المسائل الماردينية
ابن تيمية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المسَائِلُ الماردينيَّةِ [وهي مسائل يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء بها] لشَيخ الإسلام تقي الدين أبي العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله المتوفى 728 هـ مضافًا إليها تعليقات الشيخ/ محمد حامد الفقي رحمه الله وثق نصوصه وخرّج أحاديثه وعلَّق عليه خالد بن محمد بن عثمان المصري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد، قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية - في مكتوب له كتبه إلي حنابلة دمشق يعزيهم بالمصاب بالشيخ ويوصيهم بنسخ تآليفه من مسوداته والاحتفاظ بها وبمراجعة الإمام ابن القيم ويبشرهم بالعاقبة الحسنة (ص 13، 14): "ومن أراد عظيم الأمر التام، ونصيحة الأنام، ونشر علم هذا
الإمام -أي: ابن تيمية- الذى أختطفه من بيننا محتوم الحمام، ويخشى دروس كثير من علومه المتفرقة الفائقة، مع تكرر مرور الليالي والأيام، على جليتها من غير تصرف فيها ولا اختصار، ولو وُجِد فيها كثيرًا من التكرار، ومقابلتها، وتكثير النسخ بها، وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباه في مكانِ واحدٍ" إلى آخر مكتوب هذا التلميذ النجيب -رحمه الله-، فقلتُ: لعل يكون لي نصيب في العمل بهذه النصيحة الجليلة بالمشاركة -ولو بالقليل- في نشر علم هذا الإمام: شيخ الإسلام -رحمه الله ونفع بعلمه-. فكان كتابنا هذا هو الطليعة لي، وهو إحدى نفائس شيخ الإسلام وواحد من من فرائده التي نبغ بها وعلا على سائر العلماء، فقد حوى دررًا فقهية وحَّلا لمعضلات يَعجز عنها بعض من وصل إلى مرتبة الاجتهاد، فكيف بالطالب الناشئ؟ وقد جاءت غالب مسائله منثورة خلال مجموع الفتاوى، إلا مسائل قليلة لم توجد في الفتاوى. وقد اعتمدت في توثيق نصوصه على: نسخة خطية حصلت عليها من دار الكتب، ومطبوعة الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- ومجموع الفتاوى، فقمت بمقابلة المخطوطة على المطبوعة والفتاوى، وأثبت الأقرب إلى الصواب من النسخ الثلاث، وأثبت الفروق في الحاشية، وقد رمزت لمجموع الفتاوى بـ: "ف". وأثبت أيضًا تعليقات الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- في الحواشي، وهي تعليقاته الفقهية واللغوية، أما تعليقاته المتعلقة
بتخريج الأحاديث، فلم أثبتها، حيث قمت أنا بهذا العمل، هذا بجانب أن الشيخ -رحمه الله- اكتفى بتخريج مبسط للغاية، لا يؤدي الغرض المطلوب، مع تركه لكثير من الأحاديث بغير تخريج ودون بيان الحكم عليها بالصحة أو الضعف. هذا، وقد أطلت النفس في تخريج بعض الأحاديث، مقتفيًا بذلك أثر شيخنا العلامة محدث العصر: محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، الذي تعلمنا من كتبه هذا التخريج العلمي الموثق الذي يحتوي على ذكر الطرق والشواهد والمتابعات والعلل، وبيان أحوال الرواة من جرح وتعديل، بطريقة يطمئن بها الباحث أطمئنان نسبي إلى الحكم الذي وصل إليه، مقتديًا بحكم الأئمة السابقين على الحديث، بغير تقليد ولا إحداث. وقمت في نهاية كل فصل -ورد في الفتاوى- بإثبات موضعه من الفتاوى بذكر رقم الجزء والصفحة. وقد جاءت أغلب فصول الكتاب ومسائله في مجموع الفتاوى متناثرة ليست مرتبة على نسق الكتاب هنا، وهناك مسألة أو مسألتان لم يُذكرا في الفتاوى، وسوف يأتي الإشارة إليها. وقمت كذلك بمناقشة المسائل الفقهية الواردة في الكتاب، وتتبع أقوال أهل العلم فيها في كتب المذاهب والمطولات، وفي الغالب يكون حكمي مؤيدًا لما ذهب إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- وأحيانًا أثبت بعض الفوائد الزوائد مما يزيد المسألة وضوحًا وجلاءً. وكذا أحيانًا إذا كان لشيخ الإسلام كلامًا آخر أكثر تفصيلًا، في
نفس الباب، في كتبه الأخرى، إما أن أنقل موضع الشاهد منه، أو أعزو إليه، وذلك؛ إتمامًا للفائدة. وصلى الله على محمد وآله وسلم وكتب خالد بن محمد بن عثمان القاهرة - حي مصر الجديدة الأحد (22) من ربيع الثاني 1424 هـ
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقد أعتنى بالترجمة لشيخ الإسلام -رحمه الله- كثير من أهل العلم، وكانت مناقبه ومآثره العلمية موضعًا للبحث والإشادة عبر القرون السابقة منذ وفاته رحمه الله. ومن الكتب التي أُفرِدت لبيان مناقبه والترجمة لحياته: (1) "العقود الدرية عن مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية" للحافظ أبي عبد الله بن عبد الهادي رحمه الله (¬1). (3) "الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي (¬2). (3) "الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية" للحافظ أبي حفص عمر بن علي البزار رحمه الله (¬3). (4) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية" لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (¬4). (5) "رسالة قصيرة في فضل شيخ الإسلام ابن تيمية ومحبته أهل العلم" لعبد الله ابن حامد الشافعي رحمه الله (¬5). (6) "القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين الحنبلي" للشيخ ¬
محمد صفي الدين البخاري الحنفي (¬1). ومن أحدث الأبحاث المتعلقة بهذا الأمر، هي بحوث الندوة العالمية عن "شيخ الإسلام ابن تيمية وأعماله الخالدة" المنعقدة في 18/ 3، و1، 2/ 4/ 1408 هـ في الجامعة السلفية ببنارس الهند، وقد انتقيت منها بحثين، ألا وهما: البحث الأول: كلمة موجزة لسماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- حول حياة شيخ الإسلام. البحث الثاني: تعريف موجز عن شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته ومآثره العلمية، بقلم الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي. قال سماحة الشيخ العلامة ابن باز -حمه الله- كما في (ص 49 - 52) من بحوث الندوة: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، - صلى الله عليه وسلم - وعلى إله وأصحابه. أما بعد: فقد سرني كثيرًا ما علمت من عزم الأخوة القائمين على ¬
الجامعة السلفية في مدينة بنارس بالهند، على عقد ندوة علمية عن حياة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله وعن مآثره العلمية وجهوده الدعوية وجهاده في سبيل الله ودعوته للأمة الإسلامية إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد طلبوا مني -جزاهم الله خيرًا- أن تكون لي مشاركة فيها بمقال عن شيخ الإسلام، ولما كان هذا عملاً جليلًا وخطوة مباركة نحو التعريف بشيخ الإسلام ومؤلفاته؛ ولإظهار فضله وعلمه؛ ولإزالة بعض الشبه التي قد تكون عالقة بأذهان بعض المسلمين حول حياة شيخ الإسلام ودعوته، فقد رأيت أن اشترك مع الأخوة الأفاضل أصحاب البحوث والمقالات في هذه الندوة بكلمة مختصرة؛ لعدم تمكني من البسط في ذلك؛ لكثرة مشاغلي، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفق القائمين على الندوة لجميع البحوث التي تُقرأ في الندوة واعدادها إعدادًا علميًا ونشرها في كتاب، ينتفع به المسلمون ويعلمون به دعوة شيخ الإسلام ومنهجه وأسلوبه في الدعوة إن شاء الله. فأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان في كل صغير وكبير: إن ابن تيمية: هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله. وُلد في مدينة حران يوم الإثنين عاشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، وتربى في بيت علم وفضل، فأبوه وجدُه كلاهما من كبار علماء عصره وقد نشأ في تصون وصلاح
وطهارة وتقى، هكذا شهد له كل من اعتنى بتاريخه من معاصريه وتلاميذه. وأخذ العلم من كبار مشايخ عصره. عَني بالتفسير، وبالحديث، وسمع الكتب الستة، و"المسند" للإمام أحمد ومعاجم الطبراني، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وأخذ الفقه وأصوله عن والده وغيره من المشايخ، وبرع فيهما وأحكم الفرائض ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك كله على أهله. ولم يطرق بابًا من أبواب العلم إلا وقد فتحه الله له على مصراعيه. حتى قال فيه أحد معاصريه: قد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد، كان إذا سُئل عن فن من العلم، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من جميع الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك. ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع منه، ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم من غيرها، إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكان له اليد الطُوْلَى في حسن التصنيف. وقد درس -رحمه الله- جميع المذاهب والآراء في العقدية المنتشرة في عصره فدرس مذهب الأشاعرة ودرس الفلسفة والمنطق وآثارهما السيئة على الإسلام وعقيدته. وكان شديد الحرص على معرفة آراء الصحابة واتجاهاتهم الفقهية. وعلى ضوء هذه الدراسة العميقة للكتاب والسُنَّة وبهذا الحرص الشديد على الوصول إلى الحق وبعقله الكبير تأهل رحمه الله لِما لم
يتأهل له الآخرون لا في عصره ولا فيما سبق من العصور القريبة من عصره، وبلغ رتبة المجتهد المطلق حيث توافرت فيه جميع الشروط المطلوبة للاجتهاد. وقد نهج -رحمه الله- المنهج الذي عاد بالإسلام إلى عهد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه، ودافع عن الإسلام الصحيح بكل ما أُوتي من قوة البرهان والحجة، ولم يبالِ في هذا السبيل بأي إنسان، ما دام الدليل معه، وبذلك أزال ما علق بالإسلام من شُبَه وبدع. والتف المسلمون العارفون به حوله واستفادوا منه النور الذي قذف الله في قلبه ونشروه للعالم. كما كثر مخالفوه وأعداؤه ولا غرابة في هذا. فإن الداعي إلى الحق لا بد أن يواجه من يوجد العراقيل في سبيل دعوته من أهل الأهواء والبدع، ولكنه لا يبالي بلومة لائم ولا يخاف الأذى والمشاكل التي تعترض طريقه. وهذا كان ديدن شيخ الإسلام في حياته كلها. فإنه كان رحمه الله قويًا في إيمانه، مخلصًا لدعوته، جريئًا في الحق، مواصلًا دعوته، وصابرًا محتسبًا في الله. ما زال يزيح الستار عن الوجه الوضَّاء للإسلام ويدعو إلى الإسلام الصحيح حتى لقي ربه. ومن أجل هذا كله اتفق أئمة ذلك العصر على تسميته بشيخ الإسلام وأثنوا عليه بأنه شيخ الإسلام، وبحر العلوم، وترجمان القرآن، وأوحد المجتهدين ونحو هذه الألفاظ. وقد ساق الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي أقوال كثير من الأئمة في الثناء على شيخ الإسلام في كتابه "الرد الوافر".
وقد ذكر الحافظ ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" 2/ 393 قول ابن الزملكاني -وهو من هو في العلم والفضل والإمامة والرياسة- عن شيخ الإسلام: أنه لم ير من خمسمائة سنة، أو قال أربعمائة سنة - الشك من الناقل- وغلب ظنه أنه قال: من خمسمائة سنة، أحفظ منه. وقال الحافظ الذهبي: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون انظر "الرد الوافر" ص/ 34 و"الأعلام العلية" 23 - 30 وقال في مكان آخر: وهو أعظم من أن يصفه كلمي، وينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته: تحتمل أن توضع في مجلدين. فالله تعالى يغفر له، ويسكنه أعلا جنته، فإنه كان رباني الأمة وفريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب معضلات المسلمين، رأسًا في العلم، يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لاحظتها من فقيه. انظر "العقود الدرية": ص/ 39 - 40، ولا يخفى أن هذه الكلمة الموجزة لا تكفي أبدًا لبيان ما كان عليه شيخ الإسلام من الدرجة العليا في جميع ميادين العلم وما قام به من الجهاد العلمي؛ لإرساخ دعائم النهضة الدينية في عصره، والدعوة إلى الكتاب والسُنَّة، ونبذ كل ما علق بهذا الدين من أفكار وآراء لا تمتُّ إليه بصلة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.
وكانت وفاته رحمه الله ليلة الإثنين في العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة عن ثمان وستين سنة إلا قليلًا. فرضي الله عنه وأرضاه ورفعه درجاته في المهديين ونفعنا والمسلمين بعلومه إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين". اهـ وقال د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي: "وُلد شيخ الإسلام عام 661 هـ في مدينة حران، وعاش في بيئة عريقة في العلم والدين والتقوى، وكانت الحنابلة بكثرة كاثرة في حران ودمشق بعد سقوط عاصمة الخلافة (بغداد) عام 656 هـ إثر غارات التتر، وقد حوت عددًا كبيرًا من أهل العلم في مختلف الفنون، وكانت دُوْرُ العلم منتشرة، كما كانت للحنابلة شوكة بانتشار علمائهم ومدارسهم. وأما من الناحية العقائدية فكان المذهب الأشعري -المرفوض لدى الإمام الأشعري نفسه- هو المذهب السائد في البلدان الإسلامية لدعم الأمراء والسلاطين لهذا المذهب من عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى عصور المماليك. وكانت الحنابلة على مذهب الإمام أحمد في الأصول والفروع، وكانت بينهم وبين الأشاعرة مناظرات ومناقشات، وكانت البدع والخرافات منتشرة في صفوف المسلمين مع رواج الفلسفة، والكلام، والمنطق، والتصوف، والشعوذة والرفض والباطنية في أمة الإسلام كما كان عصره يموج بالاضطراب السياسي، والمنازعات
الحربية، ومن جهة أخرى كان أمراء الدول والسلاطين يعتمدون على المشايخ والقضاة في شئون الدولة الدينية لما لأهل العلم من تأثير على قلوب جماهير المسلمين وعقولهم. وكان عصره شبيهًا بعصرنا هذا، مليئًا بالاضطرابات الفكرية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية فتأثر بها، وأثر فيها بمشاركته الفعالة؛ لإصلاح شئون الإسلام والمسلمين. وقد نفع الله بجهوده المخلصة الأمة الإسلامية من عصره إلى يومنا هذا بما لا ينكره إلا مكابر أو جاهل، ودعوته السلفية في نمو وازدهار ورقي يومًا بعد يوم، على رغم أنوف الحاقدين والحاسدين. وصدّق الله قول القائل: كل صاحب بدعة، ومن ينتصر له، لو ظهروا لا بد من خمودهم، وتلاشي أمرهم، وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية، كلما تقدمت أيامه تظهر كرامته، ويكثر محبوه وأصحابه. وقال الحافظ ابن حجر: شهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غدًا كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الإنصاف. ركز شيخ الإسلام جهوده من عنفوان شبابه على شرح العقيدة السلفية، وإبراز منهج المحدثين في الأصول والفروع، ودارت؛ لأجله مناظرات عظيمة، ومعارك شديدة بينه وبين معاصريه من علماء الكلام، والفلسفة، والفقه، والتصوف، وفي سبيله سجن واعتقل، وأوذي مرات عديدة، كما توجه شيخ الإسلام إلى إصلاح أحوال
المسلمين السياسية، وقاد مسيرة الجهاد ضد التتر والروافض، وقد اشتهر أمره في هذه المجالات حيث صارت بعض الجوانب الأخرى من جهوده وخدماته مغمورة في خَضَّم هذه الخدمات التي انبهرت بها العقول، وأذعنت لها القلوب. برز شيخ الإسلام في جميع العلوم والفنون، واشتغل بالتعليم والتدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد والدعوة والإفتاء وتحرير الفتاوى. وقد التزم في كتاباته وفتاواه منهج المحدثين النقدي، واعتنى باستخدام النصوص الصحيحة في بحوثه وكتاباته، وقد منحه الله الحافظة الواعية التي هي أساس العلم والعمل والتأمل، وحضور البديهة، والاستقلال الفكري، والإخلاص في طلب الحق، والطهارة من أدران الهوى، مع فصاحته، وقدرته البيانية، والشجاعة والصبر، وقوة الاحتمال، وقوة الفراسة والهيبة. وأطبق أهل العلم على الثناء البالغ على شيخ الإسلام، وعلى إمامته في كثير من الجوانب العلمية والإصلاحية، وقد صرح غير واحد منهم أنهم لم يروا مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وقد ذكر الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي ما يقارب تسعين من أهل العلم الذين لقبوه بشيخ الإسلام. وهو من أئمة الإسلام الذين اشتهروا بكثرة التآليف المتنوعة، وتحرير الفتاوى، وقد تميز بين أهل العلم والفن بكثرة استدلاله بالنصوص الشرعية الصحيحة، وآثار السلف الثابتة مع مراعاة قواعد الرواية والدراية، واتباع مناهج الفقهاء المحدثين في
أختيار الأدلة الصحيحة، والتنبيه على صحة الحديث وسقمه. وقد ترك ثروة علمية عظيمة في شرح أصول الإسلام ومقاصده، والرد على أهل الزيغ والإلحاد. وكان سر نجاح دعوته -بعد توفيق الله - عز وجل - وتأييده- إخلاصه ومعرفته التامة بالحديث وعلومه وآثار السلف، وبمناهج المحدثين، والاعتماد على فقههم وبصيرتهم، ولعل هذا هو السر في بقاء علومه، ودعوته ومنهجه، على الرغم من المحاولة المستمرة للقضاء على مؤلفاته، ومؤلفات أصحابه، إذ من النادر رواج المؤلفات التي تؤلف في أبواب الردود والمناقشات، وفي المسائل الفقهية المتنوعة، إلا أن مؤلفات شيخ الإسلام كانت مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية التي تُلْفِت أنظار أهل العلم، وتحثهم على الاحتفاظ بها، والاستفادة منها على مر الدهور وفي أحلك الظروف. ومما يجب التنويه والإشادة بذكره أن شيخ الإسلام ابن تيمية مع نبوغه في العلوم والفنون، وتفوقه على معاصريه كان أشد الناس مراعاة لآداب الإسلام وأخلاقه القيمة في معاملته معهم، وكان من أدق الناس في نقل أفكار منافسيه، وأحرصهم على الإنصاف مع خصومه في أثناء التأليف والمناظرة، وإعطاء كل ذي حق حقه. وما انتقم من أحد بل عفا عن أعدائه عند المقدرة، وقد حاولوا النيل منه مرارًا بل القضاء على حياته، ولكن حينما تمكن منهم عفا عنهم! وقال: رد أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي" وكان القاضي زين العابدين بن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: "ما
رأينا أتقى من ابن تيمية، ولم نبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا". ولم يتردد في مجابهة الحكام، والسلاطين، والعلماء، والمشايخ بكلمة الحق، مع زهده عن المناصب الدنيوية. توفي شيخ الإسلام عام 728 هـ، وعمر سبع وستون سنة، والمدة الزمنية التي استمر فيها بتأليف الكتب والرسائل، وتحرير الفتاوى تحتوي على أكثر من نصف قرن، وقد تنوعت مؤلفاته إلا أنها تدور حول شرح مذهب السلف الصالح في الأصول والفروع، وفي إثبات أن منهجهم وطريقهم هو أعلم وأحكم وأسلم في جميع أبواب الدين، وأن طريق أهل التأويل والتخييل والرأي من الفلاسفة والمتكلمين والمتفقهة والمتوصفة والروافض والملاحدة والباطنية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع طريق باطل ومنهج خاطئ. شخَّص شيخ الإسلام داء المسلمين المفتونين بالمنطق والفلسفة والكلام في أنهم وقعوا في تأويل نصوص الكتاب والسنة متأثرين بالفلسفة والمنطق والكلام والتصوف كما درس أحوال الفرق الضالة والمبتدعة. وهذه المؤلفات والرسائل تربو على ثلاث مائة مجلد، بل هي تبلغ خمس مائة مجلد، وقد صرح الذهبي بأنها تصل إلى ألف مصنف بل أكثر إلا أن المؤلفات التي وصلت إلينا مطبوعة أو مخطوطة، وصل إلينا من أسمائها ما يبلغ (591) مؤلف. وفيها (102) كتاب يتعلق بالتفسير وعلومه، و (41) كتابًا في الحديث وعلومه، و (138)
وتتلخص جهوده العلمية والإصلاحية في الآتي
كتاب في الفقه والفتاوى، و (228) في أصول الفقه، و (126) كتاب في العقائد والكلام، و (78) كتابًا في الزهد والسلوك والتصوف والأخلاق. و (17) كتابًا في الرد على المنطق والفلسفة و (7) رسائل وجهها الى بعض الأمراء والسلاطين وإلى بعض وجهاء البلدة ومشايخها ويشتمل (54) كتابًا على علوم متفرقة. وتتلخص جهوده العلمية والإصلاحية في الآتي: أ- قام بشرح منهج السلف الصالح في الأصول والفروع، وأثبت بالبراهين العقلية والنقلية أن منهج السلف هو وحده الذي ينبغي على المسلم أتباعه، وأنه هو أسلم وأدل وأسد منهج لشرح الإسلام، وبين أن داء كل من عارض هذا المنهج الصحيح من أهل الأهواء في فهم الشريعة إما أنهم يستدلون بأدلة عامة، أو بنقل باطل أو بقياس فاسد، وقال: "وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول - صلى الله عليه وسلم - حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليون في السلف، ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر. ولقد أبان شيخ الإسلام نفسه عن منهجه وإكثاره الكلام في الأصول. قال العلامة أبو حفص عمر بن علي البزار المتوفى سنة (749) تلميذ شيخ الإسلام: ولقد أكثر - رضي الله عنه - التصنيف في الأصول فضلًا عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه
يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء. فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية والكلابية، والسلمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبأن لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة على كل دين، العلية، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم. ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة، مقبلًا على مقولاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه أو اعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك بأن لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حججهم وأضاليلهم أن يبذل جهده؛ ليكشف رذائلهم، وزيف دلائلهم، ذبًا عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجلية. ولا والله ما رأيت فيهم أحدًا ممن صنف في هذا الشأن، وادعى علو المقام، إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضًا عن غيرها أصلًا ورأسًا. فغلبتُ عليه حتى غطت على
عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها خبط عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل، وإلا فالله أعظم لطفًا بعباده من أن لا يجعل لهم عقلًا يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه. ولكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعًا يشهد له كل عقل سليم، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جُلَّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية (¬1). ترك شيخ الإسلام منهجًا علميًا رصينًا؛ لفهم كتاب الله العزيز وشرح أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وألف في ذلك رسالته المشهورة المعروفة بمقدمة في أصول التفسير، كما شرح ووضح دقائق مصطلح الحديث، وشرح أحاديث كثيرة في ثنايا مؤلفاته، وفي رسائل مستقلة، وبين مقاصد الشريعة في كتاباته الكثيرة في ضوء ¬
الآثار السلفية. ونبه على أخطاء من أخطأ من أهل الحلم في هذين المجالين. وتكلم على المسائل الفقهية التي يجري فيها الخلاف بين أهل العلم بكل حرية وانطلاقة في العصر الذي كانت مدينة دمشق والقاهرة تزخر بالعلماء والمشايخ في مختلف العلوم والفنون إلا أنهم جمدوا على تقليد المذاهب الفقهية وتعصبوا لها، وأعرضوا عن فقه الصحابة والتابعين وأهل الحديث من المحدثين والفقهاء. ومن المسائل الفقهية التي جرَّت بينه وبين معاصريه معارك كلامية: مسألة التطليقات الثلاثة في مجلس واحد، أو بلفظ واحد، ومسألة الحلف بالطلاق. وقد كتبت مؤلفات وبحوث ورسائل في هذه المسائل إلا أن معارضي شيخ الإسلام في هذه المسائل لم يستطيعوا إلى وقتنا الحاضر أن يقارعوه بالحجة والبرهان، وألجات تحديات المجتمع الإسلامي المعاصرة علماء البلاد الإسلامية إلى الاستفادة من آراء شيخ الإسلام في الأحوال الشخصية، في مسائل النكاح والطلاق والوقف. ألف شيخ الإسلام بعض المختصرات في بيان مذهب السلف مثل "الفتوى الحموية الكبرى"، و"العقيدة الواسطية"، و"الرسالة التدمرية". كما قام بالرد على القائلين بشد الرحال إلى البلدان؛ لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وناقش مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء
والصالحين، وبين المشروع من الممنوع. ورد على كبار فقهاء عصره في هذه المسائل التي فتحت عليه أبواب الصراعات والنزاعات والمشاكل على مصراعيها واستمرت هذه النزاعات إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى. قام بالرد على الفلاسفة، والمتكلمين، وكسر طاغوت المنطق اليوناني الذي دخل وتغلغل في العلوم الإسلامية الشرعية وفي أصول الفقه في أواخر المائة الخامسة، أو أوائل المائة السادسة من كتابات الغزالي (ت 606 هـ) الذي ألبسه ثيابًا إسلامية في زعمه، والحقيقة أنه تعلمه من ابن سينا وهو تعلمه من كتب أرسطو. وكان لآرائه النقدية أثر كبير على عقول علماء الغرب إلى قرون متأخرة حيث استفادوا من نقد ابن تيمية مباحث المنطق والفلسفة. كما قام بالرد على أفكار إخوان الصفا، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض وغيرهم من المتصوفة الذين أدخلوا في دين الإسلام الإلحاد والزندقة. ورد على أفكار ابن سينا، والرازي وغيرهما من المتكلمين الذين كان لهم تغلغل في المنهج الإسلامي. إن فتنة التشيع والرفض ومفاسد حركات الرفض وآثارها السيئة على أمراء المسلمين وسلاطينهم وحكوماتهم، وعلى جمهور المسلمين علمائهم وعوامَّهم كانت من أهم ما توجه إليه شيخ الإسلام، فقام بالرد على فرق الشيعة والروافض، وكشف أستارهم، وفنذضد آراءهم ومزاعمهم، وفضح كيدهم ضد الإسلام والمسلمين
ودولهم، وكتابه "منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية" يعتبر موسوعة علمية عظيمة في الرد على خزعبلات الرفض والتشيع. وإثبات عدالة الصحابة، وتصويب منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. إن قيمة آراء شيح الإسلام تتجلى وتزداد أهميتا في عالمنا المعاصر بما يرى ويشاهد أهل السنة من عداء سافر، ومكيدة خبيثة ضد الإسلام والمسلمين من هذه الطائفة الدخيلة على الإسلام والمسلمين. وهناك مسألة مهمة وخطيرة وهي قداسة شخصية الرسول لدى المسلمين، ونرى بين آونة وأخرجه بعض سفهاء الأحلام من الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذين يحاولون النيل من شخصية رسولنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعظم دراسات المستشرقين على السيرة النبوية تشتمل على المطاعن الموجهة إلى شخصية الرسول، وأصحابه، وزوجاته، كما نلمس هذه الظاهرة في البلاد الشرقية، وقد حدث مثل هذا في عصر شيخ الإسلام، فألف كتابه العظيم "الصارم المسلول على شاتم الرسول" الذي يعتبر أحسن كتاب ألف في موضوعه. إن حركة التنصير التي يسمونها التبشير والتي ظهرت في صورة أقوى عدو للإسلام والمسلمين لا تخفى حقيقتها ولا أضرارها على كل من عرف تاريخها، وخاصة على المسلمين في شبه القارة الهندية، وأن شيخ الإسلام له فضل السبق في الرد على معتقداتهم
والدفاع عن الإسلام وعقيدته ورسوله في كتابه العظيم: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، ويعتبر هذا الكتاب موسوعة علمية عظيمة، ومن أحسن المراجع في الرد على النصرانية المحرفة، وفي إثبات دلائل النبوة وبيان المعجزات. ومن الموضوعات المهمة التي تناولها شيخ الإسلام بالبحث والدراسة مسألة السياسة الشرعية، والاقتصاد الإسلامي، ولا شك أن السياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي من الموضوعات التي يحتاج إليها الحكام والسلاطين وأصحاب الثروة في كل زمان ومكان، وقد استفاد علماء. الاقتصاد في البلاد الإسلامية من آراء شيخ الإسلام في ترتيب نظام إسلامي اقتصادي جديد يساير الركب الحضاري المتقدم في عالمنا المعاصر. وهناك جانب مهم من جهود شيخ الإسلام العظيمة لإصلاح المجتمع الإسلامي، وذلك بدراسة حالة الأمة الاجتماعية وتقديم الحلول الإسلامية؛ لتحافظ الأمة على شخصيتها الإسلامية، فإن التأثر والتأثير الحاصلين في المجتمعات يلعب دورًا مهمًا في تاريخ البشرية، ولا يخفى ما لاقى المسلمون من مشاكل اجتماعية بعد اختلاطهم بالأقوام والملل الكافرة إثر امتداد الحكم الإسلامي وسعة رقعة بلاد الإسلام، ولا يخفى أضرار تشبه المسلمين بالكفار والمشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا من الأمور المهمة التي يلمسها كل مثقف ومطلع على أحوال المسلمين الذين فتنوا بحضارات الغرب والشرق، وخضعوا لها، وبدأت آثارها السيئة
تظهر في وقت مبكر في المجتمع الإسلامي الذي صار ضحية هذا الانحلال الخلقي. ومفاسد هذا الاختلاط والتأثير واضحة جدًا في قضايا العقيدة والفكر وفي السياسة والاجتماع وفي شئون الزواج والطلاق، والمأكل والمشرب والأعياد وغير ذلك من مظاهر الاجتماع. ونظرًا إلى أهمية مسألة التشبه وما يرتب عليه من أمور قام شيخ الإسلام بتأليف كتابه العظيم: "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وأثبت بالأدلة القطعية أن التشبه بجميع أنواعه حرام على الأمة الإسلامية في جميع مجالات الحياة ونقح هذه المسألة تنقيحًا علميًا عظيمًا أتى فيه بما لم يأته الأوائل. قاد شيخ الإسلام المعارك العظيمة ضد التتر الذين دمروا البلاد الإسلامية وقتلوا، ونهبوا أممًا لا يحصون، وأعاد بذلك -بفضل الله ومنه وتأييد وتوفيقه- الثقة في نفوس المسلمين، وكتب الله الفوز لعساكر الإسلام تحت قيادة شيخ الإسلام الذي قدم كل غال ورخيص؛ لإعادة مجد الإسلام، ونشر الأمن في بلاد الإسلام. كما كان لجهاد ضد الروافض الشيعة أثر كبير في القضاء على أعداء الإسلام، واستقرار بلاد الإسلام، وأنه موقف مشرف جدًا، ولا يحتاج بيان ما للمجاهد في سبيل الله من أجر جزيل عند الله -عز وجل-. وهذه المسائل التي درسها شيخ الإسلام في عصره، وتناولها بعده بالشرح والبيان أصحابه وتلاميذه، كانت موضوع الساعة في جميع العصور والأزمنة والأمكنة ولا تقلُّ أهميتها في عالمنا
المعاصر، بل تزداد أهميتها؛ نظرًا إلى كثرة المسائل والمشاكل التي تواجه العالم الإسلامي. ونحمد الله على أنه قد زالت كثير من العقبات والحواجز التي كان أهل العلم والاجتهاد يواجهونها في سبيل الاستفادة من علوم السلف وخاصة علوم شيخ الإسلام، ويرجع هذا الفضل الى مشايخ الدعوة السلفية في نجد والحجاز ومصر والشام وشبه القارة الهندية، ولابد عنه تنويه جهود ملوك آل سعود وآمرائهم في سبيل نشر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم من دُوْرِ النشر العلمية من مصر والمملكة العرببة السعودية، ومن منبر الجامعات الإسلامية في المملكة العربية السعودية. ومن جانب آخر كثرت الدراسات حول شيخ الإسلام وأفكاره وعلومه ودعوته من طلبة العلم في المملكة العربية السعودية، ومصر، والهند، وبلاد الشام، والعراق، ومن قِبَل المستشرقين والمستغربين، وساعدت هذه الأمور في إقبال شباب الإسلام على علوم شيخ الإسلام والاستفادة منها. وقد ظهرت آثار هذا الإقبال في حياة الشباب العلمية والدينية للمطلع على أحوالهم في البلاد الإسلامية العربية، كثَّر الله سوادهم. وخلاصة ما سبق أن شيخ الإسلام ابن تيمية من الشخصيات النادرة التي تركت هذه الثروة العلمية العظيمة التي فيها حلول لمشاكل المسلمين في عالمنا المعاصر، وفيها مقنع للباحث أن يفهم الشريعة الإسلامية حسبما فهمه السلف الصالح.
والجدير بالذكر أن معظم المباحث العلمية التي أثارها، ونقحها شيخ الإسلام كانت مرجعًا مهمًا لمعظم الكتابات العلمية من معاصريه إلى يومنا هذا باعتراف كثير من المستفيدين وبتصريح شيخ الإسلام نفسه، ووُجد هناك عدد كبير من محبي علوم شيخ الإسلام الذين انتهجوا منهجه فى نشر السنة والعقيدة من المحدثين والمفسرين والفقهاء والمصلحين. أمثال: ابن قيم الجوزية الذي اشتهر بمحبته لشيخ الإسلام وعلوم، وابن كثير، والذهبي، وابن عبد الهادي، وابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية، والسفاريني، والإمام محمد بن عبد الوهاب وأصحابه وتلاميذه وعلماء هذه السلسلة والشوكاني، والأمير اليماني، وولي الله الدهلوي والشاه عبد العزيز الدهلوي، والنواب صديق حسن البوفالي، ورشيد رضا، وأحمد شاكر، ومحب الدين الخطيب، ومحمد حامد الفقي، وجمال الدين القاسمي، والآلوسي، والسيد نذير حسين المحدث الدهلوي، وعلماء الأسرة الغزنوية، وثناء الله الأمرتسري، ومحمد إبراهيم السيالكوتي، ومحمد بشسير السهسواني، والمحدث شمس الحق العظيم آبادي، والمحدث عبد الرحمن المباركفوري، ومحمد حسين البتالوي، وأبي الكلام آزاد، ومحمد عطاء الله حنيف الفوجياني، ومحمد حنيف النَّدوي، والعلامة تقي الدين الهلالي -رحمة الله عليهم أجمعين-، والمحدث محمد ناصر الدين الألباني، والمحدث عبيد الله الرحماني المباركفوري، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظهم الله وتولاهم-، وعامة
علماء أهل الحديث شرقًا وغربًا. هذه قائمة موجزة لمحبي علوم شيخ الإسلام الذين نفع الله بجهودهم، وجهادهم، الدعوة الإسلامية في ربوع العالم. وجميع الدعوات السلفية من عصره إلى يومنا هذا نشأت على منهجه وعلومه ومنهج وعلوم تلاميذه بحيث يصدق قول القائل: إنه لم يبق للمسلمين طريق للوصول إلى مذهب السلف الصالح إلا هذه المدرسة العملاقة التي -بفضل الله ومنه وكرمه- في نمو ورقي وأزدهار يومًا فيومًا. إلا أنه وجدت شِرذمة من الحاقدين على مذهب السلف من معاصريه وبعده إلى يومنا هذا الذين لم يتورعوا عن توجيه التهم والمطاعن، بل التضليل والتكفير، فكم أوذي شيخ الإسلام في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وكم أوذي أصحابه وأتباعه في القرون المتتابعة. جزى الله شيخ الإسلام أحسن ما يجازي به عباده المخلصين، ورفع درجاته في جنات النعيم على ما قام من خدمات جليلة في مجال الإصلاح والتجديد". اهـ.
تحقيق عنوان الكتاب
تحقيق عنوان الكتاب أشتهر الكتاب باسم: "المسائل الماردينية"، وهو الاسم الذي أثبته الشيخ حامد الفقي -رحمه الله- على نسخته. وجاء عنوان مطبوعة دار الكتب العلمية، كالتالي: "فقه الكتاب والسنة ورفع الحرج عن الأمة". وقد وقع في مقدمة مخطوطة نسخة العلمية، وكذا نسخة الشيخ الفقي التالي: "وتسمى الماردينية؛ لأنها وردت إليه من ماردين"). وجاء في هامش الورقة الأولى من مخطوطة الكتب العلمية تعليقًا على الموضع السابق: قف على قول بعض الكَتَبَة البَطَلَة، وإدخاله ذا الكلام السامج في كلام الشيخ -رحمه الله-. اهـ. فقال محقق نسخة العلمية: "ليعلم القارئ أن عنوان الرسالة المطبوع مدخول عليها، وأن اختيارنا هو أقرب لفحوى الرسالة". اهـ. قلت: الاعتراض السابق ذكره -الثابت في هامش مخطوطة العلمية- لا يعني به صاحبه إنكار العنوان، وإنما ينكر إدخال هذه العبارة في وسط كلام شيخ الإسلام على أنها من كلامه، وهو خلطٌ ظاهر. والمتتبع لعناوين الكتب والأجزاء التي كتبها شيخ الإسلام -رحمه الله- يجد كثير منها قد جاء عنونته تبعًا لاسم المكان الذي كُتِب فيه أو لأجله، فمثلًا: "العقيدة الواسطية" سُميت بهذا لأنها كُتِبت لأهل مدينة واسط، وكذا "الفتوى الحموية الكبرى" سُميت بهذا
لورود أسئلة في باب الأسماء والصفات إلى شيخ الإسلام من أهل حماة. وعلى نفس المنوال، فإن كتابنا هذا يدور حول مسائل وردت إلى شيخ الإسلام عن بلدة "ماردين"، فتسميته بـ: "المسائل الماردينية"، هو الأقرب. لكن قد يقول قائل: إن القائل -بورود هذه المسائل من ماردين- هو أحد النساخ، وليس شيخ الإسلام، فما الذي يؤكد قول هذا الناسخ، فلعل شيخ الإسلام لا يعرف شيئًا عن هذه البلدة أصلًا. والجواب: لقد ورد ذكر بلدة ماردين -كما في الفتاوى- في حوالي ثلاثة مواضع: الأول في (13/ 92) حيث قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولًا وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيًّا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم". اهـ، وفي (28/ 240): "سئل -رحمه الله- عن بلد ماردين، هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ "، فأجاب: "الحمد لله، دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها". فهذا يدل على أن شيخ الإسلام كان على صلة بهذه البلدة، وكانت تأتيه أسئلة عنها، فليس بمستبعد أن تأتيه هذه المسائل من
أهلها، ولا ينبغي إهمال التصريح المذكور في بداية المخطوطات المعروفة للكتاب، والتي جاء فيها التصريح بأن هذه المسائل وردت إلى شيخ الإسلام من بلدة ماردين، ولذا فهي سميت بـ "الماردينية". وفي "معجم البلدان" (5/ 39): "مارِدين -بكسر الراء والدال- كأنه جمع مارد جمع تصحيح، وأرى أنها سميت بذلك لأن مستحدثها لما بلغه قول الزباء: تمرد مارد، وعز الأبلق، ورأى حصانة قلعته وعظمها، قال: هذه مارِدِين كثيرة لا مارد واحد، وإنما جمعه جمع من يعقل؛ لأن المرود في الحقيقة لا يكون من الجمادات، وإنما يكون من الجن والإنس، وهما الثقلان الموصوفان بالعقل والتكليف. وماردين: قلعة مشهورة على قُنَّة (¬1) جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر، ودارا، ونصيبين، وذلك الفضاء الواسع، وقُدَّامُها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخَانْقَاهَات، ودورهم فيها كالدرج، كل دار فوق الأخرى، وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور، ليس دون سطوحهم مانع، وعندهم عيون قليلة الماء، وجُلَّ شربهم من صهاريج معدة في دورهم، والذي لا شك فيه أنه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها، ولا أحصن، ولا أحكم"، ثم قال: "وكان فتحها، وفتح سائر الجزيرة في سنة 91 وأيام من محرم سنة (2) للهجرة في أيام عمر بن الخطاب". اهـ، وجاء في "فتوح البلدان" (1/ ¬
180) أن الذي فتح حصن ماردين هو: حبيب بن مسلمة الفهري بأمر من عياض بن غنم، وقد أشار إلى ماردين: ابن جبير في رحلته (ص 171): "هي في صفح جبل في قنة قلعة لها كبيرة هي من قلاع الدنيا الشهيرة". اهـ. ومهما كان، فالعنوان المناسب الذي أراه هو كالتالي: "المسائل الماردينية وهي مسائل يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء بها".
وصف النسخة المطبوعة
وصف النسخ المطبوعة الذي وقفت عليه من نسخ الكتاب المطبوعة، هما ثلاث نسخ: (الأولى): نسخة مكتبة السنة المحمدية، بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله-، وقد جاءت في (143) صفحة من القطع المتوسط. وجاء على غلافها: "المسائل الماردينية، للإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، الصبار الشكور: شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) رحمنا الله وإياه، وغفر لنا وله وللمؤمنين". وهي نسخة جيدة كاملة إلا ما اعتراها من سقط لبعض العبارات، أو الكلمات، أثبتها من نسختي الخطية. وكذا حدث اضطرابات في العبارة في إحدى فقراتها، كما سيأتي -إن شاء الله-، وأيضًا في مواضع قليلة، حدث خطأ في صياغة بعض الكلمات، أو في السياق، مما يحيل المعنى، أو يجعله غير مفهوم. هذا بجانب، الأخطاء الإملائية، وضبط الفقرات. وهذا في ظني كله راجع إلى أمرين: الأول: اختلاف النسخة الخطية -التي اعتمد عليها الشيخ حامد الفقي -رحمه الله- عن نسختي. الثاني: الأخطاء المطبعية العادية.
هذا، وقد رمزت لها بـ: (د). (الثانية) نسخة دار الكتب العلمية (طبعة أولى -1406 هـ-1986 م)، وهي بتحقيق: فريد أمين الهنداوي. وقد ذكر في المقدمة (ص 7) أنه قد وقع له مخطوطتان، إحداها نادرة، وقال: "هي التي اعتمدنا عليها". لكن لم يصف من هاتين المخطوطتين. إلا واحدة فقط، فقال في (ص 28): "تقع المخطوطة في 83 صفحة، سنة الكتابة: 1296 هـ، وهي من محفوظات المكتب السلفي لتحقيق التراث الإسلامي. الخط: نسخي مقروء، إلا أن بها آثار أرضية قليلة. نوع الحبر: الأسود، والأحمر من العناوين، ورؤوس المسائل. كل صفحة بها (17 سطر تقريبًا). وقد بدأت الورقة الأولي بالآتي: "بسم الله الرحمن الرحيم" وهذه جملة مسائل فقهية [ميَّلها] (¬1) إلى مذهب إمام الأئمة ومحيي السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ... ". (الثالثة) ذُكرت في المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع (الجزء الأول: ص 292)، حيث قال: "المسائل الماردينية: تصحيح، محمد زهير الشاويش، دمشق: المكتب الإسلامي، ¬
1384 هـ/1964 م، (146ص").اهـ. وقد أشار إليها أيضًا صاحب نسخة دار الكتب العلمية، وذكر أنها مليئة بالأخطاء. ولم يقع لي من هذه النسخ الثلاث إلا الأولى فقط، أما الثانية فقد رأيتها بمكتبة شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-، ومن نسخته نقلت البيانات السابقة الخاصة بها، ثم قبل عملي في الكتاب بفترة، رأيتها في إحدى المكتبات تباع، ولم أهتم بشرائها لأمرين. الأول: لم أكن في ذاك الحين ذا همة للعمل في الكتاب، فلم أعتنِ بجمع نسخه، واكتفيت بنسخة الشيخ الفقي رحمه الله. الثياني: ما اشتُهِر عن دار الكتب العلمية، من وجود كثير من التحريف والسقط في منشوراتها، وكذا من سرقة أعمال الآخرين أحيانًا، وقد اكتشفت في مطبوعة الكتب العلمية لكتاب الشريعة للآجري سقطًا في آخر الكتاب يصل إلى ملزمة أو أكثر، هذا بخلاف التصحيفات العديدة في أسماء الرواة، وكذا أشار إلى مثل هذا العبث أحد طلبة العلم، ولكن في نسخة، "الكامل" لابن عدي، وإلى الله المشتكى.
وصف النسخة الخطية
وصف النسخة الخطية هي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية العامرة تحت: "فقه حنبلي رقم 10" (¬1)، وقد جاءت في (80) ق. المقاس: 20 × 15 سم. عدد الأسطر في الصفحة: 15 سطر. الخط: نسخ. اسم الناسخ: عبد السلام المغربي. وجاء في أولها: "كتاب يعرف [بالماردانية] (¬2) للشيخ الأجل العابد الورع شيخ السنة تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ونَّور ضريحه، وأعاد علينا وعلى جميع المسلمين من بركاته. آمين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى [إله] (¬3)، وصحبه، و [إله]، (¬4) أجمعين، والحمد لله رب العالمين، اللهم عطف قلبه علينا وحنته يا ربَّ الأرباب". اهـ. وجاء في آخرها: "وكتبها -أى هذه الجملة، جملة التاريخ- العبد الفقير إلى الله: عبد السلام بن محمد المغربي، وكان الفراغ من نسخه يوم الإثنين في شهر الله ذي [القعدة] (¬5) ست وعشرين خلت منه عام ألف ¬
وثلاث مائة وتسع من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التحية. اللهم اغفر لنا ولي: القارئ والسامع. والحمد لله ربِّ العالمين". اهـ. قلت: وهي نسخة مقروءة واضحة الخط إلا أنها وقع فيها سقط كثير، وأخطاء إملائية متعددة. وقد رمزت للمخطوطة بـ: (خ).
مقدمة الشيخ محمد حامد الفقي لطبعته
مقدمة الشيخ محمد حامد الفقي لطبعته الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى؛ وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد، لا تنبغي العبادة إلا له وحده، ولا تليق الإلهية إلا به سبحانه وتعالى عما يقول ويعتقد الجاهلون الظالمون لأنفسهم، الكافرون بنعم ربهم وآلائه وآياته - علوًا كبيرًا؛ وصلى الله وبارك على محمد عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه، الذي عرف الربوبية والعبودية حق المعرفة فأعطى كلًا منها كاملًا، مع اعترافه على نفسه بالعجز والتقصير، وما زال يترقى على درجات كمال هذه المعرفة، حتى اصطفاه الله وأرسله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى صراطه المستقيم، ثم ما زال كذلك يزداد سموًا وعلوًّا بما يوحي إليه ربه وينزل به الروح الأمين على قلبه، حتى أكمل الله للناس على يديه الدين وأتم لهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينًا؛ فرفعه ربه إلى الرفيق الأعلى في أعلى عليين؛ فجزاه الله خير ما يجزي نبيًا عن أمته، وأمينًا على أداء أمانته، ورسولًا على تبليغ رسالته؛ وهدانا الله بهدى حكمته، وألزمنا السبيل القويم بما أوحى إليه من الذكر الحكيم وبطيب القول والعمل من سنته؛ وصلى الله عليه وعلى آله أجميعن؛ وجعلنا من آله وحزبه المفلحين. أما بعد، فيقول -عبد الله، وفقير عفوه ورحمته- محمد حامد الفقي:
"المسائل الماردينية" أجاب بها شيخ الإسلام الإمام المجتهد الحجة، التقي الصالح، الفقيه المدث، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تينية الحراني، ولد 661 هـ وتوفي في قلعة دمشق حبيس الحسد والظلم والجهل والخرافات والتقليد الأعمى في 728 هـ ولقي ربه مجاهدًا صابرًا محتسبًا. وردت عليه تلك المسائل من مدينة ماردين؛ فأجاب عليها هذه الأجوبة الشافية من أمراض الجهل والتشديدات والتعسيرات التي نفث سمومها المدعون أنهم الفقهاء، وليسوا من الفقه والفهم عن الله ورسوله في شيء، وإنمان هم جماعة قادهم شيطان الجهل بأغلال التقليد الأعمى، فذهبوا يضربون من ورائه في بيداء الضلالات والسخافات، وذهب أكثر الناس يسعى وراءهم حثيثًا على غير هدى ولا بصيرة، حتى ضربت عليهم سرادقات الغفلة وقيدوا بقيود ثقيلة، من ذلك: السخافات التي زعموها "فروعًا" فأقعدتهم عن مسايرة الحياة، وقعدت بهم عن النهوض بحمل ما خلفه لهم سلفهم الصالح من العزة والسلطان، فتركتهم الحياة وراءها، وجرت عليهم سنة الله في الماضين حين عموا عن نعم ربهم وآياته وكفروا بها، وذهب عدوهم يسلب من أيديهم تراث أسلافهم واحدة إثر واحدة، حتى أصبحوا اليوم، وليس بأيديهم إلا الأماني الخادعة، والدعاوي الكاذبة، والجهالة المطبقة، والوهن يقعد بهم عن منازل العزة،
والجبن يدفعهم عن كل كرامة. وهذه جوابات شيخ الإسلام نموذج لما ينبغي أن يكون عليه فهم المسلم لدين ربه السمح، ولما يجب أن يدين به الشاكر لأنعم ربه المؤمن بالله وآياته وسننه وكتابه ورسوله، أقدمها لإخواني تحفة ثمينة لعل الله أن ينفعني وإياهم بها، وأن يجعلها من أسباب الخلاص من أغلال التقليد؛ ولقد كانت مطبوعة قبل ذلك بدمشق الشام، طبعة تلاءم وقتها، وتناسب عصرها، غير أنها كانت ناقصة نقصًا كثيرًا، بحرف دقيق متعب للقارئ. ولكني وقفت لنسخة خطية تفضل بها حضرة صاحب المعالي الرجل السمح الكريم، الشيخ عبد الله السليمان وزير مالية المملكة العربية السعودية المؤيدة المنصورة بعناية الله وبدوام توفيق وطول حياة جلالة عاهلها الصالح المصلح، المتحري لسنن السلف الصالحين، الساعي في إحياء سنة سيد المرسلين، جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، أدام الله توفيقه وتسديده، ونصره وتأييده. وكان لحضرة صاحب الفضيلة والسماحة الشيخ محمد بن مانع مدير المعارف السعودية فضل مشكور في إعطائي النسخة المطبوعة وحثني على طبعها، وتنبيهي إلى جليل نفعها؛ فجزى الله الجميع خير الجزاء ووفقني الله وإياهم للعلم النافع والعمل الصالح ولإحياء آثار سلفنا المهتدين بهدي إمام المتقين وصفوة الخلق أجمعين، عبد الله ورسوله محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
صورة عن الوجه الأول من اللوحة الأولى من المخطوطة
صورة عن الوجه الثاني من اللوحة الأخيرة من المخطوطة
المسَائِلُ الماردينيَّةِ لشَيخ الإسلام تقي الدين أبي العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله المتوفى 728 هـ مضافًا إليها تعليقات الشيخ/ محمد حامد الفقي رحمه الله وثق نصوصه وخرّج أحاديثه وعلَّق عليه خالد بن محمد بن عثمان المصري (النص المحقق)
[بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين] (¬1) سُئِل [الشيخ الإمام العلامة] (¬2) شيخ الإسلام، بركلة الأنام، بقية السلف الكرام، ناصر السنة، [قامع] (¬3) البدعة، مفتي المسلمين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني عن مسائل (¬4) يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء [بها] (¬5)، و [يحصل] (¬6) الضيق والحرج بالعمل بها على [رأي] (¬7) إمام بعينه. (1) فمنها: مسألة المياه اليسيرة ووقوع النجاسة فيها من غير تغير، و [تغيرُها] (¬8) بالطاهرات؟ (2) ومنها: بول مأكول [لحمه] (¬9)؟ (3) ومنها: طين الشوارع؟ (4) ومنها: وقوع الفأرة، ونحوها في المائعات، كالزيت والدبس، [وغيرها] (¬10). (5) ومنها: المشقة الحاصلة بالكلاب حال المطر وغيره وعسر ¬
الاحتراز [منها] (¬1). (6) ومنها: [عظام] (¬2) الميتة، وحافرها، وقرنها، وظفرها، وشعرها، وريشها، وإِنْفَحَتُها (¬3)؛ هل ذلك كله نجس أم طاهر، أم البعض منه طاهر والبعض نجس؟ (7) ومنها: سؤر الحمار والبغل، هل يجوز [التوضئ] (¬4) به، أم لا؟ (8) ومنها: إزالة النجاسة بمائع غير الماء، هل يطهر [محله] (¬5) أم لا؟ (9) ومنها: الصلاة في النعل [والجمجم (¬6)، والمداس] (¬7)، هل يكره أم لا؟ (10) ومنها: صيام يوم [الإغمام] (¬8)، هل هو واجب أم لا؟ وهل هو [يوم] (¬9) شك منهيٌّ عَنهُ أم لا؟ (11) ومنها المرأة يجامعها بعلها، ولا [تتمكن] (¬10) من دخول ¬
الحمام كلما جامعها لعدم الأجرة [وغيره] (¬1)، فهل لها أن تتيمم؟ هل يُكره لبعلها [كثرة] (¬2) مجامعتها والحالة هذه؟ (12) ومنها: المرأة أيضًا يدخل عليها وقت الصلاة ولم تغتسل، وتخاف إن دخلت إلى الحمام أن يفوتها الوقت، [فهل] (¬3) لها تصلي بالتيمم، أو تصلي في الحمام؟ (13) ومنها: الصلاة خلف أهل [الأهواء] (¬4) والبدع، وخلف من يَلحن في الفاتحة أو يبدل بعض حروفها؟ (14) ومنها: المرأة تطهر عن الحيض، ولم تجد ماء تغتسل به، هل لزوجها أن يَطأها قبل غسلها من غير شرط؟ (15) ومنها: عادم الماء إذا لم يجد ترابًا، هل له أن يتيمم بالرمل ونحوه؟ (16) ومنها: الرجل يستيقظ من النوم وعليه [جنابة] (¬5) وقد [زاحمه] (¬6) الوقت، فإن اغتسل خرج الوقت؛ فهل له أن يصليَّ بالتيمم؟ [وكذا المسافر يصل إلى الماء، وقد ضاق الوقت، فإن تشاغل بتحصيله خرج الوقت، هل له أن يصليَّ بالتيمم؟] (¬7). وهل له أن يصليَّ في الحمام إذا خاف خروج الوقت أم لا؟ ¬
(17) ومنها: مسألة المني، هل هو طاهر أم لا؟ وإذا كان طاهرًا، فما حكم رطوبة فرج المرأة إذا خالطته؟ (18) ومنها: مسألة استحالة النجاسة كرماد السِّرجين النجس والزبل النجس [يصيبه] (¬1) الريح والشمس والماء فيستحيل ترابًا، فهل تجوز الصلاة عليه؟ (19) ومنها: الخف إذا كان فيه خرق يسير، هل يجوز المسح عليه أم لا؟ (20) ومنها: الثوب أو البدن تصيبه النجاسة ويتعذر غسله، هل يقوم التيمم مقام غسله أم لا؟ (21) ومنها: صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد، أو صلاته خلفه في المسجد وبينهما حائل؟ وصلاته (¬2) أمامه في الجمعة والجنازة، هل يجوز ذلك؟ (22) ومنها: قوم مقيمون بقرية وهم دون أربعين، ماذا يجب عليهم: أجمعةٌ أم ظهر؟ (23) ومنها: مسألة الجماعة للصلاة، هل هي واجبة أم سنة؟ وإذا قلنا: واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها؟ (24) ومنها: مسألة تضمين البساتين قبل إدراك الثمرة، هل يجوز أم لا؟ ¬
(25) ومنها: زكاة العشر يأخذه السلطان يصرفها حيث يشاء، ولا يعطيه الفقراء والمساكين، هل يسقط [الفرض] (¬1) أم لا؟ (26) ومنها: نصيب العامل في المزارعة، هل فيه زكاة أم لا؟ (27) ومنها: بَيْع ما في بطن الأرض من اللفت والجزر والقلقاس، ونحوه، هل يجوز أم لا؟ (28) ومنها: الرجل يُسْلِم في شيء، فهل له أن يأخذ من المسلَّم إليه غيره؟ كمن أسلم في حنطة، فهل يأخذ بدلها شعيرًا سواء تعذر المسلَّم فيه أم لا؟ (29) ومنها: الرجل يكتري أرضًا للزرع فيصيبه آفة فيهلك، فهل فيه جائحة أم لا؟ (30) ومنها: إجبار الأب [لبنته البالغة] (¬2) على النكاح، هل يجوز أم لا؟ (31) ومنها: مسألة الفلوس وبيع بعضها ببعض متفاضلة، وصرفها بالدراهم من غير تقابض في الحال؟ ودفع الدرهم يأخذ [بعضه] (¬3) فلوسًا و [بعضه] (¬4) قطعة من فضة؟ (32) ومنها: المتهمون بالفجور والسرقة والقتل وغير ذلك، هل يعاقبون أم لا؟ (33) ومنها: الرجل يكون له على الرجل دَيْن، فيجحده [أو ¬
يغصبه شيئًا، ثم يصيب له مالًا من جنس ماله أومن غير جنسه] (¬1)، فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه أم لا؟ (34) ومنها: دفع الزكاة إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقاتهم، هل هو أفضل، أم دفعها إلى الأجنبي؟ (35) ومنها: [دفعها] (¬2) إلى والديه وولده الذين لا تلزمه نفقتهم، هل يجوز أم لا؟ (36) ومنها: الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري بأقل من ذلك الثمن حالًا، هل يجوز أم لا؟ (37) ومنها: المسكين يحتاج إلى الزكاة من [الزروع] (¬3)، فهل يسقط الفرض عن صاحب الزرع إذا عجلها له قبل إدراك زرعه أم لا؟ (38) ومنها: إخراج القيمة عن الزكاة، فإنه كثيرًا ما يكون أنفع للفقراء، هل هو جائز أم لا؟ (39) ومنها: الواقف والناذر يُوقف [أو ينذر] (¬4) شيئا ثم يرى غيره أحظ (¬5) لموقوف عليه [والمنذور له] (¬6) هل يجوز له إبداله كما في الأضحية؟ (40) ومنها: الرجل يلطم الرجل أو يلكمه أو يسبه، هل يجوز له أن يفعل به كما فعل، أو كما يخرق ثوبه [كما يخرق ثوبه] (¬7). ¬
(42) ومنها حرف [الوقف] (¬1) على [وجهِهِ في] (¬2) جهة [أخرى] (¬3) لمصلحة راجحة أو مساوية؟ (42) ومنها: أرزاق التتار، هل هي مباحة لمن يرزقونه إياها؟ (43) ومنها: إسقاط الدَّيْن عن الفقير المعسر، هل يجوز أن يحسبه من الزكاة؟ فأجاب [رحمه الله تعالى] (¬4): الحمد لله ربِّ العالمين أما مسألة [تغيُّر] (¬5) الماء اليسير والكثير بالطاهرات: كالأشنان (¬6)، والصابون، والسدر (¬7)، والخطمي (¬8)، والتراب، والعجين وغير ذلك مما قد [يُغيِّر] (¬9) الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر ¬
سدر أو خطمي وَوُضِع فيه ماء فتغير به، مع بقاء اسم الماء فهذا فيه قولان معروفان للعلماء: أحدهما: أنه لا يجوز التطهير به، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين التي اختارها الخرقي والقاضي، وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق فلا يدخل في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعًا، بعضها متفق عليها بينهم وبعضها مختلف فيه، فما كان من التغير حاصلًا بأصل الخلقة أو بما يَشُقُّ صَوْنُ الماء عنه، فهو طهور باتفاقهم. وما تغير بالأدهان والكافور، ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وما كان [تغيُّره] (¬1) يسيرًا، [فهل] (¬2) يُعفى عنه أو لا يُعفى عنه؟ أو يُفرق بين الرائحة وغيرها؟ على ثلاثة أوْجُه، إلى غير ذلك من المسائل. والقول الثاني: أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق الاحتراز عنه، ولا بما يَشق فما دام يُسمَّى ماءً ولم يغلب عليه أجزاء غيره، كان طهورًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه، وهي التي نصَّ عليها في أكثر أجوبته. ¬
وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله تعالى قالت: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} نكرة في سياق النفي فيُعمُ كل ما هو ماءٌ، لا [يُفرق] (¬1) في ذلك بين نوع ونوع. فإن قيل: إن المتغير لا يدخل في اسم الماء؟ قيل: تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ، ولا بين [المتغير] (¬2) الذي يمكن الاحتراز منه، والذي لا يمكن الاحتراز منه؛ فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى استعمال هذا المتغير دون هذا، فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا، ولهذا لو وَكَّلَهُ في شراء ماءٍ أو حَلَفَ لا يَشربُ ماءً أو غير ذلك، لم يُفرق بين هذا وهذا، بل إن دَخَل هذا دَخَل هذا، وإن خرج هذا خرج هذا، فلما حصل الاتفاق على دخول [المتغير] (¬3) تغيرًا أصليًّا أو حادثًا بما يشق صونه عنه، عُلِم أن هذا النوع داخلٌ في عموم الآية. وقد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل مَيتَته" (¬4)، والبحر متغير الطعم تغيرا شديدًا لشدة ملوحته، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[فإن] (¬1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن ماءَه طهور -مع هذا التغير- كان ما هو أخف ملوحةً منه أولى أن يكون طهورًا، وإن كان الملح وُضِع فيه قصدًا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة. وبهذا يظهر ضعف حجة المخالفين؛ فإنه لو استقى ماءً أو وَكَّله في شراء ماءٍ لم يتناول ذلك ماءَ البحر؛ ومع هذا فهو داخل في عموم الآية فكذلك ما كان مثله في الصفة (¬2). وأيضًا فقد ثبت أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل المحرم بماءٍ وسدر (¬3)، وأمر بغسل ابنته بماءٍ وسدر (¬4)، وأمر الذي أسلم إن يَغتسل بماءٍ ¬
وسدر (¬1)، ومن المعلوم: أن [السدر] (¬2) لا بد أن يغير الماء؛ فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به. ¬
وقول القائل: إن هذا تغيُّرٌ في محل الاستعمال فلا يُؤثر تفريق بوصف غير مؤثر لا في اللغة ولا في الشرع، فإن المتغير إن كان يُسمَّى ماءً مطلقًا وهو على البدن، [ويُسمَّى] (¬1) ماءً مطلقًا وهو في ْالإناء؛ وإن لم يُسَمَّ ماءً مطلقًا في أحدهما لم يُسَمَّ مطلقًا في الموضع الآخر؛ [فإنه] (¬2) من المعلوم أن أهل اللغة لا يفرقون في التسمية بين مَحَلٍّ ومَحَلٍّ. وأما الشرع: فإن هذا فرق لم يدل عليه دليل شرعي فلا يُلتفت إليه، والقياس عليه إذا جُمِعَ أو فُرِّقَ: أن يُبيَّن أن ما جعله مناط الحكم جَمعًا أو فَرْقًا مما دلَّ عليه الشرع، وإلا فمن علَّق الأحكام بأوصافِ جَمْعًا وفَرْقًا بغير دليل شرعي، كان واضعًا لشرع منا تلقاءَ نفسه شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله. ولهذا كان على القائِس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم بطريقٍ من [الطرق] (¬3) الدالة على كَوْن الوصف المشترك هو [علة] (¬4) الحكم؛ وكذلك في الوصف الذي فَرَّقَ فيه بين الصورتين، عليه أن يُبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية. وأيضًا: فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضأ من قصعة فيها أثر العجين (¬5). ومن المعلوم: أنه لابد في العادة من تغير الماء بذلك لا سيما ¬
في آخر الأمر إذا قلَّ الماء وانحل العجين. فإن قيل: ذلك التغير كان يسيرًا؟ قيل (¬1): وهذا أيضًا دليل في المسألة، فإنه إن سوى بين التغير اليسير والكثير مطلقًا كان مخالفًا للنص، وإن فرَّق بينهما لم يكن للفرق بينهما حَدٌّ مضبوط لا بلغة، ولا بشرع، ولا عقلٌ، ولا عُرفٌ؛ ومن فرًّق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكن قوله صحيحًا. وأيضًا: فإن المانعين مضطربون اضطرابًا يدل على فساد أصل ¬
[قولهم] (¬1)، منهم من يُفرق بين الكافور والدهن وغيره ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة، ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يُسويِّ بينهما، ومنهم من يُسويِّ بين الملحيْن: الجبلي والمائي، ومنهم من يفرق [بينهما] (¬2). وليس على شيء من هذه الأقوال دليلٌ يُعتمد عليه، لا من نصٍّ ولا قياسٍ ولا إجماعٍ، إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذًا من جهة الشرع، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ وهذا بخلاف ما جاء من عند الله فإنه [محفوظ] (¬3)، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فدلَّ ذلك على ضعف هذا القول. وأيضًا، فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي مدلولٌ عليه بالظواهر والمعاني؛ فإن تناوُل اسم الماء لمواقع الإجماع كتناوُله لموارد النزاع في اللغة، وصفات هذا كصفات هذا في الجنس، فتجب التسوية بين المتماثلين (¬4). ¬
وأيضًا: فإنه على قول المانعين، يلزم مخالفة الأصل وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارضٍ راجحٍ، إذ كان يقتضي القياس عندهم أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث؛ لكن استُثني المتغير بأصل الخلقة، وبما يشق صَوْن الماء عنه للحرج والمشقة، فكان هذا موضع استحسان تُرِك له القياس، وتعارض الدلالة على خلاف الأصل وعلى القول الأول: يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع؛ فيكون هذا أقوى (¬1). ¬
فصل في تغير الماء بالنجاسات
فصل وأما الماء إذا تغير بالنجاسات، فإنه ينجس بالاتفاق. وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة: أحدها: لا يَنجس؛ وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك، وكثير من أهل الحديث، واحدى [الروايات] (¬1) عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ونصرها في المفردات: ابن عَقيل، وابن [البناء] (¬2) وغيرهما. والثاني: ينجس قليل الماء بقليل النجاسة؛ وهي رواية البصريين عن مالك. والثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى -اختارها طائفة من أصحابه- الفرق بين القلتَيْن (¬3) وغيرهما؛ فمالك لا يَحُدُّ الكثير بالقلتين، والشافعي وأحمد يَحُدَّان الكثير بالقلتين. ¬
والرابع: الفرق بين البول والعَذِرَة المائعة وغيرهما؛ فالأول: يُنَجِّس منه ما أمكن نزحه، دون ما لم يمكن نزحه، بخلاف الثاني: فإنه لا يُنَجِّس القُلتين فصاعدًا، وهذا أشهر الروايات عن أحمد واختيار أكثر أصحابه (¬1). والخامس: أن الماء يَنْجُس بملاقاة النجاسة سواءٌ كان قليلًا أو كثيرًا؛ [وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه] (¬2)، لكن ما لم يصل إليه لا يُنَجِّسه. ثم حدوا ما لم يصل إليه بما لا يتحرك [أحد] (¬3) طرفيه بتحريك الطرف الآخير. ثم تنازعوا: هل يُحَدُّ بحركة المتوضئ أو المغتسل؟ وقدَّر ذلك محمد بن الحسن [بقدر] (¬4) مسجده [فوجده] (¬5) عشرة أذرع في عشرة أذرع. وتنازعوا في [الأبيار] (¬6) إذا وقع فيها نجاسة، هل يمكن ¬
تطهيرها؟ فزعم [المزني] (¬1): أنه لا يمكن؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمكن تطهيرها بالنزح، ولهم في تقدير الدلاء أقوال معروفة. والسادس: قول أهل الظاهر، الذين يُنَجِّسون ما بال فيه البائل دون ما أُلقيَ فيه البول [ولا يُنَجِّسون ما سوى ذلك إلا بالتغير] (¬2). وأصل هذه المسألة من جهة المعنى: أن اختلاط الخبيث -وهو النجاسة- بالماء: هل يُوجب تحريم الجميع أم يُقال: بل قد استحال في الماء فلم يبقَ له حكم؟ فالمنجسون ذهبوا إلى القول الأول؛ ثم من استثنى الكثير قال: هذا يَشُقُّ الاحتراز من وقوع النجاسة فيه، فجعلوا ذلك موضع استحسان، كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد. وأما أصحاب أبي حنيفة فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها وقدَّروه بالحركة أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق. والصواب: هو القول الأول، وأنه متى عُلِم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وكذلك في المائعات كُلِّها، وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرَّم الخبائث؛ والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات ¬
الطيب دون الخبيث: وَجَبَ دخوله في الحلال دون الحرام. وأيضًا: فقد ثبت من حديث أبى سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يُلقى فيها الحِيَضُ، ولحوم الكلاب والنَّتن (¬1)، فقال: "الماء طهور لا يُنَجسه شيء" (¬2). قال أحمد: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
حديث بئر بضاعة صحيح؛ وهو في المسند أيضًا عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وهذا اللفظُ عامٌّ في القليل والكثير وهو عامٌّ في جميع النجاسات. وأما إذا تغيَّر بالنجاسة فإنما حُرِّم استعماله لأن جِرم النجاسة باقٍ ففي استعماله استعمالُها بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور، وليس هناك نجاسة قائمة. ومما يُبيِّن ذلك: أنه لو وَقَع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب لم يكن شاربًا للخمر؛ ولم يجب عليه حدُّ الخمر إذا لم يَبقَ شيءٌ من طعمها ولونها وريحها؛ ولَو صُبَّ لبن امرأة في ماء واستحالت حتى لم يَبقَ له أثر وشرب طفل من ذلك الماء لم يَصِرْ ابنها من الرضاعة بذلك. وأيضًا: فإن هذا باقٍ على أوصاف خِلْقَتِهِ؛ فيدخل في عموم ¬
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة: لا طعمه ولا لونه ولا ريحه. فإن قيل: فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن البول في الماء الدائم، وعن الاغتسال فيه (¬1). قيل: نَهيُهُ عن البول في الماء الدائم لا يَدل على أنه يَنجُس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يَدل على ذلك بل قد يكون نَهْيُهُ [سدًّا للذريعة] (¬2)؛ لأن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول فكان نهيه سدًّا للذريعة، [أو يُقال: إنه مكروه بمجرد الطبع، لا لأجل أنه ينجسه] (¬3) (¬4). وأيضًا: [فيَدل] (¬5) نهيُهُ عن البَوْل في الماء الدائم أنه يَعُمُّ القليل والكثير، فيُقال لصاحب القُلَّتَيْن: [أتُجَوِّز] (¬6) بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمتُهُ فقد نقضت دليلك. وكذلك يُقال لمن فرَّق بين ما يمكن نزحُهُ وما لا يُمكن: أتُسَوِّغ للحجاج أن يبولوا في المصانع (¬7) المبنيَّة بطريق مكة إن جوزته خالفت ¬
ظاهر النصر؛ فإن هذا ماءٌ دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير، وإلا نقضت قولك. وكذلك يُقال للمقدِّر بعشرة أذرع: إذا كان [لأهل القرية] (¬1) غديرٌ مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوِّغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سَوَّغتُهُ خالفت ظاهر النص؛ وإلا نقضت قولك. [فإذا كان النص بل والإجماع، دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول؛ بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير: كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلًا بالنهي فلم يَجُز تعليل النهي بالنجاسة، ولا يجوز أن يُقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن البول فيه، لأن البول يُنَجسه فإن هذا خلاف النص والإجماع] (¬2). وأما من فرَّق بين البول فيه وبين صبِّ البول، فقوله ظاهر الفساد فإنَّ صبَّ البول أبلغ من أن [يُنْهى] (¬3) عنه من مجرد البول؛ إذ الإنسان قد يحتاج إلى أن يَبول، وأما صبُّ الأبوال في المياه فلا حاجة إليه. فإن قيل: ففي حديث القلتين أنه سُئِل عن الماء يكون بأرض الفلاة، وما يَنُوبُ من السِّباع والدواب، فقال: "إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث" وفي لفظٍ: "لم يُنجسه شيء" (¬4)؟ ¬
قيل: حديث القلتين [فيه كلام قد بُسِط في غير هذا الموضع؛ وبُيِّن أنه من كلام ابن عمر، لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1)، فإذا صحَّ فمنطوقه موافق لغيره، وهو أن الماء إذا بلغ القلتين لم ينجسه شيء؛ وأما مفهومه -إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد- فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه، لا لتظهر فائدة التخصيص بالقدر المعين، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت [عنه] (¬2) مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق. وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن يكون كل ما لم يبلغ القلتين يَنجس، بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود، [والمقدار الكثير لا يغيره ورود ما ورد عليه في العادة، بخلاف القليل فإنه قد يغيره، وذلك إذا ما صال عنه فإنه لا يحمل النجاسة في العادة؛ فلا ينجسه، وما دونه قد يحمل وقد لا يحمل فإن حملها تنجس، وإلا فلا، وحمل النجاسة هو كونها محمولة فيه؛ ¬
ويحقق ذلك] (¬1) أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر هذا التقدير ابتداء؛ وإنما ذكره في جواب مَن سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب؛ والتخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة بالاتفاق، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فإنه خصَّ هذه الصورة بالنهي، لأنها هي الواقعة، [لا] (¬2) لأن التحريم يختص بها. وكذلك قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [فذكر] (¬3) الرهن في هذه الصورة للحاجة [لا للكثرة] (¬4) مع أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه [مرهون (¬5)] (¬6)، فهذا رهنٌ في الحضر، فكذلك قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان ذلك المسئول عنه كثيرًا قد بلغ قلتين؛ ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث، فلا يبقى الخبث فيه محمولًا، [بل يستحيل الخبث فيه] (¬7) لكثرته، بيَّن لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه؛ فلا ينجس. ودلَّ كلامه على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولًا فحيث كان الخبث محمولًا موجودًا في الماء كان نجسًا؛ وحيث كان الخبث ¬
مستهلكًا [فيه] (¬1) غير محمول في الماء، كان باقيًا على طهارته. [والمنازع يقول: المؤثر في التنجيس في القليل ولو مطلقًا هو نفس الملاقاة، وهي موجودة لحمل الخبث كان القليل والكثير سواءً في ذلك، وكونه لا يحمل الخبث ليس هو لعجزه عنه، كما يظنه بعض الناس؛ فإنه لو كان كذلك لكان القليل أولى أن يحمله] (¬2)؛ فصار حديث القلتين موافقًا لقوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬3)، والتقدير: فيه لبيان أنه في صورة [السؤال] (¬4) لم ينجس، لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين، فإنه يحمل الخبث؛ فإن هذا مخالفة للحس، إذ ما دون القلتين قد يحمل الخبث وقد لا يحمله، فإن كان الخبث كثيرًا وكان الماء يسيرًا يحمل الخبث، وإن كان الخبث يسيرًا، والماء كثيرًا لم يحمل الخبث، بخلاف القلتين، فإنه لا يحمل في العادة الخبث الذي سألوه عنه. ونكتة الجواب: أن كونه يحمل الخبث أو لا يحمله: أمر حِسي يُعرف بالحس، فإنه إذا كان الخبث موجودًا فيه كان محمولًا؛ وإن كان مستهلكًا لم يكن محمولًا، فإذا عُلِم كثرة الماء، وضعف الملاقي، علم أنه لا يحمل الخبث. والدليل على هذا: اتفاقهم على أن الكثير إذا تغير ريحه حمل الخبث؛ فصار قوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ولم ينجسه ¬
شيء" كقوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وهو إنما أراد: إذا لم يتغير في الموضعين؛ وأما إذا كان قليلًا فقد يحمل الخبث لضعفه، وعلى هذا يخرج أمره بتطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعًا إحداهن بالتراب، والأمر بإراقته. فإن قوله: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه -أو فليغسله- سبعًا أولاهن بالتراب" (¬1)، كقوله: "إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬2). فإذا كان النهي عن غمس اليد في الإناء هو في الإناء المعتاد للغمس، وهو الواحد من آنية المياه؛ فكذلك تلك الآنية المعتادة للولوغ وهي آنية الماء، وذلك: أن الكلب يلغ بلسانه بعد شيء، فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج، فلا يحيله الماء القليل بل يبقى فيكون ذلك الخبث محمولًا في ماء يسير في ذلك الماء، [فيراق ذلك الماء] (¬3) لأجل كَون الخبث محمولًا فيه [لما يروى في ذلك] (¬4) ويغسل الإناء الذي لاقاه الخبث. وهذا بخلاف الخبث المستهلك المستحيل كاستحالة الخمر؛ فإن الخمر إذا انقلبت في الدن بإذن الله تعالى، كانت ظاهرة باتفاق ¬
العلماء، وكذلك جوانب الدن فهناك يغسل الإناء، وهنا لا يغسل، لأن الاستحالة حصلت في أحد الموضعين دون الآخر. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الفصل بين [المقدار] (¬1) الذي ينجس بمجرد الملاقاة، و [بين] (¬2) ما لا ينجس إلا بالتغير، لقال: إذا لم يبلغ قلتين نجس، وما بلغهما لا ينجس إلا بالتغير، أو نحو ذلك من الكلام الذي يدل على ذلك. [فإن] (¬3) مجرد قوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، مع أن الكثير ينجس بالتغير بالاتفاق، فلا يدل على أن هذا هو المقصود، بل يدل على أنه في العادة لا يحمل الأخباث، فلا تنجسه، فهو إخبار عن انتفاء سبب التنجيس، وبيان لكون المنجس في نفس الأمر هو حمل الخبث، والله أعلم. ¬
فصل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غمس يد القائم من النوم في الإناء
[(فصل)] (¬1) [وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثًا، فهو لا يقتضي تنجيس الماء بالاتفاق، بل قد يكون لأنه يؤثر في الماء أثرًا، وأنه قد يفضي إلى التأثير؛ وليس ذلك بأعظم من النهي عن البول في الماء الدائم، وقد تقدم أنه لا يدل على التنجيس. وأيضًا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه" (¬2). فَعُلم أن ذلك الغسل ليس مسببًا عن النجاسة، بل هو معلَّل بمبيت الشيطان على خيشومه. والحديث المعروف: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬3)، يمكن أن يراد به ذلك (¬4)، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار] (¬5). ¬
وأما نهيه عن الاغتسال فيه بعد البول، فهذا إن صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كنهيه عن البول في المستحم، وقوله: "فإن عامة الوسواس منه" (¬1)، فإنه إذا بال في المستحم ثم اغتسل حصل له وسواس، وربما ¬
[يبقى] (¬1) شيء عن أجزاء البول فعاد عليه رشاشها. وكذلك إذا بال في [ماء] (¬2) ثم اغتسل فيه؛ فقد يغتسل قبل ¬
الاستحالة، مع بقاء أجزاء البول، فنهى عنه لذلك. ونهيه عن الاغتسال في الماء الدائم -إن صحَّ- يتعلق بمسألة الماء المستعمل، وهذا قد يكون لما فيه من تقدير الماء على غيره، لا لأجل نجاسته، ولا [لصيرورته] (¬1) مستعملًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: " [إن] (¬2) الماء لا [يجنب] (¬3) (¬4). ¬
فصل في بول ما يؤكل لحمه
(فصل) وأما بول ما يؤكل لحمه و [روث ذلك] (¬1)، [فأكثر] (¬2) السلف على أن ذلك ليس بنجس، وهو مذهب مالك وأحمد، وغيرهما (¬3)؛ ويقال: أنه لم يذهب [أحد] (¬4) من [الصحابة] (¬5) إلى [تنجيس] (¬6) ذلك، بل القول بنجاسة ذلك قول محدث، لا سلف له عن الصحابة. ¬
وقد بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب مفرد، وبيَّنا فيه بضعة عشر دليلًا شرعيًا على أن ذلك ليس بنجس (¬1). والقائل بتنجيس ذلك ليس معه على نجاسته دليل شرعي أصلًا؛ فإن غاية ما آعتمدوا عليه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنزهوا من البول، [فإن عامة عذاب القبر منه] (¬2) (¬3)؛ ¬
و [ظنوا] (¬1) أن هذا عام في جميع الأبوال، وليس كذلك، فإن اللام لتعريف العهد، والبول المعهود هو بول الآدمي؛ ودليله قوله: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه". ومعلوم أن عامة عذاب القبر إنما هو من بول الآدمي نفسه الذي يصيبه كثيرًا، لا من بول البهائم الذي لا يصيبه إلا نادرًا. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمر العُرنيين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام بإبل [الصدقة] (¬2)، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها (¬3). ولم يأمرهم مع ذلك بغسل ما يصيب أفواههم وأيديهم، ولا بغسل الأوعية التي فيها الأبوال مع حدثان عهدهم بالإسلام. ولو كان بول الأنعام كبول الإنسان لكان بيان ذلك واجبًا؛ و [لا يَجُوز] (¬4) تأخير البيان عن وقت الحاجة، لا سيما مع أنه قرنها بالألبان التي هي حلال طاهر، مع أن التداوي بالخبائث، قد ثبت فيه النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة. وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في ¬
مرابض الغنم (¬1)؛ وأنه أذن بالصلاة في مرابض الغنم (¬2)؛ من غير اشتراط حائل، ولو كانت أبعارها نجسة لكانت مرابضها كحشوش بني آدم، وكان النهي عن الصلاة فيها مطلقًا، ولا يُصلى فيها إلا مع الحائل المانع؛ فلما جاءت السنة بالرخصة في ذلك، كان [مَن] (¬3) سوى بين أبوال الآدميين وأبوال الغنم مخالفًا للسنة. وأيضًا، فقد طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على [بعير] (¬4)، مع إمكان أن يبول البعير. وأيضًا، فما زال المسلمون يدوسون حبوبهم بالبقر مع كثرة ما يقع في الحب من البول و [أخثاء] (¬5) (¬6) البقر. وأيضًا، فالأصل في الأعيان: الطهارة، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل، ولا دليل على النجاسة، إذ ليس في ذلك نص، ولا إجماع، ولا قياس صحيح (¬7). ¬
فصل في طين الشوارع
(فصل) وأما طين الشوارع، فمبنيٌّ على أصل، وهو: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة، ثم ذهبت بالشمس أو الريح ونحو ذلك، هل تطهر الأرض؟ على قولين للفقهاء، وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد [وغيرهما] (¬1). أحدهما: أنها تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، ولكن عند أبي حنيفة يصلي عليها ولا يتيمم بها؛ والصحيح: أنه يصلي عليها ويتمم بها، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت في (¬2) الصحيح عن ابن عمر: أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك (¬3). ومن المعلوم: أن النجاسة لو كانت باقية لوجب غسلها، وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح: من أنه أمرهم أن يصبوا على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذَنوبًا من ماء (¬4)، فإن هذا يحصل به تعجيل تطهير الأرض، وهذا مقصود، بخلاف ما إذا لم يصب الماء، فإن النجاسة تبقى [إلي] (¬5) أن تستحيل. ¬
وأيضًا: ففي السنن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى، فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور" (¬1)؛ وفي "السنن" أيضًا: أنه سُئِل عن المرأة تجر ¬
ذيلها على المكان القذر، ثم على المكان الطاهر، فقال: "يطهره ما ¬
بعده" (¬1)؛ وقد نصَّ أحمد على الأخذ بهذا الحديث الثاني، "ونصَّ في إحدى الروايتين عنه على الأخذ بالحديث الأول، وهو قول من يقول به من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل التراب يطهر أسفل النعل وأسفل ¬
الذيل، وسماه طهورًا، فلأن يطهر نفسه بطريق الأولى والأخرى، فالنجاسة إذا استحالت في التراب فصارت ترابًا، [لم يبق] (¬1) نجاسة (¬2). وأيضًا: فقد تنازع العلماء فيما إذا استحالت حقيقة النجاسة، واتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله تعالى بدون قصد صاحبها، وصارت خلًا أنها تطهر، ولهم فيها إذا قصد التخليل نزاع وتفصيل، والصحيح: أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال (¬3)، كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما صحَّ من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تخليلها، ولأن حبسها معصية، والطهارة نعمة، والمعصية لا تكون سببًا للنعمة. وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحًا في الملاحة، أو ¬
صارت رمادًا، أو صارت الميتة والدم والصديد ترابًا، كتراب المقبرة؛ فهذا فيه قولان في مذهب مالك وأحمد. أحدهما: أن ذلك طاهر، كمذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر. والثاني: أنه نجس كمذهب الشافعي (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والصواب: أن ذلك كله طاهر إذ لم يبق شيء من أثر النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ لأن الله أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها؛ فإذا كانت العين ملحًا أو خلًا دخلت في الطيبات التي أباحها الله تعالى، ولم تدخل في الخبائث التي حرمها الله، وكذلك الرماد والتراب وغير ذلك، لا يدخل في نصوص التحريم. [ثم] (¬1)، وإذا لم يتناولها أدلة التحريم لا لفظًا ولا معنى لم يجز القول [بتحريمه] (¬2)، [ولا] (¬3) [تنجيسه] (¬4)، [فيكون طاهرًا] (¬5)، وإذا كان هذا في غير التراب، فالتراب أولى بذلك. وحينئذ فطين الشوارع إذا قَدَّر أنه لم يظهر به أثر النجاسة فهو طاهر؛ وإن تيقن أن النجاسة فيه، فهذا يُعف عن يسيره، فإن ¬
الصحابة -رضوان الله عليهم- كان أحدهم يخوض في الوحل، ثم يدخل المسجد، فيصلي، ولا يغسل رجليه؛ وهذا معروف عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة [كما تقدم] (¬1). وقد حكاه عنهم مالك مطلقًا، وذكر أنه لو كان في الطين عَذرة منبثة لعُفيَ عن ذلك، وهكذا قال غيره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنه يعفى عن يسير طين الشوارع، مع تيقن نجاسته، والله تعالى أعلم (¬2). ¬
فصل في المائعات كالزيت والسمن وغيرهما إذا وقعت فيه نجاسة
(فصل) وأما المائعات: كالزيت والسمن وغيرهما كالخل، واللبن وغيرهما؛ إذا وقعت فيه نجاسة، مثل الفأرة الميتة ونحوها من [النجاسة أو] (¬1) النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء: أحدهما: أن حكم ذلك حكم الماء، وهذا قول الزهري وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويُذكَر [رواية] (¬2) عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات. والثاني: أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء فإنه يُفرق بين قليله وكثيره، وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد. وفيها قول ثالث: وهو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها، فخل التمر يُلحق بالماء، وخل العنب لا يُلحق به. وعلى القول الأول: إذا كان الزيت كثيرًا، مثل أن يكون قلتين فإنه لا ينجس إلا بالتغير، كما نصَّ على ذلك أحمد: في كلب وَلَغَ في زيت كثير، فقال: لا ينجس. وإن كان المائع قليلًا انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل، فمن قال: إن الماء القليل لا ينجس إلا بالتغير، قال ذلك في الزيت ¬
وغيره؛ وبذلك أفتى الزهري لما [سُئِل] (¬1) عن الفأرة أو غيرها من الدواب تموت في سمن أو غيره من الأدهان؟ فقال: تُلقى وما قَرُبَ منها، ويؤكل، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وسواء كان جامدًا أو مائعًا؛ وقد ذكر ذلك البخاري عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله تعالى. ومن قال: إن المائع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال: إنه كالماء، فإنه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة، فإذا صُبَّ عليه زيت كثير طهر الجميع. والقول بان المائعات [لا] (¬2) تنجس كما لا ينجس الماء: هو القول الراجح بل هي أولي بعدم [التنجيس] (¬3) من الماء؛ وذلك أن الله تعالى أحل لنا الطيبات وحرَّم علينا الخبائث، والأطعمة والأشربة، من الأدهان والألبان والزيت والخلول والأطعمة المائعة هي: من الطيبات التي أحلها الله لنا؛ فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث، لا لونه ولا طعمه ولا ريحه ولا شيء من أجزائه، كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبائث المحرمة، مع أن صفاتها صفات [الطيبات] (¬4) لا صفات [الخبائث] (¬5)؛ فإن الفرق بين [الطيبات] (¬6)، و [الخبائث] (¬7) بالصفات المميزة بينهما؛ ولأجل تلك ¬
الصفات حرَّم هذا وأحل هذا؛ وإذا كان هذا الخبث وقع منه قطرة كقطرة دم أو قطرة خمر، وقد استحالت، واللبن باقٍ على صفته، والزيت باقٍ على صفته، لم يكن لتحريم ذلك وجه، فإن تلك قد استهلكت واستحالت ولم يبقَ لها حقيقة يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر. وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء لأن الشارع رخَّص في إراقة الماء وإتلافه، حيث لم يُرخص في إتلاف المائعات، كالاستنجاء فإنه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء. وأما استعمال المائعات في ذلك فلا يصح سواء قيل: تزول النجاسة أو لا تزول، ولهذا قال من قال من العلماء: إن الماء يُراق إذا وَلَغَ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب. وأيضًا، فإن الماء أسرع تغيرًا بالنجاسة من الملح؛ والنجاسة أشد استحالة في غير الماء منها في المائعات؛ فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حسًّا وشرعًا من الماء، فحيث لا ينجس الماء فالمائعات أولى أن لا تنجس. وأيضًا، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سُئِل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" (¬1)، فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - جوابًا عامًا مطلقًا بأن يلقوها وما ¬
حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم: هل كان جامدًا أو مائعًا؟ وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، يتنزل منزلة عموم في المقال، مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائبًا، وقد قيل: إنه لا يكون إلا ذائبًا، والغالب على السمن أنه لا يبلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل: هل كان قليلًا أو كثيرًا؟ فإن قيل: فقد روي في الحديث: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكُلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه" (¬1)، رواه أبو داود وغيره. قيل: هذه الزيادة؛ التي أعتمد عليها من فرَّق بين الجامد والمائع، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم. ¬
وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري. وصحَّح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها، بعد أن كنا نفتي بها أولًا، "فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل (¬1). والبخاري والترمذي -رحمة الله عليهما- وغيرهما من أئمة الحديث قد بينوا لنا: أنها باطلة، وأن معمرًا غلط في روايته لها عن الزهري، وكان معمر كثير الغلط؛ والإثبات من أصحاب الزهري كمالك ويونس وابن عيينة خالفوه في ذلك؛ وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، فجعله عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة، وإنما هو عن [عبيد الله بن] (¬2) عبد الله [عباس عن] (¬3) ميمونة؛ ورُوي عنه في بعض طرقه أنه قال: "إن كان مائعًا فاستصبحوا به"، وفي بعضها: "فلا تقربوه". والبخاري بيَّن غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس عن الزهري نفسه: أنه سئل عن فأرة: وقعت في السمن؟ فقال: إن كان جامدًا أو مائعًا، قليلًا أو كثيرًا، تلقى وما قَرُب منها، ويؤكل؛ ¬
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن؟، فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم". فالزهري -الذي مدار الحديث عليه- قد أفتى في الجامد والمائع بأن تلقى الفأرة وما قرب منها ويؤكل، واستدل بهذا الحديث كما رواه عنه جمهور أصحابه، فتبين أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط. وأيضًا: فالجمود والميعان أمرٌ لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة، هل تلحق الجامد أو المائع؟ والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، والمحرمات مما يتقون، فلا بد أن يبين لهم المحرمات [تبيانًا] (¬1) فاصلًا بينها وبين الحلال. وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وأيضًا فإذا كانت الخمر -التي هي أم الخبائث- إذا انقلبت بنفسها حَلَّت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب، وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختياره، فاستحالت، كانت أولى بالطهارة. فإن قيل: الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها، والخمر إذا قُصِد تخليلها لم تطهر. ¬
قيل: في الجواب عن الأول: إن جميع النجاسات نجست بالاستحالة؛ فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب، وهي طاهرة ثم تستحيل دمًا وبولًا وغائطًا، فتنجس، وكذلك الحيوان يكون طاهرًا، فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله حال الحياة، فتنجس، ولهذا يطهر الجلد بالدباغ عند الجمهور، وسواء قيل: إن الدباغ كالحياة، أو قيل: إنه كالذكاة، فإن ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة؛ وأما قصد تخليله فذلك أن حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا؛ والطهارة نعمة، فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم (¬1). ¬
فصل في الكلب
(فصل) وأما الكلب: فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال معروفة: أحدها: أنه نجس كلُّهُ، حتى شعرء، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والثاني: أنه طاهر، حتى ريقه، كقول مالك في المشهور عنه. والثالث: أن ريقه نجس وشعره طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة في المشهور عنه، [وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه] (¬1)، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وهذا أرجح الأقوال. [فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك؛ وإذا ولغ في الماء أريق، وإذا ولغ في اللبن ونحوه: فمن العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره، ومنهم من يقول: يُراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ فأما إن كان اللبن كثيرًا، فالصحيح أنه لا ينجس] (¬2). وله في الشعور النابتة [على محل نجس] (¬3) ثلاث روايات: إحداها: أن جميعها طاهر، حتى شعر الكلب والخنزير؛ وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز. والثانية: أن جميعها نجس، كقول الشافعي. والثالثة: أن شعر الميتة أن كانت طاهرة في الحياة [فَطاهر] (¬4)، ¬
كالشاة [ونحوها] (¬1)؛ وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس كالكلب والخنزير، وهذه الرواية هي [المنصورة] (¬2) عند أكثر أصحابه. والقول الراجح: هو طهارة الشعور كلها: شعر الكلب والخنزير وغيرهما، بخلاف الريق. وعلى هذا: فإذا كان شعر الكلب رطبًا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه، كما هو مذهب جمهور الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز تنجيس شيء، ولا تحريمه إلا بدليل، كما قال تعالى: [{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬3) [الأنعام 119]، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أعظم [المسلمين بالمسلمين] (¬4) جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته" (¬5) وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعًا -ومنهم من يجعله موقوفًا- أنه قال: "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما ¬
حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬1). فإذا كان كذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبعًا، أولاهن بالتراب" (¬2)، وفي الحديث الآخر: "إذا ولغ الكلب" (¬3)، فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ، لم يذكر سائر الأجزاء، فتنجيسها إنما هو بالقياس. فإذا قيل: إن البول أعظم من الريق، كان هذا متجهًا، وأما إلحاق الشعر بالريق، فلا يسوغ؛ لأن الريق متحلل من باطن الكلب بخلاف الشعر، فإنه نابت على ظهره؛ والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا وهذا، فإن جمهورهم يقول: إن شعر الميتة طاهر، بخلاف ريقها، والشافعي وأكثرهم يقولون: إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر. فغاية شعر الكلب أن يكون [نابتًا] (¬4) في منبت نجس، كالزرع النابت في الأرض النجسة، فإذا كان الزرع طاهرًا، فالشعر أولى بالطهارة؛ لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة، بخلاف الشعر، فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك. ¬
فمن قال من أصحاب أحمد، كابن عقيل وغيره: إن الزرع طاهر، فالشعر عنده أولى؛ ومن قال: إن الزرع نجس، فإن الفرق بينهما ما ذكر، فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة، وهذا أيضًا حجة في المسألة، فإن الجلالة التي تأكل النجاسة قد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها (¬1)، فإذا حُبِست حتى تطيب كانت حلالًا باتفاق المسلمين؛ ¬
لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها، فيظهر نتن النجاسة وخبثها فإذا زال عادت طاهرة، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، والشعر لا يظهر فيه شيء من آثار النجاسة أصلًا، فلم يكن لتنجيسه معنى. وهذا يتبين بالكلام في شعور الميتة -كما سنذكره إن شاء تعالى- وكل حيوان قيل بنجاشه، فالكلام في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب. فإذا قيل بنجاسة كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (¬1)، إلا الهر (¬2)، وما دونها في [الخلقة] (¬3)؛ كما هو مذهب كثير من علماء أهل العراق، وهو أشهر الروايتين عن أحمد؛ فإن الكلام ¬
في ريش ذلك وشعره فيه هذا النزاع: هل يكون نجسًا؟ على روايتين عن أحمد إحداهما: أنه طاهر، وهو مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك والشافعي؛ والرواية الثانية: أنه نجس، كما هو اختيار كثير من متأخري أصحاب أحمد، والقول بطهارة ذلك هو الصواب، كما تقدم. وأيضًا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص في اقتناء الكلب الذي يكون للصيد والماشية والحرث (¬1)، ولابد لمن اقتناه من أن تصيبه رطوبة شعره، كما [يصيبه رطوبة] (¬2) البغل والحمار وغير ذلك؛ فالقول بنجاسة شعورها -والحال هذه- من الحرج المرفوع عن الأمة. وأيضًا: فإن لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله في أظهر أقوال العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدًا بغسله ذلك، فقد عفا عن لعاب الكلب في موضع الحاجة وأمر بغسل في غير موضع الحاجة؛ فدلَّ على أن الشارع [وافق] (¬3) [على] (¬4) مصلحة الخلق وحاجتهم (¬5). ¬
فصل في عظم الميتة وقرنها وما هو من جنس ذلك
(فصل) وأما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس ذلك، كالحافر ونحوه، وشعرها وريشها ووبرها. ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: نجاسة الجميع، كقول الشافعي المشهور عنه، وذلك روايةٌ عن أحمد. والثاني: أن العظام ونحوها نجسة، والشعور ونحوها طاهرة، وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد. والثالث: أن جميع طاهر، كقول أبي حنيفة، وهو قول في مذهب مالك وأحمد، وهذا القول هو الصواب؛ وذلك لأن الأصل فيها الطهارة، ولا دليل على النجاسة. وأيضًا: فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث، فتدخل في آية التحليل، وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث، لا لفظًا ولا معنى، فإن الله تعالى حرم الميتة. وهذه الأعيان لا تدخل فيما حرمه الله لا لفظًا ولا معنى: أما اللفظ فلأن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، لا يدخل فيها الشعور وما أشبها؛ وذلك لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان: حياة الحيوان وحياة النبات؛ فحياة الحيوان: خاصتها الحس والحركة الإرادية؛ وحياة النبات: خاصتها النمو والاغتذاء.
وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، إنما هو ما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية، فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين. وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]، فموت الأرض لا يوجب نجاستها باتفاق المسلمين. [وإنما] (¬1) الميتة المحرمة: [ما فارقها] (¬2) الحس والحركة الإرادية، [وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان] (¬3)، فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع؛ وليس فيه حسٌّ، ولا [يتحرك بإرادته] (¬4)، فلا تحله الحياة الحيوانية، حتى يموت بمفارقتها، فلا وجه لتنجيسه. وأيضًا: فلو كان الشعر جزءًا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سئل عن قوم [يجُّبُّون] (¬5) [أسنمة] (¬6) ¬
الإبل وأليات الغنم؟ فقال: "ما أبين من البهيمة وهي حيَّة فهو ميت" (¬1) ¬
رواه أبو داود وغيره، وهذا متفق عليه بين العلماء، فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة، فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جُّزَّ من الحيوان كان طاهرًا حلالًا، علم أنه ليس مثل اللحم. وأيضًا: فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى شعره لما حلق رأسه المسلمين (¬1)؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستنجي ويستجمر، فمَن سَوى بين الشعر والبول والعذرة، فقد أخطأ خطأ بينًا. وأما العظام ونحوها؛ فإذا قيل: هي داخلة في الميتة لأنها تحس وتألم، قيل لمن قال ذلك: أنتم لم تأخذوا بعموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائله، كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم، وعند جمهور العلماء، مع أنها ميتة موتًا حيوانيًا، وقد ثبت في ¬
الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقع اللباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" (¬1)، ومن نجس هذا قال في أحد القولين: إنه لا ينجس المائعات الواقعة فيها، لهذا الحديث. وإذا كان كذلك عُلِم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يحبس فيه دمٌ سائل، وما لا يحتبس فيه دمٌ سائل فلا ينجس، فالعظم أو نحوه أولى بعدم التنجيس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركًا بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل. ومما يبين صحة قول الجمهور: أن الله سبحانه إنما حرَّم علينا الدم المسفوح، كما قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، فإذا عُفيَ عن الدم غير المسفوح، مع أن جنس الدم خبيث، علم أن الله سبحانه فرَّق بين الدم [المصروف] (¬2) الذي [يسيل] (¬3)، وبين غيره. ولهذا كان المسلمون يضعون اللحم في المرق وخطوط الدم ¬
في القدور بَيِّنه، ويأكلون ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبرت بذلك عائشة، ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق، كما يفعل اليهود، والله تعالى حرَّم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة؛ وحرَّم النبي ما صيد بعرض المعراض، وقال: "إنه وقيذ" (¬1)، دون ما صيد بحده؛ والفرق بينهما إنما هو سفح الدم؛ فيدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه وإذا سفح بوجه خبيث، بأن ذكر عليه غير اسم الله، كان الخُبْثُ هنا من جهة أخرى؛ فإن التحريم يكون تارة لوجود الدم، وتارة لفساد التذكية، كذكاة المجوس والمرتد، والذكاة في غير المحل. وإذا كان كذلك فالعظم والقرن والظفر والظِّلْف ونحو ذلك، ليس فيه دم مسفوح، فلا وجه لتنجيسه. وهذا قول جمهور السلف، قال الزهري: كان خيار هذه الأمة يمتشطون بأمشاط من عظام الفيل (¬2)؛ وقد رُويَ في العاج حديث معروف، لكن فيه نظر ليس هذا موضعه، فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك. وأيضًا: فقد ثبت في الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال -في شاة ¬
ميمونة-: "هلَّا أخذتم إهابها فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها ميتة، فقال: "إنما حَرُم أكلها (¬1) " وليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، ولكن ذكره ابن عيينة عنه، ورواه مسلم في صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره، كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ؛ لأجل هذا الحديث. وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بالعظام، وغيرها بطريق الأولى، لكن إذا قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك حرم الانتفاع بالجلود حتى تدبغ (¬2)، أو قيل: إنها لا تطهر بالدباغ، لم يلزم تحريم ¬
العظام ونحوها، لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم، كما في سائر أجزائها؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل دباغة ذكاته، لأن الدباغ ينشف رطوباته، فدل ذلك على أن سبب التنجيس هو الرطوبات، والعظم ليس فيه رطوبة سائلة؛ وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس، وهو يبقى ويحفظ أعظم من الجلد، فهو أولى بالطهارة من الجلد. والعلماء تنازعوا في الدباغ، هل يطهر؟ فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما: أنه لا يطهر؛ ومذهب أبي حنيفة والشافعي ¬
والجمهور: أنه يطهر؛ وإلى هذا القول رجع أحمد، كما ذكر ذلك أحمد ابن [الحسين] (¬1) الترمذي عنه. وحديث ابن عكيم يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب أو عصب (¬2)؛ بعد أن كان أذن لهم في ذلك؛ لكن هذا ¬
قد يكون قبل الدباغ، فيكون قد رخص فيه، فإن حديث الزهري ¬
الصحيح: يبين أنه كان قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ، فيكون قد رخص لهم في ذلك، ثم لما نهي عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم عن ذلك؛ ولهذا قالت طائفه من أهل اللغه: إِن الإهاب اسم لما لم يدبغ (¬1)، ولهذا قرن معه العصب، والعصب لا يدبغ (¬2). ¬
فصل في لبن الميتة وإنفحتها
(فصل) وأما لبن الميتة وإنْفَحَتُها (¬1): [ففيهما] (¬2) قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: أن ذلك طاهر، كقول أبي حنيفة وغيره، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثاني: أنه نجس، كقول مالك والشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد. وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس، فإن [ذبائح] (¬3) المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف، وقد قيل: إن ذلك مجمعٌ عليه بين الصحابة، فإذا صنعوا جبنًا، والجبن يصنع بالإنفحة، كان فيه هذان القولان. والأظهر: أن جبنهم حلال، وأن إِنْفَحَة الميتة ولبنها طاهرة: وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهرًا شائعًا بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نقل بعض الحجازيين [وفيه نظر] (¬4)، وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم، ولم يكونوا بأرض الحجاز، ويدل على ذلك: أن سلمان الفارسي -وكان نائب عمر بن ¬
الخطاب على المدائن، وكان يدعوا الفرس إلى الإسلام- قد ثبت عنه: أنه سئل عن شىء من السمن والجبن والفِراء؛ فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬1)، وقد رواه أبو داود مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعلومٌ أنه لم يكن السؤال من جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمره بيِّن، وإنما كان السؤال عن جبن المجوس؛ فدلَّ ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها، وإذا كان قد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انقطع النزاع بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا: فاللبن والإِنفَحَةُ لم يموتا، وإنما نَجَّسهما من نَجَّسهما لكونهما من وعاء نجس، فيكون مائعًا في وعاء نجس، فالتنجيس مبنيٌّ على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجسًا، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسًا. فيقال أولًا: لا نسلم أن المائع يَنجس بملاقاة النجاسة، وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته، لا على نجاسته. ويُقال ثانيًا: الملاقاة [في] (¬2) الباطن لا حكم لها، كما قال تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في [بطنه] (¬3). ¬
فصل في سؤر البغل والحمار
(فصل) وأما سؤر البغل والحمار: فأكثر العلماء يجوزون التوضأ به، كمالك والشافعي، وأحمد في إحدى [الروايات] (¬1) عنه، والرواية الأخرى: أنه مشكوك فيه، كقول أبي حنيفة، فيتوضأ به ويتيمم، والثالثة: أنه نجس؛ لأنه متولد من باطن حيوان نجس، فيكون نجسًا كلعاب الكلب، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬2)، فعلَّل طهارة سؤرها بكونها من الطوافين علينا ¬
والطوافات، وهذا يقتضي أن الحاجة مقتضية للطهارة، وهذا من حجة من يبيح سؤر [البغل] (¬1) والحمار، فإن الحاجة داعية إلى ذلك (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والمانع يقول: ذلك مثل سؤر الكلب، فإنه مع إباحة قنيته لما يحتاج فيه إليه نهى عن سؤره. والمرِّخص يقول: الكلب إباحته للحاجة، ولهذا حَرَّم ثمنه، بخلاف البغل والحمار، فإن بيعهما جائز باتفاق المسلمين؛ والمسألة مبنية على آثار السباع وما لا يؤكل لحمه (¬1). ¬
فصل في إزالة النجاسة بغير الماء
(فصل) وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: المنع، كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. والثاني: الجواز، كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك وأحمد. والقول الثالث في مذهب أحمد: أن ذلك يجوز للحاجة، كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم، ونحو ذلك، والسنة قد جاءت بالأمر بالتطهير بالماء في قوله لأسماء: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" (¬1). وقوله في آنية المجوس: "ارحضوها ثم اغسلوها بالماء" (¬2) ¬
وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: "صبوا على بوله ذَنوبا من ماء" (¬1)، فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالحجارة. ومنها قوله في النعلين: "ثم ليُدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهورًا" (¬2)، ومنها قوله في ذيل الثوب: "يطهره ما بعده" (¬3). ومنها: أن الكلاب كانت تقبل و [تدبر] (¬4) وتبول في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يكونوا يغسلون ذلك (¬5). ¬
ومنها: قوله: في الهر "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬1) مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ونحوها ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء فإن طهورها ريقها. ومنها: أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين. وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه زال بذلك حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من إفساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها. والذين قالوا: لا يزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تعبد، وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشريعة أمر بالماء في قضايا معينة [لتعينه] (¬2)، لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة، كغسل الثوب والإناء والأرض بالماء، فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماءُ وَرْدٍ وخلٍّ وغير ذلك لم يأمرهم بإفساده، فكيف إذا لم يكن عندهم؟ ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به؛ وليس الأمر كذلك، بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الأنية من النجاسة كالماء وأبلغ، والاستحالة ¬
أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء، فإن الإزالة بالماء قد يبقى معها لون النجاسة فيعفى عنه، كما قال، لأسماء: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره" (¬1)، وغير الماء يزيل الطعم واللون والريح. ومنهم من قال: كان القياس أن لا يزول بالماء لتنجسه بالملاقاة، لكن رخص في الماء للحاجة، فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان فلا يُقاس عليها. وكلا المقدمتين باطل: فليست إزالتها على خلاف القياس، بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. وقولهم: إنه ينجس بالملاقاة ممنوع، ومن سلَّم فرَّق بين الوارد والمورود عليه، أو بين البخاري والواقف. ولو قيل: إنها على خلاف القياس؛ فالصواب: أن ما خالف القياس يُقاس عليه، إذا عرفت علته، إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق، واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف، فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها، ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل، واشترط فيها النية عند الجمهور. وأما طهارة الخبث فإنها من باب التروك، فمقصودها اجتناب الخبيث، ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم؛ ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: ¬
إنه يعتبر فيها النية فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق، مع مخالفته أئمة المذاهب، وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة، فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث، فمنعوا الحكم [في الأصل] (¬1)، وهذا ليس بشيء. ولهذا كان أصح [أقوال] (¬2) العلماء: أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلًا أو ناسيًا فلا إعادة عليه، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان فيهما (¬3)، ولم يستأنف الصلاة، وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة. وذلك لأن ما كان مقصوده اجتناب [المحظور] (¬4) إذا فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا فلا إثم عليه، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله -عز وجل-: "قد فعلت"، رواه مسلم في صحيحه. ولهذا كان أقوى الأقوال: أن ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة، كالكلام ناسيًا، والأكل ناسيًا، واللباس، والطيب ناسيًا، وكذلك إذا فعل المحلوف ¬
عليه ناسيًا. وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهي عنه، وحينئذ فإذا زال الخبث بأي طريق كان، حصل المقصود، ولكن إن زال بفعل العبد [ونيته] (¬1) أثيب على ذلك، وإذا عدمت بغير فعله ولا نيته، فقد زالت المفسدة، [لم يكن] (¬2) له ثواب، [ولا] (¬3) عليه عقاب. ¬
فصل في الصلاة في النعل ونحوه
(فصل) وأما الصلاة في النعل ونحوه: مثل الجُمْجُم والمداس والزربول وغير ذلك فلا يكره، بل هو مستحب؛ لما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يصلي في نعليه" (¬1)، وفي السنن عن أبي سعيد، عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم فخالفوهم وصلوا في الخفاف والنعال" (¬2)، فأمر بالصلاة في النعال مخالفة لليهود، وإذا علمت طهارتها لم تكره الصلاة فيها باتفاق المسلمين، وأما إذا تيقن نجاستها فلا يصلي فيها حتى تطهر، لكن الصحيح أنه إذا دُلِكَ النعل بالأرض [طهره بالدَلْك] (¬3)، كما جاءت به السنة، سواء كانت النجاسة عذرة أو غير عذرة، فإن أسفل النعل محل تتكرر ملاقاة النجاسات له، فهو بمنزلة السبيلين فلما كانت إزالة الخبث عنها بالحجارة ثابتة بالسنة المتواترة، فكذلك هذا، وإذا شك في نجاسة أسفل الخف لم تكره الصلاة فيه، ولو تيقن بعد الصلاة أنه كان نجسًا فلا إعادة عليه على الصحيح، وكذلك غيره: كالبدن والثياب والأرض (¬4). ¬
فصل في صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال الغيم
(فصل) وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون [رؤية] (¬1) الهلال غيم، أو قتر فللعلماء فيه عدة أقوال، وهي مذهب [في] (¬2) أحمد وغيره: [أحدها] (¬3): أن صومه منهي عنه، ثم هل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين. وهذا هو المشهور في مذهب مالك والشافعي، وأحمد، في إحدى [الروايات عنهم،] (¬4) واختار ذلك طائفة من أصحابه، كأبي الخطاب [وابن عقيل] (¬5) وأبي القاسمم بن مندة الأصفهاني وغيرهم. والقول الثاني: أن صيامه واجب، كاختيار الخرقي والقاضي وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يُقال: أنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد، لمن عرف نصوصه وألفاظه: أنه كان يستحب صيام يوم الغيم، اتباعًا لعبد الله بن عمر وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطًا (¬6)، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطًا، ونقل ذلك عن ¬
عمر، وعلي، ومعاوية، وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء، ¬
وغيرهم (¬1)، ومنهم من كان لا يصومه، مثل كثير من الصحابة (¬2)؛ ومنهم من كان ينهى عنه كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد - رضي الله عنه - كان يصومه احتياطًا. وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه، لكن كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، [ونصروا] (¬3) ذلك [القول] (¬4) (¬5). و [القول الثالث] (¬6): أنه يجوز صومه ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ¬
وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين وأكثرهم، وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز، فإن شاء أمسك وإن شاء أكل حتى [يتيقن] (¬1) طلوع الفجر. وكذلك إذا شك، هل أحدث أم لا؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ، وكذلك إذا شك، هل حال حول الزكاة أو لم يحل؟ وإذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة أو مائة وعشرون؟ فأدى الزكاة. وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الآحتياط ليس بواجب ولا محرم. ثم إذا صامه بنية مطلقة أو بنية معلقة، بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح [الروايات أو] (¬2) الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار الخرقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما. والقول الثاني: أنه لا يجزيه إلا بنية من رمضان، كإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي وجماعة من أصحابه (¬3). وأصل هذه المسألة (¬4): أن تعيين النية لشهر رمضان، هل هو واجب؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد. ¬
أحدها: أنه لا يجزيه إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة أو معلقة، أو بنية النفل والنذر، لم يجزئه ذلك، كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات. والثانية: يجزئه مطلقًا، كمذهب أبي حنيفة. والثالثة: أنه [لا] (¬1) يجزي بنية مطلقة، لا بنية [تعيين] (¬2) غيره رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي وأبي البركات. وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غدًا من رمضان، فلابد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلًا أو صومًا مطلقًا، لم [يجزئه] (¬3)، لأن الله -عز وجل- أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإن لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته. وأما إذا كان لم يعلم أن غدًا من شهر رمضان فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين، فإذا قيل: إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة أو معلقة، أجزأه. وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعًا ثم تبين أنه كان من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزيه أيضًا، كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم، ¬
يعلم ذلك فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين له أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان، بل يقول له: ذلك الذي وصل إليك هو حقٌّ كان لك عندي، والله [يعلم حقائق] (¬1) الأمور. والرواية التي تروى عن أحمد [فيه] (¬2): أن الناس تبع للإمام في نيته على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون". وقد تنازع الناس في الهلال، هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد، أو لا يسمى هلالًا حتى يستهل به الناس ويعلموه؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقًا، هل هو يوم شك؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم. والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه. والثالث: أنه من رمضان حكمًا، فلا يكون يوم شك، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. ¬
وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر، هل يصوم ويفطر وحده، أو لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، أو يصوم وحده ويفطر مع الناس؟ على ثلاثة أقوال [معروفة] (¬1) في مذهب أحمد وغيره. ¬
فصل في الجنب إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله
(فصل) وأما الجنب سواء كان رجلًا أو امرأة: فإنه إذا عَدِمَ الماء أو خاف الضرر باستعماله، فإن كان لا يمكنه دخول الحمام لعدم الأجرة، أو لغير ذلك فإنه يصلي بالتيمم، ولا يكره للرجل وطء امرأته لذلك، بل له أن يطأها، كما له أن يطأها في السفر، وإن صليا بالتيمم. وإذا أمكن الرجل أو المرأة أن يغتسل ويصلي خارج الحمام فعل ذلك، فإن لم يمكن ذلك مثل أن لا يستيقظ أول الفجر، وإن اشتغل بطلب الماء خرج الوقت، وإن طلب حطبًا يسخن به الماء، أو ذهب إلى الحمام، فات الوقت، فإنه يصلي [هنا] (¬1) بالتيمم عند جمهور العلماء، إلا بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: يشتغل بتحصيل الطهارة، وإن فات الوقت، وهكذا قالوا في اشتغاله بخياطة اللباس، وتعلم دلائل القبلة ونحو ذلك. وهذا القول خطأ، فإن قياس هذا القول: أن المسافر يؤخر الصلاة في تحصيل الماء حتى يصلي بعد الوقت بالوضوء، وأن العريان يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باللباس. وهذا خلاف إجماع المسلمين، بل على العبد أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان، وما عجز عنه من واجبات الصلاة سقط عنه. ¬
وأما إذا استيقظ آخر الوقت، [أو] (¬1) إن اشتغل باستقاء الماء من البئر خرج الوقت، أو إن ذهب إلى الحمام للغسل خرج الوقت، [فهذا يغتسل] (¬2) عند جمهور العلماء، ومالك رحمه الله يقول: بل يصلي بالتيمم؛ محافظة على الوقت، والجمهور يقولون: إذا استيقظ آخر الوقت فهو حينئذ مأمور بالصلاة بالطهارة، والوقت في حقه من حين استيقظ، وهو ما يمكنه فعل الصلاة فيه، كما أمر؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" (¬3). فالوقت المأمور بالصلاة فيه في حق النائم هو إذا استيقظ، لا ما قبل ذلك، وفي حق الناسي إذا ذكر، والله أعلم (¬4). ¬
فصل فيمن يمكنه الذهاب إلى الحمام ولكن إن دخل يفوته الوقت
(فصل) وأما إن كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب إلى الحمام، لكن إن دخل لا يمكنه الخروج حتى يفوت الوقت، إما لكونه مقهورًا مثل الغلام الذي لا يخليه سيده يخرج حتى يصلي، ومثل المرأة التي معها أولادها، فلا يمكنها الخروج حتى تغسلهم ونحو ذلك، فهؤلاء لابد لهم من أحد أمور: إما أن يغتسلوا ويصلوا في الحمام في الوقت، [وإما أن يصلوا خارج الحمام بعد خروج الوقت، وإما أن يصلوا خارج الحمام بالتيمم] (¬1)، وبكل قول من هذه الأقوال يفتي طائفة. لكن الأظهر أنهم يصلون بالتيمم خارج الحمام؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها (¬2)، وتفويت الصلاة حتى يخرج الوقت أعظم من ذلك؛ ولا يمكن الخروج عن هذين النهيين إلا بالصلاة بالتيمم في الوقت خارج الحمام (¬3). ¬
وصار هذا كما لو لم يمكنه الصلاة إلا في موضع نجس في الوقت، أو في موضع طاهر بعد الوقت [إذا اغتسل] (¬1)، أو يصلي [بالتيمم] (¬2) في [المكان النجس] (¬3) في الوقت؟ فهذا أولى: لأن كلًّا من ذينك منهي عنه. وتنازع الفقهاء فيمن حبس في موضع نجس وصلى فيه، هل يعيد؟ على قولين أصحهما: أنه لا إعادة عليه، بل الصحيح الذي عليه أكثر العلماء: أن من يصلي في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فلا إعادة عليه، سواء كان الحذر نادرًا أو معتادًا. فإن الله تعالى لم يوجب على العبد الصلاة المعينة مرتين، إلا إذا كان قد حصل منه إخلال بواجب، أو بفعل محرم، فأما إذا فعل الواجب بحسب الإمكان، فلم يأمره بها مرتين، ولا أمر الله تعالى أحدًا أن يصلي الصلاة ويعيدها، بل حيث أمره بالإعادة لم يأمره بذلك ابتداءً، كمن صلى بلا وضوء ناسيًا، فإن هذا لم يكن مأمورًا بتلك الصلاة، بل اعتقد أنه مأمور خطأ منه، وإنما أمره الله تعالى أن يصلي بالطهارة؛ فإن صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي توضأ وترك موضع ظفر من قدمه لم يصبه الماء أن يعيد الوضوء والصلاة (¬4)، وكما أمر المسيء في صلاته أن يعيد ¬
الصلاة (¬1) وكما أمر المصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فأما العاجز عن الطهارة [و] (¬1) الستار [و] (¬2) استقبال القبلة، أو اجتناب النجاسة، أو عن إكمال الركوع والسجود، أو عن قراءة الفاتحة ونحو هؤلاء، ممن يكون عاجزًا عن [بعض] (¬3) واجباتها، فإن هذا يفعل ما قدر عليه، ولا إعادة عليه، كما قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن 16] وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم" (¬4) (¬5). ¬
فصل في الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وأهل الفجور
(فصل) وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور: ففيه نزاع مشهور وتفضيلُ: ليس هذا موضع بسطه؛ لكن أوسط الأقوال في هؤلاء: أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهرًا للفجور أو البدع، يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك. وأقل مراتب الإنكار: هجره، لينتهي عن فجوره وبدعته. ولهذا فرَّق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر، فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت، فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا يُنكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة. ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى، بخلاف من أظهر الكفر، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته. فإذا أمكن لإنسان أن لا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة، وجب ذلك، لكن إذا ولَّاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيج خير الخيرين، إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يَجُز ذلك بل يصلي خلفه، ما لا [يمكن] (¬1) [فعله] (¬2) إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره؛ ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج (¬3) والمختار بن أبي عبيد الثقفي (¬4) وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم إفسادًا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعات والجماعات خلف أئمة الجَوْر ¬
مطلقًا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع. وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهو أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ إذا صلى خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد للعلماء. منهم من قال: إنه يعيد؛ لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهيًّا عنها، فيعيدها. ومنهم من قال: لا يعيد؛ لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع عند نداء الجمعة، وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه: كالجمعة، فهنا لا تعاد الصلاة وإعادتها من فعل أهل البدع. وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، أعيدت الجمعة خلفه وإلا لم تعد، وليس كذلك، بل النزاع في الإعادة، حيث يُنهى الرجل عن الصلاة. فأما إذا أمر بالصلاة خلفه، فالصحيح هنا: أنه لا إعادة عليه، لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين. وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه، ومن قال: إنه يكفر. أمر بالإعادة؛ لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة، وقد حُكِيَ عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان، وعن الإمام أحمد أيضًا
فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام، فذكروا للأشعري فيها [قولين] (¬1)، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل. وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بَلَغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله -عز وجل- يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ¬
وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها، فأما التفريق بين نوع، وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل، لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة الإسلام. وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره عن الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرَّق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هل رأى ربه، أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث، وهي من المسائل الاعتقادية العلمية، وما كفر فيها أحد بالاتفاق، ووجوب الصلاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر: هي مسائل [علمية] (¬1)، والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية. قيل [له] (¬2): كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل ¬
[العلم] (¬1) ليست قطعية، [وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية] (¬2). وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية، فضلًا عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته، وقد ثبت في [الصحيح] (¬3) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين؛ فأمر الله تعالى البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب؛ فغفر الله تعالى له" (¬4) فهذا [ظاهره] (¬5) شك في قدرة الله تعالى وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله تعالى عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية. على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غَوْر قولهم، ¬
فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقًا، حتي تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة [المفضِّلة] (¬1) لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد [في النار] (¬2)، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله: أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليًّا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر [الجهمية] (¬3) المنكرين لأسماء الله تعالى وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر بينة، ولأن حقيقة قولهم: تعطيل الخالق، وكان قد ابتُلِيَ بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل (¬4). وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله، والذي يعاقب مخالفه أعظم عن الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه؛ ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول ¬
الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله -عز وجل- لا يُرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم [يجيبوهم] (¬1) ويكفرون من لم [يجبهم] (¬2) حتى إنهم كانوا إذا افتكوا الأسير لا يطلقونه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك ولا يولون متوليًا، ولا يعطون رزقًا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ترحم عليهم، واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك لهم (¬3). وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد -حين قال القرآن مخلوق-: كفرت بالله العظيم. بين [ذلك] (¬4): أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرَّح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر، ولفظ بعضهم: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. ¬
وشئل أحمد عن القدري، هل يكفر؟ فقال: إن جحد العلم كفر (¬1)، وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية. وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكفِّ ضرره عن الناس كما يُقتل المحارب، وان لم يكن في نفس الأمر كافرًا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره، قد يكون على هذا الوجه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا (¬2). ¬
فصل فيمن لا يقيم قراءة الفاتحة
(فصل) وأما من لا يقيم قراءة الفاتحة فلا يصلي خلفه إلا من هو مثله، فلا يصلي خلف الألثغ الذي يبدل حرفًا بحرف، إلا حرف الضاد إذا أخرجه من طرف الفم، كما هو عادة كثير من الناس، فهذا فيه وجهان: منهم من قال: لا يصلي خلفه، ولا تصح صلاته في نفسه؛ لأنه أبدل حرفًا بحرف، فإن مخرج الضاد [الشفتان مع حافتي اللسان وأطراف الأسنان العليا] (¬1)، ومخرج الظاء طرف اللسان، فإذا قال: ولا الظالين، كان معناه: ظل يفعل كذا. والوجه الثاني: تصح، وهذا أقرب؛ لأن الحرفين في السمع شيء واحد، وحس أحدهما من جنس حس الآخر، لتشابه المخرجين، والقارئ إنما يقصد الضلال المخالف للهدى، وهو الذي يفهمه المستمع. فأما المعنى المأخوذ من "ظل" فلا يخطر ببال أحد، وهذا بخلاف الحرفين المختلفين صوتًا ومخرجًا وسمعًا، كإبدال الراء بالغين، فإن هذا لا يحصل به مقصود القراءة (¬2) (¬3). ¬
فصل في المرأة الحائض إذا انقطع دمها لا يطؤها زوجها حتى تغتسل
(فصل) وأما المرأة الحائض إذا انقطع دمها: فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إن كانت قادرة على الاغتسال، وإلا تيممت، كما هو مذهب جمهور العلماء: مالك والشافعي وأحمد. وهذا معنى ما يروى عن الصحابة، حيث رُوي عن بضعة عشر من الصحابة، منهم الخلفاء، أنهم قالوا في المعتدة: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، والقرآن يدل على ذلك. قال الله {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، قال مجاهد: "حتى يطهرن": ينقطع الدم، "فإذا تطهرن"، أي: اغتسلن بالماء (¬1)، وهو كما قال مجاهد. ¬
وإنما ذكر الله تعالى غايتين على قراءة الجمهور؛ لأن قوله: {حَتَّى يَطهُرنَ} غاية التحريم الحاصل بالحيض، وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره، فهذا التحريم يزول بانقطاع الدم، ثم يبقى الوطء بعد ذلك جائزًا، بشرط الاغتسال، لا يبقى محرمًا على الإطلاق، فلهذا قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}. وهذا كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، فقوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} غاية التحريم الحاصل بالثلاث، فإن نكحت الزوج الثاني زال ذلك التحريم، لكن صارت في عصمة الثاني؛ فحرمت لأجل حقه، لا لأجل الطلاق الثالث، فإن طلقها جاز للأول أن يتزوجها. وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: غسلن فروجهن بالماء، وهذا ليس بشيء (¬1)، لأنه تعالى قد ¬
قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فالتطهير في كتاب الله تعالى هو الاغتسال. وأما قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فهذا يدخل فيه المتوضئ والمغتسل والمستنجي، لكن التطهر المقرون بالحيض كالتطهر المقرون بالجنابة، المراد به الاغتسال. وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: إذا اغتسلت، أو مضى ¬
عليها وقت الصلاة، أو انقطع الدم لعشرة أيام، حلَّت، بناء على أنه يحكم بطهارتها في هذه الأحوال (¬1). وقول الجمهور: هو الصواب، كما تقدم والله أعلم (¬2). ¬
فصل في عادم الماء إذا لم يجد ترابا وعنده رمل
(فصل) (¬1) وأما عادم الماء إذا لم يجد ترابًا وعنده رمل: فإنه يتيمم به ويصلي ولا إعادة عليه، عند جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد، في أظهر الروايتين عنه (¬2)؛ لأن النبي صلى الله عليه تعالى ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسلم قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره (¬1)، وكثير من الطرق التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يسافرون بها قد لا يوجد فيها إلا رمل؛ وحمل التراب بدعة. لم يفعله أحد [من المسافرين ولا أحد] (¬2) من السلف. فعلم أنه كان عند أحدهم مسجده وطهوره، والله أعلم. ¬
فصل في الذي استيقظ وعليه غسل وقد ضاق الوقت
(فصل) وأما إذا استيقظ وعليه غسل وقد ضاق الوقت [فقد تقدم جوابها، وأما المسافر إذا وصل إلى ماء، وقد ضاق الوقت] (¬1)، فإنه يصلي بالتيمم على قول جمهور العلماء، كذلك لو كان هنالك بئر لكن لا يمكن أن يصنع له حبلًا حتى يخرج الوقت، أو يمكن حفر الماء [ولا يحفر] (¬2) حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي بالتيمم. وقد قال بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد: إنه يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت، لاشتغاله بتحصيل الشرط، وهذا ضعيف؛ لأن المسلم أمر أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان، فإن المسافر إذا علم أنه لا يجد الماء حتى يفوت الوقت كان فرضًا عليه أن يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة حتى يصل إلى الماء، وقد ضاق الوقت بحيث لا يمكنه الاغتسال والصلاة حتى يخرج الوقت، بل إذا فعل ذلك كان عاصيًا بالاتفاق، وحينئذ فإذا وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت، ففرضه: إنما هو الصلاة بالتيمم في الوقت، وليس هو مأمور بهذا الاستعمال الذي يفوت معه الوقت، بخلاف المستيقظ آخر الوقت، والماء حاضر، فإن هذا مأمور أن يغتسل ويصلي، ووقته من حين استيقظ، لا من حين طلع الفجر، بخلاف من كان يقظان عند طلوع الفجر، أو عند زوال الشمس، مقيمًا كان أو مسافرًا، فإن الوقت في حقه من حينئذ، والله أعلم (¬3). ¬
فصل فيمن ذهب إلى الحمام ليغتسل ويخرج ويصلي
(فصل) وأما إذا ذهب إلى الحمام ليغتسل ويخرج ويصلي خارج الحمام في الوقت، فلم يمكنه إلا أن يصلي في الحمام، أو تفوت الصلاة: فالصلاة في الحمام خير من تفويت الصلاة، فإن الصلاة في الحمام كالصلاة في الحش والمواضع النجسة ونحو ذلك، ومن كان في موضع نجس ولم يمكنه أن يخرج منه حتى يفوت الوقت، فإنه يصلي فيه ولا يفوت الوقت؛ لأن مراعاة الوقت مقدمة على مراعاة جميع الواجبات. وأما إن كان يعلم أنه إذا ذهب إلى الحمام لم يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت، فقد تقدمت هذه المسألة. والأظهر: أنه يصلي بالتيمم، فإن الصلاة بالتيمم خير من الصلاة في الأماكن التي نُهي عنها، وعن الصلاة بعد خروج الوقت (¬1). ¬
فصل في المني
(فصل) وأما المني: فالصحيح: أنه طاهر، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقد قيل: إنه نجس يجزئ فركه، كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية أخرى، وهل يعفى عن يسيره كالدم، أو لا يعفى عنه كالبول؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. وقد قيل: إنه يجب غسله، كقول مالك: والأول هو الصواب. فإنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه، وهذا مما تعم به البلوى، فلو كان ذلك نجسًا لكان يجب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمرهم بإزالة ذلك من أبدانهم وثيابهم، كما أمرهم بالاستنجاء وكما أمر الحائض بأن تغسل دم الحيض من ثوبها، بل إصابة المني [للثياب والبدن] (¬1) أعظم بكثير من إصابة دم الحيض لثوب الحائض. ومن المعلوم: أنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أحدًا من الصحابة أن يغسل المني من بدنه ولا ثيابه، فعلم يقينًا أن هذا لم يكن واجبًا، وهذا قاطع لمن تدبره. وأما كون عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تغسله، تارة من ثوب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (¬2)، وتفركه تارة (¬3)، فهذا لا ¬
يقتضي نجاسته، فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ. وهكذا قال غير واحد من الصحابة، كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وغيرهما: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، أمطه عنك ولو بإذخرة" (¬1)، وسواء كان الرجل مستنجيًا أو مستجمرًا فإن منيه طاهر. ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر، فقوله ضعيف؛ فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون، ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا قليل جدًّا، بل كان كثير منهم لا يعرفون الاستنجاء بل أنكروه، ومع هذا فلم يأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أحدًا منهم بغسل أثر منيه، بل ولا فركه، والاستنجاء بالأحجار، هل هو مطهر أو مجفف؟ فيه قولان معروفان. فإن قيل: هو مطهر فلا كلام. وإن قيل: هو مجفف وأنه يعفى عن أثره للحاجة، فإنه يعفى عنه في محله، وفيما يشق الاحتراز عنه، والمني يشق الاحتراز عنه، فألحق بالمخرج (¬2). ¬
فصل في استحالة النجاسة كرماد السرجين النجس
(فصل) وأما آستحالة النجاسة، كرماد السرجين النجس، والزبل النجس، يستحيل ترابًا، فقد تقدمت هذه المسألة: وقد ذكرنا أن فيها قولين في مذهب مالك وأحمد، أحدهما: أن ذلك طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وأهل الظاهر وغيرهم؛ وذكرنا أن هذا القول هو الراجح. وأما الأرض إذا أصابتها نجاسة، فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول: إنها تطهر، وإن لم يقل بالاستحالة. وفي هذه المسألة مع مسألة الاستحالة ثلاثة أقوال. والصواب: الطهارة في الجميع؛ كما تقدم (¬1). ¬
فصل في الخف إذا كان فيه خرق يسير
(فصل) وأما الخف إذا كان فيه خرق يسير: ففيه نزاع مشهور. فأكثر الفقهاء: على أنه يجوز المسح عليه، كقول أبي حنيفة ومالك. والقول الثاني: لا يجوز، كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد قالوا: لأن ما ظهر من القدم فرضه الغسل، وما استتر فرضه المسح، ولا يمكن الجمع بين البدل والمبدل منه. والقول الأول: أرجح؛ فإن الرخصة عامة، ولفظ الخف يتناول ما فيه الخرق، وما لا خرق فيه، لا سيما والصحابة كان فيهم فقراء كثيرون، وكانوا يسافرون، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون في بعض خفافهم خروق، والمسافرون قد يتخرق خف أحدهم، ولا يمكنه إصلاحه في السفر فإن [لم] (¬1) يجز المسح عليه لم يحصل مقصود الرخصة. وأيضًا: فإن جمهور العلماء يعفون عن ظهور يسير العورة، وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز عنها، فالخرق اليسير في الخف كذلك. وقول القائل: إن ما ظهر فرضه الغسل: ممنوع؛ فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح، كالمسح على الجبيرة، بل يمسح أعلاه [دون أسفله وعقبه] (¬2)، وذلك يقوم مقام غسل الرجل، فمسح ¬
بعض الخف كافٍ عما يُحاذي المسموح به وما لا يحاذيه، فإذا كان الخرق في العقب لم يجز غسل ذلك الموضع ولا مسحه، ولو كان على ظهر القدم لم يجب مسح كل جزء من ظهر القدم، وباب المسح على الخفين مما قد جاءت السنة فيه بالرخصة، حتى جاءت بالمسح على الجوارب والعمائم وغير ذلك، فلا يجوز أن [يتناقض] (¬1) مقصود الشارع من التوسعة بالحرج والتضييق (¬2) (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فصل في التيمم للنجاسة بالبدن أو الثوب
(فصل) (¬1) وأما التيمم للنجاسة بالبدن أو الثوب. فالتيمم لنجاسة الثوب لم نعلم قائلًا به من العلماء، بل كلهم متفقون على أن النجاسة في الثوب لا يتيمم لها. وأما النجاسة في البدن فهل يتيمم لها؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد أحدهما: لا يتيمم لها، وهذا قول جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة والشافعي؛ لأن التيمم إنما جاء في طهارة الحدث، دون طهارة الخبث. والثاني: يتيمم لها: لأنها طهارة شرعية متعلقة بالبدن، فأشبهت طهارة الحدث. وقول الجمهور أصح؛ لأنه لو شرع التيمم لذلك لشرع للمستحاضة ولمن به سلس البول، ولمن عجز عن الاستنجاء. وقد عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المستحاضة بالتيمم، وعمر بن الخطاب صلى وجرحه يثعب (¬2) دمًا (¬3) ولم يتيمم، فلو كان التيمم كالماء لكان تيممه ¬
للنجاسة كغسلها بالماء، بل لو كان يتيمم ويصلي لما كان عاجزًا عن إزالة النجاسة ولسقط وجوب إزالتها، وجازت الصلاة معها بدون تيمم، ولأن إزالة النجاسة طهارة حسية، وهي من باب التروك، كما تقدم. وقد رجحنا أنها تزول بكل مزيل والتيمم إنما أقيم مقام الماء المختص بطهارة الحدث. ¬
فصل في صلاة المأموم قدام الإمام
(فصل) وأما صلاة المأموم قدام الإمام، ففيها ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنها تصح مطلقًا، وإن قيل: إنها تكره، وهذا هو المشهور من مذهب مالك، والقول القديم للشافعي. والثاني: أنها لا تصح مطلقًا، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبهما. والثالث: أنها تصح مع العذر، دون غيره، مثل ما إذا كانت زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيرًا له من تركه للصلاة، وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهو أعدل الأقوال وأرجحها. وذلك لأن ترك المتقدم على الإمام: غايته أن يكون واجبًا من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر، وإن كانت واجبة في أصل الصلاة فالواجب في الجماعة أولى بالسقوط، ولهذا يسقط عن المصلي ما يعجز عنه من القيام والقراءة واللباس والطهارة واستقبال المقبلة وغير ذلك. وأما الجماعة فإنه يجلس في [الأوتار] (¬1) لمتابعة الإمام، ولو فعل ذلك منفردًا عمْدًا بَطُلت صلاته، وإذا أدركه ساجدًا أو قاعدًا كبر وسجد معه وقعد معه؛ لأجل المتابعة، مع أنه لا يعتد له بذلك، ¬
ويسجد لسهو الإمام، وإن كان هو لم يسه. وأيضا ففي صلاة الخوف [يستدير] (¬1)، ويعمل العمل الكثير، ويفارق الإمام قبل السلام، ويقضي الركعة الأولى قبل سلام الإمام، وغير ذلك مما يفعله لأجل الجماعة، ولو فعله لغير عذر بطلت صلاته. وأبلغ من ذلك: أن مذهب أكثر البصريين وأكثر أهل الحديث أن الإمام الراتب إذا صلى جالسًا صلى المأمومون جلوسًا؛ لأجل متابعته فيتركون القيام الواجب لأجل المتابعة، كما استفاضت السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" (¬2). والناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قيل: لا يؤم القاعد القائم، وأن ذلك من خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كقول مالك ومحمد بن الحسن. وقيل: يؤمهم ويقومون، وأن الأمر بالقعود منسوخ، كقول أبي حنيفة والشافعي. وقيل: بل ذلك محكم، وقد فعله غير واحد من الصحابة بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كأسيد بن حضير وغيره، ¬
وهذا مذهب حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وغيرهما. وعلى هذا فلو صلوا قيامًا ففي صحة صلاتهم قولان. والمقصود هنا: أن الجماعة تفعل بحسب الإمكان، فإذا كان المأموم لا يمكنه الائتمام بإمامه إلا قدامه، فغاية ما في هذا: أنه يترك الموقف لأجل الجماعة، وهذا أخف من غيره، ومثل هذا: أنه منهي عن الصلاة خلف الصف وحده، فلو لم يجد من يصافه، صلى وحده خلف الصف، ولم يدع الجماعة [ولم يجذب أحدًا يصلي معه] (¬1) كما أن المرأة إذا لم تجد امرأة تصافها، فإنها تقف وحدها خلف الصف باتفاق الأئمة، وهو إنما أمر بالمصافة مع الإمكان، لا عند العجز عن المصافة (¬2). ¬
فصل في صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد
(فصل) وأما [صلاة] (¬1) المأموم خلف الإمام خارج المسجد، أو في المسجد وبينهما حائل. فإن كانت الصفوف متصلة جاز ذلك باتفاق الأئمة، وإن كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن، ففيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع، كقول أبي حنيفة. والثاني: الجواز، كقول الشافعي، وإن كان بينهما حائل يمنع الرؤية والاستطراق، ففيه عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في المسجد دون غيره، وقيل: يجوز للحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة، ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقًا، مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة، أو تكون المقصورة التي فيها الإمام مغلقة، ونحو ذلك، فهذا لو كانت الرؤية واجبة لسقطت للحاجة كما تقدم. فإنه قد تقدم أن واجبات الصلاة والجماعة تسقط بالعذر، وأن الصلاة في الجماعة خير من صلاة الإنسان وحده بكل حال (¬2). ¬
فصل فيما إذا كان بالقرية أقل من أربعين رجلا
(فصل) وأما إذا كان بالقرية أقل من أربعين رجلًا، فإنهم يصلون ظهرًا عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد في المشهور عنه وكذلك أبو حنيفة لكنه يشترط المصر، لكن الشافعي وأحمد وأكثر العلماء يقولون: إن كانوا أربعين صلوا جمعة (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[مسألة] (¬1) وأما الجماعة فقد قيل: إنها سنة، وقيل: واجبة على الكفاية، وقيل: إنها [واجبة] (¬2) على الأعيان. وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة، فإن الله تعالى أمر بها في حال الخوف، ففي حال الأمن أولى وأوكد. وأيضًا فقد قال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. وهذا أمر بها. وأيضًا فقد ثبت في الصحيح: أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرخص له أن يصلى في بيته، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أجد لك رخصة" (¬3)، وابن أم مكتوم كان رجلًا صالحًا، فيه نزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 1 - 2] وكان من المهاجرين، ولم يكن في المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق، فعلم أن لا رخصة لمؤمن في تركها. وأيضًا فقد ثبت في الصحاح: أن النبي صلى الله تعالى عليه ¬
وسلم قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر وجلًا يصلي بالناس، ثم أنطلق، ومعي رجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار" (¬1)، وفي رواية: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية" (¬2)، فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة ما في بيوتهم من النساء والأطفال، فإن تعذيب أولئك لا يجوز: لأنه لا جماعة عليهم. ومن قال: إن هذا كان في الجمعة، أو كان لأجل نفاقهم؛ فقوله ضعيف؛ فإن المنافقين لم يكن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقتلهم على النفاق، بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر. فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب لما عاقبهم، والحديث قد بيَّن فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر. وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم، وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة. [وأيضًا فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها، فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب] (¬3). ¬
فصل فيمن ترك الجماعة من غير عذر
(فصل) وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره. أحدهما: تصح صلاته، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة" (¬1). والثاني: لا تصح لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له" (¬2)، ولقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في ¬
المسجد" (¬1) وقد قوَّاه عبد الحق الإشبيلي. وأيضًا فإذا كانت واجبة فمن يترك واجبًا في الصلاة لم تصح صلاته، وحديث التفضيل محمول على حال العذر، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد" (¬2). وهذا عام في الفرض والنفل؛ وإلانسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدًا أو نائمًا إلا في حال العذر، وليس له أن يتطوع نائمًا عند جماهير السلف والخلف، إلا وجهًا في مذهب الشافعي وأحمد. ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعًا بدعة لم يفعل أحد من السلف. ¬
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم" (¬1)، يدل على أنه [يكتب] (¬2) له لأجل نيته، وإن كان لم يعمل عادته قبل المرض والسفر. فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر، وكان معتادًا لها كتب له أجر الجماعة، وأن لم يكن يعتادها لم يكتب له، وإن كان في الحالين إنما له بنفس الفعل صلاة منفرد، وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو مضجعًا. وعلى هذا القول: فإذا صلى الرجل وحده، وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك، وإن لم يمكنه فعل الجماعة استغفر الله تعالى كمن فاتته الجمعة وصلى ظهرًا، وإذا قصد الرجل الجماعة فوجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في جماعة كما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (¬3). وإذا [أدرك] (¬4) مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل من ركعة فله بنيته أجر الجماعة، لكن هل يكون مدركًا للجماعة، أو يكون بمنزلة من صلى وحده؟ فيه قولان للعلماء في مذهب ¬
الشافعي وأحمد: أحدهما: أن يكون كمن صلى جماعة، كقول أبي حنيفة. والثاني: يكون كمن صلى منفردًا، كقول مالك، وهذا أصح لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء: إنه لا يكون محركًا للجمعة ألا بإدراك ركعة، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون: إنه يكون مدركًا لها إذا أدركهم في التشهد. ومن فوائد النزاع في ذلك: أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة، إذا أدرك ركعة فإن أدرك أقل من ركعة، فعلى القولَيْن المتقدمَيْن. والصحيح: أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعة للإمام [وهو] (¬2) بعد سلام الإمام كالمنفرد باتفاق الأئمة، والله أعلم (¬3). ¬
فصل في تضمين الحديقة أو البستان الذي فيه النخيل والأعناب
(فصل) وأما تضمين حديقته أو بستانه الذي فيه النخيل والأعناب وغير ذلك من الأشجار لمن يقوم عليها ويزرع أرضها بعوض معلوم. فمن العلماء من نهى عن ذلك، واعتقد أنه داخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها (¬1). ثم من هؤلاء من جوَّز ذلك، إذا كان البياض هو المقصود والشجر تابع، كما يذكر عن مالك، ومن هؤلاء من يجوز الاحتيال على ذلك، بأن يؤجر الأرض، ويساقي على الشجر بجزء من الخارج منه. ولكن هذا إن شرط فيه أحد العقدين في الآخر لم يصح، وإن لم يشترط كان لرب البستان أن يلزمه بالأجرة عن الأرض بدون المساقاة، وأكثر مقصود الضامن هو الثمر، وهو جزء كبير من مقصوده، وقد يكون المكان وقفًا أو مال يتيم، فلا يجوز المحاباة في مساقاتِه. وهذه الحيلة -وإن كان القاضي أبو يعلي ذكرها في كتابه إبطال الحيل موافقة لغيره- فالمنصوص عن أحمد أنها باطلة. وقد بينا بطلان الحيل التي يكون ظاهره مخالفًا لباطنها، ويكون ¬
المقصود بها فعل ما حرم الله ورسوله، كالحيل على الربا، وعلى أسقاط الشفعة وغير ذلك، بالأدلة الكثيرة في غير هذا الموضع (¬1). ومن العلماء من جوَّز الضمان للأرض والشجر مطلقًا، وإن كان الشجر مقصودًا، كما ذكر ذلك ابن عقيل وهذا القول أصح، وله مأخذان: أحدهما: أنه إذا اجتمع الشجر والأرض، فتجوز الإجارة لهما جميعًا لتعذر التفريق بينهما في العادة. والمأخذ الثاني: أن هذه الصورة لم تدخل في نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن رب الأرض لم يبع ثمره، بل آجر أصلًا، والفرق بينهما من وجوه: أحدها: أنه لو استأجر الأرض جاز، ولو اشترى الزرع قبل اشتداد الحب بشرط البقاء لم يجز، فكذلك يفرق في الشجر. الثاني: أن البائع عليه السقي وغيره، مما فيه صلاح الثمرة حتى ¬
يكمل صلاحها، وليس على المشتري شيء من ذلك. وأما الضامن والمستأجر، فإنه هو الذي يقوم بالسقي والعمل، حتى تحصل الثمرة أو الزرع فاشتراء الثمرة اشتراء للعنب والرطب، فإن البائع عليه تمام العمل حتى يصلح، بخلاف من دفع إليها الحديقة، وكان هو القائم عليها. الثالث: أنه لو دفع البستان إلى من يعمل عليه بنصف ثمره وزرعه، كان هذا مساقاة ومزارعة، واستحق نصف الثمر والزرع بعمله، وليس هذا اشتراء للحب والثمر. الرابع: أنه لو أعار أرضه لمن يزرعها، أو أعطى شجرته لمن يستغلها ثم يدفعها إليه، كان هذا من جنس العارية، لا من جنس هبة الأعيان. الخامس: أن ثمرة الشجر من مغل الوقف، كمنفعة الأرض ولبن الظئر، واستئجار الظئر جائز بالكتاب والسنة والإجماع، واللبن لما كان يحدث شيئًا بعد شيء، صح عقد الإجارة عليه، كما يصح على المنافع وإن كان أعيانًا. ولهذا يجوز ملك إجارة الماشية بلبنها، فإجارة البستان لمن يستغله بعمله هو من هذا الباب، ليس هو من باب الشراء. وإذا قيل: إن في ذلك غررًا، قيل: هو كالغرر في الإجارة، فإنه إذا أستأجر أرضًا ليزرعها، فإنما مقصوده الزرع، فقد يحصل، وقد لا يحصل. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه ضمن حديقة أسيد بن
حضير بعد موته ثلاث سنين، وأخذ الضمان فصرفه في دَيْنهِ (¬1)، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وأيضًا فإن أرض العنوة لما فتحها المسلمون دفعها عمر إليهم -وفيها النخيل والأعناب- لمن يعمل عليها بالخراج، وهذه إجارة عند أكثر العلماء (¬2). ¬
فصل فيما يأخذه ولاة المسلمين من العشر وزكاة الماشية وغيرها
(فصل) وأما ما يأخذه ولاة المسلمين من العشر وزكاة الماشية والتجارة وغير ذلك، [فإنه يسقط] (¬1) عن صاحبه إذا كان الإمام عادلًا يصرفه في مصارفه الشرعية باتفاق العلماء، فإن كان ظالمًا لا يصرفه في مصارفه فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه، بل يصرفها هو إلى مستحقيها، فإن أكره على دفعها إلى الظالم، بحيث لو لم يدفعها إليه لحصل له ضرر، فإنها تجزيه في هذه الصورة عند أكثر العلماء، وهم في هذه الحالة ظلموا مستحقيها، كولي اليتيم، وناظر الوقف، إذا قبضوا ماله وصرفوه في غير مصارفه (¬2). ¬
فصل في الزكاة في المساقاة والمزارعة
(فصل) أما الزكاة في المساقاة والمزارعة. فهذا مبنيٌّ على أصل، وهو: أن المزارعة والمساقاة هل هي جائزة أم لا؟ على قولين مشهورين: أحدهما: قول من قال: إنها لا تجوز، [اعتقدوا] (¬1) أنها نوع من الإجارة بعوض مجهول، ثم من هؤلاء من أبطلها مطلقًا، كأبي حنيفة. ومنهم من استثني ما تدعو إليه الحاجة: فجوزوا المساقاة للحاجة؛ لأن الشجر لا يمكن إجارته، بخلاف الأرض، وجوزوا المزارعة على الأرض التي فيها شجر، تبعًا للمساقاة، إما مطلقًا، كقول الشافعي، وإما إذا كان البياض قدر الثلث فما دونه، كقول مالك. ثم منهم من جوز المساقاة مطلقًا، كقول مالك والشافعي في القديم؛ وفي الجديد [قصر] (¬2) الجواز على النخل والعنب. والقول الثاني: قول من يُجَوِّز المساقاة والمزارعة، ويقولون: إن هذا مشاركة، وهو جنس غير جنس الإجارة التي يشترط فيها معرفة قدر النفع والأجرة، فإن العمل في هذه العقود ليس بمقصود، بل المقصود هو الثمر الذي يشتركان فيه، ولكن هذا شارك بنفع ماله، وهذا بنفع بدنه، وهكذا المضاربة. ¬
وعلى هذا فإذا افترق أصحاب هذه العقود وجب للعامل قسط مثله من الربح، إما ثلث الربح وإما نصفه، ولم تجب أجرة المثل للعامل وهذا القول هو الصواب المقطوع به، وعليه إجماع الصحابة. والقول بجواز المساقاة والمزارعة: قول جمهور السلف: من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو مذهب الليث بن سعد وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وفقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل وإسحق ابن راهوية ومحمد بن إسحق بن خزيمة وأبي بكر بن المنذر والخطابي وغيرهم. والصواب: أن المزارعة أحل من المؤاجرة بثمن مسمى؛ لأنها أقرب إلى العدل وأبعد عن الخطر، فإن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من العقود، [منه] (¬1) ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن، ومنه ما يدخل في جنس الميسر الذي هو القمار؛ وبيع الغرر هو من نوع القمار والميسر، فالأجرة، والثمن إذا كانت غررًا، مثل ما لم يُوصف، ولم يُرَ، ولم يُعلم جنسه كان ذلك غررًا وقمارًا. ومعلوم أن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالأرض بحصول الزرع له، فإذا أُعطِيَ الأجرة المسمَّاة كان المؤجر قد حصل له مقصوده بيقين. وأما المستأجر فما يدري: هل يحصل له الزرع أم لا؟ بخلاف المزارعة، فإنهما يشتركان في المغنم، وفي الحرمان، كما في ¬
المضاربة، فإن حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل اشتركا في الحرمان، وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا، ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من [النماء] (¬1)، لا في المضاربة ولا في المساقاة ولا في المزارعة؛ لأن ذلك مخالف للعدل، اذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لا يحصل له شيء، وهذا هو الذى نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الأحاديث التى رُوي فيها: أنه نهى عن المخابرة (¬2)، أو عن كرى الأرض أو عن المزارعة كحديث رافع بن خديج (¬3) وغيره؛ فإن ذلك قد جاء مفسرًا، فإنهم ¬
كانوا يعاملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك، ولهذا قال الليث بن سعد: إن الذي نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو العلم بالحلال والحرام [علم] (¬1) أنه لا يجوز، فأما المزارعة فجائزة بلا ريب، سواء كان البذر من المالك أو العامل أو منهما، وسواء كان بلفظ الإجارة أو المزارعة أو غير ذلك (¬2). هذا أصح الأقوال في هذه المسألة، وكذلك كل ما كان من هذا الجنس: مثل أن يدفع دابته أو سفينته إلى من يكتسب عليها ¬
والربح بينهما، أو من يدفع ماشيته أو نخله إلى من يقوم عليها، والصوف واللبن والولد والعسل بينهما. فإذا عرف هذان القولان في المزارعة، فمن قال من العلماء: إن المزارعة باطلة قال: الزرع كله لرب الأرض، إذا كان البذر منه، أو للعامل إذا كان البذر منه، ومن كان له الزرع كان عليه العشر. وأما من قال: إن رب الأرض يستحق جزءًا مشاعًا من الزرع، فإن عليه عشره باتفاق الأئمة، ولم يقل أحد من المسلمين: إن رب الأرض يقاسم العامل، ويكون العشر كله على العامل، فمن قال هذا فقد خالف إجماع المسلمين (¬1). ¬
فصل في بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه
(فصل) وأما بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه: كاللفت والجزر والقلقاس، والفجل والثوم، والبصل، وشِبْهِ ذلك ففيه قولان للعلماء: أحدهما: أنه لا يجوز، كما هو المشهور عند أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، قالوا: لأن هذه أعيان [غائبة] (¬1) لم تر، ولم توصف، فلا يجوز بيعها، كغيرها من الأعيان الغائبة، وذلك داخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. والثاني: أن بيع ذلك جائز، كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول هو الصواب لوجوه: منها: أن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم. الثاني: أن العلم في المبيع يشترط في كل شيء بحسبه، فما ظهر بعضه وخفي بعضه، وكان في إظهار باطنه مشقة وحرج، اكتفي بظاهره كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان. وأمثال ذلك. ¬
الثالث: [أن] (¬1) ما [احتيج] (¬2) إلى بيعه، فإنه يوسع فيه ما لا يوسع في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة، مع قيام السبب الحاضر، كما أرخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة، ولم يجعل ذلك من المزابنة التي نهى عنها، فإن المزابنة هي بيع المال بجنسه مجازفة، إذا كان ربويًا بالاتفاق، وإن كان غيره ربوي فعلى قولين. وكذلك رخَّص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ابتياع الثمر [بعد بدو] (¬3) صلاحه بشرط [السبقية] (¬4) مع أن تمام الثمرة لم يخلق بعد ولم يُر، فجعل ما لم يوجد ولم يعلم تابعًا لذلك والناس محتاجون إلى بيع هذه النباتات في الأرض. ومما يشبه ذلك: بيع المقاثي: كمقاثي البطيخ والخيار والقثاء وغير ذلك. فمن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم من يقول: لا يجوز بيعها إلا لقطة لقطة، وكتير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم قالوا: إنه يجوز بيعها مطلقًا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصواب، فإن بيعها لا يمكن في العادة إلا على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إما متعذر وإما متعسر، فإنه لا يتميز لقطة عن لقطة، إذ أكثر ذلك لا يمكن التقاطه ويمكن تأخيره، فبيع المقاثي بعد ظهور ¬
صلاحها كبيع ثمرة البستان بعد بدو صلاحها، وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد، ولم يُر؛ ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشجرة كان صلاحًا لباقيها باتفاق العلماء، ويكون صلاحها كسائر ما في البستان من ذلك النوع في أظهر قولي جمهورهم، بل يكون صلاحًا لجميع ثمر البستان الذي جرت العادة أن يباع جملة واحدة، في أحد قولي العلماء. وهذه المسائل وغيرها مما ذكرناه في هذا الجواب مبسوطة في غير هذا الموضع (¬1). ¬
فصل فيمن إذا أسلم في حنطة فاعتاض عنها بشعير
(فصل) وإما أذا أسلم في حنطة فاعتاض عنها بشعير ونحو ذلك، فهذه فيها قولان للعلماء: أحدهما: أنه لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والثانية: يجوز الاعتياض عنه في الجملة، إذا كان بسعر الوقت أو أقل، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، حيث جوَّز إذا أسلم في شيء أن يأخذ عوضًا بقيمته، ولا يربح مرتين، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، حيث جوَّز أخذ الشعير عن الحنطة إذا لم يكن أعلى من قيمة الحنطة، وقال بقول ابن عباس في ذلك، ومذهب مالك: يجوز الاعتياض عن الطعام والعرض [بعوض] (¬1). والأولون احتجوا بما في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" (¬2)، قالوا: ¬
وهذا يقتضي أنه لا يبيع دين السلم، لا من صاحبه ولا من غيره. والقول، الثاني: أصح، وهو قول ابن عباس، ولا يعرف له في الصحابة مخالف؛ وذلك لأن دين [السلم] (¬1) دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه، كبدل القرض، وكالثمن في البيع؛ ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر. وأما الحديث: ففي إسناده نظر، فإن صح، فالمراد به: أنه لا يجعل دين السلم سلفًا في شيء آخر، ولهذا قال: "فلا يصرفه إلى غيره"، أي: لا يصرفه إلى سلف آخر، وهذا لا يجوز؛ لأنه يتضمن الربح فيما لم يضمن وكذلك إذا اعتاض عن ثمن المبيع والقرض، فإنما يعتاض عنه بسعره لما في السنن عن ابن عمر: رضي الله عنهما أنهم سألوا النبي صلى الله تعالي عليه وسلم، فقالوا: إنا نبيع الإبل بالبقيع بالذهب، ونقبض الورق، ونبيع بالورق ونقبض الذهب؟ فقال: "لا (¬2) بأس إذا كان بسعر يومه، إذا افترقتما وليس بينكما شيء" (¬3) فجوَّز الاعتياض بالسعر؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. ¬
فإن قيل: فبائع دين السلم يبيع ذلك، فنهى عن بيع ما لم يقبض. قيل: النهى إنما كان في الأعيان لا في الديون. ¬
فصل فيمن اكترى أرضا للزرع فأصابته آفة
(فصل) وأما إذا اكترى أرضًا للزرع فأصابته آفة. فهذه مسألة وضع الجوائح في الثمر، فإن اشترى ثمرًا [قد بدا صلاحه] (¬1) فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه، فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة: كمالك وغيره، وفقهاء الحديث: كأحمد وغيره، وهو قول معلَّق للشافعي، فإن الشافعي علَّق القول بصحة الحديث (¬2). ¬
والحديث قد ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (¬1)، والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه، فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها. فإذا قيل: هذه الثمرة تلفت بعد القبض، قيل: قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع، فإن المقصود: إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح، ولهذا إذا شرط المشتري في قبضها [بعد كمال الصلاح] (¬2) كانت من ضمانه. وقد تنازع الفقهاء: هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد: ¬
أحدهما: لا يجوز، لأنه بيع للمبيع قبل قبضه، إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه. والثاني: يجوز بيعها، وهو الصحيح. لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف، وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان، كقبض العين المؤجرة فإنه إذا قبضها صار له التصرف في المنافع وإن كانت إذا تلفت تكون من ضمان المؤجر. لكن تنازع الفقهاء، هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به؟ على ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات عن أحمد، قيل: يجوز كقول الشافعي، وقيل: لا يجوز، كقول أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه ربح ما لم يضمن؛ لأن المنافع لم يضمنها. وقيل: إن أحدث فيها عمارة جاز، وإلا فلا. والأول: أصح، لأنها مضمونة عليه بالقبض، بمعنى أنه إذا لم يستوفها تلفت من ضمانه لا من ضمان المؤجر، كلما لو تلفت الثمرة بعد صلاحها والتمكن من جذاذها، ولكن إذا تلفت العين المؤجرة كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر؛ لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها، [فيُفرق] (¬1) بين ما قبل التمكن وبعده (¬2). ¬
فصل فيمن استأجر أرضا للازدراع فأصابتها آفة
(فصل) وأما إذا استأجر أرضًا للازدراع فأصابتها آفة، فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه، مثل أن يكون في البيدر، فيسرقه اللص أو يؤخر حصاده عن وقته حتى يتلف، فهنا يجب على المستأجر الأجرة. وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع، فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع. وأما إذا نبت الزرع، ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه، مثل نار أو ريح أو برد، أو غير ذلك مما يفسده، بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته، فهنا فيه قولان: أظهرهما: أن يكون من ضمان المؤجر؛ لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد؛ لأن المقصود بالعقد هو المنفعة التي يثبت بها الزرع حتى يتمكن من حصاده، فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقًا، بطل المقصود قبل التمكن من استيفائه، ومثل هذا ما لو صارت الأرض سبخة فتلف الزرع أو كانت إلى جانب بحر أو نهر فأتلف الماء تلك الأرض قبل كمال الزرع ونحو ذلك، ففي هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر، وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الانتفاع به، كما لو ماتت الدابة المستأجرة، أو انقطع الماء، ولم يمكن الانتفاع بها في شيء من المنفعة المقصودة بالعقد، وأمثال هذه الصور.
وليس هذا مثل أن يسرق ماله أو يحترق من الدار؛ فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير، فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره، بأن يحفظها من اللص، أو الحريق. ونظير ذلك: أن يتلف المال الذي اكترى الدابة لحمله، فإن الأجرة عليه، بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الانتفاع مطلقًا له ولغيره، فإن هذا بمنزلة موت الدابة واحتراق الدار المؤجرة. ونظير سرقة متاعه من الدار: أن يسرق سارق زرعه، وأما إذا جاء جيش عام فأفسد الزرع، فهذا آفة سماوية، فإن هذا لا يمكن تضمينه ولا الاحتراز منه. ونظيره: أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التي يسكنونها (¬1). ¬
فصل في إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح
(فصل) وأما إجبار الأب لابنته البكر [البالغة] (¬1) على النكاح: ففيه قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه يجبر البكر البالغ، كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرَقي والقاضي وأصحابه. والثاني: لا يجبرها، كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر [عبد العزيز بن جعفر] (¬2). وهذا القول هو الصواب. والناس متنازعون في مناط الإجبار: هل هو البكارة، أو الصغر أو مجموعهما، أو كل منهما؟ على أربعة أقوال، وهي أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والصحيح: أن مناط الإجبار: هو الصغر، وأن البكر البالغ، لا يجبرها أحد على النكاح، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر"، فقيل له: البكر تستحي، فقال: "إذنها صماتها" (¬3)، وفي لفظ في الصحيح: "والبكر يستأذنها أبوها" (¬4)، فهذا نهي النبي ¬
صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تنكح حتى تستأذن"، وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها. وأيضًا: فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها، مع كراهتها ورشدها؟! وأيضًا: فإن الصغر سبب للحجر بالنص والإجماع، فتعليل الإجبار به تعليل بعلة ثابتة بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر، فهذا مخالف [لأصول] (¬1) الإسلام فإن الشارع لم يجعل البكارة سببًا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له بالشرع. وأيضًا: فالذين قالوا بالإجبار: اضطربوا فيما إذا عينت كفؤًا، وعَيَّن الأب كفؤًا آخر، هل يؤخذ بتعيينها أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد، فمن جعل العبرة بتعيينها نقض ¬
أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب، كان في قوله من الفساد والضرر ما لا يخفى. فإن قيل: قد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها"، وفي رواية: "الثيب أحق بنفسها من وليها" (¬1)، فلما جعل الثيب أحق بنفسها من وليها دل على أن البكر ليست أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد، وهذا عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. [وذلك أن] (¬2) قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها"، يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد. الثاني: [قوله:] (¬3) "والبكر تستأذن"، و [هم] (¬4) لا يوجبون استئذانها، بل قالوا: هو مستحب، حتى طرَّد بعضهم قياسه، وقالوا: لما كان مستحبًا اكتفى فيه بالسكوت، وادعى أنه حيث يجب استئذان البكر فلابد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو مخالف ¬
لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه قد ثبت بالسنة المستفيضة واتفاق الأئمة قبل هؤلاء: أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها، فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها. وأما المفهوم: فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فرَّق بين البكر والثيب، كما قال في الحديث الآخر: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر"، فذكر في هذه لفظ الإذن، وفي هذه لفظ [الأمر] (¬1)، وجعل إذن هذه: الصمات، كما أن إذن تلك: النطق. فهذان هما الفرقان اللذان فرَّق بهما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار، وذلك لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له، لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها. وأما الثيب فقد زال عنها حياء [البكر] (¬2) فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها، فهي آمرة له، وعليه أن يطيعها، فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر، فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح، فهذا مخالف [للأصول] (¬3) و [المعقول] (¬4)، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها ¬
على مباضعة ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟! (¬1). ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين، فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها، والحكمان كما سماهما الله -عز وجل- هما حكمان عند أهل المدينة، وهو أحد القولين للشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة. والقول الآخر: هما وكيلان، والأول أصح؛ لأن الوكيل ليس بحكم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل ولا يختص بحال الشقاق، ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص، ولكن إذا وقع الشقاق، فلابد من ولي يتولى أمرهما؛ لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر، فأمر الله تعالى أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما، يفعلان ما هو الأصلح، من [جمع أو] (¬2) تفريق بعوض، أو بغيره (¬3). ¬
وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر: الطلاق بدون إذن الرجل. ويملك الحكم الآخر مع الأول: [بذل] (¬1) العوض من مالها، بدون إذنها؛ لكونهما صارا وليين لهما. وطرد هذا القول: أن الأب يُطلِّق على ابنه الصغير والمجنون، إذا رأى المصلحة، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك يخالع عن ابنته، إذا رأى المصلحة لها. وأبلغ من ذلك: أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق، إذا قيل: هو الذي بيده عقدة النكاح، كما هو قول مالك وأحمد، في إحدى الروايتين عنه، والقرآن يدل على صحة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها، فإنه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص، وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ، فوجب أن لا يتنصف، لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق لما حصل لها من الانكسار به، ولهذا جعل ذلك عوضًا عن المتعة، عن ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات، فأوجبوا المتعة لكل ¬
مطلقة، إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل الدخول والمسيس، فحسبها ما فرض لها، وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره: لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول، ويجعلون المتعة عوضًا عن نصف الصداق، ويقولون: كل مطلقة فإنها تأخذ صداقًا إلا هذه. وأولئك يقولون: الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول، والمتعة سببها الطلاق، فتجب لكل مطلقة، لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق، فلا تستحق زيادة، وهذا القول أقوى من ذلك القول، فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة، فلا يجعل عوضًا عما سببه العقد والدخول. لكن يقال على هذا: فالقول الثالث أصح -وهو الرواية الأخرى عن أحمد-: أن كل مطلقة لها متعة كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه حيث قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا} [البقرة: 241] وأيضًا فأنه قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس، ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها، مع أن غالب النساء يطلقن بعد الفرض. وأيضًا: فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق، وسبب المهر هو العقد، فالمفوضة التي لم يسمَّ لها مهر، يجب لها مهر المثل بالعقد،
ويستقر بالموت على القول الصحيح الذي دل عليه حديث: "بِرْوَع بنت واشق التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهرًا، فقضى لها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن لها مهر امرأة من نسائها، لا وكس، ولا شطط" (¬1)، لكن هذه لو طلقت قبل المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن، لكونها لم يشترط لها مهر مسمى، والكسر الذي حصل لها بالطلاق أنجبر بالمتعة، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل. ولكن المقصود: أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج، ممن ينظر في المصلحة من أهلها، فيخلصها لها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبدًا بدون أمرها؟ والمرأة أسيرة مع الزوج، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (¬2). ¬
فصل فيمن دفع الدرهم، فقال: اعطني بنصفه فضة
(فصل) وأما إذا دفع الدرهم، فقال: أعطني بنصفه فضة، وبنصفه فلوسًا، وكذلك لو قال: أعطني بوزن هذه الدراهم الثقيلة أنصافًا، أو دراهم خفافًا. فإنه يجوز، سواء كانت مغشوشة أو خالصة، ومن الفقهاء من يكره ذلك، ويجعله من باب مد عجوة لكونه باع فضة ونحاسًا بفضة. وأصل مسألة مد عجوة: أن يبيع مالًا ربويًّا بجنسه، ومعهما، أو مع أحدهما من غير جنسه، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: المنع منه مطلقًا، كما هو قول الشافعي ورواية عن أحمد. والثاني: الجواز مطلقًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وتذكر رواية عن أحمد. والثالث: الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلًا أو لا يكون، وهذا هو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، فإذا باع تمرًا في نواه بنوى، أو بتمر منزوع النوى، أو شاة فيها لبن بشاة فيها لبن، أو بلبن أو نحو ذلك، فإنه يجوز عندهما، بخلاف ما إذا باع ألف درهم بخمسمائة درهم في منديل، فإن هذا لا يجوز. [فمن كان قصده] (¬1) بيع الربوي بجنسه متفاضلًا، لم يجز، وإن كان [بيعًا] (¬2) غيره مقصود جاز، ومالك رحمه الله يقدر ذلك بالثلث. ¬
وهذا إذا باع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها شعير يسير، فإن ذلك يجوز عند الجمهور. وكذلك إذا باع الدراهم التي فيها غش بجنسها، فإن الغش غير مقصود، والمقصود بيع الفضة بالفضة، وهما متماثلان. وكذلك صرف الفلوس بالدراهم المغشوشة، يقول من يكرهه: إنه بَيْعُ فضة ونحاسٍ بنحاس، والصحيح الذي عليه الجمهور: أن هذا كله جائز (¬1). ¬
فصل في بيع الفضة بالفلوس النافقة
(فصل) وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة، هل يشترط فيه الحلول [والتقابض] (¬1) كصرف الدراهم بالدنانير؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد: أحدهما: لا بد من الحلول [والتقابض] (¬2)، فإن هذا من جنس الصرف، فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا. والثاني: لا يشترط الحلول والتقابض، فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمنًا أو كان مصاغًا، أو كان مكسورًا، بخلاف الفلوس؛ ولأن الفلوس هي في الأصل من باب العروض، والثمنية عارض لها. وأيضًا هذا مبنيٌّ على أصل آخر، وهو: أن بيع النحاس بالنحاس متفاضلًا، هل يجوز على قولين معروفين فيه وفي سائر الموزونات، كالحديد بالرصاص بالرصاص، والقطن بالقطن، والكتان بالكتان، والحرير بالحرير. أحدهما: لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلًا وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في أشهر الروايتين عنه. والثاني: أن ذلك جائز، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، اختارها طائفة من أصحابه. ¬
ومن قال بالتحريم: اختلفوا في المعمول من ذلك، كثياب القطن والكتاب و [الأسطال] (¬1)، وقدور النحاس وغير ذلك، هل يجري فيه الربا؟ على ثلاثة أقوال. أصحها: الفرق بين ما يقصد وزنه بعد الصنعة، كثياب الحرير و [الأسطال] (¬2)، ونحوهما، وبين ما لا يقصد وزنه، كثياب القطن والكتان والإبر وغيرها. وعلى هذا، فالفلوس يجري فيها الربا عند من يقول: إن معمول النحاس يجري فيه، ومن اعتبر قصد الوزن لم يجرِ الربا فيها عنده؛ [لأنهم لا يقصدونه] (¬3) في العادة، وإنما تُنْفَقُ عددًا، لكن من قال: هي أثمان، فهل يجري الربا فيها من هذه الجهة؟ على وجهين لهم، وكذلك فيها وجهان في وجوب الزكاة فيها، وفي إخراجها من الزكاة وغير ذلك، والوجهان في مذهب أحمد وغيره (¬4). ¬
فصل فيما إذا كان للرجل عند غيره حق من عين أو دين
(فصل) وأما إذا كان [للرجل عند غيره] (¬1) حقٌّ من عين أو دين، فهل يأخذه أو نظيره بغير إذنه؟ فهذا فيه نوعان. أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب، لما ثبت في الصحيحين: أن هند بنت عتبة بن [ربيعة] (¬2) قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وذو مال، وأنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وبُنيَّ، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬3)، فأذن لها أن تأخذ نفقتها من ماله بالمعروف بدون إذنه. وهكذا من علم أنه غصب من ماله غصبًا ظاهرًا يعرفه الناس، [فأخذ عين] (¬4) المغصوب أو نظيره من مال الغاصب. وكذلك لو كان له دَيْن عند [الحاكم،] (¬5) وهو يمطله فأخذ من ماله بقدره ونحو ذلك. ¬
والثاني: لا يكون السبب ظاهر الاستحقاق، مثل أن يكون قد جحد دَيْنَه أو جحد الغصب، ولا بينة للمدعي، فهذا فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يأخذ، وهو قول مالك وأحمد. والثانى: له أن يأخذ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة -رحمهما الله تعالى-، فيسوغ عندهما الأخذ من جنس الحق، لأنه استيفاء، ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس، لأنه معاوضة، فلا يجوز إلا برضا الغريم. والمجوزون يقولون: إذا امتنع من أداء الواجبات عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة، لكن من منع الأخذ مع عدم ظهور الحق استدل بما في السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أد الأمانة إلى من أئتمنك، ولا تخن من خانك" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية أنه قال: يا رسول الله إن لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أفناخذه؟ فقال: "لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬1). وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قيل له: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ قال: "لا" (¬2)، رواه أبو. داود وغيره. ¬
فهذه الأحاديث تبين أن [حق] (¬1) المظلوم في نفس الأمر إذا كان [سببه ليس ظاهرًا] (¬2) [و] (¬3) أخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه [لكنه] (¬4) خان الذي ائتمنه، فإنه لما سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه و [لا استحقاق ظاهر] (¬5)، كان خائنًا، وإذا قال: أنا مستحق لما أخذته في نفس الأمر، لم يكن ما ادعاه ظاهرًا معلومًا، وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك، ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته لبينة أعتقد صدقها، فكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يَطأها لما هو الأمر عليه في الباطن. فإن قيل: لا ريب أن هذا يُمنع منه ظاهرًا، وليس له أن يظهر ذلك أمام الناس؛ لأنهم مأمورون بإنكار ذلك؛ لأنه حرام في الظاهر، لكن الإنسان إذا كان يعلم ذلك سرًّا فيما بينه وبين الله تعالى، قيل: فعل ذلك سرًّا يقتضي مفاسد كثيرة، [منهيٌّ] (¬6) عنها، فإن [فعل] (¬7) ذلك في مظنة الظهور والشهرة، وأن يتشبه به من ليس ¬
حاله كحاله في الباطن، وقد يظن الإنسان خفاء ذلك، فيظهر، فيورث مفاسد كثيرة - ويفتح أيضًا باب التأويل. وصار هذا كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم، كالمقتص الذي لا يمكنه الاقتصاص إلا بعدوان، فإنه لا يجوز له الاقتصاص، وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس، فلا يجوز استيفاء الحق بها، كما لو جرعه خمرًا، أو تلوط به أو شهد عليه بالزور، لم يكن له أن يفعل به ذلك، فإن هذا محرم الجنس، والخيانة من جنس الكذب. فإن قيل: هذا ليس بخيانة بل هو استيفاء حق والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن خيانة من خان، وهو أن تأخذ من ماله ما لا تستحق نظيره. قيل: هذا ضعيف؛ لوجوه: أحدها: أن الحديث فيه: أن قومًا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون؟ فقال: "لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وكذلك قوله في حديث الزكاة: أفنكتم من أموالنا وبقدر ما يأخذون منا؟ فقال: "لا". الثاني: أنه قال: "ولا تخن من خانك"، ولو أراد بالخيانة: الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، لا يحتاج إلى بيان ولا سؤال، وهو قوله: "ولا تخن من خانك"، فعلم منه أنه أراد: أنك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرجل الرجل مالًا فخانه في بعضه، ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل، فهذا هو المراد
بقوله: "ولا تخن من خانك". الثالث: أن كون هذه خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص، فإن الأمور منها: ما يباح فيه القصاص كالفواحش والكذب ونحو ذلك، قال الله تعالى في الأول {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فأباح العقوبة والاعتداء بالمثل، فلما قال هنا: "ولا تخن من خانك" عُلِم أن هذا مما لا يُباح فيه العقوبة بالمثل (¬1). ¬
فصل في دفع الزكاة للقريب
(فصل) وأما دفع الزكاة، [فإذا كان القريب الذي لا يجوز] (¬1) دفعها إليه: [حاجته] (¬2) مثل حاجة الأجنبي إليها، فالقريب أولى، وإن كان البعيد أحوج لم يحاب بها القريب، قال أحمد عن سفيان بن عيينة: كانوا يقولون لا يحابي بها قريبًا، ولا يدفع بها مذمة، ولا يقي بها ماله (¬3). ¬
فصل في الذين يأخذون الزكاة
(فصل) والذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف [يأخذها] (¬1)؛ لحاجته، كالفقير والغارم لمصلحة نفسه، وصنف يأخذها؛ لحاجة المسلمين، كالمجاهد والغارم في إصلاح ذات البين، فهؤلاء يجوز دفعها إليهم، وإن كانوا من أقاربه. وأما دفعها إلى الوالدين إذا كانا غارمين أو مكاتبين ففيها وجهان والأظهر: جواز ذلك. وأما إن كانوا فقراء، وهو عاجز عن نفقتهم، فالأقوى: جواز دفعها إليهم في هذه الحالة؛ لأن المقتضى موجود والمانع مفقود. فوجب العمل بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم (¬2). ¬
فصل فيمن باع سلعة إلى أجل وأشتراها بأقل من ذلك حالا
(فصل) وأما إذا باع سلعة إلى أجل واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالًا، فهذه المسألة تسمى مسألة العينة، وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك، فإن ابن عباس سُئل عن حَريرَة بِيعَت إلى أجل ثم اشتُرِيتَ بأقل، فقال: "دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة" (¬1). وأبلغ من ذلك: أن ابن عباس قال: "إذ [استقمت بنقد] (¬2) ثم بعت بنقد، فلا بأس، وإذا [استقمت بنقد] (¬3)، بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم" (¬4)، فبيَّن أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل، فيكون مقصوده دراهم بدراهم، والأعمال بالنيات، وهذه تسمى التورق فإن المشتري تارة يشترى السلعة لينتفع بها؛ وتارة يشتريها؛ ليتجر فيها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم، فينظر كم تساوى نقدًا فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق نقدًا، فمقصوده الورق، وهذا مكروه في أظهر [قولي] (¬5) العلماء، كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. ¬
وأما عائشة فإنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها: "إني ابتعت من زيد بن أرقم غلامًا إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة"، فقالت لها عائشة: "بئسما شريت وبئسما اشتريت، أخبري زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إلا أن يتوب"، قالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالى؟، فقالت لها عائشة {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1) [البقرة: 275]. وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (¬2)، وهذان ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[تواطآ] (¬1) على أن [من] (¬2) يبيع ثم يبتاع فله الأوكس، وهو الثمن الأقل أو الربا. وأصل هذا الباب: أن الأعمال بالنيات، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3)، فإن كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله وتوسل إليه بحيلة، فإنما له ما نوى، والشرط بين الناس ما عدوه شرطًا، كما أن البيع بينهم على الصحيح ما عدوه بيعًا، والإجارة بينهم ما عدوها إجارة، وكذلك النكاح بينهم على الصحيح ما عدوه نكاحًا. فإن الله تعالى ذكر البيع والنكاح وغيرهما في كتابه، ولم يرد لذلك حد في الشرع، ولا حد في اللغة. والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع: كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة: كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف: كالقبض والتفرق. وكذلك العقود: كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وغير ذلك، فإذا تواطأ الناس على شرط وتعاقدوا عليه، فهذا شرط عند أهل العرف والله أعلم. [واستدل على مثل ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وأنه داخل في عمومه، وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم" (¬4)، ولهذا كان شرط ¬
مذهبه جواز تأجيل القرض ولزومه وفاقًا لمالك، لكنه يمنع الحط إذا أراد صاحب القرض أن يتعجله قبل حلوله؛ ولأن مذهبه في غير هذه المسألة جواز الحط من الدين المؤجل، إذا أراد صاحب الدين أن يتعجله؛ استدلالًا بقضية بني النضير، لما عزموا على الجلاء، وإذا بينهم وبين الصحابة ديون لم تحل آجالها، فرفعوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "حطوا وتعجلوا" (¬1)، ففعلوا ذلك على عهده. وهذه المسألة فيها خلاف بين السلف والخلف، كما هو (¬2) مبسوط في موضعه. فهذا شرط عند أهل العرف. والله أعلم.] ¬
فصل في تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب
(فصل) وأما تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب: فيجوز عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية والنقدين، وعروض التجارة، إذا ملك النصاب، ويجوز تعجيل المُعشرات قبل وجوبها، إذا كان قد طلع الثمر قبل بدو صلاحه، ونبت الزرع قبل اشتداد حبه، فأما إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمرة فقد وجبت الزكاة [والكفارة ونحو ذلك] (¬1). ¬
فصل في إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك
(فصل) وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك: فالمعروف من مذهب مالك والشافعي: أنه لا يجوز، وعند أبي حنيفة يجوز، وأحمد -رحمه الله- قد منع القيمة في مواضع، وجوَّزها في مواضع، فمن أصحابه من أقر النص، ومنهم من جعلها على روايتين. والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، ولهذا قدَّر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحيوان بشاتين، أو عشرين درهمًا، ولم يعدل إلى القيمة؛ ولأنه متى جوَّز إخراج القيمة مطلقًا، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر؛ ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه. وأما إخراج القيمة للحاجة والمصلحة أو القدر، فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه، ولا يكلف أن يشترى ثمرًا أو حنطة، إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نصَّ أحمد على جواز ذلك، ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كافٍ، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى؛ ليشتري شاة. ومثل: أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة؛ لكونها أنفع، فيعطيهم إياها، أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء. كما نقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: "ائتوني
بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة، أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار" (¬1)، وهذا قد قيل: إنه قاله في الزكاة، وقيل: في الجزية (¬2). ¬
فصل في إبدال المنذور والموقوف بخير منه
(فصل) وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه، كما في إبدال الهدي. فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون الابدال للحاجة، مثل أن يتعطل، فيُباع وُيشترى بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو، إذا لم يمكن الانتفاع به في الغزو، فإنه يُباع ويُشترى بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا تخرب، فتنقل آلته إلى مكان آخر، أو يباع وُيشترى بثمنه ما يقوم مقامه، وإذا خرب ولم يمكن عمارته فتباع العرصة، ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها: فهذا كله جائز. فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه. والثانى: الإبدال؛ لمصلحة راجحة، مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجدًا آخر أصلح لأهل البلد منه [وبيع الأول] (¬1)، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الأول سوقًا للتمَّارين، فهذا إبدال لعرصة (¬2) المسجد. وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، على غير بنائه الأول، وزادوا فيه، ¬
وكذلك المسجد الحرام. وقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة: "لولا قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج منه الناس" (¬1)، فلولا المعارض الراجح لكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غيَّر بناء الكعبة، فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة؛ لأجل المصلحة الراجحة. أما إبدال العرصة بعرصة أخرى: فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه، اتباعًا لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حيث فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه واشتهرت القضية، ولم ينكر. وأما إذا كان المغل قليلًا، فيبدل بخير منه، مثل أن يقف دارًا أو حانوتًا أو بستانًا، أو قرية مغلها قليل، فيبدلها بما هو أنفع الموقف. فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء، مثل أبي عبيد [بن حربويه] (¬2) قاضي مصر، وحكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة؛ للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة، بحيث يصير المسجد سوقًا، فلأن يجوز إبدال [المستغل بمستغل] (¬3) آخر أولى وأحرى، وهو قياس قوله في إبدال الهدى بخير منه، وقد نص على أن المسجد ¬
اللاصق بالأرض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران: فُعِل ذلك (¬1). لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد والهدي والأرض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره، لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال؛ للمصلحة، والله أعلم (¬2). ¬
فصل في القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك
(فصل) وأما القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك: فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت في ذلك، وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسمعيل بن سعيد الشالنجي، وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع في ذلك قصاص؛ لأن المساواة فيه متعذرة في الغالب، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. والأول: أصح، فإن سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مضت بالقصاص في ذلك، وكذلك سنة خلفائه الراشدين، وقد قال الله -عز وجل-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقد قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ونحو ذلك. وأما قول القائل: إن المماثلة في ذلك متعذرة، فيقال له: لا بد لهذه الجناية من عقوبة، إما قصاص وإما تعزير، فإذا جُوِّزَ أن يُعَزَّر تعزيرًا غير مضبوط الجنس والقدر، فلأن يعاقب بما هو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحرى، والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان. ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريب منها، كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك خوفًا من الظلم: يبيح ما هو
أعظم ظلمًا مما فرَّ منه، فُعلِم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل، وكذلك له أن يسبه كما سبه، مثل أن يلعنه كما لعنه، أو يقول: قبحك الله، فيقول له: قبحك الله، أو أخزاك الله، فيقول له: أخزاك الله، أو يقول: يا كلب يا خنزير. فيقول له: يا كلب يا خنزير (¬1). فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره والكذب عليه، فليس له أن يكفره، ولا يكذب عليه، وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأن أباه لم يظلمه (¬2). ¬
فصل في القصاص في إتلاف الأموال
(فصل) وأما القصاص في إتلاف الأموال، مثل أن يخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره، فيهدم داره ونحو ذلك. فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ذلك غير مشروع. لأنه إفساد؛ ولأن العقار والثياب غير متماثلة. الثاني: أن ذلك مشروع؛ لأن الأنفس والأطراف أعظم [قدرًا] (¬1) من الأموال، وإن جاز إتلافها على سبيل القصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم فالأموال أولى، ولهذا يجوز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب إذا أفسدوا أموالنا، بقطع الشجر المثمر، وإن قيل: بالمنع من ذلك لغير حاجة. [وأما التماثل] (¬2)، فهذا فيه نزاع، فإنه إذا أتلف لنا ثيابًا أو حيوانًا أو عقارًا ونحو ذلك، هل يضمنه بالقيمة، أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء، وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، فإن الشافعي قد نص على أنه إذا هدم داره بناها كما كانت، فضمنه بالمثل، وقد روي عنه في الحيوان نحو ذلك، وكذلك أحمد يضمن أولاد المغرور [بجنسهم] (¬3)، في المشهور عنه، وإذا اقترض حيوانًا رد مثله في المنصوص، وقصة داود وسليمان [عليهما الصلاة ¬
والسلام] (¬1) هي من هذا الباب. فإن داود [عليه الصلاة والسلام] (¬2) كان قد ضمن الحرث الذي نفشت [فيه] (¬3) (¬4) غنم القوم بالقيمة، وأعطاهم الماشية مكان القيمة، وسليمان [عليه الصلاة والسلام] (¬5) أمرهم أن يعمروا الحرث حتى يعود كما كان وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم عن منفعة الحرث (¬6). [بهذا] (¬7) أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز -لما كان قد اعتدى ¬
بعض بني أمية على بستان له اقتلعوه- فسألوه: ما يجب في ذلك؟ فقال: "يغرسه كما كان: فقيل له: إن ربيعة وأبا الزناد قالا: يجب القيمة، فتكلم الزهري [فيهما] (¬1) بكلام مضمونه: أنهما خالفا السنة". ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير، مع اعتبار القيمة فإن القيمة معتبرة في [الموضعين] (¬2)، والجنس مختص بأحدهما، ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، فمن له غرض في كتاب أو فرس أو بستان، ماذا يصنع بالدراهم؟ فإن قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوته مثله هو أحق بأن يضمن له بمثل ما فوته إياه، ونظير ما أفسده من ماله (¬3). ¬
فصل في الوقف
(فصل) وأما الوقف: فما فضل من ريعه واستغنى عنه فإنه [يصرفه] (¬1) في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل [مغل وقفه عن] (¬2) مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف [له غرضه] (¬3) في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب، ولم ينتفع به أحد، صُرِفَ ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فَضُل عن مصلحته شيء، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف. وقد روى أحمد عن علي رضي الله تعالى عنه: "أنه حض الناس على إعطاء [مكاتب في كتابته] (¬4)، ففضل شيء عن حاجته، فصرفه في المكاتبين" (¬5) (¬6). ¬
فصل في إسقاط الدين عن المعسر
(فصل) وأما إسقاط الدَيْن عن المعسر، فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع، لكن إذا كان له دين على من استحق الزكاة، فهل يجوز أن يسقط عنه قدر زكاة ذلك الدَيْن، ويكلون ذلك زكاة ذلك الدَيْن؟ فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، أظهرهما: الجواز؛ لأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا قد أخرج من جنس ما يملكه، بخلاف ما إذا كان ما له عينًا وأخرج دينًا، فإن الذي أخرجه دون الذي يملكه، فكان بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب، وهذا لا يجوز، كما قال الله -عز وجل-: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]. ولهذا كان على المزكي أن يخرج من جنس ماله، لا يخرج أدنى منه. فإذا كان له ثمرة أو حنطة جيدة لم يخرج عنها، ما هو دونها (¬1). ¬
فصل في معاملة التتار
(فصل) وأما معاملة [التتر] (¬1): فيجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل عن مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك، كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد وخيلهم، ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم. فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالًا محرمًا، فهذا لا يجوز، قال الله -عز وجل- {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إنه لعن في الخمر عشرة لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها" (¬2)، وقد لعن العاصر، وهو إنما ¬
يعصر عنبًا يصير عصيرًا، والعصير يمكن أن يُتَخَذَ خَلَّا وَدِبْسًا وغير ذلك، لكن لما علم قصده من العصير: أنه يتخذه خمرًا، وأعانه على ذلك، لعنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك. وإن كان الذي معهم أو مع غيرهم أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، فتلك لا يجوز اشتراؤها لمن يتملكها، لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ؛ لتصرف في مصارفها الشرعية، فتعاد إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، جاز هذا. وإذا علم أن في أموالهم شيئًا محرمًا لا تعرف عينه، فهذا لا تحرم معاملتهم فيه، كما إذا علم أن في الأسواق ما هو مغصوب أو مسروق، ولم يعلم عينه، والحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون مُحَرَّمًا لعينه: كالميتة والأخت من الرضاعة، فهذا إذا اشتبه بما لم يحصر لم يحرم، مثل أن يعلم أن في البلد الفلانية أختًا له من الرضاعة، لا يعلم عينها، أو فيها من يبيع ميتة، لا يعلم عينها فهذا لا يحرم عليه النساء ولا اللحم، وأما إذا اشتبهت أخته بأجنبية أو المَذكَّى بالميت، فإنه يجتنبهما. والثاني: ما حرم لصفته كالمأخوذ غصبًا، والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر، فهذا إذا اختلط أو اشتبه بغيره، لم يحرم ¬
الجميع، بل يميز قدر هذا من [قدر] (¬1) هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه، [وهذا إلى مستحقه،] (¬2) [مثل اللص الذي أخذ أموال الناس فخلطها، أو أخذ (¬3) حنطة الناس أو دقيقهم فخلطه، فإنه يقسم بينهم على قدر الحقوق، وإذا علم أن في البلد من هذا شيء لم يعلم عينه، لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد. لكن إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا، فهل تكره معاملته، أو تحرم؟ على وجهين. وإن كان الغالب على ماله الحلال، لم تحرم معاملته، لكن قد قيل: إنه [من المشتبهات التي يستحب تركها] (¬4). والله -عز وجل- أعلم. [كمُلت والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين] (¬5). وكان الفراغ من نسخها يوم الجمعة من عشرين خلت من شهر جمادى الأول، سنة أربعين وسبعمائة. ¬