل هذا، فالإمامُ يكَبِّرُ عليهم أربع تكبيرات، يُنزِلُ التكبيرة فيها منزلةَ الرَّكعة في الصّلاة، والدُّعاء فيها بمنزلةِ القراءَةِ في الصّلاة، وهذا صريح مذهب مالك -رحمه الله-. ومن شرطها صحة الإمامة كصلاة الجمعة والعيد. فإن صُلِّي عليها بغير إمامٍ أُعِيدَتِ الصَّلاةُ ما لم يفت ذلك، هذا عند مالك وأصحابه. وكذلك مذهبُهُ في الوَلِيِّ للصَّلاة عليها، فقال: والابن أَولَى بالصّلاة على الجنازة من الأب (¬1)، والأبُ أَوْلَى من الأخِ، والأخ أوْلَى من ابنِ الأخ، وابنُ الأخِ أَوْلَى من الجَدِّ، والجَدُّ أَوْلَى من العمِّ، والعَمُّ أَوْلَى من ابنِ العَمِّ، وهو مقيس على الأَقعَدِ فالأَقْعَد من العَصَبَةِ، وإذا أراد الأقعد أنّ يوكِّل بالصَّلاة أجنَبِيًّا فذلك له، وليس لمن تحته من الأولياء كلامٌ، كالنِّكاح يوكَّلُ به، قاله ابن الماجِشُون وأَصْبَغ. المسألة الخامسة (¬2): قول مالك في هذا الباب (¬3): "لَم أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهلِ الْعِلمِ يَكْرَهُ الصَّلاَةَ عَلَى وَلَدِ الزِّنَا وَأُمِّهِ" وهو كما قال؛ لأنّه من المسلمين، والموالاةُ لا تنقطعُ بيننا وبين أهل الكبائر (¬4)، فكيف ولا ذَنْبَ لوَلَدِ الزِّنا، وهو قول جمهور الفقهاء، إلَّا قتادة فإنّه قال: لايُصَلَّى عليه. والدّليل على ما نقوله: أنّ هذا مسلمٌ ماتَ في غير المعترَكِ، فوجبتِ الصّلاةُ عليه كولد الرِّشدَةِ (¬5). ¬
المسألة السّادسة (¬1): أمّا أمّه، فإنّه يُصَلَّى عليها أيضًا، غير أنّه يستحبُّ أنّ يجتنبَ الصّلاة عليها أهل الفَضل والعِلْم، وقد ذكرنا أنّ النقائص المانعة من الصّلاة على المِّيت عامّة وخاصّةٌ، وقد تقدَّم الكلام في العامَّةِ (¬2)، وبقيَ الكلامُ في الخاصَّةِ، وهو كلّ نَقْصٍ لا يخرجُ عن الإيمان، كأهل الكبائر وأهل البِدَعِ (¬3)، فإنّه يُكْرَهُ للإمام العالِم وأهل الفضل الصَّلاة عليهم، ليكون ذلك رَدعًا وزَجرًا لغيرهم. والأصل في ذلك الحديث المروي، عن جابر بن سَمُرَة، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه أتي برَجُلٍ قَتلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ (¬4)، فلم يُصَلِّ عليه (¬5). المسألة السابعة (¬6): قال علماؤنا (¬7): هذا إذا لم يؤدِّ ذلك إلى إبطال الصَّلاةِ عليه جملةً، فإنْ خِيفَ ذلك صَّلُّوا عليه؛ لأنَّ فَرْضَ الصّلاة لازمٌ لا يُسقِطه كبائرهم ما تَمَسَّكُوا بالإسلام. وكذلك المقتول في الفِئَةِ الباغية، يغسَّلُ ويُصَلَّى عليه، خلافًا لأبي حنيفة (¬8)؛ لأنّه مسلم لم تمنعه معصيته من وجوب الصّلاة عليه، كالزّاني المُحصَن (¬9). المسألة الثامنة: الصّلاة على المحدود قال ابنُ عبد الحَكَم: إذا جلد الإمام رجلًا فمات، فلا يخلو أنّ يكون الحدّ الأكبر أو الأصغر، فإنْ مات من الأكبر، فإنّ الإمام يصلِّي عليه، واحتجَ بحديثِ ¬
الغامديّة وماعز بن مالك؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى عليهما. قلنا: لا دليل له في هذا؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَو فُرِّقَتْ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَوْسِعَتْهُمْ" (¬1) وسيأتي كلامُنا عليه في "كتاب الحدود" إنّ شاء الله. وأمّا الحدّ الأصغر، فإنّه يصلّي عليه، وإن كان الأكبر فلا يصلِّي عليه. والدّليلُ عليه من طريق المعنى: أنّ الإمام يقول: جئنا شُفَعَاء له فشَفِّعْنَا فيه، ونحن قتلناه، وهذا تناقضٌ. ورَوَى ابنُ وهب عن مالك واختاره عبد الوهّاب (¬2)؛ أنّ الفَاسِقَ إذا مات بحدِّ الإمامِ أو بمَوْتِهِ أنّ الإمام لا يصلِّي عليه ولا أهل الفَضْلِ، رَدْعًا لهم وزَجْرًا. المسألة التّاسعة: في قتيل (¬3) اللصّوص قال أبو حنيفة: يجري مَجرَى قتيل المعترك لا يغسّل؛ لأنّه قُتِلَ ظُلْمًا فلا يزال شاهده معه كما لو قتل في المعترك. قلنا: قتيلُ المُعتَرَكِ هو مخصوصٌ بأنّه قاتل أعداء الله، وهذا قتيلٌ قاتَلَ ليَدْفَعَ عن نفسه فلم يلحق به. وقال علماؤنا: لا خلاف أنّه شهيد، وكذلك كلُّ من قُتِلَ ظُلمًا دون مالٍ أو نفسٍ. فإن عزِّر في قطع الطّريق، أو قُتِلَ رَجُلٌ (¬4) في قَطع الطَّريقِ، فهو شهيدٌ وإن مات في معصيته. والأصلُ فيه: أنّ كلِّ من مات بسببٍ من أسباب الشَّهادةِ، فله أجر الشّهادة وعليه إثم المعصية. وكذلك لو قاتل على فَرَسٍ مغصوبٍ، أو قوم كانوا في معصيةٍ، فوقع عليهم البيت، فلهم الشّهادة وعليهم المعصية. المسألة العاشرة: في الصّلاة على الشّهيد ¬
ثبت أنّه لم يغسِّل شهداء أحد وصلَّى عليهم، وبه قال الشّافعيّ (¬1). والمسألة عريضة الخلاف، وعمدة أبي حنيفة عموم قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬2) وأن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - صلّى على شهداء أُحُد وكَبَّرَ عليهم عَشْرًا عَشْرًا، وصلّى على حَمزة مع كلِّ عَشرة (¬3)، والإثباتُ أَوْلَى من النَّفْي كما في كلِّ حديثِ، وهذا أصل مُتَّفَقٌ عليه، وقد تقدَّم حديث أبي مالكٌ الغفاري في الصّلاة عليهم وعلى حَمْزَة (¬4)، وكذلك رواه الواقديّ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى على شهداء أُحُد وكَبَّرَ على حَمْزَة سبعين تكبيرة (¬5)، وحديث ابن عبّاس أيضًا في الصَّلاة عليهم (¬6). وقال أهل الحديث: أمّا حديث أبي مالكٌ الغفاري فإنّه مُرْسَلٌ؛ لأنّه ليس بصاحبٍ. وأمّا حديث ابن عبّاس، فيرويه يزيد بن أبي (¬7) زياد (¬8) وقد اختلَّ في آخِرِ عمره (¬9)، وقد رواه أبو داود (¬10)، وقال: أمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ ينزعَ عنهم الحديدَ والجُلُودَ، وأن يدفنوا بدِمَائِهِمْ. المسألة الحادية عشرة: قال أشهب في "المجموعة": إذا وُجِدَ البَدنُ بلا رأسٍ له ولا أطرافٍ صُلِّي عليه. وإذا وُجد الرَّأسُ وأطرافه فقط فلا يصلَّى عليه، ولو وَجَبَت الصّلاةُ عليه لوجبت على أَبْعَاضِهِ وأَسْنَانِهِ وأَصَابِعِهِ وأَنْفِهِ. ¬
ولو وُجِدَ أحد شقَّيه طُولًا مع رأسه، أو نصفه عرضًا مع رأسه، لم يصلّ عليه. قال علماؤنا: الأشبه أنّ يُصلَّى عليه. وكذلك النِّصف بالسَّواء يجب أنّ يصلَّى عليه؛ لأنّ اليدَ والرِّجلَ وأقلّ البدن لا يُصَلَّى عليه. وعبد العزيز بن سَلَمَة يقول: يغسّل ما وُجِدَ منه ويُصَلَّى عليه، كان رَأْسًا أو يَدًا أو رِجْلًا، فإنّه يصلَّى عليه ويُنْوَى بالصَّلاة عليه الميِّت. وقال عبد العزيز: ولو استوقن أنّه غَرِقَ، أو أَكَلَهُ (¬1) السّبع (¬2)، ولم يوجد منه شيءٌ، صُلِّيَ عليه كما فعلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بالنَّجَاشيّ، وبه قال ابن حبيب (¬3). قلنا: هذا من خَوَاصِّ النّبيِّ صلّى الله عليه وأَعْلاَم نُبُوَّتِهِ، وذلك أنّ الأرض رُفِعَت له وعَلِمَ يوم ماتَ فيه، وهذا لم يَجرِ العمل عليه، ولا عمله الخلفاء بالغائبين، واللهُ أعلمُ. المسألة الثّانية عشرة (¬4): الصّلاة على الصّغير إذا استهلَّ والسِّقْط، لا (¬5) خلافَ عند علمائنا فيه (¬6) إذا استهلَّ صارخًا. وأمّا إذا لم يستهلّ وتبيَّنَ أنّه خُلِقَ؟ فقال أحمد وإسحاق: إنّه يصلَّى عليه إذا تبيَّنَ خَلْقُه (¬7)، لقوله: "الطِّفْلُ (¬8) يُصَلَّى عَلَيهِ" وقد خرّجه (¬9) التّرمذيّ (¬10) حديثًا مُطْلَقًا صحيحًا هكذا، ورَوَى أيضًا ¬
التّرمذيّ (¬1) عن جَابِر: "الطِّفلُ (¬2) لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ولا يَرِثُ ولا يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ" (¬3) واضطربت روايته، فقيل: مُسْنَدًا (¬4)، وقيل: موقوفًا (¬5)، وباختلاف الرِّوايات يرجع إلى الأصل (¬6). وحديث عائشة في "البخاريّ" (¬7) في الطِّفل أنّه عصفور من عصافير الجنّة، فقال لها النبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وَمَا يُدرِيكِ أَنَّهُ عصفورٌ من عصافِيرِ الجَنَّةِ" ضعَّفَهُ ابن حنبل (¬8). وقال علماؤنا: هو منسوخ بقوله - صلّى الله عليه وسلم - في إبراهيم: "إِنَ لَهُ مَوْضِعًا في الْجَنَّةِ"، ولقوله: "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ" (¬9) ومعلومٌ أنّه لو لم يكونوا في الجَنَّةِ لَمَا مَنَعُوهُ النّارَ وأدخلوه الجنَّة. وأيضًا: فإنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حينئذٍ لم يكن يعرف ولا يدري، حتّى عرَّفَهُ اللهُ بعد ذلك، فقال في إبراهيم ابْنِهِ وغيره ما قال، فيقطع أنّ ولد المسلم في الجَنَّة، وولد (¬10) الكافر في المشيئة، والّذي صَرَّحَ أنّ وَلَدَ المسلمِ في الجَنَّة، قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية (¬11). عربية: يقال: هلَّ واسْتَهَلَّ بمعنى (¬12) ظَهَرَ وصَاحَ. وقوله: "السّقْطُ" هو الولد يُطرَحُ قبل تمَامِهِ، وفيه ثلاث لغات: سِقْطٌ، وسَقْطٌ، ¬
وسُقطٌ، بكسر السِّين وفتحها وضمِّها، والقاف في ذلك كلِّه ساكنة (¬1). المسألة الثّالثة عشرة (¬2): مقام الإمام من الميِّتِ، فيه حديث أنس؛ أنّه يقف حِيَالَ رَأْسِ الميِّت الرَّجُل، وفي وَسَطِ المرأةِ (¬3)، وبه قال الشّافعيّ (¬4). وقال أبو حنيفة: يقوم على المرأة عند صدرها (¬5). وفي الصّحيح؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى خَلفَ المرأة فقام وَسَطَها (¬6)، وضعَّفَ أبو داود حديثَ أنَس، وقال علماؤنا: كان هذا حين (¬7) لم تكن المرأة فيه مستورة، فلمّا سُتِرَ النِّساء، صارَ لهُنَّ حُكْمٌ آخر، ورَوَى ابن مسعود كما رَوَى أنس. وروى ابن غانم عن مالك؛ أنّه يصلّى عليها وسطها، وقاله أشهب، وقال: واسعٌ له أنّ يصلِّي حيث أحبَّ، وإن وقفَ إلى صَدْرِها فهو أحسن (¬8). تكملة: قال الإمام: والصحيحُ من الآثار والفقه وتحقيق النّظر؛ أنّ الإمام يقوم وسط الرَّجُل، وفي المرأة عند صدرها، وعلى هذا هو المذهب الصّريح من مذهب ممالك وأصحابه (¬9). وأمّا الحديث عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قام وسط المرأة، فإنّه لم يثبت سَنَدُه، فلا معنى للاشتغال به. ¬
ما جاء في دفن الميت
تنبيه على وَهَمٍ (¬1): قال بعضُ علمائنا: الصّلاة على الميِّتِ فَرْضٌ، لقوله تعالى في المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية (¬2)، فحرَّمَ اللهُ الصَّلاة على المنافقين، فوجب بذلك الصّلاة على المؤمنين، وهذه عثرةٌ لا لَعًا لها، ولوددتُ أنّ تُمْحَى من كُتُبِنَا (¬3)، وكأنّه أشار على غفلةٍ إلى مسألة بديعة من أصول الفقه، وهي أنّ النّهيَ عن الشَّيءِ أمرٌ بضِدِّهِ، أو الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، على الاختلاف والتّفصيل الّذي بيِّنَّاهُ في موضعه (¬4)، وتلك المسألة صحيحةٌ مليحةٌ، وليست مسألته هذه منها؛ لأنّ الصّلاة على المنافقين ليست بضدِّ الصّلاة على المؤمنين، لا فِعلًا ولا قَوْلًا ولا تَركًا، ولو تفطَّنَ لهذا التّحقيق لما سقطَ في هذه العَثرَة (¬5). ولم يختلف العلّماء في أنّها صلاة، وإنّما اختلفوا في الوُضوءِ لها والقراءةِ فيها؟ فقال العلّماء بأجمعهم بالوضوء فيها، إلّا من شذَّ منهم فلا يرى الوضوء فيها، ويلزم من شرط الوُضوء أنّ يشترط القراءة ضرورة؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا صَلاَةَ إِلَّا بِطَهُورٍ" (¬6) وقال: "لَا صَلاَةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكتَابِ" (¬7) على ما بيَّنَّاهُ في اختلافِ العلّماء في ذلك فيما تقدَّمَ شَرْحُه. ما جاءَ في دَفْنِ الميِّتِ تنبيهٌ على التّرجمة (¬8): قوله (¬9): "دَفْن الْمَيِّت" الأصلُ فيه قولُه تعالى في ابْنَي آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} الآية إلى قوله: {النَّادِمِينَ} (¬10). ¬
قال جماعة أهل التَّفسيرِ (¬1): رُوِيَ أنَّه حَمَلَهُ على عُنُقِهِ سنةً يَدُورُ به لا يَدْرِي ما يصنعُ به، إلى أنّ بعث اللهُ الغرابَ تنبيهًا (¬2) له على دَفْنِ أخيهِ، ففعلَ ذلك، وكان سنَّة له ولمن بعدَهُ إلى يوم القيامة، أَنْعَمَ اللهُ بها على عباده وعَدَّدَ النِّعمة بها عليهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬3) وقال: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (¬4)، وقال جلَّ جلالُه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الآية إلى قوله: {أُخْرَى} (¬5). والدَّفْنُ أيضًا من فرائضِ الكِفَايَةِ. مزيد بيان: قوله: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} (¬6) فيه دليلٌ على قياس الشَّبَهِ؛ لأنّه لم يَدْرِ كيف يفعل في المواراة. قال علماؤنا: بعثَ اللهُ الغُرَابَيْنِ فاقتَتَلا، فقتلَ أحدهما الآخر. قيل: إنّ الغرابَ إنّما بُعِثَ ليُرِي ابنَ آدم كيفيّةَ المُوَارَاةِ وكيف تُسْتَر العورة. وقيل: لمَّا نَتَنَ صار عَوْرَة كلّه، وسمِّيت سَوْءَة لأنّها تَسوءُ النَّاظر لها، ودَفْنُ الميِّتِ سترٌ له. وقيل: لئلّا يؤذي الأحياء بجيفته. وقيل: إنّهما كانا مَلَكَيْن في صورة الغُراب. وقال ابن مسعود: كانا غُرابَيْنِ أخَوين (¬7). قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (¬8). قال الإمام: ومن الغريب أنّ الله أخبر عنه أنّه ندم وأنّه في النّار، وقال ¬
النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "النَّدِمُ تَوبَةٌ" (¬1). قلنا: عنه ثلاثة أَوْجُهٍ (¬2): أحدها: أنّ الحديث لم يصحّ، ولكن المعنى صحيحٌ، وكلُّ من ندم سَلِمَ (¬3)، لكن النَدم له شروطٌ، من جاء بها قُبِلَ منه، ومن أَخَلَّ بها ولم يأت بها لم يُقْبل منه. الثّاني - قيل: معناه نَدِمَ ولم يَستَمرّ نَدَمُه، وإنّما يُقْبَلُ النَّدَمُ إذا اسْتَمَرَّ. وقال علماؤنا: النَّدَمُ على المعاصي (¬4) إنّما يقعُ بشرطِ العَزْمِ ألَّا يعود ولا يفعل في المستقبل. نكتةٌ: قال الإمام: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية (¬5) اختلفَ العلّماءُ في المجني عليه؟ فقيل: إنّه مِنْ بَنِي إسرائيل. وقيل: هما قابيل وهابيل، وهو الأصحّ، قاله ابن عبّاس والأكثر من النّاس. وهو أوّل من سن القتلَ، فما من نَفْسِ تُقْتَل إلَّا كان عليه كفل منها، ودَمُهُ أوَلُ دَمٍ يُهْدَرُ وقع على وجه الأرض من بني آدم. قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} (¬6) فصارت تلك سنَّة باقية في الخَلْقِ، وفَرضًا على جميع النَّاس كافَّة، مَنْ فَعَلَهُ سَقَطَ عن الباقين فَرضه. وأخصّ الخَلْق به الأقربون، ثمّ الّذين يَلُونَهم، ثم الخِيَرَة، ثم سائر النّاس من المسلمين، وهو حقٌّ في الكافر أيضًا، رَوَى ناجية بن كعب، عن عليّ بن أبي طالب، قال: قلت للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: إنّ عمّك الشّيخ الضّالّ قد ماتَ، فمن يواريه؟ قال: "اذْهَب ¬
فَوَارِ أَبَاكَ وتُحَدِّث حدثا (¬1) حتّى تأتيني"، قال: فَوَارَيْتُهُ ثمّ جِئتُه، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي (¬2). قال الإمام: ذكر مالكٌ في هذا الباب جملة أحاديث منها: مالكٌ (¬3)، أَنَّهُ بلَغَهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - تُوُفَّيَ يَومَ الإثْنَيْنِ، ودُفِنَ يَوْمَ الثُّلاثَاء، وَصَلَّى النّاسُ عَلَيهِ أَفذَاذًا. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث بَلاَغٌ (¬4)، وهو مختلف فيه، قيل: دُفِنَ يوم الثُّلاثاء. وقيل: ليلة الأربعاء، وفي ذلك تفصيلٌ طويلٌ يأتي بيانُه في ذكر الفوائد إنّ شاء الله. ذِكْرُ الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي أربع: الفائدةُ الأُولَى: قوله: "تُوُفِّيَ يَومَ الإثنَيْنِ" هو الصّحيح من القول، وفيه وُلِدَ وفيه ماتَ - صلّى الله عليه وسلم -. وقوله: "مَاتَ يَومَ الاثنَيْنِ وَدُفِنَ يَومَ الثُّلاثَاءِ" فيه دليلٌ على التَّأخيرِ إلى الغَدِ من يَومِ الوَفَاةِ (¬5). فإن قيل: هذا لا يصحَ؛ لأنّ قَولَه لأَهلِ بيتٍ أَخَّروا دَفنَ مَيِّتِهمْ: "عَجِّلُوا بِدَفْنِ مَيِّتِكُم وَلا تُؤَخِّرُوهُ" (¬6) فخرج من هذا أنّ السُّنَّةَ الاسراع بالدَّفن، فَلِمَ أُخِّر دَفْنُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؟ قلنا: لثلاثة أَوْجُهٍ (¬7): ¬
الأوّل: أنّ النّاس لم يتّفقُوا على مَوْتِهِ، فَكيفَ يُدْفَن رَجُلٌ اخْتُلِفَ فيه، قال واحد: مات، وقال آخر: لم يمت، فَؤُخِّرَ لأجل ذلك. الثّاني: أنّه إنّما أخِّر دَفْنُه لأنَّه لم يعلم أين يدفن؟ قال قوم: يُدْفَن بالبقيعِ. وقال قوم: في المسجد. وقال قوم: يحبس حتّى يُحمَل إلى ابنه إبراهيم إذا افْتُتِحَت خيبر. قال العالِمُ الأكبر أبو بكر الصِّدَّيق: -رضي الله عنه-: سمعتُه يقول: "مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطٌّ إلَّا حَيثُ يَمُوتُ" (¬1). الثّالث: أنّهم اشتغلوا في الخلاف الّذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البَيْعَةِ، فَنَظَرُوا فيها حتَّى تَمَّ الأمرُ وانتظَمَ الشَّمْلُ، واستوثَقَتِ الحال، واستقرَّتِ الإمامةُ في نِصَابِها، فرجعوا بعد ذلك إلى النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فغسَّلُوه وكفَّنوهُ ودفَنوه (¬2). الفائدةُ الثّانية (¬3): اختلف العلّماءُ في الصّلاة عليه، هل صُلِّيَ عليه أم لا؟ فمنهم من قال: لم يصلِّ عليه أحدٌ، وإنّما وقفَ كلّ أحدٍ يَدْعُو؛ لأنّه كان أشرف من أَنْ يُصَلَّى عليه. وهذا ضعيفٌ، فإنَّ السُّنَّةَ تُقَامُ بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدُّعَاء، فنقول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ" وذلدً منفعةٌ لنا. وقيل: لم يصلِّ عليه أحدٌ؛ لأنّه لم يكن هنالك إمامٌ، وهذا ضعيفٌ، فإنّ الّذي كان يقيمُ بهم صلاة الفَريضة هو الّذي كان يؤمُّ بهم في الصَّلاة عليه. وقيل: صلَّى عليه النّاس أفذاذًا؛ لأنّه كان آخر العهد به، فأرادوا أَنْ يأخذَ كلُّ أَحَدٍ (¬4) بَرَكَته مقصودة (¬5) دون أنّ يكون فيها تابعًا لغَيْرِهِ. فكان (¬6) يأتي الرِّجال فيدعُون ويتَرَحَّمُونَ؛ لأنّه أفضل من كلِّ شهيد. ¬
وأمّا قول من قال: "صَلَّوا عليه أَفْذَاذًا لا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ" وجه ذلك: لِئَلّا تفوت الصّلاة عليه أحدًا من أصحابه. ويحتمل أنّ يكون ذلك: لِئَلّا يتعذّر (¬1) بالإمامة من صلّى عليه من غير اتِّفاق من المسلمين. وهذا ضعيفٌ؛ لأنّه لم يكن تَقَرَّرَ بعدُ أنّ الخلافةَ لا تكون في غير قريشٍ، ولهذا ادَّعَاهَا الأنصار، وقالوا: "مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنكُمْ أَمِيرٌ" (¬2) ثم ثَبَتت (¬3) النّصوصُ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بالمَنعِ من ذلك، ووقعَ الاتِّفاق عليه. الفائدةُ الثّالثة (¬4): اختلفَ الصّحابةُ في دَفْنِهِ، حتّى ذَكَرَ أبو بكرٍ ما كان عندَهُ، فرجعوا إليه، وهذا حُكْم الاجتهاد إذا ظهر على النَّصِّ وجبَ الرُّجوعُ إليه، إلَّا أنّ يكون الاجتهاد موافقًا للنَّصِّ. الفائدةُ الرّابعة (¬5): في وصف الدَّفْن وهو أنّ ينزل في قبره مستقبل القِبْلَة (¬6)، ويُجْعَلُ على شقِّه الأيمن؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يحبُّ التَّيَامُنَ في شأنه كلَّهِ. حديث مَالِك (¬7)، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا يَلحَدُ، وَالآخَرُ لَا يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلَ، عَمِلَ عَمَلَهُ، فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -. الإسناد: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬8). ¬
الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله: "كَانَ بِالمَدِينَةِ رَجُلاَنَ: أَحَدُهُمَا يَلحَدُ، وَالأخَرُ لَا يَلْحَدُ" قال علماؤنا (¬2): الأمران جائزان، ولو كان أحدهما محظورًا لما استدام عمله، ومثل هذا لا يَخْفَى عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه من الأمور الظّاهرة، لا سِيَّمَا والَّذي كان لا يَلْحَدُ من أفضل الصَّحابة وأكثرهم اختصاصًا به، وهو أبو عُبَيْدَة (¬3)، والّذي كان يَلْحَد هو أبو طلحة زيد بن سَهْل الأَنْصَاريّ. وقد رُوِيَ عن مالكٌ أنّه قال: اللَّحْدُ والشَّقُّ كلٌّ واسعٌ، واللَّحْد أحبُّ إِلَيَّ. قال الإمام (¬4) -ووجه ذلك: التَّبرُّك بما فعل بالنّبِيِّ (¬5) - صلّى الله عليه وسلم -. المسألة الثّانية (¬6): قال ابنُ حبيب: ويستحبُّ ألَّا يغمق القبر جدًّا، ولكن قَدْر عظم الذّراع، ولعلّه أراد الشّقّ الّذي هو نفس اللّحد، وأمّا نفس القبر فإنّه يكون مثل ذلك وأكثر منه. ويستحبُّ أنّ يجعلَ على القبر اللَّبَن، قال ابنُ حبيب: وكذلك فُعِلَ بالنّبيَّ (¬7) - صلّى الله عليه وسلم -. المسألة الثّالثة (¬8): قال ابنُ القاسم: ويُكرَهُ الدَّفْنُ في التّابوتِ إلَّا أَلَّا يوجد الطُّوب. وقال أشهب: لا بأس باللّوح والآجُرّ والقَصَبِ واللَّبَن، وإنّما كُرِهَ من ذلك ما كان على وَجهِ الشَّرَفِ. ¬
قال الإمام (¬1) - ووجهُ قول ابن القاسم: أنّ الدَّفْن في الأرض ويجب (¬2) أنّ تكون هي الّتي (¬3) تلي الإنسان، ويكون بَاقِيهِ على حُكْمِ الأصل لم يتغيّر، إلَّا أنْ يصير أجزاءً أو غير ذلك. المسألة الرّابعة (¬4): قال أشياخنا (¬5): ومن السُّنَّةِ تسنمة القُبور ولا ترفع (¬6)، وقاله ابنُ حبيب أيضًا، وقد رُوِيَ عن سفيان التمّار (¬7)؛ أنّه رأى قبر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مُسَنَّمًا (¬8). وأمّا إشادَتُهُ ورَفْعُه على وَجهِ المباهاةِ فممنوعٌ منه، ورَوَى ابنُ القاسم (¬9) عن مالكٌ؛ أنّه كره أنّ ترصَّصَ القُبور بالحجارة والطِّين والطُّوب، أنّ يجعل كلّ ذلك من فوق (¬10)، لِمَا رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من حديث جابر؛ أنَّ النّبِىَّ - صلّى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ نَهَى أَنْ تُرْفَعَ الْقُبُورُ وأنْ يُبْنَى (¬11) عَليْهَا وَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وتسويّتها بالأرض (¬12). ويُرفعُ (¬13) رفع تسنيمٍ دون أنّ يرفع أصلُه. وقال ابنُ حبيب: لا بأس بالمَشي على القُبورِ إذا عفت، وأمّا والقبر مسنّمٌ والطّريق دُونَهُ فلا أحبُّ ذلك؛ لأنّ هذا تكَسيرٌ لتسنيمه ويُبِيحُ طريقَه (¬14). ¬
المسألة الخامسة (¬1): أمّا تجصيصُ القُبور، فقد نُهِيَ عنه وعن النَّقْش على القُبور، وكَرِهَ ابنُ القاسم أنّ يجعلَ على القبر بلاطة ويكتب فيها، ولم ير بالعمود والخَشَبَةِ والحَجَر - ليُعرفَ بها القبر من غير أنّ يكتب بها- بأسًا. قال الإمام (¬2) - فوجه ذلك: منع ما قدَّمْنَاهُ من المباهاة. المسألة السّادسة: وأمّا قوله: "نَهَى النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عَن تَجْصِيصِ الْقُبُورِ" (¬3) فإنَّ مذهب مالك الكراهية لذلك من البنيان (¬4) والجصّ على القبر، وأجازه المخالف، وهذا الحديث حجّة عليه، ومذهب مالك المنع. المسألة السّابعة (¬5): أمّا الفسطاط يضرب على القبر، فقد قال ابنُ حبيب: ضَرْبُهُ على قبر المرأة أفضل لما يستر منها عند إقبارها، وقد ضَرَبَهُ عمر على قبر زَيْنَب ابنة جَحْش، وكره ضربه على قبور الرِّجال، وكره ذلك ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخُدري وسعيد ابن المسيَّب، وضربته عائشة على أخيها عبد الرّحمن، وضَرَبَهُ ابن الحَنَفِيَّة على قبر ابن عبّاس. قال ابنُ حبيب: وأراهُ واسعًا اليوم واليومين والثّلاثة، ويُبَاتُ فيه إنّ خِيفَ من نَبْشٍ أو غيرِه. قال الإمام (¬6): وإنّما كرهه من كرهه على وجه السَّعَةِ والمباهاة. المسألة الثامنة (¬7): وأمّا الطّعام يُصنَعُ لأهل الميِّتِ فإنّه جائزٌ، وذكر التّرمذيّ (¬8) حديث عبد الله بن ¬
الوقوف للجنائز والصلاة على المقابر
جعفر في أَمرِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بصُنعِ الطِّعامِ لآل جعفر لشُغْلِهِم. قال علماؤنا: وهذا أصلٌ في المشاركات عند الحاجة، وصحح التّرمذيّ (¬1) هذا الحديث. قال الإمام: والسُّنَّةُ فيه أنّ يصنع في اليوم الّذي مات فيه، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "قَد جَاءَهُم مَا يشغلهم عَنْهُ" بذهولهم عن حالهم، لحزن موت وَلِيِّهمْ، فحضَّ أنّ يتكلف لهم (¬2) عيشهم، وقد كانت العرب وكبارها عندهم مشاركات ومواصلات، يأتي بيأنّها في كتاب الأطعمة إنّ شاء الله. الوقوفُ للجنائز والصّلاة (¬3) على (¬4) المقابر مالك (¬5)، عَنْ يَحْيىَ بنِ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ بنِ سَعْد بنِ مُعَاذٍ، عَن نَافِعِ بْنِ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، عَنْ مَسْعُودِ بنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَدْ يَقُومُ لِلْجَنَائِزِ (¬6)، ثُمَّ جَلَسَ بَعدُ. الإسناد (¬7): قال الإمام: كذا رواهُ يحيى بن وَاقِد بن سعد ينسبه إلى جدِّه، وما أظنُّ يحيى قصدَ أنّ ينسبه إلى جدِّه، ولكنّه سقط من "كتابه" ابن عمرو، والصّواب فيه: واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ (¬8). الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: قال الإمام: القيامُ للجنائز مختلَفٌ فيه؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - اختلفتَ أحوالُه، فمرّةً ¬
قام، فقيل له: إنّها يهوديّة، فقال: "أليست نَفسًا" (¬1)، وقيل: إنه تَرَكَهُ، وإنّما يؤخذ في أفعاله بالأَحْدَثِ فالأَحْدَث. وكان القيام من فعل الجاهلية، فقيل: جرى عليه حتّى تركه. وقال علماؤنا (¬2): إنّما كان ذلك منه تعظيمًا للموت، ثمَّ جلسَ بعد ذلك، فكان إذا مُرَّ عليه بجنازة لم يقم إليها، فكان آخر فعله ناسخًا لأوَّلهِ، وهو تفسيرُ قول علي بقوله: "ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ". المسألة الثّانية: قال الإمام: والصّحيحُ عندي أنّه منسوخٌ بالجلوسِ، وللحديث الثّالث، قوله: "لَا يَجلِسُ مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةً حَتَّى تُوضَع عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ" (¬3) فمن قامَ إلى الجنازةِ لم يبلغه النَّسخ، والله أعلم، وقد تَقَدَّم بَيَانُهُ. المسألة الثّالثة (¬4): مالك (¬5)؛ أنَّه بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيُّ بنِ أَبِي طَالِبِ كَانَ يَتَوَسَّدُ عَلَى الْقُبُورِ وَيَضطَجِعُ عَلَيهَا. وهو أكثر من الجُلوس الّذي تضمّنه الحديث (¬6) الّذي تعلّق به ابن مسعود وعَطَاء في المنع من الجلوس على القبور. ووقع في "كتاب مسلم" (¬7) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَجلِسَ أَحَدُكُم عَلَى جَمرَةٍ فَتَحرِقَ ثِيَابَهُ فَتَصِلَ (¬8) إِلَى جِلدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنّ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ". وورد حديثٌ لا بأسَ بالجلوس على المقابر، والجمعُ بين هذين الحديثين؛ أنّ يقال: إنّ النّبىَّ صلّى الله عليه إنّما نهى عن ذلك لحاجةِ الإنسانِ، ألَّا ترى أنّ عليًّا كان يتوسَّد عليها ويجلس، وبهذا (¬9) التّأويل استحسن (¬10) مالكٌ أنّ النّهي عن الجلوس ¬
على القبور إنّما هو لقضاء حاجة الإنسان، وقد قال مثل هذا زيد بن ثابت، وهو الأظهر في التّأويل؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قد زار القبور وأباح زيارتها، ولا خلافَ اليوم بين المسلمين في جواز الجلوس عليها عند الدَّفْن، فيُحمَلُ الحديثُ على ذلك، ويجمع بينه وبين مارُوِيَ من قول علىّ وفعله. وقوله في الحديث الآخر (¬1): إِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْقُعُودِ عَلَى الْقُبُورِ فِيمَا نُرَى لِلْمَذَاهِبِ. قال الإمام: "المذاهبُ " يعني به الغائط والبول، وهذا تأويل زيد بن ثابت. حديث مَالِك (¬2)، عَن أِبي بَكر بنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيفٍ؛ أَنَّهُ سَمعَ أَبَا أُمَامَةَ ابْنَ سَهلٍ بْنِ حُنَيفٍ تقُولُ: كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنائِزَ، فِيمَا يَجْلِسُ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى يُؤذَنُوا. الإسناد: قال أبو عمر (¬3): أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف لا يوقف له على اسم، وروى عنه مالك وعبد الله بن المبارك. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: قوله: "فَمَا يَجلِسُ آخِرُ النَّاس حَتَّى يُؤذَنُوا" يريد بالصَّلاة عليها في المصلَّى، ثمّ يحملون الميِّت إلى قبره، فما يأتي آخر من صلِّى عليه إلَّا وقد دفنَ. قال الإمام: وإنّما هذا حين رأى ما أحدث النّاس من البُنْيَان، فكان ذلك منه إنكارًا لما أَحْدَثُوه، فذكر ما كان عليه النَّاس من الاختصار، وأنّهم لم يكلونوا يبنون عليها. المسألة الثّانية (¬4): وأمّا الانقلاب عنها، فلا يحتاج إلى إذْنٍ، هذا عند زيد بن ثابت (¬5). وقال ابنُ عمر والمِسْوَر: لا ينصرف عنها إلَّا بإذْنٍ. ¬
والدّليل على هذا: أنّ أهل الجنازة لو شاؤوا أنّ يمسكوا النَّاسَ لم يكن لهم ذلك، فلم يعتبر بإذنهم كسائر النَّاس. المسألة الثّالثة (¬1): قال (¬2): ولا بأسَ بالإنصراف عنها قبل أنّ يكمل دفنها دون إذنٍ، إذا بَقِيَ معها مَنْ يتناول ذلك منها، قاله ابنُ القاسم، لعلّةٍ ولغير علَّةٍ. وقال ابنُ أبي زَيْد (¬3): وذلك إذا قَامَ بها غيره. ووجه ذلك: أنّ الفَرضَ إنّما هو في الصّلاة، وأمّا البقاء حتّى تُدْفَن فإنّما هو فضيلة، فمن أقام بها فحَسَنٌ، وينصرف إذا تَبَاعَدَ كمال الدَّفْن دون إِذْنٍ؛ لأنّه ليس في حُكمِ أَحَدٍ فيؤذن له، وقد رَوَى ابنُ شهاب عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"من شَهِدَ جَنَازَةً حتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، ومن شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ" قيل: وما القيراطان؟ قال: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ" (¬4) فجعل لشاهد فَرضِ الصّلاة (¬5) قيراطًا، ولشاهد فَرضِ المواراةِ قيراطين (¬6)، ولعلّهما تَسَاوَيَا في النّاس دون الجِنْسِ والقَدْرِ. شرح: قال الإمام: حديثُ أبي هريرة صحيحٌ مشهورٌ متَّفَقٌ على صِحَّتِهِ ومَتْنِهِ. قوله (¬7): "قِيرَاطٌ" و "قِيرَاطَانِ" الأوّل تقدير الأعمال بتشبيه الوَزْنِ تقريبًا للأفهام، والثّاني تقديرُها بالقَصْدِ لا بالاتِّحاد، فإنّ القِيراطَ ثلاث حبّات، والدَّانق ستّ حبّات، والذَّرَّة من الإيمان تخرج صاحبها من النّار، فكيف القيراط!؟ (¬8). ¬
نكتةٌ (¬1): قيراطُ الحسناتِ هو تقديرُها، فأما قيراط السَّيِّئات فهو من ثلاث حبّات لا يزيد، بل تَمحَقُه الحسنة وتُسْقِطُه. تنبيه على وهم: قال بعضُ الجَهَلَة: كيف يصحُّ الوَزْنُ للأعمال، والأعمال أعراض، والأعراض لا يقع بها الوزن، مع أنّ الأعراض لا بقاء لها، ولا يقوم معنى بها من ثِقَلٍ أو خِفَّةٍ؟ قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أنّ الصَّحائف تُوزَن. الثّاني: أنّ الله سبحانه يخلُق أجسامًا بِعَدَدِ الأعمال يقعُ الوزنُ بها، ويخلُق البارئ فيها الثِّقَلَ والخِفَّةَ على حسب مقادير عمله، ويكون ذلك علامة على النَّجاةِ أو الهَلَكَة، فهذا معنى قوله: "قِيرَاطٌ مِثل جَبَلِ أُحُدٍ" (¬2) ثوابًا، هكذا يكون في الثِّقَل والموازَنَة إذا كان خالصًا لله، فيكون هو الوَزْنُ، واللهُ أعلم. المسألة الخامسة (¬3): فهذا انصرف النّاس، هل يزورها أهلها أم لا؟ وهل زيارة القبور واجبة، أم مسنونة، أم مندوب إليها، أم منهي عنها؟ قال الإمام الحافظ: هذا بابٌ عظيمٌ من ناسخِ الحديث ومنسوخه، فيه الأثر الصّحيح بالإذْنِ فيه بَعْدَ المنع منه. فأمّا السُّكْنَى فممنوع منه ومكروه، ولمّا مات الحسن بن عليّ ضربت امرأته عليه قُبَّة وجلست عنده (¬4) سَنَة، ثمّ رفعت، فسمعوا صائحًا يقول: أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا عَمِلُوُا (¬5). وليس لزيارتها فائدة، وليس يحضرني في هذه العاجلة إلَّا ما قال ¬
النهي عن البكاء على الميت
النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -:"فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ" (¬1) ولذلك زارَ قبر أمِّه آمنة في ألف مقنع (¬2)، وهي كافرة؛ لأنّ الآخرة تذكِّر الكافر كما تذكِّر المؤمن، كلُّ أحد على صِفَتِهِ. وإن كان قد أذن فيه، فهو مكروهٌ للنِّساء في الجملة، لما فيه، التَّبَرُّج، ألَّا تَرَى عائشة لمَّا قَدِمَتْ زارت قبرَ أخيها عبد الرّحمن. وقال بعضُ العلّماء في قول أبي هريرة: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ زَوَّارَاتُ الْقُبُورِ" (¬3) وهو حديث حسن صحيح (¬4). فاختلف العلّماء فيه، هل دخل في النَّسخِ فأذِنَ للنّساء كما أَذِنَ للرِّجال؟ أم رخص للرِّجال وبقِيَ النِّساء على المَنْعِ؟ والصحيحُ عندي الإذْن لهُنَّ، وإن كان اختلف في كراهية الزِّيارة لهنّ. النَّهيُ عن البُكاءِ على الميِّتِ مالِك (¬5)، عَن عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَابِرِ بنِ عَتِيْكِ عن عَتِيْك بْنِ الْحَارِثِ، وَهوَ جَدُّ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بْنِ جَابِرِ، أَبُو أُمِّهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنِ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عبد اللهِ بنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاستَرْجَعَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وَقَالَ: "غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أبا الرَّبِيعِ"، فَصَاحَ النِّسوَةُ وَبَكيْنَ .. إلى قول ابنته: وَاللهِ إنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، فَإِنَّكَ كنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جَهَازَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِن اللهَ قَد أَوْقَعَ أَجرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَتِّهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ " قَالُوا: القَتْلُ في سَبيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "الشُهَدَاءُ سبعةٌ سِوَى الْقَتلِ في سَبِيلِ اللهِ: المَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُون شَهِيدٌ، وَالحَرِيقُ (¬6) شَهِيدٌ، وَالذي يَمُوتُ تَحتَ الهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالمَرأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ". ¬
الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬1): "لم يختلف رواةُ "الموطّأ" في إسناد هذا الحديث، ولا في صِحَّتِهِ ومَتْنِه، إلا أنَّ غير مالكٌ يقول فيه: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ مَا دام عِنْدَهُنَّ" (¬2). وهذا الحديث وقع في "موطَّأ القَعْنَبِيّ" (¬3) في كتاب الجهاد. الفقه والفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي عشر فوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "إِنَّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - جاءَ يَعودُ" في هذا الحدث عيادته - صلّى الله عليه وسلم - المرضى (¬4)، وفيه فضلٌ كثير، وقد تقدّم بيانه في حديث المسْكِينَة الّتي عادها أو تَفَقَّد أمرها، على ما بيَّنَّاهُ. الفائدةُ الثّانية: قوله: "فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - " لِمَا أُصِيب به، وهذا امتثال لأَمْر اللهِ؛ لأنّ الله قد أثنى على من قال هذا عند المصيبة فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬5) فينبغي الاقتداء به - صلّى الله عليه وسلم -. وفيه كناية الصّاحب، وهي الثّالثة. والرّابعة (¬6): قوله: "فَصَاحَ النِّسْوَةُ، قال علماؤنا (¬7): يحتمل أنّ يكون بكاء النّسوة لِمَا رأين من حَالِهِ (¬8). ويحتمل أنّ يكون حَرَّكَهُّنَ لذلك ما سمعنَ من استرجاع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بسببه، وجعل جابر يسكتهنّ لِمَا عرف من نهي النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - عن رفع النِّساء أصواتهنّ بالبُكَاءِ ونياحهنّ، ¬
ولم يكن صياح النِّساء من ذلك، وإنّما كان استرجاعٌ وبكاءٌ من غير نياحة، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "دَعْهُنَّ" يريد البكاء والاسترجاع، وبهذا استباح النَّاسُ البُكَاءَ، وقد اختلفَ العلّماء فيه. الفائدةُ الخامسة (¬1): فيه (¬2) ثلاثة أقوال: قيل: هو قَبلَ الموتِ مُباحٌ وبعد الموت إذا لم يصرخ، والدّليل على ذلك: قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "دَعْهُنَّ، فَإذَا وَجَبَت، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ"، وقال في إبراهيم ابنه: "تَبْكِي العَينُ، ويَرقُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ ما يُسخِطُ الرَّبَّ، وإنّا بِكَ يا إبرأهيمُ لَمَحزُونُونَ" (¬3) وهو يجودُ بنفسه. قال ابنُ حبيب: لا بأس بالبُكاء قبل الموتِ وبعدَهُ ما لم يرفع به الصّوت، وأمّا بعد الموت، فقد رُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: اشتكَى سَعْد بن عُبَادَة، فأتاه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مع عبد الرحمَنِ بن عَوفٍ وابن أبي وقَّاصِ وابنِ مَسْعُودٍ، فلما دخل عليه، فَوَجَدَهُ في غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فقال: "أَقَدْ قَضَى؟ "، فقالوا: لا يا رسول الله، فبَكَى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، فلما رأى القومُ بكاءَ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ألَّا تسمعون؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْع العَينِ، ولا بحُزْنِ القَلبِ، ولكن يُعَذِّبُ بِهَذَا -وأشار إلى لسانه- أَوْ يَرحَمُ (¬4). وأمّا قوله: "فَإذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكيَنَّ بَاكِيَةٌ" يحتمل أنّ يكون منع من بكاءٍ مخصوصٍ، وهو ما جرت به العادة من الصّياح والدُّعاء بالوَيْل والثُبُورِ. المسألة السّادسة: قوله: "فَإِذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ". قال الإمام: إذا مات الميِّت اهتبل بجميع أموره، ويتوجّب" (¬5) على أهله وقرابته أمور سبعة: ¬
الأوّل: التَّوجُه إلى القِبْلَة وهو أمر مستحبٌّ، وليس (¬1) في الحديث توجيهٌ إلى القِبْلَة، ولا في حديث وفاة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك في "المجموعة" قال: ما علمتُ التَّوجيه إلى القبلة من الأمر القديم. ورَوَى ابنُ حبيب؛ أنَّ ابنَ المُسيَّب أُغْمِيَ عليه في مَرَضِه فَوُجِّه إلى القِبلَةِ، فأفاقَ فأَنكرَ فعلَهُم به، فقال: على الإسلام حييتُ وعليه أموت (¬2). قال ابنُ حبيب: أراه إنّما كره وأنكر عَجَلَتهم بذلك قبل الحقيقة، وظاهر قوله (¬3) مخالفٌ لهذا التّأويل. ولقد رَوَى ابنُ القاسم وابنُ وهب عن مالك؛ أنّه قال: ينبغي أنّ يُوَجَّهَ المريضُ إلى القِبلَةِ. المسألة السابعة (¬4): في توجيه هذه المعاني فوجه القول الأوّل: ما تقدَّمَ من الآثار الصِّحاحِ (¬5). ووجه القول الثّاني: أنّ هذه الحال يحدثُ فيها أسباب الوفاة، فشرعَ فيها التَّوجيه إلى (¬6) القِبلَة على شقِّه الأيمن، فإن لم يقدر فعلى ظهره ورِجلَاه إلى القِبْلَة. ووجه ذلك: أنّ هذه صفات استقبال القِبْلَة كما يستقبلها في الصّلاة. قال الإمام (¬7): فهذا ثبتَ هذا، فإنّما يكون التوجيه عند المُعَايَنَةِ بإحداد البَصَرِ وإِشخَاصِه. الثّاني: التّلقبن وهو مستحبٌّ لقوله: "لَقِّنَوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إلَّا الله" (¬8) والتّلقينُ (¬9) مأخوذٌ من لقن ¬
إذا فهم الأمر، وقد تقدَّم بَيَانُه. الثّالث: تغميضُه قال ابنُ العربي: هذه سُنَّةٌ لا أعلمُ لها تاوِيلًا أرضَاهُ، وكذلك تسجيته بعد الموت سُنَّة، وقد روي في الصّحيح أنّه - صلّى الله عليه وسلم - سُجِّيَ بِبُرْدٍ (¬1)، فكشف أبو بكر عن وجهه ثمّ أكبّ يُقَبِّلُه، وإنّما اختلف العلّماء في تسجية وجه المُحْرِمِ، على ما يأتي بيانُه في كتاب الحجِّ إنّ شاء الله. وقال (¬2) مالكٌ في "المختصر": لا بأس أنّ تغمضه الحائض والجُنُب. وقال غيره: الاكماضى سُنَّةٌ. وقال ابنُ حبيب: ويقال (¬3) عنده: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4)، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (¬5)، {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (¬6). وقال عند إغماضه: اللَّهُمَّ يسِّر أَمْرَهُ، وسهِّل مَوْتَهُ، وأَسْعِدهُ بِلِقَائِكَ، واجْعَل ما خرجَ إليه خَيرًا مِمَا خرج مِنهُ، وهو: الرّابع. الخامس: قال علماؤنا (¬7): ويستحبُّ ألَّا يجلس عنده إلّا الأَفضل من إهله، ولا يكون عنده ثوب غير طاهر، ولا يحضره كافر، ولا حائض. وهذا كلّه على الاستحباب (¬8). السّادس: القراءة عنده قال أشهب عن مالك: ليس القراءة عنده والإجمار من عمل النّاس. وقال ابنُ حبيب: لا بأس أنّ يقرأ عنده يس، وإنّما كره مالك القراءة عنده لِئَلّا يتّخذها النّاس سُنَّة، فهو سدّ ذريعة. ¬
ولا بأس أنّ تُقَرَّب إليه الرَّوائح الطَّيِّبة. ووجه قول مالكٌ: ما احتجّ به من أنّ عمل السَّلَف اتَّصلَ بترك ذلك. السّابع: غسله، وقد تقدَّمَ. الثّامن: تَكْفِينُه وقد تقدّم بَيَانُه، واختلف العلّماء في الكَفْنِ. الناسمع: توديعه وتقبيله خرّج الترمذيّ (¬1) فيه حديث عائشة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قَبَّلَ عُثمَان بن مَظْعُون وَهُوَ يَبْكِي، زاد أبو داود (¬2): "حَتى رَأَيتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ" وقد رُوِيَ أنّ أبا بكرٍ قَبَّلَ النّبيَّ صلّى الله عليه بعد ما مات. وروى التّرمذيّ بإسنادٍ حسنِ، عن عائشة؛ أنّ أبا بَكْرٍ دخلَ على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بعد وفاته فوضع فاه بين عينيه ووضع يده على ساعديه. حديث (¬3) قوله: "وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ فِيكُم؟ " قَالُوا: القَتْلُ في سَبِيلِ اللهِ، فذكر الحديث إلخ، فذكر ثمانية أصناف: الأوّل: الشّهيد اختلف العلّماء فيه على خمسة أقوال: الأوّل: أنّهم الّذين شَهِدَ لهم رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالإيمان، وضمن لهم حُسن الخاتمة، وهذا كقول النّبيِّ صلّى الله عليه: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ" وليس في الحقوق أثبت ممّن شَهِدَ له - صلّى الله عليه وسلم -، والشّهيد: فعيلٌ بمعنى مَفْعُول. الثّاني: إذا (¬4) حضر سببًا معاينًا مشاهدًا على جوارحه يغيِّره. الثّالث: أنّه جَرَى دمه على الأرض، وأجرى الشّهادة (¬5) وجه الأرض، فعيل مُطْلَق، بمعنى مفعول. الرّابع: أنّ دليله معه لا يفارقه، قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا مِن أَحَدِ يُكْلَمُ في سَبِيلِ اللهِ - ¬
وَاللهُ أَعلَمُ - بِمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيلِهِ" الحديث. فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. الصِّنف الثّاني (¬1): قوله "وَالمَطعُونُ شَهِيدٌ". قيل: هو الّذي مات في الطّاعون ولم يفرّ منه، وبقي مستسلمًا لأَمْرِ اللهِ، راضيًا به. وقيل: هو الّذي أصابه الطّعن، وهو الوجع الغالب الّذي يُطْفِىء الرُّوح، كالذّبحة وغيرها، وقد كشف النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الغطاء فيه في "الموطّأ" (¬2) من طريق أسامة، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرسِلَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم" وإنّما سُمِّيَ طاعونًا لعموم مصابِهِ وسُرعَةِ قَتلِهِ، فيدخل فيه مثله ممّا يصلُح اللَّفْظ له، وسيأتي بيانُه في كتاب الجامع إنّ شاء الله. الثّالث: الغريق إذا لم يغدر (¬3) فهو شهيدٌ، ولا خلافَ فيه. الرّابع: المبطون وهو صاحب دَاءِ البَطْنِ، وهو المجبون (¬4) المنخرق الجوف. الخامس (¬5): صاحب ذات الجَنْبِ وفي الحديث: "إِنَّهَا نَخسَةٌ مِنَ الشَّيطَانِ" (¬6) فعلى هذا يكون قَتِيلًا: إلَّا أنّ المطعون بمنزلة الّذي يموتُ في المعترَك، وذو الجَنْبِ بمنزلة الّذي يرجع من المعترك فيعيش أيّامًا. السّادس: الحريق وهو الّذي يموتُ بالنّار في دار الدُّنيا، فأخبرَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه شهيدٌ. السّابع: وهو الّذي يموت تحت الهَدْمِ، ولا خلافَ فيه أنّها له شهادة. ¬
الثّامن: المرأة تموت بِجُمعٍ تنبيهٌ على وَهَمٍ: قال البُونِيّ (¬1): "هي الّتي تموت بكرًا" (¬2) وهذا وَهَمٌ ما قاله أحدٌ، وأمّا المشهور من أقوال العلّماء إنّما هي الّتي تموت بِوَلَدٍ اجْتَمَعَ خَلْقُه. وقيل: المجتمعة الخِلْقَةِ، العذراء الّتي لم يفتضُ خاتمها (¬3)، ولا فكّ طابعها، والأشهر أنّها الّتي تموتُ حامِلًا أو تموت من حَمْلِهَا. عربية: والجُمْعُ - بضم الميم-: الجنين، ويقال: بجِمْعٍ -بكسر الجيم- ولم يقله غير الكسائي. قال الإمام: ذكر مالكٌ في "كتابه" هذه الثّمانية وهي فيما قَيَّدْنَا أحد عشر صِنْفًا، وأنا أَذْكُرُها إنّ شاء الله. التّاسع: من قتل دون ماله فهو شهيد، لا خلافَ فيه. العاشرُ: الغريب لقوله: "مَوتُ الغَرِيبِ شَهَادَةٌ" (¬4). الحادي عشر: صاحب النَّظرة شهيد واختلف العلّماء فيه على قولين: 1 - فقيل: هو المجنون الّذي اتخذ (¬5) نظره. ¬
2 - وقيل: هو المعيَّن. وقيل: إنّ من قرأ خاتمة سووة الحشر، فمات من يَومِهِ، فهو شهيدٌ، وهو الثّاني عشر. وكلُّهم يُغَسَّل ويُكفَّن إلّا قتيلَ المُعْتَرَك، فإنّ مالكًا والشّافعيّ عَوَّلَا على حديث جَابِر في قَتْلَى أُحُد (¬1)، والمسألة معروفة، وروي في السِّيَرِ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال في حمزة عَمّه: "لَوْلاَ أنّ تَجزَعَ صَفِيَّةُ لَتَرَكْتُهُ يُحْشَرُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ" (¬2). تكملة (¬3): فإن قيل: ما وجه الشّهادة في هذه الأسباب (¬4) الّتي عددتم، وقد ذَكَرْتُم أنّ الشّهيدَ هو الّذي صدَّق فعله قوله؟ فالجواب أنّا نقول: إنّ ذلك بِنِيَّتِهِ وصِدْقِهِ وفَضْلِهِ (¬5)، ظهر بإسلامه نفسه للقتل (¬6)، فأَعْطَى اللهُ المقتولَ ثوابَ الشَّهادة بهذه الأسباب فَضْلًا منه، وجعلَهُ على درجةٍ من درجاتها (¬7). حديث مَالِك (¬8)، عَن عَبدِ اللهِ بْنِ أَبي بَكرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحمنِ؛ أَنَّهَا أَخْبَرَتهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤُمِنِينَ تَقُولُ، وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ المَيِّتَ لَيَعُذَّبُ بِبِكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا ذَلِكَ في يَهُودِيِّةٍ الحديث. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيح متّفق على صِحَّتِهِ ومَتْنِهِ (¬9) خَرَّجَهُ الأيمّة ¬
مسلم (¬1) والبخاري (¬2) والترمذي (¬3). أمّا مسلم فخرّجه سواء كما خرّجه مالك. وأمّا التّرمذيّ فخرّج هذا النوع في "كتابه" في أربعة أبواب: الأوّل (¬4): في كراهية النّوح (¬5)، وقد كانت الجاهليّة تفعلُه كثيرًا، وهو وقوف النِّساء متقابلات، وضربهنّ خدودهن وخمشهنّ، ورمي النَّقْع وهو التراب على رؤسهنّ وصياحن وحلق شعورهنّ (¬6)، كلُّ ذلك تحزن على مَيِّتهنّ، فلمّا جاء الحق على يدِ محمّد - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "لَيْسَ مِنَّا من حَلَقَ وسَلَقَ وخَرَقَ وَرَفَعَ الصَّوْتَ" (¬7). ولذلك سُمِّي نَوْحًا لأجل التقابل الّذي فيه على المعصية، وكلّ متناوِحَيْنِ مُتَقَابلَين، إلَّا أنّهما خصّا عُرْفًا عندنا (¬8) بذلك. الأصول والفوائد المنثورة: وهي ستّ فوائد: الفائدةُ الأولَى: قوله: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبكاءِ الْحَيِّ" فيه تصحيح عذاب القبر، وقد تقدّم بيانه في صدر صلاة الكسوف. وقال أبو عبد الله المازَرِيّ (¬9): "الباءُ هاهنا باءُ الحال، والتّقدير: يعذَّبُ عند بكاءِ أهله عليه، أي يحضر عذابه عند البكاء عليه (¬10)، وعلى هذا التّأويل يَكون قضية في عَينٍ. ¬
وقيل: يحتمل أنّ يكون الميِّت (¬1) قد وصَّى أنّ (¬2) يبكَى عليه، فيعذَّب بوصيَّتِهِ (¬3) وإنَّ (¬4) تلك الأفعال الّتي يعدِّدُها أهله ممّا يُعدُونها (¬5) محاسن الميِّت فيه، يعذّب عليها (¬6) من إيتامِ الولدان وإخراب العُمران على غير وَجْهٍ يجوزُ". وقال أبو عبد الملك (¬7): "إنّما أراد بقوله: "يُعَذَّبُ" اشتغال النّفس (¬8) بما يدخل على أهله من الوِزْرِ من سَبَبِه أيضًا" (¬9)، وهذا حسن (¬10) أيضًا. الثّانية (¬11): قوله (¬12): "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ" قال الإمام: إمّا أنّ يكون بمعنى الميِّت، فيكون المعنى: يعذَّب بسبب النِّياحة عليه، وذلك أنّه رَضِيَ به إذ (¬13) كان من سببه، أو أعجبه (¬14) أَوْ أوصَى به. أو يكون ذلك يرجع لسبَبِ النَّياحة عليه. وأقا قول عائشة: "ذَلِكَ الكَافِرُ أَوِ الْيَهُودِيَّةُ يَزيدُهُ اللهُ عَذَابًا بِبكُاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَأنَّ الله هُوَ أَضحَكَ وَأَبْكَى، وَقَالَ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬15). وقد ثبتَ في الصَّحيح عن عائشة، من طريق مسروق؛ أنّ يهوديّة دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقال: "عَذَابُ الْقَبرِ حَقٌّ" قالت عائشة: فَمَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى صلاَةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ (¬16). ¬
الثّالثة (¬1): قوله: "لَيسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَسَلَقَ، وَضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعوَةِ الجاهِليَّةِ" قوله: "لَيْسَ مِنَّا" يعني على ديننا، يريد أنَّه قد خرج على (¬2) فرع من فروع الدِّين، وإن كان معه أَصْله، هذا معناه. الرّابعة (¬3): قوله (¬4): "أَرْبَعٌ في أُمَّتِي مِنْ أُمُورِ (¬5) الجْاهِلِيَّةِ" يعني أنّها معاصٍ وذنوب يأتونها مع اعتقادهم بأنّها حرامٌ، وهكذا جميع المعاصي تُوجبُ اسم الفسوق وحقيقته، ولا توجب حقيقة الكفر، وقد يطلق عليها (¬6) اسم الكفر، وقد روى مسلم (¬7): "اثنتانِ في النّاس هُمَا كُفْرٌ: الطَّعنُ في النَّسَب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ" ومعنى تشبيههما بالكُفْرِ أنهما من أفعال الكُفْر. الخامسة: قوله: "الطَّعنُ في الأَنْسَابِ" وهو أمرٌ لم يزل النّاس عليه، والجُهَّال على ذلك من التّفَاخُر بالأَحْسَاب، وقد أبَطلَ اللهُ ذلك كلّه بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬8). السّادسة (¬9): هذه أخبار الغيب الّتي لا يعلمها إلّا الأنبياء (¬10)، فإنّه أخبرَ بما يكون قبل أنّ يكون، فصدق ذلك كلّه، وظهر حقًّا لا مراءَ فيه. ¬
خاتمة (¬1): أمّا البكاء دون القَلْقَلَة (¬2)، فلا حرجَ فيه، وهو ظاهر في أحاديث كثيرة منها حديث جابر الّذي أدخله التّرمذيّ (¬3)، وقوله: "إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ، إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَزَمْرِ (¬4) شَيطَانٍ" فأخبر أنَّه لم ينه عن البكاء، وقد ثبت: "فَإِذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ" (¬5) وفي الحديث الصّحيح؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال في البكاء: "إِنَّمَا هِيَ رَحمَةٌ" وقال: "تَدمَعُ الْعَينُ، ويَحْزنُ القَلبُ" الحديث (¬6). نكتةٌ (¬7): وقوله في حديث أبي سعيد الخدري في "التّرمذيّ" (¬8): لَعَنَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - النَّائِحَةَ والمُستمِعَة. قال الإمام: هو كما قال؛ لأنّه موافق لقوله وفعله، إِذْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - شَارِبَ الخَمْرِ وَشَاهِدَهَا، فحقّق ذلك ما رواه أبو مالك الأشعري؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَومَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرعٌ مِنْ جَرَبٍ" (¬9). قال الإمام: هذا لِمَا كانت تفعلُه في الدُّنيا من لباس الحزن (¬10)، واحتزام الحِبَالِ، ولَطمِ الوَجه، وغير ذلك من النَّوح (¬11). نكتةٌ أصولية (¬12): هذه الأخبار الوَعِيدِيّة قد تقدَّمَ الجوابُ في وجه وقوع (¬13) ذلك، ووعده ووعيده ¬
ماجاء من الحسبة في المصيبة
وإنفاذه، وأنّه موقوفٌ على المشيئةِ، ومخرجُه على الإطلاق في موضعٍ، ومُقَيَّدٌ بالمشيئة في آخَر، ويُحْمَلُ المُطلَقُ على المُقَيَّدِ ضرورةً؛ لأنَّه لو حمل على إطلاقه لبَطَلَ التّفسير ولم تكن له فائدة. ماجاء من الحِسْبَة في المُصِيبَة مَالِك (¬1)، عَنِ ابن شِهَابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ، إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ ". التّرجمة (¬2): قَيَّدَ مالك -رحمه الله- في التّرجمة ذِكْرَ الحِسْبَةِ في المُصيبةِ، وهي الصَّبر والاحْتسَابُ والرَّضَا والتَّسَليم، وأن المسلم تكَفَّر خطاياه وتُغْفَر له ذنوبه بالصَّبْرِ على المُصِيبَة، ولذلك زُحزِحَ (¬3) عن النّار فلم تمسه. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ، وهذا الإسناد لمالك أجود ممّا خَرَّجَهُ التّرمذيّ (¬4) وغيره، وهو من أجود أسانيد أخبار الآحاد. الفوافد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثلاث: الفائدةُ الأُولى (¬5): رُوِيَ في هذا الحديث: "ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ" (¬6) ومن حديث ابن مسعود: "كَانُوا له حصنًا من النّار" ومن حديث شُعْبَة، عن معاوية بن قرّة، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّ رَجُلًا من الأنصار ماتَ له ابنٌ ¬
صغيرٌ فوجدَ عليه، فقال له رسول الله -صلّى الله عليه وسلم -: "أَمَا يَسُرُّكَ أَلَّا تَأتِي بابًا من أبوابِ الجنَّة إلَّا وَجَدْتَهُ يستفتح لكَ؟ " قالوا: يا رسول الله، أَلَهُ خاصَّةً أم للمسلمين عامَّةً؟ قال: "بل للمسلمينَ عامَّة" (¬1). ورُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ أنّه قال في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬2) قال: هم أطفال المسلمين. الفاثدة الثّانية: قوله في حديث مالكٌ: "إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ" هو لفُظٌ خرجَ في التّفسير المُسْنَدِ؛ لأنَّ القَسَمَ المذكور فيه معناهُ عند العلّماء هو الوقوف عند المصيبة والرُّجوع إلى الله تعالى فيها، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬3) وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} (¬4) معناه وصل ووقف. وقال (¬5) أبو عُبَيْد (¬6): "هذا أصلٌ في الرَّجُل يحلفُ ليفعلنّ كذا وكذا، ثمّ يفعل منه شيئًا دون شيءٍ أنّه برَّ بيمينه، فيكون قد برَّ في القليلِ كما برَّ في الكثيرِ" وليس قولُ أبي عُبَيد كقول مالكٌ (¬7). وقوله: "لَم يَبْلُغُوا الحِنثَ" يعني: لم يبلغوا أنّ تجري عليهم الأقلام بالسَّيِّئات والحسنات، وإذا كان الآباء يدخلون الجنَّة بفَضْلِ الله ورحمته، دلَّ على أنّ أطفال المسلمين في الجنَّة؛ لأنّه يستحيلُ أنّ يرحموا من أجل من ليس بمرحومِ، ألَّا ترى إلى قوله: "بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَاهُم" وعلى هذا جمهور علماء المسلمين، إلَّا الملحدة فإنّهم يقولون: هم في المشيئة، وقد بيَّنَّا ذلك في موضعه. وذكر النّاسُ في الغريب؛ أنّ السِّقْطَ ليظل على باب الجنَّة فيقول: لا أدخلُ حتَّى يدخل أبوايَ. ¬
تنبيه على وَهَمٍ: قال بعضىُ الغافلين: إنّ الحُمَّى حظُّ كلِّ مؤمنٍ من النّار، فهو مستثنى من هذا القَسَم، وهذه غَفْلَةٌ عظيمةٌ، لابدّ لكلِّ أحد من الجوازِ على الصِّراطِ فتلفحه النَّارُ. تنبيه آخر: قوله: "إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ" ظنَّ بعضُ الجَهَلَةِ من النَّحْويِّين أنَّ القَسَمَ هو ما دلّت عليه حروفه المعلومة في كتب النحو، وليس كذلك، وإنّما القَسَمُ: كلّ معنى في النَّفس ممّا يتعاطى من الأفعال والأقوال ممّا انعقدت عليه في النَّفسِ عزيمته، كقولك: إنّ دخلت إليك فلا دِرْهَم، فهذا قَسَمٌ وشرطٌ وعَقدٌ بيِّنٌ، وهذا أمرٌ معلومٌ. حديث مَالِكٍ (¬1)؛ أنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارِ، عَنْ أِبي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا يَزَالُ المُؤْمِنُ يُصَابُ في وَلَدِهِ وَحَامَّتِهِ، حَتَّى يَلْقَى الله وَلَيْسَت لَهُ خَطِيئَةٌ". الإسناد: قد ذكر أبو عمر في "التّمهيد" (¬2) مَنْ وصلَ هذا الحديث ومَنْ أَسْنَدَهُ، فجعلَهُ عن مالكٌ، عن ربيعة، عن أبي الحباب، عن أبي هريرة (¬3). الفوائد المنثورة فيه: الفائدةُ الأولى (¬4): أمّا قوله فيه: "وَحَامَّته" فقد رَوَى ابنُ حبيب عن مالكٌ، قال: حامَّته: ابن عمه ¬
باب جامع الحسبة في المصيبة
وصاحبه من جلسائه (¬1). وقال غيره: حامَّتُه قرابَتُهُ ومن يُحزنه موته. وقد ذكرنا في المسألة الأُولى بيان ذلك، مع أنّ أعرابيًا (¬2) قال لعمر إذْ رَآهُ يطوفُ بالبيت وهو حامل امرأته (¬3) وسأله عنها، فكان من قوله أنَّه قال: هي أَكُول قامّة، ما تُبْقِي لنا حامّة. وقوله: "قامّة" أي تَقُّمُّ كلّ شيءٍ لا تَشْبَع. وقوله: "ما تُبقِي لنا حَامّة" أي لا تبقي لنا أحدًا (¬4). باب جامع الحِسْبَة في المُصِيبَة مالك (¬5)، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لِيُعَزِّ المُسْلِمِينَ في مَصَائِبِهْم، الْمُصِيبَةُ بِي". الإسناد: قال أبو عمر (¬6): "هكذا هذا الحديث في "الموطّأ" عند أكثر الروّاة، ورواه عبد الرزّاق (¬7)، عن مالك، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُعزّي المسلمين في مصائبهم، فخالفَ في (¬8) الإسناد والمتن. وقد رُوِيَ هذا الحديث عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مُسْنَدًا من حديث سهل بن سعد (¬9)، وحديث ¬
عائشة (¬1)، وحديث الِمسوَر بن مَخْرَمَة (¬2)، ورُوِيَ اْيضَا مُرْسَلًا". الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي واحدة (¬3): قوله: "الْمُصِيبَةُ بِي" نعم؛ لأنّه لم يُصب المسلمونَ (¬4) بعدَهُ بمثلِ المصيبةِ به، وفيه العَزَاء والسَّلوى، وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ من مصيبةِ منِ انقطعَ بمَوْتِهِ وحيُ السَّماء، ومَن لا عِوَضَ منه رحمةً للمؤمنين، وقضاءً على الكافرين والمنافقين. ورُوِي عن طائفة من الصّحابة أنّهم قالوا: ما نَفَضْنَا أيدِينَا من تُرابِ قَبْرِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - حتّى أنكرنا قلوبنا، فأيُّ مصيبةٍ أعظم من هذا! ولأبي العَتَاهِية (¬5): وإذا ذكرتَ محمدًا ومُصابه ... فاجْعَلْ مُصَابَكَ بالنَّبَيّ محمّد وله أيضًا (¬6): لكلِّ أخي ثُكلٍ عَزَاءٌ وأُسْوَةٌ ... إذا كان من أهل التُّقى بمحمد (¬7) وله أيضًا (¬8): ¬
ركَنَّا إلى الدّنيا الدَّنية بعدَه (¬1) ... وكَشَّفَتِ الأطماعُ منّا المسَاوِيَا حديث مالك (¬2)، عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْج النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَن رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبةٌ فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬3) اللَّهُمَّ أَجرني في مُصِيبَتِي، وَأعقِبِني خَيرًا مِنْهَا، إلَّا أَعْقَبَهُ اللهُ خَيرًا مِنْهَا" فَقَالَت أُمَّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا تُوُفَّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُمتُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلتُ: وَمَن خَيرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَة؟ فَأعقَبَهَا اللهُ رَسُولَهُ فَتزوَّجَهَا. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرسَلٌ، ويُسْنَدُ من طرق صحاح (¬4)، وقد خرّجه الأيمة مسلم (¬5) والبخاري (¬6)، والحديث صحيحٌ له طُرقٌ كثيرةٌ. وفيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): في هذا الحديث تعليم (¬8) ما يقالُ عند المصيبة، وهو قولٌ ينبغي لمن أصيب بمصيبة في مالٍ أو جسمٍ (¬9) أنّ يقتصرَ على ذلك، وعليه أنّ يفزعَ إليه تَأَسِّيًا بكتاب الله وسُنَّةِ رسولِهِ. الفائدةُ الثّانية (¬10): قوله: "إِلَّا فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ بِهِ" أي آجَرَهُ في مُصِيبَتِهِ وأَعْقَبَهُ منها الخيرَ، كما قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} (¬11). ¬
قال ابن جُرَيْج: ما يمنعُ الرَّجل ألَّا يستوجبَ على الله ثلاثَ خصالٍ، كلٌّ خصلةٍ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، وهي صلواتٌ من الله وهدىً ورحمة. وقال سعيد بن جُبَير: ما أُعطِيَتْ أُمَّةُ محمّد - صلّى الله عليه وسلم - ما أُعْطِيَتْ هذه الآية، وذلك أنّهم أعطاهم قوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} الآية (¬1)، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب، لقوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} الآية (¬2). حديث (¬3): قال الإمام: ذكر مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمّد؛ أنّه قال: هَلَكَت امْرَأَةٌ، فَأَتَانِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعبٍ الْقُرَظِيُّ يُعَزِّيني فِيهَا (¬4)، فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ في بَنِي إِسِرائِيلَ رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، وكَانَ بِهَا مُعجَبًا، وَلَهَا مُحِبًا، فَمَاتَت، فَوَجَدَ عَلَيهَا وَجْدًا شَدِيدًا، وَلَقِيَ عَلَيهَا أَسَفًا، حَتَّى خَلاَ في بَيتٍ وَأَغلَقَهُ (¬5) عَلَى نَفْسِهِ، وَاحْتَجَب مِنَ النَّاسِ الحديث إلى آخره. الفوائد المنثورة في هذا الحديث وهي سبع: الفائدةُ الأولى: قال الشّيخ أبو عمر (¬6): "هذا خَبَرٌ عجيبٌ حَسَنٌ في التَّعَازي، وليس هو في كلّ "الموطآت" وليس فيه ما يحتاجُ إلى شرح ولا تفسيرٍ ولا اجتهاد (¬7). وفي معنى هذا الخبر من النَّظمِ قال لَبِيد (¬8): وَمَا الْمَالُ وَالأَهلُونَ إلَّا وَدِيعَةٌ ... وَلاَبُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ (¬9) الوَدَائعُ ¬
وقال محمّد بن مُنَاذِر في ذلك أيضًا نظمًا (¬1): إنَّمَا أَنْفُسُنَا عَارِيَةٌ ... والعواري قَصْرُها أنّ تُسْتَرَدْ نحنُ للآفاتِ أغراضٌ فإن ... أَخْطَأَتْنَا فَلَنَا الموتُ رَصَدْ الفائدةُ الثّانية (¬2): في التّعازي وهذا بابٌ لا يُحَاطٌ به لِكَثرَةِ أقوال النّاس فيه، وخيرُ القولِ قليلٌ صادفَ قَبُولًا فنفعَ، ومن أحسن ما جاء في هذا المعنى ما عَزَّى به عمرُو بن عُبَيْد سهمَ بن عبد الحميد في (¬3) ابنٍ له هلك، فقال: إِنَّ أبَاكَ كَانَ أَضْلَكَ، وَإنَّ ابْنَكَ كَانَ فَرعَكَ، فَإِن امرءًا ذَهَبَ ذَهَبَ أَصلُهُ وَفَرعُهُ، لَحَرِيٌ أنّ يقلَّ بَقَاؤُهُ (¬4). وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيز: أمَّا بَعْدُ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، فَإِنَّ طُولَ الْبَقَاءِ إِلَى فَنَاءٍ، فَخُذ مِن فَنَائِكَ الَّذِي لَا يَبْقَى، لِمَعَادِكَ (¬5) الّذِي لا يَفْنَى، وَالسَّلاَم (¬6). الفائدةُ الثّالثة (¬7): قال علماؤنا (¬8): التّعزية على ضربين: أحدهما: أنّ يبلغَ الرَّجلُ عن الرَجُلُ إفراط حزن، فيعزِّيهِ على سبيلِ التَّذْكير والوَعْظِ، فلا نعلم خلافًا في جوازِ هذَا. والثّاني: أنّ يقفَ وليّ (¬9) الميِّت عند تسوية التّراب على القبر فيُعَزِّي فيه، وقد قال النَّخَعِي: إنّه مكروهٌ، ولكنّه مستعمل. الفائدةُ الرّابعة: فيه التنبيه على سَعَةِ عِلْمِ مالك، ومعرفته بالأخبار والآثار، والتَّحَدُّث عن بني ¬
ما جاء في الاختفاء وهو النبش
إسرائيل (¬1) إذا صَحَّت عند العالِم. وكان مالك -رحمه الله- أعلمُ النّاس بالقصص وأخبار بني إسرائيل، وإنّه نوعٌ من العلّم أيضًا إذا تَحَرَّزَ في نَقْلِهِ، فيخرجُ من هذا المحدِّث عن بني إسرائيل كما قال - صلّى الله عليه وسلم -:، حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ" (¬2). الفائدةُ الخامسة: فيه: جواز موعظة النّساء الفواضل للرَّجُل العابد العالِمِ، إذا كانت ممّن تُحسِن العبارة والمعنى. الفائدةُ السّادسة (¬3): فيه العزاء والموعظة للعالم ممَّن هو دُونَه. الفائدةُ السابعة: فيه التَّلَطُّف في الموعظة (¬4)، واستجلاب القلب إلى الموعظة. الفائدةُ الثامنة: فيه مشافهةُ المرأة للعالِم في السؤال (¬5)، وهو جائز في الدِّين قطعًا. ما جاء في الاخْتِفَاء وهو النَّبْشُ (¬6) الإسناد: قال الإمام: حديث مالك (¬7) عن أَبِي الرّجَالِ مُرْسَلٌ في جميع "الموطآت"، وقد رُوِيَ مُسْنَدًا من حديث مالكٌ وغيره، عن أبي الرِّجال، عن عَمرَة، عن عائشة (¬8)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه لَعَن المُخْتَفِي وَالمُخْتَفِيَة، يَعْنِي نبَّاشَ الْقُبُور. وقيل: إنّ هذا الحديث أكثر ما يُروَى مَرْفوعًا عن عائشة. ¬
العربية (¬1): الاختفاء الافتعال (¬2) من فعل النَّباش، ومعناه الإظهار، يقال: خفيت الشّيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سَتَرته. وقد قرئت هذه الآية: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (¬3) بالفَتْح، و"أُخفيها" بالضمِّ، فمن قرأ "أُخفيها" بالضَّمِّ يريد أكاد أخفيها من نفسي، ومن قرأ "أَخفيها" بالفتح أراد أظهرها. وقال: أهل المدينة يسمون النبّاش المخْتفي والمُحْتَفي بالحاء غير منقوطة، ويقال: إنّه من الأضداد. والاحتفاء إقلاع الشيء، وكلّ من اقتلع شيئًا فهو محتفي (¬4)، والّذي عليه قراءة النّاس بالخاء منقوطة. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - الْمُخْتَفِي" فيه دليلٌ على تحريم فِعْلِهِ والتّغليظ فيه، كما لعنَ شارب الخَمْر وبائعها، وآكل الرِّبَا ومؤكله. واللّعن الإبعادُ في كلام العرب، وهو مستعملٌ في الإبعاد من الخير، فَلَعْنُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - المختفي إنّما هو الدُّعاء عليه بالإبعاد من رحمة الله. المسألة الثّانية (¬6): اختلف الفقهاء في قطع النّبّاش: ¬
فقال أبو حنيفة: لا قطع عليه (¬1)؛ لأنّه سرق من غير حِززٍ مَالًا مُعَرَّضًا للتَّلفِ لا مالِكَ له؛ لأنّ الميِّتَ لا يملك، ومنهم من ينكر السّرقة؛ لأنّه في موضع ليس فيه ساكن، وإنّما تكون السّرقةُ بحيث تُتَّقَى الأعين وَيُتَحَفَّظُ من النّاس. وقال (¬2) مالك وأصحابه وابن القاسم: عليه القطع. واحتجّ مالك بقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬3)، وقال مالك: القبر ستر وحرز للكفن؛ لأنّه كالبيت للحَيِّ، والحديث يعضده: "إِنَّ الْقَبْرَ بَيتٌ" (*). اصطِلاَمٌ: قلنا: الصّحيح أنّه سارقٌ؛ لأنّه قد تدرّع اللّيل لباسًا، واتَّقَى الأعين. وقصدَ وَقْتًا لا نَظَرَ فيه ولا مارّ عليه. وقوله (¬4): إنَّ القبرَ غيرُ حِرْزٍ، هو قول باطل؛ لأنّ حرز كلّ شيء بحسب حاله الممكنة فيه، ولا يمكن تركُ الميِّت عاريًا، ولا يتَّفق فيه أكثر من دفنه، ولا يمكن أنّ يُدْفَنَ إلّا مع أصحابه، فصارت هذه الحاجات قاضية أنّ ذلك حرزٌ، لقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬5) أي: ليسكن فيها حيًّا ويُدْفَن فيها ميِّتًا. وقوله (¬6): معرَّضًا للتَّلَفِ، فكلُّ ما يلبسه الحيُّ أيضًا مُعَرَّضٌ للتَّلَفِ والإخلاق (¬7) في لباسه، إلَّا أنّ أحدَ الأمرين أعْجَلُ. حديث مَالِك (¬8)؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْج النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كَانَتْ تَقُولُ: كَسْرُ عَظْمِ المُسْلِمِ مَيتًا كَكَسرِهِ وَهُوَ حَيٌّ، تَعْنِي في الأِثْمِ. ¬
باب جامع الجنائز
الإسناد (¬1): هذا حديثٌ مرفوعٌ إلى النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ورواه عبد العزيز بن محمّد الدّراورديّ، عن سعد بن سعيد، عن عمرة عن عائشة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "كَسْرُ عَظمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا" (¬2). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: الفائدةُ الأولى: قال علماؤنا: إنّما عَنَت به عائشة الحُرمَة؛ لأنّ حرمةَ الميّت كحُرْمَتِه حيًّا، وأنّ كسرها يحرمُ في حالِ مَوتِهِ كما يحرمُ في حال حياته، واللهُ أعلم. الفائدةُ الثّانية: قوله: "في الإثمِ" هو قول مالكٌ، وهو تفسيرٌ حَسَنٌ؛ لأنّهم مجمِعُون على رفع القَوَدِ في ذلك والدِّية، فلم يبق إلّا الإثم. وقال أبو الوليد الباجي (¬3):، يعني في الإثم، يريد أنّهما لا يتساويان في القِصاص وغيره، وإنّما يتساويان في الإثم" واللهُ أعلم. باب جامع الجنائز قال الإمام: في هذا الباب إثنا عشر حديثًا: 1 - الحديث الأوّل: ذكر فيه مَالِك (¬4) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابنِ الزُّبَيرِ، عَن عَائِشَةَ؛ أَنَّها سَمِعَت رَسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدرِهَا، وَأَصْغَت إِلَيْهِ يَقُولُ (¬5): "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفيقِ الأَعْلَى". ¬
الإسناد: هذا الحديث مُسْنَدٌ صحيحٌ متَّفَقٌ على صحَّته ومَتْنِه، خرَّجه الأيمَّة مسلم (¬1) والبخاري (¬2) والتّرمذيّ (¬3) وغيرهم (¬4). وفيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬5): فيه النّدب إلى الدُّعاء بذلك، أعني بالغُفران والرَّحمة تَأَسِّيًا به - صلّى الله عليه وسلم -. وإذا كان الدَّاعي النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وقد (¬6) غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخّر، فأين غيره منه؟ قيل (¬7): إنّما غفر له بشرط الاستغفار والدُّعاء، وألَّا يترك ذلك، وأنْ يعلِّم النّاس كيف يُقْتَدَى به. والدُّعاء مخُّ العبادةِ، لِمَا فيه من الضَّراعة والخُضوع والإخلاص والرَّجاء للإجابة، وذلك صريح الإيمان واليقين {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، والمؤمنُ بين خوفه ورجائه معتدلان، ومعلومٌ أنّ الأنبياء والرُّسُل أشدُّ خوفًا لله وأكثرُ إشفاقًا وَوَجَلًا، ولذلك كانوا أرفع الدّرجات وأعلى المنازل، وقد أثنى اللهُ تعالى على الّذين كانوا يؤتون ما أتوا وقلوبهم وَجِلَة. الفائدةُ الثّانية (¬8): قوله: "وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفيقِ الأَعْلَى" فمأخوذ من قوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الآية (¬9) فأراد المرافقة معهم في الجنَّة. وقيل: أراد بالرّفيق الأعلى ما علا فوق السّماوات السَّبع. ¬
وقيل: إنّ الرَّفيق الأعلى الجَنَّة. وقيل: الأنبياء والصّالحون الّذين يعلون في الجنّة. وذكر أبو الوليد الباجي (¬1)؛ أنّ الرّفيق الأعلى اسمٌ لكُلِّ سماء. والأعلى السّابعة (¬2). حديث مَالِك (¬3)؛ بَلَغَهُ أَن عَائِشَةَ زَوْج النَّبِيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَتْ: قَال رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا مِن نَبِىٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّر"، قَالَتْ: فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ. الإسناد (¬4): قال القاضي: هذا حديث من بلاغات مالك (¬5). وقولها: "فَعَلِمتُ أَنَّه ذَاهِبٌ" هو تفسير لما قبله، كأنّها قالت: إنّه خيّر بين البقاء في الدُّنيا والمصير إلى الله، فاختارَ الرَّفيق الأعلى. وما كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ليخَيَّر بين الدنيا والآخرة إلّا ويختار الآخرة، لقوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الآية (¬6)، ولأن الدُّنيا فانية على كلِّ حالٍ، وما مضَى منها وإن كان طويلًا، فكَالْحُلمِ إذا انْقَضَى، ودارُ البقاءِ الخير الدّائم، وهو أَوْلَى لاختيار ذَوِي النُّهَى. وليس في مُسنَدِ مالك ذكر التّخيِيرِ، وإنّما ذَكَرَهُ فيما بَلَغَهُ، وقد يُسْنَدُ من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عروة عن عائشة قَالَتْ: سَمِعتُ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (¬7) وما مِنْ نبيٍّ مرضَ إلَّا خُيِّر بين الدُّنيا والآخرة الحديث (¬8)، فاختارَ الآخرة، وكذلك فعلَ في حديث جبريل حين أتاه ¬
بمفاتيح خزائن الأرض، فاختار الآخرة ولم يرض بالدُّنيا، وقال: "ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى". حديث مَالِك (¬1)، عَن نَافِعٍ عَنْ عَندِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُم إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيهِ مَقعَدُهُ بالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أَهلِ النَّارِ فَمِنَ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالَ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعثَكَ اللهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ". الإسناد (¬2): قال الإمام: هكذا قال يحيى في هذا الحديث: "حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" وهو معنى مفهوم على وجه التّفسير والبيان لـ "حتّى يبعثكَ الله". وروى القَعنَبِيّ في "موطّئه" (¬3): "حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ يَومَ الْقِيَامَةِ" وهذا أبين وأوضَح من أنّ يحتاج فيه إلى قول. وفي رواية ابن القاسم (¬4): "حَتَّى يَبعَثكَ اللهُ إِلَيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وهذا أيضًا بيِّنٌ، يريد: حتّى يبعثك الله إلى ذلك المقعد وإليه تفسير، وهو عندي أَشْبَه. وكذلك رواه ابن بُكَيْر، والصّحيح في "مسلم" (¬5) و"البخاريّ" (¬6) وانفرد ابنُ بكير بقوله: "حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ" ولم يزد. ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): قوله: "إِنَّ أَحَدَكُم إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ" هذا لا يكون حقيقة إلَّا على حيٍّ؛ لأنّه يُخَاطَب، فيقال له: "ما علمك فهذا الرّجل" الحديث (¬8)، وهذا بَيِّنٌ. ¬
الفائدةُ الثّانية (¬1): قوله: "بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ" يحتملُ أنّ يريدَ كلّ غداة وكل عشيّ، وذلك لا يكون إلَّا بان يكون الإحياء لجزء منه، فإنّا نشاهدُ الميِّت بالغَدَاة والعشيِّ، وذلك يمنعُ إحياء جميعه وإعادة جسمه، ولا يمنع أنّ تعادَ الحياة في جزءٍ منه أو أجزاءٍ، وتصحّ مخاطبته والعرض عليه. ويحتمل أنّ يريد بذلك: غدوة واحدة يكون العرض فيها، والله أعلم. الفائدةُ الثّالثة: قوله: "مَقعَدُهُ لا دليلٌ على صحَّة عذاب القبر الّذي أنكرته المعتزلة وأثبته أهل السُّنَّة، فالآثارُ الواردة فيه في الصّحيح منها خمسة: الأوّل: حديث الرَّجُلَينِ اللّذين يعذبان فيما هو غير كبير (¬2). الثّاني: عروج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فسمع صوتًا فقال: "يهود تُعَذَّبُ في قُبُورِهَا" (¬3). الئآلث: حديث سماع قَرع النِّعال (¬4). الرّابع: مخاطبة الميِّت لمن يحمله بقوله: "قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي" (¬5). الخامس: ما خرَّجه مسلم (¬6)، قال فيه: "فَامكُثُوا عَلَى قَبرِي قَلِيلًا أَستَأنِسُ بِكُمْ، حتّى انظر بما أراجع به رسل رَبِّي". والآثار الواردة في ذلك كثيرة بينّاها في كتاب الكسوف. الفائدةُ الرّابعة (¬7): فيه دليلٌ على أنّ الجنَّة والنّار مخلوقتان، وبه قالت جماعة أهل السُّنَّة؛ لأنّه وردت في ذلك آثارٌ كثيرة يطولُ ذِكْرُها لبابُها: الأوّل: قوله: "اشتكتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا" وقد تقدّم بيانُه. ¬
الثّاني: قوله: "دَخَلَتُ الجَنَّةَ فأخَذتُ مِنْهَا عُنْقُودًا". الثّالث: قوله: "اطَّلَعتُ في الجَّنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْمَسَاكِين، وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ فَرَأَيتُ أَكثَرَ أَهلِهَا النِّسَاء". الرّابع: قوله: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفِّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ". الخامس: أدلّة الكتاب قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية (¬1). وقوله تعالي: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬2). الفائدةُ الخامسة (¬3): في هذا الحديث دليل (¬4) على من استدلَّ بهذا الحديث أنّ الأرواح على أَفْنِيَةِ القُبور، وهذا أصحّ ما ذهب إليه في ذلك. والله أعلم. والمعنى عندي: أنّها قد تكون على أفنية القبور، إلَّا اْنّها لا تدوم (¬5) وتفارق الأفنية، بل هي كما قال مالك؛ أنّه بلغه أنّ الأرواح تسرحُ حيث شاءت. وعن مجاهد؛ أنّ الأرواح على القبور سبعة أيّام من يوم دَفْن الميِّت، لا تفارق ذلك. واللهُ أعلم. حديث مَالِك (¬6)، عَن أِبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الأَرضُ، إِلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ". الإسناد: هذا الحديث صحيح مُسنَدٌ مشهور عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وتابعَ (¬7) يحيى قوم على قوله: "تأكُلُهُ الأَرْضُ"، وقالت طائفة: "يَأْكُلُهُ التُّرَابُ" والمعنى واحد متقارَبٌ. العربية: قال أهل العربية: قد يروى: "عَجبُ الذَّنَبِ" وَ"عَجْمُ" كما يقال "لاَزِب" ¬
و"لاَزِم" والصحيح "عَجْمُ الذَّنَبِ" لأنّه (¬1) هو أصله، وظاهرُ الحديثِ وعمومهُ أنّ يكونَ بنو آدم كلهم في ذلك سواء، إلّا أنّه قد رُوِيَ في أجساد الأنبياء وأجساد الشهداء أحاديث أنّ الأرض لا تأكلهم. الأصول (¬2): قال علماؤنا (¬3): هذا الحديث لفظُه لفظ العموم، والمراد به الخصوص، والله أعلم. فكأنّه قال: كلّ ما تأكله الأرض فإنّه لا تأكل منه عَجْب الذَّنَب، وإذا جاز ألَّا تأكل عَجْب الذَّنَب، جاز ألَّا تأكل الشّهداء. وذلك كلّه من حُكْمِهِ، وليس في حُكْمِهِ إلّا ما شاءَ، وإنّما نعرف من هذا ما عرفنا (¬4)، ونسلّم له فيما يجب التّسليم في مثل هذه الأمور، ونُصدِّق (¬5) به؛ لأنّ القرآن مطابقٌ له، لقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} الآية (¬6). فصحَّ من الحديثِ الصّحيحِ والقرآن الفَصِيحِ؛ أنّ الأرض تأكل وتُبقِي منه، لقوله: {مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} (3) وبهذه المسألة تعلّق القاضي أبو بكر بن الطّيّب بأنّ الرُّوح عرض، فقال: والدّليل عليه أنّه لا ينفصل عن البَدَنِ إلَّا بجُزْءٍ منه يقول به، وهذا الجزء المذكور في حديث أبي هريرة: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكلُهُ الأَرْضُ، إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ" الحديث، فدلّ بهذا أنّه ليس بمُعْدَمٍ، ولا في الوجود شيء يَفْنَى (¬7)؛ لأنّه إنّ كان فَنِيَ في حقِّنا فهو في حقِّه موجودٌ مرئيٌّ معلومٌ حقيقةً، وعلى هذا الحال يقع السُّؤال في القبر والجواب، ويعرض عليه المقعد بالغَدَاةِ والعشيِّ، ويعلّق من شَجَرِ الجنّة، على ما يأتي بيانُه في كتاب الجهاد إنّ شاء الله تعالى. ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثلاث فوائد: ¬
الفائدةُ الأولى (¬1): قوله: "مِنْهُ خُلِقَ" يدلُّ على أنّه ابتدأ خَلْقه وتركيبه من عَجْبِ ذَنَبِه، وهذا لا يُدْرَكُ إلَّا بخَبَرٍ، ولا خَبَرَ عندنا فيه مُفَسِّرٌ، وإنّما جاء فيه جملة أحاديث في خَلْقِةِ آدم وتركيب جسده، على ما بيَّنَّاهُ في "الكتاب الكيير". قوله: "مِنْهُ خُلِقَ" أي: منه ابتدأَ بخَلقِهِ. الفائدةُ الثّانية: قوله: "وَفِيهِ يُرَكَّبُ" يريد: ومنه ابتدأَ سائر جَسَدِهِ وخَلقه. وقيل: إنّه هو الأصل الّذي تركب عليه الحواسّ؛ لأنّه موجود وليس بمعدوم، لقوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} الآية (¬2)؛ لأنّه إنّ كان العَجْبُ أصغر، حتّى يكون أصغر من خردلة، فإن الله تعالى يأتي به، وهو قادرٌ على ذلك لسَعَةِ عُمُومِ المقدورات (¬3). حديث مَالِك (¬4)، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأّنْصَارِيِّ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ في طَائِرٍ (¬5) يَعْلَقُ في شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَومَ يَبْعَثُهُ". الإسناد (¬6): قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ، واختلفتِ الآثارُ عنه في هذا الحديث، فَرَوَتْهُ طائفةٌ عن ابنِ شِهَاب كما رواه مالك (¬7)، ورواه آخرون عن ابن شهاب عن ابن كَعْبِ ولم ينسبوه إلى (¬8) كعب (¬9). ¬
تنبيهٌ على وَهَمٍ (¬1): ظنَّ بعضُ المُحَدِّثين أنّ هذا الحديث يعارض ظاهر حديث ابن عمر المتقدِّم في قوله: "إِذَا مَاتَ أَحَدكمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ"، وقال: إِذَا كَانَ يَسْرَحُ في الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُ مِنْهَا، فهو يرى الجَنَّة في جميع أحيانه، فكيف يعرض عليه منها مقعده بالغَدَاةِ والعشيِّ خاصّة؟ قال الإمام (¬2): وليس كما زعم (¬3)؛ لأنَّ حديث كعبِ بن مالكٌ هذا معناهُ في الشُّهداء خاصّة، وحديث ابن عمر في سائرِ النّاس. والدّليل عليه: ما رُوِيَ عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالكٌ، عن أبيه؛ أنّ وسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءُ في طَيرٍ خضْرٍ تعلقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ" (¬4)، وفي حديث أبي سعيد الخدري، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الشُّهَدَاءُ يغدُونَ وَيَرُوحُونَ إِلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ مَأْوَاهُمْ إِلَى قنَادِيلَ مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ" (¬5) وله طرقٌ كثيرة. الأصول والفوائد: الأولى: قوله: "إِنَّمَا نَسْمَةُ المُؤْمِنِ" قال الخليل بن أحمد (¬6): النَّسمة: الجسد، والنَّسم الرُّوح (¬7)، وإنّما سمي الرّوح بالنَّسمة لأنّها في الجسد، والشّيء إذا جاور الشَّيء أو قَرُبَ منه سُمِّي باسْمِهِ. وقال قوم: قوله "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ" إنّما أراد بالنَّسَمَة الرُّوح (¬8)، وعلى (¬9) هذا ¬
جماعة العلّماء على ظاهر الحديث، ومن حجتهم قوله في الحديث: "حَتَّى يرْجعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِه". وقال قوم من أهل الفقه: إنّ النّسمة هو الإنسان نفسه، وتعلّقوا بدليل قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعتَقَ نَسَمَة مُؤمِنَة" وَبِقَولِ عليّ: "لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَة"، وقال الأعشى (¬1): بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النَّسَمَاتُ نَفَضْنَ الغُبَارًا والعربُ تعبِّر عن المعنى الواحد بألفاظٍ شتَّى عن معانٍ متقاربة يمعنى واحدٍ، وهذا كثيرٌ في لغتها. الفائدةُ الثّانية: اختلف العلّماء في الرُوح على ما قدّمناه في حديث الوَادِي، على ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّه عرضٌ، وهو الّذي اختارَهُ القاضي (¬2). والثّاني: أنّه النَّفس الدّاخل والخارج، واختاره الشّيخ أبو الحسن (¬3). الثآلا: أنّه جسمٌ لطيفٌ مشاركٌ لهذه الأجسام، واختاره أبو المعالي الجويني. وقد بيّنا متعلّقاتهم في حديث الوادي بيانًا شافيًا، فليُنْظَر هنالك. الفائدةُ الثّالثة: اختلف العلّماء في مستقرّ الأرواح على أقوال كثيرة: فقال قوم: إنها مقيمة على أَفْنِيَةِ القُبور، وإلى هذا كان يميل ابن وضَّاح، واستدلّ على ذلك بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ"، وبمخاطبة أهل بدر، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (¬4). وقال قوم: إنّها في دار البَرْزَخِ الّتي رآها فيه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ليلة الإسراءِ أرواح أهل السّعادة عن يمين آدم عليه السّلام، وأرواح أهل الشّقاء عن يساره عند سماء الدُّنيا، وذلك منقطع العناصر. وأمّا أرواح الأنبياء والشُّهداء فهم في الجنَّة، وقال إسحاق بن راهويه: على هذا ¬
أجمع أهل العلّم، حكى ذلك عنه محمّد بن نصر المروزي. وقال قوم آخرون: إنّ الأرواح كلّها في الصُّور، وهو حديثٌ ضعيفٌ، والصّحيح أنّ الأرواح تُنَعَّم وتُعَذَّب (¬1) حيث ما كانت من عِلمِ اللهِ. وأمّا أرواح الكُفّارِ، ففي سجِّين في أسفل سافلين، وإنّها تعذَّب إلى يوم القيامة، يعرض عليها بالغُدُوِّ والعَشِيِّ العذاب. الفائدةُ الرّابعة: قوله: "نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ" تعلّق أهل التّناسخ بهذا الحديث لقوله: "في حَوَاصِلِ طَيرِ خُضْرٍ" ولا دليلَ لهم فيه، والصّحيحُ أَنَّه على ظاهر من قوله: "طَائِرٌ يَعْلَقُ في شَجَرِ الْجَنَّةِ" فكأنّه مطلق سارح فيها (¬2) كما يسرح الطّائر، ولا يحتاج في ذلك أنّ يكون في جَوفِ طائر؛ لأنّه لم يثبت في حديث، فلا يُعَوَّل عليه. الفائدةُ الخامسة: قوله: "حَتَّى يَبعَثُهُ اللهُ" والبَعثُ هو إثارة الشّيء عن خفاء، أو تحريكٌ عن سُكُونٍ، وله في اللّغة ثلاث معان: الأوّل: بعث الشّيء أثارهُ، ومنه بعث الموتى، وبه سُمَّيَ يوم القيامة يوم البعث. الثّاني: بعث الرُّسُل، كما قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} الآية (¬3). الثّالث: البعث التّحريض على الشيء، يقال: بعثمت فلانًا على كذا، إذا حرّضته عليه. وحقيقة البعث: تحريك الشّيء بعد سكونه في إزعاج واستعجال، وإليه يرجع جميع ما تقدّم، والبارىء سبحانه هو الّذي يحرِّك المؤمن إلى العرض والجزاء. حديث مَالِك (¬4)، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَن أَبي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "يقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبدِي لِقَائِي، أَحبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ عَبْدِي لِقَائي، كَرِهتُ لِقَاءَهُ". ¬
الإسناد: هذا حديث صحيِح متَّفَقٌ عليه، خرّجه الأيِمّة مسلم (¬1) والبخاريّ (¬2)، وخرَّجَهُ ابن أبي شَيْبَة في "مُصَنَّفِهِ" (¬3) قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أنا (¬4) محمّد بن عمرو، عن أبي سَلَمَة عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"من أحبَّ لقاءَ اللهِ، أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومن كرِهَ لقاءَ اللهِ، كرِهَ اللهُ لقاءَهُ"، قيل: يا رسول الله، ما مِنَّا أَحَدٌ إلّا وهو يَكرَهُ الموتَ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا كان كذلك كشفَ لَهُ، فيرى ما يسير إليه، فحينئذٍ يحبّ اللِّقاء أو يكره اللِّقاء". ذكر الفوائد المنثورة في هذا الحديث: الفائدةُ الأولى (¬5): قال أبو عُبَيد (¬6) في معنى هذا الحديث: ليس وَجهُهُ عندي أنّ يكون الإنسان يكرهُ الموتَ وشدَّته، فإن هذا لا يكاد يَخْلُو منه لا نبيُّ ولا وليٌّ (¬7)، ولكن المكروه من ذلك إيثارُ الدّنيا والرُّكون إليها، وكراهية أنّ يصيرَ إلى الله والدّار الآخرة، ويُؤثِرُ المقام في الدُّنيا. قال (¬8): وممّا يُبيِّن لك هذا؛ قوله تعالى إذ عاتب قومًا يحبّون الحياة الدّنيا وزِينَتَها، فقال عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية (¬9)، وقال في اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} الآية (¬10)، وقال: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} (¬11) يعني الموت. ¬
فهذا يدلُّ على أنّ الكراهية لِلِّقاء ليس كراهية الموت، إنّما هو كراهية النُّقْلَة من الدُّنيا إلى الآخرة. وقد مدحَ اللهُ أولياءَهُ بذلك فقال: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) فدلَّ أنّ الصِّدِّيقينَ يُحِبُّون الموتَ واللِّقاء، كما قال حُذَيْفَة بن اليَمَان في مَرَضِهِ الّذي مات فيه، سُمِعَ وهو يقول: مرحبًا بحبيبٍ جاءَ على فَاقَةٍ، فالمؤمنُ إذا نظر وعايَنَ ما هنالك من النَّعيم تمنّى اللِّقاء، وإذا عاينَ ما هنالك الكافر من العذاب والشّقاء لم يتمنّه. قال بعضهم (¬2) في قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (¬3) قال: معاينة مَلَك الموت بالأمر الجَسِيمِ والهَولِ العظيمِ، أو النّعيم المقيم. وقال الحسن: {نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (¬4) قال: معناه: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين (¬5). وروي (¬6) عن ابن جُرَيج في قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (¬7) قال: عند الموت يعلم ما له من خير، ويعلم ما له من شرّ. اعتراض (¬8): فإن قيل: فما معنى كراهية موسى في الموت حِينَ صَكَّ الْمَلَكَ فَفَقَأَ عَيْنَه (¬9)؟ قلنا: لم يكن هذا من موسى كراهية في الموت، وإنّما كان غضَبًا من موسى لسُرعةِ غَضَبِه، وما كان غَضَبُهُ قطُّ إلَّا في الله، لا لمعنى من معاني الدّنيا. وقال علماؤنا: إنّما غضب لأنّه كان عنده أنَّ نبيًّا لم يُقبَض قطُّ حتَّى يخيَّر، فلمّا جاء بغير تخْيِيرٍ استنكر ذلك، فأدركته حميّة الآدميّة. وقال بعضُ علمائنا: إنّما كره موسى الموت؛ لأنّه كان يحبّ الموت في ¬
الأرض المقدّسة. تنبيه على وهم: قال بعضهم: "ليس كراهية الموت كراهية لقاء الله؛ لأنّ الموت نوع، ولقاء الله نوع" وهذا غَلَطٌ؛ لأنّ الموتَ بابٌ لِلِقَاءِ الله، فمن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الباب الّذي يصل به إليه، ومن كرهه كره الباب المفضِي إليه. حديث مَالِك (¬1)، عَن أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعرَجِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعمَل حَسَنَة قَطُّ، قَالَ لأَهلِهِ: إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُوني، ثُّمَّ اذْرُوا نِصفَهُ في البَرِّ ونصفَهُ في البَحرِ، فَوَاللهِ لَئِن قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ، فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَأَمَرَ اللهُ الْبَحرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ، قالَ: فَغُفِرَ لَهُ. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬2): "اختلفت الرِّوايةُ عن مالكٌ في رَفعِ هذا الحديث وتوقيفه، والصّوابُ رَفْعُه؛ لأنّ مثلَهُ لا يكون رأيًا. والحديثُ صحيحٌ من طُرقٍ كثيرةٍ (¬3)، وقد رواه أبو رافع، عن أبي هريرة، أنّه قال: "رَجُلٌ لَمْ يَعمَل خَيرًا قَطُّ إلَّا التَّوحِيد" (¬4) فهذه اللّفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرَّجُل، والأصول كلُّها تعضده؛ لأنّه محالٌ أنّ يغفرَ اللهُ للَّذين يموتون وهم كفّار بإجماعٍ من العلّماء". الأصول: قال الإمام: هذا الرَّجُل كره الموت من خَشْيَةِ الله، فتلقّاهُ اللهُ بمغفرته، وقد تباين النَّاس في تأويل هذا الحديث: فمن النّاس من قال: إنّ معنى، لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَى": لئن ضَيَّقَ اللهُ عليَّ (¬5). وهذا ¬
تأويلٌ بعيدٌ لوجهين: أحدهما: أنّه لو خافَ التّضييق ما ذرأَ نصفَهُ في البَرِّ ونصفه في البحر، ولَلَقَى اللهَ كذلك. الثّاني: أنّ في بعض طُرُقِهِ الصّحيح: "ذَرُوا نِصْفِي في البَرِّ ونصفي في البحر لَعَلِّي أضلّ اللهَ" (¬1)، وهذا تصريحٌ بنفي العِلْمِ الخفيّ عن (¬2) البارئ، وتقصير القدرة عن جمع (¬3) المفترق. وقال (¬4) آخرون (¬5): "لَئِنْ كَانَ اللهُ قَدَرَ عَلَيَّ" والتَّخفيفُ والتَّشديدُ في هذا سواء في اللُّغة، وهو من باب القَدَرِ الّذي هو الحُكم، وليس من باب القُدرَة والاستطاعة في شيءٍ، قالوا: وهو مثل قوله في قصَّة ذي النُّون (¬6): {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} (¬7)، وقد تأوّل العلّماء من أهل التّفسير في هذا قولان: أحدهما: أنّه من التقَّدير والقضاء. والآخر: أنّه من التّقتير والتّضيِيق. كأنّه قال: لئن كان قد سبقَ لي في قُدْرَةِ اللهِ تعالى وقضائِه أنّ يعذِّبني على ذُنوبي ليعذِّبني عذابًا لا يعذِّبه أحدًا من العالَمِين، وهذا منه خوفٌ ويقينٌ وإيمانٌ وتَوْبَةٌ وخَشْيَةٌ منه لربِّه، وتوبةٌ على ما سَلَفَ من ذنوبه؛ وهكذا يكون المؤمن مصدِّقًا مُوقِنًا بالبَعْثِ والجزاءِ. نُكْتَةٌ ومقدِّمةٌ اعتقادية (¬8): اعلموا -وفقكم الله- أنّ الموتَ ليس بعدَمٍ مَحضٍ، ولا فَنَاءٍ صرفٍ، وإنّما هو تبديلُ حال بحالٍ، وانتقالٌ من دار إلى دارٍ، ومَسِيرٌ من غَفلةٍ إلى ذِكْرٍ، ومن حالِ نومٍ ¬
إلى حال يقظةٍ، وهو المقصود الأوَّلُ، ولو لم تكن الحالة كذلك، لكان الخَلْقُ عَبَثًا، ولكانت السّموات والأرض وما بينهما باطلًا،* لم قد بيَّنَّا في "كتب الأصول" ما علَّمنا الله تعالى في كتابه * (¬1) من وجوبِ البعث، واقتضاءِ الثّواب والعقاب على تفاوت الأعمال، والبارىء تعالى هو المُحيِيِ والمُمِيت لجميع الخليقة فيما بَرَأَ وذَرَأَ، لا فاعلَ لذلك سِوَاهُ. المسألة الثّالثة: قال علماؤنا: هذا رجلٌ جهلَ صفة من صفات الله تعالى، وكان مؤمنًا بشَرْعِ من قَبْلَهُ في زمن الفترة وعند تغيير (¬2) المِلَل ودُرُوسِها، ومنِ اتَّبع الدِّين على هذه الحال وطلبَ التَّوحيد بين الشُّبَهِ، فما أدرك منه ينتفع به، وما فَاتَهُ يسامح فيه، وهذا كقسّ بن سَاعِدَة، وزيد بن عمر بن نفيل، وَوَرَقَة بن نوفل، وأشباههم. وأمّا والشّريعةُ غَرَّاء، والمحَجَّةُ بيضاء، والجادَّةُ مَيْثَاء، والبيان قد وقع بالأسماء والصِّفات والتوحيد كلّه، فلا عُذْرَ لأحدٍ فيه. المسألة الرّابعة: اختلف العلّماء فيمن أقرَّ بالذَّاتِ وأنكرَ الصِّفات أو بعضها، هل يحكم عليه بالإيمان أو التّفسيق؟ أم يقضى عليه بالكُفْرِ والتَّعْطِيلِ؟ الجواب عنه: أنّه إذا كان عارفًا بأكثر الصَّفات، جاهلًا بصفة واحدة، فإنّه بدعيٌّ وليس بكافرٍ، ومن النّاس من كَفَّرَهُ بذلك. تنبيهٌ على وَهَمٍ: قال أبو عمر بن عبد البرّ (¬3): ليس من جهل صفة من صفات البارئ يكون كافرًا، إنّما يكون جاهلًا بالموصوفِ (¬4)، ألَّا ترى أنّ الصّحابة رضمي الله عنهم سألوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن القَدَرِ وعن أشياء، فقال: "اعْمَلُوا واتَّكلُوا، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما يسِّر له "، حتّى قالت: فَفِيمَ العمل يا رَسول الله؟ ¬
قال أبو بكر بن العربي: وهذا من أبي عمر غَلْطَةٌ لا مَرَدَّ لها؛ لأنَّ الصّحابةَ - رضوان الله عليهم- لم يجهلوا صفة، وإنّما جهلوا العملَ، وإلَّا فالجهلُ بالصِّفَةِ قد يكون جَهْلًا بالموصوف، ألَّا ترى أنّه إنْ جهلَ أنَّه حيٌّ وقادرٌ وعالمٌ وخالقٌ ومتكلِّمٌ فإنّه كافرٌ، وإنّما جهلتِ الصّحابةُ العملَ ولم تجهل القضاءَ والقَدَرَ والصِّفات، وقد ذكر العلّماءُ الصَّفات وعدّدوها (¬1) في "كتب الأصول" أَزيَد من ثلاث عشرة صفة. المسألة الخامسة (¬2): قوله: "لَم يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ" قال علماؤنا (¬3): إنّما يُحْمَلُ هذا الحديث على أنّه اعتقدَ الإيمانَ ولكنّه لم يأتِ بشرائعه، فلما حَضَرَتهُ الوفاة خافَ تفريطه، فأمرَ أهلَه أنّ يحرقوه، وذلك على وجهين: أحدهما: على وجه الفرار مع اعتقاده أنّه غير فائت، كما يفرّ الرَّجُل أمام الأسد، مع اعتقاده أنّه لا يفوته سبقًا، ولكنّه يفعل نهاية ما يمكنه. الثّاني: أنّ يفعلَ هذا خوفًا من البارى تعالى، وتَذَلُلًا ورجاء أنّ يكون هذا سببًا إلى رحمته، ولعلَّه كان مشروعًا في مِلّتِهِ. وللنّاس في هذا الحديث كلامٌ طويلٌ أَضْرَبْنَا عنه. حديث مالك (¬4)، عن أبي الزِّناد، عن الأغرَجِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمعَاءَ، هل تُحِسُّ فيها من جَدْعَاءَ؟ قالوا: يا رَسُولَ الله، أرأيتَ من يموتُ وهو صغيرٌ؟ قال: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". الإسناد: قال الإمام (¬5): هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه، خرجه الأيِمَّة: مسلم (¬6) والبخاري (¬7)، ورواه جماعة من الصّحابة والتّابعين. ¬
واختلف فيه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، وزعم الذّهلي أنّ الطّرقَ فيه عن ابن شهاب صِحَاحٌ كلّها، يوجد فيها مُرْسَلٌ ولا مَوْقُوفٌ (¬1). الأصول (¬2): اختلف النّاس في الفطرة المذكورة في هذا الحديث: فقال قوم: إنّ الفِطْرَةَ الإيمان والإِسلام، وليس في قوله: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ" ما يقتضي العموم؛ لأنّ المعنى في ذلك؛ أنّ كلّ مولود على الفِطرة، وكان له أَبوَانِ على غير الإسلام، فإنّ أبويْهِ يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِه. قالوا: وليس المعنى أنّ جميع المولودِينَ من بني آدم أجمعينَ مولودون على الفطرة، بل المعنى أنّ المولود على الفِطْرَة بَيْنَ الأَبوَين الكافِرَيْن محكومٌ له بحكمهما في كُفْرِهِما، حتّى يعبِّر عنه لسانُه، ويبلغَ مَبْلَغَ من يكسبُ على نفسهِ. وكذلك من لم يُولَد على الفطرة، وكان أبواهُ مؤمِنَيْنِ، حُكِمَ له بحُكمِهِمَا ما دامَ لم يحتَلِم، فإذا بلغَ ذلك كان له حكم نفسه. واحتجَّ قائل هذا الكلام بحديث ابن عبَّاس، عن أُبَيّ بن كعب، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "إِنَّ الْغُلاَمَ الذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طَبَعَهُ اللهُ يَوْمَ طَبَعَهُ كَافِرًا" (¬3)، وبحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا مِنْ طَبقاتٍ: فَمِنهُم مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَىَ كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُم مَنْ يُولَدُ مُؤمِنًا وَيَحْيَىَ مُومِنًا وَيَمُوتُ مُؤمِنًا، وَمِنْهُم مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَىَ كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤمِنًا" (¬4). وقال قوم: الحديث على عمومه، واحتجُّوا بما رواه أبو رجاء العطارديّ، عن سَمُرَة بن جُنْدَب في الحديث الطّويل، فقال فيه: "الَّذِي في الروضة إبراهيم عليه السّلام، وأمّا الولدان حَوْلَهُ فكلُّ مولود بولد على الفطرة" (¬5). وقال آخَرُون (¬6): بل كلُّ مولودٍ من بني آدم فهو يُولَدُ على الفطرة أبَدًا، وأَبَوَاهُ ¬
يحكمُ له بحُكمِهِما، وإن كان قد (¬1) ولد على الفِطْرَةِ حتّى يكون ممّن عبّر (¬2) عنه لسانه. واحتجوا برواية كلّ مَنْ رَوَى: "كلّ بني آدم يُولَدُ على الفطرة" (¬3) وقوله: "ومَا مِن مَوْلُودٍ إلَّا وهو يُولَدُ على الفطرة" (¬4) وهذا عمومٌ مُطْلَقٌ، وحقُّ (¬5) الكلام أنّ يُحْمَل على عمومه، ولقوله: "خَلَقتُ عِبَادِي كلُّهم حُنَفَاء مُسْلِمِين" (¬6). نكتةٌ: والفطرة: الابتداء، يقال أوَّل ما فَطَرَ، أي: بَدَأَ، خلقهم على الفطرة، أي: بَرَأَهُم على الإسلام والإيمان. والفطرةُ (¬7) الّتي يُولَدُ النَّاسُ عليها هي السّلامة والاستقامة، بدليل (¬8) حديث عِيَاض بن حمار (¬9)، عن النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - حَاكِيًا عن ربِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بقوله: "خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ" (¬10) يعني على الاستقامة والسّلامة. والحنيفُ في كلام العرب: المستقيمُ السَّالِمُ، وإنّما قيل للأعرج: أَحْنَف على جِهَةِ التَّقاؤُلِ، كما قيل للقَفْرِ: مفازة، فكأنّه أراد- والله أعلم- الّذين خلصوا من الآفات كلَّها من المعاصي والطّاعات، فلا طاعةَ منهم ولا معصية، إذ لم يعملوا ولا عملوا (¬11) بشيء من ذلك، ألَّا ترى إلى قوله للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية (¬12)، يعني: لم يعمل العمل، ولم يكتسب الذّنوب. وإما الحديث عن أُبَيّ بن كعب؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الغُلام الّذي قَتَلَهُ ¬
الخَضِر طُبعَ كافرَا" (¬1) قال أبو عمر (¬2): هذا خَبَرٌ لم يروِه عن أبي إسحاق، عن ابن جُبَير، عن ابن عبَّاس، عن أُبَىّ بن كعب مرفوعًا. ورَوَى عِكْرِمَة وقَتَادَة؛ أنّ الّذي قَتَلَهُ الخَضِر كان قاطع طريق، وهذا خلاف ما يعرفه أهل اللُّغة في لَفْظِ الكلام؛ لأنّ الغُلامَ عندهم هو الصَّبِىّ الصّغير من خمس إلى سبع سنين، وعند بعضهم يسمَّى غلامًا وهو رضيعٌ إلى سَبْعِ سنينَ أيضًا، ثمّ يصير يافِعًا ويفاعًا إلى عشر سنين، ثمّ يصير حَزْوَرًا إلى خمس عشرة سنة. نكتةٌ ومزيد بيان (¬3): قال جماعة من العلّماء: الفطرة هاهنا الإسلام، وهو معروفٌ عند علماء السَّلَفِ من أهل العلّم بالتّأويل. قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬4) يعني: الإسلام، ولما روي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال للنّاس يومًا: "ألَا أُحَدِّثكُم بما حَدَّثَنِي به الله في الكتاب: إنّ اللهَ خَلَقَ آدم وبَنِيهِ مُسْلِمِينَ " الحديث بطوله (¬5). وقد وُصِفَتِ الحنيفيّةُ بالإِسلام. وقد قيل: الحَنِيفُ من كان على دِينِ إبراهيم، ثمّ سمِّي به من كان يتَحَنَّف (¬6) ويحجّ البيت في الجاهليّة حَنِيفًا، والحنيفُ اليوم المسلم. وقيل: إنّما سُمَّيَ إبراهيم حنيفًا؛ لأنّه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة إلى عبادة الله، أي: عدل عن ذلك ومالَ، وأصلُ الحنف: ميل إبهامي القَدَمَين. فالفطرةُ في كلام العرب: البدأةُ، فكأنّه قال: كلُّ مولودٍ وُلِدَ على الفطرة، وعلى ما ابْتَدَأَهُ اللهُ عليه من الشّقاوة والسَّعادةِ، وما يصِير إليه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬7) قال: شَقِيٌّ وسعيدٌ (¬8). وقال بعضهم: يُبْعَثُ المسلمُ مسلمًا والكافر كافرًا. ¬
وقال محمّد بن كعب (¬1): من ابتدأَ اللهُ خَلْقَهُ بالضَّلالةِ، صَيَّرَهُ إلى الضَّلالةِ وإنْ عَمِلَ بأعمال الهُدَى، ومن ابتدأَ اللهُ خَلْقَهُ على الهُدَى، صَيَّرَهُ اللهُ إلى الهُدَى وإن عملَ بعمل أهل الضَّلالةِ. كما ابتدأ خَلْقَ إبليس على الضلالة (¬2)، وعملَ بعمل السُّعداء مع الملائكة، ثمّ ردَّهُ اللهُ إلى ما ابتدأَ عليه خَلْقه من الضّلالة، فقال فيه: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬3). وابتدأ خَلْق السَّحرةِ على الهُدَى، وعملُوا بعمل أهل الضّلالة، ثمّ هداهم الله إلى الهدى والسعادة، وتوفّاهم عليها. تكملة (¬4): اختلفَ العلّماءُ في الأطفال: فقالت طائفة: أولاد النّاسِ كلّهم المؤمنون والكافوون إذا ماتوا أطفالًا صغارًا لم يبلغُوا، هم في مشيئة اللهِ يصيِّرهم إلى ما شاءَ من رحمته، وذلك كلُّه عَدْلٌ منه، وهو أعلمُ بما كانوا عامِلِينَ، وهذا قولُ جماعةٍ من نَقَلَةِ الخَبَرِ والأَثَرِ. وقال قوم: أطفالُ المسلمينَ في الجنَّةِ، وأطفالُ المشركينَ في النّار. وقيل: في المشيئة، وحُجَّتُهم حديث أبي هريرة. واحتجَّ من قال: إنّ أطفال الكفّار في النّار وأطفال المسلمين في الجنّة، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية (¬5). وقال آخرون: أطفال المسلمين والكافرين في الجَنَّة. وقال قوم: هم خُدَّامُ أهل. الجنّة، يعني أولاد المشركين خاصة، ويشهد له الحديث، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "النَّبِيُّ في الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ في الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ في الْجَنّةِ" (¬6). ومن حديث عائشة قالت: سَألَت خديجةُ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين فقال: "هم مع آبائهم"، ثمّ سألته بعد ذلك فقال: "اللهُ أعلمُ بما كانوا عَامِلِينَ"، ثم سألته بعد ¬
ذلك فنزلت الآية: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) فقال: "هُمْ على الفِطْرَةِ"، وقال: "هُمْ في الجَنَّةِ" (¬2). ومن حديث أنس قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "سألتُ ربِّي عن اللّاهِينَ من ذُرِّية البَشَر ألَّا يعذبهم، فَأَعْطَانيهم" (¬3). قال الإمام (¬4): قيل للأطفال: اللّاهِينَ؛ لأنّ أعمالهم كاللَّهوِ واللَّعِب مع غير عقد ولا قَصْدِ (¬5)، من قولهم: لهيت عن الشّيء، أي لم أعتمده، كقوله: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} الآية (¬6). وقال قوم (¬7): هم في الجنَّة. وقال آخرون: يُمْتَحَنُون في الآخرة، وتعلّقوا (¬8) بحديث أَنَس وأبي سعيد الخُدْريّ، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في الهالك في الفَتْرَةِ والمَعْتُوهِ والمولود، قال: "يقال لهم: ما أنتم؟ فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتابٌ ولا رسولٌ، ثمّ تَلَا، قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية (¬9). ويقوله المعتوه: ياربّ، لم تجعل لي عَقْلًا أعقلُ به لا خيرَا ولا شرَّا. ويقول المولود: يا ربّ، لم أُدْرِك العقل والعملَ، قال: فَتُرْفَعُ لهم نارٌ، ويقال لهم: ردوها وادخلوها" (¬10)، قال: فيردها ويدخلها كلّ مَنْ كان في عِلْم الله سعيدًا، ويمسك عنها من كان في عِلْمِ الله شَقِيًّا لو أدرك العملَ" قال: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: إيَايَ عَصَيْتُمْ، فكيف برُسُلِي لَوْ أَتَتكمْ" (¬11). ¬
تتميم (¬1): قال الإمام: وهذه الآثار في هذا الباب ليست بالقويّة عند أهل التّحقيق من المحدَّثين (¬2)، والّذي يصحّ في هذا الباب طريق النّظر لا طريق الأثر. حديث مَالِك (¬3)، عَنْ أَبِي الزَّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة؛ أَن رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يَمُرَّ الرَجُلُ بِقَبْر الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيتَنِي مَكَانَهُ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيح خرّجه الأيمَّة (¬4). الأصول (¬5): ظنّ بعض النَّاسِ أنَّ هذا الحديث معارِضٌ لنَهْيِهِ - صلّى الله عليه وسلم - عن تَمَنَّي الموت بقوله: "لا يتَمنَّينَ أَحَدُكُم الموتَ لضُرِّ نَزَلَ بِهِ" (¬6) ولقول خَبّاب بن الأرتّ: لولا أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نهانا أنّ نَدْعُوَ بالموتِ لَدَعَوْتُ به (¬7). وليس بينهما تعارضٌ، وذلك إنّما هو إخبار عن تَغَيُّر الزّمان لا غير. وفيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬8): قال علماؤنا (¬9): في هذا الحديث إباحةُ تمنِّي الموت، وليس كما ظنَّ بعضهم، وإنّما أخبر أنّ ذلك سيكون لشِدَّةِ ما ينزلُ بالنَّاسِ من فساد الحال في الدَّين وضَعْفِهِ وخَوْفِ ذَهَابِهِ، لا لضُرِّ ينزلُ بالمؤمنِ في جِسمِهِ يحطُّ خطاياه. ¬
الفائدةُ الثّانية (¬1): رَوَى عليم الكنديّ، قال: كنتُ مع عبس الغفاريّ على سَطْحٍ له، فرَأَى قومًا يتحملّون (¬2) من الطّاعون، فقال: يا طاعون، خذني إليك، ثلاثًا، فقال عُلَيم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يتَمَنَّيْنَ أحدُكُم الموتَ، فإنّه عند انقطاع عَمَلِهِ، ولا يردّ فيستعتب". فقال: إنِّي سمعتُ رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بَادِرُوا بالمَوْتِ قَبْلَ سِتٍّ: إمرةَ السُّفُهَاء، وكثرةَ الشّرطِ، وبيعَ الحكم، واستخفافَ الدّم، وقطيعةَ الرَّحم، ونشوًا يتَّخذونَ القرآن مزامير، يقدِّمون الرَّجُل ليُغَنِّيهم بالقرآن، وإن كان أقلّهم فِقْهًا" (¬3). وفي قول النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ إذا أردتَ بالنَّاسِ فتنةً فاقبِضْنِي إليك غير مَفْتُونٍ" وهذا ممّا يوضِّح لك المعنى في هذا الباب، وليس به حبّ الموت، ولكن من شدَّة ما يَرَى من البَلَاءِ. ومَرَّ عمر بن عبد العزيز بمجلس، فقال لأهله: ادْعُوا اللهَ لي بالمَوْتِ، قال: فدعوا له، فما مَرَّت عليه ثلاثة أيام حتَّى ماتَ (¬4). حديث مَالِك (¬5)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِىِّ، عَن مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَمَا المُسْتَرَاحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: "العَبْدُ الْمُؤْمِن يَسْتَرِيح مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابًّ". الإسناد: قال الإمام: هذا الحديث يُسْنَدُ من طُرُقٍ كثيرةٍ (¬6)، وليس في هذا الحديث شيءٌ ¬
يشكلُ ولا يحتاجُ إلى تفسيرِ (¬1)، غير أنَّه يطابقه قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (¬2). نكتةٌ صوفية: قالوا: فسادُ البَرِّ: فسادُ الأجساد، وفسادُ البحر: فسادُ الفؤاد، وفسادُ البَدَنِ: حِرْمانُ الطّاعة، وفسادُ القلب: نسيان قيام السّاعة. ففسادُ القلب والبَدَنِ: الاشتغالُ بالدُّنيا وحبّ السُّمعة والرِّيَاء. وفسادُ البدن: سوءُ العمل. وفسادُ القلب: طول الأمل. حديث مَالِك (¬3)، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ؛ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَمُرَّ بِجَنَازَتهِ: "ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيءٍ". الإسناد (¬4): هكذا في "الموطّأ" مُرْسَلاَ مقطوعًا، لم يختلفوا في ذلك عن مالك، ويتّصل من وجوهٍ حِسَانِ صِحَاحٍ من حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة، قالت: لَمَّا مَاتَ عُثمَان بن مَظْعُون، كَشَفَ النَّبِيُّ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَبَكَى بُكَاءَ طَوِيلًا، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ قَالَ: "طُوبَى لَكَ يَا عُثْمَانُ، لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا" (¬5). ذِكْرُ الفوائد المنثورة في هذا الحديث: ستّ فوائد: الفائدةُ الأولى (¬6): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيءٍ" ثناءٌ منه - صلّى الله عليه وسلم - على عثمان بن مَظْعُون وتَفْضيلٌ له، وكان واحد الفضلاء العُبَّاد الزّاهدين في الدُّنيا من أصحاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ¬
وقد كان هو وعلىّ هَمّا أنّ يترهَّبَا، ويَتْرُكَا النِّساءَ، ويقبلَا على العبادة، ويحرِّما طيب الطّعام على أنفسهما، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} (¬1) ذَكَرَ معمر وغيره عن قتادة؛ أنّه قال (¬2): نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه - وفي عثمان بن مظعون، وذلك أنّهما أرادا أنّ يَتَخَلَّيَا من الدُّنيا ويتْرُكَا النِّساءَ ويَتَرَهَّبَا. وذكر ابن جُرَيْج عن عِكرِمَة؛ أنّ عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون، وابن مسعود، والمقداد بن عمرو وسالمًا مَوْلَى أبي حُذَيْفَة، تَبَتَّلُوا وجلسوا في البيوت، واعتزلوا النِّساء، ولبسوا المُسُوح، وحرَّمُوا الطَّيِّبات من الأطعمة واللِّباس، وهَمُّوا بالخِصَاءِ وأَدْمَنُوا القيام باللَّيل والصِّيام بالنّهار، فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} (¬3) يعني: الطَّعام واللِّباس. الفائدةُ الثّانية (¬4): في هذا الحديث من الفقه: إباحة الثَّناءِ على المرءِ بما فيه من الأعمال الزّاكية. وفيه مدح الزُّهد في الدُّنيا والتَّقَلُّل منها، وفي ذلك ذمُّ الرَّغْبَةِ فيها والاستكثار منها. وسيأتي في كتاب الجامع كيفية الزُّهد والتَّزَهُّد، وما حقيقة الزُّهد والتَّزَهُّد فيه بأبدع بيان إنّ شاء الله. الفائدةُ الثّالثة: وفيه في الصحيحين: "البخاريّ" (¬5) و"مسلم" (¬6) من حديث أنس بن مالكٌ؛ أنّه مُرَّ بجنازةٍ فأَثنَوا خَيْرًا، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وَجَبَت" قَالُوا: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ، أَنْتُم شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرْضِ"، وَمُرَّ بِأُخرَى فَأَثنَوْا شَرًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ: "وَجَبَتْ" قَالُوا: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "النَّارُ، أَنْتُم شُهَدَاءُ شُهُودُ اللهِ في الأَرْضِ". ¬
الأصول: قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وَجَبَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ؛ يحتملُ أنّ يكونَ خَبَرًا عن حُكمِ أَعْلَمَهُ اللهُ فعَلِمَهُ. الفائدةُ الرّابعة: في هذا الحديث قَبُولُ الحكم بالظّاهر في الثنّاء على الخير البادي، والحكم بالظّاهر في الثّناء على الشَّرِّ البادي، والسّرائرُ إلى الله تعالى، وذلك تأويل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (¬1). الفائدةُ الخامسة: قوله: "أنتم شُهَدَاءُ اللهِ" وشهداءُ اللهِ هم المؤمنون من هذه الأُمَّة، كما أخبرَ اللهُ عنهم. الفائدةُ السّادسة: روى أبو داود في "الصّحيح" (¬2) عن ابن عبَّاس، قال: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِن مسلم يموتُ، فيقومُ على جنازته أربعونَ رَجُلًا لا يُشرِكونَ باللهِ شيئًا، إلَّا شُفِّعُوا فيه" وكلُّ شفيعٍ شَهيدٌ، وكلُّ شهيدٍ شفيعٌ، وقد وقع التّصريحُ في "الصّحيح" وههنا شهادة أربعة وهي غاية الشّهادات (¬3) في الزّيادة، وأقلّها كما قال الّذي الحديث: "اثنَانِ وَلَمْ نّسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ" وهذا من كَرَمِ اللهِ تعالى علينا. حديث مالك (¬4)، عن عَلْقَمَةَ، عن أُمِّه؛ أنّها قالت: سمعتُ عائشةَ زوجَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - تقول: قام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةً فَلَبِسَ ثيابَهُ ثمَّ خرجَ، فأمَرْتُ جارِيَتي برِيرَةَ تتبعه، فتبِعَتهُ، حتّى جاءَ البقيعَ، فوقفَ في أدنَاهُ ما شاءَ اللهُ أنّ يقفَ، ثُمَّ انصرف، فسَبِقَتةُ بريوةُ فَأَخْبَرَتْنِي، فلم أَذْكُر له شيئًا حتَّى أصبحَ، ثمَّ قلتُ ذلك له، فقال: "إنِّي بُعِثْتُ لأهلِ البَقِيعِ لأُصَلِّي عليهم". ¬
الإسناد: في "صحيح مسلم" (¬1) هذا الحديث على غير هذا اللَّفظ، والحديث صحيحٌ متَّفَقٌ عليه، خَرَجّه مسلم قال: حَدَّثَني من سمع حَجَّاجًا الأَعْوَرَ- واللّفظُ له- قال: حدّثنا حجاجُ بن* محمّد، حدّثنا ابن جُرَيْجٍ أخبرني عبد الله، عن محمّد بن قيس بن مَخرَمة * بن (¬2) المُطَّلِب أنّه قال يومًا: ألاَ أحدِّثُكُم عنِّي وعن أمَّي قال: فَظَنَنَّا أنّه يريد أمَّه الّتي وَلَدَتْهُ، قال: قالت عائشة ألَّا أحدِّثكم عنِّي وعن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قلنا: بَلَى، قال: قالت: لما كانت ليلتي الّتي هو عندي فيها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رداءَهُ وفراشه (¬3) فاضْطَجَعَ، فلم يَلْبَث إلَّا رَيثَمَا ظَنَّ أَنِّي (¬4) قد رَقَدْتُ، فأخذَ رداءَهُ رُوَيْدًا والنِّعال (¬5) رُوَيدًا، وفتحَ البابَ فخرجَ، ثمّ إنِّي قمتُ رُوَيدًا وجعلتُ دِرْعِي في رأسي واخْتَمَرْتُ وتَقنَّعْتُ إزًارِي، ثُمَّ انطلقتُ على إِثْرِهِ، حتّى جاءَ البقيِعَ فقامَ، وأطال القيامَ، ثتمَ رفعَ يَدَيْه ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ انحرفَ فانحرفتُ، فأسرع فأسْرَعتُ، فهَرْوَلَ فهرولتُ، فَسَبَقْتُه فاضطَجَعْتُ، فدخلَ، فقال لي: "مَالَكِ يا عائشة؟ " قالت: قلت: لَا شَيءَ، قال: "لَتُخْبِرِيني أو لَيُخْبِرَنِّي اللَّطيفُ الخبيرُ" قالت: قلت: يا رسولَ الله، بِأبِي أنتَ وأُمَّي فَأَخْبَرْتُه، قال: "فأَنْتِ السَّوَادُ الّذي رأيتُ أمامِي؟ " قالت: نعم، فَلَهَدَني في صدري (¬6) لَهْدَةً أَوْجَعَنِي، ثُمَّ قال: "أَظَنَنْتِ أنّ يَحِيفَ اللهُ عليكِ ورسولُه - صلّى الله عليه وسلم -" قالت: فقلت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، قال: "نعم"، قال: "فإنَّ جبرِيلَ -عليه السّلام- أتَانِي حينَ رَأيْتِ فَنَادَانِي، فأَخفَاهُ منكِ، فَأَخْفَيتُهُ مِنْكِ ولم يكن يدخلُ عليك وقد وَضَعْتِ ثيابَكِ، وظَنَنْتُ أنَّكِ قد رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أنّ أُوقِظَكِ، وخَشِيتُ أنّ تَسْتَوْحِشِي، فقال: إنّ رَبَّكَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَأْمُرُكَ أنّ تَأْتِيَ أَهَلَ البقيعِ فتستَغْفِر لهم" قالت: قلتُ: كيفَ أقولُ لهم يا وسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال: قُولي: السّلامُ على أهل الدِّيارِ من ¬
المؤمنينَ والمسلمينَ، ويَرْحَمُ اللهُ المُسْتقْدِمِينَ والمُسْتَأخِرِينَ منَّا، وإنّا إنْ شاءَ اللهُ بكم لاحِقُونَ. ومن حديث أبي مويهبة؛ "إنِّي قَدْ أُمِرْتُ أنّ أَسْتغْفِرَ لأَهْل البَقيعِ" فَاسْتَغْفر لهم، ثمّ انصرفَ، فأقبلَ عليَّ وقال: "يا أبا مويهبة، إنّ اللهَ قد خَيَّرَنِي بين مفاتيح خزائن الأرض والخُلْد فيها ثمّ الجنَّة، أو لقاء ربِّي، فاخترتُ لقاءَ ربِّي" فأصبحَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - من تلك اللّيلة، فبدأَهُ وجعُه الّذي ماتَ فيه (¬1). ذكرُ الفوائد المنثورة: في هذا الحديث أربع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): فيه: فضل بريرة. وفيه: الاستخدامُ بالعتق، والاستخدام باللَّيل، وذلك عندي فيما خَفَّ، أو ما فيه طاعة الله تعالى ليجازيه على ذلك ويُكَافئه على استخدامه. الفائدةُ الثّانية (¬3): فيه: ما كانوا عليه من مراعاة أحوال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ليلًا ونهارًا. الفائدةُ الثّالثة (¬4): قال علماؤنا (¬5): قوله في الحديث: "لأَصَلِّيَ عَلَيْهِمْ " يحتمل أنّ تكون صلاتُه ههنا الدُّعاء. فإن كان ذلك، ففيه دليلٌ على أنّ زيارة القبور والدّعاء لأهلها أفضل وأَرْجَأ لِقَبُولِ الدّعاء. فكأنّه أُمِرَ أنّ يستغفرَ لهم ويَدْعُو بالرّحمة، كما قيل له - صلّى الله عليه وسلم -: {وَاسْتَغْفِرُ ¬
لِذَنْبِكِ} الآية (¬1)، فاسْتَغْفَرَ لهم ودَعَا، ولو شاء اللهُ لاستغفرَ لهم من مكانِهِ، ولكنَّ الله أراد أنّ يُبَيِّن الإتيانَ إليها، إلَّا للنّساء فإنَّ النَّهيَ فيه ثابتٌ صحيحٌ وثبت أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لعنَ زوَّارات القبور. وقال بعضهم: دخلن في عموم الرُّخْصة للرِّجالِ. وقد ثبتَ (¬2) أنّ عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ تُوُفِّي في حُبْشِيّ (¬3)، فَحُمِلَ إلى مكَّة فدُفِنَ بها، فلمّا قَدِمَتْ عائشةُ أتت (¬4) قَبْرَ عبد الرّحمن، فقالت (¬5): وكُنَّا كنَدْمَانَي جَذِيمَةِ حِقْبَةٍ ... مِنَ الدَهْرِ حتَّى قيل لن يتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقنَا كَأَنَّي ومَالِكا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِت لَيلَةً معا وزادَ الطَّرطُوشِيْ (¬6): كأنّا خُلِقنَا للنَّوَى وكأَنَّما ... حرامٌ على الأيّام أنّ نجتمعا (¬7) ثم قالت رضي الله عنها: لو حَضَرْتُكَ ما دُفِنْتَ إلَّا حيثُ مُتَّ، ولو شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ. وكان عبدُ الرّحمن قد مات في نومة كان نامها بحبشي، وحُمِلَ إلى مكّة، وهي (¬8) على عشر أميال منها. وقال بعضهم: إنّما خرج إلى البقيع ليعمّهم بالدُّعاء؛ لأنّه ربّما دُفِنَ مَنْ لم يصلّ عليه كالمِسْكِينَة ونحوها (¬9)، وهو كلامٌ خرجَ مخرجَ العُموم ومعناه الخُصوص، كأنّه قال: بعثتُ إلى أهل البقيع لأُصَلِّي على مَنْ لم أصلّ عليه من أصحابي، ليعمّهم بذلك، واللهُ أعلمُ. حديث مَالِك (¬10)، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: أَسْرِعُوا يِجَنَائِزِكُم، فَإِنَّمَا هُوَ ¬
خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيهِ، أَؤ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَن رِقَابِكُم. الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬1): "هكذا رَوَى هذا الحديث جمهور رواة "الموطّأ" موقوفًا على أبي هريرة، ورواه الوليد بن مسلم، عن مالك، عن نافع، عن أبي هريرة، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬2)، ولم يتابع على ذلك عن مالك، ولكنّه مرفوعٌ من غير روايةِ مالك، من حديث نافع، عن أبي هريرة، من طُرُقٍ ثابتةٍ، وهو محفوظٌ من حديث الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة مرفوعًا" (¬3). ذكر الفوائد المنثورة: في هذا الحديث ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬4): في هذا الحديث تَرْكُ التّرَاخِي وكراهية المُطَيْطَاءِ والتَّبَخْتُر، والتَّمَطِّي والزَّهْوِ في المشيِ مع الجنائز وغيرها، وعلى هذا جماعة الفقهاء، والعَجَلَةُ أحبُّ إليهم من الأبطاءِ. ويُكْرَهُ الإسراعُ الّذي يشقُّ على ضَعَفَةِ مَنْ يتبعها. الفائدةُ الثّانية (¬5): قال قوم: في هذا الحديث: "أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ" أنّه أراد تعجيل الدّفن بعد استيقانِ الموت. ومن حجّة من ذهب إلى هذا التّأويل في (¬6) حديث أبي هريرة هذا: حديثُ طَلْحَة بن البراء مَرِضَ (¬7)، فأتاهُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يعودُه، فقال: "إِنِّي لأرَى طلحة إلَّا قد حَدَثَ به (¬8) الموت، فاستعجلوا به، فإنّه لا ينبغي لجيفَةِ مُسْلِمٍ أنّ تُحْبَسَ بين ظهراني ¬
أَهْلِهِ" (¬1). وحديث عليّ بن أبي طالب؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال له: "يا عليّ ثلاثٌ لا تُؤَخِّرها: الصّلاةُ إذا أَتَتْ، والجنازةُ إذا حَضَرَتْ، والأَيِّمُ إذا وَجَدَتْ لها كُفْؤَا" (¬2). الفائدةُ الثّالثة (¬3): قوله: "فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيهِ، أَوْ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ" فيه ما يدلُّ على أنّ المراد به المشي لا الدّفن، هذا ظاهرُ الحديث، وكلُّ ما احتملَ المعنى فليس ببعيدٍ في التّأويل. وروى عن أبي بكرة؛ أنّه أسرعَ المشي في جنازة عثمان بن أبي العاصي وأَمَرَهُم بذلك، وقال (¬4): لقد رأيتنا نَرْملُ مع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - رَمْلًا (¬5). ورَوَى ابنُ مسعود؛ أنَّه قال: سألنا نَبيّنا محمّد - صلّى الله عليه وسلم - عن المشي مع الجنازة، فقال: "دُونَ الخَبَبِ، إنّ كان خَيْرًا يعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدًا (¬6) لأهل النّار" (¬7). تمّ كتاب الجنائز والحمدُ لله ¬
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالِكٌ للقاضى أبي بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّي سنة: 543هـ) قراه وعلّق عليه محمّد بن الحسين السُّليماني عائشة بنت الحسين السُّليماني قدَّم له الشّيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمين لعلّماء المسلمين المجلد الرّابع دَار الغَرب الإسلامي
دار الغرب الاسلامي جمع الحقوق محفوظة الطبعة الأولي 1428 هـ -2007 م دار الغرب الإِسلامي ص: ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروساتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضي ابي بكر محمّد بن عبد الله العربيّ المعافريّ (المتوفَّي سنة: 543هـ) المجلد الرّابع
كتاب الزكاة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الزكاة وفيه أبواب: الباب الأوّل ما تجِبُ فيه الزّكاة قال الإمام الحافظ: لا بدّ في صَدْرِ هذا الكتاب من ثلاث مقدِّماتٍ: المقدِّمةُ الأولى: في اشتقاق اسم الزكاة. المقدِّمةُ الثّانية: في سرد الآيات والآثار. المقدِّمةُ الثّالثة: في وُجوبِ الزَّكاة في جميع الأموال وعلى من تجبُ. قال (¬1) الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2)، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} الآية (¬3)، وقال تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬4)، وقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الآية (¬5)، والآيُ في القرآن كثيرةٌ. ¬
والزكاةُ من إحدى دعائم الإسلام، قرنَها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بمَحْضِ الإيمان، وقرنها بالصَّلاةِ. وأمّا الأثرُ والنَّظَر، فإنّه ذَكَرَ مالك (¬1)، عن عبد الله بن دينارٍ؛ أنَّه قال: سمعتُ عبد الله بن عمر يسأل عن الكَنْزِ ما هو؟ فقال: هو المالُ الّذي تُؤَدَّى زكَاتُه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...} الآية، إلى قوله {تَكْنِزُونَ} (¬2). وقال علماؤنا (¬3): إنَّ الضَّميرَ الّذي في قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} عائدٌ على الزَّكاةِ، وإِنْ كان لم يتقدَّم لها ذِكْرٌ؛ لأنّها المراد بالاتِّفاق. وقيل: إنّه يعودُ على الفِضَّة، والذَّهَبُ داخلٌ فيها بالمعنى. وقيل: إنّه لَمَّا كان المعنى في الذَّهب والفِضَّة سواء (¬4)، جازَ أنّ يرجِعَ الضَّمير إليهما جميعًا بلفظٍ يعودُ على الكَنْزِ، والمرادُ بذلك الزَّكاة الواجبة فيهما. الآثار الواردة في مانع الزّكاة ثلاثة أحاديث: الحديثُ الأوَّل: حديث سُلَيْم بن عامر، قال: سمعت أبا أُمامة يقولُ (¬5): سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ في حَجَّة الوداع، فقال: "اتَّقُوا ربَّكم، وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصومُوا شهرَكُم، وأَدُّوا زكاةَ أموالِكم، وأطيعوا أمراءَكُم، تدخلُوا جنَّة رَبِّكُم". إسناده حسنٌ صحيحٌ، خَرَّجَه التّرمذي (¬6). الحديث الثّاني: حديث المَعْرورِ بن سُوَيْد، عن أبي ذرّ، قال: جئتُ إلى النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبةِ، قال: فرآني مُقْبِلًا فقال: "همُ الأَخْسَرونَ ورَبِّ الكعبةِ"، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا ألَّا مَنْ قالَ: هكذا هكذا" (¬7). ¬
إسناده (¬1): اتَّفَقَ أبو ذرّ (¬2) وأبو هريرة على هذا الحديث ولفظه. وظنَّ قومٌ أنّ هذا الحديث لأبي ذرّ قبلَ الهجرة، ولم تكن قبل الهجرة زكاة، فيكونُ فيها هذا الشّأن، ولا هذا الوعيد، ولا بَقِيَ أبو ذرّ مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى تفاصيل هذه الأحوال، وإنّما كان بينهما هذا في إحدى دخلاته إلى مكَّة من فَتْحٍ أو عمرة أو حَجَّةٍ. الحديث الثّالث: وقع في: "صحيح مسلم" (¬3) و"البخاريّ" (¬4) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ما مِنْ صاحبِ مالٍ لا يؤدِّي زكاةَ مَالِهِ، إلَّا جُعِلَ له يوم القيامة صفائح من نار، فَيُكوَى بها جَبْهَتُه وجَنْبَاهُ وظَهْرُهُ في كلِّ يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سَنَةٍ، حتَّى يقضي الله بينَ النَّاسِ، ثمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار، وإن كانت إبلٌ بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، فجاءت أَوْفَر ما كانت، تَطَؤُهُ بأخفافِهَا وَتَعَضّهُ بأَفْواهها، كلّما مَرَّت عليه أخْرَاها رُدَّتْ عليه أولاها، حتّى يقضي اللهُ بين عِبَادِهِ، ثُمَّ يَرَى سبِيلَهُ إمَّا إلى الجنَّة وإمّا إلى النّار. وإن كانت غَنَمٌ أَمْ بَقَرٌ فمثل ذلك، إلَّا أنّه قال: "تنَطَحُهُ بِقُرُونهَا وتَطَؤُهُ بأَظْلاَفِهَا". شرح الحديث الأوّل: قوله: "هُمُ الأخْسَرُونَ " فيه وجهان (¬5): 1 - الأوّل: خسروا أموالهم. 2 - أو خسروا ثواب زكاتهم. ولا يقال: إنّهم خسروا أنفسهم ولا أعمالهم، فإن الّذين خسروا أنفسهم هم الذين كذبوا بمايات الله، واتذين خسروا أعمالهم هم الّذين كفروا بآيات الله ربهم ولقائه. وأمّا هذا الّذي منع زكاة بَقَرِهِ أو ماله (¬6)، فإنّه يكون في عذابٍ، إلّا أنّ ¬
يعفو (¬1) الله عنه، حتّى يُقْضَى بين النّاس ثمّ يَرَى سبيلَه ... الحديث. الفائدةُ الثّانية (¬2): قوله: "الأكْثَرُون أَمْوَالًا" يعني الّذي كَثُرَ مالُه وولَدُه، وليس لعدّة (¬3) كثرة المال ذَنْبٌ، ولكنّها موجبةٌ حقًّا وحقوقًا؛ لأنّه ربّما قَصَّرَ صاحبها في الأغلب عن القيام بها، فاَوْبَقَهُ ذلك، ولو كان معدودًا في الذُّنوب والمكروهات، لما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لأمّ سُلَيْم حين قالت له: خُوَيْدِمُكَ أنس ادْعُ اللهَ له، فقال: "اللَّهُمَّ أكثر ماله وولده" (¬4). وقيل: "الأكثرون أموالًا" هم أصحاب العشرة آلاف فصاعدًا. الفائدةُ الثّالثة (¬5): قوله: "إلَّا من قالَ: هكذا وهكذا ثلاثًا" يعني بين يَدَيْه وعن يمينه وشماله، يريد فوق زكاة ماله (¬6) لمن يستقبله ولمن أعرض عنه (¬7)، حتّى يسلم من كيّ الجهة (¬8) حسب ما نفذ له (¬9) الوعيد في القرآن، فإذا أنفذَ الزّكاة بالعَطَاءِ، فقد سَلِمَ من خسارة المال. وإذا اقتصر على الزَّكاة وحَبَسَ الباقي كان من الأخسرين، ولكن من وجهِ آخرَ، وذلك من جهة أنّ الله أعطاهُ ما لا يُدْخِله الجنَّة، فآثر به غيره بأنْ حَبَسَهُ عليه (¬10)، فيكون عليه حسابه كلّه وله في الثّواب بعضه. الفائدةُ الرّابعة (¬11): قوله في الإبل: "إلَّا جاءَتْ يوم القيامة أعظم ما كانت وأَسْمَنُهُ" بيانٌ أنّ (¬12) الله يُعِيدُ الخلائق كلّها من الآدميّين وبهائم ونَعَمٍ، والجملة الكريمة من الملائكة بعد فنَاءِ ¬
المقدمة الثانية في معاني اشتقاق اسم الزكاة
الخَلْقِ والجميع، ثمّ يقعُ الفَصْل والقَضَاء، وإذا أعاد الحيوان عادَ بالجملة أكثر ما كان، ليقع الثواب للأجزاء كلها لَمَّا (¬1) أطاعت، والعذاب للأخرى لَمَّا عصت. وإن كان قد اختلفَ العلّماء في إعادَةِ البهائم؟ فقال الشّيخ أبو الحسن: لا إعادةَ عليها؛ لأنّها ليست بمُكَلَّفَةٍ وإنّما حشرُها مَوْتُها، وهذه وَهلةٌ منه لا مردَّ لها، وسيأتي بيانُه في كتاب الحدود والدّماء إنّ شاء الله. المقدِّمةُ الثّانية في معاني اشتقاق اسم الزّكاة قال علماؤنا: الزَّكاةُ في العربية والشَّرع عبارة عن النّماء والطّهارة، وكذلك نموّ الأعمال والأمو الّذي الثّواب، وطهارتهما تطهّر أوساخ النّاس، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية (¬2)، وقوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية (¬3). وهي (¬4) مأخوذة من النَّمَّاءِ، يقال: زكا الزّرع، والزكاة اسمٌ منه، فلمّا وجبت في المال (¬5) سُمِّيت زكاة. ولها اسمان: الزّكاة والصَّدقة. أمّا الزكاة، فلأن المال الّذي خرجت عنه ينمَّى لِمُزَكَّيه. وقيل: لأنّ صاحبها ينمى (¬6) عند المسلمين في الخير، وعند الولاة في الشَّهادة والإمامة، ومنه قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬7) قاله ابن عَرَفَة النحويّ. وأمّا الصَّدَقَة، فلم يتعرّض لها صنف الفقهاء منهم، والّذي عندي في ذلك: أنّ الزَّكّاة اسمٌ مشتركٌ يقال عن (¬8) النّماء والطّهارة بمعنيين مختلفين: فأمّا النّماء فأمثاله (¬9) ¬
كثيرة. وأمّا الطّهارة فقدله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (¬1) يعني طاهرة لم تكسب الذنّوب. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬2) يريد تَطَهَّرَ، والطّهارة أقعد بها من النَّمَاءِ، وإن كانا جميعًا فيها (¬3) لتمكّن المعنى بينهما لُغَة، ولقَصْدِ (¬4) الحديث لها نَصًّا، قال النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: في صَدَقَةِ الفطر من حديث ابن عبّاس إلى قوله فيها: "طُهْرَةٌ لِصِيَامِكُم من اللَّغْوِ والرَّفَثِ " خرّجه أبو داود (¬5). والصَّدَقَةُ طُهْرَة للمالِ، فالصَّدَقَةُ اسمٌ للزّكاة ولكلِّ ما أُعْطِي خشيةً لله تعالى. واشتقاقُها من الصِّدق، وأصلُه استواء القول ظاهرًا وباطنًا، لسانًا وجنانًا، أوَّلًا وآخِرًا، حتّى استعمل في المواضع، قال الله تعالى: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} (¬6) وقالت العرب: رمح صَدَق، وقالوا: أخَ صِدْقٍ، وذلك لعموم الاستواء والحُسْنِ في جميع ذلك (¬7) من الوجوه الّتي بيَّنَّاها. وقالوا في مبالغة الفعل للفاعل فيه: صدِّيق، فإذا دفع الزَّكاة فقد صدق في اعتقاده بما ظهر من فِعْلِهِ، وقد ظهرَ الصَّدق في وفاءِ الله بعَهْدِهِ، على ما يأتي بَيَانُه، وإن أفاضَ المال في سبيل الخير فقد زاد صِدْقه في دِيِنه. حكمةٌ وحقيقةٌ وتوحيدٌ (¬8): وذلك أنّ الله -وله الحمد- أنعمَ على العبد نعمتين: نعمة في البَدَنِ، وجعلَ شكرَها العبادات البَدَنِيَّة كالصوم والصّلاة. وأنعم أيضًا بنعمةِ المال، وجعلَ شكرها أداء الزّكاة، فإذا قامَ العبدُ بالعبادات البَدَنِيَّة فقد أدَّى نعمةَ اللهِ فيها، وإذا أدّى الصَّدَقَة، فقد أدَّى نعمةَ الله عليه في المال، فصارت قسمين: زكاة أموال، وزكاة أبدان. وأمّا التّوحيد والحكمة، فإن الله بفضله ضمنَ الرِّزْقَ لعباده فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬9) ثم خَلقَ الرِّزقَ والقُوتَ في الأرض، فخصَّ بإرادته ¬
المقدمة الثالثة في وجوب الزكاة في جميع الأموال، وعلى من تجب، وشروطها لمن وجبت عليه
وقُدْرَتِهِ تملكةَ (¬1) بعض من ضمن له الرِّزق من خَلْقِهِ، ثُمَّ أوْعَزَ إلى الغنىّ الّذي خَصَّهُ بمُلْكِهِ أنّ يُعطي الفقيرَ قَدْرًا معلومًا من قُوتِهِ، تحقيقًا لما ضمن ووفاءً بعهده، وتوكيلًا منه إلى الغَنِيِّ في أداءِ ما وجبَ عليه بفَضْلِهِ من ضمانه للفقير من رزقه، حتّى يشترك الأغنياء والفقراء في جنس الأعيان المملوكة، فتكون غنمٌ بغنمٍ، وبقرٌ ببقرٍ، وإبلٌ بإبلٍ، وذهبٌ بذهبٍ، ووَرِقٌ بِوَرِقٍ، وحَبٌّ بحَبٍّ، وتمرٌ بتمرٍ، فيعمُّ الاختصاص، ويحقَّق الاشتراك، وينجزُ الوفاء بالعهدِ. وأمّا الحقيقة، فقد اختلف العلّماء في تعيينها فقال قومٌ: هي جزءٌ من المال مُقَدَّر مُعيَّن، وبه قال مالكٌ والشّافعيّ. وقال قوم: هي جزء من المال غير معيَّن. وحكمتها: شُكْرُ نعمة الله في المال، كما أنَّ حِكْمَةَ الصَّلاة شكر نعمة البَدَن، وأكثر العلّماء أنّها جزءٌ من المال معيَّنٍ مُقَدَّرٍ. المقدِّمة الثّالثة (¬2) في وجوبِ الزكاة في جميع الأموال، وعلى من تجب، وشروطها لمن وجبت عليه ولا خلافَ في وُجُوبِهَا، فلا معنى للإطناب فيه وجَلْبِ الآثار فيه (¬3). وهي تجب بستَّةِ شروط. الحرية. والملك. والإِسلام. وكونه نصابًا. ومضى حول عليه. ¬
ومجيء السَّاعِي في الماشية، ولا يشترط في المعدِن. قال علماؤنا: وليس من شرطها الإسلام؛ لأنّه ليس في مذهب مالكٌ خلافٌ أنّ الكُفَّارَ مخاطَبُونَ بفروع الشَرِّيعةِ (¬1)، وليس من شَرْطِها البُلوغ والعقل؛ لأنّه لا خلافَ بين المالكيّة أنّها تجب على الصَّبِيِّ والمجنون. وأمّا الحريّة، فأجمعتِ الأُمَّةُ عليها، حتّى نشأَ بعض المبتدعة (¬2)، فقال: إنّ العبدَ تجبُ عليه الزكّاة. قلنا: وإن كان العبدُ عندنا يملكُ، فإنّه ليس بملكٍ مُسْتَقِرٍّ، فإنَّ لسَيِّدِهِ بَيْعه إنّ شاءَ في كلِّ يومٍ، فلم تثبت له قَدَمٌ في الاستقرارِ، فكيف أنّ يمرّ عليه الحول؟ فإن قيل: كما لم يثبت له قَدَمٌ في الاستقرار، ويطأ جواريه عندكم، كذلك يؤدّي الزكاةَ، فإنّ إباحة الفَرْجِ أعظم. الجواب إنا نقول: قِفْ، ليس هذا من كلامك المخالف لنا، ليس هو (¬3) من أهل القياس، فلا يمكنه (¬4) أنّ يَدخل معكم فَيُشَغِّب عليكم، وارجعوا معه (¬5) إلى الأصل فيه. وأمّا المكاتَبُ، فإنّه مستغرق المال بحقِّ (¬6) السَّيِّد من الكتَابَةِ، ولهذا قلنا: إنّ المديان يقَدْرِ النِّصاب لا زكاةَ عليه. وأمّا الحول ومجيء السّاعي، فأصلُ ذلك: بعث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - المصدّقين على رأس العام، وجعل العلّماء التَّقدِير على الماشية بالنَّظَرِ، وذلك أنّه مالٌ يُعْتبَرُ فيه النِّصاب فاعتبر فيه الحَوْل، وليس فيه أَثَرٌ يُلْتَفَتُ إليه، فلا تشغلوا به بالًا. ¬
والزَّكاةُ مختصَّةٌ بالأموال النّامية الّتي هي معرضة (¬1) لذلك من النّماء، وهي ثلاثة أنواع: العين، وتشملُ الذَّهب والفِضّة. والحَرْثُ، ويشمل الحبّ والتَّمْر. والماشية، وهي عبارة عن ثلاثة أنواع: الإبِل، والبقر، والغَنَم. وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2) إنّ قلنا: إنّ المراد به الطّهارة، فهو مُجْمَلٌ، وإن قلنا: إنّ المراد به النّماء؛ فهو عامٌّ في كلِّ نماءٍ ونامي يُوجِبُ بظاهر عُمُومِهِ إيتاءَ النَّمَاءِ من كلِّ مالٍ نامٍ، إلَّا أنَّ النّبيَّ صلّى الله عليه خصَّصَ العُمومَ فقال: "ليس فيما دون خَمْسِ ذوْدٍ صدَقَةٌ ... " الحديث (¬3) وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لّيْسَ على المسلمِ في فَرَسِهِ ولا في عَندِهِ صدَقَةٌ" رواه الأيمة (¬4)، زاد مسلم (¬5): "إلّا صدقة الفطر"، وروي عن عليّ معناه؛ أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "عفوتُ لكم عن صَدَقةِ الخَيْلِ والرَّقيقِ، فأّدّوا (¬6) عن صدَقَةِ الرِّقَةِ: من كلِّ أربعينَ دِرهَمًا" خرجه التّرمذي (¬7). واجتمعت الأيِمَّةُ على أنّ الذَّهَبَ داخلٌ في قوله (¬8): "خمس أَوَاقٍ". وأمّا النِّصاب، فلا خلافَ فيه، فأمّا نصاب الماشية فتقرّر بالنّصِّ، وأمّا نصاب الوَرِقِ فمثله، وأمّا نصاب الذَّهَب فتقرَّرَ بإجماعِ الصَّحابة على حمل أحد النِّصابين على الآخر، والجامع بينهما؛ أنّ قيمة الدَّنّانير في عهد النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - والصَّحابة عشرة ¬
دراهم، حتَّى جاء الحسن البصري فقال: إنّ النِّصاب في الذَّهب أربعون دينارًا، وهي دَعْوَى لا حُجَّةَ فيها، ولا تليقُ بمَنْصِبِه في العِلْم، فإنّ قائلًا لو قال الّذي المعارضة: بل نصاب الزَّكَاةِ ثلاثون دينارًا، لما انْفَكَّ عن ذلك، فإذا ثبت هذا، فإنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - علّق الزَّكاةَ في العَيْنِ بالوَزْنِ، فإنِ اتَّفقَ النّاس على عددها، فهل تتعلّق الزكاة بذلك ولا يعتبر الوزن أم لا؟ (¬1). قلنا: لابدّ من الوزن، وبه قال عامة الفقهاء، وقال مالكٌ: يعتبر العدد ويسقط الوزْن، إلَّا أنّ يكون النُّقصان يسيرًا، كالحبَّة في الدِّينار أو الحبَّتَيْن. وقال في "كتاب محمّد" أو الثّلاثة، وهذا ينبني على أصلٍ، وهو أنّ القياس والمصلحة هل يقدَّمَان على العموم أم لا؟ مذهب مالكٌ - رحمه الله - على أنّهما يقدَّمان على العُمومِ، وكذلك قالت عامّة الفقهاء. واختلفَ العلّماءُ في المَعْدِنِ، هل يعتبر فيه النِّصاب أم لا؟ وهل تُؤْخَذُ أيضًا منه الزّكاة؟ والصحيح أنّه يعتبر فيه النِّصاب؛ لأنّه ذهبٌ داخلٌ في العموم للحديث، ولا يعتبرُ فيه الحَوْل؛ لأنّه ينمو بنفسه فصار بمنزلة الحَرْث والثّمر (¬2)، واللهُ أعلم. تمَّت المقدِّمات والحمدُ لله ¬
ذكر الباب الأول
ذِكرُ البابِ الأوّل قال (¬1) فيه: "بابُ ما تَجِبُ فيه الزَّكاة". مالك (¬2)، عن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِّي، عن أَبِيهِ، أنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سعيدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيسَ فيما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ". والحديث الثّاني (¬3) مثله وأَبْيَن منه. التّرجمة: قال القاضي أبو الوليد (¬4): "لفظ التّرجمة يحتمل معنيين: أحدهما: أنّه أراد أنّ يبيّنَ مقدارَ ما تجبُ فيه الزّكاة. والثّاني: أنّ يبيّن جِنْسَ ما تجبُ فيه الزَّكاة. وقد قصد به مالك الأمرين جميعًا، فأدخل حديث أبي سعيدٍ فبَيَّنَ فيه نِصَابَ الزّكاة، وأدخل حديث عمر بن عبد العزيز وبيَّنَ فيه جِنْس ما تجب فيه الزّكاة، والزَّكاةُ في كلام العرب النّماء" كما قدَّمناهُ. فإن قيل (¬5): وكيف يستقيم هذا الاشتقاق ومعلوم انتقاص المال بالإنفاق؟ قيل (¬6): وإن كان نَقْصًا في الحال، فقد يفيدُ النّموّ في المآل ويزيد في صلاح الأموال. ¬
الإسناد: قال أبو عمر (¬1) - هذا حديثٌ صحيح متَّفَقٌ على صِحَّتِهِ (¬2)، ومثله خرَّجَهُ الأيمّة (¬3): "وهو أصحّ من حديث محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي صعصعة؛ لأنّه معلولٌ لا يصحّ عنه، عن أبيه، عن أبي سعيد، وإنّما هو يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد. وقال بعض أهل العلّم (¬4): إنّ هذه السُّنِّة الثابتة من رواية أبي سعيدِ الخُدْرِيّ دون سائر الصّحابة. والّذي ذكر مالك هو الأغلب المعروف؛ لأنّها تُوجَدُ من رواية سهيل بن أبي صط لح، عن أبي هريرة. ومن رواية محمّد بن مسلم الطائفي (¬5)، عن عمرو بن دينار عن جابر كلاهما عن النبيّ -عليه السّلام-. صحيح الفقه والفوائد: وهي سبع مسائل: المسألة الأولى (¬6): قد بيَّنَّا أنّ منها الزكاة، ومنها الصّدقة، ومنها الحقّ، والنّفقة، والعَفْو. فالزّكاة، من قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬7). والصَّدقة، من قوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية (¬8). والحقّ، من قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬9). والنّفقة، من قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬10). ¬
والعفو، من قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} (¬1). وهذه الألفاظ واقعةٌ على الزّكاة من جهة اللُّغة، وتنطلق على معانٍ في الشَّرْعِ. المسألة الثّانية: قوله: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ" قال علماؤنا: الذَّوْدُ يقع على الثّلاثة والأربعة والخمسة إلى التِّسعة. وقال ابن حبيب (¬2): "الذّود من الإبل الثّلاثة إلى التِّسعة. ولا يتبعض الذَّوْدُ، ولا يكون له واحدٌ، كما لا يتبعض النَّفَر من الرَّجال، ألَّا ترى أنّه ليس للنَّفَر واحدٌ، والنَّفَرُ من الثّلاثة إلى الِتَّسعة، ثمّ من التّسعة إلى العشرة رهطٌ، وما فوق العشرة إلى الأربعين عصبة، وما فوق الأربعين أُمَّة". وقال أبو عُبَيْد في "غَرِيبَيْه" (¬3): "الذَّوْدُ هو ما بين الاثنين إلى التِّسع من الإناث دون الذّكور". وقال غيره (¬4): قد يكون الذّود واحد لقوله: "ليس فيما دُونَ خمسِ ذَوْدٍ، من الإبلِ صدقةٌ"، كأنّه قال: ليس فيما دون خمس من الإبل صدقةٌ. الاشتقاق: قال علماؤنا: إنّما اشتقّ ذود لأنّه يذاد، أي يساق، ومنه الحديث: "فَلْيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" (¬5) يريد فليدفعن. وقال عيسى بن دينار (¬6): الذود الجمل الواحد، وقول عيسى أَوْلَى بظاهر قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسِ ذَوْدٍ صدقةٌ" يريد: ليس فيما دون خمسٍ من الإِبلِ صدقة. وقال علماؤنا: وإنّما جاز هذا لأنّه يُسَمَّى الجملُ باسْمِ المصدر، وكذلك الجمع منه، كأنّه قال: ليس فيما دون خمسِ جمالٍ. وقيل (¬7): الذَّوْدُ واحدٌ، ومنه قيل: الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إِبلٌ. وقد قيل: إنّ الذَّوْدَ القطعة من الإبِلِ ما بين الثّلاث إلى العشر. ¬
قال الإمام (¬1): والأوّل أكثر وأشهر عند أهل اللُّغة، قال الحُطَيْئَة (¬2): ونَحْنُ ثَلاَثَةٌ وثَلاَثُ ذَوْدٍ ... وَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عيالي أي مالَ عليهم. والأكثرُ عند أهل اللُّغة أنّ الذَّوْدَ من الثلاثة إلى العشرة. قال أبو حاتم (¬3): وتركوا القياس في الجمع فقالوا: ثلاث ذَوْدٍ لثلاث من الإبل، ولأربع ذَوْدٍ وعشر ذَوْد، كما قالوا: ثلاث مئة وأربع مئة على غير القياس، والقياسُ: ثلاث مئين ومئات، ولا يكاد يقولون ذلك. تنبيه على وهم (¬4): قال ابن قُيَيْبَة: ذهب قومٌ إلى أنّ الذَّوْدَ واحدٌ، وذهب آخرون إلى أنَّ الذَّوْدَ جمعٌ. واختار ابنُ قُتَيْبة قول من قال: إنّه جمع، واحتجَّ له بأنّه لا يقالُ: خمس ذَوْد، كما لا يقال: خمس ثوب. قال الشّيخ أبو عمر (¬5): "ليس قوله -أعني ابن قُتَيْبة - بشيءٍ؛ لأنّه لا يقالُ: خمس ثوب ولا خمس ذود، وقد كان بعض الأشياخ لا يرويه إلَّا خمس ذَوْدٍ على التّنوين لا على الإضافة، وعلى هذا يصحُّ ما قاله أهل اللُّغة". المسألة الثّالثة (¬6): قوله: "صَدَقَة" قال علماؤنا (¬7): الصَّدقةُ المذكورة في حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ وغيره في هذا الباب، هي الزّكاة المعروفة، وهي الصَّدَقَة المفروضة، سمّاها اللهُ صَدَقَة، وسماها زَكَاة، فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية (¬8)، وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية (¬9)، ¬
يعني الزّكاة، وهذا ما لا تنَازُعُ فيه، والحمدُ لله. وقد قال أبو حنيفة: المراد بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ليس على المسلم في عَبْدِهِ ولا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬1) المراد به ما يقتنيه وما لا يتَّجِر فيه. المسألة الرّابعة (¬2): قال علماؤنا (¬3): في هذا الحديث دليلٌ على أنّ ما كان دون خمس من الإبل لا زكاةَ فيه، وهذا إجماع من العلّماء. فأفادنا قوله: "لَيْسَ فيمَا دُونَ خَمسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ" فائدتين. إحداهما: إيجاب الزَّكاةِ في الخَمْسِ فما فوقها. ونفي الزكاة عما دُونَها. ولا خلاف في ذلك، فهذا بلغت خمسًا ففيها شاةٌ، واسمُ الشَّاةِ يقعُ على واحدة من الغَنَم، والغَنَمُ: الضَّأنُ والمعزُ، وهذا أيضًا اجماعٌ من العلّماء أنّه ليس في خمسٍ من الإبِلِ إلَّا شاة واحدة، وهي فريضَتُها إلى تسعٍ (¬4)، فإذا بلغتِ الإبلُ عشرًا ففيها شاتان، وسيأتي القولُ عليها في زكاة الإبِلِ مبسوطًا في "باب صَدَقَةِ الماشية". المسألة الخامسة (¬5): قوله -عليه السّلام-:"لَيْسَ فيما دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ". قال الإمام: وهذا أيضًا إجماع من العلّماء وفيه معنيان: أحدهما: نفي الزّكاة عما دون خمس أَوَاقٍ. الثّاني: إيجابُها في ذلك المقدار، وفيما زاد عليه بحسابه (¬6)، هذا ما يُوجِبُه الظّاهر من النَّصِّ (¬7). ¬
العربية (¬1): قال الهروي (¬2) في قوله: {أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} (¬3) وإنّ الوَرِقَ والرِّقة الدّراهم خاصّة، والرِّقة هي الفِضَّة. وقال: إنّما المراد به الدراهم، فإذا كانت تبرًا فهي وَرِقٌ. وأمّا الأواقي فهي بتَشْدِيدِ الياء وتخفيفها، قال ابن السِّكِّيت (¬4): وعنده الأُوقِيّة بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقيّ وأواقٍ. وقال الخطابي (¬5): الرِّقة بتخفيف القاف، ومنه الحديث: "في الرِّقة ربع العشر" (¬6)، وفي حديث علىّ؛ أنَّه قال: "عفوتُ لكم عن صدقة الخَيْلِ والرّقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة" (¬7). وقال أبو بكر: جمعها رقات ورقوق. المسألة السّادسة (¬8): في الأوزان الأُوقِية أربعون دِرْهَمًا كيلًا، لا خلافَ في ذلك، والأصلُ في الأُوقِية ما ذَكَرَهُ أبو عُبَيْد (¬9) قال: الأُوقِية مبلغها أربعون دِرْهَمًا كيلًا، والقرش نصف الأُوقِية وفيه عشرون درهمًا، والنّواة وزنها خمسة دراهم كيلًا. قال الإمام (¬10): وما حكاه أبو عُبَيْد من ذلك هو قول جمهور العلّماء، العارضة فيه أنّ يقال: الوَسْقُ، الصّاعُ، الرِّطلُ، الأُوقية، الدِّرهم، وألفاظها كثيرة، ¬
ومقاديرها (¬1) مختلفة فيها، ويعيّنها العلّماء، والّذي يكشف الغطاء فيه؛ أنّ تعلم أنّ الله تعالى استأثر رسوله بجميع العلّوم، فلما مات غيّرت الشّرائع (¬2) شيئًا بعد شيءٍ، من الأذان إلى الصّلاة إلى آخر رِزْمَةِ الشّرائع (¬3)، حتّى انتهى التغيير إلى الكَيْل، فغَيَّرَهُ هشام والحجّاج، فغلبَ المُدُّ الهاشميّ والحجّاجيّ على مُدِّ الإسلام، وغيرت الدّراهم والدّنانير واختلط ضربها، ودخل عليها من الزِّيادة والنُّقصان واضطرابِ الأقوال، ما لو سمعتموه لعلّمتُم (¬4) أنّها لا تتحصّل أَبَدًا، والّذي يتنخَّلُ منها؛ أنّ المِثْقَالَ: أربعة وعشرون قيراطًا. والقيراط: ثلاث حبّات في لسان العرب. والدِّرهم: نصفه، وهو ستّ دوانق. والدّانق: ستّ حبّات ضربته بَنُوا أُمَيَّة ليسهل الصَّرف. وكان الحسن يقول: لعن الله الدّانق، ما كانت العرب تعرفه ولا أبناء الفُرْس، قاله الخطّابي (¬5). والأُوقيةُ اثنا عشر درهمًا من ذلك الوزن. والرِّطْلُ اثنتا عشرة أُوقية، وهذا هو المطابق لوَزنِ الشّريعة، ودَعْ غيره سدًّا فليس له آخر ولا مدًّا، وركِّب على هذا الوَزْن الكَيل (¬6) فإنّه أصلٌ، فالمُدُّ رِطْلٌ وثُلُث، والصَّاعُ أربعة أمداد، والوَسْقُ ستّون صاعًا، وسائر الأكيال لا يتعلّق بها حُكْمٌ، إذ ليست من ألفاظ الشّريعة، فاحْذَرُوا معشرَ الأصحابِ (¬7) أنّ تُرَكِّبُوا حُكمًا على لفظٍ ليس هو لصاحب الشّريعة، وقد كنت أعظم أنّ يكون مالك - على جلالة قدره، واستهانته بمن يخالف السُّتَّة- يقول في الظِّهار: يطعم مُدًّا بمُدِّ هِشَامٍ، فيجرِي اسْمُه ومُدُّه على لسانه، مع أنّه بدعةٌ مغيِّر للسُّنَّة، حتّى رأيت أشهب قد روي عنه التَّبَرِّي منه، فسُرِرْتُ بذلك (¬8). المسألة السّابعة (¬9): أمّا قول عمر بن عبد العزيز (¬10) ومالك بن أنس: إنّ الصَّدقةَ لا تكون إلَّا في ¬
باب الزكاة في العين من الذهب والورق
العَيْنِ والماشِيَةِ والحَرْثِ، فهذا إجماعٌ من العلّماء لا يختلفون في تفصيله (¬1). وأطبق (¬2) العلّماء على أنّ الزكاة في الأموال النّامِيَة العَيْن والحَرْث والماشِيَة، فالحَرْثُ في أربعٍ: في النِّخْل والكُروم (¬3) والزَيْتُون والحُبُوب. والعين في أربع: في الذَّهبِ والوَرِق والمعدِن والرِّكاز. والماشية في ثلاث: الإبل والبقر والغَنَم. حديث: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وفيمَا سُقِيَ بالنَّضْح ... الحديث" إلى آخره (¬4). وهذا حديثٌ صحيحٌ من طُرُقٍ. العربيّة (¬5): السّماء هو المطر، والعُشْر من هذا الّذي تسقيه السَّماء. والنّضْحُ هو شبه نَهْرٍ يُحْفَرُ بالأرض يُسْقَى به البَعْل من النَّخِيلِ. باب الزّكاة في العَيْنِ من الذَّهب والوَرِقِ مالك (¬6)، عن محمّد بن عُقبَة مَوْلَى الزُّبير، أنّه سألَ القاسم بن محمد عن مُكَاتَبٍ لَهُ قَاطَعَهُ بمالٍ عظيمٍ، هل عليه فيه زكاةٌ؟ فقال القاسم: إنّ أبا بكرٍ الصِّدَّيقَ لم يكلن يَأخذ من مالٍ زكاة حتَّى يَحُولَ عليه الحَوْلُ. الإسناد: قال الإمام: الحديث موقوفٌ، وقيل مُرْسَلٌ، والَّذي (¬7) رُوِيَ موقوفًا هو حديث ¬
ابن عمر والله أعلمُ، ورواه حارثة عن أبي الرِّجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. مالك (¬1)، عن ابن شهاب؛ أنّه قال: أوّلُ مَنْ أخَذَ من الأُعْطِيَةِ الزَّكاةَ معاويةُ بن أبي سفيانَ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬2): قال القاسم بن محمّد (¬3): إنّ أبا بكرٍ لم يكن يأخذُ من مالٍ زكاةً حتَّى يحولُ عليه الحَوْلُ، احتجَّ بفعله في ذلك لأنّه كان الخليفة، وهو الّذي كان يتولَّى أَخْذَ الصَّدقات من مال الصَّحابةِ وأهل العِلْمِ، ولم يُنْكِر أحدٌ فعلَهُ في ذلك مع اجتهاده في طلب الصَّدقات وقتاله المانِعِينَ الزَّكاة، فثبت أنّه إجماعٌ. المسألة الثّانية (¬4): قوله: "حَتَّى يَحُولَ عَلَيهِ الحَوْلُ" لا خلافَ بين المسلمين أنّه لا يجب في مالٍ زكاة حتَّى يحولَ عليه الحَوْلُ، واختلفوا في جواز إخراجها قبل الحول؟ فذهب مالك إلى أنّه غير جائز، حكاه ابن عبد الحكم عن مالك، وقال أشهب: من أخرج زكاته قبل الحول أعاد (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6) والشّافعيّ: ذلك جائزٌ. والدليل على ما نقوله: أنّ الحَوْلَ شرطٌ من شروطِ وجوبِ الزَّكاةِ، فلم يجز تقديمها قبلَ وجوده، أصل ذلك النِّصاب (¬7). وقال ابنُ الموّاز: احتجَ مالكٌ واللَّيث في ذلك بالصّلاة. قال ابنُ وهب: لو أَخَذَهُ السَّاعي قبل حِيِنِهِ لم يجزه. ¬
وروى ابن عبد الحَكَم عن مالك؛ أنَّه سُئِلَ عن ذلك فقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ} الآية (¬1). المسألة الثّالثة (¬2): فإذا ثبت هذا، فمن أصحابنا من يقول: يجوز إخراجها قُرْبَ (¬3) الحَوْلِ. وروى عيسى عن ابن القاسم في "العتبية" (¬4): يجوز تقديمها على الحول بالشَّهْرِ ونحوه. وقال ابنُ الموّاز وأبو الفَرَج: يجوزُ تقديمُها باليوم واليومين. وقال ابن حبيب: قال (¬5) من لقيت من أصحاب مالكٌ: لا تجزئه إلّا فيما قَرُبَ مثل الخمسة الأيام والعشرة. وقال أشهب: من فعل هذا فلا تجزئه. توجيه (¬6): أمّا وجه ذلك: أنّ وقت الوُجوب هو الحَوْل فَلِقُرْبِه تأثيرٌ في الاستحقاق، كمرض المريض (¬7) الّذي له تأثيرٌ في منعه من التّصرُّف في ماله نحو الوَرَثَة. ووجه آخر: وهو أنّ المال لا يعتبر فيه ما قَرُبَ، فكذلك اليوم، إنّما يُعْتبَر بالسّاعة الّتي أفيد فيها المال، ولا بمقدار ما مَضَى منها. يُعْتبَرُ ما قَرُبَ من ذلك، فكذلك اليوم لا يعتبر فيه، وما قَرُبَ منه فهو في حُكْمِهِ في الحَوْلِ (¬8)، والمسألةُ طويلة المَأْخَذِ. ¬
المسألة الرّابعة: قول مالك (¬1): "السُّنَّةُ الّتي لا خلافَ فيها عندنا أنَّ الزكاةَ تجبُ في عشرين دينارًا، كما تجب في مِئتي دِرهَمٍ". وقال مالك (¬2): "ليس في عشرين دينارًا ناقصةً بَيِّنَةَ النُّقصانِ زكاةٌ، فإن زادت حتّى تَبْلُغَ بزيادتها عشرينَ دينارًا وَازِنةً (¬3) ففيها الزكاة". وقال مالك (¬4): "ليس فيما دون عشرينَ دينارًا عَيْنًا زكاةٌ". الاسناد (¬5): قال الإمام: لم يصحّ في نِصَابِ زكاة الذَّهَبِ شيءٌ من جهة نَقْلِ الآحادِ العُدُولِ الثِّقاتِ، إلَّا نكتةٌ خَرَّجَهَا مسلم في "كتابه" (¬6) قوله (¬7): "مَا مِنْ صاحبِ ذهبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي زكَاتَها - أو قال: حَقَّها- إلَّا إذا كان يومُ القيامةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صفائِحَ من نارٍ، فَأحْمِيَ عليها في نارِ جَهَنَّمَ ... " الحديث. وقد (¬8) رُوِيَ من حديث عَاصِمْ بن ضَمَرة والحارث بن الأغوَر، عن عليّ، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - "أنّه قال: "هَاتُوا زكَاةَ الذهَبِ من كلِّ عشرينَ دينارًا نِصْفَ دينارٍ"، وكذلك رواه أبو حنيفة -فيما زعموا- ولم يصحّ عنه، ولو صحَّ لم يكن فيه عند أهل العلم بالحديث حُجَّة، والحسن بن عمارة متروك الحديث، وأجمع المُحَدِّثَة على ترك حَدِيثِهِ لسُوءِ حِفْظِهِ وكَثرَةِ خَطَئِهِ، رواه عن الحسن بن عمارة عبدُ الرزّاق (¬9)، ورواه ابنُ وَهْب عن جرير بن حازم. والّذي رواه الحفَّاظُ قوله: "في عشرين دينارًا من الذَّهَبِ نصف دينار" (¬10). ¬
وأمّا ما رَوَى التّرمذي (¬1) عن عاصم بن ضَمْرَة مَوْلَى علىّ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "عَفَوْتُ لكم عن صَدَقَةِ الخيلِ والرَّقيقِ فآتوا (¬2) صدقةَ الرِّقةِ من كلِّ أربعينَ دِرهمًا درهمًا، وليس في تِسْعين ومئةٍ شيءٌ، فإذا بَلَغَت مئتينِ ففيها خمسةُ دَرَاهِمَ". وهذا حديثٌ لم يصحّ، وأصحّ الأحاديث في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري كما تقدّم بيانه. المسألة الخامسة: قال جماعة من العلّماء: ليس في الذَّهب زكاة حتّى يبلغ صرفها مئتي درهم، فإذا بلغ صرفها مئتي درهم ففيها رُبُع العشر، ولو كان وزنُها أقلّ من عِشرين دينارًا. وليس فيها عند مالك شيءٌ، وهو الصَّريحُ من مذهبه أنّه يجب في عشرين دينارًا، كما يجب في مئتي درهم، لا خلافَ في ذلك عنه، وعليه فقهاء الأمصار، إلَّا ما روي عن الحسن بن أبي الحسن؛ أنَّه قال: لا زكاةَ في الذَّهَبِ حتّى يبلغ أربعين دينارًا، فيكون فيها دينارًا، والجمهور على خِلاَفِهِ قَدِ انْعَقَدَ، والحديث الّذي احتجَّ به الحسن ضعيفٌ لا يُلْتفَتُ إليه. خاتمة (¬3): قوله: "لا زكَاةَ حتَّى يَحُولَ عليه الحَوْلُ" يريد بذلك الماشية والعَين وهو الذَّهب والوَرِق، وأمّا الزَّرْع والمعدِن والثَّمار، فإنَّ الزّكاةَ فيها ساعة يحصل (¬4)، والفرق فيهما: أنّ الحَوْلَ إنّما ضربَ في العين والماشية لتكامُل النِّصاب فيهما. وأمّا الزَّرْع والمعدِن، فإنَّ تَكَامُلَ نَمَائِهِ عند حَصَادِ الحَبِّ وخُروج العَيْنِ من المعدِن، ولا نماء له بعد ذلك من جنس النَّمَاء الأوّل (¬5)، فلذلك وَجَبَتِ الزَّكاة في الحَبِّ يوم حصاده، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الآية (¬6). على أنا قد بيَّنَّا أنَّ الزّكاةَ تحتاج لخمسة أشياء، فإذا عُرفت الخمسة لم يخرج ¬
الزكاة في المعادن
شيء من الزّكاة عنها، وهي: ما حقيقتها، وما محلّها، وما مُوجبها، وما شرطها، وما أَجَلها. أمّا حقيقتها فالنّماءُ. وأمّا محلّها فالمال. وأمّا مُوجبها، فخطاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بالأمر بها، وكذلك كلُّ فَرْض عَيْن قُرِنَ بوقتٍ، لم يجب ذلك الفَرْض بالوَقْتِ، وإنّما يجبُ بالأَمْرِ به (¬1) كالصّلاة والزّكاة. وأمّا أجلها، فإخراجها من المال. وأمّا شرطها، فأربعة: الحولُ، والنِّصاب، والملك، ومجيء السّاعي. الزَّكاةُ في المعادن مالك (¬2)، عن ربيعةَ بن أبي عبد الرّحمن، عن غير واحدٍ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قَطَعَ لبلالِ بن الحارثِ المُزَنيِّ معادِنَ القَبَلِيَّةِ، وهي من ناحية الفُرْعِ، فتلك المعادنُ لا يؤخذُ منها إلى اليوم إلَّا الزكاةُ. الإسناد: قال أبو عمر (¬3): "هذا الحديث مقطوع السَّنَد في الموطّأ، ورُوِيَ متَّصِلًا من طُرُقٍ مُسْنَدَةٍ من رواية الدارورديّ، عن ربيعة بق أبي عبد الرّحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث المُزَنِيّ، عن أبيه، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4). وقولُ مالك في المعادن مخالفٌ للرِّكاز (¬5)؛ لأنّه لا ينال ما فيها إلَّا بالعمل، بخلاف الرِّكاز". العربية: قال علماؤنا: المعدِنُ ركازٌ؛ لأنّه مأخوذٌ من الارتكاز وهو الثُّبوت والاستقرار، ¬
وقال صاحب "العين" (¬1): "الرِّكاز وضع الذَّهب والفِضّة في الأرض، من قولهم: ركزت الشّيء فوق الأرض بمعنى غرزته". وقال الهرويّ (¬2): "الرِّكَازُ المال المدفون الّذي دُفِنَ قبل الإسلام، وفيه الخمس". الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى: عندنا أنّ المعدِنَ ليس بركَازٍ (¬3)، وفيه الزّكاة لا الخمس. وقال أبو حنيفة: هو ركاز وفيه الخمس. واختلف علماؤنا: هل يعتبر فيه النِّصاب أم لا؟ وهل تُؤْخَذ منه الزّكاة أم لا؟ والصّحيح أنّه يعتبر فيه النِّصاب؛ لأنّه ذهبٌ داخلٌ في عموم الحديث (¬4)، ولا يعتبر فيه الحول؛ لأنّه نَمَا بنفسه، فصار بمنزلة الحَرْثِ والثّمرة، واللهُ أعلمُ. المسألة الثّانية: عند (¬5) علمائنا أنّ في الرِّكازِ الخمس، ويُوضَعُ مواضع الخُمس، وأربعة أخماسه لمن وجدَهُ حيث وجَدَهُ في أرض حُرَّة أو عنوة، فإنْ كانت الأرض ملكًا لغيره، فالأربعة أخماس (¬6) لصاحب الأرض؛ لأنّها وما وُجدَ في جَوْفِها له، ليس للّذي وجدَهُ شيءٌ، مثل أنّ يكون أَجِيرًا يَحْفِر لصاحب الدَّار في أرضه، إنّما هو لصاحب الدّار وليس له فيه حظٌّ ولا نصيبٌ. المسألة الثّالثة: قال علماؤنا: ولا زكاةَ عندنا فيما يخرج من المعدِن إنّ كان ذَهَبًا حتّى يبلغ ¬
عشرين دينارًا فما زاد، وإن كان فِضّة فمئتا درهم فما زادَ على، حسب ما ذكرنا في زكاة الذَّهب والوَرِق. المسألة الرّابعة (¬1): اختلف قول أبي حنيفة في الزِّئْبَقِ يخرجُ من المعادن، فمرة قال: فيه الخمس (¬2)، ومرّةً قال: ليس فيه شيءٌ كالقار والنّفط (¬3). واختلفَ قولُ الشّافعيّ فيما يخرج من المعادن، فقال مرّة بقول مالك، وهو قول أهل العراق، وقال بمصر: ما يخرجُ من المعادن فهو فائدةٌ يستأنفُ بها، وهو قولُ اللّيْث وابن أبي ذئب، ومرّة قال: استخيرُ الله في المعادِنِ (¬4). المسألة الخامسة: قال أبو الوليد (¬5): "والمعادن القبلية (¬6) لم تكن خطّة لأحدٍ، وإنّما كانت فَلَاة، والمعادنُ على ثلاثة أضرب: وضربٌ منها لجماعة المسلمين، كالبراري والموات وأرض العنوة. وضربٌ منها في أرض الصُّلح. وضربٌ منها ظهر في ملك رَجُلِ من المسلمين". تفصيل وتنقيح (¬7): أمّا ما كان لجماعة المسلمين، فإن للإمام أنّ يقطعها لمن شاء، ومعنى إقطاعها أنّ يجعل له الانتفاع بها مدة (¬8) محدودة أو غير محدودة، ولا يُمَلّكه رقبتها؛ لأنّها بمنزلة الأرض الّتي لجماعة المسلمين فللإمام حبسها لمنافعهم ولا يملكها بعضهم. وأمّا ما ظهر في أرض الصُّلح منها، فقال عبد الملك بن حبيب: يقطعها الإمام ¬
لمن رأى، وذكر ذلك عَمَّن لَقِيَ من أصحاب مالكٌ. وقال ابنُ نافع وابنُ القاسم: لا حقّ للإمام فيها وهي لأهل الصُّلح. قال الإمام (¬1): ووجه ما قال ابن حبيب: أنّهم إنّما (¬2) صالحوا على ما تقدَّمَ ملكهم له، وهذه المعادن مُودَعَة في الأرض لم يعلموا بها، ولا تقدَّمَ ملكهم عليها، ولا تناولَها الصُّلح، فكان للإمام أنّ يُقْطِعها من شاء. ووجه ما قاله ابن نافع: أنّ هذا من جملة صُلْحِهِم (¬3). وأمّا ما كان منها في أرض رَجُلٍ من أهل الإسَلام، فإنّه لا يملّكه في قول ابن القاسم، وقال مالكٌ: ذلك له، وله منعه. وقال ابن القاسم (¬4): ولا يورث عنه ذلك، وقال أشهب: يورث عنه ولا يبيعها، ولعلّه يريد أنَّ تركَ الإمام ذلك بيَدِ وَرَثَتِهِ بمنزلة الإقطاع لهم، وأمّا حقيقة (¬5) الميراث فلا يصحّ؛ لأنّ موروثهم لم يملكها فكيف تُورث عنه. المسألة السّادسة: قال علماؤنا: ولا زكاة في معادِن النُّحاس ولا الحديد ولا الرَّصاص ولا الزّرنيخ. باب الرِّكازِ مالك (¬6)، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيَّب؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "في الرِّكازِ الخُمُسُ". الإسناد: قال أبو عمر (¬7): "هكذا ذَكَر مالك هذا الحديث في كتاب الزَّكاة هاهنا ¬
مختصرًا، وذَكَرَهُ في كتاب العقول (¬1) بتمامه" وهو حديث مُرْسَلٌ من مراسيل سعيد الصِّحاح، والحديث يُسْنَدُ من طُرُقٍ، رواه جماعة عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ، والمعدِنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكازِ الخُمُسُ". العربية (¬2): الرَّكَازُ مأخوذٌ من ركز الشّيء إذا ثبتَ، فقيل له ركاز؛ لأنّه مال ثبت. وقوله: "جُبَارٌ" أي: هَدَرٌ لا دِيَةَ فيه، وهو متَّفَقٌ عليه بينهم في هذا القسم، لكنّه لم يحققوه، ومعناه وبناؤه: "ج ب ر" وإنّما هو الرّفع، يقال: رَجُلٌ جُبَارٌ، ونخلة جُبَارَةٌ، وجُبِرَتِ العَظْمُ، أي: رفعت عرضة. و"العجماء" هي: البهيمة الّتي لا تنطق، ففعلها هَدَرٌ لا يُطَالَب به أحدٌ. وأمّا "المعدِن جُبَار والبئر جُبَار" يعني أنّ من استأجر أَجِيرًا على مَعْدِن أو حَفْرِ بئر، فأصابَهُ فيه شيءٌ فهلَكَ فيها، فإنّه هَدَرٌ لا شيءَ عليه، أعني الّذي استأجره. وقد روى بعضهم: "النَّارُ جبَار" (¬3) وقالوا: إنّ أهل اليمن يكتبون النّار بالياء (¬4)، ومعناه عندهم أنّ من استوقد نارًا بما يجوز له، فتعدَّت إلى ما لا يجوز، فإنّه لا شيءَ عليه، وهذا مُتَّفَقٌ عليه، وقد بينَّاهُ في مَوْضِعِه. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "في الرِّكَاز الخُمُسُ" نصٌّ منه على أنّ هذا حُكْمه، وإنّما اختلفَ النّاسُ في معنى الرِّكَازِ، فاختلفَ قول مالكٌ فيه (¬6)، فرَوَى عنه ابن القاسم؛ أنّ الرِّكازَ قطع ذهب ووَرِق لا يحتاج في تصفيته إلى عمل، سواء كان ممّا دُفِنَ في الأرض أو غيره. ¬
باب ما لا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر
المسألة الثّانية (¬1): وأمّا تُرابُ المَعْدِن، فلا نعلم أحدًا من أهل اللُّغَة سمَّاهُ رِكَازًا. وقوله: "فِيهُ الخُمُسُ" ليس فيه نصٌّ على من له ذلك، إلَّا أنّه (¬2) يستدلّ عليه بالإجماع على وجوب دَفْعِهِ إلى الإمام العَدْلِ، وقد روى عيسى عن ابن القاسم (¬3) في "مختصر بن شعبان" يخرج (¬4) الواجد له خُمُسه فيتصدَّق به (¬5)، وكذلك ما فضل من المال عن أهل المواريث، ولا أعرف (¬6) اليوم بيت مال، وإنّما هو بيت ظلم. باب ما لا زكاة فيه من الحُلْي والتِّبْرِ والعَنْبَرِ مالك (¬7)، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه؛ أنّ عائشةَ زوجَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كانت تَلِي بناتَ أخيها اليتَامَى في حَجْرِهَا، لَهُنَّ الحَلْيُ، فلا تُخْرِجُ من حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ. الإسناد: الحديثُ صحيحٌ، وأردفه مالك (¬8)، عن نافع؛ أنّ عبد الله بن عمر كان يُحَلِّي بناتَهُ وجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ، فلا يُخرِجُ من حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ. تنبيه على التّرجمة (¬9): قال الإمام: أدخل مالكٌ حديث القاسم عن عائشة؛ أنّها كانت تَلِي بناتَ أخِيها يَتَامَى فلا تُخْرِجُ من حُلِيِّهِن الزَّكاةَ، إنّما سَاقَهُ ليبيِّن بُطْلاَنَ الحديث المرويّ عن عائشة؛ أنّها قالت: دخل عَلَيَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وفي يدي فَتخ -وهي الخواتم- فقال: ¬
"ما هذا؟ " فقالت: صنعتُها أتزيَّنُ بها لَكَ. فقال: "أتؤدِّين زكاةَ ذلك؟ " قالت: لا، قال: "هي حَسْبُكِ من النّار" (¬1) فَبَيَّنَ مالك أنّها لو سمعته من النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لما تركت إخراج الزَّكاة من هذا الحلي. تَنْبِيهٌ ثَانٍ (¬2): قال علماؤنا: وأراد أيضًا مالك بهذا الحديث الردّ على أهل العراق في أنّ الرّاوي إذا أفتى بخلاف ما رَوَى سقطت روايته. الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬3): قوله: "كانت تَلِي بناتَ أخِيهَا" هو محمّد بن أبي بكر ولم يكن شقيقها، وإنّما كان شقيقها عبد الرّحمن، ويحتمل أنّ تكون بتقديم إمام (¬4)، ولا تكون لها الولاية بالأخوة، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إنّ شاء الله. المسألة الثّانية (¬5): قوله: "لَهُنَّ الحَلْيُ" يقتضي ملكه لهنّ وإن لم يتصرّفنَ فيه لكونهنَّ محجورات، فقد يملك من لا يتصرّف وهو الصّغير والسَّفِيه، ويتصرّف من لا يملك وهو الوصيّ والإمام والأب. المسألة الثّالثة (¬6): قوله: "فَلَا تُخْرِجُ من حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ" ظاهر هذا أنُها كانت لا ترى أنّها واجبة، وهو مذهب مالك (¬7) والشّافعىّ (¬8). ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): تخرج الزّكاة من الحلي (¬2)، وتعلّق بظاهر الحديث وعمومه، وقوله: "تَصَدَّقْنَّ ولو من حُليكنَّ" (¬3). وهذا لا دليل له عليه من وجوه كثيرة، يأتي بيانُها إنّ شاء الله. ولم يختلف قول مالكٌ وجمهور أصحابه في أنّ الحلي المتّخذ للنِّساء أنّه لا زكاةَ فيه، وأنّه العمل المعمل به في المدينة، وهو خارج عن قوله صلّى الله عليه: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِقِ صَدَقَةٌ" كأنّه قال: الصَّدقة واجبةٌ في الوَرِقِ فيما بلغ خمس أواق ممّا لم يكن حليًا متَّخَذًا لزِينَةٍ؛ لأنّه لا زكاةَ فيه إذا كان مُتَّخَذًا لذلك؛ لأنّه لا يطلب فيه شيءٌ من النّماء، ودليل أنّ هذا الحَلْيَ مبتذلٌ في استعماله مباحٌ، فلم تجب فيه الزّكاة كالثّياب (¬4). المسألة الرّابعة: واختلفَ علماءُ المدينة في الحَلْي المتَّخَذِ للتِّجارة والمتَّخَذِ للكِرَاءِ، فالمشهور من قولهم أنّ فيه الزّكاة (¬5)، وإنّما سقط عمّا وصفنا من حَلْي النّساء خاصّة، وهو كما قالوا (¬6)؛ لأنّ الذهب والفِضَّة من الأموال المُرْصَدَة (¬7) للتّنمية، ولا يخرجُ عن ذلك إلّا بالعمل وهو الصّياغة (¬8) ونيّة اللّبس، وإذا لم يوجد فيه (¬9) اللّبس تعلّقت به الزّكاة؛ لأنّه قد يعرض للتّنمية وطلب الفضل مع الصِّياغة، وكذلك سائر أنواع الذّهب يجب فيها الزّكاة حتّى يجتمع فيها أمران: الصِّياغة المباحة، ونيّة اللّبس. ¬
المسألة الخامسة (¬1): قال ابنُ حبيب: لا بأْسَ باتِّخاذِ المِنْطَقَة المُفَضَّضَة والأسلحة كلّها، ومنع من ذلك في السَّرْجِ واللِّجام والمهاميز والسَّكاكين، وهذا القول فيه نظر (¬2). وقال ابنُ وهب: لا بأس بتفضِيضِ جميع ما يكون من آلة الحرب السَّرْجُ واللِّجامُ وغيره. ووجه ما رواه ابن القاسم: أنّ ما يجوز للرَّجُلِ أنّ يتحلَّى به على ثلاثة أضرب: أحدها: ما يتحلى به للذِّكْرِ (¬3)، وهو المُصْحَف. والثّاني: ما يختصّ بالحرب، وهو السيف. والثّالث: ما يختصّ باللِّباس، وهو الخاتم. ولما كان الّذي يُستَعْمل من باب الذِّكْر واللباس واحدٌ (¬4)، وجبَ أنّ يكون ما يستعمل في الحرب واحدًا، وقد أجمعنا (¬5) أنّ السَّيْفَ مباحٌ فيه ذلك، فوجبَ أنّ يمنع سواه. ووجه رواية ابن حبيب: أنّ آلةَ الحَرْبِ ممّا فيه إرهابٌ على المشركين، وأمّا السّرج واللجام والمهاميز فلا تختصّ بالحربِ. ووجه رواية ابن وهب: أنّ هذا كلّه ممّا لا يخلو الحرب منه، ففيه إرهابٌ، فجاز (¬6) كالسّيف. فهذا ممّا يُبَاحُ (¬7) على هذا الوجه. وأمّا للضّرورة، فقد قال ابن شعبان: مَنِ اتَّخَذَ أَنْفًا من ذهبٍ أو ربط به أسنانه، فإنّه لا زكاةَ عليه فيه. ¬
ووجه ذلك: أنّه مستعملٌ مباحٌ، لما رُوِيَ في الحديث؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال لأحد أصحابه: اتَّخِذ أَنْفًا من ذَهَبٍ (¬1). المسألة السّادسة (¬2): وأمّا آنية الذّهب والفضّة، فلا يجوز استعمالهما، وقال عبد الوهّاب: لا يجوز اتخاذهما (¬3)، وقال ابن الجلّاب: اقتناؤهما حرام (¬4)، وقال الشّافعيّ (¬5): يجوز اتخاذهما ولا يجوز استعمالهما، ومسائلُ أصحابنا تقتضي ذلك؛ لأنّهم يجيزون بيع آنية الذّهب والفضّة في غير ما مسألة من "المدوّنة" (¬6) وَلو لم يجز اتّخاذها لفسخ البيع. واستدل عبد الوهّاب بأنّ ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالخمر والخنزير (¬7). المسألة السابعة (¬8): فإذا ثبت هذا، فما لا يجوز اتخاذه ففيه الزّكاة، وقال ابن شعيان: تكسر الآنية من ذلك، وما يجوز استعماله فلا زكاةَ فيه. المسألة الثّامنة (¬9): سُئِلَ ابن عبّاس عن العنبر هل فيه الزكاة؟ فقال ابن عبَّاس: إنّ كان فيه شيء ففيه الخُمُس (¬10). قال الإمام: لما قال الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬11) وأعلمهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّها ¬
باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها
الزّكاة، وأخذَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - من بعض الأموال دون بعض، علمنا بذلك أنّ الله تعالى لم يرد جميع الأموال وإنّما أراد البعض، فإذا كنّا على يقينٍ أنّ المراد هو البعض من الأموال، فلا سبيل إلى أخذ زكاة إلَّا فيما أخَذَهُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ووقف عليه أصحابه. باب زكاة أموال اليَتَامَى والتِّجارة لهم فيها مالك (¬1)، أنّ عمر بن الخطّاب قال: اتَّجِرُوا في أموال اليَتَامَى، لا تَأْكُلُها الزَّكَاة. الإسناد: قال الإمام: وهذا الحديث قد أَسْنَدَهُ الدّارقطني (¬2)، قوله: "اتَّجِرُوا في أَمْوَالِ اليَتَامَى، لا تّأْكُلُها الصَّدَقَة"، ومسند من طريق عائشة مثله في التَّجرَ في أموال اليتامى خوف الزّكاة. وعن عليّ بن أبي طالب (¬3)، وعبد الله بن عمر (¬4)، والحسن بن عليّ، وجابر؛ أنّ الزكاة واجبة في أموال اليَتَامَى. ورُوِيَ (¬5) عن النَّبيِّ صلّى الله عليه؛ أنّه حثَّ على التِّجارة في أموال الصِّبيان أولياءهم لِئَلّا تأكلها الصَّدَقَة (¬6). لكن مالك - رحمه الله - عوّل على حديث عمر بن الخطّاب؛ لأنّه خليفة وكان يأمر بذلك، ولم يثبت له مخالف من الصّحاية. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: قال علماؤنا: الزّكاةُ واجبةٌ في مال الصَّبيِّ واليتيمِ والمجنونِ، وبه قال مالك ¬
والشّافعيّ (¬1) وجميع أصحابه (¬2). وقال أهل العراق وأبو حنيفة: لا زكاة عليهم (¬3). ولنا الأدلّة عليهم من ثلاثة أوجه: الأوّل: الحديث المتقدِّم عن عمر؛ أنَّه قال: "اتَّجِرُوا في أَموالِ اليَتَامَى، لا تأكلها الزّكاة" فلو أنّ الزَّكاةَ واجبةٌ فيها لما أكلتها. فإن قالوا: لا حُجَّةَ في هذا؛ لأنّه يحتمل أنّ يريد: لا تأكلها النَّفَقَة؛ لأنّه قد تُسَمَّى النَّفَقَة صَدَقَة، ولأنَّ الزَّكاة لا تأكلها، لأنّها ينفى منها النِّصاب، وإنّما تأكلها وتأتي على جميعها (¬4) النَّفَقَة. الجواب - قلنا: إنّ الزَّكاة لا تنطلق على النَّفَقَة لغةً وشرعًا، ولا تُسَمَّى الزَّكاةُ صدقةً على الإطلاق، ولأنّ الصَّدَقَة تحلُّ للغني ولا تحلّ له الزَّكاة. والصّدقة أيضًا لا تنطلق على النَّفَقَة؛ لأنَّ رَجُلاَ لو أنفقَ في بُنْيَانِ دارٍ ألف دِرهَم لم نَقُل فيه تصدَّق، وإنّما تُسَمَّى نفقة الرَّجُل على عياله صَدَقَة على سبيل المجاز؛ لأنّه يُؤْجَر عليها كما يُؤْجَر على الصَّدَقَة. الدليل الثّاني (¬5) - قول النّبيّ -عليه السّلام-: "الزَّكَاةُ حَقُّ المالِ" (¬6) فحيث ما وُجِدَ المالُ أُخِذَت منه الزّكاة كما يؤخذ منه العُشر، وإن كان لصبيٍّ أو يتيمٍ أو مجنونٍ. فإن قيل: هي عبادة ولا يتعلّق بالصَّبيِّ تكليفٌ. الجواب - قلنا: وإن كانت عبادة تجوز فيها النَّيابة، فإنْ تعذَّرَ إعطاء الصَّبيّ نابَ عنه وليّه. المسألة الثّانية (¬7): قوله (¬8): "اتَّجِرُوا في أَمْوَالِ اليَتَامَى" هو إذنٌ منه في إدارتها، فإنِ استطاعَ النّاظر ¬
باب زكاة الميراث
أنّ يعمل فيه لليتيم، وإلّا فليدفعه إلى ثِقَةٍ يعمل فيه على وجه القِرَاضِ (¬1). ويكون لوليِّ اليتيم أنّ يأخذ المال لنفسه قِرَاضًا، فإن فعلَ وكان قد قارضَ نفسه بقراضِ مِثْلِهِ ولم يغبن اليتيم بذلك، فجائزٌ، وإن ذهب المال فلا ضَمَانَ عليه. وإن غبن اليتيم وجعل لنفسه من القِرَاضِ أكثر من قراض مِثْلِهِ، ضمن المالَ ويردّ إلى قِرَاضِ مثله. باب زكاة الميراث الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله: "إذا أوصى بزَكَاةِ مَالِهِ" قال ال إمام: وما يُوصَى به عند علمائنا على ضربين: أحدهما: أنّ يكون ممّا لم يفرّط فيه، مثل أنّ يرى عليه مالًا (¬3) وقد وجبت فيه الزّكاة، فيموت قبل أنّ يتمكَّنَ من أدائها، فهذا إذا أَوْصَى بها أو أَمَرَ بإخراجها في مرضه من رَأْسِ ماله. فإن لم يوص بها، فلابن القاسم عن مالك في ذلك روايتان: 1 - أحدهما: أنّ يأمر وَرثَتَهُ بذلك ولا يجبرون، وهذا حُكمُ زكاة الفِطْرِ عنده. 2 - وأشهب يقول: من رأس ماله ويُجْبَرُونَ على ذلك. المسألة الثّانية: قال بعض العلّماء: يؤخذ ذلك من الثُلُث وتُبَدَّى على الوصايا، وذلك إذا أوصى بها الميِّت، فإن لم يُوص بها، فعلَ ذلك أهله، وإن لم يفعلوه لم يلزمهم ذلك، والأكثر أنّها كالدَّين تُؤَدَّى عنه. وقال الشّافعي: الوارثُ كالموروث في الدَّيْن يعتبر فيه الحَوْل من يوم وَرِثَهُ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): فإن كانت زكاة فِطْرٍ (¬2) فَرَّطَ فيها، فإنَّهُ إنْ أَوْصَى بها أخرجت من الثُّلُث أيضًا، وقال الشّافعيّ: تخرج من رأس المال، وهو على أصله في هذه المسألة؛ أنّه لا تجب في مالٍ موروثٍ زكاةٌ حتّى يحول عليها الحَوْل، وهو قول صحيحٌ؛ لأنّه فائدةٌ، وهو مذهبنا إنّ شاء الله. المسألة الرّابعة (¬3): قال علماؤنا (¬4): والأموالُ الموروثةُ على ضربينِ: ضربٌ تجبُ فيه الزَّكاة في عَيْنِهِ. وضربٌ تجبُ في قِيمَتِه. فأمّا ما تجب الزّكاةُ في عَيْنِه، فإنّ على قسمين: 1 - قسمٌ ليس فيه عمل قُنْيَة. 2 - وقسمٌ فيه عمل قنية. فأمّا الأوّل، فسواء نوى به تجارة أو غيرها فإنّ زكاته تُؤَدَّى (¬5)، وما فيه عمل قُنْيَة وهو الصِّياغَة، فإنْ نوى به التِّجارة زكّاهُ لحَوْلٍ من يوم يَرِثه. وإنْ نَوَى به القُنْيَة فلا زكاةَ، دمان لم يَنْوِ شيئًا فهو على أصله في حُكمِ الزَّكاة وتعلّقها يه. وما كانت الزّكاة في قيمته فسواء نَوَى به التِّجارة أم لم ينوها تُؤَدَّى زكاتُه بعد أنّ يحولُ عليه الحَوْل على ثمن ما بِيعَ منه من يوم قبَضَه الوارث، وإن باعه بعرض، فنَوَى به التِّجارة، فحين يحول الحول على العرض الّذي قَبَضَهُ على نيَّةِ التِّجارة والإدارة. المسألة الخامسة (¬6): ويُعْتبَرُ الحَوْلُ على حسب ما يمكن من تنمية المال، فإن كانت من الأموال الّتي ¬
باب الزكاة في الدين
لا تُنَمَّى (¬1) إلَّا بالعمل كالدَّنانير والدَّراهم، فلا زكاةَ فيها حتّى يَحول عليها الحَوْل من يوم يقبضها هو أو من يقوم مقامه من وكيل أو وَصِيِّ، ولو أقامت قبل ذلك أعوامًا. وإن كانت من الأموال الّتي تنمى (¬2) بأنفسها كالماشية، فقد قال ابنُ القاسم: الزَّكاة عليه فيها إذا حال الحَوْلُ من يوم وَرِثَها وإن لم يقبضها. وقال المُغِيرَة: حُكمُها حُكْم الدَّنانير والدَّراهم لا زكاة فيها حتّى يقبضها. توجيه (¬3): قال الإمام - ووجه قول ابن القاسم: أنَّ الماشيةَ تَنْمُو (¬4) بأنفسها فلما (¬5) لم تتعذّر عليه تنميتها (¬6) وجبت عليه فيها الزَّكاة (¬7). وإذا تعذَّر قبض الدَّنانير لعُذْرٍ، لم تجب عليه فيها الزَّكاة. باب الزَّكاة في الدَّيْن مالك (¬8)، عن ابن شهاب، عن السَّائِب بن يزيد؛ أنّ عثمان بن عفّان كان يقول: هذا شَهْرُ زكَاتِكُمْ، فمن كان عليه دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ، حتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّونَ مِنْهَا الزَّكاةَ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬9): قوله: "هذا شَهْرُ زَكَاتِكُم" يحتمل أنّ يقول ذلك لمن عرف حاله في الحَوْلِ. ¬
ويحتمل أنّ يريد به الشّهر الّذي جرتِ عادة أكثرهم بإخراج الزَّكاة فيه،* إنّ كان يريد العين، وإن كان يريد الماشية والذي يجب إخراج الزَّكاة فيه* (¬1) لتمكُّن بَعْثِ السُّعَاةِ في ذلك الوقت، فيؤخذ الزَّكاة منها، ولا يحتسب لهم في شيءٍ من ذلك بما عليهم من الدَّيْن. المسألة الثّانية (¬2): مالك - رحمه الله - يرى أنّ من كان عليه دَيْنٌ وعنده من العُرُوضِ ما يفي دَيْنه، لزمته الزَّكاة فيما في يَدَيْهِ من العَيْنِ (¬3). وللشّافعيّ في هذه المسألة قولان (¬4): أحدهما: أنّه لا يلتفت إلى الدَّيْن في الزّكاة، وأنّه يُوجب عليه الزَّكاة وإن أَحَاطَ الدَّيْن بمالِهِ؛ لأنَّ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِ والزَّكاة في عَيْنِ ما بِيَدِه (¬5). والقولُ الثّاني: إذا ثبت لم يزكِّ أموال التِّجارة إذا أحاط الدَّيْن بها، إلَّا أنّه لا يجعلُ الدَّيْن في شيءٍ من العُرُوضِ، فجلّ مذهبه أنّه لا يجعل دَيْنه في العُرُوضِ وإنّما يجعله في عَيْنٍ إنّ كان قادرًا عليه. وقال مالك: الدَّيْن لا يمنع الزَّكاة من السّائمة ولا عشر الأرض، ويمنع زكاة الدّنانير والدّارهم وعروض التجارة وصَدَقَة الفِطْر في العِيدِ، هذه رواية ابن القاسم عنه. وقال ابنُ وهب كما ذكر مالكٌ في "الموطّأ" ولم يذكر صَدَقَة الفِطْر. وقال أبو حنيفة: الدَّينُ يمنعُ الزّكاة، ويُجْعَلُ في الدَّنانير والدَّراهم وعُرُوضِ التَّجارة، فإن فضلَ كان في السّائمة، ولا يُجعل في عَيْدِ الخِدْمَةِ ولا دار السُّكْنَى إلَّا إذا فضلَ عن ذلك (¬6)، وهو قولُ الثوريّ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله في الحديث (¬2): "أنّ تُوخَذ منهُ الزَّكَاةُ لما مَضَى من السِّنِينَ" لما كان في مُلكِهِ ولم يزل عنه (¬3)، ثم نَظَرَ بعد ذلك فرَأَى أنَّ الزكاةَ تجبُ في العَيْنِ، بأن يتمكّن من تنميته (¬4)، وهذا مالٌ قد زالَ عن يَدِه إلى يد غيره، ومنع هذا عن تنميته، فلم تجب عليه فيه الزَّكاة (¬5)، وهذا حُكْمُ المال المغصوب إنّ (¬6) كان ممّا يرجو رذه إليه تَطَوُّعًا أِوِ بحكمٍ، فإنّه لا يزكِّيه إلَّا لعامٍ واحدٍ، وإنّما الاعتماد في ذلك كلَّه بحصول المال الّذي يَدِهِ. المسألة الرّابعة (¬7): وأمّا اللُّقَطَة، فرَوى ابنُ القاسم وابنُ وهب وابنُ زياد وابنُ نافع عن مالك؛ أنّ صاحبها لا يزكِّيها إذا رجعت إليه إلّا لعامٍ واحدٍ. وقال المغيرة: يُزَكِّيها لُكلِّ عام (¬8). توجيه (¬9): ووجه (¬10) قول مالك: أنّ المال ليس في يد مالكه ولا يقدر على تنميته كالمال المغصوب. ووجه قول المغيرة:* أن ضمانه منه، فكان بمنزلة المال الّذي بيَدِ وكيله* (¬11). ¬
فرعٌ (¬1): وأمّا من دفنَ مالًا ثمّ نَسِيَهُ في موضعه لا يدري، ثمَّ وجدَهُ بعد أعوامٍ، فقال مالكٌ: يزكِّيهِ لكلِّ عامٍ، والفرقُ بينه وبين اللُّقَطَة أنّ اللُّقَطَة بِيَدِ غيره، والمالُ المدفونُ ليس بيد غيره. وقال ابنُ الموّاز: إنْ دَفَنَهُ في صحراء ثم نَسِيَهُ، فلا زكاةَ عليه، وإنْ دَفَنَهُ في بيته أو في موضع يحاط به، فعليه الزَّكاةَ لكلِّ عامٍ؛ لأنّه قادرٌ على إخراجه كما تَقَدَّم بيانُه. ووجه ذلك: أنّه قادرٌ على الوصول إليه بحَفْرِ جميع الموضع، وهذا لا يتهيَّأ في الصَّحراء. وقال ابنُ القصّار: أمّا (¬2) من كان ممنوعًا من التّصرُّف في ماله بكلِّ حال، فلا زكاةَ عليه فيه إلَّا لحَوْلِ واحدِ، كالمال المغصوب واللُّقطة (¬3) والدَّين والقَرْض والمال الّذي جَحَدَهُ المُودع، خلافًا لأبي حنيفة (¬4). فرعٌ ثانٍ: وهو إذا كان على رَجُلٍ مئة دينار وله على آخر مئة أخرى، فلا زكاة عليه، فإن كان معه عُروض سِوَى المئة الّتي له (¬5)، جعل المئة الدَّيْن في مقايلة العُرُوض وزكَّى المئة الأُخرى، على تفصيلٍ في المذهبِ. وإن كان عليه مئة دينار، وله مئتا دينار، فحال حول الأُولَى لم يزكِّها لاستغراقها بالدَّيْنِ، فإذا حالَ حَوْل الثّانية زكَّاهَا، ومن أصحابنا من عكس ذلك، ومنهم من قال: تزكَّى الأُولَى إذا حالَ حولها؛ لأنّ الدَّيْنَ يُجْعَلُ في الدَّينِ. فرع ثالث: قالت جماعةُ الشّافعيّة: إنّ الزَّكَاةَ تتعلَّقُ بالذِّمَّةِ، وعند مالك إنّ الزَّكاة لا تتعلَّق ¬
بالذِّمَّة وإنّما تتعلّق بالمال لا بالذِّمَّة (¬1). وقد اضطرب قول الشّافعي في هذه المسألة، فمرَّة قال: تتعلّق بالذِّمَّة، ومرة قال: تتعلَّق بالمالِ. والدّليل لمالك عليه: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (¬2)، وحديث معاذ حين أَرْسَلَهُ إلى اليمن (¬3)، وقال مالكٌ إنّما تجب الزَّكاةُ في الدَّيْن يوم قبضه، فإن كان ذَهَبًا فحُكْمُه حُكْم الذَّهَب، وإن كان فِضَّة فحكمها كذلك. المسألة الخامسة: قال الإمام: ثمّ إنّ مالكًا - رحمه الله - عقب هذا الباب بعد ذلك (¬4): "أَلَّا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا زكَاةٌ واحدةٌ، فإنَّه كان ضِمَارًا". عربيّة: اختلفَ الشَّارحونَ للموطّأ في هذه اللَّفْظَة، وهي قريبة المرام. قال الأخفش (¬5) وأهل العربيّة: أصل الضِّمار في كلام العرب الغائب، من قولهم قد أضمرت كذا، أي غيَّبْتُه في قَلْبِي، وكلُّ ما غابَ عن أهْلِهِ فقد أَضْمَرَتْهُ البلا د، أي (¬6) غَيَّبَتْهُ. وأمّا الفقهاء ففسروه على أقوال تَقْرُبُ: فقال مالكٌ: الضِّمار المحبوسُ على صاحِبِه (¬7). وقال ابنُ حبيب (¬8): "الضِّمار كلُّ ما لا يُرْجَى، مَالًا كانَ أو غيره، وكان علي ¬
باب زكاة العروض
بن معبد يقول: إنّه المال المستهلك". وقال غيره (¬1): الضِّمارُ الّذي لا يدرى صاحبه أيخرجُ أم لا. قال الإمام (¬2): وهذا التّفسير جاء في الحديث، وهو عندهم أصح وأَوْلَى. تكملة (¬3): اختلفَ العلّماءُ في زكاة المال الطّارى (¬4) وهو الضِّمار؟ فقال مالك بآخر قول عمر بن عبد العزيز (¬5)؛ أنّه ليس عليه فيه زكاة واحدة إذا وَجَدَهُ وقدرَ عليه وقَبَضَهُ. وقال اللّيث: لا زكاةَ عليه فيه ويستأنفُ به حَوْلًا (¬6). وكذلك قالوا في الوديعة: إنّه يزكِّيها في كلّ عامٍ، وفيه للعلّماء كلامٌ طويلٌ أَضْرَبْنَا عنه، لُبَابُه ما سَرَدْنَاهُ لكم، فَعَوِّلُوا عليه واتَّخِذُوهُ دستورًا (¬7). باب زكاة العُرُوضِ مالك (¬8)، عن يحيى بن سعيد، عن زُرَيْقِ بن حيَّانَ، وكان زُرَيْق على جَوَازِ مِصْرَ في زمان الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز، فَذَكَرَ أنَّ عمر ابن عبد العزيز كَتَبَ إليه: أَنِ انْظُرْ من مَرَّ بك من المسلمينَ، فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ من أموالهم مِمَّا يُدِيرُونَ من التِّجارة، مِنْ كلِّ أربعينَ دينارًا، دينارًا، فما نَقصَ فبِحِسابِ ذلك، حتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ دينارًا، فإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلاَ تَأْخُذْ منها شيئًا. وَمَنْ مَرَّ بِكَ من أهلِ الذِّمَّةِ فَخُذ مِمَّا يُدِيرُونَ من التِّجارةِ من كلِّ عِشْرينَ دينارًا دينارًا، فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ¬
ذلك حتَّى يَبْلُغَ عَشرَةَ دَنَانِيرَ، فإن نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا وَلاَ تأخذْ منها شيئًا، واكْتُب لَهُمْ مِمَّا تَأْخُذُ منهم كتابًا إلى مِثْلِهِ مِنَ الحَوْلِ. الإسناد (¬1): تنبيه على وَهَمٍ ليحيى قال الإمام: هكذا وقعَ في رواية يحيى "زُرَيْق" بالزّاي قبل الرّاء، والصّواب "رُزَيْق" الرّاء قبل الزّاي، وعليه جمهور الفقهاء (¬2)، واسْمُه سعيد (¬3) بن حيّان الفزاريّ. ليس فيه اختلاف بين المحدِّثين رُزَيْق - بتقديم الرّاء على الزّاي (¬4)، وزُرَيْق بتقديم الزّاي على الرّاء- بن حكيم فيه اختلاف. وقال البخاريّ في "تاريخه" (¬5): رُزَيْق بن حيان (¬6)، وزُرَيْق بن حكيم (¬7)، أدخلهما جميعًا في باب الرَّاءِ. وقيل: ليس يعوف في المحدِّثين رُزَيْق يتقديم الرّاء. الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى: احتجَّ مالك بكتاب عمر بن عبد العزيز وهو خليفةٌ عَدْلٌ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الفقه، وهو (¬8) ممّا (¬9) يُتَحَدَّث به في الأمصار ولم ينكر ذلك عليه أحدٌ، فثبًتَ أنّه إجماعٌ .. وخالف داود في ذلك؛ ألَّا زكاة في العوض بِوَجْهٍ (¬10). ودليلُنا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} الآية (¬11). ¬
والّذي نُحَقِّقُه؛ أنّ الزَّكاةَ قد تَقَرَّرَ وجوبها في العَيْنِ، ونجدُ من النّاس خَلْقًا كثيرَا يكتسبون الأموالَ ويصرفونَها في أنواع المعاملات وتنمى لهم بأنواع التِّجارات، فلو سقطت الزَّكاةُ عنهم لكانَ خَلْقٌ كثيرٌ من الأغنياء يخرجون عن هذه العبادة، وتذهبُ حقوق الفقراء في تلك الجملة، وربَّما اتُخِذَ ذلك ذريعة إلى إسقاط الزَّكاةِ والاستبداد بالأموال دون الفقراء، فاقْتَضَتِ المصلحةُ العامَّةُ والإبالةُ (¬1) الكُلِّيَّة وحفظُ الشّريعة ومراعاةُ الحقوق أنّ تُؤْخَذَ الزَّكاةُ من هذه الأموال إذا قصد بها التجارة (¬2). المسألة الثّانية (¬3): قال علماؤنا (¬4) الأموال على ضربين: مالٌ أصلُه التِّجارة، كالذَّهب والدَّراهم (¬5). ومالٌ أصله القُنْيَة، كالعُرُوضِ (¬6). فما كان أصلُه التِّجارة فلم ينتقل إلى القُنْيَة إلَّا بالنِّية والعمل المؤثّر في ذلك وهو الصِّناعة (¬7). وما كان أصله القُنْيَة لم ينتقل إلى التجارة إلَّا بالنية (¬8) والعمل المؤثِّر في ذلك، وهو الابتياع، فمن اشترى عرضًا لم يَنْوِ بِهِ التِّجارة فهو من القُنْيَةِ، وكذلك من ورثه. ¬
وأمّا ما ابتاعه للغَلَّة من الدُّور، ثم باعها بعد حَوْلٍ، ففي "المدوّنة" (¬1) من رواية ابن القاسم؛ في ذلك عن مالك روايتان: إحداهما: يزكِّي الثَّمَن (¬2)، وهو اختيار ابن نافع. والرِّواية الثّانية: يستأنف به حَوْلًا، وهذا اختيار ابن القاسم. توجيه (¬3): ووجه الرِّواية الأولى: أنّ الغَلَّةَ نوع من النَّماء والإرصاد له يُوجِبُ الزَّكاةَ كرِبْحِ التِّجارة. ووجه الرِّواية الثّانية: أنّ هذا مالٌ لم يُرْصَد للتِّجارة، فلم تجب فيه الزَّكاة، كما لو اشتراه للقُنْيَة. المسألة الرّابعة (¬4): قوله: "فإنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا" وقد روى اين مُزَيْن عن عيسى عن ابن القاسم؛ أنّه لم يأخذ مالكٌ بهذا الحديث، وقوله: "لا زكاةَ فيها إذا نَقَصَتْ يسيرًا أو كثيرًا، إلّا مثل الحَبَّةِ والحبَّتَيْنِ ونحو ذلك فإِنّ فيه الزَّكاة، وكذلك الدراهم" ومعنى (¬5) قوله: لم يأخذ مالكٌ بهذا الحديث، يريد بِظَاهِرِهِ. المسألة الخامسة (¬6): قوله: "فَمَا نَقَصَ فبِحِسَابِ ذَلِكَ، حتَّى تبُلُغَ عَشرَةَ دَنَانِيرَ، فإن نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارِ فَدَعْهَا" يحتمل أنّ يكون هذا اجتهادٌ منه، وإنّما (¬7) رأى ما دُونَ العشرة من جملة اليسير الّذي يجري مَجرَى النَّفَقَة ومِمّا لابُدَّ منه للتبليغ (¬8) في سفره. والّذي عليه الجمهور من الفقهاء والأيمّة؛ أنّه يُؤْخَذ ممّا يحملونه للتِّجارة قليلًا ¬
كان أو كثيرًا؛ لأنّهم قد انتفعوا بالتجارة به (¬1)، فيؤخذ منه على قَدْرِه كما تؤخذ من الكثير (¬2). المسألة السّادسة (¬3): قوله (¬4): "فِيمَا يُدَارُ من العُرُوضِ (¬5) للتِّجارَاتِ" والإدارةُ في كلامهم على ضربين: أحدهما: أنّ يريد بها التِّقَّلُّب (¬6) في التِّجارة، وهو الّذي أراده (¬7) هاهنا، فهذا لا زكاةَ على رَبَّ المالِ فيه حتّى يبيع، وإنْ أقام أحوالًا (¬8) فيزكِّي لعامٍ واحدٍ. الثّاني: البيعُ في كلِّ وقتٍ من غير (¬9) غَلَّة تُنْتَظَر (¬10)، كفِعْلِ أرباب الحَوَانِيتِ المديرِينَ، فهذا يزكَّي في كلّ عامٍ على شُرُوطٍ نذكرُها. وقال أبو حنيفة (¬11) والشّافعيّ: يقوم التّاجرُ في كلِّ عامٍ ويُزَكِّي مديرًا كان أو غيره. المسألة السّابعة: مذهبُ مالك أنّه يُؤْخَذ من الذِّمِّيّ كلَّما تَجَرَ من بَلَدِهِ إلى بَلَدٍ غير بلده، وقال عبدُ الملك (¬12): "أمّا تُجَّارُ العَدُوَّ (¬13)، فالسُّنَّةُ أنّ يُؤخذ منهم ما صُولِحُوا عليه (¬14)، ¬
باب ما جاء في الكنز
الخمس أو ما أحبّ من كَثْرَةِ ذلك أو قليله، وله أنّ يمنعهم من النزول إلَّا على ذلك، وإن رأى أنّ ينزلهم على أقلّ من العُشُر فذلك جائزٌ، وكذَلِكَ فَسَّرَ لي عن مالك من لقيتُ من أصحابه". المسألة الثّامنة: قوله (¬1): "خُذ مَا (¬2) ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" أراد صَدِّقْهُم فيما ذَكَرُوا أنَّه بِضَاعَة بأيديهم وقِرَاض، وأن عليهم دَيْنًا، وأنّه لم يحل عليه الحَوْل وأنّه لا ناضّ لهم إلَّا الظّاهر، ونحو هذا من العُذرِ وشبهه، واللهُ أعلمُ. باب ما جاء في الكنز مالك (¬3)، عن عبد الله بن دينار؛ أنّه قال: سمعتُ عبد الله بن عمر وهو يسألُ عن الكَنْزِ ما هو؟ فقال: هو المالُ الّذي لا تُؤَدَّى منه الزَّكَاةُ. الإسناد: قال أبو عمر (¬4): "سؤالُ السَّائل لعبد الله بن عمر عن الكَنْزِ ما هو، إنّما كان سؤالًا عن معنَى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...} الآية، إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬5) ". قال الإمام: أدخلَ مالكٌ حديثَ ابن عمر والسُّؤال عن الآية على أنَّه قد اختلفَ النّاسُ في هذه الآية، هل هي عامَّةٌ في كلّ نَفَقَةٍ؟ أو مخصوصةٌ بالزَّكاةِ على ما أوضحناه في "الأحكام" (¬6). وكان أبو ذَرّ يقول: بَشِّر أصحاب الكُنُوز بِكَيِّ في الجِبَاهِ، وكَيٍّ في الجنُوبِ، ¬
وكَيِّ في الظُّهور (¬1). والحكمةُ في أنّ بدأ بالجبهة دون غيرها، وذلك أنَّه إذا وقف السّائل لصاحِبِ المال وأَلَحَّ عليه، أَعرضَ عنه بِوَجْهِه، فإذا زادَ عليه أعطاهُ جَنْبَهُ، فإذا زاد عليه أعطاهُ ظَهْرَه وأعرضَ عنه بالكُلِّيَّة، فذلك قوله: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} (¬2) والله أعلم. العربيّة (¬3): "الكنز" في لسان العرب هو المالُ المجتمعُ المخزونُ فوقَ الأرضِ أو تحتها، هذا معنى ما ذَكَرَهُ صاحب "العين" (¬4) وغيره، ولكنّ الاسم الشّرعيّ قاضٍ على الاسم اللُّغَويّ (¬5)، فكلُّ كَنْزٍ مجتمع وليس كلّ مجتمع كنزٌ، هذا في الشَّرْعِ يطرد وينعكس، ويطرد في اللُّغة ولا ينعكس. وأمّا ما عليه الفقهاء، فعلى ما فَسَّرَهُ ابن عمر وعليه الجماعة؛ أنّ (¬6) المال الّذي لا تؤدَّى زكاته، يريد أنّ هذا الاسم يختصُّ به في الشّرع؛ لأنّ أصل الكنز الجمع، وكلّ ما جمع فهو كَنْزٌ، ولكن الشّرع قد قرَّرَ هذا الاسم عنده لمن جمع المال على وَجْهِ منع الحقِّ فيه، وعليه ينطلقُ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية (¬7)، فَتَوَعَّدَهُم تعالى على مَنْعِ الحقِّ، ولا يجوز أنّ يتوعَّدَهم على جَمْعِ مالٍ قد أُدِّيَتْ زكاتُه؛ لأنّه لا خلافَ بين المسلمين في جَوازِ ذلك. ورُوِيَ عن عليّ؛ أنَّه قال: أربعة آلاف فما دُونَها نَفَقَةٌ (¬8)، فإن زادت فهي كَنْزٌ أُدِّيَتْ زكاتها أم لم تؤدّ. فعلى هذين (¬9) القولين منع من ادخار كثير المال. وقال ابنُ عبّاس: هي خاصّةٌ فيمن لم تؤدّ زكاته من المسلمين، وعامّةٌ في أهل الكتاب مَنْ أَدَّى زكاته ومن لم يؤدّها. ¬
وقال عمر بن عبد العزيز: أراها منسوخة بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية (¬1). وقد ذهب قومٌ من الصّحابة كأبي ذرّ وعلىّ؛ أنّ في الأموال حقوقًا سِوَى الزَّكاة، وتأوَّلُوا قوله تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (¬2) وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (¬3) الآية. وكان الضّحاك يقول: من ملك عشرة آلاف دِرْهَم فهو من الأَخْسَرِينَ اعمالًا، إلَّا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا في صِلَة الرَّحِم ورفد الجار والضَّعيف (¬4)، ونحو ذلك من وجوه الصَّدَقَة والصَّلَة. حديث مالك (¬5)، عن عبد الله بن دِينَار، عن أبي صالح السَّمَّانِ، عن أبي هريرة؛ أنَّه كان يقول: من كان عنده مالٌ لم يُؤَدِّ زَكَاتهُ، مُثِّلَ له يَوْمَ القيامةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبيبَتَانِ يَطلُبهُ حتَّى يُمْكِنهُ، يقولُ: أنا كَنْزُكَ. الإسناد (¬6): قال الإمام: هذا حديثٌ موقوفٌ عند جماعة رواة الموطّأ من قول أبي هريرة، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مرفوعًا، خَرَّجَهُ البخاريّ (¬7) ومسلم (¬8) هكذا، وقد رُوِيَ مُسْنَدًا من طُرُقٍ كثيرةٍ (¬9)، عن ابن عمر وغيره، وهو صحيحٌ. العربية: قال صاحب "العين" (¬10) "الشُجاع (¬11): الحَيَّة"، والأقرعُ ضَرْبٌ منها يقال إنّه ¬
أقبحها منظرًا. والزَّبيبتان: زبَدَانِ (¬1) في شِدْقَي المتكلِّم من شدَّةِ كلامه، وأكثر ما يعتري ذلك المتكلِّم عند الضَّجر، فيحتمل أنّ يُوصَفَ الشُّجاع بذلك لغضبه (¬2) على المُفَرِّطِ في الزَّكاة. وسئل (¬3) مالك (¬4) عن الزَّبِيبَتَيْن فقال: أراهما شيئًا يكونُ على رَأْسِهِ كالقَرْنَيْن، واللهُ أعلمُ. وقال ابنُ حبيب (¬5): "سمعتُ مُطرِّفًا يقول: هما زَبيبَتَانِ في حَلْقِه (¬6)، وأكثر ما تكون عند الغَضَب"، واللهُ أعلمُ. ذكر الفوائد المنثورة المتعلقة بهذا الحديث: وهي ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): قوله: "مُثِّلَ لَهُ ماله شجاعًا أَقْرَع" ثبتَ ذلك عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من طُرُقٍ كثيرةٍ، وهذه العُقُوبة إنّما تكون -كما قلنا- فيمن مَنَع الحقوق الواجبة. الفائدةُ الثّانية (¬8): ومعنى قوله: "مُثِّلَ لَهُ شُجَاعًا" حقيقة؛ لأنّ المال جسمٌ والشُّجاع جسمٌ، فيغيِّر الله الهيئات والصِّفات والجسمُ واحدٌ، ويكون المَثَل في الذَّات لا في الصِّفات، ¬
باب صدقة الماشية
بخلافِ قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "يؤتى بالموتِ في صورة كَبْشٍ أَمْلَح" (¬1) وخصّ بذلك الشّجاع؛ لأنّه أوّل عَدُوِّ اكتسبَهُ الإنسانُ وبه خرجَ من الجنَّةِ، والله أعلم. الفائدةُ الثّالثة: قد رُوِّينَا حديثًا عن ثوبان؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ فارقَ منه الرُّوح الجَسَدَ وهو بَرِيءٌ من ثَلَاثِ دَخَلَ الجَنَّةَ: الكَنْز، والغُلُول، والدَّيْن" (¬2). وقال الشّيخ أبو عمر (¬3): "الأحاديثُ المرويّةُ في الّذين يكنزونَ الذَّهبَ والفضَّة منسوخةٌ بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬4) ". وهذه الآية عامّةٌ في كلِّ مالٍ على اختلافِ أصنافِهِ وتبايُنِ أسمائه واختلاف أغراضه، فمن أراد أنّ يخصها بشيءٍ فعليه الدَّليل. باب صَدَقة الماشية مَالِك (¬5)؛ أَنَّهُ قَرَأَ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ في الصَّدَقَةِ قَالَ: فَوَجَدْتُ فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كتَابٌ الصَّدقَةِ، في أرْبَعٍ وعِشرِينَ مِنَ الِإبِلِ، فَدُونَها الْغَنَمُ، في كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، وفيما فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الفَحْلِ ... إلى آخر الحديث المذكور في الموطّأ. الأصول (¬6): قال الإمام: ثبتَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في صَدَقَةِ الماشية ثلاثة كُتُبِ، كتَاب أبي بكرٍ الصِّديق بعد مَوْتِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - رواهُ أنس (¬7) واستقرَّ عِنْدَه، وكتاب إلى عمرو بن حَزْم ¬
واستقرَّ عِنْدَهم (¬1)، وما في كتاب عمر بن الخَطّاب عليه عَوَّلَ مالكٌ، لِطُولِ مُدَّةِ خِلاَفَتِهِ وسَعَهِ بيضة الإسلام في أيام ولايته، وكَثرَةِ مُصَدِّقِيهِ، فما مِنْ أَحَدِ اعترضَ عليه فيه، ولأنّه اسْتَقَرَّ بالمدينة وجَرَى عليه العمل، مع أنّه رواية سائر أهل المدينة. وأمّا كتاب ابن حَزْم فتركَهُ؛ لأنَّ كتاب عمر أيضًا أَوْفَق للأَخْذِ؛ لأنّ فيه زيادة استئناف الزَّكاة بالغَنَمِ. وقال بعضُ أشياخنا: إنَّ الكتابَ الّذي قَرَأَهُ مالك في أَمْرِ الصّدقة هي نُسْخَةُ الكتاب الّذي كَتبهُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لعُمَّالِهِ، ذكره أبو داود (¬2) من طريق الزّهريّ، عن سالم، عن أبيه (¬3)، قال: كتب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كتاب الصَّدَقَة فلم يخرجه إلى عماله حتَّى قُبِضَ، فعمل به أبو بكر والخلفاء من بَعْدِهِ. وهو حديث مُسْنَدٌ، ولم يسنده مالكٌ في الموطّأ، وإنّما أَرْسَلَهُ. نكتةٌ أصولية (¬4): اختلف النّاس في كتاب العالِمِ إذا تحقق كتابه، هل تكون روايته صحيحة ويلزم العلّم به أم لا؟ وفي "حديث الرباعيات" (¬5) للبخاريّ؛ أنّه يجوز أنّ يقرأَ الرَّجُلُ كتاب أبيه يتيقَّن أنّه كتابه وخطّه (¬6)، فيحدِّث به عنه ويكون مُسندًا. وأمّا قول مالك في كتاب أبي بكر، فإنّه لا يُوجِبُ حُكْمًا باتِّفَاقِ. ورجَّح مالك رواية كتاب عمر على رواية كتاب أبي بكر بأربعة أوجه: الأوّل: أنّها رواية فقيهٍ كبيرِ السِّنِّ محصِّل للعلّم على من هو أحطّ (¬7) منه في ذلك. الثّاني: أنّه يرويه عنه ثِقَتَانِ حافِظَانِ ابنا عبد الله بن عمر. ¬
الثّالث: أنَّه اتِّفاق من أهل المدينة على نَقْلِها، ونَقْلُهُم مُقَدَّمٌ على نَقْلِ غيرهم بالترجيح اتِّفاقًا. الرّابع: عملُ عمر بن عبد العزيز بها في الأقطار الّتي فيها كتاب أبي بكرٍ الصِّديق. الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى: قال علماؤنا: في هذا الحديث دليل أَنَّه لا مَدْخَلَ للغَنَمِ ولا بنت المخاض بعد المئة، وبه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة: لها مدخل (¬1). وليس في ذلك حُجَّة. والدّليلُ على ما نقوله: كتاب عمر المذكور في الصَّدَقَة. المسألة الثّانية: قال علماؤنا: النِّصابُ المزكَّى من الماشية في الغَنَمِ أربعون فصاعدًا، ومن البقر ثلاثون فصاعدًا، ومن الإبل خمسة فصاعدًا، فهذا الأصل في زكاة الماشية (¬2). وأمّا (¬3) قوله: "في أَرْبَعِ وعشرينَ فَدُونَها الغَنَمُ" مأخوذ من الأربع والعشرين وإن كانت الأربع (¬4) وَقْصًا. وقد اختلف قول مالكٌ في ذلك، فمرَّةً قال: إنّ ما يؤخذ من الصَّدَقَة فإنَّما هو على الجُمْلَةِ. ومرَّةً قال: إنّما هو على من تلزم به تلك الصَّدَقَة، وما زاد على ذلك فإنّما هو وَقْصٌ إلى أنّ يتغير (¬5) السّنّ، لا يجب في ذلك شيءٌ، ولا يؤخذ منه شيء، وهذا هو الّذي اختارَهُ ابن القَصّار، وقد اختلف في هذا قول أبي حنيفة والشّافعيّ. فوجهُ القول الأوّل: حديثُ عمر: "في أربع وعشرين من الإبِلِ فَدُونَها الغَنَمُ" وقوله: "فيما فوقَ ذلكَ إلى خمسٍ وثلاثينَ بنت مَخَاضٍ". ¬
ووجهه من جهة القياس: أنّ هذا حقٌّ يتعلَّقُ بمقدارٍ، فوجب أنّ يتعلَّقَ به وبالزِّيادة عليه إذ لم ينفرد بالوُجوبِ، كالقَطْعِ في السَّرِقَةِ وأَرَشِ المُوضِحَة. ووجه القول الثّاني: أنّ العشرين من الإبِلِ نصابٌ، فوجب أنّ يتقدَّمَهُ عَفْوٌ كالخمس (¬1). المسألة الثّالثة (¬2): قوله: "فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ" يقتضي أنّ فيها أربع شياه؛ لأنّ ذلك عدد ما فيها من الخمس، ويقتضي أنّ الغَنَم هي الموجبة (¬3) فيها، فإن أخرج عن خَمسٍ واحدًا منها لم يجزئه، وإنّما يجزئه أنّ يخرج ما وَجَبَ عليه منها وهي شاة. قال مالك: تؤخذ (¬4) من غَنم غالبِ ذلك البلد، ضَأْنًا كان أو معزًا، ولا ينظر إلى ما في ملكه. ورَوَى ابنُ نافع عن مالك: من أدَّى (¬5) مِنْ ضَأْنٍ أو معزٍ أَجْزَأ عنه، ولا يكلّف أنّ يأتي بما ليس عنده. وقال عبد الملك: إنّ كان من أهل الضَّأْنِ فمنها، وإن كان من أهل المعز فمنها، وإن كان من أهل الصِّنفين* أخذهما عنده، فإن كان من أهل الضَّأْن أخذ منها، وإن كان عنده الصِّنفان* (¬6). خُيِّرَ السَّاعِي. المسألة الرّابعة (¬7): قوله (¬8): "فَإِنْ لَم يَجدْ فَابْن لَبُون" (¬9) يقتضي أنَّه إذا لم يكن عنده ابنة مَخَاض وكان عنده ابن لَبُون أجزَأَ عنه (¬10)، ولا يجزئ مع وجودها، هذا مذهبُ مالك الصّريح. ¬
ومذهب أبي حنيفة أنّه يجوز ذلك، وبناهُ (¬1) على مذهبه في إخراج القيمة (¬2) في الزّكاة، وهو الّذي ذَكَرَهُ شُيُوخُنا (¬3). ويحتمل عندي وجه آخر، وهو أنّ يكون على وجه البَدَلِ؛ لأنَّ كلَّ ما يجمع بعضه إلى بعض، فهو على وجه البَدَلِ لا على وَجْهِ القِيمَةِ كالوَرِقِ والذَّهب. المسألة الخامسة (¬4): قوله: "فما زَادَ على ذَلِكَ، فَفِي كلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وفي كلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ" قال علماؤنا (¬5): يقتضي أنّ ما زادَ على المئة وعشرين (¬6)، فإنّ زكاته بالإِبِلِ، وهذا راجعٌ إلى الجملة، وعلى هذا إنّما هو فَرْض (¬7) الزّكاة، إنّه إذا بلغت إلى فَرْضِ بطَلَ ما قَبْلَهُ ورجع الحُكمُ إليه، فلا مدخلَ للغَنَم ولا لغيرها بعد (¬8) الخمسة والعشرين (¬9)، وبهذا قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة (¬10): إنّ زادت الإبلُ على مئة وعشرين، رجعت فريضة الغَنَم. فيكون في مئة وخمس وعشرين حِقَّتَانِ وشاةٌ (¬11)، وهكذا في كلِّ خمس شاة إلى خمس وأربعين ومئة ففيها حِقَّتَانِ وابنة مَخَاضٍ، وفي كلِّ خمسين ومئة ثلاث حِقَاق ¬
وفي مئة وخمس وخمسين (¬1) ثلاث حِقَاق وشاة، وعلى هذا التّرتيب هو مذهبنا. ودليلُنا عليه: حديث عمر، وهو حُجَّةٌ في الزَّكاةِ، يجبُ الرُّجوع إليه والعمل به (¬2). لأنّه قد بعثَ به إلى الآفاق ولم يعلم له مخالف في ذلك الوقت. ودليلُنا من جهة القياس: "أنّ ابنة مَخَاض سنّ لا يعود بعد الانتقال عنه فَرْضًا بِنَفْسِهِ (¬3) كسنِّ الجَذَعَةَ. المسألة السّادسة (¬4): فهذا ثبت أنّ الغَنَمَ لا تعودُ في صدَقَةِ الإِبِلِ (¬5)، فاختلف أصحابنا في قوله: "فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ (¬6)، ففي كلِّ أربعينَ ابنة لَبُون، وفي كلِّ خَمسين حِقَّةٌ" على ثلاثة أقوال: 1 - القول الأوّل: رَوَى ابنُ القاسِم عن مالكٌ؛ أنّ الفَرْضَ يتغيّر (¬7) إلى تخيير السَّاعِي بين حِقَّتَيْنِ وثلاث بنات لَبُون (¬8). 2 - وَرُوِيَ عنه أنّه قال: لا ينتقل الفَرْضُ إلّا بزيادة عَشرٍ من الإِبِلِ، وبه قال أشهب. 3 - وَرُوِي عنه؛ أنَّ الفَرْضَ ينتقلُ إلى ثلاثِ بناتِ لَبُون من غير تَخْيِيرٍ، وهذا اختيار ابن القاسم. وعندنا؛ أنَّ مَجِيءَ السَّاعي شرطٌ في صحَّةِ الزَّكاةِ. المسألة السّابعة: قوله: "وَفِي سَائِمَةِ الغَنَمِ إِذَا بَلَغَت" واختلفَ العلّماءُ فيها على أقوال: ¬
فقال أبو عبد الملك (¬1): "هي الرّاعية قليلة كانت أو كثيرة: وقد تُسَمَّى الواحدة سائمةٌ، ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} الآية (¬2)، يعني: فيه ترعون ماشيتكم". ويحتمل (¬3) أنّ يكون قصدها لأنّها عامّة الغَنَم. ويحتملُ أنّ يذكر ذلك صلّى الله عليه لينصَّ على السّائمة ويُكَلّف المجتهد الاجتهاد في إلحاقِ المَعْلُوفَة يها، فيحصل له أَجْر المجتَهِدِينَ، وقال: "إذًا بَلَغَتْ أربعين إلى عِشْرْينَ ومئة شاةٌ" فَنِصابُ الغَنَمِ أربعون، وَوَقْصُها إلى تمامِ المئَة وعشرينَ. المسألة الثّامنة: قوله (¬4): "وَلاَ يُحرَجُ فيِ الصَّدقَةِ تَيْسٌ، وَلاَ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، إلَّا مَا شَاءَ المُصَّدِّقُ، وَلاَ يُجمَعُ بَينَ مُفْتَرِقٍ، ولا يُفَرِّقُ بَينَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدقَةِ". شرح (¬5): قوله "عَوَار" فإن العَوَار -بفَتْحِ العَيْنِ-: ذات العَيْبِ والنَّقْصِ، من ذلك الكبيرة والمريضة البَيِنِّ مرضُها، والعَوْرَاء البينِّ عَوَرُها، والجرْبَاء، والعَمْيَاء، والعَرجَاء الَّتِي لا تلحق الغَنَم، فهذه كلُّها تدخلُ في ذاتِ العَوَارِ، ولا يجوز للمصَّدِّقِ أنّ يأخذَ منها شَيئًا. أمّا التّيْسُ والهَرِمَة فكذلك أيضًا (¬6)، والذَّكَر من المَعْزِ، وإنّه لا يؤخذ شيء من ذكرر المعز، وإنّما يجب في ذَاتِ العَوَارِ إلّا أنّ يكونَ التَّيْسُ فَحْلاَ مُسِنًا من كِرَام المَعْزِ، فيلحق بالعُجُول، فلا يجوز أيضًا للمُصَّدَّق أنّ يأخذه إنّ كان ذلك لفضله؛ لأنَّ عمر قد قال للمُصَّدِّقِ: لا تأخذ فَحْلَ الغَنَمِ. ¬
المسألة التّاسعة (¬1): قال: فإن كانت الغَنَم كلها عرجاء أو مريضة (¬2) أو ذات عَوَار؟ كان على رَبَّ الغنمِ أنّ يأتي بما يجزئ عنه، ولم يلزم المصَّدِّق أنّ يأخذَ منها إلّا أنّ يشاء (¬3) ذلك. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: يأخذ منها. ودليلُنا قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬4). ودليلنا أيضًا من جهة القياس: أنّ هذا حيوان يخرجُ على وَجْهِ القُرْبَةِ، فكان من شرطها (¬5) السّلامة كالضّحايا، وهذا القياس إنّما يتَّجِهُ على قول ابن القصّار أنّ ذا (¬6) العيب لا يجزئ وإن كانت قيمته أكثر. ومذهب مالكٌ؛ أنّها (¬7) تجزئ إذا كانت أفضل للمساكين من السليمة (¬8). العربيّة: قوله: "ابْن لَبُون " ابن سَنَتَيْن، و"ابن مَخَاض": ابن سَنَة، و"والحِقَّة": الّتي أكملت الثّلاث سنين ودخلت في الرّابعة. و"الجذعة": هي الّتي دخلت في الخامسة. وقوله (¬9): "وفي الرِّقَةِ إِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ" قَالَ علماؤنا (¬10): الرِّقة اسمٌ للفِضَّة (¬11)، ويقال: إنها الموازنة. وحكَى عبد الوهّاب أنّ من أصحابنا من قال: هو اسمٌ للذَّهب والوَرِقِ معًا، والأوّل أظهر. ¬
ما جاء في البقر
ما جاء في البقر مالك (¬1)، عَن حُمَيْدِ بْنِ قَيْسِ المَكِّيِّ، عَنْ طَاووسٍ الْيَمَانِيِّ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الأَنْصَاريَّ أَخَذَ مِنْ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، ومَنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً، وَأَتَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ، فَأَبَى أَن يَأْخُذَ مِنْهُ شَيئًا، وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فيه شَيْئًا، حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلُهُ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قبل أَنْ يَقْدُمَ مُعَاذٌ بْنُ جَبَلٍ. الإسناد: قيل: هذا حديثٌ موقوفٌ، وقيل: مُرْسَلٌ، والصحيحُ أنّه موقوفٌ على معاذٍ، وهو حديث غير متَّصِل، ولكنّه عن معاذ ثابت متَّصِل من رواية معمر والثوّري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق عن معاذ بمعنى حديث مالكٌ. وكذلك رواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة وأَسْنَدَهُ. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: زكاةُ البَقَرِ ثابتةٌ أيضًا عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والمُعَوَّلُ فيها على حديث مُعَاذ بن جَبَل؛ لأنَّ تِهَامَة ونَجْد لم تكن أرض بَقَر، وإنّما احْتِيجَ إلى بيان حالها باليَمَنِ، واللهُ أعلمُ، ولم يُدْرِك طاووس مُعَاذًا، فحديثهُ عنه مُرْسَلٌ (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قوله: "أَخَذَ مِنْ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا" والتَّبِيعُ هو (¬4) الّذي فُطِمَ عن أُمَّهِ فهو تَبِيعٌ (¬5)، وقيل: هو الجَذَعُ من سنَتَيْن، وكذلك فَسَّرَهُ ابنُ نافع وأكثر أهل العلّم بالعربية على أنّه تبيع أوّل سَنَة (¬6)، وإنّما يكون تَبِيعًا إذا دخلَ في السَّنَة الثّانية ويقوى على ذلك، قاله ¬
عبد الوهّاب. وقال ابن حبيب (¬1): "هو الجَذَعُ من البَقَرِ وهو ابن سَنَتَيْن" (¬2). والجَذَعَةُ اسم للصَّغيرِ منها ومن غيرها، وسُمِّيَ جَذَعًا لذلك. واختلف النّاس في المُسِنَّة: فقيل: هي الّتي دخلت في السَّنَة الثّالثة (¬3). وقيل: هي الّتي أتت عليها ثلاث ودخلت في الرّابعة (¬4)، وهو الّذي اختارَهُ ابن الموّاز (¬5). المسألة الثّانية (¬6): وأمّا صِفَتُه، فالمشهورُ من المذهب أنّه ذَكَرٌ، ولا يلزم صاحب الماشية أنّ تكون أنثى إلَّا أنّ يشاء ذلك. وقال ابن حبيب: يجوز أنّ يكون ذَكَرًا أو أنثى. وقال علماؤنا: ولا تؤخذ إلَّا أنثى (¬7) سواء كانت بَقَرَهُ كلها ذُكورًا أو إناثًا. وقال أبو حنيفة: إنّ كانت البقر (¬8) إناثًا جاز فيها مسن ذكر (¬9). والدليل على ذلك: الحديثُ المتقدِّم (¬10). ومن جِهَةِ المعنى: أنّ هذا فَرْضٌ ورد الشَّرْعُ فيه بالأُنْثَى على الإطلاق، فلم يجز ¬
فيه (¬1) الذَّكَر، كبنات لَبُون في الإبل. وقال الشّافعيّ وأصحابه (¬2): إذا كانت البقر ذكورًا كلّها أخذ منها مُسِنٌّ ذَكَرٌ. ودليلنا عليه: قولُه في حديث مُعَاذ: "من كلِّ أَرْبَعينَ مُسِنَّةً" ولم يعرِّف (¬3). ومن جهة القياس: أنّه نصابٌ وَجَبَتْ فيه مُسِنَّة، فوجبَ أنّ تكون أُنْثَى كما لو كانت البَقَرُ (¬4) إناثًا. المسألة الثّالثة (¬5): قوله: "لَم أَسْمَعْ مِنْ رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - في ذلك شَيْئًا" وقد اختلفَ العلّماءُ في هذا الباب فيما زاد على الأريعين؟ فمذهب مالكٌ والشّافعيّ والطّبريّ وجماعة من أهل الفقه والحديث؛ ألَّا شَيْءَ فيما زاد على الأربعين من البقر حتّى تبلغ سِتِّين، فإذا بلغت ستين ففيها تَبِيعَانِ (¬6) إلى سَبْعِينَ، فإذا بلغت سَبْعِينَ ففيها مُسِنَّةٌ وتَبِيعٌ، إلى ثمانينَ فتكون فيها مُسِنَّتَانِ، إلى تسعين فيكون فيها ثلاث تَبَائِع، إلى مئة فيكون فيها تَبِيعَانِ ومُسِنَّةٌ، ثم هكذا في كلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ، وفي كلِّ أربعين مُسِنَّةٌ. المسألة الرّابعة (¬7): قوله (¬8): "إنّ الضَّأنَ والمَعْزَ تجمعُ في الزَّكَاةِ" واستدلَّ على ذلك بقول عمر: "في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكاة (¬9) "، وهذا يقتضي أنّه مَتَى اجتمعَ في مِلْكِ الرَّجُل أربعون (¬10) بعضها مَعْزٌ وبعضها ضَأْنٌ أنّه تجب فيه (¬11) الزَّكاة؛ لأنّ اسم الغَنَم يقعُ على الصِّنْفَيْن. ومن جهة المعنى: أنّ الزَّكاة موضوعةٌ على أنّ تجمع من الأجناس ما تَقَارَبَ في ¬
صدقة الخلطاء
المنفعة والجنس (¬1)، كالحِنْطَة (¬2) والشّعير، والمنفعة في الضَّأْن والمَعْزِ واحدةٌ فلذلك جمعهما. المسألة الخامسة (¬3): قوله (¬4): في البِقَرِ العوامل أنَّ الزَّكَاةَ واجبَةٌ فيها كالسَّائِمَةِ، وهذا قولُ مالك (¬5). وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا زكاةَ في شيءٍ من ذلك. ودليلنا: حديثُ أبي بكرٍ المتقدِّم: "في أَرْبَعٍ وعِشْرِينَ من الإِبِلِ فما دونها (¬6) الغَنَمُ"، وهذا عامٌ، فيجب حمل ذلك على عمومه إلَّا أنّ يخصَّه دليلٌ، والله أعلم. صَدَقَةُ الخُلَطَاءِ الإسناد: لم يذكر مالك في هذا الباب إلّا خبرًا واحدًا بَيَّنَ فيه مذهبه؛ أنّ الخَلِيطَيْنِ لا يزّكيان زكاة الواحد حتّى يكون لكلِّ واحدٍ منهما نصابٌ. العربية (¬7): الخُلَطَاءُ: اسْمٌ شرعيٌّ واقعٌ على الرَّجُلَينِ والجماعة متى يكون لكلِّ واحدٍ منهما ماشية تجب فيها الزَّكاة، فيجمعونها للرِّفْقِ للرّاعي (¬8) وغير ذلك (¬9)، فهؤلاء يقال لهم الخُلَطَاء. ¬
الفقه في إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬1): قال الإمام: مسألةُ الخُلَطَاء مسألةٌ عسيرةٌ، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وما كانَا مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يتراجحانِ بينهما بالسَّوِيَّةِ" (¬2)، واختلفَ العلّماءُ في الخَلِيطَيْنِ هل هما الشَّريكان أم الجاران؟ واختلف النّاسُ فيما يكونانبه خَلِيطَيْنِ في وقتِ الخُلْطَة؟ وفي كيفيَّةِ التَّراجُعِ عند اختلاف تسمية (¬3) الأعداد؟ وهذا كلُّه قد بيَّنَّاهُ في موضعه بأصْلِهِ (¬4) وفروعه، وفي قوله: "لا يُفَرَّقُ بين مجتمعٍ ولا يُجْمَعُ بين مُفتَرِقٍ" دليلٌ على ما قلناه قَبْلُ في الحوطة في الزَّكاةِ ومنع التَّطَرُّقِ إلى إسقاطها. والّذي يُعَوَّلُ عليه هاهنا من هذا الباب ثلاثة معان: الأوّل: الخليطان أصلٌ في الشَّريعة. الثآني: أنّهما اللّذان لا تنفصل غنمهما، فإن انفصلت في المُرَاحِ خاصّة، والرّاعي والدَّلْو والمَسْرَحِ واحدٌ، عفي عنه عند علمائنا، وفيه تفصيلٌ طويلٌ. الثّالث: أنّهما ليسا بالشَّرِيكَيْن، إذ لو كانا شريكين لما احتيجا (¬5) إلى التَّراجع، وهذا أعسر فَصْلٍ على الشَّافعيّ. المسألة الثّانية: قال علماؤنا المالكية: الخُلْطَةُ صحيحةٌ (¬6). وقال أبو حنيفة: لا تصحُّ الخُلْطَةُ أصْلًا. ودليلنا: قولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وما كانا من الخَلِيطَيْنِ فإنَّهُما يتراجعَانِ بينَهُما بالسَّوِيّةِ". وقال أبو حنيفة: الخُلْطَةُ هاهنا إنّما هي الشَّرِكَة وإلّا فلا تصحّ الخُلْطَة. ¬
قلنا له: نُبْطِلُ (¬1) قولَكَ بقوله صلّى الله عليه: "يترَادَّانِ بالسَّوِيَّةِ"، والشُّرَكَاءُ ليس فيهما ترادٌّ ولا يُتَصَوَّر هذا بينهما؛ لأنّ الشَّريكَ إذا كان له نصفٌ وللآخر نصفٌ وأخذَ السَّاعِي فقد أخذ من كلِّ واحدٍ، فما بقي كان فيهما. وإن كان لواحدٍ ألف شاةٍ وللآخر أربعون شاة، وأتى السَّاعي فأخذَ ما أخذَ منهما، فما بَقِيَ كان بينهما، فليس هنا ترادٌّ، ولا تصحّ الخُلْطَةُ عند مالك إلَّا إذا كان عند كلِّ واحد منهما ما تجب فيه الزَّكاة (¬2)، وإلّا لم يكونَا خُلَطَاء. المسألة الثّالثة (¬3): إذا ثبت هذا، فالمعاني المعتبرة في الخُلْطَةِ أربعةٌ (¬4): الرَّاعِي، والفَحْل، والدَّلْو، والمَبِيت، فإن كان لكلِّ ماشيةٍ راعٍ، فلا يخلو أنّ يكونا يتعاونان بالنّهار في جميعها أو لا يتعاونان، فإن كانا يتعاونان بإذن أربابها فهما خُلَطَاء، وإن كانا لا يفعلان ذلك، أو يفعلانه بغير إِذنِ أَرْبَابِ الماشيةِ، فليسا بخُلَطَاء، هذا الّذي أشار إليه أصحابُنَا. ويجب أنّ يكون في ذلك زيادة، وهو أنّ يكون إِذْنُ أربابِ الأموال في التّعاون على حِفْظِها؛ لأنّ الغَنَمَ من الكَثرَةِ بحيث يحتاج إلى ذلك. المسألة الرّابعة: إذا ثبت هذا فنقول: من شرط الخلطة الاجتماع في الدَّلْوِ والرَّاعي والمُرَاحِ والمَيِيتِ، وفي أقلِّ من هذا وأكثر، وبالاثنين يكونا خليطين. وقال قوم: بالواحد يكونا خليطين (¬5)، وهي مسألة من "أصول الفقه" وهي الحكم إذا تعلَّقَ باسم فإنّه يتعلّق بأقلِّ ما يقع عليه ذلك الاسم، ويسمَّى القولُ بأقلِّ الحكم. ¬
المسألة الخامسة (¬1): قوله (¬2): "الفَحْل" قال علماؤنا: الفَحْلُ والمُراحُ سواءٌ إذا كان على الإشاعة بكرَاءٍ أو مِلْكِ، فهو من صِفَاتِ الخُلْطَةِ، وإن كان لكلِّ واحدِ منهما جزءٌ معيَّنٌ، فلا يخلو أنّ يكون ذلك الجزء يقوم (¬3) بماشية صاحبه على الانفراد دون مضَرَّةٍ ولا ضيقٍ، أو لا يقوم بذلك؟ فإن كان يقومُ بماشية صاحبه، فليس من صفات الخُلْطَةِ؛ لأنَّ الارتفاف *لم يوجد بهذه الصِّفة، وإن كان لا يقوم بها، فهي من صفات الخُلْطَةِ؛ لأنّ الارتفاق* (¬4) قد حَصَلَ. المسألة السّادسة (¬5): أمّا الدَّلْوُ، فهو الّذي تستقى (¬6) به الماشية (¬7)، وقد خَرَّجَ أصحابنا المسألة في كُتُبِهِم على المياه، وذلك يكون موجودًا بين الأعراب، فيَجتمع أرباب المواشي فيتعاونون على حَفْر بئْرٍ فيكون لهم السَّقْي، ويمنعون غيرهم، فيكون ذلك من صفات الخُلْطَة، ولعلّهم يُعَبِّرُون عنه تارة بالماء، وتارة بالدَّلْو. المسألة السابعة (¬8): قوله (¬9): "وَالمَبِيت" فحيثُ تبيتُ المواشي، والكلامُ فيه كالكلام في المُراَحِ. قال علماؤنا (¬10): وإنّما اعتبرت هذه الصِّفات في الخُلْطَةِ لأنّها من (¬11) الصَّفات الّتي تَخَفَّفَتْ بها المؤونة. ¬
وقال أشياخنا (¬1): وبماذا (¬2) تحصل الخُلْطَة من هذه الصِّفات؟ اتَّفقَ أصحابُنَا على أنّه ليس من شرطها "حصول جميعها. وقال الشّافعيّ: من شرط الخُلْطَة* (¬3) الاجتماع بجميع صفاتها. ودليلنا: أنّ المُرَاعَى في الخُلْطَةِ إنّما هو الارتفاق (¬4)، والارتفاق يحصلُ ببعض الصِّفاتِ، فثبتَ بهذا حكم الخُلْطَة. المساْلة الثامنة (¬5): إذا ثبت ذلك، فقد اختلفَ العلّماءُ بماذا تحصلُ الخُلْطَة منها؟ فقال ابن حبيب: المراعى في ذلك الرَّاعي وَحْدَهُ، وحكاه عبد الوهّاب (¬6)، والّذي عندنا لابن حبيب؛ أنّه قال لو لم يجمعها إلّا في الرّاعي والمرعَى (¬7)، وتفرّقت في المبِيَتِ (¬8) والمُرَاحِ، فإنّه إذا كان ذلك صار الفَحْلُ واحدً، فضرب هذه فحل هذه، وهذه فحل هذه، وإذا لم يكن لها راعٍ واحد لم يكونا خليطين. المسألة التّاسعة (¬9): إذا كان يخالط رَجُلًا ببعض ماشِيته دون بعض، فإن كانت غَنَمًا خَالَطَ منها بأربعين صاحب أربعين وله أربعون بغير خُلْطَة. فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يكون خليطًا (¬10) بالثّمانين، فتجب عليهما شاة، عليه ثلُثاها، وعلى صاحب الأربعين ثلُثها. قال ابن الماجِشُون وسحنون: لا يكون خليطا (10) إلَّا حيث خَالَطَهُ به فتراعى (¬11) الغَنَم المختلطة على حكم الخُلْطًة، فيكون على صاحب الأربعين نصف شاة لأنّه لم ¬
يخالط (¬1) إلَّا بها، ويكون على صاحب الثّمانين ثُلُثا شاة، وتفصيلُه يطولُ بذِكْرِهِ الكتاب، وفروعُه مُتشًعِّبَةٌ. المسألة العاشرة: اختلفَ العلّماءُ في حكم زمن الخلطة (¬2) الّتي تثبت بها حكم الخُلْطة؟ فقال عبد الوهّاب (¬3): الشّهر. وقال ابن حبيب: لا يكون أقلّ من ذلك (¬4). وقال ابن الموّاز: يكون أقلّ من شهر. وقال علماؤنا (¬5): ومن حُكمِ الخَلِيطَيْن أنّ يكون حَوْلهما واحدًا، فإن حال حَوْل أحدهما قبل حَوْل الآخر (¬6)؟ فقد رُوِيَ عن ابن القاسم: لا تزكَّى غنم الّذي لم يحل الحول (¬7) على ماشيته، ويزكّى غيرها. ووجه ذلك: أنّ الأصل في الزَّكاةِ الحَوْلُ والنَّصابُ، فإذا لم يعتبر نصاب أحدهما (¬8)، فكذلك لا يعتبر حوله (¬9). ولو كان أحدهما عبدًا أو ذميًا، لم يثبت لهما ولا لأحدهما حكم الخُلْطَة، وزكِّيت زكاة الحرِّ المسلم زكاة منفردة (¬10)، والحمد لله. ¬
ماجاء فيما يعتد به من السخل
ماجاء فيما يُعْتَدُّ به من السَّخْلِ مالك (¬1)، عن ثَوْرِ بْنِ زَيْدِ الدِّيلي، عَن ابْنٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ جَدِّهِ سُفْيَانَ بْن عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ عُمَرَ يْنَ الخَطَّابِ بَعَثَة مُصَدِّقًا، فَكَانَ يَعُدُّ عَلَى النَّاسِ السَّخْلَ ... الحديث إلى آخِرِهِ. الإسناد: قال الإمام: هذا الحديثُ مشهورٌ عوَّل فيه مالكٌ على معانٍ منها: أَنَّهُ بَيَّنَ فيه منع أخذ الرُّبَى، والماخِض والأَكُولَة وفَحْل الغَنَم بما يغني عن ذِكْرِهِ. العربية: السَّخلةُ: جمع سِخَال، والبَهْمَةُ مثل السَّخْلَة، وهما الصَّغيرَتَان من الغَنَم، وجمع البَهْمَة بَهْمٌ. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬2): قال علماؤنا (¬3): الغَنَمُ لا تخلوِ في الغَالِبِ من الجَيِّدِ والرَّدِيءِ (¬4)، فلو كُلَّفَ رَبُّ الماشية أنّ يدفع من أفضلها لأضَرَّ ذلك به، ولو أخذ منه من أردئها لم ينتفع مستحقٌّ بما يدفع إليهم منها، ولا يصحّ أنا يؤخذ من كلِّ شاة بعضها، فعدلّ بين الفريقين بأن يؤخذ من وسطها، ولذلك بَيَّنَ عمر ما يترك لهم من جيِّدِها كالأكُولَة والرَّبَى، ويجتنب الرَّديء الّذي لا يُوخَذ منه كالسَّخْلَةِ وذات العَوَارِ، فكما يحسب الجيَّد ولا يأخذ منه، فكذلك يحسب الرَّديء ولا يأخذ منه، ويأخذ الوسط، ولا خلافَ فيه بين الفقهاء إذا كانت الأُمَّهَات نِصَابًا. ¬
والدَّليلُ على وجوبِ الزَّكاة فيها: حديث عمر (¬1). ومن جهة القياس: أنّ هذا نَمَاءٌ من أَصْلِ ما تَجِبُ فيه (¬2) الزَّكاة (¬3) المسألة الثّانية (¬4): وإذا كمل نصاب السَّخْلِ، عدَّت وأخذت الزّكاة. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: يستأنف بها حَوْلًا من يوم كمل النِّصاب. وإنّما تحسب بالسِّخال (¬5) مع الأمّهات إذا كانت نِصَابًا. والدّليلُ على ما نقوله: قول أبي بكر: "وفي سائمة الغَنَمِ الزَّكَاةُ"، وقول عمر المتَّفَق (¬6): "تَعُدُّ عليهم السَّخْلَة يَحْمِلُهَا الرَّاعِي ولا تَأْخُذُهَا منهم". المسألة الثّالثة (¬7): فإذا كانت إبله فصلانَا أو بَقَرُهُ عَجَاجِيل، أو غَنَمُهُ سِخَالًا؛ فإنّه يكلَّف أنّ يأتي بالسِّنِّ الواجبة (¬8) عليه أنّ لو كانت كبارًا. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: يخرج منها. ودليلنا: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فإذا بَلَغَتْ خمسًا وعِشرِينَ ففيهَا ابنة مَخَاضٍ"، ولم يفرِّق بين الصِّغَار والكبار. ودليلنا من جهة المعنى: أنّ هذه ستُّونَ من الإِبِلِ، فوجبت فيها حِقّة كما لو كَانت بُزُلًا كلّها، والله أعلم. المسألة الرّابعة (¬9): ¬
قال علماؤنا (¬1): الواجبُ في الزّكاةِ من الماشية الإناث من الضَّأْن والمَعْزِ ولا يأخذ الذكر (¬2)، إلَّا أنّ يرى ذلك المصدِّق، وبه قال الشّافعيّ. وقال ابنُ حبيب: يؤخذ الذّكَر من الضَّأْن جَذَعًا كان أو ثَنِيًّا، ولا يؤخذ الذَّكَر من المَعْزِ لأنَّه تَيْسٌ. وقال أبو حنيفة: يؤخذ الذّكَر والأُنْثَى من الجَذَع والثَّنِيَّةِ. ودليلنا: أنّ هذا جنْسٌ من الغنم (¬3) لا يصلح للنَّسْلِ، فلم يؤخذ في زكاتها كما دون الجَذَعِ (¬4). المسألة الخامسة (¬5): وهي مسألة أصولية، قال عمر بن الخطّاب (¬6): "تَعُدُّ عليهم السَّخْلَة ولا تأْخُذُها". قال علماؤنا: ليس هذا بجواب، إلّا على مذهب أهل السُّنَّة، فإنَّ عمر بن الخطّاب قال لسُفْيان: قُل لهم: تَعُدُّ عَلَيْهِمْ بالسَّخْلَةِ يَحْمِلُها الرَّاعِي، ولا تَأخُذُها، كما تَعدّ عليهم الرُّبَى والأَكُولَة، ولا تأخذها، وهذا قياسُ النَّظِير بالنَّظِير، تحقيقُه كما قال: غِذَاء المال وخِيَارِه، وذلك إنّما يمتنع عن أخذ الكريمة نَظَرًا لصاحبِ المال، ويمتنع عن أَخْذِ السَّخْلَةِ نظرًا للفقراء. وفيها وجه آخر: وذلك أنّ السّاعي لو أخذها ما أمكنه حلبها، فيسقطُ اعتبارها من كلِّ وجهٍ، ولذلك قلنا: إنّ المصدِّق لا يختار الصَّدَقَة، إنّما يقول لربِّ المال: عليك شاة فَجِيء بها، فهذا جاءِ بالوَسَطِ لَزِمَهُ قَبولها، والحمدُ لله. ¬
العمل في صدقة عامين إذا إجتمعا
العَمَلُ في صَدَقَةِ عامَيْنِ إذا إجتمعَا الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): هو كما قال (¬3)، من تأخَّرَ عنه السَّاعي وتَلِفَتْ ماشيته فإنّه لا يَضْمَن؛ لأنّ إمكان الأَدَاءِ إلى الإمام من شرط الوُجوبِ في الأموال الظّاهرة، سواء تَلِفَت بأمرٍ من السَّمَاءِ، أو أَتْلَفَها هو من غير قَصدٍ للفِرَارِ من الزَّكَاةِ، هذا قول مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: إنْ أَتْلَفَها هو ضَمِنَ. وقال الشّافعيّ: مجيءُ السَّاعي شَرْطٌ في وجوبِ الزَّكاة، وقال مرَّة: هو شرطٌ في الضَّمَانِ. وأصلُ هذه المسألة يتعلَّقُ بفصلّين: أحدهما: هل (¬4) الزَّكاة متعلِّقة بالذِّمَّة أو العَين؟ والثّانى: مجيءُ الساعي شرطٌ في الوُجوبِ أو ليس بشرطٍ فيه؟ وقد تقدَّمَ الكلام فيه. المسألة الثّانية (¬5): فإذا ثبت هذا، فلا يخلو أنّ يكون بيده يوم غابَ السَّاعي أقلّ من النِّصاب، أو نصاب؟ فإن كان بيده أقلّ ثمّ جاءَ السَّاعي بعد أعوامٍ، فوجدَ عنده نصابًا بالوِلاَدَة أو بالمُبَادَلَةِ، فقال مالك وابن القاسم: يزكِّي الأعوام الّتي كانت فيها نصابًا دون سائر الأعوام، وهو مصدَّقٌ في ذلك. وقال أشهب: يزكِّي لجميع الأعوام. ¬
المسألة الثّالثة (¬1) في توجيه هذه الأقوال وتنقيحها فوجه قول مالك - رحمه الله -: أنّه إنّما تعلَّقت بماله من (¬2) يوم كمال النِّصَابِ، فوجبَ أنّ يجْزِىء فيها حُكم الزّكاة من ذلك الحَوْل، وما قبل ذلك لا تَعَلُّقَ للزّكاة بها (¬3). ووجه قول أشهب: أنّا إذا كنّا نُرَاعِي ما وجدَ السّاعي بيَدِه دون ما قَبْلَ ذلك في الكَثْرَة والقِلَّة والتَّقصيرِ عنه، فكذلك في تَمَامِه والزِّيادة عليه. ولو كمل النِّصَابُ بفائدة، فلا خلافَ نَعْلَمُه في المذهب في أنّه لا يزكّي إلّا من يوم كمل النِّصاب، وقاله أَشْهَب وأَصْبَغ. ووجه ذلك: ما قدَّمناهُ أنَّ الفائدةَ لا تُضَافُ إلَّا (¬4) إلى النِّصاب. المسألة الرّابعة (¬5): فإن غابَ (¬6) عنها وهي نصابٌ، ثم نقصت عن النِّصاب، ثمَّ عادت إليه، فوجدها السّاعي على ذلك، فلا يخلو أنّ يكون بلوغها النِّصاب بولادة وما جَرَى مَجْرَاهَا بِوَجْهٍ من البَدَلِ، أو بفائدةٍ. فإن كان بولادة زكّى الجميع (¬7) لجميع الأحوال على ما هي عليه اليوم، هان كانت بفائدةٍ لم يزكّها إلَّا يوم بلغت النِّصاب إلى وقت مجيءِ السّاعي. المسألة الخامسة (¬8): فإنْ غاب ربّ الماشية بأربعين، فوجدَ السّاعي بيده أَلْفًا بعد أعوامٍ، فقال: إنّها لم تزل أربعين إلى هذا العام، فهل يصدَّق أم لا؟ ففي المذهب في ذلك روايتان: الأُولَى: عن ابن القاسم وابن الماجشون (¬9)؛ أنَّه لا يصدّق وتؤخذ منه صدقة ¬
النهي عن التضييق على الناس في الصدقة
سائر الأعوام على ما هي عليه الآن. والرِّوايةُ الثّانية: روى محمّد بن سحنون عن أبيه؛ أنَّه يصدَّق في ذلك. توجيه (¬1): وجهُ الرِّواية الأولى عن ابن القاسم؛ أنّ هذا قد ظهر كَذِبُه وتَبَيَّنَ فِرَارُهُ عن (¬2) الزَّكاة، فلم (¬3) يعتبر بقوله. ووجه الرَّواية الثّانية من قول ابن سحنون: أنّ الزّكاة لا تجب عليه إلَّا بإقراره أو بِبَيِّنَةٍ تثبتُ عليه، وليس فسقه (¬4) بالّذي يمضي علية الدّعاوي دون بَيِّنَةٍ كالّذي عُرِفَ بجحد الأَمْوَالِ. النّهيُ عن التَّضْيِيق على النّاس في الصَّدَقَة ذكر مالك (¬5) فيه حديث عائشة؛ أنّها قالت: مُرَّ على (¬6) عمر بْن الخَطَّاب بِغنَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَرَأَى فِيهَا شَاةً حَافِلًا ذَاتَ ضَرْعٍ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الشَاةُ؟ فَقَالُوا: شَاةٌ مِنَ الصَّدقَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْطَى هَذ أَهْلُهُا وَهُمْ طائِعُونَ، لَا تَفْتِنُوا النَّاسَ، لَا تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ المُسْلِمِينَ، نكِّبُوا عَن الطَّعَامِ. العربية (¬7): قوله: "حَافِلًا" يعني الّتِي قد حَفلَ ضَرْعها، أي: امْتَلأَ لَبَنًا، ومنه قيلَ: مجلسٌ حافلٌ ومحتفلٌ، وإنّما أخذت - والله أعلم- من غنم كانت كلّها لبونًا. وأمّا "الحَزَرَات" فما يغلبُ على الظَّنِّ أنَّه خيرُ المالِ وخِيَارُه، وقال صاحب "العين" (¬8): "الحَزَرات: خِيَارُ المالِ"، وقيل: الحزَرات كِرَامُ الأموال، وكذلك قال ¬
رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بَعَثَهُ إلى اليمن: "إيًاكَ وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المَظْلُومِ" (¬1). وقوله: "نكِّبُوا عَنِ الطَّعَامِ": فمأخوذٌ -والله أعلم- من قول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّما تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مواشِيهِم أَطْعِمَتَهُمْ" (¬2)، فكأنّه قال: نكِّبُوا عن ذَاتِ الدَّرِّ، نكِّبُوا عن ذات اللَّبن، وخُذُوا الجَذَعَة والثَّنِيَّة. وفيه فائدتان: الفائدةُ الأولى: فيه أنّ عمر - رحمه الله - كان شديد الإِشْفَاقِ على المسلمين، وكان كما قيل فيه: "كالطّير الحذر"، وهكذا يلزم الخلفاء أنّ يكونوا فيمن أمَّرُوهُ واستعملوه الحذر منهم والاطلاع في أعمالهم، وكان عمر - رحمه الله - إذا قيل له: لا تستعمل فلانًا، أو قيل له: ألَّا تستعمل أهل بدر، قال إذ يسهم (¬3) بالولاية، على أنَّه قد استعمل منهم قومًا منهم سعد ومحمد بن مسلمة. الفائدةُ الثّانية: رُوِيَ عن حُذَيْفَة أنّه قال لعمر: ألَّا تستعملني، إنّك لتستعمل الرَّجُل الفاجر، فقال: أستعمله لأستعين بقُوَّتِه، ثمّ أكون بعد على قَفْوِهِ، يريد اسْتَقْضِي عليه، وأعرف ما يعمل به. الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى: فيه الدّليل على أنّ الشّاة الحافل لا تُؤخَذ إلَّا على وجهها؛ لأنّه لم يأمر بردِّها، ووعظ وحذّر ليوقف على مذهبه وينتشر ذلك عنه بتطمين نفوس الرَّعِيَّة. قال مالك (¬4): ولا يأخذ المصدق لَبُونًا، إلّا أنّ تكون الغَنَمُ كلُّها ذات لَبَنٍ، فيأخذ حينئذٍ لَبُونًا من وَسَطِها، ولا يأخذ حزرات النّاس. ¬
وسئل مالك عن قوله: "نكِّبُوا عن الطَّعَامِ" فقال: يُريدُ اللَّبَنَ. المسألة الثّانية (¬1): قال علماؤنا (¬2): الكلامُ في هذا النَّوع على ثلاثة أقوال: أحدها: إبّان أخذها منها. والثّاني: في أيِّ موضعٍ تؤخذ فيه الصّدقة. الثّالث: في موضع تفرّق الصَّدَقة فيه. الأوّل: إبَّانَ الخروج لأَخْذِ الصَّدَقَة، فهو وقت طلوع الفَجْر (¬3)، وهو إبّانَ تجتمع فيه على المياه في الجبال والقِفَارِ من بقايا الأمطار؛ لأنّ ذلك أهون على المصدّقين، وأَمْكَن لاجتماع النّاس دون مَضَرَّةِ ولا مشقَّةٍ تلحقهم في تَرْكِهِم الكلأَ للاجتماع للصَّدَقَة؛ لأنّ ذلك أهون عليهم، ولأنّ الماشيةَ حينئذٍ أسرع للانتقال. وقال الشّافعي: إنّ وقتَ خروجه (¬4) وجميع النّاس في شهر المحرم متى كان من كلِّ سَنَةٍ. ودليلنا: ما قدَّمْنَاهُ من قول عمر - رضي الله عنه -. مسألة (¬5): فإذا ثبت ذلك، فإن حُكمَ البلادِ على ضربين: 1 - ضَرْبٌ لم تجرِ العادةُ بخروج السُّعَاةُ إليه لِبُعْدِه، ففي "كتاب ابن سحنون" أنّ حَوْلَهَا من يومِ أفادَها بميراثٍ أو غيرِهِ، يخرج زكاتها كزكاة العين. مسألة (¬6): وأمّا الأسيرُ يكتسبُ الماشيةَ في دار الحربِ، فإنَّ حُكْمَهُ حُكم من تخلَّفَ عنه ¬
السُّعاةُ، فإذا خلص بها أدُّى زكاتَها لماضي السِّنِين. والقياسُ عندي أنَّ حُكْمَهُ حُكْم من لم تَجْرِ العادة بخروج السُّعاة إليه يُخْرِج زكاةَ الماشية كما يخرج زكاة العَيْن. 2 - والضربُ الثّاني: فيمن (¬1) جرتِ العادةُ بخروج السُّعاة إليهم، فإنّهم يخرجون في سَنَةِ الخِصْبِ، وأمّا سنة الجَدْبِ ففي "المجموجمة" عن أشهب؛ قال مالكٌ: لا يُبْعَثُون في سَنَةِ الجَدْبِ، ورُوِيَ عنه أيضًا: لا تخرج (¬2) السُّعاة في سَنَةِ الجَدْبِ. توجيه وتنقيح (¬3): أمّا وجه قول مالك الأوّل وما احتجّ به من خروج السّاعي في عام عِامٍ جَدْبٍ، فإنّما يأخذ ما لا يجب (¬4)، فإنْ بِيعَ فلا شيء (¬5) له، ولا ينتفع المساكين به. ووجه القول الثّاني: أنّ هذا معيبٌ (¬6) بسبب عَجَفِ الماشية (¬7). مسألة (¬8): فهذا قلنا بخروج السُّعاةِ في الجَدْب، فقد تقدَّمَ من قول مالك ما يقتضي أنّه يأخذ من العِجَافِ عِجَافًا. وقال محمّد (¬9): يشتري له ما يعطيه. ووجه قول مالك: أنّ صِفَةَ الغَنَم في العَجَفِ عيب (¬10) كما لو كانت سِمَانًا كلّها. والعَجَفُ عِنْدَه (¬11) عَيْبٌ فيها كما لو كانت ذات عَوَار. ¬
مسألة (¬1): وأمّا موضع أَخْذِ الصَّدَقَةِ، ففي موضع الماشية، وليس على أربابها نقلها إلى المصدّق. ودليلنا: المشهورُ من فعل النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إذْ يبعث أصحابَه مصدّقين إلى الجهات، ولا يأمر النّاس بجَلْبِ مواشِيهِم إلى المدينة، ومن جهة المعنى: أنّ الضّرورة على أربابِ المواشي في جَلْبِها وجَمْعِها للصَّدَقَة أشدّ من الضّرورة على المصدّقين في تطوّفهم على المواشي. مسألة (¬2): قال علماؤنا (¬3): وكذلك زكاة الحَبِّ يخرجُ إليه في موضعه، ويؤخذ من النّاس حيث حَصدُوهُ، لما (¬4) رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وَأعلمهُمْ أنَّ عليهم صَدَقَة تُؤْخَذُ من أغنيائِهِمْ وتردّ على فُقَرَائِهِم"، فإذا كانت تدفع إلى فقراء الجِهَةِ الّتي أخذت بها، فلا معنى لنقلها. ودليلنا من جهة المعنى: أنّ في تكليفهم حمله زيادة في الزّكاة، وربّما لم تكن لهم دوالت ولا مال غير ما أصابوه، فيؤدِّي ذلك إلى أنّ يؤخذ منهم نصف ما حصدوه أو أكثر. مسألة (¬5): وأمّا موضع تفريقها، ففي الموضع الّذي تؤخذ فيه، إلَّا أنّ لا يكون فيه فقراء، فإنْ كان فيه فقراء، فلا يخلو أنّ يكونوا أشدّ حاجة من غيرهم، أو حاجتهم كحاجة غيرهم، أو تكون حاجة غيرهم أشدّ، فإن كانت حاجتهم أشد* أو مساوية لحاجة غيرهم، فأهل موضع الصّدقة أولى بصدقتهم حتّى يغنوا أولًا، ينقل منها إلَّا ما فضل عنهم، وإن كانت حاجة غيرهم أشدّ* (¬6) فرّق من الصَّدَقَة بموضعها بقَدْرِ ما يراه ¬
الإمام، ونقل سائرها إلى موضع الحاجة، هذا هو المشهور من مذهب مالك، وفي "المجموعة" من رواية ابن وهب وغيره عن مالكٌ: لا بأس أنّ يبعث الرَّجُل ببعض زكاته إلى العراق، ثمّ إنّ هلكت في الطّريق لم يضمن، فإن كانت الحاجة كثيرة بموضعه أحببت له إلَّا يبعث، وهذا إباحة لإخراج (¬1) الزَّكاة عن موضعها، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشّافعيّ: لا يجوز نقل الصَّدَقَة عن موضعها. والدّليل على ما نقوله: قوله لمعاذ بن جبل: "خُذْ مِنْ امْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذ من أغنيائهم وتردُّ على فقرائهم". فإن قيل: هذا يقتضي نقلها من عَدَن إلى اليمن؛ لأنّه خاطب بذلكَ أهل اليمن وعَدَن في اليمن. فالجواب: أنّ المراد بذلك أنّ تؤخذ (¬2) من الأغنياء فتردّ على الفقراء، ومعلوم أنّ معاذًا كان يخاطِبُ بذلك أهل اليمن وعَدَن وأهل كلّ بلد، فيقتضي ذلك ردّ زكاة أغنيائهم إلى فقرائهم. فإنْ تَلِفَتْ في الطّريق، فلا ضمانَ عليه، وعلى رواية ابن وهب؛ أنّ عليه الضَّمان. وقيل عنه: لا ضمانَ عليه كالرِّوايةِ الأُولَى (¬3)، والرِّوايةُ الأُولَى عن ابن وهب أصحّ من ألَّا ضمان عليه. مسألة (¬4): فهذا احتاج الإمام أنّ ينقلها من بلدٍ إلى بلدٍ، فَمِنْ أينَ تكون مُؤْنَته؟ فروَى ابنُ القاسم عن مالك؛ أنّه يتكَارَى عليها من الفَيْءِ. وقال ابنُ القاسم: لا يتكَارَى عليها منه، ولكن يبيعها في البلد ويبتاع عوضها في بَلدٍ آخر (¬5). توجيه (¬6): فوجه قول مالكٌ: أنّ الفَيءَ لنوائب المسلمين، فيجبُ أنّ تحمل به هذه الزّكاة ¬
باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها
ولا تباع؛ لأنّ بَيْعَهَا في موضِع الغَنِيِّ عنها يذهب بأكثرها. ووجه قول ابن القاسم: أنّ الزّكاة حقّ للفقراء ولمن سُمِّيَ معهم خاصّة، فلا يجب أنّ يتمّونَ بالفَيْءِ الّذي لا يختصّ بهم، وإنّما ثبتَ لهم من الزَّكاةِ مقدار ما يخلص لهم منها بعد البَيْعِ، وهو أَحْوَط إنّ شاء الله. باب أَخذِ الصَّدقَةِ ومن يجوزُ له أخذُها مالك (¬1)، عن زَيْد بن أسلم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارِ؛ أَنَ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ في سَبِيلِ اللهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِم، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكينُ لِلْغَنِيِّ". الإسناد: قال أبو عمر (¬2): "تابعَ مالكًا على إرسال هذا الحديث سُفيان بن عُيَيْنَةَ وإسماعيل بن أُمَيَّهً (¬3)، ورواهُ معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بنيسار، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - مُسْنَدَا" (¬4)، وكذلك رواه التّرمذيّ (¬5). الفقه في ستّ عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬6): قال علماؤنا (¬7): هذا الحديث مطابقٌ لقوله: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَة لِغَنِيَّ ولا لِذِي ¬
مِرِّةِ سَوِيٍّ" (¬1) لأنّ قوله هذا مجملٌ ليس على عمومه (¬2)، بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين في حديث هذا الباب، وهذا أيضًا مُطَابقٌ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (¬3). فاؤل ما نبدأ به شرح الأحاديث الواردة في هذا الباب، ثم تُفَسِّر (¬4) الآية. المسألة الثّانية (¬5): قوله: "لا تَحِلُّ الصَدَقَةُ" يريدُ صدَقَة الأموال الواجبة على المسلمين، فإنّها لا تحل لغَنِيِّ غير الخمسة المذكورين، فهي الصَّدَقَة"الواجبةُ لا الصَّدَقَة المبتدأة (¬6) من غير وجوبٍ؛ لأنّ تلك بمنزلة الهديّة تحلّ للغنيِّ وللفقير، وقد رُوِىَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا تحل الصَّدَقةُ لِغَنِيِّ" وذكر الخمسة، ثم ذكر وحرَّمَ الصَّدَقة على كلِّ أحد ما عَدَا الأصناف المذكورة، وكذلك حرَّمَ المسألة على من كان عنده غداء وعشاء في رواية (¬7)، وعلى من كان عنده أُوقية (¬8)، وهو الصّحيح. المسألة الثّالثة: قوله: "إلَّا لِغَازٍ في سَبِيلِ اللهِ " هم أهل الدِّيوان يُفْرَض لهم العطاء وتُصْرَف لهم الصَّدَقَة، وكان ابنُ القاسم يقول: لا يحلّ لِغَنِيِّ أنّ يأخذَ الصَّدَقَةَ يستعينُ بها على الجهاد ويُنْفِقها في سبيل الله، وإنّما يجوز ذلك للغازي الفقير، قال: وكذلك الغَارِم له أنّ يأخذ إذا كان فقيرًا، ولا يجوز له أنّ يأخذ من الصَّدَقة ما يفي به ماله ويؤدِّي منه دَيْنَه وهو عنها غنيّ له مالٌ غائبٌ عنه، لم يحل له أنّ يأخذ من الصَّدقَةِ شيئًا وليستقرض (¬9)، فإذا بلغ بَلَدَهُ أنَّ ى ذلك من مَالِهِ هذا كلِّه، ذَكَرَهُ ابن حبيب عن ابنِ القاسم، وخالفه ابن نافع وغيره في ذلك؛ لأنّه قد روي عنه خلافه، رواه أبو زيد ¬
وغيره عن ابنِ القاسمِ؛ أنّه قال في الزّكاة يُغطَى منها الغَازِي: إنّ (¬1) كان معه في غزاته ما يكفيه من مَالِهِ وهو غنيٌّ في بَلَدِه. ورَوَى ابنُ وَهْب عن مالكٌ؛ أنّه يُعْطَى منها الغُزَاةُ ومن لزم مواضع الرِّبَاطِ فقيرًا كان أو غنيًا. المسألة الرّابعة (¬2): "العامل" فإنّه يأخذ أُجْرَته على تكفّل (¬3) ذلك، واختلف علماؤنا في المقدار الّذي يأخذه العاملون من الصَّدقة؟ فقيل: هو الثمن بقسمة الله لها على ثمانية أقشام، قاله مجاهد والشّعبي. وقيل: يُعْطون على قَدْرِ أعمالهم من الأُجْرَة، قاله ابن عمر ومالك. وقيل: يُعطون من غير الزَّكاة، وهو ما كان من بيت المال، وهذا قولٌ صحيح عن مالكٌ بن أنس، من رواية ابن أبي أُوَيْس وداود بن سعيد (¬4)، وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف". المسألة الخامسة: "الغارم" هو أحد رَجُلَيْن: إمّا رجلٌ له مالٌ مثل مئة دينار وعليه مئة دينار، فهو فقير غارِمٌ يحلّ له أخذ الصَّدَقَة، ولا تُوخَذ منه عندنا. وقيل: تُوخَذ منه ويُغطَى، وهذا ضعيفٌ. وقال ابن الموّاز: لا يُعْطَى. وقال (¬5) في "الأحكام" (¬6): هم الّذين ركِبَتْهُمُ الدُّيون ولا وفاءَ لهم، ولا عندهم ما يؤدُّون به. وقيل: إنّ كان سَفِيهًا وَصَيَّرَهَا في سفاهة فإنّه لا يُعْطَى منها إلَّا أنّ يتوب؛ لأنّه ¬
إنْ أخَذَها قبل التوبةِ عاد إلى سَفَاهةِ مثلها وأكثر منها. والدُّيُونُ وأصنافها كثيرة، وتفاصيلها في "كتب الفقه". المسألة السّادسة (¬1): قوله: "أَوْ رَجُلٌ اشتَرَاهَا بِمَالِهِ" أو الّذي أهدى له المتصدّق عليه، فذلك مجازٌ؛ لأنّها ليست بصَدَقَةِ بعد الشراء والهديَّةِ، وإنّما هي خَالِص مِلْكٍ، وقد بَيَّنَ النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا" (¬2). وقد قال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ (¬3): "أجمّع العلّماءُ على (¬4) أنّ الصَّدَقةَ تحلُّ لمن عمل عليها وإن كانا غَنِيًّا، وكذلك المشتري لها بمَالِهِ، والّذي أُهْدِيَ له (¬5) وإن كان غنيَّا؛ لأنّ الخمسة تحل لهم الصَّدَقَة". ولذلك قال علماؤنا: لا يحلّ استعمال من لا تحلّ له الصَّدَقَة من هاشميّ أو ذِمِّيِّ، ويجوز أنّ يُسْتَأْجَرَ على حراستها وسوقها لَمَّا كانت تلك أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ. المسألة السّابعة (¬6): في تفسير الآية المطابقة لنصِّ الحديث، قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية (¬7) قال الإمام: هذه الآية من أمّهات الآيات؛ لأنّ الله تعالى بحِكْمَتِهِ البالغة وأحكامه الماضية العالية، خصَّ بعضَ الناسِ بالأموالِ دونَ البعضِ، نِعْمةً منه عليهم، وجعل شُكرَ ذلك منهم إخراجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَه إلى من لا مالَ له، نيابةً عنه سبحانه فيما ضَمِنَهُ بفَضْلِهِ (¬8) لهم في (¬9) قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية (¬10)، وَقَدَّرَ الأصناف (¬11) على حسب أجناس الأموال، فجعل في النّقدين رُبع ¬
العشر، وجعلَ في النّبَاتِ العُشر، ومع التكاثر المؤنة (¬1) والتّعب نصف العُشر، ويترتّب على ذلك القول في حقيقة الصَّدقَةِ على قولين: أحدهما: أنَّه جزءٌ من المال مُقَدَّرُ مُعَيَّنٌ، وبه قال مالكٌ والشّافعيّ وأحمد. وقال (¬2) أبو حنيفة: إنّها جزءٌ من المال مُقَدَّرٌ (¬3)، فجوَّزَ إخراجَ القيمةِ في الزَّكاةِ، إذْ زَعمَ أنَّ التكليفَ والابتلاءَ إنّما هو في نَقْصِ الأموالِ، وذَهِلَ عن التّوفية (¬4) بحقِّ التَّكليفِ في تعيين (¬5) النّاقص، وأنّ ذلك يُوَازِي التَّكليف في قَدْر النّاقصِ، فإنَّ المالكَ يريد أنّ يَبْقَى ملكه بحَالِهِ ويُخْرِجُ من غَيْرِهِ عنه (¬6)، فإذا مالت نَفْسُهُ إلى ذلك، وعلقت به *كان التكليفُ قطع تلك العلّاقة الّتي هي بين القلب وبين ذلك الجزء من المال فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه* (¬7). ثمَّ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (¬8)، عندنا أنّ هذه اللام من قوله "للفقراء" لام المحلِّ (¬9)، وعند الشّافعيّ على أنّها لام الملك. فإن قال الشّافعيّ: شخصٌ يصحّ منه الملك، فأضيف إليه بلام الملك، فَصَحَّ (¬10) منه الملك، كما لو قال: هذه الدّار لفلان. قلنا: إنّما كان يصحُّ هذا لو كان هذا الملك غير مشغول بحَقِّ، كما أنّ الدَّار لو كانت لزيد فوهبها عمرو لرجل، لما صحّت منه الهِبَة؛ لأنّه وهبَ ما ليس له وليست ملكه، ألَّا ترى لو قال الله تعالى: أرموا هذه الزَّكاة في البحر، لكنا نمتثلُ قوله تعالى. ¬
الصنف الأول
الصِّنْفُ الأوّل (¬1) قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (¬2)، فَأَتى بلَفْظ الحَصْر. فأمّا الفقراء، فاختلف العلّماء في ذلك على أقوال: القول الأوّل - قيل: الفقيرُ السّائلُ الّذي يسأل النّاس، وبه قال مالكٌ في "كتاب ابن سحنون"، وقاله ابن عبّاس والزّهري، واختاره ابن شعبان. القول الثّاني - قيل: الفقير هو المحتاجُ الزَّمِنُ، والمسكينُ هو المحتاجُ الصّحيح، قاله قتادة. وقيل: الفقيرُ المسلمُ، والمسكينُ أهل الكتاب. وقيل: الفقيرُ الّذي لا شيءَ له، والمسكينُ الّذي له الشىء اليسير، لقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} الآية (¬3). وقيل: إنّه شيءٌ واحدٌ الفقير والمسكين. وقيل: الفقراءُ المهاجرون، والمساكين الأعراب. وقال (¬4) الشّافعيُّ: الفقراءُ أسوءُ حالًا من المساكين، وبقولنا (¬5) قال جماعة من أهل اللُّغة. ومن جهة المعنى: أنَّ المسكينَ مأخوذٌ من السُّكون، والفقيرَ مأخوذٌ من كَسْرِ الفِقَارِ، والّذي يسكنُ ولا يتحرَّك أشدَّ ضعفًا من المكسور الفِقَار؛ لأنَّ ذلك يتحرّك. وقال الأخْفَش: الفقيرُ مشتَّقٌ من قولهم: فقرت لهم فقرة من مالى، أي: أعطيتهم، فالفقيرُ على هذا هو الّذي له قطعة من مالٍ. ¬
مسألة (¬1): فإذا ثبت هذا، فإنَّ الفقيرَ الّذي يأخذ الصَّدَقَة، عند مالك (¬2) من له أربعون دينارًا أو دارًا (¬3)، إذا كان كثير العيال، وذلك يقتضي أنَّ المُرَاعَى في ذلك قَدْر حاجته في نفسه وعياله دون النِّصاب (¬4). وروى المُغِيرَة عن مالك؛ أنّه قال: إذا كان يفضل له من ثَمَنِ داره عشرون دينارًا لم يُغطَ من الزَّكاة، وهذا يدلُّ على مراعات النِّصاب (¬5)، وبه قال أبو حنيفة. مسألة (¬6): وليس من صفاته الضّعف عن التَّكَسُبِ (¬7) والعمل، رواه المغيرة عن مالك. وقال الشّافعيّ: لا يُعْطَى القوقي على التَّكَسُّبِ وإن لم يكن له مال. ودليلُنا: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (¬8)، وهذا عامٌ، فيحملُ على عمومه إلّا ما خّصَّهُ الدّليلُ. مسألة (¬9): قال علماؤنا (¬10): ومن صفته إلَّا يكون من آلِ محمَّدٍ - صلّى الله عليه وسلم -، وبهذا قال أبو حنيفة (¬11) والشّافعيّ. ¬
وذكر ابنُ القصّار؛ أنّ مِنْ أصحابنا من قال: تحلُّ لهم الصّدقة الواجبة ولا يحل لهم التَّطَوُّع؛ لأنّ المِنَّةً قد تَقَعُ فيها. ومنهم من قال: لا يحلّ لهم التَطوُّعُ دون الفَرْضِ، وكان الأبْهَرِيُّ يقول: قد حلَّت لهم الصَّدقات كلّها فَرْضُها ونقلها. وقال ابن حبيب في "شرح المؤطأ" (¬1) له: إنّ الزكوات الواجبة وصدقة التطوع محرمة عليهم، وحكَى ذلك عن مُطَرِّف وابن الماجِشُون وأَصْبَغ، وهو الصَّحيح من القَوْلِ، لقول - صلّى الله عليه وسلم - للحَسَن وقد جعل تَمْرَة في فيه من الصَّدَقة: "أَمَا عَلِمْتَ أنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لا يَأكُلُونَ الصَّدَقَةَ" (¬2) وما ذَكَرَهُ ابن القَصّار أنّ التطَوُّع يجوز لهم دون الفَرْضِ هو رواية أَصْبَغ عن ابن القاسم في "العُتْبِيّةَ" (¬3). مسألة (¬4): ومَنْ ذَوُو القُرْبَى؟ هم الذين لا تحلّ لهم الصَّدَقَة، وقال ابنُ القاسم: هم بنو هاشم خاصة، وبه قال أبو حنيفة إلَّا أنّه استَثْنَى بني أبي (¬5) لهب. وقال أصْبَغُ: عَشِيرَتُه الأقْرَبُون الّذينَ نادى بهم حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬6) وهم: آل عبد المطّلب (¬7)، وآل عبد مَنَاف الأشراف، وآل قصي، وآل غالب. وقال الشّافعيّ: هم بنو هاشم وبنو عبد المطَّلِب. وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنّ (¬8) الآل إذا وقع على الأقارب فإنّما يتناول الأدنين. ¬
الصنف الثاني
الصِّنْفُ الثّاني (¬1) قوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (¬2) قيل: هم السُّعاةُ في طَلَبِها وتحصيلها، ويُوَكَّلْون على جَمْعِهَا. قال الإمام: وهذا يدلُّ على مسألةٍ بديعةِ، وهي أنَّ ما كان من فُروضِ الكِفَايَاتِ، فالقائمُ به يجوزُ له أخذ الأُجْرَةِ عليه، ومِنْ ذلك الإمامة؛ فإنَّ الصَّلاةَ وإن كانت متوَجِّهَة على جميع الخَلْقِ، فإن تقدُّدَّ بعضهم بهم من فُروضِ الكفاية، فلا جرم بجواز أَخْذِ الأُجرة عليها، وإليه الإشارة في الحديث الصّحيح: "ما تركتُ بعد نفقة عِيَالِي ومَؤُونَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ" (¬3). الصِّنف الثّالث (¬4) قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} قال علماؤنا: ليس على وجه الأرض منهم اليوم أحدٌ، قاله جماعة، وأخذ به مالك. ومنهم من قال: هم باقون؛ لأنّ الإمام ربّما احتاجَ إلى من يتألَّف (¬5) على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدِّين. والّذي عندي أنّه إنْ قَوِيَ الإِسلامُ زالوا (¬6)، وإن احْتِيجَ إليهم أُعْطُوا سَهْمهم كما كان يُعْطِيه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه قد رُوِيَ في الصّحيح أنّه قال: "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأَ" (¬7). فإذا قلنا بزوالهم، فإنّ سَهْمَهُم يعودُ إلى سائر الأصناف الثّمانية مَحَلًّا لا ¬
الصنف الرابع
مستحقّون (¬1)، إذ لو كانوا يستحقون (¬2) لسقط سَهْمُهُم بسقوطه عن (¬3) أرباب الأموال ولم يرجع إلى غيرهم. وقيل: إنّه يرجع إلى عُمّار المساجد (¬4). الصِّنفُ الرّابع (¬5) قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬6) قيل: هم المكاتَبُونَ، قاله عليّ، والشّافعي، وأبو حنيفة (¬7)، وجماعة. وقيل: إنّه العِتقُ، وذلك بأن يَبْتَاعَ الإمامُ رقيقًا فَيَعْتَقُهم، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين، قاله ابن عمر. وعن مالكٌ في ذلك أربع روايات: 1 - قيل: لايُعين (¬8) مكاتَبًا. 2 - وقال في إحدى رواياته (¬9): ما بلغني عن أبي بكرٍ ولا عمر ولا عثمان أنّهم فعلوا ذلك. 3 - ورَوَى عنه مُطَرِّف؛ أنّه يُعطَى المكاتَبُونَ. مسألة (¬10): وقد اختلفَ العلّماءُ في فكِّ الأسيرِ منها؟ فقال أَصْبَغُ: لا يجوز ذلك. ¬
وقال ابن حبيب (¬1): يجوز ذلك. وإذا كان فكُّ المسلم عن رِقِّ* المسلم عبادة وجائزًا من الصَّدَقة، فأَوْلى وأَحْرَى أنّ يكون ذلك في فكِّ المسلم عن رقِّ* (¬2) الكافر وذُلِّه. إذا قلنا: يُعَانُ منها المكاتَب، فهل نعتق منها بعضَ رقبة أو نصف عَبْدٍ أو عُشرَهُ؟ فإن فيه تفريعًا كثيرًا يطولُ ذِكْرُهُ، وقد بيَّنَّاهُ في موضعه، والأصناف الباقية ذكرها قد تقدَّمَ بيانُهَا في صَدْرِ البَابِ، فلا معنَى للتَطْوِيلِ. مسألة (¬3): واختلفَ العلّماءُ بافي صِنْفٍ يبدأ؟ فأمّا العاملون، فإن قلنا: إنّ أُجْرَتَهم من بيت المال، فلا كَلاَمَ، وإن قلنا: إنّ أجرتهم من الزَّكاة، فبهم نبدأُ فنعطيهم الثُّمُنَ (¬4)، فإن أخذَ العاملُ حَقَّهُ فلا يبقى صنف يترجَّحُ فيه إلّا صنفين وهما: سبيل الله، والفقراء، أو ثلاثة أصناف إنّ قلنا: إنّ الفقير المسكين صِنْفَان، فلا كلامَ، فإنَّ ابنَ السَّبيلِ إذا اجتمع مع الفقير (¬5) فإن الفقير مُقَدَّمٌ عليه. فرع (¬6): قال علماؤنا: هل للرَّجُل أنّ يعطي الزَّكاة للزَّوجة؟ قال القاضي أبو الحسن (¬7): إنّ ذلك (¬8) محمولٌ على الكراهية، وذَكَرَ عن ابن حبيب أنَّه قال: إنّ كان يستعينُ بالنّفقة عليها بما يُعطيها (¬9) فلا يجوز، وإن كان معه ما ينفق عليها ويصرف ما يأخذ منه (¬10) في نَفَقَتِهِ وكُسْوَتِهِ، فذلك جائزٌ إذا كانت الزَّوجة المعطية للزَّوج. ¬
باب ما جاء في أخذ الصدقة والتشديد فيه
وقال أبو حنيفة (¬1): لا يجوز بحال (¬2). قال الإمام: والصّحيحُ جوازُه لحديث زينب امرأة ابن مسعود، وصَدَقَةُ التَّطَوُّع والفَرْضِ هاهنا سواء؛ لأنَّ المنعَ إنّما هو لأجل عَوْدِهِ عليه، وهذه العِلَّةُ لو كانت مراعاةً لاسْتَوَى فيها التَّطَوُّع والفَرْضُ. مسألة (¬3): واختلفَ العلّماءُ هل يُعْطَى من الزكاةِ نصابًا أم لا؟ على قولين: فقال بعض المتأخرين: إنّ كان في البلد زكاتان نَقْدٌ (¬4) وحَرْثٌ، أخذ ما يبلِّغه إلى الأخرى. والّذي أراهُ أنّ يُعْطَى نِصَابًا، وإن كان في بلد زكاتان نقدٌ (¬5) وحَرْثٌ وأكثر (¬6)، وقد بيَّنَّا ذلك في موضعه إنّ شاء الله. باب ما جاءَ في أخْذِ الصَّدقة والتَّشْدِيد فيه مالك (¬7)، أنَّه بلغه أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ قال: لَوْ منعوني عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ بلاغٌ، وهو يتَّصِلُ من حديثِ أبي هريرة (¬8). ¬
باب زكاة ما يخرص من ثمرات النخيل
العربية: قوله: "الصَّدَقة" اشتقت الصَّدقة من الصَّدق في موازنة الفعل للقَوْل والاعْتِقَادِ. الفقه في مسألتين (¬1): المسألة الأولى (¬2): لا خلافَ بن علمائنا أنّ للإمام المطالبة بالزَّكاة، وأنَّ من (¬3) أقَرَّ بوجوبها عليه، وقامت (¬4) عليه بها بَيِّنَة، كان للإمام أخذها منه، وعلى هذا يجب على منِ امْتَنَعَ من أدائها ونصب الحربَ دونَها إنّ يقاتِل مع الإمامِ، فإنْ أَبَى إلَّا أنّ يقاتَل عن نفسه (¬5) فَدَمُهُ هَدَرٌ وتُوخَذُ من مَالِه (¬6)، وهو صريحُ مذهب مالك، قال (¬7): "الأمر عندنا فيمن منع فريضةً من فرائضِ اللهِ أنّ يُجَاهَدَ إنّ لم يَقْدَر على أَخْذِها منه" وهذا موافقٌ لِقول لأبي بكر الصِّديق: "لأُقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ بين الزَّكاة والصَّلاةِ" (¬8). باب زكاة ما يُخْرَصُ من ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ مالك (¬9)، عن سليمان بن يَسَار (¬10) وبُسْر بن سَعِيد؛ أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ والبَعْلُ: العُشْرُ، وفيما سُقِيَ بالنَّضْحِ نصفُ العُشْرِ". الإسناد: أرسل مالك في "الموطّأ" هذا الحديث، وأَسْنَدَهُ ابن وهب، عن يونس، عن ¬
الزُّهريّ، عن سالم، عن ابن عمر؛ أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ ... " الحديث (¬1). العربيّة: قوله: "زَكاةُ مَا يُخْرَصُ" الخَرْصُ والخِرْصُ بالفتح والكسر لغتان، وقد يكون بالفَتْح المصدر، وبالكَسْرِ الاسم (¬2). وقوله: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ" السَّقيُ بالفَتحْ المصدر، وبالكَسْر الاسم، وليس للعدد فعل. والسَّماءُ المطر. والعَثَرِيّ (¬3): هو الّذي سَقَتْهُ السَّمَاء. وقيل: هو شبه نَهْرٍ يُحْفَرُ في الأرض يُسْقَى به البَعْلُ من النَّخْل. الفقه في اثنتى عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬4): قال الله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} الآية (¬5)، وقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} (¬6) والآية عامَّةٌ، قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} الآية (¬7). واختلفَ العلّماءُ في وجوب الزَّكاةِ في جميع ما تضمّنته أو بعضه على تفصيل طويل لبابه: أنَّ الزَّكاةَ انّما تتعلَّقُ بالمُقْتَاتِ كما قدَّمنَا دون الخضر، وقد كان بالطّائف الرُّمَان والفِرْسِك (¬8) والأُتْرُجّ، فما اعترضه رسول الله ولا ذَكَرَهُ، ولا أحدٌ من الخلفاء. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قال علماؤنا (¬2): البعْلُ: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سَقْيِ (¬3) سماءٍ ولا غيرها. فإذا سَقَتةُ السّماء فهو عِذْيٌ. وما سقته العيون والأنّهار فهو سيْحٌ وغَيْلٌ. يقال (¬4) هو يشربُ غَيْلًا ويشرب سَيْحًا، وإنّما سُمَّيَ سَيْحًا لأنّه يَسِيحُ في الأرضِ أي يجري عليها. قال والعِذْيُ العَثَرِيُّ. قال عبد الملك (¬5): "هو يتصرَّفُ على ثلاثة أَوْجُهٍ: بَعْلٌ وعِذْيٌ وسقْيٌ، وكذلك صرّفه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث على ثلاثة أوجه: قال: "فيما سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ والبَعْلُ العُشْرُ" (¬6) وقال الأصمعيّ (¬7): البَعْلُ ما شربَ بعروقه من ثَرَى الأرض. وأمّا النّضح فهو ما سُقِيَ بالسَّوَانِي وبالذّرانيق (¬8) وبالدَّلْو بِالْيَدِ". وقال يحيى بن آدم: البَعْلُ ما كان من الكروم والنّخيل تذهب عروقه في الأرض إلى الماء ولا يحتاج إلى سَقْيٍ. المسألة الثّالثة: قوله: "فيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ: العُشْرُ" فوجبَ العُشر فيما سَقَتْهُ السَّماء قليلًا كان أو كثيرًا من مَكِيلٍ أو غير مَكِيلٍ. وقالت طائفة: هذا الحديث يُوجِبُ العُشر في كلِّ ما زَرَعَهُ الآدميُّونَ من الحبوب والبُقُول، وكلما أشبه أشجارهم من الثّمرات كلّها قليلها وكثيرها يوجب منه العشر، ونصف العشر عند حَصَادِه وقطافه، كما قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬9) ¬
وذلك العُشر ونصف العُشر. المسألة الرّابعة (¬1): اتفق المذهب (¬2) على أنّ الكُروم والتَّخيل تُخْرَصُ عند مالك (¬3)، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: لا يخرصُ شيءٌ من ذلك (¬4). ودليلنا الأحاديث الواردة في ذلك وهي أربعة: الحديث الأوّل: روى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ، قال: غَزَوْنَا مع رسولِ الله نحو - صلّى الله عليه وسلم - غزوةَ تَبُوكَ، فلمَّا جاءَ وادِي القُرَى، إذًا امْرأَةٌ في حَدِيقَةٍ لها، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لأصحابه: "اخْرُصُوا" وخَرَصَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فقال لها: "أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"، فلما رَجعَ إلى وادي القُرَى قالَ للمَرْأَةِ: "كم جاءت (¬5) حَدِيقَتُكِ؟ " قالت: عَشَرَةَ أَؤسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه (¬6). الحديث الثّاني: ما خرّج التّرمذيّ (¬7)، عن عبد الرّحمن بن مسعود بن نِيَارِ (¬8)، قال: جاء سَهْلُ بن أبي حَثْمَةَ إلى مجلسنا، فَحَدَّثَ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا، دَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُلُثَ، فَدَعُوا الرُّبُعَ". الحديث الثّالث: سعيد بن المسيَّب، عن عتَّاب بْنِ أِسيدٍ؛ أنَّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يَبْعَثُ على النَّاسِ من يَخْرُصُ لهم (¬9) كُرُومَهُمْ وثمَارَهُمْ (¬10). الحديث الرّابع: وبهذا الإسناد؛ أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه قال الّذي زكاةِ الكُرُومِ: "إنَّما تُخْرَصُ كمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ" (¬11). ¬
قال الإمام القاضي ابن العربي في "العارضة" (¬1): إنّه لم يثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - في الخَرْص غير الحديث المتقدِّم، وهو صحيحٌ متَّفَقٌ عليه، وغير ذلك لم يصحّ سَنَدًا ولا نَقْلًا. المسألة الخامسة: قال علماؤنا: ومن الواجبِ أنّ يَخْرُص الإمامُ ثمّ يخلِّي بينها وبين أربابها ينتفعون بها ويتصرَّفُون فيها، ويدَّخرون من الأموال -أعني الزَّكاة- بما يُقَدَّر عليهم في الخِرْصِ. قال علماؤنا (¬2): وصفَةُ الخَرْصِ أنّ يخرصَ الحائط نخلة نخلة، فإذا كمل خِرْصها أضاف بعضها إلى بعض، ورَوَى ذلك ابن نافع عن مالك (¬3). المسألة السّادسة (¬4): وهل يخفِّف في الخَرْصِ على أرباب الأموال أم لا؟ فالمشهور من مذهب مالك؛ أنّه لا يلغى لهم شيئًا. وقال ابنُ حبيب: يخفّف عنهم ويوسّع عليهم. وقال ابن أبي زيد: هذا خلاف مذهب مالك. وحَكَى عبد الوهّاب (¬5) الرِّوَايَتَيْنِ عن مالك. توجيه (¬6): فوجه القول الأوّل: أنّ هذا تقديرٌ للمال المزكَّى فلم يشرع فيه تخفيفٌ، كَعَدِّ الماشية والدَّنانير والدَّراهم. ¬
ووجه القول الثّاني: الحديثُ الثّاني، عن سهل بن أبي حَتْمَة، قال: أمرنا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا دَعُوا الثُّلُثَ". قال. الإمام (¬1) - ومن جهة المعنى: أنّ التَّخفيفَ في الأموال مشروعٌ؛ لأنّ صاحبَ الحائط يكون له الجار المسكين، فلابُدَّ أنّ يُطعمه ويهدي إليه، ولا يكاد يسلم حائط من أَكْلِ طائرٍ وأَخذِ إنسانٍ، فأَمَرَ بالتَّخفيفِ لهذا المعنى، واللهُ أعلمُ. المسألة السابعة (¬2): قال علماؤنا (¬3): ويجوز أنّ يرسل إلى الخَرْصِ الخَارِصُ الواحدُ، خلافًا لأحد قولَي الشّافعيّ. والأصلُ في ذلك: حديث عائشة؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النَّخلَ ... الحديث (¬4). ومن جهة المعنى: أنّ الخارِصَ حاكمٌ لجِنْسِ العَيْن المحكومِ فيها، فجازَ أنّ يكون واحدًا. المسألة الثامنة (¬5): قال علماؤنا (¬6): وعلى ربِّ الزَّيتون والحُبُوب أنّ يحتسبَ في ذلك بما استأجر به منه عليه، وبما عَلَفَ وأكل فَرِيكًا (¬7)؛ لأنَّ الزَّكاةَ قد تعلّقت يوم (¬8) بُدُوَّ صلاحه، ووجب عليه تخليصها بمَالِهِ، فما استأجر به على تخليصها منه فهو في حِصَّتِهِ. المسألة التّاسعة (¬9): هل يجوز أنّ يخرج عن الحبِّ والتَّمْرِ عَيْنًا؟ قال ابنُ القاسم وأشهب في "الموّازية": أرجو أنّ يُجْزِئه ذلك ولا يجزئه في ¬
فِطرةٍ ولا كَفَّارَة يَمينٍ (¬1). وقال عيسى عن ابن القاسم (¬2): يُجْزىء ذلك في زكاة الحَبِّ والماشية إذا كان الإمام يضعها موضعها، لم يجز (¬3) أخذ ذلك تطوعًا أو كرهًا،* قال أَصْبَغ: وإن كان الإمام غير عَدْلٍ لا يضعها مواضعها لم يجزه أخذ ذلك طوعًا أو كرهًا. قال أَصْبَغ: والناس على خلاف يجزئ ما أخذ كرهًا* (¬4)، وبه كان يفتي ابن وهب (¬5) وغيره. المسألة العاشرة (¬6): قوله (¬7): "فَإنْ أَصَابَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ" الجوائح على ثلاثة أضرب: أحدها: قبلَ الخَرْصِ. الثّاني: بين (¬8) الخَرْص والجَدَادِ. والثّالث: بعد الجَدَادِ. فأمّا ما كان قبل الخَرْصِ، فلا اعتبارَ فيه (¬9)؛ لأنَّ الخِرْصَ لم يتناوله. وأمّا ما كان بين الخَرْصِ والجَدَادِ، فإنَّه يبطل حُكم الخَرْص وتسقط الزَّكاة بعد تقديرها بالخَرْصِ؛ لأنّ الزَّكاة إنّما تجب بالخَرْصِ بشَرْطِ وصولِ الثَّمَرَةِ إلى ربِّها، فإذا أصابتِ الثَّمرة جائحة قصرت (¬10) عن النِّصاب سقطت الزّكاة؛ لأنّه لم يصل إلى صاحبها منها شيءٌ ولا نصاب (¬11)، فكان بمنزلة أنّ يخرج الحائط ذلك المقدار. ¬
المسألة الحادية عشرة: إذا خرصَ فزاد أو نقصَ؟ قال الإمام: وعبدُ الوهَّابِ (¬1) وغيرُه لا يعتبر زيادته ولا نقصانه؛ لأنَّ الخَرْصَ معيارٌ شَرْعِيٌ. ويتركّب على هذا أنّه (¬2) لو نقص الثَّمَرُ عن (¬3) الخَرْصِ من غير جائحة، فالّذي رَوَى ابن القاسم (¬4) وابن زياد عن مالك؛ أنّه ليس عليه إلَّا ما خرص عليه، ولا شيءَ عليه في الزِّيادة إذا كان الّذي خَرصه عليه عَالِمًا، ؤإن كان غير عالِمٍ أخرج الزِّيادة (¬5)، وبهذا قال أَشْهَب. وقال ابنُ نافع: من رأيه عليه الزِّيادة وله النَّقْص (¬6). المسألة الثّانية عشرة (¬7): وأمّا ما أصابت الشجرة من الجائحة بعد الجَدَادِ، فإن كان قد ضَمِنَها ربّ الحائط بتَعَدَّيهِ لَزِمَه غرمها، وإنْ كان لم يتعد عليها، فلا ضَمَانَ عليه، ووجه التّعدِّي فيها (¬8): أنّ يدخل الثَّمَر بيته (¬9). خاتمة (¬10): اتَّفقَ أبو حنيفة وأصحابه على أنّ الخَرْصَ بِدْعَةٌ (¬11)، واعْجَب لمساعدة الثّوريّ ¬
باب زكاة الحبوب والزيتون
لهم على ذلك مع عِلْمِهِ ومعرفته وتَبَحْبُحِهِ في الأخبار وتَمَكُّنِهِ من السُّنَنِ. واحتجوا بذلك (¬1)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نهى عن المُزَابَنَةِ. وقال جماعة العلّماء بالخِرْصِ في النّخيل والكُرُوم، والزَيْتُون في أحد قولَي الشّافعي. باب زكاة الحُبوب والزَّيتونِ مالك (¬2)؛ أنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الزَّيْتُونِ؟ فَقَالَ: فِيهِ الْعُشْرُ. الإسناد: قال الإمام: لم يتقدَّم الزُّهْرِيَّ أحدٌ في صَدَقَةِ الزَّيتُون من طريقٍ صحيحٍ، وهو حسنٌ؛ لأنّه إِدَامٌ وقُوتٌ مدَّخَر من الأقوات مثل القُطْنِيَّة (¬3) وشبهها. قال مالك: وقد جعل عمر بن الخطّاب الزّيت قوتًا من الأقوات، فكأن يأخذ منه ومن الحِنْطَةِ نصف العُشْرِ. الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قوله: "وَفِي الزَّيْتُونِ العُشْرُ" هو قولُ جماعة الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة، وهو أحد قولَي الشّافعيّ، وله قول آخر؛ أنَّه لا زكاةَ فيه. ودليلُنا: قولُه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬5) والحقُّ هاهنا الزّكاة؛ ولأنّه (¬6) لا خلافَ أنّه ليس فيه حقٌّ (¬7) واجبٌ غيره، والأمرُ يقتضِي الوُجُوب. ¬
ودليلُنا من جهة السُّنَّة: قوله: "فيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ" وهذا عامٌ، فيحملُ على عُمُومِهِ، إلَّا ما خَصُّهُ الدَّليلُ. ودليلُنا من جهة القياس: أنّ هذا حَبٌّ مُقْتَاتٌ (¬1)، فوجبَ (¬2) فيه الزَّكاة كالسَّمْسِم. المسألة الثّانية (¬3): أمّا حَبُّ السِّمسِم وغيره من الحبوب الّتي تجب فيه الزَّكاة بسبب زَيْتِهَا، فإنْ عصرها فلا خلافَ في المذهب أنّ عليه أنّ يخرجَها من زَيته (¬4) وإن لم يعصرها (¬5)، فقد (¬6) اختلفَ قولُ مالك فيه؟ فمرَّةً قال: عليه العصر، ومرَّةً قال: يخرج من الحب. وجه القول الأوّل (¬7): لأنّه حبّ تجبُ فيه الزَّكاة لزَيْتِهِ، فلم يجز لِرَبِّ المال إلَّا إخراج الزَّيتِ كالزَّيْتُون. ووجه القول الثّاني: وذلك أنّ هذا حَبٌّ يَبْقَى على حاله غالبًا وينتفع به، كذلك في الزِّراعة والبَيعْ، وأمّا الزَّيتون فإنّه لا يتصرّف إلّا في البيع ولا يزرع (¬8)، فكان السِّمْسِم أَشْبَه الحب بالحِنْطَة (¬9) والشّعير. المسألة الثّالثة (¬10): والحبوبُ الّتي جرت عادة النّاس باقْتِيَاتِها على أيّ وجهٍ كانَ فيها الزَّكاة؛ لأنّها قُوتُ في أَنْفُسِها كالحِنْطَةِ والشَّعِيرِ، وذكر منها في "الموطّأ" (¬11) عشرة أصناف، وفي ¬
"المجموعة" عن ابن وهب عن مالكٌ: الزّكاة في التُّرْمُسِ (¬1)، وزاد في "المختصر" التُّرْمُسُ، والفُولُ، والحِمَّصُ، والبَسِيلَةُ، وزاد في "العُتْبيَّهّ" (¬2) أشهب عن مالك: "الكِرْسنَّة" (¬3). وذكر ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك: "الاشقالية" وهي: العَلَسُ (¬4)، فَزادوا (¬5) على ما في "الموطّأ" ستة أصناف، وهي داخلةٌ تحت قوله (¬6): "وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ". وهذه الحُبوبُ كلّها منها ما يُدَّخَر ويعتادُ النَّاس اقتياته، ومنها ما لم (¬7) يعتادوا ذلك فيه، وهي الكِرْسِنَّة فإنّه لم يعتد النّاس أكلها فيما علمنا، ولعلّه أنّ يذهب ما فيها من المرارة بالعصارة كالتُّرْمُسِ. المسألة الرّابعة (¬8): قوله (¬9): "ليس في شيءٍ من التّوابل زكاةٌ، ولا الفُسْتُق، ولا القِطْن" قاله عنه (¬10) ابن وهب، وما علمتُ أنّ في حَبَّ القِرْطِمِ وبِزْرِ الكَتَّانِ (¬11) زكاة قيل أنّ يُعْصَرَ منها زَيْتٌ كثيرٌ، قال: ففيه الزّكاة إذا كَثُرَ هكذا، قال أَصْبَغ في بِزْرِ الكَتَّانِ، هو أعمّ نفعًا من زَيتِ القِرْطِمِ. ¬
وقال ابنُ القاسِم: لا زكاةَ في زَيتِ الكَتَّانِ ولا بذْرِهِ، إذ ليس يعيش (¬1)، وقالَهُ المُغِيرَة وسحْنُون. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3) فيمَنْ باعَ زَرْعًا وقد صَلَحَ ويَبِسَ فعليه الزّكاة، معنى ذلك أنَّ الزَّكاةَ تعلّق وُجوُبُها به حينَ صار فيه الحَبّ، فهو حين باعَ الزَّرْعَ باع حَظَّهُ وحظّ المساكين، فعليه أنّ يأتي بِبَدَلِ حظِّ المساكين، وأمّا المشتري فلا زكاةَ عليه (¬4)؛ لأنّه لم يخل أنّ يوجد الطّعام بِيَدِ المبتاعِ أم لا؟ فإنْ وُجِدَ بيده، فقد قال ابن القاسم في "المدونة" (¬5): "يؤخذ من المشتري ويرجع على البائع بقَدْرِ (¬6) ذلك من الثَّمن". وقال أشهب: لا يؤخذ منه شيءٌ ويتبع البائع. ووجه قول مالك: أنَّه ليست له ولاية على المساكين، وإنّما أُجِيزَ له البَيْع لضرورة الشَّرِكَة، فإذا لم يصل إليهم العِوَض تعلَّقت حقوقُهم بعَيْنِ المال حيث وُجِدَ. ووجه قول أشهب: أنّ صاحبَ الحائطِ مُبَاحٌ له البَيْع كَأبِ الصَّبِيِّ يبيعُ مَالَهُ ويأكل ثمنه (¬7)، فلا حقّ للولد فيه وإن وَجَدَهُ بعَيْنهِ. المسألة السّادسة (¬8): إذا باع رَبُّ الزَّرْع زرعه قائمًا في وقتٍ يجوزُ له ذلك، فكيف يعرف مَبْلَغَهُ ليؤدَّي زكاته؟ قال ابنُ الموَّاز عن مالكٌ: يسأل المبتاع ويَأتَمِنه على ذلك، ويزكِّي على قوله، لأنّه أصحّ الطُّرُق الّتي (¬9) يجدها إلى معوفة المقدار؛ لأنّه لا تُهْمَةَ على المبتاع فيه، ¬
باب ما لا زكاة فيه من الثمار
فإن توهّم نفسه بغير ضمان، وكان (¬1) المبتاع غير مسلم، تَوَخَّى تَقْدِيرَ الزَّرْعِ، ولا يأخذ في ذلك بقول غير المسلم. المسألة السّابعة (¬2): قوله (¬3): "وَمَنْ بَاعَ أَصْلَ حَائِطِ ... " إلى آخر الكلام، هو كما ذَكَرَ، قال: لأنّه إذا باعَهُ قبلَ بُدُوِّ صلاحِهِ فإنّ الزَّكاة فيه على المبتاع؛ لأنّ الثَّمرةَ كانت على ملِكِه حين تعلَّقَتِ الزّكاةُ بها، وهو وقت إزهائها (¬4). باب ما لا زكاةَ فيه من الثِّمارِ قال الإمام: هذا البابُ إنّما معناه ضمُّ الحبوب بعضها إلى بعض من القِطْنِيَّة وغيرها، وقد فسَّرَهُ مالك. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "وَكَذَلِكَ الحِنْطَةُ كُلُّهَا" يريد أنّها تجمع في الزَّكاة، فتجمع المحمولَةُ -وهي البيضاء- إلى السَّمراء، فهذا بلغتِ النِّصاب ففيها الزَّكاة، وهذا لا خلاف فيه، وكذلك يجمع إلى الحِنْطَةِ الشَّعِيرُ والسُّلْتُ، لا خلاف بين مالكٌ وأصحابه في ذلك (¬7)، وبه قال الحسن وطاووس والزّهريّ وعِكْرِمَة. ومنع من ذلك الشّافعىّ (¬8) وأبو حنيفة، وقالا: إنّ الشّعير والسُّلْت كلُّ واحدٍ ¬
منهما صِنْفٌ واحد غير الحنطة (¬1) لا تجمع في الزّكاة. قال الإمام (¬2): والأشبه عندي والأظهر في ذلك (¬3)؛ تشابُه الحِنْطَة والسُّلْتِ (¬4)، وإذا سَلِمَ السُّلْتُ لحق بالشّعير (¬5). المسألة الثّانية (¬6): قال علماؤنا (¬7): وما كان من الحبوب مُقْتَاتًا (¬8) غالبًا، فإنّه تجب فيه الزَّكاة، والّذي يقتات الحِنْطَة والشَّعير والسُّلْتِ والأُرْزِ والدُّخْنِ (¬9) والذُّرَّةِ والبَاقِلَّى (¬10) والحِمَّصِ واللُّوبْيَا والعَدَسِ والجُلْبَانِ والتُّرْمُسِ والبَسِيلَةِ والسِّمْسِمِ وحَبِّ الفُجْلِ، وما أشبه ذلك. قال علماؤنا (¬11): وهذه الحبوبُ على ضربين: 1 - ضربٌ منها ما هو صِنْفٌ بنفسه، كالأُرْزِ والدُّخْنِ والذُّرَّةِ (¬12) على المشهور من المذهب. 2 - ومنها ما يضم بعضها إلى بعضٍ كما تضم أنواع التّمر، وكذلك القَطَانيّ كلّها وما جرى مجراها لتَقَارُبِ منافعها. قال القاضي أبو الوليد (¬13): "والأظهر عندي أنّ يكون كلّ صنفٍ منها منفردًا لا يضافُ إلى غيره في الزَّكاةِ والبُيُوعِ، لأنَّا إنْ عَلَّلْنَا الجِنْسَ بانفصال الحُبُوبِ بعضها من (¬14) ¬
باب ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول
بعض، اطَّرَدَ ذلك فيها وانْعَكَسَ وصَحَّ. وإن عَلَّلْنَا باختلاف الصُّوَرِ والمنافعِ صحَّ، واللهُ أعلمُ". المسألة الثّالثة (¬1): قال الإمام: استدلَّ مالك (¬2) في الفَرْقِ بين القِطْنِيَّةِ والحِنْطَةِ؛ بأنّ عمر خَفَّفَ عن النَّبَطِ فيما كان يأخذ منهم من الحِنْطَةِ، لمّا كانت الحاجة إليها آكد من سائر الأقوات. باب ما لا زَكاةَ فيه من الفواكه والقَضْبِ والبُقُولِ قال الإمام: هذا بابٌ لم يصحّ فيه حديثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وإنّما رُوِيَ فيه حديثٌ عن صالح بن موسى، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة؛ قالت: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فيما أَنْبَتَتِ الأرضُ من الخُضَرِ الزَّكَاة" والصّحيح أنَّه إنّما يُرْوَى عنه: "لَيْسَ فيما أَنْبَتَتِ الأرضُ من الخُضَرِ زكاة" (¬3). الفقه في ثلاث مسائل (¬4): المسألة الأولى (¬5): قال مالك (¬6): "السُّنَّةُ التِي لا اخْتِلاَفَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعتُ مِنْ أَهْلِ ¬
الْعِلْمِ؛ أَنَّهُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ صَدَقَةٌ: الرُّمَّانُ والْفِرْسِكَ، والتِّينُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ". قال علماؤنا (¬1): هو كما قال، ولا خلافَ بين أهل العلّم (¬2) فيما ذَكَرَ. وأضاف مالكٌ إلى جملتها التِّين؛ لأنّه لم يكن بِبَلَدِهِ، وإنّما كان يستعمل (¬3) على التَفَكُّهِ (¬4) لا على معنى القُوت. واختلف أهل المذهب في هذا الباب؟ فقال ابن حبيب: الزَّكاةُ واجبةٌ في كلِّ ثمرة شجرةٍ ذات سَاقٍ سواء كانت ممّا يُدَّخَر كالجَوْزِ والفُسْتُقِ، أو لا يُدَّخَر كالرُّمَّانِ والفِرْسِكِ، وبه قال أبو حنيفة. قال الإمام (¬5): وقد رأيت لمالك في ذلك رواية؛ أنّ في الخُضَرِ الزَّكاة. والدَّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا ليس بمقتات مدّخر (¬6) فلم تجب (¬7) فيه الزّكاة كالحشيش. المسألة الثّانية (¬8): وأمّا التّين، فإنّه عندنا بالأَنْدَلُس قوتٌ، ولذلك أَلْحَقَهُ مالك في باب ما لا زكاةَ فيه. ويحتملُ أصله في ذلك القولين: أحدهما: أنّه لا زكاةَ فيه؛ لأنّ الزَّكاةَ إنّما شُرِعَتْ فيما كان يُقْتَاتُ بالمدينة، ولم يكن التِّين يُقْتَاتُ فيها، فلم يتعلّق به حكم الزَّكاة، وإن تعلّق بالزَّبِيبِ والتَّمْرِ لَمَّا كانا مقتاتين بها. والثّاني: أنَّ حكم الزَّكاةِ متعلِّقٌ بالتِّين، قِيَاسًا على الزَّبِيبِ والتَّمْرِ، وإن لم يكن التِّين مقتاتًا بالمدينة. ¬
باب ما جاء في صدقة الرقيق والخيل والعسل
وقال ابنُ نافع وعليّ عن مالك: ألْحَقَ العلّماءُ بالحِنْطَةِ والشَّعير ما أشبه ذلك من الحُبوب، فكان الأُرْزُ بالعِرَاقِ أكثر من البُرِّ، والذُّرَّةُ باليَمَنِ أكثر، فلذلك أَلْحَقُوها. المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "وَلَيْسَ في الْقضْبِ زكَاةٌ وَلاَ في الْبُقُولِ" وهذا قولُ مالكٌ والشّافعيّ وجميع أصحابهما. وقال أبو حنيفة: في جميعها الزّكاة إلّا القَضْب والحَشِيشُ والحَطَبُ. ودليلنا: أنَّ الخُضَرَ كانت بالمدينة في زَمَنِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بحيثُ لا يَخْفَى ذلك عليه، ولم يُنْقَل (¬3) إلينا أنّه أَمَرَ بإخراج شَيْءٍ منها، ولا أنّ أحدًا أخذ منها زكاة، ولو كان ذلك لكان منقولًا كما نُقِلَ إلينا زكاة (¬4) سائر ما أَمَرَ به، فثبتَ أنّه لا زكاةَ فيها (¬5). ودليلنا من جهة القياس: أنّه نبتٌ لا يُقْتَاتُ، فلم تجب فيه الزّكاة كالحَشِيشِ والقَضْبِ. باب ما جاء في صدقة الرّقيق والخيل والعسل مالك (¬6)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكٍ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ على المُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ". الإسناد: تنبيه على وهم في الإسناد: قال الشّيخ أبو عمر (¬7): "هكذا الحديث عن سُلَيمَان بن يَسَار عن عِرَاكِ بْنِ مَالِك ¬
لا خلافَ في ذلك، وفي رواية عُبَيْد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك وَهَمٌ وخَطَأٌ، فلم يَلْتَفِت إليه في الرِّضاع (¬1) ولا غيره لظهور الوَهَمِ فيه، وذلك أنّه قال فيه: "وعن عِرَاكِ بن مالك" فأدخل فيه الواو، وقد صنع مثل ذلك في كتاب الرّضاع (¬2)، فلم يلتفت إليه أحدٌ من أهل الرِّواية. تنبيه (¬3): قوله: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" حديثٌ صحيحٌ من نقل الأيمَّة الحُفَّاظ، وخرّجه مسلم (¬4)، والبخاري (¬5). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬6): أجمع العلّماء على ألَّا زكاةَ على أحدٍ في رَقِيقِهِ إلّا أنّ يكون اشتراه للتِّجارةِ، فإنِ اشتراهُ للقُنْيَةِ فلا زكاةَ عليه. وقال علماؤنا (¬7) في هذا الحديث: إنّه يقتضي نَفْيَ كلِّ صدقةٍ في هذا الجنس، إلّا ما دلّ الدّليل عليه. ولا خلاف أنَّه ليس في الرِّقاب من العبيد صَدَقَةٌ. وذهب مالك (¬8) والشّافعي (¬9) إلى أنّه لا صَدَقَةَ في رِقَاب الخَيْلِ، وقال أبو حنيفة: تُزكَّى إناثها إذا جمعت (¬10). ودليلنا: هذا الحديث، وهو قوله: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ ... " الحديث، وهذا ¬
نَفْيٌ، والنَّفْيُ على الإطلاق يقتضي الاستغراق. ودليلنا من جهة القياس: أنّ هذا حيوانٌ لا تجب في ذُكُورِهِ الزَّكاة إذا انفردت، فلا تجب فيها مع الإناث كالبَغْلِ والحمار (¬1)، عكسه الإبِل والبقر. المسألة الثّانية: في الخيل الحديث الصّحيح، قوله: "عَفَوْتُ لكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ" (¬2). حديث مَالِك (¬3)، عَنْ ابن شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ؛ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لأَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ: خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً، فَأَبَى، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ، فَأَبَى عُمَرُ، ثُمَّ كَلَّمُوهُ أَيْضًا، فَكَتَبَ، فَكتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِن أَحَبُّوا فَخُذْهَا مِنْهُمْ، وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ، وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): في هذا الحديث دليلٌ واضحٌ أنَّه لا زكاةَ في الرَّقَيقِ ولا في الخَيْلِ، ولو كانتِ الزكاةُ واجبةً فيهما ما امتنع عُمَر ولا أبو عبيدة من أَخْذِ ما أوجبَ اللهُ عليهم أخذَهُ لأَهْلِهِ. المسألة الثّانية (¬6): قوله: "وَكَتَبَ إِلَيهِ عُمَرُ: خُذْ مِنْهُمْ إِنْ أَحَبُّوا ذَلِكَ" يريد أنّ هذا تطوُّعٌ منهم، ومن تَطَوَّعَ بشيءٍ أُخِذَ منه سواء كان ممّا تجب فيه الصَّدَقَة أو من غيره. المسألة الثّالثة (¬7): قوله: "وَارْدُدْهَا عَلَيهِمْ" يريد على فقرائهم. ¬
جزية أهل الكتاب
المسألة الرّابعة (¬1): قوله: "وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ" يحتمل أنّ يريد أنّ يُجْرِي لرقيقهم رِزْقًا لكونهم في ثَغْرٍ من ثُغُورِ المسلمين يُسْتَعَانُ بهم في الحرب، وليس لهم سَهْمٌ فيرتفقون بالرِّزْقِ. ويحتمل أنّ يريد بذلك: أنّ هذا مكافأةٌ لهم على تَطَوُّعِهم بالصَّدَقَة من رقيقهم (¬2). المسألة الخامسة (¬3): قوله (¬4): "أَنْ لَا يَأْخُذَ من العَسَلِ وَلاَ مِنَ الخَيْلِ صَدَقَةً" بهذا قال مالك والشّافعي (¬5)؛ لأنّه لا زكاةَ في العَسَلِ. وقال أبو حنيفة: فيه الزَّكاة (¬6). والدليل على ما نقوله: أنّ هذا طعامٌ يخرجُ من حيوانٍ، فلم تجب فيه الزَّكاة كاللَّبَنِ. والجمهور على خلافه، أعني قول أبي حنيفة، وأنّه لا تجوز فيه الزّكاة. جِزْيَةُ أهلِ الكِتَابِ مالكٌ (¬7)، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَخَذَ الْجِزْيَةَ من مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ، وأنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ، وَأَنَّ عُثمَانَ أَخَذَهَا مِنَ الْبَرْبَرِ. الإسناد (¬8): قال الإمام: هذا حديث مُرْسَلٌ من مراسيل ابْنِ شهاب، وهكذا هو الحديث عند ¬
جماعة الرُّوَاةِ، وكذلك رَوَاهُ مَعْمَر، عن ابن شهاب، والحديثُ صحيحٌ مُسْنَدٌ من طُرُقٍ كثيرةٍ (¬1). العربية (¬2): الجِزْيَةُ هي فعلة من جَزَى، كأنّها تجزي عنهم فيما كان واجبًا من القَتْلِ عليهم. الفقه في سبع عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬3): قوله: "أَخَذَ الْجِزيَةَ مِن مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ" على ما رَوَى؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - بعث (¬4) إلى البَحْرَيْنِ يأتي بِجِزْيَتِها. قال علماؤنا (¬5): وأهلُ الكُفْر على ضربين: أهلُ كتاب، كاليهود والنَّصَارى. وضربٌ ثانٍ هم غير أهل كتاب، كالمجوس وعَبَدَةِ الأوثان (¬6)، فلا خلافَ أنّ ليس لهم كتاب عند المتأخِّرين من علمائنا (¬7). وإنّ الفقهاء قد اختلفوا في هذه المسألة (¬8)؟ فقال مالكٌ والشّافعيّ (¬9) وأبو حنيفة في أحد أقواله (¬10)؛ أنّهم ليسو أهل كتاب، وقال في القول الآخر: إنّهم أهل كتاب، وقد رُفِعَ كتابهم، وذكر وَهْب وغيره؛ أنَّه كان لهم نبيٌّ اسْمُهُ "دارسيب" (¬11) فإن ثبت هذا فيدخلون في الجِزْيَةِ مع أهل الكتاب. ¬
والصّحيح أنّه لم يثبت ما نقله وهبٌ، وفائدة الخلاف في هذا الباب إنّما هو في مناكحتهم، وأمّا الجِزيَة فَنَرَى الأخذ منهم، وحكمهم في ذلك كحُكْمِ أهل الكتاب، لقوله: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" (¬1). المسألة الثّانية: قال الإمام: لا شكَّ أنّهم مشركون عندنا، واليهود والنّصارى عند أبي إسحاق الأشعريّ ليسوا بمُشْرِكِينَ، وإن كان قد قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الآية، إلى قوله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2) فسمّاهم مشركين؛ لأنَّ اسمْ الشِّرك واقعٌ في العُرْفِ على غير اليهود والنَّصَارى، وأمّا اليهود والنَّصارى فلا خلافَ أنّهم أهل كتاب. وأمّا غير (¬3) أهل الكتاب كالمَجُوسِ وعَبَدَةِ الأوْثَانِ، فلا خلافَ في جَوازِ إقرارهم على الجِزْيَةِ عَرَبًا كانوا أو عَجَمًا، والأصلُ في ذلك قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬4). المسألة الثّالثة (¬5): وأمّا المجوس، فَيُسَنُّ بهم سُنَّة أهل الكتاب في أخذ الجِزْيَةِ، وبه قال أبو حنيفة، وهذا أحد قولي الشّافعيّ، وله قول آخر* أنّهم أهل كتاب، وفائدة القولين أننا إذا قلنا: إنّهم * (¬6) ليسوا أهل كتاب، فلا تحلّ مناكحتهم وأكل ذبائحهم. وإذا قلنا: إنّهم أهل كتاب، حلّت مناكحتهم وأكل ذبائحهم. وأنكر ذلك أصحاب (¬7) الشّافعيّ وقالوا: إنّ مذهب الشّافعيّ لا يجوز مناكحتهم ولا ذبائحهم بوجهٍ. والدّليلُ على ما نقوله أنّهم ليسوا أهل كتاب: قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (¬8). ¬
ودليلنا من جهة السُّنَّة: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". ودليلنا من جهة القياس: أنّ المجوسَ فِرْقَةٌ لا تجوزُ مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم، عَكْسُه اليهود والنّصارى (¬1). المسألة الرّابعة: عندنا أنّه يجوز إقرار جميع الكُفَّار على الجِزْيَة. وقال الشّافعيّ: لا يقرّ عليها إلَّا أهل الكتاب والمَجُوسِ. وقال أبو حنيفة: يجوز إقرار جميعهم إلّا العرب من عَبَدَةِ الأوثان. والدَّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا أصلُ الكُفْرِ، فجاز إقراره على الجِزْيَةِ، كالكتابي، وهذا لا يصحُّ له. المسألة الخامسة: اختلفَ العلّماءُ على أيِّ وجهٍ تؤخذ منهم الجِزْيَة؟ فقال الشّافعي: تُجْزِيء عنهم فيما لزمهم من كِرَاءِ الأرضِ إذا نزلوا بدار الإسلام، فتعين عليهم الكراء. والصّحيحُ أنّها بَدَلٌ عن القَتْلِ، قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية (¬2). قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي (¬3): سمعتُ أبا الوفاء إمام الحنابلة عليّ بن عقيل في مجلس النّظر يتلوها ويحتجُّ بها، فقال: {قَاتِلُوا} (¬4) وذلك أمرٌ بالعقوبة (¬5)، ثم قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬6) وذلك بيانٌ للذّنب الّذي أَوْجَبَ العقوبة (¬7). وقوله: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬8) تأكيدُ الذَّنْبِ في جانب الاعتقاد (¬9). ثمّ ¬
قال: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬1) زيادة في الذّنب في مخالفة الأعمال (¬2). ثم قال: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} (¬3) إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأَنَفَة عن الاستسلام (¬4)، ثمّ قال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬5) تأكيدٌ للحُجَّةِ؛ لأنّهم كانوا يَجِدُونَهُ مكتوبًا عندهم في "التّوراة" و"الإنجيل"، ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فبيَّنَ الغاية الّتي تمتدّ إليها العقوبة، وعيّن البَدَلَ الّذي ترتفع به (¬6)، وهذا من الكلام البديع. فقبلها النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حتّى من المجوس، على ما رواه عبد الرّحمن بن عوف (¬7)؛ لأنّ قول: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬8) كما بيَّنَّاه لم يكن شَرْطًا، وإنّما كان تأكيدًا للحُجَّةِ، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ" وهذا عمومٌ اتَّفَقَ العلّماءُ على تخصيصه في الجِزْيَةِ خاصَّة دون سائر أحكام التّحريم. وهنا نكتةٌ (¬9): وهي أنَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فرضَ الجِزْيَةَ جملة على الكُفَّار بالبحرين وبدُومَةِ الْجَنْدَلِ (¬10)، وتولَّى الكُفَّارُ أداءَها عن أنفسهم بما يصلُح لهم، فلمّا استوثقَ الأمرُ لعمر، ووقع بين الكفّار التَّظَالُم فيها، وخِيفَ من بعضهم التَّحامُل على البعض، ولم يكن فيها تقديرٌ لا على الأعيانِ مُفَصَّلًا، ولا على الكُلِّ مُجْمَلًا، تولَّى عُمَرُ فرضها مع الصّحابة على الاجتهاد، على الموسر قَدْرُه وعلى المقتر قَدْرُهُ، وجعلَ أعلاها أربعة دنانير، ولو كان معه بيت مال، وفرضَ عليهم مع ذلك ضيافة (¬11) المسلمين ومؤنة لمن يحرس أهل الذِّمَّةِ ويمنعُ من تطرقَ إليهم بالإذاية، على ما تَقَرَّرَ في عهد عُمَر، على ما أَوْرَدْنَاهُ في كُتُبِنَا. ¬
نُكْتَةٌ (¬1): والَّذي يدُلُّ على أنّ الجِزْيَةَ بَدَلٌ عن القَتْلِ لا عَنِ الدّار، أخذ عمر العُشرَ من أهل الذِّمة إذا تصرَّفوا بالتِّجارات عِوَضًا عن تَصَرُّفِهِم بَيْنَنَا وانتفاعهم بأموالنا، وإنّما قصدَ عمر إلى العُشر؛ لأنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - جعلَهُ غاية الزَّكاةِ، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" فجعلَه غاية الكِرَاءِ في الاقتداء. المسألة السّادسة: قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية (¬2)، فجعلَ القَتْلَ عقوبة على الكُفْر وجَبْرًا على الإسلام. وقوله (¬3): "ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا" هذا (¬4) يقتضي أنَّه قَدَّرها بهذا المقدار، وذلك (¬5) لما رأى من الاجتهاد والنَّظَر للمسلمين واحتمال أحوال أهل (¬6) الجِزْيَةِ. واختلفَ النّاس في مقدار الجِزْيَة؟ فالّذي ذهب إليه مالك؛ أنّ قَدْرَها على أهل الذّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِقِ أربعون دِرْهَمًا، لا يُزَادُ على ذلك. فإن كان منهم من يضعف عن أدائها (¬7) خُفِّفَ عنه بقَدْرِ ما يراه الإمام، هذا هو المذهب. وقال ابنُ القاسم: لا ينقص من فَرْضِ عُمر ولا يُزَادُ عليه لِمُعْسِرٍ ولا لِغَنِيٍّ. وقال ابنُ القصّار: أقلُّها دينار وعشرة دراهم (¬8). وقال الشّافعيّ: أقلُّها دينار، ولا يتقدَّر أكثرها؛ لأنّه إذا بَذَلَ الأغنياء دينارًا لم ¬
يجز قتالهم، وهذا تصريحٌ بأن أكثر الجِزْيَةِ دينار. وقال أبو حنيفة: الجِزْيَةُ على ثلاثة أقسام (¬1): أقلُّها على الفقراء اثنا عشر درهمًا ودينار. والثّاني: على أوسط النّاسِ أربعة وعشرون دِرْهَمًا ودينَارَانِ. والثّالث: على أغنيائهم ثمانية وأربعون دِرْهَمًا وأربعة دنانير. والدّليل على ما نقوله: أنّ هذا فعلُ عمر وحُكْمُهُ بحَضْرَةِ المهاجرينَ والأنصار، ولم يخالِفه في ذلك أحدٌ فثبتَ أنّه إجماعٌ (¬2). قال الإمام: والّذي عندي؛ أنّ أقلَّها ما فرض على أهل العُنْوَةِ. واختلف إذا ضعف عن حملها؟ فقيل: إنّها تُوضَع عنه، وهو الظّاهر من المذهب غير (¬3) مذهب ابن القاسم. وقيل: يحمل بقَدْرِ احتماله. قال القاضي أبو الحسن: ولا حدَّ لذلك. وقيل: إنَّ حدَّ الجِزْيَة دينار. وقد بيَّنَّا أَن الجِزْيَةَ تُقْبَل من جميعِ الأُمَمِ، واختلفَ النَّاسُ في قَبُولها من مُشْركي العرب على القولين: قيل: إنّها تقبل. وقيل: لا تقبل. المسألة السابعة: فإذا ثبتَ هذا، فهي على ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ تكون مُجْمَلَةٌ عليهم. والثّاني: أنّ تكون مُفرَّقَةٌ عليهم دون الأرض. والثّالث: أنّ تكون مُفَرَّقَةٌ (¬4) على رقابهم وأرضهم، أو على أرضهم دون ¬
رقابهم، مثل أنّ يكون على كلِّ رأسٍ كذا، وعلى كلِّ زيتونةٍ كذا. وأمّا إذا كانت الجِزْيَةُ مُجْمَلَة عليهم، فذهبَ ابنُ حبيب إلى أنَّ الأرضَ موقوفةٌ عليهم للجِزْيَةِ، لا تبُاعُ ولا تُوهَب (¬1) ولا تقسم، ولا تكون لهم إلَّا إنْ أَسْلَمُوا عليها، وأنَّ مَنْ ماتَ منهم فتكون لِوَرَثَتِهِ من أهل دِينِهِ، إلّا أنّ لا يكون له وَرثَة من أهل دِينِهِ فتكون للمسلمين. وذهب ابنُ القاسم إلى أنّ أرضَهُم بمنزلةِ مَالِهِم، يَبِيعُونها ويُورثونَها ويقسمونها، وتكون لهم إنْ أسلموا عليها. وأمّا إذا كانَتِ الجِزْيَةُ مُفَرَّقَة (¬2) على رقابهم، فلا خلافَ أنّ لهم أرضهم يبيعونها ويورثونها (¬3)، وتكون لهم إنْ أسلموا عليها، ومن مات منهم فذلك لِوَرثَتِهِ، ولا تجوز وصيَّةٌ إلَّا في ثُلُثِ مَالِهِ. وأمّا إذا كانتِ الجِزْيَةُ مفرَّقَةٌ على الجماجم والأرض، أو على الأرض دون الجماجم، فاختلفوا في جواز بَيْعِ الأرض على ثلاثة أقوال: وهي المسألة الثامنة: فالقول الأوّل: أنّ البَيْعَ جائزٌ، ويكون الخَرَاجُ على البائع، وهو مذهب ابن القاسم في "المدوّنة" (¬4) وغيرها. والقولُ الثّاني: أنَّ البيعَ لا يجوز، وهي رواية ابن نافع عن مالك في كتابه التجارة إلى أرض الحرب من "المدوّنة". والقولُ الثّالث: أنّ البيعَ جائزٌ، ويكون الخَرَاج على المبتاعِ ما لم يُسلم البائع، وهو مذهب أشهب، وقاله في "المدوّنة" (¬5)، ولا خلاف أنّها لهم إذا أسلموا عليها. المسألة التّاسعة: فإنْ صالحوا على الجِزْيَةِ مبهمة من غير بيان ولا تعيِينٍ، وَجَبَتْ لهمُ الذِّمَّة، ¬
وحلّوا (¬1) في الجِزْيَة محل أهل العُنْوَة في جميع وجوهها، على ما فصَّلْنَاهُ قبلُ. والجِزْيَةُ العُنْوِيَّة هي الجِزْيَةُ الّتي تُوضَع على المغلُوبِينَ على بلادهم المقدرين فيها لعمارتها، فإنّها عند مالك على ما فَرَضَها عمر - رضي الله عنه - أربعة دنانير على أهل الذَّهَب، وأربعون دِرْهَمًا على أهل الوَرِق، معِ ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيّام، إلَّا أنّ مالكًا - رضي الله عنه - رأى أنّ تُوضع عنهم الضِّيافة إذا لم يوف لهم بالعهد. المسألة العاشرة (¬2): قوله: "وَضيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ" يريدُ ضيافة المارِّين من المسافرين المسلمين، يكون ذلك على أهل الذِّمَّة، وأَقْصَى أمد الضِّيافة ثلاثة أيام؛ لأنّها فرقٌ بين السَّفَر والمقام، والّذي يلزمهم من الضِّيافة في مُدَّتها، ما يسهل عليهم وجرت العادة به (¬3) دون تكلُّف، ولا يلزمهم التَّكلُّف والخروج عن عادتهم في أقواتهم. المسألة الحادية عشرة: قوله (¬4): "وَلاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنَ الرِّجَال الأحْرَارِ الْبَالِغِينَ" لأنّها ثمن لتأمينهم وحَقْن دمائهم، والصّبِيّ والمرأة لا يقتلان. والعبد مال من الأموال، واخْتُلِفَ فيه إذا أُعْتِقَ. - وهي المسألة الثّانية عشرة-: على ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ عليه الجِزْيَة؛ لأنّه حدّ له (¬5) ذِمَّة المسلمين، فوجبت عليه (¬6) الجِزْيَة لهم. والقول الثّاني: أنّه لا جِزْيَةَ عليه؛ لأنّه مُؤمِنٌ محقون الدّم، والجِزْيَةُ إنّما هي ثمن إذا أُعْتِقَ في بلاد المسلمين. وأمّا إنْ أُعْتِقَ في دَارِ الحَرْبِ، فعليه الجِزْيَة على كلِّ حالٍ. ¬
المسألة الثّالثة عشرة (¬1): قال علماؤنا (¬2): لا جِزْيَةَ على الرُّهبان، وبه قال أبو حنيفة، وهو أحد قولي الشّافعيّ، وله قول آخر: إنّ عليهم الجِزْيَة. وهذا مبنيٌّ على أصلّين: أحدهما: ألَّا جِزْيَةَ على الفقير والرَّاهبِ، إنّما تُرِكَ (¬3) له من المال اليسير، فهذا من جملة الفقراء (¬4). الثّاني: أنّ الرّاهب لا يُقْتَل، فهو مَحْقُون الدَّمِ من غير عَقْدٍ كالمرأة. وقال بعضُ علمائنا قياسًا على هذا: إنّه لا جِزْيَةَ على العبيد؛ لأنّهم نوعٌ من المال كالخَيْلِ والإبْلِ، وقد تقدَّم الكلام عليه. المسألة الرّابعة عشرة (¬5): ومتَى تُؤخذُ الجِزْيَة من أهل الذِّمَّةِ؟ فقال أبو حنيفة: تؤخذ في أَوَّلِ الحَوْلِ حينَ تنعقد لهم الذِّمَّة، ثمّ بعد ذلك عند أوّل كلّ حَوْلٍ. وقال الشّافعيّ: تؤخَذُ في آخر الحول (¬6)، وهو الصّحيحُ إنّ شاء الله. والدّليلُ على ما نقوله: أنّه حقٌّ يتعلَّقُ وُجُوبُه (¬7)، فوجب أنّ تؤخذ بآخره كالزّكاة. المسألة الخامسة عشرة (¬8): إذا اجتمعت على الذِّمِّيِّ جِزْيَة سينين (¬9)؟ لم تتداخل في قول الشّافعيّ، ¬
وتتداخل في قول أبي حنيفة وتجب عليه جِزْيَة سَنَةٍ واحدةٍ. والظّاهر من مذهب مالك أنّه إنْ كان فَرَّ منها أخذت منه السِّنون (¬1) الماضية، وإن كان ذلك لعُسْرٍ لم تتداخل ولم يبق في ذِمَّتِهِ (¬2) ما يعجز عنه من السِّنين الماضية، وقد رأيت هذا لابن القصّار، وهذا القولُ مَبْنِيٌّ على أنّ الفقير لا جِزْيَةَ عليه ولا تبقى (¬3) في ذِمَّتِهِ. المسألة السّادسة عشرة (¬4): قال علماؤنا (¬5): إذا سقطت عن الفقير فإنّما تسقطُ بموت الذِّمِّيِّ (¬6)، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشّافعيّ: لا تسقط بموتٍ (¬7). ودليلنا: أنّ هذه عقوبة، فوجب أنّ تسقط بالموتِ كالحُدُودِ. قال الإمام: والصحيحُ ما قالَهُ علماؤنا أنّها تسقط بالموتِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى من قال لا تسقط بالموت، فإنّه لا أصلَ له. وكذلك إذا أَسْلَمَ تسقط عنه بإجماعٍ، وقد سُئِلَ الشّيخ أبو إسحاق الشِّيرازي عن هذه المسألة، فأجاب:- وهي المسألة السابعة عشرة-: فقيل له: ما تقول - أبقاكَ اللهُ- في الجِزْيَةِ الواجبة على الذِّمِّيِّ، هل تسقط عنه بالإِسلام أم لا؟ فقال: لا تسقط، فَطُولِبَ بالدّليل، فاستدلَّ بأن قال: هذا حدّ الخراجين، فهذا وجبت بالكُفْرِ لم تسقط عنه بالإسلام، أصل ذلك خَرَاج الأرض. وأجاب الشّيخُ أبو عبد الله الدّامغاني بثلاثة أَجْوِبَةٍ: أحدها: أنّه لا يمتنعُ أنّ يكون نوعًا من الخَرَاجِ، ويعتبر في أحدهما ما لا يُعْتَبَرُ في الآخَر. والثّاني: أنّه لا يمتنع أنّ يكون الخراجان يَجِبَانِ بسبَبِ الكُفْر، ويسقط (¬8) ¬
باب عشور أهل الذمة
أحدهما بالإِسلام وإن لم يسقط به الآخر، كالقتل مع الاسترقاق. والثّالث: أنّ المعنى في خَرَاجِ الأرضِ أنّه إنّما وجبَ بالتَّمَكُّنِ من الانتفاع بالأرض (¬1)، فلذلك لم يسقط بالإِسلام، والفروعُ في هذا الباب يكثر ذِكْرُهَا واستقصاؤُها، والحمد لله، وفي هذه كفاية، والله الموفِّق. باب عُشُور أهل الذِّمَّة الإسناد (¬2): قوله (¬3): "كُنْتُ غُلاَمًا" هكذا رواه يحيى، يريد بذلك شَابًّا، ورواه مُطَرِّف وأبو مُصْعَب (¬4): "عَامِلًا" يريد على أهل الذّمّة في العُشرِ (¬5)، فكان يأخذ هو وابن مسعود (¬6) من النَّبَطِ العُشْر، وأضافَ ذلك إلى زَمَنِ عمر؛ لأنّ ما كان يُفْعَلُ فيه كان كإجماع (¬7) الصَّحابة لمشورتهم، فهذا لم يثبت فيه اختلاف فهو إِجْمَاعٌ. الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬8): قوله (¬9): "عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْخُذُ عُمَرُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشرَ؟ " سؤالٌ عن وجه ذلك وحُجَّتِهِ، "فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ" وليس في هذا أكثر من الإخبار بالسَّبَبِ، وليس هذا إخبارٌ عن الحُجَّةِ المُوجِبَةِ، ¬
باب اشتراء الصدقة والعود فيها
والحُجَّةُ في ذلك ما تقدَّمَ، أنّهم (¬1) إنّما عوهدوا على (¬2) التِّجارة وتنمية أموالهم بآفاقهم الّتي يستوطنونها، فإذا طَلَبُوا التَّنمية بالتِّجارة إلى غير ذلك من الآفاق (¬3)، كان ذلك عليهم حقٌّ غير الجِزْيَة الّتي صالحوا عليها، وهو الوجه الّذي فَعَلَهُ عمر. المسألة الثّانية (¬4): فيه مسألة من مسائل "أصول الفقه" وهو فِعْلُهُ بحَضْرَةِ الصَّحابة ولم يخالفه أحدٌ في ذلك، فحصلَ الإجماع (¬5)، وكما أجمعوا على صِحَّةِ هذا الحُكْم، كذلك أجمعوا على صِحَةِ تقدير ما يُؤْخَذ منهم بالعُشْر (¬6). باب اشتراءِ الصَّدَقَة والعَوْدِ فيها مَالِك (¬7)، عَنْ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبيهِ؛ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ في سَبِيلِ اللهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ قَدْ أَضَاعَهُ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "لَا تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ". وذَكَرَ (¬8) مثله عن نافع عن ابن عمر. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ على صِحَّتِهِ ومَتْنِهِ، خَرَّجَهُ الأيمّة ¬
مسلم (¬1) والبخاري (¬2) وجماعة من المصنِّفِينَ (¬3). العربية (¬4): "الْفَرَسُ الْعَتِيقُ": الفَارِهُ، وقال صاحب "العين" عَتَقَتِ الفَرَسُ إذا سبقت، وفرس عَتِيقٌ: رائع (¬5). والعتيقُ واحد العتاق من الخيل وهي الكرام السّابقة (¬6)، قاله ابن السِّكِّيت (¬7). الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬8): قال علماؤنا: والحملُ عليها في سبيل الله على وجهين: أحدهما: أنّ يعلم مَنْ فيه النَّجدة والفُروسيّة، فيهبه له ويُمَلِّكُه إياه، لما يعلم من نَجْدَته، فهذا يملكه الموهوب له ويتصرّف فيه بما شاء من بَيْعٍ وغيره. والثّاني -وهو الأظهر-: أنّ يكون دفعه إلى من يعلم حاله ومواظبته على الجهاد، فيدفعه إليه على سبيل التَّحْبِيسِ له في هذا الوجه، فهذا ليس للموهُوب لَهُ أنّ يبيعَهُ؛ لأنّه موقوفٌ على معنى التّحبيس في سبيل الله. المسألة الثّانية (¬9): قوله: "وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَضَاعَهُ" يحتمل أنّ يريد به أمرين: أ- أحدهما: أنّه أضاعَهُ، من الإضاعة، بأن لم يُحْسِنِ القيامَ عليه، ويبعدُ مثل هذا في أصحاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، إلَّا أنّ يُوجِبَ ذلك عُذْرٌ. ¬
2 - ويحتمل أنّ يريد ضائعًا من الهَزلِ المفرط للجهاد (¬1). المسألة الثّالثة (¬2): قوله: "فَأَرَدْتُ أَنْ أَشتَرِيَهُ مِنْهُ" يحتمل معنيين (¬3): أحدهما: أنّه كان وَهَبَهُ إيَّاهُ، فأراد أنّ يشتريَهُ لضَيَاعِهِ. ويحتمل أنّ يكون حَبْسًا، فظنَّ أنّ شِرَاءَهُ جائزٌ وبَيْعَ الّذي كان بيده مباحٌ، حتّى منعه من ذلك رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. ويحتمل أنّ يكون بلغَ من الضّياع مبلغَ عدم الانتفاع به في الوجه الّذي حَبَّسَهُ فيه، فرأى أنّ ذلك يُبِيحُ له شراءه. المسألة الرّابعة (¬4): وضياعُ الخيل الموقوفة على وجهين: أحدهما: لمن (¬5) يُرْجَى صلاحُه والانتفاع به في الجهاد، كالضَّعف والمرض المرجوّ بُرْؤُهُ، فهذا لا خلافَ أنّه يُستباحُ بَيْعُه. الثّاني: الكلبُ (¬6) الّذي لا تُرْجَى إفاقته، فهذا اختلف فيه أصحابنا على قولين: القولُ الأوّل - قال ابنُ القاسم: إذا عدم الانتفاع به في الوجه الّذي وقفَ له، ولم يُرْجَ بُرْؤُه جازَ بَيْعُه، وَوُضِعَ ثَمَنُه في ذلك الوجه (¬7). وقال ابنُ الماجِشُون: لا يجوز بيعه بوجه (¬8). ¬
الفصل الأول في وجه العطية
المسألة الخامسة (¬1): قوله: "فَإِنَّ الْعَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ" يريد أنّه من القُبْحِ (¬2) بمنزلةِ العائِدِ في أكل ما قذف (¬3) بعد أنّ قَبُحَ وتَغَيَّرَ عن حالِ الطَّعامِ، وكذلك المتصدِّق قد أخرج في صَدَقَتِهِ أوساخ مَالِهِ، فلا يرتجعه إلى ملكه بعد أنّ تَغَيَّرَ بصَدَقَتِهِ. وفي هذا خمسة فصول: الأوّل: في وجه العَطِيَّة. الثّاني في صِفَتِها. الثّالث: في صفة المُعْطِي. الرّابع: في صفة الارْتِجَاعِ، الخامس: في حُكْمِ الارْتِجَاعِ. الفصل الأوّل (¬4) في وجه العَطِيَّة فهو أنّ يُعْطِي على وجه الصَّدَقَة الواجبة أو التَّطَوُّع، فهذا لا يجوز له ارتجاع صدقته لقوله: "الْعَائِدُ في صَدَقَتِهِ ... " الحديث. وأمّا إنْ كانت عَطِيَّته على غير وجه الصَّدقَةِ، ففي "الموّازية" (¬5) في الّذي يحمل على الفَرَسِ لا للسَّبِيل ولا للمَسْكَنَةِ، قال مالكٌ: لا بأس أنّ يشتريه. ووجه ذلك: أنّها عطيَّةٌ لم يقصد بها القُرْبَة، فجاز له أنّ يملكها في المستقبل، كما يجوز له اعتصار ما وهب لغير القُرْبَة، والحديثُ محمولٌ على العَوْدِ إلى ملك ما وَهَبَهُ على وجه القُرْبَةِ، ومحمولٌ على ارتجاع ما وهَبَ الأجنبي بغير عِوَض، بدليل ما قَدَّمنَاهُ، وتركّب على هذا ما أمكن. ¬
الفصل الثاني في صفة العطية
الفصل الثّاني (¬1) في صفة العَطِيّة فإنّها إنّ (¬2) كان عَيْنًا بَتَلَها (¬3)، مثل أنّ يتصدَّقَ بفَرَسٍ أو عَبْدٍ أو أصل أو وَرِقٍ، أو ما أشبه ذلك، فإنّه لا يجوز له الرُّجوع فيه. وفي "العُتْبِيّة" (¬4) في امرأة جعلت خلخالها في سبيل الله إنْ شفاها الله، فلمّا برأت أرادت أنّ تخرج قيمتها وتحبسها، فكرِهَ ذلك، قال سحنون: لأنّه من وجوه الرُّجوع في الصَّدَقَةِ. فرعٌ غريبٌ (¬5): فإن أعطى (¬6) غَلَّة أو منفعة؟ فقد قال ابن الموّاز في الّذي يتصدّق بغَلَّةِ الأصل سِنِينَ أو حياة المحبَّس عليه: لا بأس أنّ يشتري ذلك المتصدِّق، لم يختلف في هذا مالك وأصحابه، إلَّا عبد الملك فإنّه أَبَاهُ، واحتجّ بنَهْيِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الرُّجوع في الصَّدَقَة، وأجازَ ذلك لوَرَثَتِهِ. الفصل الثّالث (¬7) في صفة المعطي فإن كان أجنبيًّا، فلا يرجع المتصدّق عليه فيما تصدَّق به عليه، قال مالك في "العُتْبِيّة" و"الموّازية" وإن كانت دابّة فلا يركبها، وإن كان أمرًا قريبًا (¬8)، وقد ركب ابن عمر ناقة قد وهبها فصرع عنها، فقال: ما كنت لأفعل مثل هذا، كأنّه اعتقد أنَّه عُوقِبَ في ذلك. ¬
الفصل الرابع في صفة الارتجاع
قال عبد الوهّاب: لا بأس أنّ يركب الفرس الّذي جَعَلَهُ في السَّبِيل، ويشرب من ألبان الغَنَمِ اليسير، وما أشبه ذلك ممّا يقِلُّ قَدْرُهُ (¬1). فرع آخر (¬2): إنّ كان ابنًا، فقال مالكٌ في "المدوّنة" (¬3) في الرَّجُل يتصدَّق على ابنه الصّغير في حِجْرِه بجارية، فَتَتْبَعُهَا نَفْسُهُ، له أنّ يشتريها، ولا يجوز ذلك إذا تصدَّقَ بها على أجنبيّ، قال (¬4) عيسى عن ابن القاسم: إنّما أرخص فيها لمكان الابن من الأَبِ (¬5). وقال مالك فيمن تصدّق على ابنه بغنم: لا بأس أنّ يأكل من لحمها ويشرب من لبنها ويكتسي من صوفها، وإن تصدَّق عليه بحائط، جاز أنّ يأكل من ثَمَرِهِ، بخلاف الأجنبي. وفي (¬6) "الموّازية" من رواية أشهب: لا يكتسي من صُوفها (¬7). الفصل الرّابع (¬8) في صفة الارتجاع عمدةُ المذهبِ؛ أنّ كلّ ارتجاعٍ يكونُ باختياره (¬9)، فإنّه ممنوع كالابتياع، لما روي عن النّبيِّ صلّى الله عليه أنّه قال: "لَا تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ". ومن جهة المعنى: أنّ المنع يتعلّق بما يكون باختيار الممنوع، فأمّا ما يقع بغير اختياره (¬10) فلا يصحّ عنه النّهي (¬11)، وكذلك الصَّدَقَة فيما تصدّق به (¬12)، فلا يقبله ¬
الفصل الخامس في حكم الارتجاع
ولا يرتجعه بهبة ولا عارية ولا إجارة كما تقدَّمَ. مسألة (¬1): وأمّا الميراث، فلا بأس لمن عادت إليه صدقة الميراث أنّ يَسْتَدِيمَ ملكها، قاله عبد الوهّاب وغيره، قال: لأنّه ليس براجِعٍ في صَدَقَتِهِ ولا يُتَّهَمُ بذلك، ومعناه عندي: أنَّه لم يتملكها (¬2) وإنّما الشّرع قَضَى لَهُ وعليه بذلك، ولو أراد الامتناع عن قَبْضِهَا لَجُبِرَ على ذلك. الفصل الخامس (¬3) في حكم الارتجاع ففي "الموّازية" (¬4) أنّه قد أجاز بعض العلّماء شِرَاءَ الرَّجُل صدقته، وكرهه بعضهم، فإنْ نزل عندنا لم نفسخه، وبهذا قال عبد الوهّاب، وهو قول أبي حنيفة (¬5) والشّافعي. وقال ابنُ شعبان: يُفْسَخُ الشِّراء لنهي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك، والقولان يُخَرَّجَانِ (¬6) من المذهب، فقد حَكَى ابن الموّاز في المدير وغير المدير يخرج في زكاته عرضًا، لا يجزئه عند ابن القاسم، ويجزئه عند أشهب إذا لم يحاب نفسه (¬7) وبئس ما صنع. مسألة: قوله (¬8): "أَيَشْتَرِيَهَا؟ قَالَ: تَرْكُهَا أَحبُّ إِلَيَّ" لأنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نهى عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. ¬
باب من تجب عليه زكاة الفطر
باب من تجبُ عليه زكاة الفِطْرِ قال الإمام: هذا الباب كثير الأحاديث، وفروعُه كثيرةٌ، ومقدِّماته ثلاثٌ: 1 - المقدمة الأولى (¬1): اختلف العلّماء إسلامًا ومذهبًا هل هي واجبة أم لا؟ وهل يعتبر في أدائها النصاب أم لا؟ وفي قدرها ووقت وجوبها؟ أمّا فرضيتها، فلا إشْكَال فيه (¬2)، لتَوَارُدِ (¬3) أَمْرِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بها وحَضِّهِ عليها، وذلك يبيِّن أنَّ معنى قوله في هذا الحديث (¬4): "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - زكَاةَ الفِطْرِ": أَوْجَبَ قَدْرَهَا. وأمّا وقت وجوبها، فلا أَظْهَرَ (¬5) فيه من إضافتها. فإن قيل: ما هي؟ قلت: زكاة الفِطْر، فهذا اسمها (¬6) الّذي تعرف به (¬7)، وسببها الّذي تجب به. وأمّا وقت أدائها، فقبلَ الصَّلاة (¬8)، وفي الحديث: "هِيَ طُهْرَةٌ لصِيَامِكُمْ مِنَ ¬
اللَّغْوِ والرَّفَثِ تُؤَدَّى قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ" (¬1). وأمّا اعتبار النِّصاب فيها، فهو مذهب أبي حنيفة (¬2)، وذلك ساقطٌ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ذَكَرَ فَرْضها مُطلقًا وأخذَها من كلِّ أحدٍ، ولو اعتبر فيها النِّصاب لوجبت فيه كسائر الصَّدَقات. تأصيل (¬3): قوله (¬4): "صَدَقَةُ الْفِطْرِ" قال الإمام: هذا هو اسمها على لسان صاحب الشَّرعِ أَضَافَها للتَّعرِيفِ. وقال قوم: أضافها إلى سبب وجوبها. وأنا أقول: إلى وقت وجوبها، وسبب وجوبها هو ما يجري في الصَّوم من اللَّغْوِ، وهذا ممّا خَفِيَ على مَنْ رأيتُ من علمائنا الثلاثة طوائف (¬5) لقاءً وكُتُبًا. والدليل على صِحَّة ما قُلْتُه: الحديث المرويّ عن عِكْرِمَة عن ابن عبّاس، قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - زكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرُ الصِّيَام، أو للصَّائِم، مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَة فَهيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ" (¬6). قال الإمام: وقد تُضَافُ إلى الشَّهر، فيقالُ: زكاة رمضان، وعن محمّد ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: وَكَّلَنِي رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فجعلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، وذكر حديث البخاريّ، إلى أنّ قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ذَلِكَ ¬
شَيْطَانٌ" ذكره البخاريّ (¬1) مقطوعًا، وهذه صِلَتُه (¬2)، وفائدته عظيمةٌ (¬3). قال الإمام: ويصحّ أنّ يقال فيها زكاة الصوم؛ فإنّها طُهْرَةٌ له، وزكاة رمضان؛ لأنّه محل الصِّيام، وزكاة الفِطْر؛ لأنّه وقتها الّذي يظهر فيه وجوبها. وأمّا قَدْرُها، فصاعٌ وهو أربعة أمداد، حسب ما جاء في الأحاديث، خَرَّجَهَا البخاريّ (¬4) ومسلم (¬5) والدّاودي (¬6)، وفيها أنّها من التَّمْرِ والشَّعير، ثمّ جعل النّاس عدله مُدَّيْن من حِنْطَةٍ، يعني مكان التَّمْر الحِنْطَة. واتَّفقَ العلّماءُ على حديث أبي سعيدٍ (¬7)، وزاد النّسائي (¬8): "أو صَاعًا من سُلْتٍ، أو صَاعًا من دَقِيقٍ"، والأحاديث في هذا الباب ثَابِتَةٌ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬9): اختلف النّاس في وجوب زكاة الفِطْرِ أو ندْبها؟ فعن مالك روايتان: إحداهما محتملة، والأُخرَى قال: زكاة الفطر واجبة (¬10)، وبذلك قال فقهاء الأمصار. وتأوّل قوم قوله: "فَرَضَ" بمعنى قَدَّرَ، وهو معنى الوجوب، وهو الأظهر؛ لأنّه ¬
قال: "زكاةُ الفِطْرِ" فدخلت تحت قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) المفروضة في القرآن، يعني في الفِطْرِ (¬2)، وتحت قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬3) كما قدَّرَ زكاة المال، ألَّا ترى في حديث مسلم فرض رسول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الْفِطْرِ على النّاس عمومًا، وقال: "اغْنُوهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَال في هذا اليَوْمِ ... " الأثر (¬4)، وهذا أَقْوَى في الأثر. المسألةُ الثّانية (¬5): قوله (¬6): "زكَاةُ الْفِطْرِ" فأضافَها إلى الوقت، أعني وقت وجوبها. واختلف العلّماءُ في ذلك الفِطْر ما هو؟ فقيل: هو الفِطْر عند غُروب الشّمس من آخر رمضان. وقيل: هو عند طلوع الفَجْرِ؛ لأنّه الفِطْر الّذي يتعيَّن بعد رمضان، فأمّا الّذي قبله من اللّيل فقد كان في رمضان، وإنّما فطر رمضان هو ما يكون بعدَهُ بما يختم به، ثمّ كان (¬7) النّبي - صلّى الله عليه وسلم - يأكل في يوم الفِطْر (¬8). وقوله: "أغْنُوهُمْ عن سُؤَالِ هذا اليَوْم" هو نَصٌّ في وقت العطاء (¬9)، لا (¬10) في سبب وجوب العطاء (¬11). وبِطُلوعِ الفجر قال ابنُ القاسم ومُطَرِّف وابن الماجِشون، وهو الصَّحيحُ كما أَصَّلْنَا وبَيَّنَّا. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "عَلَى النَّاسِ" ثمّ بَيَّنَ فقال: "عَلَى كُلِّ حُرِّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ مِنَ المُسْلِمِينَ" فاقتضَى هذا العموم أنّه تجب على من يَقْدِر على الصَّاعِ وإنْ لم يكن عنده نصاب (¬3)، وبه قال عامة الفقهاء بالأمصار. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلَّا على من يملك النِّصاب (¬4)، أعني نصاب الزّكاة الأصلّيّة، والمسألة له قويّة، فإنَّ الفقير لا زكاةَ عليه، ولا أمرَ النّبيُّ صلّى الله عليه بأَخْذِها منه، وإنّما أَمَرَ بإعطائها إليه، وحديث ثَعْلَبَة لا يعارض الأحاديث الصِّحَاح ولا الأصول القويّة، وقد قال: "لا صدقة إلّا عن ظَهْرِ غِنىً (¬5)، وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" (¬6) وإذا لم يكن هذا (¬7) غنيًّا فلا تلزمه الصّدقة. المسألة الرّابعة (¬8): قوله: "حرٌّ أَوْ عَبْدٌ" هو عامٌّ في كلِّ عبدٍ كافرٍ أو مسلمٍ، وبه قال أبو حنيفة، وله العموم. قلنا له: وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مِنَ المُسْلِمينَ" (¬9). قالوا: إنّما يكون المُطْلَقُ على إطلاقه والمقيَّد على تقييده، فتجب على العَبْدَيْن، فإنّ الحُكْمَ يجوز أنّ يتعلَّقَ بعِلَّتَيْنِ. قلنا له: ولما قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "في أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ شَاةٌ" فكان هذا عامًّا، وكما ¬
قوله: "في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" فجاء خاصًّا، فهلا قلت: يحمل العمومُ على قومه والخاصُّ على خصوصه، وهذا لا معنى له، وقد وصف النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الّذين تجبُ عليهم بالإِسلام، فينبغي أنّ يرجع الوصف إلى جميعه، وليسا بنازلتين (¬1) وإنّما هي قصّةٌ واحدةٌ وكلامٌ واحدٌ استوفى في روايةٍ ونقص في رواية، وقد رَوَى الدارقطني (¬2) قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلْمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ" وذكر الحديث. المسألة الخامسة (¬3): قوله: "ذَكَر أَوْ أُنْثَى" فوجب ذلك على الزَّوْجِ، وهل يرجع ذلك إلى الزَّوجِ بأن يؤدِّيها (¬4) عنها، قال مالكٌ والشّافعيّ، وقد رُوِيَ عنه أنّه قال: لا يؤدِّيها الزَّوج عنها، وبه قال أبو حنيفة. والمسألةُ مُشكِلَةٌ جدًّا، فإنَّ الحديثَ لم أَرَ من يدخل إليه من بابه، ولا من فقهه بتحقيقه (¬5)، فإنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - فرضَ زكاة الفِطْرِ على كلِّ حُرٍّ وعبدٍ، ذَكَرٍ وأنثى، صغيرٍ وكبيرٍ، فجعلَها مفروضة على هؤلاء، فبأيِّ دليلٍ تخرج (¬6) زكاة الفِطْر عنهم، وكلُّ واحدٍ منهم مفروض عليه. فإن قيل: بقوله: "أَدُّوا زكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ (¬7) تمونونَ" (¬8). قلنا: قد رَوَى الدّارقطني عن عليّ (¬9) وابن عمر (¬10) أنّه ذكر زكاة الفِطْرِ وذكر الحديث وقال في آخره: "عَمَّنْ تَعُولُونَ (¬11) أَوْ تمونونَ" ولم يصحّ ذلك مُسْنَدًا (¬12). ¬
والعمدة في ذلك؛ أنّ ابنَ عمر كان يُخرج زكاةَ الفِطْرِ عن نفسه وعن بَنِيهِ الصِّغار وعن عبيده، وكذلك وجدوا (¬1) السُّنَّة تَجْرِي، فلمّا (¬2) جَرَى الحُكْمُ هكذا، انقسم نظر العلّماء: فمنهم من قال: وجبت على كلِّ مَنْ سَمَّى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ويحملها عنهم وليّ المسلمين. ومنهم من قال: وجبت على الوَلِيِّ بسببهم، وكان وجودهم في كفالته سببًا (¬3) لوجوب هذه العبادة عليه، كما كان وجوب النِّصاب سَبَبًا لوجوب الزّكاة على المالك. ورجّح قومٌ هذا بأن قالوا: الزّكاةُ عبادةٌ، والعبادةُ لا يجري (¬4) فيها التَّحَمُّل ولا يدخل عليها، وإنّما يتعلَّق بذِمَّة كلّ من تجب عليه. ولا خلافَ بين النّاس أنّ الابنَ الصّغير إنّ كان له مالٌ أنّ زكاة الفِطْرِ تُخْرَجُ عنه من ماله. واختلفوا في العَبْدِ إنّ كان له مال؟ فقال قوم: إنَّ السَّيِّد يخرج عنه، إلّا أبا ثور فإنّه أَلْحَقَهُ بالابن الصّغير إذا (¬5) كان له مال، وبه قال عطاء، وليس كالابن، فإنّ الابن مستقرّ الملك، والعبد عندنا لمن (¬6) ملك، فلا قرار (¬7) للذي (¬8) يملكه، فإنّما هو بيده معرَّضٌ للانتزاع في كلِّ حينٍ. والمسألةُ مشكلةٌ جدًّا، فإنّه كما يطأ جاريته وملكه غير مستقرّ، كذلك يجب أنّ يلزمه نفقة الفطر، وقد بينّاه فيما تقدَّم. مزيد إيضاح (¬9): قال الإمام: فإذا انتهى القولُ إلى هاهنا، عُدْنَا إلى الزَّوجة، فرأينا مُؤْنتها غذاءً ¬
وكسوة على الزّوجِ، فقال خاطر: تُلْحَق بالولد الصغير والعبد، وجرى خاطر (¬1): بأنّها تُلحق بالأجِيرِ فإن مَؤُونَتَها عن عِوَضٍ ومَؤُونة الولد صلة (¬2)، فلو صحّ الحديث: "أدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ" لتأَوَّلْنَاهُ عمومًا (¬3). تكملة (¬4): قال الإمام: وتتركّب هاهنا فروع كثيرة أصولها خمسة عشر فرعًا: الأوّل: المكاتَبُ قد خرجَ عنه، فلا يؤدِّي عنه زكاة الفِطْر، وإن كان النّبيُّ صلّى الله عليه قد قال:"الْمُكَاتِبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ" (¬5) ولكنّه منفصل في أحكامه منفرد بملكه (¬6)، وذلك ليس في مُؤْنَةِ السَّيِّد وعياله (¬7)، فدلَّ على أنّ قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - هذا هو بيانٌ؛ لأنّه لم يتخلّص بعد عن علقة الرِّقِّ إذ هو مُعَرَّضٌ للرُّجوع إلى الحالة الأُولَى. الفرع الثّاني: عَبِيدُ التِّجارة، روى أبو حنيفة والثّوري خلافًا لكافّة فقهاء الأمصار ألَا زكاة فطر فيها (¬8)، فلا يكون السبب الواحد مُوجِبٌ زكاتين (¬9)، وقد قال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "عَمَّنْ تَمُونُونَ" فهذا العبد معدٌّ للتِّجارة لا للمُؤْنَة؟ قلنا: يجوز (¬10) أنّ يجب بالسَّبَبِ الواحد حُكْمَانِ متماثلان في الأصل إذا اختلَفَا في الوصفِ والوَقْتِ والذَّاتِ، وهكذا هي أسباب الشَّرْعِ. وقوله: "عَمَّنْ تَمُونونَ" فالعبدُ للتِّجارة هو باقٍ في حُكْمِ المُؤْنَةِ، ولم تسقط التِّجارة فيه من وَاجِبِ مُؤْنَتِه شيئًا، على أنّ الحديث كما قلنا لم يصحّ. ¬
الفرع الثّالث: المدبر، ولم يخالف (¬1) فيه إلَّا أبو ثَوْر بناءً على أصلِ العَبْدِ. الفرعُ الرّابع: العبدُ المغصوبُ والآبِق المجهول الموضع، قال الشّافعيّ والأوزاعي وإحدى روايات (¬2) أبي حنيفة (¬3) وأحمد بن حنبل، وروى عن الزّهريّ أنّه قال: يزكِّي عنه؛ لأنّه علّق الحُكم بوجوب النَّفَقَة شَرْعًا وإن لم يوجد ولا اتَّفَقَ جريانّها. وعلَّقَهُ مالك بالتّمكين أو بالتّعريف (¬4) أو بالوصول لموضع الآبِق، وهو الصّحيح؛ لأنّ المغصوبَ والآبِقَ المجهول الحال في حُكْمِ العَدَمِ. الفرع الخامس: العبد المرهون،* من أطرف ما فيه؛ أنّ أبا حنيفة (¬5) قال: إن كان يفضل من قيمة العبد المرهون* (¬6) عن (¬7) الدَّيْنِ الّذي رهن به (¬8) نصابٌ، وكان مبلغ الدَّيْن حاضرًا عند الرَّاهِنِ، وجبَ عليه الزَّكاة، وبناهُ أبو حنيفة على أنّ الدَّيْن يسقط الزّكاة، وليس هذا بذلك الدَّيْن، ولا طريقهما واحدٌ، ولا محلّهما واحدٌ، فإنّ هذه الزَّكاة يؤدِّيها عن الحُرِّ، فكيف عن عبد استغرقَه الدَّين؟ الفرع السّادس: عَبْدٌ بين شريكَيْنِ، يقتضي ظاهر الدّليل أنّ يؤدِّي عنه بمقدار ما يَمُونُ عنه، قاله مالك والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة والثوريّ: لا يؤدِّي أحدٌ عنه شيئًا (¬9)؛ لأنّ السَّبَبَ لم يتمّ، فصار كنِصَابٍ بين شريكين (¬10) لا زكاة فيه، وهذه مسألة غريبةٌ بيّنّاها في "مسائل الخلاف" ولا يحتمل هذا الكتاب الكلام عليها معهم؛ لأنّها عريضة المأخذ. الفرع السّابع: هو أنّ يكون بعضه معتقًا، تَرَدَّدَ النَّظَر، هل يؤدِّي السَّيِّد عن ¬
نصفه (¬1) ولا شيءَ على العبدِ لأنّه* لم يستقل بنفسه، ولأنّ السَّيِّد لا ينفق إلَّا على نصفه، قاله مالك. أو يؤدِّي السّيد الكلّ لأنّ * (¬2) تامّ (¬3) الوجوب لا يتبعَّض، قاله ابن الماجشون. أو يؤدِّي العبدُ عن حرِّيته (¬4)، قاله ابن مَسْلَمَةَ والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: تسقط الزَّكاةُ (¬5)، ولعلَّه أَقْوَى في النَّظَر، واللهُ أعلمُ. الفرع الثّامن: الموصى بخدمته، قال الشّافعيّ وأبو حنيفة: زكاةُ الفِطْرِ على مَالِكِ الرَّقَبَة. وقال ابنُ الماجِشُون: إذا كانت الخدمة حياته أو زمَانًا طويلًا، فهي على صاحبِ الخدمة تَعَلُّقًا، فإنّ زكاة الفطر عندهم مرتبطة بالمُؤْنَة. الفرع التّاسع: عبيدُ العَبْدِ، قال أبو حنيفة: زكاة الفطر عنهم على مَوْلَى مواليهم (¬6)، وبه قال الشّافعي. وقال مالك: لا شيءَ فيهم؛ لأنّهم لم يتعلّقوا بالسَّيِّد الأَعْلَى، والّذي تعلّقوا به لا زكاة عليه. وقالوا: عليه أنّ يُزَكِّي عن عبيد عبده كما يزكِّي ويؤدِّي عن عبيده (¬7) *فإنّهم ماله كله وفي مُؤْنَتِهِ، وما ينفقه العبد إنّما هو مال السّيّد. زاد اللّيث * (¬8): فإنّه لا يؤدِّي عنهم من مالِ العبيد وهذا نَظَرٌ ضعيفٌ؛ لأنّه إنْ شاء أنّ يؤدّي من مال ساداتهم (¬9) فعلَ وكان انتزاعًا. الفرع العاشر: عبيد امرأته، قال مالكٌ: لا شيءَ عليه فيهم، إلَّا إنْ خدموهُ. الفرع الحادي عشر: انفرد اللَّيثُ بأنْ قال: ليس على أهل العَمُودِ زكاة الفِطْر، ¬
وهي وَهْلَةٌ لا مردَّ لها، ولا أدري كيف قال هذا!؟ وهي متعلِّقة بالصَّوم، واليوم وهم بذلك مخاطَبُونَ وعندهم مساكين، ولعلّه رأى أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يخاطب بها ولا طَلَبها إلَّا من أهل الحاضرة، وذلك مَيْلٌ إلى أنّ الحاضرة ينفرد (¬1) كلّ واحدٍ منهم فيها (¬2) بملكه ويحتجز عن صاحبه، والاشتراكُ في البادية في المعاش والمشاركة في الطّعام أكثر، فوكَّلَهُم إلى العادة، وإن كان بَيَّنَ لهم طريق العبادة، وهي بالنَّظَرِ والحديث واجبةٌ على أهل العَمُودِ والبَوَادِي أجمع؛ لأنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أمر صارخًا: "إِنَّ زَكَاةَ الْفِطرِ واجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، حَاضِرٍ أَوْ بَادٍ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ" (¬3). فصل الجنس والتقدير، وهو النوع الثّاني عشر: إذا قلنا: إنّها واجبةٌ تجبُ على رَقَبَة، فإنَّ تقديرها صاع من طعامٍ أيّ أنواع الطعام كان (¬4). وقال أبو حنيفة والثّوريّ: نصفُ صاعٍ من بُرٍّ، ومن غيره صَاع (¬5). ولا تعجب إلَّا من الثّوريّ مع سَعَةِ عِلْمِهِ وتَبَحْبُحِهِ في الأَخبار والأحاديث (¬6) كيف تبعه (¬7) فقال: نصف صاعٍ من بُرٍّ وصاع من غيره، والحديثُ الصَّحيحُ يردّ عليهما في "كتاب مسلم" (¬8) "صاعٌ من شعيرٍ أو صاع تَمْرٍ (¬9) "، وفي "البخاريّ" (¬10) مثله: "فجعلَ النّاس عَدْلَهُ مُدَّيْنِ من حِنْطَةٍ"، وهذا غير لازم من وجهين: أحدهما: حكم معاوية، ولا يلزم، وقد خالَفَهُ أبو سعيد وقوله الحقُّ، فإنّ في الحديث "صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ أَقِطٍ أَوْ زَبِيبٍ" خَرَّجَهُ البخاريّ (¬11)، فقد ¬
جعل النّبيُّ صلّى الله عليه (¬1) على الرَّقَبَةِ الطعام وغيره (¬2). الفرع الثّالث عشر: قال قومٌ: يخرج زائدًا على ما في الحديث، وهو الذُّرَّةُ والدُّخْنُ والأُرْزُ، قاله ابنُ القاسم. وقال أشهب: لا يتعدَّى بها ما في الحديث وما قاله رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -. وقال محمّد: لا يخرج من السَّوِيقِ وإن كان عيشَ قومٍ. وقال ابنُ القاسم: يخرج منه. قال الإمام: يخرج من عيش كلِّ أُمَّةٍ من اللَّبَنِ لبنًا، ومن اللّحم لَحْمًا، ومن التِّين تينًا، ولو أكلوا ما أكلوا. الفرع الرّابع عشر: تقديمُها قبل الصّلاة كما تقدَّمَ في الحديثِ فهو أفضل، وفيما بعد الصّلاة أنقص، وإذا فات اليوم فهو مَأْثُومٌ، فإن أَدَّى في وقتها قبل الصّلاة كما ثَبَتَ في الحديث فقد أدّاها في أَوَّلِ الوَقْتِ وهو أفضل كما الصّلاة إذا أداها في أوّل الوقت. تتميم: قوله: "صَاع " الصّاعُ أربعة أَمْدَادٍ، والمُدُّ رِطْلٌ وثُلُث، والصّاع خمسة أرطال. ودليلنا: قول أهل المدينة المتواتر، وما رواه خَلَفُهم عن سَلَفِهِم: إنّ هذا المُدَّ مُدّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وألاّ مُدَّ ينسب إليه غيره، وأنّه هو الّذي كانوا يخرجون به زكاة الفِطْرِ في زَمَنِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقد أخرج هو - صلّى الله عليه وسلم - به، وبه احتجّ مالك على أبي يوسف بحَضْرَةِ الرَّشيد، واستدعى أبناء المهاجرين والأنصار، فكلٌّ أَتَى بمُدٍّ زعم أنّه أخذَهُ عن أبيه، أو عن عمِّه، أو عن جارِه، مع شهادة الجمهورِ واتِّفَاقِهِمْ عليه اتِّفَاقًا يُوجِبُ العِلْمَ ويَقْطَعُ العُذْرَ. ¬
كتاب الصيام
كتاب الصِّيام وفيه اثنان وعشرون بابًا: الباب الأوّل ما جاء في رؤية الهلال للصيام والفطر في رمضان قال الإمام: ولا بُدّ في صَدْرِهِ من مقدِّمات ثلاث: المقدِّمة الأولى: في لغته "الصِّيام في كلام العرب: الإمساك، إلَّا أنّه واقع في عُرْفِ الشَّرعِ على إمساكٍ مخصوصٍ في وقتٍ مخصوصٍ. وأمّا الفطرُ، فهو قطعُ الصَّوم الشّرعيّ بالأكل والشُّرب؛ لأنّ الفطر إنّما هو الأكل والشُّرب، وقد يُستعمل في كلِّ ما يقطع الصّوم من الجماع وغيره على المجاز"، هذا كلام أبي الوليد الباجي (¬1). قال الإمام أبو بكر بن العربي (¬2): الصّومُ هو في اللُّغةِ عبارة عن التَّرْكِ والإمساك، وكذلك هو في الشّريعة، لكنّ الشّريعة سلكت سبيلَ اللُّغَةِ في تخصيص الشيء ببعض متناولاته، ولم تختلف في ذلك شريعة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} الآية (¬3). قيل: يعني شهرًا بشهر. وقيل: يعني صفة بصفة. ولعلّه أراد الوجهين، وقد بينّا ذلك في موضعه (¬4). ¬
نكتةٌ: وقوله (¬1): "رَمَضَان" مأخوذ من رَمِضَ يَرْمَضُ إذا حرَّ جوفه من شدّة العَطَش، والرَّمْضَاء: شِدَّة الحَرِّ. تنبيه على التّرجمة (¬2): قوله: "الصِّيَام وَالْفِطْر في رَمَضَانَ" الفطرُ لا يكون في رمضان، وإنّما (¬3) رُؤيةُ الهلال في زمان رمضان للفِطْرِ والصَّوم في رمضان، ورؤية الهلال في غيره في الأغلب (¬4). مزيد بيان (¬5): قوله (¬6): "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ذَكَرَ رَمَضَانَ" قال بعض النّاس: إنّه لا يُقالُ: جاء (¬7) رمضان، وإنّما يقال: جاء (¬8) شهر رمضان، ورُوِيَ في ذلك حديث عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَقُولوا: جَاءَ رَمَضَان، وَلَكِن قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَان، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَهِ تَعَالَى" (¬9) وهذا (¬10) لم يجمع عليه أنّه اسمٌ من أسماء الله تعالى. المقدِّمة الثّانية (¬11): قال علماؤنا (¬12): والصَّومُ يجبُ (¬13) بسِتّة أوصاف هي: ¬
العقل. والبلوغ. والإِسلام. والصِّحة. والإقامة. والطهارة من دم الحيض والنِّفاس. وهذه السِّتَّة الأوصاف تنقسم على أربعة أقسام: منها ما يشترط في وجوب الصِّيام، وفي صحَّة فِعْلِهِ، وفي وجوب قضائه وهو الإسلام؛ لأنّ الكافر لا يجب عليه الصِّيام، ولا يصحّ منه أنّ يفعلَهُ، ولا يجبُ عليه قضاؤُه إذا أَسْلَمَ، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية (¬1)، وإنّما استَحَبَّ له مالكٌ قضاءَ الصوم في اليوم الّذي أسلم فيه أو في بعضه والإمساك عن الأكل مراعاة (¬2) لقول من يرى أنَّه مخاطَبٌ بفُروع الشّريعة، كالصِّيام في حالِ الكُفر. ومنها ما هو مشروطٌ (¬3) في وجوبِ الصِّيام، لا في جواز فِعْلِهِ ولا في وُجوبِ قضائه، وهما الإقامة والصِّحة؛ لأنّ المسافر والمريض مخاطَبَانِ بالصَّوم مُخَيَّرانِ بينه وبين غيره. وقد قيل: إنّهما غير مخاطَبَيْنِ بالصّوم، وهذا بعيدٌ جِدًّا لا خفاءَ عليه. ومنها ما هو شرطٌ في وجوبِ الصِّيام وفي صحَّة فِعْلِهِ، لا في وجوب قضائه، وهما العقل والطّهارة من دّمِ الحَيْضِ والنِّفاس؛ لأنّ الصِّيام لا يجب عليهما ولا يصحّ منهما، والقضاء واجبٌ عليهما. وقد قيل في المجنون: إنّه لا يجب عليه القضاء فيما كَثرُ من السِّنين، واختلف في هذا (¬4)، وهما في حالِ الجنون والحَيْضِ أنّهما غير مخاطَبين بالصِّيام. ¬
وقد قيل في الحائض: إنّها مخاطَبَةٌ بالصَّوم، ومن أجل ذلك وجبَ عليها القضاء بأَمْرٍ آخَرَ، وهذا بعيدٌ، ولو كانت مخاطَبَة به لأُثِيبَتْ ولأَجْزَأَ عنها أيّام أُخَر. ومنها ما هو شرطٌ في وُجوبِه وفي وُجُوبِ قَضَائِهِ، لا في صِحَّةِ فِعْلِهِ وهو البلوغ؛ لأنّ الصَّغير لا يجب عليه الصِّيام، ولا يجب عليه القَضَاء، ويصحّ منه الصِّيام. وقد اخْتُلِف هل هو مأمورٌ قبل البلوغ على طريق النّدْب أم لا؟ على قولين مرويين، وبالله التوفيق. المقدِّمةُ الثّالثة: هي أنّ تعلم أنّ الصِّيام يتنوَّعُ على ستَّةِ أقسام: واجب. وسنّة. ومستحب. ونافلة. ومكروه. ومحرَّم. فالواجب منه عشر: صيام شهر رمضان. وصيام كلّ نَذْر أَوْجَبه الإنسان على نفسه. وصيام قضاء رمضان، وقضاء النَّذْر الواجب قضاؤُه. وصيام كفّارة الظِّهار. وصيام كفَّارة القَتْل. وصيام كفَارة رمضان. وصيام كفَّارة اليمين بالله. وصيام كفَّارة صيد المُحْرِم. والصَّوم عن المُتَمَتِّع. وصوم كفَّارة إمَاطَةِ الأَذَى في الحجِّ.
تفسير (¬1): أمّا الواجب: فهو صيام شهر رمضان، وهو واجبٌ على الأعيان، أَوْجَبَهُ اللهُ في كتابه، وافترضه على عباده، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية (¬2)، وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الآية (¬3). أمّا الآية الأولى (¬4): قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬5) يعني شهر رمضان شهر واحدٌ في العامِ، وفُرِضَ صومُه في العام الثّاني من الهجرة، ففرضَهُ اللهُ علينا كما فرضَهُ على من كان قبلنا على اختلاف من القَوْلِ؟ قيل: هم أهل الكتاب (¬6). وقيل: هم النّصارى (¬7). وقيل: هم جميع النّاس (¬8). وهذا الأخيرُ قولٌ ساقطٌ؛ لأنّه قد كان الصّوم على مَنْ قَبْلَنا بإمساكِ اللِّسانِ عن الكلام، ولم يكن هذا في شَرْعِنَا، فصار ظاهرُ القول (¬9) راجعًا إلى النّصارى لأَمْرَيْنِ: أحدهما: أنّهم الأَدْنَوْنَ (¬10). الثّاني: أنّ الصوم في صَدْرِ الإسلام كان إذا نام الرَّجُلُ لم يفطر، وهو الأشبه بصومهم. وقوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬11) يدلُّ على أنّ المرادَ به في رمضان لا عاشوراء. ¬
ومن قال: إنّ الصَّومَ كان ثلاثة أيام في كلِّ شهر، فقد أَبْعَدَ؛ لأنّه حديثٌ ليس له أصلٌ في الصِّحَّةِ، فلا يُعَوَّلُ عليه. الآية الثّانية: قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬1) هو تفسيرٌ لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬2) يعني هلال رمضان، وإنَّما سُمِّيَ شهرًا لشُهْرَتِهِ، فَفَرَضَ اللهُ سبحانه علينا الصَّوْمَ عند رؤية الهلال (¬3)، وهذا قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ ... " الحديث (¬4)، وثبتَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من طريقٍ آخر أنّه قال: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" (¬5)، وروى التّرمذي (¬6)، عن أبي هريرة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَحْصُوا هِلاَلَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ". وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ...} الآية (¬7)، فهو محمولٌ على العادَةِ بمشاهدة (¬8) الشّهر، وهي رؤية الهلال. وقد قيل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهو مقيمٌ، ثمّ سافر لَزِمَه الصَّومُ في بَقِيَّتِه، قاله ابنُ عبّاس وعائشة. وقيل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَلْيَصُم منه ما شَهِدَ، ولْيُفْطِرْ ما سافر. قال علماؤنا: إذا صام في المِصْرِ، ثمّ سافر في أثناء اليوم لَزِمَهُ إكمالُ الصَّومِ، فلو أَفْطَرَ في البلد فلا كفَّارةَ عليه؛ لأنَّ السَّفَر عُذْرٌ طَرَأَ عليه، فكان كالمريضِ يطرأُ عليه المرضُ، ويخالفُ المرض والحَيْض؛ لأنّ المريضَ يُباحُ له الفِطْر، والحائضَ يَحْرُمُ عليها الصّوم، والسّفر لا يُبيحُ له ذلك، فَوَجَبَتْ عليه الكفّارة لهَتْكِ حُرْمَتِهِ. ¬
تنبيه: فإذا ثبتَ أنّ الصَّومَ في شهر رمضان واجبٌ بإجماع الأُمَّةِ، ففي (¬1) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} (¬2) مسألة اختلف النّاسُ فيها، هل كان قَبْلَهُ صومٌ مفروضٌ أم لا؟ فالصحيحُ أنَّ الفَرْضَ قَبْلَهُ كان يوم عاشوراء، فلمّا نزل فَرْض رمضان كان هو كالفريضة، فمن شاء صامَ عاشوراء، ومن شاء أَفْطَرَهُ. والحمدُ لله. حديث مَالِك (¬3)، عَن نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتى تَرَوْهُ، فَإِن غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" وفي حديث ابن عبّاس (¬4): "فَإِنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاَثِينَ". وهذا (¬5) الحديث محفوظٌ عن عكرمة (¬6) عنِ ابنِ عبّاس. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ متَّفَقٌ على صِحَّته ومَتْنِهِ، خرَّجَهُ الأيمّة مسلم (¬7) والبخاريّ (¬8) وغيرهما (¬9). تنبيه: ومن فقه مالك - رحمه الله - أنّ جعل حديث ابن عبّاس بعد حديث ابن عمر؛ لأنّه عندي مفسِّرٌ له ومبيِّنٌ لمعنى قولِه - صلّى الله عليه وسلم -: "فَاقْدُرُوا لَهُ" في حديث ابن عمر، وكان ابن عمر يذهب في معنى قوله: "فَاقْدُرُوا لَهُ" مذهبًا خلاف ما ذهب إليه مالك، والّذي ذهب إليه مالكٌ هو الّذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلّماء، وهو الصّحيح إنّ شاء الله. ¬
قال علماؤنا: ويتركّب على هذا الحديث قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} الآية (¬1)، واختلف المفسِّرون في سبب نزولها على أقوال: قيل (¬2): إنّ قومًا سألوا عن زيادة الأهلة ونقصأنّها فنزلت هذه الآية. وقال علماؤنا: وأُخِذَ "الهلال" من استهلال النّاس برفع أصواتهم عند رؤيته، و"المواقيت" هي مقادير الأوقات لعبادتهم وحَجِّهم. واختلفوا في مدّة (¬3) تسميته هِلَالًا على ثلاثة أقوال: أحدها: إلى ليلتين، وهذا قول الزّجاج (¬4). والقول الثّاني: إلى ثلاث ليال. والثّالث: إلى أَن يبدِّدَ ضوؤُه سوادَ اللَّيل، فإذا ظهر (¬5) ضوؤه قيل له: قمر. واختلفوا في الهلال متَى يصيرُ قَمَرًا؟ فقال قوم: يصيرُ هلالًا لليلتين ثمّ يصير بعدها قَمَرًا. وقال آخرون: لا يسمَّى هلالًا حتّى يُحَجَّر بحجره، أي يستدير بخطِّه، والهلال لا يكون إلَّا في اللّيلة السّابعة على قول أهل اللُّغة (¬6). الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى: قوله: "فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ" قال علماؤنا: الصوم يجب بطريقين: أحدهما: الرُّؤْيَةُ العامَّة، مثل أنّ يراه العدد الكثير والجمّ الغفير، فهذا لا يفتقر فيه إلى تعديل؛ لأنّه من باب الخَبَرِ المتواتر، نَصَّ عليه ابن عبد الحكم؛ لأنّ باب ¬
الشهادة من باب الإخبار. والرُّؤْيَةُ إذا كانت فَاشِيَةً صيم بغير خلاف، وإن كان الغيم قبل فيه الشهادة (¬1) بغير خلاف، وإن كان الصّحو والنّظر عسير؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشّافعيّ: لا يقبل الواحد، وقبِلَهُ أبو ثَوْر. وأمّا الصّوم، فاتَّفَقَ هؤلاء على قَبُولِ الواحدِ فيه، إلّا مالكًا خاصّة فإنّه رَدَّه (¬2)، وأجاز أبو حنيفة فيه شهادة الواحد والمرأة والعبد (¬3). وسبب الخلاف فيه، هل هذا من باب الإخبار، أو من باب الشّهادة؟ وما كان (¬4) طريقه السّماع يُقْبَل فيه الواحد، كالخَبَر عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه حَكَمَ بحُكْمٍ من الأحكام، وما كان يختصّ به بعض الأشخاص كالقول: هذا عبد هذا، وشبه ذلك، فيقبل (¬5) فيه اثنان. مزبد بيان: قال الإمام: والطّريق الثّاني لا يخلو أنّ تكون السّماء مغيمة أو مصحية، فأيّهما كان فلا يقبل فيهما إلَّا شاهدان، وبه قال الشّافعيّ في الفِطْر، وخالف في الصّوم. ودليلنا: أنّه أحد طرفَي الشّهر، فافتقر إلى شاهِدَيْن كالطَّرف الثّاني. وأمّا قول أبي ثَوْر: يفطر ويصام بشاهد واحدٍ لأنّه من باب الخبر. قلنا: إنّ هذه شهادة تفتقرُ إلى العدد كسائر الشّهادات. فإن كانت السّماء مصحية؟ فمَالِك وجمهور أصحابه والشّافعيّ على قَبُولِ عَدْلَيْنِ. فأمّا العامّة (¬6)، فهو أنّ يرى الهلال الجمّ الغفير والعدد الكثير- كما تقدّم- حتّى يقع بذلك العلّم الضّروريّ، فهذا لا خلاف في وجوب الصّوم لمن رآه ولمن لم يره، فهذا يخوج عن حكم الشّهادة إلى حُكم الخبر المستفيض، وذلك مثل أنّ تكون القرية ¬
الكبيرة يَرَى أهلها الهلال، فيراه منهم الرجال والنّساء والعبيد ممّن لا يمكن منهم التّواطؤ على باطل، فيلزم النّاس الصوم. المسألة الثّانية (¬1): فإذا ثبت الشّهر بالشَّهادَةِ، جاز نقلُه على خبر العدل دون خبر الفاسق، نصّ عليه أحمد بن ميسر وقال: يلزم الصّوم من باب قَبُولِ خَبَرِ الواحد العَدْل لا من باب الشّهادة، قال ابن أبي زيد: هو كما قال؛ لأنّه للرَّجُلِ أنّ ينقل لأهل بيته وابْنَتِهِ البِكْر مثل ذلك، فيلزمهم تبييت الصِّيام بقَوْلِهِ ونَقْلِه. قال الإمام (¬2): وهذا وَهَمٌ منه؛ لأنّ أهل البيت يأخذون بقول صاحب البيت، لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَلَا وَكُلُّكُمْ رَاعٍ ... " الحديث (¬3)، ولهذا يجوز نقله إليهم ولو لم يكن عَدْلًا، وينفذ حكمه عليهم وإن كان فاسقًا. وإذا نقل العدلُ رواية أهل بَلَدٍ إلى بلدٍ، فإنْ نقلَهُ على استفاضة، عُوِّلَ عليه وعُمِلَ به. قال الإمام: ومعنى ذلك؛ أنّ الصّوم يكون ثبوته بطريقين: أحدهما: الخبر. والثّاني: الشّهادة، وذلك إنْ قلَّ عدد الرَّائِينَ له، وإذا ثبت (¬4) من طريق الشّهادة فيجب أنّ يعتبر فيه من صفات الشُّهود وعَدَدِهم واختصاص ثبوته بالحكم (¬5) ما يعتبر في سائر الشهادات. وجه ذلك: اختلاف حال النّاس في رؤيته، وأنّ اختصاص بعض النّاس برؤيته دون بعض (¬6). ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا (¬2): وإذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثمّ بلغ ذلك أهل الكوفة والمدينة واليمن، فالّذي رواه ابن القاسم وابن وَهْب في "المجموعة" لزمهم الصّيام أو القضاء إنْ فات الأداء. وقال ابن الماجِشُون: إنّ ثبت بالبصرة بأمرٍ شائعٍ يستغني عن الشهادة (¬3)، والتّعديل، فإنّه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضَاء، وإن كان إنّما ثبت بشهادة شاهدَيْن (¬4) ثم يلزم ذلك من البلاد إلَّا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممّن هو في ولايه، أو يكون ذلك ثبت عند أمير المؤمنين، فيلزم القضاء جماعة المسلمين، وهذا قول مالك (¬5) - رحمه الله -. ووجه الرِّواية الأولى: أنّه لما ثبت عند (¬6) الحاكم، انتقل (¬7) الخبر الّذي ثبت عنده ليتمكّن (¬8) أخذ ذلك عنه، فوجب أنّ يستوي حكم ما ينقل عن الحاكم (¬9)، وما عمّت رؤيته؛ لأنّهما قد عَادَا (¬10) إلى الحكم الّذي هو خبر (¬11). ووجه الرِّواية الثّانية: أنّه حُكْمٌ من الحاكم، فلا يلزم إلّا من تناله ولايته ويلزمه حُكْمُه (¬12). المسألة الرّابعة: قوله: "فَإن غُمَّ عَلَيْكُمْ" قد تقدّم قوله: "فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" تحقيق واضحٌ في ذلك ¬
المعنى أيضًا، وقضى في أنّ لا يتعدَّى رؤية الهلال في الفِطْر والصَّوم؛ لأنّه معيار العبادة الّذي يحقّق مقدارها المفروض. وأمّا (¬1) قوله: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ" بناء "غم" للسّتْر (¬2) والتّغطية، ومنه الغمّ، فإنّه يُغَطِّي القلبَ عن (¬3) استرساله في أَمَانِيهِ (¬4)، ومنه الغمام وهي السَّحَاب (¬5). ورُوِيَ فيه: "فَإِنْ عُمَّ عَلَيْكُمْ" بالعين المهملة من العماء، وهو بمعناه؛ لأنّه ذهاب البَصَر عن الشهادة، أو ذهاب (¬6) البصر عن المعقولات، ومثله فإن حالت دونه "غمامة" أو"غياية" بالعين المعجمة والياءين المعجمتين (¬7)، ومثله أيضًا "الغي" وهو الّذي لا يظهر معه الرُّشْد يستره ولا يظهر معه (¬8)، وهو الحجاب الّذي على القلب من الغَفْلَةِ عن الحقِّ والدِّين، من الكفر. ويروى: "فَإِنْ غِيمَ عَلَيْكُمْ" أي: إنّ حال بينكم وبين رؤيته غيم، ويروى: "فَإِنْ غمَّ" يقال: غمَّ علينا الهلال وغمى وأغمى فهو مغمى عليه، وقد غامت السَّماء تغيم غيومه فهي غائمة ومغيمة، وأغامت وغيمت وتغيَّمَت. وقد رُوِيَ عن أحمد بن حنبل؛ أنّه قال: إذا حال دون منظر الهلال غَيْمٌ، فليصبح صائمًا لعلَّهُ يكون من رمضان، وكذلك كان يفعل عبد الله بن عمر في رواية نافع عنه، على ما يأتي بيانُه إنّ شاء الله. المسألة الخامسة (¬9): قوله: "فَاقْدُرُوا لَهُ" أي: احسبوا، ومنه القَدْر والتَّقدير، أي معرفة المقدار، فَسَّرَهُ قوله: "فأكملوا العدّة" وقد ورد في الصّحيح: "فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا". ¬
وقال علماؤنا: قوله "فَاقدُرُوا لَهُ" إنّ الهاء في "له" (¬1) تعود على الشّهر وهو الهلال المتقدِّم الذِّكْر *وهو الهلال سُمِّيَ بذلك لشهرته، ويقال: الاسم يعود (¬2) إلى الأيام الّتي تختلف عليه فيها أحواله الثلاثة من الابتداء والاستواء والانتهاء* (¬3)، وقد جمع بينهما في الحديث الصّحيح، واللّفظ لمسلم (¬4)، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشرُونَ" معناه: حصره من جهة أحد طَرَفَيْه وهو النُّقْصَان، أي أنّه قد كان تسعًا وعشرين وهو أقلّه، وقد يكون أكثر، فلا تأخذوا أنتم بصوم الأكثر لأنفسكم احتياطًا، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفًا، ولكن اربطوا عبادتكم برؤيته، واجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداءً وانتهاءً باستهلاله. نكتةٌ: قوله: "فَإنْ غُمَّ" يريد من الغيم لا من العدد، الدّليل على ذلك قوله: "لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ" والحديث يفسّر بعد هذا. وقال ابن حبيب (¬5): "يريد من العدد، ولو أراد الغيم لقال: غُيِّمَ عليكم" وأخطأ لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "غُمَّ" من الغيم مجاز، فَفَرَّ من المجاز ووقع فيه. وقوله: "فَاقْدُرُوا لَهُ" ذهب بعض العلّماء إلى أنّ الهلال إذا التبس على النّاس فإنّه يحسب له بحساب المُنَجِّمِين، وزعم أنّ هذا الحديث يدلُّ على ذلك، واحتج أيضًا بقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬6) على أنّ المراد به الاهتداء في الطُّرق في البَرِّ والبحر. وقالوا أيضًا: لو كان التّكليف يتوقَّفُ على حسابِ النّجوم لضاقَ الأمرُ فيه، إذ لا يعرف ذلك إلَّا قليل من النّاس، والشَّرعُ مبنيٌّ على ما يعلمه الجماهير من العلّماء. وأيضًا: فإنّ الأقاليم على رأيهم مختلفة، ويصحّ أنّ يُرَى في إقليم دون إقليم، فيؤدِّي ذلك إلى اختلاف في الصّوم عند أهلها، مع كون الصّائمين منهم لا يعدِلُون غالبًا على طريق مقطوع، ولا يلزم قومًا ما ثبت عند قوم من طريق النّجوم. ¬
وفي الصّحيح؛ قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ" ثمّ قال: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثين" قال علماؤنا: معناه أنّ الشّهر مقطوع بأنّه لا بدّ أنّ يكون تسعًا وعشرين بأنْ ظهر الهلال، وإلّا طلب أصل العدد الّذي هو ثلاثون يومًا، وهو نهاية عدده. قال الإمام: فإن غمّ الهلال، عمل على تقديره بالحساب، فإذا قال الحاسب: هو اللّيلة على درجة من الشّمس يمكن أنّ يظهر فيها لو لم يكن غيم، فإنّه يعمل به على قوله في الصّوم والفِطْر، لقوله: "فَاقْدُرُوا لَهُ" يريد فاحسبوا له تقدير المنازل الّتي أخبر الله عنها بقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} الآية (¬1). تنبيه على وَهَمٍ: وقد سقط بعض المتأخرين من الرّاحلين (¬2) هاهنا سقطة كبيرة، فنسب هذا القول لبعض الشّافعيّة، وما قال بهذا القول أحدٌ غير واحد من التّابعين. إنصاف (¬3): قال الإمام: وقد كنت رأيت للقاضي أبي الوليد الباجي (¬4) بأنّ بعض (¬5) الشّافعية يَقُول: إنّه يرجع في استهلال الهلال إلى الحساب وإلى حساب المنجِّمين، فأنكرت ذلك عليه، حتّى أخبرني فخر الإسلام أبو بكرٍ الشّاشي (¬6) وأبو منصور محمّد بن الصّبّاغ (¬7) حديثًا بمدينة السّلام (¬8)، عند الإمام أبي نصر ابن الصّبّاغ (¬9) بباب حرب ¬
منها (¬1)، وعَمّ أبي منصور، قال: لا يؤخذ في استهلال الهلال بقول المُنَجِّمين، خلافًا لبعض التّابعينَ. وكذلك حدَّثني أبو الحسن الطّيوريّ، عن القاضي أبي الطَّيِّب الطَّبريّ، عن أبي حامد الإسفراييني إمام الشّافعية في وقته بمِثْلِهِ، فكُنْتُ كثيرًا ما أسطو على أبي الوليد بوَهَمِهِ، حتّى وجدتُ في "زِمامِ المياومة" أنّ أبا بكر ابن طرخان بن يلتكين حدثني؛ أنّه قرأ على أبي عُبَيْد قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَاقْدُرُوا لَهُ" أي: اقدروا له منازل القمر، قال أبو العبّاس بن سُرَيْج -رئيس مذهب الشّافعيّ ومُحْيِي رسم مذهبه-: هذا خطاب لمن خصّ الله بهذا الكلام (¬2)، وقوله: "فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" خطاب للعامَّة. قال الإمام: وهذه هَفوَةٌ لا مردَّ لها، وعثرةٌ لا إقَالَةَ فيها، وكبوة لا استقالةَ منها، ونبوة لا قُرْبَ معها، وزَلَّةٌ لا استقرارَ بعدها، أَوْهِ يا ابنَ سُرَيج! أين استمساكك بالشَّريعة! وأين صوارمك السُّرَيْجِيّة؟ تسلك هذا المضيق في غير طريق، وتخرج إلى الجهل بعد (¬3) العلّم والتّحقيق، ما لمحمد والنّجُوم! ومالك للترامي هكذا (¬4) والهجوم، ولو رُوِّيتَ من بحر الآثار، لانجلى عنك الغُبَار، وما خَفِيَ عليك في الرُّكُوبِ الفرس من الحمار، وكأنّك لم تقرأ في الصَّحيح من الحديث الصّريح، قوله: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّة لَا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذا"، وَأَشَارَ بيَدِهِ الْكَرِيمَة ثَلاَث إشَارَاتٍ، وَخَنَسَ بِإِبْهَامِهِ في الثَّالِثَةِ (¬5)، فإذا كان ابن سُرَيْج وبعض التّابعين يتعلّق بدقائق النُّجوم ودرجاتها، فإنّا نقول: نحن لا ننكر أصل الحساب، ولا جري العادة في تقدير المنازل، ولكن لا يجوز أنّ يكون المراد بتأويل الحديث ما تأوّله وذَكَرَهُ لوجهين: أمّا أحدهما: فما تَفَطَّن له مالكٌ وجعله أصلًا في تأويل الحديث لمن بعدَهُ، وذلك أنَّه قال - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الأوّل: "فَاقْدُرُوا لَهُ" فجاء بلفظٍ مُحْتَمَلٍ، ثمّ فسَّرَ ¬
الاحتمال في الحديث الثّاني فقال: "وَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ" فكان تفسير التّقْدِير. وأمّا الثّاني: فلا يجوز أنّ يُعَوَّلَ في ذلك على قول الحساب، لا لأنّه باطلٌ، ولكنّه صيانة لعقائد النّاس من الارتباط بالعُلْويّات (¬1) وأنْ تعلق عباداتها بتداوير الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عَجَّاجٌ إنْ دخلوا فيه غَرِقُوا، والنّجاة في قوله: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسبُ ... " الحديث. فإذا كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - ينفي عن نفسه تصريف الأنامل المعتادة عند أهل الحساب، فأَوْلَى وأَحْرَى أنّ ينفي عن نفسه تصريف الكواكب وتَعْدِيلَهَا (¬2). قال الإمام: فإذا انتهى القول هاهنا، فإنّ العلّماء اتّفَقُوا على أنّ قول المؤذِّن الواحدِ مقبولٌ في الوقتِ للصّلاة، وفي الفِطْر والإمساك للصّوم، قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِي ابْن أُمِّ مَكْتُومٍ ... " الحديث (¬3). فإذا كان هذا هكذا، فإنّه قد اختلفوا في لزوم الصّوم لرمضان والخروج عنه على أربعة أقوال: القول الأوّل: إنّه لا يصام ولا يفطر إلَّا بشاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ غير مستورين (¬4)، قاله مالكٌ، وإسحاق، واحد قولي الشّافعيّ، وجماعة كثيرة. الثّاني: قال الشّافعي: يُصامُ بشاهدٍ واحدٍ، ولا يفطر إلَّا بشاهِدَيْن رَجُلَيْن عَدْلَيْن. الثّالث: يصام ويفطر بشاهدٍ واحدٍ، قاله أبو ثَوْر. الرّابع: إنْ كانت السّماء مغيمة (¬5)، لم يقبل في الهلال شاهدان (¬6) -وبه قال سحنون- حتّى يكون الخبر مستفيضًا. ومدارُ المسألة من طريق الأثر على حديث (¬7) ابن عبّاس دون غيره، قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ ألَّا إِلَهَ إلَّا الله، أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ يَا بِلاَل، أَذِّنْ في النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا ¬
غَدًا" (¬1) وقال التّرمذيّ (¬2): فيه اختلاف تارة يُسْنَد وتارة يرسل (¬3). قال الإمام: وليس هذا بعيب في الحديث، ولا قادح فيه، وقد بيَّنَّا طرق الأحاديث وما يعلَّل منها وما يُتْرَك في أول "الكتاب" فلينظر هنالك. نكتةٌ في ذلك (¬4): وإنّ الرّاويين إنْ كانا مختلفين (¬5)، فقد أفاد أحدهما ما لم يفد الآخر، وإن كان واحدًا، فجائزٌ له أنّ يُسْنِدَ في رواية ويُرْسِل أخرى. المسألة السّادسة (¬6): لما علّق النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الحكم على الرُّؤية، وذكرنا (¬7) أنّه خبر أو شهادة، وحقّقنا أنّه خبرٌ ينقله مسلم إلى مسلمين، فعرضت هاهنا نازلة جرت لابن عبّاس، وقع في "صحيح مسلم" (¬8) أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلاَهُ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فَسَأَلَهُ ابْن عَبّاس عَنْ رَمَضانَ؟ فَقَالَ لَهُ كُرَيْب: أَهْلَلْنَا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، قَالَ لَكنْ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُهُ حَتَّى نُكْمِلَ ثلاثين (¬9)، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؟ فَقَال: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -. فاختلف النّاس في تأويل هذا الحديث (¬10): فمنهم من قال: إنّما فعلَ ذلك ابن عبّاس لاختلاف الأقطار في ارتفاع الهلال وانخفاضه وعُلُوِّه في الأُفُق وسفله، وإليه أشار البخاريّ (¬11) بقوله: "باب لأهل كلّ بلد ¬
رؤيتهم" وهذا لا يُسْتنْكَر في مطالع السّموات، فإنّ سهيلًا يظهر في بعض الأُفُقِ دون بعض، وبَنَات نَعْش نَيْرٌ (¬1) شماليّ (¬2) تراها آخر الصَّيف حيث يطلع سُهَيْل، ويغيب من كواكبها السّبعة اثنان وتبقى خمسة، ونراها في بلدنا مستقلة عن الأُفُقِ (¬3) بعيدة عن مَحَلِّ الغُروب. ومنهم من قال في تأويل هذا الحديث: إنَّ السَّماء كانت مصحية، فلم يره أحد من أهل المدينة، فكانت رؤيتهم أَقْوَى من خَبَرِ كُرَيْب، إذ لم يكونوا يرجعون من المعاينة إلى الخبر (¬4)، فليس الخبر كالمعاينة (¬5). المسألة السابعة: قوله: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ" يقتضي منع الصّوم في آخر شعبان، فإنّ رؤية هلال رمضان والمراد به منع ذلك على معنى التَّلقِّي لرمضان والاحتياط، وقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضانَ بصِيَامٍ قَبْلَهُ، بِيَوْمٍ وَلاَ بِيَوْمَينِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يَصُومُ صَوْمًا" (¬6). نكتةٌ أصوليّة (¬7): الذَّرائعُ أصلٌ من أصول الفقه، وهو كلُّ فعل جائزٍ في ذاته مُوقع في محذور أو محظُورٍ لعاقبته (¬8)، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرَّتَيْنِ، مثلٌ لا حقيقة عند الأكثر، وحقيقةٌ عند الأقلِّ، والأوّل أصحّ، وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ" (¬9) فما زال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يحذّر فعلهم ويكرّر إبلاغًا في المعذرة ¬
وإسقاطًا للحُجَّة، وقد روى التّرمذيّ في "مُصَنَّفِهِ" (¬1) قال: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَان فَلَا تصُومُوا حَتَّى تَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ" كلّ ذلك توقِّيًا من الزِّيادة وتقية من رهبانيةِ أهل البدع. وقال أيضًا مطلقًا: "لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَإِنْ حَالَت دُونَه غَيَايَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا" (¬2) حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬3) في البابِ. قال عمّار: "مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَذِي شَكَّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ" (¬4) وهذا احتياط منه على العبادة، وروى أبو داود (¬5): "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَان فَلَا يَصُومَنَّ أَحَدكُمْ حَتَّى يَأْتِي رَمَضَان". قال الإمام: وهذا إنّما فَعَلَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - احترازًا ممّا فعله أهل الكتاب؛ لأنّهم كانوا يزيدون في صومهم على ما فرضَ اللهُ عليهم أوَّلًا وآخِرًا، حتّى بدَّلُوا العبادةَ، فلهذا لا يجوز استقبال رمضان ولا تشييعه من أجله، ولأجل هذا قلنا في قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالَ ... " الحديث (¬6) لأنّه لا يحلّ صلتها بيوم الفطر ولكن يصومها متى ما كان؛ لأنّ المقصود بالحديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِن شَوَّالَ ... " الحديث، فقد حصلت له المثوبة ثلاث مئة وستِّين يومًا، وذلك الدَّهْر؛ لأنّ الحَسَنَةَ بعشر أمثالها، فأفضلها أنّ تكون في عشر ذي الحِجَّة إذ الصّوم فيه أفضل منه في شوال. حديث: قوله (¬7): "رُئِيَ الْهِلَالُ في زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِعَشِيٍّ، فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ حَتَّى أَمْسَى". قال علماؤنا (¬8): في هذا دليلٌ على أنّه كان في رمضان، وأنّ الهلال الّذي رُئِيَ هو هلال شوال، ولا خلافَ بين النّاس أنّه إذا رُئِيَ لا يَخْلُو أَنْ يُرَى قبل الزَّوَالِ أو بعدَهُ، وأيّهما كان فإنّه للّيلة المستأنفة القابلة، وقيل: إذا رُئِيَ قبل الزّوال فإنّ مالكًا وأبا حنيفة والشّافعيّ وجمهور الفقهاء يقولون: إنّه لليلة القادمة، وقال ابن حبيب وابن ¬
وهب وأبو يوسف: إذا رئي قبل الزّوال فهو للّيلة الماضية (¬1)، وإنْ رُئِيَ بعد الزَّوال فهو لليلة المقبلة. قال الإمام أبو بكر: هما سواء، رُئِيَ قبل الزّوال أو بعدَهُ ولا يلزم؛ لأنّه عملٌ بتقدير المنازِلِ وحِسَابِ النُّجومِ. وروى ابن نافع عن مالكٌ؛ أنّ الإمام إذا كان يصوم بالحساب ويفطر بالحساب أنّه لا يُقْتَدَى به. قال الإمام: وقد نزلت بالمهدية نازلة وَأَنَا بها، وكان الوَالِي نُجُومِيًّا، فاقتضَى حسابه عنده أنّ اللّيلة للهلال، وأراد العمل به فلم يمكن، حتّى عَضَدَ نفسه بكتاب جاء من البادية؛ أنّ الهلال استهلّ البارحة بشاهدٍ واحدٍ، فسأل المفتين بها، فأَفْتَوْا عليه أنّه لا يعمل بالواحد، وأفتاه بالعمل بالوَاحِدِ مَنْ كان يداخل أهل دولته وينظر في شيء من الحساب: فاختارَ العملَ على ذلك الكتاب فأَنْفَذَهُ (¬2)، وعَظُمَ ذلك على النّاس أيضًا، ولكلنهم سلَّمُوا الحُكمَ للهِ. قال الإمام (¬3): والدليل على ما ذهب إليه الجمهور: أنّ هذا الهلال رُئِيَ نهارًا فوجب أنّ يكون لليلة القادمة، أصلُه إذا رُئِيَ بعد الزّوال، وهذا الخلاف إنّما هو إذا رُئِيَ يوم ثلاثين، ولا يصحّ أنّ يكون قبل ذلك. مسألة: إذا رأى هلال رمضان وحده فإنّه يصومُ عند جمهور الفقهاء؛ لأنّه إذا صام برؤية غيره وهي ظَنٌّ، فأَوْلَى وأَحْرَى أنّ يصومَ برؤية نفسه الّتي هي يقين، ولقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬4). ومن جهة المعنى: إنّه إذا لزمه الصَّوم برؤية غيره، فَأَوْلَى أنّ يصومَ بتحقيق نفسه. فرع (¬5): فإن أفطرَ متعمِّدًا عَالِمًا بما عليه، لَزِمَتْه الكفَّارة، ولا خلافَ في المذهب في ¬
ذلك (¬1)، وقال أبو حنيفة: لا كفّارة عليه (¬2). ودليلنا: أنّه انتهاك (¬3) حرمة يوم يعلمُ أنّه من رمضان فلزمته الكفّارة، كما لو أفطر اليوم الثّاني. فإن رأى هلال شوال وحده، فلا يخلو أنّ يكون مسافرًا أو حاضرًا؟ فإن كان حاضرًا لم يجب عليه الفِطْر للعلَّة الّتي ذكر مالك - رضي الله عنه -. وقال أَشْهَبُ: يفطر بنيَّته ويُمْسِك عن الأكل (¬4)، وإن كان مسافرًا جاز له الأكل. مسألة: فإذا ضَيَّعَ الإمام أمر الهلال، وجب على النّاس أنّ يَتفقَّدُوا ذلك من أنفسهم عند أهل القُطْر ومن يُقْتَدَى به؛ لأنّ صوم رمضان من فروض الأعيان لا من فروض الكفايات. مسألة (¬5): وإذا صامَ النّاسُ يومَ الفِطْر وهم يظنُّون أنّه رمضان، فجاءهم الخبر أنّ الهلال قد رُئِيَ، أَفْطَرُوا أيَّ ساعة جاءَهُم الخبر، ولم يُصَلُّوا (¬6) لا قبل الزّوال ولا بعده؛ لأنّ صلاة العيد تفوتُ بزوال الشّمس (¬7). مسألة (¬8): فإنْ أصبحوا مفطرين يظنّونَ أنذه من شعبان، فجاءهم الخبر أنّ هلال رمضان قد رُئِيَ: قال ابنُ القاسم: يصومُ منهم من أكلَ ومن لم يأكل، فإن أفطر متعمِّدًا وَجَبَتْ عليه الكفّارة. ¬
وقال القاضي أبو محمّد: والقياس يُوجِبُ أَلَّا كفّارة عليه؛ لأنّه لم يفسد صومًا (¬1)؛ لأنّ الكفّارةَ إنّما تجب بالتّعَمُّد (¬2) وبإفساد الصَّوم (¬3)، يبيِّنُ ذلك أنَّه لو أفسد الصّوم بالأكل لكانت (¬4) عليه الكفّارة، ولو أكل مرّة ثانية في يومه ذلك لم تجب عليه كفّارة؛ لأنّه لم يفسد بذلك صومًا. مسألة: فإن شهِدَ شاهدٌ على هلال رمضان ليلة الاثنين، فردَّ القاضي شهادته، ثم شهِدَ شاهدٌ على هلال شوال على ليلة الأربعاء؟ قال يحيى بن عمر: لا تلفّق الشّهادة بهما؛ لأنّ الأُولَى رُدَّتْ بالحاكم، فلا تُقْبَل شهادة مردودة. حديث- قوله (¬5): "شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وذكر البزّار: "شَهْرا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَا ثَمَانِية وَخَمْسِينَ يَوْمًا" وقد (¬6) سمعت من حسبهما ووجدهما ناقصين عددًا. وأمّا قوله: "ثَمَانِية وَخَمْسِينَ يَوْمًا" هو تفسير لمن تأوَّلَهُ في العَدَدِ، وأمّا تفسير من تأوّله في الفَضْلِ فلا يحتاج إلى هذا. ومذهب إسحاق؛ أنّهما لا يكونان ثمانية وخمسين يومًا، وإنّما يرجع ذلك إلى الفَضْل. والمسألة قريبة لا يتعلّق بها حُكْمٌ ولا عِلْمٌ ولا عَمَلٌ، فإنّ الأَجْرَ كامِلٌ باتِّفَاقٍ، وما وراء ذلك تعب غير مُثْمِرٍ (¬7) لمعنى. وقال أبو عبد الله (¬8): "معناه لا ينقصان من الأجر وإنْ نقص العدد. وقيل معناه في عامٍ بعَيْنِهِ". وقيل: لا يجتمعان ناقصين في سَنَةٍ واحدةٍ في غَالِبِ الأمرِ. ¬
باب من أجمع الصيام قبل الفجر
باب من أجمع الصِّيام قبل الفجر مالك (¬1)، عن نافع، عن ابن عمر؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا صَوْمَ إِلَّا لِمَنْ أَجْمَعَ الصِّيامَ قَبْلَ الْفَجْرِ. الإسناد: الحديث صحيحٌ، وقد رُوِيَ من طُرُقٍ: روى ابن القاسم عن مالك قال: لا صَوْمَ إِلَّا أَنْ تُبَيِّتَ الصِّيامَ مِنَ اللَّيلِ (¬2). وروى التّرمذيّ (¬3)؛ أنّه قال عن عبد الله بن عمر، عن أخته حفصة، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ" قال (¬4): وتفرّد به يحيى بن أيّوب، وهو مرفوع السَّنَد. قال الإمام (¬5): هذا حديثٌ عَزِيزٌ لم يقع لأحدٍ من أهل المغرب قبل رِحْلَتِي، وهو من فوائدي الّتي انفردتُ بها عن أهل المغربِ الّذين ظَنُّوا أنّه لا يوجد صَحيحًا، وقد أَسْنَدْتُه في "العارضة" (¬6). العربية (¬7): قوله: "يجمع" يعني ينوي، أصله من جمع شتات الرأي (¬8) وتقسيم الخواطر إلى وجهٍ واحدٍ، ومنه قول الشّاعر: يا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ ¬
ويروى: "يبتّ" يعني: يقطع عليه، ويرجع إلى الأوّل، أي يحذف عنه ما يعارضه ويفرد عن سواه. الأصول (¬1): قال الإمام: هذا الحديث رُكْنٌ من أركان العبادات، وأصلٌ من أصول مسائل الخلاف، فأمّا ما يتعلّق به من أصول الفقه، فإنّ القَدَرِيَّة لبّست (¬2) به على سَلَفِنا (¬3) الأصوليِّين، فأسلكتهم في ضنكٍ من النَّظَرِ، قالت لهم: إنّ النَّفْيَ بلا إذا اتَّصَلَ باسْمٍ على تفصيل فإنّه مُجْمَلٌ، وفاوَضُوهم عليه وناظروهم فيه، وما كان لهم أنّ يفعلوا (¬4). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى: في حقيقة النية وقد تكلم النّاس فيها على أقوال كثيرة ليس هذا موضع بسطها؛ وإنّها تجري في (¬5) المرء مَجْرَى الرُّوح في الجَسَد، وهي القصد، وهي أيضًا اجتماع القلب على حقيقة الفعل، وهي العزم. المسألة الثّانية: عندنا (¬6) أنّ كلّ يوم يلزم التبييت في صومه لا يجوز أنّ يعرى أوّله عنها. وقال أبو حنيفة (¬7): إنّ كان قضاءً، لم يجز أنّ تعرى أوله عن النّية، وإنْ كان مُعَيَّنًا كرمضان أو نَذْر معيَّنٍ جازَ أنّ يعرى أوّله عنها. وقال الشّافعيّ: إنّ كان واجبًا لم يعر أوله عنها، وإن لم يكن واجبًا جاز أنّ يعرى أوّله عنها، وبه قال أحمد بن حنبل. ¬
قال الإمام (¬1): والمسألة تنبني على أصلّين، وهما: أنّ رمضان كلّه عبادة واحدةٌ، أو عبادات؟ والأدلّة متعارضة، والّذي يدلُّ على أنّه عبادة واحدةٌ؛ أنَّه لا يتخلّله صوم آخر، والدّليل على أنّه عبادات؛ أنّ فسادَ يوم منه لا يتعدّى إلى آخر، وهذا الأصل متزعزع على أبي حنيفة والشّافعيّ؛ لأنّ فسادَ ركعة من الصّلاة لا يتعدَّى عندهم إلى جميعها. وكذلك نقول نحن في مسائل الصّلاة، وبهذا الأصل اختلف قول مالك في تجديد النِّيَّة كلّ ليلة، وبه أقول. المسألة الثّالثة (¬2): قال أبو حنيفة: تكفيه نِيَّةُ الصَّومِ مُطْلقًا وإن لم يَنْوِ رمضان؛ لأنّ الوقت قد عيّنَ له فرجع مطلَق اللَّفظ إليه. قال الإمام: وهذا فاسدٌ لوجهين: أحدهما: أنّه يكون له ثواب صوم مُطْلَقٍ لا رمضان كما نوى، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ امْرِيءٍ مَا نَوَى" (¬3). الثّاني: أنّه يبطل بصلاة المغرب (¬4)، فإنَّ الوقتَ عند الغروب معيَّن لها، ثمّ لا بدّ من تعيينِ النِّيَّة فيه، ولا يكفيه مطلق نيّة الصّلاة. ولا تجزئه نيته (¬5) من النّهار حتّى يكون متَّصِلًا بفجرٍ أو قبله كما جاء في الحديث. وكان الخطيبُ بأصبهان حامد بن رجاء البغدادي، وصل إلينا حَاجًّا سنة تسعين وأربع مئة، فذكرنا له في هذه المسألة نكتةٌ بديعة عن الشّيخ الإمام جمال الإسلام أبي بكر محمّد بن أحمد بن ثابت (¬6) في هذه المسألة، فقال: إنَّ النِّيَّة هي القَصْد، والقَصْد إلى الماضي محالٌ عَقْلًا، وانعطافُ النِّيَّةِ معدومٌ شرعًا، فصار قولُه: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبيِّت الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" مُجْمَلًا، فحمَلَهُ مالك على عمومه في النَّفْلِ والفَرْضِ، والحقُّ مَعَهُ؛ لأنّ القصدَ بالفعلِ إنّما يكون حالةَ الفِعْلِ، وأمّا بَعْدَهُ فمحالٌ أنّ يرجع إليه؛ لأنّ المستقبلَ لا يلحق الماضي حِسًّا ولا حُكْمًا، وهذا الكلام قريبٌ من الأوَّلِ. ¬
وغَلطَ الشّافعيّ في النَّفْلِ، فقال: إنّه يجزئه بنِيَّتِهِ من النّهار، وتَابَعَهُ على هذا الغَلَط أبو حنيفة، وزاد بأنْ قَاسَ الفَرْضَ عليه بأن قال: ويجوز أيضًا صوم رمضان بنيَّةٍ من النّهار. والّذي أوقعهم في هذا الخلاف الحديث المشهور؛ أنّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - دخل بيته فقال: "هَلْ عِنْدَكم مِن طَعَامٍ؟ فَقَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ" (¬1) قالوا: ولم يكن طلبه للطّعام عَبَثًا، وإنّما كان ليأكل، فلمّا لم يجده نوى الصوم. الجواب - قلنا: وفي أيِّ وقت كان هذا من النّهار، ولعلّه كان بعد الظُّهر وأنتم لا تقولون به، فليس لكم على هذا الحديث حُجّة، ونحن نقول: إنّه نوى الصِّيام لَيْلًا، وطلبُ الطّعام على أصلكم لا يضرّ؛ لأنّ التَطَوُّع عندكم لا يلزم التّمادي فيه، فقد خرج الحديث عن أيديكم من كلِّ وجهٍ. المسألة الرّابعة: والذي عليه المذهب (¬2)؛ أنّ صيام شهر رمضان يجزئ بنِيَّةٍ واحدةٍ في أَوَّلِهِ، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: ينوي النِّيَّة كلّ ليلةٍ (¬3)؛ لأنّ اليوم الثّاني صوم يوم واجب فافتقرَ إلى نيَّةٍ كالأَوَّلِ. ودليلُنا: قولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ امْرِيءٍ مَا نَوَى" وهذا قد نَوَى الشَّهر كلَّه فوجب أنّ يجزئه. ولأنّ رمضان عبادة تجب في العام مَرَّةً واحدة، فاكتفي فيه بنية واحدةٍ كالزَّكَاةِ. المسألة الخامسة (¬4): قال: وكذلك كلُّ من نَوَى صومًا مُتَتَابِعًا بنَذْرٍ أو كفَّارَةٍ، أو كان شأنّه سَرْد الصِّيام، أو رَجُل عادته صوم الاثنين والخميس، فإنّه يكتفى في ذلك بنيَّةٍ واحدة (¬5)؛ لأنّ ذلك ¬
كلّه يجعله في حكم العبادة الواحدة. قال الشّيخ أبو بَكْر الأبْهَرِيّ: ذلك استحسانٌ (¬1). المسألة السّادسة (¬2): وهل يجزئ القضاء عن نِيَّةِ الأداء (¬3)، ففيه عن علمائنا قولان: القولُ الأوّل: تجزئ نيَّةُ الأداء عن القضاء، وفي ذلك قولان مبنيان على مسألة الأسير الّذي التبست عليه الشُّهور، فصام شعبان أعوامًا يعتقد أنّه رمضان، فإنّه يجزئه (¬4) عن رمضان الأوّل؛ لأنّه قضاء (¬5) عنه (¬6). والصّحيح أنّ نِيَّةَ الأداء تنُوبُ عن نِيَّةِ القضاء، ولا تنوبُ نيَّةُ القضاءِ عن نِيَّةِ الأداءِ (¬7). المسألة السابعة (¬8): قال علماؤنا (¬9): فوقتُ النِّيَّةِ من وقت الغروب من ليلة الصَّوْم إلى طلوع الفجر إذا كان قَبْلَهُ يوم فِطْر، فمن أراد أنّ ينوي صيام أوَّل يوم من رمضان أو غيره، فوقت ذلك من وقتِ الغروب من ليله إلى طلوع الفجر من يومه. قال الإمام (¬10) - وجهُ التَّوسِعَة في ذلك: أنّ الدخول في هذه العبادة غير متعيّن للمكلَّف وهو وقت نوم وغفلةٍ، وارتقاب ذلك مشقَّةٌ، بخلاف الصّلاة. فإن كان ذلك في غير صوم مُعَيَّنٍ، فنوى ذلك من أوّل ليله، فله أنّ يرجع عن نيّته ما لم يطلع فجر يومه، وإن كان ذلك من صوم تعيَّن زمانه، فإنَّ مِنْ شرط النِّيَّةِ أنّ يستصحبها إلى وقت طلوع الفجر وهو وقت الدُّخول في الصوم. ¬
باب ما جاء في الفطر
باب ما جاء في الفطر (¬1) مالِك (¬2)، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ، وقد رُوِيَ مُسْنَدًا، وعن عبد الرّحمن بن حَرْمَلَة، عن سعيد بن المسيَّب، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مثله (¬3). الأصول: قال علماؤنا: ظاهِرُهُ أنّه - صلّى الله عليه وسلم - أشار إلى فساد الأمور الّتي تتعلّق بتغيير (¬4) السُّنَّة الّتي هي التّعجيل للفِطْر، وأنّ تأخيره ومخالفة السُنّة في ذلك كالعَلَمِ على فساد الأمور، فالمُرَاعَى نية (¬5) التعجيل لا صورة التّعجيل، ردًّا على من يؤخّره إلى اشتباك النُّجوم احتياطًا على الصوم، حتّى لو اشتغل الرَّجُل بأمرٍ ما عن الفِطْر مع اعتقاد الفِطْر (¬6) وقد انقضى الصّوم بدخول اللّيل، لم يدخل في كراهية تأخير الفِطْر، وكذلك من إشتغل بأداء عبادة كالصّلاة وغيرها كما فعل عمر وعثمان، فإنّه لا يدخل في كراهية تأخير الفطر. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬7): فإذا ثبت ما قلنا، فتمامُ الصّومِ وقت الفِطْر، هذا إذا (¬8) انقضى غروب الشّمس وكمل ذهاب النّهار. ¬
والدليل على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) وهذا يقتضي الإمساك إلى أوّل جزء من اللّيل، غير أنّه لا بدّ من إمساك جزء من اللّيل ليتيقّن صيام جميع أجزاء النّهار. المسألة الثّانية (¬2): قال علماؤنا (¬3): فبماذا يعتبر في ذلك، المفرد أو من كان في مكان ليس فيه أحد ممّن يؤذِّن؟ فإنّه إذا رأى الشّمس قد غربت أفطر. ودليلنا: الحديثُ الصّحيح من قوله: "إذا أقبلَ الليلُ (¬4) وأدبر النّهار وغابت الشّمس أفطر الصائم" (¬5) فالمراد به قد صار مُفْطِرًا، فيكون ذلك دلالة على أنّ زمان اللّيل يستحيل الصّوم فيه شرعًا. وقد قال بعض العلّماء: إنّ الامساك بعد الغروب لا يجوز، وهو كإمساك يوم الفِطْر ويوم النَّحْر عن الأكلِ. وشذَّ بعضهم وقال: إنّ ذلك جائز وله أجرُ الصائم، واحتجَّ هؤلاء بالأحاديث الواردة في الوِصَال. وقال أحمد وإسحاق: لا بأس بالوِصَالِ إلى السَّحَرِ، والصَّحيحُ ما تقدَّمَ. المسألة الثّالثة (¬6): وأمّا الأعمى، فإنّه يَعْتَبِرُ في ذلك بقول من يثقه ويعلم به، وأمّا البَصِير الّذي في الحَضَرِ فيه المؤذِّنون، فقد رَوَى ابنُ نافع عن مالك؛ أنّه لا يأكل عند أذانهم للفَجْر (¬7) وإن رأى هو الفجر لم يطلع، ولا يفطر حتّى يؤذِّنوا وإن رأى هو الشّمس قد غربت، لأنّهم موكَّلون بذلك رعاته (¬8)، وقد روى عيسى عن ابن القاسم؛ أنّه يأكل ويشرب ¬
باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا
حتّى يطلع الفجر، ولا ينظر (¬1) إلى مؤذِّن (¬2) إذا كان ممّن يعرف الفجر وكان في موضع ينظر إليه، فإن كان في موضع لا يَرَى الفجر (¬3)، فليحتط، وكذلك الفِطْر، يفطر إذا غربت الشّمس ولم يشكّ، فإنْ شكّ فليحتط، ولا ينتظر المؤذِّنِين كان في موضع فيه مؤذِّن أو لم يكن. وقال عيسى: وأمرني أنّ أكتبه، وذلك كلّه في المدينة. المسألة الرّابعة: رُوِيَ (¬4) أنّ عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان كانا لا يفطران حتّى يصلِّيا المغرب وينظرا إلى اللّيل الأسود، وذلك في رمضان. ورُوِيَ عنِ ابنِ عبّاس وطائفة؛ أنّهم كانوا يفطرون قبل الصّلاة. وإنّما الأصل في ذلك: قوله من حديث عاصم بن (¬5) عمر بن الخطّاب يحدِّثُ عنِ أبيه؛ قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬6). باب ما جاء في صيام الَّذي يُصْبِحُ جُنُبًا مَالِك (¬7)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ؛ أَنَ رَجُلًا قالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَنَا أَسْمَعُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأغْتَسلُ وَأَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ، فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ" فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ: لَسْتَ مِثْلَنَا. قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخَّرَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَقَالَ: "وَاللهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلهِ، وَأَعْلَمكُمْ بِمَا أَتَّقِي". ¬
الإسناد: قال الإمام: هذا حديث موقوف، وأَسْنَدَهُ القعنبيّ (¬1). قال أبو عمر (¬2): "سقطَ ليحيى في هذا الحديث عن عائشة، كذلك رواه عنه عُبَيْد الله ابنه. وذكر ابنُ وضّاح فيه عائشة، كما رواه سائر الرُّواة عن مالك (¬3)، وذكر مالكٌ عن عبد ربِّه بن سعيدٍ (¬4) وسُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكر (¬5)، عن أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن عائشة وأمّ سَلَمَة زوجي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّهما قالتا: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْر احْتِلَامٍ في رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ". قال الإمام (¬6): الآثار مُتَّفِقَةٌ عن عائشة وأمِّ سَلَمَة بمعنى ما ذكر مالك عنهما". الأصول: قوله: "وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ وَأُصْبِحُ جُنُبًا" فأحال على فِعْلِهِ ليُبَيِّنَ أنَّه أُسْوَة، وأنّه سواء في وجوبِ الاقتداء حتّى يقوم دليل التّخصيص له به. وقولُه: "إِنِّي لأرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ" فإن قيل: من أيِّ شيء كان يخاف (¬7) رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، والأنبياء قد أمنوا من سُوءِ الخاتمة، وقد قيل لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "قد غفرَ الله لك ما تقدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ" فلم يبق للخشيةِ وجهٌ. وقد أجبنا عن هذا السُّؤال في "الكتاب الكبير" وأَقْوَى وجه فيه؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - وإنْ كان قد أمِنَ من العقاب، فإنّه يَخْشَى من العتاب، هذا جواب أهل الإشارات. وقال سائر العلّماء: إنّما غفر له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّرَ بشَرْط امتثاله لما أُمِرَ به واجتنابِهِ لما نُهِيَ عنه، والله أعلم. ذكر الفوائد المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي أربع فوائد: ¬
الفائدةُ الأولى (¬1): فيه أنّ أفعالَ النّبيِّ صلّى الله عليه على الإلزام حتّى تُخَصّ. الثّانية (¬2): فيه سؤال العالِم وهو واقفٌ. الثّالثة (¬3): فيه الغَضَب في الموعظة. الرّابعة: فيه أنّ يذكر الإنسان ما فيه من الخير، لقوله: "وَأَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمكُمْ بِهِ". الفقه في أربع مسائل: المسألة الأُولى (¬4): قوله: "إِنِّي لأُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ" معناه أنَّه قد نَوَى الصِّيام في وقت تصحّ نيته ويصبح جُنُبًا، فكان سؤاله عن حَدَثِ الجنابة هل يمنع صِحَّة الصِّيام أم لا؟ فأجابه النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه يفعل هذا فيغتسل ويصوم ولا يمنعه حَدَث الجنابة من صِحَّة صومه. وفي ذلك دليل على الإجزاء من وجهين: أحدهما: أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه كان يفعله وقد أُمِرْنَا باتّباعه والاقتداء به، لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬5). والوجه الثّاني: أنّ السائل سأله عن مسألة فأجابه النّبيّ صلّى الله عليه بمثل ذلك من حالِ نفسه، وهذا يدلُّ على أنّ حُكْمَهُ في ذلك - صلّى الله عليه وسلم - كحُكْمِ السائلِ، ولوِ اختلفَ حكمهما في هذه المسألة لما جاز أنّ يجيبَهُ بأنَّ مثلَ هذا يفعله وهو يجزئه. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله (¬2): "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ" قال علماؤنا: إنَّما خصصنا الجماع؛ لأنّ الاحتلام مُتَّفَقٌ عليه. وقوله: "غَيْرِ احْتِلَامٍ" على معنى الإبلاغ في البيان، لتزول الشبهة ووجوه الاحتمال، وتخليص الحديث حُجَّة في موضع الاختلاف، وذلك أنَّ الأحداث كلّها لا تمنع الصّوم، سواء كانت من عَمَدٍ أو غير عَمَد، وكان أبو هريرة يقول: "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ لَمْ يَصِحّ صَوْمُهُ" (¬3) فزال ذلك الخلاف بخَبَرِ عائشة وأمِّ سَلَمَة، وهما أعَلم بهذا لمكانهما من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - واطِّلاعهما في ذلك على حاله، ومعرفتهما بما خَفِيَ على النَّاس من أَمْرِهِ. المسألة الثّالثة (¬4): وأمّا حدث الحَيْضِ، فقد قال مالك: إنّه - لا يمنع صحَّة الصَّوم، وعليه جمهور الفقهاء سواء أخّرت الغُسلَ عمدًا أو غير عمدٍ. وقال ابنُ مَسْلَمة: يمنع صحَّة الصَّوم. ودليلنا: أنّ هذا حَدَثٌ زالَ موجبه قبلَ الفجرِ، فلا يمنع بقاء حكمه صحّة الصَّوم كحدث الجنابة. وفي "المجموعة" من رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك: إنّما ذلك في الّتي تطهر (¬5) قبل الفجر، فتتوانى في الغسل حتّى يطلع الفجر، وأمّا الّتي ترى الطهر قبل الفجر فتأخذ في الغسل دون توانٍ، فلا تكمل غسلها حتّى يطلع الفجر، فإنّها كالحائض قاله عبد الملك، فجعل من شرط جواز الصَّومِ إمكانَ الغسلِ قبلَ الفجرِ. وقال ابنُ شعبان: تصوم ويجزئها، وفيها قول آخر: أنّها تفطر وليست كالجنب، واللهُ أعلمُ. ¬
حديث: رُوِيَ (¬1) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْك يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّي الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَتَسْأَلْهُمَا (¬2) عَنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى دخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَر ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ؟ قَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا، وَاللهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ اليَوْمَ. الْحَدِيثُ إلى آخره. فيه تسع فوائد: الفائدةُ الأولى: فيه: أنّ الحُجَّة القاطعة عن الاختلاف فيما لا نَصَّ فيه من كتابٍ ولا سُنَّةٍ أنّ يرجع إليه بالبُرْهَان والعَقْلِ (¬3). الثّانية: فيه من المعاني والفقه ما يدلُّ على أنّ الشّيء إذا تُنُوزِعَ فيه ردَّ إلى من يظنّ أنّه يُؤخذ عنه عِلْم ذلك، وذلك أنّ أزواج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أعلم بهذا المعنى. الثّالثة (¬4): فيه اعترافُ العالِمِ بالحقِّ وإنصافُه إذا سَمِعَ الحُجَّة، وهكذا أهل الدِّين والعلّم. الرّابعة: فيه مراجعة العالم إلى الحقِّ، وفيه رجوع العالم عمّا كان يعتقده إذا تبيّن له أنّ الحقّ فيما سواه. ¬
فإن قيل: كيف وجب رجوعه عن ذلك؟ ولِمَ قال بخِلَافِهِ؟ ولِمَ أخذ جماعة بخلاف هذا الحديث إِلَّا رَجُلًا أو رَجُلَيْن فإنّهما شَذَّا مع أنّ أبا هريرة رواه عن الفَضْل؟ قلنا: قد عارَضَهُ ما رُوِيَ (¬1) عن عائشة وأمّ سَلَمَة ولم يعلم أبو هريرة بالنَّسْخِ، وذلك قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} الآية (¬2)، و {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية (2)، فإذا أحلّ أنّ يطأَ حتّى الفَجْرِ، فهل يكون الغسل إلّا نهارًا! وقد ذكر نحو هذا الاحتجاج رَبِيعَة بن أبي عبد الرّحمن. قيل: ولما سمع أبو هريرة هذا عنها اعْتَذَرَ. وهذا فعل منهُ - صلّى الله عليه وسلم - والأفعالُ تُقَدَّمُ على الأقوالِ عند بعض الأصوليِّين، ومن قدَّم منهم الأقوال فإنذه يرجِّح الفعل هاهنا لموافقة ظاهر القرآن؛ لأنّ الله تعالى أباح المباشرة إلى الفجر، وإذا كانت النّهاية إلى الفجر كما تقدّم، فمعلومٌ أنّ الغُسْلَ إنّما يكون بعد الفَجْرِ إذا كان الجماع مباحًا له، فاقتضى هذا صحَّة صوم من طلع الفجر عليه وهو جُنُبٌ، فلمّا طابقَ ظاهر القرآن فعله - صلّى الله عليه وسلم - قُدِّمَ على ما سِوَاهُ. وقد قيل: إنّ ما رواه أبو هريرة محمولٌ على أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام، لمّا كانوا إذا ناموا حرم عليهم الجماع، فلما نسخ ذلك نسخ ما يتعلّق به. الخامسة (¬3): فيه أنّ الرجال كانوا يدخلون على أزواج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ويسمعون منهنّ للضرورة إلى نقل العلّم عنهنّ بعد الاستئذان (¬4) لعلّم السّامع، وإنّما قصدَ مروان بالسُّؤال عائشة وأمّ سَلَمَة لأنّهما أعلم النّاس بذلك. السّادسة (¬5): فيه قَبُول خبر المرأة، وكذلك قبول خبر الواحد. ¬
باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم
السّابعة (¬1): فيه الشّهادة على الصّوت؛ لأنّ المسلمين إنّما رووا عن أزواج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من وراء حجاب. الثامنة (¬2): فيه جواز ركوب الدّابّة في داخل المدينة، وقد كان مالكٌ يأخذ في خاصّة نفسه ألَّا يركب في المدينة، لمّا كانت جُنَّةُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فيها. التّاسعة (¬3): فيه ركوبُ الاثنين في الدَّابَّةِ، وذلك من التّواضع وترك الكِبْرِ. باب ما جاء في الرُّخْصَة في القُبْلَةِ للصَّائم مَالِك (¬4)، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ في رَمَضَانَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا ... الحديث إلى آخره. الإسناد: قال أبو عمر (¬5): "هذا حديثٌ مُرْسَلٌ عند جميع الرُّواة للموطّأ عن مالك، وهذا (¬6) المعنى أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّل وهو صائمٌ، صحيحٌ من حديث عائشة (¬7) وأمِّ سَلَمَة (¬8) وحَفْصَة (¬9). ¬
وحديثُ عائشة عند مالكٌ مُسْنَدٌ من حديث هشام عن أبيه عن عائشة (¬1)، ومُرْسَلٌ أيضًا على ما ذكرنا". العربيّة: قال: والإرْبُ الحاجةُ (¬2)، في قول عائشة (¬3): "وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لإرْبِهِ" فكنى بالحاجة عن الشَّهْوَةِ الّتي يريدها الرَّجُل من امرأته، فكان من حُسْنِ سياق الكلام أنّ قال: "وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لإرْبِهِ" ولم يقل "لِحَاجَتِهِ"، وذلك كناية عن الحاجة الّتي يحبّ الرَّجُل من أهله. وقال ابنُ حبيب (¬4): "القُبْلَةُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ الصَّائِمِ بالتَّشْدِيدِ والرُّخْصَةِ، ليس ذلك باختلافٍ من القَوْلِ والرِّوَايَةِ، ولكنّه على تَصَرُّفِ المعنَى في ذلك، فمعنى (¬5) الشدّة فيها: *أنّه في الفريضة وعلى الشابِّ، ومعنى الرُّخصة فيها: أنّه في التَّطَوُّع وعلى الشّيخ وعلى من ملك نَفْسَهُ عما بعدها* (¬6) ". الأصول (¬7): قال الإمام: القُبْلَةُ والمباشَرَةُ مستثناةٌ من تحريم القرآن المطلق ونهيه، وأنّ فِعْلَهُ جائزٌ بِفِعْلِ النَّبيِّ- صلّى الله عليه وسلم - نَفْسِهِ. وفيه الفقه كلّه في الاقتداءِ بفعل النّبيِّ صلّى الله عليه، وأنّه يقْتَدَى به كَقَوْلهِ. *ثم ذكر مالك حديث أم سلمة، وهو مثل الّذي قبله في* (¬8) الاقتداء بفعل النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأحال الصّحابة في قصد البيان عليه، كما كان يحيل- صلّى الله عليه وسلم -. وقول السّائل (¬9): "اللهُ يُحِلُّ لِرَسُولهِ مَا شَاءَ" يعني أنّه لما رأى أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يختصُّ بأشياء، ظَنَّ أنّ هذا منها، فبيَّنَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنّ الأصل الاسترسال على الاستدلال ¬
بجميع أفعالِهِ حتّى يقوم الدَّليل على تخصيصه بها. نكتةٌ (¬1): قوله: "وَإِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ" ذكر قوله "أَخْشَاكُمْ" مقرونًا بالرَّجَاءِ، وذَكَرَ قوله: "أَتْقَاكُمْ" على القَطْعِ، ورجاءُ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَطْعٌ؛ لأنّه لم يخب ظَنّه بِرَبِّهِ، وقطعهُ قَطْعٌ؛ لأنّه خبرٌ عن حقيقةِ حَالِهِ، أَعْلَمَهُمْ بذلك على سبيل الاعتقادِ والإعلام في الدِّين (¬2)، لا على سبيل الفَخْر على المسلمين. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قول عائشة - رضي الله عنها - أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه: "كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ" وكانت تقول: "وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لإِرْبِهِ مِنْ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -" و"لِنَفْسِهِ- في لفظ آخر (¬4) - كَمَا كَانَ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ نَفْسَهُ" فلذلك شَدَّدَ فيه ابن القاسم عن مالك في كلِّ صوم؛ لأنَّ القُبْلَةَ لا تدعو إلى خَيْرٍ، ورخَّصَ فيها في التَّطَوُّعِ من رواية ابن وهب، وذَكَرَهُ ابن حبيب. والصحيح عندي ما في الحديث من قول عائشة: "وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لإرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -" فلا ينبغي لأحدٍ أنّ يتعرضها إِلَّا أَنْ يكون شَيْخًا مُنْكَسِرَ الشَّهْوَةِ، ولعلّ هذا السائل كان كذلك؛ لأنّ في تَعَاطِيهَا تغريرًا بالعبادة، وتعريضًا لها لأسباب الفساد، وذلك مكروهٌ باتِّفاقٍ من الأُمَّةِ. المسألة الثّانية: قولها (¬5): "كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجهِ وَهُوَ صَائِمٌ" دليلٌ على أنّ القُبْلَةَ لا تمنعُ صِحَّة الصَّوم، ولا خلافَ في ذلك، إِلَّا أنَّه يُكْرَهُ لمن لا يأمن نفسه ولا يملكها، لئلّا يكون سببًا إلى ما يُفْسِد الصّوم، والمباشرة في ذلك تجري مَجْرَى القُبْلة؛ لأنّها مِمَّا يُتَلَذَّذُ بها، وهي من باب الاستمتاع، وربَّمَا كانت سببًا إلى مَذْيٍ أو مَنِيٍّ. ¬
باب التشديد في القبلة للصائم
المسألة الثّالثة: اختلفَ العلّماءُ فيمن قَبَّلَ قبلةً واحدةً فأَنْزَلَ، هل يكفِّر أم لا؟ وهذا منهم خلافٌ في حالٍ. فمن رأى الكفَّارةَ، اعتقدَ أنّ القُبْلَةَ الواحدة يكون منها الإنزال، ففاعلها قاصدٌ إليه ومُنْتَهِكٌ لحُرْمَةِ الشَّهْرِ، فوجبتِ الكفّارةُ. ومن رأى ألَّا كفارة، اعتقد أنّ الإِنْزَال لا يكون منها غالبًا، فالفاعل لها وإن وقع ذلك منه غير قاصدٍ إليه ولا مُنْتَهِكٍ لحُرْمَةِ الشَّهْرِ، فإنّه لا كفّارةَ عليه. المسألة الرّابعة: قوله (¬1): "كَانَا يُرَخِّصَانِ في الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ" فيه دليلٌ على أنّ الباب يتعلَّقُ به منعٌ، ولولا ذلك لكان مُطلَقًا مُبَاحًا، وإنّما يكون رخصة ما يتعلَّق ببابه (¬2) المنع، وأَرْخَصَ في شيءٍ منه لأَمْرٍ ما. وفرَّقَ علماؤنا بين الشَّيخِ والشّاب، وعمومُ (¬3) الحديثِ وظاهرُهُ يقتضي جوازها لهما جميعًا؛ لأنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - لم يقل للمرأة: هل زوجك شيخ أو شابٌّ؟ ولو ورد الشّرع بالفَرْقِ بينهما لما سكتَ عليه السَّلام عنه؛ لأنّه المبيِّن عن الله تعالى مراده من عباده. وكان ابنُ عبّاس يَكْرَهُ القُبْلَةَ للشَّيْخ والشابِّ، وذهب فيها مذهب ابن عمر، وهو شأنّه في الاجتهاد والاحتياط، وقد بيّنّا في هذا "الكتاب" أنَّ مالكًا - رحمه الله - من سَعَةِ عِلْمِهِ وتَبَجُّحِهِ في الفقه إذا ذكر في "كتابه" هذا حديثًا مُجْمَلًا أَعْقَبَهُ بحديثٍ مُفَسِّرٍ له، من أجل ذلك ساقَ بعد هذا الباب بابًا قال فيه: باب التَّشديد في القُبْلَةِ للصَّائم مالك (¬4)؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ تَقُولُ: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لإِرْبِهِ مِنْ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -. الإسناد: هذا حديث مُرْسَلٌ، وقد يسْنَدُ عن عائشة صحيحًا (¬1). الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬2): قد رُوِيَ أنَ "الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ لَا تَدْعُو إلَى خَيْرٍ" (¬3)، يريد أنّها من دَوَاعِي الجِمَاعِ، وهو ممّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، فليس في قصدها والفعل لها (¬4) لمن لا يملك نَفْسَه إِلَّا التَّغرير بِصَوْمِهِ، وأمَّا من ملك نفسه فلا حَرَجَ عليه. وقد قال ابنُ عبَّاس: إنّ عروق الخِصْيَتَيْنِ مُعَلَّقَةٌ بالأَنْفِ، فإذا وجد الرِّيح تحرَّكَ، وإذا تحرّك دَعَا إلى ما هُوَ أكثر من ذلك، والشّيخُ أَمْلَكُ لإِرْبِهِ (¬5). المسألة الثّانية (¬6): قوله (¬7): "فَضَحِكَتْ" يحتمل معانٍ كثيرة: 1 - الأوّل: أنّ تكون عائشة تضحك عند ذلك لما كانت تخبر به من مثل هذا، ولعلّها هي المخبر عنها، والنِّساء لا يحدِّثن الرِّجال عن أنفسهنّ بمثل هذا، فكانت تبتسم لإخبارها به لحاجة النّاس إلى معرفة هذا الحكم. 2 - وقال الدّاوُدِيُّ: يحتمل أنّ تضحك تَعَجُّبًا ممّن يخالفها في ذلك. 3 - ويحتمل أنّ تذكر (¬8) حبّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إيّاها، فتضحكُ سرورًا لذلك، وما قدّمناهُ أَوْلَى. ¬
باب ما جاء في الصيام في السفر
4 - قال الإمام أبو بكر: يحتمل أنّ تضحك لأنّ العادةَ الجارية بين النّاس ألَّا يخبر أحد بما يجري من هذه المعاني، إِلَّا أنّ (¬1) الشَّرْعَ أَوْجَبَ أنّ يذكر هذا، واللهُ أعلمُ. باب ما جاءَ في الصِّيام في السَّفر الأحاديث في هذا الباب كثيرة المساقِ، لبابُها حديثان: الأوّل: قوله (¬2): "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ في رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أَفْطَرَ". وَفي طريقٍ آخَرَ من هذا الحديث (¬3)، قال ابنُ شِهَاب: "وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ - صلّى الله عليه وسلم -" ويَرَوْنَه النّاسخ. قال الإمام الحافظ: ويحتملُ قول ابن شهاب على أنّ النَّسْخَ في غير هذا الموضع، وإنّما أراد الآخِر من أفعاله - صلّى الله عليه وسلم - ينسخُ الأوائِلَ إذا كان مِمَّا لا يمكن فيه البناء، إذ ليس لنا أنّ نقول بقول القائل بأنّ هذا من قول ابن شهاب، ميل إلى القَوْلِ بأنّ الصَّومَ لا ينعقد في السَّفَر، فيكون كمذهب بعض أهل الظّاهر (¬4)، وهذا غير معروف عنه. الحديث الثّاني (¬5): قوله: "فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ" وكلُّ الفقهاء على أنَّ من أصبحَ صائمًا في السَّفَرِ أنّه لا يفطر في يومه، وذهب بعضهم إلى أنّ ذلك له. وإن كان فرعًا بين أصلّين: أحدهما: أنّ من أصبح صائمًا ثُمَّ عرضَ له مرضٌ، فإنّه مباحٌ له الفِطْر. ¬
والثّاني: أنّ منِ افتتحَ صلاةً (¬1) في سفينةٍ حَضَرِيَّة (¬2)، ثمّ انبعثت به السَّفينة في أثناء الصّلاة فتوجهت إلى السَّفَر؛ أنّه يتمّ صلاةً حضريَّةً. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلف النّاس في الصّوم في السَّفَرِ على ثلاثة أقوال: الأوّل - قال الشّافعيُّ (¬4): الفِطْرُ أفضل في السَّفَر. الثّاني - قال مالك: الصَّومُ أفضل إِلَّا عند لقاء العدوِّ، ولا خلاف فيه بينهم. الثّالث: يُحْكَى عن قومٍ من الظّاهريّة الّذين (¬5) لا تقوم بهم حُجَّة، أنّهم قالوا: الصَّوْمُ في السَّفَر لا يجوزُ (¬6)، وأنّ من صام لا يجزئه، وهم أقلّ خلفًا، وقولهم أعظم خَرْقَا في الدِّين وفَتْقًا، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} الآية (¬7)، وهذا نصٌّ. فإن قيل: فقد قال تعالى بعد ذلك: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬8) فأوجب العدَّةَ على المُسَافِرِ مُطْلَقًا من غير اعتبار فِطْر أو صومٍ، وقال - صلّى الله عليه وسلم - في قوم صاموا في السَّفَر: "أُوْلَئِكَ الْعُصَاةُ" (¬9) وقال أيضًا: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" (¬10) أو: "في صِيَامِ (¬11) رَمَضَانَ". فالجواب- أنّا نقول: قولُه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جملة هي أحد قسمين (¬12): ¬
القسمُ الأوّل: وهو قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فقسمَ اللهُ تعالى في الآية الأولى المخاطَبِينَ بالصِّيَامِ قسمين: أحدهما: مريضٌ ومسافرٌ. والثّاني: قادِرٌ على الصَّوْمِ. وإنّما تقابل هذان القسمان؛ لأنّ القسم الأوَّل معناه: مَنْ كانَ له عُذْرٌ يمنعه من الصِّيام، ففسَّرَ العُذْرَ بالمَرَضِ والسَّفَرِ، ثمّ قابَلَهُ بالقسم الثّاني وهي الطاقة على الصَّومِ، فجعلَ على الّذي لا يَقْدِر على الصِّيام عِدّة مِن أَيَّامٍ أُخَرٍ، وجعل على القادر له فِدْيَة إنّ لم يُرِدِ الصِّيامَ. وقال ابنُ أبي ليلى عن (¬1) أصحاب محمّد: إنّ هذه الآية لما نزلت شقّ عليهم فؤُمِرُوا بالفِدْيَة، ثمّ نسخَ ذلك بالآية الّتي بعدها، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬2) معناه: فأفطر، فعليه عدَّة من أيّام أُخَر، وبهذا ينتظم التَّقسيم ويستتبُّ الكلام، ويرتبط أوّل الكلام مع آخره في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية (¬3)، يعني: أنّ تنتقلوا عن الأداءِ إذ تَعَذَّرَ إلى القَضَاءِ الّذي تَيَسَّر، ثمّ قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (¬4) ولو صام مرَّتَيْنِ لزاد عليها. المسألة الثّانية (¬5): أمّا قوله: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" و"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ" فيعارِضُه حديث أنس: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ" (¬6). ورَوَى حَمْزَة بن عمرٍو الأَسْلَمِيّ، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال له في الصَّوم في السَّفَر: "إنّ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفطِرْ" (¬7). ¬
فإن قيل: فإنْ تعارضتِ الأحاديث فما الحُكْمُ فيها؟ قلنا: لو علمنا (¬1) التّواريخ لحَكَمْنَا بالآخِرِ منها على الأوَّلِ، فإذا جُهِلَتِ التّواريخُ، فاختلفَ النّاس فيه على ثلاثة أقوال: الأوّل - منهم من قال: يؤخذُ بالأشدِّ منها؛ لأنّه الأحوط والَّذي يُحْتَاطُ له ولهم (¬2). الثّاني - منهم من قال: يؤخذ بالأَخَفّ؛ لأنّ الله تعالى قد رفعَ الحرجَ وبعثَ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَة. الثّالث - منهم من قال: تسقط ويطلب دليلٌ آخر، فإن أَمْكَنَ التَّرجيح فيجب العمل به. وهاهنا تترجح أحاديث الجواز على أحاديث المنع؛ لأنّ هذا الّذي قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولئِكَ الْعُصَاةُ" و"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" إنّما كان في سَفْرَةٍ واحدةٍ، وهذا الّذي لأنس (¬3) بن مالك الأنصاري، ولحمزة بن عمرو الأَسْلَميّ ولأنس ابن مالكٌ الكَعْبِيّ وقد قيل له: "إدْنُ فَكُلْ"، قال: إنِّي صائم، قال له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ" (¬4) كان في أوقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وأيضًا: فإنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - إنّما قال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" حين رأى رَجُلًا قد ظُلِّلَ عليه من شِدَّة الحَرِّ، فسأل عنه، فقيل: إنّه صائمٌ، فقال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ"، وقد رُوِي عنه أنّه قال: "لَيْسَ مِنْ أم بِرٍّ أم صوم فِي أم سَفَرٍ" (¬5) وهي لُغَةٌ للمَقُولِ له قالها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قَصْدَ الإفْهَامِ. وقولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" قالها في قومٍ صاموا بعدَ فِطْرِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وَأَمْرِهِ بِالْفِطْرِ. وقال: "تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ" وكذلك قال علماؤنا (¬6): إنّ الفطر في الجهاد أفضل لما ¬
فيه من القوّة على الحرب، فكان الحرب سببًا لفطرهم؛ لا أنَّ السّفَر لا يصحّ فيه الصّوم، ولو كانت العلّة السَّفَر (¬1) لَمَا علّل بالتَّقَوِّي للعَدُوِّ، ومما يُبيِّنُ ذلك: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - صام ولم يمتنع (¬2) من الصَّوم لما علم من نَفْسِهِ القُوّة والجَلَد، وقد بلغ به العَطَش أَنْ صبَّ على رأسه الماء ليتقوَّى بذلك على صَوْمِهِ، وليخفِّف على نفسه بعض ألَمِ الحَرِّ، وهذا أصلٌ في استعمال ما يتقوَّى به الصَّائم على صومه ممّا لا يَقَعُ به فِطْر (¬3) من التَّبَرُّدِ بالماء والمَضْمَضَةِ، وَيُكرَهُ لَهُ الانغماس في الماء لِئَلّا يبتلعه مع (¬4) ضيق نفسه، فيفسد صومه، فإنْ فَعَلَ فَسَلِمَ فلا شيء عليه (¬5). قال الإمامُ: والحجّةُ القاطعةُ والقاضي على ذلك كلِّه الآية المُحْكَمَةُ بإجماعٍ، وهي قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6) فإن فيه تمام الأَجْرِ وحفظ الزّمان المعين والمبادرة بالعِبَادَةِ، ولأن الذِّمَّة تبرأ به، والدّليل على ذلك فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه أفطر لِعُذْرٍ. وقال بعضُ النّاس: إنّما أفطر من أجل النّاس. وقولُ آخرون: بل أفطر للمَشَقَّة ممّا لَحِقَهُ من العَطَشِ والحَرِّ، والجمعُ بين الحديثين أنّه أَفْطَرَ من كِلَيْهِما. وقولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ" يدلُّ أنَّه أوحي إليه بالفَتْحِ، لكن لم يدر إنّ كان عُنْوَةً أو صُلحًا. وأدخلَ مالك الحديثَ على أنّ الصِّيام في السَّفَر أفضل، وهي مسألة خلافٍ اختلف العلّماء فيها على ثلاثة أقوال: القول الأوّل - قيل: إنّ الفِطْر والصّوم في السَّفَر سواء. الثّاني - قيل: إنّ الصّوم أفضل، وهو مذهب مالكٌ، لِمَا رُوِيَ في ذلك من صَوْمِهِ هو وعبد الله بن رواحة، ولغير ذلك من الأحاديث، ولقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬7) فَعَمَّ الجميع. ¬
الثّالث - قيل: الفِطْر أفضل، للحديث المتقدِّم، وهو قوله: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" ولقوله في "مسلم" (¬1) وغيره: أنّ هذه: "رَحْمَةٌ مِنَ الله فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ" فقد جعلَ الفِطْر حسنًا، والصّوم لا جُناح عليه فيه، وهذه إشارة إلى تفضيل الفِطْر على الصَّوم. وأمّا من قال: هما سواء، فلِقَوْلهِ للَّذي سأله عن الصِّيام في السّفر: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" (¬2). واحتجَّ المخالِفُ على أنّ الصَّوم لا يجوز في السَّفَرِ بالحديث المتقدِّم، وهو: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصومُوا في السَّفَرِ". نكتةٌ أصوليّة: قلنا: هو عمومٌ خرجَ على سَبَبٍ؛ فإن قلنا: يقصر على سببه كما ذهب إلى ذلك بعضى الأصوليِّينَ، لم يكن فيه حُجَّة. وإن لم يقصر على سببه (¬3)؟ قلنا: يحتمل أنّ يكون المراد به لمن كان على مِثْلِ حَالِ ذلك الرَّجُل، وبلغ (¬4) به الصَّوم إلى مثل ذلك المبلغ، ويحمل على ذلك بالدَّليل الّذي قدَّمناهُ في فضيلة الصَّوم. ويحتمل أنّ يريد أنّ ليس للصّوم فضيلة على الفِطْر تكون بِرًّا، فإن قال واحتج بقوله: "أُولئِكَ هُمُ الْعُصَاةُ" فلا يكون حُجَّة لمن يقول: إنّ الصّوم لا ينعقد في السَّفَرِ؛ لأنّه يحتمل أنّ يريد به أنّه قد شَقَّ عليهم الصّوم، حتّى (¬5) صاروا مَنْهِيِّينَ عنه، واللهُ أعلمُ. ¬
باب ما يفعل من قدم من سفر أو أراده في رمضان
باب ما يَفْعَلُ من قَدِمَ من سَفَرٍ أو أرادَهُ في رمضان الفقه في عشر مسائل: المساْلة الأولى (¬1): قوله (¬2): "فَعَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ الْمَدِينَةَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِهِ" يحتمل أنّ يريد يه قبل طلوع الفَجْر، فيجب عليه الصّوم. ويحتملُ أنّ يريد به بعد طلوع الفَجْر، وهو الأظهر؛ لأنّه أوّل اليوم وما قبل ذلك فهو آخر اللَّيْلِ، فعلى هذا كان صَوْمُه مُسْتَحَبًّا. المسألة الثّانية (¬3): قوله (¬4): "إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَطَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ". قال الإمام: لا يخلو أنّ يفطر قبل خروجه أو بعدَهُ، فإنْ أفطرَ نهارًا قبل خروجه، فالّذي ذهب إليه مالك أنّه يكفِّر سواء خرج لسَفَرِهِ أو لم يخرج، وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ. وقال ابن القاسم في "العُتْبِيَّة" (¬5): لا كفّارةَ عليه؛ لأنّه مُتَأَوِّلٌ. وقال أشهب: لا كفَّارةَ عليه خرجَ أو أقامَ، وبه قال سحنون. ورَوَى ابنُ حبيب عن ابن الماجِشُون وابن القاسم؛ إنْ أفطرَ قبلَ أنّ يأخذَ في أُهْبَةِ السَّفَر فعليه الكفّارة، وإنْ أفطرَ بعد الأَخْذِ فيه فلا كفَّارةَ عليه. وقال ابنُ القاسم في "الواضحة" (¬6) إنّ خرج فلا كفّارة عليه، وإن أقام فعليه الكفَّارَة. ¬
والدّليلُ على صِحَّةِ القول الأوّل: أنّ فطرَهُ وُجِدَ قبل سبب الإباحة فوجبت عليه الكفّارة، كما لو أفطر قبل ذلك بِيَوْمٍ. المسألة الثّالثة (¬1): فإنْ خرجَ بعد الفَجْرِ بعد أَنْ نَوَى الصّوم، فالمشهورُ من مذهبِ مالكٌ أنّه لا يجوز له الفِطْر (¬2). والدّليل على ما نقوله: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬3) وهذا أَمْرٌ مقتضاه الوُجوب. المسألة الرّابعة (¬4): فإنْ أفطر، فهل عليه الكفّارة أم لا؟ ذهب مالكٌ إلى أنَّه لا كفَّارةَ عليه (¬5)، وبه قال أبو حنيفة (¬6). وقال المُغِيرَة، وابن كنانة: عليه الكفّارة (¬7)، وبه قال الشّافعيّ. المسألة الخامسة: من قدم من سفره فوجد امرأته النّصرانية طاهرة، هل له وَطْؤُها إذا كان مُفْطِرًا؟ ففي ذلك قولان: يطأ، ولا يطأ. ووجه من قال يطأ: أنّها مُفْطِرَةٌ مثله، فجاز له وَطْؤُها. ووجه من قال أنّه لا يطؤها: بناء على أنَّها مُخَاطَبَةٌ بفروع الشّريعة، فكأنّها صائمةٌ، وهذا ضعيفٌ جدًّا. ¬
المسألة السّادسة: فإن قدِمَ من سَفَرهِ فوجدَ امرأته المسلمة قد طهرت؟ قال علماؤنا (¬1): له أنّ يطأها بقيَّة يَوْمِهِ؛ لأنّ من أفطر في رمضان لإباحةِ السَّفَر فإنّ له أنّ يفطر بقيَّةَ يَوْمِهِ، وإن دخلَ الحَضَرَ والمرأة مفطرة (¬2) لأجل حيضتها، فإنّ لها أنّ تفطر بقيَّة يومها وإن طهرت من حيضتها، فإذا جاز لها الفِطْر جازَ لها الجِمَاع. وأصل ذلك: أنّ من أفطر لِعِلَّةٍ تُبِيحُ له الفِطْرَ مع العِلْمِ بأن ذلك اليوم من رمضان، فإنّه يستديمُ الفِطْر بقيَّةَ يومه وإن زالت العِلَّة، مثل الحائض والمريض يفيق (¬3) والمسافر يقدم، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: متى زالتِ العِلَّةُ وجبَ الإمساك بقيَّةَ اليوم. المسألة السابعة (¬4): وهذا إذا كانت زوجته مسلمة، فإن كانت كتابيّة، فقد قال ابن أبي زيد في "نوادره" (¬5): قال بعض أصحابنا: ليس له وَطْؤُها؛ لأنّها متعدِّيةٌ لتَرْكِها الإسلام والصّوم، وهذا مبنيٌّ على أنّ الكُفّارَ مخاطَبُونَ بفروع الشّريعةِ من الصّلاةِ والصَّوْمِ وغير ذلك، وذكره عبد الحقّ (¬6) عن بعض شيوخه وعن ابن شعبان، وقد اختلفَ علماؤُنا في ذلك، والّذي عندي وعليه جمهور أصحابنا ما تقدَّم ذِكْرُهُ، وبه قال الشّافعيّ. المسألة الثّامنة (¬7): قال ابن الماجشون في النّصرانيُّ يُسْلِمُ بعد الفَجْرِ: إنّه يستحبّ له أنّ يكفَّ عن الأَكْلِ. ¬
باب كفارة من أفطر في رمضان
وقال أشهبُ: له أَنْ يفعل ما يفعله المُفْطِر من الأكل والجِمَاع، وبه قال محمّد من أصحابنا، وهذا مبنيٌّ على أنّهم مخاطَبُونَ بالفُرُوع. المسألةُ التّاسعةُ (¬1): قال (¬2): ومن أفطرَ في رمضان لعطشٍ شديدٍ، فقد رَوَى ابن سحنون عن أبيه؛ أنّه يَتَمَادَى على فطرهِ بقيَّة يَوْمِهِ بالأكل والشُّرْبِ والجِمَاع. وقال ابنُ حبيب: لا يفطر بعد أنّ يزول عطشه بالشُّرْبِ، وهو الصَّوَابُ. توجيه: وهي: المسألة العاشرة (¬3): وجه قول سحنون: أنّ هذا جازَ له الفِطْر مع العلّم بأن اليوم من رمضان، فجازَ له أنّ يستديم ذلك كالمريضِ. ووجه قول ابن حبيب: أنّه إنّما جاز له الفِطْر لضرورة العَطَشِ، فإذا زالَ رجعَ إلى أَصْلِ التَّحريمِ، على قوله في المُضْطَرِّ إلى (¬4) أكل الميِّتة، على ما يأتي بَيَانُه إنّ شاء الله. باب كفَّارة من أَفْطَرَ في رمضان مالكٌ (¬5)، عن ابن شهاب، عن حُمَيد بن عبد الرّحمن بن عوف، عن أبي هريرة؛ أنّ رَجُلًا أفطرَ في رمضانَ، فأمَرَهُ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَنْ يُكفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أو صيامِ شهرينِ متتابعينِ، أو إِطْعَامِ سِتِّينَ مسكينًا ... الحديث. ¬
الإسناد (¬1): قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ مُتَّفقٌ عليه خَرَّجَهُ الأيِمّة مسلم (¬2) والبخاري (¬3)، إِلَّا أَنَّ في طُرُقِهِ اختلافًا على ألفاظٍ مختلفةٍ، فقال أصحاب "الموطّأ" وأكثر الرُّواة عن مالكٌ؛ أنّ رَجُلًا أَفْطَرَ في رَمَضَانَ، وخالفهم جماعة فقالوا: إنَّ رَجُلًا أفطر بِجِمَاعٍ، وهو الصَّحِيحُ، وهو الّذي رواهُ ابن عُيَيْنَة ومَعْمَر وأكثرُ رواة ابن شهاب عن ابن شهاب، عن حُمَيد عن أبيْ هريرة؛ أنّ رَجُلًا وَقَعَ على امْرَأَتِهِ في رمضان، فذَكَرُوا المعنى الّذي أَفْطَرَ به عامِدًا. وثبت أنَّ رَجُلًا جاء إلى النّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يضرب فَخِذَه وينتف شَعْرَه وهو يقول: هلكت احترقت (¬4)، وفي رواية: هَلَكَ الأبْعَدُ (¬5). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬6): اتفق الرُّواةُ عن مالك أنَّ التَّخْيِيرَ بين العِتْقِ والصَّوم والإطعام بلفظ، ورواه يونس بن عقيل والأوزاعي على أنّ الكفّارةَ بالعِتْقِ، فإن لم يجد فصيامٌ، فإن لم يجد فإطعامٌ. المسألة الثّانية (¬7): قولى: "إنّ رَجُلًا أَفْطَرَ في رَمَضَانَ" الفطرُ يكون بأحد ثلاثة أشياء: بداخل: وهو الأكل والشرب. والإيلاج، وهو مغيب الحَشَفَةِ في الفَرْجِ. أو بخارج: وهو المَني والحَيْض. فإذا وُجِدَ شيءٌ من ذلك في أيّام رمضان فسد الصَّوم، سواء كان لِعُذْرٍ أو لغير عُذْرٍ. ¬
فأمّا المعذور فيأتي بيانه إنّ شاء الله. وأمّا غير المعذور، فإنّ الكفّارةَ تلزمه بذلك كلِّه عند مالك، على أيِّ وجهٍ كان فطره من العَمْدِ أو الهَتْكِ لِحُرْمَةِ الصّوم. وقال أبو حنيفة بمثل قولنا في ذلك كلّه (¬1)، إِلَّا بخروج المَنِيِّ من غير إيلاجٍ. والدليل على ما نقوله: أنّ هذا قَصَدَ إلى الفِطْرِ وهَتَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ، فوجبت عليه الكفّارة كالمُجَامِعِ. المسألة الثّالثة (¬2): قوله (¬3): "هلكتُ يا رسولَ الله" وقد استدلَّ بعض علمائنا بقوله: "هلكت" أنّ هذا الرَّجل كان متعمِّدًا. وقوله: "هلكلتُ" لا يكون إِلَّا مع القَصْدِ إلى هَتْكِ حُرْمَةِ العِبَادَةِ، فإنّ النَّاسِي غير هالك ولا محترق (¬4). وقال ابنُ المَاجِشُون: يُكَفِّر النَّاسي في الجِمَاعِ في رمضان خاصَّة دون الأكل، لأنّا لم نعلم حال هذا الوَاطِىء في الحديث، ولعلَّه كان ناسيًا ولم يشعر (¬5). واتّفقَ النّاس على أنّ من وَطِىءَ أهله في رمضان مُتَعَمِّدًا أنّه قد أَتَى كبيرة وعليه الكَفَّارة. واختلفوا فِيمَنْ وَطِىءَ ساهيًا، فذهبَ عامَّةُ النّاس إلى أنّه لا كفَّارَة عليه؛ لأنّ الذَّنْبَ موضوعٌ عنه، ونزعَ لذلك بعض علمائنا، وتعلَّقَ بوَجْهَيْنِ: أحدهما: أنّ الأعرابيَّ الّذي واقعَ أَهْلَهُ يحتملُ أنّ يكون أَتَى ذلك سَهْوًا، ويحتملُ أنّ يكون أتَى ذلك عَمدًا. والثّاني: أنّه إذا وجبتِ الكفَّارةُ في العمد، فمثله في السَّهْوِ، ككفَّارة القَتْلِ، وهذا فاسد. ¬
أمّا الأعرابيّ فكان مُتَعَمِّدَا غلبته شَهْوَتُه وزلَّتْ به قَدَمُه كما بَيَّنَّا قبلُ، فجاء يَضْرِبُ نَحره ويَنْتِفُ شَعْرَهُ، ويقول: "هَلَكْتُ احْتَرَقْتُ" ومحالٌ أنّ يكون هذا مجيء النّاسِي، بل هو مجيء المتعمِّد المجترىء. فإن قيل: لِمَ تَرَكَهُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - دون أَدَبٍ أو تَثْرِيبٍ؟ قلنا: لأنّه جاءَ مُسْتَفْتِيًا، والشريعةُ قد قَضَتْ بالمصلحة في ذلك كلِّه، وهي رفع العقوبة والتّثريب على المستفتي؛ لأنّه لو فعل ذلك مع واحدٍ ما جاءَ غيره بعدَهُ ولانْسَدَّ باب الاستفتاء، وبقي الخَلْق في ظُلْمَةِ الجَهَالَةِ والمعصية. وأمّا احتجاجُهُ بكفَّارَةِ القَتْلِ، فهي وهلةٌ عظيمةٌ؛ لأنّ كفَّارَةَ القَتْلِ وردت في الخطأ، فقلنا: العمدُ أَوْلَى، وخالفنا في ذلك جماعة من العلّماء. أمّا هاهنا فَوَرَدَتِ الكفارةُ في العَمدِ، فكيف يجوز أنّ يقلب القوس رِكْوَة (¬1) فيحمل عليه الخَطَأ، هذا من أفسد وجوه النَّظَرِ. المسألة الرّابعة (¬2): اختلفَ النّاسُ في هذه الكفَّارة، هل هي مُرَتَّبَةٌ كسائر الكفَّارات، أم هي على التَّخْيِير؟ قال علماؤنا: هي على التَّخْيِير، لقوله في حديث أبي هريرة: "أو" وهو نَصٌّ. فإن قيل: قد قال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع؟ " وناقله بالعَجْزِ مِنْ خَصْلَةٍ إلى أُخْرَى. قلنا: يحتمل أنّ يكون ناقله قَصْدَ التَّرتيبِ، ويحتمل أنّ يكون ناقَلَهُ ليَعْلَمَ ما عندَهُ من هذه الخِصَالِ فيأخذ بالأَوْلَى (¬3) منها، والأَوْلَى (3) عند مالك منها الإطعام؛ لأنّه أنفع لأهل الحِجَازِ لجوعهم، وأكثر ثَمَنًا لِقِلَّةِ القُوتِ عندهم. وقال ابن حبيب: هي على التَّرْتِيبِ، وهو الحقُّ؛ لأنّ "أو" (¬4) في حديث أبي هريرة يَحْتَمِل التّخيير ويَحْتَمِل التَّفْصِيل، فلا يردّ الظّاهر بمحتمل. ¬
المسألة الخامسة: قوله: "فَأَتَى بِعَرَقِ تَمْرٍ" واختلف النّاسُ فيه، وقد فَسَّرَهُ ابن عُيَيْنَةَ، فقال: هو الزِّنْبِيل لغته العَرَق بفتح الراء، هو إذًا يقال له: المِكْتَل (¬1). وقيل: يقال له الزِّنبيل، وهو يحمل خمسة عشر صاعًا إلى عشرين صاعًا. والعَرْقُ -بإسكان الراء-: العظم الّذي عليه قطعة اللّحم، والعِرْق- بإسكان الراء وكسر العين-: أحد عروق الجَسَد. وقال مالك: يطعم لكل مسكين مُدًّا ويترك ما فوق الخمسة عشر صاعًا؛ لأنّه مشكوكٌ فيه، والإطعام عند مالك أفضل وأعمّ نَفْعًا؛ لأنّه يحتاجه جماعة لاسيَّمَا في أوقات الشَّدَائِدِ. وأمّا العِتْق، فإنّ فيه إسقاط مَشَقَّةٍ وتكلّف نَفَقَة، والمتأخِّرونَ من أصحابنا يُرَاعون في ذلك الأوقات والبلاد، فإن كانت أوقات شِدَّةٍ فالإطعام أفضل، وإن كان وقت خَصْبٍ فالعِتْق أفضل. والذي احتجَّ به ابن الماجِشُون في تفضيل الإطعام؛ أنّه الأمر المعمول به في الحديث، وقد أَفْتَى الفقيه أبو إبراهيم (¬2) مَنِ استفتاهُ في ذلك من أهل الغِنَى الواسع بالصِّيامِ، لما علم من حاله أنّه يشقّ عليه أكثر من العِتْق والإطْعَام، وأنّه أوْزَع له من انهتاك حرمة الصّوم (¬3)، والله أعلم. المسألة السّادسة (¬4): إذا ثبت ذلك، فالّذي يجب من العِتْقِ عتق رقبة مؤمنة، وأمّا الصّيام فصيام شهرين متتابعين، وعلى هذا جمهور العلّماء. وقال ابن أبي ليلى (¬5): ليس التَّتَابُعُ بلازمٍ في ذلك. والدّليلُ على ما نقوله: الخبر المتقدِّم، وفيه صوم شهرين متتابعين. ¬
ومن جهة القياس: أنّها كفَّارةٌ تَرَتَّبَتْ بالشَّرْع، فكان من شرطها التَّتَابُع، أصل ذلك كفّارة الظِّهَار (¬1). تنبيه على وَهَمٍ (¬2): ولَمَّا قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬3) للأعرابيِّ "كُلْهُ" ظَنَّت طائفةٌ أنّ الكفَّارة ساقطةٌ عنه، وقالوا: إنّ ذلك مخصوصٌ به، ولم ينتبهوا لفقهٍ عظيمٍ، وهو أنّ هذا الرَّجُل إنّ ازْدَحَمَت عليه جهة الحاجة وجهة الكفَّارة، فقدَّم الأهمَّ وهو الاقتيات، وبَقِيَتِ الكفَّارةُ في ذِمَّتِهِ إلى حين القُدْرَة حسب ما أَوْجَبَها عليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. قال (¬4) علماؤنا: ولم يذكر القضاء لِعِلْمِهِ، وقد وردَ أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال له: "صُمْ يَوْمًا مَكانَهُ، واسْتَغْفِرِ اللهَ" خَرَّجَهُ الدّارَقُطنيّ (¬5). واختلف النّاس فيما يصوم؟ فمنهم من قال: يصومُ اثنى عشر يومًا؛ لأنّ الله رَضِيَ (¬6) من اثني عشر شهرًا بِشَهْرٍ (¬7)، ويُعْزَى هذا القول إلى رَبِيعَة. ومنهم من قال: يصوم ثلاثين يومًا، لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو ابن العاصي: "صُمْ يَوْمًا من الشَّهْرِ، ولك أجر ما بَقِيَ" (¬8) وقد خرّج الدارقطني (¬9) فيه: أنّ يَصُومَ ثلاثين يومًا. المسألة السّابعة (¬10): وأمّا المرأة، فإن كانت طَاوَعَتْهُ فعليها الكفارة على حسب ما يجب على الرَّجُل؛ لأنّه قد وَجَدَ منها مثل ما وجدت منه، فلزمها ما لزمه كالحَدِّ. وإن أَكْرَهَهَا، ¬
باب ما جاء في حجامة الصائم
فالّذي عليه الجمهور من الفقهاء من أصحاب مالكٌ؛ أنّ عليه الكفَّارة عنهما. وقال ابن سحنون: لا كَفَّارَةَ عليها ولا عليه عنها، ورواه ابنُ نافع عن مالك في "المدنية". فإذا قلنا: يكفر عنها، فقد قال المُغِيرَة: يُكَفِّر عنها بعِتْقٍ أو إِطْعَامٍ، والولاء لها. والّذي عندي؛ أنَّه يُكَفَّر عنها بما أَمْكَنَ؛ لأنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ. باب ما جاء في حِجَامَةِ الصَّائِمِ الأحاديث في هذا الباب ثلاثة: أمّا حديث ابن عمر (¬1)، فصحيح. وأمّا حديث سعد بن أبي وقّاص (¬2)، فإنّه حديثٌ مُنْقَطِعُ السَّنَدِ (¬3). وأمّا الحديث الثّالث؛ قوله: فهو (¬4) "أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ" (¬5) فإنّه حديث ضعيف، انْفَرَدَ به داود بن الزبرقان، وهو متروك الحديث، عن محمّد بن جُحَادَة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وقال يحيى بن مَعِين: لا يصحُّ في هذا الباب حديثٌ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬6): اختلف النّاسُ في حِجَامَةِ الصَّائمِ، فذهب جماعة إلى أنّه يُقْضَى بِفِطْرِ الحَاجِمِ والمحجوم، منهم أحمد بن حنبل (¬7)، للحديث المَرْوِيَّ: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ" وهذا ضعيفٌ أَيْضًا. ¬
وذهب مالك وأبو حنيفة (¬1) والشّافعي وجمهور الفقهاء إلى جواز ذلك، وأنّه لا يفسد الصَّوْم. وقال ابن حنبل: يبطلُ صومه، وعليه القضاء دون الكفَّارة. ودليلنا: حديث ابن عبّاس؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو صائِمٌ (¬2)، وهذا نَصٌّ من وجهين: من جهة القياس، ومن جهة النَّظَر. أمّا القياس، فلأنّ هذه جراحة في البَدَنِ فلم يقع بها الفِطْر كالفَصَادِ، وقد قال الدّاوُديّ: إنَّ تركَ الحِجَامَة للصّائم أَحْوَط، لما رُوِيَ في المنع من ذلك من أَدِلَّةِ المُخَالِف، وهو منه مَيْلٌ إلى قول أحمد بن حنبل، والصّحيحُ ما عليه الجمهور. وقوله (¬3): "ثمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ" يريد أنّه لما كبرَ وضعفَ كان يخات على نفسه أن يضطّر إلى الفِطْر، ولهذا يُكْرَهُ لمن خافَ الضَّعْفَ على نفسه ألَّا يحتجمَ حتّى يفطر؛ لأنّ الحِجَامَة رُبَّمَا أَدَّتْهُ إلى فساد الصَّومِ. المسألة الثّانية (¬4): قوله (¬5): "ومَا رَأَيتُهُ احْتَجَمَ قَطُّ إِلاّ وَهُوَ صَائِمٌ" قال الإمام (¬6): يحتمل قوله ثلاثة أوجه: أحدها: أنّه كان يسرد الصِّيام. والثّاني: أنّه كان لا يسرد ولكنّه قصد إلى ذلك ليُبَيِّن جوازه. الثّالث: يريد بقوله: "وَهُوَ صَائِمٌ" غير الصَّوم الشَّرعيّ، وإنّما أراد أنّه يقصد أنّ يحتجم قبل أنّ يأكل، لقُوَّتِهِ على هذا المعنى. المسألة الثّالثة (¬7): فإِنِ احتجمَ فاحتاج إلى الفِطْرِ، فقد أَوْقَعَ نَفْسَهُ في المَحْظورِ (¬8) ولا كفَّارةَ عليه، ¬
باب صيام يوم عاشوراء
ويكون عليه القضاء؛ لأنّه لم يفطر متعمِّدًا، وإنّما فعل متعمِّدًا ما جرّه إلى الفِطْرِ ضرورة، فإنْ سَلِمَ من الفِطْرِ فلا شيءَ عليه؛ لأنّه غرر بأمرٍ فسلم منه، وإنّما كره من كره ذلك من العلّماء مَخَافَةَ التّغرير، وأمّا من عرف من نفسه القُدرة، فإنَّ الحِجَامَةَ مباحةٌ له، ولذلك كان سعد وعُرْوَة يحتجِمَانِ وهما صائمان. وكان عبد الله يحتجم في أوَّلِ عمره صائِمًا، فلمّا كبر تَرَكَهُ لِئَلَّا يُغَرِّرَ بصومه، هذا المشهور من المذهب. وفي "المدنية" من رواية ابن نافع عن مالكٌ؛ أنَّه قال: لا يحتجم قويّ ولا ضعيفٌ في صَوْمِهِ حتَّى يفطر، فربّما ضعف بعد القُوَّةِ. ورُوِيَ عن ابن القاسم مثله (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): حديثُ هشامٍ (¬3)، عن أبيه؛ "أنّه كان يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ" يحتمل معنيان: أحدهما: أنّ يكون عُرْوَة كان يَصُوم. والثّاني: يحتملُ أنّه كان يحكي (¬4) أكثر أفعاله. وقد تقدّم أنّه رُوِيَ "أَفْطَرَ الحَاجمُ والمَحْجُومُ" وقد اختلفَ العلّماءُ في ثبوته وصِحَّتِهِ، فإن صحَّ فهو منسوخٌ بفعله - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه احتجم وهو صائمٌ. باب صِيَام يوم عَاشُورَاء الإسناد: قال الإمام: الأحاديثُ في هذا الباب صِحَاحٌ مُتَّفَقٌ على صِحَّتِها ومَتْنِها، خرّجها الأيمّة. واختلفت الأحاديث في صوم النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء في سبب ذلك، فَرَوَى يحيى (¬5)؛ أنّ قريشا كانت تصومه في الجاهليّة. ورُوِيَ عن ابن عبّاس؛ أنَّه قال: قَدِمَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود ¬
تصومه. فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا يوم صالح، أَنْجَى اللهُ فيه بني إسرائيل من عدوِّهم، فَصَامَهُ موسى. فقال: "أنَا أَحَقُّ بمُوسى مِنْكُمْ" فصامَهُ وأَمَرَ بصيامِهِ (¬1). العربية (¬2): قوله: "عاشوراء" هو فاعولاء، من "ع ش ر". فإن قيل: وكيف. قال في الحديث الصّحيح: "أصبح يوم التّاسع صائمًا" (¬3) وبناء فاعول من التّاسع تاسوع؟ قلنا: هو صحيحٌ؛ لأنّ العرب تقدِّم النّهار قبلَ اللّيل، وتجعل اللّيلة المستقبلة لليَوْمِ الماضي، فعلى هذا مخرج الحديث. الفقه والشّرح والفوائد المتعلِّقة به: وهي خمس مسائل: المسألة الأولى: أَجْمعَ المذهبُ على أنَّ عاشوراء كان فَرْضًا قبلَ رمضان، بدليل حديث عائشة: "كان يوم عاشوراء"، فلمّا فُرِضَ رمضان كان هو الفَرْض. وقال - صلّى الله عليه وسلم - (¬4): "هذا يومُ عاشوراءَ، ولم يُكْتَبْ عليكم صيامه، وأنَا صائمٌ، فمن شاءَ فَلْيَصُمْ، ومن شاءَ فَلْيُفْطِرْ". وكان يرسل إلى قُرَى الأنصار في يوم عاشوراء أنَّ من أصبح صائِمًا فليتمّ صيامه، ومن أكلَ فليتمّ أكله. وقال: إنِّي لأحتسب على الله أنّ يكفِّر ذنوب سنة قبله. وقال بعض المُحَدِّثَة: إنّ هذا الحديث ناسخٌ لقوله: "فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ". واحتج أبو حنيفة بأنَّ الصَّومَ يجزئ بِنِيَّةٍ من النَّهارِ. بدليل قوله -عليه السّلام-: "هذا يوم عاشوراء، فمَنْ كانَ صائمًا فَلْيُتمّ، ومن كان مُفْطِرًا فَلْيُمْسِك" وهذا الحديث لا حُجَّةَ له فيه؛ لأنّه منسوخٌ، والحُكْمُ إذا نُسِخَ لا يحتجّ بما يثبت فيه، وهذه مسألةٌ من أصول الفقه. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله (¬2): "صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" قال بعضُ الظَّاهريّة (¬3): قوله: "أَمَرَ بَصِيَامِهِ" يقتضي الوجوب من وجهين: من جهة فِعْلِهِ، ومن جهة أَمْرِهِ. وقوله: "فَمَن شَاءَ أَفْطَره ومن شاءَ صَامَهُ" يريد أنَّه لاحقٌ بسائر الأيّام الّتي لم يمنع صومها ولا وجب، ولكنّه مستحَبٌّ، بدليل حديث معاوية (¬4): "وأنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر" وقال أشهب: صيامُ يوم عاشوراء مستحَبٌّ، لِمَا يُرْجَى من ثوابِ ذلك، وليس بواجِبٍ. المسألة الثّالثة (¬5): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "نحن أحقّ بمُوسَى منكم" (¬6) قال علماؤنا: لم يكن ذلك (¬7) باتباع اليهود والاقتداء بهم، ولكنّه أَوْحَى إليه في ذلك بِفِعْلِ مقتضاه (¬8)، ولكن فيه الاقتداء بموسى -عليه السّلام- وموسى ممَّن أُمِرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يَقْتَدِي به، لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية (¬9). وقال أبو الوليد الباجي (¬10): "يحتمل أنّ يكون النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يصومه في الجاهلية، فلما بُعِثَ تَرَكَ ذلك. فلما هاجر وعَلِمَ أنّه من شريعةِ مُوسَى عليه السّلام صَامَهُ وأَمَرَ بصيامه، فلما فُرِضَ رمضان نسخ وجوبه". المسألة الرّابعة: قلنا: عاشوراء هو اليومُ العاشر. وقال الشّافعي: التّاسع، بدليل قوله -عليه السّلام-: "لئن عشتُ لأَصُومنَّ ¬
التّاسع" (¬1)، ولا حُجَّةَ له فيه؛ لأنّ قولَهُ: "التّاسع" معناه مع العاشر، وليس فيه دليل على ترك العاشر، ونُبيِّن ذلك بمثال، وذلك أنّ نقرأ "كتاب الموطّأ" فتقول: لئن عشتُ، إلى قابل لأقرأن "البخاريّ" وليس فيه دليل على ترك "الموطَّأ". ودليلنا: أنّ قوله: "عاشوراء" يتعلّق اللّفظ بكونه يوم العاشر، وهو مأخوذٌ من العشر، أي عاشر أيّام المحرّم. المسألة الخامسة (¬2): في فضيلة يوم عاشوراء والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ، والصحيح منها قليلٌ، وهو ما وقعَ في المصنَّفَاتِ الصِّحَاحِ، وما تقدَّمَ ذِكْرُهُ. وقد روي عنه: "أنّ في يوم عاشوراء تابَ اللهُ على آدَمَ، وفيه اسْتَوَتْ السَّفينة على الجُودِي، وفيه أنْجَى اللهُ مُوسَى من فِرْعَوْن، وفيه وُلدَ عِيسَى". رواه ابن رُشَيْد (¬3)، عن أبي سعيد الأنصاري (¬4) في "كتاب الصّحابة". وقد قيل: إنّ من فضيلة هذا اليوم أنّ جميع الوحوش تَصُومُه. فإن قيل: وكيفَ تصومُه الوُحوش ونحن نراها تأكل؟ فالجواب - قلنا: ليس الصّومُ في الآدميِّينَ على صفةٍ واحدةٍ، فقد كان صوم من تَقَدَّمَ بأنَّ لا يتكلَّم، فلا يبعدُ أنّ يضع البارئ سبحانه للوحوش إِمْسَاكًا يكون لهم صومًا. قال الإمام أبو بكر بن العربي: ولقد ذكرت يومًا هذا الحديث، فَعَمَدَ بعض الجُهَّالِ إلى دابَّتِهِ وجعلَ لها بين يَدَيْها تِبْنًا، فلمّا أكلت، قال: أينَ ما ذَكَرَ النّبيُّ (¬5) عن الوُحُوشِ؟ وجوابه مع التَّجْهيلِ ما تَقَدَّمَ. وأمّا النَّفَقَةُ فيه والتَّوسعة، فمخلوفَةٌ باتِّفَاقِ إذا أُرِيدَ بها وجه الله تعالى، وأنّه يخلف الله بالدِّرْهَمِ عشرًا. ¬
باب صيام يوم الفطر والأضحى
وقد رأيت لابن حبيب قطعة أبيات (¬1) نذكرها إنّ شاء الله: لا تَنْسَ لا يُنْسِكَ الرَّحمنُ عاشورا ... واذْكُرْهُ لا زلتَ في الأحياءِ (¬2) مذكورَا قال الرَّسولُ صلاةُ اللهِ تَشْمَلُهُ ... قَوْلًا وَجَدْنَا عليه الحَقَّ والنّورا أوْسِعْ بمَالِكَ في العَاشُورِ إنَّ له ... فَضْلًا وَجَدْنَاهُ في الآثار مَأْثُورَا مَنْ بَاتَ في لَيْلَةِ العَاشُورِ ذَا سَعَةٍ ... تكن معيشَتُهُ في الحَوْلِ مَسْرُورَا فَارْغَبْ فَدَيْتُك فِيمَا فِيهِ رَغَّبَنَا ... خيرُ البَرِيَّةِ مقبورًا ومنشورَا (¬3) وقد تكلّمنا على فَضْلِهِ ومَعَانِيهِ في "كتاب المواعظ" (¬4)، وأشبعنا القول فيه في "الكتاب الكبير" فلتنظر هنالك، والحمدُ لله. باب صيام يوم الفِطْرِ والأضحى الأحاديث فيه كثيرةٌ: الحديث الأوّل (¬5): ثبتَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه نَهَى عن صيام يومين (¬6): يَوْمِ الفِطْرِ، ويَوْمِ الأَضْحَى. وقال: "يَوْمُ فِطركُمْ مِنْ صِيَامِكمْ، والآخَرُ يَوْمٌ تأكلونَ فيه من نُسُكِكُمْ" (¬7) وأرسل رسوله وصرَّحَ بقوله: ينادي على أيّام مِنًى: "إنَّها أيام أَكْلٍ وشُرْبٍ" (¬8) وثبت في الصَّحيحِ عن ابن عمر؛ أنّه أَرْخَصَ في صيامها للمُتَمَتِّعِ الّذي لا يجد هَدْيًا (¬9). ¬
ولقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬1). قال علماؤنا: ولا يتَّفِقُ ذلك إِلَّا في أيام مِنًى. فلما كانت ضرورة سامحت فيها الشَّريعة، كذلك يُرْوَى عن عائشة (¬2). الفقه في ثلاث عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام: والأيّام المَنهيّ عن صيامها ثمانية أيام: منى ثلاثة أيام، ويَوْمَا العيد، ويوم الجمعة. وقد ثبت في الصّحيحين (¬4) عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "لا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بصيامٍ، ولا لَيْلُهُ بقيام" (¬5). ويومُ السَّبت؛ روى التّرمذيّ (¬6)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن صَوْمِهِ. وعن يَوْمِ الشَّكِّ، لما رَوَى عمّار بن ياسر، قال: "مَنْ صَامَ يوم الشّكّ، فَقَدْ عَصَى أبا القاسم" (¬7). المسألة الثّانية (¬8): قال علماؤنا (¬9): وأيّام السَّنَةِ تنقسمُ في الصِّيام على سِتَّةِ أقسام: فمنها ما يجب صومُه ولا يحلّ فطره إِلَّا بعدَ وَصْفٍ من الأوصاف السِّتَّةِ، وهو شهر رمضان. ومنها ما يجبُ فطره ولا يحلّ صومه، وهو يوم النَّحْرِ ويوم الفِطْر. ومنها ما يجوز صومُه على وجهٍ ما، وهي (¬10) اليومان اللّذان بعد يوم النَّحْر. ¬
ومنها ما يُكرَهُ صَوْمُه، وهو اليوم الرّابع من أيام التَّشْريق. ومنها ما يجوز صَوْمُه وفِطْرُه، وهو ما لم يرد في صومه ترغيب (¬1). ممّا عَدَا شهر رمضان ويوم الفطر ويوم النّحر وأيّام التّشريق. ومنها ما يستحبّ (¬2) صومه، وهو ما ورد فيه ترغيب، مثل قوله للأعرابي: "إِلَّا أنّ تَطَّوَّعَ" والفائدة في قوله: "إِلَّا انْ تَطَّوَّعَ" هو نَدْبٌ منه إلى التَّطَوُّعُ بالصِّيام في غير رمضان وحَضٌّ عليه. نكتةٌ أصولية (¬3): اختلفَ العلّماءُ (¬4) في النَّهْيِ عن صوم يَوْمِ العيدِ: فقال عامّة الفقهاء: إنّها شريعة غير مُعَلَّلَة. وقال أبو حنيفة: إنّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بعِلَّةٍ، وهي أنّ النّاس أضيافُ الله، أَذِنَ لهم في الأَكْلِ عندَهُ يوم الفِطْر (¬5)، وإنّما أرادوا أنّ يركبوا على هذه مسألة، وهي: من نَذَرَ صوم يَوم العِيد. فقال علماؤنا: النَّذْرُ باطلٌ. وقال أبو حنيفة: يلزمه النَّذْر ويقضي؛ لأنّ النَّهْيَ ليس لمعنى في النّهى عنه، وهذا فاسدٌ، بل النّهي شريعة. وقوله: إنّ الخَلْقَ أضيافُ اللَّهِ يبطلُ بزمان اللّيل، فإنّ الخَلْقَ (¬6) أضيافه كلّ ليلةٍ، ومَنْ نذَرَ اللّيل لا يلزمه فيه قضاء، ويبطلُ بزَمَانِ الحَيْضِ، فإنّ الحائضَ لو نذرت لم يلزمها قضاؤه. المساْلة الرّابعة (¬7): أمّا صيام أيّام مِنى، فقد عيَّنَها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للأكل والشُّرْبِ، فتعينت بذلك كزمان ¬
اللّيل، لكن -كما بيَّنَّا- أرخص فيها للمُتَمتِّع ضرورة، وهو الّذي لا يجد هَدْيًا. وحَكَى عبد الوهّاب أنَّه لا يجوز ذلك بإِجماعٍ، وبهذا قال مالكٌ وفقهاء الأمصار. وقال أبو الفَرَج في "الحاوي": من نَذَرَ أنّ يعتكفَ أيّام التّشريق اعْتكَفَها وصامها. والدّليلُ على المنع من صيامها ابتداءً: ما رُوِيَ عن عائشة وابن عمر؛ قالا: لم يرخص في أيّام التّشريق أنّ تصمن، إِلَّا لِمَنْ لم يجد الهدي. ومن جهة المعنى: أنّها أيام عيد، فأشبهت الفِطْرَ والأَضْحَى. ورَوَى ابنُ نافع عن مالكٌ: أَحبّ إلَيَّ ألَّا يصومها في الفِدْيَة. واختلف علماؤنا هل يجزئه أنّ يصومها عن ظِهَارٍ؟ فقال في "المختصر" عن مالك: في مُبتدإ صوم الظِّهار (¬1). فقال في "المدنية": أرى أنّ يفطر يوم النَّحر ويصوم أيام التّشريق. وقال ابنُ القاسم: كلَّمْتُ مالكًا فيه فضَعَّفَهُ، وقال: أَرَى أنّ يبتدىَ، قال ابنُ القاسم: هذا رَأْيي، ولا عُذْرَ لأَحَدٍ في خَطأ خالَفَ ما افترضَ اللهُ عليه. المسألة الخامسة (¬2): وأمّا صيام آخر أيّام التَّشَريقِ، فإنّه يصومُه من نَذَرَهُ مُفْرَدًا، ولا خلافَ نَعْلَمُهُ في ذلك. وأمّا من نَذَرَ صِيَامَ ذِي الحجَّة: فقال ابنُ القاسم: يَصُومُه. وقال ابن المَاجِشُون: أحبّ إليَّ أنّ يفطره ويقضيه ولا أوجِبُهُ. المسألة السّادسة (¬3): وأمّا من نَذَرَ صيام عامٍ مُعَيَّنٍ، ففي "المختصر" عن مالكٌ؛ أنّه لا يصوم ¬
الرّابع (¬1). وفي "المدوّنة" (¬2) ما يدلُّ على أنّه لا (¬3) يَصُومُه. ويصومه من شرع في صومٍ مُتَتَابِعٍ، ولا يصوم اليومين قَبْلَهُ. ووجه ذلك: أنّ اليومين قَبْلَهُ تختصُّ بأحكام من النّحر (¬4) والتّكبير بإِثْر الصّلوات، ولزوم الرَّمْيِ فيها للتَّعجيل (¬5)، فكانت فيه (¬6) أحكام العيد آكد (¬7) والله أعلم. وهذا لِمَنْ شرعَ في صيام شهري التّتابع من أوّل شوّال، فمرضَ أو منعه أمرٌ غالِبٌ حتّى أوفاه الأضحى (¬8). المسألة السّابعة (¬9): وأمّا صيام عشر ذي الحجّة ومِنًى وعَرَفَة، فمرغوب (¬10) في ذلك، وأَجْرُهُ كثيرٌ. وقد قيل في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} الآية (¬11)، الشفع يوم النّحر، والوتْر يوم عرفة. وقد قيل في {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (¬12) إنّ شاهدًا يومُ الجمعة، ومشهودًا يوم عَرَفَة. وقلى رُوِيَ في المُصَنَّفَاتِ؛ أنَّ صيام يوم عَرَفَة كصيام سَنَتَيْنِ، وأنّ صيام يوم مِنًى كصيام سَنَة، وأنّ صيام يوم من سائر العَشرِ كصيام شهر. وهذا في غير الحَجِّ، وأمّا في الحَجِّ، فيوم عَرَفَة فطره أفضلُ من صومه، وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فيه مُفْطِرًا. وصيام الأشهر الحُرُم أفضلُ من غيرها، وهي أربعة: ¬
المحرم، وصفر (¬1)، وذو القعدة، وذو الحجة. المسألة الثّامنة (¬2): قال (¬3): وفي الأَشْهُر الحُرُمِ أيّامٌ هي أفضل من سائرها. وقالت عائشة: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يصومُ حتَّى نقول: إنّه لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتّى نقولُ: إنّه لا يَصُومُ، وما رَأَيْتُه اسْتَكْمَلَ صيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلّا رَمَضَان، وما رَأَيْتُهُ أكثرَ صيَامًا منه في شعبانَ (¬4). قال الإمام (¬5): ففي هذا دليلٌ على فَضْلِ صيام شَعْبَان، وأنّه أفضلُ من صيامٍ سِوَاهُ، وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يصومُ الاثنين والخميس فسئل في ذلك، فقال: "إنَّ الأعمالَ تُعْرَضُ على اللهِ فيهما (¬6)، فأحبُّ أنّ يُعْرَضَ عَمَلِي على الله وأنا صائِمٌ" (¬7) فصيامهما مُسْتَحَبٌّ، الخميس والاثنين (¬8). المسألة التّاسعة (¬9): صيام الأيّام الغُرِّ فكره مالك أنّ يتعمّد صيام الأيّام الغُرِّ، وهي ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر على ما رُوِيَ فيها، مخافَةَ أنّ تجعل العامّة صيامها واجبًا (¬10). ورُوِيَ أنّ صيام الأيَّام البِيض، هي أوّل يوم، ويوم عشرٍ، ويوم عشرين، صيامُ الدَّهْرِ، وقد أباحَ بعض العُلماء ذلك ولم يَرَ بذلك بَأْسًا. المسألة العاشرة (¬11): صيام يوم الجمعة أمّا النّهي عنه، فلما رَوَى النَّسائي (¬12)، عن أبي سعيد الخُدْريّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا صيام (¬13) يوم عيد". ¬
وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة: "هذا يومٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا" (¬1) وقال: "هذا عيدُنَا يا أهلَ الإِسلامِ" (¬2) وقال: "إنّ هذا يومٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا". وفي الصّحيح أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا تَخُصُّوا ليلةَ الجُمُعَة بقيامٍ ولا يومه بصيامٍ" (¬3). وما ذَكَرَهُ مالك إنّه حسنٌ. وذَكرَ بعضُ النّاس أنّ الّذي كان يصومُه ويتحراه محمّد بن المنكدر. قال الرّاوي: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. وأمّا تحديده يومَ عيد فكره صومه، أصله الفطر والأَضْحَى، وغمزَ الدّارقُطْنيّ الحديث، وِقال: قد ورد مَوْقُوفًا. واعْلَمُوا أنّ وُرُودَ الحديثِ تارَةً موقوفًا وتارةً مُسْنَدًا فإنّه ليس بغَمْزٍ فيه، فإنّ الرَّاوِي قد يُخْبِر عن نفسه بما سمع من نَبِيِّه - صلّى الله عليه وسلم -. والحديثُ صحيحٌ لا إشكالَ فيه، ولا معدلَ لأحدٍ عنه. وأمّا غير ذلك من الأقوال فلا يُلْتَفَتُ إليها. المسألة الحادية عشرة (¬4): صيام يوم السبت قال الإمام: لم يصحّ الحديث فيه، ولو صحَّ لكان معناهُ مخالفة أهل الكتاب، وأمّا يوم الشَّكِّ فقد تقدَّمَ النّهي عنه. المسألة الثّانية عشرة (¬5): صيام الدَّهْرِ وهي مسألةٌ خلافيةٌ، فكره ذلك قَوْمٌ لقوله: "لا صامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ" (¬6). وقال قوم: هو جائزٌ، لقوله حمزة بن عمرو الأَسْلَمِيّ: يا رسولَ الله، إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصِّيَامَ (¬7). فلم ينكر عليه، ولو كان ممنوعًا لما أَقَرَّهُ عليه. الجواب عنه من أَوْجُهٍ: الأوّل: يحتمل أنّ يكون قوله: "لا صام من صَامَ الأَبَد" على الدُّعاء. ¬
ويحتمل أنّ تكون "لا" بمعنى "لم" كقولى تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (¬1) وأمّا الأبد المذكور هاهنا فقد قيل: مَحْمَلُه على أنَّه يُدْخِل في صومها الأيام المنهيّ عن صومها، كالعيدين وأيّام التشريق، وهو الصّحيح. وكذلك قال علماؤنا: إنّما ذلك لمن صام فيه (¬2) الأيّام المنهيّ عنها. وأمّا مَنْ كان فيه رجاء لقوّة ويستوكف منه المنفعة، ففِطْره أفضل من صومه وفي مثله يقال: "لا صام من صام الأبد"؛ لأنّه يهدم الأَعْلَى بالأَدْنَى، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: "صوم أخي داود، فكان يصوم يومًا ويفطر يومًا" (¬3). وكذلك قال لعبد الله بن عمرو بن العاصي: "صُمْ يومًا وأفطر يومًا" فقال: إنِّي أطيق أفضل من ذلك. فقال: "لا أفضل من ذلك، ولا صامَ من صامَ الأَبَد" قالها ثلاثًا (¬4). فرع غريب (¬5): وقد اتَّفَقَ العلّماءُ على أنَّ من نَذَرَ صومَ الدَّهْرِ فإنّه يلزمه، ويتركَّب على هذا فرع غريب أيضًا: وهذا إذا أَفْطَرَ بعد ذلك فيه متعمِّدًا، فقال كافّة النَّاسِ: يستغفر الله ولا شيءَ عليه. وقال ابنُ نافع وعبد الملك: عليه الكفَّارة عِوَضًا عنه (¬6)، وهذا ضعيفٌ؛ لأنّه (¬7) ليس فيه خَبَرٌ ولا لَهُ نَظير في نَظَرٍ. المسألة الثّالثة عشرة: قوله (¬8): "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتّ من شَوَّالٍ، كانَ كصيامِ الدَّهْرِ" قال الإمام: ومعنى ذلك؛ أَنَّ الحسنةَ لمّا كانت بعشر أمثالها، كان مبلغ مَا لَهُ من الحَسَنات في صومِ الشَّهر والسِّتةِ أيّام ثلاث مئة وستّون حَسَنَة، عدد أيّام السَّنَة، وكأنَّه صام سَنَة ¬
باب النهي عن الوصال في الصيام
كاملة، يكتب (¬1) له في كلِّ يوم منها حسنة. كره (¬2) مالك الأخذ بهذا الحديث، مخافةَ أنّ يلحق برَمضَان ما ليس منه من فعل أهل الجاهلية (¬3) والجَفَاءِ. قال الإمام: ولو صام ستّة أيَّامٍ في المُحَرَّمِ، لكان أفضل له، وليس لتعينها (¬4) بشوّال معنى، غير أنّ فيه تحصيل العمل وقَصْر الأَمَل، وسيأتي الكلام على بقيّةِ هذه المعاني في آخر كتاب الصوم، إنّ شاء الله. باب النّهْي عن الوِصَالِ في الصِّيام مالك (¬5) عن نافع، عن ابن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الوِصَالِ، فقالوا: يا رسول الله، إنَّك تُوَاصِلُ. فقال: "إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وأُسْقَى". وعن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيني" (¬6). الإسناد: قال الإمام: هذان حديثان صحيحان مُتَّفَقٌ على صحّتهما ومَتْنِهما. وقد (¬7) رُوِيَ نحو ما رواه (¬8) ابن عمر وأبو هريرة، رواه أبو سعيد الخُدْرِيّ (¬9)، وأنس بن مالك (¬10)، وعائشة (¬11) - رضي الله عنها - من طُرُقٍ صِحَاحٍ. ¬
الأصول: قال الإمام: فإن قيل: قوله: "نَهَى" هل هذا النّهي يقتضي المَنْع والتَّحريم، أم هو بمعنى الشَّفَقَة عليهم؟ فيكون قوله على النّدب، وهي: المسألة الأولى (¬1): قلنا: بَلْ هو على وَجْهِ التَّخْفِيفِ عنهم والشَّفَقَة والرَّحمة بأُمَّتِهِ، فمن قدر على الوِصَالِ فلا حَرَجَ؛ لأنّه لله يَدَع طعامه وشرابه، وكان عبد الله بن الزّبير وجماعة يواصِلُون الأيّام (¬2)، ففي هذا دليلٌ أنّه لو كان على التّحريم لم يخالفوه بالمواصلة، كما لم يخالِفُوهُ بصوم يوم الفِطْر والأَضْحَى. لَمَّا كان ذلك على التّحريم وأنّه أيضًا - صلّى الله عليه وسلم - واصلَ بهم إلى السَّحَر، وهذا يدلُّ على جوازِهِ، ولولا ذلك لما واصل بِهِم. المسألة الثّانية: قوله: "يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِيني" فيه عن علمائنا ثلاث تأويلات. أحدها: أنّ ذلك حقيقة، وهذا فاسدٌ؛ لأنّه لو صحَّ ذلك لما قالوا: "فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ". التَّأْوِيلُ الثّانِي: "إنَّهُ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" أي يُطعمني من الرّي والشِّبع، فأكون بحال مَنْ أكلَ؛ لأنّ الطَّعامَ ليس من شرْطِهِ أنّ يُشْبِع، وإنّما يُحْدِثُ البارئ تعالى الشِّبَعَ والرّيَّ عند تناولهما. التّأويل الثّالث (¬3) - قولُه: "يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" على معنى الكناية، عما يخلق الله تعالى له من القُوَّةِ على الصِّيَامِ، بأن يخلق الباريء فيه من الشِّبع والرِّيِّ ما يغني عن الطَّعامِ، فلا يبالي بالوِصَالِ، ولو كان طعامُه وشرابُه من الطّعام والشراب المعتاد، لما كان مواصِلًا ولكانَ مُفْطِرًا. المسألة الثّالثة (¬4): قوله (¬5): "إِيَّاكُمْ وَالوِصَالَ" هو تأكيدٌ في المنع، لما كان يخافه من الضَّعْفِ ¬
عليهم عما كان أنفع منه من الجهاد والقُوَّة على الغزو (¬1)، مع حاجتهم في ذلك الوقت إليه، فلمّا سألوهُ عن وِصَالِهِ، أعلمهم أنّ حالته في ذلك غير حالتهم. المساْلة الرّابعة (¬2): إذا ثبت هذا أنّه يجوزُ الوِصَالُ، فإنّما يصحّ أنّ يُصَامَ من اللَّيْلِ على التَّبَعِ للنَّهَارِ، وأمّا أنّ يُفْرَدَ بالصّوم فلا يجوز ذلك. المسألة الخامسة: فإن قال قائل: صيامُ النَّهارِ دائمًا، أو قيام اللَّيل دائمًا، أيّهما أفضل الصّيام أم القِيَام؟ الجواب - قلنا: إنّ صيام النّهار للشُّبَّانِ أَنْفَع؛ لأنَّ الشَّابّ (¬3) شهواني، والشّهوة لا تموت إِلَّا بالصّوم والصّوْم جُنَّة؛ لأنّ الشّاب إذا دام على الصّوم، فإنّه يطرد عنه باللّيل النوم، إذا كان إفطاره على السُّنَّةِ، كما جاء عن نبيِّ الرحمة صاحب الشّريعة - صلّى الله عليه وسلم -: "ثلث للطَّعَامِ، وثُلث للشَّراب، وثلث للنَّفس" يعني البَطْنِ. وقيامُ اللّيل للشُّيوخِ أفضل من صوم النَّهار؛ لأنّه قد فنيت شهوته، وبقيت في قلبه قوّته، وهو ضعيف النّفس من جهة فَنَاءِ الشَّهْوَةِ، قويّ القلب من جهة الإيمانِ والمعرفة، فإذا صام ذهبت عنه القُوَّة ويزيد في ضَعْفِهِ ضعفًا، حتّى ربّما يقع له في فرائضه الخَلَل، فالفِطْر له أنفع، وقيام اللّيل له أنجح. وأمّا الكُهولُ، فعليهم بصيام النّهار وقيام اللّيل، فإنّهم خرجوا من حدِّ الصِّبَا (¬4) ولم يدخلوا باب الشّيخوخة، وله في حال الكُهُولَةِ بقيّة من القوّة، فلا يدعه أنّ يصير هباءًا منثورًا، فليأخذ حَظّه من اللَّيل بقيامه، وحظّه من النّهار بصيامه، فلعلّه لا يبلغ ما بلغ الشّيوخ، وذلك (¬5) كله إذا كان الشّاب تائبًا والكهل مُرْبِذًا (¬6) والشيخ مُنِيبًا، وأمّا سائر النّاس فَهَمَجٌ لا خير فيهم. ¬
باب صيام الذي يقتل خطأ أو يتظاهر
فإن قيل: أيّهما أفضل الجُوع على جهة الرِّياضة، أم الصّوم لاستعمال السُّنَّة؟ قلنا: إنَّ الصَّوم له أفضل من الجُوع بِلَا صَوْمٍ إذا كان فِطْرُهُ على الحلال وعلى السُّنَّةِ الّتي ذكرنا، فالصوم للشيوخ وللكهول أفضل من الجوع على سبيل الرياضة. باب صيام الَّذِي يقتُلُ خَطأً أو يَتظَاهَر الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "من عليه صيام شهرين مُتَتَابِعَيْنِ في قَتْلِ خَطَأٍ أو تَظَاهُرٍ ... " إلى آخر الكلام. وهو كما قال، إنّ من وجب عليه صيام لقتل من تلزمه الكفَّارة بقَتْلِهِ، أو التظاهر مع عدم الرَّقَبة، فإنّ الّذي يلزمه من الصِّيام شهران متتابعان، قال الله تعالى في كفَّارةِ القتْلِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬3) وقال في الظِّهَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬4). المسألة الثّانية (¬5): فَمَن (¬6) شَرَعَ في صَوْمِهِمَا فَعَرَضَ لَهُ مَرَضٌ أو حَيْضٌ أَمْسَكَ عن الصَّوْمِ حتَّى يمكنه فيصوم، ولا يؤخِّره، فمن أخَّر بعد الإمكان بطلَ التتّابعُ الّذي هو شَرْطٍ في صحَّةِ صَوْمِهِ، فوجب عليه الاستيناف. المسألة الثّالثة (¬7): فإنّا أبيح (¬8) له الفِطْر، ولا يقطع التّتابعَ القَدْرُ الّذي لا يمكن معه الصّوم ¬
باب ما يفعل المريض في صيامه
كالحيض والمرض، ويجري النِّسيان مَجْرَى ذلك؛ لأنّه لا يمكن الاحتراز منه. فإن نَسِيَ أنّ يصل أيّام القضاءِ والحَيْضِ بصيامه وغلطَ في العَدَدِ، فقد قال عبد الملك: يستأنف صيام شهرين، وقاله (¬1) المغيرة في خطإ العدد، وقال: وهذا بخلاف المفطر ناسيًا (¬2). قال القاضي أبو الوليد الباجي (¬3): "ويحتملُ عندي ألَّا يكون عليه استئناف صومه، ويجزئه أنّ يَصِلَ؛ لأنّ هذا ممّا لا يمكنه الاحتراز منه. وأمّا ما يلحق به المَشَقَّة ويمكن معها الصّوم كالسَّفَرِ، فإنّه لا يبيح له الفِطْر، وإن أفطرَ استأنفَ الصّوم"، والحمدُ لله. باب ما يَفْعَلُ المَريضُ في صيامِه الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال الإمام أبو بكر بن العربي: تَفَطَّنَ مالك - رحمه الله - في المرض (¬5) لنكتة، وهي: أنّ المريض يفطر بمجرّد المشقَّة وإن لم يَخَف زيادة المرض. وقال غيره من العلّماء: لا يفطر إِلَّا إذا خافَ زيادة المَرَضِ وقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية (¬6)، قال مالكٌ: فأرْخَصَ اللهُ للمُسَافرِ في الفِطْرِ بنفس السَّفَر، فكذلك أرخص للمريض بَنَفْسِ المَرَضِ. فإن قيل: إنّما أَرْخَصَ بالفطر للمسافر لأجل المَشَقَّةِ باتِّفاقٍ من الأُمَّةِ. ¬
قلنا:* وكذلك المريض أرخص له الفِطْر بنَفْسِ المَرَضِ* (¬1)، وإلى هذا وَقَعَتِ الإشارةُ بقَوْلهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية (¬2) لكن المشقّة لما كانت تختلف في السَّفَر باختلاف أحوال النَّاس في الحَضَرِ، وتعذّر حصر ذلك، علّق الحُكْم على ضابطٍ ظاهرٍ مُنْحَصِرٍ، وهو السَّفَر، كالعدّة وضعت لبراءة الرَّحِمِ ولا شغل في اليائسة والصغيرة حتّى تستبرىء الرَّحم منها، ولكن لمّا تَعَذَّر ضبط سنّ الصغيرة من الكبيرة، وضبط حال اليائس من الحائض، أَوْجَبَ اللَّهُ تعالى العدَّة على الكُلِّ صيانةً للفِرَاشِ وصيانةً للأنْسَابِ. المسألة الثّانية (¬3): أمّا المرض، فهو أمرٌ منضبط، كلُّ أحدٍ أعلم بنفسه. فإن قيل: فإن أَمِنَ زيادة، وهي العِلَّة الّتي لأجلها أُبيحَ له الفِطْر صامَ، وإنْ خافَ الزيادة أَفْطَرَ. قلنا: هذا الّذي ذَكَرْتُمُوهُ صحيحٌ، وليس بمُعْتَرِضٍ على كلامنا ولا على نكتةٌ مالكٌ، فإنّ الله تعالى علَّقَ الفِطْرَ بنفس المَرَضِ، وصومُ المريضِ مَشَقَّةٌ وإن لم يخف الزِّيادة، واللَّهُ قد رَفَعَ المَشَقَّة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية (¬4). ومن أصول القواعد (¬5) عندنا باتِّفاقٍ من أهل السُّنَّة؛ أنّه لا يكون ما لا يريد تعالى، ونحن نَرَى مريضًا يصومُ ومسافرًا يصومُ، فكيف وقع هذا وهو مَنْ أخبرَ أنَّه لا يريده؟ قال الإمام (¬6): قولُ الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (¬7) أي يأمركم، وعبر بالإرادة عن الأمر (¬8) مجازًا، وهذا طريق في الاستعارة وإن كان مُتَّبعًا ولكن مرتبته أجلّ من هذا الجواب؛ لأنّ التّأويل إنّما يُصَارُ إليه عند الضَّرورة، ولا ضرورةَ هاهنا؛ لأنّ معنى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (¬9) أي يريد أنّ يُكَلِّفَكُم اليُسْر ولا يريد أنّ ¬
باب النذر في الصيام والصيام عن الميت
يكلِّفَكُم العُسْر، وكذلك فَعَلَ تعالى، وكذلك كان كما أَخْبَرَ في وجهي النَّفْي والإثْبَات. المسألة الرّابعة (¬1): قوله (¬2): "وإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ " قال علماؤنا: المَرَضُ عبارة عن خروج البدن عن الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين: يسير وكثير، كما بَيَّنَّاهُ. وقال ابنُ القاسم: والّذي يُصيبه الضربان من الخوى في رمضان، وذلك مرض من الأمراض، فإذا بَلَغَ منه ما يجهده فَلْيُفْطِر. وهذا تقدير منه (¬3)، وليس بالبيِّنِ، ولكنّه تقدير بما تَيَقَّنَ أنّ يؤول إليه، وذلك أنّ يخاف منه، ويغلب على الظَّنِّ أنّ يزيد في مَرَضِهِ ويجدّد له مرضًا غير مرضه، أو يُديم له زمانَ مَرَضِهِ، فإنّ هذا المقدار يُبيح له الفِطْر. باب النَّذْر في الصِّيام والصِّيام عن المَيِّت الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قوله (¬5): "النَّذر" النَّذْرُ ما ينذره الإنسان ويلزمه نفسه قبلَ الدُّخول فيه، والتَّطَوُّعُ هو ما لا يلزمه بالقَوْلِ، وإنّما يدخل فيه اختيارًا، فيلزمه بالدخول فيه إتمامه. قال علماؤنا: النَّذْرُ على ضربين: لا يخلو أنّ يكون بدنيًا، أو ماليًا. فإن كان النَّذْرُ ماليًا، فلا خلافَ أنّه تجوزُ فيه النِّيابة. ¬
وإن كان بدنيًّا، فعندنا أنّه لا تجوز فيه النِّيابة، وذلك لقوله: "إذا ماتَ المرءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاثٍ: ولدٌ صالحٌ يَدْعُو لَهُ، أو صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ... " الحديث (¬1). ولقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} الآية (¬2). قال: وفي العارضة قال علماؤنا: لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ باتِّفَاقٍ فَرْضًا ولا نافلة، حياةً ولا موتًا، وكذلك الصِّيام فإنّه لا يصومه أحدٌ عن أحدٍ. المسألة الثّانية: قال: ثُمّ إنّ النّاس أطلقوا الأحاديث في الاحتجاج في ذلك، فقالوا: ثبتَ في الصَّحيح؛ أنّه قال: "من ماتَ وعليه صومٌ صام عنه وَليُّهُ" (¬3) وعن ابن عبّاس؛ أنّ امرأةً أتت النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ الله، إِنَّ أُمِّي ماتت وعليها صومٌ، أَفَأَقْضيهِ عنها؟ ... إلى قوله: "فَدَيْنُ اللهِ أحقّ أنّ يُقْضى" (¬4). وهذه الأحاديث تعارض القرآنَ المُطْلَقَ، وعمومُ القرآنِ المقطوعِ به أَوْلَى من الحديثِ المُطْلَقِ. ويعارضه أيضًا: قوله -عليه السّلام-: "إذا ماتَ المَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ... " الحديث (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): فممّن قال به أحمد بن حنبل. وقال (¬7) الحسن البَصْريّ: إنْ صامَ عنه ثلاثون رَجُلًا من قَوْمِهِ (¬8) يومًا أجزأه. وهذه مسألة تصعبُ على الشّادين إذا صدمتهم هذه الظواهر، وتسهل على العالِمِينَ، فخذوا فيها وفي أمثالها دُستورًا يُسَهِّل عليكم السّبيل، ويُوَضِّح لكم الدّليل: لما قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صَوْمٌ، صامَ عنه وَليُّهُ" قلنا: لا يخلو هذا الميِّت ¬
باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات
أنّ يكون قَدرَ على الصَّوْمِ وتَرَكَهُ، أو لم يَقْدِر قَطُّ عليه، فإن لم يقدر عليه، لم يجب عليه شيءٌ. وإن قدر على الصَّوم وَتَرَكَهُ مختارًا، فكيف تشغل (¬1) به ذمة وليه؟ وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2) وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} الآية (¬3)، وهاتان آيتان مُحْكَمَتَانِ عامَّتَانِ غير مخصوصتين، رُكْنٌ في الدِّينِ، وأصلٌ للعالمين، وأُمٌّ من أُمَّهَاتِ الكتاب المُبِين، إليها تُرَدُّ البنات، ويها يُسْتَنَارُ في المشكلات، وقد عارضت هذه الأحاديث ظاهرها. وأمّا الحسن وأحمد بن حنبل فإنّهما تاها عن المسألة (¬4) وسبيلها، ولم يتَفَطَّنُوا لِمَا تَفَطَّنَ له مالك - رحمه الله - إذ قال (¬5): لا يصلِّي أحدٌ عن أَحَدٍ، ولا يصوم أَحَدٌ عن أَحَدٍ. والصّحيحُ من هذه المسألة؛ أنّ هذه عبادة مختصَّةٌ بالبَدَنِ، فلم تدخلها النِّيَابة كالصَّلاة. باب ما جاءَ في قَضاءِ رمضان والكفّارات الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬6): قال الإمام: هذا الباب فيه أحكامٌ كثيرةٌ، معظمها أربعة: 1 - الأوّل: وقتُ فعلها؛ أمّا قضاءُ رمضان، فوقتُه العام كلّه أَثَرًا ونَظَرًا. أمّا الأَثَرُ فقول عائشة: إنّ كان ليكون عليَّ صوم رمضان ... الحديث (¬7). فإن قيل: فإن كان لعائشة شغل، فليس لغيرها شغل. ¬
قلنا: ذلك الشّغل كان مُبَاحًا، والمباحُ لا يُزَاحِمُ الفُروضَ، فلولا أنَّ التَّأخير كان جائزًا ما تأَخَّرَ بذلك الشّغل. المسألة الثّانية (¬1): أمّا الكفّارة، فوقتها مَنُوطٌ بأسبابها تارةً (¬2)، ومسترسلة على العمر تارة. فأمّا كفارة الظِّهار فَتَقِفُ على مطالبة المرأة، فإن طلبت تَعَيَّنَ وقتها، وإن تركت فَوَقْتُها العُمر ما لم يغلب على الظَّنِّ الفَوْت، وهذا معنى اتَّفَقَت عليه الأُمَّة. وهذه هي العمدة لعلّمائنا الأصوليِّينَ في أنّ مُطْلَق الأَمْرِ ليس على الفَوْرِ. المسألة الثّالثة (¬3): 2 - قضاء من أفطر ناسيًا، واختلف العلّماء فيه؛ فقالت جماعة: لا قضاءَ على من أَفْطَرَ ناسيًا، واختاره الشّافعيّ، ونَزَعَ لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ" (¬4). قالوا: وهذا ينفي القضاءَ؛ لأنّه لم يتعرض له. وَحَمَلَهُ علماؤنا على أنّ المرادَ به نفي الإثم عنه، فأمّا القضاء فلا بدّ منه؛ لأنّ صورةَ الصَّومِ قد عُدِمَت، وحقِيقَتُه بالأكل قد ذَهَبَتْ، والشّيءُ لا بَقَاءَ له مع ذهابِ حقيقته، كالحَدَثِ يبطلُ الطَّهارة سَهْوًا جاءَ أو عمدًا. وهذا الأصلُ العظيمُ لا يردّه ظاهر محتمل التَّأويلِ، وقد صحَّحَ الدّارقطنيّ (¬5)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، قال له: "اللهُ أَطْعَمَكَ وسَقَاكَ، ولا قضاءَ عليك" وهذه الزيادة إنّ صحَّت، فالقول بها واجبٌ، وقد قال فيها بعض علمائنا: أرادَ ولا قضاءَ عليك على الفَوْرِ، وهذا باطلٌ. المسألة الرّابعة (¬6): 3 - قال علماؤنا: يقضي رمضان مُتَفَرِّقًا، وكذلك أيّام الكفّارة، وقد اخْتَلَفَ في ¬
هذه المسألة الصّحابة: ابن عمر وأبو هريرة وابن عبّاس وسِوَاهم، فكان أبو هريرة يقول: يقضي مُتَفَرِّقًا، وهو الّذي شَكَّ فيه مَالِك. وقد احتجَّ مجاهد بقراءة أُبَيّ بن كعب: "فصيام ثلاثة أيام متَتَابِعَات" (¬1). ورُوِيَ عن عائشة؛ أنّها قالت: نزلت "فعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَاتٍ" ثم سقط قوله: "متتابعات" (¬2) تريد من المُصْحَف، وقد بيَّنَّا في هذا الكتاب في باب الكلام على الصّلاة الوُسْطَى؛ أنّ القراءة الشَّاذَّة لا تُوجِبُ حُكْمًا، وأنّها لا تلحق بالقياس، فكيف بخبر الواحد! لأنّه إذا سقط أصلها فأَوْلَى وأَحْرَى أنّ يسقط حكمها. المسألة الخامسة (¬3): إذا أسلمَ الكافِرُ في بعض يومٍ: قال ابنُ القاسم وجماعة: يلزمه الإمساك عن الأكل. وقال آخرون: يجوز له الأكل، وهو الصّحيح؛ لأنّ الله قد أسقط عنه بعض اليوم بإسلامه، وإذا سقط البعض سقط الكُلُّ؛ لأنّه لا يتجزَّأ. اعتراض (¬4): فإن قيل: يلزمكُم على هذا أنّه إذا قال الرَّجُل لزوجته: أنت طالق، فإنّه يلزمه نصف طلقة أو نصف يوم، يكملُ عليه الجميع عَدَدًا وزَمَانًا. قلنا: هاهنا ألزم (¬5) نفسه البعض ممّا لا يتجزّأ، فلزمه (¬6) الجميع إذا لم يسقط عنه أخذ الباقي، والكافرُ بإسلامه والتزامه للشرائع، قد أسقط عنه* الّذي التزم له نصف اليوم، فلا سبيل إلى أنّ يعود إليه ما أسقط الله عنه* (¬7)، فصار يومًا لا أَثَرَ له في حَقِّه، فلم يتعلّق به حكم من أحكامه. ¬
المسألة السّادسة (¬1): قوله (¬2): "ومَنِ اسْتَقَاءَ" يريد من اسْتَدْعَى ذلك، فهو الّذي يلزمه القضاء، هذا قول مالكٌ، واختلفَ أصحابُه في وجوب ذلك: فقال الأَبْهَرِيُّ: هو على الاستحباب. وقال الداودي (¬3): هو على الوجوب، وبه قال الشّافعيّ وأبو حنيفة (¬4) قال الإمام (¬5): والدّليلُ على وجوب ذلك: أنّ المُتَعَمِّدَ له لا يسلم في الغالب من رجوع شيءٍ إلى حلقه ضرورة. المسألة السّابعة (¬6): فإذا قلنا بوُجوبِ القضاء عليه، فهل عليه الكفارة؟ قال أبو بكر الأَبْهَرِيُّ (¬7): إنِ اسْتَقَاءَ عامِدًا فعليه الكَفَّارة. وقال عبد الوهّاب: القضاءُ على الوجوبِ وتلزمه الكفّارة. وقال أبو الفَرَج: لو سُئِلَ عنه مالك لأَوْجَبَ عليه الكفّارة. قال الإمام (¬8): وهذا الّذي قاله عبد الوهّاب يبطلُ عندي من وجهين: 1 - أحدهما: أنّ الكفَّارةَ إنّما تجب إذا كان الفِطْرُ باختيارِ الصَّائمِ، وأمّا إذا فعلَ ما يُؤَدِّي إلى الفِطْرِ فإنّه لا تجب عليه الكفَّارة. ألَّا ترى أنّه لو أَمْسَكَ المَاءَ في فيه، فغَلَبَهُ فدخل في حلقه، لم تجب عليه الكفَّارة، ووجب القَضَاءُ، وكذلك فِطْر المستقيء إنّما يقعُ بالرّاجِعِ، وهو لم يتعمَّد ارتجاعه، وهذا الظّاهِرُ عِنْدِي من قول مالك. 2 - وأيضًا: فإنّ الكفَّارةَ لم تثبُت في ذمَّتِهِ قبلَ ذلك بأَمْرٍ واجِبٍ، فيكون عليه، ولا يجب إِلَّا بأَمْرٍ متيقّنٍ (¬9). ¬
باب قضاء التطوع
وقد رُوِّينَا حديثًا مُسْنَدًا عنِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة؛ أنّه قال: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ في رَمَضَانَ وهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قضاءٌ، وإن استقاءَ فعليه القَضَاء" (¬1). فقال علماؤنا: القيء في رمضان على ضربين: لا يخلو أنّ يكون ذَرَعَهُ أو استقاءَهُ. فإن ذَرَعَهُ فلا خلافَ أنّه لا شيءَ عليه، إلّا أنّ يرجع إلى حَلقه منه شيءٌ، فعليه القضاء، ورَوَى داود (¬2) من أصحاب مالك من المدينة؛ أنّه لا شيءَ عليه، وضَعَّفَ ذلك أصحابُنَا. وإنِ استقاء عامدًا، فعليه القضاء بلا خلافٍ، واختلفوا في الكفارة، فقال ابن المَاجِشُون: عليه الكفَّارة؛ لأنّه قصدَ الفعل كالرّامي خطأ. باب قضاء التَّطَوُّع مالك (¬3)، عن ابن شهاب؛ أنّ عائشة وحفصة زوجتي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أَصْبَحَتَا صائمتَيْنِ متطوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهُمَا طعامٌ، فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فدخلَ عليهما رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ... الحديث. الإسناد (¬4): قال الإمام: أدخلَ مالك هذا الحديث وهو من مراسيل ابن شِهاب، ويعارِضُه ما صحَّ عن النّبيّ عليه السّلام وثبتَ أنّه دخلَ على عائشة، فقال لها: "هل عِنْدَكِ شَيْءٌ"؟ ¬
قالت: لا. قال: "فإنِّي صائمٌ" ثمّ خرجَ فدخلَ عليها بطعامٍ أو جَاءَهَا زَوْرٌ، فأرسلت إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت له: عِنْدَنَا شَيْءٌ، قال لها: "وما هو؟ " قالت له: حَيْسٌ (¬1)، فقال لها: "قَرِّبِيهِ" فَأَكَلَ منه، ثمّ قال: "لقد كنتُ صائمًا" (¬2) قال: النّسائيّ (¬3) في تحديثه: "يا عائشة، مَثَلُ الصّائِمِ المُتَطَوِّع كَمَثَلِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَته، فمَا أَعْطَى نَفَدَ، وما بَقِيَ وبخل به وأَمْسَكَهُ بَقِي" زاد الدّارقطنيّ (¬4)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الصّائِمُ المُتَطَوِّعُ أميرُ نَفْسِهِ، إنّ شاءَ أَفْطَرَ وشَاءَ صَامَ". الأصول (¬5): فإن قيل: كيف يصحُّ الاحتجاج بالمُرْسَلِ من الأحاديث؟ قلنا: المراسيل عندنا من الأحاديث المُسْنَدَةِ، وقد بَيَّنَّاه في أَوَّلِ الكتاب فإذا ثبتَ ذلك وتعارض الحديثان؟ قال المخالف: يحمل قَوْلُه (¬6): "اقْضِيَا يومًا مَكَانَهُ" على الاستحباب. قلنا: بل يُحْمَلُ أكل النّبيِّ -عليه السّلام- على أنَّه كان مجهودًا بالجُوعِ، وهي كانت غالب أحواله، فكان يصومُ إذا عدم رغبة في الأَجْرِ، ويفطر إذا وجدَ للحاجة في الأكل. والدّليل عليه: قوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬7) وكلُّ من بدأ بعمل (¬8) لله وشرع فيه بفعله فلا وجه لإبطاله. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬9): قولهما: "أَصْبَحَتَا صائِمتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ" يحتمل أنّ يكون هذا في يوم لم يكن ¬
عندهما رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ويحتمل أنّ يكون ذلك بإِذْنِهِ، وذلك أنّ المرأة إذا عَلِمَت أنّ زوجها لا حاجةَ له فيها (¬1) في الغالب، جازَ لها أنّ تصومَ دُونَ إِذْنِهِ، فإن علمت أنَّه يحتاج إليها، لم تصم إِلَّا بإِذْنِهِ. وكذلك السُّرِّيَة وأمّ الوَلَد؛ لأنّ الاستمتاع حقٌّ من حقوق السَّيِّد، فليس لها المنع بالنّوافل. وممّا يعلم أنّه لا حاجةَ له بذلك، أنّ يكون غائبًا، فهذا لا حقَّ له في الإذْنِ. وكذلك خادم الخِدْمَة، بخلاف السُّرِّيَة وأم الولد، فلا يحتاج إلى إِذْنِهِ في صومها من جِهَةِ الاستمتاع بها، إِلَّا أنّ يضعف عن الخدمة، فذلك من حقوق السَّيِّد، وليس للعبد أَن يبطل حق سيده بصومه، وهذا كلّه قول مالك. المسألة الثّانية (¬2): قال ابنُ شعبان: وقد اختلفَ في صيام العَبْدِ بغير إِذْنِ سيِّدِه، وإن كان لا يضرّه: فقيل: لا بأس به. وقيل: لا يجوز، وبهذا أقول؛ لأنّه أَقْوَى في النَّظَر. المسألة الثّالثة (¬3): قال علماؤنا (¬4): هذا في صَوْمِ التَّطَوُّع وفيما تدخله الزوجة على نفسها. فأمّا قضاء رمضان، فلا إِذْنَ لأَحَدٍ فيه على زوجة ولا عَبْدٍ وإن أَضْعَفه، قاله مالك في "المجموعة". ووجه ذلك: أنّ الصَّوْمَ لزِمَه بالشَّرْعِ كصوم شهر رمضان. المسألة الرّابعة (¬5): ومن صام منهم بإِذْنٍ أو بغير إِذْنٍ، لم يجز له (¬6) الفِطْر حتّى يتمّ صومه؛ لأنّه صومٌ قد لَزِمَه بالدُّخول فيه. وهل للزّوج فيه حقٌّ وللسَّيِّد بأن يجبرهن على الفِطْر مع عَدَمِ الإذْنِ والمعرفة ¬
بالحاجة بعد التَّلَبُّسِ بالصَّوْمِ. المساْلة الخامسة (¬1): قوله: "فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا عَلَيْه" يحتمل أنّ يكون للضّرورة والحاجة إليه أو النِّسيان لصومهما. ويحتمل أنّ يكون لاعتقاد جواز ذلك، ثمَّ شَكَّتَا فيه. وقد اختلفَ الفقهاءُ في جوازِ فِطْرِ التّطَوُّع لغير ضرورةٍ: فقال مالكٌ: لا يجوزُ ذلك، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشّافعيُّ: يفطر متَى شَاءَ. ودليلنا - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) وهذا قد عقد الصّوم فيجبُ أنّ يَفي به. ودليلنا من جِهَةِ السُّنَّةِ: قوله للأعرابي: "إلّا أَنْ تَطَّوَّعَ" وهذا يدلُّ أنّ عليه ان يَطَّوَعَ. المسألة السّادسة (¬3): قوله: "اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ" ظاهِرُهُ الوُجوب، ويحتمل النَّدْبَ، بدليل: "إلّا أنّ تَطَّوَعَ". وقد اختلفَ فيه قول مالك، فقال: مَنْ أفطرَ في صومِ نَفْلٍ مختارًا فعليه القَضَاء، وإنْ أَفْطَرَ لضرورةٍ فلا قضاءَ عليه. وقال الشّافعيّ لا قضاء عليه في الوَجهين. وقال أبو حنيفة: بل القضاء عليه في الوجهين، إِلَّا النّاسي فلا قضاءَ عليه. ودليلنا على وجوب القضاء في العمد: أنّ هذه عبادة مقصودةٌ في نفسها، فكان القضاء على من أفسدها (¬4) من غير ضرورة كالحج، والفروعُ على هذا النّوع كثيرةٌ، لُبَابُها ما ذَكَرْنَا لكم. ¬
باب من أفطر في رمضان من علة
باب من أَفْطَرَ في رمضان من عِلَّةٍ الحديث في هذا الباب عن أنس (¬1) ثابتٌ صحيحٌ مُتَّصِلٌ. الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى: قوله (¬2): "مِنْ عِلَّةٍ" والعِلَلُ على ضروب كثيرة، أمّا المَريضُ والمسافرُ، فقد تقدَّمَا، وأمّا الحائض فتقضي الصّوم دُونَ الصَّلاة للحديث (¬3) الصّحيح. وقوله (¬4): "إنَّ أنَسًا كَبرَ حَتَّى كانَ لا يَقْدِرُ على الصِّيام" قال علماؤنا (¬5): العجزُ عن الصِّيَامِ على ضربين: 1 - أحدهما: موجودٌ سَبَبُهُ، وهو المرض والعطش والجُوع، فهذه مَتَى وُجِدَتْ ومَنَعَت تمام الصَّوْمِ سقطتِ الكفَّارةُ، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية (¬6)، والأصلُ براءةُ الذِّمَّة من الكفّارات وغيرها فلا يثبت إِلَّا بالدّليل. المسألة الثّانية (¬7): ويُبيحُ الفطرُ ما قدَّمنا ذِكْره من المَشَقَّةِ وخَوْفِ زيادة المَرضِ أو تجدّده أو طُول مُدَّتِه. 2 - والثّاني أنّ يكون الجسد سَالِمًا من سَبَبِ العَجْزِ إِلَّا بحال من شرع في الصَّومِ فطرأَ عليه المانع من تَمَامِهِ، وقد عرف ذلك من حالِهِ كالشَّيْخِ الكبير والحامِل، فهؤلاء أَصِحَّاء ليس بهم مانع، إِلَّا أنّ ذلك طرأ (¬8) عليهم عند الصَّومِ، فمن شرع فيه ¬
فغَلَبَهُ عطشٌ أو غيره فأفطَرَ، فلا إِطعامَ عليه، ومن أفطر ابتداءً لِعِلمِهِ أنَ المشقة تلحقه. فأمّا الكبير فإنّه يستحبُّ له أنّ يطعم، ولا يجب ذلك عليه، وبه قال سحنون. وقال أبو حنيفة (¬1) والشّافعيّ: يجب عليه الإطعام. ودليلنا: أنّ هذا مفطرٌ بِعُذْرٍ موجودٍ فلم يلزمه إطعام كالمسافِرِ والمريضِ. وأمّا قوله في المُسِنَّ بأنّه: "يفتدي" وهي: المسألة الثّالثة (¬2): فإنّه يحتمل أنّ يفعل ذلك على وجهِ النَّدْبِ والاستحباب، وإن كان العلّماء قد اختلفوا في وجوب الفدْيَةِ عليه، وقد بَيَّنَّا في الحديث الصّحيح والقرآن المطلق، أنّ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (¬3) و "يطوقونه" (¬4) كيفما قُرِىءَ منسوخٌ، على ما ثبت في الصّحيحِ، فليس على العاجز عن الصيامِ من الكِبَرِ فِدْيَة؛ لأنّه لم يتوجّه عليه خطاب فيفتدي ممّا لزمه. المسألة الرّابعة (¬5): قال علماؤنا: في الحاملِ والشَّيخِ الهَرِمِ إذا أَضَرَّ بهما الجُوع والعَطَش فأَفْطَرا، لم تكن عليهما كفَّارة، فإنْ أفطرت الحاملُ والمُرْضِع، فعن مالك في ذلك روايتان. وقال الشّافعيّ: تَفْتَدِي الحامل ولا تفتدي المُرْضِع؛ لأنّ الحامل تخافُ على نفسها والمُرْضِع تخاف على غيرها، فصارت المُرْضِع بمنزلة من يمرض مرضًا في رمضان فيضعف عن الصَّوم فلا فِدْيَةَ عليها. والصّحيح أنَّه ليس على المُرْضِعِ ولا على الحامِلِ فديةٌ، على أنّه قد روي عن ابن عبّاس أنّه قال: نسخ قولُه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} إِلَّا في الحامل والمُرْضِع (¬6). وأراد ابن عبّاس بقوله: "نسخ" خصّ، والتخصيصُ حكايته مذهب، والمذهب من الصَّاحبِ لا تقوم به حُجَّة، على ما تقدَّمَ بيانُه. ¬
* قوله (¬1): "المرأة الحامل إذا خافت على ولدها"* (¬2) إنّه في الحامل على سبيل النَّدبِ، وقد اختلفَ النّاسُ في ذلك. فعن مالكٌ فيه روايتان: إحداهما: ألَّا إطعام عليها، وبه قال أبو حنيفة. والثّانية: أنّ عليها الإطعام، ويُخَرَّج على هذه الرِّواية وجوب الإطعام على الشّيخ، فإن أفطرت خوفًا على نفسها فلا إطعامَ عليها، وإن أفطرت خوفًا على حَمْلِهَا فعليها الإطعام، قاله ابن حبيب. المسألة الخامسة (¬3): وأمّا المُرْضِع، فإنْ ضعفت عن الصَّومِ مع إرضاعِ وَلَدِهَا، فإنّه يجب أنّ تستأجر له إنْ أمكنَ ذلك وقبلَ غيرها، فإنْ لم يقبل غيرها ولم يمكن الاستئجار له أرضعت ابنها وأَفْطَرَتْ. واختلف علماؤنا هل عليها إطعام أم لا؟ فعن مالكٌ في ذلك روايتان: إحداهما: نَفْيُهُ، وبه قال أبو حنيفة. والثّانية: إيجَابُه. المسألة السّادسة (¬4): قوله (¬5): "وَمَنْ أخَّر رمضان حتّى دخلَ عليه رمضان آخر" فقال الشّافعيُّ: عليه الكفَّارة مع القَضَاء. وقال أبو حنيفة: لا فِدْيَةَ عليه (¬6). وقال سائر العلّماء: عليه الفِديَة ولستُ أعْلَمُ في ذلك دليلًا في الشّريعة (¬7)، إِلَّا ¬
أنّ الدّارقطنيّ (¬1) أسندَ حديثًا؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: عليه الفدية، ولم يصحّ. وقال بعضُ العلّماء: إنّه مَنْ أَخَّر قضاء رمضان حتّى جاء رمضان آخر فإنّه يُطعِم. قال الإمام (¬2): هذا الفصل يَقْتَضِي أَن قضاءَ رمضان مُؤَقَّتٌ عند ابنِ القاسم، وأنَّ وقتَهُ الّذي وقّته رمضان آخر (¬3)، فمَتَى أَخًرَهُ عن وقته لغير عُذْرٍ فعليه الكفَّارة مع القَضَاء، وبهذا قال مالك والشّافعىّ. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه شيء، والكلامُ معه أَوَّلًا في توقيت القضاء، فإنّه لا يجوز له تأخيره عن وَقْتِهِ. المسألة السابعة (¬4): قوله: "فأنّه يُطْعِمُ كلّ يَوْمِ مِسْكينَا، مُدًّا من حِنْطَةِ" يريد أنّه يلزمه عن كلِّ يومِ فَرَّطَ فيه، وهذا الّذي عليه جمهور علمائنا. وقال أشهبُ: يُطعِم في غير المَدِينَة مُدًّا ونصفًا، وهو قَدْر شبع أهل مصر. قال الإمام (¬5): وإنّما ذلك منه على وجهِ الاستحباب، على ما ذَكَرَهُ في إطعام كفَّارة اليمين، ومعنى المسألة: أنّ يُطعِم مُدًّا كامِلَا لمسكينٍ* واحدِ لا يفرّقه على مسكينين وأكثر، فإن فعل لم يجزه حتّى يتمّ مُدًّا كاملًا لمسكين* (¬6)، وهكذا الكفّارات يُعتَبَرُ فيها قَدْر الطَّعام وعدد المساكين. وقد قال علماؤنا: إنّ الحاملَ إذا ثقل وَلَدُها فإنّها تُفْطِر ولا إِطعَامَ عليها بعد ستَّةِ أشهر وهي كالمريضة، وقَبْلَ سِتَّةَ أَشْهُر تُطْعِم عن وَلَدِها لخَوْفِها عليه، ألَّا ترى أنّه لا يجوزُ فعلها بعد السِّتَّة أشهر إلّا في الثلث كالمريض. ¬
جامع قضاء الصيام
جامع قضاء الصّيام فيه ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قول عائشة (¬2): "إنْ كَانَ لَيَكونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ من رمضانَ" يقتضي جواز تأخيرها (¬3) مع التَّمَكُّنِ مِنْهُ، إلى أنّ يبقى من شعبان قَدْر ما عليها من الأيّام الّتي خلت من الصَّومِ، ولا يكون المُؤَخِّر لذلك مُفَرِّطًا، ولو كان مُفَرِّطًا لما جازَ له التَّأخير عن أوَّل إمكانِ الصَّوْمِ. المسألة الثّانية (¬4): روى ابنُ نافع عن مالك في الّذي يُفَرِّطُ في قَضَاءِ رَمَضَانَ حتّى يمرض: أحبُّ إلي أنّ يُوصِي بالإطْعَامِ، وهذا نحو القول الأوّل. وقال غيره (¬5): يُوصِي، وليس بواجبٍ عليه ذلك، بل يستحبُّ له. وقال ابنُ الجلّاب (¬6): "إنّ كان معذورَا في بعض الأيّام دون بعض، لَزِمَهُ مع القضاء الإطعام بِعَدَدِ الأيّام الّتي زال فيها عُذره دون غيرها". المسألة الثّالثة (¬7): وهل يكون للزوج جبر المرأة على تأخير القَضاءِ إلى شعبان؟ الظّاهر عندي أنّه ليس له ذلك إِلَّا باختيارها؛ لأنّ لها حقًا في إبراء ذِمَّتِها من الفَرْضِ الّذي لَزِمَها. وأمّا النفل فإن له منعها منه لحاجته إليها. وقد رُوِيَ عن أبي هريرة؟ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأةٍ أنّ تصومَ وزوجها شاهد إِلَّا بإذْنِهِ" (¬8). ¬
باب صيام اليوم الذي يشك فيه
باب صيام اليوم الّذي يشكّ فيه الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُه (¬2): "إنَّ أهلَ العِلْمِ يَنْهَوْنَ عن أنّ يُصَامَ اليَوْم الّذي يُشَكُّ فيه" قال علماؤنا (¬3): إنّما ذلك على سبيل الاحتياط لرمضان، ويرونَ أنَّ صيامَهُ لا يجزئ من صامه إذا ثبتَ بعد ذلك أنَّه من رمضان، وعليه أنّ يقضيه، ولا بأس بصيامه على وَجْهِ التَّطَوُّعِ. المسألة الثّانية: قلنا: أكثرُ العلّماء على الكراهية ذريعة، ربما خطر بِالْبَالِ الاحتراز من هذه الحال، فيقول المرء: أصومُ قبل الشَّهرِ مخافَةَ ان اوقع الفِطْر فيه. وهذه معصيةٌ عظيمة في الدِّين، قال عمار بن ياسر: من صامَ يوم الشَّكِّ فقد عَصَا أبَا القاسِم (¬4). وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بيَوْمٍ ولا يَوْمَيْنِ" (¬5) بل روى أبو داود: "إذًا انْتَصفَ شَعْبَان، فلا يصومنَّ أحدكم حتَّى يأتي رَمَضَان" (¬6) وهذا إنّما فَعَلَهُ - صلّى الله عليه وسلم - احترازًا ممّا فَعَلَهُ أهل الكتاب؛ لأنّهم كانوا يزيدون في صومهم على ما فرضَ اللهُ عليهم أوِّلًا وآخرًا، حتّى بدَّلُوا العبادةَ، فلهذا لا يجوز استقبال رمضان ولا تشييعه، ومن أجله قلنا في قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضانَ" فقد حصلت له المثوبة بصومه عشرة أشهر، ومن صام ستّة أيّام، فقد حصلت له مثوبة ستِّين يومًا. وذلك الدّهر، فأفضلها أنّ تكون في عشر ذي الحجَّة إذ الصّوم فيها أفضل منه في شوّال المذكور في الحديث، فيكون ذِكْرُهَا لتَحصِيلِ الأَجْرِ لا للتَّوْقِيتِ، وقد بَيَّنَّاهُ في مَوضِعِهِ. ¬
باب جامع الصيام
باب جامع الصِّيام هذا بابٌ فيه فوائد كثيرة وأحاديث جَمّة: الحديث الأوّل: قولُه في حديث أبي هريرة (¬1): "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فإذَا كانَ أَحَدُكُمْ صائمًا فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ ... " الحديث إلى آخره. فيه خمس فوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ" لأ أي يُسْتَجَنُّ به من النّار. قال الإمام: معناه أنّ يسترَهُ ويمنعه من الفواحش وما لا يليقُ بالذِّكْرِ، ومن قال: إته جُنَّة من النّار، فإنَّ آخر هذا الحديث ينقض هذا التَّأويل. الفائدةُ الثّانية (¬2): قوله: "فَلَا يَرْفُثْ" الرفث هنا الكلام القبيح والشَّتْم والخَنَا والجفاء، وأَنْ تُغْضِب صاحبك بما يسوءُ من القَوْلِ والبذاء (¬3)، ونحو ذلك. الفائدةُ الثّالثة (¬4): قوله: "ولَا يَجْهَلْ" وهو قريب ممّا وصفنا من الشّتْمِ والسّباب وقُبْح الكلام في القَوْلِ، قال، الشاعر (¬5): أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علينا ... فَنَجْهَلْ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا واللَّغوُ هو الباطلُ، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬6) معناه -قالوا-: الباطل. ¬
الفائدةُ الرّابعة (¬1): قوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬2): "فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ" أي صَوْمِي يَمْنَعُنِي من مُجَاوَبَتِكَ لأَنِّي أصونُ صَوْمِي عن الخَنَا والزُّور. والمعنى في المُقَاتَلَة مُقَاتَلَتُه بِلسانه. ورُوِيَ في الصَّحيحِ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليس للهِ بِهِ حاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ" (¬3). ولا يُعْلِن بقوله: إنِّي صائمٌ، لما فيه من الرِّيَاءِ واطِّلَاع النَّاس عليه؛ لأنّ الصَّومَ منَ العملِ الّذي لا يظهر، ولذلك يَجْزِي اللهُ الصائمَ أجره بغير حسابٍ. قال الإمام: قولُه:"فَمَنْ شَاتَمَكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ" فيه وجهان من التَّأوِيل: أحدهما: أنّ تقول ذلك في نَفسِكَ، فلا تجاوبه بشَتْمٍ ولا غيره. الثّاني: أنّ تقولها مجاوبًا له: إنِّي صائمٌ فلا أُجَاوِبُكَ. والأوّلُ اوَّلَى لنَفْيِ الرِّيَاءِ. الفائدةُ الخامسة (¬4): قوله: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لله به حاجة ... " الحديث، معناه: الكراهيةُ والتَّحذير، كما جاء: "من شرب الخَمرَ فليشَقِّص الخنازير" (¬5) أي يذبحها، وليس هذا على الأمر (¬6) بشَقْصِ الخنازير، ولكنّه على تعظيم إثم (¬7) شرب الخمر. وكذلك مَنِ اغْتَابَ أو شَهِدَ زُورًا أو مُنْكَرًا لم يُؤمَر أنّ يدع صيامه، ولكنّه يُؤمَر باجْتِنَابِ ذلك، ليتمّ له أجر صيامه. حديث ثانٍ: مالك (¬8)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسولَ ¬
الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "والّذى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخَلُوفِ فَمِ الصائم أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، إنَّمَا يَذَرُ شَهوَته وطعامه وشَرَابه مِن أَجْلِي، فالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزي به ... " الحديث إلى آخره. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه خَرَّجَهُ مسلم (¬1) وغيره (¬2). وفيه فوائد: الفائدةُ الأولى: قولُه: "لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطيبُ عنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ ... " الحديث، أي تَغَيُّر فمِ الصّائم في آخر النّهار، وأكثر ذلك في شدَّة الحَرِّ، وهو من رائحة المَعِدَةِ ولا يذهب بالسِّوَاكِ؛ لأنّه من رائحة النّفس الخارِجِ من المَعِدَةِ وإنّما يذهبُ بالسِّواكِ ما كان في الأسنان. وقال البرقي: هو تغيّر طعم فيه، وهذا ليس على أصلِ مالك، وإنّما هو جار على مذهب الشّافعيّ، ولذلك منع الصائم السِّواك بعد نصف النهار؛ لأنّه وقت وجود الخَلُوفِ فيه عِندَهُ، وأباحه مالك؛ لأنّ الخَلُوفَ لا يزولُ بالسِّواكِ؛ لأنَّ أصله من المَعِدَة، ولو زال بالسِّواكِ قَبلَ الزَوَالِ لمنع وجوده فيه بعد الزَّوال إنّ كان مختصًّا بالفَمِ، وقد سمعتُ جماعة من الخُطَبَاء -أعني خطباء الأندلس- يدخلون قول الشّافعيّ في خُطَبِهِم، وذلك لأحد وجهين. إمّا لِقِلَّةِ معرفتهم بالمَذْهَبِ. وإمَّا لما وَجَدُوا ذلك ثابتًا في خُطَبِهِم -أعني خُطَب ابن نباتة- الواردة من قِبَلِ المشرق، وخطبهم مبنيّةٌ على مذهب الشَّافعىّ، وهذه المسألة قَوِيَّةٌ لمَالِك فلزم التّنبيه عليها لِئَلّا يترك الأخذ بها من لا يعرف وجهها. توحيد: قوله: "أَطيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" يريد أَزْكَى عند الله وأَقْرَب إليه مِنْ ريح ¬
المِسْكِ عندكُم (¬1)، وأكثر ثوابًا عند الله. وقال أبو عبد الله المازَرِي (¬2): "هو مجازٌ واستعارةٌ؛ لأنّ استطابة بعض (¬3) الرّوائح من صفات الحيوان الّذي له طباع تَمِيلُ إلى شَيْءٍ فتَسْتَطِيبُهُ، وتنفر عن آخر فتستقذره، واللهُ تعالى يَتَقَدَّسُ عن ذلك، ولمن جرت العادة بيننا (¬4) بتقريب الرّوائح الطَّيِّبَة مِنَّا، واستعير (¬5) ذلك في الصّوم لتقريبه من الله تعالى". وقيل: الصّحيح أنّه أكثر ثوَابًا من الّذي تَطَيَّبَ لغيرِ الله. والتطيّب لوجه الله ينتفع بذلك (¬6) جلساؤه، ويذهب كراهية رائحته، فلا يُؤْذِي بها (¬7) ولتشتمّ الملائكة. ويحتمل أنّ يُؤْجر الإنسان على أَكْلِهِ وَلِبَاسِهِ وتطيُّبِه إذا كان ذلك حَلَالًا لِوَجْهِ الله تعالى. أمّا الأكل، فلِلْقُوَّةِ على العبادة. وأمّا اللِّباس، فيَنْوِي به سَتْرَ العَوْرَة. وأمّا التَّطَيُّب، فينوِي به ما ذَكَرْنَا. عربية (¬8): قولُه: "لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ لا يقال -بِضَمِّ الفَاءِ-: تَغَيُّره. قال الهَرَوي (¬9): "يقال خَلَفَ فوه إذا تَغَيَّرَ يَخْلُفُ خُلُوفًا (¬10)، ومنه حديث علىّ رضي الله عنه إذ سئل عن قُبْلَةِ الصَّائمِ، فقال: وما إِرْبُكَ إلى خُلُوفٍ فيها" (¬11). ويقالُ: نَوْمَةُ الضُّحَى مَخْلَفَةٌ لِلْفَمِ، أي مُغَيِّرَةٌ. ¬
الفائدةُ الثّانية: في السِّواك للصّائم وهو عندنا جائزٌ في سائر النّهار، خلافًا للشّافعىّ؛ لاْنّه يُجَوِّزُه في أوَّل النَّهارِ ولا يُجَوِّزه في آخره. واحتج بأنْ قال: السِّواكُ في آخر النَّهار يُذْهِب الخَلُوفَ، وقد مدح عليها شَرْعًا، فلا تجوز إزالتها كدَمِ الشَّهِيدِ. ووجه الرَدِّ عليه: أنّ الخَلُوفَ في الجَوْفِ لا في الفَمِ، وما كان من الجَوْفِ لا يُزيلُهُ السِّواك. وأمّا السِّواك الرَّطبُ فغير جائزٍ باتِّفَاقٍ منَّا؛ لأنّه طيبٌ وذوق ومائِعٌ وإنّه لا يجوز أنّ يُعَبَّر بالفَضْل عن الفضيلة، ومعنى ذلك أنّ يجعله الصّائم باختيارٍ في فيه، فيكون حينئذٍ عندنا على ضربين: مكروهٌ، ومباحٌ. فالمكروه الرطب، والمباحُ اليابس. وقد بيَّنَّاهُ بأبْدَعِ بيانٍ في كتابِ الطّهارة من هذا الكتاب فلننظر هنالك. حديث: قوله "الصَّوم لي" قيَّدنا فيه عن علمائنا سبعة أوجه (¬1): الأوَّلُ: اْضافه اللهُ (¬2) تشريفًا وتخصيصًا، كإضافة الكَعْبَةِ والمَسَاجِدِ على شرف سائر البقاع (¬3). الوجه الثّاني: أنّه أراد بقوله: "الصَّوْمُ لِي" الصَّوم لا يعلمه أحدٌ غيري؛ لأنّ كلَّ طاعةٍ لا يقدر المرء أنّ يُخْفِيها، وإن أخفاها عن النّاس لم يخفها عن الملائكة، والصَّومُ يمكنه أنّ ينويه ولا يَعْلَمُ به مَلَكٌ ولا بَشَرٌ. الوجه الثّالث: أنّ المعنى الصَّومُ صِفَتِىِ؛ لأنّ الباري تعالى لا يطعم، فمن فَضَّل الصِّيام على سائر الأعمال؛ فلأن العبدَ يكون فيه على صِفَةٍ من صفاتِ الرَّبِّ، وليس ذلك في أعمال الجوارح إلّا في الصَّوْمِ. فأما في أعمال القلوب، فيكون ذلك كثيرًا، كالعلم والكلام والإرادة. الوجه الرّابع: أنّ المعنى بالصّوم لي، أي من صفة ملائكتي؟ لأنّ العبد في حالة الصَّوْمِ ملكٌ؛ لأنّه يذكر ولا يأكل، يمتثل العبادة ولا يقضي (¬4) شهوته. ¬
الوجه الخامس: "الصَّومُ لِي" المعنى فيه: أنّ كلِّ عمل أعْلَمْتُكُم مقداره إِلَّا الصّوم فإِنِّي انفردتُ بعلمه (¬1) لا أُطْلِعُ عليه أَحدًا. الوجه السّادس: أنّ معنى "الصّومُ لِي" أنّ يقمع عَدُوِّي وهو الشّيطان؛ لأنّ سبيل الشّيطان إلى العَبْدِ اقتضاء الشّهوات، فإذا تركها العبد بَقِيَ الشيطان لا حراك به ولا حِيلَةَ له. الوجه السّابعِ: رُوِيَ في بعض الآثار؛ أنّ العبدَ يأتي يوم القيامة بحسناته، ويأتي قد ضَرَبَ هذا، وشتَمَ هذا، وأخذَ مال هذا، فتدفع حسناته لغُرَمَائه إِلَّا الصِّيام، يقول الله تعالى: "هُو لِي ليس إِلَيْكُمْ إِلَيْهِ سبيلٌ" قال الإمام: وهذا إنّ صَحَّ بَدِيعٌ. تكملةٌ للحدبث: قال: ثمَّ أردفَ الحديث بقوله: "لَخَلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عندَ اللهِ من رِيحِ المِسْكِ". ووجه التّمثِيلِ فيه: أنّ المِسْكَ مَحْبُوبٌ للنَّفْسِ، والصومُ أحبّ إلى الله وأَقْرَب إليه من حُبِّ المِسْكِ إليكم وقربه من أَنْفُسِكُم، إشارة إلى أنَّ المِسْكَ أطيب الطِّيبِ، كذلك الصوم أفضل العبادات (¬2). اعتراض (¬3): فإن قيل: فهل يكون أفضل من الصّلاة بهذا المعنى؟ قلنا: إنَّ العبادةَ على ضربين: متعدِّية، ولَازِمَةٌ، فالأفضل منها اللازمة (¬4)؛ لأنّه منها. فإن قيل: والصّلاة لازمةٌ، فهل هي أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصَّلاةِ، وإنّما يكون فضل الصَّوم بَعْدَها. وقوله: "وللصّائِمِ فَرْحَتَانِ: فرحَةٌ عند إفطاره وفرحةٌ عند لِقَاءِ ربهِ" (¬5). ¬
قال أهل الفقه: فرحة عند الإفطار بلَذّةِ الأَكْلِ. وقال أهلُ العبادة: فَرْحَتُهُ تمام الصِّيام على الكمَالِ، وإذا لَقِيَ الله كان أشدَّ فرحًا. تتميم (¬1): وأمّا قوله: "الصَّوْمُ لي" الصّومُ في لسان العرب: الإمساك (¬2). وقال ابنُ الأنباريّ (¬3): إنّما سُمِّيَ الصَّومُ صَوْمًا (¬4)؛ لأنّه حبس للنَّفْسِ عن المطاعم والمشارب والشَّهوات. وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ شهر الصَّبْرِ فثلاثة أيّام من كلِّ شَهْرٍ فكأنما صامَ الدَّهْرَ" (¬5) يعني بشَهرِ الصَّبْر رمضان. وقد يُسَمَّى الصائِمُ سائحًا، ومنه قوله تعالى: {السَّائِحُونَ} (¬6) يعني الصائمين. ومنه قوله تعالى: {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} (¬7). وللصوم وجوهٌ في لِسانِ العَرَبِ قد بيَّنَّاه في أوَّل كتاب الصِّيام. حديث رابع: مالك (¬8)، عن عَمِّهِ أبِي سُهَيْل بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنَّه قال: إذًا دَخَلَ رمضانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديث مرفوع في غير "الموطَّأ" (¬9) عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْ وُجوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. ¬
وقع في التّرمذيّ (¬1)، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذ كان أوَّلُ ليلةِ من رمضانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلقَتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفْتَح منها بابٌ، وفُتحَتْ أبوابُ الجنَّةِ، فلم يُغْلَقْ منها بابٌ، ونَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أقْبِل، ويَا بَاغِيَ الشَّرِ أَقْصرْ، ولله عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وذلكَ كلَّ ليَةٍ" وقد ضَعَّفَ أبو عيسى هذا الحديث، وذَكَرَ أنّ الصّحيح منها رواية الأَعْمَش عن محمّد (¬2). ووقع في الصِّحاح: "إذًا دخلَ رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ السَّماء" (¬3) وفي رواية: "فُتِّحتْ أبوابُ الجَنَّةِ" (¬4) وفي رواية: "فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحْمَة، وغُلِّقَتْ أَبْوابُ جَهَنَّم، وَسُلْسِلتِ الشَّيَاطِينُ" (¬5) هذه أمثل الأحاديث في هذا الباب. الأصول: قوله: "إذا كانَ رمضان فُتِّحت أبوابُ الجَنَّةِ" هذا يقتضي أنّها مخلوقة رَدًّا على القَدَرِيَّة الذين يقولون: إنها لم تُخْلَق، والأخبار والآثار الصِّحاح في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وقد بلغت من الاستفاضة حَدًّا يقربُ من التّواتر. ذكر الفوائد المتعلقة بهذا الحديث: وهي ثلاث عشرة فائدة: الفائدةُ الأولى: قوله: "أَبْوَاب السَّمَاءِ" ورُوِيَ: "أبواب الرَّحْمَة" وإذا فتحت أبواب الجنَّة الّتي فوق السموات وسقفها عرش الرّحمن، فَأَوْلَى وأَحْرَى أنّ تفتح أبواب السّماء الّتي تحتها. الفائدةُ الثّانية: قولُه: "أبواب الرَّحمة" والرحمةُ تكون بمعنيين: أحدهما: إرَادَةُ الله تعالى الإنعام والثّواب لعباده، وتلك صفةٌ من صفاتِهِ ليست ¬
بجسمِ ولا لها بابٌ (¬1) حقيقة. والمعنى الثّاني: تكون الرَّحمة بمعنى الجَنَّة، فإنها رحمةُ الله، وفي الحديث الصّحيح؛ أنّ الله تعالى قال للجَنَّةِ: "أنت رحمتي أرحم بك من شئت من عبادي"، وقال للنَّار: "أنت عَذَابِي أصيب بك من أشاءَ من عِبَادِي ولكل واحد منكما ملؤها". الفائدةُ الثّالثة (¬2): قوله: "وصُفِّدَتِ الشّياطين" يعني شدّت في الصِّفَادِ، وهي الآلة الّتي تصفد بها اليدان والرِّجلانِ. والتّصفِيدُ بتخفيف الفاء هو الغُلُّ عند العرب، والشّياطين هم خَلْقٌ من خَلقِ الله، وهم ذُرِّيَة إبليس - لَعَنَهُ اللهُ-، وهم أجسامٌ يأكلون ويطعمون ويشربون ويولدون ويموتون ويعذّبون ولا يُنَعَّمون بحالٍ. وأَنْكَرَتْ ذلك القَدَرِيّة لإضمارهم عقيدة الفلاسفة، وربمّا خَيَّلُوا على عوامّ المسلمين، فيقولون: هم أجسامٌ لطيفةٌ، لا تأكل ولا تشرب، بسائط، وكذبوا: ليس كذلك عندهم ولا عند الفلاسفة حقيقة، ولا هم موجودون، لا لطائف ولا بسائط، وقد بيَّنَّا هذا الفن في "الكتاب الكبير" فليُنظر هنالك. تنبيه على وهم: أمّا قولُه: "صُفَّدَتِ الشّياطين" فمن النّاس من قال: إنّه حمل المُطْلَق على المقيَّد، وليس كذلك، وإنّما هو من باب الخَاصِّ والعامّ، وذلك قولُه: "صُفِّدَتِ الشّيَاطِينُ" عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرِهِم. وقوله: "صفِّدَتِ المَرَدَةُ مِنَ الشَّيَاطِينِ" خاصٌّ في المَرَدَةِ لا غير. والأصلُ في هذا الباب -أعني من الخاص والعام- أنّ الخاصّ والعامّ إذا وَرَدًا، لا يخلو أنّ يكونا متِّفِقَيْنِ أو مختلفين، فإن كانا مُتَّفِقَيْن، كان الخاصُّ على خصوصه والعامُّ على عمومه، ويكونُ في الخاصِّ زيادة فائدة. مثال ذلك: قولُه -عليه السّلام-: "لا صلاةَ بعدَ العَصْرِ حتَّى تغرب الشَّمسُ، ولا صلاةَ بعدَ الصُّبحِ حتَّى تطلع الشَّمسُ" هذا عام في الوَقْتِ كلِّه وحديثُ عبد الله بن عمر: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشّمس ولا صلاة بعد الصُّبح ولا غروبها" هذا خاصٌّ في هذا الوقت. ¬
فقال عوامُّ الفقهاء: إنّ الخاصِّ يقضي على العامّ بحديث ابن عمر. قلنا: هذا خطأٌ، بل يبقى العامُّ على عمومه والخاصُّ على خصوصه؛ لأنّ معناهما واحدّ، وهما متَّفِقَانِ، وإنّما يقضي الخاصُّ على العامِّ إذا كانا مختلفين كما قدَّمناهُ. فإذا كانا مختلفين، فيقضي الخاصُّ فيه على العامِّ، وقد بيَّنَّاهُ في بابه في أوّل الكتاب، فليُنْظَر هنالك. وقوله: "صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: "مَرَدَة" خاصٌّ في المَرَدَةِ، وهما مُتَّفِقَانِ، فلا بُدَّ من زيادة فائدة في قولة: "مَرَدَة"؛ لأنا إنّ قلنا: إنّ العموم يدخل تحت المَرَدَة وغيرهم، فما فائدة تَكْرَارِهِم في الاختصاص؟ قلنا: فائدةُ ذلك توكيدُ التَّحريمِ في قوله: "لا تحرّوا بصلاتكم هَذَيْنِ الوقتين" وفائدة تأكيد التَّصْفِيدِ لها ولا زيادة اختصاص. الفائدةُ الرّابعة (¬1): قوله: "سُلسِلَت" يعني رُبِطَت في السَّلاسِل. وقوله: "فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ" فيه دليل على أنّ أبوابَها مُغلقة. وقوله:، غلقت أَبوَابُ النَّارِ" دليل على أنّها مفتحة. وقد غلطَ في ذلك بعض المُعْتَدِينَ (¬2) على كتاب الله تعالى، فقال: إنّ قوله تعالى: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (¬3). دليل على أنّ أبوابها مفتحة أَبَدًا، إذ لم يجعله جواب الخبر (¬4). وقوله في النّار: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (¬5) دليلٌ على أنّها مغلقة. فقلب الحقيقة، وتكلّم في كتاب الله برَأْيِهِ. وقال آخر (¬6) من الفضوليِّين: قوله: "فُتِّحَتْ أبْوَايُهَا" يفسِّره واو الثّمانية، إذ للجنَّة ثمانية أبواب، كما قال تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (¬7) بواو، وسائر الأعداد ¬
بغير واو. والحقُّ الصّحيح المعقول (¬1) المعلوم. ما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنِّي آتي باب الجنَّة وآخذُ بحلقة الباب فاُقَعْقِعُ (¬2)، فيقول الخازن: من؛ فأقول: محمّد. فيقول: بكَ أُمِرْتُ، لا أفتح لأَحَدٍ سِوَاكَ" (¬3) وإنّما تفتح أبواب الجنَّة في رمضان، ليعظم الرَّجاء ويكثر العمل، وتتعلّق بها الهِمَم، ويتشوّف إليها الصَّابر الصَّائم. وتغلق فيه أبواب النّار، لتخزى الشّياطين، وتقلّ المعاصي، وتصِير (¬4) الحسنات في وجوه السيئات، فتذهب سبيل النّار. تنبيه آخر: قال الإمام: وقد وقع مجلس بين ابن خَالَوَيْه وأبي على الفارسي في هذه المسألة بحَضْرَةِ سيف الدَّولة، وذلك أنَّه سُئِلَ ابن خَالَوَيْه في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (¬5) لِمَ جاءت الواحدة بواو والأخرى بغير واو؟ فقال ابن خَالَوَيْه: هذه واو الثّمانية؛ لأنّ العرب لا تعطف الثّمانية إِلَّا بالواو (¬6). فقال سيف الدّولة لأبي علىّ: أَحَقًّا ما يقولُ؛ فقال أبو عليّ: لا، وإنّما أقولُ: إنّ قولَهُ في أبوابِ النّار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أبواب النّار مغلقة، فكان مجيئهم شَرْطًا في فتحها؛ لأنّ قوله: "فُتِّحت أبوابها" فيه معنى الشّرط، وأمّا قوله: {وَفُتِحَتْ} في أبواب الجنَّة، فهذه واو الحال. كأنّه قال: وفُتِّحت أبوابها، أي وهذه حالها مفَتَّحَة الأبواب (¬7). وهذا أحسن. ورُريِّتُ عن أبي علىّ برواية عنه وعن الشّيخ أبي بكر: قوله: "وفتحت" "وغلقت" على المجاز لا على الحقيقة. ومعنى الباب إنّما هو سبيلٌ وطريقٌ إلى فعل فِعْلٍ كان سببًا إلى فتح أبواب الجنَّة وغلق أبواب النّار عنه؛ لأنّه لا يدخل الإنسان الجَنَّةَ والنَّارَ إِلَّا بالفَرْجِ والنَّظَرِ والبَطْنِ، فإذا عَفَّ، قيل: فُتِّحَت له أبواب الجنَّة، وإذا أساءَ، قيل: فُتِّحَت له أبواب النّار، فإذا ¬
كان في شهر رمضان أَمْسَكَ عن الطَّعَامِ والشّرابِ والمعاصي، فكأنّ أبواب النّار غُلِّقَت عن هذا وفتحت له أبواب الجَنَّة. وكذلك قال أكثر النّاس: إنّ معنى: "فتحت أبواب الجنَّة" أي كثرت الطّاعات، "وغُلِّقَت أبوابُ النَّار" أي انقطعت المعاصي وقَلَّتْ، وضربت لذلك الأبواب في الوجهين مثلًا. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي: هذا مجازٌ جائزٌ لا يقطعُ الحقيقة ولا يعارضها، وكلا المعنيين صحيحٌ مليحٌ موجودان. الفائدةُ السّادسة (¬1): قوله: "غُلِّقَت أبْوَابُ النَّارِ" وروي في رواية: "غُلِّقَتْ أبوابُ جَهَنَّم"، وروى النسائي (¬2): "غُلِّقَتْ أَبوَابُ الجَحِيمِ" وهذا يدلُّ على أنّها أسماء جهنَّم،* خلافًا لمن تعدَّى فجعل ذلك عبارة عن انتهاء درجات جهنم* (¬3)، وأنّها طِبَاق سبع، لها هذه التّسميات، وليس كما زعم بعضى الجُهال المُعْتَدِين أنَّ أبواب جهنَّم سبعة، ولم يخلق إلى الآن من يُحَدِّث عن محمّد - صلّى الله عليه وسلم - تسمية أبوابها، وذلك كلُّه اعتداءٌ على دِينِ الله تعالى. وأبوابُ الجنَّة ثمانية، ولم يخلق إلى الآن من يُسَمِّيها عن محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، والّذى صحَّ عنه أنّ للجنَّة بابًا يقال له الرَّيَّانُ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصائمون (¬4)، وأمّا أنّها ثمانية، فهي ثمانية كما قال - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح: "من أنفق زوجين في سبيل الله، دُعِيَ من أبوابِ الجَنَّةِ الثَّمَانية، يدخل من أيّها شاء" فقال أبو بكر: يُدعَى أحد من تلك الأبواب كلّها؛ قال: "نعم أنت منهم" (¬5). اعتراض من مستريب (¬6): قال: إنَّا نَرَى المعاصي في رمضان كما هي في غيره، فما أفاد تصفيد الشّياطين؟ وما معنى هذا الخبر؟ قلنا له: كذبتَ، أو جهلتَ، ليس يَخْفَى أنّ المعاصي في رمضان أقلّ منها في ¬
غيره، ومن زعم أنّ رمضان في الاسترسال على المعاصي وغيره سواء فلا تُكلِّموه، فقد سقطت مُخَاطَبَتُه، بل تقلّ المعاصي ويبقى منها ما بقي (¬1)، وذلك لثلاثة أوجه: أحدها أنّ يكون المعنى صُفِّدت وسُلْسِلَت (¬2)، ويبقى ما ليس بمَارِدٍ ولا عفريتٍ، ويدلُّ على ذلك الحديثُ الآخر. الوجه الثّاني: أنّ يكون المعنى أنّها بعد تَصْفِيدِهَا كلِّها وسلسلتها، تحمل المرء على المعاصي بالوسوسة، فإنّه ليس من شرط الوسوسة الّتي يجدها المُؤْمِن نفسه من الشّيطان الاتِّصال، بل هي بالعبد (¬3) صحيحة؛ فإنّ الله هو الّذي يخلُقها في قَلْبِ العبدِ عند تكلُّم الشيطان بها، كما يخلق في جسم المسحور عند تكلّم الساحر، وعند تكلُّم العائن في جسم المُعَيَّن. الوجه الثّالث - قلنا: ليس من شرط التَّصْفِيدِ عدم الوسوسة؛ لأنّ الوسوسة لا تكون باليَدِ والرِّجْل. فإن قيل: إذا كان هذا تأويله (¬4)، فلم يبق للحديث معنى. قُلْنَا: عن هذا جوابان: أحدهما: أنّه ليس يلزمنا معرفة معنى الحديث، ولا أنّ نُعلِّل جميع الأشياء، فإنّ أكثر الأحاديث غير معلولة (¬5) المعنى. الجواب الثّاني - أنّ نقول: فائدة الحديث أنّهم منعوا الإذاية بأيديهم وأرجلهم من العمل والجنون والحُمْق وغير هذا، وهذا كتاب مقنع جدًّا، إنّ شاء الله. الفائدةُ السابعة (¬6): قوله: "ويُنَادِي مُنَادٍ" هذا المُنَادي غير مسموع للآدميِّينَ، ولكنّهم أُخْبِرُوا بذلك ليَعْلَمُوا أنّهم غير مغفولٍ عنهم ولا مَهْمُولينَ (¬7)، فإنّ البارئ سبحانه لا تجوز عليه ¬
الغَفْلَة ولا الإهمال بحالِ ولا بِوَجْهِ. وقد وهم في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الإطلاقات على الله، وذلك قبيحٌ لا ينبغي، فلا تلتفتوا إليه. الفائدةُ الثامنة: "ولله عُتَقَاءُ من النّار" اعْلَمُوا -وفقكم الله وَوَفَّقَ لكم المُعَلِّم- أنّ لله سبحانه عتقاء من النَّار في كلِّ ليلةٍ ويَوْمٍ، وفي كلِّ ساعةٍ من كلّ شهرٍ، ولعتقه أسبابٌ من الطّاعات، فلِلَّهِ عتقاء من النّار بالتّوحيدِ، وبالصَّلاة، وبالزَّكاة، وبالصِّيام، فعتقاء رمضان بثواب الصِّيام وبركته، وفي الحديث الصّحيح: "والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ برهانٌ، والصَّبْر ضيَاءٌ والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليك، كلُّ النَّاس يَغْدُو، فَبَائِعٌ نفسَهُ فَمُعتِقُها أَوْ مُوبِقُها" (¬1) فهذا الحديث يُفَسِّر لك معنى قوله: "عتقاء" والحمدُ لله. الفائدةُ التّاسعة (¬2): في قوله: "كلُّ ليلةٍ من رَمَضَانَ" تنبيهٌ على أنّ الأُجْرَة يأخذها عند إنتهاء عَمَلِهِ مُتَّصِلًا به، وفي الحديث الصّحيح: "أعطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أنّ يجفَّ عَرَقَهُ" (¬3) وإذا كان تمام الشّهر أخذَ ثوابًا مُجَرَّدًا، وأجرةً مُضَاعَفَةً مُؤَكَّدَة، وقد بيَّنَهَا النّبي - صلّى الله عليه وسلم - بقوله عن ربِّه: من صام رمضان إيمانًا واحتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ (¬4) حديثٌ صحيحٌ مَلِيحٌ. الفائدةُ العاشرة (¬5): قولُه: "يا بَاغِيَ الخَيْرِ، وَيَا بَاغِيَ الشَّر" قال أهل العربيّة: أصلُ البَغْي فيه (¬6)، وأقلُّه ما جاء في طلب الخَيْرِ، وأَظُنُّهُم قالوا ذلك؛ لأنّ الله لما أضاف إليه الشّر ذكره مُطْلَقًا، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (¬7) وقد يضافُ إليه الشّرَ مُقَيَّدًا، كقوله: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬8) وقوله: "يا بَاغِيَ الخَيْرِ" قد يضافُ إليه، وقد قال ¬
عبد الله بن الأعور أحد أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في ذلك: يَا سَيِّدَ النَّاسِ ودَيَّانَ العَرَبْ إلَيْكَ أشكو ذِرْبَةً من الذِّرَبْ خَرَجتُ أبْغِيهَا الطَّعَامَ في رَجَبْ وذَكَرَ الحَدِيث. (¬1) الفائدةُ الحادية عشرة (¬2): قد بيَّنَّا فيما تقدَّمَ كيفيَّةَ بطلان الإحباط للحَسَنَاتِ بالسَّيَّئَاتِ على مذهب المُبْتَدِعَةِ، وبيَّنَّا أنّ الحسنات تحبط السَّيِّئَاتِ وذلك بالموازنة، إِلَّا أنَّ الإيمانَ يُحْبِط السَّيَّئَاتِ كلّها من غير موازنة. فإذا نَظَرْنَا إلى الأعمال، فإحباطُ الحَسَنات للسَّيَّئَات إنّما يكون بالوَزنِ الّذي أخبر الله عنه. وقد أخبرنا نبيُّنا - صلّى الله عليه وسلم - أنّ الصَّلاة تُكَفِّر الذُّنوب إِلَّا الكبائر، وذلك في صحيح الحديث. فإذا كانت كبائر الذُّنوب لا تَسْقُط بالصَّلاة، فأحرى ألَّا تسقط بالصِّيام؛ لأنّ الصّلاة أفضل من الصِّيام - كما قدّمنا (¬3) قبل (¬4) - قَدْرًا أو أكثر ثوابًا، وأعظم في الدُّنيا عقابَا. الفائدةُ الثّانية عشرة (¬5): فإذا ثبت هذا، فعتقاءُ الله في رمضان على ثلاثة أضرب: الأوّل: أنّ تكون حسناته وسيئاته قبل رمضان متقابلة، أو للسَّيِّئات فضل في الوَزْنِ، فيأتي رمضان بزيادة توازي الفضل وتربو عليه، فيغفر له ما تقدَّم من ذنبه. الثّاني: أنّ يكون المعنى به عتقه من النّار، بشرط أنّ يدوم على حاله بعد رمضان كما هو في رمضان من العِفَّة والتَّعَبُّد. ¬
الثّالث: أنّ يكون المعنى به ما يسَّرَ الله لعَبده من نِيَّةِ خالصةٍ وتَوبَةٍ صادقةٍ يختم بها شهره، فيعتقه من النَّار دهره، واللهُ أعلمُ. حديث - قوله: "من صام رمضان ثُمَّ أَتْبَعَهُ بستّ من شَوَّال" (¬1) قد تقدَّمَ الكلام عليه، وحديث: "صيام يوم الجمعة" كذلك أيضًا قد تكلَّمنا عليه، فلم يَبْقَ الكلام إِلَّا على تَفَاضُلِ الشُّهورِ والأيّامِ والأَعْوَامِ والسَّاعَات. فإن قيل: أيُّ الأعوام أفضل؟ وأيُّ الشُّهور أفضل؟ وأيُّ الأيَّام أفضل؟ وأيُّ السّاعات أفضل؟ فالجواب أنّ يقال: أفضلُ الأعوام أنّ يقالَ عام تسع (¬2) وهو عام حَجَّة الوداع، وفيه استدار الزّمان، وفيه قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية (¬3). وأمّا الشُّهور، فشهر رمضان؛ لأنّ فيه أنزل القرآن، وفيه الصوم، وفيه ليلة القَدْر، وفيه تَمَهَّدَ الشَّرْعُ. واختلفَ النّاسُ أي الشُّهورِ بعد رمضان أَفْضَل؟ فقيل: شعبان. وقيل: المحرم. وقيل: ذو الحِجَّة. فمن قال شعبان: احتج بأنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يصومُه. ومن قال رَجَب: احتجَّ بأنْ قال: هو شهر الأصمّ والأصبّ، ورجم بالميم، فمن رواه بالباء وقال الاصب، قال: لأنّ فيه تصبّ الرَّحمة. وقيل الأصمّ؛ لأنّ الملائكة تصمّ فيه، فلا تكتب فيه علي بني آدم شيئًا. وقيل له ذلك؛ لأنّه لا تسمع فيه قعقعة السِّلاح. وقيل: رجم -بالميم-؛ لأنّ الشّياطين ترجم فيه. وأمّا ذو الحجة، فهو أفضل بعد رمضان للحَجِّ الّذي فيه، ولمنىً وعَرَفَة. وأمّا الأيّام، فيوم الجُمعة، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أفضلُ يوم طلعت عليه الشّمس يوم ¬
الجُمُعَة" (¬1) وهو من باب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ؛ لأنّ فضلَ الجُمُعة مُطْلَقٌ وغيره مُقَيَّدٌ. وأمّا الساعات، فكلُّ ساعةِ تؤدّي فيها فريضة فهي أفضل السّاعات، كساعة يوم الجمعة، وكساعة صلاة الصُّبح فأنّها أفضل الصَّلوات عند مالك. وأبو حنيفة عنده اْفضل الصلوات، صلاة العصر لأنّها عنده أفضل السّاعات ساعتها. وقيل: إنّ أفضل الأيَّام يوم عاشوراء؛ لأنّه يكفر سنة قَبْلَهُ وسنَة بعدَهُ، والحمد لله ربِّ العالمين. ¬
كتاب الاعتكاف
كتاب الاعتكاف وفيه تسع عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬1): في لغته قرآنًا وشرعًا الاعتكافُ في اللُّغة هو العكوفُ واللبث في المكان (¬2) والملازمة فيه، وكذلك هو في القرآن هو اللّبث (¬3) ببقعة مخصوصة، قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} الآية (¬4) وقال عزّ من قائل: {الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬5) فجرتِ الشّريعةُ على عادتها (¬6) في قَصرِ اللَّفْظِ المُشتَرَكِ على بعض متناولاته، وتخصيصِ العامِّ على بعضِ مُحتمَلَاتِهِ، كما فعلتِ اللُّغة، فصار في الشّريعة عبارة عن ملازمة المسجد (¬7)، وأقله يوم وليلة. وقال الشّافعيّ (¬8): أقلّه لحظة، فهو في الشَّرعِ على (¬9) ما هو في اللُّغة سواء، قال الله تعالى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (¬10) حكاية عن قول قوم إبراهيم، أي ملازمين. المسألة الثّانية: وأمّا وجوب النِّية، فباتِّفاقِ من الاُمَّة؛ لأنّه عبادة، إذ لا يُجْزِىء عملٌ من الأعمالِ بغير نيَّةٍ، للنَّصِّ الوارد في ذلك عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقوله: "إنّما الأعمالُ بالنِّيِّاتِ" ¬
فالاعتكافُ عملٌ من الأعمال، فلا يجزئ بغير نيةٍ، كما أنّه ينوي بالصِّيام اعتقاد القُرْبَة إلى الله بِأَدَاءِ ما افْتَرَضَ الله عليه من استغراقِ طرفَي النّهار. المسألة الثّالثة (¬1): وأن يعتقدَ فيه (¬2) أنّه عمل، لما قيل فيه إنّه الصّلاة، وقراءة القرآن، وذِكْر الله تعالى، دون سواه من أعمال البرّ، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنّه لا يُجَوِّز للمُعْتكِفِ عيادة المريض ولا مدارسة العلّم، ولا الصّلاة على الجنائز وإن كان ذلك من أعمال البرّ. وقيل: إنّه يجوز أنّ يفعل جميع أعمال البرّ المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنّه لا يرى بأسًا للمُعْتكِفِ بمُدَارَسَةِ العِلْمِ، وعيَادَةِ المَريضِ في موضع معتكفه، وكذلك الصّلاة على الجنائز على مذهبه، إذا انتهى إليه زحام النَّاس الّذين يصلّون عليها. وإذا قلنا: إنّه من الأعمال المختصّة بالآخرة، فإنّه يجوز الحكم بين النّاس والإصلاح بينهم؛ لأنّه من أعمال الآخرة. المسألةُ الرّابعة (¬3): أمّا الصّوم، فليس لأحدٍ من علمائنا فيه على وجوب الصِّيام دليل به (¬4) احتفال، وأكثر ما عوَّلَ عليه مالك (¬5) فيه، قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬6) فخاطبَ بذلك الصّائمين، وهذا لا حُجة فيه؛ لأنّه خطابٌ خرجَ عن حالٍ، فلا يلزم (¬7) أنّ يكون شرطًا (¬8) في جميع الأحوال. وقد اعْتكفَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عشرًا من شوّال (¬9)، ولم يذكر فعل الصِّيام ولا تَرْكَهُ، فالمسألةُ عسيرة المأخذ في الشّريعة، والّذى عندي فيه؛ أنّ الاعتكافَ هو ملازمة المسجد بالنِّيَّةِ، فالنِّيَّةُ تقطع قلبه عن الدَّنيِا وعلائقها، والمسجد يمنع بَدَنه عن الاشتغال باشغالها؛ لأنّ المساجدَ بيوتٌ الله، أذِنَ الله أنّ تُرْفَعَ ¬
ويذكر فيها اسمُهُ، ليس فيها عمل في غيره، فلا يجوز له أنّ يفعل من الدُّنيا إِلَّا ضرورة الآدميَّة، وهي الطّعام والشّراب، فمنعَ من الأكل نهارًا؛ لأنّه أحد الأسباب المنقطعة عن الدُّنيا، ومنع من الخروج عن المسجد إِلَّا لحاجةِ الإنسانِ ولتحصيل القوت، ومنعه مالك تَفَطُّنًا لهذه الدَّقِيقَةِ. المسألة الخامسة (¬1): الموضع وهو المسجد، لقوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2) واختلفَ علماؤنا هل يكون في كلِّ مسجد، أو في بعض المساجد دون بعض؟ فالمشهور من مذهب مالك أنَّ الاعتكاف يصحّ في كلِّ مسجدٍ، وأنّه لا بَأسَ به في كلِّ مسجدٍ لا تُجْمَعُ فيه الجُمُعَة إذا كان ممّن لا تلزمه الجمعة، أو بموضع لا يلزم منه إتيان الجمعة. ودليل مالك: قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬3) فعمّها ولم يخصّ منها شيئًا دون شيْءٍ، وخالَفَهُ ابن عبد الحَكَم، وقال: لا يصحّ إِلَّا في المسجد الجامع، وهذا قول جماعة من السَّلَفِ، روي عن حُذَيْفَة بن اليمان وسعيد بن المسيَّب؛ أنّ الاعتكاف لا يكون إِلَّا في مسجد نبيٍّ كمسجد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ومسجد إيليا والبيت الحرام. والمرأة والرَّجُل في ذلك سواءٌ عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه، فإن المرأة لا تعتكف عنده إِلَّا في مسجد بَيْتِها (¬4)، وحجته: قوله: "لا تسافر المرأةُ مسيرة يَوْمِ وليلةٍ إِلَّا مع ذي مَحْرَمٍ" (¬5). المسألة السّادسة: وأدنى الاعتكاف يوم وليلة، وأعلاهُ عشرة أيام، هذا هو مذهب مالك. وأفضلُ الشهور للاعتكاف شهر رمضان. وأفضل أيّامه العشر الأواخر منه. روي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأواخر منه والعشر الأوّل، فأتاه جبريل - صلّى الله عليه وسلم -، فقال له: إنّ الّذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر. ¬
وقد روي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "اعتكفَ العَشْرَ الوُسُطَ" (¬1) هكذا وَقَعَ مُقَيَّدًا، بضَمِّ الواو والسِّين. ويحتمل أنّ يكون جمع واسط، كما قيل: واسطة الرَّجل، وواسطة العراف. قال الإمام: ولم أزل أبحث عنه حتّى أنِّي لم أجد له معنى ولا أثر إِلَّا عند أحد أشياخي -وكان من أهل اللُّغة- فإنّه قال: "وُسُط" جمع أوسط، واحده وسيط. ويروى "الوَسَط" بفتح الواو والسِّين، وهي رواية أبي علىّ الجيَّانىّ، وهو وسيطي (¬2). والأولُ أصحّ وأفصح. حديث: قول عائشة - رضي الله عنها -: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُدْنِي إِلَيَّ رَأسهُ مِنَ المسجد (¬3) فَأُرُجِّلُه (¬4). قد بيَّنَّا أنّ الاعتكافَ هو الثُّبوت وهو الإقامة، وأدخل مالك - رحمه الله - في أوّل الباب ما يدلُّ على أنّ الاعتكاف هو الثّبوت في حديث عائشة هذا، ويبيّنُه بذلك قولها: "كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يُدنِي إِلَيَّ رَأْسهُ فَاُرَجلُهُ، وإنَما كان يمنعه الثبوت في مكانه، ونبه بذلك بقولها: "ولا يدخلُ البيتَ إِلَّا لحاجةِ الإنسانِ" وذلك لشغله بالاعتكاف، هذا معنى التّرجمة. الإسناد: حديث عائشة اختلفَ فيه الرُّواةُ، فتارةً رُوي فيه: عن عمرة بنت عبد الرّحمن، وتارة بسقوطها، فلمّا رأينا اختلافهم مع حفظهم، علمنا أنَّه إنّما تركوها مع علمهم بذلك، وهذا جائزٌ فإن عروة كثيرًا ما يروي عن خالته عائشة دون واسطة (¬5). الفقه: وفي هذا الحديث ثلاث مسِائل: ¬
المسألة الأولى: في ثلاثة أدلّة من الفقه (¬1): أحدها: أنّ المعتكِفَ يجوز له إلقاء التَّفَث (¬2) بخلاف المُحْرِم. الثّاني: لو حلفَ الإنسان بالطّلاق: لا دخلت الدّار، فأدخل رأسه في الدّار، لم يحنث، بدليل أنّ المعتكِفَ لا يجوزُ له الخروج إِلَّا لحاجةٍ. الثّالث: أنّ الحائض يجوز أنّ تمسّ بيدها زوجها أو سيّدها ولا ينتقض صومه. وفيه: أنّ المرأةَ تمس الرَّجل في الاعتكاف بغير شهوة، وكذلك الرَّجُل للمرأة ولا ينتقض صوم المعتكف منهما ولا اعتكافه. وإن مسِّ المرأة بغير لذّة لم يفسد صوم اللّامس والملموس. فإن قيل: لا دليل في الحديث؛ لأنّه (¬3) لم يمسّ بغير لذّة. فالجواب: أنّ الدّليل على أنّه لم يمسها للَذّة، قول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية (¬4)، مع العلّم بأن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يكن يمسّها (¬5) للذّة وهو معتكف؛ لأنّه لا يجوز له ذلك. ولأنّه أملك لإِرْبِهِ، أي لعَقْلِهِ وحاجته وشهوته من غيره. فخصص فعله اللّمس بغير لذة. مسألة: وخروج المُعْتَكِفِ على وجهين: لا يخلو أنّ تكون له حاجة يجوز له أنّ يفعلها في المسجد فلا يخرج. أو لا يجوز له أنّ يفعلها، فهذا يخرج نهارا. فأمّا إذا خرج للحاجة الّتي لا يجوز له أنّ يفعلها في المسجد، فإنّه لا يتعدَّى إقرب المواضع إليه، فإن تعدَّى أقرب المواضع إليه، ابتدأَ اعتكافه من ذي قبل. هكذا قال مالكٌ في "المدنيّة". ولا يجوز أنّ يقف لأداء شهادة إِلَّا ماشيًا، فإن وقف ابتدأ. ¬
ولا يعزِّي أحدًا، ولا يعودُ مريضًا، ولا يصلِّي على جنازة إلّا في المسجد. ولا يخيط ثيابه (¬1) إِلَّا الشّيء الخفيف، ولا يحكم إِلَّا كذلك. ولا يجوز له صوم الأيَّام الّتي يلحق فيها الجمعة، وأجمعوا أنّها مكروهة اعتكافها. أمّا وجه الكراهة؛ فلأنّ الاعتكاف أقل من عشرة أيّام مكروهٌ. مسألة: قال علماؤنا (¬2): والاعتكاف يجب بأحد وجهين: إمّا بالنَّذْر. وإمّا بالنِّيَّةِ مع الدخول فيه لاتِّصال عمله. أمّا النَّذْرُ، فمثاله: رجل قال: علىَّ أنّ أعتكفَ ثلاثة أيّام، فابتدأ يوم السّبت، فلما اعتكَفهُ مرضَ وبَقِيَ عليه يومان من اعتكافه؛ فبقي مريضًا إلى يوم الخميس. قال علماؤنا: لا شكَّ أنَّه يَبْنِي اعتكافه على اليوم الّذي مَضَى له، قال ابنُ القاسم: إنّه يخرج يوم الجمعة إلى الصّلاة، ويبَدىء اعتكافه، وقال ابنُ المَاجِشُون: يصلِّي الجمعة ويَبْنِي على اعتكافه. ففي هذه الصُّورة هو الخلاف بين ابن القاسم وعبد الملك، وهذا إذا اعتكف في موضع لا يجمع فيه. وقال فضل بن مَسلَمَة: أجازوا للمُؤَذِّن الإمامة وكرهوا له الإقامة. وأمّا الأذان، فلا يكون المُعتكِفُ مُؤَذِّنًا ولا يطلع المنار (¬3). وَوَجْهُهُ: أنّ الصَّومعةَ خارجةٌ من المسجد. ولا بأس به أنّ يؤذِّن في باب المسجد. وقيل: له أنّ يؤذِّن في الصَّومعة. ووجه من قال هذا: أنّها قُرْبَةٌ تتقدَّمُ الصّلاة، فجاز الخروج إليها كالصَّلاة. مسألة: في رجل اعتكفَ يومًا، فلمّا كان عند الظُّهر مرضَ فخرج مِنْ معتكفه، فلمّا كان ¬
عند العصر صحَّ فرجع إلى معتكفه، فأَتَمَّ بقيَّةَ نهاره. فاختلف المحقِّقونَ فيه من علمائنا: فقيل: إنّ له أجر اعتكافه يومه كلّه من أوَّله إلى آخره، وهذا بناءً على أنّ من نَوَى فعل شيءٍ فقطع بينه وبينه قاطعٌ، كان له أجره، ومن أراد فعلَ أمرٍ ولم يقدر عليه، كان له مثل أَجْرِ من فَعَلَهُ. والدليل على ذلك: قولُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما قَطَعْتُمْ واديًا ولا سَلَكتُمْ شِعبًا إِلَّا وَهُم مَعَكم، حَبَسَهُمُ العُذْرُ" (¬1) فصرَّحَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالنِّيِّةِ الّتي استوجبوا بها الأجر الكامل. وقال بعضُ أهل العلّم: ولهذا المعتكف من الأجر بقَدْرِ ما اعْتكفَهُ. فيقال لصاحب هذا القول: فأين فائدة هذا الحديث والنِّيَّة الّتي اعتقدها (¬2) قبل؟ ألَّا ترى أنّ أجره في الّتي تقدَّمَ قَبْلُ باقٍ، ولو قطع مختارًا له لما كان له أجر فيما تقدَّم. والصّحيح هو الكلام الأوّل. مسألة: فإن أخرج (¬3) لاقتضاء دَيْنٍ منه، أو استيقاد حدّ عليه مُكْرَهًا إلى الحاكم، فاختلفَ علماؤنا في ذلك: فقال ابنُ القاسم: يبطل اعتكافه. ورَوَى ابنُ نافع عن مالك (¬4)؛ أنّه لا يبطل اعتكافه؛ لاْنّه مُكرَهٌ وله البنَاء على ما مَضَى. مسألة (¬5): فإنِ اعتكفَ في أيّامٍ من غير رمضان، فمرضها كلّها أو مرض بعضها، ففي ذلك ثلاثة أقوال: ¬
أحدها: أنّ عليه القضاء جملة من غير تفصيلٍ، وعلى هذا رواية ابن وهب عن مالك في بعض روايات الصِّيامِ في "المدوّنة". والثّاني: أنّه لا قَضاءَ عليه جملةً من غير تفصيل، وهو مذهب سحنون والمشهور عنه. والثّالث: التّفرقة بين أنّ يمرض قبل دخوله في الاعتكات أو بعده. مسألة: واختلف إذا أفطر ساهيًا على قولين: أحدها: أنّه لا قضاءَ عليه، وهو مذهب سحنون. والثّاني: أنَّ عليه القضاء بشرط الاتِّصال، وهو مذهب ابن القاسم، فإن أفسدَهُ عامدًا فعليه القضاء ويبطل اعتكافه إجماعًا. مسألة: قال علماؤنا: ويدخل المعتكف معتكفه الّذي يعتكف فيه قبل غروب الشَّمس، فإن دخل بعد الغروب وقبل طلوع الفجر في وقت يجوز له أنّ ينوي الصِّيام أَجْزَأَهُ، كذا (¬1) حكاه عبد الوهّاب (¬2)، وفي "كتاب ابن سحنون" عن أبيه؛ أنَّه لا يجزئه، وبه قال ابن المَاجِشُون، قال ابن المَاجِشُون: ومن دخل اعتكافه قبل الفجر، لا يحتسب بذلك اليوم فيما لزم نفسه. مسألة (¬3): ويجوز عندنا أنّ يعقد المعتكف نكاحه ونكاح غيره بما يخف (¬4) من الكلام (¬5)؛ لأنّ عقده النكاح لا ينافي الاعتكاف، كما لا ينافي (¬6) دواعي النِّكاح من التَّطَيُّب (¬7). ¬
فإن "قيل: فإذا منع النّكاح الاعتكاف، فمنع مقدَّماته من العقد كالصَّوْمِ، والدّليل جواز نكاح المعتكف (¬1). فنقول: العبادات (¬2) على ضربين: فما جاز الكلام فيه جاز فيه النِّكاح إِلَّا الحجّ عندنا. وما لم يجز فيه الكلام لم يجز فيه النِّكاح. وحجَّتُنا الحديث مبين الّذي فيه (¬3): "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ ولا يُنْكَحُ" (¬4) وضَعَّفَه البخاريّ. واحتجَّ البخاريّ (¬5) بحديث: سعيد بن المسيَّب، عن ابن عبّاس؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تزَوَّجَ ميمونةَ وهو مُحْرِمٌ، وترك (¬6) البخاريُّ طرقًا كثيرة في هذا الحديث (¬7)؛ لأنّه رواهُ من الصّحابة عشرة، ومن التّابعين كثيرٌ، وأخذ بحديث سعيد رَدًّا على مالك؛ لأنّ سعيدًا كان مَدَنِيًا، وهذا الحديث لا حُجَّةَ فيه؛ لأنّ سعيد بن المسيَّب أَنكرَهُ، وقال: لم أرو (¬8) هذا الحديث قَطّ. ذكر ذلك في "سنن أبي داود" (¬9). ولم يبقَ لأبي حنيفة حُجَّة إلّا من جهة المعنى، وأمّا القياس، فإن كثير العمل ممنوعٌ في الاعتكاف. وقال (¬10) ابنُ الجلّاب (¬11): "ولا بأس أنّ يكتب المعتكف في المسجد ويقرأ ¬
عليه غيره (¬1) القرآن إذا كان في موضعه" وفي "المدوّنة" (¬2): كره مالك أنّ يكتب المعتكفُ العلّم في المسجد. قال عنه ابن وهب (¬3): إلّا أنّ يكون الشّيء اليسير، والتّرك أحبّ إليَّ والتّجرُّد للعبادة (¬4). مسألة (¬5): أجمع العلّماء (¬6) على أنّ من وطيءَ زوجته في اعتكافه عامدًا في ليلٍ أو نهارٍ يبدأ اعتكافه. ورُوِي عن مجاهد وابن عبّاس؛ قالا: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتّى نزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية (¬7). وقال ابن عبّاس: كانوا إذا اعتكفوا يخرجُ أحدهم إلى الغائط، جامع امرأته ثم اغتسل، ورجع إلى اعتكافه، فنزلت الآية، ومقتضاها الجماع. واختلفوا فيما دونه من القُبْلَةِ واللَّمْسِ والمُبَاشرة: فقال مالك: من فعل شيئًا من ذلك كلِّه ليلًا أو نهارًا فسد اعتكافه، أنزلَ أو لم يُنْزِل، لقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية (¬8). مسألة: وإن نذر العبد الاعتكاف في رقِّهِ ثمّ عتق، لزمه ذلك. واختلفوا أيضًا إذا اعتكف وهو في الرِّقِّ: فقيل: لا يجوز؛ لأنّ منفعةَ السَّيِّد فيه. وقيل: إنِ اشتَغْنَى السَّيِّد عنه مِقْدَارَ اعتكافه صحَّ له ذلك. ¬
ما جاء في ليلة القدر
خاتمة ذلك: قال الإمام (¬1): والاعتكافُ شرطٌ شديدٌ لا يقدر عليه إِلَّا من له عزم من النّاس، قال مالكٌ بن أنس: ما رأيتُ أحدًا اعتكفَ في بَلَدِنا غير أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام. وأبو بكر هذا (¬2) يُسَمَّى المغيرة، وهو ابن أخي أبي جهل بن هشام، وكان أحد الفقهاء السَّبعة. وفَّقَنا اللهُ للأعمال الصالحة بِمَنِّهِ وتوفيقه. ما جاء في لَيْلَةِ القَدْرِ التّرجمة والعربية (¬3): قوله (¬4): "لَيْلَة القَدْر" قال الإمام: هي ليلة القَدْرِ، والقَدْر والقَدَرُ. فأمَّا الأوَّل فالمراد به الشّرف، كقولهم: لفلان قدر في النّاس، يعنون مرتبةً وشرفًا وقَدْرًا. الثّاني: القَدَرُ بمعنى التَّقدير، قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الآية (¬5). قال علماؤنا: يُلْقِي اللهُ فيها إلى الملائكة ديوان العلّم بما قَدَّرَ من القَدَرِ. الثّالث: القَدْرُ هو بمعنى الزِّيادة في المقدار، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬6) والبركةُ هي النَّماءُ والزِّيادة، فليلة القَدْر هي اللَّيلة المباركة، ولو لم يكن من شَرَفِهَا إِلَّا نزول القرآن فيها لكَفى (¬7)، فشرفها نزول القرآن فيها، قال (¬8) الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬9). يريد الكتاب المبين؛ لأنّ الهاء من: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} عائدة عليه، وإن كان لم ¬
يتقدّم له ذِكْرٌ في هذه السُّورة، فإنّه قد تقدَّمَ في سورة الدُّخان. قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬1) ففيها أُنْزِلَ القرآن من اللّوح المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا، ثمّ أُنْزِلَ على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من السَّماء نجمًا بعد نجمٍ على قَدْرِ الحاجةِ، فكان بَيْنَ أوَّلِهِ وآخِرِهِ عشرون سنة، ورُوِيَ ذلك عن ابن عبّاس في "تَفْسِيرِهِ" (¬2). فأكثر المحقِّقين من علمائنا أنّها ليلة النِّصف من شعبان، وهو باطلٌ قطعًا؛ لأنّه لا يعضده أَثَرٌ ولا خبرٌ (¬3)، والصحيحُ أنّها ليلة القَدْر، فيها يُفْرَقُ ما يكون في العام من أَوَّلِهِ إلى اَخره من أَرْزَاق العباد وآجالهم من الشَّقَاءِ والسَّعادة، يشهد له: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬4)، أي يحكم فيها بالموت والحياة. وقوله (¬5): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (¬6) معناه: التَّعَجُّب بها والتَّعظيم لها، وما كان في القرآن من قوله: "وما أدراك" فقد أدراه، وما كان فيه من قوله: "وما يُدرِيكَ" فلم يدره، وقال الفرّاء (¬7) وسفيان بن عُيَيْنَة وغيرهما ذلك، والله أعلمُ. وأمّا قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (¬8) ففي تأويل ذلك اختلاف على ثلاثة أقوال. القول الأوّل - قيل: إنّ معنى ذلك أنَّ العمل بما يُرْضِي الله في تلك اللَّيلة من صلاة وغيرها خيرٌ من العمل في غيرها ألف شهر. القول الثَّاني - قيل: إنَّ المعنى أنَّ العمل في ليلة القَدْرِ خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القَدر، وهو نحو ما تقدَّم؛ لأنّ فضيلةَ اللَّيلة على ما سواها ليس بمعنىً يختصُّ بها، حَاشَا تضعيف الحسنات فيها. القول الثّالث - قيل: إنّه كان في بني إسرائيل رجلٌ يقومُ اللَّيل ويصومُ النّهار، ففعل ¬
ذلك ألف شهر، فتَمَنَّى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يكون ذلك في أُمَّتِهِ. فقال: "يا رب جعلت أعمار أمتي أقصرع الأعمار، وأقلّ الأعمال"، فأَعطاهُ اللهُ ليلة القَدْرِ الّتي هي خير من ألف شهر، يريد خير من تلك الألف شهر الّتي قامها الإسرائيلى، وهذا معنى حديث مالك (¬1)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أُرِيَ أعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، فكأَنَّهُ تقاصرَ أعمارَ أُمَّتِهِ ألَّا يَبْلُغُوا من العَمَلِ ما بَلَغَهُ غيرهم في طُولِ العَمَلِ، فاعطاهُ اللهُ ليلةَ القَدْر الّتي هي خيرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ. القول الرّابع - قيل: إنّ المعنى في ذلك مَا رُوِيَ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - رأى في منامه بني أُمَيَّة يعلون منبره فشقَّ ذلك عليه، فأنزلَ اللهُ تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (¬2) و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلى قوله {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الآية (¬3)، يعني مُلْك بني أُمَيَّة، قال: فحسبنا ملك بني أُمَيَّة، فإذا هو ألف شهر. قال الإمام (¬4): وهذا ضعيفٌ جِدًّا لا يصحُّ سَنَدًا ولا نَقلًا. المسألة الثّانية (¬5): اختلف العلّماء في ليلة القدر وفي تعينها وفي ميقات رجائها على ثلاثة عشر قولًا: القولُ الأوّل - قيل: هي في العام كلِّه، قال ابن مسعود: من يَقم الحَوْلَ يُصب ليلة القَدْر (¬6). القولُ الثّاني - قيل: إنها في شهر رمضان، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الآية (¬7)، فجعله مَحَلَّا عامًّا في لياليه وأيّامه لنزول القرآن، ثم قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الآية (¬8)، فجعله خاصًّا في ليْلَةِ القَدْرِ منه. القول الثّالث - قيل: إنّها ليلة سبع عشرة ليلة من رمضان، قالَهُ ابن الزُّبَيْر (¬9)، ورواه ابن مسعود عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬10)، وفي ذلك إشارةٌ من كتاب الله تعالى، وهي ¬
قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية (¬1)، وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان. القول الرّابع - قيل: إنها ليلة إحدى وعشرين، لرُؤْيا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه سجد في صبيحتها في ماءٍ وطين، فكان ذلك فيها (¬2). القول الخامس: أنّها ليلة ثلاث وعشرين، أو هي رواية عبد الله بن أبي أنيس عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬3). وقد رَوَى أهل الزهد أنّ جماعة منهم سافروا في البحر في رمضان، فلمّا كان ليلة ثلاث وعشرين سَقَطَ أحدُهم من السَّفينة في البحر في رمضان، فَرَجْرَجَ الماءَ في حلقه فهذا هو حُلْوٌ. وكان ما ينزل من السَّماء في تلك اللَّيلة من البركة والرَّحمة تقلب الأجاج المالح عَذْبًا، فما ظنّك بهذا إذا وجدت ذَنْبًا، وذلك قوله: "مَنْ قَامَ رمضان إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ" (¬4) وقوله: "مَنْ قامَ ليلة القَدرِ إيمانًا ... " الحديث (¬5)، وإن قام الشّهر كله فقد نالها، وأن اتَّفقَ أنّ يقوم منه ليلة فصادفها فقد نَالَها. القولُ السّادس: أنّها ليلة خمس وعشرين (¬6)، وفي ذلك أَثَرٌ مأثورٌ. القول السّابع: أنّها ليلة سبع وعشرين، قاله أُبَىّ بن كعب، وقال: أخبرنا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ آية تلك اللَّيلة أنّ الشَّمس تطلعُ في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها (¬7)، كأنّ الأنوار قد مُحِيت عنها، وكان ابن عبّاس رضي الله عنه يحلف أنّها ليلة سبع وعشرين - وينزع في ذلك بإشارة عليها بَنَى الصّوفيّة عقدهم في كثير من الدَّلالة - ويقول: إذا عددت حروف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فقولك: "هي" هو الحرف السّابع والعشرون من السورة، وهو موضع الاشعار بها (¬8). القول الثّامن: أنّها في أشفاع هذه الأفراد، وادَّعَت ذلك الأنصار في تفسير (¬9) ¬
قوله: "التمسوها في تاسعة تَبْقَى" قالوا هي ليلة ثنتي وعشرين قالوا: ونحن أعلم بالعَدَدِ منكم (¬1). القول التّاسع: أنَّ الصّحيح منها: لا تُعْلَمُ، لكن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قد حَضَّ على رمضان، وحَضَّ بالتَّخْصِيصِ العشر الأواخر. وكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُحْيي فيها لَيْلَهُ ويُوقظ أهلَهُ ويشدّ مئزره (¬2)، وصدَقَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّها في العَشرِ الأَوَاخِرِ. وفي الحديث دَلِيلٌ على أنّها متنفِّلَةٌ غير مخصوصة بليلةٍ؛ لأنّ رؤيا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - خرجت في صبيحة ليلة (¬3) إحدى وعشرين من رمضان وعلى جسمه وأَنْفِهِ أثر الماء والطين (¬4). واستفتاهُ رَجُلٌ ليختار له عند عجزه عن عموم الجميع، فاختار له ليلة ثلاث وعشرين (¬5)، فدلّ ذلك أنّها تنتقلُ، وما كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ليبخس السّائل حظّه منها. ومن فضل الله على هذه الاُمَّة أنّ أعطاها قِيرَاطَيْنِ من الأَجْرِ من صلاة العصر إلى غروب الشّمس، وأعطى اليهود والنّصارى جميعًا قيراطينِ، قيراطًا لكلّ طائفة منهما من أوّل النّهار إلى صلاة العصر، وأعطى الله هذه الأُمَّة ليلة القَدْرِ لقصر أعمارها، فجعل لهم ليلة بألف شهر (¬6)، فما فَاتَهُم من تقصير الأعمار الطّوال الّتي كانت لمن (¬7) قبلهم، أدركوه فيها، فخفَّ عنهم شَغَب الدُّنيا، وأدركوا عظيم الثَّوابِ في الآخرة، والحمد لله. وقد رَوَى التّرمذيّ (¬8) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه رأى في منامه بني أُميّة يَنْزُونَ على مِنْبَرِهِ نذزْوَ القِرَدَةِ (¬9)، فشقَّ ذلك عليه، فأنزل اللهُ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ¬
الآية (¬1)، فهذه ثلاثة عشر قولًا للعلّماء. فإن قيل: فلم لم يخبر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بها؟ فالجواب - قلنا: قد أراد النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يُخْبِر بها، فَتَلاحى رَجُلَانِ من المسلمين فَرُفِعَت، وعسى أنّ يكون خيرًا لهم، والحديث مَرْوِىٌّ من حديثِ عُبَادة بن الصَّامت؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان ... الحديث. إسناده: خرَّجَهُ الأيِمَّة، وأمّا مسلم فلم يخرّجه ولا عُذْرَ له فيه، والبخاري (¬2) وغيره (¬3) قد خَرَّجَهُ. العربية: قوله: "تَلَاحَى رَجُلَانِ" قال أهل العربيّة: اللحاءُ والملاحاة كالسَّبِّ والسّباب، يقال: لحيت الرَّجُل إذا لمته، من لحيت الشَّجَرة إذا قشّرتها، كأنّه مكاشفة عن باطن المكروه والتّحذير عن الشّيء الكائن بين النّاس. الثّانية: قوله: "فَالْتَمِسُوهَا" وهو افتعلوا من اللّمس ولا لمس فيه؛ لأنّ اللّمس محسوس وهي معقولة، ولكنه كنى بالالتماس عن طلب المعنى فيه لما كان اللّمس ممّا يعرف به الملموس، جعله كناية عن معرفة المعلوم مجازًا. الثّالثة: فيه دليل على أنّ العقوبة تعمُّ سائر النّاس من المسيء والمُحْسِن؛ لأنّ تلاحي الرّجلين كان سببًا أَلَّا يعرفها أحدٌ، فالجدال (¬4) لا يأتي بخير، فعمَّ العقوبة بجدالهما المسيئ والمُحسِن، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬5). ¬
الرّابعة: فيه وجوب التّبليغ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وذلك قوله: "خرجتُ لأخبركم" كما قال: "بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيةً" (¬1). الخامسة: فيه جواز النَّسخِ قبل العَمَل، خلافًا للمبتدعة (¬2)، وقد رفع اللهُ ليلة القَدْرِ بعد إنزالها وقبل الإعلام بها. السّادسة: قوله: "وعَسَى أنّ يكونَ ذلك خيرًا لكم" يريد أنّ كون الخير غير مقطوع به، وإن كان بلفظ التّراخي، لقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} الآية (¬3). السّابعة: قوله: "رُفِعَتْ" معناه أي نسيتها، أي رفع علمي بها، وقد جاء عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لقد أَذْكَرَنِي آيَةً كنتُ أنُسيتُها" قال ذلك لرَجُلٍ سمعه يقرأ (¬4)، معناه: رفع علمي بها (¬5). والصّحيح أنّها في العشر الاواخر من كلِّ رمضان، إِلَّا أنّها تنتقل في العشر، فتارة تكون إحدى وعشرين، وتارة تكون ليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، فمن وافقها فقد سعد، والله يكشفها لمن يشاء من عباده. وقال عبد الوهّاب (¬6): "ليلة القدر هي غير مرتفعة بموت النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، خلافًا لمن قال: إنها زائلة (¬7)، لقوله: "الْتَمِسُوها في العَشْر الأَوَاخِر" (¬8) فعمَّ كلّ وقتٍ، ولأنّها من شعائر الدِّين والإِسلام كشعائر سواها" (¬9)، وليس فيها تعيينٌ كما بيَّنَّا قبلُ. ¬
تنبيه على وَهَم: قال المؤلِّف: ومن الغريب قول بعض المتأخِّرينَ من الباطنيّة أنَّه قال: إنّ ليلة القَدْرِ هي في كلِّ ليلةٍ من العام. واستدَّل على ذلك بأن قال: وذلك أنَّ ليلة القَدْرِ تنتقل على حساب (¬1) دَوَرَان الشَمس، وهي ثابتة- والله أعلم- على حساب (1) دَوَرَانِ القمر، ولتعلم أنّ حساب الشَّمس مأخوذٌ من دَوَرَانِ القمر، كما أنّ أصل حساب السَّنَة مأخوذٌ من دَوَرَانِ الشَّمس، فما قَطَعَتِ الشّمسُ في مُدَّةِ دَوْرَةِ القمر بُرْجًا، سمِّيَت تلك المُدَّة شَهْرًا. فإذا دار القمر اثْنَي عشر دورة، سمِّيت تلك المدة سَنَة لقربها من حول (¬2) الشّمس، وذلك أنَّ سَنَةَ القمر (¬3) ثلاث مئة يوم وخمسة وستون (¬4) يومًا وربع يوم، وجزء من عشرين جزءًا من ثلاثين. وسنة الشَّمس ثلاثة مئة يوم وخمس وخمسون (¬5) يومًا وربع يوم، وجزء من مئة وستين، وعلى هذا عُلِمَ بالتَّقْرِيبِ، والله أعلم. وهذا التَّقدير متحقِّق الإحصاء (¬6)، والله أعلم. ثمّ اعلم أنَّ ليلةَ القَدْرِ تنتقل على الحساب الشمسي (¬7)، فتكمل عدّة ليالي السَّنَة كلّها ليالي القَدر في مثل عدد ليالي السَّنَة. ويصح في هذه المُدَّة دَوَرَان ليلة القَدْرِ على ليالي السَّنَة باجمعها فصولها وأوقاتها بتَقْدِيرِ العزيز العلّم، فتكون كلّ ليلة ليلة القدر في العام كلِّه. قال القاضي: وهذا كلامٌ لا أصلَ له، فلا يُلْتَفَتُ إليه، ذَكَرَهُ في "كتاب الإشراف" له (¬8)، بل هو كلامٌ غير مرشد، واللهُ الموفِّق للصّواب بِمَنِّهِ. ¬
كتاب الحج والمناسك
كتابُ الحَجِّ والمَنَاسِك وفي أوّله أربع مقدِّماتِ: المقدِّمةُ الأُولى: في اشتقاقه، الثّانية: في وجوبه، الثّالثة: في شروطه، الرّابعة: في سُنَنِهِ. المقدِّمة الأولى في اشتقاقه وهو (¬1) في اللُّغة القَصْدُ وغيره، وخصَّ هاهنا بقَصْد البيت على ما قدَّمْنَاهُ من الطّريقة في تخصيص التَّسمِيَةِ ببعض المسمَّيَاتِ (¬2). وقال ابنُ السِّكِّيت: الحَجُّ القصدُ - بفتح الحاء -، والحِجُّ - بكسر الحاء -: القوم الحجاج، والحَجَّة - بفتح الحاء -: الفِعْلَةُ الواحدة من الحجِّ، والحجَّة أيضًا - بفتح الحاء -: اللّحمة الّتي يتعلّق بها القرطان من الأُذُنِ. والحُجَّة - بالضَّمِّ: البرهان. والحَجُّ أيضًا القطع، يقال: حججتُه حَجًّا أي قطعته قطعًا. والحِجَّة - بكسر الحاء- السُّنَّة والتلبية على وزن تَفْعِلَة وهي الإجابة، وأصل ذلك: من ألبّ بالمكان إذا أقام فيه بمعنى لبَّيْك، أي إقامة بين يديك، وهي أيضًا اللُّزوم للشَّيء والمُداومة عليه. ¬
المقدمة الثانية في وجوبه
المقدِّمة الثّانية في وجوبه وهو فرضٌ من فرائض الإسلام، وركن من أركانِه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). وفرضه مرّة في العمر، وقد قال بعضُ النّاس - فيما أَمْلَى علينا الشّيخ الإمام أبو الحسن العبدري (¬2) - قال بعض النّاس: يجبُ في كلِّ خمسة أعوامِ مرَّة، ورَوَى في ذلك حديثًا أَسْنَدَهُ إلى النّبي - صلّى الله عليه وسلم - (¬3)، والحديث باطلٌ والإجماع صادٌّ في وجهه (¬4)، وليس يجب غير مرَّة واحدة في العمر، وبه قال جماعة العلّماء. وقالت جماعة منهم الشّافعيّ: إنّ العمرة واجبةٌ كوُجوبِ الحَجّ، واستدلَّ عليه قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬5) ورُوِيَ في حديث جبريل -عليه السّلام-؛ أنّه قال: ما الإسلام؟ قال: "أنّ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصّلاة، وتؤتي الزَّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ وتعتمر، وتغتسل من الجنابة" (¬6). والصّحيح ما قلناه من الأَثَر والنَّظَرِ. أمّا الأثر، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬7) ولم يذكر العمرة، وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإِسلامُ " على خمسٍ (¬8) فذَكَرَ الحجّ خاصّة. وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للأعرابى: "وحج البيت" قال: هل علي غيره؛ قال: "لا" (¬9)، ولأنّ البيت سبب من أسباب العبادة، فلا يتعلَّق به وجوب شيء، كالزَّوالِ والغروب. وأمّا قولى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬10)، فليس يقتضي لُزوم الفعل ابتداءً، وإنّما ¬
فيه تَمَامُه بعد فعله (¬1). وأمّا حديث جبريل، فقد رواه العالم (¬2)، وليس فيه: "وتعتمر" فلا تقبل هذه الزِّيادة؛ لأنّ الحديث مُطْلَقٌ. وأمّا سؤال: ألَّا تدع الحجّ في كلِّ عام، أو مرَّة واحدة؛ فيقال له: الواجب مرّة واحدة، فمن زاد فتطَوعٌ فيه، دليلٌ على أنّ المسلم إذا حجَّ، ثم ارْتَدَّ، ثُمَّ اسْلَمَ؛ أنّه لا إعادةَ عليه في الحَجِّ. هذا فيه نظر، بل يستانف الحَجِّ عندي، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ} الآية (¬3). وقال ابنُ القاسم وأشهب عن مالكٌ: من طلَّقَ في الشِّركِ ثمَّ أَسْلَمَ، فلا طلاق عليه، لقوله تعالى: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬4). قال: وكذلك من قذفَ ثمَّ أَسلَمَ، أو سرق ثم أَسْلَمَ، أقيمَ عليه الحدّ للفرية وللسَّرِقَةِ. ولو زنا وأَسْلَمَ، واغتصب مسلمة ثم أسلم، لسقط عنه الحدّ. وروى أشهب عن مالك: إنّما معنى قوله: "ما قد مضى" يعني قبل الإسلام من مالٍ أوْ دَمٍ، وهذا هو الصّواب -واللهُ أعلمُ- لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية (¬5)، وقوله: "الإسلام يهدم ما قبله" (¬6). قال: وإذا أسلم المرتدُّ وقد فاتَتْهُ الصّلوات، أو صاحب جناية، أو أتلف أموال النّاس. فقال الشّافعيّ: يلزمه حق الله والآدميِّين. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدميِّين يلزمه، وبه قال علماؤنا. واختلف علماؤنا؛ هل الرَّدَةُ تحبط نفس العمل أم لا؟ ¬
وأمّا الآيات في الحَجِّ، فالآية الأُولى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬1). قال علماؤنا: هذا من آكَدِ ألفاظِ الوُجُوبِ عند العرب، وكان الحجُّ عند العرب معلومًا مشروعًا لديهم، فخُوطبوا بما عَلِمُوا، وألزموا ما عرفوا. وقد حجّ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - معهم قبل فَرْصِ الحَجِّ، وَوَقَفَ بعرفة، ولم يُغَيِّر شيئًا من شَرْعِ إبراهيم، حتّى كانت قريش تقف بالمزدلفة، ويقولون: "نحن أهل الحَرَم فلا نخرج منهُ" وهذا يدلُّ على أنَّ رُكْنَ الحجِّ القصد إلى البيت. وللحج ركنان: الطواف بالبيت، والوقوف بعرفة، لا خلاف في ذلك، وكلّ ما وراءه فنازل عنه، مختلف فيه. فإن قيل: وأين الإحرام وهو مُتَّفقٌ عليه؟ قلنا: الإحرامُ هو النِّيَّةُ الّتي تلزم كلّ عبادة، وتتعيَّن في كلِّ طاعةٍ، وكل عمل خَلَا عنها لم يعتدّ به، فالاحرام شرطٌ لا رُكْنٌ. وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} (¬2) وهو عامٌّ في جميعهم، مسترسلٌ على جملتهم من غير خلاف في ذلك، إِلَّا في هذه الآية، خَلَا الصّغير فإنّه يخرج بالإجماع عن أصول التَّكْلِيفِ. فلا يقال إنّه خَصَّه لأنّه فيه. وكذلك العبد لم يدخل فيها؛ لأنّه أخرجه عن مُطْلَقِ العموم الأوّل، قوله في التّمام للكلام: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} والعبدُ غير مستطيع؛ لأنّ الله قد قَدَّمَ حقَّ السَّيِّد على حَقِّهِ. واختلف النّاس هل الحج مسترسل أو هو على الفور: فذهب (¬3) جمهور البغداديِّين إلى (¬4) حمله على الفور. ويضعف عندي. واضطربتِ الرَّوايات عن مالكٌ في مُطْلَقَاتِ ذلك، والصحيح عنه من مذهبه؛ أنَّه لا يحلّم فيه بفَوْرٍ ولا تَرَاخٍ، وهو الحَقّ. ¬
وأمّا الاستطاعة، فالذي عَوَّلَ عليه فقهاء الأمصار، منهم الشّافعيّ وأبو حنيفة وعبد العزيز بن أبي مسلمة؛ أنّه الزّاد والراحلة، ورُوِيَ في ذلك حديث عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يصحّ سَنَدُه. وهذا أيضًا يبعدُ معنًى، فإنّه لو قال الاستطاعة الزّاد، لكان أَوْلَى في التَّفْسِيرِ؛ فإنَّ السبيل في اللُّغة الطّريق، والاستطاعة ما يكسب سلوكها، وهي صحّة البَدَن ووجود القُوت. وقد سأل ابنُ القاسم وأشهب مالكًا عن هذه الآية، فقال: النَّاسُ في ذلك على قَدْرِ طاقتهم وجَلَدِهِم. فقال أشهب له: هذا الزّاد والرّاحلة. فقال: لا واللهِ وما زادك إِلَّا على قَدْرِ طاقة النّاس؛ لأنّه قد يجد الرَّجُل الزّاد والرّاحلة ولا يَقْدِر على المَشْيِ، وآخر يَقْدِرُ أنّ يَمشِي على رجليه، وهذا بالغٌ في البيان. فهذا وُجِدَت الاستطاعة، فلا خلافَ في وجوب فَرضِ الحَجّ، إِلَّا أنّ تعرض آفة، والآفات أنواع، منها الغريم يمنعه عن الخروج حتّى يُؤَدِّي الدَّيْن، ولا خلاف فيه. ومن كان له أَبَوَانِ، ومن كان له من النِّساء زَوْجٌ. فاختلف العلّماء في ذلك، وكذلك اختلف قول مالكٌ. والصحيح في الزَّوْجَة أنّه يمنعها، لا سيّما إذا قلنا: إنّ الحجّ لا يلزم على الفور. وإن قلنا: إنّه يلزم على الفَوْرِ، فحق الزوج مُقَدَّمٌ. وأمّا الأَبوَانِ، فإنْ كان منعه لأجل التّشوق والوحشة، فلا يُلْتَفَتُ إليه، وإن كان خوف الضّيعة وعدم العوض في التَّلَطُّف، فلا سبيل له إلى الحَجِّ. وإذا كان مريضًا أو مَعْضُوبًا (¬1)، لم يتوجّه عليه المسير (¬2) إلى الحجّ. بل أجمعت الأُمَّةُ أنّ الحجَّ إنّما فَرَضَهُ اللهُ على عباده على الاستطاعة إجماعًا، والمريض والمَعْضوب لا استطاعة لهما (¬3). وإذا لم يكن للمكلَّفِ قُوتٌ يتزوَّد به في الطريق، لم يلزم الحجّ إجماعًا، وسأحَقِّق ذلك تحقيقًا شَافِيًا في موضعه إنّ شاء الله. ¬
المقدمة الثالثة في شروط وجوبه
وقال عبد الوهّاب (¬1): "الاستطاعة معتبرةٌ بحال المستطيع، فمن قدر على المشي ببَدَنِهِ لَزِمَه الحجّ، ولم يقف وجوبه عليه على راحلة، خلافًا للشافعي وأبي حنيفة (¬2)، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية (¬3)، فعمَّ، ولأنّه قادرٌ" (¬4). المقدمة الثّالثة (¬5) في شروط وجوبه فقيل (¬6): إنّها أربعة. وقيل - سِتَّةٌ: الحريّة، والعقل، والبلوغ، والاسْتِطَاعة، وليس من شرطه الإسلام، وإنّما هو من شرط الأداء؛ لأنّ قول مالك لم يختلف قطّ أنّ الكُفَّار مُخَاطَبُون بفروع الشّريعة. وقال غيره (¬7): هي سِتَّةٌ: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحريّة، وصحّة البَدَن، وبلوغ الدعوة (¬8)، والاستطاعة على الوصول دون مانع ولا ضَرَرٍ. أمّا الإسلام، فليس من شروطه (¬9) كما قدَّمنا. وأمّا "الحُرِّيّة" فلا خلافَ فيها؛ لأنّ العبدَ مملوكٌ لِعَبْده، مستغرقُ المنافع، فهو يدخل في خطاب الشّرائع كلِّها، ما لم يكن في ذلك تعطيل للسَّيِّد ولا قطع به على الانتفاع. والسَّفَر يمنعه منه، ويسقط منفعته فيه، فلا يجوز له السَّفَر إِلَّا بإِذْنِهِ، فسقطت الاستطاعة وسقطَ الخطّاب، وقد بيَّنَّا ذلك قَبْلُ. وأمّا "البلوغ" فإنّه أمرٌ اجتمعتِ الأُمَّةُ عليه، أمّا أنّ الصّبيَّ إذا حُجَّ به كتب الله له الأجر من فَضْلِهِ، وَلِوَليِّه الأجر زيادة من رحمته. وقد ثبت عن النّبيِّ -عليه السّلام- أن ¬
المقدمة الرابعة
امرأةً رفعت مولودًا لها في مِحَفَّة (¬1) لها، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حَجٌّ؟ قال: "نعم، وَلَكِ أجر" (¬2). وأمّا "العقل" فمثل البلوغ، وقد بيَّنَّاه في كتاب الصّلاة، فلينظر هنالك. وأمّا "الاستطاعة" فهي عندنا على حال المستطيع من صِحّةِ بَدَنِهِ وكَثْرَةِ جَلَدِهِ، والصّحيح في الاستطاعة لغة وعقلًا (¬3)؛ أنّها صفة المستطيع كيفما تصرَّفَت وجوهها، وقد تقدَّمَ بَيَانُه. المقدمة الرّابعة (¬4) وأمّا سُنَنُه فثلاث عشرة سنة: إفراد الحجّ، وترك التّمتُّع، والإحرام من الميقات، وطواف القدوم، وركعتا الطواف، والمبيت بمنى يوم التّروية، والجمع بعَرَفَة، والمَبِيت بالمُزدَلِفَة، ورَمْي الجمار، وتأخير رميها، والحلق والتّقصير، وتأخير الطّواف يوم النحر، وأيام التّشريق، والمبيت لَيَالِي مِنى. فهذه سُنَنُه الّتي يجب بتَرْكِهَا الدَّم عند علمائنا (¬5)، في تفصيلٍ طويلٍ، وما عدا هَذَا من السُّنَنِ فإنّها أركان وفضائل. وأمّا أركانه فستّة: النِّيَّة، والإحرام، وطواف الإفاضة، والسّعي بين الصَّفَا والمروة، والوقوف بعَرَفَة، ووقت الحجّ، واخْتُلِفَ في جمرة العَقَبَة. تفصيل (¬6): أمّا "الإحرام" فلا خلافَ في وجُوبِهِ؛ لأنّ الأعمال بالنِّيات، وخصوصًا العبادات، وخصوص الخصوص الحجّ. وأمّا "الطواف" فلا خلافَ فيه، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬7). ¬
وأمّا "الوقوف بعرفة"، فهو الحجّ، وفي الحديث الصّحيح: "الحَجُّ عَرَفَة" (¬1) يعني معظم (¬2) الحجِّ ومقصوده. بَيْدَ أنّ العلّماء بعد اتِّفاقهم على أنَّ عرفة رُكْنُ الحجِّ، اختلفوا في وقت الوقوف فيه. فقالت جماعة: باللَّيل، منهم مالك. وقالت جماعة: فرض الوقوف بالنّهار، منهم الشّافعيّ وأبو حنيفة. وقالت طائفة: الوقوف لَيْلًا ونَهَارًا. واحتجوا في ذلك بأحاديث. وأمّا "السّعي" فاختلفَ العلّماءُ فيه قديمًا وحديثًا. فقال أبو حنيفة: يجزئ فيه الدَّم (¬3)، ووقعت رواية عن مالكٌ في "العُتْبيَّة" وهي ساقِطَةٌ. والسَّعْيُ رُكن عظيمٌ، وله في الحجِّ منزلة كريمة. والدّليلُ على ركنية: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬4) الآية إلى آخرها، أنزلها اللهُ تعالى رَدًّا على من كان يمتنع (¬5) من السَّعيِ. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬6) قلنا: لم يفهم هذه المسألة أحدٌ غير (¬7) عائشة - رضي الله عنها - وكلامها معروفٌ في الحديث. تفسيره: أنَّه إذا قال الرَّجُل للآخر: لا جناح عليك أنّ تفعل كذا، فمقتضاه رفع الحَرَج في الفعل، ولم يكن في الشّريعة حرج في الطَّوَافِ بين الصَّفَا والمَرْوَة. وكيف يكون ¬
فيه حَرَجٌ وهو من شعائر الله؟! وإنّما كان الحرج في قلوب طائفة من النَّاسِ، كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصَّفا والمروة للأصنام، فلمّا جاء الإسلام، كرهوا أنّ يدخلوا البُقْعَةَ الّتي كانوا يكفرون فيها، أو يفعل الفعل الّذي كانوا يشركون به. فرفع اللهُ ذلك الجُناح عن قلوبهم، وَأَمَرَهُم بالطَّوَاف، وأخَبرهم أنّه من الشَّعَائِرِ، كما قال. وكانوا يطوفون بالبيت العتيق في الجاهلية للأصنام الّتي كانت فيها، ثمّ جاء الإسلام وطَهَّرَ البَيْتَ من الأصنام، وصارَ الطَّوافُ للهِ وحدَهُ، كذلك الصّفا والمروة. وأمّا "رمي الجمار" فليس برُكْنٍ، وقد وَهِمَ فيه عبد الملك، وليس في ركنيتها دليلٌ يُعَوَّلُ عليه. وأمّا "الحجّ" فهو على ثلاثة أضرب: إفراد الحجّ وَحْدَهُ عند الإحرام، وهو أفضلها. وقِرَانه (¬1) مع العمرة معًا. والتَّمَتُّعُ، وهو أنّ يعتمر غير المكيّ في أشهر الحجّ الثلاثة: شوّال والشّهرين الذين بعده، ثم يحلّ ويحجّ من عامِهِ. ولا يكون مُتَمَتِّعَا إِلَّا بشروط سِتَّةٍ: ألَّا يكون مَكِّيًّا. وأن يجمع بين العمرة والحج في عامٍ واحدِ. وفي سَفَرٍ واحدٍ. وتكون العمرة مقدَّمة. ويأتي بها أو ببعضها في أشهر الحجّ. ويُلَبِّي (¬2) بالحجِّ بعد الإهلال. وعلى القارن غير المَكِّيّ والمتمتع الهدي ينحره بمنى بعد الفَجْرِ يوم النَّحْرِ. تمّت المقدِّمات في صَدْرِ هذا الكتاب بحمد الله ¬
باب ماجاء في الغسل للإهلال
باب ماجاءَ في الغُسْلِ للإهلالِ مالك (¬1)، عن عبد الرّحمن بنِ القاسم، عن أبيه، عن أسماء بنت عُمَيْسٍ؛ أنّها وَلَدَت محمدَ بن أبي بكر بالبَيدَاءِ ... الحديث. الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ في الموطَّأ، وأَسْنَدَهُ ابن أبي شَيْبَة (¬3). ومُرْسَلُ مالكٌ أَقْوَى وأَثبَت من أسانيد غيره، لما رُوِيَ من اختلافهم في إسناده. وقوله في هذا الحديث: "بِالْبَيْدَاءِ" وقوله في الحديث الثّاني: "بذي الحُلَيْفَة" ليس بمختلف فيه؛ لأنّ البَيْدَاء متَّصِلَة بذي الحُلَيْفَة، فالبيداء صحراء متَّصِلَةٌ بذي الحُلَيْفَة. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬4): خَرَّجَ أبو داود (¬5)، عن ابن عبّاس؛ أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "النُّفَسَاءُ والحائِضُ إذا أَتَتَا على الوقت (¬6) تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها إِلَّا الطّواف بالبيت". قال الإمام: وفي أَمْرِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الحائض والنُّفَسَاء بالغُسْلِ عند إلاستهلال (¬7) دليلٌ ¬
على تأكيد الغسل عند الإحرام بالحَجِّ والعمرة (¬1)، إلّا أنّ (¬2) جمهور الفقهاء يستحبّونه ولا يُوجِبُونَهُ، ولا أعلمُ أَحَدًا من المتقدِّمين أَوْجَبَهُ، إِلَّا الحسن بن أبي الحسن البصري فإنّه قال في الحائض والنُّفَسَاء: إذا لم تغتسل عند الإهلال اغتسلت متى ذكرته، وبه قال أهل الظّاهر، قالوا: الغسلُ واجبٌ عند الإهلال على من أراد أنّ يحرم بالحَجِّ طاهرًا كان أو غير طاهر. وهو عند مالك وجميع أصحابه سُنَّة مؤكَّدة لا يُرَخِّصُونَ في تركها إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، ولا يجوز عندهم ترك السُّنَن اختيارًا. وقال ابنُ القاسم: لا يتركُ الرَّجُلُ والمرأةُ الغسلَ عند الإحرام إِلَّا مِنْ ضرورةٍ. وقال مالك: إِنِ اغتسلَ الرَّجُلُ بالمدينة وهو يريد الإحرامَ، ثُمَّ مَضى من فَوْرِهِ إلى ذي الحُلَيْفَة فأَحرمَ، فإنَّ غُسْلَهُ يُجْزِئه. فإن اغتسل غدوة بالمدينة، ثمّ أقام إلى العشاء (¬3)، ثمّ راح إلى ذي الحُلَيْفَة فأَحْرَمَ (¬4)، فإنّه لا يجزئه الغسل؛ لأنّ الاغتسال للأهلال عنده (¬5) آكد من غسلِ الجمعة (¬6). وقال أبو حنيفة (¬7) والثوري والأوزاعي: يجزئه الوضوء. وقال الشّافعيّ (¬8): لا يجب ولا أحبّ لأحدٍ أنّ يدع الغسل للأهلال. المسألة الثّانية (¬9): ذكر علماؤنا في الحَجِّ أربعة أغسال: غسل الإحرام، وغسل لدخول مكَّة، وغسل لعَرَفَة، وغسل لطَوَافِ الإفاضة. قال الإمام: والّذى أعرف منه غسلان: ¬
غسل للإحرام، فإنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - اغتسل وهو مُحْرِمٌ (¬1)، وأَمَرَ أصحابه أنّ يغتسلوا أيضًا عند الإحرام (¬2). واغتسلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لدخول مكَّة (¬3)، وليس غسل الإحرام لرفع حَدَثٍ (¬4)، وإنّما للتَّأَهُّب للقاء الله تعالى، ولذلك تغتسل الحائض وحدثها قائمٌ. وأمّا المُحرِمُ فيجوز أنّ يغسل رأسه تَبَرُّدًا، لكن لا يضغث رأسه بِيَدَيْهِ إِلَّا إذا اغتسل من الجنابة. وكره مالك أنّ ينغمس في الماء، لئلَّا يقتلَ الماءُ القملَ، وليس الماءُ بقاتلٍ لها بمجرَّدِ الانغماس، نعم ولا تحريك الشَّعر. المسألة الثّالثة (¬5): قوله: "فَوَلَدَتْ أسماء، فذكر ذلك أبو بكرٍ لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -" يحتمل أنّ يكون سأله إنّ كان النّفاس ودمه الّذي يمنع صحَّة الصّوم والصّلاة يمنع صحَّة الحَجِّ، فَبَيَّنَ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ النِّفَاسَ لا يُنَافِي الحَجِّ ولا يمنع صحِّته، بل تصح جميع أفعاله معه، إلّا ما له تعلُّق بالبيت من الطَّوَافِ والرُّكوع الّذي يحتاج إلى طهارة. ويحتمل أنّ يكون سأله عن الاغتسال (¬6) للإحرام وإن (¬7) علم أنَّ إحرامها بالحجِّ (¬8)؛ لأنّ الاغتسال للمُحْرِم مشروعٌ في ثلاثة مواطن: أحدها عند الإحرام، فخافَ أنّ يكون النِّفاس يمنع الاغتسال الّذي يُوجِبُ الحكم (¬9)، فبيَّنَ له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّ الغسلَ مشروعٌ لها؛ لأنّ ذلك الغسل ليس لرفع حَدَثٍ، فلا يُنَافِيهِ حيض ولا غيره، وإنّما هو غسل مشروعٌ للإحرام، وإذا لم يمنع الإحرام الحيض والنِّفاس لم يمنع الغسل له (¬10). ¬
باب غسل رأس المحرم
باب غسل رأس (¬1) المحرم مالك (¬2)، عن زيد بن أَسْلَمَ، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنَيْن، عن أبيه؛ أنّ ابنَ عبّاس ... الحديث. الإسناد (¬3): هكذا رواه يحيى، ولم يتابعه أحد من رواة الموطَّأ على إدخال نافع بين زيد بن أسلم وبين إبراهيم بن عبد الله، وذِكْرُ نافع هاهنا خطأٌ لا شَكَّ فيه، وقد طرحه ابنُ وضّاح. الأصول (¬4): وهذه المسألة تُبْنَى على أصلٍ عظيمٍ من أصول الفقه، وذلك أنّ الرَّاوِي إذا أَفْتَى بخلاف ما روى (¬5) سقطت روايته (¬6). وفيه: أنّ الصَّحابةَ إذا اختلفوا لم يكن قول واحدٍ منهم حُجَّة على غيره (¬7) إِلَّا بدليل يحبُ، التّسليم له من الكتاب والسُّنَّة. ألَّا ترى أنّ ابنَ عبّاس والمِسْوَر لما اختلفَا ¬
لم يكن واحد (¬1) منهما حُجَّة على صاحبه، حتّى استدلَّ ابن عبّاس بالسُّنَّة فَفَلَجَ (¬2)، وهذا يُفَسِّر لك قوله: "أصحابي كالنَّجوم" (¬3). العربية: قوله: "المُحرِمُ" هو مأخوذٌ من الحرم أي المنع. وقوله: "يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرنَيْنِ" قال (¬4) أهل اللُّغة (¬5): هما العَمُودَان اللَّذان فيهما السّاقية على رأس الخشبة (¬6). وقال غيره (¬7): هما حَجَرَانِ مُشرِفان أو عمودان على الحَوْض يقومُ عليهما السُّقاةُ (¬8). وقوله (¬9): "كَداء" بفتح الكاف، هي ثَنِيَّة بأعلى مكَّة، والّتي هي أسفل مكّة من "كُدَاء" بضَمِّ الكاف (¬10). وفي الحديث: كانَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يدخل من كَدَاءٍ -بفتح الكاف- بأعلى مكَّةَ، ويخرج من كُدا -بضمِّ الكاف- بأسْفَلِ مكَّة (¬11). "والأَبْوَاءُ" (¬12) موضعٌ قريبٌ من المدينة ممّا يلي مكّة (¬13). ¬
الفقه (¬1): اختلف العلّماء في غسل المُحرِم رأسه بالماء، فكان مالكٌ لا يجيز ذلك للمُحْرِم ويَكرهُ ذلك له، ومن حجَّتِهِ: أنّ ابنَ عمر كان لا يغسلُ رأسه وهو مُحرِمٌ إلّا من احتلامٍ (¬2). وقال مالك (¬3): إذَا رَمَى جَمرةَ العَقَبة، فَقَدْ حَلَّ له قَتْلُ القَمُلِ، وحَلْقُ الشَّعْرِ، وإلقاءُ التَّفَثِ، ولُبْسُ الثِّيَابِ. قال: وهذا الّذي سمعتُ من أهل العلّم. المسألة الثَّانية (¬4): قال أبو عمر (¬5): ومَحملُ حديث أبي أيّوب عند مالك (¬6): أنّه إنّما (¬7) كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يغسلُ رأسَه من الجنابة مُحْرِمًا، فلا يكون عليه فيه حُجَّةٌ. وعند غيره: مَحْمَلُه على العمومِ والظَّاهر؛ لأنّه (¬8) لم يجرِ في الحديث لواحد (¬9) منهم ذِكْر الجنابة (¬10). وقال الشّافعيّ (¬11) وأبو حنيفة (¬12) وجماعة (¬13): لا بأس بغسل المُحْرِم رأسه بالماء، ورَوَوا (¬14) الرُّخصة في ذلك عن ابن عبّاس (¬15). ¬
المسألة الثَّالثة (¬1): اختلفَ العلّماءُ في دخول المُحْرِم الحمّام، فكان مالك (¬2) وأصحابُه يكرهون ذلك، ويقولون: من دخل الحمّام وهو مُحْرِم، فتَدَلَّكَ أو تنقَّى (¬3)، فعليه الفِدْيَة. وكان الشَّافعىّ (¬4) وأبو حنيفة وأبو يوسف (¬5) وأحمد (¬6) وإسحاق لا يرون بدخول الحمام بَأسًا. ورُوِيَ عن ابن عبّاس من وجهٍ ثابتٍ؛ أنّه كان يدخل الحمّام وهو مُحْرِمٌ (¬7). المسألة الرَّابعة (¬8): قوله (¬9): "كان لا يغسِلُ رأسَه وهو مُحْرِمٌ إِلَّا من احتلامٍ" يقتضي ظاهرُه أنّ غسله لدخول مكَّة كان يختص بِجَسَده دون رأسه. وقد قال ابنُ حبيب (¬10): إذا اغتسلَ المُحْرِمُ لدخول مكَّة، فإنّه يغسِلُ جَسَدَه دون رأسه، فقد كان ابنُ عمرَ لا يغسلُ رأسَه وهو مُحْرَمٌ إِلَّا مِن جنابةٍ. ومَنْ غسل رأسَه، فلا حرج ما لم يَغْمِسْ رأسَه في الماء. وقال ابنُ أبي زَيْد (¬11): "لعلّ ابن عمر كان لا يغسلُ رأسَه إِلَّا من جنابة، يعني: في غير هذه الثَّلاثة"، فذهب إلى تخصيص ذلك. وحَكَى ابنُ الموّاز (¬12) عن مالك؛ أنَّ المُحْرِم لا يتدلَّك في غسل دخول مكَّة، ولا يغسِلُ رأسَه إِلَّا بالماء وحدَه. ¬
باب ما ينهى عنه من لبس الثياب في الإحرام
الفوائد: الأولى (¬1): فيه وجوه من الفقه: اختلافهما بالأبواء، يحتمل أنّ يكون بمعنى المذاكرة بالعِلْم. ويحتمل أنّ يكون أحدُهما فَعَل من ذلك ما أنكر عليه الآخر، والظّاهر من إرساله (¬2) إلى أبي أيّوب يسأله أنَّ عنده من ذلك عِلْمًا. الثَّانية: فيه استتار الغاسل عند الغسل، ومعلومٌ أنَّ ذلك واجبٌ. ويحتمل أنّ يكون يغتسل تَبَرُّدًا وعليه إزاره، فإنَّ الغسل على وجه التَّبرُّد جائزٌ للمُحْرِم وإن كان لغير ضرورة، وهي رواية ابن القاسم. ويحتمل أنّ يكون اغتسل من وراء ستر، والله أعلم (¬3). باب ما يُنْهَى عنه من لبْس الثِّيابِ في الإحرام قال الإمام (¬4): اتفق الحُفَّاط من أصحاب نافع على لفظ هذا الحديث الأوّل (¬5) في هذا الباب، منهم مالكٌ، وأيّوب، وعبد الرَّحمن، وعبد الله بن جُرَيْج، وابن عَوْف، وكذلك رواه الزُّهري عن نافع، ورواه جعفر بن بُرْقَان، فَوهم فيه في موضعين: أحدهما: أنّه قال فيه: "فمن لم يجد إزارًا فسراويلَ" وليس هذا في حديث ابن عمر. ¬
والموضع الثّاَني: أنّه قال: "قال نافع: ويَقْطَعُ الخُفَّ أسفلَ من الكعبين" فجعله من قول نافع، والصّحيح في الموضعين ما قدَّمناهُ. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله -عليه السّلام- (¬2):"لا تلبسوا القُمُصَ ولا العمائِمَ ولا البَرَانِسَ" قال علماؤنا (¬3): هذا قولٌ قويٌّ مُستوعِبٌ في المنع، في منع المُحْرِم المَخِيطَ الّذي لا يحصل غالبًا إِلَّا بالخياطة، وهي القميص (¬4) وما كان في معناه، يدخل المخيط كلّه في هذا المنع. المسألة الثَّانية (¬5): ومقدار ما تجب فيه الفِدْية في لُبْس المَخِيط: أنّ ينتفع بذلك، فأمّا من يزيله بفوره (¬6) صفلا شيء عليه (¬7). وكذلك الخُفّان، والمقدار الّذي يُعتبر في ذلك: أنّ يقْصِدَ دفع مضرَّة. والثَّاني: أنّ يطول لُبْسُه له كاليوم واللَّيلة. فإن لم يَقْصِد صبه دفع شيءٍ بعينه، فإنّه قد حصل التّرفّه بلبسه (¬8). المسألة الثَّالثة (¬9): قوله: "لا تَلْبَسُوا العَمَائِمَ" فإنّها ومما في معناها من القلانِس فممنوع؛ لأنّ ¬
المُحرِم مأمورٌ بالشَّعَث والعِمَّةُ تمنع منه. والآن (¬1) إحرام الرَّجُل في رأسه. فيلزمُه كشفُه مُحْرِمًا، ولا يحلّ له ستره إِلَّا مِنْ عُذْرٍ مع الفِدْيَةِ، لاختصاص الإحرام به، وقال عبد الوهّاب: لا خلاف في ذلك. المسألة الرَّابعة (¬2): قوله: "ولا الخِفَافَ إِلَّا أنّ لا يجد نَعلَيْن، فليقطعهما (¬3) أسفل من الكعبين" (¬4) ولا خلاف في ذلك عند جماعة الفقهاء. وحُكِيَ عن عطاء وابن حنبل (¬5) وقومٌ من أصحاب الحديث (¬6)؛ أنّه إذا لم يجد النَّعلين لبس الخُفَّين التَّامَّين ولم يقطعهما. والدّليل على صحة مذهب مالك (¬7): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "وَلَيْقْطَعهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ" وهذا أمرٌ يقتضي الوجوب. ودليلنا من جهة المعنى: أنّ هذه حالةُ إحرامِ، فلا يجوز فيها لبس الخُفَّين التَّامَّين مع القُدرة عليه (¬8)، أصل ذلك إذا وَجَدَ النَّعلين. ودليل ثانٍ: أنّ هذا قادر على قطع الخُفِّ ومقارنة النَّعلين به (¬9)، فلا يجوز له أنّ يلبس الخُفَّ التَّامّ. وأمّا حجتهم فحديث ابن عبّاس الّذي يأتي مُسْنَدًا بعد هذا، قوله: "مَنْ لم يجد النَّعلين فَلْيَلْبَس الخُفَّيْن" (¬10). الجواب عنه: أنَّ ابنَ عبّاس حَفِظَ لبسَ الخُفَّين (¬11). ¬
المسألة الخامسة (¬1): قوله (¬2): وأنّه ليس له أنّ يغَطِّي رأسه لنَهْيِ النَّبىِّ -عليه السّلام- عن لبس المُحْرِم البرانس والعمائم. وأجمعوا أنّ إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أنّ تُغَطِّي رأسها وتستُر شَعرها عند جمهور العلّماء من الصّحابة والتَّابعين ومن بعدهم، فإنّهم لم يختلفوا في كراهية التَّبرقُع والنِّقاب للمرأة المُحْرِمَة، إِلَّا شَيْئًا يُرْوَى عن أسماء أنّها كانت تغطِّي وجهها وهي مُحْرِمَة (¬3). وعن عائشة أنّها قالت: تغطي المرأة وجهها إنّ شاءت. ورُوِيَ عنها أنَّها قالت: لا تفعل، وعليه النَّاس اليوم. المسألة السَّادسة (¬4): وأمّا القُفَّازان، فاختلفوا فيهما أيضًا: فرُوِيَ عن سعد بن أبي وقّاص، أنّه كان يُلبِسُ بناته القُفَّازين (¬5)، وأرخصت فيهما عائشة. وقال مالك: إنّ لبست المرأةُ القُفَّازَين افْتَدَت. وللشّافعىّ في ذلك قولان: أحدهما: أنّها تفدي (¬6). والثَّاني: أنَّه لا شيء عليها (¬7). تنقيح (¬8): قال الإمام (¬9): والصّواب قول من نَهَى المرأةَ عن القُفَّازَين، وأَوْجَب العلّماء ¬
الفِدْيَةَ لثبوتها عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. واتّفق مالك (¬1) وأبو حنيفة (¬2) في إيجاب الفِدْيَة على من لبس السَّراويل فقالا: عليه الفِدْيَة. وقال الشَّافعيّ (¬3) وابنُ حنبل (¬4) والثَّوريّ: إذا لم يجد المُحْرِمُ إزارًا لبس السَّراويل ولا شيء عليه، وهذا لا يصحّ في النَّظَر (¬5). الفوائد المُتَعَلَّقة بهذا الحديث (¬6): رَوَى ابن (¬7) عمر؛ أنَّ رَجُلًا سألَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عمّا يَلبسُ الْمُحْرِم ... الحديث إلى آخره. قال النَّاس: ففيه إجابة السَّائل بأكثر ممّا سأل عنه. واختلف النَّاس في تأويله: فيحتمل أنّ يريد بذلك أنّه سأل عمّا يلبس، فذكر له ما يلبس، والمنهي عنه أكثر من المأمور به. ويحتمل أنّ يريد به الزيادة، واعجبا لأحمد بن حنبل (¬8) يقول: لا تلبس الخُفَّين مقطوعة أسفل من الكعبين (¬9)، وهو نصٌّ في الحديث. ¬
باب لبس الثياب المصبغة في الإحرام
باب لبس الثِّياب المُصَبَّغَة في الإحرام الإسناد: حديث أسماء (¬1) في هذا الباب؛ أنّها كانت تلبسُ المُعَصْفَرات وهي مُحْرِمَة وليس فيها الزَّعفَران (¬2)، فإنّه (¬3) حديثٌ لم يُتابع أحدٌ من أصحاب هشام مالكًا على قوله في حديث هشام عن عُرْوَة عن أبيه عن أسماء، وإنّما يروونه (¬4) عن هشام عن فاطمة بنت المُنْذِر عن أسماء. الفقه في ثلاث مسائل: الأولى (¬5): قوله (¬6): "نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبسَ المُحْرِمُ ثوبًا مصبوغًا"، وأفضلُ لباسِ المُحرِم البياض. لما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "خيرُ ثيابِكُم البَيَاضُ يَلْبَسُهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَيُكَفَّنُ فِيهَا مَوتَاكُم" (¬7). فإن كان مصبوغًا فيجتنب المصبوخ بالزَّعفران والوَرْسِ، يجتنيُه الرِّجال والنِّساء، لما فيه من الطِّيبِ والصَّبْغِ الّذي يُستَعْمَل غالبًا للتَّحَمُّل، وهذان المعنيان ينافيان الإحرام، ومن لبسه فعليه الفِدْيَة. ¬
المسألة الثَّانية: قوله (¬1): "نهى عن لبس المُعَصْفَرَاتِ" وهو نهي تحريم. وقال قومٌ: هو نهي كراهية، وهو مطابق للحديث الّذي نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ القُسِّىِّ (¬2). وعن لُبْس المُعَصْفَرِ (¬3): الكلام عليه قد تقدّم في "كتاب الصَّلاة" (¬4). المسألة الثَّالثة (¬5): قوله (¬6): "يُكرَهُ لُبسَ المِنْطَقَة" يحتمل أنّ يريد لغير حاجة إليها؛ لأنَّها ممّا يترفَّه بلبسها، فلا يجوز للمُحرِم لبسها على ذلك الوجه، فإن لَبِسَها لحاجة إليها الحمل (¬7) نفقته، ولم يترفَّه بلُبسها في شدِّ إزاره، وإنّما يشدِّها تحت إزاره، فلا بأس بذلك ولا فِدْيَة عليه؛ لأنّ ذلك ممّا تدعو (¬8) الضّرورة إليه. فإن لم يكن له مِنْطقه، وشدَّ نفقته تحت إزاره، فلا بأس بذلك. وقال (¬9) الشّافعيّ (¬10): يلبس المُحرِم المِنْطَقَة للنّفقة. وقدا أجمعوا أنَّ للمُحرِم أنّ يَعقِدَ الهِمْيَان (¬11) والإزار على وَسَطه والمِنْطَقَة كذلك، وليس في هذا الباب على من لبس المِنْطَقَة والهِمْيَان فِدْيَة عند مالك (¬12). ¬
باب تخمير المحرم رأسه
باب تخمير المُحْرِمِ رأسَه الفقه في ثلاث مسائل: الأولى (¬1): "رَأَى عثمانَ بالعَرْجِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وهو مُحْرِمٌ" (¬2) يحتمل أنّ يكون فعلَ ذلك لأنّه رآه مباحًا، وقد منعه (¬3) ابن عمر وغيره فقالوا: لا يجوز للمُحْرِمِ تغطية وجهه، وإلى ذلك ذهب مالك (¬4)، وإنّما ذَكَر فعلَ عثمان * وذَكَرَ الخلافَ عليه ليكون للمجتهد طريقٌ إلى الاجتهاد بظهور (¬5) الاختلاف عليه (¬6). وقال ابن القصّار (¬7): إنّما (¬8) ذلك معمروه ليس بحرام (¬9). وحَكى عبد الوهّاب (¬10) لمتأخِّري أصحابنا قولين: الكراهية والتّحريم. وقال أبو حنيفة: تعلّق الإحرام بالوجه كتعلُّقِه بالرَّأس (¬11). وقال الشّافعيّ: لا تعلُّق له بالوجه (¬12). والدليل على ما نقوله: ما رَوَى ابن عبَّاس عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال في الرَّجُل الّذي وَقَصَت به دابّته وهو مُحْرِمٌ: "اغْسِلُوه بِمَاءٍ وسِدْرٍ، وكفِّنوه في ثيابه ولا تخمِّروا وَجْهَهُ ¬
ولا رَأْسَه، فإنّه يُبعَثُ يومَ القيامةِ مُلَبِّيًا" (¬1). ودليلنا من جهة المعنى: أنّ هذا شخصٌ يتعلّق به حُكمُ الإحرام، فيلزمه كشف وجهه مع السّلامة كالمرأة. المسألة الثَّانية (¬2): فإن غَطَّى المُحرِمُ وجهَه، فهل عليه فدْيَةٌ أم لا؟ فقال ابنُ القاسم (¬3): لم أسمع من مالك في ذلك شيئًا، وأرى ألَّا فِدْيَةَ عليه. وبهذا قال ابنُ القصار (¬4). وقال عبد الوهّاب في "شرح الرِّسالة": وفي قول ابن القاسم نظر. وتحصيل المذهب: أنّه إذا قلنا بتحريم التّغطية، فعليه الفِديَة، وإن قلنا بكراهتّتها دون التَّحريم، فلا فِدّيَةَ فيه. وقال الشَافعي (¬5): الْمُحْرِمُ إذا مات لا يُخَمَّر رأسه ولا يُطَيب، ويُستدام له حال إحرامه بعد الموت. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: أنّ الكفَنَ معنى يغطّى به الرَّأس من الميِّت الحلال، فجاز أنّ يغطّى به رأس الميِّت المُحْرِم، وأصل ذلك الميراث. واحتجوا بالحديث المتقدِّم في الّذي وقصت به ناقته وهو مُحَرِمٌ. فالجواب: أنّ هذا الحديث ممّا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنّ النَبى - صلّى الله عليه وسلم - علَّلَ المنع من تخمير رأسه بما لا طريقَ لنا إلى معرفته، من قوله: "فإنّه يُبْعَث يومَ القِيامةِ مُلَبِّيًا" وإذا علَّل بما لا طريقَ لنا إلى معرفته، دلَّ على اختصاصه بذلك الحُكم. ¬
باب ماجاء في الطيب في الحج
باب ماجاء في الطِّيبِ في الحَجِّ الإسناد (¬1): "الأحاديث (¬2) في البابِ صِحَاحٌ. أمّا حديث عائشة (¬3)، فلم يُخْتَلَف فيه عن عائشة، والأسانيد في ذلك متواترةٌ. وأمّا حديث حُمَيد (¬4)، فهو مُرْسَلٌ ويَتَّصِلُ من حديث ابن (¬5) أُمَيَّة (¬6). وأمَا قوله في حديث مالك عن حُمَيْد: "وهو بحُنَيْن" فالمراد به مُنصرفه من غَروة حُنَيْن، والموضعُ الّذي لقيَ فيه الأعرابىّ رسول (¬7) الله - صلّى الله عليه وسلم - هو الجِعْرَانَة (¬8)، وهو طريقُ حُنَيْن، وفي ذلك الموضع قسم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - غنائم حُنَين على ما ذكر أهل السِّير والخَبَر. وأمّا قوله: "وَعَلَى الأّعْرَابِىِّ قَمِيصٌ" فالقميصُ المذكور في حديث مالك هو الجُبَّة المذكورة في حديث غيره. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬9): قول عائشة: "كنت أُطَيِّبُ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - لإحرامه قبلَ أنّ يُحْرِم". قال الإمام: ظاهرُه يقتضي أنّها كانت تُطيِّبه بمَا لَهُ رائحة، ويحتمل أنّ يكون بما لا تبقى له رائحة. وقد رُوِيَ عنها مفسَّرًا أنَها قالت: "كنت أطَيِّبُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ¬
لإحرامه (¬1) طِيبًا لا يشبه طِيبكُم" (¬2). وقد وقع في الصَّحيح من حديث عائشة قالت: "كنت أُطَيِّبُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -" (¬3). ورُوِيَ: "كنت (¬4) انظر إلى بياض الطِّيب" (¬5). ويُرْوَى: "وبِيصَ (¬6) الطِّيب في مَفْرِقِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو مُحرِمٌ" (¬7). المسألة الثَّانية (¬8): اختلف النّاس اختلافًا كثيرًا متباينًا، فالشّافعيّ (¬9) من فقهاء الأمصار رأى أخذ الحديث بظاهره، وانتهت الكراهية بقوم فيه لأَنْ يقول عالِمُهُم (¬10): "لأَنْ أُطْلَى بقَطِرَانٍ أَحَبُّ إليَّ من أنّ أُصبِحَ مُحرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا" (¬11). واختلف العلّماء في هذا الحديث على أربعة أقوال: - فمنهم من قال: كان ذلك خصوصًا للنّبىِّ عليه السَّلام. قلت: وهذا حسنٌ قويٌّ في النَّظر (¬12)، وذلك أنّ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - فيما روي عنه من الآثار، وقامت عليه الأدلَّة من سائر الأخبار، أنّه قال: "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ (¬13) ... " (¬14) ¬
الحديث (¬1)، فذَكَرَ الطّيب. قلت: أدخلَ اللهُ حبّها في قلبه، خصَّه بكلِّ واحدة منها بفرضه. وأمّا الصَّلاة فأفردها بقيام اللَّيل (¬2). وأمّا النِّكاح فافرده بالزِّيادة في العدد (¬3). وبإسقاط الصَّداق في الموهوبة (¬4). وبالاستغناء عن الوَلِيِّ والشّهود (¬5). وخصَّه بالطَّيبِ، فإنَّ تطيِّبَه (¬6) وهو مُحْرِمٌ ليكمل له المتاع بما يحب في كلِّ حال. وقد تكلَّمنا على هذا الحديث بالاستيفاء في "الكتاب الكبير" فلينظر هنالك. - القول الثَّاني- ومنهم من قال: إنَّ ذلك الطِّيب الّذي كانت عائشة تدهن به رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إنّما كان طِيب لَونٍ لا طِيبَ رِيحٍ، وقد رُوِيَ ذلك في الآثار (¬7). وقد تفطَّنَ له مالك بثقابة ذهنه، فذكر الحديث في أوَّل الباب (¬8) ثم قال في آخره (¬9): لا بأسَ أنّ يَدَّهِنَ الرَّجُلُ بدُهْنٍ ليس فيه طِيبٌ. - الثَالث- ومنهم من قال: كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يتطيَّب، ثمَّ يطوف على نسائه، ثمّ يغتسل من الجنابة، ويغتسل للأحرام، فيبقى وبيص (¬10) الطِّيب وبرقه ونضارته، ويذهب عينه. ¬
باب مواقيت الإهلال
وكذلك رُوِيَ في الحديث: "كنتُ أطيّب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، ثمّ يطوفُ على نسائه، ثم يغتسل ويُحرِم" (¬1). - القول الرَّابع: ومنهم من قال: هذا منسوخٌ ومخصوصٌ بالحديث الصَّحيح الّذي قطعه مالك في "المُوَطّأ" (¬2) وأَسنَدَه في الصّحيحين (¬3) وفي كلِّ كتابٍ؛ قول النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للأعرابي: "انْزِغ قميصك واغْسِل عنك الطِّيب" أو قال: "أَثَر الطِّيب " أو "الصُّفْرَة". فتعارض هاهنا على هذا الوجه قولُه وفعلُه، فوجب الرّجوع إلى قوله؛ لأنّه قاله في حالة فعله، وهذه نُكْتَةٌ بديعة فافهموها (¬4). باب مواقيت الإهلال مالك (¬5)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يُهِلُّ أهلُ المدينة من ذي الحُلَيْفَة ... " الحديث. الإسناد (¬6): أمّا قول ابن عمر: بلغني أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يُهِلُّ أهل اليمن (¬7) من يَلَمْلَم" (¬8)، فهو مُرْسَل الصَّاحب عن الصَّاحب، وهو عندهم كالمُسْنَدِ سواء في وجوب الحُجَّة. ¬
وقد ذكره أبو داود (¬1) بإسناده (¬2) عن ابن عبَّاس، قال: "وَقَّتَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لأهل اليمن يَلَمْلَم ... " الحديث (¬3). الأصول (¬4): قال الإمام: ثبتَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - حدّدَ المواقيت، فلمّا كان في زمن عمر وفتح الله العراق، شَكَوْا إليه أنّ نجدًا جَوْرٌ عن طريقهم، فَوَقَّتَ لهم ذات عرق (¬5) (¬6). وهو دليل على صِحَّةِ القول بالقياس، كما قال جميع العلّماء، وعلى صِحَّةِ القول بالمصلحة كما قال مالك، وقد بيَّنَّا ذلك في "أصَول الفقه". إشارة (¬7): كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إذا أحرمَ أحرم بالقول، وقد عَلَّم في التَّلبية: "لبّيك (¬8) اللَّهُمَّ لبَّيك" (¬9)، والدّاعي بالحجِّ إبراهيم. الفقه في خمس مسائل: الأولى: قال علماونا (¬10): للحجِّ ميقاتان: ميقاتُ زمان وابتداؤه شوّال. وميقات مكانٍ، وهي المواضع المذكورة في هذا الحديث المتقدِّم. والمواقيت كلّها متَّفَق عليها، إِلَّا ميقات أهل العراق، فإنّه اختلف العلّماء فيه، ¬
وفيمن وقت (¬1) لهم. فقال (¬2) مالك (¬3) والشَّافعىّ (¬4) وأبو حنيفة (¬5): ميقاتُ أهل العراق وناحية (¬6) المشرق كلّها ذات عِرْق، وهو قول سائر العلّماء. وقال جابر (¬7) وعائشة (¬8): وقَّت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لأهل العراق ذات عِرْق. وقالت طائفة: عمر هو الّذي وَقَّت لأهل العراق ذات عِرْق (¬9)؛ لأنّ العراق في زمانه افتتحت، ولم يكن فتح (¬10) العراق على (¬11) عهد رسول الله (¬12) - صلّى الله عليه وسلم -. وقال علماؤنا: هذه غَفْلَةٌ من قائل هذا الحديث، بل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هو الّذي وقَّت لأهل العراق ذات عِرق والعقيق (¬13)، كما وقّت لأهل الشَّام الجُحْفَة (¬14)، والشَّام كلها يومئذِ دار (¬15) كُفْر، فَوَقّت المواقيت لأهل النّواحي؛ لأنّه علم أنّه ستُفْتَح على أمَّتِه الشَّام والعراق وغيرهما من البلدان. ¬
المسألة الثَّانية: وكره مالك أنّ يُحرِم أحدٌ قبل الميقات، ولا يجوز (¬1) عند مالك دخول مكّة بغير إحرامٍ (¬2). وقال الزُّهري: يجوز له أنّ يدخل مكّة بغير إحرامٍ (¬3). والدليل لمالك: أنّ هذا قاصدٌ إلى مكّة لا يتكرَّر دخولُه إليها، فلزمه (¬4) الإحرام كالنّافذ (¬5) للنُّسُك. واستدلّ الزُّهري بحديث أنّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دخل مكّة عام الفتح وعلي رأسه المِغْفَر (¬6)، فلو (¬7) كان حرامًا لما كان على رأسه المِغْفَر. الجواب: أنّه قد يجوز للضّرورة، ولا ضرورة أشدُّ من الحاجة إلى التّوقِّي (¬8) من الحرب، وهو - صلّى الله عليه وسلم - إنّما دخلها عنوةً، ولو سُلِّمَ له ذلك لكان أمرًا مختصًّا به، وقد قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّ الله حَرَّمَ مكَّةَ، فلا تحلّ لأَحَدٍ بعدي ... " إلى قوله: "وقد عادَت حُرمتُها اليوم كحُرمتُها بالأمس" (¬9). فرع (¬10): فإن دخل مكَّة بغير إحرام، فقد رَوَى عبد الوهّاب (¬11) أنَّه أساءَ ولا فِدْيَةَ عليه؛ لأنّ دخوله محل الفَرْضِ لا يُوجِب الدُّخول في الفَرْض، كدخول مِنًى وعَرَفَة. ¬
باب العمل في الإهلال
فرع آخر (¬1): ومن سلك طريقًا إلى مكّة وهو لا ينوي أنّ يبلغها، فلمّا جاوز الميقات نَوَى دخول مكَّة، أجزأه (¬2) أنّ يُحْرِم من حيث نَوَى ذلك، ولا يرجع إلى الميقات (¬3)؛ لأنّه إنّما قصد مكّة من حيث أَحرَمَ. باب العمل في الإهلال مالك (¬4)،عن نافع، عن ابن عمر؛ أنّ تَلْبِيَةَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ". الإسناد: قال أبو عمر (¬5): هكذا رواه الرُّواة عن مالك (¬6)، وكذلك رواه نافع (¬7) أيضًا. وفي حديث أبي هريرة زيادة؛ "لَبَّيْكَ إلَه الْخَلْقِ" (¬8). قال الإمام: وأجمع العلّماء على القول بهذه التَّلبية، واختلفوا في الزِّيادة فيها. فقال مالك: أكره أنّ يُزادَ على تلبية رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬9). ¬
وهو (¬1) أحد (¬2) قولي الشّافعيّ (¬3)؛ أنَّه لا يزاد على تلبية رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، إلّا أنّ يرى شيئًا يُعجبُه، فيقول: لبَّيْكَ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخرة. قال أبو عمر (¬4): ومَن زاد في التَّلبية ما يحلُّ ويحمُلُ (¬5) من الذِّكْر الحَسَنُ فلا بأس به، ومَنِ اقتصر على تلبية رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فهو أفضل عندي. الفقه في ثمان مسائل: الأولى (¬6): قوله (¬7): "إنَّ تَلْبِيَةَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -" يريد (¬8) الّتي كان يواظب عليها؛ ولذلك نسبَها إليه، ومواظبتُه - صلّى الله عليه وسلم - عليها على سبيل الاختيار، لا على سبيل الوجوب، ولذلك زاد فيها ابن عمر، وبأيِّ لفظٍ يأتي المُلَبِّي أجزأه. المسألة الثَّانية (¬9): والتَّلبيةُ في الحجِّ مسنونةٌ غير مفروضة، قال ذلك ابن الجلّاب في "تفريعه" (¬10) ومع ذلك عندي إنها ليست من أركان الحجِّ، وإلّا فهي (¬11) واجبة، ولذلك يجب الدّم بتركها. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "كان يصلِّي في مسجد ذي الحُلَيْفَة" هذا اللَّفظ إذا أطلق في الشّرع اقتضى ظاهرُهُ بعُرْفِ الاستعمال النّافلة، وهو المفهوم من قولهم: صلّى فلان ركعتين، وإن كان قد رخوِيَ أنّ الصّلاة الّتي صلّاها كانت صلاة الفجر (¬3). وقد اختار مالك أنّ يكون إحرامه بِإثْر صلاة نافلة؛ لأنّه زيادة خير. وقد كان الحسن (¬4) يستحبّ أنّ يكون (¬5) بإثْر صلاة فريضة (¬6). المسألة الرَّابعة (¬7): فإن لم يحرم بإثر نافلة وأحرم بإثر فريضة أجزأة. فإن وَرَدَ الميقاتَ في وقت لا تجوز صلاة النَّافلة فيه، وليس بوقت فريضة، فالأفضلُ أنّ ينتظر وقتَ جواز الصَّلاة، إِلَّا أنّ يخاف فَوَاتًا أو عُذْرًا. فإن أحرم ولم ينتظر ذلك أجزأه؛ لأنّ ذلك مندوبٌ إليه وليس بواجبٍ ولا شرطٍ في صحّة الإحرام. المسألة الخامسة (¬8): قال الإمام: العلّماء يتأوَّلون القرآن في قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬9) قالوا: الفَرْضُ التَّلبية، قاله عطاء (¬10) وعِكرِمَة. وعن (¬11) ابن عبَّاس؛ أنَّ الفَرْضَ الإهلال والتَّلبية (¬12). ¬
المسألة السَّادسة (¬1): اختلفت (¬2) الآثار في المواضع الّتي ألزم فيها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الحجّ (¬3) من أقطار ذي الحُلَيْفَة: فقال قوم: من المسجد مسجد ذي الحُلَيْفَة بعد أنّ صلَّى فيه. وقال آخرون: لم يحرم إِلَّا بعد أنِ استوتْ به راحِلَتُه، وقد صحّ عن ابن عبَّاس المعنى في اختلافهم موضوحًا (¬4). وفيه دليلٌ أنّ الاختلاف في القول والأفعال جميعًا والمذاهب (¬5)، كان ذلك في الصّحابة (¬6)، وإنّما وقع الاختلاف بين الصّحابة بالتَّأويل، فيما نقلوه وانفرد (¬7) بعِلمِه بعضهم دون بعض. المسألة السَّابعة (¬8): قوله (¬9): "فإذا اسْتَوَتْ به راحِلَتُهُ" يريد بعد أنّ استوت به راحلته قائمة (¬10). وذهب مالك (¬11) وأكثر الفقهاء إلى أنَّ المستحبّ أنّ يُهِلَّ الرَّاكب إذا استوت به راحلتُه قائمة، على لفظ الحديث. ¬
وقال أبو حنيفة: يُهِلُّ عَقِبَ الصَّلاة إذا سَلَّم منها (¬1). وقال الشَّافعىّ (¬2): يُهِلُّ (¬3) إذا أخذت (¬4) به راحلته (¬5). الدَّليل لمالك: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أهلَّ حين استقلتْ به راحلَتُه قائمةً (¬6)، والله أعلم. العربيَّة (¬7): قوله (¬8): "اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ" هو مصدرٌ مثَّنى للتكثير والمبالغة (¬9)، ومعناه: إجابة لك بَعْدَ إجابة، ولزومًا لطاعتك، فتثنيّته للتَّأكيد (¬10) لا تثنية حقيقة (¬11) بمنزلة (¬12) * قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬13) أي نعمتاه، على تأويل اليد ها هنا على النعمة، ونعم الله لا تحصى* (¬14). ويونس بن حبيب (¬15) من أهل البصرة يذهب في لبَّيْك إلى أنَّه اسمٌ مفردٌ وليس بمثنّى، وأن الألْف إنّما تُقْلَب ياءًا (¬16) باتصالها بالمُضمَر على حدّ لَدَى وعلى مذهب سِيبَوَيْه (¬17) ¬
أنّه مثنّى، بدليل قلبها ياءًا مع المُضْمَر (¬1)، وأكثر النَّاس على مذهب سِيبَوَيْه. وقال ابنُ الأنباري (¬2): "ثَنّوا (¬3) "لبَّيْك" كما ثَنّوا (¬4) "حنانيك"، أي تحنينا بعد تحنين (¬5). وأصل لبَّيْك: لبيك، فاستثقلوا الجمعَ بين ثلاث باءات، فأبدلوا من الثّالثة ياءً كما قالوا في الظَّنِّ: تظنَّيت، والأصل: تظَنَّنت، والأصل: تظَنَّنت، قال الشاعر (¬6): يذهَبُ بِي في الشِّعرِ كلَّ فَنِّ ... حتَّى يردَّ عني التَّظَنِّي أراد التَّظنُّن. واختلف العلّماء من أهل اللُّغة في معنى "لَبَّيْك". فقيل: اتِّجاهي (¬7) وقصدي إليك، مأخوذ* من قولهم: داري تُلِبُّ دارَكَ، أي تواجهها. وقيل: معناها محبتي لك، مأخوذ* (¬8) من قولهم: امرأةً لَبَّةٌ، إذا كانت مُحِبَّةٌ لولدها عاطفةٌ عليه. الثّالث - قيل: معناها إخلاصي لك، مأخوذ من قولهم: حَسَبٌ لباب (¬9)، ومن ذلك لُبُّ الطّعام ولُبابُه. الرَّابع - قيل (¬10): معناها أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: قد ¬
لبَّ الرَّجُل في المكان، إذا أقام فيه ولزمه. قال ابن الأنباري (¬1): وإلى هذا القول كان يذهب الخليل والأَحْمَر (¬2). وأمّا قوله (¬3): "فإنّ الحَمدَ والنِّعمةَ لك" يُرْوَى بكسر الهمزة وبفتحها، قال ثعلب: الاختيار كسر "إنَّ" وهو أجوَد (¬4) من الفتح؛ لأنّ الّذي يكسر "إنَّ" يذهب إلى أنّ المعنى: إِن الحمدَ والنِّعمةَ لك على كلِّ حالِ. والذي يفتحها يذهب إلى أنّ المعنى: لَبَّيْكَ لأنّ الحمد لك، أي لَبَّيْكَ لهذا السبب (¬5). ويجوز "والنِّعمَةُ لَكَ" بالرَّفع على الابتداء، والخيرُ محذوفٌ تقديره (¬6) إنَّ الحمدَ لك والنِّعمةَ. قال ابنُ الأنباريّ (¬7): إنَّ شئت جعلت خبر إنَّ محذوفًا، ويجوز فتح إنَّ وكسرها في قوله: "إنَّ الحمدَ" والكسر أحبّ إليَّ. وأمّا "الرّغباء إليك" فيُروَى بفتح الرّاء والمدِّ، وبضمّ الرَّارء والقصر (¬8). خاتمة (¬9): وأمّا التَّلبية، فإنّ أبا حنيفة يراها واجبة (¬10)، ومالك (¬11)، والشَّافعىّ (¬12) لا ¬
باب رفع الصوت بالإهلال
يُوجبانها. واختلفوا فيها إذا لم يأت بها: فعند مالك يلزمه (¬1) الدّم (¬2)، والشَّافعىّ لا يرى بتركها دمًا. باب رَفْعُ الصَّوتِ بالإهلال الإسناد: الحديث الأوّل حديثُ جبريل (¬3)، وفي حديث أَبي قِلَابَة (¬4) قال (¬5): "سمعتُهُم يَصْرُخُونَ بهما جميعًا" (¬6). العربيّة: قولُه: "الإهلال" يقال: أهلَّ فلان، إذا رفع صوته بالتّلبية. وقال ابنُ قُتَيْبَة (¬7): "هو إظهار التَّلبية، ومنه قيل: استهلّ الصَّبيُّ إذا صرخَ". وأهل: إذا واصل الاهلال والتَّكبير. والتَّهليل: هو تفعيلٌ من هلّل وكبّر. والصُّراخ: الصّياح. وقوله (¬8): "كان ابن عمر يَرْفَعُ صوتَه بالتَّلبية، فلا يأتي الرَّوْحَاءَ (¬9) حتَّى يَصْحَلَ صَوْتُه". ¬
قال الخليل (¬1): "صَحِلَ صَوْتُهُ صحلًا، فهو أَصْحَلُ، إذا كانت فيه بُحَّةٌ" (¬2). الفقه في ستّ مسائل: الأولى (¬3): قوله (¬4): "أَتَانِي جِبرِيل" هو إخبار منه أنّ هذا ممّا أتاه به جبريل ولم يقتصر فيه على اجتهاد. وقوله (¬5): "أنّ آمُرَ أَصْحَابِي أو مَنْ معي" الشَّكُّ من الرَّاوي، ومَنْ معه هم أصحابُه، لا سيّما (¬6) على ما ذهب إليه جمهور أصحاب الحديث، فإنّهم يقولون: فلان له صُحْبَة، وإن لم يكن رأى النَّبيَّ -عليه السّلام- إِلَّا مرَّة واحدة. وأمّا القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب، فذهب إلى أنَّ للصُّحْبة مزيَّة على الرُّؤية، وأنَّ اسم الصَّحابىّ إنّما يُطلَق على من صحِبَ النَّبيّ -عليه السّلام- وكان معه، وجميعُ من حَجَّ مع النَّبيِّ -عليه السّلام- فقد صَحِبَه في طريقه وحَجِّه (¬7). وما قاله أبو بكر بن الطَّيِّب أصح (¬8) من جهة اللُّغة، على أنّ المشهور عند أصحاب الحديث (¬9) ما قدَّمناه. المسألة الثَّانية: قوله (¬10): "أنّ يرفَعُوا أصواتَهُم بالتَّلبية" فيه الأمر بالتَّلبية، وأمرٌ برفع الصّوت بها. فأمّا الأمر بها فإنّها (¬11) من شرائع الحجِّ، وممّا لا يجوز للحاجّ تركها في جميع ¬
نُسُكِهِ (¬1)، عامدًا أو غير عامدٍ، فعليه الدَّم. وقال الشّافعيّ: لا دَمَ عليه. والدليل على ما نقوله: أنّ هذا ترَكَ واجبًا في الحجِّ، فلم يسقُط عنه وجوبه إلى غير بَدَلٍ، كالمبيت بالمُزْدَلِفَة. فإن سلَّموا وجوبَ التَّلبية، وإلَّا فالحديث حُجَّةٌ عليهم؛ لأنَّ ظاهر الأمر الوجوب. المسألة الثَّالثة (¬2): وأمّا رفع الصّوت بها، فوجهه: أنّ التَّلبية (¬3) من شعائر الحجِّ، فكان من سنّتها الإعلان، ليحصلَ المقصودُ منها كالأذان. وليس عليه أنّ يرفع صوته حتّى يشقّ على نفسه، ولكن على قَدْر طاقته، وليس على المرأة ذلك لأنّها عورة (¬4). المسألة الرَّابعة (¬5): قوله (¬6): "لا يرفعُ صوته في مساجد الجماعات" هو كما قالا، إنّه لا يرفع صوتَه بالإهل الّذي غير مسجد مِنىً والمسجد الحرام، وذلك هو المشهور من مذهب مالك (¬7). ورَوَى ابنُ القصّار (¬8)؛ أنَّ ابنَ نافع، رَوَى عن مالك؛ أنَّه قال (¬9): يرفع صوتَه ¬
في المساجد الّتي بين مكَّة والمدينة. قال (¬1): هذا وفاق (¬2) للشَّافعىّ في أحد قَوْلَيْهِ (¬3)، وله قول ثان (¬4): أنّه يستحبُّ رفع الصَّوت في سائر المساجد. ووجه قول مالك: أنّ المساجد مبنيَّة للصّلاة ورفع الصَّوت بألقرآن، فلا يصحّ رفع الصوت صبها (¬5)؛ لأنّه لا يتعلّق شيءٌ منها بالحجِّ، وأمّا المسجدُ الحرام ومسجد الخَيْفِ، فللحجَّ اختصاص بهما من الطّواف والصّلاة أيام مِنًى. المسألة الخامسة (¬6): قال علمائنا (¬7): وتُستَحَبُّ التَّلبية* (¬8) دُبُرَ كلّ صلاة؛ لأنّ ذِكْرَ الله مشروعٌ بإثر (¬9) الصَّلوات، فَيُستَحَبُّ للحاجّ أنّ يكون ذِكْرُهُ ما يختصّ به وما هو شعارُهُ وهو التَّلبية، وهذا حُكم الصّلوات المفروضة والمسنونة والنافلة، رواه ابن المَوَّاز عن مالك. المسألة السَّادسة (¬10): وقوله (¬11):"على كلِّ شَرَفٍ منَ الأَرْضِ" يريد ما ارتفع منها. وقال الّذي "الواضحة": عند كلِّ وادٍ، وعند تلقّي النَّاس، وعند اصطلام (¬12) ¬
باب إفراد الحج
الرِّفاق، وعند الانتباه من النّوم (¬1). وإنّما يريد بذلك: أنّ هذه الأحوال الّتي تُقْصَدُ بالتَّلبية؛ لأنّها شعار الحاجّ (¬2)، فشُرعَ له الإتيان بها والإظهار لها عند التَّنَقُّل من حالٍ إلى حالٍ. باب إفراد الحجّ مالك (¬3)، عن أبي (¬4) الأسود، عن عائشة؛ أنّها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عامَ حَجَّةِ الوَدَاع، فِينَا (¬5) مَنْ أهلَّ بالعُمْرَةِ، ومنَّا من أهَلَّ بالحجَّة (¬6)، وأَهَلَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بالحجِّ ... الحديث (¬7). الإسناد: قال القاضي: تعارضتِ الأحاديثُ ها هنا؛ لأنّهم (¬8) اختلفوا فيما كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - له محرمًا في خاصَّة نفسه عام حَجَّة الوداع. فأمّا مالك، فأخذ بحديث عائشة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الحجّ (¬9)، ورُوِيَ ذلك عن أبي بكر، وعمر (¬10)، وعثمان (¬11)، وعائشة (¬12)، وجابر (¬13). ¬
الأصول (¬1): رَوَى محمّد بن الحسن، عن مالك؛ أنَّه قال: إذا جاءنا عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - حديثان مختلفان، وبلغنا أنّ أبا بكرٍ وعمرَ عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان ذلك دلالة على أنَ الحَقَّ فيما عملا به. فالإفراد عند مالك أفضل (¬2). وقال آخرون: القِرَانُ أفضل، وهو أحبّ إليهم، منهم أبو حنيفة (¬3). الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: قولها (¬4): "خرجنا مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عامَ حَجَّةِ الوداع". وهو عام عشرة من الهجرة، ولم يحجّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من المدينة غير هذه الحَجَّة، وحج أبو بكر بالنّاس عام تسعة، ولذلك سُمِّيت حجّة الوداع؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وَعَظَهُم فيها وودَّعَهُم. المسألة الثَّانية (¬5): اختلفت أجوبة العلّماء في هذه المسألة على أربعة أقوال: فكان أوّل من تكلّم عليه (¬6) الشّافعىّ في "كتاب مختلف الحديث" (¬7) له، وهو ¬
كتابٌ حَسَنٌ، فتح (¬1) فيه الطريقة، وكشف الحقيقة، ولم يكن من بابه. وأمّا الطَّحاويّ، فتكلَّم عليه في ألف وخمس مئة ورقة (¬2)، قرأتُها، فإذا فيها كلام يتعلّق بالفقه الّذي كان بابه، وكان منه تقصيرٌ في غيره. وأمّا التحقيق فيها، فلا يوصل إليه إِلَّا بضبط القوانين، وفيهما الأصول وحمل الفروع عليها بعد ذلك، وقد بيَّناه في "القانون" (¬3). المسألة الثَّالثة (¬4): قال الشّافعيّ (¬5): وجهُ الجمع بين هذه الأحاديث، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أفرد الحجَّ فِعْلًا، وغيره بما (¬6) نسبَ إليه أنَّه فعله إنّما معناه: أمر به، والآمرُ تَعُدُّه العرب فاعلًا، وتخبرُ به عن الفعل، تقول: رجم الحاكمُ الزّاني، وقطع اللِّصَّ، لمّا أمر به وإن لم يتناوله. وهذا التَّأويل وإن كان يحسنُ في مواضع، فليس هذا منها؛ لأنّ ظواهر الأحاديث المتقدِّمة تدفعه، فتأمّلوها. وقال آخر: كان أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في إحرامه موقوفًا، حتّى بَيَّنَ اللهُ له كيف يكون فيه، وروى في ذلك أثَرًا (¬7). وأتْقَنَ علماؤنا المتأخِّرون الجواب فقالوا: إنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لمّا أمره اللهُ بالحجّ أحرمَ، ثمّ انتظر الوحي بكيفية الالتزام وصورة التّلبية، فلم يزل - صلّى الله عليه وسلم - يُلَبِّي، ¬
فاعتبر (¬1) ظاهر ما أُمِرَ به، فقال: "لَبَّيْكَ بحَجَّةٍ" فسمعه جابر وعائشة، فسمعا الحقّ ونقلا الحقّ. وانتظر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يُقَرَّ على ذلك، أو يبيّن له فيه شيء، فلم يكن، فقال: "لبَّيك بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ" (¬2) فسمعه أنس وهو تحت راحلته، فسمع الحقّ ونقل الحقّ. وسار النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على هذه الحالة حتّى نزل وادي العقيق، فنزل عليه جبريل وقال له: "صلِّ في هذا الوادي المُبَارَك، وقُلْ: عُمْرَة وحَجَّة" (¬3) فكشف له قناع البيان عن القِرَانِ، فاستمرّ عليه، والتزم من ذلك ما لزمه، ومرَّ حتّى دخل مكّة، فأمر أصحابه أنّ يفسخوا الحجّ إلى العمرة. المسألة الرّابعة (¬4): أمّا مالك (¬5) والشّافعىّ (¬6) فقالا: الافراد أفضل؛ لأنّه هو المفروض، وتخليص الفَرْض من السُّنَّة، أو عن (¬7) فَرْض آخر يُمزَج معه أَوْلَى. وأمّا أحمد بن حنبل (¬8) وجماعة (¬9) فقالوا: التّمتُّعُ أفضل، لما ثبت عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَوِ استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعلتُها عُمْرَةً" (¬10) فتمنَّى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يكون متمتِّعًا، ولا يتمنَّى إِلَّا الأفضل. قلنا: ولا يفعل إِلَّا الأفضل، فكيف يُفَوِّتُه اللهُ تعالى الأكمل ويردَّه إلى الأدون! وأمّا قولهم: إنَّ في الحديث: "تمتَّعَ رسولُ اللهُ - صلّى الله عليه وسلم -" فقد احتجُّوا به (¬11). قلنا: المراد بقوله: "تَمَتَّعَ" جمع بين الحجّ والعمرة، وهو متاعٌ، ولم يرد ¬
باب القران بالحج
به (¬1) المتعة المطلقة؛ لأنّه قد تمنّاها، ولو كان فيها ما تمنّاها. الفوائد المطلقة: وهي ثلاث: الأولى: فيه خروج النِّساء في سفَر الحجّ مع أزواجهنّ، ولا خلاف في ذلك بين العلّماء، وإنّما اختلفوا في المرأة لا يكون لها* (¬2) زوج ولا ذو محرم منها، هل تخرج إلى الحجّ دون ذلك مع النِّساء أم لا؟ ويأتي ذكره في موضعه من هذا "الكتاب" إنَّ شاء الله. الفائدةُ الثَّانية: فيه إفراد الحجّ، وإباحة التَّمتُّعُ بالعمرة إلى الحجّ، وإباحة القِرَان، وهو جمعُ الحجِّ والعمرة، ولا خلاف بين العلّماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأفضل من ذلك، كما بيّناه قبل. وتكلم القابسىّ (¬3) في مسألة الإفراد والقِرَان والتَّمتُّعُ، وقال: هذه مسألة عظيمةٌ، اختلف النَّاس فيها، وأنا أحسّ صداعًا في رأسي اليوم، وسأنظر إنَّ شاء الله فيها، فما رؤي حتّى لقي الله عَزَّ وَجَلَّ. باب القِرَان بالحَجِّ مالك (¬4)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه؛ أنّ المِقدَادَ بن الأسود دخل على علي بن أبي طالب بالسُّقْيَا، وهو يَنْجَعُ بَكرَاتٍ له دقيقًا وخَبَطًا، فقال: هذا عثمانُ بن عفّانَ ينهى أنّ يُقْرَنَ بين الحجِّ والعمرة. فخرج علىّ (¬5) رضي الله عنه وعلى يديه أثَرُ ¬
الدَّقيقِ والخَبَطِ ... الحديث. الإسناد (¬1): قال الإمام (¬2): هذا حديثٌ مقطوعُ السَّنَد؛ لأنّ محمدَ بن عليّ بن حسين أبا جعفر لم يُدرِكه المِقْدادَ ولا عليًّا. وقد رُوِيَ متَّصلّا مُسْنَدًا من وجوه صحَاحٍ ذَكَرَها النِّسائيّ (¬3) وغيره (¬4). العربيَّة (¬5): قولُه: "السُّقْيَا" هو موضع (¬6). يَنْجَعُ ويُنْجِعُ لغتان (¬7)، معناه: يُلْقِمُ بَكَرَاتٍ له خَبَطًا (¬8). والبَكَرَاتُ: النُّوقُ الفتيَّة. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬9): أمّا قوله (¬10) في القِرَان، فلا خلافَ بين العلّماء أنّ القارِنَ لا يحلُّ إِلَّا يوم النَّحر، فإذا رَمَى جمرةَ العَقَبة، حلَّ له الحلاقُ وألقَى التَّفَثَ كلّه، فإذا طافَ بالبيتِ حلَّ له الحلّ (¬11). ¬
المسألة الثَّانية (¬1): وقوله (¬2): "حتّى يَنحَرَ هديًا إنْ كان معَه" يريد: أنّ القارِنَ إذا لم يهد (¬3) الهَدْيَ، فحُكمُه حُكمُ المتمتِّع في الصِّيام وغيره، وإحلالُه بعد رَميِ جمرة العَقَبَة كما وصفت لك. المسألة الثّالثة (¬4): قول علىّ (¬5):لَبَّيْكَ بعُمرَة وحَجَّة" (¬6) فقدَّمَ العمرة في اللَّفظ والنِّية، وبه قال مالك (¬7). واحتج ابن المواز في ذلك بأن قال: العمرة يَرْدُفُ عليها الحجّ، ولا تَرْدُفُ هي على الحجّ. * ووجه ذلك: أنّ العمرة لمّا صحّ إردافُ الحجّ عليها، ولم يصحّ إردافها على الحجّ* (¬8)، فاختير تقديمها على ذلك في النّية، لصحّة ورود الحجّ على الإحرام بها. وقد رُوِيَ هذا الحديث بلفظ تقديم الحجّ. وقال ابن حبيب: إنَّ عليًّا كان مُهِلًّا بعُمْرَة، فلما سمع من عثمان ما سمع، أردف عليها حجّة. وتقديم العمرة في لفظ الحديث أصحّ من جهة الرِّواية ومن جهة المعنى، والله أعلم. فإن قدَّم الحجّ في اللًفظ، فقد قال الأبهريّ (¬9) في "شرحه" (¬10): يجزئه، ¬
باب قطع التلبية في الحج
ومعنى ذلك أنّه نواهما جميعًا. المسألة الرّابعة (¬1): اختلفت الروايات عن مالك في الوقت الّذي يجوز فيه إرداف الحجّ. فقال في الحديث (¬2): "ذلك له ما لم يَطُفْ بالبيت وبين الصَّفا والمروة". وقال ابنُ القاسم: ذلك له ما لم يكمل الطّواف، فإذا طات وركع الركعتين لم يكن قارنًا. وقال أشهب وابن عبد الحَكَم: له ذلك ما لم يشرع في الطّواف. وقد حكى عبد الوهّاب (¬3) هذه الثّلاثة الأقوال رواية عن مالك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إدخال الحجّ على العمرة قبل الطّواف لها (¬4). باب قطع التَّلبية في الحجّ الإسناد: الأحاديث (¬5) صِحَاحٌ في هذا الباب. الفقه في أربع مسائل: الأولى (¬6): اختلف النَّاس سَلَفًا وخَلَفًا في هذه المسألة: ¬
فرُوِيَ عن أنَس بن مالك في "الموطَّأ" (¬1)، ورَوَى ابن عمر في غير "الموطَّأ" مرفوعًا (¬2) حديث أنس (¬3) بن مالك. المسألة الثّانية (¬4): قوله (¬5): "حتّى إذا زاغَتِ الشَّمسُ من يوم عَرَفَةَ، قَطعَ التَّلبِيَة" وهذا يحتمل أنّ يفعلَه استحبابًا، وقد اختلف قول مالك فيما يستحبّ من ذلك: روى عنه ابنُ المَوَّاز؛ أنّه يقطع إذا زاغت الشّمسُ (¬6). وروى عنه ابن القاسم؛ أنّه يقطع إذا راح إلى المُصَلَّى (¬7). ورُوِيَ عنه (¬8)؛ أنّه يقطع إذا وقف بعَرَفة. وقال أبو حنيفة (¬9) والشّافعىّ (¬10): لا يقطع التّلبية حتّى يرمي جَمْرة العَقَبة يوم النَّحر. وحُجة مالك (¬11): أنّ عائشة رضي الله عنها كانت إذا توجّهت إلى الموقف تركت الإهلال (¬12)، وكانت أعلم النَّاس بأفعال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -، وأنّها حجّت معه حجَّة الوداع. المسألة الثّالثة (¬13): اختلف العلّماء في التَّلبية في الطّواف للحاجّ، فكان رَبِيعَة يُلَبِّي إذا طاف بالبيت ¬
باب إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم
ولا يرى بذلك بَأسًا، وبه قال الشّافعيّ (¬1)، وابن حنبل (¬2). وكرهه مالك (¬3)، وهو قول سالم بن عبد الله (¬4). وقال ابن عُيَيْنَة: ما رأيت أحدًا يُقتَدَى به يُلَبِّي حول البيت إلّا عطاء بن السّائب. وما اختاره مالك هو الصّواب (¬5). باب إهلال أهل مكّة ومَنْ بها من غيرهم الإسناد: الأحاديث (¬6) في هذا الباب صِحَاحٌ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬7): قول مالك (¬8) في هذا الباب: "إنَّ المكّي لا يخرجُ من مكَّةَ للإهلال، ولا يهلُّ إلّا مِن جَوْفِ مكَّةَ" هو أمرٌ مجتمعٌ عليه لا خلاف فيه. المسألة الثَّانية (¬9): قال عمر بن الخطّاب (¬10) لأهل مكّة: "ما بالُ النَّاسِ يأتونَ شُعْثًا وأنتم مُدَّهِنُون؟ " إنكارًا منه على الحاجّ؛ لأنّ من سُنَّتِه بعَرَفَة أنّ يكون أشعث، فأنكر على أهل مكّة أنّ تفوتَهم مثل هذه الفضيلة، فأراد أنّ يقدِّموا الإهلال من أوّل ذي الحِجَّة، ¬
ليبعث (¬1) عهدهم بالتَّرَجُّل والادِّهان، وياخذوا من الشَّعث بحظِّ وافرٍ، وهو الّذي اختاره مالك. المسألة الثّالثة (¬2): قوله (¬3): "أقام (¬4) بمكّة تسعَ سنينَ" تعلَّق مالك في هذه المسألة -مع ما تقدَّم- بفعل ابن الزُّبير بحضرة الصّحابة والتّابعين، وهو الأمير الّذي يشهر فعله ولا ينكر عليه أحدٌ، ولا يثابر (¬5) -مع دينه وفضله- إِلَّا على ما هو (¬6) الأفضل عنده، ووافقه على ذلك أخوه عُرْوَة مع علمه ودينه، وعلى هذا كان جمهور الصّحابة. المسألة الرّابعة (¬7): قوله (¬8): "إنّما يُهِلُّ أهلُ مكّةَ" ومعنى ذلك أنّ المُهِلَّ بالحج من مكّة، من أهلها كان أو من غيرهم، فإنّه لا يُهِلُّ من الحرم؛ لأنّه (¬9) ليس لهم ميقاتٌ يمرّون به دون ما يحرمون منه. ووجه آخر: أنّ المُهِلَّ من الميقات متوجِّهٌ إلى (¬10) البيت بإحرامه من ميقاته، لِئَلَّا يَرِد عليه إِلَّا مُحْرِمًا، فمن كان عند البيت وفي الحرم، لم يكن له أنّ يخرج (¬11) منه للأحرام؛ لأنّ الّذي يُقصَد بالإحرام (¬12) قد صار فيه، ونُسُكُه (¬13) يقتضي الخروج (¬14) للوقوف بعَرَفَة، فلا معنى للخروج إلى الحِلِّ للإحرام. ¬
المسألة الخامسة (¬1): فإن أهلَّ أحدٌ منهم من الحِلِّ، فقد روى ابنُ القاسم عن مالك في "المدوّنة" (¬2) أنّه لا شيء عليه وإن لم يعد إلى الحَرَم، وهذا زاد ولم يُنْقص. وهذا عندي (¬3) فيمن عاد إلى الحَرَمِ ظاهرٌ، فأما من أهلّ من الحِلِّ (¬4) وتوجّه إلى عَرَفَة دون دخول الحرم، أو أهلِّ من عَرَفَة بعد أنّ توتجه إليها حلالًا مُريدًا للحجّ، فإنّه نقصَ ولم يَزِد، وإنّما يجب عليه الدّم على هذا القول؛ لأنّ مكّة ليست في حُكْم الميقات؛ لأنّ المواقيت إنّما وُقِّتَت لئلّا يدخل الْمُحُرِمُ إلى البيت إلّا بإحرام، فمن كان عند البيت، فليس له ميقاتٌ، بدليل أنّ العمرة لا يحرم منها (¬5)، والمواقيت يستوي الإحرام منها للحج (¬6) والعمرة (¬7). وقوله (¬8) "مَنْ أَهَلَّ من مكَّةَ بالحَجِّ (¬9) فليؤخِّرِ الطّوافَ" هو كما قال، وذلك أنّ الطّواف الّذي هو رُكْن من أركان الحجّ، إنّما هو طواف الإفاضة، وأمّا طواف الوُرود فلا، وإنّما هو للورود على البيت بالنُّسُك. وإنمّا، سُمِّيَ طواف الوُرود الطّواف الواجب؛ لأنّه واجبٌ على الورود (¬10)، وليس يجب بمجرّد الحجّ. ولو كان من أركان الحجّ لما سقط عمّن أحرم (¬11) من مكّة ولا عن المراهق. فإن أخّره الوارد (¬12) المدركُ: فقد قال ابن القاسم: عليه دم (¬13). ¬
باب ما لا يوجب الإحرام من تقليد الهدي
وقال أشهب: لا شيء عليه (¬1). باب ما لا يُوجِب الإحرام من تقليد الهَدْي الإسناد: هذا (¬2) حديثٌ صحيحٌ مُتَّفَق على صحّته ومَتْنه (¬3). الفقه في مسائل: الأولى (¬4): اختلف العلّماء في معناه: فقالت طائفة - منهم مجاهد (¬5)، وعطاء (¬6)، وابن جُبَير (¬7) -: إذا قلَّد الحاجُّ هديَهُ فقد أحرم، وحرم عليه ما يحرُمُ على الملبِّي، وكذلك إذا أَشْعَرَ هديَهُ. واختلفوا أيضًا في تحليله: فمنهم من قال: الإحلالُ كالتَّقليد والإشعار، ومنهم من أباه. وقال الآخرون: إذا نَوَى تقليد الحجّ والعمرة فهو مُحْرِمٌ وإن لم يُلَبِّ. وهذا كلّه عندهم فيما معنى قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬8) وكلّهم يستحِبُّ أنّ يكون إحرام الحجّ وتلبيته في حين تقليده الهَدْيَ وإشعاره. ذكر الفوائد المطلقة في هذا الباب: وهي خمس فوائد: ¬
الفائدةُ الأولى (¬1): في حديث عائشة هذا من الفقه؛ أنّ ابنَ عبّاس كان يرى أنّ من بعث هَدْيَه إلى مكّة (¬2) إذا قلَّده، أنّ يُحْرِمَ ويجتنبَ كلَّ ما يجتنبُهُ الحاجُّ حتّى ينحر هَدْيَه، وقد تابعه على ذلك ابن عمر (¬3) وطائفة منهم ابن (¬4) المسيَّب. الفائدةُ الثّانية (¬5): فيه من الفقه: أنّ أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كانوا يختلفون في المسائل وعلوم من السُّنِّة. الفائدةُ الثّالثة (¬6): فيه من الفقه: ما كانوا عليه من الاهتبال بأمر الدِّين والكتاب فيه إلى البلدان. الفائدةُ الرّابعة (¬7): فيه من الفقه: عملُ أزواج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بأيديهِن، وكذلك كان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يفعلُ ويمتهنُ في عمل بيته (¬8)، فربّما خاطَ ثوبَه، وخَصَفَ نعله (¬9)، وقلَّد هديَهُ المذكور في هذا الكتاب (¬10)، كلُّ ذلك يفعلُه بيده. الفائدةُ الخامسة: فيه من الفقه: أنّ تقليد الهَدْي لا يوجبُ على صاحبه الإحرامَ، ولهذا المعنى سبق له الحديث، وهذه حجّة عند التّنازع (¬11)، وقد اختلفوا في ذلك: ¬
باب ما تفعل الحائض في الحج
فقال مالك: ما ذكره في "موطّئه" (¬1)، وبه قال الشّافعيّ (¬2) وأبو حنيفة (¬3). باب ما تفعلُ الحائض في الحجِّ الأحاديث (¬4) في هذا الباب صِحَاحٌ. أمّا (¬5) قول ابن عمر (¬6) "وَلَا بَينَ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ" (¬7) فإنّما ذلك من أجل أنّ السّعي بين الصّفا والمَروَة موصولٌ بالطّواف لا فصل بينهما، والطّواف لا يكون عند الجميع إِلَّا على طهارةٍ، وإن كانوا قد اختلفوا في حُكْم مَنْ فعلَه على غير طهارة. ثمّ (¬8) لم يذكر حتّى ترجع (¬9) إلى بلده (¬10)، على ما نَذْكُرُه بعدُ إنَّ شاءَ الله. الفقه في أربع مسائل: الأولى (¬11): قوله (¬12): "إنَّ الحائض تُهِلُّ بحَجَّتِها أو عُمْرَتها" لأنّ الإحرام بالحجِّ والعُمْرَة لا يُنافي الحَيض والنِّفاس، ولا يُفْسِدان شيئًا منهما، ويفسدان الصّومَ والصّلاةَ لما كانا منافِيَين لهما. ¬
المسألة الثَّانية (¬1): قوله (¬2): "ولكن لا تطوفُ بالبيت، ولا بين الصّفَا والمَرْوَة" يريد أنّها وإن أحرَمت بالحجِّ، أو طَرَأَ عليها الحيضُ بعد إحرامها، فإنّها لا تطوف؛ لأنّ الطّواف ينافيه، ولذلك يُفسِدُه الحيضُ والنِّفاس؛ لأنّ من شرطه (¬3) الطّهارة كما قدّمناه. وكذلك يمنعُ السَّعيَ؛ لأنّه بإثْر الطّواف، فإذا لم يمكن الطّواف، لم يمكن السّعي؛ لأنّ من شرطه الطّهارة؛ لأنّه عبادة لا تعلُّق لها بالبيت، ولو طرأ الحيضُ على المرأة بعد كمال الطّواف، لكملَ (¬4) سعيُها. المسألة الثّالثة (¬5): قوله (¬6): "وتَشهَدُ المناسكَ كلَّها" يقتضي أنّها تفعلُها غير ما استثنى منها، فتقفُ بعَرَفَة والمُزدَلِفَة، وترمي الجمارَ، وتبيتُ بمنىً؛ لأنّ الطّهارة ليست بشرط في شيء من ذلك. المسألة الرّابعة (¬7): قوله (¬8): "وَلَا تَقْرَبُ المسجدَ حتّى تَطهُرَ" يريد أنّ الحائض لا تقرَب المسجد حتّى تَطهُر -أعني المسجد الحرام وغيره- ولا تبيتُ فيه، فيمتنع (¬9) عليها الطّواف حينئذٍ بمعنيين: أحدهما: أنَّه في المسجد والحائض لا تدخله. والثآني: أنّ حَدَثَ الحَيضِ (¬10) يمنعُ الطّهارةَ، والطّوافُ لا يكون إِلَّا بطهارةٍ. ¬
باب العمرة في أشهر الحج
باب العمرة في أشهر الحجّ مالك (¬1)؛ أنّه بلغه أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ ثلاثًا عامَ الحُدَيبية، وعام القَضِيَّة، وعام الجِعْرَانَة. الإسناد (¬2): هذا حديثٌ بلاغٌ؛ ويتّصل من وجوه صِحَاحٍ. وذكر البزّار (¬3) بإسنادٍ صحيحِ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاثًا كلّها في ذي القعدة، إحداهن زمان الحُدَيْبِية، والأخرى في صُلح قريش، والأخرى (¬4) من مرجعه من الطائف ومن حُنَين من الجِعْرَانة. والحُجَّة ما قاله ابن المسيِّب لسائله: قدِ اعتمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قبل أنّ يَحُجَّ" (¬5). وهذا ما لا خلاف فيه أنّ عمرته كانت قبل حَجَّتِه. وذكر أبو داود (¬6) بإسناده عن ابن عمر، قال: "اعتمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - قبل أنّ يَحُجَّ" وإنّما اعتمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في أشهر الحجّ على ما ذَكَرَهُ العلّماء، ليري أصحابه أنّ العمرة في أشهر الحجّ جائزة، خلافًا لما كان عليه المشركون في جاهليّتهم. الفقه في ثلاث مسائل: الأولى (¬7): قوله (¬8): "اعتمرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ثَلاثًا" هو الصّحيح على مذهب مالك، ومن ¬
قال: "إنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَرَنَ الحجّ والعمرة، يقول: اعتمر أربع عمر، وكذلك يقول أنس (¬1). وقاله (¬2): "وعمرة الحُدَيبيَة" فعدّها عمرة (¬3) يقتضي أنّها عنده تامّة، وإن كان صُدَّ عن البيت فلا قضاءَ على من صُدَّ عن البيت بِعَدُوِّ. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء (¬4). ودليلنا: إجماع الصّحابة على الاعتداد بها (¬5)، فلو كانت غير تامّة، وكانت عمرة القضيّة قضاءً لها، لما عدّت عمرة الحُدَيْبِيَة. وقوله (¬6): "عام القضيّة" يريد الّتي قاضي النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - كفّار قريش عليها، وكانت في ذي القعدة، ولذلك جعل مالك ترجمة هذا الباب "العمرةُ في أشهُرِ الحجِّ". وقوله (¬7): "وعمرة الجغرَانة" يريد عمرته الّتي اعتمر من الجعْرَانةَ منصرفه من حُنَين (¬8). المسألة الثَّانية (¬9): قوله (¬10): "لم يعتمر إِلَّا ثلاثًا" إنكارٌ لما قال ابن عمر (¬11) وأنس؛ أنَّه اعتمر أربعًا. فأمّا ابن عمر، فإنّه أضاف إلى الثّلاثة عمرة في رَجَب، فأنكرت ذلك عائشة، وقالت: لم يعتمر قَطُّ في رَجَبٍ (¬12). ¬
وأمّا أنس، فإنّه أضاف إلى الثّلاثة عمرة زعم أنَّه قَرَنَها بحَجَّةٍ (¬1). وقوله (¬2): "إحداهُنَّ في شوّال، واثنتان في ذي القِعْدَة" تنبيه على أوقات عُمَرِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ووجه التَّعلُّق بذلك: أنّ العمرة في أَشْهُر الحجّ جائزةٌ، وقد كان النَّاس في الجاهليّة ينكرون ذلك، حتّى بيَّنَ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - جوازه. المسألة الثّالثة (¬3): فإنْ سأل سائل عن تقديم العمرة على الحجّ؟ فالجواب: أنّه لما علم يكون الحجّ مقدَّمًا في الرُّتبة للاتّفاق على وجوبه (¬4)، ولعلّه اعتقد أنّ العمرةَ لمّا كانت تدخل في عمل الحجِّ فإنّها تابعةٌ له (¬5)، فأخبر سعيد بن المسِّيب أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - اعتمر قبل أنّ يَحُجِّ، وذلك أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما حجَّ بعد أنّ نزل فَرْض الحجّ حجّة الوداع، وقد اعتمر قبل ذلك العمرة المذكورة. وكان (¬6) سفيان بن عُيَيْنَة يتأوّل في معنى قول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "دَخَلَتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامةِ" (¬7) لم * يُرِد به فسخَ الحجِّ، وإنّما أراد جواز عمل العمرة في أشهُر الحجّ إلى يوم القيامة* (¬8)، وإن تمتّع بها إلى الحجّ، وإن قرن بها مع الحجّ، كلُّ ذلك جائز إلى يوم القيامة (¬9). ¬
باب قطع التلبية في العمرة
باب قطع التّلبية في العُمرة الفقه في ثلاثة مسائل: الأولى (¬1): اختلف العلّماء في قطع التَّلبية في العمرة: فقال مالك ما ذكره في "الموطَّأ" (¬2)، وأضاف قوله إلى ابن عمر والزّبير (¬3). وقال الشّافعيّ: يقطعُ إذا افتتح الطّوافَ، ومرّةً قال: يُلَبِّي حتّى يستلم الرُّكن، وهو شيءٌ واحدٌ (¬4). وقال أبو حنيفة: لا يزال المعتمرُ يُلَبِّي حتّى يفتتح الطّواف (¬5). المسألة الثَّانية (¬6): قوله (¬7): "مَنِ اعتمرَ من التّنعيم أنّه يقطعُ التّلبية إذا رأى البيتَ" وهذا كما قال، أنّ من اعتمر من التّنعيم -وهو أدنى الحلّ إلى المسجد الحرام- فإنّه يستديم التّلبية حتّى يرى البيت؛ لأنّه ليس بينهما كبير مسافة. وأمّا الّذي يهِلُّ من المواقيت، فقد (¬8) استدام التَّلبية أيَّامًا، فاستحبّ له قطعها عند الحرم؛ لأنّها في الجملة مقصودة، ولأن من حُكْمِ النُّسُك أنّ يُعَرَّى بعضُه من التَّلبية كالحجّ (¬9). ¬
باب ما جاء في التمتع
المسألة الثّالثة (¬1): وقع في "المختصر" (¬2): من أحرم من الميقات فإنّه يقطع التَّلبية إذا دخل الحرم، فإنْ أحرم قبل الجِعْرَانَة قطعَ التَّلبيةَ حين دخول مكّة، ومن أحرم من التّنعيم قطع عند رؤية البيت ولبَّى، وهذا لما ذكرناه من طُول مدّة التَّلبية وقِصَرها (¬3). نكتةٌ لغويّة: قوله (¬4): "الجِغرانَة" من النَّاس من يشدد الرّاء (¬5)، ومنهم من يخفّفها (¬6). باب ما جاء في التّمتع الأحاديث (¬7) صِحَاحٌ، والآيات منها قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (¬8). قال علماؤنا (¬9): والتَّمتُّعُ على أربعة أَوْجُهٍ ومعانً: أحدها: التَّمتُّعُ المعروف عند عامّة العلّماء، وهو ما رواه مالك (¬10) عن ابن عمر، فبيَّن به معنى التَّمتُّعُ. والمعنى الثّاني: أنّ التَّمتُّعُ أيضًا القِرَانُ عند جماعة من العلّماء؛ لأنّ القارِن يتمتَّعُ بسقوط سَفَرِه الثّاني من بلَدِه كما فعل المُتّمتّع، فحلّ من عُمْرَتِه إذا حجّ من عامِه ولم ينصرف إلى بلده، والتَّمتُّعُ والقِرَانُ يتّفقان في هذا المعنى، وكذلك يتّفقان عند ¬
أكثر العلّماء في الهَدْيِ والصِّيام لمن لم يجد هَدْيًا منهما. والوجه الثّالث: هو فسخ الحجِّ في العمرة، وجمهور العلّماء يكرهونه. والوجه الرّابع: ما ذهب إليه ابن الزُّبَير أنَّ * التَّمتُّعُ هو تمتُّع المحصر، وهو محفوظ عن ابن الزبير* (¬1) من وجوه، منها ما رواه وهيب، قال إسحاق بن سويد (¬2)، قال: سمعتُ عبد الله بن الزُبير وهو يخطبُ وهو يقول: أنّها النَّاس، والله ليس التَمتعٌ بالعمرة إلى الحجِّ كما تصنعون، ولكن التّمتّعَ بالعُمرة إلى الحجِّ أنّ يخرج الرَّجُل حاجًّا، فيحبسه عدوٌّ، أو أمر يمسكه، حتّى تذهب أيّام الحجِّ، فيأتي البيتَ ويطوفُ ويسعَى بين الصَّفا والمَروَة ويحلّ، ثمّ يتمتّعُ بحلِّه إلى العام المقبل، ثمّ يحج ويَهْدِي (¬3). وأمّا نَهْيُ عمر عن التَّمتُّعُ، فإنّما هو نهي أَدَبٍ لا نَهْي تحريمٍ؛ لأنّه كان يعلم أنّ التَّمتُّعُ مباحٌ، والقِرَانَ مباح، وأن الافراد مباحٌ، فلمّا صحّت هذه (¬4) الإباحة والتّخيير في ذلك كلِّه اختارَ الإفراد، فكان يحضّ على ما هو المختارُ عنده، ولهذا كان يقول: افصِلُوا بين حَجِّكم وعُمرَتكُم، فإنّه أتمُّ لحجِّ أحَدِكُم (¬5). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬6): قال علماؤنا (¬7): وللتّمتُّع ستّ شروط (¬8) لا يكون متمتِّعًا إِلَّا باجتماعها (¬9)، ومتى انخرم شرطٌ لم يكن متمتِّعًا: أحدها: أنّ يجمع بين العمرة والحجِّ في سَفَرٍ واحدِ. ¬
الثّاني: أنّ يكون ذلك في عام واحد. الثّالث: أنّ يفعل العمرة أو شيئًا منها في أشهر الحجّ. الرّابع: أنّ يقدِّم العمرة على الحجّ. الخامس: أنّ يحل من العمرة قبل الإحرام بالحجّ. السّادس: أنّ يكون غير مكِّيٍّ. تفصيل (¬1) وتنقيح: أمّا الأوّل، فهو أنّ يأتي بالحجّ والعمرة في سَفَرٍ واحد؛ لأنّه (¬2) المعنى الّذي يتمتِع به، وهو أنَّه ترك أحد السَّفَرَيْن؛ لأنّ كلّ نُسُكٍ منهما كان من حُكْمِهِ أنّ ينفرد بسَفرٍ، فترخّص بترك أحد السَّفَرَين لمّا جمعهما في سَفَرٍ واحدٍ، على ما نبيِّنُه بعد هذا. وأمّا الثّاني، فهو أنّ يكونا (¬3) في عامٍ واحدِ، فإنّه لو اعتمر في أشهر الحجّ، ثمّ حلَّ (¬4)، ثمّ أقام إلى عام ثانٍ فحجّ، لم (¬5) يكن متمتِّعاَ؛ لأنّ المراد بذلك (¬6) في أشهر الحجّ، فحينئذٍ يكون متمتِّعًا. فإن اعتمر في أشهر الحجّ (¬7)، ففاته الحجّ، فلم يحجّ من عامه ذلك، لم يكن متمتعًا، وكذلك لو أحرم بالحجّ بعد أنّ اعتمر في أشهر الحجِّ، ففاته الحجّ، ولو أكمل حجّه لكان (¬8) متمتِّعًا؛ لأنّه قد أتى بالحجّ في (¬9) أشهر عمرته. وأمّا الثّالث، وهو أنّ يعتمر في أشهر الحجّ؛ لأنّها أحق بالحجِّ لمن أراده، وسائر الأشهر أحقّ بالعمرة، وهذا معنى اختصاص هذه الأشهر بهذا الوصف؛ لأنّه لا ¬
تطول به مدّة الإحرام، ولا تشقُّ على المُحْرِم في الغالب، ولكنّه (¬1) يكمل سَعيه. فإذا لم يرد الحجّ، فالعمرة فيها مطلقة؛ لأنّ الأشهر (¬2) لا تختصّ بالحجّ اختصاصًا يمنع (¬3) من غيرها، وإنّما تختص بها اختصاص كمال وفضيلة، فمن أراد التَّرَفُّه والاستمتاع بمكّة، كانت رخصة في أنّ يحل بعمرة، ثمّ يبقى حلالًا إلى الحجّ. مسألة في المعنى (¬4): قال (¬5): وليس مِنْ شَرْطِ هذه العمرة أنّ يُحرمَ بها في أشهر الحجِّ، ولو أحرم بها في رمضان أو شعبان، فاستدام ذلك، وأتى ببعض أفعالها في أشهر الحجّ، قال ابنُ حبيب (¬6): ولو بشوط واحد من السّعي (¬7) في أشهر الحجِّ كان متمتِّعًا، وبهذا قال أبو حنيفة (¬8)، والنَّخعىّ، وعطاء، والحسن، وجماعة النَّاس. وقال الشّافعيّ في أحد قَوْلَيه (¬9): ولا يكون متمتِّعاَ حتّى يحرم (¬10) بالعمرة في أشهر الحجّ. والدليل على ما نقوله: أنّ السّعي والطّواف رُكْنٌ من أركان العمرة، فإذا أتى به في أشهر الحجّ كان متمتِّعًا كالإحرام. فإن لم يبق عليه غير الحِلَاق، فليس بمُتمتِّع؛ لأنّ الحِلَاقَ تحلُّلٌ (¬11) من النُّسُكِ وليس من أفعال العُمْرَة، قاله ابن حبيب وغيره عن مالك. واحتجّ ابنُ حبيب لذلك؛ أنّه لو لبس الثّياب أو مسّ الطِّيب أو النِّساء قبل أنّ ¬
يحلق اويقصر، لم يكن عليه شيءٌ يريد ليس عليه قضاء. وأمَّا الرّابع (¬1)، فهو أنّ يقدِّم العمرة على الحجّ، لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (¬2) و"إلى" للغاية، فيجب أنّ يكون ما بعدها متأخِّرًا عمّا قبلها إذا كان (¬3) غاية له (¬4). ومن جهة المعنى: أنّ التَمَتُعَ إنّما هو ما ذَكَرْنَاهُ ممّن يريد الحجّ، فيدخل في أوّل أشْهُرِه (¬5) فيأتي بالعمرة، وإن (¬6) كان الإتيان بالحجّ أَوْلَى ليترفّه بالعمرة إلى أنّ يرد (¬7) زمان الحجّ (¬8)، وهو إذا قدَّم الحجّ على العمرة، فقد غيّره عن هذا المعنى (¬9)، وأتى بالحجّ في أشهره، ولعلّه قد أحرم به في أوّل أشهُره، فلم يتمتّع بشيء. وأمّا الخامس (¬10): وهو أنّ يحلّ من العمرة قبل الإحرام بالحجّ، ويفوت حكم الإرداف، فلا يكون قارنًا؛ لأنّه إذا أردف الحجّ على العمرة في وقت يصحّ له ذلك، كان قارنا ولم يكلن متمتّعًا. وأمّا السّادس (¬11): فهو ألَّا يكون مكِّيًّا، فالأصل فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬12). ومن جهة المعنى: أنّ المَكِّيَّ لا يلزمه سَفَر الحجّ ولا العمرة فيترخّص بترك أحدهما، ولأنّ غير المكّىّ قد قلنا إنّه إذا رجع إلى أفُقِهِ، أو إلى مثل أفُقِهِ، فليس بمتمتّع، وهذه حالة (¬13) المكّىّ بموضعه. ¬
مسألة (¬1): وحاضرو المسجد الحرام هم أهل مكّة. وقال ابن حبيب عن مالك: إنَّ مَنْ كان من أهل مكّة على مسافة لا تقصر في مثلها الصّلاة، فهو من حاضري المسجد الحرام. وقد أشار إليه ابن شعبان. وقال أكثر شيوخنا: ليس هذا مذهب مالك (¬2)، إنّما هو قول الشّافعيّ (¬3)، وله قول ثان: أنّهم أهل الحرم. وقال أبو حنيفة (¬4): هم من (¬5) دون الميقات. والاستدلال بالآية على ما نقوله: أنّ قوله تعالى: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يقتضي من كان أهله مقيمًا بالمسجد الحرام أو موجودًا (¬6) عنده، وهذا هو الّذي يفهم من قولهم: فلان حاضر في موضع كذا، ومن حاضرة فلانة، ولا يقال لمن كان دون ذي الحُلَيْفَة (¬7)، وبينه (¬8) وبين مكّة مسيرة عشرة (¬9) أيّام (¬10)، أنّه من حاضري المسجد الحرام، وأنّه ممّن يحضر أهله المسجد الحرام. مسألة (¬11): وحُكمُ أهلِّ ذي طَوًى (¬12) في ذلك حكم أهل مكَّة في القِرَانِ والتَّمتُّع؛ لأنّهم من ¬
حاضري المسجد الحرام. ووجه ذلك: اتّصال البيوت بالمجاورة، والمراعى في ذلك أنّ يكون من أهلِّ مكّة حين الإحرام بالعمرة وبعد ذلك. مسألة: وإذا أهلِّ المتمتِّعُ بالحجِّ، ثمّ مات من سَعْيِة، أو قبل أنّ يصوم، ففيها للعلّماء أقوال: الأوّل: أنّ عليه دم المتعة؛ لأنّه دَيْنٌ عليه، ولا يجوز أنّ يُصامَ عنه. القول الثّاني: أنّه لا دَمَ عليه؛ لأنّ الوقتَ الّذي أَوجَبَ عليه فيه الصِّيام قد فات. مسألة (¬1): اتَّفقَ مالك (¬2) وأبو حنيفةَ (¬3) والشّافعىّ (¬4) أنَ المتمتِّع إذا لم يجد هَدْيًا، صام ثلاثةَ أيّام إذا أحرم بالحجِّ إلى آخر يوم عَرَفَة. وقال عطاء (¬5): لا بأس أنّ يصوم المتمتِّعُ في العشرِ وهو حلال قبل أنّ يُحْرِمَ. وقال مجاهد (¬6) وطاوس (¬7): إذا صامهنّ في أشهُر الحجّ أجزأه. وقال مالك (¬8): إذا صام بعد إحرامه بالعُمْرَة، وهو يريد أنّ يتمتَّع بالعُمرة إلى ¬
الحجِّ لم يجزه، ولمن يصومُ ما بين إحرامه بالحجِّ إلى يوم عَرَفَة، وهو قول الشّافعيّ (¬1)، رواه عن عائشة وابن عمر (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3): إنَّ صام بعد إحرامه بالعُمْرَةِ أجزاه. وقال الحسن بن زياد (¬4): إنَّ أحرم بالعُمَرة لم يجزه الصّوم حتّى يُحْرِمَ بالحجِّ، وهو قول عمرو بن دينار. وقال عطاء: لا يصوم حتّى يقفَ بعَرَفَة. مسألة (¬5): وأجمع العلّماء على أنَّ الصّوم لا سبيل للمتمتِّع إليه إذا كان يجد الهَدْيَ، واختلفوا إذا لم يجد الهَدْيَ، ولم يصم الثّلاثة الأيَّام قبل يوم النّحر. قال مالك (¬6): يصومها في أيّام التّشريق، فإنْ فاتَه ذلك، صام عشرة أيّام إذا رجع إلى بلده وأجأه، وإن وجد هَدْيًا بعد رجوعه وقبل صومه، أَهْدَى ولم يصم. وقال أبو حنيفة (¬7): إذا لم يصُمِ الثّلاثة الأيَّام في الحجّ، لم يجزه الصِّيام بَعْدُ، وكان عليه هَدْيَانِ: هديٌ للمتعة أو قِرَانِه (¬8)، وهديٌ لتحلُّلِه من غير هَدْيٍ ولا صيام. مسألة (¬9): واختلف قول الشّافعيّ: في صيام أيّام مِنىً للمتمتّع إذا لم يجد هديًا: فقال بالعراق: يصومُها، كقول مالك. ¬
باب ما جاء في العمرة
وقال بمصر: لا يصومها أحدٌ، لنَهْيِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن صيامها (¬1) مسألة (¬2): واختلفوا إذا كان غيرَ واجدٍ للهَدْيِ فصام، ثمّ يجد الهَدْيَ قبل إكمال الصّوم الّذي ابتدأ. فذكر ابن وهب عن مالك: إذا دخل في الصّوم فوجد هَدْيًا، فأحبُّ إليَّ أنّ يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصِّيام. وهو (¬3) والمتظاهِرِ والحالِف سواء عند مالك، إذا دخل في الصّوم، ووجد* المتمتِّعُ الهَدْي، أو وجدَ المتظاهر الرَّقبة، والحالف ما يُطعم أو يكسو، أنّ كلّ واحد منهما بالخيار بعد دخوله في الصّوم، أنّه إنَّ شاء فادى في الصّوم، وإن شاء رجع إلى ما كان عليه* (¬4). باب ما جاء في العمرة مالك (¬5)، عن سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكر بن عبد الرّحمن (¬6)، عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ عند الله إِلَّا الجنَّةُ". الإسناد: هذا حديثٌ صحيحٌ خرَّجه الأيِمَّة (¬7). ¬
أصوله: قوله (¬1): "العُمرَةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما" "ما" من ألفاظ العموم، فيقتضي من جهة المعنى تكفير جميع ما يقع بينهما إِلَّا ما خَصَّه الدَّليل. وقال الإمام: قوله: "كفَّارَةٌ لِمَا بينهما" إنّما يريد بذلك الصّغائر لا الكبائر. فإن قيل: بأيِّ دليلِ تخصّه بالصّغائر؟ قلنا: الحديثُ الصَّحيح؛ قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "الجمعةُ إلى الجمعةِ كفَّارةٌ لما بينهما ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ" (¬2). فإن قيل في قوله: "الحجِّ المبرورُ" وما هو؟ قيل: هو الّذي لا يعصي الله بعده أبدًا، ولا يلمّ بذَنْب. وفيه وجه ثان: وهو الّذي لم يرفث ولم يفسق، وسلم وقتَ الحجِّ من ذلك، وتمادَى عليه إلى أنّ لَقِيَ الله وهو غير عاص، فذلك هو الحجّ المبرور. الفقه في ثلاث مسائل: الأولى: اختلف العلّماء وفقهاء الأمصار في العمرة هل هي سنّة مؤكّدة أو واجبة؟ فعندنا: إنّها سنّة مؤكّدة (¬3)، وبه قال أبو حنيفة (¬4). وقال الشّافعيّ (¬5): إنّها واجبةٌ، واستدلّ على وجوبها بالآية، قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬6) وهو أمرٌ، والأمرُ على الوجوب. واستدل أيضًا بحديث جبريل، وهو قوله للنّبيِّ -عليه السّلام-: "أنّ تحجَّ وتعتمرَ وتغتسلَ من الجَنَابَةِ" (¬7). ¬
انتصار لمالك: قلتا: استدلالُ الشّافعىّ بالآية يبطل من وجهين: أحدهما: أنّ معنى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} إنّما يكون الإتمام بعد الشّروع، وإذا شرعَ في عبادة لزمه إتمامها. الوجه الثّاني من وجوه الإبطال: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬1) وقوله -عليه السّلام-: "بُنِيَ الإِسلامُ على خمسٍ" (¬2) ولم يذكر العمرة، والحديث الّذي سأل عنه (¬3)، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: "لا إِلَّا أنّ تَطَّوَّع (¬4)، وأنْ تعتمر خير لك" (¬5) وهذا حدّ المندوب، فخرج الأمر عن الوجوب إلى النَّدْب بهذين (¬6) الأمرين. فإنِ استدلَّ أيضًا بأنّ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - داوَمَ على العُمرة. قلنا: اللَّهمّ إنَّ دوامَه عليها كدوامِه على المضمضة والاستنثار مع الوضوء. المسألة الثّانية: فإن قيل: فإذا كانت عندكم سُنَّة، لزمكم الدّوام عليها كحدِّ السُّنَن. وإن (¬7) كان معنى السُّنَّة ما رأيتم (¬8)، وقد يكون ذلك فَرْضًا، ويكون مندوبًا إليه على طريق علمائنا في تسمية متأكّد المندوب إليه إذا حصل على صفتها بأنّه سنّة (¬9) على جهة الاصطلاح، وبقولنا قال أبو حنيفة أنّ العمرة ليست بواجبة (¬10). ¬
وقال ابنُ حبيب وابنُ الجَهْم (¬1): هي فرضٌ، وهما على مذهب الشَّافعىّ في هذه المسألة. حديث مالك (¬2)، عن سُمَىّ مَوْلَى أبي بكر بن عبد الرّحمن؛ أنّه سمع أبا بكر بن عبد الرّحمن (¬3) يقول: جاءتِ امرأةٌ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنِّي كنت تجهزْتُ للحج، فاعترض لي أمرٌ؟ فقال لها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "اعْتَمِرِي في رمضانَ، فإنَّ عمرةَ رمضان كحَجةٍ". الإسناد (¬4): هذا الحديثُ مُرسَلٌ في "الموطَّأ"، إِلَّا أنّه قد صحّ أنّ أبا بكر سمعه من تلك المرأة، فصار بذلك (¬5) مُسْنَدًا. وهذه المرأة اختلف فيها: فقيل: إنها أمّ معقل. وقيل: هي أم الهيثم. وقيل: هي أم سنان، وهي جدَّة عبد الله بن سلام. والأشهر عند جماعة المحدِّثِين (¬6) أنّها أمّ معقل (¬7). الفقه والفوائد: وهما فائدتان: الأولى (¬8): فيه من الفقه: تطوُّع النِّساء بالحجِّ إذا كان معهنّ ذو مَحْرَمٍ أو زوجٍ، أو كانت ¬
المرأة في جماعة نساء يعين بعضهنّ بعضًا، يعني: لا ينضمّ الرّجال إليهنّ عند النّزول والرّكوب وكانت الطّرق مأمونة. الفائدةُ الثّانية: فيه من الفقه: أنّ بعض الأعمال أفضل من بعض، وأن الشّهور بعضها أفضل من بعض (¬1)، لقوله:، "عمرةٌ في رمضان تعدّ حَجَّة" وهذا لا يكون إِلَّا بالبرّ. وقد اختلف النَّاس في قوله: "الحَجّ المبرور" على أقوال (¬2): قيل: المُتَّصِل. الثّاني - قيل: الّذي لا رياءَ فيه ولا سمعة ولا رَفَثَ ولا فسوقَ (¬3)، مع الصِّيانة من سار المعاص. الثّالث - قال أهل الإشارة: "الحجّ المبرور" هو الّذي لم تعقبه معصية. والأوّل أرفق بالخَلقِ وأظهر عند العلّماء (¬4). وكذلك قال أبو ذَرٍّ (¬5) للرَّجل الّذي مرّ عليه وهو يريد الحجّ: "استأنف (¬6) العَمَلَ" إشارة إلى أنّ ذنوبه قد حطّت، فصار كيوم ولدته أمه، يستأنف العمل كما يستأنف في أوّل أوقات التّكليف. والعُمرة في الحجِّ كالتّكفير، ولكنّه يحتمل أنّ يريد أنّها كفارة ما لم يغش الكبائر، وأمّا الحاجّ فليس بينه وبين الجنَّة حجاب. نكتةٌ لغوية: قوله: "العُمرَةُ إلى العمرة" والعمرة الزيارة، مأخوذ من اعتمر، أي زار (¬7)، يقال: اعتمر فلان وجاء فلان معتمرًا أي زائرًا. أي يأتي من أجل تلك الزيارة، ومن ذلك سمي البيت المعمور، لكثرة (¬8) زيارة الملائكة له. ¬
باب نكاح المحرم
باب نكاحُ المُحْرِم مالك (¬1)، عن رَبِيعَة بن أبي عبد الرّحمن، عن سليمان بن يَسَارٍ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - بعثَ أبا رَافِعِ مولاه، وَرَجُلًا من الأنصار، فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بنتَ الحَارِثِ ورسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالمدينةِ قبلَ أنّ يَخْرُجَ. الإسناد: قال الإمام: هذا الحديث مُرْسَلٌ من مراسيل ابن يسار، وهو (¬2) حديثٌ غير متَّصل، وقد رواه مَطَر الورّاق فَوَصَلَهُ، ورواه حمّاد بن زَيْد عن مطر، عن ربيعة، عن سليمان بن يَسَار، عن أبي رافع؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تزوّج مَيْمُونة وهو حَلَالٌ، وبَنَى بها وهي حَلَالٌ، وكنت الرَّسولَ بينهما (¬3). والأحاديث في هذا الباب صِحَاحٌ كثيرة المساق والتعارض. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬4): قوله: "بَعَثَ أبا رَافِعٍ مَوْلَاهُ" ظاهره جواز الاستنابة في عَقْدِ النِّكاح، وسيأتي ذِكرُه. المسألة الثّانية (¬5): قوله: "وَرَسُولُ اللهِ بِالْمَدِينَةِ" يقتضي كونه حلالًا؛ لأنّه لا خلافَ أنَّه لم يحرم إِلَّا بعد خروجه من المدينة، وإنّما قصد إلى الإعلام بذلك، لاختلاف النَّاس في صِحةِ نكاح المُحْرِمِ وإنّما اختلفوا لاختلافهم في نكاح النّبيِّ -عليه السّلام-، هل كان في حال إحرامه؛ أو قبل أنّ يحرم؟ ¬
فرُوِيَ عن أبي رافع ما تَقَدَّمَ. ورُوِيَ عن ابن عبّاس؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تزوّج ميمونة وهو مُحْرِمٌ، والّذي رَوَى أبو رافع أَوْلَى؛ لأنّه باشَرَ القَضِيِّةَ وهو أعلم بها ممّن لم يباشرها. وكذلك رُوِيَ عن ميمونة: تزوّجني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ونحن حَلَالَانِ بِسَرِف (¬1)، وهي أعلم بحالها وحال النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، لاسيّما وقد ذكرت موضع العَقْد، وقد أنكرت هذه الرِّواية على ابن عبّاس، فقال ابن المُسِّيب: وَهِمَ ابن عبّاس في تزويج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم، على أنّه يمكن الجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أنّ يكون ابن عبّاس أخذ في ذلك بمذهب أنّ من قَلّد هَدْيَه فقد صار مُحْرِمًا بالتّقليد، فلعلّه علم بنكاح النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بعد أنّ قلّد هديه وقبل أنّ يخرج. الوجه الثّاني: أنّ يكون أراد بمُحْرِم في الأشهر الحُرُم. المسألة الثّالثة: وقال قوم: حديث ابن عبّاس صحيحٌ من جهة النَّقْل؛ لأنّ الواحد أقرب إلى الغَلَطِ من الجماعة، وأقلّ أحوال الخبر في نكاح ميمونة أنّ يكونا تعارضا، فسقط الاحتجاج بهما لكلِّ طائفتين، وبطلت الحُجَّة من غير قِصّة ميمونة. فإذا كان ذلك فإنّ عثمان رَوَى عن النّبىّ -عليه السّلام- أنّه نَهَى عن نكاح المُحْرِمِ وقال: "لَا ينكحْ الْمُحرِم وَلَا ينكح" ولا معارض له؛ لأنّ حديث ابن عبّاس قد عارَضَهُ بغيره. ذكر ابن أبي شيبة عن يزيد بن الاصم قال: حدَّثَتْنِي ميمونة بنت الحارث ان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - تزوّجها وهو حلال (¬2). وقال: بذلك كانت خالتي وخالة ابن عبّاس. قال الإمام: وقد حمل قوم حديث يزيد بن الاصم مُرْسَلًا بظاهر رواية الزُّهريّ، وليس كما ظنّوا؛ لأنّ رواية الزّهريّ مُحتملة للتأويل. فإذا ثبت هذا، فقد اختلف الفقهاء في نكاح المحرم وهي: المسألة الرّابعة (¬3): فقال مالك والشّافعيَّ واللّيث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن فعل ¬
فالنّكاح باطلٌ، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وزيد بن ثابت. وقال أبو حنيفة: لا بأس أنّ ينكح المحرم، وهو قول القاسم بن محمّد والنَّخَعي. وكذلك هو المشهور من مذهب أبي حنيفة أنّه يعقد المحرم النّكاح لنفسه ولغيره (¬1)، وبه قال الثّوريّ وابن عبّاس. ودليلنا: قوله: "لَا ينكح المُحرِمُ وَلَا ينكح وَلَا يخطب". ومن جهة القياس: أنَ عقد النِّكاح معنى تصير به المرأة فِراشًا، فوجبَ أنّ يكون محظورًا على المُحرِمِ كَوَطئِهِ الأَمَة. ودليل آخر: وذلك أنّ هذه عبادة تمنع الوطء والطِّيب، فوجب أنّ تمنع عقد النّكاح كالعدّة. المسألة الخامسة (¬2): قوله: "وَلَا يَخطب" يحتمل أنّ يريد به السعي في النكاح. ويحتمل أنّ يريد به الخطبة حال النِّكاح. فأمّا السعي، فإنّه ممنوع فإنْ سَعَى فيه وتناول العقد سواه، أو سَعَى فيه لنفسه، أو أكمل العقد بعد التَّحَلُّلِ. قال أبو الوليد: لم أر فيه نصًّا، وعندي أنّه قد أساء والنكاح لا يفسخ، ومن حضر العقد فقد أساء. وقال أشهب لا شيء عليه (¬3). المسألة السّادسة (¬4): وعَقْدُ النِّكاح ممنوع حتّى يحلّ بالإفاضة، فإنْ تزوّج قبل الإفاضة وبعد الرّمي فسخ نكاحه، ورواه محمّد عن ابن القاسم وأشهب. والدّليل على ذلك: قوله -عليه السّلام: "لَا ينكح الْمُحْرِمُ" وما لم يتحلّل التَّحلُّل التّامّ، فاسم الإحرام يتناوله. ¬
باب حجامة المحرم
وجه ذلك: أنّ حُكمَ إحرامه باقٍ في باب الاستمتاع، فوجبَ أنّ يكون ممنوعًا من عَقْدِ النِّكاح، أصله قبل الرَّمْي. المسألة السابعة (¬1): أكثرَ مالك من إدخال الآثار في هذه المسألة؛ لأنّ المُخَالِفَ فيها ابن عبّاس، وهو من فقهاء الصّحابة، فأظهر من قُوَّة الخلاف عليه من الصَّحابة والتّابعين والحكم من الأيمَّة بخلافه، وأنّ هذه المسألة ممّا تَهَمَّمَ بها النَّاس في زَمَانِ الصَّحابة والتّابعين، وخاضوا فيها، والجمهورُ على ما ذهب إليه مالك. المسألة الثّامنة (¬2): قوله في المحرم "إنّه يراجع امرأته إنَّ شاء" هو كما قال، إنّه إذا طلّق امرأته طلقة رجعية فإنّ له مراجعتها ما كانت له الرجعة عليها لبقاء عدّتها، خلافًا لما يروى عن ابن حنبل من منعه الرجعة. والدليل على ما نقوله: أَنَّ الرجعة ليست بنكاح وإنّما هي إصلاح باستتمام النِّكاح: ككفارة الظهار. باب حِجَامة المُحْرِم مالك (¬3)، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، فَوْقَ رَأسِهِ، وهو يَوْمَئِذٍ بِلَحْيَي جَمَلٍ، مكانٌ بطريق مكّةَ. الإسناد (¬4): حديث يحيى بن سعيد مُرْسَلٌ، ولكنّه يتَصِلُ من وجوهٍ صحَاحٍ من حديثِ ابْنِ عباسٍ وجابر وأنس، كلُّهم يَرْوُونَه عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، وبعضُهم يروي: "وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ" وأكثرهم يقول: مِنْ أَذًى كان برأسه. وذكر ¬
النّسائي (¬1)؛ أنّه - صلّى الله عليه وسلم - احتَجَمَ وَسَطَ رَأسهِ وهو مُحْرِمٌ، وهو حديثٌ مَدَنِيٌّ لَفْظُهُ لفظ حديث مالك. وذكر أبو داود (¬2) بإسناده عن عِكْرِمَة، عن ابن عبّاس؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ في رَأْسِهِ من أَذًى كانَ بِهِ. الفقه في أربع مسائل: الأولى (¬3): قوله: "احْتَجَمَ فَوْقَ رَأْسِهِ" بيان لموضع الحِجَامَة؛ لأنّها تختلف باختلاف مواضعها، وهي أشدَّ في الرّأس، لما يحتاج إليه من حَلْقِ شعر موضعها، وربّما قتل شيئًا من الدّوابِّ، إلّا أنّ ذلك كله مباحٌ مع الحاجة إليه. وروي عنه أنّه احتجم من شيءٍ كان به على قَدَمِهِ. المسألة الثّانية (¬4): قال علماؤنا (¬5): والحجامةُ على ضربين: أحدهما: يحلق لها. وضرب: لا يحتاج إلى حَلْق شعر. فأمّا إذا كانت في موضع فيه شعر، فعليه الفِدْيَةِ لإماطَةِ الأَذَى بحلق الشعر. والأصل في جواز ذلك: الحديث أنّه احتجم فوق رأسه، وهذا نصٌّ. والأصل في وجوب الفِدْيَة عليه قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية (¬6). المسألة الثّالئة (¬7): فإن كانت الحِجَامَةُ في غير رأس، فاحتاج إلى حلق شعر لها أو نتفه من جسده ¬
لغير حجامة، فعليه الفدية. ورَوَى أحمد بن المُعَذَّل (¬1)، عن عبد الملك في "المبسوط" أنّ شَعْرَ الرَّأْسِ والجِلد سواءٌ، وبهذا قال أبو حنيفة (¬2)، والشّافعىّ. وقال أهلِّ الظّاهر (¬3): لا فِديَةَ عليه إِلَّا أنّ يحلق شعر رأسه. والدّليل على ما نقوله: أنّ الحِجَامَة إنّما كرهت للمحرم للرَّفاهية، وأمّا للضّرورة فلا بَأسَ بها. ومن حلق ذلك واحْتَجَمَ نَاسِيًا أو جاهلًا، ففي "كتاب محمّد" أنّ عليه الفِدْيَة، وذلك أنّه أسقط أَذًى، وكل ما فيه إسقاط الاْذى فعليه الفِدْيَة. المسألة الرّابعة (¬4): قوله: "وَلَا يَحْتَجِمُ إِلَّا مِنْ ضَرُورةٍ" ليس له فعل ذلك على العادة من الاحتجام لغير مَرَضٍ. فإذا خافَ تجدُّدَ مرض أو زيادته دوامة، ورَجَا في الحِجَامَةِ رفع ما يخاف، فإنّها له مباحة، على حسب ما تقدّم من وجوب الفِدْيَة. وقد قال سحنون: لا بَاس أنّ يَحْتَجِمَ ما أراد، ما لم يحلق شعرًا، ولا يحتجم في رأسه. قال ابنُ حبيب: أكره الحِجَامَة للمُحْرِمِ إِلَّا للضّرورة، ولا فِدْيَةَ في ذلك ما لم يحلق لها شَعْرًا، والحمد لله على ذلك (¬5). كمل السَّفر الثّاني من كتاب المسالك في شرح موطَّأ أبي عبد الله مالك (¬6) ¬
باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد
باب (¬1) ما يجوز للمحرم أكله من الصيد الأحاديث (¬2): قال الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه (¬3) -: إنَّ أبا قَتَادَة كان وَجَّهَهُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على طريق البحر مخافةَ العَدُوِّ، فلذا لم يكن مُحرِمًا إذ اجتمع أصحابه؛ لأنّ مخرجهم لم يكن واحدًا، وكان ذلك عام الحُدَيْبِية، أو بعدَهُ بعامٍ عام القضيّة، وكان اصطيادُ أبي قَتَادَة لنفسه لا لأصحابه، واللهُ أعلمُ. الأصول والفقه (¬4): قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا بابٌ كبيرٌ، وهي مسألةٌ عظيمةٌ اختلفَ العلّماءُ فيها، واضطربَ المذهبُ فيها اضطراباَ كثيرأ على أقوالٍ، أصولُها على ثلاثة: القول الأوّل: يؤكل كلّ صيد إذا لم يكن يتناول صيده المحرّم. الثّاني: يؤكل ما لم يقصده (¬5) المحرم معينًا. الثّالث: أنّه لا يؤكل كلّ صيد يُلْقِي (¬6) به المحرمونَ مخافةَ أنّ يكون قصده، وفي ذلك نكتةٌ بديعة وهي: أنّ الله تعالى قال: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬7) والمراد به: لا يَصِيد المُحْرِم بسبب الأكل، ونبّه على تحريم الأكل، فاقتضى ظاهر الآية الامتناع من أكله، واقتضى نصُّها تحريم صيده. وقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - للصَّعبِ بن جَثَّامَةَ وقد أهدى له حمارًا وحشيًّا: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ ¬
عليكَ، إِلَّا أنَّا حُرُمٌ" (¬1) فاقتضى ذلك تحريم ما صيد من أجل المحرم، ويحتمل أنّ يكون الحمار حَيًّا، فامتنع النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - من قَبُوله؛ لأنّه لو قبلَهُ كان يلزمه إرساله، فرأى إبقاءه على ملك صاحبه أَوْلَى، والأوَّلُ أظهر في التَّأويل، وحديث أبي قتادة نَصٌّ (¬2) في أنّ يأكل المُحْرِم ما لم يصد من أجله، ومَنْ شكَّ في شيء فليدعه "وإنّما هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ" كما قالت عائشة (¬3). فإن قيل: إنّما منع اللهُ من الصَّيد في حقِّ المُتَعَمِّد، وأنتم قد جعلتمُ المخطىءَ مثله؟ الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها إِنَا نقول له: إنّما ذكر اللهُ المتعمِّد لأنّه الأغلب، وأمَّا الخطأ فلا يقع في قتل الصَّيد إِلَّا نادرًا، بل لم نسمعه، وإنّما تُكُلَّمَ في تصوير مسألة فيه. الثَّاني: إنَّ قوله (متعمدًا) حال من القاتل مفعوله (¬4) القتل ليس المقتول، وقد بيّنَّا ذلك في "رسالة الملجئة" (¬5). الثّالث: إنَّ الأفعال كلّها من ارتكاب المحظور (¬6)، وخطؤها وعمدها سواء، فالصّيد مثله. المسألة الثّانية (¬7): قوله (¬8): "فَأَكَلَ منهُ بَعْضُ أصحابه (¬9) وَأَبَى بَعْضُهُم" فدلّ على القول بالرّأي والقياس (¬10)؛ لأنّ كلَّ طائفة قد ذهبت في ذلك إلى معنى ما (¬11) دون النَّصِّ (¬12)، فلم ¬
يعنِّف منهم أحدًا، ولا قال للآكلين: لم قدمتم على الأكل دون نصٍّ، ولا للممتنعين: لم امتنعتم دون نصٍّ، وإنّما قال - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّما هي طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ" فيحتمل أنّ يريد به رزقًا يسّره اللَّهُ لكم، وفي هذا تصريحٌ بالتّحليل، لا من طريق أنّ الرِّزق إنّما يكون حلالًا (¬1)، بل قد يكون حلالًا وقد يكون حرامًا، من حيث أقرّهم عليه ولم يمنعهم منه، ولو لم يرد هذا اللفظ لكان مباحًا بقوله: "كُلُوا مَا بَقِيَ مِنْهُ" (¬2)، وقال في حديث حسّان (¬3): "كلوه حلالًا". المسألة الثّالثة: ولِمَ امتنع من الأكل؟ قيل: لأنّه كان مُحْرِمًا. وقيل: لأنّه صِيدَ من أجله. وقال (¬4) أبو حنيفة (¬5): يجوز لمن صِيدَ من أجله (¬6) أنّ يأكل منه. قلنا: الدّليل على ما نقوله قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} الآية (¬7) .. فإن قيل: المرادُ به هو الاصطياد. قلنا- الجواب أنّ نقول: إنَّ الأظْهر هو غير ذلك؛ لأنّه يلزم أنّ يكون البَرُّ هو الصّيد، وذلك (¬8) لا يجوز (¬9)، ولا بُدَّ فيه من إضمار وهو: "وحرّم عليكم صَيْدُ وَحْشِ البَرِّ ما دمتم حُرُمًا" وحمل الآية على ما قلنا يغني عن (¬10) هذا الإضمار، وهو ¬
أَوْلَى (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): قوله (¬3): "وَمَن أَحْرَمَ وَعِنْدَهُ صَيْدٌ" هو كما قال: إنَّ ملك صيدًا قبل إحرامه، فلا يخلو أنّ يُحرم وهو بيده، أو يخلفه في أَهْلِه، فإنْ خَلَّفَهُ ثمّ أَحْرَم وليس معه، فإنّه لا يزولُ ملْكُه عنه وليس عليه إرسالُه، هذا معنى قول مالك (¬4): "لا بأسَ أنّ يجعلَهُ في أهله " يريد قبل إحرامه، وبه قال أبو حنيفة (¬5). وللشّافعيّ فيه قولان: أحدُهما: مثل قولنا (¬6). والثّاني: يزول ملكُه عنه (¬7). والدَّليل على بقاء ملكه عليه: أنّ هذه حُرْمَةٌ تمنع (¬8) ابتداء الاصطياد، فلم تمنع استدامته كحُرْمَةِ الحرم (¬9). المسألة الخامسة (¬10): ومن أحرم وفي يده صَيْدٌ، فأمسكه حتّى حَلَّ، فعليه إرساله، وكذلك لو اشتراه في حال إحرامه. وَرَوَى ابن أبي زيد في "نوادره " (¬11) عن عطاء؛ أنّه إذا حلَّ فله ¬
إمساكه. والذي روى عبد الرزّاق (¬1) عنه مثل قولنا. ووجه ذلك: أنّ الصّيد في حال الإحرام يمنع الملك ويُنَافِيه، فلم يُرْسِل مِنْ يَدِهِ ما يملكه. المسألة السّادسة (¬2): قوله (¬3) "في صَيْدِ الحِيتَان" هو كما قال، والأصلُ في ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (¬4) واسمُ البحر واقعٌ على العَذْب والمالح، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (¬5). المسألة السّابعة (¬6): ودوابّ البحر والأنّهار والبِرَك وغيرها، يجوز للمُحْرِم صيدُها، قاله مالك في "المختصر". والسُّلَحْفَاةُ عندي (¬7) ممّا يجوز للمُحْرِمِ اصطيادُه على قول مالك أنّها تؤكل بغير ذكاةٍ وهي (¬8) تِرْسُ (¬9) الماء، وأمّا على قول ابن نافع من أنّها (¬10) لا تؤكل بغير ذكاة، فإنّه لا يجوز (¬11) للمحرم اصطيادها (¬12)، وبه قال عطاء فيما يعيش في البَرِّ والبحر، أنّه إنْ قتله محرم، فعليه الجزاء، والسُّلَحْفَاة ممّا يعيش في البَرِّ والبحر. ووجه ذلك في الإباحة للمُحْرِم قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬13) ولا ¬
خلافَ أنّها من صيْد البَحْر؛ لأنّها لا تكون إلّا فيه. وأمّا سلحفاة البَرِّ ففي "المبسوط " (¬1): لا يصيدُها المُحْرِمُ. ووجه ذلك عندي (¬2): أنّه اعتقد (¬3) أنّها قد تكون في البَرَاري دون المياه، والأصحّ عندي (¬4) أنّها لا تكون إِلَّا في المياه، ولكنّها تخرج منها في كثير من الأوقات. المسألة الثَّامنة (¬5): وأمّا الضُّفْدَع، ففي "المبسوط" عن مالك؛ أنّه من صَيْدِ البحر، وفي "كتاب محمّد": لا شيءَ على المُحْرِمِ في قتله. قال أشهب: وقيل يُطعِمُ شيئًا، ولعلّ أشهب قد رَاعَى في هذه الرِّواية قولَ ابنِ نافعِ: لا يؤكل إِلَّا بذكاة. المسألة التّاسعة (¬6): وأمّا الطّير -أعني طير الماء- ففي "المبسوط " عن مالك: لا يَصِيدُه المُحْرِمُ. والدّليلُ على صحَّة ذلك: أنّه ممّا لا يُستباح أكلُه إِلَّا بذكاة، فوجب أنّ يكون من صيد البَرِّ كغيره من الطّير. المسألة العاشرة (¬7): اختلف العلّماء في الجماعة يشتركون في قتل الصَّيْد. فقال مالك: إذا قتل الصّيد جماعة المُحْرِمين، فعلى كلّ واحدِ جزاءٌ كاملٌ، وبه قال أبو حنيفة (¬8). ¬
قال القاضي: إنّما ذلك قياسًا على الكفّارة في قتل النّفس؛ لأنّهم لا (¬1) يختلفون في وجوب الكفّارة على كلِّ واحد من القاتِلِينَ المشتركين في قتل النَّفْس خطأ كفّارة كاملة، ومَنْ جعلَهُ (¬2) جزاءً واحداً قاسَهُ على الدِّيَةِ. المسألة الحادية عشرة (¬3): قال القاضي: وعُمْدَةُ هذا الباب أنّ العلّماء متَّفقون على أنّ قتل المُحْرِم للصَّيد حرامٌ وعليه جزاؤه، وأكلُه عليه حرامٌ، وهم مختلفون فيما صاده الحلال، هل يحلُّ للمُحْرِم أكلُه أم لا، على أربعة أقوال: القول الأوّل: أنّ أكل الصَّيد حرام على المُحْرِمِ بكلِّ حال، على ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} الآية (¬4)، فلم يخصّ أكلًا من قتلٍ؛ لأنّ (¬5) طائفة قالوا: لحم الصّيد مُحَرَّم على المُحْرِمِين على كلّ حال، ولا يجوز للمُحْرِمِ أكل صيد البتَّهً (¬6). وكان ابنُ عبّاس يقول: هي مبهمة (¬7). وكان عليّ وابن عمر لا يريان أكل الصّيد للمُحْرِم (¬8). وقيل: إنَّ ما صَادَهُ الحلالُ جازَ لمن كان حلالًا في حال اصطياده أكله، بنحو ما كان وقت اصطياده مُحْرِمًا أو غير مُحْرِمٍ. الثّالث: أنّ ما صاده المُحْرِمُ لنفسه جاز لغيره من المُحْرِمِين أكلُه، ولم يجز ذلك له وحده. الرّابع: أنّ ما صِيدَ للمُحْرِم لم يجُز له ولا لغيره من المُحْرِمِين أكلُه. ¬
باب ما لا يجوز للمحرم أكله من الصيد
باب ما لا يجوزُ للمُحْرمِ أَكْلُهُ من الصَّيْدِ حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة (¬1)، لم يَرْوه عن النَّبِىِّ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَّا ثلاثة أحاديث؛ لأنّ الصَّعْبَ من الثّلاثة الّتي رواها قولُ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنا حُرُمٌ" (¬2). الثّاني قوله: "لا حِمَى (¬3) إلّا لله ولرسوله" (¬4). الثّالث: سأله فقال: يا رسول الله، إنا نجد السنا (¬5) من العدوّ وقد قتل الصّبيان، فقال له: "هُمْ من آبائهم" (¬6). الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬7): قوله (¬8): "أَهْدَى لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - حِمَارًا وَحْشِيًّا" كذا رواه الزُّهريّ، وهو أثبتُ النَّاس فيه (¬9). ويُحْتَمل أنّ يكون إِنّما ردَّهُ النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على أحد أمرين: إمّا أنّه لا يصحّ قَبُوله. وإمّا لأنّه يَلْزَمُه إرسالُه فلا فائدة في قَبُوله. وعلى الوجهين إنَّ من أُهْدِيَ له صيدٌ وهو مُحْرِمٌ فإنّه يجوز له الامتناعُ من قَبوله. وقد قيل (¬10) في "المبسوط" (¬11): إنَّ الحمار الّذي أُهْدِيَ لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إنّما ردّه من أجل أنّ الحمار كان حيًّا. ¬
المسألة الثّانية (¬1): فمن أهْدِىَ له صَيْدٌ في حال إحرامه فقَبِلَه، لم يكن عليه ردُّه على قياس المذهب؛ لأنّه قد مَلَكَهُ بالقَبُول على قول ابن القصّار، أو قد (¬2) خرج عن الواهب وإن لم يدخل في ملك الموهوب له على قول إسماعيل، فليس له أنّ يردَّه على واهبه إنْ كان حلالًا. المسألة الثّالثة (¬3): قوله (¬4): "إنّما صِيدَ مِنْ أجْلِي "ذهب إلى أنّ الصَّيد إنّما يحرُم على من صِيدَ من أجله دون غيره، وقد خالفه في ذلك علىٌّ، وقد امتنع من أكله وإن كان صِيدَ من أجل عثمان. وفي "المبسوط" عن ابن القاسم قال: وكان مالك لا يأخذ بحديث عثمان، وما رُوِيَ عن عثمان يقتضي صحَّة ذكاته عنده. فإذا صيد من أجله وأكلَه وهو عالم بذلك، فإنّ عليه جزاؤه عند العلّماء أجمع. المسألة الرّابعة (¬5): قوله (¬6): ومن قتل صَيْداً مملوكًا، وجبَ عليه مع الجزاء لصاحبه القيمة (¬7)، وبه قال أبو حنيفة (¬8) والشّافعيّ (¬9). وقال (¬10): لا جزاءَ عليه وإنّما عليه القيمة (¬11). ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ...} الآية (¬12). ¬
باب أمر الصيد في الحرم
باب أمر الصّيد في الحرم الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬1): اتفق العلّماءُ على أنّ المراد بقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2) يعني متلبِّسين بالإحرام، يحكم فيه، ويجب الجزاء. وأمّا إنَّ قتل في الحَرَمِ، فإنّ من علمائنا من قال: ليس مثل الأوّل، ورواه عن مالك، وهو ردّ للعربيّة وحطٌّ (¬3) لمرتبة الحرم في الشّريعة؛ فإنّ منزلة الحَرَم كمنزلة الإحرام في وجوب الاحترام. المسألة الثّانية: قال مالك (¬4): "كلُّ شيءِ صِيدَ في الحَرَمِ، أو أُرْسِلَ عليه الكلْبُ في الحرم، فَقُتِلَ ذَلِكَ الصَّيْدُ في الْحِلِّ، فإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (¬5) أَكْلُهُ، وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، جَزَاءُ ذَلِكَ الصَّيد، وَأَمَّا الّذِي يُرْسِلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ في الْحِلِّ فَيَقْتُلُهُ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَلَيسَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ جَزَاءٌ"، وإنّما اختلفَ في الّذي يُرْسِلُ كلبَه خارج الحَرَم على صَيْدٍ فأخذه في الحَرَمِ، فاتَّفَقُوا على أنّه لا يؤكل، وليس عليه جزاء، إِلَّا أنّ يكون أرسله قريبًا من الحرم، فإن أرسله في الحرم فأخذه في الحلِّ، فإنّه لا يحل أكله وعليه الجزاء. المسألة الثّالثة (¬6): فإن قتل الصَّيدَ في الحَرَم حلالٌ أو حرامٌ، فإنْ كان حلالًا، فلا يخلو أنّ يكون الصَّيْد في الحَرَم أو في الحلِّ، فإن كان صيده في الحَرَم فعليه الجزاء، وبه قال أبو ¬
حنيفة (¬1) والشّافعىّ (¬2). وقال ابنُ القضار (¬3): إنّه إجماع من الصّحابة والتّابعين. وقال داود (¬4): لا جزاء عليه إنَّ كان حلالًا، تَعَلُقًا بالظّاهر. والدّليل من الآية قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬5) وهو حرام، يقال: أحرمَ فهو مُحْرِمٌ إذا أَتَى الحَرَم وإذا أتى بحَجَّةٍ أو عُمْرَة، يُبَيِّنُ ذلك قول الشّاعر (¬6): قتلوا الخليفةَ مُحْرِمًا في داره (¬7) ... ودعا فلم ير (¬8) مثله مخذولًا يريد أنّه كان في حرم المدينة، ولا خلافَ أنّه لم يكن مُحْرِمًا بحجٍّ ولا عمرة. المسألة الرّابعة (¬9): ويحرم (¬10) الاصطياد في حَرَمِ المدينة. وقال أبو حنيفة (¬11): ليس بحرام. ورواية ابن القصار (¬12) تقول إنّه مكروهٌ، والأوّل هو المذهب (¬13). ودليلنا قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما بَيْنَ لابَتَيها حَرَامٌ" (¬14). ¬
باب الحكم في الصيد
المسألة الخامسة (¬1): فهذا قلنا بتحريم الاصطياد فيه، فهل يجب فيه الجزاء؟ فالمشهور من مذهب مالك أنّه لا جزاء فيه، وقال عبد الوهّاب: إنَّ مقتضى المذهب (¬2) أنّ الجزاء واجب فيه، وهو قول ابن أبي ذئب، وقول مالك أَوْلَى (¬3) وأظهر؛ لأنّ المدينة لا تتعلّق الكفّارة بشيء من العمل المخصوص بها، فلذلك لم تتعلّق الكفّارة بقتل صيدها، ومكّة تتعلّق الكفّارة والفِدْيَة بالأعمال المختصّة بها، فلذلك تعلّقت الكفّارة بقتل الصَّيد بها، والله أعلم. باب الحُكْم في الصَّيْد قال القاضي: استشهد الإمام (¬4) - رحمه الله - بالآية، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية (¬5)، والكلام فيها في مآخذ أربعة: المأخذُ الأوّل (¬6): قوله تعالي: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ}. فجعل القتلَ مُنَافِيًا للتَّذكية خارجًا عن حُكْمِ المذبوح للأكل. وقال علماؤنا: إذا قال الرَّجُل: للَّه علىّ أنّ أقتُلَ وَلَدي فهو عاصٍ، لا شيء عليه. وإذا قال: لله علىّ أنّ أذبحَ ولدي، فإنّه يفديه بشاةٍ. المأخذُ الثّاني (¬7): قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ انتِقَامٍ}. قال القاضي: هو عامٌّ في كلِّ صيدٍ كان مأكولًا غير مأكولٍ (¬8)، بَيْدَ أنّ العلّماء ¬
اختلفوا في خروج السِّباع عنه. وقال علماؤنا: يجوز للمُحْرِم قتل السِّباع الأربعة المبتدئة بالضرر كالأسد والذِّئب والفهد والنّمر والكلب العَقُور وما في معناها (¬1)، ومن الطّير كالغُراب والحِدَأَة (¬2)، على ما يأتي بيانه في الباب الّذي بعد هذا إنَّ شاء الله. المأخذُ الثّالث (¬3): قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬4). وذلك ثلاثة أقسام: متعمّد، ومخطىء، ونَاسٍ. فالمتعمِّدُ: هو القاصدُ إلى الصّيد مع العلّم بالإحرام. والمخطىءُ: هو الّذي يقصد شيئًا فيصيب صيدًا. والنّاسي: هو الّذي يتعمَّدُ الصَّيدَ ولا يذكر إحرامه. واختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّه يُحْكَم عليه في العَمْد والخطأ والنِّسيان، قاله ابنُ عبّاس (¬5)، ويُروى عن عمر وعطاء (¬6) والحسن والزّهري (¬7). والثّاني: إنَّ قتله متعمِّدًا لفعله (¬8) ناسيًا لإحرامه، فأمَّا إذا كان ذاكرًا لإحرامه فقد حلَّ ولا حَجَّ له، ومن أخطأَ فهو الّذي يجزئ. الثّالث: لا شيء على المخطىء والنّاسي، وبه قال الطّبري (¬9) وابن حنبل في إحدى روايتيه. واختلفَ الّذين قالوا بعدم الكفّارة في توجيه ذلك على أربعة أقوال: ¬
الأوّل: ورد القرآن بالعَمْد، وجعل الخطأ تغليظًا (¬1)، قاله سعيد بن جُبَيْر. الثّاني قوله: {مُتَعَمِّدًا} خارج عن الغالب، فأُلْحِقَ به النّادر كسائر أصول الشّريعة. الثّالث: قال الزّهري إنّه واجب (¬2) -يعني في العَمْدِ- بالقرآن المطلق، وفي الخطأ والنّسيان بالسُّنَّة. الرَّابع: إنّه واجب (¬3) بالقياس على قاتل الخطأ، فعليه كفّارة؛ لأنّه أتلف نفسًا (¬4)، فتعلّقت بالخطأ ككفّارة (¬5) القتل (¬6). وقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬7) مثلُ الشّيء حقيقته، وهو شبهه (¬8) في الخِلْقَة الظّاهرة، ويكون مثله في المعنى وهو مجاز (¬9)، فإذا أطلق المِثْلُ اقتضى بظاهره حَمْله على الشَّبَه الصُّوريّ دون المعنويّ (¬10)، فالواجب هو المِثْل الخِلْقِي، وبه قال الشّافعيّ (¬11). وقال أبو حنيفة (¬12): المِثْلُ في القيمة دون الخِلْقَةِ، وقال: وجدنا (¬13) ذلك في ذوات الأمثال في المتلفات (¬14) المثل خِلْقَة؛ لأنّ الطّعام كالطّعام والدّهن كالدّهن. ¬
المأخذ الرَّابع (¬1): في قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية (¬2). نزلت هذه الآية في غزوة الحُدَيْبِية (¬3)، أحرم بعضُ النَّاس مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وبعضُهم لم يُحْرِم، فكان إذا عرضَ صَيْدٌ اختلفت أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامُه عليهم، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية بيانًا للحكم. واختلف العلّماء في المخاطب بهذه الآية؟ فقال قوم (¬4): هم المحلُّونَ. وقيل: إنّهم هم المحرمون، قاله ابن عبّاس وغيره. وقال قوم: الأصلُ في الصَّيْد التّحريمُ لا الإباحة (¬5)، وهذا ينعكس فيقال: الأصل في الصّيد الإباحة والتحريم فرعه على التّرتيب، ولا دليل يرجِّحُ أحد القولين. وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} (¬6) حُكْم الآية بيان لحُكْم صِغَار الصَّيْد وكباره. قال مالك: كلّ شيء (¬7) ينالُه الإنسانُ بيده أو رمحه أو بشيء من سلاحه يقتله فهو صَيْد. وقال مالك: يحلّ صيد الذّميّ، وأمّا صيد المجوسيّين فلا يحلّ إجماعًا (¬8). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬9): قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬10) في المنظر والبدن. فقال مالك وعلماؤنا: المِثْلُ النَّظير من النَّعَمِ. ¬
وقال أبو حنيفة: المِثْلُ والنّظيرُ القِيمَة. واختلفوا في التّرتيب في كفّارة جزاء الصَّيد. فقال مالك: الإطعامُ أو الصِّيام حَكَما عليه - يعني الحَكَمَيْنِ - بما يختار من ذلك، مُوسِرًا كان أو مَعْسِرًا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1). وقال زُفَر (¬2): الكفَّارةُ مرتبة يُقوَّمُ (¬3) المقتولُ دراهم يشتري بها هَدْيًا، فإنْ لم يبلغ اشترى بها طعامًا، فإنْ لم يجد لا هَدْيً ولا طعامًا ولا قدر على شرائه، فإنّه يصوم بقيمة ذلك، ينظرُ كم تكون تلك الدَّراهم طعامًا، فيصومُ عن كلِّ صاعٍ من بُرٍّ يومين. المسألة الثّانية (¬4): اختلفوا في مَوْضِع الإطعام: فذهب مالك إلى أنّ الإطعام في الموضع الّذي أصاب فيه الصَّيد إنَّ كان ثمَّ طعامٌ، وإلّا في أقرب المواضع إليه حيث الطَّعامُ. وقال أبو حنيفة (¬5): يُطعِمُ* إنَّ شاء في الحَرَمِ وإنْ شاء في غيره. وقال الشّافعيُّ (¬6): لا يُطْعِمُ إِلَّا مساكين مكّة، كما لا ينحرُ الهَدْيَ إِلَّا بمكّة. واختلفوا في مقدار الإطعام والصّيام عنه: فقال مالك: يُطْعِمُ* (¬7) كلَّ مسكين مُدًّا، أو يصوم مكان كلّ مُدٍّ يومًا. وهو قول الشّافعيّ (¬8) وأهل الحجاز. ¬
باب ما يقتل المحرم من الدواب
المسألة الثّالثة (¬1): اختلف العلّماء في المُحْرِمِ يقتُلُ الصَّيد ثمّ يأكل منه: فقال مالك: ليس عليه إِلَّا جزاءٌ واحدٌ. وقال أبو حنيفة (¬2): في قتله جزاءٌ كاملٌ، وفي أكله ضمان ما أكل منه، وبه قال الأوزاعيّ. والكلامُ في الصَّيدِ كثير الفروع مشعبٌ جدًّا، وفيما سردناه لكم عليكم كفاية إنَّ شاء الله. باب ما يَقْتُل المُحْرِم من الدّوابِّ مالك (¬3)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْعَقرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالكَلْبُ الْعَقُورُ". الإسناد: قال القاضي: لا خلافَ بين أيِمَّة الحديث في صِحَّتِهِ ومَتْنِهِ (¬4)، واختلاف ألفاظه تتقارب وكلّها صِحَاحٌ. قال القاضي: وهذا الحديث مُعْضل من معضلاتِ الأحاديث. الأصول: قوله (¬5): "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقتَلْنَ في الْحَرَمِ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ ". قال علماؤنا (¬6): يقتضي إباحةُ ذلك على كلِّ وجهٍ إِلَّا ما خَصَّصَهُ الذَّليلُ (¬7) ¬
فكأنّه قال (¬1): لا إثْمَ عليه في قتلهنّ، فإذا أبيح قتلها فلا معنى للكفّارة والجزاء بقتلها؛ لأنّ الكفّارة لا تستعمل في المباح. وأمّا قوله في بعض الرّوايات (¬2): "يُقْتَلْنَ في الحِلِّ وَالْحَرَمِ" فمالك (¬3) والشّافعىّ يَرَيَانِ التّحريم يتعلّق بمعاني هذه الخمس دون أسمائها (¬4)، وإنّما ذُكرت لينبّه بما (¬5) شَرِكَها في العلّة، لكنّهما اختلفا في العلّة ما هي؟ فقال الشّافعيّ: العلّة أنّ (¬6) لحومها لا تؤكل، وكذلك كلّ (¬7) ما لا يؤكل لحمه من الصّيد مثلها. ورأى مالك - رحمه الله - أنّ العلَّة كونها مضرّة، وأنّه إنّما ذكر الكلب العقور لينبّه به على ما يضرّ بالأبدان على جهة *المواجهة والمغالبة، وذكر العقرب لينبّه بها على ما يضرّ بالأجسام على جهة* (¬8) الاختلاس، وكذلك ذكر الحِدَأَة والغُراب لينبّه على ما يضر بالأموال مجاهرة، وذكر الفأر لينبّه على ما يضرّ بالأموال اختفاء (¬9). وأمّا "الكلب العقور" فاختلف العلّماء فيه وبالمراد بهذا الكلب؟ فقيل: هو الكلب المألوف. وقيل: المراد به ما يفترس؟ لأنّه يسمّى في اللُّغة كلبًا بعلّة الافتراس. تنبيه (¬10): واختلف الفقهاء في إلحاق غيرها بها، واعجبًا لمن يُلْحِق الحصى بالبرّ (¬11) في ¬
الرِّبا، ولا يُلْحِق التمر والفهد والذِّئب بهذه (¬1)، وقد نبّه النَّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على العلّة وهي (¬2) الفسق، ولم يتعرّض لعلّة الرِّبا في البُرِّ بتنبيه، ولكنّه فُهِمَ من ذِكْر الأعيان الأربعة التّنبيه على أمثالها، فهاهنا (¬3) أَوْلَى، ولا وجه لقول من قال: إنَّ من يبتدىء الإذاية به خلاف من لا يبتدىء؛ *لأنّ من كانت الإذاية في طبعه، فواجب قتله ابتدأ أو لم يبتدىء* (¬4) لوجود فسقه الّذي صرّح النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - به، ألَّا ترى أنّ الحربىَّ يُقتَلُ ابتداءًا بالقتال لاستعداده (¬5) لذلك ووجود سببه فيه، ولا تعجب من أبي حنيفة في هذا، واعْجَبْ من بعض علمائنا حيث يقول: إنَّ صغار ما يُقْتَل، كبارُهُ من هذه الفواسق لا يُقْتَل؛ لأنّها لم تُؤْذِ بَعْدُ (¬6)، وكيف تكون الإذابة جبلّته وينتظر به وجودها، وقد قتل الخضر الغلام ولم توجد بعد منه فتنة، فهذا أَوْلَى، وقد قال تعالى في الكفّار {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (¬7) فكيف في هذه الفواسق. الفقه في ستة عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬8): قال علماؤنا في تفسير هذا الحديث (¬9): إنَّ كلَّ ما يبتدىء بالضَّرَرِ غالبًا، فإنّ للمُحْرِمِ قتله ابتداءًا، ولا جزاءً عليه. إنَّ الخمس الدواب جامعة لأنواع ذلك وهي: الغراب والحِدَأَة والعقرب والفأرة (¬10) والكلب العقور، وكلّ ما يعدو ويفترس مثل الأسد والنّمر والفَهْد والذِّئب وغيرها يلحق بها، وقد ذكر مالك (¬11) الفرق بين الطّير منها والكلب العقور. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): يَقتُلُ (¬2) ابتداءً الذِّئب والكلب العَقُور والغُراب والحَدأَة ولا جزاء عليه، وكذلك إنَّ قتل أسدًا أو نمرًا وكل ما يعقر النَّاس؛ لأنّ الكلب مأخوذ من التَّكَلُّب، ومنه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬3) والعَقُور مأخوذ من العَقْر، وقد رُوي عن أبي هريرة -وهو قول أهل اللِّسان (¬4) - أنّه قَال (¬5) الكلب العَقُور هو الأسد (¬6). ودليلنا من جهة القياس: أنّ هذا حيوان يلحق الضَّرَرُ من جهته بالعدوان والافتراس غالبًا، فجاز للمُحْرِمِ أنّ يبتدئه بالقتل، كالذِّئب والكلب العَقُور وغيره. وقال الشّافعيُّ (¬7): كلُّ حيوانِ يحرمُ أكلُه فإنّه مباحٌ للمُحْرِمِ قتله، إلّا السَّبع وهو المتولِّد من الذِّئب والضّبع. ودليلنا قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ...} الآية (¬8)، والصَّيد اسمٌ واقعٌ على كلِّ مستوحشٍ (¬9) سواء كان ممّا يُؤكَل لَحمه أو لا يؤكل. ومن جهة المعنى: أنّ هذا حيوان وحشيّ لا يبتدىء بالضَّرَر غالبًا، فوجب الجزاء على مَنْ قَتَلَه مُحْرِمًا، كالضّبع (¬10) والثَّعْلَب. المسألة الثّانية (¬11): قوله: "الحِدَأَةُ والعَقْرَبُ " قال ابنُ القصَّار: نَصَّ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عليها، ونَبَّهَ بذلك على ما هو أكثر ضَرَرًا منها، وهذا يحتاج إلى تأصيل (¬12)؛ لأنّه ليس في جنسها ما يبلغ ضررها؛ لأنّ أكثر ضررها ليس بشدّة فيها، وإنّما هو لِكَثْرَتِهِا ودَنُوِّهَا من النَّاس وطلبها ¬
الغَفْلَة، حتّى لا يمكن الاحتراز منها (¬1) ولا الانفصال عنها إلّا بقتلها. المسألة الثَّالثة (¬2): أمّا الرَّخَمُ (¬3) والعِقْبَان والنُّسور، فإنّها نادرةٌ نافرة عن النَّاس، فهذا اتَّفَقَ منها ما يعدوا فهو نادر كسائر الحيوان. المسألة الرَّابعة (¬4): أمّا الفأرة، فقد قال ابن القصَّار: إنّه نصّ عليها (¬5) ونَبَّهَ على ما هو أقوى منها، وهذا أيضًا من ذلك الباب؛ لأنّ الفأرة ليست تؤذي بقُوَّة، وإنّما تُؤْذي باختلاس، ولا نعلم ما يساويها في جنس إذايتها، فكيف ما يزيد عليها، ونحو ذلك كلامه في العقرب والحيَّة، وكذلك قال في الكلب العقور بأنّه نصّ عليه (¬6) ونبه على ما هو أقوى منه (¬7). المسألة الخامسة (¬8): قال علماؤنا (¬9): وإنّما سَمَّاها فواسق لخروجها عمّا عليه سائر الحيوان، بما فيها من الضَّرَر (¬10) الّذي لا يمكن الاحتراز منه، وكذلك الحيّات أيضًا لا يمكن الاحتراز منها. المسألة السّادسة (¬11): وأمّا الوزع، فقال مالك (¬12): لا بأس بقتلها في الحرم، ولو تركت لكثرت وغلبت، فجعل مالك أذاها في كثرتها؛ لأنّ لها أذى بإفساد ما تدخل فيه، مع أنّ ¬
النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - سمّاها فويسقة (¬1)، غير أنّ مالكًا كرّه للمُحْرِم أنّ يقتلها في حلٍّ أو حَرَمٍ (¬2)، ومعنى ذلك أنّه لا تكون غالبًا إلّا في البيوت، وحيث يدفع مضرّتها الحلال وقصر مدة الإحرام، والفرق بينها وبين الفأرة أنّها أكثر أذى وأسرع في الفرار والعَدْوِ. قال القاضي (¬3): فهذا إنّما هو من مالك على وجه الكراهية؛ لأنّ عائشة قالت: سمّاه النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - "فُوَيْسِقًا" (¬4) ولم يسمع أنّه أمر بقتلها أعني الوزغ. وقال مالك: قد سمعت أنّ النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - أمر بقتلها (¬5)، مجمل ذلك على حال الإحلال، سواء كان في الحرم أو في غيره، لما (¬6) قدّمنا من الأدلّة. فإن قتلها المُحْرِمُ، فقد قال مالك: يتصدَّق بشيء مثل شحمة الأرض. ووجه ذلك: أنّه يضعف عن الضَّرَرِ ابتداءًا، ويضعفُ عن الفرار، ولا يوجد إلّا نادرًا، فأشبه سائر الهوام. المسألة السَّابعة (¬7): لم يختلف قولُ مالك في الأسد والنّمر والفهد أنّه يجوز للمُحْرِم قتلها، واختلف قوله في الذِّئب، فروى عنه ابنُ عبد الحَكَمِ إباحة ذلك ومنعه (¬8). المسألة الثَّامنة (¬9): وأمّا قتلُ صغار الأسود والنّمور والفهود، هل يقتل ابتداءًا أم لا؟ فروى البَرْقِيُّ (¬10) عن أشهب جواز ذلك (¬11). ¬
ورَوَى ابنُ الموَّاز عن ابن القاسم وأشهب منع ذلك (¬1) فإن قتلها فهل يديها أم لا؟ فقال ابن القاسم: لا فِدْيَةَ عليه. وقال أشهب: عليه الجزاء. المسألة التّاسعة (¬2): وأمّا (¬3) الضَّبعُ والثَّعلب والهرُّ وما أشبهها، فلا يتقلهنَّ المُحْرِمُ، فإنّها لا تبدأ بالضَّرَرِ غالبًا، بل تَفِرُّ من الإنسان إذا رأته، وكان عطاء يقول: إنَّ الهرَّ الوحشيَّ سَبُعٌ وإنّه يجوز للمُحْرِمِ أنّ يبدأه بالقتل (¬4)، وما قلناه بيِّنٌ والحمدُ لله. المسألة العاشرة (¬5): روى محمّد (¬6) عن مالك؛ أنّه لا يقتُلُ المحرِمُ قِرْدًا. وقال ابنُ القاسم: لا يقتل أيضًا خنزيرًا وحشيًا ولا إنسيًا، ولا خنزيرَ الماء (¬7). وقال ابنُ حبيب: لا يقتلُ الدُّبّ (¬8) وشبهه من السِّباع الّتي لا تؤذي - يريد أنّها لا تبدأ بالضَّرَرِ-، فإن قَتْلَهُ وَدَاهُم (¬9)، وأراه يريد من هذه السِّباع الّتي لا تبدأ غالبًا بالضَّرَر، فقد روى محمّد عن مالك فيمن قتل قِرْدًا أنّ عليه جزاؤه. وروى ابنُ القاسم فيمن قتل خنزيرًا وحشيًا أو إنسيًا أو خنزيرًا الماء أنّ عليه جزاؤه. وقال ابنُ حبيب فيمن قتل دُبًّا (¬10): عليه جزاؤُهُ. ¬
المسألة الحادية عشرة (¬1): قوله (¬2): "وما أَضَرَ مِنَ الطَّيْرِ فإنّه لا يجوز للمُحْرِمِ قَتْله" هو كما قال، لا يُقتَلُ ابتداءً من الطّير إلّا الغراب والحِدَأَة؛ لأنَّ المنع عام في الطّير وسائر الحيوان، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬3) ثمّ خَصَّ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - من الجملة الغُرابَ والحِدَأةَ، فبقيَ باقيها على الحَظْر. وأيضًا: فإنّا قد بيَّنَّا أنّ مضرَّتَهُما الّتي أباحت قتلهما ابتداءً لا يشاركهما فيها شيء من الطّير، فوجب ألّا يشاركهما في إباحة القتل. المسألة الثّانية عشر (¬4): اختلف قول مالك في إباحة قتلهما ابتداءًا، فالظّاهر من مذهبه ما ثبت في "موطّئه" جواز ذلك (¬5)، وقد رَوَى عنه أشهبُ منعَ ذلك للمُحْرِمِ في الحَرَمِ (¬6)، وهذا (¬7) موافقٌ للحديث. المسألة (¬8) الثّالثة عشر (¬9): وأمّا صغارُ الغِرْبان والحِدَاء (¬10) فقد قال ابن القاسم يُوديها إنَّ قَتَلَها إنَّ كانت صغارًا لا حركةَ لها، ولم يرو فيها (¬11) خلافًا. فلا خلافَ في المذهب أنّه لا يجوز قتلها (¬12) ابتداءً، ومن قَتَلَها فعليه الفِدْيَة، ¬
وإن ابتدأت بالضَّرَرِ فلا جزاء على قالتها على المشهور من المذهب، فيمن عَدَا عليه شيءٌ من سباع الطّير وغيرها من الوحش. وقال أشهب: عليه الفِدْيَةُ في الطَّير وأن ابتدأت بالضَّرَر. وقال أَصْبَغُ: مَنْ عدا عليه شيءٌ منها فقتله وداه بشاة. وقال ابن حبيب: هو مِنْ أَصْبَغَ غَلَطٌ. واحتج ابنُ القاسم في "المبسوط " بأنّ الإنسان أعظمُ حُرْمةَ من الصّيد، فإذا قتلَه الإنسانُ دفعًا عن نفسه فلا شيءَ عليه. المسألة الرّابعة عشر: فإنْ قتل حمام الحرم ابتداءً وهو جاهل أو عالم، فعليه الجزاء في المذهب (¬1). المسألة الخامسة عشر (¬2): اختلف العلماء في الزُّنبور (¬3)، فَشَبَّهَهُ بعضُهم بالحيّة والعقرب، وقال (¬4): ولولا (¬5) أنّ الزّنبور لا يعتدي (¬6)، لكان أغلظ على النَّاس من الحيّة والعقرب؛ لأنّه إنّما يُخْشَى إذا أُوذي، قال (¬7): فإن عرضَ الزُّنبور للإنسان فدفعه على نفسه، لم يكن عليه فيه شيءٌ. المسألة السَّادسة عشر (¬8): وأمّا "الغراب" فقال (¬9): لا يقتل من الغِرْبان إِلَّا الأبقع خاصّة، واحتجوا بما ذَكَرَهُ النّسائي (¬10)، عن عائشة، عن النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "خَمْسٌ يقتلن في الحل والحرم: ¬
باب ما يجوز للمحرم أن يفعله
الحيَّةُ، والفأرةُ، والحِدَأَةُ، والغُرابُ الأبقعُ، والكلب العقور". قال القاضي: وهذه مسألة ما رأيتُ من فهم عنها في الغراب الأبقع، فقيل (¬1): الغراب الأبقع من الغربان الّذي في بطنه وظهره بياضٌ، وكذلك الكلبُ الأبقعُ أيضًا، وأمّا الغرابُ الأدْرَعُ فهو الأسود، والغراب الأعصمُ هو الأبيض الرِّجلين، وقيل: الأحمر الرِّجْلين، وقيل للرَّجُل: أعصم (¬2). باب ما يجوزُ للمُحْرِمِ أنّ يَفْعَلَهُ قال القاضي - رضي الله عنه -: الّذي يتعلّق بهذا الباب من الفقه إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬3): قال ابنُ عبَّاس: لا بأس أنّ يقتلَ المُحْرِمُ البراغيث. ولا خلاف بين العلماء في أنّ المُحْرِمَ يحكُّ جسدَه ويحكّ رأسه حَكًّا رفيقًا، لئلّا يقتلَ قملةً أو يقطعَ شَعْرةً، وقد أرخص بعض العلماء في الشَّعرة والشَّعرتين؛ لأنّه ليس في الشَّعرتين شيء. وقال الشَّافعىّ (¬4): إِنْ قطَعَ المُحْرِمُ مِن شَعْر رأسه أو جَسَدِه ثلاث شعرات فعليه فدية (¬5)، وإنْ نتف شعرة فعليه مُدٌّ، وفي الشَّعْرتين مُدّان، وسيأتي بيانُه إنَّ شاء الله. الحديث الأوّل (¬6): قال في حَدِيثِ رَبيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهُدَيْرِ؛ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يُقَرِّدُ بَعِيرًا لَهُ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. ¬
عربيّة: القُرْدَانُ: من دوابِّ الإبل (¬1)، كالقمل الّتي هي من دواب بني آدم، وفيه الجمع والإفراد، قُرَادٌ وقِرْدان، كعار وعِرْيَان. والحديث الثَّاني (¬2): قوله: "وأَحَبُّ ما سمعتُ إِليَّ قول ابن عمر؛ أنّه كان يَكْرَهُ أَنْ يَنْزِعَ الْمُحْرِمُ حَلَمَةً أَوْ قُرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ. وقيل: أراد أنّ ينزع القُراد عن بعيره بالطِّين، والعرب تفعل ذلك؛ لأنّ ذلك أخفّ عليها من خروج القُراد من البعير. والحَلَمَةُ: القُرَادُ (¬3)، والحلمتان: القردان، وَاحدُها حَلَمَة. و"السُّقْيَا" (¬4) موضعٌ. الفقه في إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "يُقَرِّدُ بَعِيرًا" يريد: يزيل عنه القُرَاد في حال إحرامه، وقد اختلف في ذلك، فأجازه عُمَر وابن عبّاس، وبه قال أبو حنيفة (¬7) والشّافعيّ (¬8)، وكرهه ابن المسيَّب وابن عمر، وبه قال مالك. والأصلُ في ذلك: منعُ قتلِ القُمَّلِ، فنقول: إِنَّ هذا حيوان يتولّد في جَسَدِهِ حيوان من غير جِنْسِهِ ولا يختصُّ به، فلم يكن للمُحْرِمِ طرحه (¬9)، كالقُمَّلِ من جَسَدِ الإنسان. ¬
المسألة الثَّانية (¬1): وهذا حُكْمُ جميع الحيوان (¬2)، لا يجوز للمُحْرِمِ قتله إِلَّا ما تقدّم ذِكْرُهُ. والدّليل على ذلك: قوله - صلّى الله عليه وسلم - لكَعْبِ بن عُجْرَةَ: "أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " (¬3) ثمّ أباح له إزالتها على أنّ يفتدي، فدلّ (¬4) ذلك على المنع من إزالة ما يقع عليه هذا الاسم من أذى. المسألة الثَّالثة (¬5): فإِذا ثبت هذا، فالهوامُّ على ضربين: ضربٌ منه يخْتصُّ بالأجسام، كالقُرَادِ باجسام الدّواب، والقُمَّلِ في أجسام بني آدم. وضربٌ لا يخْتصُّ بذلك، كالنّمل والذِّرِّ (¬6) والبراغيث والبعوض (¬7). فأمّا ما كان من ذلك من دوابِّ الجَسَد، فلا يقتلُه المُحْرِمُ ولا يزيلُه عن جَسَدِه المختصِّ به، إِلَّا لكثرته إذا ظهر (¬8)، فيُميطُه عنه، وهل يكون عليه فِدْيَةٌ أم لا؟ فالمشهور من قول مالك أنّ عليه فِدْيَة إذا أصاب الكثير منه، وإن أصاب اليسير منه، فليطعم شيئًا من الطّعام (¬9). وقال ابن القاسم في القليل والكثير من ذلك الإطعامُ. المسألة الرَّابعة (¬10): وهل يجري ذلك مجرى الصَّيد، أو مجرى إلقاء التَّفَثِ؟ فهذا لم أر فيه نصًّا لعلّمائنا، وعندي (¬11) أنّه يحتمل الوجهين، أمّا مشابهتُه بقتل الصّيد، فإنّه يَحْرُمُ عليه ¬
قتلُه في غير (¬1) الجسم المختصّ به، فلا يجوز له أنّ يقتل قملة يجدها ساقطة في الأرض، كما لا يجوز له أنّ يتلف (¬2) شَعْرًا في الأرض، لمّا كان من (¬3) إلقاء التَّفَثِ، فلو كان قتل القُمَّلِ من باب إلقاء التَّفَثِ خاصّة، لجاز أنّ يقتلَه على غير جَسَدِه. المسألة الخامسة (¬4): وأمّا ما ليس من دوابِّ الجَسَدِ، كالبقّ والذَّرِّ والنّمل، فإنّه يجوز للإنسان طرحُه عن جَسَدِه. ويطرح عن بعيره العَلَقَ (¬5) وسائر الحيوان، إِلَّا ما كان من دوابّ جَسَده، ولا يقتل شيئًا من ذلك، فإنْ قَتَلَهُ، فقد قال مالك: يُطْعِم، وقال مرَّة: أحَبُّ إليَّ أنّ يُطعِم. وإن ابتدأ الإنسانَ شيءٌ من ذلك بالضَّرَرِ فقتلَهُ، فقال مالك في مُحْرِمِ لذعته ذَرَّةٌ فقتلَها وهو لا يشعر: أرى أنّ يُطْعِمَ شيئًا، وكذلك النَّمْلة. ووجه ذلك: أنّ ضررها يسيرٌ، وطرحُها يقومُ مقامَ قتلها في دفع أذاها. المسألة السّادسية (¬6): قوله (¬7):" فَلْيَحْكُكْ وَلَا يَشْدُدْ" (¬8) تريد أنّ ذلك لا يُتَّقَى منه شيءٌ من قتل القُمَّلِ ولا نتف الشَّعر. وما لم يخف منه على المُحْرِم إتيانُ شيءٍ من المحظور عليه فهو مباح، وقد قال مالك: لا بأس أنّ يحكّ المُحْرِمُ سائر (¬9) جَسَدِه وقروحه. ¬
المسألة السّابعة (¬1): سؤالُه (¬2) ابنَ المسيِّب عن ظُفْر له انْكَسَر، فدلّ على أنّه بَقِيَ معلَّقًا يتأذَى به، فأمره بقطعه، وقد رواه ابن وَهْب (¬3)؛ أخبرني مالك عن محمّد بن (¬4) عبد الله بن أبي مريم قال: انْكَسَرَ ظُفري وأنا مُحْرِمٌ، فتعلَّق فآذانىِ، قال: فذهبت إلى سعيد فسألتُه فقال: اقطَعْهُ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ} الآية (¬5)، ففعلتُ (¬6)، وذلك أنّ قطع الظُّفْر ممنوع للمُحْرِمِ؛ لأنّه من إماطة الأذى وإلقاء التَّفَثِ، فإنْ قطَعَه فذلك على ضربين: أحدهما: أنّ يقطعه لضرورة. والثّاني: أنّ يقطعه لغير ضرورة. فإِنْ قطعه لضرورة (¬7) فإنَّ ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أنّ يقطعه لضرورة مختصَّة بالظّفر. والثّاني: أنّ يقطعه لضرورة غيرِ مختصَّة (¬8) بالظُّفْر. فأمَّا الضّرورة المختصَّةُ به، فمثل ما ذكرنا من أنّ ينكسر الظُّفْرُ فيبقى مُعَلَّقًا يتأذى به، فهذا يقطعُه ولا شيء عليه فيه على ما ذكرنا، ولا نعلم فيه خلافًا للمذهب، فإن قطع (¬9) أكثره افتدى (¬10). المسألة الثّامنة (¬11): وأمّا إنَّ كان الضَّرَرُ من غير سببِ الظُّفْر، مثلُ أنّ يكون بأصابعه قروحٌ فلا يقدِرُ ¬
على مداواتها إلّا بتقليم الأظفار، فإنّه يُقَلِّمُها ويفتدي، وبه قال مالك. ووجه ذلك: أنّ الضَّرر يُبيحُ (¬1) له تقليم الأظفار، إِلَّا أنّه لمّا لم يكن الضَّرَرُ من جهة الظُّفْر، لزمته الفِدْيَة. وأمّا إنَّ قَلَّمَها لغير ضرورة، فقد ارتكب المحظور، وتجب عليه بذلك الفِدْيَة، سواءٌ فعلَ ذلك جاهلًا أو عامدًا أو ناسيًا. ووجه ذلك: أنَّه من إماطة الأذى المعتاد وإلقاءِ التَّفَثِ، وذلك محظورٌ على المُحْرِمِ، كحَلْق الرَّأس. المسألة التّاسعة (¬2): "أَيَقْطُرُ فِي أُذُنَيْهِ مِنَ الْبَانِ الَّذي لَمْ يُطَيَّبْ" (¬3) هو كما قال، وذلك أنّ استعمال الذُّهْن الّذي ليس بمُطَيّب يكون في ثلاثة مواضع. أحدها: أنّ يستعمله في باطن جَسَدِه ممّا لا يظهر، كتقطيره (¬4) في الأذن والاستنشاق (¬5) به والمضمضة، فإنّ ذلك كلّه جائز للمُحْرِمِ أنّ يفعله، ولا شيء عليه فيه؛ لأنّه بمنزلة أكله إياه. الثّاني: أنّ يستعمله في ظاهر جسده غيرِ باطن يَدَيْه وقدَمَيْه، فهذا ممنوع، فإن فعل ذلك فعليه الفِدْيَةُ عند مالك وأصحابه، قال ابنُ حبيب - وقد رَوَى عنه إباحة ذلك-: وبه أخذ اللّيث (¬6). ووجه قول مالك: أنّه (¬7) إزالة الشّعثِ؛ لأنّ ممّا يفعله المحلّل كالمتنظّفِ في الحمام. ولو دهَنَ به عضوًا من جسده، وجبت عليه الفِدْيَة، إذا كان ما دهنه من جَسَدِه موضعًا له بالٌ، فإنْ لم يكن إلّا شيئًا يسيرًا، فلا شيء عليه؛ لأنّ إزالة الشَّعث لا تحصل إلّا بذلك. ¬
باب الحج عمن يحج عنه
المسألة العاشرة (¬1): فإنْ دهن بطون يَدَيْه أو قدميه لشقوق بهما فلا بأس بذلك، فإنْ فعل ذلك لغير علّة فعليه الفِدْيَة. ووجه ذلك: أنّهما ظاهران ظهور سائر الأعضاء، وإذا لم يقصد بدُهْنِهِما دفع مضرَّةٍ فعليه الفِدْيَة، فإن قصد بذلك دفع المضرّة أو القوّة على العمل فلا فِدْيَة عليه. المسألة الحادية عشر: فإنْ حلق قفاه لموضع الحجامة وهو مُحْرِمٌ، فعليه الفِدْيَة جاهلًا كان أو عالمًا أو ناسيًا (¬2). باب الحجّ عمن يحجّ عنه الحديث (¬3): وفيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى: اجتمعتِ الأُمَّةُ على وجوب الحجِّ. والدّليل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ...} الآية (¬4). والحجُّ (¬5) في اللّغة القصدُ، إِلَّا أنّ الشّرع قد ورد بتخصيص هذه اللّفظة واستعمالها في قَصْدٍ (¬6) مخصوصٍ، إلى موضعٍ مخصوصٍ، في وقتٍ مخصوصٍ، على شرائطَ مخصوصةٍ، وإنّما يجب مرَّةً في العمر، ولا خلافَ في ذلك. ¬
واختلف علماؤنا في وجوبه على الفَوْر أو على التّراخي، فذهب عبد الوهّاب (¬1) إلى أنّه على الفور، وبه قال أبو حنيفة (¬2)، وقال القاضي أبو بكر (¬3): هو على التّراخي، وبه قال الشّافعيّ (¬4)، وهو الأظهر عندي (¬5). وقال بعضُ المغاربة: في هذه المسألة طريقان (¬6): أحدهما: أنّ يدلَّ على أنّ الأوامر على التَّرَاخِي. الثّاني: أنّ يدلّ على المسألة نفسها. والدّليلُ على أنّ الأوامر على التّراخي: أنّ لفظة "افْعَل" ليست بمقتضيه للزّمان، إِلَّا بمعنى (¬7) أنّ الفعل لا يقع إِلَّا في الزّمان، وذلك كاقتضائها للحال والمكان، ثمّ ثبت (¬8) أنّ له أنّ يأتي بالمأمور به (¬9) أي مكان شاء وعلى أي حالٍ شاء، فكذلك له أنّ يفعلَه في أيِّ زمان شاء. وظاهرُ قول القاضي أب بكر أنّه يجب إذا غلب على ظنِّه الفَوْت. وقال بعض الشّافعية: إنّه يجوز له التّراخي بشرط السَّلَامة، فإن مات قبل الإتيان به، تبيّن أنّ (¬10) العصيان قد وقع بتأخيره. الثّانية: الاستطاعة، قد بَيَّنَا فيما تقدّم وجوبها من أقوال العلماء. ¬
الثّالثة (¬1): قولُه في هذا الحديث (¬2): "أَفَأَحُجُّ عَنْهُ" سؤال عن صحَّة النِّيابة فيه، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ" وذلك يقتضي صحَّة النِّيابة في الحجِّ. والعبادات على ثلاثة أَضْرُب: 1 - أحدها: عبادةٌ مختصَّةٌ بالمال، كالزّكاة، فلا خلافَ أنّه تصحّ النِّيابة فيها. 2 - وعبادةٌ مختصّة بالجَسَد، كالصّلاة والصّوم، لا خلاف أنّه لا تصحّ النِّيابة فيها، ولا خلافَ نعلَمُهُ فيها، إلّا ما رُوِيَ عن داود أنَّه قال: من مات وعليه صومٌ يصومُهُ عنه وَلِيُّهُ (¬3). 3 - وعبادةٌ لها تعلُّق بالمال والبَدَنِ كالجهاد والحجّ، فقد أطلق القاضي أبو محمّد (¬4) أنّه تصحّ النِّيابة فيهما، وقد كره (¬5) ذلك مالك وقال: لا يحجّ أَحَدٌ عن أحَدٍ، ولا يصلّي أَحَدٌ عن أحَدٍ، ورأى أنّ الصَّدقة عن (¬6) الميِّت أفضل من استئجار (¬7) من يحجّ عنه، إِلَّا أنّه إنْ أَوْصَى بذلك نُفِّذَتْ وصيَّتُهُ. وقال ابنُ القصّار: لا تصحّ النِّيابةُ، وإنّما للميِّت المحجوج عنه أجرُ نَفَقَتِه إنَّ أوْصَى أنّ يستأجر من ماله على ذلك، وإن تطوّع أحد عنه بذلك فله أجرُ الدّعاء وفضلُه، وهذا وجه انتفاع الميِّت بالحجِّ. والّذي عندي (¬8): أنّ المسألة في المذهب على قولين، غير أنَّ القولَ بصحَّة النِّيابة أظهر، فممّا يدلّ (¬9) على ذلك: أنّ مالكًا قال فيمن أوصَى أنّ يحجَّ عنه بعد موته: ينفذ (¬10) ¬
باب ما جاء فيمن أحصر بعدو
ذلك. وقال مرّة: لا يحجّ عنه صرورةٌ (¬1)، ولا عبدٌ، ولا مُكَاتَبٌ، ولا معتقٌ بعضُه، ولا مُدَبَّرٌ، ولا أمُّ ولد؛ فلولا أنَّ الحجَّ (¬2) على وجه النِّيابة عن المُوصِي، لما (¬3) اعتُبِرَت صفة المباشرِ للحجِّ (¬4). نكتةٌ أصولية (¬5): فإذا ثبت هذا، فعلى أيِّ وجه تكون النّيابة؟ قال عبد الوهّاب (¬6): لسنا نعني بصحّة النِّيابة أنّ الفَرْضَ يسقطُ عنه حجّ الغير، وإنّما نريد بذلك التّطوعُ، فذهب إلى أنّه تصحّ النِّيابة في نَفْلِهِ دون فَرْضِهِ. وأمّا إذا قلنا: إنَّ الاستنابة غيرُ مكروهة على ما ذهب إليه ابن حبيب، فَوَجْهُ الحديث (¬7) بَيِّنٌ. وإذا قلنا: إنّها مكروهة، فيحتمل أنّ يكون أبوها توفِّي عن وصيّتهن بذلك، وإن لم يكن في الحديث ما يدلّ عليه، إلّا أنّه قد رُوِيَ في حديث موسى بن سَلَمَة عن ابن عبّاس (¬8)؛ أنّ السؤال كان عن ميِّت لم يحجّ حجّة الإسلام. باب ما جاء فيمن أُحْصِرَ بعَدُوِّ الأحاديث (¬9): حديث (¬10)؛ عن عائشة، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال لها: "ألم تَرَيْ أنّ قومَكِ حين ¬
بَنَوْا الكعبةَ، اقتصروا على قواعد إبراهيم". العربيَّة (¬1): قال الخليل (¬2) وغيره: "حصرتُ الرَّجُلَ حَصْرًا إذا منعته وحبسته"، قال: و" أُحصِر الرَّجلُ (¬3) من بلوغ مكّة والمناسِك من مرض (¬4) أو نحوه" هكذا قالوا، وجعلوا الأوّل ثلاثيًّا من حصرت، والثّاني رباعيًا من أحصرت في المرض، وعلى هذا خرج قول ابن عبّاس:، لا حَصْرَ إلّا حَصْرَ العَدُوِّ" ولم يقل: لا إحصار إِلَّا إحصار العدوّ. وقال (¬5) ابن السّكّيت (¬6): أحصر من العَدُوُّ ومن المرض جميعًا، وقالوا: حصر وأحصر بمعنى واحد في المرض والعدوِّ، ومعنى أحصر حبسَ، واحتجّ من قال هذا من الفقهاء بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ...} الآية (¬7)، وإنّما نزلت هذه الآية في الحُدَيْبِيَة (¬8)، وإنّما كان حصرهم أو إحصارهم يومئذٍ من العدوّ. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة (¬9) الأولى (¬10): الإحصار عند علمائنا على ثلاثة أضرب: منها الحصر بعدوٍّ. وبالسّلطان الجائر. ¬
ومنها بالمرض وشبهه. وأصل الحصر الحبس والمنع. وأمّا قول مالك (¬1) فيمن حصره العدوّ، أنّه يحلّ من إحرامه، ولا هَدْيَ عليه ولا قضاءَ، إِلَّا أنّه إنْ كان ساقَ هَدْيًا نَحَرَهُ، وقد وافقه الشّافعيُّ (¬2)، على أنّه يتحلّل بالموضع الّذي حِيلَ فيه بينه وبين الوصول إلى البيت، وأنّه لا قضاء عليه، إِلَّا أنّ يكون صرورةً فلا يُسقِطُ ذلك فرضَ الحجِّ. واختلف الفقهاء (¬3) في موضع نحر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يوم (¬4) الحُدَيْبِيَةِ هل كان في الحلِّ أو في الحَرَمِ؟ فكان عطاء يقول (¬5): لم ينحر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هَدْيَهُ يوم الحُدَيْبِيَة إِلَّا في الحَرَمِ، وهو قول ابن إسحاق. وقال غيره من أهل السِّيَر والمغازي: لم ينحر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هَدْيَهُ يوم الحُدَيْبيَة إلّا في الحلِّ، وهو قول الشّافعيّ (¬6)، واحتج بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية (¬7)، وهي المسألة الثَّانية. المسألة الثَّالثة (¬8): اختلف العلماء فيمن حصرَهُ العدوُّ بمكّة؟ فقال مالك: يتحلَّلُ بعُمْرَةٍ كما لو حصره العدوُّ في الحِلِّ، إِلَّا أنّ يكون مكِّيًّا فيخرج إلى الحِلِّ ثمّ يحلّ بعمرة، وقد قال مالك: أهلُ مكَّة في ذلك سواء كأهل العراق. وقال الشّافعيُّ (¬9): الإحصارُ بعدوٌّ بمكَّة وغيرها سواءٌ، ينحرُ هَدْيَهُ ويحلُّ مكانه. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): إذا أتى مكّة مُحْرِمًا بالحجِّ فلا يكون محصرًا. وقال مالك: من وقف بعَرَفَةَ فليس بمُحْصَرٍ، ويقيمُ على إحرامه حتّى يطوفَ بالبيت ويهدي إنَّ شاء الله. ذكر الفوائد المطلقة المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): فيه من الفقه معانٍ منها: إباحةُ الإهلال والدخول (¬3) في الإحرام (¬4) الثَّانية (¬5): فيه ركوب الطّريق المخوف، وهو إذا كان الأغلب فيه السلاّمة؛ لأنّ (¬6) ابن عمر لم يخف في الفتنة إِلَّا منعَ الوصول إلى البيت خاصّة دون القتل؛ لأنّهم لم يكونوا في الفِتْنَةِ يقتلونَ من لا يقاتلونهم. الثَّالثة (¬7): قوله (¬8): "مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ ... أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ" وقد كان أحرم بعُمْرَة، ففيه دخول (¬9) الحجّ على العمرة، وقد اختلف النَّاس في ذلك فيمن أدخل الحجّ على العُمْرَة أو العُمْرَة على الحجِّ، وقد تقدّم القول فيه، وجمهور العلماء مجمِعُون على أنّه من أدخل الحجَّ على العُمْرَة في أشهُرِ الحجِّ قبل الطّواف بالبيت أنّه جائز ذلك له، ويلزمه ما يلزم مَنْ أَهَلَّ بهما معًا. ¬
باب ما جاء فيمن أحصر بغير عدو
الرَّابعة (¬1): اختلف العلماء بعد ذلك: فمنهم من قال: عليه القضاء إذا أحصره العدوّ وليس عليه هَدْي. ومنهم من قال: عليه الهَدْي ولا قضاء عليه؛ لأنّ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حين صدّه العدوّ أَهْدَى وقَضَى. فأمَّا الهدي، فكان معه ابتداءً، فلا حجّة فيه؛ لأنّه لم يوجبه بنفس الصَّدِّ وأمّا القضاء فلم يفعله أيْضًا بأصل وجوب استقر في ذِمَّتِه (¬2)، وإنّما كان ليظهر صدقُه فيما أخبر به من دخول البيت والطّواف والسّعيِ فيه، وليبلغ أمله من إخزاء (¬3) المشركين، وأمّا من صدّه المشركون عن الحجّ، فأجره قائمٌ وحجُّه تامٌّ إن شاء الله. باب ما جاء فيمن أُحْصِرَ بغير عَدُوِّ الأحاديث (¬4) صحاح. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): لا خلاف عن مالك أنّ المُحْصَرَ بمرضٍ ومن فاته الحجّ حكمُهُما سواءٌ، كلاهما يتحلَّلُ بعمل عُمْرَة، وعليه دَمٌ لا يذبحه إلّا بمكّة أو بمنىً، وهو قول أبي حنيفة (¬6). وقال الشّافعيّ (¬7): ينحر في الحلِّ إذا لم يقدر على الحرم. ¬
باب ما جاء في بناء الكعبة
قال القاضي - رضي الله عنه - (¬1): المشهور من مذهب (¬2) الشّافعي (¬3)؛ أنّ المُحصَرَ ينحر هَدْيَهُ حيث أُحْصِرَ؛ لأنّه خارج من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4) وبدليل نحر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هَدْيَه يوم الحُدَيْبيَة في الحِلِّ على ما نَقَلَهُ أهل السِّيَرِ والمعازي، وقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬5) فدلّ ذلك أنّ البلوغ على من قدر لا على من أُحْصِرَ. وعند مالك (¬6) والشّافعىّ في المكِّىِّ والغريب يُحصرُ بمكّةَ أنّه يحِلُّ بالطّواف والسَّعيِ، قال مالك: إذا بقي محصورًا حتّى فرغ النَّاس من حجِّهم، فإنّه يخرج إلى الحلِّ، فَيُلَبِّي ويفعلُ ما يفعلُ المُعْتَمِرُ ويحلُّ، فإذا كان قابلُ حجّ وأَهْدَى. باب ما جاء في بناء الكعبة الأحاديث في هذا الباب كثيرة المساق، والصّحيح ما ذَكَرَه مالك في "موطّئه" (¬7). العربية (¬8): قال الخليل (¬9): قيل لها كعبة لارتفاعها على وجه الأرض، ومنه قيل للكعب كعب لارتفاعه عن القدم. وقوله (¬10): إنَّ بناءهم لم يتمّ على قواعد إبراهيم، فالقواعدُ أسُّ البيت، واحدُها قاعدة عند اللُّغة، قالوا: والواحدةُ من النِّساء اللآتي قعدت عن الولادة قاعد، ¬
والجمع فيهما جميعًا قواعد (¬1)، وهي لغة القرآن ونصّه (¬2). الفقه والفوائد المنثورة في أربع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬3): فيه من وجوه الفقه والعلّم: معرفة بنيان قريش للكعبة، ومعرفة التّاريخ، وأنّ بنيانهم لم يتمّ على قواعد إبراهيم والقواعد من البيت (¬4). وأمّا بنيان قريش البيت الحرام فلا خلاف في ذلك، وقد اختلف أهل التاريخ في تاريخ بنيانها (¬5). فقال موسى بن عُقبة عق ابن شهاب؛ قال: كان بين الفِجَارِ (¬6) وبين بنيان الكعبة خمسة عشرة سنة (¬7). وذكر ابنُ وهب: قال: إنَّ الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على رأس * خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة (¬8). وقال محمّد بن جُبَيْر بن مطعم: بُنيَ البيت بعد* (¬9) خمس وعشرين سنة من الفيل (¬10). وقال ابن إسحاق: على رأس خمس وثلاثين (¬11). ¬
قال الشّيخ أبو عمر (¬1): وفي حديث ابن شهاب دليلٌ على أنّ الحِجْرَ من البيت، فإذا صحّ ذلك وجب إدخاله في الطّواف، ولأجل ذلك أجمع العلماء أنّ كلّ من طاف بالبيت لَزِمَه أنّ يُدْخِلَ الحِجْرَ في طوافه، واختلفوا (¬2) فيمن لم يُدْخِلُه في طوافه؟ فالّذي عليه الجمهور أنّ ذلك لا يجوز (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): أمّا حديث عائشة (¬5) أنّها قالت: "مَا أُبالي أصَلَّيتُ في الحِجْرِ أمْ في البيْتِ" فليس فيه أكثر من أنّ الحِجْرَ من البيت، وأنّ من صلّى فيه كمن صلّى في البيت. والصَّلاة (¬6) فرْضٌ ونَفْلٌ. فأمّا الفرضُ، فقد رَوَى محمّد عن أصْبَغ؛ أنَّه من صلّى في البيت أعاد أبدًا. وقال محمّد: لا إعادة عليه. وقال أشْهَب: من صلّى على ظهر البيت أعاد أبدًا. ووجه قول أصْبَغ: أنّ القِبْلَة تمرّ على جميع البيت، ويَستقبِلُ المستَقْبِلُ بها جانِبَي البيت، ومن صلَّى فيه فقد تعذَّرَ ذلك عليه، وهو مصلٍّ إلى غير القِبْلة من غير عُذْرٍ. ووجه قول محمّد: أنّه موضع (¬7) تصلَّى فيه النّافلة لغير عُذْرٍ، فجاز أنّ تصلَّى فيه الفريضة كخارج البيت. المسألة الرّابعة (¬8): أمّا التنفُّلُ فلا بأس به في الحِجّرِ والبيت، قاله ابنُ حبيب، ومنعه أبو حنيفة (¬9). ¬
الرمل في الطواف
وأمّا الصّلاة (¬1) على ظهر البيت، فقال ابن حبيب: لا تصلَّى النّافلة عليه، وهو كمصلّ إلى غير القِبْلَة، وتصلَّى النّافلة داخل البيت لفعل النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬2). حديث (¬3): قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لقد هممتُ أنّ أهدمَ الكعبة، وأبنيها (¬4) على قواعد إبراهيم ... الحديث" (¬5). رُوِيَ أنّ هارون الرّشيد ذكر لمالك أنّه يريد هدم ما بناه الحجّاج من الكعبة، وأن يَرُدَّهُ إلى بنيان ابن الزُّبير، فقال له مالك: ناشدتُك الله يا أمير المؤمنين ألَّا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يأتي أحَدٌ منهم إِلَّا نقض البيت وبناه، فتذهب هَيْبتُه من صدور النَّاس (¬6). الرَّمَل في الطّواف الأحاديث (¬7) صِحَاحٌ. العربيَّة: الرَّمَلُ: مأخوذ من رَمَلُ يَرْمُلُ إذا تحرّك ومشَى مشيًا زاد فيه. وقيل (¬8): الرَّملُ الخَبَبُ في المشيء. والشَّوْطُ مأخوذ من قولهم: جرى الفَرَسَ شوطًا إذا بلغ مجراه ثمّ عاد، فكلُّ من أتى موضعًا ثمّ (¬9) انصرَف عنه فهو شَوطٌ. والرَّمَلُ (¬10) هو المشيُ خَبَبًا يشتدُّ فيه دون الهَرْوَلَة، وهيئتُه أنّ يحرِّكَ الماشي ¬
منكَبَيه لشدّة الحركة في مَشيِه، هكذا تتمة السَّبعة، فحُكْمُها * حكم الثلاثة الأشواط، وأمّا الأربعة الأشواط، وأمّا الأربعة الأشواط * (¬1) المشيُ المعهود، وهو الأظهر (¬2). الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬3): لا خلاف عند علمائنا أنّ الرَّمَلَ هو الحركة، والزِّيادة في المشي لا تكون إلّا في ثلاثة أطواف من السَّبعة، في طواف دخول مكّة، خاصّة للقادم الحاجِّ أو المُعْتَمِر. وفي هذا الحديث دليلٌ على (¬4) أنّ الطَّائف يبتدىءُ طوافَه من الحَجَرِ إلى الحَجَر، وهذا ما لا خلافَ فيه أيضًا. المسألة الثَّانية (¬5): اختلف العلماء في الرَّمَل هل هو سُنَّةٌ من سُنَنِ الحجِّ لا يجوز تركها، أم ليس بسُنَّة واجبة؛ لأنّه كان لعلّة ذهبت وزالت، فمن شاء فعله اختيارًا. فرُوي عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وهو قول مالك (¬6) والشّافعىّ (¬7) وأبي حنيفة (¬8) وأحمد (¬9) أنّه سُنّة. وقال آخرون: ليس الرَّمَلُ سنّة، فمن شاء فعله ومن شاء لم يفعله، وروي ذلك عن جماعة من التّابعين (¬10)، وجمهور العلماء على أنّ الرَّمَلَ من الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، ¬
على ما في حديث جابر (¬1) في الأشواط الثّلاثة (¬2). المسألة الثَّالثة (¬3): اختلفَ قولُ مالكٍ وأصحابه فيمن ترك الرَّمَلَ في الطَّوافِ بالبيت طواف الدّخول، أو ترك الهَرْوَلَة في السَّعيِ بين الصَّفَا والمروة، ثمّ ذكر (¬4) وهو قريبٌ، فمرة قال (¬5): لا يُعيد، ومرّة قال (¬6): يعيد، وبه قال ابن القاسم - بالقول الأوّل أنّه لا يعيد-، واختلف قولُه (¬7) أيضًا، هل عليه دم أم لا؟ وهي: المسألة الرَّابعة (¬8): فمرّة قال: لا شيء عليه. ومرّة قال: عليه دم. وقال ابنُ القاسم: هو خفيف ولا أرى فيه شيئًا. وكذلك رواه ابنُ وَهْب عن مالك في "موطّئه" أنّه لم يرد فيه شيئًا، وقال ابنُ القاسم: رجع عنه مالك. ورَوَى ابنُ حبيب عن مُطَرِّف وابن الماجِشُون وابنِ القاسم: في قليل ذلك وكثيره دَمٌ (¬9). قال القاضي (¬10): والحُجّة لمن لَمْ يَرَ فِيهِ دَمًا واسْتَخَفَّهُ: أنَّهُ شيءٌ مختلفٌ فيه (¬11). ¬
المسألة الخامسة: اختلف العلماء فيمن طاف الطّواف الواجب منكوسًا (¬1). فقال مالك وأصحابه (¬2): لا يجوز الطّواف منكوسًا، وعليه أنّ ينصرف من بلده فيطوف؛ لأنّه كمن لم يطف. وقال أبو حنيفة (¬3): يعيدُ الطّوافَ ما دام بمكّة، فإذا بلغ الكوفة أو أبْعَدَ كان عليه دم ويجزئه، وكلهم يقول إذا كان بمكّة أعاد، وبه قال مالك والشَّافعىّ (¬4). ومن نسيَ شَوْطًا واحدًا من الطّواف الواجب، أنّه لا يُجزئه، وعليه أنّ يرجع من بلده على بقيّة إحرامه، فيطوفُ بالبيت، ولهم في هذه المسألة (¬5) كلامٌ طويلٌ. المسألة السّادسة (¬6): أجمع العلماء أنّه ليس على النِّساء رَمَلٌ ولا هَرْوَلَةٌ، ولا شيءَ في سَعْيٍ بين الصَّفا والمروة. واختلفوا في أهل مكّة، هل عليهم رَمَلٌ أم لا؟ وكان ابنُ عمر لا يرى عليهم رَمَلًا إذا طافوا بالبيت. وقال ابنُ وَهْبٍ: كان مالك يَستحبٌّ لمن حجّ من مكّة أنّ يرملَ بالبيت. وقال الشّافعيّ (¬7): كلّ طواف قبل عَرَفَةَ، أو كلّ طواف يدخل بينه وبين السّعي فإنّه يرملُ فيه، وكذلك العُمْرَةُ. المسألة السَّابعة (¬8): أمّا قول عُرْوَة (¬9) في الطّواف: ¬
الاستلام في الطواف
اللَّهُمَّ لَا إلَه إِلَّا أنْتَا ... وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَ مَا أمَتَّا يَخْفِضُ صَوْتَهُ بذلِكَ. فقال (¬1) ابنُ حبيب عن مالك: ليس العمل على قول عُرْوَة هذا، وإنّما أراد أنّه (¬2) ليس بِذِكْرٍ مُعَيَّنٍ للطّواف حتّى لا يجزئ (¬3) غيره، بل لمن شاء أنّ يدعو به ولمن شاء تركه (¬4). قال الشّيخ أبو عمر (¬5): ليس قول عُرْوَة بشِعْرٍ (¬6)، ولكنّه هو من الشِّعر الّذي يجري مَجْرَى الذِّكْر، وكان عُروة شاعرًا - رحمه الله -، وقد كان يقول الحسن (¬7) في مثل هذا: يا فَالِقَ الإصْبَاح أنْتَ رَبِّي ... وَأَنْتَ مَوْلَايَ وَأِنْتَ حَسْبِي فأَصْلِحَنَّ باليَقِينِ قَلْبِي ... وَنَجِّنِي مِنْ كربِ يوم الكَرْبِ (¬8) الاستلام في الطّواف الأحاديث (¬9): قال القاضي (¬10): لا اختلاف بين العلماء أنّ الرُّكنَيْن يُسْتَلَمَان جميعًا الأسود واليمانىّ، وإنَّما الفرق بينهما: أنّ الأسود يُقَبَّلُ واليمانىَّ لا يُقَبَّلُ. ¬
تقبيل الركن الأسود في الاستلام
الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): ولا يستلم الرُّكُن إِلَّا طاهرًا (¬3)، قاله مالك في "المختصر" ووجهه: أنّه جزء من الطّواف، والطّواف من شرطه الطّهارة. المسألة الثَّانية (¬4): وقوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬5): "أصبت" (¬6) وتصويبٌ لفعله، وقال جميع الفقهاء فيمن ترك استلام الحَجَرِ: لا شيءَ عليه واستلامُه أفضلُ. المسألة الثَّالثة (¬7): وهل من شرطه طواف أو ركوع؟ قلنا: يصحّ أنّ يفعل بغير ذلك منفردًا. تقبيل الرّكن الأسود في الاستلام مَالِكٌ (¬8)، عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ؛ أنَّ عُمَرَ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بالبَيْتِ لِلرُّكْنِ الأسْوَدِ: إنَّمَا أنْتَ حَجَرٌ لَا تضُرُّ وَلا تَنْفَعُ (¬9) ... الحديث (¬10). ¬
الإسناد (¬1): قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ؛ لأنّ عُرْوَةَ لم يسمع من عمر، وقد رُوِيَ مُسْنَدًا متَّصِلًا (¬2) من أحاديث كثيرة خَرّجها الأيِمَّة في المصنّفات صحاحًا (¬3)، معقلة أيضًا من طُرُقٍ. وقد روي في الحجر الأسود (¬4) الآثار المرفوعة، منها حديث ابن عبّاس أنّه قال: "الحَجَرُ الأسودُ من الجَنَّةِ، وأنّه كان أشدّ بَيَاضًا من الثَّلجِ حتَّى سوَّدَهُ أهل الشِّرك (¬5) وعَبَدَة الأصنام" (¬6). وفي "التّرمذي" (¬7) عن سلمان (¬8) وابن عبّاس أيضًا: "أنّ الحَجَرَ الأسود من حِجَارِ الجَنَّةِ وأَنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ وله عَيْنَانِ ولسان (¬9) وشفتان، يَشْهَدُ لمن استلمه بالوفاء والحقّ" (¬10). وقد رُوِيَ حديثان: "الحَجَرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ يصافِحُ به عبادَهُ" (¬11). ¬
وعن السُّدِّيّ (¬1) أنّه قال: "أهبط اللَّهُ آدمَ بالهندِ، وأنزلَ معه الحَجَرَ الأسودَ، وأنزل معه قَبْضَةً من ورَقِ الجنَّة، فنثرها آدمُ بالهند، فأنبتتْ شجرةَ الطِّيبِ، فأصلُ ما ترون (¬2) من الطيب بالهند من ذلك الوَرَق" (¬3). وقال بعض علمائنا: إنّما قبض تلك القبضة آدم أسفًا حين أُخْرِجَ منها (¬4)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة المساق، وأمثلُها ما سردناه عليهم. الأصول: قوله: "الحَجَرُ الأسودُ يَمينُ اللهِ في الأرضِ، يُصَافِحُ به عبادَهُ" الحديث. قال علماؤنا الأصوليّون: البارئ سبحانه يتقدّسُ عن الجارحة، واليمينُ ههنا بمعنى الحُجّة، معناه حجّة الله في الأرض، إذ رأى (¬5) العلماء أنّ اليمين يُطلَق في اللّغة على ثمانية معانٍ: أحدها أنّ اليمين بمعنى الحُجَّة. وقوله: "يصافح" معناه يثيبُ من لَمَسَهُ من أهل الإيمان على معنى التّعظيم لشعائر الله (¬6). وأمّا حديث علىّ أنّه قال: "فيه العمر مستودعًا" (¬7) فلا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. ¬
باب ما جاء في ركعتي الطواف
الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬1): قال القاضي: لا أعلم خلافًا بين العلماء أنّ تقبيل الحَجَرِ الأسود في الطّواف من سُنَنِ الطّواف (¬2) لمن قدر عليه، ومن لم يقدر على ذلك أيضًا وضع يده على فِيهِ ثمَّ وضعها عليه مُسْتَلِمًا، ويرفعها إلى فِيهِ، وإن لم يقدر على ذلك كَبَّر إذا قابله وحاذاه، فإن لم يفعل فلا نعلم أحدًا أوجب عليه دَمًا ولا فِدْيَةً (¬3). باب ما جاء في ركعتي الطّواف الأحاديث (¬4): الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: أمّا (¬5) فعل عُرْوَة هذا، فهي السُّنَّة المجتمع عليها في الاختيار، أنّ مع كلّ أسبوع ركعتين، وعلى هذا جمهور العلماء، وكذلك قال ابنُ وَهْب عن مالك: السُّنَّة الّتي لا اختلاف فيها ولا شكّ والّذي أجمع المسلمون عليه أنّ مع كلّ أسبوع ركعتين، يريد (¬6) المشروعتين اللَّتين هما مِنْ تَمامه، ولا يجوز إعراؤه منهما، فإن كان الطّواف في حَجٍّ أو عمرة (¬7) فهما واجبتان، خلافًا لأبي حنيفة (¬8) والشّافعىّ (¬9) في قولهما: إنّهما مستحبّتان. ¬
والأصل في ذلك: ما روى جابر عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه طاف سبعًا: رمل ثلاثًا، ومَشَى أربعًا، ثمّ قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) ثمّ صلّى سجدتين عند المقام بينه وبين الكعبة، ثمّ استلم الرُّكْنَ، ثمّ خرج فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬2) فبدأ بما بدأ اللَّهُ به (¬3). فوجه الدّليل منه: أنّه - صلّى الله عليه وسلم - صلّى بعد طوافه ركعتين، وأفعالُه على الوجوب. المسألة الثَّانية (¬4): قال (¬5): فمن تركهما، أعاد الطّواف، ثمّ أتى بهما بعدُ عَقِب الطّواف وسعى (¬6)؛ لأنّ ذلك من سُنَّتِها مع التّمكين (¬7) منه. فإنْ لم يركعها حتّى رجع (¬8) إلى بلده وهي: المسألة الثَّالثة (¬9): قال مالك: عليه هَدْيٌ (¬10). وقال الثَّوريُّ: يركعهُما حيث شاء، ما لم (¬11) يخرج من الحَرَمِ. وقال الشّافعيُّ (¬12): يركعهما حيث ما ذكرَ من حلٍّ أو حَرَمٍ، وبه قال أبو حنيفة (¬13). وحُجَّة مالك في إيجاب الدَّمِ: قول ابن عبَّاس: "مَنْ نَسِيَ شيئًا من نُسُكِهِ فَلْيُهْرِقْ ¬
دمَا" (¬1). وركعتا الطّواف عند مالك من النُّسُك. وحُجَّةُ من لم ير فيهما دمًا: أنّها صلاةٌ تُقْضَى مَتَى ما ذُكِرَت، لقوله: "من نام عن الصَّلاة ... " الحديث (¬2). المسألة الرَّابعة (¬3): قول مالك (¬4) في الرَّجُل يدخلُ الطَّوافَ فيسهُو فيطوف ثمانية أو تسعة، فإنّه يقطعُ ويركعُ ركعتين، ولا يعتدّ بالّذي زاد، ولا شيءَ عليه. قال القاضي (¬5): وهذه مسألة طويلة اختلف الفقهاء فيها، فقال أبو حنيفة ومحمد (¬6) كقول مالك حَمْلًا وقياسًا على الصّلاة صلاة النَّافلة، مثنى مثنى، يسلِّم من كلّ ركعتين، فإذا قام إلى ثالثة ثمّ ذكر (¬7)، رجع إلى الجلوس وتشهّد وسلّم وسجد (¬8). وإذا أصاب (¬9) في ثوبه أو على جَسَدِه نجاسة أو في (¬10) نعله، لم يعتدّ بما طاف في تلك الحال، كما لم يعتدّ بالصّلاة في ذلك، وكان في حُكْم من لم يَطُف؛ لأنّ الطَّائف في حُكْمِ المصلِّي خاصّة، ولا يكون ذلك إِلَّا على كمال طهارة. وأمّا قوله (¬11): "مَنْ شَكَّ في طَوَافِهِ (¬12) " فهو كما قال (¬13). ¬
باب الصلاة بعد الصبح وبعد العصر في الطواف
باب الصّلاة بعد الصّبح (¬1) وبعد العصر في الطّواف (¬2) الأحاديث في هذا الباب كثيرة المساق، ورُوِيَ (¬3) عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "يا بني عبد مَنَافٍ لا تمنعوا أحدًا طافَ بهذا البيت أنّ يصلِّيَ أيَّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهارٍ" (¬4) وروى أبو ذرّ - وأظنّه في كتاب الدّارقطني (¬5) - عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا صلاةَ بعد الصّبحِ حتّى تطلع الشّمسُ، ولا صلاةَ بعد العصرِ حتّى تغربَ الشّمسُ إلّا بمكّةَ" (¬6) فلمّا كان هذا الحديث مرويًّا ولم تصح طرقه (¬7)، أدخلَ مالك فعلَ عمر بن الخطّاب حين طافَ عمر بالبيت والشّمس لم تطلع ورحل حتّى (¬8) صلاّهما بذي طُوَى (¬9)، فكان فعلُ عمر بن الخطّاب في الصّحابة - وهو الخليفة المهدي - أوْلَى من ذلك الحديث المرويّ، ولو كانت تلك الوصيّة من النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - متقدِّمة، وذلك الحديث عن أبي ذرّ صحيحًا، لكان بمكّة مشهورًا، ولما خَفِيَ عن عمر حالُه. الفقه في أربع مسائل: اختلف العلماء في هذا الباب على ثلاثة أقوال (¬10): أحدها: إجازةُ الطّواف بعد الصُّبح وبعد العصر، وتأخيرُ الرّكعتين حتّى تطلعَ ¬
وداع البيت
الشّمسُ أو تغربَ، وهو مذهب عمر (¬1) وأبي سعيد الخدري (¬2) ومُعاذ وابن عمر (¬3) وجماعة، وهو قول مالك وأصحابه (¬4). القول الثّاني: في كراهية الطّواف وكراهية الرّكوع له (¬5) بعد الصّبح وبعد العصر، قاله ابن جُبَيْر ومجاهد. القول الثّالث: إباحة ذلك كلّه بعد الصّبح وبعد العصر، رُوِيَ ذلك عن ابن عمر (¬6) وابن عبّاس (¬7) وابن الزّبير. وأمّا الآثار الواردة في النّهي بعد الصُّبح والعصرْ، فقد عارضها مِثْلُها، وقد بيّنّا تأويل العلماء في أوّل "الكتاب"، وأنّ النّهي إنّما ورد دليلًا يتطرّقُ بذلك إلى الصّلاة عند الطّلوع وعند الغروب. وَداعُ البَيْت الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬8): وداعُ البيتِ لكلِّ حاجٍّ أو معتمرٍ لا يكون مَكِّياَ من شعائر الحجِّ وسُنَنِه، إلّا أنَّه أرخصَ فيه للحائض إذا كانت قد أفاضت، والإفاضةُ والطّوافُ بالبيت بعد رَمْيِ جمرة العَقَبَة هو الّذي يسمِّيه أهل الحجاز طواف الإفاضة، وأهل العراق يسمُّونه طواف الزِّيارة، فمن طاف ذلك من النّساء ثمّ حاضت، فلا جُنَاح عليها في أنّ تنصرف عن البيت وتصدر عنه وتنهضَ راجعةً إلى مكانّها (¬9) دون أنّ تودِّع البيت، ¬
جامع الطواف
وردت السُّنَّة بذلك (¬1). المسألة الثَّانية (¬2): وجملةُ مذهب مالك (¬3) فيمن لم يطف الوداع، إذا كان قريبًا رجع وطاف، وإن تعذَّر فلا شيءَ عليه. المسألة الثّالثة: إذا نَسِيَ طواف الإفاضة وطاف طواف (¬4) القدوم أجزأهُ، وهذه سُنَّةٌ تُجزىء عن فَرْض، وانفرد بها مالك، لكن يلزمه الهدي مع هداه (¬5). المسألة الرّابعة (¬6): اختلف العلماء في المعتمر الخارج (¬7) إلى التَّنْعِيمِ هل يودِّع أم لا؟ فقال مالك والشّافعيّ (¬8): ليس عليه وداع. وقال، الثّوريُّ: إنَّ لم يودِّع فعليه دمٌ. وقولُ مالك أبين (¬9)؛ لأنّه راجع في عمرته في البيت وليس بناهض إلى بلده. جامع الطّواف قولها (¬10):"فَأَمَرَهَا رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ تَطُوفَ مِنْ وَرَاء النَّاس راكبة". ¬
وفي هذا الباب أربع مسائل: أحدها (¬1): وجوب المشي في الطّواف. الثّانية (¬2): جواز الطّواف محْمولًا للعُذْرِ. الثّالثة (¬3): المنع من ذلك لغير عُذْرٍ. الرَّابعة: طواف الطّائف به لا طواف له؛ لأنّ الطّواف صلاة، فلا يصلِّي عن نفسه ولا عن غيره. واختلفَ (¬4) قولُ مالك في جواز الطّواف راكبًا لمن لم يكن له عُذْرٍ أو مرض؟ فقال مالك (¬5): إنَّ كان من عُذْرِ أجزأه، وإن (¬6) كان من غير عُذْرٍ أعاد، فإن رجع المحمولُ إلى بلده (¬7) كان عليه دم (¬8). قال: ولو طاف بصبيٍّ أو سَعَى بين الصفا والمروة أجزأه عن نفسه وعن الصَّبىِّ إذا نوى ذلك، وهو قول اللّيث، فالطّوافُ والسَّعيُ عَدَّهُ بمنزلةٍ واحدةٍ (¬9). ¬
البدء في السعي بالصفا
المسألة الثّانية (¬1): في المريض يكون محمولًا ثمّ يَفيقُ، قال مالك: أحَبُّ إلي أنّ يعيد ذلك الطّواف (¬2). وأمّا طواف الدّخول للمعتمر (¬3)، فهو فَرْضٌ في عمرته؛ لأنَّ العمرة: الطّواف بالبيت لمن جاء من الحلِّ، والسّعي بين الصّفا والمروة. وقال إسماعيل القاضي: طوافُ القدوم سُنَّةٌ. والله يوفّق للصّواب بمَنِّه. البدء في السّعي بالصّفا الأحاديث (¬4): وفيه مسائل: المسألة الأولى (¬5): فيه أنّ السُّنَة الواجبة أنّ يبدأ السّاعي بين الصّفا والمروة بالصّفا قبل المروة، على وجود الخطّاب بالتّرتيب لما سبق به من الفَتْوَى والسُّنَن (¬6). المسألة الثَّانية (¬7): أجمع العلماء على أنّ من سنَّة (¬8) السّعي بين الصّفا والمروة، بأن ينحدر الرّاقي (¬9) على الصّفا بعد الفراغ من الدّعاء، فيمشي حسب مشيه وعادته في المشي حتّى يبلغَ (¬10). ¬
المسألة الثَّالثة (¬1): اختلف العلماء في السّعي بين الصّفا والمروة هل هو واجبٌ فرضٌ أو هو تطوُّعٌ وسُنَّة؟ فقال مالك (¬2): يرجع (¬3) إليه متى ما ذكر، وهو واجبٌ (¬4). المسألة الرّابعة: أجمعتِ الأُمَّةُ على الابتداء بالصّفا في السَّعي، وليس الابتداء بالصفا ممّا يخرج من هذا الحديث (¬5) الّذي قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - فيه: "نَبْدَأُ بِمَا بدأَ اللَّهُ بِهِ"؛ لأنّ الحديث فيه ستّة أقوال: القول الأوّل: قال أبو حنيفة (¬6) والشَّافعيّ (¬7) بهذا الحديث. ووجه من قال لا دليل فيه؛ لأنّه خبرٌ والخبر لا دليلَ فيه، لأنّه لا يفهم منه الوجوب ولا غيره. الثّاني: أنّ الصَّحابة سَأَلت: بما نبدأ؟ ولو دلّ على التّرتيب لم تَجْهَلْه الصّحابة. الثَّالث: الابتداءُ بالصّفا لا بدَّ له من فائدة، وهو وجه تقديمه في اللفظ لا على طريق الوجوب، بل له مزيد فائدة، لئلا يخلو الابتداء من الفائدة. الرَّابع: أنّ الأُمَّة أجمعت على الابتداء بالصّفا، فأمَّا الوضوء فلم يعينه إلّا الفعل، روى (¬8) عليّ بن زياد عن مالك وجوب التّرْتيب (¬9)، وبه قال الشّافعي (¬10). الخاص: أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ابتدأ بالصّفا إجماعًا. ¬
باب جامع السعي
السّادس: أنّ المسألة مبنية على أصل من أصول الفقه، وهي أنّ النَّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما بيَّنَ فعله، وأفْعَالُهُ هل تُحمل على الوجوب أو الاستحباب (¬1)؟ واحتجّ الشَّافعىّ (¬2) بأنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - أمر بالتَّرتيب فقال: "نَبْدَأُ بما بدأَ اللهُ بِهِ"، والرِّواية فيها ضَعْفٌ. باب جامع السَّعْي الأحاديث (¬3): لا خلافَ (¬4) بين العلماء أنّ الطّواف بالبيت في الحجِّ والعمرة قبل السَّعي بين الصَّفا والمروة، وبذلك جاءتِ الآثارُ عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كذلك فعل في عُمْرته وحَجَّتِه وقال: "خُذُوا عَنّي مَنَاسِكَكُمْ" (¬5). ¬
المسألة الثَّانية: لا خلاف بين العلماء أنّ السّعي ركنٌ (¬1)، والدّليل عليه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عليكم السَّعْيَ فَاسْعَوا" (¬2) ومعنى كتب: أوجب، وحتم، وفرض، ووجب، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬3) أي: حتمها على نفسه بفضله وامتنانه (¬4). المسألة الثّالثة: ورُوِيَ عن مالك في "العُتْبِيَّة" أنّ الإنسان إذا نسي السّعي بين الصّفا والمروة أنّه يجزئه الدّم، وهذه الرّواية بناء على أنَّ السّعي واجبٌ، وأنّه كالمبيت بالمزدلفة، والمذهب (¬5) كلّه على أنّه رُكْنٌ خلافًا (¬6) للرِّواية الّتي وقعت في "العُتْبِيّة". وأمّا حديث عروة بن الزبير (¬7) حيث سأل عائشة فقال: إنَّ الله يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، إلى قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬8). قلنا: الانفصال عن قراءة ابن مسعود (¬9) أنّها قراءةٌ شاذَّةٌ، وليست كخبر الواحد يخجب العمل بها، ولا من القراءة الّتي ثبتت بالتّواتر، والقياس أَوْلَى منها (¬10)، فقالت عائشة: "إنّما كان ذلك لو كان ألَّا يَطَّوَفَ بهما" (¬11)؛ لأنّ معنى "ألَّا يَطَّوَّفَ بهما" كما ¬
صيام يوم عرفة
تقول: لا جناح عليك ألَّا تقوم (¬1)، معناه: أنّ تفعل، ولا جناح عليك ألَّا تأكل، معناه: أنّ تأكل (¬2). صيامُ يوم عَرَفَة الأحاديث (¬3) في هذا الباب متعارضة. الأصول (¬4): رُوِيَ عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "صيامُ يومِ عَرَفَةَ يكفّرُ ذَنوبَ سَنَةٍ قبلَه وسَنَةٍ بعده" (¬5). قال علماؤنا: إذا لم يجد قبله ذنوب عامين، فإن وجد قبله ذنوبَ عامين، كانا هما العامين اللّذين (¬6) يكفّران، وذلك حثَّ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على صومه وإخباره عن فضله، فإنّه أفطر في حَجَّة الوداع وذلك لوجهين: أحدهما: ألَّا يشقّ على أُمَّتِهِ. الثّاني: أنّ فطره مستحبّ لمن كان حاجًّا، فإنّه أقوى له على الدُّعَاء والعبادة، فيكون ذلك تخصيصًا للحاجِّ من عموم الحديث، ويبقى الفضل لغير الحاجّ، والتّأويل الأوّل أشبه بمذهب مالك؛ لأنّه أدخل في الباب؛ أنَّ عائشة كانت تحجّ وتصوم يوم عَرَفَة حاجّة (¬7)، كأنّها فهمت أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما أفطر خوفَ المشَقَّةِ. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬8): قال علماؤنا (¬9): الفِطرُ يوم عَرَفة أفضلُ تأسِّيًا برسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وقوَّةً على الدّعاء، ¬
وقد قال النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الدّعاءِ يومَ عَرَفَة" (¬1)، ونهى عن صيام يوم عَرَفَة بعَرَفَة (¬2)، وتخصيصُه بعَرَفَة دليل (¬3) على أنّ صومه بغير يوم عرفة (¬4) ليس كذلك، لهمَا تقدَّم من الحديث في فضله، ولما رَوَى الوليد بن مسلم، عن جابر، عن أبيه، عن عطاء، قال: "صيامُ يوم عَرَفَة كصيامِ (¬5) ألف يوم" (¬6). المسألة الثَّانية (¬7): قد بيّنا أنّ صومه (¬8) مرغّبٌ فيه لغير الحاجّ، والحاجُّ ممنوع من كلّ ما يمنع عنه الحجِّ (¬9)، وقال ابنُ وَهْب: فِطْرُ يوم عَرَفَةَ للحاجِّ أحَبُّ إلينا؛ لأنّه أقوي له (¬10). وقال أشهب: فِطرُهُ أفضل (¬11). المسألة الثَّالثة (¬12): قوله (¬13): "فأَرْسَلتُ إليه بِقَدَح لَبَن" خبر صحيحٌ، وقول المختلفين في حاله ليس (¬14) ¬
صيام أيام منى
بدليل في معرفة أحد القسمين، فلما شربه عُلِمَ فطرُه - صلّى الله عليه وسلم - (¬1)، وأمّا لو امتنع من شُربِه فليس في ذلك دليل على صومه، لجواز أنّ يمتنع منه لِشبعٍ وَرِيٍّ وغير ذلك. المسألة الرَّابعة (¬2): قوله (¬3): "وهو واقفٌ على بعيره بعَرَفَةَ" فالأظهر أنّه كان في وقت صومٍ؛ لأنّه لا يقفُ بعَرَفَةَ بعد الغروب (¬4)، وذلك (¬5) عونٌ على مواصلة الدُّعاء، وإنّ الواقف على قَدَمَيْه يضعُفُ عن ذلك من زوال الشّمس إلى غروبها، ولذلك اسْتُحِبَّ فطرُ ذلك اليوم، والله أعلم. صيام أيّام مِنى مالك (¬6)، عن أبي النَّضْر، عن سليمان بن يَسَارٍ، الحديث (¬7). الإسناد (¬8): قال القاضي: لم يختلف عن مالك في إرساله، وقد رُوِيَ من وجوه صِحَاحٍ متّصلةِ الأسانيد (¬9)، فقد رُوِيَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أمر أنّ ينادي في أيّام التّشريق أنّها أيام أكل وشرب (¬10)، وهو أيضًا حديثٌ مُرْسَلٌ. قال القاضي: وإنّما صار مُرْسَلًا؛ لأنّ سليمان بن يَسَار لم يسمع من عبد الله بن حُذَافَة. ¬
الأصول (¬1): قال علماؤنا (¬2): نهيُه - صلّى الله عليه وسلم - عن صيام أيّام مني يقتضي من جهة اللّفظِ النَّهيَ العامَّ، غير أنّ العلماء قد اختلفوا في ذلك على ما نذكره (¬3)، هل النّهي العامّ مطلق أو يتخصّص بمعنى الضّرورة؟ الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬4): وأيّام مني ثلاثة أيّام بعد يوم النَّحر، ولها ثلاثة أسماء: - يقال أيّام مِنىً لإقامة الحُجًاج بها بعد يوم النّحر لرمي الجمار. - ويقال لها: أيّام التشريق، قال أهل اللّغة: سُمِّيت بذلك لتشريق لحوم الضّحايا والهدايا. - وهي الأيَّام المعدودات الّتي رُخّصَ للحاجّ أنّ يتعجّل منها في يومين. المسألة الثَّانية (¬5): لا خلاف بين العلماء في أيّام التّشريق أنّها أيّام مني وأنّها الأيّام المعدودات، وإنّما اختلفوا في الأيّام المعلومات على قولين: أحدهما: أنّها أيام التّشريق (¬6)، قاله ابن عبّاس (¬7)، وبه قال الشّافعيّ (¬8). القول الثَّاني: أنّها يوم النَّحْر ويومان بعده من أيّام التّشريق، وهو قول علىّ وابن ¬
عمر، ونبيِّن ذلك في "كتاب الضّحايا" إنَّ شاء الله. نكتةٌ لغوية (¬1): قال ابنُ الأنباري (¬2): مني مشتقّ من منيت الدَّمَ إلى صببته. وقال غيره (¬3): هو مِنىً وهي (¬4) مِنىً، فمن ذَكَّرَهُ ذهب إلى المكان، ومن أنَّثَ (¬5) ذهب إلى البُقْعَة، وقد يُكْتَب بالياء في الوجهين جميعًا (¬6). المسألة الثَّالثة (¬7): أجمع العلّماءُ أنّه لا يجوز صيام أيّام مِنىً تطوُّعًا، إِلَّا شيئًا رُوِيَ عن الزُّبَيْر وابن عمر وأبي طلحة أنّهم كانوا يصومون أيّام التّشريق تَطَوُّعًا، وهذا لا يصحّ عنهم؛ لأنّه ليس في المسانيد، ولا يصحّ ذلك عنهم (¬8)؛ لأنّ جمهور العلماء على كراهية ذلك. وذكر ابن عبد الحَكم عن مالك؛ أنَّه قال: لا بأس بسرد الصّوم إذا أفطرَ يوم الفطر (¬9) وأيّام التّشْريق، لنهي (¬10) النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - عن صيام أيّام مِنى. وقال ابنُ القاسم (¬11): لا ينبغي لأحد أنّ يصوم أيّام الذّبح الثّلاثة إِلَّا المتمِّتع وَحْدَهُ الّذي لم يصم قبل عرفة ولم ينحر (¬12) الهدي، قال (¬13): وأمَّا آخر أيام التّشريق، يُصامُ إنَّ نَذَرَه رَجُلٌ أو نَذَر صيامَ ذي الحِجَّة. وأمَّا قضاء (¬14) رمضان أو ¬
غيره، فلا يصومه إِلَّا أنّ يكون قد صام قبل ذلك صيامًا متتابعًا قد لَزِمَه بمرَضٍ، ثمّ صحّ وقَوِيَ على الصّيام في ذلك اليوم، فيبني على الصّيام الّذي كان صامه في الظّهار أو قتل النّفس خطأً (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): وأمّا قضاء رمضان فلا يصومه فيه، ولا أعلم أحدًا من أهل العلّم فرّق بين اليومين الأوّلين من أيّام التّشريق في الصّيام خاصّة وبين الثّالث منها، إِلَّا ما حكاه ابنُ القاسم على ما ذكرنا. وجمهور العلماء لا يجيزون صوم اليوم الثّالث من أيام التّشريق في قضاء رمضان ولا في نَذْرٍ، ولا في غير ذلك من وجوه الصّيام، إلّا المتمتّع كما بيّناه. المسألة الخامسة (¬3): أمّا قوله (¬4) في أيّام مِنىً: "إنّها أيّام أكْلٍ وشربٍ وذكر الله" فإنّ الأكل والشّرب معناه أنّها الأيّام الّتي لا يجوز صيامها جملة لغير المتمتّع. وأمّا الذِّكْرُ فيها، فإنّ بمنى التّكبير عند رمي الجمرة (¬5)، وفي سائر الأمصار التكبير في آخر الصّلوات، وفي ذلك حِكَمٌ جمَّةٌ نذكرها في موضعها إنَّ شاء الله. المسألة السَّادسة (¬6): وأمّا نهيُه عن الصّيام يوم الفِطْر ويوم النَّحر، لا خلاف بين العلماء أنّه لا يجوز صيامهما للنّاذِر ولا للمتطوِّع، ولا يُقضى فيهما رمضان، والّذي يصومُهما بعد (¬7) علمه بالنَّهْيِ، فهو عاصٍ عند جميع الأمَّة. ¬
باب ما يجوز من الهدي
باب ما يجوز من الهَدْي مالك (¬1) عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (¬2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أهْدَى جَمَلًا كان لأبي جَهْلٍ بن هشام في حَجٍّ أو عمرةٍ. تنبيه على وَهمٍ: قال أبو عمر (¬3): وقع في رواية عُبَيْد الله بن يحيى عن أبيه في هذا الحديث: عن مالك، عن نافع، عن عبد (¬4) الله بن أبي بكر ب حزم، وهو خطأٌ لا إشكال فيه (¬5)، ولم يروه ابن وضّاح عن يحيى إِلَّا كما رواه سائر رُواة "الموطّأ" عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر (¬6). والحديثُ مُرْسَلٌ، وهو مُسْنَدٌ من طُرُقٍ صحاحٍ (¬7). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة (¬8) الأولى (¬9): قوله: "أهْدَى جَمَلَا" نصٌّ في أنَّ الهَدْيَ (¬10) قد يكون من ذكور الإبل، وهو مذهب مالك (¬11)، وبه قال جماعة من الصّحابة. ¬
وقال الشّافعي: لا يُهْدَى إِلَّا الإناث (¬1). ودليل مالك هذا الحديث، وهو نصٌّ في موضع الخلاف. ومن جهة المعنى: أنّ هذا الهَدْيَ جهةٌ من جِهات القُرْب، فلم يختصّ بإناث الحيوان دون ذكورها، كالضّحايا والزّكاة والعِتْق في الكفّارات. المسألة الثَّانية (¬2): قولُه (¬3): "وَرَأَيْتُهُ" (¬4) في الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنَةً وهِيَ قَائِمَةٌ" يقتضي مسألتين: إحداهما: مباشرة ذلك بنفسه (¬5). والثَّانية: أنّ يَنْحَرَ البُدُنَ قيامًا. وأمّا الألى في مباشرة ذلك بنفسه، فالأصل فيه ما رَوَى أنس أنّه قال: وَنَحَرَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بيده سَبعين بَدَنة قيامًا (¬6). وأمّا الفائدةُ في نحرها قيامًا، فهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء غير الحسن (¬7) فإنّه قال: ينحرُها باركةً، والأصلُ في ذلك: حديث أنس المتقدِّم؛ أنَّه (¬8) نَحَرَ بيده سبعين بَدَنَة. قال الأَبْهَرِيُّ: إنّما كان ذلك في الإبل؛ لأنّه أمْكَنُ لما يَنْحَرُها أنّ يطعن في لَيَّتِها، وأمّا البقرُ والغنمُ الّتي سُنَّتها الذّبح، فإنّ أضجاعها أمكنُ لتناول ذَبحها، فالسُّنَّةُ أنّ تُضْجَع. وروى محمّد (¬9)، عن مالك: أنّ الشَّأن أنّ تُنْحَرَ البُدُنُ قائمةً (¬10) قد صُفَّتْ يداها ¬
بالقيْد (¬1). وقال ذلك (¬2) ابنُ حبيب (¬3) في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬4). المسألة الثَّالثة: في ذكر الفوائد المنثورة في هذا الباب: وهي أربع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬5): فيه من الفقه: دليل على استسمان الهدايا واختيارها. وفيه: أنّ الجَمَلَ يُسَمَّى بَدَنة، كما أنَّ النّاقة تسمَّىَ بَدَنَة، وهذا الاسم مشتقٌّ من عِظَمِ البَدَنِ عندهم. وفيه: ردُّ قولِ من زعم أنّ البَدَنهَ لا تكون إلّا أُنْثىَ، والآثار تردُّ عليه. وفيه: إجازةُ هَدْيِ ذكور الإِبِل، وهو أمر مُجْمَعٌ عليه عند الفقهاء. وفيه: ما يدلّ على أنّ الإِبلَ في الهدايا أفضلُ من الغَنَم والبقر (¬6). ولم يختلفوا في تأويل قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬7) أنّه شاةٌ (¬8)، إلّا ما رُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: بَدَنَةٌ دون بدنةٍ، وبقرةٌ (¬9) دون بَقَرَةٍ (¬10). وأمّا استسمانُ الهدايا والضّحايا والغُلُوُّ في ثمنها واختيارها، فداخل تحت قولى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ...} الآية (¬11). وسئل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن أفضل الرِّقاب فقال: "أغْلَاها ثَمَنًا، وأنفَسُها عند أهلها" (¬12). وهذا كلُّه مدارُه على صحّة النّية، قال ¬
رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّما الأعمالُ بالنِّياتِ " (¬1) وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬2). حديث مالك (¬3)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - رأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فقالَ: "ارْكَبْهَا" فقالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، فقَالَ: "وَيْلَكَ " في الثَّانية أو الثَّالثة. اختلف (¬4) العلّماءُ في ركوب الهَدْيِ الواجبِ (¬5). فذهب أهل الظّاهر إلى ركوبه، وأنّ ذلك جائز من (¬6) ضرورة وغير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك لقول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "اركَبها". وذهبت طائفة من أهل الحديث؛ أنّه لا بأس بركوب الهَدْي على ظاهر الحديث (¬7). والَّذي ذهب إليه مالك (¬8) والشّافعىّ (¬9) وأبو حنيفة (¬10) وأصحابهم وأكثر عامة الفقهاء: كراهية ركوب الهَدْيِ من غير ضرورة. وكذلك كَرِهَ مالك (¬11) شُربَ لَبَنِ البَدَنَة وإن كان بعد رِيِّ فَصِيلهَا، فإنْ فَعَلَ (¬12) فلا شىءَ عليه (¬13). إكمال هذا الباب (¬14): لم يختلف العلماء: أنّ النّاقة إذا قلّدت وهي حامل ثمّ ولدت، أنّ ولدها حُكْمُه ¬
العمل في الهدي حين يساق
في النّحر حكمها؛ لأنّ تقليدَها إخراجٌ لها من مِلْك مقلِّدِها لله، وكذلك إذا نذر نَحْرَها وهي حاملٌ وإن لم يقلّدها. العملُ في الهَدْيِ حين يُساقُ (¬1) الأحاديث: قال القاضي: التّقليدُ في الهدي إعلامٌ بأنّه هَدْيٌ (¬2)، والنّيّة مع التّقليد تُغْنِي عن الكلام فيه. وكذلك إشعارُه والتجليلُ (¬3) عند مالك (¬4). وأمّا قوله (¬5):"كان إذا أهْدَى هَدْيًا من المدينة قلَّدَهُ بِذِي الحُلَيْفَة" قَلَّدَ الهَدْيَ وأشعَرَهُ وأحرمَ. فإن كان الهَدْيُ من الإبل أو البقر، فلا خلاف أنَّه يُقلّدُها نَعْلًا أو نعلين، أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النّعال. قال مالك: يجزئ النّعل الواحد في التقليد (¬6)، وكذلك هو عند غيره. وقال الثَّوريُّ: يُقَلِّد نَعْلَين (¬7). واختلفوا في تقليد الغَنَم؟ فقال مالك (¬8) وأبو حنيفة (¬9): لا تقلّد (¬10). ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): تُقَلِّدُ الإبلُ والبقرُ النّعال، وتقلَّدُ الغنمُ الرِّقاعَ، وهو قول أحمد (¬2) وإسحاق. وقال مالك (¬3): لا ينبغي أنّ يُقَلّد الهَدْي إِلَّا عند الإهلال، يقلّدُه، ثمّ يُشْعِرُه، ثمّ يصلّي، ثمّ يُحرِم. وأمّا توجُّهه إلى القِبْلَة في حين تقليده، فإن القِبْلَة على كلّ حالٍ يُستحبُّ استقبالُها بالأعمال الّتي يرادُ بها وجه الله تعالى في الصّلاة وغيرها، وتدخل فيه الذّكاة (¬4)، وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يستقبلُ بذَبحه (¬5) القِبْلَة ويقول: "وجّهْتُ وجهي لِلَّذي فَطَرَ السَّمواتِ والأرضَ ... " (¬6). وأمّا تقليدُه بنَعْلَين، فقد رُوِيَ عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7)، وإنّما التّقليدُ علامةٌ للهَدْي، كأنّه إشهارٌ منه أنّه أخرجَ ما قَلَّدَهُ من مُلْكِه إليه (¬8)، وجائز أنّ يُقَلِّدَ بنَعلٍ واحدةٍ، ونَعلان أفضل لمن وجدهُما. وكذلك الإشعارُ علامةٌ أيضًا للهَدْيِ (¬9)، وجائزٌ الإشعار في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر (¬10)، وأهلُ العلّم يستحبّون الإشعارَ في الجانب الأيمن، لحديث ابن عبّاس ذَكَرَهُ أبو داود (¬11) بإسناده؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهرَ بذي الحُلَيْفَةِ، ثمّ دعا بَبَدَنَةٍ فأشعرها من صفحتها الأيمن (¬12). ¬
وكان مالك يقول: يُشْعَرُ من جانبه الأيسر، على ما رواه نافع عن ابن عمر؛ أنّه كان يُشْعر في الشّقِّ الأيسر (¬1). وقال مجاهد: أشْعِرْ من أيِّ جهةٍ شئتَ. وأمّا أبو حنيفة (¬2) فكان يُنْكر ذلك ويقول: إنّما كان ذلك قبل النَّهْي عن المُثْلَة (¬3). وهذا حُكْمٌ لا دليل عليه إِلَّا التَّوهّم والظَّنُّ، ولا تُتْرَك السُّنَنُ بالظَّنِّ. وأمّا نَحْرُهُ بمِنىً، فهو المنْحرُ عند جميع العلماء في الحجِّ. فأمَّا تقديمُه النَحْرَ قبل الحَلْق، فهو أوْلَى عند جميع النَّاس. وأمّا صَفُّ اليدين (¬4)، فمأخوذٌ من قول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬5). وأمّا أكله منها، فقائم من قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ...} الآية (¬6). وأمّا قوله عند نحره: "بسم الله واللَّهُ أكبر" فقائم من قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} (¬7) فمن أهل العلّم من يستحبُّ التَّكبيرَ مع التسمية كما كان ابن عمر يفعل (¬8)، وذلك قوله تعالى (¬9): {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬10)، ومنه ممّن كان يقول: التَّسمية تُجزىء ولا يزيدُ على اسم الله. ¬
قال القاضي (¬1): وأحبُّ إلَيَّ أنّ أقول (¬2): بسم الله والله أكبر، لما رُوِيَ ذلك (¬3) عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬4) أنَّه كان يقول في ذبح أضحيّته، وهو قول أكثر أهل العلّم. وأمّا أصحاب الشّافعيّ (¬5) ومن تابعه، فيقولون: اسمُ الهَدْيِ مشتقٌ من الهَدِيَّة، فإذا أُهْدِيَ إلى مساكين الحرم فقد أجزأ من أي موضع (¬6). واختلف العلماء فيما لا (¬7) يجوز من أسنان الضّحايا والهدايا، بعد إجماعهم أنّها تكون من الأزواج الثّمانية الّتي قال الله تعالى (¬8). وأجمعوا أنّ الثَّنِىَّ فما فوقه يجزئ منها كلّها. وأجمعوا أنّه لا يجوز الجَذَعُ من المَعْزِ في الضَّحايا ولا في الهدايا، لقوله - صلّى الله عليه وسلم - لأبي بُرْدَةَ: "ولن تُجْزِي عن أحدٍ بَعْدَكَ" (¬9). واختلفوا في الجَذَعِ الضَّأْنِ، فأكثر أهل العلّم يقولون: يجزئ (¬10) الجَذَعُ من الظَّأْنِ هَدْيًا وأُضْحِيةً، وهذا قول مالك (¬11) وأبي حنيفة (¬12) والشّافعىّ (¬13) واللّيث وأحمد (¬14) وإسحاق، وكان ابنُ عمر يقول: لا يجزئ في الهدايا إِلَّا الثَّنِىّ من كلِّ شيء (¬15). ¬
هدي المحرم إذا أصاب أهله
هدْيُ المُحْرِم إذا أصاب أهلَه (¬1) الأحاديث: اختلف العلماء فيمن وَطِىءَ أهلَه بعد عَرَفَة وقبلَ رَمْيِ جمرة العَقَبة، وفيمن وطئ قبل الإفاضة؟ فمذهب مالك (¬2) أنّ عليه أنّ يعتمر ويُهدي، وليس عليه حجٌّ قابلٌ. قال مالك (¬3): ليس على مَنْ جَامَعَ أَهْلَهُ مرارًا وهو مُحْرِمٌ إلّا هَدْيٌ واحد عليهما، كذلك إذا طاوعته (¬4). قال أبو حنيفة (¬5): إذا كَرَّرَ الوَطْأَ في محل (¬6) واحدٍ أجزأ عنه واحد (¬7). وقال مالك: من وطِىءَ ناسيًا أو عامدًا عليه حجٌ قابلٌ والهَدْيُ، وهو قول الشّافعيّ (¬8)، ولا يختلف قوله أنّه لا قضاء عليه ولا كفّارة كالصّيام. قال القاضي (¬9): أحكامُ الحجِّ في قتل الصّيد ولبس الثيّاب وغير ذلك يستوي فيه الخطأُ والعمدُ، وكذلك يجب أنّ يكون الوطء، والكلام عندي من الجائزات (¬10). ما استيسر من الهَدْي (¬11) مالك (¬12)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه؛ أنّ عليًّا كان يقول: "ما اسْتَيْسَرَ ¬
الوقوف بعرفة والمزدلفة
من الهَدْيِ شاةٌ". البابُ كلّه. قال القاضي (¬1): قد أحسن مالك في احتجاجه في هذا الباب بما لا مَزِيدَ لأحدٍ فيه، وعليه جمهور العلماء، وعليه تدورُ فَتْوَى فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق فيما اسْتَيْسَرَ من الهَدْيِ، وكان ابن عمر يقول: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) بَدَنَةٌ (¬3). الوقوف بعَرَفَة والمُزْدَلِفَة مالك (¬4)؛ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ (¬5)، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمزدَلِفةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ". الإسناد (¬6): هذا حديث متَّصِلٌ من وجوهٍ صِحَاحٍ من حديث جابر (¬7) وابن عبَّاس (¬8). اختلف العلماء فيمن وقف بعَرَفَة بِعُرَنَةَ (¬9)؟ فقال مالك - فيما ذكر ابن المُنْذِر عنه -: إنّه يهرقُ دمًا وحَجُّه تامٌّ. وأمّا قوله: "والمزدلفةُ كلُّها موقفٌ وارتفعوا عن بَطْنِ مُحَسِّرٍ" فالمزدلفةُ عند العلماء ممّا يلي عَرَفة إلى وادي مُحَسِّر عن اليمين والشّمال من تلك (¬10) البطون والشّعاب (¬11) والجبال كلّها. وأمّا وادي مُحَسِّر (¬12) فهو مِنْ دون المزدلفة، فكلّ من وقف بعرَفَة للدّعاء ارتفع ¬
وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابته
عن عُرَنَة، وكذلك من وقف بالمشعر الحرام صَبِيحَةَ يوم النَّحر وهو المزدلفة، وهو جمعٌ (¬1)، وله ثلاثة أسماء لمكانٍ واحدٍ، وقد ثبت أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أسرع في بطن مُحَسِّر. قال مالك (¬2): قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬3) قال: فالرَّفَثُ إصابةُ النِّساءِ إلخ (¬4) قوله. فأمَّا الرّفث (¬5): فهو مجامعةُ النّساء عند أكثر أهل العلّم. وأمّا الفُسوق والجِدال: فقد اخْتُلِفَ فيه، رُوِيَ عن ابن عبّاس أنّه قال: "الرَّفث: الجماعُ، والفُسوقُ: المعاصي، والجدالُ: أنّ تمازح أخاك حتّى تغضبه" (¬6). وروي أيضًا عنه أنَّه قال: الرَّفَثُ هو التّعريض للجماع (¬7). وقال غيره (¬8): الرَّفَث: جِماعُ النِّساء، والفُسوقُ: ما أصاب من محارم الله من صَيْدٍ أو غيره، والجدالُ: المشاتمةُ (¬9). وقوف الرَّجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابته (¬10) سُئِل (¬11) مالك (¬12) عن الوقوف بعَرَفَةَ للرّاكب أينزل أم يقف راكبًا؟ فقال: بل يقف راكبًا، إِلَّا أنّ يكونَ به عِلَّةٌ (¬13)، فاللَّهُ أعْذَرُ بالعُذْرِ. ¬
وقوف من فاته الحج بعرفة
وإنّما قال ذلك؛ لأنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وقف بعَرَفَة راكبًا، ولم يزل كذلك إلى أنّ دفعَ منها بعد غروب الشّمس، وأردف أُسامة خَلْفَهُ (¬1). وقال ابنُ وَهْب في "موطّئه": قال لي مالك: الوقوفُ بعَرَفَة على الدّوابّ جائز، لكن أحبّ إليّ أنّ أقف قائمًا، قال: ومن وقف قائمًا لا بأس أنّ يستريح (¬2). وقوف من فَاتَه الحجِّ بعَرَفَة الأحاديث (¬3): قال القاضي (¬4): الّذي ذكر مالك في هذا الباب عن ابن عمر (¬5)، هو قولُ جماعة أهل (¬6) العلّم قديمًا وحديثًا لا يختلفون فيه. لم يختلف العلماء والآثار (¬7) في أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - صلّى الظّهر والعصر جميعًا بعَرَفَةَ، ثمّ ارتفع فوقف بحبالها داعيًا إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ووقف معه كلّ من حضر إلى غروب الشّمس، وأنّه لما استيقن (¬8) غروبها وبان له ذلك دفع (¬9) إلى المزدلفة. وأجمعوا أنّه كذلك سُنّة الوقوف بعَرَفَة والعمل فيها. وأجمعوا أنّ من وقف بعَرَفَة يوم عَرَفَة قبل الزّوال، ثمّ أفاض قبل الزّوال، أنّه لا يعتدُّ بوقوفه قبل الزّوال، وأنّه إنَّ لم يرجع فيقف بعد الزّوال، أو يقف من ليلته تلك قبل الفجر، فقد فاتَه الحجُّ. ثمّ اختلفوا فيمن وقف بعَرَفَة بعد الزّوال مع الإمام، ثمّ دفع منها قبل غروب الشّمس؟. ¬
الفصل الثاني في المسائل
فقال مالك (¬1): إنَّ دفع منها قبل أنّ تغيب الشّمسُ، فعليه الحجِّ قابلًا، وإن دفع منها (¬2) قبل غروب الشّمس، ثمّ عاد إليها قبل الفجر أنّه لا دَمَ عليه. وقال سائر العلماء: من وقف بعَرَفَة بعد الزَّوال فحجُّه تامٌّ، وإن دفع قبل الغروب، إلّا أنّهم اختلفوا في وجوب الدّم عليه إنَّ رجع ليلًا فوقف: فقال الشّافعيُّ (¬3): إنَّ عاد إلى عَرَفَة حتّى يدفع بعد مغيب الشّمس فلا شيءَ عليه، وإن لم يرجع (¬4) حتّى يطلع الفجر أجزأت عنه حجّته وأهرق (¬5) دمًا. الفصل الثّاني (¬6) في المسائل قال مالك (¬7) في العبد يُعْتَقُ في الموْقِفِ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُجْزىء عَنْهُ من (¬8) حَجَّةِ الإسْلَامِ، إِلَّا أنّ يَكُونَ لَمْ يُحْرِمْ، فيُحْرِمْ بَعْدَ أنّ يُعْتَقَ ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ (¬9) تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أنّ يَطلُعَ الفَجْرُ. فإن فعل أجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، كان بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الحَجُّ. تنبيه: قال القاضي - رضي الله عنه - (¬10): لم يذكر يحيى عن مالك في "الموطّأ" الصّبيّ يُحْرِمُ مراهقًا ثُمَّ يحتلمُ، وحُكْمُهُ عنده حُكْمُ العبد سواء. ¬
واختلف العلماء في المراهق والعبد يُحْرِمَانِ بالحجِّ، ثمّ يحتلم هذا، ويُعتَقُ هذا قبل الوقوف بِعَرَفَة؟ فقال مالك وأصحابُه (¬1): لا سبيل إلى رفض الإحرام لهذين، ولا لأحَدٍ (¬2)، ويتماديان على إحرامهما، ولا يجزيهما (¬3) حجّهما ذلك عن حَجَّةِ الإسلام. وقال أبو حنيفة وأصحابه (¬4): إذا أحرم الصّبيُّ والعبدُ بالحجِّ، فبلغَ الصّبيُّ وعُتق العبدُ قبل الوقوف بعَرَفَة، أنّهما يستأنفان الإحرام ويجزيهما عن حَجَّة الإسلام، وعلى العبد دَمٌّ لتَرْكِه الميقاتَ، وليس على الصّبيُّ دَمٌ. وقال الشّافعىّ (¬5): إذا أحرم الصّبيُّ، ثمّ بلغ قبل الوقوف بعَرَفَة، فوقف بها مُحْرِمًا، أجزأه عن حَجَّة الإسلام، وكذلك العبدُ إذا أحرم، ثمْ أُعتِقَ قبل الوقوف بعَرَفَة، فوقف بها مُحْرِمًا أجزأه عن حَجَّة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما. وقد قال بهذه الأقوال الثّلاثة جماعة المسلمين وجملة فقهاء التّابعين (¬6). وحُجّةُ مالك: أنّ الله - عزّ وجل - كلَّف من دخل الحجَّ أو العمرة، فإتمامُه حَجُّهُ تطوُّعًا كان أو فرضًا، لقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬7) ومن رفض إحرامه لم يتمّ حجّه ولا عمرته. واختلفوا في جماعة أهل الموسم يخطئون العَدَدَ فيقفون بعَرَفَة في غير يوم عَرَفَة على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: إنَّ وقفوا قبلُ لم يجزهم، وإن وقفوا بعدُ أجزأهم. والثّاني: أنَّه يجزيهم بعدُ، ولا يجزيهم قبل، وهو قول مالك (¬8). ¬
قال بعضهم (¬1): يجزيهم قبلُ وبعدُ قياسًا على القِبْلَةِ، وأبو ثور وداود (¬2) لا يجيزان الوقوف لا بعدُ ولا قبلُ. وروى يحيى (¬3)، عن ابن القاسم؛ قال: إذا أخطأ أهل الموسم، فكان وقوفُهم بعَرَفَةَ يوم النّحر، مَضَوْا على عملهم، وإنْ تَبَيَّنَ ذلك لهم وثبت ذلك عندهم في بقيَّة يومهم ذلك أو بعده، وينحرون من الغَد ويعملون باقي عمل الحجِّ، ولا يتركون الوقوف بعَرَفَة من أجل أنّه يوم النّحر، ولا ينقصون من رَمْي الجمار الثّلاثة الأيّام بعد (¬4) يوم النّحر، ويجعلون يوم النّحر للغد بعد وقوفهِم، ويكون حالُهم في شأنّهم (¬5) كلِّه كحال من لم يخطئ. قال (¬6): فإذا أخطأوا فَقَدَّموا الوقوف بعَرَفَة يوم التّروية، أعادوا الوقوف من الغَدِ من يوم عرفة بعينه (¬7)، ولم يجزهم الوقوف يوم التّروية، وبه قال سحنون. واختلف (¬8) قولُ ابن القاسم فيمن وقف يوم التّروية، وكذلك قال يحيى بن عمر (¬9): اختلف قول سحنون أيضًا فيها. قالِ القاضي - رضي الله عنه - (¬10): إنّما هذا في جماعة أهل الموسم وأهل البلد يَغْلَطون في الهلال، وأمّا المنفردُ فلا مدخلَ له في هذا الباب، وإذا أخطأ المنفردُ في ¬
السير في الدفعة
أيّام العيد (¬1) لزمه إذا لم يُدرِك الوقوف بعَرَفَة من ليلة النّحر ما يلزم من فاته الحجِّ، واجتهادُه في ذلك كلِّه اجتهادٌ. وأمّا الجماعة فاجتهادهم سائغٌ، والحرجُ عنهم ساقطٌ، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أضْحَاكُم حين تُضَحُّون، وفِطْرُكُم حين تُفْطِرُونَ" (¬2) فأجاز للجميع اجتهادهم. واحتجّ الشّافعيّ (¬3) في إسقاط تجديد النّية بأنّه جائزٌ لكلِّ من نَوَى بإهلاله الإحرام أنّ يضمّه (¬4) إلى ما شاء من حجّ أو عمرة؛ لأنّ الرّسول - صلّى الله عليه وسلم - أمر أصحابه المهلِّين بالحجِّ أنّ يفسخوه في عمرة، وبقول عليّ وأبي موسى: "إهلالُنا كإهلال (¬5) النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -" (¬6) يريد أنّ إهلالهما على إهلاله كائنًا ما كان، فدَلّ على أنّ النِّيَّة في الإحرام ليست كالنِّيَّة في الصّلاة. السَّيرُ في الدَّفعة (¬7) الحديث (¬8): قال (¬9): "كان يسيرُ العَنَقَ، فإذا وَجَدَ فُرْجَةً ... ". قال القاضي: هكذا قال يحيى: "فُرْجَة" وتابعه جماعة منهم: أبو مصعب (¬10) وابنُ بُكَيْر. وقالت طائفة منهم: ابن وَهْب وابن القاسم (¬11) والقَعْنَبِيّ (¬12): "فإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ". ¬
ما جاء في النحر في الحج
والفُرْجَة والفَجْوَة سواء في اللّغة. وليس في الحديث أكثر من معرفة كيفية السّير في الدّفع من عَرَفَة إلى المزدلفة، وهو شيءٌ يجب الوقوفُ عليه وامتثالُه على أيمّة الحاجّ فيمن (¬1) دونهم؛ لأنّ في استعجال السّير إلى المزدلفة استعجال الصّلاة، ومعلومٌ أنّ المغرب لا تصلّى تلك اللّية إِلَّا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنّتُها، فيجب ذلك على حسب ما فعلَه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فمن قَصَّرَ عن ذلك أو زاد (¬2)، فقد أساء إنَّ كان عالمًا بذلك. نكتةٌ لغويّة: قال (¬3): واصل النَّصِّ في اللّغة: الدّفع، يقال منه: نصّت الدّابّةُ في سيرها (¬4). وقال أبو عُبَيْد (¬5): النَّصُّ التَّحريكُ (¬6) الّذي يُسْتَخْرَجُ به (¬7) من الدَّابةِ أقصى سَيْرِها. وأمّا النّصّ في الشّريعة: فللفقهاء في العبارة عنه تنازع ليس هذا موضع ذِكْرِهِ. ما جاء في النّحر في الحجِّ الأحاديث (¬8): قال القاضي (¬9): هذا (¬10) حديثٌ مرسلٌ (¬11) ويستند عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من حديث عليّ (¬12)، ¬
الفصل الأول في ذكر الفوائد
وجابر (¬1)، ورواه الحميديّ (¬2) الفصل الأوّل (¬3) في ذكر الفوائد أمّا قولها (¬4): "فَدَخَلَ علينا يَوْمَ الَّنحْرِ بِلَحْمه بَقَرٍ ... " الحديث. فيه من الفقه: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نَحَر عن أزواجه الهَدْي الّذي نحره عن نفسه؛ لأنّه محفوظ عنه من وجوهٍ صِحَاح (¬5). وفيه: عرضُ العالِم على من هو أعلم منه بما عنده (¬6) ليعرف قوله فيه. وفيه (¬7): أنّ أهل الدّين (¬8) إذا سمعوا الصّادق (¬9) صدّقوه وفرحوا به (¬10). وفيه: جوازُ نحر البقر، ومن أهل العِلْم من كره ذلك، لقول الله تعالى في البقرة: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا ...} الآية (¬11). قال القاضي (¬12): والّذي عليه الجمهور أنّ البقرة يجوز فيها الذّبح بدليل القرآن، والنّحر بالسُّنَّة. وأمّا الإبل فتُنحَر ولا تُذبَح، والغنم تذبح ولا تنحر، وسيأتي ذِكرُها في "كتاب الذّبائح" إن شاء الله. ¬
العمل في النحر
العمل في النّحر (¬1) مالك (¬2)، عن جعفر بن محمّد، عن محمّد، عن (¬3) علىّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نحر بعضَ هَدْيِهِ ونحر بعضَه غيرُهُ. هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الباب، وتابعه القَعْنَبيّ (¬4)، ورواه ابنُ القاسم (¬5) وابن بُكَيْر (¬6) قالوا فيه: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر (¬7)، وأرسله ابنُ وَهَبْ أيضًا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، ولم يقل عن جابر (¬8). فيه من الفقه: أنّ يتولَّى الرَّجُل نحرَ هَدْيه بيده، وذلك مستحبٌّ عند أهل العلم لفعل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ذلك (¬9) بيده، ولأنّها قُربةٌ إلى الله، وجائز أنّ ينحر الهدي والضّحايا غير صاحبها. واختلف العلماء فيمن ذُبحت أُضحيّتُه بغير إذنه: فقال مالك: إنّها لا تجزئ عن الذّابح، وسواء نوى ذبحها (¬10) عن نفسه أو عن صاحبها، وعليه ضمانها. ورَوَى ابن عبد الحَكَم عنه؛ أنّ الذّابح إذا كان مثل الولد (¬11) أو بعض العيال فأرجو أن يجزئ. وقال ابن القاسم عنه مثل ذلك، إِلَّا أنّ ابن القاسم قال عنه (¬12): تجزئ في الولد وبعض العيال (¬13). ¬
الحلاق
وقال الثّوري: يجزئ عن صاحبه (¬1). وكذلك قول مالك (¬2) في المعتمرين (¬3) إذا ذبح أحدُهما شاةَ صاحبه عن نفسه، ضمنَها ولم يجزه ذبح شاته. وأمّا النّحر قائما، فقد قيل في معنى قوله: {صَوَافَّ} (¬4) يعني: قيامًا، واختار العلماء نحرها رقودًا لقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (¬5) والوجوبُ: السّقوط إلى الأرض عند العرب. وقال الثَّوريّ: إنَّ شاء أضجعها وإن شاء نحرها قائمة. وقال مالك (¬6): لا يجوز لأحد أنّ يحلِقَ رأسَه حتّى يَنْحرَ هَدْيَه، ولا ينبغي لأحد أنّ يَنْحَرَ قبل الفجر يومَ النَّحْر، وإنّما العمل كلُّه يومَ النَّحر: الذَّبْحُ، ولُبْسُ الثَّيابِ، وإلقاءُ التَّفَثِ، والحِلَاقِ، ولا يكون شيءٌ من ذلك قبلَ يومِ النَّحر. هذا لا خلاف فيه؛ لأنّ جمرة العَقَبَة إنّما تُرْمَى ضُحَى يوم النَّحر. الحِلَاق (¬7) الأحاديث (¬8): قال القاضي: ليس فيه (¬9) ذِكْرُ الموضع الّذي قال فيه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - هذا القول، وهو محفوظ من حديث ابن عبّاس (¬10)، وأبي سعيد (¬11)، وأبي ¬
هريرة (¬1)، والمِسْوَر (¬2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال ذلك يوم الحُدَيْبيَة. وأجمع المسلمون على أنّ (¬3) النّساء لا يحلقن، وأنّ سُنّتهنّ التّقصير، وقد ثبت أنّ ذلك كان يوم الحُدَيْبِيَة حين أُحصِر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ومُنِع من النُّهوض إلى البيت. واختلف الفقهاء هل الحِلاق نُسُك يجب على الحاجّ والمعتمر أم لا؟ فقال مالك: الحِلاق نُسُكٌ (¬4) يجب على الحاج والمعتمر، وهو أفضل من التّقصير، ويجب على كلّ من فاتَه الحجِّ أو أُحصِر بعدوٍّ أو مرض (¬5)، وهو قول جماعة الفقهاء، إِلَّا في المُحْصَر بعدُوّ هل هو من النُّسُك (¬6) أم لا؟ وقد اختلفوا في ذلك؟ فقال أبو حنيفة (¬7): المُحْصَرُ ليس عليه حِلاقٌ ولا تقصير. وقال أبو يوسف: يُقصِّر، وإن لم يُقصِّر فلا شيء عليه (¬8). واختلف قول الشّافعيّ، هل الحِلاقُ من النُّسُكِ أو ليس من النُّسُك على قولين: أحدهما: الحِلاقُ من النُّسُك (¬9). والآخر: الحِلاقُ من الإحلال؛ لأنّه ممنوع منه بالإحرام (¬10). ومن جعل الحِلَاق نُسُكًا أوجبَ عليه دمًا. ¬
واختلف قول مالك فيمن أفاض قبل أنّ يَحْلِق؟ فذكر ابن عبد الحَكَم (¬1) قال: ومن أفاض قبل أنّ يَحْلِق، فليَحْلِق ثمّ ليُفِضْ ولا شيء عليه، وقد قال: يَحْلِق وينحر ولا شيء عليه، قال: والأوّل أحبّ إلينا. وقال ابنُ حبيب: يعيدُ الإفاضةَ. وليس في تأخير الحِلاق حرجٌ إذا شغَلَه عنه ما يمنعه منه. وأمّا قول مالك (¬2): "التَّفَثُ: حِلَاقُ الشَّعْرِ ولُبْسُ الْخُفِّ (¬3) وما يَتْبَعُ ذَلِكَ" فهو كما قال: لا خلاف في ذلك. وسُئِلَ مَالِكٌ (¬4) عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ حَلْقَ رَأْسِهِ فِي الْحَجِّ، هَلْ لَهُ رُخْصَهٌ أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: ذَلِكَ وَاسِعٌ وَالحِلَاقُ بِمِنىً أَحَبُّ إلَىَّ" وإنَّما استحبَّ ذلك ليكون حَلْق رأسه في حَجِّه حيث ينحر هَدْيه، وذلك في مِنىً، وهو مَنْحَرُ الحاجِّ عند الجميع من الجماهير (¬5)، وأجازه بمكّة. كما يجوز النّحْرُ بمكّة لمن لم ينحر بمِنىً؛ لأنّ الهَدْيَ إذا بلغ مكَّة فقد بلغ محلَّه. وقول مالك (¬6): "الأمْرُ المُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، أنَّ أحَدًا لا يَحْلِقُ رَأسَهُ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ (¬7) حتَّى يَحِلَّ بمِنىً يومَ النَّحْر، وذلك أنّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬8). واختلف العلماء فيمن حلقَ قبل أنّ ينحر أو قبل أنّ يرمي؟ فقال مالك: إذا حَلَقَ قبل أنّ يرميَ فعليه دمٌ (¬9)، وإن حَلَقَ قبل أنّ ينحرَ فلا شيء عليه (¬10). ¬
التقصير
قال الشّافعيُّ (¬1): إذا حلق قبل أنّ يرمي أو قبل أنّ ينحر، فلا شيء عليه (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3) والثّوريّ (¬4): إنَّ حلق قبل أنّ ينحر أو يرمي فعليه دمٌ، وإن كان قارنًا فعليه دمان (¬5). التّقصير (¬6) الأحاديث (¬7): روى القاسم (¬8) أنّ التّقصير بالأسنان ليس هو الشّأْنُ. وأجمعوا أنّ سُنَّةَ المرأةِ التّقصيرُ لا الحِلاق؛ لأنّه قد رُوِيَ (¬9) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "لا تحلقُ المرأةُ رأسها" (¬10). قال الحسن: حلق رأسها مُثْلَةٌ. ورأى القاسم الأخذ بالجَلَمَيْنِ (¬11) للتقصير (¬12)؛ لأنّه المعروف في التّقصير، كما أنّ المعروف في الحِلَاقِ الحَلْقُ بالموسى في الحجِّ. وكان مالك يقول: الحَلْقُ في غير الحجِّ بالموسى مُثلَةٌ. وفي أخذ ابنِ عمر (¬13) من لحيته في الحجِّ دليلٌ على جواز الأخذ من اللِّحية في ¬
التلبيد
غير الحجِّ؛ لأنّه لو كان ذلك غير جائز في سائر الزّمان ما جاز في الحجِّ، وقد رُوي عن عليّ؛ أنّه كان يأخذ من لحيته ممّا يلي وجهه (¬1)، وعن أبي هريرة؛ أنَّه كان يأخذ من اللّحية ما فضلَ من القبضة (¬2)، وقال قتادة (¬3): ما (¬4) كانوا يأخذون من طولها في الحجِّ والعمرة (¬5)، وكانوا يأخذون من العارض (¬6)، كلّ هذا في "كتاب ابن أبي شَيْبَة". التَّلبيد (¬7) الأحاديث (¬8): قد روى في هذا الحديث (¬9): "لا تُشَبّهُوا" بضمِّ التّاء وفتحها، وهو الصّحيح، فمن روى: "لا تُشَبِّهُوا" أراد: لا تُشَبِّهوا علينا فتعملون أعمالًا تُشبه (¬10) التّلبيد (¬11) الّذي من سُنَّةِ فاعله أنّ يحلِقَ. قال (¬12): والتَّلبيدُ سُنَّة الحَلْقِ، وذلك أنّه من لَبَّدَ رأسه بالخِطْمِيِّ (¬13) وما أشبه ذلك ممّا (¬14) يمنع وصول الدّوابّ (¬15) إلى أصول الشَّعر وقاية لنفسه (¬16). ¬
الصلاة في الكعبة
ومعنى قوله (¬1): "لا تشبّهوا بالتَّلبيد" أي لا تفعلوا أفعالًا حُكْمُها حُكْمُ التَّلبيد في العَقْصِ (¬2) والضَّفْر ونحو ذلك، ثمّ (¬3) تقصّرون ولا تحلِقون وتقولون: لم نُلَبِّد. الصّلاةُ في الكعبة (¬4) الأحاديث (¬5): الإسناد: هكذا رواه (¬6) جماعة عن مالك (¬7) انتهوا فيه إلى قوله: "ثمّ صلّى" وزاد ابن القاسم (¬8): "وجعلَ بينه وبين الجِدار ثلاثةَ (¬9) أذْرُعٍ". وفي الحديث: رواية الصّاحب عن الصّاحب. الفقه: واختلف العلماء في الصّلاة في الكعبة الفريضة والنافلة (¬10): ¬
فقال مالك (¬1): لا يصلّي فيها الفَرْض ولا الوتر ولا ركعتا الفجر ولا الطّواف. واختلف قوله وقول أصحابه فيمن صلّى فيها أو على ظهرها الفريضة، فالأشهر عندهم أنّه يعيد في الوقت (¬2). وقال الشّافعيّ (¬3) وأبو حنيفة والثّوريّ: يصلّي فيها الفريضة والنّافلة. قال الشّافعيّ (¬4): إنَّ صلّى في جوفها مستقبِلًا حائطًا من حيطأنّها فصلاتُه جائزةٌ، وإن صلّى نحو (¬5) الباب والباب مفتوح فصلاتُه باطلةٌ (¬6)؛ لأنّه لم يستقبِل شيئًا منها، ومن صلّى على ظهرها فصلاتُه باطلة؛ لأنّه لم يستقبِل شيئًا منها. وقال أبو حنيفة: من صلّى على ظهرها لا شيء عليه (¬7). واختلف أهل الظّاهر (¬8) فيمن صلّى في الكعبة، فقال بعضهم: صلاته جائزة؛ لأنّه قد استقبل بعضها. وقال بعضهم: لا صلاة له؛ لأنّه قد استدبر بعضها، وقد نهى عن ذلك حين أمرنا أنّ نستقبلها، واحتجّ بقول ابن عبّاس حين أمر النَّاس أنّ يصلّوا إلى الكعبة ولم يُومروا أنّ يصلّوا فيها (¬9). ¬
تعجيل الصلاة بعرفة وتعجيل الوقوف بها
تعجيل الصّلاة بعَرَفَة وتعجيل الوقوف بها (¬1) الحديث (¬2): الإسناد: قال القاضي: هذا الحديث يخرج من (¬3) المُسْنَد (¬4)، لقول ابنِ عمر للحجّاج: الرَّوَاحُ هذه السّاعة إنَّ كنت تريدُ السُّنَّةَ. الفصل الثّاني (¬5) في الفوائد وفيه فقهٌ وأدبٌ كثير، وعلمٌ كبيرٌ من علوم الحَجِّ: فمن ذلك: إقامةُ الحجِّ إلى (¬6) الخلفاء ومن جَعلوا ذلك إليه وأمّروه (¬7) عليه. ومنه أيضًا: إقامةُ الحجِّ تجب على الأمير على الموسم، ويُعينُه أيضًا من هو أعلم منه بالكتاب والسُّنَّة وطريق (¬8) الفقه. وفيه: الصّلاة خلف الفاجرُ من السّلاطين. ولا خلاف بين العلماء أنّ (¬9) الحجَّ يقيمه السّلطان (¬10) للنَّاس، ويستخلفُ عليه من يُقيمُه لهم على شرائعه وسُنَنِه، فيصلّون خَلْف الإمام برًّا كان أو فاجرًا أو ¬
مبتدعًا، ما لم تخرجه بدعتُه عن الإسلام. وفيه: أنّ الرَّجُل الفاضل لا يؤخذ (¬1) عليه في مشيه إلى السّلطان الجائر فيها يحتاج إليه. وفيه: أنّ رواح الإمام من موضع نزوله بعَرَفَة إلى المسجد حين تزول (¬2) الشّمس للمع بين الظّهر والعصر في المسجد في وقت الظهر سُنّة، وكذلك فعل رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، ويلزم ذلك كلّ من بَعُدَ عن المسجد بعَرَفَة أو قُرْبَهُ، إلّا أنّ يكون موضع نزوله متّصلًا بالصّفوف، فإنْ لم يفعل وصلَّى بصلاة الإمام فلا حَرَجَ (¬3). واختلف العلماء في وقت أذان المؤذِّن بعَرَفَة للظُّهر والعصر، وفي جلوس الإمام للخُطْبة قبلهما: فقال مالك: يخطُبُ الإمام طويلًا، ثمّ يُؤَذِّنُ (¬4) وهو يخطبُ، ثمّ يصلِّي، وهذا معناه (¬5) أنّ يخطُبَ الإمامُ صدرًا من خُطبته، ثمّ يؤذِّنُ المؤذِّن، فيكون فراغُه مع فراغ الإمام من الخُطبة، ثمّ ينزلُ فيقيمُ (¬6). وحَكَى عنه (¬7) ابنُ نافع أنّه قال: الأذانُ بعَرَفَةَ بعد جلوس الإمام للخُطبة (¬8). وقال الشّافعيُّ (¬9): يأخذُ المؤذِّنُ في الأذان إذا قام الإمام للخُطبة الثَّانية، فيكون فراغُه من الأذان بفراخ الإمام من الخُطبة. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1) وأبو يوسف (¬2): إذا صعدَ الإمامُ المِنْبرَ أخذ المؤذِّنُ في الأذان، كما يفعل في الجمعة (¬3). وسئل مالك: إذا صعد الإمام المِنْبَرَ يوم عَرَفَة أيجلس قبل أنّ يخطب؟ قال: نعم، ثمّ يقومُ فيخطُبُ طويلًا، ثمّ يؤذِّنُ المؤذِّنُ وهو يخطبُ، ثمّ يصلِّي، ذَكَرَهُ ابن وهب عن مالك (¬4)، وقال (¬5): يخطُبُ خُطبتين (¬6). وأجمع العلّماءُ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إنّما صلّى بعَرَفَةَ صلاةَ المسافر لا صلاةَ جمعةٍ، ولم يجهر بالقراءة. وكذلك أجمعوا أنّ الجمع بين الصّلاتين الظُّهر والعصر يوم عَرَفَة مع الإمام سُّنَّةٌ مجتمعٌ عليها. واختلفوا فيمن فاتته الصّلاةُ يومَ عَرَفَة مع الإمام، هل له أنّ يجمع بينهما أم لا؟ فقال مالك: له أنّ يجمع بين الظّهر والعصر إذا فاته ذلك مع الإمام، وكذلك المغرب والعشاء يَجمعَ بينهما بالمزدلفة إذا فاتته مع الإمام. وقال أبو حنيفة (¬7): لا يَجمعُ بينهما إلّا من صلّاهما مع الإمام. واختلف العلماء في الأذان للجمع بين الصّلاتين بعَرَفَة: فقال مالك (¬8): يصلِّيهما بأذانين وإقامتين. وقال الشّافعيّ (¬9) وأبو حنيفة (¬10) وأصحابه والطّبريّ: يَجمعُ بينهما بأذان واحد ¬
الصلاة بمنى يوم التروية، والجمعة بمنى وعرفة
وإقامتين إقامة لكلِّ صلاة، وقد رُوِيَ عن مالك مثله (¬1)، والأوّل أشهر عنه، وهو (¬2) تحصيل مذهبه. وأجمع الفقهاء على أنّ الإمام لو صلّى بعَرَفَة بغير خُطبة أنّ صلاته جائزةٌ، وأنّه يقصرُ الصّلاة إذا كان مسافرًا وإن لم يخطُب، ويسرُّ بالقراءةَ فيهما؛ لأنّهما ظُهرٌ وعصرٌ قُصِرتا من أجل السَّفَر. وأجمعوا أنّ الخُطبة قبل الصّلاة يومَ عَرَفَة. الصَّلاة (¬3) بمنىَ يوم التّروية، والجمعة بمنىَ وعرفة (¬4) مالك (¬5)، عن نافع؛ أنّ ابنَ عمر كان يصلِّي الظّهرَ والعصرَ والمغربَ والعِشاءَ بمنىً، ثمّ يغدو إذا طلعتِ الشّمسُ إلى عَرَفةَ. قال القاضي (¬6): أمّا صلاتُه بِمِنىً، فكذلك فعل رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬7)، وهي سُنَّةٌ معمولٌ بها عند الجميع مستحبَّةٌ، ولا شيء عندهم على تاركها إذا شهد عَرَفَة في وقتها. وأمّا غُدُوُّهُ منها إلى عَرَفةَ حين طلوع الشّمس فحسَنٌ، وليس في ذلك عند أهل الحلم حدٌّ. وأجمع العلماء على أنّه لا يجهرُ الإمام بالقراءة في الصّلاة بعَرَفَة يوم عرفة. وأجمعوا أنَّ الإمام لو صلّى يوم عَرَفَة بغير خُطبة أنّ صلاتَه جائزة. واختلفوا في وجوب الجمعة بعَرَفَة ومِنىً: فقال مالك (¬8): لا تجب الجمعةُ بعَرَفَة ولا مِنىً أيّام الحجِّ، لا على أهل مكّة ¬
الصلاة بالمزدلفة
ولا على غيرهم، إلّا أنّ يكون إمام عَرَفَة (¬1) فيجمع بعَرَفَة. وقال الشّافعيّ: لا تجب الجمعة بعَرَفَة، إِلَّا أنّ يكون بها من أهلها أربعون رجلًا، فيجوز حينئذٍ (¬2) أنّ يصلِّي بهم الإمامُ الجمعةَ، يعني إنَّ كان من أهلها أو كان مكّيًا. قال القاضي (¬3): وحجّةُ من قال: لا جمعة بمنىً ولا بعَرَفَة، أنّهما ليستا بمِصْرٍ، وإنّما الجمعة في الأمصار (¬4). وحُجَّة من قال بقول مالك: أنّ أهل مكّة لمّا (¬5) كان عليهم أنّ يقصروا بمِنىً وعَرَفَة، كانوا بمنزلة المسافرين، ولا جمعةَ على مسافرٍ، لا في يوم النَّحر ولا في غيره، وهذا إنّما يخرجُ على إمام قادم مكّة من غيرها مسافر (¬6)، فإن كان من أهلها فكما قال عطاء. الصَّلاة بالمزدلفة (¬7) الأحاديث (¬8): قال القاضي: وأجمعوا أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دفع من عَرَفَة في حَجَّته بعد ما غربتِ الشّمسُ من يوم عَرَفَة، وأخَّر صلاة المغرب لم يصلِّها في ذلك الوقت حتّى أتى المزدلفة، فصلَّى فيها المغرب والعشاء، جمع بنيهما بعد ما غاب الشَّفَقُ. وأجمعوا أنّ تلك سُّنَّة الحاجّ كلّهم في تلك المواضع. واختلفوا في كيفية الأذان والإقامة لتلك الصّلاتين: فقال مالك (¬9): يَجمعُ بينهما ويُؤذِّن ويُقيم لكلِّ واحدة منهما. ¬
وقال الثَّوريُّ: يصلِّيها بإقامة واحدة لا يفصل بينهما. وقال أبو حنيفة (¬1) وأبو يوسف: يصلِّي المغرب بأذان وإقامة (¬2). وقال ابنُ القاسم (¬3): قال مالك: لكلِّ صلاة أذانٌ وإقامةٌ. قال القاضي (¬4): والحُجَّة لمالك؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جعل الصَّلاتين بالمزدلفة وقتًا (¬5) واحدًا سنَّ (¬6) ذلك لهما، وإذا كان وقتُهما وقتًا واحدًا، لم تكن إحداهما أوْلَى بالأذان والإقامة من صاحبتها؛ لأنّ كلّ واحدة منهما تصلّي في وقتها. وقد أجمعوا أنّ الصّلاة إذا صُلِّيت في جماعة لوقتها أنّ من سُنَّتها أنّ يؤذَّن لها ويقام. وقال بعض علمائنا (¬7): العجبُ من مالك في هذا الباب إذْ أخذَ بحديث ابنِ مسعود (¬8) ولم يروه، وترك ما رَوَى في ذلك. قال القاضي (¬9): لا أعلم أنّ مالكًا رَوَى في ذلك حديثًا فيه ذِكْرُ أذان ولا إقامة، وأعْجَبُ منه ما (¬10) عجبَ منه أحمد بن حنبل أنّ أبا حنيفة وأصحابه لا يعدلون (¬11) بحديث ابن مسعود أحدًا (¬12)، وخالفوه (¬13) في هذه المسألة (¬14) وأخذوا بحديث ¬
الصلاة بمنى
جابر (¬1)، وهو حديث مَدَنِيٌّ لم يرووه وقالوا به، وتركوا أحاديث أهل الكوفة في ذلك، والآثار في ذلك كثيرة والحُجَج طويلة (¬2). الصَّلاة بمِنىَ (¬3) قال مالك (¬4) في أهل مكّة (¬5): يُصَلُّون بمنىً إذا حَجُّوا ركعتين ركعتين (¬6)، حتّى ينصرفوا إلى مكّة. واختلف العلماء في قصر الإمام إذا كان مَكِّيّاَ بمِنىً وعرفات، أو من أهل مِنىً بعرفات، أو من أهل عوفات بمنىً أو (¬7) بالمزدلفة؟ فقال مالك في "الموطّأ" (¬8) وسُئل مالكٌ عن أهل مكّة يصلّون الظُّهر والعصر بعَرَفَة (¬9)؟ فقال مالك: يَقْصُرُونَ الصَّلاة. وأمّا (¬10) من قدِمَ مكّة لهلال ذي الحِجَّةِ، فأهلَّ بالحَجِّ، فإنّه يُتِمُّ الصَّلاةَ حتّى يَخرُجَ من مكَّة إلى مِنىً فيَقْصُر، وذلك أنّهم قد أجمعوا أنّه من أقام أكثر من أربع ليال (¬11)، فإنّه يتمّ (¬12)، وقد تقدّم القول في ذلك. ¬
تكبير أيام التشريق
تكبير أيّام التّشريق (¬1) الأحاديث (¬2): تكبيرُ عمر (¬3): هو تكبيرُهُ عند رَمْي الجمار يوم النَّحْر وأيّام التّشريق، وأمّا التَّكبيرُ دُبُرَ الصّلوات، فقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك في صلاة العِيدَين. أمّا كيفيته، فالّذي صحَّ عن عمر، وعن عليّ، وابن عمر، وابن مسعود؛ أنّها ثلاث تكبيرات: الله أكبرُ، الله أكبرُ، الله أكبرُ (¬4). وأمّا قول مالك (¬5): "الأيَّامُ المَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشْريقِ" فذلك إجماعٌ لا خلافَ فيه، وكذلك لا خلافَ أنّها ثلاثةُ أيّامِ بعد يوم النَّحْر، وإنّما اختلفوا في الأيّام المعلومات أيّام الذَّبْح (¬6)، وسيأتي ذلك في كتاب الضّحايا إنَّ شاء الله. والأيّامُ المعدودات لها ثلاثة أسماءٍ: - هي أيّامُ مِنىً. - وهي أيّامُ التَّشريقِ. - وهي الأيّام المعدودات. وفي المعنى الّذي سُمِّيت به أيَّام التّشريق للعلّماء ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الذّبح فيها يكون بعد شروق الشَّمس، وهذا سبب (¬7) مَنْ لم يُجِزه الذَّبْحَ باللَّيل، منهم مالك. القول الثَّاني - قيل: إنّهم يُشَرِّقون فيها لحوم الضّحايا والهدايا، وهذا قول جماعة أهل التّفسير، منهم قتادة (¬8). ¬
صلاة المعرس والمحصب
القول الثَّالث - قيل: إنّهم كانوا يشرِّقُون فيها للشّمس (¬1) في غير بيوت ولا أبنية للحَجِّ (¬2)، هذا قول أبي جعفر محمّد بن عليّ (¬3). وقد قيل: إنَّ لفظ التّشريق مأخوذٌ من قولهم: "أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ" (¬4) وهذا لا يعرفه أهل العلم باللسّان (¬5). قال القاضي (¬6): ولا خلافَ أنّ أيّام مِنىً ثلاثة أيّام، ورُوِيَ ذلك عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في (¬7) حديث مُسْنَدٍ (¬8). صلاة المُعَرَّس والمُحَصَّب (¬9) الأحاديث (¬10): وهو (¬11) عند مالك وجماعة من أهل العلم مُسْتَحَبٌّ، على أنّه ليس من مناسك الحجِّ، وليس على تاركه فِدْيَةٌ ولا دَمٌ. وهذه البطحاء (¬12) هي المعروفة عند أهل العلم وغيرهم بالمُعَرَّس. ¬
البيتوتة بمكة ليالي منى
وقال إسماعيل القاضي: ليس نزولُه - صلّى الله عليه وسلم - بالمُعَرَّسِ كسائر نزوله بطريق (¬1) مكَّة؛ لأنّه كان يصلِّي الفريضةَ حيث أمكنه، والمُعَرَّسُ إنّما كان يصلّي فيه النّافلة. البَيْتوتةُ بمكَّة ليالي مِنىً (¬2) الأحاديث (¬3): قال القاضي: وما أحسب أنّ يصحّ في ذلك حديثٌ، وأحْسَنُ ما رُوي في ذلك حديث ابن عمر؛ أنّه قال: قد بات رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بمنىَ وصلَّى فيها. وكان ابنُ عبَّاس يُرَخّصُ في المبيت بمكّة ليالي مني (¬4). وذكر أبو داود (¬5) بإسناده عن ابن عمر، قال: استأذنَ العبَّاسُ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يبيتَ بمكَّةَ ليالي منىً من أجل سقايته (¬6)، فأذِنَ له. قال القاضي (¬7): وهو حديثٌ ثابتٌ، وفيه دليل على أنَّ المبيت بمِنىً ليالي منىً من سُنَنِ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّه رخَّص في ذلك لعَمِّه دون غيره من أجل السِّقاية. واختلف الفقهاء في حُكْم من بات بمكَّة من غير أهل السِّقاية؟ فقال مالك (¬8): عليه دم. وقال الشّافعيّ (¬9): لا رخصةَ في ترك المبيت بمنىً، إلّا لِرُعَاة الإبِل وأهل سقاية العبَّاسِ دون غير هؤلاء (¬10). وقال أصحابُ الشّافعيّ (¬11): له (¬12) في هذه المسألة قولان: ¬
رمى الجمار
أحدهما: أنّه إنَّ بَانَ (¬1) عنها ليلةً تصدّق بدرهم، وإن بانَ عنها ليلتين تصدَّقَ بدرهمين، وإن بان عنها ثلاثة ليالٍ تصدَّق بثلاثة دراهم. والثّاني: عليه لكلِّ ليلةٍ مُدًّا من طعامٍ إلى ثلاثة ليالٍ، فإن تمَّتِ الثّلاثُ فعليه دَمٌ. رَمْىُ الجِمَارِ (¬2) الأحاديث (¬3): قال القاضي - رضي الله عنه -: الجِمَارُ: الأحجارُ الصِّغار، ومن هذا قولُ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر" (¬4) أي: من تمسح بالأحجار. ومنه الجِمَار (¬5) الّتي تُرْمَى في جمرة العقبة يوم النَّحر وسائر الجمار الّتي تُرْمَى أيّام التّشريق وهي أيّام مِنىً. لغته: قال ابنُ الأنباري (¬6) في الجمار: هي الحجار (¬7)، يقال: قد جَمَّرَ (¬8) الرَّجُل تجميرًا، إذا رَمَى جِمَارَ مكَّة. الإسناد: الحديث الّذي رواه مالك (¬9) في هذا الباب بلاغ، وقد رُوِي متَّصلًا (¬10). وأمّا الحديث المُسْنَد الّذي رُويَ في ذلك ذكره النّسائىّ (¬11)، وقد رُوِيَ عن ابن عمر؛ أنّه ¬
كان يُشَبِّر (¬1) ظلّه ثلاثة أشبار، ثمّ يرمي، وقام عند الجمرتين قَدْرَ سورة "يوسف". وقد رُوِي قدر سورة "البقرة" (¬2). وقد رُوِي قَدْرَ سورة "آل عمران". قال القاضي: ولا توقيت في ذلك عند الفقهاء، وإنّما هو ذِكْرٌ ودُعاءٌ. وكان ابن عمر يُكَبِّرُ مع كلِّ حصاةِ (¬3)، وقد رُوِيَ عنه أنّه كان يقول حين يرمي الجمرة: اللَّهمّ اجعله حَجًّا مبرورًا، وذَنْبًا مغفورًا (¬4). سُئِلَ مَالِكٌ (¬5): هَلْ يُرْمَى عَنِ (¬6) الصَّبِيِّ وَالمَرِيضِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيتَحَرَّى المَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ فَيُكَبِّرُ وَهُوَ في مَنْزِلهِ وَيَهْرِقُ دَمًّا، فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أيَّامِ التَّشريق رَمَى الَّذي رُمِيَ عَنْهُ ويهدي. ولا يختلفون أنّه إذا لم يستطع الرَّميَ لمرضه (¬7) رُمِيَ عنه، وإن كَبَّرَ كما قال مالك (¬8) فَحَسَنٌ، ولو قدر أنّ يحمل حتّى إذا قربَ من الجمار وضعَ الحَصَى في يده ثمّ رَمَى لها كان حَسَنًا، فإن لم يقْدِر ورَمَى عنه غيرُه أجزأه بإجماعٍ. واختلفوا فيما يلزمُه إنَّ صحّ في أيّام الرَّمْيِ، وكان رمى عنه بعض أيّام الرَّمْي. فقال مالك ما تقدّم، والهَدْيُ الّذي يلزمه عنده، لا بد أنّ يُخْرَج به إلى الحِلِّ، ثمّ يُدْخَل به الحرم، فيذبحُه ويُطعِمُه المساكين. وقال الشّافعيّ (¬9): إذا صحّ في أيّام الرَّمْيِ رَمَى عن نفسه ما رُمِيَ عنه، فإن مضت أيّام الرَّمْي فلا شيء عليه، قال: فإن لم يُرْمَ عن الصَّبِىِّ حتّى مضت أيام الرَّمْي * أهريق عن كلّ واحد منهم دَمٌ. ¬
الرخصة في رمي الجمار
وقال أبو ثور في ذلك كلِّه مثل قول الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: إنَّ لم يُرْمَ عن الصَّبِىِّ حتّى مضت أيّام الرَّمْي * (¬1) لم يكن عليه شيء. قال (¬2): وإن رُمِى عن الصَّبيِّ والمجنون والمغمى عليه الجِمار في الأيَّام الثّلاثة (¬3): أجزأ ذلك عنهم. الرُّخصة في رَمْي الجمار (¬4) سُئِلَ مَالِكٌ (¬5) عَمَّنْ نَسِيَ رَمْيَ جَمْرَةً مِنَ الجِمار فِي بَعْضِ أيَّامِ مِنىً؟ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وأجمعوا على أنَّ من لم يرم الجِمار أيّام التّشريق حتّى غابتِ الشّمسُ من آخرها، أنّه لا يرمِها بعدُ، ويجبرُ ذلك بالدَّم أو بالطّعام على حسب اختلافهم في ذلك. وأمّا مالك (¬6) فيرى عليه دم (¬7). وقال الثّوريّ: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاثة، وإن ترك أربعًا فصاعدًا فعليه دمٌ. وقال الشّافعيّ (¬8): عليه في الحصاة الواحدة مُدٌّ، وفي الحصاتين مُدَّان، وفي ثلاثة دَمٌ. ورخّصت طائفةٌ من التّابعين - منهم مجاهد - في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئًا. ¬
الإفاضة
الإفاضةُ (¬1) الأحاديث (¬2): قال القاضي: للعلّماء في هذه المسألة أربعة أقوال: أحدهما: قول عمر (¬3)؛ أنّه مَنْ رَمَى جَمْرَة العَقَبة فقد حلَّ له كلّ ما حَرُمَ عليه إلّا النّساء والطِّيب. القول الثَّاني: إلّا النّساء والطّيب والصّيد، وهو قول مالك، وحجّته قول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية (¬4)، ومن لم يحلّ له وطء النّساء فهو حرامٌ. الثَّالث: إلّا النّساء والصَّيد، وهو قول عطاء وطائفة من التّابعين (¬5). الرَّابع: إلّا (¬6) النِّساء خاصة، وهو قول الشّافعيّ وسائر العلماء القائلين بجواز الطَّيبِ عند الإحرام وقبل الطّواف بالبيت (¬7) على حديث عائشة (¬8). واختلف قول مالك فيمن تَطَيَّبَ بعد رَمْي الجمرة وقبل الإفاضة؛ فمرة رأى عليه الفِدْيَة، ومرَّة لم ير فيه شيئًا (¬9)، لما جاء فيه عن عائشة. ولم يختلف الفقهاء أنّ الطّواف للإفاضة هو الّذي يدعوه أهل العراق طواف الزيارة، لا يُرْمَلُ فيه، ولا يوصلُ بالسّعي بين الصّفا والمروة، إلّا أنّ يكون القادمُ لم يَطُف ولم يَسْعَ، أو المكِّيُّ الّذي ليس عليه أنّ يطوفَ طوافَ القُدوم، فإنَّ هذين يطوفان بالبيت وبالصَّفا وبالمروة طوافًا واحدًا سَبْعًا، وبين الصّفا والمروة سبعًا على ما ¬
الحائض بمكة
قد أوضحناه في غير هذا الموضع. الحائضُ بمكَّةَ (¬1) الأحاديث (¬2): تنبيه على وهم الإسناد: الحديثان هكذا رواهما يحيى (¬3) بهذين الإسنادين، ولم يَرْوِ ذلك أحدٌ من رواة "الموطّأ" ولا غيرهم عن مالك، وإنّما الحديث عند جميعهم (¬4): عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن عائشة، لا عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة كما رواه يحيى، وليس إسناد عبد الرّحمن بن القاسم عند غير يحيى من رواة "الموطّأ" في هذا الحديث، وهو وَهْمٌ عظيمٌ (¬5). وأمّا إفاضة الحائض، فالآثار (¬6) المرفوعة في هذا الباب؛ أنّ طوافَ الإفاضةِ يحبسُ الحائضَ بمكّة لا تبرَحُ حتّى تطوفَ للإفاضة؛ لأنّه الطّواف المفترَض على كلِّ مَنْ حجَّ، فإنْ كانت الحائضُ قد طافت قبل أنّ تحيضَ، جاز لها بالسُّنَّة أنّ تخرجَ ولا تودِّع البيتَ، ورُخِّصَ أيضًا في ذلك للحائض وحدها دون غيرها، وهذا أمر مُجْمَعٌ عليه من فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، لا خلاف بينهم فيه. وأجمع العلماء على أنّ طواف الوداع من النُّسُكِ، ومن سُنَنِ الحجِّ المسنونة. كما أجمعوا أنّ طواف الإفاضة فريضةٌ. واختلف الفقهاء فيمن صدر ولم يودِّع: ¬
فدية ما أصيب من الطير والوحش
فقال مالك (¬1): لا أحبُّ لأحدٍ أنّ يخرجَ من مكَّةَ حتَّى يودِّعَ البيت بالطّواف، فإنْ لم يفعل فلا شيء عليه. قال القاضي (¬2): والوداعُ عنده مستحَبٌّ وليس بسُنَّةٍ واجبة، لسقوطه عن الحائض وعن المكّي الّذي لا يبرَحُ من مكّة بعد حَجِّه، فإن خرج من مكّة إلى حاجةٍ، طاف للوداع وخرج حيث شاءَ، فهذا يدلُّ على أنّه مُسْتَحَبٌّ وليس من مؤكّدات الحجِّ. والدّليل على ذلك: أنّه طوافٌ قد حَلَّ وَطْءُ النِّساء قبلَه، فأشبه طواف التَّطوُّع. فِدْيَةُ (¬3) ما أُصيبَ من الطّير والوحش (¬4) مالك (¬5)، عن أبي الزُّبير المكِّيّ؛ أنّ عمر قضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْزٍ، وفي الأرنب بِعَنَاقٍ، وفي اليَرْبوع (¬6) بجَفْرَةٍ. واليَرْبوعُ: دُوَيبَةٌ لها أربعُ قوائم وذَنَبٌ، وهو من ذوات الكرْشِ (¬7)، رُوِّينا ذلك عن عِكْرِمَة، وهو قول أهل اللّغة. والجَفْرَةُ عند أهل العلم والسُّنَّة وأهل اللُّغة: من ولد المَعْزِ ما أكلَ واستغنَى عن الرَّضاع (¬8). والعَنَاقُ: قيل هو دون الجَفْرَةِ (¬9)، ولا خلاف أنّه من ولد المَعْزِ (¬10). وخالف (¬11) مالك في الأرنب واليَرْبُوع، فقال: لا يفديان بجَفْرَةٍ ولا بِعَنَاقٍ، ¬
وحجّةُ مالك (¬1): قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا. . .} الآية (¬2). قال الشّافعيّ: يفدي (¬3) صغار الصَّيد (¬4) بالمِثْلِ من صغار النَّعَمِ، وكبار الصَّيد بالمِثْلِ من كبار النَّعَمِ (¬5)، وهو ممّا رُوِيَ عن عليّ وعمر (¬6) وابن مسعود في تأويل قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ...} الآية (¬7)، وقال الشّافعيّ (¬8): والطائر لا مِثْل له من النَّعَمِ، فَيُفْدَى (¬9) بقيمته. اتَّفَقَ مالك والشّافعىّ ومحمد بن الحسن على (¬10) أنّ المِثْل المأمور به في جزاء الصَّيد هو الأشبهُ به من النَّعَم في البُدُن، فقالوا: في الغزالة شاةٌ، وفي النَّعامة بَدَنة، وفي حمار الوَحْش بقرةٌ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬11): الواجبُ في قتل الصَّيد قيمتُه، سواء كان يماثله (¬12) من النَّعَم أو لم يكن، وهو بالخِيَار بين أنّ يتصدّق (¬13)، وبين أنّ يصرف القِيمَة في النَّعَم فيشتريه ويهدي (¬14). وقد اختلف العلماء قديمًا في قتل الرَّجُل لصيد خطأ. فقال جمهور العلماء وجماعة فقهاء الفتوى، منهم مالك والشّافعيّ (¬15) وأبو حنيفة (¬16) والأوزاعي والثوري وأصحابهم: قَتلُ الصَّيد عَمْداَ أو خطأً سواءٌ، وبه قال ¬
أحمد (¬1) إسحاق والطّبريّ (¬2). وقال أهل الظّاهر (¬3): لا يجب الجزاء إلّا على من قتل الصَّيد عمدًا، ومن قتله خطأ فلا جزاء عليه، بظاهر قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ...} الآية (¬4). ورُوِيَ عن (¬5) مجاهد وطائفة: لا تجبُ الكفَّارة إلّا في قتل الصّيد خطأ، وأمّا العمدُ فلا كفارةَ فيه (¬6). قال القاضي (¬7): وظاهرُ قول مجاهد مخالفٌ لظاهر القرآن؛ لأنّ معناه أنّه متعمَّدٌ لقتله، ناسٍ لإحرامه. وقوله (¬8): "متعمدًا لقتله ناسٍ لإحرامه" بعيدٌ في النَّظَر. وأمّا أهل الظَّاهر، فقالوا: دليل (¬9) الخطّاب يقضي (¬10) أنّ حُكمَ من قتله خطأ مخالفٌ لحُكْم من قَتَلَهُ متعمِّدًا، وإلّا لم يكن لتخصيص المتعمِّد (¬11) معنى، واستشهدوا بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عن أُمَّتِي الخطأُ والنِّسْيَانُ" (¬12). وأمّا ما ذهب إليه جمهور العلماء الّذين هم الحجّة، ولا يجوز عليهم تحريف ¬
فدية من أصاب شيئا من الجراد وهو محرم
الكتاب ولا تأويله، منهم عمر (¬1) وعليّ (¬2) وابن مسعود وعثمان، وذلك أنّهم قَضَوا في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الطَّير بشاة، ولم يفرِّقوا بين العامد والمخطىء. قال القاضي (¬3): وقد رُوي في المسألة قولٌ شاذّ لم يقل به أحدٌ من أيَّمة الفَتْوَى، إلّا داود في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (¬4) قال داود: لا جزاءَ إِلَّا في أوّل مرّة، وإن عاد فلا شيءَ عليه، وهو قول مجاهد (¬5) وشُرَيْح (¬6) وإبراهيم (¬7) وسعيد بن جُبَيْر (¬8) وقَتَادَة، ورُوِيَ ذلك عن ابن عبَّاس (¬9). والحجة للجمهور قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...} الآية (¬10)، فظاهر هذا يوجِبُ على من قتلَ الصَّيد وهو مُحْرِمٌ الجزاء؛ لأنّه لم يخصّ وقتًا دون وقتٍ. وحكَمَ عمر (¬11) وابن عبّاس (¬12) في حمام مكَّة بشاةٍ، ولم يخالفهما أحدٌ من الصَّحابة. فِدْيَةُ مَنْ أصاب شيئًا من الجراد (¬13) وهو مُحْرِمٌ (¬14) الأحاديث (¬15): اختلف العلماء فيما يجزئ في الجراد: ¬
فقال مالك (¬1): في الجرادة قبضة (¬2)، وفي الجراداتِ قبضةٌ، اتِّباعًا لقول عمر (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4): تمرةٌ خيرٌ من جَرَادَةٍ على ما جاء عن عمر أيضًا. وقال الشّافعيّ (¬5): فيها قيمتُها. وقال رَبيعَة: في الجرادة صاعٌ من تمرٍ، وهو أهون الصَّيد، وأكثر العلماء على أنَّه عليه في الجرادة تمرةٌ، وقول رَبيعة لا يُلْتَفت إليه بوجهٍ؛ لأنّه لم يَعْرِف الآثار الواردة في ذلك. وأمّا قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ...} الآية (¬6)، وأجمعوا (¬7) على أنّ صيد البحر والماء كلّه حلالٌ للمُحْرِم أكلُه وصيدُه إذا كان لا عَيْشَ له إلّا في الماء، وإنّما اختلفوا فيما يعيش في البحر وفي البرِّ ويأوي في هذا وفي هذا، فمذهب مالك أنّه يقضي فيه بالأغلب من ذلك. وقال الشّافعيُّ (¬8): كلُّ ما صيد في ماءٍ عَذْبٍ أو مِلْحٍ (¬9)، قليل أو كثير، ممّا يعيش في البحر (¬10)، ولا يحلّ إلّا بالذّكاة، فلا يأكله المَحْرِم (¬11). وقال أبو حنيفة (¬12): الّذي أرخص فيه من صَيد البحر السّمك خاصة، وما كان ¬
فدية من حلق قبل أن ينحر
من طير يعيش في الماء فلا يقتله المُحْرِم. وقال أبو ثور: يجوز للمحرم أنّ يصيد كلّ ما كان من طير يعيش في الماء فإنّه حلال، وما لا يأوي إلى الماء، فليس من صَيْد البحر، وعلى المحرم إذا قتله الجزاء. وأجمعوا على أنّ الحمام الأهلىّ ليس للمُحْرِم أكله ولا ذبحه؛ لأنّ أصله صيد. وكذلك أجمعوا أنّ الحمام الوحشي إذا تأنّس وصار كالأهلي، لا يجوز للمُحْرِم ذبحه، وأنّ عليه الجزاء إذا ذبحه. فِدْيَة من حَلَقَ قبل أنّ يَنْحَر (¬1) الأحاديث (¬2): إسناده (¬3): وفيه وهم - أعني الإسناد - عند أكثر الرُّواة (¬4)، سقط لهم مجاهد (¬5)، والحديث محفوظٌ لمجاهد عن (¬6) ابن أبي ليلى عن كعب، عن جماعة العلماء (¬7). حديث ثانٍ: مالك (¬8)، عن عطاء الخراسانيّ؛ قال: حَدَّثَني شَيْخٌ بِسُوقِ الْبُرَمِ (¬9) بالكوفة. قال القاضي - رضي الله عنه -: والشَّيخُ الَّذي حدَّثَ عنه عطاء هذا الحديث، ¬
قيل: هو عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وقيل: هو عبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن (¬1). قال القاضي (¬2): واختلف النّاقلون لحديث كعب بن عُجْرَة هذا، وأكثرُها وردت بلفظ التَّخيير (¬3)، وهو نصُّ القرآن في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} الآية (¬4). وعليه مضَى عمل العلماء. واختلف الفقهاء في مَبْلَغِ الإطعام في فِدْيَة الأذى: فقال مالك (¬5) والشّافعيّ (¬6) وأبو حنيفة وأصحابهم (¬7) وداود: الإطعام في ذلك مُدَّان بمُدِّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لكلِّ مسكينٍ. وقال بعض العراقيّين (¬8): إنَّ أطعم برًّا فمُدٌ لكل مسكين، وإن أطعم تمرًا فنصفُ صاعٍ. ولم يختلف العلماء أنّ الإطعام لستّةِ مساكينَ، وأنّ الصّيام ثلاثةُ أيّام، وأنّ النُّسُك شاةٌ، على ما في الحديث الّذي لكَعْب بن عُجْرَة، إلّا شيئًا رُوِيَ عن الحسن (¬9) وعِكْرِمَة (¬10) ونافع؛ أنّهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكينَ والصِّيام (¬11) عشرة أيّام، ولم يتابعهم على ذلك أحدٌ، لهمَا ثبت في السُّنَّة من حديث كعب بن عُجْرَةَ. قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ...} إلى قوله: {مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} الآية (¬12)، قال ابنُ عبَّاس: المرضُ أنّ يكون برأسه جراح (¬13)، والأذى: القَمْل. ¬
ما يفعل من نسي من نسكه شيئا
وقال عطاء: المرضُ الصُّدَاعُ، والقَمْل، وغيره. وحديث كعب أصل هذا الباب عند العلماء. وأجمعوا أنّ الفِدْيَةَ على مَنْ حَلَقَ رأسَه من عُذْر وضرورة. وأجمعوا أنّه إذا (¬1) كان حَلْقُه لرأسه من أجل ذلك، فهو مُهَيَّرٌ فيما قضى اللَّهُ عليه من صيام أو صدقة أو نُسُكٍ. واختلفوا فيمن حلق رأسَهُ وتطيَّبَ ناسيًا (¬2)، فقال مالك (¬3): العامدُ والنّاسي سواءٌ في: جوب الفِدْيَةِ، وهو قول أبي حنيفة (¬4)، والثَّوري، واللَّيث، وأحد قولي الشّافعىّ (¬5). قال مالك (¬6): من نسي فحلقَ رأسَه قبل أنّ يرميَ الجمرةَ افْتَدَى. قال القاضي: مالك لا يوجبُ الفِدْيَة إلّا على من حَلَقَ قبل أنّ يرمي، وأمّا من حلق قبل أنّ ينحر، فلا شيءَ عليه عنده. وقال أبو حنيفة: عليه الفِدْيَة (¬7). ما يَفْعَلُ من نَسِيَ من نُسُكِه شيئًا (¬8) الأحاديث (¬9): فيه: أنّ من أسقط شيئًا من سُنَنِ الحجِّ جَبَرَهُ بالدَّم لا غير، إلّا ما أتى فيه الخبر نصًّا، أنّ يكون البدل (¬10) فيه من الدّم طعامًا أو صيامًا، هذا حُكْمُ سُنَنِ الحجِّ. وأمّا ¬
جامع الحج
فرائضُه، فلا بدّ من الإتيان بها على ما تقدّم مِنْ حُكْمها إنَّ شاء الله. جامعُ الحجِّ (¬1) الأحاديث (¬2): أمّا الحديث الّذي أدخل مالك (¬3)، عن إبراهيم بن عُقْبَةَ، عن كُرَيْبِ مَوْلَى (¬4) ابن عبَّاس؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مَرَّ بامرأةٍ وهي في مَحَفَّتِهَا (¬5)، فقيل لها: هذا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فأخذت بِضَبْعَيْ (¬6) صَبِيٍّ كان معها، فقالت: ألهذا حَجٌّ؟ يا رسول الله. قال: "نعم، ولكِ أجرٌ". الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه - (¬7): هذا حديثٌ مُرْسَلٌ، كذا رواه يحيى مُرْسَلًا، وتابعه أكثر رواة "الموطّأ" (¬8). فيه من الفقه: الحجُّ بالصِّبيان، وأجازه جماعةٌ من العلماء بالحجاز والعراق والشام ومصر، وخالفهم في ذلك أهل البِدَع، فلم يروا الحجِّ بهم (¬9)، وقد حجّ أبو بكر بعبد الله بن الزّبير في خِرْقَةٍ (¬10). وقال عمر: تُكْتَبُ للصَّبِىِّ حسناتُه ولا تكتبُ عليه سيئاتُه. وحجّ السَّلَفُ قديمًا وحديثًا بالصّبيان والأطفال، يعرضونهم لرحمة الله. ¬
قال القاضي (¬1): أجمع العلّماءُ على أنّ من حَجَّ صغيرًا قبل البلوغ، أو حجَّ به طفلًا ثمّ بلغ، لم يجزئه حَجُّهُ ذلك عن حَجَّةِ الإسلام. وقد شذّت فرقةٌ فأجازت له حجّته بهذا الحديث، لكن (¬2) ذلك ليس عند أهل العلم بشيء؛ لأنّ الفَرْضَ لا يُؤَدَّى إلّا بعد الوجوب، وهذا ابن عبَّاس هو الّذي رَوَى هذا الحديث عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهو الّذي كان يفتي في الصَّبىِّ يحجّ ثمّ يحتلم؟ قال: يحجّ (¬3) حجّة الإسلام، وفي المملوك يحجّ ثمّ يعتق؟ قال: الحجِّ عليه. وعلى هذا جماعة أهل الأمصار، إلّا داود فإنّه خالف في المملوك، فقال: يجزئه حَجُّه ولا يجزئ الصَّبىّ. واختلف العلماء في المراهق والعبد يُحْرِمان بالحجّ، ثمّ يحتلمُ هذا، ويُعْتَقُ هذا، قبل الوقوف بعَرَفَة؟ فقال مالك (¬4): لا سبيل إلى رفض الإحرام لهذين، ويتماديان على إحرامهما، ولا يجزئهما عن حجّة الإسلام. وقال الشّافعيّ: يجزئهما ذلك عن حجّة الإسلام (¬5)، وقد تقدَّم الكلام في ذلك في "الكتاب الكبير". وأمّا حديث فضل يوم عرفة، قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَه إِلَّا الله ... " الحديث (¬6). فيه من الفقه: تفضيل (¬7) الدُّعاء يوم عَرَفَة، وفي ذلك دليل على (¬8) تفضيل بعض الأيّام على بعض. وقد جاء في فضل يوم الجمعة، ويوم عاشوراء، ويوم عَرَفَة، أحاديث صِحَاحٌ ثابتةٌ. وفيه: تفضيل لا إله إلّا الله على سائر الكلام، وقد اختلفتِ الآثارُ في ذلك عن ¬
النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فمنها ما جاء بهذا المعنى، ومنها ما جاء بتفضيل الحمد، ومنها ما جاء بتفضيل سبحان الله والحمدُ لله (¬1). وأمّا ما جاء من دعاء رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يوم عَرَفَة، منها حديث علىّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دعا يوم عَرَفَة بعَرَفَة فقال: "لا إله إلّا الله، وحدَهُ لا شريكَ له، له المُلْكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ، اللهمّ اجعل لي في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بَصَري نورًا، اللَّهمّ اشرح صدري، ويسِّر (¬2) أمري، أعوذُ بك من وَسَاوِس الصّدور (¬3)، وفِتْنَةِ القبر، ومن شرِّ ما أتَتْ (¬4) به الرِّياح، ومن شَرِّ ما يأتى به اللَّيل والنّهار" (¬5). وسئل ابنُ عُيَيْنَة عمّا كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أكثر ما يقول يوم عَرَفَة؟ فقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ثمّ قال سفيان: إنّما هذا ذِكْرٌ وليس بدعاء (¬6). وقال (¬7) رجل للأوزاعيّ: يا أبا عمر، أيّها أحبّ إليك: لا إله إلّا الله مئة مرّة، أو سبحان الله مئة مرّة؟ فقال: لا إله إلّا الله. فهذا يفسِّر لك حديث زياد بن أبي زياد (¬8). هذا حديث مالك (¬9)، عن ابن شهاب، عن أنس؟ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دخل مكّة عامَ الفتح وعلى رأسه المِغْفَرُ ... الحديث. انفرد به مالك، عن ابن شهاب (¬10)، والكلام على تعليل إسناده يَطُولُ، وقد ¬
اختلفت ألفاظ الرُّواة فيه، فقال بعضهم: مِغْفَرٌ من حديد (¬1) فقيل له (¬2): ابنُ خَطَلِ متعلِّقٌ بأستار الكعبة. الإسناد (¬3): هذا حديثٌ انفردَ أيضًا به مالك، لا يُحْفَظُ عن غيره، ولم يروه أحدٌ عن الزّهريّ سواه من طريق صحيحٍ. وليس في "الموطّأ" مِغْفَرٌ من حديد (¬4)، وكان ابنُ خَطَل يهجو النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -. واخْتُلِفَ (¬5) في اسم ابن خَطَل هذا؟ فقيل: هلال بن خَطَل (¬6). وقيل: عبد العزي (¬7) بن خَطَل. وقيل: عبد الله. وزعم (¬8) بعض أصحابنا أنّ هذا أصلٌ في قتل (¬9) الذِّميّ إذا سبَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، وهذا غَلَطٌ؛ لأنّ ابنَ خَطَل كان حَرْبِيًّا في دار حَرْبِ، ولم يُدْخِله رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في أمَانِه لأهل مكَّةَ، بل استثناه - وقومُه معه - من ذلك الأمان (¬10)، ومعلوم أنّهم كانوا كلّهم أو أكثرهم لا ينصرفون عن سبِّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. ولم يجعل لابن خَطَل أمانًا؛ لأنّ أمْرَهُ - صلّى الله عليه وسلم - خرج مع (¬11) الأمان لأهل مكّة مَخْرَجًا واحدًا في وقتٍ واحدٍ، ووردت بذلك ¬
الآثار، وهو معروف عن أهل السِّيَر. والوجهُ في قتل ابن خَطَل: هو أنّ الله أمَرَ بقتل المشركين حيث وُجِدُوا، فقال عزّ من قائل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ...} الآية (¬1). وأمّا الآن فنبسطُ الكلام في ذلك: قال (¬2): وكان سبب قتله ما ذكرناه عن ابن إسحاق (¬3)، قال (¬4): وأمّا قتلُ (¬5) عبد الله بن خَطَل، فقَتَلَهُ سعيد بن حُرَيْث (¬6) المخزوميّ وأبو بَرْزَةَ الأسلمي اشتركا في دَمِهِ. وهو رجل من بني تيم (¬7) بن غالب. قال (¬8): وإنّما أمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بقتله؛ لأنّه بعثه مُصَدّقًا وكان مُسْلِمًا، وبعث معه رَجُلًا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلمًا، فنزل ابنُ خَطَل منزلًا، وأمر المولى أنّ يذبح له شاة ويصنع له طعامًا، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثمّ ارتدّ مشركًا (¬9)، فهذا (¬10) قَوَدٌ من مسلم. ومثلُ هذه قصّةُ مِقْيَس بن صُبَابَة، قَتَل مسلمًا بعد أخْذِهِ الدِّيَة منه، وهو أيضًا مقن هدر (¬11) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَمَهُ (¬12) في حين دخوله مكَّة (¬13)، كذلك ذكر ابن أبي شيبة (¬14) وابن إسحاق (¬15). ¬
وفي (¬1) هذا الحديث من الفقه: دخول مكّة بغير إحرام وبالسّلاح، وإظهار السّلاح فيها، ولكن هذا عند جمهور العلماء منسوخٌ (¬2) بقوله: "إنَّ الله حَرَّمَ مكَّةَ يوم خَلَقَ السّموات والأرض، ولا تَحِلُّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنّما أُحِلَّتْ لي سَاعةً من النَّهار" (¬3) يعني يوم الفتح. وكان ابنُ شهاب يقول: لا بأس أنّ يدخل مكّة بغير إحرام، وخالفه في ذلك أكثر العلماء (¬4)، وما أعلم أحدًا تابَعَهُ على ذلك إلّا الحسن البصري. واختلف (¬5) العلماء فيما يجب على من دخل مكّة بغير إحرام. فقال مالك (¬6) والشَّافعيّ (¬7) واللَّيث: لا يدخل أحدٌ مكّة من غير أهل مكّة إلّا محرمًا، فإنْ فعل فقد أساء ولا شيء عليه. وقال أبو حنيفة (¬8): عليه حَجَّةٌ أو عمرةٌ. وأمّا (¬9) قتلُ عبد الله بن خَطَل، فلأنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قد كان عَهِدَ فيه أنّ يُقْتَل وإن وُجِدَ متعلِّقًا بأستار الكعبة؛ لأنّه ارتدَّ بعد إسلامه، وكفرَ بعد إيمانه، وبعد قراءته القرآن، وقَتَلَ النَّفسَ الّتي حرَّمَ اللهُ إِلَّا بالحقِّ، ثمّ لحِقَ بدار الكُفر بمكَّة، واتّخذ قَيْنَتَيْنِ يغنِّيانِ بهِجَاءِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فعَهِدَ فيه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بما عَهِدَ، وفي ستّة نَفَرٍ معه قد ذَكَرَهُم ابنُ إسحاق (¬10) وغيره، وامرأتين (¬11)، وقال الواقديّ: أربع نسوة (¬12). ¬
حج المرأة بغير ذي محرم
قال القاضي (¬1): ولا يخلو أمْرُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بقتل هؤلاء (¬2) من أحد وجهين: - إمّا أنّ ذلك كان في وقت حلّت له مكّة - وهي دار حرب - وكان له أنّ يريق دمًا لمن شاء من أهلها في السّاعة الّتي حلّت له فيها. - والوجه الثّاني: أنّ يكون على مذهب جماعة من العلماء في أنّ الحرم لا يُجيرُ من وجب عليه القتل، وكان هؤلاء ممّن وجب عليه القتل بما ذكرنا، فلم يُجرهم الحَرَم، وهذا موضعٌ اختلف فيه العلماء قديمًا وحديثًا (¬3). فأمّا مالك فقال: من وجب عليه القِصَاص في الحَرَمه اقْتُصَّ منه، ومن قَتَل ودخل في الحَرَمه لم يُجِرْه الحَرَم، ولا يمنع الحرم أحدًا وجب عليه القتل. وقال أبو حنيفة: إذا وجب عليه قتلٌ أو حدٌّ، فدخل الحرم، لم يُقتصّ منه في النَّفْس، ولا يُحَدُّ قياسًا على النَّفْس، وتُقامُ الحدودُ عليه فيما دون النَّفس ممّا سوى ذلك حين يخرج من الحرم، وكذلك قال زفر، قال (¬4): فإن قَتَلَ أو زَنى في الحرم رُجِمَ وقُتِلَ في الحرم. حجّ المرأة بغير ذي مَحْرَمٍ (¬5) قَالَ مَالِكٌ (¬6) في الصَّرُورَةِ (¬7) مِنَ النِّسَاءِ الَّتيِ لَمْ تَحُجَّ قَطُّ: إنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمِ يَخْرُجُ مَعَهَا أنَّهَا لَا تَتْرُكُ الْحَجَّ وَتَخْرُجُ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ. قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ...} الآية (¬8)، فدخل في ذلك الرّجال والنّساء المستطيعون إليه السبيل. ¬
حديث: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تحجُّ المرأةُ ولا تسافرُ المرأةُ إلّا مع ذي مَحْرَمِ" (¬1)، واختُلِفَ في ألفاظ هذا الحديث (¬2) في هذه المسألة. واختلف الفقهاء هل يكون المَحْرَمُ من السّبيل للمرأة أم لا؟ فقال مالك ما رَسَمَهُ في "موطّئه" ولم يختلف فيه عنه ولا عن أصحابه، وهو قول الشّافعيّ (¬3) في أنّها تخرجُ مع جماعة (¬4) النِّساء، قال: ولو خرجت مع امرأة مسلمة ثقة فلا شيء عليها. وقال ابنُ سيرين: جائز أنّ تحجّ مع ثِقَةٍ من ثقات المسلمين (¬5) من الرِّجال، وهو قولُ الأوزاعيّ، قال الأوزاعيّ: تخرجُ مع قومٍ عُدُولٍ، وتتّخذُ سُلَّمًا (¬6) تصعدُ عليه وتنزل، لا يَقْرَبُها رَجُل. وكلّ هؤلاء يقول: ليس المَحْرَمُ للمرأة من السّبيل، وهو مذهب عائشة؛ لأنّها قالت: ليس كلّ امرأة لها محرم أو تجد ذا محرم (¬7). وقالت طائفة: المَحْرَمُ للمرأة من السّبيل، فإذا لم يكن معها زوجها، ولا ذو مَحْرَمٍ منها، فليس عليها الحجِّ؛ لأنّها لم تجد السَّبيل، وممَّن ذهب إلى هذا الحسن البصري والنّخعىّ وأبو حنيفة (¬8) وابن حنبل (¬9). وحُجَّة من رأى المَحْرَمَ من السَّبيل: ظاهرُ قولِ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تُسَافِرُ المَرْأَةُ إِلَّا ¬
صيام التمتع
مع ذِي مَحْرَمٍ" (¬1) وقد رُوِيَ: "لا تحجُ المرأةُ إِلَّا مع ذي مَحْرَمِ" ذكره عبد الرزّاق (¬2). صيام التَّمتّعِ (¬3) أجمع العلماء على أنّ الثّلاثة الأيَّام إنْ صامها قبل يوم النّحر فقد أتى بما عليه من ذلك، ولهذا قال من قال من أهل العلم بتأويل القرآن: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬4) قال (¬5): آخرها يوم عَرَفَة (¬6). وكذلك أجمعوا أنّه لا يجوز له ولا لغيره صيام يوم النّحر. واختلفوا في صيام أيّام مِنىً إذا كان قد فَرَّطَ فلم يصمها المتمتِّع * قبل يوم النَّحر. فقال مالك (¬7): يصومها المتمتَّعُ * (¬8) إذا لم يجد هَدْيًا لأنّها من أيّام الحجِّ، ورُوِيَ ذلك عن ابن عمر وعائشة. وقال الشَّافعىّ (¬9) وأبو حنيفة (¬10) وأبو ثور: لا يصوم المتمتَّع أيّامَ مِنىً، لنهي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن صيام أيَّام منىً، ولم يخصّ يومًا (¬11) من الصّيام. ¬
تمَّ بحمد الله وَمَنَّهِ الجزء الرّابع بالتجزئة السُّليمانية، ويليه الجزء الخاص، وأوله: "كتاب الجهاد"
المسالِك فى شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضى أبى بكر محمّد بن عبد الله بن العربىّ المعافرىّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) قرأه وعلّق عليه محمّد بن الحسين السُّليمانى ... عائشة بنت الحسين السُّليمانبى قدَّم له الشّيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمى لعلّماء المسلمين المجلد الخامس دَارالغَرب الإسلامي
دَارالغَرب الإسلامي جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1428 هـ -2007 م دار الغرب الإِسلامي ص: ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالِك فى شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضى أبى بكر محمّد بن عبد الله بن العربىّ المعافرىّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) المجلد الخامس
كتاب الجهاد وأحكامه ومقدماته
كتاب الجهاد وأحكامه ومقَّدماته وفيه ثلاث مقدِّماتٍ: المقدِّمةُ الأولى: في اشتقاقه لغة. الثّانية: في شرح الآيات الواردة فيه. الثّالثة: في وجوبه. المقدمة الأولى قال علماؤنا (¬1): الجهادُ مأخوذٌ من الجَهْدِ، وهو التَّعَب، فمعنى الجهاد في سبيل الله: هو المبالغة باتِّفاق في إتعاب الأنفس في ذات الله تعالى، وإعلاء كلمته الّتي جعلها الله طريقًا إلى جنَّته وسبيلًا إليها. قال الله عَزَّ وَجَلَّ في عموم الخطّاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (¬2). وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (¬3)، فيدخل فيه القتال وغيره، لقوله: "جَاهدُوا الكفَّارَ بأيديكُم وأَلْسِنَتِيكُم" (¬4)، ثمّ صارت اللُّغةُ في الجهادِ على الإطلاق في قتال العدوّ. ¬
وتحقيقُهُ (¬1): أنّ القتالَ ينقسمُ على أربعةِ أقسامٍ: 1 - جهادٌ بالقلبِ. 2 - وجهادٌ باللِّسانِ. 3 - وجهادٌ باليدِ. 4 - وجهادٌ بالسَّيفِ. تنقيح ذلك: وأمّا "جهاد القلب" فهو مجاهدةُ الشَّيطانِ، ومجاهدةُ النَّفسِ عن الشَّهوات المحرَّماتِ، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ..} الآية (¬2). وقوله -عليه السّلام-: "جئتُم مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأَكَبَرِ. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قالَ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ عَنِ الهَوَى" (¬3). وأمّا "جهاد القول (¬4) " فهو الأمرُ بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكر. ¬
المقدمة الثانية
وقد قيل: إنَّه جهادُ اليدِ؛ لأنّه يُغَيِّرُ المناكر والأباطيل والمعاصي المحرَّمات إذا انكشف بها، وتعطيل الفرائض الواجبات بالأدبِ والضَّرب على ما يؤدِّي إليه الاجتهاد في ذلك، ومن ذلك: إقامة الحدود على القَذفَة والزُّناةِ وشُرَّابِ الخمور. وأمّا "جهاد السَّيفِ" وهو قتال المشركين على الدِّين كلِّه وأن تكون كلمةُ اللهِ هي العلّيا؛ لأنّ الجهاد إذا أُطلِقَ فلا يقعُ إطلاقُهُ إِلَّا على مُجَاهَدَةِ الكفّار بالسَّيف، حتَّى يدخلوا في الإسلام، أو يُعْطُوا الجزيَة عن يَدٍ وهم صاغرون. المقدمة الثّانية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (¬1)، وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2). وقوله (¬3): "لا يؤمنون" نَصٌّ في تحقيقِ الكُفر، وذلك أنّ نقول: الكفر والإيمان أصلان في ترتيبِ الأحكام عليهما في الدِّين، وهما في وَضعِ اللُّغة معلومان. فالإيمان هو: التَّصديق لغةً، وهو التأمين. ¬
والكفر هو: السّتر والتّغطية، وقد يكون بالفعل حِسًّا، وقد يكون بالإنكار والجحود مَعْنىً، وكلاهما: حقيقة ومجاز. فإذا قلنا: إنَّ الكفر هو الجحودُ للأشياء الأُخرَوِيّة وإنكارُها، فالشَّرعُ لم يعلِّق الأحكام الشرعيَّة على كلِّ ما ينطلق عليه اسم الكفر، وانّما علّقه على بعضها، وهو الكفر بالله وصفاته وأفعاله. والدّليل عليه قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1). وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} نصٌّ في الكفر بذاته يقينًا، وبالكفر بالصّفات ظاهرًا؛ لأنّ الله تعالى هو الموجودُ الّذي له الأسماءُ الحسنى، والصَّفاتُ العُلا. وأمّا قولُه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (¬2) فيها أربعة أقوال: القول الأوّل: أنَّهم الرّوم، قاله ابن عمر (¬3). الثّاني: أنّهم الدّيلم، قاله الحسن (¬4). الثّالث: أنّهم العرب، قاله ابن زيد (¬5). الرّابع: أنّهم أهل الكفر أجمع؛ لأنّ الله قد سمّاهم كفّارّا، فالخطاب واقعٌ على العموم في قتال الأقرب والأدنى، قاله ابن عبّاس وغيره. ¬
المقدمة الثالثة في وجوبه
المقدمة الثّالثة في وجوبه قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية (¬1). وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (¬2). وقال عزّ من قائل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية (¬3). وهذه الآية ناسخةٌ للّتي أمر الله فيها نبيَّهُ - صلّى الله عليه وسلم - بالعَفوِ والصَّفْحِ فقال: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬4) فأتى من أمره لها لمّا أمر بقتال المشركين فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية (¬5). وجاءتِ الأخبارُ الثَّابتةُ عنِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بموافقةِ ظاهر الآيات، وهو قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنّ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقُولوا لا إله إِلَّا الله ... " (¬6) الحديث، وهو في معنى الدَّعوةِ قوِىٌّ جدًّا. وقال علماؤنا: وجهادُ العدوّ الظَّاهر فرضٌ من فروضِ الكفايةِ وهم الكفّار. وجهادُ العدوّ الباطن فرضٌ من فروض الأعيان، وهو الشّيطان. وقد رَتِّبتْ أحوالُه في الشّريعة ¬
على خمسِ مراتبَ: 1 - المرتبة الأُولى: كان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - والمسلمون في أوَّل الإسلام مأمورين بالإعراض عن المشركين، والصَّبر على إيذائهم، والاستسلام لحكم الله فيهم (¬1). 2 - ثمّ أذِنَ له في القتال فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (¬2). 3 - ثمّ فرض عليهم القتال على العموم فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ} (¬3). 4 - ثمّ قال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬4). 5 - ثمّ قيل - وهي الخامسة - الّتي استقرّت عليه الشّريعة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬5). تفصيل: أمّا قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ...} الآية (¬6)، فإن المراد بذلك الرِّحلة في طلب العلم، وليس للجهاد فيها أَثَرٌ، وقد نبَّه النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على عِظَمِ موقعه في الدِّين، وهي عبادةٌ: بَدَنيَّةٌ ماليةٌ، تحتملُ الدُّنيا بأن يقاتِلَ الرَّجُل لها، وتحتملُ الآخرة بأن يسعى في لقاء الله وفي سبيله وإعلاء كلمته، وانّما ضربَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - له مثلًا بالصَّائم القائم الّذي لا يفتر ... الحديث (¬7)، فنبَّه على هذه المراتب الثّلاث من فضله. وأمّا "مرتبة الصِّيام" فلأنَّه ترك لذَّاته وأعرض عن نسائه فيما لَهُ، وهذا صومٌ عظيمٌ. ¬
وأمّا قوله "القائم" فَمَثَلٌ ظاهر لما هو فيه من العمل بالمسيرِ إلى العدوِّ، ولمقاتلته ونِكايته. وأمّا المرتبة الثّالثة وهي الدّوام فليست إِلَّا للمجاهد؛ لأنّ الصَّائم قد يفطر ويطأ ويلتذّ، والقائم قد ينام ويستريح، وعمل المجاهد دائم، فلا يعادِلُ هذا عمل من الأعمال، ولذلك قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الخيل ثلاثة ... " الحديث (¬1). تنبيه آخر: فإن قيل: فإذا كان هذا الفضل على هذه المراتب من الدَّرجة العالية، فهو فرض عَينٍ لا فرض كفاية، فلا يكون فيه تَربُّصٌ على الوالدين بحال، ولا للعبد استشارة سيِّده، ولا إذن له في ذلك؟ الجواب - قلنا: الجهاد لا يخلو من أحد وجهين: إمَّا أنّ يكون فَرض عينٍ أو كفايةٍ، فإن كان فرض عينٍ جازَ للمرءِ عصيان أبَوَيْه، كان كان فرض كفاية لم يجز (¬2)، وكذلك العبد له أنّ يخرج بغير إذن سيَّدِه في فَرْضِ العين. فإذا اشترى الرّجل جهاز الجهاد، ثمّ منعه أبُوه من الخروجِ في فَرْضِ الكفايةِ، فإن كان غنيًّا عندَهُ مال ويقدر على الاستبدال به، باعه واستبدل به إذا جاهد إنَّ كان الجهاز ممّا يُخشَى فساده، كان لم يخش ذلك، فلا يبيعه، والرُّخصة في بَيعِه استحسانٌ. ¬
الباب الأول الترغيب في الجهاد
البابُ الأوَّلُ التَّرغيبُ في الجهادِ مَالِكٌ (¬1)، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ, أَن رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبِيلِ الله كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ... " الحديث. الإسناد: قلنا: هذا الحديث مُسْنَدٌ صحيحٌ عن النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، خَرَّجَهُ الأَيِمَّة (¬2). التّرجمة (¬3): قال علماؤنا (¬4): إنّما بوَّب مالكٌ - رحمه الله - في معنى التَّرغيبِ ليعلم النَّاس بجزيل ثوابه ليرغبوا فيه، وأكثر ما يوصف بالرَّغائب ما قَصُرَ عن رُتْبة الوجوب (¬5)، إِلَّا أنّه لم يقصد الوصف له هنا بوجوبٍ ولا غيره، وإنما قَصَدَ الحضِ على فعله. ويحتمل أنّ يُوصفَ بأنّه من الرّغائب لمن سقط عنه فرضُه بقيامِ غيرهِ به (¬6)، وقد قال سحنون (¬7): كان في أوّل الإسلام فرضًا على جميع المسلمين، وهو الآن مرغَّبٌ فيه. والأصلُ فيه: ما قدَّمناهُ من أنَّه فرضٌ في الجملةِ، إِلَّا أنَّه من فروض الكفاياتِ (¬8)، ¬
فإذا قام به بعضُهم سقطَ فرضُه عمّن قام به وعن غيره من المسلمين، وإذا عَمَّتِ الحاجةُ إلى جميع النَّاس ودَهَمهُم من العدوِّ ما لا يقوم به بعضهم لّزِمَ الفرضُ جميعَهم. والدّليلُ القاطعُ على وجوبِهِ قولُه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...} الآية (¬1)، والفتنة هاهنا الكفر (¬2). فإذا ثبت وجوبُهُ، فإنّ غايتَه أنّ يدخل الكفارُ في الإسلام أو في الذِّمَّة بأداء الجِزْيَةِ، وجَرَيَان أحكام المسلمين عليهم. والأصل فيه: قولُه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {صَاغِرُونَ} (¬3). فصلٌ (¬4) قال علماؤُنا (¬5): وهذا مع ظهور الإسلام عليهم، وأمّا إذا ضَعُفَ أهلُ الإسلام، فلا بأس بمهادنتهم وصلحهم على غيرِ شيءٍ. وسأل أهلُ الأندلسِ سحنون (¬6) قالوا: أرأيتَ إِنِ انقطعتِ الجيوشُ (¬7) وعدُوُّنا في ¬
قُوَّةٍ، هل لأمير الثَّغْرِ أنّ يصالحهم على غير شيءٍ؟ قال: نعم ولا يبعد في المدَّة لما يحدث من قوَّةِ الإسلام. والأصلُ في ذلك: مهادنة النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قريشًا عامَ الحُدَيْبِيَّة على غيرِ شيءٍ أخذوه منهم (¬1)، حتّى قوي الإسلام فلم يقبل ذلك منهم. الفوائدُ المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي أربع فوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "مَثَلُ المُجَاهدِ في سَبيل الله كمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ" وجمحِع أعمال البرِّ في سبيل الله كذلك، إِلَّا أنّ هذه اللّفظة إذا أُطلِقَت في الشّرع اقتضت الغزو في سبيل الله. وسُئِلَ مالكٌ عن رجل أوصى بماله في سبيل الله؟ فقال: سُبُلُ الله كثيرةٌ، وأَحَبُّ إليَّ أنّ يُجْعَل في الغزو (¬2). ووجهه: ما قدَّمناهُ من أنَّ إطلاق هذه اللَّفظة أظهر في الغزو. الفائدةُ الثّانية (¬3): قوله: "الصَّائِم الْقَائِم" قال علماؤنا (¬4): هذا مَثَلٌ ضربَهُ النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في تعظيم الأَجْرِ، وإن كان أحدٌ لا يستطيع أنّ يكون قائمًا مصلَّيًا لا يَفْتُر ليلًا ولا نهارًا. ويحتمل أنّ يكون أراد بذلك التّكثير في الأجر، والله أعلمُ. ¬
وقوله: "لَا يَفْتُرُ من صَلَاةٍ وَلَا صِيَامِ" يريد التَّطوُّعَ. الفائدةُ الثّالثة: قوله: "لَا يُخرِجُهُ إِلَّا الْجهَادُ في سَبِيلِ الله" (¬1) يريد: أنّ يكون جهادًا خالصًا للهِ تعالى لا يشوبُهُ طلَب الغنيمة، ولا الَعَطِيَّة للأهل، ولا حبّ الظُّهور، ولا شيء غير الجهاد لتكون كلمة الله هي العلّيا. الفائدةُ الرّابعة: قولُه: "مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" يريد: مع الّذي يناله منهما، فإن أصاب غنيمة فله غنيمة وأجر، لكان لم يصب الغنيمة فله الأجر على كلِّ حالٍ، فتكون "أَوْ" بمعنى "الواو". ولا نعلم غَازِيًا أعظم أجرًا من أهل بَدْر على ما أصابوا من الغنيمة، لِمَا رَوَى رِفَاعَة ابن رَافع الزُّرَقِيّ (¬2) - وكان ممّن شَهِدَ بدرًا- قال: "جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أهْلَ بَدْرٍ فِيكُم؟ قَالَ: من أَفْضَلِ النَّاسِ، أَوْ قَالَ: من أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ، أو كَلِمَةً نَحْوَهَا"، قَالَ: "وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا من المَلَائِكَةِ" (¬3). ورُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال لعُمَر: "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله اطلَعَ عَلَى أَهلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئتُم فَقَد غَفَرْتُ لَكُم" (¬4). حديث مَالِكٍ (¬5)، *عن زَيْد بن أَسْلَم، عن أبي صالح السَّمَّان *، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, ¬
أَنَّ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلى رَجُلٍ وِزرٌ ... " الحديثُ إلى آخره. الإسناد: قال القاضي رضي الله عنه: هذا حديثٌ صحيحٌ مُتَّفَقٌ على صحَّته، خرَّجَهُ مسلم (¬1) والبخاري (¬2) والأَيِمَّة (¬3). وفي هذا الحديث ستُّ فوائد: الأولى (¬4): قوله: "الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ (¬5): لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلرَجُلٍ سِتْرٌ، وعَلَى رَجُلٍ وزرٌ. وأَمَا الَّذِي هِي لَهُ أَجْرٌ فهُو الَّذِي أَعدَّهَا للِجِهَادِ في سَبِيلِ الله، فَأَطَالَ لهَا في مَرْجٍ أوْ رَوْضةٍ". يعني: طوَّل لها حبلها الّذي ربطها به في مَرْجٍ ترعى فيه أو رَوْضَةٍ. فالمَرْجُ: المطمئنّ من الأرض. والرَّوْضة: ما ارتفع من الأرض. الثّانية (¬6): قوله: "فَاسْتَنَّتْ (¬7) شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ" يعني: قطعت الحبل الّذي ربطت به في مَرْجٍ ¬
لترعى فيه، فجعلت تجري من شَرَفٍ إلى شَرَف (¬1)، فهذا كلّه حسنات لصاحبها؛ لأنّه أراد باتِّخاذها وجه الله تعالى والجهاد في سبيله، فكيفما تقلَّبت بها الحال كان ذلك له بها حسنات. الثّالثة (¬2): قولُه "لِرَجُلٍ سِتْرٌ" هو الّذي يتّخذُها مَكْسَبًا يتعفَّفُ بها عن المسألة، ويقيمُ حقَّ الله تعالى في رِقابِها وظُهورها إذا تَعَيَّن عليه الغَزوُ عليها، فهذا مأجورٌ عليها. الرّابعة: قولُه: "وَعَلَى رَجُلٍ وِزرٌ" هو الّذي ربطها فَخرًا ورياءًا، ونِوَاءًا لأهل الإسلام؛ لأنّه لم يُرِدْ بذلك شيئًا من الخير، وإنّما يُؤجَرُ بالنِّيَّةِ. قولُه: "نِوَاء" بفتح النّون وكسرها، ونوَاءَ ممدود وغير ممدود، وأصلها من: ناءَ إليك ونُؤتَ إليه (¬3)، أي: نهض إليك ونهضتَ إليه (¬4). وقال علماؤنا (¬5): وهذا الحديثُ أصلٌ في اكتساب المالِ وإنفاقه، فمن اكتسبه من ¬
حلالِ، وأنفقَهُ في وجوهِ البرِّ، وأطعم منه المساكين (¬1)، وحَبَسَة في سبيل الله، فيكون له بذلك الأجر والدَّرَجة العالية. الفائدةُ الخامسة (¬2): قولُه: "ورَجُلٌ رَبَطهَا" الرَّباطُ يكونُ على وجهين: 1 - رباطُ الخيلِ، وهو ما تقدَّمَ. والأصلُ في ذلك: قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ...} الآية (¬3). 2 - والثّاني: رباطُ الرَّجلِ نفسَهُ لِحِفْظِ الثُّغور على من جاورها من العدوِّ. والأصلُ في ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} الآية (¬4). وما رُوِي عن سهل بن سعد, أنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ الله خَيرٌ مَنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا" (¬5). فإذا ثبت هذا, فرباطُ الرَّجُل نَفسَهُ هو أنّ يترك الرَّجُل وطنه، ويلتزم الثَّغرَ لمعنى الحِفْظ وتكثير السَّوَاد، وأمّا من كان وطنه الثَّغر فليس مقامُه به رِبَاطًا، رواه ابن حبيب (¬6) عن مالك. ووجه ذلك: أنّه يحْبِسُ نفسَهُ، ويقيم لهذا الوجه خاصّة، فإن أقام لغير ذلك، فلم يربط نفسه لمدافعة العدوِّ، وليس كذلك رباط الخيل، فإن جمهور النَّاس يستغني عن اتِّخاذِهَا، هذا الّذي ذكرهُ أصحابُنَا. وعندي (¬7): أنَّ مَنِ اختارَ المقام بالثَّغرِ للرِّباطِ خاصّة، ولولا ذلك لأَمْكَنَهُ المقام بغير ذلك من البلدان، له حكم الرَّباط. ¬
نكتةٌ (¬1): إذا كان الثَّغرُ رباطًا لموضع الخوف، ثمّ ارتفع الخوفُ لقوَّة الإسلام، أو لبُعْدِ العدوِّ، فَحُكمُ الرِّباط يزولُ عنهم. الفائدةُ السّادسة (¬2): قال علماؤنا (¬3): وَرِبَاطُ الخيل والنَّفس من عُدَّةِ الجهد، ولا يبلغ درجة الجهاد (¬4). وقد سئل مالك: أيّما أحبُّ إليكَ الرِّباط أم الغارات في أرض العدوِّ؟ فقال: أمّا الغارات فلا أدري، كأنّه كرهها (¬5)، وأمّا السَّير في أرض العدوِّ على الإصابة - يريد السُّنَّة- فذلك أحبُّ إلىَّ (¬6). وقد رُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: "فَرَضَ الله الْجِهَادَ لِسَفْكِ دِمَاءِ الُمُشْرِكينَ، والرِّبَاطَ لِحَقنِ دِمَاءِ المُسْلِمينَ، وحَقّنُ دِمَاءِ المسْلِمينَ أَحَبّ إِلَىَّ (¬7) من سَفْكِ دِمَاءِ المُشرِكِينَ" (¬8). ¬
الفائدةُ السَّابعة (¬1): قوله (¬2): "وَسُئِل رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن الحُمُرِ" أي (¬3): إنَّ كان حُكمُها حُكْم الخيل فيما ذكر من الرِّباط والأجر، فبيِّنَ ذلك رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّها لا تُتَّخَذُ غالبًا للجهاد ولا تُرْبَط فيه. وقوله (¬4): "لَمْ يُنْزَل عَلَىًّ فِيهَا شَىْءٌ"، أي: لم ينزل علىَّ فيها ما نزل في الخيل, لأنّها غير مشاركة لها في ذلك، ولكنّها داخلة تحت قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬5). والحُمُرُ وإن لم تبلغ مبلغ الخيل في الجهاد، فقد يحمل عليها رَحْلَه مَنْ لا يَقْدِر على الخيل، ويحمل عليها زادَهُ وسلاحه، وهذا يُستفادُ من عموم الآية، وهذا يدلُّ على وجوب التَّعلُّق بالعموم، فإنّه - صلّى الله عليه وسلم - تعلَّق بعموم الآية (¬6)، واستفاد منه حُكمًا، وهذا يدلُّ على وجوب التّعلّق به لغةً وشرعًا. الفائدةُ الثامنة (¬7): "الآيَةُ الجَامِعَةُ" يريد: العامَّة (¬8). وقوله: "الفَاذَّةُ" يريدُ: القليلة المثل في هذا الحُكْم، يقال: كلمة فاذّة وفَذَّة، أي شاذّة. ويحتمل أنّ (¬9) تكون نزلت وحدها ولم ينزل معها غيرها، والفاذّ هو الواحد الفرد، أعلم بما أراد نبيُّه -عليه السّلام-. ¬
وقول عمر (¬1): "ولَنْ يَغلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" قيل (¬2): إنَّ وجه ذلك أنّه لمَّا عَرَّف العُسْر، اقتضَى استغراق الجنس، فكان العسر الأوّل هو الثّاني من قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} الآية (¬3). ولمّا كان اليسر مُنَكَّرًا، كان الأوّل منه غير الثّاني (¬4)، وقد أدخل البخاريّ (¬5) في تفسير {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بأثر قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} كقوله: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الآية (¬6)، وهذا يقتضي أنّ اليسربن: الظَّفر بالمُرَاد والأَجْرِ، فالعُسْرُ لا يغيبُ هذين اليسرين؛ لأنّه لابدّ أنّ يحصل للمؤمن أحدهما، وهذا عندي وجهٌ ظاهرٌ. فإن قيل: كيف يصحّ أنّ لا يغلب عسرٌ يسرين؟ قلنا: إنَّ ابن الخطّاب - رضي الله عنه - تفقّه فيه، فلم يزل يقول: العسرُ الّذي ذُكِرَ في الثّاني هو العُسْر الأوّل، ألَّا ترى أنّه ذَكَرَهُ بالألف واللّام، وذُكر في الآخِر كذلك (¬7). حديث (¬8): وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارِ قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَلَا أُخبرُكمْ بِخَيرِ النَّاسِ مَنْزِلًا؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فرَسِهِ يُجَاهدُ في سَبِيلِ الله، أَلَا أُخْبرُكُم بخَيْرِ النَّاس مَنْنرلًا بَعْدَهُ؟ رَجُلٌ مُعْتزِلٌ في غُنَيمَةٍ، يُقِيمُ الصَّلاةَ، وُيؤتي الزَّكَاة، وَيَعْبُدُ الله، ؤلَا يُشْركُ به شَيئًا". ¬
الإسناد: هذا حديثْ مُرْسَلٌ، ويُسْنَدُ من طُرُقٍ صحاح (¬1). الفوائد المتعلقة بهذا الحديث: الأولى: قوله: "أَلَا أُخبرُكُم بِخَيرِ النَّاسِ": إنّما يكون خير النَّاس إذا كان ممّن يقيمُ الفرائضَ ويجتنب المحارِمَ* (¬2). قال القاضي: قوله: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ في غُنَيْمَةٍ": يريد به وقتَ الفتنة والكفر، فينبغي له الخروج والفرار بِدينِه. وأمّا قولُه (¬3) "رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ، يُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله" فقال علماؤنا: فائدةُ الجهادِ: نيل الفضيلة، وتحصيل الغنيمة، وتحقيق الموعد. أمّا نيل الفضيلة، فقد بدأ به مالك في أوّل الكتاب، وقد رُويَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قيل له: يَا رَسُولُ الله، مَا بَالُ النَّاسِ يُفتَنُونَ في قُبُورِهِم إِلَّا الشُّهَدَاءَ؟ فَقَال:" كَفَى ¬
بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ فِتْنَةً" خَرَّجَهُ الشُّعَبِى (¬1)، وقال - صلّى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْن" (¬2). وقال: "قَفْلَةٌ كَغَزْوةٍ" فجعل أجرَ المجاهد في رُجوعه كأَجْرِه في مَسِيرِهِ. خرّجه أبو داود (¬3). وأمّا تحصيلُ الغَنِيمَة فهي خصيصةُ هذه الأُمَّة، وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ (¬4) بِسِتَّ" وقال: "وَأُحِلّتْ لِي الغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قبلِي" (¬5). في الحديث الصّحيح: "ألإِبِلُ عِزَّ لأَهلِهَا، وَالغَنَمُ بَرَكةٌ، والخيلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخيرُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ" (¬6). وقال - صلّى الله عليه وسلم -:" جُعِلَ رِزْقِىٍ تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" فلمّا كان أفضل الخّلْقِ، جعل الله رزقَه في أفضل وجوه الكَسْب. خَرَّجَهُ البخاريّ (¬7). ¬
وأمّا تحقيق الموعد فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "زُوِيت لِي الأَرْضُ، فَرَأَيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ... " الحديث (¬1)، ولا سبيلَ لعموم الملك إِلَّا طريقُ الجهاد. وقال - صلّى الله عليه وسلم -: " لَا يَزَالُ أَهْلُ الغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفهُم إِلَى أنّ تَقُومَ السَّاعةُ" (¬2). واختلفَ النّاسُ في هذا الحديث، فقال قومٌ: هم أهلُ المغربِ (¬3). وقال قوم؛ منهم عليّ بن المديني (¬4): هم العرب (¬5). وقال قوم: هم المخصوصون بالجهاد، المثابرون عليه، الذين لا يَضَعُون أسلحتهم، فهم أبدًا في غَزوٍ وفي غَرْبٍ، وهي: الحِدَّة - خرّجه مسلم (¬6) -، وهذا يكون بجَوْبِ ¬
القِفَارِ وخوض البحار، تحقيقًا للموعد الحَقَّ المذكور حين قال - صلّى الله عليه وسلم -: " ناسٌ من أُمَّتِي عُرضُوا عَلَىَّ، يَركبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْر الأَخضَرِ غُزَاةُ في سبِيلِ الله، مثلَ المُلوكِ على الأَسِرَّةِ" (¬1)، وهذا يدلُّ على تحقيق الموعد من وراءِ البحارِ، وقد عَلِمَ - صلّى الله عليه وسلم - بلوغ ذلك، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح (¬2):"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنيَّةٌ" فإنّ الهجرة وإن كانت قد إنقطعت وذهبت، فإن الجهاد باقٍ خَلَفًا خَلَفا. على أنّ الدّاودي (¬3) قد رَوَى عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا تَنقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنقَطِعَ التَّوْبَةُ، ولا تنقطعُ التّوبةُ حتّى تَطْلُعَ الشّمسُ من مَغرِبِها" ومعنى هذا: أنّ الهجرة كانت مُسْتَحَبَّة في صدر الإسلام، ثّمّ كانت واجبة على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لتتمكن الدَّوحة، وتَتّسعَ الدّارُ، وتنتشر المِلَّةُ، فلما فتح الله عليه مكّةَ، انقطع الوجوبُ وبَقِيَ الاستحبابُ (¬4)، إِلَّا في مَوْطِنَيْن: ¬
أمّا أحدُهما: فهجرةُ المسلمِ من دار الحربِ إلى دار الإِسلامِ، وهذا فرضُ عين على من قدره. والثّاني: هجرةُ الرَّجل مالَهُ وأهلَه للخروج إلى الغَزوِ عند إلاستنفار، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "وإذا استُنفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" (¬1)، "وإذا استُنصِرْتُمْ فَانْصُرُوا" (¬2). وفي غير هذين الموضعين تكون هذه الهجرةُ فرضّ كفاية. ويتعلَّقُ بهذا قتال الخوارج والطّالبين مالًا ومُلْكًا, فإن قتلهم فرضٌ وقتالهم قُرْبَةٌ. وقوله (¬3) في حديث عُبَادَة (¬4): "أنّ لَا نُنَازَع إِلَّا مَنْ لَيسَ هُوَ من أَهْلِهِ" (¬5) اختلف النَّاس في ذلك قديمًا وحديثًا: ¬
باب النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
ففِرْقَةٌ تقول: إذا بُويعَ من يستحقّ الأمر لم يجز للنّاس أنّ يُنازِعوه، فإن كان مِمَّن لا يستحقّ لم يلزم النَّاس ذلك (¬1). وقالت طائفةٌ (¬2): إذا اشتدّت وطْأَتُه لم يجز الخروج عليه؛ لأنّه لا يُوصل إلى ذلك إِلَّا بأخذ الأموال بغير حقّها، دمان كان يُقْدَر على ذلك بغير ظلم جاز ذلك. باب النّهي عن أنّ يسافرَ بالقرآن إلى أرض العَدَّو روى ابن عمر (¬3)؛ أَن النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهى أنّ يُسَافَرَ بالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوَّ، قال مالك: مخافة أنّ يَنَالَهُ العَدُوُّ (¬4). الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ. فيه أربع مسائل: ¬
المسألة الأولى (¬1): نَهْيُهُ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يُسَافَرَ بالقرآن إلى أرضِ العدوِّ, فإنّه يريدُ بذلك المُصْحَف لَمَّا كان القرآن مكتوبًا فيه فسمّاه قُرءانًا (¬2)، ولم يرد ما كان منه محفوظًا في الصَّدر؛ لأنّه لا خلاف أنّه يجوز لحافظ القرآن الغزو (¬3)، وإنّما لهذا المعنى الّذي فسّره مالك "مَخافَةَ أنّ يَنَالَهُ العَدُوُّ" فيمسوه بأيديهم، لقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) وهو خبر البارئ سبحانه إذا أخبر عن شيءٍ فلا يصحّ أنّ يكون ذلك الشّيء بخلاف الخبر. المسألة الثّانية (¬5): قوله: "لا يُسَافَرُ" والسّفر اسمَ واقعٌ على سَفَرِ الغزو وغيره. وقال ابن سحنون: قلت لسحنون: أجاز بعض العراقيِّين الغزوَ بالمصاحِف إلى أرضٍ العَدُوِّ في الجيش الكبير؟ فقال: لا يجوز ذلك لنهيه - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك عامَّا، وقد يناله العدوِّ من جهة الغفلة (¬6). والدّليل على ما ذهب إليه سحنون: أنّه لا قوّة فيه على العدوِّ، وليس هو ممّا يستعان به على حَرْبِه، وقد يناله بشغل صاحبه عنه كما قال (¬7)، وقد يناله بالغَلبَةِ أيضًا. المسألة الثّالثة (¬8): ولو أنّ أحدًا من الكفّار رَغِبَ أنّ برسل إليه مصحف يتدبّره، لم يرسل إليه؛ لأنّه ¬
نجس خبيث، ولا يجوز له مسّ المصحف، ولا يجوز لأحدٍ أنّ يسلَّمه إليه، ذكره ابن الماجشون (¬1)، وكذلك لا يجوز له أنّ يعلّم أحدٌ من ذراريهم القرآن؛ لأنّ ذلك سبب لتمكينهم منه، ولا بأس أنّ يقرأهُ عليهم احتجاجًا به، ولا بأس أنّ يكتب إليهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ، كما كتب النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى ملك الرّوم هرقل، لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية (¬2). تأصيل: اختلف علماؤنا في الدعوة قبل القتال، هل يُؤمَر بها على الإطلاق أم لا (¬3)؟ وأحاديث الدّعوة قبل القتال كثيرة المساق، وعمدتها ثلاثة أحاديث (¬4): الحديث الأوّل: "حديث هرقل" قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية (¬5). الثّاني: حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن فقال "ادعهم إلى شهادة لا إله إِلَّا الله" (¬6). الثّالث: حديثُ بُرَيدَةَ: قال له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ادعُهُم إلى ثلاثِ خِلَالٍ" (¬7). واختلف الفقهاء في ذلك: فقال علماؤنا: الدّعوة للكفار شرط في القتال. ¬
باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو
وقال مالك مرَّة: يُدْعَون (¬1)، ومرّة: لا يُدْعَونَ. وقال آخرون: لا يدعون (¬2). وقال آخرون: ذلك اختلاف من القول. والّذي عندي أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قد فرغ من الدّعوة لأنّه قد كتب إلى هرقل، وإلى النّجاشي، وكتب إلى القبائل، وبيّن الإسلام، ومهّد شرائعه في عشر سنين، فلم تبق في الأرض أُمَّة إِلَّا وقد بلغتها الدّعوة (¬3)، وإنّما كانت الدّعوة في أوّل الإسلام، وأمّا من يعلم الدّعوة وبلغته، فلا يؤمر بالدّعوة فتسقط عنه، وإنّما يؤمر بها من لا يعلم بالدّعوة ولا بلغته. باب النّهي عن قتل النّساء والولدان في الغزو قال الإمام: الحديث صحيح. الفقه في عشرين مسألة: الأولى (¬4): قوله (¬5):"نَهى الّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أَبِي الحُقَيْقِ عَنْ قَتْلِ النِسَاءِ وَالوِلدَانِ" يريد حين ¬
أنفذهم لقتله، فقَتَلَهُ عبد الله بن عتيك، ونهيُهُ هذا أصلٌ فى المنع من ذلك، وسَيَرِدُ مفَسَّرًا. وقوله (¬1): "فَأَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وسلم فَأكُفُّ عَنْهَا. وَلَوْلَا ذَلِكَ استَرَحْنَا مِنهَا". يعني امرأة ابن أبي الحقيق، وهذا يدلُّ على التّعلّق بالعموم؛ لأنّه أجرى نهي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على عمومه فى سائر الحالات، ولم يَقصِرْه على القصد إلى ذلك دون حاجة إليه، والذي يظهر من مذهب مالك أنّه لا تقتل المرأة إذا جرى منها مثل هذا الإنذار بالصّياح (¬2)، وقد قال سحنون: لا تقتل في الحراسة المرأة (¬3). ووجهه: أنّ الحراسة على الأمن، وليست من باب المدافعة، وهو ممّا يمكن النِّساء والصِّبيان فعله، كالنّظر والمراعاة. ولا يستباح قتل هذين الصِّنفين بما جرت العادة لهم بفعله، وانّما يستباح قتلهم بالقتال والمدافعة اللّتين ينفرد بهما الرِّجال غالبًا. المسألة الثّانية (¬4): قوله (¬5):"رَأَى في بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً، فَأنكَرَ ذَلِكَ" يحتمل أنّ يكون علم من حال المرأة أنّها لم تقاتل. ويحتمل أنّ يكون حمل أمرها على المعهود من أمر النِّساء اللّاتي لا يقاتلن. وقد رَوَى ربَاحُ بن الرّبيع قال: كنّا مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلًا فقال: انظر على ما اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: امراةٌ مقتولةٌ! فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "ما كانت هذه لتُقاتِل"، قال: وعلى المقدّمة خالد بن الوليد، فبعث ¬
رجلًا فقال لخالد:"لا تقل امرأة ولا عَسيفًا" (¬1) فهذا يقتضي المنع من قتل النِّساء والصِّبيان لأنّهم لا يقاتلون (¬2)، والله أعلمُ. المسألة الثّالثة (¬3): قال علماؤنا: إنَّ قاتلت المرأةُ قُتِلَتْ، وكذلك إنَّ قاتل الصِّبيان والشّيوخ والرُّهبان قُوتِلوا (¬4)؛ لأنّ العِلَّة موجودة فيهم. وهذا إذا قاتلوا بالسّلاح، وأمّا إذا رموا بالحجارة فهل يستباح بذلك قتلهم أم لا؟ قال ابن حبيب: لا يستباح بذلك قتلهم (¬5)، ورواه ابن نافع عن مالك (¬6). ووجه ذلك: أنّ مضرّتهم ضعيفة، فلا حاجة لنا إلى قتلهم ومنع الانتفاع بهم. والصّحيح عندي: أنّهم يقتلون. المسألة الرّابعة (¬7): فإذا قلنا: يجب مقاتلتهم (¬8)، ولم يستطع إِلَّا بعد أسرهم، فهل يقتلون بعد الأسر أم لا؟ قيل: يقتلون (¬9). ولا يقتلون (¬10). ¬
ووجه القول الأوّل: أنّهم بالقتال قد استحقُّوا القتل، فلا يسقط ذلك عنهم بالأسر، كما لو قتلوا أحدًا (¬1). ووجه القول الثّاني: أنّهم ممّن يقرّ على غير جِزْية: فلم يجز قتلهم بالأسر، كما لو لم يقاتلوا. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3): "سَتَجدُ قوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسهُم لله" يريد الرّهبان حبسوا أنفسهم عن النَّاس وأقبلوا على ما يَدَّعُونَ من العبادة (¬4)، وكفوا عن معاونة أهل ملّتهم (¬5) بحيث لا تعرف سلامتهم من معونتهم. واختلف العلّماءُ في قتل الرّاهب: فرُويَ عن أبي بكر الصِّديق أنّه أمر بالوقوف عن قتلهم (¬6). وكان مالك (¬7) واللّيث (¬8) وأبو ثور (¬9) لا يرون قتل الرّهبان. وقال مالك: بترك لهم ما يصلحهم (¬10). وقال اللَّيث: يترك لهم ما يعيشون به، ولا تؤخذ أموالهم فيموتون جوعًا. ¬
وقال مالك أيضًا: لا يقتل الرّاهب (¬1) ويترك له ما يعيش به (¬2). المسألة السّادسة: وأمّا الزّمِنُ (¬3) والمجنونُ والمريض والشّيخ (¬4)، فقال علماؤنا بالنّهي عن قتلهم (¬5)، وهو مذهب مالك (¬6). وقال الشّافعيّ: يقتلون للعلَّة الموجودة فيهم وهو الكفر، وهو في جملة من أمر الله بقتلهم من المشركين، غير خارجين من الجملة (¬7). نكتةٌ أصولية (¬8): اعلموا أنّ الجهادَ إنّما هو موضوعٌ لإعلاءِ كلمةِ الله، وكسبِ الحلال من مالِ الله، وقتال أعداء الله. واختلف العلّماءُ في علَّة القتل، فمنهم من قال: عِلَّتُه الكفرُ. قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬9) أي: كفرٌ. ¬
وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية (¬1)، فذكر الصِّفةَ في الحكم مُنَبِّهًا بها على التّعليل. وقال أهل الكوفة: علّةُ القتل المحاربةُ. قال الله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ} الآية (¬2). وهذا أصلٌ عظيم تُبْنَى عليه مسائلُ عظيمةٌ وفروعٌ جمّةٌ، ليس هذا موضع ذكرها لئلّا يطولُ النفس فيها في هذا القبس. وقد أوضحنا وبينّا واضح البرهان أنّ العلّة الكفر لا الحرابة. المسألة السابعة (¬3): فهذا ثبت ما قلناه، فرجالُ المشركين على ضربين: أحدُهما: مالا يُخاف منه مضرّة ولا معونة، كالشّيخ الفاني (¬4) والرّاهب، وقد تقدَّم حُكمُه. والثّاني: أنّ يكون ممّن تُخشَى مضرّته أو معونته، فهذا إذا أُسِرَ فالإمامُ فيه مُخَيَّرٌ بين خمسة أشياء (¬5): 1 - إمّا أنّ يقتله. 2 - أو يفادي به. 3 - أو يمنّ عليه. 4 - أو يسترقه. 5 - أو يعقد له الذِّمَّة على أداء الجزية. فأمّا الاسترتاق وعَقْدُ الذِّمَّةِ، فلا خلاف فى جوازهما. ¬
وأمّا القتل، فحكى ابنُ القصّار أنّه لا خلاف في جوازه (¬1). وحكى عبد الوهّاب (¬2) عن الحسن (¬3) المنع من ذلك، وأنّه قال: أصنع بهما ما صنع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بأسرى بدر يمنّ عليه أو يفاديه. قال الإمام: والدّليلُ على جواز قَتلِهِ الأخبارُ الواردةُ عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بقتل عُقبة ابن أبي مُعَيط (¬4) والنَّضْر بن الحارث من أسارى بدر (¬5). ومن جهة المعنى: أنّه ليس في الأمر حقن للدّم، وإنّما يُحْقَنُ الدَّم بعَقْد الأمان. وأمّا المنّ والفداء، فإنّه جائز عند جمهور الفقهاء (¬6)، وبه قال مالك (¬7)، والشّافعيّ (¬8). وقال أبو حنيفة: لا يجوز المنّ ولا الفداء (¬9). والحجّة لمن قال أنّه يجوز، قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬10) ¬
المسألة الثامنة (¬1): قوله (¬2):" ولَا تَقطع شَجَرًا مُثمِرًا" وهذا على ضربين: 1 - أمّا ما كان من البلاد ممّا يرجى أنّ يظهر عليه المسلمونَ, فإنّه لا يقطع شجرُهُ ولا يُخرَبُ عامِرُهُ. 2 - وما كان لا يرجى, فإنّه يخرّب عامرُه، ويقطع شجرُهُ؛ لأنّ في ذلك ضعفًا لهم. قال ابن حبيب: قال مالك (¬3) وأصحابه (¬4): إنّما نهى الصِّديق عن إخراب العامر من الشّام، فإنّه عَلِمَ أنّ مصيرَهَا إلى المسلمين، ومالا يُرْجى ظهورهم عليه فخرابُ ذلك ممّا ينبغي (¬5). والذي قاله ابن حبيب هو الصّحيح، وقد حَرَّق رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نخل بني النّضير (¬6). وليس المقصود بالقطع والحرقِ المنفعة، وإنّما القصد غيظ الكفار وإخزاؤهم، فيكون ذلك من باب المنفعة على غلبته. المسألة التّاسعة (¬7): قوله (¬8):"وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إلَّا لِمَأْكَلَةٍ" وهذا أيضًا على ضربين: ¬
أحدهما: أنّ يستطيع المسلمون أنّ يخرجوها ويتموّلوها فلا تعْقَر إِلَّا لحاجةٍ. ويحتمل أنّ يريد بالعَقْر الذَّبح والنَّحر، فيقول: لا يسرع بذبحها ولا نحرها إِلَّا لحاجتهم إلى أكلها، فأمّا على وجه الفساد، أو على وجه التَّموُّل والإخراج للبيع إلى بلاد المسلمين فلا. والضرب الثّاني: أنّ يعجز المسلمون عن إخراجها، فإنّها تقتل، وهو الّذي عَنَى مالك بقوله المرويّ عنه في "الموازية" قال: ولا بأس أنّ يعقر غنمهم وبقرهم (¬1). وأمّا ابن وهب، فحَمَلَهُ على عمومه، فقال: لا يجوز قتل شيء من الحيوان إِلَّا لِمَأكَلَةٍ (¬2). المسألة العاشرة (¬3): وأمّا دوابّهم، فإنّها تُعقَر إذا عجزوا عن إخراجها, ولم يختلف في ذلك علماؤنا (¬4) غير ابن وهب، وبه قال أبو حنيفة. والشّافعيّ قال: لا يجوز عقرها (¬5)، وبه قال ابن وهب من أصحابنا, ولكن تُخَلَّى. ودَليلُنا: أنّ هذه الأموال باقية لهم، فجاز إتلافها عليهم كالزّروع القائمة والشّجر المثمر. واختلف علماؤنا (¬6) في صفة العقر: فقال المصريّون: تُعَرْقَبُ وتُذْبَحُ (¬7) أو يُجْهَز عليها. ¬
وقال المدنيُّون: يُجْهَز عليها، وكرهوا أنّ تُذبَح وتُعَرْقَب. قال ابن حبيب: وبه أقول؛ لأنّ الذَّبح مُثلَةٌ والعَرْقَبةَ تعذيبٌ. قال القاضي: وهذا الّذي قاله ابن حبيب ليس ببيِّنٍ؛ لأنّ الذَّبح لم يكره في الخيل لأنّه مُثلَةٌ، وإنّما كُرِهَ لأنّه ذريعة إلى إباحة أكلها، وقد كره مالك ذلك (¬1). وقال أصحابنا: تُضْرَب عنقُه ويُبْقَرُ بَطنُه. فأمّا العَرْقَبَةُ فإنّها تعذيب على ما ذَكَرَهُ. والصّواب: الأجهاز عليه بوجه بمنع أكله عند من قال بذلك. ووجه ما قال المصريّون: أنَه ربّما اضطرّ إليه أحدٌ من المسلمين، فيكون أَوْلى من الميِّتة، وكذلك ما وقف من خيل المسلمين ببلاد العَدْوِّ، حكمه عند مالك وأصحابه ما ذكرناه في خيل العدوِّ، وأمّا سائر الأموال ممّا ليس بحيوان، فإنْ عَجَزَ عنه أحرق، ولم يترك، طعامًا كان أو غيره (¬2). المسألة الحادية عشرة (¬3): "وَلَا تَحْرقَنَّ فَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ" (¬4): يريد ذباب النّحل (¬5). واختلف قول مالك فيما لا يقدر على إخراجه من ذلك: فّرَوَى ابنُ حبيب عنه: يُحرَّق وُيغَرِّق (¬6)، ورَوَى عنه أنّه كره ذلك (¬7). ووجه الرِّواية الأولى: أنّه لا طريق إلى إتلافها إِلَّا بذلك، وإتلافُها مأمورٌ به, لأنّه ممَّا يقوى به العدوِّ. ووجه الرِّواية الثَّانية: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال" قَرصتْ نملةُ نبيًّا من الأنبياءِ، فأمرَ بقرية النَّمْلِ فاُحرِقَتْ، فأَوحَى الله تعالى إليه: أنّ قَرَصَتْكَ نملةُ واحدةٌ، أَحْرَقْتَ أُمَّةً منَ الأُمَمِ تُسَبَّحُ" (¬8). ¬
وأمّا الشّافعيّ (¬1)، فاحتجّ بقوله: "مَنْ قتلَ عصفورًا فما فوقَها بغيرِ حَقِّها، فيسألُهُ الله عن قَتلِهَا"، قيل: يا رسولَ الله، وما حقُّها؟ قال: "يذبَحُها فيأكلُها, ولا يقطع رأسها فيَرْمِي به (¬2). المسألة الثّانية عشرة (¬3): قوله (¬4):"وَلَا تَغلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ" الغُلول أنّ يأخذ (¬5) قبل القسمة، وسيأتي بيانه في باب الغُلول إنَّ شاء الله (¬6). وأمّا الجبن في قوله: "ولا تَجْبُنْ" يريد به الجزع والفرار عمّن لا يجوز الفرار عنه، وهو من الكبائر عند ابن القاسم (¬7)، وأكثر أصحابنا. وقال الحسن (¬8): لم يكن الفرار من الزَّحْف كبيرة إِلَّا يوم بدر (¬9). ودليلنا: قولُ الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} الآية (¬10)، وقوله: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الآية (¬11). ¬
المسألة الثّالثة عشرة (¬1): فإذا ثبت ذلك، فقد اخْتُلِفَ في المعنى المراعى في جواز الفرار، فالّذي عليه الجمهور (¬2) من علمائنا: أنّه العدد، وبه قال ابنُ القاسم. وروى ابن الماجشون عن مالك أنّه الجَلَدُ والسِّلاح والقُوّة (¬3). ووجه القول الأوّل: قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية (¬4). ووجه (¬5) القول الثّاني: قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الَاية (¬6). المسألة الرّابعة عشرة (¬7): " إذا بَعَث سَرِيَّةَ" (¬8). السَّرِيَّةُ هي الّتي تدخل دار الحرب مستخفية، والجيش: هو الّذي يدخل معلنًا, وليس لعددها حدٌّ (¬9)، وقد روي: "خيرُ السَّرايَا أربعُ مِئَةٍ، وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ، ولن يُغلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ" (¬10). ¬
المسألة الخامسة عشرة (¬1): قوله: "وَلَا تَغْدِرُوا" هو ترك الوفاء للمشركين وغيرهم، ولا خلاف في المنع. وقد روى ابن عمر قال: سمعت النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يُتصَبُ لَهُ يوم القيامةِ بغَدْرَتهِ" (¬2). المسألة السّادسة عشرة (¬3): في صفة التّأمين والتّأمين عند علمائنا على ضربين: أحدهما: أنّ يؤمّن العدوِّ بحيث القوّة للمسلمين، فهذا لا يجوز الغَدْر به، ولا خلافَ في ذلك. والثّاني: أنّ يُؤَمَّنَهُم الأسير في أيديهم ابتداءً، أو يطلقونه من الثّقاف بشرط ذلك، وذلك يتناول أحد أمرين: أحدهما: أنّ يُؤَمَّنَهُم على أنفسهم، وسيأتي بيانُه إنَّ شاء الله تعالى. والثّاني: أنّ يؤمَّنَهُمْ من فراره وأخذ شيءٍ من أموالهم، فإن أَمّنَهُم من فِرَارِه لزم الوفاء به. قاله ابن القاسم (¬4). وقال الثّوريّ: إنَّ له أنّ يفرّ (¬5). ودليلُنا قولُه تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} الآية (¬6)، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬7). وهذا إنّما يلزمه الوفاء به إذا عاهدهم مختارًا، وأمّا إنْ أُكرِهَ عليه فلا يلزمه الوفاء (¬8). ¬
المسألة السّابعة عشرة (¬1): قوله: "ولا تمثِّلُوا" (¬2) يريد العبث بقطع الأيدي والأرجل وفقء الأعين، وإنّما يُقْتَل من أسِرَ منهم بضرب الرِّقاب، وأمّا ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - في العُرَنِيِّينَ (¬3)، فإنّه روى سليمان التَّيْمِىّ، عن أنس, أنّهم كانوا فعلوا بالرِّعاء مثل ذلك (¬4)، ومثلُ هذا يجوز فيمن مَثَّلَ بمسلمٍ أنّ يُمَثَّل به. المسألة الثّامنة عشرة (¬5): قال علماؤنا (¬6): وهذا في قتلهم بعد إلاستيثاق منهم، فإمّا في دار الحرب فإنّه على ضَربين: أحدهما: أنّ يضعف المشرك عن المحاربة ويستسلم، فهذا يجوز قتله بِالضّرب والطّعن، دون قصد التّمثيل والتّعذيب. والثّاني: أنّ يكون مقاتلًا ومدافِعًا، فهذا يجوز أنّ يُتَوَصَّلَ إلى إذايته بما يمكن من تمثيل وغيره. المسألة التّاسعة عشرة (¬7): كَان رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةَ يَقُولُ: "اغزُوا بِاسْمِ الله ... " الحديث (¬8). وقوله: ¬
باب ما جاء في الوفاء بالأمان
"تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ باللهِ" (¬1). دليل على أنّ العلَّة هي الكفر، وقد تقدّم بيانه إنَّ شاء الله (¬2). باب ما جاء في الوفاء بالأمان مالِك (¬3)، عَنْ رَجُلٍ (¬4) من أَهلِ الْكُوفةِ, أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِ جَيشٍ، كَانَ بَعَثَهُ: إِنهُ بَلَغَني أَنَّ رِجَالًا مِنْكُم يطلُبُونَ الْعِلْجَ. حَتَّى إذا أَسْنَدَ في الجَبلِ وامتَتعَ. قالَ رَجُلٌ: مَطَرسْ (يَقُولُ لَا تخف) فَإذَا أدْرَكَهُ قَتَلَهُ. الإسناد: قال القاضي: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ، ليس العمل على هذا الحديث عند مالك (¬5). العربيّة: قوله: "مَطَرْسْ" (¬6) كلمة فارسية، تقول الفُرس: مَطَرْسْ أي: لا تخف. وقال غيره: في العِلْج الّذي أسْنَدَ في الجبل وبادَرَهُ المسلم بالأمان مَطَرْسْ. قال: هي كلمة "أمان"، عند أكثر الَألسن (¬7)، وأكثر ما هي في لغة الفرس. ¬
فنزل إليهم فقتلوه، فقال عمر (¬1): "وَالذي نفسي بِيَدِهِ لا يفعلُ ذلك أحد إِلَّا ضربتُ عُنُقهُ" (¬2). قال مالك (¬3): "ليسَ العملُ على هذا الحديث" يعني: على ضرب العنق, فإنّه لا أقلّ من أنّ يكون معاهدًا ,ولو قتله لم يقتل عليه (¬4). الفقه في مسائل: المسألة الأولى في صفة التّأمين، والثّانية في وقته، والثالثة في وصف المؤمّن، والرّابعة فيما ثبت به التّأمين، والخامسة في مقتضاه. المسألة الأولى: في صفة التّأمين (¬5) فإنّه لازم بكلِّ لسانٍ فهمه المؤمّن أو لم يفهمه، والاعتبار فيه بإحدى الجنبتين، فإذا أراد المؤمّن التّأمين ولم يفهمه الحربيّ فقد لزمه الأمان، وكذلك إن أراد المؤمّن منع الأمان فظنَّ الحربيّ أنّه أراد التّأمين، فقد لزم من الأمان أنّ لا يقتله بذلك الاستسلام، وحكم الإشارة في ذلك حكم العبارة والكنابة؛ لأنّ التّأمين إنَّما هو معنى في النّفس، فيظهره تارة بالنُّطق، وتارة بالكناية، وتارة بالإشارة، فكلُّ ما يتبين به التَّأمين فإنَّه يلزم كالكلام (¬6). قال القاضي - رضي الله عنه -: أمّا الإشارةُ بالأمان، فلا خلاف أعْلَمُه فيها (¬7)، وهي ماضيةٌ إذا كانث معهودة بينهما، فالإشارةُ تقوم مقامَ الكلام في كلِّ مَوْطِنٍ. ¬
تركيب: قال القاضي -رضي الله-: ونزلت بدِمَشْقَ نازلةٌ (¬1)، وهي أنّ رجلًا أبْكَمَ كان يصلِّي، فكلمَّه رجلٌ، فأشار إليه الأبكم بجوابه، فاختلف النَّاسُ: هل تبطُلُ صلاةُ الأبكم بتلك الإشارة، أم لا تبطُلُ؟ قال شيخنا أبو الفتح (¬2): لا تبطُلُ؛ لأنّ الإشارة في الصّلاة لا تُبطلُها إجماعًا. وقال الطّوسي (¬3): تبطُلُ صلاتُه؛ لأنّ إشارتَه في الصّلاة كلامُه، فالإشارةُ منه كالكلام، والكلامُ محرّمٌ على الأبكم في الصّلاة. المسألة الثّانية (¬4): فى وقت التّأمين قال علماؤنا: التّأمين لازم مالم يكن الحربيّ مأسورًا، أو في حُكم المأسور ممّن تيقّنت غَلَبته، وأمّا المأسور فإمره إلى الإمام، ليس إلى غيره الافتيات عليه فيه، كما أنّه ليس لغير الإمام استرقاقه، ولا عَقْد الذِّمّة له، كذلك ليس له تأمينه والمنّ عليه (¬5)، فإن الإمام فيه مُخيَّرٌ بين خمسة أشياءَ: القتلُ، والمنُّ، والفِداءُ، والرِّقّ، والجِزيةُ. وقال الشّافعيّ (¬6): يجوز، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "المؤمنون يدٌ واحدةٌ على من سِوَاهُم، ويسعَى بِذِمَّتِهِنم أذناهُمْ" (¬7)، فقال: هذا دليل على أنّ المسلمين كلهم يُجيرُونَ، وإنّما الخلاف في إجارة العبد والمرأة والصَّبِىِّ. والدليل على أنّ خطاب النِّساء لا يدخل في خطاب الرِّجال، قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية (¬8)، فلو دخل خطاب النّساء في خطاب الرجال لما ذكر في هذه المسألة النِّساء بذكر ثانٍ. ¬
تركيب (¬1): ولو أشرف المسلمون على أخذ حِصْنٍ وتيقّن أخذه، فأمَّنَ أهله رجل من المسلمين، كان للإمام ردّ تأمينه، قاله سحنون (¬2)؛ لأنّه حق المسلمين قد تعلَّق بهم، فليس لهذا المؤمّن إبطاله، ولو تقدّم الإمام بمنع النَّاس (¬3)، ثمّ تعدَّى بعد ذلك رجلٌ من المسلمين فأمّن أحدًا، ردّ الإمام تأمينه، وردّ الحربيّ إلى ما كان عليه قبل الأمان. المسألة الثّالثة (¬4): فى صفة المؤمّن فالمؤمّن على ضربين: آمنٌ، وخائف. فأمّا "الآمن" فهذا اجتمعت فيه صفات الأمان وهي خمسة: الذُّكوريَّة، والحُرَّيَّة، والبلوغ، والعقل، والإِسلام، جاز تأمينُه عند مالك. وقال ابن الماجشُون: لا يلزم تأمين غير الإمام، فإن أمَّن غيره، فالإمام بالخيار بين أنّ يمضيَهُ أو يردَّهُ (¬5). والأصل فيما ذهب إليه مالك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "في ذِمَّةُ المُسلِمينَ وَاحِدةٌ، يَسعَى بِهَا أَدْنَاهُم، فمن أَخفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيهِ لَعنةُ الله وَالمَلاَئكَة وَالنَّاس أَجمَعَين، لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ" (¬6). ومن جهة القياس: أنّ هذا مسلمٌ يعقل الأمان، فجاز أَمَانُهُ كالإمام. أمّا "الأنوثة" فلا تمنع صحَّة الأمان (¬7). وأمّا "الحرية"، فقد اختلف أصحابنا في مراعاتها فقال ابن القصّار: لم أجد فيها نصًّا لمالك (¬8)، ولكنّهم يحكمون بلزوم أمان العبد، ونراه قياس قول مالك. ¬
وقد نصّ على لزومه ابن القاسم (¬1). وذَكَرَ عبد الوهّاب أنّه مذهب مالك (¬2)، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وخرَّجَ ابن أبي زيد في "نوادره" (¬4) رواية مَعن عن مالك أنّه قال: لا يصحّ أمان، وما سمعت فيه شيئًا (¬5). وقال سحنون إذا أَذِنَ له سيِّده في القتال جاز أمانه (¬6)، وبه قال أبو حنيفة (¬7). ووجه ذلك قوله: "يسْعَى بِهَا أَذنَاهُمْ" والعبد من أدنى المسلمين. ووجه رواية مَعْنٍ: أنّهُ محجور عليه، فلم يجز تأمينه، كالطِّفل والذي لا يعقل. وأمّا"البلوغ" فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن القاسم: يجوز تأمين الصَّبىِّ إذا عقل الأمان (¬8). ¬
وقال سحنون: إنَّ أجازه الإمام في المقاتلة جاز تامينه، وإلّا فلا أمانَ له (¬1). وأمّا الشّافعيّ: فإنّه لا يجيز أمانه (¬2). ووجه قول ابن القاسم: أنّ هذا مسلمٌ يعقل الأمان، فجاز تأمينه كالبالغ. وأمّا "العقل" فلا خلاف في اعتباره في لزوم الأمان؛ لأنّ من لا يعقل لا يعتبر تأمينه (¬3). وأمّا "الإسلام " فالظاهر من المذهب الاعتبار به، وبه قال أبو حنيفة (¬4) والشّافعيّ (¬5). والأصل في ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "المؤمنونَ تتكافؤُ دماؤُهُم، وَيَسْعى بِذِمَّتِهِم أدناهُم، وهم يد على من سِوَاهم"، (¬6) فخص بذلك المسلمين. المسألة الرّابعة (¬7): فيما يثبتُ به الأمان وقد اختلف أصحابنا في ذلك: فقال سحنون: لا يثبت إِلَّا بقول شاهدين، وأئا بقول المُؤَمِّن فلا يثبت به. وقال ابن القاسم: يثبت بقول المُؤَمِّن، وبه قال الأوزاعي وأصبغ وابن الموّاز (¬8). ¬
ووجه ما قاله سحنون: أنّ التّأمين فعل المؤمّن، وإلزام سائر المؤمنين تأمينه لا يثبت بقوله، وإنّما يثبت بشهادة غيره. ووجه الثّاني: أنّ هذا شخصٌ يَصِحُّ أمَانُه، فوجب أنّ يُقْبَلَ قولُه كالإمام. المسألة الخامسة (¬1): في مقتضى التّأمين فإنّه على ضربين: أحدهما: التّأمين المطلق الذي لا مخافة بعده أنّ لا يحدث. والثّاني: تأمين مترقَّب. فأمّا الأوّل: فمثل أنّ يؤمّن الإمام الرَّجل والجماعة تأمينًا مطلقًا، فهذا يقتضي كونه تأمينًا من القتل والاسترقاق، فإن أراد البقاء في بلاد المسلمين على أداء الجزية، كان له ذلك، وان أراد الرجوع إلى حيث شاء من بلاد الرُّوم، فهو آمن حتّى يبلغ موضع امتناعه من بلاد الحرب، وهذا حكم من أمّنه المسلم الجائز الأمان. وأمّا التّأمين المترقب: فهو أنّ ينظر فيه الإمام، فإن رآه صوابّا أمضاه وإلَّا ردّه، وهذا مذهب مالك وابن الماجشون (¬2). وقال سحنون: إنَّ التّأمين أنّ لا يكون لأحدٍ من الجيش قتل المؤمَّن، وينظر الإمام في حاله (¬3)، وهو الصّواب (¬4) إنَّ شاء الله. ¬
باب العمل فيمن أعطى شيئا في سبيل الله
باب العمل فيمن أعطى شيئًا في سبيل الله الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "إذا بَلَغت وَادِىَ الْقُرَى": يريد أنّ هذا نهاية في سَفَره، ومقتضى غَزّوِه في رجوعه غازيًا من الشّام. وقوله: "وَشَأْنُك بِهِ": يريد هُوَ لك (¬3). وفي هذه المسألة قسمان: أحدهما: في حكم محلِّ العطيّة. والثّاني: حكم العطيّة. 1 - أمّا حكم محلَّها فعلى ضربين: أحدهما: الإطلاق. والثانى: التّعيين. فأمّا "الإطلاق" فهو أنّ يقول: مالي في سبيل الله، فإنّ مصرفه إلى الغزاة ومن في موضع الجهاد؛ لأنّ إطلاق هذه اللّفظة وظاهرها يقتضي الجهاد، فإن كان في موضع لا جهاد فيه ولا غزو، فلا يعطى منه حاج ولا غيره، قاله مالك (¬4). ¬
وقال ابن القاسم وسحنون: يعطى منه النّساء والصَّبيان، والأعمى والمُقعَد (¬1). وقال سحنون (¬2): لا يُعْطَى منه من تعطّل عن العمل كالمفلوج والأعمى، ويُعْطَى منه المريض (¬3). وَوَجْهُ الأوَّلِ: أنّ هؤلاء من عُمَّارِ الثُّغور، وفي بقائهم هناك تكثيرٌ للعَدَدِ وقوَّةٌ لأهل الحرب. 2 - الثّانية: وأمّا حكم العطيّة فإنَّه على ضربين: أحدهما: أنّ يجعل العطيّة في السبيل خاصّة، فهذا. ليس لمن أُعْطِيَها تَموُّلُها, ولا إنفاقها في غير سبيل الله؛ لأنّه عدول بالعطيّة عن وجوهها. فرع (¬4): وهل له أنّ يأكل منها في قُفوله أم لا؟ فقال ابن حبيب: ينفق منها في القُفول (¬5). وقال مالك: لا ينفق منها في القفول (¬6). ووجه ما قاله ابن حبيب: أنَّ القُفولَ من الغزوِ، فكان له أنّ ينفق فيه منه كالمسير ¬
باب جامع النفل في الغزو
إلى بلد العدوِّ. ووجه ما قاله مالك: أنّ من أخرج شيئًا في سبيل الله، فقد عيَّنَةُ للغزو والعون عليه، وليس القُفول منه بسبيل، فمن فَضَلَ له منه شيء بعد ذهابه على قول مالك، أو بعد قُفوله على قول ابن حبيب، فهو مخيَّرٌ بين أنّ يردّه إلى من أعطاه إيَّاه، أو يعطيَهُ في سبيل الله. وأمّا الضّرب الثّاني: أنّ يتعيَّنَ على المكلَّفِ الجهاد، وهو يتعيَّنُ من وجهين: أحدهما: أنّ يوجب ذلك على نفسه بنذر أو قسم. والثّاني: أنّ يتعيّن عليه بأصل الشّرع لِقُوَّةِ العدُّوِّ وضعف المسلمين عنه (¬1)، فإنّه يتعيّن عليه وجوبه، وعصيان أبويه في ذلك. باب جامع النّفل في الغزو الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا" يريد أُعْطُوْا زائدًا على ما وجب لهم، وهذا يقتضي أنّ النّفْلَ من الخُمْسِ، وذلك أنّه سَوَّى بينهم في النَّفل فنُفّلُوا بَعِيرًا بعيرًا، فلو كان النَّفل من الأربعة الأخماس الّتي لهم، لما كان في ذلك فائدة؛ لأنّ ذلك كان يكون حالهم لو لم ينفلوا، وهذا مذهبُ مالكٍ (¬4)، أنَّ النّفلَ لا يكون إِلَّا من الخُمْسِ، وبه قال ¬
فأما الفصل الأول: في موضع قسمتها
الشّافعيّ (¬1) وأبو حنيفة (¬2). المسألة الثّانية (¬3): قوله (¬4):" وَكَانَ النَّاسُ ... إِذَا اقتَسَمُوأ غَنَائِمَهُمْ" يريد: الصَّحابة. وفي هذا خمسة فصول: الأوّل في موضع قسمة الغنيمة، والثّاني في بيان قسمتها، والثّالث فيما يقسم منها، والرّابع فيمن يسهم له منها، والخامس في صفة قسمتها. فأمَّا الفصل الأوّل: في موضع قسمتها وهو من بلد الحرب بحيث لا يمنع من ذلك مخافة أو عدم قُوتٍ يحتاج إليه، لأمن المقام بسبب التّقاسم (¬5)، وبه قال الشّافعيّ (¬6). وقال أبو حنيفة (¬7): يقسم في بلاد المسلمين، إِلَّا أنّ يحتاج الجيش إلى ثيابِ وما أشبه ذلك، فيقسم ذلك بينهم، ويبقى الباقي يقسّمُ في بلاد المسلمين. فرع: وهذا إذا كان الغانم جيشًا، فإن كان سريّة من الجيش، فلا يقسم حتّى يعود إلى الجيش، قاله محمّد (¬8)، وذكر أنّه قول أصحابنا، إِلَّا قول ابن الماجشون فإنّه قال: إِلَّا أنّ يخثمى من ذلك في السَّرِيَّة مضرَّةٌ من تضييع المبادرة وطرح أثقالٍ وقلَّةِ طاعةِ وَالي ¬
الفصل الثاني في بيان ما يقسم من الغنيمة وتمييزه
السًرِيَّةِ، فتباعُ الغنيمةُ، ويلزم كلِّ مبتاعٍ حفظُ ما ابتاعه، ويلزم البيع على من غاب من أهل الجيش. ووجه ما قاله محمّد: أنّ الغنيمة لا تصحُّ قسمتها إِلَّا بعد الرّجوع إلى الجيش ويلزمهم حكم أميرهم. الفصل الثّاني في بيان ما يقسم من الغنيمة وتمييزه فالأصلُ فى ذلك: أنّ ما كان منها مباحَّا لكلِّ واحدٍ من الجيش أخذه من بلاد العدوِّ والاستبداد به، فإنّه على ضربين: أحدهما: أنّ يكون مملوكًا في الأصل، ولكنّه مباحُ الانتفاع به للغذاء والقوّة، وسيأتي بيانه إنَّ شاء الله. والثّاني: ما كان على حكم الأصل لم يملك بَعْدُ، وهو ينقسم قسمين: أحدهما: مالًا يترك أكثره ويتموّل جميعُ ما يؤخَذ منه لنفاسته، كالجوهر والياقوت والعَنْبر، فإن هذا قياسُه على مذهب أصحابنا أنّه في كلِّه، لما ذكرناه كالنِّساء والصِّبيان. والقسم الثّاني: أنّه يؤخذ من الجيش بعضُه وُيترَك أكثرُهُ، كالصّيد والخشب والحجارة، فإنّه يؤخذ منها ما يحتاج إليه من سرج أو رُخامة، وأمّا ما كان منه له قيمة بأرض العدوِّ ويخفّ حمله، كالبازي والصّقر، فالّذي عليه الجمهور أنّه يكون فَيئًا، وحكاه ابن حبيب عن مالك (¬1). ووجه ذلك: أنّ له قيمة كثيرة بموضع الاستيلاء عليه، فوجب أنّ يكون فَيئًا كسائر ما يقسم. ¬
الفصل الثالث في بيان من له حق فيه
وأمَّا مالم تكن له قيمة إِلَّا بشيءً يسير، فاختلف فيه أيضًا. وأمّا ما كان مملوكًا في الأصل، فَليس لأحد أخذه من أهل الجيش والاستبداد به، كالرّقيق والمتاع (¬1)، فهذا (¬2) هو الّذي أطلق عليه العلّماءُ أجمع المنعَ له. الفصل الثّالث في بيان من له حقِّ فيه وهي من تثبت فيه صفاتُ الكمالِ وهي ستّ: العقلُ، والإِسلامُ والبلوغُ والذُّكرريةُ، والحريةُ، والصَّحَّةُ. فأمّا "العقل" فإن كان معه منه ما يمكنه به القتال أُسْهِمَ له؛ لأنّ المقصود في الجهاد يصحُّ منه، فإن كان مُطبَقًا (¬3) لا يتأتّى منه القتال لم يسهم له. وأمّا "الإسلام" فهو شرطٌ في استحقاق السَّهم؛ لأنّ من ليس بمسلم لا يقاتل جهادًا؛ لأنّ معنى الجهاد أنّ يقاتل النَّاس حتّى يقولوا لا إله إِلَّا الله، والمشرك لا يقاتل لذلك، وأنَّه ممّن يمنع الاستعانة به في الحرب، وإنِ اسْتُعينَ به في الصَّنائع والخدمة. والأصل في ذلك: ما رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها، أنّ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - خرج في غزوة غزاها، حتّى إذا كان بكذا وكذا (¬4)، لحقه رجلٌ من المشركين كان شديدًا من أولي النّجدة، قال يا رسول الله: جئت لأكون معك وأصيب، قال: "إنّا لا نستعين بمشرك" قال ذلك ثلاث مرَّات، فأسلم في الرّابعة فانطلق معه (¬5)، فهذا كان الأمر على ذلك فلا يسهم له. أمّا"البلوغ" فهل يكون شرطًا في استحقاق الغنيمة أم لا؟ فقال مالك (¬6): لا شرطًا في ذلك، ويسهم للمراهق إذا أطاق القتال. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1) والشّافعيّ (¬2): لا يسهم إِلَّا لبالغ. وقال ابن حبيب: إذا بلغ خمس عشرة سنة وأطاق القتال، أسهم له إذا حضر القتال, فإنّه يسهم له كالبالغ (¬3). ووجه ما ذهب إليه مالك: أنّه حرٌّ مسلم وُجدَ منه القتال، فوجبَ السَّهْمُ له كالبالغِ. وأمّا "الذُّكررية" فإنّها شرطٌ في استحقاقِ السّهم عند جمهور العلماء، ولا يُسهم لامرأةٍ قاتلت أو لم تقاتل. وقال ابن حبيب: من قاتل منهنّ كمثل الرِّجال يُسْهَم لها (¬4). أمّا "الحُرِيّة" فهي شرطٌ في استحقاق الغَنِيمةِ، فلا يُسهم لعبدٍ؛ لأنّ منافعَهُ مستحقَّةٌ لغيره, ولأنّه من جملة الأموال الّتي يُقاتَل عنها (¬5)، فلا يستحقّ شيئًا بقتال ولا غيره (¬6). وأمّا "الصِّحَّة" فإن كان مَعْنًى يمنعُ القُدْرةَ على القتال فى الحال والمآل, فإنّه يمنعُ استحقاقَ السّهم، وما لم يمنع من ذلك فيسهم له؛ لأنّ دليلنا أنّ السّهم إنّما يستحقّ بالإعداد للقتال. ¬
الفصل الرابع في بيان من له حق فيه، وقد تقدم
الفصل الرّابع في بيان من له حقّ فيه، وقد تقدّم الفصل الخامس في بيان قسمة الغنيمة قال محمّد بن الموّاز: أرى أنّ الإمامَ الأفضل له أنّ يقسم الغنيمة على خمسة أقسام بالسّوية، بأن يجعلها خمسة أنصباء، في كلِّ سهم وصِيفٌ، وكذلك النِّساء والصِّبيان (¬1)، ويكتب في جملتها الخُمُسُ لله أو للرسول (¬2). وذكر ابن سحنون عن أبيه: أنّه يبع الإمام ثمّ يقسم الشيء، فإن لم يجد من يشتريه قسم العروضَ خمسة أقسام بالقُرْعَةِ (¬3). والأظهر عندي من فعل النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قسمه ذلك دون بيع، وعلى ذلك وَرَدَ حديث ابن عبّاس (¬4) وابن عمر (¬5). ومن جهة المعنى: أنّ حقّهم متعلِّق بالعين، فليس له أنّ يبع عليهم إلّا لحاجةٍ داعيةٍ إلى ذلك إن شاء الله تعالى. وفي هذا الحديث ثلاث فوائد: ¬
باب ما يجوز للمسلمين أكله قبل الخمس
الفائدةُ الأولى (¬1): في هذا الحديث دليل أنّ النّفل والسّلب لا يكونان إِلَّا من الخمس. والثّانية (¬2): وفيه أنّ الغنيمة تقسم في بلاد الحرب. الثّالثة (¬3): أنّ خُمُسَ الغنيمة يُسلّم إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى أنّ ينفل ذلك إلى أصحاب السَّرِيَّة أو لغيرهم فَعَلَ. والسَّرِيَّة هي الّتي تخرج بليل (¬4)، وهو مأخوذ من السُّرى وهو سير اللّيل، وذلك مثل قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (¬5). باب ما يجوز للمسلمين أكله قبل الخمُس الفقه في أربعة مسائل: المسألة الأولى (¬6): قوله (¬7):"لَا أَرَى بَأسًا أنّ يَأْكُلَ المُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْعَدُوِّ من طَعَامِهِمْ" هذا كما قال، وقد تقدّم من قولنا أنّ ما ينتفع به في أرض العدوِّ على ضربين: 1 - مباح غير مملوك، وقد تقدّم القول فيه. 2 - والثّاني: أصلُه الملك، ولكنّه أبيح الانتفاع به، وذلك كلّ مطعوم وجده ¬
المسلمون في بلاد الرّوم، فلمن وجده أكله في دار الحرب، ويعلفه دوابه، ولا يحتاج في استباحته إلى قسم ولا إذن الإمام. المسألة الثّانية (¬1): وأمّا الحيوانُ المباحُ أكلُهُ كالبقرِ والغنم، فإنّها كالطعام عند مالكٍ (¬2). وقال الشّافعيّ: لا يُذبَحُ شيءٌ من ذلك إِلَّا لضرورة إذا عدموا الطّعام (¬3). ودليلنا: أنّ الحاجة إليه والاقتيات به أشدَّ من الحاجة إلى العسل والعنب، فإذا جاز أكل العسل والعنب، فَبأَن يجوز الاقتيات بلحوم البقر والغنم والإبل أولى. المسألة الثّالثة (¬4): قوله (¬5): "وَلَا أَرَى أنّ يَدَّخِرّ مِنْ ذلِكَ شَيْئًا حَتَى يَرْجعَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ" يريد ماله بال، وإنّما له أنّ يأكل منه حتّى ينصرف، فإن فضل شيءٌ تصدَّق به، إِلَّا أنّ يكون التّافه كالقديد والكعك ممّا يقلّ ثمنه. وأمّا ما أُخِذَ من ذلك للقوَّة والاستعداد، كالفرس والسلاح والثوب ينتفع به حتّى ينقضي غزوه، فهذا اختلف أصحابنا فيه: فقال ابن القاسم (¬6): له أنّ يأخذ من ذلك ما احتاج إليه بغير إذن الإمام، وينتفع به حتّى ينقضي غزوه. وروى عليّ (¬7) وابنُ وهب: ليس له أن يأخذ من ذلك شيئًا (¬8). ¬
ووجه القول الأوّل: أنّ هذا ممّا تدعو الحاجةُ إليه، فجاز أنّ ينتفع به من أَخَذه دون قِسْمَة كالطّعام. ووجه القول الثّاني: أنّ هذا ممّا لا تدعو إليه الحاجة غالبًا كالحيوان (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): وأمّا إنَّ باعه لحاجة أنّ يصرف ثمنه فيما يحتاج إليه من السَّلاح واللّباس: فقال ابن سحنون (¬3) عن بعض أصحابنا: إنّه لا بأس بذلك؛ لأنّ له أنّ يأخذ هذا من المغنم إذا وجده فيه، فهذا لم يجده وأمكنه أنّ يأخذ من المغنم ما أبيح له أخذه ليتوصّل به إليه، فإن له ذلك، كما لو بدّل طعامًا لا يحتاج إليه بطعام يحتاج إليه، وهذا يقتضي أنّه يجوز أنّ يبتاع به طعامًا. وقال ابنُ حبيب (¬4): "هو مكروه؛ لأنّه إذا صار ثَمَنَّا وجب أنّ يرجع مَغنَمًا" (¬5)، *وهذا يقتضي أنّه لا يجوز أنّ يبتاع به طعامًا، وأنّه متى صار ثمنًا وجب أنّ يرجع مغنمًا*، كما لو أخذ دينارًا أو درهمًا فإنّه لا يجوز له أنّ ينفرد به. ¬
باب ماجاء في السلب في النفل
باب ماجاء في السَّلَب في النّفل الفقه في سبع مسائل (¬1): المسألة الأولى: فيما يقتضي قول الإمام من ذلك. الثّانية: فيمن يستحقّ من ذلك من الغانمين. الثّالثة: في وصف من يستحقُّ فعل ذلك. الرّابعة: في وصف السَّلّب الّذي يستحق بذلك. 1 - فأمّا ما يقتضيه قول الإمام، فإنّه إذا نادى بلفظ يعمٌّ النَّاس، مثل أنّ يقول: مَنْ قَتَلَ قتيلًا فله سَلَبُهُ، فإن هذا حكم ثابت له ولجميع النَّاس، وان خصَّ نفسه فقال: إنَّ قتلتُ قتيلَا فَلِي سَلَبُهُ، لم يكن له من ذلك شيء؛ لأنّه قد حابى نفسه، وأظهَرَ ما نُهِيَ عنه من ترك المعدلة، فلم يجز حكمه. فإن قال: من قتلَ منكُم قتيلًا فله سَلَبُهُ، فإن هذا الحكم ثابت للناس دونه (¬2)، قاله كلّه سحنون (¬3). مسألة: وإذا قال: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فكان القاتل ممّن لا يُسْهَم له، فقد رُوي عن سحنون (¬4) أنّه قال: إنَّ كان القاتل ذِمِّيًّا فلا شيءَ له (¬5)، وكذلك لو قتلته امرأة (¬6). ¬
قال (¬1): وأشهب يَرَى الرَّضْخَ لأهل الذِّمَّة، على قياس قوله: له سَلَبُه من الخُمس لأنّه نفلٌ. واختلف قول الشّافعيّ في العبد والمرأة والصّبي، والأظهر عندي على مذهبه أنّ من قتل منهم قتيلًا فإن سَلَبه له (¬2)، فإن اللّفظ عامُّ في الجميع، ولم يخصّ شيئًا. وأمّا إنَّ كان القاتل مخذلًا ومرجفًا على المسلمين، فلا شيء له من السَّلَب, لأنّه لم يقاتل عن الله ورسوله. 2 - المسألة الثّانية: فإذا قال الإمام: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فقتل القاتلُ امرأةً أو صبيًّا، فقد حكى سحنون عن الأوزاعيّ: إنَّ قاتلَا فَلَهُ سلبهما (¬3)، وهذا يقتضي أنّ يكون المذهب، وقد رأيت لسحنون ما يقتضيه. وأمّا من قاتل مُسْتَأسِرًا أو من لا يدافع، فليس له من سَلَبِه شيء. 3 - المسألةُ الثّالثة: وأمّا السَّلب الّذي يستحقُّه القاتل، فقال سحنون: قال أصحابنا: لا نفل في العَيْنِ، وانّما هوْ الفرس وسرجُه ولجامه ودِرْعُه وبيضَتُه ومِنْطَقَتُه، بما في ذلك من حلْيِهِ في ساعِدَيْه وساقَيْه ورايته والسِّلاح ونحوه، وحِلْيَة السّيف تبع للسّيف، ولا شيءَ له في الطَّوْقِ والسَّوَارَينِ والعين كلّه، ولا في الصَّليب يكون معه (¬4). وقال ابنُ حبيب: يدخل في السَّلب كلّ ثوبٍ عليه وسلاحه ومِنْطَقته الّتي فيها نَفَقَته ¬
وسِواراه، وفرسه الّذي هو عليه، أو كان يُمْسِكُه لوجه قتال عليه. وأمّا إنَّ كان تَجَنَّبَ أو كان مُنْفَلِتًا فليس من السَّلَب (¬1). فتحقيق مذهب سحنون: أنّ ما كان عليه من لباسه المعتاد، وما يستعين به على الحرب من فرس وسلاح، فهو من السَّلَب (¬2). 4 - المسألة الرّابعة: وأمّا قوله (¬3): "من يَشْهَدُ لِي؟ " أنّ ذلك لا يستحقّه إِلَّا ببيِّنةٍ، فمن شهد له شاهدان فلا خلاف في ذلك. واحتجّ أصحابنا بحديث أبي قتادة (¬4)؛ أنّه دفعه إليه بقول واحد دون يمين، يدلُّ على أنّه يجوز أنّ يقبل فيه الواحد، وذلك إذا قال الإمام: من قتلَ قتيلًا له عليه بَيَّنَةٌ فله سَلَبُهُ، وذلك (¬5) أنّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَنتَلَ قَييلًا، لَهُ عَلَيهِ بَيَّنَة، فَلَهُ سَلَبُهُ" (¬6). وإذا قال: من قتل قتيلًا فله سَلَبُه، ولم يشترط البَيَّنَة، فقد قال ابن سحنون: من جاء برأس فقال: أنا قتلتُه، فقد اختلف قوله فيه (¬7)، فعلى قوله الأوّل: له السّلب، وعلى قوله الآخر: لا شىء له إلّا ببينة. وأمّا إنَّ جاء بسَلَب فقال: أنا قتلت صاحبه, فإنّه لا يأخذه إِلَّا بِبيِّنَةٍ (¬8). ووجه التفريق بين الرّأس والسّلب: أنّ الرّأس في الأغلب لا يكون إِلَّا بيد من ¬
قتله؛ لأنّه أقرب إليه من غيره، وهو يمنع منه من أراد أخذه، وقد عُلِمَ انّ الإمام نفله سلبه، فصار الرّأس يشهد له، وأمّا "السّلب" فليس كونه بيده شاهدًا؛ لأنّه موضع سلبه، ولا يمنعه منه غيره؛ لأنّه لا حقَّ له فيه إلا كحقَّه. وأمّا على القول الآخر، فإنّه لا فرق بينهما، لا يصدّق صاحب الرّأس، ولا صاحب السّلب إِلَّا بِبيَّنَةٍ. وعندي أنّه يجوز على هذا القول أنّ يقبل منه الشاهد الواحد واليمين. 5 - المسألةُ الخامسة: وأمّا سؤال الرَّجل ابن عبّاس عن الأنفال (¬1)، يريد في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية (¬2)، فقال: هي الغنائم (¬3). وإنّما سميت أنفالًا لأنّها تَفَضُّلٌ من الله تعالى على هذه الأُمَّة. تكملة: قال القاضي - رضي الله عنه -: أحسنُ عبارةٍ في هذا الباب، أنّ يقال: أجمعتِ الأُمَّةُ على أنّ من قَتَلَ قتيلًا فله سَلَبُه، ولكن اختلفوا هل هو من رأس الغنيمة، أم من الخُمُس؟ فَمَذهَبُ مالك (¬4) وأبي حنيفة (¬5) أنّه من الخُمُس. ومذهب الشّافعىّ (¬6) أنّه من رأس الغنيمة. فالمسألةُ مبنيَّةٌ على الخلاف فى قوله - صلّى الله عليه وسلم - يوم خيبر: "مَنْ قَتَل قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" (¬7). ¬
باب ماجاءفي إعطاء النفل من الخمس
باب ماجاءفي إعطاء النّفل من الخمس الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: فى الغنيمة (*) وهي خصيصةٌ امْتَنَّ الله تعالى بها على هذه الأُمّة كما تقدَّمَ، وحكَمَ فيها بحُكمِهِ، وبيَّنَهَا بكلامه، فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء} إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} (¬1) وهذه الآيةُ من أمّهات الآياتِ، وفيها أحكامٌ كثيرةٌ، وقدِ اضطربَ النَّاسُ فيها، وخاض فيها علماءُ الإِسلامِ بأقوالٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع بسطها (¬2). المسألة الثّانية (¬3): قوله (¬4): "سُئِلَ عَن النَّفَلِ، هَلْ يَكُونُ في أَوَّلي مَغنَمٍ؟ " معناه: أنّ ينفّل قومًا يخصّهم بشيءٍ من الغنيمة لأَمْرٍ يَنْفَرِدُون به من سَرِيَّةٍ أو نحوِهَا، مثل أنّ يبعث سريَّةً فينفلها الرّبعَ بعد الخمس، فإنّ ذلك لها؛ لأنّه أمرٌ قد حَكَمَ لها به (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): فلو غنمت هذه السّريّةُ، ثُمَّ لقيها عسكرٌ آخر للمسلمين أَخرَجَهُ الخليفة إلى جهةٍ أخرى، فإن كانت ضعيفة عن التَّفرُّد بما غنمته، فإنّ العسكر يُشْرِكُهم في النَّفَل والغنيمة، فما صار للسَّرِيَّةِ من نفَل أخذته، وما صار لها من مغنمٍ ضُمَّ إلى ما يأتي به العسكرُ الأوَّلُ من المغانم، فإن كانت السَّرِيَّة قويَّة على التَّخلُّص لم يُشرِكهم العسكرُ. ¬
باب القسم للخيل فى الغزو
المسألة الرّابعة (¬1): فإن أَنْفَذَ الإمامُ سريَّةً على أنّ الرُّبُعَ بعدَ الخُمُسِ نفلٌ لهم، فلمّا فصلَتْ، أَشْهَدَ الإمامُ أنّه أبطل ذلك، فقال سحنون: له ذلك مالم يغنموا, ولا يكون له ذلك بعد أن يغنموا (¬2). باب القَسْم للخَيْلِ فى الغَزْوِ قال الإمام: الأحاديثُ صِحَاحٌ. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى: أجمعَ أكثرُ النَّاسِ على أنَّ للفارسِ سهمين، وللرَّاجِلِ سهمًا واحدًا (¬3)، وإنّما كان للفارس سهمان وللرَّاجِلِ سَهْمٌ على قَدْرٍ؛ لأنّ رواية ابن وهب (¬4) وردت أنّ الرّاجل إذا كان لهُ فرسان أخذ عن الفرسين جميعًا (¬5)، وذلك أنّ يكون له فرسان يركب الواحدَ منهما ويجْنُبُ الآخرَ، فهذا رأى غنيمة ركب المَجْنُوبَ، فإذا ردّ الغنيمة، فتقسم على خيله جميعًا. المسألة الثّانية (¬6): قوله في الحديث (¬7): "لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجلِ سَهْمٌ" فَخَصَّهُ، وهذا يقتضي أنّ ¬
للفارس ثلاثة أَسْهُم، وللرَّاجل سَهْمٌ؛ لأنَّه إذا كان للفرس سهمان، وللرَّاجل الذى يركبه سهمٌّ كالرّاجل المُنفَرد، فإنّه يكون للفارِسِ ثلاثة أسهم، وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): للفرس سَهْمٌ، ولفارسه سَهْمٌ، فللفارس سهمان وللراجل سهمٌ. ودليلنا: ما رواه أبو داود، عن ابن حنبل، عن ابن عمر (¬3) , أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ للرَّجُلِ وَلفرسه ثلاثة أسْهُمٍ، سَهْمٌ له وسَهْمَانِ لفَرَسِهِ (¬4). ومن جهة المعنى: ما ذكره الأبهري أنّ الفرس لمّا كان قُوتُه أكثر من قُوتِ فارسه، وغناؤُه أكثر من غناء الفارس، زيد في القسم من أجل ذلك. وأمّا "الفرس المريض" فاختلف أصحابنا فيه، هل يُسْهَم له أم لا؟ فقال مالك: يُسْهَمُ له (¬5). وقال أشهَب وابنُ نافع: لا يُسْهَم له (¬6). ووجه القول الأوّل: أنّه على حالٍ يُزجَى بُرْؤُهُ وُيتَرَقَّب الانتفاع به، كالَّذي يصيبه القيء الخفيف. ووجه القول الثّاني: أته لا يمكن القتال عليه الآن، فأشبه الكَسِير. ¬
باب ما جاء في الغلول
وأمّا "الكسير يُدَرَّبُ"، فلا خلافَ أنّه لا يُسهَم له. المسألة الثّالثة (¬1): وأمّا "صغار الخيل"، فإن كانت لا مركب فيها ولا حمل، فلا يُسهم لها ,وإن كان فيها بعض القوة على ذلك أسهم لها، قاله ابن حبيب (¬2)؛ لأنّه بمنزلة الكبير (¬3). ولو دخل بفرسٍ في أرضِ العدوِّ، فبقي فيها حتّى كبر وصار يقاتل عليه، فله من يومئذٍ سهمٌ دون ما قبل ذلك، رواه ابن سحنون عن أبيه (¬4)، بمنزلة من بلغ من الصِّبيان في أرض العدوِّ فلا يُسْهَم له، إِلَّا فيما غنموا بعد ذلك. المسألة الرّابعة (¬5): وأمّا راكب البغال والحمير والبِرْذَوْن الّذي لا يجيزُهُ الوالي، فلا يسهم له أصلًا إجماعًا (¬6). باب ما جاء في الغلول قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية (¬7). واختلف العلماء في معنى قول: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (¬8) وكان ابن عبّاس (¬9) ¬
يقرؤها "يُغَلّ" (¬1) كذلك قرأها أبو وائل وأبو عبد الرّحمن السُّلَميّ والكسائي. واختلف فيمن قرأ هذه القراءة، وفي معنى ذلك روايتان: فقال محمّد بن إسحاق: معنى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يكتم النَّاس ما بعثه الله به (¬2). أو يقسم البعضَ ويترك بعضًا، قاله الضّحّاك (¬3). الإسناد: قال القاضي: أحاديث الغلول كثيرة المساق، والّذي يحضر الآن في الخاطر منها ثلاثة أحاديث: الحديث الأوّل: ثَبَتَ (¬4) أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ يَومَ خَيبَر (¬5) وَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال لهم: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" فَتَغَيَّرَت وُجُوهُ الناسِ لِذَلكَ، فَزَعَمَ زيدً أَنْ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فإنَّهُ قَدْ غَلَّ في سَبيل الله "قالَ: فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ من خَرَزِ يَهُودَ مَا تُسَاوِي دِرْهَمَين". ¬
الحديث الثّاني: ثبت (¬1) أنّ عبدًا أصابه سهم عائر، فمات، وكانت عليه شملة يوم خيبر، وقال النَّاس: هنيئًا له الجنَّة، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "كلًا، والَّذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلَةَ الّتي غلّها يومَ خَيْبَرَ من المغانِمِ لم تُصِبْهَا المقاسمُ، لتشتعلُ عليه نارًا ... ". قوله (¬2): "سَهْمٌ عائرٌ" فهو السَّهم الّذي لا يعرف راميه، وهو سهمٌ غرْبٌ بفتح الرّاء وبإسكأنّها، ويجوزُ على النَّعْتِ وعلى الإضافة. وقوله (¬3): "كلّا" يريد زجرُا عن القطع بالجنّةِ (¬4)، وقد تكون "كلا" بمعنى "لا" فكأنّه قال: لا والّذي نفسي بيده. الحديث الثّالث: ثبت فى الصّحيح (¬5) , أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بشِرَاكٍ أو شِراكين، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "شِراكٌ أو شِراكَانِ من نَارٍ". العربية: قال أبو عبيد (¬6): الغُلول: الخيانة في المغنم خاصّة، يقال منه: غَلَّ يَغُلُّ بفتح الياء وضم الغين. ويروى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (¬7) و {يَغُلَّ} فمن قرأ بضمِّ الياء وفتح الغين فإنّه يحتمل معنيين: 1 - أحدهما: أنّ يكون "يُغَلْ": يُخَان، يعني أنّ يؤخذ من الغنيمة شيءٌ. 2 - ويكون {يَغُلَّ} ينسب إلى الغلول. ¬
وقال (¬1): لم أسمع أحدًا قرأها بكسر الغين وفتح الياء من الغِلّ وهو الشَّحْنُ (¬2)، ومنه قوله في الحديث الآخر: "لا يُغِلْ عليهنّ قلب مؤمن دواما" (¬3) وقال في الحديث الآخر: "لا إغلال ولا إسلال" (¬4) فالإغلال: الخيانة، والإسلال: السَّرقة، يقال: رجل مُغِلٌّ مُسِلٌّ، أي: صاحب خيانة وسرقة. الفقه والشرح والفوائد في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6):"حينَ صدرَ من حُنَينٍ" يريد: أصاب هوازن فغنم أموالَهم وذَرَارِيَهم، فَقَصَدَ يريد الجعرانة، وهي طريق إلى مكّة. وقوله (¬7) *: "وَالذي نفسي بِيَدِهِ، لو أفاءَ الله عليكم مثلَ سَمُرِ (¬8) تِهَامَةَ، لقَسَمْتُهُ بينكم" قسَمُهُ - صلّى الله عليه وسلم - على سبيل الإنكار عليهم لفعلهم، وكثرة إلحاحهم عليه بالسُّوال فيما قد عرف من حاله أنّه لا يمنعه، حتْى أنّهم قد اعتقدوا فيه المنع، وهذا ممّا* لا يفعله ¬
فقهاء الصّحَابة ولا فضلاء المهاجرين والأنصار، وإنّما يفعله قومٌ من المؤلَّفَةِ قلوبُهُم، ومَن قَرُبَ إسلامُه ولم يتمكّن الفقه منه، ولا عرف من أحكام الشّريعة تفرِقة أربعة أخماس الغنيمة على الغانمين، وَرَدٌّ الخمس عليهم وعلى غيرهم من المؤمنين. وقد قال قوم (¬1): إنَّ قسمة الغنيمة على الاجتهاد من الإمام. وقال (¬2) آخرون: إنّما نقسم على ستّة أقسام: القسم الأوّل: أنّ تُقسم على ستة أَسْهُم بالسَّوِيّة: سهمٌ لله يُجعلُ في سبيلِ الخيرِ، وسهمٌ للرسولِ، وسهمٌ لقرابتِهِ، وسهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لابنِ السّبيلِ (¬3). القسمُ الثّاني: أنّ تؤخذ منه قبضة فتجعلُ في الكعبةِ، ويقسم الباقي بالسّواء على الخمسة الأصناف المذكررين (¬4). القسمُ الثّالث: أنّ تُقسم على خمسة أسهم بالسّواء، وُيجعل سهمُ الله مفتاحَ السِّهام؛ لأنّ الدّنيا وما فيها لله (¬5). ¬
القسم الرّابع: أنّ يقسم على أربعة أقسام بالسَّواءِ: لذي القُرْبَى، واليتامَى، والمساكين، وابن السّبيل. ويكون معنى قوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (¬1) أنّ لهما الحكمُ في قسم ذلك بين من قد سُمِّيَ في الآيتين. واختلف الذين رأوا أنّ يقسم الخُمُسُ على خمسةِ أسهُمٍ في سهم رسولِ الله وسهم قرابته بعد وفاة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: فقالت طائفة منهم: يجعل في الكراع والسّلاح (¬2). وقالت طائفة أخرى: يكونُ سهمُ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - للخليفة بعدَهُ، وسهمُ قرابتِهِ لقرابةِ الخليفةِ بعدَهُ (¬3). وقالت طائفة أخرى منهم: يُقسم سهمُ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - على سائر الأصنَافِ، ويكون سهمُ قرابتِهِ باقيًا عليهم إلى يوم القيامة (¬4)، وقرابته هم الّذين لا تحلّ لهم الصّدقة (¬5). المسألة الثّانية (¬6): قوله في الحديث (¬7):" ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا". قال بعضُ المفسِّرينَ: لأنّ وجودَ أضدادها من الجود والشّجاعة والصِّدق من صفات الإمام، فنفَى ¬
عن نفسه - صلّى الله عليه وسلم - النقائص الّتي لا تصحّ أنّ تكون في الإمام، وهذا على ما قاله، غير أنّ صفاتَ الإمامِ أكثر، وهي إحدى عشرة صفة، فقد كان يجب أنّ ينفي عن نفسِهِ أَضْدَادَ جميعها. والأظهر عندي: أنّ يكون إنَّمَا نَفَى عن نفسه هذه الثّلاثة؛ لأنّها مختصَّةٌ بالحالِ الّتي كان عليها؟ لأنّهم سألوهُ ما كانَ أفاءَ الله من الغنائمِ، فأَقْسَمَ أنّه يقسمُ جميعها بينهمْ، ولا يجدونه بخيلًا بها ولا كذابًا فيما يَعِدُ به من قسمتها. "وَلَا جَبَانَّا": يحتمل أنّ يريد جبانَا عن السّائلين. المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2):" أَدُّوا الخائط وَالمِخْيَطَ". الخائطُ واحدُ الخيوطِ، والمِخْيَطُ الإبرةُ، ومَن رواهُ: الخياط، فقد يكون الخيوط، وقد يكون الإبرة (¬3)، قال تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬4). وإذا وجبَ ردّ القليل، وجبَ ردّ الكثير الّذي له القَدْر، وهذا هو التّنبيه بقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية (¬5)، فمن أدّى القنطار أقرب أنّ يؤدِّي الدِّينار، ومن لم يؤدّ الدِّينار أبعد من أنّ يؤدِّي القنطار. ووسع ابن القاسم في "الموازية" فيما لا ثَمَنَ له كالخيط والإِبْرَة والخِرْقَة يرْقَعُ بها ثوبه، وقاله أَصْبَغ، قال: لا خلاف فيه (¬6). ¬
قال مالك: والكبَّةُ والخيط ومثله ممّا ثمنه دَانِق وشبهه، أخاف أنّ يرائي بذلك، وليس يضيق على النَّاس (¬1). وروى أشهب عنه في "العتبيّة" (¬2) أنّ ما كان ثمن درهم ونحوه له أنّ يحبسه ولا يبيعه (¬3). فمعنى قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَدُّوا الخَائِطَ وَالمِخْيَط" على المبالغة، لا على أنّ هذا المقدار يجب رَدُّه إلى الغنيمة، وهذا كما قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكُمْ، وَلَا مِثْلُ هَذِهِ"، ثمّ تناول وَبَرَةً من الأرض (¬4)، ومعلوم أنّ مثل هذا لا يجب أداؤه. المسألة الرّابعة: قوله (¬5):"تُوُفِّيَ رَجُلٌ يَومَ حُنَينٍ (¬6) ": هو غلط، والصّواب: يوم خيبر، وكذلك رواه القعنبيّ (¬7) وجماعة، وذكره ابن إسحاق قال: إنّما كان ذلك إذ فتحت خيبر (¬8). وامتناعه - صلّى الله عليه وسلم - من الصّلاة على الرَّجل إنّما ذلك على وجه الرَّدْع، وهذه (¬9) سُنَّةٌ في امتناع الأيمّة وأهل الفضل من الصّلاة على أهل الكبائر، وأمره غيره بالصّلاة عليه، فيه دليل أنّهم لا يخرجون عن حكم الإيمان بما أحدثوه من المعصية، والإمام مُخَيَّرٌ في الصّلاة عليه -أعني على مَنْ غلّ- وعلى أهل الكبائر أو من قتل في حدٍّ أو قود، إنَّ شاء صلّى وإنْ شاءَ ترك، وقد قال - صلّى الله عليه وسلم - في المنافقين: "إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ " (¬10) وقد بيَّنَّا ذلك في "كتاب الجنائز" بأبدع بيان، فلينظر هناك. ¬
المسألة الخامسة (¬1): قوله (¬2): "فَوَجَدُوا في بَرْدَعَةِ رَجُلٍ" هي الفراش المبطن (¬3). وقوله (¬4): "فَأَتَاهُم رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَكبَّرَ عَلَيْهِم كَما يُكَبَّرُ عَلَى المَيًتِ" يحتمل أنّ يكون فعل ذلك - صلّى الله عليه وسلم - على وجه الزَّجْرِ عن مثل ما وجد عندهم من الغلول (¬5)، ولعلّه قد أشار بتكبير أربع، أنّ حكمهم حكم الموتى الّذين لا يسمعون الوعظ، ولا يمتثلون الأوامر، ولا يجتنبون النّواهي، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} الآية (¬6). ويحتمل أنّه أشار بذلك إلى أنّهم بمنزلة الّذين انقطع عملهم (¬7). المسألة السّادسة (¬8): قوله (¬9): "وإنّ الشَّمْلَةَ لَتَشْتَعِل عَلَيهِ نَارًا" ظاهر هذا يقتضي أَنّها تشعل عليه؛ لأنّه أخذها من المغانم قبل قسمتها وإنَّما أخذها غلولًا. ويحتمل أنّه أخذها غير محتاج إليها للبسه، فلذلك اشتعلت عليه نارًا، أو أخذها محتاجًا إليها، ثُمَّ أمسكها بعد القسمة وبعد الرُّجوع إلى بلاد المسلمين (¬10). ¬
وقد قال ابن القاسم (¬1) في "الموازية": ما احتاج إليه في السَّرِيَّةِ من ثوب يلبسُه أو دابَّةٍ يركبُها، أو يحمل عليها عَلَفًا أو ثقلًا، فإن له ذلك كلّه، وإذا بلغ العسكر واستغنى عنه، جعله في المقاسم. وروى ابن وهب وابنُ زياد عن مالك في "المدوّنة" (¬2): أنّه لا يُنْتَفَعُ بدابّةٍ ولا سلاحٍ ولا ثوبٍ (¬3). المسألة السّابعة (¬4): قوله (¬5): "لَتَشتَعِلُ عَلَيهِ نَارًا" يدلُّ على أنَّ مِن المُؤمنين من يُعاقَبُ بالمعاصي ممَّن شاءَ الله تعالى أنّ يعاقِبَهُ، إِلَا أنّ الإيمان يعود عليه بعد عذابه بالجنّة. وقوله - صلّى الله عليه وسلم (¬6): " شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ من نَارٍ" يقتضي: أنّ من غلَّ مثل هذا فإنّه يعاقَبُ بمثله من النّار، ويَحْتَمل أنّ يكون الشِّراكُ والشِّراكان لهما القيمة، فمثل هذا لا يحلُّ أخذه على رواية ابن وهب؛ لأنّه ليس بطعامٍ، ويجوزُ أَخذُهُ على روايةِ ابنِ القاسِمِ للحاجةِ إليه وعَدَمِ وجود الشِّراك, لأنّه يلزم ردّه عند إلاستغناء عنه. ¬
المسألة الثامنة: فيما يعاقب به الغالّ ثبت في الحديث الصّحيح (¬1) أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ غَلَّ فَاضرِبُوهُ واحْرِقُوا رَحْلَهُ" (¬2). واختلفَ الفقهاءُ في هذا الحديثِ, فقالت طائفةٌ: يُحرقُ رحله، كذلك قال الحسن ابن أبي الحسن البصري، ومكحول، والأوزاعيُّ، وأحمد، وإسحاق (¬3). وقال الحسن: إِلَّا أنّ يكون حيوانًا أو مُصْحَفًا (¬4). وقال الأوزاعي: يُحرقُ ما غلّ ويحرق متاعه الّذي غَزَا بِهِ وسَرْجُهُ، ولا تحرق دابَّتُه ولا نَفَقَتُهُ إنَّ كانت في خَرْجِهِ وسلاحه (¬5). وقال الشّافعيّ: لا يُعَاقَبُ الرَّجلُ في ماله، وإنَّمَا يُعَاقَبُ في بَدَنِهِ (¬6). وأمّا الحديث الّذي رواه صالح بن محمّد بن زائدة، عن سالم، عن ابن عمر، عن النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنْ غَلَّ فَاضرِبُوهُ وَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ" تَفَرَّدَ به صالح بن محمّد وهو (¬7) ¬
مَدَنِيٌّ تَرَكَهُ مالك، وليس مِمَّن يُحْتَجُّ به ولا بِحَدِيثِهِ. المسألة التّاسعة: قال أكثر العلماء: إنّه يتصدّق به (¬1). وقال قوم: إنَّه يجعله في بيت المال (¬2). المسألة العاشرة (¬3): قوله (¬4): "فأهدى رِفَاعَةُ لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - غُلامًا أسودَ" ومعنى ذلك أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يقبل الهديّة من كافر ومسلم (¬5)، ولذلك قبل هديّة المقوقس أمير مصر والاسكندرية (¬6)، ولم يقبل هديّة عِياض المُجَاشِعيّ (¬7). وقد تكلّم النَّاس على هذا الحديث فقيل: إنَّ هذا خاصٌّ بالنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬8) دون غيره من الأمراء (¬9). ¬
باب الشهداء في سبيل الله
باب الشّهداء في سبيل الله قال الإمام الحافظ: الأحاديثُ في هذا الباب ثلاثة أحاديث: الحديثُ الأوّل: مالِكٌ (¬1)، عَنْ أَبِي الزِّنادِ، فَي الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ, أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَال: "وَالَّذي نَفْسِى بِيَدِهِ، لوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَأقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ ثُم أُحْيَا فَاُقْتَلُ" ... الحديث. الحديثُ الثّاني: مَالكٌ (¬2)، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عنِ الأعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ, أَنَّ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلِينِ: يقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلَاهُما يَدْخُلُ الجَنَّة، يُقَاتِل هذَا في سِبيلِ الله فَيُقتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلى القَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ". الحديثُ الثّالث: مَالِكٌ (¬3)، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ, أَنً رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "وَالَّذي نَفْسِى بِيَدِهِ، لَا يُكلَمُ أحدٌ في سِبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكلَمُ في سِبِيلِهِ، إِلّا جَاءَ يَومَ الْقِيَامَةِ، وَجُرْحُهُ يَثعَبُ دَمًا. اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ. وَالرَّيحُ رِيحُ المِسْكِ". الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه - هذه أحاديثٌ صِحَاحٌ، خَرَّجها الأَيِمَّةُ: مسلم والبخاري وأَهل المصنَّفاتِ، لا مَدْفَعَ لأحدٍ فيها. ¬
قوله (¬1):"يَضحَكُ الله إِلَى رَجُلَينِ". الضَّحِكُ من اللهِ تعالى بمعنى: الرَّضَى (¬2)، يريدُ أنّهما يُقْتَلَانِ في ذاته فيرضى عنهما ويَتَلقَّاهُما من الثَّواب ما يتلقى به الضّاحِكَ المسرورُ من يقدم عليه. ويحتمل أنّ يريد: ضحك ملائكته وخَزَنَة جنّته وحَمَلَة عَرْشِه لهما، على معنى التّبشير لهما بما يقدمان عليه (¬3). وقوله (¬4): "يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" وذلك أنّ مثل هذا غير معهود؛ لأنّ قتل أحدهما الآخر: على معنى المخالفة في الدَّين يقتضي بِمُسْتَقرَّ الشَّرْعِ أنّ يكون أحدهما هو المحقّ من أهل الجنّة، ويكون الثّاني هو المُبْطِل من أهل النّار، وهذه القصَّة على خلاف ذلك، فإنّهما جميعًا يدخلان الجنّة، ولعلّهما يكونان من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} الآية (¬5). وقوله (¬6):"ثُم يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقاتِلِ" يحتمل أنة كانَ كافرًا فيتوبُ بالإيمانِ، فيسقطُ عنه ما فَعَلَهُ حالَ الكفرِ. قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬7). ¬
وقال عز من قائل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية (¬1). فإذا كانت التوبةُ بالإيمانِ تُسقط القتلَ للمسلمِ وغيرهِ، فهذا قاتل بعد ذلك فاستشهد، دخل الجنَّة مع الّذي قتله. الحديثُ الثّالث: "وَالُذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأ يُكلَمُ أَحدٌ في سَبِيلِ الله، وَاللهُ أَعْلمُ بِمَنْ يُكلَمُ في سَبِيلِهِ ... " الحديث. العربية (*): قوله: "يُكلَمُ" يريدُ: يُخرَحُ، والكَلْم: الجرحُ، من كَلَم يَكْلِم (¬2). وقوله: ""يَثْعَبُ (¬3) دَمًا"" وُيروَى: "يَنْبَعِثُ دَمًا" منصوبٌ على التَّمْيِيزِ، ويحتمل أنّ يكون مفعولًا؛ لأنّ الثَّعب مُتَعَدٍّ. قال القاضي - رضي الله عنه - وهذا الحديث أدخله البخاريّ في "كتاب الطّهارة" (¬4) غَوْصًا منه على الفقه واستقراء المعاني. فإن قيل: لأىِّ شيء أَدْخَلَهُ البخاريّ في الطّهارة (¬5)؟ وما فائدة قوله: "اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرَّيحُ رِيحُ المِسْكِ"؟ قلنا: إنّما أدخلَهُ البخاريّ على أَن الوضوءَ لا يجوزُ بالماءِ المتغيِّر، وذلك أنّ البخاريّ - رحمه الله - أراد إدخالَ حديث على الماء المُطلَقِ الّذي لا يشوبُهُ شيءٌ (¬6)، ¬
فلم يجد إِلَّا هذا الحديث (¬1). فإن قيل: ما بالُ حديث بئر بُضاعة، قوله فيه: "الْمَاءُ طَاهِرٌ لًا يُنَجَّسُهُ شَيءٌ" (¬2). قلنا: في طريق هذا الحديث من لم يوافق ما شَرَطَهُ البخاريّ، وقوله: "إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَة أَوْ رِيحَهُ" (¬3) ليس من الحديث, فلذلك أدخل حديث الشُّهداء بقوله: "اللَّوْنُ لَوْنُ الْدَّمِ" ولو أنّه سكت هاهنا ولم يقل: "والرَّيحُ ريحُ المِسْكِ" لكان دَمًا مُطلَقًا، فكونُ ريحِه رِيحَ المسك، سَلَبَه اسمَ الدَّم المُطلَق، والماءُ المضافُ إِلى شَيءٍ لابُدَّ أنّ يقال ماء كذا, ولا يُسَمَّى ماء مطلقًا، كما لم يسم هذا الدَّم الدّم الذى ريحه ريح المسك دمًا مطلقًا حتّى قَيَّدَهُ فقال: "والرَّيحُ ريحُ المِسْكِ"، فجميعُ المياهِ: ماءُ البحرِ، وماءُ الأنّهارِ، وماءُ العيونِ، وماءُ الأمطارِ، يقالُ لَهُ ماءٌ مُطْلَقٌ. تنبيه: قوله (¬4): "وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكلَمُ في سَبِيلِهِ": على معنى أنّ هذا الحكم ليس على الطّاهر؛ لأنّ من يقاتل في جند المسلمين هو مِمَّن يقاتل في سبيل اللهِ، إِلَّا أنّه قد يكون غيره يقاتل للمغنم، فلا يكن لأحدٍ من هؤلاء هذه الصّفة ولا هذه الفضيلة حتّى يقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلّيا، فَيُكْلَم على هذا الوجه، فيكون حينئذ ¬
ممّن يجيء يوم القيامة وجرحه يَثعَبُ دمًا، يريد أَن اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحَ ريحُ مِسْكٍ وهذا يدلُّ على قالَهُ عندَ الله منَ الشَّرَفِ، وذلك بحُسنِ إخلاصه في جهاد الله تعالى، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} الآية (¬1). وقال بعض الزُّهَّادِ: اعلم يا أخي أنّ ذَرَّة من عمل أهل الإخلاص أثقل من ألف قنطار من عمل غيره، وهذا كمن أخذ حَبَّةً فبَذرَها في أرض طيَّبة وتعاهدها بالسَّقْىِ وحَظَرَ عليها وحفظها من الآفات، حتّى قامت وغصنت ونوَّرت وعقدت، فلم يُقطع عقدها حتّى كمل واشتدّ، فوجده أحسن شيء يفرح به، وكذلك الشّهيد يفرح بحُسْن إخلاصه بالقتل في سبيل الله، قال الله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2) الآية إلى قوله: {لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} "أي: في المنزلة وحُسْن الإخلاص لله تعالى، فهذا الشّهيدُ هو الّذي يعود يوم القيامة بريح المِسْكِ، وإنّه ليوجد من مسيرة ألف عام، وان نُورَهُ أيضًا على مسيرةِ مئة عام، فما ظنّكم بنور وجهه، وقد تكلّمنا على فضائل الشَّهيدِ في "الكتاب الكبير". حديث مالك (¬3)، عن زيد بن أسلم, أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَل قَتْلِى بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً واحِدَةً، يُحَاجُّنِي بِهَا عنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". الإسناد: قال الإمام: الحديثُ مُرْسَلٌ (¬4)، وقد جاء عن النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "خَيرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ قتَلَهُ أهْل مِلَّتِهِ" (¬5)، ولابُدَّ من حسناتٍ لَهُ. الجواب: أنّ عمر - رضي الله عنه - رأى أنَّه إنَّ كان من أهل الإسلام، لابُدَّ أنّ يكون له حسنات، فَرُبَّمَا وفّت حسناتُه بعد القصاص، وبقي له ما يدخل به الجنّة، وإذا ¬
دخل الجنَّة لم يبلغ انتصاره منه. وقال أبو الوليد الباجي (¬1): "إنّما قال ذلك عمر إشفاقًا للمسلم" (¬2). وفي هذا الحديث (¬3): أنّ قاتل المؤمنين في مشيئة الله لا يُقطَع له بالوعيد، وإنّما قتله رضي الله عنه أبو لؤلؤة عبدٌ نصرانىٌّ للمغيرة بن شعبة. حديث عبد الله بن أبي قتادة (¬4)، عن أبيه, أنَّه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنْ قُتِلْتُ في سبيل الله صابرًا محتسبًا، مقبلًا غير مدبرِ، أَيُكَفِّرُ الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "نَعَم" فلما أدبر الرَّجل، ناداه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، أو أمر به فنودي له، فقال له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "كَيفَ قُلْتَ" فأعاد عليه قوله. فقال له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -:"نَعَمْ، إِلَّا الدَّينَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْريلُ". الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديثٌ صحيحٌ (¬5)، إِلَّا أنّ العلماء اختلفوا فيه: فقيل: إنّه منسوخٌ بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَات وَعَلَيهِ دَين فَنَحْنُ أَحَق بِقَضَائِهِ (¬6) "، وكان في أوّل الإسلام لا يُصَلَّى عليه، ثُم كان بعد ذلك يُصَلَّى عليه، وإنّما قال: "فَنَحْنُ أَحَقُّ بهِ" يريد: أداؤه من بيت مال المسلمين. وقال غيره: إنّما كان ذلك قبل أنّ يفرض الزَّكاة، فلمّا فُرِضَتِ الزْكاة جعل اللهُ ¬
للغارمين فيها حقًّا، فعلى الإمام أنّ يؤدِّي عنه إذا كان الدَّيْن في غير فساد ولا ظلم، فإن لم يفعل فإثمه عليه. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال بعضُ علمائنا: معنى ذلك أنّ حقوق الآدميِّين لا تكفِّرها الحسنات، وهذا وجهٌ محتملٌ، وقد كان - صلّى الله عليه وسلم - في أوَل الإسلام يمتنع من الصَّلاة على من مات وعليه دَينٌ لم يترك له قضاء، وظاهرُ ذلك أنّه إنّما قال ذلك لِئَلَّا يسرع النَّاس إلى أكل أموال النَّاس بغير حاجةٍ ولا رِفْقٍ في إِنْفَاقٍ، ثّمّ يموتُ من ماتَ منهم ولا يترك قضاءً فيذهب بأموال النَّاس، ثمً إنَّ النَّبِىَّ - صلّى الله عليه وسلم - لمَّا فَتح اللهُ عليه بالمالِ قال: "أَنَا أَوْلَى بِالُمؤمِنِينَ من أنْفُسِهِم، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أوْ ضياعًا فعليّ وإلىّ (¬2) ". ويحتمل أنّ يكون النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لهذا السائل: "إلَّا الدَّين" إنّما كان يمتنع من الصَّلاةِ على من ترك كلأً أو دَيْنًا لا وفاءَ له، فيكون على عمومه. ويحتمل أنّ يكون قاله بعد ذلك، ويكون معنى قوله: "إِلَّا الدَّين" لمن أَخَذَهُ يريد إتلاف أموال النَّاس، ويأخذه من غير وجهه، ويُنْفِقُهُ في سَرَفٍ أو معصيةٍ، فهذا حُكمُهُ باقٍ في المنعِ. ويحتمل قوله: "إِلَّا الدَّين" فيمن كان عليه دَيْنٌ وهو جاحدٌ له وقد ترك وفاء له، فهذا ليس على الإمام أنّ يؤدِّيه، وإثمه عليه. ويحتمل أنّ يكون الّذي أخذه يريد إتلافه، لقوله عليه السّلام: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتلَفَهُ اللهُ في النَّارِ" (¬3) واللهُ أعلمُ. ¬
وما ثبتَ أنَّ أحدًا من الأيِمَّةِ قَضى دَين من ماتَ وعليه دَين من بيت المال بعد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فيحتمل أنّ يكون هذا الحكم اختصّ بِالنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، بَيَّنَ ذلك قولُهُ:"أَنَا أَوْلى بِالْمُؤمنِين من أَنْفُسِهِم" (¬1) وهذا لا يكونُ لأحدٍ بعدَهُ. المسألة الثّانية: في آداب الغزو ومنها: ردُّ المظالِمِ، وأداءُ الدَّيْن، وإذنُ الوالدين في ذلك، وتجديدُ النِّيَة، وتركُ النّفقة لِعيَالِه، ويكتب جميع أسبابه لأنّه يخرج إلى الله وإلى لقاء الله. ومن الآداب: أنّ الرَّجُلَ إذا أراد أنّ يسافر ودَّع إخوانه في منازلهم، وإذا جاء تلقّوه، والتَّشْيِيعُ سُنَّةٌ. حديث مالك (¬2)، عَنْ أَبِي النضر مولى عمر بن عبيد الله؛ أنّه بلغه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ: "هَؤُلَاءِ أَشهَدُ عَلَيْهِمْ" فَقَالَ أَبَو بَكر الصِّدِّيقُ: أَلَسْنَا يَا رَسُولَ اللهِ بِإِخوانِهِم، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا وَجاهَدْنَا كمَا جَاهَدُوا؟ فَقَالَ رَسُولُ - صلّى الله عليه وسلم -: "بَلَى وَلكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِى" فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ. ثُمّ بَكَى ثمّ قَالَ: أَئِنَّا لَكَائنُونَ بَعْدَكَ؟ قول أبي بكر: "أئِنَّا لكائنونَ بعدَكَ" خرج على وجه الاستفهام، وإنّما هو على وجه التأسُّف (¬3). ¬
الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديث مُرْسَل، والحديثُ صحيحٌ من أوجهٍ (¬1). قال ابن العربي: قد قيل إنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنّه كان في غزوة أُحُدٍ قبل أنّ يعرف أمره كما أنزل الله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (¬2). وتعلّق بهذا الحديث بعض الطّاعنين على الصّحابة بقوله: "وَلَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِى" (¬3) فلا تشتغلوا به؛ لأنّه منسوخٌ نسخته آية الفتح, {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية (¬4). وعرف في غزوة الحُدَيبِية خاتمة أمره، وأخبر الصّحابة بما أنزل الله عليه، وذلك ¬
قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية (¬1). وقال النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أبو بكر في الجنّة، عمر في الجنَّة، حتّى عدّ العشرة" (¬2). وقال (¬3) عليه السّلام أيضًا وهو على أُحُدٍ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: "اثبُت أُحُدُ فإنَّما عليك نبىُّ وصدِّيقٌ وشَهيدَان" (¬4). وقال أيضًا حين استأذنوا عليه: "ائذَنْ لهم وبشّرهم بالجنَّة" (¬5)، وما ينطق عن الهوى. قال بعض المتأخِّرين: هذا الكلام فيه نظر؛ لأنّ النّسخ لا يدخل في الأخبار، وإنّما يدخل في الأحكام والشرائع (¬6)، والله أعلم. الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬7): قولُه لشهداء أُحُد: "أَشْهَدُ عَلَيْهمْ" يحتمل أنّ يشهد على ظاهرهم لما رأى من الإيمان والعبادة والجهاد إلى أنّ قُتِلوا في ذلك، وغيرهم ممّن يأتي بعد ذلك لا يعلم ما يُحْدِثُونَ بعدَهُ. ويحتمل أنّ يكون شهِدَ على ظاهرهم لما رأى على باطنهم ممّا علم بالوحي؛ لأنّه لوكان فيهم منافق لم ينتفع بهذه الشّهادة، ولم ينجه من النّار قتالُهُ بين يديه، كما لم ينتفع بذلك قزمان الّذي قاتل في سبيل الله ثمّ قتل نفسه (¬8)، فعلى هذا لم يشهد لمن بَقِيَ ¬
بَعْدَهُ؛ لأنَّه لا يعلم باستدامتهم للأمر الصّالح، ولم يطَّلِع عند موتهم على أنّهم ختموا أعمالهم بما يرضي الله تعالى. المسألة الثّانية (¬1): قوله: "بَلَى، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِى" قال قومٌ: إنَّ الخطّاب وإن كان متوجّهًا إلى أبي بكر فإنَّ المرادَ به غيره ممّن لم يعلم بحاله وعمله، وأمّا أبو بكر- رضي الله عنه - فقد أُعْلِمَ أنّه من أهل الجنّة، ولكن لمّا سأَلَ بلفظٍ عام ولم يخصّ نفسه بالسّؤال عن حاله كان الجواب عامًّا (¬2). ويحتمل أنّ يكون النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: هؤلاء أنا أشهد عليهم بما شاهدتُ من أمرهم في الجهاد، ولذلك لم يقل: أنا أشهد لمن حضر ذلك اليوم وسَلِمَ من القتل، كعليّ وطلحة وأبي طلحة، وغيرهم ممّن قاتل ذلك اليوم، ومن هو أفضل ممّن قاتل ذلك اليوم، لكنّه خصّ هذا الحُكْم بمن شاهد جِهَادَهُ. حديث مالك (¬3)، عن يحيى بن سعيد, قال: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - جالسًا وقبرٌ يُحفر بالمدينة. فاطَّلع رجلٌ في القبر، فقال: بئس مضجع المؤمّن. فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "بِئسَ مّا قُلْتَ" فقال الرَّجلُ: إنِّي لم أرد هذا يا رسول الله، إنّما أردت القتل في سبيل الله. فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -:" لَا مِثْلَ لِلْقَتْلِ في سَبِيلِ الله. مَا عَلَى الأَرْضِ بُقعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ يَكُونَ قَبْري بِهَا مِنْهَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديثُ مُرْسَلٌ (1)، والمعنى صحيحٌ (¬2). وقوله: "بِئسَ مَا قُلْتَ" فيه من الفقه أنّه عليه السّلام ربما خفي عليه مراد أصحابه حتّى يتبين، له كلما قال داود عليه السّلام: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} (¬3). الفوائد والشّرح: وهي ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "بِئسَ مَضجَعُ المُؤمِنِ" القبر، فقال له النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تقل بئس" فإنّه روضةٌ من رِيَاضِ الجنّة أو حُفرة من حفر النّار، فقال الرَّجل: إنّما أردت القتل في سبيل الله، فقال له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم القتلُ في سبيل الله خيرٌ منه". الفائدةُ الثّانية: تمنَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - القتلَ في سبيل الله لثلاثة معانٍ: 1 - يحتمل أنّ يحرّض أُمَّته على الجهاد. 2 - الثّاني: أنّ يفقد غُصَّة الموت، ألَّا تراه حين حضره أدخل يده في الماء مرَّات ومسح وجهه وقال: "إنْ للموتِ لسَكَراتٍ" (¬4). 3 - الثّالث: إنّما قال ذلك لكي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللّون لون دم والرّيح ريح المسك. ¬
باب ما تكون فيه الشهادة
الفائدةُ الثّالثة (¬1): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أحبّ إِلىَّ أنّ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا" ظاهرُهُ يقتضي تفضيل المدينة على ما سواها, ولذلك أَحَبَّ أْن يكون قبره بها دون مكّة (¬2). وقد قيل: إنَّ ذلك معنى الهجرة، وليس ببيّن (¬3)؛ لأنّه لو كان كذلك لم يعلّق الحُكم بالبقعة ولعلَّقَهُ بالهجرة، وهذا في حال الإخبار، وليس فيه دليلٌ على أنّ يكون فضّل أنّ يكون قبره بالمدينة على القتل في سبيل الله (¬4)، لا على بقعة لا يقبر فيها. باب ما تكون فيه الشهادة الحديث مرسل. وفيه خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬5): قول عمر بن الخطّاب (¬6): "اللهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ شَهَادَةً في سَبِيلِكَ. وَوَفاةً بِبَلَدِ رَسُولِكَ" وهذا أيضًا يقتضي تفضيل المدينة على سائر البُقَعِ مكّة وغيرها, ولو كانت عنده مكّة أفضل لتمنّى أنّ يُقْتَلَ بها مسافرًا أو حاجَّا, ولا يكون ذلك نقضًا لهجرته، وقد ¬
علم من فضل المدينة ما علم على ما يأتي بيانه في " كتاب الجامع" إنَّ شاء الله، وقد أجمع المسلمون على أنّ هذا الدّعاء مستجابٌ، وأنّه - رضي الله عنه - شهيدٌ، وهذا يقتضي أنّ من قُتِلَ على هذا الوجه، وإن لم يُقْتَل في حربٍ ولا مدافعة، فإنّه شهيدٌ. الفائدةُ الثّانية (¬1): قوله (¬2): "كرَمُ المُؤمِنِ تَقْوَاهُ" يحتمل أنّ يكون مأخوذًا من قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية (¬3)، يريد أنّ كرمه في نفسه وفضله تقوى الله (¬4). الفائدةُ الثّالثة (¬5): قوله (¬6): "وَدِينُهُ حَسَبُهُ" يريدُ أنَّ انتسابَهُ إلى الدَّينِ هو الشّرف، وأمّا انتسابه إلى أبٍ كافرٍ على وجه الفَخر فممنوعٌ، وانتسابه إلى أبٍ صالح على أنّ له بذلك فضلًا لا بأس به، غير أنّ انتسابه إلى دِينِهِ الّذي يخصّه أتمّ في الشّرف. المسألة الرّابعة (¬7): قوله (¬8): "وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ" يريدُ أنً المروءةَ مختصّة بالأخلاق من الصّبر والحِلْمِ والمواساة والإيثار. الفائدةُ الخامسة (¬9): قوله (¬10): "وَالشَّهِيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ" يريد مَنْ رَضِيَ بالقتل في طاعة الله رجاءَ ثواب الله تعالى. ¬
باب العمل في غسل الشهداء
باب العمل في غسل الشهداء الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: قال علماؤنا: الشّهداء ثمان، سبعةٌ يُغسَلُونَ ويُكَفَّنون ويصلّى عليهم، إِلَّا المقتول في سبيل الله، ففيه ثلاثة أقوال: القول الأوْل: أنّه إن مات في المعترك فإنهه لا يُغَسَّل ولا يصلَّى عليه. الثّاني: وإن حُمِلَ إلى داره بعد أنّ أجهز عليه في المُعْتَرَكِ، وماتَ بعد ذلك بأيّامٍ، لم يغسل ولا يصلَّى عليه أيضًا الثّالث: إنَّ جُرِحَ وحمل إلى داره ولم ينفذ مقاتله فمات، غُسِلَ وَصُلَّيَ عليه. الأصلُ فيه: أنّ كلَّ موضعٍ تجبُ فيه القسامةُ فإنّه يغسل ويصلَّى عليه، وكلّ موضعٍ لا تجبُ فيه القسامة وإنمّا يَجِبُ فيه القَوَدُ لا يغسل ولا يصلّى عليه. وقال بعض البغداديين: الشُّهداءُ عشرة: ثمانيةٌ يصلّى عليهم وَيُغسَلُون، واثنانِ لا يغسلان ولا يصلّى عليهما، في كلام طويل بيّنَاه في "كتاب الجنائز". المسألة الثّانية (¬1): قول ابن عمر (¬2): "غُسِّلَ وَكُفِّنَ" يريد: غسل الميِّت المشروع، وقد تقدَّم في "الجنائز"كيفيتُه. وأنّ الشّهادة فضيلة تسقط فرض الميَّت واستئناف كفنه، وتسقط الشّهادةُ فرضَ الصَّلاة عليه، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة: لا يغسل الشّهيد ولكن يصلّى عليه (¬4). ¬
قال ابن المسيَّب والحسن (¬1): يغسل ويصلَّى عليه (¬2). ودليلنا: ما رُوىَ عن جابر عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يجمع بين الرّجلين من قتلى أُحُدٍ في ثوبٍ واحدٍ ثمّ يقول: "أَيُّهُمْ أَكثَرُ أَخذًا للِقُرْآنِ" فإذا أُشِيرَ لَهُ إِلى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ وقال: "أَنا شَهِيدٌ على هؤُلَاءِ يوْم القِيامَةِ" وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، ولم يُغَسَّلوا ولم يُصَلَّ عليهم (¬3). ومن جهة المعنى: أنّ هذا معنىً يُسقِط فرض غسْلِهِ، فوجبَ أنّ يُسقِط فَرْضَ الصَّلاة عليه، أصلُ ذلك الخوفِ (¬4). المسألة الثّالثة (¬5): هذا حُكمُ من خرج مجاهدًا في سبيل الله، لا يختلفُ المذهبُ فيه، وأمّا من غزاهُ العدوِّ في عُقْر داره، فدافَعَ عن نفسه فَقُتِل: فقال ابن القاسم. يُغْسَل ويصلَّى عليه (¬6). وقال أشهب (¬7) وابنُ وهب: لا يُغسَل ولا يصلّى عليه (¬8). ¬
باب ما يكره من الشيء يجعل في سبيل الله
باب ما يُكْرَهُ من الشّيء يُجعل في سبيل الله التّرجمة (¬1): قال الإمام: كذا قال يحيى في هذه التّرجمة، وتَابَعَهُ على ذلك جماعةٌ من رُواةِ "الموطّأِ" ومعنى ذلك يحتمل أنّ يُريدَ به أنّه يكره الشّيء الّذي جُعِلَ في سبيل الله أنّ يُجعَلَ في غيره (¬2). ويحتمل أنّ يريدَ أنّه يُكرَهُ أنّ يُؤخَذَ على وجه التَحَيُّلِ. والصّحيح من هذه التّرجمة (¬3) ما في كتاب ابن بُكير (¬4) فإنَّه قال فى هذه التَّرجمة: ¬
"بابُ ما يُكرَهُ من الرّجعة في الشيء يُحْمَلُ عليه في سبيل الله"، وتابَعَهُ عليه القَعَنَبِىُّ (¬1)، وذكر حديث الفرس الّذي حمل عليه عمر في سبيل الله ثّم أراد أنّ يبتاعه، وهو الصّواب في هذه التّرجمة، والله أعلم. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3):"كَان يحْمِلُ في العَامِ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلفَ بَعِيرِ" لكثرة من كان يحمله ممّن يريد السَّفر ممّن لا يقدر على المشي، فكان عمر يتّخذ من الإبل ما يحمل عليه من مال الله تعالى. المسألة الثّانية (¬4): قوله (¬5):"يحْمِلُ الرَّجُل إِلَى الشَّامِ عَلَى بَعِيرٍ. وَيَحْمِلُ الرَّجُلَينِ إِلَى العِرَاقِ، عَلَى بَعِيرٍ". قال الدّاودي: كان ذلك ليسر أهل العراق (¬6). وقال غيره (¬7): إنّما كان لكثرة العدوِّ بالشام، وخروج النَّاس إلى الغَزو هنالك. ويحتمل أنّ يكون فَعَلَ ذلك لأنَّ طريق العراق كانت أسهلَ وأعْمَرَ، وكان طريق الشّام أَوْعَر وأَخْلَى من النَّاس، فكان من انقطع به فيها يتعذَّر عليه موضع مقام. ¬
باب الترغيب في الجهاد
المسألة الثّالثة (¬1): قول الرَّجل (¬2): "احْمِلْنِي وَسُحَيمًا" ليُرِيه أنّه كان له رفيق يُسمَّى "سُحَيْمًا" (¬3) ليعطيه البعير، ففهم عمر - رضي الله عنه - ما أراد، لقول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "قد كان فيما مَضَى قبلَكُم من الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإن كان في أُمَّتي منهم أَحَدٌ، فإنَّه عُمر" (¬4). باب الترغيب في الجهاد التّرجمة: ترجم المصنفون في كتبهم: "باب ركوب البحر في الغزو" (¬5) إِلَّا مالكًا - رحمه الله - فإنّه قال: "باب التّرغيب في الجهاد" وساق حديث أمّ حَرَامٍ (¬6)، وهو حديث صحيحٌ مليحٌ، خرَّجَهُ الأيمّة: مسلم (¬7)، والبخاري (¬8)، والترمذي (¬9)، وغيرهم (¬10). ¬
الفقه والفوائد وهي عشر فوائد: الفائدةُ الأولى (¬1): قولُه (¬2): "فدخل عَلَى أُمَّ حَرَامٍ بنْتِ مِلْحَانَ" ابنة ملحان كانت خالته من الرّضاعة، فلأجل ذلك جاز له الدّخول عليها. وقيل: إنَّ النّبي كان معصومًا يملك إربه عن زوجه، فكيف عن غيرها ممّا هو المنزّه عنه، كتنزيه يوسف وداود عن الفعل القبيح أو قول الرّفث، ومنزلة النّبوَّة مرتفعةٌ متقدّسةٌ عن هذا الميل كله، فيكون ذلك مخصوصًا بالنّبي - صلّى الله عليه وسلم -. ويحتمل أنّ يكون ذلك قبل نزول الحجاب. الفائدةُ الثّانية (¬3): وقوله (¬4): "وَتُطعِمُهُ" يحتمل أنّ يكون ما أطعمته من مالها، وأنّه يسيرٌ من كثيرٍ، فلذلك استجاز أكله. ويحتمل أنّ يكون من مال زوجها (¬5)، فجاز له أكله لما علم أنّه يُسَرٌ بذلك، وقد يجوز للإنسان يَمُرُّ على موضع فيه ثمرٌ أو طعامٌ لصديق يَعْلَمُ أنّه يسرّ بما يأكل منه فإنّ له أنّ يأكل من ذلك. وأخصر من هذا أنّ نقول: لا يخلو أنّ تكون أَطعَمَتهُ من مالها، أو من مال زوجها، فإن كان من مالها فلا كلام فيه، وإن كان من مال زوجها فقد قال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: ¬
"مَا أَنْفَقَتْهُ المَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زوْجِهَا غير مُفْسِدةٍ كَان لَهُ أَجْرُ ذلك" الحديث (¬1). وهذا في غير النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأمّا في حقه فلا حُرْمَةَ للمال دونه. الفائدةُ الثّالثة (¬2): قوله: "كانَت تَفْلِي رَأسَهُ" يدلُّ على أنّ المرء له أنّ يتفقّد نفسَهُ بنَفْيِ دَرَنِهِ، وأمّا الحيوان، فلا أعلم له ذكرًا إِلَّا في هذا الحديث. وأمّا الدَّرَنُ، فلم يكن للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - دَرَنٌ قط، بل ريحه ريح المسك، ونفحته نفحة مسك، فقد كان ينام - صلّى الله عليه وسلم - عند أمّ سليم فتجمع عرقه وتذيب بها عطرها، وتقول: هذا أَطيَب الطِّيبِ (¬3). الفائدةُ الرّابعة (¬4): قوله: "فَنَامَ" وكان قائلًا، لقوله: "دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا" ولم يقل: ليلةً، ونومُ القائِلَةِ أصل في مَعُونَةِ الدِّين لمن يقومُ اللَّيلَ ويُحْيِيهِ بالطّاعة. الفائدةُ الخامسة (¬5): قوله: "فَاسْتَيقَظَ وَهُوَ يَضحَكُ" إنّما يكون ذلك من مفروحٍ به، كما أنّ البكاء ¬
يكون من محزون به، والَّذي فرح به رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ما عَايَنَ من ظهور أُمَّته في سبيل الله، ويكون الضّحك ثمرة الفرح وسبب الجُود والعطاء، وبه وُصِفَ البارئ سبحانه: "يا واسع العطاء". الفائدةُ السّادسة (¬1): قوله: "فَسَأَلَتهُ" (¬2) وإنَّما كان السؤال لأنّها جهلت السّبب لعدم حضوره، وعلمت أنّه لأمر اطلع عليه في منامه، فأرادت معرفتَهُ. فقال: "نَاسٌ مَنْ أمَّتِي عُرِضُوا عَلَىَّ يركَبُونَ ثَبَجَ هذا البحرِ مثلَ الملوك على الأَسِرَّةِ". أمّا قوله: "مِثلَ الْمُلُوكِ" قد بينّا حقيقة الملك في "السِّراج" (¬3) وفي "الكتاب الكبير" (¬4) لنا. وأمّا قوله: "يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذا الْبَحْرِ" الثَّبج عَظمُ كلّ شيء أو ظهره. وقيل: الثبج لجّته أو ظهره (¬5). فأفاد هذا فائدتين: إحداهما: أنّ رؤيا الأنبياء وحىٌ. الثّانية: ركوبُ البحر، بيّن فيه جواز ركوب البحر في الطّاعة والغزو، وقد كان عمر ¬
يمنع منه (¬1)، حتّى أذن فيه عثمان بن عفّان لمعاوية فركبه، ثمّ منعه عمر بن عبد العزيز (¬2) وكان يقول: دودٌ على عود (¬3)، ولِمَا رواه أبو داود (¬4) وغيرُه (¬5) واللّفظ لعبد الله بن عمرو, أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"لَا يركبُ البحرَ إِلَّا حاجٌّ، أو مُعْتمِرٌ، أو غازٍ في سبيل الله، فإنّ تحت البحرِ نارًا وتحتَ النّار صخرًا (¬6) " وقد بيّنَّا ذلك في كتاب الطّهارة (¬7) في قوله: "إنَّا نَرْكبُ البحرَ ونَحمِلُ القليل من الماءِ" (¬8)، وأشبعنا القول فيه في "الكتاب الكبير" لنا، فمن أراد أنّ يعلم أنّ الحَوْل والقوّة لله ولا حِيلَة لأحدٍ فيه فليركب البحر. وأمّا دخوله للتجارة، فقال سحنون: من ركب البحرإلى الرّوم في طلب الدّنيا فهي جُرْحَةٌ فيه، وقال: وقد نهى عن التّجارة إلى أرض السّودان؛ لأنّ أحكام الكفر تجري ¬
عليه هنالك. نُكْتَةٌ: وأمّا إذا ركب البحر فمَادَ فيه، وهو اضطراب جوفه ورأسه، وهو مأخوذ من مادَ يميدُ، ومِنْ مادتِ الأرض، من قوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (¬1) أي: تضطرب. فإذا كان على هذا الحال، فهل يركبه أم لا؟ فقيل: لا يركب لأنّه معطِّلٌ للصَّلوات. وقيل: يركبه ويصلِّي؛ لأنّه مرض يعتريه في سبيل الله، وقد رُويَ في الآثارِ عن النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال:" ألْمَائِدُ في البَحْرِ يُصِيبُهُ القَيْء، لَهُ أَجْر شَهِيدٍ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ"، خَرَّجَهُ أبو داود (¬2) عن أمِّ حِرَام، وهو حديثٌ حسنٌ. الفائدةُ الثامنة (¬3): بَيَّنَ في هذا الحديث غزو النِّساء في البحر (¬4)، وقد كان النِّساءُ يغزون مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. وقال مالك: يُكرَهُ للمرأةِ غزو البحرِ (¬5). وقال علماؤنا: إنّما ذلك لضيق الحال فيه، وعارِ الانكشاف وعدمِ التحرّز ممّن ركبه، فربّما رأى المرأةَ من لا ينبغي أنّ يراها، ويرى ما لا يحلّ له، وترى هي من غيرها كذلك، وإن كانت في موضعٍ مستورٍ محجوبةً لا تنكشف فهي في سَعَةٍ (¬6). وهذه الحالة ¬
كانت في خلافة عثمان وقت أنّ كان السّفر سنة ثمان وعشرين، ركب معاوية البحر ومعه امرأته فاختة ابنة قرظة من بني عبد مناف، ومعه عبادة بن الصّامت وامرأته هذه أم حرام بنت ملحان، فأتى قبرس، فتوفيّت أم حرام بها، فَقَبَرَهَا هناك (¬1). نكتةٌ: وفي هذا الحديث قصّة أخرى، وهي إثبات معجزة من معجزات النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بخبره الصادق بذلك, لأنّها ركبَتّهُ في زمن معاوية. و"قال (¬2) أهل السِّير كانت غزوة معاوية هذه في زمن عثمان، قال خليفة بن خيّاط (¬3) عن ابن الكلبي: إنَّ هذه الغزوة كانت سنة ثمان وعشرين. وقال الزُّبير بن بكَّار (¬4): ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين في خلافة عثمان إلى قبرس، ومعه أم حرام، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت. ورواية أهل السِّير لا يعتمِدُ عليها أهل الحديث. وظاهرُ قوله: "في زَمَنِ مُعَاوِية" يقتضي وقت إمارته وهو الأظهر (¬5)، ولو صحّ ما قاله أهل السِّير لجاز أنّ يريد بقوله: "في زَمَنِ مُعاوِيَة" أي في وقت ولايته على الشّام، ¬
وذلك في زمن عمر إلى آخر زمن عثمان وبعده" قاله الباجي في "المنتقى" (¬1). الفائدةُ التّاسعة (¬2): هذا الحديثُ أصلٌ في تفضيل معاوية؛ لأنّ الأوّلين الذين ركبوا البحر كانوا معه، وهذه نكتةٌ مليحةٌ (¬3)، ولكن البخاريّ لم يدخله في فضله لأجّلِ أنّه دخل بعد ذلك في الفتنة. وأدخل مسلمٌ (¬4) في فضله حديث ابن عبّاس حين دَعَاهُ النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم -، فلم يأتِ، وقال الرّسولُ الّذي أرسله النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - إليه: وجدته يأكل، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا أَشبَعَ اللهُ لَهُ جَوْفًا"، أو قال: "لَا أَشبَعَ الله لَهُ بَطنًا"، ثُمَّ أدخل بعد ذلك حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ فأيّما رَجُلٍ سَبَبتُه أَوْ لَعَنتُهُ فَاجْعَل ذَلكَ صَلَاةً عَلَيهِ وَرَحْمَةً" (¬5) فكانَ دعاءُ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - في دعائه: " لَا أَشْبَعَ اللهُ لَهُ بَطنَهُ" أَصْلًا في غِنَاه بعد فقره، وجوده وسخائه وقناعته، بل ذلك بقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - له، ونصّ على ولايته في قوله للحسن:"إِنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أنّ يُصْلِحَ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسْلِمِينَ" (¬6) فسلَّمَ الحَسَنُ الأمر إلى معاويةَ بصُلحٍ أَخْبَرَ عنه النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - في شأن الحسن على سبيل المَدْح للحَسَنِ، ولو كان الذى قاتله الحَسَنُ مذمومًا لما مَدَحَهُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقوله:"وَلَعَلَّ الله أَن يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئتينِ عَظِيِمَتينِ مِن المُسْلِمِينَ". ¬
تنبيةٌ على وهمٍ (¬1): ظَنَّ بعضُ النَّاسِ (¬2) أنّ بقاء الغزو مع البرّ والفاجر إلى يوم القيامة يخرج من هذا الحديث بقوله: "وَأَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ" بعد قولها بعد ذكر الطّائفتين: "ادْعُ الله يَا رَسُولَ اللهِ أنّ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ" في مرّتين، فقال لها أخيرَا: "أَنْتِ مِنَ الأَوَّلين". ويحتمل أنّ يكون المراد بالطّائفة الثّانية غير الأولى، بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "نَاسٌ من أُمَّتِي" وذلك يقتضي العموم، ولا للاحتمال. وفيه: جواز ركوب البحر في الأسفار المباحة، وهو صحيح لعموم قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية (¬3). حديث مالك (¬4)، عن يحيى بن سعيد, قال: لما كان يوم أحدٍ، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَأتِيِنِي بِخَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبيعِ الأَنْصَارِيَّ؟ " فقال رجلٌ: أنا يا رسولَ الله، فذهب الرَّجلُ يطوفُ بين القتلى، فقال له سعدُ بنُ الربيع: ما شانُكَ؟ فقال له الرَّجلُ: بعثني إليك رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لآتِيَهُ بخَبرِكَ. قال: فاذهَت إليه فأَقْرِأهُ منَّي السّلامَ، وأَخبِره أني قد طُعِنْتُ اثنتَيْ ¬
عَشْرَةَ طعنةَّ. وأنِّي قد أُنفِذت مَقاتِلي، وأخبر قومَكَ أنّه لا عُذرَ لهم عند الله إنَّ قُتِلَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وواحدٌ منهم حيٌّ". الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديث مُرسلٌ (¬1)، والحديثُ صحيحٌ من وجوهٍ، خرّجه الأيمة: مسلم والبخاري (¬2)، وغيرهما (¬3) في الصّحيح. وفيه فائدتان: الفائدةُ الأولى (¬4): قول سعد بن الرّبيع: "قَدْ أُنْفِذت مَقَاتِلِي" إعلامٌ بِفَوَاتِ لقائه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولعلّه استدعى بذلك ترَحُّمَهُ عليه. الفائدةُ الثّانية (¬5): ثمّ أوصى قومه بأن يَفْدُوا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بأنفسهم، وأن لا يوصل إليه، ومنهم ¬
حيّ (¬1)، وهذا يقتضي أنّه كان يجب على المسلمين وقايته - صلّى الله عليه وسلم - بأنفسهم وبذلها دونه، وإنّما (¬2) أدخله مالك في فضيلة الجهاد وما (¬3) كان عليه السّلف من الوقاية لرسول الله. حديث مالكٍ (¬4)، عن يحيى بن سعيد, أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - رَغَّبَ في الجهاد، وذَكْرَ الجنةَ، ورجلٌ من الأنصار يأكُل تَمَرَاتٍ في يدِه، فقال: إنِّي لحريصٌ على الدّنيا إنَّ جَلَستُ حتّى أفرُغَ منهنّ، فَرَمَى ما في يده، فحملَ بسيفه، فقاتل حتّى قُتِلَ. الإسناد: الحديثُ مُرْسَلٌ ولكنه صحيحٌ في مَتْنِهِ، ويُسنَدُ من طريق آخر غير هذا (¬5). وفي هذا الحديث خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬6): قوله:"رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأكُلُ تَمَرَاتٍ في يَدِهِ". ذكر أهل السَّير (¬7) أنّه عُمِير بن الجموح الأنصاري السُّلمي (¬8)، فحمله يقينُه لما قاله رسول الله- صلّى الله عليه وسلم - على أن طرح التمرات وحمل بسيفه، وذكر أهل السِّيَر (¬9) الواقدي (¬10) وغيره أنّه حمل وهو يقول: ¬
رِكْضًا إِلَى اللهِ بِغَيْرِ زَادِ إِلاَّ التُّقَى وَعَمَل الَمَعَادِ وَالصَّبرِ في اللهِ عَلَى الجِهَادِ وذكروا أنّ هذا كان يوم بدر، وقد كان مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - جماعة أصحابه وهم ثلاث مئة وبضعة عشر (¬1)، فيحتمل أنّ يكون حمل عُمَيْر مع جماعة النَّاس، ويحتمل أنّ يكون انفرد به على جماعة من المشركين، وهذا جائز أنّ يحمل الرَّجل وحده على الكتيبة، لاسيَّما من علِمَ من نفسه شدّة وقوّة، وكان مع أصحابه من العَدَدِ ما يعلم أنّهم مُحْتمون دونه، وقد رُوِيَ عن مالك أنّه يجوز للرّجل إذا علم من نفسه قوّة أنّ يبارز الجماعة ولا تكون تلك تَهْلُكَة، وأمّا من كان رأس الكتيبة وعلم أنّه إذا أُصِيبَ هلك من معه من المسلمين، فالصّواب أنّ لا يتعرّض للقتال إِلَّا أنّ يضطرّ إليه, لأَنّ في بقائه بقاء المسلمين. مسألة طبولية: قال القاضي - رضي الله عنه -: أجمع كلُّ من يُحْفَظ عنه من أهل العلم على أنّ للمرءِ أنّ يُبَارِزَ ويدعو إلى البِرَازِ بإذن الإمام (¬2). أمّا الحسن البصري فإنّه كان يكره المبارزة ولا يعرفها (¬3). ¬
واختلف العلّماءُ في البِرَازِ بغير الإمام: فكرهت ذلك طائفة إِلَّا بإذن الإمام، وبه قال أحمد (¬1)، وإسحاق، والثّوريّ (¬2). واختلف فيه عن الأوزاعيّ، فقال مرّة: لا يُبارز إِلَّا بإذن الإمام. وحُكِيَ عنه أنّه قال: لا بأس به. وأباحت طائفةٌ البِرَازَ ولم تذكر إذن الإمام ولا غير إذنه، وهو قول مالك (¬3)، وسُئِلَ مالك عن الرَّجل يقول بين الصّفين من يُبَارِز؟ فقال: ذلك إلى نِيَّتِه، إنَّ كان يريدُ اللهَ بِذلك، فأرجو أنّ لا يكون به بأسٌ، وقد كان يُفْعَل ذلك فيما مضى (¬4). خاتمة: قال القاضي: والمبارزة بإذن الإمام حسنٌ، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حَرَجٌ، وليس ذلك بمكروه, لأنّي لا أعلم خبرًا يمنع من ذلك، بل الأخبار تدلُّ على ذلك، لما ثبت أنّ أبا قتادة بارز رجلًا من المشركين يوم حنين، قال: فقتلته، فأعطاني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سَلَبَه (¬5)، وفي "كتاب الصّحابة" لأبي عمر, أنّ البراء بن مالك بارز سبعين رجلًا واحدًا واحدًا، فقتلهم (¬6). وقال الشّافعيّ: لا بأس بالبِرَاز (¬7). ¬
مسألة: واختلفَ العلّماءُ في معونة المُبَارِز: فمنهم من منع، ومنهم من رخّص، فمن رخّص في ذلك (¬1): أحمد (¬2) وإسحاق. وقال أحمد: أليس قد أعانوا يومَ بَدْرٍ بعضهم بعضًا، وبهذا المعنى قال الشّافعيّ (¬3). وقال: لا بأس أنّ يعينه على غيره، وذَكَرَ قصّة عليّ وحمزة وعُبَيْدَة ومعونة بعضهم بعضًا. وأكثر العلماء على أنّ المعونة في البِرَازِ جائزةٌ. حديث مالك (¬4)، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بنْ جبل, أنّه قال: الغزو غزوان: فغزوٌ تُنفق فيه الكريمةُ، وُيياسر فيه الشّريكُ، ويُطاع فيه ذو الأمرُ، ويُجتنب فيه الفسادُ، فذلك الغزو خيرٌ كلُّه. وغزوٌ لا تُنفق فيه الكريمة، ولا يُياسر فيه الشّريك، ولا يُطاع فيه ذو الأمر، ولا يُجتنب فيه الفسادُ، فذلك الغزو لا يَرجِعُ صاحبُهُ كفافًا. الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: المعنى في هذا الحديث صحيحٌ (¬5) , وكذا خُرَّجَ في المصنَّفَاتِ (¬6). وفيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): قوله: "تُنْفَقُ فِيهِ الكَرِيمَةُ" يريد كرائم الأموال. ويحتملُ أنّ يريد بالكريمةِ أفضل المتاع، مثل أنّ يغزو على أفضل الخيل، وبأفضل ¬
باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو
السّلاح، فيكون إنفاقها في سبيل الله ابتياعها لذلك، ويكون استعمالها في ذلك حتّى يعطب الفرس ويفنى السِّلاح. ويحتمل أنّ يريد بإنفاق ذلك في سبيل الله، وأن يحبس ذلك في سبيل الله على أفضل من يغزو به معه. الفائدةُ الثّانية: قوله: "وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ" يريد موافقته وطاعته دون مخالفته في ذلك. و"الشَّريكُ" يريدُ الرَّفِيقَ (¬1). الفائدةُ الثّالثة: قوله: "وَيُطاعُ فِيهِ ذُو الأَمرِ" يريدُ امتثال أَمْرِهِ، وقد بينَّا أنّ لا جهادَ إِلّا بإمامٍ، وأنَّ أمرهُ مطاعٌ برًّا كان أو فاجرًا ,ولو كان أسود حبشيَّا ذا زَبِيبَتَين (¬2). باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو مالك (¬3)، عن نافعِ، عن عبد الله بن عمر, أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الخيلُ في نَوَاصِيهَا الْخَيرُ إِلَى يَوْمِ الْقيَامَةِ". ¬
الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديثٌ مسندٌ صحيحٌ، خَرَّجَهُ الأيمَّةُ: مسلم (¬1)، والبخاري (¬2)، وغيرهما (¬3). وفيه فوائد: الفائدةُ الأولى: قد ذكر البخاريّ (¬4) هذا الحديث مفسَّرًا بقوله في حديثه: "في نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الأَجْرُ والغَنيمَةُ" هذا هو الخير الّذى ذكره في هذا الحديث (¬5). الفائدةُ الثّانية: قال علماؤنا (¬6): يخرج من هذا الحديث أنّ الجهادَ باقٍ إلى يوم القيامة مع كلِّ بَرٍّ وفاجرٍ. وتأويلُه عند علمائنا: أنّ المراد به خيل الغزو (¬7) في سبيل الله (¬8)، وأنّ الإسلام باق لا تذهب جملته حتّى لا يبقى مَنْ يجاهد عن الدِّين. ويدلُّ أيضًا أنّ أهلَ الكفرِ ومن يجاهد على الدِّين (4) لا يخلو منهم وقت. هذا ظاهر اللّفظ إِلَّا أنّ يَرِدَ تخصيصه. حديث مالكٍ (¬9)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر, أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سابق بين ¬
الخَيلِ الّتي قد أُضمِرَتْ من الحَفْياء, وكان أمَدُها ثنيّةَ الوَدَاعِ. وسابق بين الخيل الّتي لم تُضْمَرْ من الثَّنِيَّةِ إلى مسجد بني زُرَيْقٍ، وأن عبد الله بن عمر كان ممّن سابق بها". الفقه في خمس مسائل: الأُولى (¬1): قوله: "سَابَقَ بَينَ الخَيل التِي قَدْ أُضْمِرَت مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ"* ويُقرأ بفتح الحاء وضمِّها، وهو موضعٌ،* قال موسى بن عقبة: بين الحفياء وثنيّة الوداع ستُّة أميالٍ أو سبعةً، ومن الثَّنيَّة إلى مسجد بني زُرَيق ثلاثة (¬2). وهذا نصّ في جواز المسابقة بين الخيل. وقال ابنُ عبد الحَكَم: هذا دليل على جواز الإضمار، وذلك لا يكون إِلَّا بمنع بعض العَلَفِ واستجلاب العَرَقِ. نكتةٌ لغوية: "الإضمار": هو تجويع البهائم على وجه الصّلاح فتكون أقوى للجري. "السّبق": بإسكان الباء اسم الفعل وهو المصدر، وبفتحها اسم الشّيء الموضوع لذلك. وقال أبو عبيد (¬3):"من أَدخلَ فرسًا بين فرسين، فإن كان يؤمن أنّ يسبق فلا خير فيه، وإن كان لا يؤمن أنّ يسبق فلا بأس به"، وهو الأصل في ذلك. وقال (¬4) القاضي أبو الوليد الباجي (¬5): في هذا الحديث "جواز المسابقة بين الخيل، ¬
لما في ذلك من تدريبها وتدريب من يسابق بها, ولما يبعث عليه من الاجتهاد في ذلك، لمَا جُبِلَت عليه النّفوس من الحِرْصِ على الغلبة وليس تعرف العرب المسابقة إِلَّا بين الخيل والإبل، وكذلك في الإسلام. قاله محمّد بن عبد الحكم. وقد سابق النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بين الخيل وبين الإبل (¬1)، ولا أعلم أنّه سابق بين غيرهما"، وهو جائز (¬2). المسألة الثّالثة (¬3): قوله: " وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَق بِهَا" يحتمل أنّ يُريدَ به الّتى سابقت إلى مسجد بني زُرَيق، وليس في الرَّاكبين للخيل حدٌّ من صغير أو كبير، وخفيف أو ثقيل، وليختر كلّ إنسان لركوب دابّته من أحبّ. وكتب عمر بن عبد العزيز: لا تحملوا على الخيل إِلَّا من احتلم. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): قوله (¬2): "ولَيس بِرِهَانِ الخَيل بَأسٌ" يريدُ المسابقة بها. *ومعنى الرّهن عند العرب: وضعُ شيء وثيقةً، ولا يجوز ذلك في الإسلام*. وقوله: " إِذا كَانَ فِيهَا مُحَلَّلٌ" سمّاه محلّلًا لأنّه لم تجز المسابقة بينهما على شيءٍ يخرجه كلُّ واحدٍ منهما، وإن أخرج أحدهما سَبَقًا والآخر سَبَقًا، وكان بينهما محلَّلٌ، إنَّ سَبَقَ أخذ، وإن سُبِقَ لم يكن عليه شيءٌ، فهذا الّذي اختاره ابن المسيَّب. قال محمّد (¬3): وهو قياس قول مالك الآخر، قال محمّد: وبه آخُذُ، *وان سبق لم يكن عليه بأس*، والمشهور عن مالك منعه (¬4). المسألة الرّابعة (¬5): قال علماؤنا (¬6): وليس من شرطِ هذا الرّهان أنّ يعرف كلّ واحد جري فَرَسِ صاحبه، ولا تشترط صفة الرّاكب من ثقل وخِفَّة، وإنّما ذلك بحسب ما يتّفق. حديث مالك (¬7)، عن يحيى بن سعيدٍ, أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - رُئيَ وهو يمسَحُ وَجْهَ ¬
فرسه بردائه، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "إنِّي عُوتِبتُ اللَّيلَةَ في الْخَيلِ". الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديث مُرْسلٌ (¬1)، والحديث صحيحٌ. وفيه فائدتان: الفائدةُ الأولى: قال علماؤنا (¬2): يحتمل أنّ يكون ذلك وحيًا في غير منام. الفائدةُ الثّانية (¬3): وفي هذا الحديث: الرّفق بالخيل والإحسان إليها، والنّظر إليها بعين الشّفقة والإحسان. حديث مالك (¬4)، عن حُميدٍ الطويل، عن أنس بن مالكٍ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - حين خرج إلى خيبرَ، أتاها ليلًا، وكان إذا أتى قومًا بليلٍ لم يُغِرْ حتّى يُصْبحَ، فلما أصبَحَ، خرجت يهودُ بِمَسَاحِيهِم ومَكَاتِلهِمِ، فلما رأوه قالوا: محمدٌ والخميسُ. فقال رسول ¬
الله - صلّى الله عليه وسلم -: "الله أَكبَرُ، خَرِبَت خَيبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ". الإسناد: قال القاضي: هذا حديثٌ مُسْنَدٌ صحيحٌ، خرَّجَهُ الأَيمَّة: مسلم (¬1) ,والبخارى (¬2) وغيرهما (¬3). العربية: قوله:"وَمَكَاتِلِهِم": يريد القُفَّةَ (¬4). وقوله: "قَالُوا مُحمّد والخَمِيس" يريد: الجيش (¬5)؛ لأنّ الخميس هو الجيش بالعبرانيّة وغيرها. الفقه والفوائد: وهي سبع: الفائدةُ الأولى (¬6): قوله: "وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمَا لَيلًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبحَ" الحديث. يحتمل أنّ يفعل ذلك لأنّ اللّيل ليس بوقت إغارة، لا سيّما فيما يقرب من الحصون والقُرى؛ لأنّ من خشي أنّ يغار عليه يبيت فيها، فلا يفطن له ولا يظفر به، فإذا خرج عند الصّباح وانتشر النَّاس، أغار حينئذ ليظفر بهم أو ببعضهم. ويحتمل أنّ يفعل ذلك تثبّتًا، فإن سمع عند الصّباح أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار. ¬
الفائدةُ الثّانية: قال (¬1): "وليس في هذا الحديث ذكر الدّعوة إلى الإسلام قبل القتال". وقد (¬2) اختلف العلماء في ذلك، هل يُؤمَر بها على الإطلاق، أم لا يُؤمَر بها؟ الجواب عن ذلك أنّا نقول: يُؤمر بها من لا يَعلَم، وتسقُط في حق من علم بوصول الدّعوة، واليهود في خيبر قد كان بلغتهم الدّعوة، فمن ذلك لم يأمرهم بدعوة. وقد قال بعض علماء أهل الأصول: إنَّ هذه المسألة مبْنيةٌ على أنّ العصر ما خلا قط من سمعٍ، أو يجوز أنّ يكون خلا منه، وهي مسألة اختلاف بين أهل الأصول. وقد احتِج لقوله - من قال: إنّه لم يخل من سمع- بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الآية (¬3)، وبقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬4). ومن ينكر القول بالعموم لا يسلّم هذا الاستدلال، وهذا الذى بناه أهل الأصول فيه نظر، وذلك أنّ قصارى ما فيه أنّه ليس في الأرض أمّة إِلَّا وقد بلغتها دعوة الرّسول - صلّى الله عليه وسلم - (¬5)، وقد يمكن أنّ يكون عند هؤلاء قوم في الأرض لم يبلغهم ذلك، ولا سمعوا بظهور رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، ويظنّون أنّ القتال إنّما كان على جهة طلب الملك، فيؤمرون بالدّعوة. ¬
فرعٌ (¬1): وقد اختلف العلماء أيضًا إذا قاتل من يُؤمَر بدعوته ولم يدعه فقتله، هل عليه الدّية أم لا (¬2)؟ وحُجَّتنا النّهي عن قتالهم قبل الدّعوة لا تُوجِبُ مخالفته الدِّية كقتل النِّساء والصِّبيان. وحُجَّةُ من قال بالدِّية: عموم الأحاديث الآمرة بالدّعوة، وقد قال ابنُ القصّار محتجًّا لمن يَنْفي الدِّية: لو أقام مسلمٌ بدار الحرب مختارًا لذلك وهو قادرٌ على الخروج منها، فوقع قتله أيضًا خطأ، فإنّه لا تؤدّى دِيَته، والله الموقق للصّواب. الفائدةُ الرّابعة (¬3): وقد اختلف المذهبُ في ذلك: فقال مالك: أحبُّ إلىَّ أنّ يُدْعَوْا قبل القتال, بَلَغَتْهُمُ الدّعوة أم لم تبلغهم (¬4)، إِلَّا أنّ يعُجَّلوا (¬5)، سواء قربوا أو بعدوا (¬6). وقال عنه ابن القاسم: لا يبيتوا حتّى يدعوا (¬7). ووجه رواية ابن القاسم: ما رُويَ عن علي - رضي الله عنه - أنّه قال للنبي- صلّى الله عليه وسلم - يوم ¬
خَيبَر: يا رسول الله نقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "انْفُذ على رِسْلِكَ، حتّى تَنْزِل بساحَتِهِم، ثّم ادْعُهُمْ إلى الإسلام، وأَخبِرْهُم بما يجب عليهم من حقِّ اللهِ، فَوَاللهِ لأَن يَهْدِيَ الله بك رجُلًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ" (¬1) فظاهِرُهُ يقتضي أنّه يدعوهم فيهتدون. الفائدةُ الخامسة (¬2): قوله: "فَخَرَجَت بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ" يريدون العمل في بساتينهم وحرثهم، فلمّا رأوه قالوا: محمّد والخميس (¬3)، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "الله أكبر" إعظامًا لله تعالى وإظهارًا لِعُلُوِّ دينه. ثمّ قال: "خَربَت خَيَبَر" وذلك لِمَا رأى من أمرهم وآلة الحرب بأيديهم، فكأنّه نوع من التعالي والزّجر. الفائدةُ السّادسة (¬4): قوله: "إنَّا إذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ" يريد أنَّه قد تقدّم إليهم بالإنذار. فلمّا عَتَوا وعاندوا نزلَ بساحتهم نزولَ الانتقام منهم والإذلال لهم. وقيل (¬5): إنّما قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "اللهُ أَكبَرُ" حين أنجز الله له ما وعده من النّصر لهم، والله أعلم. حديث مالك (¬6)، عن ابن شهابٍ، عن حُميدِ بن عبد الرّحمن بن عوفٍ، عن أبي ¬
هريرة؛ أنّ رسول الله قال: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَينِ في سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِن أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ منْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدقَةِ دُعِيَ من بَابِ الصَّدقَةِ، وَمَنْ كَانَ من أَهلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مَنْ بَابِ الرَّيَّانِ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ: يا رسول الله ... " الحديث. الإسناد: قال القاضي رضي- الله عنه -: هذا حديثٌ صحيحٌ مُسنَدٌ، خَرَّجَه الأيمَّة: مسلم (¬1)، والبخاري (¬2) وغيرهما (¬3)، ولا اختلاف في ذلك. العربيّة: كلُّ شيءٍ لا يستغني أحدهما عن صاحبه يقال له زوجان، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬4). وكذلك يقول الرَّجل: عندي زوجان من الحمام، إذا كان عنده ذكر وأنثى. الفوائد المطلقة في هذا الحديث: وهي خمس فوائد: الفائدةُ الأولى (¬5): قوله: "زَوْجَانِ" يعني من أيِّ جنس كان درهمان أو ديناران، أو سيفان أو رمحان، ¬
أو رغيفان أو نعلان، أُنْفِقَا في سبيل الله، ومعنى ذلك أنّه أقلّ ما يقع عليه الاسم، والتكرار من العبادة وما يُتَقَرَّب به إلى الله تعالى. ويحتمل أنّ يريد بذلك: تكرار العمل، فيدخل في ذلك من صلّى صلاتين، أو صام يومين، أو جاهد مرَّتين، وإن كان لفظ الإنفاق فيما قدّمنا أظهر، ولفظُ الغزو والجهاد في سبيل الله أشهر. الفائدةُ الثّانية (¬1): قوله: "نُودِيَ مْنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبدَ اللهِ هَذَا خَيرٌ": يحتمل أنّ يريد بقوله: هذا خَيْر أعدّه الله لك، فأَقْبِلْ إليهَ من هذا الباب. ويحتمل أنّ يريد: هذا خيرُ أبوابِ الجنةِ لك؛ لأنّه في الخير والثّواب الّذي أُعِدَّ لَكَ. الفائدةُ الثّالثة (¬2): قول: "فَإِن كَانَ من بَابِ الصَّلاةِ دُعِيَ من بَابِ الصَّلَاةِ" ومعناه: أنّ تكون الصّلاةُ أغلب أعماله، وكذلك قوله: "فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ" ومعنى ذلك: أنّ تكون أغلبَ أعماله، والجهاد كذلك. الفائدةُ الرّابعة: "وإِنْ كانَ من أَهلِ الصِّيَامِ دُعِيَ من بَابِ الرَّيْانِ". قال علماؤنا (¬3): خصّ ذلك بدُعاءِ الصّائمِ لِمَا كان في الصّوم من الصّبر على أَلَمِ العطش؛ لأنّ قوله: "باب الرّيَان" أي باب الرّواء وإن كانت تلك كلّها فيها الرّواء، غير أنَّ باب الرّيّان أَرْوَى (¬4). ¬
باب إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه
الفائدةُ الخامسة: قول أبي بكر الصّديق: "مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ" يقول: ما على من يُدعى من بابٍ واحدٍ من كلَّ هذه الأبواب من ضرورة، وقد فاز ونجا (¬1)، وهذا لا يكون - والله أعلَم - إلَّا لمن جاهد في سبيله، وأنفق ذلك في مرضاته، ولزم الثّغر للرّباط، والحرس للمسلمين والحوطة عليهم، وكان عبد الله بن المبارك ينشد في ذلك (¬2): كُلُّ عَيَشٍ قد أَرَاهُ نَكِدَا ... غَيْرَ رُكْنِ الرُّمْحِ في ظِلِّ الفَرَسْ وَقِيَامٌ فِي لَيَالِي الدُّجَى ... حَارِسًا للِنَّاسِ في أَقْصَى الحَرَسْ أَرْفَعُ الصَّوْتَ بِتَكْبِيرٍ بلا ... صَخَبٍ فِيهِ وَلَا صَوْتِ جَرَسْ بابُ إحراز من أسلَمَ منُ أهل الذِّمَّة أرضَه قوله (¬3): "مَنْ أَسْلَمَ" يريد: من أسلم من أهل الصُّلْحِ، قال به جماعة الفقهاء (¬4). قال الإمام: هذا بابٌ عظيمٌ تَفَطَّنَ له مالكٌ في أن سَاقَهُ في كتاب الجهاد، ولم يسقه في باب الجزية في الزَّكاة؛ لأنّ فيه فقهًا عظيمًا، وفي ذلك خمس مسائل (¬5): ¬
المسألة الأولى: في معرفة الصلح والعَنْوَةِ. والثّانية: في حكم أهل الصّلح في حال حياتهم وكفرهم. الثّالثة: في حكم انتقال الأملاك عنهم حالَ حياتِهم وكفرهم. الرّابعة: في حُكمِ أموالهم بعدَ موتهم على كفرهم. والخامسة: في حكم أموالهم إذا أسلموا. المسألة الأولى (¬1): فأمّا أهل الصّلح، فهم قومٌ من أهل الكفر حَمَوْا بلادهم وقاتلوا عليها، حتّى صُولِحُوا على شيءٍ أَعْطَوْهُ من أموالهم، أو جِزْيَةٍ أو ضريبةٍ التزموها، فما صُولحوا على بقائه بأيديهم فهو مال صُلْحٍ أرضًا كان أو غيره، وما صالحوا به أو أعطوه على إقرارهم في بلادهم وتأمينهم كانَ أرضًا أو غيره، فإنّه ليس بمال صُلْحٍ، ولو أنّ أَهْلَ حربٍ قاتلوا حتّى صُولِحُوا على أنّ لا يكون لهم في الأرض حق، ويؤمنوا في الخروَج من البلد أو المقام به على الذِّمَّة، لَمَا كانت تلك الأرضُ أرضَ صُلْح، وإنّما تكون أرض صلح ما صُولحوا على بقائها بأيديهم، سواء تقدّم ذلك حربٌ أو لم يتقدّم. نكتةٌ أصوليّة: اختلفَ العلّماءُ في الصُّلْح هل هو واجبٌ أو مندوبٌ إليه أو مكروه، فالصّحيحُ أنّه يختلفُ باختلافِ الأحوال، وأدخَل البخاريُّ في باب الصُّلْحِ (¬2) حديث أنس في التّشاجر، حين ركب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى سعد بن عبادة يعوده وعبد الله بن أُبىّ جالس في حلقة من ¬
أصحاب الحديث، إلى أنّ قال عبد الله: أَزِلْ عنَّا نَتَنَ حمارِك، فقال له رجل من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: واللهِ إنَّ حمارَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أطيبَ ريحًا منكَ، فتعصب لعبد الله رجل من قومه، فتسابَا وتضاربا، فنزلت الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية (¬1)، أدخله البخاريُّ حُجَّةً على أهل الصُّلْح وليس بصلح، ولا هو حُجّة؛ لأنّه لا يصلح الصّلح بين المسلم والمنافق (¬2)، والحديث غير معمولٍ به، وهو أيضًا مقطوع (¬3). والدليل أيضًا على أنّ الصلح واجبٌ: أنّ الكذب يجوزُ فيه وهو حرام، وإنّما رخّص في جوازه كونه واجبًا، ألَا ترى أنّه يجوز الكذب للمرأة. وقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يجُوزُ الْكَذِبُ إِلَا في ثلَاث: للمرأة، والصلح بين الرّجلين، وفي الحرب" (¬4)، وقيل: للإمام الجائر، وأكثر العلماء على أنّ الصُّلْحَ جائزٌ. فرعٌ (¬5): فأمّا "الْعَنْوَةُ" فكل ما صار إلى المسلمين على وجه الغَلَبَةِ من أرض أو غيرها، ¬
دون اختيار من غلب عليه من الكفّار، فهو أرض عَنْوَةٍ، سواء دخلت الدّار عليهم غلبة، أو أجلوا عنها مخافة المسلمين، تقدّمت في ذلك حربٌ أو لم نتقدّم، أقرّ أهلها فيها أو نقلوا عنها .. وقد رَوَى أشهب عن مالك في "العتبية" (¬1) "أنّ خيبر افْتُتِحَت بقتال يَسِيرٍ، وقد خُمسَت إِلَّا ما كان منها عَنْوَةً أو صُلْحًا - وهو يسير - فإنّه لم يخمس، قال أشهب فقلت: العَنْوَةُ والقتال أليس ذلك واحدًا؟ فقال: إنّما أردتُ الصُّلْحَ". ولفظُ القتالِ يصحّ أنّ يرادَ به العَنْوَة ويصحّ أنّ يراد به الصُّلح، فإنّ القتال قد يكون سببًا للصُّلْح وسَبَبًا للعَنْوَةِ، ومرادُنا بالصُّلْح والعَنْوَة أنّ الأرض عادت إلى حالها أنّ استقرت بأيدي أربابها بصُلْحٍ صُولِحُوا على ذلك، أو زالت عن ملكهم بالعَنْوَةِ والغَلَبة. قال مالك: فقسمت خيبر ثمانية عشر سَهْمًا على ألف وثمان مئة رجل، لكلِّ رجلٍ سَهْمُهُ، قال: وما كان افتتح من خَيْبَر خمسه، وقسم الباقي على ما تقدّم، وما خمِّس منها بغير قتال فلم يُخَمَّس وأقطع منها أزواجه. فاقتضى ذلك أنّ خيبر كانت على ثلاثة أقسام: 1 - قِسْمٌ استولى عليه عَنْوةً بالقتال فخمس، وقسمَ الأربعةَ الأخماس. ¬
2 - وقسم أُجْلُوا عنه وأَسْلَموه من غير قتال، فلم يسهم منه لأحدٍ، وكان حكم ذلك كلِّه كحكم الخُمُس، كما فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ببني النضير، قال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} الآية (¬1). 3 - وأمّا فدك، فَصُولِحُوا على النِّصف، ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكانت عَنْوَة بغير قتال (¬2)، وهذا عندي يقتضي أنَّه لم يكن لهم النّصف على وجه الصّلح، وكان النّصف على وجه العَنْوَةِ، ولكنه ظهر عليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من غير إيجاف ولا رِكاب ولا قتال، وكان حكم ذلك النّصف حكم الخمس. قال مالك: ثمّ إنَّ عمر أجلى أهل خيبر (¬3) وفدك (¬4). وأمّا مكّة، فاختلف أهل العلم في حكمها: فقال مالك: افتتحت عنوة (¬5)، وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي (¬6)، وقال الشّافعيّ (¬7): إنّما دخلها صُلْحًا. وقال أصحابه: إنّما فعل فيها فعل من صالحه, فملك نفسه وماله وأرضه ¬
ودياره، فإن كان هذا فليس بخلاف لقولنا: عنوة. ودليلنا: ما رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إنَّ اللهَ حَبَسَ عن مكةَ الفِيلَ، وسلَّطَ عليها رسولَهُ والمؤمنينَ، وإنّها أُحِلَّت لي ساعةً من نهارٍ" (¬1) والأدلة على ذلك كثيرة. وأمّا أرض الأندلس، فإن أكثرها افتُتِحَت عَنْوَةً، ومنها ما افْتُتِحَ صُلْحًا، كتُدْمِيرَ (¬2) وغيرها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وغيره من علمائنا، وسيأتي حكم ذلك إنَّ شاء الله. المسألة الثّانية (¬3): في حُكمِ أهل الصُّلْحِ حال حياتهم مع بقائهم على كفرهم فإنهم لا يخلو أنّ يكونوا صولحوا على شيءٍ يؤدُّونه في جملتهم، أو صولحوا على شيءٍ يؤدونه على جماجمهم، فقد روى ابن حبيب (¬4) أنّ الجزية الصُّلحية جزيتان: 1 - فجزية على المِلْك. 2 - وجزية على الجماجم. ومعنى ذلك: أنّ يوضع على جُمْلَتِهِم شيءٌ يغرمونه، لا يحطّ عنهم لِقِلَّتِهِم، ولا يزاد عليهم لكثرتهم، فهم ضامنون له حتّى يؤدّونه، فلا يؤخذ منهم شيء حتّى يُؤَدُّوا جميعَهُ. وأمّا جِزْيَةُ الجماجم؛ فهو أنّ يُوضَعَ على كلِّ جمجمة دينارٌ أو أكثر من ذلك على ما تقدّم، فهذه الجزية تزيد بزيادتهم وغنائهم، ويبرأ كلّ واحد منهم إذا أدّى ما عليه منه، ¬
لكان لم يؤدِّ غيره، وإنّما التزم ما يخصُّه. وقال ابنُ حبيب: إنَّ جِزْية الصُّلْحِ إنّما هي ما صُولِحُوا عليه، قال: ولا يزاد في جِزيَةِ الصُّلْحِ على الغني ولا ينقص منها على الفقير (¬1)، وقد تكلّمنا على ذلك في كتاب الزّكاة فلينظر هنالك. المسألة الثّالثة (¬2): في حكم انتقال الأملاك عنهم حال حياتهم وكفرهم فإنّ ذلك يختلفُ، وقد قال ابن حبيب (¬3): إنَّ الجِزْية الصُّلحيَّة جِزْيَتَان: فجِزيَةٌ على البلد، وجزْيَةٌ على الجماجم، فإذا كانت مُجْمَلَة على البلد فهي موقوفة، لا تُبَاع ولا تُورث ولا تُقسَّم، ولا يملكها إنَّ أسلم، وإنّما له ماله غير الأرض، وأمّا الأرض فموقوفةٌ أبدًا لِمَا عليها من الخَرَاجِ، وذلك بأَسْرِهِ باقٍ على مَنْ بقيَ منَ النّصارى، وأمّا إنَّ صُولِحُوا على الجزْيَةِ على جماجمهم، فلهم بيع الأرض، وهي لهم ملك يصنعون بها ما شاءوا. المسألة الرّابعة (¬4): في ذِكرِ أموالهم إذا ماتوا على الكفر وقد تقدّم من قول ابن حبيب أنّه إذا كانت الجِزية على جملتهم فإنّ أرضَهُم لا تورث، وقد تقدّم من التّخريج على قوله، أنّ الجِزْيَةَ إذا كانت على الأرض حُكمُها ذلك، وأنّها إذا كانت على جماجمهم فإنّ الأرض تورث عنهم. ¬
وروى في "العتبية" (¬1) يحيى عنِ ابنِ القاسم أنّ أهلَ الصُّلْحِ يورثون على حسب مواريثهم. فإذا قلنا: يورثون، فإنّ أرضه وماله لورثته، فإن لم يَدَع وارثًا، فقد قال ابن حبيب (¬2): إذًا كانت الجزية على جماجمهم، فمن مات * منهم ولم يدع وارثًا، فأرضه وماله للمسلمين كَمَيَّتٍ لا وارثَ له. وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في "العتبيّة" (¬3) أنّه من مات * من أهل الصّلح ولا وارِثَ له من أقاربه، فميراثه لأهل خراجه وما صُولحوا عليه (¬4). فإذا قلنا: من مات منهم ولا وارثَ له فميراثُه لجماعة المسلمين، كيف يُعْرَف من له وَرَثَةٌ ممّن لا وَرَثَةَ له، ونحن لا نعلم مواريثَهُم، فروى يحيى عن ابن القاسم: ذلك إلى أهل دينهم وأساقفتهم (¬5)، فإن قالوا: له وارث، سُلِّمَ ذلك إليه، وإن قالوا: لا ¬
وارث له، فميراثه لجميع للمسلمين. ووجه ذلك: أنّ طريق هذا الخبر ممّا ينفردون به من العلم، وفي مثل هذا يقبل قولهم عمّا يعلمونه. المسألة الخامسة (¬1): في حكم أموالهم إذا أسلموا فقد قال ابن حبيب (¬2): إذا كانت الجِزْيَةُ (¬3) على جملتهم، فمن أسلم منهم لم تملك أرضُه، وإنّما يُمْلَك مَالُهُ، وان كانت على جماجمهم ثمّ أسلم، فأرضُه ومالُهُ له دون جزية على شيء من ذلك. وروى عيسى عن ابن القاسم (¬4) أنّ ذلك سواء، والإِسلام يُسقِطُ ذلك عنهم. والخلافُ فيه والتّوجيهُ على ما تقدَّمَ. وهذا لِمَا بَقِيَ من المُدَّة، وأمّا ما مضى من المُدَّةِ وقد بَقِيَ عليه الخراج والجِزْيَة لم يؤدِّ ذلك، فالذي في "المدوّنة" (¬5) في الجِزْيَة أنّه يسقط ذلك عنه، وبه قال أبو حنيفة (¬6) والشّافعيّ (¬7)، وتُؤْخَذُ منه حالَ إسلامِهِ. ¬
فرع (¬1): "وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُم فَأَرضُهُ وَمَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ" ومعنى ذلك: أنّه يُحْرَزُ مَالُهُ ولا تَحْرَزُ أَرْضُه، ويصير ذلك للمسلمين، وإنّما يريد بقوله: "أرضه" الّتي بيده فأضافها إليه لعمله فيها، وأمّا لو كانت أرضًا اشتراها بعد العَنْوَةِ بحيث يجوز له أنّ يشتري لكانت من جملة مَالِهِ حكمُها حكمه عندي، ولم أر فيه نصًّا. وأصل ذلك: أنّ أرض العَنْوَةِ عند مالك (¬2) لا تقسَّم وتبقى لنوائب المسلمين، على رأي عمر - رضي الله عنه - في أرض مصر والعراق. وقال الشّافعي (¬3) وأبو حنيفة (¬4): تُقسَّم الأرض كسائر أموالهم. والدّليل على ما ذهب إليه عمر: ما احتجّ به، وهو قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية (¬5) إلى قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} ثمْ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية (¬6) إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. وأمّا من أسلم من أهل العَنْوَةِ: فقال ابن حبيب (¬7): قد أحرز ماله ونفسه وكلّ ما كسب، وأمّا الأرض فللمسلمين. واحتج على ذلك: بأنّ كلّ من أسلم على شيءٍ في يده على وجه تملّك فذلك له، والأرضُ ليست كذلك؛ لأنّها ليست في يده على وجه تملّك. ¬
باب الدفن في قبر واحد من ضرورة وإنفاذ أبي بكر - رضي الله عنه - عدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته
وإنّما هي في يدِهِ على وجه إجازة، وفي "العُتْبِيَّة" (¬1) من رواية سحنون عن ابنِ القاسم أنّه تؤخذ منهم أموالهم من العَيْنِ والرَّقيق وغير ذلك. قال محمّد (¬2): إِنّما يؤخذ منهم ما كان بأيديهم يوم الفتح (¬3). والصّحيح ما تقدّم في الحكم فيهم. بابُ الدَّفنِ في قبر واحدٍ من ضرورة وإنفاذ أبي بكر - رضي الله عنه - عدَة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعد وفاته مالك (¬4)، عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أبي صَعْصَعَةَ المازني؛ أنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَمْرو بْنَ الجَمُوحِ، وَعَبْدَ اللهِ بْن عَمْرو بنِ حرامٍ، الأَنْصَاريَّيْنِ ثُمَّ السَّلَمِيَّينِ، كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قبْرُهُمَا مِمَّا يَلِى السَّيْلَ، وَكانَا في قَبرٍ وَاحِدٍ ... الإسناد: قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا حديثٌ بَلاغٌ وَيُسْنَدُ (¬5)، ولكنه من مستغربات مالك. ¬
الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله: "كانَ السَّيْلُ قَدْ حَفَرَ قَبْرَهُمَا" فيه دليلٌ على أنّهما دُفِنَا في قبرٍ واحدٍ، وذلك أنّه لمّا اشتدّ على المسلمين حفر القبور يوم أُحُد لكثرة القتلى، قال لهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "احفِرُوا وَعمقُوا وَأَوْسِعُوا، وَادْفنُوا الاثْنَيْنِ والثَّلَاثَةَ في قَبْرٍ، وقَدِّمُوا أَكثَرَهُمْ قرآنًا" (¬2). فعلى هذا يجوزُ مثله للضّرورة، قال مالك: وإِلَّا فالسُّنَّةُ أنّ يُدْفَنَ كلّ واحدٍ في قبرهِ إذا أَمْكَنَ (¬3). المسألة الثّانية (¬4): قوله: (وَهُمَا ممَّن اسْتُشهِدَ يَومَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا من مَكانِهِمَا" وكانا صِهْرَيْن واستشهدا يوم أُحُد ودُفِنَا في قبرٍ واحدٍ، فحفَر السَّيْلُ قبرهما (¬5). وقوله (¬6):" لَا بَأْس أَنْ يُدْفَن الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ في قَبْرٍ وَاحدٍ، وَيُجْعَلَ الأَكبَرُ مِمَّا يَلِي القِبْلةَ" يريدُ: أنّه لا يُفْعَلُ ذلك إِلَّا من ضرورةٍ، وكذلك قال أشهب: لا يكفّنان في كفنٍ واحدٍ إِلَّا من ضرورةٍ. المسألة الثّالثة (¬7): قال علماؤنا (¬8): ويُقَدَّمُ في اللَّحْدِ الأكبرُ، ويُجْعَلُ مِمَّا يلي القِبْلَة، وهذا معنى التَّقديم في اللَّحْد. ¬
وقال أشهب: يقدِّمُ في اللَّحْدِ أفضلُهُمَا، لِمَا رُوِيَ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُقَدِّمُ في اللَّحْدِ أكثرهم قرآنًا. قال الإمام: وهذا كلُّه يعودُ إلى معنى الفضيلة، فإذا استويا في الفضيلة قُدِّمَ أكبرهما؛ لأنّ للسنّ فضيلة. وقد تقدَّمَ كلامُنَا على ترتيبِ الجنائزِ في "كتابِ الجنائزِ" فليُنْظَر هنالك. المسأله الرّابعة (¬1): قوله (¬2): "قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكرٍ بِمَالٍ مِنَ الْبَحرَيْنِ" يريدُ: من مال المسلمين، وما ينقلُ إلى بيتِ مالِهِمْ من الجِزْيَةِ الّتي على الجماجم، وخَرَاجِ الأرض، وعُشُورِ أهل الذِّمَّةِ إذا اتَّجَرُوا من أُفُقٍ إلى أُفُقٍ، والرِّكاز، والمَعْدِن إذا أخذ من الخُمُس. قال ابن القاسم: ولم يذكر ما يُؤخَذ من أهل الحرب من عُشُورٍ أو ما صُولِحُوا عليه، وهو عندي لَاحِقٌ بذلك، وهذا يحتمل أنّ ينقل إلى المدينة على وجهين: 1 - أحدهما: أنّ ينقل إليها بَعْدَ سدَّ الخَلَّةِ في تلك الجهة الي جُبِيَ منها، فهذا حُكم كلّ مالٍ يُجْبَى في جهةٍ من الجهاتِ؛ أنّ يُنظرَ إلى حالِ تلك الجهة الّتي جُبِيَ بها وحال سائر ¬
تلك الجهات، فَإِنِ اسْتوت حاجتُهُم وعَمَّتهُم الشِّدَّة أو السَّعَة، فُرِّقَ حيثُ جُبِيَ ولا يُنْقَل إلى غيرها من البلاد، رَوَاهُ محمّد (¬1) عن مالك (¬2). ووجه ذلك: اختصاص الجباية. المسألة الخامسة (¬3): وإن كان غيرُها من البلاد أَحْوَجَ، نُقلَ إلى غيرها, ولا يُعَدَّى منها مَنْ جُبِيَت منهم، رواه محمّد عن مالك (¬4). ووجه ذلك: أنّ لهم مَزِيَّة على غيرهم في استحقاقه لاختصاصهم به، فلا يجب أنّ يُحْرَمُوا منه، وإن استحقّ نقلَ بعْضهَا للحاجةِ النّازِلَةِ بغيرِهم، وفي "المجموعة" و"الموازية" وغيرهما في الرَّجل من أهل الشّام يبعثُ ببعضِ صَدَقَتِهِ إلى المدينة؛ أنَّ ذلك صوابٌ، قال محمّد: رأى مالكٌ أنّ يخص المدينة بذلك؛ لأنّها بلد الرسول، وهذا الّذي قاله محمّد يحتمل أنّ مالكًا إنّما قال ذلك لأنّ الغَالِبَ على المدينة الحاجةُ، وقد قال في "المدوَّنة" (¬5) في الرّجلِ يخرج زكاة ماله فَيَصِلُهُ عن أهل المدينة ¬
حاجةٌ، فَيُرْسِل إليها ببعضِ زكاتِهِ فقال: ما رأيتُ بذلك بَأْسًا، ورأَيْتُه صوابًا (¬1). 2 - والوجه الثّاني: أنّ ينقل إلى المدينة لأنّه بها كان إعطاء الأرزاق، فكان يُنْقَلُ ذلك إلى من يرزق منه بعدَ سدِّ الثُّغُورِ الّتي كان يُجْبَى منها هذا المال، والتّفريق على أهلها ما يَعُمُّهُم أو يسدّ حاجتهم، فيُفَرَّق بالمدينة على أهل الأُعْطِية وعلى من اعتز الخليفة بها ولزمه من حقوق المسلمين. المسألة السّادسة (¬2): فإذا قلنا: يُنْقَل إلى موضِعِ تَفْرِقَتِهِ، فمن ماذا يتكارى عليه؟ فَرَوَى عيسى عن ابنِ القاسم في الزَّكاةِ تُنْقَل من بلدٍ إلى بلدٍ أنّه لا يتكارى عليها مِن الفَيء, ولكن يباع ذلك ويشتري مثله في موضع القِسْمة (¬3). وقال في "العُتْبيّة" (¬4) أيضًا عن مالك: يتكارى على ذلك من الفَيْءِ أو يبيعه. وَوَجهُ الأَوْلِ: أنّه إذا لم يكن لحَمْلِهِ وَجهٌ فالصوابُ بَيعُه وتَبليغ ثَمَنِهِ (¬5)، إذ لا بدّ من الكراءِ عليه، والكراءُ عليه من جملته مُخرِجٌ للزَّكاة عن وجهها، وإخراجُها من الفَيءِ ظُلْمٌ لأهل الفَيءِ، فلم يبق إِلَّا ما ذكرنا. ¬
ووجهُ الثّاني: أنّ النَّظرَ في ذلك للإمام بالذي هو أحوط لاستيفاء هذا المال، فقد يكون البَيْعُ تارةً أفضل، وقد يكون الحمل والكراء عليه أفضل. المسألة السابعة (¬1): وقولُ أبي بكر (¬2): "مَنْ كان عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَأْيٌ أَوْ عِدَةٌ" الوَأْيُ: العهدُ. وقيل: الوعدُ. وقيل: هو إضمار في النَّفْسِ أو في القلب (¬3)، وهو قريب من معنى العِدَة. واستدعاء أبي بكر من كان له عند رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عِدَة إِنَّما فعل ذلك ليفِي بعهده؛ لأنّه الخليفة من بَعْدِه، وما وَعَد به النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - فهو حقٌّ يحقُّ على أبي بكر وغيره ممّن يأتي بعدَهُ إنفاذه، وقد جاء جابر إلى أبي بكر فقال: إنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ قدْ جَاءَ مَالٌ مِن الْبَحْرَيْن أَعْطَيتُكَ هَكذا وَهَكَذَا وهَكَذا" (¬4) ويحتملُ أنّ يكون جابر أثبتَ ذلك عنده بشاهدين عدلين، ويحتمل أنّ يكون أبو بكر قَبِلَ ذلك من قوله لَمَّا رَآهُ أهلًا لذلك، وكان ذلك من حُسْنِ النَّظَرِ أنّ يعطيه وإن لم يكن النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وَعَدَهُ، وقد قال مالك (¬5): قد يُعْطي الوَالي الرَّجُلَ المالَ جائزٌ لأمرٍ يرَاهُ فيه على وجه الدَّيْن، أي: على وجْهِ الدَّين من الوالي (¬6). ¬
فرعٌ (¬1): فإن كان على وَجْه العِدَة، فهل هي لازمة أم لا؟ قلنا: يحتمل أنّ تكون مواعيد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في مثل هذا لازمةً؛ لأنّ وعده حقٌّ وصوابٌ، ولم يَعُد من مَالِهِ، وإنّما وَعَدَ من بيت المال، فكأنّه عَيَّنَ لِمَن وَعَدَهُ ذلك المقدار في بيت المال، وتَعْيِينُهُ صوابٌ، فيجب أنّ ينفذ. ويحتمل أنّ يكون حُكمُه في ذلك حكم غيره، ولا يخلو أنّ يكون الوَعْد يدخلُ الإنسان في أَمرٍ أو لا يدخله فيه، مثل أنّ يقول: اشتَرِ ثوبًا أو دابّة وأنا أُعينُك على ذلك بدينارٍ، أو أُسْلِفُكَ ذلك الثَّمَن، أو أُسْلِفُكَ منه كذا وكذا، فاتّفق علماؤنا على أنّ هذه العِدَة لازمةٌ يُحْكمُ بها على الوَاعِد. فرع (¬2): وأمّا إنَّ كانت عِدَة لا تدخل من وعدَ به في شيءٍ، فلا يخلو أنّ تكون مُفَسَّرة أو مُبْهَمَة، فإن كانت مُفَسَّرة، مثل أنّ يقول الرَّجُلُ للرَّجُلِ: أَعِزنِي دابّتك إلى موضع كذا، فيقول: أنا أُعِيرُكَ غدًا، أو مثل أنّ يقول: عَلَيَّ دَيْن فأَسْلِفني مئة دينار، فيقول: أنا أُسْلِفُكَ. فقال أَصْبَغُ في "العُتبيَّة" (¬3): يُحكَم عليه بإِنجَازِ ما وَعَدَ بِهِ كالذي يدخل الإنسان في عقد، وظَاهرُ المذهب على خلاف هذا؛ لأنّه لم يدخله بوعده في شيءٍ يضطرُّهُ إلى ما وَعَدَهُ به. وأمّا إنَّ كانت مُبهَمة، مثل أنّ يقول له: أَسْلِفْني مئة دينار (¬4)، فهذا قال أَصْبَغ: لا ¬
شيء عليه بها (¬1). وإذا قلنا في المسألة الأولى أنّه يُحْكَم عليه بالْعِدَةِ إذا كان ذلك لأمر أدخله فيه، مثل أنّ يقول له: انكح وأنا أسلفك كذلك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك الوعد قبل أنّ ينكح، فهل يُحْكَم عليه بذلك أم لا؟ فقال أَصْبَغ في "العُتبِيَّة" (¬2): يلزمه ذلك ويُحْكم به عليه إذ ألزمه ذلك بالوعد. تكملة: وقولُه في هذا الباب (¬3): "فَحَفَنَ لَهُ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ" امتثالًا لصفة وَعْدِ النّبي - صلّى الله عليه وسلم -، وقد رُوِيَ (¬4) أنّه كان في حفنته خمس مئة دينار (¬5)، والله أعلم. قال علماؤنا (¬6): وإنفاذُ أبي بكر وصيَّةَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فضيلةٌ معدودةٌ في مناقِبِهِ وفضائِلِهِ؛ لأنّه كان أكرم الأُمَّة بعدَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، سخيًّا بنفسه وماله، وكان أعلمُهم وأشجَعُهم وأكرمُهم، أمّا كَرَمُهُ فمعروفٌ، وأمّا شجاعتُه فظهرت حين مات النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال النَّاس: لم يمت رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - منهم عُمَرُ، وخَرِسَ عثمانُ، واستخفَى عليٌّ، واضطربَ الأمرُ، فجاء أبو بكرٍ - وكان غائبًا (¬7) - فكشفَ الثَّوْبَ عن وجهِهِ الكريم، ثمّ قال: بأبي أَنْتَ وأُمِّي طِبتَ حَيًّا ومَيِّتًا، ثمَّ خطبَ النَّاسَ فقال: مَنْ كَانَ يَعبُدُ مُحَمَّدًا ¬
فَإنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآية (¬1). فخرج النَّاسُ في سِكَكِ المدينة يتلُونَها كأنّها لم تنزل قطُّ إِلاَّ ذلك اليومَ (¬2). ولم يعلم أحدٌ حيثُ يُدْفَنُ، فقال أبو بكرٍ: سمعتُه يقول: "لَمْ يُدْفَنْ قَطُّ نَبِيٌّ إِلاَّ حَيثُ يَمُوتُ" (¬3). وطلبت فاطمةُ ميراثَهَا فقال: سمِعْتُه يقول: "إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَا صَدَقَةٌ" (¬4). وارتدَّتِ العربُ فمنعتِ الزَّكَاةَ، فقال له عمرُ وسِواه: اقنَعْ منهم بالصّلاة حتّى يَتَمَهَّدَ الإسلامُ. فقال أبو بكر: والله لَوْ منعوني عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيهِ (¬5). وقيل له: أَمسِك جَيشَ أُسَامَة تستعينُ به على قتالِ أهل الرَّدَّة، فقال: وَاللهِ لَوْ لَعِبَتِ الكِلَابُ بِخَلَاخِلِ نِسَاءِ أَهلِ المَدِينَةِ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وسلم -. فقال له عمرُ: وَمَعَ مَنْ تُقَاتِلُهُم؟ قال له: "وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتي" (¬6) فكان هذا أصلًا في إِنفاذِ الحَاكِمِ حُكمَ غيرهِ وإن رأى النَّاسُ خلافَهُ. ¬
ثمّ اختلف المهاجرون والأنصارُ فيمن تكونُ الإمامةُ، فقصَدَهُم أبو بكرٍ في محلِّهم، وتوسَّطَ مُجْتَمعَهُم، وخطَب خُطْبَتَهُ المعروفةَ فقال: إِنَّ هَذا الأَمرَ لا يَصلُحُ إِلَّا لقُرَيش، وقَدْ سَمَّاهُمُ اللهُ "الصّادقين" وسمَّاكم "المفلحين"، وقد أمركم أنّ تكونوا معنا حيث كُنَّا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1). وأمّا تسمية الأنصار "المفلحين" ففي قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬2). وقد قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في آخر خُطبَةٍ خَطَبَهَا: "أُوْصِيكُمْ بالأَنْصَارِ خَيرًا" (¬3) وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنَ الأَمْر شَيءٌ مَا وَصَّى بِكُم (¬4). وأمّا قوله (¬5): "القَتْلُ حَتفٌ مِنَ الحُتُوفِ" (¬6) فإن ذلك إشارةٌ إلى أَنّ الأجلَ بيد اللهِ، وأن خيرَ مواقفِهِ الشَّهادةُ الّتي يحتسِبُ نَفْسَهُ فيها الشّهيدُ على الله تعالى. تَمَّ الجهاد والحمدُ لله كثيرًا ¬
كتاب الضحايا
كتاب الضّحايا ولا بدَّ في صدر هذا الكتاب من ثلاثِ مُقَدِّماتٍ: المقدِّمة الأولى في سرد الآي والآثار في فضيلة الأُضحِية قال الإمام: وليس في فَضلِ الأُضْحِيَّة حديثٌ صحيحٌ يُعَوَّلُ عليه، وقد رَوَى النّاسُ فيها عجائب لم يصحّ منها شيءٌ (¬1)، ومنها قوله: "إنَّهَا مَطَايَاكُم إلى الجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ مأْجُورٌ في ذلك وَمَخلُوفٌ لهُ" (¬2). والأصلُ في هذا الباب قصة إبراهيم الخليل، وما ابتلاهُ الله به من ذبْح ابنه، ثمّ فِدَائِهِ بِذبحٍ عظيم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ... الآية (¬3)، القصة مذكورة في "الكتاب الكبير" (¬4) بأبدع بيانٍ. وقولُ الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} الآية (¬5). ¬
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} الآية (¬1). معناه: فصلَّ لربَّك، وانحر كذلك، فتكون الآية على هذا عامة في الضّحايا والهدايا. وقيل: يعني صلاة الصُّبْح عند المشعر الحرام، ثمّ النَّحر بَعْدَها بمِنًى. وقيل: يعني صلاة العيد ثمّ النَّحر بعدها، وأن الآية نزلت بالمدينة وأمّا الحجِّ فلا صلاة عيد فيه. وقيل: يعني به وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصّلاة عند النَّحر وهو الصّدر (¬2). وقيل: يعني به استقبال القِبْلَةِ. هذا ذكرُ الآي، وأمّا الأثر والنظر، فقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (¬3) يعني: ذكر الثّواب، وقولُ الله يُوجِبُ الفضيلةَ، وعلى هذا تكونُ الأضحية (¬4) سُنَّةَ من سنن الإسلام وشرعًا من شرائعه، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بِالنَّحْرِ وَهُوَ لَكُمْ سُنَّة" (¬5)، وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ نفَقةٍ بَعْدَ صِلَةِ الرحِمِ أَعظَم أَجرًا عِنْدَ الله من إرَاقَةِ الدَّمَاء" (¬6). وفي الحديث الحسن (¬7) أنّه قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا عَمِلَ آدَمي يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ عَمَلِ أحَبَّ إلى اللهِ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، أوْ من إِرَاقةِ دَمٍ، وإنها لَتَأتِي يَومَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا ¬
وَأظْلافهَا، وَإِنَّ دَمَهَا لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكانٍ قَبْلَ أنّ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا" (¬1). وقولُه: "بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشعَارِهَا" يريد: لا يضيع شيئًا منها، وأنّه لَيُجْزِئهُ ويُجَازى عليه، فلذلك يُسْتحَبّ عظم الضّحية وكمال شعرها وجمال خَلْقِهَا. ومن حديث أبي جَنَاب - واسمه يحيى بن أبي حيّة الكلبي (¬2)، عن عكرمة، عن ابن عبّاس؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "ثَلَاثٌ هِيَ عَلَىَّ فَرضٌ (4) وَهِيَ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالوِتْرُ وَرَكعَتَا الفَجْر" (¬3). وفي "كتاب مسلم" (¬4) و"الدّاودي" (¬5) عن عَامِر أبي رَمْلَة، قال: أنبأنا ¬
مِخْنَفُ بن سُلَيْم قال: ونحن وقوفٌ مع النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - بعرفاتٍ قال: قال: "أَيها النَّاس إِنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ في كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةً وَعَتِيرَةً، أَتَدْرُون مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الّتي يَقُولُ لَهَا النَّاس الرَّجَبِيَّة" إسنادُهُ ضْعيفٌ (¬1). وفي "الدّاودي" (¬2) و"النَّسَائي" (¬3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرْتُ بِيَوْمِ الأَضْحَى عِيدًا جَعَلهُ الله لِهَذِهِ الأُمَّة"، فَقَالَ رَجُلٌ: فإِنْ لَمْ أَجِد إِلَّا مَنِيحَةَ أَهْلِي، فَلِي أنّ أُضَحِّي بِهَا؟ قالَ: "لَا، وَلَكِن تَأخُذ مِنْ شعرِكَ وَأظفَارِكَ، وَتَقُصُّ شَارِبَك، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَلِكَ تَمَامُ أُضحِيَتِكَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ". وقال ابن حبيب (¬4): إنَّ الأُضحية من السُّنَنِ الّتي الأخذُ بها فضيلة وتركها خطيئة، وإنها أفضل من الصّدقة وإن عَظُمت، وأفضلُ من العتق (¬5)، ونحوه في "المدوّنة" (¬6) فيمن اشترى أُضحِيَة فلم يُضح حتّى مَضَت أيّامُ النَّحرِ أنّه آثِمٌ، فعلى هذا هي واجبة. ¬
المقدمة الثانية على من تجب
المقدِّمة الثّانية على من تجب قال علماؤنا (¬1): والأُضْحِيةُ سُنَّةٌ من سُنَنِ الإسلام (¬2) على مَنْ وُجدَت فيه خمس خصَالٍ: 1 - الإسلام. 2 - والحريّة. 3 - والقدرة عليها. 4 - وكونه حلالًا غير حرامٍ. 5 - ودخول أيّام النَّحر. وقال علماؤنا (¬3): والأُضحِيَة واجبةَ على المُقِيم والمسافرِ، والذَّكرِ والأُنثَى، والصَّغير والكبير. وقد قال مالك: يُضحِّي الوَصيُّ عن اليتيم من مالِهِ، ويلزم الأبَ أنّ يُضَحِّي عن بَنِيهِ الذُّكور والإناث ما كانت نفَقتُهُم له لازمة، أمّا الذُّكور فحتّى يحتلِمُوا، والنّساء حتَّى يتزوَّجن ويدخُلْنَ مع أزواجهنّ، ولا يلزمه أنّ يُضَحِّي عن امرأته (¬4)، ولا عن ¬
أُم وَلَدِه، ولا يلزم أُمِّ الولد أنّ تُضَحِّي عن نفسها (¬1)، وكذلك من فيه بقيةُ رِقِّ لا تلزمه الأُضحية، والاختيارُ فيه عند مالك - رحمه الله -: أنّ يضحِّي عن كلِّ نفسٍ شاةً (¬2)، فإن ضحّى بشاةٍ واحدةٍ عن جميع أهلِ بيتِهِ أجزأَهُمْ (¬3). المقدِّمة الثّالثة قال علماؤنا (¬4): وشرائطُ صِحَّةِ الذَّبيحة أربعة أشياء: 1 - أنّ يكونَ الذَّابحُ مسلمًا، أو كتابيًا يهوديًا أو نصرانيًا. 2 - والثّاني: النِّيَّةُ. 3 - والثّالث: العقلُ. 4 - والرّابع: أنّ يكونَ عارفًا بالذَّبْحِ قادرًا عليه، سواءًا كان بالغًا أم لا، أو كان ذكرًا أو أنثى. وشرائطُ الذَّكاةِ ثلاثةُ أشياءِ (¬5): 1 - قطعُ ثلاثة عروق: الحلقومُ والوَدَجَانِ. 2 - يكونُ قطعُ ذلك في نسقٍ واحدٍ لا يرفع الشَّفرة قبل تمام قطعها ثمّ يردّها. 3 - الثّالثة: أنّ تكون شفرته حادّة غير مُعَذِّبة. وللذبح أربع سُنَنٍ: ¬
1 - إحداد الشَّفرة. 2 - واستقبالُ القِبْلَةِ. 3 - والبَسْمَلَة. 4 - والصَّبر عليها حتّى تبرد ثمَّ تُسْلَخ. قال علماؤنا (¬1): أيَّامُ النَّحر ثلاثة أيّام: يوم النَّحر ويومان بعدَهُ، وهي الأيَّام المعلومات الّتي ذكر اللهُ في كتابه فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} الآية (¬2)، يُضَحِّي فيها من طُلُوع الفجر إلى غروب الشّمس، إِلَّا في اليوم الأوّل فلا يُضَحِّي فيه إِلَّا بعدَ صَلاةِ العيد ونَحْرِ الإمام، ويُسْتَحَبُّ في اليومِ الثّاني أنّ يؤخِّر إلى ضَحْوَة، وكذلك يستحب في الثّالث. فإن ضّحى فيهما قبلَ الضَّحْوة وبعدَ طلوع الفجرِ أَجزَأَهُ. وأمّا من لم يُضَحِّ في يومِ النَّحْر حتّى زالتِ الشّمسُ: فقيل: إنَّ الأفضلَ أنّ يُضَحِّي في بقيَّةِ النّهارِ. وقيل: إنَّ الأفضلَ أنّ يُؤَخِّر إلى ضُحَى اليوم الثّاني. وأمّا اليومُ الثّالثُ، فيضحِّي مَنْ فاتَهُ الذَّبْح بعد الزَّوال؛ لأنّه ليس ثَمَّ وقتٌ ينتظره (¬3). ¬
والضَّحيَّةُ لا تجبُ إِلَّا بالذَّبْح، خلافًا للهدايا الّتي تجبُ بالتّقليدِ والإشعار. وقد روى ابن القاسم عن مالك (¬1) ما يدلُّ أنّها تجب بالتّسمية قبل الذَّبْح، فقال: لا تُجَزُّ الضّحيّةُ بعد أنّ تسمَّى، فإن فعَلَ انتفعَ بِصُوفِهَا ولم يَبِعْه. قال سحنون (¬2) وأَشْهَب: لا بأس بِبَيعِهِ إذا جَزَّهُ قبل الذَّبْحِ، وخفّف ذلك أَصْبغ، وهذا الّذي بني عليه هو أنّها إنّما تجب بالذّبح، وهو المشهورُ في المذهب، والله أعلم. ¬
باب ما ينهى عنه من الضحايا
باب ما ينهى عنه من الضحايا مالك (¬1)، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن فيروز، عن البراء بن عازب؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - سُئِل عَمَّا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَال: "أَربَعٌ"، وكان البراء بن عازب يُشير بيده ويقولُ: يَدِي أَقصَرُ من يَدِ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "العَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلعُهَا، وَالعَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البيِّنُ مرَضُها. والعَجْفَاءُ الّتي لا تُنقِي". الإسناد: قال القاضي: هذا حديثٌ صحيحٌ، خَرَّجَهُ التّرمذيّ (¬2)، والنّسائي (¬3)، وأبو داود (¬4)، عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ، كما خرّجه مالك، وفي إسناده كلامٌ (¬5). قيل: إنَّ عَمْرو بن الحَارِث لم يسمع هذا الحديث من عُبَيْد بْنِ فَيرُوزٍ، ذَكَرَهُ عليّ بن المديني (¬6)، وإنّما جاء به الباجي (¬7) عن أحمد بن خالد قال: نا ابن وَضَّاح، عن سحنون، عن ابن وَهب، عن عَمرو بن الحَارِث واللَّيث بن سَعْد؛ أنّ سليمان بن عبد ¬
الرحمان الدِّمَشقِيّ حدّثهما عن عُبَيد بن فَيْرُوز مَوْلَى بني شَيْبَان، عن البراءِ بن عَازِب، فذكر الحديث، وهذا هو سَنَدُهُ الصَّحيح الّذي لا غُبَارَ عليه. الفقه في ستّ عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬1): قوله: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: مَاذَا يُتَقى مِنَ الضَّحَايَا" فيه دليلٌ على أنّ لها عندهم صفات يُتَّقَى بعضُها، ولذلك سأله عما يُتَّقَى منها, ولو لم يعلم أنّ فيها شيئًا يُتَقَّى لَمَا سألَهُ هل يُتَّقَى منها شيءٌ أم لا. والَّذي يُتَّقَى منها على ضربين: 1 - ضربٌ يتعلّق به عدم الإجزاء. 2 - وضربٌ تتعلّقُ به الكراهة. وقد ذكر رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - صفات جامعة من جهة النَّصِّ ومن جهة السُّنَّة، وجمعَ ذلك في أربع صفاتٍ ليسهل على السائل حفظها، وأشار بيده ليكون في ذلك تذكرة له ومَنعًا من النِّسيان. أمّا (¬2) من جهةِ النَّصِّ فهو في قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية (¬3). وقوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} الآية (¬4). ¬
المسألة الثّانية: قوله "العَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا" (¬1) قال علماؤنا: بدأَ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بِالعرجاء، وذَكَر بعدها ثلاث عيوب، فتتركَّب عليها وتشبهها عيوبٌ كثيرة. وقال شيخنا أبو بكر (¬2): العيوبُ الّتي لا تجوزُ ثلاثة عشر (¬3)، وهي: العوراءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا, والعَرْجاءُ البَيِّنُ ظْلْعُها، وإن كان عرجًا خفيفًا لا ينقص مشْيَهَا ولا عَيْبَ عليها فيه فلا بأس أنّ يضحِّي بها، والمريضةُ البَيِّنُ مرضها، والجرباء، واليابسة الضَّرع، والعَجْفَاءُ الّتي لا تُنْقِي، والمقطوعةُ الأذن، والقطعُ اليسيرُ كالسِّمَةِ ونحوها فلا بأس بذلك، والمكسورةُ القرن الّذي يدمي فإن كان لا يدمي فلا بأس بذلك، والَّذي بها دبرة كبيرة أو جُرْحٌ كبير. وقال عليّ بن أبي طالب: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ نسْتَشْرِفَ العَينَ وَالأُذُن، وَأَنْ لَا نُضَحِّي بِعَوْرَاء وَلَا مُقابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ وَلَا شَرْقَاءَ" (¬4). وقال أيضًا (¬5): (وَلَا بِعَضْبَاء الأُذُن وَالْقَرْنِ" قال: "ولا بِبَترَاءَ وَلَا بِجَدْعَاءَ" خرَّجه أبو ¬
داود (¬1)، والترّمذي (¬2)، والنسائي (¬3). وفي الحديث (¬4) قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - عنِ الْمُصْفَرَّةِ وَالْمُستَأْصَلةِ وَالبَخقَاءِ والمُشَيَّعَةِ والكَسْرَاء". العربيّة: قوله: "العَضبَاء" ما قُطِعَ نصفُ أذنها فما فوقَهُ. "والمُصْفَرَّةُ" الّتي تستأصل أذنها حتّى يبدو صِمَاخُهُ. و"المُشيًعَةُ" الّتي لا تتبعُ الغَنَمَ ضعفًا وعجَفَا. و"الكَسْرَاءُ" الكَسِيرَةُ. وقول مالك (¬5): "كانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَتَّقِي مِن الضَّحَايَا والبُدْنِ الَّتِي لمْ تُسِنَّ وَالَّتِي نقصَ من خَلْقِهَا، وَهَذَا أَحَبُّ ما سَمِعتُ في ذلك". قال ابن قُتيْبَة (¬6): "معنى "لم تُسِنَّ"، أي: لَمْ تَنْبُت أسنانُها، كأنّها لم تُعْطَ أسنانًا، وهي كما تقول: فلانٌ لم يُلْبَن، أي: لم يُعْطَ لَبَنًا، وفلانٌ لم يُعْسَل، أي: لم يُعطَ عَسلًا، وفلان لم يُسْمَنْ، أي: لم يُعْطَ سَمْنًا"، وهذا ما انتهى في الأضاحي إلينا (¬7). ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله: "العَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا" العرج على ضربين: 1 - ضَرْبٌ يَمْنعُ الإجزاءَ. 2 - وضربٌ لا يمنعُهُ. فأمّا ما يمنعُهُ فقد قال ابن الجلّاب (¬2): "هي الشَّديدةُ العرج الّتي لا تلحق الغنم" فهذه الّتي لا تُجْزِئ. وقال أبو حنيفة: تُجْزِئ (¬3). وذلك (¬4) مبنيٌّ على قوله: "العَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرجُهَا" ولا شكً أنّها تمشي، وأمّا الّتي لا تمشي فلا يقالُ فيها عرجاء؛ لأنْ العرج من صفات المَشْي. ومن جهة القياس: أنّها مريضة فوَجَبَ أنّ لا تجزئ، أصله المريضة البّيِّن مَرَضُها. وأمّا العرجُ الخفيفُ (¬5)، فلا بأس به (¬6)، وَرَوَى ابن حبيب عن مالك أنّه استخفّها إذا لم يمنعها أنّ تمشي بسَيْرِ الغَنَمِ (¬7)، وذلك صحيح؛ لأنّ عرج هذه ليس بَبَيَّنٍ. المسألة الرّابعة (¬8): قوله: "وَالعَورَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا" يريدُ الّتي ذهبَ بصرُ إحدى عينيها، يقال: عارتِ ¬
العينُ، إذا ذهب بصرها، ويقال عين عوار وعوراء، ولا يقال عمياء، ولا ينقص ذلك من لحمها، وإنّما ينقص بعض خَلْقِهَا عن حال السَّلامةِ. فينبغي أنّ يُتَّقَى في الضَّحايا ما كان بمعنى ذلك. ونقصانُ الخِلْقَةِ على ثلاثة أضرب: 1 - ضربٌ يَنقُصُ منافعَها وجسمَها، فهذا لم يعد بمنفعةٍ في لحمها منع الإجزاء كعدم يدٍ أو رِجْلٍ. 2 - وضربٌ يَنْقُص المنانغ دون الجسم، كذهاب بصر العين أو ذهاب الميز ممّا له تأثيرٌ كالعَوَرِ والعَمَى والجُنون، فهذا يمنعُ الإجزاءَ، ولم أجد لأصحابنا نصًّا في الجنون (¬1). 3 - وأمّا الضربُ الثّالث: فهو نُقصانُ الجسمِ دون المنافع، كذهابِ القَرْن والصُّوف وطرف الأذن والذَّنب، ممّا كان منه من باب المرض أو ممّا يُشوِّهُ الخِلْقَة أو يَنْقُصُ جزءًا من لحمها (¬2). وقيل: "العَوْرَاءُ" يحتمل أنّ يريد ذات العَوَار وهو العيبُ كلّه (¬3). فرع (¬4). وإن كان بالعينِ بياضٌ، فإن كان على النّاظر وكان يسيرًا لا يمنعها أنّ تُبْصِر، أو ¬
كان على غير النّاظر لم يمنع الإجزاء، قاله ابن الموّاز في"كتابه" (¬1)، وأمّا إنَّ منعها الرُّؤية فهي العَوْرَاءُ الّتي في الحديث، وكذلك الّذي ذهب أكثر بصر عينها. وَروَى ابن الموّاز عن مالك في "كتابه" أنّ الجَدْع يمنع الإجزاء، وأمّا العصب في الأذن فإن استوعب الأذن فإنّه يمنع الإجزاء. وأمّا الشّرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة. "فالشَّرْقَاءُ": هي المشقوقة الأُذُن. و"الْخَرْقَاءُ": الّتي تُخرَق أذنها. و"الْمُقَابَلَةُ": الّتي يُقْطَعُ طرف أذنها. و"المُدَابَرَةُ" هي الّتي يُقْطَعُ طرفُ ذنبها. وقال ابنُ القصّار (¬2): وهذه الصفات (¬3) عندي لا تمنَعُ الإجزاءَ (¬4). واليسير لا يمنعه. وأمّا شقُّ الأذن فإن مالكًا (¬5) كان يُوَسِّعُ في اليسير منه كالسِّمَة ونحوها. والذي عندي أنّ شقَّ الأذن لا يمنع الإِجزَاء إِلَّا أنّ يبلغ مبلغًا يُشَوهُ الخِلْقَة. المسألة السّادسة (¬6): فإذا ثبت ذلك، فقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك أنّه لم يَحُدَّ في ذلك حَدًّا بين ¬
القليل والكثير. قال محمّد في "كتابه": والنِّصفُ كثيرٌ عندي (¬1). والأصل في ذلك: أنّ طريقَهُ الاجتهاد. وقال أبو حنيفة (¬2) في الأُذُن والذَّنَب - والأَلْيَةِ في أحد قَوْلَيْه -: إنّ الثُّلث كثيرٌ، وهو نحو ما رواه ابن حبيب (¬3). والقولُ الثّاني: أنّ الثُّلث عنده في حيِّز القليل، وهو نحوُ ما قال ابنُ الموَّاز في الأذن. والأظهرُ في ذلك قولُ أصحابنا - وهو الصّحيح - أنّ ذهاب الثّلث في الأذن في حيِّز اليسير، وفي الذَّنَب في حيِّز الكثير؛ لأنّ الذَّنَب عُضْو من الأعضْاء ذو لحم وعصب، والأذن ليس فيها غير طرف جلد. المسألة السّابعة (¬4): وأمّا "السَّكَّاءُ" ففي "المدوّنة" (¬5): "أنّها الصّغيرة الأُذن، وقال ابنُ القاسم: هي الصَّمعاء، وهي تُجزِئ عند مالك، وأمّا الّتي خلقت بغير أُذُن فلا خير في ذلك" والَّذي عندي (¬6): أنّه إنَّ كانت الأُذنُ من الصِّغر بحيثُ تَقبُحُ به الخِلقَة فإنّه يمنع الإجزاء. المسألة الثامنة (¬7): وأمّا "الثَّرْمَاءُ" قال ابنُ حبيب: هي الّتي سقطت أسنانُها من كِبَرٍ أو كَسْرٍ فلا تُجزيء (¬8). ¬
وفي "الموازية": إنَّ سقطت أسنانُها من إثغار أو هَرَم فلا بأس بها (¬1)، وإن كان من غير ذلك فلا يُضَحَّى بها (¬2)، وقال في "المبسوط": لأنّه ينقص من خِلْقَتِهَا. قال: ابن القصّار ذهب إلى أنّ الفتيّة إنّما ذهبت أسنانُها من داءٍ فصارت مَعِيبَة، والهَرِمَة هي التى سقطت أسنأنّها من كِبَرٍ، وهذا أمر معتاد. ووجه ما قاله ابنُ حبيب: أنَّ الهَرَمَ معنى يُضْعِفُ الحيوانَ، فإذا سقطتِ الأسنان منع من الأضحية كالمرض. فإذا قلنا: إنَّ ذهاب الأسنان يمنع من الأُضحية، ففي "كتاب محمّد": لا يمنع ذلك ذهاب السِّنَّ الواحدة (¬3)، وفي "المبسوط": إذا سقط لها سنّ أو سنّانِ فهو عيبٌ، ولا يُضحّى بها لأنّه نُقْصَان من خَلْقِهَا. المسألة التّاسعة (¬4): قوله: "وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا" فإنّه لا يجوز في الضّحايا مريضة، قال ابنُ القصّار: ذلك لمعان: أحدها: أنّ المرض ينقص لحمها. والثّاني: أَنه يُفسده حتّى تَعَافُهُ النّفس. والثّالث: أنّه يَنقُصُ قيمَتها (¬5). ¬
المسألة العاشرة (¬1): قوله (¬2): "والحَمِرَة" (¬3) وهي البَشِمَة لا تجزئ، وكذلك الجَرْبَاء، فما بلغ من ذلك كلَّه حدَّ المرضِ البيِّنِ وجبَ ألَّا يُجْزيء. المسألة الحادية عشرة: قوله: "وَكذلِكَ الْجَلْحَاءُ" قال القاضي - رضي الله عنه -: هي على وزن حمراء، وهي الّتي قرناها صغيران كأنّهما كفتان في رأسها (¬4). المسألة الثّانية عشرة (¬5): وكذلك لا تجزئ الدَّبِرَةُ من الإبل (¬6)، قال ابن القاسم (¬7): ومعنى ذلك من قوله: "الدَّبَرَة" الكبيرة. ووجه ذلك عندي: أنّه من المرض الّذي يمنع الإجزاء، كالمكسورة القرن الّذي يدمي، وإن كان الجرح صغيرًا لا يضرّ بالأضحية أو بالهَدْي فليس من باب المرض. المسألة الثّالثة عشرة (¬8): قوله: "وَالعَجْفَاءُ" يريد الّتي لا شَحْمَ لها، فإذا بلغت هذا الحدّ من الهزال فإنها لا تجزئ؛ لأنّها خارجة عن المعتاد؛ ولأنّه لا منفعةَ في لحمها ولا طيب له كالمريضة. ¬
المسألة الرّابعة عشرة (¬1): قوله (¬2): "التِي لَمْ تُسِنَّ"، (¬3) هذا اللّفظ يسْتَعمل غالبًا في الهرم؛ لأنّه لا خلاف أنّ الثَّنية من كلِّ نوعٍ تجزئ وإن كانت لم تبلغ حدّ تمام السِّن. ويحتمل أنّ يريد بذلك الّتي لم تبلغ أو تكون مسنّة من البقر، وأكثر ما يعتبر ذلك بالسِّنين، وإن جاز أنّ يتقدم يسيرًا، أو يتأخر يسيرًا على اختلاف الخِلْقَة، والمعتاد أنّه متقارب، فالجذع من الضأن مُختَلفٌ فيه بين الفقهاء: فقال ابن حبيب: هو ابن سنة (¬4)، وقاله ابن نافع أيضًا وأشهب (¬5)، وعلى هذا أكثر النَّاس، وقاله أبو عُبَيْد (¬6). وَرَوَى ابنُ وهب أنّه ابن عشرة أشهر. وَرَوَى سحنون عن ابن زياد: هو ما استكمل ستة أشهر (¬7)، وقاله ابن شعبان قال: وقيل ثمانية أشهر. ¬
باب النهي عن ذبح الأضحية قبل أن ينصرف الإمام
وأمّا "الثَّنِيُّ" فقال ابن حبيب: هو ابن سنتين (¬1) ودخل في الثّالثة. وأمّا "الإبِلُ" فقال ابن حبيب: الجْذَع من الإبل ابن خمس سنين، والثَّنِيّ ابن ستّ سنين (¬2). قال أبو عبيد (¬3): إذا أتت عليه الخامسةُ فهو جَذَعٌ، فإذا ألقى ثنِيَّتَهُ في السّادسة فهو ثَنِيٌّ. وأمّا "البَقَرُ" فقال ابن حبيب: الجَذَع ابن ثلاث سنين، والثّني ابن أربع. وقال أبو عُبيد (¬4): هو أوّل سنة تَبِيعٌ، ثمّ جَذَعٌ، ثمَّ ثَنِيٌ. وقال عبد الوهّاب (¬5): الثَّنِيُّ من البقرِ ما لهُ سنتانِ ودخل في الثّالثة، وهذا أشبه بقول أبي عُبَيْد. باب النّهي عن ذبح الأضحية قبل أنّ ينصرف الإمام قال الإمامُ: الأحاديثُ في هذا الباب صِحَاحٌ، خّرَّج مالك فيه حديثين: الحديث الأوّل (¬6): حديثُ أَبِي بُرْدَةَ بْن نَيِارٍ ذبَحَ أضحِيَتَهُ قَبْلَ أنّ يَذْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أنّ يُعِيدَ بضحِيَة أُخرَى، قَال أَبُو بُرْدَةَ: لَا أَجدُ إِلَّا جَذَعًا. فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنْ لم تَجِدْ إِلَّا جَذَعًا فَاذبَحْ". والحديث الثّاني: حديث عَبَّاد بنِ تمِيم؛ أَنَّ عُويْمِرَ بن أَشْقَرَ ذبَحَ أُضحِيَتَهُ قبل أَنْ يذبحَ الإِمامُ يَومَ الأَضْحَى، وَأَنَّهُ ذَكر ذلِك لرَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ أنّ يُعيد أُضحِيَةً أُخرَى. ¬
الإسناد: وقع في "البخاريّ" (¬1) و"التِّرمذى" (¬2) و "الدَّاوُدِيّ" (¬3) و "النّسائي" (¬4) عن البَرَاء قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: أَوَّلُ مَا نَبْدَأ في يَوْمِنَا هَذَا نُصَلَّي ثُمَّ نَرْجعُ فَننْحَرُ، مَنْ فَعَلَ هَذا فَقَد أَصَابَ نُسُكًا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ، فَإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ وَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ. وفي "البخاريّ" (¬5) و "مسلم" (¬6)؛ عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلِيَّ، قال: شَهِدْتُ أَضْحى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَصلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة رَأَى غَنَمًا قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَال: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَليُعِدْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذبَحْ عَلَى اسمِ اللهِ". وفي "النّسائي" (¬7) و"أبي داود" (¬8) عن البرَاءِ بْنِ عَازِب؛ قال: خطَبَنَا النّبىُّ عليه السّلام بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قالَ: "مَنْ صلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْل الصَّلاةِ فَذَلِكَ لَحْمٌ". الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬9): هل الإمامُ شرطٌ في الضَّحيَّةِ أم لا؟ والصّحيحُ أنّه شرطٌ في الأُضحيَةِ لِرَدِّ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَبَا بُرْدَةَ بن نِيَارٍ وَأَمْره أنّ يُعِيدَ (¬10). ¬
وقوله: "إنَّ أبَا بُرْدَةَ ذبَح أُضحِيَتَهُ قَبلَ أنّ يَذبَحَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -": يقتضي أنّ يكون ذبْحُهُ الّذي يُجزِئه بعدَ ذبحِ الإمام، فأمّا وقتُ ذبح الإمامِ فهو بعدَ السّلام من الصّلاة، فمن ذَبَحَ قبلَ الصّلاةِ لم يجزئه، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال الشّافعيّ (¬2): إذا ذهب الوقتُ بمقدار ما يصلِّي ركعتين فقد جاز الذَّبحُ، فمن ذَبَحَ حينئذٍ أجزأَهُ. المسألة الثّانية (¬3): فإذا ثبت هذا وأن الذَّبحَ بعدَ الصَّلاةِ هو الجائزُ، فإنّ الإمام يذبحُ أوَّلًا، ثمّ يذبح النَّاس، فمن ذبح قبل الإمام لم يُجزِئه وأَعَادَ، رواه ابن الموّاز وغيره (¬4). وقال أبو حنيفة: من ذبح بعد الصّلاة وقبل الإمام أجزأَه (¬5). ودليلُنا: الحديث المتقدِّم، وهو أنَّ أبا بُرْدَة ذبح أُضحيّته ... الحديث. والمُضَحُّونَ على ضربين: أحدهما: بحَضْرَةِ الإمام. والآخر: بغير حَضرَتِهِ. فأمّا من كان بحَضرَةِ الإمام، فلا يخلو إمامُه أنّ يُظهِر نَحرَ أضحيَته أو لا يُظْهِر، فإنّ أظهر، ذَبَحَها بأَثَرِ الصّلاة، فمن ذبح قبلَهُ فالمشهور عن مالك أنّ ذلك لا يجزئه ويعيد أضحيَة أخرى وإن لم يُظهِر. ¬
أضحيَة أخرى (¬1) وإن لم يُظهِر (¬2). وأمّا من كان بموضع ليس به إمام فالمشهور عن مالك أنّهم يتحرّون صلاة أقرب الأيِمّة إليهم وذبحه، ويتحرّون في ذلك مخافة مخالفة الإمام؛ لأنّه يُخَافُ أنّ يكون دخل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية (¬3). فرع (¬4): فإن انكشف أنّه ذبح قبل الصّلاة أجزأه؛ لأنّه حكمه حكم الاجتهاد، وقد اجتهد ولم يقصد مخالفة الإمام، كان ظنّ من في المصر أنّ الإمام قد ذبح فذبح قبله، فلا يجزئه؛ لأنّه بَادَرَ وَقدّر، فإن لم يُبَادِر فإنّه يجزئه، وكان على ما قدّره من الاستبراء والكشف (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): فأمّا إنَّ لم يظهر الإمام ذبحَها، ففي "كتاب محمّد" (¬7): إنَّ ذبح رجلٌ قبله في وقتِ ذبح الإمام بالمُصَلَّى لم يجزئه. ¬
وقال أبو مصعب (¬1): إذا تَرك (¬2) الإمام الذَّبح بالمُصَلَّى، فمن ذبح بعد ذلك فهو جائزٌ. وأمّا من كان بموضع ليس فيه إمامٌ مثل أهل القُرَى، فقد رَوَى ابن القاسم عن مالك: يَتَحرَّوْنَ صلاة أقرب الأيمَّة إليهم. المسألة الرّابعة (¬3): والذي يُجْزِىء من الأسنان في الضّحايا الجَذَعُ فما فوقه من الضَّأْنِ، ومن المعز والبقر والإبل الثّنىّ فما فوقه. والدّليلُ على إجزاء الجذع من الضّأن: ما أخرجه مسلم (¬4) من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تَذبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلا أنّ يَعْسُرَ عَلَيكُم، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ". والدّليلُ على أنّ الجذعَ من المعز لا يُجْزِىء: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ولَنْ يُجزِىء عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" بقوله لأبي بردة بن نيار. فإن قيل: فما الفرق بينهما؟ قيل: نَصُّ الشّريعة، ولا فرق أصحّ منه. ووجه آخر: وهو ما رَوَى ابن الأعرابي أنّه قال: إنَّ المعز والبقر لا تضرب فحولهما إِلَّا بعد أنّ تثنى، والضَّأْن تضرب فحولها إذا أجذعت. ¬
باب ما يستحب من الضحايا
المسألة الخامسة (¬1): فإذا ثبت ما قلناه، فالثَّنِيُّ من الضَّأنِ أحبّ إلى مالك من الجَذَع (¬2)، رواهُ ابنُ الموَّاز عن مالك (¬3). ووجه ذلك: قوله: "إِلَّا أنّ يَعْسُرَ عليكم فتذبحوا جَذَعَة من الضَّأنِ". وفي (¬4) ذلك خروجٌ عن الخلاف المَروِي، وفي الثَّنِي أيضًا من تمام الجسم ما يفضل به الجذع، وسيأتي الكلام عليه بعد هذا إنَّ شاء الله. باب ما يستحبُّ من الضحايا مالك (¬5)، عن نافع؛ أنَّ عبد الله بن عمر ضحَّى مَرَّةً بالمدينة، قال نافعٌ: "فَأَمَرَني أَنْ أَشترِيَ لَهُ كبْشًا فَحِيلًا أَقرنَ، ثُمَّ أذبَحهُ يَوْمَ الأَضْحَى في مُصَلَّى النَّاسِ ... " الحديث إلخ. إلاسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ. التّرجمة والعربيّة: قوله: "من الضَّحَايا" واحدُها ضحيَّة مثل قضيّة، ويقال أُضحِيَّة، بضمِّ الهمزة ¬
وتسكين الضَّادِ وكسر الحاء وتشديد الياء، وجَمْعُهُ أضاحي بتشديد الياء أيضًا، ومن خفَّفَ الياء في الواحدة قال أُضحيَة على البناء الأوّل، غير أنّ الياء مخففة، فيقول في الجميع: أَضَاحٍ بلا ياءٍ في الرّفع والخفض. الفقه في ثلاث عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬1): قوله: "أَنْهُ ضَحَّى مَرَّةً بالْمَدِينَةِ" يريد أنّ هذا الفعل وقعَ منه بالمدينة؛ لأنّ كثيرًا ممّا حكاهُ لا يتأتَّى في غير الأمصار من الذَّبح بالمصلَّى وغير ذلك، وإلّا فقد كان يُضَحِّي في المدينة وفي أَسْفَاره، وقد رُوِيَ عنه؛ أنّه اشترى شاةً في سَفَرِه من رَاعٍ وأَمَرَهُ بذَبْحِهَا عنه. المسألة الثّانية: قولُه: "اشْتَرَى أُضحِيَة من رَاعٍ" (¬2) وقولُه لنَافِع: "اشتَرِ ليْ كَبْشًا فَحِيلًا" فيه دليلٌ على وجوبِ الضَّحِيَّة، وهي مسألة اختلف العلماء فيها: فمنهم من قال: إنّها واجبةٌ، وهو أبو حنيفة (¬3). ومنهم من قال: هي مستحبّة وهو الشّافعيُّ (¬4). وأمّا علماؤنا فقالوا: إنها سُنَّةٌ مستَحَبَّةٌ في "الموطَّأ" (¬5). ¬
وقال محمّد بن الموّاز: هي سُنَّةٌ واجبةٌ (¬1). وقال ابن القاسم بالوجوب، ومال ابن حبيب إليه. وقد سُئِلَ عبد الله بن عمر عن الأُضحيَّة أواجبةٌ هي أم لا؟ فقال: "ضَحَّى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وَضَحَّى المسلمون بعدَه" (¬2)، ولم يُجب فيها بشيء، لا بِنَفْىٍ ولا بإثبات. تفصيل (¬3): أمّا من نَزَعَ إلى الوجوبِ فإنّه استدلّ بما رواه ابن سُلَيْم (¬4): أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "عَلَى أَهْلِ كُل بَيتٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ في كلِّ عَامٍ"، والعتيرةُ هي المذبوحةُ في رجب (¬5). وتعلَّقَ من نَفَى الوجوبَ بحديث يرويه شُعْبَةُ بن الحَجَّاج، عن مالك بن أنسٍ، وخرّجه مسلم (¬6)، وهو قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أنّ يُضَحِّيَ، فَلَا يَحْلِقَنَّ شَعْرًا وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا، حَتَّى ينْحَرَ أُضْحِيتَهُ" فعلَّقَ الأُضحية بالإرادة والاختيار، ¬
والوجوبُ لا يتعلَّق بها, لأنّها تثبتُ قَسْرًا في الذِّمَّة والأصل في ذلك براءة الذِّمَّة وفراغ السّاحة، وقد تعارضت أدلَّةُ الوجوب، ولم يبق إِلَّا فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو محمولٌ على الاستحباب، ولذلك تفطّن مالك فقال (¬1): "بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الضَّحَايَا" ولا استحباب فوق ما فعله النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولا اختيار فوق اختيارِهِ، وقد اختار الأَقْرَن الفحيل، الأسود الأطراف، السّمين، وذلك أصحّ من رواية أبي دَاود (¬2) والنّسائي (¬3) في المُوجيَّينِ (¬4)؛ فإن الوجاء نقصٌ، وقد اختلف العلماء فيه، فَمِن أغربِ ما رُوِيَ عن مالك أنّ الخَصِىَّ أفضل من الفحيل. قال علماؤنا: لأنّه أسمنُ. قلنا: ولكنه ليس بأكملَ. وقال مالكٌ في "المبسوط": الذَّكَرُ والأُنثى سواءٌ (¬5) يعني في الإجزاء، فأما في الأفضل فالذَّكَرُ أفضلُ. المسألة الرّابعة: قال علماؤنا: المقصودُ في الأفضل السّلامة من العُيوب. ¬
وقد روى ابنُ الموَّاز؛ أنّ الأُضحية لازمةٌ للمسافر كلزومها للمقيم بحديث ابنِ عمر المتقدِّم، وهو على الاستحباب. المسألة الخامسة (¬1): قوله: "كَبْشا فَحِيلَا أَقْرَنَ" وفيه خمسُ معانٍ: أحدُها: أنّ الأُضحيَة لا تكون من غير بهيمة الأنعام. والثّاني: أنّ الضَّأْن أفضل. والثّالث: أنّ ذكورَها أفضل. والرّابع: أنّ الفحلَ منها أفضل. والخامس: الأقرن أفضل من الأجمّ. المسألة السّادسة (¬2): فالأوّل أنّ الأُضْحيّة لا تكون إِلَّا من بهيمة الأنعام: الضّأن والمعز والإبل والبقر، ولو ضربت فحول البقر الانسيّة إناث البقر الوحشيّة * فقد قال الشّيخ أبو إسحاق: اتّفق أصحابنا أنّه لا يضحَّى بها، واختلفوا إذا ضربت فحول الوحشيّة إناث الإنسيّة*، والَّذي أقول به إجازةُ ذلك كلِّه، ومعنى ذلك: أنّ كلَّ ولد تَبَعٌ لأمِّه في الجنس والحكم، وإنّما يختلف ذلك في ولد آدم، وإنّما منع من ذلك من قال بالمنع من أصحابنا إذا كانت الفحول وحشيّة، لتغلب الحَظْرِ على الإباحة، والله أعلم. وقد رتَّبَ الفقهاءُ ذلك في كتبهم فقالوا (¬3): أفضلُ الضّحايا الكبشُ الفحِيلُ الأبيضُ، ¬
الأقرنُ الأكحل الأعين, الّذي يمشي في سواد ويأكل في سواد. وقد رُوِيَ أنّ هذه كانت صفة الكبش الّذي فُدِيَ به الذّبيح إسماعيل (¬1). وقالوا (¬2) في التّفضيلِ: وفحولُ الضَّأْنِ في الضَّحايا أفضلُ من خِصْيانها، وخصْيانُها أفضلُ من إناثها، وإناثُهَا أفضل من فحول المعز، وفحولُ المعزِ أفضل من خِصْيانها، وخِصْيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من الإبل والبقر، وذُكورُ الإبلِ أفضل من إناثها، وإناثُ الإبل أفضل من ذكور البقر، وذكورُ البقر أفضل من إناثها، قاله ابن شعبان. وقال عبدُ الوهّاب (¬3): "أفضلُها الغَنَم، ثمّ البقر ثمّ الإبل"، وهو الصّواب، لأنّ المُرَاعَاة في الضَّحايا طِيبُ اللَّحم ورطوبتُه؛ لأنّه يختصّ به أهلَ البيت دون الفقراء بخلاف الهدايا (¬4). والدّليلُ على ذلك: أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما ضَحَّى بالغَنَم، ولو كانت الإِبلُ أفضل لضَحَّي بها. ومما يدلُّ أيضًا على أنّها أفضل من الإِبل في الضَّحايا؛ أنّ الله فَدَى الذَّبيح من الذَّبح بكبشٍ، فقال في كتابه العزيز: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} (¬5). ورُوِيَ أنّ الله أنزله من الجنَّة، وأنَّه رعى فيها خمسين عامًا أو خمسين خريفًا (¬6). ¬
وأمّا الهدايا، فالإبلُ أفضل لكثرة لحمها، ثمّ البقر، ثمّ الضَّأْن. وذهب الشّافعيُّ (¬1) إلى أنّ الأبلَ أفضل من الغنم، واحتجَّ على ذلك بقول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنِ اغْتَسل وَرَاحَ في السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأنَّمَا قرَّبَ بَدَنَةً ... " الحديث (¬2) والضَّحايا قربانٌ. قال القاضي (¬3): وهذا لا حجَّةَ فيه؛ لأنّه إنّما أراد الهدايا، وقد رُوي ذلك في غير حديث "الموطَّأ": "مَنْ رَاحَ في السَّاعةِ الأُولَى فَكأَنَّما أَهْدَى بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعةِ الثَّانيَةِ فَكأَنَّمَا أهدَى بَقرَةً ... " الحديث (¬4). المسألة السّادسة (¬5): فذهب مالك وأصحابه أنّ الضَّأْنَ في الضحايا أفضل من البقر، ومذهب ابن شعبان أنّ الإبل أفضل من البقر، وحَكى ابنُ الجلّاب (¬6) وعبدُ الوهّاب في معونته (¬7) أنّ البقر أفضل. وقال الشّافعيّ (¬8) وأبو حنيفة (¬9): الإبلُ أفضل، ثمّ البقر، ثمّ الغنم. ودليلنا: ما رُويَ عن النبي - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه ضحَّى بكَبْشَينِ أقْرَنَين أمْلَحَيْن (¬10)، ومثلُ ¬
هذا لا يُستعملُ إِلَّا فيما واظبَ عليه، ومعلوم أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يُوَاظِبُ في خاصَّتِهِ إِلَّا على الأفضل. وأمّا الرِّواية الثّانية، فمذهبُ مالك (¬1) أنَّ يكون ذُكور كلّ جنسٍ أفضل من إناثه. المسألة السّابعة (¬2): قولُه لنَافِع: "أَذْبَحهُ يَوْمَ الأَضحَى"، على وجه الاستنابة، وذلك جائزٌ للضَّرورةِ، وقد كرههُ مالك من غير ضرورة. والأصلُ في جوازه: القياس على الهدايا؛ لأنّه حيوانٌ شُرعَ ذَبْحُهُ على وَجْهِ القُرْبَةِ، فَصحَّت الاستنابة فيه كالهدايا. وإنّما استنابة ابن عمر من ضرورة لأنّه كان مسافرًا، والأحسن أنّ يذبح الرَّجُلُ أُضْحيته بيده، لما روي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ضَحَّى بِكَبْشيْن أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بيَدِهِ (¬3). المسألة الثّامنة (¬4): فإذا قلنا: تجوز الاستنابة، فإن استنابَ مسلمًا أجزأه، وإن استناب كتابيًا فهل يجوز أم لا؟ فقال ابن القاسم في "المدوّنة" (¬5): يعيدها. وروى عنه أشهب أنّه قال: تجزئه. توجبه (¬6): فوجهُ قول ابن القاسم: أنّ الكافرَ لا تصحُّ منه نِيَّةُ القُربة وإن صحَّت منه نيّة ¬
الاستنابة، فإذا ذبحها لم تكن فِدْيَة وكانت ذبيحة مباحة. ووجهُ قول أشهب: أنّ من صَحَّ ذبحُهُ لغير الأُضحيَة، صَحَّ ذبحه للأُضحيَة كالمسلم، فرع (¬1): قال علماؤنا (¬2): والاستنابة فيها بالتّصريح أو بالعادة. فأما التّصريح: فبِأَن يأمر بذبحها عنه (¬3). وأمّا العادة: ففي "المدوّنة" (¬4) عن ابن القاسم فيمن ذبح أُضحيّته مثل الوليّ إنَّ كان في عِيَالِهِ, أو يذبحها ليكفيه أجزأه. وإن كان على غير ذلك لم يجزئه (¬5). وإن كان صديقه (¬6) حتّى يصدَّقُة في ذلك. وقال (¬7) في "الموازية": لا تجزئه، وإن كان ممّن في عياله وهو ضامن، يريد - والله أعلم - إذا كان غير مأمور بذلك ولا قائم بجميع أموره في ذلك. ¬
فرع (¬1): ومن ذبح أُضحية صاحبه غَلَطًا لم يجز المذبوح عنه، وإن فعل ذلك كلّ واحدٍ منهما بأُضحيَة صاحبه ضمنها، قاله مالك في "المدوّنة" (¬2). ووجهُ ذلك: أنّ كلَّ واحد منهما مُتَعَدٍّ على أُضحيَة صاحبه فلزمه ضمأنّها؛ لأنّ الخطأ والعَمْدَ في المال سواءٌ، وإذا ضمنها الذّابحُ لم تجزئ المُتَعَدِّي؛ لأنّها تكون لمن ضمنها إنَّ ضمنها له، وإن لم يضمنه إيّاها ورَضِيَ بها مذبوحة لم تُجْزِئ أيضًا؛ لأنّه قد كان معه ملكها لما كان له من تضمين المُتَعَدِّي، وإنّما عادت إلى حالها من الملك الصَّحيح بترك التضمين، وذلك بعد الذَّبح ولو كان هَدْيًا، فقد رَوَى ابنُ القاسم وابنُ وَهْب عن مالك في "الموازية": تُجْزِىء عمّن قلّده لا عمن نحوه (¬3). ورَوى أشهب (¬4) أنّها لا تجزئهما (¬5). المسألة التّاسعة (¬6): وإنّما أمرَ ابن عم نافعًا بذبحها يوم الأضحى لأنّه أفضل، وأمره بذبحها في ¬
المصلَّى لأنّ الأُضحيَّة من القُرَبِ العامَّة فالأفضلُ إظهارها؛ لأنّ في ذلك إحياء سنّتها. وقال ابن حبيب (¬1): يُستحبّ الإعلان بها لكي تُعْرَف وَيعْرِف الجاهل سنَّتها وما يلزمه منها، وكان ابنُ عمر إذا اشترى أضحيّة يأمر غلامه بحملها إلى السوق ويقول: هذه أُضحيّة ابنُ عمر أراد أنّ يعلن بها، وأن (¬2) يُنَشِّط النَّاس على مثل فعله. وليس شراؤُها بواجبٍ لكونها أُضحيّة. المسألة العاشرة (¬3): قوله: "وَحَلَقَ ابْنُ عُمَرَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الكَبْشُ" (¬4) ولعلّه امتنع من ذلك حتّى ضحَّى، على وجه الاستحباب، ولم ير ذلك واجبًا عليه. وقد رَوَى الأبهري وابن القصّار (¬5) أنّه يُستحَبُّ لمن أراد أنّ يُضَحي ألَّا يقصّ ولا يَقْلِم ظفرًا حتّى يُضَحِّي. قالا: ولا يحرم ذلك عليه، وبه قال الشّافعيّ (¬6). وقال أبو حنيفة: ليس في ذلك استحباب (¬7). وقال أحمد وإسحاق: يحرمُ عليه الحَلْق وتقليم الأظفار (¬8). ¬
ودليلُ الاستحباب: ما رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ رَأى هِلَالَ ذِي الحِجَّة، فَأَرَادَ أنّ يُضحِّيَ، فَلَا يَأَخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا من أَظفَارِهِ حتَّى يُضَحِّي" (¬1) فوجه الدّليل: أنّ هذا نهيٌ، والنَّهْيُ إذا لم يقتض التَّحريم حمل على الكراهية. ودليلُنا على نفي الوجوب: حديث عائشة في كتاب الحجِّ (¬2) "فلَمْ يَحْرُمْ علَى رُسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - شَيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ حًتَّى نَحَرَ الْهَدْي" ولا خلاف أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ضحَّى في ذلك العام. المسألة الحادية عشرة (¬3): قوله (¬4): "وَكَانَ ابن عُمَر مَرِيضًا لمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ". يقتضي أنّ مرضَهُ منعه من الصّلاة (3) مع النَّاس، ولم يمنعه من إنفاذ الضَّحِيَّة في ماله، وهي قُربة كالصّدقة والعِتْق، لما كان ماله يتَّسِعُ لذلك، وذلك أنّ حكمَ الأُضحيَّة قبل ذبحه حكم ماله يُورث عنه، قاله مالك في "المختصر"، و"الموازية". المسألة الثّانية عشرة: اختلفَ العلّماءُ في الأُضحية يموتُ صاحبُها قبل أنّ تُذْبَح: فقال مالك: إذا تشَاحَّ أهل الميراث فيها، باعوها وكانت ميراثًا. ¬
وقال الأوزاعي: إذا مات قبل يوم النَّحْر، فإنّها تُذْبَح عنه يوم النَّحْر؛ لأنّها قُرْبَة وشبه صدقة ولا تكون ميراثًا، إِلَّا أنّ يترك ديْنًا لا وفَاءَ له إِلَّا من تلك الأُضحيَّة، فتُباعُ في دَينِهِ. وقال أحمد بن حنبل (¬1) وأبو ثور: تُذْبَح، لأنّها من القُرَبَات الّتي يَنْتَفِعُ الميَّتُ بها. ولو (¬2) مات عن هّدْيِهِ بعد أنّ قلَّده، ففي "العُتْبيَّة" (¬3) عن ابن القاسم أنّ للغُرَمَاء بيعه (¬4)، كَمَا لَهُم بيعُ ما أعتق وردّ عتقه. وهذا عندي (¬5) حكم الأُضحية بعد الإيجاب بالقول على مذهب من رأى ذلك من أصحابنا. فرع (¬6): ولو مات بعد ذَبْح أُضحيَّته، فقد قال مالك في "المختصر": هي لورثته ولا تباع في دَيْنِهِ (¬7)، رواه في "العُتْبِيَّة" (¬8) عيسى عن ابن القاسم. ووجهُ ذلك: أنّها فاتت بالذَّبح، وصارت في حكم المستهلك كما لو أكلها. والفرقُ بين ذبحها وتقليد الهَدْي: أنّ الهدي لا يضمن بالتّقليد، والذّبح تضمنُ به الأُضحيَة، فكان ذلك فوتًا فيها. فإذا قلنا: إنها تُورَث (¬9)، فإنّ لهم أكلها. وقال مطرّف وابن الماجشون عن مالك: يُنْهَوْنَ عن بيعها. ¬
ولا خلافَ بين أصحابنا في المنع من البيع؛ لأنّه قد انتقل إليهم ملكها، وأمّا قسمتُها، فقد أجاز ذلك مالك من رواية مُطَرِّف وابن الماجشون (¬1). واختلف قولُ مالك وأصحابه في القسمة، هل هي تمييز حقٍّ أو بَيْعٍ (¬2)؟ فرعٌ (¬3): وهذا حكمُ من انتقل إليه حكمها بالميراث، فأما من انتقل إليه بِهِبَةٍ أو صَدَقَة، فقد رَوَى ابنُ حبيبِ في "كتاب الحدود" عن أَصبَغ: للمُعْطِي بيع ذلك إنَّ شاء (¬4). وحكَى ابنُ المَوّاز عن مالك: ليس له بيع جلدها (¬5) بجلد ولا غيره (¬6). فرعٌ (¬7): وإن باع شيئًا من لحمها أو جلدها، ففد قال ابن حبيب: من باع جلدها جَهْلًا، فلا ينتفع بالثَّمَن، وعليه أنّ يتصَدَّق به. ورُوِيَ عن سحنون؛ أنّ من باع جلد أُضحيته أو شيئًا من لحمها، إنَّ أَدْرَكَ ذلك قبل أنّ يفوت فسخ، وإلَّا جعل ثمنه في ماعون أو طعام، ويجعل ثمن اللَّحم في طعام يأكله. وقال ابن عبد الحَكَم: من باع جلدها فَلْيَصْنَع بثمنه ما شاء من إمساك أو غيره. وهذا (¬8) إنّما هو في حُكمِ ثمن المَبِيع بعد بيعه وفواته، وأمّا البَيعُ فَمُتَّفَقٌ على منعه. ¬
ويحتمل أنّ يكون ابن عبد الحَكَم ذهب إلى قول أبي حنيفة في تجويزه بيع جلد الأضحية بما سِوَى الدّراهم ممّا يُعان وُينْتَفَع به (¬1)، غير أنّ هذا حكم الثّمن عنده إذا فات البَيْعُ، والله أعلم. فرع (¬2): ومن تلف له شيء منها عند صانع بدباغٍ أو خرزِ أو غصبٍ أو تَعَدٍّ، لزمه ضمانُه، وقد قال ابن القاسم: كمن سُرِقَ له رأس أضحية في الفُرْنِ، استحبّ له ألَّا يغرمه شيئًا، وكأنّه رآه بيعًا. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأَصْبَغ: له أخذ القيمة ويصنع بها ما شاء. وكذلك قيمة الجلد يضيع أو إذا استهلك، ألَّا ترى أنّ من حلف ألَّا يبيع ثوبه، فَغَصَبَهُ غاصبٌ، أنّ له أخذ القيمة، له أنّ يأخذ من اللّحم المستهلك ما شاء من طعام أو حيوان، ولا يجوز ذلك في البيع. فوجهُ قول ابن القاسم: أنّ هذا إنَّ أخذ القيمة فهو نوعٌ من المعاوضة، وهي ممنوعةٌ في الأُضحية. فرعٌ (¬3): وأمّا صوفها، فإن جُزَّ قبل أنّ يذبحها، فقد رَوَى محمّد عن أشهب: له ذلك. وَرَوَى ابن القاسم عن مالك في "الموازية" و "العُتبِيَّة" (¬4): لا يجزئه. ¬
توجيهٌ (¬1): فوجهُ قول مالك: أنّ تعيينها للأُضحية قد أثّر المنع في أخذ شيءٍ منها كاللَّحم. ووجهُ قولِ أشهب: أنّه معنى تجوز إزالته قبل الذَّبح دون مَضَرَّة، فجازَ له أخذ ذلك منها. مسألة (¬2): إذا ثبت ذلك، فَإنْ جَزَّهَا، فقد قال ابنُ القاسم: قد أساء وتُجزئه، وينتفع بالصُّوف ولا يبيعه (¬3). وقال سحنون: لا أرى ببيعه بأسًا ويأكل ثمنه (¬4). وقال أشهب: له بيعه ويصنع بثمنه ما شاء؛ لأنّها لم تجب قبل الذّبْح. وأمّا بعد الذَّبح فله جزّ صوفها. فرع (¬5): وإذا نتجت الأُضحيّة، فقد رَوَى محمّد عن أشهب: لا يجوز ذبح ولدها معها. وقال مالك (¬6): إنَّ ذبحه مع أمِّه فحسن. فوجه القول الأوّل: أنّ سنّ الأُضحيّة معتبر، وهو معدوم في السَّخْلة. ووجه القول الثّاني: أنّه تبع لأمِّه، فلا يعتبر إِلَّا بصفاتها دون صفته كالصوف واللّبن. ¬
مسألة (¬1): وأمّا لبنها، فقد قال مالك: له شربه، ولا يجوز شربه من الهَدْيِ ولا ما فَضَلَ عن فصيلها. ووجه ذلك: أنّ الأُضحيّة لم تجب بَعْدُ، والبَدَنَة قد وجبت بالتّقليد مع بقاء حياتها. مسألة: قال مالك: يُستحبُّ للرّجل أنّ يأكل من أُضحيّته ويُطعم الفقراء منها (¬2)، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬3)، وقال أيضًا {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬4). فقولُه تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} قيل: إنّهما واجبان (¬5). وقيل: إنّهما مستحبّان (¬6). وقيل: الأكل مُسْتحَبٌّ والإطعام واجبٌ (¬7)، وهو صريحُ مذهب مالك. وقال ابن وهب وابن القاسم: "القانع" الفقير، و "المُعْتَرّ" الزّائر. وقال ابن وهب وعتبة: إنّه السّائل (¬8). وقيل: "المُعْتَرّ" الّذي يعتريك (¬9)، و"الْقَانِعُ" الجالس في بيته (¬10). ¬
وقيل: "القَانِعُ" الّذي يقنع بالقليل، و"المُعْتَرّ" الّذي يمرُّ بِكَ ولا يأتيك (¬1). وقيل: "القَانِعُ" هو المتعفِّف، و"الْمُعْتَرّ" السّائل (¬2). قال القاضي: ومن (¬3) النّادر كونهما في العربيّة بمعنىً واحدٍ، قال الحَارِث بن هِشَام: وَشَيبَةُ فِيهِمْ وَالوَلِيدُ وفِيهمُ ... أُمَيَّةُ مَأْوَى المُعَتَرين وذو الرَّحْلِ (¬4) يريدُ بالمعترين من يقيم للزّيارة، وذو الرَّحْلِ (7) من يمرّ بك فَتُضيِّفُه. قال القاضي: والذي عندي فيهما أنّهما متقاربان كمعنى الفقير والمسكين، وحقيقة ذلك: أنّ الله تعالى أمر بالأكل وإطعام الفقير، والفقير على قسمين: ملازِمٌ لك، ومارٌّ بك، فَأَذِنَ اللهُ تعالى في إطعام الكلِّ منهما مع اختلاف حاليهما، ومن هاهنا وهم بعض النَّاس فقال: إنَّ القانع هو جارك الغنيّ، وليس لذلك وجه، والله أعلم. ¬
باب ادخار لحوم الضحايا
باب ادّخَار لحوم الضَّحايا مالك (¬1)، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكَّىَّ، عَن جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ؛ أَنْ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ أَكلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: "كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا" (¬2)، و "تَصَدَّقُوا" في بعض طرقه (¬3). الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ من طُرُقٍ (¬4)، وخرّجه الأيمّة (¬5)، وفيه علمٌ كثيرٌ. الأصول (¬6): قولُه: "نَهى عَنْ لُحُومِ الأضَاحِي" هل يقتضي التّحريم؟ أو يُحْمَل ذلك على الكراهية؟ فظاهرُهُ يقتضي التَّحْريم، وقد يصحّ حمله على الكراهة بدليلٍ إنَّ وُجِدَ. وقد اختلف النّاسُ في تأويله: فتأوَّله قومٌ على التّحريم، وأن النَّسْخَ بإباحته طرأ بعد ذلك. وحَمَلَهُ قومٌ على الكراهية. ¬
ويحتمل أنّ تكون الكراهة منسوخةً. ويحتمل أنّ تكون الكراهة باقية. ويحتمل أنّ يكون حُكْمُ المنع ثبتَ لِعلَّةٍ فارتفعَ بِعَدَمها، فيكون ذلك المنع - وإِنْ ورد بلفظ العموم - محمولًا على الخصوص بدليل. فأمّا من ذهب إلى القول الأوّل، فتعلَّق بأنّه - صلّى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الأضاحي (¬1)، ثمّ قال: "كُلُوا وَتَزَوَّدُوا"، وإذا وردَتِ الإباحةُ بعد الحَظرِ فهو حقيقة النَّسْخ. وقد رُوِي عن عليَّ ما يدلُّ على استدامة حُكم المنع، وَرَوَى أبو عُبَيْد (¬2). قال: شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عَلِىَّ، فَصَلَّى ثمَّ خَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَاكُم أنّ تَأكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثلَاثٍ" وهذا يدلُّ على أنّه غير منسوخٍ عنده. ورُوِيَ معنى ذلك في الامتناع عن ابنِ عمر (¬3). ويحتمل أنّ يكون إنّما مَنَعَ من أجل الدَّافَّة، وأنّ الحاجةَ الواجبة أوجبت ذلك، وأن الحاجة لو نزلت بقومٍ من أهل المَسْكنَة لَلَزِمَ النَّاس مواساتهم، إِلَّا أنّ الأظهر أنّه حكمٌ منسوخٌ، والله أعلم. ¬
ولو كان لأجل الدَّافّة خاصّة لَمَا اختصَ ذلك بلحوم الأضاحي بل كان يلزم النَّاس مواساتُهُم بها وبغيرها، والحديث منسوخٌ حقيقة (¬1)، والله أعلم. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله: "نهى عَنْ أَكل لُحُومِ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ" يريدُ أنّه نهى عن أنّ يأكل منها ذَابحُها بعد ثلاثٍ؛*لأنّه لمّا أباح الذَّبح في الثّلاثة الأيَّام أباح أكل فيها من الأُضحيّة، وقصر إباحة الأكل عليها ليتمكّن المضحِّي بأن يؤخِّر الذَّبح إلى آخرها, ولا يتعذر عليه الأكل منها. ويحتمل أنّ يريد إباحة الأكل بعد ثلاثة أيّام من وقت ذبح أُضحيّته*. لكان ضحّى في آخر أيّام الذبْح، أبيحَ له الأكل منها ثلاثة أيّام؛ لأنّ في منعه منها بعد اليوم والمُدَّة اليسيرة تضييقًا عليه، وفي أَكلِهِ منها بعد ثلاث مُنْتَفَعٌ، ونهى عن أكلها بعد ذلك, والنَّهيُ يقتضي التّحريم، ثمّ نسخ ذلك بإباحة أكله، وهذا من باب نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة. وقوله: "فَكُلُوا وَادَّخِرُوا" وقد رُوِيَ ما يقتضي الإباحة (¬3) , رَوَى ابنُ الموّاز عن مالك: لا بَأْس على الرَّجل إنْ لم يأكل من بَدَنَتِهِ. وإن (¬4) تصدّق بلحم أُضحيته كلِّه، ¬
فهو أعظم لأجره. ورُوِيَ ما يدلُّ على أنّه على النَّدْب والاستحباب، وهذا ما روى ابن حبيب عن مالك: لو أراد أنّ يتصدّق بلحم أُضحيته كلّه واستغنى عنه فلم يأكل منه شيئًا لكان مخطئًا. توجيه (¬1): فوجهُ رواية ابن الموَّاز: أنّه حيوانٌ يجري على وجهِ القُرْبَةِ فلم يُؤمَر بالأكل منه. أصل ذلك: ما نَذَرَهُ أو تصدَّقَ به. ووجهُ رواية ابن حبيب: أنّه حيوانٌ يُذْبَحُ على وجه القُرْبَةِ المبتدأة، فكان الأكل منه مشروعًا مندوبًا إليه كالهدي. وقد حكى عبد الوهّاب (¬2) عن بعض العلماء أنّه قال: الأكل منها واجب، وهذا قولٌ شاذٌّ بعيدٌ (¬3). المسألة الثّانية (¬4): قولُه: "وَتَصَدَّقُوا" - وقد سقط من رواية ابن وضاح- (¬5) فهو على الاستحباب دونَ الوجوبِ؛ لأنّه لا خلافَ اليوم بين الفقهاء في ذلك، والأصلُ فيه: قولُه في هذا الحديث: "وتَصَدَّقُوا" والأمرُ يقتضي الوجوب أو النَّدْب، فإذا دلَّ الإجماعُ على انتفاء ¬
الوجوب حُمِلَ على النَّدْب، وقد رُوِي عن مالك: لو أنّ رجلًا تصدَّق بأُضحيته كلِّها (¬1)، كان مخطئًا، كما لو أكلها ولم يطعم منها. وقال ابنُ المَوَّاز (¬2): يُستَحبُّ له أنّ يتصدَّقَ ببعض لحم أُضحيَّته، ولو لم يتصدَّق بشيءٍ منه جازله. المسألة الثّالثة (¬3): فإذا ثَبت أنّ الإطعام منها مشروعٌ، فقال ابن حبيب (¬4): لم يحدّ ما يطعم ولا ما يأكل، فليأكل وليتصدّق، وما فعل ممّا قلَّ من ذلك أو كثر فهو يُجْزِئ. زَادَ ابنُ الجَلَّابِ (¬5): "والاختيارُ أنّ يأكلَ الأقلّ ويقسم الأكثر، ولو قيل: يأكل الثّلث ويقسم الثّلثين لكان حَسَنًا، والله أعلم". ¬
باب الشركة في الضحايا
باب الشَّرِكة في الضَّحايا قال الإمام (¬1): الأحاديثُ في هذا الباب صِحَاحٌ، وذكر مالكٌ في هذا الباب حديثَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (¬2) في الاشتراك في ذلك، وهو محمولٌ على التَّطوُّع، إِلَّا أنّ يكونوا أهلَ بيتٍ، فإن الشّ اة الواحدةَ تُجْزِىءُ عنهم، ألَّا ترى قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيتٍ أضحَاةٌ" (¬3)، وإلى حديث أَبِي أَيُّوب (¬4): "كُنَّا نُضحِّي بالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنْ أهل البَيْتِ" (¬5) واشتراكُ أهل البيت في ذلك رخصةٌ ورِفْقٌ، وأمّا الشُّركاء الأجانب، فلا يكون ذلك في إقامة السُّنَنِ، وإنّما يكون في النَّوافل. ¬
الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "نَحّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ عَامَ الْحُدَيبِيَّةِ البَقَرَةَ عَنْ سَبعَةٍ وَالْبَدَنَة عَنْ سَبْعَةٍ" يقتضي أنّ البُدنَ والبقر تُنْحَر، وسيأتي بيانُه إنَّ شاء الله (¬3). وأمّا ما ذكر من ذَبْح الواحدة عن سبعة، فقد اختلفَ النَّاسُ في ذلك، فمذهب مالك - رحمه الله - أنّه لا يجوز في الهدايا الواجبة ولا فيَ الضَّحايا أنّ يشترك في ثمن الأُضحيّة والبَدَنَة جماعة، فيشترونها ثمّ يذبحونها أو ينحرونها (¬4). فأمّا هَدْي التّطوُّع، فالمشهورُ عنه أنّ الاشتراكَ فيه غير جائز (¬5). وحَكَى ابنُ القَصَّار أنّه رُوِيَ عنه أنّ ذلك يجوز (¬6). ويجوزُ عند مالك أنّ تكون الأُضحيّة لرَجُلٍ واحدٍ فيذبحها عنه وعن أهل بيته ومن في عياله وإن كانوا أكثر من سبعة. ¬
وفي هذا ثلاث مسائل: الأولى (¬1): لا خِلافَ أنّ الواحد من بَهِيمَة الأنعام تجزئ الإنسان في أهل بيته، ولكن قال مالك: يستحبّ قول ابن عمر أنّ يضحِّي عن الإنسان بشاةٍ لمن استطاع ذلك. ووجهُ ذلك: أنّه أكثر ثوابًا وأبعد في الاشتراك الّذي بَيَّنَّا في الضَّحايا. المسألة الثّانية (¬2): فيمن يجوز للإنسان أنّ يشركه في الأضُحية * فقد رَوَى ابن حبيب عن مالك؛ أنّه* يجوز أنّ يُضَحِّيَ الإنسانُ عن نفسه وعن أهل بيته بالشَّاة الواحدة (¬3)، يعني بأهل بيته أهل نفقته، قليلًا كانوا أو كثيرًا. والأصل في ذلك: حديث أبي أيوب المتقدِّم "كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنهُ وَعَنْ أَهْل بيْتِهِ"، زاد ابنُ المَوَّاز عن مالك: ووَلَدَيْهِ الفقيرَيْنِ. قال ابنُ حبيب: وله أنّ يُدْخِل فيها مَنْ بلغَ من ولَدِه وإن كان غنيًّا إذا كان في نَفَقَتِه وبيته، وكذلك من ضمَّ إلى نَفَقَتِه مِنْ أخٍ أو ابن أخٍ أو قريبٍ (¬4)، فأباح ذلك بثلاثة أسبابٍ: أحدُها: الإنفاق عليه. والثّاني: المُسَاكَنَة. والثّالث: القَرَابة. قال ابنُ المَوَّاز عن مالك: له أنّ يُدْخِلَ زوجته في الأُضحيّة (¬5). ووجه ذلك: ما قدَّمْنَاهُ؛ لأنّ المساكنة والإنفاق موجودان، والزّوجيّة آكَدُ من ¬
القرابة، قال الله العظيم: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). قال مالك في "الموازية": إنَّ شاءَ أنّ يُدخل في أُضحيَّتِهِ أمّ ولَدِهِ ومَن له فيه بقيّة رِقٍّ أَجْزَأَ. ووجهُ ذلك ما قدَّمناه، ولأنّ الوَلَاء لحمة كلحمة النَّسَب، وهو ثابتٌ في أُمِّ الوَلَد وسبَبُهُ موجودٌ فيمن له فيه علقة رِقٌّ. فرع (¬2): ولا يُدْخِل يَتِيمَهُ في أُضحِيَّتِهِ ولا يُشرِكه فيها وإن كانا أَخوَيْن، والجَدُّ والجَدَّةُ كالأجانب، قاله ابنُ المَوَّاز عن مالك، يريدُ أنّ الجدّ والجدّة ليسا في نفقته، ولو كانا على ذلك لجاز عندي ما تقدّم في الأقارب. المسألة الثّالثة (¬3): في ذكر من يلزمه أنّ يضحِّيَ عنه يلزمُ الرجلَ أنّ يُضَحِّي عن نفسه وعن أولاده ما لَزِمَهُ الإنفاق عليهم، ولا يلزمه أنّ يُضَحِّي عن زوجته ولا رقيقِه ولا أمّ الولد، ولا من فيه بقيّة رقّ. ويصحّ أنّ يدخلوا معه (¬4) لقوله: "فَيَذْبَحُهَا عَنْهُ وَعَنْ أَهلِ بَيتِهِ" والّذي عندي أنّه يصِحُّ ذلك بنيَّتِه وإن لم يُعْلِم أهل بيته، ولذلك يدخل فيها صغار ولده ومن لا تصحّ نِيَّته. ¬
باب الضحية عما في بطن المرأة
بابّ الضَّحيَّة عمّا في بطن المرأة قال الإمام: الأحاديثُ في هذا الباب صِحَاحٌ. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "الأَضْحى يَوْمَانِ بَعْدَ يَومِ النَّحْرِ": يريد أنّ اليوم الرّابع ليس من أيامِ الذَّبح، وبهذا قال مالك (¬3)، وسفيان الثّوريّ وأبو حنيفة (¬4). وقال الشّافعيُّ: أيَامُ الذَّبح أربعة (¬5). وقد استدلّ ابنُ القصّار في ذلك بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية (¬6)، قال: والأيّامُ المعلومات: يوم النَّحرِ ويومان بعده، والأيامُ المعدودات ثلاثة بعدَ يوم النَّحر، فيومُ النَّحْر معلومٌ غير معدودٍ ولا مجهول، واليومان بعدَهُ معلومان معدودان، واليوم الرّابع معدودٌ غير معلومٍ، وفائدةُ وَصْفِنَا له بأنّه معلومٌ بأنّه من أيّام النَّحر والذَّبح، وفائدةُ وَصْفِنَا له بأنّه معدودٌ أنّه من أيّامِ الرَّمي، وقد قال اللهُ تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية (¬7). ¬
فصل
واستدل مالك (¬1) - رحمه الله - بقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬2). وقال ابنُ القصّار (¬3): أراد بذلك التّسمية على الذّبيحة، وخصّ بذلك الأيَّام، فوَجَبَ أنّ يتعلّق بها دون اللّيالي على ما نعتقدُه من القول بدليل الخطّاب. قال الإمام: والّذي عندي أنّ التَّعلُّق بهذه الآية ليس من باب دليل الخطّاب، وذلك أنّ الشَّرع وَرَدَ بالذّبْح في زمان مخصوص، وطريق تعلّق النّحر والذّبح بالأوقات، والشّرع لا طريق له غير ذلك (¬4)، فهذا وَرَدَ الشّرع بتعلقه بوقب مخصوصٍ لقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} ونَحَر النَّبىِّ -عليه السّلام- وذبح نهارًا، عَلِمْنَا جواز ذلك في النّهار، ولم يجز أنّ نُعَدَّيه إلى اللّيل إِلَّا بدليلٍ، وقد طلبنا في الشَّرعِ فلم نجد دليلًا، ولو كان لوجدناه مع البحث والطَّلَبِ، فهذا من باب الاستدلال بعدم الدّليل (¬5). وأعْجَبُ من أشهب أنّه قال: يُجزِىء الهَدْيُ باللّيل دون الأضحية؛ لأنّ الله تعالى ذكَرَ في الهَدْي الأيَّام المعلومات. قلنا: والأيام لفظ ينطلق على اللّيل والنهار، ولكن جرت السُّنَّة بالذَّبح نهارًا وعليه جرى العمل. فصل (¬6) وذلك أنّ كلَّ قُرْبَةٍ تكونُ مختصَّةَ بالمتقرِّب فهي جائزةٌ باللّيل والنّهار، وأفضلُها ¬
خاتمة
باللّيل، وكلُّ قُربَةٍ تتعدّى إلى الغير فإنّها لا تُفْعَل ليلًا، إنّما تُفعل نهارًا حيث ينتشرُ المحتاج، ولو لمِ يكن في ذلك إِلَّا قصّةُ أصحاب الجنَّة {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (¬1) وبهذه الآية نَبَّهتُ جماعةً من الطّلبة المبتدئين لأنّ يقولوا: ما تقولون في فرضٍ يُجْزِئُ باللّيل ولا يُجْزِئُ بالنّهار، وسُنَّة تُجزىء بالنّهار ولا تُجزىء باللّيل؟ فالّذي لا يُجْزئ بالنّهار الوقوف بِعَرَفة، والسُّنَّة الّتي تُجزىء بالنّهار ولا تجزئ باللّيل هي الأُضحيّة. المسألة الثّانية (¬2): ومن وُلدَ له مولودٌ في أيّام الذَّبح وقد ضَحَّى أو لم يضحِّ، فعليه أنّ يُضَحِّي عنه، قاله ابن حبيب (¬3). ووجه ذلك: أنّ وقتَ لزوم الأُضحيّة هو وقت أدائها، وهذا إلى غروب الشّمس من آخر أيّام النَّحر، ومن وُلِد له في ذلك الوقت (¬4) أو أسلم مِنَ المشركين (¬5)، ثبتَ في حقِّه حكم الأُضحيّة. خاتمة (¬6) قال علماؤنا: والأُضحية عن الصّغير والكبير، ذكر وأنثى (¬7)، هي واجبةٌ على أهل الآفاق، وأكثر العلماء على أنّها سُنَّة وليست بواجبةٍ، وهذه عبارة يستعملُها أصحابُنا فيما ¬
تأكَّدَ استحبابُهُ وبلغ صفته وإن لم يجب فعله، فقد قال ابنُ القاسم في "المُدَوَّنة" (¬1): من تركها أثم, وهذا معنى الوجوب. وقال ابن المَوَّاز في "كتابه": هي سُنَّةٌ واجبةٌ. وقال ابن حبيب: هي من واجباتِ السُّنَنِ وتركها خطيئةٌ. وقال عبد الوهّاب (¬2): "أطلَقَ بعضُ أصحابنا (¬3) على أنّها واجبةٌ، وإنّما يريدون بذلك أنّها سُنَّة مُؤَكَّدَة" (¬4)، وهذا محتملٌ من الأقوالِ غير قول ابنِ القاسم وابنِ حبيبٍ اللذين يُؤَثِّمَانِ تاركها، فإنها لا تحتمل إِلَّا الوجوب، والأوّل هو أشهر في المذهب، وبه قال الشّافعيّ (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6): هي واجبةٌ على من ملك نِصَابًا من أهل الإقامة، دون المسافر والمقيم الّذي لا يملك نصابًا، وذلك مئتا دِرْهَم بعد المنزل والخادم. والدّليلُ عليه: ما خَرَّجه مسلم (¬7)، عن أُمِّ سَلَمَة؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ: "إِذَا رَأَيتُمْ هِلَالَ ذِي الحِجَّة ... " الحديث. تمَّ كتاب الأُضحيّة ¬
كتاب الذبائح
كتاب الذّبائح المقدَّماتُ في صدر هذا الكتاب ثلاثة: المقدِّمة الأُولى في إقامة الأدله من الكتاب والسُّنَّة وبيان ما حلل وما حرم قال الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الآية (¬1). قال علماؤنا (¬2): معناه: أُحِلَّ لكم المُذَكَّى منها، وما كان في معناه، بدليل قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لأنّ المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} بعد ذلك من التّحريم، في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (¬3)، فَعَرَّفَنَا أنّ الذّكاة غيرُ عاملةٍ فيه. وقولُه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬4): هو ما ذُبحَ على النُّصب ممّا لا يأكلونه. وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي الّتي تُخْنَقُ بحبلٍ (¬5)، أو الّتي صارت بالخناق إلى حال اليأس الّذي لا تُرْجَى معه حياة. وكذلك "المَوْقُودَةُ": المضروبة بالعصا، أو (¬6) بالخشب أو بالحَجَر، ومنها المقتولة بقَوسٍ البُنْدُق. ¬
و"الْمُتَرَدَّيَةُ": هي السّاقطةُ من جبلٍ أو في بئر. و"المتندية": هي المنفلتة، يقال: ندت الدّابَّة، إذا انفلتت من وثاقها فندّت، فخرج وراءها، فرُمِيَت برُمْحٍ أو سيف فماتت، هل يكون ذلك ذكاةً؟ ففيه اختلاف بين العلماء: قيل: هي ذكاةٌ، وهو مذهب الشّافعيّ (¬1)، واختيار ابن حبيب. وقيل: لا تُذَكَّى به، وهو اختيار مالك (¬2). وقوله: {وَالنَّطِيحَةُ}: هي الشّاة تنطحها الأُخرى. بقرنها، وقرأ أبو ميسرة (¬3) {والمنطوحة} وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} كان أهلُ الجاهليَّة إذا أكل السَّبعُ شاةً أكلوا بقيَّتها، قاله ابن عبّاس وقتادة (¬4) وغيرهما. العربيّة: قولُه: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} الآية، "السَّبُعُ": مأخوذٌ من سبعت اللّحم أي قطّعته، والتّذكية عبارة عن التّمام، ومنه ذكاء السّنّ، وذكتِ النّار إذا عَظُمَ اشتعالُها. وأمّا (¬5) الصّحيحة، فلا معنى لذكرها، إذْ لا إشكال فيها. وقولنا: إنَّ المراد بالموقوذة وأخواتها ما صار إلى هذا الحدّ، وفي ذلك كلامٌ طويلٌ أعرضنا عنه. واختلفَ أهل العلم في قوله في هذه الآية: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} هل هو استثناءٌ متَّصلٌ أو منْفَصِلٌ؟ والاستثناءُ المتَّصِلُ: هو ما يُخرجُ من الجملةِ بعض ما يتناوله اللَّفْظ، مثل قوله ¬
تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} الآية (¬1)، وهذا كثير. وأمّا الاستثناءُ المنفصلُ، فهو ما لا يخرج من الجملة المتقدِّمة ممَّا يتناوله اللَّفظ، مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (¬2)؛ لأنّ الخطأ لا يصحّ أنّ يقالَ فيه: إنَّ له أنّ يفعله. ومثل قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} الآية (¬3). قال القاضي - رضي الله عنه -: فمن ذهب إلى أنّ الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} من الاستثناء المتَّصل، أجاز المُنْخَنِقَة وأخواتِها، وإن صارت البهيمة بما أصابها إلى حال اليأس مالم ينفذ لها مقتلًا، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في "المدَّونة" (¬4) و"العُتبِيَّة" (¬5). وأمّا من ذهب إلى أنّه استثناءٌ منفصلٌ، لم يُجز ذكاتها إذا صارت في حالة اليأس ممّا أصابها من ذلك وإن لم ينفذ مقاتلها، وقال: معنى الكلام في الاستثناء المنفصل: لكن ما ذكَّيتُم من غير هذه الأصناف، وهو اختيار مالك في رواية أشهب عنه، وهو قول ابن الماجشون، وابن عبد الحَكَم، وروايتهما عن مالك، وإذا أنفذ مقاتلها ما أصابها من ذلك، فلا تُذَكَّى ولا تُؤكل، فإنها باتِّفاقٍ (¬6) سبيل الميِّتة، وإن تحرّكت بعد ذلك، فإنّما هي سبيل الذّبيحة الّتي تتحرَّك بعد الذَّبح، وقد روى ابن القاسم في "كتاب الدّيات" (¬7) في الّذي يُنْفِذُ مَقَاتِلَ رَجُلٍ ثمّ يُجهز عليه آخرُ: أنّه يُقتَل به ويُعاقَب الأوّل، فعلى هذه الرِّواية ¬
المقدمة الثانية في معرفة فرائض الذكاة
يلزم تجويز ذكاة هذه الأصناف بعد إنفاذ المقاتل، هذا على من جعل الاستثناء متَّصِلًا، وهي روايةٌ ضعيفةٌ، والصّواب رواية سحنون أنَّ الأوّل يُقتل به ويعاقب الثّاني. وقد رُوي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّ الذّكاة تصحّ فيها ما بقيت فيها حياة بتحريكِ يدٍ أو رِجْلٍ ظاهرةٍ إنَّ كانت منفوذة المقاتل، وهو قول ابن عبّاس، روي أنّه سئل عن ذئب عَدَا على شاةٍ فَشَقَّ بطنها حتّى انتثر قصبتها فأدركت ذكاتها؟ فقال: كُلْ، وما انتثر من قصبتها لا تأكل. المقدِّمة الثّانية في معرفة فرائض الذّكاة وهي (¬1) أربعٌ: النِّيَّةُ، وهي القَصْد إلى الذّكاة. وقطع الوَدَجين، والحُلْقُوم، والفور. فأما النِّيَّة: فهي فرض بإجماع الأُمَّة، وكذلك قال علماؤنا: لا تصحُّ الذكاةُ إِلَّا بنِيَّة، ولذلك قلنا: لا تصح من المجنون ولا مِمَّن لا يعقل؛ لأنّ الله منعها من المجوس، وهذا يدلُّ على اعتبار النِّيَّة، ولو لم يعتبر القَصْد لم يُبَالِ ممّن وقعت. وأمّا (¬2) قطع الوَدَجَين والحلقوم، فإن ذلك فرضٌ عند مالك وأصحابه (¬3)، فإِنْ قطعَ الحُلْقُوم ولم يقطع الوَدَجَين، أو قطع الوَدَجَين ولم يقطع الحُلْقُوم، فإنّها لا تُؤكل الذَّبيحة، خلافًا للشّافعىّ (¬4) وأبي حنيفة (¬5) في قوليهما: إنَّ الذّكاةَ في أربع: الحُلْقُوم، والمَرِيء، والوَدَجَيْن، فإن أنفد منها ثلاثة وبقي واحدٌ أُكِلَت الذَّبيحةُ. ¬
وقال بعضهم: لا بدّ أنّ يبقى في المُذَكَّى بقية، تَشْخبُ معها الأوداج، ونضطرب اضطراب المذبوح. ولو ذبحها من القَفَا، ثمّ استوفَى القطْع، فأنّهر الدَّم وقطع الحُلْقُوم والوَدَجَين، لم تُؤكل عند علمائنا (¬1). وقال الشّافعيّ: تُؤكل؛ لأنّ المقصودَ قد حصَلَ (¬2). وقولُه (¬3): "مَا أنْهَرَ الدَّمَ": فإنها إشارةٌ إلى تجويز الذَّبح بالقَصَب والحجَرِ، إذا وُجِدَ ذلك بصفةٍ تقطع وتذبح الذَّبيحة. نكتةٌ (¬4): وإنّما أصاب مالك الغرَضَ في قوله (¬5): "إذا ذَبحَهَا وَنَفَسُهَا يجْري وَالعَينُ تَطْرِفُ وَهِيَ تضْطَربُ" إشارة إلى أنّه وُجِدَ فيها قَتلٌ صار باسم الله المذكور عليها ذكاة، أي تَمَامٌ يُحِلُّها أو يطهِّرها، كما جاء في الحديث في الأرض النَّجسة: "ذَكَاةُ الأَرْضِ النَّجِسَةِ الشَّمْسُ" (¬6) وهي في الشّريعة عبارة عن إنهار الدَّمِ وفريِ الأَوْدَاج في المذبوح، والنَّحْرِ في المنحور (¬7)، والعَقرِ في غير المقدور عليه (¬8) كما تقدَّم، مقرونًا ذلك بنيَّةِ القَصْد إليه وذِكْرِ الله عليها، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسمُ اللهِ عَليْهِ فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّننّ وَالظُّفُر، وَسَأُخبِرُكُمْ: أمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأمَّا الظُّفُرُ فمُدَى الحَبَشةِ" (¬9). ¬
وقال (¬1): ليس في الحديث الصّحيح ذكرٌ في الذَّكاة بغير إنهار الدَّم، فأما فَرْيُ الأوداج وقَطْعُ الحلقوم فلم يصح فيه شيءٌ. وقال مالك وجماعة: لا تصحُّ الذَّكاةُ إِلَّا بقطعِ الوَدَجَيْن والحُلْقُوم (¬2). وقال الشّافعيُّ (¬3): تصِحُّ الذَّكاةُ بقطع الحُلْقُوم والمَريء، ولا يُحتاجُ إلى قطع الوَدَجَيْن. وتعلَّقَ علماؤنا بحديث رافع بن خَدِيج؛ أنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "اِفْرِ الوَدَجَينِ وَاذكُرِ اسْمَ اللَّهِ" (¬4). ولم يَصِحُّ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيءٌ، لا لَنَا ولا لَهُم، وإنّما المعمولُ والمُعَوِّلُ على المعنى، فالشّافعيُّ اعتبر قَطعَ مَجْرَى الطّعام والشّراب الّذي لا يكون بعَدَمِه حياة، وهو الغرض من الموت (¬5)، وعلماؤنا اعتبروا الموتَ على وَجْهٍ يَطِيبُ معه اللَّحم، ويفترقُ فيه الحلال - وهو اللّحم - من الحرام - وهو الدَّم - بقَطْع الأوداج، وهو مذهبُ أبي حنيفة (¬6)، وعليه يدلُّ الحديثُ الصّحيحُ في قولِهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ فَكُل"، هذا بَيِّنٌ لا غُبَارَ عليه. وفي السَّن والظُّفُر أقوالٌ ثلاثةٌ: الأوّل: أنّه يجوز بالعَظْم، قاله مالك في "المدوّنة" (¬7). ¬
المقدمة الثالثة
الثّاني: أنّه لا يجوز بالعَظْم والسِّنِّ، قاله في "كتاب محمّد" وبه قال الشّافعيُّ (¬1). والثّالث (¬2): أنّ علماءنا أطلقوا على المريضة؛ أنّ المذهب جواز تذكيَّتها ولو أَشْرَفَت على الموت، وإذا كان فيها بقيَّةُ حياة، فإنَّه يُذَكِّيها بما أمكن مخافةَ الفَوْت بالموتِ (¬3). المقدِّمة الثّالثة وأمّا سُنَنُ الذَّبح (¬4) فأربعة أيضًا: 1 - حدّ الشَّفْرة. 2 - واستقبال القِبْلَة. 3 - والتّسمية. 4 - والصّبر عليها حتّى تبرد. والمَقَاتِلُ المتَّفَق عليها خمسة: 1 - انقطاعُ النّخاع، وهو المخّ في عظام الرَّقَبة والصُّلب. 2 - وقطعُ الأوداج. ¬
باب التسمية على الذبيحة
3 - وخرق المصير. 4 - وانتثار الحشوة. 5 - وانتثار الدِّماغ. ومعنى قولهم في خرق المصير أنّه "مقتل"، إنّما ذلك إذا خرق أعلاهُ في مجرى الطّعام والشّراب، قبل أنّ يتغيّر ويصير إلى حال ترجيع على ما يُعْطِيه النَّظَر. * تمت مقدِّمات الأبواب على بركة الله تعالى، وهي الّتي ذكر مالك في هذا الباب*. باب التَّسمية على الذَّبيحة مالك (¬1)، عن هِشَام بنِ عُرْوَة، عن أبيه، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَقِيل لَهُ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَأتُونَنَا بِلُحْمَانٍ وَلَا نَدْرِي هَلْ سَمَّوُا اللهَ عَلَيهَا أَم لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا اللهَ عَلَيْهَا ثُم كُلُوها". قالَ مَالكٌ: وذلِك في أوَّلِ الإِسْلَامِ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرسَلٌ (¬2)، وقد أَسندَهُ جماعةٌ من الرُّواةِ (¬3) عن هشام، عن أبيه، عن عائشة (¬4)، وهو حديثٌ صحيحٌ، وفيه علْمٌ كثيرٌ، لذلك صَدَّرَ به مالك في صدر هذا الكتاب، والله أعلمُ. ¬
الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله: "يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ نَاسًا يَأتُونَنَا بِلُحْمانٍ وَلَا نَدْرِي هَلْ سَمَّوُا الله عَلَيهَا أَمْ لَا؟ " وإقرارُ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - على هذا السؤال دليلٌ على اعتبار التّسمية في الذَّبح (¬2)، وقد اختلف أهلُ العلم في تأثيرِ التَّسمية في الذَّبيحة: فروَى ابنُ القاسم عن مالك في "المدوّنة" (¬3) فيمن تعمَّدَ ترك التّسمية على الذَّبيحة لم تُؤْكَل، فإن تركها ناسيًا أُكِلَت، وإلى هذا ذهب الأَبَهَرِيّ (¬4) وعبد الوهّاب (¬5)، وبه قال أبو حنيفة (¬6). وقال أشهب: تُؤْكَل إِلَّا أنّ يترك ذلك مستخِفًا. وقال ابنُ القصّار (¬7) وابن الجَهْم (¬8): إنَّ تَرَكَها عامِدًا كره أكلها ولم تحرم. وقال الشّافعيّ: من تركها عامدًا أو ناسيًا تُؤكَل (¬9). ودليلُنا على وجوب التّسمية وأنّها شرطٌ في صحَّة الذّبيحة مع الذِّكر: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬10). ودليلُنا من جهة القياس: أنّ هذا معنى وَرَدَ في الشرع بأنّه فسوق، فوجب أنّ يكون حرامًا، أصلُ ذلك: سائر الفسوق من قَذْفِ المُحْصَنَات والزِّنا وشُرْب الخمر. ¬
المسألة الثّانية (¬1): إذا ثبت ذلك، فالذي يُستعمَل من التّسمية، قال ابن المَوَّاز: يُستعمل بسم الله والله أكبر (¬2). وقال ابنُ حبيب. ولو قال بسم الله ويقطع، والله أكبر, أو لا إله إِلَّا الله، أو سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إِلَّا باللهِ، من غير تسمية أجزأه، ولكن ما عليه النَّاس أفضل: بسم الله والله أكبر. ووجه ذلك: أنّ هذا ذكر الله تعالى. وقال مالك في "العُتْبِيّة" (¬3): وإن زاد ذابحُ الأُضْحِيَّة: رَبَّنَا تقبَّل مِنَّا إنَّك أنتَ السَّمِيعُ العلّيم، فهو حَسَنٌ، وكره العلماء أنّ يقال: اللهُمَّ منكَ وإليك، وشدّد الكراهية فيه العلماء (5) وقالوا (6): إنّما يقالُ ذلك إذا أعتق. المسألة الثّالثة (¬4): وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا الله ثُمَّ كُلُوا" يحتمِل أنّ يريدَ عند الأكل؛ لأنْ ذلك ممّا يَقِىَ عليهم من التَّكليفِ. وأمّا التّسمية على ذبح توَلَّاهُ غيرهم من غير علمهم (7)، فلا تكليفَ عليهم فيه، وإنّما يُحمَل على الصِّحَّة حتّى يتبيَّن خلافها. ويحتمل أنّ يريدَ: سَمُّوا الله فتستبيحوا أكل ما لم تعرفوا أَذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه أم ¬
لا، إذا كان الذّابح ممّن تصح ذبيحتُه وإن سَمَّى الله تعالى. المسألة الرّابعة (¬1): وقول مالك: "فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ كَانَ ذَلِكَ" لما رُوِيَ في حديث عائشة (¬2) أنّ الذّابحين كانوا حديثي عهدٍ بالإِسلام ممّن يصح ألَّا يعلموا مثل هذا ولم يبلغ بعدُ إليهم الشّرع، أو ممَّن يكثر منهم النِّسيان لمثله، لما لم تَجْرِ لهم به عادة، وأمّا الآن فقد جرت به العادة حتّى لا يكاد ذَابِحٌ يترك التّسمية، ولا يوجد أحدٌ لا يعلم أنّ التّسمية مشروعةٌ عند الذَّبح. حديث مالك (¬3)، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ؛ أَنَّ عَبدَ اللهِ بْن عَيَّاشِ بْنِ رَبِيعَةَ المَخزُوميِّ أَمَرَ غُلَامَا لَهُ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً، فَلَمَّا أَرَادَ أنّ يَذْبَحَهَا قَالَ لَهُ: سَمِّ الله، فَقَالَ الغُلَامُ: قَدْ سَمَّيتُ، قَالَ لَهُ: سَمِّ الله وَيْحَكَ، قالَ لَهُ: قَدْ سَمَّيتُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَيَّاشٍ: واللهِ لَا أَطعَمُهَا أَبَدًا. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا في معنى هذا الحديث: إنّه ترك التّسمية عامدًا، وهو قول مالك فيمن ترك التّسمية عامدًا أنّها لا تؤكل، وفي "المدوّنة" (¬5) قال مالك في تفسير هذا الحديث: "لا أرى ذلك على النَّاس إذا أخبرَ الذَّابحُ بأنّه قد سمَّى"، ورَوَى ابنُ حبيب عن مُطَرِّف عن مالك مثله، فعلى هذا يكون فعل ابن عيّاش على وجهِ الوَرَعِ، والأخذ في خاصَّتِهِ ¬
باب ما يجوز في الذكاة حال الضرورة
بالأَحْوَطِ، ولعَّلَهُ قد أباح لغيره أكلها، أو تصدَّق بها أو أعطاها، وأمّا أنّ يُحرِّم أكلها فلا يجوز ذلك، ولا يجوز اطِّراحها؛ لأنّ في ذلك إضاعة المال. قال مالك (¬1): وحسبت أنّه اتّهم الغلام حين لم يُسْمِعْهُ التَّسميَة، فمن تورَّعَ كما تورّع ابن عيّاش فلا بأس به. قال عبد الملك: وإنّما الرُّخصة فيما لا تُهْمَةَ فيه، مثل حديث هشام بن عُرْوَة المتقدِّم، وهو الّذي ذكره مالك خلافًا لما ذكره أوَّلًا؛ لأنَّ من اتَّهم غيره بترك التّسمية كان الأحوط اطِّراح ذبيحته والامتناع منها, ولا يصدّق فيما أخبر به من تسميَتِهِ، والله أعلم. باب ما يجوزُ في الذَّكَاةِ حالَ الضَّرُورةِ حديث زيْد بن أَسْلَم (¬2)، عن عَطَاء بن يَسَارٍ في هذا الباب حَسَنٌ (¬3). الأصول (¬4): قال الإمام: اعلم أنّ الله تعالى شَرَّفَ الآدميّ بأن خَلَقَ له غيره، ويسَّرَهُ له في جَلْب منفعة أو دفع مضَرَّة، وزاد في المِنَّة، حتّى أَذِنَ له في إيلام الحيوان الّذي هو نظيرُه في اللَّذَّةِ والأَلَم، وأَمَرَهُ بإتْلاف نفسه وإنزال الأَلَمِ به، تارةً في التَّقَرُّب إليه كالهدايا والأَضَاحىِّ، وتارةً في التَّلذُّذِ به كذبحه للأكل. ونوّعه على قسمين: متأنس يُدْرِكُه بغير ¬
حَوْلٍ ولا حِيلَةِ، وآخرَ لا يُوصَلُ إليه إِلَّا بالحول أو الحيلة، كالدُّرَّاجِ والطّائر، ويسَّر له الأسباب الّتي يصيدُ بها الدّوارج، وعلَّمَهُ الحِيَلَ الموصلة إليه، وهي الّتي ينزل بها الطّير من العُلُوِّ، وقد بيَّنَّا هذه الأسباب في كتاب التّفسير من هذا الكتاب (¬1). وأمر سبحانه عند إخباره عن هذه المِنَّة بالرِّفْقِ والتُّؤَدَةِ، فقال رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذبَحْتُمْ فأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" (¬2) فلا بد من اعتبار الذّابح والذّبح والمذبوح، وفي ذلك أربع مسائل: المسألةُ الأولى: في صِفَةِ المُذَكِّي المُسْلِم. المسألة الثّانية: في صِفةِ ما يُذَكَّى. المسألةُ الثّالثة: في صِفَةِ الذَّكَاةِ. المسألةُ الرّابعة: في مَحَلِّ الذَّكاةِ (¬3). المسألة الأولى: في معرفة صفة الذّابح وهو أنّ يكون كتابيًّا عارفًا، فإنّ المجوسيّ محرّم الذَّبح، وأمّا الذّميّ فمأذُونٌ له في الذَّبْح؛ لأنّه صاحب كتاب. وأمّا اشتراط العِرْفَان في الذَبْح؛ فلأنّه إنَّ لم يعرف الذّبح آلَمَ البهيمةَ، وحَرُمَ الأكل بإِفسادِ الذَّبح، وإنّما جازَ إيلامُها لفائدة الانتفاع بها. وأمّا المذبوحُ، فأن يكون مأْذُونًا في أكله، حلالًا في نفسه، حيًّا، ومعنى قولنا: "حَيًّا" احترازًا من الموقوذة وأخواتها، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، حسب ما وردَ تفسيره قَبْلُ، والخَلِيسَة وهي الّتي تُنْزَعُ من يد الذِّئب حسَبَ ما ورد في السُّنَّة (¬4)، وبيَّنَّاه قبلُ. ¬
المسألة الثّانية (¬1): في صفةِ ما يذكَّى به فإنّه عند علمائنا: كلُّ محدودٍ يمكن به إنفاذ المقاتل وإنهار الدَّمِ بالطَّعْن في لَبَّة ما يُنْحَر، وبفرْي أوداج ما يُذْبح، ممّا لا يختصُّ بطائفة من الكُفَّار في قتل الحيوان للأكل. وقال ابنُ المَوَّاز عن مالك: وقد أجاز رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الذَّكاةَ بالحَجَر والشَّظَاظِ (5) وقال: يريد المروة وشقّة العَصَا والقَصَب، وكلُّ ما أَنْهَرَ الدَّم فَكُلْ، إِلَّا السِّنَّ والظُّفُر. قال محمّد: وهو مذهب مالك. وقال ابن حبيب: ومما يُذَكَّى به الضّرار (¬2). وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالك في "المبسوط" أنّ كلّ شيءٍ من فخّار أو عظم أو قرن، فجائزٌ الذَّبح به. قال (¬3): ولا بَأْس أنّ يذبح بِفَلْقَة العَظم ذكيًا كان أو غير ذكي إذا بَضَعَ اللَّحْمَ وأنّهر الدَّمَ. فحصلَ الخلافُ بين رواية ابن المَوَّاز وبين ما أوردناه قبلُ في الذَّكاة بالعَظْم والظُّفر. وقد اختلف علماؤنا العراقيُّون في ذلك: ¬
فقال ابنُ القصّارِ في "كتابه" (¬1): الظّاهر من مذهب مالك أنّه لا يستبيحُ الذّكاة بالسِّنِّ والظُّفُر. ورأيت لبعض أشياخنا (¬2) أنّه مكروهٌ ومُبَاحٌ بالعَظم، وعندي أنّ السِّنَّ إذا كان عريضًا محدودًا، والظُّفُر إذا كان كذلك، حتَّى يمكن قطع الحُلْقُوم به في مرَّةٍ واحدةٍ، فإنّه تصِحُّ الذَّكاةُ به، وكذلك سائر العظام متَّصلة أو منفصلة، سواء كان ممَّا يُؤْكَل لحمُهُ أو لا يُؤْكَل. وقال الشّافعيُّ: لا تجوز الذَّكاةُ بذلك (¬3)، مثل الرِّواية الأُولى عن مالك. وقال أبو حنيفة: إنَّ كانا منفصلّين صحَّتِ الذّكاة بهما (¬4). والرَّواية الّتي نَسَبَها ابنُ القصَّار لأبي حنيفة هي لابنِ حبيب في "الواضحة" (¬5) قال: وإذا كان الظُّفُر والسِّنُّ منزوعين وعَظُمَا حتّى يمكن الذَّبْح بهما فلا بَأس بذلك. توجيه (¬6): أمّا وجه الرِّواية بالمنع: لما ورد عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، ليسَ السِّنُّ وَالظُّفُرُ، وَسَأُخبِرُكُمْ عَنْهُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظمٌ، وَأَمَّا الْعَظمُ فَمُدَى الحَبَشَةِ" (¬7). ودليلُنا من جهة القياس: أنّ الشَّرعَ قد وَرَدَ باعتبار صفة الذّابح واعتبار صفة الآلة، ¬
ثُمّ ثبت أنّه ما نَهَى عنه من صفة الذّابح يمنعُ صحَّة الذَّبْح، فكذلك ما نَهَى عنه من صفة الآلة. وتحريرُهُ: أنّ هذا معنى وردَ في الشَّرْع باعتبار صفته في الذَّبح، فلم يجز استعمال ما نهي عنه من ذلك، أَصْلُه الذَّبح. ووجهُ رواية الإباحة: قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬1) والذَّكاةُ فَرْيُ الأوداج، وقد وُجِدَ من هذا الّذي ذَبَح بالسِّنِّ والظُّفُر، فوجب أنّ تُؤكَل ذبيحتُه. ومن جهة القياس: أنّ هذا معنى فري الأوداج، فجاز الذَّبح به كالحديد. مسألة (¬2): فإذا ثبت ذلك، فقد قال ابنُ القصَّارِ (¬3): تجوزُ الذّكاةُ بالسِّنِّ والظُّفْر، وأجاب عن الحديث بجوابين: أحدهما: أنّه يُحْمَل على الكراهية. والثّاني: أنّه يُحمَل على السِّنِّ والظُّفر الصّغيرين اللَّذين لا يصحّ قطع الأوداج بهما. فعلى هذا في المسألة ثلاثة أقوال: * أحدها: أنّه لا تجوز الذّكاة بسِنٍّ ولا ظُفْرٍ متَّصِل ولا منفصل، وهي الرِّواية الّتي حكاها ابن القصّار. عن مالك، وهو الظّاهر من رواية ابن الموّاز. والرواية الثّانية: أنّه تجوز الذّكاة بهما منفصلّين ومتّصلين، وهذا الظّاهر من رواية ابن وهب عن مالك في "المبسوط"، وهو اختيار ابن القصّار (¬4). والرواية الثّالثة: تجوز الذّكاة بهما منفصلّين ولا تجوز الذّكاة بهما متّصلين، وهذا الّذي قاله ابن حبيب. ¬
والرِّواية* الأولى أصَحُّها عندي. ورأيتُ ابنُ القصّار قد شَرَطَ في صفة ما يذكَّى به فري الأوداج والحلقوم في دفعة واحدة، وما كان من ذلك لا يفريهما إِلَّا في دفعات فلا تجوز الذّكاةُ به، وقال: ولو وجد هذا من السِّكين لمنعنا منه. ورأيت ابن حبيب (¬1) قد قال في المنجل المضرّس: لا خير في الذّكاة به؛ لأنّه لا يقطع كما تقطع الشّفرة إذا ردّدت به اليد للإجهاز. وقال ابن حبيب قوله: "ولا يردّد" يعني لا يرفع يده ثمّ يردّها، ولعلّ ابن القصّار قد أراد هذا (¬2). فإن رفع يَدَهُ وقد نسي التّسمية ثمّ أعاد وسمَّى، فقال علماؤنا المالكية: إنَّ تارك التّسمية عَمْدًا لا تُؤْكَل ذبيحته عند مالك (¬3) وأبي حنيفة (¬4). وقال الشّافعيّ (¬5): تُؤكَل. المسألة الثّالثة (¬6): في صفة الذّكاة قال علماؤنا (¬7): السُّنَّةُ أخذ الشَّاةِ برِفقٍ، وتُضْجَع على شقِّها الأَيسر إلى القِبلَة، ¬
ويأخذ بيده اليُسرى جلد حلْقِها بين اللَّحْي الأسفل والصُّوف، فيمُدُّه حتّى يتبين البشرة وموضع السّكين في المذبح حيث الجوَزة في الرّأس، ثمّ يسمّي الله تعالى ويمرّ السكين مرًّا مجهزًا بغير ترديدٍ، ثمّ يرفع ولا يخنع وقد أحَدَّ شفرتَه قبل ذلك، ولا يضربُ بها الأرض، ولا يجعلُ رِجلَه على عُنقها, ولا يجرّها برجليها. ووجه ذلك: أنّ الرِّفقَ بها مشروعٌ، لِمَا رَوَى شدّاد بن أوس أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا ذبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته ولْيُرِحْ ذبِيحَتَهُ" (¬1). فرعٌ (¬2): فإن تركَ التَّوجيه إلى القِبْلَة، ففي "المدوّنة" (¬3): "يَأْكُلْ مِنْهَا، وَبِئسَ مَا صَنَعَ". وقال ابنُ حبيب: إنْ ترك ذلك عامدًا لم تُؤكَل (¬4). توجيه (¬5): فوجهُ الرِّوايةِ الأُولى: أنّه ترك صفةً مندوبًا إليها، وذلك لا يقتضي فساد الذّبيحة كما لو ذبحها بيسراه. ووجهُ الرَّواية الثّانية: أنّه قد تركَ ما سُنَّ في الذّكاة عَمْدًا، فأَشْبَه ترك التّسمية قولًا، وظاهرُ قولِهِ في "المدوّنة":"وَبْئْسَ مَا صَنَعَ" يقتضي العَمْدَ، والله أعلمُ. ¬
فرع (¬1): ومن رفع قبل أنّ يُجهزَ على ذبيحته ثمّ رجع، قال ابنُ حبيب (¬2): إنَّ رجع في فَوْرِ الذَّبْح قبل أنّ يذهب ويذبح الذّبيحة، فذلك جائز، وإن رجع بعد أنّ تباعد لم تُؤكل. قال سحنون: لا تُؤكَل وإن رجع مكانَهُ، تأوّل بعض علمائنا: إِن رفعَ يَدَهُ كالمختبرِ، أو ليرجع فيتمّ الذّكاة، ثمّ رجع في فَورِهِ فأتمّها فإنّها تُؤْكَل. وإن كان رفع يَدَهُ على أنّه قد أَتَمَّ الذّكاة ثمّ رجع فأتمّها لم تؤكل. قال أبو بكر (¬3): قلتُ للشّيخ أبي الحسن (¬4): يجب أنّ يكون الأمر بالعكس، إذا رفع يَدَهُ ليختبر لم تُؤكَل، وإذا رفع على أنّه أتمّ الذَّكاةَ أُكِلت، فَصَوَّبَهُ الشّيخ أبو الحسن. واختلفَ (¬5) العلّماءُ في اندقاقِ العُنُقِ من غير أنّ ينقطع النُّخَاع: فرَوَى ابنُ القاسم عن مالك أنّه ليس بمقتلٍ. وَرَوَى ابنُ الماجشون ومُطَرِّف عن مالك أَنه مقتلٌ. فرع (¬6): وقال علماؤنا: إذا قُطِعَ الرَّأسُ في الذَّبْح لم تُؤْكَل، فذلك إذا كانت نيّته من أوّل الذَّبْح إبانة الرَّأْس؛ لأَنَّه لم يقصد ذكاةً وإنّما قصد قَتلًا. وقد قيل: تُجزئه؛ لأنّه ذكاةٌ وزيادة، فلا تضرّه الزِّيادة. ¬
وقولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ" (¬1) فيه غريبةٌ لم يذكرها أحدٌ من العلماء، وهي إجابة السّائلِ بأكثر ممّا سأل عنه. وقد اختلفَ علماؤُنا في التّسمية، هل هي شرط في الحلِّ مع الذِّكْرِ أم لا؟ فمشهورُ مذهبنا أنّها شرطٌ (¬2). وقال الشّافعيُّ: ليست بشرطٍ (¬3). وهي مسألةٌ عسيرةٌ، أغمضُ ما فيها قولُه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬4). فقيل: المرادُ بالآيةِ ما ذُبح لغيرِ الله. قلنا: ظاهرُها تحريم ما لم يُذْكر اسم الله عليه، فنحن مع ظاهِرِ اللَّفظِ ومطلَق القول دون التفاتٍ إلى سببٍ، حسب ما بيَّنَّاه في "مسائل الخلاف". المسألة الرّابعة: في تمييز محلِّ الذّكاة. قال علماؤُنا (¬5): "أباحَ اللهُ لنا ما أباح من الحيوان البرِّي بالذّكاة، والذكاةُ ننقسم على ثلاثة أقسام: 1 - ذبحٌ. 2 - وَنَحْرٌ. 3 - وعَقرٌ". فالذبح للغنم وشاكلتها، والنَّحرُ للإِبِلِ وما أشبهها، والعَقْرُ في كلِّ مَحَلٍّ عند عدم القدرة. ¬
وقال غيره (¬1) بخلاف هذه العبارة: "أمّا الذَّبْح ففي مَا لَهُ دَمٌ سائلٌ من المَمْلُوكِ المَأْسور، والقتلُ فيما كان ممتَنِعًا بنفسه من الصَّيد، وفيما ليس له دمٌ سائلٌ من الحيوان، على ما أحكمته السُّنّة". مسألة (¬2): ومحلُّ الذكاةِ في الحيوان على ثلاثةِ أضرُبٍ: 1 - ضربٌ يختص بالنحر. 2 - وضربٌ يختصُّ بالذَّبْح. 3 - وضربٌ يجوز فيه الأمران. فأمّا ما يختصُّ بالإبل، فالنّحرُ خاصّة لها. وأمّا ما يختصُّ بالذّبح، فجميع الحيوان المذكّى غير الإبل والبقر. وأمّا ما يجوز فيه الأمران، فالبقرُ. وحُكم الخيل حُكم البقر في الذّكاة لمن استباح أكلها، وقد قال الأَبْهَرِي في "شرحه الكبير": وقد قيل: إنَّ عنق البقر لمّا كان فوق عنق الشاة ودون عنق البعير جاز فيها الأمران، لقرب خروج الدِّمِ من جوفها بالذَّبح والنّحر، ولم يجز الذَّبح في البعير لبُعْدِ خروج الدِّم من جوفها بالذَّبْح. زاد عبد الوهّاب (¬3): فيكون في ذلك تعذيبه وزيادة في ألَمِهِ، والنّحرُ فيه أخفّ. وقال الأبهري في الفيل إذا نحر: لا بَأْس بالانتفاع بعظمه وجلده، فخَصَّه بالنَّحْر مع قِصَرِ عنقه. ¬
ووجه ذلك عندي: أنّه لا عُنُقَ له، ولكن لغِلظِ موضع حلقه واتِّصاله بجسمه لم يذبح وكان له مَنْحَرٌ، فكانت ذَكَاتُه فيه. قال الأبهري: وكذلك لم يجز النّحر في الشّاة لعدم تمكن النَّحر فيها إذ لا لبَّةَ لها. زادَ عبدُ الوهّاب (¬1): ولِقُرْب موضع النَّحر من خَاصِرَتِها، فلا يتمكّن من نحرها إِلَّا بما يصل إلى جوفها، فيكون كالطَّعن فيه. مسألة (¬2). فإذا ثبتَ ذلك، فالذَّبحُ (¬3) أفضلُ في البقر، ورَوَى إسماعيل ابن أبي أُوَيْس عن مالك فيمن نَحَرَ بقرةً: بئْسَ ما صَنَعَ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬4)، فأمر بالذَّبحِ. قال علماؤنا: لا بدَّ أنّ يكونَ على الوجوبِ أو النّدب، وأقلّ أحواله النّدب، وهذا إنّما يَصِحُّ التّعلُّق به على قول من يقول: إنَّ شريعة من قبلنا شريعة لنا إِلَّا أنّ يتبيَّنَ النّسخ للقضيَّة نفسها، وعلى كلِّ حالٍ فقد قال مالك: "إنَّ نُحِرَت تُؤكَل" لِمَا قدّمناه أنّه يجوز فيها الأمران. مسألة: فإذا ثبت ذلك، فإنّ الذَّبحَ في الحَلْقِ، وهو ما دُونَ الجوْزَة يكون إلى الرّأس (¬5) ولذلك قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - شرطُ الذّكاة خمسة شروطٍ (¬6): ¬
1 - قطعُ الحُلْقُوم. 2 - وقطع الأوداج. 3 - وقطعُ المَرِيء. 4 - وضعُ الجَوْزَةِ الّتي هي مناط ذلك كلِّه من جهة الرَّأس، لأنّك إن ذبحتَ فوقَها لم تقطع شيئًا من ذلك كلِّه، ولا جَرَى من الدَّمِ إِلَّا ما يكون في الرَّأس، ويَعْضُدُه الحديث الصّحيح المُطلَق، حديث أبي أُمَامَةَ المُفَسِّر قطعَ الأوداج والحُلْقُوم لقوله: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ" وقطع الحُلْقُوم؛ لأنَّ من الأطبّاء من يقوَل: إذا سَلِمَ الحُلْقُوم طبت الأوداج، وهذا بعيد، بل المسألةُ بعكسه، قالوا: فيمكن أنّ يعيش فيكون حينئذ إذا ماتَ مقتولًا لا مذكّى، وما أظنُ أنَّ مَنْ قُطعت أَوْداجُه يعيشُ أبدًا، ولذلك قال علماؤنا: إنّه إذا قُطِعَ بعضُ ذلك ولم يُستوفَ أجزأَ. وأمّا المريءُ، فلا أعلم له وجهًا (¬1)، قال (¬2) ابنُ حبيب: وإن لم يفعل ذلك فإنّه لا يقطع الحُلْقُوم، وإنّما يقطع الجلدة المتعلّقة بلَحْيَي الذّبيحة. فإن لم يفعل وتركها (¬3) إلى الجسد، فالّذي حَكَى عبدُ الوهّاب أنّها لا تُؤْكَل (¬4)، وبه قال ابنُ حبيب وابنُ شَعْبَان، وكذلك رواه ابنُ المَوَّاز والعُتبِيّ وغيره عن ابنِ القاسم (¬5). ¬
ورَوَى ابنُ وَهْب وابنُ عبد الحَكَم عن مالك (¬1) أنّها تُؤكَل (¬2)، وكذلك رواه أشهب (¬3) وأبو مصعب وموسى بن معاوية، وقال ابن وضَاح (¬4): لم يُحْفَظ عن مالك فيها شيءٌ، ولم يُتَكَلَّم فيها إِلَّا في زمان ابنِ عبدِ الحَكَم وأبي مُصْعَب الزهري ونزلت به. ووجهُ رواية المنع: أنّ الذَّابحَ فوق الجوزة لا يذبح في الحُلْقُوم وهو محل الذّكاة. مسألة (¬5): فإذا ثبت ذلك، فإنّ الذَّكاةَ على حالتين: 1 - حال اختيار. 2 - وحال ضرورة. فأمّا حال الاختيار؛ فإنّ محلّ النَّحْرِ اللَّبَّة، ومحل الذَّبح الوَدَجَان وَالحُلْقُوم، فمن نقل شيئًا من ذلك عن محلِّه، فلا يخلو أنّ ينقله إلى ما هو محلّ للذّكاة، أو إلى غير محلّ الذّكاة، مثل أنّ ينحر ما يجب ذبحه، أو يذبح ما يجب نحره، أو ينقله إلى ما ليس بمحلّ للذّكاة. فأمّا الوجه الأوَّلُ ففي "كتاب ابن المَوَّاز" عن مالك: لا تُؤْكَل ساهيًا فَعَلَ ذلك أو عامِدًا (¬6). وقال أشهبُ: تُؤكَل. ¬
وقال عبدُ الوهّاب (¬1): إِنّ أصحابنا اختلفوا في ذلك - أعني في رواية المنع - على وجهين: 1 - فمنهم من منع منه كراهيةً. 2 - ومنهم من منع منه تحريمًا، وبه قال ابن حبيب. وقال عبدُ الوهّاب (¬2): وزاد ابنُ بُكَير في ذلك وجهًا ثالثًا وهو أنّه قال: يُؤكل البعيرُ إذا ذُبحَ، ولا تُؤْكَلُ الشَّاةُ إذا نُحِرَتْ. قال (¬3): ووجهُ ذلك: أنّ البعيرَ له موضع ذبح وموضع نحر، والشّاة لا منحر لها؛ لأنّ موضع لبتها يقرب من خاصِرَتِها، فيكون كالطَّاعن لها. وأمّا إنَّ ينقل الذّكاة إلى غير محلِّها بوجه، مثل أنّ يذبح في القَفَا فقد قال ابنُ حبيب: إِنْ ذبح في القَفَا أو في الصَّفحة الواحدة، لا أَرَى أنّ تُؤْكَل؛ لأنّه ذَبَحَ في غير المَذبَح، ومثلُه لابن المَوَّاز، ومثله لأشهب في "العُتبِية" (¬4) عن مالك أنّها لا تُؤكل، وأمّا من أراد أنّ يذبح في الحلقوم فأخطأ وانحرفَ، فإنها تُؤكل (¬5). توجيه (¬6): وأنا وجهُ المنعِ من أكل ما ذُبِحَ في القَفَا؛ لأنّ الذّكاة من شرطها أنّ يكون أوّل ما ينفذ من مقاتلها قطع الحُلْقُوم والوَدَجَيْن، ويكون ذلك سبب موت الذَّبيحة،* ومن ذبح في القفا فقد بدأ بقطع العنق وفيه النّخاع وهو من المقاتل، فكان ذلك سبب موت الذّبيحة ¬
دون فري الوَدَجَيْن والحلقوم، قاله القاضي أبو إسحاق. (¬1) وأمّا روايةُ أَشْهَب في أنّ مَنْ أخطأَ فانحرفَ فإنَّ ذبيحته تُؤكَل، فإنّها تحتاج إلى تفصيل، وذلك أنّه إِن استوعبَ قطْعَ الوَدَجَين والحُلْقُوم قبلَ قطع النُّخاع، فإنّ ذلك مبيحٌ للذّبيحة؛ لأنّه أتى بشروط الذّكاة، فلا يضرُّه ما زاد من شقّ الجلد بانحرافه، وإن كان لم يستوعب ذلك جملة، أو استوعبه بعد قَطعِ النُّخاع بقطع العُنُق، فإنَّ ذكاتَهُ عندي لا تصحّ، وهو عندي معنى* قول ابن حبيب: إنَّ ذَبَحَ في الصَّفحة الواحدة لم تُؤكَل. مسألة (¬2): وأمّا حالُ الضّرورة، فإنّها على ضربين: 1 - ضرورةٌ تمنع من التمكُّن من الحيوان. 2 - وضرورة تمنعُ من الوصولِ إلى موضعِ ذكاته. فأمّا ما يمنع من التَّمكُّن منه كالبعير الشَّارِدِ، فلا يُقْدَر عليه إِلَّا بِرَمْيِه أو طعنه، فإنّه لا يُؤْكَل ما قُتِل بذلك. والدّليل على ما نقوله: أنّ هذه من بهيمة الأنعام، فلا تُؤكَل إِلَّا بالذّبح أو النَّحْر كالمقدور عليه. مسألة (¬3): إذا ثبت هذا، فإن هذا حكم الغَنَم والدّجاج، إذ ليس لها أصل في التَّوحُّش ترجِعُ إليه، وأمّا البقر فقال ابنُ حبيب في "واضحته": عندي أنّ لها أصلًا من بقر الوحش، فإذا توحَّشَت حلَّت عندي بالصَّيد. ¬
وهذا الّذي قاله فيه نظر؛ لأنّ بقر الوحش ليست بأصل للبقر الإنسيّة، ولا شبهها في خلقٍ ولا صورة الإنسية، وإنّما يتّفقان في الاسم، كما أنّ حمر الوحش ليست بأصلٍ للحمر الإنسيّة، ولا الماعز البرِّي بأصل الغَنَم المعزية الأنسيّة، ولذلك فرّق بينهما في حكم المحرم. وأمّا ما أصلُه التّوحُّش من الظَّباء والأرانب (¬1) والبُرَك والإوَزّ الإنسيّة إذا استوحشت، ففي "المُدَوَّنة" (¬2): كره مالك أنّ يذبحَ المحرمُ الإوزّ والدّجاج ممّا يطير. مسألة (¬3): واختلف قولُ مالك في الصَّيد يُرْمَى بسهمٍ مسمومٍ ثمّ يذبح، فقال في "العُتْبِيّة" (¬4) و"الموَّازية": لا نأكله، ولعلّ السُّمَّ أعان على قتله، وأخافُ على من أَكلَهُ (¬5). ¬
مسألة (¬1): 2 - وأمّا الضّرورةُ الّتي تمنعُ منَ الوصولِ إلى موضعِ الذَّكاةِ، فهي على قسمين: أحدهما: أنّ تمنعَ الوصول إلى محلِّ ذَكاتها, ولا تمنع الوصول إلى مَوْضِعِ نحرِها. الثّاني: أنّ تمنع الوصول إلى موضع ذلك جملة. أمّا الأوَّل: فهو مثل أنّ تمنع الوصول إلى منحر البعير، ولا تمنع الوصول إلى مذبحه، أو تمنع الوصول إلى مذبح الشاة ولا تمنع الوصول إلى منحرها، فهذا قد قال مالك في غير موضع: إنَّ الشاة تُؤْكَل حينئذٍ بالنَّحْرِ والبعير بالذَّبْح. ووجهُ ذلك: أنّ هذه ذكاة في بهيمة الأنعام (¬2). ¬
فصل في جملة مسائل في اعتبار تذكية غير الأنعام من الطير والخشاش
فصل في جملة مسائل في اعتبار تذكية غير الأنعام من الطَّير والخَشَاشِ وفي هذا الفصل جملة مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): وأمّا كلُّ دابَّةٍ لها لحم ودم سائل من هوام الأرض كالحيّة والفأرة، فإنّ من احتاج إلى شيءٍ من ذلك لدواء أو غيره، فذكاتُها في الحلق كسائر الذّبائح، أو كالصَّيد بالرَّمْي بالسَّهْم والطَّعن بالرُّمْح إنَّ صيدت مع التّسمية في التّذكية، رَوَى ابنُ حبيب ذلك عن مَالك (¬3). ووجهه: أنّ ما لَهُ نفس سائلة فلا يُستباح إِلَّا بالذّبح أو بالنَّحر كالأنعام. المسألة الثّانية (¬4): وأمّا ما ليست له نفسٌ سائلةٌ كالجرادِ والحَلَزُون وشبهه (¬5)، فلا يجوز أكله والتّداوي به لمن احتاج إليه إِلَّا بالذّكاة، والذي يُجْزِىء من الذّكاة في الجَرَادِ أنّ يفعلَ بها ما لا تعيشُ معه، كقطع رؤوسها وأرجلها من أفخاذها، أو إلقائها في ماءٍ حارٍّ، فحينئذ جاز أكلها. ¬
وقال ابنُ حبيب في الجراد والحَلَزُون: إنّها تبقر بالشَّوْكِ والإبَر حتّى تموت، أو يُقْلَى الجراد أو يُشْوَى. فأمَّا ما قُطعَ من أجنحتها وأرجُلِهَا، فقد قال مالك: تُؤْكَل (¬1). وقال أشهب: لا تُؤكَل. وإن أُلْقِيَت في ماءٍ باردٍ أُكِلَت، وقال سحنون: لا تُؤكَل. وإن أُلْقِيَت في ماءٍ حارٍّ أُكِلَت، وَرَوَى سحنون عن مالك أنّها تؤكل في الوجهين. فقول مالك مبنىٌّ على أنّ ما فعل بها ممّا لا تعيش معه أنّها ذكاة فيها. وقول أشهب وسحنون مبنىٌّ على أنّه إنّما تكون الذَّكاةُ بما يتعجّل به موتها، وأمّا ما يتأخر به موتها (4)، فهل يكون ذكاة أم لا؟ المشهورُ من المذهب أنّه لا يكون ذكاة، خلافًا لابنِ المسيِّب. ودليلُنا: أَن هذا صيدٌ يفتقرُ إلى ذكاةٍ، فلم يكن مجرَّد أخذه ذكاة، أصله الطّير. وحُكمُ الحَلَزُون حكم الجرادِ، قال مالك: ذكاتُه بالسَّلْقِ (¬2)، أو بغرز الإبر حتّى يموت، ويسمِّي الله تعالى عند ذلك، كما يسمِّي على قَطْفِ رءوس الجرادِ. وقال الأَبْهَريُّ: والعَقْرَب (¬3) والخُنْفُسَاء من احتاج إلى التّداوي بهما فليقطف رءوسهما. ¬
وقال ابن حبيب: يُؤْكَل، على ما قاله الشّافعيّ (¬1). المسألةُ الثّالثة: وأمّا خطّاف البيوت، فقد اختلفَ قولُ مالكٍ فيها، فقال ابنُ القاسم عنه: إنّها تُؤكَل، وروى عنه عليّ بن زياد (¬2) أنّها لا تُؤكَل، وقوله: "لَا تُؤْكَل" أحبّ إلينا إِلَّا أنّ يُحتاج إلى ذلك. المسألةُ الرّابعة: وأمّا الحيَّاتُ، فإن مالكًا أجازَ أكلَها دونَ اضطرارٍ إليها، وقال أيضًا: لا تُؤكَل إِلَّا إذا احتيج إليها (¬3)، وفي كلا الوجهين لا تؤكل إِلَّا بالذّكاة. حديثُ مالك (¬4)، عن نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ نجنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بنِ مَعَاذِ؛ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَت تَرْعَى لقْحَةً بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدرَكَتْهَا فَذَكَّتهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ بِهَا، فَكُلُوهَا". الإسناد: قولُه: "سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، أَوْ مُعَاذُ بْنُ سَعْدٍ" هذا شكٌّ من الرَّاوي، والحديثُ صحيحٌ، مَدَنِيٌّ، خرَّجه مالك - رحمه الله -. ¬
العربيّة: قولُه: "تَرْعَى غَنَمًا لَهَا بِسَلْع": هو جبل بالمدينة (¬1)،* وسَلَع يرويها بفتح اللّام ابنُ عبد البرّ (¬2)، وبإسكأنّها ... (¬3) *, والصّواب سَلْع بإسكان اللّام مثل كلب. وقولُه: "كَانَت تَرْعَى لقْحَةً لَها" قال الأَخفَش (¬4): الصّواب لقْحَة بكسر اللّام، وجمعُها لِقَاح. و"الشظاظ" العود المحدود الطَّرفِ (¬5)، والصّواب فِلْقَة الحَجَر، وذلك يُسمَّى الشَّظَى في لسان العرب. الفقه في إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬6): في صفةِ ما يُذَكَّي به من الحجارة، وقد تَقَدَّم (¬7). المسألةُ الثّانية (¬8): في صفة الذّابح المؤثَّرة في الذَّبح وهو الدِّين، وسيأتي ذِكْرُه. وأمّا "الرِّق" فليس بمؤثِّرٍ في الذَّكاة، فتجوزُ ذكاةُ العبدِ على كلِّ حالٍ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): وأمّا ذكاةُ الصّغير والأُنثى، ففي "كتاب ابن الموَّاز" عن مالك: تُكْرَهُ ذكاةُ الصَّبيِّ والمرأةِ من غير ضرورةٍ (¬2). وفي "المُدَوَّنة" (¬3) عن ابنِ القاسم تجويز ذكاة المرأة من غير ضرورةٍ (¬4). ولا بأس بذكاة الصَّبيِّ إذا أطاق الذَّبح، ورُوِيَ أكثرُه عن مالك. وقال ابن حبيب: مختونصا كان أو غير مختون. المسألة الرَّابعة (¬5): فإذا قلنا بكراهية ذبيحة المرأة، فهل تكْرَهُ ذبيحة الخصيّ؟ فقال ابنُ شعبان: "تُؤكَلُ ذبيحَتُه" ولم يذكر كراهيّته. وَرَوَى أشهب عن مالك في "العتبية" (¬6) أنّه قال: ولا أحبّ ذبيحة الخصيّ، فإن فعل أُكِلَتْ. ووجهُ ذلك: أنّه نَحَا بِهِ نحو الأُنوثة، والله أعلم. المسألةُ الخامسة (¬7): قال علماؤنا (¬8): ولا تجوزُ ذبيحة السَّكران والمجنون إذا لم يَعْقِلا، رواه ابنُ وَهْب عن مالك في "المبسوط"، زاد ابنُ الموَّاز عن مالك: ولا ذبيحةَ أعجمىٍّ لا يعرفُ الصَّلاة (¬9). ¬
ووجهُ ذلك: أنَّ كلَّ واحدٍ منهم لا يصحُّ منه القَصْد إلى ذكاة، ذلك معتبرٌ في صحَّتها، والله أعلمُ. المسألةُ السّادسة: في بيان ذبائح أهل الكتاب، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية (¬1) وقوله: "اليَوْم" قيل: إنّه يوم الاثنين بالمدينة (¬2). وقيل: إنّه بمعنى الآن؛ لأنّ العربَ تقول: اليوم يكون كذا، بمعنى الآن، كأنّه وقتٌ الزّمان. وقيل: إنّه يوم عرَفَة (¬3). فأما القولُ بأنّه يوم الاثنين فضعيفٌ، وأمّا من قال بأنّه بمعنى الزّمان فمحتملٌ (¬4). والصحيحُ أنّه يوم عرَفَة، وفي معناه أقوال (¬5): قيل: إنّه معرفة الله، أراد: اليوم عَرَّفتُكُم نفسي بأسمائي وصفاتي وأفعالي فاعرفوني. وقيل: اليوم استجبتُ لكم دعاءَكُم ودعاءَ نَبيِّكُم لكم. وقيل: اليوم أظهركم على عدوِّكم. ¬
وقيل: طَهَّرْتُ لكم الحرمَ عن دخول المشركين فيه معكم، فلم يحجّ مُشركٌ، ولا طاف بالبيت عريانٌ (¬1). وقيل: اليوم أكملتُ لكم الفرائضَ وانقطع النَّسخُ. وقيل: معناه كمال الدِّين، وذلك أنّه لم ينزل بعد هذه الآية شيءٌ (¬2). فهذه سبعة أقوال (¬3)، وقولُه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية (¬4). وقيل في ذكر الطّعام قولان: 1 - قيل: إنّه كلّ مطعوم على ما يقتضيه مُطلَق اللُّغة، وكان حالُهم يقتضي ألَّا يُؤكَلَ طعامُهُم لقِلَّة احتراسهم عن النَّجَاسات، لكن الشَّرع يُبِيحُ ذلك؛ لأنّهم أيضًا يَتَوَقَّوْنَ القاذُورات. قال أبو ثعلبة الخُشَنِي: سُئِل رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن قُدُور المجوسِ فقال: "أَنقُوهَا غسْلًا واطبُخُوا فِيهَا" وهو حديثٌ مشهورٌ (¬5). وغَسلُ آنيةِ المجوسِ فَرْضٌ، وغَسلُ آنيةِ أهلِ الكتابِ فَضلٌ ونَدْبٌ، فإن كان ما في ¬
الآية يُبيحُ الأكل بعد ذلك فيها، والدليل: ما رواه الدَّارَقُطنِيّ (¬1) أنّ عمر بن الخطّاب توضَّأَ من جَرَّةِ نصرانيّة، وصحّحه الدَّارَقُطنِيّ. وقال الإمامُ الزاهدُ أبو الفَتح نَصْر بن إبراهيم النّابُلْسِي في ذلك كلامَا لُبَابُه: إنَّ الله قد أَذِنَ في طعامهم، وقد عَلِم أنّهم يسمون غيره على ذبائحهم، ولكنّهم لما تمسَّكوا بكتابٍ، وتعلَّقوا بدليلٍ، جُعِلَت لهم حرمة على أهل الأنصاب. وقد قال مالك - رحمه الله -: تُؤْكَل ذبائحهم المُطلَقة، إِلَّا ما ذبحوا يوم عِيدِهم ولأنصابهم (¬2). وقال جماعة العلماء: تُؤكلُ ذبائحهُم وإِنْ ذكروا عليها اسم المسيح. قال: وأمّا ما ذُبِحَ للكنائس، فقد سُئِلَ أبو الدَّرْدَاء عما يُذبَحُ لكَنِيسَةٍ يقالُ لها سَرْجِس، فأمر بأكله، وكذلك قال عُبَادَة بن الصَّامت (¬3). وقال الشّعبيّ (¬4) وعطاء: تُؤكَلُ ذبائحُهُم وإن ذُكِرَ عليها غيرُ اللهِ. ¬
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هم بنو إسرائيل، ويدخل معهم من دان بدينهم وإن لم يكن منهم. وأكثرُ العلّماءِ أنّ طعامَ الذين أوتُوا الكتاب ذبائحهم. المسألة السّابعة: أمّا ذَبْحُ نَصارَى بني تغْلَب، فاختلفَ العلّماءُ في ذلك: فَرَخَّضَ في أكل ذبائحِهم ابن عبّاس (¬1)، والنّخعي، والزُّهري (¬2)، وإسحاق، ورَوَوْا ذلك عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأمّا ابنُ عبَّاس، فألحقهم بالكِتابيِّين، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية (¬3)، وبه قال الشّافعيّ (¬4). ومن علمائِنَا من قال: لا تُؤْكَل ذبائح نصارى بني تَغْلِبَ، وبه قال ابن عمر وعائشة، وقالوا: لأنّهم يُحَلِّلُون ما تُحلل النّصارى ولا يحرِّمون ما تحرِّم. وهذا دليلٌ أنه لم يُلحِقهم بهم؛ لأنّهم لم يتولّوهم، ولقد قال بعض علمائنا: إنهم يُعطُوننا نساءهم وأولادهم ملكا في الصُّلح، فيحل لنا وطؤهم، فكيف لا نأكل ذبائحهم؟ المسألة الثّامنة (¬5): وإذا علمت أنّ النّصراني يستبيحُ الميِّتة، فلا تأكل من ذبيحته إِلَّا ما شهدتَ ¬
ذبْحَه (¬1). قال محمّد (¬2): وكره مالك ما ذبحوا للكنائس، أو لعيسى، أو لجبريل، أو لأعيادهم، وزاد عبد الملك بن حبيب: في أكل ما ذُبِحَ لأعيادهم وكنائسهم تعظيمٌ لشركهم. وقال ابنُ القاسم (¬3) في النَّصراني يُوصِي بشيءٍ من مَالِهِ للكنيسة فيُبَاعُ: لا يحلُّ للمسلم شِرَاؤُه لِمَا في ذلك مِن تعظيمِ شرائعهم، وَمُشتَرِيهِ مسلمُ سُوءٍ. المسألة التّاسعة (¬4): قال علماؤُنا: لا تُؤكلُ ذبيحةُ المرتدِّ وَإنِ ارتدَّ إلى اليهوديّة أو النّصرانية، رواهُ ابنُ حبيب. وقال: "ولا تُؤْكَل ذبيحةُ من يَدَع الصّلاة، ولا ذبيحة من يضيّعها وُيعرَف بالتّهاون بها". ونحا بذلك إلى أنّه ارتدادٌ، قال: "وكذلك قال لي من كاشَفْتُ من أصحاب مالك". وقالوا: لا بأس بذبائح نصارى العَرَب، فإنّهم مثل نصارى العَجَم، وإنّها مباحةٌ لنا بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية (¬5). ¬
المسألة العاشرة (¬1): في ذبيحة اليهودي فيما لا يجوز له أكله ممّا ذَكَرَ اللهُ في كتابه من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية (¬2). قال ابنُ حَبِيب (¬3): هي الإِبِلُ وحمر الوَحْشِ والنَّعَام والإوزّ، وما ليس بمشقوق الخفّ ولا منفرج القامة، وهذا لا يحلُّ أكلُه بذبحِهِم. ووجهُ ذلك: أنّ الذَّكاة مفتقرةٌ إلى النِّيَّة والقَصْدِ، وذلك لا يصح منهم؛ لأنّه عندهم لا يستباح بالذّكاة. وأمّا ما حرّم عليهم من شحوم الحيوان الّذي يستبيحونه، وذلك قولُه تعالى في البقر والغنم: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} (¬4) قال ابنُ حَبِيب (¬5): هي الشّحوم المَحْضَة الخالصة، مثل الثَّرْبِ والكليتين، وشبه ذلك من الشُّحوم المَحْضَةِ. وأمّا قولُه تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} الآية (¬6)، يعني: ما يغشى اللّحم من الشّحم على الظّهر وسائر الجَسَدِ. وأمّا "الحوايا" فهي المَبَاعِر. ¬
فكلُّ ذلك عندنا من الشَّحْم وداخل في الاستثناء. قال ابنُ حَبِيب (¬1): ما كان من هذا محرَّمًا بنصِّ التَّنزيلِ، فلا يحل لنا أكلُهُ بعينه ولا ثمنه. وما لم يكن محرَّمًا عليهم في التَّنزيلِ، مثل الطّرائف وشبه ذلك؛ فإنّه مكروهٌ أكلُه وأكل ثَمَنِهِ. قال: وهذا قولُ مالك وبعض أصحابه. وحكى عبد الوهّاب (¬2) أنّ شحومَ اليهودِ المحرّمةِ عليهم مكروهةٌ عند مالك ومحرَّمةٌ عند ابنِ القاسِم وأشهب، وقد رُوِيَ عن مالك (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4) والشّافعىّ (¬5): هي مُبَاحَةٌ غير مكروهة. ووجه رواية التّحريم: أنّ هذه ذكاةٌ يَعْتَقِدُ مباشرُها تحريم بعضها وتحليل بعضها، فوجب أنّ يستباح ما يَعْتَقِد تحليله دون ما يعتقد تحريمه، كالمسلم يَعْتَقِد استباحة اللَّحم دون الدِّم. ووجه رواية التّحليل: أنّ هذا مُذَكٍّ يجوزُ أكل لحم ما ذُكَّيَ، فجاز أكل لحمه كالمسلم (¬6). ¬
وأمّا الاطريف (¬1) ففي "المُدَوَّنة" (¬2) أنّه كان مالك يُجيزُ أكله ثمّ كرهه، وقال ابنُ القاسم: أرى أنّ لا يُؤكل. فظاهرُ لفظ ابنِ القاسم المنع جملة، ولو حُمِلَ على التّحريم لَمَا بَعُدَ. ووجهُ جواز ذلك: أنّه قصد إلى استباحة أكله؛ لأنّ ما تجدُه عليه من الوجه المانع من أَكلِه لا يظهر إِلَّا بعد تمام الذَّكاة, فصح قصده إلى إباحته. ووجهُ روايةِ المنع: أنّ هذه ذبيحةٌ مُنِعَ منها الذَّابحُ بالشَّرعِ، فَمُنِعَ منها غيرُهُ، كالصَّيدِ يذبحُهُ المُحْرِم. المسألة الحادية عشرة (¬3): قال محمّد (¬4): تُؤكل ذبيحة السّامرية (¬5)، وهم صنفٌ من اليهود لا يؤمنون بالبَعْثِ. ويُنْهَى المسلمون عن الشِّراءِ من مجازِرِ اليهود (¬6)، وُينْهَى اليهود عن البيع منهم، فمن اشترى منهم من المسلمين فهو رجل سُوءٍ، ولا يُفْسَخ شِرَاؤُه وقد ظَلَم نفسَهُ، إِلَّا أنّ يشتريَ منهم مثل الاطريف وشبهه ممّا لا يأكلونه، فيُفسخُ على كلِّ حالٍ. رواه ابنُ حبيب (¬7) عن مُطَرِّف وابنِ الماجشون. ¬
المسألة الثّانية عشرة (¬1): قال علماؤنا (¬2): ولا تؤكل ذبائحُ الصّابئِينَ، وليس بحرامٍ كتحريمِ ذبائح المجوسِ (¬3). ولا تؤكل ذبائح المجوس، وليسوا أهل كتاب (¬4)، ولو ولّى مسلمًا ذبيحته، فقد اختلف فيها: فأجازَها ابنُ سِيرِين وعَطَاء، وكرهها الحَسَنُ، وقال ابنُ الموَّاز: إنّما يُكرَهُ أكلُها إذا قال للمسلم: اذبحها لنارنا أو لصنمنا، فأمّا لو تضيّف به مسلمٌ فأمَرَهُ بذبحها ليأكل منها، فذلك جائزٌ وإن أَعدَّها لغيره، هذا حكم المَجُوسِ، والصّابئون مُختَلَفٌ فيهم. المسألة الثّالثة عشرة: اختلفَ العلّماءُ في ذبيحةِ الغُلام يكون أحد أَبَوَيه يهوديًّا أو نصرانيًا والآخر مجوسيًّا: فكان الشّافعيُّ (¬5) يقول: لا تُؤكَل ذبيحتُه. وقال مالك: الولَدُ منسوبٌ إلى الأَبِ، وهو تبعٌ له في الصَّيدِ والذَّبيحة (¬6). ومَالَ الثَّوْريُّ إلى قول مالك. وقال أهلُ الرّأيِ (¬7) في الصبى يكونُ أحد أَبَوَيْه مجوسيًّا والآخر من أهل الكتاب: لا بَأْس بأن تُؤكَل ذبيحتُه وصَيدُه، وهو في ذلك بمنزلة النَّصرانيّ منهما. ¬
باب ما يكره من الذبيحة في الذكاة
باب ما يُكْرَه من الذبيحة في الذّكاة قال الإمام: ذكر مالك في هذا الباب حديثين: الأوّل: حديثُ أَبي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (¬1)؛ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ شَاةٍ ذُبِحَتْ فَتَحَرَّكَ بَعْضُهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا، ثُم سَألَ زَيدَ بْنَ ثَابتٍ، فَقَالَ: إِنَّ المَيتَةَ لتَتَحَرَّكُ. ونهاه عن ذلك. الفقه في مسائل: الأولى (¬2): قوله: "سَأَل أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ شَاةٍ ذُبِحَتْ فَتَحَرَّكَتْ" (¬3) لا يخلو ذلك من ثلاثةِ أحوالٍ: 1 - أحدُها: أنّ تكونَ صحيحة. 2 - أو تكون مكسورة أَصابها ذلك الكسر، فَعُولِجَت بالذَّبح. 3 - أو يكون بها مرضٌ، فخيف عليها الموت، فَعُولِجَت. فأمّا إنَّ كانت صحيحة، فإن صَادَفَها الذَّبح وهي مستجمعة الحياة، وهو الّذي ¬
يُرَاعّى في صِفَةِ الذَّكاة، فلا خلافَ نَعْلَمُه في صِحَّةِ ذكاتِهَا وإباحةِ أكلِهَا، وقاله مالك. المسألة الثّانية (¬1): وأمّا إنَّ أصابها كسرٌ أو نحوُهُ، وانتهت ممّا أصابها إلى حدِّ الموتِ، فَذُبِحَت فَأَطْرَفَتْ بعدَ الذَّبح بعينها، واستفاضت نَفْسُها، أو تحرّكت بأذنها، أو رَكَضَتْ برجْلِها، فقدِ اختلفَ علماؤُنا فيه: فروى ابنُ حبيب عن ابن القاسم وأَصْبَغ أنّها تُؤكَل (¬2)، وهو في "المختصر" من رواية ابن القاسم* عن مالك، وعن ابن الماجشون وابنْ عبد الحَكَم: لا تُؤْكَل، ورواه ابن عبد الحَكَم عن مالك*. فهذا خلافٌ من القوْلِ بيانُه: أنَّ وجهَ قولِ ابنِ القاسم قولُه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية (¬3)، فاستثنى من ذلك ما أدركت ذكاته؛ لأنّ المعنى: وما أَكَلَ السَّبُع منه؛ لأنّ ما أَكَل السَّبُع جميعه فقد فَات عَينُه، فلا يقال فيه: إنّه حلالٌ ولا حرام لِعَدَمِه، وقد قال القاضي أبو إسحاق: إنّا لمعنى تحريم ما أكلَ السَّبُع بفَوَات الذَّكاة فيه، ومعنى قولِهِ تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} لكن ما ذكَّيتُم ممَّا لم يأكله السَّبع، وليس باستثناء ممّا تقدّم قَبلُ، وهذا كثيرٌ في القرآن. ووجهُ الرِّواية الثّانية (¬4): ما احتجَّ به الأَبْهَرِيّ أنّ معنى المُنْخَنِقَة والموقوذة والمُتَرَدِّية ¬
والنَّطِيحة الّتي لم تمت بَعْدُ، ولو أرادَ الّتي ماتت لأَغنَى عن ذلك قولُه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1). وأراد بقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إِلَّا ما أدركتم بصفة ما يُذَكَّى، وأَمّا ما بلغ حالًا لا تُرْجَى حياته في الأغلب، فلا يُذكَّى كان أُدْرِكَ حيًّا؛ لأنّ تلك ليست بحياة. قال علماؤنا (¬2): "الحكمُ في المُنْخَنِقَةِ وأخواتِهَا أنّها تنقسمُ على هذه الثّلاثة الأقسام: إذا لم تنفذ مقاتلها وَرُجِيَت حياتُها عَمِلَت فيها الذَّكاةُ باتِّفاقٍ، وإذا نفذت مقاتلها لم تعمل فيها الذَّكاة باتِّفاقٍ في المذهب، إِلَّا على قياس رواية أبي زَيد وقد تقدّم (¬3) ذكر ذلك (¬4) والله أعلمُ. الحديث الثّاني (¬5): سئلَ مَالِكٌ عَنْ شَاةٍ تَرَدَّتْ فَانكَسَرَتْ، فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا فَذَبَحَها، فَسَالَ الدَّمُ مِنْهَا وَلمْ تَتَحَرَّكْ؟ قَالَ مَالِكٌ: إنْ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يجْري وَهِيَ تَطرِفُ فَلْيَأكُلْهَا (¬6). ¬
الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬1): سؤالُ السَّائل لمالك عن الشَّاةِ الّتي تردَّت، التَّرَدِّي إذا كان منه كسرٌ يؤدَّي إلى ثلاثة أحوالٍ: أحدها: أنّ تنفذ المقاتل، وهي خمسة متّفق عليها: 1 - انقطاعُ النُّخاعِ، وهو عند ابن القاسم وأصْبَغ ومالك من رواية ابن القاسم عنه في "العُتْبِيَّة" (¬2) أنّه الشَّحم الأبيض الّذي في وسط فَقارَةِ العُنُق والظَّهر (¬3). 2 - والثّاني: انتثار الدِّماغ. 3 - والثّالث: فَرْيُ الأَوْدَاج. 4 - والرّابع: انفتاق المُصْرَان. 5 - والخامس: انتثار الحُشْوةِ. واختلفَ علماؤُنا في اندقاقِ العُنُقِ من غير انقطاع نُخَاعِه: فروَى ابنُ الماجشون ومُطَرِّف عن مالك أنّ ذلك من المقاتل. وَرَوَى ابنُ القاسِم عن مالك أنّ ذلك ليس بمقتل. فهذه المعاني متى حَصَلَتْ فليس فيها ذكاةٌ، وإن ظَهَرت حياة بعد الذَّبح؛ لأنّ من وصل إلى هذا الحدِّ فقد استحالَ دوام حياتِهِ، وإنّما حَرَكتُهُ من بعد ذلك من بابِ اضطرابِ الميِّت وتحرُّكه عند فوَاتِ نفسه. مسألة (¬4): والحال الثّاني: أنّ ينكسر منها عضوٌ وتُرجى حياتُها، فهذا لا خلافَ أيضًا في جواز ¬
ذكاتها؛ لأنّها تُزجَى حياتُها كالتي لم تنكسر. مسألة (¬1): والحالة الثّالثة: ألَّا ينفذ مقاتلها، إِلَّا أنّها مع ذلك قد بلغت مَبلَغًا لا يشكّ في أنّها لا تبقى حياتُها، فإن هذه قد اختلفَ قولُ مالك وأصحابه في صِحَّة ذكاتها على ما تقدَّم، ولهذا المعنى اختلفَ جوابُ أَبِي هُرَيزة وزَيد بن ثَابِت. مسألة (¬2): وقولُ مالك في الشاة: إِنْ ذَبَحَهَا وَنفَسُهَا يَجْرِي فَلْيَأْكُلْهَا" وذلك يحتملُ وجهين: أحدهما: أنّه قد أدرك الذّكاة لإدراك حياتها، سواةءٌ سألَ الدَّم أم لم يَسِلْ، وقد قال ابنُ القاسم وابنُ كنانة في المريضة: إذًا اضطربت أُكِلَت وإن لم يَسِل دمها. الثّاني: أنّ يكون جوابه مبْنِيًّا على سؤال السّائل، فيكون معناه: أنّ الّتي سالَ دمُها وهي تضطرب فَلْيَأكُلْهَا، فجاوب على الذّبيحة الّتي يجتمعُ فيها الأمران: سَيَلَان الدَّم وحركة النفس، وعلى الوجهين فلم يعتبر الياس من حياتها. وقد تكلَّمنا على إدراك الحياة، ونحن نتكلّم على المعاني الّتي يُستدلّ بها على إدراك الحياة، فقد رَوَى ابنُ حبيبِ عن ابن الماجشون وابن عبد الحَكَم أنّهما قالا: للحياهَ علامات يُستدلّ بها، وهي خمسٌ: سيلان الدّم، والحركات الأربع (¬3)، فان كانت صحيحة "فَذَبَحَها، فسَالَ الدّم ولم تتحرّك، فقد قال مالك: لا تُؤكَل. وقال (¬4) ابنُ حبيب: تؤكل. ¬
مسألة (¬1): وأمّا "المكسورة" فهذا حملنا قول مالك على أنّه أراد: الّتي سالَ دمُها ونَفَسُها يجري وعينها تطرف فلياكلها، فجمع بين جري الدّم والحركة؛ لأنّ جريان النفس وطَرف العين من باب الحركة. وأمّا إذا انفرد سَيَلان الدّم، فلم أَرَ فيه نَصًّا، والأظهر عندي على أصول أصحابنا أنّه لا يجوز أكلها؛ لأنّ مالكًا إنّما أراد بجوابه سَيَلَان الدّم، فإذا لم يسل الدّم فلا تؤكل. مسألة (¬2): وأمّا المريضة! فقال محمّد (¬3): إذا سالَ دمُها وتحرَّكت بعد الذَّبحِ فإنها تُؤكَل، فإن لم يكن ذلك لم تُؤكَل، إِلَّا أنّ تكون فيها الحياة البَيِّنَة بالنَّفس البَيِّن والعين تَطرِف، فهذا بَيِّنٌ في أنّ الحركةَ تبيحُ الأكلَ دونَ سيلانِ الدّمِ. وقد قال ابنُ القاسمِ وابنُ كنانة (¬4): إذا اضطربت أُكِلَت كان لم يسل دَمُها (¬5)، وأمّا المريضة فإنْ كان نفسها يجري وحركتها تعرف فإنّها تُؤْكل. قال محمّد: وُيعْرَف ذلك بحركة الرَّجْل والذّنب، قاله زَيْد بن ثابت وابن المُسَيِّب. قال محمّد: والعينُ تَطرِفُ فظاهرُ هذا أنّ المريضة مخالفةٌ للصحيحة؛ لأنّ الصّحيحة تُؤكَل بسَيَلَان الدّمِ خاصَّة، والمريضة لا تُؤكَل بذلك حتّى يقترن بها أحد هذه الحركات الأربع. ¬
باب ذكاة ما في بطن الذبيحة
باب ذكاة ما في بطن الذّبيحة قال الإمام: الأحاديث: جاء في الآثار: "ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" (¬1) واتَّفَق الرُّواة على رفع الذَّكاةِ الأُولى، واختلفوا ني رفع الذَّكاة الثّانية ونَصْبِها، وطالَ فيها التَّفْريع. والنِّزاع، وقد أوضحنا ذلك في "مسائل الخلاف" (¬2) والأمر فيها قريب. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأوُلى (¬3): اختلفَ العلّماءُ في هذا الباب: فقال الشّافعيّ: ذكاة الأمِّ تجزئ (¬4). وقال أبو حنيفة: لابدّ من ذبحه (¬5). وقال مالك (¬6) - وغاصَ على الصّواب-:"يُذبح إذا تَمَّ خَلْقُه"؛ لأتها تكون نفسًا أخرى مُودَعَةً في الأُولى، فأمّا إذا لم يتمّ خَلْقه فهو كعُضوٍ من أعضائها، ولا يُذكَّى العضوُ الواحدُ مرَّتينِ. ¬
قال الإمام ابن العربي: والصَّحيحُ عندي: أنّه إذا خرجَ حُيًّا ذُكِّي، وإن خرج ميِّتًا لم يُذكَّ؛ لأنّ غير ذلك فيه لا يمكن، وذبحه بعد موته لا يفيد. المسألة الثّانية (¬1): الدّليل (¬2) على ما نقولُه: أنّ هذا حكم ثَبَتَ في الأُمِّ فوَجَبَ أنّ يثبتَ في الجنينن، كالهِبَةِ والبيع، ولا يلزم على هذا ما لم ينبت شعره؛ لأنّ ذلك ليس بحيٍّ بَعْدُ، ولا تكون الذَّكاةُ إِلَّا بعذ حياةٍ. وقال الشّافعيّ: يُؤكل وإن لم ينبت شعره (¬3). وقال عبد الوهّاب (¬4) وغيره من أصحابنا: إنَّ الأشعار دليلٌ على نفخ الرُّوح فيه (¬5)، فلا يستباحُ إِلَّا بذكاةٍ، وهو مذهب ابن عمر. والدَّليلُ على ما نقوله: أنّ كلَّ ما لا يستباحُ أكلُه إِلَّا بالذّكاةِ، فإنّ الذّكاة لا تعمل فيه مع عدَمِ الحياةِ، أصلُ ذلك الأُمَّهات. المسألة الثّالثة (¬6): إذا ثبت ذلك، فلا يخلو أنّ يخرجَ من الأُمِّ بعدَ ذكاتها، أو في حال حياتها، فإن ¬
خرجَ بعدَ ذكاتها، فلا يخلو أنّ تكون ممَّن تُرْجَى له الحياة، أو يُشَكُّ في ذلك، أو ييأس منه، فإن رُجِيَت له الحياة، ففي "المَدَنِيّة" عن مالك: لا يُؤكَل إِلَّا بالذَّكاةِ، وكذلك لو شَكَّ في حياته (¬1). فإن خرجَ ولا يرجى، فإثه يُستحبُّ ذَبحُه، وإن لم يُذْبَح وغفلَ عنه حتّى ماتَ أُكِلَ، قاله مالك في "المدنية" و "العُتبِيّة" (¬2). المسألة الرّابعة (¬3): قوله (¬4) " إذا تمَّ خلقُهُ " يعني أنّه كمل منه ما ظَهَرَ أنّه يكونُ عليه من الخِلقَة، وأمّا لو خُلِق ناقصَ يدٍ أو رِجْلٍ وتمَّ خَلْقُه على ذلك، لم يمنع ما نقص منه من ذَكَاتِه أو إباحة أَكلِهِ. وقولُه قبل هذا: "ذَكاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ" (¬5): دليل على أَنَّه بذلك تتِمُّ ذكاته، فيحتملُ أنّ يكونَ أمره بذبحه على وجهِ الاستحباب، ويحتمل أنّ يريد بذلك خروج الدَّم من جوفه، فيخرج منه ما يحتقن فيه لئلا يمنع ذلك من أكله. وقال علماؤنا (¬6): ذبْحُه بعد ما يخرج من بطن أمِّه على وجهِ الاستحبابِ (¬7)، لا ¬
على وجه الإيجاب؛ لأنّ ذكاة أمِّه قد شَمِلَته إذا لم يجر فيه الرُّوح (¬1) يتمّ خَلقُه ونبت شعرُه؛ لأنّ ذلك بمنزلة الدّم المنعقد الّذي فيه. تمّ الكتاب والحمد لله ربِّ العالمين ويتلوه كتاب الصّيد ¬
كتاب الصيد
كتاب الصَّيدِ قال الإمام: ولابدَّ في صدر هذا الكتاب من مقدِّمات ثلاث: المقدِّمة الأُولى في سَرْدِ الآثار والآيِ في إباحة الصَّيد وأحكامِهِ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية (¬1). وقال عز من قائل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية (¬2). وقال تبارك وتعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية (¬3). وقال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} الآية (¬4). وقال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية، إلى قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية (¬5). تفسير الآية الأولى: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (¬6)، الآيةُ تدلُّ على أنّ اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين من هذه الأُمَّة؛ لأنّه لم يُخَاطب بها سواهم. ¬
وقولُه: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ}: يدلُّ على إباحته في الجملة، وإطلاقُه على ثلاثة أضرُبٍ: 1 - الأوّل: إمَّا للكسب. 2 - وإمّا للهو. 3 - وإمّا للحاجة والالتذاذ. أمّا الضّربُ الأَؤل: للكسب أو للحاجة إلى اللَّحمِ غَنَيًّا كان أو فقيرًا، فلا بأس به، رواه ابنُ حبيب عن مالك (¬1). وأمّا الخروجُ للصَّيدِ على وجهِ الالتذاذِ، فقد كَرِهَهُ مالك؛ لأنّه معنى يُلْهِي عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ. الآية الثّانية: قولُه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآية، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2). و {الطَّيِّبَاتُ} (¬3): الحلالُ من الرِّزق، وكلُّ ما لم يأتِ تحريمُه في كتابٍ أو سُنَّةٍ فهو من الطَّيِّباتِ، وهو على مذهبِ من يَرَى المسكوت عنه مَبَاحًا، وفي ذلك اختلافٌ وتفصيلٌ طويلٌ. قال القاضي ابن العربي - رضي الله عنه (¬4) -: والطَّيِّبات ضدّ الخبيثات، وللطَّيب معنيان: أحدهما: ما يلائمُ النَّفْسَ ويلذُّها. الثّاني: مَا أَحَلَّ اللهُ، والخبيثُ ضدّه. ¬
وقولُه (¬1): {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬2) معناه: وما صِيدَ، أي: مَا صَادَهُ (¬3) {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} خرجَ مخرَجَ قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (¬4) والكلامُ يدلُّ على أنّهم سألوا عن الصَّيدِ فيما ساَلُوا عنه، وذلك مذكورٌ في الحديث، رُوِيَ عن زَيد الخَيل وعَدِيّ ابنِ حَاتِم أنّهما قالا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لَنَا كِلابًا نَصِيدُ بِهَا البَقَرَ وَالظِّبَاء، فَمِنهَا مَا ندرِك وَمِنهَا مَالَا ندرك إِلَّا ميتًا، وَقَد حَرَّمَ اللهُ المِيتَةَ، فَسكتَ عنهُمَا رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَاَتزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية (¬5). وَرَوَى أبو رَافِع قال: جاءَ جبريلُ إلى النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يَسْتَأْذِنُ عَلَيهِ فَأذِنَ لَهُ فَقَال: قَد أَذِنَّا لَكَ يَا رَسُول اللهِ، قَالَ: أَجَل، وَلَكِنَّا لَا نَدخُلُ بَيتًا فِيهِ كَلبٌ (¬6)، قال أَبُو رَافِع: فَأَمَرَ أنّ نَقتُلَ الكِلَابَ بِالمَدِينَةِ، فَقَتَلْتُ حَتى انْتُهَيتُ إِلَى امرَأَةٍ عِندَهَا كَلبَّ يَنْبَحُ عَلَيهَا، فَتَرَكتُه، ثُمَّ جِئتُ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَأَخبَرتُهُ، فَأَمَرَنِي بِقَتلِهِ، فَسَكَتَ، فَأتزَل اللهُ تَعَالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية (¬7)، وَهَذَا هو الصَّحِيحُ، وقوله (¬8): {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} فالجوارحُ معناها: الكَوَاسِب، جرح إذا كسب، فالجوارحُ هي الّتي يُصَادُ بها، وهي الكلابُ والفهودُ والبُزَاةُ والصُّقُورُ، وما أَشبَهَ ذلك. ومن أهل العلم من قال: لا يُؤكَل إِلَّا صيدُ الكلابِ. ¬
ومنهم من رأى أنّه لا يُؤكَل إلّا صَيد الكلبِ البَهِيم. ودليلُنا: عمومُ قولِهِ تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (¬1) أي الكواسب. وقولُه: {مُكَلِّبِينَ} معناه: معلّمين، أي أصحاب كلاب قد علَّمتوها، وأصلُ التَّكليب: تعليمُ الكلاب الاصطيادَ، ثمَّ كثُرَ ذلك حتَّى قيل لكلِّ معلّم ولكلِّ مَنْ علّم جوارح الصَّيد: مكلَّب، فتكليبُها تعليمُها الاصطياد. نكتةٌ عربية (¬2): قال أهلُ اللُّغة: كَلَّبَ الرَّجُلُ وأَكلَبَ إذا اقتَنَى كلبًا. وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح: "مَنِ اقتَنَى كَلبًا لَيس بِكَلب مَاشِيَةٍ أَوْ ضَاري، نَقص من أَجرِه كُلَّ يَوْمٍ قيرَاطَان" (¬3) والضّاري هو الّذي يَصِيدُ الصَّيدَ في اللُّغة. وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (1) هو عامٌّ في الكلب الأسود والأبيض. والقولُ في الكلبِ الأسودِ هو شيطانٌ (¬4)؛ إِنَّما قاله النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في قطعِ الصّلاة (¬5). وقال (¬6):، فأن أَدرَكتَ ذكاةَ الصَّيدِ فاذبَحهُ دونَ تفريطٍ، فإنْ فرَّطتَ فلا تَأكُلْهُ؛ لأَنَّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - شَرَطَ ذلك عليك. وقولُه (¬7) {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فالّذي علَّمنا الله هو ما في طَبعِ الصّغير والكبيرِ من ¬
إشلاء الجَوَارحِ وتضريتها على الصَّيد، فتعليمُ الكلبِ هو أنّ يُشلِيهِ فَيَنشَلِي، ويزجره فَيَزْدَجِر، ويَدعُوه فيُجيب، وكذلك الفُهُود وما أشبهها، وقد تكلّم ابنُ حبيبٍ عليها (¬1)، وليس قولُه بخلاف لما في "المدوّنة" (¬2) لأنّه إنّما أراد بما في "المدوّنة" إنَّ كان يمكن من جوارح الطَّير أنْ يفقه الازدِجَار، وتكلّم ابنُ حبيبٍ على ما يَعلَمُ من حالهَا بالاختبار. وأمّا "النُمُوسُ" فقال ابنُ حبيب (¬3): إنها لا تَفْقَهُ التَّعليم، ولا يُؤكَل ما صَادَت إِلا أَن تُدرَك ذَكَاتُه قبلَ أنّ تنفذ مقاتله. وَرَوَى ابنُ نَافِع عن مالك أنّه قال: إنَّ أَكَلَت مِن صَيدِهَا فلا تأكل منه، وإن كانت ممّن يفقه أكلتَ كلّ ما صَادَ. الآية الثّالثة (¬4). قولُه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬5) الظّاهرُ منه أنّه أراد مَا أُدرِكَت ذكاتُهُ أو لم تُدرَك، أَكَلتِ الجوارحُ منه أو لم تَأكل، وهو مذهبُ مالك وجميع أصحابه. وقال ناسٌ: إنّه لا يُؤكَل صيدُ الكلبِ إذا أَكلَ منه. وانذي ذهب إليه مالك وجميعُ أصحابه هو الصّحيح، ولا فرقَ في القياس بين ¬
المقدمة الثانية في سرد الأحاديث الواردة من الصحيح ذلك وإباحته
الكلب وبين سائر الجوارح، وقد جمع اللهُ بينهما في كتابه، وقد أجمع أهلُ العلم أنّ قتلَ الكلب للصيد ذكاة له، فلا فرق في القياس بين أنّ يأكل من صَيْدِه بعد أنّ يقتله، وبين أنّ يأكل من شاةٍ مذبوحة. المقدِّمة الثّانية (¬1) في سرد الأحاديث الواردة من الصّحيح ذلك وإباحته وهي أربعة أحاديث: الحديث الأوّل: في الصّحيح عن عَدِيّ بن حَاتِم؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَرْسَلتَ كَلبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرتَ اسم الله فَكُل، فَإنَّ ذَكَاتَهُ أَخذُهُ، وإن أَدرَكتَهُ حَيًّا فَاذبَحْهُ أَنتَ، وإن أَكَلَ الكَلبُ فَلَا تَأكُل، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأكُل، فَإِنَّك لَا نَذرِي أَيُّهُما قَتَلَهُ" (¬2). الحديثُ الثّاني: رَوَى أبو ثَعلبَة الخُشَنِيّ، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِذا أَرْسَلتَ كَلبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرتَ اسم الله فَكُل وَإِن أَكَل مِنْهُ"، وقال: "إِذا أَرْسَلتَ كَلبَكَ الّذِي لَيْسَ بِمُعلَّمِ فَإِن أَدرَكتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ" (¬3). وفي حديث عَدِي في الصّحيح: "وَإِنْ وَجدتَهُ غرِيقًا في الْمَاءِ فلَا تَأكُل؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَسَهمُكَ قَتَلَة أَمِ المَاءُ" (¬4). الحديثُ الثالثُ: رَوَى عَدِيٌّ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصِيدُ بِالمِعرَاضِ، فَقَالَ رَسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: أمّا خَرَقَ فَكُل، ؤمَا أَصَابَ بِعّرْضِهِ فَلَا تَأكُلُ" (¬5)، زادَ النَّسائي (¬6): "فَإنَّهُ وَقيذٌ". ¬
الحديث الرّابع: رَوى مسلم (¬1) عن أبي ثَعلَبَة، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِذَا رَمَيتَ سَهمَكَ فَقَتَلَ فكُل، وإن غَابَ عَنكَ فَأَدْرَكتَهُ فَكُلهُ مَا لَمْ يَبِت". ورَوى: "بَعْدَ ثَلَاثٍ (¬2) "، وروى "إِلَّا أنّ يُنْتِنَ" (¬3). زادَ النَّسَائيُّ (¬4): "أَوْ يَأكُلَ مِنْهُ سَبعٌ". وأمّا قولُه تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية (¬5)، فإنّه قد توهَّمَ بعضُ العلماء أنّ المرادَ به تحريمُ الصَّيد في حالِ الإحرامِ، وهذه غلطة، وإنّما المرادُ به الابتلاءُ في حَالتَي الحلِّ والإحرام، ليعلمَ اللهُ مشاهدةً ما عَلِمَهُ غَيبًا مِنَ امتثال مَنِ امتثَلَ واعتداءِ مَنِ اعتَدَى؛ فإنّه عالمُ الغَيب والشَّهادة، يعلَمُ الغَيبَ أوّلًا، ثمَّ يخلُقُ المعلومَ فَيَعْلَمُهُ مَشاهَدَةً، يتغيَّرُ المعلومُ ولا يتغيَّر العلّم. وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (¬6) قال مالك: يعني بايديكم في المقدورِ عليه، وقوله: {وَرِمَاحُكُمْ} يعني في المتعذّر المطلوب، وخصّ الرُّمحَ لأنّه الغالبُ في التَّصرُّف، وكل محدود يلحق به لأنَّه مثلُه. و"المِعْرَاضُ" قد بيَّنَه النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأنّه يجوز الصَّيدُ به، فهذه الآيةُ تناولت صَيدَ المباشَرَة من الصَّائد دونَ واسطةٍ، وتفصيلُ ذلك يأتي إنَّ شاء الله تعالى. ¬
الباب الأول ترك ما قتل المعراض والحجر
الباب الأوّل ترك ما قتل المعراض والحجر الحديث صحيحٌ. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): قولُ نافع (¬2): "رَمَيتُ طائِرَيْن بِحَجَرٍ" لا يخلو أنّ يفعل ذلك متصيِّدًا، أو متصرِّفًا في بعض شأنّه، أمّا الخروجُ للتًصَّيُّد، فإنْ كان ذلك على وجه الالتِذاذِ فقد كَرهَة مالك؛ لأنّه معنى يلهي عن ذكر اللهِ وعنِ الصَّلاةِ، وقد تقدّم بيانه (¬3). وقد (¬4) استحبَّ مالك الصَّيدَ لمن سَكَنَ الباديةَ، ويقول: هم مِن أَهْلِهِ ولا غِنَى لهم عنه، وكَرِههُ لأهل الحاضرة ورَأى خروجهم إليه من السَّفَهِ (¬5). فرعٌ (¬6): وأمّا صيدُ الحِيتَان، ففي "العُتبِيّة" (¬7) من رواية ابن القاسم؛ أنّ صيدَ البَحرِ والأنّهالي عندي أخفّ لِذوِي المروآت من صيدِ البَّر، وكأنِّي رأيتُه لا يرى به بأسًا ¬
وأنا قَولُهُ: "رَمَيتُ طائرَينِ بحَجَرٍ" يحتملُ أنّ يرمِيَهُما بحجرٍ واحدٍ، ويحتملُ أنّ يرمي كلّ واحد بحجر. وفي هذا أربع مسائل: أحدها: في صِفَةِ السِّلاح الّذي يُزمى به، الثّاني: في صفة الرّمي. الثّالث: في صفة المَرْمَيّ. الرّابعُ: في منتهى فعل الرَّميَة. المسألة الأولى (¬1): إنْ ما يصادُ به على ضربين: أحدهما: ما له حدٍّ كالسَّهم والرُّمح (¬2). الثّاني: ما لا حدَّ له كالمِعرَاضِ والبُندُقةِ وغير ذلك، فيحتملُ أنّ يكون الحجر الّذي رَمَى به نافع ممّا له حدٌّ وأصاب بحدِّه، ويحتملُ أنّ يكون ممّا لا حدَّ له، وهو الأظهر، لما فعله ابنُ عمر من ضَربِهِ الطائرين حين لم يُدْرِك ذكاتهما، وقد رَوَى ابنُ حبيب عن أَصْبَغ عن ابن القاسم - في رامي الصَّيد بالحَجَر الّذي يقتله فيقطع رأس الصَّيد وهو ينوي اصطياده -: لا يُعجبُنِي، إذ لعلّ الحَجَر قطع رأسه بعرضه، وهذا يحتمل أنّ يكون فيما شكّ فيه من أمره (¬3)، ولو كان عَلِمَ أنّه أصابَهُ بحدِّه لجاز له أكله. المسألة الثّانية (¬4): في صفة الرّمي فإن ذلك عند مالك نوعٌ من الذَّكاة، فيجب أنّ يكون ممّن تجوز ذكاتُه وعلى ¬
صفةٍ تصحّ بها، فيحتاج أنّ ينوي الضّاربُ والرّامي الاصطيادَ، وفي "المُدَوَّنَة" (¬1) عن مالك فيمن رَمَى صيدًا بسكين فقطعَ رأسَهُ وقد نَوَى اصطياده، فلا بَأسَ بأكله، وإن كان لم يَنْوِ، فلا يأكله. ووجهُ ذلك: أنّ ما اعتبرَ فيه صفة الفاعلِ فإنّه يعتبر فيه نيّته، كالذّبح والوضوء والصّلاة وغير ذلك. فرعٌ (¬2): وكذلك مَنْ رَمَى صيدًا فأصاب غيرَهُ لم يأكله، ولو أصابه وأصاب غيرَهُ أَكَلَهُ، بمعنى استصحاب النية في ذلك. المسألة الثّالثة (¬3): في صفة المرمي فإنّه يُرَاعى فيه صفتان: إحداهما: أنّ يكون أصله التَّوَحُّش. الثّاني: أنّ يكون من الامتناع بصفة لا يتمكَّن من ذكاته. فأمَّا الأوّل، فالأصلُ في ذلك قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية (¬4)، فعلى أيِّ وجهٍ تناله رِمَاحُنَا يجب أنّ يحلَّ لنا، إِلَّا ما خَصَّهُ ¬
الدّليل، وسواء كان مُتَوَحِّشَا على أصله أو تَأَنَّس ثمّ تَوَحَّشَ، والوجه فيه ما قدَّمْنَاه. والدّليلُ على ذلك: أنّ هذا متوحِّشُ الجنس مُمتنع، فجاز أنّ يُذكَّى بالرَّمي والضّرب كائذي لم يتأنّس قطّ. أمّا الثّانية: وهي الامتناع من الذّكاة المعهودة فيه، فهي العلّة في إباحة ما ذكرنا في الصَّيد، ولو تمكّن منه بإِثخَانِ الجراح، أو بِحِبَالَةٍ أو غيرها لم تَجُز ذكاتُه إِلَّا بِما يُذكَّى به الإِنسِيّ؛ لأنّ علَّةَ الامتناع قد عُدِمَت، وهاتان الصِّفتان مؤثِّرتانِ في العملِ لا في النِّيَّة؛ لَأنّ العملَ يتعذّر بها دون النِّيَّة. المسألة الرّابعة (¬1): في منتهى فعل الرّمية ولا تخلو أنّ تنفذ المقاتل أو لا تنفذها، فإن أنفذت المقاتل فقد كملت فيها الذّكاة، وهو على ضربين: أحدهما: أنّ يبين بها من الحيوان جزءًا. والثّاني: ألَّا يبين بها شيئًا. فإن أبان ذلك فقطعه بنصفين، فإنّه يُؤكل جميعُه، زَاذَ النِّصف الّذي مع الرّأس أو نقص، وبه قال الشّافعيّ (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3): إنَّ قطع الثّلث ممَّا يلي الرّأس، أُكِلَا جميعًا، وإن قطع الثّلث ممّا يلي الفخذ، أكل الثّلثان اللذان يليان الرّأس ولم يُؤكل الثّلث الباقي. قال ابنُ القصّار (¬4): وهذا ينبغي أنّ يُفصَّل، فإذا قطع الرّأس أكل الجميع؛ لأنّه مقتول لا مَحَالَةَ، فإن كان الْذي قطع منه سوَى الرّأس يتوهّم أنّه يعيش بعده، فإنّ الَّذي بان منه لا يُؤْكَل وُيؤكل بَاقِيهِ (¬5). وهذا وفاق لأبي حنيفة، سواء مات من العقر الأوّل أو غيره. ¬
وقال الشّافعيّ: إنَّ ماتَ من العقر الأوّل أُكل جميعُه وما بانَ منه، وإن كان لم يمت حتّى رماه رميةً أخرى، فإنّه يُؤكَل الحيوان كلّه ولا يُؤكَل ما بَانَ منه. قال القاضي أبو الوليد (¬1): "هذا الّذي حكاهُ ابنُ القصّار في هذه المسألة هو القياس، غير أنّه قد رَوَى ابنُ المَوَّاز عن رَبِيعَة ومالك فيمن رَمَى صيدًا فَأَبَانَ وَرِكَيْهِ مع فَخِذَيْه فأنّه لا يُؤكل ما بَانَ منه وُيؤكل باقيه (¬2)، وهذا ممّا لا يُتَوَهم أنّ يعيش بعدهُ. ورَوَى ابنُ القاسم في "العُتبيّة" (¬3) أنّه إذا ضربه فخَذَلَ وَرِكَيْهِ أنّه يُؤكل جميعه، ولو أبان فخِذَيه ولم تصل إلى الجَوفِ فلا يُؤكَل ما أبان منه وُيؤكل ما بَقِيَ" (¬4). فرعٌ (¬5): فهذا ثبت ذلك، فإنّه لا يؤكل العضو البائن، فإنّ معنى ذلك أنّ يبين (¬6)، أو يكون في حكم البائن، فقد قال ابنُ حبيب: إنَّ كان ممّا يتعلَّق بالجلد أو بيسير من اللَّحم فلا يُؤكَل، وإن كان ممَّا يجري فيه الرُّوح على هيئته فإنّه يُؤكل، ونحوه قال ابن الموّاز غير أنّه لم يذكر يسير اللَّحم (¬7). ¬
فرع (¬1): وأمّا إذا أنفذ المَقَاتِلَ ولم يبق منه شيءٌ فإنّه يُسْتَحَبّ له أنّ يُذَكِّيه، فإن لم يفعل جَازَ له أكله لكمالِ الذَّكاةِ فيه. فرع (¬2): وأمّا قولُ نافع في أوّل الحديثِ (¬3): "فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فماتَ" يعني أحد الطَّائرين قبلَ أنّ يُذَكِّيه " فَطَرَحَهُ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ" فلا يخلو أنّ يكون فَاتَت ذكاته لتأخيرِ ذلك مع التَّمَكُّين من تعجيلها، أو يكون فَاتَ لأَنه لم يتمكَّن من الذَّكاةِ لسرعة فَوْتِهِ، فان فات التّأخير وكانت ضربة بعرض حجرٍ فلا يجوز أكلُه؛ لأنّه مَوْقُوذَةٌ، ولو ضَرَبَه بحَجَر ولم ينفذ مقاتله ومات للتّأخير مع التَّمَكُّنِ من الذَّكاةِ لم يجز أكلُه؛ لأنّه كان مقدورًا عليه، فلا يُبَاحُ أكلُه بغير ذكاةٍ كالإنسيّ، ولو ماتَ قبل التَّمكُّن من ذكاتِهِ من غير تفريطٍ لجازَ أكلُه؛ لأنّه غير مقدورٍ عليه. غايةٌ وإِيضاحٌ في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4) فَمَدَّ التَحريم إلى غاية، فهذا انْقَضَتِ الغايةُ ارتفع التّحريم، وليس هذا من باب النّسخ (¬5) على ما تقرّر في موضعه. ¬
وأمّا قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (¬1) فسيأتي بَعدُ أنّ شاء الله تعالى. مسألة (¬2): قوله (¬3): "فَأَعَانَهُ عَلَيهِ غيرُهُ من مَاءٍ أَو كَلبٍ"، وهذا كما قال: إنّه إذا أعانَ الصَّائد على صَيدِهِ غيرُهُ ممّا ليس بآلةٍ للصَّيدِ، فلم يَدرِ أنّه ماتَ من فعلِ الصَّائدِ أو من فعل المُعِين فلا يُؤكَل (¬4). ووجهُ ذلك: أنّ الصَّيد يحتاجُ إلى النيَّةِ كالذَّكاة، وتُرَاعَى فيه صفة الفاعل والآلة كالذَّكاة؛ لأنّ (¬5) النِّيَّة عند علمائنا شرطٌ في الصَّيدِ (¬6). مسألة (¬7): وقوله (¬8): " لَا بأسَ أنّ تَأكُلَ" الصَّيدَ وإن غَابَ عَنكَ مَصْرَعُهُ" قال القاضي - رضي الله عنه -: وهو أيضًا يحتاجُ إلى تقسيمٍ وتفصيلٍ، وذلك أنّ الكلب أو السَّهمَ إذا أَنْفَذَ مَقَاتِلَ الصَّيدِ بمشاهدة الصَّائد، ثمَّ غابَ عنه، فقد كَمُلَت ذَكَاتُهُ، ولا يؤثّر في ذلك مَغِيبُه عنه ولا مَبِيتُه، قال ابنُ القصَّار (¬9): وهذا الّذي أرادَ مالك - رحمه الله -. ¬
مسألة (¬1): لأنَّ لم ينفذ المَقَاتِلَ حَتَّى غاب عنه ثمَّ وجدَهُ ميِّتًا، فقد قال ابنُ القصّار: إذا كان مُجِدًّا في الطَّلَب حتّى وجدَهُ على هذه الحالة، فإنّه يجوز أكلُه، وإن تَشَاغَلَ عنه ثمَّ وجدَهُ ميِّتًا، فإنّه لا يجوز أكلُه، وحَكَى نحوه ابنُ حبيبٍ عن أَصْبَغ. وَرُوِى أنّه إذا تَوَارَى الكلبُ مع الصَّيد، فوجده قد قتلهُ، إنَّ لم يَرَ بالقُربِ صيدًا يُشكَّكُه (¬2)، فإنّه حلالٌ فإن شكَّ فلا يَأكُلُ. ومعنى ذلك: أنّ لا يتبيّن له الصَّيد الّذي أرسلَ عليه * ويكون بالموضع من الصَّيد ما يشكّ به في قتل الّذي أرسل عليه*، وهذا شكٌّ في عين الصَّيْدِ، وما ذكرناه أوَّلًا إذا شكّ في صفة قتله. وقال بعضُ الشّافعيّة: إذا زال عن عينه وهو في غير حكم المذبوح، فلا يجوز أَكلُه. والدّليل على ما نقولُه: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِذَا أَزسَلتَ كَلبَكَ المُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسمَ الله وَقَتَلَ، فَكُلْ". مسألة (¬3): وقوله (¬4): "وَلَمْ يَبِتْ" (¬5) لا يخلو أنّ يكون اصطاده بجارحٍ أو سهمٍ، فإن كان ¬
بالجارحِ فبات وقتَلَتهُ الجوارحُ بعدَ أنّ غاب عنه، فالمشهور من المذهب أنّه لا يُؤكل، وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال ابن القصّار (¬2) عن مالك في الصَّيد (¬3): إته يُؤكَل وإن باتَ، سواء كان صاحبه يطلبه أم لا. وقال أبو حنيفة: إن كان صاحبُه لم ينقطع عنه حلّ أكلُه، وإن كان قد تشاغلَ عنه لم يحل أكلُه (¬4). توجيه (¬5): ووجة الإمتناع: أنّه إذا بات، جازَ أنّ يكون ما انتشر من السِّباعِ وغيرها باللّيل قتلته دون كلبه، فلا يجوز أكله، وإن كان يجوز هذا بالنّهار إذا غاب عنه أكثره، إِلَّا أنّه يَنْدُرُ بالنّهار (¬6). مسألة (¬7): وأمّا إنَّ أصابه بسهمه فبات عنه، فالّذي رَوَى ابنُ القاسم (¬8): فلا يُؤكل ما صادَهُ بكلب أو سهمٍ أو غير ذلك. ¬
باب ما جاء في صيد المعلمات
وقال أَضبَغُ: إنَّ باتَ عنه فوجد فيه أثر سَهمه قد أنفذَ مقاتِلَهُ فَلْيَأكُلْهُ، وأمّا في أثر البازي والكلب فلا يؤكل كان كان مقتولًا. والمعنى فيه: ما قال عبدُ الوهّاب (¬1) أنّ الفرقَ بين أثر السَّهم والجارح؛ أنّ السَّهم يوجد في موضعه، فإن لم يوجد فيه أثر غيره عُلِمَ أنّه قد ماتَ منه، وأمّا الجوارحُ فإنّ آثارها كآثار غيرها من السِّباع، فصار في هذه المسألة ثلاث روايات: 1 - رواية ابن القصّار أنّه يؤكل إذا بات سواءَ صِيدَ بسهمٍ أو كلب. 2 - وروابة ابن القاسم: لا يؤكل. 3 - وقول أَصبَغ: يؤكل ما بَانَ ممّا صيد بسهمٍ فقط. باب ما جاء في صَيْدِ المُعَلَّمات الأحاديثُ: قال الإمام (¬2): الأصلُ في هذا الباب قولُه تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬3) فتعيّن به كلّ جارحةٍ من بهيمةٍ كالكلب والفهد، أو الطائر كالبازي أو الصّقر، ولكنّه ذكَر التّكليب لأحد معنيبن، قال بعضُ علمائنا (¬4): التكليب هو التعليمُ، وهو في المعنى الثّاني وهو الأصحّ، وإنّما ذكَر التّكليبَ لأنّه الأغلبُ. وفي الصّحيح عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنِ اقتَنَى كَلبًا إِلَّا كَلبَ صَيدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ ¬
نَقَصَ منْ أجره كُلَّ يومٍ قيراطَانِ" (¬1) ومن طريق أبي هريرة: " أَوْ زرْعٍ" (¬2) هذا التّأويل لأبي هريرة، تأويل من حَسّنَ الظَّن به وهو الصّحيح، إِلَّا تأويل من أَرادَ القَدْح في روايته وهم قومٌ من الخوارج، فقيل لعبد الله بن عمر: إنَّ أبا هريرة يقول في الحديث (¬3): " أَوْ زرْعٍ" فقال: "يَرحَمُ الله أَبَا هُرَيرَةَ، كانَ صاحب زرْعٍ"، يعني: أنّه إذا كان صاحبَ زرْعٍ يكونُ أعلمَ بالمسألةِ من ليس بصاحب زرْعٍ (¬4)، وهذا من لُطفِ الله تعالى، فإنّه جعلَ البهائمَ على ضربين: مُسَخَّرَةً مقدورًا عليها، ومُتَوحِّشَةً مُمتَنِعَةً بنفسها، ثمَّ أذِنَ في طلبها بالسِّلاح والجوارحِ، كلُّ ذلك ابتلاءً منه بحِكمَتِهِ وقُدرَتِهِ. قال القاضي: ولتعليم الجوارح شرطان: أحدُهما: الانشلاء والإشلاء. الثّاني: الإجابة عند الدُّعاء. ووقَع في ألفاظ علمائنا: "الانزجارُ عند الزّجر (¬5) وليس بشرط (¬6)، وهذا يستوي فيه البهائمُ والطَّيرُ، وليس يَلزمُ في الإشلاء رؤيةُ الصَّيد، بل يجوز أنّ يرسله ويُشلِيهِ في ¬
الجملة، ولكن بشرطِ النِّيَّة - فإنّ الاصطيادَ ذكاةٌ والنِّيَّة فيها شرطٌ كما تقدَّم،- وذِكرِ اسمِ الله، على ما تقدَّمَ في الذّبائح. تنبيه على وهمٍ: قال بعضُ علمائِنَا (¬1): إنَّ العِقبَانَ والبُزَاة والصُّقور ليست من الجوارح، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬2) وإنّما هي الكلاب. الجواب: قلنا له: هذه وهلةٌ لا مرد لها، وأينكَ من الحديث الصّحيح، حديث عَدِي بن حَاتِم قال: سَألْتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَنْ صيدِ الْبازِي، فَقَالَ: إِذَا أَمسكَ عَليكَ فَكُلْ" (¬3). وزَعمَ بعضُ العلّماءِ أنّ الجوارحَ: ماجرح من الكلاب والطّير، وذوات الأظفار: الّتي تجرح بأظفارها وتمسك على نفسها. وأنكرَ بعضُ الأشياخِ هذا وقال: الجوارحُ هي الكواسِبُ، يقال فلانٌ جارحةُ أهلِهِ، أي كاسبهم، وقد صرَّح القرآنُ العزيزُ بذلك في قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآية (¬4)، أي اكتسبوا. وقال مجاهد (¬5) في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (¬6) أي: ما كسبتم. الفقه في ثلاث مسائل: الأولى في صفة الجارح، الثّانية في صفة المعلَّم، الثّالثة في معنى الأمساك على الصائد. ¬
المسألة الأولى (¬1): أمّا صفةُ الجارحِ الّذي يصحُّ الاصطياد به، فهو كُلُّ جارحٍ يمكنُ أنّ يفهم التَّعليم من ذواتِ الأربع، كالكلبِ والفهدِ والنَّمرِ، ومن الطَّير كالبازي والصَّقْر والباشق والشّاهين والشّذَانِيق (¬2) والعُقَاب وغير ذلك، وعلى هذا عامّة الفقهاء، وبه قال مالك وأبو حنيفة (¬3) والشّافعيّ، وهو مذهب ابن عبّاس. ورُوِيَ عن ابنِ عمر ومجاهد أنّهما قالا: لا يَحِلّ إِلَّا صيد الكلب، وأمّا صيد سائر الجوارح من الطير وغيرها فلا يحلّ صيدها. وهذه وَهلَةٌ كما تقدَّم. ثمّ أعجب من الحسن بن أبو الحسن أنّه قال: يجوزُ صيد كلّ شيءٍ إِلَّا الكلب الأسود البَهِيم، وبه قال النَّخعي وابن حنبل (¬4) وابن رَاهُويَة، وهذا ليس بموضع خلاف، وإنّما اختلف فيه في الصَّلاة لقوله: "الكَلْبُ الأَسوَدُ شَيطَانٌ" (¬5). والدّليل على ما نقولُه، قولُه تعالى " {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬6) هو عامٌّ في كلّ كلبٍ أسود وأبيض وفي كلِّ جارحٍ. ومن جهة القياس: أنّ هذا من الجَوَارحِ المعلَّمةِ، فجازَ الاصطيادُ به كالكلب، وقد تكلّمنا عليه في أوَّل الكتابِ. المسألة الثّانية: في صفة الكلب المعلَّم وهو أنّ يفهم الزّجر والأشلاء، وقال رَبِيعَة: إِذا دُعِيَ الكلبُ فأجاب، وزُجِزَ عن الصَّيدِ فأطاعَ، فهو المعلَّمُ الضّاري، وأمَّا البَازِي والصَّقرُ والعقبَانُ، فإذا أُشلِيَ يأخذُ، وإذا زُجِرَ يتركُ، فهو معلَّمٌ. وقال مالك: المعلَّمُ هو الّذي إذا أرسلتَهُ ذهبَ، وإذا دَعَوتَه أجاب وتوقَّفَ. ¬
والتّعليمُ عندنا ثلاث مرَّات، إذا أَرسَلنَهُ يقَتلُ الصَّيدَ فلا يأكل منه، وهذا قولٌ معروفٌ. وقال (¬1) مالك (¬2): وليسَ بشرطٍ أَلَّا يأكلَ منه، وهو شرطٌ في تعليمه عند أبي حنيفة (¬3) والشّافعيّ (¬4). وبالقَولِ الأ وَلِ قال سَلمَان الفارسيّ، وسَعدُ بن أبي وقَّاص، وعليُّ بن أبي طالب وأبو هريرة. واستدلّ علماؤُنا بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬5) قالوا: فما بَقِيَ بعدَ الأكلِ فهو ممّا أمسك علينا. ومن جهة القياس: أنّ قتل الجوارح ذَكاةٌ يُستَبَاح الصَّيدُ بها، فلا يفسد باكله منه، أَصلُ ذلك إِذا ذَبَحَ. وأمّا من تعلَّقَ بالمنع، فذلك بما رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من حديثِ عَدي بنِ حَاتِم أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: إِذَا أَرسَلتَ كَلبكَ المُعَلَّمَ وَذَكَرتَ اسمَ اللهِ علَيهِ فَكُل، وإن قَتلَ فَأَكَلَ فَلَا تَأكُل فإنَّمَا أَمسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" (¬6). وهذا الحديثُ صحيحٌ، والأخذُ به واجبٌ، غيرَ أنّه عامٌّ، فَنَحملُهُ على الّذي أدركه مَيتًا من الجري أو الصدم فيأكل منه، فإنّه قد صار ¬
على صفه لا يتعلّق بها الإرسال، فلذلك لم يكن مُمسكًا علينا، يُبَيِّنُ هذا قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا أَمسَكَ عليكَ فَكُلْ" (¬1)، فَإنّ أَخذَ الكلبِ ذكاةٌ، والحديثُ واحدٌ، وإذا كان أخذه ذكاة، ومعنى الذَّكاة أنّ تُبيحَ المُذَكَّى، فلا يفسده ما وُجِدَ بعدَ ذلك من أكلٍ وغيرِهِ (¬2)، وإنّما ذكرنا هذا، لإنكار من أنكرَ قول مالك ومُخَالَفَتِهِ (¬3)، وإنّمَا تأؤله على وجه سائغٍ ودليل بَيِّنٍ من اتِّفاق علماء الصّحابة المسألةُ الثّالثة (¬4): وأمّا معنَى الإمساك علينا، فقد قال ابنُ القصّار: إنْ معناه: أنّ يمسك بإرسالنا، وهو على أصولِنَا بَيِّنٌ؛ لأنّه لا نِيَّةَ له، وإنّما يصيدُ بالمُعَلَّم، فإذا أرسله فقد أمسك عليه، وإذا لم يرسله فلم يمسك عليه (¬5). وقال ابنُ حبيب: معنَى قولِه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬6) ممّا صدنَ لكم. فرعٌ (¬7): فإذا ثبت ذلك، فإنَّ الكلبَ إذا لم يُرسَل، وصادَ بإرسالِهِ، فلا يُؤكَل ما قَتَلَ، ¬
والأصلُ في ذلك قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلبِكَ كَلبًا غَيرَهُ، فَخَشِيتَ أنّ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَتَلهُ فَلَا تَأكُل، فَإِنمَا ذَكَرْتَ اسمَ اللهِ عَلَى كَلبِكَ وَلَمْ تَذكُرهُ عَلَى غَيرِهِ" (¬1). فرع (¬2): فهذا ثبت أنّ الصَّيدَ يحتاج أنّ يُعْتَبَر بالنِّيِّة، فإنّه يجوزُ أنّ يُعتبرَ ذلكَ في جماعةٍ يراها الصَّائدُ، أو يرَى بعضَها، أو لا يرى شيئًا منها، ويختصُّ بموضعٍ لا يختلطُ بغيرِهِ في الأغلبِ، كَالْغَارِ فيه الصَّيد يُرسلُ جارِحَهُ ويَنْوِي جميعَ ما فيه، فإنّه يجوزُ أكلُه، هذا هو المشهور من مذهب مالك وأصحابه. وقال أشهب: لا يصحُّ إرسالُه إِلَّا على ما يراه في حين الإرسال. وأمّا مالا يراه إذا كان الموضع ممّا لا يحبس ولا يمتنع من دخول غيره إليه كالغَيضَةِ، فقد جوّز الإرسال على ما فيها أَصْبَغ، ومنعَ منه ابن القاسم وأشهب، ويتخرّج القولان من قول مالك (¬3). فأمّا الإرسال على غير تعيينٍ، مثل أنّ يرسلَهُ على كلِّ صيدٍ يقوم بين يَدَيه، فلا خلافَ (¬4) أنّ ذلك لا يجوزُ لعدم التّعيين، كما لو أرسله ونَوَى كلّ صيدٍ أو لم يَنْوِ شيئًا. فرع: وأمّا ما لا يفقه التَّعليم، فلا يجوز أكل صيدِهِ وما قَتَلَ، وإن كان الكلب تَعْلِيمَ ¬
فصل في المسائل
مجوسيٌّ فلا يصحُّ الاصطياد به، وكذلك اليهوديّ والنَصرانيّ، وقد رَخَّصَ في ذلك جماعة منهم: إسحاق، وسعيد بن المُسَيِّب، والزُّهريّ. فصل في المسائل مسألة: الكلبُ يشربُ من الدِّم دم الصَّيد، فاختلفَ الأيِمَّةُ في ذلك: فقال عَطَاء وأحمد (¬1) وإسحاق وأبو ثَور: يُؤكَل. وكره ذلك الشّعبىّ وسُفيان الثّوريّ. وأمّا ضرب الكلب على التَّعليم، فقد قال ابنُ عبّاس: إذا قتلَ الكلبُ فأَكَلَ فَاضربه حتّى يمسكَ عليك الصَّيد، فجائرٌ أكلُه بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬2) وهذا على مذهب مالك والشّافعيّ وأبي ثَوْر. مسألة: الكلب يُرسَل على الصَّيد فيوجد معه كلبٌ آخر، لم يؤكل، لقوله: "مَالَم يَكُن مَعَهُ كلبٌ"، وأكثرهم على ألَّا يؤكل. مسألة (¬3): واختلف العلماء في جماعة أصحاب الكلاب إذا اجتمعوا وقد أطلقوا كلابهم على صيد، وسمَّى كلّ واحدٍ منهم، وجاء المُرسَلُونَ بها، فأصابوا الصَّيد قتيلًا، ولا ¬
يدرون من تولَّى قتلَهُ منهم، فكان أبو ثَوْر يقول: إذا كان الصَّيد قَتيلًا قد ماتَ بينهم أُكِلَ الصيدُ، وإن اختلفوا فيه وكانت الكلابُ متعلّقة به كان بينهم، وإن كان مع واحدٍ منها كان صاحبُه أَوْلَى، وإن كان قتيلًا والكلاب نَاحية، أُقرعَ بينهم، فمن أصابته القُرْعَة كان له. وقيل عن أبي ثَور: لا يخلو أنّ يجاوز بالقُرْعَة المواضع الّتي أقرع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فيها، فيوقَف الصَّيد بينهم حتّى يصْطَلِحوا، فإن خِيفَ فساده بِيعَ الصَّيدُ وَيبقَى الثّمن بينهم حتّى يصطلحوا. وإذا أرسلَ المسلمُ كلْبَه على صيدٍ وسمَّى اللهَ، فَزَجَرَهُ مجوسىٌّ، فأخذَ الصَّيدَ وقتلَهُ، أُكِلَ، هذا قولُ أبي ثور والنُّعمَان وأصحابه (¬1). وإن أرسلَ مجوسىٌّ، فزجره مسلمٌ وأخذَ الصَّيدَ، لم يُؤكَل في قول أصحاب الرَّأي (¬2)، وقولُ أبي ثور مُختَلَفٌ فيه. مسألة: وأمّا الكلبُ ينفلت من يَدِ صاحبِهِ فَيَصطَاد، فقال عَطَاءُ بنُ أبي رَبَاح والأوزاعيُّ: يُؤكَل صيدُه إذا كان للصَّيْد. وقال الأوزاعيُّ (¬3): وإن أرسلَ كلبَهُ المعلَّم فَعَرَضَ له كلبٌ معلَّمٌ فقتلاه جميعًا، فهو حلالٌ. فإن عَرَض له كلبٌ غير معلَّمٌ فَقَتلَاه، لم يُؤكَل. ¬
وقالت طائفة: لا يُؤكَل الصَّيد الّذي قتلَهُ ولم يكن أرسلَهُ صاحبُهُ؛ لأنّه خرجَ بغير إرسالٍ، هذا قولُ ربِيعَة ومالك (¬1) والشّافعيّ (¬2) وأبي ثور وأصحاب الرّأي (¬3). قال أبو بكر (¬4): وبه أقولُ. مسألة: واختلفَ العلّماءُ فيما يَصِيدُه أهلُ الكتابِ بكلابهم: فقال اللَّيثُ وعَطاء والشّافعىّ (¬5): لا بأس بصَيدِهم. وقال مالك: تُؤكَل ذبائحُ أهلِ الكتابِ اليهود والنّصارى ولا يُؤكَل صيدُهُم، وتَلَا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية (¬6) قال ابن المُنذِر: والأوّلُ أصحّ (¬7). وأمّا صيد المجوسىّ فمكروهٌ بإجماعٍ (¬8)، وقال أبو ثور فيه قولان: أحدهما كقَولِ هؤلاءِ والآخر أنّهم أهل كتاب (¬9) وهو جائز، وليس ذلك بصحيحٍ. مسألة: واختلفَ العلّماءُ في كلَّ ما يصيده المجوسيّ من السَّمَكِ والجَرَادِ، فكان الحسن البَصْرِيّ والنَّخعي لا يَرَيَانِ بأسًا بصَيد المجوسيّ السَّمَكَ، وبه قال الشّافعيّ (¬10). والنّخعيّ، وأحمد، وإسحاق (¬11). ¬
باب ما جاء في صيد البحر
مسألة (¬1): قولُه (¬2): "إِذَا ذُكِرَ اسمُ الله تَعَالَى عَلَى إِرْسَالِهَا" ظاهرُ هذا اللَّفظ يقتضي أنّ التَّسميةَ شرطٌ في صِحَّة الاصْطِياد، كما هي شرطٌ في صحَّةِ الذّكاة، وقد قال ابنُ القاسِم في "المُدَوَنَة" (¬3): "مَنْ تَرَكَ التَّسْميةَ في الصَّيد عَامِدًا لَمْ يُؤكَل صَيدُهُ" ويجري هاهنا من الخلاف في التّسمية ما تقدّم في الذّبيحة، والذي يختصُّ بهذا الباب قولُه تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} فأمرَ بذكر اللهِ، والأمز يقتضِي الوُجُوبَ. مسألة (¬4): ويلزم الصائدَ التَّسميةُ حين الإرسال، على ما قال مالك في "الموطَّأ" (¬5). وأمّا المجنون والسَّكرانُ، فإنّه لا يؤكل صَيْدهما ولا ذبيحتهما، رواه ابنُ الموّاز عن مالك؛ لأنّ الصَّيدَ يحتاجُ إلى نِيَّةٍ. باب ما جاء في صيد البحر قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬6) فحمل (¬7) الصَّيد على ما صِيدَ منه لامتناعه، والطَّعام على ما يُتَنَاوَل دونَ تصيّد، وذلك لا يكون إِلَّا في الطَّافي، وهو في الغالِب لا يُعلَم سبب موتِهِ * ولا أنّه مات بسببٍ، فلما استوى عنده ذلك في الإباحة، إمّا لعمومَ الآية أو لغيرها من الأدلّة، رجع عن المنع منه إلى إباحته* ¬
اما صيدُ البحر فحلالٌ على الإطلاق، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الآية؟ فقدلُه: {صَيْدُ} ما حُووِلَ بعملٍ، وقولُه: {وَطَعَامُهُ} ما لَفَظَ البحر ولم يُحْاوَل اخذُهُ، وكذلك تأوَّلَه عبد الله بن عمر (¬1). وقال أبو حنيفة: ما لفَطهُ البحر لا يُؤكَل (¬2). ومعى قوله: {وَطَعَامُهُ} يعني: أُحِل لكم صَيْدُ البحر وأكلُه، وهذا عِيٌّ لا يليقُ بعالمٍ، فكيف بكلامِ البارئ سبحانه. وتعلّقَ من رَأَى ذلك بأحاديثَ لا أصلَ لها، أمثلُها، ما رَوَى أبو داود (¬3) عن جابِر عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ما أَلقى البَحْرُ أو جَرَزَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَما طَفَا فَلَا تَأكُلُوُه" وقد ضعّفَهُ أبو دَاوُد، وأبو عيسى (¬4)، والصّحيح ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال في البحر: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ" رواه الأيمَّة مالك (¬5) وغيره (¬6). ¬
وفي الصّحيح عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ "أَنَّهُم خَرَجُوا في غَزوَةِ السِّيف مَعَ أَبِي عُبِيدَةَ ابن الجَرَّاحِ، فَفَنِيَ زَادُهُمُ - عَلَى صِفَةٍ ذَكَرَهَا أَهلُ السِّيرِ -، فَأَلقَى لَهُمُ البَحرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ العَنْبَرُ، فَأَكَلُوا مِنهُ شَهرًا، وَادَّهنُوا بِهِ، وَشَبِعُوا، وَجَاءوُا مِتهُ بِفَاضِلةِ إلَى المدينة، وَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ذلكَ، وَأَهدوْا إِلَيْهِ مِنْهُ فأَكَلَهُ" (¬1). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬2): قولُه في هذا الحديث (¬3) "إنَّ ابن عُمَرَ نَهَى عن أَكلِ مَا لَفَظَهُ الْبَحرُ" وذلك على ضربين: أحدهما أنّ يلفظه حيًّا، والثّاني: أنّ يلفظه ميتًا. لمّا اعتقد تحريمه، ثمَّ ظهر إليه أنّ يُعيدَ النَّظر لذكر الآية، فأعادَ نَظَرَهُ فيها، فقرأَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬4) فحمل الصَّيد على ما صِيدَ منه لامتناعه، والطعام على ما يتناول دون تَصَيُّد، وذلك لا يكون إِلَّا في الطَّافِي، وهو في الغالب لا يُعْلَم سبب موته. فإذا ثبت ذلك، فجميعُ صيدِ البحرِ حلالٌ عند مالك. وأمّا كلب الماء وخنزيره، فقد روى أبو القاسم أنّه مكروه (¬5)، وقاله ابنُ حبيب، وفي "الموازية": اختلفَ في خنزير الماء، فاجازَ أكله رَبِيعَة، وكرهه يحيى بن سعيد، وظاهرُ القرآنِ والسُّنَّةِ يُبيحُه. ¬
المسألة الثّانية (¬1): في التوجيه فوجهُ القولِ الأوَّلِ: ظاهرُ التّسمية، وفي "المُدَوَّنَة" (¬2) عنِ ابنِ القاسِم: "لم يكن مالك يجيبُنا فيه بشيءٍ، ويقول: إنكم تقولون خنزير الماء" يريدُ. والله أعلم. التَّعلُّق بعموم قولِهٍ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (¬3)، ولا سيّما على مَنْ يراعِي في العمومِ موضوعَ اللَّفظ دون عُرفِ استعماله، فمن رَاعَى عُرْفَ العمومِ واستعماله دون موضوعه توقَّفَ عن الجواب، أو حكم بما لم يدخل تحت عُرفِ الاستعمال بالكراهية، وقال ابن القاسم (¬4): "إنِّي لأتَّقِيهِ، ولو أكلَهُ رجلٌ لم أره حرْامًا". ووجهُ القولِ الثّاني: قولُه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} الآية (¬5)، وما رُوِيَ عنه (¬6) أنّه قال: "هُوَ الطُّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬7). المسألة الثّالثة (¬8): وأنا "الجِرِّيتُ (¬9) " فأنا أكرهه فإنّه يقال: إنّه من الممسوح (¬10). ¬
الفصل الأول
وقوله: "نَهى عَنْ كُلِّ مَا لَفَظَ البَحْرُ" وذلك على ضربين: أحدهما: أنّ يلفظه حيًا. والثّاني: أنّ يلفظه ميِّتًا. فأمّا لفظه حيًّا، فإنّ مذهب مالك جواز أكله، وكذلك ما لفظه مَيَّتًا، سواء ماتَ بسببٍ أو بغير سببٍ، وقاله الشّافعيّ (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): لا تؤكل مَيْتَتُه إِلَّا ما ماتَ بسببٍ، مثل أنّ يؤخذ فيموتُ، أو يموت من شدَّة حرٍّ أو بردٍ، أو تقتله سمكة أُخرى، أو ينضب الماءُ عنه فيموت، أو يلفظه البحر حيًّا فيموت. وأمّا إنَّ مات حَتْفَ أَنفِهِ، ولفظه البحر ميِّتًا، فإنّه لا يُؤكَل. ودليلُنا قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "الحِلُّ مَيتَتُهُ" وأَيضًا: فإن الذّكاةِ إنّما تكونُ بِقَصْدِ قَاصِدٍ يصِحُّ منه القَصْدُ، ولا خلافَ أنّ ذلك لا يُعتبرُ في الحُوتِ، فوجبَ إِلَّا تعتبر فيه الذّكاة. فهذا ثبت هذا، فإن الكلام فيه في فصلّين: أحدهما في بيان ما يجوز أَكْلُه بغيرِ ذكاةٍ، والثّاني: في بيان مالًا يجوز أكلُه إِلَّا بالذَّكاة. الفصلُ الأوّل (¬3) فأمّا ما في الماء من حِيتَانِهِ ودوابِّه، فعلى ضربين: 1 - ضَربٌ لا تبقى حياته في غير الماء، فلا خلافَ في المذهب أنّه يجوز أكل ذلك بغير ذكاةٍ ولا سَبَبٍ. ¬
2 - وأمّا ما تبقى حياتُه في البرّ كالضّفادع والسُّلَحْفَاة، ففي "المدوّنة" (¬1) عن مالك: إباحة أَكْلِهِ من غير ذكاةٍ ولا سبّبٍ (¬2)، وروى عيسى عن ابن القاسم: ما كان ماواه في الماء، فإنّه يؤكل بغير ذكاة وإن كان يَرْعَي في البرّ، وما كان مَأوَاهُ في البرّ، فإنّه لا يُؤكَل إِلَّا بذكاةٍ كان كان يعيش في الماء (¬3). وفي "المَدَنِيَّة" عن محمّد بن دينار: لا يُؤكَل إِلَّا بذكاةٍ (¬4)، وهو قولُ أبي حنيفة (¬5) والشّافعيّ (¬6). مسألة: ودم السَّمَك نجِسٌ، وبه قال الشّافعيّ (¬7). وقال أبو حنيفة: هو طاهرٌ يحلُّ أكلُه (¬8). ودليلُنا (¬9): قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬10) وهذا عَامٌ فيحمل على عمومِهِ. ومن جهة القياس: أنّ هذا دمٌ سائلٌ، فوجبَ أنّ يكونَ نَجِسًا كسائر الدِّماءِ. ¬
الفصل الثاني في بيان مالا يحتاج إلى ذكاة كالجراد والحلزون وما يكون فيى البر من الحشرات والخشاش
الفصل الثّاني (¬1) في بيان مالًا يحتاج إلى ذكاة كالجراد والحَلَزُون وما يكون فيى البرّ من الحَشَرات والخَشَاش وهي عندي من الّتي ليست لها نَفْسٌ سائلةٌ، فقد رُوِيَ عن مالك في "الموازية" وغيرها أنّه لم يجز أكل الجراد إِلَّا بذكاةٍ، فإن ماتت بغيرِ ذكاةٍ بعد أنّ اصطيدت حيّة، فقد أجازَ أكلها ابن المسيِّب وعطاء، وقالا: أَخْذُهَا ذكاتُها، ولو وُجِدَت ميِّتة لم يجز عندهما أكلها، وأجازَ ذلك مطرِّف من رواية ابن حبيب عنه (¬2). فوجهُ قولِ مُطَرِّف: أنّ هذا حيوانٌ مقدورٌ عليه لا تُعتبرُ فيه الذَّكاةُ المخصوصةُ فلم تُعْتَبَر فيهِ ذكاةٌ، أصلُ ذلك الحوتُ. ووجهُ قولِ مالك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬3) وهذه ميتة. وأيضًا: فإنّ هذا من حيوان البرّ، فلم يجز أكله بغير ذكاةٍ كسائر حيوان البرّ. ووجهُ قولِ مطرِّف: ما تقدّم. قال (¬4): وحكمُ الحَلَزُون حكم الجراد لا يؤكل إِلَّا بذكاةٍ. قال ابنُ حبيب: كان مالك وغيرُهُ يقول: منِ احتاجَ إلى شيءٍ من الخَشَاشِ للأكلل أو الدَّواء فلا بأس به إذا ذُكِّيَ كالجراد. ¬
مسألة: قوله (¬1): "وَسُئِلَ (¬2) عَنِ الحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعضُهَا بَعضًا، أَوْ تَمُوتُ صَرَدًا فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأسٌ" وهو ممّا اتَّفَقَ عليه مالك وأبو حنبفة والشّافعيّ؛ لأنّه ماتَ بسببٍ (¬3)، وليس من شرطِهِ عند أبي حنيفة (¬4) أنّ يكون السّبب من فعل الصَّائدِ، بل يجوزُ أكله عنده متى مات بسببٍ من فعلِ الصَّائدِ أو غير فعله، وما احتاج إلى سبب عند مالك فإنّه يحتاج أنّ يكون السّبب من فعلِ قاصدٍ إلى ذلك، وقد نصَّ على ذلك الأبهري في كلِّ ما ليست له نفسٌ سائلةً أنّ ذكاته بأن يقصد إلى إماتته بفعلٍ ما. وهل يُعتَبَرُ فيه من صفة الفاعلِ ما يُعُتبر في الذّكاة أم لا؟ ففي "العُتبِيَّة" (¬5) من رواية أشهب عن مالك؛ أنّه لا يجوز صيد المجوسيّ للجراد إنَّ قتلها بفعله، إِلَّا أنّ تؤخذ منه حيّة (¬6). قال ابن عبد الحَكَم: وعلى آخذِها التّسمية عند حَزِّ رؤوسها وأجنحتها، وهذا يدلُّ على أنّ هذا ذكاةٌ لها. قال ابنُ حبيب: أو تُثقَبُ بالإِبَرِ والشَّوْكِ حتّى تموت، أو تُقْلَى أو تُشْوَى (¬7). ¬
باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع
باب تحريم أكل كلِّ ذي ناب من السِّباع مالك (¬1)، عنِ ابنِ شِهَابٍ، عن أَبِي إِدرِيسَ الخَوّلَانِيِّ، عن أبي ثَعلَبَةَ الخُشَنِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَكلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ". الأسناد:. قال الإمام: هذا حديثٌ مُسْنَدٌ صحيحٌ، مُتَّفَقٌ على صحَّتِهِ ومَتْنِهِ، خرَّجَهُ الأيمَّة: البخاريّ (¬2) ومسلم (¬3)، ورواه يحيى بن يحيى هكذا: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ" وروى القَعنَبِي (¬4) عن مالك، عن الزّهريّ، عن أبي إدريسّ الخَوْلَانِيِّ، عن أبي ثَعلَبَةَ الخُشَنِيِّ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -:" نَهَى عَنْ أَكلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ" وهو الصَّوابُ (¬5)، ولم يروه أَحَدٌ كما رواهُ يحيى (¬6). الأصول: نَهيُهُ (¬7) - صلّى الله عليه وسلم - عن أكلِ كلِّ ذِي نَابٍ من السِّباعِ ظاهِرُهُ التّحريم، ويجوزُ أنّ يُحملَ على الكراهية بدليلٍ إنَّ وُجِدَ في الشَّرعِ. ¬
واختلف في ذلك الأيمَّةُ، هل هو نصُّ في التّحريم؟ فقال به جماعة (¬1). وقالت جماعة: إنّه محمولٌ على الكراهية، وإنه نهي أدَبٍ وإرشادٍ (¬2). فأمّا من قال: إنّه تحريمٌ عامٌّ ومَن فَعَلَهُ وعَلِمَ به فإنّه (¬3) عاصٍ آثمٌ، فاستدلَّ بقوله: "إِذَا نَهَيتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَانتَهُوا، وَإذا أَمَرتُكُمْ بِشَيءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا استَطَعتُمْ" فأطلقَ النَّهيَ ولم يقيِّدْهُ بصفةٍ، وكذلك الأمرُ لم يقيِّده إِلَّا بعدم الاستطاعة، فقالوا: إنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ (¬4)، أو مشَى في نعلٍ واحدةٍ، أو قَرَنَ بين تمرتين في الأكل، أو أكل من رأس الصَّحفَةِ (¬5)، ونحو هذا وهو عالمٌ بالنّهيِ كان عاصيًا. وقال اَخَرُون: هذه الأشياء مُعَللَة، فهذا عُلِمَتِ العلّةُ أو زالت زال حُكمُهَا. أمّا قولُه: "نهى عن الأكل من رأس الصَّحْفَة" فالعلَّةُ فيه أنَّ البركةَ تزولُ منها. وأمّا "النّهي عن القِرَانِ في التَمر" لِمَا فيه من سوءِ الأدبِ (¬6)، وكذلك النّهي عن الشَّربِ من فمّ السِّقَاءِ خوفَ الهَوَامِّ؛ لأنّ أفواه الأسقية تَصعَدُ فيها الهوامُّ، وربّما كان في السِّقَاءِ ما يؤذيه، فهذا جعل عليه شيئًا سَلِمَ منه. وأمّا (¬7) من نَصَّ على الكراهية (¬8)؛ فإن عَبِيدَةَ (¬9) غير معلوم الحِفظِ، وقد روى ¬
الزّهريّ حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ ولم يذكر لفظ التّحريم، وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنّ مالكًا خَرَّجَهُ في (موطّئه) وهذا يدلُّ على تصحيحه لَهُ والتزامه، وهو صريحُ مذهبه، وبه ترجمَ الباب حين قال: "بَابُ تَحرِيمِ أكل كلّ في ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ"، ثمَّ ذكر الحديث، وعقبه بعد ذلك بان قال: "ؤهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا" (¬1) فأخبر أنّ العمل اطّرد مع الأثر. واختلفَ العلّماءُ إذا خالفَ العملُ الأثرَ: فمنهم من قدَّم الأثرَ وهم الأكثرون. ومنهم من طرحَ الأَثَر وقدّم العمل، وهو مالك والنّخعيّ، وقد قال النخعىُّ: لو وجدتُ أصحاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يتوضّؤون إلى الكوعَيْن لتوضّأتُ كذلك، وصدَقَ؛ لأنّهم بعدَالتِهِم لا يتركون العمل بما سمعوه إذا ثبت سماعهم له، إِلَّا عن دليلٍ أظهر منه، وفيه تفصيلٌ طويل بيّناه في كتب الأصول (¬2). الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلف العلّماءُ في تحريمِ أكل كلِّ ذِي نابٍ من السِّباعِ: فرَوَى العراقيون عن مالك أنّها كلّها عنده محمولة على الكراهية من غير تفصيل، وهو ظاهرُ "المدوّنة" (¬4). ابن كنانة: كلُّ ما يفترسُ ويأكلُ اللَّحم فهو مِمَّا لا يُؤكَل، وما كان سوى ذلك من دوابِّ الأرض وما يعيشُ بنباتِ الأرضِ فلم يأتِ فيه نَهىٌ، قال عيسى عن ابنِ القاسم: وهذا ¬
في السّباع، فأمّا الطيرُ فإنّها تفترسُ وتأكلُ اللّحم وليس بأكلها بأْسُّ. وأمّا المدنيّون، فقال ابنُ حبيبٍ: لم يختلفوا في تحريم لحوم السِّباع العادية: الأسد والنَّمِر والذِّئب والكلب، وأمّا غير العادية كالدُّبِّ والثّعلبِ والضَّبُعِ والهِرِّ فَيْكرَهُ أكلُها من غير تحريم، قاله مالك وابنُ الماجشون، ولعلّه لم يبلغه قول ابن كنانة، أو بَلَغَهُ وحَمَلَهُ على المنعِ في الجملةِ، وأنّه عنده على ضربين: منه ممنوعٌ على وجه التَّحريمِ. ومنه ممنوعٌ على وجه الكراهية. وأمّا المغاربة من المالكيِّينَ، ففي "الموازية": السَّبُع والنَّمِرُ والفَهْدُ محرَّمة بالسُّنَّة، والذِّئب والثّعلب والهرّ مكروهة، وقد يوجد من قول ابنِ القاسم وروايته عن مالك أنّ ذلك كلّه على الكراهية، كرواية العراقيِّين. واستدلَّ علماؤُنا في ذلك بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية (¬1)، فليست لحوم السِّباع ممّا تضمّنته الآية، فوجب ألَّا تكون محرّمة. ومن جهة القياس: أنّ هذا سَبُعٌ ذو نَابٍ، فلم يكن محرّمًا كالضَّبُعِ والثَّعلبِ. المسألة الثّانية (¬2): وقال قومٌ: لا بأسَ بأكلِ هذه كلّها لحديثٍ وَرَدَ، انفردَ به عبدُ الرَّحمنِ بن عبد الله بن أبي عَمَّار (¬3)، وقد وثّقه جماعةٌ من أيمّةِ الحديث، ورَوَوْا عنه هذا، واحتجُّوا به، وهو ثقة مكيٌّ. ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): يُؤكل الضبُعُ والثعلبُ. وقال مالك وأصحابُه: لا يُؤكلُ شيء من السِّباع الوحشية، ولا الهر الوحشى، ولا بأس باكل سباع الطَّير، وزَادَ ابنُ عبد الخكَم في روايته حكايةً عن مالك قال: وكلّ ما يَفْتَرِسُ ويأكلُ اللَّحم ولا يرعى الكَلأَ، فهو سَبُعٌ ولا يُؤكَلُ، وهذا يُشبِهُ السِّباعَ الّتي نهى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن أكلها، وَرَوَى عن أشهب أنّه قال: لا بأس بأكل الفيل إذا ذُكِّي. وقال ابنُ وهب، قال لي مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العِلْم قديمًا وحديثًا بأرضنا ينهَى عن أكل كلّ *ذي مِخلبٍ من الطَّير. قال: وسمعت مالكًا يقولُ: لا يؤكلُ كلُّ* ذي نابٍ من السِّباع، وقال ابنُ وهب وكان اللَّيثُ بن سعد يقول: يؤكل الهرُّ والثَّعلبُ. والحجّةُ لمالك: عمومُ النّهي عن ذلك، ولم يَخُصَّ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - سبُعا من سبُعٍ، فكلُّ ما وقعَ عليه اسم سَبُعٍ، فهو واقعٌ تحت النّهي، على ما يُوجبُهُ الخطاب وتعرفُه العربُ من لسأنّها في خطابها ومخاطبتها، وليس حديثُ الضَّبُع ممّا يُعارَضُ به حديثُ النّهي عن أكل كلِّ ذي نابٍ من السِّباع (¬2). وأمّا الضَّبُّ، فقد ثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إجازةُ أَكْلِهِ (¬3)، وفي ذلك ما يدلُّ على أنّه ليس بسبُعٍ يَفْتَرِسُ. ¬
وقد (¬1) أجازَ الشَّعبِىُّ أكلَ الأسدِ والفِيل (¬2)، وتَلَا قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬3). وكره عطاء أكل الكلب (¬4)، وسُئِلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عنه فقال: "طُعمَةٌ جاهليَّةٌ وقد أغنَى اللهُ عنها" (¬5). مسألة (¬6): قال القاضي - رضي الله عنه -: لا أعلمُ خلافًا بين المسلمين (¬7) أنّ القرد لا يُؤكل ولا يجوز بَيعُه؛ لأنّه لا منفعةَ فيه، وما علمتُ أحدًا رخَّصَ فيه ولا في أكله (¬8). المسألة الخامسة: قولُه - صلّى الله عليه وسلم - (¬9): "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّباعِ حَرَامٌ": فإن معنى حرام ممنوع، وليس تحريمُه كتحريمِ القرآن؛ لأنّ الكلام في المحرّمات بابٌ عظيمٌ يأتي بيانُه -إنَّ شاء الله- في ¬
كتاب النكاح (¬1) في قوله: "تحرم المرأةُ على عمتِها وخالَتها" (¬2)، وفي أبواب البيوع الفاسدة (¬3)، فالتّحريمُ في كلام العرّب الحِرْمانُ والمَنْعُ، قال الله تعالى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} (¬4) أي منعناه منهنَّ. المسألة السّادسة: في معنى قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬5). قال علماؤُنا (¬6): الآيةُ عامّةٌ في نَفيِ كلِّ محرَّم، إِلَّا أنّ يدلُّ دليلٌ على تحريم ما لا تتضمّنُه الآية، كما دلّت آية الخمر على التّحريم وإنْ لم يكن ذلك في هذه الآية، وحديثُ تحريم لحوم السِّباع عامٌّ في تحريمها على كلِّ أحدِ، فتُحمَلُ الآية على عمومها، ويخصّ بها الحديث في لحوم السِّباع ونحملُه على المُحرِمين، وكان ذلك أَؤلَى؛ لأنّ الآية مقطوع بصحّتها، وكان التّعلّق بعمومها أَوْلَى من التَعلُّق بعمومٍ مظنونٍ وهو عموم الخَبَرِ. فإن قيل: فما فائدةُ تخصيصِ لحومِ السِّباعِ وسائرِ لحومِ الوَحشِ محرّمة على المُحْرِمِين؟. فالجواب: أنّه لا يمتنع أنّ يخصّ نوعًا من الجنس ليجتهد في إلحاق الباقي به أو مخالفته له، كما يقولون: إنّه نهى عن أكل كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ، وخصَّ بذلك التّحريم، وإن كان غيرُه من الحيوان عندكم حرامًا لم ينصّ عليه. ¬
وجواب ثانٍ: وهو إنّما خصّها بالذكر لما كانت ممّا أُبيحَ للمحرمِ قتلها ابتداءً، لئلّا يعتقد أنّها بمنزلة بهيمة الأنعام في استباحة لحومها لما كانت بمنزلتها في استباحة قتلها، والأصل في هذا عندي أنّ يخصّ الحديث بقوله {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬1) فالآيةُ عامّةٌ في كلِّ الحيوان، وخاصّة في الإمساك، وحديثُ أبي هربرةَ خاصٌّ في السِّباع، وعامٌّ في لحومها وأحوالها، فنجمع بينها، ونخصّ الحديث ونحمله على الميِّتة منها، بدليل خصوص الآية فيما أمسك علينا، وكانذلك أَوْلَى من تخصيص الآية بالحديث لوجهين: أحدّهما: أنّ الآية معلومةٌ والحديث ليس بمعلومٍ. والثّاني: أنّ عمومْ الآية لم يدخله تخصيصٌ، وعمومُ الحديثِ قد دخلَهُ تخصيصٌ في الضَّبُعِ والثَّعلب عندنا وعند الشّافعيِّ (¬2). ووجهُ ذلكَ: أنّ الأغلب من السِّبَاعِ العادية أنّه لا يتمكّن منها إِلَّا بعدَ فَوَاتِ ذَكاتِهَا، فخرجَ الحديثُ على الأغلبِ من أحوالها. وروايةُ مَنْ رَوَى عن مالك التّحريم أظهر لحديث أبي هريرة، وهو نصٌّ في التّحريم وخاصٌّ في السِّباع، وقد قال القاضي أبو إسحاق في "مبسوطه": أحسب أنّ مالكًا حمل النّهي في كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ على النّهي عن أكلها خاصَّة (¬3)، فذهبَ مالكٌ إلى أنَّ النَّهي مختصٌّ بالأكل، فالتّذكيةُ طُهْرٌ لغير الآكل، فقال: لا بأس بجلود السِّباع المذكّاة أنّ يصلّى عليها. ¬
مسألة (¬1): فهذا قلنا بتحريم لحومِ السِّباع العاديةِ، فقد رُوِي (¬2) عن مالك أنّ الدُّب والضَّبُعَ والهِرَّ مكروهة ليست بمحرّمة، وهذا مبني على مذهبه، فإنّ قوله لم يختلف في السِّباع الّتي لا تبدأُ بالأذى غالبًا كالهرِّ والثّعلب والضَّبُعِ، وإنَّما اختلفَ قولُه في العَادِيَةِ الّتي تبدأُ بالأذى غالبًا، فروي عنه التّحريم والكراهية. مسألة (¬3): قال الإمام (¬4): وأجاز مالك أكل الطير كلّه ما كان له مِخْلَبٌ ومالم يكن له مِخلَب، قال (¬5): ولا بأس باكل الصُّرَدِ (¬6) والهُدهدِ، ولا أعلمُ شيئًا من الطير يكره أكله (¬7). واختلف قولُه في الخُطَّاف، ففي "المستخرجة" (¬8) أنَّه لا بأس بأكلها، وقاله ابنُ القاسم. ورؤى ابنُ زياد عن ابن القاسم عن مالك أنّه كره أكلها (¬9)، والأوّل أظهر خلافًا لأبي حنيفة (¬10) والشّافعيّ (¬11) في قولهما: لا يؤكل كلّ ذي مِخلَبٍ من الطَّير. ¬
باب القول في الأطعمة
ودليلنا: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬1)، وهي عامّةٌ فَتُحْمَلُ على عمومها، وقوله تعالى في الجوارح: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية (¬2)، ولم يفرِّق بين ذي مِخْلَب وغيره. ومن جهة القياس: أنّ هذا طائر، فلم يكن حرامًا كالدّجاجِ والإِوَزِّ. بابُ (¬3) القولِ في الأطعمةِ قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬4) واختلفَ العلّماءُ في تفسيرها: فقيل: هي المحرَّمةُ شرعًا. وقيل: هي المستخبثةُ جِبِلَّةً وطَبْعًا على العموم عند النَّاس، لا على الخصوص عند بعض الاشخاص. وقد قيل للنبي - صلّى الله عليه وسلم -: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قال: لا، ولكنّه لم يكن بأرض قومي فاجِدُني أعافُه (¬5)، يعني الضَّبّ، يشيرُ إلى كراهية الاعتياد، وهي مخالفةٌ لكراهية أصل الاستخباث. وقال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية (¬6)، فحرّم الله في هذه الآية عشَرةً ترجِعُ إلى أربعةٍ، وهي: الميِّتَة، والدّمُ، ولحمُ ¬
باب ما يكره من أكل الدواب
الخنزير، ومَا أُهِلَّ لغير الله به؛ لأنّ قولَهُ: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} داخلٌ تحت قولِهِ تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} والمُنخَنِقَةُ وأَخواتُها داخلةٌ في الميِّتة إنَّ لم تُدْرَكْ ذَكَاتُها. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬1)، فذكر الأربعةَ الّتي ترجِعُ إليها الَايةُ المتقدّمةُ، ورُوِيَ عن ابنِ عبّاس أنّ هذه الآيةَ من آخر ما نَزَلَ (¬2)، فقال البغداديون من علمائنا: إنّ كلَّ ما عَدَا هذا حلالٌ، لكنّه يُكْرَهُ أكل السِّباع، وعند فقهاء الأمصار منهم: مالك، والشّافعيّ، وأبو حنيفة، وعبد الملك، أنّ أكل كلّ ذي نابٍ من السِّباع حرامٌ، وليس يَمتنِعُ أنّ تقعَ الزِّيادةُ بعد قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬3) بما يَرِدُ من الدّليل فيها، كما قال النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ دَمُ امرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإحدى ثَلَاثٍ" فذَكَرَ الكُفرَ بعد الإيمان" والزِّنَى بعد الإحصان، والقتلَ بغير حقٍّ (¬4)، ثمّ جاء بعد ذلك بأكثر منها. باب ما يُكْرَهُ من أكلِ الدَّوابِّ يَحيَى (¬5)، عَنْ مَالِكٍ: أنّ أحْسَنَ ما سَمِعَ في الخَيْلِ والْبِغَالِ والحَمِيرِ، أنّها لَا تُؤكلُ؛ لَأنَّ اللهَ تَبَارَك وَتَعَالي قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} الآية (¬6)، وَقَالَ تَعَالىَ فِي ¬
غافر: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (¬1)، وَقَالَ تَعَالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام: استدلَّ مالِكٌ - رحمه الله - على المنعِ من أكلِ لحومِ الخيلِ والبغالِ والحميرِ بالآيةِ، وذلك من وجهين: أحدهما: أنّ "لام" كّيْ للتّخصيص، وذلك أنّه "أخبر تعالى أنَّه إنّما خَلَقَهَا للرُّكوب والزِّينةِ (¬4)، فدلَّ ذلك على أنّه جميعَ ما أباحَهُ لَنَا منها، ولو كانت فيها منفعة غيرها لَذَكرَهَا ليُبيِّن إنعامه علينا. والثّاني: أنّه ذَكرَها، فأخبرَ أنّه خَلَقهَا للرُّكوبِ والزّينةِ، وذَكَرَ الأنعامَ فأخبرَ أنّه خَلَقَها للرُّكوب والأكلِ، فلما عَدَلَ في الخيلِ والبغالِ والحميرِ عن ذِكرِ الأكلِ، دلَّ على أنّه لم يخلقها لذلك، وإلَّا بطلت فائدة التّخصيص بالذِّكر. المسألة الثّانية (¬5): اختلفَ العلّماءُ في الخيل: فقال مالك: إنّها مكروهة (¬6). ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): أَكلُها حلالٌ. وقال (¬2) مالك: مكروهةٌ، وليست محرّمة ولا مباحة على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة (¬3). وقال الشّافعيّ: هى مباحةٌ، وبه قال أبو يوسف، ومحمّد بن الحسن (¬4). وقال ابن حبيب: الخيل مُختلفٌ في كراهية أكلِهَا فلا يبلغ بها التّحريم، فجعلها مباحة في أحدَ القولين. ودليلُنا على كراهيتها: أنّه حيوان أهلي ذو حافر، فلم يكن أَكلُه مباحًا، كالبغالِ والحميرِ. اعتراضٌ: ليسَ في وصفِ اللهِ الخيل بالرُّكوب وسكوتِه عن ذِكرِ أكلِهَا ما يُوجب تحريم أكلها، ولو أنّ كلّ ما ذكر الله أنّه لا يصلح لَشيءٍ، أو أنّه ينتفع به بوَجهٍ، وجب بذلك إِلَّا يصلح ولا ينتفعُ به بغير ذلك الوجه، ولوجب بقوله: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬5) ألَّا يُؤكَل إذا لم يكن طريًّا. وإذ قال: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬6) لا يجوز لنا منها غير الانتفاع بلبسها فقط، ولوجب إذا قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} (¬7) إِلَّا تجري بما يضرّهم أيضًا، والَّذي يرى تحريم لحوم الخيل، لا ينظر أنّه لولا أنّ النَّبيَّ -عليه السّلام- حرّم لحوم الحمُر ما كانت حرامًا، فإنّما أوجب تحريمها لأنّ النّبيّ حرّمها، ولولا ذلك ما كانت محرّمة بالآية، فاللّازم له على هذا المذهب ألَّا يحرم لحوم الخيل لأنّ النّبيّ لم يحرّمها، وأن يقرّها مباحة على أصلها، أرأيت لو أنّ متعسِّفًا تعَسَّفَ فقال: لمّا ذَكرَها اللهُ للرُّكوب والزِّينةِ لم يحلّ أنّ تصرف على غير ما ذكرها له، فحرم بيعها كما حرم مؤاكلتها؛ لأنّها إنّما ذكرت للرُّكوبِ ولم تذكر للأكل، فكذلك لم تذكر ¬
للبيع وأخذ الأثمان فيها. فإن قال: إنَّ الأُمَّة أجمعت على أنّ بيعها حلالٌ. قيل له: إنَّ كان الاجماعُ عندك حجّة فقل: لمّا اختلفتِ الأُمَّة في تحريمها، وأجمعتْ على أنّها كانت في الأصلِ مباحة، فَقُلْ بما اجتمعوا عليه، وَدَعْ ما اختلفوا فيه. المسألة الثّالثة: وتعلَّقَ (¬1) من رأى الإباحة، بما رُوي عن جابر بنِ عبدِ اللهِ، قال: نَهَى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - يرم خَيْبَر عن لحوم الحمر، وأَرخَصَ في لُحُومِ الخَيْلِ (¬2). وقال الشّافعىّ (¬3): الخيلُ حلالٌ. وقال جابر: ذبحنا فرسًا على عهدِ رسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فاكلناه (¬4). ورُوِي أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَذِنَ في لحومِ الخيلِ وحرَّم لحومَ الحُمُر (¬5)، ولا إشكالَ في أنّ لحومَ الحُمُرِ الأهليّة حُرِّمت يومَ خَيْبَر، لثبوتِ ذلك في الرِّوايةِ الصَّحيحة. واختُلِفَ في تحريمها على خمسةِ أقوالٍ (¬6)، وعن مالك في ذلك روايتان، والصحيحُ: أنّ التّحريم منسوخٌ (¬7)؛ بما نزلَ بعده بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬8)، وأنّ الله تعالى لمّا ذكر الأنعام ذكرها على وجه الامتنانِ للرُّكوب، وكذلك الخيل. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): أمّا الحُمُر، فاختلفَتِ الرِّوايةُ عن مالك فيها: فقيل: إنّها محرَّمةٌ. وقيل: إنّها مكروهةٌ غير محرَّمةٍ، ذكر ذلك القاضي أبو محمّد (¬2)، وذكر ابنُ القصَّار (¬3) رواية الكراهية فقط. الدّليل على التّحريم: ما رُوِيَ عن أبي ثعلبة: حرَّمَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لحوم الحُمُر الأهليّة (¬4). ووجهُ الرِّوايةِ الثّانية: أنّ هذا حيوانٌ مركوبٌ ذُو حافرٍ، فلم يكن محرَّمًا وإن كان مكروهًا كالخيل. وأمّا البغالُ، فحُكمُها حكمُ الحمُر؛ لأنّها متولّدة منها ومن الخيل. فإن قلنا: إنّ الحُمُرَ مكروهةٌ، فالبغالُ مكروهةٌ. وإن قلنا: إنَّ الحُمُرَ محرّمةٌ، فالبغالُ محرَّمةٌ، وإن الله تعالى ذكرها في معرِضِ الامتنانِ للرُّكوب خاصّة (¬5)، وكراهيةُ أكلِ الخيلِ والبغالِ والحميرِ لأجلِ أنّها كُرَاعٌ في سبيل الله، وهو أحَدُ الاْقوالِ في تحريم الحُمُر يوم خَيبَر؛ لأنّه رَوِيَ في الصَّحيح؛ أَن رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في ذَلِكَ اليوم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُكِلَتِ الْحُمُرُ، أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ؟ فَأمَرَ المؤذِّنَ أو المُنَادِيَ فَنَادَى، "أَلَاَ إِن لُحُومَ الحمر قَذ حُرِّمَت" (¬6). ¬
باب ما جاء في جلود الميتة
بابُ ما جاء في جُلود المَيْتَةِ مالك (¬1)؛ عن ابن شهابٍ، حديثُ ابن عبّاسٍ. قولُه (¬2):"إذا دُبغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" حديثٌ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬3)، خَرَّجَهُ الأيمَّةُ، وفيهِ كلامٌ طويلٌ لأهلِ الأُصولِ والمتفقِّهينَ من أشياخنا، واضطربوا فيها اضطرابًا كثيرًا؛ لأنّه تُعَارِضُه الأحاديث هاهنا، فقال أحمدُ بنُ حنبلٍ (¬4): لا يُنتفعُ بجلودِ الميِّتةِ بحالٍ وإن دُبغَ، لحديث عبد اللهِ بنِ عُكَيْم؛ أتانا كتاب رسول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قبلَ موتِهِ بشهرٍ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الميِّتةِ بإِهَابٍ ولا بعَصبٍ" (¬5) قال: وهذا معارَضٌ بحديثِ ابنِ عبّاس، لكن هذا معلومُ التّاريخِ، وذلك مجهولُ التّاريخ" ولا خلافَ بين العلّماءِ أنّ المعلومَ التَّاريخِ هو الّذي يُقَدِّم على المجهولِ. الأصول: قال بعضُ عَلمائِنا: هذا الحديثُ في شاةِ ميمونَة خرجَ على سبَبٍ، والعمومُ إذا خرجَ على سببٍ قُصِرَ عليه عند بعضِ أهل الأصولِ، وأُلحِقَ بهذا السَّبب البقرةُ والبعيرُ وشبهُ ذلك، للاتِّفاقِ على أنّ حُكمَ ذلك حُكمُ الشّاةِ. وقال بعضُهم: بل يتعدَّى ويعمُّ بِحُكمِ مقتضَى اللَّفظِ، ويجبُ حَمْلُهُ على كلِّ شيءٍ حتَّى الخنزير. ¬
وقال بعضُهُم: إنَّ العمومَ يُخَصُّ بالعادةِ، ولم تكن عادَتُهُم اقتناءُ الخنازيرِ حتّى تموت فيَدبَغُوا جلودَها، فخصّ بالعادةِ وخرجَ عن حكمِ الانتفاعِ، وكثيرٌ من العلّماءِ على هذا أنّه لا يُنْتَفَعُ بشيءٍ من الخنزيرِ. وقال بعضُهم: ولا أيضًا الكلبُ، لم يكن من عادَتِهِم استعمال جلده، فخرج عن العمومِ. وقال بعضُهُم: لا يُخَص هذا العمومُ بقوله: "دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" (¬1) فحملَ الذَّكاةَ مَحْمَلَ الدّباغ، فَوَجَبَ أَلَّا يُؤثِّرَ الدِّباغ إِلَّا فيما تُؤَثِّر فيه الذَّكاة، والذَّكاةُ إنّما تُؤثِّرُ عند هؤلاءِ فيما يُستَبَاحُ لَحْمُهُ؛ لأنّ قَصْدَ الشَّرعِ بها استباحة اللَّحم، فهذا لم يبح اللَّحم لم تبح الذّكاة، وإذا لم تعمَل الذّكاة لم يصحّ الدّباغ البتّة. وقد أشار بعض من انتصر لمالك إلى سلوك هذه الطّريقة، فرأى أنّ التّحريم تأكَّدَ في الخنزير، فاختصَّ بنصِّ القرآن عليه، فلهذا لم تعمل الذَّكاة فيه، فلمّا تَقَاصَرَ عنه في التّحريمِ عَمَّا سواهُ، لم يلحق به في تأثير الدِّباغ. وقد سلك أيضًا هذه الطَّريقة أصحاب الشّافعيّ (¬2)، ورأوا أنّ الكلب خُصَّ في الشَّرعِ بتغليظ، ولم يرد فبما سِوَاهُ من الحيوان، فَأُلحِقَ بالخنزيرِ. فأمّا الّذي ذكرنا من مخالفتهم في المعنَى، ويرون الدِّباغ أُنزِلَ من الشَّرعِ بمنزلةِ الحياة، لَمَّا كان يحفظ الجلد من التّغيير والاستحالةِ كما تُحفظ الحياة. وتعلَّقَ ابنُ شِهابٍ بحديثِ لم يشترط فيه الدباغُ (¬3)، وقد رواهُ مُقَيَّدًا، ولعلّه نَسِيَ ما رواه. وأَلحقَ الأوزاعيُّ وأبو ثَوْر بهذا الّذي اسْتُثْنِيَ جلدَ من يُؤكَل لَحْمُهُ. ¬
واتفقَ كلُّ من رأى الدِّباغَ مؤثِّرَا في جواز الانتفاع على أنّه يؤثِّر في الشَّاة الطَّهارةَ الكاملةَ، سِوَى مالك في إحدى الرِّوايتين عنه فإنّه مَنَعَ أنّ يؤثر الطَّهارةَ الكاملةَ، وهذا يجبُ أنّ يعتبر فيه قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (¬1)، فإن سلّم أنّ الجلد فيه حياة دخل في هذا الطّاهر، وكلُّ ما يرد في الأحاديث يخصِّصُهُ، تخصيصًا لعموم القرآن بأخبار الآحاد، وفي ذلك اختلافٌ بين أهل الأصول، والخلافُ المتقدِّم كلّه على خَبَرَين متعارضين ما الّذي يستعمل منهما؟ فالمستعمل منهما ما اقتضاه الاعتبار. فأخذ أحمد بن حنبل (¬2) بقوله: "لا تَنْتَفِعُوا مِنَ الميِّتة. بِإِهَابٍ وَلَا عَصبٍ" (¬3). وأخذ الجمهور بقوله: "إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَد طَهُرَ" (¬4) وهذا الحديث خاصٌ، والعامُّ يُرَدُّ إلى الخاصّ، ويكونُ الخاصّ تبيانًا له (¬5). التنقيح والفوائد المطلقة في هذا الحديث: وهي ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬6): أمّا قولُ من قال من الجَهَلَةِ: إنْ حديث شاة ميمونة خَرَجَ على سبَبٍ، فيكونُ الخلافُ في قصوره على السّبب وهو الشّاة دون غيرها، فهو ضعيفٌ من وجهين: أحدهما: أنّه ليس في الحديث سَبَبٌ، ولا سأل النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أحذ، وإنّما ابتدأَ البيان قبل السُّؤال. الثّاني: أنْ الأحاديث المطلقة بطهارة الجلد بعمل الدِّباغ بها ينبغي أنّ تَتَعلَّق في ¬
المسألة؛ لأنّ هذا الحديث عامٌّ في كلِّ جلدٍ من ناقة وبقرة وكلّ ما يُؤكَل إلحاقًا بالشَّاةِ، ولا خلافَ فيه؛ لأنّ الشَّرْعَ أَقَامَ الدِّباغَ مقامَ الذَّكاة حالَ الحياةِ في حفظ الجلد عن الآفات والعفونات. وزعم بعضهم أنّ ذلك لقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "دِبَاغُ الأَدِيم ذَكَاتُهُ" (¬1). فلمَّا أَنزَلَ الشَّرعُ الدِّباغَ منزلةَ الذّكاة عمل عملها في طهارة الجلد، وهذا الحديثُ ضعيفٌ لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُتَكَلَّم عليه إِلَّا من ليس له بصرٌ بالأحاديث. قد زعم بعض الغَفَلَة أنّ جلد الخنزير يُطهّر بالدِّباعَ، وهو أبو يوسف (¬2)، وتعلَّقَ بالعموم في زعمه، ولا وَجْهَ لذلك؛ لأنّ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية، إنّما يتناول ميتة كانت مباحة قبل الموت (¬3)، ثمَّ طَرَأَ عليها التَّحريم، فَرَدَّها الدِّباغُ إلى حالِ التّحليل، هذا معنى اللّفظ، وقال التّرمذيّ (¬4): "إنّما يقال: إهابٌ في العربيّة لما يُؤكلُ لَحمُهُ"، وهو نَصٌّ في مسئلتنا، والله أعلمُ. حديث ابن عُكَيم يرويه جماعة عن عبد الله بن عُكَيم: "أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ" وهو مضطرِبٌ ومجهولٌ. ¬
وأمّا حديث ميمونة المتقدِّم (¬1)، فاختلفتِ الألفاظُ فيه، ففي بعض رواياته: " هَلا انْتَفَعتُمْ بِإهَابِهَا" وفي رواية: "فَدَبَغتُمُوهُ ثُم انْتَفَعتُمْ بِهِإ (¬2). وحديث أنس بن مالك؟ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن جلود السِّباع (¬3). العربيّة: قال الهروي (¬4): "والإهاب يُجْمَعُ على الأُهُب، والأَهَب" بضمِّ الهمزة والباء وبفتحهما أيضًا. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى: اختلف العلّماءُ في جلد الميِّتة على أربعة أقوال (¬5): القول الأوّل: أنّه ينتفع به قبل الدِّباغ، قاله ابنُ شهابٍ وغيره للرِّواية المتقدِّمةِ، فإنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "هَلا انْتَفَعْتُمْ بِإهَابِهَا" مطلقًا. الثّاني: أنّه يُنْتَفَعُ بهِ إذا دُبغ، لقوله: "هَلا أَخَذتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتُمُوهُ فانْتَفَعُمْ بِهِ" قاله مالك (¬6) وأبو حنيفة والشّافعيّ. القول الثّالث: قال ابنُ حنبل: لا يُنْتَفَعُ به (¬7). ¬
الرّابع: أنّ الجمهورَ على المنعِ من الانتفاعِ به قبل الدِّباغ، ومختلفون في الجلد الّذي يؤثّر فيهِ الدِّباغ. وأمّا ابنُ حنبل، فتعلَّق بحديث عبدِ اللهِ بنِ عُكَيم: "أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَبلَ مَوْتِهِ بشهرين: أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" الحديث (¬1). المسألة الثّانية: اختلفَ قولُ مالك فيها اختلافًا مُتَبايِنًا: فمرّةً قال: يُستعملُ ني الجامد دون المائع. وتارةً قال: إنَّ كان ففي الماء وحده. ومرة قال: من سرق جلد ميتة مدبوغًا، نظر، فإن كان في قيمة ... قطع ولم يعتبر فيه ذاته. وتارةً قال: يستعمل على الإطلاق. وهذا إنّما يتبيّن لكم من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬2) الآيةُ نَصٌّ في التّحريم، لا كلام لأحدٍ فيه، ولا مجال للنّظر معه. وقوله: {الْمَيْتَةُ} عموم، فمن الفقهاء من قال: هو عامٌّ في الجُثَّةِ كلِّها، وجميع أجزائها حرامٌ. ومنهم من قال: إنّه يتناول قوله في الميِّتة ما يموت ولا يموت إِلَّا ما كانت فيه حياة، والعظم والشَّعر لا حياة فيه فلا يتناوله التّحريم. ومنهم من قال: أمّا (العظم) ففيه حياة؛ لأنّه يحسّ ويألم فيموت ويحرم. وأمّا "الشَّعْر" فلا حياة فيه، فلا يموت ولا يحرم، ألَّا ترى أنّه يجزئ حال الحياة، فكذلك بعد المماتِ، فهذا مجال يختلف في هذه الأحوال، ويفتقر كلّ فرق منها إلى ¬
النَّظر والاستدلال، فليوجد في موضعه، فهذه منزلةٌ من النّظر، منزلةٌ أخرى من النظر: لمّا قال اللهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1) قال المببيِّنُ لنا: لمّا أشكل علينا وَقَدْ مَرَّ بِشَاةِ ميمونة ميتة، هَلا أَخَذتُمْ إِهابَهَا فَدَبَغتَمُوهُ فَانْتفَعْتُمْ بِهِ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّها مَيْتة، قَال: إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا (¬2)، فبيِّن - صلّى الله عليه وسلم - أنَّ متناول التّحريم من عموم القرآن الأكل خاصّة، وأَنّ باقي الميِّتة على الانتفاع بالدِّباغ الّذي جعله الله سبحانه بحكمته خلفًا للحياة، فإن الحياة ترفع العفونة عن الجلد ويبقى معها مُهَيَّئًا للانتفاع مع اتصاله باللّحم، كما يفعل الدباغ بالجلد عند إنفراده عن اللَّحْم. منزلةٌ أخرى من النّظر: وأمّا ابنُ شهابٍ فرأى قوله: "هَلَا أَخَذتُم إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأقدم عليه، وأمّا غيرُهُ فرأى قوله: "فَدَبَغتُمُوهُ" ولو عَلِمَهُ ابن شهاب ما تعدَّاهُ. وأمّا ابنُ حنبل فإنّما كان يصحّ ما قالَهُ بشرطين: أحدُهما: لو صحَّ حديثه كصِحَّةِ حديثنا، فإنّ التّعارضَ بين الخَبَرَيْن إنّما يكون إذا اسْتَوَيَا في الصِّحَةِ. وأمّا الشرطُ الثّاني: بان يتعارضَ الخبرانِ لفظًا، ولا معارضةَ هاهنا بينهما؛ لأنّ الجلد يسمى إهَابًا قبل أنّ يُدْبَغَ، وأديمًا بعدَ الدِّباغ، فمتناوَلُ حديث عبد الله بن عُكَيم غير متناولِ حديث عبد الله بن عبّاس. وأمّا مالك، فكان حَب الشّريعة حَبَر اللُّغة، لم يختلف عليه شيءٌ من هذه الأغراض، ولكنّه كان حَوَّاطًا على الدِّين، مُلتَفِتًا إلى مصالحِ الخَلقِ، غَوَّاصًا على معاني الألفاظِ الغَرِيبة، فتارةً نَظَرَ إلى قوله: "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأشار إلى مجرَّدِ الانتفاعِ، ولم يقل: إنّه يعودُ إلى الحالةِ الأولى، فأعطاه درجةً واحدةً من الانتفاعِ ¬
حَمْلًا بمُطلق اللَّفظ على أقل ما يَقع عليه الاسم، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الفقه، اضطربت فيه أقوالُ العلّماءِ، ووفّق فيه مالك حظَّ المعنى، ولا سيّما في الأيمان. ثمَّ نظر تارةً في أقلِّ درجاتِ الانتفاع، فقال تارةً: يستعمل في الجامد ولا سِيَّما والنفس تتقزَّزُ في المائع. وتارةً قال: ففي الماء وحده، إشارة إلى أنَّه مخصوصٌ في الإباحة من أصلٍ محرَّمٍ على خلافِ القياس، فيقفُ حيث وَرَدَ به الشّرعُ خاصّةً. وتارةً قال: يستعملُ على الإطلاق، وهذا القول دهان لم يكن مشهورًا في الرِّواية فإنّه صحيحٌ في الدَّليل؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال في الصّحيح: "إِذَا دُبغَ الإِهَابُ فَقَد طَهُرَ" (¬1). منزلةٌ أخرى من النَّظر: وأمّا جلودُ السِّباعِ، فلا يخلو أنّ تُؤكَل أو لا تُؤكَل، فإن أُكِلَتْ، فَاستعمالُ جلودِهَا مباحٌ جائزٌ، وإن لم تُؤكَل، فاختلفَ النَّاسُ فيها إذا ذُكِّيَت هل تطهر جلودُها بالذَّكاةِ أم لا؟ فقال الشّافعيُّ (¬2): لا تطهر؛ لأنّه ذَبْحٌ لا يفيد مقصوده وهو الأكلُ، أَصْلُهُ ذَبْحُ المجوس. وقال مالك وأبو حنيفة: تطهير لأنّ أَكلَها مقصودٌ، فإذا تعذَّرَ أحدهما جازَ الآخرُ. المسألة الرّابعة: قال ابنُ الجَلّاب (¬3): "جلد الميِّتة قبلَ الدِّباغ نجسٌ، وبعد الدِّباغِ طاهرٌ طهارةً ¬
مخصوصةً يجوزُ بها استعماله في اليابسات وفي الماء وَحْدَهُ من دون المائعات" وهو الّذي صرّح به مالك؛ لأنّه نَظَرَ إلى الحديثِ لقوله: "إِذَا دُبغ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ". والطّهارة (¬1) على ضربين: 1 - طهارة ترفَع النّجاسة جُملَةً وتُعِيدُ العينَ طاهرًا، كتخليل الخمر. 2 - وطهارةٌ تُبيحُ الانتفاعَ بالعينِ وإن لم ترفع حكم النّجاسة، كتطهير الدِّباغ جلود الميِّتة على المشهور من مذهب مالك، ويجري ذلك مجرى الوضوء في رَفْعِ الحَدَثِ، والتّيمُّم في استباحةِ الصَّلاةِ مع بقاء الحَدَثِ، وهذَا قريبٌ جِدًّا (¬2). المسألة الخامسة (¬3): فهذا ثبتَ ذلك، فهذا حكمُ جلد ما يُستباحُ أَكْلُه بالذَّكاةِ، والحيوانُ على ثلاثةِ أَضرُبٍ: مباح وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومحرَّمٌ ومكروهٌ. فالمحرَّمُ المتَّفَقُ على تحريمِهِ كالخِنْزِير، فقد قال الأَبهَرِيُّ: لا يُتنَفع بجلده وإن ذُبحَ ودُبغ؛ لأنّه لا يحلّ بذكاةٍ ولا غيرها. والدّليل على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} الآية (¬4)، ثمّ قال الّذي آخر الآية {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والخِتزِير لا تعمل فيه الذّكاة، وهي أقوى في التَّطهِيرِ من الدِّباغ؛ لأنّ الذَّكاة تعمل في اللّحم وغيره من أجزاء الحيوان، والدِّباغ إنّما يعمل في الجلد خاصّة على الاختلاف، فهذا كانتِ الذَّكاةُ لا تُؤثِّر في جلد الخنزير، فبان لا يؤثِّر فيه الدِّباغ أَوْلَى. ¬
وأمّا "المكروه" فقال ابن حبيب في جلود السِّباع العادية: لا تُباع ولا يُصلَّى عليها ولا تُلبَس وإن ذُكِّيت، وُينْتَفع بها فيما سِوَى ذلك. قال الإمام: أمّا روايةُ ابن حبيب فعلى روايةِ التَّحريم، وفرّقَ ابنُ حبببٍ بين جلود السِّباع الّتي لا تعدو وبين الّتي تعدُو. فلم يجز الّتي تعَدُو وأجازَ الّتي لا تعدو، مثل الهرّ والثَّعلب، فقال: يجوزُ بيعُها ولباسُها والصَّلاة فيها إذا ذُكِّيت. المسألة السّادسة (¬1): أنا "جلد الفَرَس" فقال محمّد (¬2): لا يُصلَّي فيه وإنْ ذُبحَ ودُبغَ. وقال ابنُ حبيبٍ: لا بأسَ ببيعِهِ والصَّلاة عليه وفيه. وقدِ اتَّفقوا على أنّه جلد حيوان مكروه لا محرّم (¬3)، فيتخرّج من هذا أنّ جلد الحيوان المكروه لحمه عند محمّد لا يستباحُ استعمالُه بذكاةٍ ولا دِبَاغٍ، ومعنى ذلك ما رواه عن مالك أنّه إنّما يكره ذكاتها للذَّريعة إلى أكلِ لحومِهَا، فمنع من ذلك لمّا كانت كثيرة الوجود. وقال ابن حبيب ني جلد الفَرَس: لا بأس بِبَيْعِهِ والصَّلاة عليه وفيه، ومعنى ذلك أنّه غير محرم لحمُه، فجازَ أنّ يكونَ جلده طاهرًا كجلود السِّباع الّتي لا تعدو. المسألة السابعة (¬4): وأمّا "جلد الحمار والبغل" فقد قال ابن حبيب: لا يُصلَّى بشيء من ذلك وإن ذُبح ودُبغَ. وقال مالك: أَكْرَهُ ذكاتها للذّريعة إلى أكلِ لحومِهَا، فهذا يقتضي أنّها عنده على ¬
الكراهية، ويحتمل على توجيه ابن حبيب أنّ يكونَ القولُ فيها كالقول في جلد الفرس. وأمّا على رواية التّحريم، فيجب أنّ يكونَ جلدُها ممنوعًا قولًا واحدًا. وإذا ثبت هذا فإنّ العظم ينجس بالموتِ، وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال أبو حنيفة: لا ينجس بالموت (¬2). وقد روى محمَّد عن مالك (¬3) أنّه نهى عن الانتفاع بعَظمِ الميِّتة والفيل والادِّهان بهالأولم يطلق تحريمها؛ لأنّ ربيعةَ وعروة وابن شهاب أجازوا الامتشاطَ بها. قال ابنُ حبيب: وقد أجاز ذلك مُطرِّف وابن الماجِشُون وابن وَهْب وأَصْبَغ (¬4). واختار قول ربيعة (¬5) مالك - رحمه الله. المسألة الثامنة (¬6): وأمّا بيعُ عظامِ الميِّتةِ، فَحَكى ابنُ حبيب عن ابنِ الماجشون أنّه لم يسمع أحدًا يرخّص في ذلك، وإذا وقَعَ رُدَّ (¬7) الثَّمنُ إلى المبتاع، وذلك عنده في عظام الفيل وغيرها. المسألة التّاسعة (¬8): والشَّعْرُ والصُّوف والوَبَرُ لا يُنَجَّسُ بالموتِ، وبه قال أبو حنيفة، غير أنّه استثنى شعْر الكلب والخنزير، وهو أحد قول الشّافعيّ، وقوله الثّاني أنّه لم يفرق بين شَعرِ الميِّتة وغيرها. قال الأبهري: تجوز الخرازة بشعرِ الخنزير؛ لأنّه ليس بنجسِ ولا روحَ فيه. ¬
باب ماجاء فيمن يضطر إلى الميتة
والكلام في الفروع في هذا البابِ كثيرةٌ لبابها ما ذكرناه لكم في هذه العاجلة، فاقتصروا على ذلك تنتفعوا إنَّ شاء الله تعالى. باب ماجاء فيمن يضطرّ إلى المَيْتَة قال الإمام: لم يُسنِد مالك في هذا الباب حديثًا، وإنّما اقتصرَ على الآثار والنَّظر، وفيه بين العلّماءِ كلامٌ طويلٌ، ولا بُدَّ من تفسير الآيةِ المطابقةِ لهذا الباب. قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية (¬1). العربية: قال علماؤنا: "إنّما" هي كلمةٌ موضوعةٌ للحَصْرِ بمعنى، النّفي والإثباتِ، فتُثْبِت ما يتناوله الخطّاب وتَنْفِي ما عدَاهُ، وقد حصَرَت هاهنا المحرَّم، ولاسيَّما وقد جاءت عَقِيبَ المحلَّل فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية (¬2)، فدلّ بهذه الآية على الإِباحةِ على الإطلاق، ثمّ عقَّبَها بالتّحَريم بكلمة "إنّما" الحاصرة، فاقتضَى ذلك الإيعاب للقسمين. وقرله: {الْمَيْتَةُ} وهي في الإطلاق تقتضي العُرْف. والمرادُ بالآياتِ حُكُمًا ما مات من الحيوان حَتْفَ أَنْفِهِ من غيرِ قتلٍ بذكاةٍ أو ¬
مقتول بغير ذكاةٍ كانت الجاهليّةُ تستبيحُه فحرَّمَهُ اللهُ، فجادلوا فيه، فردَّ اللهُ عليهم على ما في "سورةِ الأنعام". في عموم الآية وخصوصها: قال النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -:"أُحِلَّت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالمَيْتَتَانِ: السَّمَك وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: الكَبِدُ وَالطِّحَالُ" ذَكَرَهُ الدَّارَقُطني (¬1) وغيره (¬2). واختلفَ العلماء في تخصيصِ ذلك: فمنهم من خصَّه في الجَرَادِ والسَّمَك، وأجازَ أَكْلَها من غيرِ ذكاةٍ ولا معالجةٍ، قاله الشَّافعىّ (¬3) وغيره. ومنهم من خصَّه في السَّمكِ وحدَهُ، ومنع من أكل الجراد، وهو أبو حنيفة (¬4). ومع اختلافِ النَّاسِ في جواز تخصيص *عموم الكتاب بالسُّنَّةِ، فقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز تخصيصه *بحديث ضعيفٍ، وهذا الحديث يُروَى عن ابنِ عمر، وعرفنا أَنَّه لا يصحّ سنَدُهُ، وورد في السّمك حديثٌ صحيحٌ حَسَنٌ (¬5) عن جابر بن عبد اللهِ أنّه خَرَجَ مع أبِي عُبَيَدَةَ بنِ الجَرَّاحِ حديثُ دابَّة العنبر إلى آخره (¬6). ¬
ويعضده قولُه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬1) فصيدُ البحرِ ما صِيدَ وتكلّفَ أَخْذُه، وطعامُهُ ما طَفَا عليه. ومنَ العلماء من خصَّصَهُ في السَّمكِ خاصَّةَ، ورَأَى أكلَ مَيتَيه، ومنعَ مِن أَكلِ الجرادِ إِلَّا بذكاةٍ، قاله مالك. قال القاضي - رضي الله عنه -: وليس في الجرادِ حديث يُعَوَّلُ عليه في أكلِ المَيْتَةِ. وأكلُ الجرادِ جائزٌ بالإجماعِ، وفيه أخبارٌ منها: حديث ابن أبي أوفى: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ سَبعَ غَزَوَاتٍ نَأكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ" (¬2). ؤرَؤى سَلمَان (¬3) أنّ رسولَ اللهِ قال: الجَرَادُ أَكثَرُ جُندِ اللهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ" (¬4) وهو من صَيدِ البرِّ. القول في المستثنى من ذلك (¬5): حرّم اللهُ المَيتَة ثمّ استثنى حالَ الضَّرورة فقال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬6)، ثمّ استثنى مِنَ المستثنَى فقالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (¬7). وسُئلَ الفِهْرِيُّ (¬8) بالمسجد الأقص عن مسألةٍ، فقيل له: إذا خرج باغيًا أو معتدِّيًا فوجدَ المَيْتَةَ، أيأكلُ أم يموتُ؟ فقال: بل يموتُ ولا يأكلُ. وهذا غير تحقيق نَظَرٍ منه. قال القاضي عبد الوهّاب: إنَّ أرادَ أنْ يأكلَ فَليَتُب، فإذا تابَ ارتفعت عنه سِمَةُ البغي والعُدوان، ودخلَ تحت قولِهِ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬9). ¬
استطلاع في النّظر (¬1): ثمّ اختلفَ العلّماءُ بعدَ ذلك في مسألتينِ (¬2): إحداهما: هل يأكلُ من المَيْتَة حتّى يشبعَ؟ أم يأخذُ بقَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ؟ فعن مالك في ذلك روايتان: فأمّا الّتي في "الموطَّأ" (¬3) فالأكلُ والشِّبَعُ والزَّادُ، وهو كتابُهُ وصفوةُ مذهبِه ولُبابُه، وكذلك ينبغي أنّ يكون؛ لأنّ الضّرورةَ قَدْ رَفَعتِ التَّحريمَ وأثبتتِ الإباحة، وصيّرت المَيتَةَ في حَقِّهِ كالمُذَكّاةِ. وأمّا المسألة الثّانية: فهو مالُ الغيرِ، هل يقدِّمه على المَيْتَة في الضَّرورة؟ أم يقدِّمُ المَيتَة عليه؟ ولا خلاف بين الأُمَّة أنّه إذا أَمِنَ العُقوبةَ أنّه يأكلُ من مال الغير؛ لأنّ مالَ الغبير يَقْبَلُ الإِباحةَ بإذنٍ، والمَيْتَةَ لا تَقْبَلُ الإباحةَ بحالٍ. مسألة ثالثةٌ في مذهبِ المخالف ليست في مذهبنا: وهو أكلُ لحمِ الآدَمِيِّ عند الضَّرورةِ إذا وجدَهُ ميتًا (¬4)، فقالوا: لا يؤكَلُ؛ لأنّ حرمتَهُ ميتًا كحرمتِهِ حيًّا. ومنهم من قال: إنّه يأكَلُ. والأوّل أظهر وأصحّ. إيضاح مُشكِلٍ (¬5): رُوِيَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نزلَ بأسفلِ بَلْدَحَ (¬6)، فَجَالَسَهُ زَيْدُ بن عَمرو بن نُفَيْلٍ، فَقَدَّمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7) سُفرَة فِيهَا لَحْمٌ، فقال زيدٌ: إنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَهُ عَلَى ¬
أَنْصَابِكُم (¬1)، فقيل في السُّؤالِ: كيفَ تَنَزَّهَ زيدٌ عمَّا يُذْبَحُ للأنصاب واحتمَلَهُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - للزَّاد، وهذا ممّا اتّفقتِ على تحريمِهِ، وقد كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - على ملَّة إبراهيم. قلنا: أجابَ العلّماءُ عن ذلك بأجوبةٍ كثيرةٍ لُبابُها أربعةٌ: الجواب الأوَّلُ: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يكن يلتزمُ قبلَ المَبْعَثِ شَرْعًا، وإنّما كان مُنَزَّهًا معصومًا عن كلّ مُضِلَّةٍ ودَنَاءَةٍ حتّى جاءَهُ الحقُّ، وهو معنى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (¬2) يعني: على غيرِ شَرعٍ ملتزم، وهو أَؤلَى التّأويلات في ذلك. الجوابُ الثّاني: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان على شرعٍ قبلَ المَبعَثِ، لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} الآية (¬3)، ومن آياته أنّ أحدًا لم يَعلَمهُ ولا نَقَلَهُ سَندًا ولا خَبَرًا. الجوابُ الثّالثُ: أنّ هذا خبرُ واحدٍ، وخبرُ الآحادِ إنّما هو حُجَّةٌ فيما طريقُه العلّمُ لا العملُ، وهذه مسألة مطلوبٌ فيها العلم. الجوابُ الرّابعُ: أنّ المحرّمَ إنّما هو الذّبحُ على النّصبِ والإهلالُ لغير اللهِ، وهذا هو المحرّمُ القبيحُ الكُفْرُ، فأمّا أكلُه بعد ذلك فليس من الذَّبح في شيءٍ، ألَّا ترى أنّ الأُضحيّة تُذبَحُ للهِ ثمّ تُؤكَلُ للدُّنيا، والعبادَةُ إنّما هي في الذَّبحِ والنَّحر خاصّة، فكان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مُنزَّها عن الدَّناءَةِ والحرامِ والكفرِ، ولم يكن هنالك شرعٌ في تحريمِ الأكل، فكان يأكلُ من طعامِ أهلِ بيتِهِ قبلَ المَبعَثِ، كما ناكلُ نحن من طعام أهل الكتابِ بعد ذبحهم على ما هو عليه، وهذا وإن كان كلامًا خارجًا عن الأصول، ولكن الأوّل أقوى في النَّظر والتَّنزيهِ، واللهُ أعلمُ. ¬
الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُه في هذا الباب (¬2): "في الرَّجُلِ يُضطَرُّ إِلَى المَيِّتَةِ". وهذا كما قال، وهذا اللَّفظُ إذا أُطلِقَ في الشَّرعِ فإنّما يُطلقُ على غيرِ المُذَكَّى، وإن كان المذَكَّى ميتًا فلا يجوزُ أَكلُ المينة، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (¬3)، والمعنى: حُرَّم عليكم أكلُها، وهذا مع السَّعَةِ، وأمّا مع الاضطرارِ فيجوزُ أكلها، والأصلُ في ذلك قولُه تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬4). المسألةُ الثّانية (¬5): قوله (¬6): "يَأكُلُ حَتَّى يَشبَعَ وَيتَزَوَّدَ" يريدُ: إذا اضطُرَّ فإنّه لا يقتصرُ على ما يُسَدُّ رَمَقَهُ بل يشبع ويتزوّد؛ لأنّها مباحةٌ له كما يفعل في الطّعام المُبَاح. وقال ابنُ حبيب (¬7)، إنّما يأكل ما يقيمُ رَمَقَهُ، ثمّ لا يأكل منها حتّى يصير من الضَّرورةِ إلى الحالةِ الَأُولى، وبه قال ابن الماجِشُون؛ لأنّ الإباحة إنّما تثبت له فيما يَرُدُّ به نَفْسَه، وذلك يوجدُ فيما دون الشِّبَعِ، فما زاد فلا يتَنَاوَل لحفظ النّفس فكان ممنوعًا منه، وحكاه عبد الوهّاب (¬8). ¬
وقد رَوَى ابنُ حبيب عن ابن الماجشون أنّه من تَغَذَّى فهي محرّمةٌ عليه يَوْمَهُ، ومن تَعَشَّى فهي محرَّمة عليه ليلَهُ وَيوْمَهُ، ثمّ بعد ذلك إن وَجَدَ بنفسه قوّة، مضَى على ذلك، وإن دخلَهُ ضعفٌ وخافَ الموتَ أو قارَبَهُ، جازَ له أنّ يأكلَ منها ما يردّ نفسَهُ وينهضه في سفره. وتعلَّق ابنُ حبيبٍ بما رَوَى الأوزاعيّ، عن حسّان بن عَطِيَّة، عن أبي واقِد اللَّيثي؛ أنّ رجُلَا قال للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: إِنّا نَكُونُ بِأرْضِ تُصِيبُنَا فِيهَا المَخْمَصَة، فَمَتَى تحلّ لَنَا المَيتَة؟ فَقال لَهُم: "إِذَا لَمْ تَصطَبحُوا أو لم تَغتَبِقُوا ولم تَحْتَفئُوا (¬1) بقلَا، فَشأنُكُم بِهَا" (¬2) والاحتفاء جَمعُ البقلِ وأكلُه (¬3)، وذلك يدلُّ على أنّها لا تُؤكَل الميِّتَة ما وَجَدَ الرَّجلُ ما يعلِّله من بقل أو غيره. المسألةُ الثّالثة (¬4): قولُه (¬5): "في الرَّجُلِ يُضطَرُّ إِلَى المَيْتَةِ، أيأكُلُ مِتهَا وهُوَ يَجِدُ ثَمَرَ القَوْمِ؟ " هو كما قالَ، إنَّ من وجدَ المَيتَة مضطرَّا إليها ووجدَ مَا لا يمكنُه الوصول إليه، فلا يخلو أنّ ¬
يكون ممّا لا قطعَ فيهِ كالثَّمَرِ المعلَّقِ والزَّرْعِ القائمِ ونحوِهِ، أو يكون ممّا فيه القَطْع إذا أُخِذَ على وجه السَّرقةِ كالمالِ في الحِرْزِ. فإن كان ممَّا لا قَطْعَ فيه، فقد قال مالك من رواية محمّد عنه: إن خَفِيَ له ذلك فلياخذ منه، وأمّا إن وجدّ ثَمَرًا أو زَرعًا أو غَنَمًا لقوم، فظن أنّهم يصدِّقُونه ولا يُعَدٌّ سارقًا، فليأكل من ذلك أحبّ إلىَّ من المَيتَة، فشَرَطَ في المسألةِ الأُولى وهو في الثَّمرِ المعلَّقِ أنّ يخفى له ذلك لمعنيين: أحدهما: أنّ يعلمَ أنّه لَا إِثمَ عليه في ذلك فيما بَينَهُ وبين الله، وإنّما يجبُ أنّ يحترِزَ في ذلك منَ المخلوقين لِنَفْسِهِ، فربَّما أوذِيَ أو ضُرِبَ ولم يُعْذَر بما يَدَّعِيهِ من الضَّرورةِ. وشرَطَ في القِسمِ الثّاني أنّ يصدِّقوه، وهو في الثَّمَرِ الّذي قد آواه إلى حرزه، والغنم الّتي في حرزها، والزّرع الّذي حَصَدَ وأوى إلى حرزه، ولذلك قال: ربّما تقطع (¬1)، ولم يشترط أنّ يخفى له ذلك؛ لأنّ أَخذَهُ على وَجْهِ السِّتر هو الّذي يقطعُ فيه، فإنّما يجب أنّ ياخذَه معلنًا إنَّ علم أنّهم يصدِّقونه، وإن لم يعلم فلا يتعرّض لذلك؛ لأنّه يؤدي إلى قطع يَدِهِ، والّذي يأخذ من الثَّمر المعلَّقِ لَهُ أنّ يأخذَهُ على وجه الاسْتِتَارِ؛ لأنَّ ذلك لا يوجب قطع يَدِهِ بحال. المسألة الرّابعةُ (¬2): وقولُه (¬3) "في الزَّرعِ والثَّمَرِ يَأكُل مِتهُ مَا يرُدُّ جُوعَهُ وَلَا يَحمِلُ مِنُهُ شَيئًا" ففرَّق بينَهُ ¬
وبينَ المَيتَةِ. ووجه ذلك: أنّ هذا مالٌ لغيره، فهو ممنوعٌ منه لِحَقِّ الله وَلِحَقِّ مَالِكِهِ، فليس له منه إِلَّا ما يردُّ جُوعَهُ ولا يزيد على ذلك شيئًا. وأمّا المَيْتَة، فأنّها ممنوعةٌ لحقِّ الله تعالى، وحقوقُه تعالى إِذا استُبِيحَت للضَّرورةِ تجاوزت الرُّخصةُ فيها موضعَ الضَّرورة، وحقوقُ الآدميِّينَ لا تتجاوز مواضع الضَّرورة، وهذا الفرق إنّما هو على رواية "الموطَّأ" (¬1)، وأمّا على رواية ابنِ حبيب - وهي الرِّواية الثّانية عن مالك - فلا فرق بينهما. المسألة الخامسةُ (¬2): قوله (¬3): "وذَلِكَ أَحَب إِلي من أنّ يَأكُل المَيتَةَ يريد: ما أكله من الثَّمر والزَّرع مباحُ العين أيضًا، وإنّما مُنِعَ لحقِّ الغيرِ، وإذا بلغتِ الضَّرورةُ إلى استباحةِ المَيتَةِ، فقد لَزِمَ صاحب الثَّمَر والزَّرع أنّ يعطيَهُ منه ما يردُّ رَمَقَه إنَّ لم يكن عنده ثَمَنٌ، أو يبيعه منه إنَّ كان عنده ثَمَنٌ، فهذا أخذ بِقَدْرِ ذلك فقد تعلَّق به حقّه، وكان مباحًا له من الوجهين: من جهةٍ أنّه مباحٌ في نفسِهِ، ومن جهةِ أنّه قد لزم صاحبه تسليمه إليه. وأمّا المَيتة، فليست بمباحةٍ في نفسها، فكان أكل هذا الطّعام الّذي هو مباحٌ في نفسه أَوْلَى. وإنّما خصّ مالكٌ الزَّرعَ والثَّمَرَ والماشيةَ دون سائرِ الأموالِ؛ لأنّ هذه الّتي ينتفعُ المضطرُّ بوجودِهَا، وفي ذلك آثارٌ خَرَّج التّرمذيُّ في "كتابه" (¬4) منها أحاديث في باب الرُّخصة في أكل الثِّمارِ للمارّ بها من حديثِ ابنِ عُمَرَ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ¬
دَخلَ حَائِطًا فَلْيَأكُل وَلَا يَتَّخِذ خُبنَةً (¬1) " (¬2)، وفيه حديثٌ صحيحٌ أيضًا، قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مُسلِم يَغرِسُ غَرسًا أَوْ زَرْعًا فَيَأكُل مِنْهُ إِنْسَانٌ، أَوْ طَائِرٌ، أَوْ دَابَّةً، إِلَّا كُتِبَت لَهُ حَسَنَاتٌ يومَ القِيَامَةِ" (¬3). ورأى فقهاءُ الأمصارِ أنْ كلَّ أحدٍ أَوْلَى بمالِهِ ومِلكِهِ، ولم يكن لهم أنّ يطلقوا النَّاسَ على أموال النَّاس، ففي ذلك فسادٌ عظيمٌ. ورأى بعضهم: أنّ ما كان على طريقٍ لا يُعدَل إليه ولا يُقصَد، فلياكل منه المارّ، ومن سعادَةِ المَرءِ أنّ يكون له مالٌ على الطَّريقِ؛ لأنّه يكسِبُ في ذلك الحسنات والمكارم، والَّذي ينتظمُ في ذلك أنّ المحتاج يأكل، والمستغنى يمسك، وعليه تَدُلُّ الأحاديث. المسألةُ السّادسة: في حلب المواشي بغير إذن أهلها ذكر التّرمذيُّ (¬4) فيه حديثَ الحَسَن، عن سَمُرَةَ؛ أنّ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإن كَانَ فيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَستَأذِتهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِب فلْيَحْلِبْ وَيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِل". قال القاضي: الكلامُ في هذا الحديث إنّما هو في سماعِ الحَسَنُ من سَمُرة (¬5)؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ... الحديث، ولكن الحديث صحيحٌ، وهو محمولٌ على ابنِ السَّبيل المحتاج، وقد خرج النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي بَكرٍ مُهَاجرًا إِلَى المَدِينَةِ فَمَرَّا بِغنَمِ فَأَوَيَا إلى ظِلِّ شَجَرَةٍ ¬
وَوَجدَا رَاعِيًا فَسَألَاهُ، لِمَنِ الغَنمُ؟ فَذَكَرَ رَجُلًا مِنَ قُرَيش، فَاسْتَحْلبَاهُ فَحَلَبَ لَهُم وشَرِبَ النَّبِىُّ، وقد بينَّا في غيرِ مَا موضعٍ وجهَ شربه وأنّه محمولٌ على العادةِ في القَدْرِ اليسيرِ، وعلى العادةِ في احتلابِ المارِّ اللَّبن وشُربِهِ، أو على أنّ ذلك جائزٌ للمحتاجِ أو على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية (¬1)، أو على أنّ ذلك مال كافرٍ فلم يكن لأحدٍ عليه يدٌ، وقد حقّقنا تلك الأغراض في "النّيِّرين". المسألةُ السّابعةُ (¬2): فإن وجدَ المضطرُّ المُحرمُ مَيتَةً وصيدًا، أكلَ الميِّتةَ ولم يُذَكِّ الصَّيدَ؛ لأنّ بذكاته يكون مَيتَة، وقتلُه محرم عليه حَالَ إحرامِهِ، وقال محمّد بن عبد الحكم: لو كان لي ذلك لأكلتُ الصِّيدَ. فرعٌ (¬3): فإِن وجدَ المضطرُّ مَيتَةً وخِنْزِيرًا، فالأظهرُ عندي أنّ يأكل الميِّتَةَ ويمتنع من الخِنْزِير؛ لأنّه مَيتَة، ومع أنّه لا يستباحُ بوجهٍ. ولا يجوزُ للمضطرِّ أكل لحم ابن آدم وإن خاف الموت، خلافًا للشّافعيّ (¬4). ودليلُنا: أنّ من لا يجوز له قتله لحفظ نفسه فإنّه لا يجوز له أكل لحمه، أصلُ ذلك: أكل لحمه حيًّا. المسألةُ الثّامنةُ (¬5): فإذا ثبتَ ذلك، فإنّ المضطرَّ إلى المَيتَة أكثر ما يكون ذلك في السَّفَر على ما ¬
ذكرنا، وقاله ابنُ حبيب، وأمّا في الحواضر فلا يجوز له، والسَّفرُ في ذلك لا يخلو أنّ يكون سَفَرًا مُباحًا أو مكروهًا أو محظورًا. فأمّا "المباحُ" فهو الّذي يجوزُ لنا أنّ نُرَخِّصَ في أكل المَيتَة. وأمّا "المُحَرِّم" فالمشهورُ من مذهبِ مالك أنّه لا يجوزُ له ذلك، ففرَّق بينه وبين القَصْرِ في سَفَرِ المعصيةِ. وروَى زياد بن عبد الرّحمان أنّ العاصي في سَفَرِه يقصرُ الصَّلاة ويفطر في رمضان، فسوَّى بين ذلك كلِّه، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال ابن حبيب: لا يحل له أكل المَيتَة إِلَّا من ضرورةٍ، وبه قال الشّافعيّ (¬2). ووجه الأوّل: قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية (¬3)، ولأنّه لا خلافَ أنَّه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، فإنّه مأمورٌ بالأكلِ على وجهِ الوجوب، ومن كان في سفر معصيةٍ لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصّوم والصّلاة؟ لأنّهَ يلزمُه الإِتيان بها كلما ذكرنا. ووجهُ القولي الثّاني: أنْ هذه المعاني على وجه التّخفيف والعون على الأسفارِ المباحةِ للحاجةِ إليها، فلا يُباحُ له أنّ يستعينَ بها على المعاصي، وله سبيلٌ إلى أنّ لا يقتلَ نفسَهُ، قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثمّ يتناول المَيْتَة، وقد تعلَّق ابنُ حبيبٍ في ذلك بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (¬4) فاشترطَ ألَّا يكون باغيًا، والمَسافرُ على وجه الحرابة، أو قطع رحم، أو طالب إثم باغٍ ومتعدٍّ، فلم يوجد فيه شرط الإباحة. المسألة التّاسعةُ (¬5): فإذا ثبت ما بيَّنَّاه، فمنِ اضطرَّ إلى شرب الخمرِ لجوعٍ أو عطشٍ حيثُ يجوز له أكل ¬
المَيْتَة، فهل له أنّ يشربها؟ ففي ذلك روايتان: فروى ابنُ القاسم عن مالك في "العُتبية" (¬1): لا يشربها ولن تزيدَهُ إِلَّا عطشًا (¬2). وقال الأبهري (¬3): لا يشربها؛ لأنّها لا تغني من الجوع ولا تُروِي من عطشٍ فيما يقال، وأمّا إنَّ كانت تُشْبع وتروي فلا بأس أنّ يشربها. وفي "النّوادر" (¬4) عن ابنِ حبيب فيمن غصّ بطعامٍ وخافَ على نفسهِ، أنَّه يجوز له أنّ يتجرّع الخمرَ، وقاله أبو الفرج (¬5). وروى أصْبغُ (¬6) عن ابن القاسم: يشرب المضطرُّ، الدَّمَ ولا يشرب الخمرَ، ويأكل المَيتَة ولا يقرب ضوال الإِبل، وقاله ابنُ وهبٍ (¬7). المسألة العاشرةُ (¬8): وأمّا التّداوي بالمَيْتَة، فالمشهورُ من المذهبِ أنّه لا يحلُّ بوجه. وقال سحنون: لا بأسَ أنّ يُداويَ جرحَهُ بعظام الأنعام المذكّاة، ولا يداويه بعظام مَيْتَة (¬9). وإن جعل في قرح أو جرح فلا يصلّي به حتّى يغتسل، وقد خفَّفَ ابن الماجشون أنّ يصلِّي به. فهذا قلنا: لا يجوز التّداوي بها ويجوز استعمالُها للضّرورة، فالفرقُ بين التّداوِي وبين الشُّرب للضّرورة ما قاله، وذلك أنّ التّداوي لا يُتَيَقَّن البُرْء بِهِ، فلم يجز أن يستعمل ¬
المحظور فيه، وأمّا الشُّرب للعَطَشِ والجُوع فإنّه يُتَيَقَّن البرء به، فجاز استعمالُه لذلك، وظاهر قول مالك في التّداوي بالمَرتَكِ (¬1) من عظام المَيتَة مع منعه من الصّلاة، يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنّها رواية "العُتبِيَّة" (¬2) أنّه لا يجوز التَّداوِي بما لا يحلُّ استعمالُه إِلَّا للضَّرورةِ. الثّاني: إِنّما أباحَ في ذلك ما فيه الخلاف، وذلك أنّ ابنَ الماجشون جعلَ ذلك ظاهرًا، وأمّا ما لا خلاف في *نجاسته، فلا يجوز ذلك فيه. والوجه الثّالث: أنّه إنّما وقع الخلاف في* استعمالِهِ خارج البَدَن، فجوَّزهُ مالك، وَمَنعَهُ سحنون. وأمّا شربه وأكله فمحرّم على الوجهين. وقولُ ابن حبيب أنّ النَّار تطهِّر عظامَ المَيتَة، فهو خلاف المذهب؛ لأنّه نجسُ العْينِ، وما ينجس لعَينِه لم يطهر بوجهٍ، وما تنجَّس بالمجاورةِ لم يطهر إِلَّا بالماءِ، وما رواه ابن الماجشون هو ممّا انفرد به عن مالك. تَمَّ الكتابُ والحمدُ للهِ ¬
كتاب العقيقة
كتابُ العَقِيقَةِ وفيه بابان: البابُ الأوَّلُ ماجاء في العقيقةِ الأسناد (¬1): ذكر مالكٌ في البابِ حديثًا مقطوعًا مجهولًا (¬2)، وذكر أنّه سُئِلَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَنِ العَقِيقَةِ؟ فَقَالَ: " لَا أَحِبُّ العُقُوقَ" وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ. وفي "صحيح البخاريّ" (¬3) أنّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "مَعَ الغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى". وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "عَنِ الغُلَام شَاتَانِ مُتَكَافِئَتَانِ، وَعَن الجَارِيَةِ شَاةٌ، تُذبَحُ عَنْهُ يَومَ سَابِعِهِ، وُيحلَقُ رَأسُهُ، وَيُدَمَّى" (¬4). تنبيهٌ على وَهْمٍ (¬5): قال العلّماءُ: قولُه "يُدَمَّى" هو من تصحيف قَتَادَة، وإنّما هو "يُسَمَّى" (¬6)؛ لأنّه ثبتَ ¬
عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "وأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَي" (¬1) ولأ أَذَى أعظمُ من تلطيخ رأسه بالدَّمِ. وفي "الصّحيحين (¬2) أنَّه جِيءَ بابْنِ أَبِي طَلحَةَ إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَسَمَّاهُ وَحَنَّكَهُ، ولم يذكُر عقيقةً. وقد روَى النَّسائي أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -:"عَقَّ عَنِ الحَسَنِ بِكَبْشِ (¬3). ورَوَى التَّرمذيُّ (¬4): "أَنَّهُ أَذَّنَ في أُذُنِهِ حِينَ وُلِدَ"، وقال: وهذا حديثٌ صحيحٌ، فصارت تلك سُنَّةً. قال القاضي - رضي الله عنه -: ولقد فعلتُها باولادي، واللهُ يهِبُ الهُدَى لمن يشاء من خلقِهِ. وثبتَ أنّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَ فَاطِمَة بحَلقِ شَعْرِ رَأْس بَنِيهَا وَأَنْ تَتَصَدَّق بِزِنَتِهِ فِضَّةً (¬5). وَكَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تَحْلِقُ رَأسَ المَولُودِ وَتُلَطِّخُهُ بِالدَّمِ، فَشَرَّع النَّبِيُ - صلّى الله عليه وسلم - التّصَدُّق بِزِنَتِهِ فِضَّةً. وقال العلّماءُ: يلطّخُ بالخَلُوقِ رأسُه. العربيّة (¬6): "العَقِيقَةُ" هي فعيلةٌ من العَقِّ الّذي هو القَطْع، فعيلةٌ بمعنى مفعولة، مثل قتيلة ورهينة. ¬
واختلفَ العلّماءُ في وجوبِ تسميتها عقيقة: فحكى أبو عُبَيْد (¬1) عن الأَصمَعِيّ وغيرِهِ: أنّ العقيقةَ الشَّعْر الّذي يكون على رأسِ المَوْلودِ، وإنما سُمَّيتِ الشَّاةُ الّتي تُذبح عنه عقيقة؛ لأنّه يُحلَق رَأسُه عند ذبحها وُيرمَى به، وكانتِ الجاهليَّةُ تفعلُه، ويشهد له قول امْرُىء القَيْس (¬2): أيَا هِنْدُ لَاتَنْكِحِي بُوهَةً ... عَلَيْهِ عَقِيقَتُهُ أَحْسَبَا فالعقيقةُ والعِقَّةُ: الشَّعْرُ الّذي يُولَدُ به الطِّفلُ. وقيل في معنى البيت: إنّه لم يعقّ عنه في صِغَرِهِ حتّى كَبُرَ، عَابَهُ بذلك. وقال ابنُ حنبل: إنّما العقيقةُ الذَّبحُ نفسُهُ، وهي قطع الأَوْدَاج والحُلقُومِ (¬3)، ومنه قيل للقاطع رَحِمَهُ في أبيه وأُمِّهِ: عاقٌّ، وهو كلامٌ غير مُحَصَّلٍ، والتّحقيقُ فيه ما ذهب إليه، أنَّ العقيقةَ هي الذَّبيحةُ نفسُها؛ لأنّها هي الّتي تُقطّعُ أوداجُها وحلقُومُها، فهي فعليةٌ من العَقِّ الّذي هو القَطْعُ. الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬4): والعقيقةُ ممّا كانت الجاهليَّةُ تفعلُهُ، إذا وُلدَ الغلامُ ذبحَ عنه شاة، ولطّخَ رأسُهُ بالزَّغفَران، فجأة الشّرعُ فأسنَّها، فهي سُنَّةٌ من سُنن الإسلام، وشرعٌ من شرائِعِهِ، إِلَّا أنّها ليست بواجبة عند مالك - رحمه الله - وجميع أصحابه، فهي عندهم من السُّننِ الّتي الأخذُ بها فضيلةٌ، وتركُها غير خطيئةٍ (¬5). والدَّليلُ على ذلك: أنّ رسولَ اللهِ سُئِلَ عنِي العَقِيقَةِ؟ فقال:"لَا أُحِبُّ العُقُوقَ" ¬
فكأنه إنّما كرِهَ الاسْمَ. وقال "من وُلِدَ له ولُدٌ فَأَحَبَّ أنّ يَنسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَليَفعَلْ" (¬1). وما روي عنه أنّه قال: "الغُلَامُ مُرتهنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذبَحُ عنهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُحلَقُ رَأسُهُ وَيُسَمَّى" (¬2)، يدلُّ على وُجوبِها. وتأويلُ ذلك عند علمائنا: أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام، ثمَّ نُسِخَ ذلك بعدُ بقوله: "مَنْ أَحَبَّ أنّ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَليَفْعَلْ" فسقَطَ الوجوبُ. ومِنَ العلّماءِ من تعلّق بما يدلُّ عليه الحديث المذكور وغيره من الوُجُوبِ، فَأَوْجَبَ العَقِيقَةَ، وقال: من لم يُعَقّ عنه وهو صغيرٌ يُعَقَّ عنه وهو كبيرٌ، ؤيلزمُهُ أنّ يفعلَ ذلك بنفسِهِ، على ما رُوِي أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعدَمَا جَاءتهُ النُّبُؤَّة (¬3)، ولم يصحّ ذلك عندَ مالك لا سَنَدًا ولا نَقْلًا (¬4) وأَنكَرَهُ وقال (¬5): أرأيتَ أصحابَ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الّذين لم يُعَقّ عنهم في الجاهليَّةِ، أَعَقُّوا عن أَنفسهم في الإسلام؟ هذه الأباطيل. المسألةُ الثّانيةُ (¬6): إذا ثبت ذلك، فإنّ قوله (¬7) "فَأَحَبَّ أنّ يَنْسُكَ عَنْهُ" يقتضي أنّ ذلك في مال الأب عن ابنِهِ، فلو كان للمولودِ مالٌ لكان الأَظهر عندي أنّ تكون العقيقة في مال الأب، ¬
لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ أَحَب أَنْ يَنْسُك عَنْ ابنِهِ فَليفْعَل" (¬1) فأثبت ذلك في جهة الأب. وقال (¬2) في "المبسوط": "يعقّ عن اليتيم من مالِهِ" وظاهرُ هذا أنّ ذلك لا يلزم أحدًا من الأقارب غير الأب، والله أعلم. المسألةُ الثّالثة (¬3): قال علماؤُنا: والعقيقةُ أختُ الأُضحيّة في الصِّفةِ والجِنْسِ والسَّلامةِ، لكنّ مالكًا قال: إنّما يكون ذلك رأسًا واحدا عن الذَّكَرِ والأنُثى، لا يفضل في ذلك الذَّكَرُ الأنثى، وتُكْسَرُ عظامُها، خلافًا لما كانت الجاهلية تفعله. تركيب (¬4): قال الإمام الحافظ ابن العربي: وتكلمنا يومًا بالمسجد الأقصى -طَهَّرَهُ اللهُ- مع شيخِنَا أبي بكرِ الفِهرِيِّ - رضي الله عنه - فقال: إذا ذَبحَ الرَّجلُ أضحيَّتَهُ يوم الأَضحى فعَقَّ بها عن وَلَدِهِ لم تُجزِئهُ؛ لأنّ المقصودَ في العقيقةِ إراقة الدِّم، كما هو في الأضحية، والمقصود في الأُضحيَّةِ التَّصدُّق وإقامة شعار الإسلام، فأمّا لو ذبحَ أضحيَّيهُ يومَ النَّخر وأقام بها سُنَّةَ الوليمةِ في عُرسِهِ لأجزأه؛ لأنَّ المقصودَ في الأُضحيَّةِ إراقةُ الدِّمِ، وقد وقعَ موقعَهُ، والمقصودَ في الوليمة إقامةُ السُّنَّة بالأكل، وقد وُجِدَ ذلك. المسألةُ الرّابعة (¬5): إذا ثبتَ ذلك، فإنَّ وقتَ ذبحِ العقيقةِ ضُحّى ساعةَ تُذبحُ الأُضحيةُ، رواه محمّد عن مالك. وقال ابنُ حبيب: لا تُذبَح ليلًا، ولا بالسَّحَر، ولا بالعشىِّ، إِلَّا مِنَ الضُّحى إلى الزَّوال. ¬
وزاد مالك في، المبسوط،: "من ذبحها قبل الأوانِ الّتي تُذبحُ الأُضجة فيه لم أرها مُجْزِئةً عنه، وليذبح أخرى". ووجه ذلك: أنّه نُسُكٌ يُستحَّبُ إِخراجُه من غير تقليدٍ، فكانت سُنَّة ذبْحِه ضُحّى كالأُضحية. المسألةُ الخامسةُ (¬1): إذا ثبت ذلك، فإنّها تُذبحُ يوم سابع الصَّبىِّ، وذلك أنّ يمضي له سبعة أيّام، لِمَا رواهُ سَمُرَة؛ أنّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال "الغُلَامُ مُرتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ويُحلَقُ رأسُهُ وُيسَمَّى" (¬2). فأمّا التّسمية يوم سابِعِهِ، فإليه ذهبَ مالك - رحمه الله -، والأمرُ في ذلك واسعٌ، رُوِيَ أنّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ حين وُلِدَ له ابنُه إبراهيم -صلوات الله عليه- قال: "وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ سَمَّيتُهُ إِبْرَاهِيم" (¬3). ولما رُوِيَ (¬4) عنه أنَّه أُتِيَ بعبد اللهِ بنِ أبي طلحة صَبِيحَةَ اللَّيلة الّتي وُلِدَ فيها، فَحَنَّكَهُ بتمرة عجوة، ودعا له، وسمّاه عبد الله، في حديث طويلٍ صحيحٍ. فرع (¬5): فإن لم يُعَقَّ عنه يوم سابِعِه، فهل يُعَقَّ عنه بعد ذلك أم لا؟ فروى ابنُ حبيبِ عن ابنِ وهب عن مالك أنّه قال: من ترك ذلك فإنّه يُعَقُّ عنه في السّابع الثّاني، فإن ترك ذلك ففي الثّالث، فإن جاوزَ ذلك فقد فات وقتُها. وروى ابن القاسم عن مالك: لا يجاوز بالعقيقة اليوم السّابع. ¬
قال الأَبهَرِيُّ: والقول الثّاني أحسن. ووجهُ رواية ابن وهب: أنّ هذا نُسُكٌ، فلم يكن في وقتِ ذبحِهِ أقلّ من ثلاثة أيّام كالأُضحية. ووجهُ الرِّواية الثّانية: أنّه لما كان اليوم الثّامن أقرب إلى السّابع ممّا بعدَهُ، ثمّ مع ذلك لا يذبح فيه، فَبِأَن لا يذبح فيما بعدُ أَوْلَى. المسألة السّادسة (¬1): قال علماؤنا (¬2): ولا يجوز تقديمها قبل السَّابع. وقال مالك في "المبسوط": إنَّ مات الصَبىُّ قبل السَّابع، فليس عليهم أن يذبحوا عنه، فاقتضى ذلك أنّ وقتَ ثبوت حكمها هو الوقت المذكور من اليوم السَّابعِ، وان أدركَ الصَبىُّ ذلك الوقت، ثبت حكمُها، وان مات قبل ذلك بطل حكمها، واللهُ أعلم. المسألةُ السّابعةُ (¬3): قيل: يُحسَبُ السّابعُ من غروب الشَّمس. وقيل: من طلوع الفجر. وقيل: من زوال الشّمس. وقيل: يحسب منه بقيّته قبل الغروب. المسألةُ الثامنةُ (¬4): قوله (¬5): "وَزَنَت فَاطِمَةُ شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَينٍ" فعلُ فاطمة هذا حَسَنٌ لمن فَعَلَهُ، وليس بواجبٍ. ¬
الباب الثاني العمل في العقيقة
وقال عبدُ الوهّاب: هو حسن إنَّ فعل (¬1). وقال ابنُ الجلّاب (¬2): أليس على النّاسِ التَّصدُّق بِوَزنِ شَعْر المولود ذهبًا أو وَرِقًا، فمن فعله فلا بأس به". وقال مالك في "العتبيّة" (¬3): "ما ذلك من عمل النّاسِ" ومعناه: أنّه ليس بلازمٍ (¬4). المسألةُ التّاسعةُ (¬5): قال علماؤنا: ويُستَحبُّ أنّ يحلق شعره يوم سابعه، وقالَهُ ابنُ حبيب. وقال ابنُ شعبان: هو معنى قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" (¬6). البابُ الثّاني العمل في العقيقة وفيه أحاديث كلُّها صِحَاحٌ: الحديث الأوّل: حديثُ ابنِ عمر (¬7): لَمْ يَكُنْ يَسْأَلُهُ أحدٌ من أَهلِه عَقِيقَةً إِلَّا أَعطَاهُ إيَّاهَا، فَكَانَ يَعُقُّ عَنْ وَلَدِه بِشَاةٍ شَاةٍ عن الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ. ¬
الفقه في مسائل: المسألةُ الأَولى (¬1): قوله: "لَمْ يَكُنْ يَسأَلُهُ أحد من أَهْلِهِ عَقِيقَةً إِلَّا أَعَطَاهُ" لأنّها مشروعةٌ، وهي من عمل البِرِّ فكان يُعينُ عليها. وقوله: "وَكَانَ يَعُقُّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٍ شَاةٍ" هذا مذهبُ مالكٍ إِلَّا يُفَاضِلَ في ذلك وهم عنده سواءٌ. وقال أبو حنيفة (¬2) والشّافعىُّ (¬3): يَعُقُّ عن الغلامِ بشاتين وعن الجارية بشاةٍ. وقال ابنُ حبيب: رُوِي ذلك عن عائشة، وذلك حَسَنٌ لمن أَخَذَ بِهِ. ودليلُ مالك: الحديث المتقدِّم؛ أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - عقّ عن الحسن والحسين بشاة شاة، ولا يفعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَّا الأفضل، وقد يفعل الجائز ليُبَيِّن جوازه، ولمّا واظبَ على هذا ثبتَ أنّه الأفضل. وعند المخالِفِ أبي حنيفة: أنّ الشِّاةَ الواحدة ليست بمجزئةٍ عن الغلام. ودليلنا على ما نقوله: أنّ هذا ذَبْحٌ مُتَقَرَّبٌ به، فاستوى فيه الذّكر والأنثى، كالأُضحية والهدايا. حديثُ مَالِكٍ (¬4)، عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عبدِ الرَّحمَنِ، عَنْ محمّد بن إِبرَاهِيمَ ابْن الحارِثِ التَّيْمِىِّ؛ أَنَّه قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَسْتَحِبُّ العَقِيقَةَ وَلَوْ بِعُصفُورٍ. ¬
الإسناد قال القاضي: رَوى مُطَرِّف، وابنُ القاسم، وعليّ (¬1)، يقولون: عن محمّد بن إبراهيم أنّه قال: "تُستحَبُّ العقيقةُ ولو بعصفورٍ" وليس يقولون: عن أبيه، سقط لهم ذلك، وأثبته يحيى. وفيه خمس مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬2): قولُه: " تُستَحَبُّ العَقيقَةُ وَلَو بِعُصْفُورٍ" قال ابنُ حبيبٍ: إنّما أرادَ بذلك تحقيق اسْتِحباب العقيقة ولو بعصفور (¬3). وقد رُوى ابنُ عبدِ الحَكَم عن مالك أَنَّه لا يعقُّ بِشيءٍ منَ الطَّيرِ ولا الوحش. ووجهُ ذلك: أنّ العقيقةَ نُسُكٌ يُتقَرَّبُ به، فلم يجز من غير بهيمةِ الأنعامِ كالأُضحية والهّديِ. المسألة الثّانية (¬4): ولا يُعَقُّ إِلَّا بالضَّأن والمَعْزِ والإِبل والبقر، قاله مالك. وقال ابنُ حبيب (¬5): والضَّأنُ أفضلُها. قال (¬6) في "المبسوط": ثمّ المعز أحبّ إليَّ من البقر والإبل. ¬
وقال ابنُ شعبان: لا يُعَقُّ بشيء من الإبل والبقر، وإنّما العقيقةُ بالضَّأن والمَعْزِ، وهو في "العُتبِيّة" (¬1) عن مالك. ووجهُ روايةِ ابنِ حبيبٍ: أنّ هذا نُسُكٌ، فكان للبقر والإبل فيه مدخلٌ، كالأُضحيَّةِ والهَدْيِ. ووجهُ الرِّواية الثّانية: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -: عَقَّ بِشَاةٍ شَاةٍ وأفعالُه على الوجوبِ، إمَّا في وجوبِ الفعلِ، وإمَّا في تعلُّقِهِ بجنسِ العَيْنِ. وقال ابنُ الجلّاب (¬2): "وسنّ العقيقةِ سنّ الأضحية" وواهُ عن مالك. وقال ابنُ حبيب: وهذا في شاةِ النُّسُكِ، وأمّا ما يكثر به الطّعام فلا يُرَاعَى فيه جنسٌ ولا سِنٌّ. المسألةُ الثّالثة (¬3): قولُه (¬4): إِلَّا تُجْزِيءُ فِيهَا العَورَاءُ وَلَا العَجفَاءُ" يريدُ أنَّ حُكمَهَا حكم الضَّحايا. وقولُه (¬5): "لا يُبَاعُ شَيءٌ من لَحمِهَا" لأنّه لا يبقى له من معنى المِلْك أكثر من الانتفاع بها والتّصدُّق، فأمّا أنّ يبيعَ منها شيئًا فلا، وقد ذكر ذلك ابن الجلّاب في "تفريعه" (¬6). المسألةُ الرّابعة (¬7): في صفة الاطعام منها. ففي " العُتبيّة" (¬8): أنّه ليس الشَّأنُ عندنا دعاء النَّاسِ إليها، ولكن يأكلُ منها أهلُ البيت والجيران. ¬
قال مالك: فأمّا أنّ يُدْعى إليها الرِّجال، فإنِّي أكره الفَخْرَ، والأحسن أنّ يدعى إليها الجيران وأهل البيت والقرابات، فعلّله مالك بالفَخْرِ. وأمّا طعام الصَّنيع وهو الإعذار، فليس من سُنَّةِ الضَّحايا ولا العقيقة، فمن أراد أنّ يفعل ذلك بعد أداء سُنَّةِ العقيقة فليفعل، ومن اقتصر على العقيقة فليجرها على سنَّتها. قال مالك: ولو أنّ صاحب العقيقة أكلها لم أرَ بذلك بأسًا، وأحبّ إليّ أنّ يعمل فيها بسُنَّة الضَّحايا، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الآية (¬1)، وسيأتي حكم الأَطعمةِ وسنَّتها في "باب النكاح" إنَّ شاءَ اللهُ تعالى. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3): "وَلَا يُمَسَ الصبِى بِشَيء مِنْ دَمِهَا" يعني أنّهم كانوا في الجاهليَّةِ يُخَضِّبون قُصَّتَه يوم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصَّبيِّ وضعوها على رأسِهِ، فأمرهم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يجعلوا مكان الدَّم خَلُوقًا (¬4). وقال عبدُ الوهّاب: ولا بأس بالخَلُوقِ بَدَلًا من الدَّمِ الّتي كانتِ الجاهليّةُ تفعلُه، وهو مباح (¬5)، والحمد لله. ¬
كتاب الأشربة
كتاب الأشربة وفيه أبواب: الباب الأوّل ما جاء في الحدِّ في الخمر (¬1) قال القاضي - رضي الله عنه -: ولابُدَّ في صَدْرِهِ من مُقَدِّمَاتٍ وَتِبْيَانٍ. قال (¬2) الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} الآية (¬3). وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} الآية (¬4). وقال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} الآية (¬5). وَاختُلِفَ في السِّكَرِ ما هو؟ فقيل: إنّه اسْمٌ من أَسْمَاءِ الخَمرِ وإنَّه يَقَعُ على كُلِّ مُسْكِرٍ من التّمر وَالعِنَبِ والخمرُ ما أسكر من العِنَب (¬6). وقيل: السُّكَر هو الطُّعمُ، يقال: قد جَعَلْتُ هذا لك سَكرًا أي، طُعمًا، ¬
وهذا له سَكَرٌ، أي طُعْم (¬1). وقيل: السّكَرُ مَا سدَّ الجوعَ، فالآية على هذا المعنى بيِّنَةٌ غير مفتقرة إلى تَأوِيلٍ وَتَفْسِيرٍ. وأمّا الّذين ذهبوا إلى أنّ السّكَر ما أسكر من كلِّ شيءٍ، أو ممَّا عدا العِنَب، فإنّهم اختلفوا في معناها: فمنهم من ذهب إلى أنّها إخْبارٌ عمّا يصنعون ويتَّخذون من ذلك، فيقتضي الإباحة، وأنّ الله قد نسخ ذلك بما أتى من تحريم الخمر في سورة المائدة وغيرها (¬2). ومنهم من ذهب إلى أنّ الآية لا تقتضي الإباحة؛ لأنّ الله لم يأمر فيها باتِّخاذ السَّكَرِ ولا أباحه، وإنّما أخبر فيها بما يتَّخذون من الخمر المُحَرَّمَةِ عليهم في سورة المائدة وغيرها. والأوّلُ أظهر. قال أبو بكر بن العربي: والسّكْرُ عبارةٌ عن حَبْسِ العقلِ عن التَّصرُّف على القانون الّذي خُلِقَ عليه في الأصل المعتاد له، ومنه سَكرُ الأنّهار: الّتي حُبِسَ ماؤُها، فكل ما حَبَسَ العقلَ عن التّصرُّفِ فهو سكرٌ، وقد يكون من الخمر، ومن النّوم، ومن الفرح، ومن الهمِّ والحزن. ¬
المقدمة الثانية
وقد اتفق العلّماءُ عن بَكرَةِ أبيهِم أنّ المرادَ به سكر الخمر، إِلَّا الضّحاك فإنّه قال: من النّوم (¬1). المقدِّمة الثّانية أجمعَ (¬2) العلّماءُ على أنّ الخمرَ محرَّمةٌ في كتابِ الله تعالى، إِلَّا أنّهم اختلفوا هل هي محرَّمةٌ بالنص أو بدليل؟ والصّحيحُ أنّها محرَّمةٌ بالنص؛ لأنّ المُحرَّم هو المنهيّ عنه الّذي تَوَعَّدَ الله به عبادَهُ على استباحته، وقد نهى عنها في كتابه وأمر بِاْجتِنَابِهَا، وتوَعَّدَ (4) اللهُ عليها عِبَادَه، وقد قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِن اللهَ حَرَّمَهَا" (¬3). وأجمعت الأُمةُ على تحريمِهَا، فتحريمُهَا معلومٌ من دِينِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ضرورةً. فمن قال: إنَّ الخمرَ ليست بحرامٍ فقد كَفَرَ، وهو كافرٌ بإِجماعٍ، يستتَابُ كما يُسْتتابُ المرتدُّ، فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ. وشُزبُ الخمر من أعظَيم الكبائرِ، والآثارُ الواردةُ في التَّشديدِ في شُربِ الخمرِ كثيرةٌ، وقد أكثر النَّاسُ من ذِكرِهَا، *وأكثرها ليست بصحيحة، وأمثلها ما أوَردناه في "الكتاب الكبير في الوعظ والعلوم" فلينظر هنالك، فلا معنى للأطناب فيها" (¬4). وقال علماؤنا (¬5): والخمرُ ما أَسكر وخامرَ العقلَ، قال رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمرٌ، وَكُلُّ خَمرٍ حَرَامٌ" (¬6)، وكلُّ ما أسكرَ من جميعِ الأشرِبَةِ فقليلُه حرامٌ وكثيرُه ¬
حرامٌ، وهذا هو مذهب مالك - رحمه الله - وجمهور أصحابه وأكثر أهل العلم. وخالفهم في ذلك أهل العراق، فمنهم من ذهب إلى أنّ الخمرَ المحرَّمة العين هي الخّمْرِ من العنب - على اختلافٍ بينهم - وما سوى ذلك عندهم من الأَشربة والأنبذة المُسْكِرَةِ النَّيِّئَة والمطبوخة فإنّ السّكر منها حرامٌ (¬1). استدلٌ آخر: قال علماؤنا (¬2): كلُّ مسكرٍ مُطربٍ من أيِّ نوعٍ من الأشربةِ محرَّمُ العينِ، نجس الذَّات؛ لأنّ الله تعالى سمَّى الخّمْرِ رجسًا (¬3)، كما سَّمى النّجاسات من المَيْتَة والدَّم المسفوح ولحم الخنزير رجسًا، الآية (¬4). وليس قولُنا: "إنَّ الخمرَ نجسةُ الذَّاتِ" أنَّ ذاتها نجسةٌ، إذ لو كانت ذاتُها الّتي هي جسمُها نجسةً، لمّا انتقلت بتبدُّلِ صفاتها إلى الطّهارة، وإنّما معنى قولنا: "إنّها نجسة الذّات" أنّ ذاتها نجسة بحلول الخّمْرِ (¬5) فيها كما حرمت بذلك، ألَّا ترى أنّها قد كانت طاهرةً حلالًا حين كونها عَصيرًا قبل حُلول الخَمْرِ فيها، فلمَا حلّت فيها صِفَاتُ الخّمْرِ نجست بذلك وحَرُمَتْ. وعلى هذا اتّفقَ العلّماءُ على حِلِّ الأشربةِ بأجمَعِها، إِلَّا ما كان مُسْكِرًا، لَمَّا كان في شُربِهِ ضَرَرٌ. ¬
حرَّم اللهُ الخمرَ في مُحكمِ كتابِهِ وعلى لسانِ نبيِّهِ - صلّى الله عليه وسلم -، روى مسلم في "صحيحه" (¬1) أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ التَّدَاوِي بالخّمرِ فَقَالَ: "إنَّهَا لَيسَت بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ". واختُلِفَ في الخمرِ هل ينطلقُ على كلِّ شرابٍ مسكِرٍ، أو يختصُّ بعصيرِ العنبِ وحدَه؟ قال القاضي: وإنِّي لأعجب ممّن قال ذلك من الفقهاء، ومن سلف من علماء من مَضَى، مع أنّ الصّحابةَ -رضوان الله عليهم- لمَّا حرِّمت عليهم الخمرُ أراقوها وكسرُوا دِنَانَها، وبادروا إلى امتثال الأمرِ فيها، مع أنّهم لم يكن عندهم بالمدينة خمرٌ من عصيرِ العنب، وإنّما كان جميعُه نبيذَ تمرٍ. وقد رَوَى المصنّفون (¬2) عن النُّعمان بنِ بشيرٍ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِن الْعِنَبِ خَمرًا، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمرًا، وَإنَّ مِنَ البُرِّ خَمرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمرًا، وَإِنَّ مِنَ العَسَلِ خَمرًا، والخمر مَا خَامَرَ العَقلَ". وفي "الصّحيح" أنّ عمرَ قالَهُ على المنبر، وكان يستشهد به ويُنبّه عليه وهو على المنبر (¬3). وقا وقع في القرآن تحريمُها بحيث لا يَخفَى على ذي لُبٍّ حاضرٍ ولا قلبٍ سليمٍ، ¬
وذلك قولُه تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬1). وقد لعنَ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في الخّمْرِ عشرةً (¬2): الخمر عاصرَها، وبائعَها، ومُبْتَاعَها، وشاربَها، وساقِيَهَا، وحامِلَها، والمحمولَة إليه، وشاهِدَها (¬3). وفي الصّحيحِ المشهورِ والخبَرِ المَأثورِ عن سيد البَشرِ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ البِتعِ. وَهُوَ نَبيذٌ يُصنَعُ مِنَ العَسَلِ. فَقَال: "كُلُّ شَرَابٍ أَسكَر فَهُوَ حَرَامٌ" (¬4)، فأجاب النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - على الجنس لا على القَدْرِ وسمعتُ عن بعضِ العلّماءِ من أصحاب أبي حنيفة أنّه قال: لو جُعِلَ السَّيفُ على رأسي أنّ أشرب النَّبِيذَ ما شربتُه، ولو جُعِل السَّيفُ على رأسي أنّ أحرِّمَه -يعني النّبيذ- ما حرّمتُه، لأنّ أصحاب النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - شرِبُوهُ. وهذا القولُ لا يَصِحُّ، ما شربَهُ قطُّ أحدٌ منهم بعد ما حُرِّمَ، إنّما الّذي ثبت عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشرَبَه، فَإِذَا تَغيَّرَ سَقَاهُ الخَدَمَ (¬5)، يريد أنّهُ تغيّر ولم يبلغ حدَّ الإسكار. ¬
نكتةٌ (¬1): قال علماؤُنا: ويدخل في لعنِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بائعَ الخمرِ، مَنْ باع عِنَبًا ممّن يعملُ منه خمرًا، ويَعلَمُ أنّه يَعصرُهُ خمرًا ما لم يكن ذِمِّيًّا، فإنْ كان ذِمِّيًّا؛ فإن العلّماءَ اختلفوا فيه لاختلافهم في مخاطبتهم بتحريم الخّمْرِ. وفي مسائل المساقاة من "المدوّنة" (¬2): "ولا بأس بمُساقاةِ الذِّميِّ في الكَرم إذا أَمِنتَ أنّ يَعصرُهُ خمرًا، ولو لم تكن عنده مُحرَّمةً عليهم ما مَنَعَهُ من مُساقاته. نكتةٌ (¬3): كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قد نهَى عن الانْتِباذِ في بعض الظُّروف الّتي يُسرعُ إليها الإِسكارُ، ثمّ نُسِخَ ذلك (¬4) فأجازَ الانتباذَ في كلِّ إناءٍ: "ولا تَشرَبُوا مُسْكِرًا" (¬5)، وهذا نصٌّ على أبي حنيفة، وما تعلَّق به علماؤُنا من الحديثِ أَنَّ مَا أَسكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ" (¬6) ليس بصحيحٍ، فليُترَك وَليُعَوَّل على ما سبق من الدَّلائلِ، والحمد لله. ¬
الباب الأول في الحد في الخمر
الباب الأوّل في الحدِّ في الخّمْرِ وقد سبق أوّل الكتاب: الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قول عمر - رضي الله عنه - (¬2): "إنِّي وَجَدتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ" يقال: إنَّ الّذي وجد منه ريح الشّراب هو ابنه، روى معمر عن الزّهريّ هذا الحديث فقال: إِنِّي وَجَدتُ مِنْ عُبَيْدِ الله رِيحَ شَرَابٍ" (¬3) والأصحّ أنّه ابنه عبد الرّحمن الأوسط "وكان له ثلاثة بنين ذكور (¬4). المسألةُ الثّانيةُ (¬5): قوله:: "رِيحَ شرابٍ" اسمُ الشَّرابِ ينطلقُ على كلِّ مشروبٍ مُسكِرٍ وغيره، وإنّما وجد عمرُ منه ريحَ شراب ولم يتميّز له هل هو ريح مسكرٍ أو غيره، ولو تبيَّن له لما احتاجَ أنّ يسأل (¬6). ¬
فأما الفصل الأول فيمن يجب استنكاهه
وقد اختلفَ الفقهاءُ في وجوبِ الحدِّ بالرَّائحةِ: فذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ إلى أنَّ الحدَّ يجب على من وُجِدَ منه ريحُ المُسْكِر. ومنَعَ من ذلك أبو حنيفة (¬1) والشّافعيّ (¬2) وقالا: لا حدَّ عليه. ودليلُنا: ما روِيَ عن السَّائب بنِ يزيدَ؛ أَنَّه حضرَ رَجُلًا يُجْلَدُ وُجِدَ منه ريحُ الخمرِ، فجُلِدَ الحّد ثمانينَ (¬3)، ولم ينقل خلاف عليه، ولا ذَكَرَهُ أحدٌ، فثبتَ أنّه إجماعٌ. ومن جهة المعنى: أنّ هذا معنًى تُعلَمُ به صفاتُ ما شَرِبَهُ، فوجبَ أنّ يكون طريقًا إلى إثباتِ الحدِّ، أصلُه: الرُّؤْيةُ لما شربه، بل الرّائحةُ أقوى في معرفةِ حالِ المشروبِ؛ لأنّ الرُّؤيةَ لا يعلم بها أَمُسكِرٌ هو أم لا، وإنّما يُعلمُ ذلك بالرّائحةِ. فهذا ثبت ذلك ففي هذا ثلاثة فصولٍ: الفصلُ الأوَّلُ: في بيان من يجب استكاهُهُ ممّن لا يجب. الفصلُ الثّاني: فيمن يثبت بشهادته ذلك. الفصلُ الثالثُ: فيما يجب إذا تيقَّنَت رائحة المسكر أو أُشكِلَت. فأمّا الفصل الأوّل (¬4) فيمن يجب استنكاهه فإن ذلك بأن يَرَى الحاكمُ فيه تخليطًا في قولٍ أو مشيٍ، ففي "الموازية" من ¬
الفصل الثاني فيمن يثبت ذلك بشهادته
رواية أَصْبَغ عن ابنِ القاسم: أنّه إذا رأَى ذلك منه أَمَرَ باستنكاهه؛ لأنّه قد بلغ إلى الحاكم فلا يَسَعُهُ إِلَّا تحقيقُة، فإذا ثبتَ الحدُّ أقامَهُ (¬1). فرعٌ: وكذلك لو شمَّ منه رائحة يُنكِرُها، أو أخبرَهُ بحضرته مَنْ ينكرِها منه، فعندي أنّه قد تعيَّنَ عليه استنكاهُهُ؛ لأنّ هذه صفة يُسْتَرَابُ بها، ويقوى بها الظَّنّ في وجوب الحدِّ عليه، فوجب بذلك اختبارُه، كالتّخليط في القول والمشي. فرع: فإن لم يظهر منه شيءٌ من ذلك لم يستنكهه، رواه أَصْبَغُ عن ابن القاسم في "العُتبيّة" (¬2) "والموازية"، قال: ولا يتجّسس عليه. ووجه ذلك: أنّه لم يرَ منه شيئًا يُنكره، ولا خروجًا عن الحالِ المعهودةِ، فلا يجوز التَّجسُّس على النَّاس ولا التَّعرض لهم من غير ريبةٍ. الفصل الثّاني (¬3) فيمن يثبت ذلك بشهادته فإنّه يُحتاج إلى معرفة صفتهم وعَدَدِهم، فأمّا صفتهم، فقال ابن القصّار في "كتابه" (¬4): "صفةُ الشّاهِدَين على الرّائحةِ، أنّ يكونَا عَدلَين، وأن يكونا ممّن خبر شربها في وقتٍ، إمّا على كفرهِمَا أو في إسلامهما، فجُلِدَا ثُمَّ تابَا، حتّى يكونا ممّن يعرفها برائحتها". ¬
الفصل الثالث فيما يجب بشهادة الاستتكاه
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَعدُومٌ (¬1)، ولو لم تثبت الشّهادةُ إِلَّا بمن هذه صفته، لبطلتِ الشّهادةُ بها في الأغلب. وأيضًا: فإنّه قد يكون من لم يشربها قطُّ يعرف رائحتها، بان يُخبره بها المرّة بعد المرّة من قد شربها أنّها هي الرّائحة المعلومة بريح الخّمْرِ، حتّى يعرف ذلك كما يعرفها الّذي قد شربها مرارًا. فرع: فأمّا العدد، فلا يخلو أنّ يكون الحاكم أمَرَ الشُّهود بذلك، أو فعلوه ابتداءً، فإن كان الحاكمُ أَمَرَهُم بذلك، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن أَصْبَغ أنّه يُستحبُّ أنّ يأمرَ شاهِدَيْنِ، وان لم يكن إِلَّا شاهدٌ واحدٌ وجبَ به الحدّ. وأمّا إنَّ فعلوا ذلك من قِبَلِ أَنفُسِهِم، فلا يجزئ بأقلّ من اثنين كالشّهادة على الشّراب، وقد رَوَى ابن وهب عن مالك أنّه إنَّ لم يكن مع الحاكم إِلَّا واحدٌ فليرفعه إلى من فوقه، وما رواه ابنُ حبيب عن أَصْبَغ فَيُبْنَي عندي على أنّ الحاكم يحكُم بعلمه، فلذلك جاز عنده علم من استعمله، وإلّا فقد وجب إِلَّا يجزئ ذلك حتّى يشهدَ عنده فيه شاهدان. الفصل الثّالث (¬2) فيما يجب بشهادة الاستتكاه فلا يخلو أنّ يكون الشُّهود متيقِّنينَ (¬3) أو شاكِّين، فإن كانوا متيقّنين لها، فلا يخلو أنّ يتّفقوا على أنّها رائحة مسكرٍ، أو على أنّها رائحة غير مسكر، أو يختلفوا، فإن اتّفقوا على أنّها رائحةُ مُسْكِرٍ، فلا نعلم في المَذهَب خلافًا في وجوبِ الحدِّ بذلك، وان اتّفقوا ¬
على أنّها رائحة غير مُسكِرٍ فلا حدّ عليه. وان اختلفوا (¬1)، فقد قال ابن حبيبٍ: إذا اجتمع منهم اثنان على أنّها رائحة مُسكِرٍ حُدّ. ووجه ذلك: أنّ الشّهادةَ قد كَمُلَت باجتماعِ اثنَيْنِ على أنّها رائحة مُسكِرٍ، فلا يؤثر في ذلك نفي مَنْ نَفَى، كما لو شَهِدَ اثنان فقالوا: رأيناه يشرب خمرًا، وقال آخر ان: لم يشرب خمرًا. فرع: فإن شَكَّ الشّهودُ في الرائحةِ هل هي رائحةُ مُسكِرٍ أو غيره؟ نُظِرَ (¬2)، فإن كان من أهل التَّصَاوُنِ خُلَّيَ سبيلُه، وإن كان من أهل السَّفَهِ نُكِّلَ، حكاه ابنُ القاسم عن مالك في "العُتبِيّة" (¬3) و "الموازية". مسألة (¬4): قولُه (¬5): فإن كان يُسكِرُ جَلَدتُهُ" ظاهِر في أنّ ما يُسْكِر عندهم يجب به الحدّ وإن لم يبلغ الشّارب حدّ السُّكر، ولو بلَغَهُ لم يحتج أنّ يسأل عن الشّراب؛ لأنّه إنّما ذَكَرَ الجنسَ ولم يذكر المقدار، ولو اعتبر في ذلك بالمقدار لقال: إنّه شرب يسيرًا. وقولُه (¬6):" فَجَلَدَهُ عُمَرُ الحَدَّ تَامًّا" يريدُ أنّه جَلَدَهُ حدَّ الخمرِ ولم يعزِّره، على ما ¬
قاله بعض العلّماءِ: إنّه يعزَّر وينكَّل إذا أُشكِلَ أَمرُهُ وتعلّقَتِ الظِّنَّةُ به. مسألة (¬1): وقوله (¬2): إِنَّ عُمَرَ استَشَارَ في الخَمرِ وَجَوَابُ عَلِيٍّ، يدلّ على أنّه استشارَ في قَدرِ الحدِّ، وإنّما كان ذلك لأنّ الأصحّ أنّه لم يتقدَّم في زمَنِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَدرٌ لا يُزاد عليهِ ولا ينقص منه، وإنّما كان يضربُ مقدارًا قَدَّرَتهُ الصّحابة، واختلفوا في تقديره. يدلُّ على ذلك: ما رُوِيَ عن عليَّ أنّه قال: "مَا من رَجُلٍ أَقَمتُ عَلَيهِ الحَدَّ فَمَاتَ، فَأَجِدُ في نّفْسِي منه شَيئًا إِلَّا شَارِب الخّمْرِ فَإِنَّهُ إنَّ مَاتَ فيه وَدَيتُه؛ لأنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - مَاتَ وَلَمْ يَسُنَّهُ" (¬3)، ومعناه: لم يحدّه بحدٍّ يمنعُ الزِّيادةَ فيه والنّقص منه. وقد (¬4) كان - صلّى الله عليه وسلم - يَجْلِدُ في الخّمْرِ بِالنِّعَالِ، وَالجَرِيدِ (¬5)، وَالثِّيَابِ، مِن غَيرِ تَقدِيرٍ وَلا تحدِيدٍ، إِلَّا أنّ الصّحابةَ قدَّرُوها بالأربعينَ، واستمرّتِ الحالُ على ذلك خلافةَ أبي بكرٍ، فلمّا تَتَايَعَ النَّاس في زمنِ عمرَ استشارَ في حدِّ الخمرِ، فقالَ له عليّ: "إِذَا سَكِرَ هذَى. وإِذَا هَذَى افتَرَى فَاجلِدْهُ حَدَّ الفِريَةِ أَوِ المُفتَرِي" (¬6)، فكان هذا اتِّفاقًا من الصَّحابة على إثباتِ الأحكامِ بالقياس. ثمَّ جلدَ علىٌّ الوليدَ بنَ عقبةَ في زمنِ عثمانَ أربعينَ (¬7)، ثمَّ استقرَّتِ الحالُ عندَ استواءِ الأمر لمعاويةَ على ثمانينَ، وقال بذلك مالك وأبو حنيفة (¬8). ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): الحُكمُ في ذلك ما قُدَّرَ في زمانِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وما حَكَمَ به أبو بكرٍ، وهو مَحجُوجٌ بإجماعِ الصَّحابةِ في زمَنِ معاوية، لاسيَّما بانهماك النَّاسِ اليومَ فيها، فلو أمكنتِ الزِّيادةُ على ثمانينَ لكانوا أهلَها. وقد (¬2) رَوَى ابنُ الموّاز: أنّ عُمَر جَلَدَ قُدَامَةَ في الخّمْرِ ثَمَانِينَ وَزَادَهُ ثَلَاثِينَ، وقال له: "هذه الزِّيادة لتأويلِكَ كتاب الله عزَّ وجَلَّ على غيرِ تاويلِهِ"، ويقتضي هذا أنّ عمر ضَرَبَهُ ذلك حَدًّا لا تعزيرًا. وفي ذلك خمس مسائل: الأولى: صفة الشّهادة الّتي ثبت بها الحدّ. والثّانية: في صفة الضّرب وصفة ما يُضرب به. والثّالثة: فيما يُضَافُ إلى الحدِّ. والرّابعة: في تكرار الحدِّ. والخامسة: فيما يُسقِطُ الحدَّ. المسألة الأولى: في صفة الشّهادة (¬3) بأن يشهد اثنانِ أنّه شرِبَ مُسكرًا، إمّا بمعاينته، وإمّا بإقراره، أو بِشمِّ رائحةٍ منه، ولو شهِدَ أنّه قاءَ خمرًا لوجب الحدُّ؛ لأنّه لا يقيئها حتّى يشربها، فقد رُوِيَ نحو هذا عن عمر - رضي الله عنه (¬4) -. فرع (¬5): فإن شَهِدَ واحدٌ أنّه شَرِبَ خمرًا، وشَهِد آخر أنَّه شرب مُسْكِرًا، جُلِدَ الحدَّ، رواه أَصْبَغُ عن ابنِ القاسم في "العُتبِيَّة" (¬6). ¬
ووجهه: أنّهما قد شَهِدَا أَنَّه مسكر؛ لأنّ اسمَ الخمرِ لا يقعُ إِلَّا على مسكرٍ، وعندنا أنَّ كلَّ مُسْكِرٍ (¬1) خمرٌ، فقدِ اتّفقا في المعنى، فلا اعتبارَ بالألفاظِ. المسألةُ الثّانيةُ: في صفةِ الضَّربِ وما يُضربُ به (¬2) فقد روى محمّد: أنّه لا يتولَّى الضّربَ قوِيٌّ (¬3) ولا ضعيفٌ، ولكن وسطٌ. ورُوِيَ عن مالك: أنّه يُضربُ ضربًا بين ضربينِ (¬4). وروى محمّد عنه: أنّه يُضرب على الظهر والكَتِفَينِ دون سائرِ الأعضاء، ويكون قاعدًا لا يُربط ولا يمدّ. وقال مالك في "العتبيّة" (¬5): ويجرَّد الرَّجلُ للضَّرب، ويُترك على المرأةِ ما يسترها ولا يَقِيهَا الضَّرب (¬6). فرع (¬7): ويُضربُ بسوطٍ بين سوطينِ، ولا يقام حدّ الخّمْرِ إِلَّا بالسَّوطِ. ¬
قال أبو زيد عن ابني القاسم (¬1): فإن ضرب على الظّهر بالدِّرَّةِ أَجْزَأَهُ، وما هو بالبَيِّن. المسألة الثّالثة: فيما يضافُ إلى الحدِّ (¬2) هل يضافُ إليه حَلق الرّأسِ أم لا؟ فروى أشهب عن مالك في "العُتبِيَّةِ" (¬3): لا يحلق رجل ولا امرأة في الخّمْرِ ولا القذف (¬4). ووجهه: أنّ الحَلقَ تمثيلٌ وزيادةٌ في الحدِّ من غير جنسه، فلم يلزم حلق لحيته ولا رأسه ولا غير ذلك من وجوه التَّمثيلِ به؛ لأنّ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - والصّحابة جلدوا ولم يُروَ عن أحد منهم أنّه فعل ذلك. فرع (¬5): وهل يطافُ به جميعَ المِصر؟ فقال ابنُ حبيب: لا يطافُ به ولا يُسجَن إِلَّا المُدمِن المشهور بالفسقِ، فإنّه لا بأس أنّ يُطافَ به ويُفضَح، ومثلُه رَوَى أشهب عن مالك في"العُتْبيَّة" (¬6). ووجه ذلك: أنّ فيه رَدعًا وإذلالًا وإعلامًا بحالِهِ، فلا يغترّ به أحدٌ منَ أهلِ الفضلِ في نكاحٍ ولا غيرِهِ. فرع (¬7): وأمّا السّجنُ، فقد قال ابنُ حبيب: واستحبَّ مالكٌ للمُدمِنِ المشهورِ بالفسقِ أنّ يلزمَ السِّجن. وقال ابنُ الماجشون في "العُتْبيَّة" (¬8): من أُقِيمَ عليه الحدّ في الخّمْرِ أو غيره من الحدود، فليُخّلَّ سبيلُه ولا يُسجَن. ¬
ووجه قول مالك: أنّ في إلزامِهِ السِّجنَ منعًا له ممّا لم ينته عنه بالحدِّ. ووجهُ قولِ ابن الماجشون: أنَّ الحدَّ يأتي على جميعِ ذلك وعلى ما يجب عليه (¬1). المسألةُ الرّابعةُ: في تكرار الحدِّ (¬2) فهذا تكرَّرَ منه شرب الخمرِ لَزِمَهُ حدٌّ واحدٌ، فإن شربه بعد ذلك لَزمَهُ حدَّانِ، قاله مالك وأصحابُه، ولا نعلمُ بينهم في ذلك خلافًا (¬3)، وذلك أنّ هذا الحكمَ من حقوق الله، فمتَى فعلَهُ أُقيمَ عليه الحدُّ، وأُخذ منه حقّ الله لمخالفته الأوامر وارتكابه المنهيّ (3) عنه. المسألةُ الخامسةُ: فيما يُسقِطُ الحدَّ عن شاربِ الخمرِ (¬4) فإنَّ الأعجمىَّ الّذي دخلَ في الإِسلامِ، ولا يعلمُ بتحريمِ الخمرِ، لا عُذرَ له، رواه محمّد (¬5) عن مالك وأصحابه، إِلَّا ابن وهب فإنّ أبا زَيدٍ رَوَى عنه أنّه إذا كان البدويّ الّذي لم يقرأ الكتابَ ولم يعلمه فإنّه يُعذر. قال محمّد: واحتجَّ مالكٌ لذلك: بأنّ الإِسلامَ قد فَشَا، ولا أَحَدَ يجهلُ شيئًا من الحدودِ. فرع (¬6): ومن تأوّلَ في المُسْكِرِ من غير الخمرِ أنّه حلالٌ، فلا عُذرَ له ويُحَدُّ، رواه محمّد ¬
عن مالك وأصحابه، ولعلّ هذا ليس من أهل الاجتهاد (¬1). وأمّا من كان من أهل الاجتهاد (¬2)، فالصّواب أَلَّا حدَّ عليه إِلَّا أنّ يسكر منه. ومن شرب الخّمْرِ ثمّ تاب، لم تسقط عنه الحدود، ورُويَ عن الشّافعيّ أنّ توبته تسقط عنه الحدّ. مسألة (2): وقوله (¬3): "وأَنَّ عُمَرَ وَعُثمَانَ، وعبدُ اللهِ بنَ عُمَرَ قَد جَلَدُوا عَبيدَهُم نِصفَ حَدِّ الحُرِّ في الخَمرِ" وعمر أمير المؤمنين، وكذلك عثمان؛ ويحتمل أنّ يكوَنا أقاما الحدّ على عبيدهِمَا في إمارتهما، فيكون لهما ذلك بحقِّ الإمامة. وأمّا ابنُ عمر فلم يُقِم الحدَّ على عبيدِهِ إلَّا بحقِّ ملكه، وفي هذا مسألتان (¬4): المسألةُ الأولى: في صفَةِ من يُقامُ عليه الحدّ الثانيةُ: في صفةِ من يقيمُ الحدَّ 1 - أمّا من يقيمُ الحدّ، فإنّه يقيمُهُ على الأحرارِ السُّلطانُ، قال محمّد بن عبد الحكم: وأَحَبُّ إليَّ أنّ تُقامَ الحدودُ عند القاضي لِئَلّا يُتَعدَّى فيها، وهذا في الحُرّ، وأمّا العبدُ، فلا بأسَ أنّ يقيمَ عليه سيِّدُهُ الحدَّ إذا كان جَلدًا، قاله مالك وأصحابه، وكذلك في حدِّ الخّمْرِ والزِّنا وغيره. ¬
2 - وأمّا صفةُ المحدودِ، فقد تقدّم أنّه إنَّ كان حُرًّا فحدُّه ثمانون، وإن كان عبدًا فحدُّه أربعون؛ لأنّ هذا حدّ يجلد فيه الحرّ ثمانين، فوجب أنّ يجلد فيه العبد أربعينَ كحدِّ القذفِ. فرع (¬1): فإن كان سكرانًا في غاية السكر، فقد قال بنُ القاسم: لا يضرب وهو سكران، وإن خَشِيَ، أنّ تأتي فيه شفاعة تبطل فيه حقّ الله، فليضربه في حال سكره. ووجه ذلك: أنّ الحدّ للزّجر والرّدع، والسّكران لا يذكر ما يجري عليه (¬2). وأمّا إنَّ كان صحيحًا، عُجلَ حدّه، وإن كان مريضًا أُخرَ حتَّى يطيق. وكذلك المرأة تدَّعى أنّها حاملٌ، قال مالك: لا يعجّل عليها الحدّ حتّى يتبيّن أمرُها، فإن تبيَّنَ أنّ لها حملٌ أُقيم عليها الحدّ، وإن تبيَّنَ حملُها أُخِّرَت حتَّى تضع، واستُؤجِرَ لولدِها من يرضِعُه إنَّ كان لَهُ مالٌ، وأقيمت عليها الحدود (¬3). ووجه ذلك: أنّ هذه معانٍ يُرْجَى زَوَالُها، وأمّا الهَرِمُ والضّعيفُ عن حمل الحدِّ، فقد قال مالك: يُجلدون ولا يؤخِّرون، إذ ليس لوقت إِفَاقَتِهِم حدٌّ يؤخِّرون إليه. ¬
باب ما ينهى أن ينبذ فيه
باب ما يُنهَى أنّ يُنْبَذَ فيه مالكٌ (¬1)، عن نَافِع، عن عبدٍ اللهِ بن عُمَرَ؛ أنّ رسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - خَطبَ النَّاسَ في بعضِ مَغَازِيهِ. قال عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ: فَأقبَلتُ نَحوَهُ، فَانْصَرَف قبْل أنّ أبْلُغَهُ، فَسَأَلْت مَاذَا قالَ؟ فقِيلَ لِي: "نَهى أنّ يُنْبَذَ في الدباءِ وَالمُزَفت، فهذا حديث أول. فقوله (¬2): "نَهَى أنّ يُنْبَذ في الدُّبَّاءِ وَالمُزَفِّتِ" ولم يذكر (¬3) مَنْ أَخبرَهُ لَمَّا علِمَ أنّ مثلَهُ لا يَأخذ إِلَّا عمّن يثق به، مع أنّه لا خلافَ في عدالةِ جميع الصّحابة، ولا خلافَ في جواز الاخذ بمراسيلها (¬4)، وكذلك يجب أنّ يكون كمن عُلِمَ حَالُه من الأَيِمَّة أنّه لا يرسل إِلَّا عمّن يحتجّ بحديثه. *وإذا أخذ الصَّاحبُ عن الصَّاحبِ، فهو عند أهل الحديث مُسْنَدٌ، وإن ظهرَ فيه الإرسالُ في اللَّفظِ لا في المعنى، وان عدا ذلك إلى سائرِ الأيِمَّة الّذين يعلم منهم أنّهم لا يُرسِلُون إِلَّا في الثّقاتِ، كان ذلك صحيحًا، وارتفع خلاف الشّافعيّ في ترك قَبُولِ المُرسَلِ؛ لأنَّه قد استثنى منها مراسِيلَ سعيد ابن المسيَّب (¬5). والحديثُ الثّاني الَّذي أدخلَهُ في البابِ بعدَهُ: مالك (¬6)، عنِ العَلَاءِ بنِ عَبدِ الرّحمَنِ ¬
ابن يَعقُوب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَة؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - "نَهى أَنّ يُنْبَذَ في الدُّبَّاءِ وَالمُزَفَّتِ" وهو مُسنَدٌ صحيح. العربيّةُ: "الدُّبَّاءِ" هو القَرعُ (¬1). و"المُزَفَّتِ" ما طلِيَ بالزِّفت (¬2) *. و"النَّبِيذُ"هو المنبوذ، فعيلٌ بمعنى مفعول، من نبذت إذا طرحت وهو ما طرح فيه. و"النقير" ما طُلِيَ بالقار وهو الزّفت. و"الأُدُمُ" جمع أَدِيم، وهو الجلدُ إذا دُبغ و"الحَنْتَمُ" كلُّ فخَّارٍ طُلِيَ بالزُّجاجِ (¬3). الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): إنّما نهى عنه لئَلّا يعجل تغيير ما يُنْبَذ فيها (¬6)، قال (¬7): فأخذ ¬
مالكٌ بكراهة نبيذِ الدُّبَّاء والمُزَفَّت. وقال ابنُ حبيب: التّحليلُ أَحَبُّ إلينا وبِهِ أقولُ. ووجهُ رواية التَّحريمِ: يريد بذلك منع الفعل وهو الانْتِبَاذ، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - والنّهيُ يقتضي التّحريم. ومن جهة المعنى: أنّ هذا معنى يعجِّل شِدَّة المنتبذ، فوجب أنّ يكون ممنوعًا كالخليطَيْن. ووجه ما ذهب إليه ابن حبيب: ما زعم أنّه منْسُوخ، وتعلّق (¬1) بما رُوِيَ عن بُرَيْدَة الأسلميّ، أنّ النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "كُنْتُ نَهَيتُكُم عن النَّبيذِ إِلَّا في السِّقَاءِ فَاشَربُوا وَاتَّقُوا كُلِّ مُسكِرٍ" (¬2). ومن جهة المعنى: أنّ هذا شرابٌ ليست فيه شِدَّةٌ: مطربةٌ، فوجبَ أنّ يكونَ مباح الانتباذ، أصل ذلك إفراده وانتباذه في السِّقاء. المسألة الثّانية (¬3): وهذا إذا كان المزفَّت إناء، وأمّا "الزِّقَاقُ" (¬4)، فقد رَوَى أشهب عن مالك (¬5) إباحة الانبتاذ في الزِّقَاقِ المزفّتة. والأظهر: أنّ يمنع المزفَّت من ذلك كلّه زِقَاقًا وغيرها؛ لأنّ النّهي وَرَدَ عَامًّا. ¬
وأمّا "الجِزَارُ" (¬1)، فروَى أشهب عن مالك (¬2) أنّه أجاز نبيذها، ويحتمل أنّ يريد بالجَرِّ العاري من الحَنْتَمِ. ورُوِي عن ابنِ مسعود أنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ في نَبِيذِ الجَرِّ. ومن جهة المعنى: أنّه معنىً لا يُعجِّل الشِدَّة المُطرِبة، فلم يمنع الانتباذ كالأَسْقِيَةِ. وما رُوى عن ابنِ عمر أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن نبيدِ الجر (¬3)، لعلَّه يريد: الّذي طُلِيَ بالحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ. المسألة الثّالثة (¬4): وأمّا "الحَنْتَمُ" (¬5) فقد روى ابنُ حبيبٍ عن مالك أنّه أرخص فيه. وقد روى عبد الوهّاب المنع منه على التّحريم. وعندي أنّ المنع منه كالمنع من المزفّت؛ لأنّه يُحدِثُ من إسراع الشِّدَّة ما يُحدِثُه المزفَّت. والأصل في ذلك حديث ابن عبّاس في "البخاريّ" (¬6) و (مسلم، (¬7) أنّ وفد عَبدِ القَيْسِ أتوا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فسألوه ... الحديث إلى آخره، ونهاهم عن الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ والمُزَّفَّتِ، وربّما قال الرّاوي: النَّقيرُ، وربّما قال: المُقيَّر. وقال علماؤنا (¬8): الوفدُ عبارةٌ عن القومِ القادمينَ بنيَّةِ الرُّجوعِ. ¬
فصل القول في الخليطين
وقال ابنُ حبيب (¬1):" والحَنْتَمُ الجَرُّ، وهو كلُّ ما كان من فخَّارٍ أخضر أو أبيض"، وهو يحتاجُ إلى تأويلٍ؛ لأنّه ليس كلُّ فخَّارِ حَنتَمٌ، وإنّما الحَنْتَمُ ما طُلِيَ مِنَ الفخَّار بالزُّجاج، والعلَّة فيه: تعجيل شدّة الشَّراب. المسألة الرّابعة (¬2): أمّا "النَّقيرُ" فهو العُودُ المنقور. وقد رَوَى ابنُ حبيبٍ عن مالك أنّه أَرخصَ فيه، ورُوِيَ عنه أَنَّه كَرِهَهُ، وهو عنده كالمُزَفَّتِ. ووجهُ الرِّواية الأولى: أنّه لا يبلغ من التّعجيل مبلغ المزفّت، وقد ورد الحديث: "وكُنتُ نَهيتُكُمُ عَن الانْتِبَاذِ في الأَوْعِيَةِ فانتبِذُوا فِيهَا". ووجه الرِّواية الثّانية: إنّه ظرفٌ يعجل تغيير ما ينبذ به، فوجب أنّ يمنع الانتباذ فيه كالمُزَفَّتِ. فصل القول في الخليطين ثبت (¬3) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - النَّهيُ مطلقًا ومقيدًا، كالبُسْرِ والرُّطَبِ جميعًا، والتَّمْرِ والزَّبِيبِ جميعًا (¬4)، وما أشبهَ ذلك. وهذه مسألةٌ ما علمتُ لها وجهًا إلى الآن، فإنّه إنَّ كان المُحَرِّم الإسكارَ، فَدَعْهُ يَخلِطُ ما شاء ويَشْرَبُه في الحال، وأمّا غيرُ ذلك فليس فيه إِلَّا الاتِّباعُ، حتّى إنِّي قد رأيت في ذلك مسألتين غريبتين: ¬
الأولى: أنَّ ابنَ القاسم قال؟ لا يجوزُ أنّ يُنْبَذَ البُسْرُ المُذَنَّبُ (¬1)، وهو الّذي يُرَى الإرطاب في ذنَبِهِ، وصدق لأَنّه من باب الخليطين. الثّانيةُ: وذلك أنّ محمّد بن عبد الحَكَم أجرَى النَّهيَ في الخليطّينِ على عمومه، حتّى منع منها في شرابِ الطَّبيبِ، وهذا جمودٌ عظيمٌ على الألفاظ منه. جملةُ فروعٍ: قولُه (¬2): "نَهى أنّ يُنْبَذَ البُسرُ وَالرُّطَبُ" دليلٌ على المنع. وقال عبدُ الوهّاب: يقتضي المنع والتّحريم إذا بلغ حدّ المسكر (¬3). والأظهر المنع (¬4). وإن كانا من جنس واحدٍ، كان كلُّ واحدٍ منهما نبيذًا منفردًا. قال ابنُ حبيب (¬5): "لا يجوز شرب الخليطين" (¬6). فرع (¬7): وأمّا خلط العسل واللّبَن وشربهما، فلا بأس به، قالَهُ ابن القاسم في "العُتبِيّة" (¬8). ووجهُ ذلك: أنّ هذا ليس بانتباذٍ، وإنّما هو على معنى خلط مشروبين كشراب الورد والياسمين وغيره. وأيضًا: فإن اللّبن لا يفضي إلى أنّ يسكر، وقد شرطنا أنّ الخليطين إنّما هما ممّا ¬
باب تحريم الخمر
ينتهي كلّ واحد منهما إلى الأسكار. فرع (¬1): وأمّا اختلافُ العلّماءِ في العسلِ تُطرَحُ فيه قطَعُ العجين، فروى ابنُ القاسمِ عنه (¬2) أنّه كرهه. وقال مرّةً: لا بأس به، وهو أحبُ إليّ. فرع (¬3): وهل يجوز خلطُهُمَا على وجهِ التَّخليل؟. فروى ابنُ عبد الحَكَم عن مالك: لا خير فيه، والخَلُّ والانتباذ في ذلك سواءٌ. قال: وقد قال: لا بأس بذلك للخَلِّ. وجهُ الأُولى: ما قالَهُ الأبهريّ، تَعلّق بعمومِ نهي النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - عن نبيذ الخليطَينِ، فلا يجوزُ ذلك لخَلِّ ولا غيره، ولأنّه يصيرُ نبيذًا ثمّ يصيرُ خلًّا. الروايةُ الثّانيةُ: وَجْهُهَا أنّه لم يقصد بذلك النّبيذ وإنّما قصد الخلّ. فرع (¬4): فهذا ثبت ذلك، فَمَن نبذَ الخليطينَ فقد أساءَ، وإن حَدَثَتِ الشِّدَّةُ المُطْرِبَة حرم ذلك، وإن لم يحدث فقد قال عبدُ الوهّاب (¬5): يجوز شربه ما لم يسكر. بابُ تَحرِيمِ الخّمْرِ قال الإمام: الأصول في هذا الباب: والدّليل على أنّ كلَّ مسكرٍ حرامٌ، قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ¬
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬1) فيخرج من الآيتين خمسة أدِلَّةٍ (¬2): الدّليلُ الأوَّل: أنّه قال: إنّها رجْسٌ وهذه صفة المُحَرَّم. والدّليلُ الثّاني: أنّه قال: {فَاجْتَنِبُوهُ} والأمرُ يقتضي الوجوب. والدّليلُ الثّالثُ: أنّه وعَدَ على اجتنابها بالفلاح وهو البقاء، ولو كان الفلاح في الخّمْرِ مِنْ ثواب مَنْ لا يجتنبها لما كان لهذا الوعدِ وجةٌ. والدّليل الرّابعُ: أنَّه تعالى وَصَفَها بأنّها تُوقِعُ العداوةَ والبغضاء، وتَصُدُّ عن ذكر الله وعن الصّلاة، وهذه صفة المحرّمات. والدّليل الخامسُ: أنّه تعالى أوعدَ على مواقَعَتِهَا بقولِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬3) وهذا غاية الوعيد، ولا يُتَوَعَّد إِلَّا على محظور محرَّمٍ. وأمّا الأدلّة من السُّنَّة: فما رُوِيَ عن ابنِ المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَليلُهُ حَرَامٌ" (¬4). ودليلُنا من جهةِ المعنى: أنّ هذا شرابٌ فيه شدَّة مُطْرِبَةٌ، فوجب أنّ يكون قليلُه حرامًا، أصلُ ذلك عصير العنب (¬5). وأصلُ المسأَلَةِ: أنّ التّحريمَ عندنا معلَّقٌ بجملة المُسْكِرِ، كتعليقه بألفاظ سائر ¬
الأحكام المعلَّقةِ على الجُملِ الشَّرعيَّةِ من الشّهادات والغَصْبِ والسَّرقة. وعند أبي حنيفة (¬1): أنّ الحكمَ معلَّقٌ على الكَأس المُسْكِر، كتحريم الإِتِّخام معلَّقٌ على اللُّقمة العاثرة، وخُصَّتِ الخمرُ عندَه بالنَّصِّ المتناول لجميعها. وناقض أبو حنيفة بأن قال: إنّ قليلَ الأنبذةِ إنَّما يجوزُ بنيَّةِ التَّداوِي، وإن شَرِبَهُ بنيَّةِ الإِطرابِ حَرُمَ. ولو كان حلال الجِنْسِ لمّا حرَّمَتْهُ نيَّة الإِطرابِ كشراب الجُلّاب. وناقض أيضًا بأن قال: إنّه يجوزُ شُربُهُ ما لم يُسكِر، وجعل حدَّ الإِسكار ما لم يفرّق بين السَّماء والأرض. فَمَزَجَ الحلال بالحرام، ولن يصلَ المرءُ إلى هذا المقدار إِلَّا وقد دخل في التّحريم. قال القاضي - رضي الله عنه -: وللمسألة أربعُ مبادئ وثمان غاياتٍ: 1 - المبدأ الأوّل: مسلك الأخَبارِ في المسألةِ رُوِيَ عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْ طُرقٍ لكنَّها ليست على شرطِ الصِّحَّة، كقوله: " مَا أسكرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَما أسكرَ كَثِيرُهُ فَالأُوقِيَةُ مِنْهُ حَرَامٌ" (¬2). وقد قال يحيى بن مَعِين: إنَّ جميعها لا يصحّ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وليس ينبغي للفقيه أنّ يستدلَّ بشيءٍ منها؛ لأنّ المسألةَ تنبني على رُكنٍ واهٍ. ولهذا المبدإ ثلاث غايات: ¬
الأولى (¬1): أنّ يعارضُوهُ بأخبارِهِم، كقوله: "حُرِّمت الخّمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسَّكَرُ (¬2) مِنْ غَيْرِهَا" (¬3). وكما رُوِيَ أنَّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُنْبَذُ له فَيَشرب (¬4) حتّى يتغيّر، فيقول: "اسْقُوهُ الخدم" (¬5) إلى نحو ذلك من الأحاديث التّي لا تقومُ على ساقٍ، لأجل هذه الأحاديث الّتي نذكُرُها ينبغي للنَّاظِرِ الاستدلال أوّلًا بالأخبار. الغايةُ الثّانيةُ: من الأدلّة أنّ شرع في غيرها أنّ يعارضُوا أخبارَنا تارةً بالقياس، لضَعْفِها ولمخالَفَتِها الأصول، إذ من أصلهم أنّ الخبرَ إذا خالفَ الأصولَ مردودٌ. 2 - المبدأُ الثّاني: التعلّق بالأخبار من جهة أخرى لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "كَلُّ شَرَابٍ أَسكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" (¬6) ولقوله: "انبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، غير ألَّا تشربوا مُسْكِرًا" (¬7). ¬
ووجهُ التَّعلّقِ بذلك: أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حرَّمَ جنسَ الخمرِ والشَّراب المُسْكرِ، وتحريمُ الجنس يشتملُ على قليلِ النَّوعِ وكثيرِهِ، وغايتُهُم فيه أنّ يردُّوا التَّحريمَ إلى القَدرِ المُسْكرِ، لا إلى الجنسِ المُسكِر. ويترجّح غرضُنا على غرضِهِم بأن يبرز في معرضين، ونُصوِّر الموضوعين بصورة المُجمَل، أو المبتدأ بصورة الخبر، فإن ظهر فيه القَدْر الّذي يعرضون إليه فهو مرامهم، وإن ظهر فيه الجِنْس الّذي يعرض إليه فهو ما قلناه. وصورَتُه أنّ نقول: كلّ شَرَاب أَسكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، والنَّبيذُ مُسكِرٌ، فالمبيح إذا تولّد فهو حرام، فصار المجمول الموضوع في القضيّة الأُولى المبتدأ محمولًا في القضيَّةِ الثَّانية، ودارَ الأمرُ على الجنس، ولم يظهر القَدر هناك، فلا معنى لترك تعليق الحكم على قضيَّةٍ ظاهرةٍ وتعليقها على معنًى خفِىٌّ لا يسُوغ بحالٍ وهو المقدار. 3 - المبدأُ الثّالثُ: التّعلُّق بالقياس على الخّمْرِ فإنّ الله حرّمها، والعلَّةُ في تحريمِهَا الشدَّة المُطرِبَةُ الّتي فيها، فنقول: شراب يدعو قليلُه إلى كثيرِهِ فكان محرَّمًا، أصلُه الخمرُ، وغايتُكُم أنّ تقولوا: لا نعلمُ أنَّ تحريمَ الخمرِ معلَّلٌ، بل هو حكمٌ مشروعٌ مبتدأ لا علَّةَ له، فيدلُّ على ذلك الكتاب والإجماع وشهادةُ الأصول. أمّا الكتاب، فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} الآية (¬1)، ولا يخفَى على ذي تحصيلٍ أنّ هذه إشارةٌ إلى زوالِ العقلِ بالشِّدَّةٍ المُطْربَةِ الّتي بها قِوَامُ الخّمْرِ. قالت الصّحابة بأجمعها: "إذا شَرب هذى، واِذَا هذَى افتَرَى، فاجلدُوهُ حَدَّ الفِرْيَةِ" (¬2) وأمّا إذا عاد حلالًا، فأثبت الحكمُ الّذي هو التَّحريمُ بثبوت الشِّدَّةٍ المُطْربَةِ ويُعدم بِعَدَمِها. ¬
غايةٌ وإيضِاحٌ: وهي أنّ يقالَ: ليس كلُّ شيءٍ يدعو إلى شيءٍ يكونُ له حكمُهُ، ألَّا ترى أنَّ الخَلْوَةَ بالأجنبيَّة تدعو إلى الزِّنا وليس لها حكمُه، والتَّمكينُ من الوطىءِ يدعو إلى الوطىءِ وليس له حكمُه. قلنا: إذا دعا الشّيءُ إلى الشّيءِ وكان من جِنسِيهِ كان له حكمُه، كقليل الخّمْرِ والأنبذة مع كَثْرَتها، بخلاف الخَلْوَةِ والتَّمكينِ من الوطىءِ؛ لأنّه ليس من جِنْسِهِ. غايةٌ ثالثةٌ: أنّ يقولوا: إنَّ الكثير من الأَنبِذَة يقعُ به الإسكار دون القليل فكان حرامًا، وحدّه كالاتّخام مع تقدُّمِ الأكل، وهذا يَنْتَقِضُ عليهم بالخمر، فإنّ كثير ما يسكر يحرم قليلها، ويخالفُ الاتخام؛ لأنّ الله تعالى أَذَنَ في الأكلِ مقدارَ الحاجَةِ، وحرَّم الإسرافَ وهو الزائد على ذلك، وهاهنا حرَّم شرب المُسْكرِ، والجنس يعمُّ القليل والكثير. 4 - المبدأ الرّابع: هو أنّ نقول: إنَّ الله حرّم الخَمْرَ، والنّبيذُ يسمَّى خمْرًا، والدَّليل عليه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنَ الشَّعِيرِ لَخَمْرًا، وَإنَّ مِن البُرِّ لَخَمْرًا، وَإنَّ مِن الذرَّة لَخَمْرًا، وَإنَّ مِنَ العَسَلِ لَخَمْرًا" (¬1). وهذا الحديث وإن لم يكن على شرطِ الصِّحَّةِ، فإنَّه قد رُوِي عن عُمر أنَّه قالَهُ على المِنبرِ بحَضرَةِ الصَّحابةِ، ولم ينكر عليه أحدٌ فكان إجماعًا. وإنَّ الخمرَ إنّما سُمِّيت خمرًا لمخامرتها العقل (¬2)، وهذا المعنى موجودٌ في النَّبيذِ فوجبَ أنّ يسمَّى خمرًا. ويدخل تحت تحريم الخّمْرِ وغايته أنّ نقول: إنَّ صاحبَ الشّريعةِ ليس له أنّ يضع أسامي، ولا يبيِّن لغة، وإنّما يبيِّن الأحكام الشّرعية، فإذا أشاروا إلى ذلك سَفَّهنَا ¬
عقولهم، وقلنا لهم: للهِ تعالى أنّ يضعَ الأسامي والأحكام، وان منعونا القياس في اللُّغة، فغير مُستَبعَدٍ أنّ يضع العربي أسامي لشيءٍ يشتقُّه من معنًى فيه، ثمَّ ينقله منه إلى كلِّ مَنْ نجد فيه ذلك المعنى، وقد تقصَّينا ذلك في "كتب الأصول". وأحدُ فوائدِ تلك المسألة من أنّ القياس هل يثبت في الأقدام بهذه المسألة من الفقه، أم لا؟ وذكرتُ لهم سؤالاتهم ثمَّ انفصلتُ عنهم، فقلت لهم: إذا أسكر الكأس الخامسُ فهو المختصُّ بالتّحريم، وإن كان لم يسكر إِلَّا به وبما تقدَّم من الأكواس، وصار ذلك كالسَّفينةِ يكونُ فيها قومٌ يضعونَ فيها عدَّة أقْفِزَةِ من قمحٍ لا تسع أكثر منها، ثمّ يضعُ في السَّفينةِ رجلٌ آخر قَفِيزًا، فيغرق الكلّ، فإنَّ الضَّمان مختصٌّ بالمتعدِّي بوضع القَفِيزِ الزَّائدِ، وإن كان الغرقُ لا يتمُّ إِلَّا به وبما سَبَقَهُ من الأَقْفِزَةِ، فالرَّجلُ الَّذي جعلَ القَفِيزَ الزَّائدَ مُتَعَدٍّ، فَبِتَعدِّيه اختصَّ بالضَّمانِ حينَ اختلفتِ الأَجناسُ واجتمع العادلُ والظّالمُ، فخصَّ بالتّحامل بالغُرمِ الظَّالِم. وهاهنا اتَّفَقَتِ الأكواس، فكان للأوَّل منها حكم الآخِرِ، ومجرى ذلك من الأمورِ يطولُ شَرْحُها. حديث (¬1): قال رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَرِبَ الخمرَ في الدُّنيَا ثُمَّ لَمْ يَتُب مِنهَا، حُرمَهَا في الآخِرَةِ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ لا مدفع فيه. الأصول: قال (¬1) علماؤُنا- رحمة الله عليهم-: أثبت بذلك بالدَّلائل القاطعة دخول العصاة الجنَّة بعدَ الاقتصاصِ منهم بالعذاب أوِ المغفرةِ، ومن دخل الجنَّةَ لم يمتنع عليه منها نعيمٌ، فيكون معنى قوله: "حُرِمهَا في الآخِرَةِ" أي منفعةُ شُربِهَا الّذي يزولُ عنه بها الظَّمَأ، ويطلب الرّاحة عند العذاب وانتظار المغفرة. وقال قومٌ: هو تغليظٌ منه لشُربِهِ الخمرَ، أو هي محرَّمةٌ عليه في وقتٍ دونَ وقتٍ، أو شُربُها في وقتٍ دونَ وقتٍ متى اشتهاها، ولا يمكن شربها على الدَّوامِ كما هي لغيره (¬2)، والله أعلمُ. والأحاديث في تغليظ شرب الخّمْرِ كثيرة السِّياق خَرَّج مسلم (¬3): "مَنْ شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيَا سَقَاهُ اللهُ في الآخِرَةِ من طِينَةِ الخَبَال، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا طِينَةُ الخَبَالِ؟ قَالَ: عُصارَةُ أَهلِ النَّارِ فِي النَّارِ". تمَّ الكتابُ ¬
كتاب الأيمان والنذور
كتاب الأيْمَانِ والنُّذور قال القاضي - رضي الله عنه -: وفي صدر هذا الكتاب ثلاث مقدِّمات: المقدِّمة الأولى قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الآية (¬1). قيل: بما افترض اللهُ عليهم. وقيل: بما عَقَدُوه على أنفسهِم، ولا ثناءَ أبلغ من هذا، كما أنّه لا فَضْلَ أفضلُ من هذا. والنَّذرُ: هو نَذرُ العتق والصِّيام والصَّلاة، وفي رواية عن مالك (¬2): أنّ النّذر هو اليمين. والنَّذرُ في الجملة مكروهٌ للحديث (¬3). وأنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬4). والعقودُ واحدُها عَقدٌ، وهي العهود. وقيل: حلف الجاهليّة (¬5). ¬
المقدمة الثانية
والصحيحُ أنّها العهود، كأنّه قال: أَوفُوا بالعهودِ الّتي نَذَرْتُمْ. المقدِّمة الثّانية قال علماؤنا (¬1): الأَيمَانُ يُعتبرُ فيه ثلاثة أشياء: النِّيَّةُ، فإن عُدِمَت النِّيَّةُ فالسَّببُ الّذي حدثت لأجله اليمينُ، فإن عُدمت حُمِلَت على الإطلاق في عُرفِ اللُّغةِ وعادَةِ المخاطب (¬2). وأحكام الأَيمَان أربعة أقسامٍ: عَقدُ اليمن. وتوكيدُ اليمينِ. ولغوُ اليمين. والكذِبُ في اليمين. وكفّارتُهُ: ثلاثةُ أنواع مُخَيَّرٍ فيها، والرّابعُ مرتّبٌ بعدَها وهو الصّيامُ. فالثلاثةُ: عِتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ تكون رقًّا كلها، يعتقها عن الكفّارةِ وَحْدَهَا. الثّاني: الكسوةُ لعشرةِ مساكينَ، وقَدرُها ما تصحُّ به الصّلاة، فللرَّجُل ثوبٌ واحدٌ، وللنِّساء ثوبان: دِرعٌ وخِمارٌ لكلِّ امرأةٍ منهنَّ. الثالثُ: الإطعامُ للعشرة وسطًا من الشِّبَعِ، وذلك مُدٌّ بالمدينة بِمُدِّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وبالأمصار وسطًا من شِبَعِهم، كرطلين وشبه ذلك، ويكون نوعُه من وَسَطِ قوت أهلِ ذلك البلد، فإن لم يَقدر على ذلك صامَ ثلاثة أيّام (¬3). ¬
المقدمة الثالثة
المقدِّمة الثّالثة (¬1) قال الإمامُ: النَّذْرُ هو التزامٌ في الذِّمّةِ بالقَوْلِ لِمَا لا يلزَمُ من القُرَبِ بإجماعٍ من الأُمَّةِ، ويلزَمُ بالنِّيَّةِ عند علمائنا خاصَّةً دون غيرهم من العلماء. والعمدةُ في ذلك: أنّ الالتِزَام إنّما هو بالعَقدِ في القلبِ والقول في النَّفْسِ فيما يختصّ به المرء ولا يتعدَّاهُ إلى غيرِهِ، يَلزَمُه ذلك فيه، وإنمّا يحتاجُ إلى القولِ أو الكتاب فيما يتعلَّقُ بسواه، ويدُورُ بينه وبين غيرِه، وهذا أصلٌ لا تُزَعْزِعُه الاعتراضاتُ؛ لأنّه مَنْ أصحِّ الدَّلالاتِ، وعليه عوَّلَ مالكٌ حين قال فيمن التزَمَ الطّلاقَ بقلبِهِ: إنّه يلزمه، قال: كما يكون مؤمنًا بقلبه وكافرًا بقلبه، ومن عدَاهُ من أصحابه لم يُرْوَ عنه خلافُ هذا (¬2)؛ إذا قال الرَّجلُ لزوجتِهِ: اسقِنِي ماءً، ونَوَى الطّلاق، يَلزَمُهُ، وليس هذا اللّفظُ تصريحًا ولا كنايةً، ولا مجازًا ولا حقيقةً، فكأنّه قال: يلزَمُه ما عقَدَهُ بقلبه ولا يُبَالِي عن لفظه، وبهذا تنتظمُ الرِّواياتُ. والأصلُ فيه: الكتابُ، والسُّنَّةُ، وإجماعُ الأُمَّةِ. أمَّا الكتابُ: فهو تنبيهٌ جليٌّ، وهو ما تَقَدَّمَ من قولِهِ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬3)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬4). وأمَّا السُّنَّة: فذلك بالنَّصِّ، رَوَت عائشةُ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال:"مَنْ نَذَرَ أنّ يُطِيعَ الله فَليُطِعهُ، وَمَن نَذَرَ أنّ يعصِيَهُ فَلَا يَعصِهِ" خرّجه البخاريّ (¬5) وغيره (¬6). ¬
وحديثُ أُم سعد المتّفق عليه (¬1)، قال لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي مَاتَت وَعَلَيهَا نَذْرٌ لَمْ تَقضِهِ؟ فقالَ لَهُ: "اقضِهِ عَنهَا"، فَأَمَرَهُ بقضائِهِ من جهةِ البرِّ بها، من جهة الوجوبِ عليه. وحديثُ عمر بن الخطّاب أيضًا المتّفق عليه (¬2)، أنَّه قال لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: إنِّي نَذَرْتُ أنّ أَعتَكِفَ لَيلَةً في الجَاهِلِيَّةِ، قالَ لَهُ: "أَوفِ بنَذْرِكَ"، ونَذْرُ الكافرِ لا يلزَمُ، ولكن رَأَى عمرُ أنّ يلتزمَ في الإِسلامِ مثلَ ما كان التزمَ في الجاهليّةِ كفَّارةٌ له، إذ قال له النَّبيُّ:"أَوفِ بِنَذرك"، يعني الثّانِيَ ليس لأوَّلَ. وحديثُ عَمرِو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه أيضًا بديعٌ، وهو في الحديث الصّحيح، وقد صحّحه الدَّارقطني (¬3)، ويكفيك في صحّته تخريجُ مالكِ له في "مُوَطَّئهِ (¬4) "، وهو ما رَوَى عَمرُو بنُ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه؛ أنّ امرأَةً جَاءَت إِلَى رسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في الجاهِلِيَّةِ فَقالَت: إنِّي نَذَرْتَ أنّ أَضْرِبَ عَلَى رَأسِكَ بِالدُّفِّ، فَقَال لها: "أوفِي بِنَذرِكِ" (¬5) أوجَبَ أمرَها بذلك. وأمّا إجماعُ الأُمَّةِ: فلا خلافَ بينهم في وجوبِ الوفاءِ به، كما لا خلافَ بينهم في كراهيَةِ التزامِهِ، لِمَا ثبتَ في الحديثِ الصّحيح عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال:"إِنَّ النَّذرَ لَا يَرُدُّ مِنَ ¬
القَدَرِ شَيْئًا، وَإِنمّا يُستَخرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬1). قال علماؤنا (¬2): والنَّذرُ على أربعةِ أقسامٍ: طاعة، ومعصية، ومكروهٌ، ومباح. والواجبُ منه الوفاء بالطّاعة، والانتهاء عن المعصية، وترك المكروه (¬3)، وأمّا المباحُ فمُخَيَّرٌ فيه. والنذرُ (¬4) على ضربين: مُطْلَقٌ ومُقَيَّد. والمطلق على ضربين: مُفَسَّرٌ ومُبْهَمٌ. فالمفسَّر: مثلَ أنّ تقول: عليَّ صومٌ، أو صلاةٌ، أو صَدَقةٌ. وأمّا المُبْهَمُ، فمثلَ أنّ تقول: عليَّ نَذْرٌ، وهذا يجزىءُ فيه كفارةُ يمينٍ، لِمَا رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال:"كَفَّارةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينِ" (¬5) معناه المُبهَمِ. وأمّا المُقَيَّدُ، ففيهِ في المذهب تفسيرٌ طويلٌ، أَشَدَّه نَذْرُ اللَّجَاجِ والغَضَبِ، وهو عند مالك يلزمُ بما فَسَّرَهُ على أيِّ حالةٍ كانَ، والأصلُ في ذلك عندَهُ عموماتُ النَّذْرِ الوَارِدةُ من غير تخصيصٍ بحالٍ ولا صفَةٍ، وبه قال أبو حنيفةَ وغيرُه. وقال الشّافعيُّ في اختلافٍ كثيرٍ له: تجزىءُ فيه كفَّارةُ يمينٍ (¬6)؛ لأنّه من بابِ الأيمَان حين لم يَقصد به القُربةَ، وإنمّا قصدَ به الإقدامَ والامتناع بالتزام ما عَلِقَ به في الوجهين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنّ قَصدَ القُربَة فيه لا يخفَى، وإن كان قصَدَ - كما قال- تأكيدَ الإقدام أو تأكيدَ الامتناع، فإنّما قَصَدَه لمُعَظِّمٍ شاقٍّ عليه خلافه، وسيأتي بيان ذلك إنَّ شاء الله. ¬
الفقه في عشر مسائل: الأُولى (¬1): قولُه في الحديث (¬2): "استَفتِ لِي رسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -" يريدُ: اسأَلهُ لي سؤالَ المُلتَزِمِ لحُكمِه، وذلك إنّما يكون لجميع الأُمَّةِ مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وللعالِمِ مع الجاهل، فأمّا العالِمَان اللّذانِ يَسُوغُ لكلِّ واحدٍ منهما الاجتهاد، فإنّه إذا سأل أحدهما الآخر، لا يخلو أنّ يكون على وجهِ الاختبار والمذاكرة، أو على وجهِ التَّقليدِ، فأمّا الأوَّل فجائزٌ لهما إذا الْتزما شروطَ المناظرةِ من الإِنصاف وقصد إِظهارِ الحَقِّ، وقد فعلَ ذلك الصّحابة -رضوان الله عليهم- ومَن بعدَهُم إلى وَقتِنَا. وأمّا سؤالُه إيَّاهُ مُستَفْتِيًا، فإنّه لا خلافَ أنّه لا يجوزُ مع تساوِيهِمَا في العِلْم (¬3)؛ لأنَّ فرضَ كلِّ واحدٍ منهما الاجتهاد، وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما شُفُوفٌ (¬4)، فهل يجوزُ للّذي دونه أنّ يقلِّدَه مع تمكُّنهِ من النَّظَر والاستدلال أم لا؟ فالّذي عليه جمهورُ العلماءِ أنّه لا يجوزُ له تقليده. وقد قال بعضُ أصحابِ أبي حنيفة: ذلك جائزٌ له (¬5). ¬
ودليلُنا: ما قدَّمناه أنَّ فرضَهُ الاجتهادُ دونَ السُّؤالِ. المسألةُ الثّانيةُ (¬1): وأمّا إذا خافَ العالمُ فَوَاتَ الحادثةِ، فهل له أنّ يستفتيَ غيره أم لا؟ فذهب عبدُ الوهّاب إلى جوازِ ذلك (¬2)، ومَنَعَ منه سائرُ الأصحاب وقالوا: تُخَلَّى القضيَّةُ (¬3) ويتركها لغيره، وهذا يُتَصَوَّر فيما يُستَفْتَى فيه، وأمَّا ما يخصُّه، فلابدّ فيه ممّا قاله عبد الوهّاب. المسألة الثّالثة (¬4): قولُه (¬5):"إِنَّ أُمَّي مَاتَت وَعَلَيهَا نَذرٌ" يقتضي أنَّ النَّذر مباحٌ؛ لأنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - سَمِعَه ولم يُنكره، بل أمرَهُ أنّ يقضيَهُ، ولا خلافَ في جوازِهِ. وأمَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عمرَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عَنَ النَّذْرِ، وقال: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنَ القَدَرِ شَيئًا، وَلَكِنَّهُ يُستَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخيلِ" (¬6) فإنَّما معنى ذلك: أنّ ينذر الأمرَ من أمورِ الدُّنيا، مثل أنّ يقولَ: إنْ شفاني اللهُ من مرَضِي، أو يقدم غائبي، أو نحوه، فإنّي أصوم يومين، أو أُصلِّي صلاة، أو أتصدَّق بكذا، فهذا هو المكروه المنهيّ عنه، وانمَّا كان يُستحبُّ أنّ يكونَ فعلُه ذلك للهِ تعالى رَجاءَ ثوابِه. المسألةُ الرّابعةُ (¬7): فإذا ثبت هذا، فإنَّ النَّذْرَ يلزم في الجملة. والأصلُ في ذلك: قولُه تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الآية (¬8). ومن جهة السُّنَّةِ: ما رُوِيَ عن عِمْران بن حصين عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "خَيرُكُمْ ¬
قَرْنِي، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمُ، ثُمَّ يَخرُجُ قوْمٌ يَنْذِرُونَ ولا يُوفونَ، ويخونون ولا يُؤتَمَنُون، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُون ويظهر فيهم السِّمَنُ" (¬1) فعابهم بأنّهّم ينذرون ولا يُوفون، وهذا يدلُّ على أنّه غير جائز ولا مباح، ولو كان جائزًا ترك الوفاء بالنَّذْر لما عاب به القَرْنَ. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3):"وعَلَيهَا نَذْرٌ" قال علماؤنا (¬4): يحتمل أنّ يكون مُطْلَقًا، ويحتملُ أنّ يكون مقيَّدًا، فالمطلقُ مثل أنّ يقول المكلَّفُ: لله عَلَيَّ نَذْرٌ، ولا يجعل له مخرجًا. والمقيّد مثل أنّ يقول: لله عَلَيَّ صومٌ أو صلاةُ ركعتينِ، وكِلَا النَّذْرين جائزٌ. فإن كان مطلقًا، فإنَّ فيه كفّارة يمين عند مالك. وعن الشَّافعيّ في ذلك قولان: أحدهما: أنّه لا ينعقد هذا النَّذْر (¬5). والثّاني: أنّه ينعقد ويجب فيه أقلّ ما يقع عليه الاسم. والدَّليلُ على انعقاده: قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} الآية (¬6). ودليلُنا من جهةِ السُّنَّةِ: خبر ابن عبّاس هذا، والأظهرُ أنَّه مطلقٌ؛ لأنّه لو كان مقيَّدًا لاسْتَفْسَرَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عما نَذَرَ؛ لأنّ مِن النَّذْر المقيَّدِ ما يجبُ الوفاء به، وهو أنّ ينذر مباحًا، ومنه ما لا يجب الوفاء به، وهو أنّ ينذر محرّمًا، فلمَّا لم يسأل، كان الأظهرُ أنَّه النَّذْر المُطلَق الّذي لا يكونُ منه ما لا يجوز وما لا يلزم. ودليلُنا من جهة القياس: أنّه نَذرٌ قصد به القُرْبَة، فوجب أنّ يتعلَّقَ به حُكْمُ ¬
الواجبِ، أصلُ ذلك إذا كان مقَيَّدًا بما فيه قُربَةٌ. المسألةُ السّادسة (¬1): فإذا قلنا: إنَّ نَذْرَها (¬2) يصحّ أنّ يكون مطلقًا، ويصحُّ أنّ يكون مقيَّدًا، فقد مضَى الكلام في المُطلَقِ. فأمّا المقيَّدُ، فإنّه قد يُقَيَّدُ بما فيه قُربة، ويُقَيَّدُ المباحُ بما لا قُربَةَ فيه، ويُقَيَّدُ بالمُحرِّم، فإذا قُيَّدَ بما فيه قُرْبَة، فإنّه يلزَم وإن لم يتعلَّق بشرطٍ ولا صِفَةٍ، مثل قوله: للهِ عَلَيَّ أنّ أصلِّيَ صلاةً، أو أصومَ يومًا. قال بعضُ أصحاب الشَّافعىّ: لا يلزم إلّا أنّ يُعَلِّقَ بشرطٍ أو بصفةٍ. ودليلُنا: قولُه تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬3) ولم يفرِّق (¬4)، فيجبُ أنّ يُحمَلَ على عمومِهِ. ومن جهةِ السُّنَّة: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -:"مَنْ نَذَر أنّ يُطِيع اللهَ فَليُطِعْهُ، وَمَن نَذَرَ أنّ يَعصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ" (¬5) وقولُه - صلّى الله عليه وسلم -:"اقْضِهِ عَنْهَا": يقتضي أَداء ذلك عنها، وإن كان لفظُه لفظ الأمر، فإن مقتضاه النَّذْر، لقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬6)، فلا يجوزُ أنّ يلزَمه هذا النَّذْر بنَذْرها، ولا يجبُ عليه القضاء عنها. ¬
المسألةُ السّابعةُ (¬1): إذا ثبت ذلك من أنّه لا يجب عليه ويجوز له فعلُه، فإنّه إنَّ كان مُطلَقًا، فإنّ كفّارتَه كفارةُ يمينٍ، وهو معنًى متعلَّقٌ بالمال، وإن كان مُقَيَّدًا، فإنَّه لا يخلو أنّ يكونَ مختصًّا بالبَدَنِ كالصّلاةِ والصّيامِ، أو يكونَ له تعلُّقٌ بهما كالحجِّ والجهادِ، وإن كان مختصًّا بالمالِ كالصَّدَقةِ، فإنَّه لا خلافَ في جوازِ النِّيابة فيه. وإن كان ممَّا يختصّ بالبَدَنِ، فإنّه لا يصحُّ أنّ يقضِيَهُ أحدٌ عن أَحَدٍ. وإن كان ممّا يتعلَّقُ بهما كالحجِّ، فقد قال مالك: إنَّه يجوزُ أنّ ينفِّذَ فيه وصيَّةَ المُوصِي بأن يَحُجَّ عنه، وهذا يقتضي أنَّه يحجَّ عنه من شاء من ورثته بعدَهُ ويصحّ حجُّه. المسألةُ الثّامنةُ (¬2): قولُه (¬3): "جَعَلَتْ عَلى نَفسِهَا مَشْيًا إِلَى مَسجِدِ قُبَاءٍ" يقتضي أنّها اعتقدته قُرْبَة، ولا خلافَ في كونِه قُربَة لمن قرب منه. ويدلُّ على ذلك: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه كان يأتي قُبَاء راكبًا وماشيًا (¬4)، فمن كان في المدينة ونَذَرَ مشيًا إلى مسجد* قُبَاء، فقد رَوَى ابن حبيب عن ابن وهب، عن مالك، فيمن نَذَرَ مشيًا إلى مسجدٍ* وهو معه بالبلد، فإنَّه يمشي إليه، وقد أَوْجَبَهُ ابنُ عبَّاسٍ في مسجدِ قُبَاء من المدينة (¬5)، وهو على ثلاثةِ أميالٍ من المدينةِ وفي "كتاب ابن الموّاز (¬6) ": من نَذَرَ أنّ يصلِّيَ في غيرِ المساجد الثّلاثةِ، فَليُصَلِّ ¬
في موضعه، إِلَّا أنّ يكونَ قريبًا جدًّا (¬1). والأصلُ في ذلك: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -:"لا تعمل المطيّ إِلَّا إلى ثلاثة مساجد" (¬2) المسألةُ التّاسعة (¬3): ومن نَذَرَ مشيًا إلى مسجدِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أو بَيْتِ المقدسِ، فإنّ عند مالك يلزمه ذلك (¬4)، خلافًا للشّافعىِّ (¬5). ودليلُنا: الحديثُ المتقدِّمُ. ومن جهةِ القياس: أنّه مسجدٌ وَرَدَ الشَّرعُ بإِعمالِ المطيِّ إليه، فوجبَ أنّ يلتزم قصده بالنَذْر كالمسجد الحرام. المسألةُ العاشرةُ (¬6): قولُه (¬7):"فأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنّ تَمْشِيَ عَنْهَا" وعلى هذا القول في قَصْدِ مسجدِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وقَصْدِ بيتِ المقدسِ تصحُّ النِّيابة في الأعمالِ وقصد البُقَعِ. وقد قال مالك في "العُتبيَّة" (¬8) في الّتي نَذَرَتِ المَشْيَ إلى مسجد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فماتَتْ قبلَ ذلك، فقال: لا يفعلُ ذلك (¬9) أحدٌ عن أحدٍ، وإن شاءُوأ تصَدَّقُوا عنها بقَدرِ كِرَائها وَزَادِهَا (¬10)، وهذا لا يمنعُ من النِّيابة فيما ذَكَرنا، والله أعلمُ. ¬
باب ما جاء فيمن نذر مشيا إلى بيت الله تعالى
خاتمةٌ: قولُ مالك في آخر هذا الباب: "وهَذَا الأَمرُ عِندَنَا" (¬1) هو ممّا انفردَ به يحيى، وليس هو عند ابنِ القاسِم، ولا عليّ، ولا مطرِّف، ولا القَعْنَبِيّ. باب ما جاء فيمن نَذَرَ مشيًّا إلى بَيْتِ الله تعالى الفقه في مسألتين: المسألةُ الأوُلى (¬2): قال القاضي: المشيُ عملٌ من الأعمالِ، وقد يكونُ طاعةً، وقد يكون معصيةً. فإذا نَذَرَ مشي معصيةٍ فليستغفرِ الله تعالى وَليَتُبْ إليه، وإذا نَذَرَ مشيَ طاعةٍ، فقد قالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ، وَالمَسجِدِ الأَقْصَى" (¬3) هذا بقوله: وكَانَ يَأتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا (¬4). فإذا نَذَرَ الإنسانُ طاعةً في المساجدِ الثّلاثةِ لَزِمَهُ إتيانُها، ولا يلزَمُ إتيانُ مسجدِ قُبَاءٍ؛ لأنّ القولَ قد قَضَى على الفعلِ، وتبيِّنَ أنّ ذلك الفعل كان مخصوصًا. قال علماؤنا: إنّما كان ذلك منه في مسجد قُبَاء تشديدا لعَهْدِهِ وتأنِيسًا لأهَلِهِ. ¬
ومن أغرب ما قال علماؤُنا: إنَّ مَنْ نَذَرَ المشيَ إلى الصَّفَا والمَرْوَة، أو إلى عَرَفَةَ، أو إلى مِنًى لا يَلْزَمُه، وإن كانت مواضع قُرَبٍ؛ فرائض ونوافل، ولعلّهم تعلّقوا بقوله:"ثَلَاثَة مَسَاجِد" فعيَّنَ المسجديَّةَ. قال علماؤُنا: فيأتي المسجدَ الحرام حَاجًّا أو مُعتَمِرًا. هذا إذا قلنا: إنَّ مكَّةَ لا تُدْخَلُ إِلَّا بإحرام على المشهورِ، فإن قلنا على الرّوايةِ الأُخرى: إنَّ مكةَ تُدخَلُ بغير إحرامٍ، فلا يَخْلُو أنّ ينويَ هو صلاةً أو حجًّا أو عمرةً، فإن نَوَى حجًّا أو عمرةً فإنّه يدخلُها بإحرامٍ ويفعلُ ما نَوَاهُ منهما، وإنْ نَوَى الصّلاةَ دخل مُصَلِّيًا وإن أطلقَ اللَّفظَ ولم تكن له نيةٌ. فإن قلنا: إنَّ اليمينَ محمولةٌ على العُرْفِ -وهو المشهور-، لَزِمَهُ أنّ يدخُلَها حاجًّا أو معتمرًا؛ لأنّ ذلك هو العُرْفُ، وإن لم يُلتَفَت إلى العُرفِ في اليمينِ على الرِّوايةِ الأُخرى، دخلَ المسجد كيف شاء. هذا مذهبُنا في هذا الباب، وقد خالَفَنا جماعةٌ من العلّماءِ فقالوا: إنَّ المشيَ لا يلزَمُ؛ لأنّ القُربَةَ في قَصدِهِ لا في صِفَةِ القَصدِ، وقد قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} (¬1)، وأمرَ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بالصَّدَقةِ ونَهَى عن المُثلَةِ، وقال: "إِنَّ المُثلةَ أَنْ يَنْذِرَ الرجُلُ أنّ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَليُهدِ هَدْيًا وَليَركَبْ" (¬2). ¬
قال القاضي: ومَخرَجُ هذا الحديث عزيزُ الوجودِ، ما روِّيناهُ إِلَّا من طريقٍ واحدةٍ، ولا يصحّ، والله أعلم، وكيف يَصِحُّ وقد قال اللهُ تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} الآية (¬1)، ولو كان مُثلَةً ما ذَكَرَهُ في مَعرِضِ الامتنانِ والعبادَةِ، ولعلّ معنى الكراهة إذا نَذْرٌ وهو عاجزٌ، كما رَوَى مسلم (¬2) عن عُقبَة بن عامِر قال: "إنْ أُخْتِي نَذَرَتْ أنّ تَمشِيَ إِلَى البَيتِ حَافِيَةً، فَقَالَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: لِتَمشِ وَلتَركَب". وفي "التّرمذيّ" (¬3) و"النّسائيِّ" (¬4) و"أبي داودَ" (¬5): "تَختَمِرُ وَتَركَبُ وَتَصومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ"، وانفرد أبو داود بقوله:"تَركَبُ وَتُهدِي بَدَنَةَ" (¬6). وإذا كان عاصيًا فالنَّذْرُ معصيةٌ، وعليه بَوَّبَ مالكٌ (¬7) وأدخلَ حديثَ أبِي إسرائيل (¬8): نَذَرَ أنّ يقومَ ولا يَقعُدَ، ولا يستَظِلَّ، ولا يتكلَّمَ، ويصومَ، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مُرُوهُ فَليَتَكَلَّم، وَليَسْتَظِلَّ، وَليَجْلِس، وَليُتِمَّ صَومَهُ" (¬9). فأمَّا "القيام والضُّحِيُّ، فلم يكونا قَطُّ شرعًا ولا طاعةً. ¬
وأمّا "الصَّمتُ" فقد كان شرعًا لمن قبلَنَا، لكنَّه نُسِخَ في مِلَّتنا. وأمّا "الصَّيامُ" فإنَّه بَقِيَ مشروعًا لازمًا يَلزَمُهُ، فأمَّا ما قطع المعاش أو أَثَّر في الصِّحَّةِ فإنّه يَسقُطُ عنه؛ لأنّه معصيةٌ (¬1)، وليس يختلفُ في هذا أحدٌ، والله أعلم. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): فإن قالوا: إنَّ المشيَ يتعلَّقُ بالمكانِ. قلنا: هو على ثلاثة أضرُبٍ: 1 - ضربٌ: إذا عُلَّقَ المشيُ به، وجبَ المسير إليه والمشي فيه. 2 - وضربٌ: إذا عُلَّقَ المشيُ به، لم يجب المسير إليه ولا المشي. 3 - وضربٌ: إذا عُلَّقَ المشيُ به، وجب المسير إليه ولم يجب المشي إليه. فأمَّا الأوَّل، فإنَّ منه ما اتَّفَقَ عليه علماؤُنا، ومنه ما اختلفوا فيه، فأمَّا ما يتعلَّقُ بالمشي كقوله: إلى بيت اللهِ، وإلى كعبةِ اللهِ، أو إلى شيءٍ منه، كقوله: إلى الرُّكن والحِجْرِ، أو بما يشتملُ على البيتِ من جهةِ البنيان، فهذا لا خلافٌ في المذهبِ في وجوبِ المسيرِ إليه والمشي. المسألةُ الثالثةُ: العمل في المشي إلى الكعبة (¬3) قولُه (¬4):"في الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ تَحْلِفُ بِالمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللهِ، فَيَحْنَثُ .... " إلى آخر ¬
باب مالا يجوز من النذر في معصية الله
المسألةِ، يقتضي أنّها يمينٌ تلزم، لم يختلفُ في ذلك أصحابُتا، وما يُغزَى في ذلك إلى ابنِ القاسمِ أنّه أفتى في النَّذْرِ بكفَّارةِ يمينٍ لا يصحُّ، وبهذا قال جماعةٌ من العلماءِ، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال الشّافعيُّ (¬2): يلزمُ المشي إلى مكَّة بالنَّذْرِ، وعليه أنّ يمشي إلى مكّة، وأمّا من حلف بها وحنث فعليه كفّارة يمين. والدّليلُ على ما نقوله: أنّ هذا معنًى يلزم به العِتْق، فيلزم به المث في إلى مكّة، أصلُه النَّذْر. باب مالًا يجوزُ من النَّذْرِ في مَعْصِية الله مالك (¬3)، عن حُمَيدِ بنِ قَيْسٍ، وثَوِرِ بْنِ زَيْدٍ؛ أَنَّهُمَا أخْبَرَاهُ عَنْ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ فِي الحَدِيثِ عَلَى صَاحِبِهِ، أَنَّ رسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا قائِمًا في الشَّمْسِ فَقالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَليَسْتظِلَّ، وَلْيَجْلِسَ، وَليُتِمَّ صَوْمَهُ". قال مالك: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ بِكَفَّارةٍ، وَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يُتِمَّ مَاكان لله طَاعَةً، وَيَتْرُكَ مَا كان للهِ مَعْصِيَةً. ¬
الفوائد المتعلّقة بهذا الحديث: وهي ثلاث: الأولى: في هذا الحديث من الفقه: أنّ للرَّجُل المارَّ إذا رأى أمرًا يُنْكِره فليقل: ما بالُ هذا الأمر، وما بالُ النَّاس، كما قال النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم -. الفائدةُ الثّانيةُ: فيه من الفقه: أنّ للرَّجلِ الكريمِ العظيم الشَّأْنِ أنّ يتصرَّفَ في حوائجه، وأن يمشي في أَزِقَّةِ المدينةِ، فإن رأى منكَرًا غَيَّرَهُ، كان رَأى طاعةً أعانَ عليها. الفائدةُ الثّالثة: وفيه: أنّ للرجلِ إذا مَرَّ على شيءٍ يُنكِرُه فليقل: مَا بَالُهُ، وليسأل عنه كما فعل النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُه: "نَذَرَ ألَّا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ" إلى آخر الكلام، هذه المعاني منها ما يلزم بالنَّذْرِ (¬2)، ومنها مالًا يلزم لكونه غير طاعة، وإنّما يَلْزَمُه المشي إلى مكّة لأنّ فيه قُرْبَة؛ لأنّ المشي في الطّواف والسّعي قُرْبَةٌ. وقد قال جماعة من العلماء: إنَّ في حجّ الماشي من القُرْبَةِ ما ليس في حجَّ الرّاكبِ. المسألةُ الثّانيةُ (¬3): قوله (¬4): "وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ" يريد: فيما تركه من نَذرِ ما لم ¬
يجب عليه من القيام في الشّمس والصّمت. وقد بيَّنَّا قبلُ أنّ القيام في الشّمس ليس بطاعةٍ ولا شرع، وأمّا الصّيام؛ فإنّه بَقِيَ مشروعًا لازمًا يلزمه، وما قُطِعَ في المعاش (¬1) أو أثّر في الصَّحَّة فإنّه يسقط عنه لأنّه معصيةٌ. المسألةُ الثّالثة (¬2): *وأمّا نَذْرُ المعصيةِ، فلا يلزم به عِنْدنَا شَيءٌ. وقال* أبو حنيفة (¬3) والثّوريّ: إنَّ عليه (¬4) كفّارة يمين. ودليلُنا: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ومَنْ نَذَز أنّ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ"، وهذا موضع تعليمٍ، فاقتضى ذلك منع موجبه ومن جهة المعنى: أنّ هذا نَذرُ ما لا قُرْبَةَ فيه، فلم يجب به شيءٌ:، أصلُ ذلك إذا نَذَر الجلوسَ. حديثُ مالكٍ (¬5)، عن يَحْيى بْنِ سَعيدٍ، عن القَاسِم بن مُحَمَّدٍ؛ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس، فَقَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي. فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْحَرِي ابْنَكِ وَكَفَّرِي عنْ يَمِينِكِ؟ الحديث إلى آخره. ¬
الأسناد: صحيح. الفقه في ثلاث مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬1): قولُ ابنُ عبَّاسٍ:"كَفِّرِي عَنْ يَمِينِكِ": اختلفَ العلّماءُ فيه: فقيل: هو مذهبُه خاصّةُ، وهذه معصيةٌ لا كفَّارةَ فيها. وقيل: تُهْدِيْ هَدْيًا، وعليه عوَّل علماؤنا. وقيل: تُكَفِّرُ كفارةَ اليمين بالله، فلمّا اعترض هذا السائلُ عَلَى ابنِ عبّاس بأنّها معصيةٌ، فكيف يلزمُ فيها كفارةٌ؟ قال له: كما أنّ الظَّهَارَ معصيَةٌ وتجبُ فيهِ الكفّارة. وهذا ممّا يجبُ أنّ تفهَموهُ وتتّخذوه دستورًا؛ وذلك أنّ ابنَ عبّاسٍ لم يُرِدْ أنّ يجعلّ الظِّهارَ أصلًا للكفَّارةِ في كلِّ معصيةٍ، وإنّما أرادَ أنّ يُمَهَّدَ في نَفْسِ السائلِ الفَتْوَى بما وردَ من الأثَرِ في ذَبْحِ الوَلَدِ، على ما رُوِيَ أيضًا في الظِّهَارِ، والظِّهارُ رُخصةٌ في الشّريعةِ، على ما يأتي بيانُه إنَّ شاءَ الله. والأصلُ عند علمائنا في نَحْرِ الولدِ: قصّة إبراهيم -عليه السّلام-، وقد وَهَمَ فيه العلماء وَهْمًا قبيحًا، فظَنَّوا أنَّ هذه الآية فيها نَسْخُ الأمرِ قبلَ الفعل (¬2) كما جرَى في فَرْضِ الصّلاةِ، وليس كذلك، وقد بَيَّنَّا في "أصول الفقه" و"مسائل الخلاف" وحيثُ ورَدَ من كلامِنَا بكلامٍ طويلٍ لُبَابُهُ: أنّ إبراهيم -عليه السّلام- رأى في المنام أنّه يُضجِعُ ولدَهُ ويذبَحُه، لا أنّه قيل له: اذبَخ وَلَدك، ورُؤيا الأنبياء وحيٌ، فإنّ الرُّؤيا على ثلاثةِ أقسامٍ- على ما يأتي بيانُه ¬
إنَّ شاء الله- أحد الأقسام: حديثُ النّفس، ولم يُحدِّث إبراهيمُ قَطُّ نَفْسَهُ بذبحِ ولَدِهِ، وأمّا تحْزِين الشّيطانِ، فليس له على الخليل سبيلٌ، فلم يبقَ إِلَّا أنّه مِنَ الله على طريقِ البرهانِ، فَعَرّضَهَا حينئذٍ على إسماعيلَ، فقال له: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر} الآية (¬1)، وجعلَ الصُّوْرةَ أمرًا؛ لأنّها تستدعي الامتثالَ لتحقيقِ المنامِ، فيكونُ المجازُ في قوله: {تُؤْمَر} خاصّةً، وعلى القول بالنَّسخِ يكون دَعْوَى، ويكون في قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} لآية (¬2) مجازٌ كثيرٌ بعيدٌ فأضْجَعَهُ ليَمتَثِلَ ما رأى فيه، فنُودِيَ {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} الآية (¬3)، معناه: بتَعَاطِيكَ الامْتثالَ، وبمبادَرَتِكَ إلَى الظّاهر والاسْم، ولكن خُذِ التَّأويل، واعْطِ الفِدْيةَ، وكَمِّلِ التّصديقَ والابتلأءَ، وصار إلى يومِ القيامةِ سنَّةً في الاقتداءِ. وقيل: الرُّؤيا على قسمين: اسم، وكُنْيَة. فالاسم: أنّ تَخرُجَ بصورتها. والكُنْيَةُ: أنّ تخرُجَ بتأويلها. ولذلك قال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - حين بَنَى بها: "رَأيتُكِ في الْمَنَامِ فِي سَرَقَةِ حَرِير، فَقَالَ ليَ المَلَكُ: هَذِهِ زَوْجُك، فَكَشفْتُ عَنْكِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَقُلْتُ: إِنْ يُكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله يُمْضِهِ" (¬4) فتأمَّل ظاهرَ هذا، كيف يقولُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فَقالَ لِيَ المَلَكُ: هَذِهِ زوْجُكَ" ثمَّ يقولُ رسولُ الله: "إنَّ يَكُن من عِنْدِ اللهِ يُمْضِهِ" والجاهلُ يَظُنُّ أنّ هذا شكًّ في التَّصديقِ للرُّؤيا، والمعنى: إنْ يَكُ هَذَا من عِنْدِ اللهِ بظاهره يُنْفِذُهُ ويُمْضِهِ، وإنْ يَكُ تأويلًا أو كُنْيَةً بسَمِيَّتِهَا ¬
باب اللغو في اليمين
أو شبيهتها أو جارتها، أو أختها أو قريبتها، فسَيَظهرُ أيضًا. فهذه تحقينُ الإشارةِ إلى هذه الأغراض، واللهُ الموفّقُ للصّواب. المسألةُ الثالثةُ (¬1): قال عبدُ الوهّاب (¬2): "من نَذَرَ ذبحَ ابنِهِ في يمينٍ، أو على وجهِ القُرْبَةِ، فعليه الهَدْي، وإن نَذَرَهُ نَذْرًا مجرَّدًا لا يقصد به القُرْبَة، فلا شيءَ عليه"، وهو المشهورُ في المذهب، والله الموفِّقُ للصّواب. باب اللَّغْو في اليمينِ الفقه في خمس مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬3): قول عائشة - رضي الله عنها - (¬4): "لَغوُ اليَمِينِ: لَا وَاللهِ، وبَلَى واللهِ". قال علماؤنا (¬5): يحتمل وجوهًا: أحدها: أنّ اللَّغوَ لا يكونُ إِلَّا في هذه اليمين (¬6)، وأمّا اليمين بغير ذلك مثل المشي إلى مكَّة أو الطَّلاق، فإنّه لا لَغوَ فيه، وقد قال مالك ذلك في "العُتْبِيّة" (¬7) وغيرها. ¬
ووجه ذلك: أنَّ اليمينَ بغيرِ اللهِ محظورٌ، فلم يَعْفُ عن الحَالفِ بها على وجهٍ من الوجوهِ. وأمّا اليمينُ باللهِ تعالى* فَمُبَاحةٌ، لذلك دخلها التّخفيفُ والعَفْوُ عن لَغْوِها، وكذلك كلّ يمين كفّارتُها كفّارة اليمين* كالنَّذْر الّذي لا مَخْرَجَ له، وما جرى مجرى ذلك. ويحتملُ أنّ يُريدَ أنّ اللَّغوَ قولُ الرّجلِ: لَا وَاللهِ، فيما يَعتقِدُ صحّتَة وإن كان الأمر خلافه، حسب ما ذهب إليه مالك. ويحتملُ وجهًا ثالثًا، وهو أنّ يريدَ ما يجرِي في تراجُعِ النَّاسِ، من قولهم: لَا وَاللهِ، وبلى والله، من غير اعتقادٍ (¬1). وإلى هذا ذهب الأَبْهَرِيّ. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): قوله (¬3): "وَعَقدُ الْيَمِينِ، أنّ يَحْلِفَ الرَّجُلُ ... " إلى آخر الكلام، هو كما قال. قال القاضي - رضي الله عنه -: والأَيمَانُ على ضربين: 1 - يمينٌ على المستَقْبَلِ. 2 - ويمينٌ على الماضي. فأمّا الأوُلى: فلا يدخلها في قولِ مالك لا لَغوٌ ولا غَمُوسٌ، وإنمَّا يدخلها البرّ، فلا تجِب فيها كفّارة إِلَّا بالحِنْثِ. وأمّا الثّانيةُ: فتنقسم قسمين: 1 - قسمٌ يقتضي المنعَ، مثل قوله: والله لا لبستُ هذا الثّوب، ولا أكلتُ هذا الخبزَ، فهذا إنَّ أَطلَقَ الفعل ولم يعلِّقه بوقتٍ ولا مكانٍ ولا صفَةٍ، منعتِ اليمينُ ¬
ذلك على التّأبيدِ، فمتى فعلَهُ حَنِثَ ولَزِمَتهُ الكفّارةُ. 2 - فإن قيَّدَهُ بوقتٍ، مثل قوله: واللهِ لا لبستُ هذا الثّوب غدًا، ولا لبسته بمكَّةَ، ولارَاكِبًا، فمتى فعلَهُ علَى شيءٍ من ذلك حَنِثَ. المسألةُ الثالثةُ (¬1): وأمّا إنَّ كانتِ اليمينُ على إتيانه بالفعلِ (¬2)، فإن علّقها بزمانٍ أو مكانٍ أو صفة،* لم يبرّ إِلَّا بفعله ني تلك المدّة، أو في ذلك المكان، أو على تلك الصِّفة*، فإن فات شيءٌ من ذلك وكان ممّا يفوت، مثل أنّ يَحْلِفَ: ليفعلن ذلك في شهر معيَّنٍ، فينقضي، أو يَحْلِف: ليفعلن ذلك ماشيًا، فيتعذّر ذلك عليه بعذرٍ يعلم أنّه لا يقدر عليه بقيّة عُمُرِه، وقع الحِنْثُ بفوات ذلك. كان أطلق يمينَهُ لم يحنث إِلَّا بموته (¬3). المسألةُ الرّابعةُ (¬4): وقوله (¬5): "فَهَذَا الَّذِي يُكَفِّرُ صَاحِبُهُ يَمِينَهُ، وَلَيسَ في اللَّغْوِ كَفَّارَةُ يَمينٍ" يريدُ أنّ اليمينَ على المستقبل هي الّتي تدخلها الكفّارة لتحلّها، أو ترفع مأثمها، وأمّا لغو اليمين فلا كفَّارة فيها؛ لأنّها على مذهبِ مالك متعلّقةٌ بالماضي، وهو مثل أنّ يحلِفَ في ¬
رجل (¬1) فيقول: إنّه زيدٌ، وهو يعتقد ذلك فيه، فإذا قَرُبَ تبيَّنَ له أنّه غيرُه، فهذا لا كفَّارَةَ فيه. ووجه ذلك: أنّها ليست بيمينِ تنعقدُ ليفعل أو ليترك، وإنّما هي يمين تصديق، فلا يبقى لها بعد تمام اللّفظ حُكْمٌ؛ لأنّها لا تمنع من فعل فَتُبيحُ ذلك الكفّارة، ولا تُوجبُ فعلًا فتبيح ترك الكفارة. المسألةُ الخامسةُ (¬2): وأمّا قوله (¬3): "فَأمَّا الذِي يَحْلِفُ عَلَى الشَّيءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ ... فَهُوَ أَعْظَمُ من أنّ تَكُونَ فِيهِ كفَّارَةٌ" فإن هذه اليمين ليست من جنسِ ما تتعلّق بها الكفّارة؛ لأنّها يمينٌ على ماضٍ، ويمينُ الماضي لا تخلو من ثلاثة أحوالٍ، لا يجب بشيءٍ منها كفّارة: أحدُها: أنّ يحلِف على شيءٍ أنّه قد كان، أو ما كان، فيكون كما حَلَفَ عليه، فهذا برّ في يمينه. الثّاني: أنّ يحلِفَ على شيءٍ أنّه قد كان كذا، وهو يعتقد صِحَّة ذلك، فيكون الأمرُ على خلافِ ما حَلَفَ عليه، فهذه لغو اليمين عند مالك، ولا كفّارة عليه ولا إِثمَ. الثالثُ: أنّ يحلِفَ على ذلك، ولا يعتقد أنّ الأمرَ على ما حَلَفَ عليه، إمّا أنّه يعلم ضدّ ذلك، وإما أنّه يشكُّ، فهذه اليمين الغَمُوس، سمِّيَت بذلك لأنَّها تَغْمِسُ صاحبَهَا في الإثم، ولا كفَّارةَ لها لكونها متعلّقة بالماضِي، وإنمّا قال:"إنَّهَا أَعْظَمُ من أنّ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَة"؛ لأنّها انعقدت على الإثم، والّتي تكفّر لم تنعقد على إثم، وإنّما ¬
انعقدت على الجواز، وإنّما تجب عليه الكفّارة بالحِنْثِ فقط. وقال الشّافعي: تجب بها الكفّارة (¬1). ودليلُنا: أنّ هذه يمينٌ لا تعلّقَ للاستثناء بها، فلا تُعَلَّقُ الكفّارةُ بها، أصلُ ذلك يمين اللّغو. تفسير الآية: قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬2). وفيها أربع مسائل: المسألةُ الأولى (¬3): قال علماؤنا: اليمينُ خبرٌ يقومُ بالقلبِ عن معنىً يلزمه العبد، مربوطًا بإِقدامٍ أو إحجامٍ، يَقعُ عنه التّعبير باللَّفظِ، فَيُخبِرُ بلسانِهِ عمّا رَبَطَ بقلبه، والمُعَوَّلُ على ما يَستقِرُّ في النَّفسِ من ذلك، لا ما يجري على اللَّسان، قال الله العظيم: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية (¬4)، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬5) فانتظمت هاتان الآيتان مسائلَ الأَيمَانِ بجُمْلَتها في اليمينِ على ما قلناه، واللّغو ما عَدَاهُ. المسألةُ الثّانيةُ (¬6): اختلفَ العلماء في اللَّغوِ على ما قدَّمناهُ أنّه قولُ المرءِ في برِّ كلامه: لا وَاللهِ، وَبَلَى واللهِ. ¬
ولم يرَ مالكٌ هذا اللَّغو، والحكمةُ في ذلك -واللهُ أعلمُ- أنّه قد جعَل هذا الّذي أوردناه في اللَّغو تحت قولِهِ تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية (¬1). وإنّما اللَّغوُ ما قاله مالك: أنّ يحلِف الرّجلُ على الشّيءِ يظنُّه على معنىً، فيخرُجُ على خلافه. فرع (¬2): قال الإمام أبو بكر بن العربي: قال بعضُ القرَوِيِّين من شيوخنا: قال أبو حفصٍ العطّارُ (¬3) يومًا لأصحابه: إذا حَلَفَ الرّجلُ بالطّلاقِ على أمرٍ يظنُّهُ بشيء، فيخرج على خلافِهِ، ما يلزَمُه؟ قالوا له: لا شيءَ عليه؛ لأنّ هذه لَغْوُ اليمين عند مالكٍ، فقال: أخطأتُم، إنّما يكونُ لَغوُ اليمين في اليمينِ بالله، لا في اليمين بالطّلاق. وأمّا اليمينُ الغَمُوسُ، فهي عند أبي حنيفةَ (¬4) من جملة اللَّغوِ؛ لأنّهّا غيرُ مُنْعَقِدَة. فأمّا مالك (¬5)، فرأَى سقوطَ الكفّارة فيها من جهةِ عِظَمِ إِثمها، وهو وإن كان أشار إلى ذلك في آخِرِ كلامه، فإنّما أَوَّلُهُ مبنىٌّ على عَقْدِ اليمينِ، واليمينُ عَقْدٌ يفتقرُ إلى معقودٍ بِه ومعقودٍ في نفسه، فإذا كذَب لم يكن هناك معقودٌ، فلا يكونُ هنالك عَقْدٌ. فإن قيل: قد قصدها بقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية (¬6)، وهذا قد كَسَبها. ¬
قلنا: قد كَسَب الكذِبَ لم يكتَسِبِ العَقْدَ، فإنّه إذا أخبر أنّه فعلَ أمْسِ ولم يفعلْ، فهذا خبرٌ لامُخْبَرَله، فإذا حَلَفَ عليه فقد عقَد ما لا ينعقدُ. فإن قيل: عَقدَ إظهارَ الصِّدقِ. قلنا: قد بيَّنَّا أنّه لا مُعَوّلَ على اللّفظِ، وإنّما المُعَوَّلُ على ما يربطه القلب، وقد بيّنّا ذلك في "مسائل الخلاف". المسألةُ الثالثةُ (¬1): قال القاضي - رضي الله عنه -: ولَمَّا عَلِمَ تعالى أنَّ اليمين تَرتبِطُ، وأنّ الخَلْقَ يتهافَتُون إليها سِرَاعًا، فجعلَ منها مَخرَجًا بالاسْتِثنَاءِ، وهو على وجهينِ: إمّا بحروفه، وإمّا بقوله: إن شاء اللهُ. فإن كان بحروفه جَرَى على مقتضى اللُّغة. وإن كان بمشيئة اللهِ، انحلَّتِ اليمينُ عند كافَّةِ الفقهاءِ في كيفما ذكَرها. وقال مالكٌ: إنّما لا تنحلُّ إِلَّا إذا قَصَدَ بذلك الحَلَّ؛ لأنّ مشيئةَ اللهِ متعلَّقَةٌ بكلِّ موجودٍ ذكرَها الحَالِفُ أو ترَكَها، فلابُدَّ من قَصْدِه إلى الاستثناءِ* بها. ومتى يقعُ الاستثناءُ؟ قال سائرُ العلّماءِ عن بَكرَةِ أبيهم: يكون الاستثناءُ* بعد اليمين نَسَقًا، لا يكون بينهما من الفصل ما يَقطَعُ الاتِّصالَ. وذهب محمّدُ بنُ الموّاز إلى أنّ الاستثناءَ إنّما يكونُ قبلَ أنّ تتمَّ اليمينُ، فإن تمّتْ ثُمَّ عقَّبها بالاسْتِثنَاء لم تنحلَّ، وهذا حَرَجٌ عظيمٌ، فأرْخصَ اللهُ تعالى فيها، أعني في حلَّها بالاستثناءِ بعد عَقْدِها بالقلبِ رِقْقًا منه بالخَلْقِ. وُيعْزَى إلى ابنِ عبّاسٍ أنّه يُجَوَّزُ الاستثناءَ غير متَّصلٍ (¬2)، وقد بيَّنْاهُ في "كتب الأصول" (¬3). ¬
باب مالا تجب فيه الكفارة من الأيمان
قال أبو الفضلِ المَرَاغيُّ في حكايةٍ (¬1) طويلةِ، قال: عوَّلتُ على الخروج من بغدادَ بعدَ أَخذِي جملةً من العِلْم، فارتحلتُ ووقفتُ عند باب الحَلْبَةِ عند فَامِيٍّ أَبتاعُ منه زَادي، فجعل يقولُ لجَلِيسِهِ: أبا فلان، أَما سَمِعتَ العالِم الفلانيَّ يقولُ عنِ ابنِ عبّاسٍ أنّه يُجَوَّزُ الاستثناءَ غير متّصلٍ ولو بعدَ سنَةٍ؟ لقد فكَّرتُ في ذلك مذ سمعتُه إلى الآن، وشَغَلْت به بالي، ولو كان هذا صحيحًا ما قال اللهُ تعالى لأَيّوب عليه السّلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} الآية (¬2)، فكان يقول له: قل إنَّ شاء الله، وبَرَزتَ، في يمينك. فعجِبْتُ من تَهَدِّيه، ثمَّ قلتُ في نفسي: بَلَدٌ هذه عامَّتُه، لا ينبغي لأحدٍ أنّ يخرُجَ منه، فتركتُ الكِرَاءَ من الجَمَّالِ، وأخذتُ رَحْلِي وانصرَفتُ. باب مالًا تجبُ فيه الكفّارة من الأَيْمَان الأصول (¬3): شرَعَ اللهُ الكفّارةَ لمَن أغفلَ الاسْتثناءَ مَخرَجًا عن اليمينِ، وحَلًّا لِمَا عُقدَ به اليمينُ من معقودٍ مُعَظَّمٍ، إمّا أنّ يكون معَظَّمًا من جهةِ قَدْرِهِ الكريم، كالله وصفاته العليّة، وإمّا أنّ يكون مُعَظَّمًا من جهةِ مشقَّةِ الحَلْفِ على الحَالِفِ، مثلَ أنّ يقول: أنتِ طالقٌ إنَّ ¬
دخلتِ الدَّار إنَّ شاءَ اللهُ، أو سكت عن المشيئَةِ، وقد قدَّرها الله تعالى ورتّبها، ولم يُبَيِّنُ في القرآن ميقاتَها. واختلفَ العلّماءُ فيها: فمنهم من قال: لا تجوزُ الكفَّارةُ إِلَّا بعدَ الحِنْثِ (¬1). ومنهم من قال: تجوزُ قبلَ الحَنْثِ، وإلى ذلك مالَ علماؤُنا. والأصلُ في اختلافهم: الحديثُ الصّحيحُ، قولُه: "من حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيرَهَا خيرًا مِنْها -وَرُوِيَ: فَلْيأتِ الًذِي هُوَ خَيْرٌ- وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" (¬2) بتَقديمِ الحِنْثِ على الكفّارةِ، ورُويَ: "فَلْيُكفِّرْ عن يمِينِهِ، وَلْيَأتِ الذِي هُوَ خَيرٌ" (¬3) بتقديم الكفّارة على الحنثِ. واضطرت النَّاسُ في ذلك: فمنهم من قال: الواوُ لا تُعطِي رتبةً، وإنمّا المُعَوَّلُ على المعنى، وذلك أنّ الكفارةَ متعلِّقة بسببين: اليمينِ والحِنْثِ، فلا يجوزُ تقديمُها على أحدهما، كما لم يَجُزْ تقديمُ الزّكاة على الحَوْلِ والنِّصَابِ. ومنهم من قال: إنّما سببُ الكفارةِ اليمينُ وحدَها، والكفّارةُ بَدَلٌ عن البِرِّ فَيُخرِجُها قبل الحَنْث. وقد استوفينا الطَّريق في ذلك في "مسائل الخلاف"، وأمّا أنت في هذا "المسلك" فاقتد بفعل النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، أو قدَّمَ أو أَخِّر، فإنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قدَّمَ وَأَخَّر، قد عَلِمَ حالةَ الوَاوٍ في الرُّتبة وغيرها، وهو القُدْوةُ وهو الأُسْوَةُ. ¬
الفقه في عشر مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬1): قولُه: "مَنْ قالَ: وَاللهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ شَاءَ اللهُ" يقتضي أنَّ اليمينَ يتعلّق بالقول، وهل يَنْعقِدُ الاستثناءُ بالنِّيَّةِ دون القَول؟ قال عبدُ الوهّاب (¬2): "إنَّ متأخِّرج أصحابنا اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: يَصِحُّ. ومنهم من قال: لا يصحُّ، بناءً على صحّة الطّلاق بالقلب. فان قلنا لا يصحُّ، فلا فرقَ. وإن قلنا: يصحُّ، فالفرقُ بينه وبين الاستثناء، أنّ اليمينَ إلزامٌ وإيجابٌ، والاسْتِثْنَاءَ رَفْعٌ وحلٌّ للوجوبِ، وما طريقُه الإلزام أبْلَغ ممّا طريقُه الإباحةُ والتّحليلُ، فجاز أنّ ينعقدَ اليمين بالقلب، وإن لم ينعقد الاستثناء إِلَّا باللّفظِ". المسألةُ الثّانيةُ (¬3): إذا ثبتَ ذلك، فإنَّ لفظَ اليمينِ: واللهِ، وبِاللهِ، وتَالله، وعِزَّة الله، أو أمانته، أو عليه عهد الله وذمّته وميثاقه وكفالته، وكلُّ هذه حُكمُها حكمُ الأَيمان، هذا هو المشهورُ في المذهب. وقد رُوِيَ عن أشهب أنّه قال: مَنْ حَلَفَ بأمانَةِ اللهِ الّتي* هي صفة من صفاته فهي يمينٌ، فإن حَلَفَ بأمانة الله الّتي* بينَ العبادِ فلا شيءَ عليه، وكذلك قال في عِزَّةِ الله الّتي هي صفة ذاته، وأمّا العزّة الّتي خلَقَها في خَلْقِه فلا شيءَ عليه، وكذلك قال ابن (¬4) سحنون في قول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬5) إنّها العِزَّة ¬
الّتي هي غير صفته الّتي خَلَقَها في خَلْقِهِ. ورَوَى ابنُ حبيب (¬1) عن مُطَرِّف وابنِ الماجشون فيمَن حَلَفَ بالعِزَّةِ والعَظَمَة والجلال: إنّما هو حالِفٌ باللهِ؛ لأنّ ذلك لله تعالى. المسألةُ الثّالثة (¬2): ومن حَلَفَ بصفاتِ اللهِ فحَنِثَ، فعليه كفارة يمين، وكذلك من حَلَفَ بالقرآنِ أو بالمُصْحَفِ. ورَوَى ابنُ زيادٍ عن مالك في "العُتْبِيَّة" (¬3) فيمن حَلَفَ بالمُصْحَفِ أنّه لا كفَّارةَ عليه. قال ابنُ أبي زَيدٍ (¬4): "هي روايةٌ مُنْكَرَةٌ، والمعروفُ عن مالك غير هذا" وإن صحَّتْ فإنّها محمولةٌ على أنّه أرادَ الحالِفَ بذلك جِسْم المصحف دون المكتوب فيه (¬5). وقال ابنُ حبيب عن مالك: ومن حَلَفَ بالمصحفِ، أو بالقُرآن، أو بسورةٍ منه، أو بآيةٍ، أو بالكتابِ (¬6)، وإن لم يضف شيئًا من ذلك إلى اللهِ، فكفَّارتُه كفارة يمين. ووجهُ ذلك. أنّ القرآن كلامُ اللهِ، وصِفَةٌ من صفاتِ ذاتِهِ، فمتى علَّقَتِ اليمين عليها فهي لازمةٌ كالحالف بالله تعالى. المسألةُ الرّابعةُ (¬7): فيمن حَلَفَ بالتَّوراةِ والإِنجيلِ: فقد قال سحنون في "العُتْبِيَّة" (¬8): عليه كفّارةٌ واحدةٌ إنَّ حَنِثَ، ومعنى ذلك أنّها كتُبٌ منزلةٌ مِنْ عندِ الله، فلذلك تعلَّقَ بها حكم اليمين بالله. ¬
المسألةُ الخامسةُ (¬1): فيمن حَلَفَ وقالَ: أُقسِمُ باللهِ، أو أَحْلِفُ باللهِ، أو أُشهِدُ الله، فلا خلافَ أنّها أيمَانٌ. فإن قال: أُقسِمُ لأفعلَنَّ، ولم يقل بالله، فإن أرادَ بذلك: أُقسِمُ باللهِ، فهي يمينٌ (¬2)، خلافًا لبعض الشّافعيّة (¬3). المسألةُ السّادسةُ (¬4): ومن قال: عَلَيً أربعة أَيْمَانٍ، ففي "العُتْبِيَّة" (¬5): عليه أربع كفَّارات، قال ابنُ أبي زَيْد (¬6): وأعرفُ أنّ ابنَ الموّاز قال: عليه كفّارةٌ واحدةٌ، إِلَّا أنّ تكون له نيّة. ووجهُ القولِ الأوَّلِ: أنّ هذا التزام، وذلك يوجِبُ عليه أربع كفّاراتٍ، كما لو قال: عَلَيَّ أربع نذور. ووجهُ القولِ الثّاني: أنّ الأَيمَانَ طريقُها الحَلْف، وتكرَارُها يقتضي التَّأكيد حتّى ينوي به غير ذلك، على ما تقدّم. المسألةُ السّابعةُ (¬7): فيمن قال في يمينه: باللهِ الّذي لا إله إِلَّا هو، الرّحمن الرّحيم، العزيز الحكيم، ثمّ حَنِثَ، لم تجب عليه الَّا كفَّارةٌ واحدةٌ. ولو قال: علىَّ عهدُ اللهِ وأشدّ ما اتّخذه رجلٌ على رَجُلٍ، لَزِمَه في العهد كفّارة. ¬
واختلف أصحابُنا في قوله: وأشدّ ما اتخذه رجلٌ على رجلٍ، ففي "العُتْبِيَّة" (¬1): مِنْ روايةِ ابنِ وَهْبٍ: فيه كفّارة يمين. وعني ابن القاسِم؛ أنّه إنَّ لم تكن له نيّة يلزمه الطّلاق لنسائه، والعِتْقَ لرقيقه، والصّدقة بِثُلُثِ مالِه، ويمشي إلى مكّة، رواه ابنُ الموَّاز (¬2). قال عيسى: وإن حاشا الطّلاق والعِتْق من ذلك، فعليه ثلاث كفّاراتٍ، يريد الصَّدقة والمشي وكفّارة الأيمان (¬3). المسألة الثّامنة (¬4): فيمن قال: الحلالُ عَلَيَّ حرامٌ، فلا يخلو أنّ يَحْلِفَ بذلك ابتداءً، أو يَحْلِفَ لمن يستحلفه، فإن حَلَفَ بذلك ابتداءً، فإنّ الطّلاق يَلْزَمُه، إن لم تكن له نيّة، أو كانت له نيّة العموم في قول ابن القاسم وأشهب. وإن نَوَى محاشاة الطّلاق والعتْق، فلا يخلو أنّ تكون عليه بَيَّنَةٌ أم لا، فإن كانت عليه بذلك بيَّنةٌ، فقد قال الأَبْهَرِيُّ: يحلِفُ على ذلك. وقيل: لا يمينَ عليه. وقال ابنُ القاسم: له نِيَّتُه. وقال أشهبُ: ولو قال: الحلال كلُّه عَلَىَّ حرامٌ، لم يمنعه محاشاة امرأته بنيَّتِهِ حتىّ يستثنيها بالكلام، ولا فرقَ بينهما إِلَّا بتأكيد العموم؛ لأنّ من يقول إنَّ قوله: "الحلالُ عَلَىَّ حرامٌ" للعموم، يقول: إنَّ لفظة "كلّ" للعمومِ، ومن يقول: ليست ¬
للعموم، ولا للعموم لفظٌ معلوم؛ فإنّه ينفي أنّ يكون لفظ "كلّ" يقتضي العموم، فإمّا أنّ يكونَ أشهب ينفي العموم في "الألِفِ واللّام (¬1) " ويثبتها في "كلِّ"، وإمّا أنّ يثبته (¬2) فيهما، ويجعل للتّأكيد مزيّة تمنع الاستثناء بالنِّيَّة دون اللَّفظِ (¬3). المسألةُ التّاسعةُ (¬4): فإذا حلَفَ بالأَيمْانِ اللّازمة: قال علماؤُنا (¬5): يلزمه الطّلاق في جميع نسائه؛ لأنّ يمينَهُ متعلِّقَةٌ بجميعِهِنَّ، وإن لم تكن عنده امرأةٌ لم يلزمه شيءٌ فيمن يتزوّج في المستقبل. وأمّا الصِّيامُ، فالّذي يلزمه على قَوْلِنَا صيام شهرين متتابعين، وهو أعمّ ما ورد به الشّرع. وأمّا العِتْقُ، فإنْ كان عنده رقيقٌ، عتقَ عليه جميعهم كالطّلاق، وإنْ لم يكن عندَه رقيقٌ، فعليه -عتق رقبةٍ، ولا يلزمه أكثر من ذلك. وأمّا الصّدقة، فقد نصَّ أصحابُنا على أنّ الّذي يجب في أشدَّ ما اتّخذَه رَجُلٌ على رَجُل، أنّ يتصدّق بثُلُثِ مالِهِ، وهذا مبنىٌّ على التَّعلُّقِ بالعُرْفِ. فرع (¬6): فإن حَلَفَ لامرأَتَيهِ: إن دخلتُما الدّار فأنتُمَا طالقتانِ، فدخلت واحدةٌ منهما الدّارَ، فقال ابنُ القاسم (¬7): يَحْنَثُ فيهما ويُطلَّقان، وهو قول مالكٍ. وقال مالك أيضًا: تطفق الدّاخلة وحدها، وقالَهُ أشهب. ¬
وفي (المُدَوَّنة) (¬1): لا شيءَ عليه حتىّ يَدْخُلَا معًا. المسألةُ العاشرةُ (¬2): قوله (¬3): "في نَذرِ االمَرْأَةِ إنَّهُ جَائِزٌ بِغَيرِ إِذْنِ زَوْجِهَا" وهو على ضربين: 1 - ضربٌ متعلِّقٌ بالمال. 2 - وضربٌ متعلِّقٌ بالبَدَنِ. فأمّا ما تعلَّقَ بالمال، فلا يخلو أنّ تقتصر به على الثُّلُث فما دونه، أو تزيد على ذلك، فإن اقتصرت على الثُّلُث فما دونه، فلا اعتراض فيه. للزّوج. فرع (¬4): فإن زادت في ذلك على الثْلُث، كان للزّوج الرّدّ، خلافُ الأبي حنيفة والشّافعي؟ لأنّهّا إذا زادت على الثُّلُث فهي متعدِّيةٌ في ذلك على الزَّوْجِ، فوجب أنّ يردَّ تَعَدِّيها. فرع آخر (¬5): فإذا ثبتَ ذلك، فهل له ردّ ذلك كلّه، أو ردّ ما زاد على الثُّلُث منه؟ المشهورُ من مذهبِ مالك -وهو قولُ ابنِ القاسم- أنّ له ردّ جميعه. وقال ابنُ الماجشون: إنّما يردّ ما زاد على الثُّلُث، إِلَّا في العِتْقِ فإنّه يردّ جميعه، لِمَا فيه من عِتقِ البعض من غير تقويمٍ. تنقيح (¬6): فهذا قلنا: إنَّ للزّوج الردّ أو الإجازة، فهل ذلك موقوف على الردّ حتىّ يجيز، أو على الإجازة حتّى يردّ؟ فقال أَصْبَغ: هو على الإجازة (¬7). وقال مُطَرِّف وابن الماجشون: هو على الرَّدِّ (¬8). ¬
باب العمل في كفارة الأيمان
باب العمل في كفارة الأَيْمَان قال القاضي - رضي الله عنه -: وهذا باب متنوِّعٌ، وأحسنُ ما يوجدُ في ذلك، ما رفع الكفّارة وهو العِتْق، والكفَّارةُ عندنا على التّخيير، وإنّما (¬1) ذلك من ابنِ عمر على وجهِ الاستحبابِ، وأمّا كفارةُ اليمين، فإنّها على التَّخيِيرِ بين الرَّقبة والإطعام والكسوة، فمن لم يجد شيئًا من ذلك، فصيام ثلاثة أيّام، فَشَرَطَ الصَّومَ عند عدمِ الغير. وفي هذا الباب إحْدَى عَشرة مسألة: المسألة الأولى: في صفة الرّقبة (¬2) وهي أنّ تكون مُسْلِمَة، كاملة الرِّقِّ، سالمة الخِلْقَة. أمّا سلامة الخِلْقَة، فإنّ النّقص على ضربين: 1 - نقصٌ من ظاهرِ جسمه. 2 - ونقصٌ من منافعه. قال علماؤُنا العراقيون: إنّه إذا كان على صفةٍ يمكنه معها التَّصرُّف والتَّكسُّب غالبًا، فإنّه يجزىء، مثل أنّ يكون مقطوع الأُنْمُلَة. قال ابنُ حبيب (¬3): يجوز الجَدْعُ الخفيفُ، أو الصَّمَمُ الخفيف، أو العَرَجُ الخفيف، وذهاب الضَّرْسِ. المسألةُ الثّانيةُ (¬4): وأمّا أقْطَعُ اليدِ، والرَّجْلِ، والأَشَلِّ، والأعمَى، أو المُقْعَدِ، أو الأخرس، فلا ¬
خلافَ في المذهب أنّه لا يُجْزِىء شيءٌ من ذلك (¬1). فإن كان أراد بِالخَرسِ الْبَكم، فمذهبُ ابن القاسم أنّه لا يُجزِئ، هان كان أراد تَغَيُّر الحروف إلى المعجمة، فإن كان ذلك شديدًا يَعْسُرُ فهمُه غالبًا، فإنّه مؤثِّرٌ في تصرُّفِه، فلذلك منع الإجزاء. المسألةُ الثّالثةُ (¬2): قال علماؤنا: ولا يجزئ من الأمراض من به جنون، أو جُذَامٌ، أو فَالِجٌ. قال ابنُ حبيبٍ: أو سُلٌّ، أو رَمَدٌ، أو بَرَصٌ فاحشٌ. قال ابنُ القاسم في "المبسوط": لا يجزئ البرص (¬3). وقال ابنُ الماجشون في "الواضحة": إِلَّا البَرَصُ الخفيف. وقال أشهب: أو المريض الّذي ينازع، أو المقطوع الإبهامين، قال عبد الوهّاب (¬4): منَ اليدين والرّجلين. وأمّا المريض الّذي به الحُمَّى أو الرَّمَد، فإنّه يُجزىء؛ لأنّ هذه المعاني وإن كانت الآن تمنع التصرّفَ فإنّه يرجى زوالها. وقال ابن الماجشون في "الواضحة": يجوزُ عِتقُ المريضِ الّذي لا يُنازع (¬5). واختلفَ قولُ مالكٍ في الأعرج، فقال مرَّةً: يجزيءُ، ثمّ رجعَ إلى أنَّه إنَّ كان عَرجًا خفيفًا أجزأَهُ. ¬
وقال أبو حنيفة: يُجزِئُ أقطع اليد والرَّجل (¬1). ودليلُنا: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬2) وإطلاقُ الاسمِ يقتضي السّلامة. ومن جهة القياس: أنّ هذا نقصٌ يمنعُ التَّصرُّفَ التَّامَّ، فوجبَ أنّ يمنع الإجزاءَ، كما لو كان مقطوع الرَّجلين. المسألة الرّابعة (¬3): اختلفَ علماؤنا في الخَصِيِّ: فقال ابنُ القاسم: لا يُجْزِىء (¬4). وقال أشهب: يجزئ (¬5). فرع (¬6): ومن ابتاعَ أَمَةً فأَعتقها عن واجبٍ، ثمّ ظهرَ بها عيبٌ أو حَمْلٌ، فلا تجزئ، قاله في "العتبيّة" (¬7) وله أنّ يرجع بقيمة العَيب؛ لأنّ الحملَ أيضًا مرضٌ (¬8). وقال ابن الماجشون ومُطَرِّف: ولا يُجزِىء عِتقُ العبدِ الآبِقِ إِلَّا أنّ يُوجَدَ بعد العِتْقِ سليمًا، ويعلم أنّه كان يومَ أَعتقه صحيحًا، فأمّا إنَّ كان يوم العِتْق عليلًا، ثمَّ صَح، ثمَّ اعتلَّ، لم يُجزىء حتّى يكون صحيحًا في الحالتين. ¬
قال أَصْبَغُ: ورُوِي أكثره عن ابنِ القاسم. ومعنى ذلك: أنّ يكونَ المرضُ ممّا يمنعُ الإِجزاءَ وأمّا إذا كان مرضًا لا يمنعُ الإِجزاءَ، فلا بأسَ به، وفي هذه إشارةٌ إلى أنّه لا يُجْزِىء عتق المريض. المسألةُ الخامسةُ (¬1): اختلف علماؤُنا في أقطعِ الإبهام: فقال ابنُ القاسم في "المُدَوَّنة" (¬2): لا يجزئ، وكذلك قال في المقطوع الأُصْبُع والأُصْبُعين (¬3). وقال غيرُه: يُجزىء واختلفَ قولُه (¬4) في ذلك في "المبسوط" فقال مرَّةً: يُجْزِئ، ومرَّةً: لا يُجْزِىء. المسألةُ السَّادسةُ (¬5): واختُلِفَ في الأعورِ: فقال مالك (¬6) والمصريون: يجزئ. وقال عبد المَلِك: لا يجزئ، وهذا قول مالك في "المبسوط". المسألة السَابعة (¬7): واختُلِفَ في الأَصَمِّ: فقال مالك: لا يُجزِىء (¬8). وقال أشهب: يُجْزِىء (¬9). ¬
المسألةُ الثّامنةُ (¬1): وأمّا المقطوع الأُذُنين: فقال ابنُ القاسم في "المُدَوَّنة" (¬2): لا يُجْزِىء، وقال (¬3) عبدُ الوهّاب (¬4) خلافًا لأصحاب الشّافعي (¬5). والدّليل على ذلك: أنّ فيهما منفعةً، مع ما في ذهابهِمَا من التَّشويهِ بالخِلْقَةِ. وفي "المبسوط" عن ابن القاسم: أنّ الجَدْعَ في الأُذُن يُجزِىء (¬6). المسألةُ التّاسعةُ (¬7): والبَكَمُ يمنعُ الإِجزاءَ قال ابنُ القاسم في "المبسوط": لا يُجْزِيء الأَخرَسُ في شيءٍ من الكفَّاراتِ، وذلك خلافٌ للشافعيّ (¬8). قال عبدُ الوهّابِ (¬9): "وإن كان معه صَمَمٌ فهو أَبْيَن؛ لأنّ فَقْدَ الكلامِ يجرِي مجرى مَنْ فَقَدَ البَصَر واليد والرِّجْل؛ لأنّه يضرّ بعَمَلِه وينقص تصرُّفَه". المسألةُ العاشرةُ (¬10): قوله (¬11): "بِالْمُدِّ الأَصْغَرِ": اختلفَ علماؤُنا في مقداره بمُدِّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: فقيل: إنَّه مُدَّانِ، وهذا بالمدينة لضيق القُوت بِها. ¬
واختار أشهب بمصر مدًّا وثُلُثًا. واختارَ ابنُ وهبٍ مدًّا ونصفًا. وقال ابن الموّاز: ولو أخرج بها مُدًّا لأَجْزَأَه. * وقال أبو حنيفة: لا يجزئه أنّ يطعمهم أقلّ من نصف صاعٍ لكلِّ مسكين من الحنطة والشّعير، والتمر صاع (¬1)، وإن غدّاهم وعشّاهم أجزأه (¬2) *. ودليلنا: قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} (¬3)، ومحالٌ أنّ يكون بالمدينة مُدَّانِ وَسَط شِبَعِ الأهل، لا سيَّمَا على قوله (¬4): إنَّ المُدَّ رِطْلانِ. ومن جهة المعنى: أنّ هذا أكثر من وسط طعام العِيَال، فلم يلزم في الكفَّارةِ، أصلُ ذلك ما زادَ على المُدَّيْن. والَّذي يخرجُ في ذلك من الطَّعامِ: ما يُقْتَاتُ من القمحِ والشَّعيرِ والسُّلْتِ والأُرْزِ والدُّخنِ والذُّرَةِ. فأمّا القمحُ، فإن كان ذلك فإنّه أفضل. فإن كان قوته الشعير أجزأه، من كلِّ ما يأكل يطعم (¬5). وقد قال ابن الموّاز: يطعم من الشّعير في الكفّارة قَدْرَ مبلغ شبع القمح. وقال ابنُ حبيب عن أَصْبَغ: ولا يخرجُ السَّويق في الكفّارة. ووجه ذلك: أنَّه قد عدلَ به عمّا يُتقوَّت غالبًا. ¬
المسألةُ الحادية عشرة (¬1): قال ابنُ القاسم (¬2): إن كَسَا صِغار الإناث، فليعطهنّ دِرْعًا وخِمَارًا، والكفّارةُ واحدةٌ لا ينقص منها لصغير ولا يُزاد لكبير. ورَوَى ابنُ الموّاز عن أشهب: أنّه تُعْطَى الصَّبيَّةُ الّتي لم تبلُغ الصَّلاة الدِّرْعَ دونَ الخِمَار، فإذا بلغتِ الصَّلاة أُعْطِيت الدِّرْعَ والخِمَار. وقال ابنُ حبيب: يُعطى صغارُ الإِناث ما يُعطى الرِّجال قميصًا كبيرًا. فرع (¬3): وإن كَسَا صبيًّا صغيرًا، فقد قال ابنُ حبيبٍ: يُعطيه مثل كُسْوَة الكبير، وقاله ابن الموّاز، ورَوَى عن ابن القاسم أنّه لم يعجبه كُسْوَة الأصاغر. المسألةُ الثّانية عشرة (¬4): وإذا كَفَّرَ بالكُسْوَة أو الإطعام، فالمختارُ أنّ تكون الكفّارة كلّها كُسوَةً أو إطعامًا، فإن كَسَا خمسة وأطعم خمسة، فاختلفَ قولُ ابنِ القاسم فيه، فقال: يُجزِئُه -وأظنُّه قول مالك- وقال (¬5): لا يُجْزِئُه. قال أشهب: وُيضيفُ إلى ما شاءَ منها تمام العشرة. فرع (¬6): فإن أطعمَ عشرة مساكين مُدًّا مُدًّا عن كفّارةٍ، ثُمَّ أعادَ عليهم عن كفَّارةٍ أُخرى، فقد كَرِهَ مالكٌ (¬7) ذلك وقال: لا يفعل إِلَّا بعد أيّامٍ. ¬
باب جامع الإيمان
باب جامع الإيمان قال القاضي: هذا بابٌ عظيمٌ، رَبَطَهُ مالك بما لم يتقدَّم لأَحدٍ فيه مثل نظره، وكلُّ ما ذَكَرَهُ فيه حَسَنٌ صَحِيحٌ. الأصول (¬1): قال علماؤنا: اليمينُ تنعقد بالله وصفاتِه العُلَى وأسمائه الحُسْنَى، كيفما تردَّدَتِ العبارةُ عنها، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِف بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُت" (¬2) تأديبًا لعمرّ بن الخطّاب حين سَمِعَهُ يحلِف بأَبِيهِ، وقد حَلَفَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بها فقال: "أَفْلَحَ وَأَبيهِ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ" (¬3)، وقد بيَّنَّاهُ في حديثِ الأعرابي في أَوَّل "الكتابِ" فليُنْظَر هنالك. الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬4): اختلفَ العلّماءُ فيمن قال في يَمِينِهِ: هو يهوديُّ إِن فعلَ كذا وكذا (¬5). فقال أبو حنيفة: هي يمينٌ تَلْزَمُ فيها الكفّارةُ (¬6)، وهي مسألةٌ عسيرةٌ جدًّا؛ لأنّهم ¬
عوّلوا على أنّ قولَ الرَّجُل: والله لا دخلتُ الدَّارَ، كأنّه يُخْبرُ بامتناعه عن دخولها، ويؤكِّدُ خبرَهُ بتعظيم الله، فإذا خالفَ فكأنّه ترك ذلك التَّعظيم. فإذا قال: تركتُ حرمةَ الله إنَّ دخلتُ الدّارَ، كان مثلَ ذلك. قلنا: تخيّلتم تخيُّلًا فاسدًا في وجه تعلُّقِ الكفّارةِ باليمين باللهِ، وإنّما هي شرعٌ محضٌ، أو معنى غير ما ذكرتم، وتحقيقُه في "مسائل الخلاف". المسألةُ الثّانيةُ (¬1): فإن حلَفَ باللاّت والعُزَّى والطّواغيت، فقد أثِمَ، ولا كفَّارة عليه وإن حَنِثَ. وقال أبو حنيفة والثّوريّ: عليه كفّارة يمين. ودليلُنا: ما رُوي عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ في يَمِينِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُل: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ" (¬2). المسألةُ الثالثةُ (¬3): قولُه (¬4): "يُجزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ" اختلفَ العلّماءُ فيمن حلَفَ بصَدَقةِ مالِه فحَنِثَ: فقال مالك (¬5): يُجْزِئه من ذلك الثُّلُث. وقال أبو حنيفة: يُجزِئهِ أنّ يُخرجَ جميعه من العين والحرث والماشية دونَ سائرِ أمواله (¬6). وقال النَّخعيُّ: يخرج جميع ماله (¬7). والأفضل له استبقاء أكثره، لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬8)، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ ¬
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬1). وهذا فيما يفعلُه الإنسانُ ابتداءً، فأمّا ما قد التزمه فإنّه يلزمه، كالطّلاق، وهو ممنوع من إيقاع الثّلاث، وإنّما أُبِيحت له واحدة، فإن أوقع الثلاث لزمته. ووجهُ ما ذهب إليه مالك: حديثُ أبي لبابة: "يُجْزِئُكَ من ذَلِكَ الثُّلُثُ". ومن جهة المعنى: أنّ استيعاب المالِ بالصَّدقةِ ممنوعٌ، فوجب أنّ يؤثّر هذا المنع في العدول عنه والاّ يبطل بالجملة؛ لأنّ النَّقص لا يتناول البعض، فوجب ردّه إلى الثُّلُث كالوصيّة. المسألةُ الرّابعةُ (¬2): قال علماؤنا (¬3): وهذا إذا علَّقَ الصَّدقةَ على جميعِ مالِهِ، فإن علَّقَها على جزءٍ، فإنّ عليه غُرم ذلك الجزء، وإن كان تسعةَ أعشارِ ذلك المالِ. وفي "النّوادر" (¬4) رَوَى ابنُ وَهْبٍ عن مالك: يقتصر من ذلك علَى الثُّلُث. فرعٌ (¬5): ومن تصدَّقَ بشيءٍ مُعَيَّنٍ وهو جميعُ مالِهِ، فالمشهورُ في المذهب أنّه يلزَمُه (¬6). ¬
وفي "النّوادر (¬1) " عن ابنِ نَافِع: يُجزئُه الثُّلُث. المسألةُ الخامسةُ (¬2): ومن حلَفَ بصَدَقَةِ مئة دينار، لَزِمَهُ إخراجها، وإن لم يَفِ بها مَالُهُ، بَقِيَ بَاقِي ذلك في ذِمَّتِه دَيْنًا عليه (¬3)، رواه ابنُ حبيب عن مالك وأصحابه. ومن حَلَفَ بصَدَقَةِ مالِهِ ومَالُهُ على مقدارها، ثم حَنِثَ وقد زاد مالُه أو نقص، فإنّما يلزمه الثُّلُث ممّا كان بيَدِهِ يوم اليمين، قاله مالك، سواء زادَ مالُه بتجارةٍ أو فائدة (¬4). وروَى ابنُ حبيبِ: إلاَّ أن يزيدَ بولادة فيخرج الثُّلُث (¬5). وإن نقصَ مالُه بعد اليمين، لم يلزمه إلاَّ الثُّلُث مِمَّا بقيَ في يده يوم الحِنْث. وأمّا إذا أنفقه بعد الحنث، فقد قال أشهب:* لا شيء عليه ولا يُتبَع به دَيْنًا. وقال ابن القاسم: يضمن، كزكاة فرَّطَ فيها حتّى ذهب المال، رواه ابن الموّاز عنه. ووجه قول أشهب*: أنه غير مطالب بها، وإن أَنفقها لضرورة وحاجة إليها لم يأْثَم بذلك، كلما لم يأثم الّذي وقَعَ على أهله في رمضان، ثمّ علِمَ مقدار ما صَنَعَ، إذ قد عَلِمَ النّبي - صلى الله عليه وسلم - حاجتَهُ إليها فأمَرَهُ أن يُطعمها أهلَهُ، ونحنُ نتأوَّلُ ذلك أنَّ الكفَّارةَ باقيةٌ في ذِمَّتِه. ¬
ووجهُ قول ابن القاسم: أنّه حقٌّ للهِ يجب عليه إخراجُه، فإن أنفقَهُ وجب عليه ضَمَانه، أصل ذلك الزَّكاة. المسألةُ السّادسةُ (¬1): قال علماؤنا (¬2): هذا إذا حَلَفَ بصدقةِ ما تقدَّمَ ملكه عليه، وأمّا إذا حَلَفَ بصدَقَةِ جميع ما يملِكُهُ في المستقْبَلِ، فقد قال مالك: لا يلَزمُهُ شيءٌ، وإنْ حلَفَ بصدَقَةِ ما يستفيدُهُ في مصر أو غيرها، لَزِمَهُ ذلك، بمنزلة الطّلاق. ومَن حَلَفَ بصدَقَةِ مالِهِ وله عينٌ ورقيقٌ وحُبوبٌ، فليُخْرِج ثُلُثَ ذلك كلّه، إِلَّا أنّ ينويَ العَيْنَ خاصّة. قال أشهب: ويخرجُ ثُلُث خدمة المُدَبَّر والمُعْتَقْ إلى أجلٍ. وقال ابنُ القاسِم: لا شيءَ عليه في مدبّره ولا معتقه إلى أجلٍ، إِلَّا أنّ يؤاجِرَهُم فيخرج ثُلُث الأُجْرة. وأمّا كتابَةُ مُكَاتَبِهِ، فقال ابنُ القاسم: يُخرِج ثُلُثَ قيمةِ الكتابَةِ، وإن عَجَزَ المُكَاتَبُونَ، نُظِرَ إلى قِيمّةِ رِقابهم، فإن كانت أكثر من قيمة المكاتبة أخرِجَ الفضلُ. وقال أشهب: لا يُخرِجُ الفضلَ بل يُخرِجُ ثُلُث ما يتأدَّى منهم، وإنْ عَجَزَ المُكَاتَبُ أخرجَ ثُلُثَه، وما يَرْجِعُ من ذلك بعدَ موته لم يلزم ورثته من شيءٍ، رواه ابن الموّاز عنه. ¬
المسألةُ السابعةُ (¬1): وقوله (¬2): "مَالِي فِي رِتَاجِ الْكعْبَةِ": الرِّتَاجُ البابُ (¬3). والحَطِيمُ: ما بين الباب إلى المقام، رواه ابنُ القاسم. وقال ابنُ حبيب (¬4): الحَطيمُ ما بين الرُّكْن الأسود إلى الباب إلى المقام، وعليه يَحْطِمُ (¬5) النَّاس، ومن قال: مالي في رِتَاجِ الكعبة، فقد كانت عائشة - رضي الله عنها - تقولُ: فيه كفّارة يمين، فأخذ به مالك، ثمّ رجع إلى أنّ لا شَيءَ عليه (¬6)، وهو قول عمر. وقال ابنُ حبيب (¬7): فإن نوى أنّ يكون مالُه للكعبة، فليدفع ثُلُثَه إلى خَزَنتِهَا يُصْرَفُ في مصالِحِهَا، فإنِ اسْتُغنِيَ عنه بما أقام السّلطانُ من ذلك، تصدَّقَ به. وإن قال لم أنْوِ شيئًا من ذلك، فكفّارته كفّارة يمين، وسواء كان ذلك في نذرٍ أو يمينٍ. فأمّا إذا قال: أنا أضرِبُ بمالِي رِتَاجَ الكعبة أو الحَطِيمِ أو الرُّكنِ، فإنّ عليه الحجِّ والعُمْرَة، ولا شَيءَ عليه غير ذلك. ¬
المسألةُ الثامنةُ (¬1): * قولُه (¬2) في الّذي يقولُ: مَالِي في سَبِيلِ اللهِ فَيَحْنَثُ*، يَخعَلُ ثُلُثَ مَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ، فإن امتنعَ من إِخراجِ ذلك، ففي "الموّازيه": قال ابنُ القاسِم: يُجْبَر على إخراجِه ما لم يكن ذلك على وجهِ اليَمينِ، سواء جعلَ ذلك لِمُعَيّنين أو لغيرِ مُعَيّنين. وقال أشهب: إنّما يُجْبَرُ إذا جَعَلَ ذلك لرَجُلٍ معيَّنٍ. ووجهُ قول ابن القاسم: أنّه حقٌّ لله تَبَرَّعَ بالتزامه فأُجبِرَ على إخراجه. فرع (¬3): ومن قالَ لعَبْدِهِ: للهِ عَلَيَّ أنّ أجعلَهُ في سبيلِ اللهِ، فليجعله فيه؛ وذلك بأن يَبيعَهُ ويدفع ثَمَنَهُ إلى مَنْ يَغزُو به إنْ وجدَ، فإن لم يجد بعثَ بثمنه إلى الثًّغورِ (¬4). ووجهُ ذلك: أنّ العبدَ ليس ممَّا يُصرف في سبيل اللهِ فلذلك بِيعَ. المسألةُ التّاسعةُ (¬5): وإن كان ما نَذَرَ أو حَلَفَ به فَرَسًا أو سِلاحًا، أَنْفَذَهُ بِعَينِه إنَّ وَجدَ من يقبله، فإن تعذَّرَ ذلك عليه لِبُعْدِ المكانِ، بَاعَهُ وأَنفذَ ثمَنَهُ يُصْرَفُ في مثلِهِ (¬6). ومعنى ذلك: أنَّه لَمَّا كان يصلُحُ استعمالُه في الوجه الّذي نذَرَهُ فيه، تعلَّقَ النَّذْرُ بعينه إنَّ أمكن ذلك. تَمَّ الكتاب بحمد الله وعونه ¬
كتاب النكاح وشرح مقدماته وأبوابه
كتاب النكاح وشرح مقدّماته وأبوابه وفيه ثلاث مقدِّمات: الأولى: في اشتقاقه. الثّانيةُ: في أحكامه وواجبه ومندوبه. الثّالثةُ: في شروطه ومستحبَّاته. المقدِّمة الأولى (¬1) في اشتقاقه لغةً وشرعًا قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} الآية (¬2)، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} الآية (¬3)، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية (¬4)، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية (¬5). أمّا اللُّغة، فإنّ معناهُ: الجَمْعُ والضَّمُّ، وذلك يكون بالفِعل وهو الوَطءُ، وبالقول: وهو العَقْدُ. وقالت طائفةٌ: إنَّ الحقيقةَ هو الوطءُ، والعَقْدَ مجازٌ، وليس كذلك، بل كِلَاهُما حقيقةٌ؛ فإن القولَ يُجمَعُ حقيقةً، إِلَّا أنّ جَمْعَ الأبدانِ محسوسٌ، وجمعَ الأقوالِ معقولٌ، وكلاهُما في الشَّريعةِ معلومٌ، واللَّفظُ عليهما فيه محمولٌ، وفي الحديث الصّحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كَانَ النِّكَاحُ في الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: ¬
الأوّل: يَخْطُبُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ وَليَّتَهُ أَوِ ابْنَتهُ، وَيُصْدِقُهَا ثُمّ ينْكِحُهَا، ؤهُوّ نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ. والنِّكَاحُ الثَّاني: كَانَ الرجُلُ إِذَا طَهُرَتْ أَهْلُهُ يَقُولُ لَها: اسْتَبْضِعِي من فُلَانٍ، فيُرْسِلُهَا إِلى الرّجُلِ فَيَطَأُهَا، وَيعْتَزلُهَا زوْجُهَا، حَتّى إذا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا تخَلَّى عَنْهَا، وَأَصَابَهَا زَوْجُهَا إنَّ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رَغبَة في نَجَابَة الْوَلَدِ. والنِّكَاحُ الثالِثُ: كَان الرَّهْطُ -العَشَرَةُ فَمَا دُونَهُمْ- يَطَئُونَ الْمَرْأَةُ حَتَّى إِذَا حَملَتْ وَوَلَدَتْ، أَرْسَلَت إليهم، فلا يَسْتَطِيعُ أحدٌ أنّ يَتخَلَّف عَنْهَا، فَإذَا اجْتَمَعُوا عِنْدَهَا ألْحَقَتهُ بِأيِّهِم شَاءَتْ، فيَكُونُ وَلَدَهُ. النِّكَاحُ الرَّابعُ: نِكَاحُ الْبَغايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ رَايَاتٍ عَلّى أبْوابهِنَّ، فيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، فَمَنْ أرادَهُنَّ دَخَلَ إلَيْهِنَّ، حَتَّى إِذا حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ دُعِيَ لهُ القَافَةُ، فَمَنْ أَلْحَقُوهُ بِه كَانَ وَلَدَهُ. ثُمّ هَدَمَ الله ذلك كُلَّه إِلَّا نِكَاحَ الناسِ اليَوْمَ" رواهُ البُخاريُّ (¬1) وغيرُه (¬2). قال أبو داود فيه: "إِلَّا نِكَاح الإسْلَامِ" (¬3). وفيه فوائد: وهي ابتغاءُ النَّسْلِ لتحقيق الكلمة وبقاءِ العملِ، ووجودُ العِفَّةِ والعِصْمَةِ. وفيه من الآفات: العَجْزُ عن الحقوق المُرْتَبِطَةِ به، وتَعَذُّرُ طلبِ الحلال المحتاجِ إليه في إقامةِ القُوتِ. ¬
المقدمة الثانية في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو واجب أو مندوب إليه أو مباح
المقدِّمة الثّانية في بيان حكم النِّكاح في الشّرع هل هو واجبٌ أو مندوب إليه أو مباح اعلموا (¬1) - علّمكم اللهُ دينكم وثبَّتَ لكم يقينَكُم- أنّ النِّكاحَ رُكنٌ من أركانِ المصلحةِ في الخلقِ والصَّلاح، شَرَعَهُ الله طريقًا لنَماءِ الخَلْقِ، وجعلَهُ شِرْعَةً من دِينِهِ، ومنهاجًا من سبِيلِهِ، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأخشَاكُمْ للهِ وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنْ أصُومُ وأفْطِرُ وأُصَلَّي وأرْقُدُ، وأَتزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فلَيسَ مِنِّي، وإنَّ مِنْ سُنَّتِي النِّكَاح" (¬2). واختلف (¬3) علماؤُنا في حُكمهِ: فمنهم من قال: إنّه مباحٌ وهو الشّافعي (¬4)؛ لأنّه نَيْلُ لَذَّةٍ وقضاءُ شَهْوةٍ، فصارَ كسائرِ اللَّذَّاتِ المُقتضاةِ جبِلَّةً. ومنهم من قال: إنّه مندوبٌ إليه؛ لأنّه قُرْبَةٌ، قاله مالك (¬5)، وأبو حنيفة (¬6)، وهذا هو الصّحيح (¬7)؛ وقد (¬8) قال مالك (¬9): إنَّ النِّكاحَ مندوبٌ إليه، وقد يختلفُ حُكْمُه بحَسَب اختلافِ الأحوالِ، فيجب تارةً عنده في حقِّ مَنْ لا يُنكَفُ (¬10) عن الزّنا إِلَّا به. وقد وقع لبعض علمائنا إِيجابُه على صِفَةٍ، ويحملُه أنّه على مِثْلِ مَنْ هو على هذه الحالة. ¬
ويكونُ مندوبًا إليه في حقِّ من يكون مشتهيًا له، ولا يخشى على نفسه الوقوع في المحرّمِ، ولا ينقطعُ به عن أفعالِ الخيرِ والبِرِّ. وقد يكونُ مكروهًا لمن لا يشتهِيهِ، وينقطع به عن عبادة الله وقُرُباتِه. وقد يختلف على حسبِ هذه الأحوال، فيقالُ بالنَّدْب إليه بالظّواهرِ الواردةِ في الشَّرْع، بالتَّرغيب إليه وفيه، وقد يكون في حقّه مباحًا. وأمّا من قال: إنّه واجبٌ، وهم أهل الظّاهر (¬1)، فالدّليلُ على بُطلانِ قولِهِم قولُه (¬2) تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية (¬3)، ومِلكُ اليمينِ ليس بواجبٍ بإجماعٍ، ولا يصحُّ التَّخييرُ بين واجبٍ وما ليس بواجبٍ؛ لأنّ ذلك مخرِجٌ للواجب عن الوجوب، والّذي أوقعَهُم في ذلك الظّواهرُ الواردةُ، قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬4)، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} الآية (¬5). قالوا: فهذه أَوامرُ النِّكاحِ على الوُجوبِ. قلنا: بل هي على النَّدْبِ والإباحةِ، والدّليل على ذلك: حضُّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - على النّكاحِ وترغيبُهُ، ونهيُه عن التَّبَتُّلِ -وهو تركُ النِّكاحِ- فتوجّهت إليه من الله المِدْحَةُ. والدّليلُ على ما نَقُولُه أنّه على النّدب لا على الوُجوب: قوله (¬6) - صلّى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيكُمْ بِالْبَاءَةِ، فَمَنْ لَمْ يَستَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬7) فحضَّهُم على النّكاح ونَدَبَهُم إليه، وقد كانت سُنَّة من مضَى الإقبالَ على العبادة والإنقطاعَ عن الأهل، إِلَّا أنّ محمّدًا - صلّى الله عليه وسلم - جاء بالحنِيفيّة السَّمْحَةِ، وأمر بالعبادةِ، وأَذِنَ في قضاءِ الشَّهْوةِ، حضًّا عل التّحصينِ، ورغبةً في العِفَّةِ، وقَطْعًا للعلّائق، وتَعَرُّضًا لبقاءِ العملِ والتَّبَتُّلِ إلى يوم ¬
القيامة، وتحقيقًا لموعد الشّرع. وفي بعض الآثار: "تَنَاكَحُوا تَكَثَّرُوا، فَإِنَّي مُكَاثِرٌ بِكُم الأُمَمَ" (¬1) وهذا وإن لم يكن صحيحًا؛ فإنّ أمّةَ محمّدٍ - صلّى الله عليه وسلم - أعظمُ الأُمَمِ بركةً وعدَدًا، وأرفعُهم رتبةً. وكذلك رَوَى الأَيِمَّةُ في الصَّحيحِ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - رَدَّ عَلَى عُثمَانَ بْنِ مَظعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ لاختَصَيْنَا (¬2). ولكنّ الجوابَ يختلفُ في ذلك؛ فمَنْ لم يَكُن له إلى النّساء مَيْلٌ، وعَلِمَ من نفسه التّقصيرَ في حقوق النِّكاحِ، وتعذَّرَ عليه الرِّزْقُ من الحلال، فالتَبتُّلُ له أفضلُ، ولاسِيَّما في زماننا. وأمّا من استَغلَمَ واستولَى عليه الشَّبَقُ، فيَنْكِحُ ويَجْتهِدُ في المحاولة على الحقوق، وليبغِ الحلالَ إنَّ وَجَدَهُ، أو يأخذ من المُشتَبِهِ على قَدْرِ الحاجةِ، وتمامُ ذلك وكيفيَّتُه في "المسائل"، يأتي بيانُه إنَّ شاءَ الله. وأمّا مَنْ رأى من النَّاس أنَّ مُدَاواةَ نَفْسِه عن الغُلْمَة والشَّبَق، بِمُلَازَمةِ العبادة، والإكباب على طَلَب العلم، أَوْلَى من التَّشَبُّثِ في مُراعاةِ الحقوق وطلب الحلال، والمسألةُ مُحْتَمِلَةٌ. فإن لم يكن له بُدٌّ من النِّكاح حَسَبَ ما يُفْضِي إليه النّظرُ، أو يَسْبِقُ ¬
به القَدَرُ، فلا يَذْهَلْ عمّا رُوِيّ في الصّحيح عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَحُسْنِهَا وَحَسَبِهَا وَدِينِهَا، فَعَلَيكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يدَاكَ" رواهُ البخاريّ (¬1) وغيرُه (¬2)، ويَشهَدُ لِصحَّتِه قولُه تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬3). فالمرادُ بالخطابِ بقوله: {وَأَنْكِحُوا} قيل: هم الأزواج. وقيل: هم الأولياء من قريب أو نسيب. والصّحيحُ: أنّهم الأولياء؛ لأنّه قال: {وَأَنْكِحُوا} بالهمز، ولو أرادَ الأزواج لقال ذلك بغير همزٍ، وكانت الألف للوَصْل، وإن كان بالهَمْزِ في الأزواج له وَجْهٌ، فالظّاهر أولى، ولا يُعْدَلُ إلى غيره إِلَّا بدليلٍ. وقال: {وَأَنْكِحُوا} لفظُه بصيغة الأمير، وقولُه: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (¬4). قيل: تقديرُها وأنْكِحُوا الأيامَى منكم والصَالحين من عبادكم وأَنْكِحُوا إماءَكُم، وتقديرها: وأنْكِحُوا الأيَامَى منكم والصَّالحين من عبادكم بعضكم من بعض. وفيه وجهٌ ثانٍ -وهو الأظهر- أنّه أمرَ بإنكاح العبيد كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السَّادة في العبيد والإماء، كما هو في الأحرار بِيَدِ الأولياء، إِلَّا من مَلَكَ نفسَهُ وظهر أمرُه وبَدَا رُشدُه. ولعلّمائنا النُّكْتَةُ العظمى: أنّ مالكيَّةَ العبدِ استغرقَتها مالكية السَّيِّد؛ ولذلك لا يتزوّجُ إِلَّا بإذنِهِ إجماعًا، والنِّكاحُ وبَابُهُ إنّما هو من بابِ المَصَالِح، ومصلحةُ العبدِ موكولةٌ إلى ¬
سَيِّده، وهو يراها وُيقِيمُها للعبد (¬1). وقولُه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية (¬2). 1 - قيل: يغنيهم الله من فضله بالنّكاح، كقوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬3) يعني: بالنّكاح من غيره. 2 - الثّاني: يُغنيهم* بالمال، وهو اختيارُ جماعةٍ من السَّلَفِ؛ فَرُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: عَجِبْتُ لمن لا يَرْغَبُ في الباءَةِ، واللهُ يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ* اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4)، قال الرَّسولُ - صلّى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ كُلُّهُم حقٌّ عَلَى الله عَوْنُهُم: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والنَّاكِحُ يُريدُ العَفَافَ، والمُكَاتَبُ يُريدُ الأَدَاءَ" (¬5). اعتراضٌ (¬6): فإن قيل: قد نجدُ النَّاكحَ لا يَسْتَغْنِي. قيل: يُغنِيهِ بإيْتَاءِ المال، وقد يوجدُ ذلك. وقيل: يُغنِيهِ عن الباءَةِ بالعِفَّةِ. وقيل: يُغْنِيهِ بغِنَى النَّفْس، ولا يَلْزَم أنّ يكونَ هذا على الدَّوامِ؛ بل لو كان في لحْظَةٍ واحدةٍ لصدَقَ الوعدُ. ¬
وقال علماؤنا: في هذه الآية دليل على تزويجِ الفقير، ولا يقولنَّ: كيف أتزوّجُ وليس لي مالٌ؟ فإنَّ رِزْقَهُ ورزقَ عِيَالِه على الله، وقد زوَّجَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الّتي وهبت نَفسَها لَهُ من بعضِ أصحابِه وليس له إِلَّا إزارٌ، وليس لها بعد ذلك فسخ النِّكاحِ بالإعْسَارِ عليه؛ لأنّها عليه دخَلَت، وإنّما يكون ذلك على الحُكم إذا دخَلَت على اليَسَارِ فخرج مُعْسِرًا، أو ظهر الإعسارُ بعدَ ذلك. وأمّا قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). هذا خطابٌ لبعضِ مَنْ تناوَلَتهُ الآية الأولى ممّن يملك نفسَهُ فيستعفُّ ويَتَوَقَّفُ، أو يُقدِمُ على النِّكاح ولا يتخلَّفُ. وأمّا مَنْ زِمَامُه بيَدِ غيرِهِ، فليس له في هذه الآية مَدْخَلٌ، كالمحجور قولَاً واحدًا، والأَمَة والعبد على أَحَدَ قولي العلماء. قال (¬2): ولمّا لم يجعلِ اللهُ بين العِفَّةِ والنِّكاح درجةً، دَلَّ على أنَّ ما عَدَاهما محرَّمٌ، ولا يدخلُ فيه مِلْكُ اليمينِ، لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬3). أمّا قوله: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} (¬4). قيل: بالقُدْرةِ على النِّكاحِ. وقيل: بالرَّغبة عنه. وقال بعضُ أشياخنا: يستعفُّ بالصّوم للحديث؛ لقوله: "فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬5). وفي حديث آخر: "فَعَلَيهِ بِالصَّوم فَإِنهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْج" (¬6). ¬
المقدمة الثالثة في شروط النكاح
المقدِّمة الثّالثة في شروط النكاح وهي خمسٌ (¬1): 1 - الوَلِيُّ. 2 - والصَّدَاقُ، ويكون من الّذي يُمْلَك وتجوزُ المعاملة به، وأقلُّه رُبع دينار، وقال بعضُ علمائِنا: أو ثلاثةُ دراهم. 3 - والإعلانُ به، فالسِّرُّ كإخفائه. 4 - وإجتماعُ الإيجابِ والقَبولِ. 5 - وخُلُوُّ العقدِ من شيءٍ يُفْسِدُه. أمّا "الوليّ" فله خمسة أوصافٍ (¬2): 1 - الإسلام. 2 - والحرية. 3 - والبلوغ. 4 - والعقل. 5 - والذكوريّة. وأن يكونَ الوليُّ من العصبة أو السُّلطان، وهو القاضي، ويجوز الرَّضِيُّ من المسلمين، على ما يأتي بيانُه مسألةً مسألةً إنَّ شاءَ الله. (¬3) فالنكاحُ -الّذي هو الغِشيَانُ- هو الّذي جَبَلَ اللهُ عليه الخَلْقَ، لِمَّا رَكَّبَ فيهم ¬
منَ الشَّهواتِ ليكون به النَّسْل، حتَّى يكمل به ما قَدَّرَهُ اللهُ من الخَلْقِ. والإباحةُ في الشّرع على وجهين: أحدهما: عَقْدُ النِّكاحِ. والثّاني: مِلْكُ اليمينِ. فلا يَحِلُّ استباحة الفَرْجِ بما عَدَا هذين الوجهين، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الآية (¬1). وقولُه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬2) فإنّه (¬3) خطابٌ للرِّجالِ خاصّةً، بدليل قولِهِ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الآية (¬4)، ولا إباحةَ بين النِّساءِ وبين مِلْكِ اليمينِ في الفَرْجِ، وإنّما عُرِفَ حِفْظ المرأة فَرْجها من أدِلَّة، كآيات الإِحصان عمومًا وخصوصًا، وغير ذلك من الأدلَّة. نكتةٌ (¬5): قال علماؤُنا: فَخرج من هذه الآية تحريم جميع الإنزال بالإِيلاجِ وغيرِه، وتحريم الاستمناء. قال محمّدُ بنُ عبدِ الحَكَم: سمعتُ حرملة بن عبد العزيز، قال: سألتُ مالكًا عن الرَّجُل يَجْلِدُ عُمَيرَةَ، فَتَلَا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬6) إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬7)، وهذا لأنّهم كانوا يَكنُونَ عن الذَّكَر بِعُمَيرَةَ، ويُسَمِّيهِ أهل العراق الاسْتِمْنَاء، وهو استفعال من المَنِيِّ، وفيه قول الشّاعر (¬8): ¬
إِذَا حَلَلْتَ بِدَارٍ لا أَنِيسَ بِهَا ... فَاجْلِدْ عُمَيرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجُ وقال أحمدُ بن حنبل -عَلى وَرَعِهِ- بتجويزهِ، ويحتجُّ بإنّه إخراجُ فَضلَةٍ من البَدَنِ؛ فجازَ عند الحاجةِ، أصلُه الفِصَادَةُ والحِجَامَةُ (¬1). وعامّةُ الفقهاءِ على تحريمه، وهو الحقُّ الّذي لا ينبغي أنّ يُدانَ اللهُ إِلَّا بِهِ. وقد سُئِلَ ابنُ عبّاس فقال: أفٌ ثمّ تف هو أخفّ من الزِّنَا، ونكاحُ الأَمَةِ أخفّ منه (¬2). وقال بعضُ العلّماءِ: إنّه كالفاعل بنفسه (¬3)، وهي معصيةٌ أحدَثَها الشّيطانُ وأَجْرَاها بين النَّاسِ حتّى صارت قِيلَة، ويا ليتها لم تُقَلْ، ولو قام دليلٌ على جوازِهَا لكان ذُو المُرُوءَةِ يَعْدِلُ عنها لدَنَاءَتها. فإن قيل: إنّه خيرٌ من نكاح الأَمَةِ. قلنا: نكاحُ الأَمَةِ وإن كانت كافرة -على مذهب بعض العلماء- خيرٌ من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضًا (¬4)، ولكنَّ الاستمناءَ ضعيفٌ في الدَّليل، عَارٌ بالرَّجُلِ الدَّنيء، فكيف بالرَّجُل الكبير! (¬5). وأمّا قولُه: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬6) فَسمّى مَنْ نكحَ ما لا يحلُّ له عاديًا، وأوجب عليه الإثمَ والحدَّ، واللائط عادٍ قرآنًا ولُغَةً، بدليل قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (¬7). ¬
الباب الأول ما جاء في خطبة النساء
الباب الأوّل ما جاء في خطبة النِّساء التّرجمة والعربيّة: قال علماؤنا: الخِطْبَةُ: استدعاءُ النِّكاح، وهي مشروعةٌ. وقيل: مستحبّة، وهي من الفعل القديم (¬1). يقال: الخِطْبَةُ -بكسرِ الخَاءِ- في النِّكاح، وبضَمِّها: الكلامُ المنظومُ. وقيل: هي بمعنىً واحد، وهذا ضعيفٌ، وهذه الألفاظ المتّفقة، منها ما يَجتَمِعُ ومنها ما لا يَجْتَمِع، مثل: العين، والميم، والرّاء فتَجْتَمِع حيث كان. ومثل العين، واللّام، والميم تجْتَمِعُ أيضًا، ومثل الميم، والشّين، والتّاء، والرّاء مثل: المشتري الّذي يشتري، والمُشْتَرِي الكوكب، كيف يصحّ ادّعاء الجمع بين هذين! وقول ابن جنيّ: إنّه يُجمع كلُّه، خطأ مَحْضٌ (¬2). قال الإمام (¬3): وصفةُ الخِطبةِ -بكسر الخاء- أنّ يبدأَ بالخُطبة -بضمِّ الخاء- فيَحْمَدَ اللهَ وُيثْنِي عليه، ويصلِّي على النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ثمّ يقولَ كما رواه التِّرمذيّ (¬4): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الآية (¬5)، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الآية (¬6)، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} الآية (¬7)، وإنّ فلانًا رَغِبَ فيكُم وسَرَى إليكم، وفرَضَ من الصّداق لكم ¬
كَيْتَ وكَيتَ فأَنكِحُوه، هذه هي السُّنَّة. فإن جاء أحدٌ بها فبها ونِعْمَتْ، وإن قَصَّر عنها وأَتَى بالمقصودِ له منها أَجْزَأَتْ، حتّى قال مالك - رضي الله عنه - لو بَادَرَ رَجُلٌ رَجُلًا، فقال له: هل تُزَوِّجُنِي ابنتَكَ بأَلفٍ؟ فقال له الآخر: نعم، لَزِمَهُ. قال الشّافعيُّ: لا يلزَمُه حتَّى يقولَ له الآخرُ بعد ذلك قَبِلْتُ. وكذلك الخلافُ في البَيْع مثلُه. ولَقَبُ المسألةِ: هل تنعقدُ العقودُ بالاسْتِدْعاءِ أم لا (¬1)؟ والصّحيح ما ذهب إليه مالكٌ؛ لأنّ الغَرَضَ من القَبُولِ معرفةُ الرِّضَا، وقد حصَلَت معرفةُ الرِّضَا بالاسْتِدْعاء، فإن قال: كنتُ هازِلًا، فَهَزلُ النِّكاحِ جِدٌّ، ومثلُ هذه الدَّعْوَى لا يتطرَّق إلى القَبُول، ولا تُسمَعُ إِجماعًا (¬2)، بدليل أنّه لو صَرّحَ بشرطه لم يَجُزْ. قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ مشهورٌ، ذكرَ منه مالك بعضَه (¬3)، وتمامُه: "لا يَخطُبْ أَحَدُكُم عَلَى خِطبَةِ أَخِيْهِ، ولا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ" (¬4). ومعناه أي: لا يَسُم على سَوْمِهِ؛ لأنّ البَيعَ إنْ وقعَ لم يُتَصَوَّر بعدَهُ بيعٌ، وكذلك رواه مسلم في "صحيحه" (¬5) فقال: "لا يَخطُبْ أحدُكُم على خِطبة أخيه ولا يَسُمْ على سَوْمِهِ" مُفَسَّرًا مُتقَنًا، والحديثُ عامٌّ بإطلاقه في كلِّ حَالةٍ من أحوال الخِطبَةِ، ¬
خصَّصَه في عمومه، وحمَلَهُ على بعضِ مُحْتمَلاتِه حسَبَ ما فَسَّرَهُ مالك (¬1)، إذا رَكَنَا وتقاربا على الصّداق، وهما يحاولان العقدَ ويتناولانِه، أمران بديعان: أمّا أحدُهما: فحديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ، قال لها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا حَلَلْتِ فَلَا تُحْدِثِي شَيْئًا حَتَّى تُؤذِنيني"، فَلَمَّا حلَّت فاطمة بنت قيس جاءت إلَى رَسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَان وَأَبُو جَهْم بْنُ حُذَيفَةَ، فَقَالَ: "أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعْ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَلَكِنِ انكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيدٍ" فَنَكَحَتهُ وَاغتَبَطَت بِهِ (¬2). وأمّا الثّاني: فما أشار إليه مالكٌ من قوله (¬3): "وهذَا بَابُ فَسَادٍ يَدْخُلُ عَلَى النَّاس" إشارةً إلى ما يقعُ بينهم من التَّقاطُع والشَّحْنَاءِ الّتي فيها فسادُ ذَاتِ البَيْنِ، فخصَّصَ مالكٌ هذا العمومَ وحملَهُ على بعض مُحْتَمَلَاتِهِ بالمصلحة، وهو أصلٌ تفرَّدَ به مالك على سائرِ العلماء. فصل (¬4) وأصولُ الأحكامِ خمسةٌ: منها أربعةٌ متَّفَقٌ عليها من الأُمَّة: الكتابُ، والسُّنَّةُ، وإجماعُ الأُمَّةِ، والاسْتِبَاطُ والاجتهاد. فهذه هي الأربعةُ، والمصلحةُ وهو الأصلُ الخامسُ الّذي انفردَ به مالك دُونَهُم، ولقد وُفِّقَ فيه من بَيْنِهِم، وقد بيّنَّا ذلك في "أصول الفقه". اعتراض: ما الفائدةُ أَن أدخلَ مالكٌ هذا الحديثَ، وبدأَ به في كتاب النِّكاح عن ابنِ عمر (¬5) ¬
وأبي هريرة (¬1): "لاَّ يَخطُبْ أحَدُكُم عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"، وفَصَلَ حديثَ ابنِ عمر من حديث أبي هريرة في السَّنَدِ والمَتْنِ. قال علماؤُنا المُحَدِّثة: إنّما فعلَ ذلك لأنّه كان لا يَرَى رأيَ شيجه ابن شهاب في جَمْعِ المُفْتَرِق، كما قال ابن شهاب في حديث الإفك (¬2) دخل حديث بعضهم في بعض كلما قال البخاريّ، لابدّ من تفريق المجتمع، وهذا أيضًا مذهب مالك، كما أدخل مالك حديث فضلِ العَتَمَةِ، ثمّ عقبه بقوله (¬3): "مرّ رجلٌ في طريقه بغصن شوك"، فترى الجُّهَالَ يتْعَبون في تأويلِهِ وفائدة إدخاله له هاهنا، وإنّما كان ذلك لأنّه سَمِعَه معه، وكذلك يروي البخاريّ الحديث في مواضع، ثمّ يعقبه فيقول: وبه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال كذا، والامتناع من جمع المفتّرِق أو فرق المجتَمِع لفائدتين: إحداهما: التّعرض لدَعْوة النّبي - صلّى الله عليه وسلم - حين قال: "نَضَر الله امْرَءَ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا" الحديث (¬4). الثّانية: أنّه إنَّ فُتِحَ هذا الباب، تعرَّضَ له من لا يُحْسِن الجَمْعَ والفَرْقَ فَيُفْسِد الأحاديث، فهذا معنى إدخال مالك هذا الحديث، والله أعلم. الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى: أجمعَ الفقهاءُ أنّ الخطبة ليست بواجبة (¬5) إِلَّا داود فقال: هي واجبة (¬6). ودليلُنا: قولُه - صلّى الله عليه وسلم - للّذي لم يجد خاتمًا من حديث: قد مَلَّكتُكها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآن (¬7). وقوله (¬8): "لَا يَخطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطبَةِ أخيه" هو نهيٌ منه أنّ يخطب الرَّجُلُ امرأةً ¬
قد خطبها أخوهُ المسلم ورَضِيت به (¬1)، ووافَقَتهُ على صَدَاقٍ معلومٍ، وكذلك رُوِيَ عن ابنِ نافع على رواية "الموطَّأ" (¬2). وقال علماؤُنا: إنّما هو على النّهي بعد الرّكون والميل من بعضهما إلى بعض، لا قبلَ ذلك إذا ذكرها وأرسل إليها؛ لأنّه لو كان ذلك لكان في ذلك ضيقٌ وحَرَجٌ على المسلمين أنّ يكون واحدٌ يذكرها ولا يخطبها أحدٌ. المسألة الثّانيةُ (¬3): فإذا ثبتَ ذلك وَوُجِدَتِ الموافقةُ، مُنِعَ غيرُه من خِطبتها وإن لم يوجد الإيجاب بعدُ، وهذا بعدَ القطع بتكافىء حالتيهما، فإذا كان الأوّل غير مرضيّ (¬4)، وكان الثّاني مرضيًّا، فقد قال ابنُ القاسم في "العتبية" (¬5): لا أرى على مَنْ دخلَ في مثلِ هذا شيئًا، ولا أَرَى الحديثَ إِلَّا في المتقاربين، وأمّا فاسقٌ وصالحٌ فلا (¬6). المسألة الثّالثة (¬7): فيمن خطب على خِطبَةِ أخيه، فقد رَوَى سحنون عن ابنِ القاسِم؛ أنّه يؤدَّب. ¬
وإن عقدَ على ذلك، فهل يُفْسَخ نكاحُه أم لا بعد الرّكون والميل؟ ففي المسألة ثلاثة أقوال: 1 - قولُ ابنِ القاسِم في "الكتاب": أنّ النِّكاحَ ماضٍ، ولا يفسخ لا قبل ولا بعد (¬1)، وبئس ما صنع. 2 - القول الثّاني: أنّه يفسخ قبل الدّخول وبعده (¬2). 3 - وقيل: يُفسخ قبل الدّخول ويثبت بعده (¬3)، وهو القولُ الثّالثُ. المسألةُ الرّابعة: في التوّجيه. فوجهُ من قال: إنّه يفسخ قبل الدّخول وبعدُ، قال: لأنّه فعلَ ما لا يحِلّ له. ومن قال: إنّه يفسخُ قبلُ وَيثبتُ بعدُ، قال: لأنّه قبل الدُّخولِ ضعيفٌ، فلمّا دخلَ قوي النِّكاح، فثبت بعد الدُّخول. وأمّا قولُ ابنِ القاسم: لا يُفسخَ لا قبل ولا بعد، فإنّ المسألة تنبني على أصلٍ من أصولِ الفقه، وذلك أنّا نقول: إنَّ النّهي على ضربين: 1 - نهىٌ عن الشَّيءِ لمعنىً فيه، فهذا يفسخُ أبدًا، كتحريم الخمرِ، وكنكاح المحرمِ، فهذا لا يجوزُ، أو ما كان به فهذا يفسخ أبدًا. 2 - وأمّا ما نُهِيَ عنه لمعنىً في غيره؛ فإنّه لا يُفسخ، كالطّلاق في الحَيْض، والذَّبح بالمُدْيَةِ المغصوبة؛ لأنّ السِّكين لم يُنْهَ عنِ الذَّبح بها لمعنًى فيها، وإنّما هو لمعنًى في غيرِها، وذلك المعنى كونها ملكًا للغير، ألَّا ترى أنّ الذَّبْحَ بها قبلَ الغَصْبِ جائزٌ. وأمّا في الحَيضِ، فإنّه أيضًا منهيٌّ عنه لمعنىً في غيره، وإنّما نُهيً عنه لئلَا يطول ¬
المُكث في عِدَّتها، وكذلك النَّهيُ عن الخِطْبَةِ، إنّما هو للضّرر الّذي في ذلك على الخاطِب الأوَّلِ، وإنّما قال مالك: هو حرٌّ بعد الرُّكُونِ، وجَعلَهُ بعدَ الرُّكونِ ضررًا بدليل آخر، وهو قوله: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرارَ" (¬1) لِمَعْنىً في غيْرِه، وهو أصلُ المصلحة، وهو الأَصلُ الخامسُ الّذي انفردَ به مالك دُونَهُم. المسألة الخامسة: قولُه: "نَهَى أنّ يَخطُبَ الرجُلُ عَلَى خِطبَةِ أَخِيهِ" (¬2) هو تغليظ لا على وجه أنّه لا معنى في نفسه، وأمّا النّهيُ عند الفقهاءِ فإنّه يقتضي فساد المنهيِّ عنه (¬3)، ولأجل ذلك قال مالك في الروايتين اللّتين رُوِيَتَا عنه: إنّه يُفْسَخُ إذا خطَبَ بعدَ الرُّكونِ والمَيلِ. وأمّا علماؤُنَا المتكلَّمون، فهو عندهم على الوَقفِ (¬4) -أعني النّهيّ- حتَّى يدلَّ دليلٌ على صرفِهِ إلى أحد الأحوال: إلى الحظر أو الإباحة أو النّدب. وأمّا وهي في العِدَّةِ، فلا يحلُّ له أنّ يُواعِدَها سِرًا، أي نِكَاحًا (¬5)، لقوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} الآية (¬6)، والمباحُ له التّعريض (¬7) لذلك من نصّ القرآن المُطلَق. ¬
قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية (¬1). قال (¬2): يقولُ لَهَا إنِّي فِيكِ لَمُحِبٌّ ورَاغِبٌ، وَلَوَدِدْتُ أنّي تزوَّجْتُكِ. وقد رَخَّصَ بعضُ العلماء في قوله: إنَّكِ لجميلةٌ، وإنّك لحسناء، وإنّك لنافعةٌ (¬3)، وما في معناه قاله الثّوريّ، والشّافعيّ (¬4)، والأوزاعيّ، وألفاظُهُم مُتَقَارِبَةٌ. المسألة السّادسة: فإن نكحها في العِدَّةِ جاهلًا، وسمَّى الصّداقَ، وتَوَاعَدَهَا، فقال مالك: فراقُها أحبُّ إلَيَّ. وقال الشّافعيّ (¬5): إنَّ نكحَهَا في العِدَّة جاهلًا؛ فإنّه يُترَكُ حتّى تنقضي العِدَّة، ويتزوّجُها بعدَ أنّ يفرّق بينهما. وحديثُ عمر وفِعْلُهُ بحَضرَةِ الصَّحابةِ، ينعقد الإجماع بمثل هذا، فإن وَاعَدَها في العِدَّة ودخلَ بها بعدَ العِدَّةِ، فقال ابنُ القاسِمِ: فيه قولان: يُفْسَخُ، ولا يُفْسَخ (¬6). وقال الشّافعيّ: يستغفرُ الله، وهي معصيةٌ إنَّ تزوّجها في تلك الحال (¬7). ¬
المسألة السابعة: في ذِكرِ إباحةِ النَّظرِ إلى المرأةِ في الخِطبَةِ وقبلَ الخِطبَة إذا أرادَ خِطْبَتَها، وفيه حديثٌ صحيحٌ رواه مسلم (¬1). الفقه في مسألتين: الأولى: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - رخّصَ في النَّظرِ إلى المرأةِ إذا أرادَ نِكاحَها (¬2). ورخَّص في ذلك الأوزاعيُّ، وقال: يَنظُر إليها ويجتهد، ويَنظُر إلى مواضع اللَّحم. وقال سفيان: لا بأسَ أنّ يَنظُرَ إلى وجهِ المرأةِ وهي مستَتِرةٌ بثيابِهَا. وقال الشّافعيّ: ينظُر إلى وجهِهَا وكَفَّيْها (¬3)، لقولِهِ: "إِنَّ في أَعْيُنِ الأنْصَارِ شَيْئًا" (¬4). وقال (¬5) ابن مزين: سألت عيسى عن الاطِّلاع للنَّظَر؟ فقال: قد جاءت فيه رخصةٌ. وكان مالك لا يَراهُ، خوفًا من أنّ يَطَّلِعَ على عورة، ولا بأسَ أنّ يستأذِنَ عليها فيدخل. وروى محمّد بن يحيى عن مالك في "المدنيّة": أنّه لا بأس أنّ يَنْظُر إليها وعليها ثيابُها (¬6). وروى عيسى عن ابن القاسم عن مالك أنّه قال: لا يعجبني ذلك. المسألةُ الثّامنّةُ: اختلفَ العلّماءُ في القومِ يشترونَ السُّكَّرَ واللَّوْزَ والحَلَاوةَ وما أشبه ذلكَ وقتَ النِّكاحِ. ¬
الأصول في هذا الباب
فكرهَ ذلك قومٌ منهم: ابن مسعود البَدْرِيّ، وعِكرِمَة وابن سيرين، وعَطَاء. ورخَّصَ فيه الحسن بن أبي الحسن البصري، وإبراهيم النّخعي، وقَتَادَة، وأبو عُبَيْد. قال القاضي أبو بكر: وبه أقولُ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لما نَحَرَ البُدْنَ قال: "مَنْ شاءَ اقتَطَعَ" (¬1)، فأباح لهم الأخذ من لحومهنّ. وكذلك لَمَّا أباح لهم مالك أخذَ اللَّوزِ والسُّكَّر، فلهم أخذ ذلك. المسألةُ التّاسعةُ: ولا بأسَ أنّ يهدي إليها الهديَّةَ فيما رواهُ ابن حبيبٍ عن مالك، قال: ولا أُحِبُّ أنّ يُفْتَى به إِلَّا مَنْ تحْجِزُهُ التَّقوى (¬2). وقال قومٌ: الهدِيَّةُ مستحبَّةٌ لقوله: "تهَادُوا تَحَابُّوا" (¬3) فهي على جهةِ الاسْتِحْسَان. الأصول في هذا الباب (¬4) اعلم (¬5) أنَّ اللهَ تعالى إنَّما خلَقَ الذَّكَرَ والأُنثى لبقَاء النَّسْلِ، وركَّبَ الشَّهْوةَ في الجِبِلَّةِ تيسيرًا لذلك وتحريضًا عليه، حَجَزه عن مُطُلَقِ العمل بمُقتضاها في الآدميَّينَ ¬
بالتَّكليفِ، وأرسَلَه فيما عداهم لعدم التَّكليفِ. والبارىءُ تعالى غَنِيٌّ عن العالَمين، فنظَّمَهُ بروابطَ، ورتَّبَ ذلك على شرائطَ اختلفَ العلّماءُ فيها اختلافًا كثيرًا، أصولُها عند علمائِنَا خمسةٌ: 1 - المتعاقدان. 2 - المستأهلان لذلك. 3 - والصّداقُ الّذي يصلُح أنّ يكونَ صداقًا. 4 - والوَلِيُّ للزَّوجةِ الّذي يتولَّى العَقْدَ. 5 - والإعلانُ المفَرِّق بيْنَه وبين السِّفَاح. ولم يَجعلِ الله العَقدَ إلى المرأةِ أوّلًا، مخافَةَ أنّ تَغْلِبَ شهوَتُها عَقلَها فتضَعُ نفسَهَا في غير موضعِهَا، كلما لم يجعل الطَّلاقَ بيدها، لِفَضْلِ القِوَاميَّة في الرِّجالِ؛ لأنَّه لا يُؤمَن أيضًا من تَهافُتها أنّ تَنْبذَ زوجَها عندَ رؤيةِ غيرهِ كنَبْذِها لنَعْلِها، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬1) فخاطَبَ الأولياء بالأمر بالنِّكاحِ في موضعه، كما خاطبهم بالنَّهيِ عن تَغدّي الأمر، فقال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬2). وقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من رواية أبي موسى: "لَا نِكاحَ إِلَّا بِوَلِيِّ" رواهُ التِّرمذيُّ (¬3) وغيرُه (¬4). وثبتَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أيُّمَا امْرَأةٍ نَكَحَت نَفْسَهَا بغيرِ إِذنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ - قَالَهَا ثَلَاثًا، فَإن مَسَّهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشتَجَرُوا فالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ" (¬5). ¬
فصل
وكما قالت عائش - رضي الله عنها - آنفًا: فَهَدَمَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ اليَوْمَ. أي نكاح الإسلام (¬1). فصل (¬2) ولمّا كان النِّساءُ على ضربين: 1 - منهنَّ المرأةُ البَرْزَةُ (¬3) المُخْتَبِرَةُ للرّجال، العارفةُ بالقَصْدِ، المُطلَقةُ اللِّسان في استدعاء النِّكاحِ ورَدِّه. 2 - ومنهُن المُخَدَّرَةُ (¬4) البَلْهَاءُ الخَفِرَةُ (¬5). * جعلَ اللهُ تعالى للأولياء حالتين: 1 - حالةٌ يستبِدُّون بها في العَقْد، وذلك على المُخَدَّرَة البلهاء الخَفِرَةِ*. 2 - وحالةَ يعْقدُ الرِّجالُ فيها على النِّساء عندَ رِضَاهُنَّ بذلك وطلَبِهنّ له، وهُنَّ الثَّيِّباتُ البوالِغُ المُجَرِّباتُ. وألحق مالكٌ في بعضِ الرِّواياتِ المُعَنَسَّات بالثَّيِّبات؛ لأنَّهنَّ قد علِمْنَ من ذلك، بطُولِ العُمُر وكثرَةِ السَّماع ما يعلمُه الأَيَامَى، وخصَّ هذه العمومات بهذا القياس، وكذلك - رضي الله عنه - كان يرى تخصيصَ العمومِ بالقياس (¬6) والمصلحة (¬7). ¬
وقال في رواية أخرى: المُعَنَّسَةُ كَالبِكْرِ حتَّى تَختَبِرَ، وهذه الرّوايةُ هي الصّحيحةُ في النّظر، فليس الخبرُ كالمعايَنَةِ، وليس عندَ المُعَنَّسَةِ من أمور النِّكاح بالسَّماعِ إِلَّا ما عند العِنِّين. فعلى هذه الرِّواية فليُعَوَّلْ، ويُعْتضَد بما عَضَدَهُ به مالكٌ من قضاءِ عمرَ حين قال: "لَا تُنكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإذنْ وَلِيِّهَا، أَو ذِي الرَّأيِ من أَهْلِهَا، أوِ السُّلْطَان" (¬1). وأراد بقوله: "وَلِيِّهَا" الأَدْنى. وأراد بقوله: "أَو ذِي الرَّأيِ من أَهْلِهَا": الأَبْعَدَ. وأراد بقوله: "السُّلْطَان": كلُّ امرأةٍ لا وَلِيَّ لها. واختلفَ قولُ علمائنَا في الأهليَّةِ على ثلاثةِ أقوالٍ: 1 - فقيل: ما وقعَ الاشتِراكُ به في البَطْنِ، كعبدِ الدَّار وهاشم. 2 - وقيل: ما وقع به الاشترَاكُ في العَشِيرَةِ، كقُصَيٍّ وكِلَاب. وقيل: ما وقعَ الاشتراكُ به في القَبِيلَةِ، ككِنَانة وقُريشٍ. 3 - وقيل: ما كان من العَصَبَةِ، وبه أقولُ، وتحقيق ذلك في "مسائل الخلاف". تكملةٌ (¬2): ولمّا كان النكاحُ بِيّدِ الوليِّ في القسمين جميعًا، شرَعَ اللهُ الإذنَ في البِكْرِ مُستحَبًّا لذِي الشَّفَقَةِ المتناهيَةِ وهوُ الأَبُ، وواجبًا في حقِّ الثَّيِّبِ لكلِّ واحدٍ. ولوروده على هذين الوَجهَينِ مَا أَبْهَمَ به مالك البابَ، فقال (¬3): "بابُ استئذانِ الأيِّمِ والبِكْرِ في أَنْفُسِهِمَا" ولم يقُل: "بابُ وُجُوبِ الاستئذانِ" ولا: "بابُ اسْتِحبَابِهِ". ¬
باب استئذان البكر والأيم
بَابُ اسْتِئْذَانِ البِكْرِ وَالأَيِّمِ قولُه: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا، وَالْبِكرُ تُسْتَأْذَنُ في نَفْسِهَا. وَإِذنُهَا صُمَاتُهَا" (¬1). الإسناد: قال القاضي: الحديثُ صحيحٌ في البابِ، قويٌّ في النَّظرِ، واضطربَ (¬2) فيه ابن عُيَيْنَة (¬3)، وروايةُ مالك فيه أصحّ، وعليها العمل في المدينة أنّ الأبكار يزوجهُنّ آباؤهُنّ بغير إذنهِنَّ، وينفذ ذلك عليهنّ. العربيّة: قوله (¬4): "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا"، قال أهل العربيّة: الأيّم الّتي لا زوج لها؛ إِلَّا أنّه لا ¬
يُستعمل إِلَّا في الّتي لا زَوْجَ لها بعدَ أنّ كان لها زوجٌ. وقيل (¬1): إنَّ الأَيِّمَ الّتي لا زوجَ لها بِكرًا أو ثَيِّبًا. فيخصُّ من ذلك البكر غير ذات الأب. وما تقدَّم أظهر من جِهَةِ عُرْفِ الاستعمال، ومع ذلك فَيُحْمَلُ اللَّفظُ على عمومه. وقال أبو عُبَيد الهروي (¬2): الأيّم ههنا الثيّب خاصّة، والأَيِّمُ في غيرِ هذا الموضِعِ الّتي ماتَ زوجُها أو طلَّقَها، وعليه ينطلِق قولُه سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬3) وقد يقالُ للبِكرِ الّتي لا زوجَ لَها أيِّمٌ، وكذلك الرّجلُ الّذي لا امرأةَ له. وقد يقالُ: تأيَّمَتِ المرأَةُ: إذا قامت على الأَيمَةِ، وهي الّتي لا تتزوَّج. وفي الحديث أنّه كان - صلّى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ من الأَيْمَة وَالْعَيمَةِ، والأيْمَةُ: طولُ العُزْبَة، والَعَيْمَةُ: شدَّة الشَّوْقِ (¬4) إلى اللَّبَن. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأوُلى (¬5): قوله: "وَالْبِكرُ تسْتَأذَنُ ... " الحديث. اختلفَ قولُ مالكٍ فيه: فتارةً اعتقدَ في البِكرِ أنَّها اليتيمةُ، وكذلك رُويَ أنّه فَسَّرَهَا شُعْبَة في هذا الحديث فقال: "وَاليَتيمَةُ تُسْتَأذَنُ في نَفْسِهَا" (¬6). وتارةً قال: إنّها البِكرُ (¬7) في حقِّ الأبِ، وهو الصّحيحُ الّذي ينتَطمُ به مَسَاقُ ¬
الحديثِ ويكمُلُ المعنى بذلك. وقال أهلُ العراقِ: إذا بلَغتِ البِكرُ لم يزوِّجها أحدٌ إِلَّا بإذنِها، لا من أبٍ ولا من سواه (¬1). وهذا فاسدٌ؛ لأنّ النَّبِيَّ عليه السَّلام زوَّجَ ابنةَ عثمان ولم يستأمرها، وكذلك أبَا بَكرٍ زوَّجَ ابنَتَهُ عائشة لرسول الله وهي بنتُ ستّ سِنِينَ (¬2)، وبنتُ ستّ سنين لا إذنَ لها. وكان القاسم (¬3) وسالم (¬4) يفعلان ذلك (¬5)، واستدلّ مالك (¬6) في ذلك بقصِّةِ شُعَيب عليه السّلام وموسى عليه السّلام. وأيضًا: فإنَّ الحديث بنَظمِهِ وتَعْلِيلِهِ يقتضي أنَّ مِلك الأب عليها في النّكاح؛ لأنّه إنّما جُعِلَ للثَّيِّب لكونها ثيِّبًا، ولمّا كانت فائدة الوليِّ في النِّكاح حِفْظَ المرأة عن الوقوعِ في غير الكُفءِ، بتلويث نفسها، ولحوقِ العارِ بحَسَبِهَا، رأى مالك أنَّ الدَّنِيَّةَ المقطوعةَ لا يرتبطُ أمرُها بالوَلِيِّ، في إحدى رِواياتِهِ؛ لأنَّ الَّذي يُخَافُ منها والمعنى الّذي اعْتُبِرَ الوَليُّ لأجلِهِ معدومٌ فيها. وتارةً ألحق الدَّنِيَّةَ بالشَّريفةِ؛ أَخْذًا بعموم الحديث، وهو الأَسْلَمُ في النَّظَير، والأَسْلَمُ في الحَسَبِ، فإنَّ تمييز الدَّنِيَّة من الشّريفة يَعْسُرُ في المراتب، فَسَدُّ الباب أَوْلَى. وعلى الجُمْلَةِ: فلم يختلف علماءُ المدينةِ ومكَّةَ في أنَّ المرأةَ مسلوبة العبارةِ في ¬
النِّكاح؛ كالصّبيّ والمجنون، ولذلك كانت عائشةُ تَخطِبُ وتُقَدَّرُ الْمَهْرَ، ثُمَّ تَقُولُ: "اعقِدُوا؛ فَإنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ" (¬1). المسألةُ الثّانيةُ (¬2): قال علماؤنا: وليسَ من شرْطِ الوَلِيِّ أنّ يكونَ عَدْلًا، خلافًا للشّافعيّ (¬3)؛ لأنّ الولاية عِمادُها الشَّفَقَةُ والحَميَّةُ على النَّسَبِ والأَنَفَةُ، والفِسْقُ لا يؤثِّرُ في ذلك. ورأَى الشّافعيُّ أنّ ولايةَ النِّكاح خُطَّةٌ ومَنْزِلَةٌ كريمةٌ، والمراتبُ لا يَنزِلُها الفُسَّاقُ. وقال علماؤُنا: من شَرْطِ الوَليِّ أنّ يكونَ حُرًّا بالغًا عاقلًا مسلمًا، وليس من شَرْطِه أنّ يكون عدلًا كما قدَّمناهُ. المسألةُ الثّالثةُ (¬4): اختلفَ علماؤُنا هل يكون الكافرُ وليًّا في نكاحٍ فيه مسلمٌ؟ أو مسلمٌ في نكاحٍ فيه كافرٌ؟ على تفصيلٍ يأتي بيانُه إنَّ شاءَ الله. والصّحيحُ أنّه لا يدخلُ المسلمُ في نكاحٍ فيه كُفْرٌ، ولا الكافرُ في نكاحٍ فيه إسْلَامٌ، إلَّا إِنْكَاحَ السيّدِ لعَبْدِهِ الكافرِ من طريق المِلْكِ، بخلاف طريق الولَاية؛ فإنّ الله أَثبتَ المِلْكَ مع الكفرِ، ولم يُثبِتِ الولايةَ معه؛ بل نَفَاهَا بعَدَمِ الهجرةِ، فقال: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية (¬5). المسألةُ الرّابعةُ: (¬6) في صفةِ استئذانِ البِكْرِ في إنكاحها وهو أنّ يقولَ لها السَّامعانِ منها: إنَّ فلانًا خَطَبَك على صَدَاقِ كذا، المعجَّل منه كذا، والمؤجَّل منه كذا وكذا إلى أجلِ كذا، والتزَمَ لكِ من الشُّروطِ كذا وكذا، وعقَدَ ¬
باب ما جاء في الصداق والحباء
عليك النِّكاحَ ولِيُّكِ فلانًا، فإن كنتِ راضيةً فاصْمُتِي، وإن كنتِ كارهةً فتكلَّمِي، فإن صمَتَت بعدَ ذلك صحَّ. وأَمَّا الثَّيِّب؛ فإنّها لابدّ لها من أنّ تتكلّم أنّها قد رَضِيَت بالنِّكاحِ. باب ما جاء في الصَّدَاقِ والحِبَاءِ قال علماؤنا (¬1): انْفَرَدَ أبو حَازِم بن دِينَار عن سَهْلٍ بهذا الحديث، أَنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ لِلرَّجُلِ: "قَدْ أَنكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ" (¬2). قال ابنُ أبي زيدٍ: ذلك خاصٌّ للنّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في ذلك الرّجل الّذي أَنكحه المرأة (¬3). والدّليلُ على ذلك: أنّ هذه المرأة كانت قد وَهَبَت نَفْسَهَا للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. الفقه في تسع مسائل: المسألةُ الأولى (¬4): قال القاضي رضي الله عنه: الصَّدَاقُ عَقْدٌ مُنْفَصِلٌ عنِ النِّكاحِ، بائنٌ عنه في ذاتِه وأحكامِه. والدّليلُ على صحّة ذلك: أنّ النِّكاحَ يجوزُ دونَهُ؛ لأنّ عَقْدَ النِّكاحِ قائمٌ بذاتِ الزَّوجِ والزَّوجةِ، كلُّ واحدٍ منهُما يَحِلُّ لصاحبِهِ ويستمتِعُ به، وقد قال اللهُ تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ ¬
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬1)، وقال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬2)، وقال: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (¬3)، في أزواجِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فرَدَّد الله الصّداقَ بين النِّحْلة المُبتَدَأَةِ الّتي لا يقابِلُها عِوَضٌ وإنّما وَجَبَتْ على الزَّوجِ بفضيلَةِ القِوَامِيَّةِ، وبمنزلة الذّكورية، وبين الأُجْرَةِ والعِوَضِيَّة. وفي هذا ردٌّ على مَنْ أنكرَ من الفقهاءِ تعارُضَ الأدِلَّةِ، وتَرَدُّدَ الفرعِ بين الأَصلَينِ، وحُكمُهُ إذا تردَّدَ بينهما، أنّ يُوَفَّرَ على كلِّ واحدٍ شَبَهُهُ، وُيرَكَّبَ عليه حُكمُهُ، وهو أصعبُ مسائل النَّظَر، ولذلك قال مالك (¬4) - رحمه الله - تارةً: النّكاحُ أشْبَهُ شيءٍ بالبيوعِ (¬5)، وتارةً جَرَّدَهُ عنها، وعزَلَ حُكمَهُ عنها. المسألةُ الثّانيةُ: اختلفَ العلّماءُ في الصَّدَاقِ هل هو حقٌّ للهِ أو حقٌّ للآدمي؟ ومذهَبُنَا: أنّه حقٌّ لله وللآدَمِيِّ، فأمّا حق الله تعالى فيه، فهو أنّ المتعاقدين لو اتَّفَقَا على عَقدِ النِّكاحِ من غيرِ صداقٍ لم يَجُز. وأمّا حقّ الآدميِّ فإنّه إذا ترك بعد العَقدِ فإنّه يجوز. فإن قيل: إنّه حقّ لله تعالى. قلنا: هذا الكلام يجوزُ بالتّسمية حقًّا بالابتداء؛ لأنّ الابتداءَ حاصلٌ وخالصٌ لله تعالى. ¬
وإذا سمّيناه حقًا للآدمي: قلنا: إنّه تَبَيَّنَ بذلك بالاستدامةِ والاستِيفَاءِ، فجاز تَسْمِيَتُه بالوجهين. المسألةُ الثّالثةُ (¬1): اختلفَ قول العلماء في الصّداق الفاسد على ثلاثة أقوالٍ: الأوَّل: أنّه يمضي بنَفْسِ العَقْدِ. والثّاني: أنّه يُفسخُ قبل الدُّخولِ. والثالثُ: أنّه يُفْسَخُ قبلَ الدُّخولِ وبعدَهُ. واختلفَ النَّاسُ في تأويلِ هذه الأقوال: فمنهم من جعلها مُطلَقَةً. ومنهم من قال: إنّها مبنيَّةٌ على قُوَّةِ الفساد وضعْفِهِ. وسيأتي تفصيلُ ذلك في مَوْضِعِه إنْ شاءَ الله. المسألةُ الرّابعةُ (¬2): اختلفَ العلّماءُ رحمهم الله -بعدَ الاتِّفاقِ على وُجُوبه- في تقدِيرِه، على ثلاثةِ أقوالٍ: فمنهم من نَفَى التَّقديرَ، وجوَّزَهُ بكلِّ قليلٍ وكثيرٍ -وهو الشّافعيّ (¬3) - وروى في ذلك أحاديثَ ليس لها أصلٌ في الصِّحَةِ، من جُمْلَتِها: "الصّدَاقُ وَمَا تَرَاضَي عَلَيهِ الأَهْلُونَ" (¬4). ¬
ومن العلماء من قدَّرَهُ واختلفوا في التَّقدِيرِ؛ فقال أهلُ الكُوفَةِ: أقلُّه عشَرةُ دراهمَ (¬1)، وهو أقلُّ ما تُقطَعُ فيه يدُ السَّارِق عندهم. ومنهم من قَدَّرَهُ برُبعِ دينارٍ، وهم أهلُ المدينةِ (¬2). ومنهم من قَدَّرَه بدرهم ونحوه -كالسَّوْط والنَّعْل -وهو ابن وَهْب (¬3)، وخالفَ فيه مالك والجمهور. ومتعلَّقُه في ذلك طَلَبُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في حديثِ سَهْلٍ في الصَّدَاقِ: "التَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" (¬4) وَوَسَطُ قيمته دَرْهمٌ لأجل الصَّنعةِ الّتي فيه. والصّحيح أنّه مُقَدَّرٌ بنصابِ القَطْعِ، وأنَّ القطعَ مقدَّرٌ برُبُعِ دينارٍ، وقد بيَّنَّاهُ في "مسائل الخلاف". المسألة الخامسة (¬5): قال علماؤُنا: في حديثِ سَهل بن سَعد هذا دليلٌ على وُجُوبِ الصَّداقِ؛ لأنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - طَلَبَهُ من طريق، فهذا يدلُّ على تعيِينِهِ وإلزامِهِ حينَ طلَبَ خاتَمًا من حديدٍ ليتعجَّلَ النِّكاحَ وليتزيَّنَ به، ويبقَى الصَّداق في ذِمَّتِهِ، وليس في الحديثِ ما يدلُّ على أنّ الصَّداق يسقطُ عنه. والوجهُ الثّاني: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال له ذلك على وجهِ التَّقليلِ، كقوله: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ مثل مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى الله لَهُ قَصرًا في الجَنَّة" (¬6)، ولا يصِحُّ أنّ يكونَ المسجدُ في الصِّغرِ كذلك. ¬
وأمّا متعلِّق الشّافعيّ (¬1)، فقولُه - صلّى الله عليه وسلم -:"هَل مَعَكَ شَيءٌ مِنَ الْقُرآنِ"؟ فَقَالَ: نَعَم، فَقَالَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ". قال علماؤُنا: عن هذا جوابان: 1 - أحدهما: أنّه إنّما أرادَ أنّ يكونَ بَدَلًا من الصَّدَاقِ لما يتوَلَّاهُ من تعليمِهَا، ولعلَّ التَّعليمَ يُسَاوي أكثرَ من ذلك. 2 - ويحتملُ أنّ يكونَ أرادَ "بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ": أي أَنّكَ أنتَ تصلُحُ لها إنَّ كنتَ من أهلِ القُرآنِ، كما يقول الرَّجلُ: قد زوَّجتُك بصَنْعَتِك، والمَهْر باقٍ في ذِمَّتِهِ؛ لأنّه لا يجوز أنّ يتزوّجَ الرَّجُلُ بألفِ دينار ولا يقدِّم منها شيئًا. المسألةُ السّادسة (¬2): اختلفَ العلّماءُ في كونِ الإِجَارَة صَدَاقًا على ثلاثة أقوالٍ، وقد رُوِيَ في الحديث: "عَلّمهَا من القُرآنِ" (¬3) وفي "سنن أبي داود" (¬4): "قُم فَعَلِّمْهَا عِشْرينَ آيةً". ودخولُ الإِجارَةِ في النِّكاح تحقيقُه في: "الكتاب الكبير"، وفي: "كتب المسائل"، فأمّا هذا الحديث فلَا أدري كيف أَغفَل العلّماءُ حقيقته! فإنّه ليس بجارٍ في شيءٍ من ذلك المضمارِ؛ لأنّه إنَّ كان الصّداقُ تَعلِيمَها، فلابُدَّ من تقدير المُدَّة في إقرائهَا، وإن كان على أنّ يستظهِرَهَا فهي جعَالَةٌ مجهولةُ المُدَّة، فلا يَصِحُّ أنّ تكون صَدَاقًا، وإنّما مخرجُ الحديث أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لمَّا عَدِمَ عندَه الصَّدَاق، تحقَّقَ له الفقرُ، فطلَبَ منه فضيلةً يُزَوِّجُه بها، وليس إِلَّا استِظهَارَ القرآنِ أو شيءٍ منه. ¬
كما رُوِيَ أنّ أبَا طلحةَ تَزَوَّجَ أمَّ سُلَيْمٍ على الإسلام (¬1)، ليس أنّ الإسلام كان صداقًا، ولكن لأنّه كانت له فضيلة، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَنكَحتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِن القُرآنِ" (¬2) وقد رُوِيَ: "قَدْ زَوَّجتُكَهَا" (¬3) وُيرْوَى: "قَدْ مَلَّكتُكَهَا" (¬4). واختلفَ العلّماءُ في النِّكاحِ بغير لفظِ النِّكاحِ، وهي: المسألة السّابعة (¬5): فمنعه الشّافعي (¬6). وجوَّزَهُ أبو حنيفة بكلِّ لفظٍ يقتضي التّمليكَ على التأبيدِ (¬7). وجوَّزَهُ مالك بكلِّ لفظٍ يتفاهَمُ به المتناكحان مَقْصِدَهُما (¬8). وتعلّق من جوّزَ النّكاحَ بغيرِ لفظ الإنْكَاحِ بقوله: "قَدْ مَلَّكتُكَهَا" رواه معمرٌ (¬9)، ويعقوب اإسكندرانيُّ (¬10)، وعبدُ الواحد بنُ زيادٍ،* وخرّجه البخاريُّ (¬11). وقال الدّارقطني (¬12): هذا وهمٌ منهم، خالفهم حمادُ بنُ زيدٍ* وأبو غسَّانَ (¬13)، وفُضَيلُ بنُ سليمانَ، ووُهيبٌ، والثّوريُّ، وابنُ عُيَيِنَةَ، وهم أحفظ، قالوا كلّهم: "قَدْ زَوَّجتُكَهَا". ¬
نكتةٌ أصوليّة (¬1): وهي إذا اختلفتِ الألفاظُ في الرِّوايةِ، فتأمَّلُوا الحديثَ، فإن كان ممّا يتكرَّرُ، فكلُّ لفظٍ أصلٌ مُمَهّدٌ وتُبْنَى عليه الأَحكامُ، وإن كان ممّا لا يَتَكرَّرُ، فليُعْلَمُ قطعًا أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما قال أحدَها، وأنّ الرّاويَ هو الّذي عبَّرَ عن تلك الحالةِ الواحدةِ بألفاظٍ مترادفةٍ أو متقاربةٍ، فتُعْرَضُ الألفاظُ على الأصولِ والأدِلَّةِ، فما استقرَّ منها عليها فهو الّذي يُبنَى عليها الحكم. قال القاضي: ومسائلُ الصَّدَاقِ تتفاوَتُ في العَدَدِ، وتَلْحَقُها أحكامٌ من البيوع، فلا يُمكِنُ التعرّضُ لها في هذه العُجَالةِ، ذَكَرَ مالكٌ منها في هذا الباب خَمْسَ مسائلَ: 1 - منها مسألةُ المُفَوِّضَةِ، وبيانُها في "مسائل الخلاف". 2 - ومنها مسألةُ العَفْوِ عن الصَّدَاقِ، وبيانُها في كتاب "الأحكام" (¬2). 3 - ومسالةُ تقديرِ المَهْرِ، وقد سبقتِ الإشارةُ إليها (¬3). 4 - ومسألةُ إنكاحِ الرّجُلِ ابنَه الصَّغيرة، وبيانَها في "المسائل". وأغرب ما فيه قول علمائنا: إنَّ الوَصِي يُزَوَّجُ الصّغيرَ قبل البلوغ، ولا يُزَوّجُ الصّغيرةَ حتّى تَبْلُغَ، وكان ينبغي أنّ تكونَ المسألةُ بالعكس؛ لأنّ زواجَ المرأةِ مِنْحَةٌ، وزواجَ الصّغيرِ عَزمٌ، فلا أراهُ بحالٍ حتّى يبلُغَ ويَعلَمَ قَدْرَ ما يدخُلُ فيه. ¬
5 - ومنها مسألةُ عمرَ بن عبد العزيز؛ حيثُ كتبَ إلى بعضِ عُمَّالِهِ: ما كان من شرطٍ يقعُ به النَّكاحُ فهو لابنته ... الحديث إلى آخره (¬1). وتحقيقُ المسألةِ: أنَّ الوليَّ إنْ شرَطَ الْحِبَاءَ للزّوجةِ فهو لها، وإنْ شرَطَ لنفسهِ فينبغي أنّ يَسقُطَ ولا يكونَ لأَحَدٍ إذا لم يكن للزوجة؛ لأنّه لم يُسَمِّ لها، وأمّا أنَّه لا يكونُ للوليِّ؛ فلأنّه أكلُ مالٍ بالباطل لا مقابلَ لهُ، وإنّما كان شيئًا تفعلُه الأعرابُ في الجاهليّةِ، ثمّ هَدَمَ اللهُ ذلك بالإسلامِ. المسألةُ التّاسعةُ: قال علماؤُنا: ومن تزوَّجَ اليومَ بقرآنٍ فُسِخَ نكاحُهُ؛ لأنّه لم يجد مالكٌ العملَ عليه في المدينة، فإن دخلَ بها، فلها صَدَاق مِثلِهَا في حالها وجمالِهَا ومالِهَا. فإن كان قَبْلَ البناءِ أُجْبِرَ على رُبُعِ دينارٍ، فإن نَكَحَ بأقلّ من رُبُع دينارٍ أُمِرَ قبلَ البناءِ بها أنّ يُتِمَّ لها رُبُعَ دينارٍ، فإن أَبَى فُسِخَ نكاحُهُ، فإن دخل بها أُجْبِرَ على تَمَامِ رُبُعِ دينارٍ. المسألةُ العاشرةُ: (¬2) قولُ المرأة (¬3): "يا رَسُولَ اللهِ إِنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ" تريدُ: على وجْهِ النِّكاح. وفيه مسائل: 1 - أحدُها: أنّ هِبَةَ المرأةِ البُضْع يجوزُ من غير عِوَضٍ لغيرِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. 2 - والثّانيةُ: في النّكاح بلفظ الهِبَة فأمّا الأوّل، فلا خلافَ أنّه لا يجوزُ نكاحٌ دَونَ مَهْرٍ لغير النّبيّ (¬4)، والأصلُ في ذلك: قولُ اللهِ تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5) فأخبر أنّ ذلك خالصٌ له دونَ سائرِ المؤمنينَ. ¬
ومن جهة السُّنَةِ: أنّ المرأةَ قد قالت له: إنّي قَدْ وَهَبتُ نَفسِي لَكَ، فلم يُنْكِر ذلك عليها، فلو كان مُنْكرًا لأنْكرَهُ؛ لأنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يقرُّ على المُنْكَر، ثمّ إنّه لما سأل القائم نكاحها، لم يجعل له إلى ذلك سبيلًا دون صَدَاقٍ، حتَّى أَنكَحَهُ إيَّاها بما معه من القرآن. وهو على ضربين -كما قدّمنا-: إنْ عَنَت به هِبَة النّكاح، ولم تَعْنِ به هبةَ الصَّدَاق، فهذا يفسخ قبلَ البناء، ويثبت بعدَهُ، ولها صَدَاق المِثْلِ (¬1). قال (¬2): فإن عَنَتْ (5) به نكاحًا بغيرِ صداقِ، فلا يجوزُ (¬3)؛ لأنّه سِفَاحٌ لا نكاحٌ يثبُتُ فيه الحدّ، ولا يلحقُ فيه النَّسَبُ، وإذا أراد به عَقْد النِّكاح من غير صَدَاقٍ، ففي "المدوّنة" (¬4) عن ابن القاسم قولان: أحدهما: أنّه يُفْسَخُ قبلَ الدُّخول. والثّاني: قبل الدُّخولِ وبعدَهُ. وقال ابنُ القصّارِ (¬5)، وهو الصّحيحُ عندي. وقال ابنُ شعبان: فيه ثلاثُ رواياتٍ، الرّوايتان المتقدِّمتان، والثالثة: أنّه بمنزلةِ نكاح التَّفويضِ، وهذا يقتضي إمضاءهُ قبلَ البِنَاء وبعدَه. وأمّا إذا قلنا: يُفْسَخُ بَعْدَ البناءِ، فقد قال أشهبُ: لها ثلاثةُ دراهم. وقال أَصْبَغ: لها مَهْرُ المِثْلِ. ¬
وإذا قلنا يثبت بعدَ البِنَاءِ، فقد قال مالك: لها مَهْرُ المِثْلِ. 3 - وأمّا المسألةُ الثالثةُ: في حُكْم النِّكاح بلفظِ الهِبَةِ مع ذِكرِ العِوَضِ (¬1) وذلك كأن يقول: وهَبْتُ لك ابنتي أو وَلِيَّتي على أنّ تُصْدِقَها مِئَةَ دينارٍ، أو ما اتَّفَقَا عليه؛ ويقع العَقْدُ بذلك، فقد حَكَى ابنُ القصّار (¬2) وعبدُ الوهَّاب في "إشرافه" (¬3) أنّ النِّكاحَ ينعقدُ بلَفْظٍ يقتضي التّمليك المُؤبَّدَ كالبَيْعِ والهِبَةِ، دونَ ما يقتضي التَوقيت، زاد ابنُ القصّار (2): ولفظ الصّدقة، قال (2): وسواء عندي ذَكرَ المَهر أو لم يذكُرْهُ في لفظِ الهِبَةِ والبيعِ والصَدَّقَةِ إذا عُلِمَ أنّه قصد النّكاح، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشّافعي: لا ينعقدُ إِلَّا بلفظ النِّكاح، وقد تقدَّمَ بيانُه (¬4). - المسألة الرّابعة (¬5): قولُ الرَّجُلِ (¬6): "زوِّجنِيهَا إنَّ لم تكُنْ لك بها حَاجَةٌ" فيه دليلٌ على جوازِ خِطبَةِ الّتي أجابت إلى النِّكاح باستئذان الّتي أجابته، وأنّ المنعَ من أنّ يخطبَ أحدٌ على خِطْبَةِ أخيه إنّما هو لحقّ النّاكح، فإذا استُؤذِنَ في الخِطبَةِ، وصرف الأمر إليه في ذلك فلا حَرَجَ، وهذا يقتضي أنَّ النِّكاحَ مباحٌ للفقير. والنِّكاحُ في الجملةِ مندوبٌ إليه كما بينّاه قبلُ (¬7)، ولا يتعيّن وجوبُه، إِلَّا أنّ يخشَى أو يخاف العنَتَ ولم يجد ما يتسرّر به، وقد يتعلّق المنع بذلك إذا اسْتَغنَى عنه وعَجَزَ عن المَهْرِ. ¬
5 - المسألةُ الخامسةُ (¬1): وقوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬2): "هَلْ مَعَكَ شَيءٌ" دليل على أنّ النِّكاحَ لا يجوزُ بغيرِ صَدَاقٍ. وقولُ الرَّجُل: "ما عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي" إظهارٌ لفَقْرِه. وقولُه: "إنَّ أَعْطَيتَهَا إيَّاهُ جَلسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ" يقتضي معنيَيْن: أحدهما: أنّه لا يصِحُّ أنّ يُصْدِقَها إيَّاهُ، إِلَّا بأن يمكنه تسليم الإزار إليها. والثّاني: أنّه لا يجوزُ تسليمه إليها؛ لأنّ ذلك يؤدِّي إلى البقاء على حالةٍ لا تجوز من كشف العورة، ولذلك لا يباعُ هذا من الثّياب في دَينٍ ولا يُقْضَى به حقٌ (¬3). 6 - المسألةُ السّادسةُ: قولُ الرّجُلِ (¬4): "مَا أَجِدُ شَيئًا" وإن كانت لفظة "شَيْءٍ" تقع على القليلِ والكثيرِ ممّا يَصِحُّ أنّ يُمْهَرَ، ومما لا يصحُّ أنّ يُمْهَرَ، إِلَّا أنّه مستندٌ إلى قولهِ: "هَل عِنْدَكَ من شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إيّاهُ" فكأنّه قال: التمِسْ شيئًا ممَّا يمكن أنّ يكونَ مَهرًا، فلم يجد، وهو متعلِّقُ الشّافعيّ أنّه يجوز النّكاح بالقليلِ والكثيرِ، وقد حقَّقنا ذلك كلّه في أَوَّلِ البابِ (¬5). حديث عُمَرَ بن الخَطَّاب (¬6): "أيُّمَا رَجُل تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ، أَو جُذامٌ، أَوْ برَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا". ¬
قال مالكٌ: "وَذلك لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَليِّهَا". قال الإمامُ: الحديثُ صحيحٌ، وفيه فِقْهٌ كثيرٌ وعلمٌ جليلٌ، أرْبَينا فيه على علمائنا، والحاضرُ الآنَ في الخاطرِ عَشْرُ مسائلَ: المسألة الأولى (¬1): هذه المسألة من أكبر مسألةٍ في الفقه، فقد اختلَفَ العلّماءُ فيها اختلافًا كثيرًا، لُبَابُهُ؛ أنّ أهلَ الكوفةِ قالوا: لا تُرَدُّ المرأةُ إِلَّا من عَيْبٍ يَمنعُ من تقديرِ الصَّدَاقِ. وقال الشّافعيُّ (¬2): يُرَدُّ النِّكاحُ بأربعة عيوبٍ: الْجُنونُ، والجُذَامُ، والبَرَصُ، وداءُ الفَرْجِ. وأبو حنيفة قال: لا تُرَدُّ المرأةُ إِلَّا بما يَمْنَعُ الوطءَ لا غير (¬3). وعند مالك تُرَدُّ بالعيوبِ المذكورةِ، ودليلُه حديث عمر المتقدِّم. وأبو حنيفة لا ينعقد عندَهُ الإجماع إِلَّا بهذا القَدْر، فأمّا إذا دخلَ بها عالمًا بما بها من العيوب، فالصَّداقُ كلُّه عليه قولٌ واحدٌ. وإذا لم يعلم بهذه العيوب الّتي في المرأة، ففيه عند علمائنا ثلاث رواياتٍ: أحدها: عليه صداق المِثْلِ. والثّاني: ينظر، فإن كان صداقُها أكثر من صَدَاقِ المِثْلِ، فلها صَداق المِثْل، وإن كان صَدَاقُها أقلّ من صداق المِثْلِ، فلها صَداقُها. والثّالث: أنّ فيها رُبُع دينارٍ. قال القاضي - رضي الله عنه -: سمعت الفِهرِيّ يقولُ لإمام الحنفيَّة (¬4): لا تُرَدُّ المرأةُ بالجُنونِ؛ لأنّه يُمْكِنُه الوطءُ وهي مقيَّدةٌ؛ أو في حالٍ لا يأخذُها الجنونُ، فقال له ¬
القاضي أبو العبّاسِ (¬1) مدرِّسُ البَصْرَةِ: عَقْدُ النِّكاحِ اقتضَى التّمكينَ من الوَطءِ، وهذا خلاف مقتضَى العَقد، والعَقدُ إذا فاتَ مقتضاهُ باطلٌ. فأمّا علماؤُنا- رحمةُ الله عليهِم- فتقاولوا في ذلك كثيرًا، واختلفوا في ذلك قديمًا وحديثًا، جمعتُ شَتاتَ آرأئهم، ونَظمتُ منثورَ أَقوالِهِمْ، وأوضحتُها في "كتب المسائل" أحسنَ إِيضاحٍ، الإشارةُ الكافيةُ إليه؛ أنّ النِّكاح يُرَدُّ عندنا بأربعةٍ وعشرينَ عَيبًا: 1 - الجنونُ. 2 - الجُذَامُ. 3 - البَرَصُ. 4 - الجَبُّ. 5 - الخِصَاءُ. 6 - قطعُ الحَشَفَةِ. 7 - العُنَّةُ. 8 - الاعتراضُ (¬2). 9 - الرَّتَقُ (¬3). 10 - القَرَنُ. 11 - العَفَلُ. 12 - الاستِحَاضَةُ. 13 - الإفَاضَةُ (¬4). 14 - نَتنُ الفَرْجِ. 15 - حَرْقُ النَّارِ. 16 - الزَّمَانَةُ. 17 - الذُّبُولُ. 18 - الخَشَمُ (¬5). 19 - القَرَعُ. 20 - *السَّوَادُ. ¬
21 - البَخرُ. 22 - العَمَاءُ. 23 - العَرَجُ. 24 - التَّيتَاءُ*، وكذلك قَيَّدتُه عن التَّبريزي (¬1) بتاءَين، وقيَّدْتُه عن ثابتِ بنِ بُنْدَارِ (¬2) بتاءٍ واحدةٍ. وقد يقعُ في هذا التعديدِ تَدَاخُلٌ، ومَرْجِعُهُ إلى أربعةٍ وعشرينَ، فهذه العيوب كلُّها وأمثالُها ممَّا يُرَدُّ النِّكاحُ عند المالكيّة بها، وإن كان فيها اختلافٌ ونِزَاعٌ، ولكنّ المقصودَ من النِّكاح الأُلْفَةُ والاسْتِمْتَاعُ، وهذه العيوَبُ كلُّها تنفي الأُلْفَةُ وتُفَوِّتُ الاسْتِمْتَاعَ وكمالَهُ، وأيُّ استمتاعٍ في المَذبُولة؛ إنَّ القرْنَاءَ لأقربُ إلى اللّذّة منها. وليس سكوتُ مالكٍ عن مسألة يُوجِبُ أنّ تكونَ خلافَ ما تكلَّمَ عليها، بل يُلْحَقُ النّظيرُ بالنّظير، ويُحْمَلُ المِثْل على الِمثْل، وأيُّها أبعدُ عند النَّظَرِ في الدَّليلِ والرَّدِّ، السّوداءُ أم العمياء؟ فهذه المعاني إنّما تُبنَى على ملاحظة المقصودِ، فما فَوَّتَهُ حُكمًا كالّذي يُفَوِّته حِسًّا، والله أعلم. ¬
المسألةُ الثالثةُ (¬1): في ثبوتِ الخِيَارِ لكلِّ واحدٍ من الزَّوجينِ بالمعاني المؤثّرَةِ في منع الاستمتاع، فالأوَّلُ (¬2) مروِيٌّ عن مالك، لقول عمر المتقدِّم، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة: لا خِيَارَ للزَّوجِ بشيءٍ من ذلك (¬4). ودليلُنا من جهة القياس: أنّ هذا أحد الزّوجين، فجازَ أنّ يُرَدَّ بعيبٍ يمنعُ المقصودَ من الاستمتاعِ كالزّوج، وذلك أنّ أبا حنيفة وَافَقَنَا على أنّ الزَّوج يُرَدُّ بالجَبِّ والعُنَّةِ. المسألة الرّابعة: في تفسير المعاني (¬5) فأمّا "الجنونُ" و "الجُذَامُ" و "البَرَصُ" و "داءُ الفَرْجِ" فروى ابنُ عبد الحَكَم عن مالك ذلك. وأمّا الأبْهَرِي فقال: إنّما كان ذلك؛ لأنّ هذه المعاني تَمنعُ استدامةَ الوَطءِ وكمالَ الالتذاذِ به. وأمّا "الجُنُونُ" وهو الصَّرْعُ والوَسْوَاسُ الّذي يذهب به العقل، تُرَدُّ به المرأةُ، وكذلك "الجُذامُ" إذا تيقّنَ، قليلًا كان أو كثيرًا. وأمّا "البَرَصُ" فقد سُئِل مالكٌ (¬6): أَتُرَدُّ المرأةُ من قليلِ البَرَصِ؟ قال: ما سمعتُ إِلَّا ما في الحديثِ، وما فرَّقَ بين قليلٍ ولا كثيرٍ. ¬
وقال ابنُ القاسم: تُرَدُّ من قليلِهِ، ولو أُحِيطَ علمًا بِمَا خفَّ منه، لم تُردّ منه. وأمّا "دَاءُ الفَرْجِ" فقال ابنُ حبيب: ما كانَ في الفَرْجِ ممّا يقطعُ لذَةَ الوطءِ، مثل: العَفَلِ والقَرَنِ والرَّتَقِ. وقال عبدُ الوهّاب (¬1): "داءُ الفَرْج هو: القَرَنُ والرَّتَقُ، وما كان في معناهما". وزادَ ابنُ الجلَّابِ في "تَفْرِيعِهِ" (¬2): "البَخَر والإِفضاء" (¬3). وأمّا "القَرَعُ الفاحشُ" فقال ابنُ حبيب: له الردّ به؛ لأنّه من معنى الجُذَام والبَرَص، ولم أَرَ ذلك لغيره من أصحابنا، والأظهر أنّه لا يُرَدّ به؛ لأنّه ممّا يُرْجَى بُرْؤُهُ في الأغلبِ، ولا يمنع المقصود من الاستمتاع ولا يؤثِّر فيه. فرعٌ (¬4): وأمّا سوى ذلك، فلا تُرَدُّ به المرأةُ، إِلَّا أنّ يشترط الصّحة، كالعَمَى والعَوَر. المسألةُ الخامسةُ (¬5): وأمّا ما يُوجِبُ الفُرْقَةَ قبل المَسِيسِ، فإنّه لا يخلو أنّ يكونَ موجودًا بالمرأةِ حينَ العَقْدِ، أو حادِثًا بعد ذلك، فإن كان موجودًا حينَ العَقْدِ، فعَلِمَ به الزّوجُ قبلَ البِناءِ (¬6)، فإنّ له أنّ يفارِقَ ولا شيءَ عليه (¬7)، أو يَبْنِي وعليه جميعه. ووجهُ ذلك: أنّه عَيْبٌ وليس له بُرْءٌ، وهو بالخيار في ذلك (¬8). ¬
فرعٌ (¬1): فإن ادَّعَى الزّوجُ أنّ بها قَرَنًا، أو داء الفَرْجِ، وأنكرت هي ذلك، ففي "كتاب محمّد" و "ابنِ حبيب": هي مُصَدَّقَةٌ، وليس له ان ينظرَ النِّساءُ إليها (¬2). ورُوِيَ عن ابنِ القاسم: لا ينظر النِّساء إليها، وأنكرَهُ سحنون وقال: كيف يُعْرَفُ إِلَّا بِنَظَرِهِنَّ، ورَوَى ابنُه عنه أنّه ينظر إليها النِّساء. وأمّا إنَّ كان حادثًا بها بعدَ العَقْدِ، فَعَلِمَ قبلَ البناءِ، لم يكن له إِلَّا أنّ يفارقَ ويكون عليه نصف الصَّدَاقِ، أو يَبْنِي ويكون عليه جميعه. وقال الشّافعيُّ: يفارِقُ ولا شيءَ عليه (¬3). ومذهبُ مالك أَقْوَى في النّظرِ. المسألةُ السّادسة (¬4): وأمّا مُوجِبُ الفُرْقة بذلك بعدَ المَسِيسِ، فإنّ ما ظَهَرَ عليها من ذلك، لا يخلو أنّ يحدثَ قبل عَقْدِ النِّكاحِ أو بعدَهُ، فإن كان حدثَ بَعْدُ، فقد وجبَ للمرأة جميع المَهْرِ بالمَسِيسِ، سواءٌ عَلِمَ بذلك قبلَ الوَطءِ أو بعدَهُ، وإن كان بالمرأةِ قبلَ العَقْدِ، ولم يَعْلَم الزَّوجُ به إلّا بعدَ الوَطءِ، فإنّه لابدّ للبُضْعِ المستباحِ من عِوَضٍ، وسيأتي تفسيرُه بعدَ هذا إنَّ شاء الله. المسألةُ السّابعةُ: في نكاحِ التّفويضِ وهو: إذا تزوَّج الرّجلُ امرأةً على نكاحِ التَّفويضِ، وماتَ قبل أنّ يدخلَ بها، ولم يُسَمِّ لها شيئًا من الصَّدَاقِ، فإنّ لها الميراث وعليها العِدَّة، ولا صداقَ لها، قاله مالك (¬5). ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): لا صَدَاقَ لها إِلَّا صَدَاق المِثْل، واتَّفَقوا في الميراثِ والعِدَّة. واحتجّ الشّافعيُّ بأنّ لها الصَّداق، بما رَوَى الدّارقطنيُّ (¬2)؛ أنّ ابنَ مسعودِ سُئِلَ عن هذه المسألة فقال: أَقْضِي فِيهَا بِرأيِي، فَإنْ أَصَبْتُ فَمنَ الله، وَإنْ أَخطأتُ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيطَانِ، والله ورسولُه يَرَيَانِ، لَهَا صَدَاقُ مِثلِهَا، ولها الميراثُ وعليها العِدَّةُ، فقام إليه ناسٌ من أشجع فقالوا له: هذا حُكمُ رسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في هذه المسألة، فحَمِدَ الله وأثنَى عليه (¬3). وأجاب أصحابُ مالكٍ: بأنْ لا حُجَّة في الحديثِ من وجهين: أحدهما: أنّ الحديثَ ضعيفٌ، لقوله فيه: "فَقَامَ نَاسٌ من أَشجَع" وهم مجهولُونَ. وأجابَ أصحابُ الشَّافعيّ: بأن هذا باطلٌ؛ لأنّه لو كان كذلك لما قبِلَهُم ابن مسعود حين حَمِدَ الله، فإنّه أضاف حكم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إليه. والصَّحابيُّ إذا رَوَى عن الصّحابي فهو مسندٌ يدخل في المسنَدَاتِ على ما بيّنَّاهُ. المسألةُ الثّامنةُ (¬4): أنا المحجورُ عليه لِسَفَهِهِ، فالمشهورُ من المذهبِ أنّ الأبَ يُجبرُه على النِّكاحِ، وكذلك الوصيُّ والسُّلطانُ (¬5). وقال عبدُ المَلِك: لا يزوِّجه من يلي عليه إِلَّا بِرِضَاهُ (¬6). ¬
فرع (¬1): فإن تزوّجَ السَّفيهُ بغير إِذنِ الوَصِيّ، فنكاحُهُ موقوفٌ على الفَسْخِ أو الإمضاءِ، فإن رَأَى وجهَ رُشدٍ أَمضاهُ، وإن رأَى غَبنًا رَدَّهُ، كالعبدِ يتزوَّج بغيرِ إذنِ سيِّدِهِ، فإن أجازَهُ (¬2) على ما عَقَدَ لَزِمَهُ، فإن ردَّهُ قبلَ البناءِ فلا شيءَ عليهِ من مَهْرٍ ولا غيرِه، وكانت طلْقَة. وإن ردَّهُ بعدَ البِنَاءِ، فقد قال عبد المَلِك: تَرُدُّ الزَّوجةُ ما قبَضَتْ ولا يترك لها شَيءٌ. وقال مالك وأكثر أصحابه: يترك لها. وقولُ مالكٍ استحسانٌ (¬3). فهذا قلنا بقول مالك؛ ففي "الموازية" وغيرها عن مالك أنّه يُتْرَك لها رُبُع دينارٍ (¬4). وقال مالك في "الواضحة": يُترَكُ لها قَدْر ما يستحلّ به مثلها، ولم يحدّ في ذلك شيئًا. وقال ابنُ القاسِم (¬5): يترك رُبعُ دينار للدَّنِيَّة (¬6)، ورُوِيَ عنه في الدَنِيَّة أنّه يترك لها ثلاثة دنانير، أو على قَدْرِ الإمكان. فرع (¬7): فإن لم يعلم بنكاحِهِ حتَّى مات أحدهما، نُظِرَ، فإن كان هو الّذي مات، فقد قال ابنُ القاسم في "الموازية": لا ميراث بينهما (¬8). قال ابن حبيب: ولا صَدَاقَ. ¬
المسألةُ التَّاسعةُ (¬1): فإذا وقعَ الفسادُ في النِّكاحِ لفسادِ المَهرِ (¬2)، فقد قال عبدُ الوهَّابِ (¬3): "لَا خِلافَ في مَنْعِهِ ابتداءً، فإن وقَعَ ففيه روايتان: إحدَاهُما: الفسخ للعقد قَبلَ البِنَاءِ وبعدَهُ. والأخرى: يُفْسَخُ قبل البِنَاءِ ويثبت بعدَهُ، ويجبُ مَهْرُ المِثلِ، خلافًا لأبي حنيفة والشّافعي (¬4) في قولهما: إنَّ النِّكاحَ صَحِيحٌ، ولا يفسد بفسادِ المَهْرِ، ويجبُ فيه مَهْرُ المِثْلِ. فإذا قلنا: إنَّ العَقدَ فاسِدٌ، فوَجْهُهُ قولُه تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الآية (¬5)، فعلَّقَ الإِحلالَ بشرطِ أنّ نبتغي بأموالنا، والخمر والخنزير ليس بمالٍ لنا". وهذا عندي (¬6) على القول بدَلِيلِ الخطابِ. المسألةُ العاشرةُ: فيما يُعتبر به مَهرُ المِثْل (¬7) فإنّه يُعتبرُ بأربعِ صِفَاتٍ: 1 - الدِّينُ. 2 - والجمالُ. 3 - والحَسَبُ. 4 - والمالُ. وقد حكَى الطّحاويُّ (¬8) عن أبِي حنيفة أنّه يُعتَبَر نساء قومها اللّواتي معها في عشيرتها، فدخل فيها سائر العَصَبَات والأُمَّهات والخَالَات دون الأجانب. وقال ابنُ أبي ليلى: يعتَبر بذَوَاتِ الأرحامِ (¬9). ¬
باب إرخاء الستور
ودليلُنا: قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "تُنْكحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدينِهَا، فَاظفَز بِذَاتِ الدِّينِ تَربَتْ يَدَاكَ" (¬1). ودليلُنا من جهةِ المعنى: أنَّ هذه زوجةٌ، فوجبَ أنّ يُعتبرَ في مَهْرِ مثلِهَا مَنْ كان على مِثلِ حالِهَا، وإن لم تكن مِنْ قومها، كالّتي لا عَشِيرةَ لها. بابُ إرخاء السُّتورِ الأصول (¬2): قال علماؤُنا: إرخاءُ السُّتور يُوجِبُ الصَّدَاقَ في حالةٍ، وهي ذِكرُهُ وتسميَتُه، وفي حالةِ استقرارِهِ وهي بالدُّخول؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ أنَّ الدُّخولَ سِرٌّ لا يُطَّلَعُ عليه، فنصب عليه علامةٌ من الخَلْوَةِ بالتَّمَكُنَّ من الاستيفاءِ، فقام ذلك مقام العِيَانِ فيه، لهذا المعنى وقَعتِ الإشارةُ بأنَّ عمرَ بنَ الخطابِ قَضَى في المرأَةِ إذا أُرْخِيَتِ السُّتورُ عليها فقد وجبَ الصَّدَاقُ. وقد شرَطَ بعضُ العلّماءِ أنّ يكون ذلك في بَيْتِ البِنَاءِ؛ لأنَّ الخَلْوَةَ في غيره لم تُوضَع لهذا، فَرُبَّما وقعَ ورُبَّما لم يَقَعْ، والأصلُ العَدَمُ، فلا يتحقّقُ الوجودُ إِلَّا بيقينٍ، أو بظاهرٍ يدُلُّ عليه، وهذا هو اختيارُ سعيدِ بن المُسَيِّبِ. وسوَّى سائرُ العلماء بين الأمرين؛ لأنّ الخَلْوَةَ في غيرِهِ لم تُوضَع له إذا وقعت، ولا وازعَ من الطَّبْعِ ولا من الشَّرْعِ، فالظَاهرُ وقوعُ الوطءِ، فَقُضِيَ به، وهذا بناءً ¬
على مسألة من أصولِ الفقهِ قد قدَّمنَاهَا؛ وهي: إذا تَعارَضَ نصٌّ وظاهِرٌ، بِمَ يُقْضَى منهما؟ وأحكامُه مختلِفَةٌ، والأدِلَّةُ مُتَبَايِنَةٌ، وقد بيَّنَّاهَا في "المسائل". الفقه في ثلاث مسائل: الأولى (¬1): قوله (¬2): "إذا أُرْخِيَتِ السُّتُورُ فقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ" يريدُ: إذا خَلَيَا وانفَرَدَا، وهذا اللَّفظ يَقتَضِي أنّ بالخَلْوَة يجبُ على الزَّوج إكمال الصَّدَاقِ وإن لم يكن المَسِيس، غير أنّ معناه عند مالك (¬3): الخَلوَة لا غير؛ لأنّ (¬4) الخَلْوَة عنده سبيلٌ للالتذاذ بالزّوجة، والتَّمتُّعِ بها بالوَطءِ، والنَّظَرِ إلى محاسِنِهَا. المسألةُ الثّانيةُ (¬5): فإن أقرَّ بالخَلوَةِ، أو قامت بِهَا بيِّنَةٌ، فالحُكمُ بما قدَّمناهُ، وإن لم تكن بيّنةٌ ولا إقرارٌ، فقد روى ابنُ حبيبٍ عن مالك أنّ اليمين على الزَّوجِ في دَعْوَى المَسِيس (¬6). وقد كان ابنُ القاسِم يقول: إذا ادَّعت المرأةُ المَسِيسَ في أهلها، وقد عُرِفَ اختلافُه إليها أو لم يُعْرَف، لَزِمته اليمينُ في الأمرين، فإن حَلَفَ بَرِيءَ، وإن نَكَلَ غَرِمَ جميع الصَّداقِ. ووجه ذلك: أنّ الأصلَ في استصحاب حالِ العقل عدم ما يشهد لها ويجعل قولها الأظهر (¬7). ¬
باب المقام عند الأيم والبكر
فرع: فإذا تزوَّجَ رجلٌ بِكرًا فقالت: إنّه وطِيءَ، وأنكر هو، فمذهبُ مالكٍ أنّ القولَ قولُها مع يَمِينِهَا ولا ينظر إليها النِّساء. ومذهبُ المتَأخرِّينَ من البغداديِّينَ؛ أنّه ينظر إليها النّساء؛ لأنّ هذا أمرٌ مُشَاهَدٌ يتعلَّقُ بالنِّساء، فجاز النّظرُ إليها كالإيماء. ووجهُ القولِ الأوّلِ: أَنَّ الحُرَّة لا ينظر إليها النّساء؛ لأنّها مُصَدَّقَةٌ، بخلافِ الإِماءِ فإنّهَنَّ سِلْعَةٌ من السِّلَع. المسألةُ الثالثةُ (¬1): فإذا ثبتَ ذلك، فإنَّ المُوجِبَ عندنا في كمالِ الصَّدَاقِ بالبناء هو الوَطءُ بمغيب الحَشَفَةِ، وإنْ لم يكن عند ذلك إنْزَالٌ، هذا قولُ جماعةِ شيوخِنَا. ووجهُ ذلك: أنّ الأحكام إنّما تتعلّقُ بمغِيبِ الحَشَفَةِ، من وُجُوب الغُسْلِ، ووُجُوبِ الحَدِّ، وإحلالِ المطلَّقَة، وإفسادِ الحَجَّ، والصَّومِ، وغيرِ ذلك من الأحكام الّتي بَيَّنَاهَا قبلُ. باب المُقَامُ عند الأَيِّم والبِكر الأحاديثُ في هذا البابِ كثيرة المساقِ، صِحَاحٌ كلُّها، خَرَّجَها الأَيِمَّةُ. وفي "مسلم" (¬2) قوله - صلّى الله عليه وسلم - لأمِّ سَلَمَة إذ أصبح عندها: "لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إنَّ شِئْتِ سَبَّعتُ عِنْدَكِ ... " الحديث (¬3). ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): إنَّ للبِكر سَبْعًا، وللثَّيِّبِ ثلاثة، بنَصِّ هذا الحديث، ثمّ رجع عنه فقال: للبِكرِ سَبعٌ وللثَّيَّب سَبْعٌ، وهو مذهبُهُ. وأخذ مالك بحديثِ أنس أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لِلبِكْرِ سَبْعٌ، وَللثَّيِّبِ ثلاثٌ" (¬2). وحديثُ أمِّ سَلَمَةَ أصحّ لأنّه مُسنَدٌ، وحديثُ أَنَس موقوفٌ، لكن يُقَوِّي مالك حديث أنس بعمل أهلِ المدينةِ (¬3). ويعترضُ الشّافعيُّ بأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ فَخيرٌ" وكيف يصحُّ لها الخِيَار، وللزَّوجةِ الأُخرى أنّ تقول: هذا يومي، فلا أترُكُهُ، فلعلِّي لا أدركه. فإن كان له زوجاتٌ، كان رجوعُهُ بعدَ خُرُوجِهِ من عُرْسِهِ إلى الّتي وجبت لها اللّيلة قبلُ. الفقه في خمس مسائل: المسألةُ الأولى (¬4): اختلفَ أصحابُنا في ذلك (¬5)، هل هو حقٌّ للزّوجِ أو للزّوجةِ؟ فقال عبد الوهّاب (¬6): "في ذَلِكَ رِوايَتَان" قال: "وفائدةُ الخلافِ: أنّه إذا كان حقًا له جاز فعلُه وتَرْكُه، وإذا كان حقًّا لها لم يكن له تركُهُ إِلَّا بإذنها". توجيهٌ: فوجهُ القولِ الأوَّلِ: قولُه: "لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ" فأخبر أنّ ذلك على وجهِ الإكرام، ولو كان ذلك من حقوقها لقال: ليْسَ لنَا مَنْع حقّك. ووجه القول الثّاني (¬7): قولُه في حديث أنس: "لِلبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلاثٌ" وقد ¬
أسْنَدَهُ ابن وهب (¬1) في غير "الموطَّأ". وحَكَى ابنُ القصَّار (¬2) أنّ ذلك حقٌّ لهما، وهو قولٌ صحيحٌ عندي، والله أعلم. توجيه آخر: فإن قلنا: إنّه حقٌّ للزّوجةِ، فهل يُقضَى به على الزّوج أم لا؟ قال أَصْبَغُ في "الموازية": هو حقٌ عليه، ولا يُقْضَى به عليه كالمُتْعَةِ (¬3). وفي "النوادر" (¬4) عن ابن عبد الحَكَم أنّه يُقْضَى به عليه. فرع: وهل يكون للزّوجة ذلك إذا لم يكن عندَهُ غيرها؟ فروى أبو الفَرَج المالكيّ عن ابن عبد الحَكَم: أنّ ذلك عليه. وقال ابنُ حبيبٍ: لا يلزمه المقام عندها إذا لم يكن له غيرها. فإن كان له نساءٌ كثيرةٌ، فإنّه يقسم بينهنّ في ذلك. فرع: * قوله: "للبِكْرِ سبعٌ وللثَّيِّبِ ثلاثٌ" يقتضي ظاهره أنّه حق للمرأة، وبهذا قال من الصّحابة أنس، ومن التّابعين فمن بعدهم النّخعي والشّعبيّ والشّافعيّ (¬5) وأحمد بن حنبل (¬6). وقال سعيد بن المسيِّب والحسن البصري*: للبكر ثلاثة أيّام وللثَّيِّب يومان، * وقال حَمَّاد بن أبي سليمان وأبو حنيفة (¬7) *: ولا تُفَضَّلُ الجديدةُ على القديمةِ بِكْرًا ¬
كانت أو ثَيِّبًا. ودليلُنا ما في البخاريّ (¬1) * عن أنس قال: من السُّنَّة إذا تزوّج الرّجل البكر أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوّج الثَّيِّبَ أقام عندها ثلاثًا ثمّ قسم*. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): في أيِّ وقتٍ يبدأ بالمشيِ على نسائه؟ فقال مالك في "كتاب محمّد": يبدأُ باللّيل قبلَ النَّهارِ، أو بالنَّهارِ قبلَ اللَّيل. ووجه ذلك: أنّ الّذي عليه أنّ يكملَ للواحدةِ يومًا وليلةً، وهو المُخَيَّر في أنّ يبدأ بأيَّ الزَّمانَين شاءَ. على أنّ الأظهرَ من قولِ علمائنا: أنّه يبدأ باللّيل. المسألةُ الثّالثةُ (¬3): في وجه القسمة بين النِّساء فقال عبد الملك: يكونُ عند كلِّ واحدةٍ يومًا وليلةً (¬4). قال أصحابنا: ولا يجوز أنّ يقسم لكلَ واحدة يومين، رواه ابن الموّاز عن مالك (¬5). وسواءٌ في ذلك الصّغيرة والكبيرة، والصّحيحة والمريضة الّتي لا توطأ، والطّاهر والحائض. زاد ابنُ حبيبٍ: والمسلمة والكتابيّة والنُّفَسَاء وغيرها. المسألةُ الرّابعةُ (¬6): وهل يتخلّف العروس عن الجُمُعَةِ والجماعة؟ رَوِيَ في "العتبيّة" (¬7) عن ابن القاسم عن مالك: لا يتخلّف عنها (¬8). قال سحنون: ¬
باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح
وقال بعض العلماء: لا يخرج، وذلك لها بالسُّنَّةِ (¬1). ووجهُ قول مالك: أنّه إنَّ كان حقًا للزّوج، فإنّ الزّوجة لا تملكه، وإن كان حقًّا لها فإنّها لا تملك منه إلّا ما زادَ على أداء الصّلاة. ووجهُ رواية سحنون: أنّ من ملك منافع أجير في مدَّةٍ، فإنّه يسقط عنه بذلك فرائض الجُمُعَة وحقوق إتيان الجماعة، كالسَّيِّد في عبده. باب ما لا يجوزُ من الشّروطِ في النّكاح الأُصولُ (¬2): قال القاضي - رضي الله عنه -: هذه مُعْضِلَةٌ، اختلفَ النَّاسُ فيها قديمًا وحديثًا، وتعارضَ فيها أصلان عظيمان: أحدُهما قريبُ المَرَامِ؛ وهو ما رُوِي عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أنّ يُوَفَى بِهِ مَا استَحلَلْتُم بِهِ الفُرُوجَ" (¬3). والأصل الثّاني: قولُه: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ" (¬4) وهو بعيدُ الغَوُرِ؛ لأنّ المرادَ بقوله: "لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ" أي: في حُكْمِ اللهِ، فأحالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - المجتهدَ على ملاحظة الشّرط، وإن كان في كتاب الله جائزًا بدليلٍ يدلُّ عليه ¬
مضَى، وإلّا ارتدّ، فتباينَ العلّماءُ في ذلك على وُجُوهٍ بيانُها في "الكتاب الكبير" لُبَابُه؛ أنّ علماءَنَا قالوا: إنْ خالفَ الشّرطُ* مُقتَضَى العَقدِ، فليس من كتاب الله عزّ وجلّ، وإنْ وافقه أو لم يعترض عليه، فقد أَذِنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فيه؛ لأنّه إذا خالَفَ الشَّرْطُ* مقتضى العقد صارَ تَنَاقُضًا، والتّناقضُ ليس من الشَّريعةِ، فَرَكِّب على هذه المسألة مسألةَ سعيد بن المسيِّبِ الواقعةَ في هذا الباب: "إِذَا شَرَطَتِ المرأةُ أَلاَّ يُخرِجَها من بَلَدِها" (¬1) فإنّ هذا شرطٌ يخالفُ القِوَاميةَ الّتي فَضَّلَ اللهُ بها الرِّجال على النِّساءِ وخَطَت الدّرجةَ الّتي أنزَلَهُم فيها وقدَّمَهُم عليهنّ بها، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية (¬2)، فعلى هذا يكونُ الشَّرطُ ساقطًا. ونظر ابنُ شهابٍ وغيرُه إلى أنّه شرطٌ استُحِلَّ به الفَرْج، فلزم الوفاء به بالحُكمِ الواقعِ من صاحبِ الشّرطِ، و"أحَقُّ الشروطِ أنّ يُوَفَى به ... " الحديث المتقدِّم. فاختارَ علماؤُنا قولَ سعيدٍ، وحَمَّلُوا الشّروطَ الواقعةَ في إحلالِ الفَرْجِ بما تعلَّقَ بالنِّكاح من صّدَاقٍ ونِحْلَةٍ وجِهَازِ شُوْرَةٍ، ممّا تَنمِي (¬3) معه الحالةُ، وتسكُنُ معه ¬
الأُلْفَةُ، لا فيما يُنافِر موضوعه ويُخالِفُ مقتضاهُ. وتقصَّى مالك الشُّروطَ المقترنةَ بالعقود في فَتَاوِيهِ، فرآها على ثلاثةِ أقسامٍ: منها: شرطٌ يُبطِلُ العقدَ رأسًا. ومنها: شرطٌ يُبْطُلُ في نفسه. ومنها: شرطٌ إنَّ جُزِلَ (¬1) العَقْدِ صحَّ، وإن رُبِطَ به بَطَلَ، وقد استوْفَينا ذلك في "الكتاب الكبير". الفقه في مسائل: الأولى (¬2): إذا ثبت ذلك، فإنّ هذه الشُّروط على ضربين: أحدهما: غير مؤثّرةٍ في النِّكاح. الثّاني: أنّ تكون مؤثِّرةً فيهِ. فأمّا الّتي لا تُؤَثِّر فيه، فهي الّتي لا تُؤَثِّر في جَهَالةِ المَهْرِ، ولا تُغيِّر مقتضى العَقْد، مثل أنّ تشترط عليه إِلَّا يتزوّج عليها، ولا يَتَسَرَّى، ولا يتّخذ أمّ ولد، ولا يخرجها عن بلدها، ونحو ذلك من الشّروط. فهذه الّتي قال ابنُ حبيب: لا يبلغُ من كراهيّة أهل العلم لها أنّ تكون حَرَامًا، أو يُفسَخُ بها النّكاح. والضّرب الثّاني: هو الّذي يُؤثِّر في عَقْدِ النّكاحِ، فهو ما أثّر جهالة في المَهْرِ، أو غَيَّر بعض مقتضى العَقْد، كالخِيَارِ ونحوِهِ، وذلك مثل أنّ تشترط من النَّفَقَة كذا في كلِّ ¬
باب المحلل وشبهه
شهرٍ، أو تشترط نَفَقَة خادم لها، أو نَفَقة ابنها من غيره، أو على أنّ لا نَفَقَة لها، فهذا كلّه يُفْسَخُ قبلَ البناءِ، ويثبت بعدَهُ، ويسقط الشَّرط. ووجه ذلك: ما قدّمناهُ من أنَّ هذا الشّرط قد أَثَّر جهالةً في العِوَضِ، ففسدَ لذلك العَقْد قبل البناءِ، ويثبت بعدَهُ. باب المُحَلِّل وشبهه الإسناد: قال الإمام: قولُه (¬1): "عَنِ الزَّبِيرِ" رَوَاهُ يحيى وجماعةٌ بفَتحِ الزّاي، وقال ابنُ بُكَيْر (¬2): بضَمِّ الزّاي. وقال الدّارقطنيّ (¬3) وعبد الغَنِيّ (¬4) وغيرهما من الحفّاظ: هو الصّواب (¬5). وهو الزُّبِيرُ بنُ عبد الرّحمن بن الزُّبِيرِ اليهودّي القُرَظَيّ، قُتِلَ يوم قُرَيْظَة (¬6)، والله أعلم. ¬
الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا" يحتمل أنّ يُوقعها في مرَّةٍ واحدةٍ. ويحتمل أنّ يوقعها في ثلاث مراتٍ. وقولُه: "فَذَكَر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَنَهَاهُ" وأعلَمَهُ أنّ المانِعَ له من نِكَاحِها باقٍ، وهو ظاهر اللّفظ؛ لأنّه قد قال له: "حَتَّى تذُوقَ الْعُسَيْلَةَ" فأخبرَهُ أنّ المُحَلِّلَ إنّما هو الوطء دونَ العَقْد. وانْفَردَ ابن المُسَيِّب بقولِهِ (¬3): إنَّ عقد الثّاني يُحلُّها للأوَّلِ وإنْ لم يكن وطء. ولعلّه لم يبلغه الحديث؛ لأنّه نصٌّ في مخالفةِ قوله. وقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك أنّه قال: العُسَيلَةُ فيما نَرى - والله أعلم - اللَّذَّة، ومجاوزة الخِتَان الخِتَان (¬4). المسألة الثّانية (¬5): اختلفَ النَّاسُ فيه (¬6): فجوَّزَهُ أهلُ العراقِ (¬7)، ومنَعَهُ سائرُهم، وغلا فيه بعضُهم، حتَّى سمعتُ مِن علماءِ الحنفيَّةِ من يقول: إنّه قُرْبَةٌ؛ لأنّ فيه سَعَةَ ضِيْقٍ وإباحةَ تحريمٍ أَذِنَ اللهُ فيها. ¬
ورأَى أهلُ المدينةِ أنّها معصيةٌ مُوجِبةٌ للنَّارِ، حتَّى قال بعضُهُم (¬1): لا يكونُ مِسَمارُ نارٍ في كتاب الله. وقد كان من العلماء الماضين من يَرَى أنّ مجرَّدَ العَقْدِ كافٍ في التَّحليلِ، لقول الله سبحانه: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2). وقد بيَّنَتِ السُّنَّة ذلك التّحليل، فقال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: "أتُرِيدينَ أنّ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تذُوقِي الْعُسَيلَةَ" الحديث (¬3)، فَبَيَّنَ النَّبي - صلّى الله عليه وسلم - اشتراطَ الغَايةِ في الغايةِ؛ لأنّه قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4) فهذه غايةٌ، وابتداءُ النِّكاحِ عَقدٌ، وغايتُه وَطءٌ، فهذه غايةٌ أخرى. ومِن ههنا قال علماؤُنا: إنَّ البِرَّ والحِلَّ لا يكونُ إِلَّا بِأكْملِ الأشياءِ، ويقتضيه المعنى؛ لأنّه إنّما اشترط الزّوج في الطّلاق الثّلاثِ إرغامًا له؛ حيثُ اقتحمَ بَتَاتَ العصمة، والإرغامُ والمَذَلَّةُ إنّما يكون بالوطءِ لا بالعَقْدِ، حتّى يكون ذلك واعظًا لغيره ألّا يقعَ فيها، وزاجرًا له حتّى لا يعودَ إليها. وإذا انْتَظَمَ المعنى والسُّنّةُ، لم يبقَ لأحدٍ حُجَّة، اللهمّ إِلَّا أنّه تعترضُ ههنا مسألةُ أبي حنيفةَ في نكاح المُحَلِّلِ، فلو صحّ قولُه: "لَعَنَ اللهُ المُحَلّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ" (¬5) لكان ذلك أصلًا في فسادِ النّكاحِ، وإذا لم تَثبُث له قَدَمٌ في الصِّحَّةِ، فلم يبقَ إِلَّا حظُّ ¬
باب ما لا يجمع بينه من النساء
المعنى، وهو عظيمٌ في هذا البابِ، وهو أنّ قاعدةَ النِّكاحِ تَمَهَّدت في الشَّريعة برُكنَين: أحدهما: القصْدُ إلى التأبيد، إِلَّا أنّ يعْرضَ عارِضٌ من خوفِ التَّعدِّي في حُدودِ اللهِ. والثّاني: أنّ يكون ذلك معقودًا لنفسه قُرْبَةً لربِّه وعِفَّةً لدينه. فإذا عَقَدَهُ على غير هذين الرُّكنَينِ، فقد وَضَعَهُ في غيرِ مَوْضِعِهِ، فلم يكن نِكاحًا شرعيًّا، فوجبَ القضاءُ ببُطْلانهِ، وهذه قاعدةٌ لا تُزَعْزِعُها رياحُ الاعتِراضاتِ، ولا يتوجَّهُ لأحدٍ عليها سؤالٌ يَنْفَعُ، ولم يبقَ بعدَ هذا إِلَّا تفصيلُ تركيب الفُروع على هذه الأصولِ في صفَةِ الوَطء وَوُقوعِه، وخُلُوصِهِ في الحِلِّ أو تحريمه، وكمالِ الوطءِ أو نُقصانِه، ووقوع الاتّفاقِ عليه من الزَّوْجَين أو اختلافِهِمّا فيه، وكذلك بَيَّنَّاهُ في موضعه إنْ شاءَ الله. باب ما لا يُجْمَعُ بينَه من النّساء قال الإمام: الأصلُ في هذا الباب قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية (¬1). فالمحرَّمُ (¬2) منهُنّ أربعونَ قرآنًا وسُنَّةَ، منهنّ: أربعٌ وعِشرون تحريمُهُنَّ مُؤَبَّدٌ لازِمٌ، ومنهنّ: ستّ عَشْرَةَ تحريمُهُنّ لعارِضٍ. فأمّا الأَرْبَعُ والعِشْرونَ فهُنَّ: الأمُّ (¬3)، والبنتُ (¬4)، والأُخْتُ (¬5)، والعَمَّةُ (¬6)، ¬
والخالةُ (¬1)، وبنتُ الأخ، وبنتُ الأخت (¬2)، فهؤلاء سبعٌ، ومن الرِّضاعِ مثلُهنّ، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (¬3)، فهُنَّ أربعَ عَشرَةَ. ومن الصِّهرِ أربعٌ: أمُّ الزّوجةِ، وبنتُها، وزوجةُ الابنِ، وزوجةُ الأبِ (¬4). ومن الجَمْعِ ثلاثٌ: الأختان قرآنًا، المرأةُ وعمَّتُها، والمرأةُ وخالتُها سُنَّةً، والمُلاعِنَةُ سُنَّةً، والمُنْكَحَةُ في العِدَّةِ بإجماعٍ من الصَّحابَةِ في قضاءِ عُمَرَ، وزوجاتُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقد سَقَطَ ذلك (¬5). وأمّا التّحريم العارضُ: فالخامسةُ، والمُزَوَّجة، والمُعْتَدَّةُ، والمُستبرَأَةُ، والحامِلُ، والمطلّقةُ ثلاثًا، والمُشْرِكةُ، والأَمَةُ الكافرةُ، والأَمَةُ المسلمةُ لوَاجِدِ الطّوْلِ، وأَمَةُ الابنِ، والمُحْرِمَةُ، والمريضةُ، ومَن كان ذا مَحرَمٍ من زَوْجِهِ اللّائي لا يجوزُ الجمعُ بينهنّ وبينها، واليتيمةُ الصّغيرةُ، والمنكوحةُ يومَ الجمعةِ عند النِّداء، والمنكوحةُ عند الخِطبَةِ بعدَ التَّرَاكنِ. هذا منتهَى الكلام، ولعلّمائنا في ذلك تفصيلٌ طويلٌ. ورأيتُ لسُحنونِ قد زاد فيهنّ: الثَّيِّبُ الصَّغيرةُ إذا رجعَت إلى وَالِدِها قبلَ ¬
البُلوغِ، وفي ذلك كلِّه تفصيلٌ طويلٌ بيّنّاه في "كتب المسائل". الفقه في ستّ مسائل: الأولى (¬1): قوله (¬2): "لَا يُجْمَعُ بَينَ الْمَرأَةِ وَعَمَّتهَا، وَلا بَينَ الْمَرأَةِ وخَالَتِها" يقتضي العمومَ، غير أنّ التّحريم إذا عُلِّقَ على النِّساءِ، فإنّ المفهومَ منه الوَطءُ، كما أنّه إذا عُلِّق على الطَّعام فُهِمَ منه الأكلُ، فيجبُ أنّ يُحْمَلَ على الوطءِ، أو على كلِّ معنى مقصوده الوطء، فأمّا الوطء فإنّه بملك اليمين، وأمّا العَقْد الّذي مقصوده الوطء فإنّه النِّكاح، وُيخَالِفُ في ذلك مِلْكُ اليمينِ، فإنّه بجوزُ للإنسانِ أنّ يَمْلِكَ مَنْ لا يطأ، كالأُختِ من الرِّضاعَة، والخَالَة، والعَمَّة من النّسب، ولا يجوز عقد النّكاح على من لا يجوز للرَّجُل وطؤُها من النِّساء. المسألة الثّانية: وفي "المدوّنة": أنّه إذا تزوّجَ الرَّجُلُ امرأةً وعمّتها، أو خالتها، وجَمَعَ بينهُمَا، فلا حدَّ عليه، وعليه التَّعزير، سواء كان جاهلًا أو عالمًا، قالَهُ ابنُ القاسم (¬3). ووجه قوله: أنّه تحريمُ خَبَرٍ لا تحريمُ كتابٍ، والخبرُ مَظْنُونٌ، والظَّنُّ لا يُوجِبُ ¬
القطعَ، وكيف يستحلُّ دم هذا أو حدّه؟ وقال عليّ بن زيّاد عن مالك: إنَّ كان بِكرًا جُلِدَ، وإن كان ثَيِّبًا رُجِمَ، وهذا أصحّ إنَّ شاء الله؛ لأنّه يقال لابْنِ القاسِم: بأيّ شيءٍ يقتل تارك الصَّلاة ولم يأتِ في القرآن ولا في السُّنَّة، تقْتُلُهُ بالقياس؟. المسألةُ الثَّالثةُ: في صِفَةِ الجَمْعِ (¬1) قال علماؤُنا (¬2): والجمعُ بينهُمَا بالنَّكاحِ في عَقدٍ واحدٍ يكونُ على ضربينٍ: أحدُهما: أنّ يجمَعَ بينهُمَا في عَقدٍ واحدٍ. والثّاني: أنّ ينكِحَ إحداهما بعد الأخرى. فأمّا الأوّل: فقد قال مالك في "المدوّنة" (¬3): إنَّ كلَّ امرأتين يجوزُ له أنّ ينكِحَ إحداهُما بعد الأخرى، لا يجوزُ له أنّ يجمع بينهما، فإن جَمَعَ بينهما في عَقْدٍ واحدٍ، فإنّه يُفْسَخ نكاحُه لهما جميعًا، وليس له أنّ يحبسَ واحدة منهما، بني بهما أو بواحدة منهما* أو لم يبن. وَجْهُهُ: أنَّه قد مُنِعَ أنّ يجمعَ بينهُما في عَقْدِ النِّكاح، فإذا انْعَقَدَ نكاحُهما على الوَجْهِ الممنوعِ بِه، فُسِخَ نكاحُهُ قبلَ البِناءِ وبعدَهُ؛ لأنَّ الفسادَ في العَقْدِ. المسألةُ الرّابعةُ (¬4): فإن أفردَ كلَّ واحدةٍ منهُما بعَقدٍ، ثَبَتَ نكاحُ الأُولى، وفُسِخَ نكاحُ الثَّانيةِ، دخلَ ¬
بهِمَا أو بإحداهما، كانت الأُولى أو الأخرى (¬1). المسألةُ الخامسة (¬2): وأمّا إذا ملك عِصْمَة إحداهما، وَوَطِىء الثّانية بمِلْكِ اليمينِ، فلا يخلو أنّ يكون عَقدُ النِّكاحِ أوَّلًا أو آخِر، فإن كان السّابق، فقد روى محمدٌ عن ابن القاسمِ؛ أنّه إنَّ نكحَ إحدى الأُختين، فلم يبْنِ بها حتّى وَطِىء الثّانية بِمِلكِ اليمينِ، أنّه يوقَف عنها حتّى يُحَرِّمَ فَرْجَ أَمَتِهِ عليه، ولا يفسد ذلك النِّكاح. وقال أشهبُ: بل يطأ الزَّوجة؛ لأنّ فَرْجَ أَمَتِهِ عليه حرامٌ منذ عَقَدَ على أُختها عَقْدَ نِكاحٍ. توجيهٌ: ووجهُ قولِ ابنِ القاسمِ: أنّه قد وُجِدَ منه في كلِّ واحدةٍ ما يمنَعُ من الأُخرى، فوجبَ أنّ يُوقَفَ عنهما، كما لو كانتا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَهُما. ووجهُ قولِ أشهب: أنَّ النِّكاحَ من بابِ الاسْتمتاع، ومَنْعَهُ أَقْوَى من مِلْكِ اليمينِ؛ لأنّ مقصودَهُ الوَطءُ. ومقصودَ مِلْكِ اليمينِ المِلْكُ دونَ الوَطءِ. فرعٌ: فإن وَطِىءَ إحداهُما بملْكِ اليمين، ثمّ تزوَّجَ الأُخرى قبل أنّ يُحَرِّم الأَمَة على نفسِهِ، فقد قال محمّد: اختُلِفَ فيها: فقال ابنُ عبد الحَكَم وأَشهَب: نكاحُه جائزٌ. وقال ابنُ القاسم: لا يجوزُ أنّ يعْقِدَ النِّكاحَ حتَّى يُحَرِّم الأَمَة على نفسه، فإن فَعَلَ، وَقَفَ بعدَ النِّكاحِ ولا يَقرُب واحدة منهما حتَّى يُحَرْم على نفسِهِ أيّتَهُمَا شاءَ. وقال عبدُ المَلِك: يُفْسَخُ النِّكاحُ ولا يُقَرُّ على حالٍ، وهذا القولُ مع الّذي قَبلَهُ لابْنِ القاسِم في "المدوّنة" (¬3). ¬
فرع: ويجوزُ للرَّجُل الجمع ببن المرأةِ وزوجة أبيها، قالَهُ غير واحدٍ من أصحابِنا، وذلك أنّه لا يُتَصَوَّر في الطَّرَفَينِ أنّ تكون كلّ واحدةٍ منهُما ذَكَرًا، فيجوز له نكاحُ الأُخرَى أو يحرم عليه؛ لأنّه لا يُتَصَوَّر أنّ تكون زوجة الأَبِ ذَكَرًا. المسألةُ السّادسةُ (¬1): قولُه (¬2):"وَأَنْ يَطأَ الرَّجُلُ وَليدَةً، وَفِي بَطنِهَا جَنِينٌ من غَيرِهِ" ولا يخلو أنّ يكون من نكاحٍ، أو وَطءِ بمِلْكِ يَمينٍ، أو زِنًا، والنّكاح على ضربين: 1 - ضَرْبٌ في حال يتعقَّبُهُ السِّباء. 2 - أو نكاحٌ في حالٍ لا يتعقَّبُهُ السِّباءُ. فأمّا النّكاحُ في حالٍ يتعقَّبُها السِّباءُ، فهو أنّ يَتَنَاكَحَ المشركانِ في دارِ الحَرْبِ، ثمَّ تُسبَى المرأةُ حامِلًا، فإنّه لا يجوزُ وطؤُها على حالٍ حتّى تَضَع. والأصلُ في ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ" (¬3). ومن جهة المعنى: أنّ ذلك يوقع تلبيسًا في النَّسَبِ، والشَّرْعُ موضوعٌ على تخليصِ الأنساب، ولهذا شرِعَتِ العِدَّةُ والاِستبراءُ. المسألة السّابعةُ (¬4): وأمّا النِّكاحُ الّذي لا يتعقبه السِّباء، فالأَمَةُ المسلمةُ يطلِّقُها زوجُها، أو يموت عنها حاملًا، فإنّه لا يجوزُ لسيِّدِها أنّ يطأَها حتّى تضع حَمْلَها. ¬
باب ما لا يجوز من نكاح الرجل أم امرأته
وأمّا إنَّ كان حملُها من مِلْكِ اليمين، مثل أنّ يطأَها سيَّدها فيبيعها من غيره أو يزوّجها، فإنّه لا يجوز وطؤها، بل لا يحلُّ نكاحُها ولا ابتياعُها بوجهٍ، وسنذكرُ ذلك كله في بابه إنَّ شاء الله. باب ما لا يجوزُ من نِكاح الرَّجُل أمّ امرأته قال الإمام (¬1): قولُه (¬2): "لا، الأمُّ مُبْهَمَةٌ" يريدُ أنّ ذِكرَهَا في آيةِ التَّحريمِ مُطلَقٌ غير مقيَّد بصِفَةٍ؛ لأنّه قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} الآية (¬3)، فلم يُقيِّد بالبِنَاء ولا غيره. وقولُه (¬4): سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الأُمِّ بَعْدَ الإبْنَةِ، إذا لَمْ تكُن الإبْنَةُ مُسَّتْ، فقال: لَا، الأُمُّ مُبْهَمَةٌ، ليسَ فِيهَا شَرْطٌ. وَإِنّمَا الشَّرْطُ في الرَّبَائِبِ. العربيّة: قال أبو إسحاق الزَّجّاج: المُبْهَمُ في كلامِ العرب هو الكلامُ الّذي لا منفذ له (¬5). وقول (¬6) زيد: "إِنَّمَا الشَّرْطُ في الرَّبَائِبِ" يعني قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الآية، إلى قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (¬7) يعني: نكاح ¬
الرّبيبة غير المدخول بأمّها إذا طلّق أمّها قبل أنّ يدخل بها، وهذا الّذي قالَهُ زيد هو قولُ الجمهور من الصّحابة. المسألةُ الثّانيةُ (¬1): قولُه (¬2): "وَتَحْرُمَانِ عَلَيهِ أَبَدًا" هو كما قال مالك، وذلك أنّ نِكاحَ المرأةِ على ابنَتِها حَرامٌ، فإذا وَطِئَهَا حرمت عليه الابنةُ بِوَطْئِه أمّها، وحرمت عليه الأمُّ بعَقْدِ نكاحِ ابنتِها قبلّها، فحرمتا عليه جميعًا تحريمًا مُؤبَّدًا. المسألةُ الثّالثة (¬3): اعلم أنَّ كلَّ امرأةٍ يجوزُ العَقْدُ عليها، التَّحريمُ فيها لمعنًى، وذلك التّحريمُ بنقسمُ إلى قسمين: مُؤَبَّدٌ، وغير مُؤَبَّدٍ. وأمّا الّذي ليس بمُؤَبَّدٍ، فينقسم قسمين: إلى صِفَةٍ في المرأةِ. وإلى صِفَةٍ في العَقْدِ. فأمّا الصِّفةُ الّتي تكونُ في المرأةِ فيثبت بثبوتها وتزولُ بزوالها، وجملة مسائلها عشرة: 1 - أوّلها: المُعْتَدَّةُ. 2 - والمُستَبْرَأَةُ. 3 - والمُحْرِمَةُ. 4 - وذاتُ الزَّوْجِ. 5 - والأَمَةُ المسلمةُ. 6 - والأَمَةُ الكتابيةُ. 7 - والمُرْتَدَّةُ. 8 - والمَجُوسيَّةُ. ¬
9 - والرَّجُلُ في أَمَتِهِ (¬1)، وفي أمَةِ ابنه، وأَمَة مُكاتَبِهِ. 10 - والمرأةُ في عَبدِها ومُكَاتِبَهَا. فإذا ثبت هذا، فالمُعْتَدَّةُ فيها ستُّ مسائلَ: الأولى (¬2): لا يجوزُ نكاحُها، والأصلُ في ذلك، قولُه تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} الآية (¬3). المسألة الثّانية (¬4): ولا يجوزُ خطبتها، والأصلُ في ذلك، قولُه تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} الآية (¬5). ولا بَأسَ بالتَّعريضِ، قال ابنُ عبّاسٍ: هو أنّ يقول لها: إنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ (¬6)، وإنِّي عَلَيكِ لَحَريصٌ. المسألةُ الثالثةُ (¬7): إنَّ خطَبَها في العِدَّةِ ونكحها (¬8)، ففيها قولان: يُفْسَخ، ولا يُفْسَخ. ووجهُ القولِ بالفَسْخِ: أنّه نُهِي عن نكاحِهَا (¬9)، والنَّهْيُ يقتضي التَّحريم وفساد المنهيّ عنه، فمتَى وُجِدَ فُسِخَ. ¬
ووجهُ من قالَ لا يُفْسَخ: أنّه نهىٌ يتعلَّقُ بنكاحٍ، فلم يقع التَّحريم فيه بلَفظِهِ، أصلُه المُحرِمَة (¬1). المسألةُ الرّابعةُ (¬2): إنَّ تزوَّجَها في العِدًةِ ودَخلَ بها، فَيُفْسَخُ النِّكاحُ، ولا تحِلُّ له أبدًا، قَولًا واحدًا، خلافًا للشّافعيّ (¬3) وأبي حنيفة (¬4). والدّليلُ على ذلك: فعلُ عمر حين فَرَّقَ بينهُما، وقال: "لا تَحِلُّ لَك أَبَدًا" (¬5) وكانَ بحضرةِ الصَّحابةِ، فلم يُنكِر عليه أحدٌ، فكان إجماعًا (¬6). المسألةُ الخامسة (¬7): إذا تزوَّجَها في العِدةِ، ودخل بها بعدَ العِدَّةِ، ففي الفَسْخِ قولٌ واحدٌ. وفي تّحريم التّأبيد قولانِ (¬8): 1 - يحرمُ أَبدًا. ووجهُهُ: أنّه نكاحٌ وُجِدَ في العِدَّة. 2 - الثّاني: لا يكونُ مُؤَبَّدًا؛ لأنّ التَّأبِيد عقوبةٌ للوَطْىء الّذي يخلِطُ الإنساب، ويُفسدُ الفَرْشَ، ولم يوجد في هذا. المسألةُ السّادسةُ (¬9): إذا تزوَّجها في العدَّةِ ولم يدخل، قولٌ واحدٌ أنّه يُفْسَخ. ¬
فصل
وهل يكونُ التَّحريمُ مُؤَبَّدًا أم لا؟ ففيها أيضًا روايتان محمولتان على الخامسة وما يتَّصِلُ بِها. فصلٌ وأمّا مسألةُ الاستِبْراءِ ففيها خمسُ مسائلَ: المسألةُ الأولى: في المستبرأة (¬1) أمّا المستبرأةُ، فلا يجوز نكاحُها. والدّليل عليه أنّا نقول: هذا قسمٌ تُلحقُ فيه الأنسابُ (¬2)، فلم يَجُز نكاحُها كالمُعْتَدَّة. الثّانية (¬3): الزّانية هل تَسْتَبرِىءُ أم لا؟ فعندنا أنّها تَسْتَبرِىءُ خلافًا لأبي حنيفة (¬4) والشّافعىّ، واحتجّا بأنّ ماء الزّاني لا حرمةَ له. وهذا فاسدٌ؛ لأنّ الحرمةَ للماءِ الوارِدِ كحرمة الماء المتقدِّم. الثّالثة (¬5): إذا زنَى رجُلٌ بامرأةٍ، هل يحلُّ له نكاحها؟ قلنا: نكاحُها جائزْ بالإِجماعِ. والأصلُ فيه: أنّ الزِّنا كبيرةٌ من الكبائرِ، فلم يضادّ ¬
النِّكاح، كالقَذْفِ وشُرب الخمرِ وغيرِهما، لكنه يُكره، وإنّما كُرِه لقولِ الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية (¬1). وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "عَلَيكَ بذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَداكَ" (¬2)، وقوله: "تَخَيّرُوا لِنُطَفكُمْ" (¬3). المسألةُ الرّابعةُ (¬4): إذا زنتِ امرأةُ الرَّجُلِ تَحتَهُ، هل يفارقُها أم لا؟ قلنا: ليس بواجبٍ طلاقُها. والدّليلُ على ذلك: قولُ الرَّجُل للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: يا رَسُول الله، إِنَّ امرَأَتِي لَا ترُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "طَلَّقهَا"، فقالَ: يا رَسُولَ الله إنِّي أُحِبُّهَا، قال: " فَاسْتَمْتِعْ بهَا" (¬5). ولم يُقِرّ - صلّى الله عليه وسلم - الرَّجُلَ على الحرام. وقد تَأوّلَ الأَصْمَعِىُّ هذا الحديثَ أنّها كريمةٌ مُبَذِّرَة لمالِ زوجِهَا لا تردّ من يسألها، وأَنْشَدَ في ذلك (¬6): وَألمَسْتُ كَفِّي كَفَّهُ أَطلُبُ الغِنَى ... وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الجُودَ مِنْ كّفِّه يُعْدِي فَلَا أَنَا مِنهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الغِنَى ... أفَدتُ وَأَعدَائِي فَأَتْلَفتُ مَا عِندِي ¬
قال الإمام: هذا تأويلٌ ضعيفٌ؛ لأنّه لا يقالُ في هذا لَامِسٌ، وإنّما يقال مُلمِسٌ. وأمّا "المرأة ذات الزوج" فلا يجوز نكاحها؛ لشغلها بزوجها (¬1). وأمّا "المُحْرِمَة" فقد تقدّم الكلامُ عليها في باب "نِكَاح المُحرِمِ" في "كتَابِ الحَجِّ". وأمّا "الأَمَةُ المسلِمَةُ" فإِن نكاحها لا يجوز، إِلَّا لمن لم يجد طَولًا، وهو المالُ، والمقدارُ من ذلك المَهر إذا خَشِيَ العَنَتَ. وقال أبو حنيفة: الطَّوْلُ: القُوَّةُ والقُدْرَةُ، واحتجّ بقوله تعالى: {ذِي الطَّوْلِ} (¬2) أي: ذو القوّة (¬3). وقال آخرونَ: يجوزُ نكاحُ الأَمَةِ ما لم تكن تحتَهُ حرَّةٌ، وإنّما لم يجز نكاح الأَمَة لاسترقاقِ وَلَدِها، وإذا استُرِقَّ ولَدُها، فكأنّه قد استرقَّ بعض الجزء، ولا يجوزُ إِلَّا مع الضّرورة كالمَيتَة. ودليلُنَا قولُه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية (¬4). وعندنا أنّه إذا لم يكن له مال، وخَشِيَ العَنَتَ، أنّه يجوزُ له أنّ يتزوّج أربعة إماء. ودليلُنا على ذلك: أنّه جِنسٌ أُبِيحَ نِكاحُه، فجاز نكاحُ أربعٍ، أصلُه الحرائرُ. وقال الشّافعيّ (¬5): لا يجوز له أنّ ينكح إِلَّا واحدة؛ لأنّها رخصةٌ ثَبَتَتْ لأجل الضّرُورة. وأمّا "نكاحُ الأَمَةِ على الحُرَّة" ففيها قولان: أحدهما: أنّه يبطل النِّكاح. وَوَجْهُهُ: أنّه حقٌّ للهِ، فلم يجز نكاحُها على الحُرَّةِ. وَوَجهُهُ من قال: إنّها بالخِيَارِ - وهو القولُ الثّاني - أنّ الحقَّ للمرأة، فإن شاءت صَبَرَت، وإن شاءت اختارت الفِرَاقَ. ¬
والخِيَارُ على وجهين: قال مالك -وهو الوَجْهَ الأَوّلُ- تختارُ بنفسها بأن تبقَى مع الزّوج أو تزول عنه (¬1). وقال عبد الملك: إنّما الخِيَار أنّ تثبت نِكَاح الأَمَة أو تفسخه، وهو الوجه الثّاني. فوجه قول مالك: أنّ الضَّرَرَ يلحقها، فإن شاءت بقيت، وإنْ شاءت مضت. ووجهُ قولِ عبد الملِك: أنّ الضّرر إنّما يلحقُها بالدّاخلةِ، فإن شاءت تركتها، وإن شاءت دفعتها. وأمّا "الأَمَة الكِتَابيَّة" (¬2) فلا يجوز نكاحُها، خلافًا لأبي حنيفة (¬3). ودليلُنا: قوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية (¬4)، فقيّد بالإيمان. واستدلَّ أبو حنيفة بأن قال: جِنْسٌ أُبيحَ حَرَائِرُهُ، بدليلِ قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية (¬5)، فجازَ نكاحُ الأمَةِ الكتابيَةِ، كالحُرَّة الكتابيّة. ولمالك دليل يعارِضُ به أبا حنيفة وتبقَى الآية له، وهو أنّه يتعاورها نقصان: الرقّ والكفر. وأمّا "المرتَدَّة" فلا يجوزُ نكاحها. ودليلُنا: الإجماع، وهو أقوى دليل في ذلك. وأمّا "أمَةُ الرَّجلِ وأَمَةُ ابْنِهِ" (¬6) فلا يجوزُ له نكاح أَمتِهِ. ¬
باب جامع مالا يجوز من النكاح
ودليلُنا: أنّ المِلكَ أقوى مِنَ النِّكاحِ، بدليل أنّه لو طرَأَ المِلكُ على النِّكاحِ أَبطَلَهُ. وأمّا "أَمَةُ ابنِهِ" فبِالحديثِ، وهو قولُه: "إِن أَطيَبَ مَالِ المَرْءِ من كَسبِهِ، وإنَّ وَلَدَهُ من كَسبِهِ" (¬1) فأمَةُ ابنِهِ على هذا من كَسْبِهِ، فلا يجوزُ نكاحُها. وأمّا المرأةُ، فلا يجوزُ أنّ تنكحَ عبدَها لأنّهما ضِدّان، يطالبها بالنَّفَقَة (¬2)، وتطالبُه بالنَّفَقة (¬3)، ويطالبُها بالنِّكاحِ، وتطالبُه بمِلكِ الرِّقِّ، وبذلك لا يجوز (¬4)، والله أعلم. وأمّا ما رُوِيَ عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه كان يرى بيع أم الولد (¬5)، فلا يصحُّ عنه، والله أعلمُ. باب جامع مالا يجوزُ من النِّكاح الأصول (¬6): قال القاضي: هذا أمرٌ لا ينحصرُ في البيان، ولا يدخُلُ تحت التَّقدِيرِ، إنّما المُنحَصِرُ ¬
النِّكاحُ الجائزُ، وشروطُه خمسةٌ: 1 - 2 - متعاقدان حصلت فيهما أهليّةُ العَقْدِ. 3 - ووليٌّ استَقلَّ بأهليَّةِ الولايةِ. 4 - وصَدَاقٌ يقبَلُ العَوَضِيَّة. 5 - وإعلانٌ يُفَارِقُ بهِ السِّفَاح الّذي حرَّمَ الله. فإذا اختلَّ شرطٌ من هذه الشّروط تَطَرَّقَ الفسادُ إلى هذا النِّكاح، ومداخِلُ الاحْتِلالِ لا تُحصَى؛ إِلَّا أنّ مالكًا - رحمه الله - أراد بالتَّبْوِيب أُمَّهات الفَسَادِ ومشهوراتِه، وحَصَلنا منها على ثلاثِ مسائلَ: 1 - المسألةُ الأُولى: نكاحُ الشِّغارِ وهو المُعَاوَضَةُ بالبُضعِ بالبناتِ والأَخَوَاتِ (¬1). وهو في العربيَّة (¬2) مأخوذٌ من المُشَاغَرَةِ، وهو رفعُ الكلبِ ساقه عند بوله، فصار عاقد النِّكاحِ علَى الشِّغَارِ قاصدًا إلى رفع الصَّدَاق (¬3)، فتصيرُ الزَّوجة موهوبَة بغير صَدَاقٍ، فلذلك يُفسَخُ النِّكاحُ متى عُقِدَ على الشِّغارِ. ورأَى ابنُ القاسم استحبابًا أنّ يفُسَخَ بغير طَلَاقٍ (¬4). وكذلك نكاحُ السِّرِّ لا خير فيه. واختلفَ النَّاسُ في الشِّغَار جوازًا وفسادًا، واختلفَ قولُ مالك فيه أيضًا فَسخًا وإمضاءً، وله صُورٌ، أشدّها أنّ يقول: زَوَّجتُك ابنَتِي على أنّ تزوّجَنِي ابنتَكَ. وهذا هو ¬
الّذي فسَّرَ الراوي في الحديث، وليس من كلام النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. وفي اشْتِقَاقه كلام، أَصَحُّهُ أنّه النِّكاحُ الخالي من الصَّدَاقِ، من قولهم: بَلَدٌ شَاغِرٌ، إذا كان خَاليًا. وهذا العَقدُ على هذا الوجه لم يَفسُد؛ لأنّه خَلَا عن الصَّدَاقِ، وإنّما فَسَدَ لأنّه جُعِلَ فيه صداقًا ما ليس بصداق، وقُوبِلَ البُضْعُ بِالبُضْعِ. فأمّا نكاحٌ يُعقَدُ لا للصَّدَاقِ فيه في ذِكْرٌ فهو جائز إجماعًا. وقد قال: "أبو المعالي الجُوَيْنِيُّ" إنّه إنّما فسَد نكاحُ الشِّغارِ من جهةِ أنّه عُلَّق على شرطٍ، والنِّكاحُ لا يَقْبَلُ الإِغرارَ والإخطار بخلافِ الطَّلاقِ، وفيه تفصيلٌ، بيانُه في "المسائل" بأدلَّةٍ استوفيناها في "مسائل الخلاف"، والإشارةُ فيه إلى ما كانت الجاهلية تفعلُهُ، وقد هدم اللهُ نكاحَ الجاهليّة بالإسلامِ. 2 - المسألةُ الثّانيةُ (¬1): ذِكرُ نكاح السِّرِّ وله صُوَرٌ؛ أشدُّها مالم يكن فيه شاهِدٌ، وهو الّذي يُرْجَم فاعلُه إذا عُثِرَ عليه فادّعاهُ ولم يثبت. وأمّا إذا وقعت الشَّهادّةُ عليه وتواصَوا بكِتمَانِهِ، فقد اختلفَ فيه علماؤُنا، والصّحيحُ جوازُه؛ لأنّ الله تعالى جَعَل الشّهادةَ غايةَ الإعلام. وقد يكونُ التّواصي بالكِتْمَانِ لغَرَضٍ لا يعودُ إلى النِّكاح، فلا يَقدحُ ذلك فيه، ¬
وأحاديثُ الإعلان والضَّرب عليه بالدُّفّ لم يَصِحَّ منها شيءٌ، وقد بينَّا ذلك في "شرح الصحيحين" بأحسن بيان إنَّ شاء الله. مسألة (¬1) في مقارنة الشّهادة لعَقد النِّكاح فلا خلافَ أنّه الأفضل، لاخّتلافِ النَّاسِ في ذلك، وليس عندنا ذلك بشرطٍ في صحَّتِه، ويجوزُ عندنا أنّ ينعَقِدَ بغيرِ شهادةٍ، ثمّ يقعُ الإشهادُ بعدَ ذلكَ، وبه قال: ابنُ عمر، وعروةُ بنُ الزّبير، والحسن، وعطاء. ومن المحدّثين: عبد الرّحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون. وقال أبو حنيفة: لابدّ من شَاهِدَيْنِ وإِن كانا فاسقين، ويجوز فيه رجلٌ وامرأتان (¬2). فإن عَرِيَ عن الشَّهادةِ دونَ العَقْدِ، وَجَبَ فَسْخُهُ لفسادِهِ، وأقلّ ذلك شاهِدَا عَدْلٍ، وبه قال الأوزاعيُّ والثَّوريُّ. مسالةٌ أُخرَى (¬3) في صِفَةِ من يثبُت النِّكاح بشهادَتِهِ فإنّه لا يثبت بأقلّ من شاهِدَيْن من الرِّجال، وكذلك الطّلاقُ والرَّجْعَةُ، وبه قال الشّافعيّ (¬4). وقال أبو حنيفة: يثبت برَجُلٍ وامرأتين (¬5). ودليلُنا: قولُه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية (¬6)، والأمرُ يقتضي الوُجُوب. 3 - المسألةُ الثّالثةُ (¬7) الّتي تعرَّضّ لها مالك في "الموطَّأ": تزويجُ الوَلِيِّ الثَّيَّبَ ¬
باب نكاح الأمة على الحرة
بغيرِ إِذْنِها (¬1). وهو مردودٌ إجماعًا، وعَقَّبَ ذلك بالنِّكاح في العِدَّة (¬2)، وهو مفسوخٌ بإجماعٍ من الأُمَّةِ. وإنَّما اختلفوا إذا كان الوِقَاعُ في العِدَّةِ، هل يتأبّدُ التّحريمُ عليه فيها أم لا؟ فقال مالك بتأبيده. وقال جمهورُ العلّماءِ: لا يَتَأبَّدُ. ومالكٌ أقومُ قِيلًا، وأهْدَى سبيلًا؛ لأنّه تَعلَّقَ في ذلك بقَضَاءِ عمرَ بنِ الخطّاب - رضي الله عنه -، وقضاءُ عمرَ معضودٌ بالأدِلَّة، فإنّه استعجلَ بالنِّكاحِ في العِدَّةِ أمرًا كانت له فيه أَنَاةٌ، ومن استَعْجلَ شيئًا قبل وَقتِه وحِلَّه بالمعصيةِ، قُضِيَ عليه بِحِرْمَانِه، كالوارِث إذا قتل مَورُوثهُ، وهذا بَيَّنٌ لا خفاءَ فيه إنَّ شاء الله تعالى. باب نكاح الأَمَة على الحُرَّة الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلفَ قولُ مالكٍ في ذلك على تفصيلٍ بيانُه في "المسائل"، وهي مسألةٌ مُشكلةٌ ¬
جدَّا؟ لأنّها تعارضت فيها آيتان، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية (¬1)، ثمّ قال في آخر الآية: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2)، فهذا عامٌّ مُستَرسِلٌ على الأحوالِ. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية (¬3)، ثّم قال في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (¬4). وليس الإشكال في أنّ نكاح الأَمَة المُطْلّقَةِ في آية "النُّور" مُقَيَّدٌ بالشَّرطَين في آيةِ "النِّساء"، بل ذلك إجماعٌ من الأُمَّةِ، وإنّما وقع الاختلافُ فيها في كيفيّة الشَّرطِ وهو تفسيرُ "الطَّولِ". فَمِنَ السلَفِ من قال: إنَّ الطَّولَ أنّ يكون* تحتَه حُرَّةٌ. ومنهم من قال: إنَّ الطَّوْلَ أنَ يكون* عندَه من المالِ قَدْرَ ما يَبذلُ في الصَّدَاقِ لها والنَّفَقةِ عليها، فكان المعنى على التّأويل الأولِ: من لم تكن عنده حرّةٌ وخافَ الزِّنَى فليتَزَوَّجْ أَمَةً وهذا إذا كَشَفْتَهُ هكذا فَسَادٌ في الكلام، وتثبيجٌ، فإن لم يكن تحته حُرَّةَّ وخافَ الزِّنَى تزوّج حزة، فلابُدَّ من تَمَامِ الكلامِ ونظامِهِ، وتحقيقِ الشّرطينِ، أنّ يُفَسَّرَ الطَّولُ بالقُدْرةِ على المالِ في بَذْلِ الصَّدَاقِ والنَّفَقَة، وهذا ما لا غُبَارَ عليه. وأمّا مالك وغيرُهُ من العلّماءِ فقال: إنَّ الحُرَّةَ لها حقٌّ في اجتماعِها في النّكاح مع الأَمّة، وذلك معلومٌ من نصِّ الآيةِ، فإنّ الله أَطلَقَ نكاحَ الحَرَائِرِ وقيَّدّ نِكاحَ الإِمَاءِ بما انتفت بذلك التّسويةُ بينهما، فهذا معلومٌ بظاهر النَّطرِ، وبَقِيَ تفصيلُ الحالِ في ¬
باب النهي عن نكاح إماء أهل الكتاب
اجتماعِ الحُرَّةِ مع الأَمَةِ أو فرقَتِهما بذِكرِ صفتِه وطريقتِه في "المسائل" مُسْتَوْفىَ إنَّ شاءَ اللهُ تعالى. فرع: وأمّا إنَّ تَزوَّجَ الأَمَةَ على الحُرَّةِ، فقد كان من قول مالك المنعُ من ذلك مع وُجودِ الطَّوْلِ (¬1). ثمَّ رجعَ فقال: يجوزُ، وتُخَيَّرُ الحُرَّةُ، وهو قولُ ابنِ المُسَيَّب، وبه أخذَ ابنُ القاسِم (¬2). وقوله (¬3): "لَا يَنبغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهُوَ يَجِدُ طوْلًا" هذا هو المشهورُ من المذهب، والله أعلمُ. باب النَّهي عن نكاحِ إِمَاءِ أهلِ الكتابِ الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬4): اختلفَ العلّماءُ فيها: فصارَ أهلُ الكوفةِ إلى أنّ نكاحَهَا جائزٌ، منهم أبو حنيفة (¬5). وقال أهلُ الحِجَازِ وأهلُ المدينة: لا يجوزُ ذلك، منهم الشّافعيُّ (¬6)، واتّفقوا على أنَّه يجوزُ وَطؤُها بمِلكِ اليمينِ. ¬
وقال المخالفُ أبو حنيفة: كلُّ محلٍّ حَلَّ وَطْؤُهُ بِمِلْك اليمينِ حَلَّ وَطْؤُهُ بِالنِّكاحِ، وهذا لا غُبَارَ عليه، غير أنّ مالكًا والشّافعىَّ عَوَّلَا على أصل، وهو قولُه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬1) وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية (¬2). فاحتجَّ مالكٌ (¬3) بتَخصيصِ الآيةِ في الإذن في نِكاحِ الفتياتِ المؤمناتِ دون مُطْلَقِ النّساءِ، وهذا نصٌّ منه على التَّعلُّقِ بالتَّخصيصِ، والقولِ بدليلِ الخطّاب، ولم يختلف قَطُّ في ذلك قَوْلُه، وإنّما يُترَكُ دليلُ الخطابِ إذا عارَضَهُ ما هو. أَقْوَى منه، وقد قال مالك: إذا تعارضَ العمومُ ودليلُ الخطابِ، قُدَّمَ العمومُ عليه؛ لأنّه يتناولُ المسألةَ بلفظه، ودليلُ الخطابِ يتناوَلُها بمعناه، واللَّفظُ يُقَدَّمُ علَى المعنى، وقد بيَّنّا ذلك في "أُصولِ الفقهِ". وقال ابنُ عمرَ (¬4): لا يجوزُ نكاحُ الحُرَّة الكتابيَّةِ؛ لأنّ الله تعالى يقولُ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬5) وأيٌّ شِرْكٍ أعظمُ من أنّ يقال: عِيسَى وَلَدُ اللهِ (¬6)، فرَأَى أنّها داخلةٌ في عُمومٍ هذه الآية، والتَخصيصُ أَوْلَى في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬7) والآيتانِ لو كانَتَا عامَّتينِ لَمَا كان لابْنِ عمرَ أنّ يُرَجِّحَ التّحريمَ بتَعَارُضِ العامَّينِ وتَوَازُنِهِما. فأمّا إذا اجتمعَ الخاصُّ والعامُّ، أو العامُّ والخاصُّ، فإنَّ الخاصَّ يُقَدَّمُ إجماعًا من الأُمَّةِ. وههنا غريبةٌ، وهي: أنّ علماءَنَا -رحمةُ اللهِ عليهِم- كرِهوا نكاحَ الحرائِرِ الكتابياتِ، ونصَّ عليه مالكٌ في غير ما مَوضِعٍ من كُتُبِ أصحابِه؛ لأنّ ولدَها مُعَرَّضٌ ¬
باب ما جاء في الإحصان
لشُربِ الخمرِ وأَكْلِ الخنزيرِ، وعَرَقُها يتَّصِلُ به عند مضَاجَعَتِها، وهذا يلزَمُه في اتّخاذها أَمَةً فَرْطُ أَذًى لا يتأَتَّى له عَنْهُ انْفِصَالٌ، ولم تَزَل الصّحابةُ والتَّابعونَ يَتَسَرَّونَ الكوافرَ وينَكِحُون، وقد أذِنَ الله بالتَّحليلِ في"كتابه"، وخاطبَ بذلكَ جميعَ خَلْقِهِ، لاسِيَّمَا وفي استِفْرَاشِها عزةٌ للإسلام. وقد بيَّنَّا وجهَ ذلك المعنى الّذي غاصَ عليه في "كُتب المسائل" فَليُنظَر هنالك. باب ما جاء في الإحصان الأُصول (¬1): قال سعيدُ بنُ المسَّيبِ (¬2): "المْحُصَنَاتُ أُولَاتُ الأَزْوَاجِ، وَيَرجِعُ ذَلكَ إِلَى أَنَّ الله حَرَّمَ الزَّنَا". وهذه الآية (¬3) مُشْكِلَةٌ، واختار مالكٌ فيها تأويلَ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ (¬4). وللعلّماء فيها ثلاث تأويلات: أحدها: قولُ سعيدٍ هذا. القولُ الثّاني: أنّهن السَّبَايَا ذوَاتُ الأَزواجِ، يَهْدِمُ السِّبَاءُ نِكاحَهُنَّ، فَيَحِلُّ الوطءُ لمالِكِهِنَّ إذا اسْتَبَرَّأَهُنَّ، قالَهُ عطاءٌ وطاوُسٌ (¬5). القول الثّالث (¬6): قال عَبِيْدَةُ السَّلمَانيُّ: المرادُ بالآية ما زادَ على الأربعِ، ثُمَّ قال: ¬
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬1)، ثمّ قال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬2) فأباح ذلك (¬3). وقد بيَّنَّا إشكال هذه المسألة في كتاب "الأحكام" (¬4) على أحسنِ مَسَاقٍ، والإشارةُ في الكلامِ فيها: أنّ بناءَ "إحصان" في لسان العرب وصلبُه "ح ص ن " ومعناه عندهم المنعُ حيثُما وردت معانِيهِ. وقد يَرِدُ الإحصانُ بمعنى الإسلام، وقد يَرِدُ بمعنى العِفَّة، وقد يرِدُ بمعنى التّزويج، وقد يَرِدُ بمعنى الحريّة، وكلُّ ذلك في القرآن، إِلَّا الإحصانَ فإنّه بمعنى الإسلام، وإذا ركَّبْتَ معاني الإحصان على الآية لم تجد فيها أقوى من قول سعيد بن المُسيَّب الّذي اختارَهُ مالك؛ لأنّا إِنْ قلنا: إنَّ المرادّ بذلك جميعُ النِّساء - كما قال طاوسٌ وعطاءٌ - تَثَبَّجَ (¬5) معنى الآية؛ لأنّ الله قد فصَّل المحرَّمات قبلَها، وأحكمَ بيانَها، وجعلَ المُحصناتِ من جُملَتِهِنَّ، فلو كُنَّ جميع النِّساء ما انتظمَ بذلك مساقُ الفَصَاحةِ، ولا كان أيضًا لقولِهِ تعالى بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬6) معنًى، وعلى هذا تترَكَّبُ مسألةُ بَيعِ الأَمَةِ المُزَوَّجةِ، هل يكون طلاقًا أم لا؟ وعُمُومُ هذه الآية يقتضي ذلك، إِلَّا أنّ السُّنَّة خصَّصَتْهُ بحديثِ بَرِيرَة حين اشترَتهَا عائشةُ (¬7)، فلم يكن ذلك طلاقًا لها، وبقيَ سائرُ العُمومِ على مُطلَقِهِ. ولا خلافَ بين الأُمَّةَ أنّ العبدَ والأَمَة لَيْسَا بمُحْصَنَيننِ إحصانَ الكمالِ الّذي تتعلَّقُ به الحدودُ، وذلك لقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية (¬8)، يعني: فإذا تَزَوَّجْنَ، وهذا أحدُ موارد الإحصان، ونقَصَ العبيدُ إحصانَ الحُريةِ. ¬
الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى: في صفة المُحْصن (¬1) فإن من صِفَتِهِ أنّ يكونَ بَالِغًا حُرًّا، مُسْلِمًا، يَصِحُّ منه الجِمَاعُ. فأمّا شرطُ البلوغِ، فالدّليلُ عليه، قوله: "رُفِعَ القَلم عَنْ ثَلَاثٍ" (¬2) وذَكَرَ الصّبيّ والمجنون. وقد اختلف العلّماءُ في العَقلِ، فأمّا الصّغير فإنّه يكون مُحْصَنًا بجماعةٍ. وأمّا أعتبار الحُرِيَّة، فالدّليل عليه عموم الآية، وما قدّمناه من الحديث قبلَهُ. الثّانية: أنّ يكونَ النِّكاحُ والوَطْءُ صحيحين، مثل أنّ يَطَأها وهي حائضٌ أو مُحْرِمة، فعندنا أنَّ إجماعَ الأُمَّةِ على أنّ العَقْدَ لا يقعُ به الإحصان، هذا إذا كان النِّكاحُ صحيحًا, ولا يكون نكاح شُبْهَةٍ، فهذا وَطِئَهَا في الحَيضِ وكان النِّكاح صحيحًا، فعندنا أنّه لا يقعُ به الإحصانُ، خلافًا لأبي حنيفة والشّافعيّ، فإنّهما يقولان: الوطءُ قد حَصَل على كمالِهِ، والعَقْدُ صحيحٌ. ودليلُنا: أنّ الإحصانَ كمالٌ، وهو إذا وَطِىء فأفْضَى، ولا يقعُ الكمالُ إِلَّا بالكمالِ. ¬
المسألةُ الرّابعةُ: إذا تزوّجَ الحُرُّ أَمَةً فإنّها تُحْصِنُهُ ولا يُحْصِنُها. وإذا تزوّج عبدٌ حُرَّةَ فإنّه يُحْصِنُها ولا تُحْصِنُه، وليسَ من شرطِ النِّكاحِ أنّ يُحصِنَ كلٌ واحدٍ منهُما صاحبَهُ، بل من شرطِهِ أنّ يقعَ الإحصانُ لأَحَدِهِما. المسألةُ الخامسةُ: وهو أنّ يتزوّجَ الرَّجلُ البالغُ الصَّبِيَّةَ الصَّغيرةَ تُطِيقُ الوَطْءَ، فإنّه لا يُحْصِنُها وتُحصِنُه؛ لأنّها لا تمنعه لذّته. المسألةُ السّادسةُ: وهو أنّ يتزوَجّ الرِّجُلُ البالغُ الصَّبيَّةَ الصّغيرةَ الّتي لا تُطِيقُ الوَطْءَ، فإنّه لا يُحْصِنُها ولا تُحْصِنْه؛ لأنّ وَطأَهُ لها كالجُرْحِ. المسألةُ السّابعةُ: إذا تزوّجَ المجنونُ المرأةَ فوطِئَها، فإِنّه يُحْصِنُها ولا تُحْصِنُه. المسألةُ الثامنةُ: إذا تزوّجَ الرَّجلُ امرأةً فدخلَ بها، فاختلفا في الوطء، فقالت: لم يطأني، وقال هو: وطأتُها، أو قالت هي: وَطِئَنِي، وقال هو: لم أطأها. فقال ابنُ القاسِم: الإحصان على مَنْ أقرّ بالوطءِ. وقال ابنُ عبد الحَكَم: لا يقعُ الإحصانُ إِلَّا بإقرارِهِمَا, ولا يكونُ الإحصانُ إِلَّا بالجِمَاعِ في الفَرْجِ على وجهِ الإباحةِ، فإذا غَابَتِ الحَشَفَةُ في الفَرْجِ، فإنّه يجبُ الإحصانُ بذلك.
باب ما جاء في نكاح المتعة
باب ما جاء في نكاح المتعة قال الإمام: الأصول في مسائل: المسألة الأولى (¬1): في تحريمه إجماعًا ونكاحُ المُتْعَةِ من أغربِ ما وردَ في الشّريعةِ، ونُسِخَ، وكان مباحًا في صَدْر الإسلامِ، ثمَّ نَهَى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عنه يومَ خَيْبَرَ (¬2)، ثمَّ أباحَهُ في غَزوَةِ حُنَينٍ، ثمَّ حرَّمَهُ بعد ذلك، فَتَدَاوَلَها النَّسخُ مرَّتينِ، وليس لها أختٌ في الشَّريعةِ إِلَّا مسألةَ القِبْلَةِ، فإنّ النَّسخَ طَرَأَ عليها مرَّتينِ، ثمَّ استقرّتْ بعدَ ذلك، فبيَّنَهُ مسلم من طريق الرَّبيعِ بنِ سَبْرَة الجُهَنِيَّ (¬3)، فصارَ لا يجوزُ نكاحُ المُتعَةِ باتِّفاقٍ مِنَّا ومنهُمْ؛ لأنَّ الإجماع انْعَقَدَ بعدَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - من الصَّحابةِ على ذلك. لكن يُحْكَى (¬4) أنّه مذهب ابن عبّاس وَحْدَهُ، ثمّ إنه سمع رجلًا ينشدُ في الحّجِّ بمَكَّة: يا صاحِ هل لكَ في بيضاءَ نَاعِمَةٍ ... تَكونُ مَثْواكَ حَتَّى مَصدَرَ النَّاسِ (¬5) وُيرْوَى: يصدر النَّاس. ¬
ثمّ رجعَ عن ذلك وقال: إنّما كنتُ اعتقدْتُه رُخْصَةً منَ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فإذَا النَّاسُ قد اتَّخَذُوهُ للفَاحشة، فأَشْهَدَ على نفسِهِ أنّه قد رَجَعَ عن ذلك (¬1)، فانعقدّ الإجماعُ على تحريمهَا (¬2)، فإذا فعلَهَا أحدٌ يُرْجِم في مشهورِ المذهب. وفي روايةٍ أُخرى عن مالك أنّه لا يُرْجم؛ ليس لأنّ نكاحَ المُتعَةِ ليسَ بحرام، ولكن لأصلٍ آخرَ لعلّمائنا غريبٍ انْفردوا به دون سائر علمائنا، وهو أنّ ما حُرِّم بالسُّنَّةِ هل هو مثل ما حُرِّمَ بالقرآن أم لا؟ فمِن راويةِ بعضِ المدنيِّينَ عن مالك، أَنّهما ليسا بسَوَاءٍ، وهذا ضعيفٌ، وقد بيَّناه في "أصول الفقه"، وقد حقَّقْنَا القولَ فيه أنّهما سواءٌ في العملِ كان افْتَرقَا في العِلْمِ. وأمّا نكاح المُتعَةِ، فهو أكبرُ من ذلك كلِّه وأَقْوى منه، وإنّ تحريمَه ثبتَ بإجماعِ الأُمَّةِ، والإجماعُ أكثرُ من الخَبَرِ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال علماؤنا (¬4): المُتْعَةُ: هي النِّكاحُ المُؤَقَّتُ، مثل أنّ يتزوَّجَ امرأةً إلى شَهْرٍ أو ¬
نحوِهِ، فإذا انقضَى، بَطَلَ النِّكاحُ، قاله: ابنُ الموّاز. زادَ ابنُ حبيب: أو مثل أنّ يقولَ المسافرُ يدخلُ البَلَدَ: أَتَزَوَّجُكِ ما أَقَمْتُ. وقد كانت في أوّلِ الإسلام فنُسِخَت. قال علماؤُنَا (¬1): فإنْ وقع في عصرنا يُفْسَخُ، قبلَ البِنَاءِ وبَعْدَهُ (¬2). ووجه ذلك: نَهيُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، والنَّهيُ يقتضي فسادَ المَنْهِيِّ عنه. ومن جهة المعنى: أنّه عَقْدُ نكاحٍ فاسدٍ فَسَدَ بعَقْدِهِ، فوجبَ أنّ يُفْسَخَ قبل البناءِ وبعدَهُ. المسألةُ الثّانيةُ (¬3): فإن تزوَّجَ رجلٌ امرأةً على أنّ يأتيها نهارًا ولا يأتيها لَيلًا. فروى محمّد، عن ابنِ القاسِم، عن مالك؛ أنّه كَرِهَ ذلك، وقال: لا خَيرَ فيه. فإن وَقَعَ، فروَى محمَّد، عن ابنِ القاسِم؛ أنّه يُفْسَخُ قبلَ البِنَاءِ، ويُثْبَتُ بعدَهُ. وقال ابنُ الجَلَّاب (¬4): يُفْسَخُ قبلَ البناءِ وبعدَهُ. ووجه ذلك: أنّهَ قد شرطَ في النّكاح ضدّ مقتضاه؛ لأنّ مقتضاه تأبيد المُوَاصِلَة واستكمالها أعني: الملك على منفعة البُضعِ، فلا يجوزُ أنّ يشترطَ ما يمنعُ من ذلك، ولذلك لم يكن لها زوجان. وإنّما قلنا: يُفْسَخُ على الوجهين؛ لأنّ الفساد في العَقْدِ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): ويجبُ لها (¬2) عندَ ابنِ القاسِم مَهْر المِثْلِ، وعند محمّد بن الموّاز المسمّى، وبه قال ابنُ الجَلّاب (¬3)، وهو الصّواب؛ لأَنّ الفسادَ في العَقدِ دون المَهْرِ. فرع (¬4): ومن تزوَّجَ امرأةً لا يريدُ إمساكَهَا، إِلَّا أنّه يريدُ أنّ يستمتعَ بها مدَّةً ثمَّ يفارِقُها؟ فقد روى محمّد، عن مالك؛ أنّ ذلك جائزٌ، وليس من الجميلِ (¬5)، ومعنى ذلك ما قاله ابن حبيب؛ أنّ النّكاحَ وقعَ على وَجْهِهِ, ولم يشترط شيئًا، وإنّما المُتْعَة ما اشتُرِطَت فيها الفُرتَة قبلَ المِلْكِ. وقد يتزوّج الرَّجُلُ المرأةَ على غير إمساكٍ، فيسرَّهُ أَمْرُهَا فيمسكُها، وقد يكونُ ضدّ ذلك فيفارِقُها. المسألة الرّابعة (¬6): قوله (¬7): "وَلَوْ كُنْتُ تَقدَّمْتُ فِيها لَرَجَمْتُ" يريدُ: أَعلمتُ النَّاسَ إعلامًا شائعًا حتّى لا يَخفَى ذلك على أحدٍ، فمن فعَلَهُ بعدَ ذلك رَجمتُه، فأشار بذلك إلى أنّه من جَهِلَ التّحريم - وكان الأمر المُحَرِّم ممّا يخفَى وقد تقدَّمَت فيه إباحة - فإِنّه يُدْرَأْ فيه الحدّ. ¬
وروي (¬1) أنّه يُرجم من فَعَلَ ذلك اليوم إنَّ كان مُحصنًا، ويُجلَد من لم يُحصَن. وروى (¬2) مُطَرِّف وابن الماجشون وأَصْبَغ عنِ ابنِ القاسم أنّه قال: لا يُرجَمُ وإن دخلَ على معرفةٍ منه بذلك، ولكن يُعاقَبُ عقوبةً مُوجعَةً لا يبلغ بها الحدّ. وقد رُوِيَ فيه عن مالك أنّه قالّ فيه: يُدْرَأُ فيه الحدّ، ويُعَاقَب إِنْ كانَ عالمًا بمكروهِ ذلك. المسألة الخامسة (¬3): في توجيه هذه الأقوال أمّا وجهُ القولِ الأوَّل: فما رُوِيَ عن عمر وخطَبَ النَّاسَ به، فلم يُنْكِر ذلك عليه أحدٌ. ووجهُ القولِ الثّاني: ما احتجَّ به أَصْبَغ (¬4)؛ أنَّ كلَّ نكاحٍ حرَّمَتْهُ السُّنَّةُ دونَ القرآنِ، فلا حدَّ على من أَتَاهُ عالِمًا عَامِدًا، وإنّما عليه النَّكَال، وكلُّ نِكَاحٍ حَرَّمَهُ القرآنُ أتَاهُ رجلٌ عالمًا عامدًا فعليه الحدّ، وهو الأصلُ الّذي عليه ابن القاسم. قال القاضي: والّذي عندي أنّ ما حَرَّمَتْهُ السُّنَّة وَوَقَعَ الإجماعُ على تحريمِهِ، يثبُت فيه الحدّ، كما يثبت فيما حَرَّمَهُ القرآن. وعندي فيه وجه آخر: وذلك أنَّ الخلافَ إذا انقطعَ، ووقع الإجماعُ على أحدِ أقوالِهِ بعد وفاة قائله وقبل رجوعه عنه، فإنّ النَّاس مختَلِفُونَ في ذلك (¬5): فذهبَ القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب الباقلَّاني إلى أَنّه لا ينعقد الإجماع بموتِ ¬
باب ماجاء في نكاح العبيد
المخالف (¬1)، فعلى هذا إنَّ المتعة باقيةٌ، وبذلك لا يحدُّ فَاعِلُه، على من رأى أنّ الإجماع لا ينعقِد بموتِ المخَالِفِ. والصّحيح من قولِ علمائِنَا؛ أنّه ينعقد الإجماع بموت إحدى الطَّائفتين، وعلى هذا يُحَدُّ فاعِلُهُ. والصّحيح أنّه مُحَرَّمٌّ، وأنّ ابنَ عبَّاسٍ عَلِمَ الإباحة ولم يَعْلَم التّحريمَ، حتّى أنكر عليه على إباحة ذلك وأعلمه بالتّحريم فرجع عنه. باب ماجاء في نكاح العبيد الأصول (¬2): قال الإمام: فائدةُ تَبْوِيبِه لهذا الباب، أنّ العبيدَ داخلونَ في خِطابِ الأحرارِ، يشمَلُهُم القولُ الواردُ في جميع المسلمينَ بجميعِ أحكامِ الشّريعةِ، إِلَّا مَا قام الدّليلُ على تخصيصه. هذا هو المشهورُ من قولِ العلماء، والمتَّفَقُ عليه من المالكيَّةِ، فعلى هذا يَنْكِحُ العبدُ أربعَ نِسْوَةٍ؛ لأنّه داخلٌ في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية (¬3)، بمُطلَقِ اللَّفْظِ العامِّ (¬4). ¬
وفيه للعلّماء سبع مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال مالك: يجوزُ نِكاحُ العبدِ أربعَ نِسْوَةٍ، رواه عنه أشهب (¬2). وروى محمّد عن ابنِ وَهْبٍ عنه، أنّه قال: لا يتزوُّجُ العبدُ إِلاّ اثنتينِ، وبه قال الشّافعي (¬3)، وأبو حنيفة (¬4)، وابن حنبل (¬5)، واللَّيْث. التّوجيه: وجهُ القولِ الأوّلِ: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية (¬6)، ولم يُفَرِّق بين الحُرِّ والعبدِ. فإن قيل: إنَّ الخطابّ مُتَوجَّهٌ إلى الأحرار؛ لأنّ نَفَقَات زَوْجَات العبيد على ساداتهم، والله يقول: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} الآية (¬7)، معناه: يكثر عِيَالكم، كذلك فَسَّرَهُ زَيْد بن أَسْلَم (¬8). والجواب: أنّ هذا التّفسير ممّا انفردَ به مالك، ولا يلزم؛ لأنّه لا يقالُ: عَالَ الرَّجلُ إذا كَثُرَ عِيَالُه (¬9)، وإنّما يقالُ: عال إذا مال (¬10)، وعَالَتِ الفريضةُ إذا زَادَ حسابُها، والّذي قال به جماعة من أهل التّفسير أنّ معناه: لا تمِيلُوا (¬11)، فَبَيَّنَ ذلك قولُه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}: الآية (¬12). ¬
فذكر ما لا يحرمُ منه، المَيْل من السَّراري، فلا يلزمُ بينهنَّ العَدْل. ووجهُ القولِ الثَّاني: قولُه تعالَى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} الآية (¬1). ومعنى ذلك: إنكارُ مساواةِ العبيد الأحرارَ، فوجب ألَّا يُسَاوى فيه العبدُ الحُرِّ، كالطّلاق والحدّ. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): فإذا قلنا: إنّه يتزوَّجُ أَرْبَعًا، فإنّه يجوزُ أنّ يكونَ جميعهُنَّ حرائر، وجميعهُنَّ إِمَاء، وبعضهُنَّ حرائر، وسائرهنّ إِمَاء، رواه محمّد، عن أشهب، عن مالك. وقوله (¬3) في الباب (¬4):"العَبْدُ مُخَالِفٌ لِلْمُحَلِّلِ" يريد: أنّ نكاحَهُ يثبتُ إذا أَذِنَ فِيهِ السَّيَّدُ، ونكاحُ المحُلِّلِ لا يثبتُ على حَالٍ. والفرقُ بينهما: أنّ نِكاحَ العَبْدِ إنّما يُرَدُّ لحقِّ السَّيَّد، فإذا أجَازهُ جَازَ، ونكاحُ المُحَلِّل إنّما يرد لحقِّ الله تعالى، فليس لأحدٍ إجازته. وهنا تتركّبُ ثلاثُ مسائلَ: المسألةُ الأولى: فيمن يمْلِك نكاح العَبْدِ. الثّانيةُ: فيما يجوزُ من عَقْدِهِ على نفسه، ويجوزُ للسَّيَّدِ فَسْخُه. الثالثةُ: في حُكْمِ المَهْرِ والنَّفَقَة. اما المسألة الأولى (¬5): فيمن يملك نكاح العبد فإن السَّيَّدَ يَملِكُهُ، وله أنّ يجبرَهُ عليه، وبه قال أبو حنيفة (¬6). وقال الشّافعي (¬7) في أَحَدِ قَوْلِيهِ: لا يجبرُهُ السَّيَّد على النِّكاح. ¬
ودليلُنا: قولُه تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية (¬1)، وفيه دليلان: أحدهما: أنّه أمَرَهُم بذلك، ولو لم يَمْلِكُوا الإنكاحَ لَمَا أمَرَهُم به. الثّاني: أنّه قَرَنَ ذِكْرهُم بذِكْرِ الإِمَاءِ، وقد أجمعنا على أنَّ له (¬2) إجبار أَمَتِهِ على النِّكاحِ (¬3)، وهذا مذهبُ عبد الوهّاب في اسْتِدْلَالِهِ بالقرائِنِ (¬4). ومن جهة المعنى: أنّ مَنْ مَلَكَ رِقّهُ فَلَهُ إِجباره على النِّكاحِ كالأَمَةِ. وهذا إذا انفردَ بملكه، فإن كان له فيه شريكٌ، أو كان بعضُه حُرًّا، لم يَمْلِك إجبارَهُ عليه؛ لأنّه لا يملِك انتزاعَ مَالِهِ، فلا يملك إنكاحَهُ كالحُرِّ. فرع (¬5): وإذا تزوّجَ بإذنِ سَيَّدِهِ، أو زوَّجَهُ سيَّدُه جَبْرًا، مَلَكَ العبدُ ارتجَاعَ زوجته. ووجهُ ذلك: أنّ السَّيَّد لمَّا أباحَ له التَمتّع بالنِّكاحِ، فقد مَلَكَ جميع أحكامه، فليس له مَنْعُهُ مِن ذلك بعدَ العَقْدِ، كما ليس له مَنْعُهُ منَ الوَطْءِ، والرَّجْعَةُ من أحكامِ النَّكاح، فملكَها العبدُ بذلك. مسألة (¬6): ولا يُجْبَرُ السَّيِّدُ على إِنكاح عَبْدِه ولا أَمَتِه، وبه قال أبو حنيفة (¬7). ¬
وقال الشّافعيُّ (¬1) في أَحدِ قولَيْه: يُجْبَرُ على إنكاح* عَبْدِهِ. مسألة (¬2): ولا يُجْبَرُ السَّيَّدُ على إِنكاحِ* مُكَاتَبِهِ، رواه ابن الموّاز عن مالك، وكذلك المُدَبَّرُ، والمُعْتَقُ إلى أجلٍ، والمُعْتَق بعضُه؛ لأنّ مَنْ كان محبوسًا بالرِّقُ، لم يكن له أنّ يتزوَّجَ بإذنِ سَيَّدِهِ المالك لِرقِّهِ، كالعَبْدِ القِنِّ. المَسألةُ الثّانيةُ: في حكم عَقْدِهِ على نفسِهِ وتجويز السَّيِّد له وفسخه (¬3) فإِنّه لا يَخلُو إِذا تزوَّجَ العبدُ أنّ يتزوَّجَ بإذنِ سَيِّدِه أو لا، فإن تزوَّجَ بإِذْنِهِ، فنكاحُهُ صحيحٌ وإن باشرَ العبدُ العَقْدَ؛ لأنَّه من جِنْسِ من يصحُّ عَقْدُه النِّكاحَ، وإنّما اعتبرَ في ذلك إذنُ السَّيِّدِ، لتَعَلُّقِ حَقَّهِ بمنافِعِهِ ومَالِهِ. وإن تزوَّجَ بغيرِ إذنِ سيِّدِهِ، فإنّ له فَسْخَه، وهل له إجازته بَعْدُ؟ فالمشهور من المذهب أنَّ له إجازته، وحكَى أبو الفَرَج أنّ القياسَ يقتضِي ألَّا يجوز وإن أجازَه السَّيِّد (¬4). المسألةُ الثالثةُ: في حكم المَهرِ والنَّفَقَة (¬5) فإنّ العَبْدَ لا يخلُو أنّ ينكِحَ بإذنِ سَيِّدِهِ أو لا، فإن نَكَحَ بإذْنِ سَيِّده، فالمَهْرُ في ذِمَّةِ العبدِ، إِلَّا أنّ يلتَزِمَه السَّيِّد. ومعنى كونه في ذِمَّةِ العَبْدِ: فيما يطرأُ له بعدَ النِّكاحِ من مالِ صدَقَةٍ، أو هِبَةٍ، أو وصيَّةٍ، أو نحوِ ذلك، فيه يتعلَّقُ المَهْرُ والنَّفَقَةُ عليها دونَ مكاسِبِه الّتي هي عِوَض حركاتِهِ بِصَنْعَةٍ أو خِدْمَةٍ. وخالف فيه الشّافعيّ (¬6) فقال: النَّفَقَةُ والمَهْرُ في مَكسَبِهِ. ¬
باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله
باب نكاحِ المشركِ إذا أسلمتْ زوجتُه قبلَهُ الإسناد (¬1): قال الإمام: لم يصحّ في هذا الباب حديثٌ مُسْنَدٌ، إلّا حديثًا مُرْسَلًا لابنِ شهابٍ في "الموطَّأ (¬2) ". الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال الإمام: هذه مسألةٌ عظيمةٌ، فيها تفصيلٌ طويلٌ، وتعليلٌ كثيرٌ، فقد يُسلِمَانِ معًا، وقد يُسْلِم أحدُهما قبلَ الآخرِ،* وقد يرتدَّان معًا، أو يرتَدَّ أحدهما قبلَ الآخر* وقد يكونَانِ وَثَنَّيْينِ، وقد يكونَان كِتَابِيَّيْنِ، وقد يكونُ أَحدُهُما وثَنِيًّا والآخرُ كِتابيًّا، وموضعُ بسطِ هذا الكلام في "كتب المسائل"، وعوَّلَ مالكٌ في "الموطَّأ" على صورةٍ واحدةٍ من هذه الصُّوَرِ؛ وهو الإسلام لأحد الزَّوجينِ قبلَ الآخر، بأن أسلمتِ الزَّوجةُ قبلَ الزَّوجِ، وساقَ في ذلك الأحاديثَ الواردة في شأنِ صَفْوَانَ وعِكْرمَةَ (¬4)، وهي وإن كانت مراسيلَ عنِ ابن شهابٍ فإنّها مُسْنَدَةٌ عن غيرِهِ (¬5)، وقد اشتُهِرَتْ شُهْرةً تقومُ مقامَ الإِسنادِ، ومُرْسَلُ الثَّقَةِ المشهورِ كّالمُسْنَدِ الصَّحيحِ، وإذا ثبتَ لك هذا بإسلامِ الزّوجةِ قبلَ الزَّوجِ، فلتُرَكَّبْ عليه سائرَ الفروعِ في التّفصيل، بحَسَبِ ما يقتضيه الدَّليلَ، كما رَكَّبَ عليه مالك (¬6) إسلامَ الزوجِ قبلَ زوجتِهِ، فإن أسلَمَت قبلَهُ، فإنَّه يُوقَفُ، فإن أَسلمَ، وإلا وَقَعَتِ الفُرْقَةُ بينهُمَا، لقولِهِ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} الآية (¬7). ¬
فلو غُفِلَ عنه حتّى أسلَمَ وهي في العِدَّةِ كان أَوْلَى بها. المسألة الثّانية: في هذا الباب ثلاثةُ أقوالٍ، هو (¬1) عندنا باطلٌ، وعند أبي حنيفة صحيحٌ (¬2)، وعند الشّافعيَّ (¬3) فيه ثلاثة أقوالٍ: 1 - أنّه صحيحٌ. 2 - وأنّه باطل. 3 - وقال مرَّةً: إنَّه موقوفٌ. فدليلُنا على أنّه باطلٌ: أنّ النّكاح يكونُ بشرائطَ وعِلَلٍ، فهذا لم تُوجد بَطَل النِّكاحُ. والعِلَلُ والشَّرائِطُ الّتي يُحتاجُ إليها: ألَّا يكونَ النِّكاحُ في العِدَّةِ، وأن يكونَ بوَلىٍّ وشهودٍ، وغيرِ ذلك. فإن أُلزِمْنَا أنّ هذه الشّروط إذا وُجِدَتْ في المُشْرِكِ، هل يكونُ النِّكاحُ صحيحًا أو فاسدًا؟ قلنا: إذا وُجِدَتْ هذه الشّرائِطُ، لم يَفْسُد وكان صحيحًا، وهذه الشُّروط لا تُوجّد في نكاح المُشرِكِ بوجهٍ؛ لأنّه إنَّ وُجدَ الوَليُّ عجز الشُّهودُ؛ لأنّ الكفَّارَ لا يكونُ منهم شُهودٌ. وأمّا حجّةُ أبِي حنيفة أنّه صحيحٌ، فإنّه بَنَاهُ على أنّ الكفَّارَ غير مَخَاطبِينَ بفُروعٍ الشَّرِيعةِ. وحجّةُ الشّافعيَّ على قَوْليْهِ اللَّذَين يُوَافِقُ أبا حنيفة ومالكًا فيهما فقد تقدَّمَ. ¬
وأمّا الثّالثُ الّذي للشّافعىَّ فموقوفٌ، كأنّه يقولُ: لا أدري، ومن لا يدري لا يَلْزَمُهُ الدّليلُ، يَقالُ له: غيرُكَ يدري هذا، ويقيمُ الدَّليلَ عليه. فإن قالوا: فإذا كان نكاحُهُمَا فاسدًا، فلأَيِّ شيءِ يُقرَّانِ عليه إذا أسْلَمَا؟ قلنا: إنّما أَقرَرْنَاهُما عليه للضَّرُورةِ، لأنّا لو قلنا لهما: لا نُقِرّكُما، لكان تَنْفِيرًا، ونحنُ نريد إسلامَهُما، فرُبَّما لو عَلِمَا أنّهما لا يُقَرَّانِ عليه لَمَا دَخَلًا في الإسلام، وجميعُ ما عقَدَهُ المُشرِكانِ، إنَّ كان ممّا يجوزُ أنّ يُقَرَّا عليه أُقِرَّا عليه، مثل أنّ يتزوَّجَ امرأةً في عِدَّتِهَا، أو شبيهًا من ذلك، فإنّهما يُقرَّان عليه. وإن كان ممّا لا يجوزُ أنّ يُقَرَّا عليه، فُرَّقَ بينهُما في حالِ الإسلامِ، مثل أنّ يتزوَّجَ الرَّجلُ منهم عَمَّتَهُ، أو خالَتَهُ، أو أُختَه، أو ما أَشبه ذلك، فلا يُقَرُّ هذا بوَجْهٍ في حَالِ الإِسلامِ. مسألة: فإذا أَسْلَمَ واحدٌ منهُمَا، فلا يخلُو أنّ يكونَ الّذي أَسلَمَ الزَّوْجُ أو الزّوجةُ، فإن كان الزَّوْجُ، فلا يخلُو أنّ تكونَ الزّوجةُ كتابيَّةً، أو مَجُوسِيَّةً، أو وَثنِيَّةً، فإن كانت كِتابِيًّة اُقِرَّ مَعَها؛ لأنّه يجوزُ له ابتداء العَقْدِ في الإسلام، وإن كانت وثنيَّة أو مجوسيَّة، قال مالك (¬1): ليعْرَض عليها الإسلام، فإن أَسلَمَتْ أُقِرَّتْ معه، وان لم تُسْلِم فُرَّقَ بينهُما؛ لأنّه لا يجوزُ ابتداء العَقْد على مجوسِيَّة، فلا يجوز الابتداء به. وقال أشهبُ: يعرضُ عليها الإسلام طُولَ العِدَّةِ إلى انْقِضَائِهَا، وهي ثلاثة أقراء أو ثلاثة أطهار. ¬
باب ما جاء في الوليمة
ودليلُه: أنّه أحد الزَّوْجين فجازَ التربُّصُ له كالطّرفِ الآخر، وهو إذا أسْلَمَتِ الزَّوجةُ وهو كافِرٌ، فإِنّه يُعْرَضُ عليه الإسلام طُول العِدَّة، وهو أحسن، والدّليلُ عليه: حديث صَفْوَان وغيره. باب ما جاء في الوَلِيمَةِ قال الإمامُ: الحديثُ في هذا البابِ مشهورٌ، والأصلُ فيه: حديث جَابِرٍ وعبد الرّحمن بن عَوْف (¬1). وفيه تسع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): الوليمةُ سُنَّةٌ في النِّكاحِ قائمةٌ، وفائدتُها الشُّهرَةُ والإعلانُ والذِّكرى، وأقلُّها لِذوِي القُدْرَةِ شاةٌ؛ وبعدَ ذلك كيفما استطاعَ كلُّ وَاحِدٍ. وفي الصّحيح؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ على بَعْضِ أزواجِهِ بصَاعَيْنِ من شَعِيرٍ (¬3)، وَأَوْلَمَ عَلَى زيْنَب حَضَرًا (¬4)، وعَلَى صَفِيَّةَ سَفَرًا (¬5). ¬
وفي الحديث: "إِذَا دُعِي أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلَّ" (¬1). وقد قال مالكٌ: لا ينبغي لأهل الفَضْلِ أنّ يُسرِعوا إلى الإجابة في مِثْلِ هذا، وإنّما قال ذلك لفسادِ النَّاسِ، وإلّاَ فقد كان النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - يُجِيبُ كلّ من دَعَاهُ حتّى الخيَّاطَ. ففي صحيح الصّحيح وهو "الموطَّأ" (¬2) أَن خَيَّاطًا دَعَاهُ إلَى طعام، فَمَشَى مَعَهُ في نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَيس مِنْهُمْ، فَقَالَ النّبيُّ: "إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا" فّأَذَنَ لَهُ (¬3). اعتراض: فما الفَرْقُ بين حديثَي النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وذلك أنّه دُعِيَ إلى طعام الخَيَّاطِ فاتَّبَعَهُم الرَّجُل، فقال النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - للخيّاط: "أَتَأْذَنُ له"، وبين قوله في دَعْوَةِ أمِّ سلَيم: "قُومُوا" (¬4) لكلَّ من معه، ولم يقل لأمّ سليم ولا لزوجها أبي طلحة ما قال للخيّاط. الجواب: قلنا: عن ذلك جوابان: أحدُهما: أنّ الخيَّاطَ لم يُملِّك النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - الطّعام، وإنّما دعاهُ إلى دَارِه، وأكلُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على حُكمِهِ، فاحتاجَ إلى استئذَانِهِ في ذلك الرَّجُل. ¬
وفي حديثِ أمّ سليم مَلَكَهُ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، بدليلِ قولِهَا لابنها أنس: "أعطه إياه"، وهذا غيرُ قَوِيٍّ. الثّاني: أنّه أَرَاهُم في دعوةِ أمّ سليم المُعْجِزةَ، ولم يُطعِمْهُم من طعامِ أمِّ سليم وإنّما أطعمَهُم بالمعجِزةِ من بَرَكَتهِ - صلّى الله عليه وسلم -. وفي دعوة الخياط لم يُرِهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في ذلك معجزة. اعتراض آخر: فإن قيل: كيف يُجمَعُ بينَ فعلِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في دَارِ الخيَّاطِ في تَتَبُّعِهِ الدُّبَّاءِ، وبينَ قوله لربيبه عمر بن أبي سلمة: "سّمِّ الله وكُل ممّا يَلِيكَ" (¬1)، حين رأَى يَدَهُ تطِيشُ في الصَّحفَةِ. الجواب: أنّ تقول: إنَّ الدُّبَّاءَ كانت مفترقة في القَصْعَةِ، فأكلَ النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - أمامَهُ، ثمَّ جالَتْ يده إلى غير ذلك من المَوَاضِعِ، وكلّ طعام هو واحدٌ، فالإنسانُ لا يجيلُ يدَهُ حيثُ اختارَ، والدُّبَّاءُ فيها صغيرٌ وكبيرٌ، ونضيجٌ وغيرُ نضيجٍ، والله أعلمُ. الفائدةُ الثّانية: في أسماء الأطعمة وهي إحدى عشر: أوّلها: طعام العُرْسِ، وهو طعام الولِيمَةِ. وطعامُ الخِتَانِ، وهو الإعذار. وطعامُ النَّفَسَاء. وطعامُ الزَّائرِينَ. وطعامُ الخُرْسِ (¬2). وطعامُ المُسافرِينَ. وطعامُ العَقِيقَة. ¬
وطعامُ الإملاك. وطعامُ بناء الدَّار. وطعامُ الوَكِيرَةِ (¬1). وطعام الأولياء. وطعام المأتم. قال الإمام: وتعمُّ هذه الأسماء الدَّعوة. وعند مالك لا تجبُ عندَهُ الإجابة إلى هذه كلَّها، إِلَّا للعُرْسِ الّتي هي الوليمة. وقال سائرُ الفقهاءِ: إنّها كلُّها سواء، واستدلُّوا عليه بقوله: "مَنْ لَمْ يَأتِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى الله وَرَسُولهُ، (¬2)، وفي حديثِ أبي هريرة: "فّقّدْ عَصَى أبَا القَاسِم" (¬3). وقولُه": "فَقَد عَصَى الله وَرَسُولهُ": هو عامٌّ لجميع الأطعمة؟ قلنا: الألفُ واللّامُ في الدَّعوةِ إنّما هي للعَهِد لا للجِنْسِ، بدليل قولِهِ: "شَرُّ الطَّعامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ" (¬4) فَخَصَّ الوَليمَةَ، ثمّ ذكرَ الدَّعوةَ عامَّةَ. وقلنا: ما احتجُّوا به من عُمومِ الدَّعوةِ، يحتملُ أنّ يكونَ عند الوَليمَةِ، داخلٌ فيها، ودخولُ الوَلِيمةِ فيها متَّفقٌ عليه، فما اتَّفِقَ عليه كان أَوْلَى ممّا لم يُتَّفَق عليه، ولا دَليلَ لهم في ذلك. الفائدةُ الثّالثة: فإذا ثبت ذلك، فمن دُعيَ إلى وليمةٍ وفيها لَهْوٌ، هل يجب عليه المضيّ إليها أم لا؟ ¬
قلنا: إنَّ كان اللَّهوُ الدُّفُّ وما أشبهَهُ، جاز المضىّ إليها. وقال أَصبَغُ: لا ينبغي لذوي الشّارة والهَيْئَة أَنْ يمضِي لذلك؛ لأنّه لا يليقُ بمثلِهِ سَمَاعُ الدُّفُّ، وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حَضَر ضَربَ الدُّفِّ، ولا يَصِحُّ أنّ يكونَ ذو شَارَةٍ أعظم من الرسولِ - صلّى الله عليه وسلم -. فرع: فإذا ثبت هذا، فإنّ عَلِمَ أنّ فيها لهوًا، فهل ينبغي له أنّ يأتيَهَا؟ قلنا: هو مأمورٌ بالإِتيانِ، ومنهىٌ عنِ اللهو. وقد تعارضَ ههنا خَبَرَانِ: أمرٌ ونهيٌ، فَمَنْ نُقَدِّم؟ قلنا: النّهي أَوْلَى. فأمّا إنَّ كان اللَّهْوُ قد حصلَ في الوليمةِ، فَيَنْهَى عنه ما استطاعَ، فإن لم يستطع، خَرَجَ وتَرَكَ القوم. فإن كان في العُرسِ لهوٌ مباحٌ، مثل الدُّفِّ والكَبَرِ (¬1)، ويكون ذلك عندَ العشاءِ، فلا بأس به، وأمّا إنَّ كان غير مباحٍ، كالعُودِ والطُّنْبُورِ، لم يلزمه. ومتى (¬2) كان في الوَليمةِ لهوٌ محظورٌ، يبطُل وجوبُ الإِتيانِ، فمن جاءَ فوجدَ ذلك فليرجِعْ، وعلى ذلك جماعةُ الفقهاءِ. ورخَّص فيه أَبو حنيفة (¬3) وقال: لا بَأَس أنّ يقعدَ ويأكلَ، وقولُ الجماعةِ أَوْلَى. حديث عبد الرّحمن بن عَوْف، وفيه فوائد كثيرة (¬4): ¬
الأُولى (¬1): قوله (¬2):"أثَرُ صُفرَةٍ" هو على المجاز: بثيابه (¬3). وقد رَوَى هذا الحديث جماعةً، منهم: حمّاد بن سَلَمَة، عن ثابت، عن أنس؛ فقال فيه: "وبِهِ رَدعٌ (¬4) مِن زَغفرَانٍ" (¬5) فبيَّنَ أنّ تلك الصُّفرَة كانت من زَعْفرَانٍ. فجوَّزَ أصحابُ مالكٍ لباسَ الثَّياب المصبغة بالصُّفْرَةِ. قال يحيى بن عمر في حديث عبد الله بن عمر: أمَّا الصُّفْرَةُ فإنِّي رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يصبُغُ بِهَا، وَأَنَا أُحِبُّ أنّ أَصبُغَ بِهَا (¬6). قال يحيى: يريد ثيابه لَا لِحيَتَهُ. هذا معناه عند أصحاب مالك. وكره أبو حنيفة (¬7) والشّافعيّ (¬8) للرّجل أنّ يَصبُغَ ثيابَه ولحيتَهُ بالزَّعفران. وقد بيّنا ذلك في "كِتَاب الحَجِّ". الفائدةُ الَثانيةُ (¬9): قوله (¬10): فتزوّجتُ على "زِنَة نَوَاةٍ" (¬11) أي على "وَزن نَوَاةٍ". ¬
واختلفَ العلّماءُ في هذا، فقال ابنُ وَهْبٍ: النَّواةُ هي عبارة عن خمسة دراهم، والأوُقِيَةُ أربعون دِرْهَمًا، والنَّشُّ عشرون دِرْهَمًا (¬1). وقال ابنُ حنبل: النَّوَاةُ ثلاثةُ دراهمَ وثُلُثُ درهمٍ (¬2). ومالك وأصحابُه أعرف بعادتهم (¬3). الفائدةُ الثّالثة (¬4): قوله (¬5): "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" ليس في ألفاظ الحديثِ مَا يدلُّ على أنّه كان قَبْلَ البِنَاءِ ولا بعدَهُ، وقد روى محمّد (¬6) عن مالك أنّه رأَى أنّ يُولم بعدَه (¬7). ¬
الفائدةُ الرّابعة (¬1): إذا ثبت هذا، فالّذي أُبيحَ من الوليمةِ ما جرَتْ به العادة من غير سَرَفٍ. والمعتاد منها يومٌ واحدٌ. قال ابنُ حبيب: وقد أُبيحَ أكثر من ذلك (¬2)، ورُوِيَ أنّ الأولَ سُنَّةٌ، والثّاني فَضلٌ، والثّالث سُمْعَةٌ. وأجابَ الحسنُ رجلًا دَعَاهُ في اليوم الأولِ، ثمَّ في الثّاني، ثمَّ دَعَاهُ في الثالثِ فلم يجب، ورأى أنّه سَرَفٌ وسُمْعَةٌ وريَاءٌ (¬3). وقد رُوِيَ عن ابن المسَيَّب مثله. وقد أَوْلَمَ ابنُ سِييرينَ ثمانية أيّام ودَعَا في بعضها أُبَيًّا (¬4)، والعلّماءُ (¬5) على الكراهيّة لاستدامة ذلك أيّامًا، وأمَّا أنّ يدعوَ في اليوم الثّالثِ من لم يكن دعاهُ في اليومِ الثّاني، فذلك جائزٌ، وأمّا إذا تكرَّرَ في طعامٍ ثلاثة أَيام أو أكثر، فإنّه نوعٌ من المُبالَغةِ والفَخرِ والسُّمعةِ والرِّياء. الفائدةُ الخَامسةُ (¬6): قولُه (¬7): "إِذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ إِلى ولِيمَةِ فَلْيُجِبْ"، اختلفَ الرُّواةُ في لفظِ هذا ¬
الحديثِ؛ فقال مالك هكذا، وتَابَعَهُ عليه عبيد الله بن عمر (¬1). ورَوَى مُوسَى بن عُقْبَة، عن نَافِع، عن ابنِ عمر، عن النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَجِيبُوا إِذَا دُعِيتُم" (¬2). ورُيَ عن ابنِ عمر أيضًا: "إِذاَ دَعَا أَحَدكُمْ أَخَاهُ فَليُجِبْ عُرْسًا كانَ أَوْ غَيْرهُ" (¬3)، وتابَعَهُ على ذلك الزّبيدي (¬4). واختلفَ العلّماءُ في حُكمِ ذلك: فقال ابنُ القاسِم عن مالك في "المدنية": إنّما هذا في طَعامِ العُرْسِ، وليس طعامُ الإِمْلَاكِ مثله (¬5)، وبهذا قال أبو حنيفة (¬6). وقال الشّافعيّ (¬7): إجابةُ وليمة العُرّسِ لَازِمةٌ، ولا أُرَخَّصُ في تركِ غيرهَا من الدَّعَوَاتِ (¬8) إِلَّا من عُذْرٍ، وَمَنْ تركَهَا لَمْ يُقَل إنّه عاصٍ. قال الإمامُ: وهذا خلافٌ في عبارة، ووجهُ وجوبِهَا: الأمر بذلك، والأمرُ يقتضي الوجوب، هذا هو المشهورُ منْ مذهبِ مالكٍ وأصحابِهِ. ورَوَى ابنُ حبيب عن مالك أنّهَ قال: ليس ذلك عليه حَتْمًا (¬9)، فإنِ اشتغلَ فلا إِثمَ عليه، فجعلَهُ على النَّدْبِ. ¬
تحقيق: قال الإمامُ ابنُ العربي: والَّذي يصحُّ في هذا كلَّه بالنَّظَر -والله أعلمُ- أنَّ إجابةَ الدَّعوة واجبةٌ إذا خلصت نيّة الدّاعي وخلصت الوليمة عمّا لا يُرْضِي الله، ولمّا عُدِمَ هذا سَقَطَ الوُجوبُ على الخَلْقِ، بل حَرُمَ عليهم إتيان ذلك لِمَا فيها اليوم من اللَّهوِ والتَّبرُّجِ وغير ذلك. وأمّا طعامُ الوليمةِ فهو واجبٌ على العمومِ في كلِّ دعوةٍ. وقيل: إنّه تجبُ الإجابة في العُرْسِ خاصّة، وهو ظاهرُ كلامِ الشَّافعيَّ (¬1)؛ لأنَّ قولَهُ (¬2) - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يُجب الدَّعْوَة فَقَدْ عَصَى الله وَرَسُولَهُ" يقتضي وجوب ذلك، وعلى ذلك تأوَّلَهُ جماعة العلّماءِ، وقد نصَّ مالك (¬3) وأكثر العلّماءِ على وجوبِ إتيانِ طعامِ الوَليمَةِ. وصِفَةُ الدَّعوةِ الّتي تجبُ الإجابةُ إليها، أنّ يَلْقَى صاحبُ العرسِ الرَّجُلَ فيَدعُوهُ، أو يقول لغيره ادْعُ فلانًا، فإن قال: ادعُ من لقيتَ، فلا بأسَ على من دُعِيَ بمثل هذا أنّ يتخلَّفَ؛ لأنّ صاحبَهُ لم يعينه ولا عرفه، ذكر ذلك ابن الموّاز (¬4). فرع (¬5): فإذا لَزِمَهُ الإتيان، هل يلزمه الأكل أم لا؟ لم أر فيه نصًّا جليًّا لأصحابنا، وفي المَذْهَب مسائل تقتضي القولين. وروى ابن الموّاز عن مالك؛ أنَّه يجيب وإن لم يأكل أو كان صائمًا. ¬
باب جامع النكاح
وقال أصْبغُ: ليس ذلك بالوكيد، وإنّه تخفيف. فقول مالك مبنيٌّ على وجوبِ إتيان الدَّعوةِ، وأنَّ الأكلَ ليس بواجبٍ (¬1). وقولُ أَصْبَغ مبنىٌّ على وجوبِ الأكلِ، ولذلك أَسْقَطَ وجوبَ الإتيانِ عن الصّائم. فرعٌ (¬2): فإن كان في الوليمةِ زِحَامٌ، وغلق البابُ دونَه؟ فقال ابنُ القاسم عن مالك (¬3): هو في سَعَةٍ إذا تخلَّفَ عنها أو رجعَ. ووجه ذلك: أنّه لا يلْزَمُ الإِتيان ولا الابْتِذَال في الزِّخام، فإنَّ ذلك ممَّا يَثلِمُ المُرُوءَةَ، وكذلك إنَّ كان له عُذرٌ من مرضٍ أو غيرِهِ. باب جامع النِّكاح وفيه ثمان مسائل: المسألة الأولى: قوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬4): "فَلْيَأخُذ بِنَاصِيَتِهَا، وَليَدْعُ بِالبَرَكَةِ" إِشارةٌ إلى قوله: "إنْ يكنِ الشُّؤمُ ففي ثلاثة" (¬5). ¬
وقولُه (¬1) في البعير: "فليَضَع يَدَهُ عَلى سَنَامِهِ، وَلْيَتَعَوَّذ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ" إشارةٌ إلى قَولِهِ: "إنّها أولادهنّ" (¬2). المسألةُ الثّانيةُ (¬3): قولُ الرّجُلِ عن أُختِهِ إذا خطبت إليه أنّها أحدثت (¬4)، أرادَ أنّها زَنَت، وأنّها أصابت ما يُوجِبُ عليها حدّ الزِّنَى، فأنكرَ ذلك عليه عمر، ولعلّها قد كانت أَقْلَعَتْ وتَابَت، فلا يحلّ ذكر ذلك؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (¬5)، ولا يجوزُ للوَلِيِّ أنّ يُخبرَ من حال وَليَّتِهِ إِلَّا بما يجبُ ردَّها وهي العيوب الأربعة (¬6). المسألةُ الثّانيةُ (¬7): فإن قيل: إذا عَلِمَ الرَّجلُ من وَليَّتِهِ عَيْبًا، هل يَستُرُهُ على الخاطِبِ أو ينشُرُهُ؟ قلنا: أمّا عيبُ الأَبْدَانِ فلا خلافَ في وجوب ذِكرِهِ، فإن كَتَمَهُ فهو غاشٌ، عليه الإثمُ إجماعًا، وعليه الغُرْمُ للصَّداقِ، إنَّ كان ذلك العيبُ ممَّا يُوجبُ ردَّ النَّكاحِ؛ لأنّه غارٌّ له بالقول، ولا خلافَ بين المالكيّة أنّ الغرَرَ بالقولِ يُوجِبُ الضَّمانَ على الغَازِّ، خلافًا لأبي حنيفة (¬8) والشّافعيّ (¬9). ووقعت مسائلُ ظَنَّ الغافلونَ حين جاء فيها غُرورٌ من قول قائلٍ، فلم يَرَ عليه مالكٌ ضَمَانًا؛ أنّه اختلافُ قولٍ، وإنّما ذلك لأنّهم لم يَعلَمُوا حدَّ الغُرُورِ المُوجبِ للضّمان. ¬
وأمّا إنَّ كان العَيبُ من طريقِ الأديان، فهو على قسمين: 1 - إنَّ كان في الخُلُقِ؛ كحِدَّةٍ تكون في المرأةِ، أَوْ لِينٍ زائدٍ، فَيُستحبُّ له ذِكْرُ ذلك، فإن سكتَ عنه فإِنّه ليس عليه شيءٌ. 2 - وأمّا إذا كان في الدِّينِ، فحرامٌ عليه ذِكْرُهُ؛ لأنّه إنَّ كان الّذي وقَعَ منها عَثرَة، فَمُقِيلُ العَثَرَاتِ قد سَتَرَهَا والنِّكاحُ يَعْصِمُ، وإن كانت مُنبَهِرَةً (¬1) فليس يلزَمُ الوَليَّ ذِكرُ ذلك؛ لأنّه لم ينفرِدْ بعِلْمِهِ، والنِّكاحُ قَيدٌ وعِصمَةٌ، فإذا أَدخلها فيه زالَ الانبهارُ. المسألةُ الرّابعةُ (¬2): إذا طلَّقَ الرّابعةَ من أزواجِهِ، فله أنّ يتزوَّجَ أختَها أو سواها في عِدَّتِها، إذا لم تَكُنِ الرَّجعَةُ مُستَحَقَّةٌ في العِدَّةِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ ذلك؛ لأنّ العِدَّةَ أَثَرٌ من آثارِ النِّكاحِ، وعِلَاقَةٌ من علائقه محبوسةٌ لحقِّهِ، فكانت بمنزلة الرَّجعِيَّةِ (¬3). قلنا: الرَّجْعِيَّةُ زوجةٌ، بدليلِ بقاءِ الميراثِ والنَّفَقَةِ والسُّكنَى، فإِنّه إذا كان الطّلاقُ بائِنًا، فهي أجنبيَّةٌ منه، بدليل أنّه إنَّ وَطِئَها لَزِمَهُ الحدُّ، فجاز له نكاح أختها وأربع سواها لو انقطعت عدَّتُها. المسألةُ الخامسةُ (¬4): فإن كانت رجعيَّة، فلا يجوزُ أنّ يتزوَّجَ أختها, ولا عمَّتها, ولا خالتها, ولا رابعة غيرها، وهذا متَّفَقٌ عليه من أقوالِ العلّماءِ؛ لأنّ أحكامَ الزَّوجيَّة باقيةٌ بينهُمَا. ¬
المسألة السّادسة (¬1): قوله (¬2): "ثَلَاثٌ لَيسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ" يريد أنّه لا يَثْبُتُ فيهِنَّ حُكم اللّاعب. ورَوَى ابنُ الموَّاز عن مالك في الرَّجُلِ يقولُ للرَّجُلِ وهو يلعبُ: زَوِّجْنِي ابنتك وأنا أُمْهِرُهَا كَذَا. فقال له الآخر على لَعِبٍ: نَعَم. فذلك نكاحٌ لازِمٌ، هذا المشهورُ من المذهب. المسألةُ السابعةُ (¬3): رُوِيَ أنّ سودةَ بنتَ زَمْعَة أسنَّت وكبرت وخَشِيَت أنّ يطلَّقَها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فآثرتْ بيَوْمِها عائشةَ، فأقرَّهَا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - على نكاحها ولم يقسم لها (¬4). قال مالك: وليس يَلْزَمُها البقاء على ذلك، ولها أنّ ترجع فيه. وقال أبو حنيفة (¬5) والشّافعيّ: ليس لها أنّ ترجعَ فيه؛ لأنّه حقٌّ أسقَطَتهُ، فلا رجوعَ لها فيه، كما لو أسقطت خيارَهَا. والصّحيحُ، أنّ لها الرّجوع؛ لأنّ الهِبَةَ للقسم كان مع بقاءِ السَّببِ الموجب له وهو النِّكاح، فما دام سبب القسم باقٍ، فإعطاء الهِبَةِ باقٍ، وهذا معنى دقيق تفطَّن له مالك وخَفِيَ على غيرِهِ. المسألةُ الثّامنةُ (¬6): فإذا قلنا: لها الرّجوع، وجب على الزَّوجِ أنّ يرجعَ إلى العدل بينهما أو يطلّق، ولذلك آثَرَ رافع بن خديج الطّلاقَ، ولم يُؤثِر المساواة بينهما، وذلك جائز حَسَبَ ما تقدَّم بيانُه في الكتاب، والحمد لله. ¬
كتاب الطلاق وشرح أبوابه ومقدماته
كتاب الطلاق وشرح أبوابه ومقدِّماته المقدّمة الأولى (¬1) في اشتقاقه الطّلاقُ مأخِوذٌ من قولك: أطلقتُ النَّاقةَ إذا أرسلْتَها من عِقالٍ وقَيدٍ، فكأَنَّ ذاتَ الزّوجِ موثَقَةٌ عند زوجِهَا، فإذا فارَقَها أطلَقَها من وَثَاقٍ. وعلى ذلك قولُ النَّاسِ: هي في حِبَالِكَ، إذا كانت تحتك، يرادُ أنّها مرتبطةٌ عندَكَ كارتباطِ النَّاقةِ في حبَالها. ثمّ فَرَّقوا بين الحركاتِ من فِعْل النَّاقةِ وفعل المرأة، والأصلُ واحدٌ، فقالوا: طَلَقتِ النَّاقةُ، بفتح اللّام، وقالوا: طَلُقتِ المرأةُ، بضمِّ اللّام، وقالوا: اطْلقت النَّاقة، وطلّقت المرأة. وقال أبو حاتم في كتاب "الزّينة": (¬2): "الطّلاقُ مُشتَقٌ من قولِكَ: أطلقتُ البعيرَ إذا أرسلته من وَثَاقِهِ، ويقالُ: بَعِيرٌ طَلْقٌ، إذا لم يكن عليه قَيْدٌ ولا عِقَالٌ" (¬3). "ويقال: طَلُقت المرأةُ فهي طالقٌ، بضم اللّام، إذا طلَّقَها زوجُها، وطلقت النَّاقةُ من وَثَاقِهَا، بفتح اللّام". "وطلَّقَ الرّجلُ المرأةَ تطليقًا، إذا طلَّقَها فبانت عنه، فإذا أردتَ مرَّةً واحدةً قلتَ: تطليقةً، وتطليقتين، وثلاث تطليقاتٍ، وامرأةٌ مطلَّقَةٌ، وطالِقٌ، ونساءٌ طَوَالق"، والجمع أيضًا طُلَّقٌ، فهذا معنى بَيِّن، كما أنّ النّكاح والسّفاح ضدّان، وكما أنّ النّكاح والتّزويج اسمان للمُجامعة في الحالِ، كما بَيَّناهُ في كتاب النّكاح. ¬
المقدمة الثانية
المقدِّمة الثّانيةُ (¬1) قد قدَّمنا أنَّ النِّكاحَ قد ينعقدُ للأَبَدِ، ولا يجوزُ فيه الأمَدُ، ويُقْصَدُ به الأُلْفَةُ والنَّسْلُ الّذي تكثُرُ به الأُمَّةُ، ويدومُ به العملُ الصّالحُ، هذا هو المقصودُ منه، إِلَّا أنَّه قد تتعذّرُ الأُلْفَةُ، ويقعُ بين الزوجينِ النَّفْرَةُ. فلو بَقيَ على حالِهِ من اللُّزومِ، واستمرَّ على صفةٍ من التَّأبِيدِ، لكان في ذلك ضَررٌ بالزَّوجينِ، فشرعَ اللهُ تعالى - كما قدَّمنا- النِّكاحَ للأُلْفَة، وشَرَعَ الطلاقَ مَخلَصًا عندَ وقوع النَّفْرَةِ، وهو أمرٌ لا ينبغي أنّ يكون إِلَّا عندَ وقتِ الحاجةِ. فقد رَوَىَ أبو داود (¬2): "أبغَضُ مَبَاحٍ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ". ورَوَى أيضًا (¬3): "أيُّمَا امْرَأةٍ سَألَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ من غَيْرِ عُذْرٍ أو مِنْ غَيرِ مَا بَأسٍ لَمْ تُرِحْ رَائحَةَ الجَنَّةِ". فينبغي للرَّجُل أنّ يُوقِعَهُ -كما قلنا- عند الحاجةِ إليه، بشروطه الّتي بَيَّنَهَا الله تعالى فيه، مفيدًا للمنفعة، خالصًا عن المَضَرَّةِ. وهو على ضربين: كاملٌ بالحريَّةِ، وناقصٌ بالرِقَّ والعُبوديَّةِ. ومن وجهِ آخر على قسمين: سُنَّةٌ، وبدعةٌ، وقد يَعْرَى عنهما. وطلاقُ السُّنَّةِ (¬4) هو: 1 - ان يطلِّقَها واحدةً. 2 - وهي ممّن تحيض. ¬
3 - طاهرًا لم يمسّها في ذلك الطُّهر. 4 - ولا يَقْدُمُهُ طلاقٌ في حَيضٍ. 5 - ولا يَتبَعُهُ طلاقٌ في طُهْرٍ يتلُوهُ. 6 - وَخَلَا عن العِوَضِ. فهذه ستَّةُ شروطٍ مُسْتَقرَأَةٌ من الحديثِ، عن ابنِ عمر قال: طَلَّقتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِعُمَر: "مُرْهُ فَليُرَاجِعهَا، ثُمْ لِيُمسِكهَا حَتى تَطهُرْ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطهُرَ، ثُمَّ إنَّ شَاءَ طَلَّقَ، وَإنْ شَاءَ أَمسَكَ، فَتِلكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ الله بِهَا أنّ يُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ" (¬1). فَحَكَمَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بوُقوعِ الطَّلاقِ في الحَيضِ حينَ أمرَ بالرَّجعةِ منه، خلافًا لدَاوُد من المبتدعة، حيث يقولُ: إنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ لا يَلْزَمُ (¬2)، وهذا في إثباته كافٍ، وقد استوفيناه في "مسائل الخلاف". وقد تفطَّنَ البُخَاريُّ بثاقبِ ذهنِهِ وفَهمِهِ لنُكتَةٍ؛ وهي أنّ الطَّلاقَ مكروهٌ، وقد كشَفَ الزَّوجُ الزّوجةَ وكَشفَتهُ، فمِنَ المُرُوءَةِ ألَّا يكشفَها لغيرِهِ إِلَّا عند الحاجة كما بَيَّنَّاه، ويستحِي الرَّجلُ بعد ما كان بينه وبين زَوْجِهِ من المخالَطَةِ أنّ يواجهَها بالطَّلاقِ (¬3)، إِلَّا أنّ تواجِهَهُ هي بمكروهٍ، وأدخلَ حديثَ المستعِيذَةِ؛ بَأن امرَأَة دَخَلَت عَلَى النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لِلْبِنَاءِ بهَا، فَلَمَّا خَلَا بِهَا قالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، قالَ لَهَا: "لَقَد اسْتَعَذتِ بِعَظِيمٍ، الحَقِي بِأَهلِكِ" (¬4). تفسير: وأمّا قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬5) لم يكن عند الجاهليَّةِ للطّلاق عَدَدٌ، وكانت عندهم ¬
المقدمة الثالثة في تمليكه الزوج
العدَّة مقدّرة. وقال عُروة: كان الرَّجلُ يطلِّق ثمّ يراجعُ امرأته قبلَ أنّ تنقضي عدَّتُها، فغضِبَ رجلٌ من الأنصارِ على امرأته، فقال لها: لا أَقرُبُكِ ولا تَحِلَّينَ، فقالت له: كيف؟ قال: أُطلَّقُكِ حتّى إذا جاءَ أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، فَشَكَت ذلك إلى النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - فأَنزلَ اللهُ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1). وقال (¬2): إنَّ هذه الآية عُرَّفَ فيها الطَّلاقُ بالأَلف واللّام، واختلفَ النّاسُ في تأويلِ التَّعريفِ. فقيل: معناهُ الطّلاقُ المشروعُ مَرَّتانِ، فما جاءَ على غيرِ هذا فليس بمشروعٍ، وهو مذهبُ الرَّافضةِ (¬3). وقيل: الطَّلاقُ الّذي فيه الرَّجْعَيةُ مَرَّتَان. وقيل: الطّلاقُ المَسْنُونُ مَرَّتَانِ، قاله مالك. وقيل: الطّلاق الجائزُ مَرَّتَانِ، قاله أبو حنيفة (¬4). وسيأتي بيانُه في موضعه إنَّ شاء الله. المقدّمة الثّالثة في تمليكه الزّوج لأنّه أمرٌ جعلَهُ الله بأيدي الأزواج، وملَّكُهم إيَّاهُ دونَ الزَّوجاتِ، فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الآية (¬5)، وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (¬6). ¬
(¬1) وهو أيضًا على وجهين: مباحٌ، ومحظورٌ. فالمباحُ منه: ما كان على الصِّفَةِ الّتي أمرَ اللهُ بها. والمحظور منه: ما وقعَ بخلافِها. فأمّا الصَّفةُ أمتي أمرَ الله بها، هيَ ما ذَكَرَهُ في كتابهِ، حيثُ يقولُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، إلى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية (¬2). وقرأَ ابنُ عمر: "لِقُبُلِ عِدَّتِهنّ" (¬3) معناه: في موضعٍ يعتددن به، وهو أنّ يطلِّقَها في طُهْرٍ لم يمسّها فيه، * كما بينّاه قَبْلُ، وأن لا تكونَ حائضًا * (¬4). وإنّما نُهِيَ المطلّقُ أنّ يطلّقَ في الحَيضِ؛ لأنّه إذا طلَّقَ فيه طوَّل عليها العدَّةَ وأَضَرَّ بها وعطَّلَها؛ لأنّ ما بَقِيَ من تلك العِدَّة لا يُعتَدُّ به في إقرائها، فتكونُ في تلك المُدَّة كالمعلَّقَةِ، لا مُعتَدَّةً ولا ذات زَوْجٍ ولا فارغة من زَوج، وقد نَهَى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك، والله تعالى نهى عن إضرار المرأة بتطويل العِدَّة عليها، بقولِهِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} الآية (¬5). وذلك أنّ الرَّجلَ في الجاهليَّةِ، كان يطلَّقُ المرأة ثمَّ يُمهِلُها، فإذا قَرُبَ انقضاء عِدَّتها، رَاجَعَها ليُطَوَّلَ عليها العِدَّة، فَنَهَى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك. وأمَّا طلاقُ السُّنَّةِ الّذي أمرَ اللهُ به عبادَهُ وعلَّمَهُم إيَّاهُ، هو أنّ يُطلِّقَ الرَّجلُ امرأَتَهُ طاهرًا من غيرِ جِمَاعٍ طَلْقَةً واحدةٍ، ثمَّ لا يُتْبِعها طلاقًا، فيكونُ أحقّ برجْعَتِها، شَاءَت أو أَبَتْ، ما لم تَنقضِ عِدَّتُها لقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الآية (¬6)، وبلوغُ الأَجَلِ في هذه ¬
الباب الأول ما جاء في البتة
الآية المُقَاربة، بدليلِ إجماعهم على أنّها تَبِينُ من زَوّجها بانقضاءِ عِدَّتِهَا, ولا يكونُ له إليها سبيلٌ، وذلك كثيرٌ في القرآنِ، موجودٌ في لسانِ العربِ، أنّ يُسَمَّي الشيءُ باسمِ ما قَرُبَ منه، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} (¬1) معناه: إذا أردتَ أنّ تقرأ القرآن فاسْتعِذ بالله، ومثل هذا كثير (¬2). البابُ الأوّلُ ما جاءَ في البَتَّة الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأولى (¬3): قول مالك (¬4): "مَا جَاءَ في البَتَّة" أي: في حُكمِ البَتَّة. رَوَى مُسلم (¬5)، عن أبي الصَّهْبَاءِ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ أنْه قال: "كَانَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عهْدِ زسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَاحِدَةٌ، وَزمَانَ أَبِي بَكرٍ، وَصَدْرًا من خِلَافةِ عُمَرَ، فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ في الطّلَاقِ، قالَ عُمَرُ: لَقَدِ استَعجَلُوا في أَمرٍ كَانَت لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمضَينَاهُ عَليْهِمْ، فَأَمضَاهُ عَلَيهِم". وعَقَّبهُ بروايةٍ أخرى من طريق ثانٍ (¬6)؛ قال: "كَانَتِ البَتَّةُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ وَاحِدَةً" الحديث إلى آخره، ولم يُدخِلِ البخاريُّ هذا الحديثَ؛ لأنّ أبا الصَّهْبَاء انْفرَدَ به ¬
ولم يتابِعْهُ عليه أحد من أصحابِ ابنِ عبَّاس. وقد أدخلَ مالكٌ في رَدِّهِ حديثَين: 1 - أحدُهما في هذا الباب، أَنَّ رَجُلَا قالَ (¬1):"طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِئةَ طَلْقَةٍ، مَاذا ترَى عَلَىَّ؟ قَال لَهُ: طَلُقَت مِنْكَ بِثَلاثٍ، وَسَبعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذتْ بِهَا آيَاتِ اللهِ هُزُوَا" (¬2). 2 - ثمَّ أدخلَ في "بابِ طلاقِ البِكْرِ" حديث محمّد بن إِيَاس بن البُكَير مُسْنَدًا (¬3): "أَنَّ رَجُلَا طَفقَ افرَأَته ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ يَسْتَفْتِي ابْنَ عبَّاسٍ، فَقَال لهُ هُوَ وَأَبُو هُرَيرَة: لَا نَرَى "أنّ تَنْكِحَهَا حتّى تَنكِحَ زَوجًا غَيرَكَ، قالَ لَهُمَا: إِنمَا طَلَاقِي وَاحِدَةٌ، وَكَانَ قبْلَ الدُّخُول، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِكَ ما كَانَ لَكَ من فَضْلٍ" فهذا يدلُّ من قولِ ابنِ عبَّاسٍ في الخَبَرَينِ جميعًا أنّ الثَّلاثَ في عهدِ رسولِ الله وفي كلِّ عَهْدٍ كانت لَازِمَةً. وفي "البخاريّ" (¬4) و"مسلم" (¬5) حديث العَجلانيّ في اللَّعان: فطَلَّقها قَبْلَ أنّ يَأمُرَهُ رسولُ الله، وأَقرَّهُ، فَصَارت سُنَّةَ يُحْكمُ بَهَا على من جاء بَعْدَهُ. وإنّما معنى الحديثِ الّذي رواهُ أبو الصّهباءِ؛ أنّ النَّاسَ كانوا على السُّنَّةِ يطَلِّقُونَ واحدةً يَحُلُّون عَقْدَ النّكاحِ بها, ولا يخرُجون عن السُّنَّة فيها، وتمادَى الحالُ كذلك حياةَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وخلافةَ أبي بكر، وصدرًا من خلافةِ عُمَرَ، فصارَ النَّاسُ يُطَلَّقون بَدَلَ الواحدة ثلاثًا، فجمعوا ما كان الله قد فَرَّقَه عليهم، واستَعْجَلُوا ما كان الله أخَّرَهُ عنهم، فأُلزِمُوا ذلك. ¬
وقد رَوَى النَّسَائىُّ (¬1)، عن محمودِ بن لَبِيدٍ؛ أنّ رجلًا طَلَّقَ امرأتَهُ ثلاثًا في زمَنِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - مُغْضَبًا يقولُ: "أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ الله وَأَنَا حَيٌّ بَينَ أَظْهُرِكُم؟ " فَقَامَ رَجُلٌ يقولُ: يا رسُولَ اللهِ، أَقْتُلهُ؟ فهذا معنى الحديث، ليس معناه ما تَوَهَّمَتهُ المُبتَدِعَةُ والجُهَّالُ من أنّ طَلاقَ الثّلاثِ إذا قالها الرَّجلُ في كلمةٍ لا يَلْزَمُ، وقد ضربتُ شرقَ الأرضِ وغرِبَها، فما رأيتُ ولا سمعتُ أحدًا يقولُ ذلك (¬2)، إِلَّا أنّ الشِّيعة الخارجين عن الإسلام يقولون في الظَّاهر: لا يقع الطّلاق على المرأةِ حتّى يُطَلِّقَها واحدةً، ويضعَ يَدَهُ على رأسها، ويقول للشُّهودِ: إنَّ هذه طالقٌ، في حماقاتِ تُجَانِسُ عقائدهم الخيثة. المسألةُ الثّانية (¬3): قوله (¬4): "طلَّقتُ امْرَأتِي مِئَةَ طلْقَةٍ" قال علماؤنا (¬5): يحتملُ إيقاعها مُجتَمِعَة ومفترقة، ولا تأثير للزّائد على الثلاث في جَمْعها إِلَّا ما له من التّأثير في تفريقها، وذلك أنّه أِثمَ فيها, ولا يعتدُّ عليه بشيءٍ منها (¬6)، ولا تأثيرَ لهُ في الحُكم إِلَّا في الاستثناء، وهو إذا قال: طلّقتك مئة إِلَّا تسعة وتسعين، فقد رُويَ عن سحنون أنّهاَ ثلاثٌ، ورُوِيَ عنه أنّه قال: لا يقعُ عليه إلّا تطليقة واحدة، فمن جَعَلَ ما زادَ على لفظ الثّلاث، ¬
باب ما يجوز إيقاعه من الطلاق
ليس له غير حكم الثّلاث، ألزمه الثّلاث، بمنزلة قوله: أنت طالق ثلاثًا إِلَّا ثلاثًا. ومن جعلَ للفظ المئة تأثيرًا، جعل له لما زاد من الاستثناء تأثيرًا، فلم يبق من الطّلاق إِلَّا واحدة. باب ما يجوز إيقاعه من الطّلاق (¬1) الفقه في ستّ مسائل: المسألةُ الأولى (¬2): قال علماؤنا (¬3): الطّلاقُ يُعتبرُ بثلاثِ معانٍ: العدد، والصِّفة، والزّمان. وقال عبدُ الوَهّاب (¬4): الطّلاقُ على ثلاثة أضرب: طلاق سنّة، وطلاق بدعة، وطلاق لا يوصف بسُنَّةٍ ولا بدعة. ومعنى طلاق السُّنَّة: أنّه واقع على الوجه الّذي وَرَد الشَّرْعُ بإيقاعِهِ عليه. ومعنى طلاق البدعة: أنّه واقعٌ على غيرِ ذلك الوجه. وهذه الثّلاثة الاقسام تصِحُّ من جهةِ الزّمان، فأمّا من جهة العَدَدِ والصِّفةِ، فلا تكونُ إِلَّا قسمين: سُنَّةٌ وبدعَةٌ. فأمّا العدد: فإذا وقع أكثر من واحدة فقد وَقَعَ بغير السُّنَّةِ. وقال الشّافعي: هو مطلق (¬5)، للسُّنَّة. ودليلنا: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية (¬6)، ولا يخلو أنّ يكون أمرًا بصفةِ ¬
الطّلاقِ، أو يكونَ إخبارًا عن صِفَةِ الطَّلاقِ الشَّرعيِّ. ومن علمائنا من قال: الألفُ واللّامُ للحصرِ، وهو ألَّا يكون الطّلاق الشّرعيّ على غير هذا الوجه. فإن قالوا: المرادُ به الطّلاق الرَّجْعِيّ طلقتانِ. قيل لهم: إذا استقلَّ الكلام دون إضمار، لم يرجع الإضمار إِلَّا بدليلٍ، وقد بيَّنَّاهُ في "الأصول". المسألةُ الثّانية (¬1): فَمَنْ أَوْقَعه بلفظ الثّلاث (¬2) لَزِمَهُ ما أَوْقَعه، وبذلك قال جماعة العلماء. وحكى عبد الوهّاب في "إشرافه" (¬3) عن بعض المُبتَدِعَة (¬4)؛ أنّه قال: تلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظَّاهرِ لا يلزمه شيءٍ (¬5). وإنّما يُرْوَى هذا القول عن الحَجِّاج بن أَرْطَاة، ومحمد بن إسحاق (¬6). والدّليلُ على ما نقوله: إجماعُ الصَّحابة؛ لأنّ هذا مرويٌّ عن ابنِ عمر، وعمران بن حصين، وابن مسعود، وابن عبّاس*، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - ولا مخالِفَ لهم، وما روي عن ابن عبّاس* من رواية طاوس (¬7)، قال فيه بعض ¬
المُحَدِّثين: هو وَهْمٌ، وإنّما وَقَعَ الوَهْمُ في التَأويلِ (¬1). وعندي: أَنَّ الرَّوايةَ صحيحةٌ؛ لأنّ طاوُس قويُّ الحِفْظِ إِمَامٌ فيما نَقَلَ. المسألةُ الثالثةُ (¬2): اختلفَ العلّماءُ في البَتَّةَ: فرُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: هي واحدةٌ، وبه قال أبَان بن عثمان (¬3). وقال عليّ: هي ثلاث. وقوله (¬4): "إنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانَ يقْضِي في البَتَّة بِالثَّلاثِ" إنّما استدلَّ بذلك مالك لأنّ مروان كان أمير المدينة، وفي زمان جماعة الصّحابة والتّابعين، وكان لا يقضي إِلَّا عن مَشُورَتِهِم، فهذا تكرَّرَ قضاؤُه في البَتَّة ثلاثًا، دلّ على أنّه كان الظّاهر من قولهم والمعمول به. قال علماؤُنا (¬5): وهذا في المدخول بها، فأمّا غيرُ المدخولِ بها، فإنْ نَوَى الثّلاث أو لم ينو شيئًا، فلا خلافَ في المذهبِ أنّها ثلاث، وإن نَوَى واحدة ففيها روايتان: إحداهما: لا ينوي وتلزمه الثلاث، وبه قال سحنون وابن حبيب. ¬
والزواية الأخرى: ينوي (¬1). فالرواية الأولى مبنيَّةٌ على أنّ البَتَّةَ لا تَتَبَعَّضُ، ولا يَصِحُّ الاستثناءُ منها (¬2). والرّواية الثّانية مبنيَّةٌ على أنّ البَتَّةَ تتبعّض، ويَصِحُّ الاستثناءُ منها (¬3)، وعلى هذا الاختلاف يجب أنّ يُحْمَلَ القولُ في الخُلْع وكلِّ طلاقٍ لا تعقبه رَجْعَة. المسألةُ الرّابعةُ (¬4): فإذا قلنا: إنّه ينوي في غير المدخولِ بها، فإنّه يحلف أنّه ما أراد إِلَّا واحدة، قاله مالك في البتّة، والبائنة، والخليّة، والبريّة. وقال سُحْنُون: إنّما يحلِفُ إذا أرادَ نكاحها, وليس عليه يمينٌ قبلَ إرادَةِ النِّكاحِ ونحوِهِ (¬5)، وهو قولُ ابن الماجشون. المسألةُ الخامسةُ: قال علماؤُنا: ألفاظُ الطَّلاقِ ثلاثٌ: تصريحٌ في العَدَدِ وفي الطَّلاقِ، فهذا إذا قال: أردتُ أقلَّ، لم يُصَدَّق. وتصريحٌ في الطَّلاقِ كنايةٌ في العَدَدِ، فهذا يُصَدَّق. فأمّا التّصريحُ في الطَّلَاقِ، فيقالُ له: كم أردتَ؟ فإن قال: ثلاثًا، صُدَّق عندنا، وبه قال الشّافعيّ (¬6). وقال أبو حنيفة (¬7): لا يُصَدَّق في قوله: إنّها ثلاث، وإنّما كان لا يُصدَّق عنده؛ ¬
لأنَّ اسم الفاعلِ عندَهُ لا يقتضي العَددَ، وعندنا يقتضي العدد، ألَا تَرَى إلى قولهم: امرأةً حائضٌ، هل يقتضي عَدَدًا؟ فإنّ مقتضَى اسم الفاعل يقتضي العدد. قالوا: قوله "أنتِ طالق" يقتضي طلاقًا؛ لأنّ اسمَ الفاعلِ يدلُّ على مصدرٍ، والمصدر يقتضي العدد، بخلاف اسم الفاعل، كأنّه قال: أنت طالقٌ طلاقًا، فقولنا "طلاقًا" يحتمل العدد ويدلُّ عليه. وأيضًا: فإنَّ أبا حنيفة (¬1) نقض أصله في المُعتدَّةِ؛ لأنّ الرَّجُلَ إذا قال لزوجه: أنتِ مَعْتَدَّة، فقد قال: إنّه يُصَدَّقُ فيما يقول إنَّ قال ثلاثًا أو واحدة. وأمّا الكناية في الطّلاقِ والعَدَدِ، فكقوله: اذهبي، والحقي بأهلك، فهذا يُصَدَّقُ في الطَّلاقِ وفي العَدَدِ. فرع: إذا قال الرَّجلُ لزوجته: أنا مِنْكِ طالقٌ، فعند مالك (¬2) والشّافعيّ (¬3) أنّ الطلاقَ يقعُ عليها وقال أبو حنيفة (¬4): لا طَلاقَ عليها. فرع: وأمّا إذا قال لعبده: أنا منك حُرٌّ، فقدِ اتَّفقَ الأيِمَّةُ الثّلاثة أنّ ليس عليه شيءٌ. فوجهُ القولِ بينَ المسألتين في بابِ النِّكاحِ معقودٌ عليه، مقيَّدٌ بالنِّكاحِ كالزّوجة، ¬
باب الخلية والبرية
فلذلك صحَّ فيه إضافة الطّلاق الّذي هو حلّ العَقْدُ، والعَقدُ إليهما جميعًا، بخلافِ العبدِ والسَّيِّدِ في مِلْكِ اليَمينِ، فإن السَّيِّدَ فيه مَالِكٌ مَحْضٌ لا مَملُوكيَّةَ فيه، والعبدُ مملوكٌ مَحْضٌ لا مَالِكِيَّةَ لَهُ، فلذلك لا يَصِحُّ إضافةُ الحريَّةِ الّتي هي إبطال المملوكيّة إلى العبد الّتي هي فيه دون السَّيِّد الّذي هو خالٍ عنها. المسألةُ السّادسةُ: هل يجبُ الطلاقُ بالنِّيَّةِ أم لا؟ فلمالك - رحمه الله - في هذا قولان: أحدهما: أنّه يجبُ بِالنِّيَّةِ أنّ يطلِّقَ في قلبِهِ. الثّاني: أنّه لا يقعُ، إلّا أنّ يقترِنَ به لفظٌ وإن لم يدلُّ عليه، مثال ذلك: لو قال "اسقني ماء" وأرادَ الطّلاق، وقعَ عليها، والأول أشبَهُ وأصَحُّ. وعند الشّافعي (¬1) وأبي حنيفة (¬2): أنّه لا يجبُ الطّلاقُ بالنِّيَّةِ، إِلَّا أنّ يقترنَ بلفظٍ يدلُّ عليه تصريحًا أو كنايةً. باب الخَلِيَّةِ والبَرِيَّة الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬3): سمَّى اللهُ النِّكاح في القرآن نِكاحًا، وزواجًا، واختلفَ العلّماءُ، هل له لفظٌ آخَرُ سِوَى هذين أم لا؟ وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدَّمَ، وأَشرنَا إلى حديث الموهوبة، وسمَّى اللهُ تعالى الطَّلاقَ في القرآنِ بثلاثة أسماء: الطّلاق، والفِراق، والسَّراح. واختلفَ العلّماءُ في ألفاظِ الطَّلاقِ صريحًا وكنايةً: ¬
فقال الشّافعيُّ: الصَّريحُ ما وردَ في القرآنِ، والكنايةُ ما عَدَاهُ (¬1). واختلفَ أشياخُنا في ذلك: فقال القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب (¬2): الصّريحُ لفظُ الطّلاق وحدَهُ. وقال القاضي أبو الحسن (¬3): الصَّريحُ لفظُ الطّلاقِ والفِرَاقِ، والحَرَامِ، والخَلِيَّة، والبَريَّة. وتحقيقُ القولِ في ذلك يرجِعُ إلى فصلّين: أحدُهُما: يرجِعُ إلى تحقيقِ لفظِ الصَّريحِ، وهو الخالصُ في الدَّلالةِ على الشَّيء الّذي لا يحتملُ سوَاهُ، مأخوذٌ من اللَّبنِ الصّريحِ الّذي لم يَشُبْهُ شيءٌ، بناءً على ما بيّنّاهُ في "أصول الفقه" من أنّ المعقولَ في الأَلفاظِ تَبعٌ للمحسوس. والثّاني: أنّه إنّما يُفتَقَرُ إلى الفرقِ بينَ الصَّريحِ والكنايةِ بحرفٍ واحدٍ، وهو أنَّ الصريحَ ما لا يُنَوَّى فيه الحالف، والكناية ما يُنوِّى. فإذا ثبت هذا وتحقَّقتُمُوهُ، فقول القاضي أبي محمّد: هو صريحُ مذهب مَالك؛ لأنّ مالكًا يُنَوَّي في الخَليَّةِ والبَرِيَّةِ، وحبلُكِ على غَارِبكِ، وهي من الصَّريحِ في عُرْفِ الطَّلاق، فدل على أنّ الصّريحَ عندَهُ لفظُ الطَّلاقِ خاصَّةً الّذي ليس فيه احتمالٌ، والَّذي وقعَ شرعًا وعُرْفًا عليه، ألَّا ترى إلى قولِ عمرَ بن الخطّاب - رضي الله عنه - للرَّجُل الذِي قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ: مَا أَرَدت به؟ قال: أرَدتُ الفِرَاقَ، فنَوَّاه فِيهَا (¬4). وقد قال مالك: لو علِمتُ أنَّ عمر قال ذلك لقُلتُ به (¬5). ¬
فإن قيل: فكيف قال ذلك مالك وهو يرويه؟ قلنا: روَاهُ مقطوعًا، فأعجَبُهُ مَقْطَعُهُ، ولم يَرْوِهِ مُسْنَدًا فيَلْزَمُه حُكمُه، هذا هو الصّحيحُ. ومن علمائنا من قال: إنّما توقَّفَ مالك فيه؛ لأنَّه لم يَعْلَمْ هل كان ذلك قبلَ الدُّخول أو بعدَهُ؟ فلم يرَ مالكٌ إجزَاءَ التَّنْويَة في المدخولِ بها، وجوَّزَهُ في الّتي لم يُذخَل بها؛ لأنَّ الواحدةَ تُبِينُها. وقد قال جماعة من العلماء: إنّه يُنَوَّى في كلَّ حالٍ، وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّ في "حَبْلُكِ على غَارِبكِ" لا يكونُ أظهرَ من قولِهِ: "طلّقتُكِ"، فإن حَلَّ العِقَال في الذَّهابِ كوَضعِ الحبلِ على الغارِبِ فيه، وكالتَّخْلِيَةِ فيما يُترَكُ، وكالتَّبرِئَةِ فيما يَسْقُطُ. وهذه كلُّها ألفاظٌ إنَّ لم تكنْ مثلَ الطّلاق فلا تكونُ فوقَه، ولو قال رجلٌ لامرأته: طلّقْتُكِ، لَنُوَّيَ كذلك إذا قال: خَلَّيتُكِ، وكذلك الْبتَّة القطعُ. وقد اختلفَتِ الصَّحابةُ فيها، وغلَّب مالكٌ قضاءَ علىٍّ بالكوفة بأنّها ثلاثٌ (¬1) على قضاء عمرَ بالمدينة بأنّها واحدةٌ. أمّا النَّسائي (¬2): فقد رَوَى حديثًا فيمن قال لامرأته: أمرُكِ بِيَدِكِ؛ أنّها ثلاثٌ، ولكنّه حديثٌ مُنكَرٌ (¬3)، والصّحيح أنّها واحدةٌ؛ لأنَّ الرَّجلَ يملِكُ أَمرَ المرأةِ على الإطلاق، والمقصودُ منه استمرارُ قَيْدِ النِّكاحِ عليها أو إطلاقها، فإذا قال لها: أمرُكِ بِيَدِكِ، فقد ¬
جعلَ إليها البقاءَ والزَّوالَ، فلا تملِكُ منه إِلَّا الأَقلَّ وهي الواحدةُ، وتُنَزَّلُ في ذلك منزلةَ الوكيلِ، فإنْه لا يملِكُ بالوكالةِ إِلَّا الأقلَّ ممَّا يَسْتَقِلُّ به، لكنّه إذا ناكرها حَلَفَ للبراءَة من الاحتمالِ، وله عليها الرَّجْعَةَ، كما أنّ له الرَّجْعَةَ لَو تَوَلَّى هذا الطَّلاق. عارضة (¬1): قال الإمام ابنُ العربيِّ: لا خلافَ بين علمائِنَا أنّ الرَّجْعَةَ لا يمْلِكُ الزَّوجُ إسقاطهَا؛ لأنّه حقٌّ أثبتَهُ اللهُ شَرْعًا، وشَرَعَ إسقاطَه بطريقِ العِوَضِ، واستقرَّ في نصابِهِ الَّذي وضعَهُ الشَّرعُ فيه. ولذلك قال علماؤُنا عَنْ بَكرَةِ أَبِيهِم: إنَّ من قال لزوجته: أَنتِ طالقٌ، ولا رَجْعَةَ لي عليكِ، أنَّ الطْلاقَ يَلْزَمُ، وما عَدَاهُ لَغوٌ. فجهل بعضُ الغَافلينَ المتأخِّرين، وكتبَ في براءات المُطَلِّقين: "فارقَ فلانٌ زوجهُ فلانةَ بطَلَّقةٍ واحدةٍ، مَلَكَت بها أمرَ نفسِهَا، لتَسْقُطَ الرَّجْعَةُ، فتَسقُطُ النَّفَقَةُ عنه والكُسْوَةُ" وهذه جهالةٌ عظيمةٌ، فإنّه لو صرَّحَ وقال لها: مَلَّكتُكِ أمرَ نَفْسِكِ، ما سقطتِ الرَّجعةُ، فكيف تسقُطُ هاهنا؟ وهذا بديعٌ فتأمَّلْهُ. الفروع: وهي سبعة: الفرعُ الأوَّلُ: قوله (¬2): "حَبلُكِ عَلَى غَارِبِكِ": تصريحٌ في الطَّلاقِ وفي العَدَدِ. ¬
بيان ذلك: أنّ النَّاقةَ يُجعلُ الحبلُ في رِجْلَيهَا، فإذا أرادوا تركَها جَعلوهُ على غارِبِهَا لكي تَسِيب، ولا يطلبونها بعد ذلك (¬1). فكذلك المرأةُ إذا قال لها: حبلُكِ على غَارِبِكِ، لا يكون له عليها رَجْعَة، خلافًا لأَبي حنيفة والشّافعيِّ (¬2). الغَارِبُ من الجَمَلِ: مقدَّمُهُ ما بين سَنَامِه إلى كَتِفيْهِ. فرع ثانٍ: إذا قال: أنت عليَّ حرامٌ، ففيه قولان: الشّافعيُّ يقول: عليه كفَّارة يمينٍ (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4) ومالك: عليه الطَّلاق. وقال مالك فيه أيضًا روايتان. أمّا المشهورُ في "موطَّئِهِ" (¬5) وفي "المدوّنَة" (¬6) أنّها: ثلاث. ورُويَ، عن مالك أنّها طلقةٌ بائنةٌ. وأمّا من قال: إنّها كفّارة يمينٍ، فدعوى؛ لأنّ النَّاس اتَّفقوا على أنّ مجرَّدَ قولِهِ: أنتِ طالق، أنتِ حرام، وأنت علىَّ كظَهْرِ أُمِّي، أنّه ليس بيمينٍ. ¬
وإنّما اختلفوا في كونِهِ يمينًا إذا عُلَّقَ بشرطٍ، مثل أنّ يقول: إنْ فَعَلْتِ كذا وكذا فأنت طالق، وأنتِ حرام، وأنت منِّي كظهر أُمِّي. فرع ثالث (¬1): وقولُه (¬2) في الحرام: "إِنَّهَا ثَلَاثٌ" هو قولُ زَيد بن ثَابِت (¬3). وقد رُويَ عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه قَضَى بها في عدي بن قيس الكلابي، وقال له: والّذي نفسي بِيَدِهِ لَئِن مَسِسْتَهَا قبلَ أنّ تتزوّج غيرَكَ لأرجُمَنَّكَ (¬4). وهو الّذي عوَّل عليه مالك وذهبَ إليه، وأنّها في غير المدخولِ بها نَوى واحدةً أو ثلاثًا، وإن زَعَمَ أنّه لم يَنوِ طلاقًا لم يُصَدَّق. وأمّا الخليّةُ والبريّةُ أنّها ثلاث، هو المشهورُ من مذهبِ مالك. واختلفَ علماؤُنا في وقوعِ الطَّلْقَةِ الواحدةِ البَائنةِ في المدخولِ بها: فرُوِيَ عن ابنِ القاسمِ (¬5) في الّذي يقولُ لامرأَتهِ أنتِ طالقٌ طلاقَ الخُلْعِ، أنّها واحدة. وكذلك إنَّ قال: خالَعْتُكِ، أو بَارَأْتُ امرأتي، أو افتدت منِّي. قال أَصْبَغُ: وكذلك إنَّ قال: صالحتُ امرأَتِي، أخذ منها عِوَضًا أو لم ¬
يأخذ، فهي طَلْقَةٌ بائنة، أو هي مُبارئة. وتال مُطَرِّف في الّذي يقول لها: أنتِ طالقٌ طلاقَ الخُلْعِ: هي طَلْقَةٌ رجعيَّةٌ (¬1)، ولا يكون طلاق خُلْعٍ إلّا بعَطِيَّةٍ. وقال ابنُ الماجشون: هي البَتَّةُ، وبه قال أشهبُ وسُحْنُون (¬2). الفرعُ الرّابع (¬3): فإن قال لها: سَرَّحْتُكِ، وقال: ما أردت به الطَّلاق. فقد روى محمّد، عن ابن القاسم؛ أنّه يُقْبَل منه ويحْلِف، إِلَّا أنّ يكون ذلك جوابًا لسؤالها الطّلاق. فإن قال: أردت واحدة. فقد رُوِيَ عن أشهب أنّه قال: له نِيَّتُهُ ويحلِف. فإذا قلنا في "سَرَّحْتُكِ" إنّها واحدةٌ إنَّ نَوَى، فإن لم يَنْوِ شيئًا، فقد قال أشهب: هي واحدةٌ حتَّى ينوِي أكثر من ذلك (¬4)، وقاله مالك (¬5). الفرع الخامس (¬6): وأمّا قوله: "خَلَّيْتُ سَبيلَكِ" فقد رَوَى ابنُ القاسم أنّه إنَّ قال: لم أُرِد طلاقًا، لم يُقْبَل ذلك منه، بخلافِ "فَارَقْتُكِ" و"خلَّيْتُكِ" والفرقُ بينهما: أنّ "خَلَّيتُ سَبِيلَكِ" لا يكادُ ¬
يُسْتَعمَل إِلَّا في الطَّلاقِ، ولو كانَ قبلَهُ ما يقتضيهِ لوَجَبَ أنّ يُقْبَلَ منه. فإن قال: أردتُ الطَّلاقَ ولم أَنْوِ عددًا. فقد رَوَى ابنُ وَهْبٍ عن مالك: هي واحدةٌ حتّى يَنْوِي أَكثرَ من ذلك (¬1)، وبه قال ابنُ عبدِ الحَكَم. وقال ابنُ القاسم: إنّها ثلاث (¬2)، وبه أخذ أَصْبَغ ومحمد. فإن قال: أردت واحدة. فيجيءُ على رواية ابنِ وَهْبٍ أنّه يُصَدَّق دونَ يَمينٍ, ويجيءُ على رواية ابنِ القاسِمِ عن مالك له نِيَّتُه ويَحْلِف. الفرعُ السَّادسُ (¬3): قوله (¬4): "شَأنُكُم بهَا" وقال: لم أرد بذلك إلّا إباحة ما سألتموني (¬5)، لم يكن عليه شيءٌ، وأمّا (¬6) إذا قال ذلك على ما قدَّمناه، وقال: لم أُرِدّ طلاقًا، فإِنّه لا يُصَدِّق؛ لأنّ هذه ألفاظٌ جَرَتِ العادةُ باستعمالها في الطَّلاقِ، فهذا وقعَ على وجهٍ يُفْهَمُ منه ذلك حُمِلَ عليه. الفرعُ السَّابعُ (¬7): وإن قال: "بَرئْتِ مِنَّي، وبَرِئْتُ مِنّكِ (¬8) فهو سواءٌ، وكذلك لو قال لها: أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ، وأنَا مِنْكِ بَائِنٌ، وأنّا مِنْكِ طَالقٌ، أو أَنّتِ مِنَّي طَالِقٌ. وقال أبو حنيفة: إنْ أضافَ الطَّلاقَ إلى نفسه بلفظِ الطَّلاقِ لم يَلْزَم، وذلك إذا قال: أنا مِنْكِ طالقٌ (¬9). ¬
باب ما يبين من التمليك
ودليلُنا: أنّها جِهَةٌ لو أضافَ إليها الطَّلاق بلفظِ البينُونَةِ ثَبت حُكمُهُ كجهةِ الزَّوجةِ، والله أعلمُ. باب ما يُبَيِنُ من التّمليكِ العربيّة (¬1): قال الإمام: التّمليكُ هو تَفْعِيلٌ من التَّمليك، وهو نقلُ المِلْكِ من يَدِ من هُوَ له إلى غيرِهِ، ولا يخلو المِلْكُ من أنّ يَقْبلَ النّقلَ أو لا يقبله، فإن قبلَ النَّقلَ، جازَ التَّمليكُ فيه وإلّا لم يجز. والتّمليك في الطّلاق: ضربٌ من التّوكيل، وصورتُه: أنّ يقولَ لزوجتِهِ: ملَّكتُكِ أَمْرَ نَفسكِ، أو جعلتُ أمركِ بيدِكِ، أو طلاقكِ بيدكِ، أو فِراقكِ إليك، أو شبه ذلك، فلا يخلو إذا فعلَ الزَّوجُ ذلك أنّ تجيبه في المجلس، أو تخرج من المجلسِ غير مُجيبة، وإنْ خرجت غير مجيبة، هل يبطلُ الّذي جعل إليها أم لا؟ فعن مالك - رحمه اللهُ - في ذلك روايتان: 1 - إحداهُما: أنّه يبطلُ، ووجُهُه: أنّها ما دامت في المجلسِ تتعرّض أنّ تجيب، فهذا خرجت من المجلسِ، فُهِمَ منها الإعراض عمَّا جعلَ إليها. 2 - ووجهُ القولِ بأنَّه لا يبطلُ وإن خرجت من المجلس: أنّ الحقَّ صارَ إليها، فلا يسقط إِلَّا بتوقيفٍ من الحاكِم، أو إسقاط ظاهِرٍ. وإن أجابت، فلا يخلو أنَ تجيب بجواب مُبْهَمٍ، أو بجوابٍ مُفَسَّرٍ. ¬
فإن أجابت بجوابٍ مُبْهَمٍ، كان لها أنّ تفسَّرَهُ فيما بعدُ من غير توقيتٍ؛ لأنَّ الجوابَ قد حصلَ، وإنّما بَقِيَ التَّفسيرُ. وإن أجابت بجوابٍ مُفَسَّرٍ، فلا يخلو أنّ تُجِيبَ بما يكونُ طَلْقَةٌ واحدةً، فيعملُ عليها، أو بما يكونُ ثلاثًا، فإن كانت بثلاث، أو بِما يحتملُ الثَّلاثَ، كان له أنّ يناكِرَهَا، فيقول: مَا أردتُ بِالتَّمليكِ إِلَّا واحدة، فيحلِفُ على ذلك ويعمل عليه، ولكن المناكرة لا تنفعه إِلَّا بثلاثِ شروطٍ: الأوّل: أنّ يُنَاكِرَهَا في الحالِ من غيرِ تأخيرٍ. الثّاني: أنّ يقولَ: نويتُ الواحدةَ مع التَّمليكِ لا بعدَ التّمليك. الثالثُ: أنّ يكونَ التمليكُ ابتداءً من غيرِ شرطٍ، فإن كان بشرطٍ، مثل أنّ يقولَ لها: إنَّ تزوّجْتُ عليكِ فَأمْرُكِ بيدِكِ، وشبه ذلك، فلها أنّ تقضي بالثّلاث في مثل هذه الصُّورة، وليس لها أنّ تناكر؛ لأنَّ المفهومَ من مقارَنَةِ الشَّرطِ انقطاع العِصْمَةِ، ولأنَّه قَطَعَ العِصْمَة بواحدةٍ، بخلافٍ إذا قال لها ابتداءً: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فإنّه إنّما جعل لها المِلْكَ. العربية: التخيير قال الإمامُ: هو أنّ يقولَ الرَّجلُ لامرأَتِهِ: اختَارِي، فاختارَتْ نفسَهَا، فقد بَانَت منه. وقال قومٌ: إنِ اختارتْ زوجَهَا فهي واحدةٌ، وزوجُها أحقُّ بها, وإنِ اختارت نفسَها فهي تطليقَةٌ. وهو مأخوذٌ من الاختيار، وكانت المختارة تأخذُ ما تَعْلَم أنّه خيرٌ لها وأحبّ إليها, ولأنّه جعل الاختيار إليها، يقال: اخترت الشيءَ، ومعناه: اخترت خِيرَتَهُ، وخَيرَهُ. وهو مشتقٌّ من الخيرة. الفقه في مسائل: المسألة الأولى؟ قال علماؤُنا: التَّخييرُ خلاف التَّمليك. وصُورتُه أنّ يقولَ لها: خَيَّرتُكِ في نَفْسِكِ، فلها أنّ تقضي في الثَّلاث، وليس له أنّ يُنَاكِرَهَا، بخلاف التّمليك فإنَّ له أنّ يُنَاكِرَهَا في التّمليك.
والفرقُ بينهُئا: أنَّ في التّمليكِ جعلَ إليها ما كان إليه وهو الطّلاق الواحد، فأمّا الثّلاث، فهي حرام فلا تدخل تحت الإِذن، بخلافِ التّخيير، فإنّ معناهُ البقاء أو الزّوال عنها، وبالواحدة لا يزول، فلأجل ذلك كان لها أنّ تقضى بالثّلاث، ولم يجز له مُنّاكرتها. فرعٌ: فإن خيَّرَها في نفسِهَا، فاختارت واحدة أو اثنين، فقد بَطلَ خيارها عند مالك؛ لأنّها قَضَتْ بما ليس لها. وقال عبدُ الملك بن الماجِشُون: كملت عليه الثلاث؛ لأنّها اختارت بعض ما لا يتبعْض، يكمل عليها، كما لو قال لها: أَنْتِ طالقٌ نصف طَلْقَةٍ. فرعٌ: فإن ملكها، فقالت: لا أُطلَّقُ نفسي، أو خيَّرَهَا، فقالت له: قدِ اخترْتُكَ، أو قد رَدَدْتُ ما جَعَلْتَ إلَيَّ، لم يكن ذلك شيئًا. وقال بعضُ المتقدِّمين: يكونُ ذلك طلقة رَجْعِيَّة. والدَّليلُ على بُطلَانِهِ: ما رَوَى البخاريُّ (¬1) ومسلم (¬2) عن عائشة: أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - خيَّرَ أَزواجَهُ فاخترنَهُ، فلم يكن ذلك طَلَاقًا. وفي (¬3) الصَّحيحِ أنّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ حينَ نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآية (¬4)، قالت عائشة: فَبَدّأَ بي، وقال: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا, ولا عَلَيكِ أنّ تَسْتَعجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، وَقَرَأَ عَلَيْهَا الآيَة، فَقَالَتْ لَهُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأمِرُ أَبَوَيَّ؟! بَل أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَتْ: ¬
يا رَسُولَ اللهِ، لَا تُخبِر أَحَدًا من أَزوّاجِك أَنِّي اختَرْتُك، قال: "إِنِّي لَمْ أُبْعَث مُعَنِّتًا". قالَت عَائِشَةُ أَكَانَ طَلَاقًا (¬1). وبهذا اسْتُغُنِيَ عن حديثِ قُرَيْبَة (¬2) وشبهه (¬3). نكتةٌ بديعة (¬4): في الفرق بين التّخيير والتّمليك اختلفَ النّاسُ فِيهِمَا: فمنهم من قال: هي واحدةٌ في الحُكمِ التّخيير والتّمليك. ومنهم من فرّق بينهما، وإليه صَغَا مالكٌ، جعلَ التَّخييرَ ثلاثًا والتَّمليكَ واحدةً، في تفصيلٍ مَذهَبِىٍّ بيانُه في "الكتاب الكبير". والحُجَّةُ فيه: أنّ الطَّلاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ، فإذا صَرَفَهُ إلى المرأةِ فلا يخلُو من ثلاثة أوْجُهٍ: 1 - إمّا أنّ يصرِفَهُ إليها استنابةً وتوكيلًا، مثلَ أنّ يقولَ لها: طَلَّقي نفسَكِ، فيكونُ ذلك لها بِحسب ما يُعطِيهِ قولُه. 2 - وإمّاَ أنّ يَصرِفَه إليها تمليكًا، وذلك على معنى الهِبَة، إذ التَّمليكُ إمّا أنّ يكونَ بعوَضٍ أو بغيرِ عِوَضٍ، فإن كان من غير عِوَضٍ فهو من قَبِيلِ الهِبَةِ، فيُحْمَلُ التبرُّعُ على الأقلّ، وهو الواحدةُ. ¬
باب الإيلاء
3 - وإمّا أنّ يُخَيَّرَها، ومطلَقُ التَّخييرِ يقتضي التَّرَدُّدَ بين الزوجيَّةِ والخروج عنها, ولا يكونُ الخروجُ عنها بالواحدةِ، فإن الرَّجعيَّةَ زوجةٌ، فلم يبق إِلَّا الثّلاثُ (¬1)، أو الواحدةُ البائنة، على تفصيلٍ في المذهبِ، وتفريع في تصوير الاختيارِ ولَفْظِهِ، وبيانِ فائِدَتِهِ إذا وقعَ وحُكْمِهِ، وليس في آيةِ التَّخْيِير حُجَّةٌ لأحَدٍ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية (¬2). فخَيَّرَهُنَّ بين الدُّنيا والآخرة، وقال لهنّ: إنَّ اخترتُنَّ الدُّنيا فاُطَلِّقكُنَّ وأُمَتِّعْكُنَّ، فلم يجعْلِ الطَّلاق بأيديهنِّ، وإنّما أرادَ استعلامَ ما عِنْدَهُنَّ، ثمّ يُنْفِذُ بعد ذلك حُكمَهُ فيهِنَّ. بَابُ الإيلاء التّرجمة (¬3): قال الإمامُ: أدخل مالكٌ (¬4) - رحمه الله - حديثَ عَلِىَّ بْنِ أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه -؛ أنَّهُ كَان يَقُولُ: إِذا آلَى الرَّجُلُ في امْرَأتهِ، لَمْ يَقَعْ عَلَيهَا طَلَاقٌ، وإن مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ حَتَّى يُوقَفَ. فإِمَّا أنّ يُطَلِّقَ، وإمَّا أنّ يَفيءَ. وأدخلَ مالك (¬5) مِثْلَهُ، عن عبدٍ الله بن عُمَرَ؛ ليُبَيَّنَ أنَّ فقهاءَ الكوفةِ والمدينةِ من الصَّحابة قد اتَّفقوا على أنَّ الطَّلاقَ لا يَقعُ على المُولَى بمُضِىِّ المُدَّة (¬6) حتّى يُوقَفَ، ¬
خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه من الكوفيَّينَ (¬1) الّذين يقولون: إنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ بِمُضِىِّ المُدَّةِ من غير تَوْقِيفٍ، فَعَجِبَ مالكٌ لهم من أين تَلَقَّفُوها، وعالِمُهُم الأكبرُ، ومُفتِيْهم الأعظمُ، وهو عَلِيٌّ يخالِفُهُم فيها، وهي مسألةٌ عسيرةٌ جِدًا، اختلفَ فيها الصّحابةُ، والتَّابعون، وفقهاءُ الأمصارِ، وسبيلُ الحُجَّةِ فيها غير لائحةٍ، والخلافُ إنَّما ينشأُ فيها من آية الإيلاء، وهو قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (¬2)، بَيَّنَ فيها ثلاثةَ عَشَرَ حكمًا, من مُهمِّها ومن أعظَمِها هذا الحُكمُ؛ قال الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3) فهذا يدلُّ على وجوب فَيْئَةٍ بعد مُضِىِّ المُدَّةِ، ثمَّ قال: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية (¬4)، وفيه تَنَازُعٌ بين علمائِنَا، يأتي بيانُه إنَّ شاء الله. العربيّةَ (¬5): قال الإمام: الأصلُ في هذا الباب قولُه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (¬6) , وفي قراءة ابنِ عبّاس: "الَّذِينَ يقسمُونَ" (¬7) وهو من القَسَمِ، وهو اليمينُ أيضَا. فالإيلاء في اللُّغةِ مَصْدَرٌ، هو من آلى يولي إيلاءً، ومصدرُ كلّ فعلٍ يكونُ على أَفْعَلَ يكونُ على ضربين (¬8): أفعلَ يُفْعِلُ إفعالًا، تقول: أكرمَ يكرمُ إكرامًا، وهو مأخوذٌ من الألية، ¬
فصل
والألية: اليمينُ والحَلْفُ، ويقال: آلى الرّجلُ من امرأَتِهِ، إذا حَلفَ إيلاءً أي حَلْفًا. فصل الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2) في "المبسوط": "الإيلاءُ: هو اليمينُ" إِلَّا أنّه في الشَّرعِ مستعمَلٌ في القَسَم على الامتناع من وطء الزوجة، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (¬3)، معناه: يقسِمُون على الامتناع من وَطءِ نِسَائِهِم. وصورته: أنّ يحلِفَ الرَّجلُ على تركِ وَطءِ زوجتهِ أكثر من أربعة أشهر، بيمينٍ يلزمُهُ فيها حكمٌ، سواءٌ كان ذلك الحكم كفَارةً، أو طلاقًا، أو عتاقًا، أو نذْرًا. وقال الشّافعيُّ (¬4): لا يكونُ الإيلاءُ إِلَّا في الحلْفِ بالله خاصَّة، لقوله: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيحلف بالله أَوْ ليصمُتْ" الحديث (¬5). المسألة الثّانية: أدخلَ مالكٌ - رحمه الله - حديث عليّ بن أبي طالب في الإِيلاءِ على مذهبه في أنَّ الحاكمَ يُوقِفُ المُوْلِيَ بعدَ مُضِيِّ الأربعة، فإذا أنّ يفيءَ, وإما أنّ يُطَلِّقَ، وبه قال الشّافعيُّ (¬6) ردًّا على أبي حنيفة (¬7) في قوله: إنَّ تمضي الأربعة الأشهر من غيرِ وَطءٍ، بَطَلَ دونَ توقيفِ الحاكِمِ، واحتجَّ بأنّ قالَ: إنّها مُدَّةٌ: ضُرِبَت للوَطء, فوقعَ الطّلاقُ عَقِبَهَا كالعِدَّةِ. ودليلُنا: قولُه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (¬8)، ولنا فيها أدلّة: ¬
أحدها: قولُه: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} الآية (¬1). وهذا يقتضي أنّ يَكون هنالك قولٌ مسموعٌ في العادَةِ، ومرورُ الزَّمانِ ليس بمسموعٍ في العادة. الدّليلُ الثّاني: - وهو أقواها -وهو أنّ اللهَ سبحانه قال: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬2) ثمّ قال: {فَإِنْ فَاءُوا} الآية (2)، وقال: {وَإِنْ عَزَمُوا} (2) بعد مُضِيَّ الأربعة الأشهر. وأبو حنيفة يجعلُ ذلك في نفسٍ الأَربعةِ الأشهر (¬3). المسألة الثّالثة: قال مالك: إنَّ طلاقَ المُوْلِي يكونُ رَجْعِيًّا، وبه قال جماعةُ العلّماءِ، إِلَّا أبا ثَوْر، فإنّه يقول: إنّها طَلْقَةٌ بائنةٌ، فهذا مع عِلْمِهِ وتبَحْبُحِهِ في الفقه وأَدِلَّتِهِ. ودليلُنا عليه: أنّ الطّلاق إنّما يكونُ لأَجْلِ الامتناعِ من الوَطءِ، فإذا كان رَجْعِيَّا، أَمْكَنَهُ أنّ يَسْتَدْرِكَ ذلك في العِدَّةِ. وقال مالك: إذا تَرك الوَطءَ مضارًّا من غيرِ يمينٍ، دخلَ عليه الإِيلاء، وإن لم يحلف على تركه عند مالك، خلافًا للشّافعي وأبي حنيفة في قولَيْهِما. فرعٌ: قال مالك: إيلاءُ العبدِ نصف إيلاء الحرّ (¬4). وقال الشّافعيَّ: هو سواء مثل إيلاء الحرّ، لعموم الآية (¬5). ودليلنا: أنّه حكمٌ من أحكامِ فرقة النِّكاح، فكان العبدُ فيه على الشَّطْرِ مع الحُرِّ كالطَّلاق. ¬
المسألةُ الرّابعة (¬1): قال علماؤنا (¬2): والإيلاءُ يجبُ حُكْمُهُ بكلِّ يمينٍ يجبُ على الحالِفِ بها شيءٌ، كالحالِفِ بالله أو بصفةٍ من صفاته. قال محمّد: مثل أنّ يحلِفَ بسلطانِهِ، أو قُدْرَته، أو رحمته، أو نُورِه، أو حمده، أو ثنائه، زاد في "المبسوط" عن ابن الماجِشُون: أو عَظَمَتِهِ، وعنِ ابنِ القاسم: أو بجَلَالِهِ، أو بشيءٍ من صفاته. ووجه ذلك: أنّ هذه أيْمانٌ تلزمُ بها الكفَّارة، فَثَبَتَ بها الإيلاءُ، كقوله: لَا واللهِ، وبَلَى واللهِ، وهذا لا خِلَافَ فيه. فإن قال: "أحلِفُ" أو "أُقسِمُ" فقط، فقد قال (¬3): لا يدخل عليه إيلاء إِلَّا أنّ يريدَ بالله فيكون مُوليًا (¬4). وقال ابنُ القاسم (¬5): و "أَعْزِمُ" أو "أَعْزِمُ على نفسي" عندي مثل أُقْسِمُ، فكذلك قولُه: إِلَّا أنّ يريد بالله. فرعٌ (¬6): فإن حلَفَ بشيءٍ من العباداتِ، مثل أنّ يحلِفَ بالصِّيامِ، فقال: إنَّ وَطِئتُكِ فعلىَّ صيام شهر، فهو مُوْلٍ، وكذلك كلّ ما يلزمه الوفاء به من طلاقٍ، أو عِتْقٍ، أو حَجٍّ، وهذا أحد قولي الشَّافعي (¬7). ¬
وقال في الجديد: لا يكونُ مُوْلِيًا إِلَّا باليمينِ بالله (¬1). ودليلُنا: الآيةُ، قولُه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية (¬2). المسألةُ الخامسةُ (¬3): في إيلاءِ العبيدِ قوله (¬4): "إيلاءُ العَبدِ مِثْل إيلاء الحُرِّ" يريد أنّه مثل إيلاء الحرّ في لزومه حكم الأَيْمَان، واعتبار مدّة التَّربُّص والتَّوقيف عند انقضائها، مع بقاءِ اليمينِ. وقولُه (¬5): "إِنَّ إيلَاءَ العَبْدِ شَهْرَانِ" هو قولُ مالك، سواء كانت تحتّهُ حرّة أم أَمَة. وقال أبو حنيفة: إيلاءُ العبدِ مِنَ الأَمَةِ شهرانِ، ومِنَ الحُرِّةِ أربعة أشهُرِ (¬6). وقال الشّافعي (¬7): إيلاؤه منهما أربعة أشهرٍ. ودليلُنا: ما استدلَّ به عبدُ الوهّاب (¬8): أنّ مدّةَ الإيلاءِ يتعلَّقُ بها حكمُ البَيْنُونَةِ، فوجبَ أَلَّا يساوي فيه الحرُّ العبدَ (¬9). والصّحيحُ: أنّ إيلاءَهُ شهرانِ، وعليه جمهورُ العلّماءِ، واللهُ الموفِّقُ للصَّوابِ. ¬
باب الظهار
بابُ الظَّهارِ قال الإمام (¬1): الأصلُ في هذا الباب: الكتابُ والسُّنَّةُ، وهو مأخوذٌ من الظَّهْرِ، وقد كانتِ الجاهليةُ تقولُ: أنتِ كظهرِ أُمِّي، (¬2) وإنّما اختصَّ الظَّهرُ بالتَّحريم في الظِّهارِ دون سائر الأعضاء وإن كانت أَوْلَى بالتّحريم منه؛ لأنّ الظَّهر موضع الرُّكوب، والمرأة مركوبةٌ عند الغِشيَانِ، فإذا قال الرّجلُ لامرأته: أنت عليَّ كظهر أُمِّي، فإّنما أرادَ أنّ ركوبَها للنِّكاح عليه حرامٌ، كَرُكُوب أمِّه للغِشيَانِ، فأقام الرُّكوبَ مقامَ النِّكاحِ؛ لأنّ النّاكحَ راكبٌ، وأقام الظَّهرَ مقامَ الرُّكوبِ؛ لأنّه موضع الرُّكوب، وهذا من لطيف الاستعارة للكناية. وله (¬3) في الشّرع ألفاظٌ وأحكام تختصُّ به. الفقه في خمس وعشرين مسألة: الأولى: قال علماؤنا: الظهارُ مُحَرَّمٌ لثلاثةِ أدلَّةٍ: أحدها: قولُه تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} الآية (¬4). الثّاني: قولُه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬5) والمغفرةُ لا تكونُ إِلَّا في ارْتِكَابِ الذَّنبِ. الثالثُ: أنّه كَذِبٌ؛ لأنّه شَبَّهَ فيه فَرْجًا محلَّلًا بِفَرْجٍ مُحرَّمٍ، والكذِبُ حَرَامٌ (¬6). المسألةُ الثّانيةُ (¬7): الظَّهارُ تشبيه ظَهْرٍ مُحَلَّلٍ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ، على وجهِ الإيقاع لا على وجه الإخبار، على طريقِ التَّعريفِ لا على طريقِ التّحقيقِ. ¬
المسألةُ الثّالثة: الظِّهارُ صريحٌ وكِنَايَةً، كما أنّ الطّلاقَ صريحٌ وكنايةٌ. فصريح الظِّهار: أَنْتِ عليّ كَظَهْرِ أُمِّي، أو ظَهْرُكِ كَظَهْرِ أُمِّي. وكنايته: أنّ يقولَ: أَنْتِ عَلَىَّ كَأُمِّي، أو مثل أُمِّي، أو يذكر عُضوًا غير الظَّهر من زوجته، أو عُضْوًا أيضًا غير الطهر ممّن أشبه بها. فعندنا أنّه يَلزمُه هذا الظِّهار بالكِنَايَةِ، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال الشّافعي (¬2): لا يَلزمُه الظِّهارُ إِلَّا في الظَّهر وحدَهُ، محتجًّا بلَفْظِ القرآنِ. ودليلُنا: أنّه قولٌ يحرمُ الفَرْج له بالقسمة إلى تصريحٍ وكنايةٍ كالطّلاق، ولأنّه شبَّهَ عُضْوًا محلّلَا بعُضْوٍ مُحَرَّمٍ، فلزم، كما لو شَبَّهَهَا بظَهْرِ أُمِّه. المسألةُ الرَّابعةُ: لا فرقَ بين أنّ يشَبَّهَ الكلِّ بالكُلِّ، أو البعضَ بالبعضِ، أو الكلِّ بالبعضِ، أو البعضَ بالكلِّ. المسألةُ الخامسةُ: إذا شبَّهها بالأجنبيَّات، فهو ظِهَارٌ عند مالك (¬3)، وهو طلاقٌ عند عبد الملك (¬4)، ولَغوٌ عند الشّافعيّ، لكن قال: فيه كفّارة اليمينِ. ووجهُ قول مالك: أنّه شَبَّهَ عُضْوًا مُحَلَّلًا بعُضوٍ مُحَرَّمٍ، فَحَرُمَ عليه، فكان ظِهارًا كما في الأُمِّ. ووجهُ قول عبد الملك: أنّ الأصلَ في التَّحريمِ هو الطَّلاق، وإنَّما كان في ذوي المحارم ظِهَارًا بالنَّصِّ، وبَقِيَ في غيرِهِنَّ على أصلِهِ. ¬
فصل
المسألةُ السّادسةُ: إذا ظاهرَ من أمَتِهِ، أو أمّ ولده، كان ظِهَارًا عند مالك (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2) والشّافعي (¬3): ليس بشيءٍ، واحتجّوا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمِّهَاتِهِمْ} الآية (¬4) وليستِ الأَمَةُ وأمّ الولَدِ منهُنَّ. ودليلُنا: أنّه فَرْجٌ أبيحَ لَهُ وَطْؤُهُ بالمِلْكِ، فلَزِمَهُ فيه الظِّهار، أصلُه فَرْج زوجتِهِ. المسألةُ السابعةُ (¬5): إذا قال: أَنتِ عَلَىَّ مثل أُمِّي، فإنّه يكون ظِهارًا، نَوَى أو لم ينوِ. وقال أبو حنيفة (¬6) والشّافعي (¬7): إنَّ نَوَى الظِّهارَ كان ظِهارًا، وإن لم يَنْوِ لم يكن شيئًا. ودليلُنا: أنّه شَبَّهَ مُحَلَّلًا بمُحَرَّمٍ فكان ظِهَارًا، أصلُه إذا قال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظهْرِ أُمِّي. فصل قال الإمامُ: قد بيَّنَّا أنَّ الظِّهارَ مأخوذٌ من الظَّهْرِ، ومعناه: أنَّ محلَّ الرَّكوبِ الظَّهر، والجِمَاعُ نوعٌ من الرُّكوبِ. فمعنى "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي" أي رُكُوبكِ عليَّ حرامٌ كرُكُوبِ أمِّي. واختلفَ علماؤُنا في فرعٍ، وهو: أنّ (¬8) الظِّهارَ: تحريمُ الوَطْءِ المُباحِ من الزَّوجةِ والأمَةِ، وهل يحرمُ عليه الاستمتاع بالقُبْلَةِ والمباشَرَةِ وغير ذلك؟ اختلف أصحابُنا في ذلك: ¬
فقال مالك في "المدوّنة" (¬1) لا يُقَبِّلُ ولا يُبَاشِرُ، ولا ينظرُ إلى صَدْرِها, ولا إلى شَعْرِها، وفي "المختصر الكبير": ولا إلى شيءٍ منها حتَّى يُكَفِّر؛ لأنّ ذلك لا يَدْعُو إلى خيرٍ، ولا بَأْسَ أنّ يكونَ معها في بيتٍ واحدٍ إذا كان ممّن يُؤمَنُ. وفي "التّفريع" (¬2): "لا يُقَبِّلُ ولا يباشرُ، ولا بأسَ أنّ ينظُرَ إلى الوجهِ والرّأسِ واليدينِ وسائر الأطراف قبلَ أنّ يُكَفِّرَ". ومن علمائنا من حملَ ذلك على التَّحريم كالوَطْءِ، وبه قال: عبد الوهّاب (¬3). ومنهم مَنْ حمَلَهُ على الكراهية، لئلّا يدعو إلى الجِمَاعِ المُحَرَّمِ، وبه قال الشّافعيّ (¬4). المسألةُ الثامنةُ (¬5): إذا قال لأجنبيّة: إنَّ تَزَوَّجتُكِ فَأنْتِ عَلَى كَظَهْرِ أُمِّي، أو أَنْتِ طَالِق، فإنّه يلزمه عندَنَا (¬6)، فإذا تزوَّجها، طُلِّقت عليه ولزمه الطِّهار. ولا يَطَأ حتَّى يُكَفِّر إذا خصَّ قبيلة، أو بَلْدَة، أو جِنْسًا، فإن عمَّ لم يلزمه شيءٌ. وقال أبو حنيفة يَلزَمُه فيها (¬7). وقال الشَّافعي: لا يَلزَمُه فيها (¬8). واحتجّ الشّافعيّ بأنّه تَصَرَّفَ فيما لا يملك، فكان لَغوًا كسائِرِ التصرُّفات الباطلةِ. واحتجّ أبو حنيفة بأنّه حُكمٌ ألزمه نفسَهُ، فَلَزِمَهُ مع العُموم والخُصوصِ، كما لو قال ¬
لكلَّ امرأةٍ تزوَّجها بعد أنّ مَلَكَ عِصمَتَها: أنتِ طالقٌ. ودليلنا: هذا بعينه، غير أنّنا نقول فيه: يلزمُه إذا خصَّ، ويسقط إذا عمَّ. فإن أَلزَمْنَاهُ العمومَ كان اعتداءً وبَغيًا؛ لأنّه حَرَّمَ على نفسه جميعَ ما أباحَهُ الله تعالى له. والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}: الآية (¬1)، فجعلَهُ اعتداءً وإثما. المسألةُ التّاسعةُ: لا تجبُ الكفّارةُ في الظِّهارِ بنفس القول، حتَّى ينوي العودَ، خلافًا لمجاهد، لقوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬2). المسألةُ العاشرةُ: العَودُ ما هو في هذه المسألة؟ وفيه خلافٌ كثيرٌ: قيل: إنّه العَزمُ على الإمساك. وقيل: إنّه الوَطءُ نفسه (¬3). وقال الشّافعيّ (¬4): هو أنّ يمكنه أنّ يُطَلَّق فلا يُطلِّق. ودليلُنا على بطلانه: قولُه تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الآية (¬5)، و"ثمّ" للتَّرَاخِي. ووجهُ القولِ أنّه العَزْم على الإمساك: أنّ الظِّهَارَ هو العَزْم على ترك الوَطْءِ، فضدّه هو العزم على الإمساك. ووجه القول بأنّه الوَطْءُ: أنّ المخالَفَةَ للقَوْلِ الأوَّلِ إنّما تحقّقُ بِفِعْلِهِ. ¬
المسألةُ الحادية عشرة: يُحرَّمُ الظِّهارُ كلِّ استمتاعٍ سوى الوطء؛ لأنّ اللَّفظَ يقتضيهِ كما قدَّمنا. المسألة الثّانية عشرة: إذا عادَ لها - على الاختلاف في العوْدِ- لَزِمَتْهُ الكفّارة، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬1). المسألةُ الثّالثة عشرة: إذا لَزِمَتهُ الكفَّارة، فلا يُجزئه مَنْ فيه عَقْد عِتْقٍ من تدبيرٍ أو كتَابةٍ أو عِتْقٍ إلى أَجلٍ (¬2)، خلافًا لأبي حنيفة، حيث قال: يُجزيء جميعهُنَّ إِلَّا أمّ الولد (¬3). ودليلُنا: أنّه شخصٌ ... السَّيِّد، فيه عَقد عِتْقٍ، فلا تجزئ معه الكفّارة كأمّ الولد (¬4). المسألة الرّابعة عشرة (¬5): لا تُجْزىءُ الرَّقبةُ الكافرةُ في الظِّهارِ (¬6)، وبه قال الشّافعيّ (¬7). وتال أبو حنيفة: تجزئ (¬8)، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬9) فعمَّ. ودليلُنا: أنّه كفَّارة، فلم تجز بالكافر ككفّارة القَتْل، ولأنّها قُربة فلا يجوز صَرْفُها للكافر كالزَّكاةِ. ¬
فإن قال: هذا حملُ المُطْلق على المُقيَّدِ، وحمل المنصوص على المنصوص، وهذا لا يجوز، وقد أجبنا عن هذا في "أصول الفقه" (¬1). المسألة الخامسة عشرة: المعيبُ لا يخلو أنّ يكون عيبًا يُبْطِلُ المنفعةَ، أو عيبًا يسيرًا لا يُؤَثِّر فيها. فالأوّلُ لا تُجزِىء معه الكفّارة، وتُجزِىء مع الثّاني. هذه جملة هذا الباب، وأمّا تفصيلُه: فإنّ الأَعورَ يُجزِىء عند مالك (¬2)، خلافًا للشّافعيّ، واحتجّ بأنّه عَيبٌ يُنقصُ الثَّمنَ فلا تُجزِىء معه الكفّارةُ، كما لو كان أقطع اليد. ودليلُنا: أنّه كامل النّظر، فأجزأ في الكفَّارةِ كما لو كان صحيح العين. المسألةُ السّادسة عشرة: الأصمّ (¬3)، ومقطوع الإبهام (¬4)؛ لأنّها في معنى اليدين والرَّجلين. ¬
والمجنون لا يجوز (¬1)، بإجماعٍ من المذهب (¬2). المسألة السابعة عشرة: أقطعُ اليدِ الواحدةٍ (¬3)، وما كان في معناه، يُجزِىء عند أبي حنيفة (¬4)؛ لأنّه ينطلق عليه اسم رَقَبة. ودليلُنا: أنّه عَيبٌ يُبْطِلُ مَنفَعَةً مقصودةً، فلم يُجْزِئ، كما لو كان أَقطَع اليدين. المسألة الثامنة عشرة: الأخرس يُجزئُ عندنا (¬5)، خلافًا لأبي حنيفة (¬6)؛ لأنّها فقدُ حَاسَّةٍ لا تظهرُ على الجسمِ، فلم تمنع من الإجزاء كما لو كان أصم. المسألة التّاسعة عشرة: مقطوعُ الأُصبُعِ غير الإبهام، اختلفَ علماؤُنا فيه (¬7). فوجه القول بأنّه لا يُجزيء: أنّه عيبٌ يُبْطِلُ مقصودَ المنفعةِ فلا يجزئ، كما لو كان مقطوع الإبهام. ووجهُ القول أنّه يُجزِيء: أنّه عيبٌ يسيرٌ فأجزأت معه الكفَّارة كالجسم، فأمّا الأُنمُلَةُ وطرفُ الأُصبُعِ، فإنَّ فَقدَهُما لا يمنعُ الإجزاءَ في الكفّارةِ عند المالكيّين كلَّهم (¬8). ¬
الموفية عشرين: الإطعام في الظّهار بمدِّ هشام (¬1)، وتقدَّمَ الكلامُ في بابِ فِدْيَةِ (¬2) ... الحادية والعشرون: لا يجوزُ له أنّ يطأَ زوجه إذا كفَّرَ بالصَّيامِ عن الظِّهار باللَّيلِ. وقال الشّافعيُّ (¬3): يجوزُ وَطؤُها باللَّيلِ؛ لأنّ حُرْمَةَ لَيلِ الظِّهار لا يكونُ بأعظمَ من حرمة اللَّيل في رَمَضَان. قال الإمام: وهذا باطلٌ؟ فإن الله تعالى يقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬4) وقد تضمَّنَتْ هذه المسائل الكلام على حديثِ القاسم بن محمّد عن عمر (¬5)، والحديث الّذي بعدَه عنه وعن سليمان بن يَسَارٍ (¬6)، وكل مسألة في باب الظِّهارِ (¬7). ¬
المسألةُ الثّانية والعشرون: فإذا ظاهرَ من أَرْبَعِ نِسْوَة في كلمةٍ واحدةٍ، لم تكن عليه إِلَّا كفّارة واحدة (¬1)؛ لأنّه حُكمٌ يَلْزَم به الكفَّارة، فلم يتعدّد بتعدُّدِ محَلَّهِ، كما لَو حلَفَ على أشياءَ كثيرةٍ بِيَمِينٍ واحدةٍ بخلافِ الطَّلاقِ، وذلك إذا كان في كلمةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ الظِّهارَ ليسَ هو حلّ عَقْد وإنّما هو يمين، والطّلاق حلّ عَقد، فلذلك يطلَّق الأربع (¬2). المسألة الثّالثة والعشرون (¬3): ............ لأنّه ......... .......... المسألةُ الرّابعةُ والعشرون (¬4): والظِّهار ينقسم على قسمين: ظِهَارٌ مُطلَقٌ غيرُ مُقَيَّدٍ، وظِهَارٌ مُقَيّدٌ كالطَّلاق سواء. فأمّا "المطلقُ" نهو قولُ الرّجُلِ لامرأته: أَنْتِ عَلَيَّ كظهر أُمِّي. وأمَّا "الظِّهار المُقَيَّد" فإنّه ينقسمُ على الأقسام الّتي قسّمنا عليها الطّلاق المُقَيّد بصفة فيما ذكرنا في "كتاب الأَيمان" ويجرِي الحكمُ فيه على ذلك في الأقسام كلِّها، فما كان منها في الطَّلاق يمينًا بالطّلاق فهو في الظِّهار يمينٌ بالظِّهار. وقد بيَّنَّا حقيقة المظاهرة الّتي أخبر الله بها؛ تشبيه ظَهْرٍ بظهْرٍ، على مقتضى مُطلَق اللّفظ ... .... ... ... .... يرد اللّفظ العام إلى الخاص وغيرها عند وهذا ممَّا لا خلافَ فيه لزومًا وحُكمًا. فإن شبَّهَ أهلَهُ بِعُضْوٍ من أعضاءِ أُمِّه، فجمهور العلماء أنّه يلزمه. وخالفَ أبو حنيفة نقال: إنَّ كان العضو لا يحلَّ بالنّظر إليه لم يلزمه فيه ظهار (¬5). وهذا ضعيف؛ لأنّه لا يحلُّ النَّظر منها إلى عُضوٍ بشهوةٍ، وهذا موضعٌ للظِّهار. ¬
باب ظهار العبيد
بابُ ظِهار العبيدِ الفقه: قال الإمام: الأصلُ في هذا الباب في ظِهَارِ العبيدِ، قولُه (¬1) تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2)، ولم يفرِّق بينَ الأحرارِ والعبيدِ، فلا يصحُّ أنّ يقال: إنَّ العبد لمّا لم يكفّر بالعِتْقِ، فليس من أهلِ الظِّهارِ، كما لا يجوزُ أنّ يقالَ في المُعْسِرِ الضَّعيفِ عن الصّيام: إنّه يقدر على الصّوم وقال مالك: وظِهَارُ الْعَبْدِ كظهار الحرّ؛ إِلَّا في العِتقِ فإنّه لا يصحُّ منه، أَذِنَ له سيِّده أو لم يَأذَن له (¬3)؛ لأنّه لو أعتق ولم يكن الولاء له انتقص ركن من أصلِ الشَّرعِ، وهو قولُ النّبيّ عليه السّلام: "الوَلَاءُ لِمَنْ أَعتَقَ" (¬4) ولوْ كان له لما تمكَّنَ من الإرثِ به؛ لأنّ الرِّقَّ يَمنَعُ من الميراثِ. وهذه نكتةٌ عظيمة من أصول الفقه: وهو أنّ الشَّيءَ إذا كانت له قيمة مميزة فلم تحصل بَطَل، فإن أَذِنَ له في الإطعام وملّكه ما يُطْعم به جازَ، وإن كان وإن أذن له في الصِّيام أو في الإطعام جازَ. وبعد أنّ شَرَعَ في الصِّيام، أو في الإطعامِ، فهل له أنّ يَرُدَّهُ عنه إلى الآخر؟ فالمسالةُ محتملةٌ للخلافِ. أمّا الصِّيام، فيستوي فيه حُكْمُ الأحرارِ والعبيدِ (¬5). وأمّا (¬6) العِتْقُ، فلا يثبتُ في حَقِّهِ لوجهين: أحدهما: أنّه محجورٌ عليه في ماله. ¬
باب ما جاء في الخيار
والثّاني: أنّ الولأَ لا يثبتُ له. فأمّا الحجر عليه: فإنّ المحجورَ على ضربينِ: 1 - أحدُهما: أنّ يحجرَ عليه لحقِّ نفسِهِ كالسّفيه (¬1)، فهذا يلزمُه الطَّلاق والظِّهار. 2 - * وأمّا المحجور عليه لحقِّ غيره كالعَبدِ؛ فإنّه لا تجوز له الكفارة بالعِتقِ*. وأمّا قولُ مالكٍ (¬2) في "المبسوط": إنَّ أَذِنَ له في الإطعام فالصَّيَام أحبُّ إليّ، فقال ابن القاسم: لا أدري ما هذا, وليس كلّ أحد يستطيع الصِّيامَ، والفروع عليه كثيرة. باب ما جاء في الخيار الفقه في مسائل: قال علماؤنا: وكانت في بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُننٍ: أمّا سُنَّة الصَّدقة فقد تقدَّمت في "الزَّكاة"، وأمّا حُكمُ الولاءِ فيأتي في "كتاب العِتْقِ"، إنَّ شاء الله. وأمّا مسألةُ الخِيَارِ فهذا بابه. وفيه مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬3): ذكر مالكُ (¬4) حديثَ بَرِيرَة بأنّها أُعْتِقَت فَخُيِّرَت في زُوْجِها، فاختارت نَفْسَها. ¬
واخْتُلِف في زوجِها، هل كان حرًا أو عبدًا؟ وتعارضت في ذلك الآثارُ، واختلفَ في ذلك علماءُ الأمصارِ، فعندنَا أنَّ الأَمَةَ إذا أُعتِقَت تحتَ العَبدِ، يثبت لها الخِيَار بين البَقَاءِ معه أو الزَّوالِ عنه، وبه قالَ عبدُ اللهِ بن عمر، وجماعة من الصّحابة والتّابعين والشّافعيّ وأبي حنيفة (¬1). والدّليلُ عليه: حديث بَرِيرَةَ. قولها (¬2): "فَخُيرَت في زَوجِهَا" ومعنى ذلك أنّها كانت أمَة، وكان زوجُها عَبدًا اسمُه مُغِيث، كذلك رَوَى ابن عبّاس - رضي الله عنه (¬3) فخيَّرَها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في البَقَاءِ معه على حُكم الزوجيَّةِ أو المفارقة، ولا خلافَ في ذلك إذا كان الزوجُ عبدًا؛ لأنَّ الحريَّةَ رُتبَةٌ أرفعَ من رتبةِ الرِّقِ، وليس للعبدِ أنّ يتزوَّجَ حرَّةَ إِلَّا بأن يُبَيِّن لها أمره، ولو غَرَّهَا ثمَّ علِمَتْ، كان لها مفارقته، فلمّا تزوَّجَ العبدُ أَمَةً وكانت من نسائه (¬4)، لم يكن لها خيارٌ، فلمّا عتقت، كان لها الخِيَار أنّ تفارق، لنقصه عن رُتبتها، أو تُقيم معه. فرع (¬5): ولو كانت مدخولًا بها، فقد اختلفَ قولُ مالكٍ في ذلك، فقال مرَّةً: "ليس لها أنّ تُطَلِّق نفسَها إِلَّا واحدة بائنة" هذا الّذي ذَكَرهُ في "المدوّنة" (¬6) وأكثر الكتب (¬7). ¬
ثمَّ قال: لها أنّ تطلَّق ثلاثًا (¬1). المسألة الثّانية (¬2): قال أبو حنيفة: إنها تختارُ تحت الحُرِّ كما تختارُ تحتَ العبدِ، وقد بيَّنَّا وحقَّقَّنَا أنَّ الخِيَارَ إنّما وجبَ لها بكمالِهَا تحتَ ناقصٍ، فإذا كَمُلَت تحت كاملٍ، فأيُّ خِيَارٍ لها؟! وذلك مُستَوْفَى في مَوضِعِه من "كتاب العِتْق". المسألةُ الثالثةُ: إذا أعتقت تحت الحُرِّ فلا خِيَارَ لها، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة: لها الخِيَار أيضًا (¬4). واحتجّ بما رُوِيَ عن بريرة أنَّ زوجها كان حُرًّا, ولأنّها ملكت نفسَها تحت زَوْجٍ فكان لها الخيَار، كما لو عُتِقَت تحتَ العبدِ. ودليلُنا: أنّها كَمُلَت تحت كاملٍ، فلم يكن لها خِيَارٌ، كما لو عتقَت تحتَ مجنونٍ. وأمّا الحديث، فقد اختلفتِ الرّوايةُ فيه: فقيل: كان زوجُها عبدًا. وقيل: كان حرًا. والصّحيحُ: أنّه كان عبدًا. المسألة الرّابعة: إذا فارقتِ الأَمَةُ زوجها، فإنّها تطليقةٌ. ودليلنا: أنّها فُرْقَةٌ نشأت من قِبَل المرأةِ، فكانت تطليقة كفرقة العُنَّةِ، فإن عُتِقَت فإنَّ ¬
باب ما جاء في الخلع
لها أنّ تمنع نفسَهَا منه حتَّى تختار البقاء معه أو الزّوال عنه، فإن أَمكنَتهُ من نفسها سَقَطَ خِيَارُها؛ لأنّ الرِّضَا يُبْطِلُ الخِيَارَ، والوطءُ نهاية الرِّضَا. المسألةُ الخامسة: هذا إذا عَلِمَتْ بالعِتْقِ، فإن جهلت، لم يلزمها بالتْمكين من الوَطءِ إسقاط الخِيَار، فإن عَلِمَتْ بالعِتْقِ، ولكن لم تعلم أنّ لها الخِيَار، لم يَنفَعْها الجَهْلُ (¬1). باب ما جاءَ في الخُلْعِ قال أبو حاتم في "كتاب "الزَّينة" (¬2) "الخُلْعُ مأخوذٌ من خَلَع يَخلَعُ، كأنّ المرأةَ كانت له بمنزلةِ القميصِ والثّوبِ يلبُسه، فإذا فرّق بينهُما فقد خلعَ منه ذلك الثّوب (¬3). ويقال: خلعتُ المرأةَ وخلعتُ الثوبَ عنِّي خُلعًا، وإنّما قيل للّذي يكونُ في خُلْعِ المرأة خُلْعٌ - بضَمِّ الخاء -؛ لأنّه مصدرٌ من خلعت خلعًا، فالخاءُ من خلعت مضمومةٌ؛ لأتها خُلعت منه وهو كارِهٌ، ولم يخلعها وهو يريدُ، فهي مخلوعة، والرَّجلُ مخلوعٌ؛ لأنّه فُعِلَ، كما تقول: سُلِبَ فهو مسلوبٌ". ¬
الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال الإمام: مسائلُ الخُلعِ كثيرةٌ، ونُكتَتُهُ أنّه فراقٌ بِعِوَضٍ، كما كان النِّكاح تَلَاقيَّا بعِوَضِ، وحُكمُ العِوَضَينِ في الجوازِ والردِّ سواءٌ، وهو مكروهٌ ككراهيّة الطَّلاقِ. وقد رَوَى التّرمذيُّ (¬2) وغيرُه (¬3)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنَّه قال: "المَختَلِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ"، وذلك إنَّ صحَّ -والله أعلمُ- مع استمرارِ الألفَةِ ودَوَامِ المَوَدَّةِ، فأمّا مع العَجْزِ عن إقامة حدودِ اللهِ تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4) وهذا بيّن من حديثِ قَيْس بن شمَّاس. وفي "الصّحيح" أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لثابِتِ بن قَيسٍ: "خُذْ مِنهَا الحَدِيقَةَ" (¬5) فأخذَها وطلَّقها تطليقةً، وهذا يدلُّ على أنّ الخُلْعَ طلاقٌ (¬6). وقال الشّافعيُ: إنّه فَسخٌ (¬7)، وقد بيَّنَّاهُ في "المسائل"، وقد صرَّحَ في الحديثِ الصَّحيحِ -كما قدَّمناه- أنّه وَقَعَ الخُلْعُ بين يدي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - طَلَاقا، وقد حقّقنَا فيما تَقَدَّمَ أنّ الله تعالى جعلَ الطَّلاقَ مَخلَصًا من النِّكاح، فمتَى ما خرجَ عنه الزَّوجانِ، فخروجُهُما طلاقٌ؛ تَلَفَّظَا به أو ذَكَرَا معناهُ. ¬
المسألة الثّانية: قال علماؤنا: الخُلعُ جائزٌ، لقولِهِ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ولحديث حَبِيبةَ بِنتِ سَهلٍ في "الموطَّأ" (¬2). المسألة الثّالثة: قال علماؤنا: هو مع الخصومة والخِلَافِ، ويصحُّ دونَ خلافٍ ولا خُصومةٍ ولا ضَرَرٍ، إِلَّا مع الرِّضَا الكامِلِ. ودليلُنا: أنّها بذَلَت لزوجِهَا عِوَضًا من مُفَارَقَتِها، فجازَ كما لو كان هنا بلا خلافٍ ولا خصومةٍ ولا ضَرَرٍ. فإن قيلَ: فقد قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} الآية (¬3)، فإنّما جوَّزَ بهذا النّصّ الخُلعَ مع الخلافِ وتَوَقُّعِ ارتكابِ المحظورِ في سُوءِ العشيرةِ مع المرأة. فالجواب: أنّ فائدةَ النَّصِّ على هذه الحال؛ أنّه الغالبُ من وجودِ الخُلع؛ لأنّ شرطَ جوازِ الخُلْعِ ذلك. المسألةُ الرّابعةُ: قال علماؤنا: ويصحُّ إذا كان الضّرر من قِبَلِهَا دُونَه، فهذا كان ذلك من قِبَلِه نفذ الطّلاق، ويردَّ لها ما أخذَ منها. وقال الشّافعيُّ (¬4): لا يلزمُه الرَّدّ؛ لأنّه أَخَذَهُ في مقابلة الطّلاق، وقد حصلَ لها ذلك. ودليلُنا: أنّها بريئةٌ مكروهةٌ، فكان لها الرّجوع فيه، لقولهِ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِيءٍ ¬
مُسْلِمٍ إِلَّا عن طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" (¬1). المسألةُ الخامسةُ: الخُلْعُ هو طلاقٌ، وبه قال أبو حنيفة (¬2). وقال الشّافعي (¬3): هو فسخٌ. وفائدةُ هذه المسألة: أنّ الرَّجلَ إذا خالعَ امرأته، ثمَّ جدَّدَ نكاحَها بعدَ ذلك، فإذا جعلنا الخُلْعَ تطليقة، بقيت معه في النّكاح الثّاني ... ... لماذا جعلنا الخُلع ........ في النِّكاح الثّاني بثلاث. واحتج الشّافعي على أنّه فسخ بأنّها ......... ............ عن تراضٍ .... فسْخًا. ودليلنا: أنّ .................................... ........ فيما يملكه الزّوج، والّذي يملكه ......... المسألةُ السّادسةُ: ........ الطّلاق ................ الطَّلاق في العِدّة. واحتج أنّها معتدّة ..................... ودليلُنا أنّه ليست له ........ لو انقضت عدّتها الرّجعة لأنّها زوجة بدليل أنّهما يتوارثان وأنّه يجبرها على ......... المسألة السابعة (¬4): إذا بذلت العِوَض في الخُلعِ، وشرط الزَّوجُ الرَّجعةَ، ففيها روايتان (¬5): ¬
إحداهما: لا يصح؛ لأنَّ العِوَضَ إنّما تبذلُه في إسقاط الرَّجعة. فمِنَ المُحالِ أنّ يجتمع العِوَض إلى الرَّجْعَة. الثّانية: أنّه يصحّ، وُيجعل العِوَضُ في مقابلة سقوطِ الطَّلقة الواحدة، وتبقى معه بتطلقتين (¬1). المسألة الثامنة (¬2): قال علماؤنا: وله أنّ يتزوجَ المختلعة في العِدَّةِ؛ لأنّ الماء لَهُ. المسألةُ التّاسعةُ: لا نفقة للمبتوتة (¬3)، إِلَّا أنّ تكون حامِلًا، وبه قال الشّافعي (¬4). وقال أبو حنيفة: لها النّفقة؛ لأنّها محبوسةٌ بحرمة مَالِهِ، فوَجَبت لها النَّفقةُ كالرَّجعية. ودليلُنا: قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الآية (¬5)، فجعل عِلَّة الإنفاقِ الحمل، فثبتَ الحُكمُ بثباتِهِ وزالَ بزَوَالِهِ. ودليلُنا: أنّها ليست له بزوجةٍ، فلم يلزمه لها نفقة، كما لو انقضت عِدَّتُها، وتخالف الرَّجعية، فإنّها زوجة، وقد تقدَّم ذلك. المسألة العاشرة (¬6): إذا خالعَ على خمرٍ أو خنزيرٍ وقع الطَّلاقُ بَائِنًا. وقال أبو حنيفة (¬7): يقع رجعيًّا، واحتجّ بأنّه بذلُ ما لا يصحّ ملكه، فكأنّها لم تبذل شيئًا. ودليلنا: أنّه أسقط الطَّلاقَ على عِوَضٍ فكان بائنًا، كما لو أسقطته على سائر العِوَض، وهذا العِوَض وإن كان لا يصحّ ملكه فهذا من سوءِ اختيارِهِ، فيرجعُ عليه ويخسرُ، ولا يرجعُ على المرأة بشيءٍ. ¬
باب ماء جاء في اللعان
وقال الشّافعي (¬1): يرجِع عليها بمَهرٍ المِثلِ؛ لأنّه أحد طرفي النّكاح، فإذا بَذَلَ ما لا يصحَّ ملكه، وجبَ الرُّجوع إلى مَهرِ المِثلِ، كابتداءِ النِّكاحِ وانتهائه، وذلكَ أنّ العِوَضَ في ابتدائه واجبٌ ضرورةً. فهذا بذل فيه ما لا يجوزُ، لزمه الشَّرعُ مَهرَ المِثلِ، لِئلَّا يخلو ابتداء النّكاح من عِوَضٍ يخالفُ انتهاءَهُ، فإنّه لا يلزَم فيه العِوَض شَرّعًا فاذكر ما لا يصحّ أنّ يكون عِوَضًا لم يجب لها شيءٍ؛ لأنّ التَّفريطَ جاءَ من قِبَلِهَا. المسألة الحادية عشرة: يجوزُ الخُلْعُ بالغَرَرِ والمجهولِ (¬2)، خلافًا لأبي حنيفة (¬3)، والشّافعيّ، حيث قالا: لا يجوزُ بشيءٍ من ذلك. واحتجَّا بأنّه أحد طَرَفَي النِّكاحِ، فلم يجز بمجهول كابتدائه. ودليلنا: أنّ الطَّلاقَ يجوزُ تعليقُه على الإغرار والأخطار، فجاز بالمجهول كالوصيّة، فأما احتجاجهم بابتداء النّكاح، فلا يسلّم لهم؛ فإنّ النّكاح عندنا يجوزُ بالمجهولِ في تفصيلٍ طويلٍ. المسألة الثّانية عشرة: ذكر مالكٌ (¬4) أنّه إذا تابعَ طلاق المُختَلِعَة بطلاقٍ بعدَهُ نَسَقًا من غيرِ صُمَاتٍ أنّه يلزم ويلحق بالأوَّل، وهذا شيءٌ ظاهر؛ فإنّ الكلامَ منهُما لم ينقطع، فجازَ الاتِّصال به. بَابُ مَاء جَاءَ في اللَّعَانِ قال الإمامُ (¬5): أحاديثُ اللِّعانِ كثيرة المساقِ، أمّهاتُهما حديثانِ: ¬
أحدُهما: حديثُ سَهلِ بنِ سَعد في شأنِ عُوَيمِر، حسَب ما وردَ في "الموطَّأ" (¬1). الثّاني: حديثُ هِلَالِ بن أُميَّةَ حين قَذَف زوجتَه بشَريكِ بن السّحمَاء فقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "البَيِّنَةُ وإلَّا حَدٌّ في ظَهرِكَ" (¬2). فنزلت آية اللِّعان، وكذلك رُويَ في الحديثين. ويحتملُ أنّ يكونا وَقعَا معًا، فكانت الآيةُ بيانًا لهما. ويحتمِلُ أنّ يكون أحدُهما قبلَ الآخر، فنزلت الآيةُ. وقيل أيضًا: في الثّاني نزلت آيةُ اللَّعانِ، أي في مِثلِهِ، والنُّزولُ والبيانُ في الشَّيءِ نُزُولٌ وبيانٌ في مثله، والّذي نزل هو قولُ الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية (¬3). وفي هذه الآية أمّهاتٌ من المسائلِ يأتي بيانُها إنَّ شاء الله. قال أبو حاتم (¬4): "اللَّعانُ مأخوذٌ من اللَّعنِ، وهو البعدُ، يقال: لَاعَنَ الإِمَامُ بين المرأة وزوجها. ويقال: تَلَاعَنَا" (¬5). الفقه في خمس وعشرين مسألة: المسألة الأولى: قال علماؤنا: اللَّعان جائز. والأصل فيه: الكتابُ، والسُّنَّةُ، وإجماعُ الأُمَّةِ، والقياسُ. ¬
أمّا الكتاب: فقولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية (¬1)، وقولُه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية (¬2)، والمَخْلَصُ في الآية الأُولى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} الآية (¬3)، فشرَعَ اللهُ اللَّعانَ مَخلَصًا من المِحْنَةِ. وأمّا السُّنَّة: فحديثُ عاصِم وعُوَيمر العَجْلانيَّ. وأمّا الإجماع: فإنّ الأمَّةَ أجمعت على ذلك. وأمّا القياس: فإنّ النَّسَبَ يلزم حرزه للفراش. المسألة الثّانية (¬4): في حقيقته وبناؤُهُ فِعَالٌ، تركيبُ كلّ فعلٍ تعلَّقَ باثنينِ، كالقتالِ والخِصَام، سُمِّيَ بأشدِّ ما فيه وهي لَعْنَةُ الله. فقيل: لِعَانٌ، ولم يقل: غِضَابٌ مِنَ الغضبِ، تغليبًا لجانِبِ الرَّجلِ على المرأَةِ، لمَّا كان هو المُسَبِّبَ له والمُتَكَلِّمَ به. ولعنةُ اللهِ هي إبعادُهُ للعبد من جِواره وطردِه له عن قُدسِهِ، وغضَبُ اللهِ يَحتمِلُ أنّ يكون إرادَتَهُ لعذابه، ويَحتمِلُ أنّ يكون نفسَ الفعل بعينه، فيكونُ على التّأويل الأوّلِ من أوصافِ الذَّاتِ، كقولنا فيه سبحانه: عالِمٌ، وقادر، وعلى التَّأويلِ الثّاني يكونُ من أوصافِ الفِعلِ. المسألةُ الثّالثة: قال علماؤنا: في اللَّعان شوائبُ الشَّهادةِ وشوائبُ اليمينِ، فعندنا أنّ المغلَّب فيه شائبةُ اليمينِ، وبه قال الشّافعي (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6): شائبةُ الشَّهادةِ فيه أَغلَبُ. ¬
ودليلُنا: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "لَولا الأَيمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شأنٌ" (¬1). وقوله للعَجْلاني: "قُنم فحالفها" و"قم فاحلف" (¬2) ولدخول لفظ اليمين فيه، وهو قولُه: "بالله"، وقوله: "أشهد" تأكيدٌ، ولأن شهادتَه لا تقبل لنفسه فكيف يكون اللَّعان شهادة لنفسه؟ ولأنّ لِعَانَ الأَعمى صحيحٌ، مع أنّ شهادته عنده لا تجوز، ولعانُ الفاسقِ صحيحٌ، مع أنَّ شهادته بإجماع الأُمَّةِ لا تصحُّ، فهذا ثَبت أنّ المغلَّب فيه شهادة اليمين، فكذلك يجوزُ عندنا يمين كلّ زوجين حُرَّينِ أو عبدين، عدْلَيْنِ أو فاسقين، أَخرّسَيْنِ أو متكلّمين، خلافًا له. المسألةُ الرّابعة (¬3): القولُ في سَبَب اللَّعانِ وذلك بأنّ يَقصِد نفْيَ النَّسبِ الباطل على نفسه، أو يقصد خَلْعَ الفراش الّذي تلَطَّخَ بغيره من بيته، وكلاهُما يَصِحُّ اللّعانُ فيه؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬4)، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (¬5) يعني: ذوات الأزواج بغير بيِّنةٍ. وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية (¬6)، يريد: يَشتُمُون، واستُعير له اسم الرَّمي لأنّه إذايةٌ بالقولِ، لذلك قيل له القَذْفُ، ولِمَا ثبت في الصّحيح عن ابنِ عبّاس؛ أنّ هلال بن أميّة قذف امرأته بشرِيك بن السَّحماء قذفًا (¬7)، وقال أبو كَبشَة (¬8): وَجُرْحُ اللِّسان كَجُرْحِ اليَدِ (¬9) ¬
فصل
فصل قال الإمام: وشروطُ القَذفِ عند علمائنا تِسعَةٌ (¬1): شرطانِ في القاذِفِ، وشرطانِ في الشَّيءِ المقذوفِ به. وخمسةٌ في المقذوفِ. فالشَّرطانِ اللَّذانِ في القاذفِ: العقلُ، والبُلُوغُ. والشَّرطانِ في الشّيء المقذوف به: فهو أنّ يَقذِفهُ بوَطءٍ يلزمُهُ فيه الحدُّ، وهو الزِّنى، واللَّواط، وشبهه. وأمَّا الخمس الّتي في المقذوف، فهي: العقلُ، والبلوغُ، والإِسلامُ، والحرَّيّةُ، والعِفَّةُ عن الفاحشةِ الْتي رُمِيَ بها، كان عففًا عن غيرها أم لا. قال علماؤنا (¬2): والمراد بالرّمي هاهنا: التعييرُ بالزِّنا خاصّة. قال: والنُّكتةُ البديعةُ فيه أنَّه قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬3)، والَّذي يَفتقِرُ إلى أربعة شهداء هو الزِّنى؛ لأنّه فعلُ اثنينِ، وهذا قَاطِعٌ بديعٌ في الباب. وقال علماؤنا (¬4): فائدةُ اللَّعانِ: قطعُ النّكاحِ، وسقوطُ الحدِّ، ونفيُ النَّسَبِ، وتأبيدُ التّحريم، ووجوبُ الصِّدَاقِ، وهي: المسألة الخامسة (¬5): أمّا قطع النّكاح، فلقوله في الحديث (¬6) "فكانَت تِلكَ سُنَّةَ المُتَلَاعِنَينِ"، ولحديثِ ابنِ عمر؛ أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امرَأَتَهُ في زَمَانِ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَانتَفَى من وَلَدِه، فَفَرَّقَ ¬
بَينَهُمَا رَسُولُ - صلّى الله عليه وسلم - وَأَلحَقَ الوَلَدَ بِأُمِّهِ (¬1)، وقُطِعَ النَّسبُ. وأمّا سقوطُ الحدِّ، فمُجْمَعٌ عليه، لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية (¬2). * وأمّا تأبيد التّحريم، فقد اختلفَ فيه العلّماءُ، إذا أكْذَبَ نفسهُ وأَلحَقَ النّسب به، هل ترجِعُ إليه أم لا؟ والصّحيحُ أنّها لا ترجِعُ إليه؛ لما رُوِيَ في ذلك في الأثر* "أنّهما لا يتناكحانِ أبدًا" (¬3). والمعنى الظّاهر في النّظر، هو ما جَرَى بينهما من الرَّيبَة يَقْطَعُ الأُلفةَ، ولأنّه قَذَفَها، فَرَفَقَ فيه في دَرْءِ العذاب عنه، وعُوقِبَ بأن لا ترجِعَ إليه، وقد بيَّنَّاها في "مسائل الخلاف". وأمّا الصّداق، ففي الحديث الصّحيح؛ أنّ عُوَيمِرًا قال للنّبيّ عليه السّلام: يَا رسُولَ اللهِ مَالِي مَالِي. وفي الحديث أنّه قال له: "لَا سَبِيلَ لَكَ عليها، إنَّ كنت صدَقتَ عَلَيهَا فَهُوَ بمَا استحْلَلتِ من فَرْجِهَا، وَإِنْ كنت كَذَبْتَ عَليها فَذَلِكَ أَبْعَدُ لك منها" (¬4). المسألة السّادسة (¬5): يقول علماؤنا: اتّفقَ العلّماءُ على أنّه إذا صرّح بالزِّنَى كان قَذْفًا وَرمْيَا مُوجِبًا ¬
فصل
للحدِّ، فإن عَرَّضَ ولم يُصَرِّح: فقال مالك: هو قَذْفٌ (¬1). وقال الشّافعي (¬2) وأبو حنيفة (¬3): ليس بِقَذْفٍ. ومالك أسَدُّ طريقةً فيه؛ لأنّ التّعريض قولٌ يُفهَمُ منه القَذْف، فوجبَ أنّ يكون قَذْفًا كالتَّصريح، والمُعَوِّل على الفهم، وقد قال تعالى مُخبرًا عن قوم شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬4). وقال في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (¬5). فإن قال له: يا مَنْ وَطِىءَ بين الفَخِذَين. قال ابنُ القاسم (¬6): فيه الحدُّ؛ لأنّه تعريضٌ. وقال أشهبُ: لا حدَّ فيه؛ لأنّه نَسَبَهُ إلى فعلٍ لا يُعَدُّ زِنَّى إجماعًا. وقولُ ابنُ القاسم أصْوَبُ من جهة التعريض. وإذا رَمَى صَبيَّةَ يمكنُ وطؤُها بالزِّنا، كان قَذفًا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: ليس بقَذفٍ؛ لأنّه ليس بزنا؛ إذ لا حدَّ عليها. وَعَوَّلَ مالك على أنّه تعيير تامٌّ، بوطءٍ كامل، فكان قَذفًا، والمسألةُ محتمِلَةٌ مشكلةٌ جدًا. فصل (¬7) اختلفَ العلّماءُ فيمن قذَفَ زوجه بشخص بعينه، هل يحدَّ أم لا؟ فإن ... فعند مالك أنّه يحدُّ الرَّجُل؛ لأنّ الأصل الثّابت الحدّ على القَذفِ، وأمّا الزّاني بها فلا ضرورة ¬
به إلى ذكره، وهو غني عن قذفه، فيبقى على الأصل في وجوب الحدِّ له. وقال الشّافعي (¬1): لا يُحَدُّ الرَّجُلُ إذا أدخله في لِعَانِه. فرعٌ: واختلفَ العلّماءُ فيمن قذَفَ زوجته، هل يتلاعنان على الجملة؟ أو حتّى يتبيّن وجه دعواه؟ على قولين: أحدهما: قيل: لا يتلاعنان حتّى يتبيّن. وقال بعض علمائنا: واللَّعانُ عقوبةٌ يعاقِبُ الله الزّانيةَ به. وقوله (¬2): "يَقتلهُ فَيُقتَل به" قال الإمام: جعله بعضُ النَّاس على أنّ الزّوج إذا قتَلَ رَجُلًا وزعمَ أنّه وجدَهُ مع امرأته يُقْتَل به، ولا يصدَّق إِلَّا بِبَيِّنَة، لأنّه عليه السّلام لم يُنكِر عليه ما قال. وقوله (¬3): "فطلَّقَهَا ثلاثًا" احتجَّ به الشّافعيّ (¬4) على جواز الطّلاق الثلاث في كلمة واحدة، وانفصل علماؤُنا عن هذا بأنّها قد بانت منه باللِّعان، فوقعت الثّلاثة على غير زوجته، فلم يكن لها تأثير. المسألة الثامنة: هل تُلاعِنُ بادِّعاءِ الرَّؤية مطلقة، أَو بمجرَّدِ القَذفِ؟ ففيه عن علمائنا روايتان: إحداهما: أنّه يُلاعِنُ، لقوله: "قد زنت" خاصّة، لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬5). والأخرى: أنّه لا تُلاعن إِلَّا بالرّؤية؛ لأنّ الزِّنا لا يكونُ إِلَّا معها. ¬
المسألة التّاسعة (¬1): هل يكفيه في اللِّعان أنّ يقول: "رأيتُها تزني" مطلقًا، أو يُبَيِّن بيان الشُّهودِ، روايتان: إحداهما: يبيَّن كالشّهود؛ لأنّه سبب الزِّنا، فلَزِمَه البيان كالشّهادة. المسألة العاشرة: تكفيه الرَّؤية المطلقة، لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية (¬2). المسألة الحادية عشرة: في حُكم الشّهادة (¬3) والأصلُ فيه قولُه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬4)، قد بيَّنَّا الحِكْمَة في شهادة الزِّنا أنّهم أربعة؛ لأنّه فعل اثنين؛ لأنّ الله سبحانه كثَّرَ وعدَّدَ الشُّهُودَ في الزِّنا على سائر الحقوق، رغبةً في السَّتْرِ على الخَلْقِ، وحقَّقَ كيفية الشّهادة، أنّ يقول: رأيتُ ذلك منها كالمِرْوَدِ في المُكحُلَة، فلو قالوا: رأينا ذلك منه في ذلك منها، نوى بها الزّنا المُوجِب للحدّ. قال ابنُ القاسمِ: يكونون قَذَفَة. وقال غيرُه: إذا كانوا فقهاء والقاضي فقيهًا كانت شهادة. والأوَّلُ أصحُّ؛ لأنَّ عَدَدَ الشُّهودِ تَعَبُّدٌ، ولفظَ الشَّهادةِ تعَبُّدٌ، وصِفَتَها تعبُّدٌ، فلا يُبَدَّل شَيءٌ منها بغيره، حتَّى قال علماؤنا: إنَّ مِنْ شرطِ أداءِ الشّهادةِ أنّ يكونَ ذلك في مجلسٍ واحدٍ، فإن افترقوا لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تُقبَلُ شهادتُهُم مُجتَمِعين ومفترقين. ¬
فرأى مالك أنّ اجتماعهم تَعَبُّدٌ، ورأَى عبد الملك أنّ المقصودَ أداءُ الشّهادةِ واجتماعُها، وهو أقو ى. وقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الآية (¬1). قيل: حدُّ القذْفِ من حقوقِ اللهِ تعالى كالزِّنَا (¬2). وقيل: إنّه حقٌ من حقوق المقذوف، قاله مالكٌ، والشّافعيُّ (¬3). أصلٌ (¬4): وقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} الآية (¬5)، علَّقَ الله تعالى على القَذْفِ ثلاثة أحكام: الحدّ، وردّ الشّهادة، والفِسْق، تغليظًا لشأنّه، وتفخيمًا لأمره، وقوَّةً في الرَّدْعِ عنه. وقال علماؤنا: وردُّ الشهادةِ من عِلَّةِ الفِسْقِ، فإذا زالَ بالتّوبةِ زالَ رَدُّ الشّهادةِ، لقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} (¬6)، ولا خلافَ أنّ التَّوبةَ تُسْقِطُ الفِسْقَ. فرعٌ: واختلفَ العلّماءُ في ردِّ الشّهادةِ: قيل: تُقبَلُ قبلَ الحدِّ وبعدَ التَّوبةِ، قاله مالكٌ، والشّافعيّ، وغيرهما من جمهور العلماء. ¬
وقيل: إذا قَذَفَ، لا تُقبلُ شهادتُه أبَدًا، لا قَبْلَ الحدُّ ولا بعدَهُ، وهو مذهب شُرَيح. وقيل: تُقبَلُ قبل الحدِّ، ولا تُقبَلُ بعدَه وإن تابَ، قاله أبو حنيفة (¬1). وقيل: تُقبَلُ بعدَ الحدِّ وتُقبَل قبلَهُ، وهو قول النّخعي. قال الإمام: وهي مسألة طبوليّة، وبالجملة فإنّ أبا حنيفةَ يجعلُ ردُّ الشّهادةِ من جملةِ الحدِّ، ويرى أنَّ قَبُولَ الشّهادةِ ولايةٌ قد زالت بالقَذفِ (¬2). وتعلّق علماؤنا بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬3)، وقالوا: إنَّ هذا الاستثناء راجعٌ إلى ما تقدَّم، ما عدا إقامة الحدّ فإنّه يسقط بالإجماع، وقد بيّنَّاه في "مسائل الخلاف". المسألة الثّانية عشرة: إذا أراد نفي الولد فلا يَدَّعِي الوطء بعد رؤية الزِّنا؛ لأنّه إذا ادَّعَى الوطءَ بعدَ رؤيةِ الزَّنَا فقد وجد شيئًا يستند إليه، في تفصيلٍ طويلٍ. المسألة الثّالثة عشرة (¬4): إذا نَفَى حمل امرأته، فإن ادّعى استبراءً بعد الوَطء (¬5)، كان له أنّ يُلَاعِن، وإن لم يدَّعِ الاستبراءَ، ففيه قولان: أحدهما: أنّه يُلاعِن؛ لأنَّ نفيه الحمل بتضمّن. ¬
والآخر: أنّه لابدّ من ذِكرِ استبراء الحَمل، فإنّها يحتمل. المسألة الرّابعة عشرة: في قَدْر الاستبراء (¬1) ففيه قولان: أحدُهما: أنّها حَيضةٌ واحدةٌ لأنّها تحصلُ البراءة للرّحم. دليلُه: مِلْكُ اليمينِ (¬2) المسألة الخامسة عشرة (¬3): الاستبراء ثلاثة حيضٍ؛ لأنّه استبراء النِّكاحِ. المسألة السّادسة عشرة: إذا اعترفَ بالحملِ وادَّعَى رؤية الزِّنا , ففيها ثلاثة أقوال: قيل: يُحدُّ ويُلحق به الولدُ ويُلاعِن. وقيل: يلاعن (¬4) وينفي الولد عنه، فإن اعترفَ به بعدَ ذلك حُدَّ ولحق به. وقيل: يلاعن لينفي الحدّ، ويُلْحَق به الولد (¬5)؛ لأنّ اللِّعان جُعِلَ لأحدٍ أمربن، فإذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ اللّعانُ. المسألة السّابعة عشرة: ينتفي النّسب بلعان الزّوج وحدَهُ؛ لأنّ النَّسبَ به يلحق، فبلعانه ينتفي، وأمّا لعأنّها فتنفى الحدّ به عنها (¬6). ¬
المسألة الثّامنة عشرة: في صفة لفظه وهو أنّ يقول: أشهد بالله لقد رأيتُها، أو: قد رأيتُها تزني، ولقد رأيتُ فَرْجَه في فَرْجِها كالمرود في المُكْحُلة - على الخلافِ الّذي قدّمناهُ في الشُّهودِ- يقول ذلك أربع مرَّات، ثمّ يقول في الخامسة: لعنةُ الله عليه إنَّ كان من الكاذبين. وفي نفي الحَمْلِ يقول: ليس هذا الحَمل منّي، ولقد زَنَت إنِ ادَّعى زنَّا، وتحلف هي على نقيضِ قوله (¬1). المسألة التّاسعة عشرة: ولا تتمُّ الفُرقَة بينهما إِلَّا بلعانهما جميعًا، خلافًا للشّافعي (¬2) حيث قال: تقع الفُرقة بينهما بلعانه. ودليلُنا: حديث عُوَيْمِر، في قوله (¬3): "كَذَبتُ عَلَيهَا" إلى أنّ قال: "فكانت تلك سُنَّةَ المتلاعِنَينِ". المسألة الموفية عشرين: هل يفتقرُ اللِّعان إلى حُكمِ حاكمٍ أم لا؟ نقال قومٌ: لا يكونُ ذلك إِلَّا عند الإمام. وقال قومٌ: لا يحتاجُ إلى حُكْم حاكمٍ بالفُرْقَة بينهما. قيل: تقعُ الفُرْقةُ بنفسِ اللِّعان (¬4)، خَلافًا لأبي حنيفة (¬5)، واحتجّ بقوله عليه السّلام: "لا تَحِلُّ لَكَ أَبَدًا" (¬6). ودليلُنا: هذا الخبر بعينه؛ فإنّه أخبر عليه السّلام عن شَرْعِهِ، فلا يحتاج إلى حُكْمِ حاكمٍ معه، ألَّا ترى أنّ الحاكمَ لو لم يحكُم بالفُرقة ثبتت ضرورة، وليس للإمام أنّ يأمره بإثر ذلك بطلاق. ¬
المسألة الحادية والعشرون (¬1): واللَّعانُ جائزٌ في كلِّ وقتٍ من أوقاتِ النَّهارِ، قاله مالك فى "كتاب محمّد". وقال ابنُ وَهبٍ: لا يكون إِلَّا بإثر صلاة (¬2). وقال مالك أيضًا: "وبإثر مَكْتوبَةٍ أحبّ إليَّ (¬3)، وقد كان ذلك عندنا بالعصر، ولم يكن سُنَّة" (¬4) يريد أَنَّها يمين فتعلّقت بالوقت والمكان، والتّغليظ على وجه الاستحباب، لما رَوَى أبو هريرة عن النّبيَّ عليه السّلام أنّه قال: "ثلاثة لا ينظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يزكّيهِم، رجلٌ كانَ له فَضْلُ ماءٍ على طريقٍ فمنَعَهُ عن ابنِ السَّبيلِ، ورجلٌ بايعَ إمامًا لا يبايعه إِلَّا لدُنيا، فإن أعطاهُ منها رَضِيَ، وإن لم يعطه منها سَخِطَ، ورجل أقام سِلْعَتَهُ بعدَ العصر، فقال: بالّذي لا إله إِلَّا هو لقد أعطيت فيها كذا وكذا فصدّقه" (¬5). وأمّا التغليظُ بالمكان، فإنها يمينٌ في مَا لَهُ بَالٌ، كاليمين في الحقوق، وعلى هذا جماعةُ العلّماءِ. المسألة الثّانية والعشرون (¬6): هل يكون ذلك في المسجد أم لا؟ فقد رَوَى ابنُ جُرَيْجٍ، عن ابنِ شهاب في هذا الحديث: "فَتَلَاعَنَا في المسْجِدِ وَأنا شاهِدٌ" (¬7). وقال ابن الماجِشُون: لا يكون إِلَّا بإثر صلاة في مقطع الحقوق. وكأنّه جعل ذلك شرطًا، وفي ذلك فائدة اجتماع النَّاس كما قدَّمنا. وأمَّا اليهوديّةُ والنّصرانيةُ فتلاعِنُ بحيث ¬
تعظَّمه من البيعِ والكنيسة، قاله مالك (¬1). فرع (¬2): فإن منع عذرٌ من دخول المسجد ومقطع الحق، فلا يخلو أنّ يكون انقضاؤُه معتادًا كالحيضِ، أو لا يكون معتادًا كالمرض، فإن كانت حائضًا لَاعَنَ هو لما يريدُ من الاستعجالِ ويخاف أنّ ينزل به مانعٌ من اللِّعان. ويحتمل أنّ يلزمه ذلك، ليَدرَأَ عن نفسه الحدّ، وتُؤخِّر هي إلى أنّ تطهر فتلاعن. فإن كان مريضًا وكانت مريضة، أرسل الإمامُ إلى المريض منهُمَا عُدُولًا (¬3)، رواهُ أَصبَغُ عن ابن القاسم في "العُتبيّة". ووجه ذلك: أنّه حكمٌ من سنَّتِه التّعجيل، والمرضُ لا يدرى له غاية، فسقطَ التغليظُ بالمكان للضّرورة، والله أعلمُ. المسألة الثّالثة والعشرون (¬4): جاء في اللِّعان ذكرُ الشّهادة واليمين، واختلفَ العلّماءُ، هل المُغَلَّبُ فيه جهةُ الأيمان أو جهةُ الشّهادة؟ وقد بيّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف". والدّليلُ عليه: قول النّبي -عليه السّلام-: "والله لولا الأيمَانُ لكان لِي وَلهَا شأنٌ" (¬5). وقال الله في القرآن: {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬6)، {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬7) ولأنّه يَدْرَأُ بيمينه عن نفسه العقوبة، ولو كانت شهادةً لثبتَ بها الحقُّ على غيره، وإذا ثبت أنّ المُغَلَّب فيه جهةُ اليمينِ، فإِنّه يُلاعِنُ المسلمُ والكافرُ، والعبدُ والحُرُّ، والعدلُ والفاسقُ، والأعمى والبصيرُ. ¬
فصل
المسألة الرّابعة والعشرون (¬1): اعلموا أنّ العلّماءَ اختلفوا، هل اللَّعانُ عقوبةٌ أم لا؟ فقال أبو حنيفةَ وأهلُ العراق: إنّه عقوبةٌ، وربّما ظهر هذا ببادىء الرّأي لما فيه من هَوْل المُطَّلع، وقد قال النَّبيّ عليه السّلام: "أحدُكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ منكُما تائبٌ" (¬2). والصّحيحُ أنّه ليس بعقوبة، وإنّما هو خَلاصٌ من الدَّناءَةِ، كما بيَّناهُ. أمَّا إنَّ الكاذبَ منهما عاصٍ بِفُجُورِهِ، متعرِّضٌ للَعنَةِ الله وغَضَبِهِ، لكنّه غيرُ مُتَعيِّن عندنا؛ ولذلك قلنا: إنّه يبقى بعدالته بعد اللِّعان، وعلى مرتبته في الإسلام، ورَبُّك أعلمُ بباطنِ الحالِ وعاقبةِ الأَمر. المسألة الخامسة والعشرون (¬3): قد بيَّنا أنّه ليس لها سُكنَى، ولا نفَقة، ولا مُتعَة؛ لأنّ الفُرْقَة قبلَ البناءِ وما تدَعيه من الوَطءِ لا يُوجِبُ لها تكميل الصّدَاق ولا السْكنَى مع إنكار الزَّوْجِ، كالنِّصف الثّاني من الصّداق (¬4). وحَكَى ابنُ الجَلَّابِ (¬5) أنّه ليس لها من الصّداق شيءٍ. ويحتمل أنّ يكون ذلك لأنّه فسخٌ، وإنّما يجب نصف الصّداق قبل البناء. فصل (¬6) وقع في "مسلم" (¬7) و"البخاريّ" (¬8) أنّ رجلًا - قيل: إنّه سعد - فقال: يا رسول الله، إِنّ امرَأتِي زَنَت فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: "إِن جَاءَتْ بِهِ أَكْحَل أجعَدَ أَحمش السَّاقَيْنِ" وفي حديث آخر"إنْ جَاءَتْ بهِ جَعْدًا قططًا" (¬9) قال الهروي (¬10): "الجعدُ في صفة الرِّجالِ يكون مَدْحًا ويكون ذَمًّا، فهذا كان مَدحًا فَلَهُ معنيان: ¬
أحدهما: أنّ يكون معصوب الخَلْق شديدًا. والثّاني: أنّ يكون شَعْره غير سَبط؛ لأنّ السُّبوطة أكثرُها في شعور العَجَمِ. وأمّا الجَعْدُ المذمومُ، فله معنيان: أحدهما: أنّ يكون معصوب الخَلْقِ شديد القِصَرِ، المتردد (¬1). والآخر: البخيلُ، يقال: رجلٌ جَعْد اليدين وجَعد الأصابع". والقَطَطُ: الشّديدُ الجُعُودَةِ، يقال رَجَلٌ جَعدٌ، وشَعرٌ جَعْدٌ بَيِّنُ الجُعودةِ، وقَطَطٌ بَيِّنُ القطوط. وقوله: "أحمش السّاقين" أي: دقيق الساقين (¬2). قال الهروي (¬3): "يقال: امرأة حمشاءُ السّاقينِ كَرْعَاءُ اليدين، إذا كانت دقيقتهما" (¬4). وقال غيرُه: الحُمُوشةُ دِقَّةُ السّاقينِ (¬5). وقوله: "إنَّ جاءت به سَبِطًا" قال علماؤنا (¬6): السَّباطَةُ: استرسالُ الشعر (¬7) والسَّباطَةُ أكثرُ ما هي في الرِّجال، تقولُ العربُ: رَجُلٌ سَبَطٌ وسَبطٌ -بفتح الباء وكسرها لغتان -: بَين السّبوطَةِ، وكذلك شَعْرٌ سَبَطٌ. وقوله: "خذلًا آدَمَ" (¬8) الخذلُ -بِخَاءٍ مُعجَمةٍ مفتوحةٍ والدّالِ المُهمَلَةِ -وهو الممتلىءُ السّاقين. "والآدم" الشّديدُ السُّمرَةِ، وجمعُه أُدْمٌ، مثل أحمر وحُمْر. وأمَّا "آدم" فإنّه مشتقٌّ من أَدَمَةِ الأرضِ، أي: وجهها، فسمي بما خلق منها، وجمعه آدمون. ¬
مسألة في ميراث ولد الملاعنة
وقوله: "هل فيها من جُمَلٍ أَوْرَقٍ" (¬1) قال الإمام: الأورَقُ الأسْمَرُ، ومنه يقال للرَّماد: أورق، وللجماعة: وُرْقٌ. مسألةٌ في ميراث ولد الملاعَنَة (¬2) قولُه (¬3): "إنَّ وَلَد الزِّنا وَوَلَد الملاعنة ترثُ أُمُّهُ وإخوتُه" (¬4)؛ لأنّه لا يتّصل نَسَبُهُ إِلَّا من جهة أمِّه؛ لأنّه لا يحتاج في إلحاقه بها إلى عقد. فبذلك لا ينتفي عنها بلعان ولا إقرار بالزِّنا، وإنّما ينتفي عن الأَب؛ لأنّه لا يلحق به إِلَّا بعدَ نكاحٍ أو مِلْكِ يمين، وإذا كان وجه التّوارث من جهة الأبِ يبطل كلّ ميراث بسببه، ولَمَّا ثبتَ ميراث الأُمّ، ثبت كلّ ميراثٍ بِسبَبِها، على ما يأتي بيانُه إنَّ شاء الله. ¬
باب طلاق البكر
باب طلاق البِكْر الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُ أبي هريرة وابن عبّاس للذي طلّق ثلاثًا قبل البناء: "لَا نَرَى أنّ تَنْكِحَها حَتَّى تَنكِحَ زوجًا غَيرَكَ" (¬2) تصريحٌ بوقوعِ الثَّلاثِ على غير المدخولِ بها، وعلى ذلك جمهورُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، ومالك وجمهورُ الفقهاء، وقال طاوس (¬3) وعمرو بن دينار وعطاء (¬4): هي واحدةٌ سواءٌ وقع ذلك في لفظ واحدٍ أو ألفاظٍ متتابعةٍ. ودليلُنا: قولُه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية (¬5)، وهذا عامٌّ في المدخول بها أو غير المدخول. ومن جهة النّظر والمعنى: أنّ كلّ من صحَّ إيقاعُ الواحدة عليها، صحَّ أنّ يكمل لها الثّلاث، كالمدخول بها. وقال علماؤنا: الواحدة تبين البِكْر وأيُّ فائدةٍ في الثّلاثة. المسألة الثّانية (¬6): وقول السّائل (¬7): "إِنَّمَا طَلَاقِي وَاحِدَةٌ" يحتملُ أنّ يريدَ بذلك أنّه أَوقَعَهَا في دفعَةٍ ¬
واحدةٍ، وهو أنّ يقول: أنتِ طالقٌ ثلاثًا (¬1). قال النخعي: إذا قال لها: أنتِ طالقٌ ثلاثًا، لزمته (¬2)، وإذا قال لها: أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ، لزمته واحدةٌ (¬3). ورواه عن ابن عبّاس (¬4). وقال مالك: يلزمهُ الطّلاق (¬5) إذا اتّصل كلامُهُ؛ لأنّ كلَّ كلام يصحُّ منه الاستثناء، فإِنّه يصحّ العطف عليه، كطلاق المدخول بها، وإنه يطلق بقوله؛ لأنّه عطف عليها بالواو والتي هي للتّشريك، فأدخل الثّاني في حكم الأوَّل. فإذا قال: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، قال ابَنُ القاسم: إنّها تُطَلَّقُ. وروى إسماعيل القاضي في "المبسوط": "إنها لا تطلَّق إِلَّا واحدة، قال: لأنّه إنّما أراد التأكيد". ووجهُ قولِ ابنِ القاسمِ؛ أنّ قولَه: "أنت طالقٌ" لا يَقَعُ الطّلاقُ بنفس هذا القول حتّى يُخبر ما بعدَهُ، فلمّا قال بعدَ ذلك: أنتِ طالقٌ أنت طالقّ أنت طالقٌ، عُلِمَ أنَّه إنّما أراد ثلاثًا. والدّليلُ عليه: أنّ قول الرَّجُلِ لامرأته: أنت طالق، عُلم أنّه لا يقع عليه الطّلاق بنفس هذا اللّفظ حتّى يعرف ما يأتي بعده جواز الاستثناء يقع في اللّفظ بعد القول أنت طالق. المسألةُ الثالثةُ (¬6): فيمن طَلَّقَ ثلاثًا قبلَ البناءِ, ثمّ تزوَّجَها وهو يَرَى ذلك حلالًا، فإنّه يُفرُّق بينهُما، ¬
باب طلاق المريض
ولها المَهرُ كاملًا، قالَهُ الزُّهْرِيُّ والشَّعْبِىُّ، وهو قولُ مالكٍ. وقال النَّخْعيّ: لها مَهْرٌ ونصف. ووجهُ القولِ الأوَّل: أنّ النِّكاحَ الفاسدَ أضعف من النِّكاح الصَّحيح، فإذا لم يجب في النِّكاح الصّحيح إِلَّا مهرٌ واحدٌ فكذلك في الفاسد. بابُ طلاقِ المريضِ قال الإمامُ: أمّا حديثُ عبد الرّحمن بن عَوف في باب طلاقِ المريضِ وقضاء عثمان بن عَفَّان في المَبتُوتَةِ (¬1)، فَمُسْنَدٌ إلى إجماعِ الصَّحابةِ؛ لأنّه لم يُعْرَف لعثمان في هذه المسألةِ مُخَالِفٌ. فإن قيل: إنَّ عبد الرّحمن خالفَ في هذه المسألة إذ طلّقها في المرضِ. قلنا: عبدُ الرّحمن بن عَوف ماتَ، وحينئذٍ وقع الخِصَامُ في القضيّة، والإجماعُ كان بعدَ موتِ عبد الرّحمن فَصَحَّ، ولم يُعدّ خلافُه السَّابق. وإذا ذَكَرَ أحدٌ من الصَّحابةِ قولًا وانتشرَ ولم يُنقَلْ خِلافُهُ، هل يكونُ إجماعًا أم لا (¬2)؟ اختلفَ العلّماءُ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ: أحدها: ما قَوَّمْنَا أنّه إجماع (¬3). ¬
الثّاني: أنّه لا يكون إجماعًا (¬1). الثّالث: إنَّ كان من أَمْرٍ يلزم الأنصار بقوله، فسكوت الباقين فيه لا يُعدُّ إجماعًا. قال الإمام: والصّحيح منها مذكور في "الأصول" وعَوَّلَ علماؤنا في هذه المسألة على قصّة عثمان وعَلَى فصل التّهمة في الفرار من الميراث، كما عَوَّلُوا عليه في إبطال الأمر، وفي مسائل كثيرة. وأمّا (¬2) قوله (¬3): "إنَّ طَلْحَةَ كانَ أَعلَمُهُم بذلكَ" يريد: بحكم هذه القضيّة. الفقه في مسائل: أحدها: في صِفَةِ المرضِ، وما يلحقُ به من المعاني الّتي تجري مجراهُ في بقاء حُكمِ الميراثِ. والثّانية: في حُكمِ طلاقِ المريض. 1 - أمّا صفة المرض (¬4)، فقد قال مالك في "كتاب محمّد": إنَّ كان مَرَضًا يُقعِدُ صاحبهُ عن الدُّخولِ والخروج، وإن كان جُذَامًا، أو بَرَصًا، أو فَالِجًا، فإنّه يُحجَبُ فيه عن مالِهِ، وإن طَلَّقَ فيهِ وَرِثَتْهُ، وليس للقُوَّةِ والرّيح والرَّمدِ، كذلك إذا صَحَّ البَدَنُ، وكذلك ما كان من الفَالِجِ والبَرَصِ والجُذَامِ يَصِحُّ معه بَدَنُه ويتصرَّف، فهو كالصّحيحِ. قال محمّد: ولم يختلف قولُ مالكٍ وأصحابُهُ في الزَّاحِفِ في الصَّفِّ أنَّه كالمريضِ. فأمّا من نالَتْهُ شدَّةٌ في البحر، فلم يره ابنُ القاسم كالمريضِ، وأَرَاهُ رواه عن مالك، وقال أشهب: هو كالمريض. المسألة الثّانية (¬5): في حكم طلاق المريض ¬
فمن طَلَّقَ امرأته في مَرَضِهِ، وَرِثَتْهُ وإن مات بعد انقضاء عِدَّتِها، وبعد أنّ تزوّجت غيره، إذا اتَّصَلَ مَرضُهُ إلى أنّ تُوُفِّي، خلافًا للشّافعيِّ (¬1) في قولِهِ: إنَّ المبتوتَةَ في المرضِ لا تَرِثُ. والدّليل: أنّ عبدَ الوهابِ قالَ (¬2): إنَّ ذلك إجماع الصّحابة؛ ولأن ذلك يُرْوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ وغيرهم ولا مخالفَ لهم، إِلَّا ما يُروَى عن ابن الزبير (¬3)، وسنذكرُهُ إنَّ شاء الله. المسألة الثّالثة (¬4): لو طَلَّقها بنُشُورٍ، أو خُلْعٍ، أو لِعَانٍ، فإنَّ حكمَ الميراثِ باقٍ، خلافًا لأبي حنيفة؛ لأنَّ عثمانَ وَرِّثَ امرأةَ عبد الرّحمن بن عَوف وقد سأَلَتْهُ الطّلاقَ. ومن جهة المعنى: أنّ الإذن لا يسقط في ميراثِ الوارثِ، كما لو أذن الابن لأبيه في إخراجه من الميراث. فرع: فإن ارتَدَّ في مَرَضِهِ، ثمَّ رَجَعَ، ثمّ مات في مرضه ذلك، لم تَرثه؛ لأنّ بارتداده انفَسَخ النِّكاح، ورجوعُهُ إلى الإسلام ليس برُجوعٍ. فرع: ولو أَقَرَّ في مرضِهِ أنَّهُ طلَّقَ البتَّةَ في صحّته، لم يُصَدَّق، وورثته إذا أنكرت ذلك. ووجهُ ذلك: أنّه يدَّعِي ما يُسقِطُ ميراثها, ولا يقبل ذلك منه في حالةٍ ليس له إخراجها من جُملةِ الوَرَثةِ. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): ولو مات، فشهد الشّهودُ أنّ الزّوجَ كان طلَّقَها البتَّةَ في صِحَّتِهِ، فقد جعلَهُ ابنُ القاسم كالمطلِّق في المَرَضِ؛ لأنّ الطّلاق إنّما يقعُ يومَ الحُكْمِ، ولو وقعَ يومَ القولِ لكانَ فيه التّخيير. فرع (¬2): ومن طَلَّقَ في صحَّتِهِ طلقةً ثمَّ مرِضَ، فأَردَفَها ثانية ثمَّ ماتَ، فلها الميراث في العِدَّةِ؛ لأنّها تبْنِي على عِدَّتِها من الطّلاقِ الأوَّل، ولو ارتَجَعَ من الأَوَّلِ انفسختِ العِدَّةُ، ثمَّ إنَّ طلَّقَها بعد ذلك في المَرَضِ كان الطّلاقُ حكمه، فَوَرَثَتهُ وإن مات بعد انقضاءِ العِدَّةُ، قاله ابن الموّاز. المسألةُ الخامسةُ (¬3): فلو طلَّقَ زوجته النَّصرانيَّة أو الأَمَة في مَرَضِهِ، ثمَّ أسلمت النّصرانية، وأُعْتِقَتِ الأَمَة بعد العِدَّة، ثمّ ماتَ، وَرِثَتَاهُ، رواه أَصْبغُ عن ابن القاسم في "العُتبيّة" (¬4)، وقال سحنون: لا تَرِثَانِهِ ولا يُتَّهَم في ذلك، وكذلك لو طلَّقَها البَتَّةَ، إِلَّا أنّ يطلِّق واحدة وتموتُ في العِدَّةِ، سواء إنَّ أسلمت هذه أو أُعْتِقَت هذه فَتَرِثَانه. المسألةُ السّادسةُ (¬5): فيمن حلفَ في مَرَضِهِ ليَقْضِيَنَّ فلانًا حقَّه، فمرِضَ الحالفُ ثمَّ حَنِثَ في مَرَضِهِ ومات عنه. ¬
فصل
قال أبو حنيفة والشّافعي: لا تَرِثُه. وقال المغيرة: إنَّ كان بَيِّنَ الملك فلم يقضه فامرأته تَرِثُه كالمطلِّق في المرض، وإن كان عديمًا فَطَرَأَ له مَالٌ لم يعلم به حتّى مات حَنِثَ ولا تَرِثُه. قال سحنون: ولا أعرفُ هذا ولا أراهُ. وقال أصحابنا: إنّها ترثُه بكلِّ حالٍ؛ لأنّه طلاقٌ. ووجه قولِ المغيرة: أنّه لم يكن له مال علم به، فلم يقصد طلاقها، والله أعلم. فصل (¬1) قال الإمام أبو بكر بن العربي: هذه المسألةُ من المصالح الّتي انفردَ بها مالكٌ دونَ سائرِ العلّماءِ، فإنّه رَدَّ طلاقَ المريضِ عليه، تهمةٌ له في أنّ يكونَ قَصَدَ الفرارَ من الميراثِ، وخالَفَهُ سائرُ الفقهاءِ، والحقُّ له؛ لأنّ المصلحةَ أصلٌ، وَقَطْعُ الحقوقِ لا يُمَكَّنُ منها بالظُّنون، وقد طَلَّقَ عبدُ الرّحمن بن عَوف زوجه تُمَاضِرَ، فاتَّفَقَ عثمانُ وعلىٌّ على الميراث، وقضَى عثمانُ به، وهو قَوِيٌّ في بابِ المصلحةِ، فَأخبَرَ به مالك، وكان موتُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوف عن أربعِ زَوجَاتٍ، فصُولِحَت تُمَاضِرُ عن رُبعِ الثُّمُنِ بثمانين أَلفًا (¬2). ورأى أبو حنيفة (¬3) توريثَ المطلَّقَةِ في المَرَضِ، ولكن إذا ماتَ وهي في العِدَّةِ، وهي سخافةٌ، وقد بيّنّاها في "مسائل الخلاف" وأوضحنا أنّ التُّهمَةَ لا ترتفعُ بانقضاءِ ¬
باب ما جاء في متعة الطلاق
العِدَّةِ، فأيُّ فائدةٍ في اشتراطها؟! وكذلك وَرَّثَ عثمانُ نساءَ ابنِ مُكمِل (¬1) على ما تقدَّمَ بيانُه. باب ما جاء في متعة الطّلاق قال الإمام: ليس للمُتْعَةِ عندنا حَدٌّ معروفٌ. ورُوِيَ أنّ أعلاها خادِمٌ وأدناها ثوبٌ. وليست المُتعَةُ عندنا واجبةً، بدليل قولِهِ تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (¬2)، {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬3)، وهو الّذي استدلّ به سحنون بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وقال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي: من أراد أنّ يُحسِنَ أحسن، وهذا من أخلاق المحسنين، ولا مُتعَةَ للمُختَلِعَةِ ولا المفتدية. قال الإمام: وإنّما لم يكن لهنّ مُتعَة؛ لأنّهُنَّ معطيات ... أنّ خمسة أَمتِعَةٍ لهُنَّ يأتي بيانهنّ إنَّ شاء الله. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأُولى (¬4): قولُه (¬5): "فَمَتَّعَ بِوَلِيدَةٍ" يريدُ أعطاها إياها بأَثَرِ طَلَاقِهِ إِيّاها، قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا} الآية (¬6). واختلفَ العلّماءُ في المُتْعَةِ؛ فذهب مالكٌ إلى أنّها ليست مِمَّا يُجْبَرُ عليها المطلِّقُ، ¬
وقال: إنها لحقَّ عليه، ولا يُقضَى بها عليه، وليحرِّضه السُّلطان عليها, ولا تحاصّ الغُرمَاءُ بها، وهي لكلِّ مطلَّقَةٍ، لا تردُّ شيئًا ممّا أخذت، وهي على المَوْلَى إذا طُلِّقَ عليه، قاله محمّد؛ لأنّه طلاقٌ سَلِمَ من نهاية المُقَابَحَةِ وارتجاعِ شيءٍ من الزَّوجةِ. المسألةُ الثّانيةُ (¬1): والتي لم يُسمّ لها الصّداق إذا دخلَ بها, لها المُتعَة والصَّدَاق؛ لأنّها مطلَّقة لا ينتزع منها شيءٍ، ولا فارقت عن مُقابَحَةٍ، فكان لها المُتعَة، كالتي سمَّى لها ودخل بها. المسألةُ الثالثةُ (¬2): فإن طلَّقها بعد البناءِ، ثمّ رَاجَعَ قبلَ أنّ يُمَتَّعَ، فلا مُتعَةَ لها، قاله ابنُ وَهبٍ وأَشْهَب؛ لأنَّ المُتْعَةَ تسليةٌ عن الفِراقِ، والتّسليةُ بالارتجاعِ أعظم. المسألةُ الرّابعةُ (¬3): قال علماؤُنا (¬4): كلُّ فُرقةٍ من قِبَلِ المرأةِ قبْلَ البِنَاءِ وبعدَهُ فلا مُتعَةَ لها. ووجهُ ذلك: أنّها لما اختارت الفراق، فلا تسلّى عن المشّقَّة الّتي تلحق بها. المسألة الخامسة (¬5): وقال القاسم بن محمّد: لا مُتعَةَ في نكاحٍ مفسوخٍ، ولا فيما يدخله الفَسْخُ بعدَ صِحَّةِ العَقدِ، مثل ملك أحد الزّوجين صاحبه. وأصلُ ذلك، قولُه تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية (¬6)، فكان هذا مُختَصًا بالطَّلاق، والله أعلمُ. ¬
باب ما جاء في طلاق العبد
المسألة السّادسة (¬1): فإن جهلَ المُتعَةَ حتّى مضت أعوامٌ، فليرجع ذلك إليها إنَّ تزوّجت، أو إلى وَرَثَتِهَا إنَّ ماتت، رواهُ محمّد عن ابنِ القاسم. وقال أَصبَغُ: لا شَيءَ عليه إن ماتت، وبه أقولُ (¬2). قال مالك: وهي على قَدرِ الرَّجُل والمرأة، لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (¬3). وروَى ابنُ وهب عن ابنِ عبّاس أنّه: أعلاها الخادمُ (¬4)، ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسرة. وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} (3) أي أعطوهن. قال: مَتَّعْتُ الرَّجُل إذا أعطيته، وقاله أبو عبيدة (¬5) والهروي (¬6). باب ما جاء في طلاق العَبْدِ قال الإمامُ (¬7): الطّلاقُ عندنا مُعتَبَرٌ بِالرّجال دونَ النِّساءِ، وبه قال الشّافعيّ (¬8)، وعند أبي حينفة (¬9) معتبرٌ بالنِّساءِ, والعِدَّة بالرِّجالِ. والمسألةُ عظيمةُ المَوقِعِ، بيانُها في "مسائل الخلاف"، والمُعتَمَدُ لنا في المسألةِ أنّ الطّلاقَ ملكٌ للرِّجال، والمِلكُ إنّما يُعتَبَرُ فيه صفةُ المالك لا صفةُ المملوك، وهذا لا غُبَارَ عليه، وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ¬
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية (¬1)، ولا متعلَّقَ لنا في عُمُومِه ولا في تخصيصه ولا لهم، كما لا متعلّق في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية (¬2)، لا لنا ولا لهم، فإنّ كِلَا العُمومين لابُدَّ من تخصيصه، فتخصيصُ عُمومِ* الطّلاقِ بمالِكِ الطّلاق وصاحبه، وتخصيصُ عموم* العِدَّة بالمتعبِّدَةِ بالعِدَّةِ وفائدتها، أَولى من تخصيصِ كلّ عمومٍ منها بما ليس منه، واللهُ أعلمُ. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى: بَوَّبَ مالكٌ على طلاقِ العَبدِ، ولم يذكرهُ في الباب , وإنّما ذكر المُكَاتَبَ، وإنّما كان ذلك لقوله -عليه السّلام-: "المُكَاتَبُ عَبدٌ مَا بَقِيَ عَلَيهِ دِرْهَمٌ" (¬3)؛ لأنّ حُكمَ العَبدِ والمُكَاتَبِ في الطَّلاقِ سواءٌ، وَلِمَا رواهُ التّرمذيّ (¬4) عن النَّبيِّ -عليه السّلام-: "الطّلاقُ بالرِّجالِ والعِدَّةُ بالنِّساء" (¬5) ومثال ذلك في المسألة أنّ الرَّجلَ إذا كان حُرًّا وزوجَتُهُ أَمَةٌ أنّه يراجِعُها بعدَ تطليقتينِ ولا تحرمُ إِلَّا بالثّلاث، فالطلاقُ معتَبَرٌ بالرّجال. ومعنى العِدَّة بالنِّساء, أنّ الزَّوجَ إذا كان عبدًا وزوجته حُرَّة، فإنّ عدَّتها معتبرَةٌ بالحيضِ، والعِدَّةُ مُعتَبَرَة بالنِّساء، وكذلك إذا كان الرَّجُلُ عبدا؛ لأنّ حُكمَ الرّجلِ العبدِ في الطّلاق كغيره. وذكر مالك -رحمه الله- هذه الآثار في هذا الباب رَدًّا على أهل العراق حيثُ قلبوا القضيَّة، وقالوا: الطّلاقُ بالنِّساء والعّدة بالرِّجال. ¬
المسألة الثّانية (¬1): وقولُه (¬2): "حَرُمَتْ عَلَيك" يقتضي أنّ معنى التّحريم استيفاء الطّلاق، وكذلك ما قبله، وعلى هؤلاء أهل اللّغة الّذين نزلَ القرآنُ بلسانهم. وقولُه (¬3): "إِنْ مَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ في النِّكَاحِ، فَالطَّلَاقُ بِيَدِ الْعَبْدِ" - وهي المسألة الثّالثة (¬4) - يريد أنَّ السَّيِّد لا يُفَرِّق بينه وبين زوجته ولا يُوقع طلاقًا, ولا يمنع العبدَ من إيقاعِهِ، وإن كان له مَنْعُهُ من النِّكاح، وبه قال جمهور الصّحابة وجمهور الفقهاء. ورُوِيَ عن جابر وابنِ عبّاس (¬5) أنّ الطَّلاقَ بيد السَّيِّد. وقال غيرهما: إنَّ كان السَّيِّدُ زَوَّجَهُ فالطلاقُ بَيَدِ العبدِ، وإن كان اشتراه مُزَوَّجًا فليس لَهُ أنّ يفرِّقَ بينهُمَا. ودليلُنا: أنّ السَّيِّدَ لَمَّا أَذِنَ في النِّكاح فقد أَذِنَ له في سائر أحكامِهِ، كما مَلَّكَهُ الإستمتاع. المسألةُ الرَّابعةُ: إذا تزوّج العبد بغير إذن سيّده ................ لم يجزه وأراد فسخه فَسَخَهُ (¬6). ................ كيلًا. وقال أبو حنيفة: لها عشرة دراهم. وقال الشّافعيّ: لا يتقدّر لكن إنَّ أعطاها ربع درهم جاز. ................ المسمى من الصداق على سَيِّدِهِ، وكان ممّا استحلّ ¬
باب نفقة الأمة إذا طلقت وهي حامل
به الفرْجَ لئلا يذهب البضع بَاطِلًا. وأمّا الأَمَةُ فإنْ تزوّجت بإذن سيِّدها جاز، وإن تزوَّجَت بغير إذْنِ سيِّدِهَا فإن النّكاحَ يُفْسَخُ بإجماعٍ من الفقهاء قبلَ الدُّخولِ وبعدَهُ (¬1)، ولا يكون موقوفًا على إجازةِ السَّيِّد كما كان موقوفًا على العبدِ إذا تزوَّجَ بغير إذن سيِّدِهِ. فإن قيل: ما الفرقُ بين المسألتين في أنَّ نكاحَ العبدِ موقوفًا ونكاحَ الأَمَةِ مفسوخٌ؟ فالجواب أنّ نقُول: العبدُ هو من أهل من ينكح، وإنّما كان نكاحُه موقوفًا من أجل السَّيِّدِ، وأمّا الأَمَة فإنّما لم تُنْكَح ونُسِخَ قبلَ الدُّخولِ وبعدَهُ لأنّه حقٌّ لله تعالى، وإنّما كان حقًّا لله تعالى لأنَّهُ يقولُ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} الآية (¬2) وهذه، أَمَةٌ قد نَكَحَتْ بغير إذْنِ أَهْلِها. وفروعُ هذا الباب كثيرةٌ، لُبَابُها ما سَرَدْنَاهُ لكم. باب نَفَقَةِ الأَمَةِ إذا طُلِّقتْ وهي حامِلٌ الفقه فى ثلاث مسائل: المسألةُ الأُولى (¬3): قولُه (¬4): "لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى عَبْدٍ، وَلَا عَلَى حُرٍّ طَلَّقَا مَمْلُوكَةً" يريدُ الطَّلاقَ البائنَ، فلا نَفَقَةَ لها وإن كانت حامِلًا؛ لأنَّ ابنها رقيقٌ لسيِّدَّها، وبهذا قال الشّافعيّ وجمهورُ الفقهاء. ورُوِيَ عن الحسن (¬5) والحَكَم (¬6)؛ أنّ النَّفَقَةَ على الزّوج إذا طلّقها وهي حامل. ¬
باب عدة التي تفقد زوجها
المسألةُ الثّانيةُ (¬1): قال علماؤنا (¬2): وكذلك العبدُ يطلِّقُ الحُرِّة حاملًا، فلا نَفَقَةَ عليه؛ لأنّ نَفَقَةَ الزّوجيّة قد بطلت بالطّلاق البائن، وليس للعبد أنّ يُنفِقَ مالًا لسَيِّدِهِ فيه حقّ الانتزاع على ابنه وهو حرٌّ، كما ليس له ذلك بعد الولادة. المسألةُ الثَالثةُ (¬3): وقولُه (¬4): "وَلَيْسَ عَلَى حُرٍّ أنّ يَسْتَرْضِعَ لابْنِهِ وَهُوَ عَبْدٌ لقومٍ آخَرِينَ" وكذلك ليس عليه نَفَقَة. وأجمعَ العلّماءُ على هذا ممّن يقول بالنَّفَقَة على الحامل وممّن لا يقول بذلك. ووجهه: أنّ العبدَ نَفَقَته على سيِّدِه دون ابْنِهِ، وهذا عبدٌ لموالي الأمّ فكانت نفقته عليه، واللهُ أعلمُ. باب عدّة الّتي تفقد زوجها قال (¬5) اللهُ العظيمُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} الآية (¬6). قيل: إتها ناسخةٌ لقولِهِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬7) قال علماؤنا: كانت ¬
عِدَّةُ الوفاةِ في صَدْرِ الإِسلامِ حَوْلًا كاملًا، كما كانت في الجاهليّة، ثمّ نَسَخَ اللهُ ذلك بأربعةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، قَالَهُ الأكثرون من علمائنا (¬1). وقيل: إنّها منسوخةٌ بقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} * الآية (¬2)، تعتدُّ حيث شاءت؛ رُوِيَ عن ابن عبّاس (¬3) وعطاء* (¬4). التّربُّصُ: الانتظار، ومُتَعَلِّقُهُ ثلاثة أشياء: النّكاح، والطِّيب، والخروج والتَّصرُّف. أمَّا "النّكاح" فإذا وضعت المتوفَّى عنها زوجُها ولو بعدَ وَفاتِه بلحظةٍ حلَّتْ. وقيل: لا تحلُّ إلاَّ بانقضاءِ الأَشهُرِ، قاله ابنُ عباس. وقيل: لا تحلُّ إلاَّ بعدَ الطُّهْرِ من النِّفاس، قاله الحسن والأوزاعيّ، وسيأتي بيانُه. وأمَّا "الطِّيبُ والزِّينةُ" فقد رُوِي عن الحسن أنّه كان يجوِّزُ ذلك لها (¬5). ¬
والآيةُ عامَّةٌ في كلِّ متزوّجةٍ، مدخولٍ بها أو غير مدخولٍ بها، كبيرةٍ أو صغيرةٍ، أَمَةٍ أو حُرَّة، حامِلٍ أو غير حاملٍ، كما تَقَدَّم، وهي خاصَّةٌ في المُدَّةِ؛ فإن كانت أَمَةً فتعتدُّ نِصْفَ عِدَّة الحُرِّة إجماعًا، إِلَّا ما يُحْكَى عن الأَصَمِّ؛ فإنَّه سَوَّى فيه بين الحرَّة والأَمَة، والحجّةُ عليه: الإجماع على ذلك، واللهُ أعلمُ. قال أهل اللُّغةِ: (¬1) فقدُ الشّيءِ هو تَلَفُهُ بعدَ حُضُوره، وعدَمُهُ بعدَ وجُودِهِ، قال اللهُ العظيمُ: {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} الآية، إلى قوله: {زَعِيمٌ} (¬2)، فالمفقودُ هو الّذي يغيبُ حتّى ينقطع أَثَرُهُ ولا يُعْلَم خَبَرُه، وهو على أربعةِ أَوْجُهٍ: 1 - مفقودٌ في بلاد المسلمين. 2 - ومفقودٌ في بلاد العَدُوِّ. 3 - ومفقودٌ في صَفِّ المسلمينَ في قتالِ العَدُوِّ. 4 - ومفقودٌ في حرب المسملينَ في الفِتَنِ الّتي تكونُ بينهم، على ما نبيّنه في "المسائل" إنَّ شاء الله. الفقه في خمس مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬3): قال الإمامُ ابنُ العربيّ: مسالةُ المفقودِ وقعَتْ في زَمَانِ عمرَ، فقضَى فيها عمر ¬
بالمصلحة، ورأَى أنّ بقاءَهَا تنتظِرُهُ ضَرَرٌ بِهَا، وأنّ الاْستعجالَ على الغائِبِ قبل الاستيناء به ضرَرٌ عليه. المسألةُ الثّانيةُ (¬1): أمّا المفقودُ في بلاب المسلمينَ، فالحكمُ فيه إذا رَفَعَت أمرهَا إلى الإمام أنّ يكلِّفَها إثبات الزَّوجيَّة والمغيب، فهذا أثبتت ذلك، كَتَبَ إلى وَالي البلدِ الّذي يُظَنّ أنّه فيه، أو إلى البلد الجامع إنَّ لم يظنّ به في بَلَدٍ بعينه مستبحثًا عنه، ويعرِّفُه في كتابه إليه باسْمِهِ ونَسَبِهِ وصِفَتِهِ وَمَتْجَرِهِ، ويكتُب هو بذلك إلى نواحي بَلَدِهِ، فهذا وَرَدَ على الإمام جواب كتابه بأنّه لم يُعْلَمْ أنّه حيٌّ ولا وُجِدَ أثرٌ، ضَرَبَ لامرأته أجلًا أربعة أعوام إنَّ كانَ حُرَّا، أو عامين إنَّ كان عَبْدًا، ينفق عليها فيه من ماله. وفي "مختصر ابن عبد الحكم": أنّ الأجلَ يُضرَبُ من يوم الرَّفْع. وقال الأبْهَرِيُّ: إنّما ضُرِبَ لامرأة المفقودِ أجل أربعة أعوامٍ؛ لأنَّه أَقْصَى أَمَد الحمل، وهو تعليلٌ ضعيف؛ لأنّ العِلَّةَ لو كانت في ذلك هذا، لَوَجَبَ أنّ يستوي فيه الحرّ والعبد، لاستوائهما في مُدَّةِ لحوق النَّسَبِ، وَلَوَجَبَ أنّ يسقط جملة في الصَّغيرة الّتي لا يوطأ مثلُها إذا فُقِدَ زوجُها فقام عنها أبوها في ذلك، فقد قال: إنّها لو أقامت عشرين سنة، ثمّ رَفعَت أمرَهَا، لَضُرِبَ لها أجل أربعة أعوام، وهذا يبطلُ تعليله إبطالًا ظاهرًا. (¬2) وقد تكلّم العلّماءُ في وجهِ الحِكْمَةِ في ضربِ عُمرَ الأجل أربعةَ أَعوامٍ. ¬
فقال بعضُهم: إنَّما ذلك لاختبارِ حالِهِ في الجهاتِ الأربع: في الشّرقِ، والغرب، والشّمال، والجنوب، فجعل لكلِّ جهةٍ عامًا، وهذا ممّا يمكِنُ أنّ يكون قَصَدَه ولا يُقطَعُ عليه. وقيل: إنّما ضَرَبَ لها عمر الأجل أربعة؛ لأنّها المُدَّة الّتي تبلغها المكاتبة في بلاد الإسلام سيرًا وعَودًا، وهذا يبطل أيضًا على القولِ بأنَّ الأجلَ إنَّما يُضرَبُ بعدَ الكَشْفِ والبحثِ، وإنّما حُكمُهُ أنّ يقالَ على مذهبِ من يَرَى ضربَ الأَجَلِ من يومِ الرَّفعِ، وفيه أيضًا نظرٌ، وإنّما أُخِذَت الأربعة أعوام بالاجتهاد؛ لأنّ الغالبَ أنَّ من كان حيًّا لا تخفَى حياتُه مع البحث عليه أكثر من هذه المُدَّة، ووجبَ الاقتصار عليها؛ لأنّ الزّيادةَ فيها والتّقصير منها خَرْقٌ للإجماع؛ لأنّ الأُمَّة في المفقود على قولين: 1 - أنّ زوجته لا تتزوّج حتَّى يُعْلَم موتُه، أو يأتي عليه من الزّمان ما لا يحيى إلى مِثْلِهِ. 2 - والثّاني: أنّه يباحُ لها التّزويج إذا اعْتَدَّت بعدَ تربُّصِ أربعة أعوام. فلا يجوز إحداث قولٍ ثالثٍ. والَّذي ذَكَرَهُ الأَنجهَيري من أنّ أكثر مُدَّة الحمل أربعة أعوام هو ظاهر ما في كتاب العِتقِ الثّاني من "المُدَوَّنة" (¬1)، وهو مذهبُ الشّافعيّ (¬2). وذهب ابن القاسم إلى أنّ أكثَرَهُ خمسة أعوابم. وروَى أشهب عن مالك سبعة أعوام، على ما رُوِيَ أنّ امرأة ابن عجلان ولدت لسبعة أعوام. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثّوريّ إلى أنّ أقصاه عامانِ، واختارهُ الطحاويّ (¬3)، استدلالًا بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬4) فلا يصحّ أنّ يخرجَا منها ولا واحد منهما، فلمّا خرجت عنها سائر الأقرال لم يبقَ إِلَّا هذا القول الَّذي لم يخرج قائله ¬
بها، عنها فكان هو أَوْلَاها بالصَّوابِ. المسألةُ الثّالئةُ (¬1): وأمّا المفقودُ في بلادِ الحربِ، فَحُكمُهُ حُكْم الأَسير، لا تتزوّج امرأته، ولا يقسم ماله حتَّى يُعْلَم موتُه، أو يأتي عليه من الزَّمان ما لا يحيى إلى مثلِهِ في قول أصحابنا كلهم، حاشا أشهب فإنَّه حَكمَ له بِحُكْمِ المفقودِ في المالِ والزّوجة جميعًا. واختلفَ العلّماءُ فيمن سار في البحر إلى بلاد الحرب ثمّ فُقِدَ: فقيل: إنّه كالمفقودِ في بلادِ المسلمين، لإمكانِ أنّ تكون الرِّيحُ قد رَدَّتهُ إلى بلادِ المسلمينَ، إلّا أنّ يُعْلَم أنّه صار في بعضِ جزائر الرُّومِ ثمَّ فُقِدَ بَعْدُ. وقيل: كالمفقودِ في بلاد الرُّومِ. المسألةُ الرّابعةُ (¬2): وأمّا المفقودُ في صفِّ المسلمينَ في قتالِ العَدُوِّ، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدهما: روايةُ ابنِ القاسمِ عن مالك في "سماع عيسى" (¬3) أنّه يُحْكَم لَهُ بحُكْمِ الأسيرِ، فلا تتزوّج امرأتُه، ولا يقسم مالُه، حتّى يُعلم موتُه، أو يأتي عليه من الزَّمانِ ما لا يحيى إلى مثله. الثّاني: روايةُ أشهب عن مالك (¬4)؛ أنَّه يُحْكَم له بحُكْمِ المقتولِ، بعد أنّ يُتلَوَّمَ (¬5) له سنة من يوم يُرفَع أمرُهُ إلى السُّلطان، ثمَّ تعتدُّ امرأتُه وتَتَزوَّجُ ويُقسمُ مالُه، وإن كان لم يتكلْم في الرِّواية على قسم ماله فهو المعنى واللهُ أعلمُ، وسواء كانت المعركة في بلاد الحرب أو في بلاد المسلمين إذا أمكن أنّ يُؤْسَر فيخَفَى أَمْرُهُ، فحَمَلَهُ ابنُ القاسم في رواية عيسى عنه على أنَّه أسير، وحمله مالك في رواية أشهب عنه على أنَّه قتيل. ¬
وأمّا إنَّ كان بموضعٍ لا يمكن أنّ يخفى أَسْرُهُ إنَّ أُسِرَ، فحكْمُهُ حكم المفقودِ في حربِ المسلمينَ في الفِتَنِ. الثَالثُ: أنَّه يُحْكَم له بحُكْمِ المفقودِ في جميعِ الأحوالِ، فيضرب له الأَجل أربعة أعوام، ثمَّ تعتدُّ امرأته وتتزوّج، ولا يقسم ماله حتّى يَأتي عليه من الزَّمانِ ما لا يحيى إلى مِثلِهِ. حكى هذا القول ابنُ الموّاز. الرّابعُ: أنّه يُحْكَم له بِحُكْمِ المقتولِ في الزَّوجة، فتعتدُّ بعدَ التَّلَوُّمِ وتتزوَّج، وبحُكْمِ المفقودِ في مالِهِ فلا يقسم حتّى يُعْلَم موتُه، أو يأتِي عليه من الزَّمان ما لَا يحيى إلى مِثْلِهِ، وهو قول الأوزاعي. وتأوّل رواية أشهب عن مالك على ذلك، وهو بعيدٌ. وأمّا المفقود في حرب المسلمينَ في الفِتَنِ الْتي تكونُ بينهم، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنَّه يُحْكَم له بِحُكْمِ المقتولِ، في زوجته وماله، فتعتدُّ امرأتُه ويقسم مَالُهُ، قيل: من يوم المعركة قريبة كانتَ أو بعيدة، وهو قول سحنون، وقيل: بعد أنّ يتلوّم له على قَدْرِ ما ينصرف مَنْ هَرَبَ أو انْهَزَمَ. فإن كانت المعركةُ على بُعْدٍ من بِلَادِهِ مثل إفريقية من المدينة، ضُرِبَ لامرأته سَنَة (¬1)، ثمَّ تعتدّ وتتزوج ويقسم ماله. وقيل: إنَّ العِدَّةَ داخلةٌ في التَلوُّم، واختلفَ في ذلك قول ابن القاسم والصّواب أنّ العِدّة داخلة في التَّلوُّم؛ لأنَّه إنَّما تلوّم له* مخافة أنّ يكون حُيَّا* (¬2). ¬
باب ما جاء في الأقراء في عدة الطلاق وطلاق الحائض
باب ما جاء في الأقراء في عِدَّة الطّلاق وطلاق الحائض قال الإمام: القُرْءُ كلمةٌ محتملةٌ للحيضِ والطُّهْرِ. والأصلُ فيه، قولُه تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) وذلك راجعٌ على الطُّهْر؛ لأنَّه مذكَّرٌ، ولو أرادَ الحَيْضَ لقال: "ثلاث حيض" لأنّ الحَيْضَ مؤنَّثٌ. واتَّفقَ أهلُ اللُّغةِ على أنَّ القُرْءَ الوقتُ. والطّلاق الشّرعي: هو فُرقة الزّوجة. وذَكَرَ مالكٌ عن عائشة؛ أنَّ الأَقْرَاءَ الأَطْهَارُ (¬2). الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأُولى (¬3): اختلفَ النَّاسُ من الفقهاء وأهلِ اللُّغة في الأقراء اختلافًا كثيرًا, ولا شكَّ في أنَّ زمانَ الحيضِ يُسمَّى قُرْءًا، كما أنَّ زمانِ الطُّهْرِ يُسمَّى قُرْءًا, ولكن نُوَضِّحُ أنَّ المرادَ في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4) أنَّه زمانُ الطُّهْرِ، لثلاثَهِ أَوْجهٍ: ¬
أحدها: أنَّ حقيقةَ القُرْءِ اجتماعُ الدَّمِ، والدَّمُ إنّما يَجتمِعُ في مُدَّةِ الطُّهْرِ، والحَيْضُ هو سَيلَانُ ما اجتَمعَ. الثّاني: أنَّ الله يقولُ في كتابه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) وبَيَّنَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّ الطّلاقَ في الطُّهْرِ لا في الحَيْضِ. الثّالث: أنَّ الأحكامَ ترتبطُ بأسبابِهَا، وسببُ العِدَّة الطّلاقُ، فيجبُ أنّ تكونَ مُقترِنةً به. وليس لأهل العراق ولا لغيرهم من المخالِفِينَ بعد هذا في الاعتراضِ عليه شيءٌ يَنْفَعُ (¬2). ولذلك أَمَرَ النّبيُّ عبدَ الله بنَ عُمرَ حين طَلَّقَ امرأتَهُ وهي حائضٌ بالرَّجعة، لِئلّا تَطُولَ عليها العِدَّةُ، فإنّ زمانَ الحَيْضِ الّذي وقعَ الطَّلاقُ فيهِ لا يُحْتَسَبُ لها به، فيمضي عليه الطّلاقُ الّذي أَلْزَمه نفسَه، ويُجْبَرُ على الَّرَّجعةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عن المرأةِ، فتجتمعُ الفائدتان. المسألةُ الثّانيةُ (¬3): قال الإمام: والمُعتَدَّاتُ على ثمانيةِ أقسامٍ: الأوّل: مُعْتَادَةٌ، فهذه عِدَّتُها ثلاثةُ قُرُوءٍ، كما قال الله تعالى (¬4)، أو وَضْعُ الحَمْلِ كما أخبر الله (¬5). الثّاني: من تأخَّرَ حَيْضُها بمَرَضٍ (¬6). الثَالث: من تأخَّرَ حَيْضُها لِرَضَاعٍ، فأمّا مَنْ تأخَّرَ حيضُها لمرضٍ، فتُقِيمُ تِسْعَةَ أَشهُرٍ، ثمَّ تأتي بثلاثةِ أَشْهُرِ عند الكُلِّ من علمائنا. ¬
وقال أَشْهَبُ: إنّما تَعْتَدُّ بعدَ السَّنَة، كما في قصَّةِ حَبَّانَ الّذي رواهُ مالك في "الموطَّأ" (¬1)، والمريضةُ والمُرْضِعُ سواءٌ. والصّحيحُ* هو الأوَّلُ. الرَّابعُ: من تأخّر حَيْضُها لغير شيءٍ، فإنّها تتربَّصُ سنةً ما لم تَرْتَبْ، فإذا ارتابت، تقيمُ عامين في قول عائشة (¬2) وأهل العراق (¬3)، وأربعٌ في قولٍ (¬4)، وفي قول علمائنا إلى خمسٍ (¬5)، وسَبْعٍ (¬6)، فإن تمادت الرِّيبةُ، فلا تَحِلُّ أبدًا حتّى ينقطعَ، عند أشهبَ، والشّافعىّ* (¬7)، وأبي حنيفةَ. وقد وقَعَت روايةٌ لمالكٍ، والصّحيحُ أنَّ الزِّيادةَ على مُدَّةِ الحملِ لا اعتبارَ لها؛ لأنّ مدَّةَ الحملِ لا تُعْلَم بدليل الشّريعة، وإنَّما تُعلمُ بِمُسْتَمِرٍّ من العادةِ. وقد زعموا أنّهم وَجَدوا الولادةَ بعدَ سبعةِ أعوامٍ من الوَطْءِ، ورَبُّك أعلمُ بما تُكِنُّ البطونُ. وقد سمعتُ من يقولُ: أقصى الحمل سبعة أشهرٍ، وهي نُكتَةً فلسفيَّةٌ، واعراضٌ عن الدِّيانة قَصِيَّةٌ، وخلافُ إجماعِ الأُمَّةِ، فلا ينبغي أنَّ يُلْتَفَتْ إليه. الخامس: المستحاضةُ، قال ابنُ القاسم وسعيد بن المُسَيَّب: تُقيمُ سَنَةً (¬8). وقال غيرُهما: تقيمُ حتَّى تزولَ الرِّيبة. السَادس: صغيرةٌ، عدَّتُها ثلاثةُ أَشْهُرٍ (¬9)، سواءٌ كانت حُرِّةً أو أَمَةً. ¬
وقال عبدُ الملك: في الأَمَةِ شهرٌ ونصفٌ. وقال غيرُهُ: شهران. وقد اتُّفِقَ على أنَّ عِدَّتُهَا في الوَفَاةِ شهرانِ وخمسُ ليالٍ. السّابع: اليائسةُ، وهي مِثلُها (¬1)، وقد نصَّ اللهُ عليها في مُحْكمِ كتابِه، فقال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية (¬2). الثّامن: المشكلةُ، وهي الّتي قاربت من الصَّغيرة سِنَّ الحَيضِ، وقارَبَت من الكبيرةِ سنَّ انقطاع الدَّمِ، فتبني على الأَشْهرِ باتِّفاق من علمائنا إِلَّا إنَّ ارتابت، فإِنِ ارتابت فَتَحْصُلُ في القسمِ الرّابعِ وهي المُرتابةُ. المسألة الثّالثة: قال (¬3) علماؤُنَا (¬4) - رحمةُ اللهِ عليهم-: وإنّما شُرعَ الإِقراءُ ليعلم براءَة الرَّحمِ، وليغلب على الظَّنِّ براءته. فهذا حاضت حَيْضَة، كانت من العلّامات على براءَةِ الرَّحِمِ، فإذا حاضت الثّانية والثالثة، تأكَّدَ براءة الرَّحِمِ، فحلّت للأزواج ولم تنتظر بقيّة الحَيْضَة. وقال (¬5) أهلُ العراقِ (¬6): إنْ الأَقراءَ هي الحيض. والدَّليلُ على صحّةِ مذهبِ مالكٍ، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية (¬7)، أي في مكان يعتددن به، كما قرأ ابنُ عمر: "فطلقوهنّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" (¬8) وهي قراءة تُسَاقُ على طريقِ التَّفسيرِ (¬9). وبَيَّنَ النَّبِيُّ عليه السّلام أنَّ ذلك أن يطلِّقها في طُهْرٍ لم يمسّها فيه (¬10)، فدلَّ ذلك على أنَّ الطُّهْرَ الّذي يطلِّقها فيه تعتدُّ به، وأنَّه من أقرائها, ولو ¬
كانت الأقراء الحيض- كلما قال أهل العراق- لكان المطَّلقُ في الطُّهْرِ مطلَّقاٌ لغير العِدَّةِ. ومن جهة المعنى: أنَّ الْقُرْءَ مأخوذٌ من قَرَيتُ الماءَ في الحَوْضِ، أي جمعتُه فيه، والرَّحِمُ يجمعُ الدَّمَ في مدَّةِ الطُّهْرِ، ثمَّ يرخيه في مُدَّة الحَيْضِ. وموضعُ الخلافِ إنّما هو: هل تحلُ المرأةُ بدخولها في الدَّمِ الثالثِ؟ أو بإنقضاء آخره؟ فمن قال: إنَّ الأقراء هي الأطهار، يقول: إنَّها تحلُّ بدخولها في الدِّم، ومن قال: إنَّها الحيض، يقول: إنّها لا تحلُّ حتّى تتمّ الحيضة. المسألة الرّابعة (¬1): وقد رَوَى يحيى بن يحيى في تفسير قراءة ابن عمر: "فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتهِنَّ " قال يحيى بن يحيى: قال مالك: يريدُ أنَّ يطلِّقَهَا في كلّ طُهْرٍ مَرَّةُ. قال أبو محمّد الأصيلي: لم يَرْوِ هذا التّفسير عن مالك إلّا يحيى بن يحيى. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3): "أنّ ابنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وهيَ حَائِضٌ" يحتملُ أنَّ يثبت ذلك بإقرارها، أو بِبَيِّنَةٍ من النِّساءِ. فإن أَقَرَّتْ أنَّها حائضٌ، وأنكر ذلك الزَّوج، قال ابن سحنون عن أبيه: هي مُصَدَّقَةٌ في ذلك، وكذلك تُصَدَّق أيضًا المتوفَّى عنها زوجُها في العِدَّةِ، ولا يُكْشَفُ على الحائض، ولا يَنْظُر إليها النِّساء، وُيُجْبَر على الرَّجْعَةِ. ووَجْهُهُ: أنَّ هذا حكمٌ من الأحكامِ في الحيضِ، فكانت مُصَدَّقَة فيه مثل انْقِضَاء العدَّة. ¬
ورَوَى أَصْبَغُ عنِ ابنِ القاسمِ فيمن طلَّقَ امرأته، فقالت: طَلِّقَني في الحيضِ، فقال: بل وأنتِ طاهرةٌ، القولُ قولُه، ومعنى ذلك أنَّ تقولَهُ بعد ما طهرت، وإذا قالت قبل أنّ تُقِرّ بالطُّهْرِ فالقولُ قولُها. المسألة السّادسة (¬1): ولا يجوزُ أنّ يُصَالِحَ امرأتَهُ في الحيضِ، قاله ابنُ القاسمِ وأَشْهَب. وأمَّا الطّلاقُ الّذي يكونُ بغَلَبَةٍ من السُّلطانِ فيمن به جنُونٌ، أو جُذَامٌ، أو بَرَصٌ، أو عُنَّة، فقد قال مالك وابن القاسم: لا تُطَلَّق عليه في دَمٍ حَيْضٍ ولا نِفَاسٍ. والأَمَةُ تُعْتَقُ في الحيضِ لا تختار حتّى تَطُهر، فإن فعلت مَضَى. وأمّا المَوْلَى، فروَى أشهب عن مالك وابن القاسم: لا تُطَلَّق عليه في الحَيْضِ. وَرَوَى ابنُ القاسم عنه أنّها تُطَلَّقْ عليه. المسألة السَّابعة (¬2): قوله (¬3) "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" يقتضِي وجوب الاِرْتجاعِ عليه، وذلك لازِمٌ ثمّ لكلِّ من طلَّقَ في الحيضِ أنَّ يراجِعَ إذا كان له عليها رَجْعَة. فأمّا "العِنِّين" فلا رَجْعَةَ له؛ لأنَّه طلَّقَ قبلَ الدُّخولِ، وأمَّا غيره فَلِزَوَالِ مُوجِبِ الطَّلاقِ، مثل أنَّ يُفِيقَ المجنونُ ويوسر المُعْسِرُ، وقد قال محمّد (¬4): لِكُلِّ واحدٍ منهم الرَّجعة. ¬
قال: ومَن طلَّقَ منهم حائضًا أُجْبِرَ على الرَّجعةِ، خلافًا لأبي حنيفة (¬1) والشّافعيّ (¬2) في قوليهما: يُؤْمَرُ بها ولا يُجْبَرُ. ودليلُنا: ما تقدَّمَ من قولِهِ "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التِي أَمَرَ اللهُ أنّ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاء" (¬3). ومن جِهةِ المعنى: أنَّه مضارّ بتطويل العِدَّةِ، فمُنِعَ من ذلك وأُجْبِرَ على الرَّجْعَةِ. المسألة الثّامنة (¬4): قولُه (¬5): "حَتَّى تَطْهُرَ، ثمّ تَحِيضَ ثُمَّ تطْهُرَ، ثُمَّ إنَّ شَاءَ طَلَّقَ، وَإِنْ شَاءَ أمْسَكَ" قال البغداديون: معنى ذلك أنَّ يُمْسِكَها في الطُّهْرِ ليتمكَّنَ من الوَطءِ إِن شاءَ؛ لأنَّ مقصود النِّكاح المبتدأ والرَّجعة الوطءُ، فلذلك شُرعَ له أنَّ يُمسِكها في طُهْرٍ يكون له فيه الوَطءُ إِن شاءَ. قال اللهُ العظيم: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (¬6) وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} الآية (¬7)، فَشَرَطَ الإصلاحَ (¬8)، ومعناه: أنّ يكون على سُنَّةِ النّكاحِ، ولفظُ الرَّجعةِ يدلُّ على وقوع الطَّلاقِ، ولو لم يقع لقال: "مُرْهُ فَلْيُمْسِكْهَا" هكذا روى نافع عن ابن عمر، وهو أَثْبَتُ النَّاسِ. قوله: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" الرَّجْعَةُ -بفتحِ الرَّاءِ- إذا طلَّقها تطليقة أو تطليقتين فراجَعَها رجعة، وأَصْلُهُ من الرُّجوعِ، أي راجعها بالنِّكاح، معناهُ: يرجع عن الطَّلاقِ رَجعةً -بالفتح- وهي بفعلة، والمبارأة مَأخوذةٌ من البراءَةِ، وهو أنّ يفترقَ أحدهما عن صاحبه عن غير عِوَضٍ منهما. ومن ذلك اشتقَّت البراءة النّبيّ بكتبها النَّاس بينهم. ¬
باب عدة المرأة في بيتها اذا طلقت فيه
باب عِدَّة المرأة في بيتها اذا طُلِّقت فيه فقه في خمس مسائل: المسألةُ الأُولى (¬1): قوله (¬2): "فَانْتَقَلَهَا عَبدُ الرَّحْمَنِ" يريدُ: مِنْ موضعِ عِدَّتِها، وذلك أنّ السُّكْنَى وإن كان حقَّا من حقوق الزَّوجيّة فإنّ المقصودَ منه حِفْظ النَّسَبْ، ولحقِّ الله تعالى به تعلُّقٌ، فليس للزّوجةِ إسقاطُهُ، وقد قال مالك: للمبتوتة السُّكنَى على زوجِها في العِدَّة (¬3)، ويُحْبَس ويُباعُ عليه فيه مالُهُ. المسألةُ الثّانية (¬4): فإن لم يكن له مالٌ، فقد قال مالك: ذلك عليها (¬5)؛ لأنَّه إنَّما يجبُ عليه بشرطِ اليَسَارِ، فيكونُ عليها أنَّ تُسْكِنْ نَفْسَهَا كما عليها أنَّ تُنْفِق (¬6)، وهذا في المدخولِ بها الّتي تُوطَأ، وإن كانت غير مدخولٍ بها، فَانْتَقَلَهَا أهلها لِعِلَّةٍ، لم يكن لها سُكْنَى في وَفَاةٍ ولا طلاقٍ، صغيرة كانت أو كبيرة، قاله مالك في "الموّازيّة". المسألةُ الثالثةُ (¬7): فإن كانت أَمَة، فقد قال محمّد: لم يختلِف أصحابُنا أنَّ لها السُّكْنَى في الفراق، كان الزوجُ حرَّا أو عبدًا، إذا بُوِّئَتْ بَيْتًا. ¬
وقال مالك: تَعْتَدُّ حيثُ كانت، إنَّ كانت عند أهلها، (¬1) اعتدّت عندَهُم (¬2)، وإن كانت عندهم بالنّهار، وتَبِيتُ عندَ زوجِهَا باللَّيلِ، اعتدَّت في منزله. قال أشهب: إنَّ كان يُنْفِق عليها، فعليه السُّكْنَى، وإلّا فلا (¬3). ووجهُ ذلك (¬4): أنَّ سُكْنَى العِدَّة معتبر بالسكنى في حالي الزّوجيّة. فإن لم يكن لها سُكْنَى في حالِ الزّوجيَّة وَوَقْتِ كمالِ النِّكاحِ، فلا يجبُ لها حال الفِراقِ. المسألة الرّابعةُ (¬5): سؤالُه عن المطلّقة في بيتٍ بكراءٍ (¬6)، يريدُ الّتي قد دخلَ بها زوجُها، وكان الطلاقُ رجعيًا، فقال سعيد: "الْكِرَاءُ عَلَيهِ" يريد كراء العِدَّةِ، وأمَّا كراء السُّكنَى في مُدَّةِ الزّوجيَّة فلا (¬7)، لاتِّفاق الجميعِ على أنَّ السُّكنَى تجبُ على الزَّوجِ (¬8). ولا خلافَ بين الفقهاء في الرَّجعيَ، وإن اختلفوا في البائن. ودليلُنا: قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} الآيةُ (¬9)، والأمر يقتضي الوجوبَ، وإنَّما خُوطِبَ بذلك مَنْ طَلَّقَ، وقد كان الإنفاق والسُّكْنَى لازِمَيْنِ له قبلَ الطَّلاقِ، فلمَّا أُمِرَ بالسُّكْنَى بعدَ الطَّلاقِ، يقتضي ذلك أنَّ حُكْمَهُ بعدَ الطَّلاقِ غير حكم الإنفاق؛ لأنّ للزّوجة إسقاط النَّفَقَةِ قبلَ الطَّلاقِ وبعدَهُ، وليس لها إسقاط السُّكْنَى ولا نقله عن مَحَلِّهِ. وقد رُوِيَ عن عمر (¬10) وابنِ مسعودٍ (¬11)، أنَّ المَبْتُوتَةَ لها النَّفَقَة والسُّكْنَى خاصَّة. ¬
باب ما جاء في نفقة المطلقة
وأمّا النَّفَقَة، فتختصُّ بالحامل، قال الله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الآية (¬1). وقد ذهبت طائفةٌ إلى أنَّه ليس لها سُكْنَى ولا نَفَقَة، وقد قال مالك وجمهور الفقهاء: إنَّ لها السُّكْنَى فقط، لقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} الآية. باب ما جاءَ في نَفَقَةِ المُطَلَّقةِ قال (¬2) الإمامُ: هذه المسألةُ وأقرانُها مِنْ ذِكْرِ العِدَّةِ والاسْتِرْضَاعِ أحْكَمَها اللهُ في "سُورة النِّساءِ الصُّغْرَى" (¬3). الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬4): قوله (¬5): "أنَّ أبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ" يريد آخر طَلْقَة بَقِيَتْ له، وقد بَيَّنَ ذلك الزُّهريّ (¬6) فى روايَتِهِ عن عُبَيْدِ الله؛ أنَّ أبا عَمْرٍ بن حَفص أرسلَ امرأَتَهُ فاطمة بنت قّيْس بتطليقةٍ كانت بقيت لَهُ. وقول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لها: "وَليسَ لَكِ نَفَقَةٌ" هذا بَيِّنٌ في أنَّ المبتُوتَةَ غير الحاملِ لا نَفَقةَ لها، خلافًا لأبي حنيفة والثّوريّ (¬7) في قولهما: لكُلِّ مطلَّقةِ النَّفَقَة في العِدَّة. ودليلُنا: قولُه عليه السّلام لفاطمة بنت قَيْس: "ليْسَ لَكِ نَفقَةٌ". ومن جهة المعنى: أنّها بائِنٌ بالطّلاقِ، فلم تجب لها النَّفَقَة، كغير المدخول بها. ¬
المسألةُ الثّانيةُ (¬1): فإن كانت حاملًا، فلها النَّفَقَةُ من أجلِ الحملِ، قال اللهُ العظيم {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الآية (¬2)، وهذه روايةُ أبي سَلَمَة، وهي أصحّ من روايةِ أهلِ الكُوفةِ: الشّعبيّ (¬3) وغيره (¬4)؛ أنَّ رسول الله قال: "لانَفَقَة لَكِ وَلَا سُكْنَى" وإنّما هو تأويلٌ ممّن رَوَى ذلك، أو رَوَى عنه على المعنى دونَ لَفْظِ الحديث، لّما أَمَرَهَا رسولُ اللهِ أنَّ تعتدَّ في بيتِ أُمِّ شَرِيكٍ أَوْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وأبو سَلَمَة نقلَ كلّ واحدٍ من الحُكْمَينِ على وجهه، والله أعلم. المسألة الثالثةُ (¬5): قوله (¬6):"وَاعْتَدَّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" يقتضي اختصاص هذه السُّكْنَى بمدّة العِدَّةِ، وأنّها أمرٌ لازِمٌ لها، وبَدَلٌ من الاعتداد في بيت زوجها، وَرُوِيَ أنَّ ذلك كان لعلّة (¬7). المسألة الرّابعة: وأمّا السُّكْنَى، فلا خلافَ فيه على ما قدّمناهُ، ولا يجوزُ له أنَّ يُخْرِجَها منه إِلَّا أنّ تأتي بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ. كلُّ ما كان في القرآن فاحشة مُبَيِّنَة فهو البذاء من اللِّسان (¬8)، وهذا (¬9) يقتضي أنّ من الفاحشة ما ليست ببيِّنَةٍ، وليس ذلك الزِّنَا في قول من قال ذلك؛ لأنّ أمر ¬
فصل
الزِّنا واحدٌ، إذا غابت الحَشَفَةُ في الفَرْجِ وَجَبَ الرَّجْمُ، وإلى هذا ذهب ابنُ عبّاس، وقال: لو كان الزِّنا الفاحشة كما يقولونَ أُخْرِجَت فَرُجمَتْ، وإنّما الفاحشةُ النُشُوزُ (¬1) وسوءُ الخُلُقِ. قال عبد الوهّاب: فإذا كَثُرَ النُّشُوزُ بينهُمَا ولم يطمع في إِصْلاحِهِ انتقلت إلى مسكن غَيْرِه. فصل (¬2) قال ابنُ العربيِّ: وقولُه تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية (¬3)، فصارتِ الإقامةُ بالبيتِ حقًّا للهِ تعالى، لا يجوزُ للزّوج ولا للمرأةِ إسقاطُه، خلافًا للضَّحَّاكِ. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬4) وأصحُّ ما قيل في الفاحشةِ أنَّها كلُّ معصيةٍ، وهو الّذي اختاره الطَّبريّ (¬5)، ومن جُملتها البَذَاءُ على الأهلِ، ولهذا المعنَى خرَجَتْ فاطمةُ بنتُ قيسٍ عن بيتها. والنَّفقةُ واجبةٌ لها -كما قال مالك- إن كانت رجعيّةً بكلِّ حالٍ (¬6)، وإن كان بائنًا فليس على حرٍّ ولا عبدٍ طلَّقَ مملوكةٌ نَفَقَةٌ، ولا عبدٍ طلَّقَ حُرَّةً طلاقًا بائنًا. باب عِدَّة الأَمَة في طلاق زوجها الفقه في ثلاث مسائل: المسألةُ الأُولى: قولُه (¬7):"في طلَاقِ الْعَبْدِ الأَمَةَ إِذَا أُعتِقَتْ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الأَمَةِ" وهو كما قال، ¬
باب ما جاء في الحكمين
وهذا إذا كان الطّلاقُ رجعيًا أو بائنًا فإنّها تتمادَى. وقال بعضُ أشياخِنَا (¬1): الأَمَةُ إذا طلَّقها زوجُها ثمَّ عُتِقَتْ، فإنّها لا تنتقلُ إلى عِدَّةِ الحُرِّة، وفيه قولٌ واحدٌ؛ لأنّ الحُكْمَ ثبتَ عليها وهي أَمَةٌ، فلا يبطلُ العِتْقُ ما وَجَبَ عليها من الطَّلاقِ، وكالكافرِ إذا قَتلَ الكافرَ ثمَّ أسْلَمَ، فإنَّه لا يَسْقُطُ عنه القتلُ بإسلامه، إِلَّا أنَّ ابنَ القاسمِ خالفَ أصلَهُ في الظِّهارِ، وذلك أنَّه قال: إنَّ الرَّجُل إذا ظَاهَرَ يلزمُه العِتْق، فإن كان لا يجد الرَّقَبَةَ، انتقلَ إلى الصّومِ، فإنْ مَضى له من الصَّومِ يَسيرٌ، وَوَجَدَ له رَقَبَة، رَجَعَ إليها، فإن كان مَضَى له كثيرٌ، فإنّه يُتِمُّ الصَّومَ. المسألةُ الثّانيةُ: وأمَّا عِدَّةُ الأَمَةِ، فإنَّها حَيْضَتَانِ لإجماعٍ من الأُمَّةِ (¬2). فإن قيل: لم لا تكونُ حَيضَة ونصف، إذِ الأَمَةُ في الحُيْضِ والطّلاق على النِّصفِ من الحُرِّة. فالجواب: أنَّها لا تتبعَّض، فلذلك تَمَّت حيضتين. فإن قيل: فلم لا تكونُ في واحدةٍ؟ فالجواب: أنَّه غَلَبَ الحَظْرُ على الإباحة. المسألة الثّالثة: وأمّا استبراءُ الرَّحِمِ، فإنَّه بحَيْضَةٍ واحدةٍ. فإن قيل: فلأيِّ شيءٍ جُعَلَت الثّلاثةُ في الحُرّةِ والاثنانِ في الأَمَة؟ قلنا: الزّائدُ على الواحدةِ عبادةٌ، وزِيدَتِ الحرّةُ على الأَمَةِ بواحدةٍ. والدّليل على أنَّ الرَّحِمَ يستبرىء بحيضة واحدةٍ أنَّ الأَمَةَ توطأ بعدَ استبرائها بِحَيْضَةٍ. باب ما جاء في الحَكْمَيْنِ قال (¬3) الإمامُ: هذه مسألةٌ نصَّ اللهُ عليها، وحَكَمَ بها عند ظُهورِ الشِّقاقِ بين الزَّوجينِ واختلافِ ما بينَهُمَا، وهي مسألةٌ عظيمةٌ اجتمعتِ الأُمَّةُ على أصلها في البعث، ¬
وإن اختلفوا في تفاصيل ما يَتَرَتَّبُ عليه، ومن جملةِ اختلافِهِمْ في قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} (¬1) فهل المراد الزّوجان أم الحَكَمَانِ؟ فأدخل مالك (¬2) قول على - رضي اللهُ - عنه أنَّ المرادَ به الحَكَمَانِ، وهو الصّحيحُ؛ لأنّ الكلامَ مُرْتَبِطٌ بهِمَا، مَعْطُوفٌ عليهما، مُجَاوِرٌ لَهُمَا، فهو بهما أَلْيَقُ، وَرُجُوعُهُ عليهما أَحَقُّ، وقد بيَّنَّا ذلك في "كتاب الأحكام" (¬3) وبسطناهُ كما يجبُ، وعجبًا لأهلِ بلادنا حيث غَفَلُوا عن مُوجِبِ الكتابِ والسُّنَّةِ في ذلك، وقالوا: يُجعَلان على يَدَي أمينٍ، وفي هذا من مُعَانَدَةِ النَّصِّ مالًا يَخْفَى عليكم، فإمَّا إذا وقعَ الشِّقَاقُ بينهُمَا لأَجْلِ المَسِيسِ فاتَّفَقَا على أنَّه لايَمَسُّها، فإنَّ العلّماءَ اتَّفقوا على أنَّه يُضْرَبُ له أجلُ سَنَةٍ من يومِ تَرَافُعِهِ، قال علماؤنا: يُخْتَبَرُ بها حالُهُ في الأَزْمِنَةِ الأربعة المتغايرةِ في السَّنَة، هل يستطيعُ فيها مَسِيسًا أم لا؟ فإن تبيَّنَ عَجْزُهُ فيها حِيلَ بينَهُ وبينَها، على ما يأتي بيانُه في موضعه إنَّ شاء الله. الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأُولى: (¬4) الأصلُ في هذا الباب قولُه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية (¬5)، ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ المُخَاطَبَ بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} الحُكّام، والمراد بقوله: {إِنْ يُرِيدَا} أنّهما الحَكَمَانِ، ومن صِفَاتِهِمَا الّتي هي شرطٌ في صِحَّةِ كونهما حَكَمَيْنِ: الإسلام، والبلوغ، والحرية، والذّكُورية، فإن عُدِمَ شيءٌ من ذلك، لم يجُزْ تحكيمهما برضَا الزَّوجينِ ولا ببعثة السْلطان، قاله مالك (¬6)، وكذلك العدالةُ، ولهُمَا صفاتٌ أُخَر ¬
هي من صفاتِ كَمَالِهِمَا، أنّ يكونا من أهلِهِمَا، وأن يكونا فقيهينِ عَدْلَينِ. ومتَى نقصَ من هذه الأربعة شيءٌ لم يكونا حَكَمَيْنِ. وأمّا أنّ يكونا فقيهينِ فَمُسْتَحَبٌّ، وكونُهُمَا عَدْلَينِ يُغْنِيَ عن ذلك، ولأجل ذلك قال مالك: ينبغي أنَّ يكونَ القاضي فقيهًا، فان فاتَهُ الفقه، فليكُن عَدْلًا؛ لأنَّه إنَّ كان عَدْلًا أمسكَ عمّا لا يُحْسِن وتَكَلَّمَ فيما يُحْسِن، وإن كان غير عَدْلٍ حَكَمَ برأيِهِ وَهَوَاهُ. وَلْيَكُونَا من أهلهما، فإن لم يوجدا عَدْلَينِ فليكونا من غير أهلهما من الجيران، ويُنْظَرانِ فإن رَأَيَا أنَّ يُصْلحَا صلحا، وإن رَأَيَا أنّ يُفَرِّقَا ,ولا يحتاجَانِ إلى اختيار الزَّوجِ في الفِرَاقِ، خلافًا للشّافعي (¬1) وأبي حنيفة (¬2). والدّليلُ على ذلك، قولُه: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} الآية (¬3)، فسمَّاهُ حَكَمًا، فلو افتقرَ إلى رِضا الزَّوجِ لم يكن حَكَمًا وإنّما هو وكيلٌ. واحتجَّ أبو حنيفة بقول عليّ بن أبي طالب، وذلك أنَّه قال للزَّوج: "أَتُحِبُّ أنّ تَذْهَبَ مَعَكَ؟ فَقَالَ: لَا" ولا حُجَّةَ لهم في ذلك، بل هي حُجَّة عليهم؛ لأنّ عليَّا رضي الله عنه قال: "لَتَذْهَبَنَّ مَعَكَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ" (¬4). المسألةُ الثّانية (¬5): قولُه: {فَابْعَثُوا} (¬6) قيل: هو خطابٌ للحُكَّامِ، ويحتملُ على مذهبِ مالكٍ أنّ يكونَ خطابًا لوَلِيِّ اليتيمينِ، وذلك أنَّه ليس لأحدٍ أنّ يبعث الحَكَمَيْنِ إلّا الحاكمُ أو الزَّوجانَ، أو أولياء الزّوجين إنَّ كانا محجورين، وهذا معنَى ما في "المُدَوّنة" (¬7). ¬
باب يمين الرجل بطلاق ما لم ينكح
وإنّ وَجْهَ نَظَرِ الحَكَمَيْنِ أنَّ يَنْظُرا في أمرِهِمَا، فإن رَأَيَا الإِساءَةَ من قَبَلِهِ فُرَّقَا بينهُما، وان رأيا الإساءة من قِبَلِهَا تركاهُما. وإنّما يحكُمَانِ على وجهِ الحُكمِ لا على وجهِ الوَكَالَةِ والنِّيابةِ، فينفذ حكمُهُمَا. وحُكمُ الحَكَمَيْنِ باقٍ إلى يومِ القيامةِ، لم يُرْفَع حُكمُهُ ولا فُسِخَ أَمْرُهُ. باب يمينِ الرَّجُلِ بِطَلاقِ ما لم يَنْكِحْ الفقه في تسع مسائل: المسألةُ الأوُلى (¬1): "فيمن حَلَفَ بِطَلاقِ امْرَأَةٍ قَبْلَ أنّ يَتَزَوَّجَهَا" (¬2) يريد إن أضَافَ الطَّلاقَ إلى النِّكاحِ، وأمّا إذا لم يضفه فإنّه لا يلزم، مثل أنَّ يقول لأجنبية: أنت طالقٌ، ثمّ يتزوَّجها، فهذا لا خلافَ أنّه لا يلزمه شيءٌ. قال ابن حبيب: هذا مجتمعٌ عليه، وإنّما يلزم إذا قال: إنَّ تزوّجتُك فأنت طالق. المسألة الثّانية (¬3): فإذا أضافَهُ إلى النِّكاح، فالّذي ذهب إليه مالك وأبو حنفية (¬4)؛ أنَّ ذلك يلزمه في التّعيين. وقال الشّافعيّ: لا يلزمه شيءٌ من ذلك (¬5). وقد روى ابنُ وَهْبٍ عن مالك؛ أنَّه أفتى رجُلًا حَلَفَ بذلك، أنّه لا شيءَ عليه إن ¬
تزوّجها، قاله ابن وَهْب (¬1). المسألة الثّالثة (¬2): ولو قال: كلُّ امرأةٍ أتزَوَّجُها إِلَّا فلانة طالقٌ، فإن كانت الّتي استثنى زوجته (¬3)، قال ابنُ القاسِم: يلزمه، وكأنَّه قال: مَعَكِ، بخلاف إذا لم تكن تحته. قال محمّد: لا شيءَ عليه في الوَجْهَينِ، رُويَ نحوه عن ابن القاسم (¬4). والَّذي يقول: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُ إِلَّا فلانة طالقٌ، اختلف فيه مالك وأصحابُهُ، فَرَوَى عنه المصريّون ألَّا شيء عليه كمن عمَّ (¬5). وكذلك إذا استثنى ذات زوج؛ لأنَّه راجٍ أنّ تتخلّى من الزّوج فيتزوَّجُها، وكذلك لو ¬
تزوَّجَها فطلَّقَها البتَّةَ للزمته اليمين، إِلَّا أنّ يتزوّجها في عِدَّةٍ، فتحرمُ عليه تحريمًا مؤبَّدًا. وقال مُطَرِّف: إنَّ كانت ذات زوجٍ، أو تزوَّجَها فَأبَتَّها, لم تلزمه اليمين، ولو طلَّقَها طلقةً أو طلقتين لزمته اليمين. المسألة الرّابعة (¬1): ومن قال: كلُّ ثَيَّبٍ أتزوَّجُها طالقٌ، ثمّ قال: كلُّ بِكرٍ أتزوَّجُها طالقٌ، فرَوَى عيسى عنِ ابنِ القاسمِ؛ أنَّه لا تلزمُه الثّانية (¬2). ورَوَى ابنُ وهبٍ عن مالك: تلزمُه اليمينان (¬3). فرعٌ (¬4): ومن حَلَفَ ألَّا يتزوّج بالإسكندريَة، فلا يخلو أنَّ ينويها وعملها (¬5)، أو ينويها خاصّة، أو لا ينوي شيئًا، فإن نواها لزمه ذلك، وإن نواها خاصّة ففي "كتاب ابن حبيب" (¬6): إنَّ نَوَى الحاضرة لزمه فيمن على مسافة الجمعة. قال ابنُ كنانة وابن الماجِشُون وأَصْبَغ قالوا: وإن لم ينوِ شيئًا لزمه في مسيرة يومٍ حتّى يجاوز أربعين ميلًا حيث يمكن تقصير الصّلاة. المسألة الخامسة (¬7): ومن حَلَفَ بطلاقِ من يتزوّجها بالمدينة، ففيإ "العتبيّة" (¬8) عن ابنِ القاسم: لا بأسَ ¬
أنَّ يُوَاعِدَ بالمدينة ويعقد نكاحها بغيرها. ووجهُ ذلك: أنَّ المُرَاعَى عقد النّكاح، فإذا انعقدَ بغيرها فلا حِنْثَ عليه (¬1). المسألةُ السّادسةُ (¬2): فيمن حَلَفَ بطلاقِ من يتزوّجها من أهل مصر، فتزوَّجَ مَنْ أبوها مصريٌّ وأمّها شاميّةٌ، قال ابن أبي حازم (¬3): يَحنثُ، والولد تبعٌ للأبِ دونَ الأُمِّ. المسألة السّابعة (¬4): ومن حَلَفَ فقال: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها حياتي فهي طالقٌ، لم يلزمه شيءٌ. ولو ضَرَبَ أجلًا، فقد رَوَى ابنُ حبيب عن ابنِ الماجِشُون (¬5): إن كان ممّن يُشبه أنّ يعيش إلى ذلك الأَجل لزمه، وإلّا لم يلزمه، والتَّعميرُ في ذلك تسعونَ سنة. وقال محمّد (¬6): العشرون سنة كثير يتزوّج. وقال مالك: لا يتزوّج فيها (¬7)، إِلَّا أنَّ يخاف العَنَتَ. فرعٌ (¬8): ومن قال لامراته: أنتِ الطّلاق (¬9)، يلزمُه ذلك على ما قال، ولا خلافَ فيه إذا وقع على هذا الوجه. وقوله: كُلُّ امْرَأَةٍ أَنْكِحُهَا طَالِقٌ (¬10)، لا يلزمه (¬11). ¬
ولو حَلَفَ بطلاقِ امراتِهِ إنَّ تزوَّجَها، ثمّ حَلَفَ إنَّ تزوّج تميميّة فهي طالقٌ، وتلك المرأة من تميم، فتزوَّجَها، فقال محمّد: يقعُ عليها طلقتان. ووجهُهُ: أنَّ اليمينَ الأوَّلَ غير الثّاني، فلمّا حَنَثَ بهما لزمه طلقتان (¬1). وعلى قول أشهب: لا يلزمُه غير طلقة؛ لأنّها يمينٌ متكَرِّرَةٌ في عين واحد. المسألة الثّامنة: وأمَّا طلاقُ السّكْران، فواقعٌ بإجماعٍ من المذهبِ (¬2)، وكذلك إذا بلغ إلى حالةٍ لا يعقلُ فيها، إلّا عند ابنِ عبدِ الحَكَمِ فإنَّه قال: لا يقعُ طلاقُه إذا لم يعقِلْ. وأمَّا طلاقُ المُكْرَهِ، فإنَّه لا يلزمه عندنا (¬3)، خلافا لأبي حنيفة (¬4). وعلى ذلك دليلان: أحدهما: قول النّبي عليه السّلام: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَاُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ" (¬5). وهو ضَعِيفٌ. والدّليلُ الثّاني -وهو قول أبي حنيفة-: إذا حَلَفَ الرَّجُلُ مُكْرَهًا أنّه لا يلزمه شيءٌ, فخالَفَ أصلَهُ في هذه المسألة. المسألة التّاسعة: في طلاق الهازل قال الإمامُ: لستُ أعلمُ خلافًا في المذهبِ في لزومه (¬6)، وإنَّما اختلف قول مالك ¬
باب الأيمان بالطلاق
في نكاح الهازل، فقال عنه أبو زيد (¬1): لا يلزمه، والمسالةُ عويصةٌ جدًّا (¬2). باب الأيمَان بالطّلاق (¬3) الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬4): في رَجُلٍ حلَفَ بالطّلاقِ لامرأته ألَّا يُخرِجَها من منزِلِهَا إِلَّا برِضَاها وَرِضَا أخيها وأختها، فرضيتِ المرأةُ أنَّ تخرُجَ مع زوجِهَا، وأَبَى الأخُ والأختُ، وقالت المرأةُ: إنَّما أخَذتُما هذا لي، قال: لا تخرج معه إِلَّا باجتماعهم على الرِّضا. قلنا له: فإن أرادت أنَّ تخرج زائرة وتقيم العشرة والعشرين؟ فقال: إنَّ كان إنّما كان أصل نيَّته على النّقلة فلا شيءٍ عليه في الزّيارة، وإن كان لم ينوِ شيئًا فلا تخرج. المسألةُ الثّانية: مَنْ حلَفَ بالطّلاقِ ألَّا تخرج امرأته من الدّارِ سنة، فجاء سَيْلٌ فخرجت إلى دارٍ ¬
أخرى، قال: لا أرى عليه شيئًا إذا رجعت إلى دارها بعد زَوَالِ السَّيْلِ (¬1)، فإن خرجت بعد رجوعِهَا فهي طالقٌ. المسألة الثّالثة: فيمن حلفَ بالطّلاق، فقال لامرأته: أنت طالقٌ إنَّ خَرَجتِ، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المسألةُ الرّابعة: ذَكَرَ مالكٌ في الّذي يشتري ثوبًا لامرأته فكرهته، فحلف ألَّا تلبسه، فردّه .... ... ... فلبسته. فقال مالك: هو حانِثٌ، إِلَّا أنَّ يكونَ نوى أو أراد ألَّا تلبسه من ماله، وإلّا فهو حانثٌ (¬2). المسألةُ الخامسةُ (¬3): قال ابنُ القاسم في رَجُلٍ قال لامرأته: إنَّ مكَّنْتِنِي من رأسكِ أَحْلِقْهُ، أو قال: إن مَكَّنَتِني من حَلْقِ رأَسِكِ فحلَقْتُه فأنتِ طالقٌ، فَأَمْكَنَتْهُ فلم يحلِقْ، قال: امرأتُه طالقٌ. قلت: فلو أراد أنَّ يحلق بعد ذلك وأَمْكَنَتهُ امرأته، قال: ينفعُهُ ذلك وقد حَنِثَ. وقال ابنُ وهبٍ مثله. المسألة السّادسة: قال الرَّجلُ لامرأته: أنتِ طالق يوم يجيء أبي، فإنَّه يمسّ امراته حتّى يجيء أبوه، ¬
فإن جاء أبوه طلقت عليه (¬1). المسألة السّابعة: سُئلَ عن العبدِ يقولُ: كلُّ امرأةٍ أتزوّجُها مادمتُ عبدًا فهي طالقٌ، أو يقول: كلُّ امرأةٍ أتزوّجها في أرضِ الإسلام فهي طالقٌ. أو الحرُّ يقول: كلُّ حُرَّةٍ أتزوّجُها ما دمتُ حرا فهي طالقٌ، فإن ذلك يلزمُه؛ لأنّ ذلك أجلٌ بمنزلة الّذي يقول: كلّ امرأة أتزوّجها ما كانت أمِّي حيّة فهي طالقٌ، فهي على مِثْلِ ما قال؛ لأنّ ذلك أجلٌ، فهو بمنزلته وأشدّ. فإن قلت: إنَّ ذلك قد حرَّم النّساء كلهنّ ما دام عبدًا، فليس له أنّ يحرّم النّساء جميعًا. المسألة الثّامنة (¬2): قيل لأشهب: الرّجل الّذي يقول للرّجل: احلف لي بالطّلاق، فيقول له: الحلال علىَّ حرامٌ، ويُحَاشِي امرأته، فقال: لا شيءَ عليه. وفي رواية أَصْبَغ أنّها البتَّة. المسألة التّاسعة (¬3): وفي الرّجل الّذي يقول لامرأته: أنت طالق أربعًا إِلَّا ثلاثًا، فهي ثلاثٌ. (¬4) لو قال: أنت طالق مئة طلقة إلّا تِسْعًا وتسعين، فهي ثلاثٌ (¬5). ¬
باب أجل الذي لا يمس امرأتة
المسألة العاشرة: في الرَّجلِ يقول لامرأته: أنت طالقٌ إنَّ شئتِ، فقالت: قد شِئْتُ إنَّ شاءَ فلانٌ، فيوجد الرَّجُلُ قد مات، فلا شيءَ في قولِ ابنِ القاسمِ (¬1). والكلامُ في هذا النّوع من الفروع كثيرٌ جدًّا. باب أجَلِ الّذي لا يَمَسُّ امرأتَةُ الفقه في ثمان مسائل: المسألةُ الأُولى: قال الإمام: الّذي لا يَمَسُّ امرأتَهُ على ضربين: 1 - ضربٌ لا تُرْجَى إفاقته. 2 - وضرب تُرْجَى إفاقَتُهُ. فأمّا الّذي لا يُرْجَى صَلَاحُه ولا إِفاقتُهُ، فزوجتُهُ بالخِيَارِ في أنّ تبقَى معه أو تُطَلَّق عليه. والّذي يُرْجَى صَلاحُهُ وإفاقتُهُ، فيضرب له أَجَلُ سَنَةٍ، فإن برأَ وإلا طُلِّقت عليه، وإنَّما يُضْرَبُ له سنة؛ لأنّ في السَّنَّةِ أربع فصول: حَرٌّ وبردٌ، وربيعٌ وخريفٌ، فإن خرجتِ السَّنَةُ، عُلِمَ أنَّه ليس ذلك من الهَوَاءِ، وإنَّما هي عِلَّةٌ لا حيلةَ فيها، فإن تَمَّتِ السَّنَّةُ, وتَعَاوَنَا على الوطءِ فيها، فإنَّه يثبت نكاحُهُ معها ولو مرَّة واحدة. وإن قالت المرأةُ: لم يطأ وقال الرَّجل: وطِئتُها، ففيها روايتان: إحداهُما: أنَّ القولَ قولُه مع يمينه. الثّانية: رواها الوليدُ بن مسلم عن مالك (¬2): أنّه يدخلُ معها في بيت ليطأَهَا ثمَّ يخرج، فيدخلُ القوابل عليها، فإن وُجِدَ المنيُّ في فَرْجِهَا عُلِمَ أنَّه وَطِئَهَا، وإن لم يوجَد مَنِيٌّ طُلِّقت عليه. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قولُه (¬2): "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا" ظاهِرُهُ أنّه معترضٌ عنها ظَنَّ أنَّه يستطيعُ فاعترضَ؛ لأنّ المَجْبُوبَ لا يستعمل ذلك فيه، إِلَّا أنَّ يكونَ بمعنى أنَّه ظهر إلى الزّوجة ذلك منه، والمُؤَثِّر في منع الوطءِ. قال ابنُ حبيب: الاعتراض والعُنَّةُ والخِصَاءُ والجَبُّ. وقال عبد الوهّاب (¬3): هي أربعة أشياء. قال ابن حبيب: "والمعترض" هو بصفة من يأتي النِّساء، وربما جامعَ بعضهُنَّ واعترض عن بعضٍ. قال: "والعِنِّينُ" الّذي لا ينتشر ذَكَرُهُ ولا ينقبِضُ ولا ينبسطُ. و"الحَصُورُ" -تفَرَّدَ ابن حبيب بذِكْرِه- هو الّذي خُلِقَ بغيرِ ذَكَرِ أو بذَكَرٍ كالذَّرّةِ. وقال عبد الوهّاب (¬4): "العِنِّينُ" الّذي له ذَكَرٌ صغيرٌ لا بمكنه الجِمَاع به. المسألة الثّالثة (¬5): وأمّا الخَصِىُّ والعِنِّينُ والمجبوبُ، فمن أَقَرَّ منهم بحاله، فللزّوجة الخيار في فُرْقَتِهِ دونَ ضربِ أجلٍ؛ لأنَّه لا يُرْجَى بُرْؤُهُ. المسأله الرّابعة (¬6): ومن أنكرَ منهم ذلك، فقد قال ابنُ حبيبٍ في الحَصُورِ والمَجْبُوبِ المقطوع الذَّكَرِ: ¬
يُخْتَبَرُ بالجسِّ على الثّوب. والّذي عندي فيه: أنَّه إذا كان غير مُصَدَّقٍ فيه، وكان للنّساء أنَّ ينظرن إلى الفَرْج فيما يصدَّق فيه النِّساء، جازَ للشُّهودِ أنّ ينظروا إلى هذا (¬1)، وهو أبين في الشّهادة وأبعد ممّا يُكْرَه. المسألة الخامسة (¬2): قال علماؤُنا: وبالجملةِ، فإن للمرأةِ أنّ ترد الرّجل فيما يردُّها به، مثل: الحَصُور، والعِنِّين، والخَصِىِّ، والجُنون، والجُذام، والبَرَصُ إذا كان به قَبْلَ العَقْدِ، وأمّا إذا حَدَثَ بعدَ الدُّخولِ بها، فإنَّه يضرب أجل البرءِ سَنَة. المسألة السّادسة (¬3): فإذا فُرِّقَ بينهُما بعدَ الأجلِ، ففي "الموّازية" مِنْ رواية أَشهب عن مالك: إنَّ ضرب لها الأجل بُقرب البناءِ، فلها نصف الصَّدَاق. وقد قال مالك مرَّةً أخرى: لها جميعه (¬4)، وبه أخذ ابنُ القاسم. المسألة السّابعة (¬5): قولُه (¬6) في "الّذي قَدْ مَسَّ امْرَأَتَهُ" هو كما قال، إنَّ مَسَّ امرأته ولو مرّة، ثمّ اعترض عنها، فإنّه لا يُضْرَب له أجلٌ، ولا يُفرَّق بينهما، وعلى هذا فقهاء الأمصار، غير أبي ثَوْرٍ فإنّه قال: يُؤجَّل، وهو مَحْجُوجٌ بالإجماع قبلَهُ، ولأن الملامسة الواحدة يكملُ بها الصَّدَاق، فيبطل بها حكم الاعتراض؛ لأنّها بمنزلة استيفاءِ الاستمتاعِ أجمع إذا مَنَعَ منه في المستقبلِ عُذْرٌ، كما لو مات أحد الزّوجين. ¬
باب جامع الطلاق
باب جامع الطّلاق قولُه (¬1):"لِرَجُلٍ من ثَقِيفٍ" يُرْوَى أنَّه غَيْلان بن سَلَمَة الثَّقَفِي الّذي أسْلَمَ وعندَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَمْسَكَ أربعًا، وفارق سائِرَهُنَّ (¬2)، ولم يحدّ له الأوائل ولا غيرهنَّ. الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأولى (¬3): غيلانُ الثَّقَفِىُّ أسْلَمَ وعنده عَشْرُ نِسْوَةٍ، فقال له النّبيّ -عليه السّلام-:* "أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " (¬4) وهذا من مُرْسَلَاتِ ابنِ شهاب (¬5)، وأسنَدَهُ غيرُه (¬6)، وكذلك أسْلَمَ فيروزُ الدّيلمىُّ وتحته أختان، فقال له النَّبىُّ عليه السّلام*: "أَمْسِكْ إِحْدَاهُمَا وَفَارِقِ الأُخْرَى" (¬7) وهذا نَصٌّ في المسألتين، وبه قال الشّافعي (¬8)، وخالفه أبو حنيفة (¬9)، فقال في الزّوجات: يُمْسِكُ الأوائلَ ويُفارِقُ الأواخرَ. وفي الأختين يَفْسَخُ نِكاحَ المتأخِّرةِ. فلو ¬
عَقَدَ نكاحَهما معًا فسخ ذلك النِّكاح، والنَّبيُّ عليه السّلام أطلقَ القولَ لغَيْلَانَ وفيروزَ، ولم يستَفْصِلْ عن الأوائلِ والأواخِرِ، ولا عن الجَمْعِ في عَقدٍ ولا تفريقٍ، ولو كان الحكمُ يختلفُ في ذلك لاستفصَلَ. ومِنْ أمْلَحِ النّاسِ عبارةً في ذلك ما أَصَّلَهُ أبو المعالي في هذا الحديثِ وأمثاله، فقال (¬1): تَرْكُ الاسْتِفْصَالِ في حِكَايَاتِ الأَحْوَالِ مَعَ الاحْتِمَالِ بمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ في الْمَقَالِ كَحَدِيثِ غيلَانَ. وأدخل مالكٌ في البابِ أحاديث كثيرة منها حديث عمر (¬2). المسألة الثّانية (¬3): قال علماؤُنا (¬4): حديثُ غَيْلَان هذا مبنىٌّ على أنَّ نكاحَ الكُفّارِ فاسدٌ لعدم شروط الصّحة، لكن إذا كان معنى الفساد يفارق العَقْدَ، فذلك يُصَحِّحُهُ الإسلام،* فإن كان يبقى بعد العَقْدِ وأدركه الإسلام، بَطَلَ النِّكاح، وإن انقضَى قبل الإسلام، صحّحه الإسلام*, وذلك أنّ ينكحها في عِدَّتها ثمَّ يسلِم وهي في عِدَّتها، فقال ابن القاسم: يَنْفَسِخ. وقال أشهب: إنْ أسلم بعد إنقضاء عِدَّتها ثبتَ النِّكاحُ (¬5). ¬
فرع (¬1): ومَنْ أسلمَ وعندَهُ عَشْرٌ أَسْلَمْنَ، فلم يختر حتَّى ماتَ؛ قال محمّد: سمعتُ من قال: إنَّهُنَّ يرثن الثُّمنَ مع الوَلَدِ والرُّبعَ مع عَدَمِه، ومن دخل بها منهُنَّ فلها صداقُها، ومن لم يَبْنِ بِها خُمُس صداقها؛ لأنَّه لم يكن عليه إنَّ لم يدخل بهنّ إِلَّا صداق أربع يقسم بينهنَّ. المسألة الثّالثة (¬2): في شرح حديث عمر بن الخطّاب (¬3)؛ في أنَّ الرّجل إذا طلّق زوجَهُ ما دون الثّلاثِ، فَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثمَّ عادت إليه، أنّها تَعُودُ إليهِ بِمَا بَقيَ من طلَاقِهِ، ولا يَرفَعُ الزَّوْجُ الثَّانِي الطَّلْقَةَ والطَلْقَتَينِ اللّتين تقدَّمَتَا له، وهذه المسألةُ تُسَمَّى مسألةَ الهَدْمِ. قال علماؤُنا: ليس الزَّوجُ الثّاني بالهادِم. وقال أبو حنيفة (¬4): الزّوجُ الثّاني كما يَهْدِمُ الثّلاثة يهدم الواحدة والاثنين. وقال أشياخُنا: الهادِمُ هو الّذي يطلِّقُ امرأتَه تطليقةً أو تطليقتين، ثمّ يزوِّجَها آخر فيطلِّقها، فعندنا أنّها ترجع إلى الزّوج الأوّل بطلقةٍ واحدةٍ، خلافا لأبي حنيفة. وذلك أنّه يقول: الزّوجُ يهدِمُ الثّلاث ويحلّ الزّوجة بعد أنَّ حرمت، فَأَحْرَى وَأَوْلَى أنَّ يهدِم الاثنتين والواحدة. قال الإمام: ولسنا نعلم أنَّ الزوج يهدم الثّلاث، وإنّما هو نهاية التّحريم الّتي ينتهى تحريم إليه. مثال ذلك قولُه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬5) فاللّيلُ نهايةُ الصَّومِ وليس بمُبْطِلِهِ, وكذلك الزّوجُ نهاية التّحريم وليس بمُبْطِلِهِ، وقد حقّقنا ذلك في "المسائل" فَلْيُطْلَبْ فيها. ¬
باب عدة المتوفى عنها زوجها
باب عِدَّة المتوفّى عنها زوجها قال الإمامُ (¬1): رُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاسِ (¬2) أنّه قال: إنّها إنْ كانت حاملًا، فإن عِدَّتَهَا آخِرُ الأَجَلَيْنِ. وقال عامَةُ النّاسِ: إنَّ وَضْعَ الحَمْلِ مُبرِىءٌ لها. والعُمدةُ فيه: حديثُ أمِّ سَلَمَةَ (¬3)، وَلَدَتْ سُبَيعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وفاةِ زوجِهَا بِلَيَالٍ، - وفي روايةٍ: بِنِصْفِ شهرٍ (¬4) - فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا شَابٌ, وَالآخَرُ كَهْلٌ. فَحَطَّتْ إِلَى الشَّابِّ، فَقَالَ الشَّيخُ: لَمْ تَحِلّ بَعْدُ، وَكَانَ أَهْلُهَا غُيِّبًا، وَرَجَا إِذَا جَاءَ أَهْلُهَا أَنْ يُؤْثِروُهُ بِهَا، فَسَأَلَتْ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهَا: "قَدْ حَلَلْتِ، فانْكِحِي مَنْ شِئْتِ" وهذا دليلٌ لا غُبَارَ عليه، يَنْبَنِي على أصلٍ من أصولِ الفقهِ، وهو تخصيصُ عُمُومِ القرآن بخبرِ الواحدِ (¬5)، بَيَّنَ النّبيُّ عليه السّلام قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬6) وأنّ قولَهُ عزّ وجلّ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬7) إذا لم تكن حاملًا، ولعلَّ ابنَ عبّاسٍ لم يَعْلَمْ ذلك (¬8) أو رَجَعَ إليه حين عَلِمَ به (¬9)، وله في ذلك كلامٌ غامضٌ يتعلَّقُ بالسُّكنَى ¬
باب المتوفى عنها زوجها حتى تحل
للمُعْتَدَّةِ، وذَكَرَهُ البخاريُ في"كتاب التفسير" (¬1)، وبَسَطْنَا شيئًا منه في "كتاب أحكام القرآن" (¬2). المسألة الثّانية: عِدَّةُ المتوفَّى عنْها زوجُها, لا يخلو أنَّ تكون حاملًا أو غير حامل، فإن كانت غير حامل فعدَّتها أربعة أشهر وعشر. والدّليلُ عليه قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} الآية (¬3). وإن كانت حاملًا فعِدَّتُها وضعُها، وقال ابنُ عبّاس: عِدَّتُها آخر الأَجَلَيْنِ؛ لأنَّه لم يبلغه حديث سُبَيْعَة، ولاشكَّ أنّ ابنَ عبّاسٍ رَجَعَ عنه. وعِدَّةُ المتوفَّى عنها زوجُها إذا كانت غير حامل أربعة أشهرٍ وعشرَا، فهذه حيضةً واحدةٌ، وإن لم تر ... حيضة فعِدَّتُها تسعة أشهر. وأمّا أُمّ الوَلَد، فإنّها تستبرىءُ بحَيضةٍ (¬4)؛ لأنّ حُكْمَها حكم الأَمَة (¬5)، وبحديثِ سُبَيْعَة أَخَذَ علماءُ الأمصارِ. باب المُتَوَفَّى عنْها زوجُها حتّى تَحِلَّ قال الإمامُ: ذكرَ مالك في هذا الباب حديث: الفُرَيْعَة بِنْت مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ (¬6)، وَأنَّهَا ¬
سَأَلَتِ النَّبِيَّ عليه السّلام لَمَّا قُتِل زَوْجُهَا، وَذَكَرَت أنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ عليه السّلام: "اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ"، ثُمَّ نَادَاهَا فَقَالَ لَهَا: "كَيْفَ قُلْتِ"؟ قَالَتْ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ لَهَا: "اعْتَدِّي في بَيْتِ زَوْجِكِ" الحديثُ في هذا الباب حَسَنٌ صحيحٌ (¬1). قال علماؤُنا: يحتملُ أنّ يكون اجتهادًا من النَّبِيَّ عليه السّلام على من يَرَى جوازَ الاجتهادِ منه - صلّى الله عليه وسلم -، ثُمَّ نزلَ عليه الوحيُ بخلافِ اجتهادِهِ. ويحتملُ أنَّ يكون أَفْتَى بوحيٍ، ثمَّ نُسِخَ بوحىٍ آخرَ؛ لأنّ الحُكْمَ يُنْسخُ عندَ أهلِ العلّمِ قبلَ الحُكْمِ به، واللهُ أعلمُ. الفقه في ثمان مسائل: المسألةُ الأُولى: أمَّا عِدَّتُها في بيتها، فلا يخلو الزّوج أنّ يكون يملك رقبة المَسْكَنِ، أو لا يملك؟ أو يكون كراءًا، فإن كان لزوجها اعتدَّت فيه بالإجماع من المذهب. كان كان كراءًا، فإن كان غير بيتها، فلا يخلو الزَّوجُ أنّ يكون نَقدَ أو لم ينْقُد، فإن نَقَدَ الكراء سكنت إلى أنّ يتمَّ ذلك النَّقْد، فإن بَقِيَ من الكِرَاءِ عند الّذي أَخَذَهُ رجعَ الورثةُ فيه وكان ميراثًا بينهم، فإن لم يَنْقُد، فإنها تخرج من البيتِ أو إلى الدَّارِ، إِلَّا أنَّ تؤَدي الكراء، فإن لم تُؤَدِّ الكراءَ أُخْرِجَت (¬2). ¬
المسألةُ الثّانيةُ (¬1): وهل يجوزُ بيع الدّارِ الّتي تعتدُّ فيها، فالّذي عليه الجمهورُ من علمائنا أنَّ ذلك جائزٌ ويشترط فيه العِدَّة. قال ابنُ القاسمِ: لأنَّها أحقُ بالسُّكْنَى من الغُرَمَاءِ (¬2). وقال ابنُ عبد الحَكَم: البيعُ فاسدٌ؛ لأنَّها قد ترتابُ (¬3). فإن وقعَ البيعُ بالشّرط فَارْتابت، فقال مالك في"كتاب محمّد": هي أحقُ بالمقام وأحبُ إلينا أنّ يكون المُشْتَرِي بالخِيَارِ في الفَسْخِ والإمضاءِ، ولا يرجع بشيءٍ؛ لأنَّه دخل على العِدَّةِ المعتادة. ولو وقعَ البيعُ بشرطِ زوالِ الرّيبة كان فاسدًا (¬4). وتال سحنون: لا حُجَّةَ للمشترِي وإن تَمَادَتِ الرّيبة إلى خمس سنين؛ لأنَّه دخلَ على العِدَّة، والعِدَّةُ قد تكونُ خمس سنين (¬5)، ونحو هذا روى أبو زيد عن ابن القاسم. قال الإمام: وهذا عندي على قولِ من يرى للمُبْتَاعِ الخِيَار، وأمّا على قول من يلزمه ذلك، فلا تأثيرَ للشَّرْطِ. المسألةُ الثّالثة (¬6): لأنَّ كان السُّكْنى غير مقدَّر، مثل أنَّ يسكنها حياته، ثمَّ هي خبْسٌ على غيره بعدَهُ، ¬
فمات، فقال مالك: لا أَرَى للّذي صارت إليه أنّ يخرجها، وكذلك قال ابنُ القاسمِ في زوجة الأميرِ يموتُ وهي في دار الإمارة. ووجه ذلك: أنَّ الإسكان لمَّا تضمَّنَ الحياةَ إلى حينِ وفاتِهِ، تضمَّنَ ما يَلْزَم من الإسكان بعدَ الوفاةِ، وأمَّا من أسكن مدّة مُقَدَّرَة، فلم يتضمَّن إسكانه ذلك؛ لأنّ هذه المدَّة يصحُّ أنَّ تنقضِي في حياته، والله أعلمُ. المسألة الرّابعة (¬1): المتوفى عنها زوجها لا نَفَقَة لها كان كانت حاملًا. قال عبدُ الوهّاب (¬2): لأنّ نفقةَ الحَمْلِ ليست بدَينٍ ثابتٍ فيتعلَّق بمالِهِ بعدَ موتِهِ، بدليل أنَّه يسقط بالإعسار، وسقوطه بالموت أَوْلَى. المسألة الخامسة (¬3): ومَنْ ماتَ أو طلَّقَ مَنْ تعتدُّ بالشُّهورِ، فقد رَوَى محمّد عن مالك؛ أنّها تعتدُّ إلى مثل السّاعة الّتي مات فيها أو طلّق فيها (¬4)، ثمّ رجع فقال: تلغي ذلك (¬5)، وتُحْصِي ما بَقِيَ من الشَّهرِ، وتحسب بعد تمامه بالأهلّة في الوفاة ثلاثة أشهر، وتتمّ بقيّة الأوّل ثلاثين يومًا، كان تامَّا أو ناقصًا، ثمّ عشرة أيّام. المسألةُ السّادسةُ (¬6): وعِدَّةُ الوفاة تلزم الحُرِّة والأَمَة، والصَّغيرة والكبيرة، والّتي حاضت واليائسة، دخلَ بها أه. لم يدخل، وعِدَّةُ جميعهنْ أربعة أشهر وعشر، إِلَّا الأَمَة فعِدَّتُها النّصف إنَّ ¬
كانت ممّن تحيض، فإن كانت ممّن لا تحيض، فقد قال مالك: عِدَّتُها ثلاثة أشهر (¬1). قال أشهب: إِلَّا أنّ يؤمن من مثلها العمل فتستبرأ بشهرين وخمس ليال. وَرَوَى محمّد عن مالك أنَّ عِدَّتَها شهران وخمس ليالٍ إن برئت في ذلك الوقت بحيضتها فحاضت، وإذا لم تَبرَأْ فَعِدَّتُها ثلاثة أشهر. المسألة السّابعة (¬2): المتوفّى عنها زوجُها * تحضر العُرْسَ، ولا تلبس ما لا تلبسه الحادّ، ولا تبيت إلّا في بيتها *. فإن كانت غير مدخولٍ بها اعتدّت حيث كانت تسكن (¬3)، قاله ابن القاسم. وكذلك الأَمَةُ المتوفَّى عنه زوجُها، تعتدُّ (¬4) حيث كانت؛ لأنّ موضع المَبِيتِ هو موضع السُّكْنَى، ولذلك كان معنَى المَبِيت هو معنى السُّكْنَى إذا كان مبيتًا متواليًا على وجهِ الاستقرارِ لا على وجهِ الزِّيارةِ. وإذا ماتَ سَيَّدَ الأمَةِ أو أعتقت، فإنَّ ابن القاسِمِ لا يَرَى لها السُّكْنَى. المسألة الثّامنة (¬5): قال علماؤُنا (¬6):"وَلَا تَبِيتُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا الْمَبْوتَةُ إِلَّا في بَيْتِهَا" (¬7) يريدُ ¬
باب عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها
مسكَنُها، فإن كان واحدًا فهي على ما كانت فيه، وإن كان في حُجْرَتِها بيوتٌ وكانت (¬1) في بيتٍ منها وفيه كان متاعُها، قال مالك (¬2): لا تَبِيتُ إلّا في بيتها أو اسطوانتها وحجرتها، لها أنّ تبيت من ذلك حيث شاءت. ولم يأت في مَبِيتِ المُعْتَدَّةِ في بيتها حديثٌ، لكنّه مضَى عليه العمل، وإنّما أتتِ الأحاديث في النَّهيِ عن الانتقالِ، والفروعُ في هذا البابِ كثيرةٌ جدًا، أصولُها ما أَمْلَيْنَاهُ عليكم. باب عِدَّةِ أمّ الوَلَدِ إذا تُوُفَّي عنها سَيِّدُها الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأُولى (¬3): "إِنَّ يَزِيدَ فَسَخَ نِكَاحَ أَمَّ وَلَدٍ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدّ" (¬4) لعلَّه أخذ بقولِ ابنِ المُسيِّب والزُّهريّ وعمر بن عبد العزيز (¬5)؛ أنَّ عِدَّتها أربعة أشهر وعشر، ورَوَى ذلك قتادة عن رجاء بن حَيْوَة عن قَبِيصَةَ (¬6)، وضعَّفَهُ أحمد؛ لأنّ قتادة لم يسمع من رجاء (¬7). ¬
واحتجّ القاسم بالآية (¬1)، وأمّا من لم يتعلّق بذلك، فلا يصحُّ أنّ يحتجَّ عليه بذلك (¬2)؛ لأنَّه يجوز أنّ يثبت الحكم (¬3) من غير الآية بقياس أو غيره. المسألةُ الثّانية (¬4): قولُه (¬5):"إِنَّ عِدًتَهَا حَيْضَةٌ" هو قولُ مالكٍ (¬6)، والشّافعيّ (¬7)، والشّعبيّ (¬8)، وأبِي قلابة (¬9)، وابنِ حنبلٍ (¬10). وقالَ أبو حنيفة (¬11) والثّوريّ (¬12): عِدَّتُها ثلاث حيضٍ، وهو قولُ علىّ (¬13) وابن (¬14) مسعود والنَّخعيّ (¬15). ¬
وقال قتادة وطاوُس: عِدَّتُها نصف عِدَّة الحُرِّة (¬1). ودليلُنا: أنَّ هذه أَمَةٌ موطوءةٌ بمِلْكِ اليمينِ، فكان استبراؤُها بحَيْضَةٍ، أصل ذلك الأَمَة. المسألةُ الثّالثة (¬2): فهذا ثبتَ ذلك، فهل عِدَّةٌ أَمِ استبراءٌ محضٌ؟ فذكر عبد الوهّاب أنّها استبراءٌ (¬3)، وفي "المُدَوْنة" (¬4): "إنَّ أمّ الولد عليها العِدَّة، وعدّتها حيضة كعِدَّةِ الحرائرِ ثلاث حِيَضٍ". فهذا قلنا: إنّها عدّة، فقد قال مالك (¬5): "لا أحبُّ أنَّ تُوَاعِدَ أحدًا لنكاحٍ حتّى تَحِيض". وقال ابن القاسم (¬6):"وبلغني أنّه قال: لا تبيتُ إِلَّا في بيتها". وروى محمّد عن ابن القاسم؛ أنَّ لها المبيتَ في غير بيتها في العِتْقِ والوَفَاة. المسألة الرّابعةُ (¬7): ولو غاب سيِّدُها، فتوفِّيَ بعدَ ما حاضت في غَيْبَتِهِ، لم يُجْزِئها حتّى تعتدّ لوَفَاته، قاله ابنُ القاسم في "المدوّنة" (¬8). وكذلد لو انقضت عدّتها من زوجها، فلم يطأها سيِّدها حتّى توفَّي، فإنّ عليها أنّ تعتدّ بحَيْضَةٍ (¬9). ¬
باب عدة الأمة إذا توفي عنها زوجها أو سيدها
باب عِدَّة الأَمَة إذا تُوُفَّيَ عنها زوجُها أو سيِّدُها الفقه في مسألتين: المسألةُ الأُولى: قال علماؤُنا: عِدَّةُ الأَمَةِ نصف عِدَّة الحُرِّةِ، ولا تنتقل إلى عِدَّةِ الحُرِّةِ وإنْ أُعتقت (¬1)؛ لأنّ الاستبراءَ .... يسبق .... يكون للزّوج على الأَمَةِ ................... وأمّا إذا أعتقت في عدّة ومات زوجُها، فإنّها تنتقلُ إلى عِدَّةِ الحُرِّة (¬2)؛ لأنّها زوجةٌ داخلةٌ تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} الآية (¬3). المسألةُ الثّانيةُ (¬4): قوله (¬5): "عِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ"على ما تقدّم، ولا خلافَ في ذلك، إِلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ سِيرِينَ وليسَ بالثّابت عنه أنَّه قال: عِدَّتُها عِدَّةُ الحُرّةِ (¬6)، وعلى ما قَدَّمْنَاهُ الإجماع، واللهُ أعلمُ. ¬
باب ما جاء في العزل
باب ما جاء في العَزْلِ قال الإمامُ: اختلفَ العلّماءُ في هذا البابِ، هل هو على الكراهيّة أو الإباحة؟ فذهبَ الجمهورُ من علمائِنَا إِلى الإباحةِ. وذهب ابنُ عمر (¬1) وغيرُه (¬2) إلى الكراهية. وقال بعضهم: هو الموؤودةُ الصّغرى (¬3). ولا خلافَ (¬4) بين الأُمَّةِ في جوازِهِ، وانّما كرهَهُ بعضُهم، خصوصًا في الأَمَةِ. فأمّا الحُرِّةُ، فرأى مالكٌ (¬5) ألَّا يعزِلَ عنها إِلَّا بإذنها؛ لأنَّه يرى أنَّ حقَّها في الوَطءِ ثابتٌ مدَّةَ النِّكاحِ. وقال سائر الفقهاء: إذا وَطِءَ الزّوجُ أهلَهُ وَطأَةً واحدةً، لم يكن لها أبدًا حقٌّ في طَلَبِ الوَطْءِ. وهذا ضعيف؛ لأنَّه لو حلف ألَّا يَطَأَهَا، ضُرِبَ له أجلُ أربعةُ أَشْهُرٍ إجماعًا بنَصِّ القرآنِ (¬6)، فإذا تركه مُضَارًّا، فقد وُجدَ معنَى الإيلاء، والأحكامُ كما قدَّمنا إنَّما تَثْبُتُ بمعانِيهَا لا بألفاظٍ فيها، فوجبَ أنّ يكونَ حقُّها في طَلَبِ الوَطْءِ باقيًا في مُدَّةِ النِّكاحِ. فإذا أَذِنَتُ في العَزْلِ جازَ، وان كان فيها قطعٌ بالتَّوَلُّدِ والنَّشْأَةِ، وقد قال النَّبىُّ عليه السّلام: "مَا عَلَيكُنم أنّ لَا تَقعَلُوا" (¬7) والتقدير: كأنّكم تريدون التَّحَرُّزَ ولستم تَقْدِرُونَ على ذلك، "مَا ¬
من نَسَمَةٍ كَائِنَةِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاّ وَهِيَ كَائِنَةٌ" (¬1)، وَ"إنَّ اللهَ إذا أَرَادَ أنّ يَخْلُقَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أنَّ يمْنَعَهُ" (¬2) حَسَنٌ صحيحٌ (¬3)، قويٌّ في البابِ. الفقه في أربع مسائل: المسألةُ الأولى (¬4): قال ابنُ العربي: وللوَلَدِ ثلاثةُ أحوالٍ: 1 - حالٌ قبلَ الوُجودِ ينقطعُ فيها بالعَزْلِ، وهو جائزٌ. 2 - وحالٌ بعدَ قَبْضِ الرَّحِمِ على المَنِيِّ، فلا يجوزُ لأحدٍ حينئذٍ التَّعَرُّضُ له بالقَطْعِ من التَّوَلُّد، كما يفعلُ سَفِلَةُ التُّجَّارِ في سَقْيِ الخَدَمِ عندَ امتساكِ الطَّمْثِ الأدويةَ الّتي تُرخِيهِ، فيسيلُ المَنِيُّ مَعَهُ، فتنقطع اليرلَادَةُ. 3 - الثّالثةُ: بعدَ خَلْقِهِ قبل أنَّ تُنفَخَ فيه الرُّوحُ، وهو أشدُّ من الأَوَّلَين في المنع والتّحريم، لما رُوِيَ فيه من الأثَرِ: "إِنَّ السِّقْطَ ليَظَلُّ مُحْبَنْطِئًا (¬5) عَلى بَابِ الْجَنَّةِ، يقُولُ: لَا أدْخُلُ الجنَّةَ حَتّى يَدْخُلَ أَبَوَايَ" (¬6). ¬
فأمّا إذا نُفِخَ فيه الرُّوحُ، فهو قَتْلُ نَفْسٍ بلا خلافٍ. المسألة الثّانية (¬1): قولُه (¬2): "فَأَصَبْنَا سَبْيًا" يحتمل أنَّ يكون بنو المصطلق، وإن كانوا من العربِ يَدِينُونَ بدِينِ أهلِ الكتابِ، فلذلك جازَ لهُمْ وَطْؤهُنَّ بمِلْكِ اليمينِ والنّكاح، لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية (¬3). ويحتملُ أنَّ يكونوا ممّن يَدِينُ بِدِينِ العربِ، فاستباحوا وَطْأَهُن بعدَ الاسترقاقِ (¬4). المسألة الثّالثة: قوله (¬5): "أَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ" أصلُ الفِدَاءِ قولُه تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬6). فالمَنُّ: العَتَاقَةُ، والفِدَاءُ: أخذُ الفِدَاءِ، ظاهرُه (¬7): أنَّ الحَمْلَ الّذي يترتَّبُ يمنعُ الفداء وهو البيع، ولا يصحُّ أنَّ يُرادَ بالفداء الردّ إلى الأهل، على قولنا: إنهنّ قد أَسْلَمْنَ (¬8)، ومع ذلك فالفِدَاءِ نوعٌ من البيعِ، فدلَّ هذا على أنَّ الحَمْلَ يمنعُ البَيعَ، وعلى هذا جميع الفقهاء أنَّه لا بجوزُ بيع أمّ الولد. ¬
باب القول في الإحداد
المسألةُ الرّابعةُ: قولُ زَيْدِ للحَجَّاجِ: "أَفْتِهِ" (¬1) فيه دليلٌ على فتوى الطّالب بين يدي المعلِّم، فقال الحجّاج: "إنَّمَا هُوَ حَرْثُكَ إنْ شِئْت سَقَيْتَهُ، وإِنْ شِئْتَ أَعْطَشْتَهُ" (¬2) بيانٌ في جوازِ العَزْلِ عن الإماء. وقولُه (¬3):إ مَا عَلَيْكُمْ أنّ لَا تَفْعلُوا" "ما" هاهنا استفهامٌ، وظاهرُ هذا الكلام منع العَزْلِ، إِلَّا أنَّه يخرج منه إباحة العزل (¬4). وصريحُ المذهبِ: أنَّ العَزْلَ جائزٌ في الأَمَةِ، ولا يجوزُ في الحُرِّةِ إِلَّا بإذْنِهَا؛ لأنّ الوَطْءَ والإنْزالَ من حقَّها، فيكون لها استيفاؤه، وكذلك إنَّ كانت الزّوجةُ أمةً، قيل: يستأذِنُها، وقيل: لا يستأذِنُها (¬5). باب القول في الإحداد قال الإمام (¬6): الإحدادُ واجبٌ، وهو حقُّ اللهِ تعالى، أمّا القرآنُ فأفادَ وجوبَ التّربُّصِ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية (¬7)، وأفادتِ السُّنَّةُ الإحدادَ، وهي هيئةٌ في التّربُّصِ، وأَذِنَ لهُنَّ في غيرِ الأزواجِ بثلاثةِ أيّامٍ، لِمَا يَغْلِبُ النِّسوانَ من الجَزَع، وَيَسْتَوْلي عليهنَّ من الكَرْب، وما وراء ذلك حرامٌ في غَير الزَّوجِ، واجبٌ في الزّوجِ، وليس ذلك بزيادةٍ في النَّصِّ، وإنَّما هو تفسيرٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّربُّصِ كما قدّمنا. وقد كان هذا شرعًا لِمَن ¬
كان قَبْلَنَا، وعادَةً في الجاهليَّةِ، وكانتِ المرأةُ تُقِيمُ في الجاهليَّةِ على هذه الحالِ من الإحدادِ سَنَةً، وقد كان الله تعالى أمرَ بمتاعِ التَّربُّصِ حَوْلًا في الآية* الآخِرَةِ، ثمَّ ثبت الَحكْمُ بنَقيِ الآية* الأُولى من الأربعةِ الأَشْهُرِ والعَشْرِ، وهَدَمَ اللهُ تعالى ما كان في الجاهليَّةِ، ونسخَ متاعَ الحَوْلِ بهذه الآيةِ قبلَهَا، واللهُ أعلمُ. وإذا قلنا: إنّه حقُّ اللهِ تعالى، فإنّ الاستبراءِ يقعُ بحَيضَةٍ واحدة. والدّليلُ على أنَّه حقُ للهِ: أنَّ الصَّغيرةَ والتي لم تبلُغ يلزمُها الإحداد، والمقصودُ وجودُ النِّيَّةِ والحقُ، فإن عُدِمَتْ يجبُ استيفاء الحقّ كالزّكاة. وقولُ النَّبيِّ عليه السّلام (¬1) للّتي اشْتَكَتْ عَيْنَيهَا: "قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بالْبَعْرَةِ حَوْلًا" الحديث، على وجهِ التَّغليظِ، والّذي يُقَوِّي أنَّه على التَّغليظِ ما أدخلَهُ مالك من أفعالِ الصَّحابةِ وفِعْلِ أُمَّ سَلَمَة الّتي اشتكَت عَيْنَيهَا، فقال لها النَّبي عليه السّلام: "اكْتَحِلِي بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ". وأمّا الّتي اشْتَكَتْ، فلا يخلو أنّ تكون شَكْوَى تَقْدِرُ على الصَّبرِ معَهُ أم لا؟ فإن قَدَرَتْ على الصِّبرِ لم تَكْتَحِل، وإن لم تَقْدِر اكْتَحَلَتْ؛ لأنَّها ضرورةٌ ودِينُ اللهِ يُسْرٌ. الفقه في تسع مسائل: المسألةُ الأُولى (¬2): قولُه (¬3):"لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَومِ الآخِرِ" يحتملُ أنَّ يكونَ هذا الحكمُ ¬
يَخْتَصُّ بالمؤمناتِ، ويحتملُ أنّ يكونَ على سبيلِ التّرغيب في ذلك، يعني أنَّ هذا لا يتركُهُ من يُؤمِن باللهِ واليوم الآخِرِ، وهذا كقولِهِ عليه السّلام: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" (¬1) واللهُ أعلمُ. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): اختلف قولُ مالكٍ في تَعَلُّقِ الإحداد بالكتابيَّةِ؟ فَرَوَى عنه أَشْهَب: لا إحدادَ عليها (¬3)، وبه قال أبو حنيفة (¬4). وَرَوَى عنه ابنُ القاسِمِ (¬5) وغيره؛ أنَّ عليها الإحداد (¬6)، وبه قال الشّافعيّ (¬7). المسألةُ الثّالثة (¬8): ومن تُوُفّي عن امْرَأةٍ بعدَ البِنَاء، فتبيَّنَ أنَّ نكاحَها فاسدٌ، قال ابنُ القاسم في "المدوِّنة" (¬9): لَا إِحْدَادَ عليها، وَلَا عِدَّةَ، وتَسْتَبْرِىءُ بثلاث حِيَضٍ (¬10)، وهذا عندي في الّتي يُفسَخ نكاحُها على كلَّ حالِ، ولم يثبت بَيْنَهُما شيءٌ من أحكامِهِ. وأمّا الّتي ثبتَ بينهما أحكام التّوارُثِ، فإنّها تعتدُّ ويلزمُها الإحداد. المسألةُ الرّابعةُ (¬11): قولُه (¬12):"إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" وهذا على الإيجابِ لا على الإباحةِ، ¬
فاستثنَى من التّحريمِ الإيجاب، وهذا يقتضي أنَّ لفظةَ "افعل" بعد الحَظْرِ على بابها في الوجوبِ، خلافًا لمن قال من أصحابنا (¬1) وغيرهم (¬2): إِنَّها تقتضي الإباحة، واللهُ أعلمُ. المسألةُ الخامسةُ (¬3): قولُه (¬4): "امْرَأَة" هو عندنا سواءٌ في كلِّ امرأةٍ أو أمَةٍ، صغيرة أو كبيرة، حُرَّة أو أَمَة (¬5)، وبه قال الشّافعيّ (¬6). وقال أبو حنيفة: لا إحدادَ على أَمَةٍ ولا صغيرةٍ (¬7). ودليلُنا قوله: "لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ" الحديث، وقد اتَّفَقْنَا أنَّه على الوجوب، فوجبَ أنّ يُحْمَلَ على عمومِهِ (¬8). المسألة السّادسة (¬9): وقولُه (¬10): "أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيَّتٍ" يقتضي اختصاصه (¬11) بالوَفَاةِ، وقد قال مالك (¬12): لا (حدادَ على مطلَّقةٍ، وبه قال الشّافعيّ (¬13). ¬
وقال أبو حنيفة: عليها الإحداد (¬1)، وُيزوَى عنِ ابنِ المسيِّب وابن سِيرِين (¬2). ودليلُنا: أنَّ هذه مطلَّقَةٌ فلا إحدادَ عليها كالرَّجعيَّةِ. ومعنى الإحداد: الامتناع من الزِّينةِ والطَّيبِ، ويقال منه: أَحَدَّتِ المرأةُ، أي: امْتَنَعَتْ عنِ الطّيبِ والزِّينةِ (¬3). المسألةُ السّابعةُ (¬4): قوله (¬5):"لَا تَلْبَسُ الْحَادُّ شَيْئًا مِنَ الحَلْىِ". قال ابن مزين: سألتُ عِيسى فقلتُ له: من الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ؟ فقال: نعم (¬6). وروى محمّد عن مالك: لا تلبس حليًا وإن كان حريرًا. وبالجملةِ: إِنّ كلَّ ما تلْبَسُهُ على وجهِ ما يُستعمل عليه الحَلْي من التّجمُّل فلا تَلْبَسُه الحادُّ، ولم ينصّ أصحابنُا على الجواهرِ واليواقيتِ والزَّمُرُّد وهو داخلٌ تحت قولِهِ: "وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الحَلْيِ" (¬7). وقولُه (¬8): "وَلَا شَيْءَ مِنَ الْعَصْبِ (¬9)، إِلاّ أنّ يَكُونَ عَصْبًا غَلِيظًا" لأنّ (¬10) رقيقَه بمنزلةِ الثّياب المصبغة. وقال محمْد عن مالك: "لا تلبس الأسود إنَّ كان حريرا"، و"لا شيءٍ بغير الوَرْسِ والزّعفران" (¬11). ¬
وقال عبد الوهّاب (¬1): كلّ ما كان من الألوان يتزيّن به النّساء فلتمتنع منه الحادُّ. المسألةُ الثّامنةُ (¬2): قوله (¬3):"تُحِدُّ الأَمَةُ" وهذا على ما قالَ، خلافًا لأبي حنيفة (¬4)؛ لأنّها مُعْتَدَّةٌ من وفاةٍ كالحُرِّةِ. المسألةُ التّاسعة (¬5): وهذا حُكْمُ أمّ الوَلَد والمكاتَبَة والمُدَبَّرة سواءٌ (¬6). وقال (¬7): "لَيسَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إِحْدَادٌ إِذَا هَلَكَ سَيِّدُّهَا" وهو كما قال؛ لأنَّه ليس عليها عِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها، وإنَّما عليها أنَّ تحيضَ حيضةً بعدّ وفاتِهِ، وهذا له حُكْمُ الاستبراء. وقد قال مالك: إنَّ هلك وهي حائض لم يجزئها, وليس هذا حكم الاستبراء، وإنّما هو حكم العِدَّة، لكن الإحداد مختصٌّ بِعِدَّةِ المتوفَّى عنها زوجُها. تمَّ كتاب الطَّلاقِ ¬
كتاب الرضاع
كتاب الرَّضاع قال الإمامُ (¬1): الأصلُ في هذا الكتاب قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمِّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ}.إلى قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬2). وقولُه عليه السّلام في الصَّحيح: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (¬3) فكان ذلك من قولِهِ - صلّى الله عليه وسلم - بيانَا لِمَا في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ وزيادةً في معناهُ، ودليلًا على أنَّ جميعَ القَرَابَاتِ المُحرَّماتِ بالنَّسَبِ مُحَرَّمَاتٌ في كتاب اللهِ بالرَّضاعِ، وإن كان اللهُ عزَّ وجلَّ لم ينصّ فيه إِلَّا على الأُختِ والأُمّ خاصّة، على ما نُبَيِّنُه إنَّ شاء الله. والكلامُ في الرّضاع يشتمل على أربعة فصولٍ وثلاث مقدِّمات: الأوّل: في معرفة زمان الرَّضاع. الثّاني: في معرفةِ صفةِ الرَّضاعِ. الثّالث: في معرفةِ صفةِ اللَّبَنِ. الرّابع: فيمن يحرمُ بالرَّضاعِ. هذه مقدّمات. المقدّمة الأولى في معرفة شروط الرّضاع وهي ستّة ذكرها أبو محمّد عبد الوهّاب في "التّلقين" (¬4) له: أحدها: وصولُ اللَّبَنِ إلى موضعِ الطَّعامِ والشّراب، من جَوْفٍ المولودِ، من أيِّ المنافِذِ كانَ، في زمان الرَّضاعِ. الثّاني: لبنُ امرأةٍ حيَّةً كانت أو ميِّتَةٌ. ¬
المقدمة الثانية
الثّالث: أنَّ يكون في الحَوْلَيْنِ قبلَ الانفصال، وما قَارَبَ ذلك على أحدِ مذاهبِ أصحابِنَا. الرّابع: أنّ يكونَ اللَّبْنُ مفردًا، لم يختلط بما يغيب فيه فيستهلك (¬1). الخامس: أنَّ يكونَ اللَّبَنُ قوتًا له دون غيره. قال الإمام: هذا ما حكاه الأَيِمّة من المُتَفقِّهينَ، ففيه معانٍ يأتي بيانُها إنَّ شاء الله. المقدّمةُ الثّانية (¬2) اعلم أنَّ الرَّضاعَ حُرْمَة وذِمَّةٌ أَلْحَقَهَا اللهُ بالنَّسَبِ، كما ألْحَقَ حُرْمَةَ المُصاهرةِ به. والرَّضاعُ آكدُ منها؛ لأنّه بعضِيَّةٌ، كما أنَّ حُرْمَةَ النَّسَب من البعضِيَّةِ، ولما كان مُلْحَقًا بالنَّسَبِ، ذَكَرَهُ اللهُ بعده فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمِّهَاتُكُمْ} (¬3) فاستوفَى مُحَرَّماتِ النَّسَبَ، ثمّ ذكَرَ مُحرَّمات الرَّضاع، فقال: {وَأُمِّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية (¬4)، ولم يَزِدْ، واقتصَرَ على الأُمِّ من الأُصول، وعلى الأُختِ من الفروع. أمّا إنّه قد وَرَدَ حديثانِ صحيحان تَمَّمَ بهما النُّبيُّ عليه السّلام معنَى البيانِ، وجاءَ فيهما بموعُودِ الوَعْدِ الصَّادقِ في قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬5)، ورُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب - رضي اللهُ عنه - قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَاكَ تَنَوَّقُ (¬6) في قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ: "وَعِنْدَكُمْ شيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ؟ قُلْتُ: ابنةُ حَمْزةَ، قال: إنّما هيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ لَا تَحِلُّ لِي" (¬7). ¬
المقدمة الثالثة في حقيقة الرضاع التي يتعلق بها التحريم
وَرَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُول اللهِ، هَلْ لكَ فِي أنّ تنْكِحَ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ: أَوَ تُحِبِّينَ ذلِك؟ قال: قُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيّةِ، قال رسولُ اللهِ: إِنَّها لَا تَحِلُّ لِي. فَقَالَتْ: فَقدْ حُدَّثْنَا أَنَّكَ تُرِيدُ أنّ تنْكِحَ بِنْتَ أبي سَلمَةَ. قَال رَسُولُ اللهِ: ابْنةُ أُمِّ سَلَمَة؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّها لَوْ لَمْ تكُنْ رَبيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضاعَةِ أَرْضَعَتنِي وَأَبَا سَلَمَة ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ" (¬1). وكانت ثُوَيْبَةُ جاريةً لأبي لهَبٍ، أرْضَعَتْ رسولَ اللهِ وَحمزةَ وأبا سَلَمَةَ (¬2). وقد رَوَى أهلُ التّاريخِ: أنَّ حمزة كان أكبرَ من النَّبيِّ عليه السّلام بأربع سنينَ (¬3). ورُوِيَ أَنَّه كان أكْبرَ منه بِسَنَتَيْنِ (¬4)، فيَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ رَضَاعُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مع حمزةَ في مُدَّةٍ واحدةٍ، ويَحتَمِلُ أنّ يكونَ في مُدَّتَيْنِ، واللهُ أعلمُ. المقدِّمة الثّالثة (¬5) في حقيقة الرّضاع الّتي يتعلّق بها التّحريم واعلم أنَّ كلَّ فَمَيْنِ تَنَاوَلا ثَدْيَا واحدًا في وقتٍ واحدٍ، أو في وقْتَينِ مختَلِفَينِ، فإنّ المُرضعَ أمٌّ لَهُمَا، وهما أخوان من الرَّضاعةِ. ¬
الفصل الأول في زمان الرضاع
والثّالثُ: أنَّ كلَّ فحلٍ دَرَّ بِهِ لبنٌ ارتضَعْتَه، فكلُّ أختٍ له من النَّسَبِ عمَّةٌ لَكَ من الرَّضاعةِ. والرّابعُ: أنَّ كلَّ ثدْيٍ ارتضَعْتَةُ، فإنّ كلَّ أختٍ له من النَّسبِ خالةٌ لك من الرَّضاعةِ. الخامسُ: أنَّ كلَّ فَمَينِ جَمَعَهُمَا ثَدْيٌ واحدٌ في وقتٍ أو وقتينِ كما تَقَدَّمَ، فإنّ كلَّ بنتٍ للمُجْتمِعِ معَكَ عليه مِن أُنْثَى أو ذَكَر، فإنَّه ابنُ أخٍ لك أو ابنُ أختٍ، فصار لَبَنُ الأمِّ قرآنيا، وصار لَبَنُ الفَحْل بالسُنَّةِ، قَالَتْ عَائشَةُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ عِنْدَهَا، وَإنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأذِنُ. الحديث إلى آخره، قال فيه: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ" (¬1). وهذه الكلماتُ صحيحةٌ، قد ثَبَتَتْ عنِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مُنْفَصِلةً عنه، مَرْوِيَّةً من طُرُقٍ سِوَاهُ، وهو عمومٌ مُتَّفَقٌ عليه، لم يدخُلْهُ تخصيصٌ بإجماعٍ. هذا هو أصلُ الرَّضاعِ المُتَّفَقِ عليه، وفيه خلافٌ كَثيرٌ بينَ العلّماءِ، وتفصيلٌ طويلٌ في الفروعِ، ذَكرَ منه مالك فصلّين: أحدهما: تقدير الرَّضَاع. الفصل الأوّلُ في زمان الرَّضاع وفيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنَّه حَوْلَانِ (¬2). الثّاني: أنَّه يزيدُ على الحَوْلَيْنِ الشّهر والشّهرين (¬3). ¬
فوجْهُ القولِ الأوَّلِ: قولُه تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬1)، فَحَدٌّ، والحدودُ لا يُزَادُ فيها. ووجة قولِ ابن القاسم هو الأصَحُّ (¬2)، ذَكَرَهُ أبو محمّد بن أبي زيد أنَّه قال: المقدَّراتُ على ضربينِ مُقَدَّرٌ حَتْمٌ لابُدَّ منه، ومُقَدَّرٌ اختياريٌّ فيه مثنويّة، فإنّما هو على الاختيار، فيكونُ اليسيرُ فيه تَبعًا، كالشّهرِ والشّهرينِ للحَوْلَيْنِ، وأمّا ما زادَ على الحَوْليْنِ العشرة أيّام والخمْسَة عشر، فَيَحْتَمِلُ أنَّ يزيدَها استطهارًا لما خشي أنَّ ينقص من الأَشْهُر. تنبيه: فإذا ثبت هذا، فرضاعُ من زادَ على الحَوْليْنِ عند مالك داخلةٌ في حُكْمِ الكثيرِ، ولا يحرمُ بذلك. وقد اعترض عليه بحديث سالم مولى أبي حُذَيْفَة الّذي جاء في "الموطَأ" (¬3)، لكنّ الصّحابة اختلفت في العمل به (¬4)، فقال أبو محمّد بن أبي زَيْد مُوَاجِهَا لمالك: إنَّ تحريمَ ¬
الفصل الثاني في صفة الرضاع
دخول الرَّجُل على المرأةِ الأجنبيّةِ ثابثٌ بالإجماعِ، متَّفَقٌ عليه بالإجماع، فالتّحريمُ متَّفَقٌ، والتّحليلُ مُتَيَقّنٌ، وحديثُ سالم مُخْتَلَفٌ فيه، ولا يُترك متّفقٌ لمُخْتَلَفٍ فيه، ويُحْمَلُ حديثُ سالم على الخَصوصِ. الفصل الثّاني في صفة الرّضاع وفيه ستّ مسائل: وقد قال مالك - رحمه الله (¬1) -: "كُلُّ مَا أَنْبَتَ اللّحْمَ وأَنْشَرَ العَظْمَ من رَضَاعَةِ الصَّغِيرِ يحرمُ، كَالْمَصَّة والمَصَّتَيْنِ". فعُورِضَ بقولِ النَّبىِّ عليه السّلام: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ والإِمْلَاجَةُ وَالإِمْلَاجَتَانِ" (¬2). قال أبو عُبَيْد (¬3): يعني: بالإمْلَاجَة المصّ، يقال: مَلَجَ الصّبىُّ إذا رَضَعَ أُمِّهُ مَلْجًا، ومَلِجَ يَمْلَجُ (¬4)، وأَمْلَجَتِ المرأةُ صَبِيَّهَا. والإمْلَاجةُ: أنَّ يمصَّ ثديها (¬5) مرّةً واحدةً. ¬
المسألة الثّانية: فإن خالط اللَّبَن طعامٌ أو مَرَقٌ أو شيءٌ من الأشياءِ، فأَكَلَهُ الصَّبىُّ، ففي المسألة قولان: أحدهما: أنَّه يحرم (¬1). والثّاني: أنَّه لا يحرم، وهو قولُ ابن القاسم (¬2). ووَجْهُ مَنْ قال بقولِ ابنِ القاسمِ لا يحرم: أنّ أجزاءَ اللَّبَنِ مستهلكةٌ، وقد ذهبت أجزاؤُه ولا حُكْمَ له. وَوَجْهُ من قال لا يحرم: أنّ اللَّبَنَ موجودٌ فيه، تنتَقِلُ أجزاؤُه إلى غيره. المسألةُ الثّالثة (¬3): فإن كان ما يدرّ من ثَدْي المرأةِ ماء أصفر أو غيره، فلا يحرم، رواه ابن سحنون عن ابنِ القاسِم (¬4)؛ لأنّ الرَّضاعَ مختصٌّ باللبَنَ، فوجب أنَّ يختصّ حُكْمُه به دون سائر المائِعَاتِ. المسألةُ الرّابعةُ: فإنِ احتقنَ صَبِيٌّ بلَبَنِ فوصل إلى جَوْفِه، فقال ابنُ القاسم: كلُّ ما وصلَ إلى الحَلْقِ أَفْطَرَ، وما أفطر به وقع التَّحريمُ (¬5)، وهذا يبيّن أنّ تكون الحُقنَةُ لَبَنًا خالصًا، لا أنّ يكون مع الحُقْنَة غيرها فيستهلك أجزاء اللَّبَنِ مع ذلك، فتكونُ المسألةُ حينئذٍ حولان، ولا خلافَ أنّ الحُقْنَة تُفْطِر الصّائمَ؛ لأَنّها تصِلُ الجَوْفَ (¬6). ¬
المسألةُ الخامسةُ: إذا استغنى عن الطّعام فَفُطِمَ قبلَ الحَوْلَينِ، ثمّ أرضع بعد استغنائه عن الطّعامِ؟ ففي المسألة قولان: هل يحرمُ هذا الرِّضاع أم لا؟ فمذهبُ ابن القاسم (¬1) أنَّه لا يحرمُ بعد أنَّ استغنى عن الطَّعام. فإن فُطِمَ بعد حَوْلٍ أو أقلّ: فقال أشْهَب ومطرّف وابن الماجِشُون: إنّه يحرمُ وإن استغنى عن الطَّعامِ، ما دام في حَوْلَيْنِ قبل تمام زمان الرَّضاع. المسألة السّادسة (¬2): ولو وَلَدَت امرأةٌ من رَجُلٍ، فأرضعتِ المولودَ وفَطمَتْهُ، ثمّ أرضعت بعد الفِصَالِ بذلك اللّبَنِ طِفْلًا آخرَ، لكان ذلك الرَّجُل أَبًا لَهُ، قاله ابن القاسم (¬3). ووجهه: أنَّ أصلَ ذلك اللّبَن من وَطْئِهِ، فجميعُهُ مضافٌ إليه حتّى يقطعه وطءٌ لغيره. فرع (¬4): وإن طلّقها وهي تُرْضِع، فتزوّجت غيره، فحملت منه، ثمَّ أرضعت طفلًا، قال ابنُ القاسم (¬5): اللّبنُ لهما ما لم ينقطع لبن الأوّل، ورواه ابنُ نافعٍ عن مالك. ووجهه: أنّ لِوَطْءِ كلّ واحدٍ منهُما تاثيرًا في ذلك اللَّبَنِ (¬6)، ولم يذكر محمّد ¬
الفصل الثالث في صفة اللبن
"فحملت منه". ولا معنى لاعتبار الحَمْلِ، وإنّما يُعتبرُ الوَطْءُ، قاله عبدُ الوهّاب (¬1). فرعٌ (¬2): وهذا إذا كان اللّبن عن وَطءٍ حلالٍ أو حرامٍ، قاله عبد الوهّاب (¬3)؛ لأنَّه لبن امرأةٍ، فكان له تأثيرٌ، كما لو حَدَثَ عن وطءٍ حلالٍ. قال الإمام: وهذا عندي إنَّ كان عن وطء زِنا؛ فإنَّه يُنْشِىءُ الحُرْمَةَ من جهة المرأةِ، وأمّا إنَّ كان بشُبْهَةٍ يُلحَق فيها النَّسب، فإنَّه ينشرُها من الجِهتين؛ لأنّ حُكْمَ الرَّضاعِ تابعٌ للنَّسَبِ. الفصل الثّالث في صفة اللّبن وهي مسالةُ لَبَنِ الفَحْلِ وهو الزّوج (¬4)، وفيه ثلاث مسائل: المسألةُ الأولى (¬5): اختلفَ العلّماءُ في لَبَنِ الفَحْلِ: فطائفةٌ أنْزَلَتْهُ منزلةَ الأُمِّ (¬6)، وهو قولُ مالكٍ وجميع أصحابه (¬7)، والشّافعي (¬8) وأبي حنيفة (¬9) وأصحابهما، والثّوريّ، وأحمد (¬10)، وأكثر أهل العلم (¬11). ¬
وطائفةٌ كرهته، منهم: القاسم بن محمّد (¬1)، وعُروَة بن الزّبير، ومجاهِد (¬2)، والشّعبّي (¬3). وطائفةٌ رخّضت فيه، منهم: سعيد بن المُسَيّب، وسليمان بنيسار، وعطاء (¬4)، والنّخعيّ (¬5). وعلى تحريمهِ العمل، وانّما اختلفوا فيه -واللهُ أعلمُ- لأنّهم جعلوا مخالفةَ عائشة للحديث الّذي رَوَتْهُ في ذلك عِلَّةً فيه، ورُوِيَ عنها أنّها كانت لا ترى التّحريمَ من قِبَل الفَحْلِ، فكان يدخل عليها من أَرْضَعَتْهُ بنات أخيها وبنات أختها, ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها (¬6)، وهي الّتي رَوَتْ عن النّبيّ عليه السّلام تحريم لبن الفحل، وقالت به بعد أنّ أوقفت على ذلك النّبيّ عليه السّلام، فقالت: يا رسولَ اللْهِ، إِنّمَا أرْضَعَتْنِي الْمَرأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ (¬7). والحُجًةُ في السُّنَّة لا فيما خالَفَها (¬8)، وإن خالفَها الرّاوي لها. وقيل: إنْ مُخالفَتَهُ لها تُبَطِلُ العمل بها، إذْ لا يمكن أنَّ يرويَ الرَّاوِي الحديثَ ثمّ يتْرُكُ العمل به إلّا وقد عَلِمَ النَّسخَ فيه، إذ لو تَرَكَهُ وهو يَعْلَم أنَّه منسوخٌ، لكانَ ذلك جُرْحَةً فيه، وليس ذلك عندنا بصحيح؛ لاحتمالِ أنّ يكونَ يَتْرُكُه لتأويلٍ تأَوَّلَهُ فيه، فلا يلزم غيرَهُ من العلماء اتِّباعه على ما تأوَّلَهُ باجتهادهِ. فلعلّ عائشة تاولَّتْ أنّ ذلك رخصة لها في شأن أفْلَح خاصّة، كما تأَوَّلَ سائرُ أزواجِ ¬
النَّبيِّ عليه السّلام في رَضَاعَةِ سَالِم، فرجعْت إلى ظاهرِ القرآنِ في قوله تعالى: {وَأُمِّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية (¬1). ولهذا المعنَى اختلفَ العلّماءُ في تحريمِ لَبَنِ الفَحْلِ على ما ذكرناهُ عنهم. المسألةُ الثّانيةُ (¬2): اختلفَ العلّماءُ في الفَحْلِ هل تقعُ به الحُرْمَة؟ فأوقعَ به الحُرمة جمهورُ الفقهاءِ. وذُكِرَ عن ابنِ عمر وعائشة وغيرِهِمَا من الفقهاءِ أنَّه لا يؤثِّر ولا يتعلَّق به التّحريم. وحجًتُهُم الآية، قولُه: {وَأُمِّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية (¬3)، ولم يذكر البنت كما ذكرها في التّحريم في ذلك (¬4)؛ لأنَّه ليس بنصٍّ , وذِكْرُ الشّيءِ لا يدلُّ على سُقُوطِ الحُكْمِ عما سواهُ، وهذا الحديث نصِّ فيه على إثباتِ الحُرمةِ فيه لعائشة، فكان أَوْلَى بأن يُقَدَّم. حديثُ قولِ أمِّ حبيبة للنّبي: أُخبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بنتَ أبي سلمة ... الحديث المتقدِّم (¬5). ¬
الفصل الرابع في بيان ما تقع الحرمة من الرضاع
الفصل الرّابع في بيانِ ما تقعُ الحُرْمَةُ من الرَّضَاعِ حديث:"لَا تُحْرَّمُ المَصَّةُ والْمَصَّتَانِ، والإِمْلَاجَةُ والإمْلَاجَتَانِ". قال الإمام: حديثُ المَصَّةِ والمَصّتَينِ لم يُخرِجه البخاريّ وخرَّجَهُ مسلم (¬1) والنَّسائي (¬2) والدّارقطني (¬3) من روايةِ أُمِّ الفَضْلِ، بألفاظٍ متقاربةٍ، في بعضها: "لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمصّتانِ والإملاجةُ والإملاجتانِ"، ورواهُ ابنُ وهبٍ عن مالك بتحريم المصَّةِ والمصَّتينِ على ما وقع في "المدوّنة" (¬4)، فوجبَ أنَّ يسقط لهذا الاختلاف، ولذلك لم يُخرجه البخاريّ واللهُ أعلمُ، وكذلك اضطربَ فيه ابن الزُّبير، فرواه عن عائشة ومرَّةً عن النَّبيِّ عليه السّلام، ومرّة عن أبيه، فَرَدَّهُ العلّماءُ من أجلِ هذا الاختلاف. قال الإمام (¬5): وهذا كلُّه لا حُجَّةَ فيه؛ لثُبُوتِ عبدٍ الله بنِ أبِي مليكة عليه، وهو إِمامٌ عظيمٌ أدركَ ثلاثبن من أصحاب النَّبيِّ عليه السّلام. قولُه (¬6): "مِنَ الرَّضَاعَةِ" قال ابنُ السِّكِّيت (¬7) وغيرُه: فيه لغتان: كسرُ الرّاءِ وفتحُها، وكذلك الرّضاع يقال: رَضِعَ بفتح الضّاد وكسيرها, لغتان (¬8)، وَرَضُعَ -بضم الضَّاد-: إذا كان لئيمًا فهو رَاضِعٌ، وجمعُه رُضَّع، ومنه قول سَلَمَة (¬9): ¬
خُذْهَا وأَنَا ابْنُ الأَكَوَعْ واليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ أي: يوم هلاك اللَّئام. وأمّا قولُه (¬1): "إِنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ" أي: الّذي يُسقَى من الجُوع اللّبن هو الرّضيع الّذي له حرمة. واللِّقَاحُ: ماءُ الرَّجُل, ويقالُ بفتحِ اللّامِ، قاله الخليل (¬2)، وأمّا اللِّقاحُ -بكسرِ اللّام- فهو جَمْعُ لِقْحَة (¬3). الفقه في ستّ مسائل: المسألةُ الأولى (¬4): فمذهبُ مالكٍ وجميعِ أصحابِهِ -وهو قولُ أكثر أهل المدينة-؛ أنّ قليلَ الرَّضاعةِ وكثيرها يُحَرَّمُ؛ لأنَّه ظاهر القرآن، وحديث المَصَّةِ والمَصَّتين أيضًا. وأمّا حديث عائشة (¬5): كَانَ مِمَّا نَزَل فِيمَا أَنَزَلَ اللهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرَّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُول اللهِ وَهُوَ مِمَّا يُقْرَأ في الْقُرْآنِ. قال الإمامُ: وهذا ممَّا لا تصحُّ به حُجَّة؛ لأنّها أحالت على القرآنِ في الخمس رَضَعَاتٍ، ولم توجد فيه، ولذلك قال مالك (¬6): ليس العملُ على هذا. ¬
وقال من ذهب إلى الأخذ بالخَمْسِ رَضَعَاتٍ: إنَّ هذا ممّا نُسِخَ خَطُّهُ وَبَقِيَ حُكْمُه كآية الرَّجْمِ، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ نسخَ القرآنِ لا يصحُّ أنَّ ينسخ إلّا بأمر اللهِ، ولا يصحْ إِلَّا في حياةِ النَّبيِّ عليه السّلام، وأمّا بعد وفاتِهِ، فلا يجوزُ أنّ يذهبَ من صدورِ الرَّجالِ، لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) وقد أَخبَرَتْ هيَ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ وَالخمْسُ رَضَعَاتٍ تُقْرَأُ في الْقُرْآنِ، ولو كان ذلك لَمَا سَقَطَ من القرآدب، فلعلَّها أرادت أنَّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ وهُن ممّا يُفرَأنَ منَ القرآنِ المنسوخِ، أي يعلم أنَّ ذلك كان قرآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ كآية الرَّجمِ، فكان مِمَّا يُذْكَرُ في القرآنِ المنسوخِ خَطُّهُ، والله أعلمُ. المسألة الثّانية (¬2): قال علماؤنا (¬3): والرَّضَاعُ يَحْرُمُ بِلَبَنِ المسلماتِ والمشركاتِ، الحرائرِ والإِمَاءِ، الأموات والأحياء، من قِبَلِ الأُمِّ ومن قِبَلِ الفحل، إنَّ كان الوطءُ حلالًا، أو بوجهِ شُبْهَةٍ، يلحق به الولد. واختلفَ العلّماءُ إذا كان الوَطْءُ حرامًا لا شُبْهَةَ فيه كَوَطْءِ الزِّنا، ومن تزوَّجَ مَنْ لا تحلُ له وهو عَالِمٌ، هل تَقَعُ به الحرمَة مِنْ قِبَلِ الفحل أم لا؟ على قولين، فكان مالك - رحمه الله - يرى أنَّ كلَّ وَطْءٍ لا يلحق به الوَلَد فلا يحرم بِلَبَنِهِ، يريد من قبل فحله، ثمّ رجع إلى أنَّه يُحَرِّمُ، وإلى هذا ذهب سحنون، وقال: مَا عَلِمْتُ مَنْ قال مِنْ أصحابنا أنّه لَا يُحَرِّمُ، إلّا عبد المَلِك، وهو خطأ صريح وقد أمر النَّبيُّ عليه السّلام سودة بأن تحتجب من وَلَدٍ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بعُتْبَةَ (¬4). ¬
قال ابنُ الموّاز: وإذا أرْضَعَت بلَبَنِ الزِّنَا صبِيًّا فهو ابنٌ لها , ولا يكون ابنًا للَّذي زَنَى بها, ولو كانت صبيَّةَ فتزوَّجها الزَّانِي بها, لم أَقْضِ بفَسْخِ نكاحِهِ، وأَحَبُّ إلَيَّ أنَّ يجتنب ذلك من غيرِ تحريمٍ، وأمّا ابنتُهُ منَ الزِّنا، فلا يتزوَّجُها , وإن كان ابن الماجِشُون قد أجازَهُ، ومكروهُهُ بَيِّنٌ، لقوله عليه السّلام لسَوْدَة في الوَلَدِ الّذي أَلْحَقَهُ بأبِيها: "احْتَجِبِي مِنْهُ" لمّا رأى من شَبَهِهِ بِعُتبَة، فكيف يَتَزَوَّجُهَا عُتْبَة لو كانت جارية؟. المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا (¬2): وتقعُ الحُرْمَةُ بلَبَنِ البِكْرِ، والعجوزِ الّتي لا تلد، وإن كان من غير وَطْءٍ، إذا كان لَبَنًا, ولم يكن ماءً أصفر لا يُشْبِهُ اللَّبَنَ. وأمّا الرّجل، فلا تقعُ الحُرْمَةُ برَضَاعِه وإن كان له لبنٌ، وما أَظُنُّه يكون، فقد أنكر ذلك مالك فقال: وإنّما يُحّدِّثُ بهذا قومُ نفاقٍ. المسألة الرّابعة: اختلافَ العلّماءُ في حُرْمَةِ رِضَاعِ الكبيرِ، فجمهورُ الفقهاء على أنَّه لا يُؤَثِّرُ ولا يُحَرِّمُ، وإنّما (¬3) يحرمُ منه ما كانَ في وقتِ الرَّضاعِ، كما قال سعيد بن المُسَيِّبِ: "لا رَضَاعَةَ إِلَّا مَا كَانَ في الْمَهْدِ، وإلّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ" (¬4) وذلك مَرْوِيٌّ عنِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وذهب دَاوُد إلى أنَّه يؤثر (¬5) لأجل حديث سالم (¬6)، وقد قال فيه: "أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِينَ عَلَيْهِ" هذا (¬7) الحديث حَمَلَهُ مالك وأكثر أهل العلم على أنَّه خاصّ بسالم مَوْلَى أبي ¬
حُذَيْفَة، كما حَمَلَهُ أزواجُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مَا عَدَا عائشة. وممّن (¬1) قال: إنَّ إرضاعَ الكبيرِ ليس بشيءٍ، عمر بنُ الخطّابِ، وعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وابنُ مسعود، وأبو هريرة، وابنُ عبّاس، وسائرُ أزواج النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - غير عائشة، وجمهورُ التّابعين، وفقهاء الأمصار، وحجّتُهم قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِن المجَاعَةِ" (¬2)، وَ"لَا رَضَاعَةَ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللّحْمَ وَالدَّمَ" (¬3). المسألةُ الخامسةُ (¬4): قال علماؤنا (¬5): ويُستحَبُّ للأمِّ أنَّ تُرْضِعَ ولدَها، فإنّه رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "ليْسَ لَبَنٌ يرضع بهِ الصَّبِيّ أَعْظَم بَرَكَةً عَلَيْه مِنْ لَبنِ أُمِّهِ" (¬6) ولذلك كانتِ المطلَّقةُ أحقّ برِضَاعِ ولَدِها بما ترضعه غيرها، ويُكْرَهُ الظَّؤُوْرَةُ (¬7) من اليهود والنَّصارى، لِمَا يُخْشى أنّ تطعمهم الحرام، أو تسقيهم الخّمْرِ. ويُكْرَهُ رضاع الحَمْقَاءِ، وذات الطِّباع المكروهة، لِمَا رُوِيَ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال:"الرِّضَاعُ يُغَيّرُ الطِّبَاعَ" (¬8). قال عبدُ الملك: ولذلك كانتِ العَرَبُ تسترضعُ أولادَها في أهلِ بيتِ السِّخَاءِ، أو بيتِ الوَفَاءِ، أو بيتِ الشّجاعةِ، وما أَشْبَهَ ذلك من الأخلاقِ الكريمة. المسألة السّادسة (¬9): "اختلفَ العلّماءُ في شهادة المرأة في الرِّضاعِ، وإن كانوا قد اتَّفَقُوا على الوِلَادَةِ، على تفصيلِ فيه، ومختصر الخلافِ في ذلك الآن في الخاطر سبعة أقوال: القولُ الأوّل: أنّها تُقبلُ شهادتهُنَّ في الرَّضاع في الجملةِ. وقال أبو حنيفة: لا ¬
جامع ما جاء في الرضاعة
مدخلَ لها في ذلك (¬1). الثّاني: أنّها تُقْبَلُ وتُجْزِىءُ في ذلك واحدةٌ (¬2)، على ما يأتي بيانُه إنَّ شاء الله. الثّالث: أنَّه لا يجزىءُ فيها أقلّ من امرأتين (¬3). الرّابع: أنَّه لا يجزىءُ في ذلك أقلّ من أربع نِسْوَة، قال الشّافعي: في كلِّ شيءٍ (¬4). الخامس: قال أبو حنيفة: إنَّ كان ممّا يشهدن فيه ما بين السُرَّة إلى الرَّكْبَة، قُبِلْت واحدةٌ (¬5). السّادس: لا تُقبَلُ أقلّ من ثلاث نَسْوَة. السّابع: أنّه يُجزئُ في ذلك شهادةُ امرأةٍ واحدةِ، قاله ابنُ عبّاس، ومن الفقهاءِ: أحمد وإسحاق (¬6). قال الإمام: والّذي عندنا أنَّه تقبلُ في هذه النّازلةِ، ولا تُقبَلُ في الدِّماءِ ولا في الفُروجِ. جامع ما جاء في الرَّضاعةِ قال الإمام: حديثٌ رَوَتهُ جُدَّامَةُ بِنْتُ وَهْبٍ الأَسَدِيَّة، حديث الغِيلَةِ (¬7)، وهو حديثٌ صحيحٌ. ¬
العربيّة: قال علماؤُنا المحدِّثون: هي جُدَّامة بضمّ الجيم وبتشديد (¬1) الدَّالِ المُهْمَلَةِ (¬2)، والغِيلَةُ: بكسرِ الغَيْن ولا يجوز الفتح (¬3). وأصلُ الغِيلَة هاهنا: الشّرَ، يقال: غَايَلَهُ، أي: أَضَرَّهُ، وتقولُ، في تصويف الغِيل، قد أغال الرَّجُل وَلَدَهُ يُغِيلُه إِغّالةً وغَيْلًا، والولدُ مُغَالٌ، ومُغْيَلٌ والاسم منه الغيلة، والغِيلَةُ أيضًا -بكسر الغين-: أنَّ يخدع الرَّجُلُ الرَّجُلَ فيقتله (¬4). الأصول (¬5): قال الإمامُ: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬6): "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ". ذكر علماؤُنا في ذلك: أنَّه دليلٌ على جَوازِ حُكْمِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بالاجتهادِ؛ لأنَّه لو كان وَحْيًا لم يَرِد عنه إِلَّا ما يَرِد نَسْخًا, ولكنَّ الحِكْمَةَ في ذلك والنُّكْتَةَ فيه أمرٌ يجبُ أنَّ تُحَصِّلُوهُ؛ ¬
وهو أنَّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -كان استقرَّ عندَهُ من الشَّريعةِ بالوحي المُنزَّلِ، أنَّ الضَّرَرَ والمُضَارَّةَ حرامٌ، ورأَى مجرى العادةِ أنّ الماءَ رُبَّمَا أغالَ اللَّبَنَ فأَضعفَ الطّفلَ، فأرادَ أنّ يَنْهَى عنه لِعُمُومِ تحريمِ الضَّرَر، ثمّ تَذكَّرَ أنَّ الحالَ في ذلك منقسمةٌ، منها ما يَضُرُّ، ومنها لا يضُرُّ، فأمسكَ عن ذلك إبقاءً لتحليلِ الوَطْءِ على أصلِه، أمّا إنّه حقٌّ للزّوِجِ، فإن شاءَ أنّ يستوفِيَهُ لم يَسْقُطْ يقينُ حقِّه الواجبِ بالشَّكِّ في ضَرَرِ المولودِ، وإن رأَى أنَّ يُسْقِطَ حقَّه أخْذًا لولده بالأحوطِ، ولم يَكُنْ للمرَأةِ في ذلكَ كلامٌ؛ لأنَّ الزَّوجَ يَفْضُلُها بالقوّاميّةِ الّتي جعلَها اللهُ عليه في قولِه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية (¬1). تَمَّ كتابُ الرّضاع والحمد للهِ (¬2) تمَّ بحمد اللَّه ومَنِّه الجزء الخامس بالتجزئة السُّليمانية، ويليه الجزء السّادس، وأوّله: كتاب البيوع ¬
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضي أبي بكرمحمد بن عبدالله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543هـ) قرأه وعلّق عليه محمّد بن الحسين السُّليماني عائشة بنت السُّليماني قدَّم له الشّيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلّماء المسلمين المجلد السّادس دَار العَرَبَّ الإسْلامي
دَار الغرَبَّ الإسْلامي جميع الحقوق محفوظَة الطبْعة الأولى 1428 هـ - 2007 م دار العرب الإِسلامي ص: ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر
المسالك في شرح مُوَطَّأ مالِك للقاضي أبي بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543 هـ) المجلد السّادس
كتاب البيوع
كتاب البيوع ولا بدّ فيه من مقدِّماتٍ وقواعدَ وتمهيداتٍ تُفسِّر لَكَ ما أشْكلَ منه، وتوضِّحُ لك ما خَفِيَ منه، وإقامة الأدلَّة من الكتاب والسُّنَّةِ. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وهذه الآيةُ الأصلُ في جَوَازِ البيوعِ كلِّها، واختلفَ العلّماءُ فيها، هل هي مُجْمَلَةٌ أو عامَّةٌ؟ والصَّحيحُ عندنا أنَّها عامَّةٌ في كلِّ بيْعٍ. فإن قيل: فإذا كانتِ الآيةُ عامَّةَ، فَلأَيِّ شيءٍ لم تجزْ بعضُ البيوع؟ قلنا: ما نقضّ البيوعَ لم يجُز؛ لأنّها خرجَت بدليلٍ، وهو قولُه عليه السّلام، وما دَاخلَهُ فسادٌ لم يجز؛ لأنّ حدَّ العامِّ: ما اشتمل اثنانِ فصاعدًا. وقولُه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (¬2) قالت ثَقِيف: كيف نتبرّأ عن الرِّبا وهو مثل البَيْع؟ فنزلت فيهم الآية (¬3). قال علماؤنا: الرِّبَا كناية عن استجابةٍ في البُيْعِ وقَبْضِهِ بالْيَدِ؛ لأنّ ذلك إنَّما يفعَلُه المُرْبي قَصْدًا لما يأكلُه (¬4). والرِّبا في اللّغة: الزِّيادة، وكان الرِّبَا عندهم معروفًا، يُبَايع الرّجلُ الرّجلَ إلى أجَلٍ، فإذا جاء الأجَلُ، قال: تعطني أم تربي على ما عليه؟ أو تضرب أجلًا آخر؟ فحرَّمَ اللهُ الرِّبا، وسيأتي بيانُه في موضعه إنَّ شاء الله. ¬
المقدمة الأولى في حقيقة العقد
المقدِّمة الأولى (¬1) في حقيقة العَقْد قال القاضي الزَّنْجَانِيُّ ببَيْتِ المقْدِس: البيْعُ والنِّكاحُ عَقْدَانِ يتعلَّقُ بهما قِوَامُ الإنسانِ، وذلك أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الآدميِّ محتاجًا إلى الغداءِ مُشْتَهِيًا للنِّساءِ، وخَلَقَ له ما في الأرضِ جميعًا، كما أخبر في صادق كتابه، ولم يترُكْهُ سُدىً يتصرَّفُ في اقتضاءِ شَهَواتِه ويستمتعُ بنفسه باختياره كما فعَلَ بالبهائم؛ لأنَّه فَضَّله عليها بالعقل الّذي جعَلَه لأجله خليفةً في الأرض، وبتعارُض الشّهواتِ والعقل تَعَيَّنَ أنّ يكون هنالك قانونٌ ينفَصِلُ به وَجْهُ المنازعةِ بين الأمرين، فتستَرْسِلُ الشّهوةُ بحُكْمِ الجبِلَّةِ، وتقيِّدُها العلّائقُ بحُكْم الشّريعة، وجعلَ لكلِّ واحدٍ من المكلَّفين اختصاصًا يقالُ له: المِلْكُ، بما يتهيَّاُ به النّفعُ، وجعل له سببينِ: أحدُهما: يُثْبِتُهُ ابتداءً، وهو الاصطيادُ، والاحتشاشُ، والاحتِطابُ، والاقتِطاعُ، على اختلافٍ وتفصيلٍ. والثّاني: ينقُلُه من يَدٍ إلى يَدٍ، وهو على وجهين: أحدُهما: بغير عِوَضٍ، وهو الهِبَةُ. والثّاني: بعِوَضٍ، وهو البَيْعُ وما في معناه، وهذا بَابُهُ، وله شروطٌ كثيرةٌ، ومُفْسِداتُهُ أكثرُ، لِمَا قضَى اللهُ أنّ يكونَ الفسادُ أكثرَ مِنَ الصَّلاحِ، والشّرُّ أضعافُ من الخَيْرِ، ولذلك تمتلىءُ النَّارُ بأهلِهَا وتبقَى الجنّةُ خاليةً حتَّى يُنْشِىءَ اللهُ لها خَلْقًا آخرَ. ¬
المقدمة الثانية في حصر شروطه
المقدِّمةُ الثّانية في حَصْرِ شُرُوطِهِ وهي ثلاثةٌ: أحدُها: أهليةُ المُتعاقِدَيْنِ، وهو أنّ يكون كلُّ واحدٍ منهُمَا عاقلًا بالغًا، على اختلافٍ وتفصيلٍ، لم يَتَقدّمْ عليه حَجْرٌ باتِّفاقٍ، ولا أَدْرَكَهُ سَفَةٌ في مالِهِ على اختلافٍ (¬1)، على ما نبيَّنُه إنَّ شاء الله، فنقول (¬2): يكون فسادُ البيعِ من خمسةِ أوجُهٍ: 1 - منها ما يرجِعُ إلى المَبِيع. 2 - ومنها ما يرجعُ إلى الثَّمَنِ. 3 - ومنها ما يتعلَّقُ بالمتعاقِدَيْنِ. 4 - وما يرجعُ إلى صفةِ العَقْدِ. 5 - وما يرجعُ إلى الحال الّتي يقعُ العَقْد فيها. وأمّا ما يرجعُ إلى المَبِيعِ، فأن يكون ممّا لا يصحُّ بيعُهُ، وذلك خمسة أشياءٍ: 1 - الإنسانُ الحُرّ. 2 - والخمرُ (¬3). 3 - والخنزيرُ (3). 4 - والنّجاسةُ. 5 - وما لا منفعةَ فيه، نحو خَشَاش الأرضِ والضَّفادع (¬4) ونحو ذلك. ¬
وأمّا الراجعُ إلى الثَّمَن، فَأَن يكونَ ممّا لا يحلّ تملّكه. وأمّا الرّاجعُ إلى المعاقِدَيْنِ، فأن يكونا أو أحدهما ممّا لا يصحُّ عندَهُ، ولذلك أربعة أوصاف: 1 - الصّغَرُ. 2 - والجُنونُ. 3 - والحَجْرُ عليه في الكثيرِ وغيرِهِ. 4 - والجهلُ بالمَبِيعِ. وأمّا ما يرجعُ إلى صفةِ العَقْدِ، فأربعةُ أشياءٍ: 1 - الرِّبَا ووجوهُهُ. 2 - والغَرَرُ وأبوابُهُ. 3 - والمزابَنَةُ وأحكامُها. 4 - والبَيعُ والسَّلفُ في عَقْدٍ واحدٍ. وأمّا ما يرجعُ إلى حال العَقْدِ، فأحد عشر شيئًا: 1 - البيعُ على بَيْعِ أخيهِ (¬1). 2 - الثّاني: التّبايعُ في حالِ الخُطْبة والصّلاةِ يوم الجمعة. 3 - الثّالث: بيعُ نجش (¬2). 4 - الرّابع: بيعُ العُرْبَانِ. 5 - الخامس: بيعُ المُنابذةِ (¬3). 6 - السّادس: بَيْعُ المُلامسةِ (¬4). 7 - السّابع: بَيْعُ الحصاة (¬5). ¬
فصل
8 - الثّامنُ: ببعتان في بيعة. 9 - التّاسعُ: ما يعلم صاحبه وزنه وكيله، فيبيعُه جُزَافًا على ظاهرِ المذهب. 10 - العاشرُ: بيع الموقوف. 11 - الحادي عشر: بيعُ الغائبِ على خيارِ الرُّؤيةِ (¬1). فصل (¬2) وأمّا البيوعُ المحظورة، فإنّها تنقسمُ إلى قسمينِ: أحدُهما: ما كانَ محظورًا لحقِّ الآدميِّ. والثّاني: ما كان محظورَا لحقِّ الله. فأمّا ما كان محظورًا لحقِّ الله، فإن ذلك ينقسم إلى أربعةِ أقسامٍ: أحدُها: ما كان محظورًا لتعلُّقِهِ بالمحظولي في الشَّرعِ، دون أنَّ يطابقه نهىٌ، أو يُخِلُّ فيه شرطٌ من الشَّرائطِ المُشْتَرَطَة في صحَّتِه. الثّاني: ما طَابَقَهُ النّهي ولم يُخِلَّ فيه شرطٌ من الشَّرائطِ المُشترَطَةِ في صِحَّته. الثّالث: *ما أخلَّ فيه بشرطٍ من شرائط صحَّتِه. الرّابع*: بيوعُ الشّروطِ، وهي الّتي يسمِّيها الفقهاء بيوع الثنيا. وأمّا القسمُ الأوَّلُ وهو ما كان محظورًا لتعلُّقِهِ بالمحظورِ دونَ أنّ يطابِقَه نهىٌ أو يخل فيه شرطٌ من شرائطِ صحَّتِهِ، مثل أنَّ يَبِيعَ قبلَ الصّلاةِ في آخرِ وقتِهَا بقَدْر ما لا يُدْرِكُهُ قبل تمامه إِلَّا ركعة من الصّلاةِ، ويعلَم أنَّه يفوته جميع الوقت باشتغاله بالبَيْعِ، ومثلُ البَيْعِ والشِّراءِ في موضعٍ مغصوبٍ* وما أشبه ذلك؛ فإنّ البيعَ على هذا الوجه حرامٌ محظورٌ غير جائز، إِلَّا أنَّه إذا وقع لم* يُفْسَخ، فاتَ أو لم يَفُت باتِّفاق، إِلَّا ما كان من هذا النوع علّة الحَظْرِ فيه باقية ببقاء المَبِيعِ، مثل شراء النّصرانىّ المُصْحَف والمسلم، ¬
المقدمة الثالثة في معرفة الربا وأبوابه
وغير ذلك؛ فإنَّه يُفْسَخ، لبقاءِ علَّةِ الحَظْرِ فيه بعدَ البَيْعِ، وقيل: إنّه لا يُفْسَخ وتُرْفَعُ العلَّة بِبَيْعِ المشتري، في كلامٍ طويلٍ لهم. المقدِّمة الثّالثة في معرفة الرِّبا وأبوابه قال اللهُ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية (¬1)، فلفظ البَيْع عامٌّ؛ لأنّ الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللّام صار من ألفاظ العموم، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} الآية (¬2)، فاستثنَى من الإنسان جماعة المؤمنين لاقتضائه العموم، واللَّفظُ العامّ إذا وَرَدَ فإنّه يُحْمَلُ على عُمُومِهِ، إِلَّا أنَّ يأتيَ ما يخصُّهُ، فإن خَصَّ منه شيئًا، بَقِيَ ما بعدَ الخُصوصِ أيضًا، فيندرجُ تحت قويهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية (¬3) كلّ بيعٍ إِلَّا ما خُصَّ منه بالدَّليلِ، وقد خصَّ منه بأدلَّةِ الشَّرعِ بيوعٌ كثيرةٌ، فيبقى ما عداها على أصلِ الإباحةِ منه، ولذلك قنا في البيوعِ الجائزةِ إنّها ما لم يحظرها الشَّرعُ، ولا وَرَدَ فيها النّهيُ. قال علماؤنا (¬4): الرِّبا في الصَّرْفِ وفي جميعِ البيوعِ، وفيما تقرَّرَ في الذِّمةِ (¬5)، حرامٌ مُحَرَّمٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ. فأمّا الكتابُ، فقولُه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية (¬6)، وقولُه: {يَا أَيُّهَا ¬
{الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية (¬1) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية (¬2)، والنّهي إذا قُرِنَ به الوعيدُ، عُلِمَ أنَّ المرادَ به التّحريم. وقولُه تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية (¬3)، يريدُ نهيَ تحريمٍ؛ لأنَّه عَطَفَهُ على ما نصّ على تحريمه، إِلَّا أنَّ الاحتجاجَ بهذه الآية على تحريم الرِّبا إنّما يصِحُّ على مذهب مَنْ يرى أنَّ ما أخبر اللهُ تعالى به من شرائعِ مَنْ قَبْلَنَا من الأَنبياء لازمٌ لنا، إِلَّا أنّ يَأتيَ في شَرْعِنا ما ينسخه عنّا، وإلى هذا ذهب مالك (¬4) - رحمه اللهُ -؛ لأنَّه قد احتجَّ في "مُوَطَّئِهِ (¬5) بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} الآية (¬6)، يريد في التّوراة، وهو الصّحيحُ، لقوله عليه السّلام: "إِذا نَامَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ نَسِيهَا ثُمً فَزعَ إلَيهَا فلْيُصَلِّهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا في وَقْتِهَا، فَإِنَّ اللهَ تعَالَى يقولُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬7) " (¬8) والخطابُ بهذا إنّما هو لمُوسَى عليه السّلام، وهذا بَيَّنٌ، وقدِ اختلفَ العلّماءُ في ذلك على أربعةِ أقوالٍ: أحدهما: أنّها لازمةٌ لنَا جملةً من غيرِ تفصيلٍ (¬9)، بدليلِ قولِه عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية (¬10). ¬
فصل
الثّاني: أنّها غيرُ لازمةٍ لنا جملةً من غيرِ تفصيلٍ (¬1)، بدليلِ قولِهِ تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2). الثّالث: أنّها غيرُ لازمةٍ لنا إِلَّا شِرعة إبراهيم عليه السّلام، لقولهِ تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الآية (¬3)، وقولِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الآية (¬4). الرّابع: أنّها غير لازمةٍ لنا إِلَّا شِرْعَة عيسى؛ لأنّها آخر الشّرائع المتقدِّمة، وكلُّ شِرْعَةٍ ناسخةٌ للّذي قَبْلَها، وهذا القولُ ضعيفٌ؛ لأنّ شِرْعَةَ عيسى إذا كانث ناسخةً لِمَا قَبْلَها من الشّرائعِ، فشريعتُنَا ناسخةٌ لشِرْعة عيسى، وهذا لا غُبَارَ عليه. فصل (¬5) وأمّا قولُه تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} الآية (¬6)، المعنى: الّذين يربون في تجارتهم في الدُّنيا، لا يقومونَ يوم القيامة من قبورهم إِلَّا كما يقومُ الّذي يتخبَّطُهُ الشّيطانُ من المَسُّ، أي: يصرعُه من الجنونِ. وُيرْوَى (¬7) أنَّ أَكَلَةَ الرِّبا يُعْرَفُونَ يوم القيامة أنّهم أكَلَة الرِّبَا يأخذُهُم خَبَلٌ يُشْبِهُ الخَبَلَ الَّذِي يَأخُذُهُمْ في الآخِرَةِ بالجُنُونِ الّذِي يَكُونُ في الدُّنْيَا. وفي الصّحيحِ أنّ النَّبيَّ عليه السّلام حَدَّثَ عَنْ لَيْلَةِ الإسْرَاءِ فَكَانَ في حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى سَابِلَةِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ يُنْطَلَقُ بهِمْ إلى النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} الآية (¬8)، ثُمً قَالَ: وإِذَا أَنَا بِرِجَالٍ بُطونُهُمْ كَالبُيُوتِ، فَيَقُومُون فَيَقَعُونَ بِبُطُونِهِمْ، قَالَ: ¬
قُلْتُ: يَا جبْريلُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} الآية (¬1) (¬2). وفي "صحيح البخاريّ" (¬3) عن النَّبيِّ عليه السّلام قال: "رَأَيْتُ اللّيْلَةَ رَجُالٌ أَتَيَانِي، فأخْرَجَانِي إِلَى أَرْضِ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَينَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رِجَالٌ قَائِمُونَ في وَسَطِ النَّهْرِ، وَرَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقبَلَ الرّجَالُ الَّذينَ في النَّهْرِ، فَإِذَا أَرَادُوا أنّ يَخْرُجُوا رَمَى فِي فِيهِمْ بِحِجَارَةٍ فَرَجَعُوا كَمَا كَانُوا، فَقُلْتْ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ الّذِيْنَ رَأَيْتَ في النَّهْرِ: هُمْ أَكَلَةُ الرَّبَا". وأمَّا السُّنّةُ، فمنها ما رواهُ ابن مسعود؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤكِلَهُ وشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ (¬4)، قال: هُمْ سَوَاءً (¬5)، ومن ذلك تحريم التّفاضُلِ بين الذَّهَبِ والفِضَّةِ، على ما يأتي بيانُه إنَّ شاء الله. وأمّا الإجماعُ، فمعلومٌ من دِينِ الأُمَّةِ ضرورةً أنّ الرِّبَا يحرمُ في الجملةِ، وإن اختلفوا في تفصيل مسائله، على ما نبُيَّنُه إنْ شاء الله. واختلفَ العلّماءُ في لفظِ "الرِّبا" الوارد في القرآنِ، هل هو مِنَ الألفاظِ العامّةِ الّتي يُفْهَمُ المرادُ بها وتُحملُ على عمومِهَا حتّى يأتي ما يخصِّصُها؟ أو من الألفاظِ المُجْمَلَةِ الّتي لا يُفْهَمُ المرادُ منها من لَفْظِها وتَفْتَقِرُ في البيانِ إلى غيرها؟ على قولين، والّذي ¬
يدلُّ عليه قولُ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - "كَان من آخِرِ مَا أَنَزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ آية الرِّبَا، فَتُوُفّي رسولُ اللهِ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا (¬1)، فَلَمَّا لَمْ يُفَسِّرْهَا عُلِمَ أنَّه لم يَعُمّ جميع وجوه الرِّبا بالنَّصِّ عليها, للعلّمِ الحاصلِ أنَّه - صلّى الله عليه وسلم - قد نصَّ على كثير منها، من ذلك: تحريمُهُ صلّى الله عليه عن التّفاضُل بين الذَّهَبَيْن وبين الوَرِقَيْنِ، ونهيُهُ عليه السّلام عن بَيعِ وَسَلَفٍ، وعن بَيْعِ ما ليس عِنْدَكَ، وعَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ، وعن بَيْعِ المُلَامَسَةِ , وعن بَيْعِ الثّمارِ قبلَ أنّ يَبْدُوَ صَلَاحُها، وما أَشْبَهَ ذلك؛ لأنّ هذه الأحاديث تُحْمَلُ على البيانِ والتّفسير لمَا أَجْمَلَ اللهُ في كتابه من ذِكْرِ الرَّبَا، وما لم ينصّ عليه - صلّى الله عليه وسلم - من وجوه الرِّبا، فَإنّه أَحَالَ فيه على طُرُقِ الأدِلّة أدِلّة الشّرع وبيَّنَ وجوهها، وما تُوُفِّي رسولُ الله إِلَّا بعدَ أنَّ كَمُلَ الدّينُ، وبعد أنَّ بين كلّ ما يحتاجه النَّاس، قال اللهُ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية (¬2). قال (¬3): وممّا يدلُّ على ما تأَوَّلنا حديثُه عليه السّلام في جميع أنواع الرِّبَا، وقولُ عمر: "إِنكُم تَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ أَبْوَابَ الرَّبَا، وَلأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُهَا أَحَبَ إلَيَّ مِنْ أنّ يَكُونَ لِي مِثْل مِصْر وَكُورِها, ولكن من ذلك أبوابٌ لا تخفينّ على أحدٍ: أَنْ تُبَاعَ الثَّمرة وهي مُعْصِفَةٌ (¬4) لم تطب، وأنْ يُبَاعَ الذَّهَبُ بِالوَرِقِ والورقُ بالذَّهَبِ نَسِيئًا (¬5). فأخبرَ - رضي اللهُ عنه - أنّ من وجوهِ الرِّبَا ما هو بَيّنٌ جَلِيٌّ لِنْصِّ النَّبيِّ عليه السّلام عليه، ومنه ما هو باطنٌ خَفِيٌّ لِعَدَمِ ¬
النَّصِّ فيه، وتَمَنَّى أنَّ تكونَ جميع وجوه الرِّبَا ظاهرة جلية يعلمه بنصِّ النَّبيِّ عليه السّلام عليها, ولا يفتقر إلى طَلَبِ الأدِلَّةِ في شيءٍ منها، واللهُ عزَّ وجلَّ (¬1) لَمَّا أراد أنَّ يَمْتَحِنَ عبادَهُ ويبتليهم فَرَّقَ بين طرق العِلْمِ، فجعلَ منها ظاهرًا جليًا وباطنًا خفيًّا، ليُعْلَمَ الباطنُ الخَفِىُّ بالاجتهادِ والنَّظَرِ من الظّاهر الجلىِّ، فرفعَ بذلك الّذين آمنوا والّذين أُوتُوا العلّمَ درجاتٍ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية (¬2). قال علماؤنا (¬3): فمنِ استحلَّ الرِّبا فهو كافرٌ حلالُ الدَّمِ يُسْتَتَابُ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ، قال اللهُ تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬4) يريد عاد إلى الرِّبا مستحلًّا له؛ لأنّ الخلودَ في النّار من صفاتِ الكافرينَ. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الآية، إلى قولِهِ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية (¬5) أي: إنْ لم تفعلوا فتقبلُوا ذلك وتُقِرُّوا به {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية (¬6)، أي: فاعلموا أنكم مُحَارَبُونَ من اللهِ ورسولِهِ لأنّكم مشركون. وقد بيَّنَّا أنّ أصلَ "الرِّبَا" لغةً وشرعًا: الزّيادةُ، يقال: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو، إذا زَادَ وعَظُمَ، وأرْبَى فلانٌ على فلانٍ إذَا زادَ عليه، يُرْبِي إرْبَاءً، وقيل للمُرْبِيْ: مُرْبٍ لزيادته الّتي يستَزِيدُها في دَيْنِهِ لتأخره إلى أجلٍ، أو غير ذلك. وأمَّا من باعَ بَيْعًا أَرْبَى فيه غير مُسْتَحِلٍّ للرِّبا، فعليه العقوبة المُوجِعَة إنَّ لم يُعْذَر ¬
بجهلٍ، وُيفْسَخُ البَيْع ما كان قائمًا في قول مالك وجميع أصحابه. والحُجَّةُ في ذلك: أنَّ النَّبيِّ عليه السّلام أَمَرَ السَّعْدَيْنِ أنَّ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ المَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَبَاعَا كلَّ ثَلاثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُلَّ أَرْبَعَةٍ بِثَلاثَةٍ عَينَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا" (¬1). فإن فاتَ البَيْعُ، فليس له إِلَّا رأس المال، قَبَضَ الرِّبا أو لم يقبضه. فإن كان قَبَضَهُ ردَّهُ إلى صاحِبِهِ. وكذلك مَنْ أَرْبَى ثمَّ تابّ منه، فليس له إِلَّا رأس مَالِهِ، وما قَبَضَ من الرِّبا وجب عليه ردّه إلى مَنْ قَبَضَهُ منه، وإن لم يعلمه، تَصَدَّقَ به عنه، لقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية (¬2). وأمّا مَنْ أَسْلَمَ وله رِبًا، فإن كان قَبَضَهُ فهو له، لقولِهِ تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} الآية (¬3)، ولقولِهِ عليه السّلام: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ" (¬4). وأمّا إنَّ كان الرَّباَ لم يقبضه، فلا يَحِلّ له أنَّ يأخذه، وهو موضوعٌ عن الّذِي هو عليه، ولا خلافَ في هذا أَعْلَمُهُ، لقولِهِ: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الآية (¬5). قيل: نزلت هذه الآية في قَوْمٍ أَسْلَمُوا, ولهم على قومٍ أموالٌ مِنَ الرِّبا كانوا أَرْبَوا عليهم، وكانوا قد قبضوا بعضه وبقي، فَعَفَا اللهُ لهم عَمَّا كانوا قبضوه، وحرَّمَ عليهم اقتضاء ما بَقِيَ منه (¬6). ¬
المقدمة الرابعة في تمهيد القواعد وترتيب الأحاديث الواردة فيى البيوع
وقيل: إنَّ هذه الآية نزلت في العبَّاس بن عبد المطَّلِب ورَجُلٍ من بني المُغِيرَة كانا يُسْلِفَان في الرِّبا، فجاء الإسلام ولهم أموالٌ عظيمةٌ في الرِّبَا، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآية بتحريمِ اقتضاءِ ما بَقِيَ لهُما من الرِّبَا، فلم يقبضوا ذلك (¬1). وقال رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في حُجَّةِ الوَدَاع: "أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ في الجاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلِ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِب" (¬2). المقدِّمة الرّابعة (¬3) في تمهيدِ القواعدِ وترتيبِ الأحاديثِ الواردة فيى البيوعِ اختلفَ النَّاسُ في أصولِ البُيُوعِ، فأَدَارَها المتكلِّمون على أربعةِ أحاديثَ، وأَدَارَهَا الفقهاءُ أيضًا على أربعةٍ، وزادَ مالكٌ فيها أصْلَيْنِ، ونحن نُبَيِّنُ ذلك على معنىَ يُوافِقُ غَرَضَ مالك في "الموطّأ" خاصّةٌ، ونُفَرِّعُ على قالَبِ كلامِهِ فيه فنقولُ: الأصولُ سِتَةٌ: أربعةٌ من الحديثِ، واثنانِ من المعنى. الحديثُ الأوَّلُ: حديثُ الرِّبا، قال النَّبيِّ عليه السّلام: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَلَا الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَلَا التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، إلّا سَوَاءٌ، عَيْنًا بِعَيْنِ، يَدًا بِيَدٍ" (¬4) وهذا لفظ الحديث. الثّاني: قَدِمَ النَّبيُّ عليه السّلام المدينةَ وهم يُسْلِفُون في الثِّمَارِ السَّنَة والسَّنَتَينِ، فقال عليه السّلام: "مَنْ أَسْلَفَ فلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" (¬5). الثّالث: رَوَى ابنُ عُمَرَ وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، عن النَّبيِّ عليه السّلام في بَيْع الثِّمارِ؛ أمّا ابنُ عُمَر فقال: نَهَى النَّبيُّ عليهِ السّلام عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا (¬6)، فذكَرَهُ في ¬
الدَّرَجَةِ الثّانيةِ، ورواه زيدُ بنُ ثابتٍ في درجته الأُولى فقال: قال النَّبيُّ عليه السّلام: "لَا تبايعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا" (¬1) وزادَ عنه عليه السّلام فبيَّنَ عِلَّةَ المَنْع فقال: "أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللهُ الثّمَرَةَ فَبِمَ يَأخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ" (¬2) لكنّه عَقَّبَ عليها بما غيْر الدّليلَ وَأتعبَ في التّأويل، فقال: كَالمشُوْرَةِ لهم، فجعلَ ذلك زيدٌ في ظاهرِ الحديثِ رَأيًا عَرَضَهُ لا نَهْيًا حَرَّمَهُ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنَّ شاء الله. الرّابع: حديثُ ابنِ عمرَ وابن عبّاسٍ، قوله: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" (¬3) زادَ ابنُ عبّاسٍ: "وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيءٍ مِثْلَهُ" (¬4). وكان بعضُ الأصوليِّينَ قد عَدَّ في جُملة الأربعة الأحاديث أَنَّ النَّبِىَّ "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ" (¬5)، ومعنى هذا الحديث صحيحٌ، ليس في الصّحيحِ لفْظُهُ، لكن وَرَدَ في الصَّحيحِ طرفٌ من معناهُ، وهو أنَّ النَّبيِّ عليه السّلام "نَهَى عَنِ اللَّمْسِ والْمُنَابَذَةِ" (¬6). وأمّا المعنى فإنّ مالكًا زَادَ في الأصولِ: 1 - مراعاة الشّبه، وهي الّتي يسمّونها الذّرائع (¬7). 2 - والثّاني (¬8): المصلحةُ، وهو كلُّ معنىً قامَ به قانونُ الشَّريعةِ، وحَصَلَتْ ¬
به المنفعةُ العامَّةُ في الخَلِيقَةِ، ولم يُسَاعَدْ على هذين الأصلّين، وهو في القولِ بِهمَا أقومُ قِيلًا، وأهدَى سبيلًا، وقد بَيَّنَّا ذلك في "كتاب النِّكاح" إنَّ شاء الله. فصل (¬1) أمّا حديثُ الرِّبَا، فهو أصلٌ مُتَّفَقٌ عليه بين الأُمَّةِ، وقد تكلَّموا فيه على أربعةِ أقوالٍ: 1 - فقال الشّافعيُّ: يجري في كلِّ مطعومٍ خاصّةً (¬2). 2 - وقال أبو حنيفةَ: في كلِّ مَكِيلٍ ومَوْزُونٍ (¬3). 3 - وقال مالك: يجري في كلِّ مُقْتَاتٍ (¬4)، على تفصيلٍ طويلٍ. 4 - وقال ابن الماجِشُون: يجري الرِّبا في كلِّ مالٍ. ولم يَقُل أحدٌ من الأُمَّةِ أنَّ الرِّبا يقتصِرُ على هذه الأعيانِ السِّتَةِ، لا مِنَ الصّحابةِ فَمَنْ دُونَهُم، بل كانوا يَتَحَرَّوْنَ الرِّبَا، ويتأسَّفُونَ على أنَّ البيانَ لم يَقع فيه بالجلاءِ، وقد كان عمرُ بنُ الخطّاب يقولُ على منبرِ رسولِ اللهِ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا آيَةَ الرِّبَا، فَدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةِ" كما تقدَّمَ (¬5). وأمّا حديثُ ابن عبّاسٍ في السَّلَمِ، فإن اللهَ شَرَعَهُ مُعَيَّنَا في الحالِ، مضمونًا في الذِّمّة. وأمّا القرآنُ، فحديثُ بقرةِ بني إسرائيلَ (¬6)، قال ابنُ عبّاسٍ: لو أنّهم إذ سَمِعُوا الأمرَ ¬
بادَرُوا إلى أيِّ بقرةٍ كانت لأَجْزَأَهُمْ، ولكنّهم شدَّدُوا فشدَّدَ اللهُ عليهِمْ، ولم يزَالُوا يساَلُونَ وتُوصَفُ حتّى نُعِتَتْ (¬1) لهم. وأمّا السُّنَّة، فقد رُوِيَ في الأَثرِ -وهو حديث لا بَأسَ به- أنَّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ الْمَرْأَةَ تَصِفُ الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ ينْظُرُ إِلَيْهَا" (¬2). وأمّا المُعَايَنَةُ، فقد أجمعَ العلّماءُ على إدراكِ المُعَيَّنَاتِ بالصِّفاتٍ، لمعرفةِ الخُدودِ، والقُدُودِ، والشُّعورِ، والأَطرافِ، ونحوِ ذلك (¬3). وأمّا قولُه (¬4): "فَي ابْتَاعَ طَعَامًا فلَا يبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيهُ" فليس فيه تعليلٌ، وإنّما هو شرعٌ مَحْضٌ، واختلفَ العلّماءُ فيه على أربعة أقوال: 1 - فمنهُمْ مَنْ قال: إنّه جارٍ في كلِّ شيءٍ، وهو الشّافعىُّ (¬5)، وتعلَّقَ في ذلك بما رُوِيَ عن النَّبىِّ عليه السّلام أنَّه "نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ورِبْحِ ما لم يُضْمَنْ " (¬6)، ورُوِيَ أنَّه لما وَلَّى عتَّابَ بن أَسِيْدٍ على مكَّةَ قال: "انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقبَضْ أَوْ ربح مَا لَمْ يُضْمَنْ" (¬7)، وهذان ¬
الحديثانِ خَرَّجَهُمَا الدَّارقطنىّ (¬1)، وغيره، وليسا بصحيحين. 2 - ومنهم من قال: يُحْمَلُ كلُّ شيءٍ على الطَّعامِ الّذي وَرَدَ فيه الحديثُ، بقياس أنَّه مَبِيعٌ لم يُقْبَضْ فلم يَجُزْ بَيْعُهُ كالطّعامِ، وهذا معنَى قولِ ابن عبّاسٍ: "وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ" (¬2) وهذا فاسدٌ؛ لأنّا قد بَيَّنَّا أنَّه شرعٌ محضٌ وتَعَبُّدٌ صِرْفٌ، لا يُفْهمُ المعنى فيه، ولا تُعْقَلُ عِلَّتُهُ، وإنّما يكونُ الإلحاقُ عندَ فهمِ العِلَّةِ، وعَقْلِ المعنى، فَيُرَكَّبُ عليه مَثْلُه. 3 - الثّالثُ: قولُ أبي حنيفة: هذا عامٌّ في كلِّ شيءٍ، إِلَّا في العَقَارِ (¬3)؛ لأنّ العَقَارِ ليس فيه قبضٌ، إذ لا يُنْقَلُ ولا يُحَوَّلُ، وقال: إِن العَقًارَ لا يُضمَنْ بالغَضبِ؛ لأنَّه لا يُنْقَلُ ولا يُحَوَّلُ، وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف "أنَّ هذا فاسدٌ، فإنّه لولا تصوُّرُ القَبْضِ في الغَصْبِ ما صحَّ أنّ يكونَ لأحدٍ به اختصاصٌ، ولا له عليه يدٌ، لكن القَبْضَ في كلِّ شيءٍ على قَدْرِ صِفَتِهِ، فالمنقولُ قبضُه إِتْيَانُه إِلَيْكَ، والعَقَارُ قَبْضُهُ مَشْيُك إليه. وقال ابنُ المَاجِشُونِ وجماعةٌ معه: يُحْمَلُ على الطَّعامِ كلُّ مَكِيل؛ لأنَّه في معناه ولفظِهِ، ونُزِّلَ عليه الموزونُ؛ لأنّه في معناهُ الخاصِّ به، وليس الّذي يُعْرَفُ من بابِ القياسِ، وإنّما هو من بابِ كونِ الشَّيءِ في معنَى الشّيءِ الّذي يُعْرَف قبلَ التَّفَطُّنِ لوجهِ النَّظَرِ. وقيل في الحُجَّةِ له: لَمَّا كان الطِّعامُ منه ما يُكَالُ، ومنه ما يُوزَنُ، وانقسمتِ الحالُ فيه، حُمِلَ عليه ما كان مثلَه، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك شرعٌ غيرُ معلَّلٍ، فلا يَصِحُّ الإلحاق بما يُغْنِي عن إعادَتِهِ. ¬
الرّابع: قولُ مالكٍ: إنّه مخصوصٌ بما وَرَدَ في الحديثِ دونَ إلحاقٍ ولا تعليلٍ، وقالَ عليه السّلام: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتّى يَسْتَوْفِيَهُ" (¬1) فلذلك جوَّزَ بيعَهُ في الهِبَةِ قَبْلَ قَبْضِه. وأمّا الشُّبهَةُ، فإنّه في أَلْسِنَةِ الفقهاءِ عبارةٌ عن كلّ فعلِ أَشْبَهَ الحرامَ (¬2) فلم يكن * منه، ولا بَعُدَ عنه، ويُسمِّيها علماؤنا الذّرائعَ، ومعناه: كلُّ فعلٍ يمكنُ أنَّ يُتَذَرَّعَ به أي* يُتَوْصَّلَ به إلى ما لا يجوزُ، وهي مسألةٌ انْفَرَدَ بها مالكٌ دونَ سائرِ العلماء, وقد مهَّدْنَا القولَ عليها في "مسائل الخلاف" قرآنَا وسُنَّةَ، وإجماعًا من الأُمَّةِ، ولو لم يكن في ذلك إلّا الاتِّعاظُ ببني إسرائيلَ فإنّه حرَّم عليهم الصَّيْدَ في يومِ السَّبتِ، فكان الحُوتُ يجرِي في النَّهرِ أكثرَ من الماءِ وأُبِيحَ في سائرِ الأيّامِ، فكانوا لا يَجِدُون حُوتًا فيه، فتذرَّعُوا إلى صيدِ الحُوتِ في الأيامِ المباحةِ بأن سَدُّوا منَافِسَ الحُوتِ ومنافذَهُ عندَ رجوعِهِ، فلمَّا أرادَ أنّ يرجِعَ ضُرِبَتْ في وُجُوهِهِ الأسدادُ، فأصبح الماءُ كله حُوتًا، وأصبحوا هم قِرَدَة خاسئين. وأجمعتِ الأُمَّةُ أنَّه لا تجوزُ شهادةُ الأَبِ لابنه وإن كان عَدْلًا (¬3). وأمّا المقاصدُ والمصالحُ، فهي أيضًا مِمَّا انفردَ بها مالك (¬4) - رضي الله عنه - دونَ سائرِ العلماء" ولابُدَّ منها, لِمَا يعودُ من الضَّرَرِ في مُخَالفَتِها، ويدخلُ من الجَهَالَةِ في العُدُولِ عنها، وقد رأيتم في ذلك تمهيداتٍ وقواعدَ، يطلقُ البيانُ عليها إنَّ شاء الله. وإذا انتهَى الكلامُ إلى هذا المقام، فلابُدَّ من تأسيسٍ قواعدَ عَشْرِ ينبني عليها معنَى الكتاب، ويرجِعُ إليه النّاظرُ في أثناءِ الأبوابِ. ¬
القاعدة الأولى تحقيق الربا
القاعدةُ الأُولى (¬1) تحقيق الرِّبا قال الإمامُ: سمعتُ القاضِيَ الزِّنجانىُّ ببيتِ المقدسِ يقولُ: قال اللهُ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) قال: هذه الَايةُ منتظِمَةٌ لكلِّ بَيْعٍ صحيحٍ وبَيْعٍ فاسدٍ، فأمّا البَيْعُ الصّحيحُ فقد أشرنا إليه، ولكنَّ حدَّه عندَهم (¬3): كلُّ بيعٍ سَلِمَ مِنَ الرِّبَا والجَهَالَةِ، فإنّ البَيْعَ إنّما هو مُقَابَلَةُ المالِ بالمالِ، ولابُدَّ أنَّ يكونَ المالانِ من الجِهَتَيْنِ مُقَدَّرَيْنِ، والتَّقديرُ على قسمين: 1 - تقديرٌ تولاَّهُ الشَّرعُ في الأموالِ الرِّبَوِيَّةِ. 2 - تقديرٌ يَتَوَلّى المتعاقِدَانِ ذلك باختيارِهِمَا، وذلك في سائرِ الأموالِ. القاعدةُ الثّانيةُ (¬4) الفسادُ يرجِعُ إلى البَيْعِ من ثلاثةِ أشياءَ: 1 - إمّا من الرِّبا. 2 - وإمّا من الغَرَرِ والجهالة. 3 - وإمّا من أكلِ المالِ بالباطلِ. وحَدُّهُ: أنَّ يَدخُلا في العَقْدِ على العِوَضِيَّةِ,، فيكونُ فيه ما لا يقابِلُه عِوَضٌ؛ لأنّا قد بيّنا أنَّ البيوعَ (¬5) تنقسمُ على ثلاثةِ أقسامٍ: 1 - بيوعٌ جائزةٌ. 2 - وبيوعٌ محظورةٌ. ¬
القاعدة الثالثة
3 - وبيوعٌ مكروهةٌ. فالبيوعُ الجائزةُ هي الّتي لم يحظرها الشَّرْعُ، ولا وَرَدَ فيها نَهْىٌ، وإنّما قُلنا ذلك؛ لأنّ اللهَ تعالى أباحَ البَيْعَ لعبادِهِ وأَذِنَ لهم فيه إذْنًا مُطْلَقًا، وأباحَهُ عامَّةً في غير ما آيةٍ من كتابِهِ، مثل قولِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬2) وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية إلى قولِهِ: {تَعْلَمُونَ} (¬3) إلى غير ذلك من الآياتِ. القاعدةُ الثّالثةُ (¬4) قال لنا الشّاشىُّ (¬5) الإمامُ بمدينة السّلام: الصفقةُ إذا جَمَعتْ مَالَيْ رِبًا من الجهتين، ومعهُما أو مع أحدِهما ما يخالِفُه في القِيمَةِ، سواءٌ كان من جنسِهِ أو من غيرِ جنسهِ، فإنّ ذلك لا يجوزُ، مثالُه: أنّ يَبيعَ رَجُلٌ من آخرَ مُدًّا من قمحٍ ودِرْهَمًا بمُدَّيْنِ ودرهمٍ؛ لأنَّ (¬6) أجناسَ البُيُوعِ تنقسمُ إلى أربعةِ أقسامٍ: 1 - بَيعُ مُرَابَحَةٍ. 2 - وبَيْعُ مُكَايَسَةٍ. 3 - وبَيْعُ مُزَايَدَةٍ. 4 - وبَيْعُ اسْتِمَانَةٍ واسْتِرْسَالٍ، وقال ابنُ حبيبٍ: إِلَّا أنّ الاسترسالَ إنّما يكونُ في الشِّراءِ دون البَيْعِ، وليس ذلك بصحيحٍ من القولِ، ولا فَرْقَ في ذلك بينَ البَيْعِ والشِّراءِ. ¬
القاعدة الرابعة
وأمّا بَيْعُ المُرَابحةِ فإنّه على وجهينِ: أحدُهما: أنّ يُبايِعَهُ على رِبْحٍ مسمَّى على جملةِ الشّيء. الثّاني: أنّ يُبايعَهُ على أنَّ يُرْبِحَهُ للدّرهم دِرهما, وللدِّرهم نصف دِرْهَم،*وللعشرة أحد عشر درْهمًا، أو أقل من ذلك أو أكثر، ممّا يتفقان عليه من الأجزاء. فأما إذا بَايَعَهُ على أنَّ يُربِحَهُ للدِّرهم درهمًا، أو للدِّرهم نصف درْهَم*، أو للعشرة أحَدَ عَشَر دِرْهَمًا وما أشبه ذلك، فإنّ ما كان في السِّلعة المبيعة ممّا له عينٌ قائمةٌ، كالصبغ والكِمْرِ والفَتْلِ وما أشبه ذلك، فإنّه بمنزلةِ الثَّمَنِ يُحْسَبُ، ويُحْسَبُ له الرِّبح. وأمّا ما ليس له عينٌ قائمة، فإنّه على وجهين: أحدهما: ما يختصُّ بالمُبْتَاعِ. والثّاني: ما لا يختصُّ به، على وجوهٍ نُبَيِّنُها إنَّ شاء الله. القاعدةُ الرّابعة (¬1) قولُه -عليه السّلام-: "لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، وَلَا الْفِضَّةَ بالْفِضَّةِ، وَلا الْبُرَّ بِالْبُرِّ ... " الحديث إلى قولِهِ: "إِلَّا سَواءً بسَوَاءٍ، عَيْنًا بعَينٍ، يَدًا بَيدٍ" (¬2) فقال العلّماءُ: الجهلُ في التَّمَاثُلِ في فسادِ البَيْعِ كالعِلْمِ بالتَّفاضُلِ؛ لأنّ النَّبيَّ عليه السّلام شَرَطَ السّواءَ في الكَيْلِ والمِثْلَ في العدَدِ، واتَّفقَ عليه جميعُهم، إِلَّا أنَّ مالكًا قال: إنَّ العِلْمَ بالتَّمَاثُلِ يجوزُ أنَّ يُدْرَكَ بالتَّحرِّي في الأموالِ الرَّبَوِيَّة، ونَصَّ على ذلك في البَيْضِ بالبَيضِ، والخُبْزِ بالخُبزِ، واللّحمِ باللّحمِ، والقَدِيْد باللَّحم، وشبه ذلك. واختلفَ علماؤُنا في نقل ذلك عنه، فتارةً جعلوهُ عامًا، وتارةً جعلوهُ خاصًّا فيما ذكرنا، والصَّحيحُ عمومُه؛ لأنّ مالكًا جعل الحَزْرَ والتَّخْمِينَ طريقًا من المعرفة بالظَّاهرِ من ¬
القاعدة الخامسة القول بالعرف
التَّماثُلِ، إذِ الكَيْلُ لا يُوصَلُ به إلى حقيقةِ التَّماثُلِ، إذ يجوزُ أنَّ يتفاضلَ الكَيْلانِ والمُدَّانِ في وَضْعِ القمح فيهما، فالّذي أخذَ على المُكلَّف القصدُ إلى التَّماثُلِ فعلَاً، والقصدُ إلى اجتنابِ التَّفاضُلِ بمعيارٍ شرعيٍّ، والحَزْرُ والتَّخمِينُ معيارٌ في الشَّرعِ أيضًا. وَيحتَمِلُ أنَّ يكونَ مالك أجرَى ذلك في اليسيرِ، وحيثُ لا يَحْضُرُ الكَيْلُ، والله أعلم. القاعدةُ الخامسةُ (¬1) القولُ بالعُرْفِ قلت للفقيه أبي بكر (¬2): إنَّ الله قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآية (¬3)، فهذه حُجَّةٌ في القضاءِ بالعُرْفِ. قال: ليس المرادُ هاهنا بالعُرْفِ العَادَةَ، وإنَّما المرادُ به المعروفُ الّذي هو ضدُّ المُنْكَرِ. قلتُ له: فقد قال الله تعالى في قصّةِ يوسفَ: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} الآية (¬4). قال: ذلك شرْعٌ لمن قَبلَنَا, وليس بشَرْعٍ لنا. فسَكَتُّ، وهو ممّا لم يَقَعْ فيه إنصافٌ؛ لأنَّه ليس في مذهب مالك خِلَافٌ في أنّ شَرْعَ من قَبْلَنَا شَرع لنا، وأوَّلُ من تفطَّنَ لهذا من فقهاءِ الأمصارِ مالكٌ، وعليه عَوَّلَ في كلِّ مسألةٍ (¬5). وقد اتَّفَقَ العلّماءُ على حُكْمٍ؛ وهو: إذا باعَ الرَّجُلُ سِلْعَةَ بدينارٍ فإنَّه يُقْضَى له بغالِبِ نقدِ البَلَدِ، ولا يُنْظَرُ إلى سائرِ النُّقُودِ المختلفةِ، فيحكمُ بفسادِ البَيْعِ حتّى يُعَيَّنَ منها واحدًا. ¬
القاعدة السادسة في معرفة الغش
ومن أعظم مسائل العُرْفِ والعادَةِ مسألةُ العهدةِ، وقد انفرد بها مالكٌ دونَ سائرِ الفقهاءِ، وقد رَوَى في ذلك ابنُ وَهْب أنَّ النَّبيِّ عليه السّلام قضَى في العُهْدَةِ بثلاثة أيّامٍ وأربعةٍ (¬1)، وهي أنَّ السِّلْعَةَ بعد قَبْضِ المُبْتَاعِ في ضمانِ البائعِ حتَّى تمضِيَ ثلاثةُ أيّامٍ من وقتِ البَيْعِ، في كلِّ آفةٍ تَطْرَأُ على المَبِيع، ما عَدَا الجُنُونَ والجُذَامَ والبَرَصَ فإنّه يُفْضَى فيها بعُهْدَةِ سَنَةٍ، وَعوَّلَ علماؤنا على أنَّ هاتين العُهْدَتَينِ إنَّما يُقْضَى بهما لمن يَشْرُطُهما، أو حيث تكونُ العادةُ جاريةً بها. وقد قال قومٌ: إنّها إنّما كانت في المدينة لِكَثْرَةِ حُمَّاهَا، والحُمَّى لا تنكشفُ إِلَّا في الرّابعِ، وهذا غَلَطٌ بيِّنٌ، فإنَّ الباريءَ تعالى قد نقلَ الحُمَّى عن المدينةِ - ببركة النَّبِيِّ الصَّادقِ - صلّى الله عليه وسلم - إلى الجُحْفَةِ، حتَّى لم يبقَ لها أَثَرٌ إلى يومنا هذا (¬2)، مع أنّها تَحُلُّ بين حَرَّتَيْنِ، وهي إحدى معجزاتِهِ. القاعدةُ السّادسةُ (¬3) في معرفةِ الغِشِّ وهو كَتْمُ العَيْبِ، يكتمُهُ البائعُ عَنِ المُبْتَاع إذا جَهِلَهُ، وذلك ممنوعٌ عادة وممنوعٌ شرعًا، فإن جِبِلَّةَ الجِنسيَّةِ تقتضي بحكم الاعتياد ألَّا يَرْضَى أحدٌ لجِنْسِه إِلَّا بما يرضَى به لنفسه، والشّريعةُ قد مَنعت منه تحقيقًا لهذا الغَرَضِ، وقد مرَّ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
القاعدة السابعة
على رَجُلٍ يبيعُ طعامًا مُصْبَرًا، فأدخلَ يدَهُ في الصُّبْرَةِ، فرأَى فيها بَلَلًا قد أصَابَتْهُ السَّمَاءُ، فأخْرَجَهُ إلى ظاهرِ الصُّبْرَةِ، وقال: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1). ويدخلُ فيه بيعُ الصُّبْرَةِ يعلَمُ البائعُ كَيْلَها ولا يَعْلَمُ المُبْتَاعُ ذلك، فلا يجوزُ حتَّى يَعْلَمَا ذلك جميعًا أو يَجْهَلَا ذلك جميعًا، وهي مسألةٌ يُحاجَى بها على الطَّلَبَةِ، فيقال لهم: هل يجوزُ بَيْعُ المُجازَفَةِ؟ فيقولون: لا، وذلك جائزٌ، فإنَّهما إذا جَهِلاها جميعًا، أو عَلِمَاها جميعًا، جازَ ذلك كما قدَّمنا، وإنّما يَمْتَنِعُ ذلك من الجهةِ الواحدةِ. ومِنْ ذلك: يَدْخُلُ الرَّجُلُ السُّوقَ بِفَصٍّ يَظُنُّه زُجَاجًا، فإذا رآهُ المشتري تحقَّقَ أنَّه فَصُّ ياقوتٍ، فهذا غِشٌّ، إنِ انعقدَ البَيْعُ عليه لم يَجُزْ، وكان البائعُ بالخِيَارِ، ونظائرُهُ كثيرةٌ. القاعدةُ السّابعةُ (¬2) اعتبارُ الحاجةِ في تجويز الممنوعِ، كاعتبار الضّرورةِ في تحليلِ المُحَرَّمِ. ومن ذلك: استثناءُ القَرْضِ من تحريمِ بَيْعِ الذَّهبِ بالذَّهبِ إلى أجلٍ، وهو شيءٌ انْفَرَدَ به مالكٌ ولم يجوِّزه أحدٌ من العلّماءِ سِوَاهُ، لكن النَّاسَ كلَّهم اتَّفقوا على جوازِ التّأخيرِ فيه من غيرِ شَرْطٍ بِأجَلٍ، فهذا جازَ التَّفرُّقُ قبلَ التَّقابُضِ بإجماعٍ، فضَرْبُ الأَجَل أتمُّ للمعروفِ وأَبْقَى للمَوَدَّةِ. وَعَوَّلَ في ذلك علماؤُنا على قولِ النَّبيِّ عليه السّلام: "أنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ قبلَكُمْ ¬
اسْتَسْلَفَ من رجُلٍ أَلْفَ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ، فَلَمَّا جَاءَ الأَجَلُ، طَلَبَ مَرْكَبًا يَخْرُجُ فِيهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَخَذَ قِرْطَاسًا وَكَتَبَ فِيهِ إِلَيْهِ، وَنَقَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ فِيهَا الْقِرْطَاسَ وَالأَلْفَ دِينَارٍ، وَرَمَى بِهَا في الْبَحْرِ، وَقَالَ: اللهُمَّ إِنَّهُ قَدْ قَالَ لِي حِينَ دَفَعَهَا إِليَّ: اشْهَدْ لِي، قُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، وَقَالَ: ائْتِ بِكَفِيلٍ، قُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ وَكيلًا، اللَّهُمَّ إنَّكَ أَنْتَ الكَفِيلُ بِإِبْلاغِ الأَلْف، قَال: فَخَرَجَ صَاحِبُهُ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَحْتَطِبُ، فَرَفَعَ الْبَحْرِ لَهُ الْعُودَ فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا فَلَقَهُ وَجَدَ الْمَالَ والْقِرْطَاسَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَجَدَ مَركبًا فَأخَذَ الْمَالَ ورَكِبَ فِيهِ وحَمَلَ المالَ إِلَيهِ، فَلَمَّا عَرَضَهُ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: قَدْ أَدَّى الله عَنْكَ أمَانَتكَ" (¬1). فإن قيل: هذا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا. قلنا: كلُّ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ لنا ممَّا كان عَمَلًا لِمَنْ قَبْلَنَا في مَعْرِض المدحِ فإنَّه شَرْعٌ لنا، وقد مهَّدنا ذلك في "الأصولِ" (¬2). ومن ذلك: حديثُ العَرَايَا، وبَيْعُ التَّمْرِ على رؤوسِ النًخْلِ بالتَّمرِ الموضوعِ على الأرضِ. ومن ذلك: استثناءُ نَخْلَةٍ من النّخلاتِ، وذلك جائزٌ في القليلِ دونَ الكثيرِ، وبناهُ علماؤُنا وكثيرًا من مسائل البيوع على أنَّ المُسْتَثْنَى هل هو مَبِيعٌ مردودٌ بالاستثناء، أو مُبْقَى على أصلِ المِلْكِ، وهذه جهالةٌ عظيمةٌ، وخَلْطُ النَّسخ بالاستثناءِ، فإنَّه لا خلافَ بين العقلاءِ ولا بين العلماء في أنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ بالخطاب الثّاني لِمَا تضمَّنَهُ الخطابُ الأوَّلُ (¬3)، وأنَّ الاستثناءَ بَيَانٌ بالخطابِ الثّاني لِمَا احْتَمَلَهُ الخطابُ الأوَّلُ من عمومٍ أو خصوصٍ (¬4). ولو أنَّ أحدًا من العلّماءِ يقولُ: إذا قالَ الرَّجلُ لزوجه: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا إِلَّا واحدَةً، ¬
القاعدة الثامنة في حالة الجهالة
أنَّه يلزَمُه الثلاثُ؛ لأنّا قد دخلت في الثّلاثِ، ولو أراد أنَّ يُخْرِجَها بعد إدخالها لكان حرامًا؛ لإجماع الأُمَّةِ. وكذلك لو قال رَجُلٌ لزوجه: أنتِ طالقٌ إِلَّا أنّ يشاءَ فُلَانٌ، فإنّه لم يَقُلْ أَحَدٌ من الأُمَّةِ: إنَّ الطَّلاقَ قَدْ وَقَعَ، والاستثناءَ بعد ذلك رفعٌ له، وإنّما هو شرطٌ موقوفٌ عليه، فلا تُعَوّلُوا على هذه المسألةِ في شيءٍ من الفروعِ فإنَّه أصلٌ باطلٌ. القاعدةُ الثّامنةُ (¬1) في حالة الجَهَالَةِ قدِ اتَّفقتِ الأُمَّةُ على أنَّه لا يجوزُ إِلَّا بيعُ معلومٍ بمعلومٍ بأيِّ طريقٍ مِن طُرُقِ العلّمِ وَقَعَ، وإنّما اختلفَ العلّماءُ في تفاصيلِ طُرُقِ العِلْمِ: فمنها ما قاله مالك (¬2) وأبو حنيفة (¬3)؛ أنّ البَيْعَ على الصِّفَةِ يجوزُ، وخَصَّصَهُ مالك في بَيْعِ البَرْنَامَجِ (¬4) ولا يَدْرِي ما في جَوْفِه. وقال الشّافعي (¬5): لا يجوزُ في ذلك البَيْعُ على الصِّفَة؛ ليس لأنّ الصِّفَةَ ليست طريقًا إلى العِلْمِ، ولكنّ لأنَّ الصّفَةَ بَدَلٌ عن المعاينةِ، والأخذُ بالبَدَلِ لا يجوزُ إِلَّا مع عَدَمِ القُدْرَةِ على المبدَلِ، وههنا تُمكِنُ الرُّؤْيَةُ لِمَا في البَرْنَامِجِ بِحَلِّهِ. ¬
القاعدة التاسعة
قلنا: في حَلَّهِ مشقَّةٌ، فَلْيُعَوَّلْ على خَبَرِ الواحِدِ، ويجوزُ العملُ على خَبَرِهِ إجماعًا في سَلَامةِ السِّلْعَةِ وعَيْنِها وفي طيبِ النَّقْدِ وزَيْفِهِ. وكذلك يجوزُ العملُ في صفَةِ المَبِيعِ وحِلْيَتِهِ، والصِّفةُ طريقٌ إلى العلّمِ بلا خلافٍ، فَوَجَبَ أنَّ يُصَارَ إليها عند الحاجةِ، وكذلك يجوزُ المصيرُ إلى البَدَلِ عند الحاجةِ في العباداتِ، فكيفَ في المعاملاتِ!؟. ومسألةُ البَرْنَامجِ مسألةٌ عظيمةٌ للتُّجَّارِ، فهم يتبايعونَ على ذلك، ولا يختلفونَ في الأغلبِ (¬1)، وهذا مُستمدٌ من قاعدةِ المصلحةِ في رَفْعِ الحَرَجِ والمشقَّةِ عن الخلْقِ، وقد شاهَدْتُ ذلك، بأن يخرج كلّ أحدٍ برنامجه، ويبيعه منه على الصِّفةِ, ولا يختلفونَ، وهي أمانةٌ عظيمةٌ. القاعدةُ التّاسعةُ (¬2) ثبتَ عن النَّبيِّ عليه السّلام في المبيعاتِ النّهي عن سبع وثلاثين منها: 1 - الغَرَرُ. 2 - المُلَامَسَةُ. 3 - وَالمُنَابَذَةُ. 4 - حَبَلُ الْحَبَلَةِ. 5 - الْمَلَاقِيحُ. ¬
6 - الْمَضَامِينُ 7 - بَيْعُ الحَصّى. 8 - بَيْعُ الثُّنْيَا. 9 - بَيْع العُرْبَان. 10 - شَرْطَانِ في بَيْعٍ. 11 - بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. 12 - بَيعُ ثمرةٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. 13 - الْمُزابَنَةُ. 14 - المُحَاقلَةُ. 15 - المُخَابَرَةُ. 16 - المعاومة. 17 - الرُّطَبُ بالتَّمْرِ. 18 - الكَرْمُ بالزَّبِيبِ. 19 - بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفّى. 20 - وعن (¬1) بَيْع وَسَلَفٍ. 21 - لا تُصَرُّوا الإبلَ والغَنَمَ. 22 - وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَاهِنِ. 23 - وَنَهَى عَن ثَمَنِ السِّنُّوْرِ. 24 - وَنَهَى عَنْ حُلْوَانِ الكَاهِنِ. 25 - وَنَهى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لبادٍ. 26 - النَّجِشُ. 27 - بيعُ الرّجُل على بَيْعِ أخِيهِ. 28 - رِبْحُ ما لم يَضْمَنْ. ¬
تفصيل وشرح ما تقدم
29 - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلَدِهَا. 30 - كِرَاءُ الأَرْضِ. 31 - عَسِيبُ الفَحْلِ. 32 - بَيْعُ نَقْعِ الماءِ. وَنَهَى عَنْ بَيْعِ: 33 - الْخَمْرِ. 34 - والميِّتة. 35 - وَالدَّمِ. 36 - والأصنامِ. 37 - ونَهَى تعالى عن البَيْعِ يوم الجمعة. فهذه سبعةٌ وثلاثون مَبِيعًا وَرَدَ النَّهيُ عنها، قَبَضَها: "مسلم" و "البخاريّ" و"الترمذيّ" و"أبو داود" و"النسائي" فاطلبوها فيها. تفصيل وشرح ما تقدَّم فأمّا "الغَرَرُ" فهو كلُّ أمرٍ خَفِيَت عاقبتُهُ وانْطَوَى أَمْرُهُ. وقفَ رُؤبة على رَجُلٍ فَسَاوَمَهُ ثَوْبًا، فَقَلَبَهُ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، فقال له: أَعِدْهُ على غَرِّهِ. ذَكَرَهُ (¬1) مسلم (¬2) من طريقِ أبي هريرةَ، ولم يذكره البخاريُّ؛ لأنْ راويًا واحدًا مَرَجَهُ مَعَ المُلَامَسَةِ والمُنَابَذَةِ، وسائرُ رواةِ الحديثِ لم يُدخِلوهُ، فتوقَّعَ البخاريُّ أنّ يكونَ تفسيرًا للمُلَامَسَةِ وَالمُنَابَذةِ، إذ هو في الدَّرجةِ الثّانيةِ من الحديثِ، وقد زهَقَ في الأُولى، فلو قال النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تَبَايَعُوا غَرَرًا" ¬
لكان في الدَّرجة الأُولى، ولو قال: "لا تبَايَعُوا هَكَذَا" وأشارَ إلى قِصَّةِ فيها غَرَرٌ، لَعَلَّلْنَا وعدَّيْنَاها إلى نظائرها. وأمّا "الْمُلَامَسَةُ" و "الْمُنَابَذَةُ" فهو بَيْعٌ كان أهل الجاهليّة يتبايعونَهُ، وفي تفسيرِهِ خلافٌ، كلُّه يرجعُ إلى المُخَاطرةِ والجَهَالةِ، منه أنَّ يقولَ: إذا لَمَسْتَ الثَّوبَ فقد وَجَبَ البَيْعُ، وإذا نَبَذْتُ هذه الحصاةَ الّتي في يَدِي، فهو بيعُ الحَصَى أيضًا، أو إذا جعلتُ الحَصَاةَ على هذا الثَّوب (¬1). وأمّا "حَبَلُ الْحَبَلَةِ" فقيل: هو بَيْعُ النّتاجِ الثّاني، وبيعُ الموجودِ المجهولِ لا يجوزُ، فكيف المعدومُ؟!. وقيل: كانوا يجعلونَهُ أجَلًا، فلا يجوزُ إنَّ كانَ مجهولًا، كان كان ميقاتًا معلومًا - كما قال مالك في الجدَادِ والعطاء - فذلك جائزٌ (¬2). وأمّا "المَلَاقِيحُ" فهي ما في ظُهورِ الفُحولِ، و"المَضَامِينُ" ما في بطونِ الإناثِ، وذلك مجهولٌ معدومٌ، وقد قال جميعُ أهلِ اللُّغةِ: إنَّ الملاقيحَ ما في بُطونِ الإناثِ، وأطالوا في ذلك الكلامَ، واستشهدوا في ذلك بالأشعارِ، ونحن لا نحتاجُ إلى ذلك؛ لأنَّه لا يجوزُ كَيْفَمَا كانَ (¬3). وأمّا "الثُّنْيَا" (¬4) فهي في اللُّغة عبارةٌ عن الرُّجوعِ إلى ما مضَى، أو عن ما مَضَى، ¬
ويتصرَّفُ في البَيْعِ على وجوهٍ كثيرةٍ، منها؛ إنْ جئتَنِي بالثَّمَنِ إلى وقتِ كذا رَدَدْتُ عليك، وإن لم تَأْتِني إلى وقتِ كذا فلا بَيْعَ بيني وبينَكَ، وفي ذلك تفصيلٌ بين علمائنا، منه جائزٌ ومنه ممنوعٌ، يأتي بيانُه إنَّ شاءَ الله. وأمّا "بَيْعُ العُرْبَانِ" فقد فَسَّرَهُ مالك، وتفسيرُهُ يرجِعُ إلى قاعدةِ: أكْلِ المالِ بالباطلِ؛ لأنَّه قال (¬1): "إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَالْعُرْبَانُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ فَالْعُرْبَانُ لَكَ، وَإِذا كَانَ لَمْ يَتِمّ فَفِي مُقَابَلَةِ مَنْ يَكُونُ" رواه مالك (¬2) عن "صحيفة عَمْرو بن شُعَيْب" وهي صحيحةٌ صحَّحَهَا البخاريّ في حديثِ "الرُّباعيات" (¬3) وصحَّحَهَا الدَّارَقُطْنِي (¬4)، فإذا وَجَدْتُمُ الطريقَ إليها صحيحًا فَخُذُوا بها، وإنّما تَرَكَهَا أكثرهُم لعَدَمِ الثِّقَةِ في طريقها (¬5)، لا لِعَدَمٍ في ذاتها. وقد اعترضَ عليها بعضُهُم (¬6) فقال: إنّما ردُّها لاحتمالها؛ لأنّ عَمْرو بن شُعَيْب بن محمّد بن عبد الله بن عَمْرو إذا قال عن* جدِّه، احتملَ أنَّ يكونَ الأقربَ، فيكونُ مُرْسلًا، واحتمَلَ أنّ يكونَ*جدَّهُ الأعلى، فسَقَطَ بالاحتمال. وليس هذا بلازمٍ؛ لأنّ عبدَ الله بنَ عَمْروٍ كَتَبَها عنِ النَّبيِّ عليه السّلام (¬7) وصارت مُتَوَارَثَةَ في أولادِهِ متوالدةً في أحفادِهِ، ¬
فإنْ أرادَ عن جدِّه الأقرب وهو محمّدٌ، فمحمّدٌ إنّما أخذَ الصّحيفةَ عن عبد الله، ولو أنّ مَالِكًا يَقِفُ عليها مثلًا لجازَ لَهُ أنّ يقولَ: قال رسولُ الله، وهكذا نحنُ إلى يومِ القيامةِ. وقد كان عند أولاد تَمِيمٍ الدّاريِّ بِحَبْرُونَ -قرية إبراهيمَ- كِتَابُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في قِطْعَةِ من أَدِيم فيه (¬1):"بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَقْطَعَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ تَمِيمًا الدَّارِيَّ؛ أقْطَعَهُ قَرْيَتَيْنِ حَبْرُون (¬2) وعَيْنُون (¬3) - قريتي إبراهيم الخليل- يسير فِيهمَا بِسِيرَتهِ" وشاهدَ النّاسُ كتَابَهُ، إلى أنّ دَخَلَتْهُمَا الرُّومُ سنةَ ثنتين وتسعينَ، ولقد اعترضَهُ فيهما بعض الولاةِ ليأخُذَهما من يده إبَّانَ كونِي بالشَّامِ، فحضَرَ مجلسَه القاضي حَامِدٌ الهرويُّ (¬4) وكان حَنَفِيًّا في الظَّاهر، ومعتزليًّا في الباطنِ، مُلْحِدًا شَاغِبًا، وكان الوالي سُكْمَانَ بن أرتق (¬5)، فاستظهرَ أولادُ تَمِيمٍ بكتابِ النَّبيِّ، فقال القاضي حامدٌ: هذا الكتابُ لا يَلْزَمُ؛ لأنَّ النَّبىِّ أَقْطَعَ ¬
مالا يَمْلِكُ، فاسْتُفْتِيَ الفقهاءُ، فقال الطُّوسي (¬1) - وكان بها حينئذٍ -: هذا كافرٌ، والنَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُقْطِعُ الجنّةَ، ويقولُ: قصرُ عمرَ، وقصرُ فلانٍ (¬2)، فكيف لا يُقْطِعُ الدُّنيا وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "زُوَيت لِيَ الأَرْضُ" الحديث (¬3) فَوَعْدُهُ صادقٌ وكتابُهُ حقٌّ، فَخَزِيَ القاضي والوَالِي، وبَقِيَ أولادُ تَمِيمٍ بكتابِهم في قريتِهم. وأمّا "بيعتان في بيعةٍ" فهو ثابثٌ من طريقِ أبي هريرةَ (¬4)، واختلفَ النَّاسُ فيه وفي تفسيرِهِ على ستَّةِ أقوالٍ (¬5): الأوَّلُ: قال الشّافعيُّ (¬6): هو أنَّ يقولَ: أبيعُكَ داري بكذا وكذا، على أنَّ تَبِيعَنِي غلامك بكذا، فهذا وجبَ لي غلامُك، وَجَبَتْ لك داري، وهذا يَنْبَنِي على بَيْعِ مجهولٍ بشيءٍ مجهولٍ، لا يدري كلُّ واحدٍ منهُما على ما وقعتْ عليه صَفْقَتُهُ. والثّاني: أنَّ يقول له: أبيعُكَ ثوبي هذا بِنَقْدِ عشرة، أو بتأخير عشرين، ولا يفَارِقُه على إحدى البَيْعتينِ، هكذا قاله أبو عيسى (¬7). وأمّا "بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" فهو شيءٍ قد اتَّفقتْ عليه الأُمَّةُ، وهو من بابِ الغَرَرِ وإليه يعودُ (¬8)، إِلَّا أنَّي رأيتُ لمالك جوازَهُ في "العُتْبِيَّة" (¬9) وقد تكلَّمنا عليه في "كتب المسائل"، ¬
فصل
وبيَّنَّا كيفيَّةَ خروج مسألةِ مالكِ على الأصل الجائزِ، وقلنا في بعض تأويلاته: إنَّما جَعَلَهُ رَسولًا وَوَاسِطَةً ولم يَجْعَلهُ بائعًا ولا مُبْتَاعًا (¬1). فصل وأمَّا "بَيْعٌ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أنَّ يَبدُوَ صَلَاحُهَا" فيأتي بيانُه إنَّ شاء الله (¬2)، وكذلك "المُزَابَنَة" و "المُحَاقَلَة" و"المُخَابَرَة" و "الرُّطَبُ بالتَّمْرِ" و"الكَرْم بالزَّبِيبِ" و"بيعُ الطَّعامِ قبل أنّ يُسْتَوْفَى". وأمّا"بَيْعٌ وَسَلَفٌ" فإنّما نَهَى عنه لتضادِّ العَقْدَينِ، فإنّ البَيْعَ مَبْنِيٌّ على المشاحَّة والمغابنة، والسَّلَفُ مَبْنِيٌّ على المعروفِ والمُكَارَمَةِ، وكلُّ عَقْدَينِ يتضادّان وصفًا لا يجوزُ أنّ يجتمِعَا شَرْعًا، فاتَّخِذُوا هذا أصلًا (¬3). وأمّا "التَّصْرِيَةُ" فاختلفَ العلّماءُ فيها: فمنهم من جعلَهَا عَيْبًا، فتكونُ من أكلِ المالِ بالباطلِ. ومنهم من جعلَهَا غِشًّا، وقد بيَّنَّا ذلك في "الخلاف". وأمّا "ثَمَنُ الكَلْبِ" فلا يخلو أنّ يكون مأذونًا في اتِّخاذه، أو غيرَ مأذونٍ، والحديثُ مَحْمُولٌ على ما حَرُمَ اتِّخَاذُهُ. فأمّا ما يجوزُ اتِّخاذُهُ فبيعُهُ جائزٌ، وقد اختلفَ علماؤُنا في ذلك: ومَنْ قال منهم: لا يجوز بيعه، قال: تَلْزَمُ القِيمَةُ لمن أَتْلَفَةُ، فبعيدٌ عن الصَّوابِ، والصّحيحُ جوازُ البَيْعِ فيه من غيرِ كلامٍ، وقد قَرَّرْنَا ذلك في كتابِ "الإنصاف لتكْمِلَةِ كتابِ ¬
فصل
الإِشْراف" وقد تقدَّم القولُ في اقتنائه، وكلُّ ما جازَ اقتناؤُه جازَ الانتفاع به، صار مالًا وجازَ بذلك العِوَض فيه. واختلفَ علماؤنا في بَيْعِهِ (¬1)، هل هو محرَّمٌ أو مكروهٌ؟ وصرَّحَ مالك بالمنعِ في مواضع، والصَّحيحُ في الدَّليلِ جواز البَيْع، وبه قال أبو حنيفة (¬2). وقال الشّافعيُّ: لا يجوزُ بَيْعُهُ (¬3). وظنَّ بعضُهُم أنَّ النَّهيَ عن ثَمَنِ الكلبِ إنّما هو في المأْذُونِ في اتِّخاذِهِ؛ لأنّ المأمورَ بقَتْلِه لا يُنْهَى عن بَيْعِهِ. قلنا: هذه غفلةٌ عظيمةٌ، كان أَمَرَ بقتلها، ثمّ نَسَخَ الأمرَ بالقتلِ، وأَذِنَ في اتِّخاذِهِ (¬4)، وكان بعد ذلك جوازُ البيعِ أو النَّهيُ عنه. وقال بعضُهُم: إنّه قَرَنَهُ بحُلْوَانِ الكَاهِنِ، فدلَّ على أنَّه حرامٌ، ودليلُ القرَائِنِ أضعفُ دليلٍ، لا يَشْتَغِلُ به المحقِّقُون من علمائنا. فصل وأمّا"السِّنَّوْرُ" فانفردَ مسلم بروايةِ النَّهي عن بَيْعِهِ (¬5)، فإن سَلِمَ عن العِلَّةِ الّتي ذكرناها في أوّلِ "الكتابِ" (¬6) فإنَّ ذلك محمولٌ على المصلحةِ، وأن النَّبيِّ عليه السّلام أراد أنَّ تكون السَّنَانِيرَ مسترسلةً على المنازلِ تحميها من الفَأْرِ من غير اختصاصٍ فَجَازَ. وأمّا حُلْوَانُ الكَاهِنِ" وهو الثّالث والعشرون من المحرّمات، فهو مُحَرَّمٌ بإجماعِ ¬
الأُمَّةِ؛ لأنَّ ذلك من أَكْلِ المالِ بالباطلِ؛ لأنَّه مالٌ في مقابَلَةِ فِسْقٍ؛ لأنَّه ثمنٌ لِلكَذِبِ والضِّلالِ، فيكونُ محرَّمًا كالميِّتةِ والدَّمِ وما أشبهَ ذلك؛ لأنَّه من بابِ معرفةِ طلب الغَيْبِ، وهذا ممّا لا يُدْرَكُ: وأمّا "رِبْحُ مَا لَمْ يضْمَنْ" فإنّما لم يَجُزْ لأنَّ بيْعَهُ لا يجوزُ؛ لأنّ ما لم يَضْمَنْ، إمّا لأنَّه لم يَمْلِكهُ فيكون من بيع ما ليس عندَك، وإمّا لأنَّه غيرُ مقدورٍ على تسليمِهِ، فيكونُ من بابِ بَيْعِ الغَرَرِ والمُخَاطَرَةِ. وأمّا "بَيْعُ حَاضِرٍ لِبَادٍ" و"النَّجَش"و"بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعُ أَخِيهِ" فيأتي بيانُه إنَّ شاء الله في "شرح الأبواب". وأمّا "التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلَدِهَا" فاختلفَ العلّماءُ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ: 1 - فمنهم من قال: ذلك لِحَقِّ الأُمِّ في التَّوْلِيهِ, وقد وردَ في الحدِيثِ: "لا تُوَلَّهُ (¬1) والدةٌ على وَلِدِها" (¬2). 2 - وقيل: لحقِّ الطِّفلِ (¬3). 3 - وقيل: لحقِّ اللهِ. فالبَيْعُ فاسدٌ في ذلك، إِلَّا على القولِ بأنّه حقٌّ للأُمِّ فيقِفُ على إجازتِهَا، وقد خَرَّجَ التّرمذيُّ (¬4) في ذلك حديث أبي أيوب: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللهُ بَينَهُ وبَيْنَ ¬
أَبِيهِ" وهو حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، وذكر حديث عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "وَهَبَ لِي رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - غُلَامَيْنِ أَخَوَينِ، فَبِعْتُ أحَدَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: مَا فَعَلَ غُلَامكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بِعْتُهُ، فَقَالَ: رُدَّهُ" (¬1) حَسَنٌ غريبٌ. وهي مسألةٌ غريبةٌ (¬2)، اختلفَ العلّماءُ فيها على أربعةِ أقوالٍ: الأوَّل: أنَّه لا يُفَرِّق بين والدةٍ ووَلَدِها, ولا بينَ الوالِدِ وولَدِهِ، ولا بين الأَخَوَين والأُختين، قاله أبو حنيفة (¬3). الثّاني: قال ابنُ القاسم: يُفَرِّقُ (¬4) بين الوالِدِ ووَلَدِه (¬5). الثّالث: أنَّ ذلك في الحَرْبِيَّاتِ لا في المُوَلِّدات الّذين وُلِدُوا في أرضِ الإسلامِ (¬6). الرّابع: تجوزُ التَّفرقةُ إذا أَذِنَتْ في ذلك الأُمّ (¬7)، وقال ابنُ الفاجِشُون: لا يجوزُ ذلك، وقد قال ابنُ عبد الحَكَم: لا يُفَرِّقُ بينَهُما. الخامس: في التّوجيه. ¬
قال الإمامُ: وهذه المسألةُ تنبني على أنّ المَنْعَ هل هو حقٌّ للهِ أو للأُمِّ أو حقٌّ للوَلَدِ؟ وفي ذلك للعلّماء ثلاثة أقوال: الأوَّل: أنَّه حقٌّ للوَلَدِ. الثّاني: أنَّه حقٌّ للأُمِّ. الثّالث: أنّه حقٌّ للهِ. فإنْ قلنا: إنّه حقٌّ للهِ، لم يعمل الرِّضا في إسقاطه. وإن قلنا: إنّه حقٌ للأُمِّ، عمل فيه الرِّضا. وإن قلنا: إنَّ ذلك حقٌ الولد للرِّفق به، لم يَجُز. وأمّا الأخوان، فحديثُ علىِّ حُجَّةٌ عليه، وقال علماؤنا: نحملُهُ على الاستحبابِ (¬1). وأمّا "التّفرقة" ففي ذلك خمسة أقوالٍ: الأوَّل: إذا ثَغَر -بالتّاءِ المعجمةِ باثنين من فوقها- يعني: إذا سقط ثُغْرُهُ، قاله مالك (¬2). الثّاني: إذا عرفَ ما يُؤمَر به وُينْهَى عنه. الثّالث: إذا بَلَغَ سبع سنينَ (¬3). الرّابع: إذا بَلَغَ الحُلُم، قاله أبو حنيفة (¬4). ¬
الخامس: إذا بلغَ عشر سنينَ، قاله ابنُ وهبٍ عن مالك واللَّيْث (¬1). والصَّحيح أنَّه حقّ للأُمِّ، والمسألةُ أصوليّةٌ أكثر من فروعيّة. وأمّا "كِرَاءُ الأرضِ" فسيأتي بيانُه إنْ شاءَ الله. وأمَّا "عَسْبُ الفَحْلِ" (¬2) فجمهورُ العلّماءِ على أنّه لا يجوزُ، حَمَلَهُ مالك على أنّ يكونَ يُقْصَدُ به الإلقاحُ، وأمّا لو كان نَزَوَاتٍ معلومةً فهو جائزٌ، وهو الصّحيحُ؛ لأنَّه أَمْرٌ مأذونٌ فيه شرعًا، محتاجٌ إليه عادةٌ، معلومٌ بالتّقدِير، فلا وَجْهَ لِرَدَّهِ إِلَّا من طريق الجهالةِ الّتي أشرنا إليها في اشتراطِ الإلقاحِ، وفي المُضِىِّ على العادة فيه. وأمّا "بَيْعُ المياهِ" فرُوِيَ في الأثرِ: "نَهَى النَّبِيُّ عَلَيهِ السّلَام عَنْ نَقْع البِئْرِ" (¬3) وَرُوِيَ "نفع" بالقاف والفاء، وَرُوِيَ: "لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلأَ" (¬4) والأحاديثُ فيه صِحَاحٌ. نَهَى النَّبِيُّ عَلَيهِ السّلَام عن بَيْع الماءِ (¬5)، واختلفَ العلّماءُ في تفسيرِهِ، فقال كلُّ واحدٍ وأطالَ، وجُمْلَتُهُ ترجِعُ إلى ثلاثةِ أَقوالٍ (¬6). 1 - الأوَّل: قال مالك (¬7): إذا كان الماءُ في بئرٍ مملوكةٍ، فلا يدخلُ الحديثُ ¬
فيها، وإذا كانت في الصَّحارِي، ففيها الحديث، ويكونُ في الشّفةِ لا في الزَّرْعِ. 2 - وقال ابنُ حبيب: الفضلُ في الزّرعِ مباحٌ، كالفَضْلِ في الشّفة (3). 3 - وقال الشّافعىُّ (¬1) نحو قول مالك أنَّه في الآبار الفَلَوِيَّةِ لا المملوكة. قال الإمام: الماءُ مباحٌ، الأصلُ فيه قولُه: "النَّاسُ شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ: الْمَاءُ، وَالْكَلأُ، وَالنَّارُ" (¬2) أسكنَ اللهُ الماءَ في الأرضِ، فمن أَنْبَطَهُ كان أحقّ به من غَيْرِه، فإذا أخذَ منه حاجتَهُ، رجعَ الفضلُ إلى الأصلِ وهو الإباحة والاشتراك، هذا في ماءِ الأرضِ المشترَكَة، وأمّا ما في الأرضِ المملوكةِ؟ فإن قلنا: إنَّ المَالكَ يستولي على باطنِ الأرضِ كاستيلائه على ظاهرها، فالماءُ له. وإن قلنا: إنّه لا يملِكُ إِلَّا ظاهرَها، فليس له من الماء إِلَّا مَا لَهُ في الأرض الفَلَوِيَّةِ، وعلى هذا الأصل بَنَى أصحاب مالك قولهم: إِنَّ مَنِ أنّهارتْ بِئْرُهُ واحتاجَ إلى ماءِ جَارِهِ أنَّه يعطيه له بغير ثَمَنٍ، إذ لا خلافَ من قوله في وجوبِ الأعطاءِ، لاِنِ اختلَفُوا في جهة الإعطاءِ. كما اتّفق النَّاسُ على أنّ صاحبَ الماءِ أحقّ بالأصلِ، قال النَّبِيُّ عليه السّلام: إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمْ في الْمَاءِ فقال: وَالّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُذَادَنٌّ رِجَال عن حَوْضِي أو قال: رَجُلٌ، الحديث (¬3)، وقال: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِليْهِمْ يَوْمَ الْقيامَةِ"، فذكَرَ رَجُلًا كان له فضل ماءٍ ¬
فصل
بالطَّريقِ فمَنَعَهُ من ابنِ السَّبيلِ (¬1)، وهذا يدلُّ على ترجيحِ إحدى روايتي مالك في تحريم بَيْعِ فَضْلِ الماء، على الرِّوايةِ الأُخرى في الكراهِيَة. وكذلك اختلفَ قولُ مالكٍ في الكَلأ الّذي ينبتُ في الأرض المملوكة، هل يجوزُ له منعُهُ أم لا؟ فقيل: له مَنْعُهُ؛ لأنَّه مالك أرضه. وقيل: ليس له منعه؛ لأنَّه لم يتكلَّف فيه. والأوَّلُ أصحَّ؛ لأنَّه رِزقٌ سَاقَهُ اللهُ إليه في خالصِ ملكه، والكلأُ الّذي حرم عليه منع الماء هو الكلأ الّذي ليس بثابتٍ في ملكه. فصل (¬2) وأمّا "كَسْبُ الْحَجَّامِ" فهو خبيث، و"مَهْرُ الْبَغِىِّ" فلا كلامَ فيهِ لفسادِهِ. وأمّا "كَسْبُ الْحَجَّامِ" فقد وردت فيه ثلاثة أحاديث كلُّها صِحَاحٌ: الأوَّلُ: أنَّ النَّبىَّ عليه السّلام احْتَجَمَ وَأَعْطَاهُ صَاعًا من طَعَامٍ (¬3)، وَرُوِيَ: "صَاعَانِ" (¬4)، ورُوِيَ "مِنْ تَمْرٍ" (¬5)، وَرُوِيَ: "فَأَعْطَاهُ أُجرته" (¬6). الثّاني: أنَّ النَّبيِّ عليه السّلام قد نهى عنه، فلم يَزَلْ يستأذنه حتّى قال له: "اعْلِفْهُ نُضَّاحَكَ" يعني: رقيقك (¬7)، رواه ابن مُحَيِّصَةَ الأنصاريّ عن أبيه (¬8). ¬
الثّالث: هذا الّذي تلوناهُ آنفًا. وكلُّها مُعَارَضَةٌ، وبعضها أَخْلَف من بعض. أمّا قوُله (¬1):"كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ" فهو نَصٌّ في التَّحريمِ، قال اللهُ تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). وأمّا قولُه (¬3): "اعْلِفْهُ نُضَّاحَكَ" فكأنَّه مشتبه، فنزّهه عنه في ذاته، وأمرَهُ بإطعامهم للإِبِلِ لا للرَّقيق، كذا رواهُ يَحْيَى؛ لأنّ ما لا يرضاه لنفسهِ في الطُّعْمَةِ لا يرضاهُ لرقيقه؛ لأنّهم مكلَّفون في الحلال والحرام والشّبهة بمثل ما كلّف، بخلاف الإبل والبقر والبهائم، فإنّه لا تكليفَ عليها، وأمّا ما أعطاه إيّاه أجرةً، فدليلٌ على الحِلِّ المُطْلَقِ، فإنَّ النَّبيَّ عليه السْلام لا يدخل في شُبْهَةٍ، لِمَا هو عليه من رَفِيعِ المنزلةِ ومَرَاتِبِ العصمة، ولو ثبتَ التّاريخ في المتقدِّم منها من المتأخِّر، فينبغي التّرجيحُ أو التّأويلُ، فورودُ النَّهْي فيه يُحملُ على أنَّه كانت معاملة مجهولة، يحتجِمُون إلى وقت النّتاج، أو الجَدَادِ، أو الحَصَادِ، فيعطي معلومًا، فيكونُ عِوَضًا عن عمل مجهولٍ، أو يكونُ مجهولًا، فيكون عِوَض مجهولٍ عن مجهولٍ، فأعلَمَهُم النَّبىُّ عليه السّلام بتحريمِ ذلك، وعرفوه بينهم، فأعطاهم النَّبىُّ عليه السّلام معلومًا عن معلومٍ. وأمّا التَّرجيحُ؛ فإنَّ الجوازَ أقوى من المنعِ للحاجةِ إليه، فكان النَّبيُّ عليه السّلام منع منه، فلمّا رأى الحاجةَ إليه رخَّصَ فيه. ¬
القاعدة العاشرة في بسط المقاصد والمصالح التي أشرنا إليها قبل هذا
وقد يُحْمَلُ النّهيُ عن كَسْبِ الحَجَّامِ على ما حُمِلَ عليه النّهي عن كَسْب الأَمَةِ، فإنّها كانت في الجاهليّة تكسِبُ بفَرْجِهَا، فيرجعُ النّهيُ إلى ما لا يجوزُ، فإذا اكتسبت بيدها جازَ، فكذلك كَسْب الحجّام كان عندهم مجهولًا، فإذا تعاملوا بينَهُم بمعلومٍ جازَ، لِمَا رُوِيَ أنّ النَّبىَّ عليه السّلام احتجمَ، فيه دليلٌ على أنّ ثَمَنَ المنافِعِ يجوزُ أنّ يجري فيه المتعاملان على العادةِ والمُرُوءَةِ، فهذا عملَ له أنّ يعطيه أجره الواجب له جازَ، وإن زادَهُ شَكَرَ، وإن خَاسَرَهُ صَبَرَ، أو طلب مبلغ حقِّه، وهو مأخوذٌ من قاعدةِ العُرْفِ، إحدى القواعد العشرة الّتي ترتب عليها أحكام المعاملات في المذهب المالكي. وأمّا "النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ" (¬1) فذلك لحقِّ الله، وأغربُ ما فيه ما تَفَطَّنَ له بعضُ أصحابِنا، فإنّهم اتّفقوا على نَقْضِهِ وإن فاتَ، قالوا كلُّهم: يضْمَنُ القِيمَة، إِلَّا مالكًا الغوّاصَ، فإنّهه قال: يَضْمَن الثَّمَن، لنُكتَةٍ بديعةٍ، وهي أنّ القيمةَ لا سبيلَ إلى معرفتها أبدًا؛ لأنّ ذلك ليس بوقتِ بَيْعٍ لأَحَدٍ، فرجعنا إلى الثَّمَنِ ضرورةً الّذي قرَّرَهُ على نفسِهِ وَرَضِيَ ذلك الآخرُ به. القاعدةُ العاشرة (¬2) في بَسْطِ المقاصِدِ والمصالح الّتي أشرنا إليها قَبْلَ هذا وقدِ اتَّفقتِ الأُمَّةُ على اعتبارِها في الجُملةِ، ولأجلها وَضَعَ اللهُ الحدودَ الزّواجرَ في الأرضِ استصلاحًا للخَلْقِ، حتّى تَعَدَّى ذلك إلى البهائمِ، فَتُضْرَبُ البهيمةُ استصلاحًا، وإن لم تُكلَّفْ، تَسَبُّبًا إلى تحصيل قصدِ المكلِّفِ، وأقَربُ من ذلك أنّ الطِّفلَ يُضرَبُ ¬
على التَّمَرُّن على العبادات لا ضربَ تكليفٍ، ولكن ضَرْبَ تأنِيسٍ وتدريبٍ، حتّى يأتيَهُ التّكليفُ على عادةٍ، فَتخِفُّ عليه المشقَّةُ في العبادة. ولقد انتهتِ الحالُ بالشّيخِ المعظَّم أبي بكر الشّاشىِّ القَفَّال إلى طرْدِ ذلك حتَّى في العباداتِ، وصنَّفَ في ذلك كتابًا كبيرًا سمَّاهُ "محاسن الشّريعة" (¬1) وليس له فيه نكتَةٌ بديعةٌ (¬2). والدّليلُ على صِحَّة ما صار إليه مالكٌ مِنْ انفرادِه في تعويلِهِ عليها واختصاصِهِ بها دون سائرِ العلماء، اتّفاقُ أربابِ الحَلِّ والعقْدِ على أنّ الجماعةَ يُقْتَلُون بالواحدِ قِصَاصًا؛ استبقاءً للباقِينَ واستصلاحًا لحَالِهِم، وقد قَتَلَ عمرُ نَفَرًا بواحدٍ قتلُوهُ غِيلةً، ولم يَلتفِتْ عمرُ إلى الغِيلَة، بل قال: لو تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ (¬3)، فإن أَلْفًا يُقْتَلُونَ باغتيالِ حمارٍ، فكيف باغتيالِ إنسانٍ (¬4)؟! فدلَّ على أنَّ المُعتبرَ إنّما كان بالرّدعِ. وكذلك اتّفقوا على أنَّ حِرْمَانَ القاتلِ الميراثَ رَدْعًا وسَدًّا للذَّريعةِ. وكذلك قال عمرُ: مَنْ نَكَحَ في الْعِدَّةِ لا يتناكحان أبدًا (¬5). وكذلك وَقَعَ تأبيدُ التَّحريمِ في اللِّعانِ (¬6). وكذلك راعَى مالكٌ المقاصدَ في تحقيقِ الجِنْسِيَّةِ في الأموالِ الرَّبَوِيَّةِ. وقال سائرُ ¬
الفقهاءِ: إنّما يُعتبرُ الجِنْسُ في الصُّورة والهيئَةِ، وما قاله مالك أَوْلَى؟ لأنّ المطعوماتِ والحيوانات لم تكن أجناسًا بصُوَرِها، وإنّما كانت أجناسًا بمنافِعِها المقصودة منها وصفاتِها الّتي تتفاوتُ بها، حتَّى جعلَ مالكٌ الشّعيرَ والقمحَ صِنْفًا واحدًا، وهي أَعْسَرُ مسألةٍ علينا في الأجناسِ، لكن رأى مالك - رضي اللهُ عنه - قربَ ما بينهما، إذ لُبابُ الشَّعيرِ يُوَازِي دقيقَ الخُشْكَارِ (¬1) فيلتقيان على الطّرفين. وكما تُراعِي حُزمَةُ الرَّبَا في التّفرقةِ باعتبار* الثّمنيّة، وفي الأعيان الأربعة باعتبار* القُوتِ والطَّعامِ، كذلك يراعي في الجِنسِ أنّ يقولَ في علّة الرِّبا: مقتاتٌ جنسيّ، فلا يجوزُ التفاضلُ مع الأَجَلِ* في المُقْتاتَينِ، كانا جنسين أو جنسًا واحدًا، كذلك لا يجوزُ التّفَاضُلُ مع الأجَلِ* في الجنسِ الواحد، كانا مُقتاتَين أو غير مُقتاتَين. وكذلك اعتُبِرَ قَصدُ المعروفِ في العَرَايَا، واستُثنِيَتْ من قواعد الرِّبا لخروجها عن مقصودِ البَيع في المكايسةِ، وانخراطها في شِعْبِ الرِّفقِ والمُكَارَمَةِ، وعليها بَنَى مالكٌ مسائلَ الأثمان كلّها. إذا تمهّدت هذه القواعدُ، عُدْنَا إلى الأبوابِ، وأرينَاكُم بناءَها عليها، ورجوعَها إليها، حتّى تعلموا شفوفَ مالكٍ في الإدراكِ على سائرِ العلماء, وتكونُوا متَّبعِينَ له في الحقيقة، سالكين معه على الطَّريقةِ. ¬
باب ما جاء في بيع العزبان
بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيْعِ العُزبَانِ مَالِك (¬1)، عَنِ الثِّقَةِ (¬2)، عَنْ عَمرِو نجنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبيه. عن جَدِّهِ؟ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيعِ الْعُرْبَانِ. قال الإمام: يقالُ: إنَّ الثِّقة الّذي لم يسمّه مالك في سَنَدِ هذا الحديث هو: بُكَيْر بن عبد الله بن الأشجّ (¬3). وقد تكلَّمَ النَّاسُ في سَنَدِ هذا الحديث، فقال يحيى بنُ مَعِينٍ: أحاديث عَمْرو بن شُعَيْب عن جدَّه صِحَاحٌ. وقال قوم (¬4): هي واهيةٌ؛ لأنّها بِيدِهِ صُحُفٌ، ولم يَسْمَع بعضُهُم من بعض. وأمّا الثِّقَةُ، فهو بُكَيْر بن الأشجّ (¬5)، ولم يرو عنه مالك (¬6)، وإنّما رَوَى عن وَلَدِهِ مَخْرَمَة (¬7)، ويكنى بأبي المِسْوَر، تُوُفِّيَ في زمان هشام. ولم (¬8) يذكر عنه (¬9) مالك في "الموطَّأ" إِلَّا هذا الحديث، وحديث: "الرَّاكِبُ شَيطَانٌ والراكبان شيطانان، وَالثلاثَةُ نَفَرٌ" (¬10). ¬
ويقال: عُرْبَان وعُربُون، وأُربَان وأُرْبُون (¬1). قال الإمام (¬2): أَكثرُ ما عوَّلَ فيه مالك وفيما بعدَهُ ذكر المُفْسِدَات للبيوع، لِمَا بيْنّاهُ من أنّ البَيْعَ الصّحيحَ محصورٌ، والفسادَ يَبعُدُ حَصْرُهُ، فأشارَ -رضيَ اللهُ عنه - إلى جُمَلِ المْفْسِدَاتِ في الأبوابِ، فمسألةُ العُرْبان، ترجعُ إلى قاعدةِ أكلِ المالِ بالباطلِ. ومسألةُ "بَيعِ العَبْدِ التَّاجِرِ الْفَصِيحِ، بِالأَعْبُدِ مِنَ الْحبَشَةِ" (¬3) تَنْبَنِي على اعتبارِ الجِنْسِ بالمقاصد. واستثناء الجِنْسِ من البطن، مبنيٌّ على قاعدةِ الغَرَرِ والجَهَالَةِ، وعلى أكلِ المالِ بالباطلِ أيضًا؛ لأنّه ضيّع من ثمنها في غير مقابلة. شيءٍ. ومسألةُ "الجَارِيَة الّتِي سَأَلَ في إقالَتِهَا، وَيزِيدُهُ عَشرَة دَنَانِيرَ نَقْدًا إلى أجَلٍ أبْعَدَ مِنَ الأَجَل الَّذِي كَان قَدْ ابْتَاعَ إِلَيْهِ" (¬4) مبنىٌّ على قاعدةِ الصَّفْقَة إذا اجتمع مال ربًا ومال آخر. الفقه في ثلاث مسائل: الأولى: نَهْيُهُ عن بَيْعِ العُرْبَانِ فهو أنّ يشتري الرَّجُلُ دارًا بمئة دينار ويعطِي المشتري للبائعِ دينارًا أو يقولُ له: إنَّ أتيتُكَ بالثَّمَنِ إلى أجَلِ كذا تم البيعُ بينَنَا، وإن لم آتِ فالدِّينارُ لكَ، فمثلُ هذا لا يجوزُ على حالٍ. وحديث آخرأنّه "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ" (¬5) فإذا قلنا: نهى عن بيعِ الغرَرِ، فقد تضمَّن ¬
هذا كلّ غَرَرٍ بالنَّصِّ وصار داخلًا فيه، وإذا قلنا: "نُهِيَ عَنْ بَيعِ الْغَرَرِ" دخل فيه كلّ غَرَرِ بالتَّسْميةِ، فقد دخلَ البَيْعُ في هذا اللّفظ بالنَّصِّ، ودخلَ الغَرَرُ بالتَّسْميةِ. المسألةُ الثّانيةُ (¬1): قوله: "نَهَى عَنْ بَيْعِ العُربَانِ" البَيعُ معروفٌ، وهو يَفتقرُ إلى إيجابٍ وقَبُولٍ، ويَلزَمُ بوجودِهما بلفظِ الماضي، فإذا قال (¬2): بِعْنِي، فقال (¬3): بِغتُك، فحكى عَلماؤُنا العراقيُّون أنّ التبيعَ يصِحُّ ويَنعَقِدُ. وقال أبو حنيفة (¬4) والشّافعي: لا ينعقدُ حتّى يقول المبتاعُ بعد ذلك: اشتريتُ، أو قَبِلْتُ. دليلُنا: كلُّ ما كان إيجابًا وقَبُولًا في عَقْدِ النِّكاحِ، كانَ إيجابًا وقَبُولًا في عقد البَيعِ، كما لو قال: قبِلتُ، بعد إلاِيجابِ (¬5). وليس للإيجاب لفظٌ مُعيِّنٌ، وكلُّ لفظٍ أو إشارةٍ فُهمَ منها الإيجاب (4) لَزِمَ بها البَيْع، إِلَّا أنّ في الألفاظِ صريحًا لا يَحتَمِلُ (¬6)، مثل أنّ يقول: بِعْتُكَ فَرَسِي، فيقولُ: قد قَبِلتُ (¬7). وأمّا الألفاظ (¬8)، فلا يَلزَمُ البَيْع بها بمجرِّدِها، حتّى يَقتَرِن بها عُرْفٌ أو عَادَةٌ. الثّالثة: فإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء الّتي تدخل البيع من الفساد أربعةٌ: 1 - إمّا أنّ يكونَ الفسادُ في الثَّمَنِ. 2 - أو المَثمُونِ. 3 - أو البائع. ¬
باب ما جاء في مال المملوك
4 - أو المبتاع. فهذه الأربعة الأشياء، فمتى دخلَ الفسادُ في شيءٍ من هذه الأربعة فسدَ البَيعُ، إِلَّا أنّ يكونَ الغرَرُ يسيرًا لا يمكن الاحتراز منه، فإنّه مَعفُوٌّ عنه، كالطِّير في البَرِّ يجد فيها موضعًا لا يدركه النظر غالبًا يجده غير ... ، ومثل الهَدمِ اليسير يوجَدُ في البِنَاء وما أشبه هذا؛ لأنّ العلَّة قَلَّ ما تقعُ بمثل هذا الغرَرِ اليسير. وأمَّا الفساد الّذي من غير الرّكن، فهو فساد لكنه يسقط ويصح البَيعُ، مثالُ ذلك: أنّ يبيع خادما وسِلعَة على أنّ يسلفه عشرة دنانير، فإنّه لا يجوز؛ لأنّ البَيع والسلف منهى عنه، فهذا أسقط الشرطُ جاز البيع، والفروعُ على هذا كثيرة. بابُ مَا جَاءَ في مَالِ المَمْلُوكِ رَوَى ابنُ عُيَينَة، عن الزّهريُّ، عن سَالم، عن أببه، عن عمر، عن النّبيِّ عليه السّلام؛ أنّه قال: " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ للبَائِعِ، إِلَّا أنّ يشتَرطَهُ المبتَاعُ" (¬1). قال الإمامُ: أوقفَ مالك هذا الحديث في "الموطَّأ" (¬2) عن نافع عن ابنِ عمر، ولم يبلغ به النَّبيّ -عليه السّلام-. وقال أبو عمر (¬3): "هذا أحد الأحاديث الأربعة الّتي أسنَدَها سالم، وأَوقَفَها نافع عن ابن عمر"، والحديثُ مُسْنَدٌ صحيحٌ من طُرُقٍ (¬4). قال الإمامُ (¬5): هذه المسألة تنبنِي على القاعده العاشرة، وهي المقاصدُ والمصالحُ؛ ¬
باب ما جاء في العهدة
لأنّ الرجُلَ إذا اشترى عبدًا له ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، فالقاعدةُ الثالثةُ تمنعُ منه من جهةِ الرِّبَا، والقاعدةُ العاشرةُ في المقاصدِ والمصالحِ تقتضي جوازَهُ؛ لأنّه إنّما المقصودُ ذاتُه لا مالُه، والمالُ وَقعَ تَبَعًا. وقال علماؤنا: أصل البيع يقتضي إِلَّا يجوز بَيع العبد وماله؛ لأنّ مثل هذه المسألة لا تجوز، ألَّا تَرَى أنّ بَيعَ سِلعةٍ وذهبٍ بذهبٍ لا يجوز، لكنّها مستثناة من الأصول. واختلفَ العلّماءُ في العبدِ هل يملكُ أَوْ لا يملك؟ فذهب مالك إلى أنَّ العبدَ يَملِكُ (¬1). قلنا: ما فائدةُ الخلافِ في هذه المسألة؟ فالجواب: إِن فائدتها في معنى دقيق، وهو أنّ العبدَ إذا قلنا: إنّه يملك على مذهبنا، كان له أنّ يشتري الإِمَاءَ، ويطأ بملك اليمين. وإذا قلنا: إنّه لا يملك، لم يكن له ذلك. وقال أهلُ مكّةَ والعراق: إنَّ العبدَ لا يطأ البتَّةَ. وقال مالك: إنّه يطأ. وحُجةُ مالك في أنّ العبدَ يملكُ: حديث النّبيّ -عليه السّلام-: "مَنْ بَاعَ عَبدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلبَائعِ، إِلَّا أَنْ يَشتَرِطَهُ المُبتَاعُ" قال مالك: وهذه إضافة، كما تقول: مال زيد، وألفاظُ الرَّسولِ -عليه السّلام- ذات معانٍ مفيدة. واحتجّ أيضًا مالك بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية- إلى قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} [النور: 32] (¬2)، والفقر والغنى صفتان لا يخبر بهما إِلَّا عن من يملك (¬3). واحتجّ أهلُ العراق والحِجَاز على أنَّه لا يملك، بأنّها إضافة محل، كما يقال: سَرْجُ الدّابةِ، وبابُ الدّار، فجعلوها إضافة محلّ. بَابُ مَا جَاءَ فِي العُهْدَةِ قال الإمام (¬4): العُهدةُ تنبني على القاعدةُ الخامسة، وهي الرّجوعُ إلى العُرفِ الّذي تنبني عليه أكثرُ المسائلِ الشّرعيةِ. ¬
الفقه في ثلاث مسائل: الأولى: قولُه (¬1): "لَا عُهْدَةَ فِي شَيءٍ مِنَ السِّلَعِ وَالحَيَوَان إِلَّا فِي الرَّقِيقِ" اختلف أصحابنا في أيّام العُهدَةِ الثلاث، هل تدخلُ في أيّام الاستبراء أم لا؟ فقال ابنُ القاسم: تدخل (¬2). وقال أشهب: لا استبراءَ إِلَّا بعد أيّام العُهدَةِ، غير أنّ أشهب نقضَ أصله في مسألةٍ بأن قال: زكاةُ الفطرِ في أيّام العُهدَة على المشترِي. الثّانية (¬3): قوله (¬4): "كَانَا يذكُرَانِ في خُطبَتِهِمَا عُهدَةَ الرَّقِيق" يريد أنّها من الأمور المشهورة المؤكّدة. وقوله (¬5): "العُهدةُ" معناها عندنا: تعلُّقُ البيع بضمان البائع مدّة معلومة، وذلك أنّ البيع بما فيه العُهدَة لازمٌ، ولكنّه مُرتَقَبٌ، فإن سَلِمَ في العُهدة لزمهما جميعًا، وإن أصابه نقْصٌ، لزم البائع وثبتَ الخيار للمبتاع في إمضائه أو ردِّهِ، كَعَيبٍ دَلَّس بِهِ البائع أنّه لا تنفعه براءته (¬6) من التّدليس بالعيب الّذي ظهر في مدّة العُهْدَة، وهي مضافة إلى ملكه ما (¬7) تعلّقت العُهدَة به. الثّالثة: في محل العُهدَة من البلاد (¬8) فاختلف العلّماءُ في ذلك: ¬
فقال ابنُ حبيب: قال المصريّون: لا تلزم أهل بلد عُهْدَة الثّلاث حتّى يحملهم السّلطانُ عليها، ومثلُه روى ابن القاسم عن مالك. وقال ابنُ حبيب: روى المدنيّون عن مالك؛ أنّه يُقْضَى بها في كلِّ بلدٍ، وعلى الإمام أنّ يحكم بها على من عرفها وجهلها، قبل التّقدم فيها وبعده. ووجه الرِّواية الأولى: العُرْفُ جارٍ فيها بالمدينة (¬1). ووجه الرِّواية الثّانية: أنّ ذلك من مقتضى العَقد لأنّه من تمامِ التَّسليمِ. الرّابعة: في محلّها (¬2) أمّا محلُّها من المبيع، ففي الرّقيق خاصّة، والفرقُ بينها وبين سائر المبيعات ما ذكرنا من أنّ لها تمييزًا تكتمُ به عيوبه، فَجُعِلَتِ العُهدَةُ لاختبار حاله، حكاه عبدُ الوهّاب (¬3) عن ابن الجَهْم (¬4)، وهذا ضد ما يُحتاج إليه؛ لأنّ هذا دليلٌ على جواز البيع بالبراءة، والصّحيح عندي ما ذكره غيره من أنّ للرقيق أفهامًا تخبر عن أسباب أمراضه قبل ظهورها، فيكون كِتمَانُ السِّرِ بذلك تدليسًا يَقُومُ مقامَ تدليسه، ولها فروعٌ كثيرةٌ أَضْربنا عنها. ¬
باب العيب في الرقيق
بَابُ الْعَيْبِ في الرَّقِيقِ ذكر فيه حديث ابن عمر؛ أَنَّهُ بَاعَ غُلَامَهُ بثَمَانِ مِئَةِ درهمٍ، وَبَاعَهُ بالبَرَاءَة (¬1). قال الإمام (¬2): الحديثُ صحيحٌ. هذا الباب يَنْبَنْي على القاعدةُ الثّانية، وهي أكلُ المال بالباطلِ؛ لأنّه اشترى منه عبدًا بعشَرَةِ، فكلُّ جُزءٍ من العشَرَةِ قَابَلَ كلِّ جُزءٍ من أجزاء العَبْد، وَوَازَى كلَّ صفةٍ من صفاته المقصودةِ للمُبتاعِ تحصينًا من العيوب. الفقه في مسائل: الأولى: قولُه (¬3): "عَلَى البَرَاءَةِ" وفي بيع البراءة ثلاثةُ أقوالٍ (¬4): الأوّل: أنّه لا يجوزُ بحالٍ (¬5). الثّاني: أنّه يجوزُ (¬6). الثّالث: أنّه يجوزُ في الرَّقيق خاصّة (¬7). ووجه من أجازَهُ على الإطلاق: حديث عبد الله بن عمر؛ لأنّه أصلٌ في بَيعِ البراءة؛ لأنّ الأصلَ في البراءة إِلَّا جوَازَ، فإذا أوجب الحديث جوازها جازَ، ¬
وأمّا وجه من قال: إنّه لا يجوز على الإطلاق في كلِّ شيءٍ ممّا يدخله الغَرَر. وأمَّا حُجَّة من أجازه في الرّقيق خاصّة، قياسًا على حديث عبد الله بن عمر. فنقول: سِلعَةٌ من السِّلَعِ، جاز بيعُها بالبراءة كالرّقيقِ، وقضاءُ عثمان - رضي اللهُ عنه - في قصّة عبد الله بن عمر، ولم يوجد له مخالفٌ، فكان إجماعًا. 2 - الثّانية: في معرفة العقود الّتي يجب فيها الرَّدِّ (¬1). 3 - الثّالثة: في معرفة العيوب الّتي يثبت بها الرَّدِّ (¬2). أمّا العقود، فعلى ثلاثة أضربٍ: 1 - عَقد مختصٌّ بالعِوَضِ، كالبيع والنِّكاح، فهذه يثبت بها حُكْمُ الرَّدِّ. 2 - والثّاني: عَقْدٌ مختصٌّ بالمكارمة، كالهِبَة لغير الثّواب، والصِّدقة، فهذا لا يَثْبُتُ فِيهِ حُكمُ الرَّدِّ. 3 - والثالثُ: عَقدٌ ظاهِرُهُ المكارَمَة، وله تَعَلُّقٌ بالعِوَضِ، كالهبَة للثّواب لمدّة، فالموهوب له لا يردّ بعيب، حكاه إسماعيل القاضي عن عبد الملك، وعن المُغِيرَة: لا ردَّ ولا في البَيْع المفسد. ووجه ذلك: أنّ هذه عقودٌ جرتِ العادةُ أنّ يكون العِوَضُ فيها أكثر (¬3)، وهذا ينافي الرَّدِّ بالعَيب. 3 - الثّالثة: في بيانِ العُيوبِ الّتي يجبُ بها الرَّدُّ مُجملةً؛ ذلك أنّ خِيَارَ الرَّدِّ على ضربين: أحدُهما: ما يثبتُ بغير شرطٍ. ¬
فصل
والثّاني: لا يثبتُ إِلَّا بشرطٍ. فأمّا ما يثبتُ بغير شرطِ، فهو لكلِّ عَيبٍ ينقص الثّمن، وهو على قسمين: أحدُهما: نقصٌ في عينِ المبيعِ. والثّاني: نقصٌ في غير عَينِه، لكنّه ينقص ثمنه، فالنّقص في عينه، كالعور، والعَمَى، والبياض في العين، والصَّمَم، والخرسِ، والبكم، إِلَّا في الصّغير الّذي لا يتبيّن أمرُه، وما أشبه ذلك. فصل (¬1) أمّا "الأضراسُ" فإنّ نقْصَ الضِّرسِ عيبٌ في الرّائعة، وليس بعَيبِ في غيرها، إِلَّا أنّ يكون في مقدّم الفَمِ، أو ينقص ضرسان حيث كانا، فإنّه عيبٌ في الذّكَرِ والأنثى. وأمّا "الشّيبُ" فإنّه تردّ به الرّائعة (¬2)، وهو في "كتاب محمّد". وقال محمّد: وهو في الشَّابَّة عَيْبٌ. وقال عبد الملك عن مالك: لا تردّ (¬3) إِلَّا بكثيره. ويحتمل أنّ تكون الرِّوايتان قولًا واحدًا؛ لأنّ اليسير منه ليس بعَيْبٍ؛ لأنّه شائعٌ، كالخال يكون، والشّعرة والشّعرتان تبدو ولا تُرَى إِلَّا مع التّأمُّل، وأمّا الكثير فإنّه يؤثِّر في الجمال، فاختصّ بالرّائعة دون غيرها. وأمّا "الاستحاضة" فعيبٌ في الرّقيق وَوَخْشِهِ (¬4). قال ابنُ حبيب: إنَّ كانت تعتريها المرّة بعد المرّة، فعلى البائع أنّ يُبَيِّن، وإلّا فهو عَيْبٌ تردُّ به. وارتفاعُ الحيض إنَّ كان يعتريها المرّة بعد المرّة لم يَلزمهُ التّبيين، ولم تردّ به. ¬
والفرقُ: أنّ دم الاستحاضةِ ممّا يُكرَهُ، وتلحق المشقّة في التّوفِّي منه، وليس في ارتفاعِ الحيض شيءٌ من ذلك، والَّذي يقتضبه مذهب "المُدونة" (¬1) أنّهما سواء. فإن استحاضت، لم يكن ذلك عَيْبًا حتّى يثبت أنّه كان عند البائع. وأمّا "ارتفاعُ الحَيضِ" فالمشهورُ من المذهب؛ أنَّه إذا أتي من ذلك ما فيه ضَرَرٌ عليه (¬2)، فإنّه يردّها, ولا خلاف في ذلك في المذهب (¬3)، إِلَّا ما قال ابن حبيب في الّتي لم يَأتِ منه في مدّة الاستبراء ما خالف المعهود، وإذا اطّلع على أنَّه كان يتأخّر عند بائعها المرّة بعد المرّة جاز، والله أعلمُ. والحملُ في المرتفعة عَيبٌ، ولا خلافَ في ذلك. وأمّا "الوَخْشَ" فروى ابنُ القاسم عن مالك أنّه عَيْبٌ (¬4). قال ابنُ كنانة: ليس بِعَيبٍ (¬5)، ورواه أشهب عن مالك. فإذا قلنا يردّ به (¬6)، فكيف يكون وجه الرَّدِّ؟ ففي "المبسوط": إنَّ جاءت به لِسِتَّةِ ¬
أشهرٍ من يوم قبضها لم يردّ البيع، وإن وَلَدَت قبل ذلك كان له الرَّدِّ. ووجه ذلك: أنّها إذا وَلَدَت لسِتَّة أشهر (¬1)، جازَ أنّ يحدثَ عند المبتاع، فصار له حكم ما يقدم ويحدثُ من العُيوبِ، فإن ولدته لأقلِّ من ستّة أشهر على أنّه عَيبٌ قديم، يثبت الرَّدِّ به. وأمّا "الزَّعَرُ" (¬2) فإنّه عَيْب يُردّ به (¬3). وقال محمّد: وإن كان في غير العَانَةِ. واختلفَ علماؤنا في تعليل ذلك: فقال سحنون: هو عَيْبٌ؛ لأنّه يذهبُ بلذَّة الوَطءِ، وهذا يقتضي اختصاصه بالفَرْجِ. وقال ابنُ حبيب: لأنّه لا تُتَّقَى عاقبته (¬4)، يعني: الجُذَام. وإن كان في آباء الرّقيق مجذومٌ أو مجذومةٌ، فهو عَيْبٌ يُرد به، وَخْشًا كان أو رائعًا، قاله عبد الملك عن مالك. أمّا إنَّ كان أحدهما (¬5) أسود، فلا ردّ له، قاله أشهب، وإن كانت ذات عَيب، وفي (4) "الواضحة" عن مالك أنّه عَيْبٌ في الرّائعة، قال: لمَا يتّقى أنّ يخرج الولد أسود. وأمّا "عيوب الدّوابّ" فإن كان خِلقَةً، كَالعَوَرِ والجَرَدِ، أو حادثًا كالرَّمَصِ والدَّبَرِ، فإنَّه يردّ به، وكذلك سائر المبيعات غير الرِّبَاع (¬6). فأمّا "الدّار" إنَّ وُجِدَ بها صَدعٌ، قال ابنُ القاسم (¬7): أمّا ما يخاف منه سقوطها فيردّ به، وإلَّا فلا. ¬
وقال ابنُ أبي زيد: العيوبُ فيها على ثلاثةِ أضرُبٍ: أحدُها: أنّ تستغرق معظم الثّمن، فهذا يردّ به ويرجع بالثّمن. الثّاني: إِلَّا ينقص من الثّمن، فهذا لا يردّ به، ولا يرجع قيمة العَيب. الثّالث: أنّ ينقص من الثّمن ولا ينقص معظمه، فهذا يرجع بقيمة العَيبِ، ولا تردّ به، ورأيت لبعض أصحابنا أنّه تردّ (¬1). واختلف القائلون بقول ابنِ أبي زيدٍ في تعليل ذلك؟ فقال أبو محمَّد: إنَّ الدار تخالفُ سائرَ المبيعات، بدليل أنَّه إذا استحقّ منها اليسير لزم الباقي بالثّمن. وأيضًا: فلو أطلق أحدٌ العَقْد فيها، واستحقّ بعض جدرأنّها , لم يرجع المبتاع في شيءٍ من الثّمن. وقال غيرُه: العلّةُ أنّها لا تتّخذ غالبًا إِلَّا للقِنيَة، وليس المقصود منها الأثمان. 4 - الرّابعة (¬2): وأمَّا "ما ينقص ثمن المَبِيعِ ولا ينقص جسده، كالإِبَاقِ، والسّرقة، وشرب الخّمْرِ، والزِّنا في العبد عند مالك" فهو عَيْبٌ يردُّ به، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة: لا يُردّ به (¬4). ودليلُنا: أنّه زنا وُجِدَ في مملوكٍ، فإن له أنّ يردَّه كما لو كان له جارية. وأمّا "البول في الفراش" ففي الكِبَرِ عَيْبٌ يردّ به العَبدُ والأَمَةُ، رائعين كانا أوْ لَا، ¬
وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): لا يردّ به العبد، وتردّ به الأَمَة. ودليلنا ما تقدّم. فرع (¬3): والظيثُ في العبد، والتَّرَجْلُ في الأَمَة عَيْبٌ،* قال ابنُ حبيب عن مالك: معنى ذلك أنّ يكون العبد متخنِّثا *، ومعنى ذلك أنّه يُؤتَى. وأمّا من اشترى عبدًا على أنّه أعجم، فألفاه فصيحًا، أو على أنّه مجلوب، فألفاه مولّدًا، ففي "الواضحة" عن أَصبَغ أنّ له الرَّدِّ؛ لأنّ النَّاس في المجلوب أرغب، وكذلك الدّوابّ. وأمّا "عِثَار الدّابةِ" ففي "المدنية" رواية ابن دينار عن ابن كنانة: إنَّ عَلِمَ أنّ ذلك كان عند بائعها بشهادة أو إقرار رُدَّت عليه، وإن لم يعلم، وكان عِثَارُها قريبًا من بيعها، حلفَ البائعُ أنّه ما عَلِمَ بذلك، كان ظهر ذلك بها بَعْدَ طُولِ مدَّةٍ يحدثُ العِثَارُ في مثلها، فلا يَمِينَ عليه. قال الإمامُ (¬4): هذه العيوبُ إنّما يردّ بها إذا ثبت أنّها كانت في ملك البائع. ¬
فرع (¬1): واختلف علماؤنا في هُزَالِ الدّوابّ وسمنها. فَروى ابنُ حبيب عن مالك: لا يثبتُ الخِيَار لهما في الرّقيق، ويثبتُ بهُزال (1) الدّوابّ (¬2). وقال ابنُ القاسم: لا يثبتُ لهما في الرّقيق ولا في الدّوابّ (¬3). واختار ابنُ حبيب أنّ ذلك كلّه بالخيار، ورواه عن شيوخه (¬4). 5 - الخامسة: مسألة المواضعة (¬5) في الرّقيق (¬6) أمّا حكمُها، فإن ضمانَها من البائع، ويلزمه قيمتها، وما لحقها فيها من موت أو نقص جسم فمنه، وللمُبتاع في الموت إمساك الثّمن وارتجاعه إنَّ كان أَخرجه، وفي النّقص خِيَار الرَّدِّ بالعَيبِ أو الإمساك، وأمّا إنَّ كان في غير الجسد كالزِّنا والسّرقة، فجمهورُ أصحابنا أنّ له الرَّدِّ بذلك (¬7)، وحكى ابنُ حبيب عن أَصبَغ: لا يردّها (¬8). وأمَّا ما حدث لها من مالٍ بِهِبَةٍ أو صدقة، فللبائع إنَّ كان لم يستَثْن منه مالها؛ لأنّه ضامن لها. ¬
وأمّا ما حدث لها من وَلَدٍ: فقد قال ابنُ القاسم: للمبتاع (¬1). وقال أشهبُ: للبائع (¬2). وإن أسقط المواضعة ورَضِيَ بالحمل بعد العَقدِ: فقال ابنُ القاسم: له ذلك وإن أَبَاهُ البائع. وقال سُحنون: ليس له ذلك. ووجهُ القولِ الأوّل: أنّ كلّ عَيبٍ يجوزُ له (¬3) الرِّضا به بعد ظهوره، فإنّه يجوزُ له الرِّضا به قبلَ ظهورِه كسائر العُيوبِ. ووجهُ قولِ سحنون: أنّ المبتاعَ إنّما أسقط ما وجب له من الضَّمان على البائع ليتعجَّلَ الخِدْمَة. 6 - السّادسة: في ببان ما تنتقض به المواضعة (¬4) فإنها تكون بأحد وجهين: بحيض، أو شهور. فأمّا الحيضُ، فالذي يُجزِىءُ منه حيضةٌ واحدةٌ (¬5)؛ لأنّ بها تحلّ الأَمَة (¬6)، وليس يتعلّق بها معنىً من العبادة، ولا حرمة الحرِّية، فلذلك لم يتكرّر (¬7). فإن كان البيع بعد ابتداءِ الحيضِ، فإن كان في أوّله أجزأه، وإن كان في آخره (¬8) استؤنفت بعد المواضعة. ووجه ذلك: ما احتجّ به ابنُ القاسم من أنّ الرّحم في ذلك الوقت لا يقبل المنىّ، بل يقذف بالدّم، وفي آخره يقبل المنيّ، فلذلك افترقا. ¬
7 - السّابعة: بني حدّ المقدار الّذي يجزىءُ من الحَيضَةِ الباقية (¬1) قال محمّد: إنَّ بقي منه ما يعرف أنّه حَيْضة أجزأه. ويحتمل قوله أمرين، أحدُهما: أنّه مقدار أقلِّ الحَيض، فلذلك أجزأه، ولذلك قال في آخره: وإن كان إنّما بقي منه اليوم واليومان لم يجزئه. والثّاني: أنّه إنَّ كان في وقت يرى أنّ الرّحم يرخي (¬2) الدِّم، فلا يقبلُ المَنِيَّ، فهو براءة، وإنْ كان على غير ذلك، فإنّما هي مدّة لاستقصاء بقايا الدِّم، فليس ببراءة. فرع: وإن كانتِ الحيضةُ بعد إلابتياع، فلا يخلو أنّ تأتي على المعهود، أو تتأخّر عنه، فإن أتت على المعهود، تمّت المواضعة بها. كان كانت بعد التّبايع بلحظةٍ؛ لأنّا قد قلنا: إنَّ التّبايع إنَّ كان في أوّل الحيضة إنَّ المواضعة تتمّ بهناء. فرع: فإن كانت ممّن تحيض فارتفعت حيضتُها، فاختلف علماؤنا في ذلك (¬3): فَرَوَى ابنُ وهب أنّ براءتها تسعة أشهر (¬4). وقال ابنُ القاسم وغيره: براءتُها ثلاثة أشهر، إِلَّا أنّ ترتاب فتُقيم تمام التّسعة الأشهر ولم تبرأ، إِلَّا أنّ يطرأ بها حملٌ (¬5). وهذا فيمن يتكرر حيضها قبل الثّلاثة، فأمّا من كانت حيضتها تبطىء أكثر من ثلاثة، ¬
باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت واشترط فيها
فلا يخلو أنّ تكون عادتُها أنّ تكونَ أقلّ من تِسعةٍ أو أكثر (¬1)، فإن كانت أقلّ، فَرُويَ (¬2) عن ابن القاسم أنّها ثلاثة تبرئها (¬3). وروى يحيى (¬4) أنّه لا يبرئها إِلَّا الحيض، وإلَّا رفعت إلى التِّسعة الأشهُر (¬5) إنَّ استبرأت، والفروعُ على هذا الباب كثيرة جدًّا، لُبابُها ما سردناه عليكم، فَعَوِّلُوا عليه. باب (¬6) ما يُفعَل بالوليدة إذا بيعت واشترط فيها الأحاديث في هذا الباب: قال الإمام: فالشّرط فيها ينبني على أكثر القواعد السابقة، ولكن مسائلَ الشَّرطِ مُغضِلةٌ قديمًا وحديثًا. رُوِي (¬7) عن عبد الوَارِث بنِ سعيدٍ (¬8) قال: دخلتُ مكّةَ فلَقِيتُ أبا حنيفةَ، فسألتُه عن بيعٍ وشَرطٍ؟ فقال: البيعُ باطلٌ، والشّرطُ باطلٌ. ثمّ أتيتُ ابنَ أبي ليلى فسألته عن بيعٍ وشرطٍ؟ فقال: البيعُ جائزٌ والشّرط باطلٌ (¬9). ثمّ أتيتُ ابنَ شُبرُمَةَ فسألتُه، فقال: البيعُ جائزّ والشرطُ جائزّ. فقلت: ثلاثةّ اختلفوا في هذه المسألة ولم يتَّفِقوا فيها على جوابٍ! قال: فأتيتُ أبا حنيفةَ فأخبرتُه، فقال: لا أدري ما قالا. حدّثني عَمرُو ¬
بنُ شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرطٍ" (¬1). ثمّ أتيتُ ابنَ أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا، حدَّثني هشامُ بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشة، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لها في بَرِيرَة: "اشتريها وأعتقِيها" الحديث. ثمّ أتيتُ ابنَ شُبرُمَة فأخبرتُه، فقال: لا أدري ما قالا، حدّثني مسِعَرُ بنُ كِدَامٍ، عن مُحَارِب بن دِثَارٍ، عن جَابِر بنِ عبدِ الله، قال: اشتَرَى النَّبىُّ مِنِّي ناقةً وشرَط لي حُملانّها إلى المدينةِ (¬2). فهذه أغراضٌ متفاوِتَةٌ في فهمِ مواقعِ ذِكْرِ الشّروطِ في الحديث، وقد رأيتُ لعبد الحميد الصَّائغ (¬3) "جزءًا في تفصيل الشّروط" لكن على المذهب المالكي، قد أتقَنَ فيه ترتيبَ المذاهبِ في هذا الحديث، كنت قد كتبتُه بخطِّ يدي وقرأتُه، لكنه شذَّ عنِّي، والَّذي يحصُرُ الشّروطَ في الأغلبِ ردُّها إلى القواعدِ الّتي مَهَّدناها، وعرضُها عليها. فلا يخلو وقوعُ الشروطِ في العَقدِ (¬4)، والأمثلة في ذلك أربعة أمثلة: الأوّل: إذا اشترى عبدًا من رجلٍ بشرطِ الهِبَةِ له أو لغيره، انفردَ بها مالك فقال: هو جائز. وقال الشّافعيُّ: لا يجوزُ؛ لأنّه إنّما يحتمِلُ في البَيع لحرمةِ العتقِ وما فيه من التَّقَرُّبِ إلى الله. قلنا: وكذلك يَحتملُ الهِبَةَ؛ لمَا فيها من المعروف والمواصلة وإسداءُ المعروف ¬
باب. النهي أن يطأ الرجل وليدته ولها زوج
وتأكيدُ الوُصلَةِ، فهذا الّذي لَحَظَ مالك فيها. الثّاني: إذا باعه منه على ألَّا يبيعَهُ المشتري ولا يفوتَه، لم يَجُز؛ لأنّها مُغابَنَةٌ مناقِضَة للعَقدِ ومعارِضَةٌ. الثّالث: إذا باع منه عبدًا على أنّه إنَّ أَبَقَ كان من ضمانه، أو مريضًا على أنّه إنَّ مات كان من ضمانه، لم يَجُز؛ لأنّ ذلك مناقضٌ لمقصودِ العَقدِ ومقتضاه، إذ العَقدُ يقتضي خروجَ المَبِيعِ من مِلكِ البائعِ وضمانِه، وهذا يُضادُّه. الرّابع: إذا اشترط عليه إنَّ لم يأت بالثَّمن إلى، أجلِ كذا، فلا يتمُّ بينهما. قال علماؤنا: لم يَجُز؛ لأنّه زاده في الثّمن لموضع الشّرط، وهذا من أكل المالِ بالباطلِ، وغرَضَهُ محمّدُ بن الموَّازِ على أصلٍ آخرَ فقال: إنَّ كان في العَقارِ والدُّورِ الشَّهْرَ ونحوَهُ، جاز، وفي العُروضِ لا يجوزُ، نظرًا إلى أنّ المدّةَ اليسيرةَ داخلةٌ في حدِّ القِلَّة، فلا تُعتبرُ كما لا تُعتَبرُ في الاستثناء، وما أشبَههُ يرجِعُ إلى القاعدةِ السّابعةِ. باب (¬1). النّهي أنّ يطأ الرَّجل وليدته ولها زوجٌ قال الإمام: ذكر مالك (¬2) فيه مسألة شراءِ الطّلاقِ من الزّوجِ، حينَ أرضى ابنُ عامرٍ زوجَ مملوكته حتّى طلَّقها. والطّلاقُ إنّما يجوزُ شراؤه بين الزّوج والزّوجة، وفي حقِّ غيرهما ليس ممّا يقابِلُه مالٌ. بَيْدَ أنّ شِراءَ الأَمَةِ ذات الزّوج إنمّا اختلف العلّماءُ ¬
باب ما جاء في ثمر المال يياع أصله
في بيعها، هل يكون طلاقًا أم لا؟ فإن كان طلاقًا بطَلَ حقُّ الزّوجِ، وإن كان ماضيًا نُزِّلَ السَّيِّدُ منزلةَ أَمَتِهِ في شراء الطّلاق لوجهين: أحدُهما: أنّ السَّيِّد مالكُها. والثّاني: أنّه شَرِيكٌ للزّوج فيها، الحِلُّ للزّوج والبُضعُ للسَّيَّد، ولذلك لو وَطِئَها السَّيِّدُ لم يُحَدَّ، فكان شراؤه منه من باب المعروف. باب ما جاء في ثَمَرِ المال يُياعُ أصلُه قال الإمام: قوله (¬1): "قد أُبِّرَتْ" التّأبير: التّلقيح (¬2)، قال ابنُ حبيب (¬3): هو أنّ يُشَقِّ الطَّلع عن الثّمر، فإذا تمّ اللِّقاح سقطَ ما سقطَ، وثبتَ ما ثبتَ، فحينئذٍ تكون الثَّمرة للبائع بإطلاق العَقد. قال الإمام (¬4): هذا الباب ينبني على القاعدةُ العاشرة، وهي قاعدةُ المقاصد؛ لأنّ الثَّمرةَ ما دامت كائنةً في الشّجرةِ، لم يتعلَّق بها قَصدٌ، ولا أمكَنَ لأحدٍ فيها تناوُلٌ، فإذا برَزَت تعلَّقت بها المقاصدُ، وانفردت عن الشّجرة صورةً وصِفَةً واسْمًا، فلذلك لم تتبَعها، خلافًا لأبي حنيفة، وقد مهَّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". الفقه في أربع مسائل: الأولى: ما عدا الّنخل في التّأبير، فيه ما قدّمنا، وفي التّين وما لا زَهرَ له، أنّ يبرز جميع ¬
الثمرة عن موضعها، وهو بمنزلة التّأبير فيها؛ لأنّه حينئذٍ يتبيَّن حالُه وكثرتُه وقِلَّتُهُ. والتّأبيرُ في النّخل الّتي لا تؤبّر، أنّ يبلغ مبلغ الإبار في غيرها. وأمّا "الزّرع" فإبارُه أنّ يُفركَ في رواية ابن القاسم، وروى عنه أشهب أنّ إبَارَهُ ظهورُه في الأرض. الثّانية: قوله: (فَثَمَرَتُهَا لِلبَائِعِ) يريد أنّها له بمُطلَقِ العَقدِ. وقال ابنُ أبي ليلى: هي للمشتري (¬1). ودليلُنا: هذا، ومن جهة القياس: أنّ هذا إنّما يتميّز، فلم يتبع الأصل بمطلق العَقد، كالجنين بعد الولادة. الثّالثة: إذا ثبت هذا، فليس للمشتري إجباره على نقل ثمرته قبل أوان جَدادِها، وبه قال الشّافعيّ (¬2). وقال أبو حنيفة: له ذلك (¬3)، والمسألةُ خلافيّةٌ. الخامسة: فإن أبّر بعضه دون بعض، فلا يخلو أنّ يكونا متساويين، أو يكون أحدهما أكثر، فإن كانا متساويين، فقد قال مالك: ما أُبّرَ للبائع، وما لم يُؤبَّر للمبتاع (¬4). وقال محمّد: ما أُبَّرَ تبع ما لم يُؤبَّر، وذلك للمبتاع. وقال سحنون عن ابن القاسم في"العُتبِيَّة" (¬5): إمّا أنّ يسلم المبتاع، أو يسلما جميعًا، وإلَّا فسخ البيع وإن رضي المبتاع بالنّصف. ¬
باب النهي عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها
بَابُ النَّهيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَة قَبلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وقال (¬1) في حديث أنس (¬2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَاِر حَتَّى تُزهِيَ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَا تُزهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرّ. وقال في حديث آخر (¬3): "أَرأَيت إنَّ مَنَعَ الله الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأخُذُ أَحدَكُمُ مَالَ أَخِيهِ" قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ متَّفَقٌ على صِحَّته. قولُه: "حتّى بَيدُوَ صَلَاحُهَا" معناه: حتّى تُزهِي، وهَو بُدُوِّ الحُمرَةِ. وقال (¬4) ابنُ الأعرابي: يقال زَها النّخلُ يَزهُو، إذا ظَهَرَ ثَمَرُهُ، وأَزهَى: إذا احمَرَّ واصفَرَّ (¬5). وقال غيرُه: بَزهُو خَطَأٌ في النَّخل، إنّما هو يُزهِي، فهذا أَزْهَتْ خرَجت من حدِّ الخضرة إلى الزّهو، والزّهو أحمر، والبسر أصفر. وفي (¬6) حديث آخر: أَنَّهُ نَهَى عن بَيعِهِ حَتَّى يَنتَقِح (¬7)، والتّنقيحُ هو الزّهوُ أيضًا. قال ابنُ حِبيبٍ (¬8): "لثَمَير النَّخلِ سبع دَرجَاتٍ: ¬
1 - الطَّلْعُ، ثمّ ينتقحُ الحَبّ عنها ويبيضُّ فيكون إغرِيضًا. 2 - ثمّ يعظمُ وتعلوهُ خُضرة فيكون بَلَحًا. 3 - ثمّ تعلُوهُ حُمرةٌ، فيكون زَهوًا. 4 - ثمّ يَصْفَرُّ، فيكون بُسْرًا. 3 - ثمّ تَعلُوهُ كُدْرَةٌ، فيكونُ نَضِيجًا. 6 - ثمّ يكونُ رُطَبًا. 7 - ثمّ ييبسُّ فيكون تَمرًا". وصلاحُ "التّين" أنّ توجدَ فيه الحَلاوةُ، ويظهرُ السّوادُ في أَسْوَدِهِ، والبياضُ في أبيضِهِ، وكذلك العِنَب. وصلاحُ "الزّيتون" أنّ ينحو إلى السَّوادِ. وصلاحُ " القِثَّاءِ" أنّ ينعقد ويبلغ حدّ ما له طعم. قال: وأمّا "البِطِّيخ" فإذا نحا ناحية الاصفرار والرُّطوبة. الفقه في أربع مسائل: الأولى (¬1): لا يخلو أنّ يكونَ بشرط القَطعِ، فذلك جائزٌ إجماعًا لعدمِ الفساد. وأمَّا أنّ يكون بشرط التبقية، فهو باطلٌ إجماعًا، مبنيًّا على قاعدة الغَرَر والجهالةِ. وأمّا إنَّ باعها مطلقًا، فقال الشّافعىُّ: لا يجوزُ (¬2)؛ لأنّ الإطلاقَ يقتضي التَبقيةَ، إذِ المقصودُ من الثَّمرة زَهْوُها واجتناؤها طَيبةً. وقال أبو حنيفة: ذلك جائزٌ (¬3)؛ لأنّ مطلقَ العَقْد يُحْمَلُ على الجائز شرعًا فيجوزُ، ويُكلَّف أنّ يُجَدّ. ¬
واختلَفَ في ذلك جوابُ علمائنا؛ فوردَ بالوجهين، والمسألةُ محتمِلَةٌ (¬1)، والعُمدةُ فيه أنّ العَقدَ باطلٌ؛ لأنّ المقصود من الثّمرةِ اجتناؤُها طيبةً، فَتُحْمَلُ على المقاصدِ، ويُفْسَخُ العَقدُ حتّى يُصَرِّحَ بما نَوَى. الثّانية: فإذا ثبت ذلك، فإنّ نهيَهُ - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك اختلف علماؤنا في تعليله، فقال ابنُ مَسْلَمَة: الغَرَرُ موجود قبل بُدُوِّ الصّلاح وبعدَه، ولكنّه لا غَرَضَ في شرائها قبل بُدُوِّ الصّلاح، إِلَّا بمجرّد الاسترخاصِ فلم يَجُز ذلك؛ لأنّها قد تسلم فترخص عليه، أو تتلف فتكون أقلّ من ثُلثُها وتكون غاليًا. وقال غيرُه: إنَّ الغَرَرَ قبل الصّلاح أكثر، وبعد بُدُوِّ الصَّلاح يقلّ، وكثرة الغَرَرِ يُبطلُ العقودَ. فإذا ثبت ذلك، فالممنوعُ منه البيع المطلَق دون اشتراط القطع، وذلك أنّ بَيعَ الثّمرة على ثلاثة أوجه (¬2): أحدُها: شرطُ القَطعِ، فهذا لا خلافَ في جوازِه؛ لأنّه لا غَرَرَ فيه. والثّاني: أنّ يشترط التّبقية، فهذا لا خلاف في منعه، إِلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ حبيب في العريّة. ووجهُ منعه: أنّ المنفعة تقِلُّ في ذلك ويكثُرُ الغَرَر. وأمَّا الثّالث: فإطلاقُ البيع فيها، فالمشهورُ عن مالك منعُه (¬3)، وبه قال الشّافعيّ (¬4). ورَوَى ابنُ القاسم في البيوع الفاسدة جوازَهُ، ويكون مقتضاه الجَدَاد. ¬
باب ما جاء في بيع العرية
بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيْع العَرِيَّةِ الأحاديث: رُوِيَ (¬1) عن أبي هريرةَ: "أَرْخَصَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - في العَرَايَا في خَمسَةِ أَوسُقٍ" أو "دُونَ خَمسَةِ أَوسُقٍ". وفي "التّرمذيّ" (¬2) أَنَّ النَّبِيِّ عَلَيهِ السَّلَام نَهَى عَنِ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ، إِلّا أَنَّهُ قَد أَذِنَ لأَهلِ العَرَايَا. وقولُ أبي هريرة (¬3): "أرخَصَ رَسُولُ اللهِ في العَرَايَا" حَسَنٌ صحيحٌ (¬4). قولُه (¬5):"العَرِيَّة" قيل: هي فَعِيلَة بمعنى مفعولة، من عراه يعرُوهُ. وقيل: من عرى يعري، كأنّها عريت من جملة التّحريم، فعريت أي خرجت، فهي فعيلة بمعنى فاعلة (¬6). قوله: "أَرْخَصَ لِصَاجبِ الْعَريَّةِ" مطلقُ الرُّخصةِ عند الفقهاء يقتضي أنّ يُخَصَّ بعض الجملة المحظورِ عليه حكمًا، لا يُعَدَّى إلى غيره، وليس هذا بصحيحٍ، والصّوابُ أنّ ينظر إلى عِلَّة ذلك، فإن كانت علَّتُه واقفة، بُنِيَ الحُكمُ على موضِعِها، وان كانت متعدّية، ¬
أثبت الحكم المعلق منها حيثُ وُجِدَت. ومعنى إطلاقهم عليها اسم الرّخصة؛ أنّ زيد بن ثابت رَوَى عن النّبيّ -عليه السّلام- منع بيع الرُّطَبِ بالتَّمْر (¬1)، وروي عنه إباحة ذلك على الخَرْصِ في العَرِيّة (¬2)، فخصّ العَرِيَّة بهذا الحُكم دون سائر المَبِيعِ من الثِّمار، والمعنى المبيح لذلك، ضرورة الشَّرِكَة إذا كان أصلها العَرِيَّة، وهذا وإن كان ورد بلفظ المبيع ففيه معنىً من المنع، وذلك ان المعري إذا خرصت عليه العَرِيَّة، له أنّ يبيعها أو يأكلها ويصنع بها ما شاء، ورُوِيَ عن مالك. وهذا الباب (¬3) يُخرِّجُ على القاعدةِ الخامسةِ في استثناءِ المعروفِ من المُغابَنَةِ والمُكَارَمَةِ من الرِّبا. ورُوِيَ عن مالكِ أنّ بيع العَرِيَّةِ لا يجوزُ إِلَّا بالدّنانيرِ والدّراهمِ (¬4)، وهذا ينبني على مسألةٍ من أصولِ الفقه اختلفَ فيها قولُه، وهي: إذا جاءَ خَبَرُ الواحدِ معارضًا لقاعدةٍ من قواعدِ الشَّرعِ (¬5)، هل يجوزُ العملُ به أم لا؟ فقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ العملُ به (¬6). وقال الشّافعيّ: يجوز (¬7). وتردَّدَ مالك في المسألةِ، والمشهورُ من قوله والذي عليه المُعَوِّلُ، أنّ الحديثَ إذا عَضَدَتْهُ قاعدةٌ أخرى قال به، وإن كان وحدَهُ ترَكَهُ (¬8)، ولهذا قال في مسألة غسل الإناء ¬
من وُلُوغِ الكلبِ (¬1): "قد جاء هذا الحديثُ، ولا أدري ما حقيقَتُهُ" (¬2) لأنّ هذا الحديثَ عارضَ أَصلّين عظيمين: أحدُهما: قولُه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] (¬3) فقال مالك: يُؤكَلُ صَيدُهُ فَكَيْفَ يُكرَهُ لُعَابُهُ. والثّاني: أنّ عِلَّةَ الطّهارة هي الحياةُ، وهي قائمةٌ موجودةٌ في الكلب (¬4). وأمّا حديثُ العَرَايَا، فإن صَدَمَتْهُ قاعدةُ الرِّبا عَضَدَتهُ قاعدةُ المعروفِ. الأوّل (¬5): قال مالك: العَرِيَّةُ: هي أنّ يعري الرَّجل النّخلة، ثمّ يتأذى بدخوله عليه، فرخّص له فيها أنّ يشتريها منه بتمر. الثّاني: قال الشّافعيّ (¬6): لا يكون بالجُزَافِ وإنّما يكون بالكَيلِ من التَّمر يدًا بِيَدٍ. الثّالث: قال سفيان (¬7): هي نخلٌ تُوهَبُ للمساكين فلا يستطيعون أنّ ينتظروها، فرخّص لهم أنّ يبيعوها بما شاءوا من التّمر (¬8). وقال أبو حنيفة (¬9): هذه المسألةُ باطلةٌ، لا يُباعُ مال الرِّبا بالخَرْصِ. وقد ثَبتَ عن مالكٍ أنّه قال: يجوزُ بيعُها بكلِّ شيءٍ. ¬
باب الجائحة في بيع الثمار والزرع
وقيل: لا تجوز العَرَايَا بالخَرْصِ، لا بالدّنانير ولا بالدّراهم والعُرُوض وغيره. وإذا كانت للمساكين؛ فإنّه يجوز بيعُها، وقد مهّدنا ذلك في "كتب المسائل". بَابُ الجَائِحَةِ في بَيْعِ الثِّمَار وَالزَّرعِ قال الإمام (¬1): الجائحةُ في الثِّمار هي مسألةٌ انفردَ بها مالك دونَ سائرِ الفقهاءِ، وهي مسألةٌ تَنْبَنِي على القاعدةِ الخامسة في العُرفِ، ؤعلى القاعدةُ العاشرة في المقاصِد والمصالِح، ونحن نُبيْنها لكم بعد أنّ نذكُرِ حُكمَ المُعظَمِ فيها. رَوَى مسلمٌ في "الصّحيح" (¬2) أنّ النَّبىِّ -عليه السّلام- أَمَرَ بِوضعِ الجَوَائِحِ، فإذا ثبتَ هذا الأصلُ، فإنّ الّذي يَنْفِي عنه اعتراضاتِ المخالِفينَ وتأويلاتِهم رَدُّهُ إلى قاعدة المقاصِد والمصالح والعُرف الجارية عليها أحكامُ الشّرعِ فنقولُ: من حكم عَقْدِ البَيع أنّ ينزلَ المشتري في منزلة البائع في المبيع مِلكًا بمِلكٍ، وحَالًا بحالٍ، ومنفعةً بمنفعةٍ، وإذا اشترى الثّمرةَ بعدَ بُدُوِّ صلاحِها من صاحبِها، فذلكَ محمولٌ على حالِ البائع فيها وعلى عُرْفِ النَّاس، وهو أنّ يَقتَضِيَهَا بطنًا بطنًا، وحَالًا حَالًا، ولا يجوزُ أنّ يَجُدَّها جملةً؛ لأنّ البائع لها لم يكن حالُه فيها كذلك، ولأنّ المقصودَ المعتادَ والمصلحةَ لا تقتضي ذلك فيها، فإذا أُنزِلَتِ الجائحةُ عليها، من غير تفريطٍ من المشتري في اقتضائها، فهذه مصيبةٌ نزلت قبل القَبضِ، فلا كلامَ لأحدٍ من المخالِفينَ عليها، بَيْدَ أنّ المتقدِّمينَ اختلفوا في نُكتَةٍ، وهي أنّ الجائحةَ المكتَسَبَةَ؛ هل تُساوي الجائحةَ الواقعةَ بالقُدرَة الإلهيّة أم لا؟ وصورتُها: أنّ نزولَ الجيشِ على البلَدِ وإفسادِه الثِّمارَ، هل يساوي هُبوبَ الرِّياح ووقوعَ البَرَدِ أم لا؟ ¬
وهي مسألةٌ نظريَّةٌ قد حققناها في "مسائل الخلاف". الفقه في أربع مسائل: الأولى: وفي هذا الباب ثلاثُ مسائل: أحدُها: في تبيينُ ما يكونُ من المُتلَفَاتِ جائحة. الثّانية: في تبيين ما تُوضعُ فيه الجائحة. والثّالث: في مقدارِ ما يكونُ من ذلك جائحة. أمّا الأولى (¬1): فاختلف علماؤنا في معنى ما يُوضَع من الجوائح، فعند ابنِ القاسم (¬2) أنّ ما لا يُستطاع دفعُه، فإن علم به فإنّه يكون جائحة، وما يُستطاع دفعه، فإن علم به، فلا يكون جائحة، كالسّارق ونحوه، قاله في "كتاب محمّد" وهو مذهب ابن نافع في "المدوّنة" (¬3). ورُوِيَ عن ابن القاسم في "المدوّنة" (¬4) أنّ كلّ ما أصاب الثمر بأيِّ وجه كان، فهو جائحة. وقال مُطرّف وابن الماجِشُون: لا يكون جائحة إِلَّا ما أصاب من أمر السَّماء من عَفَنٍ، أو بَرَدٍ، أو عطش، أو فساد بحَرٌّ. فرعٌ: فإذا ثبت ذلك، فالجائحةُ على ضربين: 1 - جائحةٌ من قِبَلِ الماء. ¬
2 - وجائحة من قِبَلِ غيره. فأمّا الأوّل، فإن كان من قِبَلِ العطش، فقد قال مالك في "الواضحة": يوضعُ قليلُ ذلك وكثيرُه. وقاله ابنُ القاسم (¬1). ووجهُه: أنّ هذه منفعةٌ من شرط تمامها السَّقْيُ، كمنفعةِ الأرض المكتراة، والفرقُ بينها وبين سائرِ الجوائحِ، أنّ سائرَ الجوائحِ لا تنفكُّ الثّمرةُ من يسيرها، وهذه تنفكُّ الثّمرةُ من يسيرِها، فالمشتري دخلَ على السّلامة منها, ولم يدخل على السلامة في يّسيرِ العفَنِ وأكلِ الطّير. وأمّا الجائحةُ بكثرة المطر، فهو نوعٌ من العَفَنِ يوضع كثيرُه دون قليلِهِ. الثّانية (¬2): وأمّا ما يُعتبرُ به في وضع الجائحة، فأنّه يرجع إلى معنَيَيْن: أحدُهما: جنْسُ الثَّمرة. والثّاني: معنىً يقترنُ بها. فأمّا جنسُها، فهو كلُّ مَبِيعٍ يحتاج إلى بقائه في أصله، وذلك على ضربين: أحدهما: لانتهاء صلاحه كثمرة النَّخل والعِنَب والتُّفاح والتِّين. والثّاني: يُحتاج إليه لبقاء رُطوبَته، كثمرةِ العِنَب إذا اشْتُرِيت بعد انتهاء طيبها، وكالبُقُول، والقَصِيل، والجَزَر، والسَّلجَم، والبَصَل، والثُّوم. فأمّا الأوّل (¬3)، فلا خلافَ (¬4) في وضع الجائحة فيه. وأمّا ما لا يحتاج إلى بقائه لتمام صلاحه، ولا لبقاء رطوبته، كالتَّمر اليابس، ¬
والزرع، فلا خلافَ أنّه لا يوضع فيه جائحة؛ لأنّه ليس له في أصله منفعة مستثناة يُستَنظَر استيفاؤها. الثّالثة (¬1): وأمّا تبيينُ مقدار الجائحة الّتي توضع، فإنّ المَبِيعَ من هذا الجنس على ثلاثة أنواعٍ: 1 - ثمارٌ كالتَّمر والتِّين والعِنَب ونحوها، فهذه يُرَاعَى في جوائحها الثُّلُث، فإنْ قَصُرَت عنه لم توضع عن المشتري. 2 - ونوعٌ ثانِ وهو سائر البُقُول والأُصول المغيّبة، ممّا الغَرَض في أعيأنّها، وقد تقدّم أنّ فيها روايتين (¬2). فإذا قلنا بإثبات حُكمِ الجائحة فيها، فهل يُعتبر فيها الثُّلُث أم لا؟ رَوى ابنُ القاسم عن مالك (¬3)؛ أنّ الجائحةَ ترضع فيها، بلغتِ الثُّلُث أم لا (¬4). ورَوَى ابنُ زيادِ عنه: لا يوضع منها إِلَّا ما بلغَ الثُّلُث. ووجهُ القول الأوّل: أنّ البُقُول لمّا لم يَجُز بيعُها إِلَّا عند جَدِّها، وجبَ أنّ يستوي قليلُها وكثيرُها، كالمَكِيل والموزون. ووجهُ القول الثّاني: أنّ هذا مَبِيعٌ ثبت فيه حُكم الجائحة فاعتبر فيها الثُّلُث كالثّمرة. مسألة (¬5): وقولُه (¬6): "وَالّجَائحَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَن المُشتَرِي، الثُّلُثُ فَصَاعِدًا" وهذا كما قال، وإن قصُرت عن ذلك في الثِّمار، لم توضع عن المشتري، وهو معنى قوله (¬7): "فَلَا يَكُونُ ¬
فيما دون ذَلِكَ جَائِحَة". وقال الشّافعيُّ (¬1): يُوضع قليلُ ذلك وكثيرُه في الثَّمرة وغيرها. ودليلُنا: أنّ الثمرة لا تنفكّ من يسير العَفَنِ والطّير (¬2)، فهذا ممّا دخل المشتري عليه (¬3)، ولو كان الرّجوعُ له، لما صحّ بيع ثَمَرٍ أبدًا. فرع (¬4): وهل يعتبر ثُلُث الثَّمَرة، أو ثُلُث القِيمَة، فعلى قوليِن: 1 - فرُوي عن ابن القاسم (¬5) أنّ الاعتبارَ بثُلُث الثَّمَرَة (¬6). 2 - ورُوِيَ عن أشهب أنّ الاعتبار بثُلُثِ القِيمَة (¬7). وقال أَصبَغ: إنّما ينظر في هذا كلِّه إلى ثُلُثِ القِيمَة (¬8). فرع (¬9): فإن كان أنواعًا من جنس واحدٍ، فيصابُ نوعٌ منها، فلا خلاف أنّ الاعتبارَ بثُلُثِ جميعِ المبِيعِ. ¬
باب ما يجوز من استثناء الثمر
بَابُ مَا يَجُوزُ مِن اسْتِثْنَاءِ الثَّمَرِ قال الإمام (¬1): قد تقدّم في القاعدةُ الخامسة الإشارةُ إليه (¬2)، وذلك يجوزُ من ثلاثةِ أوجُهٍ: 1 - بذَهبٍ من ذَهَبٍ. 2 - أو بكَيل من جُزَافٍ. 3 - أو بكَيلٍ من كَيْلٍ، مثلَ أنّ يقولَ: ثُلُثٌ أو رُبُعٌ. وانفردَ مالكٌ بمسألةٍ دونَ الفقهاءِ، وهي بأن تُختار ثلاثُ نَخَلَاتٍ من الجُملةِ، ووافقه بعضُهم فيها على تفصيلِ، وهي وإن كانت غَرَرًا؛ لأنّ هذا الّذي يختارُ لعلّه يجعل يده في الأطيب -ولكن هذا الغَرَرَ يَسِيرٌ، ولا خلافَ بين العلماء بأن يسيرَ الغَرَرِ مَعْفُوٌ عنه، وهذا يُستَمَدُّ من بحرِ المقاصد حَسَبَ ما تقدَّم بيانُه في القاعدةُ العاشرة (¬3)، واتّفق علماءُ الأمصارِ على أنّ ذلك لا يجوزُ، وكان ابنُ (¬4) عمرَ وابنُ المُسَيِّب (¬5) يَرَيَانِ الاستثناءَ على الإشاعةِ، وغيرُهُم. وكان ابنُ سيرين يُجِيزُ أنّ يَستثنِيَ كُرًّا أو كُرَّينِ (¬6)، وعلى كلِّ حالٍ فإنّ المسألةَ ترجِعُ إلى المستثنَى؛ هل هو داخلٌ في المَبِيعِ؟ ولا خلافَ بين العَربِ والعلّماءِ أنّ ¬
المستثنى لا يدخلُ في المستثنَى منه مُرَادًا وإن دخلَ فيه لفظًا؛ لأنّه لو كان كذلك لكان الاستثناءُ نسخًا، وذلك محالٌ وخَلطٌ للحقائقِ، فثبتَ أنّه تخصيصٌ للعموم وبيانٌ للمرادِ. لكنّ الفقهاء اختلفوا؛ هل يدخُلُ في المبِيع أم لا؟ على تفصيلٍ طويل. الفقه في مسائل: الأولى (¬1): قوله (¬2): "كَانَ يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِهِ" قال علماؤنا (¬3): يبيعُه على ثلاثة أَضْرُبٍ: أحدُها: أنّ يبيع كَيلًا معروفًا (¬4). والثّاني: أنّ يبيع الجميع على أنّ فيه كذا وكذا صاعًا بالخَرْصِ. والثّالث: أنّ يبيعَهُ جُزَافًا. الثّانية (¬5): فإن باعه على أنّ فيه كذا وكذا على التَّحَرِّي، فقد قال ابن الجلّاب: لا يجوز (¬6). وقال عبد الوهّاب (¬7): إنَّ التّحرِّي فيها من باب الغَرَر، فلا يجوزُ بيعُها على التّحرِّي (¬8). وأمَّا أنّ يبيعها جُزَافًا، فلا خلافَ في جوازِه (¬9). وَوَجْهُ ذلك: أنّه *مرئىٌّ يتأتّى فيه الحَزْر، فجازَ بيعُه جُزافًا. ¬
باب مايكره من بيع التمر
وقولُه (¬1):"وَيستَثنِي منه"*: يَحْتَمِلُ أنّ يريدَ به كَيْلًا، ويَحتَملُ أنّ يريدَ جُزْءًا شائعًا، ويَحتَمِلُ أنّ يريدَ نَخَلَاتٍ يختارُها. الثّالثة (¬2): استثناءُ الرَّجل عدد نَخلَاتٍ يكون على ثلاثة أَوجُهِ: أحدُهما: أنّ يعيِّنَهَا، وذلك لا خلافَ في جوازِهِ (¬3)؛ لأنّه أَوقَعَ البَيْعَ على سائرِهَا وهو مُعَيِّنٌ. والثّاني: أنّ يُطيقَ القول، فيقول: أبيعُ منكَ هذا الحائط غير أربع نَخَلاتٍ، فهذا بَيعٌ جائزٌ؛ لأنّ له مَخرَجًا يتوجَّهُ إليه، وذلك أنّه يكون شريكًا بما استثنَى من العدد. الثّالث: فإن كان اشترط اختيار ما استثنى منها، فإن كان استثنَى الكثير، لم يَجُز ذلك، وإن كان استثنَى اليسير، جاز ذلك عند مالك (¬4)، ومنع منه ابنُ القاسم (¬5). بَابُ مَايُكَرَهُ مِنْ بَيْع التَّمْرِ قال الإمام: في هذا الباب حديثُ سعد بن أبي وَقَّاص؛ إِذ سَأَلَهُ زَيْدٌ عَنِ البَيضَاءِ بالسُّلْتِ؟ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيُّهمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: البَيضَاءُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ سَعْدٌ: سمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ اشتِرَاءِ التَّمْرِ بالرُّطَبِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ: أَيَنْقُصُ ¬
الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ (¬1). ¬
الإسناد: صحيحٌ لا كلامَ فيهِ. قال الإمام (¬1): أَطلقَ مالكٌ - رحمهُ الله- لفظَ المكروهِ (¬2) على الحرام؛ لأنّه يتناوَلُه تناوُلَهُ للفعل الّذي في تَركِهِ ثواب وليس في فعلِهِ عقاب، كما يتناولُ المأمورُ للفعلَ الّذي يُلام تارِكُه ويُحْمَدُ فاعِلُه. ويتناوَلُ (2) أيضًا الفعلَ الّذي يُحمَدُ فاعِلُه ولا يُلامُ تارِكُه، ويسمّى في عُرفِ المتأخّرين المندوب. والمكروهُ عندهم هو الّذي ليس في فعله ثوابٌ ولا في تركِهِ عقابٌ، خلافًا للمحظور، واللُّغةُ ما أشار إليه مالكٌ، والاصطلاحُ حَسَنٌ للتّمييز بين المشتركاتِ قصدَ البيانِ والتّفصيلِ من المختَلِفَاتِ. الفقه في مسائل: الأولى (¬3): فأمّا حديثُ "عَامِل خَيبَرَ في التَّمرِ" الحديث (¬4) فإن مسلمًا روى فيه: "وَكَذَلِكَ المِيزَانُ" (¬5) فَسَوَّى بين الوزن والكَيْل، وصار أصلًا في معرفة التَّسَاوِي؛ لأنّ الله شَرَطَهُ وهو معنىً خَفِىٌّ، ثمّ جعلَ السبيلَ إليه الكَيْلَ والوَزنَ، وهو غايةُ القُدرةِ في معرفة التَّساوِي. وكان الشَّاشي (¬6) ببغدادَ في الدَّرسِ يقولُ: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - للعاملِ: "بِعِ ¬
الجَمعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَغْ بالدَّرَاهِم جَنِيبًا (¬1) " (¬2) "وكذلك الميزانُ" (¬3)، ولم يفرِّق بين أنّ يبتاعَ الجَنِيبَ من مشترِي الجَمعِ أو من غيره، وبه قال الشّافعيُّ (¬4)، وأبو حنيفةَ (¬5)، وأكثرُ فقهاءِ الأمصارِ. وقال مالكٌ: لا يفعلُ ذلك بحضرة العَقْدِ الأوّل، مخافةَ أنّ يكونا متواطِئَيْنِ عليه، فيرجعان بعمَلِهِما إلى ما نُهِيَا عنه، وهذا ينبني على قاعدة الذّرائع، وقد مهَّدنَا ذلك في أوَّلِ "الكتاب". وأمّا حديث "البَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ" (¬6) فإنّ كثيرًا من العلماء جَنَبَهُ؛ لأنّ زيدًا أبَا عيَّاش (¬7) عندهم مجهولٌ (¬8)، ومن يروي عنه مالكُ بنُ أنسٍ ليس بمجهولٍ، فإنّ روايتَهُ عنه تعديلٌ؛ لِمَا ثَبتَ من عظيمِ تحرِّيهِ (¬9). وقد قال جماعةٌ من العلّماءِ: إنَّ المُزَكِّيَ في الشّهادة يجوزُ أنّ يكونَ واحدًا، فكيف في الخبر الّذي هو أَسْرَعُ في الإثباتِ؟! ¬
والمسألة مبيَّنَةٌ في "أصول الفقه". وأمّا بَيعُ الرَّطب بِاليَابِس، كَالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَالبَيَضَاءِ بالسُّلْتِ، فإنّ جماعةً من فقهاء الأمصار أَبَتْهُ، منهم مالكٌ (¬1) والشّافعىُّ (¬2)، وجوَّزَهُ أبو حنيفةَ (¬3) ببغداد، وهي أوَّلُ مسألةٍ سُئِلَ عنها ببغدادَ، قال لنا فخرُ الإسلام (¬4): دخل أبو حنيفة، فسُئِلَ: هل يجوزُ بيع الرُّطَب بالتَّمْرِ؟ قال.: ذلك جائزٌ. قيل له: ما الدّليل؟ قال: لا يخلو أنّ يكونَ الرُّطَبُ والتَّمرُ جِنسًا واحدًا أو جِنسين، فإن كان جِنْسًا واحدًا جازَ متماثِلًا، وإن كان من جنسين جازَ متفاضِلًا ومتماثلًا. قيل له: إنَّ زيدًا أبا عيَّاش سأل سَعْدَ بنَ أبي وَقَّاص عن البَيْضَاءِ بالسُّلتِ. الحديث إلى آخره؟ فقال: ذلك لا أعرِفُه. وهذا الدّليلُ الّذي ذكر أبو حنيفةَ هو محضُ القياسِ، ولُبابُ النَّظرِ، لولا الحديثُ المذكورُ، إِلَّا أنّ عندَه أنّ خبرَ الواحدِ إذا خالفَ الأصولَ سقط في نفسه، وقد مهّدنا ذلك في "أصول الفقه"، طَعنُه في زَيدِ أبي عيَّاشٍ بجهالته له لا يؤثِّر فيه، فإنّه كان موقوفًا ¬
باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة
على رواية المجهول والضّعيفِ، فصارَ هذا الحديثُ قاعدةً من قواعدِ الرِّبا، اتّفقَ عليه العلّماءُ في الجملة، حتَّى إنَّ أبا حنيفةَ ناقضَ أصلَهُ فقال: لا يجوزُ بيعُ الحِنطَةِ المبلولةِ باليابِسَةِ بحالٍ (¬1)، وهذا هو الرُّطَب بالتَّمر بعينه، وليس لأصحابه فيها جوابٌ يُقنِعُ، وهذا هو بَيْعُ الرَّطْب بالتَّمر اليابس وأصلٌ فيه. وأمّا بيع الرَّطبِ بالرَّطَبِ كالرَّطَبِ بالرَّطَبِ، فاختلفَ فيه عبدُ المَلِكِ (¬2) وأصحابُ مالك. وكذلك العجينُ بالعجينِ، ذَكَرَ ابنُ القاسم جوازهُ في "كتاب محمّد" ولم يُجزْهُ في "العُتبِيَّة" (¬3) بحالٍ، وإذا امتنع الرُّطَب باليابس لأنّ التّماثلَ مجهولٌ بينهما حالةَ الادِّخار، فكذلك يلزم الرَّطبُ* باليابِسِ لأنّ التّماثُلَ مجهولٌ فِيهِمَا حالةَ الادِّخارِ، فكذلك يلزَمُ في الرَّطبِ* بالرَّطبِ؛ لأنّ تساوَيهما حالةَ الادِّخار مجهول أيضًا، إِلَّا أنّ علماءنا سامَحوا في العجينِ بالعجينِ لِيَسَارَتهِ وخِفَّة أمرِهِ، وأنّه مستثنىً من القاعدةُ الرِّبَوِيَّة للحاجة إليه، وبَقِيَ التّحريمُ في الكثير الّذي يُقْصَدُ منه المُغابنةُ والمُكايَسَةُ على أصل القاعدةُ. بَابُ مَا جَاءَ في المُزَابَنَةِ والمُحَاقَلَةِ قال (¬4) في حديث أبي سعيد؛ إنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ وَالمُحَاقَلَة (¬5). ¬
قال مالك (¬1): وَالمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بالتَّمرِ في رُؤُوسِ النَّخْلِ. والمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرضِ مِمَّا يَخرُج مِنهَا (¬2). قال الإمام: الإسناد صحيحٌ. وذَكَر (¬3) حديثَ ابنِ عمرَ قال: "وَالمُزَابَنَةُ بَيعُ الثَّمَرِ بِالتَّمرِ كَيلًا، وَبَيعُ الكَرمِ بِالزَّبِيبِ كَيلًا". قال أهل العربيّة (¬4): المزابنةُ المدافعةُ، ومنة قولُه تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلّق: 18] (¬5) أراد -والله أعلم- الملائكة الّذين يدفعونه إلى النّار. وفسرها الفقهاءُ فقالوا: المزابنةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ في رؤوس النَّخْلِ بالتَّمرِ، ثمّ حمل ذلك على كلِّ رَطبٍ بيَابِسٍ، ثمّ حمل على البيع المجهول. وقال مالك (¬6): "الْمُزَابَنَةُ: كُلُّ شَيءٍ مِنَ الجُزَافِ الَّذِي لأ يُعلَمُ كَيْلُهُ، وَلَا وَزْنُهُ، وَلَا عَدَده"، وأمّا (¬7) "المُحَاقَلَةُ" فهي مشتّقَةٌ من الحَقْلِ وهو البَرَاحُ من الأرض، يقال للفَدَادِين: المحاقِيل، كما يقال لها: المزاريع. واختلفَ النّاسُ في ذلك، وقد فسّرهَا الصّاحب الرّاوي ¬
لها فقال (¬1): "المُحَاقلَةُ: اكتِرَاءُ (¬2) الأَرض بالحِنْطَةِ" وكذلك قال ابنُ المُسَيَّب (¬3). وقال أبو عُبَيد (¬4): سمعتُ غيرَ واحدٍ ولا اثنينٍ من أهلِ العِلْمِ قالوا: المُحاقَلةُ: بَيعُ الزّرع وهو في سُنبُلِهِ بالبُرِّ، وهو مأخوذٌ من الحَقْلِ. وقال الهَروي (¬5) وغيره (¬6): يريدُ نهى عن بَيعِ الزّرع الّذي في الحقل، فكَنَى بالحقل عن الزّرع الّذي في الحقل، وعلى هذا التّفسير فهمه البخاريّ فبوّب عليه (¬7)، فقال: "بَابُ بَيْعِ الخضر" ثمّ أدخل هذا الحديث (¬8)، وعلى هذا التّأويل أكثر العلماء (¬9). وقال ابنُ حبيب (¬10): "أصلُ المزابنةِ: المخاطرةُ والغَرَرُ، والزَّبنُ هو الخِطَار، (¬11). وقال غيرُه: الزّبن الدَّفعُ، تقول: زبنَتْهُ النَّاقَةُ إذا دفعتهُ برِجْلِها، فكأنّ هذا الضّرب من البَيْع الّذي تدخله المزابنة يقع فيه التّدافع (¬12). وقال غيرُه: معنى ذلك أنّ كلَّ واحدٍ منهما قد دفع صاحبه إلى الغَرَر. ¬
الفقه في خمس مسائل: الأولى (¬1): قولُه (¬2): "وَالمُزَابَنَةُ بَيعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيلًا" يقتضي أنّ يكونا مَكِيلَين، ويجوزُ أنّ يكون تفسيرًا من النّبيِّ -عليه السّلام-، ويصحُّ أنّ يكون تفسيرًا من الرّاوي، والأظهرُ أنّه من قولِ النَّبىِّ لاتِّصالِه بقولِه، وإن كان من قول الرّاوي وهو ابن عمر فهو حُجَّةٌ؛ لأنّ هذا أَمرٌ طريقُه أهل اللُّغة، وابنُ عمر حُجَّةٌ في ذلك. الثّانية (¬3): وأمّا "بَيعُ الثَّمَرِ بالتّمرِ" فإنّه مُتَأَتٍّ فيه. وأمَّا "العِنَبُ بِالزَّبِيبِ كَيلًا" فإنّ ذلك غير مُتَأَتٍّ فيه (¬4)، ولا يباعُ العِنَبُ كَيلًا بوجهٍ. ويحتَملُ أنّ يسمَّى الوزن كَيْلًا. ويحتَملُ أنّ يريد أنّ يتحرى في العنَبِ مَكِيلَةَ الزّبيبِ (¬5). وقد اختلف قولُ مالكٍ في إِجَازَة التّحرِّي فيما يحرمُ فيه التفاضلُ، فأجازَهُ في البيضِ بالبيضِ، والخُبزِ بالخبزِ، واللّحم باللّحم، وفي الزيتون الغَضّ بالمالح في "كتاب محمّد" وأجازه مع القول بإباحته في القدِيد باللّحم الطَّريِّ، ومنعه في رواية أخرى. ورُوِي في "الواضحة" أنّه قال: وما لا يجوزُ فيه من الطّعامِ والإدام التّفاضلُ، لا تجوزُ قِسمتُه تَحَرَّيًا. وكذلك السّمْنُ والزّيتُ والعسلُ، لا يجوز إِلَّا كَيلًا أو وزنًا. ¬
واختلف علماؤنا في تأويل ذلك: فمنهم من قال: إنَّ ذلك على روايتين (¬1). ومنهم مَنْ قال: إنَّ ذلك لاختلاف حالَيْنِ، فيجوزُ مع تَعَذُّرِ الموازين، ويمنعُ مع وجودها. ومَنَعَ من ذلك أبو حنيفةَ (¬2) والشّافعيّ (¬3) بكلِّ حالٍ. ودليلُنا: أنّ هذا معنى وُضِعَ في الشّرع لمعرفة المقدار، فجازَ أنّ يعتبرَ به المبيع، كخَرْصِ العَرِيَّة والزّكاة. الثّالثة (¬4): فإن قلنا بجوازِ ذلك، ففي أيِّ شيءٍ يجوزُ؟ فالمشهورُ عن مالك أنّه يجوزُ في الموزون دونَ المَكِيلِ والمعدودِ، رواه عنه محمَّد (¬5) وغيره، وهذا عندي ينبني على قول من قال: إنَّ ذلك ممنوعٌ، إِلَّا في الأسفار وحيثُ تُعدَمُ الموازين. وأمّا على قول من يجيزُ ذلك على الإطلاق، مع القُدرَةِ على الموازين، وهو الأظهر عندي، لتجويزه السَّلَم في اللحم بالتحرّي، فإنّه يجب أنّ يجوزَ ذلك في المَكِيلِ. ووجهُهُ: أنَّ الكَيلَ يعدم كما يعدم الميزان" والقبضةُ ليست بمقدارٍ صحيحٍ؛ لأنّه لا يَتأتى فيها المساواة (¬6). ¬
فصل
فإذا قلنا: إنَّ التَّحرِّي فيما يحرمُ فيه التّفاضلُ، فإنّ ذلك جائزٌ في يسيرِهِ دونَ كثيرِهِ؛ لأنّه يتعذَّرُ فيه التَّحرِّي وُيخَافُ فيه الغرر (¬1)، قاله ابن القاسم. الرّابعة (¬2): وأمّا ما يجوزُ فيه التّفاضلُ من المطعوماتِ، فإنّه يجوزُ في قليلِهِ وكثيرِهِ، رواه ابن حبيب (¬3). والفرقُ بينَهُ وبين ما يَجْرِي فيهِ الرِّبا، أنّه لا يُخَافُ فيه التّفاضلُ الّذي يحرُمُ فيما يجري فيه الرِّبا. فصلٌ (¬4) فإذا ثَبَتَ التَّحرِّي، فقد جوّزهُ مالك في الخُبز بالخُبزِ، والبيض بالبيض، واللّحم باللّحْمِ. فأما الخبزُ بالخُبزِ، فالّذي قالَهُ أصحابُنَا أَنَّه يُتَحَرَّى ما فيه من الدَّقيقِ دون وَزنِ الخبز؛ لأنّ الخبزَ بعضُه أرطب من بعض (¬5)، وهذا لا يكادُ يَصِحُّ على مذهبِ مالكِ، وإنّما يَصِحُّ على أصلِ ابنِ المَاجِشُون في اعتباره بالرُّطوبات الباقية في حال الادِّخار، ولذلك منع التّمر القديم بالحديث. وأمّا مالك فإنّه عنده على ضربين: أحدهما: ألَّا يؤكلَ المطعومُ مع الرُّطوبة الحادثة غالبًا، كالفُولِ المبلولِ، والقمحِ المبلول، والعجين، فإنّها تمنع صحّة التّساوي. والثّاني: أنّ يُؤكلَ بوجودِهَا غالبًا، كرُطوبة الرُّطَبِ والعِنَب والخُبز، فإنّ ذلك يمنعُ من صحَّةِ التَّساوي، طارئة كانت أو أصليَّة، فعلى هذا يجوزُ الخبزُ بالخبزِ وَزنًا, ولا ¬
يحتاجُ إلى تحرِّي الدّقيق، فإنّه قد صار جنسًا آخر، كما يجوزُ بيع المَخِيض بالْمَخِيض كَيلًا، ولا يُتحَرَّى ما فيها من اللَّبن (¬1)، وربَّما كان لأَصحَابِنَا قولانِ في أصلٍ واحدٍ، واتّفق ظهورُ أحد القولين، وذلك موجودٌ كثيرٌ (¬2)، فيجبُ ردُّ كلِّ شيءٍ من ذلك إلى أصله. وقد رَوَى فضل (¬3) عن مالك؛ أنّه يجوزُ بيعُ الكعك بالخبز مُتَمَاثِلًا، وهي رواية ابن القاسم، والقَدِيد بِالنَّبىِّ على التّحرِّي، ثمّ رجع عنه، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنّ القَدِيد والنَّبىَّ لم يفرق بينهما صنعة (¬4). والكعكَ والخبزَ قد وُجِدَ فيهما ذلك. الخامسة (¬5): قولُه:" نَهَى عَنِ المُزَابَنَة" قد تقدّم أنّ معناها أنّ يجهل قَدر أحد المَبِيعَيْن من الآخر في الجِنس الواحدٍ؛ لأنّ كلَّ أحدٍ من المتبايِعَيْنِ يَقْصِد إلى غَبْنِ صاحبِهِ. السّادسة (¬6): فإذا ثبت هذا، فإنَّ المَبِيعَ على ضربين: 1 - ضَربٌ يحرُمُ فيه التّفاضلُ. 2 - وضَربٌ يجوزُ فيه. فأمّا ما يحرمُ، فقد بيَّنَّاه. ¬
باب جامع بيع الثمار
وأمّا ما يجوزُ فيه، فإنّه لا يجوزُ أنّ يباعَ يابِسُهُ برَطْبهِ على رؤوسِ النّخل؛ لأنّ القبضَ لا يتنجَّز فيه، ويحرمُ فيه التَّفرُّقُ قبلَ القبضِ لأنّه مطعومٌ، ولا يجوزُ رُطَبُهُ بيابِسِه، ولا رَطْبُهِ بِرَطبِهِ، ولا يابسُهُ بيابسِهِ، لا جُزافًا فيهما أو في أحدهما، والآخر بالكَيْلِ على وجهٍ يجوزُ فيه التّساوي والتّفاضُل حتّى يتبيَّن الفضل في أحدِهمَا فيجوزُ ذلكَ، وكذلك كلُّ مَبِيع وإن لم يكن مطعومًا. بَابُ جَامِع بَيْعِ الثَّمَارِ قال الإمام: الأصول في مسائل: مسائل (¬1) هذا الباب تدورُ بين أربعِ قواعدَ: قاعدتان في المنع والفساد، وهي: الرِّبا والجهالةُ. وقاعدتان في الجواز، وهي: المصالحُ والعادةُ. فإنّ العادةَ إذا جَرَت أَكْسَبَتْ عِلْمًا، ورَفَعَت جَهلًا، وَهَوَّنَتْ صَعْبًا، وهي أصلٌ من أصولِ مالك "العُرفُ والعادَة" وأباها سائرُ العلماء (¬2)، ولقد قلتُ يومًا لشيخنا فخرِ الإسلام (¬3) وقد جَرَت مسألةٌ: إذا باعه بمئة دينارٍ وخمسين، هل تحمَلُ الخَمسونَ على الدّنانيرِ أم لا؟ فَذَكَرَ الخلافَ ورجَّحَ الحملَ عليها. فقلت له: وهذه المئةُ الدّينار أمرابطيّةً تكونُ أم أميريَّةً؟ فقال: هذا قضاءُ العادةِ؛ لأنّه لا يجري في مدينة السّلام غيرُها، فتعلّق بالعُرْفِ والعادةِ، وهي أصلٌ من أصول مالك. ¬
الفقه في مسائل: الأولى (¬1): "مَنْ اشتَرَى ثمَرًا من نَخلً مُسَمَّاةٍ" (¬2) هو كما قال؛ لأنّه (¬3) يشرعُ في قبضه، يريدُ أنّ ذلكَ في وقتٍ يُمكِنُ قبضه بِبُدُوِّ صلاحِ الثَّمرة، وكون اللَّبَن في الغَنَم. وأمَّا إذا لم يَبْدُ صلاحُها، أو لم يكن في الغنم لبنٌ، فذلك غير جائِزٍ، والأصلُ في ذلك نَهيُه -عليه السّلام- عَنْ بَيعِ الثَّمرَةِ حَتى يَبدُو صَلَاحُهَا (¬4). وأمّا اللَّبن (¬5)، فإنّما جازَ ذلك خلافًا للشّافعىِّ (¬6)؛ أنّ هذا مائِعٌ طاهرٌ خارجٌ من حيوانٍ لا يختلفُ جِنْسُهُ غالبًا، فجاز أنّ يُفرَدَ بالبَيعِ دونَها كماءِ العيون (¬7). الثّانية (¬8): إذا ثبت هذا فقد قدّمنا أنَّ شِراءَ الثَّمَرَة في النَّخلِ يكونُ على ثلاثةِ أوجُهٍ، تقدَّم بيان الوجهين وبَقِيَ الثّالث: وهو إذا اشترط منه أَصْوُعًا معروفةً، فإنّ ذلك على وجهين: أحدُهما: أنّ يشترط أخذه على حاله. والثّاني: أنّ يشترط أخذه بعد تغيُّرِه. فأمّا أخذُه على حاله بُسْرًا فجائزٌ؛ لأنّه بمنزلة اشتراء أَصوُعِ تَمْرٍ من صُبْرَة، فإن ¬
باب بيع الذهب بالورق عينا وتبرا
شَرَط إبقاءَهُ إلى تَغيُّرِهِ، فلا يخلو أنّ يشترطَ ذلك إلى أنّ يصيرَ رُطَبًا، أو إلى أنّ يصير تَمْرا، فإن اشترط أخذه رُطَبًا فلا خلاف فيه (¬1). ووجه ذلك: اثه معلوم الصِّفة؛ لأنّ الإرطاب إنّما هو نضجٌ وليس فيه نقصان ولا زيادة، فجاز ذلك. الثّالثة (¬2): فإن اشترطَ أخذه تَمرًا، فإنّ ذلك ممنوعٌ في الجملةِ. وقال ابنُ وهبٍ عن مالك هذا، وكذلك لو وقع العَقْد حين الإرطاب واشترطه تمرًا: ووجه ذلك: لأنّه لا يعلم صفته عند إنتهاء جفوفه (¬3)، وذلك مؤثِّرٌ في معنى العَقْد، إِلَّا أنّه لا يتفاوت تغيُّر ذلك، فلذلك لم يؤثِّر عند مالك وأصحابه (¬4) في فساد العَقْد، والفروع في هذا الباب متشعِّبةٌ جدًا، لُبابُها ما سردناه عليكم. بَابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ عَيْنًا وَتِبرًا قال في حديث مالك (¬5)، عن يَحيَى بنِ سَعِيدِ أَنَّهُ؛ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - السَّعدَينِ أنّ يَبيعَا آنِيةً مِنَ المَغانمِ مِنْ ذهَبٍ أَو فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُلَّ ثَلَاثَةٍ بِأربَعَةٍ عَينًا، أَوْ كُلَّ أَربَعَةٍ بثَلاثَةٍ عَينًا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ: "أَربَيتُمَا فَرُدَّا". قال الإمام: ذكر ابنُ وهبٍ أنّه قال: "السَّعدينِ: سَعْدُ بنُ مَالِكِ" (¬6). وقال غيرُه: ¬
هو أبو سعيد الخدري، والثّاني سعد بن أبي وقّاص. وقيل: إنَّ أحدَهما سعد بنُ عبادة، والآخر سعد بن أبي وقّاص، وهو الصّحيح (¬1). وأنا حديث عطاء بن يَسار (¬2): أنّ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفيَانَ بَاعَ سقَايَةً من ذهَب بِأَكْثَرَ مِنهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّردَاءِ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ يَنهَى عَنْ مِثلِ هَذَا إِلَّا مِثلًا بِمِثْلٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَأسا، فَقَالَ أَبُو الدردَاءِ: مَنْ يَعذِرُني مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ، وُيخبِرُنِي عَنْ رَأيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأرضٍ أَنتَ فِيهَا، ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّردَاءِ عَلَى عُمَرَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فكتب عُمَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَلَّا تَبِيعَ شَيئًا من ذَلِكَ إِلّا مِثلًا بِمِثلٍ، وَزنًا بِوَزنٍ. حديث أخر: رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَالَ: كنت مَعَ ابنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ صَائِغٌ (¬3) فَقالَ: يَا أَبَا عَبدِ الرّحْمَنِ إِنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ، ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيءَ من ذَلِكَ بِأَكثَرَ مِنْ وَزنِهِ، فَأَستفضِلُ مِنْ ¬
ذلكَ قَدرَ عَمَلِي. فَنَهَاهُ عَندُ اللهِ بن عُمَرَ عَنْ ذلِكَ، فجَعَلَ الصائِغُ يُرَدِّدُ عَلَيهِ المَسألَة. الحديث (¬1). الفقه في مسائل: الأولى (¬2): قوله (¬3). "أمر السَّعْدَيْنِ" هو من. باب الوكالة في المراطلة بالذَّهب والمبادلة، ومن شروطها أنّ يتولّى قبض العوض فيها من عَقدَها، فإن عَقَدَ هُو الصَّرف، وَوَكَّلَ من يقبِض، أو وَكَّل من يصرِف، ويقبض هو، فقال مالك (¬4): لا يجوزُ، وهذا إذا فارق الّذي عَقَدَ الصّرف قبل أنّ يقبض الآخر؛ لأنّه إنّما يراعى في فسادِهِ مفارقته (¬5) قبل القَبْضِ. الثّانية (¬6): فإن عَقَد الصّرف، ودفع الدِّينار، وأحال عليه من يقبض الدّراهم، ثمّ فارقه قبل القَبْض، فلا خلافَ في أنّهُ لا يجوزُ. فإن قضاهُ قبل مفارقته (¬7)، ففي "كتاب محمّد" عن ابنِ القاسم: لَا خَيْرَ في ذلك، سواء أحال بجميع الدّراهم أو ببعضها. وروى زَيد بن بِشر عن ابن وهب أنّه لا بأس به. ¬
وقال أشهب: يُفْسَخُ ذلك إِلَّا أنّ يُفارقَهُ قبل قبضِ المحال، سواء ثبت دَيْن المُحَال عليه قبل عَقْد الصَّرف أو بعده. قال الإمام (¬1): فقولُ ابنِ القاسم مبنىٌّ على أنّ مِنْ شرطه (¬2) أنّ يقبض العاقد العِوَضَ، ومن شرطه عند أشهب ألَّا يفارقه قبل القبض هو أو غيره، هو بمنزلة الإقالة في السَّلَم (¬3). فرع: فإن كان دينارٌ بين رجلين، فصرفاه بدراهم، ثمّ وكّل أحدهما صاحبه على القبض، ثمّ انقلب (¬4)، جازَ أنّ يقبض الثّاني قبل أنّ يفارق الصّراف. حكاه ابنُ الموّاز عن ابن القاسم، وكذلك الحُلَي. الثّالثة (¬5): قال علماؤنا (¬6): ولا اعتبار بالسِّكَّة وبالصِّياغة في شيءٍ من ذلكَ، فإنْ كان المَصُوغُ أَدوَنَ ذَهَبًا والتِّبْرُ أفضل، فلا بأس بذلك؛ لأنّ الصِّياغةَ تبعٌ مُلغىً غير مؤثِّر كالجَوْدَة، ولو ثبتَ له في ذِمَّته ذهبٌ مَصُوغٌ، فأراد أنّ يقبضَه عنه تِبْرًا أفضل ذهبًا لم يَجُزْ، لأنّ الصِّياغةَ قد ثبتت له في ذمّته، فَتَرَكَ ذلك عِوَضًا عن جَوْدة الذّهب (5) التِّبْر، فدخل ¬
ذلك التّفاضل؛ لأنّ ذلك ذهب وصياغة بذهب، وليس كذلك المراطلة فإن الصِّياغة لم تثبت في ذِمَّتِهِ، فلا تأثير لها. الرّابعة (¬1): قولُه (¬2): "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ" يريدُ إِيجاب التَّساوي، ولا تجور فيه زيادةٌ. وبدل الدّنانير والدّراهم بمثلها، يكون ذلك على وجهين: وزنًا وعددًا. فأمّا الوزنُ، فلا يجوزُ فيه إِلَّا التّساوي، ولا تجوزُ فيه زيادةٌ على وَجهِ مَعرُوفٍ. وأمّا المبادلةُ بالعدَدِ، فإنّه يجوزُ ذلك، وإن كان بعضها أَوزَن من بعضٍ عَلَى وَجْهِ المَعرُوفِ، وليس ذلك في التّفاضل؛ لأنّهما لم يُبْنَيَا على الوزن، ولهذا النّوع تقديران: الوَزن والعَدَد، وإن كان الوَزن أحقّ إِلَّا أنّ العَدَد معروفٌ، فإذا عمل على العدد، جوّز يسير الزّيادة على وَجْهِ المَعْرُوفِ. الخامسة (¬3): قولُه: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرهَمُ بالدِّرهَمِ، لَا فَضلَ بَينَهُمَا" يحتملُ معنيين: أحدُهما: أنّ الاسمَ لهذا المقدار (¬4)، مَصُوغًا كان أو غيره، فيكون عامًّا. والثّاني: أنّ يكون اسمًا للمضروب دون غيره، ولكنّه قاسَ المَصُوغَ عليه، على ما قدّمناه. وقولُه: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ" فإنّه يقتضي ثلاثة أشياء: 1 - المبايعةُ. ¬
2 - والمبادلةُ. 3 - والقضاءُ. وأمّا المبايعة، فإنّها تختصُّ في الأغلبِ بمعاوَضَةِ العُروض بعضها ببعض، والعَرْض بالأثمان. وأمّا الأثمان بعضها ببعض، فإنّ لها اسمًا أخصّ، فإنْ بِيعَ منها شيءٌ بغير جنسِهِ، فاسمُ الصّرف أخصّ به، فإنْ بِيعَ بجِنْسِهِ، فاسمُ المبادلةِ والمُرَاطلةِ أحقّ به، وهما يختلفان، وذلك أنّ المراطلة تكون وزنًا، والمبادلة تكون عَدَدًا. وأمَّا القضاء فقد يَكونُ قضاءٌ عن سلفٍ* وقضاء عن غير سلفٍ، فإن كانت عن سلف *، أسَلَّفَهُ ذهبًا عددًا قضاءً، مثل عدده ووزنه؛ كانّ هذا معنى الدِّينار بالدِّينار وزنًا وعددًا.
كتاب الصرف
كتاب الصّرف قال الإمام الحافظ (¬1): هذه الكلمةُ لم تأتِ بهذا البناء في كتاب اللهِ ولا على لسان رسولِهِ - صلّى الله عليه وسلم -، وإنّما هي كلمةٌ فصيحةٌ عربيّة، جاء لفظُ الفعل منها في حديث طَلحَةَ (¬2)، قال في: "فتَرَاوَضنَا حَتَّى اصطَرَفَ مِنِّي". واختلفَ أهلُ العربيّة فيه: فقال بعضُهم: هو في لبسانِ العربِ: بَيعُ النّقدَينِ بعضِهِمَا ببعضٍ. قال أبو حاتم (¬3): الصّرفُ في اللُّغة مأخوذٌ من صرف أحد العِوَضَيْن في الآخر، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل، وهو عامٌّ في كلِّ مُعَاوَضَة، وإنّما خُصِّ في اللُّغة بيع النّقدين بذلك تعريفًا. وقال ابن السِّكِّيت (¬4):سُمِّي الصَّرف صرفًا؛ لأنّه لا يفارقُ أحدُهما صاحبه حتَّى يصرف إليه عِوَضَ ما أخذ منه، وهذا قولٌ فاسدٌ. وقال الشاشي: إنّما فسد قولُ ابن دُرَيْد (¬5)؛ لأنّ فيه بناء اللُّغة على الشّرع، والشّرعُ هو المبنىٌّ على اللُّغة (¬6). ¬
والأصلُ في الصّرف: حديث عُبَادَة بن الصَّامِت عن النَّبيِّ -عليه السّلام-. الفقه في خمس مسائل: الأولى: قال علماؤنا: إذا تصارفَ الرَّجُلان، وأحدهما يعرف أنّ دنانيره زيوف، فالصَّفقة عند مالك مفسوخةٌ. وقد قيل: إنها تامّة، على تفصيلٍ وتفريعٍ طويلٍ. وقد (¬1) غَلِطَ أبو حنيفةَ (¬2) في هذه المسألةِ فقال: "إنَّ التَّفرُّقَ قبلَ التّقابُضِ يجوزُ في بَيْع كلِّ مالٍ رِبَوِيِّ ما عدا النَّقدَيْنِ، فإنَّ التّقابُضَ قبلَ التَّفَرُّقِ واجبٌ فيهِمَا، سواءٌ: بِيعَ الجنسُ بالجنسِ أو بغيره منهما، قال: لأنّ اسمَ المُبَايَعَةِ فيهِما صَرْفٌ، وذلك عبارةٌ عن صرفِ، أحدِهما في الآخرَ فهذا لم يوجَد معنى التَّقابُض، لم يُوجَد معنى الاسمِ". وهذا وهمٌ من ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أحدُها: أنَّ لفظَهُ لم يرد في كلامِ الشارعِ -كما قدَّمنَا- فينبني عليه حُكمٌ. الثّاني: أنّ الصَّرفَ في اللُّغةِ -كما قالوا - مأخوذٌ من صَرفِ أَحدِ العِوَضَيْنِ في الآخَرِ، وقد يكونُ ذلك بالقولِ والفعلِ. الثالثُ: حديثُ عمرَ "قَالَ رَسُولُ اللهِ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالوَرِقُ بالوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ. الحديث" (¬3) وفي الصّحيح: "فَإِذَا اختَلَفَ الجنسَانِ فَبِيعُوا كَيفَ شِئتُمْ، إنَّ كَانَ يَدًا بِيَدٍ" (¬4) وهذا نَصٌّ، وإن كان العلماء قد اختلفوا في علة الرِّبَا في هذه الأعيان الرِّبَويَّةِ. ¬
فأمّا النَّقدانِ، فقال أبو حنيفةَ (¬1) وغيرُه: العِلَّةُ فيهما الوَزْنُ، وحَرَّمَ الرِّبا في كلِّ مَوزُونٍ على اختلافِ أنواعِهِ. وقال مالكٌ والشّافعيُّ (¬2): العِلَّةُ فيهما كونُهما أثمانَ الأشياءِ، وتلكَ عِلَّةٌ واقفةٌ تختصُّ بهما. الثّانية (¬3): قال الإمامُ: وبابُ الصَّرفِ من أضيقِ أبواب الرِّبا، والتَّخلُّص من الرِّبا عسيرٌ، إِلَّا مَنْ كان من أهلِ الوَرَعِ والمعرفةِ بما يحلُّ فيه ويحرمُ، وقليلٌ ما هم، ولذلك كان أَصبَغُ يَكرَهُ أنّ يستظلَّ بظِلِّ الصَّيرفىِّ؛ لأنَّ الغالِبَ عليهم الرِّبا (¬4). وقال علماؤنا (¬5): لا يجوزُ في الصَّرفِ ولا في بَيْع الذّهبِ بالذّهبِ ولا الفضّة بالفضّة مُوَاعَدَةٌ ولا خيارٌ، ولا كفالةٌ ولا حَوَالَةٌ، ولا يصحُّ إِلَّا بالمُنَاجَزَةِ الصّحيحةِ، لا يفارق أحدهما صاحبه وبينه وبينه عملٌ، لقوله -عليه السّلام-: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهب إِلَّا مِثلًا بِمِثلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا في بَعضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثلًا بِمِثلٍ" (¬6). الثّالثة (¬7): قال علماؤنا (¬8): والنَّظِرَةُ في الصَّرفِ تنقسم على ثلاثة أقسام (¬9): أحدُها: أنّ ينعقد الصَّرفُ بينهما على أنّ ينظرَ أحدهما صاحبَهُ بشيءٍ ممّا اصطرفا فيه - وإن قَلَّ، فهو إذا وَقعَ فُسِخَ جميعُ الصَّرْفِ باتِّفاقٍ، لانعقادِهِ على فسادٍ. ¬
الثّاني: أنّ ينعقدَ الصَّرفُ بينهما على المُنَاجَزَةِ، ثمّ يُؤَخِّرُ أحدُهما صاحبَهُ بشيءٍ ممّا اصْطَرَفَا فيه، فهذا ينتَقِضُ الصَّرْفُ فيما وَقَعَ فيهِ التَّأخيرُ باتِّفاقٍ، إنَّ كان درهمًا انتقض صرفُ دينارٍ واحد ما بينَهُ وبينَ أنّ يكونَ الَّذِي وَقَعَ فيه التَّأخِيرُ أكثرَ من الصَّرْفِ للدِّينارِ، فهذه الأقسامُ متى وقعت بَطَلَ الصَّرْفُ. الرّابعة (¬1): وهي مسألة المراطلة قولُه (¬2): "يُرَاطِلُ الذَّهَبَ بالذَّهَبِ" يريدُ المبادلة بالوَرِق، وهو على ضربين: أحدُهما: غيرُ مسكوكٍ، فلا خِلافَ في جوازِهِ في المذهب (¬3). والثّاني: مسكوكٌ، فهو يتخرّجُ (¬4) على روايتين: 1 - إحداهُما: أنّه جائزٌ، وذلكَ مبنىٌّ على أنّه متعيّنٌ (¬5)، وعلى هذا يراه أكثر علمائنا في المراطلة (¬6)، فإن أقوالَهُم في ذلكَ مطلقةٌ لا تتقيّدُ بمعرفةِ الوَزْنِ. 2 - والثّانية: أِنه لا يجوزُ، وذلكَ مبنىٌّ على أنّها لا تتعيِّن بالعَقْد؛ لأنّ هذا من باب الجُزَافِ، والجُزَافُ في مسكوكِ الذَّهبِ والفضّةِ لا يجوزُ العَقْدُ عليه، إِلَّا أنّ يكونَ هذا حكمًا يختصُّ عندهم بالمراطلةِ, ولا فرقَ بينها، وبين الصَّرْفِ وغيرهِ من البيوعِ. وقد رأيتُ لبعضِ أصحابنَا أنّه لا يجوز المراطلة بين الدَّنانيرِ والدّراهمِ لهذا المعنى، وقد ¬
باب العينة وما يشبهها
يجوزُ ذلك بأن يعرف وزن أحدِ الذَّهبينِ ثمَّ يراطل بها الآخر. بَابُ العِينَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا قال الإمام (¬1): هذه كلمةٌ تَرْجَمَ بها مالكٌ، ورَدَتْ في الحديث، رَوَى أبو داوُدَ (¬2) عن النّبيِّ -عليه السّلام- أنّه قال: "إِذَا تَدَايَنتُم بِالعينَةِ، واتَّبَعتُم أَذْنَابَ البَقَر. الحديث"، وجَرَت في ألفاظِ الصّحابة، ذَكَرَها علماؤنا عن ابنِ عمرَ وابنِ عبّاسٍ، إِلَّا أنّ ابنَ عبّاسٍ فَسَّرَها بأنْ يبيعَ الرَّجلُ من الرّجلِ سِلعَتَة بدَينِ إلى أجَلٍ، ثمّ يَشتَريَها بأقلِّ ممّا باعَها نقدًا، وهي مسألةُ الذَّرائِعِ، وفسَّرها غيرُه بأنّها بيع ما ليسَ عندَكَ، وأصلُها فِعْلَة من العَوْنِ، وقد كانت جاريةً عندهم فيما يجوزُ وفيما لا يجوزُ، فوقعَ النَّهيُ منها على ما لا يجوزُ، وجَعَلَ مالكٌ منها بيعَ الطّعامِ قبلَ قبضِهِ، لِيُبَيِّنَ أنّها عندَهُ عبارةٌ: عن كلِّ عَقْدٍ لا يجوزُ، هذا معنَى التّرجمة. قال الإمام: وقد رُوِيَ عن النَّبىِّ -عليه السّلام- في ذلك أحاديث ثلاثة: 1 - الأوَّل: قال: "مَنِ ابتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعهُ حَتى يَقبضَهُ" (¬3). ¬
2 - قال ابنُ عمرَ: كُنَّا في زَمَان رسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - نَبتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبعَثُ إلَيْنَا (¬1) مَنْ يَأمُرُنا بانتِقَالِهِ من المكانِ الذِي ابتَعنَاهُ فيه إِلى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبل أنّ نَبِيعهُ. هكذا رواه مالك (¬2) وجماعة (¬3)، زاد في"الصَّحيحِ":"كُنَّا نبتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا" (¬4) وزاد عنِ ابنِ عبّاس:"منِ ابتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعهُ حَتَّى يَقبضَهُ، قَال ابْنُ عبّاسٍ: وأحْسِبُ كُلِّ شيءٍ مِثلَهُ" (¬5). 3 - وروى الدّارقطنيّ وغيره قال: "نَهى النَّبِيِّ عَليه السَّلَام عن بيعِ مَا لَمْ يُقبض، وَرِبْح ما لم يُضمَن" (¬6). وزاد عن عَتَّابِ بنِ أَسِيدٍ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال له حين وَلَّاهُ مكَّة: "انهَهُم عن بَيعِ مَا لَمْ يَقبِضُوا، وَرِبحِ مَا لَمْ يضمَنُوا" (¬7). الفقه في مسائل: الأولى (¬8): اختلفَ العلّماءُ في هذا على سِتَّةِ أقوالٍ: 1 - الأوَّل: أنّ كلَّ مبيع كيف ما تصرَّفَ حالُهُ، من أيِّ مالِ كانَ، فإنّه لا يجوزُ بيعُه قبلَ قَبضِهِ، قاله الشّافعيّ (¬9)، وأحمد في إحدى رِوَايَتَيه (¬10). ¬
2 - قال أبو حنيفةَ (¬1) مثلَه، إِلَّا في العَقَارِ فإنّه يجوزُ بيعُه قبل قبضِهِ. 3 - الثالثُ: أنّ هذا في الأموال الرِّبَوِيَّة خاصّةً، قاله مالكٌ في المشهور (¬2). 4 - الرّابعُ: أنّ ذلك في المطعوماتِ من جُملَةِ الأموالِ، قاله ابنُ وَهبٍ عنه. 5 - * الخامس: أنّ ذلك في الأموال الرِّبَوِيَّة وفي المطعومات، نعم، وفي المعدوداتِ، قاله جماعة؟ منهم عبدُ العزيز بن أبي سَلَمَةَ وابن حبيبٍ. 6 - السّادسُ: أنّ ذلك يجري في الجُزافِ، ولا يجوزُ بيعُه حتّى يُقبَضَ، كما جرَى فيما فيه حقُّ تَوفِيَةٍ*. على تفصيلٍ طويلٍ أَعرَضنَا عنهُ. الثّانية (¬3): قال علماؤنا (¬4): المَبِيعُ على ضربينِ: مطعومٌ، وغيرُ مطعومٍ. فأما "المطعومُ" فإِنه قسمانِ: 1 - قسمٌ يجري فيه الرِّبَا. 2 - وقسمٌ لا يجري فيه الرِّبَا. فأمّا "ما يجري فيه الرِّبا" فلا خلاف في المذهبِ أنّه لا يجوزُ بيعُهُ قبلَ استيفائِهِ. وأمّا "ما لا يجوزُ فيه الرِّبَا" فعن مالك فيه روايتان: 1 - إحداهُما: أنّه لا يجوزُ بيعُهُ قبلَ قبضِهِ، وهو المشهورُ من المذهب. 2 - ورَوَى ابنُ وَهبٍ عنه أنّه يجوز بيعُه قبل قَبْضِهِ. ¬
فوجه الأُولى: ما احتجّوا به من قول النَّبىِّ -عليه السّلام-* "مَنِ ابتَاعَ طعَامًا فَلَا يَبغهُ حَتَّى يَستَوفِيه"* (¬1)، وهذا يصح الاحتجاجُ به في هذا الحُكم، على قول من يمنعُ التّخصيصَ بعُرفِ اللُّغة، وأمّا من رَأَى التَّخصيص بعُرف اللُّغةِ، فلا يُجَوِّزُ الاحتجاجَ بهذا الحديثِ على هذا الحُكم؛ لأنّ لفظة الطّعام إذا أُطلِقَت، فإنَّما يُفهَم منها بعُرفِ الاستعمال الحِنطَة، ولذلك لو قال رجلٌ: مضيتُ إلى سوق الطّعام، لم يُفهَم منه إِلَّا سوق الحِنطَة. ووجهُ الثّاني: أنّ ما لا يجوزُ فيه التفاضلُ نقدًا، فإنّه لا يحرمُ بيعُهُ قبلَ قبضِهِ. الثّالثة (¬2): قال الإمام: هذا في المطعُومِ المُقتَاتِ المَكِيل أو الموزون. وَرَوَى ابنُ القاسم عن مالك في "المبسوط": وكذلك المعدود لا يجوزُ ذلك فيه حتّى يقبضَهُ، وهذا قالَهُ جماعةٌ، وهو المَذهَب. فرع: فإن كان غير مطعوم، فمذهب مالك أنّه لا مَدخَلَ لهذا الحُكم في غيرِ المطعومِ، ولا تعلُّقَ له به، سواء كان مَكِيلًا أو موزونًا أو غيره. وقال ابنُ أبي سَلَمةَ وربيعةُ ويحيى بنُ سعيدٍ: كلُّ ما بِيعَ على كَيلٍ أو وزنٍ أو عَدَدٍ، مطعومًا كانَ أو غيرَ مطعومٍ، فلا يجوزُ بيعُهُ قبلَ قبضِهِ، واختارَهُ ابنُ حبيب. وقال ¬
أبو حنيفة (¬1): هذا الحكمُ ثابث في كلِّ مَبِيعٍ ينقل ويحول. وقال الشّافعيّ (¬2): هو ثابتٌ في كلِّ مَبِيعٍ. ودليلُنا: قولُه -عليه السّلام-: "مَنِ ابتاَعَ طَعامَا فَلَا يَبِعهُ حَتَّى يَستَوفِيَهُ" (¬3) فخصّ الطّعامَ، فَدَل أنّ غيرَهُ مخالفٌ لَهُ، وهذا الاستدلال بِدَليلِ الخِطَابِ، وقد تقدَّم الكلام عليه في "أوَّلِ الكتاب (¬4). الرّابعة (¬5): وأمّا ما يختصُّ به هذا الحُكْم من وجوهِ الاستفادةِ؛ فإنَّ العقودَ على ضربينِ: 1 - معاوَضَةٌ. 2 - وغير معاوَضَة. فالمعاوَضَةُ: البيعُ وما في معناه من الإجارة، والمُصَالحة، والمخَالعة، والمُكَاتَبة، والأرزاق، على وجهِ العِوَضِ، كأرزاق القُضاة والمؤذِّنين. وقال أبو حنيفة: ما مُلِكَ بميراثٍ أو خُلعٍ (¬6) من طحام أو غيره، فإنّه يجوزُ بيعُهُ قبلَ قبضِهِ. الخامسة (¬7): وهو أنّ العقود تنقسمُ إلى ثلاثةٍ أقسامٍ: 1 - قسم يختصُّ بالمُغابَنَةِ، كالبيعِ والإِجارةِ، وما كان في حُكمِهِمَا. 2 - وقسم يَصِحُّ أنّ يكون على وجه* المغابنة، ويَصِحُّ أنّ يقعَ على وجه الرِّفْق، كالإقالة، والشَّرِكة، والتَّولِيَة. ¬
3 - وقسمٌ لا يكون إِلَّا على وجه الرِّفق كالقَرضِ *. فأمّا البيعُ وما كان في معناه، فقال عبدُ الوهّاب: ما كان أُجرةً لعملٍ، أو قضاءً لِدَينٍ، أو مَهرًا، أو خُلْعًا، أو صُلحًا، فذلك يجري مَجرَى البَيع، فلا خِلَافَ أنّه لا يجوزُ أنّ يتوالى منه عَقدَانِ لا يتخلّلهما قبضٌ. والأصلُ في ذلكَ الحديث المتقدِّم. السّادسة (¬1): وأمّا ما يكونُ قبضًا، فهو ما يخرجُ به من ضمانِ البائِعِ إلى ضمانِ المشترِي، من الكَيلِ، والتّوفيَة في المَكِيلِ والموزونِ، والتّوفية في الموزونِ (¬2)، فمثلُ هذا يكونُ فصلًا بين البيعتين، فإنْ عَقَدَا بَيعًا في طعامينِ في ذِمَّتينِ، ثمَّ أرادا أنّ يتقاضيا بهما، لم يجز ذلك على المشهور من المذهب، وبه قال ابن القاسم. وقالَ أشهب (¬3): إنَّ اتّفق رؤوس مالهما (¬4). ¬
باب ما يكره من بيع الطعام إلى أجل
بابُ مَا يُكْرَهُ من بَيْعِ الطَّعَامِ إلَى أجَلٍ قال الإمام (¬1): أدخل مالك في هذا الباب مسألةَ سعيدِ بن المُسَيِّب وسليمانَ بنِ يَسَارٍ (¬2)، وذلك بناءً على أنّ البَيعَتَينِ اللَّتَينِ تُبَيِّنُ الآخِرَةُ منهما الرِّبا تُفسَخَانِ جميعًا. قال مالك (¬3):"مَا يُكرَهُ من بَيعِ الطعَامِ إِلَى أَجَلٍ". وذَكَرَ مسألةَ الذَّريعةِ، وهي حرامٌ عنده، وقبل ذلك قال (¬4): مَا يُكرَهُ من بَيعِ الثِّمَارِ، وذَكَرَ ما هو أشدُّ منه وهو الرِّبا في التّمر، وهو حرامٌ أيضًا باتِّفاق. وأطلَقَ المكروهَ على الحرام، وهو يَنقسِمُ عنده إلى ما يَحْرُمُ فِعلُه، أو إلى ما تركُه أَوْلَى من فِعلِه، وهو المكروهَ في إطلاق الأصوليِّين، إِلَّا أنّهم ما بيّنوهُ بيانًا شافيًا. وأصلُه في اللُّغة: ما يريدُ المرءُ تَركَهُ، وكراهيةُ اللهِ تعالى للشّيء من إرادتُه ألَّا يكونَ (¬5)، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] الآية (¬6). وليس يمتنعُ إطلاقُه على الحرامِ، ولا على ما تركُهُ أولَى من فِعلِهِ، كما ليس يمتنعُ تخصيصُه في الاصطلاحِ بما تركُهُ أولَى من فعلِهِ، ولكن الأدلّةَ إنّما تُعَيِّنُ كلّ واحدٍ من الحالتين، وتُبَيِّنُ المخصوصَ في النّازلةِ من الحُكمَين، والمسألةُ أصوليةٌ أكثر من فقهيّةٍ. ¬
الفقه في مسائل: الأولى (¬1): قال مالكٌ من بين مَشيَخَةِ الأمصار من علمائنا: ما كان من شَرِكَةٍ أو إقالةٍ أو تَولِيَةٍ، فإنّه مُستَثْنَى من بيع الطّعامِ قبلَ قبضِهِ (¬2)، وإن كان ذلك بيعًا حقيقةً. الثّانية (¬3): وأمّا الأعيانُ الأربعةُ المذكورةُ في حديثِ عُبَادَةَ وغيرِه، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تَبِيعُوا البُرَّ بالبُرِّ، وَلَا الشَّعيرَ بِالشَّعِيرِ، ولَا التَّمرَ بِالتَّمرِ، وَلَا المِلحَ بِالمِلحِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَينًا بِعَينٍ، يَدًا بِيدٍ" (¬4) فَنَصَّ على هذه الأربعةِ دونَ غيرِها. اختُلِفَ في ذلك على أربعةِ أقوالٍ: 1 - فرَوى ابنُ الماجِشُون* أنّه قال: العِلَّةُ في هذه الأعيانِ الماليّةُ، وأجرى الرِّبَا في كلِّ مالٍ. 2 - وقال أبو حنيفةَ*: العلّةُ فيها الكَيلُ، وأجرَى الرِّبَا في كلَّ مَكيِلٍ (¬5). 3 - وقال الشّافعيّ: العِلَّةُ الطّعمُ (¬6). 4 - واضطرت الأصحابُ في غَرَضِ مالك فيها: فأمّا الّذي استقرَّ عليه الاستقراءُ منها أنّ العلَّة القُوتُ؛ لأنّ الله تعالى لو أراد الماليَّةَ كما قال ابن المَاجشُون لمَّا ذَكَرَ منها إِلَّا واحدًا، وكذلك الكَيلُ، ولو أراده لاكتَفى ¬
باب السلفة في الطعام
منها بواحدةٍ؛ لأنّ جهةَ الكَيلِ واحدةٌ فيها، وإنّما بَقِيَ الإشكالُ بين الطَّعمِ والقُوتِ؛ لأنّه هو المقصودُ منها، وهي أصولُ الأقواتِ، فَذَكَرَ اللهُ البُرَّ تنبيهّا على ما يُقتَاتُ في الاختيارِ والرّفاهيةِ، وذَكَرَ الشَّعيرَ تنبيهًا على ما يُقتَاتُ في حال الضّرورةِ والمَخمَصَةِ، وذكَرَ التَّمرَ تنبيهًا على ما يُقتَاتُ تَحَلِّيًا وتَفَكُّها؛ كالعَسَلِ والزّبِيبِ ونحوِهِ، وذَكَرَ الملحَ تنبيهًا على ما يُقتَاتُ لإصلاح الأَطعمةِ، والله أعلمُ. قال الإمام: هذه الأعيانُ الأربعةُ المذكورةُ في حديث عُبَادَة بن الصَّامِت، هو حديث من أصولِ الشّريعةِ، انفردَ به عُبَادَة بن الصَّامِت، ووقع في"صحيح البخاريّ" (¬1) واللّفظُ لَهُ، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "البُرُّ بِالبُرِّ رِبًا، إِلّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمرُ بِالتَّمرِ رِبًا، إِلّا هَاءَ وَهَاءَ، عَينًا بِعَينٍ". أمّا قوله: "عَينًا بِعَينٍ" يريد مُدًّا بِمُدِّ، لا يكون غائبًا بحاضرٍ، والمعنى هو النّقدان. وقال الخطّابي: ما دام غير مسكوك فهو تبر، فهذا ضرب فهو عين (¬2). باب السُّلفَةِ في الطّعام قال الإمام (¬3): السَّلَفُ في لسان العرب اسمٌ ينطلقُ على القَرضِ وعلى السَّلَمِ (¬4). قال ابنُ عبّاس في الصّحيح: قدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وهم يُسلِفُونَ في الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَينِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: "مَنْ سَلَّفَ فَليُسْلِف فِي كيلٍ مَعلُومٍ، وَوَزنِ مَعلُومٍ، إِلَى أجَلٍ مَعلُومٍ" (¬5). ¬
الفقه في مسائل: الأولى (¬1): هذا أمرٌ اتَّفقتِ الأمّةُ على جوازه. فامَّا "سَلَفُ القُرُوضِ" فمعروفٌ ومُكَارَمَةٌ، وله ثوابُه. وأمَّا"سَلَفُ السَّلَمِ" فمُرابحة ومُكَايَسَةٌ، على ما يأتي بيانُه إن شاء الله. الثّانية (¬2): قولُه (¬3): "لَا بَأسَ أنّ يُسلِفَ الرَّجُلُ الرجُلَ في الطَّعامِ المَوصُوفِ" يقتضي أنّ يكون سلَفًا موصوفًا (¬4)؛ لأنّ السُّلفَةَ بمعنَى القَرْض وبمعنى السَّلَم. فأمَّا " القرْضُ" فلا يحتاج إلى وصفٍ؛ لأنّه لا يجوزُ أنّ يشترط إِلَّا مثل ما أعطى، فلا يصحُّ أنّ يريد بهِ القَرض. وأمَّا " السلَمُ" فلابدّ أنّ يكون موصوفا؛ لأنّه لا يُعرَفُ إِلَّا بالوصفِ؛ لأنّه لا يجوزُ أنّ يكونَ مُعيَّنًا، وإنّما يكون متعلِّقًا بالذِّمَّةِ، وهذا لا خلافَ فيه. وللسَّلَم سِتَّة شروطٍ، متَى انْخَرَمَ منها شرطٌ لم يصِحّ (¬5)، ونحن نُفْرِدُ لكلِّ شرطٍ بابًا. الأوَّل: أنّ يكوَن متعلِّقًا بالذِّمَّة. الثّاني: أنّ يكون موصوفًا. الثالثُ: أنّ يكونَ مُقدَّرًا. ¬
الرّابعُ: أنّ يكونَ مؤجَّلًا. الخامس: أنّ يكونَ موجودًا عند الأَجَل. السّادسُ: أنّ يكونَ الثّمن نَقدًا. فأمّا "الأوَّلُ" فقد تقدَّمَ الكلامُ فيه. وأمّا "الثّاني" فكونُه موصوفًا، فإنّه ممّا لا يختلفُ فيه في الجملةِ، وذلك يكون على وجهينِ: أحدهما: أَنْ يُرِيَهُ مثل ما سلم إليه فيه، فيقول له: أسلم إليك في مثل هذا، فهذا اختلفَ أصحابُنَا فيه، فَرَوَى محمّد عن ابنِ القاسم (¬1) فيمن أسلم في زيت، أَيَأخذهُ من غيره، ويطبع عليه حتّى يأخذ من صفته؟ قال: لا يصلح. قال أَصبغُ: إذا كان مضمونًا، لم يصلح ذلك فيه، وإن كان بعينه غائبًا، فجائزٌ، ما لم يشترط خلف مثله. والثّاني: أنّ يصفَهُ بصفات يَختلف ثمنُه باختلافِهَا, وليس عليه أنّ يصفَهُ بجميعِ صفاتِهِ (¬2). ولا خلافَ أنّ ما لم يُضبَط بصفةٍ فلا يجوزُ السَّلَم فيه، وإنَّما يختلفُ فيما يُضبط بالصِّفَةِ، فمِن ذلك الحيوان، يجوزُ عند مالك أنّ يقرض ويسلم فيه، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4): لا يثبت في الذِّمَّة قرضًا ولا سَلَمًا. ولنا في ذلك ثلاثة طرقٍ: ¬
أحدُها: أنّ يدلَّ على عين السَّلَمِ. الثّاني: أنّ يدلُّ على الحيوان يُضبَط بالصِّفَةِ. الثالثُ: أنّ يدلُّ على أنّه يثبت في الذِّمة. فالدّليلُ على القَرض (¬1) حديث أبي رافِع (¬2) الّذي بعدَ هذا (¬3). والدّليلُ على أنّه يُضبط بالصِّفَةِ: ما رُوي عن ابن مسعود، قال النّبيّ -عليه السّلام-: "لا تُباشِر المَرأَةُ المرأَة فَتَنْعَتُهَا لِزَوجِها كَأنَّهُ يَنظُرُ إليهَا" (¬4). ودليلُنا (¬5) أنّه يثبت في الذِّمَّةِ: أنّ الحيوان معنىً يكون بَدَلًا عن سَلَفٍ، فوجبَ أنّ يثبتَ في الذِّمَّة كالطّعام، فإنّه ليس من حُكمِهِ أنّ يقول فارهًا، وإنّما يصفه على حَسَبِ ما ذكرنا، فإذا أتاه تلك الصِّفَة، لزمه أخذه، قالهُ ابنُ القاسِم في" المُدَوَّنَة" (¬6). الرّابعة (¬7): ويجوزُ السَّلَمُ في اللّحمِ، وبه قال الشّافعىّ (¬8)، ومنع ذلك أبو حنيفةَ (¬9). والأصلُ في ذلك: أنّه يضبطه بالصفة، وذلك بأن يصفهُ أو يُوصف له بأنّه لحم ضَأن ويوصف بالسّمن، وغير ذلك من أوصافه المختصّة، وبه قال ابنُ القاسم (¬10). ¬
الخامسة (¬1): ويجوز السَّلَم في الزُّمُردِ والفُصوص (¬2)، خلافًا للشّافعيّ (¬3). ودليلُنا: أنّه ممّا يُدرَك بالصِّفَة، فيوصف لونُه وصفاؤُه وصفتُه، من طُولٍ، أو تَدَحرُجٍ، على تفصيلٍ طويلٍ. السّادسة (¬4): والسَّلَمُ في الأكارع والرُّؤوس جائزٌ (¬5)، خلافًا للشَّافعيّ (¬6) وأبي حنيفة (¬7). ودليلُنا: ما قدّمناه في مسألة اللّحم، ويحتاج من الصِّفات إلى ما يحتاج إليه اللّحم، ويذكر مع ذلك كبارًا أو صغارًا أو متوسِّطة إذا سلم فيها عددًا. السّابعة (¬8): ويجوزُ السَّلَمُ في الدّنانير والدّراهم (¬9)، خلافًا لأبي حنيفة (¬10). ودليلُنا: أنّ كلِّ ما ثبتَ في الذِّمَّة ثَمَنًا، فإنّه يثبتُ فيه سَلَمًا، كالثّياب والطّعام. الثّامنة (¬11): وأمّا السَّلَم في اللّبن والرَّطبِ، فهي مسألة مدَنيَّةٌ، اجتمعَ عليها أهلُ المدينة، وهي مبنيَّةٌ على قاعدةِ المصلحةِ؛ لأنّ المرءَ يحتاجُ إلى أخذِ اللّبن والرّطب مُيّاومَة، ويشُقُّ أنّ ¬
يأخُذَ كلّ يومٍ ابتداءً؛ لأنّ النّقد قد لا يحضُرُه، وصاحبُ النّخلِ واللّبنِ يحتاجٌ إلى النَّقدِ؛ لأنّ الّذي عنده عُروضٌ لا يَتصرَّفُ له. فلمّا اشتركا في الحاجةِ رُخَّص لهما في هذه المعاملةِ قياسًا على العَرَايَا. التّاسعة (¬1): وأمّا السَّلَمُ الثالثُ، وهو أنّ يكون السَّلَمُ مقدَّرًا، فهذا ممّا لا يَصِحُّ السَّلَمُ دونه؛ لأنّ السَّلَم فيه يتعلَّقُ بالذِّمَّة، وما يتعلّق بالذِّمَّة يستحيلُ أنّ يكونَ جُزافًا؛ لأنّه لا يتبيّنُ في الذِّمَّة من غيره إِلَّا بالتّقدير، وليس كذلك المشاهدةُ؛ لأنّه يتبيّنُ من غيره بالإشارة له والتّعين له (¬2). العاشرة (¬3): وهو أنّ يكون مؤجلًا، فإنّ الظّاهر من مذهبِ مالكٍ (¬4) أنّ السَّلَمَ لا يجوزُ إِلَّا في مُؤَجَّلٍ، وبه قال أبو حنيفةَ (¬5). ورَوى ابنُ عبد الحَكَم (¬6) وابنُ وهب: يجوز إلى يومين، ورُوي ذلك عن مالك (¬7). وقال عبدُ الوهّاب (¬8): اختلفَ أصحابُنا في تخريج ذلك على المذهب، فمنهم من قال: إنَّ ذلك رواية في جواز السَّلَمِ الحالِّ، وبه قال الشّافعيّ (¬9)، ومنهم من قال: إنَّ الأَجَلَ شرطٌ في السَّلَم، وإنّما تختلف الرِّوايةُ في مقداره. ¬
باب الحكرة والتربص
والدّليلُ على اعتبارِ الأجَلِ: أنّ ما اختصّ بالسَّلَم فإنّه شرطٌ في صحَّته كعدمِ المعيِّنِ. وانفردَ مالكٌ عن جميع العلّماءِ في مسألة الأَجَلِ في السَّلَمِ، فقال: يجوزُ أنّ يُسلِمَ الرَّجلُ إليه في بَلَدٍ في طعام في بَلَدٍ آخرَ، يُعطِيهِ إيَّاهُ في بَلَدٍ آخَرَ يُسمِّيهِ ولا يَذكْرُ الأجَلَ، وتكونُ مسافةُ ما بين البلدين أجَلًا (¬1)، وهي مسألةٌ ضعيفةٌ؛ لأنّه أجلٌ مجهولٌ، وهي مسألة ضعيفةٌ جدًّا. باب الحُكْرَة والتَّرَبُّصِ (¬2) قال الإمامُ: ذكر مالكٌ (¬3) - رحمه الله - اللّفظين جميعًا؛ لأنّ حُكمَهُمَا يَختلِفُ. أمّا "الاحتكارُ" فهو ضَمُّ الطّعام وجمعُه. وأمَّا "التَّرَبُّصُ" فهو انتظارُ الغَلاءِ به. قال الإمام: ذكر مالك في الباب (¬4) قوله:"لَا حُكرَةَ في سُوقِنَا" وفي الباب حديثٌ حسن خرجه التّرمذيّ (¬5)، قال: "لَا يَحتَكِرُ إِلّا خَاطِىءٌ" وليس في هذا الباب ما يقالُ في أحاديث الحُكرَةِ غير هذا. ¬
قوله (¬1): "لا يحتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" لفظةٌ مشكلةٌ، اختلِفَ فيها وفي ورودها في اللِّسان العربيّ، فيقال: "خاطئ" على الإطلاق، إذا عمل ما لا يجوزُ، يقالُ: خَطِىءَ في دينه يَخطَأ إذا أَثِمَ، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬2) ويقال: أخطأ، إذا سلكَ سبيلَ الخطإِ، عامدًا وغير عامدٍ. وقد يكونُ الخطاُ بمعنّى الإثمِ، قال الله العظيم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (¬3) وقال أيضًا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية (¬4)، وإذا اشتركَ ورودهما لم تفصِّلهما إِلَّا القرائن، فقوله: " لَا يَحتَكِرُ إِلّا خاطِىء" يعني: آثِمٌ. الفقه في مسائل: الأولى (¬5): فنقول: الأموالُ على قسمين: مطعومٌ، وغير مطعومٍ. والمطعومُ على قسمين: قُوتٌ، وغيرُ قُوتٍ. والقُوتُ على قسمين: بُرٌّ وشعيرٌ، وما عداهما. أمّا الاحتكارُ والتّربُّصُ في الأموال غيرِ المطعوماتِ، فلا خلاف فيه. وأمَّا في المطعوماتِ، فهو الّذي يُكرَهُ جَمْعُه في حالٍ دون حالٍ. وَيحرُمُ التّربُّصُ لانتظار الغَلاء به، إذا لم يكن رَفعُ السُّوقِ وخَفضُه الّذي جرت العادةُ به، والمعوِّلُ في ذلك على النِّيَّةِ، فإن تعلَّقت بضَرَرِ أَحَدٍ حرُمَ ذلك القصدُ. ¬
فضل
ولا يخلو أنّ يكونَ المحتَكِرُ للطّعام من مالِ نَفسِهِ، أو من كَسب يَدِهِ، أو ممّا اشتراهُ في السُّوق، فإن كان من مال نفسه وكَسْبِ يده، فالحُكْرَةُ جائزةٌ بلا خلافٍ، وإن انتظر به رَفعَ السُّوقِ وخفضَها، وتربُّص لأجل ذلك، فهو جائزٌ أيضًا بغيرِ خلافٍ. وإنِ انتظرَ به غلاءً متفاوتًا لنازلةٍ تحدُثُ من قَحطٍ أو عَدُوٍّ ونحوه، فالحُكرَةُ جائزةٌ والتَّربُّصُ حرامٌ، فلما تنافرتِ الحُكرَةُ والتَّربُّصُ لفظًا ومعنىً وحُكمًا جعلهما مالك لفظتين. وأمّا إنَّ كان يحتكرُ بشراءٍ من السُّوق، فذلك جائزٌ أيضًا بثلاثة شروطٍ: الأوّل: سلامةُ النِّيَّة كما تقدّم. الثّاني: ألَّا يضُرَّ النَّاس بالشراءِ فيرتفعَ السعرُ بكثرةِ الطالبِ. الثّالث: ألَّا يكونَ من أصولِ المعاشِ والحياةِ، كالدُّهن والخلِّ ونحوه. أمّا إنَّه قد تكون الحُكْرَةُ مستحسنةً، وذلك بأن يَكثُرَ الواردُ على الموضع بالأقواتِ وعند بعض النَّاس نُقُودٌ، فإن لم يَشتَرُوا من الجالبِ رَدَّ ما جَلبَ، فالشّراءُ حينئذٍ جائزٌ، والحُكرةُ حسنةٌ. فَضلٌ (¬1) فإذا احتكَرَ ونزلت نازلةٌ بالنّاس، فاحتبسَ عن البيع إِلَّا ما يريدُ، فهي مسألةُ التّسعيرِ، وبيانُها أنّه صحَّ عن النَّبيِّ -عليه السّلام- أنّ نَفَرًا من الصّحابة سَألُوهُ التَّسْعيرَ في السُّوق، فقال: "إِنَّ الله هُؤ المُسَعَّرُ القَابِضُ البَاسِطُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أنّ ألقَى اللهَ وَلَا يَطْلُبَنِي أَحَدٌ بمَظْلَمَةٍ عِندَهُ" (¬2) ويُحملُ الحديثُ على وجهين: أحدُهما: إذا لم يَكُنِ الزّائدُ متفاوتًا. الثّاني: إذا لم يكن في ذلك* ضَرَرٌ بأن يَتَرَقّى منه إلى غيره*. فإن خرج عن هذين الوجهين لم يَجُزِ التّسعيرُ أيضًا، ولكن يقالُ للّذي يتولَّى ¬
فصل
الزّيادة: اخْرُجْ عن سوقنا (¬1)، كما فعلَ عمرُ بنُ الخطّاب بحاطِب بنِ أبي بَلتَعَةَ (¬2)، هذا إذا كان من أهل السُّوقِ. فأمّا إذا كان الجالبُ للمَبِيعِ من غير أهل البلد، فذلك الّذي يبيعُ كيف شاء لا يُمنَعُ منه، ولا يُحْجَرُ عليه، كما قال عمرُ: " أّيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ" الحديث (¬3) وهذا مبنىٌّ على قاعدة المصلحة، فإن الجالبَ لو قيلَ له كما يقالُ للرجل من أهل السُّوق: إمّا أن تبيع بسِعرِنَا، وإما أنّ تقومّ عن سُوقنا، لانقَطَع الجَلبُ واستضرَّ النّاسُ، وعلى هذا انبنت مسألة التعشيرِ في أنّ كلّ من جلَبَ من المعاهَدِين إلى بلاد الإسلام أُخِذَ منه العُشرُ، إِلَّا أنّ يجلِبَ إلى مكَّةَ، فإنّه يؤخَذُ منه نصفُ العُشرِ مصلحةً، سَبَبُهَا التّحريضُ والتحضيضُ على جَلبَ الأقواتِ إليها، وفائدتُه كَثرتُه. ولمّا لَحَظَ ابنُ حبيبٍ من أصحابنا هذه المصلحةَ وفَهِمَ المقصودَ فيها قال: إنَّ الجالِبَ للطعام لا يمكن من أنّ يبيعَ إِلَّا بسعرِ النَّاس، ما خلا القمحَ والشعيرَ، فإنّه يكون فيه بحُكمِ نفسه للحاجةِ إليه ولتَمامِ المصلحةِ بهما. فصل (¬4) قال الإمام: وللحُكْرةِ محلٌّ وزمانٌ، واختُلِفَ في ذلك: ¬
فأما "المحلّ" فقال مالكٌ (¬1) والثّوريُّ: الاحتكارُ في كلِّ شيءٍ إِلَّا الفواكه. وقال ابنُ حنبل: الاحتكارُ في الطّعام وحدَهُ في مكَّة والمدينة والثُّغور، لا في الأمصار (¬2). وقال قومٌ: ليست الحُكرَةُ إِلَّا في القُوت لا في الإدام، ولأجل ذلك كان سعيد بن المسيَّب يحتكر الزَّيت (¬3). وأمّا "زمان الاحتكار" فاختلف فيه أيضًا، فقيل: إنّه في كلِّ وقت. وقيل: إنّما ذلك عند مَسِيس الحاجة إليه، والذي يربطُ لكم فيه العَقْد؛ أنّ النّبيّ -عليه السّلام- قال:"لَا يَحتَكِرُ إِلّا خَاطِئٌ" (¬4) فينبني على هذا الحديث، أو على قوله: "لَا ضِرَارَ" (¬5) أو على إجماع الأُمَّةِ على هذه المناهي، من القَصْدِ إلى ما يضرُّ بالنّاس على المخصوصِ والعمومِ لا يجوز، وكذلك فعلُ ما يضرُّ بهم، فنقول: إذا كان المحتكرُ يقبضُ اليدَ عن الشِّراء من مال نَفْسِهِ وكَسْبِ يده، فلا حَرجَ عليه في احتكارِه لذلك، فإن خافّ على نفسه وعلى النَّاس، وتأَهَّبَ لذلك، لم يكن آثمًا، وإنّما إذا كان المحتكرُ يشتري من السّوق، فذلك جائزٌ بثلاثةِ شروطٍ كما قدَّمنا: الأوّل: سلامة النِّيَّة. الثّاني: ألَّا يضرّ بالنّاس في السُّوق فيرفع في سوقهم لكثرة الطّلب. ¬
الثّالث: ألَّا يكون من أصول المعاش والطّعام والدّهن، ففيه الخلاف على ما قد بيَّنَّاه. هنا موضع التّركيب للفروع فنقول: قولُه (¬1):"لَا حُكْرَةَ في سُوقِنَا" يريدُ المنع في سوق المدينة؛ لأنّ غالب أحوالها غلاء الأسعار، ولذلك يمنع الادِّخار لما فيه من التّضييق على النَّاس. هنا تركيب جملة مسائل: أحدها: في بيان معنَى الاحتكار وحُكمِهِ. الثّاني: في بيان معنى الوقت الّذي يمنع فيه الادِّخار. الثّالث: في بيان ما يتعلّق به في المنع. الرّابعة: في بيان من يَمْنَعُ من الاحتكار. فنبني الكلام على هذا فنقول: الاحتكار هو الادِّخار للمَبِيع، وطلب الرِّبح بتقلُّب الأسواق، فأمّا الادِّخار للقُوت فليس من باب الاحتكار. فإذا ثبت ذلك، فإنّ احتكارَ الأقواتِ وغيرَها ليس بممنوع، ورَوى محمّد عن مالك أنّه سُئِلَ عن التَّرَبُّصِ بالطّعام رَجَاءَ الغلاء؟ قال: ما علمتُ فيه نهيًا. قيل له: فمن يبتاعه فيحبّ غلَاءَهُ؟ قال: ما من أحدٍ يبتاعُه إِلَّا وهو يحبُّ غلاءَهُ. ويتعلَّقُ المنعُ بمن يشتري في وقت الغلاءِ أكثر من مقدار قُوتِهِ، وذلك ضربان: ¬
1 - أحدُهما: أنّ يكون من أهل ذلك الموضع أو غيره. فإن كان من أهل ذلك الموضع، فحُكمُه ما ذكرنا. 2 - لأنّ كان من غيره، فينظر على أيِّ وجهٍ يشتريه، إنَّ كان للادِّخار أو للمعاش كلِّ يوم (¬1). ¬
باب ما يجوز من بيع الحيوان بغضه ببعض والسلف فيه
بَابُ مَا يُجُوزُ مِنْ بَيْعِ الحَيَوَانِ بَغْضِهِ بِبَعْضِ والسَّلَفِ فيه الفقه في مسائل: الأُولى (¬1): أمّا بيعُ الحيوان بعضُه ببعضٍ نَقدًا، فلا كلامَ فيه، ولا تفريعَ عليه. وأمّا بَيْعُهُ بنَسِيئةٍ، فإنّه جائزٌ عندنا، وبه قال الشّافعيُّ (¬2). وقال أبو حنيفةَ وجماعةُ الكوفيِّين (¬3): إنَّ الحيوانَ لا يَثبُتُ في الذِّمَّة؛ لأنّ الصِّفَة لا تَحصُرُهُ، وقد تقدّمتِ المسألةُ. وَبَنى مَالِك أصلَه في الرَّدِّ عليهم بقول علىِّ -إمامُهُم والخليفةُ عليهم - وفِعلِهِ؛ إِذ باع جَمَلَهُ نَقدًا بِعِشرِين بَعيرًا إِلَى أَجَلً (¬4)، ومن الحديث الصّحيح ما خرّجه مسلم (¬5) وغيره (¬6)، عن أبي رافع، أنّه قال: "استَسلفَ النَّبِيُّ جملًا بَكرًا فقضى خِيَارًا رَبَاعِيًا" وغلطَ بعضُ النّاسِ من المتأخِّرين من علمائنا، فظنّ أنّ هذا الحديثَ في السَّلَفِ من باب المعروف، فلا يحتجُّ به في السَّلَم الّذي هو من باب المُغابنة، والمسألةُ واحدةٌ، ¬
والخلافُ بيننا وبين أهل الكوفة في ذلك واحد، ثمّ ركَّب مالك - رحمه الله - على هذا الباب دُخولَ الرِّبا على الحيوان، كَبَيعِ الجَمَلِ بالجمَلِ وزيادةِ الدّراهمِ نقدًا أو بنسيئةٍ (¬1)، وذلك إنّما هو من قاعدة الذَّرائع. الثّانية (¬2): قوله (¬3):"لَا بَأسَ بِالجَمَلِ بالجَمَل مِثلِهِ" إلى آخر كلامه، هو كما قال، إنَّ ما يجوز التّفاضل فيه نقدًا من غير المقتاتِ والذَّهبِ والفضَّة ويحرمُ فيه التّفاضل نسيئا. فإنّ مَنْ باع بعضه ببعضِ يَدًا بِيَدٍ، فلا يفسد ذلك ما كان معه من زيادة من غير ذلك الجنس، نقدًا أو إلى أجلٍ، بعد أنّ يتعجّل الجنسان، فإنْ تأجَّل ذلك، لم يَجُز بوجهٍ (¬4)، وهذا عقدُ الباب وضبطُه. الثّالثة (¬5): قولُه (¬6): "لَا بَأسَ بِالبَعِيرِ النَّجِيبِ بِالبَعِيرَين" يحتملُ أنّ يريدَ بالنَّجيبِ جِنسًا منها، ويحتملُ أنّ يريدَ الفَارِهَ القوِيَّ. و"الحَمُولَةُ" ما يحمل عليها دون ما يُراد للدَّرِّ والنَّسل، وحَوَاشِيها أَدوَنُها، وليس يُوصفُ المقدّمُ منها بأنّه من الحواشي، وهو أظهرُ في قولِ مالكٍ، فيجوزُ البعيرُ الفَارِهُ بالبعيرين، وإن كان المؤجّلُ والمعجّلُ من نوعٍ واحدٍ. ¬
ولا يجوزُ (¬1) أنّ يريدَ به النّجيب من النّوع؛ لأنّ ذلك ليس في الأغلبِ ممّا يحملُ عليه فيوصف بأنّه حَمُولَةٌ. الرّابعة (¬2): قولُه (¬3): "وإن أَشبَهَ بَعضُهَا" يريد في المنفعة المقصودة، سواء كانت من جنسٍ واحدٍ أو أجناس، فإنّه لا يجوزُ منها اثنانِ بواحدٍ. الخامسة (¬4): قولُه (¬5): "إِذا انتَقَد ثَمَنَهُ" يريد ألَّا يبيعه بدَينٍ؛ وذلك لأنّه لا يخلو أنّ يكون العرضُ والحيوانُ مؤجَّلًا أو غير مؤجَّلٍ، فإن كان مؤجَّلًا، لم يَجُزْ بيعه بمؤجَّلٍ ممّن هو عليه ولا من غيره؛ لأنّه يدخله في بيعه ممّن هو عليه فسخ دَين في دَينٍ، ويدخُلُهُ في بيعه من غيره الكالئ بالكالئ (¬6). وهل يجوزُ "بيعُه معجَلًا ممّن هو عليه؟ حُكمُه في ذلك حُكم سائر العروض، يجوز أنّ يبيعَهُ منه بما يجوزُ* أنّ يُسلم فيه رأس مال السّلم، ويسلم في المُسَلَّم فيه، ولا يجوزُ على غير ذلك. ¬
باب ما لايجوز من بيع الحيوان
بَابُ مَا لايَجُوزُ مِنْ بَيْعِ الْحيَوَانِ الفقه في مسائل: الأوُلى (¬1): قوله (¬2): "نَهَى عَنْ بَيعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ" الحَبَلُ هو الحَملُ، والحَبَلَةُ هو الجنينُ، فكأنّه باعه إلى أنّ ينقضي حمل الجنين، فيحلّ البَيْع بانقضاءِ حمله، وذلك على ضربين: أحدُهما: أنّ يكونَ الأجلُ يتقدّرُ به. والثّاني: أنّ يكون المبيعُ هو الجنينُ الثّاني. فأمّا الأوّل فلا يجوزُ؛ لأنّ الأجل مقصود بالعَقْد، فيجبُ أنّ يكونَ معلومًا. والذي يدخل فيه الفساد أمران: أحدُهما: الجهالةُ فيه. والثّاني: أنّ يكون بعيدًا يدخله الغَرَر لبُعدِه. فأما الأوّل، فعلى ما ذكرنا من البَيع إلى أنّ تنتج النّاقة، أو إلى قدوم فلان، أو نزول المطر، ممّا يخلف اختلافًا متباينًا تختلف الأغراض باختلافه. الثّانية (¬3): فأمّا إنَّ كان إلى أجلٍ بعيد جدًّا، فقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك في"المُدَوَّنة" (¬4). ¬
تجويز الشِّراء إلى عشرين سنة، وهذا بعيدٌ جدًّا (¬1). وقال ابنُ القاسم في "الموازية" إنّه جوّز ذلك إلى عشر سنينَ، وَكَرِهَهُ إلى عشرين، ثمّ قال: ولا أفسخه إِلَّا إلى ستّين أو سبعين. الثّالثة (¬2): قولُه (¬3): "لَا رِبًا فِي الحَيَوَانِ" معناه: أنّه لا يثبتُ فيه تحريم التَّفاضل يدًا بِيَدٍ على ما ثبت في المدَّخر المُقتَاتِ. وقولُه (¬4): "وَإِنَّمَا نُهِيَ مِنَ الحَيَوَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ" لا خلاف بين الفقهاء في الحُكمِ أنّه لا يجوز أنّ يُباعَ ما في البَطن من الحيوان من جنينٍ، ولا "مَا فِي ظَهْرِ الفَحْلِ" (¬5) بمعنى أنّه يحمِلُه البائع على ناقَتِه. الرّابعة (¬6): قوله (¬7): "لَا يَشتَرِي الحَيَوَانَ الغَائِبَ بِالنَّقْدِ قَرِيبًا وَلَا بَعِيدًا" هذه رواية "الموطَّأ" (¬8)، ورُويَ في "المُدَونَة" (¬9) وغيرها؛ أنّه يجوز النَّقْدُ فيما قَرُبَ دُونَ مَا بَعْدَ (¬10) ¬
فإذا قلنا بالفرق بين القُربِ والبُعدِ، فقد رَوَى محمّد عن مالك بجواز النَّقد فيما كان على البريد أو البريدين، ثمّ رجع فقال: على اليوم ونحوه. ويجوز على مسيرةِ اليوم، وبه قال أشهب وابن القاسم (¬1). وَرَوى ابنُ القاسم عن مالك في الحيوان خاصّة البريد والبريدين (¬2). وَرَوى ابنُ وهب عنه: لا ينقد في الطّعام يكون على نصف يوم حتّى يقوب جدًّا. الخامسة (¬3): والبيعُ بالرُّؤية المتقدّمة على وجهين: أحدُهما: أنّ يقعَ على الإطلاق. والثّاني: أنّ يشترط البائع* أنّ المبيع على الصِّفَة الّتي كان عليها حين رآه المبتاع*، فذلك جائزٌ. وفي صِحَّة بيعِ البعيدِ الغَيبَةِ شرطان: أحدُهما: ألَّا بضرب لقبضه أجلًا، ورُوِيَ (¬4) عن ابنِ القاسم أنَّه إنَّ ضربَ لذلك أجلًا لم يَجُزْ، زاد محمّدٌ: قريبًا ولا بعيدًا (¬5). ووجه ذلك: أنّ أجلَ قبضه مُتَقَدِّرٌ بقَدْرَينِ، فهو مفسد القَدرَيْن: 1 - أحدهما: مسافة ما بين بلد البائع وبلد المُبتاع. ¬
2 - والثّاني: الأجلُ الّذي يضربان، وذلك يمنع صحّة العَقْد. والضّربُ الثّاني (¬1): أنّ يبيع البعيد الغَيبَة بصفة، فإن كان كما وَصَفَ، لزم المُبتَاع، وألَّا كان له الخِيَار. ومنع الشّافعيّ (¬2) بيعَ ما لم يُرَ. فرع (¬3): فإذا ثبتَ هذا (¬4)، فهل يكونُ ضمانه (¬5) من البائع أو المبتاع؟ اختلف فيه قول مالك، فقال: هو من المبتاع، إِلَّا أنّ يشترط ذلك على البائع، إذا كان ممّا لا يجوز فيه النّقد (¬6)، وبه قال مُطَرِّف وابن وهب، ثمّ رجع فقال: هو من البائع، إِلَّا أنّ يشترط ذلك على المبتاع، وبه قال ابن القاسم وابن المَاجِشُون. ووجه القول الأوّل: أنّه لم يبق فيه حقّ توفية، فكان من المبتاع كالحاضر يكون في الدّار. ووجه الثّاني: أنّه ممنوعٌ من النّقد فيه (¬7)، فكان من البائع كالجارية المبيعة بالمواضعة. ¬
باب بيع الحيوان باللحم
بَابُ بَيْعِ الحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ الفقه في مسائل: الأُولى (¬1): نهيُهُ - صلّى الله عليه وسلم - عن بيعِ الحيوان باللَّحمِ (¬2) يقتضي تحريمه، وبه قال مالك (¬3) والشّافعيّ (¬4) وجمهورُ الفقهاء. وقال أبو الزِّناد: "إنَّ كُلَّ مَنْ أدرَكتُ كَانَ يَنهى عَن ذَلِكَ" (¬5). وأجاز أبو حنيفةَ بيع الحيوان باللّحم (¬6). والمسألةُ لنا، لا كلامَ لأحدٍ فيها، وحجَّتُنا في ذلك: حديث ابن المُسَيِّب؛ لأنّه رَوَى عَنِ النَّبِيِّ عَلَيهِ السَّلَام النَّهي عَنْ بَيعِ الحَيَوانِ بِاللَّحم (¬7). وقد اتّفقتِ الأُمَّة على قبُولِ مُرَاسِلِ سعيد بن المُسَيِّب، ولا كلامَ لهم عليه، فالَمسألةُ غيرُ معلَّلَةٍ، وتعليلُها فيه تعارضٌ ظاهرٌ وتناقضٌ كثيرٌ. وعوَّل علماؤُنا فيها من طريق المعنى على أنّ الشَّيْرَجَ (¬8) بالسِّمْسِمِ لا يجوزُ؛ لأنّه يخرُجُ منه، فكذلك اللّحمُ بالحيوان، وتحريرُ ذلك وتفصيلُه فيي "مسائل الخلاف". ¬
أمّا "بيع اللَّحم باللَّحم" فإنّه ممّا لَا رِبًا فيه، وأموالُ الرِّبا بشروطها من اعتبار الجِنْسِ في ربا الفَضل والنِّسَاءِ، واعتبارُ القُوتِ في رِبَا النِّسَاءِ خاصّةً مذكورةٌ في "كتب المسائل". مسألة أصوليّة (¬1): قال بعضُ علمائنا حين تعلَّق بحديث نَهْيِ النّبيّ -عليه السّلام- عَنْ بَيع اللَّحمِ بِالحَيَوانِ: هذا تَلَقَّتْهُ الأُمَّة بالقَبُول فوجبَ القضاءُ به، وهذا وَهمٌ (¬2) بطريق الحديث، فليست شُهرةُ الحديثِ بمُوجِبةٍ لصِحَّتِه إجماعًا، وهذا الحديثُ ما تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبُولِ، فإنّ أهل الكوفة رَدُّوهُ، وقد عَدَّ العلّماءُ الأحاديثَ المشهورة المُتَدَاوَلَة على أَلسِنَة الأُمَّة من العلماء وليست بصحيحةٍ، وذَكَروا منها نُبَذًا كحديث: "الخراج بالضّمان" (¬3) وحديث: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسيَانُ" (¬4) ودونَهُما حديثُ: "لَا يَأوِي الضَّالَة إِلَّا ضَالٌّ" (¬5) وذلك مذكورٌ في كتب الحديث. الثّانية (¬6): قَال علماؤنا (¬7): نَهيُهُ عَنْ بَيعِ الحَيَوَانِ بِاللَّحمِ، إنَّ ذلك في اللّحم النِّىءِ، أمّا ¬
المطبوخ، فروى ابنُ الموّاز وأشهب كراهية ذلك. وأجازَهُ ابن القاسم، وهو أحبّ إلينا. الثّالثة (¬1): قال (¬2): واللَّحمُ على ثلاثة أجناس: ذواتُ الأربع، إنسيُّها ووحشيُّها، المباحةُ كلُّها جنسٌ واحد، والطّير كلُّه جنسٌ واحدٌ، والحيتان كلّها جِنسٌ واحدٌ. وأمّا الجرادُ، فرُوِيَ عن مالك أنّها جنسٌ رابعٌ. ورُوِيَ عنه في "المُدَوَّنَة" (¬3) أنَّه قال: ليست بلحم، وإنّما يمنع بيع اللّحم بالحيوان من جِنْسِهِ. قال ابنُ القاسم: ولم أر عند مالك تفسير الحديث في اللّحم بالحيوان إِلَّا من صِنفٍ واحدٍ لموضع المزابنة. وذهب الشّافعيّ (¬4) إلى أنّه لا يجوزُ بيعُ لحم بحيوان بجنسه، ولا من غير جنسه. ودليلُنا: ما يُعتبرُ فيه الرِّبا يُعتبرُ فيه الجنس كالحبوب، وهذا فيما أكله مباحٌ. وأمّا ما حَرُمَ أكلُه، فلا يمنع من ذلك؛ لأنّه ليس ممّا يحِلُّ أكلُه، فيقال: إنَّ فيه من جنس هذا اللّحم. وأمَّا المكروه، فَمَا جرتِ العادةُ بأكله، مُنِعَ من بيعه بلحم جنسه، كالهِرِّ والثّعلب والضّبع. ¬
باب بيع اللحم باللحم
وأمّا الخيلُ والبغال والحمير، فقد قال مالك (¬1): لا بأس بها باللّحم، نقدًا أو إلى أجلٍ؛ لأنّ ذلك لم تجر العادةُ بأكلِهِ (¬2)، ولأنّ منافعها (¬3) غير الأكل. بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ الفقه في مسائل: الأُولى (¬4): اللّحمُ الّذي يُعتبرُ فيه التَّساوي أو التّفاضل، هو اللَّحمُ على هيئته الّتي يستعمل عليها، ممّا يشتملُ عليه من عَظْم وغيره، ما لم يكن مضافًا إليه، كنوى التّمر حُكْمُهُ حكم التّمر، ما لم يكن مضافًا إليه. فرع: وأمّا "الكَرِشُ، والكَبِدُ، والقلبُ، والرِّئَةُ، والأَكَارعُ، والرّأسُ، والحُلْقُومُ، والشَّحمُ، والكُليَتَانِ، والخُصيَتَان" فلا يصحُّ شيءٌ منه باللَّحم، إِلَّا مِثْلًا بمِثلٍ، قاله ابنُ القاسم في "المُدَوَّنة" (¬5) وقال: "وما علمتُ مالكًا كَرِهَ أكل الطّحَالِ، ولا بأسَ به". فإذا ثبتَ ذلك من قوله، فيجبُ أنّ يكون حُكْمُهُ حُكم اللَّحم. الثّانية (¬6): قولُه (¬7): "الأمْرُ المُجتَمَعُ عَلَيْهِ عِندَنَا" يريد عند أهل المدينة أنّ لحم ذوات الأربع ¬
جنسٌ يحرمُ فيه التّفاضل. والطّير جنس آخر يجوزُ التّفاضلُ بينه وبين ذوَات الأربع. والأمرُ في الجرادِ على اختلاف قول مالك، وقد تقدّم. الثّالثة (¬1): رَوى ابنُ القاسم عن مالك في "العُتبِيَّة" (¬2) وغيرها؛ أنّ الخُبزَ واللّحم والبَيْضَ يجوزُ بيع بعضه ببعض تحرِّيًا (¬3)، ولم يُجِزهُ أبو حنيفةَ والشّافعىّ (¬4). ودليلُنا: أنّ هذا ممّا تدعو الحاجةُ إليه، وإلى قسمته ومبادلته في السَّفَر، وحيث لا توجدُ الموازين، فجازَ للضّرورة مع الوصول بذلك إلى التّماثل. وقال عبدُ الوهّاب (¬5): من أصحابنا من أجازَهُ على الإطلاق، ومنهم من أجازَهُ بشَرطِ تَعَذُّرِ المَوازين، وهذا في الموزون دون المَكِيل والمعدودِ، وفي، "الواضحة" عن مالك: ما لا يجوز فيه التّفاضل من الطّعام غير الإدام، لا يجوزُ قسمته تحرّيًا، فكذلك السّمن والعسل والزّيت، وإنّما تقسم وَزنًا وكَيلًا (¬6). الرّابعة (¬7): نهيُه عن بيع اللّحم باللّحم، وهل يجوزُ ذلك في الحيِّ بالحىِّ؟ ففي "الواضحة": لا يباعُ ما لا يُقْتَنَى (¬8)، حي بحيِّ مِثلِهِ إِلَّا تحرِّيا، وفيه احتمال. ¬
باب ما جاء في ثمن الكلب
بَابُ مَا جَاءَ في ثَمَنِ الكَلْبِ قال الإمام (¬1): ثبت عَنِ النَّبِيِّ عَلَيهِ السلَام أَنهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ (¬2)، واختلفتِ الرِّوايةُ فيه عن مالك وعلمائنا بعدَهُ على قولين، وذلك في كلبٍ يجوزُ الانتفاعُ به، فأمّا كلب لا يُنتفَعُ به، فلا خلافَ أنّه لا يجوزُ بيعُه، ولا تَلزَم قيمتُه لمُتلِفِهِ. وقال الشّافعيُّ (¬3): ثَمَنُه حرامٌ. وقال أبو حنيفةَ: ثمنُه جائزٌ (¬4). ولم يزل مالك - رضي الله عنه - عُمُرَهُ كله يقولُ: أكرَهُهُ (¬5). وحمَلَ بعضُ علمائنا لفظَهُ على التّحريمِ. وحمَلَهُ آخَرون على أنّ تركَهُ خيرٌ من أخذه على أصل المعذرة. قال الإمامُ: والصّحيحُ عندي جوازُ بيعه وحِلُّ ثَمَنِه؛ لأنّها عينٌ يجوزُ اتِّخاذُها والانتفاعُ بها، فيصِحُّ مِلكُها، بدليل وجوبِ القِيمةِ على مُتلِفِها، فجائز بيعُه؛ لأنّ هذه الأوصافَ هي أركانُ صِحَّةِ البَيْعِ، ولولا جوازُ بيعِهِ من أين كان يُوصَلُ إليه كما لا يُوصَلُ إلى سائر الأموال إِلَّا بالبَيْعِ أو الهِبَةِ، وقد مهّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". ¬
الفقه في مسائل: الأُولى (¬1): قولُه: "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلبِ" (¬2) يحتَمِلُ أنّ يريدَ النّهي عن اتِّخاذِه، وهذا يمنعُ بيعه (¬3). وأمّا المباحُ اتِّخاذُه، وهو كلبُ الماشيةِ والحَرثِ والصَّيدِ، فأكثرُ أصحابِه على جوازه (¬4). وقال سحنون: يجوزُ أنّ يحجَّ بثَمَنِه (¬5)، وقالَهُ ابن كنانة. الثّانية (¬6): قولُه:" وَعَن مَهرِ البَغِيِّ" (¬7) يريدُ ما تُعطَاهُ على استباحةِ الوَطئ الحرام، وذلك محرَّمٌ شرعًا (¬8). الثّالثة (¬9): قوله: "وَحُلوَانُ الكاهِنِ" (¬10) إنّما حرّمه؛ لأنّه من أكلِ المالِ بالباطلِ، ولأنّ المتكهِّنَ كلُّ ما يأخذه على تَكَهُّنِه حرامٌ، مُحَرَّمٌ على لسان صاحب الشّريعة، وما حَرُمَ في نفسه حَرُمَ عِوَضُهُ، كالخمر والخنزير. ¬
باب السلف وبيع العروض بعضها ببعض
بَابُ (¬1) السَّلَفِ وَبَيعِ العُرُوضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيعِ وَسَلَفٍ. قال الإمامُ: أدخله مالك (¬2) بَلَاغًا, ولا أعلمُ له سَنَدًا صحيحًا، رواه التّرمذيّ (¬3) وقال: هو حديثٌ صحيحٌ (¬4). فإن قيل: كيف يصحُّ وهو من حديث عَمْرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدِّه، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ" وإجماعُ (¬5) الفقهاء على العمل به يدلُّ على صِحَّتِه، ومعناه يقيِمَ له مقامَ الإسناد. قال الإمام: ويركَّبُ على هذا الحديث أصلٌ بديعٌ من أصول المالكيّة، وهو أنّ كلَّ عَقدين يتضادَّانِ وضعًا ويتناقضان حُكمًا، فإنّه لا يجوزُ اجتماعُهُما، أصلُه البَيْعُ والسَّلَفُ، فَيُرَكَّب عليه في جميع المسائل، ومنه البيعُ والنِّكاحُ، وذلك لأنّ البَيْعَ يُبْنَى على المُغَابَنَةِ والمُكَايَسَةِ، خارجٌ عن باب القُرَبِ والعباداتِ، والسَّلَفَ مُكَارَمَةٌ وقُربَةٌ، ومن هذا الباب الجمعُ بين العقدِ الواجب والجائز، ومِثلُه بيع وجِعَالَةً. ويدلُّ على ذلك أنّ أخذ العِوَضِ في الجعَالَةِ مجهولٌ ولا يجوزُ أنّ يكون معلومًا، فإنّه إنَّ كان معلومًا خرج عن باب الجَعلِ وأُلحِقَ بباب الإجارة، وأمثالُ ذلك لا تُحْصَى، وفي هذه الإشارة إلى أنواعه نبذة كافية، فتأمّلوها فهي خيرٌ لكم من كتاب. ¬
باب السلفة في العروض
بَابُ السُّلفَةِ في العُرُوضِ الفقه في مسائل: 1 - الأولى (¬1): قولُه (¬2): "سَلَّفَ في سَبَائِبَ" قال مالك: هي غلائل ثمانية. وقولُه (¬3) إنَّ معنى ذلك: "أَنَّهُ أَرَادَ أنّ يَبِيعَهَا مِنْ غَيرِ بَائِعِهَا مِنهُ بِأَكثَرَ" فيدخله الوَزن بالوَزن متفاضِلًا. ويحتملُ أنّ يريد بهذا: أنّه مذهب ابن عبّاس (¬4). ويحتمل أنّ يريد منه: مقتضَى اللّفظ، وقد سأل عيسَى ابنَ القاسم عن رِبْحِ ما لم يُضمن؟ فقال: ذكر مالك أنّ ذلك بيع الطّعام قبل أنّ يُستَوفَى. 2 - وأمّا العُرُوضُ والحيوان، فإنّ ربحه حلالٌ؛ لأنّ بيعَهُ قبل استيفائه حلالٌ. ومن "كتاب محمّد" أنّ ربح ما لم يضمن أنّ يبيع لرجل شيئًا بغير أمره، ثمّ يبتاعه منه وهو لا يعلم (¬5)، وهذا الباب ضَيِّقٌ جِدًّا، وفروعه كثيرة. ¬
باب النهي عن بيعتين في بيعة
بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيعَتَينِ في بَيعَةٍ قال الإمام (¬1): أدخلَ مالك (¬2) بلاغًا، وهو ثابتٌ عن النَّبِىِّ -عليه السّلام- صحيحٌ (¬3)، رواهُ النَّسائيّ (¬4) والشّافعيّ (¬5)، وقال التّرمذيّ (¬6): "هو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". الفقه في مسائل: الأولى (¬7): اختلفَ العلّماءُ في تفسير هذا الحديث: فأمّا المالكيّة فقالوا: هو أنّ يبيعَ الرَّجلُ من الرّجُلِ سلعتَين بثَمنين مختَلِفَين، على أنّه قد لَزِمَتْهُ إحدَى الصَّفقتين، فَيُنظَرُ أيّهما يُلزَمُ (¬8). وقال الشّافعيّ (¬9): تفسيرُها أنّ يقولَ الرَّجلُ: أبيعُك داري على أنّ تبيعَني أنت غلامَكَ (¬10). وكلَا التّفسيرين صحيحٌ، والمسألتان جميعًا لا تجوز وإنِ اختلف التّعليل، وهي تستمدُّ تارةً من قاعدة الرِّبَا، وتارةً من قاعدة الغَرَرِ، ورُبّما اجتمعا. ¬
باب بيع النحاس والحديد وما أشبههما مما يوزن
الثّانية (¬1): و"نَهيُهُ - صلّى الله عليه وسلم - عَنْ بَيعَتَينِ في بَيعَةٍ" محمولٌ على التّحريم. وقال الفقهاء: معناهُ أنّ يتناول عَقد البَيع بيعتين، على أنّ لا تتمَّ منهما إِلَّا واحدة مع لزوم العَقد كما قدمنا. بَابُ بَيْعِ النُّحَاسِ وَالحَدِيدِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ممّا يُوزَنُ الفقه في مسائل: الأُولى (¬2): قولُه (¬3): "وإن كَانَ الصِّنفُ يُشبِهُ الصِّنفَ" يريدُ بالتّشابه تقارُب المنافع مع تقارُب الصُّورة، كالآنُكِ (¬4) والنُّحاس والرَّصَاص، زاد ابنُ حبيب: والقزدير فإنّه جنسٌ واحدٌ، وكذلك الشَّبَهُ (¬5) والصُّفْرُ والنُّحَاسُ، وكذلك الحديد، وإنّما يَختلفُ بالعمل، فهذا عُمِلَ الحديدُ سُيوفًا أو سكاكين أو النُّحاسُ أوانيَ، فإنّه يصير أصنافًا باختلاف المنافع والصُّور. الثّانية (¬6): قوله (¬7): "فَإِنِّي أَكْرَهُ أنّ يُؤخَذَ اثنَانِ بِوَاحِدٍ إلَى أَجَلٍ" لما قدّمنا من أنّ الجنس لا ¬
يجوزُ بعضُه ببعض * مع الأجل، لمقاربة البيعة ولما يدخل ... ، ولا بأس ببيع بعضه ببعض* نقدًا متفاضلًا في ذلك كلِّه، إِلَّا ما ذكره أصحاب مالك في منع التّفاضل في الفُلوس، واختلفوا في تأوبل ذلك: فمنهم من قال: منعُه على الكراهية. ومنهم من قال: على التّحريم. ووجهُ الكراهية: أنّ السَّبْكَ في النُّحاس لا يُخرجهُ عن أصله، كصِيَاغَتِهِ منه طُسُوسًا. ووجهُ التّحريم: أنّ السَّبكَ، نوعٌ يختصُّ بالأثمان، فوجبَ أنّ يؤثِّر في تحريمِ التّفاضل، كجنسِ الذّهب والفِضَّة، ومن نسب إلى مالك في هذا القول المناقضة لم يتبيّن وَجْهَ الحُكم. الثّالثة (¬1): قوله (¬2):"وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَنتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وإن كَانَتِ الحَصبَاءَ وَالقَصَّةَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بمِثلَيهِ إِلى أَجَلٍ، رِبًا" وقد قال ابنُ حبيب: إنَّ التّراب الأبيض والأسود صِنفان، وكذلك الجِيرُ والتّراب الأبيض، وكذلك الكَذَّانُ (¬3) بالرُّخام، والجَندَلُ بالحِجَارة وبالحَصبَاء، فهذا كلّه مُختلِف يجوز التّساوِي فيه والتّفاضل إلى أجلٍ. وقال غيرُه: وما استوت منافِعُه كالجَندَلِ بالحجارة لم يَجُز ذلك فيه. ¬
باب ما جاء في بيع الغرر
بَابُ مَا جاءَ فِي بَيْعِ الغَرَرِ قال الإمام (¬1): الحديثُ في هذا الباب رواهُ مالك (¬2) مُرْسَلًا، وهو مُسنَدٌ من طُرُقٍ (¬3)، وأجمعت عليه الأُمَّةُ، وهذا أحدُ أركانِ البيوعِ وقواعدِهِ كما بيّناه. العربيّة (¬4): بيع الغَرَر: هو الّذي يكثرُ فيه الغَرَر، ويغلبُ عليه حتّى يُوصَف به؛ لأنّ الشّئ إذا كان متردِّدًا بين معنيين، لا يوصَف بأحدهما دون الآخر، إِلَّا أنّ يكون أخصّ به وأغلب عليه. الفقه في مسائل: الأُولى: قال علماؤنا (¬5): "ووجوه الغَرَرِ في البيوع كثيرةٌ لا تُحصى". من (¬6) ذلك بَيعُ المعدوم، فإنّه أشدُّ من الموجودِ المجهول، وقد بوّب عليه مالك (¬7) فقال: "مَا لَا يَجُوزُ من بَيعِ الحَيَوَانِ" وهي المَضَامِين والمَلَاقِيح وحَبَلُ الحَبَلَةِ، فإنّه غَرَرٌ في المعدوم. ومنه: ذِكرُ مالِكٍ (¬8) لِبَيعِ الدَّابَّةِ الضَّالةِ والعَبدِ الآبِقِ؛ لأنّه لا يُعلَمُ هل هو على حاله أم لا؟ ¬
ومنه: الحَملُ، وجعَلَ مالكٌ (¬1) منه استثناءَ الحَملِ من الجارية المبيعةِ، وذلك عَيبٌ صحيح لوجهين: أحدُهما: أنّه لا تُدرى السّلامةُ منه عندَ الوَضعِ، وحاله يختصّ بالآدميين. والثّاني: الجهالةُ بالثّمن دونَ خوفِ الهلاكِ، وذلك في سائر الحيوانات، ولهذه الدّقيقةِ تفطَّنَ مالكٌ، فقال في هذا الباب (¬2): "وَذَلِكَ أنّ يَقُولَ الرَّجل لِلرّجُلِ: ثَمَنُ شَاتِي ثَلاثَةُ دَنَانِيرَ، فَهِيَ لَكَ بِدِينارَينِ، وَلي مَا في بَطنِهَا، فَهَذا غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ". ومنه: بيعُ المُلَامَسَة والمُنَابَذَة، وقد بوَّب عليه مالك (¬3). ومن (¬4) ذلك: نَهيُهُ - صلّى الله عليه وسلم - عَن بَيعِ الحَصَاةِ (¬5)، وهو أنّ يُسَاوِم الرَّجلُ الرَّجُلَ وبِيَدِ أحدِهما حصاة، فيقول لصاحبه: إذا سقطتِ الحصاةُ من يدي فقد وجبَ البيعُ بيني وبينَك. وقيل: هي أنّ تكون السّلع منشورة، فيرمي المبتاع حصاة، فأيّ شيءٍ وقعت عليه وجبَ له بها، وأيّ ذلك كان، فهو من الغَرَرِ المنهيّ عنه. ومن ذلك: نهيُهُ -عليه السّلام- عن بيعتين في بيعة (¬6). ومن ذلك: نهيُهُ عن بيع العُرْبَان (¬7)، وتفسيرُهُ (¬8): أنّ يشتري السِّلعة ويُعطيه دينارًا أو درهمًا، فيقول له: إن أَخَذتها فهو من الثّمن، وإن لم آخذها فهو لك، وذلك باطلٌ أخذها بغير شيء، وهو غَرَرٌ. ¬
وكانت هذه كلُّها بيوعًا كان أهل الجاهلية يتبايعون بها، فنهى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عنها؛ لأنّها من باب أكل المال بالباطل، لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النِّساء: 29] الآية (¬1). الثّانية (¬2): والغَرَرُ يقعُ من قليلٍ وكثيرٍ، فالقليلُ مَعْفُوٌّ عنه، وأمّا الغَرَرُ الكثير المانع من صحَّة العَقْد يكون في ثلاثة أشياء: أحدُها: العَقد. والثّاني: أحد العِوَضَين: الثّمن أو المثمون، أو كلاهما. الثّالث: الأجل فيهما أو في أحدهما. فأمّا "الغَرَر في العَقد" فهو مثل نهي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن بَيعَتَينِ في بَيعَةِ، وعن بَيعِ الْعُرْبَانِ، وعن بَيعِ الحَصَاةِ على أحد التأويلين، وما أشبه ذلك ممّا لا جهل فيه في ثَمَنٍ ولا مثمون، وإنّما حصل الغَرَر فيه بانعقاده بين المتبايعين على هذه الصّفات، ومن هذا المعنى بيع المَكيل والجُزاف في صَفقَةٍ واحدةٍ، والقولُ فيما يجوز من بيع الجُزاف والمَكِيلِ في صَفْقَةٍ واحدة (¬3)، وعلى هذه الأنواع تتركّب المسائل في هذا الباب إنَّ شاء الله. ¬
باب بيع الخيار
بَابُ بَيْعِ الخِيَارِ قال الإمام: ذكر مالك (¬1) في هذا الباب المُتَبَايِعَان بِالخِيَارِ مَا لَمْ يفتَرِقَا، وحديثُ ابن عمرَ في هذا الباب مشهورٌ؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: " المُتَبايِعَانِ بالخِيَارِ مَا لَم يَفتَرِقَا" أو "يَختَارَا" كذا رواه التّرمذيّ (¬2). قال الإمام: اختلف العلماء في هذا الحديث (¬3): 1 - فمن النَّاس من رَدَّه؛ لأنّه خَبَرٌ واحدً يخالفُ أصولَ الشّريعة، فإنّ الَبْيع كما رُوِيَ عن عمر بَيعَان: بَيعُ صَفقَة أَو بَيع خِيَار (¬4)، فأمَّا بيع خيَار كلَّه فليس في الأصول. 2 - التّأويل الثّاني: من النَّاس (¬5) من تأوّله بأنّ معناه: المتراوضان في الإيجاب والقَبُول، فإذا قال البائع: بعتُ، فالأمر لم ينعقد،* وكلُّ منهم بالخِيَار، حتّى يقول الآخر: قبلتُ*. 3 - الثّالث: منهم من قال: معناه ما لم يفترقا بالأقوال. 4 - الرّابع: قال بعضُ الفقهاء (¬6): المراد به خِيَار الإقالة الّتي في حديث عبد الله بن عمر. ¬
5 - الخامس (¬1): قال مالك (¬2): "لَيْسَ لِهَذَا الحَدِيثِ عِندَنَا حَدٌّ مَعرُوفٌ، وَلَا أَمرٌ مَعمُولٌ به" أشار إلى أنّ المجلسَ مجهولُ المُدَّةِ، ولو شَرَطَ الخِيَارَ مدَّة مجهولةً لبَطَلَ إجماعًا، فكيف يثبتُ حُكمٌ بالشَّرعِ بما لا يجوزُ شرطًا في الشّرعِ؟! وهذا شيءٌ لا يتفطَّنُ له إِلَّا مالك - رضي الله عنه -. وظنّ بعض المتوسِّمين بالعلّم من الجَهَلَة؛ أنّ مالكًا إنّما تعلَّق فيه بعمل أهل المدينة، وهذه جهالة (¬3). فإن قيل: قد أثبتَ مالكٌ خِيَارَ المجلسِ في التّمليكِ. ¬
باب بيع المرابحة
قلنا: الطلاقُ يعلَّقُ على الغَرَر والخَطَرِ، وَيثْبُتُ في المجهول والمعلوم، والبيعُ بخلافِهِ، ولو لم يكن في هذا "القَبس" إِلَّا هذه المشكاةُ لكَفَاهُ. وقال الشّافعيّ (¬1): خِيَارُ المجلسِ ثابتٌ في البَيع لكلِّ واحدٍ من المتبايعين حتّى يقوما عن مجلسهما، ورَوَى في ذلك الدّارقطني (¬2) تفسيرًا عن النَّبىِّ -عليه السّلام- أنّه قال: "المُتَبَايعَانِ كُلُّ واحِدٍ منهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ" وكان ابنُ عمر إذا باع أَحَدًا قام ومشى خُطىً حتّى يلزم البيع (¬3). مسألة (¬4): والخِيَارُ في البَيْع في أصله غرَرُ، وإنّما جوّزته السُّنَّة لحاجةِ النَّاس لذلك؛ لأنّ المبتاع قَد لا يختبر ما ابتاع، فيحتاج إلى أنّ يختبره، أو يعلم أكان يصلح أم لا، ومثل هذا (¬5). بَابُ بَيْعِ المرَابَحَةِ (¬6) قال الإمامُ: هذا باب عَويصٌ، ليس له في القرآن ولا في السُّنَّة ترجمةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أنّ الله قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (¬7) فاقتضى هذا الإطلاق- كما قدّمنا - ¬
باب جامع الدين والحول
جوازَ بيع كلِّ بيعٍ إِلَّا ما قام الدّليلُ على رَدِّهِ حسَبَ ما تقدّم في القواعد. وقد طالعتُ في كتب العلماء المُعَوَّلِ عليهم في المذاهب، فما رأيتُ أحدًا منهم فهِم هذا الباب كما ينبغي، ولا قرّره كما يجبُ، فاسْتَوْفَى معاقدَهُ على الكمال، إِلَّا محمّد بن عبدوسٍ (¬1)، فإنّه بيّنه ورتّبة على ستّة معاقد، وقعت منثورةً في كلام مالك، فجمَعَها وفَرَّعَ عليها فروعًا كثيرةً (¬2). الأوّل: ما يُحتسَبُ في الثّمن والرِّبح. والثّاني: ما يُحتسَبُ في الثّمَنِ ولا يُحتَسَب في الرِّبح. الثّالث: ما يُحتسب في عَقد واحدٍ في الشّرط ولا يُحتسَبُ بالإطلاقِ. الرّابع: أنّ يَنعَقدَ البيعُ على الكذبِ. الخامس: أنّ يَنعقِدَ البيعُ على الغِشَّ. السّادس: أنّ يَنعَقِد البيعُ على عَيب. ولكلّ واحد حُكمٌ ليس للآخر، وقد يجتمعُ الكذبُ والغِشُّ والعَيبُ في البيع في عَقدٍ واحدٍ، وقد يجتمعُ اثنان منهما في عَقدٍ، فتتعارضُ الأحكامُ، ولولا أنّ هذا "الكتابَ" على القواعدِ والأصولِ لا الفروع، لمهّدناها لكم. بَابُ جَامِعِ الدِّيْنِ وَالحِوَلِ قال الإمام (¬3): الأصل في هذا الباب قوله -عليه السّلام-: "مَطلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ" (¬4) فإنّه ¬
متّفقٌ عليه (¬1)؛ لأنّه لا عُذرَ في التّأخير لمن كان قادرًا على الأداء، ومهما اختلف العلماء في الأمر بحقوق الله تعالى، هل هو على الفَورِ أو مسترسلٌ على الأزمان (¬2)، فإنّهم قد اتَّفقوا على أنّ الأمر لحقِّ الآدميِّ على الفَوْرِ، وذلك لفَقرِ الآدميِّ وحاجتِهِ، وأنّ الله هو الغنىُّ، له ما في السّموات وما في الأرض. فإذا ثبتَ هذا، واشتغلَ الغنىُّ عن أداء الحقّ، فإن ذلك معصيةٌ، ينشأُ من هذا أنّه إذا اشتغل بالصّلاة عن أداء الدِّين، فاختلف العلماء في ذلك: فقال أحمدُ بنُ حنبلِ: الصّلاةُ باطلةُ. وقال جمهور العلماء: الصّلاة صحيحةٌ، منهم مالك بن أنس، وحَكَى عنه أبو المعالي الجُوَينيّ (¬3) أنّ الصلاةَ باطلةٌ، ولم أرَهَا في كُتُبِهِ، ولا تجري على أصوله، وهو حُكمٌ أصوليٌّ ليس من الفروع، وقد بيَّنَّا في"كُتُب الأصول" حكم الصّلاة في الدّار المغصوبة , وحقّقنا تعارُضَ الأمر والنّهي، وبيَّنَّا اتِّصالهُما وانفصالَهُما، فليُنظَر هنالك، ففيه شفاءٌ للعلّيلِ إنَّ شاءَ اللهُ الفقه في مسائل: الأُولى (¬4): قوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬5): "إِذَا أُتبعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيءٍ فَليَتبَع" فيه دليلٌ على أنّ الحَوَالة من القَضَاء, فإن شاء الرَّجلُ أنّ يقضِيَ الدَّينَ الّذي عليه قضى من مَالِه، وإن شاء أنّ يُحيلَ ¬
على غيره به إذا كان مَلِيئًا جازَ، ولا تكونُ محاولةُ الحَوَالَةِ من المَطل، هذا إذا كان له على المُحَال عليه دَيْنٌ ولا يُعتبر رِضَى مَنْ عليه الدَّينُ؛ لأنّه لو وَكَّلَ رجلًا يقبِضُه لجازَ، فالحِوَلُ له وَكالةٌ، وأمّا رِضَى مَنْ له الدَّينُ فإنّه يُعتَبَرُ عند كافّةِ العلماء، وتعلَّق بعضُ التّابعينَ بقول النّبيّ -عليه السّلام-: "فَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتبَع" ولم يشتَرِطْ رِضَاهُ بل أمَرَهُ بالاتِّباع. وقال أبو حنيفة (¬1): يُعتبرُ؛ لأنّها عنده مبايعةٌ. وعندنا أنّه نقلُ حقٍّ من ذِمَّةٍ إلى ذِمّةٍ، وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف". ومُطلَقُ قولِ النّبيِّ -عليه السّلام-: "إِذَا أُتبعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيءِ فَليَتبَع" يقتضي ألَّا يُشتَرطَ رِضَاهُ، بل أمره بالاتباع. قال علماؤنا: هو محمولٌ على النَّدبِ، بدليل قولِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - "المُسلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم" (¬2). وعموم قولِه تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (¬3) وهذا إنّما عَاقَدَ للمُحِيلِ وعليه شرطُ الثّمنِ، وفي ذِمَّتِهِ أوْجَبَ المالَ، فلا ينتقِلُ عنه إلى غيرِه، فيسقُطَ شرطُه ويتبدَّلَ عَقدُه، إِلَّا برِضَاه، وهذا ما لا جواب لهم عليه. الثّانية (¬4): فإن رَضِيَ المحالُ بالمحال عليه فخرج عديمًا: ¬
قال الشّافعيُّ (¬1): إنّه يَخسَرُ. وقال أبو حنيفةَ (¬2): إنّه يَرجِعُ. وقال مالكٌ (¬3) وغيرُه: إنَّ غَرَّهُ منه رجَعَ عليه، وإلّا فلا رُجوع له عليه. وقد قرّرنا ذلك في "مسائل الخلاف" وبيّنّا أنّ الحَوَالةَ نقلُ ذِمَّة إلى ذِمَّة، وليست بمبايعةٌ. وأمَّا إذا غرَّهُ، فلا إشكالَ في رجوعِه عليه؛ لأنّ أصلَ الحَوَالةِ انبنَى على باطلٍ من الغِشَّ والمُخادَعَةِ، وقد أمرَ النّبيُّ -عليه السّلام- باجتنابِهما، ونهى عن فعلهما، وقال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" (¬4) فوجبّ الحُكم بردِّه. تتميم (¬5): قد بيَّنَّا أنّ أصل الحَوَالَة الحديث المتقدِّم، حديث أبي هريرة أنّ "مَطْلَ الغَنِيِّ ظُلمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيءٍ فَليَتبَعْ" (¬6) وفي هذا الحديث أنّ الغنىَّ لا يحلّ له أنّ يمطل غريمَهُ. وقال أَصبَغُ: مَطلُ الغنيّ جُرْحَةٌ تردُ شهادتُه بها؛ لأنّ النّبيّ -عليه السّلام- سمّاها ظلمًا (¬7)، وقد رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَه وعِرضَهُ" (¬8) فعِرضُه ¬
باب إفلاس الغريم
التَّظلُّم منه بقول: مَطَلَنِي وظَلَمنِي. وقال بعض العلماء: عقوبتُه سجنه حتّى يؤدِّي. وعِرضه أنّ يقول الطّالب: ظلمني ومطَلنِي، وهذا من باب قوله سبحانه: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} الآية (¬1)، وهذا وإن كان إنّما نزل في الضّيف، فهو يشتمل على كلِّ ظُلمٍ. والحَوَالَة مختصّةٌ بما نهى - صلّى الله عليه وسلم - من الكالئ بالكالئ، ومن الذِّمَّة بالذِّمَّة. وقد فسّره مالك في "الموطَّأ" (¬2) فقال: "الكَالِىءُ بالكَالِىء, وهو أنّ يبيعَ الرَّجلُ دَيْنًا له على رَجُلٍ بدَينٍ على رَجُلٍ آخرَ". وقال ابنُ حبيب (¬3):" هو النَّسيئةُ بالنَّسيئة وهي مهموزَةٌ ممدودةٌ (¬4)، وهو التّأخير، ومنه قوله تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية (¬5)، وذلك تأخيرهم تحريم المحرّم إلى صفر". وتفسير ما كره من الكالئ بالكالئ الغَرَر، وهو أنّ يحيلَه على غريمِه بِمَا لَهُ عليه من الدِّين، ويحيله الآخر على غريمه له بمثل ذلك، فكأنَّما قد أحالا على غَرَرٍ (¬6). بابُ إِفلاسِ الغَرِيمِ مالك، عَنْ يَحيَى بنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ، عن عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أبِي بَكر بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، أَن رسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَال: "أّيَّما امرِيءٍ ¬
أَفلَسَ، فَوَجَدَ رَجُلٌ سِلعَتَهُ عِندَهُ بِعَينِهَا، فَهُو أَوْلَى بِهَا من غَيرِه" (¬1). قال الإمام (¬2): وكذلك خَرَّجَهُ أبو داود (¬3)، غير أنّه زاد فيه: "أَيَّما رَجُلٍ مَاتَ أَو أفلَسَ، فَوَجَدَ صَاحِبُ المَتَاعِ مَتَاعَهُ بِعَينِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" (¬4) ولم نَجِد في الصَّحيحِ ولا وُجِدَ فيهِ لِحُكمِ الموتِ ذِكرٌ. وروى الدّارقطني (¬5) مثل ذلك وصحَّحَهُ وقال: وما زادَهُ مالك من الأُسْوَةِ في الموت، هو من قول الرّاوي. وما رُوِيَ من استواء الموت والفلس لم يصحّ. قد بيّنّا أنّ قول مالك مبنىٌّ على صحّة القول بصحّة المراسيل من الأسانيد، وقد بيَّنَّا أنّه صحّة؛ لأنّه ثقة عما نقل (¬6). "الفَلَس": العُدمُ والقيام بالأمتعة، يقال: فَلِسَ يَفلَسُ فَلَسًا (¬7). الفقه في مسائل: الأُولى: اختلف العلماء في ذلك على أقوال: ¬
1 - الأوّل: أنّ من أفلس أو مات أنّ السِّلعَة للغُرَمَاء هم فيها أُسوَة، وكذلك رُوِيَ عن الشّافعيّ (¬1). 2 - الثّاني: أنّه أُسْوَة الغُرَمَاء، وقاله أبو حنيفة (¬2)، وإنّما عَوَّلَ على المعنى دون الحديث، فلا يُلتَفَت إليه ولا يُعَوَّل عليه. 3 - وعوّل مالك - رضي الله عنه - في هذه المسألة على الفرق بين الفلس والموت؛ * فإن الموت ليس فيه عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - نَصٌّ، وإنّما الخبر في الإفلاس، والفرق بين الإفلاس والموت* ظاهر؛ لأنّ الموت قد برئت به الذِّمَّة، وإذا أفلس أُخِذَ ذلك الدِّين ما بقي حُيًّا. وأمّا الموت فقد انقطع منه الرَّجاء وصارت أحكامه في الآخرة. الثّانية (¬3): ومن ادّعَى الفقر وظاهرُه الغِنَى، وأقام بَيِّنَة لم يزكِّها , لم يؤخذ منه حَمِيلٌ، (¬4) وُيسجَن حتّى يزكِّيها، من "كتاب ابن سحنون" وذلك أنّه يدّعي خلاف الظّاهر من حاله. هذا لمن تَفَالَسَ وقال: لا شيءٍ له. وأمّا إنَّ سأل أنّ يؤخِّر (¬5) فليؤخره الإمام حسب ما يرجو له، حكاه ابن حبيب عن ابن الماجشون، وقال في "كتاب سحنون" إن سأل أنّ يؤخّره يومًا أو نحوه أخَّره ويعطي حَمِيلًا بالمال، فإن لم يجد حَمِيلا سُجِنَ. فرع: ومدة سجنه (¬6) تختلف باختلاف الدِّين فيما رواه ابنُ حبيبِ عن ابن الماجشون، ¬
فقال: يُحْبَسُ في الدُّريهِمَاتِ قَدْرَ نصف شهر، وفي الكثير أربعة أشهُرٍ، وفي الوسط شهران (¬1). الثّالثة (¬2): قال علماؤنا (¬3): وُيحبسُ الوصىُّ فيما على الأيتام (¬4) إذا كان لهم في يَدَيه مالٌ، وكذلك الأب في دين الولد إنَّ كان له بيده مالٌ، رواه ابن سحنون عن ابنِ عبد الحَكَم (¬5)، ومعنى ذلك: أنّه قبض له مالًا ولا يُعلَم نفاذُه، فلا يُقبل قولُه؛ لأنّه يَدَّعي خلاف الظّاهر. الرّابعة (¬6): قال علماؤنا (¬7): وُيحبسُ الأب إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصّغير، ولا يُحبسُ في دَين الولَد، يريدُ إذا كان له عليه دَينٌ يطلبه به، وأمّا تركه الإنفاق عليه، فضرره يلحق الولد، وغيره يطلبه به. فرع: ويُحبسُ المسلمُ للكافرِ في الدِّين، رواه سحنون، ويُحبسُ السَّيِّدُ لمُكَاتبِه في الدِّين. ¬
ووجه ذلك: أنّ الحقوق لا تُعتبر فيها الحرمة، إِلَّا للوالد على ولَده فيما له عليه من الدِّين من حق الأُبُوَّة المُوجِبة للنّفقة، ويُحبسُ سائر القَرَابَاتِ من الأجداد وغيرهم (¬1). الخامسة (¬2): فهذا ظهر أنّه لا مَالَ له، فعن ابن القاسم في "العُتبيّة" (¬3) أنّه يحلّفه ويطلقه، رواه ابنُ حبيب عن مالك (¬4)، ومعنى ذلك: أنّ يشهدَ له الشُّهوَد أنّهم لا يعلمون له مالًا ظاهرًا ولا باطنًا، ويلزمه اليمين؛ لأنّ الشَّهود إنّما يشهدون على العلم، فعليه هو أنّ يحلف على الباطن بالبتِّ، كالرّجل يستحقّ الدّار، فيشهد الشَّهود له على علمهم أنّهم لا يعلمون فَوتَه (¬5)، ويحلف هو على الباطن بالبتِّ. فرع: وأمَّا من ثبت فَلَسُهُ، فروَى ابنُ وهب عن مالك في "الواضحة" أنّه لا يُحبس إنَّ كان مُعسِرًا لا شيءَ له، وفي "الموّازية": إن عُلِمَ ألَّا شيءَ له، فلا يُحبس حرٌّ ولا عبد. ووجه ذلك: قولُه تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] الآية (¬6). ولا يُؤاجر المُفلِس في دَيْنه (¬7)، خلافًا لابنِ حنبل. ودلينا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] الآية (¬8). ومن جهة المعنى: أنّ الدِّين ¬
باب ما يجوز من السلف
إنّما يتعلَّق بالذِّمَّة دون عمله. قال محمّد: سواء كان حرًّا أو عبدًا مأذونًا (¬1). فرع: أمّا إذا عُلِمَ غِنَاهُ، وكان ذلك ظاهر أَمرِه، ففي"الموّازية" و"العُتبِيَّة" (¬2) أنّه يُحبس حتَّى يوفَّي (¬3)، أو يتبيّن أنّه لا شيءٍ له فيُطلَق، قال مالك (¬4): فإن شهد له ناسٌ أنّه لا شيءً له، فلا يعجّل إخراجه حتّى يُستبرَأ أمرُه، قال: هذا مثل التّجار يأخذون أموال النَّاس ثمّ يَدَّعون ذهابها , ولا يُعلَم ذلك إِلَّا بقولهم، والفروعُ في هذا الباب أكثر من أنّ تُحصى، أو يأتي عليها الاستقصاء. بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ السّلفِ قال الإمام (¬5): قد بيَّنَّا حِلِّ البَيع وتحريم الرِّبا، وقرَّرنا في قاعدة المعروف أنّه يجوزُ فيها من المسامحة في الزّيادة في المقدار والصِّفَة ما لا يجوزُ في البيع، لكونها خارجة عن المُكَايَسَة، وهي داخلةٌ في باب المعروف، وقد فصَلَتْ الشّريعةُ بين الغرَضين وجعلتهما قاعدتين، وقد أعطَى النّبيُّ -عليه السّلام- في القَرض سنا أفضلَ من السن" وقال: "خِيَارُكم أَحسَنُكُم قَضَاءَ" (¬6) وهذا كما قال مالك (¬7): "إِذَا لَمْ يَكُن في ذَلِكَ شَرطٌ، وَلَا وَأيٌ، وَلَا عَادَةٌ". قوله:"وَلَا وَأيٌ" الوَأيُ: الوَعْدُ (¬8). وقيل: هو إضمار في النَّفس أو القلب. قال (¬9): فإنّه يخرُجُ حينئذٍ من باب المعروف إلى باب المعاوضَةِ الّتي يُعتَبَرُ فيها ¬
الرِّبا، ويجوزُ في المقدار إذا كان يسيرًا، فإن كان كثيرًا لم يَجُز، وعليه يُخَرَّجُ قولُ عمرَ بنِ الخطّاب: "فَأينَ الحَمَّالُ؟ " (¬1). الفقه في ثلاث مسائل: الأُولى: قولُه (¬2):"استسلَفَ بَكرًا فَقَضَى خِيَارًا رَبَاعِيًا" الحديث. و"الرَّبَاعي": الّذي سقطت رباعيته، وه وابن سبع سنين (¬3). فهذا (¬4) يدلُّ على ثبوته في الذِّمَّة بالصِّفَة؛ لأنّه إنّما يضبط بها, ولولا ذلك لما جاز ثبوته في الذِّمَّة عِوَضًا عما يستقرضه؛ لأنّه لا خلاف بأنّ عليه ردّ مثل ما استقرض، ووافقنا على ذلك أبو حنيفة (¬5)، وخالف في السَّلَمِ، وقد تقدّم. الثّانية (¬6): قال علماؤنا (¬7): والقرضُ يكون مؤجّلًا وغير مؤجّل، فإن كان مؤجّلًا لم يكن للقارض أنّ يطلبه قبل الأجل، وللمستقرض أنّ يذفعه متى شاء (¬8) إذا كان عَينًا. ¬
باب جامع البيوع
الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "اسْتَسْلَفَ بَكْرًا" لا يخلو أنّ يكون (¬3) اقترضَهُ لنفسه، أو لغيره من أهل الصّدقة، فإن كان لنفسه، فلا تحلّ له الصَّدقة، ويحتمل هذا وجوهًا: أحدُها: أنّ يكون منها (¬4) وقد بلغ محلّه، ثمّ صار للنَّبىِّ -عليه السّلام- بابتياعٍ أو غيره. وإن كان اقترضه من أهل الصدقة لغيره، فلا إشكال فيه؛ لأنّه يقضي منها، كما يستقرض الوالي ليتيمه على مَالِهِ، غير أنّه لا يجوزُ أنّ يعطى من أموال المساكين ما هو أفضل ممّا أخذَ لهم، إِلَّا أنّ يكون المُقرِض من أهل الصّدقة، فيكون الفضل صدقته عليه، وليس في الحديث ما يدلُّ على إخراج الزَّكاة قبل الحَوْلِ، على قول من قال: إنّه اقترض للمساكين، وإنّما فيه أنّه استقرض لهم ممّن لا تجب عليه الصَّدقة. بَابُ جَامِعِ البَيُوعِ قال: في هذا الباب حديثُ ابن عمر، أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُخْدَع فِي البُيُوعِ، فَقَالَ لهُ رَسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - "إِذَا بَايَعتَ فَقُل: لَا خِلَابَةَ" قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ لَا خِلَابَةَ. الحديث إلى آخره (¬5). ¬
قال الإمام (¬1): هذا الرَّجل منقِذ بن عَمْرو الأنصاريّ المازني (¬2)، جدّ واسع بن حَبَّان، وكان سببُ ذلك أنّه أصابتهُ في رأسِه في الجاهليّةِ مأمومة (¬3)، فغيّرت لسانه وبعض ميزه (¬4). وقيل: إنّه حَبان بن منقِذ، فقال له النّبيّ -عليه السّلام-: "بعْ، وَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَأَنتَ بِالخِيارِ" (¬5). فقال بعضُ النَّاس: إنَّ هذا خاصٌّ بهذا الرَّجل لضَعفِه عن التَّحرُّز. وقد قال بعض العلماء: إنَّ الحديث يُحملُ على عمومه حتّى يخصِّصه الدّليل القاطع. الفقه في سبع مسائل: الأُولى (¬6): روى عبدُ الوهَاب في "إشرافه" (¬7) أنّه "إذا تبايع النَّاسُ بما لا يُتَغَابَن بمِثْلِه في العادة، وكان أحدهما مِمَّن لا يخبر سعر ذلك المَبِيع، فاختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من يقول: لا خِيَارَ له، وبه قال أبو حنيفة (¬8) والشّافعيّ (¬9). ومنهم من يقول: له الخِيَار إذا زاد الغبنُ على الثُّلُث، أو خرج عن العادة. ¬
والدّليلُ على هذا القول: نهيُه - صلّى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، ونهيُهُ عن تلقِّي السّلع" (¬1) فعلى هذا يكون الحديث عامًّا. الثّانية: في الأشهاد على التبايع والأصل في هذه المسألة: الكتاب والسُّنَّة، قال الله العظيم: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] الآية (¬2)، ثمّ نسخ الله ذلك (¬3) بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (¬4)، ولم يذكر معه إشهاد، فلو ثبت الأمرُ على الأوّل ما جاز بيع لا يشهد فيه. وقال أكثر العلماء: إنّه لم ينسخ ولكنّه حَضٌّ على الإشهاد، وَأَدَبٌ لا فرضٌ؛ ولأنّه احتياط؛ لأنّهم لا فرض عليهم فيه. وقالت طائفة أخرى: يسقط فرض الإشهاد، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] الآية (¬5)، فكان هذا أقوى دليلًا على أنّه حضٌّ وأدبٌ واحتياطٌ، لا فرض ولا أمرٌ، وبهذا أقول. وأشدّ ما فيه قول ابن عبّاس: "مَنْ لم يُشهِد عَلَى بَيعِهِ فَقَد عَصَى" (¬6). الثّالثة: وأمّا حديث "العاريةُ مؤدّاة" (¬7) فليس في ذلك حديث صحيح يُعَوَّلُ عليه (¬8) ¬
الرّابعة (¬1): في بيع الخّمْرِ أدخل التّرمذيّ (¬2) حديث أبي طلحة وأنس في تحريم الخّمْرِ، وليس بصحيحٍ، وتَرَكَ حديث أبي سعيد وحديث ابنِ عبّاس وعائشة، وهذه الأحاديث الثّلاث تقطع العُذْرَ، وتقوم الحجّة بها، وأنّه لا يجوزُ بيع الخّمْرِ أصلًا. فصل (¬3) قال الإمام: ويتركّب على هذا إذا نجس الزَّيت والعسل واللّبن بما يقع فيه من النّجاسات، فهل يحرمُ بيعُهُ أم لا؟ فعلى رواية العراقيين عن مالك في أنّ المائع كالماء في أحد القولين، وهو الصّحيح، ولا ينجِّسه إِلَّا ما غَيَّرَهُ، أو ينزل عن درجة الماء على كلّ قول،* أو ينجس بكلِّ ما وقع فيه، فهذا جعلناه كالماء لا ينجّس إِلَّا بتغيير، فلا كلام، وإن قلنا: إنّه بخلاف الماء* فاختلف علماؤنا فيه: فمنهم من قال: يطهر. ومنهم من قال: يُستصبح به في غير المسجد ويتحفّظ منه، وكلُّ ذلك مروِيٌّ عن مالك، فهذا قلنا بذلك فإنّ بيعه يجوزُ (¬4). ¬
الخامسة: في كره بيع المغنِّيات (¬1) ذكر فيه التّرمذيّ (¬2) حديث أبي أُمَامَةَ عن النَّبيِّ -عليه السّلام- قال: "لَا تَبِيعُوا الْمُغَنِّيَاتِ، وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيرَ في تِجَارَتِهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ"، وفي مثل ذلك نَزَلَت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية (¬3). قال الإمام: وقد بيّنّا الآية في "كتاب الأحكام" (¬4). وأمّا حديث عليّ بن يزيد، فضعيفٌ (¬5). وأمّا بيعُ المغنِّياتِ، فينبني على أنّ الغناء حرامٌ أو حلال، وليس الغناءُ بحرامٍ، فإنَّ النّبيّ -عليه السّلام- سمعه في يته وبيت غبره، وقد وقف عليه في حياته، فإن زاد فيه أحدٌ على ما كان في عهد النّبيّ -عليه السّلام-، مثل غناء دفٍّ يضرب عليه نغمة بديعة، فقد دخل في قوله:" مِزمَارُ الشَّيطَانِ فِي بَيْتِ رَسُول اللهِ" (¬6) إنّما يكون ذلك مثل الطُّنبُور (¬7) ¬
وشبهه، فلابدّ من تحريمه (¬1)، فإنّها كلّها آلات تتعلّق بها قلوب الضّعفاء (¬2). وقال علماؤنا: من اشترى جاريةً فظهر عنده أنّها قَيْنَة، فله الخِيَار، ولو كان عندهم بيعها غير جائز لحكموا بفَسخِه ولم يجعلوا له الخِيَار، والله أعلم. السّادسة: في حكم المكيال والميزان (¬3) روى التّرمذيّ (¬4)، عن عِكرِمَةَ، عنِ ابنِ عَباس قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لأصحاب الكَيلِ والميزانِ: "إِنَّكُم قد وُلَّيتُم أَمرَينِ هَلَكَت بِهِمَا الأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبلَكُم" والحديثُ ضعيفٌ، والصّحيحُ وَقفُهُ على ابن عبّاس موقوفًا مقطوعًا (¬5)، رواه مالك (¬6) عن ابنِ عبّاس فقال: "مَا نَقَصَ قَوْمٌ المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِلّا قَطَعَ عَنهُمُ الرِّزْقَ". قال علماؤنا: أراد بذلك كثرة الرِّزق أو المال بغير طريقه، فقطع الله عليهم الرِّزق من غيره. السّابعة (¬7): قال النّبيُّ -عليه السّلام-: "المِكيَالُ مِكيَالُ أهْلِ المَدِينَةِ، وَالمِيزَانُ مِيزَانُ مَكَّةَ" (¬8) ¬
وقال: " اللَّهُمَّ بَارِك لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ" (¬1). وقال مالك لأشهب: "البَرَكَةُ في صَاعِنَا أّكْثَر مِمَّا عِندَكمّ". تَمَّ الكِتَابُ ¬
كتاب المساقاة
كتاب المُسَاقاة الإسناد: قال الإمام: أرسلَ مالكٌ في "الموطَّأ" (¬1) حديثَ المساقاةِ ولم يُسنِدْه، وأَسنَدَه أبو داود (¬2)، عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد القطّان، عن نافع عن عبد الله بن عمر، أنّ رَسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عامَل خَيْبَرَ بشَطْرِ ما يخرجُ منها من ثَمَرٍ أو زَرْعٍ. الحديث (¬3). تنبيه: قال الإمام: لم يُدخل مالك هذا الحديث في "الموطَّأ" من أجل حديث رافِع بن خدِيجٍ؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - نهى عن كِرَاءِ المَزارعِ (¬4) بغير ما يخرجُ منها من الطّعام، وإنّما ساقَى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أهل خَيْبَر من أجل اشتغاله عنها بالجهاد في سبيل الله، وأمرَ بخَرصِ ثَمَرِها على اليهودِ من أجل أنّه لم يأمنهم عليها. وقال علماؤنا: ليس العمل على حديث عبد الله بن رواحة في المساقاة (¬5) في خرصه على اليهود، ولا تصحُّ القسمَةُ في المُسَاقاة إِلَّا كَيلًا، إِلَّا أنّ تختلفَ حاجةُ المساقينَ، مثل أنّ يريدَ أحدُهما أنّ يبيعَ نَصِيبَه من الثَّمرة، ويريد الآخر أنّ يأكلَها ولا يبيعها، فيقسمأنّها حينئذ بالخرص. وليس العملُ في المساقاة أنّ يكون إِلَّا لأَجَل معلومٍ، كما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لأهل خيبر: " أُقَرَّكُم مَا أَقرَّكُمُ اللهُ عَلَى أَنَّ الثَّمرَ بَينَنَا وَبَينَكُمْ" (¬6). ¬
ولا تكون المساقاةَ إِلَّا لأجلٍ معلومٍ، ويُكْرَهُ فيها ما طال من السِّنين، ولا بأس بالعشر سنين فدونها (¬1)، على ما يأتي بيانُه إنَّ شاء الله. الأصول (¬2): اعلموا - وَفَّقَكُم اللهُ- أنّ عَقْدَ المُسَاقاةِ مَرْفقٌ في الشّريعة، ورحمة من الله تعالى، وهو أيضًا مُستثنًى من البيوعاتِ للضّرورةِ والحاجةِ. وقال قوم: هو مُستَثنًى من الإجارةِ المجهولةِ العَمَل للحاجة. ثبتَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الصّحيح؛ أنّه قَالَتِ الأَنصَارُ لَه: يَا رَسُولَ اللهِ، اقسِم بَينَنَا وَبَينَ إِخوَانِنَا المُهَاجِرينَ النَّخِيلَ، قَالَ: "لَا" قَالُوا: فَيَكفُونَنَا المَؤُونَةَ وَنَشرَكُهُم في الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا (¬3). وثبتَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه ساقَى أهل خَيبَرَ بشَطرِ ما يخرُجُ منها من نَخلٍ وزرعٍ (¬4)، وكان بين النّخيل بياضٌ، فكان لَغوًا. وقال أبو حنيفةَ: المساقاةُ باطلةٌ (¬5)، وعُذرًا له فإنّه كان ضعيفًا في الحديث، ذُكِرَت له قصّة خَيبَرَ فقال: إنَّ اليهودَ كانوا رقيقًا للنّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فجعل رقيقَهُ في ماله عُمْلَةً فيه، وجعَلَ لهم نصف الثمر أرزاقًا لهم. واحتجّ بقوله -عليه السّلام-: "منِ استَأجَرَ ¬
أَجِيرًا فَليُعْلِمهُ أُجرته" (¬1) والسُّنَن لا تُقاس برأيٍ، ولا تُعارَضُ بقياسٍ، والمساقاةُ من عمل أهل المدينة (¬2) قلنا: لو عرَفَ الحديثَ لَمَا قال هذا، وقد كان النّبيُّ صلّى الله عليه بَيَّنَ للمسلمين أنّ بقاءَهُم في الأرض إنّما هو للمسلمين، إنَّ شاءوا أنّ يُبقُوهُم أبقَوهُم، وإن شاءوا أنّ يُخرِجُوهُم أخرجوهُم، ولو كانوا رقيقًا ما صَحَّ ذلك، وكلامهُم أقلُّ من أنّ يُتكلَّم عليه. ومسائلُ المساقاةِ عويصةً؛ لأنّها رخصةٌ مخصوصةٌ، وإذا ثبتَ الأصلُ قياسًا مُعَلَّلًا، أمكنَ تعليلُه واطَّردَتْ فروعُه، وإذا ثبتَ رخصةٌ، عَسُرَ الضّبطُ فيه، واضطَرَبَت آراء المجتهدين عليه، ولذلك أَطنَبَ مالكٌ في المساقاة، وذَكَرَ منها مسائلها وفروعها، اتّبعَ فيها كلّها الأثرَ وبِمَا وَجَدَ من العملِ. ومن أمّهاتِ مسائِلها أنّ المُسَاقاةَ تجوزُ في كلِّ شجرةٍ (¬3). وقال الشّافعيُّ (¬4): لا تجوز إِلَّا في الأصولِ من النّخيل والكُروم؛ لأنّها رخصةٌ، فاقتُصِرَ بها على مَورِد النَّصِّ. قلنا له: مهلًا عليك، إنّما وَرَدَت في النّخيل، فلم عدَّيتَها إلى الكَرْم؟ والأصلُ في كلِّ رخصةٍ في الشّريعة أنّ يكون ما في معناها لَاحِقًا بها، ممّا يُتَفَطَّنُ له قبلَ النَّظَرِ في العِلَّةِ، وقد بيَّنَّا ذلك في "أصول الفقه" وخصوصًا عندنا وعند الشّافعيّ، ولهذا قلنا: إنّه تجوزُ المساقاةُ في الثَّمرةِ بعدَ ظهورِها. ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): لا تجوزُ. ودليلُنا: أنّ ما بعد الظّهور في معنى ما قبلَ الظّهورِ؛ لأنّ المقصودَ كفايةُ العامل لربِّ المالِ، وهذا يستوي فيه ما قبلَ الظّهورِ وما بعده، ولذلك قال ابنُ القاسم (¬2) وغيرُه خلافًا لسُحنون (¬3): إنَّ المُسَاقاةَ تجوزُ في الثّمرةِ بعد طِيبها؛ لأنّ الحاجةَ في المساقاةِ بعدَ طِيبها كالحاجة إلى المُسَاقاةِ قبل طِيبِها، إذ الشّجرة مُفتقِرَةٌ إلى العمل من أوّل ما تُغرَسُ إلى أوّلِ ما تُجذّ ثمرها، أو من أوّل ما يُؤخَذ منها إلى أنّ تستحصد ثمرتها , ولذلك اتّبع مالكٌ الأثرَ حين قال: تجوزُ المساقاةُ في خمسة أَوْسُقٍ من تَمرٍ بين العامل وصاحب النّخل، وإن كان نصيبُ كلّ واحدٍ منهما يقصُرُ عن النِّصاب بخلاف سائر الأموالِ الزّكاتية (¬4)؛ لأنّ عبد الله بن رواحة كان يَخرُصُ وياخُذُ الزّكاةَ ممّا يجبُ، ولا يسألُ عن الشُّرَكَاءِ (¬5). وقد بني علماؤنا هذه المسألة على أنّ العامِلَ في المُساقاةِ متى يَملِكُ حِصَّتَه؟ فقيل: لا يملِكُها حتّى يقبضَها، فتنبني هذه المسألةُ على أنّ العاملَ لا يملِك ذلك حتّى يقبِضَها، والأوّلُ أقوى في الدّليلِ. وقد خَرَجَ ابنُ القاسم (¬6) عن هذا الأصل فقال: لا تجوزُ مساقاةُ النّصرانيِّ في كَرْمِك ¬
إِلَّا إذا أمِنْتَ أنّ يَعصِرَهُ خمرًا. والنّبيُّ -عليه السّلام- قد سَاقَى أهلَ خيبرَ كلَّهم، وهم كفّارٌ بأجمعهم، وفيهم من لا يُؤمَنُ أنّ يتَّخِذَ ثمره خمرًا، بل جميعُهُم لا يُؤمَنُ عليه ذلك، فصحَّ أنّ هذه الرِّوايةَ في نهاية الضَّغفِ. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): قال الفقهاءُ أجمع: المساقاة لازمةٌ، وذلك أنّ يدفعَ الرَّجلُ حائطَه فيه النّخل والشّجر إلى العامل ليخدم ذلك بما يحتاج إليه من الخدمة، بجزءٍ من الثَّمَرِ معلوم. إمّا أنّ يكون بينهما بنصفين، أو على الثُّلُثِ، أو الرُّبُعِ، أو نحو ذلك، والزّكاة من الجميع قبل القِسمَة (¬2). المسألة الثّانية (¬3): اختلَفَ العلّماءُ في افتتاح خيبر: فقال بعضُهم: افتتَحَها عَنوَة (¬4). وق آخرون: افتتح بعضها عَنوَة وبعضها صُلحًا (¬5). والصّحيح أنّه افتتحها عنوة، فكان النِّصف لله والرسول، والنِّصف الآخر للمسلمين. المسألة الثّالثة: والمساقاةُ عند مالك جائزة في الأصول كلِّها ممّا يتّصل ثمره (¬6)، وكذلك ¬
المقاثي (¬1)، والورد والياسمين (¬2)، ولم تَجُزِ المساقاةُ في الموز والقصب (¬3)؛ لأنّ ذلك يأتي بطنًا بعد بطن، بخلاف سائر الأموال، والله أعلم. ¬
كتاب الشفعة
كتابُ الشُّفْعَةِ (¬1) الإسناد: ذكر مالك في "الموطَّأ" (¬2) حديثَ الشُّفعَةِ مُرسَلًا (¬3)، وأحاديثُ الشُّفعَةِ أربعةٌ: الحديثُ الأوّل: عن جابر، قال رسولُ الله: "إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفعَةَ" (¬4). الحديثُ الثّاني: حديث الحسن، عن سَمُرة: "جارُ الدَّارِ أحق بالدَّارِ" (¬5). الحديثُ الثّالث: عن جابر: " الجارُ أَحَقُّ بشُفعَتِهِ، يَنتَظِرُهُ إنَّ كَان غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحَدًا" (¬6). ¬
الحديث الرّابع: عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّه قال: " الشَّفِيعُ شَرِيكٌ - أو قال- الشَّرِيك شفِيعٌ، الشُّفعَةُ فِي كلِّ شَيءٍ" (¬1). قال الإمام: إسنادُها وقع في "البخاريّ" (¬2) و"مسلم" (¬3) عن جابر: "أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَضَى بِالشُّفعَةِ في كُل مَالٍ مَا لَم يُقسَم، فَإذِا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصرفت الطُّرُقُ فَلا شُفعَةَ" وهذا اللْفظ للبخاريّ، وقال مسلم: " قَضَى رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالشُّفعَةِ عَلى كُلِّ شِركَةٍ مَا لَمْ تُقسَم الأرض، أو رَبعٍ -وفي رواية: أو رَبعَةٍ - أو حائط، لا يَحِلُّ له أنّ يبيعَ حتّى يُؤذِنَ شرِيكَهُ، فإن شاء أخذَ، وإن شاء تَرَكَ، فإن باعه ولم يُؤذِنهُ فهو أحقُّ به". ونحوه لأبي داود (¬4) فقال: "الجَارُ أَحَق بصَقَبِه" وفي "البخاريّ" كذلك (¬5). فهذه أحاديث الشُّفعَةِ الصِّحاح الّتي أصّلَ عليها هذا الكتاب. العربيّة (¬6): الصَّقَب: القُرْبُ، ويُكتَبُ بالصّاد والسّين (¬7). والرَّبع: المنزلُ، وتأنيثه رَبعة (¬8). والحائطُ: البستانُ الحاوي للشّجر، نخل أو سواه. ¬
الأصول (¬1): اختلف العلماء -رضوانُ الله عليهم- فى عِلَّةِ الشُّفعَةِ بعد اتِّفاقِهم على أنّ أصلّها موضوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ: فمنهم من قال: العلًّةُ الضَّرَرُ، يعني ضَرر الخُلَطَاء، وعدّاها إلى الجار، وهو أبو حنيفة وأهلُ العراق. ومنهم من قال: إنها لضَرَرِ الشَّرِكة، وذلك فيما يلزَمُ من مؤونة القِسْمَة. وقال أبو المعالي الجويني في ذلك قولًا بديعًا لم يُسبق إليه (¬2) في "كتابُ الأساليب" فقال: "الأخذُ بالشُّفعَةِ غيرُ معلَّلٍ؛ لأنّه فَسخٌ قهريٌّ يترتَّبُ على عَقدٍ اختياريٍّ أَذِن الشَّرعُ فيه، وهذا ما لا نظيرَ له في الشّريعةِ، وإنّما شَرعَهُ الله تعالى بما علِمَ من الحِكَمِ لا لعلّةٍ نَصَبَهَا علَمًا" وهذا الّذي أشار إليه لا يَصِحُّ عند أكثر العلماء؛ لأنّ الحُكمَ إذا وَرَدَ في الشّريعة وظهَر تعليلُه وعُلِمت فائدتُه، وجَب البناءُ عليها، وتعيَّن العملُ بها، وقد ظهرت علًّةُ الضرَرِ في الشُفعَةِ ظُهورًا جليًا، ووافَقنا على التّفريع عليها, ولو كان الأخذُ بالشُّفعَةِ تعبْدًا ما فُرَّع ولا رُكَّب عليها، وتعليلُ الشُّفعَةِ في كُتُبِ الشّافعيّة أعظمُ ممّا في كُتُبِنا، وقد كانت الأموال الرِّبَويَّة أولَى بالتّعليل منها. ¬
الفقه في اثنتي عشرَة مسألة: المسألة الأوُلى (¬1): اتّفقَ علماءُ الأمصارِ على أنّ الشُّفعَةِ إنّما تكونُ في العَقَارِ دُونَ المنقولِ، لِمَا قدّمناه من أنّ الشُّفعَةَ إنّما ثَبَتَت لضَرَرِ مؤنَةِ القِسمَةِ، وذلك يختصُّ بالعَقَارِ دون المنقول، إذ مِنَ المنقول ما لا يُقسم بحالٍ، وما ينقسِمُ منه فلا مُؤنَةَ فيه. وانفردَ مالك عن جمهورِ العلماء بفرعين: أحدُهما، أنّه قال: الشُّفعَةُ في الثِّمار (¬2)، وهي من المنقولات. وقال سائرُ العلّماءِ: كلُّ منقولٍ لا شُفْعَةَ فيه كالعُرُوضِ. وهذا قياسٌ جليٌّ، وعَوَّلَ مالكٌ - رحمه الله - على ركنين: أحدهما: أنّ الثَّمرةَ وإن كانت مقطوعةً منقولةً فإنّها بأصلها من العَقَارِ تابعةٌ، عنها نشأت، وفيها نبتت، فما دامت متّصلةَ بها فحُكمُها حُكمُها، أَوَ لا ترى أنّ الأغصانَ والأوراقَ فيها الشُّفعَةُ تابعةٌ للأُصول، وهي تَفصُلُ عنها وتُقطَعُ منها. الركنُ الثّاني -وهو خَفِيٌّ-: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أَرخَصَ في بيع العَرَايَا، واستثناها من الرِّبَا لضَرَرِ المداخلة، وكذلك ضَرَرُ المداخلة في الثَّمرة مثلُه عندَ القضاءِ بالشُّفعَةِ. الفرعُ الثّاني: قال مالكٌ: ما لا يُقسَمُ من العَقَار إلّا بفسادِ هيئتِهِ وتغَيُّرِ صِفَتِهِ لا ¬
شُفعَةَ فيه (¬1)، كالحمَّام والبئر، وذلك لِفقْهٍ بديعٍ لم يتفطَّن له سواه، وذلك أنّ الشُّفعَةَ وُضِعَت- كما قلناه- لدَفعِ الضَّرَرِ في القِسمَة، والخَسَارةُ في تَغيِيرِ هَيئَةِ الحمام والبِئرِ أكثَرُ منها في مؤنة القسمةِ، فكيف يُدفَعُ ضَرَرٌ بأعظمَ منه، وإنّما يُرفَعُ أعظمُ الضَّرَر بأهونَ منه، وهذا بيِّن لمن تأمَّلَهُ، ولهذا قلنا: إنَّ رواية المصريِّين أقوَى، ولم يكن في قول الله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا} الآية (¬2) متعلّقٌ؛ لأنّه عُموم تخصُّهُ قاعدةُ الضَّرَرِ والفسادِ المتَّفَقُ عليها. المسألة الثّانية (¬3): اتّفقَ العلّماءُ على أنّ الشُّفعَةِ إنّما يَرتَّبُ حُكمُها في عَقدِ مُعَاوَضَة، فإن وقعَ المِلكُ في الخطِّ المُشَاع بغير عِوَضٍ، كالهِبَة المَحضَةِ، فرُوِيَ عن مالك فيه الشُّفعَةُ، واتّفقتِ الأُمَّةُ على أنّه لا شُفْعَةَ في الخطِّ المُشَاع المورُوثِ، وهذه الرّوايةُ عن مالك في الهِبَةِ وإن كانت قليلةً في النقلِ فإنّها قويَّةٌ في الدّليل، فإنّ الشُّفعَةِ إنّما ثبتت لضرَرِ الشّركةِ، وذلك في الموهوب كما هو في المَبِيع. فإن قيل: الموهوبُ مِلكٌ بغير عِوَضٍ فلم تكن فيه الشُفعَةُ، كالموروث جزءًا مُشَاعًا، وهو قول كافّة العلماء. قلنا: ليس من التّحقيق قياسُ الهِبَةِ على الميراثِ؛ لأنّ مِلك المَورُوثِ دَخَل قَسرًا ¬
من الله لا دَفعَ له بِحِيلةٍ، بخلاف الهِبَة فإنّه مِلكٌ دخَلَ على الشَّرِيك باختيار المُتعاقِدَين، فوجبَ فيها الشُّفعَةِ كالمتابعين. المسألة الثّالثة (¬1): كما ثبتتِ الشُّفعَةُ عند علمائنا في المَبِيع، كذلك تثبتُ في المُمْهَرةِ والمُخالعة، وبه قال الشّافعيّ (¬2). وقال أبو حنيفةَ: هي مُختصة بالمَبيعِ (¬3). والمسالةُ قريبة المَأخَذِ؛ لأنّا نقول مع الشّافعيِّ: إنّه شِقصٌ، مُلِكَ عن مُعَاوَضَةٍ، فوجبَ فيه الشُّفعَةِ كالمبيع (¬4)، ولا إشكالَ في أنّ النِّكاحَ والخُلعَ معاوضةٌ؛ لأنّ الله تعالى يقول: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬5)، وقال عز من قائل: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} الآية (¬6)، إِلَّا أنّ الشّافعيّ: يَأخُذُ في الشَّقصِ بمَهرِ المِثْلِ (¬7)، وقال مالك: يأخُذُه بقيمتِه (¬8)، وما قاله الشّافعيُّ هو باديَ الرّأي؛ لأنّ الشْفعَةَ إنّما تكون بالثّمن، فإن تعذَّرَ يؤخذ بقيمته، كما لو اشترى شِقصًا بعبدٍ أو ثوبٍ، والبُضعُ عندنا وعند الشّافعيِّ مُتَقَوَّمٌ ¬
يُضمَنُ بالمُسَمَّى في الصحيحِ، وبالمِثلِ في الفاسد، إِلَّا أنّ مالكًا تَفطَّنَ لدقيقةٍ؛ وهي أنّ النِّكاح مبنيٌّ على المُكارَمَة، وقد يزيدُ المهرُ وقد ينقُصُ، فلم يكن فيه أعدَلُ من أنّ يأخُذَ بقيمةِ الشَّقص، وقد اتفقنا على أنّه يُرجعُ إلى قيمة الشَّقصِ عند تَعَذُّر حالِ الثّمنِ، وهذه حالة تَعَذُّر، وحُجَّةُ أبي حنيفةَ والجوابُ عليها في "كتب الأصول" من الخلاف. المسألة الرّابعة (¬1): قال. علماؤنا: الشُّفعَةُ على مقدَارِ الأنصِبَاءِ (¬2)؛ لأنّها فائدةٌ من فوائد المِلكِ فقُدَّرت بقَدْرِ المِلك كالغَلَّةِ، وبه قال الشّافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ (¬3): إنّها على قَدرِ الرُّءوسِ؛ لأنّها لدفع الضَّررِ بدليل حالةِ الانفرادِ. والمسألةُ عريضة المأخذ جدًّا، لا تحتملُها هذه العُجَالةُ، فانظروها في موضعها من "مسائل الخلاف" إنَّ شاء الله. المسألة الخامسة (¬4): خِيَارُ الشُّفعَةِ موروثٌ عندنا (¬5)، وبه قال الشّافعيّ (¬6). وقال أبو حنيفةَ: لا يُورَثُ (¬7). قال الإمام أبو علىّ الصَّاغاني الحنفيّ: الخِيَارُ غيرُ متروك، وإنّما يُورَثُ بقول الله تعالى: {مَا تَرَكَ} (¬8) وكيف يصحّ أنّ يكون متروكًا بعد الموت، وهو صفة من صفاته، ¬
يبطل موته حقوقه من خِيَار وعلم وقُدْرَة وغير ذلك، فقال له فخرُ الإسلام الشّاشيُّ: هذا مَزجُ الشّرعيّات بالعقليّات، والشّريعةُ لم تُبنَ على هذا؛ فإنّ الأحكام كلَّها إنّما هي راجعةٌ إلى قول الله تعالى، والحقوقُ الّتي أثبتَها إنّما هي ثابتةٌ بإثباته، لا بقَولِ أحدٍ من البشَرِ، ولا بفِعلِهِ، ولا بصفته، فهي تنتقلُ بنقل الله لها من شخصٍ إلى شخص، ولو باع رجلُ فَدَّانًا، فقيل له: ما بِعتَ من الأرض إنّما هي لله، لا تَقدرُ على نقلها ولا على تصريفها، إذ الملك إنَّما هو له، فلا نفسِّره إِلَّا بما يرجِعُ إلى الفعل، والفعلُ عِوَضٌ لا يبقى، فكيف يُتصوَّر أنّ يُباع ويُنقلَ؟ فَتَتَبُّعُ مثل هذا إفسادٌ للأحكامِ، ولكن البارىءَ تعالى جعلَ الحيَّ خليفةَ الميِّتِ، فما كان للميِّت فهو له. المسألة السّادسة (¬1): قال مالكٌ دونَ سائرِ الفقهاءِ: الشُّفعَةُ إنّما تكونُ بين أهلِ السِّهامِ من الوَرَثَة دونَ غيرِهِم من المشركينَ (¬2). وقال غيرُه بأجمعهم: إنّما تكونُ لكلِّ شريكِ قَرُبَ أو بَعُدَ؛ لأنّها لدفع الضَّرَرِ كما قدّمناه، وذلك يستوي فيه القريبُ والبعيدُ من الشُّركاءِ. مثالُ ذلك: ميّتٌ تركَ جدّتين، وأخوين لأُمِّ، وإخوة لأبٍ، فباعت إحدى الجدّتين، لم تَشفع في حظِّها إِلَّا الأخرى. وكذلك لو باع الأخ للأمّ، لم يشفَع عليه إِلَّا أخوه، ولو باع أحدُ الإخوةِ للأبِ، لشفَعَ عليه جميعُ الوَرَثَة. والدًقيقةُ الّتي تفطَّن لها مالكٌ في هذا البابِ وفاتتِ الشّافعيَّ، فإنّ أبا حنيفة بَنَى ¬
عليها واطَّرَدَ أصلُه فيها، وتلكَ الدّقيقةُ المالكيّةُ هي أنّ الشُّفعَةِ إنّما ثَبَتَت لضَرَرِ الشَّرِكَةِ كما قلناهُ مع الشّافعيّ، ودليلُنا عليه فيما تقدّم، خلافًا لأبي حنيفةَ في قوله: إنها ثابتةٌ للضَّرَرِ المُطلَقِ، وإذا ثَبَتَث لضَرَرِ القِسمَة كما دلّلنا عليه، فهذه الدّارُ الّتي تركَها الميِّتُ إنّما تُقسَمُ أسداسًا؛ فللجدّتين سدُسُها , وللأخوين للأمّ ثُلثُها، والثّلاثةُ الأسداسِ للإخوةِ للأبِ، فينفردُ كلُّ واحدٍ بنصيبه، ثمّ يَقسِمُ الأخوان حَظَّهما بينَهما، وكذلك الجدّتان. فكما يُجمَعُ السَّهمُ في القِسمَة، كذلك تَجِبُ به الشُّفعَةُ، ومن يفارقه في القَسمِ لا شُفعَةَ له، كما لا يَجتَمِعُ معه في القِسمَة. لكن يبقى على هذا إشكالٌ واحدٌ، وهو أنّ أهلَ السِّهام يشفعون على العَصَبَة عندنا, ولا يشفَعُ العَصَبَةُ على أهل السِّهام، وذلك لقُوّةِ السّهمِ، فيدخُلُ الأقوى على الأضعفِ، ولا يزاحِمُ الأضعفُ الأقوى، وهذا لُبَابُ الدّليل، وهو مستوفًى في "مسائل الخلاف". المسألة السّابعة (¬1): قال الشّافعيُّ (¬2) وأبو حنيفةَ (¬3): الشُّفعَةُ على الفور، لما رُوِيَ في الحديث عن النَّبىِّ- صلّى الله عليه وسلم - "إنَّ الشُّفعَةِ كنَشطَةِ عِقَالٍ؛ إنَّ أَخَذَهَا مَسَكَهَا، وإن تَرَكَهَا ذَهَبَتْ" (¬4). وعند مالك: إنَّ طلب الشُّفعَة ليس على الفَوْر, وعنه في انقطاعها للحاضر روايتان (¬5): إحداهُما: أنّها تنقطعُ بعدَ سنةٍ (¬6). ¬
والرِّواية الأخرى: أنّها لا تنقطعُ، إِلَّا بأن يأتي عليها من الزّمان ما يُعْلَم أنَّه تاركٌ لَهَا، وقولُ أبي حنيفة إنّها على الفَورِ (¬1)، وهو أظهر أقاويل الشّافعيّ (¬2). ودليلُنا: قولُه: " الشُّفعَةُ فِيمَا لَمْ يُقسمْ" (¬3) ولم يعلّقه بحدٍّ. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهُما: أنّها غير محدودة بمُدّة، وإنّما هي على مقدار الثّمن والمَثمُون والمُشتري والشّفيع. والثّانية: أنّها مُقَدَّرة بعامٍ ونحوه. ودليلنا: أنّه حقٌّ ثبت لدفع الضَّرَر، فلم يكن على الفَورِ، أصلُه القِصاص. المسألة الثّامنة: لا تستحق الشُّفعَة بالجِوار (¬4)، خلافًا لأبي حنيفة (¬5)، لقوله: " الشُّفعَةُ فِيمَا لَمْ يُقسم، فَإذَا وَقعَتِ الحُدُودُ فَلا شُفعَة" (¬6). وفيه ثلاثة أقوالٍ: أحدُها: أنّه أخبر عن محلِّ الشُّفعَةِ، وهو أنّه ما لم يُقسَم، فانتفى بذلك وجوبها في غيره. والثّاني: دليلُ الخطّاب، وهو أنّه لما عَلَّقها بغير المقسومِ، وجبَ أنّ يكون المقسومُ بخلافه. والثّالث: نَصُّهُ على سقوطها مع القِسمَة. ¬
المسألة التّاسعة: الذِّمِّيُّ والمسلم في الشُّفعَةِ سواءٌ (¬1)، خلافًا لأبي حنيفة (¬2)، وأحمد بن حَنبَل (¬3) في قوليهما: لا شُفعَة، لقوله: "الشَّرِيكُ شفِيعٌ" فَعمَّ، ولأنّه حقٌّ وُضِعَ لإزالة الضَّرَر، فاستوى فيه المسلم والكافر كالرَّدَّ بالعيب، ولأنّه معنىً يسقطُ بالمِلكِ كالاستخدام. المسألة العاشرة: لا شُفعَةَ في العروض والحيوان (¬4)، خلافًا لما حَكى عنه غير هذا , ولقوله: "الشفعَةُ فِيمَا لم يُقسَم" وقوله: " فَإذَا وَقعَتِ الحُدُودُ وَصُرفَت الطُّرُقُ فَلَا شُفعَةَ" ولأنّه ممّا ينقل ويحول كالذّهب والفِضَّة. المسألة الحادية عشرة (¬5) إذا بَني المشتري في الدار أو غَرَسَ، ثمْ أراد الشَّفيعُ الأخذَ بالشُّفعَة، فإنّه يأخذ الشَّقصَ بقيمة البناء والغَرسِ قائمًا, وليس له إجبار المشتري على قَلعِ البناء والغرْسِ. وقال أبو حنيفة: له ذلك (¬6). ودليلُنا: قوله عليه الصّلاة: "ليسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حقٌّ" (¬7) وهذا عَرَقٌ لغير ظالم، فكان له حرمةٌ وحق، ولأنّه بناءٌ مباحٌ في مِلكٍ صحيحٍ فلم يستحقّ عليه قلعه وإتلافه، كالّذي لا يستحقّ عليه شُفْعَة. ¬
المسألة الثّانية عشرة: اختلف قولُ مالك في الحمام وغيره ممّا لا يُقسَم إِلَّا بإتلَاف ممّا هو عليه، فقال: فيه الشُّفعَة (¬1)، وقال: لا شُفعَةَ فيه، وكذلك الرَّحبَة والطّريق وغيرهما. وعند أبي حنيفة أنّ فيه الشُّفعَة (¬2)، وعند الشّافعيّ: لا شُفعَةَ فيه (¬3). ودليلُنا على أنّه لا شُفعَةَ فيه: أنّ كلَّ ما لا يُقسَم للضّرورة فلا شفعَةَ فيه. ووجهُ إثبات الشُّفعَة: أنّها مستحقَّةَ لأجل الضَّرَرِ سِوَى الشَّركة فيها. مسألة (¬4): إذا باع شِقصًا بثَمَن إلى أجَلٍ (¬5)؛ قال الشّافعيُّ (¬6) وأبو حنيفةَ (¬7): الشّفِيعُ بالخِيَارِ، إنَّ شاءَ أخذَ بالثّمن، وإلّاَ ينتظِرُ الأجلَ، وهذا تَحَكُّمٌ وتغيِيرٌ للشُّفعَةِ، فإن حُكمَ الشُّفعَة أنّ يُنَزَّلَ الشَّفيعُ منزلةَ المشتري (¬8)، والحمد لله. ¬
كتاب كراء الأرضين
كتابُ كِراءِ الأرضين (¬1) قال الإمام: أدخل مالك في "الموطَّأ" (¬2) حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في النّهي عن كِرَاءِ المزارع مُجمَلًا غير مُفَسَّرٍ، وأدخله غيره (¬3) مفسَّرًا عن رافع فقال: نَهَى رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عَنْ كرَاءِ الأَرَضِين بِبعضِ ما يَخرُجُ مِنهَا، فَقَالَ حَنظَلَةُ: فَسَألتُهُ عَنْ كِرَائِهَا بِالذَّهَبِ والوَرِق، فَقَالَ: لَا بأس بِهِ. وروي عنه (¬4) أنّه نهى عن المُزَابَنَةِ والمُحَاقَلَةِ، والمُحَاقَلَهُ كِرَاءُ الأرض بالحِنطَة وشبهِهَا. الإسناد (¬5): قال الإمام أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: مسألة كِرَاءِ الأرضِ مسألةٌ عويصةٌ، لها صُورٌ وغوائلُ، اختلف العلماء فيها من لَدُنِ الصَّحابة إلى زماننا هذا، واضطربت فيها الأحاديثُ اضطرابًا كثيرًا (¬6)، وباحثْتُ عنها قديمًا أثرًا ونظرًا، فما وجدتُ من أَتقنَها إِلَّا ¬
أبا عبد الرّحمن النّسائيَّ؛ فإنّه جمَعَ أحاديثَها باختلافها وطُرُقِها في جزءٍ كبير، وجملةُ الأمر أنّ علماءَنا قالوا: لا يجوزُ كِرَاءُ الأرضِ بطعامٍ وإن كان ممّا لا تُنبِتُه الأرضُ (¬1). وقال الشّافعيّ (¬2): يجوزُ بِحِنطَةٍ معلومة في الذِّمَّةِ. وقال أبو حنيفة (¬3): يجوزُ بكلِّ ما كان ثَمَنًا في المَبِيع. وقال اللَّيثُ: يجوزُ بجزءٍ معلومٍ ممّا يَخرُجُ منها. وقال غيرُه: يجوز بجزءٍ معلومٍ أو مجهولٍ، مثل أنّ يقول: لي ما تُنبِتُه هذه البُقعَة منها. ويعيِّنُها. وقيل: لا يجوزُ كراؤُها بحالٍ. وفي متعلّق كلّ واحد منهم حديثٌ وأثرٌ، فأما قولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَت لَهُ أَرضٌ فليَزرَعها أَوْ يَمنَحهَا أَخَاهُ" (¬4) وهو الصّحيح، فيعارضُه مِثلُه في الصِّحَّة، وهو أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لرَافِع: "مَا تَصنَعُونَ بِأَرضِكُم"؟ قالَ: نُكرِيها بِالرُّبُعِ وبِالأَوسُقِ مِن التَّمرِ، فَقَالَ عَلَيهِ السلَام: "لَا تَفعَلُوا، ازْرَعُوهَا أَؤ أَزْرِعُوهَا" (¬5). وأمّا قول علمائنا: إنّها لا تجوزُ بشيءٍ من الطعامِ، فهو ذريعةٌ أنّها لا تجوزُ بشيءٍ ممّا يخرُجُ منها، وإن كان ممّا لا تُنبتُ الأرض فلوجهين: ¬
أحدُهما: أنّها ذريعةُ الذّرائع، وشُبهة الشُّبَهِ مسألةٌ مُخْتَلَفٌ فيها، وقد بيناها في "الخلافيات". الثّاني: -وهو الأقوى- قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لرَافِعٍ: "لا تَفعَلُوا" وقد قال له: نُكرِيهَا بالأَوسُق من التَّمر (¬1)، وذلك أنّا رأينا الله تعالى قد أذِنَ لمن كان عنده نقدٌ أنّ يتصرَّفَ فيه طَلَبًا للرِّبح، أو يُعْطِيَهُ لغيره يتصرَّفُ فيه بجزءٍ معلومٍ، فالأرضُ مِثلُه، وإلا فأيُّ فرقٍ بينهما، فهذا أقوى في الباب، ونحن نفعلُه الآن في بلدنا. الأصول (¬2): قوله (¬3): "نهى النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - عَنْ كِرَاءِ المَزَارعِ" قال علماؤنا (¬4): هو عامٌّ في كلِّ ما تُكرَى به، إِلَّا ما خصّه الدّليل، وإلى المنع ذهب طَاوُس (¬5) في الجملة في أحد قَوْلَيه. وذهب فقهاء الأمصار إلى تجويز ذلك (¬6). وقوله (¬7): "بِالذَّهبِ وَالوَرِقِ" يقتضي إباحة ذلك بهما، وقد ذهب إلى إباحته بغيرهما مالك والفقهاء، غير رَبِيعَة فإنّه منعه بغيرهما (¬8). ¬
الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): والأرض على ضربين: مأمونة، وغير مأمونة. فالمأمونة: أرض النِّيل، قال مالك (¬3): وليس أرض المطر كأرض (¬4) النِّيل، وإن كانت لا تكاد تخلف، فالنّقد جائزٌ، خلافًا العمر بن عبد العزيز. ودليلُنا: أنّ الغالب من منافعها الاستيفاء، فجازَ الكراءُ فيها كسُكنَى الدُّور، قال مالك وأصحابه: وكذلك الآبارُ والأنّهارُ (¬5) لا تخلف إلّا في الغَبِّ. المسألة الثّانية (¬6): وأمّا أرضُ المَطَرِ، فقال مالكٌ (¬7): لا بأسَ به، والنِّيل أَبْيَن، وبه قال ابن عبد الحَكَم، وأَصبَغُ، وابن المّاجِشُون، وقد قيل لهم: أرضُ الأندلس أرض مطر ولا تكاد تخلف، فقالوا: لا تنقد حتّى يأتيها المطر الّذي يحرث عليه، ولا ينتظر بها الرَّوَاء بخلاف أرض النِّيل. وعندي أنّ معنى المأمونة عند مالك: أنّ تكفيها سقية واحدة تروى بها كأرض النِّيل، وأمّا أرض المطر فلا يكفيها إلّا المطر الكثير. ¬
فأمّا الّتي ليست بمأمونة، فلا يجوزُ النّقد فيها بشرطٍ (¬1)، خلافًا لأبي حنيفة (¬2) والشّافعيّ (¬3). ودليلنا: أنّه قد يعدم المطر فيجب ردّ الكراء، فتكون تارة كراءً إنَّ نزل المطر، وتارةً سَلَمًا إنَّ عدم. فرع: فإن نقد بشرط، ففي "العُتبِيَّة" (¬4) - من رواية حسين بن عاصم- فيمنِ اكترى أرضه عشر سنين (¬5) وانتقد، فإن لم تكن مأمونة فهو كِراءٌ وسَلَفٌ يُفسَخ ما لم يَفت، فإن فأتت بقَلِيبٍ (¬6) أو زرعٍ، يُقَاصّه بكراء سنة بعينها من سائرها، ويردّ ما بقي (¬7). المسألة الثّالثة (¬8): فإن أطلق العَقْد، فمتى يلزم النّقد؟ رأيتُ لعبد الحقّ (¬9) أنّ ذلك على ثلاثة أوجه: 1 - فأما "أرضُ المَطَر" فلا يلزمه حتّى يتمّ زرعه. 2 - وأمّا "أرضُ النِّيل والمأمونة" فينقده إذا رويت. 3 - وأمّا "أرضُ السَّقْي الّتي تزرع بطونًا" فينقد (5) عند ابن القاسم عند تمام كلِّ بطن ما ينوبه. ¬
وعند أشهب؛ عند ابتداء كلِّ بطن ما ينوبه، ولا فرق بين الأوّل والثّاني عندهما. ويحتاج هذا إلى تأويل؛ فإنّه ذكر في "المدوّنة" (¬1): "لا يصلحّ النّقد في أرض المطر إِلَّا بعد ما تُروَى ويُمكنُ الحرثُ" وهذا لا يجوزُ أنّ يريدَ به إِلَّا غير المأمونة (¬2)، لكن العلّة مفهومة (¬3). المسألة الرّابعة (¬4): ومنِ اكترى أرضًا لها بئرٌ، فذهب ماؤها، فإن لم يزرع فسخ الكِرَاء، وليس له أنّ ينفق فيها كراءَ عامِه ولا غيره، قاله محمّد وابن حبيب (¬5). قال محمّد: فإن أنفق فيها، فهو مُصَدَّقٌ، ثمّ لا يلزم ذلك ربّها، إِلَّا أنّ يشاء فيؤدِّيه نقدًا، وإن حبسه في الكِرَاء جاز، ولم يكن دَينًا بدَينٍ. فرع (¬6): فإن كان قد زرع، نلا يخلوا أنّ يكون في كراء السّنة الأولى ما يصلُح به أو لا (¬7)؟ فإن لم يبلغ ذلك، فسخ الكراء، قاله محمّد. ¬
فرع (¬1): فإن ذهب ماء البئر أو العين قبل تمام الزّرع فهلك، فلا كِرَاءَ له (¬2)، فإن أخذه لزمه ردّه، وإن كان لم يأخذه فذلك عن الزّارع موضوع. ولو هلك بعضه وبقي بعضه، أُعطي بقَدر ما يبقَى من الكِرَاء بحساب ذلك، كان لم يكن له قَدْرٌ، ولا فيه منفعة، لم يكن له (¬3) من الكِرَاء شيءٌ، قاله مالك في "المدوّنة" (¬4). فرع (¬5): ولو كانت من أرض المطر، فقد قال مالك في "المدوّنة" (¬6): إنَّ لم يتمّ زرعه فلا كرَاء له. ولو كثر المطر فأفسد الزّرع، فإن كان في الإبَّانِ (¬7)، في وقتٍ لو أقلع (¬8) لأمكنه أنّ يعيدَ زراعتها، فلم ينكشف حتّى مضت أيّام الزِّراعة، فلا كِرَاءَ عليه؛ لأنّه بمنزلة أنّ تغرق (¬9)، فإن انكشف في الإِبّان، فالكِراءُ له لازِمٌ، قاله ابن القاسم (¬10) عن مالك (¬11). ¬
ولو غرقت بعد الإبَّانِ، فقد قال مالك (¬1): إن زَرَعَ فجاءه بَرَدٌ فأذهَبه، فالكِراءُ عليه، وكذلك إنَّ أصابه جَرَادٌ أو جليد وغَرِقت في غير الإِبَّانِ فتلف الزّرع. المسألة الخامسة (¬2): فيمن زرعَ في أرض قوم بغير إذنهم، فخرّج التّرمذيّ (¬3) فيه حديث عطاءٍ عن رافع بن خَدِيجٍ، قال رسول الله: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِم، فَلَيسَ لَهُ مِنَ الزَّرعِ شَيءٌ" وفي هذا الحديث كلام. أمّا "الإسناد" فقال البخاريّ: شَرِيك يُتَّهم في الحديث كثيرًا (¬4)، وقال أبو عيسى (¬5): هو حديثٌ حَسَنٌ (¬6)، وأنكر أحمد بن حنبل على أبي إسحاق أنّ يكون زاد فيه: "بِغَيرِ إِذنِهِم" وقال: ولم يروه غيره (¬7). واختلف علماءُ الأمصارِ في هذه النّازلة: فمنهم من قال: الزَّرع للزّارع، وهم الأكثر. وقال ابنُ حنبل (¬8): إذا كان الزّرعُ قائمًا فهو لربِّ الأرضِ، وإذا كان قد حُصِدَ فإنّما تكون له الأجرة، وذلك لحديث رَافِع؛ لأنّه متعدِّ على صاحب الأرض، ولأنّه شغل مال غيره. ¬
وما طَبَّقَ المُفَضَّل في هذه النّازلة إِلَّا مالك حيث قال: إنَّ كان في إبّان الزِّراعة، فهو له، وإن كان قد فات إبّان الزِّراعة، فالزَّرع للزّارع، وعليه كراء الأرض، لأصلٍ عظيمٍ في مسائل الغَصْبِ، قد بيَّنَّاه في موضعه. تكملة: كراء الأرض للزّرع يجوز بالعُروضِ والحيوان والذهب والفضّة، ولا يُمنَع إِلَّا بنوعين: أحدهما: الطّعام، سواءٌ كان ممّا يخرج منها كالحِنْطَةِ والشَّعيرِ، أو ما لا يخرج منها كاللّبن والعسل (¬1). والنوع الثّاني: ما يخرج منها طعامًا كان أو غيره، كالقُطنِ (¬2) والزَّعفران (¬3) والكَتَّان (¬4) وغير ذلك. ¬
كتاب القراض
كتابُ القِرَاض (¬1) قال الإمام: الأحاديثُ في هذا البابِ قليلةٌ، وأصلها حديث أبي موسى (¬2). التّرجمة والعربيّة: قال أهل العربية: القِرَاضُ مأخوذٌ من القَرْضِ وهو القطعُ، فكأنّه قطَعَ للمُقَارِضِ جزءًا من مالِهِ، أو قَطَعَهُ كلَّه للعامِلِ. وقيل: هو مأخوذ من المُساواة، يقالُ: قارضَ فلانٌ فلانًا، أي سَاوَاهُ، وفي حديث أبي الدّرداء: "قَارِضِ النَّاسَ ما قَارَضُوكَ، فَإِنَّكَ إنَّ تَرَكتَهُمْ لَمْ يَترُكُوكَ" (¬3). وقيل: إنّه مأخوذٌ من الضَّربِ في الأرضِ. وقيل: إنّه مأخوذٌ من ضَرَبَ معه في سَهْمِه، يعني في الرِّبْح. وأهلُ العراقِ يسمّونَهُ مُضَارَبَةً، وأهلُ الحجازِ يسمّونَه قِرَاضًا، قاله أكثر العلماء (¬4). الأصول (¬5): قال علماؤنا: القِرَاضُ عَقْدٌ كان في الجاهليّة، وأقرَّهُ الإِسلامُ، وفَعَلَه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قبل ¬
المبعث، قَارَضتهُ خديجةُ فقَبِلَ قِرَاضَها، وخرجَ به إلى الشّام، وبُعِثَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - فلم يُنكِرْهُ من شريعة الإسلام (¬1). وأدخل فيه مالك أصلًا قويًّا، وهو قضاءُ عمرَ على أبى موسى وعلى وَلَدَيْه، حَسَبَ ما نصُّه في هذا "الكتاب" (¬2). فإن قيل: كيف جازَ لعمرَ أنّ يَنْقُضَ قضاءَ أبي موسى وهو أميرٌ من الأمراءِ؟ الجوابُ، قلنا: إذا كان الإمامُ أَعدَلَ من الأميرِ,. تَعَيَّن عليه أنّ يَنظُرَ في أقضية عُمَّاله (¬3). جوابٌ ثانٍ، قلنا: لم يعتَرِض قَطُّ عُمْرُ ولا غيرُه قضاءَ أميرٍ؛ لفضلِهِم وعدالَتهِم، ولكن لمّا كانت هذه النّازلةُ في وَلَدَي عمرَ، خشِيَ ما خَشِي، وقال ما قال، فزالَ عن الرِّيبَة لعظيم وَرَعِهِ، وبَرَّأ نفسَهُ وابنَيْه وأميرَهُ عن التُّهمة، وأرخَصَ فيه للضّرورة الّتي يحتاجُ إليها النَّاس، فهو مستثنًى من الشّرع، كالمُسَاقاة والسَّلَم وأشباههما. فإذا (¬4) ثبت هذا، ففِعْلُ أبي موسى يحتمل وجهين: أحدُهما: أنّ يكون فعلَ ذلك لمنفَعَتِهِما، وجازَ ذلك وإن لم يكن الإمام المُفَوَّض إليه؛ لأنّ المالَ كان بيدِهِ بمنزِلَةِ الوديعة للمسلمينَ، فاستَسلَفَهُ وأَسلَفَهُمَا إيّاه، ولو تَلِفَ ولم يكن عندهما وفاء لضمنه. والثّاني: أنّ يكون لأبي موسى النّظر فيه بالتّثمير، فإذا أسلفَهُ كان لعمر المفوّض إليه ¬
تعقُبَ فعله، فتعقَّبَهُ وردَّه إلى القِرَاضِ، والله أعلم. مسألة (¬1): فإن أراد (¬2) إحرازه في ذِمَّتِه (¬3) كالسَّفَاتِج (¬4) الّتي يستعملها أهل المشرق، فالمشهور من المذهب أنّ ذلك لا يجوزُ (¬5). وروى أبو الفَرَجِ (¬6) جواز السَّفَاتِج (¬7)، ولعلّه أراد ما لم يقصد المسلفُ منفعة نفسه. والأظهرُ منعُها إذا قصدَ ذلك. وسواء كان المسلفُ صاحب المال، أو ممّن له النّظر فيه من إمامٍ أو قاضٍ أو وَصِيٍّ أو أبٍ, فلا يجوزُ للإمام أنّ يُسلفَ من مال المسلمين ليحرزه في ذمَّةِ المستسلف، وكذلك القاضي والوَصِيّ، وقد نصِّ على ذلك علماؤنا في مسألة القاضي. فإن وقع، كما ذكرنا، فُسِخَ في الأجل والبلد، وأُجبِرَ (¬8) على تعجيل المال، وأُجبِرَ المُسلِفُ على قبضه، وبَطَلَ الأجلُ، كالبيع بأجلٍ على فسادٍ فإنّه يُعجَّل. ¬
تنبيه على مقصد (¬1): أكثر مالكٌ - رحمه الله - في القِرَاضِ، وقسَّمَ أبوابَهُ على خمسةَ عشرَ بابًا، وأكثر في التَّفريع، وكان له به اهتمامٌ عظيمٌ؛ لأنّها كانت نازِلَتَهُم. الفقه في مسائل (¬2): إذا ثبت ما قدّمنا؛ فإنّه يجوزُ القِرَاضُ بالّذهب والفضّة إذا كانا مَسكوكَينِ بلا خلافٍ (¬3)، فإن كانا تِبرًا أو نِقَارًا، ففي ذلك اختلافٌ كثيرٌ بين العلماء (¬4). وههنا غريبةٌ: وهي أنّ قِرَاضَ النَّاس في الجاهليّة وفي صدر الإسلام لم يكن مَسكُوكًا، وإنّما كان تِبرًا ونُقرًا، فعَجِبتُ للشافعيّ (¬5) ولعلّمائنا كيف منعوا ذلك، وجوازُه في الشّرع إنّما انعقد بغير مسكوكٍ!. قالت الشّافعيّة ومن ساعدهم من علمائنا: إنّما امتنَعَ القِرَاضُ بغير المسكوك؛ لأنّ العامل يحتاجُ إلى عَمَلٍ في بيع النُّقرَةِ حتّى تعودَ سَكَّةً، فتَصِيرَ كالمقارضَةِ بعَرَضٍ. قلنا: ليس هذا كالعَرَض على ما يأتي بيانُه إنَّ شاء الله؛ وذلك أنّ العلماء اتّفقوا على أنّه لا يجوزُ القِرَاضُ بالعُرُوضِ (¬6)، إِلَّا الأوزاعيَّ وابنَ أبي ليلى (¬7)، واحتجَّا بأنّ ما كان ثَمَنًا في البيع جازَ القِرَاضُ به كالنَّقدَين. وعوَّلَ سائرُ العلّماءِ على مسألةٍ أصوليّةٍ اختلف النّاسُ بزعمهم فيها، وهي متَّفَقٌ بين العلماء عليها، فافهموها وادَّخِرُوها، وهي النّظرُ في المآلِ، قالوا: إنَّ قارَضَه بعَرَضٍ ¬
باب ما يجوز في القراض
فباعَهُ العاملُ بمَئَةٍ، ثمّ اتَّجَرَ فيه حتّى صار المَالُ مئةً وخمسينَ، ثمّ دعاه إلى المُقاسمة، فقال له: خلَّصْ رأسَ المالِ كما يَلزَمُ ونقسمُ رِبْحَ المالِ، فجاء ليشتَرِيَ ذلك العَرَضَ فوَجَدَهُ بمئةٍ وخمسين، فإنّه يشترِيهِ ويذهبُ رِبحُهُ، ويمضي عَمَلُهُ باطلًا، وهذا ما لا جوابَ لهم عليه. بابُ مَا يَجُوزُ فِي القِرَاضِ الفقه في مسائل: المسألة الأُولى (¬1): قوله (¬2): "عَلَى أنّ يَعمَلَ فِيهِ، وَلَا ضَمَانَ" هو على ما قال، وقد قدّمنا أنّ الضّمان على رَبِّهِ، ولا خلافَ في ذلك، فإنِ اشترطَ (¬3) على العامل فسدَ (¬4)، خلافًا لأبي حنيفة (¬5) في قوله: العَقد صحيحٌ. ودليلُنا: أنّ هذا نقل الضّمان عن مَحَلَّه بإجماع، فاقتضى ذلك فساد العَقد والشرط، أصله: إذا باع منه شيئًا على أنّ على البائع ضمانه أَبَدًا، وكذلك لو شرط عليه حَمِيلًا أو رهنًا، فقال محمّد (¬6): يردّ إلى قِرَاضِ مثله. ¬
باب القراض بالعروض
بابُ القِراض بِالعُرُوض (¬1) القِراضُ لا يجوز بالعُروض (¬2). وقال أبو حنيفة (¬3): يجوزُ القِرَاضُ بالعُروض، وذلك بأن يقول له: بعْ هذا، فإذا بِعتَهُ فأنتَ فيه مُقَارِضٌ. قلنا: وهذا لا يجوزُ؛ لأنّه إنَّ باع بأُجرةٍ فهو قِرَاضٌ وإجارةٌ، والقِرَاضُ لا ينضافُ إليه عَقْدٌ آخر إجماعًا. وإن باع بغير أُجرةٍ كان قد شرطَ عليه زيادةً في العملِ، ولا يجوزُ بإجماعٍ أنّ يشتَرِطَ ربُّ المال زيادةً في العمل على العامل في القِرَاضِ. وبالجملة، فإنّ مَبنَى القِرَاضِ على الرِّفقِ، ولا تتغيّر له هيئةٌ على ما وُضِعَ في الأصل له، ولا تكون فيه زيادةٌ. ومن ذلك: أكلُ العامل منه بالمعروفِ، وذلك على الاعتبار في السَّفَر والحَضَر، وهذه عادةٌ رجَعَ العلماء فيها - على زعمهم- إلى مذهب مالك في اعتبار العادة. ويجوزُ (¬4) له أنّ يشترط على العامل ما يعودُ بالمنفعة له في الرِّبحِ، وبما يَرجُو صيانَة المالِ أو نماءَهُ، ويقول له: لا تشتر إِلَّا سلعةً كذا وكذا، فإن قال له: على ألَّا تشتَرِيَ إِلَّا من فلانٍ، فإن كان فلانٌ مُتَّسِعَ الحال، عَظِيمَ التِّجارة، كأبي سعيدٍ ¬
باب التعدي في القراض
الحدّادِ (¬1)، وأبي مالك الفقيه (¬2)، فإنّه يجوزُ عند علمائنا، ويكونُ بمنزلة أنّ يُعَيَّنَ له سِلَعًا كثيرةَ الوجودِ نَافِقَةَ في البيعِ والابتياع، ولذلك قال علماؤنا: إنّه متى كان في المال خَسَارةٌ -ولو ذهبَ جميعُه- لم يكن على العامل شيءٌ، فإذا كانتِ الخسارةُ بزيادةٍ على رأس المال، لزِمَت العاملَ ولم يَكُن لربِّ المال منها شيءٌ. بَابُ التَّعدِّي في القِرَاضِ (¬3) قال الإمام: هذا البابُ من مسائل الغَصْبِ، وغيرُ ذلك من مسائله كثيرةٌ، ومُفسِدَاتُه طويلةٌ، وهي مذكورةٌ في "كتب المسائل" فَلتُنْظَر هنالك. فإن فسَدَ القِرَاضُ، فاختلفَ العلّماءُ فيه على خمسة أقوالٍ: الأوّل: أنّ فيه قِرَاضَ المِثل (¬4). الثّاني: أُجرَةُ المِثلِ (¬5)، وبه قال عامّةُ الفقهاء. الثالثُ: رُوِيَ عن ابن القاسم أنّه قال: إنَّ كان الفسادُ في العَقدِ، رُدَّ لِقِرَاض مِثلِهِ، وإن كان لزيادةٍ، رُدَّ إلى الأُجرَةِ (5). ¬
وقال محمّد بن الموَّازِ (¬1) مسألةٌ رُدَّ فيها إلى الأقَلَّ من قِرَاض المِثل، أو ممّا سُمِّيَ من الرِّبح، فإذا اطَّرَدَت صارت قولًا رابعًا. القول الخامس: أنّ قِرَاض المثل وأُجرَةَ المِثل إنّما هي باختلاف الحال حَسَبَ ما أشار إليه ابنُ القاسمِ في بعض المصنَّفات، وقد حقّقتُ أنا النّظر في المسائل الّتي فيها قِرَاضُ المِثل على رواية ابنِ القاسم، فوجدتُها تِسعَ مسائلَ (¬2): الأُولى: القِرَاضُ بالضَّمان. الثّانية: إلى أَجَلٍ. الثّالثة: عُروضٌ. الرّابعة: دنانيرُ ليصرِفَها. الخامسة: دَينٌ يَقبضُهُ. السّادسة: مُبهَمٌ. السّابعة: إنَّ اختلفا بعدَ العملِ، فالقولُ قولُ العاملِ إذا أنّ بما يُشْبِه، وإلّا رُدَّ إلى قِرَاض مِثله، وكذلك المساقاةُ.، وقال أشهب: إنَّ جاء بما يُشبِهُ، وإلّا صُدِّق ربّ المال فيما يُشبِه، فإن لم يَأتِ به حُمِلَ على قرَاضِ مِثلِهِ. وعندي أنّه قولٌ واحدٌ. ¬
والثّامة: قال أَصبغُ: إنَّ قارض ألَّا يشتريَ إِلَّا سِلعَةَ كذا غيرَ موجودةٍ، فاشتَرَى غيرَها فقد تعدَّى، فإن رَبحَ فله فيما رَبحَ قِرَاضُ مِثلِهِ. التّاسعةُ: وهي إذا قارَضَهُ على أنّ يشتريَ عَبرَ فلانٍ، ثمّ يشتري بغيره ثانيًا، فهو يدخُلُ في قِسمِ القِرَاض بالمِثل كما تقدّم، والصّحيحُ خروجُه عنه. والقِرَاضُ ثلاثةُ أقسامٍ في هذا المعنى: 1 - غيرُ جائزٍ ماضٍ، كالقِرَاضِ بالنِّقَارِ. 2 - غير جائز بالمِثل. 3 - وغيرُ جائزٍ بالإجارةِ، وهو الأكثرُ. وقدِ استوفينا ذلك في "مسائل الخلاف" محرَّرًا إنَّ شاء الله. ووجه من قال: إنَّه يُرَدُّ إلى قِرَاضِ المِثلِ، وإليه يميلُ الشّافعيُّ في قوله: إنَّ كلّ عَقدٍ فاسدٍ يُرَدُّ إلى عِوَضِ مِثلِه، وهذا هو الصّحيح، إِلَّا أنّ يكونَ مع عَقدِ القِرَاض زيادةٌ تُخرِجُه عن بابه إلى الإجارة، فتكونُ له أُجرةُ المِثلِ، وهو وجه القول الثّاني. وهذا يدلُّكَ على صحَّة القولِ الثالثِ في تفصيل ابنِ القاسم؛ أنّ الفسادَ إذا كان من غير زيادةٍ - وبَقِيَ قراضًا - أنّ فسادَهُ لا يُخرجه عن عِوَضِ صحّته. وبهذا يُستدلُّ على صحّة القول الخامس؛ أنّ ما كان من الزِّيادة لا يُخرجه إلى عمل يقابلُه عِوَضٌ، أو من فسادٍ يَرجِعُ إلى ربِّ المالِ لا يتعلَّق بالعَقدِ، ولا يدخلُ به في
الأُجرة، أنّه يكونُ فيه قِرَاض المِثل. *ووجه قول ابن الموّاز: أنّ له الأقلّ؛ لأنّه إنَّ كان قِرَاضُ المثل* أقلَّ، فهو الّذي وجب له الحُكم، والتّسمية قد أَسقَطَها الشّرعُ، وإن كان المُسَمَّى أقلّ، فقد رَضِيَ به، ولا يُزَادُ عليه، وهذا كثيرٌ في مسائل البيوع الفاسدة، فَافتِشُوها تجدوه فيها إنَّ شاء الله.
كتاب الأقضية والأحكام
كتابُ الأَقضِيَةِ والأَحكَامِ صدَّرَ مالك هذا الكتاب بحديث أُمِّ سَلمَةَ زَوجِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم وإِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إِليَّ، ولَعَلَّ بَعضَكُم أنّ يَكُونَ ألحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعض، فَأَقضِيَ لَهُ عَلَى نَحوِ مَا أَسمَعُ مِنهُ، فَمن قَضيتُ لَهُ بِشْيءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأخُذَهُ فَإِنَّمَا أَقطَعُ لهُ قِطعَةً مِنَ النَّارِ" (¬1). قال الإمام: هذا كتابٌ عظيمُ العِلم، جمَّ الفقه، أتقَنَهُ مالك ورتَّبَ أبوابَه؛ لأنَّ للأحكام والقضاء قاعدة من قواعد الدِّين، ولابدّ في صدره من مقدِّماتٍ وفواتح، تُبَيَّن لك الغَرَضَ، وتكشف لك الأمر. فاتحة الكتاب ومقدّمته اعلموا (¬2) أنّ القضاء بين النَّاس أصلُ الشّريعة، ومَدَارُ الأحكام، وخلافةُ الله في الخلق، قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية (¬3)، وقال الله تعالى لرسوله محمّد - صلّى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬4)، وقال عزّ من قائل: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬5). ¬
نكتةٌ أصوليّة (¬1): اعلموا - بصَّرَكُم اللهُ الحقائقَ- أنّ الأحكام الّتي تسمعون* في كلام الله، ورسوله ذكرها، والتي يذكرها العلماء فيقولون*: هذا حُكمُ الله، وقد حَكَمَ اللهُ، أو هذا حلال وهذا حرامٌ، فليس ذلك كلّه صفة للأعيان المحلّلة والمحرّمة، المضاف ذكر ذلك إليها , ولا إلى الأفعال، وإنّما هي عبارات عن قول الله، فالواجبُ هو المَقُول فيه: إفعل، والمقول فيه لا تفعل، فرجعَ ذلك كلّه إلى الإخبار عن قول الله. وقالت المبتدعة: "إنَّ الأحكام من التّحليل والتّحريم من أوصاف الذّات ومن أوصاف الأفعال" لإلحاد أضمروهُ، وحاجةٍ من الكُفْر في أنفسهم قضوها، واتَّبعهم في ذلك الغَفَلَة من أهل السُّنَّة، وقد بيَّنَّا ذلك في "أصول الفقه" (¬2). سَردُ الأحاديثِ الواردةِ في تحذيرِ الجور في القضاء: الحديث الأوّل: خَرج أبو داود (¬3) والتّرمذيّ (¬4) والنّسائيّ (¬5) حديثًا اتّفقوا على معناه واختلفوا في لفظه: "القُضاَةُ ثَلَاثَةً: قَاضِيَانِ في النَّارِ، وَوَاحِدٌ في الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيرِ ¬
الحَقِّ فَعَلِمَ ذَلِكَ فَهُوَ في النَّار، وَقاضٍ لَا يَعلَمُ فَأَهلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُو في النَّار، وَقَاضٍ قضَى بِالحَقِّ فَذَلِكَ في الجَنَّةِ" الحديث صحيح (¬1). الحديثُ الثّاني: حديثُ عائشةَ في "التّرمذيّ" (¬2) قالت: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: " يُؤتَى بِالقَاضِي العَدلِ يوم القِيَامَةِ، فَيَلقَى من شِدَّة الحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُن يَقضِي بَينَ أَحدٍ فِي تمرَتَيْنِ". والحديثُ الثّالث: حديثُ أبي هريرةَ في "التّرمذيّ" (¬3) أيضًا قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَلِيَ القضَاءَ ذُبحَ بغَيرِ سكِّينٍ". الحديث الرّابع: رُوِيَ من الأحاديث الحِسَان، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلبَ القَضَاء فَغَلَبَ عَدلُهُ جَورَهُ فلَهُ الجَنَّة، وَمَن غلَبَ جَورُهُ عَدلَهُ فَلَهُ النَّار" (¬4). ¬
الحديث الخامس: رَوى أبو هريرةَ (¬1)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا اجتَهَدَ الحَاكِمُ فَأصَابَ، فَلَهُ أَجرَانِ، وإذَا أَخطَأَ، فَلَهُ أَجرٌ واحدٌ" حديث حسن غريب. الحديث السّادس: من طريق أبي بكر أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَصابَ الحَاكِمُ فَلَهُ عَشرة أُجُورٍ، وَاذَا أَخطَأ فَلَهُ أَجرٌ وَاحِدٌ" (¬2) وهذا إذا صحَّ العدل منه فإنّه يشهد له القرآن، قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} الآية (¬3). الحديث السابع: رُوي في في الأحاديث المأثورة: "إِنَّ المُقسِطِينَ يَوم القِيَامَةِ عَلَى مَنَابِر من نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحمَانِ وَكِلتَا يَديه يَمِينٌ" (¬4) والآثار والأحاديث كثيرة المساق، أصحّها ما سردناه عليكم. مَرْجِعٌ وتَفسِيرٌ: أمّا حديث أمّ سلمة (¬5)، قولُه: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ": اعلموا (¬6) - نوّر الله قلوبَكم للمعارف -أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بَشَرٌ مثلكم كما بلَّغ عن نفسه فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية (¬7)، فأخبر - صلّى الله عليه وسلم - أنّه على حكم البشريّة الّتي جُبِل عليها، وأن الله شَرَّفَهُ بالوحي الّذي أوحى إليه به، وجعلهُ واسطةً بينه وبين خَلقِه، فقال ذلك على معنى الإقرار بصفة البّشَر من أنّه لا يعلم الغّيب، ولا يعلم اللّحن من الخصمين، ولا يعلم إِلَّا ما عُلِّمَ. ففيه من الفقه: موعظة الإمام الخَصمَين (¬8). ¬
وفيه: أنّ الخَصمَ بعد موعظة محكم من حُجَّته. وللبشر (¬1) صفاتٌ منها كمالٌ، ومنها دَنَاءاتٌ، فأمّا صفاتُ الكمالِ، فهي له ولأصحابه الكرام على التّمام والكمال، وأمّا الدّناءات، فهم مُبَرَّءُون منها، مُنَزَّهون عن التَّلبُّس بها. على أنّ النَّاس قد اختلفوا في عِصمَةِ الأنبياءِ عليهم السّلام، وقد بينّاه في "كتب الأصول" والذي عندنا أنّهم بعد النُّبوَّة معصومون، لا يُوَاقِعُ أحدٌ منهم خطيئةً، ولا يأتي دناءَةً، صغيرةً ولا كبيرةً، وقد دلّلنا عليه وبينّاهُ، وانفصلنا عن الظّواهرِ الّتي تشبَّت بها الجاهلون، وخُذُوا في ذلك أصلًا بديعًا: لا يقولَنَّ أحدُكم عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ولا عن سائر الرُّسلِ إِلَّا ما قال الله تعالى، لا يزيدُ من عنده، ولا يفسّرُ بما لا يحتملُه اللَّفظُ من آدمَ إلى محمدٍ - صلّى الله عليه وسلم -، وإذا قال عن أحدٍ منهم شيئًا من ذلك فلا يقولُه إِلَّا قارئًا للقرآن، أو منبِّهًا لمن أشكلَ عليه حالٌ من الأحوال، فإمّا أنّ يضرِبَ لذلك مثلًا وتنزُّها، وإمّا أنّ يجعلَهُ لمن يعصى عُذْرًا، فهو كفرٌ يستتابُ قائلُه. فآدم صلّى الله عليه إنّما اجتهد في التّأويل، فلم يُصِب وَجهَ الدّليلِ، وذلك جائزٌ على الأنبياء في كلِّ حال. ونُوح صلّى الله عليه غَضِبَ على قومه، فدعا عليهم بالهَلَكَةِ (¬2)، وما أحقّهم بتلك الدّعوة، ولكن الّذي يقتضِيهِ مَنصِبُ النُّبوَّة، احتمالُ الأذَى والصّبرُ على الخَلق، ولم يكن ذلك إِلَّا لمحمّد - صلّى الله عليه وسلم - حين كُسِرَت رباعيّتُهُ وشُجَّ وجهُه، فقال: "اللَّهُمَّ اغفِر لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ" (¬3) فهذا المقدارُ رأى نوحٌ أنّه قد قصذَر فيه بعدَ ما سَبقَ منه، فهو يعدُّه على نفسه لا نحنُ. ¬
وإبراهيمُ -عليه السّلام- قال: "إنِّي كَذَبتُ ثَلاثِ كَذَبَاتٍ، وكلُّ كَذبَةٍ منها تَصلُحُ أنّ يكونَ لنا دَرَجًا إلى الجَنَّةِ" قال النّبيّ: "إنّما قالها لأنّه مَا حَلَ (¬1) بها عن دِينِ الله" (¬2)، وهذا يدلُّك على جَهَالَةِ المفسِّرين للقرآن الذين قالوا في قوله: {هَذَا رَبِّي} (¬3) إنّه غَلِطَ في الكوكبِ في قوله: {هَذَا رَبِّي} فظنّه أنّه الله. وكذلك موسى صلّى الله عليه قتلَ بالغَضب في الله نفسًا لم يُؤمَر بقتلها، فإنّما كان الوَهمُ في عَدَمِ انتظارِ الأمر خاصّةً وقَتلِهِ بالنّظرِ. ومِثلُه أنّ يوسف -عليه السّلام-* همَّ بها، فكان فعلَ قَلبٍ لا فعلَ جارحةٍ، فالبارىءُ يُخبِر أنّ يوسفَ* فَعَلَ بقَلبِهِ، والنّاسُ كلَّهم يقولون: إنّما فعل بَجَوارِحِه، والهمُّ غير مُؤَاخَذٍ به. وأمّا داودُ -عليه السّلام-، فقد دَادَ فيه دِينُ الخَلق، وانبثَّت أقوالهم حتّى ملأت الخَلقَ دَفَرًا، والله جلَّ ثناؤه إنّما أخبر عنه بكلمةٍ واحدةٍ وهي قوله: {أَكْفِلْنِيهَا} الآية،* فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} (¬4) وليس في قول الرَّجل: "طلق أهلَكَ لي" معصيةٌ، لكنه يُعَدُّ من المروءة والصَّلَةِ أنّ يقولَ الرَّجلُ لصاحبه: هذه زوجتي أطلّقها لك فَخُذهَا وتزوَّجها، وقد فعل ذلك أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
وأمّا محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، فتلك حَضرَةٌ مكرمَةٌ، ودفع عن المكروهاتِ مُطَهَّر، وشخصٌ رُضِيَ عنه في كلِّ حالٍ، وغُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر في الأوّل والمآل، فإذا أردتم الشِّفاء فعليكم بكتاب "المشكلين". الفائدةُ الثّانية (¬1): قوله (¬2): "إنّما أنا بشرٌ" أشار في هذا الموضع إلى أنّه لا يعلمُ الغَيبَ، وهي مسألةٌ أصوليّةٌ؛ فإنّ المشاهَدَةَ أبرَزَها الله إلى الخَلق، وجعلَها مُدرَكَةً لهم بالطُّرق الّتي شرَعَ اللهُ لهم إليها، وأمسكَ الغيبَ لنفسه فهو عالم الغَيب والشّهادة، وأخبَرَ أنّه لا يَدرِيهِ، إِلَّا هو، وقطعَ أطماعَ الخَلقِ عنه، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (¬3) الآية، وألقى إلينا منه ما شاء للحِكمةِ الّتي عَلِم، ومن فضله المتقدِّم، قال {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬4) معناه: فيُطلِعُهُم على الغَيب، فيُعلِمُونَكُم به كما شاء، لا إله إِلَّا هو. وفي هذا إشارة إلى أنّه لا يُعْلَم شيءٌ من عِلْم الغيب إِلَّا من قِبَل الرُّسُل، فلا يَلحَقكُم في ذلك رَيب، ولا تغترُّوا بمُنَجِّمٍ ولا عَرَّافٍ، ولا تستدلُّوا بأمارةِ ما في السَّماء من كوكبٍ، أو في الأرض من مذهب (¬5)؛ فإنّ ذلك تِيهٌ وضلالٌ (¬6)، ولو جاز لأحَدٍ أنّ يُدرِكَهُ لكان أَولَانا به رسولُ الله. ¬
وقوله (¬1):" إنّما أنا بَشَرٌ" يعني به: بَشَرٌ حاكمٌ بينكم. وَ"إَنَّكُم تَختَصِمُونَ إِلَيَّ" (¬2) وفي ذلك إشارةٌ إلى الدّليل على أنّ الخِصَامَ لا يكون إِلَّا عند الحاكِمِ، وهو الّذي يقضي ويَنْفُذُ قضاؤُهُ. فإن حَكَّمَ رجلان رَجُلًا بينهما، فإنّه على اختلافٍ كثيرٍ بين العلماء، جملتُه: أنّه يجوزُ عندنا وينفُذُ، وبه قال الشّافعيُّ (¬3)، وقال أبو حنيفةَ (¬4): لا يَنْفُذُ إِلَّا أنّ يوافِقَ مذهبَ قَاضي البلد، وهذا باطلٌ؛ لأنّ علماءنا قالوا: إنّه يَنفُذُ؛ لأنّ القاضي وكيلُ الخَلقِ، هم أقاموه للفصْلِ بينهم والقيام بمنافعهم، فإن خفّفوا عنه من ثِقَلِهِم جازَ ذلك لهم، ولا يجوزُ صرفُ الكلِّ عنه أو الأكثر؛ لأنّ ذلك يكون عُدُولًا عنه، وقدِ اتّفقنا على أنّ القاضِيَ إنَّ قَدَّمَ قاضيًا فحَكَمَ الثّاني بغير مذهبِ الأوَّلِ، أنّه نافذٌ معمولٌ به، فكذلك هذا. الفائدةُ الرّابعة (¬5): قوله (¬6):"وَلَعَلَّ بَعضَكُم أنّ يَكُونَ ألحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعضٍ". قال أبو عُبَيد (¬7): "اللَّحَنُ -بفتح الحاء- الفِطنَةُ، واللَّحْنُ- بجزم الحاء- الخطأ في الكلام". والخَصم -بفتح الخاء- أحد الخصمين، ويقال ذلك للاثنين والجمع، قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} الآية (¬8)، والخِصم -بالكسر- والخِصام: المُجَادلة. ¬
واللَّحَن (¬1) - بفتح الحاء - الفِطنَةُ، يقال منه لحِنٌ - بكسر الحاء -أي فَطِنٌ، يَلْحَنُ لَحَنًا -بالفتح- في المصدر، واسمُ الفاعل منه لَحِنٌ، أي فَطِنٌ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عَجِبتُ لمَن لَاحَنَ النَّاس كَيفَ لَا يَعرِف جَوَامِعَ الكَلِمِ. ويقال منه: رجلٌ لَحِنٌ، إذا كان فَطِنًا. واللَّحْنُ -بإسكان الحاء- الخطأ في الكلام، يقال منه قد لَحَنَ -بفتح الحاء- لَحْنًا - بإسكان الحاء- ومنه حديث عمر: "تَعَلَّمُوا اللحن وَالفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَتَعَلَّمُوا القرآن" (¬2)، ومنه حديث أبي العالية قال: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ ابنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُعَلِّمُنِي اللَّحنَ مِنَ الكَلَامِ" (¬3)، وإنّما سمِّي لَحنًا لأنّه إذا بَصَّرَهُ فقد عَرَّفَه (¬4)، ومن اللّحن قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬5)، تأويلُه -والله أعلم- في فحواه ومعناه. قال الشاعر (¬6): وَلَقَد لَحَنتُ لَكُم لِكَيمَا تَفهَمُوا ...... وَوَحَيتُ وَحيًا لَيسَ بِالمُرتَابِ وقوله: "وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ" يقول: ربّما كان وقد يكون، وأراد بذلك أهل الخِصَام (¬7)، وأكثر ما يأتي "لَعَلَّ" بمعنى التّرجيِّ والطَّمَع إِلَّا في هذا فإنّها بمعنى: رُبَّ. وقوله: "بَعْضَكُمْ" يقول لبعض الخصمين. ¬
وقوله: "أَلحَن" قال ابنُ حبيب (¬1): " يعني أَفطَنُ وأَجدَلُ (¬2). وقيل: أدرَى وأَقوَى على الخِصَامِ (¬3)، ومنه قولُه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬4) يعني في منطقِ القولِ". وقال الهروي (¬5): يعني أقوى وأجدل (¬6). وثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَبْغَضُ الرِّجالِ إِلَى الله الخَصِمُ الَأَلَدُّ" (¬7)، وقوله: "مَنْ خَاصَمَ فَجَرَ، وَمن فَجَرَ كفَرَ" (¬8). مزيد وضوح (¬9): قال علماؤنا في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: "وَلَعَلَّ بَعضَكُم أنّ يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعضٍ" إشارةٌ إلى الدّليل على أنّ أحدَ الخَصمين وإن كان أفهمَ من الآخَرِ، فإنّه ليس ينبغي للحاكِم أنّ يعضُدَهُ بحُجَّتِهِ، ولا أنّ يُنَبِّهه على منفعةٍ، وقد قال بعض علمائنا: لا بأس للقاضي أنّ ينبَّهَه على حُجَّة، ولست أراه لِمَا بيّنَاه. الفائدةُ الخامسة (¬10): وقولُه (¬11) "فأقضِيَ لَهُ عَلَى نَحوِ مَا أَسْمَعُ" إشارةٌ إلى الدّليل على أنّ القاضيَ لا يكونُ إِلَّا عالمًا، خلافًا لأبي حنيفةَ حيثُ قال: إنّه يجوزُ أنّ يكونَ جاهلًا عاقلًا، فيقلِّد ¬
غيرَهُ ويحكُمَ بما يقولُ له (¬1)، وهذا باطلٌ؛ فإنّ الّذي يُفْتِي هو الّذي يَقضِي، وهذه غايةُ الجَهَالَة من أبي حنيفة. وقد تعلّق أصحابُه في ذلك بأنّ عبدَ الرّحمن بنَ عَوفٍ دَعَا عثمانَ بن عفّانَ إلى البَيعَةِ على تقليدِ أبي بكرٍ وعمرَ (¬2)، وعجبًا لعلّمائهم أنّ يتعلّقوا بهذا المعنَى الّذي ليس من مسألتنا بِوِردٍ ولا صدرٍ، وأَوَّل ما فيه الكذبُ؛ فإنّ عبد الرّحمان إنّما بَايَعَ عثمانَ ليسيرَ بسِيرَةِ الشّيخين في اعتماد العَدْلِ، والاحتياطِ على الخَلقِ، وإحكامِ الضّبط لِمَا انتشر من أمرِ النّاسِ، وكذلك فَعَلَ، ما خالَفَ ولا نَقَضَ، كما بيَّتنَّه في "كتابُ المشكلين". أمّا أنّه ربما توهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنّ في قول عبدِ الرّحمن لعثمانَ: " أُبَايِعُكَ عَلَى سِيرَةِ الشَّيخَينِ" حَملًا له على تقليدِهِمَا فيما سبَقَ من أحكامِهِما، بناءً على تقليد العالِمِ للعالِمِ على ما تقدَّم وضوحه في "أصول الفقه" (¬3)، وذلك يجوزُ عند الحاجةِ إلى ذلك وضِيقِ الوقتِ، فأمّا مع الإطلاقِ والاسترسالِ في كلِّ نازلةٍ تَقَعُ، فإنّه ممنوعٌ إجماعًا. الفائدةُ السّادسة (¬4): قوله (¬5) صلّى الله عليه وسلم -: "فَأقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحوِ مَا أَسمَعُ " هذا ممّا تعلَّق به بعضُ أصحابِ أبي ¬
حنيفةَ في الامتناع من القضاءِ على الغائبِ (¬1)؛ لأنّه إذا لم يسمَعُ كلامَهُ، لمن يَقضِي؟ أو بم يقضي؟ وقد رَوَى أبو داودَ (¬2) وغيرُه (¬3) عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال لعلىٍّ حين أرسله إلى اليمن: "لَا تقضي لأَحَدِ الخصمَينِ حَتَّى تَسمَعَ مِن الآخَرِ، فَإنَّكَ إنَّ فَعَلتَ لَا تَدرِي بِمَا قَضَيتَ" وساعَدَهُ على ذلك عبد الملك بن المَاجِشُون من أصحابنا والشّافعيّ. والمسألةُ عظيمةُ الموقعِ، كثيرةُ الاختلافِ في المذهبِ (¬4). وفي هذا: إنَّ الحاكم أو القاضي لا يقضي بعِلمِهِ بحْالٍ، ولو جازَ ذلك لأحدٍ لكان أَولَى النَّاس بذلك رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وهو قد تركَ ذلك وتورَّعَ عنه، فرُوِيَ أنّه قال حين أُشِيرَ عليه بقتل منِ استوجبَ القتلَ ممّن ظهر نِفَاقُه وتبيَّنَ شقاؤُه: "أخَافُ أنّ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَن مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصحَابَهُ" (¬5) فعلَّلَ ذلك بالتُّهمةِ الّتي تَعُمُّ ما قدَّمناه. وروى أبو داود (¬6)؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أرسلَ أبا جَهمٍ مُصدِّقًا فَلُوجِجَ في الصدقَةِ فَشُجَّ، فَارتَفَعُوا إِلَى رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: القَوَدَ يا رَسُولَ اللهِ. فقال: أَوَ تَأخُذُونَ كَذا وَكذَا؟ فَأَبَوا، ثُم قال: أَو كَذَا؟ فأبوا. ثُم قالَ: أو كَذَا؟ فَرَضُوا. قَالَ: فأخطُبُ النَّاسَ وَأُعْلِمُهُم بِرِضَاكُم؟ قالُوا: نَعَم. فَأعلَمَ، فَقَالُوا: لَا، ما رَضِينَا. فأرَادَهُم المُهَاجِرُون والأَنصَار، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: لَا، وَنَزَلَ، فَجَلسُوا إِلَيهِ فَأرضَاهُم، وَقَالَ: أَخطُبُ وَأُعلِمُ النَّاسَ؟ قَالُوا: نَعَم. فَخَطَبَ فَأعلَمَهُم، فَقَالُوا: رَضِينَا. وهذا نصٌّ. ¬
وثبتَ في الصّحيح أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال في قصَّة هلالٍ وشَرِيك: "إنَّ جَاءَت بِهِ بِكَذَا فَهُوَ لِهِلَالٍ" يعني الزَّوج، "وإن جَاءَت بِهِ بكَذَا (¬1) فَهُوَ لِشَرِيكِ ابنِ السَّمْحَاء" يَعْنِي بِهِ المَقذُوف فَجَاءَت بِهِ عَلَى النَّعتِ المَكرُوهِ، فَقَالَ: "لَو كُنتُ رَاجِمًا أَحَدًا بغيرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمتهَا" (1). وقد وَهَمَ بعضُ النَّاس في إحدى هاتين المسألتين، وهي مسألةُ القضاءِ على الغائبِ، منهم البخاريُّ (¬2)، فقالوا: الدّليلُ على القضاء على الغائب أنّ النّبيِّ- صلّى الله عليه وسلم - قَضَى لهِندٍ على أبي سُفيَانَ، فقال: "خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعرُوفِ" (¬3) وقد بيَّنَّا في "مسائل الخلاف" أنّ هذا وهمٌ عظيمٌ، وأنّه لا مُتَعَلَّق لهم في هذا الحديث، وحقّقنا أنّها كانت فتوى، وأنّ أبا سفيانَ كان حاضرًا , ولا خلافَ بين الأُمَّة أنّه لا يُقضى على غائبٍ في البلدِ معلومِ المَوضِعِ، على ما بينّاه. الفائدةُ السّابعة (¬4): قوله (¬5):" فَلَا يَأخُذَنَّ" إشارةٌ إلى الدّليل على حُكمِ الحاكِم أنّه لا يحلِّلُ مُحرَّمًا ولا يُحرم محلَّلًا , ولا يغيِّر شيئًا من طريق الشَّرع , بما يظهر من حُجَّة أحَدِ الخَصْمين على الآخَرِ، فَمِن هذا حذَّرَهُم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وعلى هذا نَبَّهَهُم، وقدِ اتّفق العلّماءُ على ذلك إِلَّا أبا حنيفةَ (¬6)، فإنّه سَقَطَ (¬7) في هذه المسألة فقال: إنَّ الرَّجل إذا جاء إلى الحاكِمِ بشاهِدَي ¬
زُورٍ في الباطن، فشَهِدُوا أنّ فلانةَ زوجُ فلانٍ، وليست منه، قَبِلَ شهادَتهما وحَكَمَ له بتزويجها، أنّه يَحِلُّ له ذلك ظاهرًا وباطنًا، ويَطَؤُهَا بكتاب الله. ومعاذَ الله أنّ يكون باطلٌ تُنَزَّهُ الأموالُ على أنّ يَنْفُذَ فيها، ويَنفُذَ في الفُروج الّتي هي أعظَمُ حُرمَةً، على ما أوضحناه في "مسائل الخلاف". وأقوى مُتَعَلَّقِ لهم؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أباح المرأةَ في اللِّعان للزّوج الثّاني، مع أنّ اللِّعان زُورٌ وكذِبٌ، واللِّعانُ أصلٌ مُستَوفًى وحُجَّةُ ضَرُورَةٍ كما بيَّنَّا. وأقوى ما في هذا الحديث؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُ يَعلمُ أَن أَحَدَكمَا كَاذِبٌ، فَهَل من تَائِبٍ" (¬1) فبيّن النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ قضاءَهُ انبنَى على كَذِبٍ للضّرورةِ، وقد اتّفقنا على أنّ القاضي لو عَلِم الكَذِبَ في هذه المسألة، لَمَا جاز لهَ أنّ يَقضيَ، فإنّ خطأَ القاضي لا يَلزَمُ، وهي مسألةٌ عظيمةٌ؛ فإنّ ذلك لا يُلزِمُهُ ضمانًا يُوجبُ عليه ملامًا. والأصلُ في ذلك: أنّ خالدَ بنَ الوليدِ لمّا أخطأ في بني جَذيمَةَ، لم يُعَلِّق به النّبيّ شيئًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أنّه قال: "اللهُمَّ إِنِّي أَبرَأُ إِليْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِد" (¬2) وَوَدَاهُم وأموالَهُم، والمعنى يعضُدُه. والقاضي لو نظر بشَرطِ سلامَةِ العاقبةِ, وهو ألَّا يُعَوَّلَ على النَّصِّ وإنّما يبني حُكمَهُ على الاجتهاد، لكان ذلك باطلًا من وجهين (¬3): أحدُهما: أنّه كان يكون تكليف ما لا يُطَاق. والثّاني: أنّه كان يكونُ تنفيرًا للخَلقِ عن الوُلاة، فتتعطّلُ الأحكامُ. ¬
الفائدةُ الثّامنة (¬1): قوله (¬2):" فَإِنَّمَا أَقطَعُ لَهُ قِطعَةً مِنَ النَّارِ" يقول: إنّما أحكُمُ له بما يُوجِبُ النّارَ، إِلَّا أنّ يغفرَ الله (¬3)، ويرضَى المظلوم عن الظّالم، وإلّا فالنّار (¬4). الحديث الثّاني، قوله (¬5): "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ في النَّارِ وَقَاضٍ في الْجَنَّةِ" العارضةُ فيه (¬6): أنّ الّذي يقضي بالجَورِ، فإنّه قد أتي كبيرة من أعظم الكبائر في ظُلم العباد، ونَقضِ عهد الله بالجَورِ من بعد ميثاقه، وما أَبعَدَهُ من المغفرة المطلقة، والّذي يقضي بالجهل جائر، لا تقصُر مرتبته عنه. ومثالُ الأوّل: مثل أميرٍ يقتلُ من لا يحلُّ قتله من مستحقّه أو لا مستحقّه. ومثالُ الثّاني: مثلُ من يتعرّض للقتال، ولا يُبَالِي أصابَ بقَتلِهِ من يستحقّه أو مَنْ لا يستحقّه، وكذلك من يسترسلُ على وَطىءِ من وجَدَ من النِّساء، ولا يُبَالِي كيف كانتِ الحالُ، أَتحِلُّ أو لا تحِلّ. فالأوّلُ منتهكٌ للحُرمَة عَمدًا. والثّاني مستهينٌ بها نِيَّةً وعَقدًا. والثّالث من خلفاء الله في أرضه، وممّن قال فيه النّبيُّ: "المُقسِطُونَ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ من نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحمَانِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمينٌ" (¬7). ¬
تفصيل (¬1): هذا الّذي قضى بالحقِّ، إنَّ كان عن عِلْمٍ، فهو الّذي يقومُ عن يمين الرّحمن، وإن كان عن تقليدٍ، فلا يجوزُ أنّ يُتَّخَذَ قاضيًا إِلَّا عند الضّرورة، فيقضي حينئذٍ في النّازلة بفتوى عالم رآه، ورواه بنصِّ النّازلة، فإن قاس على قوله، أو قال: يجوزُ من هذا كذا أو نحوه، فهو مُتَعَدِّ، ولا يحلُّ توليةُ مقلِّدٍ في موضع بوجهِ من الوجوه، في موضعٍ يكون فيه من هو أعلم منه، أو يكون فيه عالمٌ مشهورٌ، فإن تقلَّدَ، فهو جَائِزٌ مُتَعَدٍّ؛ لأنّه قعدَ في مَقعَدِ غيره. الحديث الثّالث (¬2)، قوله: "إِذَا اجتَهَدَ الحَاكِمُ فَأصَابَ فَلَهُ أَجرَانِ، وإِذَا أَخطَأَ فَلَهُ أَجرٌ واحِدٌ " وقد بيَّنَّا أنّه حَسَنٌ غريبٌ، وهو في الصّحيح من طريق أبي بكر (¬3)؛ قال النّبيُّ: "إِذَا أَصَابَ الحَاكِمُ فَلَهُ عَشرة أُجُور، وإذَا أَخطَأَ فَلهُ أَجرٌ وَاحِدٌ" (¬4). الأصول (¬5): قال الإمامُ: هذا الحديث يشهد له القرآن، وذلك قولُه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬6). وهذا الحديث ممّا يتعلّقُ به من ذهب إلى أنّ الحقَّ في جهةٍ واحدةٍ في مسألة تصويب المجتهدين، وهي نازلةٌ في الخلاف عظيمةٌ، وقد بيَّنَّا ذلك في "كتب الأصول". ¬
وممّا قال فيه مَنْ ذهب إلى أنّ الكُلَّ صوابٌ؛ أنّه خبرٌ واحدٌ ولا يُثبِتُ خبرُ الواحدِ الأصولَ. الحديث الرّابع: حديث ابن أبي أَوفَى في "التّرمذيّ" (¬1) قال رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "اللهُ مَعَ القَاضِي مَا لَم يَجُر فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنهَ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ". إيضاح مشكلة: القاضي بالحقِّ ما كان الله معه، فإذا ترَكَهُ الله جَارَ, هذا إخبارٌ عن بداية المقادير وحكمه بالتّقدير، وملكه بالتّدبير، فالله تعالى هو الحقُّ، ولا يريد إِلَّا الحقّ، والباطل ليس منه في شيءٍ. الحديث الخامس: ذكر أبو عيسى (¬2) عن أنس بن مالك؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ (¬3) ¬
سَألَ القضاءَ وُكِلَ إلى نَفسِهِ، وَمَن أُخبِرَ علَيهِ يَنزِلُ عَلَيهِ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُسَدِّدُهُ" (¬1) وهذا لا كلام فيه. الحديث السّادس: حديثُ أبي هريرة؛ قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"مَنْ وَليَ القَضَاءَ فَقَد ذُبحَ بِغَيْر سِكِّينٍ" (¬2) حَسَنٌ غريبٌ (¬3). قال علماؤنا: هذه عبارة عن كلِّ حال القضاء أو بعضه، فإنّ القتلَ إعدامُ الحياةِ، وإذا وَلِيَ القضاء بعد عدَمِ الحياةِ الأُخرى. وضرب المَثَلَ بالسِّكين لأنّه أَوْجَزَ وأعجلَ في الهَلَكَةِ، فيكون هَلَاكُه بغير السِّكين من الآلات تعذيبًا. وهذا يَحتَمِلُ أنّ يكون إذا طَلَبَهُ، ويحتَمِلُ أنّ يكون إذا حَرَصَ عليه، وكان بعضُ الأشياخ يحكي عن بعض القضاة السُّوء أنّه إذا سمع هذا الحديث يقول: أيُّ ذبحةٍ، ما أحلاها! المقدِّمة الثّانية في معرفةِ شروط القضاء، ومعرفة من يجب تقديمُه ومن لا يجب، ومن يجوزُ له الحُكم ممّن لا يجوزُ. ¬
الفصل الأول في صفته
وفي هذه المقدِّمة فصلان: أحدهما: في صفة القاضي، والفصل الثّاني في مجلسه وآدابه وحُسن سِيرته. الفصل الأوّل في صفته أمّا (¬1) صفاته في نفسه: فإحداها: أنّ يكون ذكرًا (¬2). والثّانية: أنّ يكون مُفْرَدًا. والثّالثة: أنّ يكون بصيرًا. والرّابعة: أنّ يكون مسلمًا. والخامسة: أنّ يكون حُرًّا. والسّادسة: أنّ يكون عالمًا فقيهًا. والسّابعة: أنّ يكون عَدلًا. والثّامنة (¬3): أنّ يكون سليم الجوارح من الصَّمَمِ والعَمَى وغير ذلك. تفصيل: أمّا (¬4) "اعتبار الذّكورة" فحَكَى عبد الوهّاب (¬5) وغيرُه أنّه مذهب مالك والشّافعيّ (¬6) وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ أنّ تَلِيَ المرأةُ القضاءَ في الأموالِ دُونَ القِصَاصِ (¬7). ¬
وقال محمّد بن الحسن (¬1) والطّبريّ: يجوز على كلِّ حال. والأدلَّةُ لنا من ثلاث طرقٍ: الأوّل: ما رُوي عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا يُفلِحُ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمرَهُم إِلَى امرَأَةٍ" (¬2). ومن جهة المعنى: إنّما هو أمر يتضمّن فصل القضاء فوجب أنّ تُنَافيهِ الأُنُوثة كالإمامة. ويكفي في ذلك عندي عمل المسلمين من عهد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى الآن. وقال (¬3) أصحابُ أبي حنيفة (¬4): إنَّ المرأة تقضي فيما تَشهَدُ فيه؛ لأنّه من جازَ أنّ يكون شاهدًا في شيءٍ، جازَ أنّ يقضي وأن يكون فيه قاضيًا كالذَّكَرِ، وهو يَنتَقِضُ عليه بالكافِرِ، فإنّه يجوزُ عنده أنّ يكون شاهدًا، ولا يجوزُ أنّ يكون حاكمًا ولا قاضيًا. وأجمعتِ الأُمَّةُ أنّها لا تكونُ خليفةً، فكذلك القضاءُ، وإنّما أشار الطّبريُّ إلى مذهب أبي حنيفةَ، ومذهبُ أبي حنيفةَ إنّما هو إذا حَكمَت، وأمّا أنّ يُقَدِّمَها الإمامُ لتكونَ منصوبةً للنّاس، فما كان ذلك قطُّ مذهبًا لأحدٍ. وقدِ اتَّفقتِ الأُمَّةُ على أنّها لا تؤذِّن؛ لأنّ صوتَها عورةٌ، فهذا لم يَجُز سماعُ صوتِها وهي في المئذَنَةِ لَا تُرَى، فاَؤلَى وأَحْرَى ألَّا تجوزَ مجالستُها ولا محادَثَتُها ابتداءً من قِبَلِ نفسِها، فكيف أنّ يُلجِئَها الإمامُ لذلك، ولو تَفطَّنَت لهذا عصبةُ الجاهلينَ ما كانوا عن الحقِّ ناكبين. الثّانية (¬5): أمّا "كونه مُفرَدًا" فإنّه لا يُوَلَّى اثنان فأكثر على وجه الإشراك، فيكون لأحدِهما النّظر مفردًا. وقال ابنُ شعبان في "الزّاهي" له: "والحاكمُ لا يجوز أنّ يكون نصف حاكم، فلا يجتمع اثنان فيكونان حاكِمَين" وعلى ذلك إجماعُ الأُمَّةِ من زمان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى وقتنا ¬
هذا, ولا أعلم أنّه اشترك قطُّ قاضيان في زمان مَنْ تقدَّمَ، ولا سُمِعَ بذلك؛ لأنّ ذلك كان يؤدِّي إلى المُخالفة والتّناقض. الثّالثة: أمّا (¬1) "كونه بأن يكون بصيرًا" فلا خلافَ بين المسلمين في المنع من كَونِ الأعمَى حاكمًا. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ (¬2) والشّافعيّ (¬3)، وبلغني عن مالك أنّه كان يقول: إنَّ كان (¬4) يميِّزُ الأصواتَ ممّن تكرَّرَ عليه صوتُه (¬5)، وليس كلُّ مَنْ شهد عنده ممّن يتكرّر عليه، فقد يشهدُ عنده ويزكَّى في غير ذلك المجلس، فلا يدري هل هو المزَكَّى عنده هو الّذي زُكَّيَ عنده بالأمس أو غيره، وقد يخرجُ بغير هذه التّزكيةِ، فلا يدري هل هو ذلك أو غيره. وقد احتجّ قومٌ بحديث (¬6) ابن أُمِّ مَكتُوم فقال: إنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قدِ استخلَفَهُ على المدينة في أحد الغزوات. الجواب - قلنا: إنّما كان ذلك لأنّه لم تكن في ذلك الزّمان خصوماتٌ، وإنّما كان يقعُ في النّادر أمر يحتاجُ إلى التّسديد، وكان ابنُ أُمِّ مَكتُوم به مُستَقِلًا، أوَ لا تَرَى أنّه إنّما كان يخافُ على المدينة عورةً، ولم يكن ابنُ أُمِّ مكتومٍ مُستَقِلًا بحماية الحَوزَةِ، ¬
وخليفةُ الأميرِ لابُدَّ أنّ يكونَ فيه من الاستقلالِ بحماية الحَوزَةِ وَلَمِّ الشَّعَثِ عند الاختلاف العامِّ، وقد كان ذلك مُتَعَذِّرًا في ابن أُمِّ مَكْتومٍ، فدلَّ على أنّ رسولَ الله- والله أعلم- إنّما كان يَثِقُ من ربِّه بعِصْمَةِ المدينة على أنّ يخالِفَ إليها بعدَهُ من يريدُها بسوءٍ، وكان يعلَمُ من أهلها قِلَّةَ الاختلافِ، فلأجل ذلك كان استخلافهُ له. الرّابعة: وأمّا (¬1) إنَّ كان التَعَذُّرُ في السّماع من بَكَم، فلم يَفهَمِ الحاكِمُ الإشارةَ، أو كان من لُغَةٍ لم يَعرفِ التَّكلُّمَ بها, ولم يكن عنده معبِّرٌ يُعبرُ له ذلك الكلام، فهذه مسألة خلافيّة اختلفَ فيها العلّماءُ. أمّا "الصّمم" فقال قوم: لا يجوز لقوله - صلّى الله عليه وسلم - (¬2): "فَأَقضِي لهُ عَلَى نَحوِ ما أَسمَعُ" ففيه دليلٌ على أنّ التَّفَهُّم قد جُعل بين الحاكم والخَصمَين، فإن (¬3) تعذَّزَ ذلك من القاضي بصَمَمٍ، أو من الخَصم بِبَكَمٍ، أو بِلُغَةٍ لا يفهمُها القاضي، فالّذي سمعتُ أنّ الرَّجل إذا كان أَصَمّ أو أعمى فإنّ النَّاس اختلفوا في توليته القضاء، والذي عندي أنّ واحدًا منهم لا يجوزُ أنّ يكونَ قاضيًا، وأقولُ: إنَّ ذلك إجماعٌ، وذلك على الإطلاق، إِلَّا في الأوقات اليسيرةِ والقَصَصِ المخصوصةِ؛ فإنَّ القضاءَ مَبنِيٌّ على الفَصلِ، وكلُّ ما أمكنَ من تحصيلِ الفصلِ والاختصارِ لا يُلْتَفَتُ معه إلى التّطويلِ، ولهذا قال العلّماءُ: لا يجوزُ قَبُولُ شَهَادَةَ الفَرعِ مع القُدرةِ على شُهودِ الأصلِ، لِمَا في ذلك من زيادة النّظَرِ على القاضي في العدالة، ولمَا في ذلك من زيادة الأعذارِ على المطلوب، فإذا رُوعِيَ هذا القَدْرُ في رسم القضاءِ، فالذي يفوتُ بالصَّمَمِ والعَمَى أعظمُ من ذلك. ¬
المسألة الخامسة (¬1): أمّا "اعتبارُ إسلامه" فلا خلافَ فيه بين المسلمينَ أنّ الكافرَ لا يكونُ قاضيًا على مُسلِمٍ. السّادسة (¬2): وأمّا "اعتبارُ الحرِّيَّة" فقال عبد الوهّاب (¬3): لا خلافَ فيه بين الأُمَّةِ. ووجهُ ذلك: أنّ منافعَ العبدِ مستحقَّةٌ لسيِّده، فلا يجوزُ أنّ يصرفَها للنّظر بين المسلمينَ. ولأنّه ناقصُ الحُرمَة نقصًا يؤثِّرُ في الإِمامةِ كالمرأة. السّابعة (¬4): وأمّا "اعتبارُ كونِه عالمًا فقيهًا" فلا خلافَ في ذلك مع وجُودِ العالِمِ العَدلِ، و* إنَّ كان النَّاس قد اختلفوا في تولية الأميِّ إذا كان بصيرًا مُمَيِّزًا، فأكثر العلماء منعوا من ذلك * (¬5). والَّذي يحتاجُ إليه من العِلم، أنّ يكون من أهل النّظر والاجتهاد، رُوِيَ عن ابن القاسم عن مالك في "المجموعَة" أنّه قال: لا يُستقضَى منْ ليس بفقيهٍ. وقال أَشهَبُ وابن المَاجشُون وأَصبَغ في "الواضحة": لا يصلُحُ أنّ يكونَ صاحب حديث إِلَّا فقيهًا، ومن لا فِقهَ له وهو من أهل الحديث المجرَّد، فلا تَصِحُّ فتواهُ ولا قضاؤُهُ؛ لأنّ أكثر النّوازلِ تفوته معرفتُها، فلا يفتي إِلَّا من كانت له صفة الفقه، وأن يكون قد جمع صفات الاجتهاد. والأصلُ في ذلك: قولُه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية (¬6). فاعلم أنّ ¬
النّبيّ إذا بيّن لهم تَفَكَّروا، فهذا لم يكن عندهم تبيين النَّبىِّ لِمَا أنزل الله إليه من الكتاب، لم يتمكَّن لهم التفَكُّر في أحكامه، وقد قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الآية (¬1)، ومن ليس من أهل الاجتهاد فإنّه لا يرى شيئًا، ولذلك قالوا: لا يفتي من لا يعرف إِلَّا أنّ يخبر بما سمِعَ، فلم يجعل ذلك من باب الفتوى، وإنّما هو إخبارٌ عن فتوى صاحب المقالة عند الضّرورة، لعَدَمِ المجتهد الّذي تجوزُ له الفتوَى. فهذا لم يوجَد إِلَّا عالمٌ غير مرضيّ، أو مرضيّ غير عالم، فاختلف علماؤنا في ذلك: فقال أَصبَغُ: يُستقضَى العدل؛ لأنّه يستشيرُ أهلَ العِلْمِ ويجتهدُ. وقال ابنُ حبيب: إنَّ لم يكن له عِلمٌ ووَرعٌ، فعقلٌ ووَرعٌ؛ لأنّه بالعقل يسألُ وبالورع يعفذُ، فإذا طلَب العالِمَ وجدَه، وإذا طلب العقلَ لم يجده. مسألة (¬2): وأمّا "اعتبارُ العدالةِ" فالظّاهرُ من أقوال علمائنا المسلمين أنّها شرطٌ في صحّة القضاءِ، وفي "النّوادر" (¬3) من "كتابُ أَصبَغ": أنّه يجوزُ حُكمُ المسخوطِ ما لم يَحْكُم بجَورٍ، وان لم تجز شهادته، والأوّل أصحّ (¬4)؛ لأنّ الفِسقَ يُنَافِي نُفُوذَ الأحكامِ كالكُفر. نازلة (¬5): وهل يعتبرُ في ذلك أنّ يكونَ سميعًا؟ لم أر فيه نصًّا، وعندي أنّه ممنوعٌ، لما يحتاجُ من سماع دَعوَى الخُصومِ وأداءِ الشّهادة، وليس كلُّ شاهد يُمكنه أنّ يكتبَ شهادته فيعرضها عليه، مع ما في ذلك من تضيِيقِ الحالِ على النَّاس. ¬
نازلة أخرى (¬1): وهل يجوزُ أنّ يكون الأميُّ (¬2) حاكمًا وإن كان عالمًا عَدلًا؟ لم أر فيه نصًّا أيضًا، ولأصحاب الشّافعيّ في ذلك وجهان: المنع والجواز (¬3). والأظهرُ عندي الجوازُ؛ لأنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - كان لا يَكتُب. ومن جِهَةِ المعنَى: أنّه لا يحتاجُ إلى قراءةِ العُقُودِ، وينوبُ عنه في ذلك أهل العدل. نازلة أخرى (¬4): وهل يُستَقضَى وَلدُ الزِّنا؟ قال سُحنون: لا بأس بذلك، ولا يحكم في حدِّ الزِّنا كما لا يحكم القاضي لأبيه. والأظهرُ عندي أنّه ممنوعٌ؛ لأنَّ القضاءَ موضعُ رفعَةٍ وطَهَارةٍ، فلا يليها ولد الزِّنا، كالإمامة في الصّلاة. نازلة أخرى (¬5): وهل يُستقضَى الفقيرُ أم لا؟ فروى ابن سحنون عن أبيه أنّه يُستقضى إذا كان أعلمهم وأرضاهم، ولكن لا ينبغي أنّ يجلسَ حتّى يُغنَى ويُقضَى عنه دَينُه. وهذا ممّا لا خلاف في صحَّتِه، وليس يُؤَثِّرُ (¬6) في دِينِه ولا عِلْمِه، ولكن يُستحبّ أنّ تُزَالَ حاجتُه للتّفرُّغ للقضاء وليكون له أسلم، وقد أجمع العلماء أنّ قضاءَهُ جائزٌ. وليس من صفاته أنّ يكون غنيًّا بإجماعٍ، وقد قال الله ¬
تبارك وتعالى عن بني إسرائيل في قصة طالوت: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} الآية (¬1)، والقاضي أبدًا في حُكم الشّرع لا يكونُ إِلَّا غنيًا أو يُغنَى؛ لأنّ بيتَ المال له ولأمثاله، ومَغنَاهُ فيه، فلمّا حبس بيت المال واحتاج هو وأمثاله إليه ولم يُمَكَّن منه، كان غَنَاءُ القاضي أفضل من فَقرِه. العارضة (¬2): قال الإمام الحافظ أبو بكر الطّرطوشي بالمسجد الأقصى- طهّره الله- قال: لمّا ولي جدِّي - يعني لأُمِّه - أبو زيد بن الحَشا (¬3) القضاء بطُلَيطِلَة (¬4)، جَمَع أهلَها وأخرجَ لهم صُندوقًا فيه عشرة آلاف دينار، وأخرج لهم صندوقًا آخر مملوءًا من ثياب حَسَنة، فقال لهم: هذا مالي وهذه ثيابي، فلا تَحْسِبُوا ظهورَ حالي من وِلَايَتِكُم، ولا مَالِي من أموَالِكُم، فنزّهُوهُ عن ذلك. نازلة أخرى (¬5): وهل يُستقضَى المحدودُ في الزِّنا والقَذف، والمقطوعُ في السّرقةِ إذا كان مرضيّ الحال؟ وهل يَحكُم فيما حُدَّ فيه؟ فجوَّزَ ذلك أَصبَغ، وفرّق بينه وبين الشّهادة. ومَنَعَهُ ¬
الفصل الثاني في آداب القضاء ومجلسه
سُحنون اعتبارًا بالشهادة، وهو الصّوابُ عندي. الفصل الثّاني في آداب القضاء ومجلسه قال علماؤنا: في هذا الباب جملة مسائل: المسألة الأولى: قال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي للرّجل أنّ يكون قاضيًا حتّى تكون فيه خمس خصال، فإن أخطأ واحدةً كانت فيه وصمة، وإن أخطأته اثنتان كانت فيه وصمتان: حتّى يكون عالمًا بما قَبلَه، مستشيرًا لذوِي الرّأي، منزَّهًا عن الطَّمَع، حليمًا على الخَصم، مخلصًا لله تعالى، فإذا كان هذا، نصبَ نفسه للحُكم بين النَّاس. واختلف علماؤُنا في أيِّ موضعٍ ينصب نفسَه للأحكامِ؟ فقال قومٌ (¬1): ينبغي أنّ يكون في المسجد، فمِمَّن كان يقضي في المسجد شُرَيْح، والحسن البصري، والشّعبيّ، ومُحَارِب بن دِثَار، ويحيى بن يعمر. (¬2) وكرهه جماعة منهم: الشّافعيّ (¬3)، وعمر بن عبد العزيز. وقال مالك (¬4): "القضاء في المسجد من الحقِّ والأمرِ القديم؛ لأنّه يرضى بالدّون من المجلس، ويصل إليه الصّغيرُ والكبيرُ، والضّعيف والمرأة، ولا يحجب عنه أحد". قال ابن أبي زيد (¬5): " واحتجَّ بعضُ أصحابِنا في ذلك بقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ¬
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} الآية (¬1)، ورُوِيَ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَضَى في المَسجِدِ" (¬2). وُيستحبُّ أنّ يجلسَ منه في رحابه الخارجة، قال مالك: ليصل إليه اليهود والنّصارى والحائض والجُنُب، وحيث ما جلس القاضي المُوَفَّق المأمون أجزأَهُ. وقال أشهبُ في "المجموعة": لا بأس أنّ يقضيَ في مجلِسِه ومنزِلِه وحيثُ أحبَّ، وأحبُّ إِلَيَّ أنّ يقضي حيث جماعة المسلمين وفي المسجد الجامع. وقَال سحنون: إِلَّا أنّ يدخل عليه ضَرَرٌ لكثرة النَّاس حتّى يشغله ذلك عن النَّظَر والفهم، فليكن له موضعٌ يَحُولُ بينه وبين من يشغله، واتَّخذ سحنون بيتًا في المسجد فكان يقعد ويحكم للنّاس فيه. قال علماؤنا (¬3): ولا ينبغي للقاضي أنّ يقضي في الطّريق، إِلَّا أنّ يكون أمرٌ عَرَضَ واسْتُغِيثَ فيه إليه، فلا بأس أنّ يأمر فيه وينهى، فأمّا الحُكمُ الفاصل فلا، قالهُ مُطَرِّف وابن المَاجِشُون. وقال أشهبُ في "المجموعة": لا يقضي وهو يمشي، وقال أيضًا: لا بأس إذا لم يشغله ذلك. قال علماؤنا (¬4): ولا بأس أنّ يقضي وهو متَّكِيء. المسألة الثّانية (¬5): قال علماؤنا (¬6): ولا تقامُ الحدودُ في المسجد بالضّرب. الكثير، إِلَّا اليسير ¬
كالخمسة أسواط والعشرة ونحوها، قاله مالك في "الموازية" و"المجموعة" و "كتابُ ابن سحنون". ووجه ذلك: أنّ الحُدودَ تبلغُ سَيَلَان الدِّم والتّأثير في الأجسام، والمساجد تُنَزَّهُ عن مثل هذا. وأمّا أنّ تكثر الحدود فيه فلا؛ ولأنّها موطن رحمة. المسألة الثّالثة: وينبغي للقاضي إذا دخل المسجد أنّ يركع ركعتين عند دخوله قبل أنّ يجلس، ويدعو الله عند فَرَاغِه منهما بالتّوفيق والعِصمَة والتّسديد، ثمّ يجلس مستقبل القِبلَة، ويسلِّم على القوم إذا استقبلهم، وعند دخوله أيضًا وعند خروجه، إِلَّا إذا صار لمنزله، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "يُسَلِّمُ القَلِيلُ على الكَثِيرِ" (¬1). وكذلك يفعلُ الخَصمَانِ إذا وصَلَا إليه، اقتداءً برسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فيردّ السّلام، ويجلس الخصمان بين يديه، ويسوِّي بينهما في المجلس، لا يرفع أحدهما على صاحبه. وقد اختُلِف فيمن تقدّم إذا خَفِيَ عليه السّابق منهما، فقالت فرقةٌ: يُقرَع بينهما، فمن خرجت قُرعته قَدَّمَهُ، وأحسن من هذا أنّ يمدَّ خيطًا يلي مجلسَهُ أحد طرفي الخيطِ، ويلي الطّرفُ الآخر ناحيةَ مجلسِ الخُصومِ، فكلُّ مَنْ جاء كتبَ اسمه في رقعة ورفع الرقعة في طرف الخيط، هكذا حتّى إلى آخرهم، فإذا جلس القاضي، مدَّ يده إلى الطرف الّذي يليه من الخيط، فكلُّ رُقعةٍ تُقَابِلُه أخذَها وأمرَ بصاحبها، ثمّ لا يزال كذلك حتّى يأتي على آخر الرّقاع. فإن كثُرتِ الرقاعُ عليه، وزال الوقتُ الّذي يقضي فيه، عرف الطّرف الّذي كان يليه من الخيط حيث جلس، فيتناول في المجلس الثّاني الرِّقاع كفِعلِهِ في المجلس الأوّل حتّى تنفذ الرِّقاع. وليس في الوقت الّذي يقضي فيه القاضي سُنَّة يُعتَمَدُ عليها، والذي يجبُ إذا حضرَ الخصومُ أنّ ينظر بينهم ولا يؤخِّر ذلك، بل ينفذ الحكم بينهم. ¬
المسألة الرّابعة: فإذا كان هذا، فهل يتَّخذُ أوقاتًا يحكمُ فيها أم لا؟ أو يجلس على ما هو أرفق به وبالنّاس ولا يضيق عليه حتّى يصير كالأجير؟ فقد قال علماؤنا (¬1): لا يجلسُ بين العشاءين ولا في الأسحار، إِلَّا أنّ يحدث أمرٌ لا يؤمن منه، فلا بأس أنّ يأمر فيها وينهى ويسجن. وأمّا على وجه الحُكم بين الخصوم فلا، وقد شّذَّ أشهب فقال في "المجموعة": لا بأس أنّ يقضي بين المغرب والعشاء. توجيه (¬2): أمّا قول مُطَرِّف وابن المَاجِشُون أنّه يتّخذ أوقاتًا يجلس فيها على ما هو أرفق به، فالمعنى: أنّه ليس عليه الجلوس في ذلك الوقت لإحضار الخصوم وتقييد المقالات؛ لأنّ ذلك لا يقرب، فأمّا ما يُخَاف فواتُه فيلزم الحُكْم فيه. ومعنى قول أشهب أنّه أباح له ذلك؛ لأنّ تركه من حقوقه، فهذا أراد ذلك فهو مباحٌ له. والأوّل أظهر عندي لِمَا في ذلك من الضَّررِ لمن يدَّعِي في ذلك الوقت، ويشقّ فيه نقل البيِّنات، مع ما في ذلك من الخروج عن العادة. المسألة الخامسة (¬3): وليس عليه أنّ يقضي النّهار كلّه، قاله في "المجموعة" وقال (¬4) في "الموازية": إنِّي أخاف أنّ يُكثِر فيُخطِيء. وقال في "المجموعة": وُيكْرَه أنّ يقضي إذا دخله هَمٌّ أو نُعاسٌ أو ضَجَرٌ أو جُوعٌ؛ لأنّه يُخَافُ على فهمه إِلَّا أنّ يكون خفيفًا لا يضرُّ بفهمه (¬5). ¬
والأصل في ذلك: قولُه: "لَا يَقْضِي القاضي وَهُوَ غَضبَان" (1). فكلُّ حال يمنعُ من استيفاء حُجَجِ الخُصوم فهي كالغضب. وأمّا الحديث فصحيحٌ سنَدًا ومعنًى، خرَّجهُ أبو عيسى التّرمذيّ (¬2) عن أبي بَكرَةَ، والمشهورُ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا يَقضِي القَاضِي وَهُو غَضْبَان" (¬3) وهذا ممّا اتّفق العلّماءُ عليه أنّه لا يحكُم وهو غضبان، أراد (¬4) إذا نَالَهُ غضبٌ أو جُوعٌ أو جَزَعٌ، أو يُشغِل خاطره، ويفسد - بقطع النّظر- علمه ورأيه، ولهذا قال -عليه السّلام-: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدكُم وَهُو ضَامٌّ بَينَ وَرِكَيهِ" (¬5) لأجل ثقل ما يجده. المسألة السّادسة: وهو ذكرُ ما يبتدىء به القاضي عند جلوس الخُصومِ عنده، وما يأمر به، فقد قال علماؤنا: إذا تقدَّم إلى القاضي الخصمان، تركهما ليتكلّم المدِّعي منهما، فإن جَهِلَ ذلك، فلا بأس أنّ يقول: يتكلَّم المُدَّعِي منكُمَا , ولا يدعهما جميعًا يتكلّمان، لكن يبدأُ المدَّعِي فيتكلّم، فإذا فرغ من كلامه، تكلّم المُدَّعَى عليه، وليسوي بين الخصوم في جلوسهما بين يدَيه، والأقبال عليهما، وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يكتب إلى أبي موسى الأشعري: "آسِ بَينَ النَّاسِ بِوَجهِكَ وَقَضائِكَ، حَتى لَا يَطمَع شَرِيفٌ في حَيفِكَ ؤلأ يَيأَس ضَعِيفٌ مِنْ عَدلِكَ" (¬6). ولتُسوِّي بين الخصمين وكان شُريح القاضي يُسَوِّي بين الخَصْمين ¬
في المجلس، وبه قال الشّافعيّ (¬1) وأبو حنيفة (¬2). وليس لأحد أنّ يليَ القضاء حتّى يكون عالمًا بالكتابِ والسُّنَّة، عالمًا باختلاف الصَّحابة ومَن بعدهم، وأن يكون عالمًا بإجماع أهل العلم واختلافهم، جيِّدَ العقل أمينًا فطِنًا، فإذا كان كذلك وتقلَّد القضاء، أمضَى ما يجب عليه من الأحكام، ممّا هو منصوصٌ في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، أو ما دلّ عليه بعضُ ذلك، فإذا ورد عليه مُشكِلٌ من الأمر عندَهُ، أحضر له أهل المعرفة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وسألهم عن ذلك واستشارهم فيه. والأصل فيه: قوله تعالى لنبيِّه -عليه السّلام-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية (¬3). وقال الحسن البصريّ: قد علِمَ اللهُ أنّه ليس له إليهم حاجةٌ، ولكن أراد أنّ يسنّ لمن بعده. وكان سفيان الثّوريّ يقول: بلغني أنّ المَشُورَةَ نصفُ العقل. وقد سنّ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - الاستشارة في غيرِ ما موضعٍ، واستشارَ أصحابَهُ عام الحُديَبيّة، واستشار أبا بكرِ وعمر في أسرَى بدرٍ. وقال ابنُ سيرين: التَّثبُّتُ نصفُ القضاءِ. وقال سفيان الثّوريّ: ليكن أهل مَشُورتك أهل التّقوى وأهل الأمانة ومَن يخشى الله (¬4). فإذا استشارَ القاضي وأفتى العلماء، سألهم: مَنْ قالَهُ؟ وأين قالَهُ؟ فلا يحكم بشيءٍ حتّى تتبيّن له حُجَّة يجب أنّ يحكم بها. ولا يقلِّد القاضي أحدًا من أهل العلم في زمانه، ولا يقضي شيئًا حتّى يتبين له الحقّ فيه، لا يسعه غير ذلك. المسألة السّابعة: ومنها أنّ يحكم باجتهاد الرّأي وما رآه من ظاهر الأمر، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬5). ¬
قال عطيّة العوفي: بما أراه اللهُ في كتابه. وقال قَتادَة: بما أنزل اللهُ عليك وبَيَّنَهُ لك (¬1). والأحاديثُ كثيرة المَسَاقِ في هذا الباب، ثبت عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِذَا قَضَى الحَاكِمُ فَاجتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجرَانِ، وإذَا قَضَى فَاجتَهَدَ وَأَخطَأَ فَلَهُ أَجرٌ وَاحِدٌ" (¬2). قال الإمام: هذا الحديث يدلُّ على أنّ المجتهد المخطىء الّذي له الأجرُ، هو من كان عالمًا بالأصول والأدِلَّة، دونَ الجاهلِ الّذي لا اجتهادَ له، ثبت عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: "مَنْ عرضَ لَهُ مِنكُم قَضَاءٌ: فَليَقضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمرٌ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ فَليَقضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيّهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِده فَليَقضِ بِما قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإن لَمْ يَجِد فَليَجتَهِد رَأيَهُ" (¬3). وفي حديث شُرَيح القاضي: "فَإِنْ لَمْ يكُن في كِتَابِ الله ولَا سُنَّةِ رَسُولِ الله، وَلا فِيمَا قَضَى به أَيِمّة الهُدَى فَأَنتَ بالخِيَارِ، إِنْ شِئتَ أنّ تَجتَهِدَ رَأيَكَ، وَإِن شِئتَ أنّ تَقضِي بِذَلِكَ" (¬4). وحديثُ معاذ بن جَبَل الّذي خرَّجه أبو عيسى (¬5)؛ قال: بَعَثنِي رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ، فَقَالَ لِي: بِمَاذَا تَحكُمُ يَا مُعَاذُ؟ قُلتُ: بِكِتابِ اللهِ، قالَ: فَإِن لَمْ تَجِد؟ قُلتُ: بِسُنَّةِ رَسُولِ الله، قال: فَإِنْ لَمْ تَجِد؟ قُلتُ: أجتهِدُ رَأيِي. قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الّذي وفق رسولَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
اعتراض: فإن قيل: ليس حديثُ معاذ بصحيحٍ، ولا متَّصل السَّنَد. قلنا (¬1): قد اختلف العلّماءُ في هذا الحديث، فمنهم من قال: هو صحيحٌ، ومنهم من قال: إنّه لا يصحّ (¬2)، والَّذي أقول: إنّه صحيحٌ سَنَدًا ومعنًى؛ لأنّه حديثٌ مشهورٌ، رواه شُعبةُ بن الحَجَّاج، ورواه عنه جماعةٌ ثِقَات. المسألة التّاسعة وهي مسألة أصولية: (¬3) قلنا: لو اتّفق العلّماءُ على صحة هذا الحديث، لم يكن أصلًا للتعلُّق عند علمائنا الأصوليّين في إثبات الاجتهاد؛ لأنّ خبرَ الواحدِ على أصلهم لا يتعلَّق به. ولكن أقول: إنّه يضافُ على أصلهم إلى غيره، فيكون مجموعًا من باب التّواتر المعنويّ، كشجاعة أبي بكر وَجُودِهِ بماله على الدِّينِ في مصالح المسلمين. المسألة العاشرة (¬4): في ترتيب أدلة الأحكام من الكتاب والسُّنَّة والأخبار وذلك أنّ القرآن هو الأصل في البيان، وهو فيه على وجوهٍ من الجَلَاءِ والخَفَاءِ، فتولَّى النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بيانه، كما قال جلَّ ثناؤه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية (¬5)، فإن لم يكن في الكتاب جلاءٌ، طلَبَهُ في بيانِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وبَقِيَ إنَّ كان بين القرآن والسُّنَّة تعارضٌ، وهي مسألة خلافيّة طُبوليّة، بيّنّاها في "أصول الفقه". ¬
المسألة الحادية عشرة (¬1): قوله (¬2): "أَجتَهِدُ رَأيِي" قال علماؤنا: هو أفتعل من الجُهد، وهو الجِدّ في الأمر بجميع وجوهه، يعني في طلب النّظائر والأشباه الّتي تُلحِق المسكوت بالمنطوق به فيها. المسألة الثّانية عشرة: المطلوب بالاجتهاد وفيه زِحَامٌ كثيرٌ واضطرابٌ طويلٌ، وقد اختلفَ أهل العلم أيضًا في كيفيّة الاجتهاد، فكان الشّافعيّ (¬3) يقول: لا يجوز أنّ يقول: إنّا استَحسَنَّا كذا , ولا بما خطر على قلوبنا، ولا نقولُه قياسًا على اجتهاده على طلب الأخبار اللّازمة. وقال أبو عُبَيْد: الاجتهادُ عندنا هو الاختيار من المذاهب إذا اختلفت وتضادّت، فحينئذٍ يحسن التّدبير لَأقرَبِها إلى الرُّشد والصّواب، فإن عرض للقاضي ما ليس بموجود نَعتُه في هذه الخِصال، رجع إلى الكتاب والسُّنَّة، وما حكَمَت به الأُمَّة والصّالحون بالإجماع. وقال الشّافعيّ: والعلّم طبقات: الأوّل: الكتابُ والسُّنَّةُ إذا ثبتت. ثمّ الثّانية: الإجماعُ فيما ليس فيه كتابٌ ولا سُنَّةً. والثالثة: أنّ يقولَ بعضُ أصحابِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك، ولا يعلم له مخالفًا منهم. الرّابعة: اختلاف أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. والخامسة: القياسُ على بعض هذه الطبقات. وقال الّذي موضع آخر: فأمّا أنّ يقلِّد مستشيرًا، فلم يجعل اللهُ هذا لأَحَدٍ بعدَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
اصطلاح (¬1): قال شيخنا أبو بكر بن العربي: المطلوبُ بالاجتهادِ فيه كلام طويلٌ كما قدّمنا، والذي يظهر الآن، أنّه ما يغلبُ على ظنِّه أنّه نظير ما وقع البيانُ فيه من الله تعالى. المسألة (¬2): في حديث معاذ تحريم التّقليد، ولكن على من كانت له قُدرة على النّظر، وعِلمٌ بمآخذ الأدلَّة، وفي الأحاديث الحِسَان واللّفظُ لأبي داود (¬3) أكثر من أبي عيسى (¬4)، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بَعَثَنِي رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إِلَى اليَمَنِ، وَلَا عِلمَ لِي بالقَضَاءِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله تُرسِلنِي إِلَى اليَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنَّ وَلَا عِلمَ لِي بِالقَضَاءِ؟ قالَ: "إِنَّ اللهَ سَيَهدِي قَلبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ. إِذَا تَقَاضَى إِلَيكَ رجُلَانِ فَلَا تَقضِي لِلأوَّلِ حَتَّى تَسمَعَ كَلَام الآخَرِ، فَإنَّهُ أَحرَى أنّ يَتَبَيِّن لَكَ القَضَاء. قَالَ: فَمَا شَكَكتُ في قَضَاءٍ بعدُ". قال أصحاب أبي حنيفة (¬5): قولُ النَّبيِّ لعليِّ: "إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ الخَصمَانِ فَلَا تقضِ لأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسمَع مِنَ الآخَرِ". فيه دليلٌ على أنّه لا يُقضَى على الغائب إذا ادُّعِيَ عليه، وهي إحدى رِوَايَاته، في تفصيلٍ طويلٍ؛ لأنّه لم يسمع منه، وهذا إنّما هو مع إمكان السّماع من الآخر، وأمّا مع تعذُّرِهِ لغيبه، فلا يمنع القضاء، كما لو تعذَّر بإغماءٍ أو جنونٍ، وقد ناقض أبو حنيفة في القضاء في الوديعة على المُودعِ عنده بالنَّفقة، وهذا ¬
خطأ منه، وفي "التّرمذيّ" (¬1):" أَقضَاكُم عَلِيّ، وَأَعلَمُكُم بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَأَفرَضُكُم زَيدُ بنُ ثَابِتٍ" الحديث، ولا يكون قاضيًا إِلَّا مَنْ عَلِمَ الحلال والحرام، ولكن سُرعة الفصلِ صنعةٌ في القضاء، والغَوص على دقائق الأدلّة نوعٌ من الفِطنَة، كما كان عليّ رضي الله عنه. المسألة الخامسة عشرة (¬2): قولُه: "أَجتَهِد رَأيِي" فيه دليلٌ على أنَّ مَنْ فيه ذلك، فيه صفةٌ من الاجتهادِ، وذلك معنًى يختصُّ بالعالِمِ دون المقلِّدِ. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (¬3): يجوز أنّ يولَّى المقلِّد القضاءَ، وكذلك رجلٌ عَلِمَ الحقَّ فقضَى به، وهذا ليس بصفةِ المقلِّد (¬4)، في كلام طويل (¬5). المسألة السّادسة عشرة (¬6): خطأُ القاضي بِعِلْمِ لا يُوجِبُ عليه ضمانًا ولا يُدركه منه تعقب، فإذا قضى بجهل، فحُكمُه حكم المتعدي في ماله وبَدَنِهِ، وُيؤخذ منه القِصاص في كلِّ واحدٍ منهما ممّا يتعلَّق به، فهذا كان عالمًا لم يلزمه شيءٌ. والأصل في ذلك: أنّ خالد بن الوليد لَمَّا أخطأ في بني جَذِيمَةَ لم يعلِّق النَّبيُّ به ¬
شيئًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أنّه قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبرَأُ إليك مِمَّا صَنعَ خَالد في دمَائِهِم وأَمْوَالِهِم " (¬1) والمعنى يعضُدُه؛ فإنّ القاضي لو نظر بشرطِ سلامةِ العاقبةِ، وهو لا يُعَوَّل على النّصِّ وإنّما مَبنَى حكمه على الاجتهاد، لكان ذلك باطلًا من وجهين: أحدهما: أنّه كان يكون تكليف ما لا يُطاق. والثّاني: أنّه كان يكون تنفيرًا للخلقِ عن الولاية، فتتعطّل الأحكام. المسألة السّابعة عشرة: واختلفَ العلّماءُ فيما يخطىءُ فيه الإمامُ من قتل أو جرحٍ على ثلاثةِ أقوالٍ: 1 - فقال الثّوريُّ وأحمد وإسحاق وأصحاب الرّأي (¬2): هو على بيت المال. 2 - والقول الثّاني: أنّ هذا على عاقلة الأرحام، وهذا قول الشّافعيّ (¬3). المسألة الثّامنة عشرة: هل يكونُ الحاكمُ مصلِحًا أم لا؟ قيل: يكون أكثر جريه إلى الصّلح، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية (¬4)، ولحديث النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه مشَى إلى ناسٍ من الأنصار ليُصلِحَ بينهم (¬5). وقال جماعة المسلمين: إنَّ الصُّلح جائزٌ بين المسلمين، وللحاكم أنّ يُصلِحَ بين الخصوم، وذلك مذهب الشّافعيّ والكوفيّ (¬6). وقال عطاء: لا يحلُّ للإمام إذا تبيِّنَ له القضاء أنّ يُصلِح بين مَنْ تبيَّنَ له القضاء فيما بينهما، وكان أبو عُبَيد إنّما يَسَعُه ذلك في الأمور المُشكلة، وأمّا إذا صارت الحُجَّةُ ¬
لأحد الخَصمَيْن على الآخر، وتبيِّنَ للحاكم الظّالمُ منهُما من المظلومِ، فليس يجب عليه أنّ يحملهما على الصُّلحِ. قال الإمام: وهذا قولٌ قويٌّ جدًّا في النّظر. المسألة التّاسعة عشرة: هل يكون للقاضي تُرجمانٌ يترجِمُ عن الألسن للقاضي؟ ففيه أقوال: كان الشّافعيّ (¬1) يقول: لا تُقبَل التّرجمة عنه -يعني العجمي- إِلَّا بشاهدين عدلين يعرِفَان ذلك اللِّسان. وقال قومٌ: لا يحلُّ للقاضي أنّ يحكُمَ حتّى يعرِفَ جميع الَألسُن (¬2)، وهذا بعيدٌ جدًّا. وقيل: إنَّ المسلم إذا تَرجمَ عنه قبل منه، واثنان أحبّ إليَّ، ولا يقبل في ذلك كافرٌ، ولا مُكاتَبٌ، ولا عبدٌ، ولو قَبِلَ ترجمة امرأةٍ بعد أنّ تكون حُرّة مسلمة عَدْلَة فهو في سَعَةٍ، ورجلان أو رجلٌ وامرأتان أحبّ إلينا، هذا قول أبي حنيفة (¬3) ويعقوب. الموفية عشرين: في ذِكرِ ما يجوزُ إنفاذُه من كُتُبِ القضاة بعضهم إلى بعض قال جماعة العلماء: إنَّ ذلك جائزٌ إذا كُتُب قاض إلى قاض، ولا يكون ذلك إِلَّا بشاهِدَين عَدْلَين معروفَين، يقرؤُه عليهما، ويشهدان على ما فيه على خاتم القاضي، وعلى ما في كتابه كلَّه؛ لأنّه حقٌّ، وهو مثل شهادة على شهادة. نازلة: كتابُ القاضي يصلُ وقد مات المكتوبُ إليه وولي غيره؟ فاختلف العلماء فيه: فقيل عن الحسن البصريّ أنّه قَبِلَ كتابُ قاضي الكوفة إلى إياس بن معاوية في حكمٍ وقد عزل إياس، فأمر الحسن بعده بإنفاذه. ¬
وقال الشّافعيّ (¬1): يقبله ولا يمتنع من قَبُوله بموته ولا عزله؛ لأنّه تُقبل بيِّنتُه كما يُقبلُ حُكمُه. وقال أصحاب الرّأي (¬2): لا يُعمل به. والحقّ إنفاذه. نازلة أخرى: وإذا كتب القاضي إلى القاضي في الحدود، فكان أبو ثور يُجيزُ ذلك في الحدود كلِّها، وهو مذهب الشّافعيّ (¬3)، وبه قال ابنُ القاسم (¬4) صاحب مالك. وقال الشّافعيّ (¬5): فيها قولان: إنَّ ذلك جائز، والآخر: لا يجوز. وقال أصحاب الرّأي (¬6): لا يُقبلُ كتابُ القاضي إلى القاضي في الحدود. قال الإمام: والأوّل أصحّ، وأقوى في النّظر أنّه يقبل. نازلة أخرى: في القضاء على الغائب وهي مسألةٌ عظيمةٌ اختلف العلماء فيها، فممّن كان لا يرى القضاء على الغائب شُرَيح القاضي، والقاسم، وابن أبي ليلى، والنّعمان (¬7)، ويعقوب. وقال مالك (¬8) والبخاري والشّافعيّ (¬9) وأبو عُبيد واللّيث وأبو ثور إنَّ ذلك جائزٌ, وقالوا: الدّليل على القضاء على الغائب: أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَضَى لهند على أبي سفيان، فقال لها: "خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدكِ بِالمَعرُوف" (¬10) وقد بيَّنَّا في "مسائل الخلاف" أنّ هذا وهم عظيم منهم أنّ تعلّقوا بهذا الحديث، وهو لا متعلّق لهم به، وحفقنا أنّها كانت فتوى ¬
واهية، وأن أبا سفيان كان حاضرًا , ولا خلاف بين الأُمَّة أنّه لا يقضى على غائب في بلدٍ معلومِ الموضع. الحادية والعشرون: في ذكر أرزاق القضاة قال الإمام: هذه مسألةٌ اختلفَ أهل العلم فيها، وكَرِهَ طائفةٌ أنّ يَأخُذَ على القضاء أجرًا، وهو مذهب الحسن البصري، وإنّما كان هذا مذهَبُه لِوَرَعِهِ وزُهده في الدّنيا، وبه أخذ الشّافعيّ (¬1) والقاسم، وقال مرّة (¬2): إنَّ أخذ جعلًا لم يحرُم عليه عندي. وقال أحمد: ما يُعجِبُني أنّ يأخذ على القضاء أجرة، "وإن كان فيعدّ عليه. ورخّصت طائفة أخرى فيه منهم: ابن سيرين، وشُرَيْح. واحتجُّوا في ذلك: بأن عمر بن الخطّاب استعمل ابن مسعودٍ على بيت المال، وعمّار بن ياسر على الصّلاة، وابن حنيف على الجُنْد، وَرَزَقَهُم كلّ يوم شاة شَطرُها لعمّار، ورُبعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف. ورخّص في ذلك إسحاق بن رَاهُويَة وأبو عُبَيْد. وقال أبو بكر بن المنذر (¬3): "الأعلى والأسلم له ترك الدُّخول في القضاء، استدلالًا بحديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه استعمل رجلًا على عمل، فقال: يا رسول الله جُدْ لي قال: "اجلس وَالزَم بَيتَكَ" (¬4) ". قال الإمام: ولا شكّ أنّ الّذي أشار إليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان لمعنى توجّسه فيه، والصّحيح أنّه إنَّ ولي القضاءَ رجلٌ وكان مستغنيًا عن أخذِ الأجُرة، فالأفضل له ألَّا يأخذ شيئًا ويعمل لله، فإنِ احتاجَ رُزِقَ على قَدرِ عَمَلِه وعِلمِهِ من مال الفيء، وليس له أنّ يأخذ ¬
من أموال الصّدقات ولا من المغانم. الثّانية والعشرون: في قَبُول الهديّة والرَّشوة للأمراء والقضاة فيه أحاديث كثيرة وشواهد جَمَّة، قال اللهُ تعالى في ذَمِّ من أكل أموال النَّاس بالباطل: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الآية (¬1)، ففسَّرَ ذلك الحسن: أنّها الرَّشوة (¬2). وقال مجاهد: هي الرّشوة في الحُكم (¬3). وثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَعَنَ الرَّاشِي وَالمُرتَشِي في الحُكم (¬4). وسُئِلَ ابن مسعود عن الرِّشا في الحكم؟ قال: ذلك الكفر (¬5). وقال النخعي: الرِّشَا في الحكم سُحتٌ. وكان الشّعبيّ والحسن البصري يقولان: لا بأس أنّ يُصانِع الرَّجل على نفسه وماله إذا خاف الظُّلم (¬6). وقال جابر بن زيد: ما رأينا في زمان زياد أنفع من الرَّشا (¬7). وسئل أحمد عن الرِّشوة؟ فقال: أرجو إذا كان يرفع بها عن نفسه الظُّلم. وقال الشّافعيّ (¬8): أكره للقاضي الشِّراء والبيع والنّظر في النّفقة وفي ضَيعَته. ويُكرَهُ للقاضي أنّ يفتي في الأحكام إذا سئل عن ذلك، وكان شُرَيْح يقول: إنّما أقضِي ولا أفتي، وأمّا الفتوى في سائر الأمور من الطّهارة والصّلاة، والزّكاة والحجِّ، ¬
والأطعمة والأشربة، وكل ما هو من باب الأقضية فمباح له. حديث في "التّرمذيّ " (¬1) فيه قَيس بن أبي حَازِم، عن مُعاذ؛ قال: بَعثَنِي رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إِلَى اليَمَنِ، فَلَمَّا سِرتُ أَرسَلَ لِي، فَقَالَ: "أَتَدرِي لِم بَعَثتُ إِلَيكَ؟ لَا تُصِيبَن شَيئًا بغَيرِ أمرِي فَإنه غُلُول، وَمَن غَلً يَأتِ بِمَا غَل يَومَ القِيَامَةِ. فَلِهَذَا دَعَوتُكَ، فَامضِ لِعَمَلِكَ"، وهو حديث حَسَن غريب (¬2)، والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا. عربيّة: في أربعة ألفاظ (¬3): الأوّل: "الغُلولُ" وهي الخيانة عامّة، فإذا كانت في الغنِيمَة ونحوها فهي غُلولٌ في عُرفِ الشّرع على الإطلاق. اللّفظ الثّاني: "الرِّشوة" وهو كلّ مالٍ دفع ليبتاع به من ذي جاه عَونًا على ما لا يجوز، والمُرتَشِي هو قابِضُه، والرَّاشي هو دَافِعُه، والمُرَاشِي هو الّذِي يوسّط بينهما، رواه أهل العربيّة. اللّفظ الثّالث: "الهديّة" وهي كلُّ مالٍ أعطاهُ عِوَضًا عن مَحَبَّةٍ ومودَّةٍ بينهُما (¬4). اللّفظ الرّابع: "الأكارع" قوائم الشّاة الأربعة، واحدهما كُرَاع. وبالجملة فقد أجمع الفضلاء والعلّماء الجِلَّة على ذمِّ الرِّشوةِ وأنّها سُحتٌ، وهي الّتي ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه، رَوَى أبو داود في "السُّنن" (¬5) أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ¬
شَفَعَ لأخيه شَفاعَةً، وأَهدّى لهُ هَدِيَّة عَلَيها فَقبِلَهَا، فَقَد أّتّي بَابًا عظِيمًا من الرِّبَا والسَّرِقَة" لأنّك إذا قدرت على قضاءِ حاجتِهِ عند السُّلطان الظّالم أو السَّيِّد القاهر، صار ذلك واجبًا عليك. وقال بعضُهم: الهديَّةُ تعمي وتصمّ، وأنشدوا (¬1): إِذَا أَتّت الهَدِيَّةُ دَارَ قَومٍ ..... تَطَايَرَت الأمَانَةُ مِن كُوَاهَا وقال آخر (¬2): إِنَّ الهَدِيَّةَ حلوة ..... كالسِّحرِ تجتلبُ القلوبا وقال آخر (¬3): وأَكرَمُ شَافعٍ يَمشِي عَلَيهِ .... أبُو المَنقُوشِ فَوقَ الصَّفحَتَين والأخبار في ذلك كثيرة أضربنا عنها في هذا "المختصر". حديث عمر بن الخطّاب (¬4) إِذِ اختَصَمَ إِلَيهِ يَهُودِيٌ وَمُسلِمٌ. فَرَأَى عُمَرُ أنّ الحَقَّ لِليَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ عُمَر. فقال اليَهُوديُّ: وَاللهِ لَقَد قَضَيت بِالحَقِّ فَضرَبَهُ عُمرُ بالدّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدرِيكَ؟ ققَالَ اليَهُودِيُّ: إِنا لَنَجدُ في التَّورَاةِ أَنَّهُ لَيسَ قَاضٍ يَقضي بالحَق، إِلَّا كَان عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وعَن شِمالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانه وُيوَفِقانه لِلحَقِّ، مادَامَ مَع الحَقِ، فَإِذَا تَرَكَ الحَقَّ، عَرجَا وَتَرَكَاهُ". الفقه في أربع مسائل: المسألة الأوُلى: "ضَربَ عُمَرُ اليهُودِيِّ بالدِّرَّةِ" يحتمل أنّ يكون إنّما ضربه لَمَّا زكّاه في وجهه، فكره ذلك منه. ويحتمل أنّ يكون إنّما ضربه لقَطعِهِ باليمين على الحُكم بالظّاهر، حتّى ذكر له اليهوديّ الّذي حمله على اليمين، وهي مسألة عظيمة، هل يقضي القاضي بالظاهر من الأمور؟ والمشهور أنّه يحكم بالظّاهر، لقوله (¬5): "وإِنَّمَا أَقضِي لَهُ عَلَى نَحوِ مَا أَسمَعُ" (¬6). ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله: "اختَصَمَ إِلَيهِ يَهُودِيٌّ وَمُسلِمٌ" يقتضي أنّ كلّ حكمٍ بين مسلم وكافر فإنّما يُقضَى فيه بحكم الإسلام؛ لأنّ الذِّمَّة على هذا عُقِدَت. وإن كانوا أهل حرب، فإن أمكن الحُكم بين المسلم وبينهم على حكم الإسلام نَفَذَ، وإن تَعَذَّرَ ذلك لم يخرج أمرُهُم على وجه الحكم، وذهب به إلى الصُّلح. المسألة الثّالثة (¬2): وأمّا "أحكام أهل الكفر" فلا يخلو أنّ يكونوا على دِينٍ واحدٍ، أو دينَينِ، فإن كانوا على دِينٍ واحدٍ، لم نتعرّض لهما (¬3)؛ لأنَّ الذِّمَّة انعقدت على ذلك (¬4)، على أنّ لا تجري في أحكامهم بينهم إِلَّا باجتماع رضاهم ورِضَى الأساقفة، فإن رضيا دون الأساقفة، والأساقفة دونهما، لم يحكم بينهما (¬5)، وفي "كتابُ ابن عبد الحكم": إن رضيا حكمَ بينهما، كان أبى أحدهما لم يعرض لهما، فإنِ اتّفقَا، فالحاكمُ مُخَيَّرٌ بين الحُكْم وتركه. والأصل في ذلك: قولُه تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الآية (¬6). المسألة الرّابعة (¬7): وأمّا "إنَّ كانا على دِينَينِ" ففي "النّوادر" (¬8) قال يحيى بنُ عمر: يحكم بينهما وإن أبى أحدهما، لاختلاف مِلَّتِهِما. المسألة الخامسة (¬9): وهذا في طريق التّطالب في الحقوق، وأمّا التّظالم كالغَصبِ والسَّرِقة؛ فإنّه يحكم ¬
باب ما جاء في الشهادات وأحكامها وسننها
في ذلك أهل الإسلام، سواء كانوا مسلمين أو كافرين، على ملَّةٍ واحدة أو ملّتين، وهذا كلّه قول مالك في "كتابُ ابن عبد الحَكَم" وغيره. باب ما جاء في الشهادات وأحكامها وسننها قال الإمام: الأصلُ في هذا الباب: الكتاب والسُنَّة والأدلّة. اعلموا أنّ الله سبحانه قد نَدَبَ الإشهادَ على الدُّيون في كتابه، فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية (¬1)، وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية (¬2) , وقال تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية (¬3)، وقال: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية (¬4)، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} الآية (¬5)، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية (¬6). الأصول (7): قال الإمام: اعلموا - وفقكم اللهُ- أنّ الشّهادةَ ولايةٌ من وِلاياتِ الدِّين، وهي بمعنَى التَعديل عندنا؛ لأنّه تنفيذُ قولِ الغَيرِ على الغَيرِ، والأصلُ إِلَّا يَنفُذَ قولُ أحدٍ على أحد، ولكن لمّا خلق الله الخَلقَ للخُلطَةِ والمَعَاشِ والمُعاملة، وكتبَ عليهم ما علِمَتهُ الملائكةُ فيهم من الفساد وسفكِ الدِّماء، وجَحدِ الحقوق والتوائِها، شَرَعَ اللهُ الشّهادةَ، ¬
ونفذَ بها قولُ الغيرِ على الغيرِ على وجه المصلحة، للحاجة الدّاعية إلى ذلك، إحياءً للحقوق الدّارسة. وقد رَوَى جماعة من العلماء عن النّبيّ -عليه السّلام- أنَّه قال: "لَمَّا خلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاستَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَعَرَضَهُم عَلَيهِ، فَرَأى فِيهِم رَجُلًا حَسَن الوجه، قَصِيرَ العُمرِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ. قَالَ: هَذَا ابنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: مَا أَحْسَنَ وَجهَهُ، وَأَكثَرَ عِبَادَتَهُ، لولَا قِصَر عُمرِه. قَالَ يَارَبِّ كَم عُمرَهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ لَهُ: يَا رَبِّ زِدهُ (¬1). قال: لا، زِدهُ أَنتَ من عُمرِكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ آدَم: يَا رَبِّ عُمرِي أَلف سَنَة، اعطِهِ مِنهُ أَربعِينَ سَنَة تكمل لَه بِهَا مِئَة سَنَة. قَالَ لَهُ: قَد فَعَلتُ. قَالَ: فَلَمَّا كَمُلَت مُدَّة آدَم عَلَيهِ السّلام وَجَاءَهُ مَلَكُ الموتِ لِيَقبِضَ رُوحَهُ، قَال لَهُ: فِيمَ جِئتَ؟ قَالَ: جِئتُ لِقَبضِ رُوحِكَ. قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ لِي أَربَعُون عامًا. قَالَ لَهُ: أَلَم تَهبهَا لابنِكَ دَاوُدَ (¬2)؟ قَالَ: لا. قَالَ النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: فَجَحَدَ آَدَمُ، فَجَحَدَت ذُرِّيَّتَهُ، وَنُسِّي آدَمُ فَنُسِّيت ذُرِّيَّتُهُ (¬3) " (¬4). ورُوي أنّه قال: "وَمن ذَلِكَ اليوم أُمِرَ بالكِتَابِ وَالشُّهُود (¬5) " (¬6). وروَى جماعةٌ في الحديث: "فأكمَلَ اللهُ لآدَم الَألف، وَلِدَاوُد الأَربَعِين" (¬7). (¬8) ولكونِها ولايةً من الوِلَاياتِ، وكثرةِ فسادِ النَّاس فيها، وتتابُعِهِم بالمُسامَحَةِ بالزُّورِ ¬
في أدائها، حتّى صارت في بغداد والشّام ولايةً من قِبَل الإمام والقاضي، وصارت الفتوى مُرسَلَةً، ولا يَشهَدُ ببغداد والشامِ إِلَّا من ولّاه القاضي، ويُفتِي كلُّ من عَلِمَ من غير إذنٍ، وهذه هي المصلحةٌ؛ لأنّ المُفتِيَ إذا زَاغَ فَضَحَهُ العِلمُ، والشّاهدُ لا يَعلَمُ زَيغَهُ إِلَّا اللهُ. وقَلَب أهلُ بلادِنا في ذلك القَوسَ رَكْوَةً، وسيرةُ بغدادَ أحسنُ وأصلحُ، ولأجل ذلك كان الشّاهدُ مَنْ جَمَعَ خِصالًا جَمَّةً، وهي خَمسٌ: 1 - البلوغُ. 2 - الذُّكورية. 3 - الإسلامُ. 4 - العدالةُ. 5 - المُرُوءَةُ. أمّا "البلوغُ" فأجمعتِ الأُمًةُ عليه؛ لأنّ الصغيرَ قليلُ الضَّبطِ ناقصُ العقلِ يَقبَلُ الخَدِيعَةَ، فلذلك لم تَجُز شهادتُه، ولم يَقُل بجواز شهادتِه أحدٌ فيما علمتُه، إِلَّا عبدُ الله بن الزُّبير فإنّه جوَّزَ شهادةَ الصِّبيَانِ فيما بينهم من الجِرَاحِ، وتابَعَهُ علماؤنا. واختلَفَ قولُ مالك في القتل، وذكَر في "الموطَّأ" (¬1) من شروط شهادتِهِم واحدةً، وهو ألَّا يُخَبَّبُوا بعد تفرُّقهم أو يُعَلَّمُوا. وذكر المتأخِّرون من علمائنا أنّ شروط قبُول شهادة الصِّبيان سبعةٌ: 1 - العقل. 2 - والإسلام. 3 - والذُّكورية. 4 - والحريّة. 5 - بينهم في الجراح. 6 - 7 - واختلف قولُ مالك في القتل قبل التّفرُّدِ اثنان فصاعدًا. ¬
فأمّا "اشتراطُ العقلِ" فلأنّه أصلُ التّحصيل. وأمّا "اشتراطُ الإِسلامِ" فلأنّ الكافرَ لا شَهَادةَ له؛ لأنّ الله وَصَفَهُ بالكَذِبِ، ولأنّه ولايةٌ شرطُها الكرامةُ، والكافر حقُّه الإهانةُ. وقد قال أبو حنيفةَ (¬1): تجوزُ شهادةُ الكفّارِ بعضِهِم على بعضٍ إذا كانوا عُدُولًا في دِينِهِم، وقد بيَّنَّا فسادَه فيما تقدّم في "مسائل الخلاف". وقال أحمدُ بنُ حنبل (¬2): تجوزُ شهادةُ الكفّارِ على المسلمين في الوصيّةِ في السَّفَر، لقوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآية (¬3)، يريدُ: من غير أهلِ مِلَّتِكُم. قلنا: إنّما أراد من غير قبيلتكم. فإن قيل: هذا لا يَصِحُّ؛ لأنّ الآية إنّما نزلت في شأن تَمِيم الدَّارِيِّ، وعَدِيِّ بن بَدَّاءٍ حِينَ أخذا جَامَ فِضّةٍ (¬4) ورَوَى التّرمذيُّ (¬5) وغيرُه (¬6)، عن تَمِيمٍ في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية (¬7)، وذكر الحديث. قلنا: هذا حديثٌ ضعيفٌ، فلا يُلتَفَتُ إليه، وقد بيَّنَّا لكم أنّ أضَرَّ شيءٍ بالمُتعلِّم أو العالِمِ الاشتغال بالحديث الضّعيف، وهذا حديثٌ ليس له أصلٌ في الصِّحَّةِ، فلا يجوزُ أنّ يضافَ إلى القرآن الّذي هو الصّحيحُ، وأصحُّ كلِّ صحيحِ، وإنّما يُبَيِّنُ القرآن، ويضافُ إليه الحديثُ الصّحيحُ، وفيه وقَعَ الوَعدُ الكريمُ في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية (¬8). وأمّا "الذّكورية" فلأنّ شهادةَ الأُنثى ليست بأصلٍ في الشّهادة، وإنّما هي بَدَلٌ، أو ¬
كما قال أهل خُراسانَ: شهادةُ ضرورةٍ، ولأجل ذلك جاءت في القرآن بصفة الضّرورة، وعلى نَعتِ البّدلِيَّة، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬1)، كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} الآية (¬2)، وقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬3) وإنّما جَازَت في الأموالِ رِفقًا من الله تعالى (¬4)، فلو وقَفَ رَبطُ الشّهادةِ على الذُّكور في ذلك، لَضاعتِ الحقوقُ، فَرُخِّصَ في شهادةِ النِّساء في ذلك، وبَقِيَت في أصلِ الرَّدِّ في غيرِها من الحقوق، وقد حصلَ الإجماعُ على أنّها لا تجوزُ في الدِّماء. وأمّا "الحريةُ" فإنّها شرط عند عامّة العلماء. وقال أحمد (¬5): تجوزُ شهادةُ العبدِ؛ لأنّه عَدلٌ، والدّليلُ على ثبوت عَدَالَتِه قَبُولُ روايته. وعَسُرَ الانفصالُ على سائر العلماء عن دليل أحمدَ هذا، وسَلَكُوا فيه طُرُقًا بيّنّاها في "مسائل الخلاف" يغنيكُم الآن عنها انفصَالان: الأوّل: أنّ العبدَ مُستَغرِقٌ الأوقاتِ في حقِّ السَّيِّد، فلا يجدُ سبيلًا إلى الشّهادة. والثّاني: أنّ اعتبار الشّهادةِ بالخَبَرِ فاسدٌ؛ لأنّ وَضعَها في الشّريعة مختلِفٌ، أَلَا ترى أنّ شهادةَ المرأةِ لا تجوزُ في القِصَاصِ، ويجوزُ قَبولُ روايتها، ويجوزُ قَبُولُ روايةِ الفَرْعِ، ولا يجوزُ قبُولُ شهادةِ الفرعِ مع وُجُودِ الأصلِ، وهذا بَيِّنٌ عند التّأمُّل، وفيه إنصافٌ بينَنَا وبَينَه. أمّا قَبُولها في الجراح خاصّة؛ فلانّه الّذي يقع بينهم في الغَالِب، ولا يحضُرُهُ غيرُهُم، فَدَارَتِ الحالُ بين أحد أمرين؟ إمّا أنّ يَضِيعَ هذا الحقُّ، وذلك لا يجوزُ. أو تُقْبَلَ فيه شهادة الصِّبيانِ، وذلك أحسنُ، ولقوله مع صِغَرِه موضعٌ عظيمٌ في التّحليلِ ¬
والتّحريم، وهو في إباحة الدُّخُولِ إلى المنزلِ وهَتكِ السِّترِ الّذي كان محرَّمًا قَبلَ قَولِهِ، ولكنّه جاز ذلك للحاجة إليه، ولأنّه لا غَنَاءَ فيه، فكذلك في مسألتنا. وركَّب عليه علماؤنا شهادةَ النِّساء في المواضع الّتي لا يكونُ فيها غيرُهُنَّ، كالأعراسِ والمآتمِ والحمّاماتِ. وأمّا قولُنا: "بينّهم" فلأنّها شهادةُ ضرورةٍ: فَتُقَدَّرُ بقَدرِ الضَّرورةِ. وأمّا شرطُ "الإثنَينِيَّة " فلأنّها أصلُ الشّهادات حيثُ وُضِعَت، ولا تجوزُ شهادةُ وَاحدٍ عند جميعِ العلماء (¬1)، ولا يَثبُتُ بها حقٌّ من الحقوق إجماعًا، إِلَّا في مسألةٍ واحدةٍ اختلف فيها علماء الإسلام، وهي شهادةُ القابِلَةِ وحدَها على الولادة، ومن روايات مالكٍ أنّها تجوزُ، والأصلُ في ذلك: الضّرورةُ الدّاعيةُ إلى ذلك؛ لأنّه لا تحضُرُ المرأة غيرُها، فلو لم تَقبَل شهادتُها لضاعَتِ الولادةُ، ولبطَلَ ما يتركَّبُ عليها من نَسَبٍ وحُرمَةٍ وميراثٍ وسائر الحقوقِ. حديثٌ: ثبت عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ألَّا أُخبرُكُم بخير الشُّهَداء؟ الّذي يَأتِي بِشَهَادَتَهِ قَبلَ أنّ يُسأَلَهَا" (¬2). وثبت أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَكرمُوا أَصحَابِي فإنّهم خِيارُكم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ يَظهَرُ الكَذِبُ حَتَّى يَحلفَ الإِنْسَانُ عَلَى اليَمِينِ لا يسألها، ويَشْهَدُ عَلى الشَّهَادَةِ لا يسألها، فمَن سَرَّه بَحبُوحَة الجَنَّةِ فَعَلَيهِ بِالجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِن الاثنين أَبعَدُ" (¬3). ¬
الأصول: فإن قيل: ما الفرقُ بين الحديثين؟ قيل له: الفرق بين الحديثين أنّه فرقٌ بين المذمُومِ من الشّهادات، وهو شهادة الكذب، وبين الشّهادةِ الّتي المرءُ فيها صادقٌ. ما جاء من الفرق بين الشهادتين (¬1): ألَّا تراهُ قال في الخبر الأوّل: "أَلَا أُخبِرُكُم بِخَيرِ الشُّهَداءِ"، وقال في الخبر الثّاني: " ثُمَّ يَظهَرُ الكَذِبُ" فدلَّ ذلك على أنّ الشَّهادة المذمومة شهادة الكذب، خلافًا للشّهادة الّتي يكون فيها الشّاهد صادقًا فيها. ورُوِيَ عنه -عليه السّلام- أنّه قال: "خيرُكُم قَرنِي، ثُمَّ الذين يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذين يَلُونَهُم، ثُمَّ يَأتِي قَومٌ يَشهَدُون ولا يُستَشْهَدُون" (¬2). قال النّخعيُّ: معنى الشّهادة هاهنا اليمين، وقد سمّي اليمين شهادة، يريد أنّ يحلف قبل أنّ يستحلف. المسألة الثّانية: وقوله (¬3): "شهَادَاتُ الزُّورِ". وهي من الكبائر، وقد قرنت بالشِّرك باللهِ تعالى وعقوق الوالدين، وكان عبد الله بن مسعود يقول (¬4): عدلت شهادة الزّور بالشِّرك بالله، ثمّ قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} الآية (¬5). (¬6) (¬7) ¬
وقال مجاهد: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬1) قال: هو الكذب (¬2)، وكذلك قال أبو عُبَيدَة (¬3). واختلف العلّماءُ فيما يُفعَلُ بشَاهِد الزُّور: فقال علماؤنا: يؤدبُ الأدب الوَجِيع، ويُشهر حتّى يكون ذلك رَدعًا لغيره، ولا تحلق له لحيته، فإن الله تعالى لم يشرع في الحدود تغيير الهيئة والخِلقَة. وقال أبو حنيفة (¬4): لا أدب عليه، وإنّما عقوبته ردّ شهادته؛ لأنّه قائل كذب وزور، فلم يجب عليه أَدَبٌ ولا تعزيرٌ، أصله: المظاهرة، وعلى هذه النُّكتة عَوَّلَ علماؤنا من أهل العراق وخراسان، وقد بيَّنَّا في "مسائل الخلاف" أنّ الله جعل جزاءَ الظِّهَارِ الكفّارة؛ لأنّه لم يضرّ بذلك إِلَّا نفسه، وهو ذَنْبٌ لا يتعدّى لغيره، وكان في الأصل طلاقًا، فأرخص اللهُ فيه فصار ظِهَارًا فافترقا. وقد رُويَ عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: يُخَلَّى سبيله. وكان شُرَيْح القاضي إذا أخذ شاهدَ الزُّورِ إنَّ كان سُوقِيًا بعث به إلى السُّوق، فقيل: إنَّ هذا شاهد زُور، وإن لم يكن سُوقيًّا بعث به إلى قومه، وقيل: إنَّ هذا شاهد زُور، وكان بعضُهم يذهب به إلى الجامع، وإلى حِلَق الذِّكْر، يقول: هذا شاهد زورٍ فلا تستشهدوه واحذروه. وقال مالك: أرى أنّ يُفضَحَ ويشَهَّر وُيلعَن (¬5). وقال الشّافعيّ (¬6): يُعَزَّر ولا يبلغ بالتّعزير أربعون ويُشَهَّر بأمره. ورُوِيَ عن عمر أنّه حبسه يومًا وخَلَّى سبيلَهُ (¬7). ¬
وقال قوم: تُسَوَّدُ وجوههم، ويُطَافُ بهم في الأسواق، وهو مذهب عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة، فإنّه أمر بحَلقِ أنصافِ رؤوسهِم وتسويد وجوههم ويطاف بهم على الأسواق. فرع غريب: واختلفوا فيمن يشهد بِزُورٍ ثمّ يتوبُ وتظهر توبته: فعلى مذهب الشّافعيّ (¬1) والكوفي أنّه يجب قَبُول شهادته إذا أتت على ذلك مدّة تظهر في مثلها توبتُهُ، وبه قال أبو ثور. وقال مالك: أرى أنّ تبطل شهادته. والقولُ الأوَّل أصحّ إنَّ شاء الله. الفقه في مسائل: المسألة الأوُلى (¬2): قولُه: "ألَّا أُخبِرُكُم بخَيرِ الشُّهَدَاءِ"؟ قال مالك (¬3) وغيره معناه: أنّ يكون عنده شهادة لا يعلم بها فيؤدِّيها له عند الحاكم، وذلك أنّ المشهود به على ضربين: حقّ الله، وحقّ الآدميَّ. فأمّا ما كان حقًا لله، فعلى قسمين: 1 - قسمٌ لا يُستدامُ فيه التّحريم كالزِّنا وشرب الخّمْرِ، زاد أصْبَغُ: والسّرقةُ، فهذا تركُ الشَّهادة به جائزة. والأصلُ في ذلك: قولُه - صلّى الله عليه وسلم - لهَزَّالٍ: " هَلَّا سَتَرتَ عَلَيهِ بِرِدَائِكَ" ولو علم الإمامُ بذلك، فقد قال ابنُ القاسم في "المجموعة": يكتُمُها ولا يشهد، إِلَّا في تجريحه إنَّ ¬
شهد على آخر. 2 - والقسم الثّاني: ما يُستَدَامُ فيه التّحريم، وهو كالطّلاق والعِتقِ والأَحبَاس، والهِبَاتِ لمن ليس له إسقاط حقّه، والمساجد والقناطير والطّرق، فهذا على الشّاهد أنّ يؤدِّي شهادته متى رأى ارتكاب المحظور بها, وله في ذلك حالان: 1 - حالٌ يعلم أنّ غيره يشاركُهُ فيها ويقوم بها. 2 - وحالٌ لا يعلم ذلك فيها. فإن علِمَ أنّ غيره يقوم بها فإنّه يستحبّ له أنّ يُبَادِرَ بها ليحصل له أجر القيام بها، ولأنّ في قيام العدد الكثير بها رَدعًا لأهل الباطل. ويصحّ أنّ يتناول هذا عموم قول النّبيّ: " خَيرُ الشُّهَدَاءِ .... " الحديث. المسألة الثّانية (¬1): فإذا تبيّن له أنّ غيره قد ترك القيام، ولم يكن ممّن يقوم بها غيره، تعيَّنَ عليه القيام بها, لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬2) ولقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (¬3) ولأنّ القيام بها من فروض الكفاية، كالجهاد وصلاة الجنائز، فإذا قام به البعض سقط عن سائر النَّاس، وإذا تركه جميعهم أَثِمُوا إذا كان الحقّ مجتمعًا عليه. المسألة الثّالثة (¬4): وأمّا الضّرب الثّاني، وهو حقّ الآدميِّينَ، فإن كان لمن يجوز إسقاطه، مثل أنّ يرى ملك الرَّجل يُباعُ أو يُوهَبُ، فَرُوِيَ عن ابن القاسم (¬5) في "العُتبِيَّة" (¬6) أنّ ذلك جُرحَةٌ في ¬
الشّاهد حين رأى ذلك ولم يعلم بعلمه فيه. وقال غيره في "المجموعة": هذا إذا كان المشهود له حاضرًا لا يعلم أو غائبًا، وأمّا إنَّ كان يعلم فهو كالإقرار. وقال ابنُ سحنون عن أبيه: إنّما ذلك فيما كان في كفالته (¬1). أو كان له القيامُ به كالحوالة والطلاق. وأمّا العُروض والحيوان فلا يبطل ذلك شهادته؛ لأنّ صاحب الحقّ إنَّ كان حاضرًا فهو أضاع حقّه، وإن كان غائبًا فليس للشّاهِد شهادة. المسألة الرّابعة (¬2): فإذا ثبت هذا، فالشّهود على ثلاثة أضرُبٍ: 1 - ضربٌ يعرفُ الحاكم عدالته. 2 - وضربٌ يَعرِف فسقَه. 3 - وضربٌ يجهلُه. فأمّا الأوّل: فيجب عليه الحُكم بشهادته، إنَّ لم يكن للمحكوم عليه مَدفَعٌ فيها. وقال سحنون في "العتبية" (¬3): وذلك أنّ يكون مشهورًا عند الحاكم من معرفته مثل ما عند من يُعدِّلُه، فهذا عليه أنّ يقبلَهُ. ورَوَى يحيى عن ابنِ القاسم: أنّه إذا كان القاضي يعرفه وكان يُزَكِّيه عند غيره، فهذا الّذي يَسَعُه قَبُول شهادته. وأمّا الضرب الثّاني: فلا يجوز له أنّ يحكُمَ بشهادته، وذلك على ضربين: أحدهما: أنّ يعرف فسقه. والثّاني: أنّ يجرح عنده بأنّه يرتكب محظورًا، كالزِّنا، والسَّرقة، وشرب الخّمْرِ، والعمل بالرِّبا أو ترك واجب كالصِّيام والصّلاة حتّى يخرج وقتها. وأمّا ترك الجمعة ¬
فصل الأول في عدد المزكين
فَجُرحَةٌ في الجملة، واختُلفَ في تركها مرّة، فقال أَصبَغُ: هي جُرحَةٌ كالصّلاة من الفريضة يتركها مرّة واحدة فيُؤَخِّرها عن وقتها، وهو ظاهر ما رُوِيَ عن ابنِ القاسم في "العتبية" (¬1). وقال سحنون: لا تكون جُرحَة حتّى يتركها ثلاثًا متوالياتٍ. وأمّا من جهِلَ الحاكمُ أمره، فلا يخلو أنّ يتناول شهادته ما يعدم شهادة العدول فيه في الأغلب، أو ما لا يعدم ذلك منه، وأمّا مالا يعدم ذلك فيه، مثل شهادة الرُّفْقَة بعضهم على بعضٍ فيما يختصُّ بمعاملات السَّفَر، من بيعٍ أو شراءٍ أو مرضٍ أو شبهه. فأمّا بيع العَقَارِ والأموال الّتي لم تَجرِ العادةُ ببيعها في السَّفَر، فلا يُقبَلُ فيها إِلَّا العُدُول، وكذلك ما شَهِد بِهِ بعضهم على بعضٍ فيما يُوجبُ الحدّ أو الضّرب كالغَضب، فلا يُقبَل في ذلك إِلَّا العدول. فإذا انتهَى الكلام إلى هذا المقام؛ فإنّ في ذلك خمسة فصول: الأوّل: في عدد المُزَكِّين. والثّاني: في المزكيِّ. والثّالث: في معرفة العدالة. والرّابع في لفظ التّزكية. والخامس: في تَكرِيرِ التَعديل وما يلزم منه. فصل الأوّل (¬2) في عدد المزَكِّين فإن ذلك على وجهين: تَزكيَةُ علانِيَّةِ. وتَزْكِيَةٌ سِرَّ. فأمّا "تزكيةُ العلّانية" ففي "المجموعة" و"العُتبيّة" عن ابنِ القاسِمِ عن مالك أنّه لا ¬
يُجزِيء فيها أقلّ من اثنين. ووجه ذلك: قولُه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية (¬1). وهذا عامٌّ في كلّ شيءٍ، إِلَّا في تزكية شهود الزِّنا، فَرَوَى ابنُ حبيب عن مُطَرِّف عن مالك: لا يعدّل كلّ واحدٍ إِلَّا أربعة. وقال ابنُ المَاجِشُون: يجوز في تعديلهم ما يجوز في تعديل غيرهم، اثنان لكلِّ واحدٍ، أو أربعة لجميعهم. وأمّا "تزكية السِّرِّ" فَرَوَى ابنُ حبيب عن مُطَرِّف وابن المَاجِشُون وأَصبَغ أنّه ينبغي أنّ يكون للحاكم رجل عرف دِينه ومَيْزَه، لا يعرفه سِوَى الحاكم، ليبحث عن أحوال النَّاس، فإذا كلّفه ذلك، تَسَبَّبَ إِلى ذلك بالبحث والسؤال من حيث لا يَعلَم به أحدٌ، ثُمَّ يُعلِمُ الحَاكِمَ بما عنده من ذلك، فهذه تزكية السِّرِّ. فإذا كانت على هذا، فكم عددهم؟ ففي "المجموعة" من رواية ابن القاسم عن مالك؛ أنّه قال:* يكفي في ذلك الرَّجل الواحد العَدل، وفي "العتبية" (¬2) من رواية ابن القاسم عن مالك* قال: لا يجب أنّ يسأل في السِّرِّ إِلَّا اثنان. قال الإمام: والأفضل في التَّعديل أنّ يجمعَ بين السرِّ والعلانيّة. وقال ابن حبيب (¬3): لا ينبغي أنّ يكتفي بتعديل العلّانية، وقد يجزئ تعديل السِّرِّ. ¬
الفصل الثاني في صفة المزكي
ووجه ذلك: أنّ تعديلَ السِّرِّ لا يجزئ فيه إِلَّا بالخبر الفاشي الّذي يقع به العلم، ولذلك لا يُعذرُ فيه لأحد، وأمّا تعديل العلانيّة فيفعله شاهِدَان، فلا يقوى قوّة ما يقع به العلم، ولذلك يُعذَر فيه (¬1)، فهذا أمكن الأمران فهو أَولَى، ليستوي تعديله في السِّرِّ والعلانيّة، وإنِ اقتصرَ في المشهور العقلِ بتزكية السِّرِّ، فلا بأس بذلك، لما عليه (¬2) في التَّوَقُّف في قَبُولِ شهادته. وفي "المدوّنة" (¬3) أنّه يكفي في ذلك أنّ يُزَكَّى في السرّ أو العلانيّة. الفصل الثّاني (¬4) في صفة المزكِّي فقد رَوَى ابنُ حبيب عن مُطَرِّف وابن المَاجِشُون وابن عبد الحَكَم وأَصبَغ أنّه لا يجوز تعديل الرَّجل وإن كان عدلًا حتّى يعرف وجه التّعديل. فرع غريب: رُوي عن سحنون (¬5) أنّه قال: لا تُقبَلُ تزكية الأَبلَهِ، وليس كلّ من تجوز شهادته بجوزُ تعديلُه، ولا يجوز فيه (¬6) إِلَّا المبرّز الفَطِن. ولا يجوز أنّ يكونا (¬7) غير معروفين عند الحاكم، فيزكّيان عنده إذا كان شاهد ¬
الفصل الثالث في معنى العدالة
الأصل من البلد، وإن كان غريبًا جاز، قاله مالك: في "المدوّنة" (¬1) وغيرها. ووجه ذلك: أنّ الغريبَ قد يكونَ مجهولَ الحالِ في البلد فلا يعرف عدالَتَهُ إِلَّا من يعرف الحاكم، فيحتاج أنّ يعرف به. وأمّا البَلَدِيّ فحاله معلومةٌ في الأغلب، فلا يقبل في تزكيته إِلَّا أهل العدل على ما وصفنا. الفصل الثّالث (¬2) في معنى العدالة ومن لا يعرفه الحاكم (¬3)؟ فقال سحنون: يُزَكِّيه من يعرف باطنه كما يعرف ظاهره ممّن صَحِبَهُ الصُّحبة الطويلة، وعامَلَهُ بالأخذ والإعطاء. وقال ابن سحنون (¬4): يزكِّيه من يعرف باطنه وصَحِبَهُ في السَّفَر والحَضَر، كما يقال لمن مدَح رجلًا: أصحبته في السَّفَر؟ أخالَطتَهُ في مالٍ؟ وقد قيل (¬5) في الرَّجل يصحب الرَّجل شهرًا فلا يعلم منه إِلَّا خيرًا: لا يزكِّيه بهذا (¬6)، وليس هذا باختبار. وقال يحيى عن ابن القاسم (¬7) في الشّاهد لا يعرِفُه القاضي بعدالةٍ ولا فسادٍ، إِلَّا أنَّه يحضُرُ الصّلاةَ في المساجد، قال سحنون: يعرف بظاهر جميل من أهل المساجد ¬
والجهاد. وقال ابنُ القاسم: لا يقبل ويطلب تزكيته. وقال سُحنون أيضًا: لا يزكِّّّّّّّّّّّّّّيه بذلك. فإذا ثَبت هذا (¬1)، وما ذكرناهُ من معرفة المزكِّي، ففي "العُتبِيَّة" (¬2) عن سحنون ما معناه: أنّه لا يؤثِّر في ذلك أنّ يقارف بعض الذَّنْبِ كالخفيف من الزّلّة والفلتة، فمِثلُه لا يمنع من عدالته. وقال مالك: من النَّاس من لا تُذْكر عيوبُهُم يكونُ عيبُه خفيفًا. اطِّلاع في النظر (¬3): فإذا انتهَى الحالُ إلى هذا المقام، فالعدالةُ والسَّلامةُ من العيوبِ، وكمالُ الشّهادة، إنَّما هي للأنبياءِ عليهم السّلام. والضابطُ لهذا البابِ نُكتةٌ ينتفعُ بها من لا يَعِيها، وذلك أنّ الله نَوَّرَ العبدَ بالعقلِ، وهو نُور الطّاعة، وأَظلَمَهُ بالشَّهوَةِ وهي حَبَالَةُ المعصيةِ، فصار العبدُ متردِّدًا بينَهما، والمَلَكُ يعْضُد جانبَ العقلِ، والشيطانُ يُغوِي في جانِبِ الشَّهوةِ، والتوفيقُ والخذلانُ على قِمَّةِ الرأسِ مُحَلِّقانِ، والقضاءُ والقَدَرُ فوق ذلك كلِّه، فإن سبَقَ القضاءُ بالتَّوفيقِ، انتصرَ حزبُ الله، وإن سبقَ القضاءُ بالخِذلانِ، نَفَذَ حُكمُ الله؛ ولذلك قال النّبيُّ -عليه السّلام-: " إِن اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظهُ مِنَ الزنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ " الحديث إلى آخره (¬4)، فلم تَكُنِ العصمةُ إِلَّا للأنبياءِ كما سَبَقَ، وسائرُ الخَلقِ وإن آمنوا وطهَّر اللهُ قلوبَهم بالتّوحيد عَنْ وَضَرِ الشِّركِ، فلابد أنّ تتدنَّس أبدانُهم بأرحاضِ المعاصي، فلو لم يُقبَل إِلَّا مطيعٌ، ما وُجِدَ أحدٌ يَسلَم في حالٍ من الأحوالِ، ولكن بَنَتِ الشريعةُ الأمرَ على ¬
الفصل الرابع في لفظها وحكمها
المُمكِنِ في الوجودِ، الغالب في الأحوالِ، وهو التَّنَزُّهُ عن الكبائر، فإذا صانَ العبدُ - بفضل الله - نفسَهُ عن الكبائر وَأكثَر الصّغائر كانَ عَدلًا. نكتةٌ بديعة (¬1): وهي أنّ العِيَارَ في الدنيا يُخرِجُ الخالصَ في الآخِرَةِ، وهو اعتدالُ الميزان، بألّا تكون في الكفّة كبيرةٌ، فإنَّ كِفةَ السَّيِّئاتِ إنَّ تفرّغَتْ عنِ الكَبائر، عُلِمَ قطعًا أنّ الميزانَ لا يميلُ إليها. فإما أنّ يعتَدِلَ، وإمَّا أنّ يخِفَّ بها، ويكونَ الرُّجحان للكِفَّةِ الأُخرى، وإلى هذا وقعَتِ الإشارةُ بقولِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية (¬2). ولذلك شرط العلّماءُ اجتناب الدَّنَاءَاتِ لحفظِ المُرُوءَة، وهو الشّرطُ الخامسُ؛ لأنّ المُرُوءَةَ سِترُ الدِّين والحجابُ بينَهُ وبين المَعَاصِي، كالثَّوب يسترُ البَدَنَ عن الحَرُورِ والزَّمهَرِيرِ. وضبطُ المُرُوءَة ممًا عَسُرَ على العُلَماء، ولم يَنطِق به فقيهٌ، وقد بيّنّاه في "مسائل الخلاف" على الإيضَاح، والضّابطُ لكم الآن فيه: ألَّا يأتيَ أحدٌ منكم ما يُعتَذَرُ مِنهُ، مِمَّا يَبخَسُه عن مرتَبَتِهِ عندَ أهل الفضلِ (¬3)، وحينئذ يكون من أهل العدالة. الفصل الرّابع (¬4) في لفظها وحكمها رَوَى ابنُ وَهب عن مالك في المُزَكِّي يقول: "لا أعلمُ إِلّا خيرًا" وهو يلقاهُ في الطّريق ولا يَعلَم منه إِلَّا خيرًا، قال: لا يجوز هذا. وقال سحنون: ولا يُجزِىءُ أنّ يقولَ: صَالِحٌ. ¬
الفصل الخامس في تكرير التزكية
ورَوى ابنُ حبيبٍ عن مُطَرِّف وابنِ المَاجِشُون وأَصبَغ: يُجزِىء في ذلك لفظ العدل والرِّضى (¬1). وقال القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب البَاقِلّاني: كلُّ لفظٍ يعبَّرُ به عن العدلِ والرِّضَا أَجزَأَ، وإنّما اختير (¬2) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬4) (¬5). وقال ابنُ الجلّاب (¬6): "ولا يقتصر على أحدهما حتّى يجتمعا". فإذا ثبت الاعتبار بهذين اللفظين؛ فإنّه يجزئ أنّ يقول: أراهُ عَدلًا رِضَا عندي، وهر عندي عدلٌ رَضِيٌّ، وليس عليه أنّ يقول: هو عدلٌ رضِيٌّ عند الله، ولا أنّ يقول: أَرضَاه وليًّا (¬7). ولا يُقبَلُ منه حتّى يقول: إنّه عدل رَضِيٌّ. الفصل الخامس في تكرير التّزكية رَوَى (¬8) أشهب عن مالك في "المجموعة": أنّه يقبل بالتّزكية الأُولى، وليس النَّاس سواءٌ، فمنهم المشهورُ بالعدالة، ومنهم من يَغمِصُ منه النَّاس. وقال ابن كنانة: أمّا غير المعروف فيُؤتَنَف فيه تعديلٌ ثانٍ، وأمّا المشهورُ بالعدالةِ ¬
فالأول يجزيه حتّى يُجرح بأمرٍ بيِّنٍ. روى ابنُ حبيب عن مالك ومُطَرِّف وابن المَاجِشُون: ليس عليه ائتنافه، إِلَّا أنّ يغمز فيه، أو يرتاب منه، ولا يزيدُهُ طولُ ذلك إِلَّا خيرًا (¬1). فإذا انتهى الكلامُ إلى هذا المقام، وتَحصَّلَ (¬2) ضبط الشّهادة، فلها حالان: الحالة الأُولى: حالةُ التّحملِ. والثّانية: حالةُ أداءٍ. 1 - واختلفَ العلّماءُ في التَّحَمُّل هل هو فرضٌ أو ندبٌ؟ مبنيًّا على قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬3) وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم (¬4) أنّها فرضٌ على الكِفَايَة، ولذلك يجبُ على الإمام أنّ ينصِبَ لَها عُدُولًا يرزُقهُم من بيت المال، ويتفرَّغونَ لإحياءِ حقوقِ الله، ويتوجَّهُ إليهم الخطابُ حينئذٍ بالفريضة بإجماعٍ. 2 - والحالةُ الثّانيةُ: حالةُ الأداءِ، وهي فرضٌ إجماعًا إذا وَقَعَت على عدلين، فإن زادُوا، أُلحقَت بفروضِ الكِفايَةِ، هذا إذا عَلِمَ بها صاحبُها، فإن لم يعلَم وعَلِمَ الشاهدُ أنّه يحتاجُ المتحاكمُ إلى أدائها، فإنّه عليه فرضٌ أنّ يفعلَهُ ويُعلِمهُ بها ههنا، لحديث زيد بن خالد الّذي رواهُ مالك (¬5)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "خَيرُ الشُّهداءِ الذِي يَأتِي بِشهَادَتِهِ قَبل أنّ يُسألهَا " فإن كان الحقُّ لله، تَعَينَ عَلَى الشّاهد فرضًا أنّ يقوم بها عند الحاكِمِ، إِلَّا أنّ يكونَ من الحدودِ، والأفضل له أنّ يستر على المُتَهَتِّكِ كما تقدَّمَ البيان قبلُ. ¬
الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): أمّا تحمُّلها فعلى ثلاثة أضْرُبٍ: أحدها: تحملُ نقلها من الأصل. والثّاني: تحمُّلُ نقلِها عن الشّهود. والثّالث: تحمُّلُ نقلِ حُكمِها عند الحاكم. تفصيل: فأما الأوّل: فعلى ضربين: أحدُهما: أنّ يسمع لفظَها من الّذي عليه الحقّ بالشهادة له وإقراره. والثّاني: أنّ يشهد على ما تَقَيَّدَ في الكتاب. فأمّا الأوّل: فهو أنّ يسمع ما يشهد به، فإذا وَعَاهُ، جازَ أنّ يشهد به، ويلزمُه ذلك إذا لم يقم بها غيرُهُ. ويجوز على هذا إشهاد الأعمى، خلافًا لأبي حنيفة (¬2) في قوله: لا يجوز ما يسمع في حال العَمَى، على ما نُبَيِّنُه في موضعه إنَّ شاء الله. المسألة الثّانية (¬3): وأمّا إذا شَهِدَ على ما تَقَيَّدَ في الكتاب، فلا يخلو أنّ يكون مختومًا، أو غير ¬
مختومٍ، فإن كان غير مختومٍ، فعندي أنّه يلزمه أنّ يقرأ ما تقيّدَت به الشّهادة في آخر العَقْدِ إنَّ كان يقرأ، أو يُقرأَ له إنَّ كان أُمِّيًا أو أَعمَى، ليَعْلَمَ موافقة تقييدها لما شهد به. وإن كان مختومًا ففي "المعونة" (¬1) اختلافٌ حكاه عبد الوهّاب قال: "اختلفَ قولُ مالك فيمن دفعَ إلى الشُّهود كتابًا وختَمه وأَشهَدَ الشُّهودَ وهُوَ مطويٌّ، فقال لهم: اشهدُوا على ما فيه، هل يجوز تحمّلهم لها أم لا؟ وكذلك الحاكِمُ إذا كَتَبَ كتابًا وخَتَمَهُ وأشهَدَ الشُّّّّّهودَ أنّه كتابهُ ولم يقرأهُ عليهم، فعنه في ذلك رَوايَتَانِ: إِحداهُمَا: أنّ الشّهادة جائزةٌ. والرِّوايَةُ الثّانِيَة: أنّهم لا يشهَدُون حتّى يقرأَه عليهم". وهو الصّحيح عندي. المسألة الثّالثة (¬2): وأمّا حالُ الأداءِ، فإن كان يؤدِّي شهادة حفظها، فحُكمُه أنّ يكون حافظًا لها حين الأدَاءِ إِما لأنّه استَدَام حِفظها، وإما لأنّه قيَّدَهَا في كتابٍ عند نفسه أو عند المشهود له. وهذا يُسَمَّى عَقدًا استِرعَاءً، يكتب (¬3): يَشْهَدُ مَنْ تَسَمَّى في هذا الكتاب من الشُّهداء، أتهم يعرفون كذا، ثمّ يكتب شهادته ويسلم العَقد إِلَيهِ (¬4). فإن احتاج إليه ودعاهُ، لزِمَه أنّ ينظره، فإن كان ذَاكِرًا لجَمِيعِهِ، أدّاها على عُمُومِهَا، وإن ذَكَرَ بَعضَهَا، شَهِدَ بِمَا ذكَرَ، وإن لم يذكر شيئًا فلا يشهد. المسألة الرّابعة (¬5): وأمّا "تحمُّلُ نَقلِها" ففيه فصلان: أحدُهما: في نقلها عن مُعَيَّنَينِ. والثّاني: في نقلها عن غير مُعَيَّنَينِ. فأما الأوّل: فيجبُ أنّ يكونَ ممَّن ينقلُ عنه، متيَقِّنًا لما أُشهِد به، فإن شكِّ فيه أو نسِيَهُ لم يصحّ نقلهَا عنه، قاله مالك في "المجموعة". ¬
وأمّا لو سمعه ينصها, لم يَجُز أنّ بنقلها عنه (¬1)، كأدائها إلى الحاكم، ولو سمعه الحاكم ينصها ولم يؤدِّها عنده، لم يكن له العمل بها، فكذلك النّاقل لها عنه. ولو سَمِعَه يُشْهِد عليها غيرَهُ، ولم يشهد، فقد قال مالك: لا يشهد على شهادته وإن احتيج إليه، بخلاف المقرّ على نفسه. المسألة الخامسة (¬2): قال علماؤنا (¬3): وما يتّصل بالشّهادة الشّهادة على الخطِّ (¬4)، فالمشهورُ من قول مالك: أنّه لا تجوز الشّهادة على خطِّه، رواه محمّد (¬5) واختاره. ورَوى ابنُ القاسم وابنُ وهب عنه (¬6) في "العُتبِيَّة" (¬7) و"الموَازية" الجواز، ولا يجزئ فيها أقلّ من شاهِدَين يحلف الطّالب ويستحقّ حقه، قاله سحنون. وقال أَصبَغ (¬8): الشهادةُ على خطِّ الشاهد الغائب أو الميِّت قويَّة في الحكم بها. واحتجّ محمّد للمنع: بأنّ الشّهادةَ على خطِّه بمنزلة أنّ يسمعه ينصّها، وذلك لا يُسَوِّغُ نقلَها عنه. فإذا قلنا بجوازها، فقد قال مُطَرِّف وابن المَاجِشُون (¬9): إنّها تجوزُ في الأموال ¬
خاصّة، حيث يجوز اليمينُ مع الشَّاهد، وقاله أصبَغ. ووجه ذلك: أنّها شهادةٌ ناقصةٌ مختلف في صحّتها كاليمين مع الشّاهد. المسألة السّادسة (¬1): وأمّا الشّهادة على خطِّ المُقِرِّ، فقد قال محمّد: لم يختلف قولُ مالكٍ فيها، وقال: هي بمنزلةِ أنّ يسمعه يُقرّ، فتصحُّ شهادتُه عليه وإن لم يأذَن في ذلك. وقال ابنُ الجلابِ (¬2):" فيها روايتان الجوازُ والمنعُ". فوجهُ المنعِ: ما قاله ابنُ عبد الحكَم: لا أرى أنّ يقضى بها, لِمَا أحدثَ النَّاسُ من الضرب على الخطوط، ومذهب مالك أنّه لا تجوزُ. فإذا قلنا بجوازها، فهل يلزمه اليمين معها أم لا؟ قال ابنُ الجلّاب (¬3): "فيها روايتان: إحداهما: يحكم له بها وباليمين. والثّانية: لا يحكم له بذلك". المسألة السابعة (¬4): وأمّا نقلها عن غير معيَّنَين، وهي الشّهادة على السَّمَاعِ، فهي جائزة عند مالك، وهي مختصَّةٌ بما تقادَم تقادمًا يبيد فيه الشهود وتُنسَى فيه الشّهادات. وقال: عبد الوهّاب (¬5): "تختصُّ بما لا يتغيُّر حالُه ولا ينتقل ملكه، كالموت والنّسب والوقف" (¬6). فأما "الموت" فإنّه يشهد فيه على السّماع فيما بَعُدَ من البلاد، وأمّا ما قَرُبَ فلا. ¬
مسألة (¬1): وأمّا "النَّسَب والوَلَاء " فقد اختلفَ (¬2) قولُ مالك في شهادة السّماع في الوَلَاء والنَّسَب، فأكثرُ قوله وقول ابن القاسم: يقضَى له فيها (¬3). مثل (¬4) أنّ يقول: أشهدُ أنّ نافعًا مولى ابن عمر، يريد: إذا بلغ من التّواتر بحيث يقعُ به العلم، فيشهد على علمه ولا يُضيفُ شهادته إلى السّماع، وفي آخر المسألة قيل لابن القاسم: أَفَنَشهَدُ أنك ابن القاسم ولا نعرف أباك (¬5) إِلَّا بالسَّماع؟ قال: نعم: يقطع بها، ويثبت بها النّسب. ولأن الشّهادة على السماع غير الشّهادة على العالم بالخبر المتواتر, لأنّ هذا فلان ابن فلان (¬6). المسألة الثامنة (¬7): قال الإمام: أمّا شهادةُ السَّماعِ، فإنها معلومةٌ، وهي على ضربين: خاصّةٌ فيما تسمَعُه وتشاهِدُه. وعامّةٌ فيما تستعُه ولا تشاهِدُه. وقد اختلفَ العلّماءُ في هذا القِسْمِ من شهادة السَّمَاع اختلافًا كثيرًا، بيّنّاه في ¬
"مسائل الخلاف" وما توسَّعَ فيها أحد من العلماء كتوسِعَةِ المالكيّة، وقد جمعناها على آرائهم، فألفيناها كثيرةً، الحاضرُ الآن في الخاطِرِ خمسةٌ وعشرونَ حُكْمًا: 1 - الأحباس. 2 - الملكُ المتقادِمُ. 3 - الوَلَاءَ. 4 - النَّسَبُ. 5 - الموتُ. 6 - الوِلايةُ. 7 - العُزلَةُ. 8 - الجُرحَة (¬1). 9 - الصَّدَقَةُ. 10 - الهِبَةُ. 11 - الإسلامُ. 12 - الكُفرُ. 13 - الحَملُ. 14 - الوِلَادَةُ. 15 - التّرشيدُ. 16 - التّسفيهُ. 17 - البيعُ في حال الرّضَاعِ. 18 - النِّكاحُ. 19 - الطّلاق. 20 - الضَّرَرُ. ¬
21 - الوَصَايَا. 22 - إبَاقُ العَبدُ. 23 - الحُريَّةُ. 24 - الحِرَابَةُ. 25 - *وزاد بعضهم: البُنُوَّةُ والأُخُوَّةُ*. وقد مهّدنا ذلك تأصيلًا وتفصيلًا وتفريعًا في "كتب المسائل" فهذه كلّها تجوزُ شهادةُ السّماعِ فيها إنَّ شاء الله. حديث: قوله (¬1): "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصم وَلَا ظَنِينِ" رُوِيَ عن يزيد بن سنان عن عُروة عن عائشة ترفَعُه قالت: "لَا تَجُوزُ شَهادةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ في وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ، وَلَا القَانِعِ مَعَ أَهلِ انبَيتِ لَهُم" (¬2) وأصحُّها حديث عمر البلاغ في "الموطَّأ" قوله: "ولَا تَجُوزُ شَهَادَة خَصمٍ وَلَا ظَنِينٍ". الإسناد: قال الإمام: قد بيَّنَّا أنّ حديث عُمَر بلاغٌ، ولكنه صحيحٌ مُسنَدٌ من طُرُقٍ (¬3). (¬4) العربيّة في خَمسَةِ ألفاظٍ: الأوّل: قولُه: "خِصْم" يقالُ بفتح الخاء وكسرها، فإذا كان بالفتح، فهو أحد الخَصمين، ويقال ذلك للاثنين والجمع، قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ ¬
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} الآية (¬1)، وإذا كان بالكسر فهو بمعنَى الخِصَامِ والمجادلة. اللّفظ الثّاني: قولُه: " وَلَا ظنِينِ": وهذا (¬2) يدخلُ في وُجوهٍ شتَّى: منها: الظَّنِينُ في حالة بغير الصّلاح. وقيل: هو الّذي يُتَّهَمُ في الدّعاوى، مثل أنّ يدعى إلى غير أبيه، أو المتوالي إلى غير وإليه، وقد يكون الّذي يُتَّهَم في شهادته لقرابته كالوالد للولد (¬3). وقيل (¬4): هو المُتَّهَم في دِينِه. اللّفظ الثّالث: قولُه في الحديث الثّاني: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خائِنٍ وَلَا خائِنَةٍ وَلَا ذِي غِمرٍ عَلَى أَخِيهِ". أمّا قولُه: "خَائِن" فإنّ الخيانة تدخل في أشياء كثيرة سوى الخيانة في المالِ، منها أنّ يُؤمن على فَرجٍ فلا يؤدي فيه الأمانة، وكذلك إنِ استودع سرًّا. ومنه أيضًا قولُه: "إِنَّما تُجَالَسُونَ بالأمَانَةِ" (¬5). اللّفظ الرّابع: أمّا قوله: "وَلَا ذِي غِمرٍ عَلَى أَخِيه" فإن الغمرة الشّحناء والعَدَاوة، فإذا كان هذا، فللرجل أنّ يُوَكِّل الخَصم للكلام، وهذا هو الّذي لا تجوز شهادته لأجل مُخَاصَمَتِهِ. اللّفظ الخامس: قوله: " وَلَا القَانِع من أَهلِ البَيتِ لَهُم" فإنّه الرجُلُ يكون مع الرَّجُلِ كالجارِ لهم، والقانع يطلب فضله. قال الإمام: ويتركّب على هذا الحديث من الفقه إحدى وعشرون مسألة: ¬
المسألة الأولى: فيمن تجوز شهادته ومن لا تجوز وشهادة الوَالِد لولَدِه والوَلَد لوَالِدِه، قال جماعة: تبطلُ شهادةُ بعضهم لبعضٍ، وأَبطَلَ ذلك مالك (¬1)، والشّافعيّ (¬2)، والنّخعي، وأبو حنيفة (¬3)، وأحمد (¬4)، وسفيان الثّوريّ. وأجازت طائفةٌ شهادة الوَالِد للوَلَد، والوَلَد للوَالِد، بظاهر قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬5) وهو مذهب عمر بن الخطّاب، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق، وأبي ثور. وأجاز إيّاس بن معاوية شهادة الرَّجُل لابنه. وذكر الزّهريُّ قوله (¬6): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية (¬7)، والصّحيح من المذهب أنّه لا يجوز ذلك لواحدٍ منهم (¬8). المسألة الثّانية: شهادة الإخوة والأخوات والقرابات بعضهم لبعضٍ فقال مالك: لا تجوزُ شهادةُ الأخِ لأخيه في النَّسَبِ، وتجوزُ في الحقوق (¬9). وأجمع عوامّ أهل العلم أنّ شهادةَ الأخِ لأخيه جائزةٌ إذا كان عَدْلًا. وقال أصحاب الرّأي: شهادةُ العَمِّ والخال جائزةٌ، وكذلك شهادة الرَّجل لأبيه وابنه من الرّضاعة. فأما مالك فقال: لا تجوزُ شهادةُ الأخِ لأخيه في النَّسَبِ. ¬
المسألة الثّالثة: شهادة الزّوج لزوجته والمرأة لزوجها اختلف العلّماءُ في شهادة الزّوجين كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه، فأجاز ذلك الحَسَنُ البصريّ، والشّافعيّ (¬1)، وأبو ثور. وأجاز شُرَيح شهادة زوجٍ وأبٍ. وقال مالك (¬2) والشّافعيّ (¬3) وأحمد (¬4) وإسحاق: لا تجوز شهادة واحدٍ منهما لصاحبه. وهو الصّحيح عندي، لقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬5). المسألة الرّابعة: في شهادة الشّريك لشريكه وقد اختلفَ العلّماءُ في هذه المسألة، فقال قوم: لا تجوز شهادة الشّريك لشريكه، وهذا قول الشّافعيّ (¬6) وأحمد (¬7) والنّعمان (¬8). قال الإمام: أمّا ما كان من حال الحدود والقِصاص والنِّكاح؛ فإن هذا ليس من التّجارة ولا المشاركة في شيءٍ، وإنّما يبعد تجويزها فيما قد اشتبكا فيه، أو فيما هما فيه شريكان، والله أعلم. المسألة الخامسة: في شهادة البدويّ على القَرَوِيِّ وقد ثبت الحديث عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ قَرَويِّ عَلَى صَاحِبِ قَريةٍ" (¬9). ¬
واختلفوا في شهادة البَدويّ على الحَضَريّ أو على القرويّ. فقالت طائفة: شهادتُهُ جائزةٌ إذا كان عَدلًا على ظاهر قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية (¬1)، هذا قول ابن سِيرِينَ والشّافعيّ (¬2) وأبي ثور، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (¬3) إذا كان عَدلًا بظاهر الآية. المسألة السّادسة: في شهادة ولَد الزِّنا وهي مسألةٌ اختلفَ العلّماءُ فيها، فقالت طائفة: يجب قَبُولها إذا كان عَدْلًا على ظاهر قولِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية (¬4)، هذا قول عَطَاء بن أبي رباح (¬5)، والحسن، والشّعبيّ (¬6)، والزُّهريّ، والشّافعيّ (¬7)، وأحمد (¬8)، وإسحاق، وأبي حنيفة وأصحابه (¬9)، وأبي عُبَيدٍ. قال الإمام: وكذلك نقول بالجواز إذا كان عَدلًا. وقالت طائفة: لا تجوز شهادته، كذلك قال نافع مَولى ابن عمر، وبه قال اللَّيث في الشّهادة في الزِّنا إذا كانوا أربعة: أحدهم ولد زنًا، قال: تُرَدُّ شهادتُهُم ولا حدَّ عليهم. وقال مالك في ولَدِ الزِّنا: إنّه في شهادته بمنزلة رجلٍ من المسلمين، ولا تجوز شهادته في الزِّنا خاصّة (¬10). ¬
المسألة السّابعة: في شهادةِ العَبدِ فقالت طائفة: شهادتُهُ كشهادَةِ الحُرِّ إذا كان رِضىَ، لدخوله في جملة قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية (¬1)، ورُوِيَ هذا القولُ عن عليّ (¬2)، وبه قال أنس بن مالك وقال: ما علِمتُ أنّ أحدًا رَدَّ شهادةَ العبدِ (¬3). وقال الشّافعيّ (¬4): تجوز شهادتُهُ في الشّيءِ اليسيرِ، وقد تقدّم الكلام عليه أنّ من شروطه الحريّة. المسألة الثّامنة: في شهادة الأعمى وهي مسألة خِلَافيّة جدًّا! فقال مالك (¬5) وجماعة منهم الزّهريُّ (¬6)، والشعبي (¬7): إنَّ شهادته جائزة. وقال الشّافعيّ (¬8): لا تجوز. والعارضة فيها أنّ نقول (¬9): إذا ثبت أنّ الشّهادةَ تقفُ على العِلْمِ؛ فإنّ الله تعالى جعل الحواسَّ طريقًا إليه. فأمّا البصَرُ فهو أخو البصيرة، يكشفُ جُمَلًا من المشاهداتِ، وُيلقِي إلى القلب فنونًا من المعلومات بواسطة الألوانِ، ويعضُدُ السّمعَ ¬
كما يعضُدُه، وَيستَرفِدُ كلُّ واحدٍ منهما أخاه فَيُرفِدُهُ، فإن عُدِمَ أحدُهما، فإنْ كان المعدومُ هو السّمعَ، فلا خلافَ في جوازِ الشّهادةِ بما يُلقِيه البصرُ. فإن عُدِمَ البصرُ؛ فإنّ النَّاس قد اختلفوا في شهادةِ ما يُلقِيهِ السّمعُ؛ فجمهورُ العلّماءِ على أنّ شهادةَ الأعمى جائزةٌ. وقال أبو حنيفةَ (¬1) والشّافعيّ (¬2): لا تجوزُ شهادةُ الأعمى لاشتباه الأصوات ووجود المحاكاة الّتي يَعْسُرُ الفصلُ فيها إِلَّا على من عَاينَ المُحَاكِيَ والمُحَاكَى، وهي مسألةٌ عسيرٌ: جدًا تهاونَ العلّماءُ بها، وهي معضلةٌ، وقد بيّنّاها في "مسائل الخلاف" واعتَضَدَ العلّماءُ القُدَماء والمُحدَثُون بقول النّبيّ: "فَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكتُومٍ" (¬3) فربطَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الحِلَّ والحِرمَة بسَمَاعِ الصّوتِ المَعْهُودِ، وفرَّقَ علماءُ الحنفيّةِ بينهما بفرقٍ عظيمٍ، وهو أنّ الأذانَ ليس بمَوْضِع للتَّلَبُّسِ والحِيلَة، والشّهادةُ مَعدِنُ ذلك. وقال علماؤنا: الْمُحَاكَاةُ الّتي يَعسُرُ الفرقُ فيها، إنّما تكونُ في الكلمة والكلمتين، وأمّا سَردُ القولِ، فلا يكادُ يَخفَى الفرقُ بين التّحكيةِ والحقيقةِ، ولذلك يقالُ للأعمى: لا تَقنَع في تحَمُّلِ الشّهادة بِقَول: نعم، حتّى تُوصَفَ المسألةُ بأن يقول: بايَعتُ، ونَكَحتُ، فحينئذٍ يرتفِعُ اللَّبسُ ويظهَرُ الفَرْقُ. ¬
المسألة التّاسعة: في شهادة الأجير والصّديق والوكيل قال جماعة: لا تجوزُ شهادةُ الأجيرِ إذا استأجَرَهُ، وبه قال الأوزاعي (¬1) وأصحابُ الرّأي (¬2). وقال الإمام: لا تجوز شهادة الأجير لمن استجأره (¬3) فيما يتولّى قبضه الأجير، وشهادته جائزةٌ له فيما لا يتولّاه الأجير ولا يلي قبضه، وهذا يُشبِهُ مذهب الشّافعيّ، وشهادةُ الوكيلِ للذي وكَّلَهُ بمنزلة شهادة الأجير. وأمّا شهادة الصّديق لصديقه فذلك جائزٌ في قول الشّافعيّ (¬4). وقال مالك وأبو ثور: إنَّ شهادةَ الرَّجُل الملاطف بصِلَةٍ وبعطف لا أرى شهادته جائزة، وإذا كان لا يناله معروفه فأرى شهادته جائزةً (¬5). المسألة العاشرة: في شهادة الأخرس اختلفَ العلّماءُ فيها: فكان مالك يقول: إذا كانت شهادته تفهم فشهادتُه جائزةٌ، وطلاقُه يجوزُ إذا كَتَبَهُ بيَدِهِ (¬6)، وذكر الْمُزَنَيُّ أنّ هذا قياسٌ على قول الشّافعيّ (¬7). ¬
وقال أصحاب الرّأي (¬1): لا تجوز شهادته حتّى يتكلّم. قال الإمام: شهادَتُهُ جائزةٌ إذا كانت تُفهَم بالإشارة استدلالًا؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - صلّى وَهُوَ جَالِسٌ وَهُم قِيَامٌ، فَأشَارَ إِلَيهِم أنّ اجلسُوا (¬2)، فَفَهموا عنه إِشارتَهُ. المسألة الحادية عشرة: في شهادة الأحلف (¬3) وقد اختلفَ العلّماءُ فيها. فرُوِّينا عن عليّ وابن عبّاس أنّهما قالا: لا تجوز شهادتُه. قال الإمام: ولا يصحّ ذلك عن أحد منهما. وقال الحسن البصري: شهادتُه وصلاتُه مقبولة. المسألة الثّانية عشرة: في شهادة المختفي (¬4) فقال قوم بتجويز ذلك (¬5)، ومنع منه قومٌ، وقد تقدّم بيانُها. المسألة الثّالثة عشرة: في شهادة أهل الأهواء واختلفَ العلّماءُ في قَبُولها؛ فرأت طائفةٌ رد شهادتهم، وممَّن رأى ذلك أحمد (¬6)، وإسحاق، وأبو ثور، وردّ شَريك شهادة يعقوب، فقيل له في ذلك، فقال: أربعة لا تجوزُ شهادتُهُم: رجل يزعمُ أنّ له في الأرض إِمَامًا مفترض طاعته، وخارجيٌّ يزعمُ أنّ الدُّنيا دار حَربٍ، وقَدَرِيٌّ يرَى أنّ المشيئَةَ إليه، ومرجىءٌ (¬7). وقال أحمد: لا يعجبني شهادة الجهميّة والرّافضة والقَدرِيَّة (¬8). وقال مالك: لا تجوزُ شهادة القدريَّة. ¬
وأجاز قومٌ شهادة أهلِ الأهواء إذا لم يستحلّ الشّاهد منهم شهادة الزُّور، وهذا قول ابن أبي ليلى (¬1) وسفيان الثّوريّ والشّافعيّ (¬2). وقال الشّافعيّ (¬3) أيضًا: لا تردُّ شهادة من أخذ بشيءٍ من التَّأويل. المسألة الرّابعة عشرة: في شهادة الشّعراء وللعلّماء في هذه المسألة أقوال: أجازها قومٌ؛ لأنّ كلام الشّعراء حِكمَةٌ ثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إِنَّ مِنَ الشِّعرِ لحِكمَةٌ" (¬4). فدلّ قوله على هذا أنّ من تكلّم بالحِكمَة وقالها قُبلَت شهادَتُه. وقال الشّافعيّ (¬5): "الشِّعرُ كلامٌ حَسَنُه كحَسَنِ الكلام، وقبيحُهُ كقبيحِ الكلام، فمن كان من الشُّعراءِ لا يُعرَفُ بنقص المسلمين ولا يتعرَّض للكذب لم تردّ شهادته". وعلى هذا المذهب، وأمّا إذا تعدّى في القول ويُعرَف بهَجوِ النَّاس، لم تُقبَل شهادته، ويُؤَدَّبُ إذا تعرّضَ لذلك. المسألة الخامسة عشرة: في شهادة اللاعب بالشّطرنج والنَّردِ قال مالك (¬6): أمّا مَنْ أَدْمَنَ اللَّعِب به، أرى شهادته ضلالة؛ لأنّه من الضَّلالِ، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬7). (¬8) ¬
وقال الشّافعيُّ (¬1): "لا نُحبُّ اللّعب بالشّطرنج وهو أخفّ من النَّردِ"، ومن لعب بشيءٍ من هذا على الاستحلال وغَفَل به عن الصّلاة لم تُقبَل شهادتُه، وقد رُوِّينَا في ذلك حديثًا، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّردِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ" (¬2). المسألة السّادسة عشرة: واختلفَ العلّماءُ في شهادةِ القُرَّاءِ بالأَلحانِ، وأحبّ إِلَيَّ ألَّا تجوز، وقد قال أبو الوليد (¬3): "لا تقبل شهادة القرّاء بعضُهُم لبعضٍ فإنّهم يتحاسدون فهم كالضّرائر". المسألة السّابعة عشرة (¬4): في شهادة البخيل الّذي ذَمَّه الله ورسولُه فقيل: هو الّذي لا يؤدّي زكاةَ ماله. ومن أداها فليس ببخيل ولا تردُّ شهادتُه. وقال بعض أصحابنا: تُرَدذُ شهادتُه لأنّه ساقط المروءة، وذلك يمنعُ من قَبُولِ الشّهادة. وكذلك ما كان من العبادات على الفور (¬5)، وأمّا ما كان على التّراخي فإنّه لا تبطل شهادته حتّى يترك ذلك مدّة يغلب على الظَّنِّ التّهاون بها مع تَمَكُّنِهِ من أدائها. المسألة الثامنة عشرة: في شهادة المولى عليه (¬6) إنَّ كان عَدلًا فشهادته جائزة (¬7)، وكان الحسن والشّافعيّ يقولان في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} الآية (¬8) قالا: صلاحًا لدينِه وحفظًا لمالِهِ (¬9). ¬
المسألة التّاسعة عشرة: في شهادة المجنون أجمعَ أهلُ العلم أنّ شهادتَهُ جائزةٌ إذا أفاقَ من جُنونه وعقل، وهو مذهب مالك (¬1) والشّافعيّ (¬2). المسألة الموفى عشرين: في شهادة اللّاعب بالحمام. فكان شُرَيْح لا يُجِيزُ شهادَتَهُ. وقال أصحاب الرّأي (¬3): لا تجوز شهادة اللّاعب بالحمام، ولا الّذي يُطَيِرُهُنَّ ولا لجامع الطّير المسجونة. المسألة الحادية والعشرون: في شهادة مُتَّخِذ القِينَات قال الشّافعيّ (¬4): إذا اتّخَذَهَا للهو والإعلان فهو بمنزلة السَّفِيهِ لا تُقبَل شهادتُه. المسألة الثّانية والعشرون: في شهادة شارب الخّمْرِ يتوبُ أو هو مقيمٌ عليها قال علماؤنا: إذا كان الرَّجلُ ممّن يشربُ الخمرَ الحرام حتّى يسكر، ثمّ يتوب فيشهد، فشهادته جائزة (¬5). واختلفوا فيمن يشرب مسكرًا متأوِّلًا أو غير متأوِّلٍ. فكان الشّافعيّ يقول (¬6): "مَنْ شربَ من الخّمْرِ شيئًا وهو يعرفُها خمرًا فهو مردودُ ¬
باب القضاء في شهادة المحدود
الشّهادة؛ لأنّ تحريمها نصّ في كتابُ الله أسكَرَ أم لم يسكر". وقال الحسن في السّارق إذا قُطِعت يده والزاني والسّكران إذا أُقيمَ عليهما الحدّ: إنَّ شهادتهم جائزة إذا كانوا عدُولًا، وهو مذهب مالك (¬1) والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، خلافًا لأهل العراق، ولهذا قال مالك في "كتابه" وبوّب فقال: باب القضاء (¬2) في شهادة المحدود قال الإمام: وإنّما خَصَّ مالك هذه التّرجمةَ والتي بعدَها وهي: "القَضَاءُ باليمينِ مع الشّاهِد" دونَ سائرِ مسائلِ الشّهاداتِ، لمُكَابرةِ أهل العراق* فيهما القرآنَ والسُّنَّةَ (¬3)، وتعلّق أهلُ العراقِ في* ذلك بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬4)، واعتمدَ مالك في "الموطَّأ" (¬5) وغيرِه على قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية (¬6). وقال أبو حنيفةَ: إنّما تُفيدُ التّوبةُ المغفرةَ والرّحمةَ الّتي وَعَدَ اللهُ بها، فأمّا ردُّ الشّهادة فلا تُسقِطُهُ التَّوبةُ كما لم تُسقِطِ الجَلدَ، ولو رَجَعَ قولُه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية (¬7)، إلى ما تقدَّم لأسقطتِ التّوبةُ الحدَّ والرَّدِّ معًا، والبارىءُ تعالى قد جعلَ الرَّدِّ مؤبَّدًا. ¬
القضاء باليمين مع الشاهد
قلنا له: يا أبا حنيفةَ، أنتّ أوّلُ من نقَضَ هذا، فلا يمكُنكَ أنّ تتقوَّى به، قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "المُتَلَاعِنَانِ لَا يَجتَمِعَانِ أَبَدًا" (¬1)، وقلتَ أنتَ: إذا أَكذَب نفسَهُ ردَّها، فكيف رَاعَيتَ الأبَديَّة في القَذفِ ورَدَدتَها في اللِّعان، واللَّفظُ واحدٌ؟! وهذا ما لا جوابَ له عليه، وقد مهّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". القضاء باليمين مع الشّاهد قال الإمام (¬2): عوَّلَ مالك في هذا الباب على حديث أبي جعفرٍ محمّد بنِ علىٍّ المُرسلِ (¬3)، وعلى قضاءِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ الّذي عَهِدَ به (¬4). الإسنادُ (¬5): قال الإمامُ: الصّحيحُ أنّ هذا الحديثَ مُرْسَلٌ (¬6)، وأَسنَدَهُ غيرُه (¬7) عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قضّى بالشّاهد مع اليمين (¬8). ¬
الأصول (¬1): اعلموا - رحمكم الله- أنّه ما أطنبَ مالك في مسألةٍ كإطنابه في هذه المسألة، فلقد سلَكَ فيها طريقَ الجِدَالِ، وكَثَّر الأسئلَةَ والأجوبةَ، وأفاضَ في ضرب الأمثالِ، والتّفريقِ بين مِثَالٍ ومِثَالٍ، وتحقيقِ الفرقِ بين الأصلِ والتّوابعِ. وظهَرَ له في ذلك عِلمٌ عظيمٌ من الأصول والأحكام، بما يتفقّه به جميع الطَّوائف. وأمّا متعلَّقُ الخَصم في إسقاطِ الشّاهِدِ واليمينِ، فظاهر البدَايةِ، قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية (¬2)، وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "شَاهِدَاكَ أَو يَمِينُهُ" (¬3) وهذا لا غُبَارَ عليه قرآنأوخَبَرًا، ونحنُ لا نُنكِرُ هذا ولكنّا نَدَّعِي زيادةً، فإنا نقول: في ذلك ثلاثُ طُرُقٍ (¬4): الطريقة الأوُلى- وهي أقواها -: إجماعُ أهل المدينة على نقل ذلك ثَبتَ عنِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وعن الخُلَفَاء بعدَهُ. وهو ما لا حُجَّة لهم عليه؛ لأنّه مهما اختلفَ النّاسُ في إجماعِ أهلِ المدينةِ من طريقِ النَّظَرِ، فليس يَقدِرُ أحدٌ على اعتراضِ ما يجتمعونَ على نقله من طريقِ الأَثَر، وهذا قويٌّ جدًّا في النَّظَرِ (¬5). الطريقة الثّانية: في سَردِ الأحاديث الواردة في ذلك وقد وردَ في ذلك أحاديثُ كثيرةٌ في المصنَّفَاتِ والمُسنَدَاتِ، وجَمَعَ في ذلك ¬
الدّارَقُطنىُّ وأبو بكر البغدادي (¬1) جُزءَينِ عظيمين، خَرَّجا فيهما هذا الحديث عن بضعة عشر من الصّحابة بأسانيدَ كثيرة، وقد رَوَى مسلمٌ (¬2) والأيِمّةُ (¬3) أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- "قَضَي باليّمِينِ معَ الشَّاهِدِ الْواحِدِ" وخرَّجَ التّرمذيّ (¬4): "يَمِينٌ وشاهِدٌ" وخَرَّجَ الدّارقطني (¬5) عن عليّ (¬6) أنّ رَجُلًا خاصَمَ عبد الله في حَقٍّ، فأَنكَرَ الزُّبَيْر، فَسأَلَ النّبيُّ -عليه السّلام- الزُّبَيْرَ البَيِّنَة عَلَى ما ادَّعاهُ، فَقالَ لَهُ: عِندِي في ذلِكَ سَمُرَة نجن جُندُب وَرجُلٌ آخَر، فَأَمَّا سَمُرَة فَلَم يَشهَد، وَأَما ذَلِكَ الرَّجُل الآخر فَشَهِدَ، فَحَلَّفَ النّبيُّ الزُّبَيرَ وأَثبَت حَقهُ. الطريقة الثّالثة: وهي مَعنَوِيَّةٌ قال علماؤنا: قال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "لَو أُعطِيَ النَّاسُ بِدَعوَاهُم لادَّعَى قومٌ دِماءَ قومٍ وَأموالَهم، وَلكِنّ البَيِّنَة عَلَى مَنِ ادَّعَى واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنكَرَ" (¬7) والحكمةُ في ذلك بَيِّنَةٌ، فإنّ قولَ المتداعيين قد تعارضا وتَسَاوَيَا، وليس قبُول أحدِهما أَوْلَى من قبُولِ الآخر، فشرعَ اللهُ التَّرجيحَ، ولهذا قال علماؤنا: لا يكونُ الشّاهدُ واليمينُ إلّا في الأموال وما جَرَى مجراها؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- إنّما قَضَى به فيها، ولم يَقوَ القوّةَ الّتي تُراقُ بها الدِّماءُ وتقامُ بها الحدودُ؛ فإنّ هذه معانٍ تسقُطُ بالشُّبهةِ، والشُّبهةُ بالشَّاهدِ واليمين قائمةٌ، فاقتُصِرَ بها على مَورِدِهَا وهي الأموال. ¬
باب القضاء في الدعوى
وقال أبو حنيفةَ (¬1): لا يجوزُ القضاءُ باليمين مع الشّاهد. ودليلُنا: حديث عمرو بن دينار، عن ابنِ عبّاس؛ أَن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "قَضَى بِاليَمينِ مَعَ الشَّاهِدِ" خَرَّجه مسلم (¬2). وقال أبو عبد الرّحمن النَّسَوِيّ (¬3) فيه: "هذا إسنادٌ جيدٌ". فإن قيل: يحتملُ أنّ يكون إنّما حَكَمَ في ذلك بشهادة خُزَيمَة الّذي جعل شهادته شهادة اثنَين، ولذلك سُمِّيَ ذا الشّهادتين. الجوابُ: أنّه يصحّ أنّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم- لم يجعل شهادته لغيره كشهادة اثنين، وهذا إذا ثبت حُكم ذلك اختصَّ بالنَّبىِّ كما اختصَّ في أنّ يكون الحَكَم ويسمع البَيِّنَات فيما ادّعى عليه؛ لأنّه إنّما شهد له بما سَمِعَ. باب القضاء في الدّعوى الأصول (¬4): قال الإمام: قد تقدَّمَ من قولنا التّصديرُ بالأحاديث الواردةِ فيها؛ كقول النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنكَرَ" (¬5)، وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "شَاهِداكَ أَو يَمينُهُ" (¬6)، ¬
وروى مسلم في "صحيحه" (¬1): "اليمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُستَحلِفِ"، وفي لفظٍ آخر (¬2): (عَلَى ما يُصَدِّقُكَ فِيهِ صاحِبُكَ". فأمّا البيَّنة، فهي لإثبات الحقِّ، وأمّا اليمينُ، فهي لرَفعِ التُّهمةِ، حَسَبَ ما بيّنّاه في البيوع، وَوَفَّى القاعدةَ مالك -رحمه الله-، وحقَّقَ النَّظَرَ فيها دون سائرِ العلّماءِ، فقال: إنَّ اليمينَ لا تتوجَّهُ بمجرَّدِ الدَّعوَى حتَّى تَقتَرِنَ بها شُبهةٌ، وذلك مُستَمَدٌ من قاعدةِ صِيانَةِ العِرضِ؛ لأنّ الرَّجُلَ يدَّعي على الرّجُلِ ليُلَوَّثَهُ باليمين، وصيانَةُ العرض على الحقيقةِ، والتُّهمةِ وَاجِبَةٌ كما هي في الدَّمِ والمال. الفقه في مسائل: المسألة الأوُلى (¬3): قوله (¬4): "إنَّ كانَت بَينَهُمَا مُخالَطَةٌ" هذا مذهب عمر بن عبد العزيز والفقهاء السَّبعة، وبه قال مالك (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6) والشّافعيّ (¬7): يستحلف المُدَّعَى عليه من غير إثبات خلطَة. ودليلُنا: أنّ مجرَّدَ الدَّعوَى لا يُثبتُ حكمًا إلّا لضرورة، والاستحلاف مضرّة تلحقه (¬8)، فلا يجوز أنّ يُؤذَى باليمينِ بمجرَّدِ دَعوَى المدَّعِي، إلّا أنّ يكون من ¬
الفصل الأول في الدعاوى التي تعتبر فيها الخلطة*
الأمور الّتي تقع كثيرًا من غير مخالطةٍ، ولذلك تأثيرٌ في الشَّرع، ولذلك تُقبَل شهادةُ الصِّبيان في القتل، لمّا كان يتعذَّر إثبات ذلك بشهادةِ العُدُولِ، وفي هذا ثلاثة فصول: الفصلُ الأوّل: في الدَّعاوى الّتي تعتبر فيها الخلطة، والثّاني: في تفسير معنى الخلطة، والثّالث: فيما تثبت به الخلطة. الفصل الأوّل في الدّعاوى الّتي تعتبر فيها الخُلْطَة* ما تُعتبر فيه فهو المداينة وادِّعاء دَين من مُعاوَضَةٍ، وفي "الموَازية": وكذلك إنِ ادَّعَى عليه كفالة بحقّ، فلا يلزمه، ويحلِّفه إنَّ لم يكن بينهما خلطة. ووجهه: أنّ الكفالة نوعٌ من المُعاوَضَة، مبنىٌّ على المشاحّة بين الكفيلِ ومَن تَكَفَّلَ له، فأَشبَهَ البيع. ويندرجُ في هذا الفصل فروعٌ كثيرةٌ، منها: أنّ من أوصَى أنَّ لي عند فلان كذا، حلف (¬1) من غير إثبات خُلطة، رواه في "العُتبيّة" أَشهَب (¬2) وابن نافع (¬3) عن مالك، وقاله ابن كنانة، وقال: إنَّ الميِّت أقرب ما يكون إلى الصّدق عند موته (¬4). فرع آخر: ومن ادعّى ثوبًا بيدِ إنسانٍ أنّه له، فاليمينُ على المدَّعى عليه؛ لأنّه ليس كلّ من له ثوب أو عَرْض يمكنه إثباته بالبيَّنَة، ولو احتِيجَ إلى ذلك لتعذَّرَ حفظ الشُّهود له ¬
الفصل الثاني في تفسير معنى الخلطة
وضبطهم لذلك، فيؤدِّي ذلك إلى إبطال الحقوق، فلذلك يثبت فيه اليمين بغير خُلْطَةٍ. فرع آخر: والصُّنَّاعُ يتعيَّن عليهم اليمين لمن ادَّعى عليهم في صناعتهم دون إثبات خلطة، قاله يحيي بن عمر، وقال: لأنّهم نصبوا أنفسهم للناس، وكذلك التّجار، غير أنّ الفرق بينهما أنّ الصُّنَّاعُ نصبوا أنفسهم لمّا يُوجِبُ عليهم المطالبة بالعمل والمعمول خاصّة، دون أنّ يكون لهم على أحدٍ مطالبة بمثل ذلك. قال علماؤنا (¬1): وانّما تجبُ اليمينُ في الدَّعَاوى مع تحقيقها وتحقيق الإنكار، ولو قال: أظنَّ أنّ لي عليك حقًّا أو كذا، لم يلزمه يمين، وكذلك من قال: أظنُّ إنِّي قضيتُك حقَّك، لزمه أداؤه، ولا يمين على الطّالب حتّى يحقّق يمينه، قاله في "الموازية". فرع آخر: فإذا لم تكن خلطة، إلّا أنّ المدَّعَى عليه مُتَّهَمٌ، فهل يجب عليه يمين بمجرَّد الدَّعوَى؟ قال سحنون: يُحَلَّفُ، والمشهور من المذهب المنع من ذلك، واحتج بأنّ للتُّهمةِ تاثيرًا في الأحكام؛ لأنّ مالكًا قال في امرأةٍ ادّعت أنّ رجلًا ممَّن يُشارُ إليه بالخَير استكرهها أنّها تُحَدُّ، وإن وإن لا يُشارُ إليه بذلك نَظَرَ الإمامُ فيه، فالتُّهمةُ تُوجِبُ ما تُوجِب الخلطَة. قال الإمام: ووجه القول الثّاني: أنّ حُكمَ العدلِ والفاجرِ في الأَيمَانِ الَّتي تتحقَّقُ فيها الدّعاوى سواء، وإنّما يختلفان في يمين التّهمة، واللهُ أعلمُ. الفصل الثّاني في تفسير معنَى الخُلْطَة أمّا الخُلْطَةُ، فروى أَصبَغُ عن ابنِ القاسم في "العُتبيَّة" (¬2) قال: "هي أنّ يُسالِفَهُ ¬
الفصل الثالث
فيبيعُه ويشتري منه" وكذلك قال سحنون (¬1): ولا تكون الخُلْطَةُ إلّا بالبيعِ والشّراء (¬2)، ولا تثبتُ بينهما الخُلْطَة بكونهما في السُّوق (¬3)، ولا الاجتماع في المسجد للصّلاة والأُنس والحديث. الفصل الثّالث وأمّا ما تثبت به الخُلْطَة، فإقرارُ المدَّعى عليه بها، أو ببينة تَشهَدُ بها، قاله محمَّد. وأمّا من أقام شاهدًا بالخُلطَة؟ ففي "المجموعة" عن ابن كنانة: أنّ شهادة رجل وامرأة تُوجِبُ اليمينَ أنّه خليطه (¬4). ورُوِيَ عن ابنِ القاسم (¬5) في "المدنيّة" مثله في الشّاهد. وقال محمّد: إذا أقام بها شاهدًا، حَلَفَ المدَّعي معه وتثبت الخُلّطَة، ثمّ يَحْلِفُ حيئنذٍ المدَّعَى عليه. باب ما جاءَ في الحنثِ على مِنْبَرِ النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال الإمام: الأحاديثُ في ذلك كثيرة: الأوّل: ثبت في الصّحيح أنّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اقتَطَعَ حَقَّ امرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ، وَأوجَبَ لَهُ النَّارَ" (¬6). ¬
وصح في الخَبَرِ؛ أنّ الكِبائر: الإشراكُ باللهِ واليمينُ الغَمُوسُ (¬1). وقال: "مَنْ حلَفَ عَلَى مِنبَرِي" الحديث (¬2). و"الغمُوسُ" هي الّتي تغمسُ صاحبها في النّار. قالوا (¬3): "وِإنْ كانَ شَيئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وِإنّ كانَ قَضِيبًا من أَراكٍ. قالَها ثَلاثًا" الأصول (¬4): قال الإمام: اختلفَ علماؤنا المتكلِّمون في هذا النّوع على قولين: 1 - أحدهما: أنّ الوعيدَ ليس من بابِ الخَبَرِ، فلا يقال لمن رجع عنه كاذب؛ ولذلك قال الشّاعر (¬5): وإِنِّي وَإِنْ أَوعَدْتُهُ أَو وَعَدتُهُ ... لَمُخلِفُ إِيعَادِي ومُنجِزُ مَوْعِدِي فمدح نفسَهُ بإخلاف الوعيد، ولو كان ذلك كذبًا لَمّا مدَحَ به نفسه، فعلى هذا، الوعيدُ متوجِّه إلى كلِّ عاصٍ. 2 - وقيل: إنّه من باب الخبر وإنّ الخلْفَ فيه ضربٌ من الكَذِب، وذلك مُحالٌ في صفة البارئ تعالى، فهذا الوعيدُ متوجّهٌ إلى كلِّ من عرف البارئ تعالى أنّه لا يغفر له، دون من أراد العفوَ عنه، وقد قال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (¬6)، وقال: {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا ¬
نَبِيًّا} (¬1) فوصفَ الوعدَ بالصِّدق والكذب. تحقيق: واعلم أنّ النَّاس في هذا الباب طوائف: الأُولى: الوَعِيدِيَّةُ، فإنّها تعلّقت بظواهرِ الآياتِ والآثارِ، وهذا هو الّذي دَعَا سالِفَةَ علمائنا المتكلِّمين -رحمة الله عليهم- إلى إنكارِ العموم، وقد بيَّنَّا القول بصِحَّته، وأنّه لا يُحتاجُ إليه معهم؛ فإنّ الحقَّ ظاهرٌ والأدلّة بيَّنَةَ، وحَمَل التّقصيرُ كثيرًا من علمائنا على أنّ يقولوا: إنَّ الله لا يُنفِذُ وَعِيدَه، فإنّ ترْكَ إنقاذِ الوعيدِ من مكارمِ الأخلاقِ. وقد بيّنّا أنّ ذلك يُتَصَوَّرُ في المخلوقِ الّذي يجوزُ له الكَذِبُ بعُذْرٍ، ويُتَصَوَّرُ منه على الإطلاق، فأمّا الصَّادِقُ الوّاجِبُ الصِّدقِ، فلا يجوزُ أنّ يقع مُخبَرُهُ بخلافِ خَبَرِه، ويتعالى الله عن الأخلاق الذَّميمةِ، وإنّما له الصِّفاتُ العَلِيَّةُ؛ ولكن وإن جاءلت الأخبارُ بإطلاقِ القول في الوَعيد، فقد جاءت أُخَرُ بإطلاقِ القولِ في الوَعْدِ، كقول النّبيّ -عليه السّلام-: "مَنْ كان آخرُ كَلَامهِ لا إلَهَ إِلا الله، حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النارِ" وبهذا تعلَّقت المُرْجئةُ. وكقوله: "إِنَّ بَغِيًّا من بَغَايَا بَنِي إِسرائِيلَ مَرَّت بِكَلبٍ يَأكُلُ الثَّرَى من شِدَّةِ العَطَشِ، فَنَزَعَت مُوقَهَا (¬2) فَسَقَتْهُ من رَكيَّةٍ (¬3)، فَغفَرَ اللهُ لَها". وهاهنا (¬4) نكتةٌ، وهي: أنّ البارىءَ تعالى رحيمٌ شديدُ العقابِ، فلا بدّ أنّ يأخُذ كلُّ حُكمٍ من أحكامِ الصِّفتين جُزءًا من الخَلقِ تتحقَّقُ فيه الصِّفَةُ، وكذلك هو غفورٌ منتقِمٌ (¬5)، وتحقيقُ ذلك هو الشّفاعةُ. فمَنْ نظرَ إلى صفةٍ من صفاتِ البارىءِ وآمنَ بها، وتركَ البَوَاقِي، لا يكون مؤمنًا باللهِ، وكذلك من نَظَرَ إلى أخبارِ الوَعْدِ دون الوَعِيدِ، أو ¬
أخبارِ الوَعِيد دون الوَعْدِ، لا يكون عارفًا بحُكمِ الله، وإنّما ينبغي لك أنّ تعرضَ بعضها على بعضٍ، وتَرُدَّ البِنْتُ منها إلى الأُمِّ، وبالجملة فآخر الحَالِ أنّ إثباتَ الشّفاعة لمحمّد - صلّى الله عليه وسلم - فيها تحقيقُ الوَعْدِ والوَعِيدِ، وأنّ المُرْجِئَةَ لا تَرَى لمحمَّد - صلّى الله عليه وسلم - شفاعةً؛ لأنّ لا إله إلّا الله تُغنِي عندهم، ولا يَرَوْنَ النّار على مذهبهم، والخوارجُ والقدَرِيَّةُ لا تراها أيضًا؛ لأنّ الخلودَ عندهما يَمنعُ منها، والحمدُ لله الّذي وَفَّقَ عِصَابة الحقِّ للإقرار بها وبحقِّ الله والعِلْمِ بصفاتِ الله، والاعترافِ بمنزلة نَبِىِّ الله، فالله تعالى غفورٌ رحيمٌ، شديدُ العقابِ. وأنشدَني بعض الأصحاب (¬1): أَصبَحْتُ قَد شَفَّ قَلبي ... خوفٌ عَليهِ مُقِيمُ خَوْفٌ تَمَكَّنَ مِنهُ ... فالقَلبُ منِّي سقِيمُ لَولَا رَجَائِي بوَعدٍ ... وَعَدْتَهُ يا كَرِيمُ في سورة الحِجرِ نصًّا ... لأذهَلَتني الغُمُومُ عَلَى لِسانِ نَبِيٍّ ... قلبي إليهِ يهِيمُ نَبِّيء عِبَادِي أنّي ... أنا الغَفُورُ الرَّحِيمُ (¬2) كذاك أَنتَ إلَهي ... أَنتَ الغفُورُ الرَّحِيمُ فَقَدْ وَثِقتُ بهذا ... والقَلبُ مِنِّي سَقِيمُ من آية أذهلتني ... فيها وَعِيدٌ جسِيمُ هِيَ الّتي قُلتَ فِيَها ... والقولُ مِنكَ حَكِيمُ ألَّا وإن عَذابِي ... هُوَ العذابُ الأَلِيم (¬3) ¬
نكتةٌ بديعة (¬1): قال الإمام: وقولُه في الحديث الثّاني (¬2): "حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ، وَأَوجَبَ لَهُ النَّارَ" هو عمومٌ عارَضَهُ قولُه: "مَنْ كانَ آخِرَ كَلَامِهِ لا إِلَهَ إِلا الله حَرَّمَ الله عَلَيهِ النَّارَ، (¬3) فيتقابلَ الخبرانِ، فوجبَ الرُّجوعُ إلى الآية المُحْكَمَة، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية (¬4)، فهي أمّ الوعيد والوعد، *وإلى هذا المعنى أشارَ بعضُ النّاسِ في* قولِهِ في هذا الحديث ونظائره، معناه: حرَّم اللهُ عليه النّارَ في وَقْتٍ دون وَقتٍ. وَفَرَّ بعضُ علمائنا إلى أنّ قال: إنَّ معنَى ذلك: إذا كان مُستَحِلًا، فَرَدَّهُ إلى الكُفرِ، وهذا رُجوعٌ منهم إلى قول المبتدعة من حيث لم يشعُرُوا، على ما بيّنّاه في موضعه، وإسقاطٌ لأحكام المُذنِبِين، وإخراجٌ لهم عن القرآن والسُّنَّة، وذلك باطلٌ قطعًا. الفقه في مسائل: المسألة الأوُلى (¬5): قوله (¬6): "وإن كان قَضِيبًا من أَراكٍ" يدلُّ على أنّه لا بلزم اليمين على المِنبَر فيه (¬7) لِقِلَّتِهِ، وإنَّما يجب ذلك فيما له قيمة، لكنّه إنَّ وقع من أحدٍ اليمين على مِنبَرِ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- في قضيبٍ من أَراكٍ أو شيءٍ تافِهٍ فهذا حُكمُه. وليس في الحديث أنّه يُجبَر على اليمين عند المِنْبَر في هذا المقدار، وإنّما تضمَّنَ الحديث حُكْم من حلَفَ عنده آثمًا، والله أعلمُ. ¬
جامع ما جاء في اليمين علي المنبر
جامع ما جاء في اليمين علي المِنْبَرِ ذكر أُبُو غَطَفان بن طَرِيفٍ المُرِيِّ قال: اختَصَمَ زَيدُ بن ثابِتٍ وابْنُ مُطِيعٍ في دَارٍ كانَتْ بَينَهُمًا، إِلَى مَروَانَ بن الحَكَم، فَقَضَى مَروَانُ على زَيدِ باليَمَينَ عَلَى المِنَبرِ. فَقالَ زَيدُ بن ثَابِتٍ: أحلِفُ لَهُ مَكَانِي. فَقَالَ له مَروَانُ: لَا وَاللهِ إِلَّا عِندَ مَقَاطِعِ الحُقوقِ ... الحديث (¬1)، وهو صحيحٌ. الأصول: قال الإمام: اعلموا -وفقكم الله- أنّ الآثام في الآخرة تتضاعفُ بتضاعُفِ الحُرُمَاتِ في الدُّنيا، وتتعدَّدُ بتعدُّدِها، بخلافِ أحكام الدُّنيا، فإنّ الحُرُمات لا تتضَاعَفُ بتضَاعُف الأسباب، ولا تتعدَّدُ بتعدُّدِها، كالحائضِ المُحْرِمَةِ الصّائمةِ، فالكذبُ حرامٌ كبيرةٌ، فإنِ اتَّصلت بذِكرِ الله عَظُمَت، فإن اتَّصلت بقطعِ حقِّ امرىءٍ مُسلِمٍ تضَاعفَت، فإن كانت بعد العصر زادَت، فإن كانت على مِنْبَرِ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو رَوضَةٌ من رياضِ الجنَّة - لم يَأمَن أنّ يكون ذلك قطعًا إلى حقِّه منها، ويقالُ له: إنَّك لا تَدْخُلُ موضعًا عَصَيتَ فيه. وآياتُ الوعيدِ وأخبارُه كثيرةٌ، وهي بإجماعِ من الأُمَّةِ من المُتشابِه الّذي نَبَّه الله عليه في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (¬2) الّذي لا يَتَّبِعُهُ إلّا زائِغُ القلبِ. وفيه للعلّماءِ ثلاثةُ مذاهبَ: 1 - طائفةٌ حقَّقَتهَا أوّلًا وهم الخَوارجُ، ونَسَجَت على منوالها القَدَرِيّةُ. 2 - وطائفة أسْقَطَتْهَا وهم المُرجِئَةُ، قالت: كما لا ينفَعُ مع الشِّركِ عمَلٌ، كذلك لا يَضُرُّ مع الإسلام ذَنْبٌ ولا سَيِّئَةٌ. 3 - وطائفة توقَّفَت، وقالت: أمرُ ذلك إلى الله تعالى، إنَّ شاء غَفَرَ، وإن شاءَ أَخَذَ، كما تقدَّم بيانُه. ¬
الفقه في سبع مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): قضاءُ مروان على زَيد بن ثابِت باليمين على المِنبَرِ هو مذهبُ أهلِ المدينةِ، ولم يكن زيدٌ يقولُ: إنّه لا يلزمه، وإنّما كان يمتنع منه إعظامًا له. وقد رُوي عن ابن عمر؛ أنّه كان يكره ذلك، ويقولُ: أخشَى أنّ يُوافِقَ قَدَرًا، فيقال: إنَّ ذلك ليمينُه (¬2). المسألة الثّانية (¬3): قال علماؤنا (¬4): حديثُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يدلُّ على أنّ اليمينَ على مِنبَرِ النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- واجبةٌ، وأنّ الّذي قضَى به مروان هو الصّواب، وليس في إِبَاءَةِ زيد عن اليمين على المِنبَر ما يمنعُ مِن ذلك؛ لأنّ زيدًا لو قطع أنّ ذلك لا يلزمه، لردَّ ذلك على مروان ولأنكر عليه قولَهُ وقضاءَهُ؛ لأنّ (¬5) زيدًا كان من أَحَدٍ الثّلاثة الّذين كانوا يفتون النَّاس. المسألة الثَّالثة (¬6): قولُه: "عَلَى الْمِنبَرِ" قال علماؤنا (¬7): يريدُ عند المِنبَرِ؛ لأنّ حروفَ الخَفضِ يُبدلُ بعضها من بعضٍ، ولا يصعدُ أَحَدٌ على المِنبَر لليمين *بوجهٍ ولا على حالٍ، ويُحلف بمكّة عند الرُّكن، ذكر ذلك ابن القرطي* (¬8) والذي رأَى مالك وأصحابه أنّ اليمينَ على المِنبَرِ إنّما تجبُ في رُبُع دينارٍ فصاعدًا. وقد أوجب قومٌ اليمينَ عند المِنبَر في القليل والكثير، واحتجَّوا بظاهر قوله -عليه السّلام-: "وَإِنْ كانَ قَضِيبًا من أَرَاكٍ" ولا حُجَّةَ لهم في ذلك؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنّما أراد بهذا التقليل في الوعيد والتَّخويف، ولم يُرِد أنّ اليمينَ تجبُ على المِنبَرِ في قضيبٍ من أَرَاكٍ (¬9)، وإنّما يجبُ اليمينُ عند المِنبَرِ فيما له ¬
بالٌ (¬1)، والله أعلم. المسألة الرّابعة (¬2): اختلفَ العلّماءُ في كيفية اليمين، وفي موضعها، فقال الشّافعيُّ: تُغَلَّظُ اليمينُ بالألفاظِ العشرة (¬3). وقال بعض علمائنا: تُغَلَّظُ باللهِ الّذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشّهادة، هو الرّحمن الرّحيم. قال الإمام أبو بكر بن العربي: أمّا قولُ أصحابِ الشّافعيّ في الألفاظ العشرة، فَدّعوَى عريضة؛ لأنّ منها ما ليس في أسمائه الحُسنى، وهي قوله: "الطالب" "الغالب) ونحوه. وإذا كان الحلفُ بأسمائه الحُسنَى، فما معنَى عشرة دون تسعة وتسعين!، هذا تَحَكُّم. وأمّا من زّاد من أصحابنا: الّذي لا إله إلّا هو، فله وجهٌ، لقول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- في الحديث الصّحيح: "يا مَعشَرَ اليَهُودِ، واللهِ الذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَتَعْلَمُونَ أَنَّي رَسُولُ اللهِ" (¬4). وأمّا الصّحيح من المذهب؛ فقوله "باللهِ" خاصّة، لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ¬
الآية (¬1)، وقولِه: {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2) ولقول النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِف باللهِ أَو لِيَصمُتْ" (¬3)، وكقوله: "إي والله" (¬4) و"إنِّي والله إنَّ شَاءَ الله" (¬5) وأمّا تأكيد اليمين في يمينه (¬6) في موضع، وقوله في آخَر: "وَالَّذي نَفسِي بِيَدِهِ" (¬7) فإنّما هو ليتعلّم الخَلق التَّصرُّف في ذلك بذكر الله بجميع صفاته العُلَى وأسمائه الحُسْنَى. المسألة الخامسة: وأمّا موضعها حيث تجب، فإنّ علماءنا قالوا: موضعُها حيثُ تَجبُ في القليل والكثير وهو المسجد (¬8). (¬9) ويمينُ الحرِّ والعبد والنّصراني في الحقوق سواء، وقال ابنُ القاسم: والمجوسُ يحلفون باللهِ. المسألة السّادسة (¬10): وأمّا التّغليظ بالمكان فهو الجامع، قاله مالك في "المدوّنة" (¬11) وغيرها. وهل يكون تغليظًا في سائر المساجد أم لا؟ ففي "النّوادر" (¬12) أنّه لا يحلف في مساجد القبائل في قليلٍ ولا كثير. وروى عنه سحنون أنّه يحلف في مساجد الجماعات ¬
بالأمصار، والأحسن أنّ يحلف في المسجد الجامع (¬1)، وهو أقوى في النظر للتغليظ. وأمّا النّصارَى فيحلفون في كنائسهم (¬2)، واليهود في بيعِهِم، والمجوس حيث يعظمون، رواه في "الواضحة" (¬3) ولا يزيدون على "بالله" شيئًا (¬4)، ولا يقولون: لا والَّذي أنزل التّوراة على موسى، ولا والذي أنزل الإنجيل على عيسى (¬5). المسألة السّابعة (¬6): قال علماؤنا: تُغَلَّظُ بالزّمان في غَلِيظِ الأحكام، بعد العصر أو بأثر صلاة، كاللِّعان، فيقصد به بعد الصّلوات وأعظمُها صلاة العصر. وقد اختلف في صحيح الحديث في الصّلاة الّتي نهَى النّبيّ -عليه السّلام- على المتلاعنين باليمين بعدها، هل هي الظهر أو العصر؟ وأصحّ الرِّوايتين سَنَدًا أنّها العصر (¬7)، وهي أقوى نظرًا؛ لأنّ ذلك الوقت بعد العصر أعظم من الوقت بعد الظُّهرِ؛ لأنّه وقتٌ تجتمع فيه الملائكة المتعاقبة باللّيل والنّهار، الذين يكتبون أعمالَ العبادِ، فإنْ كتبتها ملائكة النهار كانت خاتمة صحيفته كبيرة، وإن كتبتها ملائكة اللّيل كان افتتاح صحيفته كبيرة، وإن كتباها معًا كان ختام الأولى وافتتاح الأولى شيئًا عظيما وما بعده أعظم منه، إلّا إنَّ عفا الله. ¬
كتاب الرهون
كتابُ الرهون وفيه خمسةُ أبوابٍ: الباب الأوّل ما لا يجوز من غلق الرَّهْنِ مالك (¬1)، عن الزُّهريِّ عن ابن المُسَيَّب؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَغلَقُ الرَّهْنُ" الحديث. الإسناد: قال الإمام: الحديثُ مُرْسَلٌ من مراسيل ابنِ المُسَيَّب (¬2)، وقد يُسْنَد من طُرقٍ كثيرة (¬3). العربيّة: قال الإمام أبو بكر بن العربي: يقال: غَلِقَ الرَّهْنُ بكسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل. ¬
وقال ابنُ حبيب (¬1): "هو بِرَفْعِ القاف على معنى الخبر أنّه (¬2) يَغْلَقُ فَيُحْبَسُ بما رُهِنَ (¬3)، فلذلك ارْتَفَعَ. ولو كان نهيًا لكان جَزمًا. ثمّ يكسر لالتقاء السّاكنين" (¬4). وقال غيره: هو على فعَل بفتح العين وكذلك المستقبل. الأصول (¬5): قال الإمام: الرَّهْنُ مصلحةٌ من مصالح الخلائقِ، شَرَعَها اللهُ تعالى لمن لم يرضَ بِذِمَّةِ صاحبِهِ الّذي عامَلَهُ، وفائدتُه: التّوثيقُ للخَلقِ، مخافَةَ ما يطرأُ عليهم من التَّعَذُّرِ، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} الآية (¬6). فظنَّ قومٌ أنّ ذلك مخصوصٌ بالسَّفَر (¬7)، وإنّما خرجَ الكلامُ في ذِكرِ السَّفَرِ مَخرَجَ سَبَبِ الحاجة وموضِعِهَا، لا أنّه شرطٌ فيها، والدّليلُ على صِحَّة ذلك: ما رَوَى الأيمّةُ في الصّحيح وغيرِه، أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ابتاعَ بِالمَدِينَةِ من يَهُودِيٍّ شَعِيرًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ (¬8). واختلف النَّاس في قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬9) فجعلَ القبضَ شرطًا في الرَّهنِ في موضعين: أحدُهما: أنّه لا يكونُ رهنًا يُقْبَضُ، وحينئذٍ يكون له حُكمُ الرَّهنِ. والثّاني: أنّه إذا قُبِضَ، هل يَلزَمُ دائمًا فيه؟ فإن خرجَ عنه بَطَلَ، أم يكفي له قبضُ ¬
فصل
أوّلِ العَقدِ؟ وقد بيّنّا ذلك في "الأحكام" (¬1)، والصّحيحُ دوامُ القَبضِ واستمرارُه، وهو الّذي اختارَهُ علماؤنا؛ لأنّ الله جعله رَهنًا بصفةٍ، فإنِ اختلفت تلك الصِّفةُ خرجَ عمَّا حَكَمَ اللهُ به. فصل قال الإمام (¬2): ليس في الرَّهنِ حديثٌ صحيحٌ إلّا رَهْنَ النَّبىِّ عند اليهوديِّ، وما روَى البُخاريّ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحلُوبٌ، يُركَبُ بنفَقَتِهِ ويُحلَبُ بِنَفَقتِهِ" (¬3) وهذا الحديثُ الّذي أَرْسَلَهُ مالك، عن سعيدٍ بنِ المُسَيِّب، إنّما سَاقَهُ لاتِّفاق العلّماءِ على القولِ به، وإنِ اختلفَ في ذلك علماءُ الحديثِ، وقد زاد الدَّارقطنيُّ (¬4) في حديث سعيدٍ وأسنَدَهُ فقال: عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "لا يَغلَقُ الرَّهنُ من راهِنِهِ الّذي رَهَنَهُ، لَهُ غُنمُهُ وَعَلَيهِ غُرمُهُ" وهذا يعارِضُ حديث النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - الّذي خرّجه البخاريُّ في قوله: "الرَّهنُ مَركُوبٌ ومَحلوبٌ بِنفَقَتِهِ". وقد اتّفقَ العلّماءُ على أنّ منافِعَ الرَّهنِ للرّاهن ليس للمُرْتَهِنِ فيها حقٌّ، وإنّما له حقُّ الحَبْسِ والتَّوثُّقِ، فأمّا منافِعُه فلا. وقال أبو حنيفة (¬5) قولًا غريبًا لا يُشبهُ فِطنَتَهُ: تبقَى منافعُ الرَّهن عَطَلًا لا سبيلَ للمرتَهِنِ إليها؛ لأنّها ليست له، ولا سبيل للرَّاهن إليها؛ لأنّ الرَّهنَ قد زال عن يده. ¬
وقال الشّافعىُّ (¬1): يستَوفِي الرَّاهِنُ عند نفسه منافعَ الرَّهْن؛ لأنّ الرَّهنَ قد صحَّ ولَزِمَ بالقبضِ الأوّلِ، فلا يحتاجُ إلى الاستدامةِ. قال الإمام: فأمّا قولُ أبي حنيفة فمخالِفٌ للحديث والأصولٍ والنَّظَرِ، أمّا الحديثُ فمن ثلاثةِ أوّجُهٍ: أحدُها - وهي القاعدةُ-: أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- "نَهَى عن إضاعةِ المالِ. وما رَوَى البخاريُّ: "أَنَّ الرَّهْنَ مَحْلُوبٌ وَمَركُوبٌ" يناقضُ قولَه: "الرَّهنُ عَطَلٌ" وهو الثّاني. وأمّا الحديث الثّالث فهو: "لَهُ غُنمُه وَعَلَيهِ غُرْمُهُ". وأمّا "الأصولُ" فكلُّ مالِكٍ أحقُّ بمِلكِهِ، وكلُّ ذي حقِّ لا يُحَالُ بينَه وبين حقِّه في مسائلِ الشّريعةِ كلِّها. وأمّا "النَّظَرُ" فليس من المصلحة للخَلق، ولا مِنْ شُكرِ نِعَمِ الخَالِقٍ، أنّ تُترَك النِّعَمُ سُدىً حتّى تَتوَى (¬2). وأمّا قولُ الشّافعيِّ: "إنَّ الرَّهنَ يَرجِعُ إلى صاحِبِه" ففي ذلك إبطالٌ لِحَقِّ المُرتَهِن أو تعريضُه للآفات، وذلك لا يجوزُ. والصّحيحُ ما قاله مالك من أنّ المَنافع تبقَى في يد المُرْتَهِن *مع الأصل؛ فإنْ شاءَ الرّاهنُ أنّ يَستَوفِيَهَا تحت يد المُرتَهِن بنَفسِهِ استوفاها*، وإن شاء أنّ يُنيبَ من يَستَوفِيها لَهُ فَعَلَ، فبهذا يصلُ كلُّ ذي مِلكٍ إلى مِلكِهِ، ويبقَى كلّ ذي حقٍّ محفوظًا على صاحبه. وأمّا قوله: " الرَّهنُ مَحلُوبٌ وَمَركُوبٌ" فهذه إشارةٌ إلى ما قلنا من أنّ المنافعَ لا تبقَى مُعَطَّلَةً. وأمّا قولُه: "يَركَبُ بِنَفَقَتِهِ وُيحلَبُ بِنَفَقَتِهِ" فإنّ ذلك محمولٌ على بقيَّةِ عادةٍ كانت ¬
عندهم، أو على تَراضٍ بذلك من المتراهِنَينِ، فأمّا أنّ يأخُذَ ذلك المُرتَهنُ بشرعٍ، فلا يصحُّ ذلك؛ فإنّه كان يكرن زيادةً في حقِّه، وأخذَ مال الرَّاهِنِ بغيرِ رِضَاه، فارتبط الباب، والحمدُ لله على هذه الأصول الّتي مهّدنا. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): تولُه: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" قيل: معناه لا يذهبُ هَدَرًا، قال الشاعر (¬2): وَفارَقَتكَ بِرَهنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ ... يَومَ الوَدَاعِ فأَمسَى الرَّهنُ قد غَلِقَا ففسَر الغَلق -وهو ذهابُهُ- بغير شيءٍ، وفَوَاتُه من غير جَبرٍ، وفي ذلك ثلاثةُ أحوالٍ: الحالةُ الأولى: ما فسَّرَهُ مالك أنّه نهى عن عَقدٍ تضمَّنَ ذلك، وعن استدامَتِهِ إنَّ عُقِد على وجهٍ يَتَضَمَّنه. الحالة الثّانية: أنّ يَفُوتَ الرَّهنُ عند المُرتَهِن، أو يَتلَفَ بوجهٍ من وجوه التَّلَفِ. فقال الشّافعيّ (¬3): يذهَبُ هَدَرًا، ويأخُذُ صاحبُ الحقّ حقَّه. وقال أبو حنيفةَ: يُقَاصُّه بقيمته من الدِّيْن. ولمالك في ذلك قولان (¬4): أحدُهما: الفرقُ بين أنّ يكونَ ممّا يُغابُ عليه وما لا يُغابُ عليه، فإن كان ممّا يُغابُ عليه، كان كما قال أبو حنيفةَ، وإن كان ممّا لا يُغابُ عليه كان كما قال الشّافعيُّ. القولُ الثّاني: أنّ الحُكْمَ فيه كما قال أبو حنيفةَ في كلِّ حالٍ. زاد مالك: إلّا أنّ تقُومَ بيَّنَةٌ على تلَفِهِ من غير جهة المُرتَهِن، فإنّه يكونُ من الرَّاهِن، وهذه مسألةٌ عظيمةُ ¬
الموقعِ، أخَذَت شَبَهًا من الأماناتِ؛ لأنّه قَبَضَهُ بإذن صاحبِه، وأَشْبَهَتِ المُستَامَ من جِهَةٍ أنّه قَبَضَهُ على وجهِ المُعَاوضَة، ومن حُكمِ الفرعِ إذا تَجاذَبَهُ الأصلان أنّ يُوفرَ عليه من حُكْمِ كلِّ واحدٍ منهما، ولأجله قال مالك مرَّةً: إنّه أمانةٌ. وقال أخرى: إنّه مضمونٌ، وإنّما قبضه على التّوثّقِ من الأماناتِ، والدَّينُ مُستَقِرٌّ في الذِّمَّة، بخلاف المُسْتَامِ، فإنّه قَبَضَهُ على معنَى الاعتياض فحقّق ذلك فيه. ومِنْ غَلَقِ الرَّهنِ مسألةُ إِعتاقِ الرَّاهِنِ، فإنّ علماءَ الإِسلامِ اختلفوا فيها على ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنّه مردودٌ، قالَهُ الشّافعيُّ (¬1). الثّاني: أنّهُ نافِذٌ، قاله أبو حنيفةَ (¬2). الثالثُ: أنّه يَنفُذُ إنَّ كان مُوسِرًا، وُيرَدُّ إنَّ كان مُعسِرًا (¬3). والمسألةُ مُشكِلَةٌ؛ إلّا أنّ الكلامَ لمالكٍ يَظهَرُ فيها مع الاعتبار جدًّا؛ لأنّه من غَلَقِ الرَّهْنِ، والصّحيحُ في اشتقاقِهِ أنّ يذهَبَ باطِلًا، كما قال الشّاعر (¬4): وَفَارَقتكَ بِرَهْنٍ لا فِكَاكَ لَهُ ... يوم الوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهن قد غَلِقَا ويكونُ الهلاكُ من جِهَةِ الرّاهِنِ، وكما لا يَغلَقُ الرَّهنُ على الرَّاهِنِ، فأَولَى ¬
القضاء في رهن الثمر والحيوان
وأَحرَى ألّا يَغلَقَ الرَّهنُ على المُرتَهِن. وأمّا الشّافعيّ فإنّه قال: إنَّ الرَّهْنَ حقٌّ يتعلَّق باليَد، والعِتقَ حقٌّ يتعلَّقُ بالمِلكِ، فَمَحِلُّ العِتقِ غيرُ مَحِلِّ الرَّهنِ. قلنا له: ولكنّه يُبطِلُهُ، وكلُّ ما أدَّى إلى بُطلَانِه فإنّه يَبْطُلُ في نَفْسِه. وهذا فصلٌ عسِيرٌ لا يستقيمُ على أصولِنا؛ لأنّ مالكًا قد قال في عِدَّة مسائلَ: إنّه ينفُذُ العِتقُ من المُوسِرِ والمُعسِر، وان أدَّى إلى إبطالِ حقِّ الغير، فإذا طُولِبَ بالفرقِ لم يَقدِر عليه، وَيَئُولُ الكلامُ إلى تَشُغيبٍ في الفروع وتَشُغبٍ أيضًا في الأصول، بيانُها في "كتب الأصول". القضاء في رَهْنِ الثَّمَرِ والحيوان الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): "فإِنَّ ذَلِكَ الثَّمَر لَا يَكُونُ رهنًا مَعَ الحَائِطِ" (¬2) معناه: لا يكون لِلثَّمَرَةِ حكم الرَّهْن، ولا يكون المُرتَهِنُ أحقّ بها من الغُرَمَاء، وذلك أنّ النّماء من الرَّهْنِ على ضربين: أحدُهما: أنّ يكون من غير جنس الأصل، كثَمَرَة النَّخْل، وعسل النَّحْل، وغَلَّةِ الدُّور، والعبيد، وسائر الحيوان، فهذا كلّه لا يكون رَهْنًا مع الأصل، ما حدث منه بعد عَقْدِ الرَّهْن. ¬
فأمّا "الثمَرَةُ" فسواء حدثت بعد العَقد أو كانت موجودة حين الرَّهن، مزهية أو غير مزهية، قاله ابن القاسم وأشهب. وقال أبو حنيفة (¬1) والثوري: ما حدث من اللّبن والصُّوف والثمرة بعد الرَّهن فهو في الرَّهْن، وكذلك الغَلَّة والخَرَاج. ودليلنا: أنّه نماءٌ حادِثٌ من غير جنس الأصل، فلم يتبعه في عَقد الرَّهن، أصل ذلك: مال العبد. المسألة الثّانية (¬2): وأمّا "الصّوف واللّبن" فلا يتبع أيضًا إذا حدث بعد العَقد، أو كان غير كامل، فأمّا إنَّ كان كاملًا يوم العَقدِ، فقد قال ابنُ القاسم: يلحقه حكم الرّهن. وقال أشهب: لا يكون رهنًا إلّا بالشّرط (¬3). ووجه قول ابن القاسم: أنّه متّصلٌ بالحيوان اتّصالَ خِلْقَة، ويتبع في البيع بمجرَّدِ العَقْدِ، فكذلك في الرَّهن كأعضاء الحيوان. وقد قال بعض القَرَوِيِّين في النّخل تُرهَنُ وفيها ثمرة يابسة: يجب أنّ تكون للمُرتَهِنِ على قول ابن القاسم كالصُّوف التّام. قال الإمام: وعندي أنّها (¬4) لا تتبع في البيع (¬5) بخلاف الصّوف؛ لأنّ الصُّوف لا يخلو منه الحيوان، ويؤخذ منه على سبيل الإصلاح له، فأشبه جريد النّخل، وأمّا الثَّمَرَة ¬
فهي من غير جنس الأصل، ومقصودةٌ بالغَلَّة، تخلو منها الشّجرة في بعض أوقاتها، وذلك حكم رطبها ويابسها. المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا (¬2): ويجوز ارتهان مال العبد دونه، فيكون له معلومه ومجهوله يوم الرَّهْن إنَّ قَبَضَهُ، قاله مالك أيضًا في "المجموعة". ووجهه: أنّ المجهولَ يصحُّ ارتهانه، كما يصحّ إفراد الثَّمَرة الّتي لم تُؤبَر بالارتهان. المسألة الرّابعة (¬3): قوله (¬4): "وَمَنِ ارْتَهَنَ جَاريَةً وَهِيَ حَامِلٌ" فقد تقدّم الكلام في النّماء الّذي ليس من جنس الأصل، وأمّا ما كان من جنسه كالولد، زاد ابنُ الجلّابِ (¬5): "وفراخ النّحل والشَّجَر" فإنّ جميع ما تلده الأَمَة بعد الرَّهن يكون رَهنًا معها دون شرطٍ، خلافًا للشّافعيّ (¬6). ووجه ذلك: أنّها نماءٌ من جنس الأصل فأشبه جنسها. ومَنِ ارتهن عبدًا فولد له من أَمَتِهِ، فقد قال ابنُ شعبان: الولد رَهنٌ مع أبيه دون أُمِّه. ووجه ذلك: أنّ أُمِّه مال العبد، فلا تكون رَهْنًا معه بمجرَّد العَقد، والوَلَدُ نماءٌ ¬
القضاء في الرهن من الحيوان
من جنس، فكان تبعًا له في الرَّهْنِ. ولو شرط أنّها رَهْنٌ دون ما تلد لم يجز (¬1). ووجه ذلك: أنّه جزءٌ معيَّنٌ منها، فلم يجز أنّ يفرد عن الرَّهن كَيَدِها. المسألة الخامسة (¬2): وفرَّق علماؤُنا بين الثَّمَرَة وولد الجارية؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَاعَ نَخلًا قَدْ أُبِّرَت فَثَمَرُها لِلبَائَع إِلَّا أنّ يَشتَرِطَها المُبتَاعُ" (¬3). قال مالك (¬4): "والأمرُ الّذي لا خِلَافَ فيه، أنّ من باع جاريةً وفي بَطنِهَا جَنِبنٌ أنّ ذلك للمُشتَرِي وإن لم يَشتَرِطهُ". فهذا على ما قال، فرق بين الثَّمَرَة المأبورة والجنين، وفيه حُجَّة على من أراد إلحاق أحدهما بالآخر. وأمّا غير المأبورة فخارجة عن ذلك؛ لأنّها تتبع النّخل في البيع وإن لم يشترطها، فهيَ في البيع كالجنين، وفي الرَّهْن مخالفة له، على ما نبيَّنُه إنَّ شاء الله تعالى. القضاءُ في الرَّهْن من الحيوان الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "مَا كانَ مِنْ أَمرٍ يُعرَفُ هَلَاكُهُ" (¬7) وهذا يدلُّ على ما قال. فأمّا الأرض ¬
والرّباع وأصول الشَّجر ممّا لا ينقل ولا يحول، فأمرها ظاهر يُعلَم صدق مدَّعِي ضياعها من كذبه. وأمّا الحيوان فإن ادِّعَاء أبَاق العبد وهروب الحيوان، فهذا ممّا لا يكاد المُرتَهِن أنّ يقيم به بيِّنَة؛ لأنّ هذا يكون في وقت الغفلة. قال مالك: لأنّ الأصل ما أخذه عليه من غير الضّمان حتّى يتبيَّن كذبه، وذلك مثل ما قال أشهب: إذا زعم أنّ الدَّابّة انفلتت منه، أو كابره العبد بحضرة الجماعة فينكرون ذلك، فلا يُصدّقُ إلّا أنّ يكون الّذين ادّعَى عليهم ذلك غير عُدُول، فلا يُصدقون، والقول قولهُ. قال محمَّد: هذا مذهب مالك وأصحابه فيما لا يغَاب عليه، والمشهور (¬1) من قول مالك؛ أنّهم إذا كانوا غير عُدُول لم يثبت كَذِبُه، وكان على أصله في التّصديق وانتفاء الضّمان؛ لأنّه على ذلك أخذه، فوجود غير العدول كعدمهم فيما يتعلَّق بالحكم له وعليه. المسألة الثّانية (¬2): وأمّا "الموت" ففي "الموّازية" عن مالك: أنّه يُصَدَّق، إلّا أنّ يظهر كذِبه بدَعواه ذلك بموضع لا يعلم أهله ذلك، ومعنَى ذلك: أنّه يصدَّق إذا ادَّعَى مَوْته في الفَيَافِي، وبحيث لا يكون به من يعرف به صدقه أو كذبه. المسألة الثّالثة (¬3): ولو قال: ماتت دابّة لا نعلم لمن هي، ففي "المجموعة": يصفوها إنَّ عرفوا الصِّفَة، وإن لم يصفوها قُبِلَ قولُه أنّها هي ويحلِف. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): قال أبو الزّناد وفي الحديث: "إِذَا عميت قِيمَته" (¬2) وهذا الّذي ذَكَرَهُ لا يثبت عن النّبيّ -عليه السّلام- فيه شيءٌ، وإنّما هو قول جماعة الفقهاء: إنَّ الرَّهنَ يضمن منه قَدْر الدِّيْن، وما زاد على ذلك فهو أمانة، وهذا قول ابن أبي ليلَى والثّوري وأبي حنيفة (¬3). وأمّا ما رُويَ من قول أصحابنا في قوله: "الرَّهنُ بِمَا فِيهِ" هو قول الفقهاء السَّبعة، إنّما ذلك إذا جُهِلَت صفتُه ولم يدَّع معرفة ذلك راهِنٌ ولا مُرْتَهِن، وهو قول اللَّيث، وبلغني (¬4) عن عليّ رضي الله عنه (¬5). وقد قال مالك: الرَّهْن بما فيه إذا ضاع عند المُرتَهِن ما يغاب عليه إذا كانت قيمته بمقدار الدِّين، وسيأتي بيانُه إنَّ شاء الله. المسألة الخامسة (¬6): وإذا جاء المُرّتَهِن بالرَّهْن وقد احترق وقال: قد وقعت عليه نار، فلا يصدَّق وهو ضامِنٌ إلّا أنّ تقوم بيِّنة، أو يكون من الاحتراق أمر مشهور، من احتراق منزله أو حانوته فيأتي ببعض ذلك محروقًا، فإنّه يُصَدَّق، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم (¬7). والقول قولُه فيما ادّعاه إذا جاءَ بالشُّبهة من احراقِ حانوته أو منزله. ¬
المسألة السّادسة (¬1): وإذا أتَى بالرَّهن قد تآكل من السّوس (¬2)، فلا ضمانَ عليه ويحلف ما ضَيَّعَهُ، وإن كان أضاعه حتَّى أصابه، فيشبه أنّ يكون فيه شيءٍ، رواه في "العُتبِيَّة" عيسى عن ابن القاسم عن مالك. وقال ابن شعبان: إذا تآكلت الثِّياب عنده أو قرضها الفأر وما أشبهه، فإنْ كان أضاعها ضَمن وإلَّا لم يضمن، وقال ابن القاسم: يضمن. المسألة السابعة (¬3): وأمّا إذا تَلِف بغير بيِّنة، فلا خلاف في المذهب أنّه مضمون، خلافًا لابن المُسَيَّب والزّهريّ وابن دينار في قولهم: إنَّ الرَّهْن كلّه أَمانَة ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، وبه قال الشّافعيّ (¬4). ودليلُنا: أنّ قَبْض ما يملك، فمنفعته للقابض مؤثِّرَّة في الضّمان كالشّراء. إنَّ الرَّهن مضمونٌ على حكم الارتهان في الضّمان، من حين يقبضه المُرْتَهِن إلى أنّ يردَّهُ. ولو ضاع الرَّهْنُ بعد أنّ وهبَهُ الرَّاهِن، ففي "العُتبِيَّة" عن ابن القاسم (¬5) أنّه يضمنه. ووجهه: ما قدّمناه من أنّه مقبوضٌ على حكم الارتهان في الضّمان (¬6). ¬
المسألة الثامنة (¬1): قوله (¬2): "وَلوْ قَالَ المُرْتَهِنُ: لَا عِلْمَ لِي بِقِيمَةِ الرَّهنِ. حُلِّفَ الرَّاهِنُ (¬3)، إِذَا جَاءَ بِمَا لَا يُسْتَنكَرُ" يريد أنّ يأتي بما يُشْبِه من صفة ما رُهِنَ في مثل ذلك، وما يكون له من القيمة ممّا يقرب منه على ما جرت به العادة، وإنّما يُرَاعَى في ذلك ما لا يُسْتَنكَر من الثَّمَن. المسألة التّاسعة (¬4): قوله (¬5): "وَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهُ وَلَمْ يَضَعهُ عَلَى يَدَي غَيرِهِ". يريد أنّه (¬6) إنّما ضمن الرّهن الّذي لا يغاب عليه إذا كان حائزًا له، وأمّا إذا كان موضوعًا على يد غيره بحكمٍ (¬7)، أو باتّفاقهما، فلا ضمان عليه في ضباعه، وإن لم تقم بذلك بيِّنة. وأمّا سائر ما تقدّم من قوله في شهادة قيمة الرَّهنِ بقَدْر الدَّيْنِ، فيحتمل أنّ يناوله هذا الشّرط على قول أصْبَغ، ويحتمل أنّ لا يناوله على قول محمّدٍ، وسيأتي ذِكرُه إنَّ شاء الله. تركيب: قال الإمام: ويتركّب على هذا ستّ مسائل (¬8): المسألة الأولى: في وجُوبِ الحيازة للرّهن وأنّها شرطٌ في صحّته وإتمامه. والثّانية: في صفة الحِيّازَة وتميّزها ممّا ليس بحيازة. والثّالثة: فيمن يكون وضع الرَّهن على يديه. والرّابعة: فيمن يُوضع على يده عند ¬
اختلافهما. والخامسة: فيمن يقوم بالرَّهن ويلي الإنفاق عليه والاستغلال له. والسّادسة: في حكم العدل الّذي يوضع على يده. أمّا المسألة الأولى (¬1): في وجوب حيازته وكونها شرطًا في تمامه فليس من شرطها السَّفَر، خلافًا لمجاهد في قوله: لا يصح الرَّهن إلّا في السَّفَر (¬2). ودليلُنا: أنّ كلّ وثيقة صَحَّت في السَّفَر فإنّها أصحّ في الحَضَرِ كالكَفَالَة، ولا يتمّ لها حكم الرَّهنِ إلّا بالحِيازَة له، قال الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) فجعل ذلك من صفته اللّازمة له، وذلك بمعنى الشّرط فيه، فصار حكم الرَّهنِ متعلِّقًا بالرَّهن المقبوضِ. فرع: فإن مات الرّاهن أو أفلس، ووُجِدَ الرَّهْنُ بيدِ المُرتَهِنِ أوِ الأمينِ، ففي "الموّازية" و"المجموعة" عن عبد الملك: لا ينفع ذلك حتّى تعلم البيّنة أنّه حَازَهُ قبل ذلك (¬4). وقال محمّد: لا ينفعه إِلَّا بمعاينة الحوز لهذا الارتهان. ووجهه: أنّه لمّا كان من شرطه قبضه وحيازته قبل تعلُّق حقّ الغُرَمَاء به، لم يحكم له بذلك إلّا بعد ثبوت الشّرط في وقته وقبل وفاته. وعندي: لو ثبت أنّه وجد بيده قبل الموت أو الفلس، لوجب أنّ يحكم له بحكم الرَّهنِ، ولعلّه معنَى قول محمّد: لا ينفعه إلّا بمعاينة الحوز. ¬
المسألة الثّانية (¬1): في صفة الحيازة وتمييزها ممّا ليس بحيازة فأوّل ذلك أنّ الرَّهْنَ يلزم بمجرّد القول، خلافًا لأبي حنيفة (¬2) والشّافعيُّ (¬3) في قوليهما: لا يلزم إلّا بالقبض. قال عبد الوهّاب (¬4): والدّليل على ذلك، قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬5) قال: قلنا: من الآية دليلان: أحدهما: أنّه قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فأثبتها رِهَانًا قبل القَبض. والدّليل الآخر: قولُه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} هو أمر؛ لأنّه لو كان خَبَرًا لم يصحّ أنّ يوجد رهن غير مقبوض، ومن قولهم: إنَّ الرَّاهِن لو جُنَّ أو أُغمِيَ عليه ثمّ أفاقَ لصَحَّ، فثبت أنّه أمرٌ. ومن جهة القياس: أنّه عَقد وثيقة كالكفاله. فرع: وهل يكون من شرط الحِيَازَة أنّ يقبض الرّهن الحائز أم لا؟ اختلف أصحابنا في ذلك: ففي "الموَازية" من رواية ابن القاسم عن مالك فيمنِ اكتَرَى دارًا أو عبدًا سنة، أو أخذ حائطًا مساقاة، ثمّ ارتهن شيئًا من ذلك قبل تمام السَّنَة، فلا يكون محوزًا للرَّهنِ؛ لأنّه محوز قبل ذلك بوجه آخر. وفي "المجموعة" قال سحنون: ومذهب ابن القاسم: أنّه يجوز أنّ يرتَهِنَ ما بيده بإجارَةٍ أو مساقاةٍ ويكون ذلك حيازة للمُرتَهِن، كالذي يخدم العبد ثمّ يصَّدَّق به على ¬
آخر، فحوزُ المخدوم حوزٌ للمُتَصَدَّقِ عليه. فرع آخر:. ومن رَهَنَ بيتًا من دارٍ بما يليه منها، فحازَهُ المُرتَهِن بِغَلَقٍ أو كراء. قال ابنُ حبيب عن أصبغ: إنَّ حَدَّ له نصف الدّار فهو أحسن، وان لم يحدّه ولكنّه رهنه البيت بعينه ونصف الدّار شائعًا، فحيازته للبيت تكفيه، وكذلك في الصَّدقة، يريد بقوله: "فحيازة المُرتَهِن بغلق البيت" أنّ غلقه له على ذلك الوجه حيازة له ولسائر ما ارتهن من الدّار. وأمّا الكراء فإنّه يشتمل على الجميع، واختار أَصبَغُ أنّ لو حدَّ له بحَدٍّ حتّى يتميّز الرَّهن من غيره، لكنّه إنَّ حاز البيت أجزأه. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنّ البيت معظم الرَّهن والتّالي له تَبَعٌ. والثّاني: يكون مبنيًّا على جواز حيازة المُشَاع مع غير الرَّهنِ، ويكون معنَى المسئلة أنّ بقيَّةَ الدّار لغير الرّاهن، وفي "العُتبيّة" (¬1) من رواية عيسى عن ابن القاسم فيمن ارتَهَنَ دارًا وفيها طريق للمسلمين يسلكه الرّاهنُ وغيره، قال: إذا حاز البيوت لم يضرّه الطّريق؛ لأنّه حقّ للنّاس كلّهم. فراعَى في الحيازة البيوت دون السّاحة (¬2)، ويحتمل ما قدّمنا من أنّها تَبَعٌ للبيوت. فرع: ويجرز عند مالك رَهن المُشَاعِ (¬3)، وبه قال الشّافعيُّ (¬4)، ومنعه أبو حنيفةَ (¬5). ¬
ودليلُنا: أنّه كلّ ما صحّ قَبْضُهُ بالبَيْعِ صحَّ ارتِهَانُه كالمقسوم. المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا (¬2): هذا في حِيَازَةِ الأعيان، وأمّا الدُّيون فارتهأنّها جائزٌ، قاله مالك، ولا يخلو الدَّين أنّ يكون له ذكر حقّ، أو لا ذِكرَ له، فإن كان له ذكر حقّ، فحيازته أنّ يدفع إليه ذلك الحقّ ويشهد له به، فهذا حَوْزٌ ويكون أحقّ به في الموت والفَلَسِ، قاله مالك في "الموّازية". فرع: فإن لم يكن له (¬3) ذكر حقّ، فهل يُجزِىء فيه الإشهاد؟ قال ابنُ القاسم في "المجموعة": لا بأس بذلك، ونحوه عن مالك. المسألة الرّابعة (¬4): فيمن يصحّ وضع الرّهن على يده فإن كان يتيم له وليَّان، فارتهن منهما رَهنًا بدَيْنٍ على اليتيم، فوضع على يد أحدهما، ففي "الموّازية" عن عبد الملك: لا يتمّ فيه الحَوز؛ لأنّ الولاية لهما، ولا يحوز المرءُ على نفسه. فرع: ومنِ ارْتَهَنَ حائطًا، فجعل على يد المُسَاقِي فيه أو الأَجير، فليس برَهنِ حتّى يجعل على يد من في غير الحائط، ويجعل مع المساقي رجُلًا يستخلفه، أو يجعلاه على يد من يرضيان به، رواه ابن القاسم عن مالك في "الموّازية". وقال عبد الملك في "المجموعة": إنَّ كان رَهَنَ نصفه لم يجز ذلك في الأجير ¬
والقَيِّم، وإن كان رهن جميعه جاز. ووجه الأوّل: أنّ المُسَاقِي والأَجِير لمّا كانا عاملين للرَّاهِن كانت أبدانهما له، فلا تصحّ الحِيَازَة مع بقائه بيده (¬1) أو بيد من يقوم مقامه، كما لو رَهَنَ نصفه لم يجز. ووجه الثّاني: أنّ يَدَ الأَجِير إنّما نَابَت عن يَدِ الرَّاهن بأمره، فإذا بقي له أمر فيه، بقي له بعضه غير مرهون، فلم يجز ذلك كان حائزًا أو محوزًا منه. المسألة الخامسة (¬2): فيمن يوضع على يده عند اختلافهما وإنّه إذا اشترط المُرتَهِنُ كونه على يده، جاز إنَّ كان ممّا يُعْرَف بعينه، كالدور والعَقَارِ والحيوان والثِّياب، وغير ذلك ممّا لا يكال ولا يُوزَن، فأمّا الدّنانير والدّراهم فلا يحوزُ ذلك فيها لجواز أنّ ينتفع بها فيردّ مثلها. وقال أشهب في "المجموعة": لا أحبُّ ارتهانَها وارتهان الفلوس إلّا مطبوعة، للتُّهمة في سلفها، فإن لم تطبع لم يفسد الرَّهْن ويستقبل طبعها متَى عثر على ذلك، وهذا إذا كان على يَدِ المُرتَهِنِ دون الأمين (¬3)، فالتُّهمةُ فيه أَبيّن. والذي في "المدوّنة" (¬4) في الدّنانير والدّراهم والفلوس: يجوز ارتهأنّها إذا طبع عليها. ¬
فرع: وإن شرط كونها على يدِ أمينٍ، لزمهما ولا يحتاج إلى الطّبع، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب. وإن لم يشترطا شيئًا، قال محمّد بن عبد الحَكَم: إنِ اختصما في ذلك، قيل لهما: اجعَلَاهُ على يَدِ أمينٍ ممّن ترضونَ، فإن اختلفا في الرِّضَا، جعله القاضي عند من يرضَى. فرع: فإن مات الأمين فأَوصَى إلى رجلٍ، لم يكن الرَّهنُ على يده ولكن على يَدِ من رضيا به، قاله ابنُ القاسم في "المدوّنة" (¬1). وقال أشهب (¬2): على الوَصِيِّ أنّ يعلمهما بِمُؤَنِهِ، ثمّ إنَّ شاء أقرّه عنده أو عند غيره، فإن اختلفا فيه وفي غيره جعل عند أفضل الرَّجلين. المسألة السّادسة (¬3): فيمن يلي الرّهن رَوَى ابنُ حبيب عن ابن المَاجِشُون: إنَّ المُرتَهِنَ يلي كراءه، وأحبّ إليَّ أنّ يستأمر الرّاهن إنَّ حضر، فإن لم يأمره مضَى ذلك. وقال ابنُ القاسم: له أنّ يكريَهُ بغير إذنه عَلِمَ أو لم يعلَم. ¬
باب القضاء في كراء الدابة والتعدي فيها
وقال أشهب (¬1): إنَّ لم يأمره الرّاهن، فلا يكريه. وفي "العُتبِيّة" (¬2) عن ابن القاسم: يلي كراءَهُ بإذن الرّاهن، وكذلك من وضع على يده. باب (¬3) القضاء في كِرَاء الدّابة والتّعدِّي فيها التّرجمة والإسناد: قال الإمام: بوَّبَ مالك -رحمه الله- على كراء الدَّوابّ والرّواحل، ولم يَرِد لهما في الحديث أصلٌ، سوَى أنّي وجَدْتُ إشارتين إحداهُما أقوَى من الأُخرى. وأمّا الأُولى: فهي الحديث الصّحيح (¬4) عن عائشة: أَنَّهُ (¬5) استَأجَرا رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ يُقالُ لَهُ: ابن الأريقط (¬6)، دَفَعا إليه راحِلتَيهِما وَواعَداهُ في غارِ ثَوْر صُبحَ ثَلَاثٍ. فقد أخذتِ الدّابّةُ هاهنا حظّها من الكِرَاءِ. وأمّا الحديث الثّاني -وهو أقوى-: وهو حديثُ جابرٍ: أنّه باعَ مِنَ النَّبِيِّ جَمَلًا، وَاشتَرَطَ ظهره إِلَى المَدِينَةِ (¬7). وهذا ظاهرٌ في أنّ الاستثناءَ قد وقعَ على جزءٍ من الثَّمَنِ. ¬
وأمّا قوله (¬1) في التّرجمة: "والتَّعَدِّي فِيها" فإنّه نبَّهَ على أصلٍ، فإنّ العدوانَ بابٌ عظيم، تصرَّفَت فيه الشّريعةُ بالبيانِ، وتعلّقت به منَ الأفعالِ أحكامٌ، قال النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم-: "إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم وأَعْرَاضكم عَلَيكُم حَرامٌ" الحديثَ (¬2)، فإذا وقعَ التّعدِّي فيها، فللشَّرعِ على المُتَعَدِّي حكمان: 1 - أحدُهما: حُكمُ زَجرٍ، كالضَّرب والقتلِ. 2 - والآخر: حُكمُ جَبْرٍ، كالقِيمَة والدِّيَة. وفي الجبر زجرٌ؛ لأَنّه بنَقيضٍ لمِلكٍ المتعدِّي، وليس في الزَّجر جَبرٌ، ولكن فيه حفظٌ واستنفاع، وعنه وقَعَ البيانُ في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية (¬3)، ولأجل ذلك شَرَّف الله هذه الأُمَّةَ على سائر الأُمَمِ. فإنّ القِصَاصَ زاجرٌ في كلِّ أُمَّة، وخُصَّت هذه الأُمَّةُ بالدِّيَة جَبرًا، وجعلَ اللهُ الوَلِيَّ بالخِيَارِ بين أنّ يَقتُلَ أو يَأخُذَ الدِّيةَ، وهذا هو الصَحيحُ. ومن النُكَتِ البديعةِ في هذا الحديث: أنّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلم-لم يذكر فيه الفروجَ، ولكنّها دخلت في الأعراضِ، فاستوعب هذا الحديثُ محارمَ الشّريعةِ. ¬
وأمّا الزَّجرُ، فيكون بما تقدَّم من القتل والضَّرب. وأمّا الجَبرُ، فيكون بالمِثلِ، وهو على قسمين (¬1): مثلٌ في الصّورةِ، ومثلٌ في المَالِيَّةِ. فأمّا المثلُ من جهة المالية، فقد عيَّنَها الله في القِيمَةِ من النّقدَيْن وما جرَى مجراهما بالعُرْف. وأمّا المثلُ من طريق الصّورة فيما يُشاهَدُ، وذلك في المَكِيل والموزونِ، أمّا إنّه قد يَشِذُّ من ذلك شيءٌ؛ في التّفريع في مسألة الغَزلِ (¬2)، فإنّ العلّماءَ اختلفوا فيها، هل هي من ذوات الأمثالِ، أو من ذوات القِيَمِ؟ والصّحيحُ أنّها من ذَوَاتِ القِيَمِ، فإنّ ضبطَ القاعدةِ أوكَدُ من النّظرِ في الفروع. فإن قيل: كيف تَصنَعُون بما في الحديث الصّحيح، من أنّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - كَانَ فِي بَيتِ بَعض نِسَائِهِ، فَأَهْدَت إِلَيهِ إِحدَى أُمَّهاتِ المُؤمِنِينَ قَصعَة فِيها طَعَامٌ، فَضَرَبَت الَّتِي هُوَ فِي بَيتِهَا يَدَ الخادِمِ، فَوَقَعَتِ القَصَعةُ أَوِ الصَّحْفَةُ فَانْكَسَرَت، فَقالَ النَّبيُّ: "غَارَت أُمُّكُم" وجعل يجمع الطّعام في الصّحفة ويقول: "كُلُوا" فَأَكلُوا وجَبرَ قصعة الّتي هو في بيتها وأرسله إلى الّتي كُسِرَت قصعَتُها (¬3). الجوابُ: الأمرُ جرَى للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مرَّتين: إحداهُما: كانت أمُّ سَلَمَةَ أهدَت إلى النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو في بيت عائشة، خرَّجَهُ النَّسائيُّ (¬4). المرّةُ الثّانيةُ: أنّ الّتي أهدَتْ كانت زينبَ، فقالت عائشةُ للنَّبيِّ -عليه السّلام-: ما ¬
كفارةُ ما صنَعتُ؟ قال: "إِنَاءٌ بِإناءٍ، وَطَعامٌ بِطَعامٍ" خرّجه مسلم في "صحيحه" (¬1)، واختلاف المُهدَى دليلٌ على أنّها كانت حالتان، وكانت دارُ النّبيّ وأَهلُهُ وأوانيه والكُلُّ له، وإنّما الكلامُ في التّشَاحِّ بين المتنازِعَين وطلبِ المثلِ على التّحقيق عند الاختلاف، وذلك لا يكون إلّا بالمعيارِ الشّرعيِّ. وقيل: إنّما كان ذلك في القَصعَةِ لحَقارتها، وإن القِيمَةَ في ذلك لا تختلِفُ بخلافِ الأثواب والدّواب؛ فإنها لا تكاد تتّفقُ لكثرة قيمتها. أمّا أنّه قد رُويَ عن عبد الله بن عمر وغيره؛ أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "فِي الكَلبِ المتَّخذِ لِلزَّرعِ فَرَقٌ من طَعَامٍ، وَفِي كَلبِ الغَنَمِ شَاةٌ، وَفِي كَلب الصَّيدِ كَذا دِرهَمًا، وفِي كَلب الدَّارِ فَرَقٌ من تُرابٍ، عَلَيكَ أنّ تَحمِلَهُ وَعَلَيهِ أنّ يَأخُذَهُ" (¬2) قال الإمام: وهذا الحديثُ ضعيفٌ في السَّنَد، فلا يُلتَفَتُ إليه لضَعفِهِ؛ لأنّه لا يصحّ منه حرفٌ. مَرجِعٌ: فإذا اكتَرَى دابّة فتعدّى، والفروعُ فيها كثيرةٌ، ولكن جملةُ الحالِ ترجِعُ إلى ¬
أصل، وهو أنّ الشّافعيّ (¬1) يقولُ: على المتعَدِّي قيمةُ ما أَفسَدَ بالغًا ما بَلَغَ، قليلًا أو كثيرًا، ولا يسقُطُ حقُّ المالِكِ عن العين المملوكةِ بالتَّعدِّي، ولو بَقِيَ منها قيمةُ حبّةٍ، بل يُحْكَمُ بردِّها إلى مالِكها بجميع قيمتها غيرَ تلك الحبَّةِ. وقال مالك وأبو حنيفة (¬2): إذا ذهبَ المعظَمُ من المنفعةِ، فعلى المتعدِّي جميع القيمةِ، ويكونُ لربِّ الدّابةِ أو السِّلعةِ أو العبدِ، ويكونُ ذلك كلُّه للمتعدِّي مُعاوَضةٌ قهريّةٌ. وهنا فروعٌ تتعارَضُ فيها الأدلةُ، فحَكَمَ مالكٌ فيها للمَالِكِ بالتّخِييرِ، وقد بيّنّا في "مسائل الخلاف" هذه المآخِذ، والأقوَى عندي فيها مذهبُ الشّافعيِّ إنَّ شاء الله. فروع هذا الباب أربعة: الأوّل (¬3): قوله (¬4): "فَإِنَّما لِرَبِّ الدَّابَّةِ نِصفُ الكِرَاءِ" إِنَّما جعل لَهُ النِّصف في البَدَاءَة والنِّصف في العودة، بناءً على أنّ قيمتهما سواء لتساويهما في المسافة، وهو الغالب في أحوال المسافات، ولو اختلفت قيمة الكِرَاءِ لرَغْبة النَّاس في البَدَاءَة والعودة للزم التّقديم. الفرع الثّاني (¬5): إنَّ ردّها وقد تغيّرت، فلا يخلو أنّ تكون تغيرت تَغَيُّرًا شديدًا أو هلكت. فإن تغيرت، ففي "الواضحة" عن مالك: أنّ من ردّ الدّابة ولم يمسكها إِلَّا يسيرًا، فليس لربِّها إلّا الكِرَاء فقط، إلّا أنّ يكون قد نقصها وغيّرها تغيُّرًا شديدًا، فهو مخيَّرٌ بين كِرائها في تلك الأيَّام وبين قيمتها. وكذلك لو عطبت في مُدَّة التَّعدِّي، والتّعدِّي يكون في ¬
حبسها بعد زمان الكِرَاءِ. الفرع الثّالث (¬1): وأمّا التَّعدِّي في تجاوزِ المسافة، فمثل أنّ يكتري دابّة للرُّكوب من مصر إلى برقة، فيركبها إلى إفريقية، فهذا حكمُه في طول الإمساك، وقُربه مثل ما تقدّم في الزِّيادة على زمن الكِرَاء إنَّ ردّها سالمة، فقد رَوَى ابن حبيب عن مالك؛ أنّه إذا لم يُجاوِز المسافة إلّا باليسير، فليس لصاحبها إلّا الكِرَاء بمقدار ما زاد، ولو زاد كثيرًا خُيِّرَ ربّها، فإن عَطِبَت في القليل والكثير فهو ضَامِنٌ لها. الفرع الرّابع (¬2): وأمّا التَّعدِّي في الحمل، فعلى وجهين: أحدهما: الزيادة فيه من جنسه. والثّاني: حمل غير ذلك الجنس. فأمّا الأوّل، ففي "المدوّنة" (¬3) فيمَنِ اكترَى دابَّة ليحمل عليها أرطالًا، فحمل أكثر فعَطِبَتْ، إنَّ كانت الزِّيادة يُعطَبُ من مثلها، فلصاحبها الكِرَاء الأوّل وكراء ما تعدَّى فيه. وقال سحنون: إنَّ زاد ولو رطلًا ضمن. وقال عبد الملك: الفرق بين هذا وبين الزِّيادة في المسافة؛ أنّ مجاوزة المسافة تَعَدٍّ كلّه، فلذلك ضمنها في قليله وكثيره، وزيادة الحمل إذا اجتمع فيه تعدّ وإذن، فإنْ كانتِ الزِّيادة يعطَب من مثلها ضمن وإلّا لم يضمن. ¬
القضاء فيى المستكرهة من النساء
فإذا قلنا: له كِرَاءُ الزِّيادة إنَّ شاء، ففي "المدوّنة" (¬1): له أجر مثل القفيز الزّائد ما بلغ، إلّا أنّ يكون مثل قفيز من العشرة الّتي اكترى عليها. ووجه ذلك: أنّ له فيه قيمة كراءِ مثلِهِ ما بلغت (¬2)؛ لأنّه لم يتقدّم فيه عَقد، والفروع كثيرة اقتصرنا على هذه النّبذة منها، وبالله التّوفيق. القضاء فيى المسْتَكْرَهَةِ من النِّساء الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال علماؤنا: إذا غَصَبَ الفَرْجَ وجَبَت عليه قيمتُه؛ لأنّ ما ضُمِنَ بالمُسَمَّى في الصّحيح من العَقد وبالمِثْلِ في الفاسِدِ، ضُمِنَ بالإتلاف، أصلُه الأعيانُ. ولا تستَمِرُّ لنا هذه المسألةُ مع أبي حنيفةَ وأهل الكوفَةِ إلّا بعدَ القولِ بأنّ منافعَ الرِّقابِ مضمونةٌ بالإتلاف، وفيه خمسةُ أقوالٍ، والصّحيحُ منها أنّ المنافعَ مالٌ، وأنّها مضمونةٌ، سواءٌ تَلِفَت تحتَ اليَدِ العاديّةِ، أو أَتْلَفَها المُتَعَدِّي. وقال أبو حنيفةَ (¬4): منافعُ البُضْعِ لا تُقَوَّمُ، وليس المَهْرُ في النِّكاح ثمنًا لها. قلنا: لو كان هذا صحيحًا لما ضُمِنَتْ بالمِثلِ في الفاسِدِ. فإن قيل: ذلك لشُبهة العَقد. ¬
قلنا: إذا ضُمِنَت بالاستيفاءِ بالشُّبهَةِ، فأَولَى وأَحرَى أنّ تُضمَنَ بالإتلاف في اليقين. وقد مهّدنا ذلك في "مسائل الخلاف" فإنّها من المطوّلات، وهذه المسألة لا تُتَصَوَّر إلّا بأحد ثلاثة أوجهٍ: الوجهُ الأوّل: إنَّ ثَبَتَ الزِّنا غَضبًا، فلا بدَّ من ثلاثة أحوال: إمّا برَجمٍ، أو بجَلدٍ، أو بغُرْمٍ. الوجهُ الثّاني: إنَّ ثبتَ ذلك بالإقرار، فلا بدَّ من الحُكم فيه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء. الوجهُ الثّالث: انفردَ به مالك، وهو أنّ يَشهَدَ شاهدان أنّه احتمَلها قهرا حتّى أدخلَها في داره، ثمّ خرجت فقالت: وَطِئَنِي. قال العلّماءُ: يُؤدَّب أَدبًا عظيمًا، وتُحَدُّ هي حدَّ القَذْفِ، وتُحَدُّ في نفسها حدَّ الزِّنَى كيف ما كانت صفتُها. وقال مالك: لا تُحَدُّ بهذا، بل تُصَدَّق مع يمينها وَيغرَمُ المَهرَ. وهذا مبنيٌ على قاعدة المصلحة؛ فإنّه لا يَصِحُّ أنّ تُدْخَلَ الدّارَ قهرًا ثمّ يظهَرَ بها حَملٌ فتُرجَمَ أبدًا، فلا بد أنّ تقول: إنّه من فلان، وقد ظهرَ مِنَ الحالِ ما يشهَدُ لها، وقد أوجَبَ ذلك على نفسه تصديقَها فيما يكونُ من حقوقها، ومن حقوقِها المَهرُ. المسألة الثّانية (¬1): المستكرهة لا يخلوا أنّ تكون حُرّة أو أَمَة، فإن كانت حُرّة فلها صَداق مِثْلِها على من استكرهها وعليه الحدّ، وبه قال الشّافعيّ (¬2)، وهو مذهب اللَّيث، وقد رُويَ عن عليّ - رضي الله عنه -. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1) والثوري: عليه الحدّ دون الصَّدَاق. ودليلنا: أنّ الحدَّ والصَّداق حقّان: أحدهما لله، والثّاني للمخلوق، فجاز أنّ يجتمعا، كالقطع في السّرقة وردّها. وقال مالك: سواء كانت حرّة مسلمة أو في ذِمِّيَّة أو صغيرة افتضّها. المسألة الثّالثة (¬2): فإنِ افتضَّها بأصبعه، ففي "الموّازية" من رواية أبي زيد عن ابن القاسم؛ أنّ ذلك كالجائفة، في ذلك ثُلُث دِيَّتها. قال محمّد: وأحبّ ما فيه إليَّ أنّ ينظر إلى قَدرِ نقصها عند الأزواج، مثل أنّ يكون مَهر مِثْلِها بكرًا مئة وثَيِّبًا خمسون. فيؤدِّي ما نقص ذلك. وقال ابن حبيب (¬3): لأنّه جرح وليس بوطىءٍ. فرع: فإن كان الّذي افتضّها بأصبعه أو ذَكَرِهِ صبيًّا؟ قال محمّد: فيه في قولنا الاجتهاد بعد رَأي الإمام وأهل المعرفة، وقد حَكَمَ فيه عبد المَلِك بأربعين دينارًا (¬4). المسألة الرّابعة (¬5): فإذا ثبت ذلك، فإنّ النِّساء على ثلاثة أضرب: كبيرة، أو صغيرة لا تُمَيِّز، أو صغيرة تُمَيِّز. فأمّا الكبيرة، فهذا حكمها إنَّ أُكرِهت، وأمّا إنَّ أَمكَنَت من نفسها، فعليها الحدّ ولا شيءَ لها. ¬
وأمّا الصّغيرة الّتي لا تُمَيِّز، فحكمها حكم الإكراه على كلِّ حالٍ؛ لأنّ تمكينها ليس بتمكين. وأمّا الصغيرة الّتي لا تُمَيِّز، ففي "العُتبيّة" (¬1) من رواية سحنون عن أشهب في الصَّبِيَّة تُمَكِّن من نفسها رجلًا: فإن كان مثلُها يخدع، فعليه الصَّدَاق، وإن كان مثلُها لا يُخدَع، فلا صَداق عليه وإن لم تحض. المسألة الخامسة (¬2): وبماذا يثبتُ الإكراه، إنَّ قامت بيّنةٌ فهو أقوَى ما فيه، وهذا لا خلافَ فيه، ولا يثبت هذا إلّا بِالإشهاد، إشهاد أربعة أنّه زنا بها مُكرَهَة، فهذا يلزمه الصَّداق لها، ويجب عليه الحدّ بشهادتهم، ولو شهد شاهدان، قال ابنُ القاسم، أو دون أربعة حدّوا بالقَذفِ، قال أَصبَغ: لأنّهما قطعًا عليه بالوطءِ. فرع (¬3): فإن لم يشهد عليه بذلك، ولكنه شهد عليه شاهدان بإقراره، أو أنّهما رَأيَاهُ أدخلها منزله غَصْبًا، فغاب عليها، فقالت: أصابني. فقال سحنون وابنُ القاسم: لها الصَّدَاق عليه (¬4)، ورواه محمّد عن مالك. ولا حَدَّ عليها ولا على الشّاهِدَين. ¬
ووجه ذلك: قوّة الأمر في البَيِّنَة مع ما بلغته من فضيحة نفسها، فقوَّى ذلك دَعواها واستحقَّت بِبَيِّنتها صَدَاقها. فرع (¬1): فإن نظر إليها النِّساء فألفينها بِكرًا، ففي "الموّازية" قال أشهبُ؛ لا شيءَ (¬2)، قال أَصْبَغُ: وقد قيلَ: ذَلِكَ لَها. ووجه الأوّل: أنّ شهادة النِّساء تبطلُ ما ادّعَته. ووجه الثّاني: أنّ النِّساء في ما في أرحامهنّ مُؤتمنات، والحرائر لا يُنظَر إليهنّ. فإذا حلفت فاستحقّت الصَّداق، فلا حدَّ على الرَّجل بذلك، رواه سحنون عن ابن القاسم. وقال مالك في "الموازية": يرجع أدبًا إنَّ أنكر. قال الإمام: ووجه ذلك: أنّ يمينها إنّما يؤثّر في استحقاقها الصَّداق. وأمّا وجوب الحدّ عليه فلا تأثير ليمينها فيه؛ لأنّه من حقوق الله فلا يثبت إِلَّا بالبَيِّنَة القاطعة. فإن قذفت رجُلًا صالحًا، فعليها الحدّ للقَذف قولًا واحدًا (¬3). وإن قذفت غير صالح، فلا حدَّ عليها روايةً واحدةً أيضًا، رواه ابن حبيب عن مالك. فوجه إثبات الحدّ عليها: أنّ صلاحَهُ يشهد له، ولم يوجد من خُلُوِّه بها على وجه التَّعدِّي منه ما يشهد لها. المسألة السّادسة (¬4): قوله (¬5): "فَإِنْ كَانَت حُرَّةً فلَها صَدَاقُ المِثلِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَعَلَيهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا" وقد تقدّم الكلام في الحُرَّة، والكلام هاهنا في الأَمَة، وذلك أنّ من وطِئ أَمَةَ ¬
غَيرِه، فإن أَكرَهَهَا، فلا خلاف في المذهب أنّ عليه ما نقصها بِكرًا كانت أو ثَيِّبًا، ويريد بالثّمن في هذا الموضع القِيمَة. وفي "العُتبِيّة" (¬1) من رواية أشهب عن مالك في الأمَةِ الفارهة تتعلّق برَجُل تَدَّعِي أنّه غصبها نفسها، قال: الصَّدَاق عليه بما بلغت من فضيحتها نفسها بغير يَمينٍ، كانت بكرًا أو ثيِّبًا. وقال: يريد في عدم ما نقصها في الحدّ. وقد اختلف العلماء في إلزامه نقص الأمَةِ وصَداق الحُرَّة بهذا. فرع (¬2): فإن طاوعته، فقال ابن القاسم في "المدوّنة" (¬3): عليه ما نقصها. وقال غيره: لا شيءٍ عليه، وهو الصّواب. توجيه وتنقيح: أمّا الوجه الأوّل: أنّ الصَّداق حقٌّ للسَّيِّد فلا يسقط بإباحة الأَمَةِ، كما لو أباحت له قطع يدها. ووَجهُ الثّاني: أنّها محجورٌ عليها. فبإباحتها الوَطءَ سقط المَهر كالبِكرِ. فرع (¬4): قوله: (¬5): "فَإِن كَانَ المُغتَصِبُ عَبْدًا، فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ، إِلَّا أنّ يَشَاءَ أنّ يُسَلِّمَهُ" ¬
ومعنى ذلك: أنّ جنايَتَهُ متعلِّقةٌ برقبته؛ لكن سيِّده مُخَيَّرٌ بين أنّ يفتكّهُ بالجِناية بالغة ما بلغت، أو يسلِّمه بفعله ولا شيءٍ عليه غير ذلك، فيكون مِلكًا لمن جنَى عليه، وهذا إذا ثبت ذلك عليه بِبَيِّنَة. وقال مالك في "المَوَّازيَّة": وما لزمه من صَدَاق الحرّة ونقص الأَمَة، ففي رقبته، ويُقبل إقرارُه فيه بفَوْرِ ما فعل، وهي متعلِّقة تدمي، فأمّا ما بَعُدَ من فعله فلا يُقبَل قولُه فيما يلحق برقبته (¬1). المسألة السّابعة (¬2): فإن كان الواطىء ذِمِّيًا، ففي "الموّازية": إنَّ أكرهها أنَّه يُقتَل، كنقض العهد في المحصنة المسلمة، وقاله اللَّيث. وقال محمّد: وقد قتل أبو عُبَيدَة ذمِّيًا استكرَهَ مسلمةً. وقال سحنون عن ابن القاسم في "العُتبيّة" (¬3): إذا اغتصب النّصرانيّ حرّة مسلمة قُتِلَ (¬4). وروي عن ابن وهب أنّه قال: إنَّ اغتصبها صلب. فرع (¬5): فإن قيل: بماذا يثبت اغتصابه لها؟ ¬
قال سحنون عن ابنِ القاسم (¬1): يثبت ذلك بأربعة شهداء، وقد كان يقول بشاهدين ثمّ رجع إلى هذا، وبه قال سحنون. ووجه اعتبار الأربعة: ما احتجّ به سحنون: من أنّ القتل لا يثبت إلّا بالوطءِ ولا يثبت الوطءُ إلّا بأربعة شهداء. ووجه الثّاني: أنّ الاعتبار بالإكراه، ولذلك لو لم يكن الإكراه لم يجب القتل، والإكراه يثبت بشهادة رجلين. فرع (¬2): فإن طاوعنه، فقد قال مالك في "الموازية": تُحَدُّ هي وينكّل هو، والنّكال في هذا مثل ضعفي الحدّ وأكثر جَلدًا عظيمًا. وقال ابنُ وَهبِ: يجلد حتّى يموت منه. فرع (¬3): فإن استكره أَمَة مسلمة، قال محمّد: لا يقتل؛ لأنّه لو قتلها لم أقتله بها، وفيه اختلاف، وهذا أحبّ إليّ لما جاء: لا يُقتَل حُرٌّ بعبدٍ، وقد قال مالك: عليه في الأَمَة ما نقصها في البكر والثَّيِّب. وهذا كله فيما يجب عليه بحقِّ الإسلام، وأمّا ما يلزمه من الحقّ، ففي "المدوّنة" أنّه يردّ إلى أهل دينه. ووجه ذلك: أنّه إنّما عُقِدَت لهم الذِّمَّة لتنفذ بينهم أحكامهم وشرائعهم. والفروعُ في هذا الباب كثيرة جدًّا؛ لأنّها مسألة عظيمة الموقع، فجئنا بالمشهور من أقاويل العلماء فيها، فَليُعتَمد عليه، والحمد لله. ¬
القضاء في استهلاك الحيوان والطعام
القضاء في استهلاك الحيوان والطّعام الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2):"مَنْ اسْتَهلَكَ شَيئًا مِنَ الحَيَوَانِ بِغَيرِ إِذنِ صَاحِبِهِ، أَنَّ عَلَيهِ قِيمَتهُ يَومَ استَهلَكَهُ". وهذا على ما قال، وكذلك العُروض كلّها ممّا ليس بمكيل ولا موزون ومعدود. ومعنى قولنا: "معدود": أنّ تستوي آحاد جملته في الصِّفَة غالبًا، كالبيض والجوز، كما تستوي حبوب القمح والشّعير من المكيل، وآحاد العنب المرزون. فأمّا استهلاك الحيوان والعُروض فعلى ضربين: احدهما: ان يستهلك الجملة. والثّاني: أنّ يستهلك البعض. واستهلاكُ الكلِّ على قسمين: 1 - أحدهما: أنّ يتقدّمه غَصْبٌ. 2 - *أو لا يتقدّمه غَصْب. فإذا تقدّم عليه غصب*، فالضّمان يتعلّق به دون الاستهلاك؛ لأنّه لو انفرد الغَصْبُ لضمن، وقد رَوَى ابنُ وهب عن مالك في "المجموعة" فيمن اغتَصَبَ عبدًا فمات في وقته في غير سببٍ؛ فإنّه ضامن له لتعدِّيه، وقاله ابن القاسم. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قال ابنُ القاسم فيمن غصَبَ دارًا فلم يسكنها حتّى انهدمت: إنّه ضامنٌ لها ولقيمتها، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنَّ مَا لَا يصحُّ نقلُه (¬2) لا يضمن بالغَضبِ. ودليلُنا: أنّ هذا معنى يضمن به* ما ينقل ويحول، فضمن، به* ما لا ينقل، كالإتلاف والاستهلاك. قاله أشهب، وإن هلك بأمر من الله (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): فيمن غصب أمّ ولد رَجُلٍ فماتت عنده، ففي "العُتبيّة" (¬5) عن عيسى عن ابن القاسم؛ أنّه يضمن قيمتها على أنّها أَمَة لا عتق فيها. وقال سحنون في "المجموعة": لا يضمنها ويضمن ولدها (¬6). تنقيح (¬7): فوجه الأوّل: أنّها محبوسة بالرِّق، فضمنت بالغَضبِ كالأمَة. ولأنّ ابنها له حكمها، وقد أجمعنا أنّه يضمن بالغَصب، فكذلك الأمّ. ووجه الثّاني: أنّه لا يصلح بيعها بوجهٍ، ولا تسلّم في جناية، فلم تُضمَن كالحُرَّة، وفرقُ بينها وبين وَلَدِها؛ بأنّها لا تسلم في الجِنَاية ولا تستخدم، وولدها يُستخدَم ويُسلَّم في الجناية، فالغاصبُ له قد حبسّ منافعه، فلزمه ضمانه. ¬
المسألة الرَابعة (¬1): ومن غصب وَدْيًا (¬2) فغرسها في أرضه فكبرت، ففي "الموّازية" عن مالك: أنّ لربّها أخذها، وكذلك الحيوان يكبر فَلِرَبِّه أخذه. وقال سحنون: إنّما يحكم في النّبات بقَلْعِه إذا كان ممّا يعلق، فإنّه يقلع ويغرس. أمّا الشجر، فعندي أنّ الغاصب إنَّ كان قلعها وقد علقت، فإنّ له أنّ يأخذها أو يضمن القيمة؛ لأنّه ليس على ثقة إنَّ فعلها وغرسها أنّ تعلّق. وإن كان إنّما أخذها مقلوعة، فهي بمنزلة الحيوان لا خِيارَ له، وإنّما يجب الخيار له في موضعِ النقص، وقد قال ابنُ القاسم وأشهب فيمن غصب خمرًا فخلّلها: ليس له إلّا أخذها خلًا. وقال أشهب: إِلَّا أنّ يكون صاحبها ذِمِّيًا، فله أنّ يأخذها أو يضمنه قيمتها (¬3) يوم الغصْب. ووجه ذلك: أنّها إذا كانت لمسلم فقد زادت بالتّخليل، فلم يكن له إلّا عين ماله، وإن كانت لذِمِّيٍّ فقد نقصت في حقّه، فلذلك كان له الخيار. المسألة الخامسة (¬4): إذا غاب الغاصب عن الجارية ولم يعلم أنّه وطئها، فقد رَوَى ابن حبيب عن ابنِ الماجِشُون ومُطَرِّف: أنّ صاحبها بالخِيَارِ بين أنّ يأخذَها أو يضمنه قيمتها، قال: وهذا قول مالك وأصحابه. قال: ولسنا نقول ذلك في الرّقيق المذكور، ولا في ¬
الدّوابّ. ومعنى ذلك: أنّه لا يُؤمن (¬1) على أنّ يصيبَها، وذلك ينقص ثمنها. وقال أَصْبَغُ: إنّما ذلك في الجارية الرّائعة. فرع (¬2): ومن غصبَ شيئًا من ذلك، فوجده صاحبه بغير البلد (¬3)، ففي "المجموعة" من رواية سحنون عن ابنِ القاسم عن مالك: ليس له أنّ يأخذهم إلّا حيث وجدهم (¬4). وقال أشهب في الحيوان والعُروض: له أنّ يأخذه. حيث وجده، أو يأخذ قيمته منه حيث غصبه (¬5). وأمّا "البَزُّ والعُروض" فربُّه مُخَيَّرٌ بين أخذه (¬6)، أو قيمته حيث غصبه، وقاله أشهب (¬7). وقال سحنون: البَزُّ والرّقيق سواءٌ، إنّما له أخذه حيث وجده ما لم ينغيّر في يَدَيْهِ (¬8). فإن أخذه في غير البلد (¬9)، فلا كراء عليه ولا نفقة، ولا على الغاصب ردّها له، قاله أَصبَغ وأَشْهَب. ¬
المسألة السّادسة (¬1): ومن قطع يدَ عبدٍ أو فقا عينه، قال أشهب (¬2): عليه ما نقصه، ويجعل ذلك في حيّز اليسير، قال: وأمّا قطعُ اليدِ في البهائم فيبطل جلَّ منافعها، فعليه قيمتها. وأمّا فقء العين وقطع الأذن أو الذَّنب أو كسرها كسرًا يُجبَر، فإنّ عليه قيمتها، وقال مالك: عليه ما نقصها. وأمّا قطع يد العبد أو فقء عينه، فإنّ ربّه مخيَّرٌ بين أخذ ما نقصه، أو يضمنه قيمته فيجعله في حيِّزِ الكثير. وقال ابنُ حبيب وابن المَاجِشُون فيمن قطع يدَ عبدٍ، فإن كان صانعًا وعظم قَدْره لصنعته ضمنه، وإن لم يكن صانعًا فقيمته ما نقصه وإن كان تاجرا نبيلًا. وأمّا فقء العين ففيه ما نقصه لهان كان صانعًا. فرع (¬3): وأمّا إذا كان الفساد كثيرًا، فقد قال ابنُ القاسم: فيه القيمة؛ لأنّ قطع اليد قد أذهبت أكثر منافعه ففيه القيمة. فرع (¬4): وأمّا إذا كَثُر الفساد في الثّوب والعبد إذا كان له تضمينه بكثرة الفساد، فليس له ¬
أنّ يأخذه وما نقصه، وإنّما له أخذه على حاله أو قيمته، وكذلك ذابح الشّاة فليس لصاحبها أنّ يأخذها لحمًا وما نقصها. فرع (¬1): ومن غَصَبَ قمحًا فطَحَنَه، قال ابنُ القاسم (¬2): عليه مثله. وقال أشهب: يأخذ دقيقه ولا شيءٍ عليه في طحنه. قال الإمام: وأصلُ ابن القاسم مخالف لأصل أشهب، وذلك أنّ ابنَ القاسم يقول: إنَّ الغَاصِب إذا صنع فيما غَصبَ صناعةً، لم يكن للمغصوب أنّ يأخذ ذلك، إِلَّا أنّ يدفع إلى الغَاصِب قيمة تلك الصناعة، وإلّا ضمنه ما غصبه، فإن كان ثوبًا صبغه، كان لصاحبه أنّ يدفع إليه قيمة صبغه أو يضمنه قيمة ثوبه. فرع (¬3): ومن غَصَبَ عمودًا أو خَشَبَةً فأدخلها في بنيانه، فلصاحبها أنّ يأخذها وإن خَرِبَ البنيان، قاله مالك وأشهب وابن القاسم. ولو عَمِلَ الخَشَبَة بابًا لم يكن له أخذه، قال مالك: لأنّه لا يقدر أنّ يُعيدَه إلى ما * كان عليه، وعلى قول أشهب قد انتقل عن اسم الخشبة إلى اسم الباب، وليس له أخذ الباب* دون غرم قيمة الصّنعة، ولا أنّ يأخذه ويدفع قيمته؛ لأنّه قد حال إلى غير ما كان عليه. وكذلك الحِنطَة تُتَّخَذ خبزًا والجلد خِفافًا. ¬
القضاء فيمن ارتد عن الإسلام
فرع (¬1): ومن غَصَبَ فضَّة فصاغها حليًا أو ضربها دراهم، أو دراهم فصاغها، أو حليًّا فكسره وصاغ منه *آخر يخالفه، أو نُحَاسًا فصنع منه* آنيةً أو حديدًا، فعمل منه سيوفًا، فقال ابنُ القاسم وأَشهَب: ليس لربّه أخذ ذلك وله مثل وزن فضّته ونُحاسِه وحديده، أو مثل دراهمه وقيمة حليّه. القضاءُ فيمنِ ارتدَّ عن الإسلام وَقالَ (¬2) في حَدِيثِ الرَّجُلِ الذِي قَدِمَ عَلَى عُمَرَ من قِبَلِ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيّ. فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ. فَأَخبَرَهُ. فقالَ عُمَرُ: هَل فِيكُم من مُغَرِّبَةٍ؟ فَقَال: نَعَم، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. فَقَالَ: فَمَا فَعَلتُم بِهِ؟ قالُوا: قَرَّبنَاهُ فَضَرَبنَا عُنُقَهُ. فَقالَ عُمَرُ: هَلَّا حَبَستُمُوهُ ثَلَاثًا، وأَطعَمتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، واستَتَبتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وُيراجِعُ الإسلَامَ. اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحضُرْ، ولَمْ آمُر، وَلَمْ آرْضَ، إِذ بَلَغَني. الإسناد: قال الإمام: قد قدَّمَ مالك في صَدْر هذا الباب حديثين صحيحين: أحدُهما مُرسَلٌ، عن زَيد بن أسْلمَ؛ أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فاضربُوا عُنُقَهُ" (¬3). قال ¬
يحيى (¬1): سمعتُ مالكًا يقول: مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فافتُلُوهُ (¬2). وإنّما قدّمنا الحديث الأوّل لما فيه من العلّوم. عربية (¬3): اختلفَ الرّواةُ في ضبط هذا الحرف: فبعضهم يرويه بتخفيف الرّاء يعني: غريبة خَبَرٍ، من الخَبَر الغريب، وهو الخبر الحادث المجهول (¬4). وبعضهم يرويه: مُغَرَّبَة خَبَر -بتشديد الرّاء-. وبعضهم بتخفيفها وجزم الغين. قال ابنُ حبيب (¬5): والصّوابُ مُغرِبَةُ بتخفيف الرّاء "وليست مُغرّبَةُ بالتّشديد" كما قال أبو عُبَيْد (¬6). وأصلُها فيما نرى من الغَرب وهو البُعد: "لأنّ المغرّبة بالتشديد هي الّتي تنحو ناحية الغرب، كما تقول: مُشرَّقَةٌ في اَلتي تنحُوا ناحيةَ المشرقِ" (¬7). واللفظُ الثّاني قوله: "خبر" يُرْوَى بحذف التّنوين وخفض خبرٍ على النَّعت، ويجوزُ ¬
رفع خبر على الابتداء وخبره في المحذوف. الأصول: قال (¬1) الإمام: ثبتَ عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقتُلُوه" (¬2) من كلِّ طريقٍ، وهو عامٌّ في كلِّ مُبَدِّلٍ، لقوله: "مَنْ" وهي من ألفاظ العموم، وقد شَهِدَت له القاعدةُ بالاستمرارِ على الشُّمولِ. فلذلك قلنا: إنَّ المرأة إذا ارتدّت تُقتل، وبه قال الشّافعىّ (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4): لا تُقتَلُ؛ لأنّ عاصِمَها معها وهو الأنوثيّة، ألَّا ترى أنّها لم تُقتَلُ في الكُفرِ الأصلّىِّ، فكذلك في الطارئِ. قلنا: قد حققنا هذه المسألة في "التّلخيص" وغيره، وقد بيّنّا أنّ عاصِمَها ليست الأنوثية، وإنّما عاصِمُها في الأصل أنّها مال يُستَرقُّ، وقد بَطَلَ ذلك بالرِّدَّة. اعتِرَاضٌ: فإن قيل: هذا الحديثُ لا حُجَّةَ فيه، فإن رَاوِيهِ ابن عبّاس وكان يُفتِي بأنّ المرتدَّة لا تُقتَل (¬5)، والرّاوي إذا أفتى بخلاف ما رَوَى سقطت روايتُه. قلنا: هذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنّهم بَنَوْه على مذهبهم، وعندنا أنّ الرّاويَ في مخالفة روايته كسائرِ النّاسِ (¬6)، وهي مسألةٌ أصوليةٌ، وقد أوضحناها في "الكتاب "الكبير" وبيّنّا ¬
أنّهم قد نقضوا هذا الأصل، وأخذوا بمسائلَ أفتَى فيها الراوي بخلافِ ما رَوَى، فلتُطلب هنالك. وتعلّق الشّافعيّ بعموم هذا الحديثِ فيمن خرج عن دِينِ اليهوديّة إلى دِينِ النّصرانيّة، فقال: إنّه يُقتَل أخذًا بعموم الحديث. قلنا: إنّما معنى الحديث: من بَدَّل دِينَ الحقِّ بسواه (¬1). والدّليلُ عليه: أنّه لو رجع الإنسانُ من النّصرانيّة إلى الإسلام لم يُقتَل، وإن كان بدّل دينه؛ لأنّه بدَّلَ دينَ الباطل بدِينِ الحقّ، ونحن لم نعاهِدهُم على صحّة دِينِهم، إنّما عاهدناهم إلّا يُتَعَرَّضَ لهم، وقد زَلَّ بعضُ علمائنا فيها، فوافقَ قولَ الشّافعيّ فيها، وليس بشيءٍ، فلا يُلتَفَتُ إليه. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬2): اختلفَ العلّماءُ هل تجِبُ استتابةُ المرتدِّ أم لا؟ اختلافًا متباينا: فمنهم من تعلَّق ¬
بمُطلَقِ الحديثِ، ومنهم من تعلَّقَ بقول عُمَرَ (¬1)، وإنه لَيَظهَرُ فيها الاستحبابُ. فأمّا الإيجابُ فَبَعِيدٌ دليلُه؛ لأنّ معاذًا وأبا موسى الأشعري خالَفَا عمرَ - رضي الله عنه - وسائر الصّحابة، منهم من سكَتَ، ومنهم من خَالَفَ، فتنقَطِعُ الحُجَّةُ ولا يبقَى إلّا ما ظَهَرَ مِنَ المعنى، وهو أنّه يُستّأنّى به لَعَلَّهُ قد ارتدّ بشُبهَةٍ فتُبَيَّنُ له، فإن عادَ وإلّا قُتِلَ، وهذا الاحتمالُ إنّما يَستَقِلُّ بالاستحبابِ، وليس يَقوَى باقتضاءِ الإيجابِ. وأمّا (¬2) من رأى استتابته، فمالكٌ وأصحابه. والحُجَّة لهم في ذلك قولُ عمرَ. وحجةُ من لم ير ذلك: مطلق الحديث: "مَنْ غيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". وذكر البخاريُّ في "كتابه" (¬3) أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بعث مُعاذ بن جبل إلى اليمن وأردَفَهُ أبا موسى الأشعريّ: فوجد عنده رجُلًا موثوقًا في الحديد، فسأله عن ذلك؛ فقيل: رَجُلٌ كفر بعد إسلامه. فقال أبو موسى: لا أجلسُ حتّى يُقتَلَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -. قال قومٌ: فهذا الدّليل على قتل المرتدِّ ولا يستتاب. وقد رُوِيَ عن علي بن أبي طالب أنّه أُتِيَ برَجُلٍ من بني عجل قد كَفَرَ بعدَ إسلامِه، فَكَلَّمَهُ عليٌّ وَعاتَبَهُ، فَقالَ: لا أَدرِي ما تَقُولُ، غَيرَ أَنَّ عِيسَى ابنُ الله. قال: فتوطأه عليّ (¬4). فهذا يدلُّ على قتله ولم يَستَتِبهُ. والذي يدلُّ على أنّ الاستتابةَ من عمر إنّما هي على وجه الاستحباب (¬5). ¬
المسألة الثّانية (¬1): ومن انتقل إلى غير دِينِ الإسلام، لا يخلو أنّ يُسِرَّ كُفرَهُ أو يُظهِره، فإن أَسَرَّهُ فهو زنديقٌ لا يستتاب ولا تُقبَل توبتُه. قال محمّد: من أظهر كُفرَهُ من زندقة أو كفر برسول الله أو غير ذلك ثمّ تاب، قُبِلَت توبتُه (¬2)، وبه قال الشّافعيّ (¬3). ودليلُنا: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآية (¬4). وقال جماعة المفسِّرين: البأسُ هاهنا السّيف. واحتج مالك لذلك بأنّ توبة الزِّنديق لا تُعْرَف. فرع (¬5): فإن أقرّ الزِّنديق بِكُفرِه قبل أنّ يظهر عليه، فهل تقبل توبته أم لا؟ فقال أَصْبَغُ في "العُتبِيَّة" (¬6) عسى أنّ تُقبَل، وحكَى ابنُ القصّار ذلك. فرع (¬7): ومن تزندقَ من أهل الذِّمَّة، ففي "الواضحة" عن مالك وابن عبد الحَكَم وأَصْبَغ أنّه لا يقتل؛ لأنّه خرج من كفرٍ إلى كفرٍ. وقال ابن المَاجِشُون: يُقتل لأنّه دِينٌ لا يقرّ عليه أحدً ولا تُؤخذ عليه جِزْيَة. وقال ابنُ حبيب: ولا أعلم من قاله غيره. ¬
ويحتملُ أنّ يريدَ بالزَّندقة هنا الخروج إلى غير شريعة، مثل التّعطيل ومذاهب الدَّهرِيَّة. ويحتملُ أنّ يريد الاستسرار لمّا خرج إليه والإظهار لمّا خرج منه، والأوّلُ أظهرُ عندي. فرع (¬1): وإذا أسلم اليهوديُّ الّذي تزندقَ، فَرَوَى أبو زَيد الأندلسي عن ابنِ المَاجِشُون أنّه يُقتَل، كالمسلم يتزندق ثمّ يتوب. فرع (¬2): "وَأمَّا مَنْ خَرَجَ منَ الإسلَامِ إِلَى غَيرِهِ، فَإِنَّهُ يُستَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ (¬3) "، وبه قال عمر وعثمان وعليّ. المسألة الثّالثة (¬4): قال علماؤنا (¬5): ولا عقوبةَ عليه إذا تاب، رواه في "العُتبِيّة" (¬6) و "المَوَّازيّة" أشهب عن مالك. ودَليلُنا قولُه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية (¬7). ومن جهة المعنى: أنّه منتقل من كفرٍ إلى إيمان، فلم تجب عليه عقوبة لما تقدّم من الكفر، كالنّصرانيّ يُسْلِم. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): قال جماعة: يستتابُ ثلاثة أيّام، وهو أحد قولي الشّافعيّ (¬2)، وله قولٌ آخر أنّه يستتاب في الحال، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ. وقد رواه ابنُ القصّار عن مالك. ورُوِي عن أبي حنيفة (¬3) أنّه يستتابُ ثلاث مرّات في ثلاثة أيّام وثلاث جُمَعٍ. ودليلُنا: أنّه من قُبِلَت توبتُه، عُرِضتْ عليه كسائر الكفّار. فرع (¬4): قال علماؤنا (¬5): وليس في استتابته تخويفٌ في قول مالك. وقال أَصْبَغُ: يُخوَّفُ في الثّلاثة بالقتل ويُذكَّر الإسلام. ووجه قول مالك: أنّ هذا إكراهٌ بنوع من العذاب، فلم يُؤخَذ به في الاستتابة، كالضَّرب والقطع. فرع (¬6) والعبدُ والحرُّ والمرأةُ في ذلك سواءٌ، قاله مالك والشّافعيُّ (¬7). وقال أبو حنيفة (¬8): لا نقتل المرأة، وقد تقدَّم الكلام عليه. والحجّة عليه: قوله: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقتُلُوهُ" وهذا عَامٌّ. ومن جهة القياس: أنّه سببٌ يُقتَلُ به الرَّجُل فجازَ أنّ تُقتل به المرأة، كالقتل. المسألة الخامسة (¬9): قوله (¬10): "هَل مِنْ مُغَرَّبَةِ خَبَرٍ؟ " سأله أوَّلًا عن المعهود من الأحوال وما يعمُّ ¬
النَّاس، ثمّ سأله عمّا عسى أنّ يطرأَ ممّا يُستَغرَب، فأخبره أنّ رَجُلًا كفر، وهذا يقتضي أنّ هذا كان نادرًا عندهم، ولذلك حكمَ فيه أبو موسى بحكمٍ مخالِفٍ لمّا رواه عمر. وقوله (¬1):"فَضَرَبنَا عُنُقَهُ" ولم يذكر استتابته، وقد كان يحتمل في أنّ يقتل بعدها، ولكن عمر فهم منه تركها، وقدِ احتجَّ علماؤُنا على وجوبها بقول عمر هذا وأنّه لا مخالفَ له، وهذا لا يصحّ إلّا بأحد وجهين: إمّا أنّ يُحمَل فعلُ أبي موسى على أنّه قُتِلَ بعد الاستتابة، ولعلّ النّاقل للخبر لم يعلم بهذا، وإن ثبت رجوعُ أبي موسى ومن وافقه، وإلّا فخلافُه بمنع انعقاد الإجماع على قول عمر. المسألة السّادسة (¬2): قوله (¬3): "هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلاثًا" يحتمل أنّ يأخذها من قول الله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الآية (¬4)، ولأنّها قد جعلت أصلًا في الشّرع في اعتبار معانٍ في المُصَرَّاة والاستظهار والعدّة، وغير ذلك. وأمّا قولُه (¬5): "هَلَّا أَطعَمتُمُوهُ رَغِيفًا" ورُوِيَ عن ابنِ القاسم (¬6) أنّه قال: ليس العملُ على قول عمر، ولكن يطعم ما يكفيه ولا يجوع، وإنّما يطعم من ماله. وقال ابن مزين: يعني بغير تَوَسُّعٍ ولا تَفَكُّهٍ (¬7). وقال مالك (¬8): يقوت من الطّعام بما لا يضرّه. ¬
وإنّما أراد ابنُ القاسم بقوله: "ليس العمل على قول عمر" ألَّا يجعل ذلك حَدًّا، ولم يردّ عمر ذلك، وإنّما أشار إلى قِلَّةِ مؤنته ويسارة وراثته في ماله إنَّ كان له مال، أو بيت المال إنَّ لم يكن له مال. المسألة السَّابعة (¬1): قوله (¬2): "اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُر، وَلَمْ أَرْضَ إِذ وَصَلَنِي". فإنّه تبرّأَ من الأمر وصرَّح بخطأِ فاعله، ولا يكون ذلك إلّا بنصٍّ من النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- أو إجماع بعده. وقد قال سحنون: إنَّ أبا بكر استتاب أهل الرِّدَّة. وقد رَوَى عيسى عن ابنِ القاسم؛ أنّ الصِّدِّيق استتاب أمّ قرفة إذ ارتدّت فلم تَتُب فقَتَلَها، فلعلَّه قد عَلِمَ بانعقادِ الإجماع على ذلك (¬3)، وفعلَ أبو موسى غير ذلك فأنكره عليه، وإلّا فإذا كان أبو موسى منَ أهل الاجتهاد، وحَكَمَ باجتهاده فيما لا نصَّ فيه ولا إجماع، لم يبلغ عمر من الإنكار هذا الحدّ، ولو لم يجز (¬4) له ذلك، لما جاز أنّ يولِّيه الحُكم حتّى يطالعه على قصَّتِه، وفي هذا من فساد الأحوال والتّوقُّف ما لا خَفَاءَ فيه. ¬
القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلا
القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلًا قال الإمام: أدخل مالك (¬1) حديث ابن المُسَيِّب؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهلِ الشَّامِ، وَجَدَ مَعَ امرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ وَقَتَلَهَا؛ فَأَشْكَلَ عَلَى مُعاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفيَانَ القَضَاءُ فِيهِ. فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ يَسأَلُ لَهُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طالِبٍ عَنْ ذَلِكَ. الحديث. الإسناد: قال الإمام: قد تبيّن أنّ هذا حديث مُرسَلٌ من مَراسيل ابن المُسَيِّب، والأحاديثُ في هذا الباب عزيزةٌ جدًّا. حديث سُهَيْل بنِ أَبِي صَالِح (¬2)، عَنْ أَبِيهِ، عنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ (¬3) وهو حديثٌ انفرد به سُهَيلُ بنُ أبي صالحٍ (¬4)، وهذه ترجمةٌ لم يُدْخِلِ البخاريُّ منها شيئًا، مع إدخالِ مالكٍ لها. أمّا إنَّ البخاريَّ ذَكرَ منها في الاستشهاد أحاديثَ، يذكُرُ الأحاديث من أصلها ثمّ يقول (¬5): "رواه سُهَيلُ بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة"، فَيُورِدُه متابعةً لا أصلًا. وأدخلهُ مسلمٌ ¬
أصلًا (¬1)، فذكر حديث مالك بلفظه، ثمّ أدخله من طريق عبد العزيز بن محمّد الدّراوَردِيِّ، عن سُهيل (¬2)، قال فيه: يا رَسُولَ الله، أرَأَيتَ رَجُلًا وَجَدَ مَع امرَأَتهِ رجُلًا أَيَقتُلُهُ؛ قالَ: "لَا". قَالَ سَعدٌ: بَلى وَالَّذِي أَكرَمَكَ بِالحَقِّ. فَقَالَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "انظُرُوا إِلَى ما يَقُولُ سَيِّدُكُم". وأدخله أيضًا من طريق سُليمانَ بنِ بِلالٍ، عن سُهَيلٍ (¬3)، قال فيه: لَو وَجَدْتُ مَعَ امرَأَتِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَربَعَةِ شُهَداءَ؟! قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "نَعَم"، قال: كلا وَالَّذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إنْ كُنتُ لأُعَاجِلُه بِالسَّيفِ. قال البَرقَانِىُّ (¬4): لَمُعَالِجَهُ. وقال الجَوْزَقيُّ (¬5): لأُعاجِلُهُ. قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬6): "انظُرُوا إِلَى ما يَقُولُ سيِّدُكُم إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغيَرُ مِنهُ، واللهُ أَغيَرُ مِنَّا" وهذه المراجعةُ من سَعدٍ لرسولِ الله لم تكن على معنى الرَّدِّ، وإنّما رَجَا بها التَّثَبُّتُ في المراجعة وطَلَبَ المَخرَجِ، لعلّ الله أنّ يَفْتَحَ فيه، فكان سؤالًا مُكرَّرًا، لا ردًّا لقول النَّبىِّ ولا آبايَةً لَهُ. كما رُوِيَ عن هلالِ بن أُمَيَّةَ في حديثه الّذي فيه؛ أنّه قال لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -: الرَّجُلُ يَجِدُ مَع امرَأتِهِ رَجُلًا، إنَّ *تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وإن قَتَل قَتَلتُمُوهُ*، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى ¬
عيبِها، فدعا له رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالَفَرَجِ والفَتحِ (¬1). فهذا وجهُ كلامِ سعدٍ، والله أعلم. الأصول (¬2): فأمّا قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مع سعدٍ، فإنّه بيانٌ لشرعٍ وإيضاحٌ لحُكمٍ؛ وذلك أنّ كلام سَعدٍ الّذي جاءت فيه "نعم" جوابٌ محذوفٌ تقديرُه: أُمهِلْهُ حتّى آتِيَ بأربعةِ شهداءَ؟ أو أقتلُه فأُقتَلُ؟ فكانت نازلةً تقابَلَ فيها حُكْمان: أحدُهما: أنّ يُمهِلَ الرَّجُلُ من ضَرَّه في أهله. أو يدفَعَ الضَّرَرَ بتَلَف نفسِهِ بأحد وجهين: 1 - إمّا أنّ يقتُلَه المُضَارُّ. 2 - وإما أنّ يَقتُلَ هُوَ المُضارُّ فيُقتَلَ بِهِ. فعلَّمَهُ النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - التّرجيحَ، وقال له: إنَّ الأَرفَقَ بك والأَولَى أنّ تحتَمِلَ في الأهل الأَذَى، ولا يُؤَثِّرَ الفَرجَ على النّفسِ فإنّها فوقهُ. فاختارَ سعدٌ تقديمَ الفَرْجِ على النَّفسِ، فقال النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- متعجِّبًا: "انظُرُوا إِلى ما يَقُولُ سَيِّدُكُم" معناه: إنّه لعظيمِ الغَيرَة واختارَ احتمالَ الأشدِّ من الأَذَى، وليس ذلك بممتَنِعٍ إذا كَثُرتِ الغَيرَةُ، وغَيرَةُ اللهِ كَفُّهُ للخَلقِ بقُدرَتِه لِمَن عَصَمَ من الفواحشِ خُصوصًا، وبأمره ونهيه لكافّة الخَلْقِ عمومًا، فعبَّرَ عن الشَّيءِ بمقدِّمته، ووصَفَ بذلك نفسَهُ تشريفًا للصِّفة وتعظيمًا للحالِ. إيضاحُ مُشكِلٍ مُعْضِلٍ: قول سَعْد بن عُبَادَة للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمهِلهُ حَتَّى آتِيَ بِأَربَعَةِ شُهَداءَ؟ قال: نَعَم". قال الإمام: هذا كلامٌ يُوهِمُ بظاهره تركَ الزّاني مع الزّنا وتمكينَه منه، وذلك لا يليقُ بذوي المُرُوءَات، ولا يجوزُ على الأنبياء صلوات الله عليهم التقريرُ على المعاصي، وهذا ¬
انفردَ به سُهَيلُ بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ. تكملة (¬1): وبعدَ أنّ انتهى القولُ إلى هذا المقام، فَلِفَظَاعةِ النّازلةِ وقعَ الاختلافُ بين الصَّحابةِ فيها، فقال عمرُ: دَمُهُ هَدَرٌ (¬2) لأنّها حالةٌ لا صَبرَ فيها. وقال عليٌّ: عليه القَوَدُ. وقال بعضُهم: عليه الدِّيةُ. وأمّا الفقهاءُ، فقال ابنُ عبدِ الحَكمِ: إنَّ كان معروفًا بالتَّشكِّي منه فدَمُه هَدَرٌ. وقال علماؤنا: عليه الدِّيةُ في البِكْر الّذي لا يَستوجِبُ القتلَ، والقتلُ ليس مقصودًا، وإنّما هو مُدافَعَةٌ وقصَاصٌ، وكان شَبِيه الغِيلَة، فإن الرَّجُلَ إذا أخذَ نفسَ الرَّجُلِ غِيلَةً *أو مَالَهُ استوجبَ القتلَ، وكذلك إذا أخذَ أهلَهُ غِيلَةً* كان أَولَى وأحرى أنّ يستَوجِبَ القتلَ، ولا تُراعَى الثُّيوبَةُ ولا البَكَارةُ، ولهذا قال ابنُ القاسم: إنَّ دَمَهُ هَدَرٌ. وذلك -والله أعلم- من اختلافِ العلّماءِ قديمًا وحديثًا، إنّما هو إذا قامتِ البيّنةُ على دخوله إلى دارِه وقَتلِه فيها، وأنا على شكِّ من اشتراطِ القتلِ فيها، فأدخلَ مالكٌ حديثَ عليِّ وهو الاصلُ والأشَدُّ، وإذا وقعتِ البيّنةُ فقولُ مالكٍ هو المقبولُ فيها، والله أعلم. الفوائد المتعلِّقة بهذا الحديث: وهي سبعٌ: ¬
الفائدةُ الأُولى (¬1): قوله (¬2): "فَسألَ عَلِيُّ بن أَبِي طالِبِ عَنْ ذَلِكَ" فيه سؤال الحاكم عمّا أشكل عليه من هو أعلم منه. الفائدةُ الثّانية: وسؤالُه عمّا أشكل عليه وكيفية القضاء، تدلُّ على فضله وتوقُّفه فيما لا يعلم. الفائدةُ الثّالثة (¬3): وفيه قَبُول الكِتّاب إذا عُرِفَ أنّه كتابُ من يُنسَب إليه، وبهذا يَحتَجُّ من يُجيز إجازة المعلّم. الفائدةُ الرّابعة (¬4): فيه إباحة التّقليد. الفائدةُ الخامسة (¬5): قول عليّ (¬6): "إِنَّ هذا الشَّيءَ لَيسَ بأَرضِنَا" أو قَالَ: "بِأَرضِي" يريد: أنّه لو كان بأرضه لَعَلِمَهُ؛ لأنّه كان متفقِّدًا لأحوال الرّعيّة ما بَعُدَ وما قَرُبَ. الفائدةُ السّادسة (¬7): قال في حديث آخر: "كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَلِيٍّ يَسأَلُهُ عَنْ مِيرَاثِ الخُنْثَى، فَقَالَ: عَجَبًا لِمُعَاوِيَة يُخَالِفُنِي وَيَسأَلُنِي، فَأَجَابَهُ" (¬8). ¬
الفائدةُ السّابعة (¬1): قولهُ (¬2):"إِنْ لَمْ يَأتِ بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ، فَليُعطَ بِرُمَّتِهِ" فالرُّمَّةُ -بضمِّ الرّاء- الحبل البالي، وكان الأمرُ إذا أقيد من أحدٍ سِيقَ بحبلٍ في عُنُقِه إلى القتل، فأمر عليّ أنّ يُفعلَ ذلك بالزَّوج، أنّ يُلقَى الحبلُ في عُنُقِه ويُجبَرُ إلى القتل (¬3). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): فلو ضربه فقطع رِجلَه أو جَرَحَهُ، فرَوَى ابنُ حبيب عن ابنِ الماجِشُون: إنَّ قاتَلَه (¬6) فذلك جائز، وإن قتله قُتِلَ به، إلّا أنّ يأتيَ بأربعة شهداء. ووجه ذلك: أنّ وجودَهُ في داره يُوجِبُ له التَّسَلُّط عليه، فإن قاتله كان له مدافعته بما يؤدِّي إلى الجراح ونحوها، وأمّا القتلُ فلا يُستباحُ إلّا ببيَّنة، لما ورد الشّرع به من حَقْنِ الدِّماء. المسألة الثّانية (¬7): قال علماؤنا (¬8): البكرُ والثَّيِّبُ في ذلك سواء، يترك إذ قامت البيَّنة بالرُّؤية (¬9). واستحبّ ابنُ القاسم الدِّية في البِكْر (¬10). ¬
القضاء في المنبوذ
وقال أَصْبَغُ: وتكون الدِّية في ماله. وقال ابنُ حبيب (¬1):" أمّا إنَّ كان المقتول غير مُحصَن، فعلى قاتله القَوَد، وإن أنّ بأربعة شُهداء على فعله بامرأته"، والَّذي قاله ابنُ القاسم أحسن لأنّه عَذرَهُ بالغَيْرَة. المسألة الثّالثة (¬2): إذا قلنا: إنَّ عليه الدِّية، فقد قال ابنُ القاسم والمُغيرة وابن كنانة: هي ديّة خطأ. ووجه ذلك: لِمَا فجأه (¬3) من الغضب، يصير في حكم المغلوب الّذي لا عقل له، فكانت جنايتُه خطأ. وحكى ابنُ مزين عن أَصْبَغ: أنّ ذلك في ماله (¬4). ووجه ذلك: أنّه خطأ غير متعيّن ليست بشبهة، فأشبه إقرار القاتل بالخطإ. القضاء في المنبوذ قال الإمام: أدخل مالك في هذا الباب حديث (¬5) سُنَيْن أبو جميلة، كذا في المتن: أبي جميلةَ رجلٌ من بني سُلَيمٍ، أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا في زَمن عُمَرَ بن الخَطَّابِ. قَالَ: فَجِئتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: ما حَمَلَك عَلَى أَخذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدتُهَا ¬
ضَائِعَةً فأَخَذْتُهَا. فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَكذَلكَ؟ قال: نَعَم. فَقالَ عُمَرُ: اذهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَكَ وَلَاؤُهُ، وَعَلَينَا نَفَقَتُهُ. الإسناد (¬1): قال الإمام: أدخل مالك حديث سُنَيْنٍ هذا، ثمّ عَقَّبَهُ بأن قال (¬2): الأمرُ عندنا أنَّه حُرٌّ وأن وَلَاهُ للمسلمينَ، وقد رُوِيَ عن مالك في ذلك روايتان: إحداهُما: قال أشهبُ: إنّما اتّهمَهُ لأنّه خَشِيَ أنّه ولدُه جاء به ليفرِضَ له من بيت المال. وهذا الكلام عندي قاصرٌ جدًّا؛ لأَنّ عمرَ كان في أصَحِّ قَولَيه وآخرِهِمَا، إذا وُلِدَ للرّجُلِ مولودٌ فرَضَ له من تلك اللّيلةِ. فالرّوايةُ خطأٌ لا شكَّ فيه، وصوابُه أنّ يقالَ: اتَّهمه أنّ يكون جاء به وليس بوَلَدِه، ليفرِضَ له من بيت المال، فيتولّى هو الإنفاقَ عليه فيرتَفِقَ بذلك، وفي مثل هذا نزلت {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} الآية (¬3). والرواية الثّانية: قال مالكٌ: لو علمتُ أنّ عمرَ قاله لقلتُ إنَّ ولاءه له. قال بعضُ النَّاس: كيف وَجُهُ هذا الكلامِ من مالكٍ، يَرْوِيهِ ثمّ يشكُّ فيه؟ قلنا: قد قدّمنا في "كتابُ النِّكاح" (¬4) الجوابَ على مثل هذا في قوله: "حَبلُكِ عَلَى غَارِبِكِ". والَّذي يَخُصُّ هذا الموضِعَ أنّ قولَه: "وَلَكَ وَلَاؤُهُ" مُحتَمِلٌ أنّ يريدَ به وِلَايَةَ النَّسَبِ. ويحتَمِلُ أنّ يريدَ به وِلَايَة الكفالةِ. فلمّا احتَمَلَ اللّفظُ المعنيَيْن، جاز ذلك. ¬
وقال علماؤنا (¬1): يحتمل أنّ يجىء به (¬2) ليستفهمه في أمره، وليسأله الحكم له بولائه، أو غير ذلك. وأمّا قوله (¬3): "ما حَملَكَ عَلَى أَخذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ" فقيل (¬4): إنّه اتّهمه أنّ يكون ولده، فجاءه ليفرض له. ويحتمل أنّ يكون سأله لئلّا يلتقطه من عياله. الفقه في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "ما حَمَلكَ عَلَى أَخذِهَا"؟ قَالَ: "وَجَدْتُهَا ضائِعَةً" قال علماؤنا (¬7): ومن وجد بهذه الصِّفة لزمه أخذه؛ لأنّه لا يحلّ له تركه للهلاك، وأخذه على وجهين: 1 - أحدهما: أنّ يأخذه ليربِّيه، فقد قال أشهب: ليس له ردّه. 2 - وإما أنّ يأخذه ليرفعه إلى السّلطان فلم يقبله، فلا يضيق عليه أنّ يردّه إلى موضع أخذه. ومعناه عندي: موضعٌ لا يُخافُ عليه فيه الهلاك، ويؤمن أنّه يسارع النَّاس إلى أخذه. المسألة الثّانية (¬8): قوله (¬9): "رَجُلٌ صالِحٌ" ليس هو من باب التّزكية؛ لأنّه ليس كلّ صالح تُقبَل ¬
شهادتُه، وإنّما ينتفي عنه بهذا ما ينافي الصّلاح ممّا خاف (¬1) أنّ يكون التقط المنبوذ له. وقد وَهَمَ البونيّ (¬2) فقال: "إنَّ عدالةَ رجلٍ واحدٍ إذا حضر مجلسَ القاضي فأخبره بعدالة المعدّلِ أنّه يقبله، ويجزىء في ذلك بسؤال الواحدِ إذا وثق به. وكذلك رُوِيَ عن أَصْبَغ أنّه قال: إذا شَهِد الشّاهدُ عند القاضي وهو لا يعرفُهُ، فسأل عنه رجلًا فأخبرَهُ وزكّاه عنده، أجزأ بذلك إذا كان القاضي هو السّائلُ عنه والكاشف لأمره؛ لأنّ ذلك بمنزلة علم القاضي إذا علمّ العدالةَ من الشّاهدِ، وإذا كان ذلك بعّدلَين يأتي بهم الشّهودُ، فلا يقبل في ذلك أقلُّ من اثنين" والصّوابُ ما قدمناه أنّه ليس من باب التّزكية، المسألة الثّالثة (¬3): قول عمر (¬4): "اذْهَب فَهُوَ حُرٌّ" قال علماؤنا (¬5): إنّما قال ذلك على وجه الإخبار أنّه حرٌّ، ولا خلاف فيه؛ لأنّ الأصل في الخَلْق الحريّة حتّى يثبت الرِّقّ، والفقر حتّى يثبت الغِنَى، ولثبوته طرق: منها بلوغُ السّعي، والجهلُ حتّى يقع العلم، وهذا مُشَاهَدٌ، والإِسلامُ بعد عموم الدّعوة حتّى يثبت الكفر. وقال غيره: قوله: "حُرٌّ" يدلُّ على وجه الإخبار أنّه حرٌّ، وسواء التقطه عبدٌ أو نصرانيّ (¬6). ووجهه: أنّه لا يتيقّن فيه سبب من الأسباب، أعني سبب الاسترقاق. وقد بيّنّا ¬
ذلك في "مسائل الخلاف" ومهّدنا القول فيها، ولذلك قال أشهب: إذا التقطه مسلم؛ كان مُسْلِمًا على أي حالٍ وقعَ الالتقاط. وقال غيره: المُعَوَّلُ على الدّار فإن كانت دارَ كُفْرٍ فهو كَافِرٌ، وإن كانت دار إسلام فهو مسلمٌ. وهذا لأنّه عارض الأصل ظاهرًا، فرجّح أشهب الأصل، ورجّح أصحابه الظّاهر. وقال ابنُ القاسم: لو كان في القرية مسلمان أو ثلاثة، كان الولد مسلمًا، فغلب الإسلام. وذلك أنّ للدّار تأثيرًا وللملتقط تأثيرٌ، فوجب أنّ يغلب حكم الإسلام، وكذلك لو التقط في كنيسة، لحُكِمَ بالإِسلام (¬1) له، كما يُحْكَم له بالحريّة. المسألة الرّابعة (¬2): قوله (¬3):"وَلَكَ وَلَاؤُهُ" يريد: تخصيصُه بذلك، ذلك يقتضي كونه على دِينِه. وقوله: "وَلَكَ وَلَاؤُهُ" يريد: القيام عليه. فإن التقطه نصْرَانِيٌّ، فقد قال أَصْبَغ: يُنْزَع منه لئلّا يُنَصِّره أو يسترقّه، وهذه ولاية الإسلام لا العِتْق؛ لأنّ هذا اللّقيط مجهول النّسب فولاؤه للمسلمين، وإلى هذا ذهب مالك (¬4) وأكثر أهل الحجاز، وبه قال الشّافعيّ (¬5). ورُوِيَ عن عليّ أنّه قال: اللّقيط حرٌّ (¬6) وله أنّ يواليَ من أحبُّ، وبه قال ابن ¬
شهاب (¬1)، وعطاء (¬2)، وجماعة من أهل المدينة. وقال النّخعي: ميراثه بمنزلة اللُّقَطَة (¬3)، وبه قال أكثر الكوفيِّين. وقال أبو حنيفة (¬4): ميراثه لمن التقطه، إلّا أنّ له أنّ ينتقل عنه حيث شاءَ ما لم يعقل عنه من والاه، فإن عقل عنه لم يكن له أنّ ينتقل عنه لولائه. المسألة الخامسة (¬5): قوله (¬6): "وَعَلَينَا نَققَتُهُ" يريد: في بيت المال، وهذا حكم اللّقيط إنَّ أمكن ذلك؛ لأنّه من فقراء المسلمين مع عجزه عن التَّكَسُّب وخوف الضَّياع عليه، فإن تعذّر الإنفاق من بيت المال، فقد قال مالك في "الموّازية": إنَّ على ملتقطه نفقته حتّى يبلغ ويسعى، وليس له أنّ يطرحه. ووجه ذلك: أنّه إذا وجده فقد لزمه حفظه (¬7). فرع (¬8): قال علماؤنا: ولا رجوع له عليه بما أنفق، وإن استأذن في ذلك الإمام، قاله عبد الوهّاب (¬9)، قال: وكذلك لو كان له مَالٌ لا يعلَمُ به. ¬
القضاء بإلحاق الولد بأبيه
ووجه ذلك: أنّه من الفقراء، فليس له أنّ يشغل ذِمّته بدَين للإنفاق عليه كسائر الفقراء. فإن استلحقه أحدٌ، فقد قال ابنُ القصّار وابن القاسم: إنَّ استلحقه ببيّنة أو غيرها، رجع عليه بما أنفق إنَّ كان تعمَّدَ طرحه وهو مليء. وإن طرحه غيره، فلا شيءٍ على الأب. وقال أشهبُ: لا شيءَ على الأبِ بكلِّ حالٍ؛ لأنّ هذا أنفق على وجه التَّطوُّع. وقوله (¬1) في المَنبُوذِ "أَنَّهُ حُرٌّ" لأنّه هو المطروح، إلّا أنّه في عُرْفِ اللُّغة مستعمَلٌ فيمن نُبِذَ من الأطفال على وجه الاستسرار به، فيلتقطُه من يخاف الضّيعة عليه فقد قال مالك (¬2): هو حرٌّ. ووجه ذلك: أنّه قد عَرَا من وجه الاسترقاق (¬3)، وكذلك كلّ من وجدناه من الكبار الّذين لا يعقلون، إنّما نحملهم على الحريّة لعدم سِمَةِ الاسترقاق. القضاء بإِلحاقِ الولدِ بأبيه قال الإمام: فائدة التّرجمة الّتي بوّب عليها مالك (¬4) في قوله: "إلحاق الولدِ بأبيهِ" أنّه يُبيِّن إلحاقه به بالفراش في حديث زَمْعَة، وإلحاقه به في الدَّعوَى في الإسلام لأولاد ¬
الجاهليّة في حديث عمر، لكن صفة الفراش الّذي قضى فيه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بالولد مأخوذٌ من أدلَّةٍ سواه، فالمرأةُ تفسير بعَقدِ النِّكاح فراشًا، والأمَةُ تصيرُ بالولادة فراشًا، لا خلاف فيه. واختلف هل تكون بالوطءِ فراشًا أم لا؟ وقد مهَّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". الإسناد: قال الإمام: حَدِيثُ عائشةَ (¬1) زَوجِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَت: كَانَ عُتبَةُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصِ، أَنَّ ابنَ وَلِيدَةِ زَمعَةَ مِنِّي، فَاقبِضهُ إِلَيكَ، قَالَت: فَلَمَّا كَانَ عَامُ الفَتحِ أَخَذَهُ سَعدٌ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِي، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَال له عَبدُ بنُ زَمعَةَ: أَخِي، وَابنُ وَليدَةِ أَبِي، وُلدَ عَلَى فِراشِهِ. فَأَتَيَا النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فَقالَ سَعدٌ: يا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي قد كَانَ عَهِدَ إِليَّ فِيهِ. وَقالَ عَبدُ بن زَمعَةَ: أَخِي، وابنُ وَلِيدَةِ أَبِي. وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "هُوَ لَكَ يا عَبدُ بنَ زَمعَةَ" ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "الوَلدُ لِلفِرَاشِ، وَلِلعَاهِرِ الحَجَرُ" ثُمَّ قالَ لِسَودَةَ بِنتِ زَمعَةَ: "احتَجِبِي مِنهُ" لِمَا رَأَى من شَبَهِهٍ بِعُتبَةَ بن أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَت: فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقي اللهَ. الفوائد المستقرأة في هذا الحديث: وفي هذا الحديث ثمان فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): فيه من الفقه إلحاقُ الوَلَدِ بالفراشِ. ¬
وفيه: قَبُولُ وصيّةِ الكافرِ إذا لم يكن فيها ضررٌ على أهل الإسلام. وفيه: ثُبوتُ فراشِ أهلِ الكُفر. وفيه: الإقرار بالوطء إمّا بشهادةٍ وإمّا باستفاضةٍ أو بغير ذلك، لإجماع العلماء أنّ الأخ لا يستلحق، فألحقه النّبيّ بزَمعَة، وجعله أخًا لِبَنِي زَمعَة لمن حضر منهم وقتَ الحُكم، ولمن غابَ، ولمن ادّعاه، ولمن لم يدّعه. وفيه: ما يدلُّ أنّ الحرام يُفسِدُ الحلال لقوله: "احْتَجِبِي مِنْهُ يا سَودَة" وألحقَهُ بها أخًا، ثمّ أمرها أنّ تحتَجِبَ منه لما رأَى من شَبَهِهِ بعُتبَة، وحكَمَ بالظّاهر لأنّ الوَلَدَ للفراش، ودلّ أنّ الأَمَةَ لها فراش كفراش الحُرِّة. وفيه نكتةٌ من العربيّة: قولُه: "يَا عَبدَ بن زَمعَةَ" بنصب الدّال من "عَبْد" ورفعها، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الآية (¬1)، فالمختار ان يكون موضع عيسى نصبًا، ويجوز رفعُه، وأمّا "ابنَ" فهو منصوب على الحال. وفيه: تَوَقِّي الشُّبهات، لقوله: "احتَجِبِي مِنهُ يا سَوْدَةُ". وفيه: القولُ بالقَافَةِ، لقوله: "احْتَجِبي مِنهُ" لِمَا رأى من شَبَهِهِ بعُتْبَة. وفيه: ما يدلُّ أنّه لا يحل للرَّجُل أنّ يتزوّج ابنتّه من الزِّنا ولا أختَه، وقد جوّز ذلك ابن الماجشُون، وهو قولٌ مَعزُوفٌ عنه (¬2). وفيه: قولُه: "وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ" قيل: أراد بذلك أنّ للعَاهِرِ المسلم الرَّجْم. وقيل: أراد بذلك معنَى الذَّم، كما يقال: بفيه الحَجَرُ. ¬
الأصول (¬1): قال الإمام: هذا حديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ في الشّريعة قويٌّ، فائدتُه: بيان النَّسبِ الّذي جعلَهُ الله في الخلق للتّعارف ثمّ للتّعاضُد، وأصله: البعضيَّةُ، ولكنّها لمّا كانت خفيّةً، نصَبَ اللهُ للخَلقِ عليها عَلَمًا ظاهرًا وهو الفراشُ، على سُنّتِهِ في حِكمَتِه، ولُطفه بخَلِيقَته في وضع الأشياء الظّاهرة عَلَمًا على المعاني الخفيّةِ الّتي يتفرَّد بالاطِّلاع عليها. وقد قدّمنا لكم منها نظائِرَ، كالحيضِ في براءةِ الرَّحِمِ، وصورةِ السَّفَرِ في تحقيق المشقّةِ الّتي رتّب اللهُ عليها الرُّخصةَ في القَصرِ والفِطرِ في السَّفرِ. وخُذوا مقدِّمَةً في صِفَةِ القاضي وصورة تَنَاوُلِه للأحكام: إذا حضَر رَجلٌ عند القاضي وقال: أنا وصيُّ فلان، وله حقّ عند هذا الإنسان، أمرَ بإخراجه حتّى يُثبِتَ العَهْدَ، ولا يكلِّمُه عن ميِّتٍ ولا عن حاضِرٍ حتّى يُثبِتَ وكالتَهُ له، ويُثبتَ الوصيُّ أو مَنْ طَلَبَ عن ميِّتٍ حتّى يُثبِت، وهذه طُرقه الّتي يسلك عليها الحاكم. فلمَّا قال سعد: "ابنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ" وقال الآخرُ: "هُوَ أَخِي، وابنُ وَلِيدَةِ أَبِي". ظَنَّ الغافلُون أنّ ظاهِرَ هذا الكلام؛ أنّ النَّبيَّ -عليه السّلام- لم يَلتَفِت إلى هذه الأحوال الّتي قدّمناها، وهي غفلةٌ عظيمةٌ، فإنّ النَّبيَّ -عليه السّلام- إنّما سَكَتَ عنها لأحدِ وجهين: إمّا لأنّه كان عَلِمَها وقضَى بعِلْمِه فيها، على قول كثيرٍ من العلماء في قضاءِ القاضي بعلمه. ¬
وإما أنّ يكونَ - صلّى الله عليه وسلم - قد ثَبَتَ ذلك عنده، ولم تَذكُر عائشةُ مِنَ الحديث إلّا فصوله الّتي يُحتاجُ إليها من صفة الدَّعوَى وصورة القضاء، دون شروطِه الّتي لا تتمُّ إلّا بها، وليست الأحكامُ مأخوذةً من حديثٍ واحدٍ، ولا الشّروطُ ثابتةً من طريقٍ واحدٍ، بل تُلقَطُ من الأدلّة حتّى يجتمعَ للمجتهدين فنونًا، فيوضحونها للطّالبين. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله: "إِنَّ عُتبةَ عَهِدَ إلَى أَخِيهِ" هذا على حَسَبِ ما كان يفعلُه أهل الجاهليّة؛ لأنّه قد رُوِيَ أنّ النِّكاح كان عندهم على أربعة أَضرُبٍ: أَحدها الاستبضاع (¬2)، كما قدّمنا في "كتابُ النِّكاح"، فلعلّ عُتبَة أراد استلحاقه من أحد الأربعة الأوجُه الّتي قدّمنا في "كتاب النِّكاح" (¬3). وأمّا من استدعى واستلحق ولدًا في الإسلام، فلا يخلو أنّ لا يكون عُرفَ له ملكها أو نكاحُها، أو قد عُرفَ، فإن لم يعرف له مِلك أَمَة بنكاحٍ ولا بملكٍ (¬4)، فقد ¬
اختلف قولُ ابن القاسم في ذلك، فقال مرّة: يُلحَق به ما لم يتبيّن كذبه ولم يكن له نسَبٌ معروف، وبه قال مالك (¬1). وقال أيضًا: لا يلحق به حتّى يتقدّم له على أَمَةٍ مِلكٌ أو نكاحٌ يجوز أنّ يكون منه، ولا يمنعه من ذلك نسبٌ؛ معروفٌ، وبه قال سحنون (¬2). المسألة الثّانية (¬3): لم يذكر في الحديث أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- وَرَّثَهُ، وإنّما أضافه إلى عبد، إذ أقرّ أنَّه أخوه وهو المنفردُ بميراث أبيه، فلا يحلّ له بيعه ولا يثبت بذلك نَسَبُه؛ لأنّ النَّسب إنّما يلحق بالأب فلا يلزمه ذلك بقول عبد (¬4). عارضة (¬5): قال الإمامُ: ألحقَ معاويةُ زيادًا، وأخذ النّاسُ عليه في ذلك، وأيُّ أخذٍ عليه فيه إنَّ كان سَمِعَ ذلك من أبيه، وأيُّ عارٍ على أبي سفيانَ أنّ يُلِيطَ بنفسِهِ وَلَدَ زِنًا كان في الجاهليّة؟! فمعلومٌ أنَّ سُميَّة لم تكن لأبي سفيانَ، كما لم تكن وليدةُ زَمعَةَ لعُتبَةَ، لكن كان لعُتبَةَ منازعٌ تَعَيَّنَ القضاءُ له، ولم يكن لمعاويةَ منازعٌ في زيادٍ، اللَّهُمَّ إلّا أنّ ههنا نكتةً اختلفَ العلّماءُ فيها، وهي: أنّ الأخَ إذا استَلحَقَ أخًا، يقول: هو ابنُ أبي، ولم ¬
يكن له مُنَازعٌ. فإن كان وحدَهُ، فقال مالك: يَرِثُ ولا يَثبُتُ (¬1) النَّسَبُ في جماعةٍ. وقال الشّافعىُّ: يثبتُ النَّسَبُ ويأخُذُ المالَ، هذا إذا كان المُقَرُّ به غيرَ معروفِ النَّسَبِ. واحتجَ الشّافعىّ بقوله: "هُوَ لَكَ يا عَبدَ بنَ زَمعَةَ، الوَلَدُ لِفِراشِ" فقضى بكونه للفراش وإثباتِ نَسَبهِ. قلنا: هذا جهلٌ عظيمٌ، وذلك أنّ قولَه: "إنَّ النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - قضَى بكَونِهِ للفِرَاشِ" صحيحٌ، وأمّا قولُه: بثبوت النَّسَب فباطلٌ؛ لأنّ عبدًا ادَّعَى شيئين: أحدُهما: الأخوَّةُ. والثّاني: ولادةُ الفراشِ. فلو قال له النَّبىِّ: "هو أخُوكَ، الولدُ للفراشِ" لكان إثباتًا للحُكمِ ونفيًا للعِلَّةِ، بَيدَ أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- عَدَلَ عن الأُخَوَّةِ ولم يتعرَّض لها، وأعرَضَ عن النَّسَبِ ولم يصرِّحْ به، وإنّما قال: "هُوَ لَكَ" معناه: فأنت أعلَمُ به. حديث: وهو حديث عبد الله بن أبي أُمَيَّةَ (¬2)؛ أَنَّ امرَأَةً هَلَكَ عَنْهَا زَوجُهَا، فَاعتَدَّت أَربَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشرًا، ثُمَّ تَزَوَّجَت حِينَ حَلَّت. فَمَكَثَت عِنْدَ زَوجِهَا أَربَعَة أَشهُرٍ وَنِصْفَ شَهرٍ، ثُمَّ وَلَدَت وَلَدًا تَامًا، فَجَاءَ زَوجُهَا إِلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَدَعَا عُمَرُ نِسوَةً من نِسَاءِ الجاهِلِيَّةِ قُدَمَاءَ، فَسأَلَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ. فَقالَتِ امرأةٌ مِنهُنَّ: أَنَا أُخبِرُكَ بِهَذِهِ المَرْأَةِ، هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا حِينَ حَمَلَتْ، فأُهرِيقَتِ عليه الدِّماءُ. فَحَشَّ وَلَدُها (¬3)، فَلَمّا أَصَابَهَا زَوجُهَا ¬
الذِي نَكَحها، وَأَصابَ الوَلَدَ الماءُ، تحَرَّكَ الوَلَدُ في بَطنِهَا وَكَبِرَ. فَصَدَّقَها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وَفَرَّقَ بَينَهُما، وَقالَ: أَما إنَّهُ لَمْ يَبلُغنِي عَنكُمَا إِلَّا خَيْرٌ، وَألحَقَ الوَلَدَ بِالأَوَّلِ. قال الإمام: والحديثُ صحيحٌ. العربيّة (¬1): قولُها:"فَحَشَّ وَلَدُها في بَطنِهَا" تريد: رقّ وضَمُرَ من الدّم الّذي أُهريقت عليه، ثمّ انتفّشَ بماء الزّوج الثّاني وكبر (¬2). يقال من ذلك: حَشَّ يَحِشُّ إذا يَبِس، وقد أحشَّتِ المرأةُ: فهي مُحش. وبعضهم يرويه بضمِّ الحاء. وفي هذا الحديث (¬3) أدلّ دليل على أنّ الحاملَ تحيضُ. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬4): قوله: "أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَبلُغْنِي عَنكُمَا إِلَّا خَيرٌ" يريد: أنّهما لم يتعمَّدَا النِّكاح في العِدَّة، وأنّ المرأةَ ظنّت أنّها قد حلّت. وقال سحنون (¬5): في هذا الحديث أصلٌ من أصول العلم، فيه من الفقه: أنّ الولد لا يُلحَق إذا جاءت به المرأة لأقلّ من ستّة أشهُر من يوم تزوّجت، ولو جاءت به لأكثرَ من ستّةِ أشهُرٍ للحق بالزّوج الآخِر وكان ولدًا لهُ. ¬
وفي هذا الحديث (¬1): ما يدلُّ على فساد قول أهل العراق؛ بأنّ الولد يلحق بالأوَّل ما لم تقرّ المرأةُ بانقضاءِ العِدَّة قبل ذلك. ونيه من الفقه: أنّه ما كان من أمور النّساء، أنّه يُرْجَع فيه إلى النِّساء العارفات وإلى قولهن ممّا لا يعرفه الرِّجال (¬2). المسألة الثّانية: قوله: "فَدَعَا النِّساءَ" يريد القوافي، وهي مسألةٌ عظيمةٌ بيّنّاها في موضعها، وهي القولُ بالقَافَةِ، والأصلُ في ذلك: حديث مُجَزَّز المُدلِجِيّ، رواه الأيمّة (¬3)، ولم يُدخِله مالك. ثبت أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى عائِشَةَ تَبرُقُ أَسارِيرُ وَجهِهِ، فَقالَ: أَلَم تَرَي أَنَّ مُجَزِّزًا المُدْلِجِيَّ نظَرَ الآنَ إِلى أُسَامَة وزَيدٍ وَهُما في قَطِيفَةٍ قَدْ غطّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَت أَقدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقدامَ بَعضُها من بَعضٍ ... الحديث إلخ، وهو صحيح. العربيّة: قال: والقَافَةُ جمعُ قائفٍ وهم الّذين يُميِّزُون الدِّماءَ ويلحقون النَّاس بعضهم ببعض. اللّفظ الثّاني: قوله: "تَبرُقُ أَسارِيرُ وَجهِهِ" الأسارير: هي الغضون والتَّكَسُّر الّتي في الوجه، واحدُها سِرّ -بكسر السين- وجمعُها أسرار، وجمعُ الجَمعِ أسارير (¬4). الأصول (¬5): قال الإمام: وجهُ الدّليلِ من هذا الحديث؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - سُرَّ بقول القائف في إثباتِ نَسَبِ أُسَامةَ بنِ زَيدٍ، لشَبَهِ الأقدامِ في التّقدير والهيئةِ، وإن اختلَفا في اللّون، فإنّ زَيدًا ¬
كان أبيض وأُسَامةَ أسودَ، والنّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يُسَرُّ بالباطلِ، على ما قرّرناه في "أصول الفقه". الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): لم يختلف قولُ مالكٍ وأصحابه في القَافَةِ في الإماء (¬2)، واختلف قوله في الحرائر (2)، فالمشهور عنه أنّه لا يُدْعَى لهم القَافَة. وحكى عبدُ الوهّاب في "معُونَتِه" (¬3) عن ابنِ وَهْب أنّه يدعى لهم القَافَة، وبه قال الشّافعيّ (¬4). وحديثُ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- إنّما كان في الحرائر ولم يكن في الإماءِ، فلا وَجه لغير هذا. المسألة الثّانية (¬5): واختلف علماؤنا في ثُبوتِ النَّسَب بالقَافَةِ، هل يكونُ لواحد أو لاثنين؟ فمذهبُ مالك (¬6) أنّه يكون للرّجل أَبَوَانِ. قال أبو يوسف: نعم وأُمَّان. وأمّا قول أبي يوسفَ هذا فما رأيتُ له في أثناء الطَّلب دليلًا أحكِيه؛ لأنَّ المشاهدةَ تُبطِلُه وتنميه. وأمّا الأَبَوانِ فلا إشكالَ فيه (¬7)، وقد تبيَّنَ في حديث عمرَ وجهُ امتزاجِ الماءينِ، د إذا اضطررنا إلى القَافَةِ وتعارَضَ الشَّبَهُ ألحَقناهُ بهما، فمن علمائنا من قال: يقال لهما: انظروا إلى أغلب الشّبهِ. ¬
ويقال له: فإن اسَتَويَا، فماذا يكون الحُكمُ؟ فقد قال ابنُ القاسم وغيرُه من العلماء: إذا ألحقَتِ القافَةُ الولدَ بهما كان ابنًا لهما. وقال بعضُهُم: يُوالِي من شاء. قال ابنُ القاسم وغيرُه: يكون ابنًا لهما ولا يكونُ له الاختيارُ. وقد رُوِيَ عن مالكٍ أنّه قال: إنَّ القافَةَ لا تكون في بغايا الجاهليّة، وإنّما تكونُ في أولاد الرَّشْدَةِ. وهذا خلافُ حديثِ عمرَ الّذي أدخل، والصّحيح أنّها تجري فيهم؛ لأنّه إذا جَازَ استلحاقُهم بالدَّعوَى، فكلُّ نَسَبٍ يلحَقُ بالدَّعوَى والفراشِ تدخلُه القَافَةُ. حديث سلمان بن يَسارٍ (¬1)؛ أَنَّ عُمَرَ بن الخَطَّاب كانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعاهُم في الإِسلَامِ، فَأَتَى رَجُلَانِ كِلَاهُما يَدَّعِي وَلَدَ امرَأَةٍ، فَدَعا عُمَرُ قائِفًا، فَنَظَرَ إِلَيهِمَا، فَقالَ القَائِفُ: لَقَدِ اشتَرَكَا فِيهِ، فَضَربَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ دَعَا المَرأَةَ، فَقالَ: أَخبِرِينِي خَبَرَكِ، فَقالَت: كانَ الماءُ لأَحَدِ الرَّجُلَينِ، وَهِيَ في إِبِلٍ لأَهلِها، فَلا يُفَارِقُها ... الحديث. العربيّة (¬2): قولُه: "يُلِيطُ" يعني: يُلحقهم بمن ادَّعاهُم ويُلصقُهم به. والكلمةُ مشتقَّةً من الشّيء المليط بالشّيء، يعني الملتصق به. وقال في "الغريب": كان يُليط أولاد الجاهلية بالآباء في الزِّنا (¬3). يُلِيطُ -بضم الياء وكسر اللّام -أي: يلحق ويلصق. تقول العرب: الولد أَليَط، أي ألصق بالرَّجُل. ¬
الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأوُلى (¬1): قال علماؤنا: كان أولئك أولاد لزَنْيَةٍ، وكذلك السُّنَّةُ اليومَ فيمن أسلمَ من النَّصَارى واليهود، ثمّ ادَّعَى ولدًا كان من زنا في حال نصرانيَّتِه، أنّه يُلحَق به إذا كان مجذوذَ (¬2) النَّسَبِ، لا أَبَ لهَ ولا فِرّاشَ فيه. قال ابنُ مُزَيْن (¬3): أفيؤخذ بذلك الحديث في مثلهم ممّن أسلم اليوم؟ قال: نعم. ولو أسلم قوم بجماعتهم في دراهم، وتحمّلوا إلى دار الإسلام، فادَّعَى بعضُهُم ولد الزنية؟ قال: نعم مِنْ حُرًّةٍ كان الولد أو من أَمَةٍ، إلّا أنّ يدَّعِيهِ معه سيِّدُ الأَمَةِ أو زوجُ الحُرِّةِ. المسألة الثّانية (¬4): قال علماؤنا (¬5): في هذا الحديث ما يدلُّ على قَبُولِ القائفِ الواحد والحكم به. وقال عيسى: لا يجوز من القَافَة إلّا اثنان فصاعدًا، ولا يقبل في ذلك إلّا أهل العدل. ويحتمل أنّ يكون عمرُ إنّما ضَرب القائفَ بعد أنّ ادَّعى المُبادَرَة بالقول قبل العِلم والتَّأمل، والله أعلم. قال علماؤنا (¬6): ويحتمل أنّ يكون عمر اقتصر على القائف الواحد لأنّه لم يجد غيره، ويُحتمل أنّه اقتصر عليه لتحقّق الحكم به. ¬
القضاء في ميراث الولد المستلحق
وقال ابنُ حبيب (¬1): إنّما يجوز القائف الواحد إذا كان عَدلًا ولم يوجد غيره، وهو قولُ الشّافعيّ (¬2)، وعليه الجماعة من أصحابنا، إلّا ما رواه أشهب عن مالك أنّه لا يجزئ إلّا قائفان، وبه قال عيسى (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): في التّوجيه فوجه الأوّل: أنّ هذه طَريقُهُ الخبر عن عِلمٍ يختصُّ به القليل من النَّاس، كالطّبيب والمفتي. ووجه الثّاني: أنّه يخصُّ بسَماعِهِ الحكّام والحكم به، فلم يجز في ذلك أقلّ من اثنين، كالشّهادات لأنّه طريقه. القضاء في ميراث الولد المُسْتَلْحق الفقه في مسائل: المسألة الأوُلى (¬5): قولُه (¬6): "الأَمرُ المُجتَمَعُ عَلَيهِ". وهذا كما قال، أنّ مذهب أهل المدينة في الّذي يتوفَّى ويترك وَلَدَينِ، ويترك سنَّة مئة دينار، أنّ لكلِّ واحدٍ منهما ثلاث مئة دينار. فإن قال أحدهما: إنَّ أباه أَقَّرَّ لرَجُلٍ أنّه ابنه. قيل له: قد أقررت له بمالٍ، فانظر إلى ما في يدك ممّا كان يصير له لو ثبت نسبُهُ فتدفعه إليه؛ لأنّك مقرٌّ له به. ولو ثبتَ نسبُهُ، لكان لكلِّ واحدٍ منهم مئة دينار، وقد أخذ هذا ثلاث مئة دينار، ¬
القضاء في أمهات الأولاد
والمئة الزائدة قد أقَّرَّ بها للمقرِّ به، وبهذا قال مالك (¬1). وقال الشّافعيّ: لا يلزمه أنّ يعطيه شيئًا؛ لأنّه أقرَّ له بشيءٍ لا يستحقُّه إلّا من جهة النَّسَبِ (¬2). ودليلُنا: أنّ إقرارَهُ يتضمَّن شيئين: أحدهما: النَّسَب، وهو إقرارُهُ على غيره فلا يثبت إلّا بمجرَّد قوله. والثّاني: إقرارُه بمالٍ في يده فلزمه، كما لو توفِّي رجلٌ وترك وَلَدًا واحدًا، فأقرّ بأخٍ ثبتَ نسبُهُ (¬3) أنّه إنّما أقرَّ على نفسه وعلى أخيه، وقد مهّدنا ذلك في "كتب المسائل". القضاء في أمّهات الأولاد قال الإمام (¬4): هذه كلمةٌ مخصوصةٌ بالإِمَاء إذا وَلَدْنَ، يقالُ: زوجةٌ وأمُّ وَلَدٍ، فتكونُ الأَمَةُ أَمَةٌ حتَّى تَلِدَ، فإذا ولَدَت صارت أمِّ وَلَدٍ، بل تكونُ أُمَّ وَلَدٍ بالحَملِ إجماعًا. واختلفوا في الحَملِ الّذي تكونُ به أُمَّ وَلَدٍ، فقال مالكٌ: تكونُ أمَّ وَلَدٍ بالعَلَقَةِ فما فوقَها (¬5). وقال الأوزاعيُّ: تكونُ أمَّ وَلَدٍ بالمُضغَةِ (¬6). وقال الشّافعيّ (¬7): تكون أُمَّ وَلَدٍ بالعين والظُّفرِ. ¬
وقال قومٌ: إنّما تكون أُمُّ وَلَدٍ بخلقَةِ الآدميّ. وقال مالك في أثناء كلامه وعند سرد قوله: وما يَرَى النِّساءُ أنّه وَلَدٌ. والأصل في ذلك: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الآية (¬1). وفي الحديث الصّحيح عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: "يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُم في بَطْنِ أُمِّهِ أَربَعينَ يَومًا نُطفَةً، وَأَربَعِينَ عَلَقَةَ، وَأَربَعِينَ مُضغَة، فإِذا أَرادَ اللهُ خَلقها كان" (¬2) وذكر الحديث. فلم يجعل للخلقِ رُتبة إلّا بعد كونه مُضغَةً، ولا يكون ولدًا إلّا بعد كونه خَلقًا، ولا تكون هي أمِّ وَلَدٍ حتّى يكونَ الولَدُ، فهذا هو الأسلوبُ المَهْيَعُ. وإذا أسقطتِ المرأةُ دَمًا مجتمعًا منعقدًا متماسكًا أو متناثرًا، فإنّه يحتمِلُ أنّ يكون تركيبَ خِلقَة، ويحتمِلُ أنّ يكون عقدةً تجمّعت من خِلطٍ، ولا يقضي أحدٌ فيها على يقينٍ ثابتٍ بمشكوكٍ فيه في إبطال حقٍّ ولا إثباته. فإذا ثبت أنّها تكون أمَّ ولَدٍ، فأجمعتِ الأُمَّةُ على أنّ بيعَها لا يجوزُ من لَدُنِ عليّ ابن أبي طالبٍ إلى زمان دَاوُدَ الأصبهانيِّ. قال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المِنبَرِ: كنتُ أرَى رَأي أبي بكر وعمرَ في أنّ أمِّ الولَدِ لا تُباعُ، ثمّ ظهَرَ لي أنّ بيعَها جائزٌ. فقال له عَبِيدَةُ السَّلمانيُّ: رَأيُكَ والله يا أميرَ المؤمنينَ مع رأي أبي بكر وعمرَ أحبُّ إلينا من رأيِكَ وحدَكَ (¬3). ثمّ ثبتَ أنّ عليًا رَجَع عن ذلك (¬4)، واستقرَّ الأمرُ بين المسلمين عليه إلى الوقت الّذي ذكرنا. ¬
وتعلّقوا في ذلك بحديث جابر الّذي رواه أبو داود (¬1) وغيره (¬2)، قال جابر: "كُنَّا نَبِيعُ سَرَايَانَا وَأُمَّهات أَولَادِنَا عَلَى عَهدِ رَسُولِ الله وأَبِي بَكرٍ، ثُمَّ نَهَانَا عُمَر" وهذا حديثٌ ضعيفٌ لا يُلتفتُ إليه. تنبيه (¬3): واجتمعَ أبو العباس بن سُرَيْج مع أبي بكر بن دَاوُدَ، فاحْتَجَّ أبو بكر بنُ داودَ على أنّ أمَّ الولَد تباعُ، وقال: أجمَعْنَا على أنّها إذا كانت أَمَةً تُبَاعُ، فمَنِ ادَّعَى أنّ هذا الحُكمَ يزولُ بولادَتِها فعليه الدّليلُ. قال أبو العبَّاس بن سُرَيْج له: أجمعنا على أنّها إذا كانت حاملًا لا تُباعُ، فمنِ ادَّعَى أنّها تُباعُ إذا انفصلَ الحملُ فعليه الدّليلُ أيضًا. فَبُهِتَ أبو بكرٍ. بَيدَ أنّ علماءنا أشاروا في ذلك في إثبات هذا الحكمِ بمنَازِعَ من حديث النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وكلُّها صحيحةٌ، منها: 1 - قولُ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- حين ذكر أشراطَ السَّاعةِ فقال: "أنّ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا" (¬4) وفي رواية (¬5):"بَعْلَهَا" والبعلُ: هو السَّيِّدُ في لغة العرب، ومعنَى كونه سيِّدًا: أنّها استفادت الحريَّةَ بسببه، ولا يصحُّ أنّ يكون له معنًى سِوَاهُ. 2 - الثّاني: حديث أبي سعيد الخُدريّ أنّه قال: أَصَبنا سَبَايَا، واشتَدَّت عَلَينَا العُزْبَةُ، وَأَحبَبْنَا الفِدَاءَ فأَرَدْنا أنّ نَعزِلَ، فَقُلنَا: كيفَ نَعْزِلُ والقُرآنُ يَنْزِلُ فِينَا، فَسَأَلنَا رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ. وذكر الحديث (¬6). فإن قيل: إنّما معنى قوله: "فأَحْبَننَا الفِداءَ؛ لأنّها ما دامت حامِلًا لا تُباع ولا يُفَادَى ¬
بها حتّى ينفصلَ الولدُ، فخَشِيَ أبو سعيدٍ وأصحابُه أنّ يقعوا في هذه الحالةِ. قلنا: قد تقدّم الجوابُ، وأنّه إذا تقرَّرَ المنعُ في حالةٍ، فما الدّليلُ الّذي يَدفَعُهُ؟ قلنا: قد قال علماؤنا: قدِ استأثرَ اللهُ بنبيِّه - صلّى الله عليه وسلم -، وطلَبَ بعضُ أزواجِه وِرْثَهُ، وقال أصحابه وخُلفاؤه: إنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- لم يَترُكْ إِلَّا بغلتَهُ وسلاحَهُ وأرضَ كذا (¬1)، ولم يذكروا مارِيَةَ ولا اعترضها أحدٌ من الطّالبين، ولولا كونُها أمَّ وَلَدٍ لطلَبتها فاطمةُ والعبّاسُ للاستخدام أو البيعِ. قد تعلَّق بعضُ علمائنا بأنْ الأثرَ قد وَرَدَ، وأجمعتِ الأمَّةُ عليه في المنع من التّفريق بين الأُمِّ ووَلَدِها، وذلك يمنَعُ من بيع أمِّ الولدِ، وهو حُكمٌ لا إشكالَ فيه، فاتَّخِذُوا هذه الأقوال أنموذجًا في الاحتجاج للمخالِفِ. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬2): فيما تصير به أمّ ولد ففي كتب الفقه (¬3): أنّها تكون أمّ ولد بكلِّ ما أسقطته إذا علم أنّه مخلق، وفيه تجب الغرّة، وهو أحد قولي الشّافعيّ (¬4). وقد تقدّم اختلافُ القومِ في ذلك فمنهم: من قال بالمضغة. ومنهم من قال بالعَلَقَة، فلينظر هنالك في أوّل الباب. المسألة الثّانية (¬5): أنّ حكمها لا يملكها غيره ببيع ولا هِبَةٍ. ¬
وهو مذهبُ جميع الفقهاء مالك وأبي حنيفة والشّافعيُّ (¬1)، وقد تقدّم تفسير حديث أبي سعيد في غزوة بني المصطلق من الدّليل ما يغني عن إعادته (¬2). والدّليلُ على ذلك: إجماع الصّحابة، لحديث عليّ وقول عَبِيدَة السَّلمَاني (¬3). المسألة الثّالثة (¬4): فيما بقي له (¬5) فيها وفي ولدها فروى محمّد عن ابنِ القاسم أنّه ليس للرَّجُل أنّ يتعبها في الخدمة وإن كانت دَنِيئة، وتُبتَذَلُ الدَّنِيئة في الخدمة الخفيفة بما لا تُبتَذل فيه الرَّفيعة. وقال عبد الوهّاب (¬6): "له استخدامها فيما يقرب ولا يشق". وقال أبو حنيفة (¬7) والشّافعيُّ: له فيها الخدمة والاستمتاع. وهو الأظهر؛ لأنّه المقصود من ملكها، وإنّما منع أنّ يملكها غيره. وأيضًا: فإنّه لا خلاف أنّ للسَّيِّد استخدامَ ولدها وحكمه كحكمها (¬8). وممّا تعلّق به مالك: أنّه ممنوعٌ من بيعها، وأنّها لا تُعتَق في ثُلُثه، فلم يكن له استخدامها كالحرّة. المسألة الرّابعة (¬9): وهل له أنّ يجبرَها على النِّكاح أم لا؟ كره مالك أنّ يُزَوِّج الرَّجُل أمّ ولده. ¬
وقال الأبهريُّ: إنّه ليس له فيها إلّا الاستمتاع، فكره له أنّ يُزَوِّجَها وإن رضيت. ومعنى ذلك عندي: أنّه شَبَّهَها بالزّوجة الّتي ليس له فيها إِلَّا الاستمتاع، ولا يجوز لها أنّ تتزوّج مع بقاء ذلك السّبب. فإن زَوَّجَها، فقال ابنُ القاسم في "المدوّنة": لا أفسخه. وقال الشّافعيّ (¬1) في أحد قَوْلَيْه: لا يجوز له أنّ يُزَوِّجَها. ودليلنا: أنّه وليٌّ لها، فجاز إنكاحها لها كما لو نفذ عتقها. فرع (¬2): واختلف قولُ مالك في إجبارها على النِّكاح، فقال ابنُ حبيب (¬3): له أنّ يكرهها على النِّكاح. وقد اختلف فيه قول مالك، وثبت على أنّه لا يزوّجها إلّا برضاها (¬4). ووجه القول الأوّل: أنّها أَمَةٌ يملك الاستمتاع بها بملك اليمين، فملك إجبارها على النّكاح كالأمة القنّ. المسألة الخامسة (¬5): في حكم مالها في حياته فللسَّيِّد انتزاعه ما لم يمرض؛ لأنّها باقيةٌ على ملكه بقاءً تستحق به النّفقة، ¬
ويبيح الاستمتاع بها، فكان له انتزاع مالها. أصل ذلك: الأَمَة في حال الرِّقَّ، وليس له انتزاعه إذا مرض على ما في "المدوّنة" (¬1)، وقال عبد الوهّاب (¬2): "إذا اشتدّ مرضُه لم يكن له انتزاعه، كما ليس له إخراج ماله في المرض المخوف، إبقاءً على ورثته لِقُرْبِ وقتِ استحقاقهم له". كالمعتق إلى أجلٍ، للسَّيِّد انتزاع ماله ما لم يقرب الأجل (¬3). فرع (¬4): لماذا أفلس سيِّدها، فليس لغرمائه أخذ مالها، ولا أنّ يجبر السَّيِّد على ذلك، وللسَّيِّد أنّ يأخذه لنفسه ولقضاء دَيْنِه (¬5). المسألة السّادسة (¬6): في حكم مالها وحكمها بعد موته فإنّها تُعْتَق من رأس ماله، وإن كان عليه دَيْن يحيط به (¬7). وهذا إذا كانت ولادتها قبل وفاته، فأمّا إنَّ تُوُفِّيَ وهي حاملٌ ففي "العُتبِيّة" (¬8) عن أشهب وفي "الواضحة" (¬9) أيضًا: إنَّ كان الحملُ بَيِّنًا فقد تمّت حرمتها في الشّهادة والموارثة والقصاص وغير ذلك. المسألة السّابعة (¬10): قوله (¬11): "إِذا جَنَتْ ضَمِنَ سَيِّدُهَا" يريد: أنّه يلزمه أنّ يفتديها بالأقلّ من الأَرْشِ أو ¬
قيمتها؛ لأنّه لمّا لم يكن له أنّ يملكها غيره، لم يكن له أنّ يسلمها، ولو كانت أَمَة لكان له أنّ بفتديها بالأَرْشِ، أو يسلمها بقيمتها. واختلفوا في تقويمها، فقال أشهب في "الموّازية": خالَفَني ابنُ القاسم والمُغِيرَة في أمّ الولد، فقالا: على السَّيِّد قيمتها يوم جنت، فرجع ابن القاسم وتَمادى المُغِيرَة، وإنّما عليه قيمتها يوم الحكم. فرع (¬1): فإذا قلنا: تُقَوَّمُ، فهل تُقَوَّم بمالها أم لا؟ قال محمّد عن أشهب عن مالك: تُقَوَّمُ بغير مالها. وأنا أرى أنّ تُقَوَّم بمالها، وبه قال: المُغِيرَة وعبد المَلِك. فرع (¬2): فلو ماتت بعد أنّ جنت، ففي "المجموعة" عن ابن القاسم: لا شيءٍ للمجروح من مالها؛ لأنّها لو كانت حية قُوِّمَت بغير مالها. وقال عبد الملك: إنَّ كان عينًا وفَّي منه الأَرْش، فإن لم يكن يفي، لم يكن له غيره. المسألة الثامنة (¬3): قوله (¬4): "وَلَيْسَ علَيْهِ أَنْ يَحمِلَ من جِنايَتِهَا أَكثَرَ من قِيمَتِهَا" هذا إذا كانت جناية واحدة، فإن تكرّرت وتعقب كلّ جناية الحكم فيها حكم الثّانية وما بعدها حكم الأولى (¬5)، فإن جنت ¬
القضاء في عمارة الموات
جنايات ثمّ قام المجني عليه، ففي "المدنية" من رواية محمّد عن مالك: ليس عليه إلّا قيمتها (¬1). فرع (¬2): وليس على العاقلة شيءٌ من جناية أمّ الولد؛ لأنّها أَمَة، ولا تحملُ العاقلة إلّا جناية الأحرار. وقال أبو يوسف: إنَّ لم يفتدها السَّيِّد أعتقها. عليه، وجعلت ديّة قتيلها على العاقلة (¬3)، وهذا غيرُ صحيحٍ. القضاءُ في عمارة المَوَاتِ مالكٌ (¬4)، عَنْ هِشَامِ بنِ عُروَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ، وَلَيسَ لِعِرقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ". وهو عن عُروة مُرْسَلٌ (¬5). ¬
وقد (¬1) ثبت في الصّحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعْمَرَ أرْضًا لَيسَت لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" خرّجه البخاريُّ (¬2). أمّا قوله: "لَيسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" فهو حديثٌ صحيحٌ، ورَوَى أبو داود (¬3) نازلة تعضُدُه: أنّ رجلين اختصما إلى رسولِ الله -صلّى الله عليه وسلم-، فقال أحدُهما: إنَّ أرضي غَرَسَ هذا فيها نخلًا، فقضَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لصاحبِ الأرضِ بأرضِهِ، وأمرَ صاحبَ النَّخْل أنّ يُخرِجَها منها. قال: فَلَقَدْ رَأَيتُها وإنّ أصُولَها لَتُضرَبُ بالفُئُوسِ حَتَّى أُخرِجَت عنها وهي نَخلٌ عُمٌّ. الأصولُ والغريب (¬4): اختلف النَّاسُ في هذا الحديث الّذي خرَّجه أبو داود، هل هو تَعَبُّدٌ أم مُعَلَّلٌ؟ فالّذين قالوا إنّه معلَّلٌ اختلفوا في تعليله: فمنهم من قال: إنَّ العلَّةَ فيه الاشتراكُ بين الخَلقِ، كالماءِ والحطبِ والحشيشِ، فَتَخلُصُ بالإحياء للمُحيِي، كما تَخلُصُ بالاحتطابِ والاحتشاش والاصطياد والاستقاء، كلُّ ذلك لفاعله. وقيل في تعليله: إنّما ذلك إلى الإمام يُخلِصُها لمن شاء، وليست كالماء والحشيش والحطب والصّيد؛ لأنّ ذلك ليس بثابتٍ ولا مُتَحَصَّلٍ. وقد رَوَى الدّارقطنىُّ أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "مَوَتَانُ الأَرْضِ (¬5) للهِ وَلرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُم مِنِّي أَيُّهَا المُسلِمُونَ" (¬6) وهذا ¬
يَرْفَعُ التَّعليلَ الأخيرَ، ويرفعُ التَعبُّدَ، ويُوجِبُ الاشتراكَ، ويَقْضِي للمُحْيِي بالاختصاصِ كما يقضِي للمُحتَطِب والمُحْتَشِّ. العربيّة (¬1): قال الشّارحون للحديث (¬2): "العِرْقُ الظَّالِمُ" عِرْقان: عِرْق باطنٌ وعِرق ظاهرٌ. فالعِرقُ الباطن: ما احْتَفرَهُ الرَّجُل من اللآبار أو اغترسه من الغِرَاسِ والعرق الظّاهر: ما بناه الرَّجُل من البُنيان في أرض غيره (¬3). وقوله: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالِمٍ حَقٌّ" يريد: ليس له حقٌّ كحقِّ من غَرَسَ أو بَنَى (¬4). الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6):"من أَحيا أَرضًا مَيِّتَةَ". قال علماؤنا (¬7): إحياؤها عِمَارتها، وموتها تبويرُها، ¬
وقد يستعمل موتُها بمعنَى عدم سقيها، قال الله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): كلّ ما قَرُبَ من العُمران فليس. بموات، وما بَعُدَ ولم يملك قَبْلُ فهو موات. ورَوَى سحنون عن ابنِ القاسم: أنّ ما قَرُبَ من العُمران فليس بمَوَاتٍ ولا يدخل في الحديث. فيحتَمِلُ أنّ يريد أنّ اللّفظ عامّ (¬3)، فخصّ منه ما قَرُبَ بدليلٍ ظهر إليه، فثبتَ بذلك أنّ المراد به ما بَعُدَ. ويحتَمِلُ *أنّ يريد أنّ لفظ "الأرض" لمّا ورد منكرًا لم يقتض العموم، وإنّما أريد به ما بَعُدَ دون ما قرُبَ. ويحتَمِل* قول أبي حنيفة الوجهين. وأنكر سحنون قول ابن القاسم وقال: المعروف له أنّه لا يجوز له إحياؤه إلّا بإذن الإمام (¬4). وقولُه: "فَهِيَ لَهُ" يقتضي ظاهره ملكه لها، وفي ذلك خمس فصول: الأوّل: في صفة الأرض الّتي تملك بالإحياء. والثّاني: في صفة المُحْيِي لها وحكمه. والثّالث: في ¬
الفصل الأول في صفتها
صفة الإحياء. والرّابع: في حكم ما أحيي منها ثمّ مات. والخاص: في حكم الأرض المَوَات والأبوار في البيع والقسمة وغير ذلك. الفصل الأوّل (¬1) في صفتها قال سحنون في "المجموعة": الأرض على ثلاثة أَضرُبٍ: عَنْوَة، وصُلح، وما أسلم عليها أهلها. فأمّا "العَنْوَةُ" فما كان فيها من مَوَات وشَعارٍ (¬2) لم تعمل ولا جَرَى فيها ملك فهي لمن أحياها، وكذلك أرض الصُّلح. وما "أسلم عليها أهلها" فإنّها على ما أسلموا عليه، وهو ملك على وجهين: أحدهما: أنّ تكون محدودة ولها مالكٌ مخصوص. والثّاني: أنّ تكون من الأودية والمَرَاعي ليست بمحدودة ولا لها مالك مُعَيَّنٌ. وقال في موضع آخر: لا تملك حقيقة الملك، وإنّما هي للمرافق، فما كان من أرض الأعراب على غير هذين الوجهين فهي لمن أحياها. وعندي: أنّ هذا التّقسيم لا يُحتاج إليه إلّا بمعنى التّفسير؛ لأنّ حكمها واحد. ووجه ذلك: أنّ كلّ ما ملكت به الأرض من الوجوه الثّلاثة فإنّما يملك منها ما تقدّم ذكر الملك له. إمّا بملك الأرض على وجه الاختصاص، أو العموم وملك المنافع على الوجه العامّ. وبهذين النّوعين منها يتعلّق الملك والحقوق دون الفيافي والقفار، فمن أحيا أرضًا لم يتعلّق بها حقٌّ لأحدٍ فهي له. ¬
فرع: وما كان من بئرِ ماشيةٍ، فلا يَغرِس عليها أحد غَرْسًا ولا يُحيِي عليه حقًّا، قاله ابن كنانة (¬1). مسألة: فإذا ثبت ذلك، فالمَوَاتُ على ضربين: ضربٌ يَبعُدُ، وضربٌ يَقرُبُ. فأمّا ما بعد، فقد قال مالك: يُحْيِيهِ بغير إذن الإمام، خلافًا لأبي حنيفة (¬2) في قوله: ليس ذلك له إِلَّا بإذن الإمام، وقد رواه يحيى عن ابن نافع. ودليلنا: قوله: "مَنْ أَحيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ" وهذا عامٌّ فحُمِلَ على عمومه. فإن عمّرها بغير إذنه، ففي "كتابُ ابن سحنون" عن مالك: ما علمتُ اختلافًا بين أهل العلم أنّ من أحيا أرضًا ميِّتَةَ في بُعدٍ من العمارة بغير إذن الإمام فهي له. وفي "المَدَنِيِّة" قال مالك في الغنيِّ يقتطعُ الموات البعيد بغير إذن الإمام: ينظر فيه الإمام، فإن رأَى أنّ يُقرَّه أقرَّه، وإن رأى أنّ يُخرِجه أخرجه (¬3). وأمّا ما قَرُبَ، فلا يحييه أحدٌ إلّا بإذن الإمام، رواه سحنون عن مالك وابن القاسم وأشهب، خلافًا للشّافعيّ (¬4) في قوله: يُحييها من شاءَ بغير إذنه، ورواه ابن عبدوس عن أشهب، وبه قال كثيرٌ من العلماء من أصحابنا. ¬
الفصل الثاني في صفة المحيي
فرع: ومن أحيا أرضًا في الفَيَافِي، فليس لغيره أنّ يحيى بقربه إلّا بإذن الإمام، قاله سحنون في "المجموعة" قال: لأنّه قد صار بالأحياء عمرانًا فلا يعمر بقربه إلّا بإذن الإمام. وأمّا حدُّ القُرب والبُعد، فقال سحنون في "كتابُ ابنه": ما رأيت من وَقَّتَ فيه من أصحابنا، وما كان على يوم وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحِها فأراه من البعيد، وأمّا ما تدركه في غدوها ورواحها أو بَعُدَ قليلًا بما فيه المَرْفِق لأهل العمارة، فهو القريب يدخله نظر السُّلطان فلا يُحْيَى إلّا بإذنه. الفصل الثّاني (¬1) في صفة المحيي ذلك أنّ المحيي للأرض في بلاد المسلمين لا يخلو أنّ يكون مسلمًا أو ذِمِّيًا، فإن كان مسلمًا فحُكمُه ما تقدّم، وإن كان ذِمِّيًا ففي "المجموعة" عن ابن القاسم: هي له، لِمَا رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنْ أَحيَا أَرضًا مَيّتَةً فَهِيَ لَهُ" إلّا أنّ يكون ذلك في جزيرة العرب لقوله: "لا يَبقَيَنَّ دينانِ في جزيرةِ العربِ" (¬2). مسألة: وإنّما ذلك (¬3) فيما بَعُدَ، وأمّا فيما قَرُبَ، فإنّه يخرج عنه ويُعْطَى قيمته؛ لأنّ ما قَرُبَ من العمران بمنزلة الفَيءِ، والذِّمِّيُّ لا حقّ له في الفَيءِ. وكذلك إنَّ عَمَّرَ في جزيرة العرب مكَّة والمدينة والحجاز (¬4) فإنّه يخرج منها ويعطَى قيمة ما عمّر، قاله ابن حبيب وابن الماجِشُون. ¬
الفصل الثالث في صفة الإحياء
قال الإمام: وفيه نظر؛ لأنّه إنَّ كان ما قَرُبَ حكمُه حكم الفَيء، فلا يجوز لأحدٍ تملكه ولا اقتسامه؛ لأنّ هذا حُكم الفَيءِ من الأرض عند مالك، ويلزمه ألَّا يصحّ إحياؤه من العبد والمرأة؛ لأنّهما ليسا من أهل الفَيءِ ولا يصح ممّن لم يفتح ذلك البلد. الفصل الثّالث (¬1) في صفة الإحياء قال مالك (¬2): الإحياء أنّ يحفر بئرًا أو يُجرِي عينًا. ومن الإحياء غَرْس الشَّجر والبنيان والحرث، وقاله ابنُ القاسم وأشهب. وقال مطرف وابن الماجشون: الإحياءُ حَفر الآبار وشقُّ العيون والغرسُ والبناءُ وقطعُ الحياض والفحص عن الأرض ممّا تعظم مؤونته وتبقى منفعته حتّى يصير مالًا، فهذا وما أشبهه إحياء. مسألة: وأمّا الرَّعيّ، فلا يكون إحياء، قاله ابن سحنون عن ابن القاسم (¬3). وقد قال أشهب (¬4): من نزل أرضًا فرَعَى ما حولها فهو أحقّ بها، وذلك إحياءٌ. مسألة: وأمّا من حَجَّر (¬5) أرضًا بعيدة، فقد قال أشهب: لا تكون له حتّى يعلم أنّه حجّرَها ليعمل فيها إلى أيّامٍ، فذلك له. وأمّا من حَجَّرَ مالًا يقوى عليه فله منه ما عَمَّرَ. ¬
الفصل الرابع في حكم ما أحيي ثم مات
وقال أشهب في "المجموعة": قد رُوِيَ عن عمر أنّه قال: من حَجَّرَ أرضًا ولم يعمّرها أنّه ينتظر به ثلاث سنين (¬1)، وأراه حسنًا. مسألة: وقد قال ابنُ القاسم (¬2): ليس الحَجْرُ إِحياء. ووجه ذلك: أنّ هذا لا يعمل لإحياء، وإنّما هو مَنْعٌ لغيره من التَّصرّف فيها. مسألة: وليس حفر بئر الماشية إحياء، قاله ابنُ القاسم (¬3) وأشهَبُ؛ لأنّه عمل لمنافع الماشية كالرّعي. الفصل الرّابع (¬4) في حكم ما أحيي ثمّ مات فإنّ الأرض على ضربين: 1 - ضرب يقسم ملكه. 2 - وضرب يملك عن مالك. فأمّا ما اقتسم ملكه، فعلى قسمين: إقطاع (¬5) وإحياء. فأمّا الأوّل: ففي "العُتْبِيَّة" (¬6) عن ابن القاسم فيمن أقطعه الإمام أرضًا قريبة فهي له ¬
الفصل الخامس في حكمها في القسمة والبيع
وإن لم يعمرها، ويبيع ذلك إنَّ شاء ويورث عنه. وقال ابن الماجِشُّون (¬1): إنَّ لم يقو على عمارتها، فله أنّ يبيعها ويهب ويتصدّق ما لم ينظر في عجزه عنها فيقطعها غيره. فوجه قول ابن القاسم: أنّ الإقطاع عنده بمعنى التّمليك والَّذي لا يفتقر إلى عمارة، كالبيع والميراث. ووجه الثّاني: أنّ الإقطاع إنّما هو إذنٌ في الإحياء، ومن شرط ذلك العمارة. الفصل الخامس (¬2) في حكمها في القسمة والبيع فإنّ الأبرار والشَّعَارَى على ثلاثة أَضْرُبٍ: 1 - ضرب تحيط به العمارة. 2 - وضرب لا تحيط به. 3 - وضرب يكون قد شقّ. فأمّا ما [لا] (*) تحيط به العمارة (¬2) (*)، فقد قال ابنُ وَهْبٍ وأَشهَبُ وأَصْبَغُ: لا يقسم بينهم وإن اتّفقوا على قسمته، وفي "كتابُ ابن سحنون" عن ابن القاسم؛ أنّ الشُّعْرَاء الّتي تَقرُبُ من القُرَى تلحقها الماشية في غدوّها ورواحها، وهي لهم مَرْعَى ومحتَطَبٌ، فلا تكون لمن أحياها، ولأهل تلك القرى قسمتها بينهم. وأنكره سحنون، وقال: المعروف لمالك وابن القاسم غير هذا، وذلك أنّ النَّاس لم يختلفوا فيما بَعُدَ من العمران أنّ يحيا بقطيعة الإمام. واختلفوا فيما قَرُبَ، فقال كثير منهم: للرَّجُل أنّ يُحيِيه دون الإمام. وقال غيرهم: لا يُحْيِيه إلّا بقطيعة. فهذا خارج ¬
من هذين القولين. ووجه المنع من القسمة: ما تقدّم. ووجه إباحتها: أنّهم يختصُّون بمعظم منافعها، وإنّما لغيرهم في ذلك ما فضل عنهم على وجه الضّرورة إليه. مسألة (¬1): وأمّا ما أحاطت به العمارة، فقال أصبَغُ وداود بن سعيد: يقسم، وبه قال مُطَرِّف وابن المَاجِشُون. وقال أَشهَب وابن وَهْب: لا يقسم أجمعوا على ذلك أو أَبَى بعضهم؛ لأنّ البُور لا يقسم وليس بمال لهم فيه حقّ لكلِّ المسلمين، وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يُمْنَعُ فَضلُ المَاءِ ليُمنَعَ بِهِ الكَلأُ" (¬2). ووجه القول الأوّل: ما احتجَّ به ابن حبيب أنّ هذه الأبوار أَفنِيَة أهل القُرَى ومحتطبهم ومراعيهم، ولذلك لم يكن للإمام أنّ يقطع لأحدٍ شيئًا منها؛ لأنّها حقّ لهم كأَفنِيَةِ الدُّور، فمن دَعَا إلى القِسْمة منهم فذلك له. تنبيةٌ على وَهْمٍ (¬3): قال علماؤنا المالكيّة (¬4) والشّافعيّة (¬5): لا يجوز للذِّمِّيِّ إحياء المَوَاتِ. وقال أبو حنيفةَ (¬6): يجرز. ¬
وقالت الحنفية في كُتُبِها: يجوز للذِّمِّيِّ إحياء الموات. وقال الشّافعيُّ ومالك: لا يجوزُ. ونصر كلا الطّائفتين ما ادّعاه وأبطل ما عداه، والمسألة غير مُتَصَوَّرة على مذهب أبي حنيفة؛ لأنّ أبا حنيفة يقول: إنَّ إحياء الأرض كيف ماكانت وأين ما كانت لا يجوز إلّا بإذن الإمام، وإذا أذن الإمام للذِّمِّيّ في إحياء الموات نفّذه؛ لأنّه حكمٌ مُختَلَفٌ فيه، ولا يبقى للمسألة صورة، على أنّ بعض علمائنا قال: يجوز للذِّمِّيِّ إحياء المَوَات إلّا في جزيرة العرب مَكَّة والمدينة؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "من أَحيَا أَرْضًا" الحديث، وهذا عامٌّ. وقال -عليه السّلام-: "أَخرِجُوا اليَهُودَ والنَّصارى من جَزِيرَةِ العَرَبِ" (¬1) وهذا خاصٌّ، فَقَضَى الخاصُّ على العامِّ باتّفاقٍ من الأُمّةِ، نصَّ عليه ابن القاسم وغيره. ويصح أنّ يكون للذِّمِّيِّ في إحياء المَوَاتِ حقٌّ لثلاثةِ أوجُهٍ: أحدها: أنّ أبا حنيفة يقول: إنَّ الكفّار لا يخاطَبُون بفروع الشّريعة، فليس لهم دخول في الأمر والنّهي، من باب نفي التكليف بالأحكام، وهذا ما لا جواب لهم عليه. الثّاني: في قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعْمَرَ أَرضًا مَيَّتَةَ لَيسَت لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِها" (¬2) وهذه الأرض للمسلمين، لقول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "مَوَتَانُ الأَرْضِ لله وَلرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُم مِنِّي أَيُّهَا المُسلِمُونَ" (¬3). الثّالث: أنّ الذِّمِّيّ ليس من أهل الأرض، إنّما هو فيها مكتر بأجرةٍ معلومةٍ، فأيُّ حقٌّ له في الإشاعة حتّى يُعَيِّنه بالإحياء، وفي مسائل إحياء المَوَاتِ تفريعٌ عظيمٌ، فابْنوا على هذه الأصول الّتي أصّلناها لكم، والحمد لله. ¬
القضاء في المياه
القضاءُ في المياه قال الإمام: أدخلَ مالكٌ (¬1) في هذا الباب حديث عَبْدِ اللهِ بن أَبِي بَكرٍ بن مُحَمّدِ بْنِ عَمرو بنِ حَزمٍ؛ أَنَّهُ بَلَغهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ في سَيلٍ مَهزُورٍ وَمُذَينِبٍ: "يُمسِكُ حَتَّى الكَعبَينِ ثُمَّ يُرسِلُ الأعلى عَلَى الأَسفَلِ". الإسناد (¬2): قال الإمام: الأصل في المياه وأحكامِها حديثُ الزُّبَير، وهو مُتًفَقٌ عليه من الأَيِمَّة والأُمّة (¬3)، رُوِيَ أَنَّه خاصَمَهُ رَجُلٌ من الأنصار في شِرَاج الحَرَّةِ، فَتَرافَعَا إلى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال له النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم-:" "اسقِ يَا زُبَيرُ وَأَرسِلِ إِلَى جَارِكَ" فقال الأنصاريّ: إنَّ كانَ ابن عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجهُ النّبيّ -عليه السّلام- ثمّ قال للزُّبَير: "أَمسِكِ المَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الجَدرَ، ثُمَّ أَرْسِلهُ" وفي ذلك نزلت الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية (¬4)، وقد فات الإيمان للأنصاريّ بهذه الكلمة، ولكنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- سكت عنه؛ لأنّها كانت منه فلتَةً، وقد كان سَكَتَ عن المنافقين الّذين يُسِرُّون الكُفرَ، فإقالةُ العَثرَةِ أقل من ذلك وَأَولَى، ولذلك قال النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم-: "إنها صَفيَّة بنت حُيَيٍّ، وَإِنِّي خَشِيتُ أنّ يَقذِفَ الشَّيطانُ في قُلُوبِكم شَيئًا فَيهلكَ مَنْ هَلَكَ" (¬5) فكلُّ منِ اتَّهم النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
بباطلٍ فهو كافرٌ، والحكمةُ ما ذكرناه إنَّ شاء الله. عربية (¬1): قال الشّارحون (¬2) للحديث الأوَّل: "مَهْزُورٌ وَمُذَينِبٌ" هما واديان من أودية المدينة (¬3) يسيلان بالمطر (¬4)، ويتنافس أهل الحوائط في سيلهما، فقضَى رسولُ الله للأعلى (¬5). زاد سحنون (¬6): وليس ملكهما لأحد. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬7): قال علماؤنا: والماءُ على قسمين: مملوكٌ مُبَاحٌ. ضرب (¬8): لا يُملك أصلُه كالسُّيول أو ماء الأمطار. وضرب: يُملك أصلُه كالعيون والآبار. ¬
فأمّا المملوك، فلا كلام لأَحَدٍ فيه إلّا لصاحبه. ومن أسباب مِلْكِ الماءِ مِلكِ مَحَلَّه، كمن احتفَرَ بِئرًا أو بَنَى عينًا، فذلك سَبَبٌ يقضي له بالاختصاص به دونَ غيرِه، على تفصيل معلوم في "كتب المسائل" يأتي الآن منه شيءٌ إنَّ شاء الله. قال الإمامُ: ولم يكن الماءُ الّذي اختصم فيه الزُّبيرُ والأنصاريُّ مملوكًا لأحدٍ، وإنّما كان ممّا يجري في السّيل فيَجذِبُ كلّ جَدرٍ يمرُّ عليه مِن أحَدِ جانبي السَّيل ما يحتاجُ إليه، وكان الأنصاريُّ تحت الزُّبَيْر في جانِبِه، أو من الجانب الآخر، ولو كان فوقَهُ لكان أحقَّ به، إلّا بمِلْكٍ ثابتٍ باتِّفاقٍ أو باحْتِيَاز قديمٍ. فإن سَاوَاهُ في الجانب الثّاني، فالحُكمُ لمن سَبَقَ، وإن اختلفا قبلَ الاختصاصِ، فإمّا أنّ يقتَسِمَا، وإمّا أنّ يَستَهِمَا. فلمّا سبق الزُّبَيرُ كان له أنّ يأخُذَ حاجَتهُ، حتَّى إذا استَغنى أرسلَ الفاضلةَ له، فأشار -عليه السّلام- بأن يأخُذَ ويترُكَ من حَقِّهِ، وقال له: "أَمْسِكْ مَاءَكَ حَتَّى يَبلُغَ الجَدْرَ" (¬1) يعني: حتّى يستوي مع حائِطِ الحَوضِ. المسألة الثّانية (¬2): اختلف علماؤنا لمن يكونُ ذلك؟ فقيل: يكونُ لصاحب الشَّجَرِ باتّفاقٍ؛ لأنّها تحتاجُ إلى رَيٍّ كثيرٍ، فإن كان زَرْعًا أمسَك حتَّى يَستُرَ الأرضَ؛ لَأنّ الزَّرعَ إنّما يحتاجُ إلى قليلٍ، وقضاءُ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أحقُّ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): أدخلَ مالك (¬2) في هذا الباب حديث أَبِي هُرَيرَةَ: "لا يُمنَعُ فَضلُ المَاءِ لِيُمنَعَ بِهِ الكَلأُ" وتردّد قولُه في: "نَقع البئرِ" فتارةً منَعهُ، وقال: لا يجوزُ، وهو في "المجموعة" وبه قال أبو حنيفة (¬3). وتارةً كَرِهَهُ، وبه قال الشّافعيّ (¬4)، واختار الكراهيةَ ابنُ القاسم. وهذا إنّما يكون في بِئرٍ لا تُحفَرُ في مِلكٍ. ومن كَرِهَ بيعَها حَمَلَهُ على النَّدْبِ والآداب. والصحيحُ عندي من هذا الاختلاف كله، أنّه يجب عليه إعطاءُ الفَضلِ. فإذا ثبتَ هذا، فلا يجوزُ حينئذٍ بيعُه؛ لأنّ المَبِيعَ حينئذٍ يكونُ مجهولًا. فإن قيل: لم مُنِعَت هاجَرُ؟ قلنا: لأنّ الله ملَّكَها الماءَ والموضعَ، واختطّهُ لها جبريلُ -عليه السّلام-، وجعلَها أرضًا مبارَكَةً مملكةً موروثةً، مقدِّمةً لخير البَريَّة محمّدًا وأمّته. والفروعُ عليه كثيرة جدًّا. وقوله: "لا يُمنَعُ فَضلُ الماءِ لِيُمْنَعَ بِه الكلأُ" يقتضي النَّهيَ عن الذَّرَائِعِ (¬5). ¬
القضاء في المرفق
القضاء في المَرْفِق قال الإمام: حديثُ عَمرِو بْنِ يَحيَى المَازِنِيّ، عَنْ أَبِيه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" (¬1) والحديث صحيحُ الإسنادِ (¬2). قال الإمام: وما يطابق هذا قوله -عليه السّلام-: "لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ (¬3). عربية: قال علماؤنا (¬4): "الضَّرَرُ في الإعراب: الاسمُ، والضِّرار: الفعلُ". وإن كانوا قد اختلفوا في تأويله: فمنهم من قال: إنّهما بمعنىً واحدٍ. ومنهم من غاير بينهما، وصَوَّرَ للمُغَايرةِ صُورًا منها: ألَّا تضرّ صاحبك بما ينفعك، أو لا تمنعه ما لا يضرّك وينفعه. وتقدير آخر معناه: إنّه لا يدخل على أحدٍ من أحدٍ ضررٌ وإن لم يعمد إدخاله عليه. وقيل: قوله "لا ضرَرَ" يقول ألّا يضارٌ أحدٌ بأحدٍ. وقيل: الضَّرَرُ والضِّرارُ كلّه واحدٌ، وإنّما ردَّدَها على معنى التّأكيد في المنع عنها، وقد تأخذها تصاريف الإعراب. ¬
الأصول (¬1): قوله: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسِهِ" وليس هذا من شروط الإيمان الأصلّيّةِ، وإنّما هو من الكمال والتّمام، ومن الأفعال الّتي شُرِعَت لتقوية العقيدة، فإذا عرضَ أمرٌ فيه رِفقٌ لِجَاركَ ومنفعةٌ، أو لرفيقِكَ في السَّفَرِ، أو لمُسلمٍ يَرِدُ عليك، ليس عليك من ذلك ضَرَرٌ. واختلف قولُ مالك هل يَلزَمُهُ أنّ يفعَلَهُ أم لا؟ واختلف العلماء كاختلافه، والذي أراه وجوبُ ذلك؛ لأنّ منعَهُ إيَّاهُ ممّا ينتفِعُ به إضرارٌ به، والنَّبي -عليه السّلام- قد قال: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" وقد أجمعتِ الأُمَّةُ على صحةِ هذا الحديث، وإن كانوا قد اختلفوا في معناه. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ" قال علماؤنا: قد يدخلُ في هذا الحديثِ وجوهٌ من الضّرَرِ، مثل ما يُحدثُه الرَّجُل في عَرصَتِهِ من بناء حمّامٍ، أو فُرن، أو دُخَّانٍ، أو كِيرٍ لعَمَلِ الحديد، أو رَحًى، وهو ممّا يضرُّ بالجيران. وغبارُ (¬3) الأنادِرِ ونَتْنُ دِبَاغِ الدَّبَّاغِينَ، فذلك من الضَّرَرِ، والحُكمُ فيه أنّ يقالَ لأهله: احتالوا في الدّخان والغُبارِ ونَتنِ الدَّبَّاغِينَ؛ لأنّه يضرُّ بمَنْ جاوَرَهُ، وإلَّا فاقطعوه. وسواء كان ذلك قديمًا أو محدثًا؛ لأنّ الضَّرَرَ لا يُستحَقُّ بالقِدَمِ (¬4). ¬
وقد (¬1) قال ابنُ القاسم عن مالك في "المجموعة": "لهم منعه، وقاله في الدّخان في الفرن والحمام، وهو من الضَّرَرِ الكثير المستدام، يُمْنَعُ إحداثُه على مَنْ يستضرّ به. أمّا "الرَّحَا": فضَرَرُهُ أمران: أحدُهما: إفسادُ الجِدَارَاتِ. والثّاني: صوتُها. فأمّا إفساد الجدارات، فإن ثبت ذلك فإنّه من الضَّرَرِ الّذي يمنع. وأمّا صوتها؛ فإنّه أيضًا مُضِرٌّ، ولا سيّما إذا كان الصّوت شديدًا فإنّه ضَرَرٌ يمنع. وأمّا "الدّباَغ": فإنّه يؤذي بنَتنِ دِباغِه، فروي (¬2) عن مُطَرِّف وابنِ الماجِشُون: أنّه يمنع منه، والفرق بينه وبين الصّوت على أصلهما، أنّ هذا ضَررٌ قديمٌ فوجب أنّ يمنع منه. مسألة (¬3): ومن كان له أندر إلى جانب جِنَان رَجُل يضرُّ به تِبْنه (¬4). ومن رفع جدارًا يمنع جاره من ضوء الشّمس ومهبّ الرِّياح، فقد قال ابن نافع ¬
عن مالك في "المجموعة": لا يمنع من ذلك، وهو في "كتابُ البنيان" من رواية ابن القاسم عن مالك. وقال ابن كنانة: إلّا أنّ يفعل ذلك ليضرّ بجاره دون منفعة له فإنّه يمنع. مسألة (¬1): ومن كانت له أرضٌ ملاصقة أندر، فأراد أنّ يبني فيها ما يمنع الرِّيح عن الأندر، قال ابن حبيب عن مُطَرِّف وابنِ الماجِشُون: لا يمنع. ورَوَى يحيى عن ابنِ القاسم؛ أنّه يمنع ما يضرّ بجاره في قطع مرافق الأندر القديم. وقال ابنُ نَافِع: ليس له أنّ يحدث بقربها ما يضرّ به (¬2) وإن احتاج إلى البنيان؛ لأنّه قال: "لَا ضرَرَ وَلا ضِرارَ". فرع (¬3): ومن اتّخذ كُوًى يُشرف منها على دار جاره، فقد قال ابنُ القاسم ومالك: يمنع. قال مالك: وذلك إذا كان يناله بالنظر. وقال ابنُ القاسم (¬4): إنَّ كانت من كُوَى السَّقف لاحقة به لايطلع منها لم يمنع من ذلك. فأمّا ما يطلع منه فإنّه يمنع. فرع (¬5): ولا يخلو أنّ يكون الضرر ممّا يتزايد أو لا يتزايد. ¬
قال ابن مُزَين (¬1): ما كان من الضَّرَرِ بأيّ على حالٍ واحدةٍ كفتح الأبواب وشبهه، فإنّه يستفتحه من أَحْدَثَه بطُول الزَّمان. قلنا: وهذا كلّه في الضّرورة، وأمّا العام فمثل تضييق الطّريق وما جَرَى مجراه، فهذا يمنع منه. وأمّا إخراج العساكر والأجنحة على الحيطان إلى الطّرق، فقد رَوَى ابنُ القاسم عن مالك؛ أنّه لا بأس بذلك. حديث أَبِي هُرَيْرَةَ (¬2)؛ أَنّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَمنَعُ أَحَدُكُم جَارَهُ خَشَبَةً يَغرِزُهَا في جِدَارِهِ" ثُمَّ قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَراكُمْ عَنْها مُعرِضِينَ، والله لأَرمِيَنَّ بِها بَينَ أَكتَافِكُم. الإسناد (¬3): قال الإمام: خرَّجَهُ التّرمذيّ (¬4)، عن أبِي هريرة أيضًا؛ أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا استَأذَنَ أَحدكُم جَارهُ أنّ يَغرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ فَلَا يَمنَعنهُ" فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيرَةَ طَأطَؤُا رُؤُسَهُم، فَقالَ: مَالِي أَراكُم عَنْهَا مُعرِضِين ... الحديث. وهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ (¬5). وفيه فائدتان: إحداهما: أنّ اللّيث رواه عن مالك (¬6)، وهي رواية النّظير عن النّظير. ¬
الفائدةُ الثّانية: أنّه روي "بَينَ أَكنَافِكُمْ" بالنوّن والتّاء، والصّحيح التّاء (¬1)؛ لأنّه لمّا أخبرهم بها أعرضوا عنه وتولّوا مُدْبِرِينَ، فقال لهم: إنِّي أرمي بها بين أكتافكم، أي: في ظهوركم كما رميت بها في وجوهكم. نكنة في الإسناد (¬2): وهو أنّ يونس بن عبد الأعلى سأل ابن وهب، كيف يروي هذا الحديث "خَشَبَة" بحال الإفراد. أو خَشَب على الجمع؟ قال: الّذي سمعتُ من جماعةٍ: خَشَبَة على لفظ الواحد، وهو الصّحيح؛ لأنّ وضع خشبة واحدة مرفق .. وهو الّذي يحتاج إليه السّائل. وأمّا خُشْبٌ؛ فهو زيادةٌ واستكثارٌ يُوجبُ له استحقاق الحائط ويشهد له وضع الخَشَبِ لذلك، فلم يكن داخلًا في الحديث ولا مندوبًا إليه. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلف العلّماءُ في هذا الحديث، فجوَّزَهُ الشّافعيّ (¬4) في أحَدِ قولَيْه، وقال: له أنّ يضع خشبة على جدار جارِهِ. وزاد أحمد بن حنبل (¬5) ويقضي عليه بذلك، لقوله -عليه السّلام-: "فَلَا يَمْنَعْهُ" فهذا نهيٌ ومقتضى الأصل (¬6) التّحريم. قلنا: هو محمولٌ على النَّدْبِ في الإِذن في ذلك، *والكراهة إذا منع لمّا للجار من المحافظة وحرمة* التّوسعة فيما يعرض من حاجة، فيجتهد لجاره في ذلك. وقد ¬
جاء هذا اللّفظ في هذا الحديث على النَّدبِ في الشّريعة فلا يُنكَر. المسألة الثّانية (¬1): اختلف قولُ مالك فيه، والمشهور عندنا وعندهم أنّ ذلك على الاستحباب؛ لأنّ الأُمَّةَ أجمعَت على أنّ من اختصّ بحقٍّ لا يلزمه أنّ يعطيَهُ لغيره وإن لم يضرّ به، فكيف ووضع الخشَبَةِ على الجدار يضرّ بصاحب الجدار. وقال ابنُ نافِع عن مالك (¬2): إنَّ ذلك على وجه المعروف (¬3) والتَّرغيبِ في الوصيَّة بالجار ولا يُقضَى به، وقد كان ابن المطَّلِب (¬4) يقضي به عندنا، وما أراه إلّا دَلالة على المعروف، وإنِّي منه لفي شكٍّ (¬5). وروى ابن وهب عنه (¬6) أنّه أمرٌ رغّب فيه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-. وقال ابنُ القاسم: لا ينبغي أنّ يمنعه ولا يقضي به عليه، وهذا على ما قال، إلّا أنّ ظاهر الأمرِ عند مالكٍ وأكثر أصحابه يقتضي الوجوب، لكنّه يعدل عنه بالدّليل، ¬
وبهذا قال أبو حنيفة (¬1). وقال الشّافعيّ: هو على الوجوب إذا لم يضرّ بجداره، وبه قال ابن حنبل. ودليلُنا: أنّ الجدار ملك موضُوعُه المُشاحّة، فجاز له أنّ يمنعه (¬2)، كركوب دابّته ولباس ثوبه. حديث عَمرٍو بن يَحيى المَازنيّ (¬3)، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ الضَّحَّاكَ بنَ خَلِيفَةَ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَلِيجًا مِنَ العُرَيضِ، فَأَرَادَ أَنْ يَمرَّ بِهِ في أَرضِ محَمَّدِ بن مَسلَمَة، فأَبَى مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: لَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لِمَ تَمنَعُ أَخَاكَ ما يَنفعُهُ؟ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ تَسقِي بِه أَوَّلَا وآخِرًا، وهُوَ لَا يَضُرُّكَ. فَقَالَ مُحَمّدٌ: لَا، وَاللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللِه لَيَمُرَّن بِهِ وَلَو عَلَى بَطْنِكَ. فَأمَرَهُ عُمَرُ أنّ يُمِرَّ بِهِ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ. عربيّة: قولُه:؛ "خَلِيجًا" الخليجُ: النّهرُ الصّغير (¬4). وقال النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- حين انصرف من قراءته: "أَيُّكُم خَالَجَنِيهَا" (¬5) فالخَلْجُ؛ الجَذبُ، يقال: خَلَجتَ الشَّيءَ وأَخلَجْتَهُ، أي: جَذَبتَه إليك، ومنه الخليجُ من النّهر كأنّه جُذِبَ منه، والرّبيعُ: السّاقية. الفوائد: وهي ثلاث الأولى (¬6): فيه: مراجعةُ الخَصم الإمامَ ومراجعةُ الإمامِ الخَصْمَ فيما يحتمل به التّأويل، وانقياد الخَصم عند عزم الإمام الأَعدل. ¬
القضاء في قسم الأموال
الثّانية (¬1). فيه: أنّ الأَيمَان تُصْرَفُ في القول إلى المعنى وإن كانت خلاف اللّفظِ، وأنّ التّأكيد في القول بلفظٍ فيه بأكثر من الحقيقة، لقوله: "وَالله لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَو عَلَى بَطنِكَ". وروى زياد عن مالك أنّ يقضي بالحديثين: حديث محمَّد بن مَسلَمَةَ، وحديث عبد الرّحمن بن عَوف، إذا لم يضرّ به، وإن أضرّ به فليمنع. قال ابنُ نافع: وهذا فيما يُرادُ تحويله، وأمّا ما يبدل عمله فليس ذلك له. القضاءُ في قَسْمِ الأموال مالِكٌ (¬2)، عَن ثَورِ بن زَيدٍ الدِّيليِّ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "أَيَّمَا دَارٍ أَو أَرضٍ قُسِمَت فِي الجَاهِلِيّةِ، فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الجَاهِلِيّةِ. وَأَيُّما دَارٍ أَو أَرضٍ أَدْرَكَهَا الإِسلَامُ وَلَمْ تُقسَم فَهِي عَلَى قَسْمِ الإِسلَامِ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ بَلَاغٌ (¬3)، ويتَّصلُ سَنَدُه من طُرُقٍ (¬4). الأصول (¬5): إنَّ الله سبحانه وله الحُكمُ، لمّا خَلَقَ لنا ما في الأرض جميعًا، وأَنشَأَنَا بصفةِ التّشَاحِّ وطلبِ الاستيثارِ، شَرَعَ اختصاصَ المَالِكِ بالأملاك؛ لأنّ الله تعالى شَرَعَ ¬
القسمَةَ تمييزًا للحقوق المُشتَرَكَةِ، حتّى تعودَ إلى القِسمةِ بالاختصاصِ المذكورِ. وقد قال تعالى في القِسْمَة في عارِضِ الاشتراكِ: {وإذا حضر القمسةَ أولو القربي} الآية (¬1). 1 - وأمّا أحاديثُها فهي قليلةٌ في الصّحيح، والصّحيحُ منها أربعة: الأوّل: حديث عُقبَة بن عَامِر؛ حيث أَمَرَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يَقسِمَ غَنَمًا بين أصحابه، فَبَقِيَ منها عَتُودٌ، فقال: "ضَحِّ بِهِ أَنْتَ" (¬2). الحديث الثّاني: قولُه في الصّحيح: "الشُّفعَةُ فِيمَا لَمْ يُقسَم" (¬3). الحديث الثّالث: منها قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالمُدَاهِنِ فِيهَا كَمَثَلِ قومٍ كانُوا في سَفِينَةٍ فَاستَهَمُوا عَلَى أَعلَاها وَأَسفَلِهَا" الحديث إلى آخره (¬4). الحديث الرّابع: ومن المشهور فيها حديثُ عِمْرَانَ بنِ حُصينٍ؛ أنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعبُدِ في مَرَضِهِ لَا مَالَ لهُ غَيرهُم، فَأَقرَعَ النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بَينَهُم. الحديث إلى آخره (¬5). 2 - القاعدةُ الثّانية (¬6): في كيفيتها: أمّا كيفيّةُ القِسمَةِ، فليس فيها أَثَرٌ، وإنّما سبيلُها النَّظَرُ، وُكِّلَت إليه وعُصِبَت به؛ لأنّ المطلوبَ فيها تمييزُ الحقِّ، والمَخُوفُ منها ثلاثةُ أشياءَ: 1 - الغَرَرُ. 2 - والرِّبا. 3 - وأكلُ المال بالباطل. فميِّزِ الحقوقَ إنَّ أردتَ القِسمَة، وخَلصها من هذه العَوَارِضِ الثّلاثة إنَّ أَردتَ أن تكون واقعةً على وَفْقِ الشَّرعِ، وعلى هذه الأصولِ تُبنَى مسائلُ القسمةِ كلُّها، وهي على وجهين: ¬
أحدُهما: أنّ تكونَ بالتّراضِي، بأن يقول أحدُهما للآخر: خُذ أنت هذه العينَ، وآخُذُ أنا هذه الأخرى. الثّاني: أنّ يُقوَّم المُشتَرَكُ قيمةَ تحرير وتعديل، ثمّ يُقَرَّرَ على الأجزاء ويُعَدَّدَ على الأقلِّ من السِّهامِ، ثمّ يُقتَرَعَ عليها على صفةٍ تُؤمَنُ فيها الحِيلَةُ والانخداعُ، بأن يُكتَبَ اسمُ المشتركين في الرِّقَاع، ثمّ تُطلَى بطين أو قارٍ أو شَمعٍ، ثمّ يَجعَلَهَا من لا يَدرِيَها على الأعيان. فمن وقَعَ على شيءٍ منها اسمُهُ فهو سَهمُهُ. وعرضت ههنا مسألةٌ بديعةٌ، وهي: أنّ علماءنا قالوا: إذا وقع في قسمة التَّراضِي غَبنٌ، لم يكن فيه رجوعٌ، ولو وقع الغَبْنُ في قسمة التّقويم والاقتراع، لوجَبَ الارتجاعُ، بناءًا على أنّ القسمةَ هل هي تمييزُ حق أو عَقدُ بَيعٍ؟ فإذا قلنا: إنّها بَيْعٌ، فالغَبنُ في البَيع لا يُوجِبُ الرُّجوعَ، فكيف وجَبَ في القسمةِ؟ فتبيَّنَ أنّها لا تكون بَيعًا بحالٍ. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "قُسِمَت في الجَاهِلِيّةِ" قال ابنُ وهب وابنُ القاسمِ (¬3) عن مالكٍ: إنَّ ذلك في مشركي العرب والمجوس فقط، فأمّا اليهودُ والنّصارى فهم على قسمتهم، ¬
وإن أسلموا كلّهم قبل القسم. والرواية الثّانية (¬1): رَوَى مُطَرِّف وابن المَاجِشُون وابن نَافِع وأَشهَب عن مالك؛ أنّ ذلك في مشركي العرب والمجوس واليهود والنّصارى وجميع المِلَل، وهو الصّحيح عندي (¬2). المسألة الثّانية (¬3): اختلف علماؤنا في القِسمَة، هل هي بَيعٌ أو تميِيزُ حقٍّ؟ ولأصحابنا مسائل تقتضي كِلَا القولَيْن، ونحن نُنبِّهُ عليها عند ذِكرِها إنَّ شاء الله. وقد قال مالك في "المدوّنة" (¬4): القِسمَةُ بَيعٌ من البيوع (¬5). وأمّا من قال: إنها تمييزٌ حقّ، وذلك أنّه غير موقوفٍ على اختِيارِ المتقاسمَين، بل قد يجوز فيه المُخَاطرة بالقُرعة، وذلك يُنافي البَيع كما قدّمناه. المسألة الثّالثة (¬6): ومن فروع القسمة المحتمل فيها ترك المَرَافِق من الأفنية والطُّرق، وقد بوّب على هذا مالك في الباب المتقدِّم قبل هذا، ولكنه ذكر بعض المرافق العامّة وأغفل المرافق الخاصّة، كالجلوس على الصّعدات، وصبّ الأقذار في الطُّرقات. فأمّا الجلوس على الصّعدات، فجائزٌ بأداء حقِّها من غَضِّ البَصَر وإرشاد الضَّال ونَصرِ المظلوم، وما يعرض لمن يعرِض ذلك من الحقوق. ¬
وأمّا صبّ الأقذار في الطُّرُقات، فلا يجوز على الإطلاق؛ لأنّ في ذلك إذاية المسلمين، وإماطةُ الأذَى عن الطريق صَدَقَةٌ، وقد بيّنّا ذلك في موضعه من "المسائل" و"شرح الحديث"، إِلَّا إذا كانت ضرورة عامّة، كخمر يَتَعَيَّن كسرها حتّى تجري في السكك، كما ورد في الحديث (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): ومن القول في المرافق مسألة السّفينة إذا غلب الهَولُ عليها، فاحتاجوا إلى التّخفيف عنها، فاتّفقت الأُمَّةُ على وجوب التّخفيف والانتفاع بما يُطرَح فيما بَقِيَ، واختلفوا بعد ذلك في تفاصيل (¬3)، منها: دخولُ السّفينة وآلاتها في الحِصَاصِ ورجالات المراكب والعبيد الرّاكبين عليها. وانتهى النظر إلى نازلةٍ عظيمةٍ، وهي: إذا عَلِم الأحرارُ من أهل السّفينة؛ أنّ بقاء جميعهم مُهلِك، وأن خلوصَ بعضهم مُتَيَقِّنٌ، فَنَسَبَ الخُرَاسَانيّون الحَنَفِيُّون والشّافعيّون إلى مالك: أنّ هلاكَ بعض الأُمَّة في الاستصلاحِ واجبٌ، ونراه بريءٌ من ذلك، وإنّما سمعوا من قوله اعتبار المصلحة فاعتبروها بزعمهم حتّى بَلَغُوا بها إلى هذا الحدّ. وكان من حقهم لجلالة أقدارهم في العلم وَسَعَةِ حفظهم ودِقَّةِ فهمهم أنّ يتفطّنوا لمقصدِه بالمصلحة، وأن يجروها مجراها وأن ينتهوا بها حيث انتهت. وليس بين الأُمَّةِ خلاف في هذه المسألة أنّهم يَصبِرُون لقضاء الله حتّى ينفد حكمه فيهم. ويترتّب على هذا مسائل مشكلة بيانُها في "كتب المسائل" و "الأصول" فعليكم بها، والله المُوفق للصواب. ¬
القضاء في الضواري والحريسة
القضاءُ في الضّواري والحريسة فيه حديثُ حَرَامِ بنِ سَعدِ بن مُحَيِّصَةَ (¬1)؛ أَنَّ نَاقَةً لِلبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ دَخَلَت حَائِطًا لرَّجُلِ فَأَفْسَدَت فِيه، فقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّ عَلَى أَهلِ الحَوائِطِ حِفظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أفسدَتِ المَوَاشِي بِاللَّيلِ ضَمانٌ عَلَى أَهلِهَا. الإسناد: قال الإمام: حديثُ البَرَاءِ بن عَازِب حديثٌ مُرسَلٌ (¬2)، أَرسلَهُ مالك عن حَرَام بن مُحَيِّصَةَ، والحديثُ مُسنَدٌ عن حَرَام من طُرُقٍ عن حَرَام بن مُحَيِّصَة، عن أبيه مُحَيِّصَةَ؛ أنّ ناقةَ البَراءِ. الحديث (¬3). العربيّة والتّرجمة (¬4): قوله: "وَالضَّوَارِي" يريد المعتادة للإذاية. وأمّا قوله: "الحَرِيسَة" فَيحتَمِلُ أنّ يريد الّتي تُحرَسُ ويكون معها حافظُها، ويَحتمِلُ أنّ تكون: حريسة، أي: يُحتَرَسُ منها. الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬5): اختلف علماؤنا في هذا الحديث، فقال أبو حنيفةَ (¬6): لا ضَمَانَ على أرباب الماشيةِ ¬
فيما نَفَشَت فيه لَيلًا ولا نهارًا، لقول النّبيّ صلّى اللهُ عليه وسلم: "جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبارٌ" (¬1). وما قلناهُ أصحُّ (¬2)؛ لحديث البَرَاءِ، وهو خاصٌّ يقضي على ذلك العامِّ، كما قَضَى على خُصُوصَةِ السَّوقِ والقَودِ والرُّكُوبِ. وبحديث البَراء أخذَ مالكٌ أنّ على أرباب المَوَاشي ما أفسدت باللّيل، قَلَّ ذلك أو كَثُرَ، وإن بلغَ ذلك أضعاف قيمة الموَاشي لِرَبِّها لَمَّا لم يمنعها ولم يحفظها، فكأنّه هو الجاني الّذي جَنَى. وقالت (¬3) الحنفية: لا ضَمَانَ، لقوله: "جُرحُ العَجمَاءِ جُبَارٌ" واعتلُّوا أنّ الحديثَ مُرْسَلٌ. والذي يدلُّ على صحّة الحديث، قولُه تعالى في قصة سليمان وداود حيث حَكَى الله عنهما حيث يقول: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} الآية (¬4)، والنَّفْشُ لا يكون إِلَّا باللّيل (¬5). المسألة الثّانية (¬6): واختلف علماؤنا في فرع مُتَرَكِّبٍ على هذه المسألة، وهو إذا نَفَشَتْ في زرعٍ مُخظَرٍ أو مُطلَقٍ، فمنهم من قال: إنّما يكون الضّمانُ إذا كان الزّرعُ مُحظَرًا، ونزع في ذلك بنكتةٍ بديعةٍ وهو قوله: "نَاقَة لِلبَرَاءِ بن عَازِبٍ دَخَلَت حَائِطَ رَجُلٍ" والحائطُ إنّما ¬
يكونُ مُحْظَرًا، ولَعَمرِي إنّه لمتعلِّقٌ، إِلَّا أنّه فاته أنّ يمشِيَ إلى آخر الحديث فَيَظَهَرَ له البَحِيثُ، وهو قولُه: فَقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - عَلَى أَربَابِ المَوَاشِي. إلى آخره. المسألة الثّالثة (¬1): قال علماؤنا: إنَّ قولَهُ تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} الآية (¬2)، وقالوا: إنَّ قضاءَ سليمانَ النّبيَّ كان فيه التّفهيمُ، ووقع به التّصويبُ، على مِثلِ قضاءِ النّبيِّ في حديث البَرَاء: "أَنَّ علَى أَهلِ الحَوَائِطِ حِفظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفسَدَتِ المَوَاشِي بِاللَّيلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذلِكَ". فأمّا قصّةُ سليمانَ على الجُملَةِ، فإنّ ما ذَكرَ الله منها مقطوعٌ به، وكيفيّةُ قضاءِ سليمانَ لا تُعلَمُ أَبّدًا؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يَبلُغنَا عنه فيه شيءٌ، وطريقُ كَعبٍ ومحمّدِ بنِ كعبٍ ووَهبٍ بن مُنَبِّهٍ لا عِلمَ فيها ولا اهتداءَ، وعليهم عَوَّلَ المفسِّرون، فسَوَّدُوا القراطيسّ بما لا تقُومُ به حُجَّةٌ. ويكفينا قولُ النّبيِّ -عليه السّلام- للسُّلوك مَحَجَّةً، ومن أراد الشِّفاءَ من قصّة سليمانَ وحُكمِ دَاوُدَ، فعليه بالكتاب الكبير. المسألة الرّابعة (¬3): واختلف علماؤنا هل هذا الّذي قَضَى به النّبيُّ في حديث البَرَاء حُكمٌ مبتدأٌ في الشَّرع، أو هو مبنيٌّ على عادةِ النَّاس؟ فإن كان ذلك حُكمًا مبتدأً في الشَّرعِ، فهو كما وَرَدَ. وإن كان مبنيًّا على عادةِ النَّاس، فإنّ أربابَ المواشي بالنَّهار معَها، فهم يتولَّونَ حِفظَها. فعلى هذا إنَّ وُجِدَ خِلَافَ العادةِ بأن يُهمِلُونَها أو يكونوا معها وَيغفُلُوا عنها، فإنّ الضّمانَ واجبٌ عليهم؛ لأنّ محلّ الحُكم قد عُدِمَ حَسَبَ ما رتَّبَهُ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -. ومنَ العلماء من جعل حمامَ الأبراجِ والنَّحْلِ من الضَّوَاري. ¬
القضاء فيمن أصاب شيئا من البهائم
القضاء فيمن أصاب شيئًا من البهائم قال الإمام: قد تقدَّم الكلامُ في ذلك في باب استهلاك الحيوان، إِلَّا أنّ التّرمذيّ (¬1) خرّج حديثًا عن عِكرِمَة عنِ ابنِ عبّاسٍ، أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَجَدتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهيمَةٍ فَاقتُلُوه وَاقتُلُوا البَهِيمَةَ" وذُكِرَ أنّه قال: "مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيهِ" (¬2) وهذا أصحّ من الأوّل (¬3)، والبابُ ضعيفٌ. الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬4): اختلف النَّاس في هذا الحديث على خمسةِ أقوالٍ: الأوّل: أنّه يقتل مَنْ أنّ البهيمة مُتعَمِّدًا، إِلَّا أنّ يَدرَأ الإمام، أو يرى زوال القتل عنه فليحدّه حدَ الزِّنا، قاله إسحاق بن راهويه. الثّاني: إنَّ كان بكرًا جُلِدَ، وإن كان مُحصَنًا رُجِم، وهذا قول الشّافعيّ، وقاله الحسن (¬5). الثّالث: يُجلَد مئة بكرًا كان أو ثيِّبًا، قاله الزّهريُّ (¬6). الرّابع: يُعَزَّر، قاله النّخعيّ، ومالك، والثّوريّ، وأحمد (¬7)، وعطاء، وهو أحد أقوال الشّافعيّ (¬8). ¬
* الخامس: أنّه يقتل بكرًا كان أو ثيِّبًا من غير تفصيل، قاله الشّافعيّ أيضًا*. قال الإمام: المسألة تنبني على أصلّين: أحدهما -وهو الأقوى-: ضعف الحديث. الثّاني: أنّ هذا الفعل ليس بزنى ولا مِنْ جنسه. والدّليل عليه: ثلاثة مسائل: إحداها: أنّه عمل لا يتعلّق به تكليف فلم يتعلّق للحكم حدٌّ. ثانيها: أنّه لا يسمّى زنى، فلا يتعلّق به قذف. ثالثها: أمّا البهيمة فلا تقتل بحالٍ، وقال الإسفرايني: إذا كانت ممّا تُؤكَل ذُبِحت قولًا واحدًا عندهم، وإن كانت ممّا لا تُؤكَل فقولان لهم فيها، وقد ثبت أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن ذبح الحيوان إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ؛ لأنّها لا تكليف عليها فلا عقوبة لها. ويجوز إن ذُبِحَت أنّ تُؤكل. المسألة الثّانية (¬1). قوله (¬2): "في الجَمَلِ يَصُولُ عَلى الرَّجُلِ" وهو كما قال، أنّ من صالَ عليه جمل أو دابّة فقتلها، أو قامت له بيِّنة بأنّه دفعها عن نفسه، فلا ضمان عليه، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفة والثوري: هو ضامِنٌ (¬4). ودليلنا: أنّه من قتل تخوّفًا على نفسه دفعًا له عنها، فلا ضمان عليه فيه، كالعبد ¬
القضاء فيما يعطى العمال
يريد قتل الحرّ فيقتله الحرّ دَفعا له عن نفسه، فإنّه لا شيءَ عليه من قيمته. والفروع فيه كثيرة جدًّا. القضاء فيما يُعطى العُمَّال الأصول (¬1): قال الإمام: هذه مسألةٌ اختلف العلّماءُ فيها، فقال أبو حنيفة (¬2) ومالك: يضمَنُونَ إذا كانوا مُشتَرِكين. وقال الشّافعيّ: لا ضَمَانَ عليهم (¬3)، على أصله الّذي مهَّدَهُ بزعمِه، وهو أنّ ما قُبِضَ بإذن المالِكِ لا ضَمَانَ فيه، على تفصيل قّرَّرناه في "مسائل الخلاف". ومُعَوَّلُ أبي حنيفة على معانٍ لا تقومُ على ساقٍ، وعمدتُهم على المصلحة الّتي مهدناها، فإنَّ الصُنَّاع لو علموا أنّ الضّمان ساقطٌ عنهم، لادَّعوا التَّلَفَ وتَلِفَت أموالُ النَّاس، فَقَوِيَتِ التُّهمةُ وتعيَّنَتِ المصلحةُ، فوجبَ الضّمانُ، وترَكَّبَ على هذا عند بعض علمائنا دُرْجُ الصَّائغِ وغاشيةُ الحائِطِ وغيره. الفروع وهي عشرة: الفرع الأوّل (¬4): قولُه (¬5): "فِيمَن دَفَعَ إلَى غَسَّال ثَوبًا" هذا على ما قال، إذا دفع إليه ثوبًا في مَصبَغَتِه، وأنكر صاحبه أنّ يكون أمره بذلك الصَّبغ، فالقولُ قول الغسّال. وهذا ظاهر لفظ "الكتاب" (¬6) إِلَّا أنّ صاحب الثّوب قد ينكر على وجهين: ¬
أحدها: أنّ يقول: أمرتك أنّ تصبُغَه. والثّاني أنّ يقول: لم آمرك. فهذا قال: أمرتك، فإنّه أيضًا على قسمين: أحدهما: أنّ يقول: أمرتك بغير هذا الصَّبغ. والثّاني: أنّ يقول: أمرتك به، واختلفا في القَدرِ، فإن قال: أمرتك بغيره، فإن لم يكن لواحد منهما بَيِّنَة، فلا يخلو أنّ يكون قبل العمل أو بعده، فإن كان قبله، فقد قال محمّد: يتحالفان ويتفاسخان (¬1). فرع (¬2): فإن تَحَالَفَا بعد العمل، فالقولُ قول الصّبّاغ، وكذلك سائر الصُّنَّاع فيما يحوزه الصّانع بالفَوتِ، ولما له فيها من العمل بوجه حقِّ. وقال أبو حنيفة (¬3) والشّافعيّ: القولُ قول صاحب الثّوب. ووجه قول مالكٍ: أنّ الصّانع حائز للثّوب فلا يستحقّ أخذه منه إِلَّا بعد أداء ماله فيه، وصاحبه مُدَّع لأخذ ما في يده من الثّوب والصَّبغ على غير الوَجهِ الّذي يُقِرُّ بِهِ الصَّبَّاغُ، فكان القول قوله. الفرع الثّالث (¬4): رَوَى عيسى عن ابن القاسم عنه (¬5) في الحائك يقول: أمرتني أنّ أَنْسِج لك سبعًا في ثلاث، ويقول صاحبه: بل سَبعًا في أربع، أنّ الحائك مُصَدَّقٌ مع يمينه. ¬
ولو شرط الصانع إِلَّا ضمان عليه، ففي "العُتبية" (¬1) و"الموازية" عن أَشهَب عن مالك: لا ينفعه (¬2)، وقال أشهب: إِلَّا أنّ ذلك ينفعه (¬3). الفرع الرّابع (¬4): وإذا أفسد القصّارُ أو الخيّاط الثّوب فسادًا يسيرًا، فقد قال مالك (¬5): عليه ما نقصه بعد أنّ يرفأه، يقال: ما قيمتُه يوم دفعه صحيحًا، وقيمته مرفوءًا ذلك اليوم؟ ويلزمه ما بين ذلك، وإن كان كثيرًا ضَمِنَ قيمته يوم دفعه إليه. ورَوَى ابن وَهب عنه (¬6)؛ أنّه إذا أفسدَهُ بخياطةٍ، فله أنّ يضمنه قيمته صحيحًا. فرع (¬7): وقال مالك في "الموّازية": لا يضمن من دفعت إليه لؤلؤة ليثقبها إذا كَسَرها، وكذلك البَيْطار يسرج الدّابّة، والسِّيفُ يُقَوِّمُه الصَّيْقَلُ (¬8) فينكسر ذلك كلّه، والمريض يُسقَى الدَّواء أو يَكوِيهِ الطّبيب فيموت، أو الخَاتِنُ يموت الصَبّي من خِتَانَتِهِ، أو الحَجَّام يقلع الضّرس فيموت صاحبها، فلا ضمان على أحدٍ منهم. والفرقُ بين هذا وبين ما تقدّم، ما قال ابن حبيب: أنّ الغالب في هذا الغَرَر، فإذا أَذِن صاحبه في ذلك وعَمِل على ما جرتِ العادةُ به، فقد عرضه لما حدث عليه، فلا ¬
ضمانَ على الصانع، وإنّما يضمن بالتَّعدِّي أو بِتَلَفٍ بغير بيِّنَةٍ. فرع (¬1): وقد قال مالك في "الموّازية" و "المُدَوّنة" (¬2) في الفَرَّان يحرق الخبزَ أنّه لا يضمن ما أحرق؛ لأنّه ليس من سببه وهو من غَلَبة النّار، إِلَّا أنّ يَغِرَ من نفسه أو يُفَرِّط (¬3). وإذا ادّعى الفَرَّانُ احتراقَ الخبز أو الغَزلِ بغَلَبَةِ النّار، فقد رَوَى ابن حبيب أنّه قال: إنّما يسقط الضّمان عليه إذا بَقِيَ من الخبز أو الغَزلِ ما يعلم به أنّه خبز ذلك الرَّجُل أو غَزْله، فأمّا لو ذهب أصلًا ولم يُعرَف إِلَّا بقوله ضَمِنَ. ووجه ذلك: أنّه ادَّعَى ضَيَاعًا غير معلومٍ، فهو عندي على وجه الضَّمان فلا يُصَدَّق فيه. وأمّا إذا كان الخبز باقيًا فهو مُصَدَّقٌ في أنّه غَلَبَتْهُ النّار وصاحبه مدَّع التَّعدِّي، قاله أَصبَغ في "العُتبيَّة" (¬4). فرع (¬5): ولو تَلِفَ الخبزُ عند الفَرَّان، فقد قال سحنون وغيره: هو ضامنٌ وقد أسلمه إليه صاحبه. قال: ولو تركه صاحبُه ولا يَعْلَم به الفَرَّان فلا ضمانَ. وإذا وجب عليه الضّمانُ يسلمه إليه، ففي "سماع ابن وهب" و "المختصر الكبير": لا يُعجِبني أنّ يُعطيَه غير خبزته وليعطيه مثلها، ولا بأس أنّ يأخذ أصغر منها ولا يأخذ أكبر منها. ¬
فرع (¬1): ولو ادّعى الصّانعُ ذهابَ المَتَاعِ وعُرِفَ أنّ بيته سُرِق لم يُصَدَّق. وكذلك لو احترق بيته وَرُثِيَ الثّوبُ فيه محترقًا. ورَوَى محمّد عن مالك أنّه ضامن. وكذلك الرَّهْنُ، قال محمّد: حتّى يعلم أنّ النّار من غير بيِّنَةٍ، أو سَيلٍ يأتي فيهدِم البيت، فهذا وشبهه يسقط الضّمان. قال الإمام: وهذا الّذي رَوَى محمّد مخالِفٌ لما روى ابن حبيب (¬2) في قَرْض الفأر، ففيه الرّوايتان: الضّمان (¬3)، ونفيه (¬4). فرع آخر (¬5): وأمّا الحائكُ يفسد (¬6)، فإنّه يَغرِمُ الغَزلَ فقط. انفصال (¬7): وهذا حكم الصُّنَّاع، وأمّا الأُجَراء فعلى ضربين: 1 - أُجَراءُ للصُّنَّاع. 2 - أُجَرَاءُ للحفظ والرِّعاية. ¬
فأمّا الأوّل: فالذي رَوَى محمّد عن ابن القاسم؛ أنّ أَجِيرَ القصّار لا يضمن، والقصَّارُ ضامنٌ لما أفسَدَهُ أَجيره، وقاله ابن حبيب. وهذا في الأجير المتصرِّف بين يديه (¬1) بحسب اختياره، وليس بحائز لما يعمله، فأمّا إنَّ حاز ما يعمله ففي "الموّازية" و"العُتبيّة" (¬2) عن أَصْبَغ وأَشهَب: إنَّ كثر على الغَسَّال الثّياب، فآجر أجيرًا يبعثه إلى المُضِيِّ بالثِّياب فيدَّعي تَلَفَها أنّه ضامنٌ، وكذلك أجير الخيّاط يتصرّف بالثِّياب. وأمّا الأُجَرَاءُ للحفظ، فعلى قسمين: قسم لهم تَعَلُّقٌ بالعمل. وقسم لا تَعَلُّقَ لهم به. فأمّا الأوّل. فكصاحب الحمّام يضع عنده الثّياب، فقد قال مالك في "العُتْبيَّة" (¬3) من سماعِ ابنِ القاسم: قد أمرتُ أصحاب السُّوقِ أنّ يضمن أصحاب الحمّامات ثيابَ النَّاس، أو يأتوا بمن يحرسها. وقال ابنُ أبي زَيد في "نوادره" (¬4) بإِثر هذا: وقد قال أيضًا في كتاب آخر: لا يضمنون، وهذا الّذي أشار إليه قد أشار إليه غيره، ولا أعلم أنّهم يشيرون إِلَّا إلى ما في "المُدوَّنة" (¬5) في الجَعْلِ: لا ضمان على من يجلس لحفظ ثياب النَّاس في الحَمام؛ لأنّه بمنزلة الأجير، وهذا الّذي أشار إليه ليس هو ممّا نحن فيه؛ لأنّ أُجَرَاء الصُنَّاع لا يضمنون، وإنّما يضمن الصانع أو من هو في حكمه، وصاحب الحمّام ليس بأجير، إنّما المقصود العمل من المتصرِّف والاغتسال، فهم (¬6) يضمنون على ما جرت به العادة. ¬
فرعٌ (¬1): وقال ابن حبيب (¬2) في الطّحّان يضيع القمح بحضرة صاحبه أنّه لا يضمن ظرفًا (¬3) ولا قمحًا، إِلَّا أنّ يخرج النَّاس عن الرَّحَى .. ، المسألة إلى آخرها (¬4). فرع آخر (¬5): وقال مالك في المستأجر يحرس بيتًا أو خَيلًا أو غَنَمًا فينام فيُسرَق ما في البيت أو تذهب الخيل أو الغنم: إنّه لا ضَمَان عليه، وله أُجرتُه كاملة. وقال ابنُ القاسم: لا يضمن الأجير إِلَّا ما ضَيَّع أو فَرَّط. وقال محمّد: لا يضمن جميع الحُرِّاس إِلَّا بالتَّعدِّي، كان ممّا يُغاب عليه أَو لا، من طعامٍ أو غيره (¬6). فرع (¬7): وأمّا الأجيرُ على البيع والشِّراء، فالّذي نَصَّ عليه علماؤنا؛ أنّه لا ضَمانَ عليه، زاد محمّد: ضاع المَبيع أو ثمنه. ووجه ذلك: أنّه مستحفظٌ لا تعلّقَ له بالعمل، فلم يضمن ما ضاع من غير تعدٍّ كالمُودِعِ. وإذا ضَمِنَ بالتّضييع، فقد قال ابن القاسم: من التّضييع أنّ يترك ما وُكِّلَ به (¬8) ممّا يمكن الاحتراز منه. ¬
فرع آخر (¬1): وأمّا الحارس الّذي لا تعلُّقَ لحراسته (¬2)، فله الأجرُ كاملًا وإن ضاع ما احتفظه. وأمّا حامل المَتَاع أو الطّعام يَهلِكُ في الطّريق بفعله، فلا أَجرةَ له حتّى يبلغه. وكذلك ما يعطب في السُّفُنِ؛ لأنّه من سبب السّفينة يهلك. وأمّا المُستأجر للبَيْع والشِّراء يُتلِف السِّلعَة أو ثمنها، فلا أجرةَ له، قاله محمّد؛ لأنّ هذا من باب الجَعْلِ، فلا جَعلَ له إِلَّا بتمام العمل، وهو أنّ يُوصل إليه ما ابتاع له، أو ثمن ما باع له. فرع آخر (¬3): وفي "العُتبيَّة" (¬4) عن ابنِ القاسم (¬5) فيمن بعث معه بخادم يبلغها، فينام في الطّريق، فذهبت (¬6)، له من الأجر بحسب ما بلغ، ولا ضمان عليه. وقال ابنُ أبي زَيد: يريد أنّها بإجارة وليس بجعل، وقد قال ابنُ القاسم عنه (¬7): إنَّ ماتت في الطّريق فله الأجر كاملًا وعليه أنّ يتمّ له بقيّة سَفَرِهِ. ووجه ذلك: أنّه ما كان من هذا على وجه الجَعلِ فلا أُجرةَ له إِلَّا بتمامه، وما كان على وجه الإجارة فهاهنا اختلف قول مالك، فمرّةً فسخ الإجارة لفَوَاتِ العين، وجعل له من الأَجْرِ بحساب ما عَمِل، ومرّةً أبقاها وجعل له الأجر كاملًا. والفروع هاهنا كثيرة، فركِّب عليها ما شئتَ من "كتب المسائل" إنَّ شاء الله. ¬
القضاء في الحمالة والحول
القضاء في الحمالة والحول الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُه (¬2): "فَأَمَّا الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ لَهُ الرَّجُلُ" هذا على ما قال. والحمالةُ معناها: أنّ يلزم المتحمّل إحضار ما تحمَل به، وهي الكفالة والزّعامة والضّمان. قال عبدُ الوهّاب (¬3): "كلُّ ذلك بمعنىً واحد". وقال في: "المُدَوَّنة" (¬4): إذا قال له: أنا ضامنٌ، أو كفيلٌ، أو حميلٌ، أو زعيمٌ، أو هو لك عندي، أو علَيَّ، أو قبلي، فهو كلّه ضمانٌ لازم في الحقّ والوجه. قال: والأصل في ذلك: قولُه تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬5) وهذا إنَّ استدلّ به على ثبوت هذا الاسم لها من جهة اللُّغة فَبَيَّنٌ، وأمّا إنَّ استدلَّ به على ثبوت حكمها على ما ذكره عبد الوهّاب (¬6)، فإنّما هو على رأي من يقول: شرع من قَبلَنا شرعٌ لنا إِلَّا ما خصَّه الدّليل، وهو المشهور من مذهب مالك (¬7). المسألة الثّانية (¬8): فإذا ثبت هذا، فإنها على وجهين: 1 - حمالة بالوجه. 2 - وحمالة بالمال. ¬
فأمّا "الحمالة بالوجه" فهي جائزة، خلافًا للشافعي. ودليلنا: أنّ المقصود منها المال لأنّه حميل بوجه الغريم ليطالب بالمال، فنقول: إنّه وثيقة يُتَوَصل بها إلى المطالبة بالمال، فصحَّ تعلُّقها بالوجه كالشَّهادة. المسألة الثّالثة (¬1): وهي أيضًا على وجهين: 1 - حمالة بالوجه على الإطلاق. 2 - وحمالة بالوجه على ألَّا شيءَ عليه من المال. فأمّا "الحمالة بالوجه على الإطلاق" فإنْ جاء به (¬2) بَرِىءَ. ووجهه: أنّه قد برئ، وقد وفّاه ما تحمّل له، وهذا ما لم يتعيّن لمجيئه وقتٌ، فمتى جاء به برئَ، وإن ضرب أجلًا بمجيئه فجاء به عند الأجل برىء (¬3)، قاله في "المُدوَّنة" (¬4). ولو تحمل به على أنّ يحضره هو أو وكيله بعد شهر، فأحضره منَ الغَدِ، لم يبرأ حتّى يأتي به عند الأجل (¬5)، رواه أبو زَيد في "العُتبيَّة" (¬6) عن ابن القاسم. قال علماؤنا (¬7): ومن شرط إحضاره أنّ يحضره هو أو وكيله، فإن أحضره أجنبي لم يبرأ بذلك الحميل، قاله في "المُدَوَّنَة" (¬8). ولو مات الغريم لسقطت الحمالة عن الحميل؛ لأنّه إنّما تحمّل للطّالب بإحضار نفسه، ونفسُه قد ذهبت (¬9)، وهذا إنَّ مات ببلد قبل أنّ يلزم الحميل إحضاره قبل أجل ¬
إحضاره أو بعده. المسألة الرّابعة (¬1): وأمّا الضّرب الثّاني وهو: "الحمالة بالوجه على إِلَّا شيءَ عليه من المال" ففي "الموّازية" عن مالك: أنّه إذا شرط في حمالته الوجه ليس من المال في شيءٍ. قال محمّد: أو يقول: لا أضمن لك إِلَّا الوجه، فهذا لا يضمن إِلَّا الوجه، مات أو أفلس، حضر أو غاب. وفائدةُ هذه الحَمَالة يضمن الإحضار خاصّة، أو يكفيه مؤنة طلبه ويُؤمِّنه من مغيبه، فإذا قيّدها بأنّها لا تتعلّق بالمال، لم يلزمه غير ما التزم من الإحضار، وجازت هذه الحمالة في الجملة لتَعَلُّقها بالمال المعلَّق بالذِّمَّة، ولولا أنّ المقصود منها طلب الذِّمَّة لما جازت؛ لأنّ الأعيان لا يصحّ تعلُّق الضّمان بها، كمن ضَمِنَ لرَجُلِ دابّةً معيّنةً أو عبدًا يُحضره، أو ضَمِن من وجب عليه حدٌّ أو تعزيزً؛ لأنّ ذلك الضّمان لا يتعلّق له بالذِّمَّة. فرع (¬2): فإن أحضره (¬3) برىءَ، وإن حان الأجل فلم يحضره، فلا شيءَ عليه إِلَّا إحضاره. وقال مالك: لا شيءَ عليه إِلَّا طلبه. المسألة الخامسة (¬4): وأمّا الحمالة بالمال" فمعناها التزام إيصال المال إلى من تحمل له به، ولا تبرأ بذلك ذمَّة المتحمّل عنه، خلافًا لابن أبي ليلى (¬5). قال عبد الوهّاب (¬6): "لأنّها وثيقةٌ فلم يبرأ بها مَنْ عليه الحقّ كالرَّهْن". فإذا ثبت هذا، ففي الحمالة بالمال ستة فصول: الأوّل: فيما تصحُّ به الحمالة. ¬
الفصل الأول فيما تصح به الحمالة
الثّاني: فيمن تصح الحمالة منه. الثّالث: فيمن لا تصحّ الحمالة عنه. الرّابع: فيما للطّالب من مطالبة الحميل. الخامس: في رفق الطّالب بالحميل أو الغريم. السّادس: في قضاء الحميل عن الغريم. الفصل الأوّل (¬1) فيما تصحّ به الحمالة قال علماؤنا (¬2): إنها تصحّ في المعلوم والمجهول، خلافًا للشّافعيّ في منعها في المجهول. ودليلنا: أنّ هذه وثيقة بحقِّ، فصحّت في المجهول كالشّهادة بالوصية. فإذا ثبت ذلك، فقد قال مالك في "الموّازية" فيمن أوصَى ولده أو غيرهم أنّ يضمنوا عنه دَينَه: فذلك جائزٌ، سماه (¬3) أو لا، والغُرَماء حضورٌ أو غيب، في الصِّحَّة أو المرض. وفي "العُتبِيّة" (¬4) عن ابن القاسم عن مالك فيمن مات وعليه من الدِّين مالا يدري كم هو وترك مالًا (¬5) لم يُحْصَر، فتحمَّل بعض وَرَثَتِه بدَينِه إلى أجلٍ على أنّ يُخَلَّى بينه وبين مالِه. فإن كان فيه فضلٌ (¬6)، كان بينه وبين الوَرَثَة، وإن كان نقصًا فعليه وَحدَهُ، إنَّ ذلك عليه جائز، كان الّذي تحمل به نقدًا أو مؤجَّلًا؛ لأنّه منه معروف (¬7)، ولو كان على أنّ له الفضل وعليه النّقص لم يجز؛ لأنّه بَيعٌ فاسد. فرع: إذا ثبت ذلك، فلو طرأ عليه غريمٌ لم يعلم به الوارث لزمه أنّ يقضيه، ولا ينفعه ¬
الفصل الثاني فيمن تصح الحمالة منه
قوله: لم أعلم، قاله مالك وابن القاسم. ووجه ذلك: أنّه التزمه (¬1) على العموم ولم يخصّ ما علمه دون ما لا يعلمه، والتزام المجهول لا يلزم. فرع: والحمالةُ بالجَعل حرامٌ، قاله مالك في "العُتبيّة" (¬2) من رواية ابن القاسم. وقال ابنُ القاسم في "الموّازية": فإن كان صاحب الحقّ عالمًا بذلك، سقطت الحمالة وردَّ الجعل. وإن لم يعلم بذلك فالحمالةُ لازمةٌ والجعلُ مردودٌ ومعنى ذلك أنّه عَقدٌ يختصّ بالمعروف فلم يصحّ فيه العِوَض كالقَرضِ. ومن أسلف سلفًا فلا بأس أنّ يأخذ به حميلًا (¬3)، قاله مالك في "الموّازية". الفصل الثّاني (¬4) فيمن تصحُّ الحمالة منه فإنها تصحّ من كلِّ مالك لأمره لا حَجرَ عليه لأحدٍ، كان يقدر على النُّطق أو كان أخرس إذا فهم أمره. وقال مالك في "المُدَوَّنة" (¬5): تجوز كفالته إذا فهم عنه، وأمّا محجورٌ عليه لحقِّه أو لحقّ غيره فإنّه يُعتَبرُ أمرُهُ، فإن كان محجورًا لحقِّه كالصَّغير والسَّفيه المَولى عليه، لم تلزمه الحمالة. وأمّا البِكر الّتي لم تَعْنِسُ كالصّغيرة، وأمّا الّتي عَنَسَتْ وأونس رشدها، ففي ¬
"المُدَوَّنَة" (¬1) عن ابن القاسم، ووجدته في "كتاب عبد الرحيم (¬2) " عن مالك: لا تجوز هبتها وكذلك كفالتها؛ لأنّ بُضعَها بيد أبيها. ووجه ذلك: أنّ ولاية الأب لمّا لم تسقط في البُضْع بالتَّعْنِيس لم تسقط في المال. ووجه الأوّل: أنّ الولاية في البُضْعِ لا تزول بالرُّشد، والولاية في المال تَزُول بالرُّشْد؛ لأنّها تُرَادُ لحفظ المال، فإذا حُفِظَ زالت (¬3) وبقيت في البُضع؛ لأنّها تراد لحفظ ما يغيب، فمعناها باقٍ ما بقيت المرأة. فرع: وأمّا المحجور لحقِّ غيره، كالعبد والمستغرق في الدِّين والمريض وذات الزَّوج، فإنّ العبد والمُكَاتَب والمدبّر وأمّ الولد، حمالتُهُم بغير إذن السَّيِّد باطل. وإن كان العبد مأذونًا له (¬4)، فقال ابن الماجشون: تجوز حَمَالته. وحكَى محمّد القولين في العَبْد. ووجه الأوّل -وهو قول مالك وجمهور أصحابه-: أنّه معنىً يدخل في ذِمَّتِه نقصًا، فلم يكن له ذلك بغير إذن سَيِّدِهِ، كالمُدَايَنَة. وأيضًا: فإنّه وَجهٌ من المعروف، فلا يجوز له بغير إذن سَيِّده وإن أَذِنَ له في التِّجارة، كهِبَة مَالِه. فرع: وتجوز حَمالَتُه بغير إذن سيِّده وإن لم يكن مأذونًا، إِلَّا أنّ يستغرقَهُ الدِّين، فلا يجوز وإن أَذِنَ له السَّيِّد. ¬
وأمّا المُكاتَب، فقد قال ابن القاسم في "المُدَوَّنة" (¬1): إذا أَذِنَ له وللمدبّر وأمّ الولد في الحَمَالَة جاز. وقال غيره: لا يجوز معروف المُكَاتَبِ؛ لأنّه داعية إلى رِقِّه، وليس ذلك له ولا لسَيِّدِه. ووجه قول ابن القاسم: أنّه محجورٌ عليه بحُكم الرِّقِّ، فجاز ما يفعله من ذلك بإذن السَّيِّد، أصل ذلك العبد القِنّ. فرع: وأمّا المستغرق في الدِّين، ففي "المُدَوَّنة" (¬2) و"العُتبِيَّة" (¬3) عن مالك: أنّه لا تجوز حمالته، كصدقته، وتُفسَخ؛ لأنّها من المعروف (¬4). وأمّا المريض، ففي "المُدَوَّنة" (¬5): تجوز كفالته في ثُلُثه (¬6). فرع: وأمّا ذات الزّوج، ففي "المُدَوَّنة" (¬7) عن ابن القاسم أنّ ذلك في ثلُثها (¬8)، وإن زادت على الثُّلُث في كفالتها، فللِزَّوج إبطال جميعها، إِلَّا أنّ يزيد الشّيء اليسير (¬9). وقال المُغيرَة: إذا جاوزت الثُّلُث لم يبطل، كالمريض يوصي بأكثر من ثُلُثه. وإذا تكفّلت بزوجها، ففي "المُدَوَّنَة" (¬10)، قال مالك: عطِيَّتُها لزوجها جميع ما لها ¬
الفصل الثالث فيمن تصح عنه
جائز، وكذلك كفالتها عنه. ومعنى ذلك: أنّ كفالتها بِرِضَاه، فإن لم يرض، فعلى مذهب ابن القاسم: تبطل إِلَّا بالثُّلُث فأدنى. الفصل الثّالث (¬1) فيمن تصِحُّ عنه فتحرير ذلك: أنّها تجوز عن مالك لأمْرِهِ وغير مالكٍ لأَمره فيما يلزم أداؤُه من ماله. وأمّا المَولَى عليه، فلا يخلوا أنّ يكون تحمّل عنه حميل بما تقدّمت المعاملة فيه، أو بما تستقبل المعاملة فيه. فإن كان تحمّل عنه بثمنِ ما قدِ ابتاعَهُ، فقد قال ابن القاسم في: "العُتبِيَّة" و"الموّازية": إنَّ كان ممّا يلزم اليتيم لزمه ويرجع به في مال الصّبيّ. وقال عبد الملك: لا يلزم المَولَى عليه شيءٌ ممّا تحمّل عنه به، فإن كانت المعاملة قبل الحمالة لم يلزم الحميل شيءٍ. يريد أنّه لم يتحمل عنه بدَيْن ولا عامله المتحمّل له بسببه. الفصل الرّابع (¬2) فيما للطّالب من مطالبة الحميل لأنّه لا يخلو أنّ يكون واحدًا أو جماعة، فإن كان واحدًا، فهل للطّالب أخذه بجميع الحقِّ مع حضور الغَرِيم أو غيبه؟ فقد اختلف فيه قول مالك، فقال في "المُدَوَّنة" (3): له طلبه في غيب الغريم وحضوره (4). ¬
الفصل الخامس في رفق الطالب بالغريم أو الحميل
قال عبد الوهّاب (¬1): "وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ" ثمّ رجع مالك، فقال: لا يتبعه إِلَّا في عدمه أو في غيبته (¬2). قال عبد الوهّاب (¬3): "وهو قول عبد الملك". الفصل الخامس (¬4) في رفق الطّالب بالغريم أو الحميل ووجه ذلك: أنّ الطّالب قد يَهَبُ حقَّه للغريم أو الحميل، أو يؤخّر أحدهما. فأمّا الهِبَة، فإن وهبَ الغريمُ فقد بَرِيءَ الحميلُ؛ لأنّ الهِبَة كالاقتضاء. فرع: ومن أخذ حميلًا بثمنِ سِلعةٍ، على أنّ له أنّ يأخذ أيّهما شاءَ، فمات الغريم، ثمّ أراد أنّ يطالب الحميل ففي "العُتبِيَّة" (¬5) و"الموّازية" عن مالك: يحلف ما وضع إِلَّا للميِّت وهو على حقّه، قال محمّد: فيها شيءٍ، وقال في موضع آخر: فيها نظر. وأمّا إنَّ أخذ الغريم ففي "العُتبِيَّة" (¬6) و"الموّازية" لأشهَب عن مالك: إنَّ أخذه سنة فالحبالةُ ثابتة، إِلَّا أنّ للحميل أنّ يمنع التأخير ويقول: أخاف أنّ يفلس، فليس له التّأخير. ¬
الفصل السادس في قضاء الحق
وقال ابن القاسم في "المدوّنة" (¬1): لا تسقط الحمالة. وقال غيره في "المُدَوَّنة" (¬2): إذا أخّر الغريم وهو مُوسِرٌ تأخيرًا بيَّنَّا فقد سقطت حمالته. الفصل السّادس (¬3) في قضاء الحقّ فإن دفعه الغريم، بَرِيَء وبَرِيءَ الحمِيلُ. وإن دفعه الحَميل، بَرِئَ من مطالبة صاحب الحقِ، وكان له مطالبة الغريم. فإن كان أدّى عنه مثل ما عليه رجع بمثله، وإن كان أدَّى عنه غير ما عليه، مثل أنّ يكون الدِّين دنانير فيدفع عنه دراهم، فإنّ ذلك لا يجوز قبل الأَجَل، لما فيه من تأخير أحد عِوَضَي الصَّرف. وأمّا بعد الأجل ففي "الموّازية": أنّ ذلك جائزٌ (¬4)، وفيها أنّه غير جائز (¬5)، وإليه رجع ابن القاسم، وهو قول أشهب وأصحابه، ولهذا توجيه طويل في "كتب المسائل". القضاء في العيوب الإسناد (¬6): قال الإمام ابنُ العربي: هذا بابٌ ليس فيه حديثٌ صحيحٌ على التّخصيص، أمّا أنّ ¬
باب ما لا يجوز من النحل
في تحريم الغِشِّ أحاديث، روى الدّارقطني (¬1) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كلمة في الباب، قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ يَبِيعُ بَيْعًا يَعلَمُ بهِ عَيبًا إِلَّا بَيَّنَهُ" (¬2). قال الإمام: وهذا مبنيٌّ على إحدى القواعد المتقدِّمةِ (¬3)، وهي تحريمُ أكلِ المال بالباطلِ، وذلك بيِّنٌ في الباب. فإن قيل: فلِمَ لا يُحكمُ بفَسخ العَقدِ وقد انعقد على حرام وانبَنَى على باطل؟ قلنا: لأنّه عارَضَتْهُ قاعدةٌ أُخرَى تقدّمتِ الإشارةُ إليها ومهّدناها في "كتابُ البيوع"، وهي أنّ النّهي إذا كان في حقِّ الله فُسِخَ ما انبَنَى علَيه، وإن كان في حقّ الآدميَّ فاللهُ قد جعلَ للآدمي الخِيارَ، فإنّه قد يحتمِلُ أنّ يشتريَهُ بعَشَرَةِ دنانيرَ بعيبٍ لا يعلَمُه، فإذا اطَّلَع عليه وجَدَ العَيب يساوي أحدَ عشرَ دينارًا، فيرى الحظَّ لنفسِهِ، فَرَدَّ الله الأمرَ إليه، وذلك إجماعٌ. أمّا إنّه قد يدخُلُ على مسائل العَيبِ وجوهٌ من المنهيَّاتِ من الغَرَرِ والرِّبَوِياتِ، فتتعدَّدُ لذلك أحكامُها، وتختلِفُ مآخِذُها، وتَكثُرُ فروعُها، ولا تحتمِلُها هذه العُجَالةُ، فعليكم بكتب المسائل، ولا سيّما ابن عبدوس؛ فإنّه أطنَبَ في هذا الباب، وجاء فيه باللُّباب. باب ما لا يجوز من النُّحْلِ أدخل (¬4) فيه حديث النُّعمان بن بَشِيرٍ، أنّ أباهُ بَشيرًا أتَى به إلى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - ¬
فقال: إنِّي نَحَلتُ ابنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فقال له رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ " فقال: لا. قال: "فَارتَجِعْهُ". الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬1): استدلّ مالك وأصحابه بهذا الحديث؛ أنّ الأبَ يعتصِرُ ما وَهَبَ أو نَحَلَ ابنه ما لم ينكح الابنُ أو يُداين، ويستدلُّون في الاعتصار بهذا الحديث. وزاد البخاريُّ (¬2) في هذا الحديث: "لَا أَشهَدُ على جَورِ" فدلّ هذا القول أنّ بَشيرًا كان قد مال بالنِّحْلة إلى النُّعمان دون سائر بَنِيهِ، فأمره رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - باعتصاره؛ لأنّ هِبَةَ بعض بَنِيهِ دون بعضٍ رُبَّما آل ذلك إلى أنّ يَفقِد من لم ينحله من بَنِيهِ، فَأَمرُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أباه بذلك على النَّدبِ إلى التّسوية بين البَنِين، لا على أنّ هِبَةَ الرَّجُل بعض بَنِيهِ غير جائزة. المسألة الثّانية: وهل يجوز للرَّجُل أنّ يتصدّق بجميع ماله على وَلَدِه؟ فرُوِيَ عن مالك في ذلك قولان: أحدهما: المنع. والآخر: الجواز. وقال (¬3) في "العُتبِيَّة" (¬4) و"الموّازية" (¬5): يجوز له أنّ يتصدَّق بماله كلّه في صحَّته، وقد فعله أبو بكر رضي الله عنه. ¬
وقال ابنُ القاسم: أكره أنّ يتصدَّق الرَّجُل بماله كلَّه على بعض ولده. فخرج من هذا وجه الكراهية، وإليه ذهب عبد الوهّاب (¬1)، وفيه كلامٌ طويلٌ يأتي بيانُه في "كتاب الهبة (¬2) " إنَّ شاء الله. ¬
كتاب الهبة
كتاب الهِبَة وفيه خمسة فصول: الفصل الأوّل (¬1) قال الإمام: الهِبَةُ على الحقيقة لله وحدَهُ؛ لأنّ حقيقةَ الهِبَةِ هو العَطاءُ بغير عِوَضٍ ممّا لا يجبُ، والَّذي يُغطِي على الحقيقة بغير عِوَضٍ ولا يجبُ عليه، فهو الله سبحانه، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في الآدميِّ؛ لأنّه مجبولٌ على التَلَفُّتِ إلى الأغراض، إئا في جَلب منفعةٍ، وإمّا في دفع مَضَرَّة، فلذلك كانت هِبَتُه محمولةً على القصد إلى البَدَلِيَّة فيها. وقد تكون على توقُّع البَدَل من الآدميِّ في هبته من الله، فَاسمُها صدَقَةٌ، وقد تكون على تَوَقُّع البَدَلِ العامّ على عادة العرب في إطلاقها، وفي مثله قال الله تعالى: {وَماَ آتيتم مِن رِبًا ليربوا فِيَ أموَالِ النَّاس} الآية (¬2). وقد يُعطَى الرجُلُ على المروءة، وذلك من الشّريعة، وجارٍ مَجرَى الصَّدَقة. روى مسلم في "صحيحه"، (¬3) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "كُلُّ مَعرُوفٍ صَدَقَةٌ" وضرب له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أمثلةً متعدِّدةً من الواجبِ والمندوبِ، بيانُها في "كتاب الجامع" إنَّ شاء الله. وقد تكون الهِبَةُ لِصِلَةِ الرَّحِم، وهي من المعروف المُؤَجَّل العِوَضِ. وقد تكونُ طلبًا لِمَحضِ المودّةِ من الواهبِ في مالِ الموهوبِ. فأمّا مالكٌ فقضَى به (¬4)، وأمّا جمهورُ ¬
الفقهاء منهم الحنفية والشّافعيّة (¬1) فحزموه؛ لأنّها مُبايَعَة بثمنٍ مجهولٍ، قالوا: ويجب أنّ تُخَلَّصَ العقودُ بألفاظها لأحكامها، فإن عَرِيَت الألفاظُ لم يجُز إسقاطُ الشروط، وهِبَةُ الثّواب مجهولةُ العِوَضِ وذلك حرامٌ، مجهولُ الأمرِ، وذلك لا يجوزُ، مُعَقَّبَةٌ بالمنازعةِ، وتلك مزابنةٌ منهيٌّ عنها بالإجماع، محظورةٌ باتِّفاقٍ. تنزيل وتقريب: قال علماؤنا: هذا كلُّه صحيحٌ، إِلَّا أنّ كلَّ عَقدٍ قد نَزَّلَهُ الشَّرعُ منزِلَتَهُ، وبيَّنَهُ بشروطِهِ، هذا كلُّه صحيحٌ، فالبيوعُ وأحكامُها على مَسَاقِها، والهِبَةُ على موضوعها. وأمّا الأحاديث في الهِبَةِ فعزيرةٌ جدًّا، وهي ثلاثة، فالّذي عَوَّلَ عليه مالك حديث النُّعمان بن بَشِير أنَّ أَباهُ بَشِيرًا أتَى به النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "إنِّي نَحَلتُ ابنِي هَذا ... " الحديث إلى آخره. وروَى أبو داود (¬2) زيادة: فقال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَشهِدْ عَلَيهِ غَيرِي". ورُوِيَ: "إِنِّي لَا أَشهَدُ على جَورٍ" (¬3). وَرُوِيَ أنّه قال: "أَتحِبُّ أَنّ يَكُونُوا لَكَ فِي البِرِّ سَوَاءٌ؟ " قال: نعم، قال: "فَسَوِّ بَيِنَهُم فِي العَطِيَّةِ" (¬4). هذا كلُّه في الصّحيح، زاد أبو داود (¬5): "إنَّ عَلَيهِم مِنَ الحَقِّ أَنّ يبرُّوكَ، وَعَلَيكَ أنّ تَعدِلَ بَينَهُم". ¬
مفاقهة: اختلف العلّماءُ في جواز ذلك، أمّا مالك فجوّزه (¬1)، وبه قال أبو حنيفة (¬2) والشّافعيّ (¬3). وقال أحمدُ: ذلك باطلٌ يجبُ فسخُه؛ لأنّ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أمَرَ بردِّه، وقال في الصّحيح: "لَا أَشهَدُ عَلَى جَورٍ" (¬4) وقال: "أَتحِبُّ أَنّ يَكُونُوا لَكَ فِي البِرِّ سَوَاءٌ؟ " (¬5) فعلَّلَ بالعُقوق إلى ما يدخل بينهم بالشَّحناء، وذلك يقتضي التّحريم، وردّه هو الصّحيح في الحكم. فإن قيل: قد قال: "أَشهِد عَلَى هَذَا غَيرِي". قلنا: هذا هو تأكيد التّحريم؛ لأنّ أمرًا لا يرضاهُ رسول الله ولا يَشهَد به، من الّذي يَرضَاهُ أو يشهد به؟ وسائرُ ألفاظِ الحديثِ نصٌّ صريحٌ فلا يردّ بهذا المحتمل. وقد كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - محمّد يقبلُ الهديَّة ويُثِيبُ عليها. وروى البخاريّ (¬6) أنّه كان لا يردّ طيبًا لمحبَّتِه فيه. مفاقهة أخرى: ولما رأى النّاسُ أنّ عَقد الهِبَة تَبَرُّعٌ مَحضٌ، قالوا: إنّه لا يَلزَمُ إِلَّا بالقبض، وإليه صغَى أكثرُ الفقهاءِ، منهم الشّافعيُّ وأبو حَنيفةَ، وعَجَبًا لهم من أين نَزعُوا لهذا الأصلِ، والهِبَةُ عَقدٌ من العُقود، ومَبنَى العُقود على اللُّزوم، ومحلُّها القولُ، ¬
الفصل الثاني فيما يجوز هبته للثواب وما لا يجوز وما يكون عوضا فيها
منه تكونُ، وبه تَلزَمُ. وقد بيّن اللهُ ذلك في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية (¬1)، وما بقي بعد قولِ هذا: وهبتُ، وقول الآخر: قَبِلتُ، والكفالة عَقدُ تبرُّع باتِّفاق، ويَلزَمُ بالقولِ بإجماعٍ، فكيف غَفَلُوا عن هذا؟ فإن قيل: كذلك كنا من قبلُ نقولُ كما ذكرتُم، لولا قولُ أبي بكر الصديق: "لَو كُنتِ حُزتِيهِ لَكَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هوَ اليَومَ مَالُ وَارثٍ" (¬2) فبيّن أنّ الهِبَةَ إنّما تكونُ هِبَةً بالقبضِ، وأنَّ انفرادَها عنه مُبطِلٌ لها. قلنا: كيف تعلَّقتم بهذا في مثل هذا الأصلِ العظيمِ، وهو قولُ الواحدِ من الصّحابةِ (¬3). الفصل الثّاني (¬4) فيما يجوز هبته للثّواب وما لا يجوز وما يكون عِوَضًا فيها قال علماؤنا (¬5): ما لا يجوز بيعُه فلا تجوز هبته للثّواب، كالآبق، والجمل الشّارد، والجنين في بَطن أُمِّه، وما لم يبد صلاحُه من ثمر أو حبٍّ، روى محمّد عن مالك ذلك. ووجه ذلك: أنّه عَقدُ مُعَاوَضَةٍ فلا يجوز عَقده بالآبق كالبيع. فرع: وأمّا الدّنانير والدّراهم، فرَوَى محمّد عن ابن القاسم؛ أنّ ذلك لا يصلح أنّ يُوهَب للثّواب، فإنّ شرطَ ذلك في الهبَة رُدَّتْ، وهو المشهور عن مالك. ¬
الفصل الثالث فيمن تحمل هبته على الثواب من غير شرط
وقال (¬1): إذا كانت الهِبَة عينًا، فإنّما تكون قيمتها من العروض ثبتت في الذِّمَّة غير مؤجَّلة ولا موصوفة، وذلك يمنع صِحَّة البَيْع. الفصل الثّالث (¬2) فيمن تحمل هبته على الثّواب من غير شرط فإنّه إذا شرطَ ذلك، فلا خلاف أنّ هِبَتَهُ محمولة على ذلك، اقتضَى ذلك الجواز أو المنع، وأمّا إنَّ وَهَب من غير شرطٍ، ثمّ ادَّعَى أنّه قَصَدَ الثّواب، فإن كان من غير جنس ما يوجب الثّواب كالدّنانير، فقوله مردودٌ، رواه محمّد عن مالك وابن القاسم وأشهب. وقد روى (¬3) أنّه مَنْ وَهَب قمحًا أو شعيرًا ففيه الثّواب. وأمّا الّذي لا ثوابَ فيه مثل الفاكهة أو الرّطب يُهدى للقادم، قاله مالك. وإن قام يطلب ثوابًا، لم يعطه، قاله: أشهب وابن القاسم. ووجه ذلك: أنّ الدّنانير لا غَرَض في أعيأنّها، وأمّا الفاكهة فلم تجر العادة بطلب الثّواب على ذلك، فحملت على العادة في الغالب. وقال ابن العطّار: وكذلك ما يهبه للفقير القادم من سفره من التّحف كالتّمر وشبهه. فإن كان قد فات، فلا شيءَ له في الهِبَة ولا في العِوَض، وإن كان لم يفت، فرَوَى محمّد عن أشهب وابن القاسم: أنّ لا عِوَضَ له ولا له أخذه وإن لم يفت. ¬
الفصل الرابع في مقتضاها من اللزوم أو الجواز
فرع (¬1): ومَن وَهَب هِبَة مُطلَقة فادَّعَى أنّه وهبها للثّواب، حُملَ على العُرف فيه، فإن كان مثل الواهب يطلب به الثّواب على هِبَتِه، فالقولُ قول الواهب مع يمينه، وإن كان مثله لا يطلب الثّواب على هِبَتِه، فالقولُ قول الموهوب له مع يمينه. فرع: ولا ثواب لذي سلطان فيما يهبه (¬2). فرع: وما وهبه لذي رَحِمٍ فليست على الثّواب، قال ابنُ القاسم في "المدوّنة" (¬3): إِلَّا أنّ يرى النَّاس أنّه وهبه للثّواب. الفصل الرّابع (¬4) في مقتضاها من اللّزوم أو الجواز فالذي عليه المذهب، أنّها لازمةٌ باللّفظ للواهب، فإن أَثَابَهُ المعطي فيمتها فلا سبيل له إليها، وسيأتي ذكره. ¬
الفصل الخامس فيما تفوت به وفي وجود العيب بها
فإن أراد منعه -على هذا القول- من قبضها، فقد قال محمّد: ليس له منعه من قبضها ولا بيعها، والظّاهر من قول أشهب أنّها وإن كانت تلزم بالقول، إِلَّا أنّ للواهب منعه من قبضها حتّى يثيبه. فرع: فإن فاتت الهِبَة، فقد لزمته بالقيمة، كنكاح التّفويض يلزم بالدُّخول فيه مَهر المثل، على تفصيلٍ طويلٍ. الفصل الخامس (¬1) فيما تفوتُ به وفي وجود العيب بها فإنّه إنَّ اطّلع على العيب قبل أنّ يثيبه وقبل أنّ تفوت، فإن علم الواهب بالعَيْبِ، فليس له إِلَّا قيمتها معيبة؛ لأنّهما عالمان بالعيب، قاله محمّد. فرع: فإن ظهر العيب بعد إثابته وقبل الفَوتِ، فله ردّها والرّجوع في الثّواب أو إمساكها، ولا يرجع بشيءٍ بما أثاب به، وذلك كالبيع. فرع: ولو كانت قد فاتت بما لا يقدر على ردّها فأثابه، ثمّ ظهر على العَيب * قبل أنّ يؤدِّي القيمة أو قبل أنّ يثيب، لكانت عليه قيمتها معيبة*. ¬
باب الاعتصار في الصدقة
باب الاعتصار في الصَّدقة الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولَى (¬1): قوله (¬2): "مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابنِه بِصَدَقَةٍ" وهذا على ما قال: إنَّ من تصدَّق على ابنه الكبير أو الصّغير في حجرِه، فليس له أنّ يعتصرها إذا قبضت وحيزت؛ لأنّ الصَّدقة لا اعتصار فيها؛ لأنّها على وجه القُربة، وما كان من العطيّة على وجه القُربة فلا اعتصار فيه. وقد تقدَّم أنّ العطايا المتَقَرَّب بها تلزم بالعَقد، وإنّما قال (¬3): "قبَضَهَا الابنُ أَو كَانَ فِي حَجرِ أَبِيهِ فَأَشهَدُ لَهُ" ليذكر أقوى وجوهها في حيازة الكبير لنفسه، ثمّ ذكر أصعب وجوهها وهو أنّ يتصدَّق على ابنه في حَجْرِهِ فيقتصر على الإشهاد له، ولم يذكر الحيازة له، فلا اعتصار له في أحد الوجهين، لما احتجّ به من أنّه لا يرجع بشيءٍ من الصَّدقة، ومعنى ذلك ما يأتي بعدها أنّه لا يجوز أنّ يشتري صدقته ولا يأخذها بِعِوَض (¬4). المسألة الثّانية (¬5): قوله (¬6): "الأَمرُ المُجْتَمَعُ عَلَيهِ عِندَنَا" يريد المدينة وعلماءَها. وقوله (¬7): "مَا لَم يَستَحْدِثِ الابنُ دَينًا" خصَّ الولد بذلك لأنّ الظَّاهر من المذهب أنّه يعتصر الأبوان على الابن والابنة صغارًا كانوا أو كبارًا، فأمّا الجدّ والجدّة فاختلف ¬
قول مالكٍ فيهما، فرَوَى ابن وهب عنه: لا يعتصر ولا تلزمه النَّفَقَة، ويرث معه الإخوة، ولا يكون بيده بضع بنات الابن. وروَى عنه أشهب أنَّهُما يعتصران (¬1)، وبه قال ابن عبد الحَكَم. ووجه الأوّل -وهو المشهور في المذهب-: أنّ الجدّ لا تلزمه النّفقة فلم يكن له الاعتصار كالعمّ. المسألة الثّالثة (¬2): إذا ثبت ذلك (¬3)، فإنّ الأمّ لا تعتصر من يتيم، قاله محمَّد؛ لأنّ الهِبَةَ له صَدَقَة فلا تعتصر، وإن احتاج الواهب جَدًّا كان أو أُمًّا أو غير ذلك. ووجه ذلك: أنّ ظاهر الهِبَة له (¬4) الإشفاق عليه، وهذا معنى القُربة، فلذلك كان حكمها حكم الصَّدقة. ورَوى ابنُ القاسم عن مالك (¬5) أنّه قال: للأب أنّ يعتصر وإن لم يكن للولد أمّ، وليس للأمِّ أنّ تعتصر إذا لم يكن للولد أب؛ لأنّ اليتيم من قِبَلِ الأب، وهو قول جمهور أصحاب مالك. ورَوَى محمّد عن أشهب؛ أنّ اليتيم إذا كان غنيًّا، فللأمِّ أنّ تعتصر إذا لم يكن له أب، فتعتصر منه كما تعتصر من الكبير، قال مالك: وللأم من الاعتصار ما للأب. ووجه ذلك: أنّها أحد الأبوين، فجاز أنّ تعتصر. فإذا كان ذلك، وقلنا: لا تعتصر من اليتيم، فوهبت ابنها الصّغير في حياة أبيه ثمّ مات الأب وهو صغير، لم يجز لها أنّ ¬
القضاء في العمرى
تعتصر وإن كبر. ولو كبر قبل أنّ يموت أبوه فمات، كان لها أنّ تعتصر؛ لأنّ الموهوب له قد انقطع عنه الاعتصار، بل بقي حكمُه ثابتًا عليه. المسألة الرّابعة (¬1): ويمنع الاعتصار مرض المعطي، وروى ابن القاسم عن مالك (¬2) أنّه يمنع الاعتصار، ورواه ابنُ حبيب عن مالك أنّه قال: لا يعتصر مريض ولا يعتصر منه. فأمّا المريض فلا يعتصر؛ لأنّه يعتصر لغيره من الورثة وليسوا بآباء؛ لأنّه لا يعتصر إِلَّا الأب. ولا يعتصر (¬3) منه؛ لأنّه حق الورثة قد تعلّق بماله، كما لو تعلّق حق الغرماء بماله لامتنع الاعتصار. القضاء في العُمْرَى الإسناد: قال الإمام: الأحاديث في العُمْرَى صِحاحٌ، وصحّح أبو عيسى (¬4) حديث جابر هذا وحَسَّنَهُ (¬5)، عَن جَابِرِ بْنِ عَبدِ الله الأَنصَارِي؛ أنّ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ أُعمِرَ عُمرَى لَهُ وَلعَقِبِهِ. فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعطَاهَا لَا تَرْجِع لِلَّذِي أَعطَاهَا لأَنَّهُ أَعطَى عَطَاءً وَقَعَت فِيهِ المَوَارِيثُ" (¬6). ¬
تنبيه في الإسناد: قال الإمام: زاد مالك: "أَبَدًا" وانفرد به يحيى بقوله "أَبَدًا" ولم يروه عن مالك غيره (¬1). الغريب: العُم} رَى: هي فُعْلَى من العُمر، والمعنى: اعتمرتك، أو أعمرتك، أي جعلتها لك عمرى. وقال أبو عُبَيد (¬2): وهو مأخوذ من العمر، ألَّا تراه يقول: هو لك عمرى. فمعنى (¬3) العُمْرَى: هِبةُ منافع الملك مدّة عمر الموهوب له، أو مدَّة عمره وعمر عقبه، فسمِّيَت عُمرَى لتعلّقها بالعمر، وإنّما يتناول الأعمار هبة المنافع لا الرّقبة، وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعمَرَ عُمرَى لهُ وَلِعَقِبِهِ" (¬4) يريد: أنّ ما أعطى من المنافع يكون له وَلِعَقِبِهِ، ولا تبطل لِعَقِبِه بموته، ولا ترجع إلى الّذي أعطاها؛ لأنّه أعطى عطاءً تقع فيه المواريث، وهذا كلّه راجعٌ إلى المنافع دون الرّقبة، وفي هذا الباب ثمانية أبواب: الأوّل: في معنى العُمْرَى وألفاظها ومعنى الحَبْس والصَّدقة. والثّاني: فيمن يصحُّ منه الحبس ¬
الباب الأول
ومن يصحّ عليه وبماذا يصحّ تحبيسه. والثّالث: في دخول العَقِب مع المعطَى بعده. والرّابع: في معنى العَقِب والذُّريّة والبنين والمَولَى. والخامس: في قسمة منافع العُمرَى. والسّادس: في استحقاق القسم منها بالولادة وانتقاله بالموت. والسّابع: فيما يجوز من بيع العُمرَى والحبس. والثّامن: إلى من تعود بعد انقراض المعمّر والمحبّس عليه. الباب الأوّل (¬1) أمّا ألفاظها، فقد تقدَّم أنموذج منها، ونحن نبيِّنُ باقِيها، ونذكرُ ما يقرب منها وما يخالفُها، وذلك أنّه إذا كان معناها هِبَة المنافع، فكلُّ ما كان من الألفاظ يقتضي ذلك المعنى، فإنّ حكمه في ذلك حكم العُمرَى وإن اختلفت في بعض الأحكام، من ذلك أنّ يقول: أَسكَنْتُك هذه الدّار عمرى، أو أسكنتُك هذه الدَّار عمرك، أو وهبتُك سكناها عمرك، ففي "المُدَوَّنة" (¬2) عن ابن القاسم فيمن قال: أسكنتك هذه الدَّار وعقبك، فمات السّاكن وعقبه، رجعت إلى صاحبها. وكذلك لو قال: هذه الدّار لك ولعقبك سُكنَى، أو قال: هي لك صَدَقة سكنى فليس له إِلَّا سكناها صدقة دون الرّقبة (¬3)، قال محمّد: إنّما ذلك في حياته. وإذا قال: هذه الدَّار حَبسٌ على فلان ولم يَزِد، فقال عبد الملك في "المجموعة": إنّها عُمرَى، وقال في "الموّازية": هي حَبسٌ. ورَوَى ابنُ وَهبٍ عن مالك في الحبس ¬
على المعنيين أنّهما بمعنى العُمرَى. وقد اختلف فيها قول ابن القاسم (¬1). توجيه: وجه الأوّل: أنّ التحبيس إنّما يقتضي هِبَة المنافع، فهذا قال: على فلان، اقتضى ذلك اختصاصها به دون غيره، وذلك يقتضي أنّه إنّما وَهَبَهُ المنافع، وذلك معنى العُمرَى. وجه الثّاني: أنّ لفظ التّحبيس يقتضي المنع من رجوع المنافع إليه؛ لأنّ معنى التحبيس أنّ تكون (¬2) محبوسة في وجوهٍ نصَّ عليها. فهذا حَبَّسَها على فلان انصرفت إليه مدّة العمر، فهذا انقضَى عُمره لم ترجع إلى المُحَبِّس؛ لأنّ معنَى الحَبس يمنع ذلك. فإن كان المُحَبِّسُ حيًّا، ففي "الموّازية" عن مالك: * يُسأَل عما أراد من عُمرى أو حبس، فيحمل على ذلك ويُقبل قولُه فيه. فإن مات قبل أنّ يُسْأَل* فإنّه (¬3) اختار أنّ يكون ميراثًا لورثته، ويجب أنّ يجري في ذلك الخلاف المتقدِّم، وإنّما قبِلَ قولُه لأنّه احتمل الوجهين جميعًا. فرع: ومن قال: داري حَبسٌ لا تُباع ولا تُوهَب ما عاش المُحَبَّس عليهم، ففي "الموّازية" عن مالك: أنّه حَبْسٌ مُؤَبَّدٌ. ووجه ذلك: أنّ قوله: لا تُباع ولا توهب ما عاش، تصريحٌ بالتأبيد وإن كان قد ¬
علقه بمدّة؛ لأنّ العُمرَى تُباع وتوقَف في مدّة التّعمير، فلما شرط نفي البَيْع والهِبَة اقتضَى ذلك التّحبيس المُؤَبَّد. وقد قال عبدُ الوهّاب (¬1): "اختلف أصحابنا في تخريج ذلك (¬2)، فمنهم من قال: إنّها على روايتين، كقولك: حبس فقط. ومنهم من قال (¬3): إنّها ترجعُ حَبسًا". ولو قال: داري حَبسٌ على فلان وولده، فإن كان ولده معيّنين جاز ذلك. انفصال: وأمّا لفظ التّوقيف، فقد قال عبد الوهّاب (¬4): "لفظ التّوقيف صريحٌ في تأبيد الحَبسِ، فلا يرجع ملكًا أبدًا؛ لأنّ مفهوم هذه اللّفظة في العُرف التّبتيل على وجه التّأبيد، وتمليك المنانع على الدّوام". وأمّا لفظ الصَّدقة، فإن أراد به تمليك الرَّقبة فهو على ما أراد كالهِبَة، وإن أراد به معنى التّحبيس، فإن كان على معيّن ولم يقترن به ما يقتضي التّأبيد، ففيه روايتان على ما تقدّم في الحَبسِ، لزم فيه التّأبيد، قاله كله عبد الوهّاب في "معونته" (¬5). مسألة: فإذا ثبت ذلك، فالحبسُ وما في معناه بأيّ لفظ كان يقتضي الملك، وتبقَى الرّقبة على ملك المُحَبّس. وللشّافعيّ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: مثل هذا. ¬
الباب الثاني فيمن يصح التحبيس منه ومن يصح عليه وما يصح تحبيسه
والثّاني: ينتقل إلى ملك المُحَبّس. والثّالث: لا ينتقل. ودليلنا: أنّه بدل المنافع فلا تخرج بذلك الرّقبة عن ملك الباذل كالعارية. وأيضًا: فإن ما لا يجوز عتقه لا يجوز أنّ يزول الملك عن رقبته، ويبقى الملك على منافعه، كالحيوان والعُروض. الباب الثّاني (¬1) فيمن يصحُّ التّحبيس منه ومن يصحّ عليه وما يصحّ تحبيسُه فإنّه في الأصل جائزٌ يلزم في الحياة والمَمَاتِ، لا يفتقرُ إلى حُكم حاكم. والمشهورُ عن أبي حنيفة (¬2) أنّه لا يجوز ولا يلزم، وأصحابه المتأخّرون يحكون عنه أَنّه جائزٌ، ولكن لا يلزم إِلَّا بأحد أمرين: إمّا بِحُكمِ حاكمٍ، أو يُوصِي في مرضه أنّ يوقَف بعد موته، فيصحُّ ويكون من ثُلُثِهِ كالوصيّة، إِلَّا أنّ يكون مسجدًا أو سقايةً فإنّ ذلك يلزم ولا يفتقر إلى حُكمِ حاكمٍ. وهذه المسألة الّتي تكلَّم فيها أبو يوسف ومالك -رحمة الله عليهما - في مجلس الرّشيد، فظهر عليه مالك، وقال له: هذه أوقاف رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ينقلُها أهل المدينة خَلَفهم عن سَلَفهم، يشير إلى الخبر المتواتر، فرجع أبو يوسف في ذلك عن مذهب أبي حنيفة. وهذا فعلُ أهل الدِّين في الرّجوع إلى الحقِّ إذا تبيِّن، ورأى أصحابُه المتأخِّرون الاعتذار لقوله القديم بما قدّمناه. ودليلنا: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية (¬3). ¬
ومن جهة السُّنَّة: ما روي عن ابن عمر أنّه أصاب بخيبر أرضًا فأتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: إِنِّي أَصَبتُ أَرضًا لَم أصب مَالًا قَطُّ أَنفَس مِنهُ ... الحديث (¬1). ومن جهة المعنى: أنّه تحبيس عَقارٍ على وجه القُربَة، فلم يَفتَقِر إلى وصيَّة ولا حُكمٍ، كالمسجد والمقبرة. مسألة: إذا ثبت ذلك، فإنّ تحبيس الرّباع وإعمارها قولٌ واحدٌ وهو الجواز، وأمّا الحيوان والسِّلاح والعُروض، ففي "الموّازية" عن مالك؛ أنّه كره الحَبْس في الحيوان. وقد قال ابنُ القاسم في "المجموعة": من أعمر داره أو دابّته أو عبيده في حياته، جاز ويرجع بعد موته إلى ورثته. وقال (¬2) في "العُتبيَّة" (¬3): لم أسمع عن مالك في تحبيس الثِّياب شيئًا، ولا بأس به. وقال أشهب: ذلك جائز. فهذا قلنا بالجواز، لزم لموافقة الشّرع مع كونه من العُقود اللازمة. فإن قلنا بكراهية ذلك، ففيه روايتان: إِحداهما الجواز. والثّانية اللُّزوم. وقال عبد الوهّاب (¬4): "من أصحابنا من يقول في الخيل قولًا واحدًا، وإنّما الخلاف في غيرها". (¬5) ومن حبس على نفسه وغيره صحّ حبسه ودخل معهم، وإنّما يردُّ ما حبَّس على نفسه خاصّة. ¬
الباب الثالث
فرع غريب: ولو حبس ذِمي دارًا على مسجدٍ، ففي "العُتبِية" من رواية ابن القاسم عن مالك، ورواه معن بن عيسى عنه في نصرانيّة بعثت بدينارٍ إلى الكعبة، قال: يردُّ إليها. ووجه ذلك: أنّ هذه الجهات إنّما يجب أنّ تخصّ بأفضل الأموال وأطيبها. فرع آخر: ولو حبسَ مسلم على كنيسةٍ مالًا، فالأظهر عندنا أنّ يردَّ؛ لأنّه صَرَفَ صدقتَهُ إلى وجهِ معصيةٍ، كما لو صرفها إلى شرب الخّمْرِ. الباب الثّالث (¬1) فالأصل والقاعدةُ فيه، قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "لَهُ وَلِعَقِبِهِ" وذلك أنّ إعطاءَ المنافع في العُمرَى والحَبسِ لا يخلو أنّ يكون لغير مُعَيَّنَين، أو لمُعيَّنَين وغير معيّنين، وذلك كمن قال: أعمرتُ هذه الدَّار على ولدي فلان وعَقِبَه، فإنّه يرث الأقرب. وإذا قال: على ولد ولدي، أو قال: على ولدي وولد ولدي، فهذا أرجع فهذا قلنا: يرث الأقرب في قوله: ولدي، بأن يرثها الأقرب، في كلام لهم طويل إنَّ شاء الله. الباب الرّابع (¬2) في معنى العقب قال مالك (¬3): العقب: الولد ذكرًا كان أو أُنثَى، وليس ولد البناتِ عقبًا ذكرًا كان أو أُنثَى. وقاله عبد الملك. ¬
وقال ابنُ حبيب: ويجمع ذلك أنّ كلَّ ذكرٍ أو أُنثَى حالت دونه أنثَى فليس بعَقِبٍ، وقاله ابنُ شِهَاب. وأصلُ ذلك عندي: أنّ عَقِبَ الرَّجُل مَنْ ينتسب إليه، وولد البنات لا ينتسبون إليه، ولذلك لا يقال لعبد الله بن عبّاس الهاشمي: عبد الله بن الحارث الهِلالي، وإن كانت أمّه لبابة بنت الحارث الهلاليّة. مسألة: وأمّا الولد، فإنّه اسمٌ يتناول الولد وولد الولد، الذّكور ذكورهم والإناث إناثهم، وقد قال مالك في "المجموعة": من حبَّس على ولده وولد ولده، لم يدخل فيه ولد البنات؛ لأنّهم لم يدخلوا في آية المواريث. قال عبد الملك: فلذلك لا يدخلون في صدقة الجدّ في أمّهم بهذا الاسم. قال عبد الملك: والصّدقة على الولد والعَقِبِ سواءٌ. واحتج أشهب بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} الآية (¬1)، وقال: ولا خلاف أنّ ولَدَ الوَلَدِ كالولدِ في ردِّ الأمِّ إلى السُّدس، ولا تأثير في ذلك لولد البنات. قال ابن العطّار: هذا قول مالك (¬2). قال مالك: ومن تصدَّق على بَنِيهِ وبني بَنِيه، فإنّ بناته وبنات بنيه يدخلون في ذلك. ¬
الباب الخامس في قسمة منافع العمرى والحبس
واختُلِفَ في الأخوال والخالات، والاختيار أنّ يدخلوا، وهذه المعاني إنّما وردت على سبيل المجاز، ومقتضي مذهب مالك اعتبار حقائقها وعرف استعمالها الغالب على حقائقها. مسألة: وأمّا القرابة، ففي "الموّازية" و "المجموعة" (¬1) فيمن أوصى بمالٍ لأقاربه؛ أنَّه يقسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد. قال مالك في "العُتْبِيَّة": ولا يدخل في ذلك ولد البنات ولا ولد الخالات. ورَوَى ابن عبدوس عن ابن كنانة؛ أنّه يدخل فيه الأعمام والعمّات، والأخوال والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت. فرع: وأمّا المَوَالِي، فقد قال مالك فيمن حبَّس على مَوالِيه: إنَّ موالي مَوالِيهِ يدخلون معهم، وكذلك موالي أبيه وموالي ابنه. ولو حبَّسَ على قومه أو قوم فلان، فقد قال ابن شعبان: ذلك على الرِّجال خاصّة من العُصبَة دون النِّساء. واحتج بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} الآية (¬2)، ففرّق بين القوم والنِّساء. الباب الخامس (¬3) في قسمة منافع العُمرَى والحَبْس فأمّا العُمرَى وما في معناها من الحَبْس، فإذا كانت على مُعَيَّنَيْنِ فإنّهم فيه سواء، ¬
وقد قال في "المجموعة": أمّا ما حُبِّسَ على قومٍ بأعيانهم دارًا أو زرعًا أو ثمرًا، فذلك بينهم سواء، للذكر مثل ما للأنثى. وقال ابن القاسم في "الموّازية": من حَبَّسَ على مُعيَّنَينِ دون تعقيب، فإنّ حقَّ الغائب منهم ثابتٌ في السُّكنَى، وحاضرهم وغائبهم في ذلك سواء. قال محمّد: وفقيرهم وغنيّهم في ذلك سواءٌ. وأمّا العُمرَى والحَبس على غير مُعَيَّنَينِ، ففي "المجموعة" عن مالك: أنّ من حَبَّسَ على قومٍ وأعقابهم، فإنّه يفضل أهل الحاجة والمؤنة والعيال والزّمانة بقَدرِ ما يراه من ولي ذلك. ورَوَى محمّد عن عبد الملك: لا يفضل ذو الحاجة على الغنيّ في الحَبس إِلَّا أنّ يشترطَ في الحَبسِ. ووجه الأوّل: أنّ معنَى الحَبس القُرْبَة، وإيثار ذوي الحاجة يقتضي القربة. مسألة: فأمّا الفقير، فهو الّذي له كفاية وربّما ضاقت به الحال بكثرة عياله. وأمّا ولد الغنيِّ لا مال له، فهو فقيرٌ، وإذا بلغ صحيحًا لم يلزم الأب الإنفاق عليه فهو من الفقراء. وإذا تساوى (¬1) في الفقر والغِنَى، أُوثِرَ الأقرب، ويعطى الفضل من يليه. وإن كان الأَبْعَد (¬2) غنيًّا أُوثِرَ الفقيرُ الأَبْعَد، ذكره ابن عبدوس في "المجموعة". والذَّكَر والأنثى في الحبس سواء، وهو قول مالك (¬3) إِلَّا أنّ يكون بشرطِ (¬4). ¬
الباب السادس في استحقاق القسم منها بالولادة وانتقاله بالموت
مسألة: وإذا قسم الحَبْس بين أهله من غَلَّةٍ أو سُكنَى، فليس على كثرة العدد وليبدأ بأهل الحاجة. مسألة: وأمّا الكراء والغَلَّةُ، فإنَ حقَّ منِ انتجع أو غاب لا يسقط، وإنّما يسقط حقّه من السُّكنَى إذا لم يكن فيه فضل، قاله ابن القاسم. الباب السّادس (¬1) في استحقاق القسم منها بالولادة وانتقاله بالموت فإنّ انتقاله يكون على ضربين: إلى المحبّس أو المعمر عليهم، وإلى غيرهم. فأمّا الانتقال إلى المحبِّس أو المعمر، فلا يخلو أنّ يكون ذلك بلفظ الإشاعة أو الإبهام. فإن كان بلفظ الإشاعة، فقد روَى محمّد عن مالك وابن القاسم وأَشهَب وابن وَهب فيمن حبَّسَ دارًا على قوم فمات بعضهم؛ فإنّ ما كان للميِّت من ذلك يرجع إلى بقيَّة أصحابه حتّى ينقرضوا، وذلك في الأحباس كلِّها من غلَّةٍ أو مسكن، كان مرجع الحَبْس إلى صاحب الأصل أو غيره، أو إلى النّسل. وروى ابن حبيب عن مُطرِّف عن مالك؛ أنَّ ما لا يُقسم من عبدٍ أو أصل أو دارٍ فنصيب الميِّت يرجع إلى أصحابه، ونحوه روى ابن وهب عن مالك. قال سحنون: وكذلك روى عنه جميع الرُّواة. ¬
الباب السابع في بيع العمرى والحبس
الباب السّابع (¬1) في بيع العمرَى والحَبْس فأصل ذلك: أنّ عقد العُمرَى والحَبْس عَقدٌ لازم؛ لأنّه هِبَة للمنافع، وهِبَةُ الأعيان والحَبْس على ضربين: أحدهما: على غير موجود عند التّحبيس. والثّاني: على موجود. فأمّا إنَّ كان على موجودٍ، مثل أنّ يعمر زيدًا أو يعمره وعَقِبَه، ومَنْ أعمره أو حبّس عليه موجود عند العُمرَى، فقد امتنع البَيع بنفس العَقدِ. فإن كان جميعُهُم غير موجودين، مثل أنّ يحبّس على ولده ولا وَلَدَ له: ففي "المجموعة" و"الموّازية" عن مالك فيمن حبّس على ولده ثمّ في سبيل الله، فله أنّ يبيع ما لم يولد له، فإذا وُلِدَ له فلا يجوز له البيع. وقال ابنُ القاسم: ليس له أنّ يرجع حتّى يُؤَيِّس من الولد، ولو أجزتُ له هذا، لأجزتُ له أنّ يبيع إذا كان له ولد ثمّ ماتوا ولم ينتظر أنّ يُولَد له غيرهم (¬2). وقال ابن الماجشرن: هي حَبْسٌ (¬3). ووجه قول مالك: أنّ الحَبس لم يتعلَّق به حقّ أحد فيلزم بسببه، فإذا وُلِدَ له فقد تعلّق حقّ المولود به، فلم يجز له بيعه. ¬
الباب الثامن
مسألة: ومن بنَى مسجدًا بقريةٍ، ثمّ صلّى فيه، ثمّ باعه أو تصدّق به، على من هَدَمهُ وبنَاهُ دارًا فليفسخ ذلك ويردّ إلى ما كان عليه من الحَبسِ؛ لأنّ المسجد لله لا يباع ولا يغيَّر، قاله مُطَرِّف، ومعنى ذلك: أنّ المسجدَ من جملةِ الأحباسِ اللازمة، بل هو من أَوكَدِها؛ لأنّها خالصة لله ومضافة إليه، لقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية (¬1). وأمّا قول مُطَرِّف: "من بني مسجدًا" يريد على الصُّورة المختصَّة بالمساجد. "ثُمَّ بَنَاهُ دَارًا" يريدُ نقله إلى صورة الدُّور. وقوله: "ثمّ يردُّ إلى ما كان عليه" يقتضي عندي أنّ للمسجد بنيانًا مخصوصًا يمنع من يريد التّمليك من بنائه ويمنع من تملُّكه. فرع: ومن حبَّسَ حَبسًا وعليه دَيْنٌ قَبلَهُ، واستحدث دَينًا بعده، فقام أهل الدِّين، فقال سحنون: يُباع منها للدَّين القديم ويدخل معهم أهل الدَّين الثّاني ولا يباع منها غير ذلك، وقد قيل: إذا دخل معهم الآخرون، بيع للأوّلين بقَدْرِ ما انتقصهم الآخرون، ثمّ يدخل عليهم الآخرون، هكذا أبدًا حتّى يستوفوا ويفرغ الحَبْس، وكذلك لأصحابنا قولان في العتق. الباب الثّامن (¬2) فيمن تعود إليه منانع العُمرَى والحَبس بعد موت المعمّر والمُحَبَّس عليهم فأمّا العُمرَى والحَبس الّذي حكمه حكم العُمرَى، فإنّما تعود إلى صاحب الأصل إذا كان حيًّا، فإن كان ميِّتًا فإلى وَرَثَتِه يوم مات (¬3)؛ لأنّه لم يُخرجه عن ملكه إخراجًا ¬
مؤبَّدًا، وإنّما أخرجه إخراجًا مؤقّتًا كالإجارة، وقد قال مالك: إنّه إذا أعمره دارا ثمّ مات، إنَّ لم يكن له عقب رجعت إليه (¬1). ومن ذلك: صدقته على رجل حياته، فقال عبد الملك: ترجع إلى ربِّها مِلكًا، أو إلى ورثته ميراثًا. وأمّا الحَبسُ المؤبَّدُ، فقد قال مالك: يرجع إلى أَوْلَى النَّاس ممّن حبَّسَه حَبسًا عليهم. ووجه ذلك: أنّه لمّا اقتضَى التّأبيد لم يرجع عليه. قال ابن كنانة: لأنّه رجوعٌ في الصَّدقة فلم يكن له وجهٌ معيَّنٌ يرجع إليه، فرجع إلى أحقّ النّاس بالمحبَّس، وذلك أوّل وجه ينصرف إليه، لِمَا يجتمعُ فيه من الصِّلة وسَدِّ خَلَّةِ الفقراء. مسألة (¬2): قال الإمام: والمشهور اليوم عند النَّاس أنّه إذا انقطع العَقِب في العُمرَى، رجعت إلى أقرب النَّاس بالمعمّر. وقال سائر الفقهاء: ترجع إلى بيت المال كسائر المواريث. وتعلّقوا بظاهر الحديث، وهو قوله (¬3): "لا تَرجِعُ إِلَى الذِي أَعطَاهَا" ولا سيّما بزيادة مالك (¬4) في قوله: "أَبَدًا" وهذا قطعٌ محضٌ، وقد تكلَّم العلّماءُ على ذلك دليلًا وسؤالًا وجوابًا بكلام طويل نسرده في هذه العاجلة إنَّ شاء الله. ¬
كتاب الوصايا
كتاب الوصايا الأصلُ في ذلك كتابُ الله، قولُه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} الآية (¬1). قال الإمام: وأدخل مالك (¬2) حديث ابن عمر؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا حَقُّ امرِىءٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيءٌ يُوصَي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكتُوبَةٌ عِندَهُ" الحديث. قال ابنُ وضّاح: "مَكتُوبَة" ليس من كلام النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. قال الشّيخ: جعلت من "الموطَّأ" المُدْرَج في النّقل. الإسناد: قال الإمام: وأحاديث الوصية كثيرةٌ، أصولُها أربعة: الحديث الأوّل: ما تقدَّمَ، حديثُ ابن عمر. الحديث الثّاني: عبد الله بن أبي أَوفَى، قيل له: هل أَوصَى رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. قيل: فَكَيفَ كَتَبَ الوَصِيَّةَ؟ قَال: أَوصَى بِكِتَابِ اللهِ (¬3). الثّالث: حديثُ سَعد بن أبي وَقَّاص: "الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ" وهو حديثٌ صحيحٌ ¬
متَّفَقٌ عليه (¬1). الرَّابع: حديثُ أبي أُمَامَةَ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ قَد أَعطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، لَا وَصِيَّةَ لِوارِثٍ" خرَّجَهُ أبو داود (¬2) والتّرمذيّ (¬3). العربيّة (¬4): والوصيَّةُ في اللُّغة: عبارةٌ عن كلّ قولٍ يُلقِيه أحدُهما إلى الآخرِ ليعمَلَ به، وهو مخصوصٌ في الغائبِ والميِّتِ، وضَعَهُ اللهُ للحاجةِ، إذ لا يتَّفِقُ للمرءِ كلُّ ما يريدُه أو يحتاجُه حاضرًا، ولا بد من التّعاوُن بين حالَتَي الغَيبَةِ والحُضُورِ فيما يختصُّ بالمُوصِي، أو فيما يخُصُّ بالمُوصَى إليه به أو فيه، أو ما يتعلَّق بالكلِّ، أو يخُصُّ ثنتين منها على التّفصيلِ والتّقسيمِ. وقد ذَكَرها اللهَ في كتابه في مواضعَ كثيرة. مفاقهةٌ (¬5): قال علماؤنا: وللوصيَّةِ أحكامٌ كثيرةٌ بيانُها في "كتب المسائل" أمثلُها خمسةٌ (¬6): الحُكمُ الأوَّل: في وجُوبِها: واختُلِفَ في ذلك: فذهب ذاهبونَ (¬7) إلى أنّها واجبةٌ وُجُوبَ الأعيانِ، ويتعيّنُ على ¬
كلِّ أحدٍ أنّ يُوصِي بعدَ موتِهِ إخوانه وأهله ومَن حَضَره، كذلك فَعَلَتِ الأنبياءُ، وكذلك فعل خاتِمهُم الأعلَى. وقد ذَكَرَ الله ذلك في كتابه في آياتٍ كثيرةٍ. وقال آخَرُون: تجبُ الوَصِيَّةُ إذا خاف المُوصِي الفَوتَ، كَدَينٍ يقضيه من حقّ الله أو حقوق العباد، وإليه صَغَى الفقهاءُ، وهو الصّحيح، وهو المرادُ بحديثِ ابنِ عمرَ: "مَا حَقُّ امرِىءٍ مُسلِمٍ" فإنّه إنَّ لم يكن عليه حقٌّ، لم تكن الوصيَّةُ عليه بحقِّ. فأمّا الآيةُ، فقد ثبت عن ابنِ عبّاس؛ أنّه قال: كَانَ المِيراثُ لِلوَلَدِ، وَالوَصِيَّةُ لِلوَالِدِ، فَنَسَخَ اللهُ ذَلِكَ بِآيَةِ المَوَارِيثِ، فَأَعطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ (¬1). وقال سعيد بن المُسَيِّب من التّابعين، وإسحاق بن رَاهُويَة من الفقهاء: نسخَ اللهُ ذلك في الوَالِدَينِ، وبَقِيَ الوُجُوبُ في الأَقرَبينَ، حتّى قال الحَسَن وطَاوُس: إنّه لو أَوصَى بثُلُثٍ لأجنَبِي لَرُدَّ ذلك إلى قَرابَتِه (¬2)، وهذا تَحَكُّمٌ منهما ليس العمل عليه لضَعفِه. وأمّا قولُ سعيدٍ: إنّها باقيةٌ في الأَقرَبِين، فيردُّه أنّ الصّحابةَ مِنَ الخلفاءِ إلى أعيانِ الفقهاءِ قبلَ أنّ يَتَعَدَّ الحالُ إليه، لم يوص لأحدٍ منهم. وقد قال علماؤنا: قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (¬3) محمول على الاستحباب؛ لأنّه عُلِّقَ بمجهولٍ، وهو مقدارُ الخَيرِ، والواجبُ لا يتعلَّق بمجهولٍ؛ لأنّ من شرطِ اَلوُجوبِ إمكانَ الفعلِ، ولا إمكانَ مع الجهالةِ. ¬
الحكم الثّاني: لَمَّا أوجَبَ الله الوصيّةَ أو ندَبَ إليها، سقطَ لزومُها وجاز في كلِّ وقتٍ تغييرُها، فلو كانت لا تُغَيَّرُ لما كانت لأحدٍ قُدرةٌ على أنّ يُبادِر إليها، مخافةَ أنّ يبقَى حيًّا ويَلزَمُهُ عَقدُها، حتّى إنّه جوَّزَ فيها تبديلَ ما لا يُبَدَّلُ وهو العِتقُ، وكلُّ شيءٍ يُفعَلُ للمَرءِ بعدَ موته فإنّه يجوزُ أنّ يَرجِعَ فسِه. وكلُّ شيءٍ يُنفِذُهُ في صحّته، يَلزَمُه. وكلُّ ما يفعَلُه في مَرَضِه، له تغييرُهُ -كما قلنا - إِلَّا العِتقَ المُبتَلَ والمدبَّرَ. وسترَى ذلك مبيَّنًا إنَّ شاء الله. في "كتاب العِتق". الحكم الثّالث: إنَّ الله تعالى لمّا مَلَّكَ الأموالَ للخَلقِ، وعَلِمَ أنّهم على قسمين: منهم من يحفُظُ المالَ، ومنهم من يُهمِلُه، فشَرَعَ الحجرَ على من أهمله من صغيرِ أو مُصابٍ، أو ضَعِيف أو سفيهٍ، وقبَضَ أيديَهُم عن الأموالِ، وأَلغَى ما يَصدُرُ عنهم فيها من الأقوال، إبقاءً عليهم ورحمةً لهم، إِلَّا أنّ يُوصُوا، فمن أوصَى منهم نَفَذَت وصيَّتُه؛ لأنّها ظاهرةٌ في وقتٍ لا يُتَوَقَّعُ عليه فسادٌ في مالِه ولا حاجةٌ في حاله، وهذا إذا كان مُمَيِّزًا يعقِلُ ما يُوصِي به، ويتكلّمُ عن فهمه من غير أنّ يُقَوَّل. وعلى هذا جاء قضاءُ عمر، وعليه حمل المجنون في حال الإِفاقَةِ. الحكم الرّابع: محلُّ الوصيَّةِ الثُّلُثُ للصّحيح والمريض، لحديث سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" (¬1) وقد رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَثَرٌ قال فيه: "إِنَّ اللهَ قَد أَعطَاكُم ثلُثَ أَموَالِكُم ¬
في آخِرِ أَعمَارِكُم زِيَادَةً في أَعمَالِكُم" (¬1) وهذا الحديثُ وإن لم يكن صحيحًا، فإنَّ معناه صحيحٌ، يُصَدِّقُه حديثُ سَعدٍ الّذي اقتضَى بظاهره تعليقَ حقَّ الوَرَثَة بمالِ المريض، وخلَّص له الثُّلُثَ لِحاجاته واستداركاته. وفي الحديث الصّحيح عن أبي هريرةَ، قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: أيُّ الصَّدَقَةِ أَفضَلُ؟ قال: "أَنَّ تَتَصَدَّقَ وَأَنتَ صَحِيحٌ شحِيحٌ، تَأمُلُ الغِنَى وَتَخشَى الفَقرَ، وَلَا تُمهِل حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلقُومَ، قُلتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا" (¬2). ومَن فَاتَهُ الاستدراكُ في محلّ الاستداركِ وهو الثُّلُث، فاختلفَ العلّماءُ هل يَلزَمُ الوارثَ أنّ يُعْطِيَ عنه ما فَرَّطَ فيه أم لا؟ فقال الشّافعيُّ: كلُّ ما فرَّط فيه من حقٍّ ماليٍّ فإنّه يخرُجُ من رأس المال، وهو قولٌ ضعيفٌ (¬3) لم يَجُز له إجماعًا؛ لأنّ تركه الإخراج وما وَجَبَ عليه من ذلك تعويلٌ على أنّ يتمتَّعَ به في الدُّنيا، ويفوته ورثته في الأُخرَى. هذا مقصدٌ لا يجوِّزه له مسلمٌ يفهم حقيقة الشَّرع. الحكم الخامس (¬4): في كيفية الوصيَّة: رُوِيَ (¬5) أنّ أمِّ المؤمنين كانت تُوصِي بهذا، وإن كان السَّلَف يُوصُون به: فلانٌ يشهدُ أنّ لا إله إِلَّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، ويُوصِي مَنْ تركَ مِن أهلِهِ بتقوى الله وإصلاحِ ذَاتِ بينهم إنَّ كانوا مؤمنين، ويُوصِي بما أَوصَى به إبراهيم بَنِيهِ ويعقوب. ¬
قيل لمالك: إنَّ رجُلًا كتب في وصيَّتِه: أؤمن بالقَدَرِ خيره وشَرِّه، حُلوه ومُرِّه، قال: ما أرى هذا (¬1). فرع (¬2): فمن كنت وصيَّتَه ووُجِدَت في تَرِكَتِهِ، وعُرِفَ أنّه خطُّه بشهادة رَجُلينِ عَدلين، قال مالك: لا تَثبُت حتّى يشهد عليها، وقد يكتبُ الرَّجُلَ فلا يَعزِم، رواه ابنُ القاسم في "العُتبِيَّة" (¬3) و"المجموعة". وقال ابن الموّاز (¬4): ولو قرأها ولم يأمرهُم بالشّهادة، فليس بشيءٍ حتّى يقول: إنّها وصيّة وإنّ ما فيها حقٌّ وإن لم يقرأها، وكذلك لو قرؤوها وقالوا: نَشهَدُ أنّها وصيَّتُكَ، فقال: نعم، أو قال برأسه نعم، ولم يتكلّم، جازَ. الحكم السّادس: في فرض الوصيَّة: قال الإمامُ: الوصيَّةُ على ضربين: فرضٌ وسنَّةٌ. والفرضُ على ضربين: منسوخٌ إلى تحريمٍ. ومتروكٌ على حالِهِ. فأمّا "المنسوخُ إلى التّحريم" فقولُ الله تعالى في الكتاب {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية (¬5)، فنسخَ قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا وصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وأمّا الثّانية: فهي وصيّةٌ بدَين للأجنَبِيَينِ، ففرضٌ عليه أنّ يُوصِي بذلك. وهل يلزَم إذا كانت لوارث أنّ يُوصي؟ قلنا: نعم يلزَمُه؛ لأنّ الشّافعيَّ وأبا حنيفةَ يُجيزانِها للوَارِث، وكذلك البخاريّ، ويحتجُّون بقوله: "أَحَقُّ ما تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ أَوَّلَ يومٍ مِنَ الآخِرَةِ وَآخِرَ يَومٍ مِنَ الدُّنيَا" (¬6) ¬
ويحملون الدَّينَ في الوصيَّة على العموم، خلافًا لمالك. وأمّا "النَّدبُ" فقوله: "ما حَقّ امرىءً مُسْلِمٍ" فجاءَ الحديثُ بلفظِ التَّخيير والوعظ، ولأنّه لو أَبَى لم يُجبَر على الوصيَّة. واختلف الفقهاء في الوصيَّة والصَّدقة في المرض أيّهما أفضل؟ ويُستحَبُّ إنَّ لم يكن له مالٌ، أنّ يُوصِي بتقوى الله ولزوم الخير أهلَ بَيْتِه ومن يحضره، كما فعل النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -. فوائدَ حديث عبد الله بن عمر: فيه (¬1): النَّدب إلى الوصيَّة في التَّطوُّع، وأمّا إنَّ كانت عليه دُيونٌ، ففرضٌ عليه الوصيَّة بها. وفي هذا الحديث: أنّ الوصيَّة نافذةٌ وإن كانت عند صاحبها إذا لم يجعلها عند غيره ثمّ ارتجعها، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ألَا لَا يَبيتَنَّ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكتُوبَة" (¬2)، وقولُه: "إِنَّ أُمِّي افتُلِتَتْ نَفسُها" (¬3) يعني ماتت بغتة. وقال في حديث عمر (¬4): إنّه قيل له: إِنَّ هَاهُنا غُلَامًا يَفَاعًا، لَم يَحتَلِم من غَسَّان ... إلى آخر الحديث. فيه من الفقه: إجازةُ وصيّة من لم يبلغ الحُلُم. وأنّ الوصيّةَ للأقارب أفضل منها ¬
باب الوصية في الثلث لا تتعدى
للأجنبي؛ لأنّ عمر أمَرَهُ أنّ يُوصِي لابنة عمِّه. والغلامُ اليَفَاعُ: الّذي قد قارب الحُلُم. وقيل: هو الّذي ارتفع شيئًا من ثمان سنين ونحوها، وإنّما اشتق اليَفَاعُ من الأرض، وهو ما ارتفع من الأرض. باب الوصيّة في الثُّلُث لا تتعدَّى قال في حديث سَعدِ بن أَبِي وَقاص، قالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي من وَجَعٍ اشتَدَّ بِي، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، قَد بَلَغَ بِي منَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابنَةٌ لِي، أَفأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَي مَالِي؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا" فقُلتُ: فَالشَّطرُ؟ قالَ: "لَا" ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أنّ تَذَرَ ورَثَتَكَ أَغنِيَاءَ، خيرٌ من أنّ تَذَرَهُم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ، وَإنَّك لَن تُنْفِقَ نَفَقَةً تبتغِي بِها وَجهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرتَ، حَتَّى ما تَجعَلُ في في إِمرَأَتِكَ" قالَ: قُلتُ يا رَسُولَ اللهِ، أَأُخَلَّفُ بعدَ أَصحَابِي؟ فَقال رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنكَ لَن تُخَلَّفَ، فَتَعمَلَ عَمَلًا صالِحًا، إِلَّا ازدَدتَ بِهِ درَجَةً وَرفعَةً، وَلَعَلَّكَ أنّ تُخَلَّفَ حَتَّى ينتَفِعَ بِكَ أَقوامٌ وَيُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمضِ لأَصحَابِي هِجرَتَهُم، وَلَا تَرُدَّهُم عَلَى أَعقَابِهِم. لكِنِ البَائِسُ سَعدُ بنُ خَولَةَ"، يَرثِي لهُ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ ماتَ بِمَكَّةَ (¬1). الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ متَّفَقٌ عليه. ¬
الفقه والفوائد المنثورة في هذا الحديث: الفائدةُ الأوُلى (¬1): فيه: أنّ المريضَ ليس له من مَالِهِ إِلَّا الثُّلُث في وصاياه. الثّانية (¬2): فيه: عيادة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لأصحابه إذا مرضوا. وزيارة المريض من البِرِّ ومن القُرَبِ، يدلُّ على ذلك حديث البَرَاء، قال: أَمَرَنَا رسول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - أَن نَتَبِعَ الجَنَائِز، ونَعُودَ المَرِيضَ، وَنُفْشِي السّلَامَ (¬3). الثّالثة (¬4): قوله: "قَد بَلَغني منَ الوَجعِ ما تَرَى" فيه دليلٌ على جواز إخبارِ العلّيل (¬5) وما يَجِدُه المرء، إذا لم يُرِد بذلك الشَّكوَى والسَّخط، ويجوز (¬6) إذا تَسَبَّبَ إلى المعافاة أو المعاناة (¬7)، أو يُخبر به من يرجُو برَكَتَه بدُعائِه. الرّابعة (¬8): فيه: أنّ مفهوم الخطّاب يقومُ مقامَ الخطّاب، لقوله: "ما تَرَى" ما نزل بي، يعني: ما أصفُ لك. الخامسة (¬9): فيه قوله: "لَا يَرِثُنيِ إِلَّا ابنَةٌ لِي" أراد من الوَلَد؛ لأنّه كان له عصبة، فسكت عن ¬
ذلك لعلّم السَّامع، وكان هذا في آخر حياة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، ففيه الرَّدِّ على مَنْ يقول بالرَّدِّ على الابنة، ألَّا ترى قول سَعد: "وَلَا يَرِثُنِي إِلَا ابنَةٌ لِي" أراد أنّها لا تُحيط بالكلِّ. السّادسة (¬1): قوله: "عالَةً" يريد فقرًا، ومنه قولُه تعالى: {وَوَجَدَكَ عائلًا فأغنَى} (¬2) وقد اختلف النَّاس في ذلك: فقيل: غِنَى القلب. وقيل: غِنَى الحسنات. وقيل: غِنَى المال، أي أغناك بمال خديجة، على ما نُبيِّنُه في "التّفسير" في سورة والضُّحَى (¬3)، إنَّ شاء الله. السّابعة (¬4): قوله في الحديث: "أأُخَلَّفُ بَعدَ أَصحابِي" يحتمل أنّ يريد: أخلف في مكَّةَ بعد خروجهم إلى المدينة، وهذا يدلُّ على فضل المدينة. وفيه: دليلٌ على أنّ الهجرة لم تنقطع عمّن هاجر قبل الفتح، وإنّما جاء: "لَا هِجرَةَ بَعدَ الفَتحِ" (¬5) على معنى: أنّ من لم يكن هاجر قبل ذلك أنّ يهاجر إلى المدينة فيقيم بها، والذي جاء في حديث صفوان؛ أنّ من مات ولم يهاجر هلك (¬6)، يقول: من لم يأتِ المدينة فيُقيم مع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولقوله تعالى: {وَمَن يهاجِر في سَبيلِ اَللهِ يجِد في اَلأرضِ ... (¬7) ¬
والمهاجرة والمصارمة واحد. الثّامنة (¬1): قوله: "لكِنِ البائسُ سَعدُ بنُ خَولَةَ، يَرثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ أنّ مّاتَ بِمَكَّةَ" والبائس هو الفقير، وهو مشتقٌّ من البُؤس (¬2)، وأراد به هاهنا النَّقصَ من الخير والفضل، والله أعلم. وقوله: "يَرثِي" يقول: يتوجّع، ومنه المراثي في الشِّعر، فتوجَّعَ له رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إذ ماتَ بمكَّة. التّاسعة (¬3): اتفقتِ الأُمَّةُ على أنّ الوصيّةَ بالثُّلُث هو المعمول بها اليوم. فإن قيل: قد رُوِيَ عن عمر أنّه أوصى بالرُّبع، وأَوصَى أبو بكر - رضي الله عنه - بالخُمس، وقال: رَضيتُ في وصيَّتِي ما رَضِي الله به لنفسه من الغنيمة (¬4). قلنا: إذا ثَبت ذلك، فليس بمعمولٍ به؛ لأنّه قدِ اتَّفقَ العلّماءُ على أنّ من له وارثٌ فليس له أنّ يُوصي بأكثر من ثُلُثِه، لقوله: "والثُّلُثُ كَثِيرٌ" ولقوله: "إِنَّكَ أنّ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِياءَ ... " الحديث (¬5)، فثبت أنّ للوَرَثَة حقٌّ في مال المريض يمنع ما زاد على الثُّلُثِ. فرع (¬6): فإن لم يكن له وارثٌ، فهل له أنّ يوصي بماله كله؟ فَمَذهَبُ مالكٍ أنّه لا يجوز (¬7)، وبه قال الشّافعيّ (¬8)، وهو قول زَيد بن ثابِت. ¬
وجوَّزَ ذلك أبو حنيفة (¬1)، ورُوِي ذلك عن ابنِ مسعود (¬2) وعليٍّ. فرع آخر (¬3): إذا ثبت ذلك، فمن مات ولا وارثَ له، فقد روَى محمّد عن ابنِ القاسم (¬4): يتصدَّق بماله، إِلَّا أنّ يكون الوالي يُجرِيهِ في وجهه، كعمر بن عبد العزيز فليدفع إليه. وكذلك من أعتق نصرانيًا، فمات النَّصرانيُّ ولا وارث له، فليتصدّق بماله ولا يجعله في بيت المال (¬5). ولو أوصى نصرانيٌّ بماله للكنيسة، ففي "العُتبِيَّة" (¬6) عن ابن القاسم؛ أنّه يدفع إلى أساقفتهم ثُلُثَه وثُلُثَاهُ للمسلمين. ووجه ذلك: أنّه لم يكن له وارثٌ فماله للمسلمين، فالحكم في ترِكَتِه بين المسلمين وبين النّاظر في الكنيسة، فيجري على حكم الإسلام، فلا تجوز له وصيَّة في أكثر من ثُلُثِه. العاشرة: وإذا أوصَى الرَّجُلُ بأَمَتِه أنّ تعتق على ألَّا تتزوَّج، ثمّ ماتَ، فقالت: لا أتزوَّج، فإنّها تعتق من ثُلُثِه، فإن تزوّجت بعد ذلك لم يبطل ذلك وصيّتها، من قِبَل أنّ عتقها قد وجب، وهو قول أبي ثور والأوزاعيّ واللَّيث بن سعد وأهل الرَّأي، وبه أقول. واختلفَ العلّماءُ في الرَّجُل يُوصِي لأمِّ الولد بألف درهم على ألَّا تتزوَّج، أو قال: ¬
إنَّ لم تتزوّج، أو على أنّ تثبت مع ولدي، فقبلت وفعلت بما اشترط عليها بعد موته، فإنّ الوصيّة لها من ثُلُثه. فإن تزوّجت بعد ذلك لم تبطل وصيَّتُها في قول أصحاب الرَّأي. وقال أبو ثور: يرجع عليها بالوصيّة. فرع: وإذا أَوصَى الرَّجُل بعتقِ عبده على ألَّا يفارق ولده، وعليه دَين يحيط بماله، بطلت وصيّته وبِيعَ في الدِّين، فإن أَعتَقَه الوَرَثَة لم يُجزِىء عنهم. فرع: الرَّجُل يُوصِي بوصيَّةِ بعد وصيَّة، فقالت طائفة: ينفذان جميعًا إنَّ لم يكن رجعَ عن الأوّل، وهو قولُ مالك (¬1) والشّافعيّ ورَبِيعَة وإسحاق وأحمد. الحادية عشر: أنّ للرجل أنّ يرجع في جميع ما يُوصِي به إِلَّا العِتق فإنّهم اختلفوا فيه: فرُوِيَ عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: يُغيِّر الرَّجُل ما شاءَ من الوصيَّةِ (¬2)، وبه قال عطاء والزّهريّ وقَتَادة ومالك والشّافعيّ (¬3). وقال أحمد وإسحاق، إِلَّا التَّدبير في قول مالك. وقالت طائفة: يُغَيِّرُ الرَّجُل ما شاءَ من الوصيَّةِ إِلَّا العتاقة، وعلى هذا جمهور أهل العِلم. وقالت طائفة: لا تجوز وصيةُ الصبي حتّى يبلغ، ولا تجوز وصية الأحَمَقِ والمُوَسوس، وهو مذهب مالك. وأوقت إياس بن معاوية وصيَّة الصَّبيِّ والمجنون. وأمّا وصيّة الأسير فلا تجوز إِلَّا في الثُّلُثِ، وبه قال أحمد وإسحاق وسفيان الثّوريّ، والفروعُ كثيرةٌ جدًا، لُبابها ما سردناه عليكم. ¬
باب ما جاء في المؤنث من الرجال
باب ما جاء في المؤنَّثِ من الرجال قال الإمام: ذكر مالكٌ (¬1) حديث المُخَنَّثِ الدّاخل على أُمِّ سَلَمةَ إلى آخر قوله في الحديث، وهو صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال الإمام (¬3): هذا المُؤَنَّث اسمه هِيْت (¬4)، وكان مولى لعبد الله بن أبي أمَيَّة أخي أم سَلَمَة، وكان يدخل على أزواج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأُرَى ذلك لقوله تعالى: {غَيرِ أُولي الإربة} الآية (¬5). العربيّة: قوله (¬6): "أَنَّ مُخنَّثًا" "وهو المؤنَّثُ من الرِّجالِ وإن لم تُعرَف فيه الفاحشة؛ لأنّ الخنث هي شدّة التَّأنثِ في الخِلقَةِ والفعل" (¬7). وهو مأخوذٌ من تكسُّرِ الشَّيء، ومنه حديثُه الآخر: أنَّه - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عنِ اختِناثِ الأَسقِيَةِ (¬8)، وهو أنّ تكسر أفواه الأسقِيَةِ ويشرب منها. وكانت هيئة هذا المخنَّث: "مُؤنَّثُ النّغمَة، يُشبِهُ المرأةَ في الخُلُقِ واللّين والتَّكسُّر واللّفظ واللحظ والفعل والعقل" (¬9). ¬
الفوائد المتعلّقة به والشرح: وهي جمّة: الأولى (¬1): قولُه: {غير أولي الإربة} الآية (¬2)، قال عِكرِمَة وأهل التَّفسير: هو المُخَنَّثُ الّذي لا يقوم له، يريد العِنِّين. وقيل: هو الشَّيخ الهَرِم، والخُنْثَى، والمَعتُوه، والطِّفل، والعِنِّين. وقال ابنُ عبّاس: هو الأحمق الّذي لا حاجةَ له بِالنّساء (¬3). وقال مجاهد: هو الّذي يَتْبعك ليصيب من طعامك، ولا يريد النِّساء، ولا يهمه إِلَّا بطنه (¬4). وقال ابنُ الكلبي: إنّه (¬5) قال لعبد الله بن أبي أُمَيَّة وهو عند النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في بيت أمِّ سَلَمَة: إنِ افتَتَحتُمُ الطَّائفَ فَعَلَيكَ بَبَادِنَة بنت غيلان، فَإِنَّها تُقبِلُ بِأَربَعٍ وَتُدبِرُ بثَمَانٍ، مَعَ ثَغرٍ كالأَقحُوان، إنَّ قَعَدَت تَبَنَّت، وإن تَكَلَّمَت تَغَنَّت، بَينَ رِجلَيهَا كَالإِنَاءِ المكفوء، ورسولُ اللهِ يسمع، فقال: "لَقَد غلغلت النَّظَرَ إِلَيهَا يا عَدُوَّ اللهِ" ثمّ أجلاه إلى الحمى، قال: فلما فُتِحَتِ الطّائف تزوّجها عبد الرّحمن بن عَوف فولدت له بريهة، ولمّا قُبضَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - وولي أبو بكر كلَّمَهُ فيه، فأبَى أنّ يَرُدَّهُ، فلمّا ولي عمر، قيل له: إنّه قد ضعف وكبر واحتاجَ، فأذن له أنّ يدخل كلَّ جمعةٍ فيسأل النَّاس ثمّ يرجع إلى مكانه (¬6). ¬
الثّانية (¬1): قال ابنُ وهب: يقول: "إذا أَقبَلَت ألَّا تَرَى إِلَّا صَدرَهَا وَمُلُوسَةَ بَطنِهَا، لا يشفُّ مِنهَا شَيءٌ عَلَى شيءٍ، وَإِذَا أَدبَرَت تبين أَعكَانُها من كِلَا الجانِبَين (¬2) " فلمّا سمعه النّبيُّ يصفُ النِّساء، قال: "لَا أَرَاهُم إِلَّا يعرِفُونَ النِّسَاءَ، لَا يَدخُلُونَ عَلَيكُنَّ". وقال أهل التّفسير: إنّما قال "بِثَمانٍ" ولم يقل: "بثمانية"، وهي الأطراف، واحِدُها طرفٌ وهو مُذَكَّر؛ لأنّه لم يقل: "ثمانية أطراف"، فلمّا جاء بلفظ الأطراف لم يجد بُدًّا من التّذكير، وهذا كقولهم: هذا الثّوبُ سبعٌ في "ثَمان (¬3)، فلم يذكّر. وقوله (¬4): "تُقبلُ بِأربَعٍ" يريد أَعكَانَها؛ لأنّ العُكَنَ هي أربعُ طرائق في بَطنِها، رواه حبيب عن مالك (¬5). وقوله: "وإن تَكَلَّمَت تَغَنَّت" يعني من الغُنَّةِ وليس من الغِنَاءِ؛ لأنّ العرب تقول من الغُنَّةِ: تغَنَّى الرَّجُل في كلامه وتغنَّن، وكما يقال من الظَّنَّ: تَظَنَّى وتَظَنَّنَ. الثّالثة (¬6): قال علماؤنا: كان دخولُ هذا المُخَنَّث على النِّساء في غَزوَة الطّائف بعد نزول الحِجَاب بسنتين، وإنّما كان مأذونًا له في ذلك لكونه من أُولى الإِربَة، وللحَجبَةِ أحكامٌ كثيرةٌ، ولم يفرد لها علماؤنا كتابًا ولا بابًا مستوفىّ. ¬
الرّابعة (¬1): وأمّا "أولوا الإِربَة" فعلى ضربين: ذَوُوْ محارم، وأجنبيون. فأمّا ذَوُو المحارم، فيجوز لهم الدّخول على ذات محارمهم، والنّظر إلى ما جرت به العادة بكشفه، كالوجه والشَّعْر والعضدين. وقد قال مالك في "الموّازية": لا بأس أنّ يرى شعر أمّ امرأته وامرأة أبيه، ولا بأس أنّ يقبّل خدَّ ابنته إذا قَدِمَ من سفره (¬2). وأمّا أنّ يراها مجرّدة فلا يجوز ذلك. وفي "العُتبيَّة" عن ابن القاسم عنه (¬3): يستأذن على أُمّه وأخته، ولا يجوز أنّ يَرَى أمَّه عريانة. وقيل في قوله تعالى: {وَلا يبُدين زِينَتَهُنَّ إِلا ما ظَهَرَ مِنها} (¬4) قيل: هو الوجه والكفّان لأنّها لا تستر في الصّلاة (¬5). وأمّا أم الزّوجة، فجوَّز مالك النَّظَر إلى شعرها، ومنَعَهُ ابن جُبَيْر. ودليلُنا: أنّها محرّمةٌ على التّأبيد، كالأُمِّ والأخت. وأمّا من ليس بذي مَحرمٍ، فلا يخلو أنّ يكون الوطء مباحًا أو لا. فإن كان مباحًا له، فهو الزّوج والسيِّد، فإنّه يجوز له أنّ ينظر إلى العورة وغيرها، وهي أيضًا كذلك (¬6). ومن لا يُباحُ له الوطء على ضربين: صغير، وكبير. أمّا الصّغير، فلا كلام فيه (¬7). ¬
وأمّا الكبير، فعلى ضربين: خَصِيٌّ وفَحْلٌ. فأمّا الخَصِيُّ: فلا يخلو أنّ يكون عبدًا أو حرًّا، فإن كان عبدًا لها، فلا بأس أنّ يدخل عليها، وهو المشهور، وأن ينظر إلى شعرها وأن يرى وجهَهَا. فأمّا الحرّ من الخصيان، فكره مالك أنّ يدخل عليها عبدًا كان أو غيره. وأمّا الفحل، فعلى ضربين: عبدٌ أو حرٌّ. فالعبد لها لا بأس أنّ يراها على الوجهِ الّذي تقدَّم. الخامسة (¬1): قوله (¬2): "فَوَجَدَ ابنَهُ عَاصِمًا" يقتضي أنّه كان هنالك عند أمّه، أو جَدَّتِهِ، ولعلّه كان عند جدَّته زائرًا، ولعلّ أمّه كانت تزوّجت فانتقلتِ الحضانة إلى الجدَّة. وهنا الكلام على الحضانة، وأصلُ هذا: أنّ الفقهاء متَّفِقون على أنّ الأمَّ أحقُّ بالحضانة ما لم تتزوّج. وقد خَرَّجَ أبُو داود في هذا الباب أحاديث: وذلك أنّ امرأة جاءت إلى النّبيِّ عليه السّلام، فقالت له: يا رسول الله: هذا ابني، كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حِواءً، وإنّ أباه طلَّقني، ويريد أنّ يأخذَه مني، فقال لها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَم تَنكِحِي" (¬3). واتَّفقَ العلّماءُ على ذلك؛ لأنّ الآدميَّ محتاج في صِغَرِه إلى الكفالة، محتاج في كِبَرِهِ إلى النُّصرة والولاية، والأمُّ على الكفالةِ أَقْدَر، فهي أَولَى به، وهو يأوي إليها إذا وجدها، والوالدةُ مهما عَكَفَت على الوَلَدِ كانت به أحقّ، فإذا دخل بها زوجُها الثّاني سقط حقّها بالنَّصِّ وبالمعنى، وهو أنّ الضَّرر يلحق الولد باشتغالها بزوجها في حالة الكفالة، وتعريض ولد الغير معه للذِّلَّةِ، فأزيل عنها لهذا. ¬
نكتةٌ أصوليّة (¬1): واعلموا أنّ الموجود هاهنا عمودان: 1 - أحدهما: عمود الأمّ، وقد قَضى النّبيُّ (*) بالوَلَدِ للخالة حسب ما تقدّم. 2 - فإن لم يكن عمود الأمّ، فالأب وأهله. واختلفوا هل يقدّم؛ الأب على أهله لأنّهم يستحقّون، أو يقدَّم الأهل عليه لأنّهم أرفق به؟ والصّحيح: أنّ الأبَ يقدَّم لأنّه أنظر له، يرى حاله معه، فإن استقلّ بالكفاية، وإلّا نقله إلى من يرى من أهله. واختلف العلّماءُ هل الحضانة حقٌّ لله أم للحاضنة أم للولد؟ فقال (¬2) مالك: هو من حقوقها -يعني الأمّ- إنَّ شاءت أخذته، وإن شاءت تركته (¬3). قال عبدُ الوهّاب (¬4): فهذا قلنا: إنّه من حقوقها، فلقوله: "أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَم تَنكِحِي" (¬5). ومن جهة المعنى: أنَّه يلحقها بالتّفرقة الضَّرَر، مع ما جُبِل عليه النِّساء من الإشفاق من ذلك والتَّوجُّع. وإذا قلنا: إنّه حقّ له، فلأنَّ الغَرَضَ حفظه، ولذلك يُؤخَذ منها إذا تزوّجت وإن لحقّها الضَّرَرُ بأخذه. ¬
قال الإمام: والذي عندي: أنّ فيه حقًّا لكلِّ واحدٍ منهما. تفريع (¬1): قال علماؤنا (¬2): ونهاية الحضانة في قول مالك البلوغ في الذُّكور، ورأيت لابن وهب عن مالك: الإِثغَار. وقال ابنُ الجلّاب (¬3): "حدّها الاحتلام، وقيل: الإِثغَار". وأمّا في الإناث، فلا نعلم أنّه اختلفَ قولُه بأنّ لها الحضانة إلى أنّ يدخل بها زوجها، إِلَّا أنّ يكون موضع أبيها أَحْرَزَ لها. وقال أبو حنيفة (¬4): إنَّ كانت أُنثَى فحتَّى تبلغ، وإن كان ذكرًا فحتّى يستَغْنِي عمّن يحضنه ويقوم بنفسه. وقال الشّافعيّ (¬5): إذا بلغ سبع سنين أو ثمانية خُيِّرَ بين أَبَوَيه. وقد احتج علماؤنا بقوله: "هُوَ حَقٌّ لَكِ مَا لَم تَنكِحِي" وهذا الحديث ليس إسناده ممّا يحتجُّ به، ولا في هذا الباب شيءٌ يُعتَمَدُ عليه. ووجه ذلك: أنّ ابنَ سبع سنين لا يقدر على الانفراد بنفسه، والأمُّ أشفَق عليه وأصبر على خدمته، فكانت أحقّ به حتّى يبلغ، وهو الحدّ الّذي يقوى فيه ويستقلّ بنفسه. فرع (¬6): ولا يُمنعُ الولدُ من الاختلافِ لأبيه يعلِّمُه ويأوي إلى أُمِّه، رواه ابنُ حبيب عن ابن المَاجِشُون. ¬
فرع (¬1): وإن شكا الأب ضياع نفقته وأراد أنّ يُطعمه، فله ذلك، ولكن يأوي إلى أمّه أو خالته (¬2). فرع (¬3): فإذا ثبت أنّ حضانتها تبطل بدخول الزّوج بها، فإنّها تنتقل إلى أقرب النِّساء بالصَّبيِّ، وينتقل ذلك بتزَوُّج الأمّ. ولا يخلو أنّ يكون الولد ذكرًا أو أُنثَى، فإن كان ذكرًا فإنّه ينتقل إلى من له حقٌّ في الحضانةِ من أنثى أو ذكرٍ، قال محمّد: مثل الوصيِّ ومولى النّعمة، ومَولَى النّعمة أحقّ من الأم إذا تزوّجت. وقال مالك: الأولياء أحقّ بالحضانة إذا تزوّجت؛ لأنّ الأولياء هم العَصَبَةُ. وإن كانت أُنثَى، فقال مالك في "الموّازية": العمّ والجدّ (¬4)، وأمّا الوصّيُّ، فإن كان ذا محرم، فهو أحقّ من الجدّ، وإن لم يكن ذا محرم، فقد قال مالك * في "الموّازية": ¬
كونها مع زوج أُمّها أَوْلَى؛ لأنّه ذو محرم. وقال أَصبَغ *: إذا تزوّجت فالوصيُّ أحقّ به غلامًا كان أو أنثَى. فرع (¬1): فإن لم تكن جدَّة، أزيلتِ الحضانةُ عنها بالنِّكاح، والظّاهرُ من المذهب أنّها تنتقل عنها إلى الخالة. وقال محمّد عن مالك (¬2): إنَّ الأب أحقّ من الخالةِ. قال أَصبَغُ: وليس هذا بشيءٍ. وقولُ مالك المعروفُ أنّ الخالةَ أحقّ. ووجه الأوّل: ما رُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قَضى بالحضانةِ في ابنة حمزة بن عبد المُطَّلِب لخالتها، وهي زوج جعفر بن أبي طالب، وقال: "الخالَةُ أُمٌّ" (¬3). وخالة الأمِّ كالخالة، قاله مالك في "الموّازية" وقال في "المُدَوَّنَة" (¬4): الخالةُ أحقّ من الجدّةِ. فرع (¬5): وإذا عدم النَّساء، فالأب والأخ، ثمّ الجدّ، ثمّ ابن الأخ، ثمّ العمّ. وقال محمّد: والوصيُّ ومَوْلَى النِّعمة أَولَى من الأمّ إذا تزوّجت. وقال في "المدوّنة" (¬6): مَوْلَى النَّعمة من الأولياء، وموالي العتاقَة وابن العمّ من الأولياء، وكذلك العَصَبَة، وإنّما يستحق ذلك الأقرب فالأقرب. ¬
فرعٌ (¬1): وهذا إذا كانتِ الحاضنةُ مع الأب في بلدٍ واحدٍ، أو فيما حُكمُه حكم البلد الوَاحدِ. وأمّا مع الاختلاف في المواضع، فالأبُ ومن له حقّ من العَصَبَة أَولَى، وفي هذا مسألتان: المسألة الأولى: فيمن استحقّ ذلك بافتراق الدارَين. والثّانية: في المسافة الّتي بها يحصل حكم الفراق. * المسألة الأولى (¬2): فإذا أراد الأبُ أنّ يرتحل إلى بلد غير بلد سُكنَى الأمّ يريد السُّكنَى، فله أنّ يرتحل بولده معه، تزوجت الأمّ أم لم تتزوّج، وإن كان إنّما* هو مسافرٌ يجيء ويذهب، فليس له أنّ يخرجهم عن الأمّ، قاله مالك: في "المُدَوّنة" (¬3). وقال في "الموّازية": وإن كان يَرضَعُ ذكرًا كان أو أنثى. وكذلك لو كانوا كبارًا ما دام يقيم. قال: وكذلك لو تزوّج ببلدٍ فولد له، ففارق الزّوجة ثمّ أراد أنّ ينتقل به إلى حيث شاء، ما لم يكن موضعًا قريبًا لا ينقطع بغيبته خبرهم. ووجه ذلك: أنّ كونهم مع أبيهم أحوط وأثبت للنسب. فرع: قال (¬4): "والوصيُّ في ذلك بمنزلةِ الأبِ، إذا (¬5) ارتحلَ فهو أحقّ بالصّبيان، وليس لأحدٍ منعهم من إخوة أو أعمام. ووجه ذلك: أنّه النّاظر لهم دُونَهم ودون الحاضنة، ومالهم عنده، فكان كالأب". ¬
فرع (¬1): والأولياءُ بمنزلةِ الأب في انتقالهم معه عن مكان الأمِّ تزوجت أم لا، قاله مالك. ووجهه: أنّهم عَصَبَةٌ. فرع (¬2): وإن أرادتِ الأمُّ الانتقالَ عن موضِع الأبِ والعَصبَةِ، لم يكن لها ذلك؛ لأنّ مُفَارَقَةَ الطِّفلِ عَصَبَتَه في الدّار كانتقال العَصَبَة. المسألة الثّانية (¬3): في تقدير المسافة الّتي لا تأثير لها: فقال في "المدوّنة" (¬4): ليس لها أنّ ترتحل بهم إِلَّا البريد (¬5) ونحوه حيث يبلغ (¬6). وقال ابنُ القاسم في "الموّازية": ليس لها أنّ ترتحل بهم إِلَّا مثل المرحلة والمرحلتين، وقاله مالك أيضًا. وقيل (¬7): ليس للأب أنّ يرتحل أكثر من ستّة بُرُدٍ (¬8). وقال أشهب: ليس لها أنّ تنتقل به أكثر من ثلاثة بُرُدٍ. فرع: وهذا إذا كان الأب حرًّا، فإن كان عبدًا لم يكن له أنّ يَظْعَن (¬9) به، سواء كانت أُمّه حرّة أو أمَة، قاله مالك في "المدوّنة" (¬10). ¬
فرع: وإن كان الأب حرًّا والأُمّ أَمَةَ فعتق الابن، فالحضانة للأمّ، إِلَّا أنّ تباع أو تنكح أو يظعن الأب، قاله مالك (¬1). وأم الولد (¬2) فهل لها حضانة إذا أُعتقت؟ قال ابن وهب (¬3): لا حضانة لها. وروى ابن القاسم في "الموّازية" و"العُتبيّة" (¬4): أنّها أحقّ بالحضانة كالحرّة. وقول ابن وَهب عندي مبنيٌّ على أنّ الرِّقَّ يمنعُ ولاية الحضانة، ولذلك ليس للعبد حضانة ابنه في الظَّعْنِ. فرع: فإن أعتقت على إن تركت (¬5) حضانة ولدها؟ فقد روى عيسى عن ابن القاسم أنّه يردّ إليها، بخلاف الحرّة تُصالحُ الزّوجَ على تسليم الولد إليه لا يلزمه. وروى عنه أبو زَيد؛ أنّ الشّرط لازم كالحُرَّة. ¬
باب جامع القضاء وكراهيته
باب جامع القضاء وكراهيَّته (¬1) قد تقدّم الكلامُ في كتابُ القضاء (¬2) بما يُغنِي عن إعادتِه هاهنا، غير أنّ ولاية القضاء خلافة الله في أرضه، ونيابة عن رسوله في شرعته، ومنزلة ذات خطرٍ مع ما فيها من الخَطَر، ولذلك خَوَّفَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - منها كثيرًا، فقال: "مَنْ جُعِلَ بَينَ النَّاسِ قَاضِيًا، فَكَأنَّما ذُبِحَ بِغَيرِ سِكِّينٍ" (¬3). القضاء في حال العبيد (¬4) اعلم أنّ العبدَ له شرف الآدميَّةِ، خلَقَهُ الله حيًّا درَّاكًا، عاقلًا مُمَيِّزًا، فإذا آمنَ كَمُلَت درجتُه، بل في الحديث أنّها زادت على درجة الحُرِّ، لقوله: "ثَلَاثَةٌ يُؤتَونَ أَجرَهُم مَرَّتَينِ" فذَكَرَهُ وقال: "عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَمَوالِيهِ" (¬5) وهذا حقٌ مردُّهُ ربُّنا، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِخْوَانُكُم خَوَلُكم، مَلَّكَكُم اللهُ رِقابَهُم، أَطعِمُوهُم مِمَّا تَأكُلُونَ، وَاكسُوهُم مِمَّا تَلبَسُونَ" الحديث" (¬6). فأخبر النّبيُّ -عليه السّلام- أنّ الأُخُوَّة والمِثلِيَّة ثابتةٌ بين العبد وسيِّده، إِلَّا أنّ درجته نقصت بمِلكِ الرَّقَبَة. وحقيقة ذلك ومعناه: أنّ للعبدِ ذِمَّةً، وذِمَّتُهُ لا سلطانَ للسَّيِّد عليها، والدَّمُ معلومٌ، والذِّمَّةُ مجهولةٌ عند الناسِ. وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف" وأنّها عبارة عن كونِ العبدِ أهلًا للإِيجابِ والاسحباب، وفي العبد التّصرُّف والانتفاع؛ وهو حقٌ للسَّيِّدِ، ثبت فيه ¬
باب القضاء في البيع الفاسد
ثبوتًا رسخ فيه في الرَّقَبة، وتميَّزَ به عن عقدِ الإجارة الثّابت في المنفعة. فإذا فهم هذا، فكلُّ ما كان من الحقوق يتعلَّق بالماليّة والمنفعة فهو للسَّيِّد، وكلُّ ما كان من الحقوق يتعلَّقُ بالدَّم والذِّمَّة فهو للعبد، إِلَّا أنّه ممنوعٌ شرعًا أنّ يُلقِيَ في دَمِهِ أو ذِمَّتهِ معنًى يضرُّ بالسَّيِّدِ في ماليتِه، فإن فعل، فعلى شَكٍّ من القول الّذي يمكن ردّه، وما كان من الفعل الّذي لا يمكن ردُّه نَفذَ واستوفَى حكمه، وإن تعدَّى إلى حقِّ السَّيِّد لكون الآدمِيَّة والدَّمَوِيَّة والذِّمِّيَّة أصولًا (¬1)، وعلى هذا النّوع تتركّب مسائل الفروع. باب القضاء في البيع الفاسد (¬2) وهي مسألةٌ عظيمةٌ انفردَ بها الشّافعيُّ (¬3) دون مالك وأبي حنيفة (¬4)، وقَوِيَ عليهما فيها، فقال: إذا باع الرَّجلُ بيعًا فاسدًا واتّصل به القَبض، فإنّه يردّ في كلّ وقتٍ وعلى كلّ حالٍ، لا يؤثّر فيه عيبٌ، ولا تمنع منه حَوَالَة الأسواق، ولا يتوقّف فيه بنَمَاءِ سِلعَةٍ. ¬
وإن دخل عليه عِتقٌ أو بَيع صحيحٌ نقض ذلك كلّه، ورجع كلّ ما دفع البائع والمبتاع إلى صاحبه؛ لأنّ كلّ ما ينبني على غير قاعدةٍ فهو واهٍ (¬1). وهذا كلامٌ لا غبارَ عليه ولا مُعارِضَ له. وقد تكلّمنا عليه معهم في "كتب المسائل والخلاف" فلينظر هنالك. ¬
كتاب العتق
كتابُ العِتْقِ التّرجمة والعربيّة: قال ثَعْلَب: يقال أعتق الغلام فهو مُعتَقٌ، وخُصَّتِ الرَّقَبَةُ بذلك لأنّها تملك الجسد كلّه. ومعنى أعتقه: أي جعله عتيقًا، والعَتِيقُ الكريمُ، والعتيقُ من كلِّ شيءٍ: الكريمُ (¬1). قال الإمام: فيه حديثُ ابنِ عُمَرَ (¬2)؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَعتَقَ شِركًا لَهُ في عَبدٍ، فَكانَ لَهُ مَالٌ يَبلُغُ ثَمَنَ العَبدِ، قُوِّمَ عَلَيهِ قِيمَةَ العَدلِ، فأعطَى شرَكاءَهُ حِصَّتَهُم، وَعَتَقَ عَلَيهِ العبدُ. وَإِلَّا فَقَد عَتَقَ مِنهُ مَا عَتَقَ". وقد (¬3) رُوِيَ من غير طريق ابن عمر: "فَإِن لَم يَكُن لَهُ مَالٌ يَبلُغُ استُسعِيَ العَبد غَير مَشْقُوق" (¬4)، فتعلَّق بذلك أهل العراق، وقالوا: إنَّ جَميع العبدِ حرٌّ ويُستَسعَى في قيمةِ نصيبِ الّذي لم يُعتَق، ويقولون: إنَّ قوله في الحديث: "فَقَد عَتَقَ مِنه ما عَتَقَ" هو من كلام نافعٍ، وليس من الحديث ولا من لفظ النّبيِّ (¬5). ¬
وقيل في لفظٍ: "وَإِلَّا استُسعِيَ" من كلام قتادة؛ فإن صحَّ ذلك فعلى النَّدْب، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فكاتبوهم إنَّ علمتم فيهم خيرًا} (¬1). وحديثُ ابن سِيرِينَ (¬2)؛ أنّ رجلًا في زمان رسول الله -صلّى الله عليه وسلم - أعتقَ عَبيدًا له سِتَّةً عند مَوتِهِ، فأسهمَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بينهُم، فأعتق ثُلُثَ تلك العبيدِ. قال مالك: وبلغني أنّه لم يكن لذلك الرَّجل مال غيرهم. قال الإمام: هذا الحديث مُرسَلٌ عند مالك (¬3)، وقد أسنده غير مالكٍ (¬4) فذكره عن ابن سِيرِين عن عِمرَان بن حصين، أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أقرعَ بينهم. مقدمة (¬5): اعلموا أنّ العِتْقَ من أفضل الأعمال وأعظم القُرُبات ثوابًا، جعَلهُ الله مخلصًا للأرِقَّاءِ الذين ابتلاهم به عقوبة، فَمَنَّ عليهم بالعِتقِ بعد ذلك نِعمَة خَلَّصَهُم بها، وآجَرَ المُتَوَلِّينَ له عليه. ولله تعالى عُتَقَاء، فأقربُ العبيد إليه من أعتق عبدًا بين يديه. قال النّبيُّ -عليه السّلام-: "مَا مِن امرِيءٍ مُسلِمٍ يعتقُ عَبدًا مُسلِمًا إِلَّا أَعتَقَ اللهُ بكُلِّ عُضوٍ مِنهُ عُضوًا مِنَ النّارِ حَتَّى الفرجَ بِالفرجِ" (¬6) والآثارُ في فضيلة العِتقِ كثيرةٌ، بيانُها في "الكتاب ¬
"الكبير" إنَّ شاء الله. الأصول (¬1): وللعِتق اسمان: أحدهما: العتق. والثّاني: الحريّة. ولا خلافَ فيهما لكونهما صريحين غالبين في هذا الباب وَضْعًا وعُرْفًا، ويلحق بهما قول الرَّجُل في عبده: هو لله. والأصل في ذلك -أعني الحريّة- معانٍ: منها حديث أبي هريرة في الصّحيح حين هاجر إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مع عبده فبلغَ إليه دونه (¬2)، فبينما هو مع النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - إذ طلع عليهم العبدُ، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرةَ، ها هو، فقال أبو هريرة: هُوَ حُرٌّ" (¬3)، وفي رواية: "هو لله" (¬4). والصّحيح: أنّ قولَ القائلِ: "هو لله" ليس بصريح؛ لأنّه يحتمل وجوهًا سوى العِتْق، إِلَّا أنّ يكون في سياق الكلام ما يدلُّ عليه، ألَّا ترى أنّه لو قال الرَّجل في عبده: "هو حرٌّ" وأشار إلى حُسن خُلُقِه لَقُبِلَ منه، حيث يدلُّ البساط عليه. وفي العِتق كنايات كما فيه صرائح، وأشبهُ شيءٍ به في ذلك الطّلاق، ومن كناياته قول القائل لعبده: "هذا ابني" واختلف العلماء في ذلك. فقال الشّافعيّ (¬5): لا يكون حرًّا وإن نَوَى العتق؛ لأنّه نيةٌ بغير لفظ. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): يكون عِتقًا وإن كان العبدُ أكبر سنًّا منه. وتحقيقُ القول في المسألة وعمدتُها؛ أنّ الأعمال بالنِّيات، وإنّما يكفي من القول أدنى ما يقع به الفَهْم، ولذلك قامتِ الإشارةُ مقامَ العبارة، والكناية من القول مضافًا إلى النِّيَّة في الدَّلالة على المرادِ أبلغ من الإشارة. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "مَنْ أَعْتِقَ شِقْصًا (¬4) لَهُ في عَبدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيهِ قِيمَةَ العَدْلِ". قال علماؤنا: قولُه: "فِي عَبدٍ" دليلٌ على أنّ الأَمَةَ في معناه في الحكم المبيّن فيه قبل النَّظر إلى علّة الحكم، أو اعتبار النَّظِير بالنَّظِير. وظنت طائفةٌ من الجهلة أنَّ الأَمَة إنّما تبَيَّنَ منها هذا الحكم من قوله: "عَبد" والعبدُ لفظٌ ينطلق على الذِّكَر والأُنثى، وهذا وإن كان يعضده الاشتقاق فلا نُسَلِّم أنّه يقتضيه الإطلاق، وقدِ اتّفقتِ الأُمَّةُ على أنّه لو قال: "عَبيدي أحرارٌ" لما دخل فيه الجواري. المسألة الثّانية (¬5): قوله: "فَكَانَ لَهُ مَالٌ" بيانٌ أنّ المُعتَقينَ على ضربين: مُوسِرٌ. ومُعسِرٌ. فأمّا "المُوسِرُ" فقد تبيَّنَ حكمه. وأمّا "المَعْسِرُ" فقد اختلف العلماء فيه: فمنهم من قال: يبقى نصيبُ شَريكِهِ رقيقًا، وهم الأكثر. ومنهم من قال: يُسْتَسْعَى العبدُ في قيمة سهم سَيِّده المتمسِّك بالرِّقِّ، قاله ¬
أبو حنيفة (¬1) وغيره. وتعلّقوا بالأثر والنّظر. أمّا النّظر: فهو الاعتبار بالكتابة، وهو مَقْطَعٌ ضعيفٌ؛ لأنّ الكتابة مخصوصة بحكمها، خارجة عن قواعد الشّريعة بنفسها، وقد بيّنّا أنّه لا يقاسُ على مخصوصٍ، ولا يقاسُ منصوص على منصوصٍ حسب ما تقدَم. وأمّا الأثر: فرَوَى أبو هريرة عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - الحديث بعينه إلى قوله: "عتقَ العَبد" زاد بعده: "وَإِنْ لَم يَكُنْ لَهُ مَالٌ استُسعِي العَبدُ" (¬2) هو من كلام الرّاوي. المسألة الثّالثة (¬3): قوله: "قُوِّمَ عَلَيهِ" هو بيانٌ لحكم الشَّرع على الإطلاق، يتولَّاهُ نائب الشّرع وخليفته إنَّ اختلفوا. وأمّا قوله: "قيمَةُ عَدلٍ" فقد قدّمنا لكم العدل ومعناه، فخذوا فيه نكتةٌ، وذلك إذا قوّمها المتلف، ففي تقويمه تحرِيرٌ فاتَ علماءَنا بيانُه، وهو أنّا نقول للمقوِّم: قَوّمهُ مُشتَرى غير مبيعٍ، ليقعَ الجبرُ لمن أتلف عليه على الكمال، وإلى هذا المعنى وقعتِ الإشارةُ بقوله: "قِيمَة عَدلٍ" فافهموه. المسألة الرّابعة (¬4): قوله: "وَعَتَقَ العَبد" فاختلف العلماء، هل يعتق بنفس السِّراية أو بعد التّقويم؟ وخرَّجَ الشّافعيّ (¬5) قوله على أنّه يعتق بنفس السّراية، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال ما تقدَّمَ، فشرط في نفوذ العتق اليسر والتّقويم، لا سيّما وفي الصّحيح عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه ¬
قال: "فَأَعطَى شُرَكاءَهُ حِصَصَهُم، ثُمَّ عتق عَلَيهِ العَبد" (¬1). فإن قيل: أنتم لا تقولون بهذا الحديث؛ فإنّه لو قوّم عليه الحاكم نفذ العتق وإن لم يقبض الشّركاء شيئًا، فقد تركتم ظاهر الحديث. قلنا: المراد بالتّقويم والإعطاء نفس التّحصيل بتَقدِير الوجوب، لئلّا يفوت الرِّقّ على سيد العبد ولا يأخذ له عِوَضًا، فإذا وقع الحُكمُ بالقيمةِ استقرّتِ العوضيّة وتحقّق الجَبْر، وصارت صورة القبض حينئذٍ لا معنى لها، والأحكامُ إنّما تثبتُ بمعانيها لا بصُوَرِها. ولهذا قال علماؤنا: إنّه يقوّم العبد بكمال الرِّقَّ لا مُبَعَّضًا، ولهذا قيل: إنَّ التّقويم حقّ العبد، فإذا اختار السَّيِّد العِتقَ كان له. أمّا إنّه * قد اختلف علماؤنا فيما إذا رَضِيَ الشّريك بالتّقويم حالة العُسْرِ*، فقال محمّد: ذلك له. وفي "الكتاب": ليس له، وهو الأقوى من ظاهر الحديث. وكذلك اختلفوا أيضًا إذا كان الشَّريكُ بالخِيَار فاختارَ العِتق، لم يكن له رجوعٌ إلى التّقويم، فإن اختار التّقويم لم يكن له رجوعٌ إلى العِتق، لأجل حقّ الأوّل في الولاء. وقال الأكثر من علمائنا: له الرّجوع إلى العِتق؛ لأنّه تصرّف قبل الحُكم. وكذلك اختلفوا أيضًا إذا كان العبد مسلمًا والسّادة كفارًا، هل يقضى بالتّقويم أو لا؟ والصّحيح أنّه يقضى به؛ لأنّه حُكمٌ بين كافر ومسلم. ¬
المسألة الخامسة (¬1): قوله: "مَنْ أَعتَقَ شِقصًا" هذا لفظٌ عامٌّ في كلِّ مُعتَقٍ، فإن كان مسلمًا لمسلِمَين فأعتق أحدهما حّصته قُوِّمَ عليه الآخر. وإن كان نصرانيًا لمسلِمَين فكذلك (¬2)، وكذلك إنَّ كان مسلمًا لنَصرَانِيَّين، قاله ابن الجلّاب (¬3)، وحكاه عبد الوهّاب (¬4) عنه، وحَكَى عن المذهب نفي التّقويم، قال (¬5): ووجه ذلك: أنّ تكميل العِتق من حقوق الله، والكفّار لا يؤخذون بذلك. قال: ووجه إيجاب التّقويم: أنّ في تكميل العِتق ثلاثة حقوق: أحدها: لله. والثّاني: للشّريك. والثّالث: للعبد. فيجب على هذا أنّ يُكمَّل على النَّصرانيّ نصيبه (¬6) من العبد المسلم؛ لأنّه حكم بينَ نصرانيّ ومسلم. فرع (¬7): فإن كان العبد نصرانيًّا لمسلم ونصراني، فأعتق المسلمُ حصَّته، قُوِّمت عليه حصّة النّصراني. ¬
باب الشروط في العتق
ولو أعتق النّصرانيّ حصته، فقال ابنُ القاسم: لا يقوّم عليه؛ لأنّه لو كان جميعه للنّصراني فأعتق جميعه أو بعضه لم يحكم عليه بعتقه، وبه قال سحنون. وقال غيره: يقوّم عليه. ووجه ذلك: أنّه حكم بين مسلم ونصراني فجاز. فرع (¬1): ولو كان العبدُ لعبدٍ وحرٍّ، فأعتق العبد حصّته، ففي "الموّازية": لا عِتْق له إِلَّا بإذن السَّيِّد، فإن أذن في ذلك قوّم في مال السَّيِّد كان للعبد مالٌ أو لا. وكذلك لو كان بغير إذنه ثمّ أجاز، وقال سحنون: في "كتابُ ابنه": ويستوعب ذلك (¬2) كلامٌ طويلٌ في الفروع أضربنا عنه. باب الشُّروط في العِتْقِ الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال علماؤنا (¬4): معنى هذا الباب: أنّ من بَتَّلَ عِتق عبده (¬5)، فلا يجوز أنّ يشترط عليه عملًا؛ لأنّ ذلك بمنزلة أنّ يُبقِي عليه شيئًا من الرِّقَّ، وذلك مخالفٌ للمال يشترطه عليه. وقد قال محمّد عنه (¬6) فيمن قال لعبده: أنت حرٌّ وعليك كذا، فلم ¬
يرض العبد، فذلك له وإن كرِه، وبه قال ابن وهب وابن القاسم وعبد الملك، وهو قول ابن شهابٍ. وقال ابن المُسَيِّب: هو حرٌّ ولا شيءَ عليه. قال ابن القاسم: وذلك أحبّ إليّ. فرع (¬1): فإن شرط عليه عملًا، فإن كان قبل العِتق لزم، قاله ابن القاسم. وأمّا إنَّ كان بعد العِتق، فقد قال ابن القاسم: إنَّ قال له: أنت حرّ واحمل هذا العمود، فهو حرٌّ ولا شيءَ عليه وإن قدر على حمله. وكذلك إنَّ قال: وَاخدُمني سَنَة، أو على ألَّا تفارقني، قال محمّد: هو حرٌّ وشرطُه باطلٌ (¬2). ووجهه: ما تقدّم من استثناء الرِّقَّ. المسألة الثّانية (¬3): فإذا ثبت ذلك، فإنّ لفظ: "أنت حرّ وعيك كذا" هو المتَّفَقُ عليه من قول من يرى لزوم ذلك. وأمّا قوله: أنت حرٌّ على أنّ عليك كذا، فقال ابن الماجشون: اللّفظان سواء ويثبت فيهما الخيار. ورَوَى محمّد عن مالك التّسوية بينهما ولا خيار للعبد. وفرّق بينهما وبين قوله: "أنت حرّ على أنّ تؤدّي إلي كذا وكذا" فقال: هذا لا يعتق حتّى يؤدِّي. ووجهه: أنّ الّذي قال: "على أنّ عليك" قد علّق العِتق بشيءٍ * يتعجّل وهو ثبوت الدَّين في ذمّة العبد، والّذي قال: "على أنّ تؤدِّي إليَّ" أو "على أنّ تعطيني" علّق العِتْق ¬
باب من أعتق رقيقا لا يملك مالا غيرهم
بشيءٍ * لا يوجد إِلَّا بمعنى مستأنف، وربّما تعجّل الأمد البعيد، وربّما تعذّر، فكان العتق يتأجّل بتأجُّله. المسألة الثّالثة (¬1): فإن قال لأَمَتِهِ: أنتِ حرّة على أنّ تُسلِمِي، فقد قال ابنُ حبيب عن أَصْبَغ: إِنْ أَبَت فلا حريّة لها، كقوله: إنَّ شئت، وليس كقوله: أنت حرّة على أنّ تنكحي فلانًا، ثمّ تَأْبَى، فإنَّ العتق مَاضٍ، والفرقُ بينهما: أنّها رضيت بذلك، فبنفس العِتق تكون مسلمة، كقوله: على أنّ عليك عشرة (¬2)، وقوله: على أنّ تنكحي، إنّما شرط عليها عملًا بعد تمام العَقد يصحُّ أنّ يتأخر الزّمن الطّويل (¬3)، وهذا تأخّر، فكان بمنزلة أنّ يشترط عليها عملًا أو خدمة. باب من أعتق رقيقًا لا يملك مالًا غيرهم الإسناد (¬4): قال الإمام: هذا الحديث مُرسَلٌ (¬5)، وقد أَسنَدَهُ مسلم (¬6) من رواية إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، عن عمران بن الحصين. ¬
الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬1): قال علماؤنا (¬2): تستعملُ القُرعة فيما جاء فيه الخبر من العِتق في المرض أو الوصية به في جملة (¬3) يضيق ثُلُثه عنهم، وكذلك في المجهولين من جملة إذا كان في مرضه أو وصيّة. ولا يُسهم بين المدبرين في الصِّحَّة؛ لأنا لا نعدو ما جاء فيه الخبر. ولفظ ما روى مالك: "أَعتَقَ أَعبُدًا" ظاهره بَتْلُهم عند موته، وظاهر ذلك المرض، وإن كان يجوز أنّ يكون في الصِّحَّة ويريد به القُربَة. المسألة الثّانية (¬4): وأمّا الوصيّة بعتقهم، فلا خلاف في المذهب أنّه يقرع بينهم. وأمّا إنَّ بتلهم في المرض، فرَوَى محمّد عن ابن القاسم؛ أنّه يُقرَع بينهم. وقال أَصبَغ والحارث: يعتق من كلِّ واحدٍ بغير سَهْمٍ وإنّما السَّهمُ في الوصيَّةِ. تبيين (¬5): قال الإمام الحافظ: وإنّما وجب الاختلافُ في هذا، لإشكالٍ وقع في الحديث الثّاني حديث الثّقفي أنّه أَوصَى بعتقهم، وهذا أسهم وأقرع بينهم (¬6). فوجه الأوّل: أنّ العِتقَ في المرض خارج من الثُّلُثِ كالوصيّة. ¬
مال العبد إذا أعتق
ووجه الثّاني: أنّه عِتقٌ لا رجوعَ له فيه، كالعِتق في الصِّحَّة. وإذا قلنا: تُستعمَل القُرعة في العِتقِ، فقد رُوِيَ عن ابن نافع (¬1): لا يسهم بينهم إذا كان للمالك مالٌ، وإنّما ذلك إذا لم يكن له غيرهم (¬2). وإنّما أسهمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بين السِّتَّة لأنّه لم يكن له مالٌ سواهم. المسألة الثّالثة (¬3): قال (¬4): ومن أعتق في صحَّتِه، فقال مالك وابن القاسم: لا يسهم في عِتق الصِّحَّة، ومعنى ذلك: أنّ يعتق جميع رقيقه في الصِّحَّة؛ لأنّ ذلك ينفد. مال العبد إذا أعتق الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ العَبدَ إِذا أُعتِقَ تَبِعَهُ مالُهُ": يريد أنّه لا يكون له انتزاعه (¬7) منه إذا أعتقه، ولم يستثن ماله ولا شيءٍ منه؛ لأنّ لفظ العِتق لم يتناول ماله، وإنّما قوّى ملكه له، بخلاف البَيع فإنّه وإن كان لا يتناول أيضًا إِلَّا العبد دون ماله، فإنّه يخرج إلى مالك له من انتزاع ماله ما للأوّل، فكان الأوّل أحق به؛ لأنّ بيعه دون ماله بمنزلة انتزاعه، وذلك جائز له. ¬
باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة
المسألة الثّانية (¬1): هذا حكم عتقه المباشر البتل والوصيّة؛ لأنّ الوصيّة بالعِتْقِ عِتقٌ (¬2). وقال أشهب: ليس للوارث أو الورثة انتزاع مال الموصى بعِتقِه قبلَ إنفاذ عتقه، إنَّ كان العتق معجَّلًا. وإن كان مؤجَّلًا بعد الموت، فلهم انتزاعه ما لم يقرب الأجل، وبه قال محمّد. وقال ابن عبد الحكم: ليس لهم ذلك. ووجه الأوّل: ما احتجّ به محمّد؛ أنّ حكم الورثة حكم الموروث (¬3). باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬4): قوله (¬5): "لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا ولَا يُوَرِّثُها". هو كما قال، وعليه فقهاء الأمصار، وقد تقدَّمت الإشارة إليه. المسألة الثّانية (¬6): وإذا أسلمت أم ولد الذِّمّي، عرض عليه أنّ يُسلِم، فإن أسلم فهي على ما كانت، وإن لم يُسلِم ففي "الموازية": تعتق عليه بالحكم، وهو قول مالك وأصحابه. ¬
وفي "كتابُ ابن سحنون": عن مالك في ذلك روايتان؛ قال: تُعتق، ثمّ قال: تُوقف إلى أنّ يموت أو يُسلِم، ثمّ رجع إلى العِتق. ورَوَى ابن حبيب عن ابنِ الماجِشُون: إنَّ أنفق عليها وقفت حتّى يموت، أو يُسلِم فتكون أمّ ولد. وقال ابن عبد الحَكَم: تُوقف حتّى تحيض حيضة، فإن أسلم فيها وإلّا عُتقَت. ووجه القول الأوّل بتعجيل عِتقِها: أنّه إنّما له فيها الاستمتاع، فإذا حرم عليه عجل عتقها. ألَّا ترى أنّ المُعتَق إلى أجلٍ إذا وهب سيّده عِتقَه عجّل عتقه لَمَّا لم يبق له فيه تصرُّف. ووجه القول الثّاني: أنّه لم يحرّم عليه الاستمتاع بها على التّأبيد، وإنّما حرم بسببٍ يمكن زوالُه كما لو زَوَّجَها. المسألة الثّالثة (¬1): وأمّا المرتدّ، فقال أشهب: قد عتقت أمّ ولده بالرِّدَّة، فلا تردّ إليه كفراقه زوجته. وقال ابنُ القاسم: تحرم عليه بالرِّدَّة، فإن تاب رجعت أمّ وَلَدٍ له، وإن قتل عتقت، رواه محمّد عنه. ووجه (¬2) ما احتَجَّ به: من قياسه على الطّلاق. ووجه الثّاني: أنّها مِلكٌ له فلا تزول بِرِدَّتِه، وإنّما تبقَى مراعاة كسائر رقيقه. وقوله (¬3): "يَستَمتِعُ بِها" يدلُّ على أنّ له جماعها وما يتبعه من أنواع الاستمتاع؛ لأنّ اسم الاستمتاع يشتمل على ذلك كلّه، ولم يذكر أنّ له استخدامها. ¬
وقال عبد الوهّاب في "معونته" (¬1): "له استخدامها فيما يقرب". وقال في "الإشراف" (¬2): في ليس له إجازتها، خلافًا لأبي حنيفة (¬3) والشّافعيّ (¬4). ودليلنا: أنّه نوع من المعاوضة كان يملكه عليها قبل الاستيلاد (¬5)، فلم يملكه بعده كبيع رقبتها". المسألة الرّابعة (¬6): قوله (¬7): "فَضَرَبَها سَيِّدُها بِنّارِ" الإصابة بالنّار على ضربين: أحدهما: العَمْد. والثّاني: الخطأ. أمّا "العَمد" فمُؤَثِّر في إيجاب العِتْق. وأمّا "الخطأ" فليس بمُؤَثِّر فيه. وفي "العُتبِيَّة" (¬8) عن ابن القاسم فيمن ضرب عبده بسوط في أمرٍ عتبَ عليه ففقأَ عينه، قال: لا يُعتَق عليه. قال: وإنّما يعتق بما كان على وجه العَمد، يريد أنّ يقصد فقء عينه. وأمّا إنَّ ضربه فأخطأ فأصاب عينه، فلا يعتق عليه. قال سحنون: ولو ضرب رأسه فنزل الماء في عَينَيه، فليس بمثله يعتق بها. ووجهه: ما قدّمناه (¬9). ¬
المسألة الخامسة (¬1): وأمّا "العَمْد" وهو القصد إلى إتلاف عُضوٍ أو إحداث ما يتولَّد عنه الشّين، فعلى ضربين: 1 - ضرب يبلغُ به شيئًا فاحشًا، فهذا يعتق به عليه (¬2). 2 - وإن لم يبلغ ذلك لم يعتق، وإنّما يعتق باجتماع أمرين: العمد، وبلوغ الشَّينِ الفاحش، قاله عيسى، ورواه محمّد عن أشهب. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يعتق عليه في شيءٍ من ذلك. وتعلّق أصحابنا بما رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَنْ مثَل بِعَبدِهِ عتق عَلَيْهِ" (¬3). قال الإمام (¬4): ولم أره من وجهٍ صحيحٍ. وأمّا من جهة المعنى، قال عبد الوهّاب (¬5): يعتق عليه زَجرًا عن مُعاودةِ مثله، كالقاتل عَمدًا يُمنعُ الميراث. المسألة السّادسة: إذا ثبت العِتق بالمثلة، فقد قال عبد الوهّاب (¬6) في كيفيّةِ العِتْق روايتان: إحداهما: أنّه يقع بالمثلة (¬7). والثّانية: لا يقع إِلَّا بالحكم. ¬
فرع (¬1): فلو أَبِقَ العبدُ، فوسم في وجهه أو جبهته وكتب فيه آبق، فقال أشهب وابن وهب وأَصبَغ: يُعتَق عليه. قال أصبغ: فأمّا لو فعله في ذراعه أو باطن جَسَدِه، لم يعتق عليه. ومعنى ذلك: لما في الوجه من التّشويه البَيِّن، وأمّا في باطن الجَسَد فليس فيه شيءٌ (¬2). فرع (¬3): ومن قطع يَدَ عَبدِهِ أو أذنه، عتق عليه ويُعاقَب، قال أَشهَب: ويُسجَن (¬4). وهذا فيما يبين من الأعضاء. فرع (¬5): وأمّا قلع الضّرس، فعن مالك أنّه مُثْلَةٌ يُوجبُ العِتْقَ (¬6). فرع (¬7): وأمّا حَلق الرّأس واللّحية، فرُوِي عن ابن المّاجِشُون (¬8) عن مالك: ليس ذلك بمُثلَةٍ. وقال ابن الموّاز عن ابن وَهْب: ويُؤَدَّب. والفروعُ في هذا الباب كثيرة جدًّا. ¬
باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة
باب ما يجوز من العتق في الرِّقاب الواجبة الأصول (¬1): قال الإمام: أمّا العِتْق المبتدأ، فلا خلاف فيه أنَّه يجوز فيه عِتق الكافر والمسلم، حتّى قال مالك: إنَّ عِتق الكافر ابتداءً أفضل من عِتق المسلم إذا كان أكثر ثمنًا، للحديث الصّحيح؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - سُئل أيُّ الرّقاب أفضل؟ قال: "أغلَاهَا ثَمَنًا وَأَنفَسُهَا عِندَ أَهلِهَا" (¬2). وخالفه أَصبَغ وأصاب، فليس النَّظر إلى تنقيص الملك على المعتق، وإنّما النّظرُ إلى تخليص المملوك من الرِّقِّ وتفريغه لعبادة الله، وثواب المُعتِق بتخليص كلِّ عضوٍ منه عضوًا من النّار. والكافر ليس بمحلِّ للتّخليص؛ لأنّه من أهل النّار. وأمّا الواجب، فالجمهور على أنّ الكافر لا يجزئ فيه. وقال أبو حنيفة (¬3): يجزىءُ الكافر عن فَرْض العِتْق، كما يُجزىء المؤمّن، لانطلاق اسم الرّقبة عليه إِلَّا في القتل؛ لأنّ الله تعالى نصّ على الإيمان فيه. وهذا لا يصحّ؛ لأنّ الكافر ليس بِمَحَلِّ للقُرَبِ الفَرضِيّة، ولذلك لا يجوز أنّ يُعطَى من الزَّكاة الفَرضِيَّةِ. وقد احتجّ مالك (¬4) بحديث الجَارِيَةِ الَّتِي أَرَادَ الأَنصَارِيُّ عِتقَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَينَ اللهُ؟ فَقَالَت: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا؟ فَقَالَت: أَنتَ رَسُول اللهِ. قالَ: أَعتِقهَا"، فأعتقها، فلم يأمره النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعتقها حتّى اعتبر حالها بالإيمان، ولو أجزأَ الكافر لأمره بعتقها. وكذلك قال في حديث السّوداء (¬5): "أَتَشهَدِينَ أنّ لَا إِله إِلَّا اللهُ؟ وَأَنَّ ¬
مُحَمدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُؤمِنِين بِالبَعثِ؟ قالَت: نَعَم". ذلك كلّه ليُبيِّنَ -عليه السّلام- شرط الإيمان وحقيقته. فإن قيل: فهل يثبتُ الإيمانُ عندكم بهذه الصّفات الّتي اعتبرها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - * أم بغيرها؟ قلنا: يثبت الإيمان بما أثبته النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - * وهي شهادة الحقّ: لا إله إِلَّا الله، محمّد رسولُ الله، والنّبيُّ -عليه السّلام- قد اختبر هذا كلّه من حالها، وعلم من حالها أنّها كانت متعلّقة بمعبودٍ في الأرض، فأراد أنّ يقطع علاقة قلبها بكلِّ إلهٍ في الأرض. اعتراض (¬1): فإن قيل: فقد قال لها: أين الله؟ وأنتم لا تقولون بالأَينِيَّة والمكان. قلنا: أمّا المكان فلا نقول به، وأمّا السّؤال عن الله بِأَينَ فنقول بها؛ لأنّها عن المكان وعن المكانة الّتي يُسأَل عنه بأين، ولم يجز أنّ يريد المكان؛ لأنّه محالٌ عليه. وأمّا قوله للجارية الثّانيّة: "أَتُؤمِنِينَ بِالبعثِ؟ " وهو الموت وما بعده، فعَلِم أيضًا من حالها ما دعاه إلى أنّ يسالها هل تعتقدُ الدّار الآخرة وتؤمن بها وأنّها المقصودة، وإن هذه الدّار الدّنيا قنطرةٌ إليها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ ذلك وبَنَى عليه، صحَّ اعتقادُه وسلِمَ عَمَلُهُ. وأمّا (¬2) قولها: "فِي السَّماءِ" فإنّها أرادت (¬3) وَصْفه بالعُلُوِّ، ولذلك يقالُ: فلان في السَّماء، بمعنى عُلُوّه وشَرَفه. وأمّا قوله: "مَنْ أَنَا؟ فَقالَت: رَسُولُ اللهِ" يقتضي أنّ الإيمان لا يتبعَّض ولا يصحُّ ¬
الإيمان باللهِ مع الكفر بمحمّد. وقوله غير: "أَعتِقْهَا" يقتضي أنّ الإيمان يحصل بالإقرار وإن لم يقترن به نظرٌ ولا استدلالٌ، قاله القاضي أبو جعفر السِّمْنَانِيّ (¬1). وكذلك إذا أنّ من يُؤمِن، أَخَذْنا عليه الشّهادتين، فإذا أقَرَّ بِهما حَكمْنَا بإيمانه ولم نسأله عن نظره، وإن كنّا نأمره بذلك بعد إيمانه. مسألة (¬2): أدخل مالك في هذا الباب عِتْق الزّانية وابن الزّاني، وأدخل عليه حديث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في جواب السّائل عن الرِّقاب أغلاها ثمنًا. ووجه النّظر في ذلك: أنّ الكافر لا يجزئ بحالٍ، والمطيع أفضل من العاصي ولا سيّما الزّانيَة، والزّناةُ مُتَوَعَّدُونَ بالنّار، فكان عتق المطيع أفضل، ولكن أصل الإيمان يجزيء؛ لأنّ المعاصي عندنا لا تسلب الإيمان. وأمّا ذِكرُهُ ولد الزِّنا، فإنّما قصد به أنّ يُبَيِّن به أنّ العَيبَ إذا لم يكن في البَدَن، لا يؤثِّر في العِتق وإن نقص من القيمة. وقال القاضي أبو الوليد (¬3) فيمن وجب عليه عتق: "أجزأه أنّ يعتقه (¬4) في ذلك؛ لأنّ ذلك النّقص لا يختصُّ به، وإنّما يختصُّ بِنَسَبِهِ، وذلك غير مأثورٍ في العِتق، كما لو كان أَبَوَاهُ مجوسيَّيْن. وقال زيد بن أسلم: هو خير الثّلاثة ولم يعمل سُوءًا: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرَى} (¬5). ¬
باب ما لا يجوز في الرقاب الواجبة
وقال ربيعة: إنِّي أجدُ في الإسلام شأنّه تامًّا (¬1). وقد روى في "العُتبِيَّة" (¬2) أشهب عن مالك: أحبّ إليّ ألَّا يعتق ولد الزِّنا في الرّقاب الواجبة". باب ما لا يجوز في الرقاب الواجبة (¬3) قال الإمام: مُعَوَّلُ هذا الباب على أصلّين: أحدهما: كمالُ الرِّقَّ في العبد. الثّاني: سلامته عن العيب. وبهذا قال الجمهور، إِلَّا أبا حنيفة (¬4) فإنّه قال: يجوز المعيبُ في الكفّارة، ويجزيء فيها المكاتَب والمُدَبَّر؛ لأنّ الله تعالى قال: {فَتَحريرُ رَقَبَةٍ} (¬5) وكل هؤلاء رقبة. قلنا: أمّا المكاتَبُ والمُدَبَّر، فليسا برقبةٍ، ولا يصحّ أنّ يتناولهما اللّفظ؛ لأنّه لا يقدر على بيعهما، فقد تزعزع ملكُه وتخلخلت مالِيَّتُهُ. فنقول: رقبةٌ ناقصةٌ لا يجوز له بيعها، فلا يجوز له عتقها كأمِّ الولد، وقد مهَّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". وأمّا المعيبُ، فكيف يصحُّ لأبي حنيفة (¬6) أنّ يجعلَ الأعمى رقبة؟ وهذا يُوجِبُ جميع القِيمَة على من أخرج عينه، فكيف يجعل* الأعمى رقبة، وهو يوجب جمع القيمة على من أخرج عينيه فكيف يجعَلُ * الرَّقَبة ذاهبة في حقّ الإتلاف، موجودة في حقَّ العِتقِ فيكون حرًّا؟ بل لو قاله بالعكس كان أَوْلَى. ¬
باب الولاء ومصيره لمن أعتق
باب الولاء ومصيره لمن أعتق الأصول (¬1): الولاءُ كما جاء في الحديث: "لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَب" (¬2)؛ لأنّه أخرجه بالحرِّيَّة إلى الوجود حُكمًا، كما أخرجه الأب من النُّطفة إلى الوجود حِسًّا، فإنَّ العبدَ كان معدومًا في حقِّ الأحكام شرعًا، لا يَشْهد ولا يقضِي ولا يَؤُمُّ ولا يحجّ ولا يُغطِي، {عبدًا مملوكًا لا يقدِرُ على شيءٍ} (¬3)، فأخرجه الله بالحرِّيَّة على يَدَيْ سيّده عن عدم هذه الأحكام إلى وجودها، كما أخرجه إلى يدي أبيه بالنُّطفة إلى الوجود، والكل لله خَلقًا وحُكمًا، وله الحِكْمَة في هذا النَّسَب والإضافة، ولمّا أثبته لُحمة كلُحمة النَّسَب وأجراهُ مُجرى البَعْضِيَّة، نَاطَهُ بالعِتق خاصَّة، فقال: "إنّما الوَلاء لمن أعتقَ" في حديث بريرة الصّحيح (¬4). وقال أبو عبد الله المازري في "المُعلِمِ" (¬5) له: "في حديث بَرِيرَة فوائد كثيرة" ومسائل عظيمة: أول ذلك: في هذا الحديث مكاتَبَةُ من ليس له مال. الثّانية (¬6): فيه ما يدلُّ على أنّ الخير الّذي ذكره الله في كتابه هو العفاف، في قوله: {إنَّ عَلِمتم فِيهِم خيرًا} (¬7) أراد العفاف ولم يُرِد المال. ¬
الثّالثة (¬1): فيه جواز السُّؤال للمُكَاتَب للعون على كتابته. الرّابعة (¬2): فيه أنّ المسؤولَ ليس عليه فرضٌ يعطي السّائل إذا لم يخف عليه الهَلَكَة من موتٍ أو أَسرٍ. الخامسة (¬3): فيه أنّ أزواج النّبيِّ -عليه السّلام- كنّ يشرين من غير أنّ يستأذنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقبل أنّ يأمرهنّ. السّادسة (¬4): فيه أنّه ليس على سيِّد المُكاتَب أنّ يضع عنه إِلَّا أنّ يشاء. السّابعة (¬5): فيه فسخ الكتابة للبَيع على العِتق. وقال بعض أصحاب مالك: إنَّ بريرة كانت عجزت، وهذه دَعْوَى، والحديث يدلُّ على خلافه؛ فإنّ العجزَ إنّما يكون عند الحاكِمِ (¬6). الثّامنة (¬7): وفيه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أنّ يعاقب في أمرٍ يكون تأديبًا لمن عاقبه، يخطبُ النّاسَ قائمًا، ليكون ذلك أثبت في قلوبهم. ومعاقبة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إيّاهم بأن حرمهم الولاء إذا قدموا على ذلك قبل أنّ يسألوه وهو بين أَظهُرِهِم. التّاسعة (¬8): قوله (¬9): "وَإِنْ كانَ في هَذا مِئَةَ شَرْطٍ" ففي هذا أنّ مفهوم الخطّاب يقومُ مقامَ الخطابِ، وأنّ ما فوق المئة داخل في حكم المئة. العاشرة (¬10): فيه دليلٌ أنّ المُكَاتَب عبدٌ ما بَقِيَ عليه شيءٌ، وكان ابنُ عبّاس يرى ¬
أنّ بمنعقد الكتابة يخرجُ حرًّا ويتبعُ بالمال. الحادية عشرة (¬1): فيه أنّ بيع الأَمَة لا يكون طلاقًا كما يُذكَرُ عن ابنِ المسيَّب (¬2). الثّانية عشرة (¬3): فيه أنّ الحرّةَ تنكحُ العبدَ إنَّ شاءت؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - خَيَّر بَرِيرَة في المقام مع زوجها وهو عبدٌ. الثّالثة عشرة (¬4): فيه أنّ عِتقَ الأَمَة تحت العبد لا يكون طلاقًا، إِلَّا أنّ تشاء المُعتَقَة. الرّابعة عشرة (¬5): فيه أنّ آل محمَّدٍ الذين لا تحلّ لهم الصَّدقة هم: بنو هاشم دون سائر قريش؛ لأنّ ولاء بَرِيرَة كان لعائشة وقومُها بنو تميم. الخامسة عشرة (¬6): فيه أنّ لفظ الاستفهام ربما أنّ بمعنى التّقرير، لقوله: "ألم أر بُرمَةً تَفُورُ بِلَحمٍ (¬7)؟ " ومنه قوله تعالى: {أَلَم تَرَ إِلى رَبِّكَ كيف مَدَّ الظِّلَّ} الآية (¬8). الفقه في مسائل: فأوّلها (¬9): ابتداء الكلام في جواز بيعها، وقد اختلف العلماء وأقوال الأيمّة في بيع المُكاتَبِ على الجملة، فأجازه بعضهم، ومنعه بعضهم، والجواز على أنَّه يتأذّى منه المشتري لا على أنّه تبطل كتابته؛ لأنّ هذا لم نَعْلَم من يذهب إليه، وكذلك أجاز مالك بيع كتابته خاصّة، ويؤدِّي للمشتري، وإن عجز رَقَّ له. ومنع من ذلك ابن أبي سَلَمَة ورَبِيعَة، ¬
وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) والشّافعيّ. وأجاز بعض النَّاس بيع المُكَاتَبِ للعِتق لا للاستخدام، وإن رَضِيَ بالبَيع وعجز عن الأداء لفَقرِه أو ضعفِه عن التَّكَسُّب جاز بيعُه، وهو المذهب. وفي بيع العبد بشرط العِتق من مشتريه اختلافٌ بين الأيمّة، فأجازه مالك والشّافعيّ (¬2)، ومنعه أبو حنيفة، ولكنه قال: إنَّ وقع البَيْع مَضَى بالثَّمَن. وأمّا شراء العبد بشرط الإعتاق، فتعلَّق بهذا الحديث. وبقوله: اشتَرَتها عائشة بشرط العِتقِ، وقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "ابتَاعِي وَاعتِقِي" (¬3) وهذا الصّحيح إنَّ شاء الله. الوجه الثّاني (¬4): وهو المشكل من هذا الحديث ممّا وقع في بعض طرق هشام هاهنا، وهو قوله - صلّى الله عليه وسلم - في "كتابُ مسلم" (¬5): "اشتَرِيهَا وَاعتِقِيهَا وَاشتَرِطِي لَهُم الوَلَاء" فوجه المشكل منه أنّ يقال: كيف أمرها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بهذا وفيه عَقدٌ على شرطٍ لا يجوز، وتغريرٌ بالبائعين، إذ شرطت لهم ما لا يصحّ وخدعتهم فيه؟ ولَمَّا صعب الانفصال عن هذا على بعض النَّاس، أنكر هذا الحديث أصلًا، فحُكِيَ ذلك عن يحيى بن أكثم. وقد وقع في كثيرٍ من الرّوايات سَقط هذه اللّفظة، وهذا ممّا يشجِّع يحيى على الكلام على هذا الحديث. ¬
وأمّا المحقّقون من أهل العلم فطلبوا لذلك تأويلًا، واختلفوا فيه، فقال بعضهم: "لَهُمْ" هاهنا بمعنى "عليهم"، فيكون معناه: "اشترطي لهم الولاء". وقال آخرون: إنّما (¬1) بيّن لهم النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ هذا الشِّراء لا يحلُّ، فلمّا تقاحموا على مخالفته، قال لعائشة هذه اللّفظة: "اشتَرِطِي" بمعنى: لا تبالي بشرطهم، وهو باطلٌ مردودٌ. والوجه الثّالث (¬2): الكلام على قوله: "الوَلاء لِمَن أَعتَقَ": ولا خلافَ بين العلماء فيمن أعتق عبدَهُ عن نفسه أنّ ولاءَهُ له. واختلفوا إذا أعتقه عن غيره (¬3)، أو عن جميع المسلمين. فمَذهَبُنا أنّ الولاء للمعتق عنه. ولأنّهم (¬4) أجمعوا أنَّ الوصيَّة بعتق عن الميِّت أنّ الولاء للميِّت. ورَوَى ابن سحنون عن أبيه؛ أنّه من اعتق عبده عن غيره، فولاؤه للغير وإن كره. وقال عبد الوهّاب (¬5): سواء أعتق عنه بإذنه أو بغير إذنه. وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة: الولاء للمعتق إذا أعتق عنه بغير إذنه. ودليلُنا: أنّ الولاء معنى يورث به على وجه التّعصيب، فلا يفتقر حصولُه لمن حصل إلى إذن كالنَّسَبِ. ¬
فرع (¬1): ومن هذا الباب: أنّ من أعتق من الزَّكاة؛ أنّ ولاءه للمسلمين دون المعتق؛ لأنّه لم يعتق عن نفسه وإنّما أعتق عن غيره. وقوله: "الوَلَاءُ لِمَن أَعتَقَ" محمولٌ على عمومه، إِلَّا أنّه خصّ منه المعتق عن غيره، وقد رُوِيَ: "أَنَّ الوَلَاءَ لِمَن أَعْطَى الوَرِقَ" (¬2) وقد يكون في الأغلب مُعطِي الوَرق من يعتق عنه دون مباشرة العِتْق. فرع (¬3): وأمّا العِتق في الكفّارة، فولاؤه للمعتق؛ لأنّه أعتق عن نفسه. قال (¬4): ومن أعتق مُدَبَّرًا عن فلان، فالولاء للمعتق، قاله ابنُ القاسم في "العُتبِيَّة" و"المَوّازيَّة". نازلة معضلة ومشكل (¬5): وهو لو قال رجلٌ لعبدِهِ: أنت حرٌّ ولا ولاء لي عليك؛ فأمّا ابن القصّار فالتزم في هذه النّازلة أنّ يكون الولاء للمسلمين، ونَزَّلَ هذا القول منزلة قول القائل: أنت حرٌّ عن المسلمين، وكان بعض شيوخنا يخالفُه ويقول: إنَّ قوله: "أنت حرٌّ" استقر الولاء، واستئنافه بعد ذلك جملة ثانية، وهي قوله: ولا ولاء لي عليكَ (¬6). ¬
مسألة (¬1): وأمّا جرّ الولاء، فأجمعتِ الأُمَّة عليه من الصّحابة عن بَكرَةِ أبيهم، وما يُحْكَى عن خلاف رافع بن خَدِيج فيه ليس بصحيحٍ، إنّما كان رافع المخاصم فيه إلى عثمان، فقضى عليه (¬2)، وليس نزاع المنازع في مجلس القضاء بقول معدودٍ في الخلاف، وإنّما كان يكون لو تكلَّمَ بعد ذلك. وفي جَرِّ الولاء فروعٌ دقيقةٌ، ومسائل حَسَنَةٌ، اختلفَ فيها العلماء، وقد بسطنا القول فيها في "كتب المسائل" ولا نخليكم من نُبَذٍ منها في هذا "المختصر" ليقوى فيها النّظر. الأولى (¬3): قوله (¬4): "إِنَّ الجَدَّ يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَد ابنِهِ"، قال محمّد: ماتَ أو عاشَ. ووجه ذلك: أنّ جرَّ الولاء وحده معنًى يختصُّ بالأَبوِيَّة، ولا يشارك في ذلك الأب غير الجدّ، وقال سحنون وابن الماجشون: وكذلك أبو الجدّ إذا كان حرًّا، وكان الجدّ وابنه عَبدَين، فإنّه يجرّ ولاء ابنه إلى مواليه، حتّى يعتق الجد فينتقل إلى مواليه هكذا. كان مات الأب عبدًا، ثبت الولاء لمن جَرَّهُ. وقال في "الموازية": لا ينتقل (¬5) لأحدٍ من القرابات إِلَّا للأب، في تفريع طويل لهم. ¬
باب ما جاء في ميراث السائبة وولاء من أعتق
باب ما جاء في ميراث السَّائبة وولاء من أعتق قال الإمام (¬1): الأصل في ذلك قولُه تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} الآية (¬2). ومن قول متقدِّمي العلماء أنَّه لا سائبةَ في الإسلام، وألفاظُ العتق معلومةٌ وقد مهّدناها، وليس السّائبة منها. لكن إذا قال الرَّجل: عبدي سائبة، فلا يخلو من ثلاثة أوجهٍ: 1 - أحدها: أنّ يريد "ليس لي فيه ملك ولا منتفع" فهذه على الحريّة، ولكن جاء بلفظٍ ليس من ألفاظها. 2 - وإن أراد بقوله: "هو سائبة" أنّه عتيق عن المسلمين، لا أجعل ذلك على أحد مخصوصًا، فإنّه يكون أيضًا عِتْقًا، ويكون ولاؤه لجميع المسلمين. ولذلك كره مالك هذا اللّفظ ونهى عنه؛ لأنّه قد تكلّم بقول قد عابه الله على قوم. وقال سحنون وأَصْبَغ: لا يعجبنا كراهية مالك لذلك، وباعُه في العلم أوْسَع منهم. 3 - وأمّا إذا قال: "هو سائبة" كان ولاؤه لجميع المسلمين، قاله عمر، وابن عمر، وابن عبّاس، ورواه مُطَرِّف عن مالك. وقيل: إنَّ ولاءه لمعتقه، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وذهب إليه ابن نافع وابن المَاجِشُون، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "الوَلَاءُ لِمَن أَعتَقَ". فإن قال السَّيِّد: هو سائبة، وقد قصد به إبطال الملك، فهو حرٌّ، وولاؤه * له. وإن قال: هو سائبة، وقصد به نبذه للنّاس أجمعين، فهو حرٌّ وولاؤه * لجميع المسلمين، فعلى هذا تُحمَل الرّوايات من اختلاف الحالات، وليس باختلافِ قولٍ في حالٍ واحدةٍ. ¬
تفريع: في هذا الباب سبع مسائل: المسألة الأولى (¬1): وفي "العُتبِيَّة" (¬2) أَصبَغ عن ابن القاسم: أكره عِتق السّائبة؛ لأنّه كهبة الولاء. وقال عيسى: أكرهه وأنهى عنه. الثّانية (¬3): قوله (¬4): "في اليَهُودِيِّ يُسلِمُ عَبْدُهُ فَيُعتِقُهُ قَبْلَ أنّ يُبَاعَ عَلَيهِ" يقتضي أنّه يباع عليه إنَّ لم يخرجه عن ملكه؛ لأنّه لا يجوز استرقاق كافر مسلمًا، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لَا يَظلِمُهُ وَلَا يُسلِمُهُ " (¬5)، وليس في إسلامه أعظم من أنّ يسلمه إلى استرقاق الكافر له. فرع (¬6): وفي "الموّازية ": يرثُ المسلمُ عبد عبده النّصرانيّ والمجوسي بالرِّقِّ، ولو أسلم عبد المجوسيّ ثمّ مات قبل أنّ يباع عليه، ورثه الكافر بالرِّقِّ. قال (¬7): وكذلك مدبّره وأمّ ولده. ووجهه: أنّه ليس على معنى الميراث؛ لأنّه لو كان على وجه الميراث لكان أحقّ بميراثه ومن يرثه بالنّسب، والرِّقِّ يُنَافِي التَّوَارُثَ ولكنّه يستحقّ ماله بسببِ ملكه له. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "فَإِنْ أَسلَمَ اليَهُودِيُّ أَوِ النَّصرَانيُّ لَم يَرجِع إِلَيهِ الوَلَاءُ"، وذلك أنّ العِتقَ وقع في وقتٍ يمنع ثبوتَ الولاء بافتراق الدِّينَين؛ لأنّه لا يثبت ولاء مسلم لكافر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} الآية (¬3)، فإذا أعتق الكافرُ المسلمَ، لم يصحّ ثبوت الولاء له، ولم يكن له موضعٌ يرجع إليه إِلَّا إلى جماعة المسلمين، فثبت لهم، لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات} الآية (¬4). فرع (¬5): وأمّا قولُه (¬6): "إِذا أَعتَقَ عَبدًا عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ أَسلَمَ مَنْ أَعتَقَهُ، رَجَعَ إِلَيهِ وَلَاؤُهُ" يريد أنّ النّصرانيّ إذا أعتق عبده النّصرانيّ، فقد ثبت له الولاءُ لاتِّفاق الدِّينَينِ. فإن أسلم أحدهما ثمّ مات المعتق، لم يرثه المعتق لاختلاف الدِّينَين. والفروع كثيرة في هذا النّوع. ¬
كتاب الكتابة
كتاب الكتابة الأصول (¬1): أذنَ الله تعالى في الكتابة رحمةً للخَلقِ، وحالةً متوسطةً بين السّادةِ والعبيدِ؛ لأنّ السَّيِّد ربّما شقَّ عليه أنّ يخرج قيمة العبد عن ملكه، وربَّما لم يثق بالعبد في أداء خراجه، فيريد أنّ يجتهدَ العبدُ في أداء المالِ لقصدِ الحرِّيَّة، فيحصل لكلِّ واحدٍ منهما مقصوده. وربّما كره بقاءه في ملكه، وإن كان مجتهدًا في أداء كسبه فيخرجه عن يده، ويقتنع بالقيمة. وقد يكون راغبًا في عبده، ولكن يرى فيه من الأمر ما يحمله على عتقه، وإن سمحت نفسه بذلك أنفذ له الحريّة، وإن شحّ على ماله باعه على نفسه وهي الكتابة. قال الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} الآية (¬2). قال بعض المفسرين: الكتابة واجبةٌ؛ لأنّ الله تعالى أمر بذلك أمرًا مطلقًا، والأمر المُطلَقُ محمولٌ على الوجوب. قال علماؤنا: كذلك نقول إنَّ لم تقم قرينة تصرفه عن الوجوب، أو يدلُّ على سقوط الوجوب دليلٌ، وههنا قرينة، وهي قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬3) فصرفَ الأمر إلى عِلم المأمور، والتّكاليف الجازمة والأوامر الواجبة لا تقف على خِيَرَةِ المكلَّف وعلمه. ¬
وأمّا الدّليل الّذي دلّ على سقوط الوجوب فيها، فهو أنّ العِتقَ -وهو الأصل- لا يجب فضلًا عن الفرع وهي الكتابة، ولذلك قال علماؤنا: إنها رخصةٌ مستثناةٌ من جميع المعاملات؛ لأنّ السَّيِّد يبيع فيها ماله بماله، ولا يصحّ أنّ يُجبَرَ العبدُ عليها، وإنّما تكون برضاه، فإذا عقدها مع سيِّدِه لزمته عند جمهور العلماء. وقال الشّافعيّ (¬1): يجوز له أنّ يتركها متى شاء، وقال بذلك جماعة من المتقدِّمين، واحتجّوا على ذلك بحديث بريرة، قولُه فيه: "فجاءَت أَهلهَا فَبَاعُوها" خرَّجه البخاريّ (¬2). قلنا: لم يبع أهل بريرة رقبة بريرة، وإنّما باعوا كتابتها، ولأجل ذلك قالت عائشة في الحديث: "إنْ أحَبَّ أَهلُكِ أنّ أعُدَّها لَهُم عَدَّةً واحِدَةً فَعَلتُ" فهذا الّذي يقتضيه حديث بريرة. وإن كان العلماء اختلفوا في بيع الكتابة، فكره ذلك الشّافعيّ (¬3) وابن الماجِشُون ورَبِيعَة، وحديث عائشة نصٌّ في جوازه. فإن قيل: إنَّ بريرة كانت عجزت، وإذا عجز المكاتَب رقَّ. قلنا: هذه دَعوَى وزيادةٌ في الحديث. وأيضًا: فإنَّ عجزها لا يكون إِلَّا عند الحاكم، وأمّا بقوله فلا يسمع؛ لأنّه ليس له أنّ يرقّ نفسه، إذ قد ثبت له حقّ الحرِّيَّة. وأمّا إيتاء المال، فقال الشّافعيّ وغيره: إنّه واجبٌ عليه، ويحطّ له من آخر نجومه نجمًا واحدًا من أجزاء الكتابة. وحمل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} الآية (¬4)، على الوجوب. ¬
وقال علماونا: ليس الإيتاء واجبًا. واحتجُّوا على ذلك بالأدلَّة المعروفة، وليس الأمر كذلك، بل إيتاء الحقِّ إلى المكاتَب واجبٌ بإجماعِ الأُمَّة، إِلَّا أنّ قوله تعالى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ} (¬1) يحتمل أنّ يريد به: الّذي بيد السَّيِّد، ويحتمل أنّ يريد به: من مال الله الّذي هو الزَّكاة، ويحتمل أنّ يريد به: من مال الله الّذي هو لجماعة المسلمين في أيديهم، فإنّ عَونَ المكاتَبِ فرضٌ على الكفاية. ومع هذه الاحتمالات، لا يصحُّ للشّافعيُّ ولا لغيره أنّ يقول: الإيتاء واجبٌ من الكتابة دون سائر المحتملات. تفريع (¬2): إذا عقد الكتابةَ لجماعةٍ من عبيدِهِ في عقدٍ واحدٍ، فإن بعضَهم حُمَلَاءُ عن بعض، وقال الشّافعيّ (¬3): لا يحمل أحدٌ عن أحدٍ شيئًا؛ لأنّه ضمانُ كتابةٍ، فلا يجوز، كضمان الأجنبيّ. فنظر الشّافعيّ إلى الأجنبي، ونظر علماؤنا إلى عَقدِ الكتابة بين القرابة، وخصوصًا الأبناء، يحمل بعضهم عن بعض، ولو يكن ضمان بعضهم عن بعضٍ لأجل القرابة، فإنّه لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أخرَى، ولا يلزم قريبًا عن قريبه مال بغير رِضَاه في شيءٍ من أحكام الشّرع، ما خَلَا العاقلة المستثناة بإجماع. فدلَّ على أنّ ذلك إنّما كان بعَقدِ الكتابة، وذلك يستوي فيه القريب والبعيد. وفروع هذا الباب كثيرة، وهي مركَّبة عليه من غيره، لِمَا يدخل عليها من شَرْطٍ، أو ولاءٍ، أو حمالةٍ، أو وصيَّةٍ، أو صفة لمقابلة، أو جراح تطرأ فيه، أو بيعٍ يقع في كتابته بما يجوز أو لا يجوز، واختلاف السَّيِّدَين بعد عَقد الكتابة واتّفاقهما. وهذا كلّه معلومٌ في أبوابه، مضبوطٌ بأصولِهِ، وهي من فنِّ التّركيب والتّعليل ¬
الّذي لم نَتَعرَّض له ههنا؛ لأنّه بابٌ عظيمٌ في الفروع، أَمَّا إنّه عرضت في الكتابة مسألة مُعضِلَةٌ وهي الكتابة الحالة، وقد اختلف فيها الفقهاء قديمًا وحديثًا، وبيانُهما في "كتب الخلاف والمسائل" على الاستيفاء. ومن غريب اضطراب العلماء فيها؛ أنّ الشّافعيَّ (¬1) يقول: إنَّ السَّلَم الحالّ جائزٌ، والكتابة الحالّة لا تجوز. واختلف فيها جواب علماء المالكيّة، والذي عندي أنَّ تصويرَها يكشف حقيقتها، ولها ثلاث صُوَرٍ: الصّورة الأولى: أنّ يقول لعبده: كاتَبتُك على تسعِ أَوَاقٍ في تسعة أعوام، وهذا بَيِّنٌ إِنِ التَزَمَهُ العبدُ. الصّورة الثّانية: أنّ يقول لعبده: إنْ أعطيتني كذا دنانير فأنت حُرٌّ والمال حاضر، فيقتطعه السَّيِّد من يَدِهِ، ويقضي بحرِّيَّتِه؛ لأنّ له انتزاع ماله وإبقاءه في الرِّقّ، فكيف غير ذلك ممّا له فيه حظٌّ؟. الصّورة الثّالثة: أنّ يقول له: ألزمتك مدّة دينار تُعطينيها وأنت حرٌّ، والعبدُ ليس عنده شيءٌ. فقال الشّافعيّ: هذا كلامٌ لَغوٌ. وقال علماؤنا: يرتفعان إلى الحاكم ينظر في ذلك، فإن أراد العبدُ الالتزام أَلزَمَهُ الحاكمُ، ونُجِّمَ المالُ على قَدرِ حالِ العبدِ وحال المال. ونَظَرُنا أقوَى من نَظَرِ الشّافعيّ؛ لأنّ السَّيِّد لمّا تكلَّم به أَوجَبَ حقًّا للعبد في الاِلتزام وسعيًا في الحرِّيَّة، فلم يجزْ له الرّجوع فيه؛ لأنّ هذا الحق لا يقبلُ الرّجوع ولا الإسقاط كسائر الحقوق المتعلِّقة بالعِتقِ. ومن مسائله المُعْضِلَةِ العظيمةِ الّتي اختلف فيها الفقهاء والصّحابة: إذا مات المُكاتَبُ وترك وفاءً بالكتابة وترك وَرَثَةً. ¬
فقيل: تبطل الكتابة، وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال قوم: تبقى الكتابة، وبه قال مالك وأبو حنيفة (¬2)، في تفصيلٍ طويلٍ بَيْنَ الطَّوائف وأرباب المذاهب، ولا تستقلّ به إِلَّا "كتب المسائل". ونظر الشّافعىُّ إلى المعقودِ عليه -وهو المُكَاتَبِ- قد * هلك، والأصل عنده: أنّ المعقود عليه إذا هلك بطل العَقد كسائر العقود كلِّها، وهذا لَعَمْرُ الله هو الأصل، بَيدَ أَنّ هذا الحق* قد يتعدَّى من المعقود عليه إلى غيره وهم الأولاد، وثبت فيهم ثبوته في الأصل. فمن نظر من الصّحابة إلى هذا المعنى أبقى الكتابة، وحكم بأداء النّجوم، وأوجب الحرِّيَّة والميراث للأولاد، وبه نقول، والحمد لله ربّ العالمين. ¬
كتاب المدبر
كتاب المُدَبَّر التّرجمة: قال الإمام: التدبير هو إنفاذ عتقه بعد موته، وأجمع المسلمون على انتقال اسم المُدَبَّر، وسمّوه مُدَبَّرًا من الدّبر (¬1)؛ لأنّه أعتقه بعد مماته، والممات دُبُرُ الحياة. والفقهاء يقولون: المُعتَق عن دبر، أي بعد الموت. وهو لفظ لم يُستعمَل إِلَّا في العبيد، ووجب حُكمُه في الابتياع في حياة مدبّره (¬2). قال الإمام (¬3): وهذا الباب من متعلِّقات عقود الحريّة وفروعها، وهو أصلٌ في نفسه أيضًا، وله أصلٌ وفروع أقلّ من الأوّل. والتّدبيرُ: هو عَقدٌ متَّفَقٌ عليه بين الأُمَّة، كان في الجاهليّة وأَقَرَّهُ الإسلام، وفي الصّحيح عن جابر؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - باع مُدَبَّرًا (¬4). وأصلُه أنّ يقول: أنتَ مُدَبَّرٌ، وأنتَ حرٌّ بعد موتي، لا على معنى الوصيَّة. وقال الشّافعيّ (¬5): هو عِتق إلى أجل. ومن أصله: أنّ كلّ عِتق إلى أجلٍ -قُطِعَ بإتيانه أو لم يقطع- لا يقضَى بلزوم العِتق على السَّيِّد، والمسألةُ معلومة في "مسائل الخلاف". فهذه المسألة من جملة تلك الصُّور، ويخصّها أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - باع المُدَبَّر، ولو كان حُرًّا -كما قال مالك وأبو حنيفة- ما باعه. ¬
ونظر علماؤنا إلى أنّه عَقدٌ ألزمه نفسه في رقبة العبد يتعلّق بالحرية، يظهر عند أَجَلٍ آتٍ لا مَحالَةَ، فلزم كأمّ الولدِ. وأمّا حديث جابر، فلا حُجَّة فيه؛ لأنّها حكايته حال وقضيّة عَيْنٍ، وقضايا الأعيان وحكايات الأحوال لا يُستدَلُّ بها على العموم؛ لأنّها لا تقتضي ذلك لفظًا ولا معنىً، وقد بينّاه في "مسائل الأصول". فيحتمل أنّ يكون باعه -عليه السّلام- في دَين سَبق التَّدبير، وكذلك نقول. ويحتمل أنّ يكون باعه إذ كانت أمّ الولد تُباع على ما روَى جابر، ثمّ نُسِخَ ذلك. وبالجملة، فلا يُحتجُّ بمثل هذا لأنّه محتمل، وهذه المسألة من فروع التَّدبير، وههنا موضع التركيب في مسائل، فنقول: التدبير لازمٌ بالقولِ لموجِبِه على نفسه، في يمين كانت أو غير يمين، ولا رجوع له فيه عند مالك وأصحابه. وقال الشّافعيّ (¬1): له الرُّجوعُ فيه بإخراجه عن مِلْكِه ببَيعٍ أو هِبَةٍ، ولا يرجع فيه بالقول دون الإخراج عن المِلْكِ. وقال علماؤنا: الرّجوعُ فيه بالقول يُبطِل تدبيرَهُ، ولا يعتق إنَّ مات جعلًا. التّدبيرَ كالوصيّة الّتي يرجع فيهَا، وكذلك قال فيه أحمد (¬2) وإسحاق، واحتجّا بحديث جابر، ولا حُجَّةَ في ذلك لما فيه من الاحتمال. المسألة الثّانية (¬3): قوله (¬4): "مَنْ دَبَّر جَارَيةً فَوَلَدَتْ لَهُ أَولَادَهَا" هو على ما قال؛ إنَّ ولدها بعد التّدبير حكمهم حكمها؛ لأنّ الولد تبع لأُمِّه في الرِّقِّ والحرِّيَّة. وأمّا الموصي بعتقها، فما وَلَدتهُ قبل موت سيّدها، فلا يدخل في وصيتها؛ لأنّ ¬
الوصيَّة لا تثبت إِلَّا بموته (¬1)؛ لأنّ له الرّجوع قبل ذلك. فإذا ثبت حكم التّدبير لهم (¬2)، لم يُخرِجْهُم عن ذلك (¬3) موت الأمّ. وكذلك موت المُعتَقَة والمُكَاتَبَة إلى أجل والمُخدَمَة أو بعضُها حرٌّ أو أم الولد، فإنَّ ولدَ كلّ واحدةٍ بمنزلتها، يُعتَق بعتقها ويرقّ برقّها، ويعتق منه بقَدْرِ ما أعتق منها. قوله (¬4): "وَأمَّا مَنْ دَبَّر مُدَبَّرَة وَهِيَ حامِلٌ إِنَّ وَلَدَهَا بِمَنزِلَتِهَا" وهذا على ما قال؛ لأنّ التدبير يتناول ما في بطنها، وبه قال عليّ، وعثمان، وابن عمر (¬5)، وجابر (¬6)، وابن المُسَيَّب (¬7). ورُوِيَ عن زَيْد بن ثابِت أنّ ولدها رقيق، وقد روي عنه أيضًا مثل ما تقدّم. المسألة الثّالثة (¬8): قد بيّنّا (¬9) أنّ المُدَبَّرَ مأخوذٌ من الدّبر؛ لأنّه أعتقه بعد موته، والممات دبر الحياة. والفقهاء يقولون: المعتق عن دبر، أي: بعد الموت، وهذا اللّفظ لم يُستعْمَل إِلَّا في العبيد والإماء دون سائر ما يملك، كما لم يُستَعمل العِتق إِلَّا فيهم. المسألة الرّابعة (¬10): قولُه (¬11) في المُدَبَّرِ الَّذي دَبَّرَ أَمَتَهُ لَهُ أَن يَطَأَها، هو قول مالك، وأبي حنيفة (¬12)، ¬
والشّافعيّ (¬1). ووجه ذلك: أنّ عِتقَها إنّما يكون بعد الموت من الثُّلُث، كالموصي بعِتقِها. وأيضًا: فإنّ وطأها يؤكِّد عِتقَها؛ لأنّها إنَّ حملت منه عُتِقَت من رأس المال، وإن بقيت على حالها فإنّها تُعْتَقُ من الثُلُث. ويحتمل أنّ يقال: إنها إذا حملت بطل تدبيرها وانتقلت إلى ما هو أقوى منه، كما يبطل التّدبير بالعِتقِ. المسألة الخامسة (¬2): قوله (¬3): "وَلَيسَ لَهُ بَيعُه وَلَا هِبَتُهُ" يريد أنّ حُكمَ التّدبير قد لَزِمَهُ، فليس له إبطاله بقولٍ ولا فعلٍ. وقال أبو حنيفة (¬4): ما كان منه مطلَقًا فليس له نقضُه (¬5)، وما كان مُقَيَّدًا فله إبطالُه. وعندنا: لا يجوز إبطاله كالمُطلَقِ، وإنّما قال (¬6): إنّه يجوز أنّ يغيره (¬7) فيقول: لم أُرِدْ به التّدبير، فيكون له حينئذٍ حكم الوصيَّة. ودليلنا على تسليم إحدى الرِّوايتين: أنّ هذا تدبيرٌ، فوجب أنّ يلزم كالمُطلَق. وإذا قلنا: يُقَدَّرُ في المُقَيَّدِ قولٌ واحدٌ؛ أنّه إذا أراد به التّدبير لزم، فكذلك المُطلَق أَولَى؛ لأنّه عندنا صريحٌ في التّدبير، لا يقبل منه أنّه أراد به غيره، وبه قال أبو حنيفة. ¬
وقال الشّافعيّ في أحد قوليه (¬1): له الرُّجوع عن التّدبير المُطلَق والمُقَيَّد بالقول دون * الفعل، والقول الثّاني: له الرّجوع بالقول والفعل. والدّليل على ما نقوله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2). ومن جهة المعنى: أنّه عَقدُ عتقٍ استفاد به* اسمًا يعرف به، فلم يكن له إبطاله، أصله الكتاب. وأيضًا: فإنّه عَقدٌ ليس له إبطاله بالقول، فلم يكن له إبطاله بالفعل. المسألة السّادسة: قال علماؤنا: ولا بأس برَهنِ المُدَبَّرِ، وللمرتهن أنّ يخدمه في حياة السَّيِّد، وهو أحقّ به بعد موته إنَّ كان قد حازه لنفسه، وإلا كان أسوة الغرماء. ومنع أشهب من رَهنِ المُدَبَّرِ، والأوّلُ أصحّ عندي. ولا بأس بإجارته، وولَدُه من أَمَتِهِ بمنزلته، وولد الأَمَةِ من زوجها بمنزلتها، وللسَّيِّد وطؤها. ولا يجوز بَيع المُدَبَّر ولا هِبَته، فمن باع مُدَبَّرًا فُسِخَ بيعُه، فإن أعتقه مبتاعُه قَبلَ فَسخ بيعه مَضَى عِتقُه؛ لأنّه أقوى سببًا من التّدبير. وقيل: يردّ عِتقُه، ويعود مُدَبَّرًا على حاله. ومن أمضى عِتقه لم يُوجِب على بائعه إدخال ثمنه في غيره، واختار ذلك ابن وهب. فإن مات عند مبتاعه، فقد فات ردّه، ويستحبّ له أنّ يجعل الفضل من قيمته في مُدَبَّرٍ مثله. وقيل: يُفسَخُ بيعُه، ويكون موته كعِتقِه، ويُردُّ الثَّمن على مبتاعه، ولا يضمن قيمته في مُدَبَّرٍ مثله. وقيل: يُفسخ على كلِّ حالٍ، وهو عندي ضعيف، بل يردّ الثّمن على مبتاعه ولا يضمن قيمته في مدَبَّرٍ مثله اعتبارًا بأم الولد. ¬
المسألة السّابعة: والمُدَبِّرُ في الحدود كالعبد، فإن جنَى جناية قُوِّمَ قِيمةَ عبدٍ، يريد فيه: وإن جَنَى فجنايتُه في خدمته دون رَقَبَتِهِ، وفُدِي بمال إذ كان له، فإن وَفّى بجنايته فكّ سبيل ذلك، وإن قصَّرَ عنها خُيِّرَ بين دفع البقيّة وبين إسلام الخدمة لا الرَّقبة، فإن أسلم استوفى ذلك سيِّده حين عاد على تدبيره. وإن مات قبل ذلك وله مالٌ يخرج (¬1) من ثُلُثه عتق، وكان ما بقي من أَرْشِهِ دَيْنًا في ذمَّتِه، وقيل: لا شيءٍ عليه (¬2) من أَرْشِ جنايته. وإن جرح اثنين، تَحَاصَّا (¬3) في خدمته. وإن جرح واحدًا فأسلمه إليه (¬4)، ثمّ جرح آخر بعد ذلك (¬5)، تَحاصَّا في خدمته. وقيل: إنَّ المجروح يُخيَّر في افتكاكه أو إسلامه، فإن أسلمه بَطَلَ حقّه، وإان افتكّه اختصّ في خدمته. فرع: فإن هلك سيّده وعليه دَيْن، وقد جَنَى مدبّره جناية، كان أرباب الجناية أحقّ به، إِلَّا أنّ يقول أرباب الدِّين: نحن نزيد على قيمته شيئًا نحطُّه عن ذمَّة الميِّت، وندفع إلى أرباب الجناية القيمة، فذلك لهم، ولا كلام لأرباب الجناية. فإن لم يزيدوا وكانت الجناية وفاء الرّقبة. كان اربابها أَولَى بها، وإن كان فيها فضلٌ على الجناية والدَّيْن، بيع منه لهما جزء ـدى من الثّمن بأَرشِ الجناية، ثمّ بالدَّين، ثمّ أعتق ثُلُث ما بَقِيَ، وكان الأفضل فيه عن الأَرْش والدَّين فأرباب الجناية أحقّ به، وقيل: إنّه يباع كلّه فيقتصّا منه جميعًا، وبه نقول. ¬
فرع: فإن جرحَ السَّيِّدُ مُدَبّره، لم يضمن له أَرْشَ جراحه. وإن قتله، فلا ضمان عليه. وإن قتل المُدَبَّر سيّدَه عَمدًا، بطل تدبيره، وإن قتله خطأَ، عتق في ماله دون دَينِهِ، وكان على المُدَبَّر الدِّية يُتبع بهالأولا تكون على عاقلته. والحمد لله ربِّ العالَمِين.
كتاب الفرائض والمواريث
كتاب الفرائض والمواريث العربيّة: قال أبو حاتم (¬1): الميراثُ مِفْعَال من الإِرث، والإرثُ ما بقي بعد صاحبه، وقيل لمال الميِّت: إرث وميراث؛ لأنّه يخلفه ويبقى بعده. اللّفظ الثّاني: "العَصَبَة" هم قرابة الرَّجل وورثتُه من قِبَلِ أبيه الّذين ليس لهم سَهْمٌ معلوم في كتاب الله. والعَصَبَة: مأخوذةٌ من العِصابة وهم الجماعة من الخَلْق، وقيل: هي مأخوذة من العِصَابة الّتي يعصَّب بها الرَّجُل رأسه عند الحرب، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية (¬2)، إلى قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ}. مقدمة للكتاب (¬3) وفاتحة له: اعلموا -وفقكم الله- أنّ الفرائض أصلٌ من أصول الدِّين، ومن أهتّم علوم الشّريعة وأركأنّها، حضَّ النّبيّ -عليه السّلام- عليها وعلى تعليم معانيها وتَعَلُّمِها، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوا القُرْآنَ وَالفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي مَقْبُوضٌ" (¬4) وقال: "الْعِلْمُ ثَلَاثٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ" (¬5) تولّى الله تقديرها، وبيَّن أحكامها. والأصلُ فيها: آيةُ المواريثِ المتقدِّمةِ، قولُه جلَّ ثناؤُه وتقدَّست أسماؤه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬6) الآية. والأصلُ فيه من السُّنَّة: قولُه في حديث ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال النّبيّ ¬
باب ميراث الصلب
-عليه السّلام-: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الفَرَائِضَ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬1) وأكمل صلّى الله عليه أمرها بحديثِهِ الصّحيح حين قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ" (¬2)، وقال النَّبيّ عليه السّلام: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمُ" (¬3). وقد قرأناها على ستة أنواع: قرأناها على القرآن، وعلى السُّنَّة، وعلى الاِتّفاق والاِختلاف، وعلى القربى، وعلى الإِيجاز، وعلى الإلغاء، وبهذه الأصول السِّتَّة تنضبط، وبقلبها ظهرًا لبطنٍ تتحصّل، ولكنّ مالكًا في "الموطَّأ" تولى بيأنّها على الأقرباء، فنحن على مِنواله ننسج، وفي سبيله نستنتج، فقال مالك في ذلك على طريق البيان: باب ميراث الصّلب (¬4) وهي كلمةٌ بديعةً تلقّنها مالك - رحمه الله - من القرآن في قوله: ({يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} (¬5). فذكر قرابة الأب الَّتي هي الأصل، وبدأ بها لأنّها أصل الولادة، بها تجمع وعنها تتفرّع، فإذا خرجت عنها وانفصلت منها، نزلت في منازل التّطوير، وتغيّرت بإحكام التّقدير، وتفصّلَت بأحكام التّدبير، حتّى تعود خلقًا سَوِيًّا من السُّلالة إلى استواء الخِلْقَة، فهاتان الحالنان هما أخصّ الأحوال بالإنسان، فوجب أنّ تقع البداية بها، ولذلك لم يُؤثِر اللهُ تعالى شيئًا عليهما، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي ¬
أَوْلَادِكُمْ} الآية (¬1)، واتّفقتِ الأُمَّةُ على أنّها عامّةٌ جارية على شمولها، منتظمة على جملتها وتفصيلها، لا تتبيّن إلّا في جملة مسائل: المسألة الأولى (¬2): تخصيصُها بحديث جابر عن النّبي -عليه السّلام-؛ قوله: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَا صَدَقَةٌ"، قالت فاطمة لأبي بكر: أَرَأَيتَ لَوْ مُتَّ أَكانَت تَرِثُكَ ابْنَتُكَ؟ قال لها: نَعَمْ، قالت: فَاعْطِنِي سَهْمِي! قال لها: سَمعْتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا نُورث ما تَرَكنا فَهو صَدَقَةٌ" (¬3) فكانت إحدى خِصَاله الكريمة يذكرها من سمعها، وأصغى لها من غاب عنها، وَائتلَفَت الخَليقةُ عليها. المسألة الثّانية (¬4): هي مخصوصة بالكافر، لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ" وقيل له - صلّى الله عليه وسلم -: أَيْنَ تَنزِل؟ حين جاء مكّة، فقال: "وَهَل تَرَكَ لَنا عَقيل شيئًا" (¬5) وذلك إجماعٌ أيضًا. المسألة الثّالثة (¬6): اتفق العلّماءُ من الصّحابة والتّابعين على أنّ من لا يرث لأجل الكفر لا يحجب، إِلَّا عبد الله بن مسعود فإنّه حجبَ بالابن الكافر، كما يحجب بالابن المسلم (¬7). وهذا ضعيفٌ؛ لأنّ الله تعالى أنزله في الميراث معدومًا، فكذلك في الحجب، وتحريره أحد ¬
فائدتي القرابة في الميراث، فأسقط حكمها الكفر، أصله السّهم. مزيد إيضاح: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية (¬1). وهو المذكور في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} (¬2). تنببة على مسالةٍ أصوليّةٍ (¬3): قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية (¬4)، اتّفق المفسّرون على أنّ هذه الآية نسخت آية الوصيَّة للأَقرَبين (¬5)، وهذا لا يصحّ (¬6)؛ لأنّ من شروط النّسخ الأربعة -وهو أصلها - المعارضة حتّى لا يُمكِن الجمع، والجمعُ بين الآيتين ممكنٌ، فاستحال أنّ يقال: إنَّ إحداهما نَسَخَتِ الأخرى. وقالت طائفة: نسَخَها قولُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (¬7)، وهذا الحديث اتّفقتِ الأُمَّةُ عليه. قلنا: هذا باطلٌ؛ لأنّ الأُمَّةَ لم تتَّفِق عليه لفظًا، والحديث ضعيفٌ، ولو كان قويًّا لَنَقَلَهُ العدلُ عن العدلِ، وما جاز نسخ القرآن به لأنّه خبرٌ واحدٌ، ونسخُ القرآن لا يجوز ¬
بخبر الواحدِ لإجماعٍ من الأُمّةِ. وأمّا إنَّ كانت الأُمَّةُ أجمعت على معناه، فالنّسخ بالإجماع محالٌ؛ لأنّه لا يصحّ تصوّره إِلَّا بعد عدم الشّريعة الواردة ببيَان الأحكام على التّنصيص في المقال خاصّة. فإن قيل: إجماع الأُمّة لا يكون إِلَّا عن حديث سمعوه من النّبيِّ عليه السّلام، فإذا أجمعوا عَلِمْنا ضرورةَ وجودِ الأثر. قلنا:. هذا مذهب محمّد بن جرير الطّبريّ، وهو ساقطٌ قطعًا، فإنّ الأُمَّة قد تُجْمِعُ على النّظر كما تُجْمِع على الأثر، وقد بيَنّا ذلك في "أصول الفقه". ومنهم من قال: إنّما سقطت الوصيّةُ للوالدين والأقربين، لقوله في الحديث الصّحيح: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الفَرَائِضَ فَهُوَ لِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" (¬1). قلنا: كما لم يُسْقِط هذا الحديث أصلَ الوصيَّة في آية المواريث، لا يُسقط وصفَ الوصيَّة للأقربين. وإنّما معنى هذا الحديث المخصوص، فما بقي بعد الوصيَّة والدَّيْن كيفما تصرّفت وجوه الوصيَّة، وكيفما تصرّفت وجوه الدَّيْن، وقد رَوَى جابر بن عبد الله أنّه قال: جاءني رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يعودُني فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ فأنزل الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬2). رواه البخاريّ (¬3). وثبت في الصّحيح أيضًا من طريق آخر أنّها نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (¬4). وروى المصنَّفون والمُسْنِدُون عن جابر بن عبد الله أنّه خرج مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى الأسواف، وذكر حديثًا طويلًا، منه؛ أنّ امرأة سَعْد بن الرّبيع جاءت بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -؛ إِنَّ سَعْدًا ¬
هَلك، وَتَرَكَ هاتَينِ، كان عَمَّهُما استَفَاءَ (¬1) مِيراثهُما، وإِنَّهُمَا لَا تُنْكَحانِ إِلَّا عَلَى مالٍ. فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يَقضِي اللهُ في ذَلِكَ" ثمّ نزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية (¬2). فدعا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عمّهما، وقال: "ادْفَعِ الثُّمنَ إِلَى المَرْأَة، والثُّلُثَينِ للابنَتَينِ، وَخُذ ما بَقِيَ" (¬3). تنبيه على وهم (¬4): قال بعض علمائنا: هذه الآية في شأن سعد، نسخت ما كان في الجاهلية، وهذا باطلٌ، فإنّ الجاهليّة ليس لها حُكمٌ يثبت حتّى يتطرّق إليه رَفعٌ، ولا يثبت له فى الإسلام قدم بيان، فإنّه لو كان مسكوتًا عنه لكان شرعًا، ولو كان شرعًا لما انتزع النَّبيُّ -عليه السّلام- من أخي سعد بن الرّبيع ما كان أخذه، فإنَّ حكمَ النّاسخ يثبتُ ساعةَ نزوله ولا يعترض على ما سبقه، فلمّا أمر النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أخا سعدٍ بأن يردّ ما أخذَ، وهذا يُبَيّن أنّها كانت ظُلَامَة. تفسير (¬5): قوله تعالى: {فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬6) فأولاد الرِّجال: كلُّ موجودٍ كان من صُلبه، دَنِيًّا أو بعيدًا. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} (¬7). وقال عز من قائل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬8). فمن علمائنا من قال: إنّه حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين. ¬
ومنهم من قال: إنّه حقيقة في الكلّ لأجل عموم الاشتقاقال في هو التّولُّد فيه. والصّحيح عندي أنّه مجاز؛ لأنّه يجوز نفيه عنه، والحقائق لا يجوز نفيُها عن مسمّياتها. وعلى كلّ حالٍ فإنّ الأمّة اجمعت على العموم في قوله: {أَوْلَادِكُمْ} (¬1) وإن سفلوا كما دخل في قوله: "آباء" الآباء وإن علوا، فإذا ثبت أنّه على العموم في الأولاد، فليس يقتضي ذلك اشتراك الأدنى والأبعد، لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فَمَا أَبْقَيتِ الفَرَائِضَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2) فلأجل ذلك يقدَّم الابن علي أبيه، ولولا ذلك لاشترك الأب وابنه في الميراث بحكم الاشتراك في العموم، وعلى هذا ينبني اختلاف العلماء في قوله: "هذا حَبسٌ على ولدي" هل تلحق الدَّرجة السّفلى بالعلّيا؟ على ثلاثة أقوال: 1 - فقالت طائفة: لا تلحق، وهذا ضعيف. 2 - وقالت طائفة: تلحق بهم، وهو الصّحيح. 3 - وقالت طائفة: يشتركون فيه، ويؤثر الأعلى، وهذا إنّما هو استحسانٌ لا يعضده الدّليل في أصل المسألة، وكذلك يكون الحكم في البنات وبنات الابن. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬3): قولُه (¬4): "مِيرَاثُ الْوَالِدِ مِنْ وَالَدِهِمْ" اعلم أنّ ميراثهم على ضربين: أحدهما: أنّ يرثوا بالتّعصيب، وهو أنّ يكونوا رجالًا ونساء. والثّاني: أنّ يرثوا بالفرائض، وهو أنّ يكنّ نساء، فإن ورثوا بالتّعصيب وكانوا رجالًا، فالميراث بينهم بالسَّواء، لتساويهم في سبب استحقاقه، وإن كانوا رجالًا ونساءً فللذّكر مثل حظِّ الانثيين. وأمّا إنَّ ورثت البناتُ بالفرائض، فلا يخلو أنّ تكون واحدة أو أكثر، فإن كانت ¬
واحدة فلها النّصف، وإن كانتا اثنتين فالّذي عليه جماعة الصّحابة ومن بعدهم أنّ فرضهما الثُّلُثان؟ ورُوِيَ عن ابن عبّاس أنّ فرضهما النّصف، ولم يثبت ذلك عنه، والدّليل على ضعفه: إجماع النَّاس على خلافه. ومن جهة المعنى: أنّ كلّ نوع من النّساء فرض إحداهنّ النّصف، فإن فرض الاثنين منهما الثُّلُثان، أصله الأخوات. المسألة الثّانية (¬1): فإن كان مع البنت أو البنات ذو فرض أو عصبةٍ يستحقّ الباقي، دفع إليه. وإن لم يكن ذلك، دفع باقي التّركة إلى بيت مال المسلمين، هذا قول زيد (¬2)، وغيره (¬3)، وسليمان بنيسار، ومالك، والشّافعيّ (¬4)، وقد رُوي عن عمر، والمشهور عنه أنّه كان يردّ ما فضل عن ذوي الفرائض على ذوي السّهام من ذوي الأرحام، وبه قال علي، وأبو حنيفة (¬5)، وأحمد، والثّوريّ، إِلَّا ابن مسعود فإنّه لم يردّ على أربع من أربع: لم يردّ على ابنة الابن مع البنت، ولا على الأخت للأب مع الأخت الشقيقة، ولا على ولد الأم مع الأم، ولا على الجد مع ذي سهم من ذوي الأرحام، فإذا انفردن عن الأربعة ردّ عليهن، وأجمعوا على أنّه لا يردّ على الزّوج والزّوجة. والدّليل على صحة القول الأوّل: قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (¬6)، وقولُه: {وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬7) فيجعل تعالى للأخت النّصف، وأبو حنيفة يجعل لها الكلّ. وأيضًا: فإنّه تعالى قد فرّق بين الأخ والأخت، وأبو حنيفة (¬8) جعل حكمهما واحدًا. ومن جهة القياس: أنّ هذا ذو سَهْم لا تعصيبَ له، فلم يردّ عليه كالزّوج والزّوجة. ¬
الفصل الأول في بيان الأسباب التي يتوارث الخلق بها
وهنا كلامٌ يفتقرُ إلى جملةِ بيان في فصول ثلاثة: الفصل الأوّل في بيان الأسباب الّتي يتوارث الخلق بها فالأسبابُ الّتي تُوجِب الميراث عندنا أربعة: نسب، ونكاح، وولاء، وإسلام، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة: هي خمسة: نكاح، ونَسَبٌ، وولاء، وحلف، واتّحاد الدِّيوان. وقولنا: "إنَّ الإسلام سببٌ" أنّ علماءنا اتّفقوا على أنّ الرَّجل إذا لم يكن له وارثٌ لا يجوز له أنّ يُوصِي بجميع مالِه؛ لأنّ بيت المال وارثه. وقال أبو حنيفة (¬1): يُوصي بجميع ماله، والمسألة طبولية، وتعلَّقَ فيما انفرد به عنّا بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية (¬2). فأوجب تعالى الميراثَ بالمعاقدة قولًا، والاتّحاد في الدّيوان معاقدةٌ فعلًا. والوارثون (¬3) من الرِّجال عشرة؛ الابنُ، وابنُ الابنِ وإن سفل، والأب، والجدّ وإن علا، والأخ، وابن الأخ، والعمّ، وابن العمّ، والزوج، ومولى النّعمة. ومن النِّساء سبع: البنتُ، وابنة الابن وإن سفلت، والأم، والجدّة، والأخت، والزّوجة، ومولاة النّعمة. وأمّا الفروض المقدَّرة في القرآن فستّة: النّصف، ونصف النّصف وهو الرّبع، ونصف الرّبع وهو الثُّمن، والثُّلُثان، ونصف الثُّلُثين وهو الثُّلُث، ونصف الثُّلُث وهو السُّدُس. ¬
المسألة الثّانية: وأمّا تسمية من لا يرث من وجهٍ ويرث من وجهٍ آخر: فهو الجدّ من الأمّ، وبنو الإخوة من الأمّ، والأعمام من الأمّ، والأخوال، وذكور بني البنات، وذكور بني الأخوات، وبنوهم لا يرثون بهذا النّسب الّذي ذكرنا، وهم يرثون إذا كانوا من عصبة الميِّت بسبب قرابة الصُّلب. المسألة الثّالثة: في تسمية من لا يرث بحالٍ من الأحوال بناتُ البناتِ من قبل ما كنّ، وبنات الإخوة من قبل ما كانوا، وبنات الأعمام، فهؤلاء وبنوهم وبنو بنيهم لا يرثون شيئًا، ولا يَحْجُبُون وارثًا، والعمّة تُورَثُ ولا ترِثُ، والخالة لا تُورَث ولا تَرِث، وقد تكون الخالة عمّة فتُورث، والجدّة أمُّ الأمِّ تَرِث ولا تُورَث، والجدّةُ أمّ الأب ترِث وتورَث. ولا يرث دَين دَينًا، ولا الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ، إِلَّا السيّد يرث عبده بالمِلْكِ مسلمًا كان العبد أو ذمّيًّا، وكذلك النّصرانيّ يُسلِم عبده وبيده مالٌ، فيموت العبدُ الّذي أسلمَ قَبلَ أنّ يباعَ عليه، هو يرث المال الّذي كان بيده، ولا يرِث الحرُّ العبدَ، ولا العبدُ الحرَّ، ولا يرث المُعْتَق إلى أجلٍ، ولا المُعْتَق بعضه، ولا المُكَاتبون، ولا المُدَبَّرون، وأولادهم يتوارثون إذا كانوا أحرارًا ولا يرث القاتلُ عَمدًا من مالِ من قَتلَ، ولا من ديّته، ويقاد منه القتل إِلَّا أنّ يعفو من له العفو من الورثة. ولا يرث القاتلُ خطأً من الدّيّة الّتي أخذت منه، ويرث من المال. والقاتلُ عَمْدًا أو القاتلُ خطأً يرِثان الولاء جميعًا. ولا يرث المولودُ حتّى يستهلّ صارخًا. ولا يتوارث المجهولون موتهم (¬1) إِلَّا بالبَيِّنَة واليمين، وميراثُ كلّ واحدٍ منهم لوَرَثَتِه من الأحياء. ولا يورث إِلَّا من وُلدَ في الإسلام. ولا يتوارث تُؤامُ الزّانية إِلَّا بالأمّ، وكذلك أولاد المغتصبة وتُؤامُها لا يتوارثان إِلَّا بالأُمّ، وتُؤامُ المسبيّة، وتُؤامُ الملاعنة، وتُؤامُ المستأمنة ¬
الفصل الثاني في ذكر الحجب ومن يحجب ومن لا يحجب وكيفية القسمة
يتوارثان بالأب والأمّ إذا كانت الولادة في العرب. ولا يرث أولاد أمّهات الأولاد الّذين وُلدُوا من غير سيِّدهم؛ لأنّهم بمنزلة أمّهاتهم، والأمّهات لا تعتق إِلَّا بموت السَّيِّد، فإنّهم كما وصفتُ لك ممّن ترث وتورث، وممّن ترث ولا تُورث. الفصل الثّاني في ذكر الحجب ومن يحجب ومن لا يحجب وكيفية القسمة الأب يحجُب أَبَوَيه، ويحجُبُ الإخوة ذكورهم وإناثهم، والأعمامُ لا يرثون معه شيئًا. والأمّ تَحْجُبُ الجدّات كلهنّ لا يرثن معها شيئًا. والابنيَحْجُبُ من تحته من بني البنين ذكورهم كإناثهم، ويحْجُبُ الإخوة كلّهم، والأعمام لا يرثون معه شيئًا. والأخ من الأب والأمّ يحْجُبُ الأخ من الأب، والأخ من الأَبِ يحْجُبُ ابن الأخ للأب، وابنُ الأخ من الأب يحْجُبُ ابن الأخ من الأب والأمّ، الأقربُ أبدًا يحْجُبُ الأَبْعَد. وأمّا من لا يسقط بحال وهم ستّة: البنون، والبنات، والآباء، والأمّهات، والزّوج، والزّوجات. وأمّا قسمة المال، ففي ذلك إحدى عشرة مسألة: المسألة الأولى: فيمن يرث المال كلّه الابن، وابن الابن، والأخ، وابن الأخ، والعمّ، وابن العمّ، والأب والجدّ إذا انفردوا. المسألة الثّانية: فيمن يرث الثُّلُثَين ترثه ابنتان فصاعدًا إذا لم يكن معهما ابنٌ ذكرٌ، وكذلك ابننا ابن وأختان شقيقتان ولأبٍ فصاعدًا إذا لم يكن معهنّ ذكر منهنّ. المسألة الثّالثة: فيمن يرث النّصف الابنةُ الواحدة إذا لم يكن معها ذكرٌ، وكذلك ابنة الابن، والأخت الشّقيقة ولأب الواحدة إذا لم يكنّ معهنّ ذكر منهنّ، والزّوج إذا لم يكن معه ولد، ولا ولد ولدٍ. المسألة الرّابعة: فيمن يرث الثُّلُث الأمّ إذا لم يكن معها ولد، ولا ولد ولدٍ، ولا اثنان من الإخوة فصاعدًا إِلَّا في
الفريضتين الّتي يقال لهما: الغَرَّاوان، وإخوان الأمّ فصاعدًا ذكورًا كانوا أو إناثًا، مقسومًا ذلك بينهم بالسّواء. المسألة الخامسة: فيمن يرث الرُّبع الزّوج مع الولد، وولد، والزّوجة إذا لم يكن معها ولدٌ، ولا ولد ولدٍ، ذَكَرًا كان الولد أو أنثى. المسألة السّادسة: فيمن يرث السُّدُسَ يرثُه الأب والجدّ مع الولد وولد الولد، والأمّ مع الولد وولدِ الولد، ومع اثنيْن من الإخوةِ فصاعدًا، والأخ الواحد للأم ذكرًا كان أو أنثى، والجدّة واحدة كانت أو أكثر، وبنات البنين مع الابنة الواحدة، والأخوات للأب مع الأخت الشّقيقة الواحدة. المسألة السابعة: فيمن يرث الثُّمُنَ ترثه الزّوجة مع الولد وولد الولد، ذكرًا كان أو أنثى. المسألة الثّامنة: في المقاسمة في المال كلّه بالسّواء وفيما يبقى أيضًا كذلك وهم الذّكور من البنين، وبني البنين، والإخوة الشّقائق، والأب والأعمام وبنوهم وبنو بنيهم، والأخوات الشقائق، والأب مع البنات ومع بنات البنين. المسألة التّاسعة: في المقاسمة للذَّكَرِ مثل حظّ الأنثيين في المال كلِّه وفيما يبقى لأهل الفرائض المسمّاة وهم الذّكور مع الإناث مع البنين وبني البنين، والإخوة الشّقائق، والأب والجدّ مع الأخوات الشقائق، والأب إذا كانت المقاسمة أفضل أنصبائه. المسألة العاشرة: في التّخيير فالجدّ مخيَّرٌ مع الإخوة إذا كان معهم من له فريضة مسمّاة في السُّدُسِ من رأس المال، أو في ثُلُثِ ما بقي لأهل الفرائض، وفي مقاسمة الإخوة كأنّه أخ مثلهم. فإذا لم يكن معهم من له فريضة مسمّاة، كان مُخَيَّرًا في الثُّلُث من رأس المال وفي مقاسمة الإخوة. المسألة الحادية عشرة: في قسمة ثلث ما بقي للأمّ في الفريضتين اللّتين يقال لهما الغرَّاوان (¬1) وهما زوج وأبوان، وزوجة وأبوان، للزّوجين فرائضهما، وللأمّ ثُلُث ما بقي. ¬
باب ميراث الرجل من امرأته والمرأة من زوجها
فهذه أصولٌ ربطت جميعَ الفرائض والمواريث والحُجب المشكلة منها فقابلوها. باب (¬1) ميراث الرَّجل من امرأته والمرأة من زوجها بوَّبَ مالك هذا الباب، وبيَّنَ أنّ فرض الزّوج النِّصفُ، ويرجع إلى الرُّبُع (¬2)، وكذلك الزوجة فرضها الرُّبُع، وترجع إلى الثُّمُن (¬3). والأصل في ذلك: الآية المتقدّمة. وإن كانت الزّوجات اثنتين أو ثلاثًا، فهذا حكمها: لهنّ الرّبُع دون الولد وولد الولد، ولهنّ الثُّمُن مع الولد وولد الولد، يقتسمن ذلك على السّواء، ولا ينقصن من الثّمن إِلَّا أنّ ينقصَ العَوْل، وذلك مثل أنّ يترك زوجة وأبوين وابنتين، فأصلُ الفريضة من أربعة وعشرين، وتعولُ إلى سبعة وعشرين، وتسمّى: "المنبريّة" وذلك أنّ عليّ بن أبي طالب سُئلَ عن ميراث الزّوجة من هذه المسألة وهو يخطب فقال: "عادَ ثُمُنُها تِسْعًا" (¬4) ومضى في خُطبَتِه، فسمِّيت المنبريَّة. باب (¬5) ميراث الإخوة للأمّ قال الإمام: معنى هذا الباب؛ أنّ الإِخوةَ للأمِّ لا يرثونَ مع وارثٍ من الولدِ وولَدِ الولَدِ، وَلَا يرثون مع وارث من الآباء والأجداد، ويرثون مع غيرهم بالفَرْضِ دون التعصيب؛ لأنّهم يستفيدون ذلك من الأمّ وليست من أهل التّعصيب، وفرض الواحد منهم ¬
باب ميراث الجدة
السُّدُس (¬1)، وفرض الانثيين فما زاد الثُّلُث، ذكورهم وإناثهم في ذلك سواء. الأصل في ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} (¬2) معناه: أنّ يورث بغير أبوين ولا ولد، ثمّ قال: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬3) فسوّى بين الأخ والأخت، ثمّ قال: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬4) فوجب أنّ يرجع الضّمير إلى الذّكور والإناث، وذلك يقتضي تَسَاوِيهم في الثُّلُث؛ لأنّ ذلك ظاهر لفظ الاشتراك. باب (¬5) ميراث الجدّة قال الإمام: اعلموا أنّ الجدّة قد دخلت في قوله: {وَلأَبَوَيْهِ} (¬6) كما دخل الجدُّ، فاقتضت التّشريك وإن خالف اللّفظ، كما دخلت الأمّ وإن اختلف اللّفظ؛ إِلَّا أنّ مالكًا (¬7) وغيره رَوَى عن قَبِيصَةَ بن ذُؤَيبٍ؛ أنَّه قال: "جَاءَتِ الجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ" إلى قوله: "فَهُوَ لَها". وقول أبي بكر: "مَالَكِ في كِتَابِ اللهِ من شَيءٍ" ¬
باب ميراث الكلالة
غريب في الفقه؛ لأنّه جعل الجدّ أبًا ولم يجعل الجدّة أُمًّا، والمعنى في ذلك: نقصان درجات النّساء؛ لأنّه لا ينكر في الأولاد فلم ينكر في الآباء، فبنتُ البنتِ ليس لها شيءٌ، وكذلك أمّ الأمّ. ثمّ جاءت الأخرى إلى عمر، وقيل: إلى أبي بكر، فذكر مالك الرّوايتين (¬1)، وقال علماؤنا: إنَّ الّتي جاءت أوَّلًا إلى أبي بكر كانت أمّ الأمّ، ورَوَى ذلك ابن وهب وغيره مُفسِّرًا (¬2)، وعليه يدلُّ تعليل الأنصاريّ، إذ قال لأبي بكر: أَمَا إِنَّكَ تَترُكُ الَّتِي لَوْ ماتَتْ وَهُوَ حَيٌّ، كانَ إِيَّاهَا يَرِثُ، فَجَعَل أَبُو بَكرٍ السُّدُسَ بَينَهُما (¬3). توفية: اعلم أنّ الجدّة من قِبَلِ الأُمّ لها السُّدُس، والجدّةُ من قِبَلِ الأب لها السُّدُس، فإذا اجتمعتا وكانت جدَّة الأب أقرب بدرجة أو درجتين فالسُّدُس لها وحدها، وأيُّهما خَلَت به فهو لها. واعلم أنّ جدَّة الأب ترث مع كلِّ وارثٍ إِلَّا مع الأب والأمّ، وجدّة الأمّ ترث مع كلِّ وارثٍ إِلَّا مع الأمّ وحدها. باب ميراث الكلالة الأصل في هذا الباب: قولُه تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} الآية (¬4). ¬
وقوله (¬1): "إنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - عَنِ الكَلَالَةِ؟ " يحتمل (¬2) أنّ يسأل عن حكمهم في الميراث. ويحتمل أنّ يسأل عمّن يستحقّ هذا الاسم من الوَرَثَة والمورّثين. العربيّة (¬3): اختلف العلماء وأهل اللّغة وغيرهم في الكَلَالَةِ، فقال: صاحب "العين" (¬4): الكلالةُ الّذي لا ولدَ له ولا والد. وقيل: إنَّ الكلالة من بَعُد، يقال كَلَّتِ الرَّحِمُ إذا بَعُدَ من خرج منها. وقيل: إنَّ الكَلَالَة هم الوَرَثَة الّذين يحيطون بالميراث. وقيل: إنَّ الكَلَالَةَ المالُ، ولا وجه له. وقيل: الكَلَالَة من فقد أَبَاهُ وأمّه قبله ثمّ مات بعد ذلك. تنقيح (¬5): قال الإمام: والكَلَالَة الموروث على مقتضى الحديث، وهو ظاهر القرآن، وذلك قولُه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} (¬6) وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "يَكفِيكَ آيَة الصَّيف" (¬7) يقتضي أنّ السّؤال كان عن أحكام الوارِثِينَ. والآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله، رواه ابن المُنْكَدِر عنه، قال جابر: مرضت فأتاني النّبي - صلّى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وقد أُغمِيَ عليَّ فلم أكلِّمهم، فتوضّأ فصبَّ عليَّ، ¬
فأفقتُ فقلتُ: يا رسولَ الله! كيف أصنعُ في مالي ولي أخوات؟ قال: فنزلت آية الصّيف (¬1). وروى أبو إسحاق عن البراء (¬2)؛ أنّ آخر آية نزلت: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} الآية (¬3). قُرِئَ (¬4) بفتح الرّاء وكسرِها، وتشديدها مكسورة، فإن كان بالفتح فذلك عائد على الميِّت، ويكون قوله: {كَلَالَةً} حالًا من الضّمير في يُورَث. وإذا قرئ بالكسر، فذلك عائد إلى الوَرَثَة، ويكون قوله: {كَلَالَةً} مفعولًا يتعدّى الفعلُ إليه، وكذلك بالتشديد؛ وإنّما فائدته تضعيف الفعل. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "الأَمْرُ المُجتَمَعُ عَلَيهِ عِنْدَنا" إلى آخر كلامه، هو كما قال، أنّ الكلالة على ضربَينِ عند كثيرٍ من العلماء: أحدهما: من لا يرث مع الوالدين عَلَيَا أو سفلا؛ كالإخوة للأمّ، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} (¬7). والثّاني: من لا يرث مع الابن وابن الابن، ولا مع الأب، ويرث مع الجدّ وابنة الابن، وذلك قوله (¬8) تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية (¬9). ¬
باب ما جاء في العمة
باب ما جاء في العمّة هذه المسألة (¬1) ترجمتها في "مسائل الخلاف" وقد اختلف الصّحابة فيها والفقهاء والتّابعون، فالأكثر على سقوطها، وأن التَّوارُثَ إنّما يقع بين من سمَّى اللَّهُ في كتابه، والباقي للعصبة، لقوله: "أَلحِقُوا الفَرائِضَ بِأَهلِهَا" الحديث المتقدِّم (¬2). واختار أبو حنيفة (¬3) توريث ذوي الأرحام، وتعلّق بالقرآن والسُّنَّة والمعنى. أمّا القرآن فقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬4) وقد تكلّم علماؤنا عليها بوجوه، أقواها أنّه عموم إنَّ لم يكن مُجْمَلًا، فإذا كان عامًّا خصّصه المُفَسَّر من القرآن والسُّنَّةُ. وأمّا متعلّقه من السُّنَّة فضعيفٌ، ليس له في ذلك أَثَرٌ صحيحٌ. وأمّا متعلّقه من المعنى فقويٌّ، قال: سَاوَى المسلمين في الإسلام، وفَضَّلَهُم بالقرابة، فوجبَ ترجيحه عليهم. وقد استوفينا الكلام معه في ذلك في "مسائل الخلاف" والصّحيحُ توريثُهُم. عارضة: وهي امرأة توفّيت وتركت زوجها، وأمّها، وأختها لأمّها وأبيها، وجدّها، فللزّوج النّصف، وللأمّ الثلُث، وللجدّ السُّدُس، وللأخت للأب والأمّ النّصف، ثمّ يجمع سُدُس الجدّ ونصف الأخت فيقسم للذَّكَر مثل حظِّ الأنثيين؛ لأنّ الجدّ يقول: أنا أشارِكُ أخاكَ وأفضله، فكيف يفضلني وهو أفضل منك؟ وهذا ترجيح في ترجيح، ولا جوابَ عليه، وذلك بّيِّنٌ في "الخلاف". ¬
عارضة أخرى: وهي مسألة "الْمُعادَّة" قال بها مالك في الميراث والوصيّة، وانكرها الشّافعيّ وكثير من الفقهاء (¬1). فقال مالك: إنَّ الوَرَثَة يعادُّون أهل الوصايا بوصيّة الوارث، ثمّ يردّونها ميراثًا، وكذلك يعادُّون الإخوة للأب والأمّ والجدّ بالإخوة للأب، فإذا أخذوا نصيبهم معهم أخذوه من أيديهم. فإن قيل: كيف يحجب الجدّ من لا يرث؟ أو كيف يحطّ من لا يقسم له؟ قلنا: ليس ذلك بنكير في الفرائض؛ فإن الإخوة للأمّ يَحجُبُون الأمّ عن فرضها ويحطّونها عن سهمها، وهم يحجبون عن سهمهم. عارضة أخرى: اختلف العلماء في ميراث المرتدِّ: فقالت طائفة: ميراثه لوَرَثَتِهِ المسلمين، رُوِيَ ذلك عن عليّ (¬2)، وبه قال ابن المسيِّب (¬3)، والحسن البصري (¬4)، وإسحاق، وعمر بن عبد العزيز (¬5). وقالت طائفة: لا يرث المرتدّ وَرَثَتَهُ من المسلمين، ولا يرثُهم لأنّه كافر، وقد ثبت أنّه "لا يرث المسلم الكافر" (¬6) وهذا قول مالك وربيعة؛ أنّ ميراثه للمسلمين؛ لأنّ دمه كان مباحًا. وهذا هو الصّحيح للحديث المتقدِّم، وبه أقول. عارضة أخرى: قال علماونا: حكم ولد الزّنا حكم ولد الملاعنة (¬7) إذ لا أَبَّ له ولا لابنِ ¬
الملاعنة، هذا قول عطاء، وسفيان الثّوريّ، والزّهري، وبعض المدنيّين. عارضة أخرى في ميراث الخنثى: هذه نازلة تعتبر، وإن كان قد قال كلّ من يُحْفَظ عنه من أهل المدينة أنّ الْخُنْثَى يورث من حيث يبول، فإنْ بال من حيث يبول الرَّجُل ورثَ ميراث الرَّجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة (¬1)، وهو مذهب عليّ بن أبي طالب، ومعاوية، وأهل الكوفة (¬2). وقالت طائفة: يورث من حيث يسبق البول (¬3)، وعليه الجمهور، وبه قال أحمد (¬4)، وإسحاق. فإن بال منهما جميعًا، فهو الخنثى المشكل، واتفق أهل الفرائض على أنّ له نصف ميراث رجلٍ ونصف ميراث امرأة، فإن انفرد وحده فله ثلاثة أرباع المال، قال أبو غالب في "فرائضه": لا كلامَ بين أهل العلم في ذلك، وقد اختلفوا في الحسَاب. فقال بعضهم: من توفيّ وترك ابنا خُنثى وابنًا صحيحًا، فريضتهما من سبعة، للصّحيح أربعة وللخنثى ثلاثة. ومنهم من قال: فريضتهما من خمسة، للخنثى سهمان وللصّحيح ثلاثة. وذلك كلُّه غَلَطٌ، والصواب أنّ يعمل فريضتان: فريضة على أنّه ذَكَر، وفريضةٌ على أنّه أنثى، ففريضتهما على أنّهما ذكران من اثنين، وفريضتهما على أنّ أحدهما أنثى من ثلاثة، فاضرب الثّلاثة في اثنين فذلك ستّة، ثمّ ضعّفهما فذلك اثنا عشر، وإنّما أضعفناهما ¬
ليكون بيد كلّ واحد منهما من التذكير والتأنيث نصف صحيح، ثمّ قسمناهما على أنّهما ذكران فلكلّ واحد ستّة، ثمّ قسمناها على أنّ أحدهما أنثى فيكون للذّكر ثمانية، وللأنثى أربعة، ومن أراد الشّفاء من هذه المسائل فعليه "بالكتاب الكبير" والحمد لله تمَّ بحمد الله ومنِّه الجزء السّادس بالتجزنة السليمانية، ويليه الجزء السابع وهو الأخير، وأوّله: "كتاب القول في الدماء والقسمامة"
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مَالِك للقاضي أبي بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543هـ) قرأه وعلَّق عليه محمّد بن الحسين السُّليماني ... عائشة بنت الحسين السُّليماني قدَّم له الشّيخ الإمام يوسف القَرَضَاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلّماء المسلمين المجلد السّابع دَار الغَرب الإسْلامي
دار الغرب الإسلامي جميع الحقوق محفوظَة الطبعة الأولى 1428هـ - 2007م دار الغرب الإسلامي ص: ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفرتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
المسالِك في شرح مُوَطَّأ مَالِك للقاضي أبي بكر محمّد بن عبد الله بن العربيّ المعافريّ (المتوفَّى سنة: 543هـ) المجلد السّابع
كتاب القول في الدماء والقسامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب القول في الدِّماء والقَسَامَةِ مقدِّمة (¬1) قال الإمام: الدِّماءُ خطيرةُ القَدرِ في الدَّين، عظيمةُ المرتبةِ عند ربِّ العالَمِينَ، وهي وإن كانت محرَّمةً بالحُكم والأمرِ، فإنَّها مُرَاقَةٌ بالقضاءِ والحِكمَةِ، وهو الّذي ضَجَّت منه الملائكةُ ورَفعَت قولَها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فقالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬2). ومن مراتِبِها وعَظيمِ خَطَرِها، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية (¬3)، فأجابَ الله تعالى الملائكةَ بقوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). ثمّ عَلَّمَنَا الله تعالى معنى ذلك وحِكمَتَه، وهي ما بينّاه في "الأسماء" (¬5)، وذلك أنّ الله سبحانه له الصِّفاتُ العُلَى والأسماءُ الحُسنَى، وكلُّ أسمائه وصفاتِه لها مُتعَلِّق لابدّ أنّ يكون ثابتًا على حُكم المُتَعلّقِ، ومنْها عامّةُ التَّعلقِ، ومنها خاصَّة، فلمّا كان من صفاتهِ الرّحمةُ، أخذَت جزءًا من الخَلْق، فكان لهم العَفْوُ والعافيةُ في الدّنيا والآخرةِ. ¬
ولمّا كان من صفاته السَّخَطُ، أَخَذَت هذه الصّفةُ جُزءًا من الخَلْقِ، فوجَبَ لهم العذابُ، واستَحَقَّت عليهم النِّقْمَةُ، إلى آخِرِ تحقيقِ هذا الفصلِ في الكتابِ المذكورِ (¬1). فلمّا خَلَقَ الملائكةَ يفعَلُون ما يُؤمَرُونَ، وُيسبِّحونَ اللّيلَ والنّهارَ ولا يَقتُرون، لم يكن بُدٌّ -لِمَا تقدَّمَ بيانُه- له من أَن يَخلُقَ مَنْ تجري عليه هذه الأحكامُ وهو الآدميُّ، تجري عليه المقاديرُ من خيرٍ وشرٍّ، وتَتفُذُ فيه هذه المقاديرُ من نفعٍ وضُرٍّ، والحمدُ لله الّذي بَصَّرَنا حِكمَتَهُ وأحكامَه، وإيَّاهُ نسألُ نُورًا يتيسَّرُ به العملُ. فاتحة (¬2): ولعظيم حُرْمَةِ الدِّماءِ، حذَّرَ النَّبيّ -عليه السّلام- اُمَّتَه عنها، فقال في الحديث الصّحيح: "لَا يَزالُ الرَّجُلُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ ما لَمْ يَسْفِك دَمًا حَرامًا" (¬3). فالفُسْحَةُ في الدِّين: سَعَةُ الأعمالِ الصَّالحةِ، حتّى إذا جاءَ القتلُ ضاقَت؛ لأنّها لا تَبقَى به (¬4). ورُوِيَ في رواية أخرى (¬5): "في فُسحَةٍ من ذَنبِهِ" والفُسْحَةُ في الذَّنب: قَبُولُه للمغفرةِ (¬6)، وإنَّ قَتلَ البهائِم بغير حقٍّ ليوجِبُ ذنبًا عظيمًا، فكيفَ قتلُ الآدَمِيِّ الّذي لو وُزِنَ بالدّنيا بأَسْرِها (4) لرَجَحَها (¬7)؟. ¬
تبدئة أهل الدم في القسامة
وثبتَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ" (¬1) لأنّ المهمَّ أبدًا هو المقدّمُ. وفي "التّرمذيّ" (¬2) أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "زَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتلِ رجلٍ مُسْلِمٍ". وعن أبي سعيدٍ الخدريّ، وأبي هريرةَ، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَواتِ وَأَهْلَ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمٍ رَجلٍ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللهُ في النَّارِ" (¬3). واعلم أنّ القتلَ قد قُرِنَ بالشِّرْكِ، وقع في "صحيح البخاريّ" (¬4) في حديث يقتضي قوله: "الشِّرْكُ أَنْ تَجْعَلَ مع اللهِ نِدًّا وَهوَ خَلَقَكَ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". وخرَّجَ مسلمٌ (¬5)، والترمذيّ (¬6)، عن ابنِ مسعود؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلُ مَا يَحْكُمُ اللهُ فِيهِ بَينَ العِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ". تبدئة أهل الدَّمِ في القَسَامَةِ يحيى (¬7)، عن مالك، عن أبي ليلى، عن سَهْل؛ أَنَّهُ أَخبَرَهُ رِجَالٌ مِن كُبَرَاءِ قَوْمِهِ. الحديث. ¬
الإسناد: قال الإمام: هكذا رواه أصحابُ مالكٍ، عن أبي لَيلَى، عن سَهْل؛ أنّه أَخبَرَهُ رجالَ من كبَراء قَوْمِهِ، وهو الصّحيح (¬1). الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬2): في هذا الحديث من الفقه: أنّ المقتولَ إذا قُتِلَ وطُرِحَ على باب قومٍ لم يُؤخَذوا به، وإنّما تعلّقتْ تُهْمَةُ القتلِ في هذه القصّة على اليهود من أجل عداوتهم للمسلمين. السمألة الثّانية (¬3): قال الإمام: والقَتْلُ يَثبُتُ بثلاثةِ أشياءَ عند مالكٍ: أحدُها: البيّنةُ العادلةُ. الثّاني: الإقرارُ، لقوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (¬4). الثالثُ: القَسَامَةُ، فعنده أنّه يستوجِبُ بها الدَّمُ، وقال جمهورُ الفقهاء: إنّما تُستَحَقُّ بها الدِّيَةُ، لقولِه في الحديثِ الصَّحيحِ: "تَحْلِفُونَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُم يُدْفَعُ إليكُمْ ¬
بِرُمَّتِيه" (¬1) وبيَّنَهُ قوله (¬2): "فَتَحْلِفُونَ وَتستَحِقُّونَ دَمَ صاحِبِكُمْ؟ ". المسألة الثّالثة (¬3): قوله (¬4): "قُتِل وَطرِحَ في فقِير" قال مالك (¬5): الفقيرُ: البئرُ. وقيل: العينُ. فقال النَّبيُّ عليه السّلام: "تَحْلِفُونَ؟ ". قال الإمامُ: والقَسامَةُ متَّفَقٌ عليها من الجاهليّة والإِسلام، روى مسلمٌ في ""صحيحه" (¬6) قال: "كانتِ القَسَامةُ في الجاهليّة فأقرَّها الإِسلامُ". وهي مخصوصة من قواعد الدِّين، وأنّها تثبتُ باللَّوثِ كما تَثبُتُ بالبَيِّنَةِ. واختُلِفَ في اللَّوثِ اختلافًا كثيرًا، فمشهورُ المذهبِ (¬7) أنّه الشّاهدُ العدلُ. وقال الشّافعيُّ (¬8) وأبو حنيفةَ (¬9): هو قتيلُ المَحَلَّةِ، وفيه وُردتِ النّازلةُ، زادَ مالك (¬10): "وَقولُ المَقْتُولِ: دَمِي عِندَ فُلَانٍ" وزادَ لها مالك مَحِلاًّ آخرَ، فقال: إنَّ المجروحَ إذا عاشَ بعد ما يُجْرَحُ، وأكلَ وشرِبَ، ثمّ طرأ عليه الموتُ، لم يَجِبِ القَوَدُ لأوليائه حتّى يَحْلِفُوا أنّه ماتَ من ذلك الجُرْحِ. ¬
وأمّا قتيلُ المَحِلَّةِ، فليس بشُبْهَةٍ؛ لأنّ العدوِّ قد يُلقي القتيلَ على غيره، وذلك معلومٌ حقيقةً، موجودٌ عادةً. وأمّا قولُ المقتولِ: دَمِي عنْدَ فُلانٍ؛ فإنّ مالكًا إنّما تعلَّقَ فيه بما رَوَى عنه كُبَرَاءُ أصحابه حديث: بَقَرَةِ بني إسرائيلَ حينَ قامَ المقتولُ فقال: "دَمِي عِندَ فُلانٍ" و"فُلانٌ قتَلَنِي" (¬1). فإن قيل: هذه الآيةُ لا حُجَّةَ فيها من وجهين: أحدُهما: أنّه شَرْعُ من قَبلَنا. والثّاني: أنّها آيةٌ، والأحكامُ إنّما تُبْنَى على الدَّلالاتِ لا على الآياتِ والمعجزات. قلنا: أنا شَرْعُ من قَبْلَنا، فشرعٌ لنا (¬2) من غيرِ خلافٍ في المسائلِ المالكيّةِ. فلمَّا (¬3) قال الميِّتُ: "دَمِي عِندَ فُلَانٍ"، قال مالك (¬4): هذا ممّا يُبَيِّنُ أنّ قولَ الميِّتِ: "دَمِي عند فُلان" مقبولٌ وُيقسِمُ عليه. فإن قيل: هذا كان آية ومعجزة على يَدَيْ موسى لبني إسرائيلَ. ¬
قلنا: الآيةُ والمعجزةُ إنَّما كانت في إحياء الميِّت، فلمَّا صار حيًّا كان كلامُهُ كسائرِ الكلام من الآدميِّين كلِّهم في القَبُولِ والرَدِّ، وهذا من دقيقِ العِلْمِ، فتأمّلُوه إنَّ شاء الله. فإن قيل: إنّما قَتَلَهُ مُوسَى بالآية. قلنا: ليس في القرآن أنّه إذا أخبرَ وجبَ صدقُهُ، فلعلّه أمرهُم بالقَسَامة معه، أو صدَّقَه جبريل فقتلَهُ موسى بعِلمِهِ، كما قتل النَّبيُّ -عليه السّلام- الحارثَ بن سُوَيد بالمجذَّر ابن زيادٍ بإخبار جبريل له، وهي مسألة خلافٍ كبرى. واستبعدَ ذلكَ البخاريُّ والشّافعىُّ (¬1) وجماعة من العلّماءِ، وقالوا: كيف يُقْبَلُ قولُ الميِّت في الدِّم وهو لا يُقْبَلُ في دِرْهَمٍ، وإنَّما تستحقّ بالقَسامَةِ الدِّيَة. قال الإمامُ: والحقُّ أنّ السُّنَّةَ هي الّتي تقضي وتَرُدُّ الاعتراضَ عليها. وأيضًا؛ فإن قولَهُ: "لا يُقْبَلُ في دِرْهَم" قد قلتم: إنَّ قتيلَ المَحِلَّة يُقْسِمُ فيه على الدِّيَة، وليس هنالك قولٌ لأحدٍ، وإنّما هي حالٌ محتملةٌ للباطلِ، إذ يجوزُ أنّ يقتلَهُ رجلٌ ويجعله عند آخر، بل هذا هو الغالبُ من أفعالهِم. ولهذا خالفَ مالك أبا حنيفةَ (¬2)، والثّوريّ، وجماعةً من أهل الكوفة (¬3)؛ لأنّهم قالوا: المُوجِبُ للقَسَامَةِ في قصَّة عبد الله، أنّه وُجِدَ مقتولًا بخَيبَر، ومَن وُجِد قتيلًا بمَحِلَّةِ قومٍ وبه جُرحٌ فهو لَوثٌ. فقال مالك (¬4): "لا يُوجِبُ ذلك قَوَدًا ولا دِيَةً ولا قَسامَةً، ولو كان ذلك وشاءَ ¬
فصل في ذكر المسائل والفوائد المستقرأة من هذا الحديث
قومٌ إذايةَ قومٍ إِلَّا ألقوا قتيلًا بمَحِلَّتِهِم" وهذانظرٌ قويٌّ. وقد (¬1) بيَّنَ مالك أنّ البداية بأَيمَانِ المُدَّعِي هو العُمْدَةُ في الحُكم، ثمّ عَقَّبَ ذلك ببيانِ الحِكمَة والمعنى، فقال (¬2): "وإنّما فُرِقَ بين القَسَامَةِ والدَّمِ وسائرِ الأَيمانِ في الحقوق" إلى قوله: "فيقولُ المقتولُ" على أنَّه قد ثَبَتَ من طريق الدَّارقطني (¬3) وغيره؛ أنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، واليمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا في القَسَامَةِ" وللقَسَامَةِ فروع كثيرة في "كتب المسائل". فصل في ذكر المسائل والفوائد المستقرأة من هذا الحديث وهي جُمَلٌ: الأولى (¬4): في قوله (¬5): "في فَقِيرِ بِئرٍ" وهو حفير يُتَّخَذُ في السَّرَبِ الّذي يُصنَعُ للماء تحت الأرض، يُحْمَلُ فيه من مَوضِعٍ إلى موضِعٍ غيرَهُ، فتُعْمَلُ عليه أفواهٌ كأفواهِ الآبار منافس (¬6)، فتلك الآبار هي الفُقُرُ، واحدُها فَقِيرٌ. الثّانية: اختلَفَ النَّاسُ في الدِّم: فقال بعضُهم: إذا اختلف وُلَاةُ الدِّم، فقال بعضُهم: قُتِل عَمْدًا، وقال الآخرون: ¬
قُتِلَ خطأً، أقسَمُوا كلُّهم على قتله وَوَجَبَت له الدِّية. ولو قال بعضهم: قُتِلَ عَمْدًا، وقال الآخَرونَ: لا عِلْمَ لنا بقَتلِه، لم يُقْسِم واحدٌ منهم، ورُدَّت الأَيْمَانُ على المدَّعَى عليهم. وقال ابنُ عبدِ الحَكَمِ: إذا اختلفا سقَطَت دعواهُم. وقوله (¬1) في الحديث (¬2): "تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ": يحتَمِلُ أنّهم أتوا بلَوثٍ فوجَبَ ذلك. ويحتَمِلُ أنّ يقولَ: أتحلفونَ إنَّ أثبتُم لما يُوجِبُ ذلك. فلمَّا قالوا: لا نَحلفُ، بطلَت القَسَامة. وقولُه: "دَمَ صاحِبِكُمْ": يحتملُ أنّ يريدَ به دم المقتول، أو دم القاتِلِ، وقد ظهرَ الاحتمالُ في حديثِ سليمان بن يَسار فقال: "دَمَ صاحِبِكُمْ" أو"قاتِلِكُمْ". ويحَتمِلُ أنّ يريدَ بالصَّاحبِ القتيل، فيكون ذلك على الشكّ، فإذا قلنا: المراد به دَم القاتل وإنَّما ادَّعَوْا على جماعةٍ، فيحتَمِلُ أنّ يكونَ عيَّنَهُ بعد ذلك. ولا خلافَ في المذهب أنّه يستحقُّ القَسامَة مثل القاتل، خلافًا للشافعي في قوله: إنّما تستحقون الدِّية (¬3). ودليلُنا قوله: "تَستَحِقُّونَ بِهَا دَمَ صَاحِبِكُمْ" وهو نصٌّ جَلِيّ. * ومن جهة المعنى: أنّها حُجَّة يثبتُ بها القتلُ عَمدًا، فجازَ أنّ يستحقَّ بها الدِّم كالشُّهود. ولا خلافَ في المذهبِ أنّه لا يُستَحَقُّ بالقسامةِ إِلَّا قتل رَجُل واحدٍ، خلافًا للشّافعىّ في أحد قَوْلَيه. والدّليل على ما نقولُه: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "وَتَستَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"*. ¬
ومن جهة المعنى: أنّ القَسامَةَ أضعفُ من الإقرار والبيّنة، وفي قَتلِ الواحد رَدْعٌ، قاله عبدُ الوَّهاب (¬1). وإذا قلنا: لا يقتل إِلَّا واحدٌ، فهل يُقْسمُ على واحدٍ أو على جماعةٍ؟ ففي "المجموعة" من رواية ابنِ القاسمِ عن مالك: لا يُقْسمُ إِلَّا على واحد (¬2). وقال أشهب: إنَّ شاؤا أقسمُوا على واحدٍ، أو على اثنين، أو على جميعِهم، ولا يقتلونَ إِلَّا واحدًا. فوجهُ الأوّل: أنّ فائدة القَسَامَة القِصَاص، ولا معنى لها على من لا يقتل. ووجه الثّاني: أنّها إنّما هي على قَدْرِ الدَّعْوَى، ولا يجوزُ أنّ يكونَ في بعضِه، فإذا وجبَ القصاصُ بها كان لهم تعيين مَنْ يقتصّ منه؛ لأنّ القسامة قد تَناوَلَتهُ. فهذا أقسموا على واحدٍ، فإنَّهم يقولون: إنّما مات من ضَرْبَتِه، ولا يقولون من ضربتهم، رواه ابن عبدوس، وابن الموّاز (¬3). الثّالثة (¬4): قوله: "تحْلِفُونَ" قال علماؤنا (¬5): القَسَامَةُ لا تجبُ إِلَّا بأحدِ أمرينِ: إمَّا أنّ يقول: دمي عند فلان، أو يأتي بلَوْثٍ، وقد قال ابنُ شعبان: تجب القسامة بوجوه أربعة: الأوَّلُ: المذكورُ. والثّاني: أنّ يشهد الضّرب أو الجُرْحَ شاهدان مرضيان، ثمّ يعيش المضروب أو المجروح بعد ذلك أيامًا ثمّ يموت. والثّالث: أنّ يشهدَ شاهدٌ مرضِيٌّ أنّ فلانًا قتل فلانًا. ¬
والرّابعُ: أنّ يشهد اللّوْث أو أهل البَدْوِ على قتيل، فيقسمُ مع قولهم. ورَوَى ابنُ حبيبٍ عن مُطَرِّف عن مالك: أنّ مِنَ اللّوثِ (¬1) اللَّفِيف من السّواد، والنّساء والصّبيان يحضرون ذلك. ومثل الرَّجُلين والنَّفَر غير عدول، وليس هذا بمخالف للقول الأوّل، والثلاثة تدخلُ تحت قوله (¬2): "أَوْ يَأتِيَ بِلَوْثٍ من بَيِّنَةٍ". الرَّابعة (¬3): قوله (¬4): "وَلَكِن. .. (¬5) فَيَحْلِفُ مِنهُم خَمْسُونَ" يريدُ: أنّه يَحلِفُ الجماعةُ في النكُولِ كما يُحْلَف في الدّعوى؛ لأنّ القَسَامَةَ لمّا لم يَحلِف فيها إِلَّا اثنان، فما زاد إلى خمسين. فكذلك من تردّ عليهم الأَيْمَان. وقال مالك (¬6): لا يحلف إِلَّا المُدَّعَى عليه بخلاف المُدَّعِي (¬7). الخامسة (¬8): قوله (¬9): "خَمْسِينَ يَمِينًا" ووجهُهُ: قول النّبي -عليه السّلام- (¬10): "فَتُبرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا". ¬
وأيضًا: فإنّ الأَيمان المردودة يُعتبر بِعَدَدها فيما انتقلت إليه كأَيمَانِ الحقوق، فكذلك الأَيْمَانُ الثّابتةُ في الخمسينَ (¬1). السّادسة (¬2): قوله (¬3): "وَبَرِئَ" يريدُ: من الدّم، وعليه جَلْدُ مئة وحبسُ عامٍ، قاله مالكٌ، وابنُ القاسم. وإنْ أبَى أنّ يحلِف حُبِسَ حتّى يحلِف. وقال عبدُ الوهّابِ (¬4) في المدَّعَى عليه إذا ردَّت عليه الأَيْمَان (¬5) فَنَكَلَ: فيها روايتان: إحداهُما: يُحبسُ إلى أنّ يحلِفَ. والثّانية: تَلْزَمُه الدِّيةُ في مَالِهِ، وأراهُ أشار إلى رواية ابن القاسم (¬6). فإن حُبِسَ وطالَ سَجْنُه، فقال عبدُ الوهّابِ (¬7): يُخَلَّى سبيلُه. وفي "المَوَّازيَّة" و"العُتبِيَّة" (¬8): إنّه يُحْبَسُ حتّى يَحْلِفَ، وقال محمّد: واتّفقوا على أنّه إنَّ نَكَل سُجِنَ أبدًا حتّى يَحْلِف. ¬
باب فيمن تجوز قسامته من ولاة الدم
باب (¬1) فيمن تجوزُ قَسَامَتُه من وُلاةِ الدِّمِ الفقه في أربع مسائل: الأولى (¬2): قولُه (¬3): "لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ مِنَ النِّساءِ في قَسَامَةِ العَمْدِ" يريد: لا يقسم إِلَّا الأولياء من الرِّجال ومَن له تعصيبٌ، وأمّا من لا تعصيبَ له من الخُؤُولَة وغيرهم فلا. وإذا كان للقتيلِ أمٌّ، فإن كانت مُعْتَقَةً أو أُعْتِقَ أبوها أو جَدُّها أَقسَم مواليها في العَمْد، قاله ابنُ القاسم في "المَوَّازية" و"المجموعة" وإن كانت أُمّه من العرب فلا قَسَامَةَ في عَمْدِهِ. قال محمَّد: لأنّ العَرَبَ خُؤُولَتُه، ولا ولايةَ للخُؤُولَة. وإن شهِدَ عَدْلٌ قّتَلهُ عمدًا، أو قال: دمي عند فلان، ولا عَصَبَةَ له، وكان له أقارب من نساء أو خُؤُولَة، فلا قَسَامَةَ، ويحلف المدَّعَى عليهم القتل. المسألة الثّانية (¬4): قال علماؤنا (¬5): "وَلَيسَ للِنِّساءِ قَسَامَةٌ وَلَا عَفْوٌ" (¬6) يريد: قبل القَسَامَة، وأمّا بَعْدُ إذا أقسم العَصبةُ، فقد قال مالك: إنَّ عَفَوْنَ وقام بالدَّم العَصَبَةُ، أو عَفَا العَصَبَةُ وقُمْنَ بالدَّمِ، فمن أراد القَوَدَ أَولَى ممّن تَرَكَه؛ لأنّ الدَّمَ إذا ثبتَ فقد وجَبَ القتلُ. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قولُه (¬2): "في النَّفَرِ إِذا ضَرَبُوا رجُلًا (¬3)، قُتِلُوا به". وفي "العُتْبِيِّة" (¬4) عن ابن القاسم فيمن ضرب رأسَ رجُل فأقام مغمورًا، وقامت بَيِّنَةٌ بضربه، فقال: إذا لم يُفِق فلا قَسَامَةَ، وإنَّما القَسَامَةُ فيمن أفاقَ أو طَعِمَ أو فتح عَينَيه وتكلّم، وما أشبه ذلك، وقاله مالك في "المَوّازيّة". وقال أشهب: إنَّ مات تحت الضرب، أو بقي مغمورًا حتّى مات، فلا قَسَامَةَ. وإن أكل وشرِبَ أو فتح عينَيه، فلابدّ من القَسامَة في العَمْد والخطأ، قال: وكذلك إنَّ قُطِعَ فَخِذُه فعاش يومًا أو أكلَ وشرِبَ ومات آخر النّهار. وأمّا إنَّ شُقَّت حِشُوَتُه وأكلَ وشرِبَ وعاشَ أيَّامًا، فإنّه يُقتَل فيه قاتلُه بغيرِ قَسَامَةٍ إذا أنفذت مَقاتِلُه، وكذلك لو قُطِعَ نخاعُ رقَبَتِهِ، وقاله ابنُ القاسم. المسألة الرّابعة (¬5): قوله (¬6): "فَإِن مَاتَ بَعدَ ضَرْبِهِم كَانَت قَسَامَة" يريدُ: إنَّ شهِدَ على الضّربِ شاهدانِ، فعاشَ المضروبُ ثمّ ماتَ، ففيه القَسَامَةُ لَمَّا مات من ضَرْبِهِ (¬7). ¬
باب القسامة في الخطأ
باب (¬1) القَسَامَةِ في الخطأ الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬2): قولُه (¬3): "يَحْلِفُونَ خَمسِينَ يَمِينًا" وهذا على ما قال؛ لأنّ ولاة الدِّم يُقْسِمون مع الشّاهد على قتل الخطأ. قال أشهب: وكذلك إنَّ قال: دمي عند فلانٍ قتلني خطأً. قال عبدُ الملك: وتُقبل شهادةُ النّساءِ في ذلك. المسألة الثّانية (¬4): اختلفَ قولُ مالك في القَسَامَةِ على قولِ القتيلِ في الخطإِ، فقال (¬5) في الغريم: لا يُقسم في الخطأ مع قول الميّت. ثمّ رجع فقال: يُقسم مع قوله. قال عبد الوهّاب (¬6): ووجه الأوّل: أنَّه يُتَّهَم أنّ يريد غِنَى وَلَدِه، وحُرْمَةُ الدِّم أعظم (¬7). ووجه الثّاني: أنّه معنًى يُوجِبُ القَسَامَة في العَمْد فأوجبَها في الخطأ، كالشّاهد العدل. فهذا قلنا: يُقْسم مع قوله؛ فإنّه يُقسم مع قول المسخوط من الرِّجال والنِّساء، ما لم يكن صغيرًا أو عبدًا أو ذِمِّيًّا. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): قوله (¬2): "يحْلِفُونَ خَمسِينَ يَمِينًا" علَّقَ ذلك بالعَدَد؛ لأنّها قَسَامَةٌ في دَمٍ، فاختصّت بالخمسين كالعَمْدِ، ويبدأ المدَّعُون وتكون الأَيْمان عليهم (¬3) إنَّ كانوا يحيطون بالميراث على قَدْرِ مواريثهم، فإن كان في الأَيمَان كسرٌ، قُسِمت اليمينُ على أكثرِهم حقًّا فيها، قاله مالك في "المجموعة". وقال عبدُ الملكِ: لا يُنْظَر إلى كثرة ما عليه من الأَيمَان، وإنَّما يُنْظَر إلى تلك اليمين. قال ابنُ القاسم: فإن كان على أحدهم نصفُها، وعلى الآخر ثلُثها، وعلى الآخر سُدُسُها، أجبرت على صاحب النِّصف، وإن كان الوارثُ لا يُحِيطُ بالميراث، فإنّه لا يأخذ حصّته من الدِّيَة حتَّى يحلِفَ خمسين يمينًا. المسألة الرّابعة (¬4): ولا يحمل الوَرَثَة عن بعضهم شيئًا من الأَيْمان في الخطإِ، كما تحمل بعض العصبَة عن بعض في العَمْدِ، إِلَّا في جَبْرِ بعض اليمين، فإنّها تُخبَر على أكثرهم حَظًّا على ما تقدّم، قاله ابن القاسم. قال محمَّد: لأنَّه مالٌ، ولا يَحمِل أحدٌ فيه اليمينَ عن غيره كالدُّيون. ¬
باب ميراث القسامة
باب ميراث القَسَامَة الفقه في مسائل: الأولى (¬1): قوله (¬2): "فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ" يَرِثُهَا بَناتُهُ وَسَائِرُ مَنْ يَرِثهُ مِنَ النِّساءِ: الإخوة للأمّ، والزّوجة، والأمّ والجدَّة. الأصل في ذلك: ما رُوِي أنّ الضحَّاك بن سفيان كتب إليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّ وَرِّثْ امرأةَ أَشيَم الضَّبَابىَّ من دِيَةِ زوجها (¬3). المسألة الثّانية (¬4): قوله (¬5): "وَلَم يَسْتَحِقَّ مِنَ الدِّيَةِ شَيئًا دُونَ أنّ يَسْتَكمِلَ القَسَامَةَ" وهذا على ما قال، إنَّ بعض وَرَثَتِه إذا قام وسائرهم غيب، فلا يأخذ من الدِّيَةِ شيئًا حتّى يَحْلِفَ خمسينَ يمينًا (¬6). ثمّ إنَّ جاء بعد ذلك مَنْ غاب، حلف منها بقَدْرِ ما كان يجب عليه منها لو حَضَرَ جميعهم. المسألة الثّالثة (¬7): فإذا أقسموا، تعيّنت الدِّيَةُ على عاقلته إنَّ كانت له عاقلة، وإن لم تكن له ففي بيت المال مؤجّلة؛ لأنّ قتل الخطأ مبنيٌّ على المواساة والتّحمّل على القاتل. وتتركّب على هذا فروع كثيرة. ¬
باب القسامة في العبيد
باب (¬1) القسامة في العبيد الفقه في مسائل: المسألة الأوُلى (¬2): قوله (¬3): "الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبِيدِ" وهذا على ما قال، إِذَا قَتَل عبدٌ عمدًا أو خطأ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ على ما يدَّعِيهِ مِن قَتلِهِ، فقد قال محمّد: إذا قام بشاهدٍ واحد يحْلِف يمينًا واحدةً (¬4) ويأخذ قيمته (¬5)، ولم يختلف في هذا ابن القاسم، وأشهب قال: ويُجْلَد مدّة، ويُحبس سَنَة. المسألة الثّانية (¬6): قوله (¬7): "وَلَيسَ في الْعَبِيِد قَسَامَةٌ في عَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ" هذا هو المشهورُ عن مالك؛ لأنّ العبد مالٌ، وقد رَوَى محمّد أنّ العبد إذا قال: دَمِي عند فلان، أنّه يحلف المُدَّعَى عليه خمسين يمينًا ويبرأ. قال أشهب: ويُضرَب مدّة ويُحْبَس عامًا، فإن نَكَلَ حَلَفَ السَّيِّدُ يمينًا واحدةً، *واستحقّ قيمة عبده مع الضّرب والسِّجن. قال ابن القاسم: يحلف المدَّعَى عليه يمينًا واحدة*، ولا قيمة عليه ولا ضرب ولا سجن، فإن نَكَل غرم القيمة وضُرِب وسُجِن. وقال ابن الماجِشُون: السِّجنُ استبراءٌ وكَشْفٌ عن أَمرهِ، ويُضرَبُ أَدَبًا ولا يضرب مئة، ويسجن سنة، إِلَّا من يملك سفك دمه بقَسَامَةٍ أو غيرها. ¬
توجيه (¬1): فوجه قول أشهب: أنَّه مُسْتَخْلَفٌ في دَمٍ مسلمٍ محرَّمٌ عليه سَفْك دمه، فلا يبرأ إِلَّا بخمسين يمينًا، كقتل الحرّ خطأً. ووجه قول ابن القاسم: أنَّه مالٌ فلم يجب فيه إِلَّا يمين واحدة تُبرِئُ من الدّعوى كالدُّيون، وإنّما يضرب ويسجن رَدْعًا عن الدِّماء. ¬
كتاب العقول
كتاب العقول مقدَّمة (¬1) قال الله تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). قال الإمام: اعلموا أنّ مالكًا - رحمه الله - أَطنَبَ في "الموطَّأ" في القَسَامَةِ والدِّيَةِ، واختصرَ القول في القِصَاصِ؛ لأنَّه اعتمدَ بيانَ الإشكالِ، وَوَكَلَ الأَوضَحَ إلى معرفةِ النّاسِ، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬3). وقد كانتِ العربُ تقولُ: القتلُ أَنْفَى للقَتلِ؛ لأنّها لم تكن تأخذُ حقَّها بعَدْلٍ، وإنَّما كانت تستَوْفِيه بِرِبًا، وأعظمُ ما يكون الرِّبا في الدِّماء، فشرعَ اللهُ تعالى استيفاءَ الحقِّ في القتل بالمساواة، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬4) يعني المساواةُ في القتلِ. تَوْفِية (¬5): قال الطّبريُّ (¬6) في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية (¬7)، قال: نزلت فيمن كان من العرب لا يرضَى أنّ يأخذ بعَبْدٍ إِلَّا حرًّا، أو بوضِيعٍ إِلَّا شريفًا، أو بامرأة إِلَّا رجلًا (¬8)، ويقولون: أنفى للقتل، فردّهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى القصاص، وهي المساواةُ مع استيفاءِ ¬
الحقّ، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} (¬1)، وقال عزَّ من قائل: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية (¬2)، وبين الكلامين في الفصاحة والعدل بَوْنٌ عظيم. قال علماؤنا: معنى "كُتِبَ" فُرِضَ ولزم، وكيف يكون هذا والقصاصُ غَيرُ واجبٍ؟ وإنَّما هو لخِيَرَةِ الوليِّ، ومعنى ذلك: كُتِبَ وَفُرِضَ إذا أردتم استيفاءه فقد كُتِبَ عليكم. شرحه كما يقال: كُتِبَ عليك -إذا أردت التَنَفُّل- الوضوءُ؛ وإذا أردتَ الصِّيامَ النِّيةُ. وأمّا قولُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} (¬3) فقيل: هو كلامٌ عامٌّ مستقلٌّ بنفسه، وهو قول أبو حنيفة (¬4). وقال سائرهم: لا يتمُّ الكلامُ هاهنا إِلَّا عند قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (¬5) وهو تفسيرٌ له وتتميمٌ لمعناه؛ لأنّه ينقضي عند قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (¬6) وهو قول مالك والشّافعيّ (¬7). وقال علماؤنا (¬8): قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬9) أراد به المساواةَ في الفعلِ والمَحِلِّ، إِلَّا أنّه اعتَمَدَ في القرآن بيانَ المَحِلِّ فقال تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} إلى آخر الآية (¬10)؛ لأنّه كان مَحِلَّ اعتداءِ القومِ، ثمّ بيّن النّبيُّ عليه السّلام بعد ذلك ¬
المساواةَ في الفعل. فمن ذلك ما ثبتَ في الصّحيح (¬1) أَنَّهُ أُتِيَ إِلَيهِ بيَهُودِيٍّ رَضَخَ رَأسَ جَارِيَةِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فاعْتَرَفَ، فأَمَرَ بِهِ فَرُضَّ رَأسُهُ بَينَ حَجَرَينِ. وقال أبو حنيفة (¬2): لا قَوَدَ إِلَّا بالسَّيفِ. وزعم بعضُ أصحاب أبي حنيفةَ؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إنَّما قتلَ هذا اليهوديِّ على الحِرَابَةِ، إذْ كان قَتَلَ الجاريةَ على مالِها، وتلك حقيقةُ الحِرَابَةِ. قلنا: ما قَتَلَهُ إِلَّا قِصاصًا؛ لأنّ الأُمَّةَ أجمعت على أنّه لا يُقتَلُ في الحِرابَة بالحجارة، فكيف جاز لكم معشرَ الحنفيّة أنّ تترُكُوا إجماعَ الأُمَّةِ! وتطلُبوا أثرًا لا يُسَاوِي سَماعَهُ، بعد أنّ نظرتُم في نصِّ الحديث أنّه رَضَّ رَأسَ جارِيَةٍ فَرَضَّ رَأسَهُ بِحَجَرَيْنِ، فَذَكَرَ الحُكمَ والعِلَّةَ، وليس بعدَ هذا مَطلَبٌ. ولَمَّا ثبت باتّفاقٍ اعتبارُ المساواةِ في المَحِلِّ، امتنعَ قتلُ المسلمِ بالكافرِ؛ لأنَّهما لا يتساويان في الحُرْمَةِ، وبذلك قال جمهورُ العلّماءِ. وخالفهم أبو حنيفةَ (¬3) فقال: يُقتَلُ المسلمُ بالذِّمِّيِّ الكافرِ من أهل دار الإسلام؛ لأنّه محرَّمُ الدَّمِ على التّأبيد. قلنا: وإن كانت الحرمةُ مؤبَّدةً، ولكن الشُّبهةَ في المَحِلِّ قائمةٌ، وهي الكفرُ المُبيحُ لِدَمِهِ، فكيف يُساوَى ذلك؟ حتّى إنَّ الأوزاعيَّ قد بالغَ في هذه المسألةِ فقال: إذا قَتَلَ كافرٌ كافرًا، ثمّ أسلمَ القاتلُ، سقطَ عنه القَوَدُ، وهو أحدُ أقوال الشّافعيّ (¬4). وقال علماؤنا: لا يَسقُطُ القَوَدُ؛ لأنّ المراعاة إنّما هي حالةُ الوجوبِ، وقد استَحَقَّ دَمَهُ، فما طَرَأَ بعد ذلك لا يُسْقِطُ ما تقرَّرَ وُجُوبُه. ¬
وشُبْهَةُ الأوزاعيِّ أنّ الإِسلامَ صفةٌ وفضيلةٌ طرأت على المَحِلِّ، وإنَّما وجبَ له قتلُ نفسٍ كافرةٍ، فكيف يأْخُذُها مُسْلِمَةً! ألَّا ترى أنّ القصاصَ إذا وجبَ على المرأة، ثمّ طرأَ عليها الحملُ، فإنّه لا يُسْتَوْفَى منها. قلنا: الحاملُ معها عينٌ أخرى لم تستَحِقَّ عقوبةً، فلا تُحْمَلُ عليها هذه المسألةُ، والمعنى دقيقٌ فَلْيُطلَبْ في "مسائل الخلاف". تنبيه (¬1): وقد اختلف قولُ مالكٍ في جَرَيَانِ القِصاصِ بين المسلمين وأهل الذِّمَّةِ في الأطرافِ، وهي عَضْلَةٌ من العُضَل؛ لأنّ علماءنا الربَّانيّينَ وهَمُوا فيها، فظَنُّوا أنّ مالكًا لحَظَ على هذه الرّوايةِ إلى أنّ الأطراف جاريةٌ مجرَى الأموالِ، كما يُقْضى فيها باليمين مع الشّاهد، ولو كان ناظرًا إلى هذا المَلْمَحِ لانْهَدَمَ عليه قطعُ الأيدي بِيَدٍ واحدةٍ، وإنَّما نظَر -والله أعلمُ- إلى أنّ يَد المسلم تؤخذُ بالجنايةِ على *مالِ الكافر، وذلك أنّه يُقْطعُ إذا سرَقَهُ، فكذلك يُؤخَذُ بالجنايةِ على* يدِهِ إذا قَطَعَها، بخلافِ النَّفسِ فإنَّها أعظمُ حُرْمَةً. ونَظَرَ الرِّواية الأخرى -وهي الصَّحيحةُ- في امتناع القَوَدِ بينهما في الأطرافِ، إلى أنّ يَدَ المسلم إنّما قطعها بسرقةِ مالِ الكافِر؛ لأنّها جنايةٌ على جميع المسلمينَ، ولذلك وَجَبَ قَطعُ السّرقةِ لله، بخلاف القصاصِ، فإنّه حقُّه خالصًا، فاعتُبرَ فيه مساواتُه، وصار وِزانُ قَطعِ السّرقةِ. ¬
ومن مسألتنا: أنّ يَقتُلَ المسلمُ الكافرَ غِيلَةً، فإنّه يُقْتَلُ به عندنا؛ لأنّ الجنايةَ هنالك عندنا عن جميع المسلمين، ولذلك يَتَخَلَّصُ الوجوبُ للهِ فيه، ولا يَقِفُ على خِيَرَةِ المَجْنِيِّ عليه. وَيتفرَّعُ على هذه المسألةِ: أنّ الحُرِّ لا يُقتَلُ بالعبدِ، سواءٌ كان له أو لغيره، وإن كان قد رَوَى التّرمذيُّ (¬1) وغيرُه (¬2)؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَتَلَ عَبدَهُ قَتَلْناهُ" ولكن هذا لم يَصِحَّ (¬3) سَنَدًا ولا نَقلًا، ولا قال به أحدٌ ممّن يُلْتَفَتُ إليه، والرِّقُّ أثرٌ من آثارِ الكفرِ، فيعْمَل عملَ الأصلِ في التّحريم كالعِدَّةِ؛ فإنّها إنَّ كانت من آثارِ النِّكاحِ، عَمِلَت عملَ أصلِها في تحريم نكاح أختِها وأربعٍ سِوَاها. والذي يدلُّ على افتراقِ حُرْمَةِ الحُرِّ من حُرْمَةِ العبدِ في العِوَضِ الزَّاجرِ، وهو القتلُ، تفاوتُهما في البَدَلِ الجَابِرِ وهي الدِّيَةُ، فإذا قتلَ عبدًا لَزِمَ دِيَّتَه عشَرَةُ دنَانيرَ، وإذا قتل حرًّا لَزِمَ دِيَّتَهُ ألفُ دينارٍ مُقَدَّرَةً شرعًا، لاحترامِها واحترامِ مَحِلَّها عن مذلّة التّسوِيقِ ومَهَانةِ التّقويمِ. اعتراضٌ (¬4): فإن قيل: فلم تُرَاعُوا المساواةَ حين قلتُم: تُقتَلُ الجماعةُ بالواحدِ، وهلّا طَرَدْتُم أصلَكُم كما فعلَ أحمدُ بنُ حنبلٍ (¬5) حينَ مَنَعَ من ذلك؟ ¬
قلنا: إذا اعْتَرَضَ اللّفظُ على القاعدةِ، وخالَفَ معنًى من آخِرِ الكلام أوَّلَهُ سَقَطَ، فكيفَ إذا خالَفَهُ كلِّه؟ وبيانُه: أنّ الله تعالى قال: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية (¬1)، المعنى: أنّ القاتلَ إذا عَلِمَ أنّه يُقتَلُ، كفَّ عن ذلك، وحُقِنَتِ الدِّماءُ في أُهُبِهَا. فلو لم تُقتَلِ الجماعةُ بالواحدِ، لاستعانَ الأعداءُ على الأعداءِ، وقتلوا من أحَبُّوا حتّى يبلُغُوا أمَلَهُم فيه، ويَسقُطَ القَوَدُ عنهم بالاشتراكِ *في قَتلِهِ، وقد وَفَّى مالكٌ هذا النَّظَرَ، وأعطاهُ قِسْطَهُ من الكمال، فقال (¬2): إنّه يُقْتَلُ المُمْسِكُ على القَاتِل مع القاتلِ. وقال أبو حنيفةَ (¬3) والشّافعيُّ (¬4): لا قَوَدَ على المُمسِكِ* لقول النّبيِّ صلّى الله عليه وسلم: "اقتُلُوا القاتِلَ، واصْبِرُوا الصَّابِرَ" (¬5) ولأنّه لم يَقتُل، فكيف يُقتَلُ؟! قلنا: أمَّا الحديثُ فلا يُساوي سَمَاعَهُ، وأمَّا المعنى فهو ضدّ ما قالوا. المُمْسِكُ هو القاتلُ حقيقةً، أو كلاهُما قاتلٌ، والدَّليلُ عليه: إجماعُنا على أنّه لو أمْسَكَه على سَبُعٍ فأكَلَهُ، لَزِمَهُ القَوَدُ. فإن قيل: إنَّ فِعْلَ السَّبُع جُبَارٌ. قلنا: وفِعْلُهُ هو مُعْتَبَرٌ، ألَّا ترى أنّهما يشتَرِكانِ في الدِّيَةِ وهو البَدَلُ الجابرُ؟ كذلك يجبُ أنّ يشترِكا في القِصَاصِ وهو العِوَض الزّاجرُ. ¬
تفصيل (¬1): قولُه تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} الآية (¬2). قال الإمام: لم يَمْتَنِع من قتلِ الذَّكَرِ بالأنثى؛ لأنّه إنّما جاء على بيان العَدْلِ بفسادِ ما كانت تفعلُه العَرَبُ من الجَوْرِ. وقال مالك (¬3): أحسنُ شيءٍ سمعتُهُ فيها؛ أنّ الحرَّةَ تُقتَلُ بالحُرِّةِ، كما يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ والأَمَةُ بالأمَةِ، والقصاصُ يكونُ بين الرِّجالِ والنِّساءِ الأحرارِ والعبيدِ في النَّفْسِ والطَّرفِ، بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (¬4). نازلة (¬5): وهل يُقتَلُ الوالدُ بوَلَدِه؟ قال مالكٌ: يُقتَلُ به إذا تبيَّن قَصْدهُ إلى قَتلِه، بأَنْ أَضجَعَهُ وذبحَهُ، فإن رَمَاهُ بالسِّلاحِ أَدَبًا أو حَنَقًا، يُقتل به، ويُقتَلُ الأجنبيُّ بمِثْلِ هذا. وخالفه سائرُ الفقهاءِ، وقالوا: لا يُقتَلُ به. قال الإمامُ: وسمعتُ شيخنا فَخْرَ الإسلام أبا بكرٍ الشَّاشيِّ يقولُ في النَّظَرِ: لا يُقْتَل الأبُ بوَلَدِهِ؛ لأنّ الأبَ سَبَبُ وجودِهِ، فكيف يكونُ سَبَبَ عَدَمِه! وجاء بحديثٍ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ" (¬6) وهذا حديثٌ باطلٌ. ومتعلَّقُهم أنّ عُمَرَ قَضَى بالدِّيَة مُغَلّظَة في قاتل ابنه، ولم يُنْكِر أَحَدٌ من الصّحابة عليه، فأخذ سائرُ الفقهاءِ المسألةَ مسجَّلَةً، وقالوا: لا يُقتَلُ أَبٌ بوَلَدِه، وأخذَها مالكٌ مُفصَّلَةً. ¬
نازلة أخرى (¬1): واختلفَ العلّماءُ في نُكتَةِ أخرى، وهي أنّ الوَلِيَّ إذا قَتَلَ ذَكَرًا بأُنثَى هل يُحَاصِصُ في رَدِّ باقي الدِّيَةِ؟ وعلماءُ الأمصارِ على أنّ الذَّكَرَ بالأُنثَى رأسًا برَأسٍ، وهو الصَّحيحُ؛ لأنّه لا يجوزُ أنّ يجتمعَ المُبدَلُ وبعضُ البَدَلِ، إذ ليس لذلك أصلٌ في الشّريعةِ ولا نظيرٌ، ولقد بالغَ مالكٌ في تأسيسِ هذه القاعدةُ، حتّى قال: يُقْتلُ الوالِدُ بِالوَلَدِ، وإن كان قد روَى التّرمذيُّ (¬2) وغيرُه؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا يُقادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ" ولا يُخَصُّ هذا العمومُ في هذه القاعدةِ بهذا الحديثِ الّذي لم يَصِحَّ. ابتداء الأبواب حديثُ عَمرو بن يحيى بن حَزْم (¬3)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كَتَبَ كِتَابًا وَبَعَثَه مَعَهُ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى اليَمَنِ. الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرسَلٌ، قال أبو عمر (¬4): أرسل مالك في "الموطَّأ" حديث الدِّيَات ولم يُسنِدَه، وأَسنَدَهُ عن النَّبيِّ عليه السّلام سليمان بن داود، عن الزُّهريُّ، عن ¬
أبي بكر بن محمَّد، عن أبيه، عن جدّه عمرو بن حزم؛ أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلم "كَتَبَ كِتَابًا". الحديث (¬1). الأصول: قال الإمام: جعلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الديةَ في قتلِ العَمْدِ رُخصَةً لهذه الأُمَّة وخصيصةً لها؛ لأنَّه قد كان القِصَاص في الأُمَمِ، ولم تكن الدِّيَة إِلَّا في أُمَّةِ محمَّد أكرمها الله بها، تخفيفًا عنها ورحمةً لها، كما أخبر في كتابه العزيز بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية (¬2). خصيصة (¬3): شرعَ اللهُ القِصاصَ في كلِّ مِلَّةٍ للفائدة الّتي نَبَّهَ عليها، وأَفَضْنَا الآن في بيأنّها، ثمّ خَبَأَ تعالى في مَسطُورِهِ لهذه الأُمَّةِ رِفقًا بها في حرمة نبيِّها الدِّيَةَ. واختلفَ العلّماءُ في في كيفيَّةِ وُجوبِها، في تقديرِها وتفصيلِها، وأطنَبَ مالكٌ فيها في "الموطَّأ" أصلًا وفرعًا، وقد مهّدنا ذلك في "مسائل الخلاف"، نُورِدُ الآن من أمّهاتِهَا ما يَفْتَحُ غَلْقَ باقِيهَا، ونشيرُ بالبيانِ إلى جُملتها، وجميعُ ذلك في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬4): في مُوجَبِ القتلِ العَمدِ فقالت طائفةٌ: مُوجَبُهُ القَوَدُ خاصّةً، رواهُ ابنُ القاسمِ عن مالكٍ (¬5). وقالت طائفةٌ أخرى: مُوجَبُهُ أحدُ الأمرين: إمّا القَوَدُ، وإمّا الدِّيَةُ، والخِيرَةُ في ذلك للوَلِيِّ، والمسألةُ طبوليّةٌ، وفي ذلك تفصِيلٌ طويلٌ، والحقُّ أحقّ أنّ يُتَّبَعَ. والّذي نراه: أنّ ¬
وليَّ المقتولِ مخيَّرٌ، إنَّ شاء أخذَ الدِّيَةَ، وإن شاءَ قَتَلَ. والأصل في ذلك: الحديثُ الصَّحيحُ المتَّفَقُ عليه من جميع الأُمَّة، الّذي قاله النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في خُطبَتِه: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فأَهلُهُ بَينَ خِيرَتَينِ: إِنَّ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ" (¬1) وليس لأحدٍ مع هذا الحديث نَظَرٌ؛ لأنّ المعنى يَعضُدُهُ مع صِحَّتِه، وهو أنّه إذا قال له: أعطِني دِيَّتَكَ وأستَحْيِيَكَ، فقد عَرَضَ عليه بقاءَ نَفسِهِ بثمنِ مِثلِهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُه، أصلُه: إذا عَرَضَ عليه الطّعامَ في المَخمَصَةِ بقيمتِهِ، وليس على هذا كلامٌ يَنفَعُ لهم. المسألة الثّانية (¬2): مُوجَبُ قتلِ الخطأِ الدِّيَةُ خاصّةً، هذا إذا ثبتت بالبيّنةِ، وإن كان بإقرارِ، ففيه ثلاثُ رواياتٍ، أصَحُّها عندي الآن وُجوبُها في مَالِهِ؛ لِئَلَّا تُؤخَذَ العَوَاقِلُ بالدَّعْوَى، وليس في أصول الشّريعة ذِمَّةٌ لزَيدٍ معمورةٌ لقَوْلِ عَمرٍو. المسألة الثّالثة (¬3): في مقدار الدِّية روى ابنُ القاسم وابنُ وَهْبٍ عن مالك: الأمرُ عندنا في الجِرَاحِ على ما في كتاب عَمْرو بن حزم الّذي كتبه له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حين بَعَثَهُ إلى نجران. وقولُه (¬4): "في النَّفْسِ مِئَة مِنَ الإِبِلِ" يريدُ: على أهلِ الإِبِلِ، وذلك أنّ الدِّيَةَ ثلاثةُ أنواع: إِبلٌ، وذهبٌ، وَوَرِقٌ. وهي على أهل الإِبِلِ مئة من الإِبِلِ. وهي تجبُ بثلاثةِ أسبابٍ: قتلُ الخطأ، ولا خلافَ فيه، أعني في وجوبِهَا، وقتلُ العَمْدِ، وقتلٌ يُشبِهُ العَمْدَ، ¬
على ما نبيِّنه إنَّ شاء الله، فنقول: أمّا (¬1) مِقدارُ الدِّيَةِ، فهي مئةٌ من الإبل، استقرَّت على ذلك في الجاهلية، وأقرَّها الإِسلامُ على هذه السُّنَّةِ، ويقالُ: إنَّ أوَّلَ ما تَقَرَّرَ ذلك في عَمُودِ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حين نَذَرَ عبدُ المُطَّلِبِ أنّ يذبَحَ عبدَ الله ابنَه. الحديثَ إلى آخرِه (¬2). ثمّ دامت كذلك ومَضَت عليه، حتّى جاء الإِسلامُ فبيَّنَها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، وأضافَ إليها أبدالَ ما دونَ النَّفسِ في الجِرَاحِ. رَوَى أبو داودَ (¬3) وغيرُه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلم؛ أنّه قال في الدِّيَة: "عَلَى أَهلِ الإِبِلِ مِئَةً، وَعلَى أَهلِ البَقَر مِئَتَي بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهلِ الغَنَمِ أَلفَي شَاةٍ، وعلى أهل الحُلَلِ مِئَتَي حُلَّةٍ، وَعلَى أَهلِ القَمحِ ما لم يحفَظهُ الرّاوي". وروى التّرمذيُّ (¬4)؛ أَنَّ النَّبِىَّ - صلّى الله عليه وسلم - وَدَى العَامِرِيِّيْنِ بِدِيَةِ المُسلِمِ. وَرُوِيَ (¬5): "في المَوَاضِحِ خَمسٌ خَمسٌ". "ودِيَةُ الأَصابع عَشْرٌ في كُلِّ أُصبُع، وفي الَأَسنَان خَمسٌ" (¬6)، "والأَصَابعُ وَالأَسنَانُ سَوَاءٌ" (¬7). ورَوَى أبوَ داوُدَ (¬8)؛ "أنّ في الأَنَفِ الدِّيَة، وفي اليَدِ نِصْفُ العَقلِ، وفي المأمُومَةِ ثُلُثُ العقلِ؛ ثَلَاثَةٌ وثلاثون بعيرًا، وفي العينِ القائمةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ". ¬
المسألة الرّابعة (¬1): في دخول الإبل في الدِّية أمما دخولُ الإِبِل في الدِّيَةِ، فلا خلافَ فيه، وإن عُدِمَت ولم تَكُنِ العاقلةُ من أهلهما، فقال الشّافعيُّ: تُقَوَّمُ الإبِلُ بالغةً ما بلَغَت، وتَلزَمُ القيمةُ العاقلةَ. وقال أبو حنيفة (¬2): تكونُ عن العاقلةِ عشَرَةُ آلافِ دِرهَمٍ. وقال أبو يوسفَ ومحمدٌ: تجبُ البقرُ والشاةُ في الدِّيَةِ على الوجهِ المَرْوِيِّ. وقال مالك: القضاءُ ما قَضَى عُمَرُ؛ على أهل الإبل مئةٌ، وعلى أهل الذَّهبِ ألفُ دينارٍ، وعلى أهل الوَرِقِ اثنا عَشَرَ ألفَ دِرْهَمٍ. والكلام هاهنا على ثلاثة فصول هي مَطلَعُ النَّظَرِ ومَجرَى الخلافِ: الفصل الأوّل: تقويمُ الإبلِ عند عَدَمِها، نَظَرَهُ الشّافعيّ وأغفلَ أنّ عمرَ قد فَرَغَ من هذا النَّظرِ بحَضرَةِ الصّحابة، ولم يخالِفْهُ أحدٌ منهم، ورأى أنّ ذلك عَدْلٌ في التّقويمِ، ولم يَكِلْه إلى اجتهادِ المُجتَهِدِينَ، باختلافِ الأحوالِ وتعاقُبِ الأزمانِ. وأمّا الثّاني: وهو أصعَبُ من الأوّل عند مالك، فإنّه امتثلَ قضاءَ عمرَ في تقدير الدِّيَة بالفِضَّة، والنِّصاب في السَّرقة، وتركَهُ في الزَّكاة، وامتثلَهُ أبو حنيفةَ (¬3) في الدِّيَةِ والزّكاةِ. فأمّا امتثالُ أبي حنيفةَ له في الدِّيَةِ فَمُصادَمَةٌ مَحْضَةٌ لقضاءِ عمرَ، وكما صدَمَهُ الشّافعيُّ (¬4) في الفضّة، كان ينبغي له أنّ يَصْدِمَهُ في الذّهب كما فعل أبو حنيفةَ، فيكون أقلَّ في الخطأ، وهذا لا وجهَ له. وأمّا مالكٌ، فامتثلَ قضاءَ عُمَرَ في الدِّيَةِ، والآثارَ الواردةَ في القطعِ في السَّرقةِ، أنّ القطعَ في رُبُعِ دينارٍ فصاعدًا، أو في ثلاثةِ دراهمَ، ولم يَجِدْ في الزّكاة أثرًا في التّقدير، لا ¬
عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولا عن خُلفائِه، ولا ائتلافًا من الصّحابة عليه. وأمّا البقرُ والغنمُ وسائرُ الحديثِ، فضعيفٌ لا يُعَوَّلُ عليه، ولا سيَّما وقد رَوَى أبو داوُدَ (¬1) والتّرمذيُّ (¬2) عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - "أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ اثنَي عَشَرَ أَلفًا". وأمّا تقديرُ المَوَاضحِ وما يرتبطُ بها من الشِّجاجِ وهي: المسألة الخامسة (¬3): فنقول: إنَّ أسماءَ الشَّجَاج ثلاثةَ عَشْرَ اسْمًا (¬4): 1 - أوَّلُها: الدّامية (¬5). 2 - الدَّامِعَةُ. 3 - الحارصة (¬6). 4 - الباضِعَةُ 5 - المُتَلَاحِمَةُ. 6 - السِّمْحَاقُ. 7 - المِلْطاءُ، وقيل: المِلطَى، وقيل: المِلْطِاتُ -بالتاء-. 8 - المُوضِحةُ. 9 - الهاشمةُ. 10 - المُنقَّلَةُ. 11 - الآمَّةُ. 12 - الدَّامِغَةُ. ¬
13 - المأمومةُ. - وقد قال قومٌ: إنَّ السِّمحَاقُ هي الباضِعَةُ (¬1). - فإن نَفَذَت هذه الجِراحُ إلى فتح بابِ الرُّوحِ، فهي الجائِفَةُ، ولا تَختَصُّ بعُضوٍ، بخلافِ غيرِها من الشِّجَاجِ، فإنّها تختصُّ بأحكامِها ببعضِ الأعضاءِ دونَ بعضٍ. ومن هذه الجملة ما فيه حديثٌ مذكورٌ، ومنها ما فيه حديثٌ لم يُذكَر لضَعْفِه، ولم يتّفق ذِكرُه في هذه العُجالَةِ الطّارِقَةِ، فمن أراد الشّفاء فعليه "بمسائل الخلاف" و"النَّيِّرَيْن". المسألة السّادسة (¬2): هذه الدِّيات، ما ذكرنا منها مُقَرَّرًا وما لم نَذكُر، لا زيادةَ فيها ولا تغييرَ لها عند الجمهور. وقال الشّافعيّ (¬3): يُزادُ فيها في البلد الحرام، تَعَلُّقًا بما رُوِيَ أنّ عمرَ (¬4) وعثمانَ (¬5) قَضَيَا بالزّيادةِ في الدِّية لمَن قَتَلَ بالبلد الحرام، وليس له مُعَوَّلٌ سِوَى ذلك، وهو مُتَعَلَّقٌ ضعيفٌ؛ لأنّ الصّحابةَ اختلفوا فيه، وقدِ اتَّفقنا على أنّ الصحابةَ إذا اختلفوا لم يَقَعْ ترجيحٌ بقضاءِ الخلفاءِ فكيفَ بقضاءِ بعضِهم؟ والمسأَلةُ مذكورةٌ في "أصول الفقه"، بيِّنَةٌ في الدّليل، ولو غَلُظَتِ الدِّيةُ في البلد الحرام لغَلُظَت بالشّهرِ الحرامِ، أو بحالِ الإحرامِ، ولا سيّما وقد استوفينا حال الإحرام وحال البلد الحرام في تحريم دماء الحيوانات وقَتلِهَا في "كتاب الحجِّ" بما لم نُسْبَق إليه في البيان. ¬
المسألة السّابعة (¬1): قال مالك (¬2): "لَا يُعْقَلُ الجُرْحُ وحَتَّى يَبرَأَ المجْرُوحُ وَيَصِحَّ، فيُقضَى بِحَسَبِهِ (¬3) " وكذلك لا يجِبُ أنّ يقتصَّ من جُرحٍ حتّى يُعْلَمَ ما يئُولُ إليه حالُه، وقد اختلفَ في ذلك العلّماءُ، والعَمْدُ بالانتظار أحقُّ من الخطأ. المسألة الثامنة (¬4): في مَحِلِّ الدِّيةِ الحاضرُ الآن منه سبعةَ عَشَرَ مَحِلًّا: 1 - النّفسُ. 2 - العَينانِ. 3 - اللّسانُ. 4 - الشِّفَتَانِ. 5 - اليدنِ. 6 - الرِّجْلانِ. وذلك كله مذكورٌ في حديثِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ. 7 - عينُ الأعورِ. وفيه أشياء مستخرجة من صحيحِ النَّظَرِ، وهي: 8 - ثَدْيَا المرأةِ. 9 - أليتَاهَا. 10 - العقلُ. 11 - أشرافُ الأُذُنَينِ، باختلاف السّماع. 12 - الأنفُ. 13 - الصُّلْبُ. ¬
14 - الذَّكَرُ. 15 - الأنثيانِ. 16 - الإفضاءُ. 17 - الكلامُ. وفي كلِّ واحدٍ من الأُنثَيَينِ الدِّيةُ في إحدَى الرِّوايتين. فأمّا النَّفْسُ، والعينانِ، واليَدَانِ، والرِّجلانِ، واللِّسانُ، والأنفُ، والسّمعُ، والعقلُ، والذَّكَرُ، فلا خلافَ فيه. وأمّا عينُ الأعورِ، فنَظَرَ مالكٌ إلى أنّ الجانِيَ قد أتلفَ بَصَرًا كاملًا، ونَظرَ المخالِفُ إلى أنّه أتلَفَ عُضوًا واحدًا. ورأى مالكٌ أنّ نُقصَانَ المَحِلِّ إنّما يَرجِعُ إلى نُقصانِ قَدْرِ البصَرِ، ورأى أنّ قَدْرَ البصرِ لا يُرَاعَى إجماعًا؛ فإنَّ دِيَةَ حادِّ البصَرِ كدِيَةِ النَّاقصِ عندَه سواء. والمسألةُ خَفيّةُ النَّظر جدًّا، فلتُطلَبْ في "مسائل الخلاف"، فإنّ هذا القَدْرَ مَطلَعُ الفريقينِ. وأمّا ثَدْيا المرأةِ، فإنّ القولَ فيها أقوَى من القول في أَلْيَتِهَا؛ لأنّ في الثديَينِ إبطالَ ثلاثةِ أشياءَ؛ خِلقَةً، وجمالًا، ومنفعةً، فالأنفُ والأَليَتَان دونُ ذلكَ. وأمّا أشرافُ الأذُنَينِ، فإنْ كان فيها أثرُ السّمعِ الْتَحَقَتْ بالأُذُن، وإن لم يكن فيها أثرٌ كانت جمالًا مَحْضًا، ولا يُقابَلُ الجمالُ بالدِّيَةِ. وأمَّا الصُّلبُ، فتثبتُ فيه الدِّيةُ من طريق الأَوْلَى. وأمّا الأُنثَيانِ، فهي مَغرِزُ الذَّكَر، وإن عَرِيَت عن الشّهوةِ، ففيها أصلُ الخِلْقَة. وأمّا الأفضاءُ، فهو نظيرُ قَطعِ الذَّكَرِ بل أعظمُ. فأمَّا ما كان فيه من الجِنَاياتِ إذهابُ جمالٍ لم يَستَقِلَّ بدِيَةٍ؛ إذ ليس له في الشّريعةِ نظيرٌ. ورامَ أبو حنيفةَ (¬1) أنّ يجعل جِلْدَ الرّأْسِ وجِلْدَ اللِّحيَةِ وجلدَ الحاجبين كالمَارِن (¬2) ¬
في إيجابِ الدِّيةِ، ولم يَصِحَّ ذلك؛ لأنّ المَارِنَ لم يُرَاعَ فيه إذهابُ الجمالِ على الكمالِ كما زَعَمَ، إنّما راعَينا فيه الجمالَ والمنفعةَ. تفسيرُ ما تقدّم ذِكرُهُ وشرحُه مسألة مسألة: وذلك ثلاثَ عَشَرةَ مسألةً: المسألة الأولى (¬1): قولُه (¬2) في حديث عَمرِو بنِ حَزْمٍ: "وَفي الأَنْفِ إِذَا أَوعَبَ (¬3) " يريدُ: استوعَبَ قَطعَهُ، وقد ذكر ابنُ شعبان قطع الأنف فقال: وفي الأنف ما جاء في الخبر: "إِذَا أَوْعَبَ جَدْعًا" (¬4) وكذلك إذا قطع مَارِنهُ، فجعل استيعابَ الجدع قطع جميع الأَنْف، وجعلَ في قطعِ المَارِنِ مثل ذلك. وقَطعُ المارِن هو ما فوق العظمِ الّذي هو أصلُ الأنفِ (¬5). وقال أَشهَبُ: هو المارِنُ. وفي "المجموعة" عن ابنِ شهاب أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَضَى في الأَنْفِ بقطع مَارِنِهِ فيه الدِّية كاملة، ولعلَّهُ ذهب إلى حديث عَمْرو بن حزم. وفي "المَوَّازية" عن ابنِ القاسِمِ وأشهَب، عن مالك؛ أنّه قال: فيه الدِّيَةُ كاملة. وفي "النَّوادر" (¬6) من رواية ابن نافع عنه: لا دِيَةَ فيه وإن ذهب شمّه، حتّى يُستَأصلَ من أَصْلِهِ. قال ابن أبي زيد: لا تستكملُ فيه الدِّية إِلَّا بهذا، وهو شاذٌّ. المسألة الثّانية (¬7): في توجيه هذه الأقوال وتنقيحها فوجهُ القولِ الأوّل -وهو المشهورُ-: أنّ المَارِنَ عضوٌ فيه منفعةٌ كاملةٌ وجمالٌ ظاهرٌ، فوجبتِ الدِّيةُ بجَدْعِهِ أصلَ ذلك العضو. ¬
ووجه الثّاني: التّعلُّقُ بقوله: "وَفِي الأَنْفِ إِذا أَوْعَبَ جَدعًا" وقد بَيَنَّا تأويله على الرِّواية الأُولَى. فرع: فلو ضَرَبَهُ فأطار أَنْفَهُ، ثمّ بلغتِ الضّربةُ إلى دِمَاغِه، ففيه الدِّيَةُ للأنفِ وثُلُثُ الدِّيَةِ للمَأمُومَةِ. وكذلك لو وصلَ الثَّقبُ إلى عَظمِ الوجه الّذي تحتَ الأنفِ فبَلَغَهُ، ففيه دِيَةٌ مُنَقِّلةٌ. ولو أَوْضَحَهُ، لكانت فيه مُوضِحَةٌ، قاله أشهب في "الموّازيّة". المسألة الثّالثة (¬1): وقوله (¬2): "في المَأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ" قال ابنُ الجلَّابِ (¬3): "هو جُرْحٌ يَخرُقُ (¬4) إِلى الدِّماغِ". وقال مالك (¬5): يصلُ إلى الدِّماغِ ولو بمَدْخَلِ إِبْرَةِ. قال (¬6): "والجائفةُ جُرحٌ يصلُ إلى الجَوْفِ". قال عبد الوهّاب (¬7): ولا خلاف أنّ في كلِّ واحد منهما ثُلُث الدِّيَة، ومعنى ذلك أنّه يجبُ فيهما ثُلُث الدِّيَة على كلِّ حالٍ وإن كانت خطأ وبرئت على غير شَينٍ. وكذلك المُوضِحَةُ والمُنَقَّلِةُ لأنّها مخوفة، والسّلامةُ في الجائفةِ والمأمومةِ نادرةٌ، ولذلك لم يكن فيها قِصاصٌ وإن كانت عَمْدًا، فلمَّا كانت هذه حالُها، ثبتت دِيَتُها على كلِّ حالٍ وإن كانت خطأً، وبَرِئَت على غير شَيْنٍ لحَقْنِ الدِّماءِ. ¬
وهذا إذا كانت الجائفةُ غير نافذةٍ، فإن كانت نافذةً، ففي "المَوّازية" من روايةِ ابنِ القاسم وأشهب عن مالك: فيها ثُلُث الدِّيَةِ، دية جائفتين. وقال ابنُ القاسم في "المجموعة": وهو أحبّ قولَي مالك إِليَّ. وقال أشهب عن مالكٍ: وذلك في العَمْدِ والخَطإِ. وإن كان قد رُوِيَ عنه غير هذا. المسألة الرّابعة (¬1): قوله: "الدَّامية" وهي الّتي تدمى بخَدْشٍ، فيسيلُ منها الدّمُ ولم يقطع اللّحم، وقال بعضُهم: يسيلُ من ذلك الدّم من غير أنّ يَبضَعَ الفَرْوَةَ، ففيها في قول مالك حكومة. وقد قيل: إنَّ فيها بعيرًا. الخامسة (¬2): ثمّ فوقها "الحارصةُ" -بالصَّاد غير منقوطة -وهي الّتي تحرصُ الجلدَ، أي تشقُّه قليلًا، ومنه قيل: حَرَصَ القَصَّارُ الثَّوبَ إذا شقَّه. السّادسة (¬3): ثمّ فوقها "السِّمْحَاقُ " وهي الّتي تسلخُ الجلدَ وحدَه، كأنَّها تَكشِطُه عن اللّحم حتّى يبلغَ الحجابَ الّذي دونَ العظم والفَرْوَةِ، وفيها عند مالك حكومة. وقال بعضُ أهلِ العلّمِ: فيها أربعةُ أبعرة، وذُكِرَ ذلك عن عليّ بن أبي طالب. وقال سُحنون: لا تكون السِّمْحاقُ إِلَّا في الرّأس والوجه، ولا تكونُ في الجَسَدِ. والسِّمحاقُ كلُّ قِشرةِ رقيقةٍ، ومنه قيل للسّحاب الرّقيق: سماحيق. وقال أبو عبيد (¬4): "وأخبرني الواقديّ؛ أنّ السِّمحَاق عندهم: المِلْطَى، ويقال هي المِلْطاةُ أيضًا -بالهاء-". ¬
قال أبو عُبَيد (¬1): "فإذا كانت على هذا فهي في التّقدير مقصورةٌ". السّابعة (¬2): ثمّ فرقها "البَاضِعَة" وهي الّتي تبضعُ اللّحمَ بعد الجِلْد، أي: تشقُّه ولم يصل ذلك إلى العَظم. وقال بعضُهُم: *هو أنّ تنزع الفَرْوَة من أعلاها حتّى تنفصل إحداهما من صاحبه، وفيها عند مالك حكومة. وقال بعضهم*: فيها بعيران. الثامنة (¬3): ثمّ "المُتَلَاحِمَةُ" وهي الّتي أخذت من اللّحم فقطعته في غير موضعٍ، ففيها عند مالك حكومة. وقال بعضُهم (¬4): فيها ثلاثة أَبْعِرَة. التّاسعة (¬5): ثمّ فرقها "المِلطَى"، وهي دون المُوضِحَة، بينها وبين العظم صفاقٌ رقيقٌ. وقال سُحنون: المِلْطاةُ لا تكون إِلَّا في الرّأس والوجه، ولا تكونُ في الجَسَدِ (¬6). ¬
العاشرة (¬1): الجائفةُ وهي ما أفْضَى إلى الجَوْفِ، كَبُرَت أو صَغُرت ولو بمَدْخَلِ إِبْرَةٍ. وقد تكونُ في الجَوْفِ كلِّه. الحادية عشرة (¬2): المُوضِحَةُ وهي ما أوضحَ العظمَ ووصلَ إليه، كبرت أو صغرت ولو بمَدْخَلِ إبرةٍ. وقيل: سُمِّيت المُوضِحَة لأنّها بَيَّنَتْ وَضَحَ العَظمِ وهو بَيَاضُهُ، وفيها خمسٌ من الإِبِلِ. الثّانية عشرة (¬3): المُنَقِّلَةُ وهي ما أطارَ فراشَ الرّأسِ، وما نقلَ منها العظام، وبينها وبين الدِّماغ صِفَاقٌ رقيقٌ صحيحٌ، وإنّما قيل لها: "المُنَقِّلة" لأنّها تنقلُ العظامَ من الجُرْحِ والفَرَاشِ في العظام الرّقاق، فيُخرِجُها الجَابِرُ فيرمي بها، وإنّما ينقّلُ العِظامَ الجابرُ؛ لأنّ العِظَامَ ربّما زال بعضُها عن بعضٍ فلم يَقدِر الجابر أنّ يَلْحُمَهُ حتّى ينقّلَ بعضَه، فيخرجه ثمّ يردّه إلى موضِعِه بعد تقويمِهِ. وربّما كان ذلك في الفَرَاشِ من الرَّأسِ. وقال ابنُ القاسمِ: لا أراها تكون هاشمةً حتّى تكون في الرّأس، وإلّاَ كانت مُنَقِّلَة. والمُوضِحَة والمنقِّلَةُ والهَاشِمَةُ تكون في الرّأسِ ودوره والجبهة والوجه، وفيها حكومة. وقد تكونُ في الوجهِ والجبهةِ، وفيها حكومة. وقد تكونُ في الوجهِ والجبهةِ بشِجَاجٍ غير هذا. الثّالثة عشرة: قولُه (¬4): "وَفِي النَّفْسِ مِئَةٌ مِنَ الإِبِلِ" وهي الدِّية كاملة، فإن كان القاتلُ من أهل ¬
باب ما فيه الدية كاملة
الإِبِلِ فمئةٌ من الإبِلِ، وإن كان من أهل الذَّهَبِ فألف دينار عَينًا، وإن كان من أهل الوَرِقِ فاثنا عشر ألفَ دِرْهَم. فأهلُ الإِبِلِ هم الأعرابُ أهل الصحاري والبراري، وأهلُ الذهب أهل مكّة والمدينة والشّام ومصر، وأهل الوَرِقِ أهل العراق. وقال ذلك كلّه مالك (¬1). قال ابنُ حبيب (¬2): وأهلُ الأندلسِ أهل وَرِقٍ. وقوله (¬3): "عَلَى أَهلِ القُرَى" خصّهم بذلك؛ لأنّ أهل العَمُودِ هم أهل الإِبِل، وقال مالك: أهل البادية والعَمُود هم أهل إبل (¬4)، هذا لا خلافَ فيه. باب ما فيه الدِّيَة كاملة الفقه في عشر مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "وَفِي الشَّفَتَينِ الدِّيَةُ كامِلَةً" هذا ممّا لم يختَلِف فيه أحدٌ، وإنّما الخلافُ فيمن قال: إنَّ في السُّفلَى ثلُثَي الدِّية. وهذا الّذي قاله ابن المسيَّب. وقال محمّد: وفي كلِّ واحدةٍ نصفها، وبه قال مالك وجميع أصحابه فيما عَلِمْنَا، ولم يأخذ (¬7) بقول ابن المسيَّب، وقال في "المجموعة": ولم يبلغني أنّ أحدًا فَرَّقَ بينهُما غيره، وأَراهُ وَهْمًا منه، ولو ثبت عنه ما كانت فيه حُجَّة لكثرةِ من خالَفَهُ، والحجّةُ عليه ¬
أنّه قال: إنَّ السُّفْلَى أحمل للطَّعام واللُّعابِ، فإنّ في العلّيا من الجمال أكثر من ذلك، وقد تتباين يسرى اليَدَيْن ويُمْناهما في المنافع وتتساويان في الدِّية. وبهذا قَضَى عمر ابن عبد العزيز، وقاله كثيرٌ من التابعين. وقال ابنُ حبيب (¬1): إنَّ في العلّيا ثُلُثَي الدِّيَة، وهو قولٌ شاذٌّ (¬2). وقد رَامَ بعضهم أنّ يُفاضِلَ بينَ آحادِ كلِّ اثنينِ من الجَسَد (¬3)، وقد قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "في كُل أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ" (¬4) ولم يُفَصِّل، وخرَّج البخاريُّ (¬5) عن ابنِ عبّاس: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ" يعني الخِنْصَرَ والإبهامَ، إشارةً إلى منافِعِها وإن اختلفت فإنَّما تراعَى صُوَرُها. كما رامَ أبو حنيفةَ (¬6) أنّ يَنْقُضَ الحُكمَ ويَنْفُضَهُ فقال: من قَطَعَ لسانَ صبيٍّ صغيرٍ لا دِيَة عليه، إنّما فيه حكومةٌ؛ لأنّه لسانٌ بلا منفعةٍ. قلنا: لا يُشبِهُ هذا تدقيقَكَ، فإنّه يَلْزَمُكَ أنّ تقولَ: إذا قتل نفسًا صغيرةً لا دِيةَ عليه فيها؛ لأنّها نفسٌ بلا منفعةٍ، كما فعلَ مالكٌ (¬7) في السِّنِّ السوداء (¬8)، واعجَبًا لأبي حنيفةَ (¬9) يُساعدُه على ذلك. وقال الشّافعيّ (¬10): فيها حكومةٌ؛ لأنّها تَغييرُ هيئةٍ كما لو اصْفَرَّت، وهذا ضعيفٌ؛ فإن الصُّفْرَةَ صِفَةٌ في ظاهرها، والسَّوادَ متداخل فيها، مُفْسِدٌ لها، فافترقا. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قولُه (¬2): "وَفِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً" يريد: عينيه أو أذنيه أو شفَتَيْه ويديه ورجليه وأُنْثَيَيه. ففي (¬3) كلّ واحد الدِّيَة قُطِعَتَا مع الذَّكَرِ في مرَّةٍ، أو تقاربَ قطعهما، سواء قُطِعَ الذّكرُ قبلهما (¬4) أو بعدهما. وفي ذَكَرِ الّذي لا يأتي النّساء دِيَةٌ كاملةً. وكذلك ذَكَرُ الشّيخِ الكبير الّذي ضَعُفَ عن النِّساء، رواه ابنُ حبيبٍ عن مُطَرِّف، وابن الماجِشُون عن مالك. المسألة الثّالثة (¬5): قولُه (¬6): " وَفِي اللِّسِانِ الدِّيَة كامِلَة" قال محمَّد عنه (¬7): إذا قُطِعَ منه ما مَنَعَ الكلامَ، وما مَنَعَ من بيانِ الكلامِ، وإن قطع منه ما لا يمنعه، فقال ابنُ القاسم وأَشهَب في "المجموعة": فيه الاجتهاد. أمّا إنَّ قطع منه ما يمنع الكلام (¬8)، ففيه الدِّيَة (¬9). على (¬10) عدد الحروف تُجَزَّأ ثمانية وعشرين حرفًا، فما نقص من الحروف نقص ¬
من الدِّيَة بقَدْرِهِ، وهو قول مجاهد. ووجهه: أنّ الدِّيةَ تختلفُ باختلافِ أجزاءِ ما جنَى عليه، كالأسنانِ والأصابعِ. المسألة الرّابعة (¬1): وقولُه (¬2): " في الأُذُنَينِ إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا الدِّيَة (¬3)، اصْطُلِمَتَا أَوْ لَا" وأمّا إذا لم يذهب سمعهما، فقال في "المختصر": ليس في أشراف الأُذُنَينِ إِلَّا حكومة، وكذلك في شحمهما. وروى البغداديّون عنه (¬4) في ذلك روايتين: إحداهُما: ما تقدَّمَ. والثّانية: أنّ فيهما الدِّية. ووجه الأوّل: قضاءُ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - ولا نعْلَمُ له مخالفًا من الصّحابة، ولأنّه ليس فيهما منفعة مقصودة؛ لأنّ السّمع يحصلُ دونَهُما. ولا جمالَ ظاهرٌ فيهما؛ لأنّ العمامة تسترهما. ووجه الثّاني: ما احتجَّ به محمَّد؛ أنّ في الكتاب الّذي كتب لابن حزم: "وَفِي الأُذُنِ خَمْسُونَ". ومن جهة المعنى: أنّ فيهما جمالًا كالأَنْف، وهر قولُ عمر بن عبد العزيز، وأبي الزّناد، وغير واحد من العلماء. ¬
فرع (¬1): ولو ذهب السّمعُ والأُذُنُ بضربةٍ واحدةٍ، فقال ابنُ القاسِم: في ذلك دِيَةٌ واحدةٌ. وقال ابن الجلَّاب (¬2): "وعندي (¬3) تَجِبُ فيهما ديَةٌ وحكومةٌ (¬4)، أو دِيَتانِ، على اختلاف الرِّوايتين". فرع (¬5): وقوله (¬6): "إِنَّ في ثَدْيَيِ المَرأَةِ الدِّيَةَ (¬7) " يريد: أنّ لهما منفعةٌ مقصودةٌ من الرِّضاعِ. قال ابنُ القاسم: إذا قطعَ الحَلَمَتَيْنِ وأبطلَ مجرَى اللَّبَن ففيهما الدِّيَة. فرع (¬8): وأمّا أَلْيَتَا المرأة، فقال ابنُ القاسم وابنُ وهب: فيهما حكومة. وقال أشهب: الدِّيَةُ كاملةٌ. المسألة الخامسة (¬9): قوله (¬10): "وَإِذَا أُصِيبَ من أَطرَافِهِ أَكثَرُ من دِيَتِهِ" (¬11) وهذا على ما قال، إنّه إذا ¬
أصيب منه ما فيه ديات كثيرة *وبقيت نفسه، فإنّه يأخذ دية كلِّ شيءٍ من ذلك وإن بلغت عدتها* دِيَات كثيرة، فإنّها لا تتداخل مع بقاء النّفس، وإنّما تتداخل مع تلفها. من ذلك أنّ العين فيها دِيَة، وفي الشَّفَتَينِ دِيَة (¬1)، وفي اليَدَيْن دِيَة، وفي الصُّلْبِ دِيَة إذا كُسِرَ، وفي العقل دِيَة، وفي الذَّكَر دِيَة، وفي الاُنْثَيَيْنِ دِيَة، وفي الرِّجْلَين دِيَة، ففيه (¬2) سبع دِيات غير مختلفاتٍ ولا مختلف فيها. المسألة السّادسة (¬3): قولُه (¬4): "وَفِي عَيْنِ الأَعْوَرِ الصَّحِيحَة الدِّيَةُ إِذا فُقِئَتْ خَطَأً". قال ابن الموّاز وابن سحنون: أجمعَ أصحابُنا على ذلك، وفي "المجموعة" و"الموّازية" عن أشهب. قال العراقيون: فيها نصف الدِّيَة كإحدى اليدين. وهذا غير مشبه باليدين؛ لأنّه لا يُبْصَرُ بالعَينِ الواحدةِ ما يُبصر بالعَينَين، ولا يعملُ بيدٍ واحدةٍ ما يعمل بيَدَين، ولا يسعى برِجْلٍ سَعْيه برِجْلَيْن. وأمّا السّمع فيُسأَل عنه، فإن كان يسمع بالأُذُن الواحدة كما يسمع بالأُذُنَينِ فهو كالبَصَر، وإلا فهو كاليد والرِّجْل. ¬
فرع (¬1): ولو ضربَ ضربةً أَذهَبَت نصفَ بصرِ إحدى عَيْنَيْه، ثمّ ضربَهُ ضربةً أُخرَى أذهبت الصّحيحة، فقال أشهب: له ثُلُثا الدِّيَة؛ لأنّ الّذي أُتلِفَ ثُلُثَا ما بَقِيَ من بصره. وقال محمَّد عن ابن القاسم وعبد الملك: إذا بقي من الأُولَى شيءٌ، فليس له في الصّحيحة إِلَّا نصف الدِّية. فإذا لم يبق من إحداهما شيء، نُظِرَ، فما أتلف من الأخرى فبحساب ذلك ألف دينار، سواء كانت الأُولى أو الثّانية. فرع (¬2): ولو فقأَ الأعورُ عينَ صحيحٍ، فقال أشهب في "الموّازية": تُفْقأُ عينُهُ الباقيةُ وتُؤخَذُ دِيَة عينه الثّانية، وبه قال عطاء ورَبِيعَة. وقال ابنُ القاسم: ليس له إِلَّا القَوَد (¬3). وقال القاسم بن محمّد وسالم بن عبد الله: ليس له إِلَّا أنّ تُفْقأَ عينه بعَيْنِه، رواهُ عنهما محمّد. وروى سحنون عنهما التّخيير بين ذلك وبين أخذ الدِّية. المسألة السابعة (¬4): فأمّا إنَّ فَقَأ الصّحيح عين الأعور، فإن الأعور بالخيار بين القَوَدِ وأخذ دية عينه*، قاله ابن المُسيِّب وغيره. وقال محمَّد: وهو قولُ مالك وجميع أصحابه ولم يختلفوا فيه. وذَكَرَ الأَبْهَرِيُّ رواية شاذّة؛ أنّ مالكًا اختلف قولُه فيه فقال: ليس له إِلَّا القَوَد. ¬
باب ما جاء في عقل العينين إذا ذهب بصرهما
باب ما جاء في عقل العينين إذا ذهب بصرهما الفقه في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬1): قولُه (¬2): "فِي العَيْنِ الْقائِمَةِ إِذا طَفِئَتْ مِئَةُ دِينَارٍ" هي الّتي بقيت صورتُها وذهبَ بصرُها، فيحتَمِلُ أنّ يقولَ ذلك على معنى تقدير عَقْلِها في الجُملةِ. ويحتَمِلُ أنّ يكون قال ذلك في عَيْنٍ معيَّنَةٍ أدّاه اجتهاده إلى غرم هذا المقدار فيها، وهو الصَّواب. وفي "المَوَّازية" و"المجموعة" (¬3) أنّ المجتمع عليه أنّه (¬4) ليس في العين القائمة -الّتي ذهب بصرها فبقيت- إِلَّا الاجتهاد. وكذلك اليد الشّلّاء تُقْطَع، ومعنَى ذلك: أنّ المنفعةَ قد ذهبت وإنّما بقي فيها شيءٌ من الجمال، فلذلك كان فيها الاجتهاد ولم يتقدّر عقلها؛ لأنّ ذلك إنّما يكون في عضو بقي فيه شيءٌ من الجمال، أو بقيت فيه المنافع أو بعضها. قال مالك (¬5): وكذلك الرِّجلُ العرجاءُ. وقال ابن وهب (¬6) في "الكتابين": وكذلك الذِّراع يُقْطَعُ بعد ذهاب الكَفِّ. قال ابنُ القاسم: وكذلك الكَفُّ يُقْطَعُ بعد ذهاب الأصابع. ¬
باب ما جاء في عقل الشجاج
المسألة الثّانية (¬1): وإذا كانت العينُ قائمةً، أو فيها بياضٌ وقد ذهب بصرها، ففد قال أشهب: يُقْبَلُ قولُه وُيشار إلى عَيْنَيه أو إلى العين الّتي يدَّعِي ذلك فيها، وإن لم يستدل على صدقه حلف وأخذ (¬2). وقال أشهب في "الموّازية": فإذا اختلف قولُه بأمرٍ بَيِّنٍ، لم يكن له شيءٌ. ووجهه: أنّه لا طريقَ إلى معرفة صدقه إِلَّا بمثل هذا، أو ما جرى من الضَّرب الّذي هو مثله. باب ما جاء في عقل الشِّجَاجِ الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬3): قوله (¬4): "الْمُوضِحَةُ في الْوَجهِ مِثلُ الْمُوضِحَةِ في الرَّأْسِ" يدلُّ على أنّ لها حكمها، يجب لكلّ واحدة نصف عشر الدِّية. وذلك أنّ معنى المُوضِحَةِ في اللُّغة: ما أَوْضَحَ عن العظم، وهذا موجودٌ (¬5) في كلِّ عضوٍ من أعضاء الجَسَدِ، إِلَّا أنّ أَرْشَ المُوضِحَة الّذي قَدَّرَهُ الشَّرعُ بنصف عشر الدِّية، سواء عَظُمَت المُوضِحَة أو صَغُرَت. وقد تقدّم الكلام ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله (¬2): "وَفِي الأَصَابع إِذا قُطِعَت فَقَد تَمَّ عَقْلُهَا" يريد: أنّ في كلّ أُصبُعٍ عشرًا من الإبل، فإذا قطعت الأصابع كلها ففيها خمسون، وذلك عقل اليد، سواء قُطِعَتِ الأصابعُ أو قُطِعَتِ الكَفّ أو اليد من المَرْفِق أو المَنْكِب. ورَوَى محمَّد وغيرهُ عن مالك: *إذا قُطِعَت أصابع الكفِّ تم عقلها خمسمئة، كما لو قطعت من الكف أو المَنكِبِ*. قال عنه ابنُ وهب: وكذلك رِجْله من الوَرِكِ فيها مثلُ ما في قَطعِ الأصابع. قال ابنُ القاسم (¬3): ولو قطع فأشلَّ ساعِدَهُ، فإنَّما عليه دِيَة الكفِّ وهو من الذّهب خمسمئة دينار، لكلِّ أُصْبُع مدّة، ومن الوَرِق ستّة آلاف دِرهَم، لكل أُصْبُعٍ ألف دِرْهَم ومئتان. المسألة الثّالثة (¬4): قولُه (¬5): "وَحِسابُ الأَصابِعِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِينارًا وَثُلُثُ دِينارِ، في كلِّ أَنْمُلَةٍ ... " (¬6). وقال محمّد: لم يختلف عن مالك في ذلك، يريد في كلِّ أُصْبُع مدّة، وفي الأُصبع ثلاث أنامل. ¬
باب جامع عقل الأسنان
وقال محمَّد (¬1): إِلَّا الإبهامان فإنّ فيهما أَنْمُلَتَينِ، فإذا قطعهما ففيهما عثسر من الإبِل، وفي كلّ واحدة خَمسٌ؛ لأنّهما إذا ذهبتا ذهبتِ المنفعةُ. قال (¬2): وإبهامُ الرَّجْلِ مثلها. قال (¬3): وما سمعتُ فيه شيئًا، وهو رَأيٌ. وقال ابن سحنون: ورَوَى ابن كنانة عن مالك: في الإبهام ثلاثة أنامل، في كلّ أَنْمُلَة ثُلُث دِية الأصابع، وإليه رجع مالك وأخذ أصحابه بقوله الأوّل. ووجه القول الأوّل: ما احتجّ به أشهب؛ قال: لو لزم في بقيّة الإبهام الّذي في الكَفِّ دِيَة، للزم في سائر الأصابع أنّ يكرن لها في مثل ذلك دِيَة أَنمُلَة رابعة، وهذا خلاف الأُمَّة. ووجه الثّاني: أنّها أُصْبُع، فكانت أنامِلُها ثلاثًا. أصلُ ذلك سائر الأصابع. باب جامعُ عقلِ الأسنانِ الفقه في مسألتين: المسألة الأولى (¬4): قَضَى عمر - رضي الله عنه - في الأضراس ببعيرٍ بعيرٍ، وقَضَى معاوية بخمسة (¬5). ¬
ورأى ابن المسيَّب بعيرين بعيرين (¬1). واستحبَّ ذلك عمر بن عبد العزيز لِمَا فيه من موافقة عقل جميعها للدِّيَة الكاملة؛ لأنّها تزيد على قضاء معاوية وتنقصُ في قضاء عمر. قال ابن مُزَين: وسألتُه عن ذلك؛ فقال: تفسيرُ ذلك: أنّ عمر كان يجعلُ في الأضراسِ منها بعيرًا بعيرًا وهي عشرون، ويجعلُ في الأسنانِ خمسة، *والأسنان اثنا عشر، أربع ثنايا وأربع رباعيات، وأربع أنياب، فدية جميع ذلك ثمانون بعيرًا، فنقصت عن دية النفس عشرون بعيرًا. قال (¬2): وكان معاوية بن أبي سفيان يجعل في الأضراس* خمسة خمسة، فذلك ستّون تمام المئة دية كاملة. وما قاله معاوية مرويّ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وسيأتي بعد ذلك، وهو قول (¬3) أبي حنيفة (¬4)، والشّافعيّ (¬5). وعند ابنِ مُزَيْن: الأضراسُ ستّة عشر، ويزيد فيها الضّواحك أربعة، وهي الّتي تلي الأنياب. المسألة الثّانية (¬6): قولُه (¬7): "إِنِ اسْوَدَّت فَفِيهَا العَقْلُ، ثُمَّ إنَّ طَرِحَت فَفِيهَا العَقْلُ أَيضًا" يريدُ: ¬
باب العمل في عقل الأسنان
اسودادها يوجبُ العقل تامًّا. قال عبدُ الوهّاب (¬1): خلافًا للشّافعي في قوله: فيها حكومة. ودليلُنا: أنّها إذا اسودَّت فقد ذهبت منفعتُها فوجبت الدِّيَة، ثمّ إذا طَرِحَت بَعْدُ، وجبت دِيَة أخرى لذهاب الجمال بها، كالأنف يُضرَب فيذهب الشّمّ ففيه الدِّية، ثمّ إذا قُطِعَ بعدَ ذلك ففيه دِيَةٌ أخرى. وفي "الموّازية" عن عددٍ (¬2) من التّابعين: إذا اسودَّت وجبَ عقلهالأولم يبلغني عن أحدٍ خلافه. وأمّا إذا طرحت بعد اسودادها، ففيها بعض الخلاف. وقبل (¬3): فيها حكومة كالعين القائمة. باب العمل في عَقْلِ الأسنانِ في هذا الباب مسألتان: المسألة الأولى (¬4): قولُ ابنِ عبّاس (¬5) لرسول مروان: في الضِّرسِ خمسٌ، على ما تقدّم ممّا يقتضيه حديثه عليه السّلام: "في السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ" وذلك عامٌّ، وذلك أنّ اسْمَ السِّنِّ واقعٌ على الأَضراسِ وغيرِها، وإنّما خصّ بعضها باسمٍ يخصّها، فمُقَدَّمُ الفم يقال له: الثَّنايا. وقول ابن مروان (¬6): "أَتَجعَل مُقَدَّمَ الفَمِ مِثْلَ الأَضَراسِ؟ " بَيَّنَ أنّ الأضراسَ عنده ما دخل الفم، وأنّه اعتقد المخالفة بينهما لاختلاف منافعها، وارتابَ في ذلك. فحقّق ابن ¬
باب ما جاء في دية جراح لعبيد
عبّاس قوله، وبيّن وجْه صحّته، قال (¬1): "لو لم تَعتَبِر ذلك إِلَّا بالأَصابعِ، عَقلُها سواءٌ". وقد رُوِي أنّه قال: "عَقْلُهَا وَاحِدٌ وَإِنِ اختَلَفَتْ مَنَافِعُهَا" فبيَّنَ (¬2) أنّ اختلاف منافعها يوجب اختلاف عقلها، واقتضى ذلك أنّ معنى الاعتبار القياس لغةً ومعنًى. باب ما جاء في دية جراح لعبيد الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬3): قولهما (¬4): "فِي مُوضِحَةِ الْعَبدِ نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهِ" قال ابن مُزَين: سألتُ عيسى: لِمَ يجعل في يده ورِجْله وهو نصف قيمته، وفي غير ذلك من جراحات جسده مثل السنّ وما أشبهَها ممّا قد جاء فيه: للحرّ عقلٌ مُسَمَّى كما جاء في الأربعة الأشياء الّتي أجروها من العبد (¬5) مجراها من الحُرِّ في دِيَتِه؟ فقال: إنَّ المُوضِحَة والمُنَقَّلة والجائِفة والمَأمُومة تبرأ وتعود إلى حالها بغير نَقْصٍ من الجسد، وما سِوَى ذلك يذهبُ من جَسَده وينقص من أعضائه، وربّما كان في ذلك إبطاله، فلذلك لم يَرَوا فيه إِلَّا ما نقص من ثمنه ¬
فيقام صحيحًا ومَعِيبًا، فيغرم ما نقص (¬1). المسألة الثّانية (¬2): قولُه (¬3): "كانَ (¬4) يَقضِي أَنَّ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ قَدْرَ مَا نَقَصَ من ثَمَنِهِ" يحتمل أنّ يريد غير هذه الشِّجَاج الأربع فهي الّتي لا تكاد تبرأ في الغالب (¬5). وقوله (¬6): "جُرْحُها بِجُرْحِهِ" هو مذهب مالك، والشّافعيّ (¬7). وقال أبو حنيفة (¬8): لا قِصاصَ بينهما في الأطراف. ودليلُنا: قولُه تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} (¬9) وهذا عامٌّ في كلِّ ذَكَرٍ وَأُنثى، وإن كانت هذه الآية وردت في التّوراة، فإنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، إذا ورد في القرآن أو في حديثٍ صحيحٍ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حتّى يُنْسَخ. ومن جهة المعنى: أنّ كلَّ شخصين جرى بينهما القِصَاص في النّفس، فإنّه يجري بينهما في الأطراف كالحُرِّيْن. المسألة الثّالثة (¬10): قوله (¬11): "خُيِّرَ سَيِّدُهُ، فَإِنْ شاءَ قَتَلَ" يريد العبد القاتل. "وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ العَقلَ" (¬12) يريد إنَّ شاء عَفا عن القتل، فيكون سيِّدُ القاتل مُخَيَّرًا ¬
باب ما جاء في دية أهل الكتاب
بين أنّ يدفع قيمة عبده المقتول، أو يسلم إليه العبد الجاني إذ ليس عليه أكثر من ذلك. وقال الشّافعيّ (¬1): سيّدُ الجاني مخيّرٌ بين أنّ يفتدي بأَرْشِ الجناية، أو يُسلمه بالبيع، فإن كان ثمنه قَدْرَ الأَرْشِ أو أقلّ لم يكن لوليّ الدّم غيره، وإن كان أكثر دفع إليه بقَدْرِ أَرْشِهِ، وكان الباقي لسيّد الجاني (¬2). باب ما جاء في دِيَة أهل الكتاب الفقه في تسع مسائل: المسألة الأولى (¬3): قوله (¬4): "إِن دِيَةَ اليَهُودِيِّ عَلَى النِّصْفِ من دِيَةِ المُسْلِمِ" بهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة (¬5): مِثلُ دِيَّةِ المسلمِ، لحديثِ عُمَرَ المتقدِّم. وقال مالك: دِيَتُه على النّصفِ من دِيَةِ المسلمِ، ودِيَةُ المجوسيّ ثمانمئة دِرْهَمٍ؛ لأنّ ذلك قضاء عمر، وفيه أَثَرٌ عن النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. وقال الشّافعيّ (¬6): دِيَةُ الذِّميِّ ثُلُثُ دِيَةِ المسلمِ. ¬
تنبيه على إسناده: قال الإمام: أمّا ورود الأحاديث في هذا الباب، فَرَوَى عَمرو بن العاص، عن النّبي عليه السّلام؛ أنّه قال: "دِيَةُ الْكافِرِ مِثل نصف دِيَة المُؤْمِن" (¬1)، ولم يَرِد من طريقٍ صحيحٍ، غير أنّه قد ورد مثل هذا الطّريق وأضعف منه: "دِيَةُ الكافِرِ مثل دِيَة المُسْلِم" (¬2). والحديثُ الأوّل هو متعلَّق مالك، والحديث الثّاني هو متعلَّق أبي حنيفة (¬3)، فَمَطْلَعُ النَّظَرِ نَقيُ المساواةِ في القِصاص حَسَبَ ما تقدّم. وأمّا متعلَّق للشّافعي في تقدير الثُّلُث، فضعيفٌ ليس فيه أثرٌ، وإنّما أخَذَهُ من جهة المعنى بقوله: "والثُّلُثُ كَثِيرًا" (¬4) وهو متعلَّقٌ ضعيفٌ. المسألة الثّانية (¬5): قال علماؤنا (¬6) في هذا الباب قوله (¬7): "مثلُ نصفِ دِيَةِ المسلمِ" المثلُ هاهنا العين والجِنْسُ، وقد قال مالك في "الموّازية": ما أعرفُ في نصفِ الدِّيَةِ فيهم إِلَّا قضاء عمر بن عبد العزيز فإنّه كان إمامَ هُدى وأنا أتّبعه. ومن جهة المعنى: أنّ نقصَ الكفرِ أعظم من نقص الأُنُوثةِ، بدليل أنّ الأُنوثة لا تمنع القِصَاص، والكفر يمنعه، فإذا كانت الأُنوثة تُؤَثِّر في نقص الدِّبَة، فإنّ تأثير الكفر أَوْلَى. ¬
المسألة الثّالثة (¬1): فإذا ثبت ما قلناه أنّها أقلّ من دِيَة المسلمِ، فهي على النّصف منها. وقال الشّافعيُّ (¬2): على الثُّلث. ودليلنا: أنّ هذا نقصٌ يمنعُ المساواة في الدِّية، فلم يقصرها على الثُّلث كنقص الأُنوثة. المسألة الرّابعة (¬3): قوله (¬4): "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ"، يريدُ أنّ يقتلَهُ وهو مسلمٌ، وأمّا إذا قَتَلَهُ وهو كافرٌ ثمّ أسلم، فإنّه يقتصّ منه، وبه قال الشّافعيّ (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6): يُقتل المسلمُ بالذِّمّيّ. ودليلنا: قولُه (¬7): "لَا يُقتَلُ المُسلِمُ بِالْكافِرِ". ومن جهة المعنى: أنّه ناقصٌ بالكُفْر، فلم يجب له القَوَد على المؤمّن كالمستأمن. المسألة الخامسة (¬8): ويُقتَلُ الكافرُ، بالمسلمِ، هذا لا خلافَ فيه. وأمّا القِصاصُ في الأطرافِ، فقال مالكٌ في "الموّازية" و"المجموعة": لا قِصاص بيهما، ورُوِيَ عنه أنّه تَوَقَّف في ذلك. وقال ابنُ نافع في "الموّازية": يُخَيَّرُ المسلمُ فإن شاء اسْتَفَادَ وإن شاء أخذَ العقل. ¬
وقال عبدُ الوهّاب (¬1): والصّواب أنّ له عليه القِصَاص. والدّليل على صحّته: أنّ كلَّ من يُقادُ به في النّفس فإنّه يقادُ في الجُرح، كالذَّكَر والأُنثى. فهذا قلنا: لا يُقتَلُ المسلمُ بالكافر، فإنّه يُجْلَد مئةَ ويُسْجَن سنةً *وتجب به الدِّية. وعلى مَنْ الدِّية؟ ففي "المدوّنة" (¬2) قال أشهب*: الدِّية على عاقلته. وقال ابنُ القاسم وابنُ عبد الحَكَم وعبد الملك وأَصْبَغ: هي في ماله. ووجه قول أشهب: ما احتجّ به من أنّه عَمْدَ لا قَوَدَ فيه، فكانت دِيَتُه على العاقلة كدِيَة الجائفة. ووجه القول الثّاني: أنّه عَمَد منع القِصاصَ منه نقصُ الحرمة كقتل العبد. المسألة السّادسة (¬3): فهذا ثبت ذلك، فإنّ القِصاص يجري بين اليهود والنّصارى. قال عبد الوهّاب (¬4): والكُفَّارُ في ذلك ملة واحدة تتكافأ دماؤهم. وقال ابن زِياد عن مالك في "المجموعة": يُقتَلُ اليهوديُّ بالمجوسيِّ، وهذا على ما قال؛ لأنّ نقص دِيَته عن دِيَة اليهوديّ لا يمنع أنّ يقتل فيه اليهوديّ، كما يُقتَل. الرَّجُل بالمرأة وإن كانت دِيَتها نصف دِيَته. ¬
فرع (¬1): وإذا تحاكم إلينا نصرانيّان في قتل، فقال القاتل: ليس في ديننا قصاص، ففي "العُتْبِيّة" (¬2) عن ابن القاسم: لا يقتل. وقيل: إنَّ شهد عليه ذو عدلٍ سلّم إليه (¬3) المقتول بقتله، إنَّ شاء فعل وإن شاء عفا عنه. وقال علماؤنا (¬4): إنَّ عفا عنه ضَرَبَهُ الإمام مدّة وسجنه سنة. ووجهه (¬5): أنّ أحكامهم بينهم موقوفة على مقتضى شرعهم. ووجه الثّاني: أنّ هذا من التّظالم فيحكم بينهم بحكم الإسلام. المسألة السّابعة (¬6): قولُه (¬7): "وَدِيَةُ الْمَجُوسِيَّ ثَمانِي مِئَةِ دِرْهَمٍ" هو قول مالك (¬8). وقال أبو حنيفة (¬9): مثل دية المسلم، وقد تقدّم مذهبه في أوّل الباب. وقد استدلّ عبد الوهّاب (¬10) في ذلك؛ بِأنّه إجماع الصّحابة حَكَمَ به عمر فلم ينكروه عليه فصار إجماعًا، وكان يكتب بذلك إلى عمّاله. ومن جهة المعنى: أنّ كلِّ جنسٍ لا تُؤكل ذبيحته؛ فإنّه لا يساوي المسلم في الدِّيَة كالوَثَنِيّ والمرتدّ. ودية المرأة منهم مثل نصف دِيَة الرَّجُل، وكذلك سائر المِلَلِ. ¬
باب ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله
المسألة الثامنة (¬1): وإذا ارتدَّ المسلمُ فقتل في حالِ ارتدادِهِ، لم يُقتَل قاتِلُه المسلم ويجب به الديّة. واختلف في ذلك: ففي "كتاب ابن سحنون" عن ابن القاسم وأَشهَب وأَصْبَغ: أنّ دِيَته ديَةُ المجوسيّ في العَضد والخطأِ في نفسه وجراحه، رجع إلى الإسلام أو لم يرجع. وقال سحنون عن أشهب: دِيَتُه دية الّذين ارتدّ إليهم، وهو الصَّواب عندي. ووجه الأوّل: أنّه لا يقرّ على كُفرِه، فصار له حكم الأقلّ، -أعني أقلّ الأديان- وهو دِين من لا كتابَ له. ووجه الثّاني: أنّه من أهلِ الكتاب؛ لأنّه إنّما انتقل إلى دِينهم فكان له حُكمُهُم، كما لو كان عليه مولودًا، وهو الأصحّ في النَّظَرِ. باب ما يُوجِبُ العَقْلَ على الرَّجُلِ في خَاصَّةُ مَالِهِ الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "لَيْسَ عَلى الْعاقِلَةِ مِنْ دِيَةِ الْعَمدِ شَيءٌ" وذلك أنّ جنايات العَمْد على ضربين: منها ما يكون فيه القِصاص كقطع اليد وفَقءِ العين، وهذا لا خلاف في أنّ العاقلةَ لا تحمل عَمْدَه. ¬
الفصل الأول
والضربُ الثّاني: لا قصاصَ فيه، وسيأتي إنَّ شاء الله. وفي هذا أربع فصول: الفصل الأوّل: في معرفة العاقلة وصفة تحملها للدّية. والثّاني: في صفة العَمْد وتمييزه من الخطإ. والثّالث: فيما يجب بجنايته. والرّابع: في معرفة ما تحمله العاقلة من الجناية. الفصل الأوّل (¬1) قال علماؤنا (¬2): أمّا العاقلة فيعتبرُ فيها ثلاثة أشياء: 1 - القبائل، فلا تَعْقِلُ قبيلةٌ مع قبيلةٍ ما دام في قبيلةِ الجاني من يَحْمِلُ الجنايةَ. 2 - الدّيوان، فإن أهل الدّيوان يعقل بعضهم عن بعض، وإن كان في غير الدّيوان من غير العشيرة. 3 - والآفاق، فلا يَعْقِلُ شاميٌّ في مَوْضِعِ مصريٍّ، ولا شاميّ مع عراقيّ وإن كان أقرب إلى الجاني ممّن يَعْقِل معه من أهل أُفِقِهِ. قال سحنون: ويضمّ أهل إفريقية بعضهم إلى بعض من إطرابلس إلى طنجة. مسألة: واختُلِفَ في البدْوِ والحَضَر، فقال مالك في "المدوّنة" (¬3): لا يَعْقِلُ أهل البَدْو مع أهل الحَضَر؛ لأنّه لا يستقيم أنّ يكون في دِيَة واحدةٍ إبلٌ وعينٌ، وبهذا قال ابنُ القاسم، وجوّزه أشهب وعبد الملك، ورواه ابن وهب عن مالك في "كتاب ابن سحنون". توجيه: قال الإمام: فوجه الأوّل: أنّ الدِّيَّةَ مبنيةٌ على جنسٍ واحدٍ، فلذلك جعل على أهل الذَّهب الذَّهب، وعلى أهل الوَرِقِ الوَرِق، ولو جاز تبعيضُها لكان على كلِّ إنسانٍ ما ¬
الفصل الثاني في صفة العمد
عنده، ولرجع في ذلك إلى القيمة. ووجه الثّاني: أنّ العاقلة مبنيةٌ على المعاونة، وقد يُضافُ إلى القبيل من ليس منه مع تباعدهم، فبأن يُضَافَ إلى أهل الحضَر من أهل البَدْوِ من هو من عصابة الجاني أَوْلَى. قال (¬1): ويؤدِّي الجاني مع العاقلة (¬2)، قاله مالك في "المجموعة". وأنا النّساء والصّبيان، فلا مَدْخَلَ لهم فيها (¬3)، قاله (¬4) في "المجموعة" أيضًا. الفصل الثّاني (¬5) في صفة العَمْدِ قال ابنُ وهب عن مالك في "المجموعة": العَمْدُ أنّ يعمد إلى القتل فيما يرى النَّاس. وقال في "الموّازية": أو للضّرب الّذي فيه الهلاك فيما يرى النَّاس. وقال في "الكتابين": والمجتمعُ عليه عندنا؛ أنّ من عَمَدَ إلى ضربِ رَجُلٍ بعَصًا أو بحَجَرٍ أو غيره فمات من ذلك، فهو عند ابن القاسم على وجه العَمْدِ. قال مالك - رضي الله عنه -: والعمَدُ كلّ ما يضرب به الرَّجُل من ضربةٍ أو ؤكزَةٍ أو لَطمَةٍ، ولو قال: لم أُرِد الضَّربَ، لم يُصَدَّق. وكلّ ما عَمَدَ بِهِ إلى اللّعب من رمية أو غيرها، فهذا لا قَوَدَ فيه، ولا يُتَّهَم بما يُتَّهَم به المُتَغَاضِب لظهور الملاعبة منهما. ¬
فرع: ومن أشار على رَجُلٍ بسيفٍ فماتَ، فقال محمّد: إنَّ تَمَادَى بالإشارةِ وهو يفرُّ منه فطلبه حتّى مات، فعليه القصاص. وقال ابن القاسم: إنَّ طَلَبَهُ بالسّيفِ حتّى سقطَ فمات، فليقسم أولياؤه أنَّه مات خوفًا منه ويقتلونه. والفرق بينه وبين مسألة محمّد، أنّه يحتمل أنّ يكون مات من السَّقْطَة وهي من فعل نفسه، فلذلك كانتِ القَسَامَة، وفي المسألة الأُولى لم يوجد شيءٍ من فعله يحمل عليه موته، فلم تجب فيه قَسامَة، وبه قال ابن القاسم، وابن حبيب، وابن الماجشون (¬1). مسألة: وأمّا شبه العمد، فاختلف فيه قول مالك، فمرّة أثبته ومرّة نفاه، ورَوَى عنه ابن القاسم (¬2) أنّ شبه العَمَد باطلٌ. وقال ابنُ وَهب بإثباته، رواه ابن حبيب عنه، وعن ابن شهاب، وربيعة، وأبي الزّناد، وحكاه أصحابنا العراقيّون عن مالك، وبه قال أبو حنيفة (¬3) والشّافعيّ (¬4). وقال عبد الوهّاب (¬5): وجه نفيه؛ قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} الآية (¬6)، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (¬7). فلم يذكر غيرهما. ومن جهة المعنى: أنّ الخطأ معقولٌ، والعَمْدَ معقولٌ، ولا يصح أنّ يكون لهام ثالث، ولا يصحّ وجود القَصْد وعدمه لكونهما ضِدَّين. ¬
الفصل الثالث
ووجه إثباته: ما رُوِي عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِئَة مِنَ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا خَلِفَةً" (¬1) فهذا يثبت شبه العمد. وهذا الحديث غير ثابت، رواه عليّ بن زيد بن جدعان -وهو ضعيفٌ-، عن القاسم بن رَبِيعة، عن ابن عمر، والقاسم لم يلق ابن عمر (¬2). قال عبد الوهّاب (¬3): وشبهُ العَمْدِ أنّ يقصد إلى الضّرب، وشبهُ الخطأ أنَّه يضربه بما لا يقتل غالبًا. الفصل الثّالث (¬4) قولُه (¬5): "وَمِمَّا يُعرَفُ بهِ أَنّ العاقِلَةَ لَا تُؤَدَّي دِيَةَ عَمْدٍ، قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} الآية (¬6) ". قيل في تفسير الآية: يريد أنّ من أُعْطِيَ من أخيه شيءٌ من العَقْلِ فَلْيَتبَعْهُ (¬7)، يريد: أنّ الدِّيَة على هذا التّأويل لا تجبُ على قاتل العَمْدِ، فتتحمّلها عنه عاقلته، وإنّما تكون ببذله الدِّية ليحقن به دمه. ¬
تنبيه: قال الإمام: وقد اختلف علماؤنا في تأويل هذه الآية: فقيل: معنى "عُفِيَ لَهُ" بذلَ له أخوهُ القاتل الدِّيَة، فيكون معناه: بذل له، والضّمير في "له" عائد إلى وليّ المقتول، والأخ هو القاتل، فندب وليّ المقتول إلى الرِّضَا بذلك والمطالبة بما بذل له من الدِّيَة بمعروف، ويؤدِّي القاتل إليه بإحسان. وهذا على إحدى الرِّوايتين عن مالك. ورَوَى عنه ابن القاسم وأشهب في "المجموعة": ليس عليه الدِّيَة إِلَّا أنّ يشاء ذلك، فإنَّما عليه القِصاص، وبه قال الشّافعيّ (¬1). ودليل ذلك قويٌّ من جهة المعنى: أنّه معنًى يجب به القتل، فلا يستحقّ به التخيير بين القتل والدِّيَة كالزِّنا. ورُوِيَ عن مالك أيضًا أنّ وليّ القتيل مخيَّرٌ بين القتل والدِّيَة، وهو اختيارُ أشهب، وبه قال أبو حنيفة (¬2). خاتمة هذا الباب (¬3): قولُه (¬4) في العبدِ يُقتل: "فِيهِ الْقِيمَةُ يَومَ يُقْتَلُ" يريد: زادتِ القيمةُ على الدِّيَة أو نَقَصَت، وبه قال الشّافعيّ (¬5). وقال أبو حنيفة (¬6): إنَّ كانت قيمته أقلّ من دِيَةِ الحُرِّ بعشرة دراهم، ففيه القِيمَة. وإن زادت على ذلك، لم تزد على هذا القَدْر. ¬
باب جامع العقل
ودليلُنا: أنّه ما تضمّن جميعه بالقِيمَة، فإنّه يضمن بجميع القيمة كالبهيمة. وقوله (¬1): "وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ شَيءٌ مِن قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَصَابَهُ". وقال أبو حنيفة (¬2) والشّافعيّ (¬3): ذلك عليهم. ودليلُنا: أنّ كلّ ما يضمن بالقيمة، فإنّ العاقلةَ لا مدخل لها في تَحَمُّلِ قيمتِهِ، كالثّياب والعروض. باب جامع العقل الأحاديث الإسناد: رَوَى أبو هريرة (¬4)؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "جَرْحُ العَجْماء جُبَارٌ، وَالبئْرُ جُبَارٌ" (¬5). العربيّة: 1 - الجُبَارُ: الّذي لا دِيَةَ فيه (¬6)، يريد: كلُّ ما يهدر فهو جُبَار (¬7). 2 - والعجماءُ (¬8): هي البهيمة، وإنّما سُمّيت عجماء لأنّها لا تتكلّم (¬9)، وكذلك كلّ ¬
من لا يَقدِر على الكلام فهو أعجم ومستعجم، وإنّما يكون جرح العجماء جُبارًا إذا كانت منفلتةً ليس لها قائد ولا سائق ولا راكب، وأمّا إذا كان لها سائقٌ أو راكب فما أصابت عند ذلك بِيَدٍ أو رِجْلٍ فهو على من قادها أو ساقها أو ركبها؛ لأنّ الجناية حينئذٍ ليست للعجماء إنّما هي جناية (¬1). 3 - واللَّفظ الثّالث (¬2)، قوله (¬3): "المَعْدِنُ" والمَعْدِنُ هي الّتي يعمل فيها النَّاس، وإنَّما قيل لها مَعدِن لأنّها موضع الإقامة ليلًا ونهارًا، والمَعْدِنُ الإقامة، ومنه قولُه عزّ وجلّ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} (¬4) أي: جنّات إقامة، فما سقط في المَعْدِنِ فمات فكل ذلك هَدْرٌ. 4 - اللّفظ الرّابع (¬5): " الرِّكازُ" المال المدفون الّذي دفن قبل الإسلام ففيه الخمس. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬6): قوله (¬7): "ولا ضمان عليه" قال بذلك ابن القاسم وأشهب في "المجموعة" وإنَّما ¬
ذلك على السّائق والقائد، يريد لاختصاصهما بسبب الجنايةِ. المسألة الثّانية (¬1): قوله (¬2): "الرَّجُلُ يَحْفِرُ الْبِئرَ عَلَى الطَّرِيقِ" وهذا على ما قال، إنَّ ما صنعه ممّا هذه سبيلُه؛ إنّه ينقسم على قسمين: 1 - أحدهما: ممنوع، مثل أنّ يحفر بئرًا على الطَّريق لغير غَرَضٍ مباحٍ، فإنّه يضمن ما أُصيب فيها. 2 - أو في دار غيره بغير إذنه، فقد قال ابنُ القاسم وأشهب في "المجموعة": يضمن، قال أشهب: لأنّه حفرَ بغيرِ إذنِ رَبِّ الدَّار. وكذلك من جعل في الطّريق مربطًا لدابَّتِهِ، فهو ضامِنٌ لما أصابت فيه؛ لأنّه مُتَعَّدٍ في ذلك كلّه. وكذلك من اتّخذ كلبًا في داره أو في غَنَمِه، فإنّه يضمن. وأمّا من فعل من ذلك ما يجوز له، قال ابنُ القاسم عن مالك في "المجموعة": "مِن بِئرٍ حفرَها" للمطر، قال ابن القاسم: أو مِرْحاضٍ يحفر إلى جانب الطّريق أو الحائط وما أشبه ذلك، فلا ضمانَ عليه. المسألة الثّالثة (¬3): ولو اصطدم فارسان، فقال مالك (¬4): إنَّ أصاب فرس أحدهما صاحبَه، أو صبيًّا، فعلى عاقلتهما الدِّيَة، وذلك أنّ الجِنَاية بسببهما. ولو اصطدما فماتا، أو ماتَ فرساهما، ¬
فعلى عاقلة كلِّ واحدٍ ديَة الآخر وقيمة فرسه في ماله (¬1). المسألة الرّابعة (¬2): ولو دفعَ رجلٌ رجلًا فوقع على آخرَ فقتلَه، فعلى الدّافع العقل. ولو دَفَعَهُ (¬3) فوقعت يده تحت ساطور الجزّار فقطع أصابعه، ففي "الموّازية" عقل ذلك على طَارِحِهِ. وقيل: على عاقلة الجزّار، ويرجع به على عاقلة الدّافع. فرع (¬4): ومن سقط ابنه من يده فمات، لم يلزمه شيءٌ. ولو سقط شيءٌ من يده على ابنه أو ابن غيره فمات، فقال أشهب: الدِّيَة على عاقلته، وإن كان الأَرْش أقلّ من الثُّلُث ففي ماله. ووجهه: أنّ سقوطه من يده ليس عليه فيه شيءٌ؛ لأنّه لم يمت من فعله (¬5). وأنا إذا سقط شيءٌ من يَدِه على إنسان فقتله، *فإنّ الهالك إنّما هلك بحركة السّاقط عليه، وذلك من سبب الّذي كان بيده. ومن طلب غريفًا، فلما أخذه خشي الموت على نفسه* فتركه فمات، فَرَوَى أبو زيد عن ابن القاسم في "الموّازية" و"العُتْبيّة" (¬6): لا شيءٍ عليه. المسألة الخامسة (¬7): قوله (¬8): "في الصَّبِيِّ يَأمُرُهُ الرَّجُلُ يَنْزِلُ في الْبِئرِ" وهذا على ما قال، وذلك أنَّه إذا ¬
باب ما جاء في الغيلة والسحر
استعمل صبيًّا أو عبدًا في شيء له بال، فهو ضامن لما أصابه، وذلك أنَّه أَمَرَهُ بغير إذن من له الإذن. وأمّا العبدُ فيُعتَبَرُ فيه إذن سيِّده، وأنا الصبيُّ فيُعتَبرُ فيه إذن أبيه إنَّ كان له أبٌ. باب مَا جَاءَ في الغِيلَةِ وَالسِّحْرِ الإسناد: روى ابنُ المُسَيَّب (¬1)؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا، خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً، بِرَجُلٍ واحدٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً، وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ قَتَلْتُهُمْ كُلُّهُمْ بِهِ. قال علماؤنا (¬2): " قصدَ بقوله: "لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لقَتَلْتُهُمْ بِهِ"؛ لأنّ القاتلَ كان من أهلِ صنعاء، ذكر ذلك أبو عُبَيد (¬3) ويحيى بن سلّام وغيرهما". قال الإمام: في هذا الباب فصلان: أحدهما في قتل الجماعة بالواحد، والثّاني: في معنى الغِيلَة. الفصل الأوّل وفيه مسائل: المسألة الأولى (¬4): وأمّا قتلُهم بالواحد يجتمعون في قَتْلِهِ، فعليه جماعة العلماء، وبه قال عمر، وعليّ، وابن عبّاس، وغيرهم، وعليه فقهاء الأمصار إِلَّا ما يُرْوَى عن أهل الظّاهر (¬5). ¬
ودليلنا: قصّة عمر هذه، ولم يُعْلَم له مخالف، فثبت أنّه إجماع. ومن جهة المعنى: أنّ هذا حدٌّ وَجَبَ للواحد على الواحد، فوَجَبَ للواحدِ على الجماعة كحدِّ القَذفِ. ومن جهة القياس: أنّ كلَّ واحدٍ منهم مُخرِجٌ للنَّفْسِ كلها إذِ النَّفسُ لا تتجزأ؛ لأنّه لا يمكن أحدهم أنّ يكون أخرج ربعها والآخر ثلثها والآخر نصفها، فيكون القصاص من الفاعل كذلك، ولكنّه مخرج للنَّفْس كلها فتُؤخَذ نفسه كلّها، والله أعلمُ. المسألة الثّانية (¬1): قال مالك في "الموّازية" و"المجموعة": يُقتَلُ الرَّجُلان وأكثر بالواحد، والنّساءُ بالمرأةِ، والإِمَاءُ والعبيدُ كذلك. قال ابنُ القاسم وأشهب: وإن اجتمع نَفَرٌ على قتل امرأةٍ أو صبيٍّ قُتِلُوا كلّهم به. وهذا إذا اجتمعوا على ضربه حتّى يموت تحتهم، فقال مالك: يقتلون به. قال ابنُ القاسم وابن الماجشون: وكذلك إنَّ مات بعد انكشافهم عنه. المسألة الثّالثة (¬2): وإذا اشترك في قتل عبدٍ حرٌّ وعَبْدٌ، ففي "الموّازية" و"المجموعة" عن مالك: يُقتَلُ العبدُ وعلى الحُرِّ نصف قيمته. فرع (¬3): وإذا قتَلَه صغير وكبير، قُتِلَ الكبيرُ وعلى عاقلة الصّغير نصف دِيَتِهِ. وروى ابنُ حبيب عن ابنِ القاسم؛ أنّه اختلف فيها قوله، فمرّة قال ما تقدّم. ومرّة قال: إنَّ كانت ضربة الصغير عَمْدًا قُتِلَ الكبيرُ، وإن كان خطأً لم يُقتَل وعليهما الدِّيَة. قال أشهب (¬4): يُقتَلُ الكبيرُ، قال محمّد: وهذا أحبُّ إِليَّ. ¬
الفصل الثاني في معنى الغيلة
فرعٌ (¬1): وأمّا إذا اشترك العامد والمخطئ، فقد قال ابن القاسم: لا يُقتَلُ العامدُ إذا شاركه المخطئ؛ لأنّه لا يُدرَى من قَتَلَه. وقال أشهب في "المجموعة": لو أنّ قومًا في قتال العدوِّ قَتَلُوا مسلمًا، منهم مَنْ ظَنَّهُ من العدوِّ، ومنهم من تَعَمَّدَهُ لعداوةٍ، قُتِلَ المتعَمِّد وعلى الآخرين نصيبهم من الدِّية. الفصل الثّاني في معنى الغيلة قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه (¬2): أدخل مالك - رحمه الله - في هذا الباب (¬3) قتلَ الغِيلَةِ، وهي من الحِرَابَةِ، والحِرابَةُ عندنا تكون في الحَضَرِ كما تكون في الفيافي، وتكونُ بالسَّيْف، وتكونُ بالعَصَا. فإذا كانت بالعصا لا يُؤخَذُ فيها بالْيُسْرِ؛ ذلك لأنّ المقصودَ من السَّلب والقتل واحدٌ، والعصا كالسَّيف عند مالكٍ في العَمْدِ ووُجوبِ القِصَاصِ، وزادَت العصا بأنّها أعظمُ في الخديعة؛ لأنّه إذا مَشَى بالسّيف استُنْكِرَ، وتشوَّفَتِ النَّفسُ إلى التَّحَفُّظِ منه، وكان أمرُ العصا في الخديعةِ أبلَغَ، وفي الغِيلَةِ أَدْخَلَ، فينبغي أنّ تكونَ في العقوبةِ أعْظَمَ. ألَّا ترى أنّه يُؤخَذُ فيه مئةٌ بواحدٍ، وكذلك يُؤخَذُ فيه بالعَصَا والسّيفِ بالقتلِ بلا خلافٍ؟ ولَمَّا لم يَتَعَرَّض للحِرابةِ لم يتعرُّض لها. ¬
توفية (¬1): قال الإمام: وقتلُ الغِيلَةِ يُورِدُونَه (¬2) على وجهين: أحدهما: القتل على وجهِ الخديعةِ. الثّاني: على وجه القصد الّذي لا يجوز عليه الخطأ. فأمّا الأوّل ففي "العُتْبيّة" (¬3) و"الموَّازية" منصوصٌ عليه: وقتلُ الغِيلَةِ من المحاربة، وذلك أنّ يغتال رجلًا أوَ صبيًّا فيخدعه حتّى يدخله في موضع فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة، فهذا بَيِّنٌ في أحدِ الوجهين، واللهُ أعلمُ. حدِيثٌ (¬4): روى مُحَمَّد بن عبد الرَّحمن بن سَعدِ بنُ زُرارَةَ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ؛ أَن حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قَتَلَتْ جارِيَةً سَحَرَتها، وَقَد كَانَت دَبَّرَتها، فَأَمَرَتْ بِها حَفْصَة فَقُتِلَت. الإسناد: قال الإمام: الأحاديث في هذا الباب كثيرة لا بأس بها. ورَوَى (¬5) نافع، عن ابنِ عمرَ؛ أنّ جاريةً لحَفْصَة سحرتها، فوجدوا سحرها واعترفت، فأمرت عبد الرّحمن بن زيد بن الخطّاب بقتلها فقتلها، فبلغ ذلك عثمان فأنكره، فأتاه ابن عمر فقال: إنّها سحرتها واعترفت (¬6). قال علماؤنا (¬7): إنّما أنكر عثمان ذلك لمَّا فعلته دون السّلطان، فإنّ السّاحر وإن ¬
كان يجب قتله، فإنّه لا يلي ذلك إِلَّا السّلطان (¬1). ¬
وخَرَّجَ التّرمذيّ (¬1)، عن الحَسَنِ، عن جُنْدَبٍ، أَنَّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ" وهو حديثٌ ضعيفٌ (¬2). وخرَّجَ البخاريُّ (¬3)؛ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سُحِرَ وَجُعِلَ سِحْرُهُ في بِئر ذَرْوانَ. وأن عليًّا استخرجه كلّما حل عُقْدَة وَجَدَ النّبيُّ -عليه السّلام- راحَةً وَخِفَّةَ، فقام كأنَّما أُنْشِطَ من عِقَال (¬4). وروى أبو عمر (¬5)، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، وهذا طريقٌ مَرْضِيٌّ صحيحٌ (¬6)، أنّه قال -حين سُحِرَ-: أَتَانِي رَجُلَانِ، أَحَدُهُما عِندَ رَأسِي، والآخَرُ عِندَ رِجلَىَّ. فقالَ أَحَدُهُمَا: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقالَ: الثّاني: مَطبُوبٌ، قالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قالَ: لَبِيدُ بنُ الأَعصَمِ اليَهُودِيّ، قَالَ: في أَيِّ شَيءٍ؟ قالَ: في مُشطٍ وَمُشاطَةٍ، وَفِي جُفِّ طَلْعةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قالَ: في بِئرِ أَرْوَانَ. العربيّة: والسِّحرُ مأخوذٌ من قَلْب الأَمْرِ على غَيرِ وَجْهِهِ، ويقالُ: أَرْضٌ مَسْحُورَةٌ، وقد سحرت سحرًا للّتي يأخذها المطر فيقلبُ نباتها ويقلِعه من أصوله، وتُقلَبُ الأرضُ لشدّته، ذكره أبو حاتم في "كتاب الزِّينَة" (¬7) قال: وأصلُ السِّحْرِ هاروت وماروت، يقال من جهة اللُّغة، وهو فاعول من الهَرْتِ، والهَرْتُ: الفصاحة والبلاغة في الكلام. ¬
ومَاروت أيضًا كذلك من المَرْتِ، والمَرتُ: المفازة الّتي لا ماءً فيها ولا كَلأَ. قال: وأَمْراتٌ جمعُ مَرتٌ، فكأنَّ هاروت وماروت اشتُقَّ لهما هذان الاسمان من الفصاحة والبيان، ومن الجدوبة وقلّة الخير، ويجوزُ قبلَ أنّ يغضبَ اللهُ عليهما، فلما غضب اللهُ عليهما قلَّ الخيرُ عندهما، وصارا بمنزلة المفازة الّتي لا خيرَ فيها ولا عُشْبَ. الأصول: قال علماؤنا (¬1): في هذا الحديثِ إثباتُ السِّحْرِ وأنّه حقٌّ، أعني بقولي "حقًّا" أنّه موجودٌ، لا أنّه حقّ في ذاته. وحقيقتهُ: تخيّلُ الأعيانِ. وقد أنكرته المعتزلة والقَدَرِيَّة فقالت: إنّه لا حقيقة له. قلنا: وقد أَثبَتَهُ الله بأنّه موجودٌ في كتابه، وأخبر به في مواضعَ كثيرة، وحقيقته (¬2): أنّه كلامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ فيه غير الله، وتُنْسَبُ إليه الأفعالُ والمقاديرُ، ويخلقُ اللهُ عند قول الساحر وفِعْلِهِ في المسحورِ ما شاء من أّمره حسب ما جربتِ العادةُ، فهو كفرٌ حسب ما أخبر اللهُ عنه بقوله: (فَلَا تَكْفُرْ) (¬3). وقال الشّافعيُّ (¬4): هو معصيةٌ إنَّ قَتَل به قُتِلَ، وإن ضرب به ضُرِبَ. قلنا: قد قطعَ اللهُ بقوله حَسَبَ ما أخبرَ به، بقوله: {فَلَا تَكْفُرْ} (¬5) فقطعَ معضل الخلاف فيه. ¬
الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى: قال مالك: السِّحرُ إذا وقع من فَاعِلِهِ فهو كفرٌ، حَسَبَ ما أخبرَ الله عنه بقوله: {فَلَا تَكْفُرْ} (¬1). وقال (¬2) الشّافعيُّ (¬3): هو معصيةٌ، وقال: عقوبَتُه على مِقْدَارِ تأثيره. وقال مالك: يُقتَلُ السّاحرُ كُفرًا. وتعلَّقَ مالك بظاهر القرآن، وإنَّما جعله في باب الغِيلَةِ؛ لأنّ المسحورَ لا يعلمُ بِعَمَلِ السَّاحرِ حتّى يَقَعَ فيه، وقد قال مالكٌ: إنَّ مِنَ الغِيلَةِ سَقيَ السُّمَّ، وكذلك المُرْقِدِ (¬4) لأَخذِ أموالِ النَّاس، وهذا ظاهره، وقد مهّدنا أدّلته في "مسائل الخلاف". المسألة الثّانية (¬5): قولُه (¬6): "أَنَّ حَفْصَةَ قَتَلَت جَارِيَةً" ففي "الموّازية" في العبد أو المُكَاتَب يسحر سَيِّدَه يقتله السُّلطان، وليس لسَيِّدِهِ ولا لغيره قتله (¬7). ووجهه: أنّه قَتْلٌ بحقِّ اللهِ تعالى يجب على من أظهر ذلك في الإسلام، فلا يلي ذلك إِلَّا الإمام، وحكمه كقتل المُرْتَدِّ أو الزِّنديق. المسألة الثّالثة (¬8): قال علماؤنا (¬9): ولا يُقتل حتّى يثبت ذلك أنّ ما يفعله من السّحر الّذي وصفه الله تعالَى بأنّه كفر. قال أَصْبَغُ: يَكشِفُ عن ذلك من يعرف حقيقته بذلك ويثبت ذلك عند الإمام؛ لأنّه ¬
معنى يجب به القتل فلا يحكم به إِلَّا بعد ثبوته، كسائر ما يجب به القتل. المسألة الرّابعة (¬1): إذا قلنا: إنَّ السَّاحرَ يُقْتَلُ كفرًا، فإنّه لا يرثه ورثته من المسلمين، وإنّما حكمه حكم المُرْتَدّ. وقال أَصْبَغُ: إنَّ كان لِسْحِرهِ مُظهِرًا، فقُتِل حين لم يَتُبْ، فمالُهُ في بيت مال المسلمين ولا يصلِّى عليه. قال: فإن اسْتَتَرَ به، فمالُه بعدَ قَتلِهِ لوَرَثَتِهِ من المسلمين، ولا آمُرُهُم بالصَّلاة عليه، فإن فَعَلُوا فهم أعلمُ. المسألة الخامسة (¬2): وإن كان السّاحر ذِمِّيًّا، فقد قال مالك: لا يقتل إِلَّا أنّ يُدْخِل بسِحْرِه ضَرَرًا على المسلمين، فَيُقْتَل نقضًا للعهد، ولا تُقبَل منه توبة غير الإسلام، وأمّا إن سَحَرَ أهلَ ملَّتِهِ فليُؤَدَّب، إِلَّا أنّ يَقتُل أحدًا فيُقتَل به (¬3). وقال سحنون في "العُتْبِيّة" (¬4): يُقتَلُ إِلَّا أنّ يُسلِم فيُترَك. فظاهر قوله أنّه يُقتَل على كلِّ حالٍ إِلَّا أنّ يُسلِم، يخالف قول مالك: لا يُقْتَل إِلَّا أنّ يُؤذِي مسلمًا أو يقتل ذِمِّيًّا. ووجه قول مالك: ما احتَجَّ به ابن شهاب من أنَّ لَبِيد بن الأَعْصَم اليهوديّ سَحَر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فلم يقتله، ولأنَّ اليهوديّ كافرٌ، فإن كان السّحر دليلًا على الكفرِ، فإنَّما يدلُّ من كُفْرِ اليهوديِّ على ما هو معلومٌ. ووجه قول سحنون: أنّه ناقضٌ للعهدِ ومنتقلٌ إلى كفر لا يُقَرُّ عليه. وقد قال أشهب ¬
باب ما يجب في العمد
في اليهوديِّ يتنبَّأ: إنَّ كان مُعْلِنًا به استُتِيبَ إلى الإسلام، فإن تاب وإلا قُتِلَ. فرع (¬1): وأمّا من لم يباشر عمله (¬2) وإنَّما ذهب إلى من يعمله له، ففي "الموّازية": أنَّه يُؤَدَّبُ أدَبًا شديدًا. ووجهه: أنّه لم يكفر، فلذلك لم يقتل، ولكنّه يستحقّ العقوبة لأنّه آثر الكُفْرَ. باب ما يجب في العَمْدِ الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال الإمامُ: ذكر مالك - رحمه الله - في هذا الباب مسائل القَوَدِ، وذلك: أنّ يَضْربَ رَجُلٌ رَجُلًا بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ عَمْدًا، فَيَمُوتُ، فَفِيهِ الْقِصاصُ، (¬4) ولَقَبُ هذه المسألة "القَتْلُ بالمُثَقَّلَ" وهي مسألةٌ ضعيفةٌ عند أبي حنيفة (¬5)؛ لأنّه تعلَّقَ فيها علماءُ العراقِ بالحديث المشهور: "أَلَا إِنَّ فِي قَتْلِ الْعَصا والسَّوْطِ مِئةً مِنَ الإِبِلِ" الحديث المذكور (¬6). فإذا رَمَاهُ بخشَبَةٍ، فإنّها جملةٌ مجموعةٌ من أجزاءٍ، لو انفرَدَ كلُّ ¬
جزء منها لم يَجِبْ به قصاصٌ، فإذا اجتمَعَت كان حالُها في الإفراد شُبْهَةً عند اجتماعِها في إسقاطِ ما يَسْقُطُ بالشُّبُهَاتِ. فقلنا لأهل العراق: الجوابُ عن هذا أَبْيَنُ من الإطنابِ فيه، أَتَرجُو أنّ تُلَفِّقَ لهذا الباطلِ دليلًا؟ ما تحاولُهُ هذا لا يَتَوَجَّهُ، كما قال الشّاعرُ (¬1): تَدُسُّ إلَى العَطَّارِ سِلْعَةَ بَيْتِها ... وَهَل يُصْلِحُ الْعَطَّارُ ما أَفْسَدَ الدَّهْرُ فرع (¬2): فإذا أخذ الرَّجُلُ حَجَرًا وصبَّه على رأس رَجُلٍ، إنَّ كان هذا عَمْدَ خَطَأ، فالضّربُ بالسّيفِ خطأٌ مَحْضٌ، ولهذا قال علماؤنا: إنَّ هذا المذهبَ يهدمُ قاعدةَ القِصاصِ، ويُمَكِّن الأعداءَ مِنَ الأعداءِ. المسألة الثّانية (¬3): مذهب مالك أنّ من قتل حرًّا بآلةٍ يُقتَل بمِثلِها، أو قَصَدَ القتلَ وجبَ عليه القَوَد سواء شَدَخَهُ (¬4) بحَجَرٍ غير محدودٍ أو محدودٍ. ¬
وعنه في مِثقَلِ الحديد روايتان، وبه قال الشّافعيّ (¬1) والنَّخعي، والحسن. ودليلنا: "أنّ يهوديًّا رَضَخَ رأسَ جاريةٍ من الأنصار بِسَبَب أَوْضاحٍ (¬2) لَها، فَأُتِيَ بِهَا النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَها: مَنْ بِكِ، أَفُلَانٌ؟ فأَشارَت أنّ لَا. فَقَالَ: أَفُلَانٌ؟ فأَشارَت: أَن لَا. فَقالَ: أَفُلَانٌ -يعني اليَهُودِيّ؟ فأَشَارَت بِرَأسِهَا -أَيّ نَعَمْ- فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صلّى الله عليه وسلم - فَأَقَرَّ، فأَمَرَ بِهِ النّبيُّ -عليه السّلام- فَرُضِخَ رَأسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ" خَرَّجَهُ البخاريُّ (¬3) والأَيِمَّة (¬4). المسألة الثّالثة (¬5): فهذا ثبت ذلك، فكلُّ ما تعمّدَ به القتل من ضربةٍ أو وَكزَةٍ أو غيرهما فقد قال مالك: ذلك عَمدٌ. قال أشهب: ولم يختلف أهل الحجاز في ذلك، فقد يقصد إلى القتل بغير الحديد. فرع (¬6): ومن طرح رَجُلًا في بئرٍ على وجهِ العداوةِ، فعليه القِصَاص (¬7). المسألة الرّابعة (¬8): القِصَاصُ يكون بمِثْلِ ما قتل به، ومن أَلْقَى رَجُلًا في النَّارِ فمات، أُلقِيَ هو في النَّارِ، وبأَيِّ شيءٍ قَتَلَ قُتِلَ به وبمثله، هذا هو المشهور من المذهب، وهو ظاهر الحديث. ¬
وقد خالف الحديثَ والجمهورَ في ذلك أبو حنيفةَ (¬1) فقال: لا يجوزُ القَوَدُ إِلَّا بالسَّيف خاصّة. ودليلنا قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2) وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬3). ومن جهة السنّة: الحديث المتقدِّم (¬4)، "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأسَ جَارِيَةِ" فلا كلامَ على هذا بوجهٍ. المسألة الخامسة (¬5): إذا ثبت ذلك، فإنّ لأصحابنا في فروع هذه المسألة اختلافًا، والأصل ما قدّمنا، فقد رَوَى محمّد عن ابن المّاجشُون: أنّه من قَتَلَ بالنّار لم يُقتل بها، والمشهور عن مالك وأصحابه أنّه يُقْتَل بها. ووجه ذلك: ما تقدّم من الحديث والآي. ومتعلّق ابن الماجِشُون: ما رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا يُعَذَّبُ بالنار إِلَّا رَبُّ النَّارِ" (¬6). ومن جهة القياس: أنّه تفويت رُوحٍ مُباحٍ، فلم يجز تفويته بالنَّارِ كالذَّكَاةِ. فرع (¬7): فإن غَرَّقَهُ في الماء غُرِّقَ به، رواه عبد الملك بن الماجشون عن ابن القاسم في ¬
باب القصاص في القتل
"العُتبِيّة" (¬1)، وقاله في "المجموعة" أشهب، وعبد الملك. قال ابن القاسم: إنَّ كَتَّفَهُ وطَرَحَه في نهرٍ، صُنِعَ به مثل ذلك. بابُ (¬2) القِصَاصِ في القَتْلِ مالك (¬3)؛ أَنَّه بَلَغَهُ: أَن مَرَوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيانَ يَذكُرُ لَهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَكرانَ وقَدْ قَتَلَ رَجُلًا، فَكَتَبَ إِلَيهِ مُعاوِيَةُ: أَنِ اقْتُلْهُ بهِ. الإسناد: قال الإمام: الحديثُ بَلَاغٌ في "الموطَّأ" وله في الصِّحَّة والنَّظَر معنًى. الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬4): قال علماؤنا (¬5): إنّما وجب أنّ يُقادَ من السَّكران لأنَّه أدخلَ على نفسه السُّكر، ولو تُرِكَ القَوَدُ منه لم يشأ أحَدٌ أنّ يقتل أحدًا إِلَّا شَرِبَ وقَتَل واعتذرَ بالسُّكْر. وقد يَستَعْمِلُ السُّكرَ من ليس بسكران، وإنّما يقع السُّكر على الّذي لا يُمَيِّزُ بين الذّرّةِ والفِيلِ (¬6). المسألة الثّانية: وقد بيَنّا حقيقة السُّكر، وأنّه عبارة عن حبس العقل عن التَّصرُّف على القانون الّذي ¬
خلق عليه في أصل الخِلْقَة المعتادة (¬1)، وأَنَّ (¬2) السّكران إذا قصد إلى القتل قُتِلَ؛ لأنّه يبقى له من العقل ما يثبت به عليه القصاص وسائر الحقوق، ولو بلغ حدّ الإغماء الّذي لا يصحّ معه قَصْدٌ لكانت جنايَتُه كجنايةِ المُغمَى عليه والنّائم، وفي "العُتبيّة" (¬3) عن ابن القاسم أنّه قال: "يُقادُ من السّكران ولا يقادُ من المجنون والصَّبِيِّ" يريد: الجنونَ المطبقَ، والصَّبِيِّ الّذي لا يَعْقِل ابن سنة ونصف. المسألة الثّالثة (¬4): قوله (¬5): " أَحْسَنُ شَيءٍ سَمِعتُ في هَذِهِ الآيَةِ، قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬6) هو على ما قال، يريد أنّ ذلك في الذُّكور والإناث؛ لأنّ الآية تقتضي القِصّاصَ بين الإناث كما تقتضي (¬7) بين العبيد والأحرار، فإنَّما يثبت بغير هذه الآية؛ لأنّ الآية إنّما تقتضي إثبات الأحكام المنصوص عليها من القِصَاص بين الأحرار والعبيد وبين الذكور والإناث، ولا يمنع القصاص بينهم في ذلك، وإنّما يثبت ذلك بسائر أدِلَّة الشَّرعِ. والذي عليه الجمهور؛ أنّ الحرّ لا يُقْتَلُ بعَبْدِه ولا بعَبْدِ غيرهِ. وروي عن النَّخعي أنّه يُقْتَل بعبده (¬8). وتعلّق بالآية بدليل الخطّاب (¬9). ¬
ودليلنا: أنّ القتلَ أحد بدَلَي النَّفس، فلم يَثبُتْ للعبدِ على سيّده كالدِّيَة. ولا يُقْتَل بعَبْد غَيرِهِ، وبه قال الشّافعيّ (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): يُقتَلُ به. ودليلُنا: إجماعُ الصّحابةِ؛ لأنّه مرويٌّ عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبّاس، وابن الزّبَير، وزَيد بن ثابِت، ولا مخالفَ لهم. والمسألةُ طبوليّة في "مسائل الخلاف". المسألة الرّابعة (¬3): قولُهُ (¬4): "والقِصاصُ يَكُونُ بَينَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ" يريد: أنّ الرَّجل يُقْتَل بالمرأة، والمرأةُ بالرَّجلِ، وعليه الجمهور، إِلَّا ما روي عن الحسن (¬5)؛ أنَّه قال: لا يُقتَلُ الرَّجلُ بالمرأةِ. ودليلنا: قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬6)، ثمّ قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية (¬7)، وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬8) فالظّاهر أنّه راجعٌ إلى جميع ما تقدّم ممّا ذكر أنّ الله أنزله. ومن جهة القياس: أنّهما شخصان متكافئان في حدِّ القذفِ، فوجب أنّ يتكافئان في القِصَاص كالرَّجُلَيْن. المسألة الخامسة (¬9): قولُهُ (¬10): "وَجُرحُهَا بِجُرْحِهِ" يريد: أنّ القِصَاص يجري بينهما في الأطراف، ¬
وهو قوله (¬1)، وقولُ جمهور العلماء لمُطلَقِ قولِهِ تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} الآية (¬2)، ولم يفرِّق. فرع (¬3): قوله (¬4): "فِي الرَّجُلِ يُمْسِكُ الرَّجُلَ لِيَضرِبَهُ فَيَمُوتُ" هو على ما قال، إنّه إذا أمسكه وهو يريد قتله، أنّ على القاتل والمُمْسِك القتل. وقال أبو حنيفة (¬5) والشّافعيّ (¬6): لا يُقتَلُ المُمْسِك، ودليلنا: أنّه أَمْسَكَهُ ظلمًا لما يعلم أنّه قاتله، فأشبه إذا أمسكه لِسَبُعٍ حتّى أكله، أو في نار حتّى أحرقته. فرع (¬7): قوله (¬8): "ولو أمسكه أو حبسه وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَن يَضرِبَهُ بِمَا يَضرِبُ النَّاسُ" يريد: الضَّرب المعتادَ الَّذي لا يُخافُ منه الموت، قال مالك: يُعاقَبُ أشدَّ العقوبة (¬9). ورَوَى يحيى عن ابن نافع: أنّه يُحْبَس ويُجْلَد بقَدْرِ ما يرى السُّلطان من ذَنْبِه. ¬
باب العفو في قتل العمد
بَابُ (¬1) العَفْوِ في قَتْلِ العَمْدِ الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "إِذا أَوْصَى أَنّ يُعْفَى عَنْ قَاتِلِهِ، أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ" وهذا على ما قال، وذلك مثل أنّ يُنفِذَ مَقَاتِلَه وتبقَى حياتُه فيَعفُو عنه؛ أنَّ عفوه جائزٌ. قال ابنُ نافع عن مالك: إِلَّا في قَتلِ الغِيلَةِ. وقال في "الموّازية": ولا قولَ في ذلك لوَلَدِهِ ولا لِغُرَمَائِهِ وإن أحاط الدَّيْن بمالِهِ. المسألة الثّانية (¬4): ولو أَوْصى المقتولُ أنّ تُقْبَلَ الدِّيَة منه، ففي "العُتبِيَّة" (¬5) عن ابنِ القاسم فيمن قُتِلَ عَمْدًا فأَوْصَى أنّ تُقبَلَ الدِّيَة وأَوْصَى بوصايا: أنَّ ذلك جائزٌ (¬6). المسألة الثّالثة (¬7): وأمّا الجِرَاحُ، فإن أراد المَجْنِيَّ عليه أنّ يعفو عن الدِّيَة، لم يكن ذلك إِلَّا باختيار الجاني. قال محمّد: لم يختلِف فيه قول مالك وأصحابه. ووجهه: أنّ الجارِحَ يريد استيفاء المال لنفسه، والقاتل لا يريد استيفاءَهُ لنفسه؛ لأنَّه إذا قُتِلَ قصاصًا تركَ المالَ لغيره. المسألة الرّابعة (¬8): وإذا عفا بعضُ الأولياءِ عن الدَّمِ، لم يُقتَل، ولَزِمَهُ من الدِّية حصَّة من لم يعف عنه، ولم يكن له الامتناع. ¬
فرع (¬1): وإذا كان الوليّ واحدًا، فعفا عن بعض الدَّمِ، لم أَرَ فيه نصًّا. وقوله (¬2): " وَعَفوُ البَنِينَ جائِزٌ عَلَى البَنَاتِ" وهو نحو ما قال. وحَكَى عبد الوهّاب (¬3) أنَّ مالكًا اختُلِف عنه في النِّساء هل لهنّ مَدْخَلٌ أم لا؟ فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: أنّ لهنّ مدخلًا. والثّانية: لا مَدْخَلَ لهُنَّ فيه (¬4). فوجه الرّواية الأُولَى: قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فأَهْلُهُ بَينَ خيرتَينِ: إنَّ شاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا وَأَخَذُوا الدِّيَة" (¬5). ولأنَّ القصاصَ يُستَحَقُّ على استحقاقٍ، فوجبَ أنّ يثبتَ لجميع الوَرَثَةِ المستحقَّة له. فإذا قلنا: لهُنَّ مدخلٌ، ففي أيِّ شيءٍ يدخلن؟ ففي ذلك روايتان: إحداهما: لهنّ المدخل في القَوَدِ دون العَفْوِ. الثّانية: لهنَّ مدخل في العَفْوِ دون القَوَدِ. المسألة الخامسة (¬6): إذا ثبت ذلك، فإن كان للمقتول بنون ذكورٌ، فلهم العَفْو والقَوَد، وإن عفا أحدهم لم يكن لغيرهم قَوَدٌ (¬7). قال محمّد: وهذا ممّا لم يختلف فيه مالك وأصحابه. ¬
المسألة السّادسة (¬1): ولو اجتمع بناتٌ وعَصَبَةٌ، فعَفَت واحدةٌ دون العَصَبَة، ففي "العُتبِيّة" (¬2) عن ابن القاسم: أنّ ذلك يجوزُ على من بَقِيَ. وفي "الموّازية" عن أشهب: لا يجوزُ العَفوُ إِلَّا باجتماعهنَّ. المسألة السّابعة (¬3): وإذ تَرَكَ القتيلُ أبًا وأمًّا، ففي "الموّازية": لا حقَّ لها مع الأب، وكذلك الأخوات معه. وأمّا الأمّ فهل لها مدخلٌ معه أم لا؟ عن ابن القاسم (¬4): أنّ لها ولايةَ الدَّم (¬5)، ورَوَى مُطَرِّف عن مالك: أنّه ليس لها ولاية (¬6)، وحكاه ابنُ حبيب عن ابن المَاجِشُون (¬7). المسألة الثّامنة (¬8): وإذا قال المقتول: دمي قد فَوَّضتُهُ إلى فلان، فهو له إنَّ شاءَ قَتَلَ، وإن شاء عَفَا على غير دِيَةٍ، وإن شاء على الدِّيَةِ، فيكون لوَرَثَةِ المقتولِ وإن كان الدَّم بقَسَامَةٍ فالقسامةُ لعصبَتِه والقتلُ والعَفْوُ إلى هذا (¬9)، رواه محمّد عن أشهب. ¬
باب القصاص في الجراح
بَابُ (¬1) القِصاص في الجراح الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬2): قوله (¬3): "مَنْ كَسَرَ يَدًا أَوْ رِجْلًا عَمْدًا، أَنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ" يريد: أنّ القَوَدَ لازمٌ، ليس للجاني أنّ يمتنع منه، ولا للمجني عليه غيره. ولا يُخَيَّر المجنى عليه بينه وبين الأَرشِ كما رُوِيَ عنه (¬4) في القتل. المسألة الثّانية (¬5): قال علماؤنا (¬6): والجنايةُ على ضربين: ضربٌ لا قَوَدَ فيه. وضربٌ فيه القَوَد. فأمّا ما لا قَوَدَ فيه، فعلى قسمين: قسمٌ لا قَوَدَ فيه؛ لأنّه لا تُعْرَفُ فيه المُمَاثَلَة. وقسمٌ يمتنعُ فيه؛ لأنّ الغالب فيه التَّلَف. فأمّا ما لا يُستفادُ منه لعَدَمِ المماثلة، فكاللّطمَةِ، قال مالك في "الموّازية" و"المجموعة": لا قَوَدَ فيها، وفيها العُقوبَة. زاد أشهب: ولا في الضَّرْبَةِ بالسَّوطِ أو بالعَصَا إذا لم يكن جُرْحًا؛ لأنّه لا يُعْرَفُ حدّ ذلك، وهو من النَّاس مختلفٌ بالقوّة والضَّعْفِ. ¬
وقال ابنُ نافع عن مالك: ليس ذو الشَّرَفِ والمُرُوءَةِ كالدَّنِيءِ والوضيعِ والصَّبِيِّ، ولا القوي كالضَّعيفِ. ورُوِيَ عن النَّخعي أنّه قال: يُقَادُ من الضَّرْبَةِ بالسَّوطِ. ودليلُنا: قوله تعالى: {وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1) تعلَّقَ به مِنْ علمائنا مَنْ يقول بدليل الخطاب. ومن جهة المعنى: ما احَتُجَّ به من اختلافِ الضّارِبِ والمَضْرُوبِ (¬2) في القُوَّةِ وقد عدمت دُونَ أَثَرٍ، فتعذَّرَ فيها المماثلة. مسألة (¬3): ومن نتفَ لحيةَ رَجُل أو رأسه أو شاربه، فقال المُغِيرَةُ في "المجموعة": لا قَوَدَ فيه، وفيه العقوبةُ والسَّجْنُ. وقال ابنُ القاسمِ: فيه الأدب. وقال أَشهَبُ: فيه القِصَاصُ، وفي الشَّارِبِ وفي أشفارِ العَينَين. توجيهٌ: فوجه الأوّل: أنّها جناية ليس لها أثرٌ، فلم يكن فيها قِصَاصٌ كاللَّطمَة. ووجه الثّاني: أنّها جناية أتلفت شيئًا من الجَسَدِ فيه جمالٌ، فكان فيها القِصَاص كقطع الأَنْف. فإذا قلنا بالقصاص، فقال ابن أبي زيد: أعرفُ لأَصْبَغَ أنَّ القصاصّ فيها بالوَزْن، وَعَابَهُ غيره. وقال المُغِيرَةُ: لا يجوزُ ذلك لاختلاف اللِّحَى بالْعِظَمِ، ولو أقادَ جميع اللِّحية ¬
لكان صوابًا، فإذا نتف البعض فليس فيها إلّا ما يرى الإمام من العقوبة. وأمّا القسم الثّاني ممّا لا قصاص فيه لأنّ الغالب منه التّلف، فهو كالمَأْمومة والمُوضِحَة والجَائِفة، وقد تقدّم ذلك في بابه. وأمّا الضّرب الثّاني الّذي فيه القصاص، فكلّ جُرْحٍ لا يُخافُ منه التَّلَف غالبًا، وقد تقدّم. ومَنِ الّذي يباشِرُ القَوَدَ؟ قال مالك في "الموّازية" و"المجموعة": لا يستقيدُ لنفسه، وليدع له من له بصرٌ بالقِصَاص فيقتصّ له بقَدْرِ ما نقصه، قال ابن القاسم: ويُدْعَى أرفق من يَقْدِر عليه، فيقتصّ له بأرفق ما يَقْدِر عليه. مسألة (¬1): إذا كان الجُرْحُ مُوضِحَة، ففي "الكتابين" لأشهب: يشرط في رأسه مثلها، وقاله ابن القاسم، غير أنّهما اختلفا في معنى المُمَاثَلَة، فقال أشهب: إنَّ أخذت من المَجنِيَّ عليه ما بين قرنيه وهي لا تبلغ من الجارح إِلَّا نصفَ رأسِهِ، فإنَّما يُنْظَر إلى قَدرِ ما أخذت من رأسه. فإن أخذت ما بين قرني المَجْنِيِّ عليه، شقّ ما بين قرني الجاني، ولا يُنْظَر إلى عِظَمِ الرَّأس ولا صِغَرِهِ. قال محمّد: واختلف فيه قول ابن القاسم، فقال: يُشَقُّ في رأسه بقَدرِ ما شَقَّ، فإن استوعب رأسه ولم يستوعب طولَ الشَّقِّ، فليس عليه أكثر. قال: وكذلك الجبهة والذّراع، يؤخذ منه بطول ذلك ما لم يَضِق عليه العضو فلا يزاد عليه. قال محمّد عن أَصبَغ: قولُ ابن القاسم هذا ليس بشيءٍ، ولا أعلم إِلَّا أنّه رجع عنه، وبِقَوْلِ أشهب أقول (¬2)، أنّ القِصَاص في الجراح مبنىٌّ على هذا؛ لأنّ المماثلةَ إنّما ¬
تقع بالأسماء، ولذلك تُقطَعُ يد كبير بيد صغير، وصغير بكبير. ووجه قول ابن القاسم: أنّ الاعتبار فيه بالصِّفات، ولذلك يُقادُ مِن مُوضِحَةٍ بِمُوضِحَة، ومن الصِّفات المعتبرة الطُّول والقِصَر، كما يعتبر فيها الوصول إلى العَظْم. مسألة (¬1): ولو قطع بعض أصابعه، لَقُطِعَ من أصبعه بقَدْرِ ذلك، ولا يُنْظَر إلى طُولها ولا قِصَرها، ولو قطع من أُنمُلَتِهِ ثُلُثها لَقُطِع من أُنْمُلَتِهِ ثُلُثها كذلك، رواه أشهب وابن نافع عن مالك في "العتبيّة" (¬2) وغيرها. مسألة (¬3): لكان أخطأَ الطّبيبُ فزادَ أو نقص، فقد رَوَى أبو زيد عن ابن القاسم: إنَّ بلغ ذلك ثُلُث الدِّية فعلى العاقلة، كان قصر عن ذلك ففي ماله؛ لأنّها جناية خطأ، وأمّا ما نقص، ففي "المجموعه" عنه (¬4): لا يرجع فيقتصّ له من بقيّة حَقِّه؛ لأنّه قد اجتهد له، وكذلك الأُصْبُع يخطئ فيه بأُنْمُلَة ولا يقاد مرَّتين. مسألة (¬5): وأُجْرَةُ القِصَاص على الّذي يُقْتَصُّ له، قاله ابن القاسم عن مالك. ¬
وقال ابنُ القاسمِ في "العُتبيّة": إنّه يُوَكِّلُ مَنْ يطلب ديته وقبضه، فيكون جعله على الطّالب. تكملة هذا الباب (¬1): قولُه (¬2): "فَإِنْ جَاءَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ مِثْلَ جُرْحِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْقَوَدُ. وَإِنْ زَادَ أو مَاتَ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَقِيدِ شيءٌ" وبهذا قال الشّافعىُّ (¬3). وقال أبو حنيفة (¬4): السِّرايةُ على القِصَاصِ مضمونةٌ. ودليلُنا: أنّ كلَّ قطعٍ كان غير مضمونٍ في الابتداء، فلا يضمن ما يسري إليه، كالقطع في السّرقة؛ ولذلك قال (¬5): *إنَّ بَرِئَ المستقاد وقتل المجروح أو برئت جراحاته وبها عيبٌ أو نقصٌ أو عَثَلٌ، فإن المستقاد منه لا يُقتَل ثانيةً، ولكن يعقل بقَدْر ما نقص*. والفروعُ في هذا الباب أكثر من أنّ نستوفيها في هذه العاجلة. ¬
كتاب الرجم والحدود
كِتَابُ الرَّجْمِ والحدود مقدمة قال أبو حاتم (¬1): يقالُ رجلٌ محدودٌ، إذا أُقِيمَ عليه الحدُّ، وإنّما سُمِّي حَدًّا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد حَدَّه وأمرَ عباده به. والرَّجمُ مأخوذٌ من الحِجَارَةِ، وهي الرَّميُ بها، والرّجام: الحجارةُ، واحدُها رَجمَةٌ، ورَجَمٌ، وَرِجامٌ. والجلد سُمِّيَ بذلك؛ لأنّه يكشف عن بَدَنِهِ فيضربُ على جلده، يقالُ: جُلِدَ الرَّجلُ، معناه: ضُرِبَ على جلده. قال الإمام (¬2): الرَّجمُ سنَّةٌ ماضيةٌ، وأصلٌ في الشّريعة، تقدَّمَ في المِلَلِ قبلَها، وقرَّرَهُ الإِسلامُ بعدَها، وكان من حُجَجِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - على اليهودِ في إنكارِهِم لنُبُوَّتِه، حتّى انتهتِ الحالُ إلى أنّ تكون البهائمُ تفعَلُهُ، كما ورد في "البخاريّ" (¬3) عن عَمرِو بْنِ مَيمَونٍ؛ أَنَّهُ شَاهَدَ في الجَاهِلِيّةِ رَجمَ القِرَدَةِ عَلَى الزِّنَا، مُختَصَرًا، وَصُورَتُه: أنّه قال: رَأَيتُ قِرْدَةً تُضَاجِعُ صَاحِبَهَا، حَتى جاءَ قِرْدٌ مُختَفِيًا، فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِهِ سَلَبَت ذِراعَهَا من تَحْتِ رَأسِ صَاحِبِهَا، ثُمَّ مَشَت إِلَيهِ فَوَاقَعَهَا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ عَادَت إِلَى مَضَجَعِهَا مَعَ صَاحِبِها، فَلَمَّا اسْتَيقَظَ استنكَرَها وَصَاحَ، واجتَمَعَتِ القُرُودُ فَشَمُّوها، ثُمَّ رَجَمُوها بِالحِجَارَةِ وأنا أنظرُ إليهم. تنبيه (¬4): قال الإمام: فإمّا أنّ يكونَ هذا من أفعالِ من كان شَخصًا ثمّ صارَ مَسْخًا، وإمّا أنّ ¬
مقدمة
يكون هذا أمرًا أَوْقَعَهُ اللهُ في نُفُوسِ البهائم إلهامًا، ومُقَدِّمَةً للنَّذارَةِ لمن يُحيِي هذه السُّنَّةَ الّتي أماتها اليهودُ. مقدّمة (¬1) قال الإمام: وأحاديثُ الرِّجمِ معدُودَةٌ، أصولُها عَشَرَة أحاديث: الحديث الأوّل: ما رَوَى الأيمّةُ بأجمعهم عن أبي هريرة (¬2) وغيره (¬3)، أَدخَلنَا حديثَ بعضِهِم في بعض وجمعناهُ، قالوا: جاءَ مَاعِزُ بنُ مالكٍ الأَسلَمِيُّ إِلَى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يَا رَسُولَ الله، ظَلَمتُ نَفسِي وَتُبتُ، طَهِّرْنِي، قَالَ: "مِمَّ أُطَهِّرُكَ؟ " قَالَ: مِنَ الزِّنَا، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - "ارجِعْ فَاستَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيه". فَرَجَعَ غَيرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قُمْ فَطَهِّرنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -عليه السّلام- مِثلَ ذلك، حَتَّى كَانَتِ الرابِعَةُ، قَالَ لَهُ: "مِمَّ أُطَهِّرُكَ"؟ قَالَ: مِنَ الزِّنَا، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَعَلَّكَ قَبَّلتَ أَوْ غَمَزتَ أو نَظَرتَ؟ " قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَنِكْتَهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَبِهِ جُنُونٌ؟ " قالوا: لَا، قالَ "أَشَرِبَ خَمرًا؟ " قالُوا: لا، فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَم يَجِدْ مِنهُ رِيحَ خَمرٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسِّ الحِجَارَةِ فَرَّ يَشتَدُّ، حَتى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ، فَضَرَبَهُ وَضَرَبَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا وَجَدَ أَلَمَ المَوتِ صَرَخَ: يَا قَوْمِ، رُدُّونِي إلى رَسُولِ اللْهِ - صلّى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ قَومِي قَتَلُونِي وغَرُّوني، وأَخبَرُوني أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - غَيرُ قَاتِلِي، فَلَم يُنْزَع عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: "فَهَلَّا تَرَكتُمُوهُ وَجِئتُمُونِي بِهِ". زاد أبو داود (¬4) والنّسائي (¬5): "لِيَستَثْبِتَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فِيهِ، فَأَمًا لِيَرُدَّ حَدًّا فَلَا" قاله أبو هريرة. زاد أبو داود (¬6): "أَلا تَرَكتُمُوهُ حَتَّى أَنظُرَ فِي شَأنِهِ، هَلَّا تَرَكتُمُوهُ فَيَتُوبَ، فَيَتُوبَ اللهُ عليه". ¬
زاد مسلمٌ (¬1) والنّسائىُّ (¬2) قال: فَرَدَّهُ، فَلَمَّا كَاَنَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ، فَأَرسَلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَى قَوْمِهِ، أَتَعْرِفُونَهُ؟ قَالُوا: مَا بِهِ بَأسٌ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيهِم أَيضًا، فَأخبَرُوهُ أَنَّه لَا بَأسَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ في الرَّابعَةِ، أَمَرَ بِرَجمِهِ. زاد في "الموطَّأ" (¬3): أَنَّه جَاءَ إِلَى أَبِي بَكرٍ الصَّدِّيقِ، فَقَالَ لَهُ: تُبْ إِلَى اللهِ وَاستَتِر، وَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ مِثلَ مَا قَالَ لأَبِي بَكرٍ، فَقَالَ عُمَرُ مَقَالَة أَبِي بَكرٍ. فَجَاءَ لِرَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -، فَأَعرَضَ عَنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعرِضُ عَنْهُ، حَتى إِذَ أَكثَرَ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَى أهله: "أَيَشتَكِي أَبهِ جِنَّةً" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ لَصَحِيحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَبِكرٌ أَنْتَ أَم ثَيِّبٌ؟ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَرُجِمَ. زَادَ (¬4) من رواية سعيد بن المسيَّب أنّه قال: "لَو سَتَرتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيرًا لَكَ". زاد مسلم (¬5) والبخاري (¬6): "قَالَ جَابرٌ: فَرَجَمنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذلَقَتهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأَدرَكنَاهُ بِالحَرَّةِ فَرَضَخنَاهُ". الحديث الثّاني: روى الأيِمَّةُ (¬7) ما عدا البخاريَّ عن عُبَادَةَ بنِ الصّامتِ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عَنِّي، قَد جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بِالبِكرِ؛ جَلدُ مِئَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّب؟ جَلدُ مِئَةٍ وَرَجمٌ بِالحِجَارَةِ". الحديث الثّالث: حدبثُ العَسِيفِ، قال أبو هريرةَ وزيدُ بنُ خالدٍ: إِنَّ رَجلينِ ¬
اختَصَمَا إلي رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال أحدُهما: يا رَسُولَ اللهِ اقْضِ بَينَنَا بكِتَابِ اللهِ، وقال الآخرُ -وهو أَفقَهُهُمَا -: أَجَل يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بينَنَا بكِتَابِ اللهِ، وَأذَن لِي فِي أَنْ أتكَلَّم، قَالَ: "تكَلَّم". قَالَ: إنَّ ابنِي كَانَ عَسِيفًا لهَذَا، فَزَنَى بِامرَأَتِهِ، فَأُخبِرتُ أَنَّ عَلَى ابنِي الرَّجمَ، فَافتَدَيتُ مِنهُ بمِئَةِ شَاةٍ وبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلتُ أَهل العِلْمِ فَأَخبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابنِي جَلدَ مِئَةٍ وتغْرِببَ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّ الرَّجمَ عَلَى امرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقضِيَنَّ بَينَكُما بِكِتابِ الله، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرُدَّ عَلَيْه غَنَمَهُ وَجَارِيَتهُ" وَجَلدَ ابنه وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأُتِيَ بِالمَرأَةِ فَاعتَرفَتْ فَرَجَمَهَا (¬1). الحديثُ الرّابعُ: حديثُ عُمَرَ، لَمَّا صَدَرَ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطحَاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ ؤأستَلقَى، ثُمَّ مَدَ يَدَهُ إِلى السَّمَاءِ فَقَالَ: إِلَهِي كَبُرَ سِنِّي، وَضعُفَت قُوَّتِي، وَانتَشَرَت رَعِيَّتِي، فِاقبِضنِي إِلَيكَ غَيرَ مُضَيَّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ. ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، فخطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ، قَد سُنَّت بِكُم السُّننُ، وَفَرِضَت لَكُم الفَرَائضُ، وَتُركتُم عَلَى الوَاضِحَة، إِلَّا أنّ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَضَرَبَ بِإِحدَى يَدَيْهِ على الأُخرَى، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكم أنّ تَهلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، فيقُولُ قائِلٌ: إِنَّا لَا نَجدُ حَدَّينِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَد رَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَرَجَمنَا، وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لِولَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ في كتَابِ اللهِ لَكتَبتُهَا: "الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارجُمُوهُما البَتَّة" فَإنَّا قَد قَرَأنَاهَا. فَمَا انسَلَخَ ذُو الحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ (¬2). وقال الّذي حديث ابن عبّاس الطّويل بين يّدَي موتِه: "الرَّجمُ في كِتَاب اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَال وَالنِّساءِ إِذَا أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أو كان الحَبلُ أَوْ الاعتِرافُ" (¬3). ¬
الحديث الخامس: خرّج مسلمٌ (¬1) وغيرُه (¬2)، أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبِ رضي الله عنه جَلَدَ شُرَاحَة الهَمدَانِيةَ يَومَ الخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَومَ الجُمُعَة، وقَالَ: جَلَدتُهَا بكِتَابِ اللهِ، ورَجَمتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ الله. الحديث السّادس: حديثُ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ، قَالَ: جَاءَتِ امرَأَة من جُهينَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَهي حُبلَى مِنَ الزِّنَى، فقَالَت: يَا رسُولَ اللهِ، أَصَبتُ حَدًّا فَأَقِمهُ عَلَيَّ، فَدَعَا رسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - وَليَّهَا، فَقَالَ لَهُ: "أَحسِن إِلَيهَا، فَإِذَا وَضعَتْ فَأْتِنِي بهَا"، فَفَعَل، فَشُكَّت عَلَيها ثيَابُهَا، ثُمَّ رُجِمَت، ثُم صَلَّى علَيهَا، فَقَالَ عُمَر: أَتُصَلِّي عَليهَا وَقَد زَنَت؟ فَقَال: "لقَد تَابَت تَوبَةٌ لَو قُسِمَت بَينَ سَبعِينَ من أَهلِ المَدِيِنَةِ لَوَسعَتهُمْ" خرَّجه مسلم (¬3)، والتّرمذي (¬4)، وأبو داود (¬5). الحديث السابع: خَرَّجهُ مسلم (¬6)، والنّسائيّ (¬7)، وأبو داود (¬8)، قالوا: إِنَّ امرَأَةً من غَامِد من الأَزدِ. قالت: يا رسول الله، طَهِّرنِي، قَالَ: وَيحَكِ! ارجعِي فَاستَغفَرِي اللهَ وَتُوبِي إليهِ. قالت لهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدت مَاعِزًا؟ قَالَ لهَا: وَمَا ذَاك؟ قَالَت: إِنِّي حُبلَى من الزِّنَى، قال: آنْتِ؟ قَالَت: نَعَم. قَالَ: اذهَبي حَتَّى تَضَعِي، فَكفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ حَتَّى وَضَعَت. فأَتَى النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فَأَخبَرَهُ. قَالَ: إذًا لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرضِعُهُ، قَالَ رجُلٌ من الأنَصَار: إليَّ رَضَاعُهُ، فَرَجَمَهَا. الحديث الثّامن: روى النَّسائي (¬9) وأبو داود (¬10): قال اللَّجلَاجُ أنّه كان يعملُ في ¬
السُّوقِ، فمرّت به امرأةٌ تَحْمِلُ صبيًّا، فثارَ النّاسُ، فكنتُ ممّن ثارَ، فانتهيتُ إلى النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو يقولُ: من أبو هذا الغلام؟ فقال شاب حِذَاءَهَا: أنا يا رسول الله، فقال لها النّبىُّ -عليه السّلام-: من أبو هذا الغلام؟ فسكتت، فقال له الفَتَى: إنها حديثة العهد بِجُرْمٍ وليست تكلّمك، أنا أبوه، فنَظَرَ إلى بعضِ أصحابِه كأنّه يسألُهم عنه، فقالوا: ما علِمْنَا إِلَّا خيرًا، فقال له النّبيّ -عليه السّلام-: أأحصنت؟ قال: نعم، فأمر به فَرُجِمَ. قال فحفرنا له حُفرةً حتّى أَمكَنَّاهُ، ثمّ رَمَينَاهُ بالحِجَارَةِ. الحديثُ التّاسعُ: روى أبو بَكرَةَ قال: شَهِدتُ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو واقفٌ على بغلتِه، فذكَرَ أنّ امرأةً حُبلَى جاءتِ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - فقالت: بَغَيتُ، فقال لها: "استري يستركِ اللهُ" فذهبت ثمّ رجعت، فقال لها: "اذهبي حتّى تَلِدِي" ثمّ قال: "انطَلِقِي حتّى تَطهُرِي من الدّم" ثمّ جاءت، فبعثَها النَّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى نسوةٍ من هوازنَ ينظُرنَ إليها، أَطَهُرَت أم لا؟ فجثنَ يَشهَدْنَ عند رسول اللهِ، فأمرَ - صلّى الله عليه وسلم - بحُفرةِ إلى ثَديَيها، ثمّ أخذَ حصاةً كأنّها الحِمَصُّ فرمَاها. ثمّ قال للمسلمين: ارمُوا، فرَمَوها، ثمّ طَفِئَت، ثمّ أَمَرَ بإخراجِها وصلَّى عليها، وقال: لو قُسِمَ أجرُها بين أهلِ الحجازِ لوَسِعَهُم (¬1). وفي "الموطَّأ" (¬2) قال: "اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي، اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ "، ثُمَّ جَاءَتهُ فَقَالَ لَهَا: "اذهَبِي حَتَّى تَستَودعِيهِ "، فَاستَودَعَتهُ، فَرَمَاهَا فرُجِمَت. الحديث العاشر: روي في "الموطَّأ" (¬3) ورواهُ الأيِمّةُ (¬4)، عَنْ عَبدِ الله بنِ عُمَرَ؛ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنهُم وَامرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا تَجدُونَ في التَّورَاةِ في شَأنِ الرَّجْمِ؟ " فَقَالُوا: نَفضَحُهُم وَيُجلَدُونَ. ¬
فقَالَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامِ: كَذَبتُم، إِنَّ فِيهَا آية الرَّجْمِ، فَأتَوا بِالتَّورَاةِ فَنَشَرُوهَا، وَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ. ثُم قَرَأَ مَا قَبلَهَا وَمَا بَعدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلَام: ارفَع يَدَكَ، فرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، فَقَالُوا: صَدَقتَ يَا محَمّدُ، فِيهَا آيةُ الرَّجمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - فَرُجِمَا. قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: فَرَأَيتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى المَرأَةِ، يَقِيهَا الحِجَارَةَ. قال الإمام (¬1): فهذه أصولُ أحاديث الرَّجمِ بجُملَتِها، ولا خلافَ فيه بين الأيِمَّةِ، إِلَّا أنّ طائفةً من البربرِ نزلت على جبلِ أطرابُلُسَ، ليس لهم إِلَّا مَطَلَعٌ ضيّقٌ، كفروا باللهِ ورسولِهِ، وتستّروا بكلمةِ الإسلامِ والتّعصبِ لعثمانَ، وَيرَؤنَ أنَّّ الوضوءَ بدعةٌ، وأن التَّيمُّمَ هو الأصلُ، والزّاهدُ منهم هو الْذي يموتُ ولا يَمسُّ ماءً قَطُّ في عُمُرِه، ويرونَ سُقوطَ الرَّجْمِ ويضرِبُونَ الزّاني بالسَّوطِ حتّى يموتَ، في مُحالاتٍ لا نهايةَ لها (¬2)، وكانوا يخالِطَوننا ويُجَالِسونَنا، فقلنا لعلّمائنا، أيحلُّ لكم أنّ تنركوا هؤلاء بين أَظهُرِكُم على هذه الحالةِ من الكفرِ؟ قالوا لي: إنَّ القومَ في عدد عظيمٍ، وفي مَنَعَة من المكان لا ترقَى إليهم الأوهام، ولوِ اعْتَرَضنَا أحدًا ممّن ينزلُ منهم لقتلوا بالواحد منهم مئةً منا، فقبلتُ عُذرَهُم. تنبيهٌ على وَهمٍ (¬3): قال بعضُ النَّاس: إنَّ الرَّجْمَ الواردَ في الشَريعةِ ناسخٌ للحبس إلى الموت الّذي كان مشروعًا قبلَهُ، وقد بيَّنَّا فسادَ ذلك في "كتب الأصول" من وجوهٍ، أقربُها الآنَ إليكم: أنّ الحبسَ في البيوتِ كان حُكمًا ممدودًا إلى غايةٍ، وكلُّ حُكمٍ مُدَّ إلى غايةٍ فانتهى إلينا، لا يكونُ انتهاؤُهُ نسخًا، وهو أحدُ شروطِ النَّسخِ الأربعةِ الّتي لا يُزادُ عليها، وحُكمُ الغايةِ أنّ يكونَ ما بعدَها مخالفًا لما قبلَها، وإلّاَ فمتَى كانت تكون غايةً. واعلموا - أنار الله قلوبَكُم للمعارف- أنّ في هذه الأحاديثِ المتقدِّمةِ أحكامًا كثيرةً وفوائدَ ¬
لطيفةً، استوفيناها في "شرح الحديث " الحاضرُ الآن ممّا يتعلَّقُ بها خمسةَ عَشَرَ حُكمًا (¬1): الحكم الأوّل: قولُ - صلّى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي" (¬2) تأكيدًا وتنبيهًا، فإنّه ما بُعِثَ إِلَّا ليُؤخَذَ عنه، وقد كان سبَقَ الأخذُ عنه، فَأكَّدَ بهذا القول ونَبهَ على قَدرِ الحُكمِ. الحكم الثّاني: قولُه (¬3): "جَلدُ مِئَةٍ" يحْتَمِلُ أنّ يكون قالَهُ ثمّ نزلتِ الآيةُ بعدَه في الجَلدِ، وَيحتَمِلُ أنّ يكون قالَهُ بعد نزول الآية تأكيدًا وبيانًا للحُكم. الحكم الثّالث: وهو التغريبُ وقد اختلف علماؤنا فيه، فأسقَطَهُ أبو حنيفةَ (¬4)؛ لأنّه زيادَةٌ: على القرآن بخَبَرِ الواحدِ، والزِّيادةُ على النَّصِّ نسخٌ، ولا يُنْسَخُ القرآنُ إِلَّا بقرآنٍ مثله، أو بخبرٍ متواترٍ، وقد مهّدنا ذلك في "مسائل الخلاف". وقال الشّافعيُّ (¬5): يُغَرِّبُ كلُّ زانٍ بكرٍ بعموم الحديث، ومَنَعَهُ مالك في المرأةِ والعَبدِ، أمّا المرأة فلأنّ تغريبها مُعَرِّضٌ لها للوقوع في مثل ما جُلِدَتْ عليه، وإنّما تُحفَظُ المرأةُ بالحجابِ حيث تُعرَفُ. خذوا نُكتةٌ بديعةٌ في أصول الفقه لم تُذكَر فيها، نبّه عليها إمام الحرمين في "كتاب العموم" فقال: "إنَّ العمومَ إذا وردَ وقلنا باستعماله، أو قام دليلٌ على جوازه، أو ¬
على وُجُوبِ القولِ به، فإنّما يتناولُ الغالبَ دون الشاذ النادِرِ الّذي لا يَخطِرُ ببالِ القائلِ " وصدَقَ، فإن العموم إنّما يكونُ عموما بالقَصدِ المقارِنِ للقَوْلِ،* فما قُطِعَ على أنّ القائل لم يَقصِده، لا يتناولُه القولُ*، وعلى هذا يتناوَلُ الحُكمُ في العُمومِ ما يُغتَرضُ عليه بالإبطالِ. ولو أدخَلنَا المرأةَ في التّغريبِ لاعتُرِضَ بالإبطالِ على التّحصين الّذي لأجله شُرعَ الحدُّ. وكذلك العبدُ لم يَرَ مالك تغريبَهُ، لا لأجل أنّه لم يدخُلْ تحتَ العُمومِ كما قلنا في المرأة. ولكن عارَضَه حقُّ السَّيِّدِ، فَقُدِّمَ على حقِّ الله؛ لفَقرِ السَّيِّدِ، والله هو الغنيُّ الحميدُ. فإن قيل: فلِمَ لم يَسقُطِ الحدُّ مراعاةً لحقِّ السَّيِّدِ؟ قلنا: الحدُّ هو الأصلُ والتّغريبُ تَبَعٌ، فلأجل ذلك أقمنا الأصلَ الّذي لا يَقْطَعُ بالسَّيِّد من حقّه، وتركنا التَّبَعَ الّذي يُعتَرضُ عليه بالإبطال. الحكم الرّابع: في الجَلدِ قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: يُجْلَدُ الثَّيِّبُ ثمّ يُرجمُ؛ لحديثِ عُبادةَ، وحديث شُرَاحَةَ المتقدِّمَينِ. قلنا: هذا الحديثُ الواردُ عن عُبَادَةَ منسوخٌ قطعًا بمِثله في الوُرُودِ بحديثِ ماعزٍ والغامديةِ والعَسِيفِ، فإن النّبيِّ -عليه السّلام- لم يتعرض للجَلدِ في واحدٍ منهما، وقد كان ذلك بعدَهْ، فتَمَّ النَّسخُ بشَرطِهِ. الحكم الخامسُ: الزِّنَا يثبتُ بثلاثةِ أشياءَ: 1 - اعترافٌ. 2 - وشهادةٌ. 3 - وحملٌ ظاهرٌ لم يسبِقه نكاحٌ ولا سيادةٌ.
فأمّا "الشهادةُ" فقد استقرَّ أمرُها في كتاب اللهِ وفي سنَّةِ رسولِ الله، وهو أنّ يأتوا بأربعة شهداء عدولٍ يشهدون على الرُّؤيَةِ، وهو قول مالكٍ وجميعِ أصحابه. وأمّا "الإقرارُ" وهو الأصلُ في إثباتِ الحقوقِ، فإنّ العلّماءَ اختلفوا فيه، هل للمُقِرِّ بالزِّنى أنّ يرجِعَ عن الإقرارِ أم لا؟ فمنهم من قال: إنَّ له أنّ يرجِعُ، (*) قال به الجمهورُ، وهو إحْدَى الرِّوايتَين عن مالكٍ، ومنهم من قال: إنَّ له أنّ يرجِعُ (*) إنَّ ذكر وجهًا، وهي الرِّواية الثّانية عندَهُ. ومنهم من قال: لا يرجِعُ. فأمّا من قال: لا يُقْبَلُ الرجوعُ؛ فلأنّ الإنسانَ على نفسِهِ بصيرةٌ، وهو أعلمُ. وأمّا من قال: إنّه يرجِعُ إنَّ ذكَر وجهًا؛ فلأنّ الحدّ ممّا يَسقُطُ بالشُّبْهَةِ، وهذه شبهةٌ، مع أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نبّه عليها ماعزًا فقال: "لَعَلَّكَ قَبَّلتَ، لَعَلَّكَ نَظَرتَ". (¬1) وأمّا من قال: إنّه يرجِعُ مطلقًا، فهو الحقُّ، وعليه تدلُّ الأحاديثُ المذكررةُ آنفًا في ترديد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كلَّ من أَقَرَّ بالزِّنى، وتنبيهِهِ له على الرّجوعِ، وكذلك ينبغي أنّ يفعَلَ كلُّ حاكم، فلا قُدْوَةَ أعظمُ من محمّد - صلّى الله عليه وسلم - ولا أُسوَةَ فوقَهُ. وقال أبو حنيفة (¬2): لا يَثبُتُ الزِّنا بالإقرارِ حتّى يكونَ أربعَ مرّاتٍ في أَربَعِ مجالسَ، واحتجّ بأن النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - رَدَّ ماعزًا أربعَ مرّاتٍ. قلنا: لم يَرُدَّهُ ليثبُتَ الإقرارُ، إنّما ردَّهُ رجاءَ الرُّجوعِ، ألَّا ترى أنّه لم يَرُدَّ الغامِدَيَّة ولا سِوَاها، ولا يجوزُ أنّ يُحمَلَ على الشّهادةِ؛ لأنّ الشّهادةَ فرعٌ، والإقرارَ أصلٌ، ولا يجوزُ أنّ يُحمَلَ الأصلُ على الفرع. وأمّا الحملُ إذا ظَهَرَ ولم يَسبِقهُ سببٌ جائزٌ، فإنّه يُعلَمُ قطعًا أنّه من حرامٍ، فثبتتِ المقدِّمةُ بالنَّتيجةِ، وهو استدلٌ معلومٌ من طريقِ العادَةِ يُسَمَّى قياسَ الدّلالةِ، ¬
كدَلَالةِ الدُّخان على النارِ، إِلَّا أنّ تدَّعِيَ أنّها استُكرِهَت، وتأتي على ذلك بِبَيَّنَةٍ أو بأَمَارةٍ، مِثلَ أنّ تأتي داميةً وهي بِكرٌ، أو استغاثت أو أُغِيثَت على تلك الحالِ. فإن لم تأتِ بشيءٍ من ذلك، ثبتَ الحدُّ إنَّ لم يكن يعارِضُه ما يُسقِطُهُ. وقال الشّافعيّ: لا يُقبَلُ قولُها. وهو قولٌ باطلٌ؛ لأنّه لا يمكن إنَّ غُلِبَت أنّ تفعلَ أكثرَ ممّا فعلت، ولا يكلِّفُ اللهُ نفسا إِلَّا وُسعَهَا. الحكم السّادس: إذا سُمِعَ الإقرارُ، فلابدَّ بعدَهُ من الاختيارِ، كما فعلَ النّبيُّ -عليه السّلام- إذ قال: "أَبِهِ جُنُونٌ؟ " فَقَالُوا: لا (¬1) وبهذا يتبيَّنُ أنّ قولَ المجنونِ هَدرٌ، ويَعضُدُ هذا بصحّته حديثُ علىَّ الضّعيفُ في السَّنَدِ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ" (¬2). فذكَر المجنونَ الّذي يَغلِبُ عليه، فيفوتُه تحصيلُ القولِ، فإنّه لا يُؤاخَذُ به في حُكمٍ من الأحكامِ، لقول النّبيِّ -عليه السّلام- في حديثه هذا: "أَيَشتَكِي؟ " فبيَّنَ أنّ الشَّكْوَى تبطِلُ الإقرارَ. فلمّا أنّ علم أنّه صحيح العقل (¬3)؛ قال: "أَبِكرٌ هُوَ أَمْ ثَيَّبٌ؟ ". قال علماؤنا (¬4): يحتَمِلُ أنّ يقول ذلك لِمَاعِز لَما أُخبِرَ بِصحَّةِ عَقلِهِ (¬5)، وقد قال ماللق: يسألُ الإمامُ الزَّانِيَ عَنْ ذلك، ويقبل قوله أنَّه بِكر ويصدِّقه، إِلَّا أنّ تقوم بيِّنَةٌ أنّه ثَيِّب. وقال مرّةً: لا يسأله حتّى يكشف عنه، فإن وَجَدَ من ذلك علمًا، وإلا سأَلَهُ وقَبِلَ قولَه دونَ يمينِ. قال محمّد: وهو أحبّ إلينا. ¬
فعلى هذا يتبيّن أنّ الشّكوى تُبطلُ الإقرارَ، ولذلك نقولُ: إنَّ المريض إذا طلَّقَ في حرجِ المَرَضِ، لا ينفذُ طلاتُه إذا تَثبَّجَ من المرضِ قَولُه، وهو كذلك أيضًا، وهو الحكم السّابع. الحكم الثّامن: قال الّذي الحديث (¬1): "أَشَرِبَ خمْرًا؟ " فكان دليلًا على أنّ السّكران لا يجوزُ إقرارُهُ، وقد اختلف العلّماءُ في ذلك على أقوال عديدةٍ جملةً وتفصيلًا، واختلف أربابُ مذهبنا كاختلافهم، والذين اعتبروا قولَ السّكرانِ قالوا: إنَّ عقله زالَ بمعصيةٍ، فَجُعِل كالموجودِ حكمًا، والمعصيةُ قد أَخذت حقَّها في الإثمِ وفي الحدِّ، وجَعلُ المعدومِ موجودًا حُكمًا يفتقرُ إلى دليلٍ، وقولُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أَشَرِبَ خَمرًا؟ " يحتملُ أنّ يكون قال ذلك إذ كانتِ الخمرُ محلَّلَةَ. قال: وهذه حكايةُ حالٍ وقصّة عين يتطرّقُ إليها الاحتمالُ، فيسقُطُ بها الاستدلالُ، لكن يبقى أصلُ الدّليلِ من أنّ العقل ذاهبٌ. قال لي بعض أشياخي: لم يختلف قولُ مالكٍ أنّه إنَّ قتَلَ سكرانُ أنَّه يُقْتلُ به، وهذا عندي لعظيم حُرْمَةِ القتلِ، فأمّا سائرُ الأحكام فيهونُ أمرُها. الحكم التّاسع: قولُة: "أنِكْتَهَا" (¬2) لا يَكْنِي، وافْتَقَرَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى ذلك لبيانِ سببِ الحدِّ بعد أنّ تكررَّ الردُّ. والحد لا يكون عندنا إِلَّا بعَشَرةِ أوصافٍ مُعْتَبَرَةٍ: وَطءٌ. مُحَرَّمٌ. مُحْصَن. ¬
حُرٌّ. بالغٌ. عاقلٌ. في فَرْج. مشتهىً. طَبعَا. وقع من مُسلِمٍ. فبهذه الشّروطِ يجبُ الرَّجمُ، وبها يجبُ الحدُّ الّذي هو الجَلدُ، ما عدا الإحصانَ. تفصيل هذه الجملة: أمّا قولنا: "وطءٌ" فلسؤالِ النّبيِّ -عليه السّلام- عنه، وإجماع الأُمَّةِ عليه. وأمّا قولنا: "محرَّم" فَلِوُقُوعِ معصيةٍ تَلِيقُ بهذه العقوبةِ. أمّا قولنا: "مُحصَن" فلِتَنتَفِي الشُّبهةُ الّتي تُسقِطُ الحدَّ، والإحصانُ الّذي سأل عنه هو الزّوجية، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية (¬1)، يريد: ذوات الأزواج الحَرَائِر. وأمّا قولنا: "من حرٍّ" فلأَنَّ الإحصانَ معدومٌ معه قرَانًا، منصوصٌ عليه فيه. وأنا قولنا: "من بالِغٍ" فلأنَّ البالغَ يجبُ عليه الحدّ، وتجري عليه الأحكام. وأمّا الصَّبيَّ، فإنّه ساقطُ الاعتبارِ إجمالًا لأنّ إِيلَاجَه صورةُ وطءٍ لا معنَى لها. وأمّا "العقلُ" فقد تقدَّمَ الكلام فيه في قوله: "أَبِهِ جِنَّةٌ" في حديث مَاعِز (¬2). وأمّا قولنا: "في فَرجٍ" فلاتِّفاقِ الأُمَّة عليه، ولأنّه قد ذُكِرَ في الحديث: "أَغَابَ ذَلِكَ مِنكَ في ذَلِكَ مِنهَا كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ في الْمُكحُلَةِ" (¬3) وفي حديث اليهوديِّ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
قال لهم: "ائْتُونِي بِأعلَمِ مَنْ فِيكُم"، فَجَاؤُوهُ بابن صُورِيَا، فَنَاشَدَهُ: "هَلِ الرَّجْمُ في التَّوْرَاةِ؟ " فَقَالَ: نَعَم، إِذَا شَهِدَ أَربَعَةٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ قَد غَابَ في ذَلِكَ مِنْهَا كَمَا يَغِيبُ المِرْوَدُ في المُكحُلَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -عليه السّلام- بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا فَشَهِدُوا بذَلِكَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -عليه السّلام- بِهِمَا فَرُجِمَا (¬1). وأمّا قولنا: "مُشتَهىً طَبعًا" فبيانٌ لسقوطِ الحدِّ عن وطءِ البهيمةِ، لما رَوَى النّسائيُّ (¬2) وأبو داوُدَ (¬3) والتّرمذي (¬4)، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَجَدتُمُوهُ قّد وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقتُلُوهُ وَاقتُلُوا البَهيمَةَ" وقد تقدّم الكلام عليه وأنّه ضعيفٌ (¬5)، وتعلَّق به ابن حنبل (¬6). الحكم العاشر: وهو الحكمُ في اللَّواطِ اختلفَ العلّماءُ في هذا الباب على أقوالٍ، المنصورُ منها قولُ مالكٍ لصحّةِ متعلِّقِهِ. وقال الشّافعيُّ (¬7): هو ذِنَى يفترقُ فيه البِكْرُ والثَّيِّبُ. وقال أبو حنيفة (¬8): هو موضع أدبٍ يجتهدُ فيه الإمامُ فيضربُهُ بالسَّوطِ قَدرَ ما يراه رَادِعًا. ولا يرى أبو حنيفةَ والشّافعىّ أنّ يُجاوِزَ الأَدَبُ أكثرَ الحَدِّ. ورأى مالكٌ أنَّه يُرجَمُ بِكْرًا كان أو ثَيِّبًا، وهو أسعدُ الأقوالِ؛ لأنّ الله أخبرنا عن قومٍ فَعَلُوهُ وعن عقوبَتِهِ فيهم بالرَّميِ بالحجارةِ، فوجب أنّ يُتَّعَظَ بقولِه، وأن يُمتَثَلَ ما سبَقَ من فِعلِهِ، وهذا يَدُلُّك على ¬
أنّ مالكًا رأى أنّ شرعَ من قَبلَنَا شرعٌ لنا بلا خلافٍ، ألَّا تراهُ لم يختلف قولُه في البِكرِ أنّه يُرجَم كما رَجَمَ الله بِكرَهُم وثَيِّبَهُم. فإن قيل: قد رُجِمَ صغيرُهُم وكبيرُهُم، فارجموا إذنِ الصّغيرَ. قلنا: ارتفَعَ بذلك النَّصُّ، وَبَقِيَ الباقي على الظّاهر من الحُكْمِ. والحكمةُ في رَجمِ الصّغيرِ منهم أمران: 1 - أحدُهما: ما عُلِمَ منهم أنّهم كآبائهم، فَجَرَى عليهم عُقُوبَتهُم. 2 - وإما أخَذَ الكلِّ بعذابِ الدُّنيا، ثمّ يُحْشَرُ كلُّ أحدٍ على نِيَّتِهِ، على ما وَرَدَ في حديث الجيشِ الّذي يُخسَفُ به في البَيدَاءِ في آخر الزّمان (¬1). وأمّا الصحابةُ فقد علمت بذلك، قال (¬2) ابنُ حبيبٍ: كتب أبو بكرٍ أنّ يحرقوا بالنَّار، وفعلَ ذلك ابن الزّبَير في زمانه، وهشام بن عبد الملك في زمانه كذلك، وعمل به عليّ بالعراق، ولم يخطئ في ذلك كلّ من عمل بهذا الحكم. تفريع (¬3): وأمّا مَنْ وطىءَ امرأةً في دُبرِها، فحُكمُ ذلك كالزِّنا، قاله محمّد، ورواه ابن حبيب عن ابن الماجِشُون. ووجهه: أنّه أحد فَزجي المرأة كالقُبُل. فرع (¬4): والشهادةُ على اللِّواطِ كالشّهادة على الزِّنا أربعة شهداء، وبه قال الشّافعيّ (¬5). ¬
وقال أبو حنيفةَ: يثبتُ بشاهِدَينِ، فإذا ثبتَ لم يكن فيه إِلَّا التّعزير (¬1). ودليلنا (¬2): ما ذَكَرَهُ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "اقتُلُوا الفَاعِلَ والمَفعُولَ بِهِ" (¬3). ودليلنا أيضًا على أنّه لابدّ من أربعة شهداء: لأنّه معنًى يجبُ به الرَّجْمُ من غيرِ قِصَاصٍ، فلم يَثبُت إِلَّا بأربعةٍ كالزِّنَى. فرع (¬4): وأمّا المساحقتان من النِّساء، فحُكمُهُما الأدَب، وفي "العُتبِيَّة" (¬5) عن ابن القاسم: * ليس في عقوبتهما حَدٌّ، وذلك إلى اجتهاد الحاكم. وقال ابنُ شهابٍ: سمعتُ رجالًا من أهل العلم يقولون: يُجلَدَانِ مئة (¬6). والدّليل على صحة قول ابن القاسم*: أنّه بمعنى المباشرة؛ لأنّه لا يجبُ الحدُّ إِلَّا بالتقاء الخِتَانَيْنِ، وذلك غير مُتَصَوَّرٍ في المرأتين، فلَزِمَ به التّعزير. وقال أَصبَغُ: يُجلَدَانِ خمسين خمسين (¬7). والصّواب عندي أنّه موقوفٌ، مصروف على اجتهاد الإمام، كما قال ابن القاسم. الحكم الحادي عشر: اختلف علماؤنا في صلاة الإمام على المحدود، فقال الشّافعيّ (¬8): يصلّي عليه الإمامُ والناسُ. ¬
وقال سائرُ العلّماءِ من فقهاءِ الأمصارِ: لا يصلِّي الإمامُ على المحدودِ. وقدِ اختلفتِ الرواياتُ في الأحاديث المتقدمة، وفي بعضها: "ثُمَّ صَلَّى عَلَيهَا" (¬1) ولم يثبت ذلك (¬2)، وإنّما الثّابت ترك الصّلاة. واختلفَ النّاسُ في تعليل ذلك على أقوال متباينة: فقيل: إنّما صلَّى على الغامديّةِ لأنّها عرَفَتْ ما يجبُ عليها من الحدِّ، فلذلك صلّى عليها، وماعِزٌ إنّما جاء مُستَفهِمًا غير عارفٍ بما يجبُ عليه، فلذلك لم يصلّ عليه، وهذا قولٌ زائفٌ. ومن النَّاس من قال: إنَّ الحكمة فيه أنّ قتلَهُ غضبًا للهِ، فكيف يُصَلِّي عليه رحمةٌ، والرّحمةُ تناقِضُ الغَضَبَ، وهذا فاسدٌ؛ لأنّ الغضبَ قد انقضَى، وموضعَ الرّحمةِ قد تَعَيَّنَ. والنّكتةُ البديعةُ في ذلك: وهي أنّ الإمام إذا تركَ الصّلاةَ على المحدودِ كان ذلك رَدعًا لغيره. نكتةٌ صوفية: وهي من فوائد الذِّكر قال: كان بعضُ الصّوفية قد صلّى العشاءَ الآخرةَ خَلفَ رَجُلٍ من الأيِمَّة حَسَنِ الصَّوتِ، فسَمِعَهُ يقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} (¬3) فصَعِقَ، فلمَّا فُرغَ من الصّلاة وُجِدَ ميِّتًا، فجهَّزُوهُ يومًا آخَرَ، واحتملوه إلى قبرِهِ، ثمّ قالوا: من يُصَلِّي عليه؟ فقال بعضُ الصُّوفيةِ: يصلّي عليه من قَتَلَهُ، فاستحسنَ النَّاسُ هذه الإشارةَ، وقد أوردنا من هذا النوع عجائب في "كتاب الجنائز (¬4) " فليُنْظَر هنالك. الحكم الثّاني عشر: قوله (¬5): "وَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ". ¬
قال أبو حنيفةَ (¬1): الكفالةُ في الحدود مشروعةٌ لأجل ذلك، وقد اعتَضَدَ ذلكَ بعمل الخليفةِ عمرَ حين قال في الحديث المعروف: "وَكَفِّلهُم عَشَائِرَهُمْ" (¬2). وقال سائرُ العلّماءِ: الكفالةُ مشروعةٌ إلّا في الحدودِ. وليس لهم في ذلك حجّةٌ؛ لأنّهم يزعُمُونَ أنّ الكفاللهَ في البَدَنِ ليس لها تعلُّقٌ بالمالِ، ويقول مالك: إنَّ لها بالمال تعلُّقًا بَدَلًا عن البدَنِ إذا أُطْلِقَ، ولم يقل: ليست من المال في شيءٍ، ولو قال: لم يكن في ذلك حجّةٌ؛ لأنّ المال لو كان لازمًا في كفالةِ البَدَنِ لما جاز استئناؤه منه. وفائدةُ الكفالةِ أمران: 1 - إمّا إحضارُ المُطَالَبِ ليتكلّم عن نفسه أو يؤدِّي ما عليه. 2 - وإما قضاءُ ما عليه من المالِ. فيُتَصَوَّرُ في الحدود أحدُ المعنيينِ، فصارَ المذهبُ العراقيّ أقوى من المالكيّ. الحُكمُ الثَّالثَ عَشَرَ: لم يَسجُنْ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - الزَّاني حتَّى أقام الحدَّ عليه، واختلف العلماء في ذلك على قولين: 1 - أحدُهما: أنّه يجوزُ له الرُّجوعُ، فلأيِّ فائدةٍ يُسجَنُ، إنّما تَمَادَى على إقراره ليسترجِع أو لينزعَ، فإن نَزَعَ فلا يُتبَعُ. 2 - وقيل: إنّما لم يُسجَن لأنّ المدينَةَ كلَّها سِجنًا له، لم يكن للإسلام مستقرٌّ سواها فَيُخَافُ أنّ يختلِطَ المسجونُ بغيرِه. والتأويلُ الأوَّل أقوى. ¬
واختلف النَّاس في السِّجنِ هل هو قديم أو محدَثٌ: فقيل: أوَّلُ من أحدثه بنو إسماعيل كانوا إذا جنى أحد شيئًا أمسكوه (¬1). وقيل: إنّه قديمٌ على ما بينّاه في سورة يوسف (¬2). الحكم الرّابع عشر: قال الشّافعيّ وغيرُه: التوبةُ تُسقِطُ الحدَّ (¬3)، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية (¬4). ولأنّ الأُمَّةَ أَجمَعت على أنّ التّائبَ من الذّنبِ كمن لا ذنبَ له. وقال سائرُ العلّماءَ: لا تُسقِطُ التّوبةُ الحدَّ؛ لأنّ النَّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - حدَّ مَنْ تَحَقَّقنَا تَوبَتَهُ بِخَبرِهِ حين قال عنها: "إِنَّهَا تَابَت تَوبَةً لَوْ قُسِمَت عَلَى أَهلِ المَدِينَةِ لَكَفَتهُم" (¬5) وهذا نصٌّ. وقولُه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية (¬6)، نصٌّ في تلك النّازلة مخصوصٌ بها للمصلحة. فإنّ المرتفعَ في الجبل لو عَلِمَ أنَّ توبتَهُ لا تُقبَل لَغَمَّهُ ذلك ولم ينزل، فَشُرِعَت التّوبةُ استنزالًا له عن حَالِهِ، ورجاءً في إقلاعه ممّا هو فيه. توفية ومزيد إيضاح: قد بَيَّنَّا شروطَ الرَّجمِ، وذكرنا أنّ الإحصانَ من أوَّل شُروطِهِ وأولاها، وذكرنا الإِسلامَ وهو شرطٌ في صحّةِ الإحصانِ؛ فإنّه لا إحصانَ لمن لا إسلامَ له، إذ الإحصانُ كمالٌ وفضيلةٌ، ولا فضيلةَ مع الكفرِ. فإن قيل: قَد رجمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - اليهُودِيَين. قلنا: إنّما فعل ذلك لإقامةَ الحُجَّةِ عليهم من كتمان ذِكْرِهِ في التّوراة. ¬
فإن قيل: فكيف يُقيمُ الحُجَّةَ عليهم بما لا يراه حقًّا، وهو قد قيل له: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬1)، وليس من القِسطِ أنّ يُرجَمَ الكافرُ، وعلى هذا عوَّلَ الأيِمَّةُ من أصحابِ الشّافعيِّ بأنّ الإِسلامَ لا يُشتَرَطُ في الإحصانِ (¬2). قلنا: مَنْ فهِمَ مساقَ المسألةِ عَلِمَ وَجهَ الحُجَّةِ، وصورتُها: أنّ اليهودِيَينِ زَنَيَا، فلو شاء اليهوديُّ لما جاء إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، لأنّه لم يكن له حكمٌ عليهم بالشَّرطِ الّذي شَرَطَ لهم، ولكنّهم قالوا نمشي إليه حتّى نعلم حاله في الرَّجم، فإن حَكَمَ به فهو نبيٌّ، وإن مَرَّضَ (¬3) فيه فهو مُحتَالٌ. فلما مَثَلُوا بين يَدَيْه وسَرَدُوا عليه القصّةَ، فَهِمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الغَرَضَ، فقال: "أَنشُدُكُما الله، هل تجدونَ الرَّجْمَ في التّوراة؟ " قالوا: لا، قال: "فأتُوا بالتّوراةِ فاتلُوها"، فجاؤا بها، فوضَعَ أحدُهُم يَدَهُ على آيةِ الرّجم، وجعَلَ يقرأُ ما قبلَها وما بعدَها، فقال عبدُ الله بنُ سَلَامٍ: يَرفَعُ يَدَهُ، فإنّ آية الرَّجْم تَحتَ موضِعِ يَدِهِ، فرفَعَ يدَهُ فإذا آيةُ الرَّجْم تلوحُ، فقال: "ما حَمَلَكُم على ترك الرَّجم"، فذكر الحديث إلى آخره (¬4). فإن قيل: فلم اسْتَدعَى شُهُودَ اليهودِ؟ قيل: حتّى تقومَ الحُجَّةُ عليهم من قِبَلِ أنفُسِهم، فلا يقولون: عَجِلَ علينا محمّدٌ. فتبيّن عند عامّة اليهود على يدَي النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّ علماءهم في صِفَةِ من يَكتُمُ الحقَّ في كتابِ اللهِ، حتّى يُكَذِّبوهم في قولِهم: ليس ذكرُ محمّدٍ في التّوراة، فإذا لاحتِ الحقائقُ فَليَقُل المُتَعصِّبُ بعدَها ما شاءَ. تكملة من العارضة (¬5): بوَّبَ أبو عيسى التّرمذيّ (¬6): "باب رجم أهل الكتاب". قال الإمام: جاء اليهودُ إلى النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - مُحَكِّمِينَ له في الظَّاهرِ، ومُختَبِرِينَ لحَالِهِ في ¬
الباطن، هل هو نبيّ حقّ أو مسامحٌ في الحقِّ؟ واختلف العلماء كيف كان الحُكْمُ فيهم على ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّه حَكَمَ بينهم بحُكمِ المسلمين، وليس الإسلام شرطًا في الإحصان كما تقدّم. القول الثّاني: أنَّه حَكَمَ بينهم بشريعةِ موسى وشهادَةِ اليهودِ. الثّالث: قال في " كتاب محمّد": "إنّما حَكَمَ بينهم لأنّ الحدودَ لم تكن نَزَلت، ولا يُحْكَمُ اليوم إِلَّا بحُكْم الإسلام" وكذلك دليل القرآن، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية (¬1). الحكم الخامس عشر: قال الإمام: الجَلْدُ في الزِّنا إنّما هو حقٌّ للهِ يستوفيه نَائِبُه فيه وفي اْمثاله، ويقومُ به خليفَتُه عليه وعلى غيرِه، وهو الإمامُ أو مَنْ يقوم مقامَهُ. وهذا ممّا لا خلافَ فيه بين العلماء. ومن. العلماء أيضًا من أَجرَاهُ على عُمُومِه. ومنهم من خصَّصَهُ، فأخرجَ حدودَ العبيد عن حُكمِ الإمام وجعلها بأيدي السّادة، وهو الشّافعيُّ (¬2) ومالكٌ. وتعلّقوا في ذلك بأدلّة استوفيناها في "مسائل الخلاف " الحاضرُ الآن منها والأَقوَى فيها؛ أنّ الكلَّ كان بيدِ النَّبيِّ -عليه السّلام-، فاستناب النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - السَّادَةَ عليه، فقال: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُكُم، مَنْ أَحْصَنَ مِنهُم وَمن لَمْ يُحْصِن" خرجه مسلم في "صحيحه" (¬3)، والنَّسائي (¬4)، وأبو داود (¬5). وقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من الصّحيح المتَّفَقِ عليه (¬6): "إِذَا زَنَت أَمَةُ أَحَدِكُم، فَاجلِدُوهَا الحَدَّ وَلَا تَترُكُوهَا" وهذا نصٌّ، وليس للقوم عليه كلامٌ ينفَعُ، فلا نطوِّلُ عليكم بذِكْرِه في هذه ¬
باب ما جاء في القذف والنفي والتعريض والتعزير
العُجالة. ولهذا الباب أحكامٌ وفروعٌ كثيرةٌ تتفرع عليه، أضربنا عنها لِئَلَّا يطول الكلام، والله الموفّق. باب ما جاء في القَذف والنّفي والتّعريض والتّعزير الأصول (¬1): قال الإمام: لا خلافَ أنّ الله تعالى جعَلَ الأعراضَ ثُلُثَ الدِّينِ في أبواب المَنهِيَّاتِ، وصانَها بالتّغليظِ فيها رَجمًا في الفَرجِ، فإنّه من العِرضِ، وحدًّا في النَّسَبِ؛ لأنّه سببٌ من أسبابِ الأحكام، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية (¬2)، فصانه تعالى بالحدِّ، وقَصَرَ به عن الزِّنَا، ليُبَيِّنَ تَفَاوُتَ المراتبِ في المعاصي والفحشاء. والرِّمْيُ (1) الّذي يُوجِبُ الحدَّ: كلُّ ما عَادَ إلى الفَرجِ، وغيرُ ذلك ففيه الأدبُ من السَّبِّ والإذاية، إِلَّا أنّ الشّريعة ألحقت حُكمَ الولاءِ بِحُكم الفَرجِ في أن جعلتها قطعةً منه، لقوله - صلّى الله عليه وسلم - في الصّحيح: "الْوَلَاءُ لُحمَة كَلُحمةِ النَّسَبِ" (¬3) فإذا وقع النّفيُ فيه، جَرَى الحدُّ عليه، إنزالًا له في تلك المنزلة. وزادَ مالكٌ - رحمه الله - على الفقهاء التّعريضَ (¬4)، فجعلَ له حُكْمَ* التّصريح، فقال: لأنّه قول يُفْهَمُ منه القَذْفُ، فوجَبَ فيه* الحدُّ؛ لأن أصلَهُ التّصريحُ، لا سيّما والكنايةُ عند العرب أبلغُ في المُخَاطباتِ من التّصريحِ، وخالفَ في ذلك الشّافعيُّ (¬5) وأبو حنيفةَ (¬6)، وفي ذلك منهما عَجَبَانِ عظيمانِ: ¬
أمّا أحدُهما، فلا عُذرَ للشّافعيِّ في إسقاط الحدِّ في التّعريضِ؛ لأنّه عربيٌّ فصيحٌ لم يَخْفَ عليه ما في الكناية من الإفهام، فإنّها أبلغُ من صريحِ الكلامِ. وأمّا أبو حنيفةَ (¬1)، فهو أعجمِيٌّ، فلا يُستَنكَرُ عليه الجهلُ بهذه المسألة، فأراد أنّ يتفصَّحَ ويتفقَّهَ ليُثبِتَ دعواهُ في العربيّةِ، فقال: لو قال رجلٌ لامرأةٍ، زَنَأْتِ في الجَبَلِ، وجبَ عليه الحدُّ، والزُّنُوءُ هو الرُّقِيُّ، فخاف أبو حنيفةَ أنّ يريدَة زنيتِ، فيأتي بالهمز ليُخْفِيَ السَّبِّ، وهذا رجوعٌ إلى مذهب مالك في إيجاب الحدِّ بالتّعريضِ. وفروعُ القذفِ والتّعريضِ كثيرةٌ، أطنبَ فيها أهلُ كتب المسائل وأصولها، ولُبابُها ثلاثون، ومسائل القَذفِ كثيرةٌ: المسألة الأولى (¬2): اختلفَ العلّماءُ في حدِّ القذفِ، فمنهم من قال: هو حقٌّ لله تعالى، قاله أبو حنيفة (¬3). وقالت طائفةٌ: هو حقٌّ للآدميِّ. *وعن مالك الروايتان، والمشهورُ أنّه حقٌ للآدمىِّ* (¬4). وقد بيَّنَّا في "صريح الخلاف" و"تلخيصه" أنّ فيه شائبةَ حقِّ لله، وشائبةَ حقٍّ للَآدميِّ، إِلَّا أنّ المُغَلَّبَ شائبةُ حقِّ الآدَمِيِّ، والمعوَّلُ لمن قال: إنّه حقُّ الآدَمي، وقوفُ استيفائه على مُطَالبةِ الآدَمِيِّ. وليس للقومِ مُتَعَلَّقٌ، إِلَّا أنّهم قالوا: لو كان حقا للآدَميِّ لَمَا تَشَطَّرَ بالرِّقِّ والحريةِ. قلنا: قد يتشطَّرُ حقُّ الآدميِّ بالرِّقِّ والحريّة كالنِّكاح والطلاق. ¬
فإن قيل: لو كان حقًّا للآدميِّ لجازَ إسقاطُه بالعَفوِ كالقصاص. قلنا: كذلك نقولُ في إحدى الرِّوايتَينِ: بجواز العفو فيه مطلقًا، والقولُ بالعَفوِ إذا أراد سترًا ضعيفٌ، وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف". المسألة الثّانية (¬1): اتّفق علماءُ الامصارِ على أنّ القاذفَ إذا تابَ قُبِلَت شهادتُه، وخالفَهُم أبو حنيفةَ (¬2)، أخذًا بظاهر مُطلَقِ قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬3). قال الإمام: وعَجَبًا له، كيف تعلَّق بهذا! أَوَ لَمْ يبقَ له في الدِّين ظاهرًا إِلَّا تَرَكَهُ، فلم يَبقَ عليه إِلَّا مراعاةُ هذا، ولو راعاه كما يَجِبُ لقال: إنَّ التّوبةَ تعملُ فيه، لقوله بعدَ ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية (¬4)، وهذا الاستثناءُ راجعٌ إلى جميع ما تَقدَّمَ قبلَهُ. وقال أبو حنيفةَ: يرجِعُ إلى أقرب مذكورٍ كالضّميرِ. والَّذي أَوجَبَ عليه هذا قِلَّةُ مَعرِفَتِهِ باللُّغةِ، فليس يمتنعُ في الاستثناءِ المُتَعَقَّبِ للجُمَلِ أنّ يَرجِعَ إلى جميعِها. فإن قيل: لو رجَعَ إلى الجميع لسَقَطَ الجلدُ بالتّوبةِ. قلنا: إنّما تُؤَثِّرُ التّوبةُ في إسقاطِ حقوقِ الله إجماعًا، وقد لا تُؤَثِّرُ فيها كما تقدَّم في "مسائل الخلاف". المسألة الثّالثة (¬5): قوله (¬6): "إِنَّ عُمَرَ بن عبد العزيز جَلَدَ عَبدًا في فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ"* الفِريَةُ: هي الرَّميُ، وحدُّ الحُرِّ فيه ثمانونَ جَلْدَةً*، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ ¬
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1) فرأى عمر أنّ حد العبدِ في الفِريةِ كحد الحُر، وهذا يخالِفُ ما رُوِيَ عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطّاب وعثمان والخلفاء، إلى زمنه، كانوا يجلدون العبدَ في القَذْفِ أربعين، نصفَ حدّ الحُرِّ (¬2). وقال به مالك في العبد ومن فيه بقيّة رِقٍّ. ودليلُنا: أنّه حدّ يتبعَّضُ، فكان حدُّ الحُرِّ ثمانين، وحدُّ العبدِ نصف حدّ الحرّ، كحدّ الزِّنَا. المسألة الرّابعة (¬3): قول مصباح (¬4) لابنه: "يَا زَانِي" قَذفٌ له، وكذلك مَنْ قال ذلك لغيره فإنّه قاذفٌ له. فإن قال: أردت أنّه زَانِيءٌ في الجَبَلِ (¬5). قال أَصبَغٌ: عليه الحدّ ولا يُقْبَلُ قولُه (¬6). وقال ابنُ حبيب: يحلفُ. وقال مالك: يُجْلَدُ الأبُ لقَذْفِ ابنه بما يخصّه من القَذْفِ، وبه قال أصحابُ مالك، إِلَّا ما رَوَى ابنُ حبيبٍ عن أَصْبَغ: أنّه لا يُحَدُّ الأبُ به أصلًا، وبه قال أبو حنيفة (¬7)، والشّافعيّ (¬8). ودليلُنا: قولُ مالكٍ، ووجهُ تعلُّقِهِ: أنّه يُقْتَل به إذا أقرَّ بقتله، وكذلك يُحَدُّ بقذفه إذا ¬
كان محصنًا كالأجنبيّ. وقول أَصبَغ يحتمِلُ أنّ يكونَ مبنيًّا على قول أَشهَب: لا يُقتَلُ الأبُ بابنِهِ. فإذا قلنا: إنّه يُحَدُّ به؛ فإنّ ذلك يُسقِطُ عدالةَ الابنِ، رواه محمّد، وتعلّق بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬1). المسألة الخامسة (¬2): ومَن قذفَ مجهولًا فلا حدَّ عليه، قاله محمّد. ولو قال رجلٌ لجماعة: أحدُكُم زانٍ، لا حدَّ عليه؛ إذ لا يعرف من أراد. وإن قاموا بذلك، فقد قيل: لا حدَّ عليه، وإن قام به أحدهم فادّعى أنّه أراده، كُلِّف البيان. ولو عرف من أراد، لم يكن للإمام أنّ يحدَّه إِلَّا بعد أنّ يقوم عليه، ومعنى ذلك: أنّ القذفَ من شروط وجوبه أنّ يقوم به وليّه. وكذلك لو سمع الإمام رَجُلًا يقذف رَجُلًا لم يكن عليه أنّ يعرفه، فإذا قام به وثبت عنه، تعلَّقَ به حقّ الله، ولم يكن لِوَلِيِّهِ العفو عنه. المسألة السّادسة (¬3): وقولُه (¬4) في قاذف الجماعة: "لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حدٌّ وَاحِدٌ" وبه قال مالك وأصحابه (¬5)، سواء كانوا مجتمعين أو مفترقين، فحدّ لهم أو لأحَدِهِم. ووجهه: أنّه حدٌّ من الحدود متداخِلٌ كحدِّ الزِّنا والسّرقة، وبهذا فارقَ حقوقَ الآدميِّين فإنّها لا تتداخل. وقال ابنُ القاسم في "العتبية" (¬6): من قذف قومًا وشرِبَ خمرًا إنّه يجزئه حدٌّ واحدٌ. ¬
فزع (¬1): ومن قَذَفَ فجُلِدَ، فلم يكمل جلده حتّى قَذَفَ آخر، فقال ابن الماجِشُون (¬2): إنَّ كان إنّما مضى مثل السَّوطِ أو الأسواط اليسيرة - قال أَشهَب: والعَشرةُ يسيرةٌ - قال ابن الماجِشون: فإنّه يتمادى وُيجْزِئهُ لهما. وقال ابنُ القاسم في "الموّازية": إذا جلد من الحدِّ الأوَّل شيئًا، ثمّ قَذَفَ ثانيًا، فإنّه يستَأنِفُ من حينِ الثّانية، وبه قال رَبِيعَة. وإن بقي مثل الأسواط أو السّوط أتمّ، ثمّ ابتدأ في حدٍّ ثانٍ. قال محمّد: إذا لم يبق إِلَّا اليسير مثل العشرة والخمسة عشر، فليتمّ الحدّ ثمّ بستأنف. وقال أَشهَب: إنَّ ضُرِبَ نصف الحدّ أو أكثر أو أقلّ قليلًا، فليأتنف من حينئذ. وقال ابن الماجِشُون: كان مضت الثّلاثون أو الأربعون ونحوهما، ابتدأ لهما. قال الإمام: فيجيء على قول أشهب أنّه على ثلاثة أقسام: 1 - قسمٌ: إذا ذهب اليسير تمادَى وأجزأ لهما. 2 - وقسمٌ ثانٍ: إذا مضى نصفُ الحدِّ أو ما يقربُ منه، استُؤنِف لهما الحدّ. 3 - وقسمٌ ثالثٌ: إذا لم يبق إِلَّا اليسير من الحدّ الأوّل، فيتمّ ويستأنف الثّاني. وأمّا على مذهب ابنِ القاسمِ فعلى قسمين: أحدُهما: أنّه متى مضَى من الحدِّ الأوّل شيءٌ، أنّه لا يستانف من حين القذف (¬3) لهما، ولا يحتسب بما مضى من الأوّل. والثّاني: إنَّ بَقِيَ اليسير، فيتمّ حدّ الأوّل، ويستأنف الحدّ الثّاني، فلا يتداخل الحدّان. ¬
تركيبٌ وفروعٌ (¬1): قال (¬2): ولو أعطاه دينارًا على أنّ يعفُوَ عنه، قال مالك في "العتبية" (¬3): لا يجوزُ ذلك، ويُجْلَدُ الحدِّ. ووَجهُهُ: أنّه حقّ لله تعالى، فلا يسقط بمالٍ، كالقطعِ في السَّرِقَةِ. فرع: ولو قذفَ إنسانٌ إنسانًا، فللمَقْذُوف أنّ يكتب له كتابًا أنّه متى شاء تام به، قاله مالك في "الموّازية" ثمّ قال: وإني لأكرهه، ومعنى ذلك عندي: قبل أنّ يبلغ الإمام، فإذا بلغ الإمام، فإنّه يقيمُ الحدَّ ولا يُؤخّره، وقد رأيتُ لمالكٍ نحوَهُ، وقال: إذا أخّره فإنّه يُشْبِه العْفوَ. فرع: ومن أقام بيّنةً على قاذِفِهِ عند الإمامِ، ثمّ أكذبهم وأكذَب نفسَهُ، ففي "الموّازية": لا يُفبَلُ منه ويُحَدُّ القاذف: لأنّه إسقاطٌ للحدِّ كالعَفوِ. وإن صَدَقَ القاذِفُ وأقرَّ على نفسه بالزِّنَا، قال أصْبَغُ (¬4): إن ثبتَ على إقرارِه حُدَّ للزِّنا، ولم يحدّ القاذف. فرع: ومن قال لرجل: يا زوج الزّانية، وله امرأتان، فعَفَت إحدَاهُما وقامت الأخرى تطلبه، ففي "العتبية" (¬5) و"الواضحة" عن ابن القاسم: يحلف ما أراد إِلَّا الّتي عفت ويبرأ، فإن نَكَلَ حُدَّ. ¬
المسألة السّابعة (¬1): في التّعريض قال الشّافعيّ (¬2) وأبو حنيفة (¬3): ليس في التّعريض حدٌّ. ودليلنا: ما استدلّ به عبد الوهّاب (¬4) أنّه لفظٌ يُفهَمُ منه القَذْف، فوجب أنّ يكون قَذفًا، أصله التّصريح. فإن منعوا أنّ يكون قَذفًا، فقد أحالوا المسألة. وهذه المسألة تتركّب عليها جملة فروع: الأوّل: لو قال في مُشَاتَمَتِهِ: إنِّي لعفيف الفَرْجِ (¬5)، ففي "الموّازية": يُحَدُّ، وقال ابن الماجِشُون: إنَّ قاله لآخر حدّ (¬6)، إِلَّا أنّ يدَّعي أنّه أراد عفيفًا في المكسب، فيحلفُ ولا حدَّ عليه وَيُنَكَّلُ؛ لأنّ المرأة لا يعرض لها بذِكرِ العفاف في المكسب بخلاف الرَّجُل. ومن قال (¬7) في مشاتمته: إنَّك لعفيف الفَرْجِ ففي "الموّازية": حُدَّ. قال ابن القاسم: ومن قال: فعلتُ بفلانةٍ في أعكأنّها وبين فَخِذَيها، حُدَّ. وقال أشهب: لا يُحَدُّ. ووجه قول ابن القاسم: أنّ ما قال هو من التَّعريضِ بل هو أشدَّ. ووجه قول أشهب: أنّه لا يُفهَمُ منه الجِماع، فلا يجب به الحدّ، وإنّما يجب الحدّ على من قَذَفَها بما يُوجِبُ الحدّ، وهو ضعيفٌ في النَّظَرِ، والأوّل أقوى عندي (¬8). ¬
فرع (¬1): ومن قال لرَجُلٍ: يا ابن العفيفة، قال ابنُ وهب: بلغني عن مالك أنّه قال: يحلف أنّه ما أراد القَذْفَ، ويعاقَب. وقال أَصْبَغُ: إنَّ قاله على وجهِ المشاتمة حُدَّ. فرع (¬2): ولو قال له: مَا لَكَ أَصْلٌ ولا فَرعٌ، ففي "العتبية" (¬3) عن مالك: لا حدَّ في هذا. وقال أَصبَغ: عليه الحدّ. وقيل: لا حدَّ عليه إِلَّا أنّ يكون من العرب ففيه الحدّ. ووجه الأوّل: أنّه لمّا نَفَى صفة أصله احتمل أنّ ينفي بذلك الشّرف، وأمّا أصله فمحال نفيه؛ لأنّه ما من أحدٍ إِلَّا له أصلٌ. والوجه الثّاني: أنّ اللَّفظَ يقتضي نفي النَّسَبِ وهو الأصل، وذلك يُوجِبُ الحدَّ. والوجه الثّالث: أنّ العرب هي الّتي تماسكت بالأنساب وحافظت عليها دونَ العَجَمِ. فرع (¬4): ومن قال: يا ابن منزلة الرّكبان، ففي "الواضحة": أنّه يُحَدُّ، وكذلك من قال: يا ابن ذات الرّاية، عليه الحدّ؛ لأنّ نساء الجاهليّة، كُنَّ ينزل عليهنّ الرّكبان لأجل الرّايات المُوضَعَة لعلّامة الزِّنَا. فرع (¬5): ومن قال لرجل: أنا أفتري عليك، وأنا أقذفك، فلا حدَّ عليه، ويحلف أنّه ما أراد ¬
الفاحشة. قال الإمام: وهذا في الأجانبِ، وأمّا الأبُ، فقال مالكٌ: لا يُحدُّ في التّعريضِ بابْنِهِ؛ لأنّ بُنُوَّتَه عليه تمنعُ من ذلك. قوله (¬1): "وَالرَّجُلُ يَنفِي الرَّجُلَ عَنْ أَبِيهِ، عَلَيْهِ الحَدُّ" وذلك إذا نفاه عن أبيه بأن يقول له: لستَ ابن فلان (¬2)، وكذلك لو قال: لست لأبيك. فرع (¬3): ومن نسبَ رجُلًا إلى غير أبيه أو غير جدَّه، فقال ابن القاسم: يُحَدُّ، وإن لم يقله على سِبَابٍ ولا غضبٍ، إلّا أنّ يقوله على وجه الإخبار. وقال أشهب: لا يُحَدُّ، إِلَّا أنّ يقولَهُ على وجه السِّباب؛ لأنّه قد يقوله وهو يريد أنّه كذلك. ولو نَسَبَهُ إلى جدِّه في مشاتمةٍ، لم يحد، قاله مالكٌ (¬4) وابنُ القاسمِ (¬5). وقال أشهب: يُحَدّ. قال محمّد: قول ابن القاسم أحبّ إليّ، إِلَّا أنّ يعرف أنَّه أراد القَذْفَ، مثل أنّ يتّهمَ الجدّ بأمّه ونحوه، وإلّا لم يُحَدّ. ¬
فرع (¬1): ولو نَسَبَهُ إلى عمِّ أو خالٍ، فعليه الحدّ عند ابن القاسم. وقال أشهب: لا حدَّ عليه، إِلَّا أنّ يقولَهُ في مشاتمةٍ (¬2). قال أَصبَغُ: وقد سمّى الله العمّ أبا فقال: {أَنَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الآية (¬3). فرع (¬4): ولو قال له: يا ابنَ البَربَريِّ أو النّبطيِّ، فإن قاله لعَرَبِيِّ فعليه الحدّ (¬5)، فإن قاله لمَولَى، *فقد قال ابن المَاجِشُون: إنَّ قال له: يا ابن البربريّ وأبوه فارسيّ*، فلا حدّ عليه في البياض كلّه. وان كان أبوه أسود فلا شيءَ عليه في السّواد كلّه، إذا نَسَبَهُ إلى غير جنسه من السّودان، إلّا أنّ يكون أبيض فيكون ذلك نفيًا ويُحَدُّ، مثل أنّ يقول للأسود: يا ابن الفارسي، فإنّه يُحَدُّ. وفي "الموّازية": من قال لمولىً: يا ابن الأسود، حُدَّ. ولو قال له: يا ابن الحبشيّ، لم يحدّ؛ لأنّ من دعا مولىّ إلى غير جنسه لم يحدّ، وإن دعاه إلى غير لونه وَصِفَتِه حُدَّ. فرع (¬6): ولو قال لرجل (¬7): يا ابن اليهوديّ، أو النّصرانيّ، أو عابد وَثَن، فقال ابنُ ¬
القاسم (¬1): يُحَدُّ، إِلَّا أنّ يكون في آبائه من هو كذلك، يريد في قوله: يا ابن كذا، فإنّه يُنَكَّل. وقال أشهب: لا يُحَدُّ إذا حلف أنَّه لم يُرِدْ في قوله نَفْيًا. ولو قال يا ابن الحفاظ أو الحانك أو الحَجَّام، ففرَّقَ ابن القاسم وابن وهب؛ أنّه إن كان عربيًّا حُدَّ، إِلَّا أنّ يكون ذلك في آبائه من هو كذلك. وقال أشهب: هما سواء ولا حَدَّ عليه، ويحلف ما أراد نَفْيًّا. فرع: ومن قال لآخر: يا مُخَنَّث، لزمه الحدّ والأدب، ومن قال لرجل: يا حمار، فقد اختلف فيه: فقيل: عليه الأدب. وقيل: التّعزير (¬2). نكتةٌ لغوية: التّعزير عندنا: ما لا يبلغ الحدّ. وقال بعض أهل اللُّغة: العزر في اللُّغةِ معناه: المنع والردّ عن الشّيء، فقولك: عزرت فلانًا إذا أدَّبته، معناه أنَّكَ فعلت به ما يردّه عن القبيح ويمنعه منه، ومنه قوله: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} الآية (¬3) يريد: رددتم عنهم. قال أبو عبيد (¬4): التّعزير: أَصْلُه التّاديب، وقد يكون التّعزير في مواضع أُخر تعظيم الرَّجل، ومنه قوله تعالى: {وتعزروه وتوقروه} الآية (¬5). ¬
باب ما لاحد فيه
بَابُ مَا لَاحَدَّ فِيهِ الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله (¬2): "في الأمَةِ يَقَعُ بِهَا الرَّجُلُ، وَلَهُ فِيهَا شِركٌ" هذا على ما قال (¬3)؛ لأنّه لا حدَّ عليه فيه، سواء كانت تلك الحِصَّة قليلة أو كثيرةٍ، أو كان الباقي منها لِواحدٍ أو لجماعة، وذلك أنّ حصّة الّتي يملك منها شبهة تسقط عنه الحَدَّ. المسألة الثّانية (¬4): فلو كان بعضها له، وبعضها حرٌّ، ففي "الموّازية": لا يُحَدُّ. ووجهه: أنّ له فيها شِركًا يُوجِبُ بها أحكام الرِّقِّ، كالتي نصفها رقيقٌ لغبره. المسألة الثّالثة (¬5): ولو تزوّج بِأَمَةٍ فوطئها قبل البناء بزوجته، فقال ابن القاسم: لا حَدَّ عليه. قال أَصْبَغُ: وكذلك لو أصدقها دراهم فتجهَّزَت فيها بخادمٍ فَزَنَى بها الزّوج قبل البناء بزوجته، هما سواء. وقال عبد الملك وأشهب: عليه الحدّ. توجيه: فوجه القول الأوّل: أنّ الزوجة تملك بالعَقدِ نصف الأَمَة، إنّما تملك النِّصف الآخر بالبناء، ولذلك قال ابنُ القاسم: إن وَطِئَها بعد أنّ بَنَى بها فهو زَانٍ يُرجَم. والقول الثّاني: مبنيٌّ على أنّ الزّوجة تملك جميعها بالعَقْدِ، ولذلك قال أشهب: لو أراد أنّ يتزوّج أَمَتَهُ الّتي أصدق قبل البناء بامرأته كان له ذلك. وقد اختلف قول مالك في هذا الأصل، وقد تقدَّم بيانه وكشفه في كتاب النِّكاح، فلينظر هنالك. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): قوله في هذا الباب (¬2): "ويُلحَقُ الوَلَدُ بِه" يريد: في النَّسب ويعتق عليه. أمّا قولنا: على أنّ القيمة تلزمه؛ لأنّ الولد لاحق به بالوطء. وأنا على قولنا: يوم الحكم؛ فلأنّ حصّة منه تعتق عليه، فيعتق عليه الباقي بالسّراية والاستيلاء. ولذلك قال مالك في "الموّازية": ويتبع الواطىء بنصف قيمة الولد. وتُقَامُ عليه الجارية حين حملت، وهي: المسألة الخامسة (¬3): قال (¬4): "وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ إِذَا حَمَلَتْ" (¬5) هو على ما قالَ، فلا يخلو إذا وطئها من أنّ تحمل أو لا تحمل، فإن لم تحمل، ففي "الموّازية" أنّ الشّريك مخيَّرٌ في قول مالك وأصحابه، يريد: بين تقويمها على الواطىء، وبين الاستمساك بها وبقائها على حكم الشّركة. وقد قال مالك: إنَّ لم تحمل بقيت بينهما. فإن لم يشأ الشَّريك أنّ يقومها، فقد قال محمّد عن ابن القاسم: لا شيءَ عليه في نقصها (¬6). فإن حملت -وهي مسألة الكتاب- فإنّه لابدّ من التّقويم، قال محمّد: شاء الشّريك أو أَبَى (¬7). ¬
المسألة السّادسة (¬1): قال (¬2): فإن كان (¬3) معدمًا، ففي "الموّازية" عن مالك: تكون حِصَّةَ الواطىءِ منهما بحكم أمّ الولد، والباقي رقيق لشريكه، وقد كان مالك يقول: تُقَوَّمُ عليه في عَدَمِهِ ويتبع (¬4)، وإليه رجع ابن القاسم. ووجهه: أنّ الاستيلاد قد سَرَى في جميعهما، فكان أقوى من العِتقِ الّذي اختصّ بحصّته منهما. المسألة السّابعة (¬5): قوله (¬6): "فِي الرَّجُلِ يُحِلُّ لِلرَّجُلِ جَارِيَتَهُ": يريد: أَطلقَ له ذلك وأذِنَ له فيه مع تمسُكِّه برَقَبَتِها، وهذا يكون بعَقدٍ يقتضي الإباحة كعَقْدِ النِّكاح، وقد يكون بغير عَقدٍ، فأمّا إذا كان بعقد النِّكاح مثل أنّ يزوَّج أَمَتَهُ منه على أنّها أَمَته ويسلّمها إليه، فإنّه مباح، وما ولدت فهو رقيقٌ للسيِّد. ولو زوّجَها منه وقال له: هي ابنتي، فولدت من الزّوج، فلا حدَّ عليه (¬7)، والولدُ حُرٌّ وعليه قيمتُه يومَ الحُكمِ (¬8)؛ لأنّه وطءٌ بشُبهَةٍ، ودخل على حرِّيَّة وَلدِه فلا يسترقّون، ولمّا كانت أمّهم أَمَة، كان على الأب قيمتهم في النِّكاح، كالّتي غرت من نفسها، وللّزوج أنّ يتمسّك بنكاحها، وعليه جميع المهر، وما ولدت بعد معرفته فهو رقيقٌ أو يفارق، ولا يكون عليه من المَهرِ إِلَّا الرُّبع. ¬
فرع (¬1): ولو زوج منه ابنته، فأدخل عليه أَمَتَهُ على أنّها هي، فإنّها تكون أمّ ولد إنَّ حملت، وتكون عليه قيمتها يوم الوطء حملت أو لا، ولا قيمةَ عليه في الولد. ولو علم الواطىء أنّ الّتي وطىءَ غير زوجته، فلا حدَّ عليه. المسألة الثّامنة (¬2): وأمّا إذا أباح له وَطأَها بغير عَقدٍ، مثل أنّ يقول: تطؤها عُمرَكَ ورَقَبَتُهَا لي، فإنّ هذا ليس بإحلال على الحقيقة؛ لأنّ العَقدَ غير حلال، ولكنه إِذنٌ في الوطىءِ. وفي "كتاب ابن سحنون": أنّ الواطىء يلزمه قيمتُها يوم الوطىء ولا ترجع إلى ربِّها، كان للواطىء مالٌ أم لا، ويتبعه في عَدَمِه، فإن حملت به فهي أمّ ولد. فرع (¬3): وإذا اشترى جاريةً للآمر (¬4) ببيِّنة ولا أَشهَدَ، ثمّ وطئها فحملت، فهو زانٍ (¬5). ¬
كتاب السرقة والقطع
كتاب السّرقة والقَطْع قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية (¬1)، فهذه الآية عامّةٌ في كلِّ سَرِقَةٍ كيف ما وُجِدَت، وعلى أيِّ حالةٍ جَرَت، إِلَّا أنّ الشّريعة خصَّصَتْها بخصائصَ، وعَقَدَتها بمَعَاقِدَ، ولمّا قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لم يُوَقِّت في كم من السّرقة تُقطَع اليد؟ وفي هذا الكتاب أربعةَ عشرَ مَعْقِدًا (¬2): المَعقِدُ الأوَّل: قالت طائفةٌ: يتعَلَّقُ القطعُ في السّرقةِ بقليل المال وكثيره، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسرِقُ البَيضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقطَعُ يَدُهُ" (¬3) وهذا حديثٌ صحيحٌ. وتعلّقت به طائفةٌ من الخوارجِ، والعمل به. قال ابنُ قتيبة (¬4): المرادُ بالبيضةِ بيضةُ الحديد، والمرادُ بالحَبلِ حبلُ السَّفينةِ (¬5)، وابنُ قتيبةَ هَجُومٌ وَلَّاجٌ على ما لا يُحسِنُ، ولَيتَهُ يُخطِىءُ في البيضِ والحِبَالِ، ولا يُخْطِىءُ في صفاتِ ذي الجلالِ والإكرامِ. وعَضَدَ ذلك بعضُهُم بحديث يُروَى عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّه ¬
قَطَعَ في بَيضَةٍ قيمتُها ثَلَاثُونَ دِرهَمًا (¬1)، وهذا الحديث لا يُسَاوِي سَمَاعَهُ. وإنّما معنى الحديثِ تحقيرُ العبد المُتعرِّضِ للسّرقةِ المُتَلَبِّسِ بدناءتِها، المُتَوَصِّلِ من قليلِها إلى كثيرِها، فإنّ الخيرَ عادةٌ، والشّرِّ لَجَاجَةٌ، ويعودُ ذلك إلى ضرب المَثَلِ، وذلك كثيرٌ في الشّريعة في تحقير المُحَقَّرِ وتعظيم المُعَظَّمِ، كقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَنَى للهِ مَسجِدًا ولو مثل مَفحَصِ قَطَاة بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ" (¬2) والمرادُ بذلك: المبالغةُ في تعظيم ثواب المساجد مع صِغَرِ بنائها. ووجه المَثَلِ: أنَّ مَنْ بني للهِ مسجدًا لا يصَلِّي فيه إِلَّا واحدٌ كأُفحُوصِ القَطَاةِ الّتي لا يَسَعُ سواها. سَردُ أحاديث هذا الباب: خرّجَ الأيمّةُ (¬3) عنِ ابنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَطَعَ في مِجَنِّ ثَمَنُهُ ثَلَاثةُ دَرَاهِمَ. وخرّج البخاريّ (¬4) ومسلم (¬5) عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا قَطعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وعليه عوَّلَ مالكٌ. وروت عَمرَةُ ابنَةُ عَبدِ الرَّحمَانِ؛ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ في زَمَانِ عُثمَانَ بن عَفَّان أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أنّ تُقَوَّمَ، فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ من صَرفِ اثنَي عَشَرَ دِرهَمًا بِدِينَارٍ. فَقَطَعَ عُثمَانُ يَدَهُ (¬6). ¬
والأُترُجَّةُ كانت ممّا تُؤكَل، كذلك قال غيرُ واحدٍ من العلّماءِ (¬1). تنبيه على وهم (¬2): قال ابنُ شعبان: كانت أُترُجَّة من ذهب مثل الحِمَّصَة، وظاهرُ الحديثِ على خلاف ما قال، وذلك أنّ عثمان أمر بتقويم الأُترُجَّة، ولو كانت من ذهب ما أَمَرَ بتقويمها وإنّما كان يأمر بوزنها؛ لأنّ الذّهب لا يُقوَّمُ بغيره؛ لأنّه ثمن للأشياء، وإنّما يُعتبَرُ بنفسه لا بغيره. وهذا لا خلافَ فيه؛ لأنّ الذّهب يُعتَبرُ وَزنُه (¬3)، فكان النّبيُّ المُبَيِّنُ عن الله في مقدار ما تُقطَعُ فيه اليد. المَعقِدُ الثّاني: قالت طائفة لا يُؤبَهُ بها: إنَّ القطعَ لا يقفُ على أخذِ المالِ من الحِرْزِ، لعموم هذه الآية، وهي مُصَادمةٌ للإجماع السّابق من الأُمَّة قبلَهم، مع أنّه ورد أمران: أنا الأوّل: فإنّ السّرقةَ تقتضي أنّ يكون معها من يحفظُها، بخلاف الآخذ. وإذا لم يكن هنالك حافظ لم يكن هنالك سارقٌ. ولأجل هذا لم يُعَدَّ آخِذُ المالِ المُلقَى على الطّريق أو المطروح في المفَازَةِ سارقًا؛ لأنّه لم يكن له حافظٌ. والثّاني: قولُ النّبيّ -عليه السّلام-: "لَا قَطعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ، إِلَّا مَا آوَاهُ الْجَرِينُ" (¬4) ¬
فَشَرَطَ في وجوب القطعِ وَضع المالِ في مَوضِعِ الحِفْظِ. المَعقِدُ الثّالث: القول في النِّصاب لَمَّا ثبت الفرقُ بين قليلِ المال وكثيرِه في وُجوبِ القطعِ، تَعَيَّنَ الوقوفُ على مقدارٍ يتعلَّقُ به الحُكمُ وَيرتَبِطُ به التَكليفُ. فلو وَكَّلَتهُ الشّريعةُ إلى الاجتهادِ لجازَ، ولكنَّ البارىءَ تعالى تولَّى بيانَ حُكْمِهِ على لسانِ رسوله، فَقَدَّرَهُ برُبُعِ دينارٍ من نصاب الذَّهبِ، وثلاثة دراهم من نصاب الفضّة، كذلك ادّعتِ المالكية (¬1). وقالت الشّافعيّةُ (¬2): لا نِصَابَ للفضّةِ في السّرقة، وادعت أنّ النصابَ مقصورٌ على الذّهبِ. وادَّعت الحنفيّةُ (¬3) أنّ النّصاب في السّرقة عَشَرَةُ دراهمَ، وتعلّقت في ذلك بآثار مرويَّةٍ عن النّبيّ -عليه السّلام-؛ أنّه قَطَعَ في ثَمَنِ مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دينَارٌ. رواه أبو داود (¬4). وروى النسائي (¬5): "عَشرَةُ دراهِمَ". وكذلك رواه عمرُو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدّه بلفظه (¬6). وتعلَّق الشّافعيُّ (¬7) بما رَوَى الجميعُ؛ أنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "تُقطَعُ اليَدُ في رُبُع دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬8). واحتجّتِ المالكيّةُ بما احتجّت به الشّافعيّةُ، واتّفقَ عليه الكلُّ أيضًا؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَطَعَ في ثَمَنِ مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ (¬9)، وهذا نصٌّ في النِّصابَينِ من الذَّهب والفضّةِ، ¬
فَيَبطُلُ بذلك من ادّعى غير هذا. وأمّا حديث الحنفيّةِ فضعيفٌ، والدّليلُ على ضَعْفِهِ تركُ العملِ به، وقد قطع عثمانُ في ثلاثةِ دراهِمَ (¬1)، والتّقديرُ عند أبي حنيفة لا يَثبُتُ بقياسٍ، وعند الجميع لا يَثبُتُ إِلَّا بنصِّ القرآن، أو بخبرٍ صحيحٍ. المَعقِدُ الرّابعُ: إذا ثبت اعتبارُ القيمة في النِّصاب، فإنّما تُعتبرُ القيمة يومَ الجنَايَةِ، وذلك حين يسرقُ. وقال أبو حنيفة (¬2): تُعتبرُ القيمةُ يومَ القطعِ. ومذهبُ مالكٍ (¬3) يتردَّدُ كثيرًا في مسائل الضّمان بين اعتبار القيمة يوم الجناية أو يوم القضاء، لأدلّة تتعارض هنالك، ومهما وقع الاختلاف هنالك في حالة الاعتبار يوم الجناية، فإنّ في ذلك اليوم يتعلَّقُ الضّمانُ بذمّةِ السّارقِ، ولم يَطرَأ ما يعارِضُه. فإن قيل: قد طَرَأَ وهو تقدير القيمة يوم الحكم، فكيف يَقطعُ الحاكمُ في درهمين، والقطعُ ممّا يَسقُطُ بالشُّبهةِ؟ قلت: ليستِ الشّبهةُ ممّا يَسقُطُ بها القطعُ، فإنّ الضّمان قد تعلّق بذِمَّةِ السّارق، وقد اتّفقنا على أنّه يَغرَمُ ثلاثةَ دراهِمَ، فكيف نأخذُ من يَدِهِ ثلاثةَ دراهِمَ ونُسقطُ القَطعَ؟ المَعقِدُ الخامس: إذا طرأ مِلكُ السّارقِ على السّرقةِ لم يَسقُطِ القَطْعُ؛ لأنّه مِلكٌ طرأ بعدَ وجوبِ الحدِّ فلا يَسْقُط. أصلُه: إذا اشترى الجاريةَ بعد الزِّنا بها، ويَعضُدُهُ -وهو نَصٌّ فيه- حديثُ صَفوَانَ بنِ أُمَيَّةَ حينَ سرقَ سارقٌ رداءَهُ وقد تَوَسَّدَهُ ونام في المسجد، فقال صفوانُ: هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَهَلَا قَبلَ أنّ تَأتِيَنِي بِهِ" (¬4). ¬
فإن قيل: هذا الحديثُ لا حُجَّةَ فيه فإنّه مضطربٌ؛ لأنّه رُوِيَ أنّه نام في المسجد فتوسَّدَ رداءه، وروى أبو داود (¬1) والنّسائي (¬2)؛ أنّه تَوَسَّدَ خَمِيصَةً قِيمَتُهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، فجاء رجلٌ فَاخْتَلَسَهَا، فَأُخذَ الرَّجُلُ فَأُتِىَ بهِ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَ بِهِ فَقطع، قال صفوانُ: فقلت أتقطَعُه من أجل ثلاثين درهمًا، أنا أبِيعُهُ به، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَهَلَا قَبلَ أَنْ تَأتِيَنِي بِهِ" وروى النّسائي (¬3)؛ أنّ ذلك كان بمكّة، فقال: إنّه طاف بالبيتِ ثمّ أخذ رداءه فتوسّده ونام الحديث. قلنا: الحديثُ صحيحٌ، وهذا الاضطرابُ الّذي فيه. لا يُسقِطُ القَطْعَ الحُجَّةَ فيه؛ لأنّه لم يَرِد الاضطرابُ في موضِعِ الدّليل، وهو أنّ الملكَ لا يُسقِطُ القَطْعَ. المعقدُ السّادسُ: كلّ مالٍ يباعُ ويُبتاعُ وتمتدُّ إليه الأطماعُ، تتعلَّقُ به السَّرِقَةُ. وأسقَطَ أبو حنيفةَ القطعَ في مسألتين من ذلك: احداهُما: قال: لا قطعَ فيما كان أصلُه على الإباحةِ، لشُبهةِ الشَّركَةِ المتقدِّمة فيه. وهذا ضعيفٌ؛ فإن ما تقدّم من الشَّرِكة لا ينتصِبُ بشُبهَةٍ في حدِّ السّرقة. أصلُه: خُلوصُ المِلكِ في الجارية المشترَكَةِ لأحد الشّركاء، لا يُسقِطُ- باتِّفاق- حدَّ الزِّنا عمَّن وَطِئَها ممّن خرَجَ عن حِصَّتِهِ فيها. الثّانية: قال أبو حنيفةَ (¬4): ما يُسَارِعُ إليه الفسادُ من المأكولاتِ ولم يَصلُح للإدِّخارِ لا قطعَ في سَرِقَتِهِ؛ لأنّه معرَّضٌ للتّلَف بالعَفَنِ والنَّتَنِ، وكلُّ مالٍ معرَّضٍ للتَّلَفِ لا قطعَ على من سرَقَهُ، كالمال المُلقَى بمضيَعَةٍ. قلنا: هذا لا يُشبِهُ فهمَ أبي حنيفة؛ لأنّه قال: المالُ المُلقَى بمَضيَعَةٍ لا يتعلَّقُ به طمَعٌ ولا يجوزُ فيه بَيْعٌ، فصار في حَيِّزِ المعدوم، والمالُ المُلقَى بمَضيَعَةٍ قُصِدَ به التّعريضُ للتَّلَفِ، والمالُ الّذي يصلُح للبقاء والادِّخار إذا دخلت فيه صَنعَةٌ يُسرِعُ معه الفسادُ إليها، فلم يُقْصَد فيه الفسادُ والتّعريضُ للتَّلَفِ، وانّما قُصِدَ فيه الاستصلاحُ لِلَّذَّةٍ ¬
والبَقَاءِ، ومن ضرورة جِبِلَّتِهِ - حسَبَ ما أَجْرَى اللهُ العادة فيه - أنّ يَفسُدَ، فذلك فسادُ ضرورةٍ لا فسادُ قصدٍ، فلم يَصِحَّ أنّ يُعتبَرَ بشيءٍ من ذلك. اصطلاح (¬1): قال الإمام: قوله (¬2): "في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ" يتضمّنُ القطعَ في العروضِ، وبه قال جماعةُ العلّماءِ، وإن اختلَفُوا في بعض أنواعِها، فقالَ مالكٌ: يقطع في جميع المنقولات الّتي يجوزُ بيعها، كان أصلُها مباحا كالماءِ والصَّيدِ والحَشِيشِ، أو محظورًا كالثِّياب والعَقَارِ، وبه قال الشّافعيّ (¬3). وقال أبو حنيفةَ (¬4): إنَّ ما كان أصلُه مباحًا فلا قَطعَ فِيهِ. ودليلُنا: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية (¬5). ومن جهة المعنى: أنّه نَوعُ مالٍ يُتَمَوَّلُ معتادًا كالثِّيابِ والعبيدِ. تفريع (¬6): ويقطع من سرق المصحفَ، خلافًا لأبي حنيفة أيضًا (¬7) ووجهه: ما تقدّم. ¬
فرع (¬1): ومن سرق زييًا ماتت فيه فأرة، ففي "الموّازية" عن أشهب أنّه يقطع إذا كان يساوِي ثلاثة دراهم. ولو سرق جِلْدَ ميتة غير مدبوغٍ، فقال أشهب: يقطع. وقيل: إذا كان قيمة ما فيه من الصَّنعةِ ثلاثة دراهم، قطع إلّا لم يقطع. قال مالك: ولا يقطع في الميِّتة، وقد نهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن الانتفاع بعظمها. فرعٌ (¬2): ومن سرق صلّيبًا من خشبٍ من كنيسة أو غيرها، فإن كانت قيمته على ربِّه غير صلّيب ثلاثة دراهم، قطع، سرقَهُ مسلمٌ من ذمّيّ أو ذمّيِّ من مسلم. فرع (¬3): ومن سرق كلبًا نُهيَ عن اتِّخاذه لم يقطع، واختلف فيه إذا كان لصَيدٍ أو ما أشبهه، فقال أشهب: يقطع وان كان كلبًا نهي عن بيعه. وقال ابنُ القاسم: لا قطع في كلبِ صيدٍ ولا غيره. فرع (¬4): ومن سرق لحم أُضحيةٍ أو جِلْدها، فقال أشهب: يقطع إذا كانت القيمة ثلاثة دراهم. وروى ابن حبيب عن أَصبَغ: إنَّ سرقها قبل الذَّبح قطع، وان سرقها بعد الذَّبح لم يقطع؛ لأنّها لا تُبَاع في فَلْسٍ، ولا تُورَثُ مالًا، إنّما تورث لتُؤكَل، وإن سرقها ممّن تصدَّق بها عليه قطع؛ لأنّ المعطي قد ملكها. ¬
فرع (¬1): ومن سرق مزمارًا أو عُودًا أو دَفًّا أو كَبَرًا (¬2) أو غير ذلك من الملاهي، ففي "العُتبية" (¬3) عن ابن القاسم: إنَّ كانت قيمته بعد الكسر رُبُع دينارًا، أو كان فيها فضّة زِنَة ثلاثة دراهم- قال ابن حبيب: عَلِمَ بها السارق أو لم يعلم - قطع، سرقه مسلم من ذميٍّ أو ذميٌّ من مسلمٍ؛ لأنّ على الإمام كسرها عليهم إذا أظهروها، وأمّا الدَفُّ والكَبَرُ فإنّه يراعى قيمتهما صحيحين؛ لأنّه أرخص في اللّعب بهما. فرع (¬4): وفي "الموّازية" قال: ويُقطَعُ في كلِّ شيءٍ، حتّى الماء إذا أُحرِزَ لوضوءٍ أو شربٍ أو غير ذلك، وكذلك الحَطَبُ والعَلَفُ والتِّبن والوَردُ والياسمين إذا كانت قيمته ثلاثة دراهم وسُرِق من حِرزٍ. المَعقِدُ السّابعُ: عندنا أنّه يُقطَعُ النبّاشُ، وبه قال الشّافعيّ (¬5) وجمهورُ العلّماءِ (¬6). وقال أبو حنيفة (¬7): لا يُقطعُ لوجهين: أحدهما: عَدَمُ السّرقةِ. والثّاني: عَدَمُ الحِرزِ. * قال (¬8): أمّا عَدَمُ السّرقةِ، فإنّما تكونُ السرقةُ عند تحديق أَعيُنِ النُّظَّارِ وتصويبِها نحوَ المحفوظِ، والكَفَنُ لا عَينَ فيه تحفَظُه ولا تَلحَظُهُ. ¬
وأمّا عَدَمُ الحِرزِ، فظاهرٌ؛ لأنّه لم يُجعلِ التّرابُ عليه ليرجِعَ إليه*. قلنا: أمّا تحقيقُ السَّرقةِ، فهي فيه لا شك موجودةٌ، وهو من جملة السّرقة، ولكنّه يختصُّ باسم النَّبَّاش، اشتُقَّ له هذا الاسم من فعلِه. وأمّا قولُه: "إنّه ليس هنالك عين تَلحَظُهُ"، فليس ذلك من شروط السّرقة، بدليل أنّ البلدَ إذا شَغَرَ أهلُه في يوم عيدٍ، أو لحادثٍ يحتاجون إلى التَّبرُّز له، فسرَقَ سارقٌ من المنزلِ، حينئذٍ يجب عليه القطعُ إجماعًا، وليس هنالك حافظٌ ولا بصرٌ لَاحظٌ. وأمّا القبرُ، فإنّه حرزٌ قرَآنَا وسُنَّةً وعادةً. أنا القرآن، فقدله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬1) فامتَنَّ سبحانه علينا بأن جعلَ الأرضَ كِفَاتَا في حالة الحياة والمَمَاتِ، وسَوَّى بين الموضعين، وَوُجِدتِ المنفعةُ بذلك في الوجهين من الاكتنازِ والاستتارِ، حالة الحياةِ والمَمَاتِ. وأمّا السُّنَّةُ، فهو الحديثُ، وهو قولُه - صلّى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ المُخْتَفِيَ وَالمُختَفِيةَ" (¬2). وأمّا العادةُ، فإن الحِرزَ في الأشياء باتِّفاقٍ ليس بابًا واحدًا، وإنّما هو في كلِّ شيءٍ بِقَدْرِهِ، وقد تقدّم الكلامُ عليه في "كتاب الجنائز" بأَوعَبِ كلامٍ. المَعقِدُ الثّامنُ: قال الشّافعيُّ (¬3): ليس إيجابُ القطع يُسقِطُ العَزم؛ لأنّهما حقّان لمستحِقَّينِ مختَلِفَينِ في مَحِلَّينِ متغايِرَيْنِ، فجازَ أنّ يجتمعا، أصَلُه الدِّيَةُ والكفّارةُ. قال أبو حنيفة (¬4): لا يجتمعُ القطعُ والغُرمُ. ¬
وتعلَّقَ العراقيونَ (¬1) من أصحابنا بقولِهِ تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} الآية (¬2)، ولم يذكُر غُرمًا، والغُرْمُ زيادةٌ على النَّصِّ، والزِّيادةُ على النّصِّ نسخٌ، ونَسخُ القرآن لا يجوزُ إِلَّا بقرآن مثلِهِ أو بخبرٍ مُتَوَاتِرٍ. وتعلّقَ الخراسانيُّونَ من أصحابه بأنّ قطعَ السّرقةِ واجبٌ حقَّا للهِ، وما كان ذلك حتّى كان المجنِي عليه مُحْتَرَمًا لحقّ الله، فإنّه لو كان مُحتَرَمًا لحقِّ العبد لكان الخيارُ في استيفاء العقوبةِ للعبدِ كالقِصَاصِ. وقال مالكٌ: يجبُ القطعُ والغُرْمُ على المُوسِرِ، فإن كان مُعْسِرًا سقطَ الضّمان وَوَجَبَ القَطعُ (¬3). فأمّا مذهب الشّافعيِّ (¬4)، فهو ظاهرُ النَّظَرَ في أوّل درجاته، لكنّا سَنُبَيِّنُ قُصُورَهُ الآن في هذه العُجَالةِ. وأمّا مذهب أبي حنيفةَ، ففاسِدٌ لا دليلَ عليه؛ لأنّ وُجُوبَ الضّمان على كلِّ مُتلِفٍ أظهرُ بيانًا، وأكثرُ أدّلةً من وجوب القطع في السّرقة. وللآخر أنّ يقولَ: إيجابُ القَطْعِ في السَّرِقَةِ مع الضّمان زيادةٌ على النَّصِّ. فإن قيل: هذا لا يقولُه أحدٌ. قلنا: وما ذَكَرتَ إذا أدَّى إلى هذا لا يَستدِلُّ به أحدٌ. وأمّا قولُه: "إنَّ الحُرمَةَ قد جعلت لله" فلو كان هذا صحيحًا، وزالَ حقُّ الآدميِّ من العَينِ، ما عاد إليه أبدًا. وأمّا مالكٌ، فله في هذه المسألة مَقَامَةٌ عظيمةَ، وذلك أنّ السّارقَ إذا كان مُوسِرًا ¬
وَجَبَ القطعُ في يَدَيْه عقوبةً، ووجبَ الغُرمُ في مالِهِ عقوبةَ أخرى. فهذا كان مُعْسِرًا وجبَ القطعُ في يَدَيه؛ فلو أَوجَبْنَا الغُرمَ في ذِمته، لكنّا قد جمَعنَا بين عقوبَتَينِ في مَحِلٍّ واحدٍ، وذلك لا يجوزُ. المَعقِدُ التّاسعُ: رُوِيَ أنّ بعضهم قال: تُقطَعُ الأصابعُ خاصّةً دونَ الكفِّ، وهذا فاسدٌ جداٌ؛ لأنّ اليدَ اسمٌ لهذه الجارحةِ المعلومةِ من الظُّفرِ إلى المَنكِبِ، وهي في العُرفِ منطلقةٌ على ما حَازَهُ الكُوعُ إلى الظُّفرِ، وهي أقلُّ ما ينطِلقُ عليه، فلا يتناولُ اللّفظُ بعضَ مُحتملِهِ باتِّفاقٍ. المَعقِدُ العاشرُ: قال عطاءٌ: لا تُقطعُ إِلَّا يدٌ واحدةٌ (¬1)؛ لأنّ الله تعالى قال: {أَيْدِيَهُمَا} (¬2) فتُقطَعُ من كلِّ واحدٍ يدٌ. قلنا: لم يُعط عطاءٌ فهْمَ هذه المسألةِ لغةً، مع أنّه كان في الطَّبقةِ العُليا من الفصاحة، وهي زُمرَةُ التّابعين، ألم تَرَ أنّ ضميرَ المقطوعِ المُطلَقِ جَمعٌ، وأن التّثنية إنّما كانت في ضمير المقطوع منه؟ ألم يَرَ أنّ الأُمَّة بعدَهُ قد أجمعت على التّثنيةِ في القَطعِ؟ ألم يُكَرِّر أبو بَكرٍ القطعَ على السّارقِ (¬3)، فلم يُنكِر عليه أحدٌ؟ معضل: فمن قُطِعَت يدُه وهو مؤمنٌ ثمّ كَفَرَ، أو هو كافر ثمّ آمنَ، قال قومٌ: إنّه يبدِّلُ اللهُ له يدًا أخرى، لا يجوز غير ذلك. ¬
وقال عِبَادٌ: لو أنّ مؤمنا قُطِعَت يده ثمّ كفَرَ، ثمّ أُدخِلَ النّار، لرُدَّت عليه يده الّتي قُطِعَت وهو مؤمنٌ. وكذلك الكافر إذا قُطِعَت يده ثمّ آمن؛ لأنّ الكافر والمؤمن ليس هما اليد والرَّجل، هكذا ذكر البلخي (¬1). المَعقِدُ الحادِيَ عَشَرَ: قال أبو حنيفةَ (¬2): لا تُقطعُ للسّارقِ رِجْلٌ؛ لأنّ الله تعالى قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬3) ولم يأت للرَّجلِ ذكرٌ. قلنا: عن ذلك جوابان: أحدُهما: فإنّ الله تعالى وإن كان لم يَذْكُر قطعَ الرَّجلِ في السّارق؛ فإنّه قد ذَكَرَهُ في المُحَارِبِ، فَنَحمِلُهُ عليه، بأنّه أخَذَ المال بالسَّعي عليه فَقُطِعَ، كما لو أخَذَهُ بالسَّعيِ مُحَارِبًا. فإن قيل: لا يجوزُ اعتبارُ مسألتنا بالمحاربةِ، فإنّ القتلَ في الحِرَابَةِ، وليس في مسألتنا قتلٌ. قلنا: وهو المَعقِدُ الثّانِي عَشَرَ: قال مالكٌ: يُقتَلُ إذا سرَقَ الخامسة في رواية المدَنِيِّينَ، وفي ذلك حديث ضعيفٌ (¬4) ¬
لا تناطُ بمثله إباحةُ المحظوراتِ، وإنّما عوَّلَ مالكٌ في هذه الرِّوايةِ على المصلحةِ، وهي أحدُ أركانِ أصولِ الفقهِ على ما بينًاهُ، وذلك أنا نقولُ -وهو يجمعُ المسألتين في دليل واحد-: إنَّ المصلحة تقتضي إذا سرَقَ أنّ تُقْطَع يمينُه الّتي بها يَتناولُ ما لا يَحِلُّ له، تنقيصًا لبَطشِهِ، الّذي جَعَلَهُ اللهُ له قوّةً على الطّاعة فَصَرَفهُ إلى المعصية. فإذا عاد إلى السّرقةِ ثانيةً، اقتضمت المصلحةُ أنّ يُنقَضَ سَعيُهُ الّذي به توصَّلَ إلى البَطشِ ليُستَوفَى حقّ العقوبة، ويَبقَى له في البَطشِ جارحةٌ. فإذا عاد الثّالثةَ إلى السَّرقةِ، علمنا أنّ بَطشَهُ فَسَدَ بتَعَدِّيهِ. فإذا سرَقَ الرّابعةَ، تبيَّنَ أنّ سَعيَهُ فَسَدَ بتعدِّيهِ. فإذا سرَقَ الخامسةَ، تبيَّن أنّها نفسٌ خبيثةٌ لا تَتَّعِظُ بنفسِها، ولا ترتَدِعُ بما فقدت من جوارِحِهَا، فلم يبقَ إِلَّا إتلافُها. المعقِدُ الثالثَ عَشرَ: لم يخفَ على ذي لبٍّ أنّ الله تعالى إنّما وضَع هذه العقوباتِ في الأبدانِ روادعَ وزواجرَ، فهِمَ ذلك الخَلقُ من تَنْبِيه الله لهم عليه، وتعريفِهم به، ولذلك قلنا: إنَّ الجماعة إذا قَتَلُوا الواحدَ قُتِلُوا به حِفْظًا لقاعدة الدّماء، لئلَّا يستعين الاعداءُ بالجماعةِ على الأعداءِ، فَيَبلُغُوا غرضَهم من التَّشَفِّي، وتسقُط عنهم عقوبةُ القِصَاصِ. وهذا المعنى يقتمحي أنّ الجماعةَ إذا سرَقُوا حِرزًا أنّه يُقطع جميعُهم، حِفظًا لقاعدةِ الأموال، لئلّا يستعينَ الفَسَقَةُ على أخذ الأموال بالاشتراك، رجاءَ سقوطِ القَطعِ. المَعقِدُ الرّابعَ عَشر: في الحِرَابَةِ (¬1) قال الله العظيم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية (¬2). ¬
قال الإمام: ظاهرُ هذه الآية مُحَالٌ؛ فإن الله تعالى لا يُحَارَبُ ولا يغَالَبُ ولا يشَاق ولا يحَادّ، لوجهين: أحدُهما: ما هو عليه من صفاتِ الجلالِ، وعمومِ القُدرةِ والإرادةِ على الكمالِ، وما وجبَ له من التّنزيه عن الأضدادِ والأندادِ. والوجهُ الثّاني: أنّ ذلك يقتضي أنّ يكون كلُّ واحد من المحاربين في جهةٍ وفريقٍ عن الآخرِ، والجهةُ على الله تعالى محالٌ، وقال جماعةٌ من المفسِّرين لما وجب من حَملِ الآية على المجاز: أنّ معنى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} (¬1) أي: أولياء الله، وعبَّرَ بنفسه العزيز سبحانه عن أوليائه إكبارًا لإذايتهم، كما عَبَّرَ بنفسه عن الفقراء في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية (¬2)، لُطْفًا بهم ورحمةً لهم، وكَشَفَ الغطاءَ عنه بقوله في الحديث الصّحيح: "عبدي مَرِضتُ فلم تعُدنِي، وجُعتُ فلم تُطعِمني، وعَطشتُ فلم تَسقِنِي" الحديث (¬3)، وذلك كلّه على البارئ سبحانه مُحَالٌ، ولكنّه كنى بذلك عنه تشريفًا له. وفي هذا المَعقِدِ جملة مسائل: المسألة الأولى (¬4): في حقيقة الحرابة قال المفسِّرونَ: إنَّ الحِرَابَةَ هي الكُفْر، وهو معنى صحيح؛ لأنّ الكُفرَ يبعث على الحَرْبِ. واختلف المفسّرون فيمن نزلت: قيل: نزلت في المشركين، نقضوا العَهدَ، وأخافوا السَّبِيلَ، وأفسدوا في الأرضِ (¬5). ¬
وقيل: نزلت في عُكل وعُرَينَة، وهم الذين قتلوا رَاعي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، واستاقُوا الذّودَ، فسُمِلَت أعينُهم، وقُطِّعَتْ أيديهم، وتُرِكُوا في الحَرَّةِ حتّى ماتوا على حالهم (¬1). واختار أبو جعفر الطّبريّ (¬2) أنّها نزلت في يهود، ودخل تحتها كلُّ محارب. وهذا لا يصحّ؛ لأنّه لم يبلغنا أنّ أحدًا من اليهود حارب، ولا أنّه جُوزِيَ بهذا الجزاء. وقول من قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصّواب؛ لأنّ عُكلًا وعُرَينَة ارتدُّوا وقَتَلُوا وأَفْسَدُوا، ولكن يبعدُ؛ لأنّ الكفّار لا يختلف حكمهم ولا يَلزَم صلبهُم في زوال العقوبةِ عنهم بالتّوبة بعد القدرة كما سقط قبلَها، وقد قيل في الكفار: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية (¬3). وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬4) وكذلك المرتدُّ يُقتَلُ للردّة دون المحاربة (¬5). قال (¬6): والمرتدّ يلزم استتابَتُهُ، وعند إصراره على الكفر يُقْتَل. وفيه روايتان: قيل: يُستَتَابُ. وقيل: لا يُستَتَاب. وقد اختلف العلماءُ في ذلك على قولين: فقيل: لا يستتاب؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قَتَلَ هؤلاء ولم يَستَتِبهم. وقيل: يُستَتَابُ المرتدُّ، وهو شهور المذهب (¬7)، وإنّما تَرَكَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - استتابةَ هؤلاء لما أحدثوا من القتلِ والمُثلَةِ والحرب؛ وإنّما يستتابُ المرتدُّ الّذي يرتاب، فيتربَّص به ¬
وُيرشد، وتُجَلَّى له الشُّبهةُ. المسألة الثّانية (¬1): قال علماؤنا: والمحاربةُ هي إشهار السّلاح. قال ابنُ وهب: قال مالك: المحاربُ هو الّذي يقطعُ السَّبيلَ وُينَفِّرُ النَّاسَ في كلِّ مكانٍ، ويُظهِرُ الفسادَ في الأرضِ وإن لم يقتل أحدًا، إذا ظهر عليه يُقتَل، قال مالك: والمستترُ والمُعْلِنُ في ذلك سواء، وإن استخفَى بذلك، وظهر في النَّاس وأراد الأموال وأخافَ السَّبيلَ أو قَتَلَ، فذلك إلى الإمام، يجتهد أيّ هذه الخصال شاء فعل. وفي رواية غير ابن وهب أنّ ذلك إنَّ كان قريبًا وأخذ بحدثانه، فليأخذ الإمام فيه بأيسر (¬2) عقوبة؛ وفي ذلك أربعة أقوال: القول الأوّل والثّاني: ما تقدّم ذِكرُهُ لمالك. والثّالث: أنّها للزِّنا والسّرقة. قاله مجاهد. وقيل: إنّه المُجَاهِرُ بقطع الطّريق والمكابَرَةِ باللُّصوصيّة في المِصْرِ وغيره، قاله الشّافعيّ (¬3)، ومالك في رواية (¬4)، والأوزاعي. والرّابع: أنّه المجاهرُ في الطّريق لا في المِصْرِ، قاله أبو حنيفة (¬5)، وعطاء. فأمّا قول مجاهد فساقطٌ؛ إِلَّا أنّ يريدَ به أنّ يَفْعَلَهُ مجاهرةً مغالبةً، فإنّ ذلك أفحش في الحرابة، فإنّ الإمام مُخَيَّرٌ يفعل ما شاء (¬6). ¬
المسألة الثّالثة: قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية (¬1). هذه الآية عامّةٌ في المسلمين والمشركين على ظاهرها، إلى أنّ يدلَّ دليلٌ خارج منها، فالمحاربُ من شَهَرَ السِّلاح في قُبَّةِ المسلمينَ، وأفسد السّبيلَ، فإذا ظُهِرَ عليه، فالإمامُ مخيِّرٌ فيه، إنَّ شاء قَتَلَهُ، وإنْ شاء صَلَبَهُ، كان شاء قطعَ يَدَهُ ورِجلَهُ، وإذا أظهرَ السِّلاحَ وقَتَلَ، قُتِلَ. وإن أخذ المالَ ولم يَقتُل، قُطِعَت يدُه ورِجلُه. وإن أخذ المالَ وقتَلَ، قُتِلَ ثمّ صُلِبَ، وهذا قول قَتَادَة وعَطَاء. وقال الأوزاعي: إذا جَرَح وقَتَلَ، قُتِلَ. فإن أخذ المالَ وقَتَلَ صُلِبَ وقُتِلَ مصلوبًا، كان أخذ المالَ ولم يَقتُل قُطِعَت يدُه ورِجلُهُ (¬2). وقال اللَّيث بن سَعد: إذا أخذ المال وقَتَلَ، صُلِبَ وقُتِلَ بالحِرَابَةِ مصلوبًا. وقال أبو يوسف (¬3): إذا أخذ المالَ وقَتَلَ، صُلِبَ وقُتِلَ على الخَشَبَةِ. وقال أبو يوسف أيضًا: القتلُ يأتي على ذلك كلِّه وعلى كلِّ شيءٍ. وقال الشّافعيّ (¬4): إذا أخذ المالَ قُطِعَت يدُه اليمنى وحُسِمَت (¬5)، ثمّ قُطِعَت رجلُه اليسرى ثمَّ حُسِمَتْ وخُلَّّّّّّّيَ. وإذا قَتَلَ قُتِلَ، وإذا أخذ المالَ وقَتَلَ قُتِلَ وصُلِبَ، ورُوِيَ عنه أنّه قال: يُصلبُ ثلاثة أيّام. وقال قومٌ: لا ينبغي أنّ يُصلَبَ قبلَ القتلِ فيحالُ بينهُ وبين الصّلاة والأكل والشّراب (¬6). وحُكِيَ عن الشّافعيّ أنّه قال: أَكرهُ أنّ يُقتلَ مصلوبًا، لنهي النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - عن المُثلَةِ. فإن قيل: كيف مثَّلَ النّبيُّ بالرُّعاةِ، وهي: المسألة الرّابعة: في حديث صحيح (¬7) عن أنس؛ أنَّ نَفَرًا من عُكل قَدِمُوا المدينةَ على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ¬
فَأَسلَمُوا واجتَوَوا المدينةَ، فأَمَرَهُمُ النّبيُّ -عليه السّلام- أنّ يخرجوا إلى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فيشرَبُوا مِنْ أبَوَالِهَا وأَلبَأنِهَا فَفَعَلُوا، فَقَتلُوا راعيَها وَاستَاقُوا الذَّودَ، فبعثَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في طلبهم قَافَةً، فَأَتَى بِهِم فَقَطَعَ أَيدِيَهُم وَأَرجُلهُم ولم يَحسِمهَا، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُم وتَرَكهُم في الحَرَّةِ حتَّى مَاتُوا، فأنزل اللهُ تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية (¬1). عربيّة: قوله: "وَسَمَلَ أَعْيُنَهُم" السَّملُ: هو إخراج العين من محلِّها بالشوك. وقوله: "سَمَلَ أَعْيُنَهُم" يُروَى بتخفيف الميم وبتشديدها، يقال: سَمَلتُها أَسمُلُها سملًا. والصّحيحُ: أنّ يكون السَّمل بالشَّوك. ويروى: "سَمرَ أَعيُنَهُم" بالرّاء و "سمل" باللّام، بمعنى سملها فَقَأَ عينها بالشَّوك، كما قال أبو ذؤيب (¬2): وَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ جُفُونَها ... سُمِلَت بشَوكٍ وهي عُورٌ تدمعُ وقال أهل اللُّغة: الحَسمُ كَيُّ العروقِ بالنَّار لينقطع الدِّم. المسألة الخامسة: اختلفَ العلّماءُ في فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالرُّعاة ذلك، فقال ابنُ شهاب: كان ذلك قبل أنّ تنزل الحدودُ. وقال أنس: كان ذلك قصاصًا، وهو الصّحيح؛ فإنّ ذلك ظَنٌّ وقع من ابنِ شهاب، وأنس أعرفُ بالقضيَّةِ. واختلف العلماء أيضًا في الحرابة في المصر، هل حكمها حكم المحارب في غير المصر أم لَا؟ فالمشهور عندنا - وبه قال الشّافعيّ (¬3) - أنّهما سواء. ¬
وفرق بينهما بعض أصحابنا -وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) - وقد تقدّم الكلام عليه. وعندنا: أنّ المحارِبَ في العصر وغيره سواء، قاله ابن القاسم وأشهب في "كتاب ابن سحنون" وفيه اختلاف. واختلف علماؤنا في بقائه على الجِذع إذا صُلبِ (¬2)، فقال أَصبَغُ: لا بأس أنّ يخلَّى لمن أراد من أهله وغيرهم إنزاله، ويصلِّى عليه وُيدفن كسائر من قُتِل في حدِّ. وَوَجهُهُ: أنّه مات على الإسلام، قُتِلَ في عقوبةٍ، فثبت له حكم الصّلاة عليه كسائر من قُتِلَ في حدٍّ. وروى ابن سحنون عن أبيه (¬3): إذا صُلِبَ المحارِبُ أُنزِلَ في تلك السّاعة، ويُدفَعُ إلى أوليائه. ورَوَى ابن حبيب عن ابن المَاجِشُون: أنّه لا يُمَكَّن منه وليّه ولا أهله ولا غيرهم حتّى تفنَى الخَشَبَة وتأكله الكلاب، وذلك تغليظًا منهم وازدجارًا للخَلقِ. المسألة السّادسة (¬4): وإذا رأى الإمام قَطعَهُ، فإنّه يَقطعُ يدَهُ ورِجلَهُ من خلافٍ. والأصلُ في ذلك القرآن المطلق، فتُقطَع يَدُه اليُمنَى ورِجلُه اليسرَى. ولو كان أقطعَ اليُمنَى أو كانت شَلَّاءَ، فقد قال أشهبُ: تُقطَعُ يدُه اليسرى، ورِجلُه اليسرى. وقال ابنُ القاسم: يدُه اليُسرَى ورِجلُه اليُمنَى. ووَجهُ الأوّل: أنّ القطعَ أوّل مرّة متعلِّقٌ باليمين، فإذا مَنَعَ من ذلك مانعٌ انتقلَ إلى اليسرى، وبَقِيَ القطعُ في الرِّجل اليسرَى على ما كان؛ لأنّه لم يمنع منه مانع. ووجه الثّاني: أنّ الخلاف مشروعٌ بنصّ القرآن، فإذا تعذَّرَ قطع اليد اليمنى والرِّجْل اليسرى، وانتقل إلى اليسرى، وجب أنّ ينتقلَ قطعُ الرِّجلِ اليسرَى إلى اليُمنَى. ¬
المسألة السابعة (¬1): قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬2) اختلف العلماء فيه على أقوال: القول الأوّل: قيل يُسجَن، قاله أبو حنيفة وأهل الكوفة (¬3)، وهو مشهور مذهب مالك في غير بلد الجنابة. وقيل: يُنفَى إلى بلاد الشِّرك، قاله أنس، وجماعة (¬4). وقيل: يُخرَجُونَ من مدينةٍ إلى مدينة أبدًا، قاله ابنُ جُبَير، وعمر بن عبد العزيز. وقيل: يُطْلَبُون بالحدود أَبَدًا فيهربون منها، قاله ابن عبّاس، والزّهري، وقتادة، ومالك أيضًا. قال (¬5): والحقّ في هذا كلّه أنّ يُسجَنَ فيكون السّجن له نَفْيًا من الأرض، وأمّا نَفْيُهُ إلى بَلَدِ الشِّرك فَعَونٌ له على الفَتْكِ. وأمّا نَفْيُهُ من بلدِ إلى بلدٍ، فقد يقطع الطّريق ثانية. وأمّا من قال: إنّه يُطْلَبُ بالحدود أَبَدًا وهو يهرب من الحدِّ، فليس بشيءٍ؛ فإنّ هذا ليس بجزاءٍ وإنّما هو محاولة طلب الجزاء. وقيل: يُطلَبُ حيًّا وميِّتًا، والحيُّ أصحّ؛ لأته أنكى وأفزع، وهو مقتضى معنى الرَّدع الأصلح. قال الإمام (¬6): تُقْبَلُ شهادةُ الّذين قطعوا عليهم الطّريق (¬7)، قاله ابن القاسم ومالك في "الموّازية". فرع غريب (¬8): وإذا أراد الإمامُ أنّ يسلِّمَ محارِبًا إلى أولياء من قُتِلَ فيعفوا عنه، فقال ابنُ القاسم: ¬
هو حُكْمٌ قد نفذَ لا يُنْقَضُ للاختلاف فيه، وبه قال سحنون. وقال أشهبُ: يُنقَضُ ويُقتَلُ، ولا خلافَ أنّه لا عَفوَ فيه، وبه قال ابن الماجشون. وقال ابن أبي زيد في "نوادره": إنَّ الشَّاذَّّّ لا يُعَدُّ خلافًا (¬1). وإذا قُتلَ في الرِّفْقَةِ أحدٌ من أهلها، قتل جميعهم، خلافًا للشّافعيّ في قوله: لا يُقتَلُ إلّا القاتلُ. ودليلنا: أنّ مَنْ حضرَ الوقيعةَ يشارك في الغنيمة وإن لم يباشِر القتلَ، فكذلك هذا قد اشتركوا في الدَّمِ. المسألة الثّامنة (¬2): وإذا تاب قبل أنّ يُقدَرَ عليه، قال محمّد: الّذي يَستحبُّهُ مالك في توبته ما رواه عنه ابن وهب وابن عبد الحَكَم، وإن هو أظهر توبته عند جيرانه، وأخلد إلى المساجد حتّى يُعرَف بذلك، فجائز أيضًا. قال أصبَغُ: وكذلك إذا قعد في ببته، وعُلِمَ أنّ ذلك منه تَرْكٌ معروفٌ يَبُوحُ به وبالتّوبة. وقال ابن المَاجِشُون: إنَّ لم تكن توبتُه إِلَّا إتيانهُ السُّلطانَ وقولَه: جئتُكَ تائبًا، فلا ينفَعُه ذلك حتّى تُعْرَفَ توبَتُه قبلَ مجيئه، لقوله: {{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬3)، يريد أنّ هذا قد قُدِرَ عليه من قبل أنّ تظهر توبته. ووَجْهُ قولِ مالكٍ: أنّ إتيانَهُ السُّلطانَ على وجهِ التّوبةِ والاستسلامِ هُوَ نَفسُ ¬
التّوبة؛ لأنّ المراد من قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬1) إظهارُ التّوبة واعتقادُها بالقلب، فلا طريق لنا إلى معرفتها، فإذا أنّ السّلطانَ على هذا الوجه، فقد أظهر التّوبة قبل أنّ يُقدَرَ عليه، وهو الصّواب. فإذا ثبت هذا، فإن توبتَهُ قبلَ أنّ يُقدَرَ عليه تُسقِطُ عنه حقوق الله تعالى ويُتْبَعُ بحقوق الآدميِّين بحسْب ما لو فعلها بغير حِرَابَةٍ، فإن قَتَلَ في حِرَابَتِهِ قُتِلَ واعتبرت فيه المكافأة، فإنّه لا يُقتَلُ الحرُّ المسلمُ بعبدٍ، ولا بذِمِّيِّ، وعليه ديّة النّصراني أو الذَّمّيّ وقيمة العبد. ويُقتَلُ بالحرِّ المسلمِ إنَّ شاء أولياؤه ويجوز عفوهم. وإذا سقط عنه القتل لعدم مكافأة أو لعفوٍ، جُلِدَ مئةً وسُجِنَ سنةً، قاله محمّد وحكاه في "كتابه". تمت الحدود والحمد لله (¬2) ¬
كتاب الجامع
كتاب الجامع قال الإمام أبو بكر بن العربي: هذا كتاب أَرْبَى مالك - رحمه الله - على المحدِّثين، وطرقَ لهم في التّصنيف، وفتح فيه لجماعة من المسلمين المصنّفين بابًا عظيمًا، فأتى فيه بالعَجَبِ العُجَاب، فقال (¬1): باب الدُّعاء للمدينة وأهلها، وساق حديث إبراهيم -عليه السّلام- حين دعا لمكَة (¬2)، وهذه مسألةَ اختلفَ العلماء فيها، فقالوا: أيّهما أفضل مكّة أو المدينة؟ وكان من الحقّ ألَّا يختلفوا في مثل هذه المسألة وأمثالها؛ لأنّ السّائل إذا قال: أيّهما أفضل؟ لم يستحقّ على ذلك جوابًا، فلُبَابُ الكلام في هذه المسألة أنّ نقول (¬3): الفضائل متعدّدة مختلفة، فقدلنا: مكّة أفضل أم المدينة؟ خطأ، إنّما يصحّ أنّ يقال: أيّهما أكثر فضلًا، لا يجوز غيره على التفصيل الّذي مهّدناهُ حيث أشرنا عليه. والفضائل المقصورةُ على فضلها (¬4) تسعةٌ: الأولى: بركتها وقد ذكر النبيُ - صلّى الله عليه وسلم - حديث بركتها كاملًا، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "ائتُونِي بِوَضُوءٍ" فَتَوَضَّأَ، ثُم قَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ إِبرَاهِيمَ عَبدَكَ وَخَلِيلَكَ، قَد دَعَا لأَهلِ مَكَّةَ بِالبَرَكَةِ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَرَسولُكَ أَدعُو لأَهلِ المَدِينَةِ أنّ تُبَارِكَ لَهُم في مُدِّهِم وَصَاعِهِم مَثلَ مَا بَارَكتَ لأَهلِ مَكَّةَ مَعَ البَرَكَةِ بَرَكَتَينِ" وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬5) لا مدفع فيه. وفي ¬
حديث آخر: "ومثله معه" (¬1) ثلاث مَرَّاتٍ. الثّانية: كونُ العمل فيها سبيلًا إلى الجنَّة. وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "بَينَ قَبرِي وَمِنْبَرِي رَوضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ" (¬2)، والعمل في الموضع الّذي مُثِّلَ بالجنةِ أفضل من العمل في غيره؛ لأنّه أقرب إليها. الثّالثة: فضيلة السّكنى. قال النّبيّ -عليه السّلام-: "مَنْ صَبَرَ عَلَى سُكنَى المَدِينَةِ كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَو شَفِيعًا يَومَ القِيَامَةِ". خرَّجه أبو عيسى (¬3) عن ابن عمر (¬4) وأبي هريرة (¬5)، وخَرَّجَه مسلم عنهما جميعًا (¬6). الرّابعة: كفّارة ارتكاب محظورها في "صحيح مسلم" (¬7) عن سعد، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - جعل كفّارته سلب الصّائد (¬8)، وقال: "مَنْ أَحدَثَ فِيهَا حَدثًا أَو آوَى مُحدِثًا، فَعَلَيهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ" (¬9). ¬
الخامسة: حفظها قال النّبي - صلّى الله عليه وسلم -: "عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلَائِكةٌ لَا يَدْخُلُهَا الدَجَّالُ، ولَا الطَّاعُونُ" (¬1) فهي معصومةٌ. السّادسة: نفيها للخَبَثِ، ونُضُوعُ طِيبِهَا بظهور علمها، وانتشار الدِّين عنها في أقطار الأرض حتّى يعمّها رُويَ أنّ سحنون لمّا حجَّ ورأى زخرفة المسجد، قال: وددتُ أنّ يتركوا بيتَهُ كما كان حتّى يرى النَّاس أمرًا خرج من ذلك المسكن حتّى عمّ الأرضى أنّه حقّ. وبهذه الصِّفَة سُمّيت طَابَة (¬2)، وبِسكنَى النّبيّ -عليه السّلام- فيها سمّيت المدينة. فإن قيل: *يحجُّ النَّاس إلى مكّة ولا يحجّون إلى المدينة؟ قلنا*: إنّما اختلف النَّاسُ في المسجدين والحرمين، فأمّا الحجُّ فباب آخر موضوعه بالحلِّ بعَرَفَة، ولا خلاف أنّ المدينة أفضل من عرَفَة. السّابعة: قالوا: وما الفائدةُ في قوله: "وَبَارِكْ لَهُم فِي صَاعِهِم وَمُدِّهِم" وعندهم الجياع؟ قلنا: الكلام فيه على وجه المجاز، والمرادُ به فيما يجري فيه المُدّ والصَّاع، وذلك الطّعام كلّه. فإن قالوا: فنراها مع هذا بلاد جوع؟ قلنا: البركةُ ثلاثة أوجهٍ: القناعةُ، وقلَّةُ الحساب، وتضعيفُ الثّوابِ. وقيل: كانت هذه الدّعوة للأنصار، فلمّا خرجوا منها زال ما كان دعا لهم. ¬
وقوله (¬1): "إِنِّي شَفِيعٌ لمَن يَمُوتُ بِهَا" فيه: بيان أنّ للشفاعة أسبابًا من الطّاعات، من جملتها سكنى المدينة ومجاورة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في البُقْعَة الكريمة، وذلك بِنُمُوّ ثواب الأعم فيها والصّبر عليها. الثامنة (¬2): * قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يَصبِرُ على لَأوَائِهَا وشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إلَّا كُنتُ له شَفِيعًا أو شَهِيدًا يَومَ القِيَامَةِ" (¬3) ولم يَرِدْ في مكَّةَ شيءٌ من ذلك، فإن أُدرِكَ فضلٌ في سُكنَاها بالاعتبارِ، فما كان بصَريحِ الآثارِ منه أَولَى، علئ أنّ كثيرًا من العلماء قد كَرِهُوا سُكنَى مكَّةَ، واختلفَ النَّاسُ في تعليلِ ذلكَ. فمنهم من قال: كُرِهَ ذلك لِئَلَّا تَهُونَ على ساكِنها، وهذا نظرٌ إلى الظّواهر مع ضَعفِ اليقينِ، فأمّا اليقينُ الصّادقُ* السّالكُ على الاهتداءِ، المرتبطِ بالاقتداءِ، فإنّه تزيدُه السُّكْنَى بصيرةً، وتَقْوى فيه العلانيّةُ والسّريرةُ، كما قال الخليفةُ الصّالحُ: "والله إنِّي لأغلَمُ أنكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أَني رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قبلَكَ ما قّبَّلتُكَ" (¬4). وقال قوم في تعليلِ ذلك: إنّما هو لأجل خوفِ الذّنوبِ فيها، فإنّ المعصيةَ فيها ¬
وفي المدينة أعظمُ من المعصية في غيرهما، وكما تُضاعَفُ الحَسَنَات في البقاع الشّريفة والأزمنة الشّريفة، كذلك تُضَاعَفُ السّيئاتُ. قال الله العظيم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} بظلم} الآية، إلى قوله {عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). وقال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (¬2) وإن أراد السائلُ: أيُّ الأعمال فيهما أفضلُ ثوابًا؟ قلنا له: ما لم يُعَيِّنْ للعمل بُقْعَةٌ من مكّةَ أو المدينةِ فالفضلُ في ذلك سواءٌ، إِلَّا السُّكنَى كما بيَّنَّا، فالسُّكنَى في المدينة أفضلُ اقتداءً بالنَّبىِّ، فصُحبةُ المدينةِ أحبُّ إلينا من مَكَّةَ، اقتداءً بالنَّبيّ -عليه السّلام- حين قالت له عائشةُ رضي الله عنها: إنِّي دخلتُ على عامرٍ بنِ فُهَيْرَةَ، فوجدْتُه قد وُعِكَ، وهو يقول: قد رَأَيْتُ المَوتَ قَبلَ ذَوقِهِ إِنَّ الجَبَانَ حَتفُهُ من فَوفِهِ ودَخَلتُ على أبي بكرٍ وقد وُعِكَ، وهو يقول: كلُّ امرىءٍ مُصَبّحٌ في أَهلِهِ وَالمَوتُ أَدنَى مِنْ شِرَاكِ نَعلِهِ ودخلتُ على بلالٍ وقد وُعِكَ، وهو يقول: أَلَا لَيتَ شِعرِي هَل أَبِيتَنَّ لَيلَةً ... بِوَادٍ وَحَولِي إِذخِرٌ وَجَلِيلُ؟ وَهَل أَرِدَن يَومًا مِيَاهَ مَجِنَّةِ ... وَهَل يَبدُوَن شَامَةٌ وَطَفِيلُ؟ فأخبرت بذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا المَدِينَةَ كَحُبِنَّا مَكَّةَ أَو أَكثر وَانقُل حُمَّاهَا فَاجعَلهَا بِالحُجفَةِ" (¬3). مزيد وضوح: فظنَّ قوم (¬4) بهذه الآثار أنّ المدينة أفضل من مكّة بدعاء رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - للمدينة ¬
بقوله: "ومِثلهُ مَعهُ" (¬1) وليس ذلك كما ظنّوا؛ لأنّ دعاء إبراهيم لمكّة لم يعرف فضيلة مكّة به وحدَهُ، بل كان فضلُها قبل أنّ يدعو إبراهيم لها، ودعاءُ إبراهيم -عليه السّلام- قد علمناه بما نطق به القرآنُ (¬2). وقالوا: وممّا يقوّي أنّ المدينة أفضل من مكّة، قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "صَلَاة في مَسجِدِي هَذَا خَيرٌ مِنْ أَلفِ صَلَاةٍ فيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المسجد الحرام، فإنَّ الصلاةَ فيه خيرٌ من الصّلاةِ في مَسْجِدِي بخَمسٍ وَعِشرِينَ صلَاة" (¬3). قلنا: هذا حديث يرويه حبيبٌ المعلِّم (¬4)، وهو قارئ مالك رحمه الله، وقد تكلّم ¬
النَّاس فيه (¬1)، وقيل: إنّه كان كذَّابًا (¬2)، وإنه كان يقلب ورقتين ويقرأ (¬3). وأيضًا: فإنّ قوله: "صَلَاة فيه أفضل بخمس وعشرين صلاة" لم تفضل المدينة مكّة بهذا؛ لأنّ الله تعالى لم يجعل الأجر على الأعمال بالأماكن والأزمان، وإنّما جعلها في أيِّ زمان كان، وفي أيِّ موضع تُعُبِّدَ فيه، ألَّا ترى إلى رَجُلَينِ يصلّي أحدهما ركعتين ويصلّي آخر مثلها في مكان واحد فتكتب لهذا عشر حسنات ويعطى الآخر مئة. ثمّ إنَّ قوله: "بَينَ قَبرِي وَمِنْبَرِي رَوضَةٌ من رِيَاضِ الجَنَّةِ" (¬4) وروضةٌ من الجنَّة خير من الدنيا وألف منها، كما قيل: "قِيدُ شِبرٍ في الجنَّة خير من الدّنيا وما فيها" (¬5). قلنا: والصّحيح - والله أعلم- أنّ الفضل ليس للبقعة، وإنّما يخصُّ الله ما يشاء لمن يشاء تَعَبُّدًا منه لخَلْقِهِ، لا إله سواه، فإذا فضّل اللهُ الأعمال، فليس هذا الفضل لفضل الأعمال والأزمان (¬6)، ألَّا ترى أنّ الصّلاة أفضل من الصّوم. ودليل آخر أيضًا: أنّ الإنسان إذا قال: علىَّ أنّ أصلّي، أو قال: أصلّي في ¬
الإسكندرية، صلَّى في مكانه، فإذا قال: عليَّ أنّ أصوم بالإسكندرية لزمه ذلك. فنقول: إنَّ الصّوم خير من الصّلاة، وهذا لا قائل له، والأجرُ على الصِّيام غيرُ مُقَدَّر وعلى الصّلاة مُقَدَّرٌ. فإن قيل: إنَّ مكّة يلزمه المُضِيُّ إليها ولا يلزم المصير إلى المدينة. قيل له: تُرى عرفات يلزم المضيّ إليها؟ ولا نقول إنها خير من المدينة. والصّحيح أنّ مكّة أفضل من المدينة بأمور نُوِردُها الآن عليكم، إذ ليس تفضيل البقاع بعضها على بعضٍ لمعنًى موجودٍ في ذواتها، وإنّما تتضاعف الحسنات والسَّيئات فيها (¬1) كما تقدّم، وقد استدلّ القاضي عبد الوهّاب (¬2) في تفضيل المدينة على مكّة بظواهر وآثار كثيرة حماية لمذهب المَدَنِييِّن في تفضيل المدينة على مكّة، فممّا استدلّ به حديث ابن خديج أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "المدِينَةُ خَيرٌ مِنَ مَكَّةَ" (¬3)، قال (¬4): "وهذا نصٌّ في تفضيل المدينة على مكّة" وليس بنصّ كما زعم، إذ لم يقل: إنّها أفضل منها، وإنّما قال: إنّها خير منها في المسكن (¬5)، والله أعلم، والمهاجو فيها في سَعَة الرِّزق فيها لكثرة الزَّرع والنّخيل. ¬
واستُدِلَّ أيضًا (¬1) بدعاء النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الّذي خرَّجه البزّار عن عبد الله بن عديّ بن الخيار (¬2) الزّهريّ، أَخبَرَهُ أنّه سمع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول -وهو واقف بالحَزوَرةِ (¬3) من سوق مكّة -وهو يقول: "وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرضِ الله، وَأَحَبُّ أَرْضِ الله إلَى الله، ولَولَا أَنِّي أُخرِجتُ مِنكِ مَا خَرَجتُ" (¬4) وهكذا رواهُ صالحُ بن كيسان (¬5) وجماعة (¬6) عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عدي بن الخيار (¬7): أنّه سمع من النّبيّ -عليه السّلام- مثله، وهو حديثٌ لا يختلف أهل العلم في صِحَّتِه. وأمّا ما رُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال حين خرج منِ مكّة إلى المدينة: "اللَّهُمَّ إِنكَ تَعْلَمُ أَنَّهُم أَخرَجُونِي مِن أَحَبِّ البِلَادِ إِليَّ، فأَسكِنِّي فِي أحَبِّ البِلَادِ إِلَيكَ" (¬8) فَهُوَ حديثٌ ¬
موضوعٌ مُنكَرٌ، لا يُختَلَفُ في نَكَارَتِهِ وضعْفِهِ (¬1)، وأنّه موضوعٌ، وبنسبون وَضعَهُ إلى محمّد بن الحسن بن زبالة المدني، وحملوا عليه فيه وتركوه (¬2). فهذا ممّا احتجّوا به وجعلوه أصلًا في هذا المعنى. قلنا (¬3): لا حجّة فيه لضَعفِه. وأيضًا: فإنّه لو كان صحيحًا لم تكن فيه حجّة؛ لأنّه ليس على عمومه، ومعناه: فأَسْكِنِّي أحبَّ البقاع إليك بعد مكّة، بدليل ما تقدّم من أنّ مكّة أفضل من المدينة بالنّص الّذي ذكرناه (¬4)، وبما رَوَى (¬5) ابن وهب عن مالك أنّ آدم - صلّى الله عليه وسلم - لَمَّا أُهبِطَ من الجنَّة إلى أرضِ الهند قال: "يا ربِّ هذه أَحَبُّ الأرضِ إليكَ أنّ تُعْبَدَ فِيهَا؟ قَالَ: بَلْ مَكَّةُ، فسار آدمُ حتّى أتَى مكّة فوجدَ عندها ملائكة يطوفونَ بالبيتِ ويَعبُدُونَ الله، فقالوا: مرحبًا يا آدم يا أبا البَشَرِ، إنَّا ننتظرُكَ هاهنا منذُ أَلفَي سَنَةٍ" فهذه حكايةُ مالكٍ وقولُه وخَبَرُه عن مكَّةَ. ومن فضيلة مكّة: ما جعل الله فيها من الأمر العظيم، أنّ جعلَ قِبلته إليها وبيته فيها، ورِضَا الله عن عباده بحطِّ أوزارهم، بأن يقصد المقاصد حاجًّا مرّة من عمره، فيحطَّ الله عنه ذنوبه ويأمن النّار (¬6). ¬
باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج عنها
واستَدَلَّ (¬1) أيضًا: بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بِقَريَةٍ تَأكُلُ القُرَى" الحديث (¬2)، وذلك من علامات نُبُوَّيِه، أخبر بما كان قبل أنّ يكون، فلا دليل في ذلك على أنّها أفضل من مكّة (¬3). واحتجّوا أيضًا (¬4): بقوله -عليه السّلام-: "عَلَى أَنقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدخُلُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ" (¬5) وهذا (¬6) لا دليل فيه؛ لأنّه قد ورد الحديث فيهما جميعًا أنّه لا يدخل مكّة ولا المدينة. فالبقاعُ لم يُفَضَّل بعضها على بعض لمعنًى موجودٍ فيها من خاصّةٍ تختصّ بها، وإنّما فضّلت عليها بتفضيل الله لها برفع درجات العاملين فيها، على ما بيَّنَّاهُ (¬7). باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج عنها قوله في حديث ابن عمر (¬8): اقْعُدِي لُكَعُ (¬9)، فَإِنِي سَمِعتُ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يَصبِرُ عَلَى لأوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلَّا كُنتُ لَهُ شَفِيعًا يَومَ القِيَامَةِ". ¬
وفيه فوائد: الأولى (¬1): قيل: إنّها اشتكت مولاة ابن عمر إليه ضيق حَالِهَا في معيشتها، وعرضت له بالمسألة رجاءَ رِفْدِهِ، فَكَرِهَ أنّ يفتخر عند جُلَسَائِه بالقيامِ بها، فذكرَ لها عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - ما ذَكَرَهُ، وفهِمَت عنه فقعدت، والله أعلم. الفائدةُ الثّانية (¬2): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا يَصبِرُ عَلَى لأوَائِهَا وَشِدَّتِهَا" الحديث. قال علماؤنا (¬3): خرجَ هذا المعنى على فقراءِ المهاجرين الذين كانوا يلزمون رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على شبعِ بطونهم، وعلى أقلّ من الشبعِ، ومعلومٌ أنّ من أقام معه -عليه السّلام- حتّى يظهر أمرُ الله جديرٌ بأن ينالَ شفاعَتَهُ وشَهَادَتَهُ له يوم القيامة، بمؤازرته والرِّضا بالدُّونِ من العيش لصحبته. وللمدينة بهذا الحديث وما كان مثله فضلٌ عظيم، ولا خلاف بين العلماء المتقدِّمين والمتأخِّرين في فضلها، وأنّها أفضلُ البقاعِ وجميع ما على الأرض، إِلَّا مكّة، فإنّ جماهير العلماء والحُذَّاق منهم من أهل النَّظَرِ والتّحقيقِ؛ أنّ مكّة أفضل بقاع الله، وهو الصّحيح من القول. حديث مالك (¬4) عن مُحَمَّد بنِ المُنكدِر، عَنْ جَابِرِ بنِ عبْدِ الله؛ أنّ أَعرَابِيًا بَايَعَ ¬
رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - على الإسلَامِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالمَدِينَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَقِلنِي بَيعَتِي فَأَبَى. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَقِلنِي بَيعَتِي فَأَبِى فخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَال رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ المَدِينَةَ كَالكِيرِ تَنفِي خَبَثَهَا وَينصَعُ طِيبُهَا". الإسناد: قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ. الفائدةُ الأولى (¬1): وهذا الأعرابيُّ كانت بيعتُهُ لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - والهجرة لوَطَنِهِ والمقام مَعَهُ، وهذا نوعٌ من البيعات الّتي كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يأخذُها على النَّاس، وكان على النَّاس في ذلك الوقت فرضًا إذا أسلموا أنّ ينتقلوا إلى المدينة إذ لم يكن للإسلام في ذلك الوقت دارٌ غيرها، ويقيموا معه ليصرفهم فيما يحتاج إليه من غزو الكفار وحفظ المدينة ممّن أراد بهم سوءًا، إلى غير ذلك من المعاني. تنبيه (¬2): وهذا الأعرابيُّ كان ممّن بايع رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - على المُقَامِ بالمدينةِ، فلمّا لحِقَه من الوَعكِ ما لَحِقَه، أراد الخروجَ عنها إلى وطنه، ولم يكن - والله أعلمُ- ممّن رسَخَ الإِسلامُ والإيمانُ في قلبه، بل كان من الذين قال الله فيهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬3). الفائدةُ الثّانية (¬4): قولُه: "إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا" فلا خَبَثَ أكثرُ دناءةً ممّن رغِبَ بنفسه عن ¬
رسول الله وعن صُحْبَتِه. الفائدةُ الثّالثة (¬1): أمّا قوله: "وَينْصَعُ طِيبُهَا" فالنّاصعُ: الخالصُ السالمُ الباقي على النّار، النَّقِيُّ الطَّيِّب من الحديد، كما قال النّابغة (¬2): أَتَاكَ بِقَولٍ هَلهَلِ النَّسْجِ كَاذِبٍ ... وَلَمْ يَأتِ بِالحَقِّ الَّذِي هُوَ نَاصِعُ وحديثُ مُجَاشِع بن مسعودٍ، قال: أتيتُ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لأُبايِعَه على الهجرة، فقال عليه السّلام: "قَد مَضَتِ الهِجرَةُ لأَهلِهَا، وَلَكِن عَلَى الإِسلَامِ وَالجِهَادِ وَالبِرِّ وَالخَيرِ" (¬3). وحديثُ يَعلى بن أُمَيَّةَ، قال: أتيتُ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - بأبي يومَ الفتحِ فقلتُ: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرةِ، قال: "أبايِعُهُ على الجِهَادِ وَقَدِ انقَطَعَتِ الهِجرَةُ؟ " (¬4). وقال -عليه السّلام-: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتحِ وَلَكِن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" (¬5). حديث أبي هريرة (¬6)، قال: "سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "أُمِرْتُ بِقَريَةٍ تَأكُلُ القُرَى، يَقُولُون: يَثْرِبُ (¬7)، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَما يَنفِي الْكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". الأصول: قال علماؤنا: في هذا الحديث دلالةٌ على أعلامِ نبوَّة نبيّنا؛ لأنّه أخبر عمّا كان قبل ¬
أنّ يكون. وأنَّ المعنى فيه: أمرتُ بالهجرة إلى قريةٍ تُفْتَحُ القُرَى منها (¬1)، أي المدن، فكان ذلك كما قال، كان في حياته وبعد مماته، ولا دليل فيه على أنّ المدينة أفضل من مكّة على ما تقدّم من الأدلّة. وقد قال علماؤنا (¬2): هذا كلامُ عمومٍ، ومعناه الخصوصُ؛ لأنّها لم تَنفِ من النَّاس على عهد رسول الله وفي حياته إلَّا مَنْ لا إيمانَ له ولا خيرَ فيه ممّن رغِبَ بنفسه عن نَفسِ رسول الله ونُصرتِهِ وصُحبته. والدّليل على أنّ ذلك كلامٌ خرجَ على صحبته والمقام معه في حياته: خُروجُ الجِلَّةِ من الصَّحابةِ عن المدينة بعد وفاته إلى العراق والشّام وسائر البلدان، يُعلِّمون النَّاسَ الدِّينَ والقرآن، فكان منهم من سكن حمصَ ودمشقَ وغيرها من بلاد الشّام، وكان منهم من سكن الكوفةَ والبصرةَ وسائر بلاد العراق. حديث هشام بن عُروَة (¬3)، عن أبيه؛ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا يَخرُجُ أَحَدٌ مِنَ المَدِينَة رَغبَةً غنها، إِلَّا أَبدلَهَا الله خَيرًا مِنهُ". الإسناد (¬4): هذا الحديث مقطوع، وقد وَصَلَهُ مَعْنُ بنُ عيسى، عن مالك في "الموطَّأ" عن عائشة (¬5)، وقد رُوِيَ أيضًا مُسنَدًا من حديث أبي هريرة (¬6)، وجابر (¬7). ¬
التنبيه عليه (¬1): قال علماؤنا (¬2): وهذا عندنا مقصورٌ على حياة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -؛ فإنّ الله كان يُعَوِّضُ رسولَهُ أمرءًا خيرًا ممّن يرغب عنه، وأمّا بعد وفاته، فقد خرج منها من لم يعوّضها الله خيرًا منه من الصّحابة، فهو مقصورٌ على حياة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -. وممّا يقوِّي هذا قولُ عمر: لَا هِجرَةَ إِلَينَا بَعْدَ النَّبيِّ -عليه السّلام- (¬3). حديث سُفيَانَ بنِ أَبِي زُهيرٍ (¬4)؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعتُ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "تُفْتَحُ اليَمَنُ فَيَأتِي بِقَومٍ يَبِسُّونَ، فَيَتَحَمِّلُونَ بِأَهلِيهِم وَمَن أَطَاعَهُم، وَالمَدِينَةُ خَيرٌ لَهُم لَو كَانُوا يَعلَمُونَ" الحديث. عربيّة (¬5): أمّا قوله في هذا الحديث: "يَبِسُّونَ" فاختلفت الرِّواية في ضبطه، فَرُوِيَ بفتح الياء وكسر الباء وبضمّها أيضًا، وهذه رواية ابن القاسم، وابن بُكَير، ويحيى من رواة "الموطَّأ". ثمّ اختلفوا في تفسيره، فقال ابن القاسم عن مالك: يَبسُّون يدعون (¬6). وقال ابن بُكَيرٍ (¬7): ¬
معناه يسيرون (¬1)، من قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (¬2) ورواه ابنُ وهبٍ: يُبسُّون بضمِّ الياء من الرُّبَاعي، وفسره فقال: يُزَيِّنون لهم الخروج (¬3). وكذلك رواه ابنُ حبيبٍ عن مُطَرِّف وفسَّرَهُ بنحو ذلك، فقال (¬4): "يُزَيِّنون لهم البلدَ الّذي جاءوا منه، ويحبِّبونَهُ إليهم، ويَدْعُونَهم إلى الرّحيل إليه من المدينة، وذلك مأخوذٌ (¬5) من إبْسَاسِ الحَلُوبَةِ (¬6) عند حِلَابِها حتّى تَدُرُّ باللَّبن، وهو أنّ يجرَّ يده (¬7) على وجهها وصَفْحَة عُنُقِها، كأنّه يُزَيِّنُ ذلك عندها" (¬8). الثّانية (¬9): أمّا قولُه: "وَالْمَدِينَةُ خيرٌ لَهُم" فالخير ههنا من طريق الفضل؛ لأنّ سُكْنَى المدينة للصّلاة في مسجد النّبيّ -عليه السّلام- الّذي صلاةٌ فيه خير من الصّلاة فيما سِواهُ من المساجد، وأفضلُ بألفِ درجةٍ، إِلَّا المسجدَ الحرامَ فإنّ الصّلاة فيه أفضلُ لما قدّمناه (¬10). ولم يذكر في هذا الحديث مكَّةَ، وقد عَلِمَ أنّها ستُفْتَحُ عليه كما تُفتَحُ الشّام والعراق واليمن؛ لأنّ مكّة ليست كغيرها. ¬
حديث مالك (¬1)، عن ابن حِمَاسٍ، عن عَمِّه، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَتُترَكَنَّ المَدِينَةُ عَلَى أَحسنِ مَا كَانَت، حَتَّى يَدخُلَ الكَلبُ أَوِ الذِّئبُ فَيُغَذِّى عَلَى سَوَارِي المسجِدِ، أَؤ عَلَى المِنبَرِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانُ؟ فَقَالَ: "لِلعَوَافِي، الطَّيرِ وَالسِّبَاعِ". الإسناد (¬2): قال الإمام: الحديث صحيح. واختلف جماعةُ الرواةِ عن مالك في اسم ابن حِمَاسٍ هذا. فقيل: يوسف بن يونس (¬3). وقيل: يونس بن يوسف (¬4). وقيل: إنَّ يوسف بنَ يوسف غيرُ ابنِ حماسٍ هذا. وقد روى هذا الحديث جماعةٌ عن مالك عن ابن حِمَاسٍ هكذا غير منسوبٍ ولا مُمَيِّزِ كما رواه يحيى (¬5). وليس هذا الإسناد عندهم بالبيِّن، ولم يحتجّ به مالك في حكم دمٍ ولا فَرْجٍ ولا ¬
مالي، وذُكِرَ أنّه كان فاضلًا عابدًا مجابَ الدَّعوةِ (¬1). عربيّة: وأمّا (¬2) قولُه "لِلعَوَافِي" وتفسيره له بالطَّير والسِّباع، فهو كما قال أهل المعرفة باللِّسان، ويشهَدُ لذلك حديثُ أم سَلَمَةَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ مسلِمٍ يُحيِي أَرضًا فتُصِيبُ مِنْهَا عَافِيَةٌ أو يشربُ منها كَبِدٌ حَرَّا إِلَّا كَتَبَ الله لَهُ بِذَلِكَ أَجرًا" (¬3). والعافيةُ واحدُ العوافِي، والعافي: الطّالبُ للحاجة، وجَمْعُه عوافٍ وعفاةٌ (¬4)، قال الأعشى (¬5): يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبوَابِهِ ... كَطَوفِ النَّصَارَى بِبَيتِ الوَثّنْ وفيه إخبار عن غيب يكون، فكان كما قال، وهي معجزةٌ. ومعنى قوله: "يُغَذِّي" أي: يبول (¬6). وقوله: "أَو عَلَى المِنبَرِ" شكّ من المحدِّث. حديث مالك (¬7)، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بنَ عَندِ العَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ التَفَتَ ¬
إِلَيهَا، فَبَكَى. ثُمَّ قالَ: "يَا مُزَاحِمُ، أَتَخْشَى أَنْ نَكُونَ (¬1) مِمَّنْ نَفَتِ المَدِينَةُ؟ ". قال الإمام (¬2): هذا إشفاقٌ منه، وقد خرج الفضلاءُ الجِلَّةُ منها ولم يخافوا ما خَافَهُ عمر، وما الخوفُ والإشفاقُ والتّوبيخُ لنفس إِلَّا زيادةً في العمل. وذَكَرَ أهلُ السِّير (¬3) أنّ خروجَ عُمَرَ مع مُزَاحِم مَزلَاهُ (¬4) من المدينة كان في رمضان سنةَ ثلاثٍ وتسعين، وذلك أنّ الحجَّاجَ كتب إلى الوليدِ، أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيز بالمدينة كهفٌ لأهل النّفاقِ وأهلِ البغضاءِ والعداوةِ لأمير المؤمنين، فجاوَبَهُ الوليدُ: إنِّي أَعْزِلهُ، فعزَلَهُ، وولَّى عثمانَ بنَ حَيِّانَ المُرِّيَّ (¬5)، وذلك في شهرِ رمضانَ المذكررِ (¬6). فلمّا صار عمر بالسُّوَيداءِ، قال لمُزَاحِم: يا مزاحمُ، أخافُ أنّ نكونَ ممّن نفتِ المدينةُ. قال ميمونُ بنُ مِهرَانَ: ما رأيتُ ثلاثةً مجتمعين خيرًا من عمرَ بن عبد العزيز، وابنِهِ عبدِ المَلِكِ، ومولاه مُزَاحِمٍ (¬7). ¬
تحريم المدينة
تحريم المدينة مالك (¬1)، عَنْ عَمرٍو بنِ أَبِي عَمرٍو مَولَى المُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ، فَقَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أحَرِّمُ مَا بَينَ لَابَتَيهَا". الإسناد (¬2): هكذا رواه مالك مختَصَرًا، ورواه إسماعيل بن جعفر، فذكر فيه معانِيَ لم يذكرها مالك، ذكره سُنَيد (¬3). الأصول: قال الإمام (¬4): أنا محبَّتُه للجبل فمعقولةٌ، وأمّا محبَّةُ الجبلِ له فأكثرُ (¬5) العلّماءِ يحملونه على المجاز. قال العلماء (¬6): معناه: ويحبّنا أهله (¬7)، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقيل: عبَّرَ بلسان الحال على لسان المقال. والمعنى (¬8) عندهم في ذلك كالمعنَى ¬
في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬1) يعني: أهل القرية، فكذلك قولُه في أُحُدٌ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" المعنى: يحبُّنا أهلُه يعني الأنصار الساكنين قُربَهُ وكانوا يحبُّون رسولَ الله وُيحبُّهم (¬2)؛ لأنّهم آوَوهُ ونصروه وأعانوا على إقامة دِينِهِ. وقد قيل في المجاز وجهٌ آخر، وذلك أنّه كان -عليه السّلام- يفرحُ باُحُدٍ إذا طلعَ له استبشارًا بالمدينة ومَنْ فيها من أهله وذُرِّيَّتِه، ويحبّ النّظر إليهم ويبتهجُ للأَوبَةِ من سَفَرِه، والتزول على أهله وأَحِبَّتِهِ (¬3). وقوله: "يُحِبُّنَا" أي: لو كان ممَّن تصحُّ منه المحبَّة لأحبنا كما نحبُّه. وقد قيل (¬4): إنَّ محبَّته حقيقة، كما يسبِّحُ كلُّ شيءٍ حقيقة، ولكن لا يفهم ذلك النَّاسُ، وغيرُ نَكيرٍ أنّ يصنع الله محبّةَ رسوله في الجماد وفيما لا يَعقِلُ عقل الآدميين، كما وضع -عَزَّ وَجَلَّ- خشيته في الحجارة، فأخبر أنّ منها ما يهبطُ من خشية الله، وكما وضع في الجِذْعِ محبته -عليه السّلام- حتّى حنَّ إليه حنينَ النّاقةِ إلى ولدها، رواه أنس (¬5) وجابر (¬6) وغيرهما (¬7)، ومثلُ هذا كثيرٌ. حديث مالك (¬8)، عَنْ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ ابنِ المُسَيبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ ¬
يَقُولُ: لَو رَأَيتُ الظِّبَاءَ تَرتَعُ مَا ذَعَرتُهَا (¬1)، قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا بَينَ لَابَتَيهَا حَرَامٌ". الغريب (¬2): اللّابتان: الحَرَّتان، واللّابةُ الحَرَّةُ، وهي الأرض الّتي أُلبِسَتِ الحجارةَ السُّودَ الجَرَدَ (¬3)، وجمع اللّابَةِ: لاباتٌ ولُوبٌ (¬4)، وكذلك فسَّرَهُ ابنُ وهب (¬5) وغيره. الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬6): قال علماؤنا (¬7): هذا الّذي حرَّم رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - من المدينة إنّما هو في قتل الصَّيد، قيل له (¬8): فما حرّم منها في قطعِ الشّجر؟ قال: حدٌّ ذلك بريدٌ في بريدٍ، بلغني ذلك عن عمرَ بنِ عبد العزيز (¬9). وقال ابنُ نافع: اللّابتان، إحداهما الّتي ينزلُ بها الحُجَّاجُ إذا رجعوا من مكَّة، وهي بغربيّ المدينة، والأخرى ممّا يليها من شرقيّ المدينة، قال: ما بين هاتين الحَرَّتَينِ حرامٌ أنّ يُصاد فيها وَحْشٌ أو طيرٌ (¬10). ¬
المسألة الثّانية (¬1): أجمع الفقهاءُ من أيمّة الفتوى بالأمصار وأتباعِهِم أنّ لا جزاءَ في صيد المدينة (¬2)، وشذّت فرقةٌ، فقالت: فيه الجزاء؛ لأنّه حرمُ نَبِيٍّ قياسًا على مكّة؛ لأنّها حَرَمُ إبراهيم. واتَّفق مالكٌ والشّافعيُّ (¬3) وأصحابُهُما وابنُ حنبل (¬4) وجمهورُ العلماء أنّ الصَّيد في حَرَم المدينة لا يجوز، وعلى ذلك كان أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬5). وشذّ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: صيدُ المدينةِ غير محرَّمٍ، وكذلك قطع شجرها (¬6)، واحتجّ الطّحاوي لهم (¬7) بحديث أنسٍ، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دخل حارتَهُم، فقال: "أبا عمير ما فعل النُّغَير" (¬8)، وأبو عُمَير كان أخًا صغيرًا لأنسٍ، وكان له نُغَير يلعبُ به (¬9)، وهذا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنّه يمكن أنّ يكون النُّغَير في حرم المدبنة أو في غيره (¬10). حديث مالك (¬11)، عن رَجُلٍ (¬12)، قال: دَخَلَ عَلَيَّ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ وَأَنَا بِالأَسوَافِ قَدِ ¬
ما جاء في وباء المدينة
اصطَدتُ بِهَا نُهَسًا، فَأَخَذَهُ مِن يَدِي فَأرْسَلَهُ. الغريب (¬1): الأسواف (¬2): موضعٌ بناحية البقيع من المدينة، وهو موضع صدقةِ زَيدٍ ومَالِهِ. والنُّهَسُ (¬3): طائر يقال إنّه الصُّرَدُ. وقيل: إنّه يُشبهُ الصُّرَدَ، وليس به، وهو أصغرُ من الصُّرَدِ مثل القَطَاميّ والبَاشَق. وقيل: إنّه اليمام. ما جاء في وباء المدينة مالك (¬4)، عن هشام بن عُروَةَ، عن أبيه، عن عائشة؛ أَنَّها قَالَت: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - المدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بكرٍ وَبِلَالٌ، فَدَخَلتُ عَلَيهِمَا، فَقُلتُ: يَا أَبَتِ كَيفَ تَجدُكَ؟ ويَا بِلَالُ كَيفَ تَجِدُكَ؟ قَالَت: فَكَانَ أَبُو بَكرٍ إِذا أخَذَتهُ الحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امرِىءٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالمَوتُ أَدنَى من شِرَاكِ نَعلِهِ وَكانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرفَعُ عَقِيرَتَهُ ويقُولُ: أَلَا لَيتَ شِعرِي هَل أَبِيتَنَّ لَيلَةٌ ... بِوَادٍ وَحَولِي إِذخِرٌ وَجَلِيلُ ¬
ؤهَل أَرِدن يَومًا مِيَاهَ مَجَنَّةِ (¬1) ... وَهَل يَبدُوَن لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَث عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا: فَجِئتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَأَخبَرتُهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا المَدِينَة كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشّدَّ، وَانقُل حُمَّاهَا وَاجعَلهَا بِالجُحْفَةِ" (¬2). حديث مالك (¬3)، عن يحيى بن سعيد، أنّ عائشة (¬4) زوج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قالت: وكان عَامِرُ بنُ فُهَيرَةَ يقول: قَد رَأَيتُ المَوتَ قَبلَ ذَوقِهِ إِنَّ الجَبَانَ حَتفُهُ من فَوقِهِ وزاد (¬5) ابنُ عُيَينَةَ (¬6) في هذا عن عامر بن فُهَيرَةَ: كَالثَّورِ يَحمِي جِلدَهُ بِرَوقِهِ (¬7) وذكر أنّ الدّاخلَ عليهم والسّائلَ لهم عن أحوالهم، والقائلَ لكلِّ واحد منهم: كيفَ تجدُكَ، رسولُ الله لا عائشة. والصّحيحُ ما رواه مالك: لأنّه لم يختلف الرّواةُ عنه في ذلك، وأنّه جَوَّدَهُ سَنَدًا ومعنىً. ¬
العربيّة (¬1): قوله: "إِذخِرٌ وجَلِيلُ" فهما نبتان من الكلأ يكونان بمكّة وأوديتها، لا يكادان يوجدان بغيرها (¬2). وشَامَةُ وَطَفيلٌ: جبلان بينهما وبين مكَّةَ ثلاثون ميلًا (¬3). الفوائد المستفادة من هذا الحديث: وهي ثلاث: الفائدةُ الأولى (¬4): في هذا الحديث عِيادةُ الجِلَّةِ الأشرافِ السّادةِ لعبيدهم وإخوانهم، وذلك تواضُعٌ. وكان بلال وعامر بن فُهَيْرَة عَبدَينِ لأبي بكر أعتقهُما. الفائدةُ الثّانية (¬5): وفيه تمثُّلُ الصَّالحين والعلّماء الفضلاء بالشِّعر، وفي ذلك دليلٌ على إنشاد الشِّعْر الرّقيق، وجرازِ ذلك إذا لم يكن في الشِّعر فُحشٌ. التالثة (¬6): وفيه رَفعُ العقيرةِ بالشِّعرِ، ورفعُ العقيرة هو الغناءُ العربي، يسمُّونَهُ غناء الرّكبان، ¬
وغناء النّصب، والحُدَاء، وما أشبه ذلك. والعقيرة: صوت الإسناد (¬1)، قاله صاحب العين (¬2). حديثُ مالكِ (¬3)، عن نُعَيْمِ بْنِ عبد الله، عن أبي هريرةَ؛ أنّه قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "عَلَى أَنقَابِ المَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ". الإسناد: صحيح خرَّجَهُ الأيِمَّة (¬4)، وله طُرقٌ حِسَانٌ بينّاها في "التمهيد". العربيّة (¬5): الأنقابُ: الطّرُقُ والفِجَاجُ، الواحدُ نَقْبٌ (¬6)، ومن ذلك قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} (¬7) أي: جعلوا فيها طُرُقًا ومسالِكَ. الفوائد في هذا الحديث: ¬
الأولى (¬1): في هذا الحديث فضلٌ كثيرٌ للمدينة، إذ لا يدخلها الدَّجَّالُ وهو رأسُ كلِّ فتنةٍ، وقد رُويَ عن النّبيِّ -عليه السّلام-: أنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدخُلُ مَكَّة وَلَا المَدِينَةَ (¬2). الثّانية (¬3): قد روي عن جابر بن عبد الله أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يخرجُ الدَّجَّالُ في خَققَةٍ من الدَّينِ (¬4)، وإِدْبَارٍ من العِلْمِ، لَهُ أَرْبعونَ ليلةً يَسِيحُهَا في الأرضِ، اليومُ منها كالسُّنَّةِ، واليومُ منها كالشَّهرِ، واليومُ منها كالجُمُعةِ، ثمّ سائرُ أيَّامِهِ كأيّامكُم هذه، وله حمارٌ يركَبهُ، عرضُ ما بين أُذُنَيه أربعون ذراعًا، فيقولُ للناسِ: أنا رَبَّكُم، وهو أعورُ، وإنَّ رَبَّكُم ليس بأعورٍ، مكتوبٌ بين عَينَيْهِ: كافر، يقرأُه كُلُّ مؤمنٍ كَاتِبٍ وغير كاتِبٍ، يَرِدُ كُلَّ ماءٍ ومَنهَلٍ إلَّا المدينةَ ومكّةَ حَرَّمَهُمَا الله عليه، وقامت الملائكةُ بأبوابِها" (¬5) وذِكرُ الحديثِ (¬6). بطُولِهِ يأتي إنَّ شاء الله، بيانُه في بابهِ من هذا الكتاب. ¬
ما جاء في إجلاء اليهود
مَا جَاءَ في إجْلَاء اليَهُودِ مالك (¬1)، عن إسماعيلَ بن أبي حَكِيمٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عبدِ العَزِيزِ يَقُولُ: كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَنْ قَالَ: "قَاتَلَ الله الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ لَا يَبقَيَنَّ دِينَانِ بِأرْضِ العَرَبِ". التّرجمة: قال أبو عمر (¬2): "كذا عند يحيى ترجمةُ هذا البابِ، وعند ابن بُكَيرٍ: في إجلاء اليهود من المدينة. وعند القعنبيّ: في إجلاء اليهود والنّصارى من جزيرة العرب" وهو الأشهر. الإسناد: صحيح (¬3)، وهو يُسنَدُ من وجوهٍ صِحَاحٍ من حديث أبي هريرة (¬4)، وعائشة (¬5)، وغيرهما، وهو عند مالك وغيره عن ابن شهاب، عن ابن المُسَيِّب، عن أبي هريرة (¬6). الفوائد المنثورة فيه: الأولى: فيه قوله (¬7): قال مالك: قال ابنُ شهابٍ "فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلَجُ وَالْيَقِينُ، أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَجتَمِعُ دِينَانِ في جَزِيرَةِ الْعَرَبِ" فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ. ¬
جامع ما جاء في أمر المدينة
قال مالك (¬1): وَقَد أَجلَى عُمَرُ يَهُودَ فَدَكَ وَنَجْرَانَ، فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَر فَخَرَجُوا مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمرِ وَلَا مِنَ الأَرضِ شيءٌ، وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ* لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَر ونِصْفُ الأَرضِ؛ لأَنَّ رسولَ الله كَانَ صَالَحَهُم على نِصَفِ الثَّمَرِ* وَنِصْفِ الأَرْضِ، قِيمَةً من ذَهَب وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ، ثُمَّ أَعْطَاهُمُ القِيمَةَ وأَجْلَاهُمْ. الثّالثة (¬2): قوله: "في جَزيرَةِ العَرب" اختلف النَّاس في ذلك، فقيل (¬3): جزيرة العرب: مكّة والمدينة واليمن مدنها وقُرَيَّاتُها (¬4). وقال مالك: هي مكّة والمدينة واليمامة واليمن (¬5). قال الشّافعيُّ: هي ما قال مالك، إِلَّا اليمن فليست من جزيرة العرب. والصواب ما قاله مالك، والله أعلم. جَامِعُ مَا جَاءَ في أَمْرِ المَدِينَةِ مالك (¬6)، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ القاسمِ؛ أَنَّ أسلَمَ مولى ¬
عُمَرَ أَخبَرَهُ؛ أَنَّهُ زَارَ عَبدَ الله بنَ عَيَّاشٍ فَرَأَى عِنْدَهُ نَبِيذًا وَهُوَ بِطَريقِ مَكّةَ، فَقَال لَهُ أَسلَمُ: إنَّ هَذَا الشَّرابَ يُحِبهُ عُمَرُ، فَحَمَلَ عَبدُ الله بنُ عَيَّاشٍ قَدَحًا عَظِيمًا، فَجَاءَ بِه عُمَرَ فَوضَعَهُ في يَدِهِ، فَقَرَّبَهُ عُمَرُ إلَى فِيهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ طَيِّبٌ فَشَرَبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلًا عَنْ يَمِينِه، فَلَمَّا أَدبَرَ عَبدُ الله نَادَاهُ عُمَرُ فقَالَ: أأَنتَ القَائِلُ لَمَكَّةُ خَيرٌ مِنَ المَدِينَةِ؟ فقَالَ عَبْدُ الله: هِيَ حَرَمُ الله وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لا أَقُولُ - في بَيتِ الله ولَا في حَرَمِهِ شَيئًا - ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخرَى ثُمَّ انْصَرَفَ. الإسناد (¬1): قال الإمام: رُوِي هذا الخَبَر في موطَّأ ابن بُكَير ويحيى، عن مالك، عن يحيى بن سعيدٍ، عن ابن القاسم. ورواه القَعنَبِيُّ، عن مالك، عن ابن القاسم، ولم يذكر فيه يحيى بن سعيد. الفوائد المطلقة: وهي أربع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬2): أمّا النَّبيذ الّذي قال فيه عُمَر: "إنَّ هَذَا الشَّرَابَ طَيِّبٌ"، فقد مضَى في كتابِ الأشربةِ (¬3) ما يُفَسِّرُ الطَّيِّبَ من غير الطَّيِّبِ، فكلُّ شرابٍ حُلوٍ لا يُسكِرُ الكثيرُ منه فهو الطَّيِّبُ، وما يُسكِرُ منه فهو خبيثٌ لاطَيِّبٌ. الثّانية (¬4): وأمّا مناولته اليمين، فهو من حُسْنِ الأدبِ (¬5)، وسيأتي في موضعه. ¬
الثّالثة (¬1): وأمّا قولُ عمر لعبد الله بن عيَّاش: "أأَنتَ القَائِلُ: لَمَكَّةُ خَيرٌ مِنَ المَدِينَةِ": فقد ظَنَّ قومٌ (¬2) أنّ ذلك حُجَّةٌ في تفضيل المدينة على مكّة؛ لأنّ ظاهر قول عمر توبيخه على ذلك، وليس ذلك عندي ممّا يدلُّ على أنَّ المدينة أفضل من مكّة. وأيضًا: فإن لفظ "خَير"، ليس بمعنى أفضل؛ وممّا يُقوِّي هذا ما رُويَ أنّ عقيل بن أبي طالب- وكان أحد الفُصَحَاءِ- لمّا أعطاهُ معاويةُ عَطاءَ جَزلًا، قال له: من خيرٌ لك أنا أو أخوك؟ فقال: أنت خيرٌ لي من أخي، وأخي خيرٌ لنفسه منك، ومعلومٌ أنّ أخاه عليَّ ابنَ أبي طالب كان عنده أفضلَ أهل زمانه، ولكنّ معاويةَ كان خيرًا له في دنياه. الرّابعة (¬3): أمّا مالك فلم يختلف عنه أصحابُهُ في أنّ المدينةَ أفضلُ من مكّةَ ومن سائر البلاد، وكان يقول: هي ممّا خص الله بهِ نبيّه من سكنى المدينة، وما خصّها الله به من الخير، أنّها محفوفةٌ بالشهداءِ وعلى أنقابها الملائكةُ، لا يدخلُها الطّاعونُ ولا الدَّجَّالُ، وهي دارُ الهجرةِ والسُنَّةِ، وبها كان ينزل الوحيُ بالفرائضِ والأحكامِ، وبها خِيَارُ النّاسِ بعد رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، واختارها الله لنبيِّهِ في حياته وبعد مماته، فجعل بها قبره، وبها روضةٌ من رياضِ الجنَّةِ. قال الإمام: وما احتجّ به مالك ليس هو مسألة إجماع، لما ورد أيضًا في فضلِ مكّة وما خصّها الله به من البيتِ وأنّها قبلة للعالَمِين. وأيضًا: فإنّ خصائص النَّبيِّ -عليه السّلام- منها ما هو موقوفٌ عليه في حياته لا بعد مماته، وهو أكثر، والَّذي خُصَّ به رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرون خصلة: الأولى: خصَّهُ بسُكنَى المدينةِ، وذَكَرَها في القرآن كما ذكر مكّة، فقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآية (¬4). ¬
الثّانية: خَصَّهُ بالتَّهجُّد (¬1) في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬2). فإذا قِستَ تعبكَ إلى ثوابكَ كانت نافلة، وهي ترجع إليك من غير إيجاف خيل ولا رِكَابٍ. وقيل: إنّه الوِترُ، كان واجبًا عليه (¬3). والأصحُّ: أنّه قيام اللَّيلِ. ورُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: " كُتِبَت عَلَىَّ الأُضحِيَةُ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالوِترُ، وَلَم يُكتَبْ عَلَيكُمْ" (¬4). والصّحيح أنّه هو: التهجّد وإن قلّ. الثّالثة: التَّخْيِيرُ بين نسائه، فلا تصحبه امرأة تَكرَهُ صُحْبتَهُ، لقوله: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية (¬5). ¬
الرّابعة: حُرمَت عليه صدَقة الفرض وعلي بني هاشم (¬1)، ومنه حديث التّمرة الّتي أخرجها من فم الحسن ... الحديث (¬2). الخامسة: صدقةُ التّطوُّع (¬3) على أحد القولين؛ لأنّها من أوساخ النَّاس فيتنزّه عنها كما في صَدَقَةِ الفَرْضِ. وقيل: لم تُحَرَّم عليه، الا أنّه نَزَّهَ نفسَهُ عنها فلم يقبلها قطُّ (¬4). السّادسة: حرم عليه خائنة الأَعْيُنِ (¬5)، وفي حديث عمر مع أبي سفيان، إذ قال له: هلّا غمزتَ عليَّا بعينك يا رسولَ الله، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما كان لرسول الله أنّ تكون له خائنة الأعين" (¬6). السّابعة: أنّه إذا لبس لأمَةَ (¬7) حَربِه لم ينزعها حتّى يُقاتِل (¬8). ¬
الثّامنة: حرم عليه أنّ يكتب شيئًا (¬1)، لقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (¬2). التّاسعة: حرم عليه قول الشِّعْرِ (¬3)، لقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} الآية (¬4). العاشرة: جعلَ الردَّةَ في حقِّه مشروطةً بالعاقبة فيمت وهو كافر (¬5)، وقيل: المراد به أُمَّتَهُ، والمطلقُ يُحمَلُ على المقيَّدِ. الحادية عشرة: أوجبَ عليه قضاء دَينِ من مات من المسلمين (¬6). الثّانية عشرة: أوجبَ عليه أنّ يدفع الأشرَّ بالأحسنِ (¬7) لقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬8)، أدّبه بالحلم وهذّبه بمكارم الأخلاق لقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬9). الثّالثة عشرة: أوجبَ عليه المشاورة، كان كان الوحي يسدِّدُهُ وجبريل يؤيّدُهُ، أراد أنّ يؤدِّب بها أُمَّتَه، وامتثالًا لقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬10). ¬
الرّابعة عشرة: نَهَاهُ عن الفتن والميل إليها، لقوله: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الآية (¬1). الخامسة عشرة: أوجبَ عليه إذا رأى شيئًا يعجبه أنّ يقول: "لَبَّيْكَ إنَّ العيش عيش الآخرة". فكان يقولها في حالة الشِّدَّةِ والرَّخَاءِ (¬2)، فقال يوم الخندق وأصحابه في تعب وشدّة الجوع: "اللَّهُمَّ إِنَّ العَيشَ عيشُ الآخرةِ" (¬3). وقال يوم الفتح لما رآهم مسرورين: "اللُّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ" (¬4). وكذلك يقول كلّ من عرف الآخرةَ ونساءَها ونعيمَ عيشِها، وحَقَارَةَ الدُّنيا وذَمَّها. السّادسة عشرة: كُلِّفَ وحدَهُ من الجهاد ما كُلِّف النّاسُ أجمعين، لقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية (¬5)، وما حمل من تبليغ الرّسالة وعلم الشّريعة (¬6). السابعة عشرة: حرم عليه أنّ يأكل متَّكِئًا (¬7)؛ لأنّه أكل مرّة وهو متَّكئ فنزل عليه جبريل - صلّى الله عليه وسلم - وقال له: "أهكذا يأكل العبيدُ يا محمّد، تأدب بآداب العبوديّة" (¬8). ¬
الثّامنة عشرة: أوجب عليه السِّواك (¬1)، فقال: "أُمِرْتُ بالسِّوَاكِ، وَلَولَا أنّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرتُهُم بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ" (¬2). التّاسعةَ عشرة: حرم عليه أكل الثُّومِ والبَصَلِ (¬3)، وقال: "لَوْلَا أنَّ المَلَكَ يَأْتِيني لأَكَلْتُهُ" (¬4) وهو في حقِّ غيره مكروهٌ كراهيةَ تنزيهٍ. المُوفِيَةُ عشرينَ: حرم عليه أنّ ينطق بشيءٍ من الهوى من تلقاء نفسه بشيء من أمور الدّنيا (¬5). الحادية والعشرون: حرم عليه أنّ يمتنَّ على أحدٍ (¬6)، لقوله: {وَلَا تَمْنُن تسَتكَثرُ} (¬7) أَي يستكثر خير عمله. ¬
الثانية والعشرون: كُلِّفَ مشاهدة الحقِّ مع معاشَرَةِ الخَلْقِ، فكان يُؤثِرُ الخَلوَةَ ويخرج أوقاتًا إلى جبل حراء (¬1). الثّالثة والعشرون: أوجب عليه أنّ يستغفر كلَّ يومِ سبعين مرَّة (¬2). الرّابعة والعشرون: حرم الله عليه التّوارُثَ (¬3). فقال: "ما تَركنا صَدَقَةٌ" (¬4). الخامسة والعشرون: حرم الله عليه أنّ يتبدّل امرأةً من نسائه (¬5)، فقال: {يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية (¬6)، ثمّ رخص له ونسخَ، وأباح النّساء أكثر من أربع، فالنِّكاحُ في حقّه كالملك في حقّ غيره، ونكاح الموهوبة. السّادسة والعشرون: النِّكاح بتزويجِ الله إياه (¬7)، لقوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} (¬8). السّابعة والعشرون: النِّكاح بلا وليّ ولا بشاهِدَيْنِ قيَاسًا على الموهوبة (¬9). الثّامنة والعشرون: النِّكاحُ من غير استمرار المُدَّة. التّاسعة والعشرون: التكاح في الإحرامِ (¬10). ¬
الموفية ثلاثين: أنّ يعتق جاريته ويجعل عِتْقها صداقها؛ لأنّه لم يكن له أنّ يتزوّج بأَمَةٍ (¬1). الحادية والثّلاثون: النِّكاح من غير إذن وليّها (¬2). الثّانية والثّلاثون: جعله الله أَوْلَى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهم وأموالهم (¬3). الثّالثة والثّلاثون: حرَّم نساءَهُ من بَعْدِهِ على غيره (¬4). الرّابعة والثلاثون: أباح له النِّصف من المغنم، وأربعةَ أخماس الفيىء، وخُمسَ خُمُسِ الغنيمةِ، وتقسم على خمسة أسهام، سهمٌ لرسول الله يوضَعُ في الكراع والسِّلاح ومصالح المسلمين، وسهمٌ لذي القُربَى بني هاشم وبني عبد المطَّلِب بين غنيِّهم وفقيرهم، وسهم اليتامى والفقراء والمساكين الّذين لا يَقدِرُونَ على قوتِ سَنَةٍ، وسهم ابن السَّبيلِ. وأمّا أربعة أخماس الفيىء فهو رِزْقٌ للأجناد والمُقَاتِلَةِ (¬5). الخامسة والثلاثون: أباح له دخول الحرم من غير إحرام، خائفًا كان أم آمنًا (¬6)، وغيره إنَّ كان خائفًا لا يجوز له، كان كان آمنًا ففيه خلاف. السّادسة والثّلاثون: أباح له القتل في الحرم، مثل قتل عبد الله بن خَطَل (¬7)، وأباح ¬
له القتل بعد اعطاء الأمان، فقال: "خُذُوا عَدُوَّ الله بِأَمَانِ الله" وَقُتِلَ بِذلِكَ (¬1). السّابعة والثّلاثون: أباح له الوصّالَ في الصّوم (¬2)، لقوله: "إنِّي لَسْتُ كهَيئَتِكُمْ" (¬3). الثامنة والثّلاثون: أباح له سبّه للمسلمين؛ لأنّه جعل سبّه رحمة للمؤمنين (¬4). التّاسعة وِالثّلاثون: ينامُ فيصلِّي ولا يتوضأُ (¬5). الموفية أربعين: يُنسَبُ له الأولاد، كأولاد بناته الحسن والحسين أولاد عليّ (¬6) وغيره. ¬
الحادية والأربعون: الإنساب منقطعة إِلَّا نبسه (¬1)، وقيل: المراد به نسب الإسلام (¬2). الثّانية والأربعون: أباح له إذا دعا الرَّجل وهو في الصّلاة أنّ يجيبَهُ (¬3) فيقول: "لَبَّيْكَ " عامدًا، ولا تبطل صلاته (¬4). ومالُهُ بعد موته قائمٌ على نَفَقَةِ أَهلِهِ ونَفَقَةِ مصالح المسلمين (¬5). الثّالثة والأربعون: أباح له دخول المسجد وهو جُنُبٌ إكرامًا له (¬6)، ولم بفعله قَطُّ. الرّابعة والأربعون: أباح له الحكم لنفسه (¬7)، وقَبُول إشهاده لنفسه بنفسه (¬8). الخامسة والأربعون: أباح له أنّ يحكم لولده وولد ولده (¬9). السّادسة والأربعون: شربت أم أَيْمَن - الّتي كانت حاضنةً له بعدَ حَلِيْمةَ - بولَه فلم ¬
ينكر عليها (¬1)، فقال: إذًا لا يَتَّجِعَنَّ بَطنُكِ أبدًا (¬2). السابعة والأربعون: شرب عبد الله بن الزُّبير دمه عند الحِجَامَةِ فلم ينكر عليه (¬3)، فقال ابنُ الزبير: إنَّ الله تعالى أكرم من أنّ يُدخِل النّار بَدَنًا شرب من دَمِهِ تبرّكًا وإعظامًا له (¬4). الثامنة والأربعون: نهى عن طعام الفُجَاءَةِ، وذلك أنّ يدخل الرَّجلُ على الرَّجلِ وهو مشتغل بالأكل، ففاجأه أبو الدّرداء فلم ينكر عليه (¬5). التّاسعة والأربعون: جُعِلَت له الأرضُ مسجدًا وطهورًا (¬6)، مسجدًا بالصّلاة، وطهورًا بالتيمُّم، أينما أدرك الصّلاة صلّى، وإذا عدِمَ الماء تيمَّمَ، وغير ذلك من المعاني يطول استقصاؤها. ¬
ما جاء في الطاعون
ما جاء في الطّاعون حديث ابنِ عبّاس (¬1)؛ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشّاَمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ (¬2) لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ؛ أَبُو عُبَيدَةَ وَأَصحَابُهُ، فَأَخبَرُوهُ بِأَنَّ الوَبَأَ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَقَالَ عُمَرُ: ادعُ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلينَ فَشَاوِرهُمَ، وَاختَلَفُوا، ثُمَّ دَعَا المُهَاجِرينَ الآخرِينَ فَاختَلَفُوا، ثُمَّ دَعَا الأَنْصَارَ فَسَلَكُوا سَبِيلَهُم، ثُمَّ قَالَ: ادعُوا لِي مَشيَخَة قُريشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوهم فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الرُّجُوعِ عَنِ الوَبَإِ كَبَقِيَّة أصحاب النّبيّ -عَليه السّلام-، فَعَزَمَ على الانصراف ... الحديث. الفوائد المنثورة: قال ابن قُتَيْبَةَ (¬3) في الطّواعين وأوقاتها، عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: "أوَّلُ طاعونٍ كان في الإسلام طاعون عَموَاس بالشّام، مات فيه مُعاذ بن جَبَل، وامرأته وابنه، وأبو عُبَيدَةَ بن الجرّاح (¬4). والثّاني: طاعون شيرَوَيه بن كسرى بالعراق في زمان واحدٍ، وكانا جميعًا في زمان عمر بن الخطّاب. ¬
قال أبو محمّد (¬1): وبيْنَ طاعون شِيرَوَيه وطاعون عَموَاس مدّة طويلة. الثّالث: طاعون الجارف في زمان ابن الزُّبير سنة تسع وستين، وعلى البصرة يومئذٍ عُبَيد الله بن معمَرٍ (¬2). الرّابع: طاعون الفَتَيَاتِ؛ لأنَّه بدأ في العَذَارَى والجوارِي بالبَصرة فسمّي بذلك (¬3). وبواسط (¬4)، وبالشّام، وبالكوفة، والحجّاج يومئذ بواسط في ولاية عبد الملك ابن مروان، ومات فيه عبد الملك أو بعده بقليل، ومات فيه أُمَيَّة بن خالد بن عبد الله بن أسيد، وعليّ بن أصمع، وصعصعة بن حِصْن، وكان يقال له: طاعون الأشراف (¬5). الخامس: ثمّ كان بعده طاعون عديّ بن أَرطَأَة سنة مئة (¬6). والسّادس: طاعون غُراب سنة سبع وعشرين ومئة، وغُراب رجلٌ من الرّباب، وكان أوّل من مات فيه، في ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك (¬7). السّابع: ثمّ طاعون سلم بن قُتَيبَة بالعراق سنة إحدى وثلاثين ومئة" (¬8) وقال أهل التّاريخ (¬9): ولم يقع بالمدينة ولا بمكّة طاعون قطّ. تنبيه وتفسير (¬10): وقيل لمُطَرِّف بن الشِّخِّير: ما تقولُ - يرحمك الله- في الطّاعون والفرار منه؟ فقال: ¬
هو القَدَرُ تخافونَه، وليس منه بُدٌّ (¬1). وقال ابنُ عبّاس في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} (¬2) قال: كانوا أربعةَ آلافٍ خرجوا فِرَارًا من الطّاعون فماتوا، فدَعَا الله نبىٌّ من الأنبياء أنّ يُحيِيَهُم حتّى يَعبُدُوهُ، فأحياهُم الله (¬3). وقال عَمْرُو بنُ دينارٍ في هذه الآية: وقع الطّاعونُ في قريتهم، فخرج أُنَاسٌ وبَقيَ أُناسٌ، فمن خرج أكثر ممّن بَقِيَ، قال: فنجا الّذين خرجوا، وهلك الّذين أقاموا، فلمّا كانتِ الثّانيةُ، خرجوا بأجمعهم إِلَّا قليلًا، فأماتَهُم الله ودَوَابَّهُم، ثمّ أحياهم الله، فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذرِّيَّتُهُم (¬4). وقال بعضهم (¬5): بقال إنّه قَلَّ ما فَرَّ أحدٌ من الطّاعونِ فسَلِمَ من الموتِ، قال (¬6): وهربَ عَمرُو بن عُبَيد وَرَباطُ بن محمّد بن رَبَاط من الطّاعون، فقال إبراهيم بن علي الفُقَيمِيّ: وَلَمَّا اسْتَفَزَّ المَوتُ كُلَّ مُكَذِّبٍ ... صَبَرتُ وَلَم يَصبِر رَبَاطٌ وَلَا عَمرُو ولقد أحسن أبو العَتَاهِيّة في قوله (¬7): كُلٌّ يُوَافِي بِهِ القضَاءُ اِلَى المو ... تِ وَيُوفِيهِ رزقهُ كَمَلَا ¬
كلّ فقد أَمهَلَهُ أملْ يُلـ ... ـهِيْ وَلكنَّ خَلفَه الأَجَلَا فيَا بُؤسَ الغافلِ المُضَيِّعِ عَنْ ... أيِّ عظيمٍ من أمرِه غَفَلا الفائدةُ الثّانية: قال الإمامُ: وإنَّما نُهِيَ عن الخروج لئلّا يقول: لولا خروجي ما سلِمتُ فيشرك، ولولا أنِّي فعلت كذا وكذا ما نجيت، فهذا هو النّهيُ، وأيضًا فيكون ذلك فرارًا من قَدَرِ الله. وقال قوم: إنّما نُهِيَ عن الخروج لئلًا يضيع المرصى فيكون ذلك عَونًا عليهم، أَلا ترى أنّ فرضَ الجمعةِ يسقطُ بحقِّ المريض. ووجه ثانٍ: إذا قدم على الوباء ثمّ اختلف الهواء، أو كان سببًا للموت بتَحرُّك الأمراض والأسقام بالهواء، وقد وقع الطّاعون بالشّام فقال (¬1): إنّه رجس فتفرّقوا عنه، فقال شرحبيل: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّها رَحمَةُ رَبِّكُم، وَدَعوَةُ نَبِيِّكُم، وَمَوتُ الصَّالِحينَ قَبلكُم، فَلَا تَفَرَّقُوا" (¬2). تنبيه: وقد ظنّ قوم (¬3) أنّ قوله: "وَدَعوَةُ نَبِيِّكُم" قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ اجعَل فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعنِ وَالطَّاعُونِ" (¬4) وربُّنا أعلمُ بهذا. الفائدةُ الثّالثة (¬5): ذكر مالك حديث عُمر في خروجه إلى الشّام، واستوفَى مساقَهُ بخلاف غيره، وإنّما فعل ذلك لكثرة فوائده، وقد استوفينا ما فيه في "الكتاب الكبير" ففي هذا الحديث: ¬
خروجُ الإمام على الجيوش بنفسه دون أنّ يستخلفَ عليها أحدًا من أصحابه. الفائدةُ الرّابعةُ: فيه قصدُه إلى الثَّغرِ ليتفقَّدَ أموره ومصالح المسلمين. الفائدةُ الخامسةُ: تركُ الإمام دَوحَةَ المُلكِ ومَقَرَّ الخلافةِ خاليةً منه. الفائدةُ السّادسةُ: تَلَقِّي الوُلاةِ والنّاسِ له شوقًا وتعظيمًا، وقد كان يُفعَلُ ذلك بالنبيّ -عليه السّلام-. الفائدةُ السابعةُ: تَوَقُّفُه للخَبَرِ المَخُوفِ. الفائدةُ الثَامنةُ: استشارتُه للنَاس (¬1)، وهي سُنَّةٌ في الجاهليّة والإسلام والمِلَّةِ؛ لأنَّ الاستشارة مَخَاضَةُ العقلِ ومِحضَنَتُهُ. الفائدةُ التّاسعةُ: فيه الكلام بالآراء دون ذِكْرٍ لقولِ الله أو لقولِ رسولِ الله. العاشرة: فيه ترتيبُ النَّاسِ على منازلهم كما رُوِيَ في الحديث: "أُمِرنَا أنّ نُنْزِلُ النَّاسَ مَنَازِلهُم} " (¬2). الحاديةَ عَشَرَةَ: فيه البدايةُ بالهجرةِ، وهي المنزلةُ الثَالثةُ في الدِّينِ، والرّابعةُ هي النُّضْرَةِ، ¬
وتقديمها (¬1) على النّصرة، وقد بَيَّنَّا ذلك في "كتاب الجهاد" في قوله: "لَولَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امرَأً مِنَ الأَنصَار" (¬2). الثّانية عَشَرَ: فيه تقديمُهُ مشيَخَةَ قريشٍ على من سِوَاهُم من النَّاس، لفضل البَيْتِيَّة ولِحُرْمَةِ القَرَابَةِ، وبعدَ ذلك فلا فضيلةَ، بلِ النَّاس سواء كأسنان المُشْطِ، إِلَّا من قَدَّمَهُ العلّمُ والعملُ. الثّالثة عَشَرَ: فيه إمضاءُ العَزمِ، وقد نَظَرَ بعضُهم إليه. الرّابعةَ عَشَرَ: فيه أخذُ الإمامِ بالفَتْوَى بما يرى أنّ فيه صلاح المسلمين. الخامسَةَ عَشَرَ: فيه إمضاؤه للحُكْمِ، لقوله (¬3): "إِنِّي مُصْبحٌ عَلَى ظَهْرٍ" (¬4). السّابعة عَشَرَ: فيه مراجعةُ الفتْوَى بعدَ القضاءِ، ولكن مِمَّن اؤتُمِنَ. الثّامنةَ عَشَرَ: فيه الإقرارُ بالقضاء والقَدَرِ، ويأتي بيانهُ إنَّ شاء الله بعدَ هذا. التّاسعةَ عَشَرَ: فيه التمثيلُ والتّنظيرُ في مسائل الدِّينِ، والحُكْمُ بها على أفعالِ المسلمينَ. ¬
الموفِّيةُ عشرين: فيه دخولُ القياس في أُصولِ الدِّين، وبالقاس عُرِفَ الله، ولولاهُ ما كان للعلّم به سبيلٌ لأحدٍ من الخَلْقِ. الحاديةُ والعشرونَ: فيه العمل بخَبَرِ الواحدِ (¬1)، أخبرَ الحاكِمُ بمَن حضَرَ عمّن غابَ. الثّانيةُ والعشرونَ: فيه العمل بخَبَرِ الواحدِ في الأُمورِ العِظَامِ، فكيف لي الأُمورِ الصّغار؟! الثالثةُ والعشرونَ: تسميةُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الطّاعونَ رِجزًا أُرسِلَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا (¬2)، وقد سمّاه شهادةً عندنا، فقال: "وَالمَطْعُونُ شَهِيدٌ" (¬3) وتحقيقه: أنّ الله تعالى جعلْهُ عذابًا لمن كان قبلنا بحِكْمَتَهِ، وجعلَهُ شهادةً لنا برحمته. الرّابعة والعشرونَ: قوله (¬4): "لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ" وإنّما ذلك لأمور منها: ألَّا تتعرَّضَ للحُتُوفِ، وإن كان لا نجاةَ من قدَرِ الله، ولكن من حُسْنِ قَدَرِهِ أنّ يسَّرَ لك الحَذَرَ. ومنها: إِلَّا تُشرِكَ به، فتقولَ: لو لم أَدخُلْ ما مَرِضْتُ. حديث مالك (¬5)؛ أنّه بلَغَهُ أنّ عمر قال: "لَبَيْتٌ بِرُكبَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن عَشَرَةِ أَبيَاتٍ بِالشَّامِ". الإسناد (¬6): قال مالك: "يُريدُ يطُول الأَعْمَارِ وَالبَقَاءِ وَلِشِدَّةِ الوَبَإِ بالشَّامِ" وهذا الكلام في "الموطَّأ" عند بعض رواته (¬7)، وليس هو في كلِّ الموطّآت. ¬
باب النهي عن القول بالقدر
العربيّة (¬1): قولُه: "بِرُكبَةَ" قال ابنُ وضَّاحٍ: رُكبَةُ موضعٌ بين الطائف ومكّة في طريق العراق (¬2). وقال غيره: رُكبّةُ وَادٍ من أودية الطّائفِ (¬3). فقه ذلك (¬4): قال: وهذا الّذي فسّره مالك محتَملٌ، معناه عندي: أنّ الشّام كثير الأمراض والوَبَإِ والأسقام، وأن رُكبَةَ أرضٌ مُصِحَّةٌ طَيِّبَةُ الهواءِ، قليلةُ الأمراض والوبإِ؛ لأنّ الأمراض تُنقصُ من العمرِ أو تزيدُ في البقاءِ وتؤخّرُ الأجلَ، هذا لا يمكن. وقبل: إنَّ أهل رُكبَة يُعَمَّرون العُمُرَ الطبيعيَ لِقلَّةِ الفاكهة عندهم. باب النّهي عن القولِ بالقَدَرِ التّرجمة (¬5): قال الإمام: هذا بابٌ قد بيَّنَّاهُ في "كتب الأصول" وأشرفنا الخَلقَ فيه على مراتبِ النّظرِ، ولكن لاهتبالِ مالكٍ به، وحُقَّ له، فنحنُ نشيرُ إلى أنموذجٍ من البيان فنقول: أمّا ترجمتُهُ بالنّهي عن القول بالقَدَرِ فغريبةٌ؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصّحيح: "وأن تُؤمِن بِالقَدَر خَيرِهِ وَشَرِّهِ حُلوِهِ وَمُرِّهِ" (¬6) فكيف يصحُّ أنّ يّنهّى عن القول بالقَدَرِ وذِكرهِ وهو مَحضُ الإيمانِ! ولكنّه إِنَّما بَوَّبَ بالنّهي؛ لأنّ الصّحابة كانت تَعَافُهُ؛ ¬
لما تقدَّمَ من النّبيِّ إليهم فيه، والله أعلم. وقد رُوِي في الآثار: "إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا" (¬1) ورُوِيَ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه خرَجَ يومًا على أصحابه وهم يتكلّمون في القَدَرِ، فاحمَرَّ وَجهُه، وقال: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم بهذا" وذكر باقي الحديث (¬2). ووجهُ كراهية الكلام فيه: أنّ الخَوضَ فيه لا يَئولُ إلى بيانٍ؛ لأنّ البَيَانَ إذا تُعرَّضَ لبيانه فَسَدَ وخرجَ عن حَدِّهِ، إذ المفعولُ لا يُفعَلُ، والموجودُ لا يُوجدُ، وقد كان النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بَيَّنَ لأصحابه حينَ سألوهُ أوَّلَ دُفعَةٍ عنه، فقالوا له: هذا الّذي نحن فيه أمرٌ مستَأْنَفٌ، أم قد فُرِغ منه؟ فقال: "اعمَلُوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" الحديث (¬3). فبعدَ أنِ استقرَّا القولُ فيه والبيانُ، لا يَبقَى إِلَّا الاعتراضُ المُشَكِّكُ. والَّذي يقطَعُ بهم قوله: ¬
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1). نُكتَةٌ أصولية اعتقادية: واعلم أنّ مذهب أهل الحقّ في القضاء والقَدَرِ والتوكُّلِ والطَّلَب وخَلْقِ الأفعالِ وإرادة الكائنات منتشرٌ، ولا يخرجُ شيءٌ من عِلْمِهِ وقضائه، وقُدرَتِهِ وإرادته ومشيئته. ولم نتعرَّض لاستيفاء هذه التّرجمة الآن. إنّما نذكر في هذا الكتاب أحكامًا ظاهرة قريبة من العقول لقرب الفائدةُ على النّاظر. فاعلم أوّلًا أنّ كلّ ما يجري في العالَمِ من خيرٍ وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وإيمان وكفرٍ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، وكذلك لا يطيرُ طائرٌ بجناحَيهِ ولا يدُبُّ حيوانٌ على بطنه أو رِجلَيهِ، ولا تسقطُ ورقةٌ إِلَّا بعلمه، ولا تتصرّف بعوضة إِلَّا بقضائه وقَدَرِهِ ومشيئته. كما لا يجري شيءٌ من ذلك إِلَّا وقد سبق عِلمُهُ به. واعلم أنّ القُدْرَةَ والطَّلَبَ لا يتنافيان، والتوَكّلَ والكسبَ لا يتضادّان، وذلك أنّ تعلمَ أنّ كلَّ ما قَضَى الله خالِقُنا في القضاءِ والقَدَرِ وَافَقَنَا في العلم، فَرُبَّ أمر قَدَّرَ الله وصوله إليك بغير طَلَبٍ وهو واصلٌ إليك، وَرُبَّ أمرِ قَدَّرَ الله وصوله إليك بغير طلب فلا يصل إليك إِلَّا بالطَّلَبِ، والطَّلَبُ أيضأ من المقدور، ولا فرق بين الأمر المطَلوب وبين الطَّلبِ في أنّهما مُقَدَّرَانِ. فمن هاهنا قلت: إنهما لا يتنافيان. وكذلك التوكّل مع الكسب؛ لأنّ التوكّلَ محلّه القلب، والكسب محلّه الجوارح، ولا يتضادّ شيئان في مَحَلَّينِ. فأحسن ما يتحقّق العبد: أنّ التّقدير من قِبَلِ الله تعالى، وإن تَعَسَّرَ شيءٌ فبتقديره، وإن اتّفق فبتيسيره. تنبيه: واعلم أنّ القَدَرَ سبب الطَّلَب، والطَّلَب سبب القَدَر، فكُّل واحدٍ منهما مُعِينٌ ¬
لصاحبه، وقال بعضهم لا تَدَعَنَّ الطَّلَبَ اتّكالًا على القَدَرِ، ولا تجهدنَّ نفسك في الطَّلَبِ معتمدًا عليه مستغنيًا بالقَدَرِ، فإنّك إذا جهدتَ نفسَكَ في الطَّلَبِ بوجود التّدبير، مصدِّقًا بالقَدَرِ، نلتَ ما تحاول ولم تضق عليك الأمور. مقدَّمةٌ أخرى في سرد الآثار والأخبار في معنى القضاء والقَدَرِ ممّا يُقَوِّي الإيمان وبزول التشكيك بواضح البرهان سليمة من الجدل والامتحان منها: ما سئل عنه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن القَدَرِ، فأعرض عن السّائل، فأَبَى إِلَّا الجواب، فقال عليَ: أخبِرنِي أَخَلَقَكَ الله كَمَا شِئْتَ أَم كمَا شَاءَ؟ فَأَمْسَكَ الرَّجُلُ. فَقَالَ عَلِيُّ للحاضرين: أَتَرَونَهُ يَقُولُ: كما أشاء، إذا والله أضرب عُنُقَهُ، فقال الرَّجُلُ: كما شاء. فقال: أَيُحيِيكَ كما شاء أو كما شئت؟ قال: كما يشاء. قال: أيدخلك حيث يشاء أو حيث تشاء؟ قال: حيث يشاء. قال: فليس لك من الأمر شيءٌ. ورُوِيَ أنّ رجلًا قَدَريًّا ومجوسيًا تناظَرَا في القضاء والقَدَرِ، فقال القدريُّ للمجوسيّ: مالك لا تُسلِم؛ فقال المجوسي: لو أراد الله لأَسلمتُ. فقال القدريُّ: قد أراد الله أنّ تسلم، لكنّ الشيطان يمنعك. قال المجوسي: فأنا مع أقواهما، فالحُجَّةُ بالحُجَّةِ. فكان المجوسي أحسن اعتقادًا من القَدَرِيِّ. ورُوِيَ أنّ رجلًا من الخوارج قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أرأيتَ مَنْ حبسني سبيل الهُدَى، وسلك بي سبيل الرَّدَى، أَحْسَنَ إِلَيَّ أم أَساءَ؟ فقال علىٌّ: إنَّ كنت استوجبت عليه شيئًا فقد أساء، وإن كنت لم تستوجب عليه شيئًا فهو يفعل ما يشاء. حكاية: وَرُوِيَ أنّ رجلًا قال لبُزُرْجمِهر: هل تُناظِر في القَدَرِ؟ فقال: وما نصنع بالمناظرة في القَدَرِ رأيت ظاهرًا استدللت به على باطن، ورأيت أحمقَ مرزوقًا وعاقلًا محرومًا، فحلمت أنّ التَّدبِيرَ ليس للعباد، ولما وَلَّى كسرى بزرجمهر وجدَ في مِنطَقَتِهِ كتابًا فيه: إذا
كان القَدَرُ حقًّا فالحرصُ باطلٌ، وإذا كان القَدَرُ في الناس طِبَاعًا فالثّقةُ بكلِّ أحدٍ عَجزٌ، وإذا كان الموتُ بكلِّ أحدٍ نازلًا فالطمأنينةُ إلى الدنيا حُمقٌ. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} (¬1) إنَّما كان الكنز لوحًا من ذهبٍ مكتوبٌ فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، عجبتُ لمن يؤمن بالقَدَرِ كيف يحزن! وعجبتُ لمن يُؤمن بالرِّزْقِ كيف يتعب! وعجبتُ لمن يؤمن بالموت كيف يفرح! وعجبتُ لمن يؤمن بالحسابِ كيف يغفل! وعجبتُ لمن يعرف الذنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله" (¬2). خبر آخر: وقال يحيى بن مُعاذِ: عجبتُ من ثلاثةِ: رجُلُ يُدَبِّرُ تناول رزقه بتدبيره، وهو يرى تناقض تَدبيره، ورجلٌ شَغَلَة همّ تدبيره، ومن عالم مفتونٍ يعيبُ على زاهدٍ مغبوطٍ. آخر (¬3): وقال ابن مسعودٍ: إن الرجُلَ ليُشرِفُ على الأمر من أمور التّجارة وغيرها، وكره الله فوق سماواته ذلك، فيقول للمَلَكِ: اصرِف عن عبدي هذا الأمرَ، فإنّي إن يسَّرتُهُ له أدخلْتُهُ به جهنّم، ويقول مسخطًا: سبقني فلانٌ، وحسَدَني فلان، ولو فعلتُ كذا وكذا لكان كذا، وما صرفه عنه إلاَّ الله. نُكتَةٌ: قال: استأذن العقلُ على الجدِّ فقال: اذهب لا حاجةَ لي بك فقال العقل: ولِمَ؟ ¬
قال: لأنك تحتاج إليَّ ولا أحتاجُ إليكَ. وَوَصَّى حكيمٌ ابنه فقال له: رزقك الله جَدَّا يخدمك به ذو العقول، ولا رزقك الله عقلًا يخدمك به ذو الجُدُودِ. وكان يقال: إفراطُ العقلِ مُضِرٌّ بالجَدِّ. وُيرْوَى أنّ رَجُلًا خُيِّرَ في أمرٍ فَأَبَى أنّ يختار، وقال: إنِّي بِجَدِّي أوثق منّي بعقلي. وقال سهل: الخيرُ من الله أمرٌ، والشَرُّ منه نهيٌ، والله أوْلَى بالخير أنّ يُنْسَبَ إليه، ونحن أَوْلَى بالشَّرِّ أنّ يُنْسَبَ إلينا، والشَّرُّ منه وبه وليس إليه، والخيرُ منه وبه وإليه. وقال (¬1): العلّمُ والكتابُ والقضاءُ والقَدَرُ، والعلّم أقدم من الكتاب، ثمّ القضاء، ثمّ القَدَرُ، ولا يخرجُ الخَلقُ من القَدَرِ، والعِلم أصلٌ لا يخرج منه أحدٌ، والكتابُ يمحو ما يشاء ويثبت، والقضاء هو الحُكمُ الّذي يثبت، والقَدَرُ إظهارُهُ في الخَلقِ. وسئل (¬2) عن القَدَرِ فغضب، فقال: إنَّ الله عالم بالأصل لا يُنسَب إلى جهلٍ، عادلٌ في الفرع لا يُنسَب إلى جَورٍ، كلُّ الخَلق فقيرٌ إليه، لا يستغنى عنه طرفة عين، فالفرارُ منه إليه، فإنّ الهارب من المقدور كالمتَقَلِّب في يد الطّالب. ومن ذلك ما وقع إلينا من لطائف مجرى القضاء والقَدَرِ ما جرى بمدينة إسكندرية، وذلك أنّ رجلًا من خَدَمَةِ السُّلطان أَخَلَّ بخدمته وغاب أيامًا، ثمّ ظَفِرَ به غُرَماؤه فقادوه إلى السُّلطان، فخشى من سَطوَتِهِ، فبينما هم يقتادونه إذ مرّ على بئرٍ على شارع الطّريق، فانساب من بينهم وترامَى في البئر. ولهذه المدينة تحت الأرض سَرَبٌ يسيرُ الرَّجلُ فيه قائمًا من أوّلها إلى آخرها، فما زال هذا الرَّجل يمشي في نَفَقٍ تحت الأرض، إلى أنّ وجد بئرًا صاعدًا فتعلّق بها. فإذا البئر في قصر السُّلطان، فلم يستفق أهل الدَّار إِلَّا والرَّجُل قد طلع عليهم من البئر، فقبض عليه السُّلطان وأراد به، فَفَرَّ بزعمِهِ من قُدرةِ ¬
السّلطانِ مُكرَهًا، ثمّ مضَى إليه برِجلَيهِ طائعًا. هكذا تفعل الأقدار، والكلام على هذا الفنّ كثيرٌ جدًا، لُبابُهُ ما سردناه عليكم. حديث مالك (¬1)، عن أبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدمُ الَّذِي أَغوَيت النَّاسَ وَأَخرَجتَهُم مِنَ الجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنتَ مُوسَى الَّذِي أَعطَاكَ الله عِلمَ كُلِّ شَيءٍ وَاصطَفَاكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدَّرَ عَلَى قَبلَ أنّ أُخْلَقَ بِأَربَعينَ سنةً". الإسناد (¬2): انتهى الحديث إلى قوله: "قَبلَ أنّ أُخلَقَ" في حديث مالك، ورواه ابن عُيَينَةَ عن أبي الزِّنَاد بإسناده وزاد فيه: "قَبلَ أنّ أُخْلَقَ بِأَربَعِينَ سَنَةً" (¬3). ورواه ابنُ شهاب، فاختُلِفَ عليه فيه، فمن أصحابه من جعله: عنه، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة (¬4). ومنهم من رواه: عنه، عن حُمَيد بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة (¬5). ومنهم من يرويه: عنه، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة. بألفاظٍ مختلفة (¬6)، فيه (¬7) أنّه قال له: أَنْتَ آدَمُ الذِي نَفَخَ الله فيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَعَلمَكَ الأَسمَاءَ كُلها، وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟ قَالَ نَعَم. قالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخرَجتَنَا مِنَ الجَنةِ ونَفسَكَ؟ قال له آدَمُ: مَنْ أَنْتَ؟ قال: أَنَا مُوسى. قَالَ: أَنتَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَكَ الله من وَرَاء حِجَابٍ، وَلَمْ يَجعَل بَينَكَ وَبَينَهُ وَاسِطَةً وَلَا رَسُولًا من خَلقِهِ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: أَفَمَا وَجَدْتَ في كِتَابِ الله الذِي أُنْزِلَ عَلَيكَ أَنَّ ذَلِك كَانَ في الكِتَابِ قَبلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: ¬
نعَم. فَقَالَ: أَتَلُومُنِي في شَيءٍ سَبَقَ مِنَ الله فِيهِ القَضَاءُ قَبلُ؟ قَالَ عِندَ ذَلِكَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فحَجَّ آدَمُ مُوسَى". قال أبو عمر (¬1): "هذا الحديث صحيح عند جماعة أهل العلم من جهة الإسناد، وكلّهم يرويه ويقرُّ بِصحًتِهِ. ويحتَجُّ به أهلُ الحديثِ والفقهِ، وهم أهلُ السُّنَّةِ في إثبات قِدَمِ علم الله. وسواء منهم من قال: خبرُ الواحدِ يُوجبُ العملَ دون العلّمِ، ومن قال: بل يُوجبُ العلّمَ والعملَ، كلُّهم يحتج به فيما ذكرنا؛ لأنّه خبرٌ جاء مجيئًا متواترًا فاشيًا. وأمّا أهلُ الباع فَيُنكرونَه، ويتعرَّضون فيه بضروبٍ من القول، كرهتُ ذِكْرَ ذلك؛ لأنَّ كتابنا كتاب سُنَّةٍ واتباع، لا كتاب جَدلٍ وابتداع". الأصول (¬2): قال علماؤنا (¬3): في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الله قد سبق في عِلمِهِ ما يَكونُ، وأنّه في كتابٍ مسطورٍ، وجرى القلمُ فيه بما يكون إلى آخر الأَبَدِ، وأنَّ علمه قديم وأنّ العباد لا يعملون إِلَّا فيما قد عَلِمَهُ الله وقَضَى به وقَدَّرهُ. وفيه إثبات المشيئة لله سبحانه. الثّانية (¬4): قوله: "أفَتَلُومُنِي عَلَى أَمرٍ قد قُدِّرَ عَلَيَّ" فهذا خصوصٌ لآدم -عليه السّلام-؛ لأنّ ذلك إنّما كان منه ومن مُوسَى بعد أنّ تِيبَ على آدم (¬5)، وبعد أنّ تلقَّى من رَبِّه كلمات فتاب عليه من ذنبه في أكل الشّجرة. وقد أجمع العلّماءُ على أنّه غيرُ جائزٍ لأحد إذا أنّ ما نهى الله عنه أو حرَّمهُ عليه أنّ يحتجَّ بمثلِ هذا، فيقول: أفتلومني على أنّ قتلتُ وقد سبق في عِلمِ الله أنّ أقتُلَ! وتلومني ¬
على أنّ أسرِقَ وأزني وأَجُور وقد سبق ذلك في علم الله وقَدَرِهِ. هذا ما لا يسوغُ لأحدٍ أنّ يجعلَهُ حُجَّةً لنفسه. والأُمَّةُ مجتمعةٌ على أنّه جائزٌ لوم من أَتَى ما يلامُ عليه من معاصي الله وذمّه على ذلك، كما أنّهم مُجمِعُون على حَمْدِ من أطَاعَ، وأَتى من الأمور المحمودة ما يُحمَدُ عليه. الثّالثة (¬1): والتقاءُ آدمَ وموسَى يمكن أنّ يكون كما قال ابنُ وهبٍ: أنّ يُرِيَهُ الله إيّاه وهو حيٌّ، والصّحيح (¬2) أنّ يكون إنّما التقت أرواحهُما وهي الحياة الأَبَدِيَّة، وعَلِمَ ذلك رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بما يعلمُ به خبرَ السّماءِ في غير ذلك. وهذا ومِثلُهُ ممّا لا يطاقُ فيه على التَّكييف، وإنّما فيه التّصديق والتّسليم. الرّابعة: قولُه: "فَحاجَّ آدَمُ مُوسَى" (¬3) قيل: إنَّ من هذا الحديث يخرجُ أنّ الجدال والحجاج مباحٌ (¬4)، وهي مسألة خلاف. فإن قلت (¬5): فعلم الجدل والكلام مذمومٌ كعلم النّجوم، أو مباح أو مندوب؟ فاعلم أنّ في هذا للناس غُلُوًّا وإسرافًا، فمن قائل: إنّه بدعةٌ وحرامٌ، وإنّ العبدَ إِن لَقِيَ الله بِكُلِّ ذنبٍ سوى الشّرك خيرٌ له من أنّ يلقاهُ بالكلام. ¬
ومن قائل: إنّه واجبٌ وفَرضٌ، إنّما على الكفاية أو على الأعيان وإنَّه أفضل الأعمال وأعلى القُرُبَاتِ، فإنّه تحقِيقٌ لعلّم التّوحيد، ونضالٌ عن دِينِ الله. وإلى التّحريم ذهب الشّافعيّ، ومالك، وأحمد بن حنبل، وسفيان، وجميع أهل الحديث من السّلف. قال ابن عبد الأعلى: سمعت الشّافعيَّ يوما ناظر حَفصَ الفَرد - وكان من متكلِّمي المعتزلة- فقال لأَنْ يلقَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- العبدُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الشّرك خيرٌ من أنّ يلقاهُ بشيءٍ من الكلام، ولقد سمعت من حفص كلامًا لا أَقدِرُ أنّ أحكيه (¬1). وسئل الشّافعيُّ عن شيءٍ من الكلام فغضبَ وقال: سل عن هذا حفص الفرد وأصحابه أخزاهم الله (¬2). ولمّا مرض الشّافعيُّ دخل عليه حفص الفرد، وقال: من أنا؟ قال: حفص الفرد لا حفظك الله ولا راعاك حتّى تتوب ممّا أنت فيه (¬3). وقال بعضهم (¬4): لو علم النَّاسُ ما في الكلام من الأهواء لَفَرُّوا منه فرارهم من الأسد. ¬
وقال أيضًا: إذا سمعت الرَّجل يقول الاسم هو المسمّى أو غير المسمّى فاشهد أنّه من أهل الكلام ولا دِينَ له (¬1). وقال الزعفراني: قال الشّافعيّ: حُكمِي في أصحاب الكلام أنّ يُضرَبُوا بالجَرِيدِ، وُيطافُ بهم على العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة وأخذ في علم الكلام (¬2). وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلِحُ صاحب كلام أبدًا، ولا يكاد يرى أحد ينظر في الكلام إِلَّا وفي قلبه دَخَلٌ (¬3)، وبالغ فيه حتّى هجر الحارث بن أسدّ المُحَاسبي مع زُهدِهِ وَوَرَعِهِ بسبب تصنيفه كتابًا في الرَّدِّ على المبتَدعة، وقال له: ويحك ألستَ تحكي بدعتهم وتحمل النَّاس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتّفكُّر في تلك الشُّبهات، فيدعوهُم ذلك إلى الرأي والبحث (¬4). وقال مالك: أرأيت إنَّ جاء من هو أجدل منه، أياع دينه كلّ يوم بدين جديد؟ يعني: أنّ أقوال المتجادلين تتقاوم (¬5). واحْتَجَّ أيضًا: أنّ ذلك لو كان من الدِّين لكان أهمّ ما يأمر به رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ويعلِّم طريقه، وُيثْنِي على أربابه، فقد علّمهم الاستنجاء (¬6)، وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى ¬
عليه، ونهاهم عن الكلام في القَدَرِ، فقال: "إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا" (¬1). وقد رُوِّينَا أنّ سلمان الفارسي سئل عن الإيمان بالقدر، قال: إذا علم الرَّجل من قِبَلِ نفسه أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فذلك الإيمان بالقَدَرِ (¬2). ولمّا خاض النَّاس في القول بالقَدَرِ بالبصرة مع مَعْبَدٍ الجُهَنِيّ، اجتمع مسلم بنيسار ورفيع أبو العالية، فقال أحدهما لصاحبه: تعالَ حتّى ننظر فيما خاض النَّاس فيه من هذا الأمر، فقعدا وتناظرا، فاتّفق رأيهما أنَّه يكفي المؤمّن من هذا الأمر، أنّ يعلم أنّه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّه لا يصيبه إلّا ما كتب الله عليه، وأنّه يجري بعلمه (¬3). وعن عطاء بن السّائب، عن يعلي بن مرّة؛ أنّ أصحابَ علي قالوا، إنَّ هذا الرَّجل في حرب، وإلى جنب عدوٍّ، وإنّا لا نأمن عليه فليحرسه منّا كلّ ليلة عشرة، وكان عليّ إذا صلّى العشاء لحقَ بِقِبلَةِ المسجدِ فَيُصَلّي ما شاء الله أنّ يصلّي، ثمّ ينصرف إلى أهله. فصلَّى ذات ليلة ثمّ انصرف، فرآهم فقال: ما أجلسكم هنا هذه السّاعة؟ فقالوا: جلسنا نحرسك، فقال: من أهل الأرض تحرسوني، أم من أهل السَّماء؟ فقالوا: نحن أهون على الله من أنّ نحرسك من أهل السَّماء، ولكن نحرسك من أهل الأرض، قال: فلا تفعلوا؛ فإنّه إذا قُضِيَ الأمرُ من السَّماء عمله أهل الأرض، وإنّ العبد لا يجد طعم الإيمان حتّى يُوقن أنّ ما أصابه لم يكن ليُخطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (¬4). وقال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع: ما تقول في القضاء والقدر؟ فقال: أيّها الأمير، إنَّ الله لا يسأل عباده عن قضائه وقَدَرِهِ، وإنّما يسألهم عن أعمالهم. ¬
وَرُوِّينا أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري: إنَّ الله لا يطالب خَلقَهُ بما قضى عليهم، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمرهم به، فطالب نفسَك من حيث يطالبك ربّك. حديث مالك (¬1)، عن مسلم بنيَسارِ؛ أنّ عُمَرَ سُئِلَ عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية (¬2) فقال عمر: سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُسأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخرَجَ الذُرِّيةَ، فَقَالَ: خَلَقتُ هَؤُلَاءِ للجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي" الحديث. الإسناد (¬3): قال الإمام: لم يختلف عن مالك في إسناده، وهو حديثٌ مُتقَطِعٌ؛ لأنّ مُسلِمَ بن يَسَارٍ هذا لم يلقَ عمرَ، بينهما نُعَيْمُ بن رَبِيعَةَ. وقيل (¬4): نُعَيْم بن ربيعة ومسلم بنيَسار مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث. وليس هو مسلم بنيَسار البصري العابد، وإنّما هو رجلٌ مَدَنِيٌّ مجهولٌ (¬5). قال أبو عمر (¬6): "وهذا الحديث وإن كان عليلَ الإسنادِ؛ فإنّ معناه قد رُوِيَ عن النّبيّ -عليه السّلام- من وجوهٍ عن عمر وغيره". الأصول: قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية (¬7). ¬
قال (¬1): الأخذ ههنا القُدرة. وقال في الحديث: "إنَّ الله مَسَحَ بِيَدِهِ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنهُ بَنِيهِ". فإن قيل: كيف يطابق المعنى الأخذ مع المسح؟ فالفائدة أنّه أخذٌ بِرِفْقٍ فيطابقُ المعنى، وقوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} جمعٌ؛ لأنّه أخرج من ظهر آدم بَنِيهِ، ومن ظهور بَنِيهِ حَفَدَتَهُم، فجمع وَبَانَ بالجمع أنّ الوجود الأوّل مثل الثّاني، وقوله في الحديث: "مَسَح بِيَمِينِهِ فَاستَخرَجَ ذِرِّيَتَهُ" بيَّنَ به الوجود الأوّل وصفته. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ} أي: قَدَّرَهُم في الوجود الأوّل، ليكونوا شهداء على أنفسهم في الوجود الثّاني، وإقدارهم في الوجود الأوّل كان نَظَرًا واستدلالًا عليه لتّصحّ الحُجَّةُ عليهم في الوجود الثّاني، فنقول: إنَّ الله تعالى خلقهم في الوقت الّذي قدّرهم خَلقًا سالمًا من الآفات والشهوات، عارفين بالنّظر والاستدلال، ليس فيهم آفة تمنع من النّظر، بخلاف الخَلقِ الثّاني. فإن قيل: كيف تقوم الحُجَّةُ عليهم وقد خُلِقُوا عارفين بغير شهوة بخلاف الخلق الثّاني؟ فالجواب: أنَّه لمّا خَلَقَ الآفات فيهم أخبرهم بها، وأخبرهم أنّها تؤدِّي إلى كذا وكذا، وحذِّرَهُم على ألسنة الرُّسُلِ، ومن حذَّرَكَ عن شيءٍ فلم تَحْذَرهُ فلا حُجَّةَ لك عليه. وقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} (¬2) أي: مخافةَ أنّ تقودوا هذا، والشّاهد هنا هو المقرّ. فإن قيل: لم سَلِمَ الخلْقُ الأوَّل من الآفات وكان ذلك في الثّاني؟ الجواب، قلنا: عِلمُهُ لا يَعلَمُهُ إِلَّا الله، ولا يُسأل عمّا يفعل. فإن قيل: لا نذكر الآن الإِشهَاد الأوّل؟ فالجواب: أنّه إنّما نذكر إذا ذَكَّرَنَا الله يوم القيامة. وحينئِذٍ يرجع المُشْرِكُون فيقولون: لا نقدر على جحد المعاصي فلنجحد الكفر، فتُكذِّبهم جوارحهم. هذا تفسير أهل السُنَّةِ. وأمّا أهل البدع فيقولون: لم نقدر قطُّ على ذلك، وإنّما هذه الأخبار على المجاز. فالجواب: أنّ هذا الأمر نحمله على اللّفظ ولا ننقله إلى المجاز إِلَّا بدليل. ¬
وقولُه: {قَالُوا بَلَى} بلى، هل هي بمعنى نعم هاهنا أم لا؟ قلنا: لا يصحُّ أنّ تكون هاهنا بمعنى نعم؛ لأنّهُ كُفْرٌ؛ لأنّها قد تكون نافية للرّبوبية. تتميم (¬1) في سرد الآثار: وعن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَفِي يَدِه عُودٌ يَنكُتُ بِهِ في الأَرضِ، فَرَفَعَ رَأسَهُ وَقَالَ: "مَا مِنكُم من نَفس إِلَّا وَقَد عَلِمَ مَنزِلَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، فَلِمَ نَعَمَلُ؟ قَالَ اعمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬2). وقالت الحكماءُ والعلّماءُ: القَدَرُ سِرُّ الله فَلا تَنظُروا فيه، فلو شاء الله ألَّا يُعصَى ما عصاهُ أحدٌ، فالعبادُ أَدَقُّ شأنًا وأحقرُ من أنّ يعصوا الله إِلَّا بما يريدُ. وَرُوِيَ عن الحسن أنَّه قال: لو شاء الله ألَّا يُعصَى ما خَلَقَ إِبليسَ. وقال مُطَرِّف بن الشّخير: لو كان الخيرُ في يد أَحَدِنَا ما استطاع أنّ يجعلَهُ في قلبه حتّى يكونَ الله هو الّذي يجعلُه فيه (¬3). وقال: وجدتُ ابن اَدمَ مُلْقًى بين يدي الله والشيطانِ، فإن أنجاهُ الله نَجَا، وان خَلَّى بينه وبين الشيطان ذهب به (¬4). ولقد أحسن القائل: لَيسَ للهِ العَظِيمِ نِدُّ وَهَذِهِ الأَقدَارُ لَا تُرَدُّ ¬
لَهُنَّ وَقتٌ وَلَهُنَّ حَدُّ مُؤَخَّرٌ بَعْضٌ وبعضٌ بَعدُ وَلَيسَ من هَذَا وَهَذَا بُدُّ وَلَيسَ مَكتُوبًا لِحَيٍّ خُلدُ وفي الحديث المرفوع: "إِذَا أَرَادَ الله بِعَبدٍ خَيرًا سَلَكَ في قَلبِهِ اليَقِين وَالتَّصدِيقَ، وإِذَا أَرادَ الله بعَبْدهِ شرًّا سَلَكَ في قَلْبِهِ الرِّيبَةَ والتَكذِيبَ" (¬1)، قال الله العظيم: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الآية (¬2). وقال الفضلُ الرقاشيُّ لإياس بنِ معاويةَ: يا أبا وائلةَ، ما تقولُ في الكلام الّذي أكثر النَّاس فيه -يعني القَدَرَ-؟ فقال: إن أَقرَرتَ بالعلّم خصمت، وإن أنكرتَ العلّمَ كفرتَ. وقال الأوزاعي: هَلَكَ عُبَّادُنَا وَخِيَارُنَا في هَذَا الرَّأيِ، يعني القَدَر. وسَئِلَ (¬3) يحيى بن مَعِين، عن محمّد بن إسحاق صاحب "المغازي" هل ثبت عليه الّذي قيل فيه -يعني القدر-؟ قال: نعم. وأنشد أبو علي الجيّاني في معنى الذّمّ على ذلك: يَا لَذَّةً قَصُرَت وَطَالَ بَلَاؤُهَا ... عِنْدَ التَّذَكُّرِ في الزَّمَانِ الأَطوَلِ لَمَّا تَذكَّرهَا وَنَالَ نَدَامةً ... مِن بَعدِها يَا لَيتَنِي لَمْ أَفعَلِ وعن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، قال: أوَّلُ من تكلّم بالقَدَرِ، أنْ جاء رجلٌ فقال: كان من قَدَرِ الله أنَّ شَرَرَةً طَارَت فأحرقتِ الكعبةَ. فقال آخر: ليس من قَدَرِ الله أنّ تُحْرَقَ الكَعبَةُ. فكان هو أوّل الجَدَلِ (¬4). ¬
وسمع ابنُ عبّاسٍ رجلين يختصمان في القَدَرِ، فقال: مَا مِنكُمَا إِلَّا زائغٌ (¬1). حديث مالك (¬2)؛ أنَّه بلغه أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "تَرَكتُ فيكُم أَمرَينِ لَنْ تَضِلُّوا ما تَمَسَّكتُمْ بِهمَا: كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نبِيِّهِ". الإسناد (¬3): قال الإمام: قد رُوِيَ هذا الحديث مُسْنَدًا (¬4) من طريق أبي هريرة وعَمرو (¬5)، أمّا حديث أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنِّي قد خلفتُ فِيكُم اثْنَتَيْنِ -أو قال اثنَيْنِ- لَن تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كتَابَ الله وَسُنَّتِي" (¬6). قال الإمام: الهُدَى كلَّ الهُدَى في اتّباعِ كتابِ الله، واتّباعِ سُنَّةِ رسولِهِ، فهي المُبَيِّنَةُ ¬
مرادَ كتابِ الله تعالى، إذا أشكلَ ظاهِرُهُ بيَّنَتِ السُّنَّةُ عن بَاطِنِهِ وعن مراد الله منه. والجدالُ فيما تعتقدُهُ الأفئدةُ من الضَّلَالِ. حديث طاوُس اليمانيّ (¬1)؛ أَنهُ قَالَ: أَذرَكتُ نَاسًا من أَصحَابِ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ: كُلُّ شَيءٍ بِقدَرٍ. قال طاوُوسٌ: وسمعتُ ابن عمر يقولُ: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "كُلُّ شَيءٍ بِقضَاءٍ وَقدَرٍ، حَتَّى العَجزِ وَالكَيْسِ، أَوِ الكَيْسِ وَالعَجزِ". وهكذا (¬2) رواهُ يحيى على الشَّكِّ في تقديم أحد اللّفظين، وتابعه ابن بُكَيْرٍ وأَبُو مُصعَبٍ (¬3). ورواه القَعنَبِيُّ (¬4) وابنُ وهبٍ (¬5) فلم يزيدا على قول طاووسٍ شيئًا. الإسناد: قال أبو عمر (¬6): "أكثرُ رُوَاةِ "الموطَّأ" يروونه كما رواه يحيى، وهو الصّحيح". الأصول (¬7): قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬8) وقال عزّ من قائل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬9) فليس لأحدٍ مشيئة أنّ تَنفُذ إِلّا أنّ تتقدّمها مشيئةُ الله، وإنّما يجري ¬
العبادُ فيما قد سبق في علم الله. والقَدَرُ سرُّ الله لا يُدْرَكُ بِجِدَالٍ، ولا يَشفي منه مَقَالٌ، والحُجَجُ فيه مُرْتَجَةٌ مُغلَقَةٌ، لا يُفتَحُ منها شيءٌ إِلَّا بكَسرِ شيءٍ. وقد تواترتِ الآثار عن السَّلَف بالنَّهي عن الجدال فيه والإِسلام له والإيمان به، لحديث ابن مسعود، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمسِكُوا، وإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ أَصحَابِي فَأَمسِكُوا" (¬1). والقاعدة (¬2) في هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬3). حديث عبد الله بن الزبير (¬4)، يقول في خُطبَتِهِ: "إِنَّ الله هُوَ الهَادِي وَالفَاتِنُ". المعاني (¬5): الهُدَى والضَّلالُ ضِدَّان، وهذا مأخوذٌ من قوله {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} (¬6) وقول نوح -عليه السّلام-: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬7) ولا يكون في مُلكِ الله إِلَّا ما يريد، ومَا رَبُّك بظلّامٍ للعبيدِ. وعن عطاء بن أبي رَبَاح، قال: كنت عند ابنِ عبّاسٍ، فأتاه رَجُلٌ فقال: أرأيتَ مَنْ حَرَمَنِي الهُدَى وأَوْرَثَنِي الضَّلالةَ والرَّدَى، أتراهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ أُوْ ظَلَمَنِي؟ فقال ابنُ عبَّاس: إنَّ كان الهُدى شيئًا لك عِنْدَهُ فَمَنَعَكَهُ فَقَد ظَلَمَكَ، وإن كان * الهُدَى هُدَى الله يُؤتِيهِ من يشاء، فما ظَلَمَكَ، ولا تُجالِسنِي بَعدَهُ (¬8). وقد رُوِّينا أنّ غَيلَانَ القَدَرِيّ، وقف بِرَبيعةَ فقال له: يا أبا عثمانَ، أرأيتَ الّذي ¬
مَنَعَنِي الهُدَى ومَنَحَنِي الرَّدى، أأحسنَ إليَّ أم أساء؟ فقال له ربيعة: إنَّ كان منعك شيئًا هو لك فقد ظَلمك*، وإن كان فضلُه يؤتيه من يشاءُ فَمَا ظَلمَكَ شيئًا (¬1). قال الإمام: وهذا أخذهُ ربيعة من كلام ابن عبّاس. وقال غيلان لربيعةَ: أنتَ الّذي تزعُمُ أنّ الله يحبُّ أنّ يُعصَى؟ قال: وأنت الّذي تَزعُمُ أنّ الله يُعصَى قسرًا (¬2). حديث مالكٍ (¬3)، عن عمّه أبي سُهْيلِ بنِ مالكِ قال: كُنتُ أَسِيرُ مَع عُمَرَ ابنِ عَبدِ العَزِيزِ، فقال: مَا رَأيُكَ في هَؤُلَاءِ القَدَرِيَّةِ؟ قُلتُ: رأيِيْ أنّ تَستَتيِبَهُم، فَإِن قَبِلُوا، وإلَّا عَرَضتَهُم عَلَى السَّيفِ. فَقَالَ عُمرَ: وَذَلِكَ رَأيِي. الأصول والأحكام في مسائل: المسألة الأولى: في تسميتهم قدَرِيَّة قيل لهم ذلك لأنّهم يزعمون أنّهم يُقَدِّرُونَ أفعالَهُم ويُدبِّرُونَهَا، ويجعلونها مُقَدَّرَةً دون خالِقِهم (¬4)، والقَدرِيُّ هو من يدّعي ذلك لنفسه، كما أنّ الصّانع الّذي يدّعي الصّناعة ويعْرَفُ بأنّه صانع مصوغ دون من يزعم أنّه يُصاغُ له. ¬
المسألة الثّانية (¬1): مذهب عمر بن عبد العزيز القتل والاستتابة. وقد زعم قومٌ أنَّه قَتَلَ غَيلانًا القَدَرِيَّ وصَلَبَهُ، وهذا جهلٌ بعلم أيّام النَّاس، وإنّما الصّحيح أنّ عمر لما ناظرَهُ دعا عليه وقال: ما أظُنُّكَ تموتُ إِلَّا مصلوبًا، فقتلَهُ هشامٌ وصلَبَهُ؛ لأنّه خرج مع زَيْد بن عليّ بن حسين ابن عليّ. ومذهبُ مالك (¬2) وأصحابه أنّ القَدَرِيَّة يُستَتَابُون (¬3)، قيل لمالك: كيف يستتابون؟ قال: يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه وانزِعُوا عنه. المسألة الثّالثة (¬4): هل يُسَلَّم على القَدَرِيَّة وأهل البدع وأهل الأهواء، أم لا؟ فمذهب مالك: لا يسلَّم عليهم، ولا يُصَلَّى خَلفَهُم، ولا يصلَّى عليهم، ولا تُقبَل شهادتُهُم (¬5). تنقيح (¬6): أمّا قولُه: "لَا يُصَلَّى خلفَهُم" فإنّ الإمامة يُتَخَيَّرُ لها أهلُ الكمالِ في الدِّين من أهل التّلاوة والفِقْهِ، هذا في الإمام الرّاتب. وأمّا قوله: "لَا يُصَلَّى عَلَيهِمْ" فإنّه يريد إِلَّا يُصَلَّي عليهم أيمّةُ الدِّين والعلّم؛ لأنّ ذلك زَجرٌ لهم وخِزيٌ لهم لابتِدَاعِهِم، رجاءَ أنّ ينتهوا عن مذهبهم، وكذلك تركُ ابتداءِ السّلامِ عليهم. ¬
وأمّا تركُ الصّلاةِ عليهم جملةً إذا ماتوا، فلا، بل السُّنَّةُ المجتمعُ عليها أنّ يُصَلَّى على كلِّ من قال: لا إله إِلَّا الله محمّدٌ رسول الله، مبتدعًا كان أو مرتكبًا للكبائر، ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار وأيمّة الفتوى يقول في ذلك بقول ظاهر مالك (¬1). وأمّا شهادتهم، فإنّ مالكًا شَذَّ في ذلك، إِلَّا ابنَ حنبل فإنّه قال: ما تُعجِبُنِي شهادةُ الجهمّية، والرّافضةِ، ولا القَدَرِيَّةِ، قال إسحاقُ: وكذلك كلُّ صاحِبِ بدعةٍ. وهذه المسألة انفرد بها مالك، وجماعةُ الفقهاء أبو حنيفة (¬2) والشّافعيّ وأصحابهما والثوريّ والطّبريّ وسائر من تكلّم في الفقه إِلَّا مالكًا وطائفة من أصحابه، على قَبُولِ شهادة أهل البدع القَدَرِيَّة وغيرهم إذا كانوا عُدُولًا لا يَستَحِلُّونَ الزُّورَ، ولا يَشهدُ بعضُهُم على تصديق بعضٍ في خَبَرِهِ ويمينه كما تَصنَعُ الخطّابيّةُ (¬3). وقال الشّافعيُّ: وشهادةُ من يَرَى إنفاذَ الوعيدِ في دُخولِ النَّارِ على الذَّنبِ إنَّ لم يَتُب منه، أَولَى بالقَبُولِ من شهادةِ من يستخِفُّ بالذُّنوبِ (¬4). قال أبو عمر (¬5): "كلُّ من يجيزُ شهادتَهُم لا يرى استتابتَهُم ولا عَرضَهُمْ على ¬
جامع ما جاء في أهل القدر
السَّيف"، وقد بينّا ذلك في "كتاب الشهادات" (¬1). جامع ما جاء في أهل القدر حديث مالك (¬2)، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَسأَلِ المَرأَةُ طَلَاقَ أُختِهَا (¬3) لِتَستَفرغ صَحفَتَها (¬4)، وَلِتَنكِحَ؛ فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا". الأصول (¬5): قال الإمام: في هذا الحديث إثبات القَدَرِ، والإقرار بعدم العلم، بقوله: "إِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا" (¬6) وهذا نحو قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬7). وذِكْرُ الصَّحفَةِ في هذا الحديث، كنايةٌ عن خير الزّوج لتنفرد به وحدَها. وفي هذا الحديث دليلٌ على كراهية اشتراط المرأةِ على زوجها أنّ يعقد لها على نفسه؛ أنّ كلَّ من ينكحها عليه طالق. ¬
وأمّا سؤالُها طلاقَ مَنْ جَمَعَها معها رجلٌ واحد، فَنَصٌّ لا دليلٌ. حديث معاوية (¬1) على المنبر: أَيُّها النّاسُ، إنَّهُ لَا مَانِعَ لما أَعْطَى الله، ولَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ الله، وَلَا يَنفَعُ ذَا الجدِّ منكَ الجَدُّ، مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفقِّههُ في الدِّين، ثُمَّ قَالَ: سمِعْتُ هؤُلاء الكَلِمَاتِ من رَسُولِ الله عَلَى هَذِهِ الأَعوَادِ. الإسناد (¬2): هذا حديثٌ صحيحٌ، وإن كان ظاهرُهُ من رواية مالك في "الموطَّأ" الانقطاع (¬3)، وظاهرُ حديثِ مالكٍ: أنّ معاوية سمع الحديث كلَّه من النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. ورَوَى أهلُ العراق من الطُّرُقِ الصِّحاح أنّ معاوية كتب إلى المغيرة بن شُعْبةَ؛ أنِ اكتب إِلَيَّ بشيءٍ حفِظتَهُ من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، قال: فكتب إليه المغيرةُ: إنِّي سمعت رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ حين يسلِّمُ من الصّلاة: لا إله إِلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لما أَعطيتَ، ولا مُعطِي لما منعتَ ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ". إلى هاهنا انتهى حديث المغيرة، وفي كثيرٍ من طُرُقِهِ (¬4) ليس في شيءٍ منها: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيرًا يُفقِههُ في الدِّينِ" فهذه الكلمات هي الّتي سمع معاوية من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على أعواد مِنْبَرِهِ. الغريب (¬5): قوله: "وَلَا يَنفعُ ذَا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ": فالرِّواية عندنا في "الموطَّأ" الجَدُّ. بفتح الجيم. وهو الأغلب عند أهل العلم بضبط الحديث، وهو الّذي فسَّره أبو عُبَيد وغيرُهُ بأنّه الحَظُّ. قال أبو عُبَيْد (¬6): "لا ينفعُ ذا الغِنَى غِنَاهُ، وإنّما ينفعه العملُ بطاعتك". واحتجّ ¬
بقوله -عليه السّلام-: "قمتُ على باب الجنَّةِ فإذا عامّةُ من يدخلُها الفقراءُ، وإذا أصحاب الجَدِّ محبوسونَ" (¬1) يعني أصحاب الغنى، وقد رُوِيَ هذا الحديث بكسر الجيم، وكان ابنُ حبيب يقول: "لا يجوز فيه إِلَّا الكسر، وهو الاجتهاد"، قال: "والمعنى: أنَّه لا ينفع أحدًا في طلب الرِّزق اجتهادُهُ، وإنّما له ما قَسَم الله له منه، وليس الرِّزقُ على قَدرِ الاجتهادِ، ولكنَّ الله يُعطي من يشاءُ ويمنعُ من يشاء" (¬2). وهو أيضًا وجهٌ حَسَنٌ محصّلٌ غير مدفوع، والله أعلم بما أراد رسوله بقوله ذلك. حديث مالك (¬3)؛ أنّهُ بلغه أنَّه كان يقال: الحَمدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ كَمَا يَنبَغِي، الَّذِي لا يُعجِلُ شَيْءٌ إِنَاهُ وَقَدَرَهُ، حَسبِيَ الله وَكَفَى، سَمِعَ الله لِمَن دَعَا، لَيْسَ وَرَاءَ الله مَرمَى. الإسناد (¬4): هكذا رواه يحيى وطائفة من رواة "الموطَّأ": " يَعجَلُ شَيءٌ (¬5) إنَاهُ وقَدَرَهُ" كأنّه يقول: الحمد لله الّذي قضى بألّا يتقدَّمَ شيءٌ وقتَهُ وحِينَهُ الّذي قَدَّرَهُ فيه، أو قُدِّرَ له، وإِنَاءُ الشيءِ: وقْتُه وحينُه، بدليل قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} (¬6) أي: وقته وحينه. ورواه القَعنَبِىُّ: "الذِي لَم يُعَجِّل شَيئًا اَنَاهُ وَقَدَّرَهُ" وَرَوَتهُ هكذا أيضًا طائفةٌ (¬7)، ¬
والمعنى فيه: أنّ الله لا يُعَجِّلُ ما قَضَى بتأخيره، ولا يُؤخِّر ما قَضَى بتعجيله، وكُلُّ على ما سَبَقَ في عِلمِهِ. والأناءُ والأناةُ في اللُّغة: التّأخير. قال الحُطَيئَة (¬1): وَآنيتُ العَشَاءَ إلى سُهَيلٍ ... أَوِ الشِّعرَى فَطَالَ بِيَ الأَنَاءُ التّرجمة: قال الإمام: إنّما أدخل مالك هذا الحديث حجّة على القَدريَّة لقولهم: إنَّ للإنسان أنّ يعجلَ ما أراد عن وقته، وهو أَولَى؛ لأنّ فيه الحُجَّة عليهم. وأمّا قوله: "لم يعجل" معناه: أنّ الله لم يعجل شيئًا، ونحن نعرف ذلك، فلا حُجَّةَ علينا فيه. وأكثر الرّواة يروونه بفتح الجيم: "لم يعْجَل" فتقوم الحجّة عليهم من وجهين. وكذلك أدخل حديث: "لَا تَسأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُختِهَا إلى قوله: ما قُدِّرَ لَهَا" (¬2) ردًّا على القَدَريَّةِ؟ لأنّهم يقولون: إنَّ الأرزاق قد قسمها الله، لكنّ القويّ يغلب الضّعيف فيأخذ رزقه. وكذلك أيضًا فعل مالك في الباب الّذي قبله (¬3) في إدخاله الحديث قوله: "لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكتُم بِهِمَا: كِتَابَ الله وَسُنَّةَ رَسُولِهِ" فيه ردٌّ على القدريّة؛ لأنّ القدريّةَ تقول: لا نأخذ إِلَّا بكتاب الله؛ لأنّ الحديث يكشفهم، إذ هو وحيٌ وتفسيرٌ للقرآن. وقوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} الآية (¬4)، ردٌّ عليهم، أي: لا يقدرون إِلَّا على ما قدّره الله عليهم وختم، فلا يدخل مالك حديثًا في بابٍ ويتبعه بآخر إِلَّا لمعنى بديع لا يتنبه لذلك إِلَّا فحول العلماء. ¬
الأصول (¬1): قوله (¬2): "الحَمدُ للهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ كَمَا يَنبَغِي" الحديث إلى آخره، أمّا قوله: "كَمَا يَنْبَغِي" فمعناه: كما يُرادُ، فإن رجَعَ ذلك إلى إرادةِ الخالقِ، فكذلك كانَ، وان رجَعَ إلى إرادةِ المخلوقِ، ففيه ما لا يريدُهُ المخلوقُ، وإن أراد غيرَ ذلك من المعنى فالكلمة قَلِقَةٌ وما أظنُّها نَبَوِّيةٌ. وأمّا قوله: "لَا يَعجَلُ شَيئًا" فقد ضُبطَ على عَشرِ صفاتٍ، أَضبِطُهُ لكم بالتّعجيم لا بحروف المعجَمِ، لئلَّا يَطُولَ، فاضْبِطُوهُ لئلا يَدرُسَ بِمُضِيِّ الزَّمانِ: الّذي لا يُعَجِّلُ شيئًا أَنَاهُ وقدَّره. وتُرَكِّبُوا بعضَها على بعضٍ وتُفَسِّروا "أَنَاهُ" بالاسمِ والفِعلِ، وتُرَكِّبُوهُ فعلًا على "يُعَجِّلُ"، أو يبقَى ظَرْفًا للشّيء على ما هو عليه. فإن قرأتَ: "يُعجَلُ" ببناءِ ما لم يُسَمَّ فاعِلُهُ، والجِيمِ مفتوحةً، كان سَلبًا للخَلقِ عن التَّصرُّفِ بغيرِ حُكمِ الخالقِ. وان قرأتَ بِضَمِّ الياءِ وخَفضِ الجِيمِ مُشَدَّدَةً، كان إخبارًا على أنّ البارىءَ إنّما يَخلُقُ أفعالَه على قَدرِ عِلمِهِ وقضائه. وإن فتحتَ الياءَ من: "يَعجَلُ" ورَفَعتَ: "شَيئًا" كان نِسبَةً للعَجَلَةِ إلى ذلك الشّيءِ، ويكونُ المعنى: أنّ شيئًا لا يَقدِرُ أنّ يتَعَجَّلَ بنفسه على شيءٍ يخرُجُ به عن قضاءِ ربِّهِ، وذلك كله ردٌّ على القَدَرِيَّةِ الّذين يقولون: إنَّ الخَلقَ بفعالهم يُعَجِّلُونَ الأشياءَ قبلَ وقتِها كالآجال، ويخالِفُونَ مُقَدَّرَها كالطّاعات، وبعضُ هذه الرِّواياتِ أقوى من بعضٍ، وقد بيَّنَّاه في "شرح النَّيِّرَينِ" لُبَابُهُ: أنّك إذا قلت "يُعجِلُ" بضمِّ الياء وإسكانِ العينِ وكَسر الجِيمِ، ونَصَبتَ "شيئًا" على المفعولِ، وقرأتَ "إِناه" بكسر الهمزة أو ¬
بفتحها. وإذا أسكَتتَ الدَّالَ من قوله: "قدرَه" ونصبتَ الراءَ ونصبت العينَ من "يُعَجِّلُ"، وشدَّدتَ الجِيمَ وباقيهِ كذلكَ، أو قرَأتَهُ بهذَين اللَّفظينِ، وشَدَّدت الدَّالَ من "قَدَّرَه" وفتحت الرَّاءَ، ونَصَبتَ الهمزةَ من "أَنَاه" على أنّهما فعلان لا اسمان، كان معناهُ على هذه الألفاظِ: أنّ الله تعالى لا يُقدِّمُ شيئًا قبل وقتِهِ، ولا يُعَجِّلُ شيئًا قَدَّرَهُ وأخَّرَهُ. وهذه الرِّوايات كلها ردٌّ على القَدَرِيَّةِ الّذين يقولون: نحن نُعَجِّلُ ونُؤَخِّرُ بأفعالنا، فالمعنى: أنَّه لا يجرِي كلّ شيءٍ إِلَّا على ما سبقَ في عِلمِهِ، لا يتقدّم شيءٌ، ولا يتأخر عن وقته الّذي سبقَ القضاء به. حديث مالك (¬1)؛ أنَّه بلغه أنّه كان يقالُ: إِنَّ أَحَدًا لن يَمُوتَ حَتَّى يَستَوفِيَ رزقَهُ، فَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ. الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا حديثٌ مُسنَدٌ، معروفٌ محفوظٌ عند أهل العلم بالحديث (¬3)، مرويٌّ من طرق كثيرةٍ عن جابر وغيره (¬4) قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحدَكُم لَن يَمُوتَ حَتَّى يَستَوفِيَ رِزقهُ، فَاتَّقُوا الله وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا ما أَحلَّ الله، وَدَعُوا مَا حَرَّمَ الله" (¬5)، وقد رُويَ من وجوه مختلفة الألفاظ، والمعنى واحدٌ أخذه أبو العتاهيّة فقال (¬6): ¬
ما جاء في حسن الخلق
أُقَلِّبُ طَرْفَي مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ ... لأعلَمَ مَا فِي النَّاسِ وَالقَلبُ يَنقَلِبْ فَلَم أَرَ عِزًّا كَالقُنُوعِ لأَهلِهِ ... وَأَن يُجمِلَ الإِنسَانُ مَا عَاشَ في الطَّلَبْ حديث: قولُه: "إِنَّ رُوحَ الْقُدس نفَث في رُوْعِي: أَنَّ نَفسًا لَن تمُوتَ حَتى تَسْتَوفِيَ رِزقَهَا" (¬1) حديثٌ معروفٌ، والكلام عليه في "الكتاب الكبير". و"روحُ القُدس" ههنا: جبريل -عليه السّلام-. مَا جَاَءَ فَي حُسْنِ الخُلُقِ مالك (¬2)؛ أنَّ معاذَ بن جبلٍ قالَ: آخِرُ مَا أَوصَانِي بِهِ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - حين وَضَعتُ رِجلِي في الغَرزِ، أنّ قَالَ: "أَحسِن خُلُقَكَ لِلنَّاسِ". الإسناد (¬3): هكذا رواه يحيى عن مالك أنّ معاذا، ورواهُ غيرُه عن مالك أنَّه بلغه أنّ معاذا، وروته طائفةٌ من رواة "الموطَّأ" عن مالك، عن يحيى بن سعيد؛ أنّ معاذا (¬4). قال الإمامُ: ولا يوجد بهذا اللّفظ مُسنَدًا (¬5) عن النّبيِّ -عليه السّلام-، وإنّما المحفوظُ ¬
أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - لمَّا بعثَ معاذًا إلى اليمن (¬1)، قال له: "اتَّقِ الله، وَخَالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (¬2). ورُوِيَ عن معاذ في حديث آخر، قال: آخِرُ مَا أوصَانِي بِهِ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ قال: "لَّا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطبًا من ذِكرِ الله" (¬3). وفي حديث آخر عن معاذ، قال: إنَّ آخرَ مَا فارَقْتُ عليه رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - قلت له: يا رسولَ الله: أَيُّ شيءٍ أَنْجَى لابن آدَم من عذَاب الله؟ قال: "أنّ يمُوتَ وَلِسَانُهُ رطبٌ بذِكرِ الله" (¬4). الأصول (¬5): الخلقُ، والخُلُقُ عبارتانِ عن جُملةِ الإنسان، وأمّا الخَلقُ فعبارة عن صفَتِهِ الظّاهرةِ، وأمّا الخُلُقُ فعبارة عن صفته الباطنة، وقد يُعَبَّرُ عن الباطن بلفظ الظّاهر، ولا يُعَبَّرُ بلفظ الباطن عن الظّاهر. وفي ذلك كلامٌ بديعٌ قد بيناه في "الكتاب الكبير". غير أنّ العلماء اختلفوا، هل الخُلُق الحسن مكتسبة أو غريزية؟ فذهب أبو جعفر الطّبريّ إلى أنّها غريزيّة في أصل الخِلقَةِ، لحديث عمر بن الخطّاب: "البُخلُ والجُبنُ غَرائِز يَضَعُهَا الله حيثُ شَاءَ" (¬6). ¬
وتعلّق من قال إنها مكتسبةٌ، بحديثِ معاذ هذا بقوله: "حَسِّن خُلُقَكَ لِلنَّاسِ". ولاشكّ أنّ الخُلُقَ الحسن محمود شرْعًا وعادةً، فالخُلُقُ الحسنُ، والإيمانُ والكفرُ، والعِلمُ والجهلُ، واللِّينُ والشِّدَّةُ، والسّخاءُ والبخلُ، وما أشبه ذلك من الصّفات والأشباه، والمحمود والمذموم يدورُ على عشرين خصلة. وقد أتقنَ مالكٌ هذا الباب ورتَّبَهُ، وذكر حديث عائشة قالت: "كَانَ خُلُقُ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - القُرآن" (¬1)؛ لأنّه تأدَّب فيه بآداب الله، وكلُّ من لا يتأدَّب بآداب الله في القرآن، فإنّه لا يحسن أنّ يُحمَدَ أبدًا، ولا يحمد أبدًا، فلمّا تأدّب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بآداب القرآن، وتخلَّقَ به، أَثنَى عليه المولَى جلَّت قُدرتُه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2). نكتةٌ: وإنّما أوصى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لمعاذ بحُسنِ الخُلُقِ وهو قائم؛ لأنّه كان أميرًا، والأميرُ أحوجُ النَّاسِ إلى توسعة الخُلُق لرعيَّته، وكأنّه أشار له أنّ يقتديَ به لأنّه الأسوة الحسنة للنَّاس كافّةً. وأنشدني بعضُ الأصحابِ: فَأَيُّ نَبِيٍّ كَانَ للنَّاسِ مثلَه ... له جُمِعَ الإحسانُ من كُلِّ جَانِبِ فمكارمُ أخلاقٍ وفضلٌ ورحمةٌ ... وبَيْتٌ رَفِيعُ السَّمكِ عَالِي الجَوَانِبِ توسَّط عِزًّا من قريش مُنَعَّمًا ... وَجَاءَ بِمَجدٍ من لُوَيِّ بن غالبِ ¬
فَصَلَّى عليه الله ما ذَرَّ شارقٌ ... وأَقبَلَ صُبحٌ من شِعَاب الغَيَاهِبِ وكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لا يغضب لنفسه قطٌّ، فتأدَّب بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1). وعن عائشة. رضي الله عنها. قالت: مَا ضَرَبَ رَسُولُ الله شَيئًا بيَدِهِ قَط، إِلَّا أنّ يُجاهِدَ في سَبِيلِ الله، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا، وَلا امرَأَةً قَطُّ، وَلَا خُيِّرَ فِيَ أَمرَينِ إِلَّا كان أَيسَرُهُمَا أَحبَّهما إِلَيهِ مَا لَمْ يَكُن إِثمًا، فَإِذَا كَانَ الإثمُ، كَانَ أبعَدَهُم مِنهُ، وَلَا انتَقَم لِنَفسِهِ مِن شَيءٍ يُؤتَى إِلَيِه، إِلَّا أنّ تُنتَهَكَ حُرُمَاتُ الله، فَيَكُونُ يَنتقِمُ لله (¬2). الفوائد المنثورة: الأولى (¬3): هذا الحديث يدلُّ ويندبُ الأمراء وسائر الحُكّامِ والعلّماء إلى أنَّه ينبغي لكلِّ واحدٍ منهم أنّ يتجافَى عن الانتقام لنفسه تَأَسِّيًا بنبيِّهِ - صلّى الله عليه وسلم -، ولا ينسى الفَضلَ والأخذ به في العَفوِ عمّن ظَلَمَهُ. وقد أجمع العلماء على أنّ القاضيَ لا يقضي لنفسه. وأجمع الجمهورُ من الفقهاء؛ أنَّه لا يقضي لمن لا تجوز له شهادَتُهُ من بَنِيهِ وآبائه (¬4). ¬
الثّانية (¬1): فيه الأخذ برخصة الله. الثّالثة: قوله (¬2): "مَا انتَقَمَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - لِنَفسِهِ" معناه: في الحقِّ الدّنِيويّ المتعلّق بالمال، وأمّا شَتمُه وسَبُّهُ فلابدّ من الانتقام فيه؛ لأنّه من حقوق الله تعالى، ولأنّه كُفرٌ وَمَن كَفَرَ لا يُترَك، ألَّا ترى أنّ من سَبَّهُ يُقتَل (¬3)، ومن سبَّ الله يستتاب ويُؤَدَّب؛ لأنّ الله لا يتأَذَّىَ بذلك، بخلاف الرّسول. حديث مالك (¬4)، عن ابن شهاب، عن عليِّ بن حُسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "من حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ". الإسناد (¬5): قال الإمام: هكذا رواه مالك في "الموطَّأ" عن ابنِ شهاب، عن عليّ بن حسينٍ، عن أبيه، وهو أيضًا مع ذلك مُرسَلٌ. وهو يُسنَدُ (¬6) من طريق الزّهريُّ، عن أبي سَلَمَة، ¬
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "من حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ" (¬1). فهذه فائدةٌ في سَنَدِ هذا الحديث. الأصول: فيه لعلّمائنا تأويلان: أحدهما: قيل: هو فيما لا يجلب به نفعًا ولا يدفعُ به مضرّةً، وهو ممّا لا يعني، وهذا بعيدٌ. وكأنّه أراد أنَّه مَنْ أكثرَ مِن فِعلِ المباحات وقع في المكروهات، ومن وقع في المكروهات خِيفَ عليه الوقوع في المحرّمات، فالعالِمُ يقدرُ أنّ يُثَابَ على كلِّ فعلِ إذا قصد به وجه الله تعالى؛ لأنّه إذا أكل نوى التَّقوية على طاعة الله وابتغاء الحَلَالِ، وإذا لبس قصد ستر العورة، وإذا جامع قصدَ بذلك العِصْمة لنفسه وأهله وغير ذلك. وأمّا من قصدَ من المباحات الشّهوة خاصّة، فلا ثواب له على ذلك، إِلَّا أنّ يقول: أعفّ نفسي عن المحارم. وفي (¬2) هذا الحديث من كلام النُّبوَّة وحكمتها ما لا ينحصر، وهو جامعٌ لمعانِ جَمَّةٍ من الخير. وفي صُحُفِ إبراهيم: من عَدَّ كلامَهُ من عَمَلِهِ، قَلَّ كلامُه إِلَّا بما يَعْنِيهِ (¬3). وقيل للقمان الحكيم: ألستَ عَندَ بَنِي الحسحاس؟ قال: بلى، قالوا: فما بَلَغَ بك ما ترى؟ قال: صِدقُ الحَدِيثِ، وأَدَاءُ الأمانَةِ، وترك ما لا يعنيني (¬4). وكان محمّد بن عجلان يقول: إنّما الكلامُ أربعةٌ: أنّ تذكُرَ الله، أو تقرأَ القرآنَ، أو ¬
تسأل عن علمٍ، أو تتكلَّم فيما يَعنِيكَ من أمر دُنيَاكَ (¬1). حديث مالك (¬2)؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: استَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، قَالَت عَائِشَةُ: وَأَنَا مَعَهُ في البَيتِ، فَقَال رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "بئسَ ابْنُ العَشِيرَةِ" ثُمَّ أَذنَ لَهُ، قَالَت عَائِشَةُ: فَمَا نَشِبتُ أنّ سَمِعتُ ضَحِكَ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - مَعَهُ. فَلَمَّا خَرَجَ الرِّجُلُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله: قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، ثُم لَمْ تَنشَبْ أَنْ ضَحِكتَ مَعَهُ، فَقَالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ". الإسناد (¬3): هذا حديثٌ بَلاغٌ، ويُسْنَدُ من وجوهٍ صحاحٍ بألفاظٍ مختلفةٍ من حديث مجاهد عن عائشة، وابن المُنكَدِر. وأحسنها حديث ابن المُنكَدِر (¬4). قال ابن عُيَينَة: سمعتُ محمّد بن المُنكَدِرِ يقولُ: حدَّثني عُروَةُ بنُ الزَّبير؛ أنَّه سمع عائشةَ زوج النّبيَ - صلّى الله عليه وسلم - تقولُ: استَأذَنَ رَجُلٌ عَلَى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فقالَ: ائذَنُوا لَهُ، فَبِئسَ ابْنُ العَشِيرَةِ - أَو بِئسَ أَخُو العَشِيرَةِ - فَلَمَّا دخلَ أَلَانَ لَهُ القولَ، فلمّا خرجَ قلتُ: يا رسولَ الله: قلتَ الّذي قلتَ، ثُم أَلَنتَ له القولَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ من شَرِّ الناسِ عِنْدَ الله يَومَ القِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحشِهِ" فقال ابنُ المُنكَدِر: لا أدري أقال: تَرَكَهُ النّاسُ، أو وَدَعَهُ النّاسُ، قال سفيانُ: فعجبتُ من حِفظِ ابنِ المُنكَدِر. وقد رُوِيَ عن علي أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ شِرَارَ النَّاسِ عِنْدَ الله الذينَ يُكرَمُونَ اتِّقَاءَ شَرِّهِم" (¬5). ¬
وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "خَيرُ النَّاسِ من يُرْجى خَيرُهُ وُيؤمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّ النَّاسِ من لَا يُرْجَى خَيرُهُ، وَلَا يُؤمَنُ شَرُّهُ" (¬1). الفوائد المنثورة في هذا الحديث: وهي ثلاث: الفائدةُ الأولى: قولُه للمستأذِن عليه: "بِئسَ ابن العشيرة" فيه دليل على إباحة الغيبة في الفاسق (¬2)، ولقوله -عليه السّلام-: "لا غِيبَة لِفَاسِقٍ" (¬3). وفيه دليل على المداراة. قال الإمام: ودخل رَجلٌ على أبي الوفاء ابن عُقِيل ببغداد فتكلّم معه وحدَّثَه، ثمّ خرج فتكلَّم أبو الوفاء، فقلت له: هذا لا يجوز أنّ تتكلّم فيه، فقال: نعم يجوز، واحتجَّ بحديث عائشة هذا. وقال أسدّ بن الحارث: لا تجوز غيبة الفاسقِ، وبيان ذلك قوله -عليه السّلام-: "إِنْ ¬
كَانَ حَقًّا فَقَدِ اغتَبتهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بَهَتَّهُ" (¬1) إِلَّا أنّ يكون تشاور فيه، كالخِطبَةِ والشَّهادة وما أشبه ذلك. وأمّا الكافر فتجوز غِيبَتُه في غير وجهه، ولا تجوز في وجهه؛ لأنَّه يتأذَّى بذلك، ولم تكن له الذِّمَّة إِلَّا بالسَّلامة في المال والعِرضِ والدَّم. فإن قيل: فما معنى هذا الحديث إذا لم تصحُّ غِيبَة الفاسق؟ قلنا: معناه أنّ المؤلَّفةَ قلوبُهُم على ضربين: منافق لا مَطْمَعَ فيه، ومنافق مخلخل الإيمان، فلمّا عَلِمَ النّبيُّ -عليه السّلام- أنَّه لا مطمع فيه اغتَابَهُ، ألَّا ترى قول عمر لمّا قوِيَ الإِسلامُ قال للمؤلَّفَة قلوبهم: "لا حاجةَ لنا بإِعطَائهم" (¬2) ولهذا يجوز غيبة الزِّنديق لأنّه أكثر من الكافر. حديث مالك (¬3)؛ عن عمِّه أبي سُهَيلِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، عن كعبِ الأحبارِ؛ أنَّه قال: إِذَا أَحبَبتُم أَنْ تَعلَمُوا مَا لِلعَبدِ عِنْدَ الله، فَانظُرُوا مَاذَا يَتبَعُهُ من حُسنِ الثَّنَاءِ. قال الإمام: يعني بعد موته (¬4). الفوائد المنثورة: الفائدةُ الأولى (¬5): أنّ تعلم أنَّ أصحاب النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يُثنُون على أحدٍ إِلَّا بصدقٍ، ولا يمدحون أحدًا إِلَّا بحق، لا لشيءٍ من أعراض الدُّنيا شهوةً أو تُقيَةً. ¬
الثّانية (¬1): وممَّا يقوِّي هذا الحديث والمعنى، ما رُوِيَ عن أنس أنّه قال: مُرَّ بجنازةٍ، فقيل لها: خَيرٌ، وتتابَعَتِ الأَلْسُنُ بِالخَيرِ، فقال -عليه السّلام-: "وَجَبَت" قال: ومُرَّ بجنازةٍ، فقيل لها: شَرٌّ، وتتابَعَتِ الأَلْسُنُ بالشَّرِّ، فقال رسولُ الله صلّى الله عليه: "وَجَبَت، أَنْتُم شُهَدَاءُ الله في الأَرْضِ" (¬2) وقد بيَّنَّاه في "كتاب الجنائز". حديث مالك (¬3)، عن يحيى بنِ سعيدٍ؛ أنَّه قال: بَلَغَنِي أَنَّ المَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ القَائِمِ بِاللَّيلِ، الظَّامِىء بِالنَّهَارِ، أو قال بِالهَوَاجِرِ. الإسناد: قال الإمام (¬4): هذا الحديث رُوِيَ عن النّبيّ عليه السّلام مُسْنَدًا (¬5). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَكمَلَكُم إِيمَانًا أَحسَنُكُم أخلَاقًا إِذَا فَقِهُوا" فهذا هو سنده (¬6). وعن أبي الدَّرداء عن النّبيّ -عليه السّلام- قال كعب: "إِنَّ في كِتَابِ الله المُنَزَّلِ: إِذَا أَرَادَ الله بِعَبدٍ خَيرًا حَسَّنَ خَلقَهُ وَخُلُقَهُ" (¬7). ¬
المعاني: حَسَنُ الخُلُقِ خيرٌ من الصّائم القائم؟ لأنّ الصّوم عمله لنفسه لا يتعدَّى إلى النَّاس، وسوء الخُلُقِ وحسنه يتعدّى إلى النَّاس، ولا يصحُّ هذا المثال إِلَّا في النَّافلة من الصّوم والصّلاة، لا في الفرائض، والله أعلم. حديث مالك (¬1)، عن يحيى بن سعيد أنَّه قال: سمعتُ ابنَ المسيِّبِ يقول: ألَا أُخبِرُكُم بِخَيِرٍ مِن كَثِيرٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ! قَالُوا: بَلَى، قَال: إِصلَاحُ ذَاتِ البَينِ، وإيَّاكُمْ وَالبَغْضَاءَ فَإنَّهَا هِيَ الحَالِقَةُ. الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا الحديث قد رُوِيَ عن النَّبيِّ -عليه السّلام-، رواه يحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ المسيِّبِ، عن أبي الدَّردَاءِ، عن النَّبيِّ -عليه السّلام- مُسنَدًا، وزاد فيه فقال: أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ حَالِقَةُ الشَّعرِ، وَلَكِنَّهَا حَالِقَةُ الدِّينِ (¬3). المعاني (¬4): وهذا أيضًا مثل ما تقدمّ أنَّه لا يكون إصلاحُ ذاتِ البَينِ خيرًا من صلاة الفريضة ولا الصَّدَقة الواجبة، وإنَّما أراد النَّافلة (¬5). وقد قيل إنّه مندوبٌ إليه لقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية (¬6). ¬
ما جاء في الحياء.
حديث مالك (¬1)؛ أنَّه بَلَغَهُ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثتُ لأُتَمِّمَ حُسنَ الأخلَاقِ". تنبيه (¬2): هذا حديث مُسنَدٌ صحيحٌ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، أَوْصَلَهُ النَّاس (¬3) عن ابن عجلان، عن القَعقَاعِ بن حَكِيمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّمَا بُعِثتُ لأُتمِّمَ صَالِحَ الأَخلَاقِ". ما جاء في الحياء. التّرجمة (¬4): قال الإمام: أدخل مالكٌ -رحمه الله- قوله (¬5): "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ" وصَدَّرَ به، وإنّما صار من الإيمان المكتسب -وهو جِبلَّةٌ-، لما يفيد من الكَفِّ عما لا يحسن، فَعَبَّرَ عنه بفائدته على أَحَدِ قسمَي المجاز. مالك (¬6)؛ عن سَلَمَةَ بنِ صفوانَ الزُّرقِي، عن زيدِ بنِ طَلحَة بن رُكَانَةَ، يرفعُهُ إِلَى النَّبِيِّ -عليه السّلام-؛ قَال: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الإِسلَامِ الحَياءُ". الإسناد (¬7): الحديثُ مُرْسَلٌ، وهكذا رواه يحيى: عن زيد بن طلحة، وقال القَعنَبِيُّ (¬8) وابنُ ¬
القاسم وابن بُكير (¬1): يزيد بن طلحة. * وهو الصّواب. وكذلك رواه وكيع (¬2) وغيره عن مالك؛ قالوا: يزيد بن طلحة * عن أبيه (¬3)، وأنكره ابنُ مَعِينٍ وغيرُه عليه؛ لأنّه ليس في "الموطَّأ": عن أبيه. وهو يزيد بن طلحة بن رُكَانَةَ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ هشامٍ بنِ المطَّلِب بنِ عبدِ منَافٍ، قُرَشِيٌّ (¬4) قال الإمام: والأحاديث الواردة ثلاثة: الأوّل: ما تقدّم. الثّاني: حديثُ معاذٍ، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وخُلُقُ الإسْلَامِ الحَيَاءُ، من لَا حَيَاءَ لهُ لَا دين لَهُ" (¬5). الثّالث: وبإسناده (¬6) قال: قال رسولُ الله: "زَيِّنُوا الإِسلَامَ بِخصلَتين، قلنا: ومَا هُمَا؟ قال: الحَيَاءُ والسَّمَاحَةُ في الله لَا فِي غَيْرِهِ". العربيّة: الحياء من الاستحياء ممدودٌ، وحياء النّاقة ممدودٌ. وقال أبو الحسن، قال ثعلب: حياء النّاقة يُمَدُّ ويقصر، وقيل: الحياءُ على ثلاثة أَوْجُهٍ، فالحَيَا: الغيث والخصب، ¬
مقصور (¬1)، ويكتب بالألف، وأصله الياء، وإنّما يكتب بالألف لأنّ الّذي قبل آخره ياء، فكرهوا أنّ يجمعوا بين ياءين. حديث مالك (¬2)، عن ابن شهاب، عَن سَالِمٍ، عن ابنِ عمر؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقَالَ النّبيُّ -عليه السّلام-: "دَعهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ". الإسناد (¬3): قال الإمام: هكذا عند جماعة رواة مالك في "الموطَّأ" (¬4) وغيره ولم يزيدوا فيه شيئًا في لفظه (¬5)، ولا اختلفوا في إسناده. وهو حديثٌ صحيحٌ خَرَّجَهُ الأيمّة مسلم (¬6)، والبخاري (¬7)، وغيرهم من المصنّفين (¬8)، وفي بعض ألفاظه (¬9) زيادات. فرواه الزُّهْرِيُّ، عن سالم، عن ابن عمر؛ قال: سَمِعَ النَّبِيُّ -عليه السّلام- رَجُلًا يُعَاتِبُ أَخَاهُ في الحَيَاءِ يقولُ: إِنَّكَ لَتَستَحِي حَتَّى قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فقال رسولُ الله: "دَعهُ، فَإِنَّ الحَياءَ مِنَ الإِيمَانِ" (¬10). ¬
ونظائره: حديث أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا كَانَ الحَيَاءُ في شَيءٍ قَطٌّ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الفُحشُ فِي شَيءٍ قَطٌّ إِلَّا شَانَهُ" (¬1). وعن أنس أيضًا، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يَنْزعُ الله مِنَ العَبدِ الحَيَاءُ، فَيَصِيرُ مَمقُوتًا مُمقَّتًا، ثُمَّ يَنْزعُ مِنهُ الأَمَانَةَ، فَيَصِيرُ خَائِنًا مُخَوَّنًا، ثُمَّ يَنْزعُ مِنهُ الرَّحْمَةَ، فَيَصِيرُ فَظًّا غَلِيظًا، وَيَخلعُ رِبقَةَ الإِسلَامِ من عُنُقِهِ، فَيَصِيرُ شَيطانًا لَعِينًا" (¬2). وهذا الحديث ضعيفُ الإسناد عند أهل الحديث (¬3)؛ لأنّ في طريقه خراش وهو مجهول، والحديث بهذا اللّفظ لا يُعرَفُ إِلَّا من هذا الوجه (¬4). الأصول: قولُه: "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ" يريد ثمرته، والإيمانُ كسبيٌّ، والحياءَ غريزيٌّ، وإنّما قال النّبيّ -عليه السّلام-: "الحَيَاءُ مِنَ الإيمَانِ" لأنّ مِنَ الحياء يكون العَفَافُ وترك المعاصي، والمعاصي مثل الزِّنا وشُرب الخّمْرِ والغِيبَة مناقضةٌ للإيمان، فقال: "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ" لأنّه مصاحبٌ للإيمان الّذي يكون منه الخير والعفاف، ومن الكفِّ عن المعاصي تمَّ إيمانُه، ومن الإيمان ما هو اعتقادٌ بالجنان، وفعل بالجوارح، وأداء الأركان. وللإيمان (¬5) أصولٌ وفروعٌ، فمِنْ أصولِهِ: الإقرارُ باللِّسان مع اعتقادِ القلب بما ينطق به اللِّسان من الشّهادة للرّحمان: لا إله إِلَّا الله، محمّد رسول الله؛ وأنَّ كلَّ ما جاء به عن ربِّه حقٌّ؛ من البعث بعد الموت، والإيمانِ بملائكة الله وكتبه ورسله، وكلَّ ما أَحْكَمَهُ ¬
ما جاء في الغضب
الكتاب، ونقلته الكافّة عن النّبيِّ -عليه السّلام- من الصّلاة والزَّكاة والصّيام والحجّ، وسائر الفرائض. وبعد هذا، فكلُّ عملٍ صالح فهو من فروع الإيمان، فبرُّ الوالدين، وأداءُ الأمانةِ من الإيمان، وحُسنُ العهد من الإيمان، وحُسنُ الجوار من الإيمان، وتوقيرُ الكبير من الإيمان، ورحمةُ الصّغير، حتّى إطعامُ الطّعام من الإيمان، وإفشاء السّلام من الإيمان. فهذه الفروعُ منْ ترك شيئًا منها لم يكن ناقص الإيمان بتركها، كما يكون ناقصَ الإيمانِ بارتكاب الكبائر وتَركِ عملِ الفرائضِ، وإن كان مُقِرًّا بها. والحياءُ مقيَّدٌ بالإيمان، يَردَعُهُ عن الكذِب والفجورِ والآثامِ، كما قال -عليه السّلام-: "الإيمانُ قَيَّدَ الفَتكَ، لا يَفتِكُ مُؤمِنٌ" (¬1) والفتكُ: القتلُ بعد الأمان، والغَدرُ بعد التّأمين. فلمَّا صار الحياء والإيمان سبَبَيْنِ إلى فعل الخير، جُعِلَ الحياءُ شعبةً من الإيمان؛ لأنّه يمنعُهُ عن ارتكاب المعاصي، والله أعلمُ. وتلخيصُ هذا يطولُ شَرْحُه وبيانُه، وهذا كلُّه يدلُّ على أنّ الإيمان قولٌ وعملٌ كما قال أهل العلم بالفقه والحديث، وقد بيَّنَّا معنى الإسلام والإيمان في أوّل الكتاب فليُنْظَر هنالك. مَا جَاءَ في الغَضَبِ مالك (¬2)، عنِ ابنِ شهابٍ، عَنْ حُمَيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيِّ عليه السّلام فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، عَلِّمنِي كَلمَاتٍ أَعِيشُ بِهنَّ وَلَا تُكثِر عَلَيَّ فَأَنْسَى. فَقَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا تَغْضَب". ¬
الإسناد (¬1): قال الإمام: هكذا في "الموطَّأ" عند جماعة الرُّواة (¬2)، والحديثُ مُرسَلٌ (¬3)، ويُسنَدُ من غير روايةِ ابنِ شهابٍ (¬4)، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخُدريّ (¬5)، وعبد الله ابن عَمرِو بن العاصي (¬6)، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. أمّا حديث أبي هريرة؛ فإنّه قال: إنَّ رجُلًا قال: يَا رَسولَ الله، أَوْصِنِي بعَمَلٍ أَعْمَلُهُ، قال: "لا تَغْضَب" (¬7). وأمّا حديث عبد الله بن عمرو، أنَّه قال: سألتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسولَ الله، مَا يُبعِدُنِي من غَضَبِ الله؟ قال: "لَا تَغضَبْ" (¬8). وقيل (¬9): كان الشَّعبيُّ من أولعِ النَّاس بهذا البيت: لَيسَ الأحَلامُ فِي حينِ الرِّضَا ... إنَّمَا الأحلَامُ فِي حينِ الغَضَب وقال غيرُه: لَا يُعرَفُ الحِلمُ إِلَّا سَاعَةَ الغضَبِ وقال أبو العتاهية (¬10): أُقَلِّبُ طَرفِي مَرَّةَ بَعدَ مَرَّة ... لأَعلَمَ مَا فِي النَّاسِ والدَّهرُ يَنْقَلِب فَلَمْ أَرَ عِزًّا كالقنُوع لأَهلِهِ ... وأَنْ يُجمِل الإنسَانُ ما عَاشَ في الطَّلَبْ ¬
وَلَمْ أرَ فَضلًا صَحَّ إِلَّا علَى التُّقَى ... وَلَمْ أَرَ عَقلًا تَمَّ إِلَّا عَلَى أَدَب وَلَمْ أرَ في الأَعدَاءِ حِينَ خَبَرتُهُم ... عَدُوًّا لِعَقلِ المَرءِ أَعدَى من الغَضَب الأصول: الرّجل الّذي جاء إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "عَلِّمنِي، وَلَا تُكْثِر عَلَيَّ فَأَنْسَى". قيل: هو عمّ الأحنف بن قيس (¬1)، فقال له النّبيُّ -عليه السّلام-: "لَا تَغضَب" (¬2). فجمع له - صلّى الله عليه وسلم - في هذه الكلمة حكمة عظيمة؛ لأنّ الغضبَ من أُمّهات المعاصي، وربّما أيضًا قال له ذلك لأنّه عرفَ أنّ الغضبَ أعظم أسباب المعاصي عنده، والغضبُ نارٌ في النَّفس ولذلك قال -عليه السّلام-: "إذا غضب أحدُكُم وهو قائمٌ فليقعُد، وَإِن كَانَ قَاعِدًا فليضطجع" (¬3)، وجاء: "فليغتسل بالماء فإنّه نَارٌ" (¬4). وقال علماؤنا (¬5): إنّما نهاه عمّا علم أنَّه هَوَاهُ، وأنّ الغالب عليه الغضب، فتفرَّسَ فيه، وعلم ذلك منه، كما قال لوفد عَبدِ القَيسِ: "لا تشربوا مسكرًا" (¬6) وتركَ بيانَ سائر المعاصي لما علم أنّ الخّمْرِ هواهم وشهوتهم، وإنّما كان ذلك لأنّ المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أنّ يترك ما لا يشتهي، وخصوصًا الغضب، فإنّ من ملك نفسه عنده ¬
كان شديدًا، وإن من ملكها عند الغضب كان أَحرَى أنّه يتركها عند الكِبرِ والحسد وأخواتهما، على ما نُبيِّنُه إنَّ شاء الله. حديث مالك (¬1)؛ عنِ ابنِ شهاب، عنِ ابنِ المسيَّب، عن أبي هريرةَ: أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَيس الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ. إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ". الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا الحديث صحيح الإسناد (¬3)، واختلف على مالك وعَلَى ابن شهاب في إسناده، والصّحيح ما في "الموطّأ". وتتعلّق بهذا الحديث أَخبارٌ كثيرة، وإن في هذا الحديث مجاهدة النَّفسِ في صَرفِها عن هواها أَشَدُّ محاولةً وأصعب مرامًا، وأفضلُ من مجاهدة العَدُوِّ؛ لأنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قد جعل للَّذي يملكُ نَفسَهُ عند الغضب من القُوْة والشِّدَّةِ ما ليس للذي يغلبُ النَّاسَ ويصرعُهُم. وقوله "الصُّرَعَة" يريد: الّذي يصرع النَّاس ويَكثُرُ ذلك منه، كما يقال للرَّجل الكثير النوم: نُوَمَةٌ، وللكثير الحفظ: حُفَظَةٌ بالتّخفيف، وما أشبه ذلك. الأصول (¬4): اعلم أنّ الغضبَ شعلةُ نارٍ (¬5) اقتبست من نار الله المُوقَدَة، إِلَّا أنَّه لا تطَّلِعُ إِلَّا على ¬
الأفئدة، وإنَّها لمستكِنَّةٌ في طَيِّ الفؤاد استكنانَ الجَمْرِ تحت الرَّماد، ويستخرجها الكير الدّقيق من قلب كلِّ جبّارٍ عنيد، كما يستخرجُ الحجر النّار من الحديد، وقد انكشفت للنّاظرين بنور اليقين؛ لأنّ الإنسان ينزعُ منه عرق إلى الشَّيطان اللَّعين، فمن استفزّته نار الغضب فقد قرنه قرانة الشَّيطان، حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (¬1). فإنّ شأن الطّين السّكون والوقار، وشأن النّار التّلظي والاستعار والحركة والاضطراب، ولذلك قال الحسن البصري: ابن آدم، كلّما غضبت وثبت، ويوشك أنّ تثب وثبةً فتقع في النّار. وأغلظَ رجلٌ (¬2) لعمر بن عبد العزيز القول، فأطرق عمر طويلًا، ثمّ قال: أردتَ أنّ يَستَفِزَّني الشَّيطانُ بعزّة السُّلطان، فأنال منك اليوم ما تنال منِّي غدًا (¬3). وقال وَهْب: للكفر أربعة أركان: الغضب، والشَّهوة، والخرق، والطَّمع. وقال نبيّ من الأنبياء لمن معه: من يتكفَّل لي أنّ لا يغضب، ويكون معي في درجتي في الجنَّة، ويكون بعدي خليفتي؟ فقال شابّ من القوم: أنا، ثمّ أعاد عليه، فقال الشاب: أنا أوفي به، فلمّا مات كان في منزلته بعده، وهو ذو الكِفل، سُمِّيَ به لأنّه كَفَلَ بالغضب ووفى به. ¬
نكتةٌ: والناسُ في الغضب أربعة: فبعضهم: كالحَلفَاءِ سريع الوقود سريع الخُمُودِ. وبعضهم: كالعصا بطيءُ الوقود بطيءُ الخُمُودِ. وبعضهم: بطيءُ الوقودِ سريعُ الخمودِ وهو الأحمد، ما لم يَنتَهِ إلى فتور الحمية. وبعضهم: سريع الوقود بطيء الخُمُودِ، وهذا هو أشرَّهم، وفي الخبر: "سَرِيعُ الغَضَبِ سرِيعُ الرِّضَى" (¬1) فهذه بتلك. وقال الشّافعيّ: منِ اسْتُغضِبَ فلم يغضب فهو حمار (¬2). نكتةٌ نافعة للغَضَب (¬3): ولو أنّ رجلًا تفكَّر في قُبحِ صورته عند غَضبِه، بأن يتذكَّر صورة غيره في حالة الغضب، ويتفكّر في قُبحِ الغضبِ في نفسه ومشابهتِهِ صاحب الكلب الضَّاري، والسَّبع العادي، ومشابهة الحليم الهاديء التَّارك للغضب الأنبياءَ والعلّماءَ والحكماء، ويُخيِّر نَفسَهُ بين أنّ يتشبَّه بالكلاب أو بالسِّباع أو أَرذَل النَّاس، وبين أنّ يتشبَّه بالأنبياء في الاقتداء إنَّ كان قد بقي معه مُسكَة عقل. والمعنى الثّاني: أنّ يتفكَّر في السّبب الّذي يدعُوه إِلى الانتقام ويمنعه من كظم الغيظ، ولابدّ أنّ يكون له سبب، مثل قول الشَّيطان له: إنَّ هذا يُحمَلُ منك على العجز وصِغَرِ النَّفس والذِّلة والمهانة، وتصير حقيرًا في أعين النَّاس، فلتأنف ذلك بما يؤول أَمرُه من سوء العاقبة، ومن الخزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ بيدك للانتقام. وأن تتفكَّر بأن: "الغضبُ من الشَّيطان، وإنَّ الشَّيطان خُلِقَ من النَّار، وإنّما تُطفَأُ النّار بالماء، فإذا غضِبَ أحدُكُم فليتوضأ" (¬4) وقال -عليه السّلام-: "أَلَا إِنَّ الغَضَبَ جَمرَةٌ في ¬
قَلبِ ابنِ آدَمَ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُم من ذَلِكَ شَيئًا فَليُلصِق خَدَّهُ بِالأَرْضِ" (¬1) وكأنّ هذا إشارة إلى السّجود، وتمكُّنِ أَعَزِّ الأعضاءِ من أذلِّ التُّرابِ والمواضعِ، لتستشعر النّفسُ الذُّلَّ. وغضب عمر بن الخطّاب يومًا، فدعا بماءٍ فاستنشق، وقال: إنَّ الغضب من الشَّيطان وهذا يُذهِبُ الغضبَ. وقال بعضهم (¬2): إذا غضبتَ فانظُر إلى السَّماء فوقك وإلى الأرض تحتك، ثمّ عَظِّم خالقهما. قال الله العظيم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} الآية (¬3). فذكر ذلك في معرض المدح. وقال -عليه السّلام-: "مَنْ كفَّ غضبه كفَّ الله عنه عذابه، وَمَنِ اعتَذَرَ إِلَى رَبِّهِ قبِلَ الله عذره، ومن خزن لسانه ستر الله عورته" (¬4). وقال -عليه السّلام-: "ما جرع عبد بأعظم أجرًا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله" (¬5). وقال -عليه السّلام-: "إنَّ لجهنم بابًا لا يدخلها إِلَّا من شفى غيظه بمعصية الله" (¬6). ¬
ما جاء في المهاجرة
وكان -عليه السّلام- يقول: "اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بالعلّم، وزَيِّنِّي بالحلم، وكَرِّمْنِي بالتّقوى، وجَمِّلنِي بالعافية" (¬1) والكلام على هذا كثير جدًّا. ما جاء في المهَاجَرَةِ مالك (¬2)، عنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُوبَ الأَنْصَارِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَن يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يلتَقِيَانِ، فَيُعرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيرُهُمَا الَّذِي يَبدَأُ بِالسَّلَامِ". الإسناد (¬3): قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ مشهور، ورُوِيَ في هذا الحديث: "يَهجُر" (¬4)، وَ"يُهَاجِرُ". والحديثُ الثّاني، حديثُ أبي أمامة المُسْنَد عن النّبيّ -عليه السّلام-؛ أنَّه قال: "أَوْلَى النَّاسِ بالله مَنْ بَدَأَهُم بِالسَّلَامِ" (¬5) وهذا يحتمل من المهاجرين ومن غيرهم. ¬
والحديث الثّالث: الحديث الصّحيح عن أبي هريرة؛ أنَّه قال: "لَا يَحِلُ لِمُؤمِنٍ أَنْ يُهجُرَ مُؤمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلَقِيَهُ فَليُسَلِّم عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشتَرَكَا في الأَجرِ، وَإِنْ لم يَرُدّ عَلَيْهِ فَقَد بَاءَ بِالإِثْمِ. وَخَرَجَ (¬1) المُسلِمُ مِنَ الْهَجرِ" (¬2). الغريب: الهجرُ: التّركُ من هجَر يهجُر هجرًا، علي بناء المصدر. الأصول: قال الإمام: في هذا الحديث سؤالات ثلاث: الأوّل: هل الحديث نصٌّ في أنّ لا تحلّ الهجرة فوق ثلاث، أو دليل خطاب؟ والثّاني: هل هو عموم أو خصوص؟ والثّالث: ما وجه الحكمة في هجرة الرَّجل أخاه ثلاثًا؟ وما وجه تخصيصه بالثّلاث؟ السؤال الأوّل: فإن قيل: هل هو نصٌّ في أنّ لا تحلّ الهجرة فوق ثلاث أو دليل خطاب؟ الجواب أنّ يقال: هو نصّ في الطرفين في جواز الثّلاث، وفيما فوق الثّلاث، ومعنى ذلك: أنّ كلّ كلامٍ دار بين طَرَفَينِ، نَفْيٌ وإثباتٌ، سَلبٌ وإيجابٌ، فالأوَّلُ فيه ضدّ الثّاني، وهذا نفي ما فوق الثلاث، فيكون الأوّل ضدّ الثّاني، وضدّه جواز الثّلاث فدون ذلك، ويسمِّيه المنطقيون المقابلة. وكذلك تكون الغاية، كقول القائل: سرتُ حتّى طلعتِ الشّمسُ، فالأوَّل إثباتٌ، والنَّفي لما طلعت. وقالوا: كلُّ كلام تُكُلِّمَ به يدلُّ على شيئين: يدلُّ على واحدٍ دلالةً لفظيَّةً، وعلى الآخر دلالةَ اقتضاءٍ، كقولنا: هذا خاتَم، فإنّه يدلُّ ¬
على فِضَّةٍ أو ذهبٍ، ويدلُّ على وجهٍ آخر بالاقتضاء على صائغ وآلة. السُّؤال الثّاني: هل هو عموم أو خصوص؟ والجواب: أنَّه على الخصوص؛ لأنّ مهاجرة أهل البدع جائزة، وكذلك أهل المعاصي. الدّليل على ذلك: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - هجر كَعبًا وأصحابَهُ، وأمران لا يكلِّمهم أحدٌ خمسين ليلةً (¬1). ودليل ثانٍ: أنّ عائشة - رضي الله عنها - هجرت ابن الزُّبير لما خالفها، وذلك أنّها تأوَّلت أنَّه عاصٍ لمّا قال عبد الله: يضرب على يديها. السؤال الثّالث: ما وجهُ الحكمة في تخصيصه بالثلاث؟ الجواب، قلنا: قد تكلَّم النَّاس في ذلك، فقيل: لأنّ اليوم الأوّل يكون للغضب، والثّاني: للفكرة ولفتور الغضب، والثّالث: للاختيار، يقول لنفسه: لابدّ لَكِ من الصُّلح وإلّا وقعتِ في المعصية، واليوم الرّابع: للصلح وإلَّا وقع في الإثم بإجماع من الأُمَّةِ. فإن قيل: لأيِّ شيءٍ خُصَّت بثلاثة؟ وما الحكمة في الثّلاث؟ قالوا: إنَّ الثلاث تذكرة للأوائل وامصلوها، ألَّا ترى قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الآية (¬2) وقوله "لا يُقيمُ المُهاجرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاِء نُسُكُهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ" (¬3). والحكمة: أنّ الله تعالى أباح هجران هذا القَدر لئلَّا يقع أحدٌ في المحظور؛ لأنّ طَبعَ النّفسِ الغضبُ والشِّدَّة والمنافسة والحَسَد في الأشياء، فأُبيح للإنسان أنّ يستريح في هجران صاحبه إلى هذا المقدار. ¬
نكتةٌ بديعة (¬1): وذلك أنّ تعلم أنّ الله تعالى خلق الخَلقَ أشتاتًا في الأهواء؛ لأنّه خَلَقَهُم من أشتاتٍ في الابتداء، ثمّ دعاهم إلى التآلف، وذلك ضدّ ما جبلهم عليه؛ لأنّه تعالى هو الدَّاعي، وهو المُيَسِّر، وهو الخالق لكلِّ شيءٍ له مقدار المقدَّر له، فإذا يسَّرَكَ لما أمرك فقد أدركت، وإذا حال بينك وبينه بُعْدٌ فقد فات، وكلُّ ذلك علامة على الهَلَكَةِ أو النّجاة. ولأجل هذا جعل في الهجران ثلاثًا؛ لأنّ المرء في ابتداء أمره في الغضب مغلوبٌ، فرخَّصَ له في التَّمادي على حاله حتّى يسكن الغضب بالاغتسال، كما جاء في الحديث (¬2). والهجرانُ على أوجهٍ: فإن كان من أجل الدِّين، أو كان رجلًا مبتدعًا، فهجرانه جائزٌ، كما بينَّاه قبلُ، أنّ في حديث كعبٍ أصلًا في هجران أهل المعاصي والبدع. حديث مالك (¬3)؛ عن ابنِ شهاب، عن أنس؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ". ¬
الإسناد (¬1): قال يحيى: "يُهَاجِرُ أَخَاهُ" وسائر الرّواة عن مالك يقولون: "يَهجُر" (¬2)، والحديث صحيحٌ مُسنَدٌ. الفوائد المنثورة: وهي تسعة: الفائدةُ الأولى (¬3): قوله: "لَا تَبَاغَضُوا" معناه: النّدب إلى رياضة النَّفْسِ عن التَّحَابِّ؛ لأنّ المحبَّة والبِغضَةَ لا يكادُ المرءُ يغلِبُ فيهما على نفسه، بدليل قوله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الآية (¬4). وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنهَا اختَلَفَ" (¬5) وقد تقدَّمَ (¬6) حديث أبي الدَّرداء: أنّ البِغضَةَ حالقةُ الدِّينِ؛ لأنّها تبعث على الغِيبَة، وسَتْرِ المحاسن، وإظهار المساويء، وربَّما أدت إلى ما هو أكثر من ذلك. وحقيقة البغض: هي كراهية النفس للمرء وصفاته. الفائدةُ الثّانية: قوله: "وَلَا تَحَاسَدُوا": وحقيقةُ الحسدِ (¬7): تمنِّي نقل النِّعمة من غيرك إليك، فينبغي للمرء أنّ يسأل الله من فضله. وهو ينقسم قسمين: محمودٌ، ومذموم. ¬
فالمذموم: ما تقدّم. والمحمود: ما (¬1) أجازه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - حيث قال: "لَا حَسَدَ إِلَا في اثنَتَينِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ ليلَهُ، وَرَجُلٌ آتاهُ الله عِلمًا أَو حِكمةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" (¬2) هذا حديث ابن مسعود عن النّبيّ -عليه السّلام-، وأمّا حديثُ ابنِ عُمر عن النّبيِّ -عليه السّلام- أنَّه قال: "لَا حَسَدَ إِلَّا في اثنَتَينِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُراَنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتاهُ الله مَالًا، فَهُوَ يُنفِقُهُ باللَّيل وَالنَّهَارِ" (¬3) وفي لفظ آخر: "رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ" (¬4). ورَوَى يحيى عن النّبيِّ -عليه السّلام- أنّه قال: "إِذَا حَسَدتُم فَلَا تَبغوا" (¬5). ويقال: إنَّ الحسد لا يكادُ يَسلَمُ منه أَحدٌ فمن لم يَحمِله حسَدُه على البغي لم يضرَّه. ورُوِّينَا (¬6) عن الحسن البصري أنَّه قال: "ليس أحدٌ من وَلَدِ آدمَ إِلَّا وقد خُلِقَ معه الحسدُ، فمن لم يجاوِزهُ إلى البغي والظُّلم، لم يتبَعهُ منه شيءٌ". وقال ابنُ القاسم: سمعتُ مالكًا يقولُ: إنَّ أوَّلَ معصيةٍ عُصِي الله بها الحسدُ، حسد إبليس لآدم، وحسد قابيل لهابيل (¬7). ¬
وقال (¬1) -عليه السّلام-: "الحَسَدُ يَأكُلُ الحَسَنَات كما تَأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" (¬2). وقال -عليه السّلام-: "سِتَّةٌ يَدخُلُونَ النَّارَ قَبل الحِسَابِ بسنة"، قِيلَ: يا رسول الله، مَنْ هُم؟ قالَ: "الأُمَرَاءُ بِالجَورِ، والعَرَبُ بالعَصَبِيَّةِ، والدَّهَاقِينُ بالتَّكَبُّرِ، والتُجَّارُ بالخِيَانَةِ، وأَهلُ الرّستَاقِ بالجَهَالَةِ، والعلّماءُ بالحَسَدِ" (¬3). وفي الحديث قال -عليه السّلام-: "أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي أنّ يَكثُرَ فيهم المَالُ فَيَتَحَاسَدُونَ وَيقتَتِلُونَ" (¬4). وقال -عليه السّلام-: "استَعِينُوا عَلَى قَضاءِ الحَوَائجِ بِالكِتمَانِ، فَإِنّ كُلَّ ذِي نِعمةٍ محسُودٍ" (¬5). ¬
وقال -عليه السّلام-: "لا تُظهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيَرحَمُهُ الله وَيَبتَلِيك" (¬1). ومن حديث أنس (¬2)، قال -عليه السّلام-: "يَطلُعُ عَليكُمُ الآنَ من هَذَا الفَجِّ رَجُلٌ من أَهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِن الأَنصَار تَنطِفُ لِحيَتُهُ من وضوئه، وقد علَّقَ نعلَيهِ في يده الشِّمال، فَسَلَّم، فلمّا كان الغد، قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرَّجل، وقاله في اليوم الثّالث، فطلع ذلك الرَّجل، فلمّا قام النَّبيُّ -عليه السّلام- تَبِعَهُ عبدُ الله بن عمرو بن العاص، فقال له: إنّي ضَيفُك، قال: نعم، قال: فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يره يقوم من اللَّيلِ شيئًا، غير أنّه إذا انقلب على فراشه ذكرَ الله تعالى ولم يقم حتّى يؤقت صلاة الصُّبح، قال: فكدتُ أنّ أَحَتَقِرَ عملَه، قلت: يا عبد الله، سمعتُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا، فأردتُ أنّ أرى عمَلَكَ، فلم أرك تعمل عملًا كثيرًا، فما الّذي بلغ بك ذلك؟ قال ما هو إِلَّا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد على أحدٍ من المسلمين في نفسي غِشًّا ولا حسَدًا على خير أعطاه الله إيَّاه، قال عبد الله: هي الّتي بلغت بك، وهي الّتي لا أطيق أنا" (¬3). ورُوِي أنّ موسى -عليه السّلام- لما تعجَّلَ إلى ربِّه، رأى في ظلِّ العرش رَجُلًا قائمًا فغبطه بمكانه، وقال: إنَّ هذا لكريمٌ على رَبِّه، فسأل ربَّه أنّ يُخبِرهُ باسْمِه فلم يخبره، وقال: أحدِّثُك من عمله بثلاث: كان لا يحسد النَّاس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يَعُقُّ والدَيْه، وكان لا يمشي بالنَّميمة (¬4). ¬
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًا انتقينا (¬1) منها هذه. الفائدةُ الثّالثة (¬2): وأمّا "المباغضة" وهي الحالقة، فإنَّ صلاح ذات البين بها يقوم الإسلام من الصّلاة والحج وغير ذلك. الفائدةُ الرّابعة (¬3): التَّدابر قال مالك (¬4): لا أَحسبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الإعراضَ عن أخيك بالسَّلام، فَتُدبرُ عنه بوجهِكَ. قال الإمام: ما كان أغوصَ مالكًا على المقاصد، وما كان أعرفَه بالمصالح. أصل الفساد البغض، فنهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عنه، وينشأ عن البغض الإعراض، وهو أوَّل درجات التَّدابر، ويترتَّب على الأعراض اختلافُ الأهواء، ومُرُوجُ الأمور، وفسَّره بالأعراض لهذا المعنى. الفائدةُ الخامسة (¬5): أمّا الظنّ، فهو حديث في النّفس عما يتوهّمه المرء، فإن كان عن دليل فالعمل عليه واجبٌ، وإن كان مسترسلًا أو عن شهوة فهو أكذب الحديث (¬6). ¬
الفائدةُ السّادسة (¬1): قوله: "وَلَا تجَسَّسُموا" والتجَسُّسُ طِلّابُ الأخبار من عيوب النَّاس في الجملة، وذلك لا يجوز إِلَّا للأمام الّذي رتب لمصالحهم، وأُلقِيَ إليه زمام حفظهم. وأمّا التحسّس فهو طلب الخبر الغائب للشَّخص، وذلك لا يجوز لا للإمام ولا لسواه. نكتَةٌ: ويروى بالحاء، والحاء المعجمة، وقيل: معناه واحدٌ (¬2)، وقيل: اثنان، التَحَسُّس بالحاء غير معجمة في الخير، والنَّهي في الشَّرِّ، وقيل في الّذي يروى للخبر، أنَّه نَهَى عنه؛ لأنّه يدعو إلى الشَرِّ. الفائدةُ السّابعة: قولُه: وَلَا تنَافَسُوا ؤلَا تَحَاسَدُوا" هل هما شيءٌ واحدٌ وفيهما معنى؟ فالجواب: أنّهما بمعنى واحد؛ لأنّ القرآن لا يتكرر إِلَّا لفائدة. وهذا الحديث أصل في الفصاحة، وعليه تتركَّب اللُّغة؛ لأنّ النّبيّ -عليه السّلام- أفصح ولد آدم. الفائدةُ الثامنة (¬3): قوله: "وَلَا تَنَافُسوا" والتّنافس هو التَّحاسد في الجملة، إِلَّا أنَّه يتميز عنه بأنّه سببه، وكأنّه قيل له: لا ترى نفسك خيرًا من أحد حتّى يحملك ذلك على الحقد والحسد. الفائدةُ التّاسعة (¬4): قوله (¬5): "ولّا يَحِلٌّ لِمُسلِمٍ أنّ يَهجُر أَخاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ". ¬
ما جاء في المصافحة
قال الإمام: هذا مخصوصٌ عندي بحديث كعب بن مالك كما تقدّم (¬1)، وقال النَّاس فيه كلامًا لبابه ما أشرتُ إليه. تتميم (¬2): وَرُوِّينَا (¬3) عن سفيانَ الثّوريّ أنَّه قال: "الظَّنَّ ظَنَّانِ: ظَنٌّ فيه إِثمٌ، وظَنٌّ ليس فيه إِثمٌ، فالظَّنُّ الّذي فيه الإِثمُ ما يَتَكلَّمُ المرءُ به، والظَّنُّ الّذي لا إِثمَ فيه مالم يتكلَّم به" (¬4). وقال عمر: "لا يَحِلُّ لامْرِىءٍ مسلمٍ سمعَ من أخيه كلمةً أنّ يظُنَّ شَرًّا وَهُو يجدُ لَهَا من الخير مَصدَرًا" (¬5). ومن حديث معاوية أنَّه قال: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْراتِ النَّاس أفسَدتَهُم، أو كِدتَ أنّ تُفسِدَهُم". قال أبو الدرداء: كلمةٌ سمعها معاويةُ فنَفَعَهُ الله بها (¬6). ما جاء في المصافحة حديث مالك (¬7)؛ عن عطاء الخُرَاسَانِيَ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "تَصَافحُوا يَذهَب الغِلُّ، وَتَهادَوْا تحَابُّوا، وتَذْهَبِ الشَّحَنَاءُ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديثُ مُرْسَلٌ (¬1)، وفي الباب (¬2) أحاديث في المصافحة حِسَانٌ، منها: حديثُ البَرَاءِ، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَا من مُسلِمَينِ يَلتَقِيانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبلَ أنّ يَفتَرِقَا" (¬3). ورُوِيَ عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كانوا إذا الْتَقَوا تصافَحُوا. وقال الأسود وعَلقَمَة: "تمامُ التَّحيةِ المصافحةُ (¬4) والمعانقةُ (¬5)، وإنَّ ذلك يزيد في المودَّة" (¬6). وأمّا المصافحةُ، فلم يرها مالك (¬7)؛ لأنّه لم يسمع بها، والحديثُ لم يصحَّ عنده فيها (¬8)، وقد اجتمع مع سفيان بن عُيَيْنَة فصافحه سفيان، وقال له: كذلك صافح النّبيُّ ¬
-عليه السّلام- جعفر حين قَدِمَ من أرض الحَبَشَةِ، فقال مالك: ذلك مخصوصٌ بجعفر، قال له: ما الدَّليلُ على خصوصه؟ قال: لأنّه لم يفعله النّبيّ -عليه السّلام- لغيره، فكان كالنَّسخ (¬1). واحتجّ سفيان بحديث البراء بن عازب: "مَا من مُسلِمَينِ يَلتَقِيَانِ ... " الحديث، فأجاز المصافحة بهذا الحديث (¬2). وأمّا الغلّ: فهو العداوة والحقد (¬3). الفائدةُ الثّانية (¬4): قوله (¬5): "تَهَادُوا تَحَابُّوا" فقد رُوِيَ مُسنَدًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "تَهَادُوا تَحَابُّوا" (¬6) وفي رسول الله الأُسوةُ الحَسَنَةُ، كان يهادي أصحابه وغيرهم، ويقبلُ الهديَّةَ ويُثِيبُ عليها، وقال: "لَو أُهْدَيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لقَبِلتُهُ، وَلَوْ دُعِيتُ إلى ذِرَاعٍ لأَجَبتُ" (¬7). فالهديَّة بما وَصَفنَا سُنَّةٌ، إِلَّا أنّها غيرُ واجبةٍ؛ لأنّ العِلَّة فيها استجلاب المحبَّة بها، وإنّها من أسباب التَّوَادِّ لعلاقة الآمال بالمال، فترى النّفس أنّ كلَّ ما أعأنّها على ¬
مصالحها يُحِبُّها، فتنبعثُ المحبَّةُ بسبب ذلك، ولقوله: "جُبلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أحسَنَ إِلَيهَا" (¬1). الفائدةُ الثّالثة: قوله: "تَحَابُّوا": قد بيَّنَّا معنى المحبّة في "كتب الأصول" (¬2)، وقد قال جماعة من العلماء: إنَّ المحبّةَ هي الإيثار بالمال والنَّفس. أمّا المال، فقد قال الله العظيم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية (¬3). ¬
وأمّا النفسُ، فتكون مثل ما فعل الصِّدِّيق - رضي الله عنه - لمّا دخل مع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الغَارَ، أرادتِ الحيَّةُ أنّ تخرج من الجُحرِ فسدَّهُ برِدَائِهِ، ففداهُ بنفسه (¬1). وكما تَرَّسَ عليه طلحة بِبَدَنهِ، وكما نام عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الفراش في البرد بدلًا منه (¬2)، على ما أوردنا في "الكتاب الكبير". حديث مالك (¬3)؛ عن سُهَيلِ بن أبي صالح، عن أبي صالح السَّمَّانِ، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "تُفتَحُ أَبوَابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثنَينِ وَيَومَ الخَمِيسِ، فَيُغفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسلم لَا يُشرِك بِالله شَيئًا، إلَّا رَجُلًا كَانَت بَينَهُ وَبَينَ أَخِيهِ شَحنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنظِرُوا (¬4) هَذَين حَتَّى يَصطَلِحَا". وفي الحديث الآخر (¬5): "فَيُقَالُ: اترُكوا هَذَينِ حَتى يَفِيئَا، أوِ اركُوا هَذَينِ حَتَّى يَفِيئَا". الإسناد (¬6): قال الإمام: حديثُ سُهَيل مُسنَدٌ حسن (¬7)، وحديث مسلم بن أبي مريم هو حديث موقوف عند جماعة رُوَاةِ "الموطَّأ" (¬8) وقد رواه ابنُ وهبٍ، عن مالك، عن مسلم، عن ¬
أبي صالح عن أبي هريرة، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ مُسنَدًا (¬1)، وهو الصّحيح؛ لأنّه لا يقال مِثلُه بالرَّأيِ، ولا يُدرَكُ بالقياسِ. العربيّة (¬2): قوله فيه (¬3): "وَاركُوا هَذَيْنِ" فقيل: "اركُوا" معناه: اتركوا. وقيل: معناه أخَّروا هذين. يقال: أخّر هذا، وأَنظِر هذا، وأَرجِ هذا، واركِ هذا، كلُّ ذلك بمعنىً واحدٍ. وقولُه: "حَتَّى يَفِيئَا" فهي كلمةٌ فصيحةٌ فوقانية (¬4)، ومعناه: حتّى يرجعَا إلى ما عليه أهلُ المؤاخاةِ والمصافاة من الأَخِلَّاءِ والأولياء. والفيءُ: الرُّجوع والمراجعة، قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية (¬5). وقال عزَّ من قائل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} (¬6) أي: رَجَعُوا إلى ما كانوا عليه من وَطءِ أزواجهم، وحنثوا أنفسهم في أيمَانهم. الفوائد المطلقة: فيه ثلاث فوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): قال الإمام: قولُه (¬8): "تُعرَضُ الأَعمَالُ" أفاد هذا الحديث فائدة عظيمة، وهي أنّ المعاصي تُوقفُ المغفرة لا تبطلها. ¬
ما جاء في لبس الثياب للجمال بها
وأفاد أيضًا: عِظَمَ المُهَاجَرةِ في المعاصي حتّى لا تَنفَع الأعمالُ الصّالحةُ معها في الحال، حتّى تقع المقابلةُ في المآل. الفائدةُ الثّانية: قولُه (¬1): "يَومَ الإِثنَينِ، وَيومَ الخَمِيسِ": هذا لفضلهما، وأنّ فيهما فضلًا كثيرًا، لِمَا يفتحُ الله فيهما من الرَّحمة لعباده، والمغفرة لهم ولذنوبهم (¬2). أمّا يوم الإثنين، ففيه وُلد المصطفى - صلّى الله عليه وسلم -، وأمّا يوم الخميس؛ فإنّه يوم صالحٌ، وربّما كان الفضلُ للجمعةِ فكان مقدِّمة له، وقد ذكرنا في "كتاب الصِّيام" عدد أبواب الجنَّة وما جاء فيها، وذكرنا الآثار الواردة في أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان. الفائدةُ الثّالثة (¬3): قال علماؤنا (¬4): في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الذُّنوبَ بين العباد إذا تَسَاقَطُوهَا وغَفَرَهَا بعضُهُم لبعضٍ، أو خرجَ بعضُهُم لبعضٍ عمّا لَزِمَهُ منها، سَقَطَتِ المطالبةُ من الله بها، بدليل قوله في هذا الحديث: "حَتَّى يَصطَلِحَا" فَإِذَا اصطلَحَا غُفِرَ لَهُمَا، والله أعلم. ما جاء في لُبْسِ الثِّيابِ للجمال بها قال الإمام: الأحاديث في هذا الباب كثيرة، والألفاظ مختلفة، وهي صِحَاحٌ. الأوَّلُّ: حديث جابر هذا (¬5) الّذي صدر به مالك في هذا الباب. ¬
مقدمة (¬1): اللباسُ ينقسم على خمسة أقسام: واجبٌ، ومندوبٌ إليه، ومباحٌ، ومحظورٌ، ومكروهٌ. ومنها عامّ، ومنها خاصّ. ومنها ما يثبت الحكم له بحقِّ الله عَزَّ وَجَلَّ، ومنها ما يثبت بحقِّ الآدميِّين. فالواجب منها بحقِّ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: سترُ العَورَة عن أبصار الخَلقِ، وهو عامٌ في جميع النَّاس من الرِّجال والنِّساء. والواجب منه بحق الآدميِّين: ما يقي الحرّ والبَرْد، ويستدفع الضَّرر به عن نفسه في الحرب، إذ ليس له أنّ يترك ذلك من أجل الإضرار بنفسه، وهذا عامٌ في جميع الرَّجال. والمندوب إليه: منه بحقِّ الله عزَّ وَجَلَّ، كالرِّداء للإمام، والخروج إلى المسجد للصَّلاة، لقوله عزَّ وَجَلّ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2)، وللعيدين وللجمعة، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما على أَحَدِكُم لو اتَّخَذَ ثَوبَينِ لجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوبَي مِهنَتهِ" (¬3)، وما في معنى ذلك. والمندوب إليه بحقِّ الآدميِّين: ما يتجمَّلُون به فيما بينهم من غير إسرافٍ، لقول النّبي -عليه السّلام- للذي نزع الثّوبين الخَلِقَيْنِ ولبس الثَّوبين الجديدين: "ألَيْسَ هَذَا خَيْرًا، ¬
ضرَبَ الله عَنُقَكَ" فضُرِبَتْ عُنُقُهُ في سبيل الله (¬1). وقولُه للذي رآه رَثَّ الهيئةِ، فسأله: "هَل لَكَ من مَالٍ؟ قال: نَعَمْ. قَالَ: من أَيِّ المَالِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ المَالِ. قَالَ: فَليُرَ عَليكَ مَالُكَ" (¬2). حديث مالك (¬3) أنَّه بَلغَهُ أنّ عمر قال: "إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إلى القَارِىءِ أَبيَضَ الثِّيَابِ". ولهذا الحديث نظائر حِسَان، منها (¬4): حديث عَلقَمَة بن عبد الله، عن النّبيّ -عليه السّلام- أنّه قال: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةِ مِنْ كِبرٍ، وَلَا يَدخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةِ من إِيمَانٍ، فقال رجُلٌ: يا رسولَ الله، الرَّجُلُ يُحِبُّ أنّ يكون ثوبُه حَسنًا، ونَعلُهُ حَسَنًا؟ فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: إِنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، وَالكِبْرُ من بَطَرِ الحَقِّ وَغَمطِ النَّاسِ" (¬5). ومنها: حديث عمر أيضًا، أنَّه رَأَى عليه رسولُ الله ثوبًا غَسِيلًا، فقال له رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يا عمرُ، أجديدٌ ثوبُكَ هذا أم غَسِيلٌ؟ فقال: غسِيلٌ يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: البَس جَدِيدًا وَعِش حَمِيدًا، وتموتُ شَهِيدًا، وُيعطِيكَ الله قُرَّةَ عَينِ في الدُّنيا والآخرة" (¬6) فكان كما قال - صلّى الله عليه وسلم -. الفوائد ثلاث: الفائدةُ الأولى (¬7): قوله: "القارئ" هاهنا العابدُ الزَّاهدُ المتعفِّفُ، والقُرَّاءُ عندهم العلّماءُ العُبَّادُ، ومن ¬
هذا كان يقال للخوارج قبل خروجهم القُرَّاء لِمَا كانوا فيه من العبادة والاجتهاد. ويحتمل أنّ يريد به القارئ للقرآن المشهور بقراءته، وهم كانوا أهل العلم والدِّين في زمانه. الفائدةُ الثّانية: ويخرج من هذا الحديث ما يدلُّ على أنَّ الزهدَ في الدّنيا والعبادة ليس بلباس الخَشِنِ الوَسخِ من الثِّياب (¬1)، وفي رسول الله وما ندب إليه الأُسوةُ الحَسَنة، وإنّما كان عمر يستحبُّ لهم لبس البياض من الثِّيابِ دون لبس المُعَصفَرِ، ولأنّ البَيَاضَ من أحسن الزِيِّ والمحافظة على الطّهارة له. نكتةٌ أصولية: وهي الفائدةُ الثّالثة. قوله: "إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" (¬2) يريد: جمال الأفعال، والإحسان إلى خَلقِه، ويحبُّ أنّ يتخلَّقَ خَلقُه بذلك. حديث مالك (¬3)؛ عَنْ أيُّوبَ بنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَن ابنِ سِيِرِينَ؛ قالَ: قَالَ عُمَرُ: "إِذَا أَوسَعَ الله عَلَيكُم، فَأَوسِعُوا عَلَى أَنفُسِكُم، جَمَعَ رجُلٌ عَلَيهِ ثِيَابَهُ". وقِيل (¬4): إنّما جاء ذلك في الصّلاة. وأمّا (¬5) قوله: "جَمَع امْرُءٌ عَلَيهِ ثِيَابَهُ" فهو لفظ الخبر، والمرادُ به الأمر، كأنّه قال: أَوسِعوا عليكم إذا أَوسَعَ الله عليكم، وأَجمِعُوا عليكم ثيابَكُم في الصّلاة، وفي العيدين والجمعة، ونحو ذلك من المحافل ومُجتَمَعِ النَّاسِ، ومثل هذا قول الخطيب الواعظ: مَا لقِيَ عَبدٌ رَبَّهُ ونَصَحَ نَفسَهُ أي: فليتّق عبد ربِّه، ولينصح لِنَفْسِهِ. ¬
ما جاء في لبس الثياب المصبغة والذهب
ما جاء في لُبْسِ الثِّياب المُصْبَغة والذَّهب قال الإمام: أراد مالك أنّ يُبيِّن ما يجوز من الألوان وما لا يجوز، وهي على مراتب خمسة: الأوّل: الأبيض، وفيه الآثار المتقدَّمة ذكرها، وقوله: "خَيرُ ثِيَابِكُم البَيَاض فَكَفِّنُوا فِيهَا مَوتَاكُم" الحديث (¬1). الثّاني: الأحمر، فقد رَوَى مجاهد؛ أنّ رَجُلًا مرَّ على رسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وعلَيهِ ثَوبَانِ أحمَرَانِ، فسلَّمَ فلم يَرُدَّ -عليه السّلام- (¬2). وقال جابر بن سمرة (¬3): رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - وعليه في ليلةٍ مُقْمِرةٍ، أو قال: في ليلةٍ قمراءَ إِضْحِيَان وعليه حُلَّةٌ حَمْرَاءُ. وقال البراءُ: رأيتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وعليه حُلَّةٌ حمراءُ (¬4). وكلاهما صحيحان. ¬
والمعنى في الحديث الأوّل، قال العلماء (¬1): إنّما لم يسلِّم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على ذلك الرَّجل ولا ردَّ عليه؛ لأنّه رآه مزهوًا بلبسه، ولأن الثَّوبين كانا أحمرين بالعصفر والزَّعفَرَان، فكرهَ ذلك؛ لأنّه مخصوص بالنِّساء، بخلاف الصّبغ الأصلّيّ فإنّه مأذون فيه. تنبيه (¬2): ومن أجل هذا الحديث الوارد من طريق مجاهد، المعترض في سنده (¬3)، أدخل مالك عن نافع عن ابن عمر؛ أنَّه كان يلبس الثّوب المصبوغ بِالمَشْقِ (¬4) والزَّعفَرَانِ (¬5)، فنافع أثبتُ من مجاهد، ولو استوى السَّنَد لكان سند نافع أوْلى وأثبت. الأصفر: لم يردّ فيه حديث، لكنّه ورد مُمَدَّحًا في القرآن، قال في صفة البقرة: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} الآية (¬6). وأُسنِدَ إلى ابن عبّاس؛ أنَّه من طلب حاجةً على بُلغَةٍ صفراء قُضِيَتْ حاجَتُه؛ لأنّ حاجةَ بني إسرائيل قُضِيَت بجلد أصفر (¬7)، وهذا من غَوص ابن عبّاس على المعاني. الأسود: في الصّحيح عن عائشة، قالت: "خَرَجَ رَسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وعليه ثَوبٌ أسود" (¬8)، وقد كانت رَايَتُه سَودَاء (¬9). ¬
ما جاء في لبس الحرير والخز
وفي حديث آخر: دخلَ مكَّةَ يوم الفتح، وعلى رأسه عمامة سوداء (¬1). الأخضر: ورد فيه الأثر (¬2)، والقرآن، لقوله: {ثِيَابًا خُضْرًا} (¬3) وهو حسن في النّوم لِرَائِيْهِ. وأمّا قوله (¬4): "وَالذَّهَب": فقد جاء النّهي عنه - صلّى الله عليه وسلم - عن التّختّم بالذَّهب (¬5)، وأجمع العلماء أنّه للنِّساء مباحٌ، فلم يبق إِلَّا الرِّجال فإنّ النّهي مقصور عليهم، بدليل الحديث الّذي فيه: "عَلَى ذُكُورِ اُمَّتِي" (¬6). مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الحَرِيرِ (¬7) والخَزِّ حديث عائشة في هذا الباب (¬8) حَسَنٌ، ورَوَى التّرمذيُّ عن أبي موسى الأشعري؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "حَرَّمَ اللهُ لِبَاسَ الحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأَحَلَّ لإِنَاثِهِم" (¬9). الإسناد: قال الإمام: أحاديث الحرير والذَّهب كثيرة في المُصَنَّفاتِ، فأشار مالك إلى نُبَذٍ منها، وهي أمَّهاتُها وأصولُها. ¬
مقدِّمة (¬1): إنَّ الله سبحانه نهانا عن السَّرَفِ حتّى في التَّرَفِ، وأمر بالقصد في كلِّ معنى، وخلَق الآدميَّ محتاجًا إلى الطّعام والشَّراب، وركَّبَ فيه الشهوة الدَّاعية إلى استعمالها، ونوّعهما إلى سرف وترف، وإلى قصد وإلى قُوْتٍ، ونَهَى عن الأوّل وأمر بالثّاني، وصرف النّهي كيف شاء، كلُّ تلك بحكمة منه بالغة، وأرجأ الشَّبع لما قدَّم من ذلك في الدُّنيا لأهل الدِّين إلى الآخرة، وإنّما قدّمه عنوانًا لهم وترغيبًا فيما أعدَّهُ لهم. المعاني (¬2): وقد اختلف العلماء فيه من الصّحابة والتّابعين والفقهاء، وأطلقوا القول في ذكر الخلاف فيه. وعوَّل مالك في "الموطَّأ" على دقيقةٍ (¬3) وهي أنّ عبد الله بن الزُّبير لبسه مع أنَّه كان يرى الحرير حرامًا على النّساء (¬4)، فدلَّ على إباحته. * والنَّكتة المعنويَّة في ذلك: أنّ الحرير حرام، والصوف والكتَّان حلال *، فإذا مُزِجَا جاء منهما نوع لا يسمَّى حريرًا، فلا الاسم يتناوله، ولا السَّرف ولا الخيلاء يدخله، فخرج عن النَّوع اسمًا ومعنًى، فجاز على الأصل ذكره على الشّبهة (¬5). الثّانية (¬6): وقد تكلّم النّاسُ في الحكمةِ الّتي نَهَى عن لبس الحرير لأجلها: ¬
فقال قوم: نَهَى عنه لِئَلَّا يتشبَّه بالنّساء. وقال آخرون: إنّما ذلك لما فيه من السَّرفِ. وقيل: إنّما ذلك لِمَا يحدث من الخُيَلَاء. والَّذي يصحّ من ذلك: ما فيه من السَّرف كما قدَّمناه. الثّالثة (¬1): كان الحرير مباحًا في أوَّل الإسلام، ثمّ طرأ عليه التّحريم. وأمّا اختلافُ العلّماءِ فيه فعلى عشرة أقوال: الأوّل: أنَّه محرَّمٌ على كلِّ حالٍ. الثّاني: أنّه محرَّمٌ إِلَّا في الحرب (¬2). الثّالث: أنَّه محرَّمٌ إِلَّا في السَّفَر. الرّابع: أنَّه محرَّمٌ إِلَّا في المرض (2). الخامس: أنَّه محرَّمٌ إِلَّا في الغزو. وقيل: في الحرب (¬3). السّادس: أنَّه محرَّمٌ إِلَّا في العَلم. السّابع: أنَّه محرَّمٌ على الرِّجال والنّساء على الإطلاق. الثّامن: أنَّه محرَّمٌ إذا لُبِسَ من فوق دون لبسه من أسفل، وهو الفرش، قاله أبو حنيفة، وابن الماجشون من أصحاب مالك. التّاسع: أنَّه مباحٌ بكلِّ حالٍ. العاشر: أنَّه محرَّمٌ وإن خلط مع غيره كالخَزِّ. وأمّا كونه حرامًا مُطْلَقًا، فلقول النّبي - صلّى الله عليه وسلم - في الحُلَّةِ * السِّيَرَاء، وهي المضلعة: "إِنَّمَا هذِهِ لِباس من لا خَلَاق لَهُم" * (¬4). ¬
تنقيح هذه الأقوال: أمّا قول من قال: إنّه مباح في الحرب، فلأنَّ المنع منه إنّما هو لما فيه من الخيلاء، وذلك جائز في الحرب (¬1). وأمّا من قال: في المرض، فهو من باب الرِّفق بالمريض وأيضًا: فإنّ المريض لا يزهو به بل يتلذَّذ بلبسه، وقد أشبعنا هذه الأقوال (¬2) في "الكتاب الكبير" على الاستيفاء. الخَزُّ -عند المتقدمين- هو ثوبٌ سُدَاهُ من حرير (¬3) ولُحمَتُه من غيره صوف أو كتّان أو قطن. واختلف فيه الصّحابة اختلافًا متباينًا، والصّحيح جوازه؛ لأنّ من حرَّمَهُ لم يعدّه شيئًا؛ لأنّه تعلّق بالأصل في تحريم الحلال. فأمّا الّذي جوَّزه ونقل جوازه (¬4)، فقد أفاد علمًا، وقد (¬5) لبسه جماعة من الصّحابة ¬
ما يكره للنساء لبسه من الثياب
والتابعين منهم: ابن عبّاس (¬1)، وأبو قَتادّة (¬2)، وأبو هريرة (¬3)، وعبد الله بن الزُّبير (¬4)، والحسن بنُ عليّ (¬5). وَذَكَرَ وَكَيعٌ عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن خَيثَمَةَ؛ أنّ ثلاثة عشر من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كانوا يلبَسُون الخَزَّ (¬6). واختُلِفَ عن سَعدِ بن أبي وقّاص في لبس الخَزِّ، فرُويَ عنه أنَّه كان يلبَسُهُ (¬7)، ورُوِيَ عنه أنَّه كَرِهَهُ. وكان مالك ربما لبس الخَزَّ، ذكر عنه جماعة من أصحابه أنَّه كان يلبسه (¬8). ما يكره للنساء لبسه من الثِّياب الرّقيق من الثِّياب يجوز لبسه للرِّجال بلا خلافِ، ويُكرَهُ للنِّساء إِلَّا مع الزوج، وإلى هذا المعنى أشار النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بقوله (¬9): "كَاسِيَاتٌ عاريَاتٌ" يعني: أنّهن يلبسن الرّقيق الَّذي ¬
يظهرن منه (¬1). وكلُّ ثوب لا يستر فلا يجوز لباسه بحالٍ، إِلَّا مع ثوبٍ يستره. حديث أبي هريرة؛ قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "صِنفَانِ من أَهل النَّارِ لَمْ أرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كأَذنَابِ البَقرِ يَضرِبُونَ بِهَا، وَنسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِياتٌ" (¬2) وفي لفظ آخر (¬3): "مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، لَا يَدخُلنَ الجَنَّةَ، وَلَا يَجِدنَ رِيحَهَا، وإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ من مسِيرَةِ خَمسِ مِئَةِ سَنَةٍ". المعاني: فمعناه (¬4): كاسياتٌ بالاسمِ، عارياتٌ في الحقيقة؛ إذ لا تستُرهُنَّ تلك الثِّياب (¬5). وقولُه: "مَائِلَاتٌ" يعني عن الحقِّ، "مُمِيلَاتٌ" لأزواجهنَّ إلى هواهنَّ (¬6). الثّانية (¬7): قوله: "لَا يَدخُلنَ الجَنَّةَ" إلى آخر قوله، مُقَيَّدٌ عندي بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬8)، وقولِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬9)، وقولِهِ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} (¬10). حديث مالك (¬11)؛ عَنْ يَحيَى بنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَامَ، ¬
فَنَظَرَ في أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: "مَا فُتِحَ اللَّيلَةَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا وَقَعَ مِنَ الفِتَنِ؟ كَمْ مِن كَاسِيَةٍ في الدُّنيَا عَارِيةٌ يَومَ القِيَامَةِ، أَيقِظُوا صَوَاحِبَ الحُجَرِ". الإسناد (¬1): هذا الحديث يُروَى مُسنَدًا عن النَّبيِّ -عليه السّلام-، ولم يَفهَمْهُ يحيى بنُ سعيد من رواية مالك، ولا من رواية غيره، إِلَّا من طريق نسرده عليكم: عن أمِّ سَلَمَةَ؟ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - استيقظَ ليلةً فقال: "سبحانَ اللهِ! ماذا أَنزلَ اللهُ اللّيلةَ من الفتنةِ وماذا فتحَ من الخزائِنِ". هذا لفظ ابن المبارك (¬2). وقال عبد الرزّاق (¬3) بإسناده عن أم سَلَمَة، قالت: استيقظَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ وهو يقولُ: "لا إله إِلَّا اللهُ، مَا فَتَحَ الله من الخزائنِ، لا إله إِلَّا اللهُ، ما أَنْزلَ اللَّيلةَ من الفتنةِ" ثمّ اتّفقا فقالا (¬4): "مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجَر، يا ربّ كَاسِيَات في الدُّنيَا، عَارِيَات يَومَ القِيَامَةِ". العربيّة (¬5): قوله: " أَيقِظُوا صَوَاحِبَ الحُجَرِ": فالحُجَرُ جمع حُجْرةٍ، وهي بيوتُ أزواجِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَ أنّ يُوقَظنَ في تلك اللَّيلة لِئَلَّا يكُنَّ من الغافلين في ليلةٍ فيها آيةٌ من آيات الله، ولعلّها كانت ليلة القَدرِ الّتي فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم أو غيرها، فقد كانت فيها آية، ومن سُنَّتِهِ -عليه السّلام- عند الآيات ذكر الله تعالى والصّلاة. ¬
ما جاء في إسبال الرجل ثوبه
الأصول (¬1): قال علماؤنا (¬2): في هذا الحديث علَمٌ من أعلام نُبُوَّتِه - صلّى الله عليه وسلم -: لأنّه أخبر عن غَيْبٍ وقع بعدَهُ، وذلك أنَّه فتحَ اللهُ على أُمَّتِه بُلدانَ المشرقِ والمغربِ من ديارِ الكفر، ودَرَّتْ بها الأرزاق، وعَظُمتِ الخيراتُ، وذلك كلُّه من خزائن رحمته. ووقع من الفتنِ بعده عليه السّلام مُنذُ قَتلِ عثمان إلى يومنا هذا ما لا يحيطُ بعلمه إِلَّا هو، ولن يزالَ الهَرجُ إلى قيام السّاعة. مَا جَاءَ في إِسبالِ الرَّجُلِ ثَوْبَه مالك (¬3)، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَر؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الَّذِي يَجُرُّ ثَوبَهُ خُيَلَاءَ، لَا يَنظُرُ الله إِلَيهِ يَومَ القِيَامةِ". الإسناد: الحديث صحيح: خرّجه الأيمّة (¬4)، وزاد التّرمذيّ فيه: "لَا يَنظُرُ اللهُ إِلَى منْ جَرَّ ثوبهُ من خِيَلَةٍ يَوم القِيَامَةِ" (¬5). الأصول (¬6): قوله (¬7): "لَا يَنظُرُ الله": قد تقدّم من قولنا في الكلام في الوعد والوعيد ما يُغني عن تكراره هاهنا. والقول فيه والمعوّلُ عليه: أنّ الله لا ينظر إليه في حالٍ دون حَالٍ، وفي وقت دون وقت. فمن الأحوال: أنّ يكون يعتقد ذلك جائزًا، فيكون متكبِّرًا على الله أو الرّسول أو ¬
الإسلام، فإن كان ذلك فقد كفر، أو يكون ذلك في وقت حتّى يغفر الله له بما معه من حسناتٍ أو إيمانٍ. الثّانية (¬1): قوله: "لَا يَنظُرُ الله إِلَيهِ" البارئ سبحانه يَرَى ولا يخفَى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السّماء من الموجودات، إذ لا يصحّ تعلُّقُ الرّؤيةِ بالمعدوم، لا مِنَ البارئ ولا من عباده، وإنّما معنى نفي النَّظر هاهنا نفي الرَّحمة والعطف الّذي يهب لمن يشاء. العربيّة: الخيلاء (¬2) والخِيَلَة: الكبر حالة الخيلاء، كالشَّبيبة حالة الشباب، والخيلاء (¬3) والاختيال: هو التَّكَبّرُ والتَّبَختُرُ والزَّهوُ، وكل ذلك أَشَرٌ وبَطَرٌ وازدِرَاءٌ على النَّاس واحتقارٌ لهم، والله لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فخورٍ. وقال أهل العربيّة: الخيلاء ممدُودٌ مضمومة الأوّل وإنّما كسره، فيقال: خِيَلَاء، وهي مشيةٌ مكروهةٌ. حديث مالك (¬4)، عَنِ العَلَاءِ بنِ عَبدِ الرَّحمن، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدرِيّ عَنِ الإزَارِ؟ قَالَ: أَنا أُخبِرُكَ بِعِلمٍ، سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِزرَةُ المُؤمِنِ (¬5) إِلَى أَنصَافِ سَاقَيهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيهِ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ الكَعبَينِ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ لا مَدفَعَ فيه. الغريب (¬1): هي إِزرَةٌ بكسر الهمزة، يعني: الهيئة، كالقِعدة بكسر القاف، والجِلسَةُ بكسر الجيم: هيئة القعود والجلوس، وقد يُرْوَى بالكَسر والضَمِّ. المعاني: الإزار: هو القميص، يعني أنّ ما تحت الكعبَين من القميص في النّار. قال الإمام: سواءٌ كان إزرة، أو جُبّة، أو عِمَامة، فالحكم فيه سَواء، والوعيد فيه كذلك، لقوله في الحديث الآخر: "مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ مِنْ خيَلَةٍ، لَمْ يَنظُرِ الله إِلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ" (¬2): أي معنى ذلك: لا يرحمُهُ. وفي الحديث الصّحيح: "بَينَمَا رَجُلٌ يَمشِي في جُبَّةٍ، فعجبَته نَفسُهُ، إذ خَسَفَ الله بِهِ الأرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلجَلُ فِيهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" (¬3). الثّانية: الإسبالُ حرامٌ للرِّجال (¬4) وجائز للنّساء، فهو حرام في الأصل، وعلى كلّ حالٍ يجرُّ ¬
إلى الخيلاء، إِلَّا أنَّه أُذِن للمرأة في إسبال ذراعٍ، وأُذِن للرّجال في الإسبال إلى الكعبين. الثّالثة (¬1): وهي إذا سقطَ الرّداءُ، أو مسحَ الأرضَ، ومسحه عليها من غير قصدٍ، لم يكن عليه في ذلك حَرَجٌ، لقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث: "مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خُيَلَاء، لَمْ يَنظُرِ اللهُ إِلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ" (¬2). الرّابعة: عن أبي هريرة أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله لا يَقبَلُ صلاةَ رَجُل مُسبِلٍ إزَارهُ" ؤأَمَرَهُ أنّ يَتَوَضَّأَ، يعني: ويعيد الصّلاة. خرّجه أبو داود (¬3). فالعارضة فيه ومعناه: أنّ الصّلاة حالُ تواضعٍ، وإسبالُ الإزارِ فعلُ مُتَكَبِّر فتعارضا، وأمره بإعادة الوضوء أدبًا له وتأكيدًا عليه؛ لأنّ المصلّيَ يناجي ربَّه، والله لا ينظر إلى من جرّ إزاره ولا يكلّمه، فلذلك لم تُقبَل صلاته. الخامسة (¬4): قد جاءت عن ابن عبّاس رخصة في ذلك، أنَّه كان يُرْخِي إزاره من قُدّام حتّى يضرب على قدميه ويرفعه من مؤخّره (¬5)، ويقول: رأيتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ. قال علماؤنا: إِنما جاء الوعيد فيمن يفعله خُيَلَاءَ وتكبرًا، وابنُ عبّاسٍ يُنَزّهُ عن هذا، فكيف بالنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -!. ¬
ما جاء في إسبال المرأة ثوبها
ما جاء في إسبَال المرأة ثوبهَا قال الإمام: فيه حديث أمّ سلمة (¬1) أَنَّهَا قَالت - حِينَ ذُكِرَ الإِزارُ: فالمَرأَةُ يَا رسُولَ اللهِ؟ قالَ: "تُرخيه شِبرًا". قَالت أمُّ سَلَمةَ: إذا أنكَشَفَ عَنهَا؟ قالَ: "فَذراعًا لَا تزِيدُ عَلَيهِ". الإسناد (¬2): قال الإمام: عجبتُ منِ ابنِ وضَّاحِ، كان يقول: "لَا تَزِيدُ عَليه" ليس من كلام النّبيّ عليه السّلام، وقد رُوِّينا هذا الحديث من وجوهٍ كثيرةٍ (¬3)، فيها كلّها عن النّبيِّ -عليه السّلام-: "فَذرَاعًا لَا تَزيدُ عَلَيهِ" وفي الحديث إطالة الذّيول للنّساء، وقد أخذه الشَّاعر (¬4)، فقال: كُتِبَ القَتلُ وَالقِتَالُ عَلينَا ... وَعَلَى الغَانِيَات جَرُّ الذُّيُولِ وقد رُوِيَ أنّ أوَّلَ من جَرت ذيلَها هاجَر أم إسماعيل -عليه السّلام-. وقد رُوِيَ عن ابن عبّاس مُسْنَدًا (¬5) قال: "أوَّلُ امرأةٍ جرَّتْ ذيلَها أمُّ إسماعيل عليه السّلام، لمَّا قَرُبَت من سَارَة أَرخَت ذيلَهَا لِتُخفِي أَثَرَها. قال: وَمن هنا أَخَذَت نِسَاءُ العَرَبِ جَرَّ الذُّيُولِ". قال ابنُ عبّاس: "أوَّلُ من سَعَى بينَ الصَّفَا والمَروَة أُمُّ إسماعيل" (¬6). الأصول (¬7): قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فَذِرَاعًا لا تَزِيدُ عَليهِ" وهذا يقتضي أنّ النّبيّ -عليه السّلام- إنّما أباح ¬
ما جاء في الانتعال
منه للضَّرورة إليه، وهذا لفظ افعل وارد بعد الحَظر، ومع ذلك فإنّه يقتضي الوجوب؛ لأنّه نهى عن إرخاء الذَّيل، ثمّ أمر المرأة بإسبال ما يسترها منه، وذلك على الوجوب، لا يحلّ للمرأة أنّ تترك ما تستتر به، والله أعلم. مَا جَاءَ فَي الانتَعَالِ مالك (¬1)، عن أبي الزِّنَاد، عَنِ الأَعرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَة؛ أَنَّ رَسُول اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قَال: "لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُم فِي نَعلٍ وَاحدٍ، لِيُنعِلهُمَا جمِيعًا، أَو لِيخلَعهُمَا جمِيعًا". الحديث صحيح، وقد عقدنا فيه جزءًا نحوًا من عشرين ورقة (¬2). الأصول (¬3): قال علماؤنا (¬4): هذا نَهيُ أدبٍ وإرشاد (¬5)، لإجماعهم -والله أعلم- أنَّه إذا مشى في نعلٍ واحدٍ لم يحرم عليه النَّعل، وليس يكون بذلك عاصيا عند الجمهور وإن كان بالنَّهي عالمًا (¬6). وقال أهل الظّاهر: إذا كان المرءُ بالنَّهي عالمًا فهو عاصٍ. ¬
قلنا لهم: النهيُ ينقسم على أقسام: منه ما يكون نهي تحريم. ومنه ما يكون على وجه الأدب. ومنه ما يكون على وجه النَّدْب والاستحسان. فلا وجه للكلام معهم. الثّانية (¬1): "لَا يَمشِيَنَّ أَحَدُكُم في نَعلٍ وَاحدٍ" نصّ على المنع من ذلك، وبه قال مالك (¬2)، وعليه جماعة الفقهاء؛ لِما فيه من المُثلَةِ والمفارَقَةِ للوَقَار ومشابهة زيِّ الشَّيطان، كالأكل بالشّمال، وهذا مع الاختيار، فأمّا مع الضّرورة، فذلك مباحٌ لمن انقطع شِسْع (¬3) نَعلِه. وقد روى ابن القاسم عن مالك في؟ "العُتبية (¬4) "أنَّه قال: "لا يمشي في النَّعل الواحد حتّى يُصلحهما ليُحفهما (¬5) جميعًا" أو ليقف (¬6)، فبيَّن ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولم يثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - فيما نعلمه أنّه مَشَى في نعل واحدة حتّى أصلح الأخرى (¬7)، ولا ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها كانت تمشي في خُفِّ واحدة (¬8)، ولو ثبت ذلك عنها لحُمِلَ على الضَّرورةِ الدّاعية إلى ذلك (¬9). ¬
وقال القاضي أبو محمدٍ (¬1): "إنّه يجوز أنّ يمشي في النعل الواحد المشي الخفيف إذا كان هنالك عُذرٌ، وهو أنّ يمشي في إحداهما متشاغِلًا بإصلاح الأُخرى وان كان الاختيار أنّ يقف إلى الفراغ منها؛ لأنّه لا يُنسَبُ حينئذٍ إلى شيءٍ ممّا يكره". وقال بعضهم: لا يمشي أحدٌ في نعلٍ واحدٍ إذا انقطعت الأخرى شِبْرًا واحدًا؛ لأنّه لا يجوز له ذلك، هذا إذا كان عالمًا بالنَّهي، وإذا كان جاهلًا فلا شيءَ عليه غير أنَّه يُنهَى عنه. حديث مالك (¬2)؛ عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعرَج، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا انتَعَلَ أَحَدُكُم فَليَبدَأ بِاليَمِينِ، وَاِذا نَزع فَليَبدَأ بِالشِّمالِ، وَلتَكُنِ اليُمنَى أَوَّلَهُمَا تُنعَلُ، وَآخِرهُمَا تُنزَعُ". الحديث صحيح (¬3). الأصول (¬4): قال الإمام: معنى هذا أنّ التَّيامُن مشروعٌ في ابتداء الأعمال واللِّباسِ (¬5)، وأنَّ التَّيَاسُرَ مشروعٌ في خَلعِ الملبوسِ وترك العمل، وكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يُحبُّ التَّيَامُنَ ما استطاع في طهوره وتنعّله وترجّله وشأنّه كلّه. وقولُه: "وَلتَكُنِ اليُمنَى أَوَّلَهُمَا تُنعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنزَعُ": على معنى إيثار اليمين باللّبس، فتكون أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع (¬6). فيكون ذلك لتشريف اليمين وتفضيلها على اليسرى بالإكرام. ومن (¬7) تفضيله اليمنى أنّ جعلَها للأكل والشرب، وجعل اليسرى للاستنجاء. ¬
حديث مالك (¬1)؛ عَنْ عَمِّهِ أَبيِ سُهَيلِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبِ الأَحبَارِ؛ أَنَّ رَجُلًا نَزَعَ نَعلَيهِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ خَلَعتَ نَعلَيكَ؟ لَعَلَّك تَأَوَّلْتَ هَذهِ الآيةَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (¬2) ثُمَّ قَالَ كَعبُ الأَحبَارِ: أتَدرِي مَا كَانَتَا نَعْلَا مُوسَى عَلَيهِ السّلَامُ؟ قالَ مالكٌ: مَا أَدرِي مَا أَجَابَهُ الرُّجُلُ (¬3)، فَقَالَ كَعبٌ: كَانَتَا من جِلدِ حِمَارٍ مَيَّتٍ. المعاني (¬4): قوله: "لِمَ نَزَعتَ نَعْلَيكَ" هذا على معنى الإنكار لفعله، أو توقُّع فعله على وجهٍ ممنوعٍ. ويحتملُ أنّ يكون إنّما أنكر عليه خلع نعليه لصلاة، أو ما أشبهها من دخول مسجد، أو دخول الحرم بالنَّعلين. ويحتمل أنّ يكون أنكر عليه خَلع نَعلَيه حال الجلوس، إيثارًا للبسهما على كلّ الأحوال، إِلَّا أنّ يمنع من ذلك مانع. فأمّا دخولُ الحرمِ أو المسجد الحرام بالنَّعلين فمباحٌ، وقد سئل مالك عن الطّواف بالنَّعلين فأجازَه. الثّانية (¬5): قولُه تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (¬6) فقيل: معنى "طُوَى" يقول: طَأِ الأرض بقَدَمَيك حافيًا، قاله مجاهد، فذهب كعب الأحبار إلى أنّه أُمِرَ بخَلْع نَعلَيه لمَا كانت من جلد حمارٍ ميِّت، فأُمِرَ ألّا يطأ الأرض المقدَّسة بهما لنجاستهما، وبذلك قال قتادة وعِكرِمَة. ¬
ما جاء في لبس الثياب
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري ومجاهد: لم تكونا من جلد حمار ميِّت، وإنَّما أراد اللهُ تعالى منه أنّ يباشر بقَدَمَيه بركة الأرض المقدّسة (¬1)، وهي الطّاهرة (¬2) وقيل: المباركة (¬3). وقال كعب الأحبار أيضًا: "أُمِرَ موسى -عليه السّلام- أنّ يخلع نَعلَيه؛ لأنّهما كانتا من جلد حمار ميِّت، وليباشر القدس بقَدَمَيه" (¬4)، فجمع بين المعنيين (¬5)، والله أعلم. مَا جَاءَ فِي لُبْس الثِّيَابِ مالك (¬6)؛ عَنْ أَبِي الزِّنادِ، عَنِ الأَعْرجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم -: نَهَى عَنْ لِبسَتَينِ، وَعَن بَيْعَتَين، وَعن المُلَامَسَةِ، وعنِ المُنَابَذَةِ، وَأن يحتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرجِهِ مِنهُ شَيءٌ، وَعَن أَنْ يَشتَمِلَ الرَّجُلُ الثَّوب الوَاحِدَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيهِ. ¬
المعاني: قال الإمام: إنّما أراد مالك - رحمه الله - أنّ يبيِّن في هذا الباب ما يجوز من اللِّباس وما لا يجوز، وعوّل فيه على النّهي عن اشتِمَال الصَّمَّاء (¬1)، وقد اختلف النَّاس في ذلك: فقال (¬2) أبو عبيد (¬3): "اشتمال الصمَّاء: هو أنّ (¬4) يشتمل الرّجل الثّوب فيجلّل به جسده كلّه، ولا يرفع منه جانبًا يخرج منه يده. قال (¬5): وإنّما اضطجع فيه على هذه الحالة، كأنّه يذهب إلى أنَّه لا يدري هل يصيبه شيءٍ يريدالاحتراس منه" والّذي عندي أنّ هذا التّأويل يقتضي أنّ المنع لا يختصّ بحال الصّلاة، بل يتناول جميع الأحوال. والاضطباعُ: أنّ يدخل الثّوب تحت يده اليمنى (¬6) فيلقيه على منكبه الأيسر. وقال ابنُ القاسم (¬7): "وهو من ناحية الصّماء"، ومعنى ذلك: أنَّه إذا أخرج يده اليسرى بدت عورته (¬8). شرح (¬9): قوله (¬10): "إنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاء عِنْدَ بَابِ المَسجِدِ". ¬
الحُلَّةُ: ثوبان، رداءٌ وإزارٌ. والسِّيَراء: قال أبو علي: هو ثوبٌ مُسَيَّرٌ فيه خطوطٌ تعملُ من القزّ (¬1). وقال الخليل: السيراء المضلع بالحَريرِ (¬2)، ومعنى ذلك كثرة الحرير فيه؛ لأنّه إذا كان سُدَاهُ حريرًا أو بعض لحمته حريرًا، كان ذلك أكثر من وزن ثُلُثِهِ، فهذا الّذي يقتضي تحريمه، ولذلك لبس النَّاس المحرّر (¬3). وروى سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر في هذا الحديثْ "حُلَّةَ إِسْتَبرَقٍ" (¬4) وهو غليظ الحرير. * وروى نافع: حُلَّة حرير (¬5). ورُويَ عن مالك أنّه قال: هو وشي من حرير. وقد تقدّم ذكر تحريم الحرير * على الرِّجال. الثّانية: قوله (¬6): "إِنَّمَا يَلبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ": واضحٌ في تحريمه والوعيد الشَّديد على لباسه (¬7). وأمّا لباس عمر المرقعات، فكان ذلك منه زهدًا في الدّنيا وحوطة على بيت مال المسلمين، وإلَا فلبس الثِّياب الحِسَان جائز إجماعًا، لقوله: "إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيكُم فَأَوسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم" (¬8). ¬
ما جاء في لباس الصوف
وقد كان مالك يلبس الثِّياب العربيّة ويستجيدها (¬1). وإنّ (¬2) الله تعالى قد أدّب أهل الإيمان فأحسن أدبهم، فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬3)، فإنّ الله ما عذَّب قومًا أعطاهُم الدّنيا فشكرُوهُ، ولا عذَرَ قومًا زَوَى عنهم الدّنيا فعَصَوه. وقال عيسى -عليه السّلام-: البسوا ثيابَ الملوكِ، وأميتوا قلوبكم بالخشية (¬4)، وإنّما كره العلماء لباس الشّهرةِ والإفراط في البذاذة والإسراف والغلوّ. مَا جَاء فِي لِبَاسِ الصُّوفِ (¬5) خرّج التّرمذيُّ (¬6)، قال أبو بُردَةَ: "أخرَجَت إلينَا عَائِشةُ كِسَاءً غليظًا مُلَبَّدًا، وَإزارًا غَليظًا، فقالت: قُبِضَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في هَذَيْن" حسن صحيح (¬7). وذكر (¬8) عن ابن مسعود عن النّبيّ -عليه السّلام- قال: "كَانَ عَلَى مُوسَى -عليه السّلام- ¬
يَومَ كَلَّمَهُ ربُّهُ كِسَاءٌ من صُوفٍ وَجُبَّةٌ مَنْ صُوفٍ، وَسَرَاويلُ من صُوفٍ، وَكَانَت نَعلَاهُ مَن جَلدِ حِمَارٍ مَيَّتٍ". الإسناد (¬1): الّذي صحَّ عنِ النّبيِّ -عليه السّلام- في لباسِ الصّوف حديثان: أحدهما: الكسوة المتقدِّم ذكرها (¬2). وحديث المغيرة بن شعبة قال: "وعليه جُبَّة صوف" (¬3). الغريب: الكُمَّةُ: القَلَنْسُوة الصّغيرة (¬4)، والقَلَنسُوة: لباس الأنبياء والصَّالحين، تصونُ الرَأسَ، وتمكَّنُ العَمَامة. وهي من السُّنَّة. العِمَامَة: عن جابر قال: "دَخَلَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَومَ فتح مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَة سودَاءُ" (¬5) صحيحٌ (¬6). وعن ابن عمر (¬7)؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا اعتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَينَ كَتِفَيهِ. حديث غريب (¬8). ¬
الإسناد (¬1): رُوي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - خَرَجَ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَطَبَ وَعَلَيهِ عِمَامَة دسمة (¬2). يعني بالدّسم: سوداء (¬3). ولم يصحّ عندي في العِمَامةِ شيءٌ غير هذين الحديثين. الأحكام في مسائل: المسألة الأولى (¬4): العِمَامةُ سُنَّةُ الرّأس، وعادةُ الأنبياء والسّادة، وقد صحَّ عن النّبيِّ -عليه السّلام- أنَّه قال: "لا يلبسُ المُحرِمُ القَمِيصَ، ولا العِمَامَةَ" (¬5) وهذا يدلُّ على أنّها كانت عادة أمر باجتنابها حالة الإحرام، وشرع كشف الرّأس فيها إجلالًا لذي الجلال والإكرام. المسألة الثّانية (¬6): منتهاها أنّ تكون على قَدْرِ الحاجة، ولا يُسرِفُ في إسدالها. المسألة الثّالثة (¬7): سنّتها أنّ تكون بحنك، ولا يجعلها - كما في غريب الحديث - اقتعاطًا كاقتعاط الشَّيطان (¬8). ¬
صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -
المسألة الرّابعة (¬1): سنّتُها أنّ تكون لها ذُؤَابَةٌ يُسدِلُها بين كَتِفَيه، ويجعلها بعضهم على صدره، وعادةُ أهل المشرق كلّهم أنّ تكون مُسدَلةٌ بين الكَتِفَيْنِ، وكذلك رواه أبو عيسى عن ابن عمر (¬2)، وروى التّرمذيّ (¬3)، عنِ ابنِ رُكَانَة، عن أبيه؛ قال (¬4): "فَرْقُ مَا بَينَنَا وَبَينَ المُشرِكِينَ العَمَائِمُ عَلَى القَلَانِسِ"، فالسُّنَّة أنّ يلبس القَلَنسُوة والعِمَامَة، وأمّا لبس القَلَنسُوَة وحدها فهو زي المشركين، وأمّا لبس العِمَامَة على غير القَلَنسُوَة فهو لباسٌ غير ثابتٍ لأنّها تنحلّ (¬5). صفةُ النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مالك (¬6)؛ عَنْ رَبِيعَةَ بنِ أَبي عَبدِ الرّحمن، عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ لَيسّ بِالطَّويلِ البائِنِ ولَا بالقَصِيرِ، وَلَيس بِالأَبيَضِ الأَمهَقِ وَلَا بِالآدَمِ وَلَا بِالجَعدِ القَطِطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعثَهُ اللهُ عَلَى رَأسِ أَربَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشرَ سِنِينَ، وَبِالمَدِينَةِ عَشرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَلَى رَأسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ في رَأسِهِ وَلِحيَتِهِ عِشرُونَ شَعرَةً بَيضَاءَ. الإسناد (¬7): الحديث صحيح، رواه عن رَبيعَةَ -كما رواه مالك- جماعةٌ، منهم: الأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيره. ¬
المعاني والفوائد: الأولى (¬1): أمّا قوله: "لَيسَ بِالطَّوِيلِ البَائِنِ" فإنّه أراد ليس بالمُشْرِفِ في الطُّولِ المتفاوت في الشَّطَاط. "الّذي يضطرب من طوله، وهو عيبٌ في الرِّجال والنّساء" هذا الّذي قاله الأخفش (¬2)، وكان النّبيّ -عليه السّلام- منزّهًا عن ذلك. الثّانية (¬3): "والأَمْهَقُ" الّذي بياضُهُ لا إشراقَ فيه، كأنّه البَرَصُ، ولا يخالطُه شيءٌ من الحُمرَةِ (¬4)، وذلك أيضًا عيبٌ. الثّالثة (¬5): "الآدَمُ": هو الأسمر، والأُدمَةُ: السُّمْرَةُ، وقد قيل: إنَّ من هذا هو مشتقُ اسمِ آدَمَ، من الأدمة. الرّابعة: قوله: "الجَعد القَطِط" هو * الّذي شَعرُهُ من شدَّة الجعودةِ كالمحترق يُشبهُ شعورَ أهل الحبشة (¬6). ¬
"والسَّبِطُ": المرسلُ الشَّعر * الّذي ليس في شعره شيءٍ من التَّكسُّرِ (¬1)، كأنّه قد رُجِّلَ بالمُشطِ، ويدلُّ على ذلك في رواية عائشة قالت: "كُنْتُ أُرَجِّلُ رأسَ رَسُولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بالمُشطِ وَأَنا حَائِضٌ" (¬2). حديث؛ رَوَى البراء بن عازب أنَّه قال: ما رأيتُ أحسنَ من رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ حَمرَاءَ، قال: وإنَّ جُمَّتهُ لتضربُ مَنكِبَيْهِ (¬3). وروى جَرِير بن حَازِم، عن قتَادَة، عن أنس بن مالك؛ قال: كان رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - ضَخم القَدَمَينِ، وكَانَ ضَخْمَ الرَّأسِ وَاليَديْنِ، حَسَنَ الوَجهِ، لَمْ أَرَ بَعدَهُ وَلَا قَبلَهُ مِثلهُ، وكان بَسِطَ الكَفَّيْنِ (¬4). ورُوي في أنَّه قيل له (¬5): هل وجهُ رسول الله مثلُ السَّيْفِ؟ قال: بل مثلُ القَمَرِ (¬6). وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: نظرتُ إلى النَّبيّ -عليه السّلام- في ليلة مُقمِرَةٍ، فجعلتُ أنظرُ إليه مرَّةً وإلى القمر مرّةَ وحُسنُه يَزيدُ على القَمَرِ. وأنشد أبو الطيب (¬7) في ذلك: من أَيْنَ لِلقَمرِ المُنِيرِ جَلَالُهُ ... وَجَلالُه في النُّسْكِ والإِخبَاتِ الله أعطاهُ النبوَّةَ مُنعَمًا ... وَحَبَاهُ بالتَّقدِيسِ والصَّلوَاتِ ¬
الخامسة (¬1): قوله (¬2): "بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأسِ أَربَعِينَ سَنَةً" وافقه على ذلك عبد الله بن عبّاس (¬3)، وأبو هريرة (¬4)، وعروة بن الزُّبير (¬5) وجماعة. ورُوِيَ عن ابن عبّاس أنَّه قال: "بُعِثَ عَلَى رَأسِ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سنةً" (¬6). قال سعيد بن المسيِّب: واختلف في مُقَامه بمكَّة، فقال أنس بن مالك في هذا الحديث (¬7): "أقَامَ بِمَكَّةَ عَشرَ سِنِينَ". ورُوِيَ عن عائشة، وابن عبّاس: "أنّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عشرةَ سنَةً" وهو الصّحيح. ويشهد له قول أبي قيسٍ صِرمَةَ بن أبي أنس، حيث قال قصيدته: ثَوَى فِي قُرَيٍ بِضعَ عَشرَةَ حِجَّةً ... يُذَكِّرُ لَو يَلقَى صَدِيقًا مُوَاتِيا في أبيات كثيرة. ولا خلاف بين العلماء في السِّيَرِ والآثار أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - وُلِدَ عام الفيل. السّادسة (¬8): قوله (¬9): "تُوُفِّي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستِّين سنة، وتُوُفِّيَ أبو بكرٍ وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّينَ سَنَة، وتوفِّي عمر وهو ابن الخطّاب وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال البخاريّ: وهذا أصحّ (¬10) " من رواية ربيعة عن أنس أنَّه توفّي ابن ستِّين ورَوَى قتادة عن أنس أنَّه تُوُفِّيَ ابن خمس وستِّين (¬11)، والأوّل أحسن سَنَدًا. ¬
السابعة (¬1): قوله (¬2): "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ في رَأسِهِ وَلِحيَتِهِ عِشرُونَ شَعرَةً بَيْضَاءَ" يريد بذلك تقليل شيبه. وقال ابنُ سيرين: سُئِلَ أنس عن خِضَابِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: "إنّه لم يبلغ ما يَخْضِبُ، لو شئتُ أنّ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ في لِحيَتِهِ" (¬3). وسيأتي الكلام على الخضاب في موضعه من هذا الكتاب إنَّ شاء الله. تتميم (¬4): قال الإمام: وأحسنُ شيءٍ رُوِيَ في صفة النّبيِّ -عليه السّلام- ما رُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانَ إذا نَعَتَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لم يكن بالطَّويل المُمَغّطِ، ولا القصير المُتَردِّدِ، وكان رَبْعَةً من القوم، ولم يكن بالجَعْدِ (¬5) القَطَطِ، ولا بالسَّبِطِ، كان جَعدًا رَجِلًا، ولم يكن بالمُطَهَّم (¬6)، ولا بالمُكَلثَم (¬7)، وكان في الوجه تدويرٌ، أبيض مُشربٌ بِحُمْرَةٍ، أَدعَجَ العينينِ (¬8)، أَهدَبَ الأَشفارِ، جليلَ المُشَاشِ والكَتَدِ، ¬
ما جاء في صفة عيسى بن مريم -عليه السلام- والدجال
أَجرَدَ ذو مَسرُبَةٍ، شَئنَ الكَفَّينِ والقَدَمَين، إذا مَشَى تقَلَّعَ كأنّه يمشي في صَبَبٍ، وإذا التفتَ التَفَتَ معًا. بين كَتِفَيهِ خاتَمُ النُّبُوَّةِ، وهو خاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجوَدَ النَّاس كفًّا وأَرْحَبَ النَّاسِ صدْرًا، وأصدقَ النَّاس لهجةً، وأَوفَى النَّاس بِذِمَّةٍ، وألينَهُم عَرِيكَةً، وأكرمَهُم عِشرَةً، من رآهُ بديهةً هَابَهُ، ومن خالَطَهُ معرفةً أَحَبَّهُ، لم أَرَ قبلَهُ ولا بعدَهُ مثلَهُ" (¬1). غريبه (¬2): قوله: المُمَغَّط" هو الطّويل المديد (¬3)، فيما ذكره أهل اللُّغة. وقال الخليل (¬4): الفرسُ المطَهَّم: التامّ الخَلْقِ. وقال أبو عبيد (¬5): المُشَاشُ: رؤوسُ العظام. وقال الخليل (¬6): الكَتَدُ: ما بين الثَّبَجِ إلى منتصف الكاهل من الظَّهر. والمَسرُبَةُ: شعراتٌ تَتَّصِلُ من الصَّدْر إلى السُّرَّةِ. ما جاء في صفة عيسى بن مريم -عليه السّلام- والدجَّال مالك (¬7)، عَنْ نَافِع، عَن ابنِ عُمر؛ أَنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ ¬
الكعبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ، كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ من أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنتَ رَاءٍ مِنَ اللَّمَمِ، قَد رَجَّلَهَا فَهيَ تَقطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَينِ -أَو عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَينِ- يَطُوفُ بِالكَعبَةِ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذا؟ فقِيلَ: هَذا المَسِيحُ ابْنُ مريَمَ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُل جَعْدٍ قَطَطٍ، أَعوَرِ العَينِ اليُمنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَألتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: المَسِيحُ الدَّجَّالِ". الإسناد (¬1): قال الإمام: لم يُختَلَف عن مالك في إسناده ولا في لفظه، وهكذا رواه أيّوب عن نافع، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ -عليه السّلام- (¬2). ورواه ابنُ شهاب عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "بينما أنا نائمٌ أطوفُ بالكعبةِ ... " فذكر نحوه في صفة المسيح ابن مريم، وقال: "ثمّ ذهبتُ ألتفتُ فإذا رجلٌ جسيمٌ أحمرُ، جَعدُ الرَّأسِ، أعورُ العينِ، كأنّ عينَهُ اليُمنَى كعِنَبَةٍ طافِيَة. قلت: من هذا؟ قالوا: الدَّجَّالُ، وإذا أقربُ النَّاس بِه شَبَهًا ابنُ قَطَنٍ، رَجُلٌ من خُزَاعَةَ" (¬3). وفي حديث عُبادَة بن الصَّامِت، عن النَّبيِّ -عليه السّلام- في صفة الدَّجَّال: "قصيرٌ أَفحَجُ (¬4)، جَعدٌ، أعورُ مطموسُ العينِ" (¬5). وفي حديث الشَّعبيَّ، عن فاطمة بنتِ قَيْسِ، حديثُ الجسَّاسةِ في صفة الدَّجَّال: "أعظمُ إنسانٍ رَأيتُ خَلْقًا، وأشدُّهم وَثَاقًا" (¬6). وفي حديث الزُّهرِيّ، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قَيْس في ذلك: "فإذا رجلٌ ¬
يجرُّ شَعْرَهُ مَسَلْسَلٌ في الأغلالِ، ينزُو فيما بين السماءِ والأرضِ" (¬1). قال أبو عمر (¬2): وهذه الآثار كلُّها ثابتةٌ، كلُّها صِحَاحٌ من جهة النَّقْل والإسناد. والآثارُ مختلفةٌ في نتوء عينه. قال الإمام: وفي هذا الحديث علوم جمّة، وفوائد كثيرة لا يُخلَى هذا المختصر منها إنَّ شاء الله. المعاني والفوائد المنثورة: وهي عشرة: الفائدةُ الأولى (¬3): قولُه: "أَرَانِي اللَّيلَةَ عِنْدَ الكَعبَةِ": يريد في منامه، أو يريد في الوجود الحسِّيِّ، أو في الوجود الخيالي، وربُّك أعلم أيّهما كان، كما قال -عليه السّلام-: "كأنِّي أَنظُرُ إِلَى يُونُسَ بنِ مَتَّى وهو ببطن الوادي يُلبِّي" (¬4). قولُه: "فَرَأَيتُ رَجُلًا آدَمَ": يريد: إلى السُّمرَةِ. "كأحسن ما أنت راء من أُدْم الرجال" * يريد: كأحسن ما أنت ترى ممّن هذه صفته *. "لَهُ لِمَّةٌ" وهي الشَّعر. "كَأَحسَنِ مَا أَنتَ رَاءٍ من اللِّمَمِ، قَد رَجَّلَهَا" يريد -والله أعلم- قد رجَّلها بالماء، فلذلك كانت تقطرُ الماءَ ولعلّه قد نبَّهَ بذلك على أنّه مشروعٌ لطوافِ القدوم والله أعلمُ. أو يكون هذا كما رُوِيَ في الحديث: "كأنّه خارجٌ من دِيمَاسٍ" (¬5) وهو الحمَّام. ¬
الفائدةُ الثّانية: قوله: "فَسَاَلْتُ، مَنْ هَذَا؟ فقيل: عِيسَى بنُ مَريَم" اختُلِفَ في هذا الاسم على أقوال ثلاثة: الأوّل: أنّ مريم بالعبرانيّة خادمةُ الله. الثّاني: قيل: إنّه مشتقٌ من رمتُ، أي طلبت. الثّالث: قيل: إنّما سمّيت مريم لأنّها مَرّتْ في طاعة الله مرور الحوت في اليَمِّ. والأوَّلُ أحسن. ومن كرامة مريم: أنّ الله تعالى اصطفاها وطهَّرها على نساء العالمين؛ لأنّها عرض عليها التَّزويج فلم تتزوّج وأبت، قال الله تعالى: لا جَرَمَ أني أعطيتُكِ مقصودَ النّساء من الرِّجال، وهو ثلاثة أشياء: الشَّهوة، والولد، والنّفقة. وجعلتُ شهوتَكِ في ذكري وأعطيتُكِ الولد من غير أب، وأنفذتُ لكِ الرِّزق من الجنّةِ. وأنواعُ رزقها من أربعة أشياء: 1 - من الجنَّة أعلى شيءٍ. 2 - ومن النخل أحلى شيءٍ. 3 - ومن الجَرَادِ أَخلَى شيءٍ. 4 - ومن المسك أعذب شيءٍ. روى أبو أُمَامَةَ الباهلي، عن النّبيّ -عليه السّلام- "أنّ مريم قالت: اللَّهُمَّ ارزقني لحمًا بغير دمٍ، فرزقها الله الجراد". الفائدةُ الثّالثة: عيسى هو آية الله؛ لأنّ الله تعالى خَلَقَ آدم ردًّا على الملائكة، وبدأ خَلْقَ عيسى ردًّا على الطبائعيّة، وبدأ خلق آدم بقوله: {كُن} (¬1) وبدأ خَلْقَ عيسى بقوله: {كُن} وبدأ خَلْقَ آدم من تراب، وبَدَأَ خَلْقَ عيسى أيضًا من تراب، وبدأ خلق آدم من غير أب. ولا أمّ، ¬
وبدأ خلق عيسى من أمّ بلا أب، فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (¬1) معناه في التكوين، لقوله: {كُن} (¬2). الفائدةُ الرّابعة (¬3): وصفُ النّبيِّ له بأنّه آدم، والأُدْمَةُ لونُ العربِ وهي السُّمرَةُ في الرِّجال، وقد تقول العرب للأبيض من الإبل الآدم، والآدم من الظِّباء عندهم الّتي هي لون التّراب (¬4). واللِّمَّةُ: الجُمَّةُ، وهي أكمل من الوَفرَة، والوَفرَةُ ما يبلغ الأُذُنَين من شَعْر الرّأس (¬5). وقد رَوَى مجاهدٌ، عن ابن عمر، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في صِفَةِ المسيح "أنَّه: أحمر جعدٌ، عريض الصَّدر" (¬6). والأحمر عند العرب: الأبيض، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "بُعِثتُ إِلى الأَحمَرِ وَالأَسوَدِ" (¬7) وشبّه النّبيّ -عليه السّلام عيسى ابن مريم بعروة ابن مسعود (¬8). الفائدةُ الخامسة (¬9): قوله: "يَطُوفُ بِالكَعبَةِ" إشارة أنّ لذَّته في العبادة بقيت إلى الآخرة، فلم ير لنفسه لذة سواها، كما أنّ موسى -عليه السّلام- كانت همّته الصّلاة؛ لأنّها أول شيءٍ سمع من ¬
ربّه، لقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1) وقال النّبيّ -عليه السّلام-: "رأيتُ موسى ليلةَ الإسراءِ على قَبرِهِ يُصلِّي على الكثيبِ الأحمرِ بجانب الطّريقِ" (¬2). السّادسة (¬3): قولُه: "فقلتُ من هذا؟ فقيل: هو المَسِيح ابن مريم" بفتح الميم وكسر السِّين (¬4)، وله تسعة معانٍ: الأوّل: أنَّه مسيح الهُدَى اسم علَم، كما أنّ مسيح الضّلالة اسم علم (¬5)، لا من الزِّيادة. الثّاني: مسيح فعيل، من مَسَحَ الأرضَ (¬6)، ومثلُه في الاشتقاقِ والاسمِ الدَّجَّالُ، إِلَّا أنَّه مفرَّق بينهما بالهدى والضَّلالة، والصَّالح والكذَّاب، والدجَّال والنبيّ، والأعور والسليم. الثّالث: مسيح، فعيل، بمعنى مفعول؛ كأنّه مُسِحَ بالبركة (¬7). الرّابع: مسيح؛ لحُسنِ وَجهِهِ (¬8)، تقول العرب: عليه مِسحَةُ جمالٍ (¬9). الخامس: مسيح، فعيل، بمعنى مفعول، مسحه يحيى بن زكريّا إذ وُلِدَ (¬10). ¬
السّادس: مسيحٌ، فعيلٌ، بمعنى فاعل، كان لا يمسح ذا عاهة إِلَّا بريء (¬1). السّابع: كان لا يمسح طائرًا يخلقه ولا ميِّتًا إِلَّا حَيَّ. الثّامن: مسيح بمعنى صديق (¬2). التّاسع: مسيح، معرَّب، من مشيح، كما عُرِّبَ موسى من موشى (¬3). وفي هذه الأسماء تداخل، وبعضها يعضدها الشّرع، وبعضها يعضدها اللُّغة، وقد فصّلناها في "شرح النَّيْرَيْن". السابعة (¬4): وأمّا قوله: "المَسِيحُ الدَّجَّالُ" فقد تقدّم (¬5) فيه وجهان، والثّالث: أنّه ممسوح العين (¬6)، وكلاهما صحيح، كأنَّ الله يَغُيِّرها هيئة في عينه؛ لأنّ التَّغييرَ علامة الحدوث، والثّبوت علامة القِدَم، فيأتي عَوَره وتغيُّرُه دليلًا على دليل، ونقصانًا على نقصان. الفائدةُ الثّامنة: قوله: "الدَّجَّالُ" فقد اختلف النَّاس في اشتقاقه ومعناه. فقيل: لأنّه يُمَوِّه على النَّاس (¬7)، ومنه قوله: بعيرٌ مُدَجَّلٌ إذا طُلِيَ بالقَطِرَانِ (¬8). ¬
وقيل له ذلك: لعظم قَدرِهِ وتفاقُمِ خَطْبِهِ، ومنه رُفْقَةٌ دَجَّالَةٌ إذا كانت كبيرة، ومنه دِجلَة من كِبَرِها في الأنّهار. وقال أبو حاتم في "كتاب الزِّينة" (¬1): الدَّجَّالُ مأخوذ من الدَّجل، والدجل والدجن جميعًا وهو التباس الغيم وظلمته، فكأن الدّجالُ فعال من الدّجل وهو الظّلام والتباس الغيم، فكأنّه يلبس على النَّاس ويظلم عليهم أمر دينهم حتّى لا يعرفون رُشْدَهُم، فيدّعي الرّبوبيّة. تنبيه على وهم وتعليم على جهل (¬2): رواه بعضهم: المسيخ بالخاء المعجمة، على معنى فعيل، بمعنى مفعول، من المسخ (¬3)، وهو تغيّر الخِلْقَة المعتادة، وكأنّه بجهله كره أنّ يشترك مع عيسى بن مريم في الاسم والصِّفَة، وليس يلزم من الاشتراك في الحالات الاشتراك في الدّرجات، وقد بينّاه قبل، بل أغربَ من ذلك أنَّه لا يضر الاشتراك في المحاسن. وقد جاء آخر بجهالة أعظم من الأوّل فقال: إنّه مِسِّيخٌ بتشديد السِّين والخاء المعجمة (¬4)، فجاء لا فِقْهَ وَلَا لُغَةَ، كما قيل في المثل: لا عقل ولا قرآن؛ لأنّ فِعِّيلًا من أبنية الفاعلين، ومسيح من معاني المفعولين وهما ضدّان والله أعلم. وقال أبو القاسم الجوهري (¬5): "سُمِّيَ ابن مريم مسيحًا؛ لأنّه مُسِحَ بالبركة حين وُلِدَ، وسُمِّيَ الدَّجالُ مسيحًا بالتَّخفيف من سياحته؛ لأنّه ممسوح العين اليمنى" وهذا هو الصّحيح. ¬
وقد رَوَى الحسن بن أبي الحسن البصريّ، عن سَمُرة بن جندب، عن النّبيّ عليه السّلام؛ "أنّ الدّجّال أعور العين اليسرى" (¬1)، وقد اختُلف في سماع الحسن عن سَمُرَة، وأحاديثه عنه في بعضها نظر، وإن كان راويها قتادة. الفائدةُ التّاسعة (¬2): قولُه: "كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" قال عيسى بن دينار: شبّهها بحبّة عِنَب قد فضحت فذهب ماؤها فصارت طافئة (¬3)، أي (¬4) ممتلئة تكاد تتفقأ، وكذلك عينه قد ظهرت كما يظهر الشّيء فوق الماء. قال الإمام: وهو أشبه عندي والله أعلم. واسم العِنَبَة يقع على الممتلئة، فيكون معنى الطافية أنّها علت على ما يجاورها من الجسم. العاشرة: قال -عليه السّلام- في الثّابت الصّحيح في "مسلم" (¬5) وغيره (¬6): "ينزلُ عيسى بن مريم حَكَمًا مُقسِطًا (¬7) فيَكْسِرُ الصَّليبَ ويقتلُ الخنزيرَ، وتكونُ الدَّعوةُ للهِ ربِّ العالَمِين". ومن حديث سَمُرة بن جندب أنّ نبي الله كان يقول إنَّ الدَّجَّالَ خارجٌ وهو أعورُ ¬
الشِّمالِ (¬1)، عليها ظَفْرَةٌ غليظةٌ، إنهُ يُبرِيءُ الأَكمَهَ والأبرصَ، ويُحيِي الموتَى، ويقول للنَّاس: أنا ربُّكم، فمن قال: أنت ربِّي فقد فُتِنَ، ومن قال: ربِّيَ الله، حتّى يموت على ذلك فقد عُصِمَ من فِتنَتِهِ، ولا فتنةَ عليهِ، فيلبثُ في الأرضِ ما شاء الله، ثمّ يجيءُ عليه عيسى بنُ مريم من قِبَلِ المغربِ مصدِّقًا لمحمَّد - صلّى الله عليه وسلم - وعلى مِلَّتِهِ، فيقتلُ الدَّجَّالَ، ثمّ إنّما هو قيام السّاعةِ" (¬2). وقيل: إنّه ينزل عند المنارة البيضاء بدمشق (¬3). وفي "العُتبية" (¬4) عن مالك قال: بينما النَّاس بِلُدٍّ، إذ يسمعون الإقامة -يريد الصّلاة- فتغشاهم غمامة، فإذا عيسى بن مريم قد نزل. نكتةٌ: قال الإمام: وأجمعتِ العلّماءُ أنّ خروج المهديّ حقٌّ لا شكّ فيه ولا ريب، وأنّ خروجه يكون قَبْلَ خروج الدَّجَّالِ، وقبلَ نزول عيسى بن مريم، فيفتش المهدي فلا يوجَد، فينزل عيسى بن مريم. وقد خرّج أبو داود (¬5)، عن النّبيّ -عليه السّلام-؛ قال: "لو لم يبق من الدّنيا إِلَّا يومٌ -قال زائدةُ- لطوَّل الله ذلك اليوم، حتّى يبعثَ الله فيه رجلًا مني أو مِنْ أهل بيتي يُوَاطِيءُ اسمُه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأُ الأرضَ قِسطًا وعدلًا كما مُلِئَت جورًا وظلمًا". وفي حديث سفيان (¬6): "لا تذهبُ، أو لا تنقضي الدّنيا حتّى يملكَ العربَ رجلٌ من أهل بيتي، يواطيء اسمُه اسمِي" (¬7). ومن الحديث الثّابت الصّحيح، عن سعيد بن المسيِّب، عن أمّ سَلَمَة؟ قالت: ¬
سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "المهديّ من عِتْرَتِي من وَلَدِ فاطمة" (¬1). ومن حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ، قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "المهديُّ منِّي، أَجلَى الجبهة (¬2)، أَقنَى الأنف (¬3)، يملأُ الأرضَ قسطًا وعدلًا كما مُلِئت جورًا وظُلمًا، يملِكُ سبعَ (¬4) سنين" (¬5). وفي الحديث: أنّ عليًّا نظر إلى ابنه الحسن وقال: إنَّ ابنِي هذا سيّدٌ، كما سمّاهُ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، وسيخرجُ من صُلبِهِ رجُلٌ يسمَّى باسم نبيِّكُم، يُشبهُهُ في الخُلُقِ، ولا يُشبِهُهُ في الخَلق". ثمّ ذكر قصّةَ يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا (¬6). ومن حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "يخرجُ رَجُلٌ من وراء النَّهر يقال له الحارث، حَرَّاثٌ، على مقدِّمته رجلٌ يقال له منصور، يُوطِّيءُ، أو يُمَكّنُ لآلِ محمّدٍ، كما مكَّنَت قريشٌ لرسول الله (¬7) " (¬8). وقد أشفينا القول في هذه المعاني في "النيِّرين". ¬
السنة في الفطرة
السُّنَّة في الفطرة التّرجمة: قال الإمام: الفطرةُ هي أصل الخِلقَة وابتداء النَّشأة، لكن يعبَّرُ بها عن الدِّين الّذي يوسف أنَّه من الفطرة. قال (¬1) الله تعالى: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} الآية (¬2). يريد بالفطرة الدِّين الّذي وُلِدُوا عليه وخُلِقُوا عليه ومنه الحديث الصّحيح عن النّبيّ -عليه السّلام-: "كلُّ مولودِ يولَدُ على الفطرةِ، فأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرانِهِ" (¬3). ولهذه اللَّفظة أشياء قد تقدّم الكلام عليه، والمراد بها هاهنا (¬4): الخصال الّتي يكمُلُ بها المرء حتّى يكون على أفضل الصّفات، فذَكرَها مالك (¬5) خمسًا، وذكرها مسلم عشرًا (¬6)، ومن جملتها المضمضة، والاستنشاق، والاستنجاء، والختان. وكلّ واحد منها متأكدّ في النّدب. فأمّا مالك (¬7)، فَرَوَى عن سَعِيدِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَال: "خَمسٌ مِنَ الفِطرَةِ: تَقلِيِمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَحَلقُ العَانَةِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَالاِختِتَانُ". ¬
الإسناد (¬1): لم يختلف الرّواة عن مالك في "الموطَّأ" في توقيف هذا الحديث على أبي هريرة، وهو حديث محفوظ من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): اختلف النَّاس في المضمضة والاستنشاق، هل كلّ واحد منهما متأكّد؟ أو هل هما واجبان أم لا؟ فقال قوم (¬4): إنّهما واجبان. والدّليل عليه: أنّ الفم والأنف يدخلان في حكم الظّاهر، بدليل حكم وجوب غسلهما من النّجاسة كظاهر البدن. وبنى علماؤنا على قول النّبيّ للأعرابي: "تَوَضَّأ كَما أمَرَكَ الله تعالى" (¬5) وعلى أنّهما باطنان من أصل الخِلْقَةِ، وعلى أنّ الجُرح النافذ إليه جائفة، فتعارضتِ الأحكامُ، وكان مع نفي وجوبهما ظاهر القرآن (¬6)، على ما بينَّاه في كتاب الطّهارة، فليُنظَر هنالك. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله: "وَقَصُّ الشَّارِبِ" قال مالك (¬2): "يؤخذُ منه حتّى يبدو طرفُ الشَّفَةِ" (¬3). وقال ابنُ القاسم كذلك عنه. وقوله: "نَتفُ الإِبْطِ" هو الشَّعر الّذي تحت الآباط (¬4). و"حَلقُ العَانَةِ" يريد شَعْر السُرَّة، وهو الاستحداد (¬5). وليس لقصّ الأظفار وأخذ الشَّارب وحلق العانة حدًّ إذا انتهى إليه أعاده، ولكن إذا طال ذلك، وكذلك شَعر الرّأس لا أعلم فيه حدًّا (¬6). إِلَّا أنّ في "كتاب مسلم" (¬7) أنّ الحدّ فيه "أربعون يومًا" ولا تجوز الزِّيادة على هذا الحدّ والمقدار. المسألة الثّالثة: قولُه: "وَالاِختِتانُ" اختلف الأيمّة في الاختتان هل هو واجب أو سنّة؟ فأَوْجَبَهُ كثير من العلماء (¬8)، منهم الشّافعيّ (¬9)؛ لأنّه من شعار الدِّين وصفة النّبيّ -عليه السّلام- في التّوراة والإنجيل، ولأنّه يَكشِفُ له العورةَ (¬10). والذي عندي أنّ جملتها واجبة، وأنَّ الرَّجُل إذا ¬
لم يختتن لم يكن من جملة المسلمين. وقال مالك وأبو حنيفة (¬1): الاختتان سنّة، آكد من قصّ الشّارب ونتف الإِبْطِ وحَلقِ العَانَةِ. واستدلَّ (¬2) القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب (¬3) على نفي وجوبه بأنّه قرنه النّبيّ عليه السّلام بقصّ الشّارب ونتف الإِبْطِ، ولا خلافَ أنّ هذه ليست بواجبة، وهو استدلال بالقرائن. وأكثر علمائنا على المنع منه (¬4). ودليلنا من جهة القياس: أنّ هذا قطع جزء من الجسد ابتداءً، فلم يكن واجبًا بالشَّرع، كقصِّ الشَّاربِ. فرع (¬5): واختلف العلماء في الشّيخ الكبير يسلم (¬6)، فيخاف على نفسه من الاختتان، فقال محمّد بن عبد الحكم: له تركه (¬7)، وبه قال الحسن بن أبي الحسن البصري (¬8). وقال سحنون: لا يتركه وإن خاف على نفسه (¬9). قال الإمام: وهذا من سحنون يقتضي كونه واجبًا متأكّد الوجوب. وروى ابن حبيب عن مالك: أنّ من تركه من غير عُذرٍ ولا عِلَّةٍ لم تجز إمامته (¬10) ولا شهادته. ¬
ووجه ذلك عندي: أنّ ترك المروءةِ مؤثِّرٌ في ردِّ الشّهادة، ومَنْ ترك الاختتان من غير عُذْرٍ فقد ترك المروءة، فلم تُقبَل شهادته. فرع (¬1): ورُوِيَ عن ابن عبّاس وجابر بن زيد وعكرمة أنّ الأغلفَ لا تؤكل ذبيحته، ولا تجوز شهادته (¬2). وقال أبو عمر بن عبد البرّ (¬3): "جمهورُ أهلِ العلمِ لا يَرَونَ بأكل ذبيحته بأسًا إذا وقعت الذّكاة كاملة". فرع (¬4): واختلف العلماء في الّذي يُولَدُ مختونًا، فقالت فرقة: يُجرى عليه الموس، وإن كان فيه ما يُقطَع قُطِعَ. وقال آخرون: قد كفى الله فيه المَؤُوْنَةَ، وهو الصّحيح عندي. المسألة الرّابعة (¬5): إذا ثبت ما قدَّمناه، فهل للصّبيَّ حدَ في الاختتان أو اختيار؟ فاختار مالك وقت الإثغار. وقيل عن مالك: إنَّ حد ذلك من سبع سنين إلى العشرة (¬6). ¬
قال: ولا بأس أنّ يعجّل قبل الإثغار أو يؤخَّر بقليل، وكلّما عجل بعد الإثغار فهو أَحبُّ إليَّ (¬1)، وكره أنّ يختتن الصّبيّ وهو ابن سبعة أيّام، وقال: هذا من فعل اليهود (¬2)، وكان لا يرى بأسًا أنّ يفعل لعلّة تخاف على الصَّبيِّ. والأصل: في ذلك ما روي عن ابن عبّاس. ومن جهة المعنى: أنّ هذا وقت تَفَهُّمٍ ويمكن منه امتثال الأمر والنَّهي، وهو أوّل ما يؤخذ بالشّرائع، ولذلك يؤمر بالصّلاة. المسألة الخامسة (¬3): وأمّا الخِفَاض، فقد قال مالك (¬4): أُحِبُّ للنّساء قصّ الأظفار، وحَلْق العانة، والاختتان، مثل ما هو على الرِّجال (¬5). قال (¬6): ومن ابتاع أَمَةً فليخفضها إنَّ أراد حَبسَها، وإن كانت للبيع فليس ذلك عليه. وقال مالك (¬7): والنّساء يَخْفِضنَ الجَوَارِي. قال (¬8) غيره: وينبغي أنّ لا يبالغ في قطع المرأة، لما رُوِيَ عن النّبيّ -عليه السّلام- أنَّه قال لأمّ عطيّة -وكانت تخفض-: "أَشِمِّي ولا تُنْهِكي؛ فإنّه أَسْرَى للوجه وأحظَى عند الزّوج" (¬9). ¬
قال الشّيخ أبو محمّد في "مختصره" (¬1): "أكثر لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها" والله أعلم، وأهلُ الشّرقِ على هذا. حديث مالك (¬2)؛ عن أبي سعيد، عن سعيد بن المسيِّب؛ أنَّه قال: كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ اختَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَال: يارَبِّ، ما هذا؟ فَقَالَ الله تَبَرَكَ وَتَعالى: وَقَارٌ يَا إِبرَاهِيمُ، فَقَالَ: رَبِّ، زِذني وَقَارًا. الإسناد: الحديث موقوف (¬3)، وهو صحيح، وله طرق حِسَانٌ (¬4). الفقه والفوائد، وهي خمسٌ: الفائدةُ الأولى (¬5): قوله: "أَوَّلُ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إِبْرَاهِيم" وهي سُنَّة كريمة، وخصلة شريفة، كان إبراهيم لا يأكل وحده، وصارت تلك سنّة بعده. وقد ذكر المفسّرون: أنّ إبراهيم دعا من يأكل معه طعامه، فلمّا تقدّم إليه قال له: سمّ الله وكل، قال: لا أدري ما الله! قال: فاخرج عن طعامي، فنزّل الله عليه جبريل -عليه السّلام- فقال له: إنَّ الله يطعمه منذ خَلَقَه وهو كافر، وبخلتَ أنت عليه بلقمةٍ، قال: فخرج إبراهيم في طَلَبِهِ حتّى أدركه، فقال له ارجع، فسأله فأخبره، فآمن وسمَّى الله معه وأكلَ (¬6). ¬
واختلف العلماء في الضّيافة، فرآها اللَّيث بن سعد واجبة (¬1)، لقول النّبيّ عليه السّلام: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فَليُكرِمْ ضيفَهُ، جَائِزَتُهُ يومٌ وليلةٌ، وما زادَ على ذلك فهو صَدَقةٌ" (¬2). وروي أنّهم قالوا: يَا رَسولَ الله، نمرُّ بهم فلا يَقرُونَا. فقال النّبيُّ -عليه السّلام-: "خُذُوا الّذي لكم" (¬3). فمن العلماء من قال: إنّه منسوخٌ بأخبارٍ (¬4)، من جملتها: "لا يحلُّ مالُ امْرِئٍ مسلمٍ إلّا عن طيبِ نفْسٍ منهُ" (¬5). ومن النَّاس من قال: إنّها جائزةٌ في القُرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر؛ فإنّ كلّ من دخلها يجد فيها أين يأوي وما يشتري (¬6). والحديث الأوَّل لا حُجَّةَ فيه؛ لأنّ النّبيّ عليه السّلام قال: "فَليُكْرِمْ ضَيْفهُ" (¬7). والكرامةُ ليست بواجبةٍ (¬8)، والذي يتنخّل عند التّحقيق حسب ما بينَّاه في "شرح الصّحيح" أنّها فرض على الكفاية كسائر فروض الكفايات. المسألة الثّانية (¬9): قوله: "وَأَوَّلُ النَّاسِ اخْتَتَنَ" رُوِيَ عن أبي هريرة حديثٌ موقوفٌ، عن النّبيّ عليه ¬
السّلام قال: "اختَتَنَ إبراهيمُ (¬1) وهو ابن عشرين ومئة سنة، ثمّ عاش بعد ذلك ثمانين سنة" (¬2) وهذا الحديث هو أوّل الباب عند القَعْنَبِيِّ. ورُوِيَ أنّ إبراهيمٍ اختتن بالقَدُّوم (¬3)، وهو موضع، ويُخَفَّف فيقال: القَدُومُ، قال ابن الفراء: القَدُومُ -مخفَّفٌ- هي القَدُومُ المعروفة. وقيل: إنَّ اختتانه من الكلمات الّتي ابتلاه الله بها. وقيل غير ذلك، والله أعلم. وهذا الحديث حجّة لمن أمر الشّيخ الكبير يُسْلِم بالاختتان. المسألة الثّالثة: قوله: "وأوَّلُ النَّاس قصَّ شَاربَهُ" قال مالك (¬4): يؤخذُ من الشّاربِ حتّى يبدو طَرفُ الشَّفَةِ، وهر الإطارُ، ولا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ بنفسه. المسألة الرّابعة (¬5): قولُه: "وأوَّلُ الناسِ رأَى الشَّيْبَ ... " الحديث. يحتمل -والله أعلم- أنَّه لم يكن قبله شيبٌ حتّى رآه إبراهيم -عليه السّلام- أوّل من رآه. ويحتمل أنّ يكون الشَّيْبُ معتادًا على حسب ما هو اليوم، ولكن كان إبراهيم أوّل من قال هذا، وسأل عنه عند رؤيته. والأوّل أظهر؛ لأنّه لو كان الشَّيب معتادًا قد رآه إبراهيم بجميع النَّاس قبله ما أنكره، ولا قال: يا ربّ، ما هذا؟ ولو سأل عن وقوعه به مع معرفته بمعناه كما رآه بغيره، لم يفسِّره له بأنّه وقَارٌ، ولقيل له: هو الشَّيْبُ الّذي رأيته لمن بلغ سنَّكَ، ولكان ¬
هو قد علم أنّ معناه الوَقَار، ولم يحتج أنّ يدعو الله تعالى أنّ يزيده وقارًا حين علم معناه. المسألة الخامسة (¬1): قوله: "وَقارٌ، قال: يا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا". قال الإمام: وإنّما جعله وقارًا لأنّه ينبيءُ عن ضعف القوى، ويُذهِبُ بشرة الفُتُوَّةِ والصِّبَا، فتسكنُ الحركات لضَعفِ الشَّهوات، فيكون بشَيْبِهِ السُّكون والوَقَار، وقد قال كبار الصّحابة: إنَّ الله ما شَانَ رسولَه بالشَّيب، ولو كان محمودًا ما خُضَّبَ فإنّه لا يُستر إِلَّا ما يُكره. قلنا: إنّما كان ذلك لأجل الغزو والغلظة على العدوِّ. وإذا قلنا: إنَّ الشَّيبَ يغيَّرُ بالخضاب، فلا نُبالي على أيِّ لونٍ كان التّغيير بخِطْرِ (¬2) أو بفَاغِيَةٍ (¬3) سوداء أو حمراء، إنّما غيَّرَهُ أصحاب النّبيّ -عليه السّلام- بالحمرة؛ لأنّه هو الّذي عرفوه وأمكنهم في مواضعهم، وقد رُوِيَ أنّ النّبيّ -عليه السّلام- خَضَبَ بالحنَّاء (¬4)، ولم يصحّ، وسيأتي بيانُه في باب خضاب الشَّعْر إنَّ شاء الله. سؤال (¬5) في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (¬6). الجواب: قلنا: يُحتملُ أنّ يخاطب به هذه الأُمَّة، أو مَنْ شاب من زمان إبراهيم -عليه السّلام- إلى يوم القيامة. ويحتمل أنَّه خُوطب به جميعُ الخَلق مَنْ شابَ ومن لم يَشِبْ، إِلَّا أنَّه جمع مع ¬
الضَّعف الأخير الشَّيب؛ لأنّ مِنَ الخَلقِ مَنْ لم يَشِب، كما أنَّه لم يردّ أنّ جميعهم يضعف، بل منهم من يموت في الضّعف الأوّل، ومنهم من يموت حال القوّة قبل الضّعف الثَّاني، والله أعلمُ. تكملة: في فضيلة إبراهيم -عليه السّلام- وفي قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬1) والخليلُ هو الّذي قد تخلَّل فؤاده بمحبَّته، فلا يكون لأحدٍ فيها طَمَعٌ. وقيل: إنّه - صلّى الله عليه وسلم - سألَ عن ذلك، فقيل له: لِمَ اتّخذَكَ الله خليلًا؟ فقال: لأنّي لم أتّهمه بما تكفّل لي به، وما خُيِّرْتُ بين شيئين إِلَّا اخترتُ ما للهِ فيه رِضا، ولا تغدّبتُ ولا تعشيّتُ إِلَّا مع ضيفٍ. وقيل: إنّه سأل ربّه، لم اتّخَذتَنِي خليلًا؟ فقال: لثلاثة أشياء: لقيامك بين يَدَيَّ آناء اللّيل والنّهار، ولأنك لا تغفل عنّي على كلّ حال، ولذكرك إيّاي في كلّ وقت. وقيل: اتّخذه خليلًا لأنّه سلّم ماله للضّيفان، وولده للقُربان، ونفسه للنّيران، وقلبه للرحمن. وقيل: اتخذه خليلًا لخدمته لأضيافه، ألم تسمع إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (¬2). وقيل: اتخذه خليلًا لأنّه لم يذكر سرّه إلى غيره، فأوحى الله إليه: أنت خليلي، فانظر أنّ لا يختلج في قلبك وسرّك غيري فاقطعُ خِلَّتي عنك. وقيل: اتّخذه خليلًا حين صيّر له الرّمل دقيقًا، فقال لسارة: من أين لكِ هذا الدّقيق؟ فقالت: من عند خليلك الحضَرِيّ، فقال لها: بل هو من عند خليلي السّماويّ. وقيل: اتخذه خليلًا لأنّه خاف من الله تعالى، فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلًا يخاف خليله، فقال: إذا ذكرتُ ذنوبي نسيتُ خِلَّتي. ¬
وقيل: اتّخذه خليلًا لأنّه كان يُسمَعُ وَجِيبُ (¬1) قلبِه من مِيلَيْنِ. وقيل: اتّخذه خليلًا لأنّه جاءه ضيف كافر، فوسَّدَه فخذَه ولقمه بيده، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، تطعم عَدُوِّي وعدوّك، فقال: يا ربِّ، تعلّمتُ منك؛ لأنك خَلَقتَهُ ورزَقتَه وكَفَيتَهُ، فتخلّقتُ بخُلُقٍ من أخلاقك، فأوحى الله إليه: إنِّي قد اتّخذتُك خليلًا لذلك. وقيل: اتّخذه خليلًا حين سَمع جبريل - صلّى الله عليه وسلم - يقول: سُبُّوح، قدّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح، ولم يَدرِ أنَّه جبريل، فقال له: اذكر خليلي مرّة أخرة ولك ما أملك، فذَكَرَهُ، فأعطاه ملكه، فقال جبريل: يا خليلَ الرّحمن، أنا جبريل جئت لأختبرك، فوجدتُك خير مجرّب، ووجدتك تستحقّ خِلَّتَهُ. وقيل: جاءته الملائكةُ، فقرَّبَ إليهم طعامًا، فلم يأكلوا منه، وقالوا: إنَّا معشر الأنبياء لا نأكل إلّا بالثّمن، قال: ومعكم ثمنه فكلوه، فقالوا: وما ثمنه؟ قال: التّسميةُ عند ابتدائه، والحمدُ عند فراغه، فقالوا: سبحان الله، يستحقّ أنّ يُتَّخَذَ خليلًا. وقيل: اتّخذه خليلًا: لقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬2). فقال الله: يا إبراهيم لا جَرَمَ أنّي اتّخذتُك خليلًا. فهذه إحدى عشرةَ قولةً في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬3) وقد أَشْفَيْنَا القول فيه في "الكتاب الكبير". نكتةٌ بديعة: فإن قيل: ما وجه الحكمة في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (¬4). الجواب عنه من أوجه: الأوّل: قيل لأنّ العرب ادَّعت بأنّا على دِينِ إبراهيم، فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬5)؛ لأنّه كان مسلمًا، وقد علَّق الله هذه الآية بالأَبَوِيَّةِ على سبعة: على آدم بالولادة. ¬
النهي عن الأكل بالشمال
وعلى نوح بالذُّرِّيَّة. وعلى إبراهيم بالمِلَّة. وعلى الملائكة بالاستغفار لهم. وعلى محمّد بالأُمَّة. وعلى نفسه بالعبوديّة. وقد تكلّمنا على هذه المعاني في "الكتاب الكبير" (¬1). النَّهيُ عن الأكلِ بالشِّمال مالك (¬2)؛ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكرٍ بْنِ عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا أَكَلَ أَحَدُكُم فَليَأكُلْ بِيَمِينِهِ، وَليَشرَبْ بِيَمِينِهِ". الإسناد: الحديث الأوّل (¬3)، وهذان الحديثان صحيحان مرويان من طرق (¬4). الأصول في أربع مسائل: المسألة الأولى (¬5): أمّا قولُه في الحديث الأوّل في هذا الباب: "نَهَى أنّ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ، أَو يَمْشِيَ ¬
فِي نَعْلٍ واحدٍ، أَو يَشتَمِل الصَّمَّاءَ (¬1)، أَوْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحدٍ". أمّا الثّلاث فإنَّها مكروهة، وأمّا الرّابعة فإنّه حرام لوجوب سَتْر العورة. المسألة الثّانية (¬2): قوله: "نَهَى" والنّكتة الّتي يعتمد عليها علماؤنا في الفرق بين المكروه والحرام، أنَّه إذا جاء النّهي مقرونا بالوعيد دلَّ على تحريمه لا مَحَالَةَ، وإذا جاء مُطلَقًا كان أدبًا، إِلَّا أنّ تقترن به قرينةٌ تدلُّ على أنَّه مصلحة في البدن أو في المال على الاختصاص بالمرء، فإنّه يكون مكروهًا على حاله، ولا يترقَّى إلى التّحريم. فإن كان لمصلحة تعمُّ النَّاس صار حرامًا. والدّليل على ذلك: أنّ للمرء أنّ يتحمّل الضّرر في نفسه إنَّ كان ذلك يسيرًا، وليس له أنّ يلحقه بغيره يسيرًا كان أو كثيرًا، وهذا بديعٌ. المسألة الثّالثة (¬3): قوله (¬4): "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ". اختلف في هذا علماؤنا، فمنهم (¬5) من حَمَلَهُ على الحقيقة بأنّ الشّياطين يأكلون ويشربون، ولذلك جاء نهيُه - صلّى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء بالرّوث والرمَّة، وقال: "إنَّ ذلك لَزادُ إخوانكم من الجنّ" (¬6). ¬
ومنهم من قال: إنّما ذلك لئلا يتشبه بفعل الشيطان. وقال آخرون: إنّما أكلُهم تشَمُّمٌ (¬1)، فعلى هذا يكون قوله: "إنَّ الشَّيْطَانَ يأكُلُ بِشِمالِهِ" على المجاز، فمعناه: أنَّه يريد أنّ يأكل الإنسان بشماله ويدعو إليه فأُضِيفَ الأكلُ إليه. وقال علماؤنا (¬2): لا يأكل أحدٌ بشِمَاله، ولا يشرب بشماله إِلَّا مِنْ عُذْرٍ. المسألة الرّابعة: قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على وجود الجِنِّ، وأنّهم أجسامٌ، خلافا وردًّا على قول الفلاسفة الّذين يقولون إنهم بسائط، وقد بينّا ذلك في "كتب الأصول" (¬3) وأنّهم مكلَّفون، وأن منهم المؤمّن ومنهم الكافر، ومنهم الصّالحون ومنهم دون ذلك، وأنّ لهم حياةً وأجسامًا، وأنّهم تختلف صفاتهم. ورُوِيَ عن وهب بن مُنّبِّه (¬4)؛ أنَّه سئل عن الجِنِّ، وهل يأكلون ويشربون ويتوالدون؟ فقال: منهم من يأكل ويشرب وينكح وَيَتَوَالَد ومنهم الشّياطين والغِيلان والقطارية (¬5)، وغير ذلك ممّا قد أوضحناه في "الكتاب الكبير". ¬
ما جاء في المساكين
ما جاء في المساكين مالك (¬1)؛ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَال: لَيسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوافِ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقمَةُ واللُّقمَتَانِ، والتَّمْرَةُ وَالتَّمرَتَانِ. قالُوا: فَمَا المِسْكِينُ يَا رَسُولَ الله؟ قَال: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغنِيهِ، وَلَا يَفْطُنُ النَّاسُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسأَلَ النَّاسَ. حديثُ مَالك (¬2)؛ عَنْ زَيْدٍ، عن ابنِ بُجَيْدٍ الأنصاريِّ، عن جَدَّتِهِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "رُدُّوا المِسكِينَ وَلَو بِظِلفٍ مُحرَقٍ". الإسناد: قال الإمام: الحديث الأوَّل صحيح، والثّاني (¬3) عن زيد، عن ابنِ بُجَيْدٍ؛ فإنّ ابن بُجيْدٍ اسمُه عبد الرّحمن بن بُجَيْد بن قيظي الأنصاري، أحد بني حارثة، وهو الّذي ردَّ على سهل بن أبي حَثمةَ حديثَه في القَسَامَةِ، ولم يكن سهل بن أبي حَثْمَة بأكثر علمًا منه ولكنّه كان أسنَّ منه (¬4). التّرجمة (¬5): إنّما بوَّبَ مالك - رحمه الله - على هذا؛ لأنّه اسمٌ شرعيٌّ ممدوحٌ في الدِّين، وفي الحديث: "اللَّهمَّ احيِني مِسكِينًا، وأَمِتني مسكينًا، واحشُرنِي في زُمْرةِ المساكين" (¬6). ¬
وفي هذا الحديث نكتةٌ بديعةٌ، وهو أنَّه محمود في الجملة، كالصَّمْت محمودٌ في الجملة لكثرة آفاتِ الحركة، وكثرة آفات الكلام، وقد يكون الشَّيءُ ممدوحًا بذاته وصفاته، وقد يكون ممدوحًا لقلّة آفاته، وتَركُكَ الشّرِّ للنّاس صدقةَ، لا سيّما وقد قال علماؤنا: إنَّ أوّل ما خلَقَ الله السُّكونُ، والحرَكَةُ بعده ثانيًا، ويستحيلُ عقلًا أنّ تسبقه الحركة، فصار السكونُ ممدوحًا بأصل الخِلقَةِ. وبينَ أيضًا نَدبَ الصَّدقة إليه، والتَّخصيص في الجزاء عليه، فقال: "رُدُّوا السّائلَ ولو بِظِلْفٍ مُحرَقٍ" (¬1) وليس هو بمثل، وإنّما هو حقيقة؛ فإنّه إنّما خاطب به قومًا كانوا يأكلون الجلود ويمُصّونَ النَّوَى، وإذا وَجَدُوا ظِلفًا مُحرَقا كان غايةً لهم في اللَّذَّةِ، وأيضًا: فإنّه بيَّن فيه حال المسكين، وهو الّذي لا شيءَ له لاختلاف النَّاس فيه، والفقيرُ والمسكينُ اسمان مشتركان في وجهٍ مفترقان في آخر، فقد يكون الفقيرُ مسكينًا، وقد يكون المسكينُ فقيرًا، وقد جمع الله بينهما في الصَّدقة، واشتغل النَّاس لقلَّةِ تحقيقهم بأن يطلبوا الفرقَ بين المسكين والفقير، وليس المقصود هذا حتّى تفنى فيه الأعمار، وتُسَوَّدَ الأوراقُ، وإنّما المقصودُ أنّ النَّاس المحتاجين قسمان: قسم لاشيءَ لهم، وقسم ¬
ما جاء في معى الكافر
آخر له شيءٌ يسيرٌ، فأَعطِهما جميعًا من الصّدقة وسَمِّهِمَا كيف شئتَ، وإنّما يفترقان بحالهما لا بأسمائهما، فافهم ولا تُضَيِّع زمانك في هذه المعاني، مثل الكلام في الفقر والغِنَى (¬1) وأيهما أفضل كذا وكذا، فإنّ التّحقيق فيه قليل، والكلام فيه عَناء إذا كان من غير تحصيل. ما جاء في مِعَى الكافرِ مالك (¬2)؛ عَنْ أَبِي الزَّنَادِ، عَنِ الأَعرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيرَةَ قالَ؛ قال رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "يأكُلُ المُسلِمُ في مِعًى وَاحدٍ، وَالكَافِرُ يَأكُلُ في سَبعَةِ أَمعَاءٍ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ، خرّجه الأيمّة (¬3) والتّرمذي (¬4)، وفي بعض طرقه ألفاظ من حديث أمّ أيمن (¬5) ليست هي في "الموطَّأ". ¬
الأصول (¬1): فيه ثلاثة أقوال: 1 - أحدها: أنّها حكايته حالٍ وقضيّة عين اختصت بكافرٍ واحدٍ، على ما جاء في حديث أم أيمن، أو بكفّارٍ ثلاثة أحدهم: الجهجاه (¬2)، والثّاني: نضلة بن عمرو (¬3)، والثّالث: حُمَيلٌ بن بَصرةَ (¬4). 2 - وقيل: إنَّ ذلك عبارة عن رغبة الكافر وحرصه على الأكل والجمع؛ لأنّه لا يعلم المقصود من الدّنيا، ولا المطلوب من الغذاء، فإذا آمنَ وعلِمَ قَدرَ ما خُلِقَ له، قصر شهوته وحذف مساحةً كثيرةً من بطنه. الثّالث: قالت الصّوفية: المؤمّن يأكل في مِعىً واحد وهو التَّقَوِّي على عبادةِ الله، والأخذ بمقدار الحاجة بما يديم حال البدن على الاستواء والصحَّة، والكافر يأكل بسبعة أوجُهٍ، ضرب لكلِّ وجهٍ منها مثلًا بالمِعَى، حتّى صارت سبعة أمعاء: الأوّل: أنَّه يأكل عادة. الثّاني: أنَّه يزيد رغبة، بأن يرى أنّ اللّقمة في بطنه خير من عشرة في جيبه. 3 - ثمّ يسمع وصف الطّعام بأُذُنِهِ فيجد له شهوة. 4 - ثمّ يراه فيجد له أخرى. 5 - أو يشتم ذلك أيضًا. 6 - * فإن ذاقه زاد التجدُّد. 7 - وقد تتجدد له شهوة باللَّمس إذا وجده لَيِّنًا *. ¬
وهكذا حواسه الخمس الّتي جعلها الله له للعبرة، فجعلها هو علاقة للشّهوة، فتصير له سبع طرق يأكل بها وبجميع سبلها. والعارضة فيه (¬1): أنّ المؤمّن يأكل ليتقوَّى، والكافرُ يأكل للشَّهوة ويقصد بذلك تمتعه وملءَ بطنه، والمؤمنُ وإن اشتهى فإنّه يأكل بتَوَسُّطٍ، ويقصد التَّقَوِّيَ وإقامةَ الصُّلبِ، وتقوية الأعضاء على الطّاعة، فيكتفي بالقليل عن الكثير، ولا يقنع الكافر به كالبهيمة؛ لأنّ فعلها مسترسل على الشّهوة، خالٍ عن النّظرِ إلى مقصوده، ولا خوفٍ من عاقبته. ومع القصد يُنزِلُ اللهُ البركةَ في الطّعام للمؤمن حتّى يملأ بطنه شبعًا وأعضاءه قوّة، كما أنَّه بما يخلُق من القناعة في قلوب المؤمنين، وينزل من البركة؛ أنّ يكفي طعام الواحد الاثنين، والاثنين للثّلاثة، والأربعة للثّمانية، كما خرّجه التّرمذيّ (¬2)، وصحّّحه مسلم في "كتابه" (¬3). وقد فسره بعض أهل الزّهد فقال: إنَّ السّبعة الأمعاء كناية عن الحواسّ الخمس وعن الحاجة والشّهوة، فيسمع ذكر الطّعام فيحدث له عنده شَرَهٌ، وعن الرّؤية مثله إذا رآه ممدّحًا، وعند رائحته قتارة بشمّه، وعن لمسه، وعن ذوقه، ويأكل للحاجة، ويزيد بعد ذلك للشّهوة، فيكون بعد ذلك سبعة أمعاء، وهي أسباب، فكنى عن الأسباب بالأمعاء، إِذِ المؤمّن إنّما يأكل بمعِىً واحدٍ. ¬
وأمّا "طعام الأربعة يكفي الثمانية" فانفرد به من الصّحيح مسلمٌ، والمعنى فيه: ما حثَّ اللهُ عليه المؤمنَ من القناعةِ والاجتزاء باليسير، والتقلُّلِ من الغذاء والقصد فيه للقوّة؛ لأنّ المُؤمنَ يقصد في أكله المواساة وأنَّ الغالب من أحوال المؤمّن ألَّا يشبع، فإن شبع فنادرٌ. وأمّا ما أورَدَهُ أهل الزّهد في فضيلة الجوع وذمّ الشّبع، فأمرٌ لا تحمله الدّواوين من عظمه وشأنّه، ولكن نسرد عليكم منه ما صحّ وما يصلح بالمؤمن أنّ يمتثله. وبالجملة فإنّ الجوع محمودٌ على كلّ حالٍ، وإنّ الشّبع مذموم، وفي ذلك آثار حِسَانٌ؛ قال (¬1) رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإنّ الأجر في ذلك كأجر المجاهدة (¬2) في سبيل الله، وأنّه ما من عمل أحبّ إلى الله تعالى من جوع وعطش" (¬3). وقال ابن عبّاس (¬4): لا يدخل ملكوت السَّماء من ملأ بطنه (¬5). وقيل: يا رسول الله أيّ النَّاس أفضل؟ قال: "مَنْ قَلَّ طَعَامُهُ وضحكُه (¬6)، وَرَضِيَ بِمَا يَسْتُرُ بِه عَورَتَهُ" (¬7). وقال - صلّى الله عليه وسلم -: "سيّد الأعمال الجوع، وذلّ النّفس لباس الصّوف" (¬8). وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "البسوا واشربوا، وكلوا في أنصاف البطون فإنّه جزء من النُّبُوَّةِ" (¬9). ¬
وقال الحسن: قال -عليه السّلام-: الفكرُ نصف العبادة، وقلّةُ الطّعامِ هي العبادة (¬1). وفي الخبر؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يجوع من غير عَوزٍ، أي مختارًا له (¬2). وقال الحسن: قال -عليه السّلام-: "أفضلكم منزلة عند الله أطولكم جوعًا وتفكُّرًا (¬3)، وأبغضكم إلى الله تعالَى كلّ نوَّام أكول شروب" (¬4). وقال -عليه السّلام-: "لا تُمِيتُوا القلوبَ بكثرة الطّعامِ والشّراب؛ فإنَّ القلبَ كالزَّرع يموتُ إذا كثر عليه الماء" (¬5). وقال -عليه السّلام-: "أهل الجوع في الدّنيا هم أهل الشِّبع في الآخرة" (¬6). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "أَدِيمُوا قَرعَ باب الجنَّة يُفتَحُ لكم، قلت: وكيف نديمُ قرعَ باب الجنَّة؟ قال: بالجوع والظَّمأ" (¬7). والقاعدة في هذا المعنى: قوله في الصّحيح: "ما ملأ ابنُ آدم - أو قال: آدميّ - وعاءًا شرًّا من بطنه، حَسبُ ابنِ آدمَ لُقَيمَاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، وإن كان لا مَحَالةَ فثُلُثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه" (¬8). وأمّا قوله: "المُؤمِنُ يَأكُلُ في مِعىً وَاحدٍ والمُنَافقُ يَأكُلُ في سَبعَةِ أَمعَاءٍ، أي: يأكل سبعة أضعاف ممّا يأكل المؤمّن، أو تكون شهوته سبعة أمثال شهوته، وذكر المِعَى كناية عن الشّهوة؛ لأنّ الشّهوة هي الّتي تقبل الطّعام وتأخذه كما تأخذه المِعَى، وليس ¬
باب النهي عن الشرب في آنية الفضة والنفخ في الشراب
المعنى زيادة عدد مِعَى المنافق على مِعَى المؤمّن (¬1)، والله أعلم. باب النّهي عن الشُّرْبِ في آنية الفضّة والنَّفخ في الشَّراب مالك (¬2)، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ زَيدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَبدِ الرّحمنِ بن أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قَالَ: "الَّذِي يَشرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ إِنمَا يُجَرْجِرُ في بَطنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ". الإسناد (¬3): قال الإمام: لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث إِلَّا ابن وهب وطائفةٌ قالوا فيه: عن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر الصِّدِّيق، والأكثرُ يقولون كما قال يحيى: عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر، وهو الصّواب. وخرج الترمذيُ (¬4) حديث الحَكَم عن ابن أبي ليلى، أنّ حُذَيفَةَ حدثه (¬5) أنّ ¬
رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشُّربِ في آنِيَةِ الفضَّةِ والذَّهبِ ولُبسِ الحرير والدِّيباجِ، وقال: "هِيَ لَهُم في الدُّنيَا وَلَكُم في الآخِرَةِ". وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن حذيفة قال: "لا تَشرَبُوا في آنيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ ولا تأكلُوا في صحَافِهَا، فإنّها لهم في الدُّنيا ولكم في الآخرة". وأصلُ هذا الباب حديث مالك عن أمّ سَلَمة الّذي تقدَّم، وهو أصحُّها وأحسنُها مَسَاقًا. العربيّة: قال علماؤنا: المقصود به صوتُ جرع الشّارب إذا شرب (¬2)، وهي كلمةٌ مستعارةٌ مأخذوةٌ من جرجرة الفحل من الإبل، وهي هديرُهُ وصوتٌ يُسمَعُ من حَلقِهِ يردِّدُه، فقال امرؤ القيس (¬3): إِذَا سَاقَهُ العود النَّبَاطِيُّ جَرجَرا أي: رغا (¬4) لبُعدِ الطَّريق وصعوبته. وقال الرّاجزُ يصف فحلًا (¬5): وإذا جَرجَرَ عند الهَبِّ جَرجَر في حَنجَرَةٍ كالجُبِّ وَهَامَةٍ كالمرجَلِ المُنكَبِّ" قال الإمام: قولُه (¬6): "جرجر" يريد حقيقة الصوت، فهو يُروى برفع نار ونصبها (¬7). ¬
وأمّا إذا قلنا: إنّه مأخوذٌ من صوت البعير عند الهدير، فعلى هذا تكون الرِّواية: "نارُ جهنَّم" بالرَّفع. وإن كان بمعنى جرجر بمعنى يَجرَعُ، فتكون الرِّواية على هذا على النّصب للرّاء: "نارَ جهنّم". وقال الزجاج: يُجَرجرُ في جوفه، أي: يردّد في جوفه. الفقه والأحكام في عشر مسائل: المسألة الأولى وهي أصولية (¬1): قوله (¬2): "من شَرِبَ بها في الدّنيا لم يشرب بها في الآخرة"، كذلك قولُه في الخّمْرِ: "من شَرِبَ الخّمْرِ في الدّنيا ولم يتب منها لم يَشرَبْها في الآخرة" (¬3) كذلك هذا معناه إذا لم يتب منه على التَّفصيل المتقدِّم. وقوله: في الحديث "جنَّتان آنيتهما وما فيهما من ذهبٍ، وجنتَان وآنيتهما وما فيهما من فضة" (¬4). فهذا لبس الذَّهب والفضّة والحرير، وأكل في آنية الفِضَّة والذَّهَب، لم يدخل الجنّة إِلَّا أنّ يتوب"، فإنّ من حاول في الذهب والفضّة والحرير الأكل والشّرب والِّلباس فليس له في الجنّة على هذا الوعيد مستمتع، إذ ليس له فيها إِلَّا ما أخبر الله عنه أنّه لا يناله. فيحملُ الحديثُ على ما تحمل عليه آيات الوعيد من أنّ ذلك مخصوصٌ في شخصٍ دون شخصٍ، أو حال دون حال، وقد تقدَّمَ بيان هذا في كتاب الأشربة. ¬
المسألة الثّانية (¬1): وقوله (¬2): "نَارَ جَهَنَّمَ" فمجازٌ يُعبَّرُ به عن عقاب الفعل، فسُمِّيَ باسم الفعل، فإِنّ شُرْبَ الماء في الإناء المذكور يُوجِبُ النّارَ إنَّ عُوقبَ، فكأنّه صوت الماء صوت النّار، فإن كان معنى "جرجر": صبّ، كما قال بعضهم، فهو مثله، أي: إنّما يصبّ في جوفه النّار، واستشهد أبو عُبَيْد (¬3) بقول الشّاعر: وهوَ إِذَا جَرْجَرَ بعد الهبَّ جرجرَ في حنجرةٍ كالْجُبِّ وأكثر ما يُعبَّر عن الصبّ؛ لأنّه هو الّذي سَاغَهُ. المسألة الثّالثة: قال أهل الظّاهر ومن تعلَّق بقراءة الحديث من أهل الغباوة والجهل أنّه يجوز الأكل في آنية الفضّة والذّهب؛ لأنّ النّهي إنمّا ورد عن الشّرب (¬4)، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ النّبي عليه السّلام إذا علّق الحكم على اسم إمّا أنّ يُعلِّقه على اللَّفظ أو على المعنى، فإن عَلَّقَه على اللّفظ اقْتَصَر عليه، وإن كان على المعنى فحيث ما وُجِدَ المعنى تَعَدَّى الحكم إليه. والنّبيُّ عليه السّلام نّهَى عن الشُّربِ في آنية الذّهب والفضة لما فيها من الخُيَلَاء والكِبْرِ والسَّرَفِ، ونحن نجد ذلك المعنى في الأكل. وكذلك لا يجوز التَطَيُّب بهما لما فيهما؛ لأنّ المعنى موجودٌ، ولقد دخلت يومًا إلى طعامِ وليمةٍ فدفعت إلينا آنية ¬
فيها طيب، فكرهتُ الأخذ منها حتّى أخذ من طيبها رجلٌ فأخذتُ الطّيب من يده. وهذا بديعٌ. المسألة الرّابعة (¬1): فإذا ثبت هذا، فإنّه يحتمل أنّ يكون النّهي عن الأكل والشُّرْبِ في ذلك عبادة. ويحتمل أنّ يكون مُعَلِّلًا بالسَّرَفِ. وعلى أيِّ الوجهين سِرْتَ في قصد النّظر لم يلزم الانتفاع بآنية الذّهب والفضّة في غير الأكل والشُّرْبِ المنصوص عليهما، من تدهن أو تطيب أو بخور، لقوله: "هي لهم في الدُّنيا ولنا في الآخِرة" (¬2) فجعلهما دارين ومنفعتين وفريقين، وعيَّنَ لكل فريق في كلِّ دار منفعةً. المسألة الخامسة (¬3): اختلف النَّاس في المعنى المقصود إليه بهذا الحديث، فقالت طائفةٌ من العلماء: إنّما عَنَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بقوله هذا المشركين والكفّار من ملوك الفرس وغيرهم الّذين يشربون في آنِيَةِ الفضِّة، فأخبر -عليه السّلام- عنهم، وحذَّرَنَا أنّ نفعلَ فِعْلَهم أو نتشبَّهَ بهم. وقال آخرون: بل نَهَى رسولُ الله عن الشُّرْبِ في آنية الفضّة والذّهب، فمن شرب منهما بعد علمه بنهي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقد استوجب الوعيد المذكور في الحديث، إلّا أنّ يعفو الله عنه، فإنّه يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء. وأجمع العلماء على أنّه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أنّ يأكل أو يشرب في آنية فضّة أو ذهب. والجمهور من العلماء أنّه لا يجوز اتّخاذُها ولا استعمالها، ومن اتّخذها كان عاصيًا باتِّخاذها. ¬
المسألة السّادسة (¬1): فإذا ثبت هذا، فما يُصنَعُ من الياقوت والزّمرّد واللّؤلؤ والمرجان لا يجوز استعمالها فيما يمنع فيه استعمال الذّهب والفضّة؛ لأنّ ذلك أغْلى من الذّهب وأغلى من الفضّة، فيكون تحريمه من باب الأَوْلَى وهو السَّرَف (¬2). المسألة السّابعة (¬3): إذا ثبت هذا، فلا يجوز اتّخاذ الأواني؛ لأنَّ ما لا منفعة في صورته - إلّا فيما يحرم - لم يكن لها حرمة ولا قيمة لها إنَّ كسرت، ولا ضمان ولا تقويم فيها في زكاة وغير ذلك. والبوق المفضّض لا يجوز اتّخاذه، ومن كسره لا ضمان عليه إلّا عند الطّبريّ وحده فإنّه يجيز اتّخاذه. المسألة الثامنة: قال التّونسي: إنَّ الإنسان إذا عَمِلَ صنمًا من فضّة لا يجوز له أنّ يبيعه ممّن يتّخذه ويعبده؛ لأنّه حرام، وإن كسره إنسان لم يلزمه شيءٍ. وإذا رأى أحدٌ آنية فضّةٍ أو ذهبٍ بيد آخر فكسرها لزمته القيمة، أعني قيمة صنعتها. فإن قيل: ما الفرق بينهما وهما محرّمان للاتِّخاذ؟ الجواب: إنَّ الفرق بينهما أنّ الهيئة في الأواني ليست محرّمة، والمحرّم استعمالها ولا يجوز، وهيئة الصّنم حرام. وصنعة البوق لا تُجَوِّزُ اتّخاذَهُ، ومن كسره لا يضمن إلّا عند الطّبري وحده فإنّه يجيز اتّخاذه. ¬
المسألة التّاسعة (¬1): وهي إذا وُصِلَتِ الآنيةُ بذهبٍ أو فضّةٍ من تشعيب أو تضبيبٍ لم يمنع ذلك من استعمالها؛ لأنّه تبعٌ فلا يجري عليه حكم المقصود. وقال الشّافعيُّ: لا يستعمل الإناء المُضَبَّبُ بالفضّةِ (¬2). وقال لي بعضهم عن أبي حنيفة: يجوز إنَّ كان تضبيبُهُ في غير موضع الشُّرب، فإن ضبَّبَهُ في موضع الشُّرب لم يجز، والتّضبيب عندهم هو التّطويق. المسألة العاشرة (¬3): حمل الشّافعيُّ في أوّل قوليه النّهْي عن ذلك على التّنزيه (¬4)، لما في ذلك من التّشبُّه بالأعاجم، وفي الصّحيح عن أُمّ سلمة ما تقدَّمَ من أنّ الّذي يأكل أو يشرب في آنية الذّهب والفضّة إنّما يجرجرُ في بطنه نار جهنّم، نصّ في تحريم ذلك بالوعيد الشّديد. المسألة الحادية عشر (¬5): سواءٌ في هذا الحكم الرّجال والنّساء؛ لأنّ الإذن إنّما وقع في التّحلِّي خاصّة، وبقي التّحريم في سائر ذلك. ¬
وقد كره مالك المرآةَ تكون فيها الحَلَقَة من الفضّة لا يعجبه النّظر فيها (¬1)، وقد أشبعنا القول في هذا في "الكتاب الكبير". حديث مالك (¬2)، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ مَوْلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وقَّاصٍ، عَنِ المُثَنَّى الجُهَنِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ: كُنتُ عِنْدَ مرْوَانَ بْنِ الحَكَم، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ مرْوَانُ: أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله؛ إِنِّي لَا أرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله: فَأَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ ثمَّ تَنَفَّسْ. قَالَ: فإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ. قال: فأَهْرِقْهَا. الإسناد (¬3): قال الإمام: هكذا يقول مالك في شيخه هذا أيّوب بن حبيب مَوْلَى سعد بن أبي وقّاص وهو أعلم به (¬4). وقال غيره: هو أيُّوب بن حبيب الجمحي من أنفسهم. وقال مصعب الزّبيري: هو أيّوب بن حبيب بن أيّوب بن حبيب بن أيّوب (¬5)، مات سنة إحدى وثلاثين ومئة. ¬
وأمَّا أبو المُثَنَّى الجُهنيِّ فلا أقف له على اسمٍ، وهو عندهم ثقةٌ (¬1)، أخذ عنه أيّوب ابن حبيب ومحمّد بن أبي يحيى، واسم أبي سعيد الخُدْري سعد بن مالك. الفوائد والفقه: الأولى (¬2): فيه من الفقه دخولُ العالِمِ على السّلطانِ. الثّانية (¬3): فيه ما كان عليه الأمراء والسّلاطين في سالف الأيّام في الإسلام من السؤال عن العلم، والبحث عنه، ومجالسة أهله. الثّالثة (¬4): فيه القراءةُ على العالِمِ وأنّ قوله نعم يقوم مقام إخباره، وكذلك الإقرار عندنا يجري هذا المجرى، وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه، وهو أنّ يقال للرّجل الفلان: عندك كذا؟ فيقول: نعم، فيلزمه، كما لو قال لفلان: عندي كذا. الرّابعة (¬5): فيه الرّخصة في الزّيادة على الجواب إذا كان من معنى السّؤال. الخامسة (¬6): فيه إباحة الشّرب في نَفَسٍ واحدٍ، وكذلك قال مالك. وقد قال مالك (¬7) أنّ ¬
النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لم ينه الرّجل حين قال: إنِّي لا أروى من نَفَسٍ واحد إنَّ شرب في نَفَسٍ واحد، بل قال كلامًا معناه: فإن كنت لا ترْوَى من نَفَسٍ واحدٍ فأَبِنِ القَدَحَ عن فِيكَ، وهذا إباحة منه له للشّرب في نَفَسٍ واحدٍ. وقد كره ابن عبّاس الشرب من نفس واحد لأنّه كذلك شرب الشيطان (¬1). وفي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الأسوة الحَسَنَة؛ لأنّه كان يستاكُ عرضًا، ويشرب مصًّا، ويتنفّس ثلاثًا، ويقول "هذا أهنأ وأمرأ وأبرأ" (¬2). السّادسة (¬3): وأكثر الآثار إنّما جاءت بالنهي عن التَّنَفُّس في الإناء، وقد قلنا: إنَّ المعنى واحد، والنّهي عن هذا نهي أدبٍ نهي تحريم؛ لأنّ العلماء قد أجمعوا أنّ من تنفَّس في الإناء أو نفخ فيه لم يحرم عليه بذلك طعامه ولا شرابه، ولكنّه مُسيءٌ على فعله إذا كان عالمًا بالنَّهيِ. وكان داود يقول: إنَّ النَّهي عن هذا كلّه وما كان مثله نهي تحريم، وهو قولُ أهل الظّاهر، لا يجوز عند واحدٍ منهم أنّ يشرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ، ولا أنّ يتنفّس في الإناء، ومن فعل شيئًا من ذلك كان عاصيًا لله عندهم إذا كان بالنّهي عالمًا. السابعة (¬4): واختلف العلماء في المعنى الّذي من أجله ورد النّهي عن التّنفُّس في الإناء. ¬
فقال قوم: إنّما ذلك لأنّ الشُّرْبَ في نَفسٍ واحدٍ غير محمودٍ عند أهل الطِّبِّ، وربّما آذى الكبد، فكره ذلك كما كره الاغتسال بالماء المشمّس (¬1) لأنّهم قالوا يُوَرِّث البَرَصَ، وما أظنُّ هذا صحيحًا من قولهم إنّه يُورِّثُ البَرَصَ. وقال آخرون: إنّما نُهِيَ عن التّنَفُّسِ في الإناء ليزيل الشّارب القَدَحَ عن فِيهِ؛ لأنّه إذا أزاله عن فيه صار مستأنِفًا للشُّرْبِ، ومن سنّة الشّراب أنّ يَبْتَدِيهِ المرءُ بذِكرِ الله تعالى، فمتى أزال القَدَحَ عن فيه حمد الله، ثمّ استأنف الشّرب فسمّى الله، فحصلت له بالذّكْر حسنات، فإنّما جاء هذا رغبةً في الإكثار من ذِكْرِ الله على الطّعام والشّراب. قال أبو عمر (¬2): وهذا تأويلٌ ضعيفٌ؛ لأنّه لم يبلغنا أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُسَمِّي عند كلّ لُقْمَةٍ إلّا في أوّله وفي آخره. ورَوَى ابن عبّاس عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا تَشْرَبُوا واحدة كشُرْبِ البَعِيرِ، ولكن اشْرَبُوا مَثْنَى وثلاثَ، وسَمُّوا إذا شرِبْتُمْ، واحمدُوا إذا رَفعْتُمْ" (¬3). وقال آخرون إنّما نهى عن التّنفُّس في الإناء لأدب المجالسةِ؛ لأنّ المتنفّس في الإناء قلَّ ما يخلو من أنّ يكون مع نفسه رِيقٌ ولُعَابٌ، ومن سوء الأدب أنّ يشرب ثمّ يناول جليسه لُعابه، فتكرهُ النفسُ ذلك، ولأنّ اللّعاب رقيق سريع الخلطة بالماء. الثامنة: قوله (¬4): "وَيُكْرَهُ النَّفْخُ في الطّعامِ كما يُكْرَهُ النَّفْخُ في الشَّرَابِ" (¬5) ومعنى ذلك عندي أنّه يتوقّع أنّ يسرع إليه من ريق النّافخ من غير اختيار ما يتقذَّر به ذلك الطّعام كما يتقذّر الشّراب، والله أعلم. ¬
ما جاء في شرب الرجل وهو قائم
ما جاء في شُرْبِ الرَّجُل وهو قائمٌ مالك (¬1)، أَّنَّهُ بَلَغَهُ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كانوا يَشْرَبُونَ قِيَامًا. وعن سعْد بن أبي وَقَّاص وعائشة كَانَا لَا يَرَيَانِ بشُرْبِ الإِنْسَانِ وَهُوَ قَائِمٌ بَأْسًا (¬2). الإسناد (¬3): قال الإمام: إنّما رسمَ مالكٌ هذا البابَ وذكر فيه عن عمر وعليّ وعثمان وسَعْد وعائشة وابن عمر وابن الزّبير أنّهم كَانُوا يَشْرَبُونَ قِيَامًا لما سمع فيه من الكراهية والله أعلم، ولم يصحّ عنده الحظرُ، وصحّت عنده الإباحة، فذكرها في باب أُفْرِدَ لها من كتابه. وهو الأكثر عند العلماء، وعليه جماعة الفقهاء (¬4). وقد تعارضت الأحاديثُ هاهنا، فخرج أبو عيسى (¬5) حديث قتادة، عن أنس؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نَهى عن الشُرْبِ قائمًا، فقيل: فَالأَكْلُ؟ قال: ذلك أَشَدُّ. حديث صحيح. وذكر (¬6) حديث نافع، عن ابن عمرَ، أنّهُ قال: كُنَّا نأكلُ ونحن نمْشِي، ¬
ونشرَبُ ونحن قِيَامٌ. وذكر (¬1) عن الشّعبىِّ عن ابن عبّاس أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - "شَرِبَ من زمْزَمَ وهو قائمٌ"، صحيح (¬2). وذكر (¬3) حديث عَمْرِو بن شعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّهِ، قال: "رأيتُ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - يَشْرَبُ قائمًا وقاعدًا". وقد تكلّم النّاسُ في حديث قتادة هذا، وقد خَرَّجهُ مسلم (¬4)، والصّحيح أنّه موقوف على أبي هريرة. الأصول في تسع مسائل: الأولى (¬5): قال علماؤنا: هذا نهىٌ من قوله وجوازٌ من فعله، وقد اختلف العلماء إذا تعارضَ قولُ النّبىِّ عليه السّلام وفعله على ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّ يقدَّمَ القولُ لأنّه عامٌّ. والثّاني، قيل: يُقدَّمُ الفعلُ لأنّه أقْوى. الثّالث: قيل: يسقطان، ويطلب دليل آخر، ولا تُبَالي عرفت المقدم منهما أو المتأخر، وتحقيقه في كتب الأصول. الثّانية (¬6): قالت طائفةٌ لا تعارضَ بين الفعل والقول؛ لأنّ الفعلَ يقف عليه ولا صيغةَ له. قلنا: هو أحال على فعله كما أحال على قوله، فقال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬7)، و"خُذُوا عنّي منَاسِكَكُمْ" (¬8)، وقال: "أَلَا أخْبَرْتِيهَا أنِّي أفعلُ ¬
ذلك" (¬1) وغضب على من قال: لسنا مثلك يا رسول الله، اللهُ يحلُّ لرسوله ما شاء (¬2). الثّالثة (¬3): قال: الإخبار بالنّهي عن الشُّرْبِ قائمًا ليس بنهي شرع وإنّما هو نهي تطبُّبٍ، وهو يدخل في الشّريعة على وجه ما، وبقصد ما، وذلك أنّه يُسْتحسَنُ الشُّرْبُ قاعدًا؛ لأنّه أمكن للاستمراء وأهنأ لصبّ الماء وأهدأ في الاستغذاء وأبعد من الدّاء، وذلك بيِّنٌ عند النّظر، وما يكون طريقه المنفعة للبدن لا يُعَدُّ من مبيِّنات الشّرع المختصَّة به. الرّابعة (¬4): للمرءِ ثمانية أحوال: قائمٌ. ماشٍ. مُسْتَنِدٌ. راكعٌ. ساجدٌ. متَّكىءٌ. ¬
قاعدٌ. مضطجعٌ. كلّها يتأتّى الشُّرْبُ فيها، وأهنؤُها القعود وأكثرها استيفاء، فنهيُ النّبيّ عليه السّلام عن القيام لما فيه من الاستعجال المؤذي للبدن، وفعله قاعدًا لأنّه أهنأ وأسلم. ولكنّ الفقهاء وجماهير العلماء على جواز الشرب قائمًا ولكن القعود أحسن لما قدّمنا. الخامسة (¬1): وأمّا شربه - صلّى الله عليه وسلم - قائمًا، فقال أهل الفطانة: إنّه كانت حال ضرورة إذ فعله في زمزم وهو موضع زِحَامٍ لا يمكن فيه الجلوس إلّا على ضرورة ونادرًا ولا لكلِّ أحدٍ، أو أراد أنّ يبيّن الجواز. السّادسة (¬2): رُوِيَ أنّه شرب بعَرَفَة وهو قائم على بعيره، وهذا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنّ المرء على بعيره قاعدٌ غير قائمٍ. السّابعة (¬3): يترجّح حديث الجواز على حديث المنع من وجوه: الأوّل (¬4): لأنّ الخلفاء عملوا بالشُّرْب قائمًا. الثّامنة (¬5): ولأنّ ثبوت الجواز كان في حَجَّةِ الوداع، وهو من آخر فعله، ويحتمل أنّ يكون ¬
السنة في الشرب ومناولته عن اليمين
النهّى قبله أو بعده فسقط. التّاسعة (¬1): يحتملُ أنّ يكون النّهيُ تحريمًا أو تأديبًا أو نادرًا، وحديث الجواز لا احتمال فيه. وقد قيل: إنَّ الجواز عُلِمَ من فِعْلِهِ والنّهيَ عُلِمَ من قوله، فتعارض القولُ والفعلُ، وهي مسألةٌ عظيمةٌ من أصول الفقه، فشَرِبَ قاعدًا تأَدُّبًا وعَلَّمَ جوازَه قائمًا، واللهُ أعلم. والأصلُ (¬2) فيه الإباحة حتّى يردَ النّهيُ من وجهٍ لا معارِضَ له، فإذا تعارضتِ الآثارُ سقطت، والأصلُ ثابتٌ (¬3) حتّى يصحّ الأمر أو النّهي بلا مدفع فيه، ويقع التّرْجيح بين الجواز والمنع والفعل والقول. السُّنَّة في الشُّرْب ومناولته عن اليمين مالك (¬4)، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلَبَنٍ وَقدْ شِيبَ بِمَاءٍ (¬5)، وَعنْ يَمِينِهِ أعْرابِىٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَربَ ثُمَّ أَعْطَى الأعْرَابِىَّ. وَقَالَ: "الَأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ". ¬
الإسناد (¬1): لم يختلف على مالكٍ ولا على ابنِ شهابٍ في هذا الحديث أنّ عن يمينه الأعرابي وعن يساره أبا بكر. وبعضهم يقول فيه عن ابن شهاب: وعن يمينه رجل من أهل البادية، وأهلُ البادِية هم الأعراب. وبعضهم يقول فيه: "وعن يمينه غلام وعن يَسَارِه الأَشْيَاخُ، فقال للغلام: أَتَأْذَنُ لي أنّ أُعْطِي هَؤلاءِ؟ فقال: والله يا رسولَ الله لا أُؤثِرُ بنصيبي منك أحدًا، قال: فَتلَّهُ (¬2) رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في يَدِهِ" (¬3). الفوائد المنثورة فيه أربعة: الفائدةُ الأولى (¬4): قوله: "إِنَّ رَسُولَ الله أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بمَاءٍ" يقْتضي جواز ذلك للشُّرْبِ، ولا يجوز أنّ يُشابَ للبيع، لِمَا فيه من الغِشِّ والجهل بحال المَبِيعِ وقدْرِ ما فيه من الماء. الثّانية (¬5): قوله: "وعن يمينه أَعْرَابِىٌّ وعن يساره أبو بكرٍ" لا يدرى أيُّهما كان نزل قبل صاحبه، ففد ينزل الأعرابيُّ قبل أبو بكر، ثمّ يأتي أبو بكر رضي الله عنه فلم يُقِمْهُ النّبيّ لأبي بكر الصدِّيق، وقد رُوِيَ عن النّبيّ عليه السّلام: "لا يُقِيمُ أَحَدُكُمْ أخاهُ من مجلسٍ ثمّ بجلس فيه" (¬6). ¬
الثّالثة (¬1): قوله: "فَشَرِبَ، ثمَّ أَعْطَى الأعرابىَّ، وقال: الَأيْمَنَ فالأَيْمَنَ" وهذا يقتضي أنّ التَّيَامُنَ مشروعٌ في مُنَاوَلَةِ الشّراب والطّعام وما جَرَى مجراهُما. وقال الشّيخ أبو القاسم (¬2): "من أُوتيَ بشرابٍ ومعه غيره فليعطه إنَّ شرب الأيمن فالأيمن"؛ لأنّه مشروع، ولأن النّبي كان يحبّ التّيامن في شأنّه كلّه. الرّابعة (¬3): قوله في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (¬4) أَنه "كَانَ عَنْ يَمينِهِ غُلَامٌ" يعني عبد الله بن عبّاس "وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ" قيل: إنّه كان عن يساره خالد بن الوليد، وقد رُوِيَ عن عمر بن حرملة مُفَسَّرًا. فقال: "أَتَأذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ" (¬5) وهذا يقتضي أنّه من حقوق ابن عبّاس، ولو لم يكن من حقوقه أنّ يعطيه إيّاه ما استاذنه فيه، وهذا أيضًا يقتضي أنّ حكم التَّيَامُن في المناولة آكد من حُكْم السِّنِّ؛ لأنّ عبد الله بن عبّاس لم يبلغ حينئذٍ الحلم، واستحقَّ ذلك بالتَّيَامُنِ دون الأشياخ. وما رُوِيَ في حديث سهل بن سعد أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "كَبِّرْ كَبِّرْ" (¬6) فإنّما ذلك مع تساوي الأصول، والله أعلمُ. وفي "العُتْبِيَّة" (¬7) عن أشهب، قال: يُستحَبُّ (¬8) في مكارم الأخلاق أنّ يبتدأ بالأيمن ¬
جامع ما جاء في الطعام والشراب
فالأيمن في الكتاب والشهادات، في المجالس والوضوء، وما أشبه ذلك. جامع ما جاء في الطّعام والشّراب مالك (¬1)، عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي طلْحَة؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَة لأُمِّ سُلَيمِ: لَقَدْ سَمِعتُ صَوْتَ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - ضعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَت: نَعَمْ، وَأَخْرَجَتْ أقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا، فَلَفَّت الخُبْزَ بِبعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي، وَرَدَّتْنِي (¬2) بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَذَهبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - جَالِسًا فِي المسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ ... الحديث بطوله في الموطَأ إلى آخره: "والْقَوْمُ سبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا". هذا من أثبت ما رُوِيَ في هذا الحديث وأحسنه اتِّصالًا (¬3). الإسناد: الحديث صحيح خرّجه الأيمّة. وفيه أربع عشرة فائدة: الفائدةُ الأولى: قول أبي طلحة لزوجه أم سُلَيْم "لَقَدْ سمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - ضعِيفًا أَعْرِف فِيهِ الْجُوعَ" فيه من الفقه: إجازة الشّهادة على الصّوت، وإذا جاز ذلك جازت شهادة الأعمى، ألَّا ترى أنّ أبا طلحة أنكر صوت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - المعروف عن الآفة الّتي دخلت عليه. وقد نَازَعَنَا المخالفُ في هذه المسألة، وقال: إنَّ فيه دليلًا على بطلان شهادة الأعمى على الأصوات؛ لأنّ صوت رسول الله قد تغيّر على أبي طلحة، ولولا رؤيته لاشتبه عليه ذلك. ¬
والحجّةُ في ذلك: إنكار أبي طلحة الصّوت واستبانته بالسّماع لا بالرّؤية، والله أعلم. الثّانية (¬1): وفيه: ما كان عليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه من ضيقِ الحال، وأنّه كان يجوع حتّى يبلغ منه الجهد إلى ضعف الصوت وهو غير صائم. وفيه دليل أنّ الأنبياء عليهم السّلام تبتلَى بالجوع والآلام ليعْظُم ثوابهم وترفع درجاتهم، بما زَوَى عنهم من الدُّنيا ولَحِقَهُم فيها من الجوع والشِّدّة. الثّالثة (¬2): فيه غاية الصّبر، وذلك أنّه لم يخبر بما يجده من ذلك أحدًا، وإن كان قد بلغ منه الجهد ما ضعفَ به صوته. وقد رُوِيَ أنّ أبا هريرة مرَّ بقومٍ بين أيديهم شاة مصلّية فدعوه، فأَبَى أنّ يأكل منها، وقال: خرج رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - من الدُّنيا ولم يشبع من خُبزِ الشّعير (¬3). وهذا يقتضي أنَّه لم يشبع من أقلِّ الأقوات وهو الشّعير. ويحتمل أنّ يريد به أنّه لم يوجد منه شبع في يوم من الأيّام، وأنّه كان في وقت الغِنَى واليَسَارِ لا يشبع، بل يقتصر على ما دون الشبع وُيؤْثر ممّا كان يبلِّغُه الشَّبع لو تناوله. ويحتمل أنّ يريد بذلك أنّه لم يكن يشبع منه في الجملة، وإن كان قد وُجدَ منه الشّبع في بعض الأيَّام، ولذلك يقال: فلانٌ جائعٌ، إذا وُصِفَ بذلك غالب أمره. الرّابعة (¬4): وفيه: أنّ الطّعام الرّفيع عندهم في وقت الاحتفال والدّعوة، وأنّ خبز الشعير كان عندهم من رفيع الطّعام الّذي يتهادى به ويُدْعَى له الجِلَّة والفضلاء؛ لأنّ أكثر طعامهم كان ¬
في أوّل الإسلام التّمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان يمرُّ بآلِ محمدٍ الشهرُ والشهرانِ ما يُوقَدُ في بيتِ أحدهم نارًا، إنّما طعامُهُم الأسودان: التَّمرُ والماءُ" (¬1). الخامسة (¬2): قول أبي طلحة: "فَهَل عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ " على وجه التماس ما يهديه إلى النّبيّ عليه السّلام ليمسك به رمقه ويقوِّي بعض ضعفه، وهذا يدّل على قلَّةِ ما كان عند أبي طلحة من ذلك، ولو كان عنده كثير القوت لما احتاج أنّ يسالها، هل عندها شيءٍ أم لا؟ هذا على أنّه كان أكثر الأنصار مالًا ونخلًا، ويقتضي ذلك أنّها كانت سنة شدّة شاملة، فقالت أمّ سليم: نعم، وأخرجت أقراصًا من شعيرٍ، وذلك أفضل ما كان عندهم؛ لأنّ ويستدَلُّ على هذا بأنّها كانت لا ترسل إلى النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَّا أفضل ما كان عندها؛ لأنّ العرب كانت تتفاخر بحسْن القِرَى وسَعتِهِ، وأرسلت بها إلى المسجد حيث كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وبحضرة النَّاس، ولم تكن لترْسِل إلّا بما تُمدَح به دون ما تُذمّ به، وقد تناولت ذلك بأفضل ما أمكنها، بأن لَفَّتْ أقراص الشعير بخمارها. وقال مالك بن دينار: أراه كان من صوف أو كتّان، ولم يكن من حريرٍ، والله أعلمُ. السّادسة (¬3): قوله: "فَوَجَدْتُ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - جَالِسًا في الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ" يقتضي أنّها خصَّتْهُ بهذه الهديّة دون أنّ ترسلها إلى دارٍ من دُورِ نسائه. ويحتمل أنّ يكون ذلك لما علمت من شمول المجاعة لجميع أزواجه، فوصل ¬
ذلك إليه ليصرف ما فضل عنه من ذلك حيث شاء من المواساة أو إيثار من رأى إيثاره. فلمّا رأى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قيام أنَس عليهم على تلك الحال تَوهَّمَ ما أتَى به، فسأله عنه تحقيقًا له، فلمّا أخبره به، قال لمن معه من النَّاس: "قُومُوا" فدعاهم إلى ما دُعِيَ إليه لما علم من أنس أنّه (¬1) يحبّ ذلك. السّابعة (¬2): في كيفية إتيان الدّعوات والولائم والأطعمة وهي متنوعة، وتنقسم على خمسة أقسام: 1 - منها: ما يجب على المدعوِّ إليها إجابةُ الدّاعي إليها، ولا يجوز التخلُّف عنها إِلَّا لعُذْرٍ، وهي دعوة الوليمة الّتي أمر رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بها وحضَّ عليها وأمر بإجابة الدّاعي إليها، وأن من لم يجب فقد عصى الله ورسوله (¬3). 2 - ومنها: ما تُستحبُّ الإجابة إليها، وهي المأدبة الّتي يفعلها النَّاس والرّجل للخاصّ من إخوانه وجيرانه على حُسْنِ العِشْرة وإرادة التَّوَدُّد والألفة. 3 - ومنها: ما يجوز إجابة الدّاعي إليها ولا حَرَجَ عليه في التخلُّف عنها، وهي ما سوى دعوة وليمة العرس من الدَّعَواتِ الّتي تصنع على جري العادة دون قصد مذموم، كدعوة العقيقة والوكيرة والخُرْس والإعذار وما أشبه ذلك. 4 - ومنها: ما يُكرَهُ إجابة الدّاعي إليها، وهو ما يُقْصَد به منها قصدًا مذمومًا من تطاولٍ وامتنانٍ وابتغاءِ مَحْمَدَةِ النَّاس وشُكْرِهِم وما أشبه ذلك، لا سيّما لأهل الفضل والأحساب؛ لأنّ إجابتهم إلى مثل هذه الأطعمة فيه إضاعةُ التَّعاوُنِ وإخلاف الهيبة عند دناءة النَّاس وسبب لإذلال أنفسهم، فقد قيل: ما وضع أحدٌ يدهُ في قصعة أحدٍ إِلَّا ذلّ له (¬4). 5 - ومنها: ما تحرم الإجابة إليها، وهي ما يفعله الرّجل لمن يحرم عليه قَبول ¬
هديّته كأحد الخصمين للقاضي، وغير ذلك من المعاني. الثّامنة (¬1): وإنّما ساغ لرسول الله أنّ يحمل القوم إلى طعام أبي طلحة وإن كان لم يأذن له في ذلك، وقد دعاه أبو شعيب خامس خمسة لطعام فتبعهم رجلٌ، فقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّ هذا تبعنا، فإن شئتَ أذنتَ له وإن شئتَ تركتَهُ، فقال أبو شعيب: قد أذنتُ له (¬2). فقال بعض علمائنا: إنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فعل ذلك في قصّة أبي طلحة لَمَّا علم من أبي طلحة أنّه يَسُرُّهُ ذلك، وهذا وإن كان مُحتملًا فغيرُه أظهر منه؛ لأنّه إنَّ كان قد علم أنّ أبا طلحة أنّه يسرُّهُ أنّ يحمل له سبعين أو ثمانين رجلًا، فقد كان أبو شعيب من أهل الدِّين والفضل، وكان يعلم منه أنّه يسرُّه زيادة واحدٍ كما فعل، لكنه جرى في ذلك على ما سنَّهُ لأُمَّته بعده لما كانت حاله تشاركهم فيها. وأمّا قصة أبي طلحة، فتحتمل وجهين: أحدهما: أنّ البركة في الطّعام الّتي بها كفَى العدد الكثير لم تكن من قِبَلِ أبي طلحة وإنّما كانت من عند الله، وإنّما أجرَى الله على يَدَيْ رسوله البركة فكان أحقّ النَّاس بها، وما كان لأبي طلحة فيها إلّا أنّ يختصَّ بذلك بمنزله لما كان سببها، وهذه بركة خُصَّ بها، فعلم أنّ كلَّ مؤمنٍ يرغب فيها ويحرص عليها (¬3)، فهذا وجه الجمع بينهما. وقد قال مالك رحمه الله: لا ينبغي لأحدٍ إذا دُعِيَ إلى طعامٍ أنّ يحمل معه غيره؛ لأنّه لا يدري هل يسرّ به صاحب الطّعام أم لا، إلّا أنّ يأذن له صاحب الطّعام ويقول له: ¬
وادعوا من لقيتَ من إخوانك (¬1). التّاسعة (¬2): وفيه: أنّ الإنسان لا يدخل بيت أخيه إلّا معه أو بإذنه، ألَّا ترى إلى قولِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬3): "ائْذَنْ لِعَشرةٍ ثُمَّ ائْذَنْ لِعَشرةٍ" حتَّى استوفَى جميعهم عشرةً عشرةً، وكانوا سبعين أو ثمانين رجلًا. واستحب علماؤنا بدليل هذا الحديث ألّا تجمع مائدة أكثر من عشرة أنفس. العاشرة (¬4): وفيه: أنّ الثّريدَ أعظمُ بركةً من غيره، ولذلك اشترط رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وفتّت الخبز لعلّمه ببركته، والله أعلم. ودعا النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أصحابه للطّعام وأكلوا حتّى شبعوا من الطّعام القليل معجزةً له. واختلف النّاسُ، هل المعجزة في الشبع من القليل للكثير، أو في البركة في الطّعام القليل؟ وعلى أيّ وجهٍ كان فإنّها من أعظم المعجزات، وقد بينّا ذلك في "الكتاب الكبير" في تعدد المعجزات وأنّها معجزة من ألف معجزة. الحادية عشر (¬5): وفيه: إباحة الشّبَع للصّالحين، لقوله: "فأكلوا حتّى شبعوا" وقد رُوِى ي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان من آخرهم أَكلًا (¬6)، وهذا من مكارم أخلاقه - صلّى الله عليه وسلم -. ¬
الثّانية عشر (¬1): وفيه: أنّ قَبُولَ مواساة الصّديق، وقَبُولَ صِلَتِهِ وهديّتِه، وأكل طعامه مباح. وفيه دليل أنّ الصِّلةَ والهديّةَ ليست بصدقة، ولو كانت صدقةٌ ما أكلها رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لا يأكل الصّدقة، لقوله: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لمحمدٍ ولا لآلِ محمدٍ" (¬2). الثّالثة عشر (¬3): وفيه: الخروج إلى الطّريق لمن قصد إكرامًا له إذا كان أهلًا لذلك، وهذا من حسن البرّ وتمامه. الرّابعة عشر (¬4): وفيه: أَنَّ صاحب الدَّار لا يستأذن في داره، وأنّ من دخل معه استغنى عن الإِذن. وفيه: أنّ الصّديق يأمر في دار صديقه بما يحبّ ممّا يعلم أنّه يسرّه ولا يَسُوؤَهُ ويظهر دالّته في الأمر والنّهي والتَحكُّم؛ لأنّه اشترط عليهم أنّ يفتّتُوا الخبز، وقال لأم سليم: "هَاتِ مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ" وهذا خلق كريم وأدب عظيم، فدعا بالثريد وأمر به وأثنى عليه. ونحن نذكر جميع ما كان يأكل رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ويثني عليه، فمن ذلك (¬5): الثّريد: قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ عائشةَ على النِّساءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطّعامِ" (¬6). السَّمْنُ: ثبتَ في الصّحيح هذا الحديث (¬7) عن أمّ سُلَيْم: وعصرت عُكَّة لها من ¬
سَمْنٍ، في حديث بركة الله كما بينّاه. اللَّبَنُ: لا يخفى امتنان الله علينا به، ودلالته على سَعَةِ القدرة والعلّم فيه بإخراجه من بين فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالصًا سائغًا للشّاربين، وهو كان أكثر طعامه وأوّل (¬1) شرابه في هجرته، وقالت عائشة رضي الله عنها: "لَقَدْ كَانَ يَأْتِي عَلَى محمّدٍ - صلّى الله عليه وسلم - شهورًا ما يختبز فيه، قلت: فما كان يأكل رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان لنا جيران من الأنصار جزاهم الله خيْرًا كانت لهم مناتج يهدون إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من اللّبن (¬2). وقد ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من أكلَ طعامًا فليقُل: اللهمَّ بارِك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، إلّا اللّبن، فليقل: اللهّم بارك لنا فيه وزِدْنَا منه، فإنّه ليس شيءٌ يجزي من الطّعام والشّراب غيره" (¬3). المَرَقَةُ: ثبت عن أبي ذَرّ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يَحْقِرَنَّ أحَدُكُمْ شيئًا منَ المعروفِ؛ فإنْ لم يجد فَلْيَلْقَ أخاهُ بوَجْهٍ طَلْقٍ، وإذا اشتريتَ لحمًا أو طَبَخْتَ قِدْرًا فأكثر مَرَقَتَهُ واغْتَرِفْ لجارك منهُ" (¬4). الإدام: وأصله من دامَ يدومُ، وذلك أنّ الخبزَ يطيبُ به فيدومُ الأكلُ مدّةً أكثر من مدّة أكل الخبز لا يكون معه أَدَمُه، للحديث الصّحيح أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أُوتِيَ بخبزٍ وإدامٍ، فسأل عنه، فقيل: هو صدقةٌ على بَرِيرَة، فقال: "قد بَلَغَتْ محلَّها، هو عليها صدقة، وهو لنا هديّة" (¬5). التّمر: لا يخفَى فضلُه وكونُه قوتًا حُلوًا رطبًا ويابسًا، ويُغْنِي عن كلّ الطّعام، وقد ¬
ضرب الله به المثل للإيمان، فقال عزّ من قائل: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} (¬1) النّخلة. وصحّ عنه أنّه قال: "من تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً كلّ يوم لم يَضُرَّهُ ذلكَ اليومَ سُمٌّ ولا سِحْرٌ" (¬2). وقال - صلّى الله عليه وسلم -:"مَثَلُ المؤمنِ الّذي لا يقرأُ القرآن" ... الحديث إلى قولى: "مثل التَّمْرَة" (¬3). الفاكهة: ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - "كَانَ يَأْكُلُ القِثَّاءَ بالرُّطَبِ" (¬4) وأنّه جمع بين لونين (¬5). الحلوى والعسل: وفي البخاريّ (¬6) "كانَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الحَلْوَى وَالْعَسَلَ"، وذكر فيه حديث المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مطوّلًا، هذا هو المقصُود منه. وجاءَهُ رجلٌ فقال: إنَّ أخي يشتكي بطنه، فقال: اسقه شُربة عَسَل، وتكرَّرَ عليه مرارًا كلّ ذلك يقول: اسْقِهِ شُربة عَسَلٍ، وقال في الآخرة: صدقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيك (¬7). وكان ابنُ عمر وعوف بن مالك إذا اشتكيا أو اشتكا إليهما، مزجا الماء المبارك بالعسل الّذي هو شفاء للنّاس. اللّحم: ثبت في "الصّحيحين" (¬8) أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُعْجِبُهُ الذِّراع. ¬
وفي "التّرمذي" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحبّ اللّحم إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الذّراع. وفي الصّحيح، أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ولم يتوضّأ (¬2). وصحّ عنه أنّه أكل لحم دجاج (¬3). وصحّ عنه أنّه أكل لحم الأرنب (¬4)، وأكل الصّحابة معه في سبع غزوات الجراد (¬5). قال الإمام: وملازمةُ أكل اللّحم مكروهٌ، رُوِيَ أنّ عمر رضي الله عنه كان يقول: إيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ، فإنَّ له ضَرَاوَةً كضَرَاوَةِ الْخَمْرِ (¬6). وفي الصّحيح، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ما شبع من خُبْزِ بُرٍّ قَطُّ (¬7). الخضراوات: ثبت في الصّحيح أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِبَدْرٍ (¬8) فيه خَضِرَاتٌ أو قال بِقِدْرٍ فأكل منها (¬9). وكان - صلّى الله عليه وسلم - يحبُّ الدُّبَّاءَ (¬10)، وكان يكره لنفسه الثّوم والبصل (¬11). تنبيه: قال مالك في رسم هذا الباب: "باب جامع الأكل" (¬12) فجمع فيه جميع الآداب ¬
الفصل الأول
قال الإمام: وللأكل آدابٌ كثيرةٌ، جمعناها وأَرْبَيْنَا فيها على علمائنا، ورتَّبْنَا أعدادها على الأحوال أبوابًا وفصولًا، جماعُها خمسة فصولٍ: الفصل الأوّل (¬1) قد بيَّنَّا أنّ الآدميّ مخلوقٌ على جِبِلَّةِ الأكلِ، موضب عليه، فيه وظائف من حين أوّله إلى حين تناوله، وأمره الله بعبادته وأذن له في التّمتُّع بطيّباته، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية (¬2)، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية (¬3). فإذا حصل الطّعام في حدّ التّناول فعليه فيه آداب، وهي تنقسم إلى حالاتِ الطّعامِ فيما تقدّم ذِكْرُهُ: الأوّل: أنّ يتناول شراءه بنفسه. الثّاني: أنّ يتناول عمله بنفسه. الثّالث: أنّ يكون حلالًا مطلقًا في نفسه. الرّابع: أنّ يكون حلالًا في جهة كَسْبِهِ، فقد يكون الشيءُ حلالًا في ذاته ويحرم تناوله من جهة كَسْبِهِ، كبيع فاسد ونحوه. الخامس: إلّا يكون ثمنًا عن مداهنة. السّادس: إلّا يكون رشوة. السّابع: ألَّا يكون عِوَضًا فاسدًا حرامًا. ¬
الثّامن: ألَّا يكون بيد مبتدعٍ. التّاسع: ألَّا يكون بيد ظالمٍ. العاشر: ألَّا يكون بيد من يشتغل بالرِّبا. الحادي عشر: ألّا يكون بيد فاجر. الثّاني عشر: ألَّا يكون بيد من يغلب على ماله الحرام. الثّالث عشر: أنّه إذا قدَّمَهُ له ضيفٌ صالحٌ لم يبحث عن الأسباب، ولا يسأل هل. انتقل إليه من يد أحدٍ من هؤلاء أم لا؟ الرّابع عشر: أنّ يرى النّعمة فيه من الله. الخامس عشر: أنّ يأكل بنيّة التّقوي على طاعة الله. السّادس عشر: إنَّ نوى اللّذّة أجزأه وجاز له. السّابع عشر: أنّ يرى للمُنْعِمِ وجه الشكر، فإنّه يقال: إنّه يصل إليه على يد ثلاث مئة وستين صانعًا، أوّلُهُم ميكائيل وآخِرُهُم الخبّاز. الثّامن عشر: أنّ يقول بلسانه: بسم الله. التّاسع عشر: أنّ يَجْهَرَ. الموفّى عشرين: أنّ يجدّده مع كلّ لُقْمَهٍ فهو أفضل له، وإن كان لم يأت ذكر ذلك عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -. الحادي والعشرون: أنّ يغسل يده في أوّل الطّعام للنّظافة والمروءة، إلّا أنّ يتحقّق طهارتها ونظافتها، وقد رَوَى إسماعيل بن أُوَيْس، عن مالك، أنّه دخل على عبد الملك ابن صالح (¬1) ليسلّم عليه، فجلس ساعة، ثمّ دعا بالطّعام ودعا بالوضوء ليغسل يده، ¬
فقال عبد الملك: ابدأ يا أبا عبد الله، فقال مالك: إنَّ أبا عبد الله لا يغسل يده (¬1)، فاغسل أنت يديك، فقال له عبد الملك: لم يا أبا عبد الله؟ قال: ليس هو من الأمر الّذي أدركتُ عليه النّاسَ ببلدنا، وإنّما هو من زيِّ الأعاجم، أو قال العجم، وقد بلغني أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يقول: إيّاكم وزيّ العجم وأمورها، وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إذا أكل مسحَ يده بظهر قَدَمِهِ. فقال له عبد الملك: أَفَتَرَى لي تركه يا أبا عبد الله؟ فقال: أي والله، فما عاد عبد الملك إلى ذلك (¬2). الثّاني والعشرون: أنّ ينوي بغسلهما العبادة؛ لأنّه إنّما نَوَى بالأكل التّقوّي على طاعة الله، والغسل عبادة ونظافة. الثّالث والعشرون: أنّ يجعل طعامه على الأرض دون خِوَانٍ. الرّابع والعشرون: إذا لم تطب بذلك نفسه وضعه على سُفْرَتِهِ، فإن وضعه على مائدةٍ جازَ، والأوّلُ أَوْلَى، وهو الخامس والعشرون. والسّادس والعشرون: إنَّ كان خُبْزًا أو غيره لا يُباشِر به الأرض لئلا يتعلّق به من عُشْبِ الأرضِ ما يُغْمِلُهُ، وقد سمعنا ذلك وحقّقناهُ. السّابع والعشرون: أنّ يجلس على الأرض. الثّامن والعشرون: أنّ يجلس على ركبتيه أفضل، وينصب رِجْله اليمنى ويجلس على اليُسْرى، وهو التّاسع والعشرون. ¬
الموفّى ثلاثين: إلّا يتَّكئَ لما رُوِيَ في ذلك من الكراهة، وهو عندي جائزٌ (¬1). الحادي والثلاثون: إلّا يأكل حتّى يمسّه الجوع، ولا يأكل بالعادة دون أنّ يجده. الثّاني والثلاثون: على مذهب العُبَّادِ، ألَّا يأكل حتّى يطيب له الخبز وحْدَهُ فهو الجوع، وأمّا بالإدام ولا سيما المألوفة منه فإنّه يطيب، وهو عنه في غِنًى. الثّالث والثّلاثون: أنّ يرضى بما تيسّر ولا يتكلّف. الرّابع والثّلاثون: ألَّا يأكل وحده. الخامس والثلاثون: أنّ يُكثر الأيدي على الطّعام ما استطاع. السّادس والثلاثون: أنّ يأكل مع عياله وأولاده. السّابع والثلاثون: ألَّا يتعوَّد طعامًا واحدًا. الثّامن والثلاثون: أنّ يجْلس معه الّذي عمله له. التّاسع والثلاثون: إنَّ لم يجلسه فَلْيُنَاوِلْهُ لقمة منه أو لقمتين. الموفّى أربعون: أنّ يكون ما يُنَاوله من أوّله لا من فَضْلَتِهِ. الحادي والأربعون: لا يأكل من آنية مجوسىِّ إلّا أنّ يغسلها بالماء. الثّاني والأربعون: أنّه يجوز له أنّ يجمع في خِوانِهِ وسُفْرَتِهِ بين لونين وإدامين. الثّالث والأربعون: أنّ يعدّد العيدان على الخادم، ليدفع عن نفسه سوء الظنّ، كما كان يفعل سلمان. ¬
الفصل الثاني في آداب حالة الأكل
الفصل الثّاني (¬1) في آداب حالة الأكل لأول: أنّ يأكل بيمينه. الثّاني: يُصغِّر اللُّقمة. الثّالث: عدّها إنَّ قَدَر. الرّابع: أنّ يأكل في نصف بطنه. الخامس: أنّ يُجيدَ الْمَضْغَ. السّادس: لا يذمّ طعامًا. السابع: أنّ يقدِّمه على الصّلاة وعلى كلِّ عبادةٍ وعملٍ. الثّامن: لا ينظر إلى غيره، فإنّه شَرَهٌ أو تَلَه. التّاسع: يبدأ بالأكل إنَّ كان صاحب المنزل أو ممّن يُقتدى به. العاشر: الألوان قبل الثّقيل. الحادي عشر: لا يُجعل على الخبز ذُقَمٌ. الثّاني عشر: أنّ يأكل ممّا يليه. الثّالث عشر: إلّا يختار إذا كان الطّعام جِنْسًا واحدًا. الرّابع عشر: يختارُ إذا كان الطّعامُ أنواعًا. الخامس عشر: لا يُقْدِّم الثّريد على الطّعام. السّادس عشر: ألأّ يأكل من أعلى القصْعَة. السابع عشر: أنّ يأكل من الحواشي دون الوسط. الثّامن عشر: إذا أكل من الحواشي فليأكل من استدارة الرَّغيف. التّاسع عشر: إنَّ كان الرَّغيف من رطْلٍ ونصف، فليقسمه على ستّ وثلاثين لقمة. ¬
الموفي عشرين: يقلّل اللّحم، فإن كان الخبز قليلًا كثّر من اللّحم. الحادي والعشرون: يأكل بيدٍ واحدةٍ إلّا أنّ يكون طعام ثقيل. الثّاني والعثسرون: يقدّمُ الفاكهة قبل الطّعام. الثّالث والعشرون: ينْهَشُ الّلحم إنَّ كان نَضجًا. الرّابع والعشرون: يختتمُ بالحلاوة. الخامس والعشرون: لا يمسح يده في الخبز. السّادس والعشرون: إذا وقعت اللُّقمة أماط عنها الأذى وأكلها. السّابع والعشرون: لا ينفُخ في الطّعام. الثّامن والعشرون: يُقابِل الأطعمة، فيأكل ثقيلًا بخفيف، ورطبًا بيابس، وحارًّا بباردٍ التّاسع والعشرون: يقسم الصّائم أكله بين الفطر والسُّحور، فيسلم من الشّبع ويقوى على الصّوم. الموفّى ثلاثين: لا يتابع الشّهوات. الحادي والثلائون: يتوسّط الأكل فيأكل مُدًّا من مُدَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إنَّ كان فَقَارًا، وإن كان بإدامٍ فينقص من قَدرِ الخبز بمقدار ما يزيد في الإدام. الثّاني والثلاثون: أنّ يأكل وترًا. الثّالث والثلاثون: ألَّا يقطع اللّحم بالسِّكين إلّا أنّ يكون قويًّا؛ لأنّه من فعل العجم. الرّابع والثلاثون: لا يُسرف، وعلامَتُه أنّ يرفع يده وهو يشتهيه. الخامس والثلاثون: لا ينْهَشُ البِضْعَة ثمّ يردّها في القصْعَة. السّادس والثلاثون: لا يغمس الزفر في المريء والخلّ فيعافه النَّاس.
الفصل الثالث في آداب الشراب
السّابع والثلاثون: لا يأكل في الخلوة إلّا ما يأكل في الملأ، فإن خِلافه رِيَاءٌ. الثّامن والثلاثون: لا يأكل في سُكُرُّجَهٍ (¬1). التّاسع والثلاثون: لا يخبز مرفقًا. الموفّى أربعون: لا يحمّر ولا يصفّر. الحادي والأربعون: لا يأكل في قَصّعة ذهبٍ. الثّاني والأربعون: لا يأكل في قَصْعة فضّةٍ. الثّالث والأربعون: ولا في رفيعٍ نوعُه كالياقوت وشبهه. الرّابع والأربعون: يواسي ممّا يَأكل. الفصل الثّالث (¬2) في آداب الشراب الأوّل: يسمِّي الله. الثّاني: أنّ يجهر به. الثّالث: أنّ يأخذ الإناء بيمينه. الرّابع: لا يشرب الماء في أثناء الطّعام. الخامس: إذا شرب الماء فليقسمه على كلّ ثلاث لُقَمٍ جرعة. السّادس: يحلسُ إذا شربَ. السّابع: يُنَاوِل مَنْ على يمينه. الثّامن: يمصُّ الماء مصًّا ولا يَعُبُّهُ. التّاسع: لا يتنفّس في الإناء. ¬
العاشر: يتنفّس في المقدار الّذي يحتاج إليه ثلاثًا. الحادي عشر: ينحّي الإناء عن فيه إذا تنفَّسَ. الثّاني عشر: لا يشرب في السِّقَاءِ (¬1). الثّالث عشر: لا يشرب من كسر الإناء. الرّابع عشر: لا يشرب من العُدْوَةِ (¬2). الخامس عشر والسّادس عشر والسابع عشر: لا يشرب في إناء ذهبٍ ولا فضّةٍ، ولافي رفيعِ نوعِ ذلك كالياقوتِ والزَّبَرْجَدِ. الثّامن عشر: لا ينفُخ في الإناء. التّاسع عشر: يحمدُ الله. الموفّى عشرين: يجهرُ بذلك. الحادي والعشرون: يحمد الله بما وردَ في الأثر، فإن اقتصر على الحمدِ لله أجزأَهُ. الثّاني والعشرون: وإن كان لبنًا قال: الحمد لله، اللهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه، ولا يقل: وأطعمنا خيرًا منه، إلّا في غير اللّبن. الثّالث والعشرون: لا يشرَبُ حارًّا. الرّابع والعشرون: لا يشرَبُ خليطين. الخامس والعثعمرون: يستعذبُ الماء. السّادس والعشرون: يبرِّدُه. السّابع والعشرون: يمزجه بالحلاوة إنَّ أمكن. الثّامن والعشرون: أنّ يكون السّاقي آخرهم شربًا (¬3). ¬
الفصل الرابع في آداب الفراغ
الفصل الرّابع في آداب الفراغ الأوّل: أنّ يلْقُطَ ما يسقط من الفتات. الثّاني: يلْعَقَ أصابعه. الثّالث: أو يغسلها. الرّابع: يمسحها بالمنديل، وقد روى مالك؛ أنّ عمر كان يمسحها برجليه ورواه غيره. الخامس: أنّ يغسل بالأُشْنَانِ (¬1)، ولست أدري من أين أخذه وقاله أصحابنا، إلّا على تأويل ما ذكرناه في "شرح النّيّرين" وقد كان من مضَى لا يستعمله. السّادس: يتمضمضُ، وهي سُنَّةٌ قائمة. السّابع: يغسل يده، وفيه خلافٌ قد تقدّم بيانُه (¬2). الثّامن: يحمد الله. التَّاسع: يجهر به. العاشر: ذكر بعضُهم أنّه يعقبه بالصّلاة على النّبىّ، ولستُ أراه، وقد سئل مالك، فقيل له: هل يسمي الله إذا توضّأ؟ قال: لا، أريد أنّ يذبح (¬3)!؟. ¬
الفصل الخامس في آداب طعام الجماعة
الفصل الخامس (¬1) في آداب طعام الجماعة قال علماؤنا: لا يخلو أنّ يُنْهِدُوا، وهو أنّ يجعل كلّ واحد منهم شيئًا شيئًا، فيبتاعوا به ما يأكلون، أو يكون الطّعام لواحد منهم ويشتركون فيه بدعاء صاحبه إليه، فعليهم في ذلك آدابٌ ووظائف: الأوّل: يقدَّمُ الخُبزُ عندهم قبل ذلك بيومٍ. الثّاني: أنّ يفتح بابه. الثّالث: أنّ يقدّم إليهم نَزْرًا يسيرًا حتّى يأتي بما جمع حتّى يقف جميعهم على جمعه. الرّابع: أنّ يقدّم الخبز قبل الإدام. الخامس: إلّا يقدّم ما يكرهه. السّادس: أنّ يقدّم طعامه جملة حتّى يقفوا على جميعه. السّابع: أنّ يقدّمه كلّه أعلمهم به. الثّامن: لا ينوي رجوع ما قدّمه لهم. التّاسع: ألَّا يصف طعامًا إلّا أنّ يكون عنده (¬2). العاشر: لا يتكلّفَ لهم. الحادي عشر: لا يقدّمهم على عياله. الثّاني عشر: لا يطعمهم إلّا ما يأكل. الثّالث عشر: لا ينتظر غير الخبز إذا حضر وما زاد يأكله. الخامس عشر: إذا كان صائمًا دعا. ¬
السّادس عشر: أنّ يقول في دعائه: "أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصّائمون، وصلَّت عليكم الملائكة" (¬1). السّابع عشر: إنْ تَقَدَّمَ عنده الخبز، كان الفطر له أفضل من الصِّيام. الثّامن عشر: لا يجمع في مائدة بين فقير وغنيٌ. التّاسع عشر: يحدّثُ صاحبُ المنزل القومَ فإنّه جانبٌ من القِرَى. الموفّى عشرين: يخدمهم بنفسه. الحادي والعشرون: يخدمهم أهله وإن كانت عروسًا، وفي ذلك كلامٌ طويل. الثّاني والعشرون: فإن لم يتّفق ذلك له لعُذرٍ، قدَّم من يفعله. الثّالث والعشرون: يبدأُ بالأكل قبلهم. الرّابع والعشرون: إذا دُعِيَ أجاب، قال مالك: إلّا أنّ يكون من أهل الفضل وفيه كلام ونَظَرٌ. الخامس والعشرون: لا يُحرجهم إلى قوله: كُلْ. السّادس والعشرون: لا يُكَرِّر على جلسائه "كلوا" فإنهُ إخجالٌ. السّابع والعشرون: لا يستحقر ما يُدْعَى إليه وإن كان كُرَاعًا. الثّامن والعشرون: إذا حضروا قَدَّمَ ما عنده معجلًا، ولم يُبْطِيء به ليستكثر. التّاسع والعشرون: لا يتخيّر المدعو على الدَّاعي، إنّما يأكل ما حضر. الموفّى ثلاثين: لا يجعل على مائدته قائمًا. الحادي والثلاثون: لا بحضر مائدة فيها خمرٌ. الثّاني والثلاثون والثّالث والثّلاثون: إنَّ خُيِّرَ فلا يتشطّط، وأن يأكل ممّا يشتهي، فإن تركه إيثارًا جاز. ¬
الرّابع والثّلاثون: ولا يدخل بيتًا فيه صورة. الخامس والثلاثون: لا يقرُنُ بين لقمتين ولا تمرتين إلّا بإذن الأصحاب. السّادس والثلاثون: إنَّ كان الطّعام نَهَرًا (¬1) فلا يتعمّد الزّيادة،* وإن كان طعام واحد هو دعاهم فهو أحقّ. السّابع والثلاثون: ألَّا يعطي لأحد منه شيئًا* إلّا بإذن صاحب المنزل (¬2). الثّامن والثلاثون: إذا طعم انتشر وخرج ولا يلبث. التّاسع والثلاثون: يجتمعون على الطّست، وهو أدبٌ. الموفّى أربعين: لا يَبْصُقُ في الطَّسْتِ. الحادي أربعين: يُدَارُ بالطَّسْتِ يُمْنَةً. الثّاني والأربعون: بعد أنّ يتقدّم الأفضل، فحينئذٍ يكون يمنَة. الثّالث والأربعون: يغسل صاحب المنزل آخرهم إنَّ كان أكل الطّعام. الرّابع والأربعون: لا يتحدّث بعد تمام الطّعام (¬3). الخامس والأربعون: لا يعدِّد تقصيرًا إنَّ رآهُ. فهذه جملة كافية في آداب الطّعام والشّراب، وعلى كلّ أدب منها خبزٌ مأثورٌ وأثرٌ مذكورٌ وحُجَّةٌ بيّنةٌ، جِمَاعُها مئة أدبٍ وأربعة وسبعون أدبًا، لو شرحناها لطال الكتاب. حديث مالك (¬4)، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "طَعَامُ الاثْنِيَنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الأَرْبَعةِ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديث مسندٌ صحيحٌ، خرجه الأيمّة، وفي "مسلم" (¬1) وانفرد به: "وطعامُ الأربعةِ يكفي الثّمانيةَ". الأصول: قوله (¬2): "طَعَامُ الواحِدِ كَافِي الاثْنِيَنِ" لفظُهُ لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كأنّه أراد. المواساة والمكارمة وأن لا يأكل أحد وحده. قال الإمام: انظروا أبدّا كلّ خبر وَرَدَ إنَّ كان ظاهرُهُ الخبرَ ومعناهُ التّكليف أو ما يعلّق بالتّكليف فمعناه الأمر، وإن تعلَّق بتكليف فهو خبر المعاني. قال علماؤنا (¬3): هذا الحديث يدلُّ على أنّ الكفاية ليست بالشِّبع والاستبطان، كما أنّها ليست بالغنى. وقال أبو حازم (¬4): إذا كان ما يكفيك لا يُغْنيك، فليس شيءٌ يغنيك (¬5). وفي الحديث دليلٌ على أنّ القوم كانوا لا يشبعون (¬6)، وكانوا لا يُقدِّمون الطّعام إلى أنفسهم حتّى يشتهوه، فإذا قدّموه أخذوا منه حاجتَهُمْ ورفعوه وفي أنفسهم بقيةٌ من شهوته. وهذا عن أهل الطِّبِّ والحكمةِ أفضلُ ما يستدامُ به صحّة الأجسام. وروي عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "مَا مَلأَ ابنُ آدمَ وعاءً شَرًّا من بَطْنٍ، حسبُ ابن آدم أكلتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، ثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وثُلُثٌ لنَفَسِهِ (¬7) " (¬8). ¬
الثّانية (¬1): وأيضًا: فإنّ في الخبر: "إنَّ أفضل الطّعام بركةٌ ما كَثُرَتْ عليه الأيدي، فإذا (¬2) كَثُرَت الأيدي عَظُمَت البركة" (¬3)، وقد هَمَّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في سنة مجاعة (¬4) أنّ يجعل مع أهل كلِّ بيتٍ مِثْلَهم (¬5)، بهذا الحديث وقال: إنَّ الرَّجُل لا يهلك على نصف قرته. وقال (¬6): إنَّ هذا الحديث أراد به النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - المواساة عند الشِّدَّةِ، والله أعلم. حديث مالك (¬7)، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّىِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله؛ أنَّ رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قالَ: "أَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَكْفِؤُا الإنَاءَ، أو خَمِّرُوا الإِنَاءَ، وَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقًا، وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بَيْتَهُمْ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح خرّجه الأيمّة (¬8)، ولاشكّ في صحّته ومَتْنِهِ، وفي ¬
ألفاظه اختلافٌ. أمّا رواية يحيى: "تَضْرِمُ عَلَى النّاسِ بَيْتَهُم" هكذا (¬1) هي روايته، وتابَعَةَ ابنُ وَهْبٍ وابنُ القاسمِ (¬2)، وقالَ ابن بُكَيْر: "بُيُوتَهُمْ" وقال القعْنَبىُّ: "بَيْتَهُمْ أَوْ بُيُوتَهُمْ" (¬3) والصّحيح ما قيّده ابنُ بُكَيْرٍ. وقوله: "خَمِّرُوا الِإنَاءَ أو أَكْفِئُوا الإِنَاءَ" شَكٌّ من المحدِّث، أو يحتمل أنّ يكون على التّخيير في تخمير الإناء أو تحويله. العربيّة: قوله: (¬4) "أوْكُوا" معناه: ارْبِطُوا وشُدُّوا. والوِكاءُ هو الخيطُ الَّذي يُشَدُّ به (¬5) وقوله (¬6):"أَكْفِئُوا الِإنَاءَ" ثُلَاثِيه مهموزٌ، يقالُ: كفَأْتُ الإناءَ أَكْفَؤُهُ فهو مكفُوءٌ إذا قلبته (¬7). قال ابن هَرْمَةَ (¬8): عِنْدِي لِهَذَا الزَّمَانِ آنِيَةٌ ... أمْلَؤُهَا تَارَةً وَأَكْفُؤُهَا وقوله: "وأطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ" مهموزٌ أيضًا، قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} الآية (¬9). ¬
وقولُه: "خَمِّرُوا الإِنَاءَ" يعني: استروا (¬1)، ومنه الخَمَر على وزن القرم، وهو الشّجر الملتف الّذي يستر ما وراءه. وقوله (¬2): "وأَجِيفُوا البابَ" معناه (¬3): أغْلِقُوا، وقيل: ردّوه كما كان مغلقًا، فإنّه يفتح بالنّهار للتّصرُّف، وهما متقاربان. وقوله (¬4):"وَلَوْ أَنْ تعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا" يعني: ينْصِبَهُ عليه نَصْبًا، يجعلُه على عرْضِهِ إنَّ كان مُستَدِيرَ الفَم، فهو كلّه عرض، وإن كان مربّعًا فقد يكون فيه عرضٌ وطولٌ، فذكر العرض لأنّه أَعمّ، وإن كان الإناءُ فارِغًا فليكفأه، يعني يضعه على فِيهِ، يقال: أكفاتُ الإناءَ إذا قَلَبْتَهُ على فِيهِ. وقوله: "وأَطْفِئُوا المِصْبَاحَ" يعني: أذْهِبُوا نورَهُ، ولا يكون مصباحًا إلّا بالنّور، وإنّما هو دونه فتيلٌ. الأصول والأحكام في مسائل: الأولى (¬5): قوله في الحديث (¬6):"كُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ" استعانةً بالظُّلَمَةِ فإنّها تكرهُ النّور وتتشاءم به، وإن كانت خُلِقَتْ من نارٍ وهي ضياءٌ، ولكنّ الله أظْلَمَ قلوبها، وخَلَق الآدميَّ من طينٍ ونَوَّرَ قَلبه، فهو يحبُّ النُّور، وكلُّ جنسٍ يميلُ إلى جنسه ¬
ويستريح به. الثّانية (¬1): قوله (¬2): "وَأَجِيفُوا الأبواب، فإنَّ الشّيطانَ لا يّفْتَح غَلَقًا ولا يَحُلُّ وِكَاءً، ولا يَكْشِفُ إِنَاءً" يمنعُه من ذلك ذكر الله عليه، وهذا من القدْرة الّتي لا يُؤمِنُ بها إلّا الْمُوحّدَة، وهو أنّ يكون الشّيطان يتصرّف في الأمور الغريبة، ويتولَّجُ في المَسَامِّ الخفيفة، فيعجزه الذّكر عن حلِّ الغَلَق والوِكَاءِ، وعن التَّوَلُّج من صِيرِ (¬3) الباب (¬4)؛ لأنّا قد قيّدنا في الحديث الصّحيح (¬5) عن جابر وغيره؛ أنّ النّبيَّ -عليه السّلام- قال: "أَغْلِقُوا الأبْوابَ واذْكُرُوا اسْمَ الله" وكذلك في كلِّ خَصلةٍ تقدّمت قرن بها اسم الله، فبيّن أنّ اسْمَ الله هو النّورُ العريضُ، والحجابُ الغَليظُ، بين الشَّيْطانِ والإنسانِ. الثّالثة (¬6): قولُه: "أَغْلِقُوا الْبَابَ" يعني كما قَدّمنا الذِّكر به، وفي الحديث الصّحيح (¬7): "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيلِ" وقد ظنّ بعضُهُم أنّ الأمرَ بغلق الأبواب عامٌّ في الأوقات كلّها، وليس كذلك؛ وإنّما هو مقيَّدٌ باللّيل (¬8)، كما جاء في الحديث، وأمّا النَّهار فإنّما هو بحُكْمِ كثرةِ التّصرُّفِ وقلِّتِةِ. ¬
الرّابعة (¬1): قولُه: "وَأَوْكُوا السِّقَاءَ": هذا وإن كان مفعولًا في الأوقات كلِّها فأوكؤه اللّيل؛ لأنّ النّهار عليه حافظ من الأَعْيُن، فأمّا اللّيل فهو مُهْمَلٌ منها، فحضَّ عليه بذلك. وفي "كتاب مسلم" (¬2) وغيره: "غَطُّوا الإِنَاءَ، فَإِنَّ في السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فيها وَبَاءٌ منَ السّماءِ، لا يمرُّ بِإِناءٍ ليس عليه غطاءٌ، أو سِقَاءٍ ليس عليه وِكَاءٌ، إلّا نزل فيه ذلك الدَّاءُ (¬3). قال اللَّيثُ: تزعمُ الأعاجم عندنا أنّ ذلك يكون في كانون الأوّل". الخامسة (¬4): قولُه: "وَأَطْفِئُوا الْمصْبَاحَ " يُرْوَى في الحديث: "فإنّ النّار عدوٌّ لكم" معناه: أنّها تنافي أموالكم وأبدانكم على الإطلاق منافاة العدوِّ، ولكن تتّصل منفعتها بكم بوسائط، فَذِكْرُ العداوةِ مجازٌ لوجود معناها فيها. السّادسة (¬5): قوله: "فَإِنَّ الفُوَيْسِقَةَ تَضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بُيوتهُمْ" يعني: الفأرة، وسمّاها "فُوَيْسِقَة" في معْرِضِ الذَّمِّ لوجود معنى الفِسْقِ فيها، وهو الخروجُ عن الشّيء إلى غيره، وذلك في حديث جابر (¬6):"فإنَّ الفُويْسِقَةَ ربّما جَرَّتِ الفتيلةَ فأَحرقتْ على النَّاس بيتَهُم (¬7) " فذَكَر العلَّة (¬8). السابعة (¬9): قوله (¬10): "ولو تَعْرُضُ عليه عُودًا" يعني: اجعلوا بين الشّيطان وبينه حاجزًا، ولو من علامة تدلّ على التّغطية أو القصد إليه، وإن لم تستول بالسِّتر عليه، فإنّها كافية (¬11). ¬
مزيد وضوح: قوله (¬1): "وكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ عند المساء، فإنَّ للجنِّ انتشارًا وخَطَفَةٌ" وقد ذكرنا في "الكتاب الكبير" خبرَ اختطافِ الجِنِّ للّذي ضَرَبَ عمرُ الأجلَ لزوجتِهِ حينَ فَقَدَتْهُ (¬2). وعنِ ابْنِ شهاب، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا جَنَحَ اللّيلُ فاحبِسُوا أولادَكُم، فإنّ الله يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ باللّيلِ مالا يَبُثُّ بالنّهار". قال عُقيلُ: يُتَّقَى على المرأةِ أنّ تتوضَّأَ عند ذلك (¬3). قال ابن شُهابٍ: وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وإذا سمِعْتُمُ النِّداءَ وأَحَدُكُم على فِرَاشه، أو أين ما كان فاهْدَءُوا ساعةً، فإنّ الشّياطينَ إذا سمعوا النّداء اجتمعوا وعَشُّوا" (¬4). وقولُه (¬5): "واذكروا الله" وقد رُويَ عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "من قال: بسم الله، فقد ذَكَرَ الله، ومن قال: الحمدُ لله، فقد شكرَ الله، ومن قال: الله أكبرُ، فقد عظَّمَ الله، ومن قال: لا إله إِلَّا الله فقد وَحَّدَ الله، ومن قال: لا حَوْلَ ولا قُوّةَ إلّا بالله، فقد أسلم واستسلمَ، وكان له بها كنزٌ في "الجنّةِ (¬6) " (¬7). ¬
الفصل الأول في الحض على الصمت
قال الإمام: والذِّكْرُ حِضْنٌ مانعٌ لكلِّ شيءٍ، جَعَلَنَا الله وإيَّاكم من الذّاكرين العاملين بسُنَّتِه برحمته. حديث مالك (¬1)، عن سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ، عن أبي شُرَيْحٍ الكعْبِىِّ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمنُ باللهِ واليوم الآخِر فلْيَقُلْ خيرًا أو ليَصْمُتْ، ومن كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخِرِ فلْيُكرِمْ ضَيْفَهُ، جائزَتُهُ يومٌ وليلةٌ، وضِيَافَتُه ثلاثةُ أيّامٍ، فما كان بعد ذلك فهو صدقةٌ، ولا يَحِلُّ له أنّ يَثْوِيَ عنده حتّى يُخْرِجَهُ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح خرَّجَهُ الأيمّة (¬2). وذَكَرَ في هذا الحديثِ ثلاثة أنواعٍ: الصّمتُ، وإكرام الجار، وإكرامُ الضّيفِ، فهذه ثلاثة فصول: الفصل الأوّل (¬3) في الحضِّ على الصَّمتِ وقد مَضَى لنا في كتاب التَّفسير (¬4) أقوال السّلف في فضل الصّمت وأنّه منجاة، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَمتَ نَجَا" (¬5)؛ لأنّ الكلام بذلك غنيمةٌ والصّمت سلامةٌ، والغنيمة فوق السَّلامةِ. ¬
وقولُه: "أو لِيَصْمُتْ" يريد- والله أعلم -: أنّ هذا حُكْمُ من كان يؤمن بالله وعَلِمَ أنّه يُجَازَى في الآخرةِ، وممّا يَلْزَمُه: أنّ يقول خيرًا يُؤْجَرُ عليه، أو يَصْمُتَ عن شَرٍّ يُعَاقَبُ عليه. وأمّا الصّمتُ عن الخيرِ وذِكْرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنْكَرِ، فليس بمأمورِ به، بل هو منهىٌّ عنه نَهْيَ تحريم أو نَهْيَ كراهيةٍ، وإنّما معناه: أنّ يقول خيرًا أو يَسْكُتَ عن شَرٍّ، وأن تكون "أو" ههناَ بمَعْنَى الواوِ، فيكون المعنى: يقول خيرًا ويَصْمُتُ عن شرٍّ، وقد قيل ذلك في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬1). وأمّا قوله (¬2) -عَزَّ وَجَلَّ-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬3). وأمّا الّذي يُكْتَبُ على المؤمّن من كلامه، فمِنْ أحسن ما قيل في ذلك، ما رواه النَّضْرُ عن هشام بن حسَّان، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبّاسٍ، قال: يُكْتَبُ على الإنسانِ كلّ ما يَتَكلَّمُ بِهِ من خيرٍ وشرٍّ، وما سِوَى ذلك فلا يُكْتَبُ (¬4). (¬5) وأمّا قولُه: يا غُلَامُ، اسْقِنِي الماءَ، وأَسْرِجِ الفَرَسَ، فلا يُكْتَبُ ¬
الفصل الثاني في إكرام الجار وأن حقوقه متأكدة
الفصل الثّاني في إكرام الجار وأنّ حقوقه متأكدة فإنّ (¬1) الله تعالى قد أوْصَى بالجارِ ذي القُرْبَى، والجَارِ الجُنب (¬2). وقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتّى ظننتُ أنّه سَيُوَرِّثُه" (¬3). وقد صحّ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في حقوق الجوار أحاديث كثيرة، وقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ جارٌ حتَّى يَأْمَنَ جارُهُ بوائِقَهُ" (¬4). وذكر مالكً، عن أبي حَازِم، أنّه قال: كان أهلُ الجاهليَّةِ أبرَّ بالجارِ منكم. واختلف النَّاس في حدِّ الجوار: فقيل في ذلك: أربعون دارًا (¬5)، وليس في ذلك حديثٌ يُعوَّلُ عليه. والجارُ على الحقيقةِ من كان قريبًا منك، أو من يجمعك معه مجلسٌ أو مسجدٌ، أو تناوله ويناولك مثل نار أو ملح وغير ذلك. وأنشد (¬6): نَارِي وَنَارُ الْجَارِ واحِدَةٌ ... وإليه قَبْلِي ينْزِلُ القِدْرُ مَا ضَرَّ جارًا لي أُجَاوِرهُ ... إلّا يكون لِبَابِهِ سترُ أعمَى إذا ما جَارَتِي بَرَزَتْ ... حتّى يُوَارِى جارتي الخِدْرُ ¬
ومن الحديث الحَسَن: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في الجار: "من حفظ جاره، جاز يوم القيامة على الصِّراط، ونجا من النّار، ووصل إلى الجنّة" (¬1). ومن الحديث الحسن: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما آمنَ عبدٌ بالله العظيم مَنْ باتَ شبعان وجاره جيعان، ومن باتَ ريّان وجاره عطشان" (¬2). وكان سفيان الثّوريُّ يقول: "إذا طبختَ قِدْرًا فأَكْثِرْ ماءَهُ، واغرف منه لجارِكَ، فإنّ كلَّ جارٍ متعلّق بِجارهِ يومَ القيامةِ" (¬3). ورُوِي أنّ الجار يتعلّق بجاره فيقول: "يا ربِّ! جَارِى ي هذا خَانَنِي في دار الدّنْيا ولم ينصحني، فيقولُ الله له: يا عبدي، لِمَ خنتَ جارك؟ فيقولُ العبدُ: وعِزَّتِك يا ربّ وجلالك ما خنْتُهُ لا في مالٍ ولا في أهل، وأنتَ أعلمُ، فيقولُ الجارُ: يا ربِّ، رآني على المعاصي ولم يردّني عنها" (¬4). فعلى المرء أنّ يوقِظَ جارَهُ من الغَفَلاتِ، وينقله إلى الطّاعات، ويأمره بإقامة الصّلوات، وهذا من حقوق الجوار. وقيل: إنَّ الجار الصّالح يشفعُ يومَ القيامةِ في جيرانه ومعَارِفِهِ وقَرَابَتِه. وأنشدني بعض الأصحاب: يا حَافِظَ الجَارِ يَرْجُو أنّ يَنَالَ بِهِ ... عفْوَ الإلَهِ وعَفْو الله مَذْكُورُ الجَارُ يشْفَعُ للْجِيرَانِ كلّهِم ... يَوْمَ الحِسَابِ وذنب الجَارِ مَغْفُورُ ¬
الفصل الثالث في الضيافة وأحكامها
الفصل الثّالث في الضِّيافة وأحكامها وفي ذلك أربع مسائل: المسألة الأولى: في الإسناد: وقد تقدّم قوله: "مَنْ كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكْرمْ ضَيْفَةُ" (¬1)، ورُوِّينا عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "المؤمنُ من أَمِنَهُ النّاسُ على دمائهم وأموالهم، والمسلمُ من سَلِمَ المسلمونَ من لسانه ويَدِهِ" (¬2). وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا خير في من لا يضيف" (¬3). وبه عن عُقْبَة بن عامر قال: قلنا: يا رسول الله، إنّك تبعثُنا فنمرُّ بقومٍ لا يَقْرُونَنا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله: "إنَّ نزلْتُم بقومٍ فَأَمَرُوا لكم بما ينبغي للضّيفِ فاقْبَلُوا، فإن لم يفعَلُوا فَخُذُوا منهم حقُّ الضّيفِ الّذي ينبغي" (¬4). قال الإمام: وهذا كلّه صحيحٌ. عربيّة (¬5): قوله: "لا يَحِلُّ له أنّ يَثْوِيَ عنده حتّى يُخرِجَهُ" أي: لا يحلّ له أنّ يقيم عنده على ضِيافَتِه أكثرَ من ثلاثٍ، والثّواء في اللّغة: الإقامة، قال كُثَيِّرٌ (¬6): أرِيدُ ثَوَاءً عنْدَهَا وَأَظُنُّهَا ... إِذَا مَا أَطَلْنَا عِنْدَهَا المُكْثَ مَلَّتِ وقوله: "حتّى يُخْرِجَهُ" أي: حتّى يُضيقَ عليه وتضيق نفسه به، والحرج: الضِّيقُ في لغة القرآن (¬7). ¬
المسألة الثّانية (¬1): قوله: "فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَه" هذا من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، والضّيافةُ من سُنَنِ المُرْسَلِينَ، وأوّلُ من ضيَّفَ الضَّيفَ إبراهيم عليه السّلام، وذلك في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (¬2) فوصفهم بأنّهم أكرموا. الثّالثة (¬3): اختلف علماؤنا في وجوبها، فأوجبها اللّيث يومًا وليلة (¬4)، وخالفه في ذلك جميع الفقهاء على الإطلاق. وأغرب من هذا ما حُكِيَ عن ابن وهبٍ؛ أنّه كان يُوجِبُها ليلةً واحدةً، وأجاز للعبد المأذون له أنّ يضيِّف ممّا بيده، وقال به قومٌ. والضّيافة الكاملة عند العلماء ثلاثة، فما زَادَ على ذلك فهو صدقة، وأقلّها يوم وليلة. الرّابعة: أمّا سُحنون، فأَوْجَبَها على أهلِ الباديةِ؛ لأنّ الإنسانَ لا يجدُ ما يشتري ولا أَيْنَ يأوي. وقيل: كانت الضّيافة في أوّل الإسلام واجبةً (¬5). وقيل: كانت واجبةً على أهل العنْوَةِ إذا فرضها عليهم الإمامُ، وعلى أهل الصّلح إن صالحوا عليها (¬6). وقال مالك: ليس على أهل الحَضَرِ ضيافةٌ (¬7). ¬
قال سحنون: إنّما هي على أهل القُرَى، وأمّا أهل الحَضَر فالفندقُ ينزلُ فيه المسافرُ (¬1). وحجّته في ذلك الحديث الصّحيح (¬2)، قوله: "الضِّيافةُ على أهلِ الوَبَرِ، وليست على أهلِ المَدَرِ" (¬3). وقال بعضهم (¬4): هذا حديثٌ موضوعٌ وَضَعَهُ ابنُ أَخي عبد الرزّاق وهو متروك الحديث، ومالك أعلم وأقعد بهذا الحديث. وأمّا مذهب الشّافعيّ فإيجاب الضّيافة على أهل البادية والحاضِرَة (¬5)، حقٌّ واجبٌ في مكارم الأخلاق (¬6). وتعلّقَ الشّافعيُّّ بالعموم وأنّ الضّيافة من جملة الإيمان، وواجبةٌ لأهل الكَرَمِ والإكرام. قال الإمام: وحجَّةُ مالك أقوى مِنْ تعْلُّقِ الشّافعيِّ، وذلك أنّ حديث مالك في هذا الباب يدلُّّ (¬7) على أنّ الضيافة ليست بواجبةٍ فرضًا؛ لأنّ الجائزةَ في لسان العرب العطيَّةُ والمنحةُ والصِّلَةُ، وذلك لا يكون إلّا عن اختيارٍ، لا عن وجوبٍ. ¬
وعن عمر أنّه كان يقول: "إكرامُ الضَّيفِ يومٌ وليلةٌ، والضّيافةُ ثلاثةُ أيّامٍ، فإن أصابَهُ بعدَ ذلك مرضٌ أو مطرٌ فهو صدقةٌ أو دَيْن عليه" (¬1). وكان ابنُ عمر يَقْبَلُ الضّيافة ثلاثة أيّام، ثمّ يقول لنافع: أَنْفِقْ فإنّا لا نأكلُ الصَّدقةَ، ويقول: احبِسُوا عنَا صَدَقَتَكُم (¬2). وسئل الأوزاعيُّ عن مَنْ أَطْعَمَ خُبْزَ الشّعير وعنده خبز البُرّ، أو أطعم الخبز بالزّيت وعنده الخبز واللّحم؟ فقال: هذا ممّن لا يؤمن بالله واليوم الآخر (¬3). وقد أطلنا النفس في هذه الآداب والأنواع في "الكتاب الكبير" فَلْتُنْظَر هنالك، وإنّما هذه نبذة من تلك، وإشارةٌ إلى مذاهب العلماء. حديث أبي هريرة (¬4)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ، إذ اشتدَّ عليه العَطَشُ، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرِبَ، وخرج، فإذا كلبٌ يلْهَثُ، يأكلُ الثَّرى من العَطَشِ، فقال الرّجل: لقد بلغ هذا الكلب من العَطَشِ مثلُ الّذي بلغ بي، فنزلَ البئْرَ فملأَ خُفَّهُ، ثمّ أمسكه بِفيهِ حتّى رَقِيَ، فَسَقَى الكلبَ، فشكر الله له ذلك فغفَرَ له، فقالوا: يا رسول الله، وإنّ لنا في البهائم لأجرًا؟! فقال: في كلِّ ذىِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَ - رضي الله عنه - جْرٌ". ¬
الإسناد: قال الإمام: هذا حديث صحيحٌ، وقد خَرَّجَهُ الأيمّة بألفاظٍ مختلفةٍ؛ وفي المصنّفات أنّ باغية من بغايا بني إسرائيل، سقت كلبًا بخفّها أو بثوبها، فغفر الله لها (¬1). وحديث سراقة بن جعشم؛ أنّه أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت الضَّالَّة تَرِدُ على حوضي، هل فيها من أجر إنَّ سَقَيْتُها؟ قال: نعم، في الكَبِدِ الحرَّى أَجْرٌ (¬2)، وهذا الحديث يُرْوَى عن مالك أو من حديث مالك ولم يثبت عندي من طريق يوثَق به. عربيّة (¬3): قوله: "فإذا كلبٌ يَلْهَثُ" يقال في الماضي: لَهَثَ بفتح الهاء وكسرها، وفي المستقبل: يَلْهَثُ بالفتح، قال الله العظيم: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (¬4). واللَّهَثُ شِدَّةُ تواتُرِ النّفسِ من التَّعَبِ أو غيره، ويحتَمِلُ - والله أعلم - أنّ يكون هذا الكلبُ المذكورُ في هذا الحديثِ هو الكلبُ المُخْتَصُّ بهذا الاسْمِ، وهو الأظهرُ؛ لأنّه أكثرُ الحيوانِ لَهَثًا (¬5)، ولذلك يَلْهَثُ من غيرِ سَبَبٍ، وسائرُ الحيوانِ لا يلْهَثُ. الأصول (¬6): اختلف النّاسَ في تأويله: فمنهم من قال: إنّما كان الغفرانُ لهذا المُذنِبِ بأن وفَّقَهُ الله بعد ذلك للتّوبةِ، ¬
فكان هذا الفعلَ سببًا لأنْ رُزِقَ التّوبةَ، والتّوبةُ سببًا للمغفرة. ومنهم من قال: إنَّ هذا الفعلَ بنفسه كَفَّرَ الزِّنا بِعِظَمِهِ؛ لأنّ الله تعالى إذا كانت له في العَبْدِ إرادةٌ، وسَبَقَتْ له عندَهُ عنايةٌ، ضاعفَ له الحسناتِ، حتّى تَغْلِبَ السَيِّئَاتِ، حتّى تكونَ كالجبلِ العظيمِ، كما في الحديثِ الصّحيحِ، فليس بممتنعٍ أنّ ضُوعِفَ لهذا الأجرُ حتّى وَازَى الزِّنا فضلًا من الله. وقيل: بل وازَاهُ بنفسه وفَدَاهُ؛ لأنّ فيه إحياءَ نَفْسٍ فاسْتوْجَبَ ذلك. وفي الصّحيح؛ أنّ باغيةً من بغايا بني إسرائيل رأت كلبًا يأكل الثّرى من العَطَشِ. الحديث (¬1). الفقه في مسائل: الأولى: قال علماؤنا: سَقْيُ الكلبِ في الخُفِّ فيه دليل على أنَّ سؤرَ الكلب طاهرٌ، ولو لم يكن طاهرًا لما أدخله في الحديث على الثّناء ويبيّن أمره. وهذه المسألة فيها اختلاف كثير بينّاه في "كتاب الطّهارة"، فليُنْظَر هنالك. الثّانية (¬2): النصّ في هذا الحديث أنّ في "الإحسان إلى البهائم المملوكاتِ وغيرِ المملوكاتِ أجرًا عظيمًا تَكَفَّرُ به السيّئات، والدّليل؛ أنّ في الإساءة إليها وِزْرًا بقَدْرِ ذلك؛ لأنّ الإحسان إليها إذا كان فيه الأجرُ، ففي الإساءة -لا مَحَالةَ- الوِزْرُ. حديث مالك (¬3)، عن وَهْب بنِ كيْسَانَ، عن جابر بن عبد الله؛ أنّه قال: بعثَ ¬
رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بَعْثًا قِبَلَ السَّاحلِ وَأمَّرَ عليهم أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجرَّاحِ وهم ثلاث مئةٍ، قال: وأنا فيهم، قال: فخرجنا، حتَّى إذا كُنَّا ببعضِ الطّريقِ فَنِيَ الزّادُ، فَأَمَرَ أبو عُبَيْدَةَ بأَزوِدَةِ ذلك الجيشِ، فجُمِعَ ذلك كُلُّه فكان مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، ثمّ قال: فكان يُقوِّتُنَاهُ كلّ يومٍ قليلًا قليلًا، حتّى فَنِيَ ولم تُصِبْنا إلّا تَمْرَةٌ تمرةٌ. فقلت: وما تُغْنِي تمْرَةٌ؟ فقال: لقد وجدنا فَقْدَهَا حيثُ فَنِيَتْ. قال: ثُمّ انتهينا إلى البحر فإذا حوتٌ مثلُ الظَّرِبِ، فأكل منه ذلك الجيشُ ثَمَانَ عَشْرَةَ ليلةً، ثمّ أمر أبو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَين من أضلاعِهِ. الحديث إلى آخره. الإسناد: قال الإمام: حديثُ جابر هذا حديثٌ صحيحٌ خرّجه الأيمّة مسلمٌ (¬1) وغيره (¬2)، ورواه (¬3) عن جابر جماعة من ثقات التّابعين، ومعانيهم متقارِبَةٌ، وإن كان بعضُهم يزيدُ على بعضٍ في حديث صاحبه (¬4). عربيّة: قوله: "فإذا حُوتٌ مثلُ الظَّرْبِ" قال صاحب "العين" (¬5): الظَّرْب - بكسر الظّاء - ما نتأَ من الحجارةِ، والجمعُ ظِرابٌ. وحكَى أبو عُبَيْد (¬6) الهرويّ قال: الظَّرِبُ صغيرُ الجَبَلِ. ¬
وقيل (¬1): الظَّرِبُ -بالكسر- هو ما كان من الحجارة أصلُه ناتِئًا في جبلٍ أو أرضٍ، وكان طرفه النَّاتِىءُ محدّدًا. الفقه في مسائل: الأولى (¬2): قوله: "بعثَ بعْثًا، وأَمَّرَ عليهم". كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يبعثُ السّرايا والعساكر إلى أرض العَدُوِّ، وتلك سُنَّةٌ مجْتَمَعٌ عليها، لا يحتاج في ذلك إلى استدلال ولا استنباط من أخبار الآحاد. الثّانية (¬3): قال (¬4): وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أنّ المسلمين إذا نزلت بهم ضرورةٌ يُخاف منها تَلَفُ النّفوس وُيرْجَى بالمواساة بقاؤُها حينًا انتظارًا لفَرَجٍ، فواجبٌ حينئذٍ المواساةُ، وأن يشارك المرءُ رفيقَهُ وجارَهُ فيما بيده من القُوتِ، ألَّا ترى إلى حديث أبي هريرة الصّحيح في "مسلم" (¬5) قال: شَكَوْنَا إلى رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - الجُوعَ، فقال: "اجمعوا أزوادكم" قال: فجعل الرّجلُ يجيءُ بالحَفْنَة من التّمْرِ والحَفْنَةِ من السَّويقِ، وطرحوا الأنطاعَ والأكسيةَ، فوضع النّبيُّ -عليه السّلام- يده ثمّ قال: "كلوا"، فأكلنا وشبِعْنا، وأخذنا في مَزَاودِنَا، ثمّ قال -عليه السّلام-: "أشهدُ أنّ لا إله إِلَّا الله وأَنّي رسولُ الله، من قالها غيرَ شاكٍّ دخل الجنّةَ" وقد ذكرنا هذا في جملة معجزاته - صلّى الله عليه وسلم - في "الكتاب الكبير". ¬
الثّالثة (¬1): وقد استدلَّ بعض علمائنا بحديثِ أبي هريرة وفعل أبي عُبَيْدَةَ في الأمر بإخراج الأزواد وجمعها، والمواساةِ على التّساوِي فيها، فإنّه جائزٌ للإمام عند قلَّةِ الطّعام وارتفاع السِّعْر وعدم القُوتِ، أنّ يأمر مَنْ عنده طعامٌ يفضلُ عن قُوتِهِ بإخراجه للبيعِ، ورأى أنّ إجبارَهُ على ذلك من الواجب، لما فيه من ترميقِ النَّاس وصلاح حالهم، وإحيائهم والإبقاء عليهم. وقد كان عمر يجعل مع أهل كلِّ بيتٍ مثل عددهم عام الرَّمَادَةِ، ويقول: لن يهلك امْرُؤٌ عن نصف قُوتِهِ. وهذا كلُّه في معنى الأزواد الّتي أتتِ السُّنَّة به، لما فيه من مصلحة العامّةِ وإدخالِ الرِّفْقِ عليهم، وقد قال مالك: لا يجوز احتكارُ الطّعامِ في سواحل المسلمين؛ لأنّ ذلك يضرُّ بهم ويزيد في غلاء سعرهم. الرّابعة (¬2): احتجّ بعضُ علمائنا بحديث أبي عُبَيْدَة في جواز أكل الصّيد إذا أَنْتَنَ، وكذلك كلُّ ما ذُكِّيَ؛ لأنّه معلومٌ أنّ الحوتَ والمَيْتَةَ كلّها إذا بقيت أيّامًا نَتِنَتْ، وقد أكل أبو عُبَيْدَةَ وأصحابُه من ذلك الحوت ثماني عشرة ليلة، فلا شكّ أنّهم كانوا يأكلونه بعد أنّ نَتِنَ، والمُذَكَّى لا يضُرُّه نَتْنُهُ من جهة الحرام وإن كُرِهَ لرائحته. وقال جماعةٌ من أهلِ العِلْمِ: لا يأكلُ إذا أَنتن؛ لأنّه حينئذٍ من الخبائث، ورجسٌ من الأرجاسِ وإن كان مُذَكَّى، لما فيه من الضَّرَرِ. واحتجّوا بحديث أبي ثَعْلَبَةَ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "كُلُوا الصّيدَ وإن وَجَدْتُموهُ بعد ثلاثٍ ما لم يُنْتِن" (¬3). ¬
وذكروا أنّ جيش أبي عُبَيْدَةَ كانوا جِياعًا مُضْطَرِّين تحلُّ لهم المَيْتَة، فلذلك أكلوا ذلك الحوت بعد نَتْنِهِ. الخامسة (¬1): في هذا الحديث جوازُ أكل دَوَابِّ البحر، مَيْتَةً وغيرَ مَيتَةٍ، بخلاف قول الكوفييِّن (¬2)؛ أنّه لا يجوزُ أكلُ شيءٍ من حيوان البحر، إلّا السّمك مالم يكن طافيًا، فإن كان السّمك طافيًا لم يؤكل أيضًا. والمشهورُ من مذهب أبي حنيفة؛ أنّه لا تؤكل ميتة البحر، وهذا خلاف لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "هو الطّهورُ ماؤُهُ والحِلُّ مَيْتَتُه" (¬3) وقد أوضحناه في "كتاب الطّهارة" بأبدع بيان في هذا الحديث. السّادسة (¬4): وإنّما اختلفَ العلّماءُ في جوازِ أكل كلِّ ما قَدْ ماتَ من غير سبب، وأمّا ما مات بسببٍ من الأسباب الّتي ذكرناها أو غيرها، فلم يُخْتَلَفْ في جوازِ أَكْلِهِ، وقد تقدّم الكلام فيه. وأمّا جوازُ أكل الصّيدِ إذا نَتِنَ، فعليه جماعةُ العلّماءِ، وإنّما منع منه من لم يتابع، وقد إنقطعَ الخلافُ في هذا المعنى بحديث أبي ثعْلَبَة الخشنيّ أنّ النّبيّ -عليه السّلام- قال: "كُلُوا الصّيدَ وإن وجدتموهُ بعد ثلاثٍ ما لم يَنْتِنْ" (¬5) فإنّ معناه عندنا: ما لم يتغيَّر ¬
تغيُّرًا يَمْنَعُ أَكلَهُ، فاستثنَى ذلكَ على سبيلِ الكراهيّةِ والمنْعِ ممّا يَسْتَضِرَّ به، وقد أبدعنا أيضًا هذا في"كتاب الصّيد" فلينظر هنالك. حديث زيد بن أَسْلَم (¬1)، عن عَمْرِو بن سَعْدِ بن مُعَاذٍ، عن جدَّته؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يا نساءُ المؤمناتُ، لا تَحْقِرَنَّ إحداكُنَّ لجارَتها ولو كُرَاعَ شاةٍ مُحْرَقًا". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ. عربيّة (¬2): قوله: "يا نساءُ المؤمناتُ" يا نساءُ ههنا رفع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنّ قولَه: "يا نساء" وقع على النّداء، والمؤمنات على عَطْفِ البَيَانِ، كما يقول: يا أخانا زيد، والمؤمنات أيضًا رفع، والمعنى فيه: يا أيّتها النّساءُ المؤمناتُ، وقد يجوزُ عند أهل العربيّة في المؤمنات النَّصْبُ، وأمّا إضافةُ النّساءِ إلى المؤمنات فلا يجوز (¬3). وقيل: كأنّه قال: يا فاضلاتِ المؤمناتِ من النّساء (¬4). الثّانية (¬5): قولُه: "ولو كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا" والكُرَاعُ مؤنّثةٌ عند سِيبَوَيْه، وكان حُكْمُه على هذا أنّ تكونَ مُحْرَقَةً، إلّا أنّ الرّوايةَ مذكّرًا وردت في جميع الموطآت وغيرها، وقال ابنُ ¬
الأنباري (¬1): وبعضُ العرَبِ يُذَكِّرُها، فيحتَمِلُ أنّ يكونَ ذلك على تلك اللّغةِ، والله أعلم. الفوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: "لا تَحْقِرَنَّ إحداكُنَّ لصاحبتها ولو ظِلْفًا مُحْرَقًا" وإنّما ضربه النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - مثلًا؛ لأنّ الظِّلْفَ المُحْرق لا يُعْطَى، فدلّ ذلك على أنّ الحديث ليس على ظاهره (¬2)، كما قال: "من بني لله مسجدًا ولو مثل مفحص قطاة بني الله له بيتًا في الجنّة" (¬3) ففي (¬4) هذا الحديث الحض على فعل الخير، قليلًا كان أو كثيرًا، ويقوِّيهِ الحديث الصّحيح لأبي تميمة الهجيمي، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - له: "لا تَحْقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أنّ تَضَعَ من دلْوِكَ في إناءِ المُسْتَقِي" (¬5). وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (¬6). ولقد أحسن محمود الوراق في قوله (¬7): افْعَلِ الخيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإنْ كا ... نَ قَلِيلًا فَلَنْ تُطِيقَ بكُلِّهْ وَمَتَى تَفْعَلُ الكَثِيرَ مِنَ الخيـ ... رِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لأَقَلِّهْ ¬
وقد تصدّقت عائشة - رضي الله عنها - بحبّتي عِنَبٍ، وقالت: كم فيها من مثقالِ ذَرَّةٍ (¬1). الفائدةُ الثّانية (¬2): وفي هذا الحديث: الحضُّ على برِّ الجار وصِلَتِهِ ورِفْدِهِ، وقد تقدّم ما في ذلك من الآثار، فلا معنى للتطّويل. حديث عبد الله بن أبي بكر (¬3)؛ أنّه قال، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "قاتلَ الله اليهودَ، نُهُوا عن أكلِ الشَّحْمِ، فباعُوهُ وأكلوا ثَمَنَهُ". الحديث صحيح، وقد (¬4) يُسْنَدُ من طريق عمر وابن عبّاس وأبي هريرة وجابر (¬5). وقيل: إنَّ ابن عبّاس إنّما يروِيهِ عن عمر عن النّبي - صلّى الله عليه وسلم - (¬6). وقيل: إنّه سمعه من النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬7). عربيّة (¬8): قوله: "قاتلَ الله اليهودَ" قيل: معناه لعنهم الله، قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬9) معناه: لُعِنُوا، ولفظه: "قاتل" وإن كان أصلها أنّ يكون الفعل من اثنين (¬10)، ولذلك يقال: تَلَاعَنَ الزّوجانِ، إذا وجدت الملاعنة من كلِّ واحدٍ منهما، وقد تجيءُ في كلام العربِ المفاعلةُ منَ الواحدِ، يقالُ: قاتلَهُ الله، بمعنى: فعلَ الله بهِ ذلكَ، ومنه: سافرَ الرَّجُلُ، وعالَجْتُ المريضَ. ¬
الفقه في مسائل: المسألة الأولى (¬1): ذكر النّبىُّ عليه السّلام العلّةَ الّتي عُوقِبُوا عليها بذلك، فقال: "نُهُوا عن أكلِ الشَّحْمِ، فباعوه؛ فأكلوا ثَمَنَهُ" والنّهىُ عن أكل الشّحْمِ لا يتناولُ النّهيَ عن أكل ثَمَنِهِ إلّا من جِهَةِ القياسِ والرّأيِ، وأنّ ما لا يجوزُ أكلهُ ممّا مُعظَمُ مَنفعَتِه الأكلُ؛ لا يجوزُ أكلُ ثَمَنِه، فلا يجوزُ أكلُ ثَمَنِ الخَمْر، ولا ثَمَنِ الخنزيرِ، ولا ثَمَنِ المَيْتَةِ وما جرى مجرى ذلك، وأمّا ما له منفعةٌ، فإنّه يجوزُ أكلُ ثَمَنِه وإن لم يَجُزْ أكلُه، كالعبيدِ والإماء، والله أعلمُ. الثّانية (¬2): قال الإمامُ: ليس في الأُمَمِ طائفةٌ أعظمُ تعلُّقًا بالظّواهر من اليهود، ومنه هَلَكوا، فإنّهم رَأَوا في "التّوراة": "جاءَ اللهُ" و"نزلَ اللهُ" فأخذوا بالظّواهر في هذه الألفاظِ، فاعتقدوها جسمانيّة فهَلَكُوا، ونُهُوا عن الصّيدِ للحُوتِ، فكان يأتِيهم يومَ سَبْتِهِم، ويومَ لا يَسْبِتُونَ لا يأتيهم، فسَكَّرُوا الجَداوِلَ، فلمّا كان يوم السّبت، وأراد الحوتُ أنّ يخرُجَ لم يَجدْ مَنْفَذًا، فَجَرُّوهُ في يوم الأحدِ، فأخَذُوهُ، فمُسِخُوا قِرَدَةً وخنازيرَ. ونُهُوا عن أكل الشّحوم، فقالوا: نَبِيعُها ونأكلُ ثَمنَها؛ لأنّ أكلَ الثّمنِ ليس بأكل الشّحمِ. وهذه الطّريقة أراد أنّ يَسْلكَ داوُدَ، فقال: ما قال الله لا تزيدوا عليه حرفًا ولا يُتَأوَّل، فَهَمَّ بالبُنْيَانِ وهو قدْ هَدَمَ الكُلَّ ولأجل هذا كان مذهبُ مالكٍ أَشْرَفَ المذاهبِ؛ لأنّه قال بالاستنباطِ، وتتبّعه المَعَانِيَ، ¬
حديث عيسى بن مريم في الزهد في الدنيا والتقلل منها
وإعراضِهِ عن الظّاهر إذا وجدها (¬1)، ألَّا ترى إلى قوله فيمن حَلَفَ ألَّا يأكُلَ هذا الطّعامَ، ولا يَلْبَسَ هذا الثّوبَ، أنّه لا ينْتفِعُ بهما في حالٍ، إذا كان المقصودُ معنَى اليمين أو فهم منه. قال أبو حنيفة والشّافعيّ: يَبِيعُهُ ويأكُلُ ثَمَنَهُ. وهذه فتوى يهوديّة، فمالك - رحمه الله - أهدى طريقة، وأوضح حُجَّة، وأغوص على المعاني. حديث عيسى بن مريم في الزهد في الدُّنيا والتقلُّلِ منها مالك (¬2)؛ أنّه بلغه أنّ عيسى بن مريم كان يقول: "عليكُم بالماءِ القَرَاحِ والبَقْلِ البَرِّيِّ وخُبْزِ الشَّعيرِ، وإيّاكُم وخُبْزَ البُرِّ فإنّكم لن تقوموا بشُكْرِه". قال الإمام: هذا حديثٌ عظيمٌ، ولنا فيه مآخذ ومعاني أوْدَعْناها في "سراج المريدين" ولكن نعطف ههنا العنان على نوعٍ من البيان على أربعة طُرُقٍ: الطريق الأوّل (¬3): في سند الآثار وذكر ما ورد عنه من الآثار رَوَى الأعمش، عن أبي صالح رفعه إلى عيسى بن مريم قال: قال عيسى لأصحابه: "اتّخِذُوا المساجدَ مساكنَ، واتّخِذُوا البيوتَ منازلَ، وانْجُوا من الدُّنيا بسلامٍ، وكلوا من بقل البَرِيَّةِ" وزاد الأعمش فيه: "واشربوا من الماءِ القَرَاحِ" (¬4). خبر آخر: ورَوَى مجاهد، عن عُبَيد بن عُمَيْر، قال: كان عيسى بن مريم لا يرفعُ غَذَاءً لعَشاءٍ، ولا غَشاءً لغَداءٍ، وكان يقول: إنَّ مع كلِّ يوم رِزْقَهُ، وكان يلْبَسُ الشَّعر ويأكل الشَّجر وينام حيث أَمْتَى (¬5). ¬
خبر آخر: وَرُوِّينَا أنّ عيسى عليه السّلام قال له الحواريّون: يا عيسى، ما تأكلُ؟ قال: خبزَ الشَّعيرِ، قالوا: وما تَلْبَسُ؟ قال: الصُّوفَ، قالوا: وما تفترِشُ؟ قال: الأرضَ، قالوا: كلّ هذا شديدٌ قال: لن تنالوا ملكوتَ السّمواتِ والأرضِ حتّى تُصِيبوا هذا على لَذَّةٍ، أو على شهوةٍ (¬1). خبر آخر: روى الحسن البصري، قال: جاء رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى أهل الصُّفَّةِ، فقال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: أنتمُ اليوم خيرٌ، أم إذا غُدِيَ على أحَدِكُم بجَفْنَةٍ وَرِيحَ عليه بأُخْرى، وستَرَ أحدُكم بَيْتَهُ كما تُسْتَرُ الكعبةُ؟ قالوا: يا رسول الله: نصيبُ ذلك ونحن على ديننا؟ قال: نعم، قالوا: فنحن يومئذٍ خير، نتصدَّقُ ونَعْتِقُ، فقال رسول الله: لا، بل أنتم اليومَ خيرٌ، إنّكم إذا أصبتم ذلك تحاسَدْتُم وتباغضتم وتقاطعتم (¬2). خبر آخر: من الدّليل على أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يَصُدُّ أصحابَهُ وَيرْدَعُهُم عن خواطرِ حُبِّ الدُّنيا، وما يعْرِضُ في القلوب من تَمَنِّيها، وُيزَهِّدُهُم فيها، ما ثَبَتَ عنه أنّه سأَلَتْهُ ابنتُه فاطمةُ رضي الله عنها خادمًا تَخْدُمُها، ممّا أفاءَ الله عليه، تَصُونُها عن الطّحين ومؤنةِ البيت، فقال لها: "ألَّا أدُلُّكِ على ما هو خيرٌ لكِ من ذلك، تسبِّحينَ الله دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ، وتحمَدِيه ثلاثًا وثلاثين، وتُهَلِّليه أربعًا وثلاثين" (¬3). خبر آخر: ومثلُ ذلك حديثُ عقْبَةَ بنِ عامرٍ، قال: خرج علينا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَّةِ، فقال: "أيُّكُم يُحِبُّ أنّ يَغْدُوَ إلى بُطْحَانَ أو العَقِيقِ، فيأتيَ منه بناقَتَيْنِ ¬
كَوْمَاوَيْنِ في غير إثمٍ ولا قَطِيعةِ رَحِمٍ"؟ قلنا: يا رسول الله، كلُّنا نُحِبُّ ذلك، قال: "أفلا أدُلُّكُم على ما هو خيرٌ لكم من ذلك، يَغْدُو أحدُكُم إلى المسجد، فيتعلَّمُ آيةً من كتابِ الله خيرٌ، له من ناقةٍ، وآيتين خيرٌ له من اثنين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادِهنَّ من الإبِلِ (¬1) ". خبر آخر: وممّا ثبتَ في الصّحيح، قوله - صلّى الله عليه وسلم - لأصحابه: "والله ما الفقرَ أخشَى عليكُم، ولكنِّي أخافُ عليكم ما يفتَحُ الله لكم من زهرةِ الدّنيا، فتتنافسُونَ فيها كما تنافَس من كان قبلكم، فتُهْلِكُكُم كما أهلكَتْهُم" (¬2). هذا أشبه ما صحّ في هذا الباب من الأحاديث. عربيّة (¬3): قوله: "عليكُم بالماءِ القَرَاحِ" وهو الخالصُ الّذي لم يمازجه شيءٌ، ولم يُمْزَجْ بعسلٍ ولا زبيبٍ، ولا غير ذلك ممّا تُصْنَعُ منه الأشربةُ (¬4). و"البَقْلُ البرِّيُّ" يريد: الّذي لم يتقدّمْ عليه مِلْكٌ، وهو مباحٌ في أصله كماء الأنّهار. وقوله: "وخُبْزِ الشَّعِيرِ" يريد: فَتَقوَّتُوا به واقتصروا عليه، فهو أقلُّ ما يُمسِكُ الرَّمَقَ وتبقَى به الحياةُ؛ لأنّ الشَّعيرَ أقلُّ الأقواتِ. وقوله: وإيَّاكم وخُبزَ البُرِّ فإنّكم لن تقوموا بشُكْرِه" فنهَاهُم عن البُرِّ حَضًّا على التّقليل من الدّنيا والزّهد فيها، وفيما زاد على أيسر الأقوات منها، وإن كان قد عَلِمَ أنّهم ولَا سِوَاهُمْ لا يقومُ بشُكْرِ الماء ولا البَقْلِ، ولكنّه حضَّهُم على أقلِّ ما يمكن منه. ويحتَمِلَ - والله أعلم - أنّ ينصَرِفَ الضّميرُ في قوله: "فإنّكم لن تقوموا بشكره" إلى البُرِّ. ويحتَمِلَ أنّ ينصرفَ إلى الماءِ والبقْلِ والشَّعيرِ، فيكونُ معناهُ ما تقدّم، والله أعلم. ¬
وليس هذا بمخالفٍ لشريعتنا؛ فإنّ من النَّاس من يصْلِحُهُ هذا فَيَنْدُبُ إليه، ومنهم من يُصْلِحُه غيرُ هذا فَيَأْخُذُ به، والله أعلم. تنبيه (¬1): قوله: "فإنّكم لن تقوموا بِشُكْرِهِ" يعارض قول رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا قال العبد على طعامه: الحمدُ للهِ، فقد شَكَرَ تلك النِّعمة" (¬2) هذا ممّا يعارِض حديث عيسى، وحديث جابر أنّه قال: "أفضلُ الشُّكْرِ الحمدُ للهِ" (¬3). وقوله: "فإنّكُم لن تَقُومُوا بشُكْرِهِ" وكيف يقوم بشكر فرضه؟ فإنّه يقال: إنّه لن يصل إليه حتّى يدور على يد ثلاث مئة وستّين صانعًا، أوّلهم ميكائيل وآخرهم الخبّاز. وقوله: "لن تَقُوموا بِشُكْرِهِ" كلامٌ صحيحٌ (¬4)؛ فإنّ سَدَّ الجُوعِ وسَتْرَ العوْرَةِ على الإطلاقِ والجُملةِ، بأوَّلِ دَرَجَاتِ الحاجةِ نعمةٌ عظيمةٌ، إذا أراد المرْءُ أنّ يعلمَ مِقدَارَها فليَنْظُرْهَا في سِوَاه، ولْيُقَدِّرْهَا في نفسِه، فكيف أنّ يَضُمَّ إلى ذلك الإسرافَ، حتّى تنكَسِرَ الشّهوةُ في لَذَّةِ الطِّعامِ وفي رِيَشَةِ الثِّياب في التمتّع باللّباسِ، فإذا استرسلَ العبدُ على ذلك هَلَكَ ولم يَتَأَتَّ له أملٌ؛ فإنّه أَمَدٌ لا غايةَ له، فلهذا المعنى قيل للنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الآية (¬5). الطّريق الثّاني (¬6): في الكلام على زهده ¬
واعلم أنّه ما بعثَ الله نبيًّا قطّ إِلَّا بالزُّهدِ في الدُّنْيا والنَّهيِ عن الرّغْبةِ فيها (¬1)، ودَعَوا الخلْقَ إلى ما هُمْ عليه، وهو الزّهدُ في الدّنيا، والزّهد في الدّنيا هو ضدّ الرّغبةِ فيها، والرّغبةُ فيها هو الاستعظامُ لها، والحِرْصُ عليها والمَيلُ إليها، فإذا كان الزُّهد هو ضدّ الرّغبة، فهو الاستصغارُ للدّنيا والاحتقارُ لزِينَتِها، الّذي يدعو إلى رَفْضِ فضولها، وأخْذِ القوام منها، عَوْنًا على طاعةِ الله، فلا يترُك الزّاهدُ منها شيئًا إلّا لله، ولا يأخذ منها شيئًا إلّا لله، عَوْنًا على طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا يتركها كلّها إذا صغرت عنده وهانت عليه، فيكونُ عاصيًا لله، إذْ قد تَرَكَ منها واجبًا أُمِرَ بأخذه، أو مقصِّرًا في حظِّهِ وقد نُدِبَ إلى أَخْذِهِ، لكنّه لما صَغُرَتْ عنده وهانت عليه، امتنع منها كما أَمَرَ الله في كتابه، وما أَخَذَهُ منها أَخَذَهُ على وجه العون على الطّاعة، وما ترك منها، ممّا يجوزُ له أخذه، تَرَكَهُ زُهدًا فيه، ليتقرَّبَ بذلك إلى خَالِقِه. فهذا هو الزُّهدُ عند جماعةِ العلماء، وإلى هذا أشار المحاسبيّ وكان من أهل الطّريقة (¬2). وقد اختلف النَّاس وأرباب القلوب وطوائف العُبّاد في الزُّهد والوَرَع على أقوالٍ جمَّةٍ. الطائفة الأولى، قالت: إنَّ الزّاهد على الحقيقة من زهد في المباح، وأمّا الزُّهد في الحرام فَفَرْضٌ عليه الزّهد فيه وتركه، فهذا ينطلق عليه اسم الزّهد. وأمّا الوَرِعُ فهو الّذي يجتنبُ المحرمّاتِ، وَيتَوَقَّى الشُّبهات، ويترك أيضًا المُباح من الشّهوات، فكلُّ زاهدٍ ورِعٌ وليس كلُّ وَرعٍ زاهدًا، فالورعُ أعمّ من الزُّهد. وقال شقيق (¬3) وسفيان الثّوري: إنَّ الزّهدَ في الدّنْيا قِصْرُ الأمل (¬4)، وتوقّع نزول ¬
الموت به، وليس هذا القول بصحيح (¬1)؛ لأنّ قصْرَ الأملِ ليس هو الزّهد، وإنّما هو المعين على الزّهد؛ لأنّ مَنْ قصر أملُه وتوقَّع نزولَ الموتِ به زَهد في الدّنيا ولم يرغب فيها. الطّائفة الثّانية: قال الأوزاعيُّ وجماعةُ الفقهاءِ: إنَّ الزّهدَ بُغْضُ المَحْمَدَة (¬2)، وبُغْضُ المحْمَدَةِ إنّما هو ببُغْضِ الدّنيا وأهلها، وبترك شهواتها، ومَحْمَدَةَ النّاسِ من الشّهواتِ، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية (¬3). وقال سفيان بن عيينة (¬4): الزّهد من غلب صبرُهُ الحرامَ وشكرُهُ الحلال (¬5). قلنا: وليس هذا بالزّهد، وإنّما هو صفة الزّاهد؛ لأنّ من كان بهذه الصّفة فهو زاهدٌ. وقال الفُضيل بن عيّاض: الزّهد التّرك للدّنيا*، وليس الترك للدنيا هو الزُّهد، ولكنّه كائن عنه؛ لأنّه إذا زهد في الدنيا تركها. وليس قوله*: "التّرك للدّنيا" على عمومه؛ لأنّ من أحوال الدّنيا ما لا يجوز تركه، فلو قال: الزّهد ترك ما لا قُرْبَةَ فيه من أحوال الدنيا، لكان في العبارة عما قصد إليه أَوْلَى، وكان قد قارب الحقيقة في الزُّهد، إذ جعله المعنى الّذي يكون عن الزّهد، وهو فائدته الّتي تُقرِّبُه إلى الله. الطّائفة الثّالثة: قالوا: الزُّهد أنّ يكون الرَّجُلُ بما في يد الله أوْثَقَ ممّا في يديه (¬6)، فجعل الزُّهد بعض التَّوَكُّل لمّا كانت الثّقة بما في يد الله دون ما في يده تبعثُ الواثق بذلك، على ألَّا يدَّخر ما بيده فيقدّمه لآخرته، وليس ذلك بصحيحٍ، إذ قد يكون الرّجلُ ¬
بما في يد الله أوثق (¬1). الطّائفة الرّابعة: قالوا: الزُّهْدُ هو البغضُ للدّنيا، وذلك أنّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذَمَّ حبّ الدّنيا، فقال: {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (¬2) والبُغْضُ هو ضدّ الحبّ فسُمِّيَ الزّهد به، وذلك إذا بغضها لاحتقاره لها وصِغَر شأنّها عنده، أو قد يُبغِض الرّجل الدّنيا لضرّ نزل به فيها وخَطَرُها عنده عظيمٌ. فليس الزّهدُ في الدّنيا ضدّ الحبّ لها على الإطلاق، وإنّما هو ضدّ الرغبة؛ لأنّ الرّاغب فيها إنّما يرغب فيها لِعِظَمِ شأنّها عنده، والبغض فيها المندوب إليه بالشّرع لا بالطّبع؛ لأنّ الله قد زينها وحذّر منها ابتلاءً واختبارًا. وقال بعضُ النَّاس: إنّما الزّاهد من بغَضَ الدّنيا طبعًا بغريزته، كما يبغضُ الأَنْتَانَ (¬3) وشبهها، وإن مَنْ لم يحلّ هذا المحلّ وإن بغضَ الدّنيا بأجمعها فليس بزاهدٍ وإنّما هو صابر. وهذا غلطٌ ظاهرٌ؛ لأنّ ما طُبعَ عليه الإنسان لا يُؤْجَر عليه إذ لا كَسْبَ له فيه، وإنّما يُؤْجَرُ الزّاهدُ على الصّبر على الزّهد فيما طُبعَ على محبته والبغض له، ولذلك أشار (¬4) ابن المنكدر فقال: لو لقيت الله وليس لي ذنب إلّا حبّ الدّنيا لخشيت أنّ يقال: هذا أحبَّ ما أبغضَ الله، فوصف قائل هذا القول الزُّهدَ بحقيقة ما يكون عنه ولم يخرج عن معناه. ألَّا ترى أنّك تقول: زهدت في الدّنيا فهانت علىَّ، ولا ¬
الطريق الرابع: في أسباب الزهد وما يتعلق به من المعاني
تقول: هانت علىَّ فزهدت فيها. وكذلك سائر الأقوال لم يخرجوا (¬1) عن المعنى، وإنّما أخطؤوا في تسميتهم إياه، فسماه بعضهم باسم الزّهد، أو المعين عليه، أو المعبّر عنه. مسألة: قال علماؤنا (¬2): إنّما الزّهد في الدّنيا وزينتها نافلةٌ مستحبَّةٌ، لا فريضة يستوجب الزّاهدُ بها رضي الله ورفع الدّرجات في جنّة المَأْوَى، وإن كانت الواجبات كلّها لا تكون إلاّ بالزّهد، فلا يسمَّى شيءٌ منها زهدًا، وقد اختصّت من الأسماء بما هو أليق بها من الزّهد، ألا ترى أنّ الإيمان لا يكون إلاّ بالزّهد في كل معبود سواه، والصّلاة لا تكون إلاّ بالزّهد في الاشتغال بما يصدّ عنها ويمنع منها، وكذلك سائر الفرائض والطّاعات. الطريق الرابع (¬3): في أسباب الزّهد وما يتعلق به من المعاني وهي مختلفة الوجوه، وهي ستّة أشياء: الزّهد، والزّاهد، والمزهود فيه، والمُزَهَّد في الدّنيا، والمزهود من أجله، والسّبب الباعث على الزّهد الذي عنه يكون الزّهد، والمزهود له. تفصيل ذلك: فأمّا الزّهد في الدّنيا، فهو الإصغار لجملتها والاحتقار لجميع شأنها، لتصغير الله لها ولتحقيره إيّاها في غير ما آيةٍ من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ¬
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} (¬1)، ومثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (¬2)، ومثل قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3)، وغير ذلك من الآيات يطولُ ذِكْرُها. وأمّا الزّاهد، فهو الّذي استصغر الدّنيا وأصرف قلبه عنها، وأقبل على الآخرة بالكُلَّيَّة، فتركها لِصِغَرِ قَدْرِها عنده، فلا يفرح بشيءٍ من الدّنيا، ولا يحزن على فقد شيءٍ منها، ولا يأخذ منها إلّا ما أُمِرَ بأَخْذِه، أو ما يُعِينُه على طاعة الله، ويكون قَلْبُه دائم الذّكر لله وذكر الآخرة. والتّفَكُّر فيما يؤولُ أَمْرُهُ إليه من شقاوة أو سعادة. وأمّا المزهود فيه، فهي الدّنيا الّتي هي ما حَوَاهُ اللّيل والنّهار، والاحتقار لجميعها وزينتها. وأمّا المزهود من أجله الباعث على الزّهد الّذي عنه يكون الزّهد، فخمسة أشياء: أحدها: أنّها مفتنةٌ مشغلة للقلوب عن التفكّر في أمر الله. والثّاني: أنّها تنقص عند الله درجات مَنْ رَكَنَ إليها. والثّالث: أنّ تركها قربة من الله وعلوّ مرتبته عنده في درجاتها من الجنّة. والرّابع: طولُ الحشر والوقوف في القيامة للحساب والسّؤال عن شكر النِّعَمِ. فهذا إذا فكّر فيه العبد زهد في الدّنيا. الخامس: رضوان الله والأمن من سخطه، وهو أكبرها، قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). ¬
وأمّا غيرها فيتركّب على هذا النوع. وأمّا المزهود له، فهو الله سبحانه الّذي رفض الزّاهد الدّنيا من أجله، ابتغاء مرضات الله وخوفًا من عقابه (¬1). ولهذه الوجوه والتقسيمات أَمْرٌ يطولُ الكتابُ به، وقد فَرَّغْنَا منه في القسم الرّابع في "سراج المريدين" فَلْينْظَرْ هنالك، فهذا ما حضرنا في هذه العجالة في حديث عيسى بن مريم وزهده صلوات الله عليه. حديث مالك (¬2)؛ أنّه بَلَغَهُ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دخل المسجدَ، فوجدَ فيه أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ وعمرَ بن الخطّاب، فَسَألُهُما، فقالا: أَخْرَجَنَا الجوعُ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: وأنا أخرجَنِي الجوعُ، فذهبوا إلى أبي الهَيْثَم بنِ التَّيِّهَانِ الأنصاريّ، فأَمَرَ لهم بشَعِيرٍ عنده يُعْمَلُ، وقَامَ يذبح لهم شاةً، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نَكِّبْ عن ذات الدَّرِّ فذبحَ لهم شاةً، واستعذب لهم ماءً، فعُلِّقَ في نخلةٍ، ثمّ أُتُوا بذلك الطّعام فأكلوا منه، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: لَتُسْئَلُنَّ عن نعيم هذا اليَوْمِ. الإسناد (¬3): قال الإمام: هذا الحديث قد يُسْنَدُ من طرقٍ كثيرةٍ أمثلها عن أبي هريرة، قال: خرجَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في ساعةٍ لا يخرُجُ فيها، فأتاهُ أبو بكرٍ، فقال عليه السّلام: ما أَخْرَجَكَ يا أبا بكرٍ؟ قال: خرجتُ للقاءِ رسول الله والنَّظَرِ في وجهه. قال: فلم يلبثْ أنّ جاء عمرُ، فقال: ما أخرَجَكَ يا عمرُ؟ قال: الجوعُ، قال: وأنا أجدُ بعضَ الّذي تَجِدُ، انطلِقُوا بنا إلى أبي الهَيْثَم بنِ التَّيِّهانِ، وكان كثيرَ النَّخْلِ والشَّاءِ، ولم يكن له خَدَمٌ، فأَتَوْهُ فلم يجِدُوهُ، ووجدوا امرأتَهُ، فقالوا: أين ذهَبَ صاحِبُكِ؟ فقالت: ذهب يستعذبُ لنا ¬
الماءَ من قناةِ بني فلانٍ، فلم يلبث أنّ جاءَ، فلمّا رأى رسول الله، جعل يَلْتَزِمُه ويفْدِيهِ بأبيه وأُمّه، فانطلق بهم إلى ظلٍّ وبَسَطَ لهم بساطًا، ثمّ انطلقَ إلى نخلةٍ، فجاء بِقِنْوٍ فوضَعَهُ بين أيديهم، فقال رسولُ الله: ألَا تَنَقَّيْتَ لنا من رُطَبه؟ فقال: أردتُ أنّ تتخيَّرُوا من رُطَبِه وبُسْرِهِ، فأكلوا ثمّ شرِبُوا من الماءِ، فلمّا فرَغُوا، قال رسولُ الله: "هذا والّذي نفسي بيده من النّعيم الّذي أنتم مسؤولون عنه، هذا ظلٌّ باردٌ، والرُّطَبُ الباردُ، عليه الماءُ الباردُ"، ثمّ انطلق يصنَعُ لهم طعامًا، فقال رسولُ الله: "لا تَذْبَحْ ذاتَ دَرٍّ" قال: فذَبَح لهم عَنَاقًا، فأكلوا، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "هل لكَ من خادِمٍ؟ " قال: لا، قال: "فإذا أتانا شيءٌ - أو قال سَبْىٌ- فَأتِنَا"، قال: فجاء رسولَ الله رَأْسَانِ ليس لهما ثالثٌ، فأتاه أبو الهَيْثَمِ، فقال له رسولُ الله: "خذ أحدَهُما"، فقال: يا رسولَ الله، اختر لي. فقال رسولُ الله: "المستشارُ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هذا، فإنِّي رأيتُه يصلّي، واستوصِ به معروفًا". فأتَى به امرأتَهُ، فحدَّثها بحديثِ رسول الله، فقالت: ما أنت ببالغٍ ما قال رسولُ الله فيه حتّى تَعْتِقَهُ، قال: هو عَتِيقٌ، فقال رسولُ الله: إنَّ الله لم يبعَثْ نبيًّا ولا خليفةً إلّا وله بِطانَتَانِ؛ بِطانةٌ تأمُرُهُ بالمعروف وتنهاه عن المنكرِ، وبطانةٌ لا تَأْلُوهُ خَبَالًا، ومن يُوقَ بِطانةَ الشَّرِّ فقد وُقِيَ (¬1). قال الإمام: هذا هو الحديث الطّويل عن أبي هريرة الصّحيح. عربيّة: أبو الهيثم اسمه مالك، وهو من الأنصار (¬2). ¬
وقوله: "من النَّعيمِ الّذي تسألون عنه" النّعيم عبارة في اللّغة عن الزّيادة كيف ما تصرّفت (¬1). وقوله: "واستعذب لهم ماءً" يريد: اختاره عَذْبًا وعلّقه في نخله ليبرد، وهذا كلّه يدلُّ على جواز إصلاح الطّعام والشّراب، والمبالغة في تطييبه بإتحاف الضّيف والصّديق بأفضل ما يجده منه، كما أخبر عن إبراهيم أنّه راغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (¬2). وقوله (¬3): "نَكِّبْ عن ذات الدَّرِّ" يريد: ذات اللّبنِ، والدَّرُّ اللَّبَنُ، وهذا على سبيل النُّصْحِ له والتّوفير عليه، مع أنّ غيرَها ممّا لا منفعةَ فيها تقومُ مقامَها في صلاح تَطْيِيبِ طعامِهِم، وتَبْقَي منفعةُ هذه، فاحتاط عليه. الفوائد المطلقة: فيه أربع فوائد: الفائدةُ الأولى (¬4): هذا الحديث أدخله مالك بلاغًا، وهو صحيحُ السَّنَدِ كما بينّاه وأسندناه، وكان مقصودُه فيه أنّ يُبَيِّن معيشةَ النّبيِّ وأصحابِه؛ فإنّهم كانوا إذا وجدوا شبعوا، وإذا فَقَدُوا صَبَرُوا، إذا رأوا ذا الحاجة عادُوا عليه بما في أيديهم حتّى يعودوا مِثلَهُم، وهذا أمرٌ لا طاقة لأحدٍ به، وأنت ترى المحتاجين إلى الغذاء العُراة من اللّباس، وبأيدي الخَلْقِ من الأموال ما لو أخرَجُوا منها ما لا يُحسُّ به، لَأغْنَى الخَلْق عن ذلك، ولكنّ الله قبضَ ¬
أيديَهُم حتّى يحكُمَ فيهم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} الآية (¬1). الفائدةُ الثّانية (¬2): فيه من السُّنَّةِ: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لَمَّا غَلَبَتْهُ الحاجةُ خرجَ لِيَسْتَطْعِمَ، كما فعَلَ أخوه موسى مع الخِضْر عليهم السّلام، حين أَتَيَا أهلَ قريةٍ اسْتَطْعَمَا أهلَها. ورأى الصّوفيّةُ الصّبرَ على القضاءِ حتّى يأتيَ الرّزقُ، وقد جرّبوا ذلك فوجَدُوه، وجاءهم كما أرادُوه؛ لأنّهم أضيافُ الله فلا يعجزهم شيءٌ. وقيل لبعضهم - وقد حضَّ على التّفويضِ والتوكُّلِ، وَنَهَى أنّ يتعرَّضَ أحدٌ للطّلب، أو يُعْلِمَ بَشَرًا بالحاجة -: فادْخُل في بيتٍ، واطْمسْ عليك البابَ، وافْتَح في أعلاه كَوَّةً حتّى ترى إنَّ نزل عليك منها رِزْقٌ؟ قال: قد واللهِ فعلتُ ذلك سبعةَ أشهُرٍ، والتجربةُ تَقَعُ في ثلاثةِ أيّامٍ. قال الإمام: وهذا الّذي قالوه حقٌّ في دِينِ الله، وفي بَرِيَّتِهِ وحكمته، ولكنّها منزلةٌ رفيعةٌ لا تتأَتَّى لكلِّ أحدٍ، وقد كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - أحقَّ الخَلْقِ بها، وأقدَرَهُم عليها وأولَاهُم، لرفيع منزلته بها، وكذلك موسى، ولكنّ أراد الله أنّ يهدي الخَلْقَ بهم، وُيبَيِّن السُّنَّة بهم؛ لَمَا علِمَ من ضَعْفِ توكُّلِهِم وقلَّة صبرِهِم. الفائدةُ الثّالثة (¬3): والخروج عند الحاجة يكونُ على وجهين: ¬
إمّا بالتّعريض من غير سؤالٍ، كما فعلَ أبو هريرةَ حين خرجَ يَسْتَقْرِىءُ القرآنَ لعلّ يُفْهَم في صوتِهِ الجوعُ؛ صيانةً لماءِ الوجهِ، مع التّوَسُّل بالإعلامِ بالحاجةِ، فلم يَفْهَمْ ذلك أحدٌ منهم ممّن تعرّض له إلّا الرّسول (¬1). وإمّا أنّ يَخْرُجَ إلى شخصٍ معيَّنٍ يَغْلِبُ على ظنّه أنّه يَرْفَعُ حاجته. وإمّا أنّ يعْرِضَ نفْسَهُ على كلِّ أحدٍ، وهي الغايةُ في الكشفةِ (¬2)، ولمّا خرجَ رسولُ الله إلى أبي الهيثمِ مع أصحابه، وخبزَ لهم وذَبَحَ واستَعْذَبَ، فبلغوا ما أرادُوا من ذلك، قال لهم النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَتُسْئلُنَّ عن نعيمِ هذا اليومِ". إشارةً منه إلى أنّهم لو وَجَدُوا كِسْرَةً تُقيمُ الصُّلْبَ وتَحْفَظُ القوّةَ، لكان في ذلك كفايةٌ وغُنْيَةٌ، فكيف وقد وجدوا الأَثَافِىَّ الثّلاثةَ الّتي يَقُومُ بها قِدْرُ اللَّذَةِ، وهي الخُبزُ واللَّحمُ والماءُ الباردِ. الفائدةُ الرّابعة (¬3): اختلف الشّارحون للحديثِ في ضبط قوله: "لَتُسْأَلُنَّ" هل هو بالتّاء على معنى خطاب النّبىِّ للقوم، أو بالنّون على معنى الإخبارِ عنه وعنهم، والنّبىُّ عليه السّلام لا شكّ مسؤولٌ، ولكن مضمونٌ عنه صِحَّةُ ما يقولُ، وسائرُ الخَلْقِ يتفاوتونَ في المرتبة، فأقواهُم حُجَّةً أعظمُهُم سلامة، وخصوصًا أبو بكرٍ وعمرَ، ولهذا طُرِحَ لعمرَ صاعٌ من تَمْرٍ فأكَلَهُ (¬4) لحاجته إليه، ولو فَقَدَهُ لصَبَرَ عنه. ¬
نكتةٌ (¬1): وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فذهبوا إلى أبي الهَيْثَمِ" يقتضي أنّهم ذهبوا إليه ليُطعِمَهُمْ ما يسدُّ جوعَهُم، فدلَّ ذلك على جوازِ قصْدِ المؤمنِ إلى صديقِهِ الّذي يَعْلَمُ سرورَهُ به ومبادَرَتِهِ إلى مشارَكَتِهِ عندَ الحاجةِ إلى ذلك، وليس فيه أنّهم ذكروا له جوعَهُم، فكان ذلك من التّعريض المعروف يُجْرِيهِ الله على يَدِهِ. وفي هذا الحديث ما كان عليه القومُ في أوّل الإسلام من ضِيقِ الحالِ وشَظَفِ العيشِ، وما زال الأنبياءُ والصّالحون يجوعون مرّةً ويَشْبَعُوَن أخرى. حديث مالك (¬2)؛ عن عبد الله بن دِينَارٍ؛ عن عبد الله بنِ عمرَ؛ أنّه قال: سُئِلَ عمر بن الخطابِ عن الجرادِ، فقال: وَددْتُ أنّ عندي قَفْعَةٌ نأكلُ منه. عربيّة: قوله: "قَفْعَة" وهي عندهم ظرفٌ يُعْمَلُ من الحَلْفاءِ وشِبْهِها، مستطيلٌ (¬3)، شبيةٌ بالْمِكْتَلِ (¬4)، فتمنّى عُمَرُ بهَا مملوءَةً من جرادٍ. وقيل (¬5): هي قُفُّةٌ أكبرُ من المِكْتَلِ، وأهلُ العراق يُسَمُّونَها جُلَّةً، وقال ابنُ مُزَيْنٍ: وأهلُ مصرَ يسمُّونَها زِنْبِيلًا. أحكامه: وسأل السّائلُ عمرَ عن الجراد: يريدُ أنّ السّائلَ سأَلَهُ أحلالٌ أَكْلُه أم لا، فكان على ¬
ما جاء في لبس الخاتم
وجه الاستفهام، والفقهاءُ مجتَمِعُون على إباحةِ أكْلِهِ، وإنّما اختلفوا في ذَكَاتِهِ، هل هي شرطٌ في جواز أَكْلِهِ (¬1)؟ فكان مالك يقولُ: لا يؤكلُ حتّى يُذَكَّى، وذَكاتُه قَتْلُهُ كيف ما أمكَنَ؛ بالدَّوْسِ، أو قَطْعِ الرّأس، أو الطَّرْح في النّارِ، ونحوِ ذلك ممّا يُعَالَجُ به موتُهُ، إذ لا حَلْقَ له ولا لَبَّةَ، فَيُذَكَّىَ فيها أو يُنْحَر (¬2). وقال الشّافعيُّ (¬3) والكوفيُّ (¬4) وسائرُ أهلِ العِلْمِ (¬5): الجرادُ لا يحتاجُ إلى ذكاةٍ، وحُكْمُهُ عندَهم حُكْمُ الحِيتَانِ، ويُؤكَلُ الحيُّ منه والميِّتُ ما لم يُنْتِنْ. ما جاءَ في لُبَسِ الخاتَمِ قال الإمام: الأحاديث الواردة في هذا الباب ثمانية: الحديث الأوّل: ما رَوَى مالك (¬6)، عن عبد الله بن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يلبَسُ خاتَمًا من ذهبٍ، ثمّ قام رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - فَنَبَذَهُ، وقال: "لا أَلْبَسُهُ أَبدًا" قال: فنبذَ النّاسُ خواتِمَهُمْ. الحديث الثّاني: مالك (¬7)، عن صَدَقَةَ بنِ يَسَارٍ، قال: سألتُ سعيدَ بن الْمُسَيِّبِ عن لُبْسِ الخاتَمِ؟ فقال: الْبَسْهُ، وأَخْبِرِ النّاسَ أَنِّي أَفْتَيْتُكَ بذلك. قال الإمام: والّذي أفْتَى به سعيد إنّما هو في خاتم الفضّة. ¬
الحديث الثّالث: حديث علىِّ (¬1)، قال: "نهاني النّبىُّ عن التَّخَتُّمِ بالذَهبِ، وعن لباس القَسِّىِّ، وعن القراءةِ في الرّكوعِ والسّجودِ، وعن لباس المُعَصْفَرِ" حديث حسن صحيح. الحديث الرّابع: رُوِيَ أنّه جاء إلى رسولِ الله رجلٌ وعليه خاتَمٌ من شَبَهٍ (¬2)، يعني من صُفْرٍ، فقال له النبيُّ عليه السّلام: "إنّي لأجدُ منك ريح الأصنام". وجاء إليه آخرُ وعليه خاتَمٌ من حديدٍ، فقال له: "اطرح عنك حِلْيَةَ أهلِ النّار" وجاءَهُ آخر وعليه خاتَمٌ من ذهبٍ، فقال له: "اطرح عنك حِلْيَةَ أهلِ الجنّة في الدُّنيا" (¬3). وقد رُوِيَ أنّه كان للنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - خاتمٌ من حديد وقد لوّي عليه بفضّة (¬4). الخامس: ورُوِيَ عن ابن مسعود، قال: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يكْرَهُ عَشْرَ خصالٍ، أو قال: عَشْرَ خلالٍ من البدعةِ، كما كان يحبُّ عشرَ خلالٍ من الفطرة، قال ابن مسعود: الصّفرةَ - يعني الخَلُوق (¬5)، وتغيير الشَّيب، وجرَّ الإزار، والتَّخَتُّمَ بالذَّهب، والتَّبرُّجَ بالزِّينة لغير محلِّها، والضّربَ بالكِعَاب، والرُّقَى إلّا بالمعوِّذات، وعقدَ التّمائم، وعَزْلَ الماء عن الجارية، وفسادَ الصَّبِىِّ - يعني الغِيْلَة - (¬6). السّادس: قال علىٌّ رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يتختّم في هذه وهذه، ¬
يعني الوُسْطَى والسَّبَّابَة" (¬1) فتأَوَّلَهُ التّرمذيّ (¬2) على أنّه يكره التختّم في الأصبعين (¬3)، وليس كذلك، وإنّما المعنى فيه - والله أعلم - إلّا يَتَشَبَّهَ الرّجالُ بالنِّساءِ بالتَّخَتُّم في الأصابع كلِّها. وقد صحَّ أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - تختَّمَ في يمينه (¬4) وفي يساره (¬5)، واستقرَّ الحالُ على أنّ التّختُّمَ في اليسار، وهو زينةٌ مرخَّصٌ فيها لجميع الأُمَّةِ، وليس لها عندي معنى، بل هي ثقل لليد وشغل للبال. السّابع: عن أنس، أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ خاتمًا من ذهبٍ ثمّ نَبَذَهُ، واتّخذَ خاتَمًا من وَرِقٍ نَقَشَ فيه: محمَّدٌ رسولُ الله، فكان في يَد أبي بكرٍ، ثمّ في يدِ عمرَ، ثمّ سقطَ من يد عثمان في بئر أَرِيسٍ (¬6) بعد أنّ أقام في يد عثمان ستّ سنين (¬7). الحديث الثّامن: حديثٌ يُرْوَى عن أبي ريحانة؛ أنّه سمع النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬8) "ينهى عن عشر خصالٍ: عن الوَشْمِ، وعن الوسم، والتَّختُّم لغير ذي سلطان" (¬9) وهو حديثٌ ¬
ضعيفٌ (¬1). وقد أجمع النّاسُ بعد هذا القائل على جواز التَّخَتُّمِ. والذي استقرّ عليه الحال أنّ النّبىَّ - صلّى الله عليه وسلم - اتّخذَ خاتَمًا من فضّة وزن درهمين، والسّبب في كَسْبِهِ؛ أنّ النّبىَّ عليه السّلام أراد أنّ يكتب إلى الأعاجم، فقيل له: إنّهم لا يقرأون كتابًا إلّا مختومًا، فاتّخذه كلّه من فضّةٍ (¬2). قال الإمام: هذا ما ورد من الأحاديث في لباس الخاتم. العربيّة: قال أهلُ العربيّة: في الخاتم خمسُ لغاتٍ، خاتمٌ، وخاتَامٌ، وخيتامٌ، وخيتوم، ذكر هذه اللّغات أبو عليّ في "البارع" (¬3) له. الأحكام في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬4): الخاتَمُ عادةٌ في الأُمم ماضية، وسُنَّةٌ في الإسلام قائمة، أراد - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يكتبَ إلى العَجَمِ يدعوهم إلى الله، فقيل له: إنّهم لا يقرأون كتابًا إلّا أنّ يكون مختومًا، فاتّخذَ الخاتَم لأجل ذلك، وكان قبلُ إذا كتب كتابًا خَتَمَهُ بظُفْرِهِ، ثمّ اتّخذ الخاتَم، فنقش فيه ثلاثة أسطارٍ: محمّد في سطرٍ، ورسول في سطرٍ، والله في سطرٍ (¬5). المسألة الثّانية (¬6): الاقتداءُ بالنّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أصلٌ من أصولِ الدّينِ في فعله، كما هو أصل أنّ يُقْتدَى به في قوله، والقولُ هو الأوّلُ، والفعلُ محمولٌ عليه وإن كان مختلفًا في تفضيله، والصّحيحُ ¬
أنّه حُجَّة كما بينّاه في "أصول الفقه"، وهو حقيقة قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1) يعني: في قوله وفعله. المسألة الثّالثة: قال علماؤنا: التَّختُّمُ في الشّمال، ولا ينبغي في اليمين على حالٍ، والمُتَخَتِّمُ في اليمين رافضىٌّ مُبْغِضٌ لأبي بكر وعمر. وقد كانت قريش تختم في اليمين. واستقرَّ الحالُ على التَختُّم في الشّمال، والحكمةُ في التّخَتُّم في الشّمال إنّما هو لقلِّةِ التّصرُّف؛ لأنّ التّصرُّف إنّما هو باليمين، فإذا تختَّمَ في اليمين فكأنّه إظهارٌ للخاتَم في جميع الأحيان، وهذا فيه شيءٌ من التَّرَفُّهِ، وقد كان رسولُ الله يحبُّ التْيامُنَ في جميع أمَوره إلّا في الخاتم. وعلى التَّختُّمِ في الشّمال أجمع أهل السُّنَّةِ (¬2)، وهو مذهبُ مالكٍ. ولو تَخَتَّمَ أحدٌ اليومَ في يمينه لَأُدِّبَ على ذلك؛ إلّا أنّ يجعلَه تذكرةً لحاجة يتذكّرها، كما يربط الإنسانُ خيطًا في أصبعه (¬3). المسألة الرّابعة: ولا يكون الخاتَمُ إلّا من فضّةٍ، فإن كان فيه فَصٌّ من ذهبٍ، فإنّه لا يجوزُ، وإن كان فيه مقدار الحبّة من الذّهب لئلَّا تَصْدَأ، فقد كَرِهَ ذلك مالك في "العُتبيّة" (¬4). ولا بأس أنّ ينقش في خاتَمِه اسم الله. فإذا كان في شماله، هل له أنّ يستنجي به أم لا (¬5)؟ فقد تقدّم الخلاف في ذلك في كتاب الطّهارة، والصّحيح عندي أنّه لا يجوز الاستنجاء به. المسألة الخامسة: اختلف النَّاس في اتِّخاذِ الخاتَم لغير ذي سلطان، فأجازَهُ مالك، ولذلك أدخل ¬
ما جاء في نزع المعاليق والجرس من العين
حديث سعيد بن المُسَيَّب (¬1) أنّه قال عن صَدَقَةَ بن يَسَارٍ، سألت سعيد بن المُسَيّب عن لُبْسِ الخاتَم؟ فقال: الْبَسْهُ وأخبِرِ النّاسَ أنِّي أَفْتَيْتُكَ بذلك. فأدخله مالك ردًّا على علماء الشَّام لأنّهم يمنعون من ذلك لغير ذي سلطان. نكتةٌ: وأمّا التَختُّم بالذّهب، فإنّه منسوخٌ من فِعْلِهِ (¬2)، ونَبْذِهِ والمنسوخُ لا يَحِلُّ استعمالُه، وهذا للرّجال، وأمّا للنّساء، فلا خلاف بين العلماء أنّ التَّختُّم بالذّهب للنّساء جائزٌ. ما جاء في نَزْعِ المَعَاليق والجَرَس من العين (¬3) حديث عبَّاد بن تَمِيم (¬4)؛ أنّ أبا بشير الأنصاريّ أَخْبَرَهُ، أنّه كان مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فأرسلَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - رسولًا والنّاسُ في مَقِيلِهِمْ: "لا تَبْقَيَنَّ في رقَبَةِ بَعِيرٍ قِلادَةٌ من وَتَرٍ، أو قِلادةٌ إلّا قُطِّعتْ" وتأوّله مالك أنّ ذلك من العين، وهو الصّحيح. الإسناد (¬5): قال الإمام: هكذا هذا الحديث في "الموطَّأ" عند جمهور الرُّوَاةِ، ورواهُ رَوْحُ بنُ عُبادةَ (¬6)، عن مالكٍ بإسناده، فقال فيه: فأرسلَ رسولُ الله زيدًا مولاهُ. ¬
الأصول (¬1): المعاليق فيها كلامٌ طويلٌ، مختصرُه: أنّ من علَّقَ في عُنُقِ دابَّتِه عِلاقَة، فلا يخلو أنّ يقصد بها الجمال، أو يقصد بها دفع المَضَرَّة من عينٍ أو غيره، فإن قصد بذلك الجمال لم يكن عليه في ذلك حَرَجٌ إذا كان ذلك غير مُضِرٍّ بالدابّةِ، فقد رُوِيَ عن النبيِّ عليه السّلام أنّه إنّما أمر بقطع الأوتار لِئَلَّا تختنق الدّابَة عند عَدْوِها، فلو كانت متَّسِعَة لم يمنع من ذاك على معنى هذا الحديث. وإن كان إنّما علّقها من العين، فقد قالوا: إنَّ ذلك لا ينبغي، ولا يجوز تعليق شيءٍ على جهة التّقية قبل نزول المرض. وقيل: لا يجوز بعد نزول المرض، لما رُوِيَ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "من علّق شيئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" (¬2). وعن عُقْبَة بنِ عامِرٍ، قال: سمعت رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "من علَّق تميمةً فلا أَتَمَّ الله له، ومن علَّقَ وَدَعَةَ فلا وَدَعَ الله لَهُ" (¬3). وقال بعض النَّاس: إنّما نَهَى رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - ألَّا تبقى قِلَادَة في عُنُقِ بعيرٍ؛ لأنّ الجاهليّة كانت تجعل الأوتار في أعناقها تَعَوُّذًا بذلك، فَنَهَى النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - عن ذلك، وبَيَّنَ أنّه لا يجوز التَّعوُّذُ بغير اسم الله تعالى. والّذي (¬4) يَصِحُّ من هذا، أنّ النّبي كان يرقي قبل نزول البلاء، ويأمرُ بالاستعاذةِ تقيِّة أنّ ينزل، وكان لا يعلِّق شيئًا ولا يأمر به. فإن علَّقه على نفسه من أسماء الله تعالى الصّريحة، فذلك جائزٌ؛ لأنّ من وكل إلى أسماء الله تعالى فقد أخذَ الله بيده. ¬
المسألة الثّانية: وقد قال مالك: لا بأس بتعليق الكُتُبِ الّتي فيها اسمُ الله تعالى على أعناق المرضَى (¬1)، وكرِهَ من ذلك ما أُريدَ به مدافعة العين (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: من علّق بعد نزول البلاءِ فليس بتميمةٍ (¬3). وقد رُوِيَ عن ابن مسعود أنّه قال: الرُّقَى والتَّمائمُ والتِّولَةُ (¬4) شِرْكٌ، فقالت له أمّ امرأته: ما التِّولَةُ؟ قال: التّهيجُ (¬5). المسألة الثّالثة (¬6): ولا بأس أنّ يعلِّقَ العَوْذَةَ فيها القرآنُ وذِكْرُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على جهة أُنْسِ النَّفْسِ بذِكْرِ الله، كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬7)، ويكونُ ذلك إذا خُرزَ عليها جِلْدٌ، ولا خَيْرَ في أنّ يَعْقِدَ في الخَيطِ الّذي يَرّبِطُ به، ولا في أنّ يَكْتُبَ في ذلك: خاتَمُ سُليمانَ، قاله مالك. وقال: لا بأس أنّ يُعَلِّقَ الحِرْزَ من الحُمْرَةِ (¬8). ¬
فصل في ذكر الترجمة
ولا بأس بالنّشرة بالأشجار والأَذْهَانِ، ورُوِيَ أنّ عائشة رضي الله عنها سُحِرَت، فقيل لها في منامها: خذِي ماءً من ثلاثة آبارٍ تجري بعضها إلى بعض، فاغْتَسِلي به، فَفَعَلَتْ، فذهب عنها ما كانت تَجِدُهُ (¬1). وسُئِل مالك في "العُتبية" (¬2) عمّا (2) يُعَلِّقُ من الكتبِ؟ فقال: ما كان من ذلك فيه كلام حسن فلا بأْسَ به. فصل في ذكر التّرجمة (¬3) ذكر مالك في التّرجمة في هذا الباب نَزْعَ المَعَالِيقِ والجَرَسِ من العينِ، ولا ذِكْرَ لها في الحديث، إلّا بمعنى أنّها لا تُعَلَّقُ في عُنُقِ البعير إلّا بقِلادَةٍ، فاقتضَى الأمرُ بنَزْعِ القلائدِ الأَمْرَ بنَزعِهَا، إلّا أنّ هذا إنّما يكونُ إذا حُمِلَ الأَمْرُ بنزعِ القلائدِ على عُمُومِهِ. وعن أبي هريرة، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصْحَبُ الملائكةُ رُفْقَةً فيها كَلْبٌ ولا جَرَسٌ" (¬4) صحيح حسن (¬5). قال الإمام (¬6): أمّا الأجراسُ، فلا تجوزُ بحالٍ؛ لأنّها أصواتُ الباطلِ وشِعَارُ الكفّار. وأمّا صُحْبَةُ الكلابِ، فكان ذلك عند النّهي عن اتّخاذها. فإن احْتيجَ إليها، جازَ ذلك ولم يمنع من صحبتها. ¬
الوضوء من العين
الوُضوءُ من العَيْن قال الإمام: الأحاديث الواردة في هذا الباب ثلاثة: الأوّل: ما رواه مالك (¬1). الحديث الثّاني: "لا شيءَ في الْهَامِ والعيْنُ حقٌّ" (¬2). الثّالث: عن ابن عبّاس قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لو كان شيءٌ سَابَقَ القَدَرَ لَسَبَقَتْهُ العينُ، فهذا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا" (¬3). التّرجمة: قال الإمام: بوَّبَ مالك -رضي الله عنه - في موضع، فقال: "بابُ الرُّقْيَة من العين" (¬4)، وفي موضع: "باب الوضوء من العين" (¬5) وفائدةُ ذلك؛ أنّ العائنَ لا يَخلُو أنّ يُعْرَفَ أو يُجْهَلَ، فإن كان معروفًا، توضّأ للمعيون فَتَدَاوَى، كما رُوِىَ عنِ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬6). وإن كان مجهولًا، اسْتَرقَى منه، كما رُوى في الحديث: "إنَّ هؤلاء تُسْرِعُ إليهما العينُ" الحديث (¬7). الأصول (¬8): اعلموا أنّ الله تعالى هو الخالقُ وحدَهُ، فليس في السّمواتِ ولا في الأرضِ حركةٌ ولا سَكَنَةٌ، ولا كلمةٌ ولا لَفْظَةٌ، إلّا والبارىءُ هو خالِقُها في العبدِ، ومُصَرِّفُها فيه، ومُقَدِّرُها له، وهو تعالى يُرتِّبُ أفعالَهُ ويُنَظِّمُ أسبابَها، وُيرَتِّبُ الفوائدَ على الأسبابِ، ولو ¬
شاء لقَطَعَ الرّوابطَ وخَلَقَ الكلَّ ابتداءَ. وإنّما نَظمَ هذا ليُنَبِّهَ الغافلينَ على ذلك، فيقال: إنَّ الله هو الفاعلُ لكلِّ شيءٍ، وأجْرَى العادةَ بكذا. وقد يفهَمُ الخَلْق حكمةَ الله في جَرْيِ الأسباب (¬1). وهذا كلّه يردُّ على الفلاسفةِ حيثُ ذهبوا إلى أنّ ما يُصيبُ المَعِينَ من جهة العائن، إنّما هو صَادرٌ عن تأثير النَّفْسِ بقُوِّتِها فيه، فأوّلُ ما تُؤثّرُ في نفسها، ثمّ تقوى فتؤثّر في غيرِها. وقيل: إنّما هو سُمٌّ في عينِ العائنِ يصيبُ لفحه المَعِين عند التّحديق إليه، كما يصيبُ لفح سُمّ الأفاعي من تتّصلُ به. وقالوا أيضًا: إنَّ تأثيرَ الأشياءِ بعضها في بعضٍ يفترق إلى أربعة أوصاف: 1 - منها: تأثيرُ الأجسامِ في الأجسامِ، كالمغْنَطِيس في الحديد. 2 - ومنها: تأثيرُ الأَنْفُسِ في الأَنْفُسِ، كالسِّحرِ والرُّقية. 3 - ومنها: تأثيرُ الأَنْفُسِ في الأجسامِ، كالعينِ والرّقية. 4 - وإنّ هذه كلّها عوارض تُؤثِّر. وقد أبطلنا قولهم بثلاثة أمور: الأوّل: ما ثبت أنّه لا خالِقَ إلّا الله. الثّاني: إبطالُ التَّوَلُّدِ، إذ يقولون: إنّه يتولَّدُ من كذا وكذا، وليس يَتَولَّدُ شيءٌ من شيءٍ، بل المُوَلد والمتولّد عنه كلُّ ذلك صادرٌ عنِ القُدْرَة دون واسطةٍ. الثّالث: أنّه لا يصيبه من كلِّ عينٍ ولا من كلّ متكلّمٍ، ولو كان برسم التَّولُّد لكانت عادة مستمرّة، ولثبتت في كلِّ الأحوال. ¬
وأمّا الّذين يقولون: إنّها قوّةٌ سُمّيّة كقّوة سُمِّ الأفاعي، فإنّها طائفةٌ جهلية، وقد وقعت في عَمِيَّة، لا على عقلٍ حصلت، ولا في الشّريعة دخلت، ولا بالطِّبِّ قالت، وهل سُمُّ الأفعى إلّا جزء منها! فكلُّها قاتلٌ، والعائنُ ليس شيءٌ يقتلُ منه في قولهم إلّا نَظَرُهُ، وهو معنى خارج عن هذا كلّه. والحقيقة والحقّ فيه: أنّ الله سبحانه يخلُق عند نَظَر المُعاين إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألمٍ أو هَلكةٍ، وكما لا يخلقه بإعجابه وبقوله فيه، فقد يخلقه ثمّ يصرفه دون سببٍ، وقد يصرفه قبل وقوعه بالاستعاذة، فقد كان النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحُسَيْن بما كان أبوه يُعَوِّذُ به ابنَيْه إسماعيل وإسحاق: "أعوذ بكلماتِ الله التامّة، من كلِّ شيطانٍ وهَامّة، ومن كلِّ عينٍ لَامّة" (¬1). وقد يصرفه بعدَ وُقوعِه بالاغتسال؛ فإنّه أَمَرَ - صلّى الله عليه وسلم - بالغُسْلِ، وأَمَرَ الّذي يُسأل الغسل أنّ يُجيبَ إليه، كما تقدّم في قوله: "وإذا اسْتُغْسِلْتُمْ" (¬2) أي: سُئِلْتُم الغسل فأجيبوا إليه. مسألة (¬3): واختلف النَّاس في العائن، هل يُجبَر على الوضوء للمعيون أم لا؟ واحتجّ من قال بالجَبْرِ بقوله في "الموطَّأ" (¬4):"توضَّأ له"، وبقوله في "مسلم" (¬5): "وإذا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا". وهذا أمرٌ يُحمَلُ على الوُجُوبِ، ويَبْعُدُ الخلافُ فيه إذا خُشِيَ على المعيون الهلاك، وكان وضوء العائن ممّا جرتِ العادةُ به بالبُرْءِ به، أو كان الشّرع أخبر به خبرًا ¬
عامًّا، ولو لم يكن زوال الهلاك عن المعيون إلّا بوضوء هذا العائن؛ فإنّه يصير من باب من تَعَيَّنَ عليه إحياء نَفْسِ مسلمٍ، وهو يُجْبَرُ على بذل الطّعام الّذي له ثَمنٌ ويضرُّ بَذْلُه، فكيف بهذا الّذي يرفع الخلاف فيه. المسألة الثّانية (¬1): قوله في الحديث الصّحيح: "فلْيَغْسِلْ له دَاخِلَةَ إِزَارِهِ" (¬2) وقد اختلَفَ النّاسُ في ذلك: فمنهم من قال: هو كِنايةٌ، يعني بداخلة إزاره: فَرْجَهُ (¬3). والظّاهر منه - بل هو الحقّ -: أنّ يريدَ به ما يلي البدن من الإزار. وقد وصف النّاسُ الغُسْلَ، وأخصُّ النَّاس به مالك؛ لأنّ النّازلةَ كانت في بَلَدِه، ووقعت بجيرانه، فنقلوها وقد حصّلوها مشاهدةً، وذلك بأن يغسل وجهه، ويديه ومرفقيه، ورُكْبَتَيْه وأطراف رجليه، ودَاخِلَة إزاره، في قَدَحٍ، ثمّ يصبّ عليه (¬4)، ومن قال: لا يجعل الإناء في الأرض ويغسل كذا بكذا، فهو كلّه تحكُّمٌ وزيادةٌ، وقد يصرفه اللهُ بالتّبريك، وقد قال النّبىُّ عليه السّلام لعامر بن رَبِيعَة: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخاهُ؟ ألَّا بَرَّكْتَ" (¬5)، وهذا إعلامٌ وتنبيهٌ بأنّ البركةَ تدفعُ تلك المضرّة، والله أعلم. ¬
الرقية من العين
الرّقية من العين مالك (¬1)، عن حُمَيْدِ بنِ قَيْسٍ؛ أنّه قال: دُخِلَ على رسولِ الله بِابْنَي جعفرِ بن أبي طالبٍ، فقال لحاضِنَتِهما: مالي أراهما ضَارِعَيْنِ؟ فقالت حاضِنَتُهُما: يا رسولَ الله، إنّه تَسْرَعُ إليَهما العينُ، ولم يمنَعْنَا أنّ نَسْتَرْقِيَ لهما إلّا أنّا لا ندري ما يُوَافِقُك من ذلك، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "اسْتَرْقُوا لهما، فإنّه لو سبقَ شيءٌ القَدَرَ لَسَبَقَتْهُ العينُ". الإسناد (¬2): قال الإمام: هكذا رواهُ أصحابُ مالكٍ عن مالك في "الموطَّأ" عن حُمَيْد، ولم يذكره غيرهُ، ورواه ابنُ وهبٍ في "جامعه" منقطعًا (¬3)، وهو يُسْنَدُ من حديث أسماء بنت عُمَيسٍ، وجابر، وغيرِهما من طرق صِحَاحٍ (¬4). العربيّة (¬5): قوله: "ضَارِعَيْنِ" أي: ضعيفين نَاحِلَيْنِ، وللضّراعَةِ وجوهٌ في اللّغة (¬6). والحاضنةُ والحضانَةُ معروفةٌ، وقد تكون الحاضنةُ هنا أمّهما أسماء بنت عُمَيْس، كانت تحتَ جعفرِ بنِ أبي طالبٍ، ومعه هاجَرَت إلى الحَبَشَةِ، وولَدَت له هناك عبدَ الله ابنَ جعفرٍ، ومحمّدَ بنَ جعفرٍ، وعَوْنَ بنَ جعفرٍ، وهَلَكَ عنها بغزوة مُؤْتَة، فخلَفَ عليها بعدَهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، فولَدَت له محمّدَ بنَ أبي بكرٍ، ثمّ هلَكَ عنها، فتزوّجها عليُّ بنُ أبي طالبٍ، فولَدَت له يحْيَى بنَ علىِّ، على ما ذَكَرَهُ الواقديّ (¬7). ¬
الأحكام في ستّ مسائل: المسألة الأولى (¬1): هذا الحديث فيه دليلٌ على أنّ العين حقٌّ يُتَأَذَّى بها، وأن الرُّقَى تنفعُ منها إذا قدّر الله بذلك. فالشّفاءُ بِيَدِ الله لا شريك له، وسبيلُ الرُّقَى سبيلُ سائرِ العلّاج والطِّبِّ. الثّانية (¬2): قولُه: "لو سَبَقَ شيءٌ القَدَرَ لسبَقتهُ العينُ" دليل على أنّ الصِّحَّة والسَّقَم بيد الله وقد عَلِمَهُما الله، وما عَلِمَهُ الله لابدّ من كونه على ما عَلِمَهُ، لا يُجَاوِز وقته، ولكنّ النّفس تسكُن إلى العلّاج والطِّبِّ والرُّقَى، وكلُّ ذلك سبب من أسباب الله وعِلْمِهِ. الثّالثة (¬3): قولها (¬4): "كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَأمُرُنِي أنّ أسْتَرْقِيَ من العينِ" وجميعُ الرُّقَى عندنا جائزةٌ إذا كانت بكتاب الله وذِكْرِ الله، ويُنْهَى عنها بالكلام العجميّ ومالا يُعرَف معناه؛ لأنّه يجوزُ أنّ يكونَ فيه كُفْرٌ لا يُعْرَف أنّه كفرٌ أو شِرْكٌ. وقد كَرِهَ مالك أنّ يَحْلِف بالعجميّة، قال: وما يُدْرِيهِ أنّ الّذي قال كما قال (¬5). الرّابعة (¬6): وأمّا رُقْيَةُ أهلِ الكتابِ، فاخْتُلِفَ فيها، وأخَذَ مالك بكراهيّتها (¬7)، على أنّه رَوَى في ¬
"موطَّئه" (¬1) عن الصِّدِّيق - رضي الله عنه -؛ أنّه أمر الكتابيّة أنّ ترقي بما في كتاب الله (¬2). وكانتِ العربُ ترقي من النَّمِلَةِ (¬3). وأمّا الرُّقَى بكتاب الله وأسمائه وتعظيمه، فهو الشِّفاء الأعظم والدّواء الأنفع. الخامسة (¬4): إذا كان الأفضل الرُّقية بكتاب الله، فالفاتحةُ أصلٌ، وفيها الحديث الصّحيح في قطيع الغنم (¬5)، وبالمعوّذتين، فقد كان - صلّى الله عليه وسلم - لا ينام حتّى يقرأ الصَّمَد والمُعَوِّذتين، ويَنْفُثُ في يَدَيْهِ ويمسحُ بهما وجهه وما أدرك من بَدَنِه (¬6). ورَوَى التّرمذيّ (¬7)؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذُ من الجانّ وعينِ الإنسانِ، حتَّى نزلت المُعوِّذتان. وفي الصّحيح؛ أنّ الّذي يُتَعوَّذُ به من الجانّ آيةُ الكرسىِّ (¬8)، والله أعلم، وبالكلمات ¬
التامّات المرويّة عنه في تَعَوُّذِ الحسن والحسين (¬1)، وفي تعوّذ جبريل (¬2)، وهو أثبتُ، والله أعلمُ. السّادسة: فإن قيل: ما تقولون في رقْيَةِ البهائم، هل ينجع ذلك فيها؟ قلنا: ذلك جائزٌ ونافعٌ إنَّ شاء الله، لحديث ابن نَوْفَلٍ (¬3) قال: كُنَّا عندَ عبد الله (¬4)، فجاءت أُمُّةُ فقالت له: ما يُجلِسُكَ، إنَّ فلانًا قد لَقَعَ فَرَسَكَ (¬5) لَقْعَةً، فلم يأكُل ولم يشْرَبْ ولم يرُثْ منذُ كذا، وهو يدورُ في فَلَكٍ (¬6)، فالْتَمِسْ له راقِيًا، قال عبدُ الله: لا تَلْتَمِسْ له راقيًا، ولكن ابصق في مَنْخَرهِ الأيمنِ ثلاثًا، وفي منْخَرِهِ الأيسرِ ثلاثًا، وقُلْ: "بسْم الله لا بَأْسَ، أَذْهِب البَاسَ، رَبَّ النّاسِ، واشْفِ أنتَ الشّافِي، إنّه لا يُذْهِبُ الكَرْبَ إلّا أنتَ" فصنع ذلك به، ثمّ رجعت، فقالت: ما جئتُ حتّى أكلَ وشَرِبَ ورَاثَ ومَشَى (¬7). ورواه الطَّبَرِيُّ وزاد فيه: "انفخ في المنخر الأيمن ثلاثًا، وفي الأيسر أربعًا". وفي الحديث: "الرُّقية سبع مرّات، وأقلُّ الرّقية ثلاث، وأكثرها سبع" (¬8). وجاء رجل إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي أرقي من العقرب، فقال رسول الله: "منِ استطاعَ منكم أنّ ينفعَ أخاهُ فلْيفْعَلْ" (¬9). ¬
ما جاء في أجر المريض
وأمّا ذلك الخاتم الّذي يكتبه الرَّقَّاؤون فلا يحلّ؛ لأنّه لَا يُعرَف المعنى منه. ما جاء في أجر المريضّ مالك (¬1)، عن زَيْد، عن عطاء؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا مرِضَ العبدُ بعثَ الله إليه مَلَكيْنِ، فقالَ: انْظُرا ماذا يقول لِعُوَّادِهِ، فإن هو، إذا جاؤهُ، حَمِدَ الله وأثنَى عليه، رَفَعَا ذلك إليه وهو أَعْلَمُ، فيقول: لِعبْدِي عَلَىَّ إنْ تَوَفَّيْتُه أنّ أُدْخِلَهُ الجنّةَ، وإن أنا شَفَيْتُه أنّ أُبْدِلَ له لحمًا خيرًا من لَحْمِه، ودمًا خيرًا من دَمِهِ، وأن أُكَفِّرَ عنه سيِّئاتِه". الإسناد (¬2): قال الإمام: الحديث صحيح منقطعٌ، وأسْنَدَهُ (¬3) عبّادُ بن كَثِيرٍ وكان رجلًا فاضلًا. الفوائد فيه أربعة: الأولى: في سرد الأحاديث (¬4) الواردة في هذا الباب روى عطاءُ بن يَسَارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا أصابَ الله العبدَ بالبلاءِ، بعثَ إليه مَلَكَيْنِ، فقال: انْظُرَا ماذا يقول لِعُوَّادِهِ، فإن قال لهم خيرًا فأنا أُبْدِلَهُ بلَحْمِهِ لحْمًا خيرًا من لَحْمِهِ، وبِدَمِهِ دَمًا خيرًا من دَمِهِ، وإِنْ أنا تَوَفَّيْتُهُ ¬
فله الجنّةُ، وإن أنا أَطْلَقْتُه من وَثَاقِي فليستأنِفِ العملَ" (¬1). الحديث الثّاني: عن عبد الله بن عَمْرِو، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَحَدٍ يُبْتَلَى من جَسَدِهِ، إلّا أَمَرَ الله تعالى الْحَفَظَةَ، فقال: اكتُبُوا لعبدي ما كان يعْمَلُ وهو صحيحٌ، ما كان مشدودًا في وَثَاقِي" (¬2). الحديث الثّالث: عن عُرْوَةَ بن الزُّبَيْر؛ أنّه قال: سمعتُ عائشةَ تقولُ: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا يُصيبُ المؤمنَ من مُصيبةٍ، حتّى الشَّوْكَةُ، إلّا قصَّ بها، أو كُفِّرَ بها من خطاياهُ" (¬3) وهذا حديث صحيح سندًا ومعنَى. الرّابع: عن جابر، قال: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَمْرَضُ مُؤمِنٌ ولا مؤمنةٌ، ولا مسلمٌ ولا مسلمةٌ، إلّا حَطَّ الله به خطيئَتَهُ" (¬4). الحديث الخامس: عن أبي سعيد الخدْرِيِّ، عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "ما أصابَ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا حَزَنٍ، حتّى الهَمُّ يُهَمُّهُ، إلّا كفَّرَ الله به من خطايَاهُ" (¬5). الحديث السّادس: عن ابنِ مسعود، قال: إنَّ الوجعَ لا يُكْتَبُ به الأجرُ، ولكن ¬
تُكَفَّرُ به الخطيئةُ (¬1). الحديث السّابع: عن يحيى بن سعيدٍ؛ أنّ رَجُلًا جاءهُ الموتُ في زمان رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال رجُلٌ: هنيئًا له، مات ولم يُبْتَلَ بمَرَضٍ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -:"وَيْحَكَ، وما يُدْرِيكَ لو أنّ الله ابتلاهُ بمَرَضٍ يُكَفِّرُ به من سيِّئَاتِه" (¬2). الحديث الثّامن: عن عائشة، قالت: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"إذا اشتكَى المؤمنُ أَخْلَصَهُ الله كما يُخْلِصُ الكِيرُ الخَبَثَ" (¬3). الحديث التّاسع: وإسنادهُ (¬4) عن النّبِىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمّن إذا أصابَهُ السَّقَمُ، ثمَّ أعفاهُ الله منه، كان كفَّارَةَ لِمَا مضَى من ذُنوبِه، وموعظةً له فيما يَستَقْبِلُ، وإنّ المنافقَ إذا مَرِضَ ثمّ أُعْفِيَ، كان كالبعير عَقَلَهُ أهلُه ثمّ أرسَلُوهُ، نلم يَدْرِ لِمَ عقَلُوهُ ولا لِمَا أرسَلُوهُ" (¬5). الفائدةُ الثّانية: فإن قيل: كيف يُبَدَّلُ الله لحْمًا خيرًا من لَحْمِه، ودمًا خيرًا من دمه، والله لا يجبُ عليه شيءٌ؟ فالجواب: أنّ ذلك فضلٌ منه. فإن قيل: كيف يُبَدَّلُ له لحْمًا خيرًا من لحمه؟ فالجواب: أنّ هذا اللّحم قد عَصىَ به، وهذا لم يعصِ به، فكان خيرًا منه. فإن قيل: فإن عَصَى باللَّحْمِ الثّاني؟ ¬
باب تعالج المريض
فالجواب: أنّ العصيان بالأوّل كان أكثر، إذْ لا يمرضُ أحدٌ في الغالِبِ إلّا وتنقص جُرْأَتُه. الفائدةُ الثّالثة: قوله في حديث أبي هريرة (¬1): "إنّه ما يصيبُ المؤمنَ من شيءٍ حتّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلّا كَفَّرَ الله بها سَيِّئَاتِه" معناه: الصّغائر؛ لأَنَّ الكبائر لا تكَفِّرُها إلّا الصّلاة، وهي خير الأعمال. الفائدةُ الرّابعة: وقول أبو هريرة (¬2):"مَنْ يُرِدِ الله به خيرًا يُصِبْ منهُ" يريد: إذا صبر وشكر الله على ذلك، وإن لم يشكر فقد زاد شرًّا. باب تعَالُجِ المريضِ مالك (¬3)، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ؟ أنّ رَجُلًا في زمانِ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أصابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الجُرْحُ الدَّمَ، وأنَّ الرّجلَ دَعَا رجُلَيْن من بني أَنْمَارٍ، فَنَظَرا إليه، فزعما أنّ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - قال لهما: "أيُّكُما أطَبُّ؟ " فقالا: أَوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فزعمَ زيدٌ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الّذي أَنْزَلَ الأدْوَاءَ". الإسناد: قال الإمام: قد بيَّنَّا في "الأنوار" و "السّراج" (¬4) فائدة الطِّبِّ ومقصوده، وجوازه (¬5) ¬
ومنعه، واستحسانه وتركه، بجميع وجوهه، بترتيبٍ بديعٍ، ونحن الآن ننشرها على الأحاديث فنقول: طُرُقُ التّطبّب أربعة (¬1): 1 - الرُّقيةُ. 2 - وشَرْطَةُ مِحْجَمٍ. 3 - وشربةُ عَسَلٍ. 4 - ولَذْعةٌ بنارٍ. الطّريقة الأولى: الرُّقية وأحاديث الرّقية كثيرة، أشبهُها سِتَّةٌ: الأوّل: عن عائشَة؛ أنّ النّبىَّ عليه السّلام كان يَنْفُثُ على نَفْسِهِ فى المرضِ الذى مات فيه بالمُعَوِّذات، فلمّا ثَقُلَ كنت أَنْفُثُ عليه بهِنَّ، وأمسحُ بيده نَفْسَهِ لِبَرَكَتِهَا (¬2)، وكان يأمرني أنّ أفعل ذلك به. الحديث الثّاني: عن أبي سعيدٍ؛ أنّ ناسًا من أصحاب النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أتوا على حيِّ من أحياءِ العربِ، فلم يُقروهُم. الحديث في "مسلم" (¬3). الحديث الثّالث: عن أُمِّ سَلَمَة؛ أنَّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - رأى جارية في وجهها سَفْعَةٌ، فقال: "اسْتَرْقُوا لها فإنَّ بها النَّظْرَةَ" (¬4). ¬
الحديث الرّابع: عن عائشة، قالت: أرخصَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - في الرُّقْيَةِ من كلِّ ذي حمة (¬1). الحديث الخامس: رَوَى أسامة بن شَرِيكٍ، قال: قالت الأعراب: يا رسول الله! ألَّا نَتَدَاوَى؟ قال: نعم، يا عبادَ الله تَدَاوَوا؛ فإنّ الله لم يَضَع داءٌ إلّا وضع له شفاءٌ، إلّا داءً واحدًا وهو الهَرَمُ (¬2). وأمّا سائر الطُّرُق، فمنها شَرْطَة محجم، *قال جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ يكن في شيءٍ من أَدْوِيَتِكُم خيرٌ، ففي شَرْطَةِ محْجَمٍ، أو شَرْبَةِ عَسَل، أو لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وما أحبُّ أنّ أَكْتَويَ" (¬3). وعن ابن عبّاسٍ*: "احْتَجَمُ النّبىُّ - صلّى الله عليه وسلم - من شَقِيقةٍ كانت به وهو محْرِم" (¬4). وتحقيقُ هذه الأصول الأربعة هي أصل التَّطَبُّبِ؛ لأنّ الرّقية عملٌ من خارج البَدَنِ، وهؤلاء الثّلاثة من داخل البدن. وألحق بهذه الثّلاثة نَظائر ثمانية (¬5): الأولى: ألبان الإبل الثّانية: أبوالها وقد روى أنس بن مالك أنّ ناسًا أتوا المدينة، فكان بهم سَقَمٌ، فأنزلهم ¬
النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بالحَرَّةِ، فقال: "اشْرَبُوا من ألبأنّها وأَبْوَالِها" (¬1) لأنّه علم أنّها تزيل علّتهم (¬2). وجاءه آخر، فشكى له بطنه، فاحاله على العسل (¬3)، لعِلْمِهِ أنّه ينفعه من تلك العلّة. ورُوِيَ عن ابن مسعود (¬4) أنّه قال: "عليكم بألبانِ البَقَرِ، فإنّها تُبْرِىءُ من السِّحْرِ" (¬5) ولم يصحّ عنه. الثّالثة: الحبّةُ السّوداء (¬6) رَوَى خالد بن سعد، قال: خَرَجْنَا ومعنا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ، فمرِضَ في الطّريق، ¬
فقَدِمْنا المدينةَ وهو مريضٌ، فعادَهُ ابنُ أبي عَتِيقٍ، فقال لنا: عليكم بهذه الحُبَيْبَةِ السّوداء، فَخُذُوا منها خَمْسًا أو سَبْعًا فاسحَقُوها، ثمّ اقْطُرُوها في أَنْفِهِ بقَطَرَاتِ زَيْتٍ في هذا الجانبِ وفي هذا الجانب، قال: فكانت عائشة تحدَّثُ أنّها سمِعَتْ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ هذه الحَبَّةَ السَّوداءَ شفَاءٌ من كلّ داءٍ، إلّا السّام" قلت: وما السَّامُ؟ قال: "الموتُ" (¬1). * الرّابعة: التلبينة (¬2) كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالتلبِينَةِ للمريض والمحزون على الهالك، وتقول: هو البغيضُ النّافعُ. وكانت تقول: سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ التّلبينةَ تُجِمُّ الفؤادَ، وتُذْهِبُ ببعض الحُزْنِ" (¬3) ولفظ مسلم (¬4) عن عائشة: أنّها كانت إذا مات الميِّتُ من أهلها، فاجتمع النّساءُ لذلك، ثمّ تفرَّقنَ إلّا أهلَها وخاصّتَها، أَمَرَتْ ببُرْمَةٍ من تلْبِينَةٍ، فطُبِخَتْ، ثمّ صُنِعَ ثريدٌ، فصُبَّتِ التلبينةُ عليها، ثمّ قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "التَلْبينَةُ مُجِمَّةٌ لفؤادِ المريضِ تُذْهِبُ ببعضِ الحزن". الخامسة: السّعوط (¬5) رُوِيَ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - احتجم واستعط (¬6). ¬
السّادسة: العود الهنديّ* قال - صلّى الله عليه وسلم -: "عليكم بهذا العود الهندي" يعني: الكُسْتَ (¬1) * السّابعة: الكَمْأَة (¬2) انفرد سعيد بن زيد عن النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقوله: "الكَمْأةُ من المَنِّ، وماؤها شفاء للعين" (¬3) وصحّ وثبت مع ذلك. الثّامن: ثبت أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لمّا جُرِحَ ورأت فاطمة رضوان الله عليها الدّم لا يرقأ، أحرقت حصيرًا وحشت به جرح النبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، أو ألصقتها، فرقأ الدّم* (¬4). الفقه والفوائد في جملة مسائل: المسألة الأولى (¬5): اختلف النَّاس في هذا المعنى على أقوال ثلاثة: الأوّل: ترْكُ التَّطَبُّبِ والاستسلامُ للأمرِ والتَّوكُّلُ على الله (¬6)، أخذًا بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "يدخُلُ الجنّةَ مِنْ أُمَّتي سبعون ألفًا بغيرِ حسابٍ"، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الّذين لا يَستَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، ولا يَكْتَوونَ، وعلى ربِّهِمْ يتوكَّلُون" (¬7). ويقولُ الصِّدِّيق رضي الله عنه إذْ قيل له في مرضه: ألَّا ندعو لك طبيبًا؟ فقال: ¬
الطّبيبُ أَمْرَضَنِي (¬1)، فَنَفَى من تعلَّقَ بهذه الآثار التَّطَبُّبَ (¬2). القولُ الثّاني: قالت طائفة أخرى بالتُّطَبُّبِ، وتعلّقت بالحديث الصّحيح، قوله: "الّذي أنزلَ الدَّاءَ أنزلَ الدَّواءَ" (¬3). وكان النّبيُّ عليه السّلام يَطِبُّ أصحابَهُ إذا نزلت بهم العِلَلُ، فيَكْوِيهِم كما فعل بأسْعَدَ (¬4). وأفتَى لأصحاب الحُمِّى بأن يُبْرِدُوهَا بالماء (¬5). وقد أمر - صلّى الله عليه وسلم - أنّ يُصَبِّ عليه في مَرَضِهِ من سَبْعِ قِرَبٍ (¬6)، وقوله: باسْمِ الله أَرْقِيكَ والله يَشْفِيكَ (¬7). القول الثّالث: قالت طائفةٌ أخرى (¬8): يجوزُ التّطَبُّبُ قبل حُصولِ الدّاءِ؛ احترازًا منه، واستدامةً للصحّة الّتي هي قِوَامُ العبادةِ، وهذا كلّه قد بينّاه في "السراج" (¬9) وفي "شرح ¬
الفصل الأول
الحديث" على كَثْرَةِ تفاصيله، والّذي نشير إليه الآن ثلاثة فصول (¬1): الفصل الأوّل التَّطبُّبُ جائزٌ من غير شكِّ، وإنّه لا يَحُطُّ المرتبةَ ولا يَقْدَحُ في المنزلة، وذلك إذا نزلَ الدّاءُ، وأمّا قبلَ نزوله، فقال علماؤنا: إنَّ ذلك مكروهٌ. والّذي عندي فيه: أنّه إذا رأى المرءُ أسبابَهُ، وخَشِيَ من نزوله، فإنّه يجوزُ له قطعُ سَبَبهِ فيتداوى، فإنّ قَطْعَ السَّبَبِ قطعُ المُسَبِّبِ. ولو كان التَّدَاوِي يَحُطُّ المرتبةَ، والاسترقاءُ يَقْدَحُ في المَنْزِلَةَ، ما استرقى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ولا رَقَى، ولا دَاوَى ولا تَدَاوَي. وأمّا قولُه - صلّى الله عليه وسلم - (¬2): "هم الّذين لا يسترقون" الحديث، ففيه ثلاثةُ تأويلاتٍ: الأوّل: هم الّذين لا يَسْتَرقُونَ بالتّمائم، كما كانت العرب والجاهلية تفعلُ (¬3). التّأويل الثّاني: هم الّذين لا يسترقون عند اليأس، كما فعل الصديق رضي الله عنه (¬4) التّأويل الثّالث: هم الّذين لا يَسْتَرْقُونَ قبلَ حُلولِ المرَضِ. فإن قيل: لو ترَكَ رجلٌ التَّطَبُّبَ والاسترقاء أصلًا، وتوكَّلَ على الله، وفوَّضَ أمرَه إليه، ولم يستعمل رُقْيَةً ولا داواءً؟ قلنا: إنَّ صحّت نِيَّتُه وتتابعت أفعاله، فهي منزلةٌ (¬5)،وإنّما يُتْرَكُ التَّطَبُّبُ كما ¬
الفصل الثاني
قلنا في حالتين: قبلَ الدّاءِ وسَبَبِهِ، وعند اليَأْسِ، كما فعلَ الصدّيقُ. الفصّل الثّاني قلنا: هذا الّذي ذَكَرَ النّبىُّ من التَّدَاوِي والأدويةِ، ذكَرَ العلّماءُ (¬1) أنّه خرَجَ على أحدِ قِسْمَي الطّبِّ، والطِّبُّ عندهم على قسمين: الطّبُّ القياسيُّ وهو طبُّ يونانيٌّ، والطبُّ التّجاربيُّ، وهو طبُّ الهند والعرَبِ، فخرجت أقوالُ النّبىِّ عليه السّلام على مذاهب أهل التجربةِ، ليأتِيَ العربُ بما كانت تعتادُهُ، دُنُوًّا منها وتقريبًا للمَرَامِ عليها، ففهمت ذلك منه (¬2). الفصل الثّالث هذه الأصولُ الّتي ذَكَرَها النّبىُّ عليه السّلام هي جِمَاعُ أبواب الطِّبِّ، ما أشرنا إليه منها وما ترَكْنا؛ وذلك أنّ الأمراض إنّما تكون بغَلَبَةِ الدَّمِ، أوَ بالأخلاط حتّى ينحرفُ البَدنُ عن سَنَنِ الاعتدال الّذي أَجْرَى اللهُ العادةَ باستمرار الصِّحَّة مَعَهُ. فإنْ تَبَيَّغَ الدّم منه استخرجه، والحِجّامةُ نوعٌ من خروجه، وقد احْتَجَمَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وما نقصت مرتبتهُ ولا منزلتُه. ¬
وأمّا سائرُ الأخلاطِ فدواؤها الإسهالُ، والعسلُ أصلٌ فيه، ولذلك لا يَخْلُو معجونٌ منه. واتَّفقوا على أنّ السِّكَنْجَبِينَ (¬1) هو شرابُ الطِّبِّ وحدَه، وغيرُه من الأشرِبَة إنّما هو تركيبُ أدويةٍ. *وأمّا الكَىُّ، فهو نوعٌ من أنواع الطِّبِّ، ولكنّه لرَهْبَتِهِ هو آخِرُ الأدويةِ*، فلا يُلْجَأُ إليه إلّا عندَ الضرورةِ. وأمّا قوله في الحبّة السّوداء: "إنّها شِفَاءٌ من كلِّ دَاءٍ إلّا السَّامَ" (¬2) فقال علماؤنا: إنَّ ذلك خرَجَ مَخْرَجَ العُمومِ والمرادُ به الخُصوصُ (¬3)، وذلك أنّ الغالبَ منَ الأمراضِ الرّطوباتُ. والشُّونِيزُ (¬4) ممّا يخلُقُ اللهُ عند استعمالِهِ له من الحرارة والجُفُوفِ ما يؤثر في الرّطوبات، فنَبَّه به على أمثاله. ورأيت بعضَ علمائنا يقول: إنّما أراد بذكر الشُّونيز التّنبيهَ على أنّ كلَّ دواءٍ وإن كان للحارِّ اليابسِ، لابدّ من أنّ يكون فيه حارٌّ يابسٌ، وُيسَمُّونَ الأَدويةَ الباردةَ الرّطبةَ للأدْوَاءِ الحارّة اليابسة جثةً، ويُسَمُّونَ ما يضيفون إليها من الأدويةِ الحارّةِ اليابسةِ أجنحةٌ، ¬
هذه بهذه. هذا منتهى كلام أهلِ الهنْدِ، وهو صحيحٌ مليحٌ، وقد مهّدناه في "شرح الصّحيحين". وكذلك سَقْيُةُ العسلَ لصاحبِ الإسهالِ أصلٌ في كلِّ تُخَمَةٍ أو داءٍ غالبٍ من خِلْطٍ لا يُعَانَى إلّا بإخراج ذلك الخِلْطِ، فإذا أجْرَى اللهُ العادةَ بخرُوجِه، فليُعنْ على الخروجِ ذلك الخلط منه، حتّى إذا أنفد ذلك الخِلْطُ ارتَفَعَ المرَضُ. فهذا هو الّذي أشار إليه رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - بالعَوْدِ إليه في شُرْبِ العَسَلِ، والسّائلُ يَجْهَلُ ذلك القدْرَ، ويعودُ إلى الشّكْوَى، حتّى قال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "صدَقَ الله. وكذَبَ بَطْنُ أخِيكَ" (¬1) وقولُه: "صدَقَ الله" يعني: في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (¬2). ويتركَّبُ على هذا أصلٌ عظيمٌ من الطِّبِّ، وهو أنّ الدّواء إذا لم يَرْفَعِ الدّاءَ، فلا يُخْرِجُه ذلك عن أنّ يكونَ دواءً؛ فإنّ البارىءَ سبحانه إنَّ شاء أنّ بَخْلُقَ الشّفاءَ عَقِبَ الدواءِ خَلَقَ، وإن شاءَ أنّ يَمْنَعَ مَنَعَ. تنبيه (¬3): قال الإمام: ولقد لقيتُ بعضَ الجَهَلَةِ من الأطبّاء الكَفَرة ممّن في قلبه زيغٌ ومرضٌ، فقال لي: إنَّ الأطبّاء مجتمعون على أنّ العَسَلَ يُسهلُ، فكيف يوصفُ شربه لمن به إسهالٌ (¬4)؟ ¬
ويقول أيضًا: إنَّ الأطبّاء مجتمعون على أنّ غسل المحموم بالماء البارد خَطَرٌ وقربٌ من الهلاك؛ لأنّه يجمعُ المَسَامَّ، ويَحْقِنُ البُخارَ المتَحلِّلَ، ويعكسُ الحرارةَ لداخل الجِسْمِ، فيكون ذلك سببًا للتَّلَفِ. وقال: إنَّ الأطبّاء ينكرون مداواة ذات الجَنْبِ بالقسط؛ لما فيه من شدّة الحرارة والحَرَافَة (¬1)، ويرون ذلك خطرًا. قلت له: هذا الّذي قُلْتَ جهلٌ وضلالةٌ، وهُمْ فيها كما قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} (¬2). تبيين (¬3): قال الإمام: ونحن نبدأ بقوله في الحديث الأوّل: "لكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أصِيبَ دَوَاء الدَّاء بَرِئَ بإذْنِ اللهِ" (¬4). قلنا: وهذا تنبيهٌ منه حَسَنٌ، وذلك أنّه قد علم أنّ الأطبّاءَ يقولون: إنَّ المرضَ خروجُ الجِسْمِ عن الاعتدالِ، وعن القانونِ، والمداواةُ ردّه إليه، وحِفْظُ الصِّحَّة بقاؤُه عليه، فحفْظُها يكونُ بإصلاحِ الأغذيةِ وغيرِها، ويكونُ بالمُوَافِقِ من الأدويةِ المُضَادّة للمَرَضِ، وبقراط يقول: الأشياء تُدَاوَى بأضدادها، ولكن تدقُّ وتغمضُ حقيقة طَبْعِ المرضِ وحقيقة طَبْعِ العَقَّارِ والدّواء المرَكُّبِ، فتقلُّ الثِّقة بالمُضَادَّة الّتي هي الشِّفاء، ومن ¬
هاهنا يقع الخطأ من الطّبيب، فقد يظن أنّ علّته عن مادّة حارّة، وتكون من غير مادّةٍ أصلًا، أو عن مادّةٍ جارية باردة، أو حارّة دون الحرارة الّتي قَدَّرَ، فلا يكون الشِّفاء. وكأنّه - صلّى الله عليه وسلم - تلافَى بآخر كلامه ما قد يعارض به أوّله، بأن يقال: فأيُّ فائدةٍ للّذي قلت: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ" ونحن نجدُ كثيرًا من المرضَى يداوون فَلَا يَبْرَؤُون؟ فنبّه بذلك لفَقْد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدّواء. وهذا تنبيهٌ حسنٌ في الحديث، وما قلناه واضحٌ حقٌ، نظمه الشّعراء فقالوا: والنّاسُ يَلْحَوْنَ الطّبيب وإنّما ... غَلَطُ الطّبيبِ إصابةُ المِقْدَارِ وأمّا اعتراضهم على الحديث الثّالث، وهو قوله: "إنْ كان في شيءٍ من أدوِيَتِكُم خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ" (¬1). قلنا: إنَّ هذا من، البديع عند من علم صَنْعَة الطِّبِّ، وذلك أنّ سائر الأمراض الامتلائيّة إنّما تكون دمويّة أو صفراوية، أو سوداوية، أو بلغميّة. فإن كانت دمويّة، فشفاؤها إخراج الدَّمِ، وإن كانت من الثّلاثة الأقسام الباقية، فشفاؤها بالإسهال، بالمُسْهِل الّذي يليق بكلِّ خِلْطٍ منها؛ فكأنّه - صلّى الله عليه وسلم - نَبَّهَ بالعَسَلِ على المسهلات، وبالحجامة على الفَصدِ، ووضع العلّق وغيرها ممّا في معناه. وقد قال بعض النَّاس بأنّ الفصد قد يدخل في قوله: "شَرْطَة محجم". ¬
وإذا أعيا الدّواء فآخر الطِّبِّ الكَىُّ، فَذكَرَهُ - صلّى الله عليه وسلم - لأنّه يستعمل عند غَلَبَةِ الطّبائع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدّواءُ المشروب، فيجب أنّ يتأَمّل ما في كلامه - صلّى الله عليه وسلم - من الإشارات. وتعقّبه بقوله: "أُحِبُّ أنّ أَكْتَوِي" إشارةٌ منه إلى تأخُّرِ العلّاجِ به حتّى تدفع الضّرورة إليه، ولا يوجد الشِّفَاءُ إلّا فيه، لما فيه من تعجيل الألم الشّديد في دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ وأخفَّ من آلامِ الكَىِّ. وأمّا اعتراضهم على الحديث الرّابع في الحُمَّى في قوله: "أبْرِدُوها بالْمَاءِ" (¬1) فإنّهم قالوا عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - ما لم يقل؛ فإنّه قال: "أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ" ولم يُبيِّن الصّفة والحالة، فَمِنْ أين لهم أنّه أراد الانغماسَ؟ والأطباءُ يسلِّمون أنّ الحُمَّى الصّفراوية تدْبُرُ من صاحبها بسَقْيِ الماء البارد الشّديد البرد، نعم، ويسقونه الثّلج، ويغسلون أطرافه بالماء البارد (¬2). وقد قال أشياخنا (¬3): إنَّ الحُمِّيات على قِسمين: 1 - فمنها ما يكون عن خلط باردٍ. 2 - ومنها ما يكون عن حارّ، وفيه ينفع الماء، وهي حمِّيات الحجاز، وعليها خرج كلام النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - وفعلِهِ حين قال: "صُبُّوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ"، (¬4) فتبرَّدَ وخَفَّ حالُّه، وذلك في أطراف البدن وهو أنفع له. وإنّ بعض الجهّال (¬5) أصابته حُمَّى، فاغْتَسَلَ بالماء، فزادَهُ ذلك شِدَّةً، فقال كلامًا ¬
لا أرضَى أنّ أحْكِيَهُ (¬1)، وكلُّ كلامه جهلٌ، وقد قال علماؤنا: إنَّ قوله: "أَبْرِدُوهَا بالْمَاءِ" أنّ ذلك يحتَمِلُ وجهينِ: 1 - أحدُهما: أنّ يكونَ ذلك بِشُربِ الماءِ الباردِ؛ فإنّه قد يُطفئُ بعضَ الحرارةِ الباعثة للدّاء، فيكونُ من أحدِ الأدويةِ. وقد شاهدتُ ذلك في نفسي، فإنّه كان عندي عليلٌ، وكان يستدعي الماءَ كثيرًا، فخِفْتُ عليه ومنعتُهُ من الماء، وتوقَّعْتُ أنّ يقدمه نفخٌ عظيمٌ، فمنعتُه لأجل ذلك. فقلتُ ذلك لبعضِ أهل الصِّناعةِ وحدَّثْتُه بِمَرَضِه وصِفَةِ حالِه، فقال لي: قَتَلْتَهُ، اسْقِهِ الماء يَبْرأ، فكان ذلك. 2 - ويحتَمِلُ أنّ يكونَ قوله: "أبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ" أنّ يكون في جميع أطرافِ البدَنِ، واللهُ أعلم. وأمّا اعتراضهم في (¬2) قوله: "عَلَيْكُمْ بِهَذَا العُودِ الهِنْديِّ" الحديث (¬3)، قال الزّهريُّ: بيَّن اثنين ولم يبيِّنَ الخمسة (¬4). وقد رأيتُ الأطبّاء تطابقوا في كتبهم على أنّه يُدِرُّ البول والطّمْثَ، وينفعُ من السُّمومِ، وُيحرِّكُ شهوةَ الجماعِ، ويقتُلُ الدُّودَ وحبَّ القرعِ في الأمعاءِ إذا شُربَ بعَسَلٍ، ويذهبُ بالكَلَفِ (¬5) إذا طُلِيَ عليه، وينفعُ من ضَعْفِ الكبِدِ والمعدّة. وقال جالينوس (¬6): إنّه ينفعُ منَ البرد الكائن بالدّور. ¬
وهو صنفان: بحريٌّ وهنديٌّ. والبحريُّ هو القُسْطُ الأبيض يُؤتَى به من بلاد العرب. وقال بعضُهم: إنَّ البحريّ أفضل من الهنديّ وهو أقلُّ حرارةً. وقال إسحاق بن عمران (¬1): هما حارَّان يابسانِ في الدّرجةِ الثّالثة، والهنديُّ أشدُّ حرًّا، وهو في الجزء الثّالث من الحرارة. وقال ابن سينا (¬2):"القُسْطُ حارٌّ في الثّالثة يابِسٌ في الثّانية". فأنت ترى هذه المنافع الّتي اتفق عليها الأطبّاء، فقد صار ممدوحًا شرعًا وطِبًّا. وأمّا اعتراضهم في الحبّة السّوداء، فيحتَمِلُ أنّ يعالجَ به العلّل الباردة على حَسَبِ ما قلناهُ في القُسْطِ، وهو - صلّى الله عليه وسلم - قد يصفُ بحسْبِ ما شاهد من غالب أحوال الصّحابة في الزّمن الّذي يخاطبهم فيه. معذرة: قال الإمام (¬3): وإنّما عدّدنا هذه المنافع في القُسْطِ من كتب الأطبّاء؛ لذكر النّبيِّ لها، فأردنا الجمعَ بين قولِ الأطبّاءِ والشّريعةِ. وأمّا قول الزّهري: "ولم يُبَيِّن لنا الخمسة" فبينّاها نحن على ما يليق بالحديث (¬4). وأمّا اعتراضهم على قوله (¬5): "أَوْ كَيَّة بِنَارٍ". ¬
الغسل بالماء من الحمى
قلنا (¬1): قد يحتمل أنّ يكون نهى عن الكَىِّ في أمر ما، أو في علَّةٍ ما، ونهَى عنه نهيَ أدبٍ وإرشاد إلى التّوكُّل على الله والثِّقة به، فلا شافِيَ سواهُ، ولا شيءَ إِلَّا ما شاءَهُ. وقد اكتوى جماعةٌ من الصّحابة والسَّلَفِ الصّالح، قال قَيْسُ بن أبي حازِمٍ: دخلنا على خَبَّابٍ نعودُهُ وقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا في بَطْنِهِ (¬2). وقال قَيْس أيضًا عن جَرِيرٍ: أَقْسَمَ عَلَىَّ عُمَرُ لأكْتَوِيَنَّ (¬3). واكتوى ابن عمر (¬4) واسترقى. وكَوَى أبو طلحة أنسًا من اللَّقْوَةِ (¬5). وكَوَى ابنُ عمر ابْنًا له وهو مُحْرِمٌ (¬6). ولا يكون ذلك إِلَّا آخر الطِّبِّ والعلّاج، ويقتضي ذلك الإباحة من فعل السّلف، والله أعلم. وأمّا اعتراضهم على الرَّقْيِ، وقولهم: إنّه لا يؤثّر، إِلَّا أنَّه تستريح النّفس إلى ذلك. قلنا: بل ذلك لطمأنينة النّفس وطرد الشّيطان أو السّحر، قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬7) والاقتداءُ بالنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الرَّقْيِ بالمعوذتين، ولا يجوز شيءٌ من الرُّقى إِلَّا بما في كتاب الله من التّعوُّذ وتهليل القرآن والفاتحة الّتي هي أصل في هذا الباب، والله أعلمُ. الغسلُ بالماءِ من الحُمَّى وفي هذا الباب أحاديث: الأوّل: حديثُ فاطمة بنت المُنْذِر؛ قولها: "كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يأمرُ أنّ نُبرِدَهَا ¬
بالماءِ" (¬1). الحديث الثّاني: ابن الزُبَير، عن أبيه, أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الحُمَّى مِنْ فَيْحِ (¬2) جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالمَاءِ" (¬3). الحديث الثّالث: عن ابن عبّاس، عن النّبيِّ -عليه السّلام- أنّه قال: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ" (¬4). الحديث الرّابع: عن ابن عمر أنّ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالمَاءِ" (¬5). المعاني (¬6) في هذا الباب: اختَلَفَ علماؤنا في تفسير هذا الحديث (¬7)، وقد فسَّرَتَهُ فاطمة بنت المنذر في روايتها له عن أسماء، بأنّها كانت تصُبُّ الماء بين المحمومة وبين جَيْبِها، كانت تَصُبُّهُ بين طوق قميصها وعنقها، حتّى يصل إلى جَسَدِها (¬8). وذكر ابنُ وَهْبٍ في صفة الغُسْلِ حديثًا في "جامعه" (¬9) مَرْفُوعًا عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - , أنّه قال لرجل اشتكى إليه الحُمَّى: "اغْتَسِلْ ثلاثةَ أيّامٍ قبلَ طُلوع الشّمسِ كلَّ يومٍ، وقُل: ¬
ما جاء في عيادة المريض والطيرة
باسمِ اللهِ، وباللهِ , اذْهَبِي يَا أُمَّ مِلْدَمٍ؛ فإن لم تَذْهَبْ، فاغْتَسِلْ سَبْعًا". قال الإمام: ومن فعل شيئًا ممّا في هذين الحديثين أو غيرهما، مع اليقين الثابت، لم تلبث الحُمَّى أنّ تقلع إنَّ شاء الله، بأن يُجْرِي اللهُ العادةَ عند ذلك الفعل (¬1). ما جاء في عيادةِ المريضِ والطِّيَرَةِ الأحاديث في هذا الباب: الأوّل: حديثُ جابر بن عبد الله؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "عائِدُ المريضِ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ، حتَّى إذا قَعَدَ عِنْدَهُ قَرَّتْ فِيهِ" (¬2) أو نحو هذا. الإسناد (¬3): قال الإمام: حديث جابر هذا محفوظ عن النّبيِّ من رواية أهل المدينة. وفي فضل العيادة آثارٌ كثيرةٌ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - سوى حديث جابرٍ هذا، رواها عنه جماعة من الصّحابة منهم: عليٌّ، وابنُ عبّاسٍ، وأبو أيّوب، وأبو موسى، وعائشة، وأنس، وأبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، وثَوْبَانُ، كلُّهم بألفاظٍ مختَلِفَةٍ، والحديثُ صحيحٌ. أمّا حديثُ ثوبان، عن جابر؛ فإنّ فيه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لم يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى إِذَا جَلَسَ انْغَمَسَ فِيهَا" (¬4) ورواه الوَاقِديّ (¬5) من طريق ¬
جابر عن النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "حتّى إذا قَعَدَ اسْتَقَرَّ فِيهَا". وأمّا "حديثُ علىِّ" قال (¬1): عادَ أبو موسى الحسن بن عليّ - وكان شاكيًا - فقال (¬2) له: أعائدًا جئتَ أم شامتًا؟ قال: بل عائدًا. فقال علىٌّ: أمّا إذا جئتَ عائدًا، فإنّي سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "إذَا عَادَ الرَّجُلُ أخاهُ المُسْلِمَ مَشَى في مَخْرَفَةِ الجَنَّة حتّى يجلس، فإذا جلسَ غَمَرَتْه الرَّحمةُ، فإن كانَ غدْوَةً صلّى عليه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ حتّى يُمْسِي، وإن كان مساءً صلَّى عليه سبعون أَلْفَ مَلَكٍ حتّى يُصْبِحَ" (¬3). وهذا حديثٌ ثابتٌ، صحيحُ المتن والإسناد، شريف المعنى. المعاني والأصول (¬4): أمّا قوله: "عَائِد المَرِيض يخوضُ في الرّحمة" فهو كقوله: "في خُرْفَةِ الجَنَّةِ" وذلك أنّ عيادةَ المريضِ والمَشْيَ إليه سببٌ إلى الجنّة، فعبَّرَ عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ على أحدِ قسْمَي المجازِ، ترغيبًا في العيادة، لمَا فيها من الأُلْفَةِ، ولِمَا يدخُلُ على المريضِ من الأُنْسِ بعائِدِهِ والسّكونِ إلى كلامِهِ، ولذلك قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -:"إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى المريضِ فَنَفِّسُوا في أَجَلِهِ؛ فإنَّ ذلك لا يَرُدُّ القَدَر، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ" (¬5)، ولو ¬
لم يكن في العيادة (¬1) إلّا ما قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَادَ مريضًا لَمْ يحْضرْ أَجَلُهُ، فقال له سبع مرّاتٍ: أَسْاَلُ اللهُ العظيمَ، رَبَّ العَرْشِ الكريمِ، أنّ يَشْفِيكَ، عُوفِيَ مِنْ ذَلكَ الْمَرَضِ" (¬2). ورُبّما احتاج المريض إلى التّمريض، فيتناول ذلك العائد إنَّ لم يكن له أهل، وهذا معنى قوله: "عُودُوا المريضَ" (¬3) فإنّه محتاج إلى هذه المعاني. والتّمريضُ فرضٌ على الكفاية، لابدّ أنّ يقوم به بعض الخَلْقِ عن البعض، وهو على مراتب: الأوّل الأهل، والقريب، ثمّ الصّاحب، ثمّ الجار، ثمّ سائر النَّاس. وقد أمر رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بعيادة المريض واتِّباع الجنائز، وفي ذلك فضلٌ كثير، بيّنّاهُ في كتاب الجنائز، فلينظر هنالك. حديث مالك (¬4)؛ أنّه بَلَغَهُ عن بُكَيْر بن عبد الله بن الأشجِّ، عن أبي عَطيَّةَ؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَا عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، ولا يَحُلُّ الْمُمْرِضُ على الْمُصِحِّ، ولْيَحُلَّ الْمُصِحُّ حيثُ شَاءَ" قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما ذَاكَ؟ فقال رسول الله: "إنّه أذىً". الإسناد (¬5): قال الإمام: قوله في هذا الحديث: "عَنْ أبِي عَطِيَّةَ الأَشْجَعِىِّ" (¬6) وقد قيل: إنَّ ابن عطيّة اسمه عبد الله، وُيكنَى أبا عطيَّة. ¬
وقيل: إنّه مجهول لا يُعْرَفُ إلّا في هذا الحديث (¬1). وما أظنّه (¬2) إلّا معروف محفوظ من حديث أبي هريرة، وقد رَوَى حديثه هذا بِشْرُ بن عمر، عن مالك، فقال فيه: عن ابنِ عطيَّةَ أو أبي عطيّة - يشكّ بِشْر- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا طِيَرَةَ ولا هَامَ، ولا يعْدِي سَقِيمٌ صحيحًا، وَلْيَحِلَّ المصحُّ حيثُ شاءَ" (¬3). وهذا حديث قد اضطرب النَّاس فيه، والحديثُ صحيحٌ (¬4). الأصول والمعاني في ثمانية مسائل: المسألةُ الأولى (¬5): قوله: "لا عَدْوَى" هي عبارة عن اعتقاد المرء أنّ مكروهًا جَلَبَ إليه مكروهًا، وأصلهم في ذلك السّانح والبارحُ، فعبّروا بكلِّ مكروهٍ يَجلِبُ في اعتقادهم مكروهًا عنه، فقال النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا عَدْوَى" نفيًا أنّ تكون الأدواء تَجلِب الأدواء، وإعلامًا منه أنّ ما اعتُقِدَ من ذلك من اعتقادهم كان باطلًا. المسألة الثّانية (¬6): قوله: "ولا هَامَةَ" فأرادَ به الرَّدَّ على العرب فيما كانت تعْتَقِدُهُ من أنّ الرّجُلَ إذا قُتِلَ خرج من رأسه طائر يَزْقُو، فلا يَسْكُتُ حتَّى يُقْتَلَ قاتِلُه. وقال بعضهم: إنَّ عِظَامَ القتيلِ تصيرُ هامةً، فتطيرُ (¬7)، وكانوا يسمّون ذلك الطائر الصّدى. وقال لَبِيدٌ (¬8) يرثي أخاه: ¬
فَلَيْسَ النَّاسُ بَعْدَكَ في نَفِيرٍ ... ولا هم غيرُ أصْدَاءٍ وهَامِ وقال أبو دُؤَادٍ الإياديّ (¬1): سُلِّطَ المَوْتُ والْمَنُونُ عَلَيْهِم ... فَلَهُمْ في صَدَى المقابر هامُ وقال (¬2) بعضُ شعرائهم يمدح نفسه: ولا أنا ممّن يزجر الطّير هامة ... أصاح غرابٌ أم تعرّض ثعلب (¬3) وللشّافعي رحمه الله كلامٌ في السّانح والبارح (¬4) ذَكَرَهُ في شرح قوله: "أَقِرُّوا الطّيرَ على مَكِنَاتِهَا" (¬5) ويروَى: "على مكاناتها" وهو غريبٌ (¬6). المسألة الثّالثة (¬7): قوله: "ولا صَفَرَ" فقال ابنُ وهب: وقال بعضهم: هو من الصُّفَارِ تكونُ بالإنسان حتّى تقتلَهُ (¬8)، فقال النّبىُّ عليه السّلام: "لا تَقْتُلُ الصُّفَارُ أَحَدًا"، وقال آخرون: هو شهرُ صَفَرٍ، كانوا يُحرِّمونه عامًا ويُحِلِّونَهُ عامًا، فأكذبهم بذلك (¬9). ¬
المسألة الرّابعة (¬1): أمّا "الفأل" بالهمز وجمعه فؤول، فقد فسّره في "كتاب مسلم" (¬2). والّذي يصحُّ (¬3): أنّ الفألَ رجوعٌ إلى قولٍ مسموعٍ أو أمرٍ محسوسٍ يحسنُ معناه في العقول، فيُخَيّل للنّفس وقوع مثل ذلك. والطَّيَرَةُ: أخذ المعنَى من أمور غير محسوسة ولا معقولة. وقال بعضُ علمائنا: إنَّ الأمر الجامع لهذه الفصول كلّها ثلاثة أقسام: وأحدُ الأقسام: ما لم يقع التَّأذِّي به ولا اطّردت عادتهم فيه. والقسم الثّاني: ما يقع فيه الضّرر، ولكنّه يعمُّ ولا يخصّ، ويندر ولا يتكرّر. والقسم الثّالث: سببٌ يخصُّ ولا يعُّم، ويلحق منه الضّرر، كالدّيار فإنّ ضَرَرَها مختصٌّ بساكنها، من ذهاب المال والأهل، على حسب ما قاله الرّجل للنَّبىِّ -عليه السّلام-. المسألة الخامسة (¬4): قوله: "لا يُورد (¬5) مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" قال علماؤنا (¬6): المُمْرِضُ ذُو الماشية المريضَةِ، والمُصحُّ ذو الماشيةالصّحيحة. وقيل (¬7): معناه أنّ يأتي (¬8) الرّجلُ بإِبِلِهِ أو غَنَمِهِ الجَرِبَةِ، فَيَحلَّ بها على ماشيةٍ صحيحةٍ، فيُؤذِيهِ بذلك بأن يحتبسَ إليها الجَرَبَ. ¬
وقال القاضي أبو الوليد (¬1): الّذي عندي فيه أنّه منسوخ بقوله: "لَا عَدْوَى". قلنا (¬2): قوله: "لا عَدْوَى" إنَّ كان بمَعْنَى الخَبَرِ والتَّكذيب بقول من يعتقد العدوى، فلا يكون ناسخًا. وإنَّ كان بمعنى النّهي، يريد: ألَّا تكرهوا دخول البعير الجُرْبِ بين إبِلكم غير الجَرِبَةِ، ولا تمتنعوا ذلك ولا تمنعوا منه؛ فإنّا لا نعلم أيّهما قال أوّلًا. وإن تعلّقنا بالظّاهر فقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا عَدْوَى" ورد في أوّل الحديث، فمحال أنّ يكون ناسخًا لما وردَ بعدَهُ، أو لِمَا لا يُدْرَى ورد قبله أو بعده؛ لأنّ النّاسخ إنّما يكون ناسخًا لحُكمٍ قد ثبت قبلَهُ. وقوله: "لَا عدْوَى" إنّما نَفَى به أنّ يكون لمجاورة المريض تأثير في مرض الصّحيح، فإنّ ذلك من فعل البارىء سبحانه ابتداءً، كما فعَلَهُ في الأوّل ابتداءً، وأنّ قوله: "لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ" (¬3) ليس من هذا المعنى، والله أعلم، ولكنه يحتمل معنيين: أحدُهما: المنع من ذلك؛ لما فيه من الأذى على ظاهر الحديث، هالى هذا ذهَبَ يحيى بن يحيى. والثَّاني: أنّ يكونَ البارىءُ تبارك وتعالى قد أجرى العادةَ بذلك، وإن كان البارىء هو الخالق للمرض والصِّحَّة، ولا يُؤَثِّرُ شيءٌ في شيءٍ. ¬
المسألة السّادسة: قال الإمام: اعلم أنّ كلّ موجودين معلومين في العالَم ارتبط أحدهما بالآخر، فإنّ أحدهما ليس بسبب للآخر كالخاتم في اليد إذا حرّك الإنسانُ يده، فإنّ الخاتم لم يتحرّك بحركة اليد ولا حركة الخاتم إلّا بحركة أخرى غير حركة اليد، ولا يجوز أنّ يقال: إنَّ حركة الخاتم تولّدت من حركة اليد. المسألة السّابعة: فإذا ثبت هذا، فمعنى قوله: "لا يَحُلُّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" إِنّما قال ذلك، لِئَلَّا تجرب هذه، فيقع في قلب من يعتقد ذلك الإعداء فيكفر. فاراد اللهُ أنّ يقطع هذا من قلوب النَّاس. والوجه الثّاني: أنّ الله سبحانه أجرى العادة في الحيوان وفي بني آدم أنّه إذا كانت جُرْبًا بين صحاح أنّ تَجْرَبَ الصّحاح، كما أجرى العادةَ للإنسان بالشِّبع عند تناول الطّعام؛ لأنّ الطّعام أشبع. وكما يقال: إنَّ اللّيالي القمرية يكثُر فيها القُشَاءُ والقَرَعُ (¬1)؛ لأنّ القمر أحدث ذلك، والقمر ليس له فعلٌ، وإنّما أجرى اللهُ العادةَ بذلك، وهو فِعْلُه تعالى، فلا يؤثّر شيءٌ في شيءٍ. المسألة الثّامنة: فإن قيل: فإذا صحّحت هذا فكيف تجمع بينه وبين قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَا عَدْوَى وَفِرّ مِنَ الْمَجْذُوم فِرَارَك مِنَ الأَسَدِ" (¬2) وظاهر هذا يقتضي أنّه يستضرّ به استضرارًا؟ وفي "مسلم" (¬3) أنّ وَفْدَ ثَقِيفٍ كان معهم مجذومٌ فأرسل إليه إلنبيّ -عليه السّلام-: "إِنَّا قد بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ". ¬
قلنا: هذه الأحاديث قد تعارضت، وقد خرّجَ (¬1) أبو عيسى التّرمذيّ (¬2)، عن محمّد بن المُنكدِر، عن جابِر بنِ عبد الله؟ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - أخذَ بِيَدِ مجذومٍ فأدخله معه في القَصعَةِ، ثمّ قال: "كُلْ بسمِ اللهِ ثِقَةً بِاللهِ وتَوَكُّلًا عَلَيهِ" وإنّما ذلك لأنّ النفوس تَعَافُ مخالطة أهل الأدواء، وإن كان لا يعدي داءٌ على صحَّةٍ. وإن كان اللهُ سبحانه قد أجرى العادةَ بتضرُّرِ الصّحيح بالسَّقيم، ولكنّه يضرُّ الخَلق عادة لا وجوبًا. وأمرهم بعد ذلك بالتَّحرُّز فقال: "وَلَا يُورَدْ مُمرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، وصرفَ المجذومَ ولم يبايعه مُصَافَحَةً، لئلَّا يحتجّ بذلك على أصحّائه فيتأذَّون في نفوسهم بمخالطة أو بضُرٍّ بعد مباشرة النّبيّ له، والله لطيفٌ بعباده. تركيب (¬3): وإذا جُذِمَ الرَّجلُ فُرِّقَ بينه وبين امرأته إنَّ شاءت ذلك. وقال ابن القاسم (¬4): يحالُ بينه وبين امرأته، وبين وطءِ رقيقه، إذا كان في ذلك ضَرَرٌ. وقال سُحنون: لا يحالُ بينه وبين وَطْءُ إمائه. ولم يختلفوا في الزوجة. توجيه وتنقيح (¬5): فوجه قول ابن القاسم (¬6): إنّما يحال بينه وبين الزوجة إذا حدثَ ذلك به لأجل الضرر، وأيّما امرأة يَلحَقُها الضّرر بوطءِ المجذومِ، يوجبُ أنّ يحالَ بينه وبينها. وهذا ¬
عنده في الزّوجة إذا حدث ذلك به لأجل الضّرر. وأمّا وجه سحنون: أنّ الجُذَام في الحُرِّ لمَّا منع الزّوجيّة ونَقَضَها، منع الوَطءَ المُستَحَقَّ بها، ولمَّا لم يمنع مِلك اليمين لم يمنع الوطء المُستَحَقَّ به. ووَجهٌ ثانٍ: أنّ هذا عَقْدٌ يستباحُ به الفَرْجُ والوطءُ، فوجب أنّ يكون تأثير الجُذام في وَطئه كتأثيره في عَقْدِهِ كعَقدِ النِّكاح. تركيب (¬1): وهل يخرجُ المرضَى من القُرى والحواضر؟ فقال مُطَرًفٌ وابن المَاجِشُّون في "الواضحة": لا يخرُجُرن إذا كانوا يسيرًا، وإن كَثُرُوا رأينا أنّ يتّخذوا لأنفسهم موضعًا، كما صنع مرضى مكّة (¬2)، ولا أرى أنّ يُمنَعوا من الأسواق لتجارتهم وللتَّطوُّف للمسألة، إذا لم بكن إمامٌ عدلٌ يُجري عليهم الرِّزقَ. فإن (¬3) أجرى الإمامُ عليهم ما يكفيهم مُنِعُوا من مخالطة النَّاس بلزومهم بيوتهم أو بالسِّجن. وقال أَصبَغُ: ليس على مرض الحواضر أنّ يخرجوا منها إلى ناحية بقضاء يُحكَمُ به عليهم. وقال ابنُ حبيب (¬4): يحكمُ عليهم بالسِّجن إذا كثروا، وأحبُّ إليَّ، وهو الّذي عليه النَّاسُ. ¬
باب السنة في الشعر
تركيب: وهل يدخل المجذومُ المسجدَ أم لا (¬1)؟ فقيل: يمنعُ من ذلك لتأذِّي النَّاس به وبرائحته ونفسه، ولا يُمنَعُ من غير ذلك، قاله مُطَرِّف وابن الماجشون. باب السُّنَّة في الشِّعَرِ عبدُ الله بن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوارِبِ وإِعْفَاءِ اللِّحَى (¬2). قال الإمام: الحديثُ صحيحٌ. الفقه والمعاني (¬3): قول رسول الله -عليه السّلام-: "احْفُوا الشَّوارِبَ " (¬4) يقالُ أحفَى الرَّجُلُ شَاربَهُ إذا قَصَّهُ. وهو عند أهل اللُّغة الاستئصالُ بالحَلقِ. والإعفاءُ: تَركُ الشَّعَرِ لا يَحْلِقُهُ. وقد اختلف العلماء في حَلْق الشَّارب، فكان مالك يقول: السُّنَّةُ قَصُّ الشَّارب، وهو أخذُهُ من الأطار، وهو طَرَفُ الشَّفَةِ العلّيا (¬5). والحجّةُ لمالك؛ لأنّه تَعلّق بقوله:"خَمسٌ من الفِطرةِ" (¬6) فذكر منها قصّ الشّارب. وتعلّق أيضًا بقوله في حديث زيد بن أرقم؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يأخُذ من شَارِبِهِ فَلَيسَ مِنَّا" (¬7) والشَّاربُ معروفٌ، وهو ما عليه الشَّعرُ من الشَّفَة العُليا تحت الأنف، ¬
فذلك هو الّذي يُخفَى. وعن ابنِ عبّاس؛ قال: "كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَجزُّ شَارِبَهُ (¬1) وهذا قد خُولِفَ فيه رَاوِيهِ، فقيل فيه: "يَقُصُّ شاربَه" (¬2) وذُكِرَ عن ابن عبّاس، قال: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يَقُصُّ من شارِبِه، وكان خليلُ الرَّحمن إبراهيم -عليه السّلام- يَقُصُّ من شَارِبِه (¬3). وأمّا ما رُوِيَ عن عمر أنّه كان ربّما فَتَل شاربه إذا اهتمَّ (¬4)، فهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنّه لابدّ للمرءِ أنّ يترُكَ شارِبَهُ حتّى يكون فيه الشَّعَر ثمّ يحلقه بَعْدُ. وقال بعضُهم في حديث ابن عمر هذا: حتّى يَرَى بياضَ الجِلْد (¬5). وليس عندنا إحفاء الشّارب حَلقُه، وإنّما هو الأخذ منه يسيرَا، ورأى أنّ يُؤَدَّبَ من حلق شارِبَهُ (¬6). المسألة الثّانية (¬7): قوله:" اعْفُوا اللَّحَي" فقال أبو عبيد (¬8): يعني وفّروا اللَّحَي لتكثر، يقال منه: عفا الشَّعر إذا كَثُرَ، وقد عفوتُ الشَّعر وأعفيتُه لغتان. وقال ابنُ الأنباري (¬9) وغيره: عفا القومُ إذا كَثرُوا، وعَفَوا إذا قَلُّوا، وهو من ¬
الأضداد (¬1). ويقال عَفَوتُه أَعفُوهُ وأعفَيتُه أُعفِيهِ. وقال ابنُ القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا بأسَ أنّ يُؤخذ ما تطايَرَ من اللِّحية وشَذَّ. قال: فقيل لمالك: فهذا طالت جدًّا؟ قال: أَرَى أنّ يُؤخَذ منها (¬2). وروى عن عبد الله بن عمر (¬3)، وأبي هريرة (¬4)؛ انّهما كانا يأخذان من اللِّحية ما فضل عن القبضة. حديث معاوية على المِنْبَرِ (¬5) وتناوله قُصَّةً من شَعَرٍ، ويقول: يا أهل المدينة، أين علماؤُكُم؟ سمعتُ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن مِثلِ هذا، ويقولُ: "إنّما هَلَكَتْ بَنُو إسرَائِيلَ حينَ اتَّخذَ هذا نِسَاؤُهُم". المعاني (¬6): الظّاهر من هذا الحديث النّهي عن إيصال المرأة شَعَرَهَا بشَعَر غيرها، وفي هذا المعنى جاء عن النَّبىِّ -عليه السّلام- أنّه لعنَ الواصلة والمُسْتَوصِلَة (¬7)، والواصلةُ هي ¬
الفاعلةُ، والمستوصلةُ هي الطّالبةُ أنّ يُفْعَلَ ذلك بها، وهي (¬1) الّتي تأخذ القصّة من الشّعر فتجعلها على رأسها لتري أنّها من شعرها، فكرهه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لِمَا فيه من تغيير أصل الخِلْقَةِ والتَّدليلس على الزّوج. وعن ابن سيرين؛ أنّه سأله رجلٌ فقال له: إنَّ أمّي كانت تُمَشِّطُ النّساءَ، أترى لي أنّ آكُلَ من مالها؟ قال: إن كانت تصل، فلا (¬2). تركيب: فإن فعلت ذلك من قَرَعٍ بها، فإنّه أيضًا لا يجوز لأجل التّدليس والتَّغرِير والتَّحَيُّلِ على الزّوج، وإنّما استَحبَّ مالك لها أنّ تربط الخِرَق على قَفَاها، وتربط الوقاية الجميلة للتزيُّن، فإنّ ذلك أحسن شيءٍ يفعله أهْل القرع (¬3). مسألة (¬4): وهل يجوزُ حلّق رأس الصَّبيِّ، فيترك من مقدّمة رأسه وشعر قفاه؟ قال مالك: لا يعجبني ذلك في الجواري ولا الغلمان (¬5). ووجه ذلك: أنّه يُشْبِه القَزَعَ (¬6). وقال مالك: ليَحِلقُوا جميعه، أو يتركوا جميعه (¬7). ¬
مسألة (¬1): ومن هذا الباب الوَشمُ، وهو ممنوعٌ، وهو النّقشُ في اليَدِ والذِّراع أو الصَّدْر، لقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ الله الوَاصِلَةَ وَالمُستَوصِلَةَ، وَالوَاشِمَةَ والمُستَوشِمَةَ" وقال نافع: الوَشمُ في اللِّثَةِ (¬2). ومعنى ذلك أنّ هذا معنى باقٍ (¬3). ومن ذلك التَّفَلُّج، رَوَى علقمة، عن عبد الله بن مسعود؛ أنّه قال: "لَعَنَ الله الوَاشِمَاتِ والمُستَوشِمَاتِ، المُتَفَلِّجَاتِ للحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله، مَالي لا أَلعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسولُ الله -عليه السّلام-" (¬4). مسألة (¬5): وهذا فيما يكون باقيًا، وأمّا ما كان لا يبقَى وإنّما هو مَوضِعٌ للجمال يسرع إليه التّغيير كالكُحْلِ، فقد قال مالك: لا بأس بالكُحْل للمرأة الإثمِد وغيره، لما ذكرنا من قبل. وأمّا الرَّجُل، فقال مالك: أكرهُ الكُحلَ باللّيل والنّهار للرَّجُل إِلَّا لمن به علّةٌ، وما أدركتُ من يكتحلُ نهارًا إِلَّا من ضرورةٍ (¬6). وفي رواية ابن نافع: ليس الكحلُ بالإثمِدِ! من عمل النَّاسِ، ولا سمعتُ فيه بنَهىٍ (¬7). يريدُ ما قدّمناه من استحسان زِيٍّ أهل المدينة ومن مَضَى من علمائها. ¬
مسألة (¬1): وأمّا التَّجَمُّل بِالحِنَّاءِ، فقد قال مالك: لا بأْس أنّ تُوشِيَ (¬2) المرأةُ يَدَيهَا بالحِنَّاء أو تُطَرِّفهما (¬3) بغيرخِضَابٍ (¬4)، وأنكر ما يُفعل من تزويق اليدين والرِّجلين، فقال: إمّا أنّ تُخَضَّبَ يديها كلها، أو تنزع ذلك وتدعه (¬5). حديث ابن شهابٍ (¬6)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - سَدَلَ نَاصِيَتَهُ مَا شَاءَ الله، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ. الإسناد (¬7): قال الإمام: هكذا رواهُ جماعة الرُّواةِ عن مالك، إِلَّا حمَّاد بن خالد الخيّاط؛ فإنّه رواه عن مالك، عن زيَاد بن سعد، عن الزّهريُّ، عن أنس، فاخطأَ فيه. والصّواب فيه من رواية مالك الإرسالُ كما في "الموطَّأ" وهو يُسنَدُ من طُرقٍ واضحةٍ عن ابن شهاب، عن عُبَيدِ الله بنِ عبد الله بن عُتبَةَ، عن ابنِ عبّاس، قال ابن عبّاس: كان أهلُ الكتابِ يَسدُلُونَ شُعورَهُم، وكان المشركونَ يَفْرُقُون، وكان رسولُ الله يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتابِ فيما لم يُؤمَر فيه، فسدَلَ رسولُ الله ناصِيَتَهُ، ثمّ فَرَقَ بعد ذلك (¬8). قال الإمام: وقد كان مالك - رحمه الله - يَفرُقُ شَعرَهُ زمانًا من عُمْرِه في صباه (¬9). ¬
الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى: قال ابن القاسم: كرهَ مالك الذُّؤابة للصّبي، وقال: قد نَهَى رسولُ الله عن القَزَعِ، وإنّما يستحبّ أنّ تكون للصبىّ وَفْرَة (¬1). وقد رَوَى أبو عيسى التّرمذيّ (¬2) في صفة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وذِكْرِ جُمَّتِه، فقال: عن عائشة؛ قالت: كان شَعرُهُ فوق الجُمَّةِ ودونَ الوَفرَةِ. وروى عن البراء، قال: كان رسولُ الله عَظِيمَ الجُمَّةِ إلَى شَحْمَةِ أُذُنَيهِ، عَلَيهِ حُلَّةٌ حَمَراءُ وَرَاءَ مَنْكِبَيهِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ (¬3). المسألة الثّانية: قال علماؤنا: إنّما كَرِهَ الذّؤابة للصّبي وللرِّجال أيضًا؛ لما في ذلك من التَّشَبُّهِ بالنِّساء والجواري، وربّما كان من الرِّجال على الإهمال، لا على قَصْدٍ مُتعمّد. المسألة الثّالثة (¬4): قال علماؤنا: اتِّخاذُ الشَّعَرِ في الرّأس والجُمَّة زينةٌ، وتركه سُنّة، وحَلقه بدعة، وحالةٌ مذمومةٌ، جعلها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - شعار الخوارج، ففي الصّحيح عن أبي سعيد؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ذكر قَوْمًا يكونون في أُمَّتِهِ "يخرجونَ في فُرقَةٍ، سِيمَاهُمُ التَّحَالُقُ، (¬5)، وفي رواية (¬6):"سيماهم التّسبيد" وهو الحَلْق، فأكرهُ القَزَعَ والحَلْق أكثر. المسألة الرّابعة (¬7): فيجوزُ أنّ يتَّخذ جُمَّة - وهي ما أحاط بمنابت الشَّعر- وَوَفرَة -وهو ما زاد على ¬
ذلك حتّى يبلُغَ شحمة الأُذُنَيْنِ - ويجوز أنّ يكون أطول من ذلك. المسألة الخامسة (¬1): فإن قَزَعَهُ، وذلك بأن يُحْلَقَ البعضُ ويترك البعض، وهو مأخوذٌ من قزعت الشيء إذا قطعته في مواضع، وهي قطع السحاب، كره له ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم-، وقد خرّجه مسلم (¬2) وقال بعضهم: إنّه لا بأس أنّ يُحْلَقَ الرَّأسُ ويترك له ذُؤَابَة، فهو على باب التَّرخيص. المسألة السّادسة (¬3): فإن عَقَصَهُ (¬4) وعقده في وسط رأسه، كره ذلك له؛ لأنّ أبا رافع مَولَى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مرّ عليه الحسن بن عليّ وهو يصلّي، وقد غرز ضَفِرهُ في قَفَاهُ، فحلَّها أبو رافع، فألتفت الحسن إليه مغضبًا، فقال أبو رافع أقبِل على صلاتكَ ولا تغضب، فإنّي سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "ذلك كِفْلُ الشيطانِ " يعني مقعده (¬5). وقال ابنُ عبَّاس: سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَثَلُ هَذا مَثَلُ الذِي يُصَلِّي وهو مكتُوف" (¬6)، فكيف ما كان ذلك من القفا، أو في النّاصية، أو في الوسط، فإنّه مكروهٌ؛ وذلك لأنّه من زيِّ النِّساء، والله أعلم. ¬
المسألة السابعة (¬1): اختلفتِ الرِّواية في التَّرَجُّلِ، فَرُوِيَ فضل تركه وأنّ الشّعث الرَّأسِ الدَّنس الثَّوب هو الّذي يُستحبُّ له شرعًا. والوجه عندي في ذلك: ما رواه أبو عيسى التّرمذيّ (¬2)؛ أنّ النّبيّ نهى عنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًا. وهو تسريحُ الرّأسِ وتحسينُهُ. حديث ابن عمر (¬3)؛ "أنّه كانَ يَكرَهُ الإِخصَاءَ ويقولُ: فِيهِ تَمَامُ الخَلْقِ". ويروى:"نمَاءُ الخلقِ" (¬4)؛ لأنّ في تركه دوام النّسل وكثرته. الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى (¬5): اختلف العلّماءُ من أهل التّأويل في قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬6) فقال ابنُ عمر، وطائفة، وأنس بن مالك (¬7): هو الخِصَاءُ. رُويَ ذلك عن ابن عبّاس (¬8)، وابن مسعود وطائفة (¬9). المسألة الثّانية (¬10): اختلفَ الفقهاءُ في الضَّحيَّة إذا كانت مخصيّة والموجوء من الأنعام، وأكثرهم على إجازته إذاكان سمينًا، وقالو: وإخصاء فحل الغنم يزيد في سِمَنِهِ. ¬
وكَرِهَ جماعةٌ من الفقهاء من أهل الحجاز والكوفيّين (¬1) شراء الخصيِّ من الصّقالبة وغيرهم، وقالوا: لو لم يشتَرُوا منهم لم يَخصوا (¬2)، ولم يختلف العلماء أنّ خصاء بني آدم لا يحلّ ولا يجوزُ، وأنّه مُثلَةٌ وتغييرٌ لخلقِ الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائِهِم وجوارِحِهِم في غير حدٍّ ولا قَوَدٍ. وقد ذكر البونىّ (¬3) - رحمه الله - وَجهَ هذا الحديث عند مالك في بني آدم، وفيما لا يُنْتَفَعُ بإخصائه. وأمّا ما كان فيه النّفع من الإخصاء في البهائم، فلا بأس به (¬4)؛ لأنَّ في ذلك المنافع للنَّاسِ. قال الأمامُ: وذلك كإخصَاءِ الغَنَمِ وما يُنْتَفَع بإخصائه لِطيبِ لَحْمِه (¬5). المسألة الثّالثة: وكره مالكٌ إخصاء الخيل. وقال مرّة: لا بأس بإخصائها إذا أكلت (¬6)، حكاه البونيّ عنه. حديث (¬7): قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ لَهُ أَو لِغَيرِهِ في الجَنّة كَهَاتَينِ، إِذَا اتَّقَى" وأشارَ بإِصبُعَيْهِ الوُسطَى والّتي تَلِي الأبِهَامَ. الإسناد (¬8): قال الإمام: لم يختلف رُوَاةُ "الموطَّأ" في ذلك عنه، وقد رواهُ سفيانُ بن عُيَينَةَ ¬
وغيره عن صفوان بن سليم فأسنده (¬1). وقد يُسنَدُ من حديث صَفوَان بن سُلَيْم، عن امرأةٍ يقالُ لها أُنَيْسَةُ، عن أمِّ سَعيدٍ بنت مرَّة الفهريِّ، عن أبيها؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ" الحديث (¬2). الفوائد والمعاني في خمسة: الأولى (¬3): قوله: "مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا" قال الإمام: في هذا الحديث فَضْلٌ عَظيمٌ في كافِلِ اليتيم وضَمُّهُ إلى بَنِيهِ ومائدته، وأنفقَ عليه من طَولِهِ، نال ذلكَ، وحَسبُكَ بها فضيلةً وقُرْبَةً من منزل النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الجنَّة، فليس بين الوُسطَى والسّبَّابة في الطّول ولا في اللّصوق كثيرٌ، وإن كان نسبة ذلك من سَعَةِ الجنَّةِ كثيرٌ. الثّانية (¬4): قوله في هذا الحديث: "لَهُ أَوْ لِغَيرِهِ" فالمعنى -والله أعلم- واحدٌ، كان من قرابته أو من غير قرابته. تنبيه على اغفال (¬5): قال الإمام: هذا الحديث وحديث الخِصَاء في هذا الباب ليسا من معنى هذا الباب في شيءٍ، وهما عند يحيى فيه كما ترى (¬6)، والله أعلمُ كيف أدخلَهُما هنا في غير موضعهما. ¬
قال الإمام: وقد رُوِيَ في فضيلة كافِلِ اليتيمِ أحاديث كلّها صِحَاح كثيرة: رَوَى ابنُ وَهبٍ والقَعْنَبي وجماعة من رواةِ مالك (¬1)، عن مالك، عن ثور بن زَيْد، عن أبي الغَيث سالم مَولَى ابنِ مُطيعٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: "السَّاعِي على الأرْمَلَةِ وَاليَتِيم كَالمُجَاهِدِ في سبيلِ الله، أو كالَّذِي يَقُومُ اللَّيلَ ويصُومُ النَّهَار".وبعض رواة هذا الحديث يقول فيه:" السَّاعِي عَلَى الأرمَلَةِ والمسكِينِ (¬2) ولا يذكر اليتيم. وقد رُوِّينا في المنثورات أنّه قال: "خَيرُ البُيُوت بَيتٌ فِيه يَتِيمٌ مَكرُومْ" (¬3). الثّالثة: قوله: "كَافِلُ اليَتِيم" هو الّذي يَكفُلُه ويقومُ بأمرِه، من كَفَلَ يَكْفُلُ، إذا قام بالأمر، لقوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬4) أي: كَفِيلٌ يقُومُ به. الرّابعة (¬5): قوله: "لَهُ أو لِغَيرِهِ " يحتَمِلُ أنّ يكون الكافلُ امرأةً، فتَكفُلُ اليتيم وهو ابنها. ويحتمل أنّ يريد الرَّجل يكفل يتيمًا من أقاربه؛ لأنّ اليتيم في بني آدم يكون بموت الأب دون موت الأمّ. وقوله: "أَو لِغَيرِهِ" لا يكون من عشيرته. الخامسة (¬6): قوله: "كَهَاتَين، وأشارَ بأصبُعَيهِ" قال علماؤنا (¬7) فيه: لا أفضلُه في الجنَّةِ إِلَّا بقَدرِ ¬
باب إصلاح الشعر
فضلِ الوُسْطَى على الّتي تلي الإبهام. باب إصلاح الشَّعَرِ ذكر فيه حديث أبي قتادة الأنصاري (¬1)؛ قال: يا رسولَ الله، إنَّ لي جُمَّةً، أَفَاُرَجِّلُهَا؟ فقال رسولُ الله: "نعم، وأكرِمْهَا"، فكان أبو قتادةَ ربّما دَهَنَها في اليوم مرَّتين، لقوله: "وَأَكرِمهَا". قال الإمام: وفي بعض طُرُقهِ: "مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَليُكرِمْهُ" (¬2) وفي طرقه: "أَكرِمُوا الشَّعَرَ" (¬3). الفوائد المطلقة فيه ثلاث: الفائدةُ الأولى (¬4): قوله: "أَفَاُرَجِّلُهَا" يريد مشطها. وقوله: "وَأَكرِمهَا" يريدُ إصلاحَها وتجميلَها بالدُّهن، وما يجري مجراه ممّا يحسن به الشَّعرُ، فيكون ذلك إكرامًا وصيانةً من الشَّعَث والدَّوابّ والوَسَخِ، ولذلك كان أبو قتادة يوالي دهنها وإصلاحها. الثّانية (¬5): قال الإمامُ: ثمّ تعارضت هنا الأحاديث، فَرُوِيَ عنه - صلّى الله عليه وسلم - أنّه نَهَى عن التَّرَجُّلُ إِلَّا غِبًا (¬6). والحديث الآخر: كان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -ينهانا عن الإِرفَاهِ: التَّرَجُّلُ كلَّ يومٍ (¬7). ¬
وهذا الحديث يحتمل أنّ يكون فيمن شَعره سَبِطٌ لا يحتاجُ إلى أنّ يُرَجِّلَهُ في كُلِّ وقتٍ، وأمّا غيره فلا. ورأى رسولُ الله رَجُلًا ثائر الرّأس، فقال: "إمَّا أنّ تُحْسِنَ إِلَى شَعَرِك، وإَمَّا أنّ تَحْلِقَهُ (¬1). ورآى رَجُلًا ثائر اللِّحية، فقال: لِمَ يُشَوِّهُ أَحَدُكُم بِنَفسِهِ؟! " (¬2). قال الإمام: وفي هذا الحديث النَّدب إلى النّظافة وإلى الزِّيِّ الحسن؛ لأنّ ذلك من زِيِّ الإسلام وأهل الإيمان، والشُّعْوثَة وسُوء الهيئةِ من زِيِّ الكفّارِ. والشياطين، ولذلك ساق مالك في هذا الباب، قال: كانَ رسولُ الله في المسجدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ اللِّحيَةِ والرَّأسِ، فأَشَارَ إِلَيهِ رسولُ الله بِيَدِهِ أَنِ اخرُج، كَأَنَّهُ يريدُ إصلاحَ شَعَرِ رَأسِهِ وَلِحيَتِهِ. فَفعَلَ الرَّجُلُ ثُمَّ رجعَ، فقال رسولُ الله: "ألَيْسَ هذا خَيرًا مِن أنّ يَأتِيَ أَحَدُكُم ثَائِرَ الرَّأسِ كَأَنَّهُ شَيطَانٌ" (¬3). الثّالثة: وفي بعض طُرُقِ الأحاديث؛ أنّه رأى رَجُلًا عليه ثيابٌ وَسِخَةٌ، فقال: "أَمَا كَانَ يَجِدُ هذا ماءً يَغْسِلُ به ثَوبَهُ" (¬4) فكان يحثُّ على النّظافةِ والزِّيَّ الحَسَنِ. الرّابعة (¬5): أمّا التّشبيه بالشَّيطان، فلِمَا يقعُ في القلبِ من قُبْحِ الصّورة والهيئة والبغضة لذلك، والله أعلمُ. وقد قال تعالى في شجرة الزقّوم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (¬6) على هذا المعنى، والله أعلم. وقد بَيَّنَّا معن التَّرَجُّل وإصلاح الشَّعَرِ فيما تقدّم. ¬
باب ماجاء في صبغ الشعر
باب ماجاءَ في صَبْغِ الشَّعَرِ قال الإمام: ليس في هذا الباب حديث مُسْنَدٌ ولا مُرْسَلٌ غير ما استدلّ به من خبر عبد الرّحمن بْنِ الأسودِ بن عبد يَغُوثَ (¬1). الفوائد اثنان: الفائدة الأولى (¬2): قوله: "إنَّ عبد الرّحمن بن الأسود كَانَ أبيَضَ الرَّأسِ واللِّحيَةِ" يريدُ من الشَّيبِ. الثّانية (¬3): قوله: " فَغَدَا عَلَيهم وَقد حَمَّرَهُما" يريد خضَّبَهُما بالحُمرة، فاستحسنَ القومُ ذلك منه وفَضَّلوهُ على البياض، فاعلمهُم عبد الرّحمن أنّ عائشة زَوجَ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -أَقسَمَت عليه لَيَصبِغَنَّ، وأخبرتهُ أنّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه كان يَصبُغُ (¬4)؛ وذلك أنّه رُويَ عن أبي بكير أنّه خضَب بالحِنَّاءِ والكَتَمِ (¬5)، وكذلك رُويَ عن عثمان بن عفان، وأنس بن مالك وجماعة. وهذا يدلُّ على أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - لم يَخضبِ، ولو خَضَبَ كان تعلّقها بِفِعلِهِ أَبيَن وأوضح من تَعلِّقها بفعل أَبِيها. وقد قال مالك في غير "الموطَّأ": لم يصبغ رسول الله، ولا عمر، ولا عليُّ بن أبي طالب، ولا أبيُّ بن كَعْبٍ، ولا السّائب (¬6)، ولا سعيد بن المسيَّب، ولا ابن شهاب (¬7). قال الإمام: وقد تعارضت الَاثارُ هنا، ورُويَ عن عثمانَ بن مَوهَبٍ قال: رأيت شَعَرَ رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَخرَجَتهُ إِليَّ أمّ سَلَمَة مخضوبًا بالحِنَّاءِ وَالكَتَمِ (¬8). ¬
وقيل لمحمد بن علي: أكان علىٌّ يَخضِبُ؟ قال: قد خَضَبَ من هو خيرٌ منهُ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - (¬1). فيحتمل- والله أعلم- أنّ يريد بهذه الآثار أنّه كان يجعلَ من ذلك في شَعَرِه ما يُحسنُه ويُليَّنُه، دون أنّ يكون شَعَرُهُ يحتاج إلى ذلك للبياض. ومعنى الآثار الّتي نفت الخِضَابَ؛ أنّه لم يكن شَعَرُهُ أبيض يُغَيِّره الخِضَاب، فلم يكن يجعل من ذلك ما يجعله على وجه الخِضَاب الّذي يُغَيِّر البياض. وقد قال عبدُ الله بن هَمَّامٍ؛ قلتُ لأبي الدَّردَاء: أكان رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - يَخضِبُ؟ فقال: يا ابنَ أخي، ما بلَغَ منه الشَّيبُ ما يَخضِبُ، ولكنّه كان منه هاهنا شَعَراتٌ بِيضٌ، وكان يغسلهما بالحِنَّاء والسِّدْرِ (¬2). الفقه في خمس مسائل: المسألة الأولى (¬3): قال مالك (¬4) في صَبغِ الشَّعرِ بالسَّواد:" لم أسمعُ فيه شيئًا معلومًا" (¬5) يريد أنّه صَبغٌ لم يستعمله النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - في شَعَرِهِ. وقد خَضَبَ بالسَّوادِ منَ الصّحابة عُقبة بن عامر (¬6)، والحَسَنُ، والحُسَينُ (¬7). وخَضَبَ به محمّد بن عليّ (¬8) وجماعة من التّابعين. ¬
المسألة الثّانية (¬1): قال مالك (¬2):" وَتَركُ الصّبغِ كُلّهِ وَاسِعٌ" (¬3) يريد أنّ الصَّبغَ ليس بأمرٍ لازمٍ (¬4)، وقد ترك الصَّبغَ جماعةٌ من الصّحابة، منهم: عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب. قال الإمام الحافظ: وذلك عندي يتصرّفُ على وجهين: أحدهما: أنّ يكون أمرًا معتادًا ببلد الإنسانِ، فَيَسُوغُ له ذلك؛ فإنَّ الخروج عن الأمر المعتاد يُشهَرُ ويُسَقبَحُ. والثّاني: أنّ من النَّاس من يُجَمِّلُ شيبَهُ، فيكون ذلك. أَليَق به من الصَّبغِ، ومن النَّاس من لا يُجَمِّلُ شَيبَهُ ويُستَبشَعُ مَنْظَرُهُ، فيكون الصَّبغُ أجمَلَ به. المسألة الثّالثة (¬5): سئل مالك عن نَتفِ الشَّيب؟ فقال: ما علمتُه حرامًا، وتركُه أحبُّ إليَّ. وقال ابن القاسم: أكره (¬6) أنّ يُقرَضَ من أصله، وهو عندي شَبِيهٌ بالنّتف. المسألة الرّابعة (¬7): الخضاب بالوشمة سُئِلَ عنه سعيد بن جُبيرٍ فقال: يَكسُو اللهُ العَبدَ في وَجهِهِ النُّورَ ثُمَّ يُطفِئُهُ بِالسَّوَاد (¬8) ¬
باب ما يؤمر به من التعوذ
* وكان محمّد بن عليٍّ يَخضِبُ بالحنَّاءِ*والوَسمَةِ؛ ثُلُثَينِ حِنَّاءَ، وثُلُثٍ وَسمَةً (¬1). وهو عندي جائزٌ كما تقدّم بيانُه. المسألة الخامسة (¬2): في خِضاب اللِّحية بالسّواد كلها فهو على الكراهية عند الفقهاء أجمع، إِلَّا لأهل الحروب غلظةً على العدوِّ وظهورًا. وكان عقبَةُ بن عامرٍ يُنشِدُ في ذلك (¬3): نُسَوِّدُ أعلاها وتَأبَى أصولُها ..... ولا خيرَ في الأَعلَى إذا فَسَدَ الأصلُ وكان الحسن بن عليّ يقول (¬4): نُسَوِّدُ أَعلَاهَا وتَأبَى أُصولُهَا ..... فَلَيتَ الّذي يَسوَدُّ منها هُوَ الأصلُ وكان هُشَيمٌ يخضبُ بالسّوادٍ، فأتاهُ رجلٌ فسأله عن قول الله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (¬5). فقال له: قد قيل: إنّه الشّيب (¬6). فقال له السّائل: فما تقول فيمن جاءَهُ نذيرٌ من ربِّه فسَوَّدَ وجهَهُ؟! فترك هُشَيمٌ الخضابَ بالسَّوادِ. باب ما يُؤمَرُ به من التَّعَوَّذ فيه حديث خالد بن الوليد؛ قال: يا رسول الله، إِنِّي أُرَوَّعُ في مَنَامِي، فقال له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "قُل أَعُوذُ بكَلِمات الله التَّامَّاتِ من غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِ عِبَادِهِ، ومن هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَن يَحضُرُونِ" (¬7). ¬
الإسناد (¬1): قال الإمام: هذا الحديث محفوظٌ من رواية أهل الحديث معروف صحيح (¬2) مُرسَلًا ومُسنَدًا. المعاني والفوائد: الفائدةُ الأولى: قوله: إنَّ خالد بن الوليد كان يُرَوَّعُ منَ اللَّيلِ، فقال له: "إِذا أتَيتَ فِرَاشَكَ فَقُل: أعوذُ بكلماتِ الله التَّامَّة" الحديث. في هذا الحديث: ذِكرُ خالد بن الوليد، وليس هو خالد بن الوليد المخزومي، وإنّما هو خالد بن الوليد بن المغيرة. وفي هذا الحديث (¬3): التَّعوُّذ بكلمات الله، والاستعاذة لا تكون بِمَخلُوقٍ، وكلماتُ الله منَ الله، وليس من الله شيءٌ مخلوقٌ (¬4). الثّانية (¬5): قوله: "قُل أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ" وصفُها بالتَّمام على الإطلاق، يحتمل - والله أعلم- أنّ يريد بذلك أنّه لا يدخلُها نقصٌ وإن كانت كلماتُ غيره يدخلُها النّقصُ. ويحتملُ أنّ يريد بذلك المفاضلة، يقالُ: فلان تامٌّ وكاملٌ، أيّ فاضلٌ. ويحتَمِلُ أنّ يريد به الثّابتَ حكمها، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (¬6). ¬
الثّالثة (¬1): قوله: "من غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ" وفيه نكتةٌ أصوليّةٌ، وذلك أنّ تعلم أنّ غضب الرَّبِّ تعالى يرجع إلى الإرادة، فمعناه على هذا: إرادةُ عقوبة من غضب عليه، وقوله: "وَعِقَابِهِ" راجعٌ إلى معنى واحدٍ. الرّابعة (¬2): قوله: "وَشَرِّ عِبَادِه " يحتمل أنّ يريد به أنّ شرَّ عَذابه ما كان في الآخرة على وجه الانتقام والغَضَبِ، وما كان في الدُّنيا من الأمراض والآلام على سبيل. التَّكفير لا يوصفُ بذلك. ويحتمل أنّ يريد أنّ عذابه كلّه ممّا يوصف بالشَّرِّ، وإن كان من الأمراض في الدُّنيا والآلام ممّا تكَفِّر به الخطايا لا يوصف بأنَّه عذابٌ. الخامسة (¬3): قوله: "وَمِن هَمزَاتِ الشَّيَاطِينِ" قال علماؤنا: معناه أنّ تصيبني. السّادسة (¬4): قوله: " وَأَن يَحْضُرُونِ" يحتمل أنّ يريد به أنّ يكونوا معي، دعاءٌ في إبعادهم عنه في مكان مختصٌ أنّ يحضُرَهُ من يتأذَّى النَّاس به. ويحتمل أنّ يريد به ان يكون معناه ممنوعًا، أي به مَنْ يمنعه ويضرُّ بمن يكون فيه (¬5). ¬
السابعة (¬1): قوله في بعض طرق الحديث: "أَعُوذُ بِوَجهِ الله الكَرِيمِ" (¬2) يحتمل -والله أعلم- أنّ يكون صفة للوجه. ويحتَمِل أنّ يكون صفةً لله تعالى من جهة اللَّفظِ، وأمّا من جهة المعنى فعلى ما تقدَّمَ ذِكرُه. الثّامنة (¬3): قوله: "الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ ولَا فَاجِرٌ" (¬4) يحتمل أنّ يريد به -والله أعلم-: لا يجاوزها في التّمام، أي لا يزيد عليها. ويحتمل أنّ يريد به: لا ينتهي علم أحدٍ إلى ما يزيد عليها. والبَرُّ من كان ذا بَرٍّ من الأنس والجنّ وغيرهم. والفاجر مَنْ كان ذا فجورٍ، والله أعلمُ. التّاسعة (¬5): قوله: "وَما عَلمتُ مِنهَا وَمَا لَم أَعلَم" (¬6) هذا إنّما ورد في قول كعب الأحبار. فيحتَمِلُ أنّ يعتقدَ أنّ من أسماء الله -عَزَّ وَجَلَّ- ممّا لا يعرفه* هو وإن عرفه غيره من النَّاس. ويحتَمِلُ أنّ يريدَ به أنّ فيها ما لا يعرفه أحدٌ. وقد رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - في الصّحيح: "إِنَّ للهِ تسعَةً وتسعِينَ اسمًا مِئَة إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة" (¬7) وهذا ¬
ما جاء فى المتحابين في الله تعالى
يقتضي أنّها ممّا يمكن أنّ يُحصَى وُيعلَم، وهو الأظهر، والله أعلم. ما جاء فى المُتَحَابِّينَ في الله تعالى فيه حديث أبي هريرة (¬1)؛ قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَباركَ وتَعالَى يقولُ يومَ القيامةِ: أينَ المُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي، اليومَ أُظِلُّهُم في ظِلِّي يَومَ لَا ظِلَّ إِلا ظِلِّي". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ متَّفَقٌ عليه (¬2)، خرّجه الأيِمَّة (¬3). الفوائد والمعاني: الأولى (¬4): قوله: "المُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي" أي: المتحابّون فِيَّ، ومِن أجلي، إجلالًا ومحبَّةً فيَّ، وابتغاءَ مرضاتي. قال الإمام: والمعنى فيه: أنّ يُحِبُّ الرَّجُل أخاه في الله تعالى محبّةً خالصة، لا يحبه لشيءٍ من عَرَض الدُّنيا، إنّما يحبّه لأنّه عالم باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، مؤمنٌ به، مخلص له، ويحبُّه لدعائه إلى الخير، ولفعله الخير، وتعليمه الدِّينَ، والدِّين جِماعُ الخير كلِّه. فإذا أحبَّهُ لذلك فقد أَحبَّ الله تعالى. وقال علماؤنا (¬5): قوله: " لِجَلَالِي" يريد به -والله أعلم- لعظمته وعُلُوِّ شَأنّه. ¬
قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1). وروي في الحديث الصّحيح من وجوه كثيرة؛ أنّ رَجُلَا سأله فقال: يا رسول الله، المرءُ يُحبُّ القومَ ولَمَّا يَلحَق بهم؟ فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم-: "المَرءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ" (¬2). وفي الصّحيح: أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَوثَقُ عُرَى الإِيمانِ الحبُّ في اللهِ عَزَّ وجلَّ وَالبُغضُ في اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬3). ومن حديث ابن مسعود، قال: قال لي رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "يا عبدَ اللهِ بن مسعود، أَتَدرِي أَيُّ عُرَى الإِيمان أَوثقُ؟ قلتُ: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ. قال: الوَلايةُ في اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، والحُبُّ فِيهِ، والبُغضُ فيه" (¬4). ومن حديثِ ابنِ مسعودٍ؛ قال: " أَوحَى اللهُ إِلى نَبِيٍّ مِنَ الأنبِيَاءِ أنّ قُل لِفُلانٍ الزَّاهِدِ: ما زَهَّدَكَ في الدُّنيَا فَتَعَجَّلتَ بِهِ رَاحَةَ نفسِكَ. وأَمَّا انْقِطَاعُكَ إلَيَّ فقد تَعَزَّزتَ بِي، فَمَاذَا عملتَ فِيمَا لِي عَلَيكَ؟ قال: يا رَبِّ، ومالَكَ عَلىَّ؟ قال: هَل وَاليتَ فِيَّ وَلِيًّا أَوْ عَادَيتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ " (¬5). وفي الحديث: "حُبُّ الأَنصَارِ إِيمَانٌ وَبُغضُهم نِفَاقٌ" (¬6). ¬
وقوله لعليّ بن أبي طالب: "لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤمِنٌ وَلَا يبغضكَ إِلّا مُنَافِقٌ" (¬1). وقال جابِر بن عبد الله: مَا كُنَّا نَعْرِفُ المُنَافِقِينَ إِلَّا ببُغضِ عَلىٍّ (¬2). قال الإمام: والحبُّ في الله هو حبُّ أَولياءِ الله، وهم الأتقياءُ العلّماءُ باللهِ، المعلِّمونَ لدِينِ اللهِ، العاملون به. الثّانية (¬3): قوله: "اليَومَ أُظِلُّهُم فِي ظِلِّي" قال علماؤنا: يحتمل أنّ يريد به أنّ النَّاس يضجّون يوم القيامة، وتدنو الشّمسُ منهم، فيشتدُّ عليهم الحرّ، ولا ظلّ ذلك اليوم إِلَّا ظلّه، فمن أَظلَّهُ الله ذلك اليوم فقد رَحِمَهُ وفازَ. وقوله: "في ظِلِّي" قال علماؤنا: ظلُّ اللهِ سِتْرُهُ، ومن ذلك قولهم: أنا في ظلِّ فلان، أي في سِترِهِ. ويحتمل (¬4) أنّ يريد أكنه من المكاره، وأكنفه في كَنَفِي وأكرمه، ولم يُرِد شيئًا من الظِّلَّ ولا الشّمسِ، إنّما أراد ستر الله. حديث أبي هريرة (¬5)؛ أنّه قال: "سبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ" الحديث، صحيحٌ متَّفقٌ عليه (¬6) خرّجه الأيمّة (¬7). وفي "مسلم" (¬8) غريبة، قال فيه: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَلَم تعلَم يَمِينُهُ مَا أَنفَقَت ¬
شمالُه" وجميع المصنفات يقولون: "فَلَم تَعلَم شِمَالُهُ مَا أَنفَقَتْ يَمِينُهُ". الفوائد فيه (¬1): في فضل الإمام العادل، وفضلِ الشاب النّاسكِ، وفضلِ المشي إلى المساجد والصّلاةِ فيها وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وفضل الصّدقَةِ، وفي المتحابِّين في الله، وفي العينِ الباكية من خشيةِ الله، وفضلِ الصَّدقة في السِّرِّ والعلانيّة، وفي فضل العفافِ والتّاركِ شهوتَهُ خوفًا من الله وحياءً منه وتصديقًا بوَعدِه ووَعيده آثارٌ كثيرةٌ: يطولُ الكتاب بذكرها وسردها، ولكن أُبَيِّن كلّ واحدٍ على بعضِ ما قيل فيه، وهي سبع: الأولى (¬2): "الإمامُ العادلُ" فهو أمرٌ ظاهرٌ" أنّه أراد إمام المسلمين ومَن جرى مجراه من أيمّة العدل، والحاكمين بين النَّاس، فإذا عدلوا واجتهدوا كان لهم فضل عظيمٌ. وقال الحسن البصري: لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتُها في إمامٍ عادلٍ (¬3). الثّانية (¬4): قوله: " شابٌّ نشأَ فِي عبادةِ اللهِ" يحتَملُ أنّ يريد به أنّه أقل ذنوبًا وأكثر حسنات ممّن نشأ في غير ذلك، ثمّ عَبَدَ الله وتابَ إليه في اَخرِ عمره وعند شيخه. الثّالثة (¬5): قوله: " ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسجِدِ إِذا خرجَ منهُ حتَّى يعودَ إِليهِ" معناه -واللهُ أعلم- ¬
أنَّه ينوي الرّجوع إليه ويرتقب وقت توجُّهِهِ إليه. فهذا ممّا يستديم به الحسنات؛ لأنّ مَنْ نَوَى حَسَنَة فلم يعملها كُتِبت له حسنة، كان عملها كُتِبَت له عشرًا، بِكَرمِ اللهِ. الرّابعة (¬1): قوله: "وَرَجُلَانِ تحَابَّا في اللهِ اجتَمَعَا على ذلك وَافتَرَقَا عليهِ" فقد قال مالك: الحبُّ في الله والبغضُ في الله من الفرائض. واجتماعهما على معنى أنّهما يجتمعان بسبب تحابّهما في الله، ويفترقان على ذلك ويحتمل أنّ يريد به: أنّهما يفترقان من أجل ذلك، ينفرد كلّ واحد منهما بِعَمَلٍ صالح، يكون الانفراد حينئذ أفضل. الخامسة (¬2): قوله: "وَرَجلٌ ذَكَرَ اللهَ خَاليا فَفَاضَت عَينَاه" خصَّ - صلّى الله عليه وسلم - الخالي بذلك؛ لأنّه أبعد من الرياء والسُّمعة وطلب الذِّكْر، فما كان في حال الخَلوَة من ذكر الله تعالى واستشعار خشيته حتّى تفيض عيناه؛ فإنّه خالص لله تعالى لا يشوبه غيره. والخَلوَةُ والفكرةُ في أمر الآخرة نافعةٌ، وخوفُ اللهِ وذِكرُ الجنَّةِ والنّارِ والحساب والعقاب نافع للقَلب، لا على ما تَفعله الصّوفية من الانفراد والتّفكير في الله تعالى حتّى تدعي عند لألك حال المكاشفة؛ فإنّه أمرٌ لا يدرك إِلَّا في نادر من الخَلْقِ. السّادسة (¬3): قوله: "وَرَجلٌ دَعَتهُ امرأةٌ ذَات حَسبٍ وجَمَالٍ" يريد -والله أعلم- دعَتهُ إلى نفسها. ويحتمل أنّ يريد على وجه النِّكاح، ويعرِفُ أنَّه لا يقوم بما يجب عليه لها. ويحتمل أنّ تدعوه إلى غير ذلك ممّا لا يحلُّ فيمتنع منه. وخَصَّ - صلّى الله عليه وسلم - ذات الشّرف والجمال؛ لأنّ النَّاس فيمن تجمّعت لها هاتان الخصلتان أَرغَب وعليها أحرص. فإذا ¬
قال: إنِّي أخاف الله، كان امتناعُه من ذلك مخافة الله وايثارَا لما عنده. ويحتمل أنّ يريد بقوله: "إنِّي أخافُ الله" أنّه قال لها ذلك وراجعها به، وأظهر لها امتناعه عليها. ويحتمل أنّ يريد أنّه قال ذلك في نفسه، فمنع نَفْسَهُ لذلك لِمَا دعَتهُ إليه، واللهُ أعلم. وهذا عندي أفضل السّبعة لأنّه مقام عظيم (¬1). السابعة: ذكرَ فيه إخفاء الصَّدقة، وقد اختُلِف في ذلك. فقال قوم: صدقةُ السِّرِّ أفضل بهذا الحديث. وقال قوم: صدقةُ العلانيّة أفضل، لما في ذلك من إظهار فضلِ الخير وتنشيطِ النَّاس فيه. وقد بينَّاه في "كتاب الزَّكاة". حديث أبي هريرة (¬2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -قال: "إذا أَحبَّ اللهُ العبدَ. قال لجبريل: قد أحببتُ فلانًا فَأَحِبَّهُ، ثمَّ يُنادِي في أهل السّماءِ: إنَّ اللهَ قد أَحبَّ فلانًا فَأَحِبُّوه". ومِثلُ ذلك في البُغْضِ. الحديثُ صحيحٌ خرّجه الأيمّة (¬3)، لا كلامَ فيه. الفوائد: قال علماؤنا: في هذا الحديث أنّ جبريل -عليه السّلام- هو صاحب المحبَّة والبغض، وفي كتب التّفسير أنّ جبريل -عليه السّلام- أبطأ عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال له النّبيُّ -عليه السّلام-: مالك لا تزرنا كلّ يوم؟ فقال: فنزل عليه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية (¬4). وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬5) أي: محبّة في قلوب ¬
عباده. وقال ابن عبّاس: يحبُّهُم ويحبِّبُهُم إلى النَّاس (¬1). وقالوا (¬2) في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (¬3) أي: حبّبْتُكَ إلى عبادي (¬4). وإذا أَحبَّ الله العبدَ أَلقَى له مودَّةً في قلوبِ أهل السَّماء، ثمّ أَلقَى له مودَّةً في قلوب أهل الأرض (¬5). وقال كعب: ما استقرَّ لعبدٍ ثناءٌ في الأرض حتّى يستقرَّ له في السَّماءِ (¬6). وقال عبد الله بن مسعود: لا تَسأل أحدًا عن وُدِّهِ لك، وانظُر ما في نَفْسِكَ له، فإنّ في نفسه مِثل ذلك، إنَّ الأرواحَ جنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارف منها ائتَلَفَ، وما تناكر منها اختلف (¬7). ورُويَ عن أبي الدّرداء؛ أنّه قال: إيّاكم ومن تبغضه قلوبُكُم. فأخذه منصور الفقيه فقال (¬8): شاهد ما في مضمري ........ من صِدْق وُدٍّ مضمرك ¬
ما جاء في الرؤيا
فما أريدُ وصفه ........ قلبك عَني يُخبِرُك نكتةٌ أصوليّة: ومحبّةُ الله إرادةُ إثابته. وقيل: المحبّةُ من اللهِ هي: ارادة حُبِّ الجزاء وكريم المآب، والبُغضُ منه: شدَّةُ العقاب وسوء المآب. ما جاء في الرُّؤيا ذكر في هذا الباب حديث أنس بن مالك (¬1)؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: " الرُّؤيَاء الحَسَنَةُ منَ الرَّجُلِ الصّالحِ جُزْءٌ من سِتَّةٍ وأربعينَ جُزْءًا من النُّبُوَّةِ". الإسناد: الحديث صحيحٌ خرّجه الأيمّة (¬2)، ولكن في طرقه اختلاف ألفاظ، وقد ورد في الحديث: "من رَآنِي في المنامِ فقد رَآنِي، فإنَّ الشَّيطان لا يَتَمَثَّلُ بي" (¬3)، وقوله: "إنَّ الرُّؤيَا من المُبَشِّراتِ" (¬4) وغير ذلك من الأحاديث، صحاحٌ كلّها. الأَّصول (¬5): قال الإمام: والقولُ في حقيقة الرّؤيا (¬6): أنّها إدراكات يخلقها اللهُ في قلب العبد ¬
على يدي المَلَك أو الشيطان، إمّا بأمثالها، وإمَّا أمثالًا بكناها، وإمّا تخليطًا. ونظيرُ ذلك في اليقظةِ الخواطرُ، فإنّها تأتي على نَسَقٍ في قصدٍ، وتأتي مسترسلة غير محصّلة. فإذا خلق اللهُ ذلك في المنامِ على يدي المَلَكِ، كان وحيًا منظومًا، وبرهانًا مفهومًا. هذا نحو كلام الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. والَّذي صار إليه القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب أنّها اعتقادات. وإنّما دارَ هذا الخلاف بينهُما؛ لأنْه قَد يرى نفسَهُ بهيمةً أو مَلَكًا أو طائرًا، وليس هذا إدراكًا؛ لأتها ليست حقيقة، فصار القاضي إلى أنّها اعتقادات؛ لأنّ الاعتقادَ قد يأتي على خلافِ المعتقدِ، وذَهِلَ عن التفطُّن؛ لأنّ هذا المرئيّ مثلٌ، والإدراكُ إنّما يتعلّق بالمثل. حديث رؤية النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬1): وقالت القَدَريّة: إنَّ الرُّؤيَا لا حقيقةَ لها، وتعسًا لهم، وقد بيَّنَّا فساد قولهم في غير ما موضعٍ. وقد غَلَا صالح (¬2) فيه فقال: كلّ الرُّؤى والرّؤيةُ بالعين الّتي في الرّأس حقيقة. وهذا حماق. وقيل: هي مُدْرَكَة بعينين في قَلبِه، وهذه عبارةٌ مَجَازيَّةٌ نحو ما قاله الأستاذ أبو إسحاق. أمّا رؤيةُ النّبيِّ -عليه السّلام-، فلو رآه في المنام بصفته المعلومة، فهو إدراكُ الحقيقة، وإن دلَّ على غيرِ صفته، فهو إدراكُ المِثَالِ. ¬
اعتراض (¬1): فإن قيل: كيف يكونُ إدراكُه بصفته المعلومة حقيقَة، وهو قد أَرِمَ كما جاء في الحديث (¬2)؟ قلنا عنه: قد قبل -وهو حقٌّ-: إنَّ الأنبياءَ لا تُغَيِّرُهم الأرضُ. قإن قيل: فهل يَرُدُّ اللهُ الرُّوح فيراه قائمًا قاعدًا؟ قلنا: يكون إدراكُ الذَّاتِ حقيقة، وإدراك الصّفات إدراك المَثَل ليس لأعيأنّها، وهذا بابٌ تَغَاطَاهُ من لم يفهم صفاته فخلطَ فيه. وقد جاء هذا الحديث على أربعة ألفاظ صِحَاحٍ: الأوّل: "مَنْ رَآنِي فَقَد رَآنِي فإنّ الشيطان لَا يَتَمَثَّلُ بِي" (¬3). الثّاني: قوله: "من رَآنِي فَقَد رَأَى الحَقَّ" (¬4). الثّالث: "فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ" (¬5). الرّابع: "لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي اليَقَظَةِ" (¬6). ¬
تنقيح (¬1): أمّا قولُه: "مَنْ رَآنِي" فقد بيَّنَّاه في وجه إدراكه. وأمّا قولُه: "فَقَد رأَى الحَقَّ" فتفسيرُهُ قوله: "إنَّ الشَّيطَانَ لَا يَتَمَثّلُ بِي". وأمّا قوله: "فَسَيَرَانِي في اليَقَظَةِ" فيحتَمِلُ أنّ يكونّ معناه: سيرى تفسير ما رأى؛ لأنّه حقٌّ وغَيبٌ ألقاهُ إليه المَلَك. وقيل: معناه سيراني في القيامة. وهذا لا معنى له، ولا فائدةَ في هذا التَّخصيص. وأمّا قولُه: "فَكَأَنَّمَا رَآنِي" فتشبِيهٌ، ووجهه: أنّه لو رآه في اليَقَظَةِ لرآهُ حقًّا، وكذلك هذا يكون حقًّا، وكان الأوّل حقًّا وحقيقة، ويكون الثّاني حقًّا تمثيلًا ومجازًا. فإن قيل: فإنْ رآهُ على خلاف صِفَةِ ما هو؟ قلنا: هي أمثالٌ، فإن رآه حسن الهيئة حسن الأفعال والأقوال، مُقبِلًا على الرّائي، كان خيرًا له وفيه. لأنَّ رأى خلاف ذلك، كان شرًّا له وفيه، ولا يلحق النّبيّ من ذلك شيءٌ، وتفصيلُ ذلك في "كتب التّعبير". وأمّا تقسيم الرُّؤيا على ثلاثة أقسام، فهي قسمةٌ صحيحةٌ مستوفية المعاني. وهي عند الفلاسفة على أربعة أقسام على حسب الطبائع الأربع، وقَدْ بيَّنَّا في كلِّ كتابٍ، ونادينا على كلِّ بابٍ، وصرخنا على الأنقاب، أنّه لا تأثيرَ للأخلاطِ ولا فِعلَ، فلا وجه للتَّكرار في كلِّ موضعٍ. وأمّا قوله: "مِنَ الرَّجُلِ الصَّالحِ، جُزءٌ ... مِنَ النُّبُوَّةِ" وإنّما قال ذلك لما يكون فيها في المستقبل من الأمر الصّحيح. وأمّا (¬2) قوله: "مِنْ سِتَّةٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" قيل: معنى هذه التّجزئة أنّ نبوَّة نبيّنا -عليه السّلام- كانت ثلاثًا وعشرين، منها ستّة أشهر كانت نبوءَتُه بالرُّؤيا، ولذلك رُوِيَ عن ¬
ما جاء في النرد
عائشة قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله الرُّؤيَا الصَّالحةِ أَوِ الصَّادقَةِ، فكان لا يَرَى رؤيا إلَّاجَاءَت مثل فَلَقِ الصُّبحِ" (¬1)، وستّة أشهرٍ من ثلاثٍ وعشرين سنة، هي جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ (¬2). وقيل: إنها أجزاء مِنَ النُّبُوَّةِ على وجهٍ لم يطَّلع عليه. حديث وقع في الصّحيح (¬3)؛ أنّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي رأيتُ رَأسِي قُطِعَ فانا أتبعه. - فقال: لا تُخبِر بِتَلَعُّبِ الشَيطَانِ بِكَ في المَنَامِ. ويقول أهل العَبَارَةِ في تأويله: إنّه يفارقُ من بَدَنِهِ شيئًا، ويفارق سلطانه ويزولُ عنه، وإن كان عبدًا خرّجَ حرًّا، أو مريضًا شَفَى رُوحَهُ، أو مَدِينًا ذهب دَيْنُه، أو خائفًا أمنَ (¬4). ما جاء في النَّرْدِ الأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ في المصنّفات، ذكر مالك في هذا الباب حديث أبي موسى الأشعري (¬5)؛ أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَد عَصَى الله ورَسُولَهُ". وعن بُرَيدَةَ: أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قَال: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ، فَكَأَنَّمَا غمسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرِ" (¬6) الحديثُ صحيحٌ. ¬
المعاني والفوائد: الأولى (¬1): قال الإمام: النَّرْدُ قِطَعٌ مُلَوَّنةٌ تكونُ من خَشَبِ البَقسِ (¬2) وغَيرِه، مثل الآبُنُوس وشبهه. وتكون من العاجِ ومن غير ذلك. ويقال لها الطَّبْلُ، وتُعرَفُ أيضًا بالكِعَابِ، وتُعرَفُ بالأَرُنِ، وتعرف بالنَّردَشِير (¬3). الثّانية: رُوِيت الكراهيةُ باللَّعب بالنَّردِ عن عثمان بن عفَّان (¬4)، وابن مسعود (¬5)، وابن عمر (¬6)، وعائشة (¬7)، وأبي موسى (¬8)، وابن المُسَيِّب، وجماعة من التَّابعين. وسئل ابنُ المسيَّب عن اللَّعِبِ بالنَّردِ؟ فقال: إذا لم يكن قِمارًا فلا بأس به (¬9). وَرُويَ عن الشَّعبيّ وعِكرِمَة أنّهم كانوا يلعبونَ بالنَّرد (¬10). قال الإمام: وهذا لا يجوزُ أنّ يُضافَ إليهم إِلَّا على غير سبيلّ القِمَارِ، لنَهيِ الله ورسوله عنه وعن المَيْسِرِ، ولقوله: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّردِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولهُ". ¬
الثّالثة (¬1): رويتُ التّحريمَ فيه وفي الشَّطرَنجِ؛ فأجمعَ العلّماءُ أنّ اللَّعبَ بهما قمَارٌ لا يجوزُ، وأخذُ المالِ وأكلُه قمارٌ بها لا يحلُّ. وأجمع مالك وأصحابُه على أنّه لا يجوزُ اللّعب بالنَّرْد ولا بالشّطرَنْج (¬2)، ورَدُّوا شهادةَ المُدَاوِمِ على لعب الشَّطرَنْجِ (¬3). وأمّا أبو حنيفة وأصحابُه (¬4) فعلى الكراهيّة للنَّرْد والشِّطرَنْجِ وللأربعة عشر، وبكلّ اللَّهوِ، وقالوا: فإن لم يظهر من اللّاعب بها كبيرةٌ، وكانت محاسِنُه أكثر من مساوئه، قُبِلَتْ شهادَتُه. وقال الشّافعيّ (¬5): أَكرَهُ اللَّعِبَ بالنَّرْدِ للخَبَرِ الوارِد، واللَّعِبُ بالشِّطرَنْجِ والحمام بغَيرِ قِمَارٍ *وإن كَرِهنَاهُ أخفُّ حالًا من اللَّعِبِ بالنَّرْدِ. وقال أصحَابُ الشّافعيّ: لا تسقُطُ شهادةُ لاعِبِ النَّردِ والشِّطرَنْجِ إذا كان عَدْلًا ولم يُقَامِر بها، ولم يظهر منه سَفَةٌ. فأكثرُ العلماء على إجازةِ اللَّعِب بالشِّطرَنجِ إذا كان بغير قمارٍ (¬6) وأمّا بالقِمَارِ فلا يحلُّ؛ لأنّه من باب أكل أموالِ النّاسِ بالباطلِ. ¬
العمل في السلام
وأمّا عند مالك، فهذا ادمن الرَّجُلُ على اللَّعِب به، فلا تُقبَلْ شهادَتُه (¬1) وإن كان عَدلًا، لعبَ قمارًا أو غير قمارٍ، فَخَتَمَ البابُ بذلك. العمل في السّلام مالك (¬2)؛ عن زيد بن أسلم؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "يُسَلمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي، وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ القَومِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنهُمْ". الإسناد: قال الإمام: الحديث مُرْسَلٌ (¬3)، وهو حديث صحيحٌ، يتّصلُ من وجوهٍ كثيرةٍ. الفقه والمعاني في اثني عشرة مسألة: المسألة الأولى (¬4): كبف يردّ السّلام يردّ عليه بمِثْلِ ما سلّم عليه. وقيل: يجوزُ أن يقولَ: وعليك، كما رَوَى أبو عيسى التّرمذيّ (¬5) في حديث الأعرابي الّذي لم يحسن الصّلاة: "وَعَلَيك، ارْجِعْ فَصَلٌ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ويحتملُ أنّه لم ¬
يكمل له السّلام؛ لأنّه لم يكمل صلاتَه (¬1). والأصل في هذا الباب: قولُه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬2). الثّانية (¬3): لا يقل في أوّل السّلام: عليك السّلام، فقد رَوَى جابر بن سُلَيْم وغيره؛ أنّ رجلًا (¬4) قال للنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -: عليك السّلام، فنهاه وقال: "إِنَّما هِيَ تَحِيَّة المَيِّت (¬5) وأراد النّبيُّ -عليه السّلام- بذلك أنّها العادة في السّلام على الميِّت، فكرهها لأجل ذلك. قال الشاعر (¬6): عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ قيسَ بنَ عاصِمٍ ..... وَرَحمَتْهُ مَا شَاءَ أنّ يتَرَحَّمَا وقالت الجِنُّ ترثي عمر (¬7): عَلَيكَ سلامٌ مِنْ أَمِيرٍ وبارَكَت ..... يَدُ اللهِ في ذَاكَ الأدِيمِ المُمَزَّقِ إِلَّا أنّ يردّ السّلام فيقول: عليك السّلام، كذلك قالت عائشة لجبريل (¬8)، وقالت الملائكةُ لَادم مثل ما قال لها: السّلام عليك ورحمة الله. خرّجه البخاريّ (¬9) وغيره، وكلاهما عندي صحيحٌ. ¬
فإن قيل: فقد قال النّبيُّ لأهل القُبور: "السَّلامُ عَلَيكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (¬1) وهذا نصٌّ؟ قلنا: الأوّل أصحّ فَليُعَوَّل عليه (¬2). الثّالثة (¬3): أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسّلام سُنَّةٌ (¬4)، وان الرَّدِّ فرضٌ، لقوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬5) ولو كان فرضًا ما سقط عن البعض بردِّ البعض. وقد وهم الطّحاويّ فيما حكاه عن أبي يوسف أنّه كان يُنكر الحديث الّذي رُوِيَ عن النَّبيِّ عليه السّلام أنّه قال: "إذَا رَدَّ السَّلَامَ بعضُ القَوم أَجزَأَ عن جَمَيعِهِمْ" وقال: لا يُجزِئُ إِلَّا أنّ يردّوا جميعًا. وقال الطّحاويُّ: "ردُّ السّلام من الفُروض المتَعيّنة على كلِّ إنسانٍ بنفسه، لا ينوبُ عنه فيها أحدٌ غيره" (¬6) فجعله فرض عين، وهذا ما لم يقله أحدٌ من العلماء، وإنّما قالوا: إنّه من فروضِ الكفايةِ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ولأن أيضًا: ليس مع الطّحاوي فيما قال حُجَّةٌ، ولا أثر يحتجُّ به، من مُرْسَلٍ، ¬
ولا مُسنَدٍ، وقد جاء في الحديث ردّ السّلام، ممّا يدلُّ على أنَّه من الفروض الّتي على الكفاية، فالمصير إليه أَوْلَى من الرّأي. الرّابعة (¬1): في صفة سلام أهل الكتاب إذا قالوا: السّلام عليكم، قيل لهم: "وَعَلَيكُمْ" (¬2) ورُوِي: "عَلَيْكُمْ" (¬3) وقد رويت الوجهان حين قالوا هم: " السَّامُ (¬4) عَلَيكُم، فقالت عائشة: وعليكم السَّام واللَّعْنَة، فنهاها رسولُ اللهِ، وقال: وعليكم، ثمَّ قال لعائشة: إنَّهُ يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُستَجَابُ لَهُم فِيَّ" (¬5). واختار بعضهم ترك الواو (¬6)، لِمَا فيه من الرَّدِّ عليهم قولهم الفاسد، وإذا دخلت الواو فهو المعنى بعينه؛ لأنّه عطف ما دعا على ما دعوا، التّقدير: وعليكم الّذي قُلْتُم. ثمّ قال: إنّه ينفذ قولي فيهم ولا ينفذ قولهم فيَّ. والّذي في "الموطّأ" (¬7) عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "عَليَكَ" (¬8) وهذا يرفع كلّ إشكالٍ وخلافٍ، ويقضي على رواية من غير النّبيِّ -عليه السّلام-. ¬
الخامسة (¬1): فإن بدأتَ ذمِّيًا بالسّلام على أنّه مسلمٌ، ثمّ عرفت أنّه ذمّيّ؟ قال مالك: لا يستردّ منه السّلام (¬2). وكان ابنُ عمر يستردّ منه السّلام، فيقول له: اردد عَلَىَّ سلامي (¬3)، وهذا لا يلزم؛ لأنّه لم يخلص للذِّمِّىِّ من ذلك شيءٌ، لأنّه إنّما سَلَّم عليه ظنَّا منه أنّه مسلمٌ، ولمّا اختلف الباطنُ والظّاهرُ لم يخلص منه شيءٍ، فليس هنالك ما يحصل له حتّى يُستردّ منه. السّادسة (¬4): السّلامُ عندنا ينتهي إلى البركة في الرَّدِّ. وقال قوم: لا يردّ بالبركة. لأنّ النّبيَّ قال لعائشة: "إنَّ جِبرِيلَ يُقرئُكِ السَّلامَ. فقالت: وَعَلَيهِ السَّلَامُ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ" (¬5) وفي "الموطَّأ" (¬6):"إنَّ السَّلَامَ قَدِ انْتَهَى إِلَى البَرَكَةِ" عند عبد الله بن عبّاس. وروى أبو عيسى التَّرمذيّ (¬7) حديثًا مُنْكَرًا ضعيفًا، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم-: "السَّلامُ قبلَ الكَلَامِ" وإن كان ليس بصحيحٍ فله معنى صحيح؛ لأنّ السَّلام فرضٌ ¬
والكلام مباحٌ، وقد يكون ندبًا وفرضًا؛ فإن كان مباحًا أو ندبًا فالفرضُ مثله، وإن كان فرضًا فالسّلام مُقَدَّمٌ في الرُّتبة، فتقديمهُ واجبٌ بكلِّ حالٍ. السابعة (¬1): "يسلِّمُ الرّاكبُ على الماشي، والماشِي على القاعِدِ، والقليلُ على الكثيرِ" (¬2)، ولا حاجة لأحدٍ في سبيل حكمته (¬3). الثامنة (¬4): لا يُشير باليد، لِمَا رَوَى أبو عيسى التّرمذيّ (¬5)؛ أنّ رسول الله قال: "لَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ، فَإنَّها تُسَلِّم بِالأَصَابع، ولا بِالنَّصَارى فَإنَّها تُسلّم بِالأَكُفِّ" وهذا ضعيفٌ (¬6)، وأمثَلُهُ أنّه موقوفٌ. ولا بأس إنَّ احتاج إلى تخصيص المسلَّمِ عليه بالإشارة إليه باليد. التّاسعة (¬7): السَّلام على الصِّبيان فقد صحَّ من رواية أبي عيسى (¬8) وغيره (¬9)؛ أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مَرَّ على الصِّبْيَانِ فَسَلَّمَ ¬
علَيهم. وفي ذلك من الفائدةُ: بركة النّبيّ عليهم، وتعليمهم، وما يحدث في قلوبهم من الهَيبَةِ وينزل فيها من المحبّة. العاشرة (¬1): روى أبو عيسى (¬2)؛ أنّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - مرَّ على نسَاءٍ قُعُودٍ في المسجد، فَأَلْوَى بِيَدِهِ الكريمةِ بالسّلام، وأشار عبد الحميد الرّاوي بيده، وقال أبو عيسى فيه: حديث حسن. وهو عندي حديث صحيح؛ لأنّه رواه عبد الحميد بن بَهرَام، وقد صحّحه ابن حنبل (¬3)، وغيره (¬4). الحادية عشر (¬5): "إِذَا دَخَلتَ عَلَى أَهلِ بَيْتِكَ أَو أهلِكَ فَسَلِّم، يَكُونُ بَرَكَةً عليكَ وَعَلَى أَهلِ بَيْتِكَ" (¬6) وذلك لأنّه علي أهل بيته سلام استئذان، وإنَّما هو سلامُ البَرَكَةِ والسُّنَّةِ. الثّانية عشر (¬7): فهذا كان مجلس فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين، يسلِّم عليهم، كما ثبت ¬
باب الاستنذان
في الصّحيح؛ أنَّ النّبيَّ فَعَلَهُ (¬1)، ولكن ينوي بسلامِهِ المسلمين. وكذلك لو كان مجلسٌ جمَعَ أهلَ السُّنَّة وأهلَ البِدعَة، سَلَّمَ ونَوَى أهل السُّنَّة. وكذلك لو كان فيه أولياءٌ وأعداءٌ، أو عدولٌ وظَلَمةٌ، خصَّ الأولياء والعدول، وترك الباقي. وكذلك أفعلُ في مقاصِدي، والله المستعان والموفِّق. فإن كان الجميع ظَلَمَة، ودخلهم للضّرورة، سلَّمَ ونَوَى ما قال العلّماءُ في السّلام، المعنى: اللهُ عليكم رقيبٌ. وقيل: معنى سَلَامُهُ: لكم مني أمانٌ، فليكن لي منكُم. باب الاستنذان الإسناد: قال الإمام: الحديث (¬2) في هذا الباب مُرسَلٌ من مراسيل عطاء بن يسار، ويُسنَدُ (¬3) من طُرقٍ كثيرةٍ (¬4). مقدمة (¬5): اعلموا أنّ الاستئذانَ هو طَلَبُ الإذْنِ فيما لا يجوزُ إِلَّا به، وله وظائف من الفرائضِ والسُّنَنِ، وقد أحكمنا هذا في كتاب "أحكام القرآن" (¬6) في "سورة النّور" بغايةِ البيانِ. ¬
وجعل الله الاستئذان ثلاثًا توسعةً للخَلْقِ وتقييدًا لمُطلَقِ القرآن. فإن سمعتَ بواحدة أو اثنتين فيها ونِعمَت، والّإ فثلاثة وهي الغاية. واختلف علماؤنا، هل يزيد على الثّلاثة إذا ظنَّ أنّه لم يسمع على ثلاثة أقوال. قيل: لا يُعيد (¬1). وقيل: يُعيدُ. وقيل: إنَّ كان بلفظ الاستئذان فلا يعيد، وإن كان بغير لفظ الاستئذان أعاد. وأصحّه ألَّا يُعيد. الثّانية: قال القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب: "الاستئذان واجبٌ، لا تدخل بيتًا فيه أَحَدٌ حتَّى تستأذن ثلاثًا" (¬2) فلا تتعدَّى الواجب. الثّالثة (¬3): يجوزُ الاستئذانُ أنّ يضربَ البابَ باليدِ والحَجَرِ، وقد حَصَبَتِ (¬4) الصَّحابةُ بابَ النّبيِّ -عليه السّلام- إذ طلبوه لصلاة رمضان، خَرَّجَهُ البخاريّ (¬5) ومسلم (¬6). وفعلَهُ جابر مع النّبيِّ -عليه السّلام-، فقال له النّبيُّ: "مَن"؟ فقال: أنا، فقال له النّبيُّ ثانية: "من"؟ قال: أنا، فقال له النّبيُّ: " أنَا أَنَا"، كأنّه كَرِهَهُ. وخرّجه أبو عيسى (¬7)، كما خَرِّج في الصّحيحين (¬8) بإسقاط دقّ الباب، وخرّج أبو عيسى التّرمذيّ (¬9) أنّ زيد بن ثابت قرع باب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فخرج إليه. ¬
ما جاء في التشميت في العطاس
الرّابعة (¬1): لو دخل ولم يُسَلِّم، أُمِرَ أنّ يرجع فَيُسَلِّم. ما جاء في التَّشمِيتِ في العُطاس الأحاديث: قال الإمام: حديثُ عبد الله بن أبي بكر (¬2) في هذا الباب حديثٌ مرسَلٌ عند جميع الرُّواة للموطّأ، وأصحّه حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال: " يُشَمَّتُ المُسلِمُ إِذا عَطَسَ ثلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ زَادَ فَهوَ زُكَامٌ" (¬3)، وفي الصّحاح: "العُطَاسُ مِنَ الله، وَالتَّثاؤُبُ منَ الشَّيطَانِ" (¬4). الأصول (¬5): قوله: "العُطَاسُ مِنَ الله، وَالتَّثاؤُبُ منَ الشَّيطَانِ" معناه أنّ العُطاسَ لمّا كان سببُهُ محمودَا، وهو خِفَّة الجسم الّتي كانت عن قلَّة الأخلاط، أو رقَّتها الّتي تكون عن قلَّة الغذاء وتلطيفه، وهو أمرٌ ندبَ اللهُ إليه؛ لأنّه يُضعِف الشّهوة الّتي هي من جند الشَّيطان، ويُحبِّبُ الطّاعة، ومن أجل ذلك أُضيف إلى الله تعالى. ولمّا كان التَّثاؤُبُ بضدِّه في جميع هذه الوجوه على ترتيبها، أُضِيفَ إلى الشَّيطان. ¬
الفقه في سبع مسائل: المسألة الأولى (¬1): قوله: "إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله" (¬2) جاء في "الموطَّأ" (¬3):" إذًا عَطَسَ فَشَمِّتْهُ" مطلقًا، وجاء هذا: "إذًا عَطَسَ فَحَمِدَ الله "مُقيَّدًا، وهو الصّحيح المجتمع عليه. الثّانية (¬4): قوله: "فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ يَسمعهُ أنّ يُشمِّتْهُ" (¬5). وهو دليلٌ ظاهرٌ على وجوب التشميت. وقال القاضي عبد الوهّاب: هو مستحبٌ (¬6). والصّحيح وجوبُه لهذا الخبر الّذي روى أنس بن مالك؛ أنّ رجلين عَطَسَا عند النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا ولم يُشمِّتِ الآخَرَ. فقال الْذي لم يُشَمِّتْهُ: يا رسول الله، شَمَّتَّ هذا ولم تُشمِّتنِي؟ فقال رسولُ الله: إنّه حَمِدَ الله ولم تَحْمَدَهُ أَنتَ (¬7). الثّالثة: فإن تَكرَّرَ في المجلس الواحد، تَكَرَّرَ القولُ في الحمدِ والرَدِّ كما تقدّم. واختلفت الرّوايات فيه اختلافًا كثيرًا. فقيل: يقال له في الثّانية: إنّك مزكومٌ (¬8). وقيل: يقال له في الثّالثة. وقيل: في الرّابعة. والصّحيح أنّ ذلك في الثّالثة. ¬
المسألة الرّابعة (¬1): كيف يكون التَّشميت؟ فقيل: يقولُ المُشَمِّتُ: يرحمك الله. ويقول العاطسُ: يغفر الله لي ولكم. قاله ابن مسعود (¬2). وقيل: يقولُ يَهديكُم اللهُ ويُصلح بالكُم (¬3). قاله عبد الوهّاب (¬4). وقيل: ليقل ما شاء من ذلك. قاله مالك (¬5). وقيل: يقول: يرحمنا اللهُ وإيّاكم، ويغفر لنا ولكم، قاله ابن عمر (¬6). الخامسة (¬7): إذا عطسَ فلم يحمد، فليس على من سمعه تشميته، وكذلك رواه أنس بن مالك (¬8). فإن سمعه، فليقل: يرحمك الله، ولا يقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، قال النَّخعىُّ: "يهديكم الله ويصلح بالكم" شيءٌ قالتهُ الخوارج؛ لأنّهم لا يستغفرون للنّاس، ويكفِّرونهم بالذُّنوب (¬9). ¬
السّادسة (¬1): اختلف النَّاس في تشميت العاطس: فقال أهل الظّاهر: إنّه واجب مُتَعيِّنٌ على كلِّ جليسٍ سامعٍ (¬2). وقالت طائفة أخرى من الفقهاء: هو واجبٌ على الكفاية (¬3) كردِّ السّلام. وقال قوم: هو نَدبٌ وإرشادٌ وأَدَبٌ، وليس منه شيءٌ واجبٌ (¬4). وقال عبد الوهّاب: هو مندوبٌ إليه كابتداء السّلام (¬5). حكاه الباجي (¬6)، لقول النّبيِّ -عليه السّلام-: "خَمسٌ تَجبُ عَلَى المُسلِمِ لأَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وتَشمِيتُ العَاطِسِ (¬7). السّابعة: في غربب هذا الباب اختلقت الرواة فيه: فقيل: هو بالشِّين والسِّين وهو الدُّعاء في كلام العرب (¬8). ¬
ما جاء في الصور والتماثيل
وقال الخليل (¬1): تسمِيتُ العاطس لغةٌ في تشميته (¬2). وَرُوِيَ عن ثَعلَبٍ (¬3) أنّه سُئل عن معنى التَّشميت والتَّسميت فقال: إمّا التَّشميت فمعناه: أبعد اللهُ عنك الشّماتَةَ، وجَنَّبَك ما يُشمتُ به عليك، وأمّا التّسميتُ فمعناه: جَعَلكَ اللهُ على سَمْتٍ حَسَنٍ ونحو هذا. ويقال: شِمتُ الإبل، إذا جمعتُها في المَرعَى، فيكونُ على هذا، أي: جمع اللهُ شملَكَ. وقيل: إنّ أصل ذلك من الشّماتةِ، وذلك أنّه إذا قلت: يرحمك الله، فقد أدخلت على الشَّيْطان ما يسخطه، فقد شمت العاطس بالشَّيطان. ما جاء في الصّور والتّماثيل أدخل مالكٌ في هذا الباب حديث أبي سعيدٍ (¬4): "أنّ الملائكةَ لا تَدخُلُ بيتًا فيه تَمَاثيلُ أَو تَصَاوِيرُ". الإسناد: قال الإمام: وأحاديثُ الصُّوَرِ كثيرةٌ وصحاحٌ، خرّج أبو عيسى التّرمذيّ (¬5) حديث: ¬
ماجاء في أكل الضب
من صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ. وَمَنِ استَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُم يَفِرُّون مِنهُ صُبَّ فِي أُذُنَيهِ الآنُكُ (¬1) يَومَ القِيَامَةِ" حديث حسنٌ صحيحٌ. الأصول (¬2): أمّا الوعيدُ على المصوِّرينَ، فهو كالوعيدِ في أهل المعاصي، معلَّقٌ بالمشيئةِ كما بينّاه، موقوفٌ على التّوبةِ كما شرحناه. أمّا كيفية الحكم فيها؛ فإنّها محرّمةٌ إذا كانت أجسادًا بالإجماع، فإن كانت رقمًا، ففيها اربعة أقوالٍ: الأوّل: أنّها جائزةٌ، لقوله في الحديث: "إِلَّا مَا كانَ رَقمًا في ثَوبٍ" (¬3). الثّاني: أنّه ممنوعٌ، لحديث عائشة: "دَخَلَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وَأَنَا مُستَتِرَةٌ بِقرَامِ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَوَّنَ وجهُهُ، ثُمَّ تَنَاولَ السِّترَ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَشَدٌ النَّاسِ عَذَابًا المُصَوِّرُونَ" (¬4). الثّالث: أنّه إذا كانت صورة متّصلة الهيئة قائمة الشّكل منع، فإن هُتِكَ وقطع وتفرّقت أجزاؤه، جاز، للحديث المتقَدِّم، قالت فيه: "فَجعَلَ مِنهُ وِسَادَتَينِ كَانَ يَرتَفِقُ بِهِمَا" (¬5). الرّابع: أنّه إذا كان ممتَهَنًا جازَ، وان كان مُعَلَّقًا لم يَجُزْ. والثّالث أصحُّ، والله أعلم. ماجاء في أكل الضَّبٌ قال الإمام: الأحاديث في هذا الباب صحاحٌ حِسَانٌ، رواها جماعة. أصولهم (¬6): ¬
ابن عمر، وابن عبّاس، وجابر، وأبو سعيد، وخرّجها الأيِمَّة مسلم (¬1) والبخاريّ (¬2). وأمّا حديث ابن عمر؛ أنّ النّبيَّ سُئِلَ عن الضَّبِّ؟ فقال: "لَستُ بآكِلِهِ وَلَا بِمُحَرَّمِهِ" (¬3)، وهو حديثٌ مشهورٌ صحيحٌ. وأمّا حديثُ جابر؛ أنّه أُتِيَ النَّبِيُّ -عليه السّلام- بِضَبِّ، فَأَبَى أنّ يَأكُلَ منهُ، وقال: "لَا أدرِي، لَعَلَّهُ مِنَ القُرُونِ الَّتِي مُسِخَت" (¬4) هكذا رواه ابن جُرَيجٍ عن أبي الزُّبَير. وأمّا حديث أبي سعيد (¬5)، فقال فيه: "إنِّي لَستُ أُحَرِّمُهُ ولكنّي أَعَافُهُ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَكُن فِي أَرضِ قَومِي" (¬6). الشرح والفوائد في معنى هذه الأحاديث: الفائدةُ الأولى (¬7): في هذا الحديث ردٌّ على المُلحِدَةِ في إنكار الممسُوخ؛ لأنّ الكلَّ عندهم من ¬
المخلوقات طبائع، ولو كان هذا صحيحًا لانقلبت طبيعة إلى طبيعة، كما تصوّرت أخرى بصورة، فيكون مسخًا، وما صحَّ من المُسُوخ إِلَّا قليل، يحتمل أنّ يكون منهم الضَّبّ والفَأر (¬1). قال الإمام: وهذا منهُم دَعوَى، وأمرٌ لا يعلَمُ بالعقل، وإنّما يعرف بطريق الشّرع، وليس في ذلك أثر يُعَوَّلُ عليه (¬2). الثّانية: اختلف العلّماءُ في تعليله: فقيل: العلّةُ فيه ما تقدّم أنّه خشي أنّ يكون من المُسُوخ، وهذا ضعيف. وقيل: العلّةُ فيه ثِقَل رائحته، ويدلُّ عليه قوله في المصنّفات: "إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنَ اللهِ حَاضِرَةٌ" (¬3) يريد من الملائكة عليهم السّلام فاحترمهم؛ لأنَّ له رائحةً ثقيلةً، فاتَّقاهُ لأجلهم، كما كان يتّقي الثّوم والبصل (¬4). فهذا أصحّ (¬5) من الحديث الّذي قال فيه: "لَا أَدرِي لَعَلَّهُ مِنَ القُرُونَ الَّتِي مُسِخَتْ" (¬6) وهذا التَّعليل لم يتحقّق (¬7). ¬
وفي حديث آخر قَال:" فَإِنَّ اللهَ غَضِبَ علَى اُمِّةٍ فَمَسَخَهَا" (¬1)، فَلأجلِ ذَلِكَ كره أكلها. والصَّحيحُ جواز أكله لوجهين: أحدهما: قوله: " لَا أنّهَى عَنْهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ" (¬2) فدخلت في قسم المباح (¬3). والثّاني (¬4): قوله: "فَاجتَرَرْتُهُ فَأَكَلتُهُ وَرَسُولُ اللهِ يَنْظُرُ" (¬5) فاستدلَّ بسكوت النّبيِّ عليه السّلام على أنّه حلالٌ. وفي رواية: "لَو كَانَ حَراماَ مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -" (¬6) فرأَوا أنّ أكلَهُ والنَّبىُّ ينظرُ، دليلٌ على تحليله؛ فإنّ النَّبىِّ -عليه السّلام- لا يسكتُ على فعلِ الحرامِ إذا رآَهُ؛ لأنّه يلزمه تغيير المنكر، ولو لم يُغيِّره لكان عاصيًا، والمعاصي لا تجوز على الأنبياء، وخصوصًا فيما طريقه تبليغ الشّريعة، فصحَّ أنّه حلالٌ. ولا تقف على صحَّة مَسْخِهِ؛ لأنّ المُسُوخَ لم تنسل بِوَجْهٍ (¬7). ¬
ما جاء فى أمر الكلاب
عربيّة (¬1): قوله (¬2): " أَعَافُهُ " معناه: أكرهُهُ، يقالُ: عِفتُ الشّيءَ أعافُه عِيَافًا، إذا كرهتُهُ. وعفته أعيفه عيافةً: من الزَّجر. وعافَ الطّير يعيفُ، إذا حام على الماء ليجد فرصةً فيشربَ. وقوله:" فَجِيءَ بِضَبٍّ حَنِيذٍ" أو قال: "بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ" والمحنوذُ: المشويُّ (¬3). وقيل: الشّديد الشّوي على الرَّضفِ، وهي الحجارة المُحماة. وقال أبو الهيثم (¬4): أصلُ المحنوذ من حناذ الخيل، وهو أنّ يظاهر عليها جُلٌّ فوق جُلٍّ لتَعْرَق تحته (¬5). وقال ابن عرفة: قوله: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (¬6) أي: مشوي بالرِّضَاف حتّى يقطر عرقًا، يقال: حَنَذَتهُ الشّمس والنّار إذا شَوَتْهُ. وقوله: " فَاجْتَرَرْتُهُ" يريد طبخته، والله أعلم (¬7). ما جاء فى أمر الكلاب قال الإمام: الأحاديث في هذا الباب صِحَاحٌ خرَّجها الأيمّة. ¬
الشرح والفوائد وهي خمس: الأولى: قوله (¬1): "مَنِ اقتَنَى كَلْبًا" قال علماؤنا (¬2): فيه جواز إباحة اتِّخاذ الكلب للصَّيد والزّرع والماشية، دون ما عدا ذلك، وهو داخلٌ في هذا المعنى (¬3)، وإنّما النَّهيُ في الحاضِرَةِ لغير منفعةٍ؛ لأنّه يروِّعُ النّاسَ، وإنّما أُجيزَ اتّخاذُه في منافع البادية كلِّها من الطوارق وغيرها. الثّانية (¬4): قوله (¬5): "نَقصَ مِنْ أَجْرِهِ (¬6) كُلَّ يَومٍ قِيرَاطً" أمّا نقصانُ الأجرِ، فإنَّ ذلك لِمَا يقعُ منَ التَّفريط في غَسل الإناء من وُلُوغِ الكلبِ، وما يُدْخِلُ على صاحبه من الإثم من ترويع النَّاس وإذايتهم. وإنّما يكون النّقص من أجرٍ قد تقدَّم، لا من مستقبل، فإذا رآه صاحبه يُؤذِي النَّاس ولا يطرده، فهذا هو الّذي ينقص من عمله وأجره قيراط. والقيراطُ قَدرٌ لا يعلمه إِلَّا الله، وقد ورد: "قيراطان" (¬7). الثّالثة (¬8): قوله: "أمرَ رسولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - بقتلِ الكلابِ" (¬9) فيه دليل على أنّها لا تُؤكَلُ؛ لأنّ ما ¬
يجوز أكلُه لم يَجُزْ قَتلُه إذا كان مقدورًا عليه، ولا يُؤكلُ حتّى يذبح أو ينحر. وكان الحسن البصري يقول: سمعتُ عثمان يقول في خطبته: اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام (¬1). الرّابعة (¬2): اختلف العلّماءُ في قتل الكلاب: فذهبت طائفةٌ إلى جواز قتلها، منهم مالك (¬3)، إِلَّا ما كان للصَّيد والماشية والكرم والزّرع. ومنهم من قال: هو عمومٌ يقتَلُ الجميع، وإنّما تترك هذه رخصة أرخص في اتخاذها للمنفعة، والله أعلم. وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: الأَّمر بقتل الكلاب منسوخٌ إِلَّا في الأسود البَهيم فإنّه يُقتَل (¬4). ومن حجَّتهم: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لَولَا أَنَّ الكِلَاب أُمَّةٌ مِنَ الأُممِ لأَمرتُ بِقَتلِهَا، فَاقتُلُوا مِنهُم الأسَوَدَ البَهِيمَ" (¬5) لأنّه شيطان (¬6)، أي: بعيدٌ من الخير والمنافع، قريب من الضّرر والأذى، وهذا شأن الشَّيطان أنّ يتعدّى الخير. وذهب كثير من العلماء إلى ألَّا يقتل من الكلاب أسود ولا غيره، إِلَّا أنّ يكون ¬
ما جاء في الغنم
عقُورًا مُؤْذِيًا، وقالوا: الأمر بقتلها منسوخٌ بقوله: "لا تَتَّخِذُوا شَيئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (¬1) فدخل في نهيه ذلك الكلاب وغيرها (¬2). وقالوا (¬3): وقال - صلّى الله عليه وسلم -:"خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ يُقتَلنَ في الحِلِّ وَالحَرَمَ" (¬4) فذكر منها: الكلب العَقُور دون غيره. وقد قيل: الكلب العَقُور هاهنا الأسدُ وما أشبهه من عقارة سِبَاعِ الوَحشِ. واحتجوا أيضًا بالحديث الصّحيح في الكلب الّذي كان يلهث عطشًا، فسقاه الرَّجل، فشكر اللهُ له ذلك، فغفر له، وقال: "في كُلِّ كَبِدٍ رَطبَةٍ أَجْرٌ" (¬5). قال الإمام (¬6): وهذا كلّه في الكلب المتَّخذ للمنفعة، وأمّا للمضَّرْة فلا يحتجُّ بها، ومن أدّعى النّسخ فعليه الدّليل. ما جاء في الغنم ذكر مالك في هذا الباب (¬7)، حديث أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "رَأسُ الكُفُرِ نَحوَ المَشرِقِ، وَالفَخرُ وَالخُيَلَاءُ في أَهلِ الخَيلِ وَالإِبِلِ الفَدَّادِينَ أَهلِ الوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهلِ الغَنَمِ". ¬
الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ، خرّجه الأيمّة مسلم (¬1) وغيره (¬2) الفوائد: الفائدةُ الأولى (¬3): قوله: "رَأسُ الكُفرِ نَحوَ المَشرِقِ" معناه: أنّ أشدَّ الكُفارِ كفرًا أهل المشرق، وهم ذلك الوقتُ فارس وما وراءهم من العجم، وكلُّهم لا كتابَ لهم ولا شريعةَ، فكُفرُهُم أشدَّ الكفر؛ لأنّهم لا يقرّون بنبيٍّ ولا رسولٍ ولا كتاب، ولا بدين يرضاه اللهُ. الثّانية (¬4): قوله: "الفَخرُ وَالخُيَلَاءُ في أَهلِ الخَيلِ وَالإِبِلِ الفَدَّادِينَ أَهلِ الوَبَرِ" فإنّه أراد الأعراب أهل الجفاء والتَّكبُّر، وهم أهل الخيل والإبل، وكلُّهم أو جلُّهم فدّادٌ متكبِّر، عُتُلّ متجبِّر. وقال أبو عُبيد (¬5): الفَدَّادُ: ذو المال الكثير، والمختالُ: ذو الخُيَلاء، ومنه الحديث: "إِنَّ الأَرْضَ إِذَا دُفِنَ فِيهَا الإِنْسَانُ، قالت له: رُبَّمَا مَشَيتَ عَلَىَّ فَدَّادَ" (¬6). قال مالك: والفَدَّادُونَ أهل الجفاء (¬7) من أهل الوَبَر، وهم أهل الخيل والإبل. ¬
ومنه حديث ابن عبّاس: "مَنْ لَزِمَ الْبَادِيَةَ جَفا" (¬1). وقال الأخفش (¬2): الفدَّادون هم الأعراب، وأصل الفديد رفعُ الصّوتِ والجَلَبَةُ؛ وذلك أنّ أصحاب الإبل من شأنّهم رفع الصّوت إذا عملوا العمل وإذا مَشَوا. الثّالثة (¬3): قوله: "وَالسَّكِينَةُ في أَهلِ الغَنَمِ " فالسَّكينةُ مأخوذةٌ: من السُّكون والوَقَارِ. والسَّكينةُ اسمٌ يُمْدَحُ به ويُذّمُّ بضدِّه، وقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأتُوهَا وَأنتُم تَسعَونَ، وَأتُوهَا وَعَلَيكُمُ السَّكِينةُ (¬4) والوَقَارُ" (¬5) قال الأخفش (¬6): وذلك أنّ أهل الغنم عملهم هيِّنٌ ليس فيه مؤنة. حديث أبي سعيد الخُدري (¬7)؛ أنّه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "يُوشِكُ أنّ يَكُون خَيرُ مَالِ المسلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتنِ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح، خرجه الأيمّة، لا كلام فيه ولا مدفع. عربيّة (¬8): قوله: "شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ" يريد رؤوس الجبال وأعاليها، واحدتها شَعَفَة. ¬
وقال الأخفش (¬1): ظهور الجبال. الثّانية: قوله: "وَموَاقِعَ القَطرِ" يريد الأرض حيث يكون القَطر، فتخصب ويكثر فيها الماء. الثّالثة (¬2): قوله: "يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ" قال الإمام: أمّا الفتنُ فكثيرةٌ في الأهل والمال والوَلَدِ، وما يلقاه المؤمنُ ممّن يحسده ويُؤذيه، حتّى يفتنه عن دينة، أو ممّن يراه فوقه في المال والجاه والحال، فتكون فتنة له. الرّابعة (¬3): قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على تغيّر الأزمنة، ودلالة على فضل العُزلة، وقد قال عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -: اليَأسُ غِنىَ، والطَّمَعُ فَقرٌ حاضرٌ، وفي العزلة راحةٌ من خُلَطَاءِ السُّوء (¬4). وقال أبو الدّرداء: نِعمَ صومعةُ الرّجُلِ بَيتُه يكفُّ فيه بصره ونفسه، وإيّاكم والمجالس في الأسواق؛ فإنّها تُلغِي وتُلهِي (¬5). وإنّ قَومًا لَزِمُوا بيوتَهُم حين قُتِل عثمان، فلم يخرجوا منها حتّى لقوا الله تعالى (¬6). ¬
قال الإمام: وأمّا الفرار والعزلة في الفتنة فواجبٌ، وفيه النّجاة إنَّ شاء الله. وأمّا إذا كانت الدَّعة، ولم يكن زمان فتنة، فمخالطة النَّاس والجماعة وحضور الجمعة والجنائز وحِلَق العلم أفضل من العُزلة. حديث عبد الله بن عمر (¬1)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -قال:"لَا يَحتَلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ بِغَيرِ إِذنِهِ. أَيُحِبُّ أَحَدُكم أنّ تُؤتَى مَشرُبَتُهُ (¬2)، فَتُكسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ وإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُم ضُرُوعُ مواشِيهِم أَطعِمَاتِهِم، فَلَا يَحتَلبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَخِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ متّفقٌ عليه (¬3). الفوائد والمعاني: الأولي (¬4): قال علماؤنا: هذا الحديث يقضي بأنّ اللبن يُسمَّى طعاما، وكلُّ مطعومٍ في اللُّغة فهو طعامٌ، واللَّبنُ طعام يغني عن الطّعام والشَّراب، وليس شيءٌ سواه يغني في ذلك غناه. وهذا الحديث يطابقُ قوله: "لَا يَحِلُّ مالُ امرِىء مُسلمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنهُ" (¬5) إِلَّا أنّ العلماء اختلفوا فيما يأكلهُ الإنسانُ منَ الثِّمار المعلَّقة في الأشجار، للمسافرين وسائر المارِّين، من مال الصّديق وغيره. فاكثرُ العلماء على جواز أكل مال الصّديق إذا كان تافهًا لا يُتَشَاحُّ في مثله، وإن كان ذلك بغير إذنه، ما لم يكن تحت قُفلِهِ. ¬
واللّبنُ في الضّرْعِ يُشبِهُ الطّعام المخزون تحت الأقفال، وقد شَبَّهَهُ رسولُ الله في هذا الحديث بذلك بقوله: "فَتُكسَرَ خِزَانَتُهُ"، ولا أعلم بين أهل العلم خلافًا أنّه لا يجوز كَسرُ قُفْلِ مسلمٍ ولا ذمّىٍّ لأخذ شيءٍ من ماله بغير إذنه. وليس الثَّمَرُ المعلَّقُ عند أكثرهم كذلك، لما ورد في ذلك من الآثار المرفوعة لكنّها حسان وردت في ذلك، منها: حديثُ عَمرو بنِ شُعَيب، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الثَّمَرِ المُعلَّقِ، فقال: "مَن أَصَابَ مِنهُ من ذِي حَاجَةٍ غَيرَ مُتَّخِذِ خُبنَةً، فَلَا شَيءَ عَلَيه" (¬1). وحديث ابن عمر، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -قال: "مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَأَكَلَ منهُ، فَلَا يَتَّخِذ خُبنَةً" (¬2). ومن حديث سَمُرَة بن جندب؛ أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كانَ فيها صاحِبُهَا فَلَيستَأذِنهُ، فإن أَذِنَ له فَليَحتَلِبْ وَليَشرَب. وإن لم يكن فيها أَحَدٌ فليُصَوِّت ثلاثًا، فإن أجابَهُ أَحَدٌ فَلَيستَأذِنهُ، فإن لم يُجِبهُ أَحَدٌ فليَحتَلِب وَليَشرَب وَلا يَحْمِل" (¬3). قال الإمام: وهذه الآثار يحتَمِل أنّ تكون فيمن احتاج وجاعَ، أو في مال الصّديق إذا كان تافهًا لا يُتشَاحُّ في مثله. وكان سَمُرَة وأنس بن مالك وأبو برزة في سفرٍ، فكانوا يُصيبون من الثِّمار (¬4). وقال الحسن البصري: يأكل ولا يُفسِد، ولا يَحمِلُ (¬5). ¬
حديث مالك (¬1)؛ أنّه بلغه أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِن نَبِىٍّ إِلَّا قَدْ رَعَى الغَنَمَ". قِيلَ: وأنت يا رسولَ الله؟ قال: "وأنا". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ بلاغٌ، وقد خرّجه الأيمّة مسلم (¬2) وغيره (¬3). الفوائد والمعاني: الأولى (¬4): فيه ما يدلُّ على فَضلِ الغنمِ، وفَضلِ اكتسابها ورَعيها والقيام بها، تبرُّكًا بأنبياء الله صلواتُ الله عليهم، وحسبُك بما ذكره الله تعالى في كتابه عن موسى؛ قال الله العظيم: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} (¬5). وهذا الحديث الّذي ذكره مالك بَلَاغٌ يسنَدُ من حديث أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة؛ قال: مررنَا مع رسولِ الله بِثَمَرِ الأَرَاكِ، فقال:"عليكم بِأَسوَدِهِ فَإِنِّي كنت أَجتَنِيهِ إِذ كُنْتُ أَرعَى الغَنَمَ" قالوا: يا رسولَ الله، وكنت ترعى الغنم؟ قال: "نعم، وما من نبىٍّ إِلَّا وقد رَعَى الغَنَمَ" (¬6). وفي هذا الحديث إباحةُ الإخبار عن الماضين من الأنبياء، وفي قياس ذلك الإخبار عن الأُمم الماضية والقرون الخالية السّالفة، وعلم أيّام النَّاس، لقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الآية (¬7). ¬
ما جاء في الفأرة تقع في السمن والبدء بالأكل قبل الصلأة
ما جاء في الفأرة تقع في السّمن والبدء بالأكل قبل الصّلأة الإسناد: قال الإمام: الأحاديثُ في هذا الباب صحاحٌ، خرّجها الأيمّة من طرقٍ كثيرة. الفوائد والفقه: الأولى (¬1): وفي الباب، حديث ابن عمر: كان يُقرَّبُ إِلَيهِ عَشَاؤُة، فَيَسمعُ قِرَاءَةً الإمامِ وهو في بَيتِهِ، فَلَا يعجَلُ عن طعامِهِ حَتَّى يَقضِي حَاجَتَهُ منه. قال الإمام: وفعلُ ابنِ عمر هذا مأخوذٌ من السنُّةِ، للحديث الّذي خَرَّجَهُ الأيمّة (¬2): "إذا حَضَرَ العَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأبدَؤُا بِالعَشَاءِ" وهذا -والله أعلم- لِمَا يُخْشَى على من كانت هذه حاله من شُغلِ بَالِهِ بالأكل، فَيَدخُلُ عليه في صلاته السَّهوُ، وما يشغلُه عن الخشوع والذِّكر فيها. الثّانية: قال علماؤنا (¬3): فيه دليل على سَعَةِ وقت المغرب، كان كان المُسْتَحَبُّ تعجيلَها. الثّالثة: قوله:" فَابدَؤُا بِالعَشَاءِ" قال علماؤنا (¬4): الأمْرُ على النّدب لا على الإيجاب، بدليل حديثِ الزّهريُّ، عن ابن أُمَيَّةَ، عن أبيه؛ أنّه رأى رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ من كَتِفَ شاةٍ في يَدِهِ، فَدُعِيَ إلى الصّلاةِ، فَأَلقَاهَا وَالسِّكِّينَ، ثمّ قام وصلَّى ولم يَتَؤَضَّأ (¬5). ¬
قال الإمامُ: ويحتَمِلُ أنّ يكون هذا أنَّه كان آكلًا وحده، وأَمِنَ أنّ يشغله ذلك في صلاته (¬1). حديثُ ابن عبّاس (¬2)، عن مَيمُونَةَ زوج النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ الفأرةِ تَقَعُ في السَّمنِ، فقال: "انزِعُوهَا ومَا حَولَهَا فاطرَحُوهُ". الإسناد: قال الإمام: ليس في حديث مالك هذا في الفأرة أنّها ماتت، وهو محفوظٌ فيه ومعلومٌ عند الجميع (¬3). وفي قوله: "فالقوها" (¬4) دليل على موتها. وفي "التّرمذيّ" (¬5): "اطرَحُوهَا (¬6) وما حَولَهَا وَكُلُوهُ". وفي "الموطّأ": "ألقُوهَا ومَا حَولهَا وَكُلُوهُ" (¬7). وقد رُوِيَ عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ كانَ جَامدًا فأَلقُوهَا وَمَا حَولَها، وإن كان مائعًا فأريقُوهُ (¬8) " (¬9). وقال البخاريّ: لا يصحّ (¬10). قال الإمام: وقول البخاريِّ صحيحٌ، وقد بيَّنَّا طرقه في "كتاب النَّيِّرين" بما فيه شفاءٌ. ¬
الأصول (¬1): قول النَّبيِّ: "أَلقُوهَا وَمَا حَولهَا" (¬2) من غير تحديدٍ ولا تقدير. وهذا ممّا يمكن ضبطُه، وإنّما هو مُفَوَّضٌ إلى نظر المُكَلَّفِ. وهذا أصلٌ في الحُكم بغير نصّ، إِلَّا لما يظهر من الدَّلائل والأمارات. ولم يختلف أحدٌ من المسلمين في أنّ غير السَّمنِ وما أشبهه في معناهُ؛ لضرورة الحكم بالأمثال والأشباه، وأنّه من الله ضرورة. وقال لنا إذا "وقعت " ولم يذكر إذا "طرحت " وهما سواءٌ. ودليل آخرة قوله (¬3):" فَأرةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ" يقتضي كلّ ميتة. ودليل آخر أيضًا: لو وقعت ولم تَمت، لاقتضَى النّظر، وظاهر هذا الحال الحكم به دونَ موتِهِ، فإنّ الظّاهريّة (¬4) خرجت عن الظّاهر، حتّى لم تقف منه على شيءٍ. الفقه في ثمان مسائل: المسألة الأولى (¬5): قوله (¬6): "إنَّ فَأرَةً وَقَعَت فِي سَمْنٍ" اختلف العلماءُ في الفأرة، هل هي طاهرةٌ أو نجسة؟ فعند مالك إنّها طاهرة (¬7). ¬
وقال الشّافعيُّ (¬1) وأبو حنيفة (¬2): إنّها نجِسَةٌ (¬3). فعلى هذا إذا أخرجت من الدّهن حيّة لم ينجس، ولا يطرح منه شيءٌ. وإن ماتت فيه حينئذٍ يكون الحكمُ. وتعلّق الذين يرون أنّها نجِسَة، بقول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إذَاَ وَقَعَتِ الفَأرَةُ في السَّمنِ " وهذا يدلُّ على نجاستها، إذ لو كانت طاهرة لما أثّر وقوعها. قلنا: قوله: "إِذَا وَقَعَت" يعني: وماتت، كقوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬4) يعني المتقدّمة، فافطر فعدّة، ولكنّه اختصره لِعلمِ السَّامع. فإن قيل: إنّما كان ذلك الأضمار هنالك لما قام عليه من دليل. قُلنا: قد بيَّنَّا الدّليل على هذه المسألة في "أدلة المسائل" وأقمناه واضحًا على أنّ الحياة علّة الطّهارة، وأنّ كلّ حي طاهرٍ حتّى الخنزير، فَليُنظَرْ هنالك. الثّانية (¬5): قد بين في حديث التّرمذيّ (¬6) أنّها ماتت فيرتفع كلّ إشكالٍ. الثّالثة (¬7): قال المفسِّرون: "ألقُوهَا وَمَا حَولَهَا" يدلُّ على أنّه جامدٌ إذ لو كان مائعًا ما كان له حول (¬8). ¬
الرّابعة (¬1): فإن كان مائعًا، قال ابنُ حبيب: ينجسُ، وإن أمن أنّ يكون سال منها شيءٌ فيه؛ لأنّ نفس الموت ينجسها (¬2). وقال مالك في "الموّازية": لا أحبُّ أكلَه (¬3). وبِقَولِ ابنِ حبيب بقول ابن الماجشون (¬4)، فبتَّ ابنُ حبيب بالمنع. وقال محمّد بن الموّاز عنه: لا أحبّ، وهذا تَصريحٌ. بالكراهية. وروى سحنون (¬5) عن ابن نافع: إذا ماتت الفأرة في الزّيت الكثير لا يضرّه، وليس الزّيت كالماء. وروى أبو زيد (¬6) عن عبد الملك: إذا وقعتِ الفارةُ أو الدّجاجة في البئر أو الزّيت (¬7)، فإن كان ذلك كثيرًا، ولم يتغيِّر لونه ولا طعمه ولا ريحه، أُزِيلَ ذلك منه ولم ينجس، ولو ماتت فيه لنجس وإن كَثُر. وروي عن مالك أنّه كره الزيت تقع فيه الفأرة وإن كان كثيرا (¬8). وقال سائر الفقهاء (¬9): الزَّيت والمائع كله خلاف الماء؛ لأنّ الماء يطهِّر فلا يُؤثِّر فيه إِلَّا ما يُغَيِّر. وأمّا المائعات فلا تطهير فينجسها ما يقع من النَّجاسات فيها وإن لم يتغيِّر، ¬
وهو الصّحيح من الرِّوايات. وفي الأدلة: عوَّل علماؤنا في الماء على "أنَّ الله خَلَقَ الماءَ طَهُورًا فَلَا يُنَجِّسُهُ، إِلَّا مَا غَيَّرَهُ" (¬1). وعوَّلوا في المائع على قول النّبيّ -عليه السّلام-: "وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ" (¬2) وقد رُوِيَ من طريقِ صحيح، بيانُه في "الكتاب "الكبير". الخامسة (¬3): إذا قلنا: إنّه ينجس، فلا يجوز بيعه في المشهور من المذهب (¬4)، وبه قال الشّافعيّ (¬5). وقال ابنُ وهب وأبو حنيفة (¬6): يجوز بَيعُهُ. ويُبنَى ذلك على أنّه هل يجوز أنّ يُستصبح به؟ وقد اختُلِفَ في ذلك، ورواه مالك في غير المساجد (¬7)، وأباه سواه. والَّذي أراه جواز الاستصباح به، فيكون فيه منفعة يجوز بيعها. السّادسة (¬8): هل يجوز تطهيرهُ بالماء؟ ففيه لعلّمائنا قولان، في تفصيلٍ طويلٍ بيانُه في كتب ¬
الفروع"؛ وذلك لأنّ كلَّ محلَّ نجسٍ باشَرَهُ الماءُ طَهُرَ كالجامد. وصفة غَسْلِهِ: أنّ يجعل في جُبٍّ يكون له منبع، فيخرج الماء ويبقى الزّيت طاهرًا (¬1)، وعلمنا أنّ كلٍّ جزء من المائع قد مسَّهُ جزءٌ من أجزاء الماء، فطهر بمروره به كالجامد. السّابعة (¬2): إذا طهّرناه جاز بَيعُهُ مطلقًا. وقيل: لا يجوز حتّى يُبَيِّن، وهو الصّحيح؛ لأنّه غِشٌّ؛ إذ لو بيَّنَهُ لنَفَرَ كثيرٌ من النَّاس عنه، فإذا سكت عليه كان غِشًّا. الثامنة (¬3): قوو: "اطرَحُوهُ وَمَا حَوْلَهُ" (¬4) قال جماعة: فهذا دليلٌ على أنَّه لا منفعةَ به، إذ لو كانت فيه منفعة لما أمر بطَرحِهِ. كما أنّه رأى في جلد الميِّتة الانتفاع به بعد السَّعي في طهارته، نَبَّهَ عليه وأمر بدباغه. وقد يحتمل أنّ يكون النّبيُّ أمسك عن الإشارة فيه بذلك لنَزَارَتِهِ وأنّه لا يوازي الشغل به، ووكَّلَ المعرفة بالحكم في الكثير إلى الدّليل. ¬
باب ما يتقى من الشؤم
باب ما يُتَّقَى من الشُّؤْمِ (¬1) ذكر مالك في هذا الباب، حديث سهل بن سعد السّاعدي (¬2)؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ كانَ فِي شَيءٍ (¬3)، فَفِي الفَرَسِ والمرأةِ والمَسْكَنِ" يعني: الشُّؤمَ، الإسناد:- قال الإمام: لم يقطع بذلك في هذا الحديث، وقطعَ في الحديث الثّاني (¬4)، والحديثُ صحيحٌ، ولكنه دائِرٌ على ابن عمر وجابر (¬5)، وهو صحيحٌ خرجه الأيمّة (¬6) من طرقٍ أصلها هذا. العربيّة (¬7): قال علماؤنا: الشُّؤم هو اعتقاد وصول المكروه إليك بسبب يتَّصل بك من ملك أو ¬
خلطة وتتشاءم به (¬1). الأحكام والمعاني في ثلاثة مسائل. المسألة الأولى (¬2): اختلف النَّاس فيه: فمنهم من قال: معناه الإخبار عمّا تعتقدُهُ الجاهلية (¬3). وقيل: معناه الإخبار عن حكم الله الثّابت في الدَّار والمرأة والفرس، يكون الشُّؤمُ بها، ¬
عادة أجراها الله وقضاءٌ أَنفَذَهُ، يوجدُهُ حيث يشاء (¬1). والقول الأوّل ساقطٌ؛ لأنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -لم يُبعَث ليُخبِر عن النَّاس وما يعتقدونه، وإنّما بُعِثَ ليعلِّمَ النَّاسَ ما يلزمهم أنّ يعلموه ويعتقدوه. الثّانية (¬2): حَصَرَ الشّؤمَ في الدَّار والمرأة والفرس، وذلك حصر عادة لا خِلْقَةٍ (¬3)، فإنّ الشّؤمَ قد يكون بين اثنين في الصذُحبة، وقد يكون في السَّفر، وقد يكون في الثّوب يتَّخِذُه العبد، ولهذا قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "إِذَا لبِسَ أحدكم ثوبًا جديدًا فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ مِنْ خيرِهِ وَخيرِ مَا صُنِعَ له، وَنَعُوذُ بك من شَرِّهِ وشَرِّ ما صُنِعَ لَهُ" (¬4). الثّالثة (¬5): في "الموطَّأ" (¬6)؛ أنّ رجلًا (¬7) أخبر النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -أنّه سكنَ دارًا والعَددُ كثيرٌ، والمالُ ¬
باب ما يكره من الأسماء
وافِرٌ، فقَلَّ العَدَدُ وذهب المالُ، فقال: "دَعُوهَا فَإنّها ذَمِيمَةٌ" فأمرهم بالخروجِ عنها لاعتقادهم ذلك فيها، وظنَّهُم أنّ الذهاب للمال والعدد إنّما كان منها، وليس كما ظنوا، ولكنّ البارئ جعل ذلك فيها وقتًا لظهور قضائه فيها (¬1). وقوله: "ذَمِيمة" يعني مذمومة، يقول: دعوها وأنتم لها ذامُّون، كارهون لما وقع في نفوسهم؛ لأنّ إزاحة ما وقع في النّفوس عسيرٌ، فلذلك قال لهم: "دَعُوها فإنها ذَمِيمَةٌ" يريد: إذ وقع في نفوسكم منها ما لا يكاد أنّ يزول عنها. وهذا عندي من معنى قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنّما الطِّيَرَةُ على من. تَطَيَّرَ" (¬2) أي على من اعتقدها وصحَّت في نفسه، لَزِمَتهُ ولم تكن تُخطِئهُ. ولقد أحسن شاعرهم حيث قال (¬3): وَلَستُ أُبَالِي حِينَ أَغْدُو مُسَافِرَا ..... أَصَاحَ غُرَابٌ أَم تَعرَّضَ ثَعلَبُ باب ما يُكْرَهُ من الأسماء قال الإمام: الأحاديث في هذا الباب صحاح خَرَّجها الأيمة. المعاني والفوائد المتعلِّقة بهذا الباب: الفائدةُ الأولى (¬4): إمّا الأسماء المكروهة القبيحة الّتي يُستَبشَعُ ذِكرُها وسماعُها،* ويذكّر بما يُحذَر من معانيها، فاسمُ حَرْبٍ يذكر بما يحذَر من الحرب، وكذلك مُرّة* ¬
فَتَكرَهُهُ النَّفْسُ لذلك. والمنعُ يتعلّق بالأسماء على ثلاثة أوجهٍ: أحدُها: ما تقدّم من قبيح الأسماء كحرب وحَزنٍ (¬1) ومُرّة (¬2) وعاصية (¬3). والثّاني: ما فيه تزكية من باب الدِّين. والأصلُ في ذلك: ما رواه أبو رافع عن أبي هريرة؛ أنّ زينب كان اسمُها بَرَّةَ، فقيل: تزكِّي نفسَهَا، فسماها رسول الله" زينب" (¬4). وقال: "اللهُ أعلمُ بأهل البِرّ منكم" (¬5). وعن ابن عبّاس، قال: كانت جُوَيرِيَةُ اسمُهَا بَرَّةُ، فحوَّلَ رسولُ اللهِ اسمَهَا جُوَيرِيَة (¬6). الوجه الثّالث: الّذي يُكرَهُ لأجل الفال؛ لئلّا يقول أحد: أثمّ في الدَّار أفلح؟ فيقال: لا. ثمَّ نافع؟ فيقال لا، أثمّ نجاح؟ فيقال: لا (¬7)، وما أشبه ذلك من طريق الفال والتّفاؤل لئلّا يقال: ليس هنا رباح، وليس هنا يسار، وليس هنا أفلح. الثّانية (¬8): أفضل الأسماء ما فيه العبودية لله -عَزَّ وَجَلَّ-. رُوِيَ عن عبد الله بن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ أسمائكم إلى الله: عبدُ اللهِ، وعبدُ الرّحمنِ" (¬9). ¬
وقد سمَّى النَّبىِّ -عليه السّلام- بغيرها، فسمَّى حسنًا وحسينًا. وقيل: إنّه سمّاهما باسمي ابني هارون نبيّ الله - صلّى الله عليه وسلم - شَبَّر وشبير (¬1). وفي "العُتبِيَّة" (¬2) عن مالك: سمعتُ أهل مكّة يقولون: ما من أهل بيتٍ فيهم اسم محمّد إِلَّا رُزِقُوا، أو رُزقَ خيرًا (¬3). حديث: قوله - صلّى الله عليه وسلم -:"تَسَمَّوا بِاسمِي وَلَا تَكَنَّوا بِكُنيَتِي" خرَّجه مسلم (¬4)، وغيره (¬5)، فقال فيه:" فإنّما بُعِثتُ قاسِمًا بينكم" (¬6). قال الإمام (¬7): ذهب جماعة من أهل العلم بالحديث. والأصول أنّ هذا مقصورٌ على حياة النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم-؛ لأنّه قد ذَكَرَ سببَ الحديث؛ أنّ رجلًا نادى: يا أبا القاسم، فالتفت النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: لم أعنك، إنّما دَعَوْتُ فلانًا، فقال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "تَسَمَّوا بِاسمِي وَلَا تَكَنَّوا بِكُنيَتِي" (¬8). وقد أجاز مالك أنّ يُسَمَّى الرَّجُل محمدًا ويكنَّى بأبي القاسم (¬9). وقد كان محمّد بن أبي بكر جَمَعَ الأمرين: الكُنية والاسم، وجماعة من المحمّدين، ولم ينكَر ذلك عليهم. ¬
ما جاء في الحجامة واجارة الحجام
ما جاء في الحِجَامة واجارة الحجَّام قال الإمام: ذكر مالك في هذا الباب حديث أنس بن مالك (¬1)؛ أنّه قال: احْتَجَمَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، حَجَمَهُ أبو طَيبَةَ، فأمرَ له رسولُ الله بِصاعٍ من تَمْرٍ، وأمر أهله أنّ يخَفّفُوا عنه من خَرَاجِهِ. الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح، وقد خرَّجه الأيمّة مسلم (¬2) والتّرمذي (¬3) وغيره (¬4). قال الإمام (¬5): واسم أبي طيبة نافع. وقيل: دينار. وقيل: مَيسَرَةُ مولَى محيصة. فالأحاديث صحيحة، متّفَقٌ على صحّتها ومَتْنها. وفي الحديث الغريب؛ أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - حدث عن ليلةِ أُسرِيَ به أنّه لم يَمُرَّ على ملإٍ من الملائكة إِلَّا قالوا له: مُر أُمَّتَكَ بالحِجَامَةِ" (¬6). وفي الحديث؛ قال - صلّى الله عليه وسلم -: "نِعمَ العَبدُ الحَجَّامُ، يُذهِبُ الدِّم، وُيخِفُّ الصُّلبَ ويَجلُو عن البَصَر" (¬7). وإن رسول الله امتثل هذا واحتجم وأعطاه أجرته من غير شرط (¬8)، وأنّه ¬
احتَجَمَ في وسَطِ رَأسِه (¬1). الفقه في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: تكلَّم العلماء في أجرته، فرُوِيَ أنّ ابن عبّاس كان ياكلها من خَرَاجِ غلمانه (¬2). والدّليل على جواز أجرته: إعطاؤهُ رسول الله أجرته على عمله من غير شرطٍ، وإن (¬3) رسول الله لا يعطي أحدًا ما لا يحلُّ كَسْبُه ويطيبُ أَكلُه، سواءٌ كان عِوَضًا من عمله أو غير عِوَضٍ، ولا يجوزُ في أخلاقه وسُنَّته وشريعته أنّ يعطيَ عِوَضًا على شيءٍ من الباطل. الدّليل الثّاني: قولُه: "أَحفُوا الشَّوارِب وَأَعفُوا اللِّحي" (¬4)، وقولُه: "مِن السُّنَّةِ قَصُّ الشَّارِبِ" (¬5). وهذا كلُّه يدلُّ على أنّ كسبَ الحجّام طيِّبٌ لا بأس به، وأن حديث أبي جُحيفَة عن النّبيّ؛ "أنّه نَهى عن ثَمَنِ الدِّم" (¬6) ليس من كَسْبِ الحجّامِ في شيءٍ، وأنّه لا وجه لكراهية أبي جُحيفَة لكسب الحجّام من أجل ذلك. وقد بيَّنَّا ذلك في كتاب البيوع بأحسن وجهٍ. الثّانية (¬7): قولُه - صلّى الله عليه وسلم إنَّ من أَمثَ-:"لِ ما تدَاوَيتم به الحِجَامَة" (¬8) "ومن خير ما تَدَاوَيتم به ¬
ما جاء في المشرق
الحِجَامَة" (¬1) حديث آخر. وفي حديث ابن عبّاس أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "الشِّفَاءُ في ثلاثٍ: في شَربَةِ عَسَلٍ، أو شَرطَةِ مِحجَمٍ، أو كَيِّةٍ بِنَارٍ" (¬2). وقال علماؤنا (¬3): الحِجَامةُ بالحجاز أنفع من الفَصدِ، والفَصدُ في هذه البلاد (¬4) أنفع من الحجامة، وكلُّ ذلك في الجملة، وإلَّا فللفَصدِ موضعه وللحجامة موضعها. وبالجملة؛ فإن الّذين ترجموا عن الأطبَّاء لم يجعلوا للحجامة قَدْرًا؛ لأنّهم رأوا ثناء النَّبىِّ -عليه السّلام- عليها، وقد أظهر اللهُ دينه وكلامه ورسوله ولو كَرِهَ المشركون. ما جاء في المَشْرِقِ فيه حديث ابن عمر (¬5)؛ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يشير إلى المشرق ويقولُ: "إنَّ الفِتْنَةَ ههنا، إنَّ الفِتنَةَ من حيثُ يَطلَعُ قَرنُ الشَّيطَانِ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح خرَّجه مسلم (¬6). المعاني والفوائد: الفائدةُ الأولى (¬7): قوله: "وهو يُشِيرُ إلى المشرق ويقول: إنَّ الفتنة هاهنا" يريد -والله أعلم- هنالك معظمها وابتداؤها، أو يشير إلى فتنةٍ مخصوصةٍ يحذّر منها في المستقبل. وكانت الفتنةُ الكبرى مفتاح فساد ذات البَيْن، وهي قتل عثمان رضي الله عنه، وهي ¬
ما جاء في قتل الحيات
كانت سببَ وقعة الجملِ، وحروب صِفِّين كانت في ناحية المشرق. ثمّ ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق، وما وراء النهر من المشرق. ورُوِّينا عن حُذَيفَة - رضي الله عنه -؛ أنّه قال: أوَّلُ الفتنةِ قتلُ عثمان، وآخرها الدَّجَّالُ (¬1). ومعلوم أنّ أكثر البدع إنّما ظهرت وابتدأت من المشرق. الثّانية (¬2): قوله:" من حيثُ يَطلعُ قرنُ الشَّيطَانِ" يريد: حزبه وأهل وقته وزمنه، والقرنُ من النَّاس: أهل زمانٍ. ويحتَمِلُ أنّ يريدَ به: قوّته وسلاحه وعونه على الفتنة. وقد بيَّنَّاه في أوّل "الكتاب" في "باب النّهي عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها". ما جاء في قتل الحيّات ذكر مالك في هذا الباب حديث أبي لُبَابَة (¬3)؛ أنّ رسول الله نَهَى عن قَتلِ الحَيِّاتِ الّتي في البيوتِ. الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيحٌ ويُسنَدُ من طرقٍ، وقد خرَّجه الأيمة (¬4) وغيرهم من أهل التَّصنيف من طرقٍ كثيرةٍ. ¬
المعاني والفوائد: الفائدةُ الأولى (¬1): نَهيُهُ - صلّى الله عليه وسلم - عن قتل الحيّات في البيوت حُكمَ مختصٌّ بحيات البيوت دونَ غيرِها؛ لأنّه قد قال مالك: لا تُنْذرُ في الصَّحارَى ولا تُنْذرُ إِلَّا في البيوت (¬2). وقال علماؤنا (¬3): وحُكمُ حيّاتِ الجُدُر وحُكمُ حيّاتِ البيوتِ واحدٌ. وقال مالك: أَحَبُّ إليَّ أنّ يؤخذ بذلك في حيّات بيوت المدينة وغيرها. الثّانية (¬4): قوله: "فآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ" (¬5) جاء في الحديث: "آذِنُوهُ ثَلاثًا" (¬6) فظن بعضُهُم أنّها ثلاث مرَّات. وقد صرَّحَ في الحديث الصّحيح أنّها "ثلاثة أيامًا" وهو قاطعٌ. الثّالثة (¬7): قال علماؤنا: ليس في الإذن تحذير، أمّا أنّه اقتداء بعضهم من حديث أبي ليلى الّذي ذكره أبو عيسى (¬8)؛ وهو أنّ يقول لها: "أُذَكِّرُكِ بعهد نُوحٍ وسليمانَ إِلَّا ما انصرفتِ عنَّا" وذلك جائزٌ من القول، وفيه مسألة من العلم، وهي أنّ الجِنَّ مكلَّفون، مأمورون منهيون، بمِثلِ ما كُلِّفَ به بنو آدم. ¬
الرّابعة (¬1): هل النّهي عامٌ في جميع المدن والصَّحَارَى، أم هو مقصور على حيّات المدينة خاصّة؟ فخصّصه قوم بقوله: "إِنَّ بالمدينةِ جِنًّا قد أَسلَمُو" (¬2) ولم يذكر غيرها. والصّحيح أنّ المدينة وغيرها سواءٌ، لقوله: "نَهَى عن عَامِرِ" وفي لفظ: "عن عَوَامِرِ البيوتِ" (¬3) وكذلك قال مالكٌ، وكما أسلَمَ جنّ بالمدينة، يحتمل أنّ يكون أسلم بغيرها، هذا هو الغالب، والله أعلمُ. الخامسة (¬4): وهي أنّ الله تعالى يسَّرَ لهم بقُدرته التَّشَكُّل والتَّمثُّل في الهيئات، كما يسَّرَ لنا الشَّكل في الحركات. فإذا أرادت جهة، يسَّر لها الحركة إليها، وخلق لها القدرة عليها. والملائكةُ والجِنُّ في تَيَسُّر الهيئات لهم كالحركات لنا. السّادسة (¬5): في حديث الغار: "وُقِيَت شَرَّكُم كما وُقِيتُم شَرَّهَا" (¬6) وما نفعلُه نحن ليس بِشَرٍّ، وإنّما هو خيرٌ وأجرٌ، فإنّما سمّاه شرًّا لأنّه جزاء الشَّرِّ، كما قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬7) فسمَّى الجزاء اعتداء، وليس على عادة العرب في مقابلة الألفاظ، وإنّما اختلاف المعاني. ¬
عربيّة (¬1): قوله في الحديث (¬2): "إِلَّا ذا الطُّفيَتَينِ وَالأَبتَر" والطُّفيَةُ خطٌّ في ظهر الحيّة (¬3). والأبترُ: صِنفٌ من الحيّات أزرق (¬4)، ومن خاصيّته أنّه لا ينظر إلى حاملٍ إِلَّا ألقت مافي بطنها (¬5). والعمار: جمع عامر، والعوامر جمع عامرة، وهي الّتي تلزم البيوت. وقال ابن المبارك: هي الّتي تكون تضيء كأنَّها فِضَّة. ولا تلتوي في مشيها. الجِنَانُ: الحيّة. وقيل: الحيّات (¬6)؛ فإن كان واحدًا فوزن فعلان، وإن كان جمعًا فواحده جنّ. والأصحّ أنّه جمع، لقوله: "إِنَّ في المدينةِ جانًّا أَسلَمُوا" (¬7)، ولقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} (¬8) والحديث في الدّليل أَبْيَن. ¬
باب ما يؤمر به من الكلام في السفر
باب ما يُؤمَرُ به من الكلام في السَّفَر مالك (¬1)؛ أنّه بَلَغَهُ أنَّ رسولَ - صلّى الله عليه وسلم - كان إذا وضع رِجلَهُ في الغَززِ وهو يريد السَّفَرَ يقولُ: "بسم الله، اللَّهُمَّ أنت الصّاحبُ في السَّفَر، والخَلِيفَةُ في الأَهلِ، اللهمَّ ازوِ لنا الأرضَ، وهوِّن علينا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من وَعْثَاءِ السَّفَرِ، ومن كآَبَةِ المنقَلَبِ، ومن سوءِ المَنظَرِ في الأهل والمال". الإسناد (¬2): قال الإمام: هذا حديثٌ بلاغٌ، وهو حديثٌ حَسَنٌ، يسنَدُ من وجوهٍ كثيرة من حديث أبي هريرة (¬3)، وحديث عبد الله بن سَرْجِس (¬4)، وحديث البراء (¬5)، وحديث ابن عمر (¬6)، وغيرهم. وفي بعض طرقه، إذا سافر يقول: "اللَّهُمَّ أنت الصَاحب في السفَرِ، والخليفةُ على الأهلِ، اللَّهُمَّ اصحَبْنَا في سَفَرِنَا، وَاخلُفنَا في أَهلِنا، اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من وعْثَاءِ السَّفَرِ، وكآَبَةِ المُنقَلَبِ، وسوءِ المَنْظَر في الأهلِ والمال، ومنَ الحَورِ بَعْدَ الكور، ومن دعوة المظلوم" الحديث منتظم صحيح (¬7)، خرَّجه الأئمَّة (¬8) وأهل التَّصنيف. وفيه من المعاني والفوائد سبع: الأولى: قوله: "الغَرْز"، الغَرْز مثلُ الرِّكاب، يكونُ في رَحلِ البَعِيرِ من جَمَلٍ أو غير ذلك. ¬
ولا يكونُ الغرزُ إِلَّا في الرِّحالِ، وأمّا الرِّكاب فللسُّرُوجِ (¬1). الثّانية: قوله: "ازوِ لَنَا الأرضَ" فمعناه: اطوِ لنا الأرض، وأصل الانزِواءِ الانضمامُ والانقباض، تقولُ العربُ، قد انزوت الجلدة في النّار، إذا انقبضت واجتمعت (¬2). الثّالثة (¬3): قوله: "من وَعَثَاءِ السًفَرِ" ووعثاءُ السَّفر شدَّتُه وصعوبتُه (¬4). الرّابعة (¬5): قوله: "وَمِنْ كآبةِ المُنقلَبِ" أي لا ينقلبُ الرَّجُلُ من سَفره ولا ينصرفُ من وجهته إلى أمرٍ يكتئبُ منه ويحزَن له (¬6). الخامسة: قوله: "ومن سُوء المَنظَرِ" أي ما يسوءُك النَّظَر إليه في أهلك ومالك (¬7)، يقال: منظر حسن، ومنظر قبيح. السّادسة: قوله (¬8):" ومنَ الحَورِ بَعْدَ الكَورِ" يعني الكور بالرّاء النّقصان بعد الزِّيادة. ومَن قال ¬
ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء
هذا أخذه من كور العمامة (¬1)، ويروى: "بعد الكَوْنِ" (¬2) بالنّون، تقول العرب: حار بعد ما كان، يعني أنّه كان على حالة جميلةٍ فحار عن ذلك، أي رجع عمّا كان عليه من الخير (¬3). ومنه قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} (¬4) أي لن يرجع (¬5). السّابعة: قوله: "الكآبة" ظهور الحزن، وقد بيّنّا هذه المعاني واستوفينا معانيها بأشعارها في "النّيِّرين" بأبدع بيان. وقد أتقن الشّيخ الإمام أبو حامد الطّوسي -نوّر اللهُ ضريحه- هذا النّوع في كتاب آداب السّفر في "كتاب الإحياء" (¬6) حتّى أنّه ما ترك لأحدٍ فيه مقالًا، فلتقف عليه ففيه الشِّفاء. ما جاء في الوَحْدة في السَّفَر للرِّجال والنِّساء قوله (¬7): "الرّاكبُ شيطانٌ، والرّاكبانِ شيطانانِ، والثّلاثةُ رَكْبٌ". وقولة (¬8): "الشّيطانُ يَهُمُّ بالواحدِ والاثْنَيْنِ، فإذا كانوا ثلاثةً لم يَهُمَّ بِهِمْ". ¬
الإسناد: الأحاديثُ صحاح في هذا الباب. المعاني والفوائد (¬1): قال الإمام: كأنَّ مالكًا -رحمهُ الله- قد جعل الحديث الثّاني من هذا الباب تفسيرًا للأوّل. والمعنى: أنّ الجماعة -وأقلُّها ثلاثة- لا يَهُمُّ الشّيطان بهم، ويبعدُ عنهم، وإنّما سُمِّي الواحدُ شيطانًا والاثنان شيطانان؛ لأنّ الشّيطان في أصل اللُّغة هو البعيدُ عن الخير، فالمسافرُ وَحْدَهُ يبعدُ عن الخير، يقال: شطنت داره، إذا بَعُدَت. فكأنّه عَنَى المسافر بَعُدَ عن خير الرّفيق وعَوْنِهِ والأُنْسِ به، وتمريضه إنَّ مرض، ودفع وسوسة النّفس بحديثه (¬2). ولا يُؤْتَمن على المسافر وحده أنّ يضطرّ إلى المشي باللّيل، فتعترضُه الشّياطين المَرَدَةُ هازلين ومُفْزِعين. وكذلك الاثنان؛ لأنّه إذا مرّ أحَدُهما في حاجته، بقي الآخر وحده، فإن شردت له دابّة أو بقرة، أو عرض له في نفسه أو حَالِهِ شيءٌ، لم يجد من يُعينُه ولا مَنْ يكفيه ولا مَنْ يُخْبِر عنه بما يطرقه، فكأنّه سافر وَحْدّهُ. وإذا كانوا ثلاثةً، ارتفعت العلّة المخوفة في الأَغْلب؛ لأنّه يخرج الواحدُ ويبقى الاثنان. وإن كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم الشّيطان، وأيضّا كانوا قد أقَاموا الصّلاة في جماعة، وفي حديث ابن عمر: "لو يعلمُ النَّاسُ ما في الوحْدَةِ ما سافرَ رَاكبٌ بليلٍ أَبَدًا" (¬3). وهذا كلّه في السَّفر الّذي يَجُوزُ فيه قصر الصّلاة، وأمّا ما كان دون ذلك، فلا بأس بالسّفر فيه للواحد لأنّه أمر قَريبٌ. واختلفَ النّاسُ في معنى ذلك، فقيل: إنَّ الشّيطان يضجر به. وليس ذلك على الحَتْمِ، إنّما ذلك على طريق الأدب والتّعلّم، وقد كان رسولُ الله يبعث البريد وحده والرّسول إلى البلدان بالدّعاء إلى الإيمان، والخلفاءُ بعدَهُ كان يُبْعَث إليهم بالفتوح؛ لأنّ ¬
الأمر بالرفق بالمملوك
ذلك من الضّرورات، ولم يُحفَظ أنّه أرسل ثلاثة. وقد قيل: إنّه أرسل يوم الحُدَيْبِيّة عُتْبَة الخزاعي على مسيرة أيّام (¬1)، واللَّهُ أعلم. وأمّا المرأة في سفرها فقد قال (¬2): "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تؤمنُ باللَّهِ واليوم الآخرِ تُسافِرُ مسيرةَ يوم وليلةٍ إِلَّا مع ذِي مَحْرَم منها" وقد بينّا ذلك على الاستيفاء في كتاب الحجِّ (¬3). الأمرُ بالرِّفْقِ بالمملوك أدخل مالك فيه حديث أبي هريرة (¬4)؛ قال: قاا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "للمَمْلُوكِ طعامُهُ وكِسْوَتُهُ بالمعروفِ، ولا يُكَلَّفُ منَ العملِ ما لا يُطِيقُ". الإسناد: الحديث صحيح، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة صحاح، خرّجها الأيمّة (¬5) من طرق (¬6)، من حديث أبي ذّرٍّ وأبي مسعود. أمّا حديث أبي ذرّ، قوله: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ" (¬7). ¬
وأمّا حديث أبي مسعود: "اللَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْكَ" (¬1) صحيحٌ في الباب. مقدّمة (¬2): اعلم أنّ الأصل في الخَلْق الحريّة، وعليها خُلِقَ الإنسانُ، إلّا أنّه لمّا عَصَى ضَرَبّ عليه الرِّقّ، وأدخله تحت ذِلَّة المملوكيّة، وجعل في ذلك رِفْقًا للأحرار، وأبقَى الرِّقَّ على النَّسلِ أَثَرًا من آثار الكفر، يعمل عمل أصله، حتّى إذا تأكّدت العقوبة واستمرّت، وقع الزَّجْرُ موقعه. كما أنّ العدّة لمّا كانت أثرًا من آثار النّكاح، عملت عملَها، أصلها في جُمَلٍ من الأحكام. الفوائد والمعاني في تسع: الفائدةُ الأولى (¬3): قوله (¬4): "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ" يعني خدمكم الّذين يعملون لكم أمركم، ويهيِّئون لكم منافعكم. الثّانية (¬5): قوله (¬6): "للمملوكِ" وقال في الحديث الثّاني (¬7): "فِتْيَة" يعني مماليك. والفتى أيضًا العبدُ المملوكُ، ومن هذا قيل: إنَّ يوشع كان عبد موسى، لقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (¬8)، وقال يوسف لفتيته: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} (¬9). الثّالثة (¬10): قوله (¬11): "تَحْتَ يَدِهِ" بمعنى تحت قُدْرَته وسلطانه ونعمت ¬
الرّابعة (¬1): قوله: "فَليُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ" (¬2) يعني به الشَّبع، والله أعلم. وقال الحسن: بل يطعمه ممّا يأكل هو. وقيل: إنّما أراد بقوله: "فَليُطْعِمْه" ممّا يأكل، أي من جِنْسِ الطّعام الّذي يأكل هو، إنَّ كان بُرًّا فيُرًّا، وإن كان شعيرًا فشعيرًا، وإن كان بإدامٍ كذلك، وإن لم يؤاكله فليُطْعِمْهُ منه. وإن كان الرّاوي من الصّحابة هو أبو ذرّ قد حملً الحديث على ظاهره، فجعل لغلامه حُلَّة مثل حُلّته، وإن كان الصَّدر الأوّل الّذين صحبوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لم ينكروا عليه ذلك. وقد كان من الصّحابة من لم يكسه ممّا يلبس، ولا يحمله على ظاهره. الخامسة (¬3): "تكليفُه ما يَغْلِبُهُ" (¬4) وهذا ممّا لا خلاف فيه، فإن خالف الحديث، وكلَّفَهُ ما لا يطيق، فإنّه لا يدخل الجنّة، كمَا خرَّجه أبو عيسى (¬5) صحيحًا (¬6). وقال ابن القاسم: لأنّ الله تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬7) فهو قد كلَّف نفسًا ما لا تطيق، بل ينبغي أنّ يعينها جُهْدَهُ، ويرى نِعَمَ اللَّهِ عليه إذ جعلَهُ مخدومًا ولم يجعله تحت يد غيره خادمًا. ¬
السّادسة (¬1): قال نبىُّ التّوبة أبو القاسم - صلّى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِزِنًا وكانَ بريئًا ممَّا قالَ، أقام اللَّهُ عليه الحدَّ يومَ القيامةِ، إلّا أنّ يكون كما قالَ" (¬2) فبيّن سقوطه في الدّنيا لشَرَفِ المملكة، وبذلك استدلّ أشياخنا على سقوط القصاص عنه بالجناية، أصله حدّ القذف. وحديث: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ" (¬3) لا يثبتُ له قدمٌ في الصِّحة (¬4). السابعة (¬5): قوله: "كُنْتُ أَضْرِبُ عَبْدًا لي (¬6)، أو قال: مَمْلُوكًا لي، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: وهو من خَلْفِي: اللَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْكَ" (¬7). الحديث فيه دليلٌ على أنّه لا قصاصَ عليه في ضربه، إذ لم يعاقبه النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬8). الثامنة (¬9): فإن قطع له عضوًا، أو ضربه فَمَثَّلَ به عمدًا؟ فإنّه يُعتَق عليه عند مالك (¬10) ولا ¬
ما جاء في البيعة
يؤدّب. وقال سائر الفقهاء: يؤدّب ولا يعتق عليه، ولم أر من أشياخنا من فهم هذه المسألة، ويسّرَ اللهُ لي وجه الدّليل فيها، فقلت: إنّما ألزمه مالك العتق لأنّه أَتْلَفَ الرَّقَّ في جزءِ منه، فسرَى إلى غيره كما لو أعتقه، وهذا فيه نظر، بيانُه في كتاب العِتْق. التّاسعة: قال علماؤنا (¬1): لا بأس من أنّ يقول العبد لسيّده: يا سيّدي، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (¬2) وقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (¬3). وفي الحديث: "لا يَقُولَنَّ أحَدُكمْ: عَبْدِي، وَليَقُلْ: فَتَايَ. ولا يَقُولَنَّ أَحَدُكمْ لِمَوْلَاهُ: مَوْلَاي؛ فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللهُ" (¬4). ما جاء في البَيْعة الأحاديث في هذا الباب صحاحٌ خرّجها الأيمّةُ من طرقٍ. الإسناد: قال الإمام: حديث مالك في هذا الباب مشهور، وحديث عُبَادَة في "البخاريّ" (¬5) و"مسلم" (¬6) -وكان ممّن شَهِدَ بَدْرًا، وهو أَحَدُ النُّقَباءِ ليلةَ العَقَبَة-: أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - قال -وحَوْلَهُ عِصَابَةٌ-: "بَايعُونِي عَلَى أنّ لَا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقتُلُوا أولادَكُم، ولا تأْتُوا بِبهْتَانٍ، ولا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ". ¬
الأصول: مصداق هذا الباب، قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬1). وفي حديث آخر: "تايَعْنَا رَسُولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - على أَلاّ نَفِرَّ، ولم نُبَايِعْهُ على الموتِ" (¬2). المعاني والفوائد: الفائدةُ الأولى: في العربيّة (¬3) البيعةُ: مصدر باعَ يَبِيعُ بيعةً، عبارة عن فعلٍ واحدٍ، كالضّربة والقتلة. والمعنى فيه: أنّه باع نفسه من الله وفي الله، بأن بَذَلَهَا له في الطّاعة، ليأخذ الثّواب عِوَضًا عنها، أو عمّا بذل (¬4). الثّانية (¬5): في انقسام البيعة وهي تنقسم على ثلاثة أقسامٍ: القسم الأوّل: البيعةُ على الإسلام. الثّاني: البيعةُ على الجهاد. الثّالث: البيعةُ على المَوْتِ. ¬
تنقيح (¬1): أمّا بيعةُ الإسلام، فقد إنقطعت بانتشار الإسلام. وأمّا بيعةُ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -، فإنّها مخصوصةٌ به. واختلف في صفة البيعة كيف كانت؟ فقيل: على الموت. وقيل: على ألَّا نفرّ. وقيل: على التّوحيد؛ لقوله: "لا تُشْرِكُوا". وكل ذلك ثابتٌ صحيحٌ، وهو يرجع إلى معنى قوله عليه السّلام: "أَلَّا نَفِرَّ" ممّا عقد عليه، فالتزم به: الصّبر ورضي بالموت. وقيل: على الجهاد اليوم، لقوله: "ولكِنْ جِهَادٌ وَنيَّةٌ" (¬2) حتّى أَجرتِ الأنصارُ ذلك في رجزها يوم الخندق حين كانت تقول: نحنُ الذين بايعوا محمَّدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا (¬3) الثّالثة (¬4): في صفة البيعة للإمام فقد قال جرير بن عبد الله: "بَايَعْنَا رسولَ الله على الطّاعَةِ، والنُّصْحِ لكلٌ مسلمٍ" (¬5)، وحديث عُبَادَة أصحّ: "بايعنا رسول الله بَيْعَةَ الحرْبِ -وكان من الاثني عشر الّذين بايعوا بيعة العَقَبَةِ الأُولَى -على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في يسرنا وعسرنا" (¬6). ¬
وأمّا قول ابن عمر فيه: "مَا اسْتَطَعْتُمْ" (¬1) هو مطلق قولنا: "بَايَعْنَا رسولَ اللَّهِ على السَّمْعِ والطّاعةِ" وأنّ ذلك بحسب الاستطاعة، فلا يكلِّف الله نفسًا إلاّ وُسْعَها. ويقتضي أنّ المُكرَهَ لا يلزم حكمًا لخروجه عن الاستطاعة، وقد بيّن العلماء في كتب الأصول أنّ المكره مستطيعٌ من وجهٍ، وغير مستطيع من وجه، وأنّ الّذي سُلِبَ من الاستطاعة، تسلب عنه المؤاخذة بحكم الشّرع، ولا يآخذُه بما بقي له منه، فضلاً من الله ونعمةً. وقيل: الطّاعة في المعروف هي الطّاعة لا غير، وما كان على غير ذلك لا يلزم. الرّابعة (¬2): وأمّا مبايعةُ الإمام وطاعته إذا لم يكن أهلاً لذلك، وهل يُنَازَعُ، أو يخرج عليه أم لا؟ فمنهم من قال: يخرج عليه؛ لأنّ الّذي لزمت فيه العهدة وانعقدت عليه البيعة ألاّ ينازع الأمر أهله، فأمّا أن يترك بِيَدِ من ليس هو بأهلٍ لها، يظلمُ ويجورُ ويَعبثُ، فلا. وبهذا خرج الحسين بن عليّ رضي الله، عنه، وعبد الله بن الزُّبَيْر على يزيد، وخرج القُرَّاءُ على الحجَّاج. ورأى بعضهم الصّبر عليه والسّكون تحت قضاء الله، حتّى يحكمَ اللَّهُ بالحقّ. وبهذا أخذ عبد الله بن عمر في ولاية يزيد، وقال: إن كان خيرًا رضينا، وإن كان جائرًا صبرنا (¬3). وقَال القُرَّاءُ للحسن بن أبي الحسن البصري حين خرجوا على الحجّاج: كن معنا: ¬
فقال لهم الحسن: الحجّاجُ عقوبةُ اللَّهِ في أرضه، وعقوبةُ اللهِ لا تُقابَلُ بالسّيف، إنّما تُقابَلُ بالصّبر على الظُّلم والجور، وهو خيرٌ من سَفْكِ الدِّماء ونهب الأموال، فيما لا يتحصل فيه الآن من هذين المعنيين حسن العاقبة والعافية. فاقتضى من قوله الصّبر على جورهم، كقوله للأنصار: "سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةً، فاصبرُوا حتى تَلْقَوْنِي" (¬1) فلمّا خالفوا ذلك أوّل مرّة ابتلوا بيوم الحَرَّة. الخامسة (¬2): في بيعة العبد قال العلماء: بيعةُ العبد لا تجوز؛ لأن العبد مملوكٌ، فلا تنعقد بيعته ويترك مولاه؛ لأن حقّ المولى مُقَدَّمٌ على حقّ العبد، ولا يصحُّ للعبد دين حتى يؤدّي حقّ الله وحقّ مولاه، كما جاء في الحديث (¬3). السادسة: في صفة بيعة الرِّجال ثبت في الحديث أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصافح الرِّجال في البيعة باليد، تأكيدًا لشدَّة العقدة بالقول والفعل، فمتى خالف أحدٌ ممن بايع إمامه وأعطاه يده، لزمته العقوبة الشّديدة بالقتل أو يعفو. وقال آخرون (¬4): ليس بشرطٍ في البيعة أن يعطيه يده ويصافحه؛ لأنّها عَقْد، فإِنّما ينعقد بالقول كسائر العقود. ولذلك صحّت مبايعةُ عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان بالكتابة دون المصافحة. السابعة: في صفة مبايعة النِّساء قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (¬5) ¬
ما يكره من الكلام
الآية ففيها للعلماء ثلاثة أقوال: القول الأوّل: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - بايعهنّ بالقول ولم يباشرهن بيده الكريمة (¬1)؛ لأنّه نهى عن المباشرة لغير ذي محرم. والقول الثاني: أنّه - صلى الله عليه وسلم - بايعهُنَّ بيده الكريمة على ثوبٍ (¬2)، فإن صحّ هذا فالمصافحةُ في البيعةِ شرطٌ. والقول الثّالث: أنه أمر امرأة أن تُبايع النّساءَ بيدها عنه، وهذا جائزٌ؛ لأن النّبىَّ - صلى الله عليه وسلم - بايع عثمان وهو غائبٌ، وقال: يدي عن يد عثمان (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا قَوْلِي لمئةِ امْرَأَةِ، كَقَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ" (¬4). ما يُكْرَهُ من الكلام وفي هذا الباب أحاديث ثلاث: الحديث الأوّل (¬5): حديثُ ابن عمر؛ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قال لأَخِيهِ: كافرٌ، فقد بَاءَ بها أَحَدُهُمَا". ¬
وفي الآثار: "لا يَرْمِي رجُلً رَجُلًا بِالفِسْقِ أو بِالكُفْرِ، إلاَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لم يكن صَاحِبُهُ كذلك" (¬1). المعاني فيه (¬2): قوله: "باءَ بها" يعني بوزرها. ومعناه: أنّ الكافر إذا قيل له: يا كافر، فهو حاملٌ وِزْرَ كُفْرِهِ ولا حرج على قائل ذلك. وكذلك القولُ للفاسقِ: يا فاسق، فقد باء قائلُ ذلك بِوِزرِ الكلمة واحتملَ إِثمَهَا (¬3). الحديث الثاني (¬4): حديث أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمِعْتَ الرَّجُلَ يقولُ: هَلَكَ النّاسُ؛ فهوَ أَهْلَكُهُمْ". ¬
قال الإمام: وقد قَيّدنا الرّوايتين بنصب الكاف وضمِّها: "أهلكَهم" (¬1) و"أهلكُهم" (¬2) والمعنى في هذا الحديث (¬3) -والله أعلم- أنّ الرّجل يقول ذلك على وجه الاحتقار والازدراء والعُجْبِ بنفسه. وأمّا إذا قال ذلك تأسُّفًا وتحزُّنًا وتخوُّفًا عليهم لقبيح ما يرى من أعمالهم، فليس بداخلٍ في هذا الحديث. وقال أبو الدّرداء (¬4): لن يفقهَ الرّجلُ كلَّ الفقه حتّى يَمْقُتَ النَّاسَ في ذاتِ اللَّهِ، ثمّ يعودَ إلى نَفْسِهِ فيكونَ أشدَّ مقتًا لها. وقال صالح بن خالد: إذا أَرَدْتَ أن تَعْمَلَ من الخيرِ شيئًا، فأَنْزِلِ النَّاسَ منزلةَ البقرِ، إلاّ أنّك لا تحقِرُهُم (¬5). قال الإمام: يعني أنزلهم منزلةَ من لا يُميز ولا يحصِّل ولا تحتقرهم. وقال مسلمُ بنُ يَسَار: إذا لبستَ الثّوب، فظنَنْتَ أنّك فيه أفضل منك في غيره، فبئس الثّوب هو لك (¬6). ¬
وقال مسلم: وكفى بالمرءِ من الشَّرِّ أن يرى أنّه أفضلُ من أخيه (¬1). الحديث الثالث: حديث أبي هريرة (¬2)؟ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقُل أحدُكُمْ: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فإِنَّ اللهِ هُوَ الدَّهْرُ". الإسناد: قال الإمام: الحديث صحيح، وقد رُوِيَ من طرق (¬3)، فقال فيه: "لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإن اللَّهَ هو الدَّهْر" (¬4) وفي بعض طرقه: "يقول الله: يسُبُّ ابنُ آدمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ" (¬5) وفي بعض طرقه: "وَأَنَا الدَّهْرُ بيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ" (¬6). عربية (¬7): يُرْوَى هذا الحديث: "وأنا الدّهرُ" بالرَّفع (¬8)، ومنهم من يرويه بالنّصب بنصب "الدَّهرَ" على الظّرف، كأنّه يقول: أنا الدّهر كلّه (¬9). ¬
المعاني والفوائد (¬1): قال علماؤنا: المعنى في هذا الحديث (¬2)، أنّه ورد نهيًا عمّا كان أهل الجاهليّة يقولونَهُ من ذَمِّ الدَّهر وسبَّهِ، لما ينزل بهم فيه من المصائب في الأموال والأنفسُ، وكانوا يضيفون ذلك إلى الدّهر، ويسبُّونَهُ ويذمّونه لذلك، على أنّه الفاعل ذلك بهم، وإذا وقع سَبُّهُم على من فعل ذلك بهم، وقع على الله تعالى. فجاء النّهيُ عن ذلك تنزيهًا لله تعالى وإجلالاً له، لِمَا في ذلك من مضارعة (¬3) سبِّه وذمِّه. وقد ذمَّ اللَّهُ الّذين كانوا يعتقدون هذا بقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (¬4) وإنّما الأمر كلُّه، والدّهر بيد الله، فإذا سبَّ الرّجلُ صنعة غيره وذمّها، فإنّما يذمّ فاعلها، قال امرؤ القيس (¬5): أَلاَ إنَّمَا ذَا الدَّهْرُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمْ بِمُسْتَمِرّ الحديث الرّابع: إِنّ عيسى بنَ مريمَ لَقِيَ خِنْزِيرًا على الطّريقِ، فقال له: انْفُذْ بِسَلاَمٍ. فقيل له: تقُولُ هذا للخِنْزِيرِ؟ فقال: أخافُ أن أُعَوَّدَ لِسَانِي المَنْطِقَ السُّوء (¬6). ¬
باب ما يؤمر به من التحفظ في الكلام
قال الإمام (¬1): إنّما قيل لعيسى هذا؛ لأن الخِنْزِير كثير الأَذَى لبني آدمَ في أموالهم وزُروعهِم وكرومهم (¬2). باب ما يُؤْمَر به من التَّحَفُّظِ في الكلام فيه حديث بلال بن الحارث (¬3)؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ من رِضْوَانِ اللَّهِ" الحديث. الأسناد (¬4): قال الإمام: لم يختلفِ الرُّواةُ عن مالك في إسناد هذا الحديث (¬5). المعنى في هذا الحديث: أنّ الكلمةَ قد تكون ممّا يُسخطُ اللَّهَ وممّا يرضيه، وإنّها المقُولةُ عند السّلطان الجائر، فيتكلّم الرّجلُ عنده بالخير للمسلمين وما فيه نفع لهم، قيُرْضي اللَّهَ، أو يتكلَّم بالشَّرِّ والباطل ممّا يعينُهُ على جَوْرِهِ وظُلْمِهِ فيسخطُ اللَّهَ. فإذا كانت الكلمة اليسيرة تُدخِلُ صاحبها النّار، فمن الحقّ أن يُمسك الإنسانُ لسانه ولا يتكلّم ¬
باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله
إلاّ بما فيه رِضَى مولاه. هذا هو الّذي قاله الشَّارحون ني هذا الحديث، وهو الحقُّ. وفي الحديث الصّحيح عن أبي أمامة: أنّ رجلاً سأل رسول الله عند الجمرة، فقال: أيُّ الجهادِ أفضل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قالَ كلمةَ حقّ عند ذي سلطانٍ جائرٍ" (¬1). باب ما يُكرَهُ من الكلام بغير ذِكْرِ الله فيه حديث زيد بن أسلم (¬2)؛ قوله: "إِنَّ مِن البَيَانِ لَسِحْرًا" أو "إنَّ بعضَ البيانِ لَسِحْرٌ". الإسناد: قال الإمام: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ من مراسيل زيد ولكنه صحيح. المعاني (¬3): اختلف علماؤنا في المعنى المقصود إليه في هذا الحديث؛ قوله: "إِنَّ مِنَ البيان لَسِحْرًا" هل هو على معنى الذَّمّ، أو على معنى المدح؟ فقالت طائفة من أصحاب مالك: هو على معنى الذَّم، وأضافوا أيضًا ذلك إلى مالك. واستدلّوا بإدخاله لهذا الحديث تحت ترجمة الباب بما يُكْرَهُ من الكلام. واحتجّوا على ما ذهبوا إليه من ذلك بتشبيه النّبىّ عليه السّلام لذلك البيان بالسِّحر. والسّحرُ محرَّمٌ مذمومٌ قليلُه وكثيرُهُ. ذلك -والله أعلمُ- لما في البلاغة من التَّفَيْهُقِ من ¬
تصوير الباطل في صورة الحقِّ، وقد قال رسول الله في المتَفَيْهِقِينَ أَنَّهُمْ أبغضُ الخَلْقِ إلى اللهِ (¬1). وقال آخرون -وهم الأكثر عددًا-: إنّه كلام أريد به المدح، قالوا: والبيانُ ممدوح، بدليل قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬2)، وبدليل قوله (¬3):"فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهَا" ولأنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعجبه مع أنّه أميرهم بالفصاحة، فشبَّهَهُ بالسِّحر لِغَلَبَةِ السِّحر على القلوب واستمالته إليها، وهذا هو الحقُّ. حديث مالك (¬4)؛ أنّه بلغه: أن عيسَى بنَ مريمَ كان يقول: "لا تُكثِرُوا الكلامَ بغير ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُو قلوبُكُمْ؛ فإنّ القَلْبَ القاسي بعيدٌ من اللهِ" الحديثُ صحيحٌ (¬5). قال الإمام (¬6): يريد -والله أعلم- أنّ الكلام بغير ذكر الله يكون لغوّا وإن كان منه المباح، فقد يكون منه المحظور، فالغالب عليه ما تقسو به القلوب. وقوله: "فإن القلبَ القَاسِي بعيدٌ منَ اللهِ" يريد: بعيد من رحمة الله. وقوله: "ولا تَنْظُرُوا في عُيُوبِ الناسِ كأنَّكُمْ أَرْبَابٌ" يريد أنّ العبد لا ينظر في ¬
ذنوب غيره لأنه لا يثيبُ على حسنها ولا يعاقِبُ على سيِّئها، وإنّما ينظر فيها ربّه الّذي أمره ونهاه، وأمّا العبد فإنّما ينظر في عيوب نفسه ليصلح منها ما فسد، ويتوب منها على ما فرط. وقوله::إنّما النّاسُ مُبْتَلىً وَمُعَافىً" يريد -والله أعلم- مبتلى بالذّنوب. وقوله: "فَارْحَمُوا أَهْلَ البَلَاءِ" يريد: من امتحن بالذّنوب. وقوله: "وَاحْمَدُوا اللَّهَ على العَافِيَةِ" يريد: من الذّنوب، فإنّكم بفضل الله عُصِمْتُم منها، ويحتمل أن يريد به غير ذلك من أنواع الأمراض والحاجة وغيرها، والمعافاة منها بالصحّة والغنى عن النّاس. وقد جاء (¬1) في حديث بلال (¬2) مؤذِّن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: النّاسُ ثلاثةٌ: فسالم وغانمٌ وظالمٌ لنفسه. قال: والسّالمُ السّاكتُ، والغَانمُ الّذي يأمرُ بالخير وينهَى عن المنكر، والظّالمُ لنفسه النّاطقُ بِالْخَنَا والمعينُ على الظُّلم (¬3). وكان الرّبيع بن خُثَيْم يقول: لا خَيْرَ في الكلام إلاّ في تِسْعِ: تهليل الله، وتسبيح اللَّهِ، وتكبير اللهِ، وتحميد الله، وسؤالك الخير، وتعوُّذك من الشَّرّ، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن (¬4). ورُوِّينا عن سيبويه -رحمه الله- أنّه قال: رأيتُ الخليلَ بن أحمد في المنام، فقال لي: رأيت ما كنّا فيه؟ فإنّي لم أنتفع بشيء منه، إنّما انتفعتُ بقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، ولا حَوْلَ ولا قُوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، وأَمْرٌ بالمعروف ¬
ذكر الغيبة
ونهىٌ عن المنكرِ (¬1). قال الحافظ: وقد اختلفَ الناسُ قديمًا وحديثًا في هذا الباب، أيّهما أفضل، الكلام أو الصّمت؟ فقيل: الكلام إذا كان بذِكْر اللَّهِ. وقيل: لو كان الكلام من فِضَّةِ لكان السُّكوتُ من ذهبٍ. ولكن لا شكً أنّ الكلام بذكر الله وقراءة القرآن والحديث والتّفقُّه فيه أفضل من الصّمت. ذكرُ الغِيبَةِ أصحّ شيء في هذا الباب حديث أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تدرون ما الغِيبَةُ"؟ قَالوا: اللهُ ورسولُه أَعلم. قال: "ذِكْرُ أخاكَ بما يَكْرَهُ". قال: أرأيتَ إن كان فيه ما أقول؟ قال: "فقدِ اغتَبْتَهُ، وإن لم يكن فيه ما تقولُ، فذلك الْبُهْتَانُ" (¬2). المعاني والفوائد: الأولى: قوله (¬3) هذا مطابقٌ (¬4) لقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية (¬5). وقوله: "فذلك البُهْتَانُ" هو عند بعضهم: المواجهة بالقبيح من الكلام. ¬
وقيل (¬1): قوله "البُهْتَان" يريد أنّه أشدّ من الغِيبَةِ، لما فيه من الباطل. وكذلك قال الهروي (¬2): هو الباطل. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لعنَ اللهُ كلَّ فاحشٍ متفحِّشٍ" (¬3). وفي الصّحيح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ أَرْبَى الرِّبَا أن يستطيلَ الرجلُ في عِرْضِ المسلم بغير حَقٍّ" (¬4). و"مَنْ كانَ يُؤمن باللهِ واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو ليصمت" (¬5). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: مَنْ أَدَّى الأمَانَةَ، وَكَفَّ عن أعراضِ المسلمينَ، فهو الرَّجُلُ (¬6). وقد استثنى من هذا الباب من لا غِيبَةَ فيه من الفُسَّاق، والمُعْلِنِينَ المُجَاهِرِينَ، وأهل البدع المُضِلَّين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الحَيَاءِ عن وجهه فلا غِيبَةَ فيه" (¬7). والأصل في هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحمق المطاعِ عُيَيْنَة بن حُصْن الفزاري: "بئس ¬
ما جاء فيما يخاف من اللسان
ابن العشيرة" (¬1). وقوله: "لا غِيبَةَ في ثلاثة: إمامٌ جَائِرٌ، وفاسقٌ مُعْلِنٌ بفسقِهِ، وصاحب بدعة" (¬2). وقال سهل: مَنْ سلِمَ من الغِيبَةِ، أو قَال: من ترك الغِيبَة أصلًا مَشَى على الماءِ. وقد بيّنَ الإمام الطّوسي في ربع المهلكات (¬3) هذا الباب وأتْقَنَهُ بما فيه كفاية. ما جاء فيما يُخافُ من اللِّسان الحديث الّذي ذكره مالك في هذا الباب (¬4)، هو حديث مرسل من مراسيل عطاء ابن يسار (¬5). قوله: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الجَنَّةَ، ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ وما بَيْنَ رِجْلَيْهِ" يريد: الفم والفَرْج، وأكثر ما يعذَّب النّاس على بطونهم وفروجهم. قال الإمام (¬6): وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ أكبرَ الكبائرِ إنّما هي من الفَمِ والفَرْج، وما بين اللّحيين الفم، وما بين الرَّجلين الفَرْج. فمِنَ الفَمِ ما يتولّد من اللِّسان، وهو كلمةُ الكفر، وقذفُ المحصنات، وأخذ أعراضِ النَاس. ومن الفم أيضًا شُرْبُ الخمرِ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ أموال اليتامَى ظُلمّا. ومن الفَرْجِ الزّنا واللّواط، ومنِ اتَّقَى ما بين الفم والفَرْجِ، فأحرى أن يتّقي القتلَ، والله أعلمُ. ¬
ما جاء في مناجاة، اثنين دون واحد
والكبائرُ كثيرةٌ، بينّاها في "كتاب سراج المريدين" بما فيه كفاية (¬1). ومن حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ، عن النّبي عليه السّلام؛ أنّه قال: "إذا أصبح ابن آدمَ أصبحت الأعضاء تسْتعيذُ من شرِّ اللّسانِ وتقول: اتّقِ اللهَ فينا، فإنّك إن استقمتَ استقمنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعوججْنَا" (¬2). وقال ابن مسعود: "أكْثَرُ النّاسِ ذنوبًا يومَ القيامةِ أكَثْرُهُم خَوْضًا في الباطل" (¬3). و"ما مِنْ شيءٍ أحقُّ بطولِ سجنٍ من لسانٍ" (¬4). وعن أبي أُمَامَةَ الباهليّ؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اكفُلوا لي ستَّ خصالٍ أكْفُل لكمُ الجنّةَ؛ فمن حدَّثَ فلا يكذِب، ومن وعَدَ فلا يَخْلِف، ومن ائْتُمنَ فلا يَخُنْ، واملِكوا ألسنتكم، وكفّوا أَيْدِيَكُم، واحفظوا فُرُوجَكُمْ" (¬5). ما جاء في مناجاةِ، اثنينِ دونَ واحدٍ قال الإمام (¬6): الحديث صحيح (¬7)، والمعنى في هذا الحديث قد بان في حديث ¬
ما جاء في الصدق والكذب
ابن مسعود (¬1)؛ لأنّ ذلك يحزنُ الثالثَ المنفردَ. وأمّا حديث ابن عمر فليس فيه: "فإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ" وهذا لعمري هو المشهور (¬2)، وقد قال علماؤنا (¬3): الحديثُ مقصورٌ على ثلاثة، وأمّا إذا كثر النّاس فلا بأس أن يتناجى منهم اثنانِ وأكثر. وقد قيل: إنّ ذلك إنّما يُكْرَهُ في السَّفَر، وحيث لا يُعْرَفُ المتناجيان، ولا يُوثَقُ بهما ويخشَى الغدْر منهما. وهو عندي الصّحيح؛ أنّه مخصوصٌ بالسَّفَر، ويشهد له الأثر من حديث ابن عمر؛ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولا يحلُّ لثلاثةٍ يكونون بأرض فلاةٍ أن يتناجى اثنان دون صاحبهما" (¬4). وقد قال البونىُّ (¬5): لا فرق بين الاثنين والثّلاثة والأربعة أو أكثر؛ لأنّه لا يجوز أن ينفرد واحدٌ فيتناجون من دونه؛ لأنّه يظنّ أنّهم في شيءٍ من أمره مما يَكْرَهُهُ، فيُؤْذِيهِ ذلك ويحزُنه، ويحمله على سوء الظَّنِّ بهم. ما جاء في الصِّدق والكذب قال الإمام: أدخل مالك في هذا الباب حديث صفوان بن سليم (¬6)؟ أنّ رجلًا قال لرسول الله: أَكْذِبُ امْرَأَتِي؟ فقال رسول الله: "لا خَيْرَ في الكذِبِ" فقال الرّجل: يا رسول الله، أَعِدُها وأقولُ لها؟ فقال رسول الله: "لا خَيْرَ في الكَذِبِ" فأعاد عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا جُنَاحَ عَلَيْكَ". ¬
الإسناد (¬1): قال الإمام: لا أعلم هذا الحديث بهذا اللفظ يُسْنَدُ عن النّبيّ عليه السّلام من وجهٍ من الوجوه (¬2). المعاني في هذا الباب: قال علماؤنا (¬3): لا خلافَ أنّه لا بأسَ أن يَكْذِبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ في كلَّ ما يَسْتَجِيزُ به هَوَاَها وَرِضَاها، إذا لم يُذْهِبْ بِكَذِبِهِ بشيءٍ من مالها، مِثْلَ أن يزيَّنَ لها ما يعطيها، ونحو هذا وإن كذب. الثّانية (¬4): ولا خلاف أيضًا أنّه من رأى رجلًا مسلمًا يُقْتَلُ ظُلْمًا ويعرف أنّه ينجيه بالكذب، مثل أن يكون في موضع فيقول: ليس هو فيه، أو غير ذلك، أنّه يجب عليه الكذب. الثّالثة (¬5): يجوزُ للرَّجُل أن يكذِبَ في الإصلاحِ بين اثنين، وقد ثبت من حديثِ أسماء بنت يزيد؛ قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه يقول: "كلُّ الكذِبِ يُكْتَبُ على ابنِ آدمَ، إلاّ ثلاثًا: كذبُ الرَّجُلِ امرأته ليرضيها، ورجلٌ كذبَ ليُصْلِحَ بين اثنينِ، ورجلٌ كذبَ في خديعة حربٍ" (¬6). وهذا الحديث يفسَّرُ لك جميع ما تقدّم. ¬
ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين
وحدُّ الكذب عندنا هو: الإخبار بالشَّيءِ على ما ليس هو عليه (¬1)، وحدّ الصِّدق: مايُخْبَرُ على حقيقة ما هو به (¬2). وبالصّدق فاز من فاز، والله قد أثنى على الصّادقين فقال: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). وقال بِشْرُ بن بَكْرٍ: رأيتُ الأوزاعيَّ مع جماعة من العلماء في المنام في الجنّة فقلت وأين مالك بن أنس؟ فقال: رُفعَ. فقلتُ: بماذا؟ قال: بصدقه (¬4). وقال منصور الفقيه: الصِّدْقُ أَوْلَى مَا بِهِ ... دَانَ امْرُؤٌ فَاجْعَلْهُ دِينَا وَدَعِ النِّفَاقَ فَمَا رَأَيْتُ ... مَنَافِقًا إِلّا مَهِينَا (¬5) قال: يكون المؤمن جبانًا ولا يكون كذّابًا ويكون بخيلًا (¬6). وكان أبو حنيفة لا يُجِيزُ شَهادةَ البَخِيلِ (¬7). ما جاء في إضاعَة المال وذي الوَجْهَيْن أدخل مالك (¬8) فيه حديث بن أبي صالح، عن أبيه؛ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ اللهَ ¬
يَرْضَى لَكُمْ ثلاثًا، ويَسْخَطُ لكم ثلاثًا: يرضَى لكم أن تعبدوا الله (¬1) ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأن تَعْتَصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعًا، وأن تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ ويَسْخَطْ لَكُمْ قيلَ وقالَ، وإضاعةَ المالِ، وكثرةَ السُّؤالِ". الإسناد: قال الإمام: هكذا رَوَى يحيى هذا الحديثَ مُرْسَلًا، وتابعه القَعْنَبىٌ، وابن وَهْب، وابن القاسم، ومَعْن بن عيسى، ومحمد بن المبارَك الصُّوري. ورواه ابن بُكَيْرٍ (¬2)، وأبو مُصْعَب (¬3) وأكثر الرُّواة (¬4) عن مالك، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة مُسْنَدًا. وعن مالك فيه إسناد آخر، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وهو غريب (¬5). المعاني والفوائد وهي خمس: الفائدة الأولى (¬6): في هذا الحديث: الأمر بالإخلاص في العبادات وهو أصل الدِّين. والثانية (¬7): التّوحيد والحضّ على الاعتصام بحبل الله. وقد اختلف علماء التُّأويل في معنى حبل الله هاهنا على أقوال: فقيل: هو القرآن (¬8). ¬
وقيل: الجماعة (¬1) والخلافة. وقيل: الإسلام (¬2). والمعنى في ذلك مُتَدَاخِلٌ؛ لأن كتاب الله تعالى يأمر بالائتلاف وينهى عن الفرقة والاختلاف. وقيل: حبلُ الله هو الصّراط المستقيم كتاب الله (¬3)، وقد جاء في حديث ابن مسعود؛ أنّه قال في خطبته: أيّها النّاس عليكم بالسّمع والطّاعة والجماعة، فإنّها حبل الله الّذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خيرٌ ممّا تحبّون في الفُرقة (¬4). قال الإمام: وهذا التّأويل أظهر في معنى حديث هذا الباب. وقد قال ابنُ المبارك (¬5): إِنَّ الجَمَاعَةَ حَبْلُ الله فَاعْتَصِمُوا ... مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الوُثْقَى لِمَنْ دَانَا لَوْلَا الخِلَافةُ لَمْ تأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضعَفُنَا نَهْبَا لأقوانا الثالثة (¬6): في معنى قوله: "قِيلَ وَقَالَ" هو -والله أعلم- الخوضُ في أحاديث النّاس الّتي لا فائدة فيها، وإنّما جلُّها لَغَطٌ وحَشْوٌ وغيبةٌ، وما لا يكتب فيه حسنة، ولا يسلم القائل فيه من سيَّئة، قال الشاعر (¬7): ¬
ومَن لايَمْلِكُ الشَّفَتَينِ يَسْخُو ... بِسُوءِ اللَّفْظِ مِنْ قِيلٍ وقَالِ قال الإمام: وأنشدني المبارك بن عبد الجبّار بمدينة السّلام في هذا المعنى (¬1): لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئاً ... سِوَى الهَذيَانِ مِنْ قِيلِ وَقَالِ فَأَقْلِلْ مِنَ لِقَاءِ النَّاسِ إلاَّ ... لأَخْذِ العِلْمِ أَوْ لِصَلاَحِ حَالِ فمَنْ يَبْغِي سِوَى هَذَيْنِ أَخْطَأ ... وَكَلَّفَ نَفْسَهُ طَلَبَ المحَالِ الرّابعة (¬2): قوله: "وإضَاعَةَ المَالِ" فلعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال أحدها: أنّ المال هنا أُريدَ به مِلْكُ اليمينِ من العبيد والإماءِ والدَّوابَّ، وسائر الحيوان الَّذي في ملكه، أن يُحْسِن إليهم ولا يُضَيعهم (¬3). والقول الثاني: "إضاعة المال": تركُ إصلاحه والنّظر فيه، وتنميته وكسبه. والقول الثّالث: "إضاعة المال": إنفافُه في غير حقّه من الباطل والإسراف والمعاصي. وهذا القولُ هو الصّوابُ عندي، واللَّهُ أعلمُ. الخامسة: قوله: "وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" ففيه عن أشياخنا (¬4) قولان: أحدهما: يُكْثِرُ السُّؤالَ عن المسائلِ النّوازلِ المُعْضَلَاتِ في معاني الدِّياناتِ ¬
والبحث عنها، وكثرة السُّؤال عند العلماء مذمومٌ. والقولُ الثّاني: كثرةُ السُّؤال في الاستكثارِ من أموالِ النّاسِ، والكَسْب بالسُّؤالِ. والقولُ الأوّلُ أَصَحُّ. حديث: وأمّا قوله (¬1): "مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ" الحديث، فقد فسَّرَهُ (¬2) النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم فقال: "لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللهِ أَمِينًا" (¬3). ويعضُدُ هذا، الحديثُ الآخر عن أنس؛ أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ ذَا لسانَيْنِ فِي الدُّنْيَا، جَعَلَ اللهُ لِسَانَيْنِ من نارٍ يومَ القِيَامَةِ" (¬4). ومن هذا قول الشّاعر (¬5): إنَّ شرَّ النَّاسِ مَنْ يَكْشِرُ لِي ... حِينَ أَلْقَاهُ وَإنْ غِبْتُ شَتَمْ ¬
ما جاء في عذاب العامة بذنب الخاصة
ما جاءَ في عَذَابِ العَامّة بَذَنْبِ الخَاصَّةِ والأحاديث في هذا الباب صِحَاحٌ، وأصحّ ما فيه، ما خرّجه البخاريّ (¬1) وغيره (¬2): "حديث زينب بنت جَحْش" قال النّبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مِقْدَارُ هذه" وأشار بإصْبَعِهِ، فقالت: يا رسول الله، أَنَهْلِكُ وفينا الصّالحون؟ قال: "نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ". وأدخل مالك حديث عمر بن عبد العزيز (¬3)، كان يقول: "إن اللَّهَ تعالى لا يُعَذِّبُ العَامِّةَ بِذَنْبِ الخَاصَّةِ (¬4)، ولكِنْ إذَا عُمِلَ المُنْكَرُ جِهَارًا، وَلَمْ يُغيِّرُوا (¬5)، اسْتحَقُّوا العُقُوبَةَ كُلُّهُمْ". قال الإمام (¬6): هذا واضحٌ، فإنّه لا يَلْزَمُ التِّغييرُ إلَا لِمَنْ له قُدرَة من العزّة والمنَعَة. وإنّه لا يستحقُّ العقوبةَ إلّا مَنْ هذه حالُه. وأمّا من ضَعُفَ عن ذلك، فالفَرْضُ عليه في ذلك التّغييرُ بقَلْبِه، والإنكارُ والكراهيّة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ عليكم أُمراءُ تَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فمن أَنْكَرَ فقد بَرِىءَ، ومن كَرِة فقد سَلمَ، ولكن من رَضِيَ وتَابَعَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ" قيل: يا رسول الله، أفلا نَقْتُلُهُمْ؟ قال: "لا، ما صَلُّوا" (¬7). قال الإمام: وكلُّ من رَضِيَ بالفعل فكأنّه فعَلَهُ. وقال الحسن: إنّما عَقَرَ النّاقةَ رجلٌ واحدٌ، أجير ثَمُودَ، وَعَمَّهُم اللهُ بالعقوبةِ؛ لأنّهم عَمُّوا فِعْلَهُ بالرِّضَا. ¬
ما جاء في التقى
ما جاء في التُّقَى قال الإمام: أدخل مالك في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب (¬1)، وهو صحيحٌ. المعاني (¬2): الأصل في هذا قولُه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬3) يريدُ: زَادَ الآخرةِ. والتّقوى اسمٌ جامعٌ لطاعةِ الله، والعمل بها فيما أمَرَ به ونَهَى عنه، فإذا انتهى المؤمنُ عمّا نهاهُ اللهُ، وعمِلَ بما أمَرَه الله، فقد أطاع الله واتّقاهُ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الآية (¬4). والتقوى اسمٌ جامعٌ لخشية الله، لقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬5). وقالت الصّوفية: التّقوى هو أن يتّخذ العبدُ الطّاعةَ وقاية من عذاب اللهِ (¬6). وقوله: "بَخٍ بَخٍ (¬7) أَمير المؤمنين" فهو توبيخٌ منه لنفسه، وتوبيخُ النَّفْسِ وتقريعُها عبادةٌ، كما أنّ الرِّضَى عنها هَلَكَةٌ. القولُ إذا سَمِعْتَ الرّعدَ قال الإمام: أدخل مالك في هذا الباب كيفيّة الدّعاء عند الرّعد، وما يقوله الرّجلُ، وهو حَسَنٌ جدًّا، من أحسن ما رُوِي فيه قولُه (¬8): سبحانَ الذي يُسَبَّحُ الرَّعدُ بحَمْدِهِ ¬
والملائكةُ من خِيفَتِهِ، ثمّ يقول: إنّ هذا لوَعِيدٌ لأهل الأرض شديدٌ. المعاني (¬1): قال علماؤنا من أهل التفسير (¬2): إن الرَّعْد مَلَكٌ يزجُرُ السَّحابَ، وقد يجوزُ أن يكون زجرُه لها تسبيحًا، لقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} (¬3) والرّعدُ لا يعلمُه النّاسُ إلّا بذلك الصّوت، وجائزٌ أن يكون ذلك تسبيحَه، لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬4). وأهلُ التَّأويل يقولون في قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} (¬5) أي سَبِّحِي معه (¬6). ورُوِيَ عن عليّ (¬7)، وابن عبّاس (¬8)، وجماعة من الصّحابة؛ أنّهم قالوا: الرّعدُ ملَكٌ، والبرقُ مَخَارِيقُ من حديدٍ، أو من نارٍ يزجرُ بها السّحابَ. وكان النّبي صلى الله عليه إذا سمع الرَّعْد قال: "اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بغَضَبِكَ، ولا تُهْلِكْنَا بِعِقَابِكَ، وعَافِنَا قبل ذلك" (¬9). ¬
ما جاء في تركة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ما جاء في تَرِكَةِ النّبي - صلى الله عليه وسلم - فيه حديث عائشة (¬1)، أنّ أزواج النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ، فسألن ميراثه، فقالت: أليس قد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فهُوَ صَدَقَةٌ". الإسناد (¬2): قال الإمام: الحديث صحيح (¬3). وذكر مالك في "الموطّأ" (¬4) عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقْسِمُ (¬5) وَرَثَتِي دَنَانِيرَ، ما تركتُ بعد نَفَقَةِ نسائي وَمَئُونَةِ عَامِلي فهو صَدَقَةٌ". هكذا قال يحيى "دَنَانِيرَ" وغيرُهُ من رواة "الموطّأ" يقولون: "وَرَثَتِي دِينَارًا" (¬6). وذكر الإمام أبو الحسن الحافظ الدّارقطني من طريق مالك بن أَوْسِ بن الحَدَثَان، قال: سمعتُ عمرَ بن الخطّاب يقول: حدَّثنا أبو بكرٍ؛ أنّه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّا مَعْشَرَ الأنبياء لا نُورَثُ، ما تركنا صدقةٌ" (¬7). الفوائد: الأولى (¬8): اختلف العلماء في معنى قوله: "إنّا معشرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ". ¬
فقال قوم من أهل البصرة، منهم ابن عليَّة: هذا ممّا خُصَّ به النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زيادةً في فضله، كما خُصَّ بما خُصَّ به من نكاح ما فوق الأربع، والموهوبة، إلى غير ذلك من خصائصه (¬1). ويغبرُ في وجوههم، ما خَرَّجَهُ الدّارقطنيّ، قوله: "إنّا معشرَ الأنبياءِ لا نُورثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" (¬2)، وبهذا أخذ كثيرٌ من العلماء أنّ الحديث عامّ فيه وغيره. الثانية (¬3): فعلى هذين القولين جماعةُ المسلمينَ من العلماء، إلّا الرّوافض، وهم لا يُعَدُّون خلافًا؛ لشُذُوذِهِم فيما ذهبوا إليه في هذا الباب عن سبيل المسلمين، ولا حُجَّة لهم في قول الله: "وداود" و"سليمان" في قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (¬4) وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬5) إلاَّ الحسن فإنّه قال: {يَرِثُنِي} مالي، و {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} النُّبُوَّةَ والحِكْمةَ (¬6). وكيف يسوغُ لمسلمٍ أن يظنَّ أنّ أبا بكرٍ منع فاطمة ميراثها من أبيها، ومعلومٌ عند العلماء أنّ أبا بكرٍ كان يُعطي الأحمر والأسودَ، ويُسوِّي بين النّاس في العَطَاءِ، ولم يستأثر لنفسه شيئًا، ويستحيل في العقول أن يمنع فاطمة، ويردّ على سائر المسلمين، وقد أمر بَنِيهِ أن يردُّوا ما زاد في ماله منذ وليَ في بيت المالِ. قال الإمام: والّذي نقول به هو الّذي بينّاه لكم، وما عداه فلا يحلّ لمسلم الكلام فيه؛ لِمَا فيه من الميل إلى القولِ بأحد المعنيين. وقد حقّقنا القول فيه في كتاب "العواصم من القواصم" (¬7). ¬
ما جاء فى صفة جهنم
ما جاء فى صفةِ جهنَّمَ الترجمة: أمّا قولُه: "جهنَّم" فهو مأخوذٌ من الجهامة، لقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬1). الأسناد (¬2): فيه حديث أبي هريرة (¬3) -وهو صحيحٌ (¬4) -؛ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نارُ بَنِي آدَمَ التي يُوقِدونَ جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنَّمَ". وفي بعض طُرُقهِ: "وهذه النار قد ضُرِبَ بها البحرُ حين أنزلت سبع مرَّات، ولولا ذلك ما انتفع بها" (¬5). وذكر ابنُ أبي شيبة في "مصنّفه" (¬6): "لولا أنها أُطفِئَت بالماءِ مرَّتينِ ما انتَفَعتُم بها، وإنّها لتَدعُو اللهَ إلاَّ يعذّب بها بتلك النار أحداً (¬7) " (¬8). وعن سعيد بن المسيَّب؟ أنّ عليَّ بن أبي طالب سألَ رَجُلًا من اليهود عن النّار الكُبرى، فقال الحَبرُ: يبعثُ اللهُ الرّيحَ الدَّبُورَ على البحر فيعُودُ نارًا، فهي النَّارُ الكبرى (¬9). وأمّا ما وضعه أهل الوَعظِ في كتبهم في صفة جهنَّم وأدراكها وما فيها، فإنّه لم يخلق بعدُ من يصف ما فيها من عذاب الله؛ لأنّ عذاب الله شديدٌ (¬10)، وقد أوردنا معانيها ¬
الترغيب في الصدقة
وأخبارها في "أنوار الفجر". الترغيب في الصَّدَقَة أدخل مالك في هذا الباب حديث سعيد بن يسار (¬1) المُرسَل (¬2)؟ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ من كَسبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقبَلُ الله إِلَّا طَيبًا، كان كَمَن يَضَعُهَا في كَفِّ الرَّحمنِ، يُربِّيهَا له كما يُرَبِّيَ أَحَدُكُم فُلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ، حتى تكونَ مثلَ الجَبَلِ". وفي بعض طُرُقِهِ: "حتّى اللّقمة أو التمرة لتَأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم" (¬3). الأصول: قال الإمام: ومصداق ذلك في كتاب الله قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (¬4)، وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬5) وهذا من المعنى البديع أن يُفَسِّرَ الحديثُ بالقرآنِ، فعبر عن البائن في هذا المعنى عن مضاعفة الثواب على العمل. وكما (¬6) يفعل في الصّدقة، كذلك يفعل في قيراط صلاة الجنازة، حتّى يجعل أصغره كأكبر جبلٍ وهو أحُد، وذلك من فضل الله على حسب ما يعلم من الصِّدق في النِّيَات، وخُلُوصِ الطَّويّات، والرّغبة في الخيرات، والمواظبة على الصّالحات. ¬
فالأعمالُ للأعمال كالبنيان يشُدْ بعضه بعضًا. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ....} الآية (¬1). فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على الذي تقدّم من قوله: "يَأخُذُهَا بِيمينِهِ" (¬2) وتقع في كفّه، أن ذلك كله عبارة عن قبُولِه للعبد، وتضعيف الثّواب له فيه، إذ البارئ سبحانه يتعالى عن الجارحة، ويُقَدَّس عن ذلك. وقوله في بعض طرقه (¬3): "في كّفِّ الرَّحمنِ" وكفُّه بمعنى يمينُه (¬4). وقوله (¬5): "فَيُرَبِّيَها لَهَ" (¬6) يريد أن الله يُنمِّي الصَّدقة بتضعيف أجزائها، كما يُنَمِّي الإنسانُ الفُلُوِّ، وهو ولد أُنْثى الخيل من ذكَرِ الحمير (¬7). حديث: قوله (¬8): "أَعطُوا السَّائِلَ وإن جاءَ على فَرسٍ" هو حديثٌ صحيح من مراسل زيد بن أسلم، ولا خلاف في إرساله (¬9). وأدخل في الباب حديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا نساءَ المؤمناتِ، لا تَحقِرَنَّ إحداكُنَّ لجارَتِهَا ولو كُراعَ شاة مُحرَق" (¬10). قال الإِمام: والحديث صحيح لا غُبَارَ عليه. ¬
الكلام في الحديث الأوّل (¬1): أما قوله: إلا تَرُدُّوا السّائلَ ولو جاء على فرسٍ" أمّا إعطاء السَّائل من الصّدقَة الواجبة ففرضٌ، وأما إعطاؤه من صلب المال فلا يلزم إلَّا على تفصيلٍ يأتي بيانُه في "كتاب أحكام القرآن" (¬2) ولكنَّه يُستَحبُّ في الجملة ألَّا يرجع خائبًا، لئلّا يتعيّن له حقٌّ فيتوجّه على المسؤول عتاب أو عقاب. فإنّ السّؤال قد يكون واجبًا، ومندوبًا. أمّا وجوبُه فللمحتاج، وأمّا نَدبُه فلمن تعينة وتتبيّن حاجتُه إن هو استحيا من ذلك، أو رجاء أن يكون بيانُه أنفع. وقد كَثُر اليوم السّؤال والإلحاف، ولكن لا يتصوَّرُ الإلحاح من السائل إلَّا إذا أُعطِيَ وقبل أن يُعطَى ولو سأل يومه كلّه ما كان مُلِحًّا ولا مُلحِفًا، حتّى لو أُعْطِيَ لا يكون سؤاله بعد الإعطاء إلحاحًا ولا إلحافًا، بشرط أن يأخذ كفايتَهُ. وقوله: "ولو بِظِلفٍ مُحْرَقٍ" (¬3) اختُلِفَ في تأويله: فقيل: ضرب به مثلًا للمبالغة، كما جاء: "مَن بَنَى للهِ مَسجدًا ولو مثل مِفحَصِ قَطَاة، بنَى الله له بيتًا في الجنّة" (¬4). وقيل: إن الظِّلْفَ المحرقَ كان له عندهم قَدْرُهُ؛ فإنَّهم كانوا يَسهَكُونَهُ (¬5) ويسقونه. ¬
وقوله (¬1): "يا نساءَ المؤمنات" وأهلُ بلدنا يقرؤونه على الرَّفع على أنّه نداء مفردٌ مرفوعٌ، والمؤمناتُ نعتٌ؛ لأنّهم رأوا أنّ النِّساء أعمّ من المؤمنات، وقد قال الله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬2) والبهيمة أعمّ من الأنعام. وقوله: "ولو بِكُرَاعٍ مُحْرَقٍ" والكُراعُ من الإنسان والدّوابّ ومن المواشي: ما دُونَ الكَعْبِ (¬3). وقوله: "الصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ غَضبَ الرَّبِّ" (¬4) مسألة من الأصول (¬5)، قد بيّنّا أن غضب الرَّبِّ على قسمين: إمّا أن يرجع إلى الإرادة للعقابِ، فذلك صفةٌ من صفاته وإمّا أن يرجع إلى الفعل (¬6)، على ما بينّاه في "كتب الأصول". حديث ابن عمر (¬7)؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المِنبَرِ، وهو يَذْكُرُ الصّدقةَ والتًعَفُّف عن المسألةِ: "اليدُ العُليا خَيرٌ من اليد السُّفلَى، واليدُ العُليا هي المُنْفِقَةُ، والسُّفلَى هي السّائلةُ". ¬
الحديث صحيح. المعاني والفوائد: قولُه: "اليدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى" هذه المسألة مما اختلف النّاس فيها على ثلاثة أقوال (¬1): القول الأوَّل: منهم من قال: اليدُ العليا يد المعطي للصّدقة. والثّاني: منهم من قال: هي يد الآخِذِ، وفي الحديث معقِّبًا به: "اليدُ العليا المُنْفِقَةُ والسُّفلى السَّائِلةُ" وقد روى أبو داود (¬2) عن مالك بن نَضْلَة؛ قال: قال رسولُ الله: "الأيَدِي ثلاثةٌ: فَيَدُ اللهِ العليا، وَيَدُ المُعطِي التي تَلِيهَا، ويدُ السائلِ السُّفْلَى، فَأَعْطِ الفَضْلَ ولا تعجِز عن نفسك". وهذا هو القولُ الثّالث. والقول الرّابع: ما رواه -أيضًا- أبو داود (¬3) فيه بدل "المُنفِقَة": "المُتَعَفِّفَة". تنقيح (¬4): فإن قلنا: إنّ اليد العليا يد المعطي، فلأنّها نائبة عن الله، إذ هو خازنه ووكيله في الإعطاء، فأخذها منه فكأنّه يأخذها من يد الله عزَّ وجلَّ. وقد قيل: اليد العليا يد السّائل (¬5) لقوله: "إنَّ الصَّدَقَةَ لتقعُ في كفِّ الرَّحمنِ قَبلَ أن تقعَ في يَدِ السّائل" والتّحقيق فيه: أنّ الله عزَّ وجلَّ عبّر باليد العليا عن يده المُعطِية، إذ هو يأمره، وعبّر عن يد السائل بالسُّفلى لأنه هو الذى يقبل الصّدقات، وكلتاهما يد الله، "وكلتا يَدَيه يمين" (¬6)، وعليا. فلذلك كان الأقوى أن تكون اليد العليا يد المُعطِي، ويبقى قوله: "اليد السُّفلى" على ظاهره؟ لأنها تتقبّلها، فكانت كالّذي يؤخذ بالكَفِّ ويقعُ في ¬
ما جاء في طلب العلم
كَفِّ السّائل، فيقضي بها حاجته ويسدّ فَاقَتَهُ. وقوله: "وَابْدَأْ بِمَن تَعُولُ" (¬1) معناه: لا تتصدّق حتى يكون عندك ما يُغنيك ويغني عيالك، ولا تتعمّد إلى ما عندك فتعطيه، فنبقى أنت وهم عالة تتكفَّفون النّاس. وفي "صحيح مسلم" (¬2): "خيرُ الصّدقةِ ما كان عن ظَهرِ غِنىً، وابدَأ بمن تعُولُ". روى أبو داود (¬3) والنَّسائي (¬4) أن رجلًا تصدق بدينارٍ (¬5)، وحضَّ النَّبيّ صلى الله عليه على الصّدقة فتصدّقَ بثوبه، فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "خُذ ثَوبَكَ، وَانْتَهَرَهُ" (¬6). وفي الباب أحاديث ومعاني بينّاها مستوفية في "كتاب النَّيِّرَيْن" و "أنوار الفجر". ما جاء في طلب العلم مالك (¬7)؛ أنه بلغَهُ أن لقمان الحكيم أَوصَى ابنهُ فقال: يا بُنَىَّ جالس العلماءَ وزَاحِمهُم بِالرُّكَبِ؛ فإنَّ الله يُحيِي القلوبَ بنُورِ الحكمة، كما يُحيي الأرضَ بوابِلِ السّماءِ. الإسناد: قال الإمام أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: قد أَكثَرَ النّاسُ في هذا الباب ¬
بأحاديث كثيرة لا يصحّ أكثرها، ولذلك لم يجد مالك رحمه الله ما يدخل غير هذا. وأصحُّ ما في هذا الباب قولُه: "من سَلَكَ طريقًا يطلُبُ فيه علمًا سَلَكَ الله به طريقًا إلى الجنّة" (¬1) وعلى هذا يُعَوَّلُ في فضيلة طلب العلم. وقد أَطْنَبَ فيه البخاريّ وأتقن أبوابَهُ، فقال: "ما جاء في فضيلة طلب العلم" (¬2)، "ما جاء في الرّحلة في طلب العلم" (¬3)، "ما جاء في سماع العلم" (¬4)، وترجم بغرائب أطنب فيها وأربا على كلّ مصنّفٍ. وقد. أتقن هذا الباب الإِمام الحافظ أبو نُعَيم في "كتاب رياضة المتعلّمين" وهو كتاب صغير الجرم، كثير العلم، لم يُسْبّق إلى مثله، بوّب فيه على أبوابٍ كثيرة من العلم. وكذلك فعل الإِمام الطّوسي الأكبر في "كتاب العلم" (¬5) بوب في فَرضِ طَلَب العلمِ، وما هو في نفسه وحقيقته، وآداب العالم والمتعلِّم، بما لم يترك لغيره مقالًا فعليكم بهذين الكتابين. الفوائد المتعققة بهذا الباب أربعة: الفائدة الأولى (¬6): قال محمد بن سِيرِين: اطلبوا العلم، فإنّ قومًا تركوا طلبَ العِلْمِ، ومجالسةَ العلماء، وأخذوا في الصّلاة والقيام حتّى يبس جلد أحدهم على عَظمِهِ، ثمّ خالفوا السُّنَّةَ فهلكوا، وسفكوا الدّماءَ، فواللهِ ما عمِلَ أحدٌ عملاً على جهلٍ إلّا كان ما يُفْسِد أكثر ¬
ممّا يُصلِح (¬1). الثانية (¬2): قول لقمان لابنه: "جَالِسِ العلماءَ وزاحِمهُم" يريد القرب منهم في مجالسته لهم، ومجالسةُ العلماءِ إذا كانت قربة، فإنّها تكون على وجهين: 1 - أحدهما: لمن ليس في قدرته تَعلُّم العلم، فإنَّه يجالسهم تبرُّكًا بمجالستهم ومحبَّةً فيهم، وربّما جرى من أقوالهم ما يحتاج إليه، فتحمله حاجتُه إليه على أن يَعِيَهُ ويحفظه، أو يستفهم فيه حتّى يفهمه. 2 - وأمّا من كان في قوّته وطَبِيعَتِه طلب تَعلُّمِهِ، ورُزِقَ عَونًا عليه ورغبة في تعلُّمِه، فيجالسهم ليأخذ عنهم ويتعلّم من علمهم. الثالثة (¬3): قوله: "فَإِنَّ الله يُحْيِي القُلوبَ بِنُور الحِكمَةِ" يريد إحياءها بالأيمان والخشوعِ والطّاعة، وموتها إنّما يكون بالكفر والفسوق وانتهاك محارم الله؛ فإنّ الحياة الحقيقية إنّما هي حياة الإيمان والطّاعة (¬4). الرّابعة (¬5): قوله: "كمَا يُحيِي الأرضَ بوابِلِ السّماءِ" هو غزير مطرها. قالوا (¬6): بل هو الذى يحي الأرض بالنّبات والمياه والخِصْبِ، بعد موتها بالجَدْبِ وعدم الماء والخِصْبِ. وإنَّما يكون إحياؤها بالمادّة القويّة من الوابل، كذلك القلوب تحيى بنور الذِّكرِ. والإيمانُ إذا ¬
ما يتقى من دعوة المظلوم
كان على الدَّوامِ فهو يُنَوَّرُ بأنواع المعارف، فيَحيَى كما يُحْيِىِ اللهُ الأرضَ بعد موتها. ما يُتَقَّى من دعوةِ المظلومِ قال الإِمام (¬1): أنا دعوةُ المظلوم فصحيحةٌ، فقد ثبت عن النّبيِّ عليه السّلام أنها مجابةٌ لا تُرَدُّ، وكذلك فيما روِيَ من صحف إبراهيم. وأصحُّ ما فيه ما خرّجه مسلم (¬2)، من حديث ابنِ عباس، عن معاذ بن جبل؛ قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: "إِنَّكَ تأتي قومًا من أهلِ الكتابِ، فأوّلُ ما تَدْعُوهُم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأَنِّي رسولُ الله، فإن هم أَطَاعُوك، فَأَعْلِمهُم أنَّ الله افْتَرَضَ عليهم* خمسَ صلوات في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوك، فاعلمهم أن الله افترض عليهم* صدقةً تُؤخَذُ من أغنيانهم فَتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك، فإيّاك وكَرَائِمَ أموالهم، واتِّقِ دعوةَ المظلومِ فإنذها ليس بينها وبين اللهِ حِجَابٌ". وفي "مُصَنَّف" أبي بكر بن أبي شَيْبَة (¬3)، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوةُ المظلومِ مستجابةٌ، وإن كان فاجرًا ففجورُهُ على نفسه". وعن علي بن أبي طالب أنّه قال: ثَلَاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم: إمامٌ عادِلٌ في رَعِيَّتِهِ، ¬
أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -
والوالدُ لِوَلَدِه، والمظلومُ (¬1). وقال أبو الدّرداء: دعوةُ المظلومِ تصعدُ إلى السّماء فتفتحُ لها أبوابُ السّماءِ (¬2). وقال: إياّكم ودعوةَ المظلومِ وبكاءَ اليتيم، فإنّهما يَسرِيَانِ باللَّيل والنَّاس نيامٌ (¬3). وقال عونُ بن عبد الله: أربعُ دعواتٍ لا يُحجَبنَ عنِ الله: دعوةُ والدٍ راضٍ، وإمامٍ مُقسِطٍ، ودعوةُ المظلومِ، ودعوةُ رجلٍ دعا لأخيه بظَهْرِ الغيب (¬4). ولقد أحسن القائلُ حيث قال (¬5): نَامَتْ جُفُونُكَ والمظلُومُ مُنْتَبِهَ ... يَدعُو علَيكَ وَعَينُ اللهِ لَمْ تَنَمِ وفي بعض الأحاديث المنثورة أتّقِ دعوةَ المظلومِ فإنّها تُحمَلُ على الغمام (¬6). وقوله: "لَيْسَ بينها وبين اللهِ حجابٌ" دليلٌ على أن الله تعالى لا يحجبه شئٌ، وإنَّما الحجاب عائدٌ علينا وهو المنع (¬7). وقَد أطنبنا في القول في هذا المعنى في "أنوار الفجر" بما فيه الكفاية إن شاء الله. أسماء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال الإِمام: ذكر مالك في هذا الباب، حديث ابن جُبَيْر بن مُطْعِم (¬8)؛ أنّ ¬
النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لي خمسةُ أَسماءِ: أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللهُ به الكُفرَ، وأنا الحاشرُ الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قَدَمي، وأنا العاقبُ". الإسناد (¬1): قال الإِمام: هكذا رواهُ يحيي مُرسلًا، لم يقل فيه: عن أبيه، وتابعه على ذلك أكثر الرُّواة للموطّأ، وممّن تابعه على ذلك: القَعنَبيّ (¬2)، وابن بُكَير، وابن القاسم، وإسماعيل ابن أبي أُوَيس. وأسنده عن مالك فقال فيه: عنه (¬3)، عن ابن شهاب عن محمّد بن جُبَير بن مُطعِم، عن أبِيهِ، مَعنُ بنُ عيسى (¬4). والصّحيح فيه: "ابن جُبَير بن مُطْعِم عن أبيه" لا كلام فيه. الفوائد والمعاني المتعلِّقة بهذا الباب: الأولى (¬5): قوله: "أنا محمد" لقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللَّهِ} (¬6) فسمّاه الله بذلك في القرآن (¬7). ¬
الثّانية (¬1): وقوله: "وأنا أحمدُ" كذلك أيضًا نصُّ القرآن، لقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬2). الثّالثة (¬3): قوله: "وأنا الماحِي" فسَّرَ ذلك هو بقوله: "وأنا الَّذي يَمحُو الله بي الكُفرَ" لما وعَدَهُ من إظهاره على الدِّين كلَّه، فيكون ما آتاه منه هو الظّهور على الدّين كلِّه، بمعنى الغَلَبة عليه لغَلَبَةِ مَن جاوَرَهُ منه وظهوره عليه (¬4). ويحتمل أن يريد به محوه من مكَّة، وظهوره على ما كان فيها من الكفر وظهور دينه فيها. وكذلك فعل - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكَّة، فجاء إلى الكعبة فوجد فيها أصنامًا وتماثيلَ، فأخذ عُودًا، فجعل يطعن في بطونها ويقول {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬5). الرابعة (¬6): قوله: "وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي" قال الخطابي (¬7) في معناه في ذكر القدم ها هنا الزمن، يقالُ: كان هذا على قدم فلان، أي على زمنه (¬8)، فيكون معنى الحديث على هذا أنّ زمن ملّته آخر الأزمنة، وأنّه عليها تقوم السّاعة ويكون الحَشرُ، لا تنسخ شريعته ناسخة، ولا يستأصل لمِلَّته كفرٌ. ويحتمل أن يريد بذلك أنّ النّاس يحشرون على قدميه، بمعنى مشاهدته قائمًا للهِ وشاهدًا على أُمَّتِهِ والأمم. ¬
وقال علماؤنا (¬1)؟ "يُحشَرُ الناسُ على قَدَمِي" أي قدّامي وأمامي، كأنّهم يجتمعون إليه وينضمّون حوله، ويكونون أمامه ووراءه يوم القيامة. وقد قيل (¬2): "عَلَي قَدَمِي" على سابقتي، مأخوذ من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬3) والقَدَمُ السّابقة بإخلاص الصِّدق والطّاعة. الخامسة (¬4): قوله: "وأنا العَاقِبُ" فقد جاء عنه عليه السّلام في هذا الحديث أنه قال: "وأنا العاقبُ الّذى ليس بعدي نبىٌّ" (¬5). وقال أبو عُبيد (¬6): "سألتُ سفيان بن عُيَينَة عن العاقب فقال لي: آخر الأنبياء". قال أبو عُبَيد: "وكذلك كلّ شيء خلفّ بعد شيءٍ فهو عاقب". قال الإِمام: وهذا المعنى يشهد له كتاب الله في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬7). وذكر ابنُ وهب عن مالك؛ قال: ختم الله به الأنبياءَ، وختم بمسجده هذا المساجدَ (¬8). قال الإِمام: يعني مالك بذلك مساجد الأنبياء. قال عباس بن مرداس السُّلَمِيَّ (¬9): ¬
يا خَاتِمَ النُّبَآءِ إنَّك مُرسَلٌ ... بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا إنَّ الإِلهَ ثنَى عليك محبّةً ... في خَلقِهِ ومحمدًا سَمَّاكا وقال أبو عمر (¬1): أحسنُ بيتٍ قيل فيما قالوا قولُ أبي طالب (¬2): وَشَقَّ لَهُ من اسمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو العَرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ وعن أنس بن مالك؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أوَّلُهُم خروجًا، وأنا قائدهم إذا وفَدُوا، وأنا خطيبُهُم إذا أنصَتُوا، وأنا شفيعُهُم إذا حُبسُوا، وأنا مبشِّرُهُم إذا يَئِسُوا، الكرامةُ والمفاتيحُ يوم القيامة بيَدِي، ولواءُ الحمد بيدي، وأنا أكرمُ وَلَدِ آدمَ على ربِّي، يطوفُ عليّ ألفُ خادمٍ كأنهنّ بَيضٌ مكنون أو لؤلؤٌ منثورٌ" (¬3). وعن مختار بن فُلفُل، عن أنس بن مالك؟ قال: قال رسولُ الله: "أنا أكثرُ الأنبياء أتباعًا يومَ القِيامةِ، يجيءُ النَّبيُّ وليس معه مصدِّقٌ به غيرَ رجُلٍ واحدٍ، وأنا أوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مُشَفَّعٍ" (¬4). قال الإِمام: وقد سمّاه الله في القرآن أكثر من هذه الأسماء، مثل: المزمّل، المدّثر، وعزيز، ورؤف، ومُبَشِّر، ونذير، وداعي، وسراج منير (¬5)، وأسماء جمعناها نحو من ثمانين اسمًا في "كتاب أحكام القرآن" (¬6) في سورة الأحزاب عند قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬7) الآية، فلتُنظَر هنالك على الاستيفاء ففيه الشِّفاء، والحمد لله. ¬
وهذا الذي اقتبسناه من علم مالك وألّفناه قليلٌ من كثيبر، والعلمُ والكمالُ إنما هو للّطيف الخبير، العلم القدير. وأنا أعتذرُ إلى كلِّ من نظر فيه، أو قرأه، أو تصفّحه ورأى فيه خطأً أو زَللًا، أن يوسعنا عُذرًا، وأن يحمل ذلك على طريق الوهم، وأن يظنَّ بنا خيرًا، ولا يخلنا من دعائه، والله تعالى ينفعنا وإيّاكم بالعلم، ويجعلنا من حمَلَتِهِ وأهله، وما توفيقي إلاَّ باللهِ، عليه توكّلتُ وإليه أنيب، ولا حول ولا قُوّةَ إلاَّ باللهِ، والحمدُ لله ربَّ العالمين (¬1)، وصلى الله على محمد خاتم النبيِّين. نقول: وقد فرفنا من أخر تصحيحٍ لتجارب الطَّبع مع أذان مغرب يوم الأثنين الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظَّم، سنة 1427 من هجرة سيِّد الأوَّلينَ والآخِرين، سيِّدنا محمد صلي الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدِّين، الموافق السادس عشر من شهر كتوبر، سنة 2006 من ميلاد نبي الله عيسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام. وكتب أضعف عباد الله ¬