المسائل السفرية
جمال الدين ابن هشام
سألني بعض الإخوان وأنا على جناح السفر
بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وسلّم تَسْلِيمًا. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين بن هِشَام - رَحمَه الله: سَأَلَني بعض الإخوان وَأَنا على جنَاح السّفر (1) عَن تَوْجِيه النصب فِي نَحْو قَول الْقَائِل: (فلانٌ لَا يملكُ درهما فضلا عَن دِينَار) ، وَقَوله: (الإعرابُ لُغَة: البيانُ، وَاصْطِلَاحا (2) : تغيُّرُ الآخرِ لعاملٍ، والدليلُ لُغَة: المرشد (3) ، والإجماعُ لُغَة: العزمُ، والسنّةُ لُغَة: الطريقةُ) ، وَقَوله: (يجوزُ كَذَا خِلافاً لفُلانٍ) ، وَقَوله: (وَقَالَ أَيْضا) ، وَقَوله: (هَلُمَّ جَرّا) . وكلُّ هَذِه التراكيب مُشْكِلَةٌ، ولَسْتُ (4) على ثِقَة من أنَّها عَرَبِيَّة وإنْ كَانَت مَشْهُورَة فِي عرْفِ النَّاس، وَبَعضهَا لم أقِفْ لأحد على تَفْسِير لَهُ، ووقفتُ لبعضها على تَفْسِير لَا يشفي عليلاً وَلَا يبردُ غليلاً. وَهَا أَنا موردٌ فِي هَذِه الأوراقِ مَا تيسَّرَ لي، مُعْتذِراً بضيقِ الوقتِ، وسقم الخاطر، وَمَا توفيقي إلاّ بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب. القَوْل فِي: فلانٌ لَا يملكُ درهما فَضْلاً عَن دِينَار. أمّا قَوْله: (فلانٌ لَا يملكُ درهما فضْلاً عَن دينارٍ) فَمَعْنَاه أنَّه لَا يملكُ درهما وَلَا دِينَارا، وأنَّ عَدَمَ مُلْكِهِ الدينارَ أولى من عَدَمِ مُلْكِهِ الدرهَم، وكأنَّه قَالَ: لَا يملك درهما فَكيف يملك دِينَارا، وَهَذَا التركيبُ زَعَمَ بَعضهم أنّه مسموع، وَأنْشد عَلَيْهِ: قلَّما يبْقى على هَذَا القَلَقْ صخرةٌ صمّاءُ فَضْلاً عَن رَمَقْ (5)
الرمق: بَقِيَّة الْحَيَاة. وَلَا تسْتَعْمل (فضلا) هَذِه إلاّ فِي النَّفْي، وَهُوَ مستفادٌ فِي (6) الْبَيْت من (قلَّما) . قَالَ بَعضهم: حَدَثَ لقَلّ حِين كُفَّتْ ب (مَا) إِفَادَة النَّفْي، كَمَا حَدَثَ ل (إنّ) الْمَكْسُورَة الْمُشَدّدَة حِين كُفَّتْ إِفَادَة الِاخْتِصَاص (7) . قلتُ: وَهَذَا خطأ فإنّ (قَلّ) (8) تسْتَعْمل للنَّفْي (9) قبل الكفّ، يُقال: قلّ أحَدٌ يعرفُ هَذَا إلاّ زيدٌ، وَلِهَذَا اسْتعْمل أحد (1) ، وَصَحَّ إِبْدَال الْمُسْتَثْنى وَهُوَ بدل إمّا من (أحد) أَو من ضَمِيره. و (على) فِي الْبَيْت للمعية، مثلهَا (2) فِي قَوْله تَعَالَى: (وإنّ ربَّكَ لذُو مغفرةٍ للناسِ على ظُلْمِهِم) (3) ، وَقَوله: (الحمدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق) (4) . وانتصاب (فضلا) على وَجْهَيْن محكيين عَن الْفَارِسِي (5) . أَحدهمَا
الْمَحْذُوف صفة ل (درهما) ، كَذَا حُكِيَ عَن الْفَارِسِي. وَلَا يتعيَّنُ كَون الْفِعْل صفة بل يجوز أنْ يكون حَالا كَمَا جَازَ فِي (فَضْلاً) (1) أنْ يكون حَالا على مَا سَيَأْتِي تَقْرِيره. نَعَمْ وَجه الصّفة أقوى لأنّ نعت النكرَة كيفَ كَانَ (2) أقْيَسُ من مَجِيء الْحَال مِنْهَا، وإنْ قدَّرته حَالا فصاحبها يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أنْ يكون ضمير الْمصدر محذوفاً، أَي: لَا يملكهُ، أَي: لَا يملك الْملك، على حدِّ قَوْله: هَذَا سُراقةُ للقرآنِ يدرُسُهُ (3) . أَي: يدرس (4) الدَّرْس، إذْ لَيْسَ الضَّمِير لِلْقُرْآنِ، لأنّ اللَّام مُتَعَلقَة بيدرس وَلَا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى ضمير فعل وَإِلَى ظَاهره جَمِيعًا، وَلِهَذَا وَجب فِي: (زيدا ضَربته) تَقْدِير عَامل على الْأَصَح، وعَلى هَذَا خرَّج سِيبَوَيْهٍ (5) والمحققون نَحْو قَوْله: (سَارُوا سَرِيعا) أَي: ساروه، أَي: سَارُوا السّير سَرِيعا، وَلَيْسَ (سَرِيعا) عِنْدهم نعتاً لمصدر مَحْذُوف لالتزام الْعَرَب تنكيره، ولأنّ الْمَوْصُوف لَا يُحذف إلاّ إِن كَانَت الصّفة مُخْتَصَّة بِجِنْسِهِ، كَمَا فِي: (رأيتُ كَاتبا أَو حاسباً أَو مهندساً) فإنَّها مُخْتَصَّة بِجِنْس الْإِنْسَان، وَلَا يجوز: (رَأَيْت طَويلا) و (رَأَيْت (6) أحمرَ) ، وَفِي هَذَا الْموضع بحث لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه (7) . وَالثَّانِي أنْ يكون (8) قَوْله (درهما) حَالا.
فإنْ قلتَ: كيفَ جَازَ مَجِيء الْحَال من النكرَة؟ قلتُ: أمّا على قَول سِيبَوَيْهٍ فَلَا إِشْكَال، لأنّه يجوز عِنْده مَجِيء الْحَال من النكرَة، وإنْ لم يكن الِابْتِدَاء بهَا، وَمن أمثلته: (فِيهَا رجلٌ قَائِما) (1) ، وَمن كَلَامهم: (عَلَيْهِ مائةٌ بيضًا) (2) . وَفِي الحَدِيث: (صلّى وَرَاءه قومٌ قيَاما) (3) . وأمّا على الْمَشْهُور من أنّ الْحَال لَا تَأتي من النكرَة إلاّ بمسوّغ فلهَا هُنَا مسوّغان: أَحدهمَا (4) : كَونهَا فِي سِيَاق النَّفْي وَالنَّفْي يخرج النكرَة من حيِّز الْإِبْهَام إِلَى حيِّز الْعُمُوم فَيجوز حِينَئِذٍ الْإِخْبَار عَنْهَا ومجيء الْحَال مِنْهَا. وَالثَّانِي: ضعف التوصف، وَمَتى امْتنع الْوَصْف بِالْحَال أَو ضعف سَاغَ مجيئها من النكرَة، فالأوَّلُ كَقَوْلِه تَعَالَى: (أَو كَالَّذي مرَّ على قريةٍ وَهِي خاويةٌ) (5) ، وَقَول الشَّاعِر (6) : مَضَى زَمَنٌ والناسُ يستشفعونَ بِي فَهَل لي إِلَى ليلى الغداةَ شَفيعُ (51 ب) فإنّ المقرونة بِالْوَاو لَا تكون صفة خلافًا للزمخشري (7) ، وكقولك: (هَذَا خاتمٌ حديداً) عِنْد مَنْ أعربه حَالا، لأنّ الجامدَ المحضَ لَا يوصَف بِهِ. وَالثَّانِي كَقَوْلِهِم: (مررتُ بماءٍ قِعْدَةَ رجلٍ) ، فإنّ الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ خَارج عَن الْقيَاس. فإنْ قلتَ: هلا أجَاز الْفَارِسِي فِي (فضلا) كَونه صفة ل (درهما) .
قلتُ: زعم أَبُو حيّان (1) أنّ ذَلِك لَا يجوز (2) لأنّه لَا يُوصف بِالْمَصْدَرِ إلاّ إِذا (3) أريدت الْمُبَالغَة لِكَثْرَة وُقُوع (4) ذَلِك الْحَدث من صَاحبه، وَلَيْسَ ذَلِك بمرادٍ هُنَا، قَالَ: وأمّا القَوْل بأنّه يُوصف بِالْمَصْدَرِ على تَأْوِيله بالمشتق أَو على تَقْدِير الْمُضَاف فَلَيْسَ قَول الْمُحَقِّقين. قلتُ: هَذَا كَلَام عَجِيب، فإنّ الْقَائِل بالتأويل الْكُوفِيُّونَ (5) ، ويأوِّلون عدلا بعادل ورضى بمرضي، وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي نظائرها. وَالْقَائِل بالتقدير البصريون، يَقُولُونَ: التَّقْدِير: ذُو عدل وَذُو رضى، وإنْ كَانَ (6) كَذَلِك فَمَن الْمُحَقِّقُونَ (7) ؟ ثمَّ (8) اخْتلف النَّقْل عَن الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَشْهُور أنّ الْخلاف مُطلق. قَالَ ابْن عُصْفُور (9) ، (وَهُوَ الظَّاهِر: إِنَّمَا الْخلاف حَيْثُ لَا يقْصد الْمُبَالغَة وإنْ قصدت فالاتفاق على أنّه لَا تَأْوِيل وَلَا تعدِي. وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن عُصْفُور) (10) هُوَ الَّذِي فِي ذهن أبي حيَّان، وَلكنه نسي فَتوهم أنّ ابْن عُصْفُور قَالَ: لَا تَأْوِيل مُطلقًا (11) ، فَمن هُنَا - واللهُ أعلمُ - دخل عَلَيْهِ الْوَهم. وَالَّذِي ظهر لي أَن الْفَارِسِي إنّما لم يجز فِي (فضلا) الصّفة لأنّه رَآهُ مَنْصُوبًا أبدا سَوَاء كَانَ مَا قبله مَنْصُوبًا كَمَا فِي الْمِثَال أم مَرْفُوعا كَمَا فِي الْبَيْت أم مخفوضاً كَمَا فِي قَوْلك: (فلَان لَا يَهْتَدِي إِلَى ظواهر النَّحْو فضلا عَن دقائق الْبَيَان) . فَهَذَا مُنْتَهى القَوْل فِي تَوْجِيه إِعْرَاب الْفَارِسِي، وأمّا تَنْزِيله على الْمَعْنى
المُرَاد فعسير (1) ، وَقد خرج على أنّه من بَاب قَوْله: على لاحبٍ لَا يُهْتَدَى بمنارِهِ (2) . وَلم يذكر أَبُو حَيَّان سوى ذَلِك، وَقَالَ: قد يسلطون النَّفْي على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِانْتِفَاء صفته فَيَقُولُونَ: (مَا قامَ رجلٌ عاقلٌ) أَي: لَا رجلَ عاقلٌ فَيقوم، ثمَّ أنْشد بَيت امْرِئ الْقَيْس الْمَذْكُور، فَقَالَ: أَلا ترى أنّه لَا يُرِيد إِثْبَات منارٍ للطريق وينفي الاهتداء عَنهُ، إنَّما يُرِيد نفي الْمنَار فتنتفي الْهِدَايَة بِهِ أَي: لَا منار لهَذَا الطَّرِيق فيهتدي بِهِ. وَقَالَ الأفوه الأودي (3) : بمَهْمَهٍ مَا لأنيسٍ (4) بِهِ حِسٌ فَمَا فِيهِ لَهُ من رسيسْ لَا يُرِيد (5) أنّ بِهَذَا القفر أنيساً لَا حِسّ لَهُ، إِنَّمَا يُرِيد (6) : لَا أنيس بِهِ فَيكون لَهُ حسٌ. وعَلى هَذَا خرَّج: (فَمَا تنفعهم شفاعةُ الشافعين) (7) أَي: لَا شَافِع لَهُم فتنفعهم شَفَاعَته، و (لَا يسألونَ الناسَ إلحافاً) (8) أَي: لَا سُؤال فَيكون إلحافا، قَالَ: وعَلى هَذَا يتَخَرَّج الْمِثَال الْمَذْكُور، أَي: لَا يملك درهما فيفضل عَن دِينَار لَهُ، وَإِذا انْتَفَى ملكه لدرهم كَانَ انْتِفَاء ملكه للدينار أولى. قلت: وَهَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره لَا تَحْرِيف فِيهِ، فإنّ الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة من بَابَيْنِ مُخْتَلفين وقاعدتين متباينتين أميِّز كلا مِنْهُمَا عَن الْأُخْرَى، ثمَّ أذكر أنّ التَّخْرِيج الْمَذْكُور (9) لَا يَتَأَتَّى (10) على شَيْء مِنْهُمَا:
الْقَاعِدَة الأولى: إنّ الْقَضِيَّة السالبة لَا تَسْتَلْزِم وجود (1) الْمَوْضُوع بل كَمَا تصدق مَعَ وجوده تصدق مَعَ عَدمه. فَإِذا قيل: (مَا جَاءَنِي قَاضِي مكَّةَ وَلَا ابْن الْخَلِيفَة) صدقت الْقَضِيَّة وإنْ لم يكن بِمَكَّة قاضٍ وَلَا للخليفة ابْن. وَهَذِه الْقَاعِدَة هِيَ الَّتِي يخرج عَلَيْهَا: (فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين) وَبَيت امْرِئ الْقَيْس، فإنّ شَفَاعَة الشافعين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافرين غير مَوْجُودَة يَوْم الْقِيَامَة لأنّ الله تَعَالَى لَا يَأْذَن لأحد فِي (2) أنْ يشفع لَهُم لأنّه لَا يَأْذَن فِي مَا لَا ينفع لتعاليه عَن الْعَبَث، وَلَا يشفع أحد عِنْد الله إِذا لم يَأْذَن الله لَهُ (3) : (مَنْ ذَا الَّذِي يشفعُ عِنْده إلاّ بِإِذْنِهِ) (4) . وَكَذَلِكَ الْمنَار غير مَوْجُود فِي اللاحب الْمَذْكُور، لأنّ المُرَاد التمدح بأنّه (5) يقطع الأَرْض المجهولة من غَيرهَا ويهتدى بِهِ، فغرضه إنّما تعلَّق بِنَفْي وجود مَا يهتدى بِهِ فِي تِلْكَ الطَّرِيق الَّتِي سلكها لَا بِنَفْي وجود الْهِدَايَة عَن شَيْء نُصب (6) فِيهَا للاهتداء بِهِ. وأمّا قَول أبي حيّان وَغَيره: المُرَاد لَا شَافِع لَهُم فتنفعهم شَفَاعَته وَلَا منار فيهتدى بِهِ (7) فَلَيْسَ بِشَيْء، لأنّ النَّفْي إنّما يتسلط على الْمسند لَا على الْمسند إِلَيْهِ، وَلَكنهُمْ لمّا رَأَوْا الشَّفَاعَة والمنار غير موجودين توهموا أنّ ذَلِك من اللَّفْظ فزعموا مَا زَعَمُوا، وفَرْقٌ بَين قَوْلنَا: الكلامُ صادقٌ مَعَ عدم الْمسند إِلَيْهِ، وَقَوْلنَا: إنّ الْكَلَام اقْتضى عَدمه. الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: أنّ الْقَضِيَّة السالبة الْمُشْتَملَة على مُقَيّد نَحْو: " مَا جَاءَنِي رجلٌ شاعرٌ " يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول (8) : أنْ يكون نفي الْمسند بِاعْتِبَار المقيّد فَيَقْتَضِي الْمَفْهُوم فِي الْمِثَال الْمَذْكُور وجود مَجِيء رجلٍ مَا غير شَاعِر، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِمَال الرَّاجِح المتبادل،
أَلا ترى لَو كَانَ المُرَاد نَفْيه عَن الرجل مُطلقًا لَكَانَ ذكر الْوَصْف ضائعاً ولكان زِيَادَة فِي اللَّفْظ ونقصاً فِي الْمَعْنى المُرَاد. الثَّانِي: أنْ يكون نَفْيه بِاعْتِبَار المقيّد وَهُوَ الرجل، وَهَذَا احْتِمَال مَرْجُوح لَا يُصار إِلَيْهِ إلاّ بِدَلِيل (1) ، فَلَا مَفْهُوم حِينَئِذٍ للتَّقْيِيد، لأنّه لم يُذكر للتَّقْيِيد بل ذُكِرَ لغَرَض آخر، كأنْ يكون المُرَاد مناقضة مَنْ أثبتَ ذلكَ الْوَصْف فَقال: (جَاءَنِي (2) رجل شَاعِر) فَأَرَدْت التَّنْصِيص على نفي مَا أثْبته، أَو كَأَن يُراد التَّعْرِيض (3) ، إِذا (4) أردْت فِي الْمِثَال الْمَذْكُور أنْ تعرِّض بمَنْ جاءَهُ رجلٌ شاعرٌ. وَهَذِه هِيَ (5) الْقَاعِدَة الَّتِي يخرج عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى (6) : (لَا يسألونَ الناسَ إلحافاً) (7) فإنّ الإلحافَ قَيْدٌ فِي السُّؤَال الْمَنْفِيّ، وَالْمرَاد من الْآيَة - وَالله أعلم - نفي السُّؤَال الْبَتَّةَ بِدَلِيل: (يَحْسبهُم الْجَاهِل أغنياءَ من التعفُّفِ) (8) ، وَالتَّعَفُّف لَا يُجَامع الْمَسْأَلَة، وَلَكِن أُرِيد بِذكر الإلحاف - وَالله أعلم - التَّعْرِيض بِقوم ملحفين توبيخاً لَهُم على صنيعهم أَو التَّعْرِيض بجنسهم الملحفين وذمهم على الإلحاف، لأنّ نقيض الْوَصْف (9) الممدوح مَذْمُوم، والمثال المبحوث فِيهِ متخرج على هَذِه الْقَاعِدَة فِيمَا زَعَمُوا، فإنّ فضلا مقيِّدٌ للدرهم، فَلَو قدّر النَّفْي مسلطاً على الْقَيْد اقْتضى مَفْهُومه خلاف المُرَاد، وَهُوَ أنّه يملك الدِّرْهَم وَلكنه لَا يملك الدِّينَار، ولمّا امْتنع هَذَا تعيّن الْحمل على الْوَجْه الْمَرْجُوح، وَهُوَ تسليط النَّفْي على المقيّد، وَهُوَ الدِّرْهَم، فَيَنْتَفِي الدِّينَار، لأنّ الَّذِي لَا يملك الأقلَّ لَا يملك الأكثرَ فإنّ المُرَاد بالدرهم لَيْسَ الدِّرْهَم الْعرفِيّ، لأنّه يجوز أنْ يملك الدِّينَار من لَا يملكهُ، بل المُرَاد مَا يُسَاوِي من النُّقُود درهما، فَهَذَا تَوْجِيه التَّخْرِيج.
وأمّا الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَمن جِهَة أنّ الْقَيْد لَيْسَ نفس الدِّينَار حَتَّى يصير الْمَعْنى: لَا يملكُ درهما فيكفَ يملك (1) دِينَارا. وإنّما الْقَيْد قَوْله: (فضلا عَن دِينَار) . وَالْكَلَام لم يسق لنفي ملك الزَّائِد على (2) الدِّينَار بل لنفي ملك الدِّينَار نَفسه ثمَّ يلْزم عَن ذَلِك انْتِفَاء ملك مَا زَاد عَلَيْهِ. وَالَّذِي ظهر لي فِي تَوْجِيه هَذَا الْكَلَام أنْ يُقال: إنَّه فِي الأَصْل جملتان مستقلتان وَلَكِن الْجُمْلَة الثَّانِيَة دَخلهَا حذف كثير وتغيير حصل الْإِشْكَال بِسَبَبِهِ، وتوجيه ذَلِك أنْ يكون هَذَا الْكَلَام فِي اللَّفْظ أَو فِي التَّقْدِير جَوَابا لمستخبر قَالَ: " أيملك فلَان دِينَارا "، أَو ردًّا على مخبر قَالَ: (فلَان يملك دِينَارا) . فَقيل فِي الْجَواب: (فلَان لَا يملك درهما) ثمَّ استؤنف كَلَام آخر (3) . وَلَك فِي تَقْدِيره وَجْهَان: الأول: أنْ يُقال (4) : أَخْبَرتك بِهَذَا زِيَادَة على (5) الْأَخْبَار عَن دِينَار استفهمت عَنهُ. أَو أَخْبَرتك بِملك (6) لَهُ، ثمَّ حذفت جملَة (أَخْبَرتك بِهَذَا) وَبَقِي معمولها وَهُوَ (فضلا) ، كَمَا قَالُوا: (حِينَئِذٍ الآنَ) بِتَقْدِير: كَانَ ذَلِك حِينَئِذٍ واسمع الآنَ، فحذفوا الجملتين وأبقوا من كلٍّ مِنْهُمَا معمولهما، ثمَّ حُذف مجرور عَن وجارّ دِينَار، وأدخلت (عَن) الأولى على الدِّينَار كَمَا قَالُوا: (مَا رأيتُ رجلا أحسنَ فِي عينِهِ (7) الكحلُ مِن زيدٍ) . وَالْأَصْل: مِنْهُ فِي عين زيد، ثمَّ حذف مجرور (من) وَهُوَ الضَّمِير، وجارّ الْعين وَهُوَ (فِي) ، وَدخلت (من) على الْعين. الثَّانِي: أنْ يُقدر (8) : فضلا (9) انْتِفَاء الدِّرْهَم عَن فلَان عَن انْتِفَاء الدِّينَار.
عَنهُ. وَمعنى ذَلِك أَن تكون حَال (1) هَذَا الْمَذْكُور فِي النَّفْي مَعْرُوفَة عِنْد النَّاس. وَالْفَقِير إنّما يَنْفِي عَنهُ فِي الْعَادة ملك الْأَشْيَاء الحقيرة لَا ملك الْأَمْوَال الْكَثِيرَة، فوقوع نفي ملك الدِّرْهَم عَنهُ فِي الْوُجُود فَاضل عَن وُقُوع نفي الدِّينَار عَنهُ، أيْ أَكثر مِنْهُ. وفضلاً على التَّقْدِير الأول حَال، وعَلى الثَّانِي مصدر، وهما الْوَجْهَانِ اللَّذَان ذكرهمَا الْفَارِسِي لكنّ تَوْجِيه الإعرابين مُخَالف لما ذكر (2) وتوجيه الْمَعْنى مُخَالف لما ذكرُوا، لأنّه إنّما يَتَّضِح تطابق اللَّفْظ وَالْمعْنَى على مَا وجهت لَا على مَا وجهوا، ولعلّ من لم يقو أنسه (3) بتجوزات الْعَرَب فِي كَلَامهَا يقْدَح فِيمَا ذكرت بِكَثْرَة الْحَذف، وَهُوَ كَمَا قيل: إِذا لم يكن إلاّ الأسنة مركبٌ فَلَا رَأْي للمحتاج إلاّ ركُوبهَا (4) وَقد بيَّنْت فِي التَّوْجِيه الأول (5) أنّ مثلَ هَذَا الْحَذف والتجوّز واقعٌ فِي كَلَامهم. قَالَ أَبُو الْفَتْح (6) : قَالَ أَبُو عَليّ (7) : مَنْ عُرِفَ أُلِفَ وَمن جُهِلَ استُوحِشَ.
القَوْل فِي: الْإِعْرَاب لُغَة البيانُ وأمّا الإعرابُ لُغَة: البيانُ وَنَحْوه فيتبادر إِلَى الذِّهْن فِيهِ أوجه: الأول (1) : وَهُوَ (2) أقربها تبادراً أنْ يكون على نزع الْخَافِض، وَالْأَصْل: الْإِعْرَاب فِي اللغةِ البيانُ، وَيشْهد لهَذَا أنّهم قد يصرِّحون بذلك، أَعنِي بأنْ يَقُولُوا: الإعرابُ فِي اللغةِ البيانُ. وَفِي هَذَا الْوَجْه نظرٌ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا (3) أنّ إِسْقَاط الْخَافِض من هَذَا وَنَحْوه لَيْسَ بِقِيَاس، وَاسْتِعْمَال مثل هَذَا التَّرْكِيب مُسْتَمر فِي كَلَام الْعَرَب (4) . الثَّانِي: أنَّهم قد التزموا فِي هَذِه الْأَلْفَاظ التنكير، وَلَو كَانَت على إِسْقَاط الْخَافِض لبقيت على تَعْرِيفهَا الَّذِي كَانَ عِنْد وجود الْخَافِض كَمَا بَقِي التَّعْرِيف فِي قَوْله: تَمُرُّونَ الديارَ وَلم تَعُوجُوا (5) وَأَصله: تمرون (6) على الديار أَو بالديار. وَقد يُزاد على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَجْهَان آخرَانِ: الأول (7) : أنّه لَيْسَ فِي الكلامِ مَا يتَعَلَّق بِهِ هَذَا الْخَافِض. الثَّانِي: أنّ سُقُوط الْخَافِض لَا يَقْتَضِي النصب من حَيْثُ هُوَ سُقُوط خافض بل من حَيْثُ أنّ الْعَامِل الَّذِي كَانَ الْجَار مُتَعَلقا بِهِ لمّا زَالَ من اللَّفْظ ظُهُور (8) . أَثَره لزوَال مَا كَانَ الْخَافِض يُعَارضهُ نُصبَ (9) . فَإِذا لم يكن فِي الْكَلَام مَا
يَقْتَضِي النصب من فعل أَو شبهه لم يجز النصب. وَمن هُنَا كَانَ خطأ قَول الْكُوفِيّين فِي: (مَا زيدٌ قَائِما) إنّ (مَا) لم ترفع الِاسْم وَلم تنصب الْخَبَر بل ارْتِفَاع (زيد) على أنّه مُبْتَدأ، وَنصب (قَائِما) على إِسْقَاط الْبَاء (1) . وَهَذَانِ (2) الْوَجْهَانِ لَو صَحا لاقتضيا أنْ لَا يجوز: الإعرابُ فِي اللغةِ البيانُ، ولكنْ يُجِيزهُ على التَّعْلِيق بأعني مضمرة مُعْتَرضَة بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، والفصل بِالْجُمْلَةِ الاعتراضية جَائِز اتِّفَاقًا. فإنْ قلتَ: فَهَلا (3) قدرت الْجَار الْمَحْذُوف أَو الْمَذْكُور متعلِّقاً بالْخبر (4) الْمُؤخر عَنهُ فإنّ فِيهِ معنى الْفِعْل. قلتُ: لفساده معنى وصناعةً، أمّا معنى فلأنَّه (5) يصير الْمَعْنى: الْإِعْرَاب (6) الْبَيَان الْحَاصِل فِي اللُّغَة [لَا الْبَيَان الْحَاصِل فِي غير اللُّغَة وَلَيْسَ المُرَاد هَذَا] (7) . وأمّا صناعَة (8) فلأنّ (9) الْبَيَان وَنَحْوه مصَادر، وَلَا يتَقَدَّم على الْمصدر معموله، وَلَو كَانَ ظرفا، وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَول الحماسي (10) . بعضُ الحِلْمِ عِندَ الجَهْلِ للذِّلَّةِ إذْعانُ إنَّ اللَّام مُتَعَلقَة بإذعان مَحْذُوف أُبدِل مِنْهُ الإذعان الْمَذْكُور، وَلَيْسَت مُتَعَلقَة بالإذعان الْمَذْكُور. فَإِذا امْتَنعُوا من ذَلِك حَيْثُ لم يظْهر تَأْثِير الْمصدر للنصب، وَلم يتجوزوا (11) فِي الْجَار بالحذف (12) ، مُهِمّ عَن (13) تَجْوِيز التَّقْدِيم
عِنْد وجود هذَيْن (1) أبْعَدُ. فإنْ قلتَ: هَبْ أنَّ هَذَا امْتنع حيثُ الْعَامِل (2) مصدر لكنّه لَا يمْتَنع (3) حَيْثُ هُوَ وصف كَقَوْلِه: الدليلُ لُغَة المرشدُ. قلتُ: بل يمْتَنع لأنّ اسْم الْفَاعِل صلَة الْألف وَاللَّام أيْ: الدليلُ الَّذِي يرشد، وَلَا يتَقَدَّم مَعْمُول الصِّلَة على الْمَوْصُول، وَلَو كَانَ ظرفا، وَلِهَذَا يؤول قَول الله (4) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَكُونُوا فِيهِ من الزاهدين) (5) ، (إنِّي لَكمَا لمن الناصِحينَ) (6) ، (إنِّي لعملِكُم من القالِينَ) (7) . وَلَو قدَّرنا (أل) فِي (8) ذَلِك لمحض التَّعْرِيف، كَمَا يَقُول الْأَخْفَش (9) ، لم نخلص من الْإِشْكَال الثَّانِي، وَهُوَ فَسَاد الْمَعْنى، إِذْ الْمَعْنى حِينَئِذٍ: الدَّلِيل الَّذِي يرشد فِي اللُّغَة لَا الَّذِي يرشد فِي غير اللُّغَة. وَأَيْضًا فَإِذا امْتنع التَّعْلِيق بالْخبر حَيْثُ يكون الْخَبَر مصدرا امْتنع فِي الْبَاقِي، لأنّ هَذِه الْأَمْثِلَة بابٌ واحدٌ. فإنْ قلتَ: قُدِّر التَّعْلِيق بمضاف مَحْذُوف أَي: تَفْسِير الْإِعْرَاب فِي اللُّغَة الْبَيَان، كَمَا قَالُوا: (أَنْت مني فرسخان) على تَقْدِير: بعْدك مني فرسخان (10) وقُدِّر فِي مثلهَا فِي قَوْلهم: الِاسْم مَا دلَّ على معنى فِي نَفسه. أَي: مَا دلَّ على معنى بِاعْتِبَار نَفسه لَا بِاعْتِبَار أَمر خَارج عَنهُ، فإنّه إِذا لم يُحمل على هَذَا اقْتضى أنْ يكون معنى الِاسْم، وَهُوَ الْمُسَمّى (11) ، مَوْجُودا فِي لفظ الِاسْم، وَهُوَ
محَال. وَكَذَا (1) يكون الْمَعْنى فِي تَقْدِير (2) الْإِعْرَاب لُغَة (3) بِاعْتِبَار اللُّغَة الْبَيَان. قلتُ: هَذَا تَقْدِير صَحِيح، ولكنْ يبْقى الإشكالان وهما: أنّ إِسْقَاط الْجَار لَيْسَ بمقياس، وأنّ الْتِزَام التنكير حِينَئِذٍ لَا وَجه لَهُ. الْوَجْه الثَّانِي: أنْ يكون تمييزاً، وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْكَال فِي الْتِزَام تنكيره ولكنّه مُمْتَنع من جِهَة أنّ التَّمْيِيز هُوَ (4) تَفْسِير للمفرد كرطل زيتاً، أَو تَفْسِير للنسبة كطابَ زيدٌ نفسا، وَهنا لم تتقدم نِسْبَة الْبَتَّةَ وَلَا اسْم (5) مُبْهَم (6) وضعا. فإنْ قلتَ: أليسَ الْإِعْرَاب فِي الحدِّ الْمَذْكُور يحْتَمل اللّغَوِيّ والاصطلاحي فَهُوَ مبهمٌ. قُلْنَا: الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة لَا يَجِيء التَّمْيِيز (7) باعتبارها، لَا تقولُ: (رأيتُ عينا ذَهَبا) (8) على التَّمْيِيز. وسرُّ ذَلِك أنّ الْمُشْتَرك مَوْضُوع للدلالة على ذَات الْمُسَمّى بِاعْتِبَار حَقِيقَته، وإنّما يَجِيء الإلباس لعدم الْقَرِينَة أَو للْجَهْل (9) بهَا، وَأَسْمَاء الْعدَد وَنَحْوهَا مِمَّا يُميز لم تُوضَع للذات بِاعْتِبَار حَقِيقَتهَا الَّتِي تحصل بالتمييز، فإنّه لَا يُفهم من عشْرين إلاّ عشرتان (10) من أيّ مَعْدُود كَانَ، فَهُوَ مَوْضُوع على الْإِبْهَام فافتقر إِلَى التَّمْيِيز (11) ، والمشترك إنّما وضع لمُعين (12) والاشتراك إِنَّمَا حصل (13) عِنْد السَّامع. فإنْ قلتَ يُمكن أنْ يكون من تَمْيِيز النِّسْبَة بِأَن يُقَدَّر قبله مُضَاف أيْ:
شرح الْإِعْرَاب، فَيكون من بَاب: (أعجبني طيبُهُ أَبَا) ، فإنّ كَون (أَبَا) تمييزاً إنّما هُوَ بِاعْتِبَار قَوْلك (طيبُهُ) لَا (1) بِاعْتِبَار الْجُمْلَة كلهَا. قلتُ: تَمْيِيز النِّسْبَة الْوَاقِع بعد المتضايفين لَا يكون إلاّ فَاعِلا فِي الْمَعْنى، ثمَّ قد يكون مَعَ ذَلِك فَاعِلا فِي الصِّنَاعَة بِاعْتِبَار الأَصْل فَيكون محولاً عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ نَحْو: (أعجبني طيبُ زيدٍ أَبَا) إِذا كَانَ المُرَاد الثَّنَاء على أبِ زيد، فإنّ أَصله: أعجبني طيبُ أبِ زيدٍ. وَقد لَا يكون كَذَلِك فَيكون صَالحا لدُخُول (من) نَحْو: (للهِ دره فَارِسًا) و (ويحه رجلا) و (ويله إنْسَانا) . فَإِن الدّرّ بِمَعْنى الْخَيْر، والويح وَالْوَيْل (2) بِمَعْنى الْهَلَاك، ونسبتهما إِلَى الرجل نِسْبَة الْفِعْل إِلَى فَاعله. وَمِنْه: (أعجبني طيبُ زيدٍ أَبَا) إِذا كَانَ الْأَب نفس زيد. وتعلُّقُ الشَّرْح بالإعراب وَنَحْوه إنّما هُوَ تعلُّقُ الْفِعْل بالمفعول لَا بالفاعل، ثمَّ إنّا لَا نعلم تمييزاً جَاءَ بِاعْتِبَار متضايفين (3) حُذِفَ المضافُ مِنْهُمَا. الْوَجْه الثَّالِث: أنّ يكون مَفْعُولا مُطلقًا. وأصل (4) الْإِعْرَاب: تَغْيِير الآخر لعامل. اصْطَلحُوا على ذَلِك اصْطِلَاحا، ثمَّ حُذِف الْعَامِل وَاعْترض بِالْمَصْدَرِ بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. وَهَذَا الْوَجْه مَرْدُود أَيْضا لأنَّه مُمْتَنع فِي قَوْلك: الْإِعْرَاب لُغَة الْبَيَان، فإنّ اللُّغَة لَيست مصدرا، لأنّها لَيست اسْما للْحَدَث (5) ، وَلِهَذَا تُوصَف بِمَا تُوصَف بِهِ الْأَلْفَاظ المسموعة، فيُقال: لُغَة فصيحة كَمَا يُقَال: كلمة فصيحة، اسْم (6) للفظ المسموع.
وَزعم أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب (1) فِي أَمَالِيهِ: أنّ ذَلِك على الْمَفْعُول الْمُطلق، وأنّه فِي الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره. قَالَ: وَذَلِكَ (2) لأنّ معنى قَوْلنَا: (الإجماعُ لُغَة العزمُ) : مَدْلُول الْإِجْمَاع لُغَة العزمُ. وَالدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى دلَالَة شرع وَإِلَى دلَالَة لُغَة وَإِلَى دلَالَة عرف، فلمّا كَانَت مُحْتَملَة، وَذَلِكَ (3) أحد المحتملات، كَانَ مصدرا من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره. وَفِيمَا قَالَه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا ذكرنَا من أنّ اللُّغَة لَيست مصدرا لأنّها لَيست اسْما للْحَدَث. الثَّانِي: إنّ ذَلِك لَو كَانَ مصدرا مؤكداً لغيره لَكَانَ (4) إنّما يَأْتِي بعد الْجُمْلَة فإنّه لَا يجوز أنْ يتوسط وَلَا أنْ يتَقَدَّم، لأنّه لَا يُقَال: (زَيدٌ (5) حقًّا ابْني) وَلَا (حقًّا زيدٌ ابْني) وإنْ كَانَ الزجّاج (6) يُجيز ذَلِك، ولكنّ الْجُمْهُور على خِلَافه. الْوَجْه الرَّابِع: أنْ يكون مَفْعُولا لأَجله، وَالتَّقْدِير: تَفْسِير الْإِعْرَاب لأجل الِاصْطِلَاح، أَي: لأجل بَيَان الِاصْطِلَاح. وَهَذَا الْوَجْه أَيْضا لَا يَسْتَقِيم، لأنّ المنتصب (7) على الْمَفْعُول لأَجله (8) لَا يكون إِلَّا مصدرا ك (قمتُ إجلالاً لَهُ) ، وَلَا يجوز: (جئْتُك الماءَ والعشبَ) بِتَقْدِير مُضَاف، أَي: ابتغاءَ المَاء والعشب.
الْوَجْه الْخَامِس: وَهُوَ الظَّاهِر (1) أنْ يكون حَالا على تَقْدِير مُضَاف إِلَيْهِ من الْمَجْرُور ومضافين من الْمَنْصُوب، وَالْأَصْل: تَفْسِير الْإِعْرَاب مَوْضُوع أهل اللُّغَة أَو مَوْضُوع أهل الِاصْطِلَاح. ثمَّ حُذف المتضايفان (2) على حدِّ حذفهما فِي قَوْله تَعَالَى: (فقبضتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرسولِ) (3) أيْ: من أَثَرِ حافرِ فرسِ الرسولِ. ولمّا أُنيب الثَّالِث عمّا هُوَ الْحَال بِالْحَقِيقَةِ الْتزم تنكيره لنيابته عَن لَازم التنكير كَمَا فِي قَوْلهم: (قَضِيَّةٌ وَلَا أَبَا حَسَنٍ لَهَا) (4) ، وَالْأَصْل: وَلَا مثل أبي الْحسن لَهَا، فلمّا أُنيب أَبُو الْحسن (5) عَن (مثل) جرد عَن أَدَاة التَّعْرِيف. وَلَك أنْ تَقول: الأَصْل مَوْضُوع اللُّغَة أَو مَوْضُوع الِاصْطِلَاح على نِسْبَة الْوَضع إِلَى اللُّغَة أَو إِلَى (6) الِاصْطِلَاح مجَازًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يكون فِيهِ إلاّ حذف مُضَاف وَاحِد، وَيصير نَظِير قَول الْعَرَب: (كنتُ أظنُّ العقربَ أشدَّ لسعةً من الزنبورِ فَإِذا هُوَ إيّاها) (7) ، على تَأْوِيل ابْن الْحَاجِب فإنّه أعرب (إيّاها) حَالا على أنّ الأَصْل: فَإِذا هُوَ مَوْجُود مثلهَا، فحُذِف الْخَبَر كَمَا حُذِف فِي: (خرجت فَإِذا الأسدُ) ثمَّ حُذِف الْمُضَاف، وَهُوَ (مثل) وَقَامَ (9) الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه فتحوَّل (8) الضَّمِير الْمَجْرُور ضميراً مَنْصُوبًا بل تَخْرِيج مَا نَحن فِيهِ على ذَلِك أسهلُ لأنّ لفظ الضَّمِير معرفَة (10) فانتصابُهُ على الْحَال بعيدٌ. وَالظَّاهِر فِي الْمِثَال الْمَذْكُور أنّه مفعول لفعل مَحْذُوف هُوَ الْخَبَر، وَالتَّقْدِير: فَإِذا هُوَ يشبهها، ولمّا حُذِف الْفِعْل انْفَصل الضَّمِير، أَو أنّه الضَّمِير (11) ، أَو أنّه هُوَ الْخَبَر كَمَا فِي قَول الْأَكْثَرين: فَإِذا هُوَ هِيَ، ولكنْ أُنيب ضمير النصب عَن ضمير الرّفْع.
القَوْل فِي: يجوز كَذَا خلافًا لفُلَان وأمّا قَوْله: (يجوز كَذَا خلافًا لفلانٍ) فقد يُقال: إنّه يجوز فِيهِ وَجْهَان: الأول: أنْ يكون مصدرا كَمَا أنّ قَوْلك: (يجوز كَذَا اتِّفَاقًا وإجماعاً) بِتَقْدِير: اتَّفقُوا على ذَلِك اتِّفَاقًا، وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا. وَيشكل على هَذَا أنّ فعله المقدّر إمّا اخْتلفُوا أَو خالفوا أَو خَالَفت. فَإِن كَانَ (اخْتلفُوا) أشكل عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا (1) : أنّ مصدر اخْتلف إنّما هُوَ الِاخْتِلَاف لَا الْخلاف. الثَّانِي: أنّ ذَلِك يَأْبَى أَن يَقُول بعده: لفُلَان. وإنْ كَانَ (خالفوا) أَو (خَالَفت) أشكل عَلَيْهِ أنّ (خَالف) لَا يتَعَدَّى باللامِ بل بِنَفسِهِ. وَقد يخْتَار هَذَا الْقسم ويُجاب عَن هَذَا الِاعْتِرَاض بأنْ يُقال: تُقدر (2) اللَّام مثلهَا فِي: (سقيا لَهُ) (3) أَي مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: أَعنِي لَهُ أَو إرادتي لَهُ، أَلا ترى أنَّها لَا تتَعَلَّق ب (سقيا) لأنّ سقى يتَعَدَّى بِنَفسِهِ. الْوَجْه الثَّانِي: أنْ يكونَ حَالا، وَالتَّقْدِير: أَقُول خلافًا لفُلَان، أيْ: مُخَالفا لَهُ. وحذفُ القَوْل كثير جدًّا حَتَّى قَالَ أَبُو عَليّ (4) : (هُوَ من حَدِيث الْبَحْر قل وَلَا حرج) . ودلّ على هَذَا الْعَامِل أنّ كل (5) حكم ذكره المصنفون فهم قَائِلُونَ بِهِ. وكأنّ القَوْل مُقَدّر قبل كلّ مَسْأَلَة. وَهَذِه الْعلَّة قريبَة من الْعلَّة الَّتِي ذكروها (6) لاختصاصهم الظروف بالتوسع فِيهَا، وَذَلِكَ أنّهم (7) قَالُوا: إنّ الظروف منزلَة من الْأَشْيَاء منزلَة أَنْفسهَا لوقوعها فِيهَا وأنّها لَا تنفكّ عَنْهَا، وَالله تَعَالَى أعلمُ.
القَوْل فِي: قَالَ أَيْضا وأمّا قَوْله: (قَالَ أَيْضا) فَاعْلَم أنّ (أَيْضا) مصدر آض (1) . وآض فعل مُسْتَعْمل (2) ، وَله مَعْنيانِ: أَحدهمَا: رَجَعَ، فَيكون تَاما، قَالَ صَاحب الْمُحكم (3) : (وآض إِلَى أهل: رَجَعَ إِلَيْهِم) انْتهى. وَكَذَا قَالَ ابْن السِّكيِّت (4) وَغَيرهمَا (5) (وَهَكَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمل مصدره هُنَا. الثَّانِي: صَار، فَيكون نَاقِصا عَاملا عمل كَانَ. ذكره ابْن مَالك (6) وَغَيره، وأنشدوا قَول الراجز (7) . رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذا تَمَعْدَدَا وآضَ نَهْداً كالحِصانِ أجْرَدا كانَ جزائي بالعصا أنْ أُجْلَدا وَرَوَاهُ الْجَوْهَرِي (8) : وَصَارَ نهداً. يُقَال: تمعدد الْغُلَام إِذا شبّ وَغلظ. والنهد: الْعَظِيم (9) الْجِسْم من الْخَيل، وإنّما يُوصف بِهِ الْإِنْسَان على وَجه التَّشْبِيه. والأجرد: الَّذِي لَا شعر عَلَيْهِ.
وانتصاب (أَيْضا) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور لَيْسَ على الْحَال من ضمير (قَالَ) كَمَا توهمه جمَاعَة من النَّاس فزعموا أنّ التَّقْدِير: وَقَالَ أَيْضا أَي: رَاجعا إِلَى القَوْل. وَهَذَا لَا يحسن تَقْدِيره إلاّ إِذا كَانَ هَذَا القَوْل إنّما صدر من الْقَائِل بعد صُدُور القَوْل السَّابِق حَتَّى يَصح أنْ يُقَال: إنّه قَالَ رَاجعا إِلَى القَوْل بَعْدَمَا فرغ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِك بِشَرْط فِي اسْتِعْمَال (أَيْضا) ، أَلا ترى أنّك تَقول: قلتُ اليومَ كَذَا، وَقلت أمسِ أَيْضا. وَكَذَلِكَ تَقول: كتبت اليومَ، وكتبت أمسِ أَيْضا. وَالَّذِي يظْهر لي أنّه مفعول مُطلق حُذِف عَامله أَو حَال حُذِف عاملها وصاحبها، وَذَلِكَ أنّك قلت: وَقَالَ فلَان، ثمَّ استأنفت جملَة فَقلت: ارْجع إِلَى الْأَخْبَار (1) رُجُوعا وَلَا اقْتصر على مَا قدَّمت، فَيكون مَفْعُولا مُطلقًا. أَو التَّقْدِير: أخبر أَيْضا أَو أحكي أَيْضا، فَيكون حَالا من ضمير الْمُتَكَلّم، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يسْتَمر فِي جَمِيع الْمَوَاضِع. وَمِمَّا يؤنسك بِمَا (2) ذكرته من أنّ الْعَامِل مَحْذُوف أنّك تَقول: (عِنْده مالٌ وَأَيْضًا علمٌ) فَلَا يكون قبلهَا مَا يصلح للْعَمَل فِيهَا، فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ من التَّقْدِير. وعَلى ذَلِك قَالَ الشاطبي (3) - رَضِي الله عَنهُ - وَقد ذكر أنّه لَا يدغِم الْحَرْف إِذا كَانَ (4) تَاء مُتَكَلم أَو مُخَاطب أَو منوَّناً أَو مشدَّداً: ككنتُ تُرَابا أنْتَ تُكْرِهُ واسعٌ عليمٌ وَأَيْضًا تَمَّ مِيقاتُ مُثِّلا (5) قَالَ أَبُو شامة (6) - رَحمَه الله - قَوْله: (أَيْضا) أيْ أمثل النَّوْع الرَّابِع وَلَا
اقْتصر على تَمْثِيل الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة، وَهُوَ مصدر آض إِذا رَجَعَ. انْتهى كَلَامه. فأيضاً على تَقْدِيره حَال من ضمير أمثل الَّذِي قدَّره. وَاعْلَم أنّ هَذِه الْكَلِمَة إنّما تسْتَعْمل مَعَ ذكر شَيْئَيْنِ بَينهمَا توَافق، وَيُمكن اسْتغْنَاء كل مِنْهُمَا عَن الآخر، فَلَا يجوز: (جَاءَ زيدٌ أَيْضا) إلاّ أنْ يتَقَدَّم ذكر شخص آخر (1) أَو تدلّ عَلَيْهِ قرينَة، وَلَا (جَاءَ زيدٌ وَمضى عَمْرو أَيْضا) لعدم التوافق، وَلَا (اخْتصم زيدٌ وعمروٌ أَيْضا) لأنّ أَحدهمَا لَا يَسْتَغْنِي عَن الآخر.
القَوْل فِي: هَلُمَّ جَرّاً وأمّا قَوْله: (هَلُمَّ جَرّاً) (1) فكلامٌ مُسْتَعْمل فِي الْعرف كثيرا، وَذكره الْجَوْهَرِي فِي (صحاحه) ، فَقَالَ فِي فصل الْجِيم من بَاب الرَّاء (2) : (وَتقول: كَانَ ذَلِك عَام كَذَا وهَلُمَّ جرّاً إِلَى الْيَوْم) . هَذَا جَمِيع مَا ذكره (3) . وَذكر الصغاني (4) فِي (عبابه) مَا ذكره صَاحب (الصِّحَاح) ، وَلم يزدْ عَلَيْهِ. وَذكر أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي (5) (هَلُمَّ جرّاً) فِي كتاب (الزَّاهِر) (6) وَبسط القَوْل فِيهِ، وَقَالَ: (مَعْنَاهُ: سِيرُوا على هينَتكُمْ) أيْ تثبَّتوا فِي سيركم وَلَا تجهدوا أَنفسكُم، قَالَ: وَهُوَ مَأْخُوذ من الجرِّ، وَهُوَ أنْ تُتركَ الْإِبِل وَالْغنم ترعى فِي السّير، قَالَ الراجز: لطالما جَرَرْتَكُنَّ جرَّاً حَتَّى نَوَى الأعْجَفُ واستمرَّا فاليومَ لَا آلوا الركابَ شرَّا (7) قلتُ: الأعجف: الهزيل. وَنوى: صَار لَهُ نَيٌّ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْيَاء،
وَهُوَ الشَّحْم. وأمّا النِّيءُ، بِكَسْر النُّون وبالهمزة بعد يَاء سَاكِنة (1) فَهُوَ اللَّحْم الَّذِي لم ينضج، وَاسْتمرّ: كَأَنَّهُ من المِرّة، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ القوّة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: " ذُو مِرَّةٍ " (2) . قَالَ (3) : وَفِي انتصاب (جرَّا) ثَلَاثَة أوجه: الأول: أنْ يكون مصدرا وضع مَوضِع الْحَال، وَالتَّقْدِير: هَلُمَّ جارين أَي: مُتَثبتين. الثَّانِي: أنْ يكون انتصابه (4) على الصَّدْر، لأنّ فِي (هَلُمَّ) معنى (جرَّ) ، فكأنّه قيل: جرّوا جرًّا. وَهَذَا على قِيَاس قَوْله: (جَاءَ زيدٌ مشياً) ، فإنّ الْبَصرِيين يَقُولُونَ تَقْدِيره: مَاشِيا، والكوفيون يَقُولُونَ: الْمَعْنى: يمشي (5) مشيا (6) . الثَّالِث: وَقَالَ بعض النَّحْوِيين (7) : جرَّا نصب على التَّفْسِير (8) . انْتهى كَلَام أبي بكر مُلَخصا. وَقَالَ أَبُو حيّان فِي (الارتشاف) (9) وهَلُمَّ جرًّا مَعْنَاهُ: تعال على هَيْنتك متثبتاً، وانتصاب (جرًّا) على أنّه مصدر فِي مَوضِع الْحَال، أيْ جارين، قَالَه البصريون. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مصدر، لأنّ معنى (هَلُمَّ) جرّ. وَقيل: انتصب على التَّمْيِيز.
وأوّلُ مَنْ قَالَه عَائِذ (1) بن يزِيد، قَالَ (2) . فإنْ جاوَزْتُ مُقْفِرَةً رَمَتْ بِي إِلَى أُخرى كتلك هَلُمَّ جرَّا وَقَالَ آخر من تغلب (3) : المطعمين لَدَى الشتاءِ سدائفاً مل نيب (4) غرَّاً فِي الجاهليةِ كانَ سؤدد وائلٍ (5) فهَلُمَّ جرَّا انْتهى. وَبعد فعندي توقف فِي كَون هَذَا التَّرْكِيب عربيّا مَحْضا، وَالَّذِي رَابَنِي مِنْهُ أُمُور: الأوَل: إنّ إِجْمَاع (6) النَّحْوِيين واللغويين (7) مُنْعَقد على أنّ ل (هَلُمَّ) مَعْنيين: أَحدهمَا: تعالَ، فَتكون قَاصِرَة كَقَوْلِه تَعَالَى: (هَلُمَّ إِلَيْنَا) (8) أيْ: تَعَالَوْا إِلَيْنَا. وَالثَّانِي: احضر، فَتكون متعدية كَقَوْلِه تَعَالَى: (هَلُمَّ شهداءكم) (9) أيْ: احضروهم. وَلَا امْتنَاع (10) لأحد الْمَعْنيين هُنَا. الثَّانِي: إنّ إِجْمَاعهم مُنْعَقد على (11) أنّ فِيهَا لغتين: حجازية، وَهِي الْتِزَام استتار ضميرها، فَتكون اسْم فعل. وتميمية: وَهِي أنْ تتصل (12) بهَا ضمائر
الرّفْع البارزة فَيُقَال: هَلُمّا وهَلُمِّي وهَلُمُّوا، فَتكون فعلا (1) . وَلَا نَعْرِف لَهَا موضعا أَجمعُوا فِيهِ على الْتِزَام كَونهَا اسْم فعل، وَلم يقل أحدٌ إنّه سمع (2) : هَلُمّا جرًّا وَلَا: هَلُمِّي جرًّا وَلَا: هَلُمُّي جرًّا. الثَّالِث: إنّ تخَالف الجملتين المتعاطفتين بِالطَّلَبِ وَالْخَبَر مُمْتَنع أَو ضَعِيف، وَهُوَ لَازم هُنَا إِذا قلتَ: (كانَ ذلكَ عَام كَذَا وهَلُمَّ جرًّا) . الرَّابِع: إنّ أَئِمَّة اللُّغَة الْمُعْتَمد عَلَيْهِم لم يتَعَرَّضُوا لهَذَا التَّرْكِيب (3) ، حَتَّى صَاحب (الْمُحكم) (4) مَعَ كَثْرَة استيعابه وتتبعه. وإنّما ذكره صَاحب (الصِّحَاح) ، وَقد قَالَ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح (5) فِي (شرح مشكلات الْوَسِيط) (6) : إنّه لَا يقبل مَا تفرد بِهِ. وكانَ عِلّة ذَلِك (7) مَا ذكره فِي أول كِتَابه من أنّه ينْقل عَن الْعَرَب الَّذين سمع مِنْهُم، فإنّ زَمَانه كَانَت اللُّغَة (8) فِيهِ فَسَدَت. وأمّا صَاحب (الْعباب) (9) فإنّه قلَّد صَاحب (الصِّحَاح) فنسخ كَلَامه. وأمّا ابْن الْأَنْبَارِي فَلَيْسَ كِتَابه مَوْضُوعا لتفسير الْأَلْفَاظ المسوعة من الْعَرَب بل وَضْعُهُ أنْ يتَكَلَّم على مَا يجْرِي من محاورات النَّاس، وَقد يكون تَفْسِيره لَهُ على تَقْدِير (10) أنْ يكون عربيًّا، فإنّه لم يُصَرح بأنّه عربيّ. وَكَذَلِكَ لَا أعلم أحدا من النُّحَاة تكلّم عَلَيْهَا غَيره. ولخص أَبُو حَيَّان فِي (الارتشاف) أَشْيَاء من كَلَامه، وَوهم فِيهَا (11) . فإنّه
ذكر أنّ الْكُوفِيّين قَالُوا: إنّ (جرّاً) مصدر، والبصريون قَالُوا: إنّه حَال. وَهَذَا يَقْتَضِي أنّ الْفَرِيقَيْنِ تكلمُوا فِي إِعْرَاب ذَلِك، وَلَيْسَ كَذَلِك، وإنّما قَالَ أَبُو بكر: إنّ قِيَاس إعرابه على قَوَاعِد الْبَصرِيين أنْ يُقال: إِنَّه حَال، وعَلى قَوَاعِد الْكُوفِيّين أنْ يُقال: إنّه مصدر. هَذَا معنى كَلَامه، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فهمه أَبُو الْقَاسِم الزجّاجي (1) . وردَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: البصريون لَا يوجبون فِي نَحْو: (ركضاً) من قَوْلك: (جَاءَ زيدٌ ركضاً) أنْ يكون مَفْعُولا مُطلقًا بل يجيزون أَن يكون التَّقْدِير: جَاءَ زيدٌ يرْكض ركضاً. فَلذَلِك (2) يجوز على قِيَاس قَوْلهم أَن يكون التَّقْدِير: هَلُمَّ تجرّوا (3) جرّاً. انْتهى. ثمَّ قَول أبي بكر: (مَعْنَاهُ: سِيرُوا على هَيْنتكم، أَي تَثَبَّتوا (4) فِي سيركم وَلَا تجهدوا أَنفسكُم) معترض من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أنّ فِيهِ إِثْبَات معنى (5) لم يُثبتهُ لَهَا أحد: الثَّانِي: أنّ هَذَا التَّفْسِير لَا ينطبق على المُرَاد بِهَذَا التَّرْكِيب، فإنّه إنّما يُرَاد بِهِ اسْتِمْرَار مَا ذكر قبله من الحكم، وَلِهَذَا (6) قَالَ صَاحب (الصِّحَاح) : (وهَلُمَّ جرّاً إِلَّا الْآن) . وَقَول أبي حيّان: (مَعْنَاهُ: تعال على هينتك) عَلَيْهِ أَيْضا اعتراضان: أَحدهمَا: أنّه تَفْسِير لَا ينطبق على المُرَاد. الثَّانِي: فِي إِفْرَاده (تعال) مَعَ أنّه خطاب للْجَمَاعَة، وكأنّه توهم (تعال) اسْم فعل (7) ، وَاسم الْفِعْل لَا تلْحقهُ ضمائر الرّفْع البارزة. وَقد توهم ذَلِك بعض
النَّحْوِيين (1) فِيهَا وَفِي (هَات) ، وَالصَّوَاب أنّهما فعلان بِدَلِيل الْآيَة، وَهِي (2) قَوْله تَعَالَى: " قُلْ هاتوا برهانكم " (3) ، وَقَول الشَّاعِر: إِذا قلتُ هَاتِي نَوِّليني تمايَلَتْ (4) وَقَوله: (هَلُمَّ بِمَعْنى جرّوا) (5) مَنْقُول من كَلَام ابْن الْأَنْبَارِي، وَهُوَ خطأ مِنْهُ انتقده عَلَيْهِ الزجاجي فِي (مُخْتَصره) وَقَالَ: (لم يقلْ أحدٌ إنّ (هَلُمَّ) فِي معنى جرّوا) (6) . وَفِيه دَلِيل على مَا قدَّمته من أنّ الإعرابين الْمَذْكُورين لم يقلهما البصريون وَلَا الْكُوفِيُّونَ، وإنّما قالهما ابْن الْأَنْبَارِي قِيَاسا على قَوْلهمَا: (جَاءَ زيدٌ ركضاً) . وَتَقْدِير الْبَيْت الأَول: فإنْ تجاوزت أَرضًا (7) مقفرة، أيْ: لَيْسَ بهَا أنيس، رمت بِي تِلْكَ الأَرْض المقفرة إِلَى أُخْرَى مقفرة كتلك الأَرْض المقفرة. وَجَوَاب الشَّرْط إمّا (رمت بِي) أَو فِي الْبَيْت بعده إنْ كَانَت (رمت) صفة ل (مقفرة) (8) . وأمّا البيتان الْآخرَانِ فمعناهما الثَّنَاء على قوم بِالْكَرمِ والسيادة، وَالْعرب تمدح بِالْإِطْعَامِ فِي الشتَاء لأنّه زمنٌ يقلُّ فِيهِ الطَّعَام وَيكثر الْأكل لاحتباس الْحَرَارَة فِي الْبَاطِن. والسَدائف: جمع سديفة (9) وَهِي مفعول المطعمين (10) ، وَمَعْنَاهَا: شرائح (11)
سَنَام الْبَعِير المُقَطَّع وَغَيره مِمَّا غلب عَلَيْهِ السّمن. وَقَوله: (مل نيب) أَصله من النيب، جمع نَاب: وَهِي النَّاقة، سُمِّيت بذلك لأنّها (1) يسْتَدلّ على عمرها بنابها. وحُذِف نون (2) (من) لأنّه أَرَادَ التَّخْفِيف حِين التقى المتقاربان، وهما النُّون وَاللَّام، لتعذر (3) الْإِدْغَام لأنّ اللَّام سَاكِنة. وَنَظِيره قَوْلهم فِي بني الْحَارِث: بلحارث، وَهُوَ شَاذ (4) ، وَالَّذِي فِي الْبَيْت أشذُّ مِنْهُ لأنّ شَرط هَذَا الْحَذف أَن لَا تكون اللَّام مدغمة فِيمَا بعْدهَا فَلَا يُقال فِي بني النجار وَبني النَّضير (5) : بنجار وبنضير (6) . وعلَّل (7) ابْن جني ذَلِك بِكَرَاهَة توالي الإعلالين، فإنّ اللَّام قد أُعِلَّت بإدغامها فِيمَا بعْدهَا، فَمَتَى أُعِلَّت النُّون الَّتِي قبلهَا بالحذف توالى الإعلالان (8) . وَقد يُردّ بأنّ ذَلِك إنّما يُتجنب فِي الْكَلِمَة الْوَاحِدَة، ويُجابُ بأنَّ كلاًّ من المتضايفين وَالْجَار وَالْمَجْرُور كالكلمة الْوَاحِدَة وأُعطيا (9) حكمهمَا. وَقَوله: (غرّا) حَال من النيب، وَهُوَ جمع غرّاء كحمراء وحمر وسوداء
وسود و (فِي الْجَاهِلِيَّة) (1) خبر كَانَ إنْ قُدِّرت نَاقِصَة، أَو مُتَعَلق بهَا إنْ قُدِّرت تَامَّة بِمَعْنى وجد. وَقَوله: (فَهَلُمَّ جَرّا) مُتَعَلق بِالْمَعْنَى (2) بقوله (فِي الْجَاهِلِيَّة) إنْ كَانَ سؤدد وَائِل (3) فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا بعْدهَا. وإذْ (4) قد أَتَيْنَا على كَلَام النَّاس وَشَرحه وَبَيَان مَا فِيهِ من نقل فلنذكر مَا ظهر لنا فِي تَوْجِيه هَذَا الْكَلَام بِتَقْدِير كَونه عربيّاً فَنَقُول: (هَلُمَّ) هَذِه هِيَ القاصرة الَّتِي بِمَعْنى: أمت وتعال إلاّ أنّ فِيهَا تجوزين: الأول: أنّه لَيْسَ المُرَاد بالإتيان هُنَا الْمَجِيء الْحسي بل الِاسْتِمْرَار على الشَّيْء والمداومة عَلَيْهِ، كَمَا تَقول: امشِ على هَذَا الْأَمر، وسِرْ على هَذَا المنوال (5) . وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (وانطَلَقَ الملأُ مِنْهُم أنِ امشُوا واصبروا على آلِهَتكُم) (6) . المُرَاد بالانطلاق لَيْسَ الذّهاب الْحسي بل انطلاق الْأَلْسِنَة بالْكلَام. وَلِهَذَا أعربوا (أنْ) تفسيرية (7) ، وَهِي إنّما تَأتي بعد جملَة فِيهَا معنى القَوْل دون (8) خُرُوجه، كَقَوْلِه تَعَالَى: (فأوْحَيْنا إِلَيْهِ أنِ اصْنَعِ الفُلْكَ) (9) وَالْمرَاد بِالْمَشْيِ لَيْسَ الْمَشْي بالأقدام بل الِاسْتِمْرَار والدوام، أَي: دوموا على عبَادَة أصنامكم واحبسوا أَنفسكُم على ذَلِك. الثَّانِي: أنّه لَيْسَ المُرَاد الطّلب حَقِيقَة، وإنّما المُرَاد الْخَبَر، وعبرّ عَنهُ بِصِيغَة (10) الطّلب كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (ولنحمل خطاياكم) (11) ، (فليمدد لَهُ
الرحمنُ مدّاً (1) . وجرّاً: مصدر جرّه يجرّه، إِذا سجنه، وَلَكِن لَيْسَ المُرَاد الجرّ الْحسي بل المُرَاد التَّعْمِيم كَمَا اسْتعْمل السحب بِهَذَا الْمَعْنى إلاّ أنّه يُقال: هَذَا الحكم منسحب على كَذَا، أَي: شَامِل لَهُ (2) . فَإِذا قيل: (كَانَ ذَلِك عَام كَذَا وهَلُمَّ جرّاً) ، فكأنّه قيل: واستمرَّ ذَلِك فِي بَقِيَّة الأعوام استمراراً، فَهُوَ مصدر (3) . أَو: استمرّ مستمرّاً فَهُوَ (4) حَال مُؤَكدَة. وَذَلِكَ ماشٍ (5) فِي جَمِيع الصُّور، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يفهمهُ النَّاس من هَذَا الْكَلَام (6) . وَبِهَذَا التَّأْوِيل ارْتَفع إِشْكَال الْعَطف فإنَّ (هَلُمَّ) حِينَئِذٍ خبر، وإشكال الْتِزَام إِفْرَاد الضَّمِير إذْ فَاعل (هَلُمَّ) هَذِه (7) مُفْرد أبدا، كَمَا تَقول: واستمرَّ ذَلِك. أيْ: وَاسْتمرّ (8) مَا ذكرته. فإنْ قلتَ: قد اشْتَمَلت هَذِه التوجيهات الَّتِي وجَّهت بهَا هَذِه الْمسَائِل على تقديرات كَثِيرَة وتأويلات متعقدة (9) ، وَلم يُعهد فِي كلامِ النَّحْوِيين (10) مثل ذَلِك. قلتُ: ذَلِك لأنّك لم تقف لَهُم على كَلَام على مسَائِل متعقدة (11) مشكلة اجْتمعت فِي مَكَان وَاحِد، وَلَو وقفت لَهُم على ذَلِك لوجدت فِي كَلَامهم مثل ذَلِك، وَأَمْثَاله كَثِيرَة (12) وَالله تَعَالَى أعلم. انْتَهَت أجوبة هَذِه الْمسَائِل بِحَمْد الله تَعَالَى وَحسن عونه، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّد نبيّه وَعَبده وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وذريَّته (13) .