المسائل الحلبيات

أبو علي الفارسي

مسألة: ... ملقى واحف

بسم الله الرحمن الرحيم (1) الاستعانة بالله، هذه المسائل الحلبية لأبي علي الفارسي مخروم منها نحو كراسين، وقفها مالكها محمد محمود بن التلاميد على عصبته بعده وقفاً مؤبدا، فمن بدله فإثمه عليه. وكتبه محمود بن التلاميد التركزي غرة المحرم سنة 1301. ... "ملقى واحف" والمعنى: أي بمكان إلقاء واحف، وهذا اتساع، وإنما يريد بمنقطعه؛ لأنه أراد: انقطع عنه، فكأنه قد ألقاه؛ ألا ترى أن الشيء المنقطع من الشيء مباين له، كما أن الملقى مفارق للملقي، وليس "الملقى" باسم مكان هنا، ولكنه كـ "المجرى" و "المرسى" في من قرأ

"باسم الله مجراها ومرساها" وقول النابغة: كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع قالوا: القضيم: ما كان من أدم خريز نحو الإداوة، والقربة، والمزادة.

مسألة القول في حروف "يد" وما تصرف منها

مسألة القول في حروف "يدٍ" وما تصرّف منها قولهم "يدٌ" كلمة نادرة لا نعرف لها نظيراً في كلامهم، وذلك أن الفاء منه ياء، والعين دال، واللام أيضاً ياء، يدل على ذلك قولهم: "يديت إليه يداً"، فظهرت اللام الساقطة من "يدٍ" في اشتقاق الفعل منه، كما ظهرت الواو المحذوفة من "غدٍ" في قوله {وإذا غدوت من أهلك}، وهذا مثل قولهم "شعَّرت الجنين" و" استحجر الطين" في أنه مأخوذ من اسم ليس بعبارة عن حدث، وليس مثل "دمٍ" لأن دماً من قولك "دمي يدمى دماً" الذي يجوز أن يكون فعلاً مثل "الفرق" لمجيء الماضي على "فَعِل"؛ "فَعَلاً" في مصدر "فَعِل" مطرد، وليس في مصدر "فعلت" من الياء كذلك. ويدل على أن "دماً" مصدرٌ إنشادهم هذا البيت:

(فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما) فـ "يدٌ" من باب "سلس" و"قلق"، ولا يُعلم ف يالواو مثل هذا في الفعل؛ ألا ترى أنه لم يوجيء مثل "وعوت"، وقد جاء في اسم واحد، وهو قولهم "واوٌ" والقياس في الألف منها أن تكون منقلبة عن ياء. وجاءت الهمزة أيضاً فاء ولاماً في أحرف، وذلك قولهم "أجأ". وحكى ابن حبيب "أتأة" وهو اسم مخصوص. وقالوا "آءة" وفي جمعها: "آءٌ". وذهب سيبويه في "آلاءة" و"أشاءة" إلى أنه من هذا البا. فأما "الأَباء"

فكان محمد بن السري يذهب إلى أن الهمزة فيها منقلبة عن الياء. وقالوا في اسم علم "أجأ". وجاء الفاء والعين واوين، وهو قولهم "أول"، ولم يجئ مثل ذلك في الياء. وجاءت الياء والواو جميعاً في باب "رددت"، فالواو نحو "قوة" و"حوّة" و "صوّة" و "الجوّ" و "التوّ". وفي التاء: "حيي" و"عيي بأمره" و "تئية" و"إيا الشمس" و"إياؤها". ولم تجئ العين ياء واللام واواً / في اسم ولا فعل، وأما "حيوة" للاسم ال علم، و"الحيوان" فالواو فيه بدل. وقد جاء عكس هذا كثير، نحو "طويت" و"لويت" و"زويت" و"رويت". وجاء الواو فاء والياء عيناً في

"ويل" و"ويح" و"ويس". وعكس هذا قولهم "يوم". وقرأت بخط محمد بن يزيد "يُوح" في اسم الشمس. فأما الهمزة فإنها قد جاءت في باب "سلس" و"قلق" في الح روف التي تقدمت، ولم تجئ في باب "رددت" ولا باب "ددنٍ" و"كوكب" لما كان يلزم من إبدالها وقلبها إلى حرف اللين، كما يلزم ذلك إذا دخلت همزة زائدة أو مبدلة على أخرى أصل أو زائدة نحو "آدم" و"آمن" و"جاءٍ" و"خطايا"، فإذا لم يتواليا في كلمة وإحداهما زائدة، فألا يتواليا وكلاهما أصل أجدر. قال التوزي: "ثوبٌ يديٌّ: إذا كان ضيق الكم، وإذا كان واسعه"، وأنشد: بالدهر إذ ثوب الصبا يديُّ

وحكى يعقوب أن بعضهم قال في اليد: "أديٌ"، فأبدل الهمزة من الياء، وأظهر اللام. قال أبو علي: فهذا ينبغي أن يكون لغة في "اليد" كما كان "أكدت" و "كدت" و "آصدت" و "أصدرت"، وما حكاه أبو زيد من قولهم "يفعة" و "وفعة" لغات في هذا الكلم؛ لأن الهمزة لم تبدل من الياء المفتوحة في هذا النحو، كما أن هذا يحمل على أنه لغتان، وليس ببدل من الفاء. وكذلك "أسروع" و "يسروع"، فـ"أسروع" مثل "أخدود" و"يسروع" مثل "يعفور"، إلا أن الياء ضمت لضمة الفاء كقولهم "مغلوق". ومثل "يدٍ" و "أدي" قولهم: (............................ ... طاف والركب بصحراء أسر) ويروى: "يُسُر". وقال النوزي: "يقول أهل الحجاز: آدِني عليه، أي: أعِنِّي عليه، ويقولون: استأديته يريدون: استعديته" فقولهم "آدِني عليه" يحتمل ثلاثة أوجه:

يجوز أن يكون أبدلت من العين التي هي فاء الهمزة، وكان الأصل "أعدني": "قوني"، وأنشد يعقوب: (ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت ... سبل المسالك، والهدي تعدي) قال: "يقول: إبصارك الهدى يقويك". وكأن معنى قول الرعية لسلطانها: أعدني على خصمي: قوِّني. ويجوز أن تكون الهمزة غير بدل، ولكنها من الأداة، والمعنى قريب من المعونة، كأن إعانته كالأداة التي يتقوى بها عليه. ومثل بدل الهمزة من العين في "أعدني" إبدالها من الهاء في "آلٍ". ويجوز في "آدني" أن يكون / "أفعلني" من "اليد" في من أبدل من الياء التي هي فاء همزة، كأنه أراد: اجعلني ذا يدٍ وقوة عليه. وذكر محمد بن يزيد "آدني" في كتابه في "إعراب القرآن"، وأجاز فيه الوجه الأول، وهو إبدال الهمزة من العين، وأجاز فيه أن يكون "أفعلني" من "الأيد"، وهو القوة. قال أبو علي: فأما الوجه الأول فسائغ، وأما الوجه الآخر فشبيه بالسهو؛ لأن "الأيد" و "الآد" المراد بهما القوة، الهمزة منه فاء والياء عين، فلو بنيت من هذا "أفعلني" للزم أن تقول "أيدني"، فتبدل من الهمزة التي هي فاء الألف،

كما تبدل منها في "آمن"، وتصحح الياء، ولا يجوز غير ذلك إذ قالوا "أطيب" و "أجودت"، صححوا مع انتفاء توالي الإعلال فيهما، فلما صححوا ذلك وجب أن يلزم التصحيح ما توالى فيه إعلالان؛ الا ترى أنهم بنوا الماضي من "الود" على "فعلت" ليلزم في المضارع "أفعل"، فلا يتوالى إعلالان، فكذلك لزم أن يصحح العين من الفعل من "أفعل" في "الأيد"، وهكذا تكلم به من آثر أن يجعله على "أفعل"، دون "فعلني"، وعلى هذا قوله: (يبني تجاليدي وأوتادها ... ناوٍ كرأس الفدن المؤيد) وكأن الأكثر تكلم به على "فعل" لئلا يلزمه تصحيح العين لما ذكرنا، وتصحيح هذه العين مكروه عندهم، فقالوا "أيدتك"، وفي التنزيل {إذ أيدتك بروح القدس}؛ لأن العين على هذا لم يلزمها التصحيح في موضع يكره فيه التصحيح. فإن قلت: فاجعل "آدِني" الذي قال أبو العباس فيه "أفعلني" من "الأيد" على ما ذكره على القلب، كأنه قلب العين إلى موضع اللام. قيل: هذا ممكن في القياس وإن لم يكن بسهل في التأويل؛ لأنا

لم نعلمه استعمل مقلوباً، ولم يقل هو أيضاً ذلك، فلذلك قلنا: إنه شبيه بالسهو. وفي "الأيد" الذي هو القوة لغتان: "أيدٌ" و "آدٌ" كـ "العيب" و "العاب"، قال: (من أن تبدلت بأيدي آدا ... لم يك ينآد، فأمسى انآد) ينآد: مطاوع "أدته"، وفي التنزيل {ولا يؤوده حفظهما}، قال قتادة: لا يكرثه. وقال حسان: (وقامت تراعيك مغدودنا ... إذا ما تنوء به آدها) أي: اثقلها. وقال التوزي: "رجل مودٍ: إذا هلك، ورجل مودٍ: إذا كان ذا سلاح / قوياً". ولم ينبغ أن يذكر ذلك في الأضداد؛ لأن اللفظين وإن اتفقا، فليسا من أصل واحد؛ ألا ترى أن "المودي" الذي يراد

به "الهالك" الفاء منه واو، يقال: أودى الرجل: إذا هلك، كما قالوا: فاضت نفسه، ومنه "الوادي" إنما هو "فاعلٌ" من ذلك إلا أنه اسم بمنزلة "الغارب" و"الكاهل"، قال: (............................. ... عوم السفين تفيض منه الأنفس) ومن ذلك قولهم: ودى الرجل، وقال: كأن عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوزٍ ضفرت خمس قوى وقال: (يدي لك، إن ركبت - فلا تلمني - ... أتان الحي، عير بني تميم) وأنشد ابن حبيب: كيف السبيل .............. ... ............... قال: "يوديهم: يهلكهم"، فهذا "أفعل" و"فعلته". وقولهم لصغار النخل: "الودي" يشبه أن يكون لضرب عروقه في الثرى

وذهابها وغرسها. قال: أهل المدينة يسمون الفسيل "الودي" ثم "الجعل" ثم "الجبار" ثم "الطريق" ثم "العيدان" ثم "الخصاب" الواحدة: خصبة. فأما قولهم "المؤدي" لذي السلاح القوي، فليس من باب "أودى"، ولكن الأوجه أنه ذو أداة، فالفاء منه همزة كما أنها من "الأداة" كذلك، والسلاح وجميع ما يتقوى به العامل على عمله.

القول على قوله تعالى (في سبيل الله)

القول على قوله تعالى (في سبيل الله) السبيل في اللغة: الطريق الذي هو ممر ومدرج، والدليل على ذلك ما أنشده سيبويه: (فما كنت ضفافاً، ولكن طالباً ... أناخ، فأغفى فوق ظهر سبيل) فالإناخة والإغفاء لا يكونان إلا على مستقر، ولهذا قالوا للذين يسلكونه "سبل، وقياس واحده "سابل"، قال العجاج أو رؤبة: (منهرت الأشداق غضب مؤكل ... في الآهلين واخترام السبل) وهذا اسم على معنى النسب، وليس جارياً على الفعل، كما أن

"دارعاً" و "عطاراً" و "بواباً" كذلك، فكأن المعنى: أصحاب السبيل، ومن ثم قالوا للمسافر البعيد عن بلده وماله "ابن سبيل"، فنسب إلى الطريق لممارسته له وعلاجه إياه، وهم أحد الأصناف الثمانية الذين هم موضع الصدقة، فقولهم منه "ابن" مثل "صاحب"، وقد استعملوا في هذا المعنى "الابن" و"الأخ"، فقولوا "هو ابن بجدتها" للخبير بالبلدة وغيرها، وأنشد أحمد بن يحيى: (بينا أنازعهم ثوبي وأمنعهم ... إذا بنو صحفٍ بالحق قد وردوا) بنو صحف: الشهود الذي يشهدون عليه بدين. والأخ في هذا الباب كأنه أوسع في استعمالهم، قال ذو الرمة: (ويشبح بالكفين ضاحٍ كأنه ... أخو فجرةٍ أعلى به الجذع صالبه) وأنشد سيبويه: (أخا الحرب لباساً إليها جلالها ... وليس بولاج الخوالف أعقلا)

وقد جاءت "أم" في هذا المعنى أيضاً، أنشد أحمد بن يحيى: (خوت نجوم بني شكس لقد علقت ... أظفارهم بعقابٍ أمها أحد) وقال أوس: (وجارت على وحشيها أم جابرٍ ... على حين أن نالوا الربيع وأمرعوا) قالوا: أم جابر: إياد، فسماهم "أم جابر" من حيث كانوا أصحاب حراثة، قال أبو زيد: قالوا للخبز "جابر بن حبة" معرفة غير مصروفة. وفي الحديث "أم مثواي" يريد به صاحبة منزله. فإذا جازم تسمية صاحب الشيء بملابسته أماً، جاز أن يكون قوله {فأمه هاويةٌ} على هذا كما قال {مأواكم النار} أي: أمه نار هاوية، أي: هي مثواه، وقد تكون {فأمه هاويةٌ} على قول الشاعر:

(هوت أمه! ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب) وجاء "أبٌ" في هذا المعنى أيضاً، قال أوس: (على العمر واصطادت فؤاداً كأنه ... أبو علقٍ في ليلتين مؤجل) قيل: المعنى: كأنه صاحب رهن غلق في ليلتين. ومثل "السبيل" في أنه المدرج والطريق قولهم "الصراط"، يدل على ذلك قوله تعالى {ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون}، فلم يتعد إليه الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول حيث كان مخصوماً، كما لم يتعد إلى غيره من الأسماء التي هي عبارة عن الأشخاص والجثث المخصوصة، ثم اتسع فيه فجاء في قولهم "سبيل" حتى قيل في المعتقدات والآراء في الديانات وغيرها، وذلك نحو قوله تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً} وقال {قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني}، ففسر السبيل بقوله {أدعو}. فالسبيل في هذه المواضع كالمعتقد؛ لأن هذه الأشياء ليست بذوات جثث، فيجوز أن يكون لها طرق ومسالك. وأما قوله {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل

السلام} فهو - والله أعلم - أن يراد به طرق الجنة؛ لأن من اتبع رضوانه فقد أوتي الهداية التي هي الاستدلال، فقد هدي إلى صراط مستقيم، فتكون الهداية في هذه الآية مثل الذي في قوله {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يَضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم} في أنه ليس بهداية الاستدلال، ولكنه الهداية إلى طرق الجنة للثواب. وقوله {سبل السلام} يجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: سبل دار السلام، كما قال {فهم دار السلام عند ربهم}. ويجوز {سبل السلام}: طرق السلام التي يسلم سالكها من أن يعذب أو يعاقب. ويجوز أن يكون {السلام} اسم الله تعالى كما جاء {سبيل الله} و {صراط الله}، فإذا كان على هذا الوجه بعد أن يكون المراد به الطريق الذي هو ممر؛ لأن هذا التقييد قد صار فيه كالأمارة للإيضاح، ويكون المعنى حينئذ كقوله تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدىً}. وكما قالوا للغريب "ابن سبيل" فنسبوه إلى الطريق، قالوا فيه "ابن أرض"؛ لأن الطريق ضرب منها، وأنشد أبو زيد: (دعاني ابن أرضٍ يبتغي الزاد بعدما ... ترامى حلاماتٌ به وأجارد)

ومثل ذلك قول طرفة: (رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد) فقوله "بني غبراء" كقوله "ابن أرض"؛ لأن الغبراء: الأرض، وكأنهم نسبوا إليها على هذه اللفظة العامة لما لم يعرفوا الموضع الذي أتوا منه مخصوصاً، وأراد بهم الفقراء؛ لأن "الطراف": بيوت الأدم، وإنما تكون للأغنيات، فكأن المعنى: لا ينكرني الفقراء ولا الأغنياء لإعطائي الفقراء وإخراجي في الحقوق التي يخرج فيها الأغنياء.

مسألة: الفرق بين قولهم: رقبتك حر، ورأسك حر، وفرجك حر، وبين قولهم: يدك حر

مسألة وقفت - أدام الله عزك - على ما ذكرته من استفصال محمد بين قولهم للعبد "رقبتك حُرٌّ" و"رأسك حُرٌّ" و"فرجك حُرٌّ" وبين قولهم "يدك حرٌُّ". قالقول في ذلك إن "الرقبة" قد جرى لفظها في اللغة والعرف مجراها، فأجرى عليها حكمها، و"اليد" لم تجر مجراه في العرف ولا في اللغة، فأما إجزاؤهم "الرقبة" على ما ذكرته فظاهر واضح، وذلك أنه قد جاء في التنزيل: {أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ}، وقال: {فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسا}، وقال: {ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ}، وقال: {والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب}، والمعنى - والله أعلم- في تحرير الرقاب، أي: إعانتهم على أداء مكاتبتهم، أو: في فك الرقاب، كما قال في موضع آخر {فك رقبةٍ} أي: فكها من الرق. وجاء عن علي رضي الله عنه: "جناية العبد في الرقبة". وروي "احبس رقبتها". فكما أن "الرقبة"

في هذه المواضع في الرقبة قد جرى مجرى الجملة والجميع، فصار قوله (وفي الرقاب) كقوله: وفي المكاتبين، كذلك قوله (فتحرير رقبةٍ) في الآي الأخر بمنزلة: تحرير نسمة، أو نفس، أو نحو ذلك مما يكون عبارة عن جملة الشخص وجميعه. ومما يمكن أن تكون "الرقبة" قد أجريت فيه مجرى الجملة، قول أبي كبير أو غيره من الهذليين: (فليس كعهد الدار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل) فـ "الرقاب" يريد بها الأشخاص لا هذه الأعضاء منها، والمعنى أن الإسلام لما جاء منعت شرائعه وزواجره عما لم يكن منه منعٌ قبله، وهذا المنع شائع في جميع الشخص، وليس في الرقبة دون غيرها؛ ألا ترى أن بعد هذا البيت: (وعاد الفتى كالكهل، ليس بقائلٍ ... سوى الحق شيئاً، واستراح العواذل) وقد قالوا "نسأل الله فكاك رقابنا". ذكره أبو عثمان. وليس يريدون بذلك الرقبة دون سائر الشخص. ولما كانت الرقبة قد عني بها جملة الشخص، حتى صار ذكرها بمنزلة ذكره، اتسعوا في ذلك حتى قال الشاعر: (إن لي حاجةً إليك، فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد)

كأنه قال: قد ضمنته لك في رقبتي وفي عنقي. وعلى هذا تأويل الحديث، وهو قوله "فليخفف الرداء" لما كان موضعه العاتق. وإذا كانت بمعنى الشخص في هذه المواضع وجب أن تكون في العتاق والطلاق بمنزلتها، واشتهار العرف في هذا كاشتهاره في اللغة. فأما "الرأس و "الفرج" فقد جرى ذكرهما في تعارف الناس ومقاصدهم مجرى جملة الشخص وجميعه، وذلك أنهم يقولون: عنده كذا وكذا رأساً من الرقيق، وفي إصطبله عشرون رأساً من الدواب، وعشرة أرؤس من البغال. وكذلك: ملك كذا وكذا فرجاً، ووطئ عشرين فرجاً، كما يقولون: وطئ عشرين جارية، وهو مقيم على فرجٍ حرام. فإذا جرى ذلك في تعارفهم ومقاصدهم مجرى ما ذكرناه من جملة الأنفس والأشخاص، وجب أن يكون لفظه بكل واحد من ذلك كلفظه بالشخص نفسه ونحوه مما يكون عبارة عن الجملة. ومثل قولهم "الرقبة"، وقولهم "الفرج" و "الرأس" في أن "الرقبة" وقعت على الشخص في اللغة، فألحق بها "الفرج" و "الرأس"، وأجريا مجراها لاشتهارهما بمعنى "الرقبة" في مقاصد الناس وعرفهم، قولهم "البدنة"،

وفي جمعها "البدن"، وقالوا "البدن" مثل "ثمرة" و "ثمرة"، فإن ذلك وقع في اللغة على الإبل، ثم أجري البقر مجراها، حيث ساواها في الحكم، كما ساوى الفرج والرأس في العرف الرقبة التي صارت في اللغة كالشخص. يدل على أن "البدن" في اللغة من الإبل قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرٌ فاذكروا اسم الله عليها صواف}، قال أبو عبيدة: "مصطفَّه". ثم قال {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها}، فدل قوله (فإذا وجبت جنوبها) على أن المعنى بها الإبل؛ لأنها توجأ في نحورها وهي قائمة، كما قال (صوافَّ) و (صوافن)، ثم تجب، أي: تسقط وتقع على الأرض، كما يقال: وجب الحائط والبيت إذا سقطا. فهذا يختص به الإبل في نحرها، ثم أجري البقر مجراها لما اجتمع معها في الإجزاء عما تجزئ عنه، كما اجتمع الفرج والرأس مع الرقبة في أن عُني بهما ما عُني بها. فأما "اليد" فلم تجر في العرف ولا في اللغة مجرى الشخص ولا جميعه، فأما ما ذكره من قوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} و {بما قدمت أيديكم}، فلا يشبه أن تكون "اليد" فيه عبارة عن الجارحة،

ولكن المراد بها القوة والقدرة. فهذا بمنزلة قوله: {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون}؛ لأن قوله: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} بمنزلة قوله: {اصلوها} و {بما كنتم تكفرون} مثل {بما قدمت يداك}، فكان معنى (بما قدمت يداك) بمنزلة: ما كسبته، أي: هذا العذاب عقوبة على ما اجترمته واكتسبته. يقول: ليس بشيء أجبرناك عليه ولا أكرهناك. و"اليد" بمنزلة "القوة"، بدلالة قولهم "لا يد لي بفلان"، أي: لا طاقة لي به ولا قوة عليه. وكما قال أهل الطائف لما قرأ عليهم عتاب بن أسيد {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله}: لا يد لنا أن نكون حرباً لله ورسوله. وقال سيبويه في هذا المعنى "لا يدين بها لك". على أن "اليد" في الآي ليس يرلاد بها الجارحة، وإنما يراد بها القوة، كما ذكرنا / أن فيما يعاقب عليه الإنسان مما كسبه واختاره ما لا عمل لليد التي هي الجارحة فيه، وذلك نحو الاعتقادات وغير ذلك مما لا عمل لهذه الجارحة فيه، وأن الموبخ بقوله (ذلك بما قدمت يداك) موبخٌ بهذا الضرب توبيخه على ما هو فعل هذه الجارحة التي هي اليد، فدل ذلك على أن "اليد" في الآية ليس يعني بها الجارحة، وإذا لم يعن بها لم يجز أن يكون استغنى بها عن ذلك الشخص كالرقبة والرأس والفرج. فإن قلت: فإن اليد إنما استعملت بمعنى القوة إذا أفرد اللفظ بها، كقول القائل: لا يد لي بهذا الأمر ولا قوة، وما في الآي من ذكرها مثنى ومجموع.

فالقول في ذلك: إنها تستعمل مثنى ومجموعاً في هذا المعنى، كما تستعمل فيه في الإفراد؛ ألا ترى أن ما ذكرناه عن سيببويه في هذا المعنى تثنية، وأن الأصمعي قد أنشد فيما جاء "اليد" فيه على التثنية، والمراد بها القوة، وذلك فيما قاله علي بن الغدير الغنوي: (وإذا رأيت المرء يشعب أمره ... شعب العصا، ويلج في العصيان) (فاعمد لما تعلو فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان) وفي التنزيل: {مما عملت أيدينا أنعاماً}، كما قال: {لما خلقت بيدي}. فالتثنية والجمع في هذا بمنزلةٍ كالإفراد في هذا المعنى. والتقدير: لما خلقت بقوتي، كقوله: {والسماء بنيناها بأيدٍ} أي: بقوة، ألا ترى أن الأيد والآد: القوة. وإن شئت جعلت قوله (بأيدٍ) جمع

"يدٍ"، كما قال "مما عملت أيدينا"، والمعنى فيه: القوة. ومعنى التثنية التأكيد والتقرير. ومثل "اليد" في أنه أريد بها القوة قولهم "اليمين"، يعنون بها ذلك وعلى هذا قوله: (...................... ... تلقاها عرابة باليمين) وقوله: {والسموات مطوياتٌ بيمينه}، وقد فسر قوله: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} أنه بالقوة، وقيل: باليمين التي حلفها في قوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم}، وقيل: الجارحة. ومما جاء "اليد" فيه يراد بها القوة نحو قولهم "في يد فلان ضيعة"، يراد بها فيما حازه، فأمكنه بذلك تصرفه فيها. ومن ذلك ما أنشده أبو زيد:

(لهم حبقٌ، والسود بيني وبينهم ... يدي لكم والعاديات المحسبا) وقد اسعملت "اليد" في الكلام على غير وجه، ما علمت أن شيئاً منه أريد به جملة الشخص وجميعه في عرف ولا أصل لغة، كما كانت "الرقبة" و "الرأس" و "الفرج" كذلك. فمن ذلك ما يراد به النصرة، كما روي من قوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم"، أي: هم أهل كلمة واحدة ونصرة على من شق عصاهم. وجاءت حيث يراد بهم اللزوم، كما روي "لصاحب الحق اليد واللسان". ومن ذلك ما يراد به النعمة نحو ما أنشده أبو زيد: (فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ ... فإن له عندي يدياً وأنعما) ومن ذلك قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولةٌ غلت أيديهم}، وقال

ابن عباس: "المعنى: نعمه مقبوضة، وليس يعنون أنها موثقة". ويدل على صحة ما فسره قوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}. وقد روي أن اليهود أبخل قوم لقوله {غلت أيديهم}. ولما استعمل البسط في اليد حيث يراد بها السعة في الإعطاء والإنفاق، وضعت بخلاف البسط حيث أريد بها البخل والمنع، فمن ثم قال: (مناتين أبرامٌ، كأن أكفهم ... أكف ضبابٍ أشنقت في الحبائل) فشبه أيديهم بأيدي الضباب لأنها توصف بالصغر والقصر، كقول الآخر، أنشده أبو الحسن: (إنا وجدنا بني جلان كلهم ... كساعد الضب لا طولٍ ولا قصر) فلم يقتصر الأول بتشبيهه إياها بأيدي الضباب حتى جعلها أيدي ضباب

قد أشنقت بالحبائر، أي: نشبت فكتفت لذلك، فاجتمعت وتقبضت على ما كان قبل من الصغر والتقبض. فهذه جملة من القول في "اليد" وما استعملت فيه، ولم أجدها استعملت في موضع حيث يراد جملة الشخص وجميعه، فيجوز أن تجري مجرى تلك الكلم التي استعملت هذا الاستعمال. فإن قلت: فقد قالوا "يداك أوكتا"، وإنما المراد: أنت أوكيت فهذا يدل أن "اليد" قد قامت مقام الجملة كـ"الرقابة" وأخواتها؛ لأن فعل الفاعل قد نسب إلى بعضه. فإن هذا لا دلالة فيه؛ لأن الإيكاء لما كان باليد نسب إليها، وإن كان الفاعل الجملة، كما جاز أن يقال: كتبت يدي، ورأت عيني، وفي التنزيل: {فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم}، فنسب الفعل إلى الجارحة التي بها فعل الفاعل، وإن كان للجملة، فـ "اليد" على هذا عبارة عن العضو المخصوص، ليس يراد بها الجملة. وعلى هذا قالوا "وفوك نفخ"، فنسب النفخ إلى الفم لما كان به يكون، وإن كان الفاعل في الحقيقة جملة الإنسان. فكما أن "الفم" لا يقع ولا يكون عبارة عن جملة الإنسان كقوهم "يداك أوكتا"، والوكاء: الخيط الذي يشد به القربة، والعصام: حبلها، وأوكيت السقاء والقربة: شددتهما بالوكاء.

مسألة القول في "الداء" و "الدواء"

مسألة القول في "الدّاء" و "الدّواء" ولغة ذلك، وتصرّفه، جَمْعه قال قيس بن الخطيم: (وبعض خلائق الأقوام داءٌ ... كداء البطن ليس له دواء) (وبعض القول ليس له عناجٌ ... كمخض الماء ليس له إتاء) ليس له عناج: ليس بثقة ولا معقود. إتاء: زبد. القول على لغة ذلك: قال أحمد بن يحيى عن ابن سلاّم: "داء الرجل يداء داءً" قال: هكذا سمعت ابن سلام يقول. قال: وقال غيره: أداءت الرحم فهي مدئية: صار بها الداء. قال: وحدثنا ابن سلام قال: كحل كحالٌ أعربياً، فقال: حلتني بالمكحال الذي تكحل به العيون الداءة. وقال أبو زيد: "يقال للرجل إذا اتهموه: قد أدأت يا فلان إداءةً مهموز" مثل أجدت إجادة. قال: "وقال رجل من بني كلاب: أدوأت يا فلان، فأنت مدوئٌ، واتهمت فأنت متهمٌ، وهما واحد، أي: في جوفك الداء والغش". وقال أبو زيد: "لجل دوىً،

ورجلان دويان، أي سقيمان، ورجال أدواءٌ"، وأنشد أبو زيد: خالت خويلة أني هالكٌ ودأى ... .......................... و"داءٌ: فعل". أراد: "داءً" على أنه وصف بالمصدر، ثم قلب اللام إلى موضع العين. وأنشد بعض أصحاب الأصمعي عنه: (أضر بهم ترك الدوى فترحلوا ... لأرضٍ قديمٍ عهدها لا دوى لها) المعنى: أنهم تركوا رعي النشر وأكله، فتركوه وارتحلوا إلى أرض أخرى قديم عهدها بالمطر لم يصر فيها نشز لقدم عهدها بالمطر، والنشر: الكلأ إذا جف ثم أصابه مطر فأخضر، وهو داءٌ إذا أكلته الإبل موتت. وكأنه سمي هذا الكلأ "دوىً" - والدوى: الداء - الماء يحدث عنه أكله من الداء. وروي لنا عن أحمد بن إبراهيم في هذا البيت، قال: الدواء: اللبن، ممدود، وكانوا بأرض لا لبن فيها، فارتحلوا إلى أخرى يرجون فيها اللبن كقولهم:

القول في تصريف ذلك

........... ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فإذاً: لا لبن لها. ومن هذا قول الآخر: ليت السماك ونوءه لم يخلفا ... ومشى الأويرق في البلاد سليما الأويرق: تصغير أورق. ومثله قول الآخر: سقى سكراً كأس الزعاف عشيبة ... فلا عاد مخضرّاً بعشبٍ جوانبه سكر: اسم رجل، وعشيبه: موضع معشب. وقد سموا ما يسقون دوابهم من اللبن "دواء" لما فيه من صلاحهم به كصلاح المتداوي بالدواء، وسموا إصلاح الشيء دواء، قال: (إذا شئت غناني على رحل قينةٍ ... حضجرً يداوى بالبرود كبير) يعني وطب لبنٍ. القول في تصريف ذلك قولهم "داء يداء" اللام منه همزة، ولا يجوز أن يكون حرف علة من الحرفين الآخرين الياء والواو؛ لأن حملة على ذلك يؤدي إلى إعلال حرفين متواليين، وهذا مرفوض من كلامهم إلا فيما لا حكم له في القلة والشذوذ. وأما العين منه فواو بدلالة ما حكاه أبو زيد من قولهم "أدوأ فلان فهو مدوئٌ"، فظهرت العين واواً. وما ذكرته من أنه لا يجوز أن يكون اللام منه

إلا همزة قد أكده ما حكاه أبو زيد أيضاً من قولهم "أدوأت"، فظهرت الهمزة، ولو كانت اللام ياء أو واواً لظهرت ياء إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب، فأما ما أنشده أبو عبيدة من قول الشاعر: (بدا منك غشٌّ طالما قد كتمته ... كما كتمت داء ابنها أم مدوي) فـ"مدوٍ" ليس بمفتعلٍ من "الداء"؛ لأن "الداء" لامه همزة بالدلالة التي تقدم ذكرها من جهة السماع والقياس، ولكنه من قول المرأة التي قال لها ابنها "أدوي" أي: آكل الدواية، وهو ما خثر من الدسم على الجفنة، فقالت مجيبة له: اللجام مكان كذا. فكتمت قول ابنها هذا، وأخفته عمن كان يخطبه إليها. فكأن الشاعر جاء بهذا على استعارة هذا المثل الذي للمرأة فإن قلت: هل يجوز أن يكون "مدوٍ" "مفتعلاً" من "الداء" لأن العين من "الداء" واو؛ بدلالة ما حكاه أبو زيد من قولهم "أدوأت يا فلان"، فيكون قد بنى من "الداء " "مفتعلاً" للحاجة إلى القافية، وإن كان الفعل منه "داء يداء"

كما حكاه أحمد بن يحيى عن ابن سلاّم، وحكم "مفتعل" و "منفعل" أن لا يبنيا في الأمر العام إلا مما كان "فعل" منه متعدياً؟ فإن ذلك جائز، ويكون قلبه اللام التي هي همزة إلى الياء للضرورة، وكان القياس أن يجعلها بين بين كقوله: (وكنت أذل من وتدسٍ بقاعٍ ... يشجج رأسه بالفهر واجي) وهو من "وجأت". ونظير بنائه "افتعل" منه وإن كان "فعل" غير متعد قول الراجز: (حتى إذا اشتال سهيلٌ للسحر ... كشعلة القابس يرمى بالشرر) فقال "اشتال": "افتعل"، وهو من "شال يشول"، وهو غير متعد بدلالة قول الراجز: (تراه تحت الفنن الوريق ... يشول بالمحجن كالمحروق)

القول في جمع هذه الأحرف

المحجن: يريد به رؤوسها. فأما "منفعل" ففي هذه القصيدة: ......................... ... ................ منغوي وفيها: (وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ... فأجرامه من قلة النيق منهوي) ويجوز أيضاً في "مدوٍ" في البيت وجه آخر، وهو أن يكون "مفتعلاً" منه مثل قوله "اشتال" و"منغوٍ"، وهذا القول أشبه من الذي قبله؛ لأنه لا يلزم فيه أن يكون قلب الهمزة قلباً على غير قياس؛ ألا ترى أن اللام منه ياء؛ لأنك تحمله على باب "طويت" و "رويت" ونحوهما. وقوله "العيون الداءة": "فعلة"، ونيظرها "نعجة صافة". القول في جمع هذه الأحرف قالوا: "داءٌ" و "دوىً" و "دواءٌ"، فجمعوا "داءً" على "أدواء"، واستعمل ذلك سيبويه في بعض ألفاظه. وأما "دوى" الذي يراد به السقيم فقد قال أبو زيد فيه "رجال أدواء"، و"أدواء" في جمع "دوىً" وإن كان موافقاً في اللفظ لقولهم "أدواء" جمع "داءٍ" فإن التقدير في الهمزتين يختلف؛ لأن الهمزة

في "أدواءٍ" جمع "داءٍ" همزة هي لام الفعل غير منقلبة عن شيء، كما أنها في "أفياء" كذلك، وكما أن الهمزة في "فراءٍ" جمع "فرأٍ" إذا أريد به حمار الوحش، ليست كالتي في "فراءٍ" إذا أريد به جمع "فروة"، والهمزة في "أدواءٍ" إذا أريد به جمع "دوىً" منقلبة عن الياء التي هي لام، وليست من نفس الكلمة، كما أنها في "أناء" جمع "نؤي" كذلك. ومثل قولهم "داءٌ" في أن العين منه واو واللام همزة "ماءٌ" لأن الألف منقلبة عن الواو بدلالة ما ح كاه أبو زيد من أنهم يقولون: ماهت الركية تموه موهاً، وأماهها صاحبها يميهها إماهةً. فقوله "تموه" و"موهاً" يدلان على ذلك. فأما الهمزة في "ماءٍ" فمخالفة للتي في "داءٍ" لأن التي في "ماء" منقلبة عن الهاء بدلالة قولهم "ماهت الركية" و "أماهها صاحبها"، وقوله: .................. ... ثم أمهاه على حجره إنما هو "أماهه" ولكنه قلب. وقالوا في جمع "ماءٍ": "مواهٌ" وهو الأكثر، أنشد سيبويه: سقى الله أمواهاً عرفت مكانها ... .......................

وقالوا "أمواء"، أنشد أحمد بن يحيى: وبلدةٍ قاصلةٍ أمواؤها ... ماصحةٍ رأد الضحى أفياؤها فترك الأصل الذي هو الهاء. وأنشد الأصمعي: إنك يا جهضم ماه القلب ... ضخمٌ عريضٌ مجرئش الجنب مصح الظل: إذا ذهب. قال: يقول: ليس فيه شيء له ظل ولا فيء. فـ"ماءٌ" و "أمواء" على ما جاء في الشعر مثل "داءٍ" و "أدواءٍ". وأما "دواء" فجمعه في القياس "أدوية" كـ "كساء" و "اكيسة" و "رشاء" و "أرشية"، وعلى هذا الضرب من الجمع جمعوا هذا النحو واستغنوا به في الأمر العام. فإن قلت: فقد حكى أبو زيد: "حياء" و "أحياء"، فهل يجوز أن تكسر عليه "أدواء"؟ وحكى أيضاً: "جواد" و "أجواد". فإن ذلك في القلة بحيث لا يسوغ القياس عليه، فأما قول رؤبة: إذا السراب انتسجت إضاؤه ... أو مجن عنه عريت أعراؤه فالأعراء في القياس جمع "العراء" الذي هو اسم ما انكشف من الأرض، فلم يكن فيه بناء ولا نبات، وجمعه على "أعراء" كما جمعوا "حياء"

على "أحياء"، فـ "أعراء" في كونه جمع "عراء" مثل "أحياء" في جمع "حياء" و "أجواد" في جمع "جواد". وكأن رؤبة استجاز ذلك لأن "أفعلالاً" بناء كثر به الجمع، حتى يجمع به غير شيء مما زاد على الثلاثة كقولهم "ميت وأموات" و "شريف وأشراف" و "يتيم وأيتام" وقالوا "شاهد وأشهاد" و"صحب وأصحاب"، وقالوا "فلوا وأفلاء" و "عدو وأعداء"، فجمعوا هذا الضرب من الأسماء الزائدة على الثلاثة على "أفعال"، فكذلك جمع "أعراء" فيما ذكرناه، وفي قوله: يغشى قرىً عاريةً أعراؤه وقد يجوز أن يكون "أعراء" جمع "عرىً" على إجراء اسم الحدث على العين، كما قالوا "جِمال أعراء". ويجوز أن يكون "أعراء" جمع "عرىً" من قولهم: لا تقرب عراه، أي: ناحيته وما قرب منه. وأما "شاءٌ" فاسم جمع، ولم تكسر عليه "شاةٌ" كما أن "قوماً" ليس بجمع "رجلٍ". وقد يمكن أن يكون مثل "ماءة" و "ماءٍ"، ومثل قوله: ................... ... .................. تَنُّومٌ وآء فهي مثل "شجرة" و "شجر"، وكذلك "راءةٌ" و "راءٌ".

مسألة في "رأى" وما تصرف منه

مسألة في "رأى" وما تصرف منه قال أبو علي: قول القائل "رأى" مثال من أمثلة الفعل، وهو على وزن "فعل"، فاء الفعل راء، وعينه همزة، ولامه ياء، بدلالة أن الفعل إذا أسند إلى المخاطب والمتكلم ظهرت الياء كما تظهر فيه "سقيت" و "رميت"، ولو كانت اللام واواً لظهرت الواو كما ظهرت في "دعوت" و "غزوت". ويدل على أن اللام ياء ثباتها في "الرَّأي" و "الرؤية"، فصحة الياء في المصدر والفعل المسند إلى المتكلم والمخاطب، تدل على أن اللام ياء، وإنما انقلبت ألفاً في "رأى" لوقوعها طرفاً في موضع حركة مفتوحاً ما قبلها، ومتى كان حرفا اللين الياء والواو بهذه الصفة انقلبا ألفاً اسماً كان أو فعلاً، فالأسماء نحو "رحىً" و"رقفاً" و "فتىً"، والأفعال نحو "غزا" و "دعا" و "رمى" و "سعى". وفي الهمزة التي هي عين الفعل من "رأى" ضربان من اللفظ: التحقيق، والتخفيف، فالتحقيق: أن تخرجها نبرة لا تنحو بها نحو حرف من حروف اللين. والتخفيف: أن تجعل الهمزة بين الهمزة وبين الحرف الذي حركتها منه، فإذا خففت التي في "رأى" جعلت بين الهمزة والألف، فقلت

وزنه همزته وتخفيفها

"رأى". فأما قراءة عيسى {أريتم} بحذف الهمزة، فليس بتخفيف قياسي، ولكنه يحذف الهمزة حذفاً كما تحذف الحرف حذفاً للتخفيف، وإن لم يوجب القياس المطرد؛ ألا ترى أن الهمزة إنما تحذف على جهة القياس إذا كان ما قبلها ساكناً، فتلقى حركتها على الساكن كما حكى سيبويه عن عيسى أن أهل التخفيف يقرؤون {ألا يسجد لله الذي يخرج الخب في السموات}. وإذا كان الحذف القياسي في الهمزة إنما هو من الوجه الذي ذكرنا، ولم يكن ما قبل الهمزة من قوله {أريتم} ساكناً، ثبت أن حذفها ليس على القياس. ومثل ذلك في حذف الهمزة منه قولهم "ويلمه"، الأصل "ويلٌ لأمه"ن فأدغمت اللام التي هي لام "ويل" في الجارة، ثم حذفت لكثرة الاستعمال، فصار "وَىِ لأمه" ثم حذفت الهمزة فصار "ويلمه"، قال: ويلمها في هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب

وجاز إدغام هذا وإن كان منفصلاً، وكان ما قبل الحرف المدغم ساكناً؛ لأن الياء حرف لين. واحتمل لما فيه من المد، وكونه عوضاً من الحركة، أن يجمع بين ساكنين، نحو "أصيم" و "مديق" و "جيب بكر". وكان ذلك حسناً إذ كانوا قد قالوا في "عبد شمس": "عبشمس"، فأدغموا وحركوا الساكن وإن كان ذلك شاذاً، ولم يجز على هذا في "قوم موسى": "موموسى"؛ لأن "عبدشمس" كثر استعماله وهو علم، والأعلام تغير كثيراً عن طريقة ما عليه غيرها من الأسماء، فإذا جاز ذلك فلا إشكال في حسن إدغام "ويلٌ لأمه" إذا أدغم، إلا أنه ألزم الحذف لكثرة الاستعمال، كما ألزم "المعيدي" في تصغير "معدي" التخفيف لذلك، وذلك قولهم: "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه". فإن قلت: ما تنكر أن يكون "وي لأمه" ليس من "ويل" ولكن هي "وي" التي في نحو قوله {وي كأنه لا يفلح الكافرون}، وقوله: ................... ... .................... ويك، عنتر، أقدم

لن

فالجواب: أن الدليل على أنه محذوف من "ويل" دون "وي" هذه قول الشاعر: لأم الارض ويلٌ ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل فكما ظهرت اللام في "ويل" لما قدمت "أم"، كذلك تكون في قوله "ويلمها" هي هذه الظاهرة لامها إذا تقدم على اللام، فاللام الظاهرة هي الجارة، والأولى المحذوفة؛ لأنها كما أعلت بالإدغام، كذلك أعلت بالحذف؛ ألا ترى إلى قولهم {تذكرون} كيف أعلت تاء "تتفعل" بالحذف كما أعلت بالإدغام. وكذلك قالوا "علماء بنو فلان"، فحذفوا الأولى. ومثل حذف الهمزة على غير القياس قول الخليل في "لن" إنه "لا أن"، فحذفت الهمزة استخفافاً، ثم حذفت الألف من "لا" لالتقاء الساكنين، فصارت الكلمة على حرفين. وقد طعن على قوله هذا بأنه لو كان كذلك لم يجز "زيداً لن أضرب" كما لم يجز أن تقدم ما في صلة "أن" عليها، قالوا: وفي استجازة العرب والنحويين أن يقولوا "زيداً لن أضرب" مع

امتناعهم من أن يقولوا "زيداً أن أضرب" صالحاً، ونحوه، دلالةً على فساد ما ذهب إليه في هذا القول. قال أبو علي في الجواب عن هذا الاعتراض على قول الخليل: إن الحرفين لما كان في الأول منهما معنى النفي، وصار مع الحرف الثاني بمنزلة حرف واحد، صار بمنزلة الكاف الداخلة على "أن" في "كأن" فكما استجازوا "كأن زيداً أخوك" مع أن تقدير الكاف أن تكون بعد "أن" بدلالة أن المراد التشبيه، والمعنى زيدٌ كأخيك، ولم يجر عندهم مجرى تقديم ما في الصلة عليها، كذلك لا يجري قولهم "زيداً لن أضرب" مجرى تقديم الصلة عليها لاجتماع الحرفين في أن كل واحد منهما عامل، وأن كل حرف منهما، وغن كان مركباً من حرفين، فقد صار يجري مجرى الحرف الواحد، فعلى هذا الحد حذفت الهمزة التي هي عين في قول من قال "رأيت"، وقد جاء في الشعر، قال الراجز: أريت إن جئت به أملودا ... مرجلاً، ويلبس البرودا وقال آخر:

أريت

أريت إن أعطيت هيداً هيدبا وقد جاءت الهمزة محذوفة أيضاً في "فعل"، قال الشاعر: من را مثل معدان بن ليلى ... إذا ما النسع طال على المطية وهذا الحذف في "أريت" إنما جاء في الأمر الشائع في "رأيت" الذي بمنزلة "علمت"، ولم نعلمه جاء في التي معناها إدراك الحاسة، والبيت الذي أنشدته وقد حذفت العين منه في "را" ذكر معه مفعول واحد. فإن قلت: إن الشاعل حذف من المتعدية إلى مفعول واحد كما حذف من المتعدية إلى مفعولين. فهو قول. وإن قلت: إنه أراد مفعولاً ثانياً حذفه وهو "في الناس" أو "في الوجود" أو "في المقصودين". كان وجهاً. وقد قلبت الهمزة التي هي عين إلى موضع اللام في "رأى" فقالوا في "رآه": "راءه" وفي "ساءه": "سآه"، وأنشد سيبويه: وكل خيلٍ راءني فهو قائلٌ ... من أجل هذا هامه اليوم أو غد وأنشد: لقد لقيت قريظة ما سآها ... وحل بدارها ذلٌّ ذليل ومن قال "راء" فقلب، قال في الفعل المبني للمجهول "ريء" مثل

ألف رأى من حيث التفخيم والإمالة

"بيع"؛ لأن الياء قد وقعت في موضع العين، أنشد أبو زيد: وما ذاك من أن لا تكوني حبيبةً ... وإن ريء بالأخلاق منك صدود وفي الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام من "رأى" ضربان: التفخيم، والإمالة. فالتفخيم: أن تترك الفتحة التي قبل الألف على إشباعها لا تنحو بها نحو الكسرة، فتخرج الألف مفخمة غير ممالة إلى الياء. والإمالة: أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، فتميل الألف نحو الياء. فغذا كانت الإمالة ما وصفنا، لم يجز أن تمال الألف من "رأى"، ولا تمال فتحة الهمزة نحو الكسوة. فأما الفتحة في الراء التي هي فاء فإن إمالتها نحو الكسرة جائزة؛ لأنهم يميلون للإمالة، وذلك قولهم "رأيت عمادا"، فيميلون ألف النصب لإمالة الألف، فكما أمالوا الحرف للحرف، كذلك أموالوا الفتحة للكسرة، فقالوا "رأيت خبط رياح"، وأمالوها وبين الحرفين فاصل، قالوا "رأيت خبط الريف" كما قالوا "هذا جلبابٌ"، فأمالوا مع فصل الحرفين الكسوة والفتحة الممالة، وعلاى هذا قالوا "من عمروٍ"، فأمالوا الفتحة نحو الكسرة مع فصل الميم بينهما. وقالوا "من النفر"، فأمالوا بضمة القاف نحو الكسرة من أجل كسرة الراء. وعلى هذا قرئ فيما قالوا {فإنهم لا يكذبونك} {وإنا ظننا}، فأمالوا فتحة الفاء والواو نحو كسرة همزة (إنا) و (إنهم). فكما أمالوا هذه الفتحات من أجل الكسرات التي بعدها نحو الكسرة، فكذلك

يجوز أن تمال الفتحة من راء "رأى" نحو الكسرة؛ لأن الفتحة لما أميل بها نحو الكسرة صارت بمنزلة الكسرة، فكما أمالوا الفتحة إلى الكسرة، كذلك أمالوها للفتحة الممالة، كما أنهم لما أمالوا الألف للياء نحو "شيبان" و "قيس عيلان"، كذلك أمالوها للألف الممالة في قولهم "رأيت عمادا"، فكما نزلت الألف الممالة نحو الياء منزلة الياء في أن أمالوها كما أموالها للياء، كذلك نزلت الفتحة الممالة نحو الكسرة منزلة الكسرة، فأمالوا لها كما أمالوها للكسرة في نحو "خبط رياح". فعلى هذا وجه قراءة من قرأ {رأى كوكباً}، فأمال فتحة الراء نحو الكسرة. فإذا اتصل شيء مما أمليت ألفه بها يحذف فيه الألف لالتقاء الساكنين جاز فيه وجهان: أحدهما أن تشبع الفتحة ولا تميلها. والآخر: أن تبقي الإمالة في الفتحة على حالها، وذلك نحو قوله {فلما رأى القمر} {ورأى المجرمون النار} و {في القتلى الحر بالحر}. فوجه قول من لم يمل الفتحة مع ذهاب الألف بين، وهو إنما كان يميلها من أجل الألف ليميل نحو الياء، فإذا حذفت الألف لم تمل الفتحة؛ لأن ما كان يميلها من أجله قد زال، وهو الألف، وإذا لم تمل الفتحة التي كانت تلي الألف، وجب أيضاً أن لا يميل فتحة الراء التي كان يميلها للإمالة. وزعموا أن من القراء من قرأ (ورأى القمر) فبقي الراء ممالة وإن كانت إمالة

فتحة الهمزة قد ذهبت لسقوط الألف، وكان ينبغي أن يذهب بإمالة الراء أيضاً، فإن وجهه ما ذكرته بعد. ووجه قول من أمال الفتحة مع سقوط الألف في {رأى الشمس} و {في القتلى الحر}، فلأن سقوط الألف ليس بلازم، الا ترى أن التقاء الساكنين إذا زال ثبتت الألف ممالة. ويقوي هذا ما حكاه سيبويه من أنهم يقولون "هذا ماشٍ"، فيميلون للكسرة المقدرة في الحرف المدغم وإن كانت لا تظهر، فإذا كانوا قد أمالوا لهذه الكسرة مع أنها لا تظهر، فأن يميلوا الألف في "رأى" المحذوفة لالتقاء الساكنين أجدر وأولى؛ الا ترى أن التقاء الساكنين لما لم يكن لازماً لم يكن معتداً به في نحو "بغت المرأة" و "رمت ابنها"، فكما لم يعتد به هنا؛ بدلالة أن المحذوف لالتقائهما لم يرد مع تحرك الساكن الثاني لما كان التحرك لالتقاء الساكنين، كذلك لا يعتد به في إذهاب الإمالة. ويقوي ذلك أنهم قالوا في "الصعق": "صعق"، فأتبعوا حركة الفاء حركة العين فيه وفي نحوه مما العين منه أحد الحروف الستة. فلما نسب بعضهم إليه قال "صعقي"، فبقي كسرة الفاء مع زوال ما كان اجتلبها من أجله، وهو كسرة العين، حيث لم تكن هذه الفتحة عنده لازمة في جميع الاسم، وإنما هي في حال الإضافة، وياء الإضافة قد يمكن أن تنزل في تقدير الانفصال من الاسم، كما أن تاء التأنيث كذلك لمشابهتها لها. وعلى هذا

راءيت، والرياء، ورئاء

يتجه عندي قراءة من قرأ {رأى القمر}، بقي إمالة الراء مع إذهاب إمالة الهمزة، كما أن المضيف بقى الكسرة في الفاء مع ذهاب كسرة العين التي من أجلها أبدل من فتحة الفاء كسرة، وإذهاب إمالة فتحة الراء في هذا هو الوجه. وقال أبو زيد: "راءيت: فاعلت، الرجل مراءاة، والاسم الرياء، وتقول: رأيت الرجل ترئية إذا أمسكت له المرآة لينظر فيها". فقولهم الرياء: فعال من رأيت، والياء التي هي همزة لام انقلبت همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة، وفي التنزيل {بطراً ورئاس الناس}. فإن قال قائل: هلا أبدلت من الهمزة الأولى التي هي عين في "رثاء" واو، كما أبدلت منها الواو في قولهم في جمع ذؤابة: "ذوائب"؛ ألا ترى أن ما بعد الراء من "رئاء" بمنزلة ما بعد الذال من "ذوائب"؟ قيل له: إن المصدر بمنزلة الفعل، يدلك على ذلك أنه يعمل كما يعمل، وأنه يعتل كما يعتل في "عدة" و "يعد"، وتذكر أحدهما فيكون كذكرك الآخر، نحو "سقياً"، ونحو "من كذب كان شراً له"، ونحو قوله تعالى {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم}، فلما كان المصدر بمنزلة الفعل، وكانت هذه الهمزة الثانية في "رثاء" إنما هي في

المصدر، والمصدر كالفعل، وكان الفعل لا همزة فيه إذا قلت "رأيت"، صارت الهمزة الثانية كأنها غير لازمة، وإذا لم تكن لازمة لم يلزم بدل الأولى كما لزم في "ذوائب". فإن قلت: فهلا لم يلزم البدل في "ذوائب" لأنه في واحدها غير ثابت، وفي تحقيره أيضاً غير لازم، فكما لم يبدل في "رثاء" حيث لم يكن لازماً في الفعل، فكذلك لا يبدل في الجمع، واجعل الواحد من الجمع، والتكسير من التصغير، كالمصدر من الفعل؟ قيل: ليس الواحد من الجمع كالمصدر من الفعل؛ ألا ترى أن ما يعتل في الواحد يصح في الجمع نحو "معيشة ومعايش" و "مقامة ومقاوم"، فالمصدر مع الفعل ليس كالواحد من الجمع؛ لأن المصدر يعل إعلال الفعل، فصار بذلك بمنزلة، والجمع لا يعل لإعلال واحده، بل يخالف فيهما، فيصحح الجمع، فحكماهما مختلفان؛ ألا ترى أن المصدر يتبع الفعل في الإعلال، ولا يتبع الجمع الواحد، وكذلك التصغير مع الواحد هو كالتكسير، وكذلك التصغير مع التكسير هو بناء آخر ومعنىً غيره؛ لأن فيه مثل "عشيشية" و"أبينون" و "لييلية" و "أصيلال" و "مغيربان" ونحو ذلك، فلهذا صحح في "رثاء" الهمز، ولم يقلب كما قلب في "ذوائب". وإنما لم يعتل في التصحيح في "رثاء" والإعلال في "ذوائب" بأن "ذوائب" جمع و"رثاء" واحد؛ لأن ذلك لا يستقيم على قول الخليل وسيبويه، وذلك أنهما يجعلان هذا الضرب من الجمع المكسر في حكم الآحاد، ومن ثم قالوا في مثل "برد" من البياض": إنه "بيض" مثل "فعل" الذي هو جمع "أفعل"، والذي هو جمع "فعول"، فخفف.

وقد يجيء على قول أبي الحسن أن يحتج بأن هذا جمع، و"رثاء" واحد، فاحتمل الهمزات لخفة الواحد، كما احتمل "عتوّ" وبابه الواوين، ولم يحتملهما نحو "عصيّ، وحقيّ". ولسيبويه أن يقول: إن إعلال الواو في "عصي" ونحوه لا يدل على أنه إنما فعل ذلك لأنها أثقل عندهم من الآحاد؛ لأن هذا القلب قد جاء أيضاً في الآحاد؛ ألا ترى أنه قد جاء في التنزيل {وكان عند ربه مرضياً}، وجاء في موضع فيه {من الكبر عتياً} وفي مكان آخر {عتواً}. وقالوا "مسنيّة"، وهو من قولهم: يسنوها المطر. فإذا جاء هذا في الآحاد مجيئه في الجموع، لم يكن للجمع في ذلك مزية ليست للآحاد. وأيضاً فإن الهمزة في "رثاء" لم تقلب وإن كانت قد قلبت في "ذوائب"؛ لأن الهمزة الثانية في "رثاء" لما كانت بدلاً غير لازمة، كانت بمنزلة المبدل منه؛ ألا ترى أن الهمزة في "صحراء" وبابه لما لم تكن لازمة كانت بمنزلة الألف التي هي بدل منها في منع الصرف، كما كانت الهمزة في "علباءٍ" بمنزلة الياء التي هي بدل منها، وكما كانت الهاء في "هراق" بمنزلة الهمزة، فلو سميت بـ "هراق" مذكراً

رأي وأرآء

لم يصرف، كما أنه لو سميته بـ"أراق" لم تصرف، فكما أن هذه الأبدال صارت بمنزلة مبدلاتها لما كانت غير لازمة، كذلك كانت الهمزة في "رئاء" الثانية، لما لم تكن لازمة كانت بمنزلة الياء، وكما لم يلزم بدل الهمزة واواً مع الياء، كذلك لم يلزم مع ما هو بدل منها، وليس بدل الهمزة في "ذوائب" كذلك لأنه لازم؛ ألا ترى أنه يثبت في التحقير في قولك "قبيئل" اسم رجل، ولا تثبت الهمزة في "عطاء" وبابه إذا حقرت في قول أحد، ومن ثم لم تبدل الهمزة التي هي بدل من اللام إذا لحقت الألف في النصب، كما أبدلت من الهمزة في "خطايا" و "مطايا"؛ لأن ألف النصب غير ثابتة، فكما لم تكن الصورة في الرفع والنصب موجبة لبدل الياء من الهمزة ولا الواو، كذلك كان النصب. ويؤكد ذلك أن منهم من لا يبدل الألف من التنوين في النصب، كقول الأعشى: .................... ... وآخذ من كل حي عصم ومما كانت صورته صورة "رثاء" فلم يبدل من الهمزة الأولة قولهم "رأي وأرآء" و"نؤي وأنآء" قال أبو زيد: "قالوا: رأي وأرآء، ورئي، ورئي"، جرى في كلامهم تصحيح الهمزتين، ولم يكن كـ"ذوائب" في

رؤيا وتخفيف همزته

البدل لما ذكرنا، قال: وأنآء حي تحت عينٍ مطيرةٍ ... عظام القباب ينزلون الروابيا وقال آخر: لا يسجن الرأي إلا ريث يبعثه ... ولا يشارك في أرآئه أحداً وفيما هو من لفظ "رأى" قولهم "رؤيا"، وفي التنزيل {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}، فهذا البناء على وزن "فعلى". فأما الهمزة فإنها تحقق وتخفف. فمن خففها لزمه أن يقلبها واواً فيقول "رويا"، ولا يقبلها ياء فيدغمها في الياء التي بعدها كما يفعل ذلك بـ"طي" و "شي" مصدر "طويت" و"شويت"، وقولهم "قرنٌ ألوى، وقرون لي"، ولكنه يدع الواو على سكونها مبينة غير مدغمة، كما يدعها على صحتها في قولهم "ضوٌ" إذا خفف الهمزة من "ضوءٍ"؛ لأن الهمزة في كلا الموضعين منوية، فصارت لذلك بمنزلة المظهرة. وحكى سيبويه فيها الإدغام "ريّا" و "ريّة". وفي إدغامها وجهان: أحدهما: أن تنزل غير اللازم منزلة اللازم، فتدغم كما تدغم فيما لزم نحو "طي" و "شي" كما نزلت نحو "جعل لك" و "فعل لبيد" بمنزلة اللازم حين أدغمت، كما أدغمت "مل" و "حل".

(رئيا) والقراءة فيه

والآخر: أن تقدر في الهمزة القلب إلى الواو على حد "أخطيت" لا على التخفيف القياسي، وإن كان اللفظان واحداً، كما كانت ورة "رمية"، و "خطية": في تخفيف "خطيئة"، واحدة، وإن كانت اللام من إحداهما همزة، ومن الأخرى حرف مد، فكذلك تكون "رؤيا"، لفظ من قدر فيها القلب على حد "أخطيت" كلفظ من قدر تخفيفها على القياس كـ "جونة" من "جؤنة"، ولما جعلوها بمنزلة حرف المد في الإدغام، جعلوها بمنزلة في أن كسروا فاء الفعل منه، فقالوا "ريّا" كما قالوا "لي" في جمع "قرن ألوى". والوجه ترك الإدغام وتبيين الواو كما بينت في "ضوٍ"؛ ألا ترى أن من أدغم كما أدغم "ليُّ" ونحوه، لزمه أن يعل الواو من "ضوٍ" كما اعتلت في "ذات مال" ونحوه، و"جيل" و "مولة"، فكما لم يعل الواو في "ضوٍ" أحدٌ، كذلك ليزم ألا يدغم الواو في "رويا". على أن العين أقرب إلى التصحيح من اللام، كما أن الفاء أقرب إليه من العين. ومن هذا اللفظ قوله تعالى {هم أحسن أثاثاً ورئياً}. قال أبو عبيدة في قوله (ورئياً): "هو ما ظهر مما رأيت"، فهذا "فعلٌ" من "رأيت" على تفسير أبي عبيدة. وسألت أحمد موسى عن القراءة فيه، فذكر أنه قرئ

على ثلاثة أضرب: (رِئياً) و (رياً) و (زياً). فـ (رئياً) على ما فسره أبو عبيدة، و (رياً) على تخفيف الهمزة؛ لأنك تقول إذا خفت نحو "ذئب" و "مثرة": "ذيب" و"ميرة" فقلت الهمزة ياء، فكذلك لما خففتها في قوله (رئياً) أبدلتها ياء، ثم اجتمع مثلان، فأدغمت، وكان الإدغام هنا حسناً، ولم يكن مثله في (رؤيا) إذا خففت همزتها؛ لأن نية الهمزة في (رؤيا) مع مخالفة الحرف الحرف مثل الحركة في الحرف المقارب، تمنع الإدغام في مقاربة كما تمنع الحركة، وليس الأمر في (رؤيا) كذلك؛ لأنه لا يبلغ من قوة نية الهمزة أن تمنع الإدغام في المثلين، كما لا يبلغ من قوة الحركة أن تمنع الإدغام، فلهذا كان إدغام (رئياً) إذا خففت الهمزة حسناً، وإن لم يكن إدغام (رؤيا) في التخفيف بالحسن لما ذكرته. فإن قال قائل: إن العين المدغمة في من قرأ (رياً) واو قلبت للإدغام في الياء مثل "قي" و "سي"، وهي من "القواء"، كما أن "سياً" من السواء، وتكون في "الري" من رويت. فهذا المعنى ملائم غير بعيد؛ لأن "الري" الذي هو خلاف "العطش" في الأصل يدل على الغضارة والنضارة؛ ألا تراهم يصفون به إذا أرادوا

الرواء

ذلك، ولم يريدوا خلاف العطش، كقوله: وفي العاج منها والدماليج والبرا ... قناً مالئٌ للعين ريان عبهر فكأنهم اتعسوا فيه هذا الاتساع لما كان الذي يتبعه النضارة والطراوة، كما كان العطش يتبعه الجهد والذبول، فسموه باسم المصاحب له. ومن ذلك قولهم "حسن الرواء" لحسن الشارة والهيئة، قال ابن مقبل: أما الرواء ففينا حق ترئية ... مثل الجبال التي بالغور من إضم فالعين واو والهمزة منقلبة من الياء التي هي لام في "رواء" لهذا المعنى، ويكون من "روي". ويجوز أن يكون "الرواء" من "رأيت" إلا أن العين قلبت واواً للتخفيف، كما ألزموا العين التخفيف في هذه الكلمة في "يرى"، فصار مثل "جون". لكان قولاً. وحمل قول من قرأ "رياً" بالإدغام على ما ذكرناه آنفاً من أنه على تخفيف الهمز هو الوجه. ومن ذلك قولهم: "هو مني مرأىً ومسمعٌ" فـ"مرأىً: مفعل" من "رأيت"، قال سيبويه: "فأما قول العرب: أنت مني مرأىً ومسمعٌ، فإنما رفعوه لأنهم جعلوه هو الأول، حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريبٌ، وكينونة مرأى ومسمع اسماً أكثر؛ لأنهم جعلوه اسماً خاصاً

المروءة

لمنزلة المحبس والمتكأ وما أشبه ذلك، فكرهوا أن يجعلوه ظرفاً، وقد زعموا أن بعض الناس ينصبه بمنزلة: ................... ... ................ درج السيول وهم قليل، كأنهم لما قالوا: بمرأى ومسمعٍ، فصار غير الاسم الأول في المعنى واللفظ، شبهوه بقولهم: هو مني بمزجر الكلب. وحكى يونس أن قاوماً قالوا: هو مني مزجر الكلب، فجعلون بمنزلة مرأى ومسمع" انتهى كلام سيبويه. وزعم بعض رواة اللغة أن "المروءة" مأخوذة من قولهم: هو حسن في مرآة العين. وهذا من فاحش الغلط، وذلك أن الميم في "مرآة" زائدة" و "مروءة: فعولة"، فلو كانت من المرآة لكانت "رُئيَّة"، ولكنها مأخوذة من أحد شيئين: إما أن تكون "فعولة" من المرء كالرجولة من الرجل. وإما أن تكون من مراءة الطعام؛ لأن الآخذ بها يهضم نفسه لها، يكفي عن كثير مما يرتكبه المطرح لها، قال أبو زيد: "مرؤ مروءة"، فدل حكاية أبي زيد هذا على أن الميم فاء. وقال الأصمعي: "إذا استبان حمل الشاة والناقة قيل: أرأت الشاة والناقة، فهي مرئية"، فهذا "أفعلت" من "رأيت"، والمعنى أنها صارت

أرأيت إراء

تُري حملها، كما أن قولهم "أقطف" و "أجرب" كذلك. فأما مصدر قولك "أرأت" فينبغي أن يكون "إرآء"، ومصدر "اريته الهلال"، و"أريته زيداً أخاك" يكون "إراءً"، الهمزة التي هي عين مخففة، كما كانت في الفعل واسم الفاعل مخففة. فإن قلت: فهل يلزم أن يلحق الهاء لحذف العين كما لحق في "الإقامة" و "الإقالة"؟ فإن ذلك لا يلزم؛ لأن الدلالة قد قامت على أن الهمزة في نية الثبات، فكما أن الهمزة لو كانت ثابتة لم يلزم إلحاق الهاء على حد إلحاقها في "إقامة" و "عدة"، كذلك لا يلزم إلحاقها في "إراء" إذا قامت الدلالة على ثباتها. ومن قال "رياً" فأدغم على تقدير الإبدال، فقياس قوله أن يلحق الهاء؛ لأنه يقدر الحذف هنا عن القلب كما يقدر الإدغام عن القلب. وأما "المرآة" فـ"مفعلة" من "رأيت"، كما أن "المخصف" "مفعل" من "خصفت". وجمعه "مراءٍ" بتصحيح الهمزة لا غير؛ لأنها لم تعترض في جمع، فلا سبيل لذلك إلى القلب كما قلبت في "خطايا"

رئة

و"مطايا" و "أداوى". فإن خففت الهمزة في "مراءٍ" لزم أن تجعل بين بين. ومما يوافق لفظه لفظ "رأى" وبابه، وإن لم يوافقه في المعنى، قولهم "رئة" للعضو المنفس عن القلب. يدل على ذلك قولهم: رأيت الرجل، إذا ضربت رئته. وقالوا في جمعه "رئون"، أنشد أبو زيد: فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم ... قلوباً وأكباداً لهم ورئينا وقالوا: معدٌ رئي. فأما قولهم "المريء" لمنفذ الطعام والشراب إلى المعدة، فيمكن أن يكون كـ"المعين" و "المصير" و "المسيل" في من قاله "أمسلة"، ويمكن أن يكون كـ"المسير" و"المعيش" في أخرى. وقالوا في جمعه "أمرية" و "مرؤٌ": "فعلٌ"، فبين أنه على هذا "فعيل" وليس كـ"المسير". فالذي يدل على الوجه الأول أنهم قالوا "المرؤ" في جمعه، فدل

تورون

ذلك أن الميم فاء. حكى ذلك أبو عبد الرحمن صاحب أبي الحسن الأخفش. فأما قوله تعالى {أفرأيتم النار التي تورون} فهو من "روي الزند بري" و "أرواه القادح"، وفي التنزيل {فالموريات قدحاً}، وليس من باب "رأى" و "رأيت" في شيء. وقيل في قول ابن مقبل: سل الدار من جنبي جبرٍ فواهبٍ ... إلى ما رأى هضب القليب المضيح رأى: حاذى وقابل. وهذا اتساع؛ لأن الرؤية بالبصر التي هي إدراك للمرئي تكون بمحاذاته ومقابلته، فجعل المقابلة رؤية وإن خلت من الإدراك، أو تكون إرادته من هذا المكان بحيث لو كان يدرك ببصره لأدركه منه. ومن هذا ما في الحديث في المؤمن والكافر "لا تتراءى ناراهما" أي: لا تتحاذى فلا تتقابل، والمعنى به الكافر الحربي دون الذمي؛ لأن الذمي غير ممنوع من ملابسته والمناكحة وأكل الذبيحة، وإنما هو على من لم يكن ذا عهد أنه لا يقارّ في دور الإسلام حتى يصير ذمة بأداء الجزية، أو يكون على نهي المسلمين عن الإقامة بدار الحرب لتعريضه دمه للإباحة.

1 - رأيت التي يراد بها إدراك الحاسة

وقد روي عن علي رضي الله عنه كراهة اتخاذ النسل في دار الحرب. و"رأيت" فعل على ثلاث أضرب: أحدها أن يراد بها إدراك الحاسة، فتتعدى إلى مفعول واحد. والآخر: أن يكون من الرأي والنظر، ويكون ذلك متعدياً إلى مفعول واحد أيضاً. والثالث: أن يكون متعدياً إلى مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما، كما أن "علمت" إذا لم تكن بمنزلة "عرفت" كذلك. فأما "رأيت" إذا أريد بها إدراك حاسة البصر، فهو متعد إلى مفعول واحد، كما أن "ذقت" و"لمست" و "شممت" يتعدى إلى مفعول واحد. فمن ذلك قوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} وكقوله {لترونَّ الجحيم. ثم لترونها عين اليقين} فأما قوله تعالى {ويوم القيامة ترى الذي كذبوا على الله ووجوههم مسودةٌ} فإن جعلت "رأيت" المتعدية إلى مفعولين، كانت الجملة التي هي {وجوههم مسودة} في موضع نصب بكونها في موضع المفعول الثاني. وإن جعلت "رأيت" بمنزلة "أبصرت" كانت الجملة في موضع نصب بالحال. ولو أبدلت (وجوههم) من (الذين) فنصبت (مسودةً) كانت على القول الأول مفعولاً ثانياً، وعلى القول الآخر حالاً، قال سيبويه: "وارفع في هذا النحو إذا كان الثاني هو الأول أعرف في

كلامهم". ومثل البدل في هذا: "خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها". والتي بمعنى "أبصرت" هنا حسنة؛ وذلك أنه قد روي في تفسير قوله {يعرف المجرمون بسيماهم} أنها سواد الوجود وزرقة الأعين، فسواد الوجوه من هذه الآية علم، وزرقة الأعين في قوله {ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً}، وذلك مما يدرك بالبصر ويعرف به، فلذلك حسن حمله على متعدية إلى مفعول واحد. ولا يمنع أن يحمل على المتعدية إلى مفعولين؛ لأن كل محسوس معلوم بهذا الضرب من العلم، وإن لم يكن كل معلوم به محسوساً. فأما ما روي من قوله "ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر"، فإن قال قائل: ما تنكر أن يكون ذلك من الرؤية التي هي إدراك الحاسة؛ لأنه تعدى إلى مفعول واحد، وتلك الأخرى تتعدى إلى مفعولين؟ فالقول: إن هذه أيضاً ليست التي هي إدراك البصر، وإنما جاز ألا يذكر

المفعول الثاني الذي تقتضيه المتعدية إلى مفعولين؛ لأن الكلام قد طال بما هو بمعنى المفعول الثاني لو أظهر؛ ألا ترى أن قوله "كما ترون القمر ليلة البدر" إنما هو تأكيد وتشديد للتيقن والتبعيد من اعتراض الشبه على العلم به تعالى. فإذا كان كذلك كان بمنزلة ذكر ما هو بمنزلة المفعول الثاني إذا جرى ذكره في الصلات، نحو "علمت أن زيداً منطلق" و {أحَسِب الناس أن يُتركوا}، فكما سد ما جرى في الصلتين مسد المفعول، كذلك سد ما بعد المفعول الأول في الحديث مسدّ المفعول. ومن قال: إنه يضمر في الموصولين مفعولاً ثانياً، كان قياس قوله أن يضمر هنا مفعولاً ثانياً، كأنه "متيقناً" ونحو ذلك. وأن يقالك إن ما ذكر سدّ مسدّ الفعل الذي يقع بعد "لو" حتى لم يظهر ذلك الفعل معه واختزل، فكذلك المفعول مع الموصولين في هذا الباب. ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون المعنى: ترون ربكم: ترون علم ربكم، أي تعلمونه كما ترون ليلة البدر، أي: علم ربكم كرؤية ليلة البدر، فالمبتدأ الذي دخل عليه الذي هو بمنزلة "علمت" المتعدية إلى مفعولين: علم ربكم كرؤية ليلة البدر، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيكون المعنى أنه قد شبه العلم بالقديم سبحانه في الآخرة بما يحس حساً بيناً لارتفاع الشبه العارضة في دار البلوى والمحنة هناك. وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه من الكثرة بحيث لا يحتاج إلى الإكثار في الاحتجاج له؛ لتقرره عند المبتدئين، فكيف من جاوزهم. ومثل ذلك قراءة من قرأ {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من

فضله هو خيراً لهم}. والمعنى: لا تحسبن بخل الذين يبخلون، فكما حذف المفعول الأول في الآية، وأقيم المضاف إليه مقامه، كذلك حذف في الحديث، وأقيم المضاف إليه مقامه. فأما النظر في قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} فقال أبو الحسن الأخفش: إنه كقول الرجل: إنما أنظر إليك، إذا كان يُنيله شيئاً، فليس حقيقة النظر عندي في الرؤية، وإن كان يجوز أن يقع عليها في الاتساع لما كان تقليب العين نحو المبصر؛ بدلالة قول ذي الرمة: فيامي هل يجزى بكائي بمثله ... مراراً، وأنفاسي إليك الزوافر وإني متى أشرف على الجانب الذي به أنت، من بين الجوانب ناظر فاقتضاؤه الجزاء على ذلك يدل على أنه ليس بإبصار، وأنه علاج بمنزلة البكاء، والتنفس نحو ذلك، واقتضى الجزاء عليه كما اقتضى عليها، ولون كان رؤية لم يسغ ذلك فيها؛ لأن المحب لا يقتضي ممن يحب على رؤيته له جزاء، بل الأمر بعكس ذلك؛ ألا ترى أن أبا العباس أنشد: إذا كلمتني، وكحلت عيني ... بعينك، فامنعي ما شئت مني فإن قلت: فقد اقتضى على زور طيفه الجزاء، وهذا مما يشتهيه المحب ويريده، فما تنكر أن يقتضي على الرؤية وإن كان يحبها؟

فإن هذا لا يستقيم ويكون بمنزلة الرؤية؛ لأن ذلك مما يهيج من شوق المحب؛ ألا ترى قوله: يا عيدُ مالك من شوقٍ وإبراق ..................... فقول ذي الرمة: وإني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت، من بين الجوانب ناظر مثل قوله: على أنني في كل سير أسيره ... وفي نظري من نحو أرضك أصور إنما هو التلفت إلى الجهة التي هي فيها. وأخذ بعض المحدثين هذا، فقال: ما سيرت ميلاً، ولا جاوزت مرحلةً ... إلا وذكرك يلوي دانياً عنقي ويدل على ذلك قوله، أنشد عن المفضل: وحملت منها على نأيها ... خيالاً يوافي، ونيلاً قليلا ونظرة ذي شجنٍ وامقٍ إذا ما الركائب جاوزن ميلا فالنظرة ههنا لا تكون الرؤية، إنما هو على التلَفُّت؛ الا ترى أنه لا يستقيم.

ورؤية ذي شجنٍ وامقٍ ... إذا ما الركائب جاوزن ميلا لأن الركائب إذا جاوزن ميلاً لم ير الذي جاوزن به ما هو منه على هذه المسافة. ومما نقل بالهمز من "رأيت" التي بمنزلة "آنست" قولاه تعالى {أرنا الله جهرةً} {أرنا اللذين أضلانا}، كان قبل النقل: رأيت اللذين أضلانا، فإذا نقلت بالهمزة صار الفاعل قبل النقل مفعولاً بعد النقل. وهكذا الأفعال المتعدية إلى مفعول، إذا نقلت بالهمزة تعدت إلى مفعولين. فأما قوله {اللذين} فيمكن أن يكون المراد بلفظ التثنية الكثرة، ولا يراد بها اثنان، ولكن كما جاز {والذي جاء بالصدق وصدق به}، إنما يراد به العموم. فإن قلت: فهل جاء لفظ التثنية يراد به الكثرة والجنس؟ قيل: قد جاء قولهم: نعم الرجلان، ونعم المرأتان، ونعم وبئر لا يعملان إلا في الأسماء الشائعة. وقد قالوا: "هما خير اثنين في الناس". وقال الفرزدق: وكل رفيقي كل رحلٍ، وإن هما ... تعاطى القنا قَوْماهما، أخوان

2 - رأيت التي بمعنى النظر والاعتقاد

فأما قوله {يرونهم مثليهم رأي العين} فمنهم من قال: إن المعنى: يرونهم ثلاثة أمثالهم، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والمشركون تسعمائة وخمسون رجلاً. واعترض عليه بأن مثل الشيء في تعارف اللغة مساويه، وأن الله تعالى أرى المسلمين أن المشركين إنما هن ستمائة وكسر، وقد أعلم الله أن المائة تغلب المائتين، فأراهم المشركين على نحو ما أعلمهم أنهم يغلبون ليقوي قلوبهم، وأرى الله - سبحانه - المشركين المسلمين أقل من عدد المشركين، وألقى في قلوبهم الرعب. والدليل على هذا قوله {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم}. وأما "رأيت" المتعدي إلى مفعول واحد، وهو بمعنى النظر والاعتقاد دون الإدراك بالبصر، فكقولنا: فلان يرى الوعيد، ويرى القول بالعدل، يراد به يعتقده ويذهب إليه، وليس للأحديّ في هذا النحو وجه؛ لأن هذه الأمور لا تدرك بالأبصار. ويدل على ثبات هذا الوجه وصحته قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {فانظر ماذا ترى}، فـ"ترى" ههنا متعدية إلى مفعول واحد؛ ألا ترى أن (ماذا) لا يخلو من أن يكون "ما" مع "ذا" اسماً واحداً، أو يكون "ذا" بمنزلة "الذي". فإن كانا بمنزلة اسم واحد كانا في

موضع نصب بـ"ترى"، وإن كان "ذا" بمنزلة "الذي" كان التقدير: ما الذي تراه، والضمير محذوف من الصلة، فعلى أي الوجهين حملت الآية، فالفعل متعد إلى مفعول واحد، فلا مذهب للإدراك بالبصر هنا، وليس السؤال عنه، إنما السؤال: هل تتابعني على ما أحاول من ذبحك، وتنقاد لي؟ ومما وقع في هذا منقولاً بالهمزة قوله تعالى {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}. واستدل أبو يوسف بهذه الآية على جواز الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم. ووجه ذلك أن النقل بالهمزة لا يخلو من أن يكون من "رأيت" التي هي بمنزلة "واعتقدت"، أو التي بمعنى "أبصرت"، أو المتعدية إلى مفعولين. فلا يجوز أن تكون من التي بمعنى "أبصرت" فيكون كقولك "أراني زيد الهلال"؛ لأن حكم الرسول ليس بمقصور على ما يبصر، إنما يحكم عرفه الله ودله عليه. فإذا كان كذلك علمت أنه لم ينقل من التي بمنزلة "أبصرت". ولا يجوز أيضاً أن يكون النقل من المتعدية إلى مفعولين؛ لأن تلك إذا نقلت بالهمزة تعدت إلى مفعولين لم يقتصر عليهما في قول الناس جميعاً حتى تعدى إلى المفعول الثالث؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أرى الله زيداً عمراً، لم يكن بد من أن تعديه إلى المفعول الثالث من حيث كنت إذا عديته إلى المفعول الأول قبل النقل، لم يكن بد من أن تعديه إلى المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني هو خبر المبتدأ في المعنى، فكما لا يقتصر على المبتدأ دون خبره، كذلك لا يقتصر على المفعول الأول في "علمت زيداً" حتى تقول "خير الناس" وما أشبهه. وإذا لم يجز الاقتصار على المفعول الأول في باب "علمت"، لم يجز الاقتصار على الثاني دون الثالث في باب "أعلمت"؛ لأن الثالث في

3 - رأيت المتعدية إلى مفعولين

باب "أعلمت" هو الثاني في باب "علمت". فإذا كانت المنقولة من "رأيت" المتعدية إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار فيه على المفعول الثاني؛ لم يجز أن يكون قوله في الآية {بما أراك الله} منقولاً من المتعدية إلى مفعولين؛ لأنه لم يتعد في الآية إلى ثلاثة مفعولين، وإنما تعدى إلى اثنين، أحدهما كاف المخاطبة، والآخر الضمير المحذوف العائد من الصلة إلى الموصول. فإذا لم يخل هذا النقل من أن يكون من واحد من الألفاظ الثلاثة، وبطل أنه من اثنين منها كما بينا، ثبت أنه منقول من الوجه الثالث، وهو الذي بمعنى "اعتقدت"، دون الضربين الآخرين. الضرب الثالث من وجوه "رأيت": وهي المتعدية إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما، وذلك نحو "رأيت زيداً أخاك" و "علمت بكراً منطلقاً"، فهذا يجوز أن يقوله الأعمى كما يقوله البصير؛ لأنه لا يراد به الإبصار، وأنشد أبو زيد: تقوه أيها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا رأيت الله أكبر كل شيءٍ ... محاولةً وأكثرهم جنودا وإنما لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين لأنهما في معنى المبتدأ وخبره، فكما لا يجوز الاقتصار [على أحدهما، كذلك لا يجوز الاقتصار] على أحد هذين المفعولين. وكذلك ما يدخل عليه "كان" وأخواتها، و"إن" وأخواتها.

فإن قلت: فقد أقول "علمت أن زيداً منطلق"، و"حسبت أن يقوم بكر"، فاقتصرت على "أن" واسمها وخبرها، و"أن" وما في صلتها. قيل: إنما جاز ذلك لسد الخبر الذي جرى في الصلة مسد خبر "أن". وكذلك ما في صلة "أن" من الفعل. ومثل ذلك "أقائمٌ الزيدان" و"أقائمٌ الزيدون" في أن الفاعل المرتفع بالاسم المبتدأ أغنى عن خبره، فحمل الكلام على المعنى؛ الا ترى أن قولك "علمت أن زيداً منطلق" و"علمت أن زيداً منطلق" و"علمت زيداً منطلقاً" في المعنى سواء. فمما جاء في التنزيل من ذلك متعدياً إلى مفعولين قوله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق}. وقال {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً}. فدخول الفصل في الموضعين يدلك على أن ما بعد الفصل مفعول ثان. ويذهب أبو الحسن إلى أن الاقتصار على الفاعل في هذا الباب لا يحسن - وإليه ذهب أبو عمر الجرمي - فقال في قوله عز وجل {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}: "لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء، وليس لذلك مذهب في العربية؛ لأنه إذا قال: لا يحسبن الذين يفرحون، فإنه لم يوقعه على شيء". ووجه قوله

عندي في هذا أن "علمت" و "ظننت" وبابهما قد أجريا مجرى القسم في كلامهم؛ ألا تراهم تلقوها بما يتلقى به القسم في نحو قوله عز وجل {وظنوا ما لهم من محيصٍ}. وحكى سيبويه "ظننت لتسبقني"، وأنشد: ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها فكما أن القسم، وإن كان جملة من فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر، لا يكون كاملاً مستقلاً حتى يوصل بالمقسم عليه، كذلك "ظننت" و"علمت" لما كانا قد أجريا مجراه، لم يستحسن الاقتصار عليهما حتى يوصل بالمفعولين. وأيضاً فإن ذلك وإن كان جملاً، فإنها تدخل على المبتدأ والخبر، فكما أن سائر ما يدخل على المبتدأ وخبره لا يستقل حتى يدخل عليهما، كذلك كان "علمت" و "ظننت" وبابهما. فإن قال قائل: فقد قال الكميت: بأي كتابٍ أم بأية سنةٍ ... ترى حبهم عاراً علي وتحسب فلم يعد "تحسب" إلى شيء. قيل: لا يقدح هذا في ما ذهب إليه أبو الحسن، وذلك أن الشاعر أراد إعمال الفعلين، فاستغنى بإعمال الأول عن أن يعمل الثاني، فحذف المفعولين من الفعل الثاني لدلالة ما تقدم عليهما؛ ألا ترى أن المعنى: ترى

وتحسبه إياه حبهم عاراً، وما حذف من اللفظ لقيام الدلالة عليه فهو بمنزلة الثابت في اللفظ. ومثل هذا قول جرير: كنقا الكثيب تهيلت أعطافه ... والريح تجبر متنه وتهيل وفلم يع الثاني لدلالة الأول على إرادته تعديته. وفي التنزيل {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} والمعنى: وتبدل السموات غير السموات، فحذف المفعول من اللفظ لدلالة الأول عليه. وذكر سيبويه أن بعض العرب تقول: "متى ظننت أو قلت زيداً منطلقاً"، فتعمل "ظننت" ولا تعمل "قلت" في شيء. فإذا كان هذا على ما ذكرناه، لم يكن فيه قدح على قول أبي الحسن. وتقول: من زيدٌ؟ وزيدٌ من هو؟ فإن أدخلت "رأيت" أو "علمت" على: زيدٌ من هو؟ قلت: علمت زيداً من هو، فنصبت زيداً لأنه المفعول الأول، والاستفهام في موضع المفعول الثاني، كما كان قبل في موضع خبر الابتداء. والدليل على حسن النصب قولك: علمته من هو، وقد يجوز أن تعلق "علمت" عن "زيد" وترفعه، فتقول: علمت زيدٌ من هو، تحمل الكلام على المعنى؛ لأن المعنى: علمت من زيدٌ، فكما أن زيداً لا يكون فيه إلا الرفع، فيما تعطفه على "إن" بعد عملها في اسمها وخبرها نحو "إن زيداً منطلقٌ وعمروٌ" لما كان معنى "إن زيداً منطلقٌ" و "زيدٌ منطلقٌ" واحداً، فكذلك يجوز

"أرأيتك" على ضربين

في الاسم المتقدم على الاستفهام الرفع إذا كان معناه بعد الاستفهام كمعناه قبله، والرفع قول يونس. ومن قال: "علمت زيدٌ أبو من هو" فرفع وعلق "علمت" و "رأيت" عنه لما ذكرت لك، قال: "أرأيتك زيداً ما صنع" فنصب زيداً ولم يرفعه بعد "أرأيتك" كما رفعه بعد هذه الأفعال الأخر، وذلك أن "أرأيتك" قد صار كقوله "أخبرني"، فكما أنك لا تعلق "أخبرني" وما أشبهه من الأفعال التي لا تلغى، كذلك لا تعلق "أرأيتك" في قولك: "أرأيتك زيداً ما فعل"، ولا تقتصر فيه على مفعول واحد، كما يفعل ذلك في "أخبرني" لأنه في الأصل متعد إلى مفعولين، ولأن المعنى: أخبرني عن كذا. والتاء في "أرأيتك" على لفظ التذكير والإفراد، كان الفاعل مفرداً أو مثنى أو مجموعاً، أو مؤنثاً، استغنى بما لحق من علامة الخطاب على هذه الوجوه على تثنية الضمير وجمعه وتأنيثه، فمن ثم جاء {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً أو جهرةً}. ومثل ذلك قولهم "هاك" و "هاكما"، ولو لم يلحق الكاف غيرت، كما قال {هاؤم اقرؤوا}: فجمع لما لم يلحق الكاف. فأما الكاف فلا موضع لها من الإعراب، وإنما هي علامة للخطاب؛ الا ترى أنه لو كان لها موضع لكان نصباً، ولوجب أن يكون

1 - أن يكون بمعنى: أخبرني

الاسم الواقع بعدها إياها في المعنى. وفي كون الاسم الواقع بعدها غيرها دلالة على أنها ليست المفعول الأول، فغذا لم تكن المفعول الأول لم يكن لها موضع من الإعراب، كما ليس لكاف "ذلك" و "هنالك" و"رويدك" في من جعله اسماً للعفل موضع من الإعراب. ومثل هذه الكاف تاء "أنت". فأما الاسم المنصوب بعد "أرأيتك" فالمفعول الأول، وما بعده من الاستفهام في موضع المفعول الثاني، وموضعه نصب بذلك. فأما قوله عز وجل {أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى. أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى} فـ"أرأيت" الثانية بدل من الأولى، والاستفهام في موضع المفعول الثاني للفعل الأول. ويجوز أن يكون المفعول الثاني محذوفاً من الأول لدلالة قوله {ألم يعلم بأن الله يلى} على ذلك، كأنه "ناج" أو "غير مأخوذ بفعله" أو ما أشبه ذلك. وقد يجوز أن يكون كرر توكيداً، كما كرر "قل" توكيداً في قوله عز وجل {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}. فـ"قل" ههنا توكيد؛ لأن "أرأيتك" و "أرأيت" تعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى "أخبرني". وإذا كان كذلك فلا بد من أن يتعدى إلى مفعول ينتصب به، ويوقع الاستفهام في أكثر الأمر في موضع المفعول الثاني.

2 - أن يكون بمعنى: انتبه

والآخر: أن يكون بمعنى "انبته". فإذا كان الأمر على ما وصفنا لزم أن يكون "قل" تكريراً؛ ليقع الاستفهام الذي بعدها في موضع المفعول الثاني. ويقارب ذلك في التوكيد والاعتراض بين المفعول الأول والثاني قوله {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض} ح لأن المفعول الأول لما تعدى إليه "أرأيتم" لازم أن يتعدى إلى الثاني الذي هو الاستفهام، فصار "أروني" تأكيدا" لما دل عليه "أرأيتم"؛ ألا ترى أن "أرأيتم" بمنزلة "أخبروني" [و"أخبروني"] و"أعلموني" متقاربان. وإنما وقع الاستفهام في خبرها لأنه بقوله "أرأيتك" مستفهم، إنما يريد: أرأيت زيداً ما حمل زيداً، فكرره مرتين للتأكيد. ومن ذلك قوله عز وجل {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله}. ومثله قوله {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل}. فأما قوله {أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل على مثله} فقد حذف الاستفهام الذي يقع في موضع المفعول الثاني، وكأن التقدير: أتأمنون عقوبة الله؟ أو: لا تخشون انتقامه؟ وأما ما جاء "أرأيت" فيه بمعنى "انتبه" و"انتبهوا" كما أن {ألم تر} كذلك، فقوله {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت} كأن

المعنى: انتبه، فإني نسيت الحوت، ولذلك دخلت الفاء كما تدخل في جواب الجواء. ومثله {أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم}، كأنه قال: انتبهوا، فمن يأتيكم، كما كان قوله {فإني نسيت الحوت} كلك. ولا يكون جواب الجزاء الذي هو {إن أصبح ماؤكم غوراً}، ولكن جواب ما دل عليه "أرأيتم" الذي هو بمعنى "انتبه"، كما أن الفاء في قوله {فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} ليس هو بجواب، إنما هو جواب "أما". وقد جوز أبو الحسن زيادة الفاء في هذا النحو، إنما هو جواب (أما). وقد جوز أبو الحسن زيادة الفاء في هذا النحو، فيكون الاستفهام بعد تقدم زيادة الفاء قد سدت مسدّ المفعولين. ولا يكون "أرأيتم" بمعنى "أخبرني" على هذا؛ لأن تلك تتعدى إلى مفعول قبل الاستفهام، أو يلحق الكلام ما يكون بدلاً من لمفعول، كقولهم: أرأيتك أنت من حملك على هذا، فـ"أنت" قد صار بدلاً من المفعول به، حتى لم يستعمل معه المفعول، كما لم يستعمل الواو في قولهم "لاها الله ذا". فأما قوله عز وجل {أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. ألكم الذكر}، فهو بمنزلة "أخبروني"، فتعدى "أرأيت" إلى المفعول، ووقع الاستفهام في موضع المفعول الثاني، والمعنى: أرأيتم جعلكم اللات والعزى بنات الله ألكم الذكر. وإن قلت: فقد نص على أن الموصول لا يحذف، فكيف ساغ هذا؟ قيل: جاز هذا لأن هذا المعنى قد تكرر فصار معلوماً لتكريره، فكذلك

قصة الغرانقة

احتمل الحذف، وكان الحذف بمنزلة الأداة؛ ألا ترى أنه جعل "كلاً" في قوله: أَكُل امرئٍ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقد بالليل نارا بمنزلة المذكور في اللفظ للعلم به، وإن كان محذوفاً. وقد دل قوله عز وجل {ألكم الذكر وله الأنثى} على ذلك. وادعوا هذا في هذه الآلهة كما ادعوه في الملائكة. فأما ما روي أنه كان يتصل بقراءة بقوله {أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى} {وتلك الغرانقة العلا. وإن شفاعتهم لترتجى} وقوله {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} فقد ذهب قوم من أهل النظر إلى إنكار ذلك، وذهبوا إلى أن مثله لا يجوز على الأنبياء،

كما لا يجوز عليهم الكبائر. فإن ثبتت الرواية بذلك احتمل وجهين: أحدهما: أن يعني بالغرانقة العلا الملائكة دون الأصنام؛ لأن الملائكة قد جرى ذكرهم، وشفاعة الملائكة ترتجى بقوله {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، وبقوله {فاغفر للذين تابوا اتبعوا سبيلك}. والآخر: أن يُعنى بالغرانقة العلا الأصنام، ولا يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها على الحد الذي أنكره من ذكرنا من أهل النظر، بل يكون على جهة التوبيخ لهم بذلك، كما أنهم يوبخون بعبادة اللات وغيرها وتعظيمهم، فيكون معنى الغرانقة وشفاعتهم ترتجى، أي: الغرانقة العلا عندكم، وشفاعتهم ترتجى عندكم، ويكون هذا مثل قوله {ذق إنك أنت العزيز الكريم} عند نفسك، وكقوله حكاية عن السحرة لموسى {وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك}. فإن قال قائل: كان الساحر في ذلك الوقت يعظم. فهو قول بعيد؛ لأن هؤلاء السحرة آمنوا بدلالة إخبار الله عنهم بذلك في غير موضع. وإذا آمنوا تبينوا بطلان ما كانوا عليه، وأنه لم يكن له حقيقة، فإذا تبينوا ذلك لم يكن الساحر معظماً عندهم، وإن كان معظماً عند غيرهم من

أهل عصرهم، فإذا كان غير معظم عندهم ثبت أن قوله {يا أيها الساحر} عند هؤلاء. فإن قيل: فهذا على غير هذه الجهة، وهو على الحقيقة كقوله {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}. فالذين قالوا {يا أيها الساحر} مؤمنون. قيل: يكونون مؤمنين بدلالة إخبار الله بذلك، وإنما قال {إذا هم ينكثون} وعنى به من لم يؤمن من هؤلاء السحرة وغيرهم دون من آمن؛ لأن هؤلاء سألوا أن يدعو الله لهم، وأخبروا أنهم مهتدون. ونظير هذا أيضاً قوله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} أي: خيراً عندهم؛ لأن ذلك لو نالوه من المسلمين لم يكن ذلك خيراً في الحقيقة. ونظيره أيضاً قولهم {يا أبانا إن ابنك سرق} في من فتح الأول وخفف، أي: سرق فيما نظن وفيما ظهر لنا. ومثله أيضاً قول عالم موسى {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} أي: في غالب ظني، وفي رأيي، وعندي، ونحو ذلك؛ ألا ترى إلى موسى عليه السلام {قال ستجدني إن شاء الله صابراً} أي: في غالب ظني، فلولا أن ذلك على ما قلنا لكان موسى قد أكذبه، وتكذيبه لا يجوز، لأن هذا العبد الصالح نبي لإخباره بالغيب.

ومثل ذلك من الشعر ما أنشدناه بعضهم لجرير في جواب زهرة اليمن وقد قال فيه: أبلغ كليباً، وأبلغ عنك شاعرها ... أنى الأعز، وأني زهرة اليمن ألم يكن في وسومٍ قد وسمت بها ... من حان موعظةٌ يا زهرة اليمين فعلى هذا النحو يكون تأويل "الغرانقة العلا" وروايته، وإذا صح فقد نسخ على وجهة النسيان من الناس له، لا على جهة التبديل له بشيء آخر؛ لأنه ليس بأمر، إنما هون خبر، وإنما نسخ لأنه كان أبلغ في المصلحة. فإن قال قائل: فهلا لم ينزل لئلا يحتاج إلى إنسائه؟ قيل: كان إنزاله في الوقت الذي أنزله فيه أصلح من أن لا ينزل، فلذلك نزل. وتقول: "رأي عيني زيداً يفعل ذلك"، فقولك "يفعل" في موضع نصب على الحال، كقولك "ضربي زيداً قائماً" و "أكثر شربي السويق ملتوتاً". ولو جعلت المصدر للمتعدية إلى مفعولين لم يجز أن لا تأتي له بخبر؛ لأن الحال لد سدّ مسدّ أخبار المصادر، والمفعول الثاني لم يسدّ مسدّ أخبار المصادر، ومن ثم لم يجز "سمع أذني زيداً يقول ذاك" حتى تقول "حسنٌ" أو "حقٌّ" ونحو ذلك؛ لأن "سمعت" إذا عُدّي إلى "زيد" ونحوه، لم يكن له من مفعول مما يسمع زيد، كقولك: سمعت زيداً يقول ذاك، أو: يشتم عمراً، ونحو ذلك من المفعولات التي تسمع.

مضارع رأى على يفعل محذوف الهمزة

فإن قلت: فقد جاء {هل يسمعونكم إذ تدعون}، فعدي إلى المخاطبين، ولم يذكر مفعولاً آخر مما يسمع. فالقول: إن المعنى: هل يسمعون دعائكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى {إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم}. واعلم أن المضارع من "رأى" على "يفعل" مفتوح العين للهمزة التي هي عين الفعل. ويوافق أهل التحقيق أهل التخفيف في تخفيفها، حتى صار التحقيق فيها شاذاً عن الاستعمال، كما بني "يذر" و "يدع" ونحوه مما رفضوه في استعمالهم، وإن كان القياس يوجبه، قال سيبويه: "مما حذف في التخفيف لأن ما قبله ساكن قولك: أرى وترى ويرى، وذلك أن كل شيء أوله زائدة سوى ألف الوصل من رأيت فقد أجمعت العرب على تخفيفه لكثرة الاستعمال، جعلوها تعاقبها زائد المضارعة. وذكر أبو الخطاب أنه يسمع من يقول من العرب الموثوق بهم: قد أرآها". وربما في الشعر كما يجيء "وذر" و"ودع" وإظهار التضعيف الذي لا يظهر في الكلام، فمن ذلك قول سراقة البارقي، أنشده أبو زيد:

أُرِي عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالمٌ بالترهات وأنشد أبو زيد أيضاً: ألم تر ما لاقيت، والدهر أعصرٌ ... ومن يتمل العيش يرأ ويسمع وأنشد: لما استمر بها شيحان مبتجح ... بالبين عنك بما يراك شنآنا وقال: "الشيحان: الغيور، والمبتجح: المفتخر". فأما قول الشاعر: وتضحك مني شيخةٌ عبشميةٌ ... كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً

فينشد على ضربين: كأن لم ترى، بالياء، وكأن لم ترى. فمن أنشد "كأن لم تري"، فعلى أنه خاطب بعد الغيبة كقوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} بعد {الحمد لله}، كما أخبر بلفظ الغيبة بعد الخطاب في نحو {وما آتيتم من زكاةٍ} ثم قال {فأولئك هم المضعفون}. ومثل هذا البيت: تسائل أسماء الرفاق وتبتلي ... ومن دون ما تهوين بابٌ وحاجب ومن أنشد "كأن لم ترى" فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون شبه الألف بالياء فلم يحذفها للجزم، كما لم يحذف الياء في قوله: ألم يأتيك، والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد وكأنه حذف عنها الضمة، ولا يستقيم هذا التقدير في الألف؛ ألا ترى أن كون الحرف ألفاً بمنزلة ثبات الحركة فيها، فإذا كان كذلك لم يستقم تقدير حذف الحركة منها مع ما يوجب إثباتها، لتدافع ذلك، ولكن تقول: إنها

شبهت بالياء هنا كما شبهت الياء بها في الإسكان في موضع النصب كقوله: أكاشر أقواماً حياءً وقد أرى ... صدورهم بادٍ علي مراضها وقال: سوى مساحيهن تقطيط الحقق ... تفليل ما قارعن من سمر الطرق وهذا من مستحسن الضرورة، فكما شبهوا الياء بالألف في هذه المواضع، كذلك شبهت بها في أن لم تحذف في موضع الجزم كما لم تحذف. ومثل ذلك ما أنشده أبو زيد: إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها ولا تملق والوجه الآخر: أن يكون حقق الهمزة من "تري"، وحذف الألف المنقلبة من الياء التي هي لام الجزم، ثم خفف الهمزة، فلم يحذفها

قوله تعالى: (فإما ترين من البشر أحدا)

ويلق حركتها على الساكن، ولكن خففها بقلبها ألفاً على قياس ما حكاه سيبويه في تخفيفهم "الكماة" و"المراة" في "المرأة والكمأة". وأما قوله تعالى {فإما ترين من البشر أحداً} فإنك تقول للمرأة "أنت ترين يا هذه"، فتحذف الألف التي هي منقلبة عن اللام لالتقاء الساكنين، فيصير "ترين" كما تقول "أنت تخشين"، فلما ألحقت الجازم الذي هو "إن" حذفت النون للجزم، فبقيت الياء التي هي علامة الضمير ساكنة، ولقيتها النون الساكنة، وهي الأول من النونين، فالتقى ساكنان، فحركت الياء بالكسر لالتقاء الساكنين، كما تحركه بالكسر مع لام المعرفة وغيرها من السواكن، نحو: لم ترى الرجل، ولم تخشي القوم، فكذلك حركتها مع النون الشديدة بالكسر في قوله {فإما ترين}، ولم ترد اللام التي حذفتها لالتقاء الساكنين لتحرك الساكن الذي كنت حذفت اللام لالتقائها معه؛ لأن تحريكه لالتقاء الساكنين، كما لم ترد في قولك: رمت ابنك، ورمتا؛ لأن التقدير فيما يحرك لالتقاء الساكنين السكون؛ بدلالة قولهم: آردد ابنك، ونحوه. والعم أن قولك للمرأة الواحدة "أنت ترين" الياء فيه علم للضمير، وليست لام الفعل؛ لأن لام الفعل قد حذفت كما أعلمتك. فإن خاطبت بذلك جماعة نسوة فقلت "كيف ترين؟ " فالياء لام الفعل، وليست التي للضمير كما كانت في خطاب الواحدة؛ ألا ترى أن قولنا لجماعتهن "أنت تذهبن" يلي فيه الباء التي هي لام الفعل علامة الضمير والتأنيث التي هي النون، فقياس المعتل من هذا قياس الصحيح. وكذلك لو قلت للواحدة: "كيف ترينك صانعة"؟ لكانت النون علامة الرفع، والياء علامة الضمير. ولو قلت لجماعة

قوله تعالى: (أرنا اللذين أضلانا)

النساء: "كيف ترينكن صانعاتٍ"؟ لكانت النون علامة الضمير، والياء لام الفعل، كما أن الواو في قوله {إلا أن يعفون}، والياء التي في قوله {إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ} لاما الفعل، فلو لحق الجزم والنصب "ترين" و"تأتين" لحذفت النون للجزم والنصب، ولو لحقا فعل الجميع لم يحذف في "لم تضربن" و "يريد أن تضربن". وأما قوله {أرنا اللذين أضلانا}، فأصل وزنه "أفعلنا"، وهو منقول بالهمزةفي رأيت التي هي بمعنى أبصرت، والياء التي هي لام الفعل محذوفة للوقف كما تحذف للجزم ولاجتماع الموضعين على السكون، وإن اختلف السكونان فكان أحدهما إعراباً والآخر بناء. فأما الراء فمتحركة بحركة الهمزة التي حذفت للتخفيف، وألقيت حركتها عليها. ومن قال {أرنا} فأسكن الراء، فإنما شبهها بالإسكان من "كتفٍ" و"علم". ونحوه قول الأخطل:

وإن أهجه يضجر كما ضجر بازلٌ ... من الأدم دبرت صفحتاه وكاهله فشبه المنفصل بالمتصل لما لم يفصل عن الكلمة كما ينفصل عنها ما هو من نفسها. وعلى هذا قالوا {فهو خير لكم} و {لهو خير الرازقين} و {لَهْيَ الحيوان}، لما كانت هذه الحروف لا تنفصل لكون كل واحد منها على حرف واحد، صارت بمنزلة الفاءات، فخففها على ذلك. ومن قال "وهو" و"لهو" لم يقل على هذا {ثم هو} ولا {ثم ليقضلوا} بالإسكان؛ لأن "ثم" مما ينفصل، ولا يلزم أن تكون متصلة بما بعدها لصحة الوقف عليها، فلم تشبه ما هو من نفس الكلمة، فلما عربت من شبه الفاءات لم يجز ما أجيز فيما أشبهها مما هو على حرف.

الأمر من "رأى"

فإن قيل: إن الحركة التي في "أرنا" للهمزة المحذوفة، وهي دلالة عليها، فإذا حذفت لم يبق ما يدل على الهمزة. قيل: إن هذا لا يمنع من هذا الوجه؛ لأن هذا الإسكان لم يلزم الكلمة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "أَرِ زيداً" و "أرِ ابنك" زال هذا الإسكان، وما كان من هذا النحو غير لازم لم يقع به اعتماد، فكأن الحركة ثابتة في اللفظ. فأما مثال الأمر من "رأى" فلم يلزموه التخفيف كما ألزموا المضارع، وذلك أن الزيادة التي لحقته، وهي همزة الوصل، تسقط في الدرج ولا تلزم، فلم تكن مثل حروف المضارعة التي تثبت في الوصل والوقف، فلم تكن بدلاً كحروف المضارعة، فتقول على الإتمام "ارء ذاك"، فتجتلب همزة الوصل لسكون الراء، فإذا خففت الهمزة حذفت، وألقيت حركتها على الراء، فسقطت همزة الوصول لزوال ما كانت اجتلبت له من سكون الحرف، فصار "ر ذاك"، فإن وقفت قلت "ره"، فلحقت الهاء للوقف، لا يكون غير ذلك. وزعم سيبويه أن الأكثر في الوقف على "ارم" و "اغز" و "اخش" بإلحاق الهاء، قال: "ومنهم من لا يلحق الهاء، ويسكن الحرف، فيقول: اغز، وارم، واخش". قال "فأما إن تق إقه، وإن تع أعه، فكلهم يقف عليه بالهاء". فإذا لم يقفوا على "عه" إلا بالهاء، كان أن لا يقفوا على "ره"

إلا بالهاء أولى. وهذا يؤكد ما قلته من أن "عه" ونحوه لا ينبغي أن يكتب إلا بالهاء؛ لأن الخط فيه على حسب اللفظ به. ولو سمي رجل بـ "ره" إذا أمرت من "رأيت" لكان قياس قول سيبويه - عندي - "رأى كما ترى". أما الفاء فتكون مفتوحة؛ لأنه كذلك كان قبل الرد، وهو يترك الحركة في الحرف بعد الرد على حاله قبل الرد، فمرة قال "ياوشى" إذا رخَّم "شية" على "يا حار". وكذلك تقول في الإضافة إلى يدٍ، وغدٍ: يدوي، وغدوي. فلما كانت هذه الراء مفتوحة قبل الرد، تركها على فتحها، وحرك الهمزة بالفتح؛ لأن أصلها قبل الحذف التحرك بالفتح؛ ألا ترى أنه كان "إرأى" في النكرة. وإنما كان كذلك لأنه إذا رد إليه ما له حذف منه ما لم يكن له؛ ألا ترى أنه لما حرك العين من "شية" بحركة الفاء، ورد الفاء إليها، أسكن العين، فكذلك هنا في "ره" إذا رد العين أسكن الفاء؛ لأنها كانت متحركة بحركة العين، كما كانت العين من "شية" متحركة بحركة الفاء، فلما رد الفاء سكن العين. وكذلك إذا رد العين في "افعل" أسكن الفاء في "إرأى". فإذا أسكن الفاء اجتلب همزة الوصل وقطعها للتسمية بها، فصار مثل "إصبع"، فيلحقه التنوين في النكرة، فيكون "إرأى"، ولا يلحقه في التعريف. ولو سميت رجلاً "يرى" ثم حقرته لكان "يريءٍ"، وجاز أيضاً

"يريُّ". فوجه القول الأول أنه على قول من قال في "يضع": "يويضع"، وفي "هارٍ": "هويئر"، فرد الساقط وإن كان بناء التحقير بغير رد يتم. وكذلك رد العين في "يرى" في التحقير. ومن قال في "أحوى": "أُحي" فإنه يقاول هنا "يريٍ"؛ لأن الياءات لم يجتمعن هنا كما اجتمعن في تحقير "أحوى"؛ ألا ترى أن الوسطى الواقعة بعد ياء التحقير بدل من الهمز، وأن تخفيفه تخفيف قياسي. فإذا كان كذلك كانت الهمزة كأنها باقية في اللفظ، كما أنها في "رويا" وفي "ضوءٌ" كذلك؛ ألا ترى أن الواو في الأولى ثبتت، وفي الآخرة صحت، كما أن الهمزة لو ثبتت كانت كذلك، فكما أنه لو كانت الهمزة في "يرىٍ" ثابتة لصحت الياءات وثبتت فلم تحذف، فكذلك إذا خففتها ثبتت وصحت؛ لأن التخفيف كالتحقيق للدلالة التي وصفنا. وأما وجه من قال "يريُّ" فعلى من قال في "يضع": "يضيع"، فلم يرد الساقط من حيث لم يحتج إليه لما لم يكن بالبناء وصحته افتقار إلى رده، فالياء الآخرة لام أدغم فيها ياء التحقير. ولم يصرف لأنه وزن فعل ومعرفة، ومثاله من بناء التحقير "فُعيل"، ومن الفعل "يُفيل".

اسم الفاعل من أرى

فأما قولنا "مرٍ" في اسم الفاعل من "أرى"، فإن الخليل ويونس يختلفان في الوقوف على اسم الفاعل في النداء إذا كان معتل اللام فقط، فيقول الخليل "يا قاضي"، فيثبت الياء في الوقف؛ لأن هذه الياء تثبت في الوصل ولا تسقط. وأما يونس فيقول "يا قاض" في الوقف، يحذف الياء لأن النداء موضع تخفيف وحذف؛ الا ترى أن فيه الترخيم. وقالا جميعاً في اسم الفاعل من "أرى": "هذا مُرِي"، فوقنا بالياء. فالخليل على أصله في قوله "يا قاضي"، وأما يونس فإنه كره أن يحذف الياء في هذا الاسم كما حذفه من قاضٍ؛ لبقاء الكلمة لا شيء فيه من أصل بنائها إلا حرف واحد. فهذه جملة من القول على لفظ "رأى" وما تصرف منه. وهذا ذكر القول على خطه. قد تقدم أن الألف في "رأى" منقلبة عن الياء، وما كان من بنات الثلاثة معتل اللام بالانقلاب إلى الألف، لم يخل من أن يكون منقلباً عن ياء أو واو. فما كان من الواو على ثلاثة أحرف، فلا اختلاف في كتابته بالألف اسماً كان أو فعلاً، فالاسم نحو "عصاً" و "رجاً"، والفعل نحو "غزا" و "دعا". وما كان من الياء فالكُتَّاب وكثير من غيرهم يكتبونه بالياء، وإن كان في اللفظ ألفاً كالمنقلب عن الواو. وقالوا: إنما كتبناه بالياء لنفصل بذلك بين ما كان منقلباً من الياء، وبين ما كان منقلباً من الواو، فيعلم بكتبنا "يسعى" بالياء أن الألف منقلبة عن الياء، كما يعلم بكتبنا "رحى" أن الألف في الأصل ياء بدلالة "رحيت"، وقولهم في تثنية

"رحى": ......................... ... ................... رَحَيَامُدِيِر فقيل لهم: أرأيتم إن كتبتم فيما كان من الياء بالياء وإن لم يكن في اللفظ كذلك؛ لتدلوا على أن الأصل فيها الياء، هلا كتبتم ما كان بالواو أيضاً بالواو لتدلوا على أن الأصل الواو؟ فإن قالوا: اتباعنا الفصل في أحد النوعين يعلم به أن الآخر على خلافه؛ الا ترى أنه ليس الانقلاب إلا عن أحد هذين الحرفين، فإذا كتب ما كان أصله الياء بالياء، علم أن المكتوب بالألف من الواو. قيل لهم: فهلا أجريتم ذلك على عكس ما فعلتموه، فرددتم ذوات الواو إلى الأصل دون ذوات الياء، فكتبتموها بالواو كما كتبتم ذوات الياء بالياء، فلم يعلم في ذلك فصل بيّن. فإذا كان الأمر على هذا، فالقياس أن يعتبر في ذلك اللفظ، فيكتب على ما عليه اللفظ، ولا يعتبر الأصل المنقلب عنه كما فعل ذلك في هذين الحرفين. وكذلك "قال" و "باع". وكذلك "موسر" و "موقن"، فكتبوا ذلك كله على اللفظ في غير هذا الموضع؛ ألا ترى أنهم كتبوا "سقاء" و "غزاء" ونحو ذلك على صورة واحدة، ولم يفصلوا بين الهمزة المنقلبة عن الياء، والهمزة المنقلبة عن الواو، ولا بين الألفين المنقلبتين عنهما غير لامين، فكذلك كان القياس في الألف أن تكتب ألفاً في

الموضعين جميعاً؛ ألا ترى أن سائر الحروف التي تبدل إنما تكتب على ما عليه اللفظ بالحرف دون المبدل منه، ونحو "اصبر" و "اظلم" إنما تكت صاداً أو ظاء، ولا تكتب تاء وإن كان الأصل فيها تاء "افتعل". فإذا لم يجروا الأمر في "دعا" و "سعى" على القياس، فكتبوه ياء مع أن القياس أن يكون بالألف، وفعلوا ذلك إذا لم يتصل به مضمر منصوب، فواجب ألا يكتب إذا اتصل المضمر المنصوب إلا بالألف على القياس وأصل ما كان ينبغي أن يكون عليه الخط، ولا يستقيم أن يكتب إلا على القياس لرفضهم غيره في هذا الموضع. فإن قيل: إن كتابة هذا الضرب تجوز بالياء قياساً على ما كتبوا في المصحف {إحداهما} بالياء مع أنه متصل بالضمير، فكذلك تكتب "رآه": "رأنه" [و "رمان": "رمه"] بالياء لاجتماع الحرفين في أنهما ألفان، وكل واحدة من الكلمتين اللتين هما فيه متصل بالضمير. قيل: لا يستقيم كتابة هذا النحو قياساً على ما ثبت في المصحف من هذا؛ ألا ترى أنه قد ثبت في المصحف أشياء قد ترك الناس القياس عليها اليوم، فلم يكتبوا (الملأ) على هذه الصورة، وهي "الملؤا" وإن كان قد ثبت في بعض المصاحف كذلك. فكذلك لا يقاس على ما ثبات في المصحف من هذا، ولكن يكتب على أصل القياس وما عليه اللفظ. ويؤكد ذلك اتصاله بالضمير، والاتصال بالضمير من المواضع التي ترد فيها الأشياء

إلى أصولها؛ ألا ترى أن من كسر اللام الجارة مع الأسماء المظهرة نحو "لزيدٍ" إذا وصلها بالضمير فتحها، فقال "هذا له" ومن قال "أعطيتكم مالاً" إذا وصله بالضمير قال "أعطيتكموه". وعلى هذا جاء {أنلزمكموها}. ومن قال "قمت اليوم" فنصبه نصب الظرف، قال إذا كنى عن اليوم في الإخبار "الذي قمت فيه اليوم". فكما ردت هذه الأشياء إذا اتصلت بالضمير في اللفظ إلى الأصل، كذلك ينبغي أن يرد في الخط مع اتصال الضمير إلى الأصل؛ لأن الخط يجري مجرى اللفظ؛ لقيامه مقالمه، وكونه بمنزلته. وما يدل على ذلك أنهم كتبوا نحو "قرؤوا" و "كفروا" بألف بعد واو الضمير، وهذه الألف كان القياس فيها ألا تكتب لأنها ليست في اللفظ، فلما وصلوه بالضمير كقولهم "لم يضربوه" {وما يفعلوا من خيرٍ فلن يكفروه}، فأسقطوا الألف مع الضمير، ورد إلى الأصل معه، كذلك ينبغي أن يكتب "رآه" و "رماه" بالألف، ولا يجوز غيره، كما لم يجز إلا ترك إثبات الألف بعد الواو في قولهم "لم يضربوه" فيرد إلى القياس في الموضعين جميعاً من أجل الاتصال بالضمير. فإذا كان كذلك كان الصواب في كتابه "رآه" و "رماه" وما أشبه ذلك أن يكتب بالألف دون الياء.

مسألة في آمين

مسألة في آمِين اختلف في "آمين"، فقال قائلون: إنه اسم من الأسماء التي يسمى بها الفعل، نحو "صه" و "مه" و"إيه" و"رويد"، وما أشبه ذلك وقال قائلون هو اسم من أسماء الله. فمما يدل على أنه اسم سمي به الفعل ما روى حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله {قد أجيبت دعوتكما} قال: كان موسى يدعو وهارون

يؤمن. وروى حجاج عن ابن جريج عن عكرمة قال: أمَّن هارون على دعاء موسى، فقال الله {قد أجيبت دعونتكما فاستقيما}. فكما أن قول موسى {ربنا اطمس على أموالهم} جملة مستقلة وكلام تام، ولولا أنه كذلك لم يكن هارون داعياً؛ لأن من تكلم باسم مفرد أو كلمة مفردة لم يكن داعياً، كما لا يكون آمراً؛ الا ترى أن الدعاء لفظة كلفظ الأمر، فقول القائل "اللهم اغفر لي" في اللفظ، كقوله لصاحبه "أذهب بي"، إلا أنه استعظم أن يقال في الدعاء إنه أمر. فكما أن قولهم صه بمنزلة: اسكت، ومه بمنزلة: أكفف، كذلك قولهم في الدعاء: آمين، بمنزلة: استجب. وفيه ضمير مرفوع بأنه فاعل، كما أن في سائر هذه الأسماء التي سمي بها الفعل أسماء مضمرة مرتفعة بذلك. ويدل على ذلك ما رواه عبد الوهاب عن إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن إذا سئل عن "آمين" قال: تفسيرها: اللهم استجب. عبد الوهاب عن عمرو بن عبيد عن الحسن في "آمين": ليكن ذلك.

ومن حيث كان دعاء لما ذكرنا، أخفي في قول أبي حنيفة وأصحابه في الصلاة ولم يجهر به؛ لأن المسنون في الدعاء الإخفاء، بدلالة قول الله تعالى {ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً}، ولما روي من قول النبي عليه السلام من أنه قال لقوم رافعي أصواتهم بالدعاء: "إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً"، وإن الذي تنادونه أقرب إليكم من رؤوس مطيكم". ومما يدل على أن هذه الأسماء المسمى بها الفعل فيها ضمير فاعل، كما أن في قولنا "اضرب" وما أشبهه من أمثلة الأمر ضمير فاعل، أنك لما عطفت عليه المرفوع أكّدته، كما أنك لما عطفت على المضمر المرفوع في مثال الأمر أكدته، وذلك نحو قوله {مكانكم أنتم وشركاؤكم} لما عطفت "الشركاء" على "مكانكم"، وكان قوله (مكانكم) بمنزلة قوله "اثبتوا" واسماً لهذا الفعل، أكد بـ (أنتم)، كما أنه لما عطف على المضمر المرفوع في مثال الأمر أكد في قوله تعالى {فاذهب أنت وربك فقاتلا} و {اسكن أنت

وزوجك الجنة}. فإذا ثبت احتمال هذه الأسماء المسمى بها الفعل الضمير، كما احتملته أمثلة الأمر، ثبت أنها جمل، وإذا كانت جملاً لم يصح أن تكون من أسماء الله سبحانه، وأن القائل بذلك مخطئ لادعائه ما لا دليل عليه وما قامت الدلالة على فساده؛ ألا ترى أن أسماء الله سبحانه ليس فيها ما هو جملة، وأنها كلها مفردة، نحو قولنا "شيء"، وما عداه من الأسماء على حرفين، وهي على ضربين: أحدهما ما كان صفة نحو عالم، وقادر، ورازق. والآخر ما كان مصدراً نحو الإله، والسلام، والعدل. فإذا لم تخل من هذين الضربين، ولم يكن "آمين" من واحد منهما، ولا اسماً غير وصف ولا مصدراً كقولنا "شيء"، ثبت أنه ليس منها. فأما ما روي عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور عن هلال بن يساف، قال: آمين اسم من أسماء الله. وروى شريك عن ليث عن

مجاهد مثله، فإن تأويله عندنا أن هذا الاسم لما تضمن الضمير المرفوع الذي وصفنا، وكان ذلك الضمير مصروفاً إلى الله سبحانه، قال: إنه اسم الله على هذا التقدير، ولم يرد أن الكلمة اسم من أسماء الله تعالى دون الضمير، كعالم، ورازق. فإذا احتمل هذا الذي وصفت لم يكن فيما روي عن مجاهد حجة لمن قال إن جملة الكلمة اسم. ومما يدل على أنه ليس باسم من أسماء الله، وأنه من أسماء الأفعال على ما ذكرت، أنه مبني [كما أن هذه الأسماء الموضوعة للأمر مبنية، وليس في أسماء الله تعالى اسم مبني] على هذا الحد. فلما كان هذا الاسم مبنياً كـ "صه" و "إيه" ونحوهما، دل ذلك على أنه بمنزلتها، وليس من أسماء القدير سبحانه، إذ ليس من أسمائه اسم مبني على هذا الحد. فإن قال قائل: فقد حكى سيبويه وجميع البصريين "لهي أبوك" وزعم أنهم يريدون به "لله أبوك". وهذا الاسم مبني؛ لأنه لا يخلو من

أن يكون على قول من قال "الله لأفعلن"، فأضمر حرف الجر. أو على قول من قال: ألا رُبَّ من قلبي له - الله - ناصحٌ ...................... فأوصل الفعل لما حذف الجار، وأعمله، فبيّن أنه ليس على إضمار حرف الجر إذ هو مفتوح في اللفظ. وليس أيضاً على قول من قال: ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ....................... لأنه ليس بمنون، وليس من نحو "إبراهيم" و "عمر" فيكون مفتوحاً في موضع الجر، أو منصوباً بلا تنوين، نحو "رأيت عمر" لتعري الاسم مما يمنع الصرف. فإذا لم يكن على شيء من هذه الأنحاء التي ينبغي أن يكون المعرب عليها، ثبت أنه مبني، وإذا كان مبنياً لم يمنع أن يكون "آمين" اسماً مثله وإن كان مبنياً. قيل له: إنما بني هذا الاسم الذي حكاه سيبويه لتضمنه معنى

التعريف؛ ألا ترى أنه زعم أنهم أرادوا به "لله أبوك"، فلما لم يذكر لام المعرفة لم تضمن الاسم معناها، بني كما بني "أمس" لما تضمن معنى الألف واللام، وكما بني "خمسة عشر" لما تضمن معنى حرف العطف، و"كم" و"كيف" و "أين" لما أغنت عن حروف الاستفهام، والاسم إذا تضمن معنى الحرف بني. فأما "آمين" فلم يتضمن معنى الحرف على هذا الحد، ولا على نحو "كيف" و "كم"، وإنما بني كما بني "صه" و "مه" و "تراك" و "نزال" و"حذار" ونحو ذلك من الأسماء التي تستعمل في الأمل للخطاب. وحكى قُطرُب "له أبوك" بإسكان الهاء. وهذا صحيح في القياس مستقيم، وذلك أنه لما وجب البناء، وحرك الأخير منه بالفتح لالتقاء الساكنين، ثم حذف حرف اللين الواقع موقع اللام، كما حذف في نحو "يدٍ" و "دمٍ"، وبقي على حرفين، زال التقاء الساكنين، فبني على السكون لزوال ما كان يوجب التحريك من التقاء الساكنين.

فإن قال قائل: فهلا بني على الحركة وإن كان على حرفين؛ لأنه قد جرى متمكناً في غير هذا الموضع، كما بني "عل" عند سيبويه على الحركة في قولهم "من عل" وإن كان على حرفين، [تجريه] [غير متمكن مجراه] متمكناً قبل حال البناء. قيل: لم يشبه هذا "عل"؛ لأن "عل" ونحوه مما ليحقه الإعراب والتمكن على اللفظ الذي هو عليه، و"له" من قولهم "له أبوك" لحقه الحذف من شيء لم يتمكن قط في كلامهم. فإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون مثل "عل" لمفارقته لـ "عل" في أنه لم يجر الاسم المحذوف هنا عنه متمكناً. فلما كان كذلك صار بمنزلة حذفهم "مذ" من "منذ" في أن المحذوف مبني كما أن المحذوف منه مبني، وفي أن المحذوف يسكن لزوال ما له حرك بالحذف، وهو التقاء الساكنين. فأما قوله تعالى {مكانكم أنتم وشركاؤكم} فالقول فيه إنه مبني غير معرب من حيث صار اسماً للفعل، كما كان "صه" و "هلم" ونحوهما مبنية.

فإن قلت: إن (مكانكم) منصوب، والنصبة فيه ظاهرة. قيل: ليست هذه الفتحة بنصب، وذلك أن انصابه لا يخلو من أن يكون بعامل عمل فيه بعد أن جعل اسماً للفعل، أو أن يكون بعد التسمية به في الانتصاب على ما كان عليه قبل ذلك. فلا يجوز أن يكون انتصابه الآن وقد سمي به الفعل على ما كان قبل؛ ألا ترى أن تقديره معمولاً لذلك العامل واتصاله به، لا يصح كما يصح اتصاله به في المواضع التي لا يكون فيها اسماً للفعل، وذلك قولك "زيد مكانك" و"الذي مكانك زيد" فهذا سد مسد الفعل الذي عمل فيه، وأغنى عنه من حيث كان تقدير العامل الذي تعلق به هذا الظرف في الأصل غير ممتنع، نحو: زيد استقر مكانك، أو مستقر، والذي استقر مكانك. ولو قدرت هذا العامل في الموضع الذي سمي الفعل به، لم يتعلق [به] على حد تعلق الظروف والمعمولات بعواملها؛ ألا ترى أنك إن علقته بها على أن ظرف بطل أن يكون جملة، وزال عنه معنى الأمر، فإذا كان كذلك لم يتصل به بعد أن صار اسماً للفعل كما كان يتصل به قبل، وإذا لم يتصل به لم يكن معمولاً له، وإذا لم يكن معمولاً له لم يجز أن يكون، وهو اسم للفعل، معرباً بالإعراب الذي [كان] يعرب به قبل.

ولا يجوز [أيضاً] أن يكون انتصابه بعامل عمل فيه بعد أن جعل اسماً للفعل، وذلك أنه بمنزلة أمثلة الأمر، وهو نفسه العامل، كما أن مثال الأمر نفسه العامل، فكما أنه لا عمل لشيء في أمثلة الأمر، كذلك ما اقيم مقامه [نحو] "عليك زيدا" و "ضربك" و "عندك"، تأمره به، [قال سيبويه] حدثنا [بذلك] أبو الخطاب. [والمتعدي "حذرك زيداً"، و"حذارك" لا يتعدى، و"فرطك" تحذره من شيء بين يديه، أو تأمره أن يتقدم، و"أمامك" تحذره بين يديه، و"وراءك"]. فإن قلت: إن الأفعال المضارعة عاملة في فاعليها، ولم يمنعها ذلك من أن تكون معمولة لعوامل أخر، فكذلك ما تنكر أن لا يمنع كون "مكانك" ونحوه عاملاً في الفاعل المضمر فيه أن يكون هو نفسه أيضاً معمولاً لغيره، كما لم يمنع المضارع أن يكون معمولاً لغيره وإن كان عاملاً في فاعله.

قيل: إن المضارع لما أشبه الأسماء، ووقع موقعها في بعض المواضع الذي تعرب فيه، لم تمنع أن يعرب للمشابهة التي بينه وبين الاسم على ما ذكر في مواضع ذلك. وهذه الأسماء إذا سمي بها الفعل تخرج بذلك عن أن تقع مواقع الأسماء، فوجب بناؤها لوقوعها موقع ما لا يكون إلا مبنياً، كما بني قولهم "فداءً لك" لما وقع موقع الأمر، وكما بني المضارع في قول أبي عثمان لما وقع موقع فعل الأمر نحو {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة}، فكما بنيت هذه الأشياء لوقوعها موقع فعل الأمر، كذلك بني "دونك" و"حذرك" ونحوه لوقوعه موقع [فعل] الأمر؛ لألا ترى أنهم بنوا "رويد" في هذا الباب مع أنه مصغر، فما عداه من هذه الأسماء أجدر بالبناء. وإذا كان كذلك لم يجز أن يعرب "مكانك" بإعراب بعد ما سمي به الفعل، فإذا لم يجز أن يعرب بما كان معرباً به قيل أن سمي به الفعل، ولم يجز أن يعرب شيء بعدما سمي به، ثبت أنه غير

معرب، وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش. وإذا لم يكن معرباً كان مبنياً، ولم يجز أن يكون في موضع رفع ولا نصب ولا جر؛ لأن ما يعمل في الأسماء لا يعمل فيه الآن. فأما ما يعمل في الفعل فلا يعمل فيه أيضاً؛ لأنه ليس بفعل، وإذا كان كذلك ثبت أنها غير معربة. فأما تحرك بعض هذه الأسماء بحركة كانت يجوز أن تكون للإعراب نحو "مكانك" و "حِذرك" و"فرطك"، فإن ذلك لا يدل على أنها معربة؛ ألا ترى أن الحركات قد تتفق صورها وتختلف معانيها، كقولك "يا منص" في ترخيم رجل اسمه "منصور" على قول من قال "يا حارِ" و"يا حارُ". وكذلك من قال "درع دلاصٌ" و"أدرع دِلاصٌ" لا تكون الكسرة التي في الجميع الكسرة التي في الواحد؛ لأن التي في الواحد مثل التي في كِناز" و "ضِناك"، والتي في الجمع مثل التي في "شِراف" و "ظِراف". وكذلك قوله تعالى {في الفُلك المشحون}، فضمة الفاء

مثل ضمة "قُفل" و "بُرد". وقوله {والفُلك التي تجري في البحر} ضمة الفاء منه للجمع على حد "أسد" و "أُسد" و"وثن" و "وُثن". فكذلك لا ينكر أن تتفق الحركتان في "مكانك" ويختلف معناهما بما ذكرنا من الدلالة، فتكون، إذا كان ذلك ظرفاً أو مصدراً، حركة إعراب، وإذا كان اسماً للفعل حركة بناء؛ ألا ترى اتفاق حركة الإعراب وحركة البناء في {ابن أم} و"لا رجل عندك"، فكذلك اتفاقهما في "مكانك" ونحوه.

وفي "آمين" لغتان. "أَمين" على وزن "فعيل"، و"آمين" على وزن "هابيل" و "حاميم". فأما الذي وزنه "فعيل" فلا إشكال فيه لأنه على وزن يكون عليه أوزان الكلم العربية كثيراً. وأما الممدود فقال أبو الحسن الأخفش فيه: إنه اسم أعجمي مثل "شاهين". وقال: "فإن سميت به رجلاً لم ينصرف". وقال محمد بن يزيد: "آمين على مثال عاصين". فأما وجه قول أبي الحسن "إنه أعجمي"، فإنما قال ذلك لأنه وزن لم يجئ عليه شيء من العربي، وإنما جاء في العجمي نحو "هابيل" و "قابيل"، فلما لم يجئ مثاله في العربي، ووجد ما جاء على مثاله غير مصروف في المعرفة، كما أن سائر الأعجمية كذلك، حكم فيه بالعُجمة. فمما جاء على مثاله غير مصروف ما أنشده سيبويه:

يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم وقال: وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها مني تقي ومعرب وقال: أو كتباً بُيِّنًّ من حاميما

وللقائل أن يقول: إنه ليس بأعجمي، وذلك أن الأعجمية لا تخلو من أحد أمين: إما أن تكون اسم جنس نحو "النيروز" و"الفرند" و"اللجام"، أو علماً كـ"إبراهيم" و "إسماعيل" و "إسحاق". فإذا لم يخل العجمي من هذين الضربين، ولم يكن "آمين"، في من مد الألف، على واحد منهما، دل ذلك على أنه ليس بأعجمي؛ ألا ترى أن هذا البناء بعينه في الأعجمية، لم يعد ما جاء منه من أن يكون على هذين النحوين. فما جاء من أسماء الأجناس فنحو "شاهين". وما جاء منه من أسماء الأعلام فنحو "هابيل" و"قابيل"، و"حاميم" من هذا النحو؛ ألا ترى أنه اسم سور مختصة. فأما "آمين" فبمنزلة ما ذكرنا من الأسماء المصوغة للأمر في المواجهة نحو "آفعل"، فكما أن تلك الأسماء الأخر عربية، فكذلك "آمين". فأما لحاق هذه الألف فيه، وزيادة البناء بها على لفظ "آمين" الذي هو على وزن "فعيل" فلحقت هذه الألف كما لحقت في قول ابن هرمة: وأنت من الغوائل حين تُرمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح وإنما هو "مفتعل" من "نزح" إذا بعد. وقد يكون على هذا قوله:

ينباع من ذفرى غضوبٍ .......... ... ............................ إنما هو المضارع من "نبع"، ولا تجعله "ينفعل" وإن كان على لفظ ينقاد؛ لأن ذلك الوجه كأنه أظهر في المعنى. وكما أنشد أحمد بن يحيى: وأنني حوثما يثني الهوى بصري ... من حوثما سلكوا أدنوا فأ، ظور وإنما أراد "أنظر" فزاد واواً. فكما لا يسوغ لقائل أن يقول إن "منتزاح" و"أنظور" أعجميان؛ لأنه ليس في الأسماء شيء على "مفتعال" ولا في

الأفعال شيء على "أفعول" فكذلك لا يسوغ أن تقول ذلك في "آمين" في من ألحق الألف بعد الهمزة. فأما قول الأعشى: أمن جبل الأمرار صرت خيامكم ... على نبأٍ أن الأشافيَّ سائل فيحتمل "الأُشافيّ" ضربين من الوزن: أحدهما: أن يكون على مثال "أُجارد" في الأسماء، و"أُباتر" و"أُدابر" في الصفة، فيكون على هذا "أُشافٍ" إلا أنه زاد ياء كما زيدت واو في "أنظور"، وألف في "منتزاح". ويجوز أن يكون الياءان للإضافة مثل "سدادسي". وعلى هذا يتجه عندي ما أنشده سيبويه للفرزدق:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف ألا ترى أن الواحد منه ليس على "افعلال" ولا "فعليل" ولا "فعلول" فتكون الياء في الجمع بدلاً من هذه الحروف اللينة كـ"قراطيس" و "بهاليل" و "قناديل" وإنما واحده "درهم" وليس كـ"خواتيم" لأنهم قد قالوا "خاتام". فكما زيدت هذه الحروف اللينة في هذه المواضع التي ذكرنا ولم يوجب ذلك في شيء منها بخروجها عن أبنيتهم أنها أعجمية، كذلك إذا زيدت في "آمين" لم يجب أن تكون أعجمية، بل قد ثبت أن "أمين" على وزن كثير في كلامهم، و"آمين" مثله، كما أن منتزاح مثل "منتزح"، والكلمة عبية كما أن أخواتها من نحو "دراك" و "صه" عربية. فأما قوله تعالى {فما استكانوا لربهم} [و] {وما ضعفوا وما استكانوا} فلا أحمله على أنه "افتعلوا" من "السكون"، وزيدت الألف كما زيدت في "منتزاح"، ولكنه - عندي - "استفعلوا" مثل "استقاموا"، والعين حرف علة؛ ألا ترى أن حرف العلة قد ثبت في اسم الفاعل منه نحو.

قول ابن أحمر: فلا تصلي بمنطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكينا فأما قول محمد بن يزيد "آمين بمنزلة عاصين"، فالذي اراد به - عندي - أن يعلم أن الميم من "آمين" خفيفة، كما أن الصادق التي هي عين من "عاصين" خفيفة، ولم يرد أن وزن "آمين" كوزن "عاصين"، ولا أن النون في "آمين" فتحت من حيث كانت نون جمع، كما فتحت في "عاصين" بهذا المعنى؛ لبعد ذلك وفساده؛ ألا ترى أن المعنى في "أمين" و "آمين" واحد، وقد ثبت أن النون من "أمين" في موضع اللام من "فعيل"، فيجب أن تكون من "آمين" مثله في أنه في موضع اللام. ولو جعلته جمعاً مثل "عاصين" للزم أن تكون اللام منه حرف علة محذوفاً لالتقاء الساكنين، كما أنه من "عاصين" كذلك، فهذا يلزم منه أن يكون "آمين" من لفظ آخر غير "آمين". وامتنع ذلك من وجه آخر، وهو أن الناس في هذه الكلمة على قولين: أحدهما أنه اسم سمي به الفعل. والآخر أنه اسم من أسماء الله. فإن كان اسماً من أسماء الله فالجمع فيه كفر. وإن كان اسماً سمي به الفعل لم يجز أيضاً؛ لأن الأسماء التي سميت بها الأفعال لم يجئ شيء منها مجموعاً جمع تصحيح ولا تكسير، وذلك أن الجمع لو لحقها لم يخل من ثلاثة أضرب: إما أن يلحق الأسماء مجردة من الضمير، أو الضمير مجرداً من الأسماء، أو يلحق الأسماء والضمير معاً. فلا يجوز أن يلحق بالأسماء مجردة من الضمير؛ لأنها إذا سميت بها

الأفعال صارت بمنزلة الأفعال، كما صارت بمنزلتها في البناء، فكما لا تجمع الأفعال، كذلك لا تجمع هذه الأسماء لكونها بمنزلتها. فإن قلت: إن أسماء الفاعلين لم يمنعها مشابهتها الأفعال أن جُمعت، فلا جاز ذلك في هذه الأسماء أيضاً؟ قيل: إن هذه الأسماء لما أجريت مجرى الفعل في البناء، كذلك أجريت مجراه في ترك جمعها وتثنيتها؛ ألا ترى أن هذا النحو من المبني لا يُجمع ولا يثنّى. فأما أسماء الفاعلين، فلما كانت كسائر الأسماء المتمكنة، ثُنيت وجمعت تثنيتها وجمعها، ولم يمنع من جمعها ما يتضمن من ضمير ما يجري عليه؛ لأن ذلك الضمير لما لم يسد مسد الجمل، كان اسم الفاعل به بمنزلة المفرد الذي لا ضمير فيه نحو "رجل" و"ثوب"؛ ألا ترى أنها لم تقع صلاة للموصولات، وليست هذه الأسماء المسمى بها الفعل كذلك؛ لأنها مع ما تضمنته من الضمير بمنزلة تلك الأفعال التي هي أسماء لها مع ضمير فاعليها. فمن هنا افترقت هذه الأسماء وأسماء الفاعلين. ولا يجوز أن يكون الجمع لاحقاً للضمير؛ لأن الضمير إذا تضمنه الفعل وما كان بمنزلته فأظهر، لم يظهر على هذا الحد، إنما يظهر على حد ما يكون في الأفعال؛ ألا ترى قولهم "هاء" و "هاءا" و "هاءوا" و"هاؤما". ولا يجوز أيضاً أن يكون لاحقاً لهما جميعاً؛ لأنها جمل، والجمل لا تثنى ولا تجمع، وإنما يثنى أحد أجزائها تارة وجزآها أخرى. فإن قلت: أوليس في أسماء الفاعلين عندكم والصفات المشبهة بها

أسماء مرفوعة، وقد لحقها الجمع والتثنية، فما تنكر أن يلحق الجمع هذا الاسم كما لحق أسماء الفاعلين؟ قيل: إن الجمع والتثنية اللذين لحقا اسماء الفاعلين، إنما لحقا الأسماء دون الضمير الذي فيها، ولم يمنع تضمنها الضمير من جمعها لما وصفت؛ ألا ترى أن علامة التثنية والجمع تنقلب وتختلف لاختلاف العوامل، كما تختلف في "رجلين" ونحوه مما لا مناسبة بينه وبين الفعل؛ ولو كان لاحقاً لضمير لم يختلف هذا الاختلاف، كما لم تختلف علامة الضمير في "يذهبان" و "يذهبون" ونحوه. فانقلاب حروف الإعراب واختلافها في هذه الأسماء، دلالةٌ على أن التثنية والجمع لاحق لها من حيث كانت أسماء، ولم يلحق الضمير. فأما قول الأخفش: إنك إذا سميت بـ "آمين" رجلاً لم يصرفه. فإن قال [قائل]: إنما أحد السببين المانعين من الصرف التعريف، فما السبب الثاني المنضم إلى التعريف، وليس "آمين" بمنزلة "هابيل" في أنه اسم جرى معرفة في كلام العجم، فتمنعه الصرف كما منع "إبراهيم" ونحوه؟ قيل: يجوز أن تقول: إنه لما لم يكن اسم جنس كـ"شاهين" أشبه المختصة، فامتنع من الصرف كما امتنعت. وهذا الشبه فيما

لا ينصرف معمل؛ ألا ترى أنهم شبهوا "عثمان" في التعريف بـ"سكران". ومن كان "آمين" عنده عربياً فالقياس أن يصرفه إذا سمى به رجلاً على قول بني تميم، ولا يمنعه خروجه عن أبنية كلامهم من الانصراف؛ لأنه يصير بمنزلة عربي لا ثاني له من وزنه نحو "انقحل"ٍ أي: يابس. وعلى قياس قول أهل الحجاز ينبغي أن يحكى؛ ألا ترى أنهم لو سموا رجلاً بـ"فعال" لحكوه ولم يعربوه كما أعربه الأولون. ولو سميت رجلاً "ينباع" من قوله: ينباع من ذفرى غضوبٍ ... .................. وأنت تريد "ينبعي" للزم أن تصرفه؛ لأن حرف المد هنا كحرف المد في "يعسوب" و"يعضيد"، فكما تصرف هذين لو سميت بهما رجلاً، كذلك تصرف "ينباع". ولو سميته بـ"أنظور" للزم أن تصرفه؛ لأنه ليس على وزن الفعل، وإن كان المراد به الفعل؛ لأن البناء الموجب لمنع الصرف قد زال؛ ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بـ"تضارب" وحقرت، لقلت "تضيرب"، فلم تصرف لموافقته في التحقير بناء الفعل، فكما لم تصرف هذا لموافقته الفعل في

باب: ذكر أبنية الأفعال

المثال، كذلك تصرف "أنظور" لخروجه بالمدة الزائدة عن أمثلة الفعل. وأن لا تجد له مثالاً على وزنه في كلامهم، لا يمنع من الانصراف، كما لم يمنع منه ما ذكرنا من الأبنية المفردة، نحو "إنقحل" و"زيتون" و"كديون"، وما أشبه ذلك. باب ذكر أبنية الأفعال الأفعال على ضربين: ثلاثي ورباعي، فالثلاثي ما كان على ثلاثة أحرف نحو "جلس، وضرب، وشرب، وظرف، وعلم"، وهذه الثلاثية على وجهين: أحدهما صحيح والآخر معتل، فالصحيح منهما ما لم يكن فيه ياء ولا واو نحو ما قد مثل. والمعتل ما كان فيه ياء أو واو، نحو "وعد، ووجل، وينعت الثمرة، ويسر القوم"، و"يقول، ويبيع" و"يغزو، ويرمي"، أو تكرر فيه حرفان مثلان نحو "عف، ورد، وشم". والثلاثي من الأفعال على ضربين: أحدهما لا زيادة فيه، والآخر ذو زيادة. وكذلك الرباعي. وينبغي أن يبدأ بذكر الصحيح من أبنية الأفعال التي لا زيادة فيها؛ لأنه كالأصل. باب أبنية الأفعال الثلاثية الصحيحة التي لا زيادة فيها أبنية هذه الأفعال إذا كانت ماضية على ثلاث أضرب: "فَعَل" و "فَعِل" و"فَعُل". فـ"فَعَل" يكون غير متعد إلى مفعول، ويكون متعدياً، فما كان غير متعد فنحو "جلس، وجَمد، وسكت"، ويكون مضارعه على "يفعل" نحو "يجلس"، وعلى "يفعل" نحو "يسكت، ويجمد"، وربما تعاقب اللفظان على

البناء الواحد، نحو "يفسُق ويفسِق" و"عكف يعكُف ويعكِف" و"نَفَر يَنفِر وينَفُر" من قوله {انفِروا خفافاً}. وما كان متعدياً إلى مفعول مما جاء على "فعل" فمضارعه كمضارع ما لا يتعدى، وذلك نحو "ضرب يضرب" و "قتل يقتل"، وقالوا: "حشَر يحشِر ويحشُر". ولا يكون المضارع منه على "يفعل" إلا أن تكون العين منه أو اللام حرفاً من حروف الحلق، وحروف الحلق التي تفتح معها العين ستة: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، وذلك نحو "بدأ يبدأ" و"قرأ يقرأ" و"جبه يجبه" و"قلع يقلع" و"ذبح يذبح". وما كان هذه الحروف فيه عيناً فنحو "سأل يسأل" و"ثأر يثأر" و"ذهب يذهب" و"بعث يبعث" و"نحر ينحر" و"فغر يفغر" و"فخر يفخر".

وقد جاء ما كان من هذا النحو على الأصل نحو "هنا" يهنئ" و"رجع يرجع" و"نزع ينزع"، وذلك في الهمزة والعين أقل لأنهما أدخل في الحلق. وقالوا "صلح يصلح" و"فرغ يفرغ" و"مرخ يمرخ". وما كان من ذلك الحرف فيه عين فنحو "زأر يزئر" و"نأم ينئم" و"نهق ينهق" و"نعر ينعر" و"نغرت القِدر تنغر" و"نخل ينخل". فإذا كان الحرف الذي من الحلق فاء لم تفتح العينات، وذلك نحو "أمر يأمر" و"أكل يأكل" و"أبق يأبق" و"هرب يهرب" و"عمر يعمر". وقالوا "أبى يأبى" فشد هذا وقولهم "قلى يقلى"، كأنهم شبهوا الألف بالهمزة في "قرأ يقرأ" لقربها منها. وحكي عن أبي زيد أنه قال: ربما [احلت] منهم "غضضت". وقالوا "يذر" ففتحوا تشبيهاً بـ"يدع" حيث كان في معناه، ولم يستعمل منه "فعل" ولا اسم فاعل في الأمل الشائع، ولا من

"يدع" قالوا: استغنوا عنه بـ"ترك". وزعموا أن بعضهم قرأ {ما وَدَعَك}، وهذا نادر. فإذا كان مثال الماضي من هذا الضرب على "فعل" جاء المضارع منه على "يفعل" مثل "ضخم يضخم" و"صعب يصعب" و"قمؤ يقمؤ" و"ملؤ يملؤ" و "قبح يقبح" لأن مضارع "فعل" لا يختلف كما يختلف مضارع "فعل"، فألزموه طريقة واحدة لذلك، كما أن هذا النحو من الأبنية المزيدة فيها جرى عندهم مجرى لا ما لا حرف من حروف الحلق فيه حيث لم يختلف المضارع منه، وذلك نحو قولهم "ابتأس يبتئس" و"استبرأ يستبرئ" و"ارتأى يرتئي" و"انتسأ ينتسئ". وقالوا "جأر يجأر" وهو "جئر"، وقالوا "جئز" كما قالوا "صعقٌ". وقد حكيت "ركن يركن" وليس يثبت، ويمكن أن يكون قد جاء منه "فعل يفعل" و "فعل يفعل"، كما قالوا "نقم ينقم" و"نقم ينقم". ويقوي ذلك

أن بعض الفصحاء قرأ {ولا تِركَنوا}، فهذا يقوي أن الماضي منه "فَعِل". وما كاان على "فعل" فإنه أيضاً مثل "فعل" في أنه يكون على ضربين: أحدهما أن يكون غير متعد إلى مفعول. والآخر أن يكون متعدياً إلى مفعول، فغير المتعدي نحو "فرق" و "عطش" و "سكر"، والمتعدي نحو "شرب" و"لقم". فالمضارع من الفعلين جميعاً يجيء على وزن "يفعل" نحو "يفرق و"يعطش" و "يسكر" و "يشربه" و"يلقمه"، ولم يجئ مضارع "فعل" على غير "يفعل" إلا أحرف شذت، فجاءت على "يفعل"، وذلك قولهم "حسب يحسب" و"يئس ييئس" و"نعم ينعيم" و"يبس ييبس". قال سيبويه: سمعنا من ينشد لامرئ القيس: ......................... ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وقد جاء مضارع "فعل" "يفعل"، قالوا: "فضل يفضل"، قال

أبو عثمان: أنشدني الأصمغي: ذكرت ابن عباسٍ بباب ابن عامرٍ ... وما مر من عمري ذكرت وما فضل ونظيره من المعتل "مت أموت" و"دمت أدوم"، وقد حكى بعضهم "يدام"، وليست بالمعرفة. وقالوا "نعم ينعم". وهذه حروف قليلة وحكي عن أبي زيد وأبي الحسن أنهما سمعا "فضل يفضل". وأما "فعل" فبناء يختص به غير المتعدي، ولا يكون في الأفعال المتعدية إلى مفعول، لا يكون في الكلام: ظرفت عبد الله، ولا نحو ذلك. فأما قولهم "الداية قدته" فأصله "فعلته"، فلذلك تعدى إلى مفعول به. ومضارعه يطرد على "يفعل"، ولم نعلم شيئاً منه شذ عنه كما شد "يفعل" نحو "يحسب" و"يفعل" نحو "يفضل" إلا ما حكاه سيبويه من أن بعضهم قال: "كدت تكاد"، وبعض أهل العربية يذهب إلى أن هذه الأشياء نحو "حسب يحسب" لغات تداخلت. وما كان من الأمثلة على "فَعِل" أو "فَعُل" أو "فُعِل" فإن العين قد تسكن

فيه تخفيفاً وكراهة للضمة والكسرة، وذلك قولهم "قد علم" في "علم"، و"عُصر" في "عُصِر" و "ظرف" في "ظرف"، قال: وإن أهجه يضجر كما ضجر بازلٌ ... من الأدم دبرت صفحتاه وكاهله وقالوا: لو عُصر منه المسك والبان انعصر وقد جعلوا ما كان في تضاعيف الكلمة من أصل على هذا الزن، فأسكنوا المتحرك منه كما أسكنوه في الأسماء والأفعال، وذلك قولهم "أراك منتفخاً" لما كان "تفخاً" من "منتفخ" بمنزلة "عَلِم" و"كتفٍ" قال العجاج يصف ثوراً: فبات منتصباً وما تكردسا وما كان من هذه الأمثلة ثانية حرف من حروف الحلق فإن فيه أربع لغات، وذلك نحو "شهد" تقول: "شِهِد" و"شِهْد" و"شَهد" و"شهد"، وعلى هذا قالوا "نِعم" و "بئس" في فعلي المدح والذم.

أبنية الأفعال الثلاثية المعتلة المجردة

باب أبنية الأفعال الثلاثية المعتلة التي لا زيادة فيها لا يخلو الاعتلال في الفعل الثلاثي من أن يكون في أول حرف منه، وهو فاء الفعل، أو يكون في الحرف الثاني، وهو عين الفعل، أو يكون في الحرف الثالث، وهو لام الفعل، وحروف العلة الياء والواو والألف، فأما الألف فلا تكون أصلاً في شيء من الأسماك والأفعال، وإنما تكون منقلبة عن الياء أو عن الواو أو زيادة. فما كان أوله الواو من الأفعال الثلاثية فإنه يكون على ثلاثة أبنية: "فَعَل" و"فَعِل" و"فَعُل". فما كان على "فَعَل" فإنه في المتعدي وغير المتعدي مضارعه "يفعِل"، ويحذف الواو منه، وذلك قولهم في غير المتعدي "وجب يجب"، وفي المتعدي "وزن يزن" و"عد يعد"، قال سيبويه: "وقد قال ناس من العرب: وجد يجد"، قال: "وهذا لا يكاد يوجد". وإنما قل ذلك كراهة الضمة بعدها كما كرهوا الواو بعدها، فما قل في الكلام نحو "يوم" كذلك قل هذا، هـ وقد أنشد غيره هذا البيت: لو شئت قد نقع الفؤاد بشربةٍ ... تدع الحوائم لا يجدن غليلا بضم الجيم. وقد قالوا: "ومق يمق" و"ورث يرث" و"ولي يلي"

و"وفق يفق" و"وثق يثق" و"ورع يرع" و"ورم يرم"، رواها كلها ابن حبيب. فأما قولهم "وطئت تطأ" و"وسعت تسع" فإنهم حذفوا الواو كما حذفت في "فعل يفعل" نحو "ومق يمق" و"ولي يلي"، حيث كانت مثل "حسب يحسب"، فلما كانت الفتحة من أجل حرفي الحلق في "يطأ" و"يسع" لم تصح الواو كما صحت في "يوجل"، وهذا هو القياس ومذهب الخليل وغيره. وأخبرني محمد بن السري عن محمد بن يزيد أن أبا عثمان قال: سمعت أبا زيد يقول: ولِغ الكلب في الإناء يولغ، ووَلَغَ يَلِغ ويَلَغ جميعاً، وزعم أنه يجيز في جميع "يفعل" المفتوح مما واوه في موضع الفاء نحو "يولغ" الحمل على قياس "يوجل"، فيقول "ييلغ" و"يالغ" مثل "يوجل"، ويقيس ذلك كله إلا ما كان أصله الكسر ففتحه حروف الحلق نحو "يسع" و"يدع"، فإنه على حال واحدة. وليس هذا الذي رواه أبو زيد بالقوي في القياس، وذلك أن "يلغ" مثل "يطأ" في أنه فتح من أجل حرف الحلق، والأصل الكسر، كما أن الأصل في "يسع" الكسر، فكما حذ ف الفاء من "يسع" لأن الأصل الكسر، كذلك يلزمه أن يحذف من مذارع "ولغ" إذا قال "يلغ" لأن الأصل الكسر، والفتح عارض، كما أنه في "يسع" عارضٌ. ووجه قياسه - عندي - أنه لما جاء على "يفعل" أشبه ما ماضيه "فعل" نحو "وجل"، كما أن "يأبى" لما جاء مجيء ما ماضيه على "فعل" كسروا حرف المضارعة

ما كانت الياء فيه فاء الفعل

فيه، فقالوا "أنت تئبى"، وما كان على "فَعِل" مما الواو أوله نحو "وَجِل" و"وَحِل" فمضارعه على "يفعل"، وفيه أربع لغات: "يوجل" و "ييجل" و"ياجل" و"ييجل"، وأجودها تصحيح الواو، وبها جاء التنزيل {قالوا لا توجل"، ومصدره "الوجل"، واسم الفاعل منه "وجل"، وقالوا "أوجل". وحكى سيبويه "ورع يرع ويورع" و "وغر يغر يوغر" ووحر يحر" و "يوحر" أكثر. وما كان على "فعل" نحو "وضع" و"وضؤ" و"وطؤ"، فمضارعه "يفعل"، ثبتت الواو فيه كما ثبتت في "يوجل"، ولا ينقلب إلى غيرها كما ينقلب إلى الألف والياء في "يأجل". باب ما كانت الياء في أوله من هذا النحو مثال الماضي جاء من ذلك على "فعل" نحو "يمن ييمن" و"يسر ييسر" و"ينغ يينع" و"يعر الجدي ييعر"، لا يحذف في المضارع كما حذفت الواو في "يعد". وحكى سيبويه أن بعضهم قال "يسر" كما قال "يعد"، فحذفها كما حذف الواو.

ما كانت الواو منه عين الفعل

وجاء على "فعل يفعل" نحو "يئس ييأس" و"يبس ييبس"، وقالوا "مكان سبس ويابسٌ"، وقالوا "يل ييل يللا، ورجل أيل، وامرأة يلاء": متكسر الأسنان. باب ما كانت الياء والواو فيه ثانية في موضع العين أما ما كانت الواو فيه ثانية فإن مثال الماضي منه يكون على "فَعَل" وعلى "فَعِل" وعلى "فعُل"، فما كان من ذلك على "فعل" فإنه يجيء متعدياً وغير متعد، فالمتعدي نحو "قال القول" و"عاد المريض" و"طال القوم" إذا علاهم، و"حاك الثوب". وغير المتاعدي نحو "طاف يطوف" و"نالت المرأة بالحاكة"، والمضارع منها "يفعل": "يقوله" و"يعوده" و"يطوله" و"تنول" و"طاء يطوء" إذا ذهب في الأرض، قال أبو إسحاق: أخبرني محمد بن يزيد أن اشتقاق "طيِّئ" من ذلك، قال الحجاج لصاحب خيل له: ابغني فرساً طال البرذون وسهامة الخيل. وما كان على "فَعِل" فإنه يجيء متعدياً وغير متعد، فالمتعدي نحو "خفت زيداً"، وغير المتعدي نحو "راح يومنا" و"مال زيدٌ". والمضارع منهما "يفعل": "يخاف" و "يراح".

باب ما كانت الياء منه عين الفعل

ويدل على أن العين من ذلك واو قولهم "الخوف" و"أموال". ويدل على أنه "فعيل" أن المضارع منه "يفعل" وأنهم قالوا "ملت بعدنا" فألقوا كسرة العين على الفاء. وقالوا "رجل مالٌ" و "يوم راحٌ" كما قالوا "فرقٌ". وما كان على "فَعُل" نحو "طال زيدٌ" إذا أراد به خلاف القصر، فهو غير متعد، و"طويل" مثل "ظريف" كما أن "قصر كذلك، والمضارع "يطول" مثل "ظرف يظرف" في الصحيح. باب ما كانت الياء منه عين الفعل وما كان الثاني منه ياء قد بني على فعل، فإن الماضي منه على "فعل". ويجيء متعدياً وغير متعد، فالمتعدي نحو "كال" و"زال يزيل" و "عاب" و "ذام"، وقال بعض العرب: "أردت أن تذيمه فمدهته". وما كان غير متعد فنحو "عال" و "صار"، والمضارع منهما "يفعل" نحو "يعيبه" و"يكيله" و"يبيعه" و"يذيمه" و"يعيل" و"يصير عاقلاً. ولم يجئ المضارع من هذا على يفعل" كما لم يجئ المضارع من باب

باب ما كانت الواو والياء فيه ثالثة في موضع اللام

"قال" على "يفعل" إلا حرفان، زعم الخليل أن "طاح يطيح" و"تاه يتيه" مثل "حسب يحسب"، وهو من "طرحت" و"توهت". ولم يجئ من باب الياء كما يجيء "يطيح" من الواو، و"يتيه"؛ كراهة أن تنقلب الياء إلى الواو لو قالوا "يفعل" في "يبيع". وقد جاء الماضي من هذا النحو أيضاً على "فَعِل" في المتعدي وغير المتعدي، فالمتعدي نحو "هاب" و"نال"، وغير المتعدي نحو "زال" و"حار طرفه". والمضارع منهما "يفعل" نحو "يهابه" و "يناله خيره" و"ما يزال يفعل" و"يحار طرفه". فأما "فَعُل" فإنهم رفضوا بناءه من هذا الباب لما كان يلزم من قلب الياء واواً في مضارعه. باب ما كانت الواو والياء فيه ثالثة في موضع اللام أما ما كانت الواو فيه ثالثة في المصدر فإن بناء الماضي منه على "فَعَل"، ويكون في المتعدي وغير المتعدي، فما كان منه متعدياً فنحو "غزا" و"دعا" و"محا"، وما كان غير متعد فنحو "زقا" و"صفا". والمضارع منهما على "يفعل" نحو "يدعوهم" و"يغزوهم" و"يزقو الديك" و"يصفو الماء". والمضارع في هذا الباب يلزمه "يفعل" كما أن ما كانت الواو فيه ثانية لزمه "يفعل" في الأمر العام، نحو "يقول" و"يطول". وقالوا "صغا يصغى" و"شأى

يشأى، فجاء المضارع على "يفعل" كما قالوا "فخر يفخر" و"فغر يفغر" من أجل حرف الحلق، وقالوا "يمحو" على الأصل، كما قال "ييجل"، ولم يفعلوا ذلك في "قاع يقوع" و"باع يبيع" لئلا يلتبس بما ماضيه في الأصل "فعل"، ولأن الحركة لا تظهر للزوم السكون العين. وقالوا "دَعَّ يدُعُّ" و"سَحَّت السماء تسحُّ"، فجعلوها كالمعتل حيث كان السكون لازماً له في أكثر الأمر. وزعم يونس أنهم يقولون "كع عني يكع"، فخالفوا بينها وبين المعتل حيث كانت العين تظهر في قول أهل الحجاز إذا قالوا "لم يكعع"، قال: "ويكع أجود". وإنما فتحت العينات لأن الفتحة من جنس الألف، والألف من الحلق، فأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد كما قالوا "عابد" فأمالوا الألف نحو الياء، كما قالوا "المصبر" و"المزدبر" و"المثرد" ليقرّبوا المهموس

باب الياء إذا كانت ثالثة لاما

من المجهور، وكما قالوا "صقت" أي: سُقت، ليقربوه من المستعلي، وكما قالوا "ادكر" و"اظَّلَم" ليقرّبوا أحدهما من الآخر. ولم يخف ذلك في باب "صغا" لثبات الحركة في العين وظهورها. وجاء مثال الماضي من هذا الناحو في "فعِل" في المتعدي وغير المتعدي، فالمتعدي نحو "رضِي" و"شقي"، وغير المتعدي نحو "غبي" و"قوي". والمضارع "يفعل" منهما نحو "يرضاه"، وفي التنزيل {وإن تشكروا يرضه لكم}، و"يشقى" و"يغبى". وقالوا "سرو يسرو، وهو سري" وهو "بهو يبهو، وهو بهي" و"بذو يبذو بذاءً، وهو بذي". باب الياء إذا كانت ثالثة لاماً إذا كانت الياء ثالثة في المصدر فإن الماضي منه يجيء على "فعل" في المتعدي وغير المتعدي، فالمتعدي "رمى" و"نمى"، وغير المتعدي نحو

باب التضعيف في الثلاثي

"سرى" و"همى". والمضارع منهما على "يفعل" نحو "يرميهم" و"ينمي القتود". ويلزمه "يفعل" كما لزم باب "غزا" "يفعل" إذا لم تكن العين من حروف الحلق. وقالوا "نأى ينأى" و"رأى يرأى" و"نهى ينهى"، فجاء على "يفعل" لمكان الهمزة والهاء. وجاء مثال الماضي في هذا الباب على طفعل" في المتعدي وغير المتعدي، فالمتعدي نحو "خشي" و"هوي"، وغير المتعدي نحو "ردي الكافر" و"غوي الفصيل". والمضار منهما "يفعل" نحو "يخشى الله" و"يهوى العلم" و"يردى الكافر" و"يغوى الفصيل". وجاء منه مثال الماضي على "فعل"، قالوا "قضوا الرجل" إذا حذق القضاء، و"رمو" إذا أجاد الرمي. باب التضعيف في الثلاثي وهو أن يتكرر حرفان مثلان في الكلمة. التضعيف في الكلمة الثلاثية إذا وقع لا يخلو من أن يكون على التجاوز، أو بحاجز حرف، فإن وقعا متجاورين لم يخل التجاور من أن يكون

بين الفاء والعين، أو بين العين واللام، فإن كان بين العين والفاء فإن ذلك لم يقع في أبنية الأفعال في شيء من كلامهم، وإنما جاء في أسماء قليلة، وذلك نحو "ددنٍ" و"كوكب" و"أول"، وحكى سيبويه: "سيسبان، وقيقبان" و"أبنبم": اسم موضع، وأنشد الأصمعي: يا صاحبيَّ وقد أرى شبهيكما ... بالجزع من تثليث أو بأبنبما "أبنبما" وزنه أفنعل، وهو من أمثلة الكتاب لم يذكره سيبويه إلا بالهمز، وفيه لغة ثانية، وهي "يبنبم"بالياء، ووزنه "يفنعل"، وشاهدها قول حميد بن ثور رضي الله عنه: إذا شئت غنتني بأجزاع بيشةٍ ... أو الجزع من تثليث أو بيبنبما مطوقةٌ ورقاء تسجع كلما ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما

وهو من هذا الباب لأن الهمزة والنون زائدتان. و"رجل دودري" إذا كان مسترخي الخصيين، وأنشد الأصمعي: لما رأت شيخاً له دودري ... ظلت على فراشها تكرى ومن هذا الباب - عندي - قولهم "لولا أن يكون الناس بباناً واحداً"، هو "فعالٌ" والنون لام الفعل، ولا يجوز أن تكون زائدة؛ لأن الحكم بزيادتها يؤدي إلى أن العين والفاء واللام من موضع واحد، وهذا لم يجئ في شيء من كلامهم، فأما ما روي من قول من قال: لأنكحن ببة ... جاريةً خدبة فزعموا أن أمه كانت ترقصه وتقول ذلك، فهذا صوت، وليس باسم جنس، ثم صار قلباً لرجل. وقال الفرزدق:

باب التضعيف في تجاور العين واللام في بنات الثلاثة

وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم ... وببة قد بايعته وهو بابل و"بابل" وإن كان من هذا فإنه في الأصل أعجمي إلا أنه قد أعرب، وجاء في التنزيل. وليس في امتناع الصرف فيه دلالة على عجمته؛ لأنه يمكن أن يكون لم يصرف للتأنيث وللتعريف، فيكون كـ"عُمان" و"دمشق" وليس كـ"إبراهيم" ونحوه. فهذا ما جاء من تضعيف الفاء والعين فما علمته، ولم يشتق من شيء منه فعل. وما جاء من التضعيف بحاجز حرف فنحو "سلس" و"قلق"، وهو قليل في كلامهم، وقد بني الفعل منه على "فعل يفعل" وذلك "سلس يسلس" و"قلق يقلق". وجاء منه أيضاً على "فعلت" قالوا: يديت إليه يداً. ومن هذا الباب قولهم "غوغاء" في من لم يصرف. وقالوا للمرأة إذا كانت دخالة خراجة في نهيها: "توقري يا زلزة"، وهو قليل. باب التضعيف في تجاور العين واللام في بنات الثلاثة هذا الضرب من التضعيف إذا كان على هذا التأليف كثير في كلامهم، واسع في الأسماء والأفعال، فالأسماء نحو "طللٍ" و"شررٍ" و"بللٍ"

و"مررٍ" و"قددٍ" و"خززٍ" و"سددٍ". فأما الفعل فإنه جاء منه مثال الماضي على "فعل" نحو "رد" و"شد" و"عد" و"عف". وكل ما كان متعدياً من ذلك فمضارعه على "يفعل" نحو "يرد" و"يشد" و"يعد". قال محمد بن يزيد: وقد شذ منه حرفان، قالوا: وزعم الرياضي "يهرني الكلب" على القياس. وما كان غير متعد فمضارعه "يفعل" نحو "يعف" و"يكل". وجاء على "فَعِل" في المتعدي وغير المتعدي، فالمتعدي نحو "شممته" و"عضضته" و"مسسته"، وغير المتعدي نحو "ظللت" و"بللت". والمضارع منهما على "يفعل" بالفتح، نحو "لم يشمم زيدٌ" و {لم يمسهم سوءٌ} و"لم يظلل زيدٌ قائماً"، و"لم تبلل يا زيد". ومن قال {ولا تركنوا} قال "لم تبلل" فكسر التاء. وقال قوم: "ظللت" و"مست" يريد: "ظللت" و"مسست"، حذفوا العين، وألقوا حركتها على الفاء كما قالوا "هبت".

وقال قوم "ظلت"، فلم يلقوا حركة العين المحذوفة على الفاء، لكن أقروا حركة الفاء كما كانت، كما قالوا كلهم "لست"، وفي التنزيل {فظلتم تفكهون}. وقد حذفوا العين أيضاً من قولهم "أحسست"، فقالوا: "أحست"، فكأنهم أعلوه بالحذف كما أعلوه بالإسكان للإدغام حيث كرهوا اجتماع المثلين، ولم يصلوا إلى الإدغام للزوم اللام السكون لاتصال الضمير به. وهذه الحروف شاذة عن قياس نظائرها وإن كانت مطردة في الاستعمال، كما أن "استحوذ" كذلك. وأما "فَعُل" في التضعيف فقد حكي عن رونس فيه "لببت". ولم أسمع غير هذا الحرف. كأنهم استثقلوا الضمة مع التضعيف، ومن ثم قال قوم فيما حكى أبو عبيدة في جمع "سرير" و"جرير": "سرر" و"جرر" سواء. نجزت أمثلة الأفعال الثلاثية بغير الزيادة صحيحها ومعتلها ومضاعفها.

مسألة: إعراب قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم)

مسألة سألت - أعزك الله - عن إعراب قوله تعالى {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم}. والقول في ذلك: إن حرف العطف من قوله {وأقرضوا} لا يخلو من أن يكون عطفاً على الفعل المقدر في صلة {المصدقين} أو على غيره. فمن البين أن قوله {وأقرضوا الله} لا يجوم أن يكون معطوفاً على الفعل المقدر في الموصول الأول، على أن يكون التقدير: إن الذين صدقوا وأقرضوا الله، وذلك أنك إذا قدرته هذا التقدير، فقد فصلت بين الصلة والموصول بما ليس منهما، وما هو أجنبي، والفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي وما ليس مهما لا يصح، ولذلك لم يجيزوا: رأيت القائمين وزيداً إلا عمراً، وهذا النحو من

المسائل؛ لأن "زيداً" معطوف على "رأيت"، والاستثناء من الصلة؛ من حيث كان المستثنى معمول الفعل الذي فيها، وقد فصلت بينهما بالمعطوف، فلم يجز ذلك، كما لم يجز أن يكون {وأقرضوا الله} معطوفاً على {صدقوا} المقدر في الصلة؛ لفصل {المصدقات} المعطوف على "إن" بينهما. وإنما لم يجز ذلك لأن العطف على الموضوع وغيره من الأسماء يؤذن بتمامه؛ ألا ترى أنك لا تعطف على الاسم من قبل أن يتم بجميع أجزائه، فغذا كان العطف يؤذن بالتمام، فالعطف ثم أتيت بعد العطف بما هو من تمامه، فقد زعمت أنه تام غير تام، فنقضت بذكرك ما بقي من الصلة ما قدمته من حكم التمام بالعطف، فكان متدافعاً غير مستقيم. ولا يستقيم أن يكون قوله {وأقرضوا الله} في هذه الآية محمولاً على الفعل المقدر في الصلة، كما كان قوله {فأثرن به نقعاً}؛ لأنك لم تزد في هذا الموضع على أنك عطفت على الموضع، ولم تفصل بين الصلة والموصول بأجنبي منهما كما فصلت بالمعطوف بينهما في الأخرى، والحمل على المعنى في هذا النحو مستقيم حسن، فإذا لم يجز أن يكون معطوفاً

الفصل بين الصلة والموصول

على الصلة لم تحمله على ذلك، ولكن على وجوه أخر، منها: أن تجعل العطف اعتراضاً بين الصلة والموصول، فإن شئت حملته على أن الخبر غير مذكور، وإن شئت جعلت المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الفاعلين، وجعلت العطف عليهم، وسنفصّل ذلك: أما حملة على الاعتراض فهو أرجح الوجوه؛ لأن الاعتراض قد شاع في كلامهم واتسع وكثر، ولم يجر ذلك عندهم مجرى الفصل بين المتصلين بما هو أجنبي؛ لأن فيه تسديداً وتبييناً، فأشبه من أجل ذلك الصفة والتأكيد، فلذلك جاء بين الصلة والموصول، والفعل والفاعل، والابتداء والخبر، والمفعول وفعله، وغير ذلك. فمما جاء بين الصلة والموصول {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئةٍ بمثلها وترهقهم ذلةٌ ما لهم من الله من عاصمٍ}، فقوله {جزاء

سيئة بمثلها} اعتراض بين الصلة والموصول؛ ألا ترى أن قوله {وترهقهم ذلة} معطوف على {كسبوا} الذي هو صلة {الذين} والخبر {ما لهم من الله من عاصمٍ}. ومن ذلك قول الشاعر: ذاك الذي - وأبيك - تعرف مالكٌ ... والحق يدفع ترهات الباطل فاعترض بالقسم بين الصلة والموصول. ومما يمكن أن يكون من ذلك قول الآخر: لي كل يومٍ من ذؤالة ... ضغثٌ يزيد على إبالة فلأحشأنك مشقصاً ... أوساً - أُويس - من الهبالة فـ "أويس" نداء معترض بين المصدر والجار المتصل به. فأما قوله "أوساً" فمن باب {صنع الله}؛ لأن "لأحشأنك" يدل على "أؤوسك"، فحمل "أوساً" عليه، ولا يجوز أن يكون بدلاً من الاسم المنصوب؛ لأن في

الفصل بين اسم إن وخبرها

البدل ضرباً من البيان كالصفة، والمتكلم والمخاطب لا يحتاج إلى ذلك معهما، فمن ثم لم يجز سيبويه في قوله "بي المسكين كان الأمر" الجر في "المسكين" على البدل. فإذا جاز الفصل بين الصلة والموصول بما ذكرنا من الاعتراض، فأن يجوز الفصل بين اسم "إن" وخبرها بالاعتراض الذي هو قوله {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أحرى؛ لأن اتصال الصلة بالموصول أشد من اتصال المبتدأ بالخبر؛ ألا ترى أنهما يجريان مجرى الاسم الواحد، وأن المبتدأ قد يحذف خبره ولا يستعمل إثباته. وقوله {يضاعف لهم} على هذا التأويل في الآية، في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. ومما جاء من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله: ألا هل أتاها - والحوادث جمةً - بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا فالمبتدأ والخبر اعتراض، والجار والمجرور في موضع رفع بأنه

فاعل، كما أنهما في {كفى بالله} كذلك. ومثل ذلك القول الآخر: وقد أدركتني - والحوادث جمةٌ - ... أسنة قومٍ لا ضعافٍ ولا عزل وإذا جاز ذلك في الفعل والفاعل كان في المبتدأ والخبر أجوز؛ ألا ترى أن اتصال الفعل بالفاعل أشد من اتصال المبتدأ والخبر، فمن ثم لم يحذف الفاعل في الموضع الذي يحذف فيه المبتدأ، ولكنه يضمر. فمن ذلك ما حكاه سيبويه [من] قولهم "إنه - المسكين - أحمق"، فـ"المسكين" خبر مبتدأ محذوف، وقد اعترض بهما بين اسم "إن" وخبرها. ومن أنشد قول الشاعر: تبرأ من دم القتيل وثوبه ... وقد علقت دم القتيل إزارها و"ثوبه"، كان قوله "وقد علقت دم القتيل" اعتراضاً بين الابتداء والخبر، ومن جر "ثوبه" كان قوله "إزالها" مرتفعاً بـ "علقت"، وكأنه أنَّث على "الملاءة" ونحو ذلك.

الفصل بين القسم والمقسم عليه

ومن الاعتراض قوله {فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريمٌ}، فقوله {وإنه لقسم لو تعلمون عظيمٌ} اعتراض بين القسم والمقسم عليه، التقدير: فأقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم. وقوله {لو تعلمون} اعتراض أيضاً بين الصفة والموصوف من الجملة التي هي اعتراض، والتقدير في {لو تعلمون}: اعلموا، كما تقول: لو قمت، أي: قم. وزعم أبو الحسن أن الماضي في هذا المعنى أكثر من المضارع، وعلى هذا قالوا: إن زيداً - فافهم قولي - رجل صدقٍ. ومن الاعتراض بين الصفة والموصوف قوله {ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}. ولو جاء بين الشرط والجزاء كان حسناً؛ لأن الشرط والجزاء بمنزلة القسم والمقسم عليه. وقد جاء بين المعطوف والمعطوف عليه فيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:

الفصل بين المفعول وفعله

أصبح من أسماء قيس كقابضٍ ... على الماء لا يدري بما هو بقابض فإن أباها مقسمٌ بيمينه ... لئن نبضت كفي - وإني لنابض - ثم رآني لأكونن ذبيحةً ... وقد كثرت بين الأعم المضائض وأنشد: كأن - وقد أتى حولٌ جريمٌ - ... أثافيها حماماتٌ ركود يريد: كأن أثافيها وقد جاء الفصل بين المفعول وفعله في قوله أبي النجم: وبدلت - والدهر ذو تبدل - ... هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل وفي قول الأعشى: ومنا الذين أعطاه في الناس ربه ... على فاقةٍ - وللملوك هباتها - نساء بني شيبان يوم أوراةٍ ... على النار إذ تجلى بها فتيانها فلهذا النحو الذي ذكرت من اتساع الاعتراض كان حمل الآية عليه أولى. وإن حملته على أن الخبر غير مذكور، ولم تجعل قوله {وأقرضوا

الله} اعتراضاً، ولكن جملة معطوفة على ما تقدمها، جاز في قوله {والمصدقات} أمران: أحدهما: أن تكون الواو بمنزلة "مع" على أن تكون قد سدت مسد خبر الابتداء، كما أنك لو قلت: إن المصَّدقين مع المصدقات، كان كذلك؛ الا ترى أنه لما كان معنى قولك "أقائمٌ الزيدان": أيقوم الزيدان، استغنيت بالفاعل عن خبر المبتدأ، وإن كان قد ارتفع "قائم" ارتفاع المبتدأ، فكذلك قوله {والمصدقات}، وإن كان منتصباً بالعطف على "إن" فإنه يسد مسد الخبر، فلا تحتاج مع ذلك إلى تقدير خبر، كما لم تحتج إليه في قولك "أقائمٌ الزيدان" ومثل ذلك قولهم "الرجال وأعضادها" و "النساء وأعجازها" لما كان المعنى: الرجال مع أعضادها، والنساء مع أعجازها، استغنيت عن خبر الابتداء بذلك، فكما استغنيت عن خبر المبتدأ بما كان معطوفاً عليه لما كان المعنى معنى "مع"، كذلك يدخل عليه "إن" على هذا الحد. ومثل ذلك قولهم "كل رجلٍ وضيعته". ومثله مما دخل عليه "إن"

ما ذكره من قولهم "إنك ما وخيراً" أي: إنك مع خيرٍ. فعلى هذا أيضاً يحمل قوله (إن المصدقين والمصدقات)، أي: إنهم معهن في نيل الثواب وارتفاع المنزلة به. فإذا حملته على ذلك جاز بلا خلاف فيها. وقد يجوز أن تضمر لهذا النحو خبراً، فيكون التقدير "كل رجلٍ وضيعته مقرونان". وعلى هذا يضمر أيضاً خبر "إن" في قوله (إن المصدقين والمصدقات) [أي: إن المصدقين والمصدقات] مفلحون، أو يضاعف لهم، ونحو ذلك مما ذكروا به في التنزيل. ومثله في حذف الخبر قوله {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} إلى قوله {والباد}. ويكون موضع (يضاعف لهم) على هذا التأويل نصباً لأنه صفة للنكرة المنصوبة. وإن شئت لم تجعله صفة، ولكن جملة

مستأنفة، إلا أنك لم تلحق حرف العطف لالتباسها بما تقدم، كما لم تلحقه في قوله {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فيكون ما ذكرنا في الفعل والفاعل نظير هذه في الابتداء والخبر. ويقوي ذلك قوله {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له}، فلم تجر المضاعفة صفة عليه في اللفظ وإن كان في المعنى كذلك. فأما قوله {وله أجرٌ كريمٌ} فلا يكون معطوفاً على (يضاعف) في قول من جعله صفة؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررت برجلٍ يذهب أبوه وزيدٌ منطلقٌ، وأنت تريد العطف على "يذهب" لم يجز؛ لأنه لا تعلق للموصوف به. وكذلك الآية، فمن أضمر خبر "إن" أو جعل العطف يسد مسد الخبر، واستأنف (وأقرضوا) وجعل قوله (يضاعف) صفة، لم يكن قوله {ولهم أجرٌ كريمٌ} إذا أراد به العطف إلا معطوفاً على {وأقرضوا الله}. ويجوز أن تجعلها في موضع حال كقوله {يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم}، كأنه قال: يضاعف لهم مأجورين. وإن شئت جعلت المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الفاعلين، وجعلت قوله (وأقرضوا) معطوفاً على ذلك؛ لأن معنى (المصدقين والمصدقات)

كمعنى: إن الناس المصدقين. فإذا كان ذلك معناه جاز أن تعطف (وأقرضوا) عليه، كما كان يجوز ذلك لو أبرزت ما هذا المذكور في معناه وموضعه. وعلى هذا الوجه حمله أبو الحسن أرى؛ لأنه قال في تفسيرها: لو قلت: الضاربة أنا وقمت زيدٌ، كان جائزاً. كأنه يريد: كما استقام أن تحمل "الضارب" على "ضرب"، فعطفت "قمت" عليه، كذلك يستقيم أن تجعل الفاعلين والفاعلان بمنزلة الفاعلين، فتحمل (وأقرضوا) عليه؛ إذ لا يستقم عطف (وأقرضوا) على الصلة الأولى، وإذ العطف على المعنى قد جاء في الصلاة وفي غيره كثيراً، فتأول الآية على الحمل على المعنى الذي هو صحيح دون الوجه الفاسد، والحمل على المعنى أكثر من ذلك في العطف وغيره. فمن ذلك قوله {أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاويةٌ} لما كان معنى قوله {ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم}: أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مر على قريةٍ. ومن ذلك قوله {ما ليَ لا أرى الهدهد}، وقوله {ما لنا لا نرى رجالاً

كنا نعدهم من الأشرار} لما كان المعنى في قولك: ما لي لا أراه، وما لنا لا نراهم: أخبرونا عنهم، صار الاستفهام محمولاً على معنى الكلام، حتى كأنه قال: أخبروني عن الهدهد أشاهد هو أم كان من الغائبين. وكذلك الأخرى في من وصل الهمزة ولم يقطعها في قوله {اتخذناهم سخرياً}. فكما استقام الحمل على المعنى في هذا النحو، كذلك حمل الآية عليه فيما نرى أنه مذهب أبي الحسن.

مسألة: الواحد من قوله تعالى: (نحن أولو قوة وأولو بأس شديد)

مسألة قال أبو علي: إن سأل سائل عن الواحد من قوله تعالى {نحن أولو قوةٍ وأُولو بأسٍ شديدٍ}، ما واحده من لفظه على القياس؟ وكيف كان يكون لو قيل؟ فالجواب: أنه ينبغي أن يكون "أُلٍ" كما ترى. يدلك على ذلك قولهم في جمعه "أُلُون" كما قالوا في جمع "عمٍ": "عمون"، فأسكنوا الياء التي هي لام الفعل من "عمٍ" حيث لزم تحريكها بالضم، وألقيت حركتها على العين التي هي ميم، وحذفت اللام التي هي ياء لالتقاء الساكنين: هي وواو الجمع، فصار "عمون". فكذلك تحريك اللام التي هي عين من قولك "أُلُون" بالضم، يدل على أن الآخر ياء لزم تحريكها بالضم، فأسكنت، وألقيت حركتها على العين التي هي لام، وحذفت فصار "أُلُون" كقولك "عمون". فإن قلت: فكيف يسوغ هذا و"أُلٍ" على هذا: "فُعِلٌ"، وليس في الأسماء شيء على هذا، فإذا كان كذلك كان فاسداً لخروجه إلى ما لا نظير له، وما كان كذلك كان ساقطاً؟

قيل له: لا يمتنع هذا أن يكون على لفظ "فُعِل"، لا على أن أصل البنية كذلك، ولكن كان الأصل "فُعُلٌ" مثل "عُنق" و "أذن" و"طُنب"، فلما لزم أن يكون آخر الأسم واو أو ياء قبلها ضمة، كره ذلك، فأبدل من الضمة كسرة ليصير الآخر ياء. ونظير هذا مما سمع منهم وحكاه سيبويه "ثني وثنٍ"؛ ألا ترى أن ثنياً: فعيلٌ كرغيف وكثيب، وجمعه "فُعُلٌ" كرغف وكُثُب، فقيل "ثنٍ"، فأبدل. وكذلك الواحد من قولك "أُلون" كان على هذا للدلالة التي ذكرنا. ويجوز أن يكون واحده "فُعَل" مثل "صردٍ" و"هدىً". فإن قلت: إن الأمر لو كان على هذا لوجب أن يكون الجمع "أُلون"؛ ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بـ"هدىً" و"أعشى" لقلت: "هدون" و"أعشون"، فلما لم تجئ اللام التي هي عين من "أُلون" مفتوحة، دل ذلك على أنه لا يجوز أن يكون "فُعَل" كما ذكرت. قيل له: إنه يجوز أن يكون في الأصل "فُعَل" كما ذكرنا، ولكنهم أبدلوا من الفتحة كسرة إتباعاً للجميع الذي في معناه؛ ألا ترى أنهم قالوا في جمع "ذو": الذوين"، قالت الكميت: فلا أعني بذلك أسفليكم ... ولكني أريد به الذوينا يخاطب بذلك أهل اليمن، ويعني بـ"الذوين" ملكوهم كذي يزنٍ

وذي كلاع، فجمعهم على "ذوين". فلما كان "الذوين" في معنى "أُلين" كسره ككسره وإن كان الأصل الفتح، كما أن "يذر" لما كان في معنى "يدع" فتحت العين منه وإن لم يكن حرف حلق كما في "يدع". ويؤكد هذا ويقويه أنهم جعلوا جمع المؤنث بالألف والتاء كجمع تأنيث "ذوين"؛ ألا تراهم قالوا "أُلات"، وفي التنزيل {وأولات الأحمال}، فحذفوا لام الفعل لما كانت محذوفة من "ذوات". فكما أتبعوا جمعوا التأنيث في أن حذفوا اللام، كذا أتبعوا جمع التذكير التذكير في أن كسروا فقالوا "أُلين"، وإن كان الأصل فتح العين، إتباعاً للجمع الذي هو بمعناه، وهو "الذوين". وجاز أيضاً أن تجمع "أُلين" وإن كان الواحد "أُلىً" مثل "هدىً" كما جاز أن تجمع "ذوىً" على "ذوين"؛ ألا ترى أن واحد "الذوين": "ذوىً". يدل على ذلك {ذواتا أفنانٍ} و {ذواتى أُكُلٍ خمطٍ}، وجمعه الكميت على "الذوين". وكما جاز أن تجمع "ذوىً" الذي هو "فعلٌ" جمع ما آخره ياء، وكان واحده "ذوىً"، كذلك يجوز أن تجمع "ألىً" الذي هو "فُعَل" كأنه على وزن "فُعِلٍ". ويؤكد ذلك أنهم قد جمعوا في الشعر القديم "قناً" على

قنين"، فأبدلوا من الفتحة كسرة في الجمع، فكذلك يجوز أن يكون واحد "أُلين" "أُلىً"، وإنما غيروا في الجمع. وحكى أبو زيد أن بعضهم قالوا في "مقتوين": "مقتوين"، فأبدل من

الكسرة فتحة. فكما جاز أن تبدل من الكسرة فتحة في هذا الذي حكاه أبو زيد، كذلك يجوز أن تبدل من الفتحة كسرة في "أُلين"؛ لأن الفتحة والكسرة كالمثلين؛ ألا ترى أنهم قد حركوا بالفتح مكان الكسر في جميع ما لا ينصرف، وجعلوا النصب والجر على لفظ واحد في التثنية وضربي الجمع المسلم: التذكير والتانيث. فهذا مما يعلم به مقاربة كل واحد من النصب والجر الآخر، وكونه مثلاً له.

مسألة: جواب عن الرقعة النافذة من سيف الدولة

مسألة قرأ - أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة - عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيراً منها شيئاً لم تجر عادة عبده به، لا سيما مع مثل صاحب الرقعة، إلا أنه يذكر من ذلك بعض ما يدل على قلة تحفظ هذا الرجل فيما يقوله، وهو قوله: "لو يبقى عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي" مع علمه بأن ابن بهزاذ السيرافي يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم؛ أفلا أصلح أن اقرأ على من يقرأ عليه الصبيان! هذا ما لا خفاء به، كيف وهو قد غلط فيما حكاه عني، وأني قلت: "إن السيرافي قرأ علي"، ولم أقل هذا، إنما قلت: "تعلم مني" وأخذ عني هو وغيره ممن ينظر اليوم في شيء من هذا العلم" وليس قول القائل "تعلم مني" مثل "قرأ علي"؛ لأنه قد يقرأ عليه من، وتعلُّم ابن بهزاذ السيرافي مني في أيام محمد بن السري وبعده، لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه، كعلبي بن عيسى الوراق، ومحمد بن أحمد بن يونس، ومن كان يطلب هذا الشأن من بني الأزرق الكاتب وغيرهم، وكذلك كثير من الفرس، الذين كانوا يرونه يغشاني في صف شونيز، كعبد الله بن جعفر بن دستويه النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر أخوه، فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني.

وصف أبي علي لابن الخياط بأنه: لا لقاء له

وأما قوله: "إني قلت: إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً" فغلط في الحياكة، كيف استجيز هذا وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة! ولكني قلت: "إنه لا لقاء له"؛ لأنه دخل بغداد بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى قد صم صمماً شديداً لا يخرق الكلم معه سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يعول فيما كان يؤخذ عنه على ما كان يمليه دون ما كان يقرأ عليه. وهذا أمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم. وأما قوله: "قد خطأته البارحة في أكثر ما قاله" فاعتراف بما أن استغفر الله منه كان حسناً، وكذلك حكم كل من خطأ مصيباً. نجز جواب ما ليس من العلم الذي أعاني. فأما قوله: "إني قلت" ما قال أحد إن القوم يقع على الجن" فما أعلمني قلت هذا، ولكني قلت: إن القوم يقع على الرجال دون النساء بدلالة قوله تعالى {يا أيها الذي آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ} ثم قال {ولا نساءٌ من نساءٍ} وبدلالة قول زهير: ...................... ... أقومٌ آل حصنٍ أم نساءٌ وبدلالة أن "القوم": "فَعْلٌ" من "القيام"، والرجال هم القوامين على النساء والصبيان كما جاء ذلك في التنزيل، وليس للنساء قيام على الرجال في هذا الوجه. فقال قائل في المجلس: فقد قيل: إن قوماً يقع على النساء أيضاً بدلالة قوله {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه}. فقلت: إن هذا لا يدل على

أن قوماً يقع على النساء؛ لأن النساء وقع عليهن هذا الاسم لاختلاطهن بالرجال، فأطلق عليهن ما يختص به الرجال من حيث يغلب المذكر على المؤنث في هذا الموضع. هذا ما ذكرته مما جرى في "قوم" لا أذكر غيره. ولو قال قائل: إن قوماً لا يقع على الجن، لم يكن فيما أورد من القرآن دلالة على أن "القوم" يقع على الجن؛ لأنه يمكن أن يكون المعنى أنهم قالوا لزعمائهم ومن ينوب ويقوم عن سائرهم ما تقولونه أنتم أيها الإنس لمن كان منكم، هذا وإن لم يكونوا مستحقين لهذا الاسم في الحقيقة. وهذا النحو في اللغة غير ضيق، من ذلك قوله تعالى {إن شجرة الزقوم. طعام الأثيم. كالمهل} ثم قال {ذق إنك أنت العزيز الكريم}. ومعلوم أن من كانت هذه صفته لم يكن كريماً عند الله في الحقيقة قوله {ويخلد فيه مهاناً} وقوله {ومن يهن الله فما له من مكرمٍ}، فاستحقاقه أن يسمى بالمهان ينافى أن يكون كريماً. وإذا كان كذلك ثبت أن المعنى: أنت العزيز الكريم عند نفسك، وأنت الذي يسمى بالعزيز الكريم، وليست كذلك. وكذلك قوله تعالى {ورد الله الذي كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً}، فسمى ما كان يناله المشركون من المسمين لو نالوه خيراً، على حسب ما كان عند المشركين، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، وقد قال زهرة اليمن يعني جريراً: أبلغ كليباً، وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأغر، وأني زهرة اليمن

هل "أناس" جمع؟

فأجابه جرير: ألم يكن في وسومٍ قد وسمت بها ... من حان، موعظةٌ يا زهرة اليمن ومن ذلك قول النابغة الجعدي أو غيره من القدماء: إذ أصبح الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصباح، وهم قومٌ معازيل فكما أجرى "الأسرة" و"القوم" على الدجاج وإن لم يكن مما يسمى في كلامهم بـ"قوم" ولا "أسرة"، كذلك يجوز أن يقع اسم "قوم" على الجن لدعائهم إلى الإيمان، وإن كان اسم "قوم" لا يقع عليهم كما لا يقع على الدجاج إلا في هذه المواضع المتسع فيها للتشبيه. وإذا كان ما ذكرته في التأويل في قول الجن بعضهم لبعض ممكناً لما أوردته من الدليل، سقط ما أتى به صاحب الرقعة من الاستدلال بالآية. وما ذكره أني قلت: إن أناساً جمع كما قال الفراء، فغلط في الحكاية؛ لأني لم أقل، ولا أقول، إن أناساً ليس بجمع على الإطلاق الذي ذكره صاحب الرقعة، ولكني قلت: إن ليس بجمع تكسير، وليس بجمع إنسان، وقد دللت على ذلك في رقعة نفذت قبل، وسأدل عليه في هذا الكتاب أيضاً بما لم أذكره فيما تقدم، واقول: إن من الدليل على أن أناساً، وإن كان جمعاً، أنه ليس بجمع لإنسان، أنه لا يخلو من أن يكون جمعاً لإنسان أو لا يكون جمعاً له. فإن كان جمعاً له لم يخل من أن يكون جمع تكسير أو غير جمع تكسير. فلا يجوز أن يكون جمع تكسير لأن جمع التكسير

ما دل على جمع ولم يكن جمع تكسير فهو على ثلاثة أضرب

ما جمع واحده عليه جمعاً مطرداً، وقيس في أكثر الأمر ما لم يسمع منه على ما سمع، وفي امتناع النحويين أن يقيسوا على "فُعال"، ويكسروا عليه شيئاً لم يسمعوه وقل مجيئه عن العرب، دلالةً على أنه ليس بتكسير، وإنما هو اسم من أسماء الجمع، كما أن ما هو أوسع مجيئاً منه نحو "قردة" اسم من أسماء الجمع عند سيبويه وأصحابه. ومما يدل على أن أناساً ليس بجمع تكسير أن الآحاد إذا حذف من حروفها شيء رد في جموعها التي للتكسير كقولهم "يدٌ" و "أيدٍ" [و"ابنٌ"] و"أبناء" ونحو ذلك، وقولهم "الناس" بعكس ذلك؛ لأن الفاء الثابتة في "إنسان" محذوفة فيه، فدل مخالفته لهذا الضرب من الجمع أنه ليس منه، فصح ما ذكرته من أنه ليس بجمع تكسير. فإن قلت: فقد قال أبو الحسن في "أشياء" ما علمت! قيل: إن قوله خلاف قول الخليل وسيبويه، وليس مثل هذا لاجتماع الأمثال فيه. فإذا لم يجز أن يكون جمع تكسير وكان جمعاً، كان جمعاً غيره. وغير جموع التكسير على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون اسماً مصوغاً للجمع من غير لفظ الواحد المجموع. والثاني: أن يكون الاسم يستعمل مرة مفرداً ومرة جمعاً. والثالث: أن يكون مشتقاً من لفظ الواحد المجموع.

2 - أن يكون الاسم يستعمل مرة مفردا ومرة جمعا

[فالأول]: كقولنا في جمع "واحد": "جمع"، وفي "جزء": "كل"، وفي "رجل": "قوم"، وفي "امرأة"، وفي "امرأة": "نسوة"، وفي "راحلة": "ركاب"، فهذه الأسماء، وإن كانت مصوغة للجموع وموضوعة لها، فإنها جارية مجرى الآحاد بدلالة تحقيرهم ما حصر منها، وتكسيرهم لها في نحو قوله: وقد علم الأقوام ............... ... ........................ وإضافتهم إلى ما أضيف منها على لفظها، كقولهم في الإضافة إلى "الجمع": "جمعي"، وإلى "نسوة": "نسويّ". كذلك قالوا في التحقير "قويم" و "رهيط" و "نسية"، ولم يردوها في ذلك إلى آحادها، لكنهم أجروها مجرى المفردة، فقالوا "قويم" و "رهيط" كما قالوا "ثويب" و"عديل". وكذلك يقال في الإضافة "قومي"، ولم يقولوا "رجلي" كما لم يقولوا في الإضافة إلى "الجمع": "واحدي". والضرب الثاني من المجموع: أن يكون الاسم يستعمل مرة مفرداً ومرة جمعاً، وذلك نحو قولهم "بشرٌ"، فإنه قد استعمل اسماً مفرداً في قوله تعالى {ما هذا بشراً} وقوله {ولئن أطعتم بشراً مثلكم}. والدلالة على أن المراد في الآية الأولى الإفراد واضح، وهو أنه خبر اسم مفرد مخصوص

3 - أن يكون الجمع مشتقا من لفظ الواحد المجموع

بالإشارة، وخبر المبتدأ إذا كان مفرداً فهو هو، نحو: زيدٌ أخوك، وعمروٌ منطلقٌ. والدليل على أنه في الثانية أيضاً اسم مفرد قوله {أيعدكم أنكم}، فأفرد في الفعل ضميره. والدليل على استعمالهم له جمعاً قوله {إن أنتم إلا بشرٌ مثلنا تريدون أن تصدونا}. ومثل ذلك في أنه استعمل مرة جمعاً ومرة واحداً: "الحلوبة" و"الركوبة" و"القتوبة" فيما حكاه الجرمي عن أبي عبيدة، فأما "الناس" فليس من هذا الباب؛ لأنه لا يستعمل إلا جميعاً. الضرب الثالث: وهو أن يكون اسم الجمع مشتقاً من لفظ الواحد المجموع نحو "الباقر" و"الجامل" و"السامر" و"الكابر". و"البلصوص" لواحد "البلنصي"، و"أشياء" في قول الخليل وسيبويه. ومنه "الحلوب" و"الركوب" و"القتوب"، فإن هذا لا يستعمل - فيما حكى

أبو عمر عن أبي عبيدة - إلا جمعاً، وفي التنزيل {فمنها ركوبهم ومنها يأكلون}. وأما "الحلوبة" فمن جعله جمعاً فهو من هذا الباب، قال أبو عبيدة: وقد يكون واحداً. وقولهم "أُناس" في جمع "إنسان" قد كان يمكن أن يكون من هذا القبيل لدلالة "أُناس" و"ناس" على الجماعة وكونهما من لفظ "إنسان" بالدلالة التي ذكره في المسألة النافذة قبل، إلا أن الذي يمنع من ذلك ما حكاه أحمد بن يحيى في تفسير قوله {من الجِنة والناس} أن العرب تقول: "جاءني ناسٌ من الجن"، وما جاء في الرواية من قول الشاعر وهو يخاطب الجن: فقلت: إلى الطعام، فقال منهم ... أناسً: نحسد الإنس الطعاما

ووجه المنع من ذلك أن الجموع تنتظم أشخاص آحاد نحو "الشياطين" و"الكابر" و"التؤام" التي تضم أشخاصاً كل واحد منها "شيطان" و"كبير"، ولا يجوز أن تضم ما ليس بـ"شيطان" ولا "كبير". فكذلك "الأُناس" لو كان جمعاً لـ"إنسان" لم يضم غير الإنسان، ففي ضمه الرجل والمرأة مع الجن فيما رويت واستدللت عليه، دلالةٌ على أنه لا يكون جمعاً لـ"إنسان" كما أن اللفظ المصوغ على لفظ الإفراد لما ضم أشخاصاً أكثر من الجمع المكسر على لفظه لم يجز أن يكون اللفظ المكسر على لفظه جمعاً له، وذلك قولهم "الأعراب" و"العرب"، فلم يجعلوا "العرب" واحداً لـ"الأعراب، ولا "الأعراب" جمعاً له وإن كان "عرب" من لفظ "أعراب"، وباب "فعلٍ" أن يجمع على "أفعالٍ" نحو "جبل وأجبال" و"طلل وأطلال" ونحو ذلك. فكما أن "أعراباً" ليس بجمع "عرب" وإن كان من لفظ، وعلى ما يجوز في القياس أن يكسر على "أفعال"؛ لأن "عرباً" تضم وتعم ما تضمه "الأعراب" وغيرهم، بدلالة وقوع قولنا "عرب" على الحاضرة والبادية، ووقوع الأعراب على البادية دون الحاضرة، لم يجز أن يكون "أعراب" جمعاً له، فمن ثم قالوا في النسب إلى "الأعراب": "أعرابي"، ولم يردوه إلى واحد هذا التكسير كما ورد "أفعال" إلى "فعلٍ" في قولهم في الإضافة إلى "أبناء فارس": "بنوي"، ومن قال من العرب في ذلك "أبناوي"، ولم يرده إلى الواحد، فإنما ذلك لأنه جعله اسماً لهذا القبيل، كما قالونا "أنصاري" حين صار اسماً لهم، فجعلوه بمنزلة "أنماري" و"كلابي" و"معافري" ونحو ذلك من أسماء الجموع التي سميت بها الآحاد، فكما لم يجعلوا "أعراباً" جمع "عرب" بالدلالة التي ذكرت، حيث كان الواحد يشمل أشخاصاً أكثر مما يشمله الجمع، كذلك لا يكون "أناس" جمع "إنسان" لضم الجمع

ما وزن "الناس"، وما أصله؟

أشخاصاً غير "الأناس"، وحكم ضربي الجمع: التكسير، والمصوغ من لفظ الواحد، أن يضم آحاده دون آحاد غيره، كما أن حكم الواحد ألا يكون أعم من جمعه، فلذلك لم يكن "أناس" و"إنسان" من هذا الباب كـ"البلصوص" و"البلنصي"، و"شيء" و"أشياء" ونحو ذلك. فإذا لم يجز أن يكون "أُناس" و"إنسان" من هذا الباب، كما لم يجز أن يكون من باب التكسير بالدلالة التي ذكرت، لم يجز أن يكون "أناس" جمع "إنسان" كما لم يجز أن يكون "أعراب" جمع "عرب". وفيما ذكرت في هذا الموضوع وفيما قبله كفاية لمن له فهم. فأما ما ذكره من أنه سألني عن "الناس" على قول سيبويه: ما وزنه؟ وما الدليل على أن الأصل فيه "الأناس"؟ وأني قلت: كما يعتد "خذ" و"كل"، فغلط في الحكاية، ولم يكن جوابي عن مسألته عن الدليل على صحة المذهب، ولكن دللت على ذلك بنحو ما قد نفذ به جوابي أمس إلى حضرة سيدنا، وهو أن الدلالة على ذلك أنهم قالوا "أُناس" و"إنس" ونحو ذلك، فدل قولهم "إنس" إذا كان بمعنى "أُناس" أن الألف في "أُناس" زائدة، وإذا ثبت زيادة الألف ثبت أن الهمزة في "أناس" فاء الفعل، وإذا ثبتت فاء في "أُناس" وكان "الناس" بمعناه، ثبت أن الفاء من "الناس" همزة أيضاً. وقلت بعد ذكر الدلالة: إن حذف الهمزة التي هي فاء من "الناس" لا يدل على أن الفاء ليست بهمزة، كما أن حذفها من "كل" و "خذ" لا يدل على أن الفاء ليست بهمزة، وهذا كلام مستقيم صحيح. وما ذكره من أني شبهت الفعل بالاسم، والكلمة على حرفين بالثلاثي، فكلام ساقط يدل على أن قائله ليس يعرف من التصريف شيئاً، و [لا] من

عبارات أصحابه شيئاً يغني به، وذلك أنهم لا يختلفون في أن قائلاً لو قال: إن الهمزة في "أحمر" زائدة لأنك تقول "الحمرة"، فتشتق منه ما تسقط الهمزة [فيه]، في أن ذلك صواب بمنزلة قوله: الهمزة في "أحمر" زائدة لأنك تقول "احمر زيدٌ" فتشتق منه ما تسقط فيه، فلا يفصلون في ذلك بين الاسم والفعل. وكذلك لو قال قائل: الهمزة في قولنا "اضرب" زائدة لأنك تقول "الضرب"، فتشتق منه ما تسقط فيه، وتقول "ضرب" فتشتق منه ما تسقط فيه. وكذلك لا يختلفون في أن قائلاً لو قال: الهمزة من "أخذٍ" أصل لأنك تقول "أخذ"، ولأنك تقول "الأخذ"، فيستدلون بثباتها إذا كانت أصلاً في الاسم كما يستدلون بثباتها في الفعل، كما استدلوا بسقوطها على أنها زائدة بالفعل تارة وبالاسم أخرى. وليس يلزم إذا اختلف الفعل والاسم في أحكام لهما أن لا يتفقا على وجه ولا موضع، فإذا ثبت الحرف فاء في مصدر لم يكن في الفعل الصادر عنه ولا في سائر الأبنية المأخوذة منه إلا فاء، وكذلك العين واللام. وقوله: "والكلمة التي على حرفين بالثلاثي" فكلام لا وجه له؛ لأنه ليس في هذه الكلم التي جرت شيء على حرفين في الأصل، وإن كان بعضه في اللفظ على ذلك، كما أن "سل" و"عد" و"ثب" و"بع" و"قل" و"عِه حديثاً" و"شِه ثوباً"، وإن كان منها شيء على حرفين وشيء على حرف واحد، فهو كله من الثلاثة. وقوله: "اختلف أهل النحو في "الناس" على أربعة أوجه: فقام قوم:

نَوَسٌ. وقال آخرون: نيسٌ، بالياء واحتجوا بأن الكسائي قرأ {قل أعوذ برب الناس} بالإمالة. وقال آخرون: النسى، بتأخير الياء، فقدمت اللام إلى موضع العين". فإن تعديد هذا الوجه وجعله وجهاً غير الذي تقدمه خطأ؛ لأن هذا نفس الذي ذكره، وليس غيره، فلو جاز أن يعد المقلوب [والمقلوب] عنه وجهين، فيقال: إن المقلوب غير المقلوب عنه، لجاز أن يعد المحذوف والمحذوف منه وجهين، فيصير خمسة أوجه. فهذا غلط في العدد ودلالة على ضعف التمييز، وفيما قدمته من الدلالة على أن الهمزة في "أُناس" فاء الفعل، وما يدل على أن الألف زائدة، وفي كونها زائدة ما يبطل كونها منقلبة، وإذا لم تكن منقلبة سقط هذان القولان اللذان ذكرهما في قسمته، وفسد ما ذهب إليه من انقلاب الألف في "أُناس" عن الياء أو عن الواو. وإذا سقط ذلك لم يبق إلا قول واحد، وهو أن الكلمة فاؤها همزة، وعينها نون، ولامها سين، والألف فيها زائدة. فأما من احتج منهم بأن العين ياء لقراءة من قرأ {قل أعوذ برب الناس} بإمالة الألف، فاحتجاجه بذلك دليل على ضعف بصره بالإمالة، وذلك أنهم قالوا: "مررت ببابه" و"مررت بمال" و"من أهل عاد"، فأمالوا هذه الألفات مع أنها منقلبة عن الواوات، ولا يمتنع من كان من لغته الإمالة في هذا النحو أن يقول: "مررت بكتابه" و"رأيت عماداً"، فيميلون الألف الزائدة للكسرة، كما يميلون المنقلبة عن الياء والواو، فكيف صارت الإمالة فيما ذكره دلالة دون من خالفه فقال: هي من الواو، وهي زائدة!

والقول بأن الألف في "ناس" منقلبة عن ياء أو واو مع ما قام على فساده في اللفظ، فهو ضعيف في المعنى؛ لأن النوس: تذبذب الشيء وتدليه، وحمل "الناس" على هذا المعنى ليس بسهل ولا قريب، ومن ادعى أن الانقلاب في الألف عن الياء كان ممتنعاً من معنى النسيان لأجل اللفظ، وإن كان المعنى لا يمتنع. وقد روي عن بعض السلف أنه قال: إنما سمي الإنسان لأنه نسي، هذا القول لا يساعده ما عليه لفظ الإنسان من البنية. وقولهم في التحقير "أنيسيان" لا يدل على ذلك؛ لأن زيادة الياء كزيادتها في "لييلية". وهذا قول سيبويه. وكما أن الياء في قولهم "أنيسيان" في تحقير "إنسان" لم تدل على أن الاسم من باب النسيان، وأن اللام غير السين عند سيبويه؛ لأن الياء إنما تلحق في التحقير كما لحقت في تحقير "لييلية"، وكما قالوا "عشيشية" و"أصيلال" في تحقير "عشية" و"أصيل"، فألحقوا التحقير زوائد لم تكن في التكبير، فكذلك لا تدل الواو في قولهم "نويس" على أن الواو عين الفعل لما تقدم من الدالة على أن عينها النون. فإن قيل: فكيف قلبت الألف واواً في "نويس" تحقير "ناسٍ" ولم تقلب ياء؟ فالقول في ذلك: إنها لما كانت ثانية زائدة كما أن ألف "فاعلٍ" كذلك، وقد أجمعوا على قلب ألف "فاعلٍ" واواً في التحقير، كذلك قلبوا الألف واواً في "ناسٍ" لموافقتها لها فيما ذكرت.

ويجوز أن تكون قلبت واواً لأنها كما أن فيها شبهاً بألف "فاعلٍ" من الوجهين اللذين ذكرت، ففيها شبه من بنات الثلاثة لوقوعها ثانية من موضع العين، وبنات الثلاثة من هذا النحو الواو أغلب عفيها من الياء؛ لأن سيبويه قال: "إن إبدالها من الواو أكثر"، فعلى هذا أبدلت الواو من ألف "ناسٍ" الزائدة في التحقير. ويدل على غلبة الواو على الياء في هذا الباب أنهم قالوا في تحقير "نابٍ": "نويب"، فأبدلوا من الألف المنقلبة عن الياء الواو في التحقير، قال سيبويه: "فهذا غلط منهم". فإن قيل: فهلا ردت الفاء التي هي همزة عند سيبويه، فقال "أنيس"، ولم يقل "نويس" وقد زعم سيبويه أنه ليس من العرب إلا من يقول "نويس" في تحقيق "ناسٍ"، وهلا دل امتناعهم من رد الهمزة في التحقير على أن الهمزة ليست بفاء؟ فالقول في ذلك: إن الامتناع في رد المحذوف لا دلالة فيه على أن الهمزة فيه ليست بفاء؛ بدلالة أنهم جميعاً حقروا "هاراً" و"ساراً" وهم يريدون "السائر" و"الهائر" المحذوف منهما عيناهما، فقالوا فيهما "سوير" و"وهوير"، ولم يردوا العين. فكما لم يدل امتناعهم من رد العين في التحقير على أن العين ليست من نفس الكلمة، كذلك لا يدل امتناعهم من رد الهمزة في قولهم "نويس" على أن الهمزة ليست فاء. وكذلك قالوا في تحقيق "ميت": "مُييت"، فلم يردوا. وزن ذلك من الفعل "فويل" أو "فييل"، ومن أمثلة التحقير "فعيل". ويختلفون في جواز الرد، فروى يونس أن ناساً يقولون في

"هارٍ": "هويئر". وقاس على ذلك ما أشبهه. وإلى ذلك ذهب أبو عثمان. وذهب سيبويه إلى [أن] من قال "هويئر" لا يقاس على قوله، كما لا يقاس على "أُنيسيان" في تحقير "إنسان" ونحوه. وقوله: "اختلفوا في الناس، فقالوا: قد يكون لمعنى واحد، قال الله تعالى {الذي قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} وكان نعيم بن مسعودٍ". يقول: من ذهب إلى أن "الناس" واحد في هذه الرواية فخطأ؛ لأنه لو جاز أن يكون الناس واقعاً على الواحد؛ لأن القائل لهم {إن الناس قد جمعوا لكم} واحد، لجاز أن يكون الناس في هذه الآية، وهو قوله {إن الناس قد جمعوا لكم} واحداً أيضاً؛ لأنه أبو سفيان بن حرب، وفي امتناع "الناس" أن يكون واحداً في هذه الآية، وإن كان المراد به أبا سفيان، بدلالة إجراء لفظ الجمع عليه، وهو قوله {جمعوا لكم}، دلالة على أن "الناس" المذكورين أولاً في الآية لم يخرجه إجراؤه إياه على المفرد عن أن يكون جمعاً، وإنما هذا لفظ عام وضع في موضع الخاص، فلم يخرجه هذا الاتساع من أن يكون جمعاً. ومثله قوله {تدمر كل شيءٍ بأمر ربها}. ومثله قوله:

الإنسان

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ..................... ومثله: .................. ... ............. ومن لا يَظلم الناس يُظلم وهذا وإن كان على لفظ العموم، فالمراد به الخصوص؛ لأنه ليس كل من لم يَظلم يُظلم لا محالة، ولا كل من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم حوضه، وهذا النحو كثير. ومما يقوي أن "الناس" في قوله {إن الناس قد جمعوا لكم} المراد به واحدٌ، قوله {إنما ذلكم الشيطان يخوِّف أولياءه}، فوقعت الإشارة بقوله {ذلكم} إلى واحد، ولو كان المعنى به جمعاً لكان: إنما أولئكم الشيطان. فهذه دلالة ظاهرة من اللفظ. وقال سيبويه: "سير عليه الدهر والليل"، وذهب فيه إلى أنه على التكثير ووضع العام موضع الخاص، وأن ذلك كما يقول القائل: جاءني أهل الأرض، وعسى أن الذين جاءوه عشرة، وإنما كثرهم. ومثل ذلك "الأبد"، فجعل هذه الأشياء في جواب "كم". وقد قيل: إن التأويل بقوله {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} إن الذي قال وإن الذي جمع من هذا القبيل الذي هو الناس دون الملك والجن. وأما قوله "والإنسان واحد، وقد يكون جمعاً، قال الله تعالى {والعصر *

إن الإنسان لفيل خسرٍ} فالإنسان هنا جنس جمع بدلالة أنه استثنى الجمع منه، وهو قوله {إلا الذين آمنوا} "، فإن القول في ذلك إنه ليس للإنسان بأن يكون جمعاً من هذا الوجه اختصاص ليس لغيره من سائر الأسماء المفردة؛ لأنه إنما صار جمعاً بدخول لام التعريف عليه لتعريف الجنس به والإشارة إلى ما في العقول من معرفته، وعلى هذا قالوا: "أهلك الناس الدينار والدرهم"، و"ذهب الناس بالشاة والبعير"، وأنشد أبو زيد: إن تبخلي يا جُمْلُ أو تعتلِّي ... أو تبصحي في الظاعن المولِّي ومثله في من فتح العين قول الآخر: إني كأني لدى النعمان أخبره ... بعض الأودِّ بقولٍ غير مكذوب واليس في الرقعة التي وصلت إلى عبد سيدنا شيء حكمه أن يتكلم عليه، وفي آخرها حرف لم يبعد فيه، وهو قوله: "وليس يعرف أحد ما أقول، فكيف ينقضه". ومما يصدق هذا أن رقعة من ثلاث رقاع وردت حضرة سيدنا الأمير سيف الدولة، أطال الله بقاءه. فمما ذكره فيها قول الشاعر:

باب تفسير باب من كتاب سيبويه، وهو: باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور

قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... ............................ وتعاطى تفسير الرفع والنصب في الحمام، فقرأت: "ومن رفع الحمام جعله خبر ليت". وهذا -أطال الله بقاء سيدنا- من العويص الذي لا يفهمه أحد، ولا يعرفه، ولا ينقضه، ولا يبرمه. وقد نفذ جواب عبد سيدنا في ذلك على الوجه الذي يعرف. باب ذكرت - أعزك الله - إشكال الباب المترجم بـ"باب من ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور". وسأكتب من ذلك مما رويته ورأيه ما يكون معيناً على معرفته بعون الله. قال: "هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور، وذلك قولك: هذا بسراً أطيب منه رطباً. فإن شيئت جعلته حيناً قد مضى، وإن شئت مستقبلاً نحو إذا كان. وإنما قال الناس: هذا منسوب على إضمار إذا كان فيما يستقبل، وغذ كان فيما مضى؛ لأن هذا لما كان ذا معناه أشبه عندهم أن ينصب على إذ كان". فإذا كان لا يخلو العامل في قولهم "بسراً" من أن يكون "هذا"

أو "أطيب" أو مضمراً هو "إذ كان" و "إذا كان"، فلا يجوز أن يكون العامل فيه "أطيب" وقد تقدم علايه؛ لأن أفعل هذا لا يقوي قوة الفعل فيعمل فيما قبله؛ ألا ترى أنك لا تجيز "ممن أنت أفضل" ولا "ممن أفضل أنت" فتقدم الجار عليه؛ لضعفه أن يعمل فيما تقدمه. فإذا لم يعمل فيما كان متعلقاً بحرف جر إذا تقدم، مع أن ما يكون متعلقاً بحرف الجر قد يعمل فيه ما لا يعمل في غيره نحو "هذا مارٌّ بزيدٍ أمس" و"هذا معطٍ لزيدٍ أمس درهماً"، فأن لا يعمل فيما لم يتعلق بحرف الجر مما يشابه المفعول به أولى. فأما قول الفرزدق: .................... ... أو ما زودت منه أطيب [فشرورة]. وإذا كان كذا لم يعمل "أطيب" في "بسر" المتقدم

عليه، فإذا لم يجز أن يكون العامل "أفعل" كان إما "هذا" [وإما] المضمر. فإن أعملت فيه المضمر الذي هو "إذ كان" لزم أن يكون العامل في "إذ" هذه المضمرة قولك "هذا" أو ما فيه معنى فعل غيره. فإذا كان العامل كذلك، ولم يكن لك بد من إعمال [عامل في] الظرف، أعملت "هذا" في نفس الحال، واستغنيت عن إعمال ذلك المضمر في الحال إذ لابد لك من إعمال شيء فيه، فإذا أعملت "هذا" وتأولت ما ذكره من قوله "إنما قال الناس هذا منصوب على إضمار إذ كان" على إرادتهم معنى هذا الكلام لا حقيقة لفظه، وجعلت "أطيب" خبر "هذا" المبتدأ، وإن كان قد عمل في الحال كما تقول "ضرب زيد عمراً حسنٌ"، فتأتي له بخبر بعدما أعملته في المفعول. فأما قولهم "رُطباً" فالعامل فيه "أطيب". ولا يمنع أن يعمل في رُطب وإن لم يعمل في بسر؛ لأن ما تأخر عنه لا يمنع أن يعمل فيه،

كما عمل في الظرف في قول أوس: فإنا وجدنا العرض أحوج ساعةً ... إلى الصوت من ريطٍ يمانٍ مسهم الا ترى أن "ساعةً" معمول "أحوج" فكما عمل في الظرف كذلك يعمل في الحال إذا تقدم عليها. ولو رفعت فقلت: "أطيب منه رطبٌ" لكان قولك "أطيب منه رطبٌ" خبراً لـ"هذا"، فكان "أطيب" ابتداء، و"رُطب" خبر، والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، ولم يستقم أن يكون "بسراً" خبراً لـ"هذا" مستقلاً به، ويكون "أطيب منه رطبٌ" جملة في موضع الوصف لـ"بسر" النكرة؛ لأن ظروف الزمان لا تكون أخباراً عن الجثث، و"إذ" و"إذا" جميعاً من أسماء الزمان. ولا يجوز على ما أجازه أبو عثمان في قولهم "زيدٌ خيرٌ ما يكون خيرٌ منك" إذا تؤول على ظاهره، أن يكون "بسراً" حالاً من "أطيب منه" مقدماً؛ لأن "أطيب منه" قد انتصب عنه "رطباً" ولا يجوز إذا انتصب عن فعل أو معنى فعل حال أن ينتصب عنه اسم آخر على أنه حال، كما لا ينتصب عنه مفعولان إلا أن تجعل الثاني صفة للأول، ولا يجوز ذلك في هذه الحال، ألا ترى أنه لايستقيم أن تصف "البسر" بـ "الرطب". والذي يحمل عليه هذا الباب أن تنصب "بسراً" على هذا الظاهر الذي ذكره، كأنه قال: هذا إذا كان بسراً، وإذ كان بسراً، أطيب منه إذا كان رطباً، فيكون الظرفان جميعاً متعلقين بـ"أطيب" لأن "أفعل" فيه دلالة على فعلين؛ ألا ترى أن أبا الحسن قد أجاز "أنت اليوم أفضل منك غداً" فعلق الظرفين به، وقال: لأن هنا فعلين. فإذا كان كذلك جاز أن تعلق الظرفين هنا

مررت برج أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون

أيضاً به، فإذا علقتها به انتصب الحالان بالفعلين المضاف إليهما الظرفان، ولا يجوز أن تعمل هذا المعنى في الحالين من حيث أعملته في الظرفين؛ لأن الحال لا تعمل فيها المعاني إذ تقدمت عليهن، وإن جاز أن تعملا في الظرف متقدمة نحو "أكل يومٍ لك ثوبٌ". وهذا هو الذي عليه عمل الباب، قال: "ومنه مررت برجلٍ أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون، وبرجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون، وهو [أخبث ما يكون] أخبث ما تكون. فهذا كله محمول على [مثل] ما حملت عليه ما قبله". قال أبو العباس: سألت أبا عثمان عن قوله "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون": أتجيز الجر في "خير ما تكون"؟ فقال: لا؛ لأنه صفة لـ"خيرٍ منك" وليس من "مررت" في شيء؛ الا ترى أنك تقول: "زيدٌ خير ما يكون خيرٌ منك"، فانتصابه في المبتدأ دلالة على أنه ليس بمتعلق بـ"مررت". إن قلت: كيف أجاز أبو عثمان أن يكون "خير ما يكون" منتصباً عن "خيرٍ" وقد قُدِّم عليه، و"خيرٍ منك" معنى، وما ينتصب عن المعاني من الأحوال لا يتقدم عليها، وقد قدمت أنت في هذا الباب ما يدل على خلاف ما قال أبو عثمان؟ قلنا: قول أبي عثمان يحتمل غير وجه، فإن حملته على أن "خير ما يكون" منتصب بـ"خيرٍ منك" نسفه بغير توسط شيء مع أنه ليس بأسهل

ذلك، فوجهه أن "أفعل منك" قد أشبه الفعل من جهات: منها أنه لم يُثَنّ ولم يُجمع، كما أن الفعل كذلك، ولم يؤنث، وقد وصل تارة بالحرف وتارة بغير الحرف، نحو قوله: {أعلم بمن ضل عن سبيله} و {أعلم من يضل}، وهذا المعنى إنما يكون في الفعل، فإذا وجد هذا الشبه للفعل في شيء أعطي حكمه؛ الا ترى أنهم أموالوا "يا" في النداء حيث وصل مرة باللام ومرة بلا لام، فكما شبه "يا" بالفعل فأميل، كذلك شبه هذا بالفعل فُدم ما ينتصب عنه. ومن شبه "أفعل" الفعل أنه قد أغنى عن الفعل الذي يُعلق في قوله {أعلم من يضل عن سبيله}. ومن شبهه به أن الجار قد قُدّم عليه في الشعر نحو: ................... ... أو ما زودت منه أطيب ومنه أيضاً أنه قد نصب الظرف في قوله: .................. أحوج ساعةً ... ......................... وقال:

فخيرٌ نحن عند الناس منكم ... ........................ فأكد ما فيه. فلما حصل فيه هذه المشابهات بالفعل، جاز أن يقدم ما ينتصب بالحال عليه، إذ كان الحال مشبهاً بالظرف من حيث كان مفعولاً فيه كالظرف، فلما كان الظرف قد عملت فيه المعاني مقدماً، وكان الحال مثله في أن المعنى قد عمل فيه، استجيز في هذا الموضع أن يعمل "أفعل" فيه متقدماً، وإن لم يعمل فيه سائر المعاني متقدماً؛ لهذه المشابهات التي في "أفعل" بالفعل، ولأنه من لفظ الفعل وعلى وزنه، وليس شيء من هذه المشابهات في "خلفك" وقولك "في الدار" ونحوه. فلما اختص "أفعل" بهذه المشابهات، جاز عند أبي عثمان في تأويل قوله على هذا أن يعمل فيها متقدمة عليه، إذ جاز غير ذي شك "زيدٌ منطلقٌ" وإذ قد حمل في هذا الباب أشياء على الاتساع والمجاز؛ ألا ترى أنه قد جاز أن تكون الحال مضافة إلى "ما" التي هي مع الفعل بمنزلة المصدر، نحو "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك". ويحتمل أن يكون قول أبي عثمان "لا، لأنه [صفة] لخيرٍ منك" يريد به أن "خير ما يكون" العامل فيه الفعل المضاف إليه الظرف المحذوف، وذلك الظرف [صفة] لـ"خيرٍ منك"، و"خير منك" لا يمتنع أن يعمل في الظرف إذا تقدمه، وإن امتنع أن يعمل في الحال مقتدمة. وهذا الوجه أسهل وأشبه بمجرى هذا الباب؛ ألا ترى أن سيبويه قد قال: "فهذا كله محمول

زيد خير ما يكون خير منك

على ما حملت عليه ما قبله". والذي ذكر قبل أن ذلك على إذ كان، وإذا كان. ويحتمل أن يكون انتصاب "خير ما يكون" في "زيدٌ خير ما يكون خيرٌ منك"، أنه لما قال "خيرٌ منك" دل هذا الكلام على "يفضلك" فانتصب "خير ما يكون" بالفعل الدال عليه "أفعل". فأما كون المصدر مضافة إليه الحال مع أنه معرفة، وحكم الحال أن تكون نكرة، فقال أبو العباس: سألت أبا عثمان عنه، فقال: جاز أن يكون ما أضيف إليه منتصباً على الحال، وإن كان معرفة، كما جاز أن يكون "جهدك" حالاً. ويجوز فيه - عندي - وجه آخر، وهو أن "ما" هذه قد وقعت وصفاً للنكرة في قولهم "مررت برجلٍ ما شئت من رجلٍ". فكما وقعت وصفاً للنكرة، كذلك تقع حالاً للمعرفة في هذا الموضوع. وهذا كأنه أبين من الأول؛ ألا ترى أن "جهدك" و"العِراك" يدل على "تعترك" و"تجتهد"، و"تعترك" و"تجهد" يقوم مقام "معتركةً" و"جاهداً"، وهذا المصدر - أعني ما مع الفعل الذي يوصل به - لا يدل على ذلك. فإن قلت: أفليس هو معرفة؟

قيل: هو وإن كان معرفة، فقد قدر في هذا الباب [في] أشياء على لفظ المعارف الانفصال، نحو قولك "مررت بناقة عبر الهواجر" و"قيد الأوابد"، وكـ"ضارب زيد غداً" فكذلك يكون هذا. قال أبو عثمان: ويجوز أن يجعل "ما" نكرة، و"يكون" صفة له. قال الحسن أبو علي: إذا جعل "يكون" صفة لـ"ما" كان "ما" بمنزلة "شيء" كما أن قوله {فنِعِمَّا هي} كذلك، صار التقدير: خير شيء يكون، و"شيء" وإن كان على لفظ الواحد، فالمراد به الشياع، وكان في باب إضافة البعض إلى الكل نحو "أفضل رجل" و"أفضل الرجال"؛ لأنه يشيء من الأشياء، كما أنه رجل من الرجال. فإن قلت: فإذا كان قولك "يكون" صفة، فما العائد منه إلى "ما" المنكورة الموصوفة، وهذا الضرب من الصفة لا يخلو من ذكر يعود منه إلى الموصوف؟ فالقول في ذلك: إن "يكون" في قولك "مررت برجلٍ خير ما يكون"، إذا جعلت "ما" نكرة بمنزلة "شيء"، ففيه ضمير "رجل" الموصوف بـ"خير"، وإذا تضمن هذا الضمير لم يجز أن يكون فيه ضمير يرجع إلى "ما". والدليل على تضمنه هذا الضمير قولك "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير

ما تكون" فكما أن في "تكون" ضمير المخاطب، كذلك يصير في "يكون" ضمير الغائب. وإذا لم يخل "يكون" إذا قدرت صفة من ضمير يرجع إلى "ما" الذي قولك "يكون" صفة له، ولم يجز أن يكون الضمير المرفوع الذي للغائب راجعاً إليه، لما ذكرنا من الدلائل على ذلك، وجب أن يعود من غيره، وذلك الغير لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يقدر "يكون" التي بمعنى "وقع وحدث"، وهذا الوجه الذي يحمل عليه هذا الباب. أو طيكون" الأخرى. فإن كانت التي في قوله {وإن كان ذو عسرةٍ} وجب أن يكون التقدير: خير ما يكون عليه، فحذفت الكلمة للدلالة، كما قال سيبويه في قوله {واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً}: إن المعنى فيه، فحذف. وإن قدر فيه الاتساع وحذف الجر وإيصال الفعل إلى المفعول في من حذف الضمير المتصل من الفعل، كقولك "هذا رجل قريب" كان وجهاً. ونظيره فيما حذف هذا الجار منه، وأوصل الفعل، قراءة من قرأ {قدروها تقديراً}، أي: عليها. وقال الأخطل:

مررت برجل خير ما يكون خير منك

كأنه واضح الأقراب في لقحٍ ... أسمى بهن، وعزته الأناصيل أي: عزت عليه. وإن قدرت "يكون" المقتضية للخبر كان التقدير: خير شيء يكونه، ثم حذف الضمير من الصفة. وهذا الوجه الذي تأول عليه أبو عثمان "ما" من أنها نكرة، أوضح في التقدير من الوجوه الأخر؛ ألا ترى أن "خير ما يكون" في قولك "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون" لا يخلو من أن يكون حالاً لـ"رجل" في المعنى أو للمخاطب، وكل واحد منهما شيء من أشياء. ولو قلت "هذا رجل خير شيء" أو "أنت خير شيء" لمخاطب، كان مستقيماً، وكنت مضيفاً لـ"أفعل" إلى ما هو بعض له. والوجه الآخر هو الذي تكون "ما" فيه بمنزلة الأحوال، وكالعبارة عنها، ليس كذلك؛ ألا ترى أن "الرجل" و"زيداً" ونحوهما ليسا بالأحوال ولا منها، وإنما يجوز على الاتساع، وعلى ضرب من التقدير نذكره إن شاء الله، وهو وإن كان أغمض، فعليه أكثر الناس. والفرق بين الفصل الثاني والفصل الأول اللذين قدمناهما، أن الاسم المنتصب على الحال في الفصل الثاني معرفة للإضافة إلى المعرفة، والاسم المنتصب على الحال في الفصل الأول نكرة. وقوله "فهذا كله محمول على حملت عليه ما قبله" أي: كل هذه المعارف المنصوبة على الحال، وهو "بسراً" و"رُطباً"؛ لئلا يظن أن اختلافهما في التعريف والتنكير يمنع أن يحمل القبيلان على أمر واحد. قال: "وإن شئت قلت: مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٌ منك، كأنه

البر أرخص ما يكون قفيزان

يقول: مررت برجلٍ خير أحواله خيرٌ منك، أي خيرٌ من أحوالك. وجاز له أن يقول: خيرٌ منك، وهو يريد: خير من أحوالك، كما جاز أن تقول: نهارك صائمٌ". وإذا قال "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٌ منك" فالجملة صفة للنكرة، والكلام على وجهه لا اتساع، كما كان فيه إذا نصب "خير ما يكون" على الحال من تنزيل العين منزلة الحدث. فأما الذي فيه من الاتساع فإقامة المضاف إليه مقام المضاف في قوله "خيرٌ منك"، وهو يريد: خيرٌ من أحوالك، كما أن قولهم "نهارك صائمٌ" كذلك؛ لأن تقديره على ما يدل على تشبيهه في هذا الموضع حذف المضاف، أي: صاحب نهارك، وذو نهارك صائم، وهو هو. وقد حمل على هذا الوجه في موضع آخر. ويجوز في "نهارك صائمٌ" أن يكون الكلام على وجهه، لا يقدر فيه حذف المضاف، ولكن نسب الصيام إلى النهار لما كان فيه، كان أسند السير إلى الفرسخين لما فعل فيهما في قوله "سير به فرسخان"، وكما أُسندت الولادة إلى الستين في قوله "وُلِد له ستون عاماً" لما كان الولادة فيها. قال: "وتقول: البُر أرخص ما يكون قفيزان، أي: البُر أرخص أحواله قفيزان".

البر: مبتدأ، وأرخص ما يكون: مبتدأ ثان، فيه ذكره عائد على الأول. وقفيزان: خبر المبتدأ الثاني، و"أرخص ما يكون" في هذه المواضع على ما ينبغي أن يكون عليه في القياس، وليس هو على حد قولك "مررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون"؛ ألا ترى أن الموصوف في هذا الموضع بمنزلة الحدث. وكذلك في قولك "أخطب ما يكون عبد الله قائماً". وليس في قولك "البُر أرخص ما يكون قفيزان" كذلك؛ لأنه في هذا الموضع بمنزلة قولك "زيدٌ أحسن أحواله القيام"، فـ"أحسن" في قولك "أحسن أحواله" عبارة عن حال من أحوال هي أحداها، و"القيام" هو هي في المعنى. فإن قلت: إن خبر المبتدأ إذا كان مفرداً كان الأول في المعنى، وليس القفيزان بالأرخص في المعنى؛ لأن الأرخص يراد به الحدث، والقفيزان عبارة عن العين المكيل به، والعين لا تكون الحدث! فالقول: إن المضاف محذوف، والتقدير: أرخص أحواله بيع قفيزين، أو تسعير قفيزين، فأقيم المضاف إليه مقامه لكثرة ذلك في كلامهم والعلم بالمعنى؛ الا ترى أنهم قد حذفوا منه الثمن الذي هو "بدرهم" أو "بدينار" ونحو ذلك لهذا المعنى، فكما حذفوا هذا الذي ذكرت البتة، كما حذفوا من قولهم "الكُرُّ بستين"، كذلك أقاموا المضاف إليه مقام المضاف في قولهم "أرخص ما يكون قفيزان" والتقدير ما تقدم. وقوله "البر أرخص أحواله التي يكون عليها" إنما وصف الأحوال التي يكون عليها؛ ليعلم بذلك أن القفيزين خبر المبتدأ، وأنه ليس من كلام آخر ولا جملة أخرى، وليس على حد قولك "أخطب ما يكون زيدٌ أحسن ما يكون" إذا جعلتهما خبرين لما قبلهما من المبتدأ، فأراد أن يعلم أن "أرخص ما يكون" في قولك "البُر أرخص ما يكون" مبتدأ ثانٍ، وليس بخبر ابتداء؛ لأن "أرخص ما يكون ونحوه إذا كان خبر

الحرب أول ما تكون فتية

الابتداء في الموضع الذي ذكرنا لا يوصف. وعلى هذا أيضاً قال: "كأنك قلت: البُر أرخص أحواله" ليبين أنه مبتدأ ثان لا خبر؛ ألا ترى أن من قال "زيد أحسن ما يكون"، فجعله خبر المبتدأ، لم يقل "زيد أحسن أحواله"؛ لأن الاتساع على هذا وقع، كما أن معنى التعجب إنما وقع في قولك "ما أحسن عبد الله"، ولم يستقم "شيءٌ أحسن عبد الله"، وإن تقارب المعنيان. فإن قلت: لم لا يكون قوله "التي يكون عليها" صفة لـ"أرخص" دون الأحوال؟ قيل: لأن "أرخص" مذكر، فلو كانت الصفة له لوجب أن يكون مذكراً، ولا تحمله على "ذهبت بعض أصابعه"؛ لأن القصد فيه أن يُعلم أنه إذا وصف لم يكن الذي يقع خبراً للمتبدأ في نحو "زيدٌ أحسن ما يكون". قال: "ومن ذلك هذا البيت، يُنشد على أوجه، بعضهم يقول: الحرب أول ما تكن فتيةٌ ... ..................... أي: الحرب أولها فتيةٌ، ولكنه أنث الأول كما تقول: ذهبت بعض أصابعه". هذا مثل قوله: "البُر أرخص ما يكون قفيزان"، وأنت الأول

لأنه الفتية في المعنى، كما أنث البعض لما كان إصبعاً في المعنى. والعائد على المبتدأ الأول الذي هو "الحرب" الذكر الذي في "تكون". وقوله "أي: الحرب أولها فتيَّةٌ" تقديره: الحرب أول أحوالها فتيةٌ، إلا أنه مثله بقوله "أولها" دون "أول أحوالها"؛ لأنه قد مثّل على التمام فيما تقدم، فعلم أن المراد به مثل ما تقدم. قال: "وبعضهم يقول: الحرب أول ما تكون فتيَّةٌ ... ..................... أي: الحرب فتيةٌ إذا كانت في ذلك الحين". "أول ما تكون" في هذه المسألة ينتصب على الحال، والتقدير عنده: الحرب إذا كانت أول ما تكون فتيةٌ، فـ"إذا" تتعلق بـ"فتية"؛ لأن الظرف لا يمنع أن يتقدم على المعاني التي تعمل فيه، كقولك "أكل يوم لك ثوب"؟ فإذا جاز تقدم الظرف جاز انتصاب الأول على الفعل المضاف إليه الظرف، وهو "إذ كان"، أو "إذا كان". فإن قلت: "أول" قد ينتصب على الظرف في نحو "جئت أول الناس"، فهلا جاز أن ينتصب أيضاً على الظرف في قوله: الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... ...................... دون الحال؟ قيل: مذهب سيبويه فيه أنه منتصب على الحال، وإن كان الاسم في هذا النحو لا يمتنع أن ينتصب على الظرف؛ ألا ترى أنه قد قال: "ومن رفع الفتية ونصب الأول على الحال قال: البُر أرخص ما يكون قفيزان". ويدل

على انتصابه على الحال أن الأسماء التي لا تكون ظروفاً تقع ههنا وتنتصب على الحال، فكما ينتصب ما يكون غير ظرف على الحال، كذلك ينتصب ما يكون ظرفاً عليها، وتقديره إذا انتصب على الحال: الحرب مبتدأةً فتيةٌ. وأجاز أبو عمر انتصابه على الظرف. وقوله "أي: الحرب فتيةٌ إذا كانت في ذلك الحين"، إنما مثله هذا التمثيل ليُعلم أن ما تعلق به الحال معمول "فتية" دون "الحرف"؛ لأن إيقاعه بعده كأنه أشد إيضاحاً بهذا المعنى وأبين. فإن قلت: لا يدل قوله "أي: الحرب فتيةٌ إذا كانت في ذلك الحين" على أن "أول" ينتصب عنده على الظرف؛ لتمثيله إياه بما هو ظرف. قيل: لما نص عليه بعد، ولأن قوله "في ذلك الحين" وإن كان فيه ما يكون ظرفاً، فإنه لا يمتنع أن يقع حالاً، والحال تمتنع أن تقع ظرفاً. قال: "وبعضهم يقول: الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... ...................... كأنه قال: الحرب أولها إذا كانت فتيةٌ، كما تقول: عبد الله أحسن ما يكون قائماً". تجعل "قائماً" خبر "أحسن" في المعنى. قوله: "كأنه قال: الحرب أولها إذا كانت فتيةً"، إنما أضاف الأول إلى الضمير لتعلم بذلك أنه ليس لـ"تكون" من قوله "أول ما تكون" عمل في "فتيةً"؛ ألا ترى أن الضمير المضاف إليه "أول" لا يجوز أن يعمل في حال، فكما لم يعمل في الحال هذا الضمير، فكذلك إذا أظهر ما هذا الضمير في موضعه لم يعمل فيها، وإذا لم يعمل "تكون" في هذه الحال، كان "اول" في قولك "الحرب أول ما تكون فتيةً" مرتفعاً بأنه مبتدأ ثانٍ، وهو عبارة عن حدث؛ لأنه مضاف إلى حدث هو بعضها. وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون ظرف الزمان خبراً عنه، وإذا صار خبراً عنه أضيف إلى الفعل المنتصب عنه "فُتَيَّةً" على

الحال، ثم حذف الفعل لدلالة المنصوب عليه، وكان الأصل: الحرب أولها إذا كانت فُتيةً. وكذلك قولك "عبد الله أحسن ما يكون قائماً"، تقديره: عبد الله أحسن أحواله يقع ويحدث إذا كان قائماً، فـ"إذا" و"إذ" يتعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ، وهو "يقع"، كما أن قولك "القتال يوم الجمعة" كذلك، ثم حذفت الظرف، فصار "قائماً" في موضع "الخبر" لدلالته على الظرف المحذوف الذي هو الخبر. فإن قلت: فـ"قائماً" المنتصب على الحال حالٌ لأي شيء هو والضمير في "كان" في قولك "عبد الله أحسن ما يكون إذا كان قائماً"؟ ألِقولك "ما يكون"، أو لضمير الاسم الأول الذي هو "الحرب"، أو "عبد الله"؟ فالقول: إن الحال تكون للضمير الذي هو الاسم الأول دون قولك "ما يكون"؛ ألا ترى أنه قد قال في التمثيل "كأنه قال: الحرب أولها إذا كانت فُتيةً"، فدل ثبات علامة التأنيث في "كانت" على أن ما فيه يعود إلى "الحرب" لا إلى "الأول"؛ لأن الأول مذكر. ولا تحمله على "ذهبت بعض أصابعه"؛ لأن غيره أظهر. وقال: "ومن رفع الفتية أيضاً ونصب الأول على الحال قال: البُر أرخص ما يكون قفيزان. ومن نصب الفتية ورفع الأول قال: البُر أرخص ما يكون قفيزين". اعلم أن سيبويه ليس يفصل بين المبتدأ الأول في هذا الباب إذا كان حدثاً وبينه إذا كان عيناً، في أن الظرف الذي يتعلق به المحذوف المضاف إلى ما ينتصب الحال عنه لا يتعلق به، كما لا يتعلق بما هو عبارة عن عين؛ ألا ترى أنه إذا قال: "ومن رفع الفُتية ونصب الأول على الحال"، يريد

"الأول" في قوله: أول ما تكون فُتيةٌ، قال: البُر أرخص ما يكون، فجعل انتصاب "أول ما يكون" بعد "الحرب" كانتصاب "أرخص ما يكون" بعد "البُر"، ولم يجعل تعلق "أول ما تكون" بـ"الحرب" وإن كان اسماً لحدث، كما لم يجعل تعلق "أرخص" بـ"البُر". فإن قلت: هلا أجاز أن يتعلق الظرف المحذوف بـ"الحرب"، وإن لم يجز أن يتعلق بـ"البُر"؛ لأن "الحرب" اسم حدث، وظروف الزمان قد تتعلق بأسماء الأحداث، وتعمل فيها؛ ألا ترى أنك تقول "القتال يوم الجمعة"، فتجعله خبراً عنه، و"القتال يوم الجمعة واقعاً"، فتجعله متعلقاً بالمصدر؟ قيل: إن "الحرب" وإن كان اسماً لحدث، فكأنه قد أزيل عما ينبغي أن يكون عليه في أصله، فصارت كالأسماء التي ليست بأحداث، كما أن "دَرَّاً" من قولك "لله درُّك" قد أزيل عن أصله؛ ألا ترى أن سبيويه قد قال فيه: "هو بمنزلة لله بلادُك". وكذلك "صاحب" وإن كان في أصل اسم فاعل مثل "قائم"، فقد صار لا يعمل عمله، ولا يجري مجراه، فكذلك "الحرب". فإن قلت: فإذا لم تجعل تعلق الظرف المحذوف المتعلق به "أرخص" بـ"البُر"، كما لم يتعلق "أول ما تكون" بـ"الحرب"، ولم يسغ أن يتعلق "أخرص ما يكون" بقولك "قفيزان"؛ لأن القفيزين ليس بحدث، وإنما هو عبارة عن العين التي هي مكيال. فإذا كان كذلك لم يكن كـ"فُتية" في قولك "الحرب أول ما تكون فتيةٌ"؛ لأن في "فتية" معنى الفعل، فجاز أن يتعلق به الظرف لذلك، وإن لم يتعلق بالقفيزين لتعرّيه من معنى الفعل، فبم يتعلق الظرف المحذوف المنتصب "أرخص" عما اتصل به؟ فالقول: غن القفيزين وإن كان عبارة عن العين كما ذكرت، فـ"الشعير"

لا يقع عليهما، وإنما يقع على ملئهما. فإذا كان كذلك كان التقدير: البُر أرخص ما يكون ملء قفيزين، ومكيل قفيزين، فتعلق الظرف بهذا المحذوف المراد الذي لا يصح الكلام إلا على تقديره، وإذا لم تقدره لم يستقم؛ لأن القفيزين لا يكونان البُر، وخبر المبتدأ ينبغي أن يكون الأول، فإذا كان كذلك لم يكن من تقدير فيه يصح الكلام به بُد، فإذا حصل فيه من معنى الفعل ما يوجبه تصحيح الكلام، تعلق [به] الظرف المتصلة به الحال، كما يتعلق بقوله "فُتية"، وجاز انتصاب الحال عنه إذ جاز انتصاب الحال عن الظرف المضمر في نحو قول من قدر: ................. ... .................. وإذ ما مِثلهم بشر على الحال. وكذلك قول الآخر: بحران ما مثلهما بحران فإذا جاز إضمار الظروف وإعمالها في الحال كان إضمار هذا أسوغ وأحسن؛ لأن حذف المضاف قد كثر جداً، ولأن المضاف بمنزلة الفعل، والأفعال تعمل مضمرة كثيراً، وعلى أن المضاف إذا كان في تقدير الثبات كان بمنزلة الملفوظ به؛ ألا ترى أن علامة التأنيث قد ثبتت في نحو (كذّبت قبلهم

قوم نوحٍ) حيث كانت الجماعة المرادة بمنزلة المثبتة في اللفظ. فكما أنه في هذا الموضع بمنزلة المثبت، كذلك يكون في مسألتنا بمنزلة المثبت. وإذا كان كذلك كان هو العامل في الحال. ومن ذلك قوله (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة). قياس قوله أن يكون "جميعاً" مثل "أرخص ما يكون" في قولك "البُر أرخص ما يكون قفيزان"، وتجعل الأرض القبضة على الاتساع، كما تقول "عتابك السيف"، ولا تجعله على حذف المضاف وإن كان المعنى عليه؛ لأن ما يتعلق بالمضاف إليه لا يتقدم على المضاف؛ ألا ترى أنه لم يجز "القتال زيداً حين تأتي"، والأرض مجتمعة متذللة، فـ"جميعاً" متعلق بمعنى الفعل في "القبضة"، كما كان "أول ما تكون" متعلقاً بما في "الفُتية". فإن قلت: فلم لا يستقيم أن أقدرها على غير الاتساع، نحو "عتابُك السيف"، ولكن على حذف المضاف، كأنه "والأرض جميعاً ذات قبضته"، وأحمل الحال على المعنى؛ لأن معنى "ذات قبضته": "متذللة" أو "منقادة" أو نحو ذلك، كما حملت الظرف في قوله {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين} على المعنى في {لا بشرى يومئذٍ}؟ قيل: إن هذا الذي ذكرته لا يمتنع في الظرف والحال، إذ قد جاء في المفعول نحو ما أنشدناه عليُّ بن سليمان:

عبد الله أحسن ما يكون قائما

تبدل خليلاً بن كشكلك شكله ... فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي فإن قلت: فلم لا يكون قوله (والأرض) مرتفعاً بالابتداء، و"قبضته" مرتفعاً بأنه ابتداء ثانٍ؛ لأن القبضة ليست بالأرض، و"جميعاً" منتصباً بـ"إذا تكون"، كأنه: والأرض قبضته إذا تكون جميعاً، فتكون "إذا" خبراً عن القبضة؛ لأنه مصدر، وقد قدمت خبر المبتدأ مثل قولك "يوم الجمعة القتال"؟ قيل: يحمل هذا على ما حملنا عليه قوله "البُر أرخص ما يكون قفيزان"؛ ألا ترى أن القفيزين ليس بمصدر، وقد جاء فيما قبله النصب، كما جاز النصب فيما قبل القفيزين، وإن لم يكن اسم حدث، كذلك يكون فيما كان اسم حدث على هذا الحد. وقوله: "ومن نصب الفتية ورفع الأول قال: البُر أرخص ما يكون قفيزين". فالبُر: مبتدأ. وأرخص: مبتدأ ثان؛ لأنه ليس البُ {، ألا ترى أنه مضاف إلى أحوال، فهو بعضها، وليس البُر بالأحوال، و"قفيزين": يتصلان بالظرف المحذوف، وذلك الظرف المحذوف خبر "أرخص"؛ لأن ظروف الزمان تكون أخباراً عن الأحداث، فالظروف التي تتصل بها الحال المحذوفة تتعلق بمحذوف كقولك "القتال يوم الجمعة". وهذا أوضح من الوجه الذي قبله. وفي بعض النسخ: "فالخبر مضمر". والمعنى فيه أن خبر المبتدأ الذي هو "أرخص" محذوف لدلالة ما ذكر منه عليه. قال: "وأما عبد الله أحسن ما يكون قائماً فلا يكون فيه إلا النصب - يعني قائماً - لأنه لا يجوز لك أن تجعل أحسن أحواله قائم على وجه من الوجوه".

اعلم أنهم قد جعلوا في مواضع من كلامهم للاتساع المعاني بمنزلة الأعيان، والأعيان بمنزلة المعاني، على ما نذكر صدراً منه في هذا الباب ليتضح به بعض مشكله إن شاء الله تعالى. قالوا "شعرٌ شاعرٌ" و"موتٌ مائتٌ" و"شغلٌ شاغلٌ". والقول في "فاعلٍ" في هذا الموضع: إنه لا يخلو من أن يراد به النسب أو الجاري على الفعل، فيبعد أن يراد الجاري لرفضهم الفعل في ذلك وتركهم إسناده إليه، فإذا بعد هذا وامتنع ثبت الوجه الآخر، وهو النسب، كما قال الخليل: "إنه بمنزلة همٌّ ناصبٌ". وكأن المعنى فيه المبالغة والتفخيم، كأنه إذا قال "شعر شاعرٌ"، فقد أخبر أنه شعر مستقل بنفسه وغير مفتقر إلى شاعر، فصار في ذلك تشبيه له بالعين، ولم يصح المعنى إلا على ذلك؛ ألا ترى أن الموت لا يكون ذا موت، والشعر لا يكون ذا شعر في الحقيقة، كما لا يسند إليه "مات" ولا شيء من هذه الأمثلة في الحقيقة. وإذا جاز تشبيه المعنى بالعين للمبالغة في أمره والرفع منه، جاز أيضاً تشبيه العين بالمعنى إذا أكثر من محاولة ذلك المعنى، وكثر أخذه فيه وإكثاره منه، فتقول على ذلك "أبو حنيفة الفقه" و {إن أصبح ماؤكم غوراً}، كما قالوا "شِعرٌ شاعرٌ". والدلالة على استعمالهم لذلك قول ابن مقبل: إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها شاعراً مثلي أطب وأشعرا وأكثر بيتاً شاعراً ضربت به ... بطون جبال الشعر حتى تيسرا فكما أن في قوله "وأكثر بيتاً شاعراً" دلالة على أنه جعل المعنى بمنزلة

زيد إقبال وإدبار

العين، كذلك في قوله "ضربت به بطون جبال الشعر" دلالة على ذلك؛ ألا ترى أن أثبت له ما يكون للأعيان. وأما الدلالة على جعلهم الأعيان بمنزلة المعاني فقولهم "زيدٌ إقبالٌ وإدبارٌ"، إذا أكثر من ذلك، [على أنه جعله إياهما] على حذف المضاف. والدليل على أن ما ذكرنا معنى مقصود إليه على حذف المضاف قول البعيث: ألا أصبحت خنساء جازمة الوصل ... وضنَّت علينا، والضنين من البخل فكما جاز أن يقال "الضنين من البخل" كما يقال "الخاتم من الفضة"، كذلك يجوز أن يقال "زيدٌ بخلٌ" على هذا الحد دون غيره من الحذف. فإن قلت: ما تنكر أن يكون ذلك على القلب، كأنه أراد: والبخل من الضنين؟ قيل: هذا ليس يشهل لضعف المعنى وقلة الفائدة؛ ألا ترى أنه معلوم

أن البخل من الضنين لا من غيره. وإذا كان كذلك كان في الامتناع مثل الإخبار عن الهاء في قولك "زيدٌ ضربته". ومثل قولك "الذاهبة جاريته صاحبها"، ونحو ذلك مما لا يكون في خبره فائدة ولا زيادة على ما في المبتدأ، وليس المعنى إذا حمل على ما قلنا على هذا الضعف؛ لأن فيه مبالغة في الذم، كما أنه لو قيل: البخيل من طينة سوء، ومن عنصر خبث، كان مبالغة في الذم. وعلى هذا أيضاً قول البعيث: .......................... ... وهن من الإخلاف قبلك والمطل فإن قلت: ما تنكر أن يكون أيضاً "البخل من الضنين" على الحمل على المعنى؛ لأن الضنين مذموم، فكأنه قال: البخل من المذموم، كما كان معنى الضنين من البخل: الضنين من أصل سوء؟ قيل: ليس الحمل على المعنى بمستعمل في كل موضع؛ ألا ترى أنه لو ساغ هذا لجام "الضرب من الضارب" يريد به: الحاذق به أو المتأتي له، و"الشتم من الشاتم" يريد به: من البذيٌ. وبعد، فلو كان ذلك سائغاً كما ساغ الأول لكان ما قلنا أرجح لكون الظاهر عليه. ومما يدل على أن هذا ليس على القلب، وأنه على النحو الذي نحوناه، ما حكى لنا من لا يتهم أن أحمد بن يحيى أنشده: ألا في سبيل الله تغيير لمتى ... ووجهك مما في القوارير أصفرا فجعل وجهها مما في القوارير من الخلوق أو نحوه من الطيب لكثرة

إني مما أفعل، وإني مما أن أفعل

استعمالهم لذلك. فكما أنه لا سبيل إلى القلب هنا، ولا مصرف للكلام إلا إلى هذا الظاهر الذي هو عليه، كذلك ما تقدم من الأبيات. ومما يقرب من هذا قوله: ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا فأما قولهم "إني مما أفعل" و"إني مما أن أفعل" فالظاهر فيه أنه من هذا الباب، وأنه يراد به إكثاره من ذلك ومحاولته له. وعلى هذا قوله: وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ... على رأسه تلقي اللسان من الفم كأن المعنى: إنا منشؤون من ذلك لكثرة فعلنا إياه واعتيادنا له. فقولك "إني مما أن أفعل" كقولك "إني في الدار". فأما قولك "أن أفعل" فيحتمل ضربين: أحدهما أن يكون "أن أفعل" بدلاً من "ما"، ويكون "ما" نكرة، كأنه قال: إني من أمرٍ فعله، أي: من فعل

أمر، فيكون مثل "إني في الدار". والمعنى كثير الاهتمام به والخوض والشروع/ فيه، كقوله: .......................... ... وهن من الإخلاف قبلك والمطل ونحو ذلك، وفي البدل منه تخصيص له، كما يكون في الصفةـ، على أنه قد جاء "من أحسن زيداً" و {فنعما هي} بلا صفة. والآخر: أن تكون حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه، فصار المعنى: إني من أمرٍ صاحبِ أن أفعل ذاك، فيكون قولك: "من أمرٍ" و "صاحب أنْ أَفْعَلَ" جميعاً الخبر، كقولك "حلوٌ حامضٌ". وهذا في المعنى مثل الأول إلا فيما انضم إلى الخبر من زيادة الجزء الآخر، واقتضاء الظرف لما يتعلق به في هذا الوجه كاقتضائه في الوجه الأول. وإذا كان كذلك كان في هذا الوجه أيضاً دلالة على ما نحوناه في هذا الباب من تشبيههم العين بالمعنى. فأما قولهم "إني مما أفعل" فيجوز أن تكون "ما" فيه نكرة، وتكون "أَفْعَل" صفة له، أي: إني من شيء أفعله. ويجوز أن تكون "ما" معرفة، و "أَفْعَل" صِلَتُهُ، والمعنى على ما تقدم. ويجوز أن تكون "ما" كافة مثل "إني رُبما أفعل" في الكف لا في المعنى، وما يتعلق به الحرف وهو مكفوف عن عمله هو ما يتعلق به و "ما" غير كافة؛ ألا ترى أن "بَعْدَ" في قوله:

أخطب ما يكون الأمير قائما

....... بعدما ... أفنان رأسك ................. إذا كففتها عن العمل تقتضي ما يتعلق به، كما تقتضيه إذا لم تكن كافة، فهذا مما يدلك على جواز "زيدٌ من البخل، ومن الشجاعة" وما أشبه ذلك، وإذا ساغ ذلك في كلامهم، وكان معنى قد استعملوه في هذه المواضع ونحوها، كان قولهم "أخطب ما يكون الأمير قائماً" من هذا الباب عندي؛ ألا ترى أن "أَفْعَلَ" لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له، وقولهم "ما يكون" عبارة عن الأحوال، فلولا أن "الأمير" و "زيداً" ونحوهما قد تنزل عندهم منزلة الحدث ما جازت إضافة واحد من الآحاد التي هي عبارات عن الأشخاص إلى هذه الأحوال، فقولهم "أخطب ما يكون زيدٌ قائماً" إنما هو على قول من قال "زيدٌ خطبةٌ"، فجعله إياها لإجادته لها ومهارته بها وكثرة تعاطيه وخوضه فيها. فإذا كان كذلك انتصب "قائماً" من قولك "أخطب ما يكون زيدٌ قائماً" على تقدير "إذ كان" و "إذا كان". وكان إضمار ذلك سائغاً لأنه حيث صار "أخطب" ونحوه عبارة عن حدث على الاتساع، لم يمتنع أن تقع أخبارها أزمنة؛ ألا ترى أنك تقول "القتالُ يوم الجمعة". فالحال من الجملة المضاف غليها ظرف الزمان المحذوف./ ويدل على صحة هذا التقدير والتأويل أنهم قد جعلوا خبره الظرف من الزمان، فقالوا "أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة"؛ أفلا ترى أنه لا يخلو من أن يكون منقولاً كما وصفنا، أو متروكاً على أصله،

عبد الله أخطب ما يكون قائم

ولو كان متروكاً على أصله لم يجز هذا فيه. فإذا كان كذلك دلك على أنه منقول كما وصفنا. فأما قول أبي الحسن "عبد الله أخطب ما يكون قائمٌ" فهو قبيح قريب من الامتناع، وذلك أن "أخطب" قد خرج من أصله، وألزم ما دل على ذلك من الإضافة إلى الأحداث، فإذا أضيف إلى الأحداث كان منزلاً على الاتساع حدثاً، فإذا رفعته مع هذا الذي ذكرنا أنه قد أُلزمه، فقد نقضت ذلك الغرض، فقبُح ذلك وبعُد لإلزامهم إياه ما يدل على إخراجه عن أصله، فالرفع في الخبر، مع إضافة المبتدأ إلى ما يجعله حدثاً، لا يستقيم؛ لأنك كأنك الآن تخبر عن الحال بالقيام، والحال لا تقوم، فتعيده بذلك إلى ما قد أخرج عنه. فإن قلت: فإن القيام قد يكون عبارة عما هو خلاف القعود كقولهم "قام البيع" و {ما دمت عليه قائماً}، فما تنكر أن تخبر عن الحال هنا بقيام على هذا الحد ليس على الذي هو خلاف القعود؟ فإن ذلك لا يستقيم؛ ألا ترى أن المراد إنما هو خلاف القعود، وليس الآخر، فلا يستقيم الرفع لهذا؛ ألا ترى أن الآخر ليس بالأول؛ لأن "أحسن" الذي هو حال مضاف إلى جملة أحوال لا توصف بهذا الوصف، ولا يصح فيه من حيث لم يكن خبر المبتدأ، فإذا لم يجز ذلك جعلته حالاً من الذكر الذي في "كان" المضاف إليها الظرف المحذوف. ووجه قول أبي الحسن أنه يحمله على المعنى؛ لأن "أخطب" وإن كان قد جعل عبارة عن حدث بدلالة إضافته إلى الأحداث، فهو في الأصل والحقيقة على غير ذلك، فتحمل الكلام على الأصل والمعنى، وهذا قبيح لأن هذا الأصل قد أزيل عنه، وألزم ما خرج عن ذلك، فقبح أن ترده إلى الأصل

عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة، والبداوة أطيب ما تكون شهري ربيع

مع مصاحبة ما يكون مُخرجاً له منه، وقد استقبحوا ما هو دون ذا؛ ألا ترى أنه قد جاء {من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم}، ولا تكاد تجد الإفراد بعد الجمع، فهذا أجدر أن يستقبح ويمتنع منه. ومثل قول أبي الحسن في هذا ما رآه في قوله: لا هيثم الليلة للمطي و"غابت الثُريا فلا ثُريا لك"، / أنه وإن صار على لفظ النكرة لم يجز وصفه بالنكرة؛ لأنه في الأصل معرفة، والتقدير فيه ذاك، فراعى فيه الأصل دون ما عليه اللفظ الآن، فكذلك راعى في "أخطبُ ما يكون عبد الله قائمٌ" ما عليه الأصل دون ما عليه اللفظ. قال: وتقول "عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة" و "البداوة أطيب ما تكون البداوة في شهري ربيع، جمعُه بين قوله "عبد اله أخطب ما يكون يوم الجمعة" و "البداوة أطيب ما تكون شهري ربيع"، مع أن أحد الأسمين عبارة عن جثة والآخر عبارة عن حدث، فيه تنبيه على أن العين في هذا الباب قد جرى مجرى الحدث، ونزل منزلته، ولذلك اجتمعا في أن جعل ظرف الزمان خبراً عن كل واحد منهما، و "أخطب" في المسألة، وإن كان في المعنى لعبد الله، فقد تنزل منزلة الحدث لإضافته إلى قوله "ما يكون". وإذا كان كذلك فكذلك "أحسن" في قوله "عبد الله أحسن ما يكون قائماً" لعبد الله

أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة شهرا ربيع

بدلالة أن "أخطب" لا يكون إلا له؛ ألا ترى أن الأحوال لا تخطب، ولا يجوز وصفها بذلك، وإن جاز أن توصف بالحسن والقبح، فإذا وقع في هذا الموضع ما لا يكون إلا لعبد الله، كان في ذلك دلالة على أن ما يجوز أن يكون صفة لعبد الله ولغيره يكون لعبد الله، بدلالة وقوع "أخطب" ونحوه مما يختص هو بالوصف به دون أحواله له. وقوله "كأنه قال: أخطبُ ما يكونُ عبد الله في يوم الجمعة" يريد: أن معنى "عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة" معنى "أخطب ما يكون عبد الله في يوم الجمعة"، كما أنك إذا قلت "عبد الله جاد قوله يوم الجمعة" معناه: جاد قول عبد الله يوم الجمعة، وإن كنت لما قدمت "عبد الله" فارتفع بالابتداء زاد في الكلام اسم مبتدأ وقع الفعل في موضع خبره، فكما أن معنى "عبد الله قام أبوه" معنى "قام أبو عبد الله"، فكذلك "عبد الله أحسن ما يكون قائماً" في المعنى كقولك "أحسن ما يكون عبد الله قائماً". قال: ومن العرب من يقول: أخطبُ ما يكون الأمير يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة شهرا ربيع، كأنه قال: أخطب أيام عبد الله يوم الجمعة، وأطيب أزمنة البداوة شهرا ربيع. وجاز "أخطب أيامه/ يوم الجمعة" على سعة الكلام، كأنه قال: أطيبُ الأزمنة التي تكون فيها البداوة شهرا ربيع، وأخطب الأيام التي يكون عبد الله فيها خطيباً يوم الجمعة، [في] هذه المسألة في أنها قد اتسع فيها مثل ما تقدمها، وإن اختلفت جهتا الاتساع في أنه قد نزل العين في الأول منزلة المعاني، ولم يسغ في هذه بأن أُسندت الخطبة إلى الزمان الذي يكون فيه، فجاز على تقدير: "خطُبَت أيام الجمعة"

أتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطأه

لما كانت الجمعة فيها كما جاء "ليلٌ نائمٌ"، وقوله: فنام ليلي وتجلى همي قد أسند النوم فيه إلى الليل لما كان فيه، فتقديرها: أخطبُ أيامِ كون الأمير يوم الجمعة، وحذفت الأيام كما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه. ويدل على ذلك رفع "يوم الجمعة" الذي هو خبر "أخطب"، والخبر إنما يكون المبتدأ في المعنى، و "أَفْعَلُ" لا يضاف إلا إلى أشياء هو بعضها، فإذا لم يضف إلا إلى ما هو بعضه، ولم يكن الخبر إلا المبتدأ، أثبت من ذلك أن الأيام المضاف إليها "أخطب" مرادةٌ في التقدير والمعنى، وإن كانت محذوفة في اللفظ، للدلالة عليها وأن الكلام لا يصح إلا بتقديرها، وقد بيَّن ذلك بقوله: كأنه قال: أخطبُ أيام عبد الله يومُ الجمعة. وقولهُم "أطيبُ ما تكون البداوة شهرا ربيع" في أن تقدير "أطيب" الإضافة إلى الأزمنة، كما أن تقدير "أخطب" الإضافة إلى الأيام، سواء. قال: وتقول: أتيك يوم الجمعة أبطؤه، وأتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطأه. أبطؤه في الوضعين خبر مبتدأ محذوف دل عليه ما تقدم في الكلام، فصار لذلك بمنزلة المذكور في اللفظ، كأنك قلت: ذاك الإتيان أبطأه، أي: أبطأ الإتيان، فكنيت عن الإتيان لما تقدم من الذكر. وإذا كان المصدر قد حذف من اللفظ في نحو من قرأ {ولا يحسبن الذين يبخلون} لأن

أعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعطيته

ما يجيء بعد من الفعل يدل عليه، فحذفه إذا تقدم الفعل أسوغ؛ لأن الدلالة عليه أبين. قال: "وإن شاء قال: يوم السبت أبطؤه". يريد: إن شئت قلت: أتيكُ يومُ الجمعة أو يوم السبت أبطؤه، فرفعت يوم السبت، والمعنى: أو إتيانُ يومِ السبتِ أبطؤُه، فحذفت المضاف لما تقدم من الدلالة عليه، كما حذفته في قولك: "أخطبُ ما يكون الأمير يوم الجمعة"، / ولا يكون إلا على ذلك؛ لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى، ولا وجه للإخبار عن يوم السبت بالبطء. قال: "وأعطيته درهماً أو درهمين أكثر ما أعطيته". قوله "أكثر" مضاف إلى "ما أعطيته"، و "ما" التي وقعت الإضافة إليها تحتمل ثلاثة أضرب: أحدها- وهو الأسبق في هذا الباب- أن تكون مع الفعل بمنزلة المصدر، كأنه قال: أعطيته أكثر الإعطاء، والضمير المضاف إليه على هذا للمفعول به؛ لأن "ما" هذه حرف كـ "أنْ" عنده، فلا يعود عليها ذكر من صلتها، كما لا يعود إلا "أنْ". ويجوز أن تكن "ما" بمنزلة "الذي"، كأنه قال: أعطيته درهماً أو درهمين أكثر الذي أعطيته، فتكون "ما" -وإن كانت موصولة- يراد بها الإعطاء؛ لأنها تقع على الأجناس التي هي معانٍ، كما تقع على الأجناس التي هي أعيان. ويجوز أن تكون نكرة بمنزلة "شيء"، ويكون موضع الجملة جراً لكونها صفة لمجرور، ولا موضع لها في الوجهين الأولين. وفي كل ذا قد أضيف "أفعل" إلى ما هو بعض له؛ ألا ترى أن ما أعطيته إذا أردت به الإعطاء وقع

على القليل والكثير. وكذلك إذا جعلتها الموصولة. وإذا جعلتها النكرة فالتقدير فيه: أكثر شيء أعطيته، إذا جعلت الأشياء شيئاً كقولك "هذا خير رجل في الناس" و "هما خير اثنين في الناس". قال: "وإن شاء قال: أو درهمان أكثر ما أعطيته". درهمان: يرتفع بالابتداء. فإن جعلت ما أعطيته المصدر احتمل "درهمان" ضربين: أحدهما أنه يلزم أن تقدر إضافة المصدر إلى المفعول وحذفه، كأنك قلت: أو إعطاء درهمين أكثر ما أعطيته؛ لأن "أكثر" إذا كان مضافاً إلى المصدر كان منه، فلا يصح على هذا أن يكون "أكثر ما أعطيته" خبراً للدرهمين؛ لأنه ليس إياهما. وإذا كان كذلك لزم أن تقدر حذف المضاف كما قدرته في قولك أو يوم السبت أبطؤه: أو إتيان يوم السبت أبطؤه. والآخر: أنك إن وقعت الإعطاء على المعطى كما أوقعت الخلق على المخلوق، والنسج على المنسوج، كان الكلام على ظاهره. والكلام الأول أشبهُ. قال: وإن شاء نصب الدرهمين ورفع "أكثر ما أعطيته". يعني أنك تقول: "أعطيته درهماً أو درهمين أكثر ما أعطيته"، فتحذف المبتدأ كما حذفته في قولك "أتُيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه" أي: ذاك أبطؤه، فكما حذفت المبتدأ ثم وأضمرته، / كذلك تحذفه في قولك "أكثر ما أعطيته"، ويكون المبتدأ المحذوف وتقدم الإشارة به إلى المصدر، لأن تقدم الفعل وذكر يدل عليه. وقولك "أكثر ما أعطيته" لما كان مضافاً إلى الإعطاء كان منه، ولما كان منه جاز أن يكون خبر المحذوف المشار به إلى المصدر؛ لأن الثاني هو الأول. قال: "وإن شاء نصب "أكثر" على أنه حال وقعت فيه العطية". إجازته

انتصابه على الحال يدلك على أن ما عنده مصدر، لأن المصادر قد جاءت منتصبة على الحال، وإن كانت معارف، نحو "جهدك" و "طاقتك" و "العِراكَ". وكما أجاز في هذا الباب انتصاب "أول ما يكون" على الحال، فكذلك ينتصب "أكثر ما أعطيته" على الحال. قال: وإن شاء قال: أتيك يوم الجمعة أبطأه، أي: أبطأ الإتيان. هذا ينتصب على المصدر؛ لأن المثال الذي هو "أتى" يتعدى إلى جميع ضروبه بطيئه وسريعه، وغير ذلك مما يكون ضرباً منه، كما قدم ذلك في أول الكتاب. ذكرت ما حضر فيما رويته في ذلك، والحمد لله كثيراً.

مسألة: "ليس الطيب إلا المسك"

مسألة حكى سيبويه قولهم "ليس الطيبُ إلا المسكُ"، وذهب فيه إلى أنه بمنزلة "ما"، ولم يحمله على أن في "ليس" ضمير القصة والحديث كما حمل قوله "ليس خلق الله أشعر منه" على هذا الضمير. ووجه قوله "إنه بمنزلة ما وليس ككل وأخواتها" أن "ليس" وإن كانت قد رفعت ونصبت، فليست فعلاً على الحقيقة؛ ألا ترى أن الفعل لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون دالاً على الحدث وأحد الأزمنة الثلاثة، وإما أن يكون دالاً على أحد الأزمنة الثلاثة مجرداً من الحدث، فإذا لم يخل الفعل من أحد هذين القسمين، ولم تكن "ليس" من واحد منهما، ثبت أنه ليس بفعل وإن كان فيه بعض الشبه منه. وإذا لم يكن إياه وقد اختص بنفي الحال كما اختصت "ما" بذلك، وكانت تدخل على المبتدأ والخبر كما كانت كذلك، ولم يكن في

اتصال الضمير بأسماء الأفعال ليس دليلا على فعليتها

"ما" إذا توسطت "إلا" بين اسمها وخبرها إلا الرفع، فكذلك "ليس" لما لم تدل على حدث فيما مضى كـ "ضَرَبَ" و "عَلِمَ"، ولا على ما مضى مجرداً من الحدث كأخواتها، كانت بمنزلة "ما". فأما دلالتها على نفي الحال فهي على حد دلالة "ما" عليه، وليس على نحو قوله تعالى {وإن ربك ليحكم بينهم} وقوله {قد يعلم الله المعوقين منكم}؛ ألا ترى أنه لو كان على هذا النحو لم يعر من حرف للمضارعة يلحقه، ومن كونه على مثال من/ أمثلته، فإذا لم يكن مثالاً للحاضر، وثبت أنه لا دلالة فيه على ما مضى، ولا على ما لم يقع، وخلا من ذلك، لم يكن في الحقيقة فعلاً. فإن قال قائل: إنه قد اتصل به الضمير على نحو ما يتصل بالفعل كقولهم "ليسوا" و "لستم". قيل: إن اتصال الضمير به هذا الاتصال ليس بدلالة قاطعة على أنها فعل؛ ألا ترى قد اتصل الضمير على هذا النحو بما هو اسم، وذلك قول بعضهم "هاءا" و "هاؤوا" كما تقول للمخاطب "افعلا" و "أفعلوا"، وهذا الحرف من الأسماء التي سميت بها الأفعال، وهذه الكلم التي سميت بها هذه الحرف من الأسماء التي سميت بها الأفعال أسماء، وليست بأفعال ولا حروف. يدل على أنها أسماء أنها لا تخلو من أن تكون أسماءً أو أفعالاً أو حروفاً. فالدلالة على أنها ليست بحروف أن

الدلالة على أن أسماء الأفعال ليست بأفعال

الحروف لا تتضمن ضمير الفاعلين، ولا ينتصب المفعول بها، وقد قال الشاعر: رويد علياً جد ما ثدى أُمهم ... إلينا، ولكن حبهم متماين أفاطم هائي السيف غير مذمم ... ................... وقالوا: "رُيدكُم أجمعون"، فأكدوا ما فيه من الذكر، كما قالوا "مررتُ بقومٍ عربٍ أجمعون". فالحروف لا تتضمن ضمير الفاعلين، وإنما تتضمنه الأفعال وما أشبهها من الصفات والظروف، ففي احتمال هذا الكلم الضمير، ونصبها ما نصبت، ما يدل على أنها ليست بحروف. والدلالة على أنها ليست بأفعال أنها لم تؤخذ من لفظ أحداث الأسماء، ولا هي على أمثلتها، فإذا لم تكن أفعالاً ولا حروفاً ثبت أنها أسماء.

ودل أيضاً على أنها أسماء أنه قد ثبت في هذا الباب أسماء لا إشكال فيها، نحو "فرطك" و "رويدك". و "دونك" و "عليك" و "إليك". ووجد فيه أيضاً ما يختص بالأسماء، وهو لحاق التنوين للتنكير لها منكورة، وسقوطه عنها في حال التعريف مسندة إلى الفاعل. وهذا معنى يختص الاسم؛ ألا ترى أن الفعل لا يلحقه التنوين للتنكير، وهذا استدلال أبي الحسن الأخفش. فإن قلت: إن الصوت يلحقه التنوين للتنكير، وذلك نحو "غاقِ" و "غاقٍ"، و "ماءِ" و "ماءٍ" لصوت الشاء. فإن الصوت ليس مسنداً إلى شيء، وأنت قد أسندت هذه الأسماء إلى المخاطبين المأمورين، والصوت ضرب من الأسماء. فأما قولهم "إذاً" في الحرف الذي هو جواب/ وجزاء، فإذا وقفوا عليه قالوا "إذا"، فليست النون فيه كالتي في "صهٍ" و "إيهٍ" ولا في "غاقٍ"؛ لأنها من نفس الكلمة، والتي في "صهٍ" زيادة للتنكير، وإبدالهم لها لا يدل على أنها زيادة ليست من نفس الكلمة؛ بدلالة أنهم قد أبدلوا الياء من الألف في "على" "إلى"، فكما لم يدل إبدالهم الياء من الألف في "على" و "إلى" على أن الألف فيها ليست من أنفس الكلم، كذلك لا يدل إبدالهم الألف من النون في "إذاً" على أنها ليست من نفس الكلمة.

فإن قال قائل: ما تنكر أن تكون "هاء" في قول من لم يلحقه علامة الضمير على الوجه الذي ذكرت اسماً، وفي قول من ألحقه الضمير فعلاً؛ إذ لا ينكر أن يتفق اللفظان ويختلف المعنيان نحو "على زيدٍ الثوبُ" و: .......... من عليه ............. ... ...................... قيل: إن هذه الكلمة قد ثبت أنها اسم بالدلالة التي ذكرنا، وهي التي تلحقها هذه العلامات للضمير، وليس "هاؤوا" بفعل كـ "خافوا". فإذا لم يكن مشتقاً من لفظ حدث كـ "خافوا" و "شاؤوا"، علمت أنها تلك الكلمة لحقتها

الدلالة على أن أسماء الأفعال أسماء

هذه العلامات لإجرائهم إياها مجرى خلافها التي هي "هاتِ"، كما أجروا "رب" حيث كان خلاف "كَمْ" مجرى "كَمْ"، وكما بنوا "عَطشان" و "ظمآن" على بناء "ريان"، وكما قالوا "عَلِمَ" و "جَهِلَ" و "رَغِبَ" ونحو ذلك؛ لأنهم مما يجرون الشيء مجرى خلافه كثيراً، كما يجرونه مجرى مثله كقولهم "يذرُ" و "يدعُ"، وكقولهم "أيهم عندك؟ فأجروه مجرى البعض، فكذلك "هاءِ" لما كان خلاف "هاتِ" أجري مجراه في أن أظهر الضمير فيه، كما أظهر في الأفعال حيث جعل بمنزلة "هاتِ". ويدل على أن هذا الضرب من الكلم أسماء وليست بأفعال، أن ما كان على بناء "فَعالِ" نحو "دَراكِ" و "نَزالِ" لا يخلو من أن يكون اسماً أو فعلاً، فلو كان فعلاً لوجب إذا نقلته فسميت به شيئاً أن تعربه، ولا تدعه على بنائه؛ ألا ترى أن الأفعال إذا نقلت فسمي بها تعرب، وتزال عما كانت عليه قبل النقل، لا تختلف العرب والبصريون في هذا، وإن كان عيسى بن عمر قد خالف في كيفية الإعراب، وهم إذا نقلوا شيئاً من ذلك، وكان آخره راء، تركوه في قول الحجازيين والتميميين على بنائه، ولم يغيروه عما كان عليه قبل التسمية به. فإن قلت: فهلا قلت إنه فعل لإعراب بني تميم من ذلك في التسمية ما لم يكن آخره راء؟

قيل: هذا لا يدل؛ لأنهم/ جعلوه بمنزلة "كيف" و "أين" ونحوهما إذا سمي به، وإجماعُهم مع الحجازيين على إقرار البناء فيه بعد النقل فيما كان آخره راء، دلالةٌ على أنه اسم عندهم، فلم يغيروه عن البناء، كما لم يغيروه قبل؛ لأنه في كلا الموضعين اسم. فإن قلت: إنه لم يعربه لأنه حكي، فكان بمنزلة "برق نحره" وبابه. قيل: هذا لا يستقيم؛ لأن الضمير الذي يحتمله هذا الضرب ليس على حد ما يحتمله الفعل، إنما هو على حد ما يحتمله الاسم؛ ألا ترى أنه لا يظهر إذا جاوزت الواحد في عامة هذه الأسماء، كما لا يظهر في أسماء الفاعلن والظروف ونحوها، ولو كان الضمير فيها على حد كونه في الأفعال لظهرت له في اللفظ علامة، فلما لم تظهر فيها عند الجمهور والعامة إلا في الحرف الذي شذ، كما لم يظهر في أسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها، دلّ أنها احتملت الضمير على حد ما احتملته. وإذا كان كذلك لم تُحْكَ، كما لم تُحْكَ أسماء الفاعلين إذا سميت بها، فلا يكون إذاً "سَفارِ" و "حَضارِ" و "حَذامِ" في الحكاية كقوله:

أنا ابنُ جلا ............... ... ...................... ولكن "حَذامِ" في قوله: إذا قالت خَذامِ ................ .... ................. بعد النقل مثله قبل النقل؛ لأنه نقله من اسم إلى اسم، فتركه في النقل على حاله قبل النقل.

تنوين صه

فإن قلت: فهلا استدللت بتنوين ما نون من هذا على أنه اسم نحو "صهٍ" و "مهٍ"؛ لأن التنوين مما يختص الاسم، كما أن دخول لام التعريف كذلك؟ فإن هذا التنوين الذي في "صهٍ" ليس الذي في "يدٍ" و "دمٍ"؛ ألا ترى أن هذا إنما يلحق بعد استيفاء الاسم جميع وجوه الإعراب وتمكنه فيه، وقد لا يلحق ضرباً منها، وإن كان معرباً، كباب ما لا ينصرف. فإذا كان هذا التنوين من وصفه أن لا يلحقه إلا بعد تمكن ما يلحقه من الإعراب، ولم يكن "صهٍ" وبابه معرباً، علمت أنه ليس إياه، ولكنه التنوين الذي يلحق الأسماء التي هي غير متمكنة، وما أشبهها في قلة التمكن من الأصوات، نحو "غاقٍ" و "عمرويهٍ"، فدل على أن المراد بالاسم أو بالصوت النكرةُ، فلهذا المعنى يلحق، وليس الذي يلحق بعد استيفاء الاسم وجوه الإعراب كذلك؛ ألا ترى أنه يلحق المعرفة في "زيدٍ" و "جعفرٍ" و "فرزدقٍ"، كما يلحق في النكرة في "رجُلٍ" و "فرسٍ"، فتعلَّم أنه وإن كان على لفظه، فهو غيره، كما أن الذي يلحق القوافي: من طللٍ كالأتحمي أنهجاً غيرهما وإن كان على لفظهما؛ ألا ترى أنه يلحق الفعل كما يلحق الاسم، ويلحق ما فيه لام المعرفة كما يلحق ما لا لام فيه، ويلحق المعرفة كما يلحق النكرة، [ولو كان الذي في "رَجُلٍ" لم يلحق في قوله]:

من الأدلة على أن "ليس" ليست كالأمثلة المأخوذة من لفظ أحداث الأسماء أنها لا توصل بـ "ما" المصدرية

يا أبتا علك أو عساكاً ولا مع اللام في: يا صاحِ ما هاجَ الدموعَ الذرفاً و: أقلي اللوم عاذل والعتاباً ... ..................... فقد تتفق الألفاظ في الحروف وتختلف المعاني، كما كان ذلك في الأسماء والأفعال. فإذا كانت هذه الكلم التي سميت بها الأفعال أسماء بما ذكر من الأدلة، وقد اتصل ببعضها الضمير على نحو ما يتصل بالفعل، لم يكن في اتصال الضمير بـ "ليس" على حد ما اتصل به دلالة قاطعة على أنها فعل. ومما يدلك على أن "ليس" كالأمثلة المأخوذة من لفظ أحداث الأسماء، أنها لا توصل بـ "ما" التي تكون مع الفعل بتقدير المصدر، فتكون معه بمنزلة الاسم، كما أنها إذا وصلت بسائر الأمثلة كانت معه بمنزلة المصدر؛ ألا ترى أنه لا يستقيم "ما أحسن ما ليس زيد ذاكراً" كما يجوز "ما أحسن ما كان زيداً ذاكراً"، فلو كانت فعلاً على الحقيقة لوصلت "ما" بها كما وصلت بسائر الأفعال ماضيها وحاضرها وآتيها، فلما لم يوصل بها كما لم يوصل بـ "ما" حتى يكون خبرها فعلاً، كقولك "ما أحسن ما ليس يذكرك زيدٌ"، دل ذلك على أنه أجري مجرى ما ينفى به مما ليس بفعل.

لم لم يحمله سيبويه على أن في "ليس" ضمير القصة والحديث

فأما وجه ذكرهم إياها مع الأمثلة المجردة من الدلالة على الحدث فلمشابهتها لها في عمل الرفع والنصب؛ كما ذكر "إما" مع حروف العطف وبابها لمشابهتها "أو" في بعض المعاني. فإذا باينت هذه الكلمة هذه الأفعال هذه المباينة، وشابهت الحرف هذه المشابهة، لم ينكر أن يجري مجرى الحرف، فلا يعمل عمل الفعل في قولهم "ليس الطيبُ إلا المسكُ" و "ليس المالُ إلا الذهبُ". فإن قال قائل: فهلا حمل هذه الحكاية على أن في "ليس" ضمير القصة والحديث، كما حمل قولهم "كان أنت خيرٌ منه" و "ليس خلق الله أشعر منه" على ذلك؟ قيل: قد قالوا في جواب هذا: إنه لم يسغ حمله على الضمير كما ساغ في "كان أنت خير منه"؛ لأن الجملة الواقعة خبراً لـ "ليس" موجبة في اللفظ، فلما لم يستقم أن تدخل "إلا" بين المبتدأ وخبره نحو قولنا "زيدٌ إلا منطلقٌ"، لم يسغ أن يحمل "ليس" على أن فيه ضميراً؛ لأنه يصير بمنزلة من قال في الابتداء "زيدٌ/ إلا منطلقٌ"، وهذا غير جائز، وليس كذلك قوله: ...................... ... وليس منها شفاءُ الداءِ مبذولُ ولا "ليس خلق الله أشعر منه"؛ لأنه لم يقع بين الخبر والمخبر عنه "إلا" في كلام موجب، فلما لم يستقم أن تحمل "ليس" على أنه فيه ضميراً،

قولهم في الشعر "ليسي" دليل على أن "ليس" ليست كالأفعال

فتقع الجملة في موضع الخبر، وسُمع "المسكُ" مرفوعاً في الحكاية، جعلها بمنزلة "ما" إذا دخلت [إلا] بين الاسم والخبر معها". ومما يدلك على أنها ليست كالأفعال، أنه قد جاء في الشعر "ليسي" بلا نون متصلة بعلامة ضمير المتكلم، وذلك قوله: قد ذهب القومُ الكِرامُ ليسي ألا ترى أن هذه النون في الضمير المنصوب إنما تحذف من الحرف في الضرورة، إلا أن تكون للتضعيف، كقوله: كمنية جابرٍ إذ قال ليتي .... أُصادِفُه، وأفقدُ بعض مالي ولم نعلمهم حذفوها من فعل في اختيار ولا ضرورة، إلا أن تكون في تصعيف كقوله: ......................... .... يسوءُ الفالياتِ إذا فليني

ومن الأدلة على أنها ليست بفعل على الحقيقة كـ "كان" وأخواتها: خلوها من دلالتها على الزمان

فحذفهم له من "ليس" كحذفهم له من "ليت" دلالةٌ على أنه جارٍ عندهم مجرى ما ليس بفعل، كما أن "ليت" كذلك. ومما يدل على أنه ليس بفعل على الحقيقة كـ "كان" وأخواتها، أن هذه الأمثلة إنما صيغت لتدل على الماضي أو الحاضر أو الآتي، فلما خلت "ليس" من أن تكون دالة على قسم من هذه الأقسام على حد ما تدل عليه هذه الأمثلة؛ ثبت أنها ليست مثلها، وإذا لم تكن مثلها كانت دلالتها على نفي الحال كدلالة "ما" التي لا إشكال في أنها حرف. والدليل على أن هذه الأمثلة إنما صيغت لتدل على الزمان، أنها تتعدى إلى كل ضرب من أسماء الأزمنة، مبهمها ومخصوصها، ومعرفتها ونكرتها، كما تتعدى إلى كل ضرب من اسم الحدث الذي أخذت منه، وما كان معناه وإن لم يكن من لفظه، ولولا إرادة ذلك فيها لأغنت ألفاظ الأحداث عنها. ويوضح ذلك أنها بنيت على أقسام الزمان، فكما كان الزمان على أنحاء ثلاثة، كذلك كانت هذه الأمثلة التي صاغوها من ألفاظ الأحداث. ويدل على ذلك أنهم جردوا دلالة الزمان في بعض هذه الأمثلة، وجعلوا منها دلالة الحدث، وتلك الأمثلة "كان" وأخواتها مما يدخل على الابتداء والخبر، فتنصب الخبر، فمن ثم لزمتها الأخبار المنتصبة، وكان الكلام غير مستقل بها؛ لتوازي الجملة بلزوم هذا الخبر له الجملة المركبة من الأمثلة التي لم تخلع عنها دلالة الحدث؛ ألا ترى أنها لو لم تلزم الأخبار لانتقصت عنها ولم توازها، فكان تجريدهم هذه الأمثلة للأزمنة، وخلعهم دلالة الحدث عنها، كتجريدهم من بعض الكلم التي هي أسماء الخطاب، وخلعهم معنى الاسم عنه، وذلك قولهم "ذلك" و "هنالك" و "أبصرك زيداً" و "أنت" ونحو ذلك. فكما أن الغالب والأعم في هذا النحو معنى الحرف؛ بدلالة بنائهم له قبل خلع معنى الاسم عنه، كذلك يعلم أن القصد والغرض في هذه الأمثلة

[إنما هو دلالة الحدث]، إنما هو دلالة الزمان، فمن ثم جاز أن يخلع عنها معنى الحدث، فتتجرد دلالتها على الزمان، وجرى ذلك مجرى رد الشيء إلى أصله نحو "القود" و "القُصوى" ليُعلم به الأصل، فتكون أمارة له ليعلم، وإن كان الأكثر في الاستعمال غيره، والمطرد سواه. ويدل على ذلك أنه ليس مثال من هذه الأمثلة التي تنزع عنها دلالتها على الحدث إلا وجائز أن ينزع ذلك عنه؛ فيستقل بفاعله استقلال سائر الأمثلة بفاعليها، والأصل الثابت في هذه الأمثلة هو ما لا ينفك من دلالتها عليه، ومن ثم جاءت المصادر المشتق منها هذه الأمثلة دالة على الحدث دون الزمان؛ ألا ترى أن "الكون" الذي هو مصدر المثال المستقل بفاعله في دلالته على الحدث كـ "الكون" الذي هو مصدر المثال الذي لا يستقل به. فهذا مما يدلك على أخذ المثالين جميعاً من لفظ الحدث. وإنما جُرد من دلالة الزمان ليعلم أن الغرض في صياغة هذه الأمثلة إنما هو الدلالة على أقسام الأزمنة، وإذا كان حد الأمثلة هذا الذي ذكرناه، ولم يكن في "ليس" دلالة على ضرب من الضروب الثلاثة، ثبت أنها ليست بفعل على الحقيقة، وإنما أجروها مجرى الأفعال في اللفظ، كما أجروا النون في "لدن غُدوة" مجرى النون في "ضاربٍ" ونحوه من الأسماء المعملة عمل الفعل، حيث نصبوا بها في "لدن غُدوةً".

م لم يحرك الثاني من "ليس"

فإن قال قائل: إذا كان قولنا "ليس" على ما ذكرته من مباينة ضربي الأفعال ومشابهتها الحرف، فهل تزعم أن الرفع في قول القائل "ليس زيدٌ إلا قائماً" أوجه من النصب، أو تقول إن النصب لا يجوز كما لم يجز في خبر "ما" نحو قوله {وما أمرنا إلا واحدة}، وكيف القول في ذلك؟ فالقول في هذا: إن الجائز النصب للخبر في نحو "ليس زيدٌ إلا ذاهباً"، واذكرناه من مباينة "ليس" للأفعال ومشابهتها الحروف، لا يحسن في خبرها الرفع، ولا يسوغه؛ لأنه ليس يلزم أن لا تعمل الكلمة عمل الفعل حتى تكون فعلاً؛ ألا ترى أنهم قد أعملوا "لا" و "ما" و "لات" و "لكن" المشددة، و "لعل" وأخواتها، و "أن" المخففة من الثقيلة عمل الأفعال، وليس شيء منهن فعلاً، ولا على وزن فعل، وإذا كان كذلك لم يمتنع النصب في خبر "ليس" من حيث كانت حرفاً أو مشبهة للحرف، كما لم يسغ النصب مع سائر الحروف وإن لم تكن أفعالاً، بل النصب في "ليس" مع اشتهاره في السماع يقويه القياس، وذلك أنها مشبهة الأفعال من غير جهة، فبحسب كثرة الشبه فيها بالفعل يحسن إعماله عمله، من ذلك أنه على وزن من أوزان الفعل المحض ومثال من أمثلته، وذلك أنهم يقولون: صيد البعيرُ يصيدُ، فإذا خففوا على قول من قال: علم زيدٌ، قالوا: صيد البعيرُ، فكان "ليس" على وزنه. فإن قلت: هلا حرك الثاني منه كما حرك العين من "صيدَ"؟

فإن ذلك لا يلزم؛ أنهم قد يرفضون الأصول في أشياء كثيرة، فلا يستعملونها، كما رفضوا الإعلال في "قودٍ"، وكما رفضوا التصحيح في العين من الأفعال المعتلة، وكما اجتمع الأكثر على "نِعْمَ" و "بِئْسَ"، ولم يستعملوا الأصل الذي هو "نَعِمَ" و "بَئِسَ" الذي هو تحريك العين. فكما رفضوا استعمال الأصل في هذه الأسماء، كذلك رفضوا التحريك في الثاني من "ليس". وقوى ذلك شبهه بـ "ليت" في الامتناع من التصرف، وشبه ألفاظ الكلم في كلمهم بالفعل مما يجريها مجراه، ويجذبها إلى أحكامه؛ ألا ترى أن "أحمد" و "أحمر" لما كانا على وزن الفعل أجريا مجراه في أن لم يلحق الجر والتنوين، كما لم يلحق الفعل، وأن باباً، وداراً، وناباً، ورجل مالٌ، وكبش صافٌ، ويوم راحٌ، ورجل ضفُّ الحال، وطبٌ، لما وافق جميعه أوزان الفعل أُعِلَّ كما أُعِلَّ، ولما لم يوافقها عِوضٌ، وبيضٌ، وصُورٌ، ولُومة، وخُزرٌ، وسُررٌ، صحح جميع ذلك، ولم يعل كما أعل ما تقدم. وكذلك "عِدة" و "زِنة" وبابهما. وكذلك "ضاربٌ" أُعمل عمل الفعل لخلال، منها موافقة وزن الفعل. فإذا كان موافقة وزن الفعل لها من جذب ما كان منه ذلك إلى حكم الفعل، وكان في قولنا "ليس" فيه ما ذكرنا، وطأ ذلك إعماله/ عمل الفعل، وأجراه مجراه. ومن ذلك أن آخرها مفتوح، كما أن آخر مثال الماضي مفتوح. ومن ذلك أنه إذا اتصل به ضمير المتكلم أو المخاطب أسكن الآخر منه كما يسكن أواخر الماضية لذلك، وهذا مما يختص به الفعل دون غيره. ومن ذلك أنه لما اتصل به ضمير الفاعل، فسكن الآخر له كما سكن

إذا تعارض القياس والسماع وجب طرح القياس والأخذ بما جاء به السماع

لام الفعل من "ضربتُ" و "ضربتُم"، حذفت الثاني لالتقاء الساكنين، كما حذفت العين من "هبتُ" و "خِفتُ" و "هِبتُمْ" و "خِفْتُمْ" لذلك. فإن قلت: فهلا ألقيت الحركة المقدرة في الثاني على الحرف الأول، كما ألقيت حركة العين على الفاء في "خِفْتُمْ" "هِبْتُم" و "هِبْتَ" و "خِفْتَ"؟ فالجواب: أن هذه الحركة لما رفضوا استعمالها، وإن كانت مقدرة في الأصل، جرت مجرى ما أصله السكون، ولم يلزم ذلك في "خاف" و "هاب"؛ لأن انقلابها بمنزلة كون الحركة فيها؛ ألا ترى أنه لولا تقدير الحركة لم تقلب، وكان ذلك في "ليس" واجباً إذا قالوا "ظلتُ" و "مستُ"، فحذفوا عيناً مستعملة الحركة، ولم يلقوا حركتها على الفاء. فإذا كان الشبهان في الشيء، بل الشبه الواحد إذا قام في الشيء من الشيء يجذبه إلى حكم الذي فيه الشبه، نحو إعمالهم "لا" عمل "ليس" لموافقتها في النفي، فلا نظر أن ما حصل فيه من الشبه مثل ما حصل في قولهم "ليس" من الفعل، يجب أن يعمل عمله، وتكون قوته في ذلك بحسب كثرة الشبه فيه. فهذا من جهة القياس. فأما في السماع فهو في الفشو والكثرة بحيث يستغنى عن ذكره، ولو لم يعاضد القياس السماع حتى يجيء السمع بشيء خارج عن القياس، لوجب اطراح القياس والمصير إلى ما أتى به السمع؛ ألا ترى أن التعلق بالقياس من غير مراعاة السماع معه يؤدي إلى الخروج عن لغتهم، والنطق بما هو خطأ في كلامهم، فلو أعللت نحو "استحوذ"، ولم تراع فيه السماع، وقلت: إن بابه كله جاء مُعلاً نحو "استعاد" و "واستفاد"، فكذلك أُعِلُّ هذا المثال قياساً على هذا الكثير الشائع، لكنت ناطقاً بغير لغتهم، ومدخلاً فيها السمع، فأما أن يُترك السماع للقياس فخطأ فاحش، وعدول عن الصواب بين؛ ألا ترى أنه يجوز في القياس أشياء كثيرة نحو الجر في "لدن غُدوة"،

ليس زيد إلا قائم

والضم في "لَعَمْرُك" في القسم، واستعمال الماضي في "يَذرُ"و "يَدَعُ"/ وإيقاع أسماء الفاعلين أخباراً لـ "كاد" و "عسى"، ثم لا يجيء به السماع، فيرفض ولا يؤخذ، ويطرح ولا يستعمل، ويكون المستعمل لذلك آخذاً بشيء رفضه أهل العربية، كما رفضوا استعمال سائر اللغات التي ليست بلغة لهم. وهذا طريق يؤدي سالكه إلى خلاف ما وُضعت له العربية؛ لأن هذه العلل إنما تستخرج من المسموعات بعد اطرادها في الاستعمال؛ لتوصل إلى النطق به على حسب ما نطق به أهل اللغة العربية، وتسوي في الفصاحة بمن أدركها، ويأمن بتمسكه بها الزيغ عن لغة الفصحاء المعربين إلى لغة من لم يكن على وصفهم، فإذا أدى إلى خلاف ذلك، وجب أن يُنبذَ ويُطرح من حيث كان ضدًّا عمّا له وضعت هذه الصناعة، واستخرج من أجله هذا العلم. فإن قيل: فهل تجيز "ليس زيد إلا قائم" من حيث أجزت "ما زيد إلا قائم"، فترفع الخبر مع ليس من حيث رفعته مع ما؟ فالقول: إن هذه الحكاية لو كانت لا تحمل وجهاً غير هذا الوجه، لوجب ألا يقاس عليها لقتلها ومخالفتها الجمهور والأكثر؛ لأن الواحد ومن جرى مجراه، قد يجوز أن يعرض له أمر يستهويه فيغلّظه؛ لأنه إنما يرجع إلى طبعه وعادته، وليس معه من القوة على القياس والدُّرْبة مثل ما مع النُّظَّار المتعلمين، فيميز به بين الإشارة، ويفصل بعضها من بعض بقوته في النظر، والعادةُ قد تردّها عادة أخرى؛ ألا ترى أن ذلك قد وجد في من خالط من الفصحاء غيرهم، ومثل هذا لا يجوز على الجميع. فإذا كان كذلك لم يُدَع الشائع إلى الشاذ، ولم يعدل إليه ما وجدنا عنه فسحة، وأصبنا دونه مندوحة، فكيف وهي تحتمل وجوهاً تخرج على الشائع المأخوذ به دون الشاذ المرغوب عنه. فمن ذلك أن يكون التقدير في قولهم "ليس الطيبُ إلا المسكُ" أنّ في

"ليس" ضمير القصة والحديث، ويرتفع "المسك" بأنه خبر المبتدأ الذي هو مع خبره في موضع نصب لوقوعها خبراً لـ "ليس"، [وأُدْخِلَ] إلا بين الابتداء والخبر للحمل على المعنى، كأنه لما كان المعنى أنه ينفى أن يكون مثلَ حالِ المسك طيبٌ، حسُن إلحاقُ "إلا" حُسْنَه في قولهم "ليس الطيبُ إلا المسكُ" و "ما الطيبُ إلا المسكُ". ومثله في الحمل على المعنى "نَشَدْتُكَ الله إلا فعلت"، لما كان المعنى: ما أطلب إلا هذا. ومثله في الحمل على المعنى: .................. وإنما ... يُدافِعُ عن أحسابِهِم أنا أو مِثْلي لما كان المعنى: ما يدفع إلا أنا. فإذا حسُن الحمل على المعنى في هذا الموضع لمكان النفي، جاز إلحاق "إلا" بين المبتدأ والخبر، ولم يكن مثل قولهم في الابتداء الذي معناه الإيجاب: "زيدٌ إلا منطلقٌ". فهذا وجه ظاهر. ووجه آخر، وهو أن يكون في "ليس" إضمار الحديث والقصة، ويكون التقدير بـ "إلا" التقديم وإن أخرت، كأنه "ليس إلا الطيبُ المسكُ" أي: ليس الأمرُ إلا الطيبُ المسكُ، كقولهم "ليس زيدٌ إلا أبوه منطلقٌ"، فـ "المسكُ" يرتفع كما ارتفع في الوجه الأول، وموضع الجملة كموضع الجملة في الوجه الأول.

ومثل ذلك في التقدير بـ "إلا" التقديم قوله تعالى {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين}، تقديره: إن نحن إلا نظن ظناً. ولا يستقيم أن تقدر بـ "إلا" وقوعها وموضعها الذي هي فيه لقلة الفائدة؛ ألا ترى أنك إنما تقول "ما ضربت إلا زيداً" لما يقدر من أنك ضربت مع زيد غيره، ومتى قلت "ظننت" لم تقدر في قولك "ظننت" فعلت شيئاً غير الظن. فإذا كان كذلك لم يجز أن تقدر تقدير "إلا" في موضعها لقلة الفائدة. وكذلك قول الأعشى: أحل به الشيب أثقاله .... وما اغتره الشيب إلا اغترارا تقديره: ما هو إلا اغتره الشيب؛ لأنه لا يظن إذا قال "اغتره" أنه عنى بقوله "اغتره" غير الاغترار، كما لا يظن إذا قال "ظننت" أنه فعل غير الظن. فإذا كان كذلك لم يكن بدّ من أن ينوي بـ "إلا" التقديمَ، فلذلك يجوز أن تقدر بـ "إلا" التقديم في الحكاية، كما كان في الآية وقول الأعشى. ووجه آخر، وهو أن ترفع "الطيب" بـ "ليس" أيضاً، على أن المعنى "ليس طيبٌ" أي: ليس في الوجود طيبٌ، فتضمر الخبر، وتجري الاسم مجرى ما لا ألف ولاماً فيه، كقولهم "القومُ فيها الجماء الغفير"، و "إني لأمرُّ بالرجلِ مثلك فيكرمُني". فإذا احتملت هذه الحكاية/ الحكاية هذه الوجوه

لام المعرفة على أربعة أضرب

المطردة على القياس المستمر، والسماع الشائع في كلامهم، لم يكن لأحد أن يجيز الرفع في "ليس زيد إلا قائم" على حد "ما زيد إلا قائم" على أن يكون الكلام من جملة واحدة. فأما حمل "الطيب" في قولهم "ليس الطيب" على أنه بمنزلة ما لا ألف ولام فيه؛ فإن لام المعرفة تكون على أربعة أضرب: أحدها أن تكون تعريفاً للجنس. والآخر أن تكون تعريفاً للواحد من الجنس. والثالث أن تكون تعريفاً للإشارة إلى حاضر. والرابع أن تكون زيادة. فأما تعريفها للجنس فكقولنا "الملكُ أفضلُ أم الإنسانُ"؟ و "أهلك الناس الدينار والدرهم"، وفي التنزيل {إن الإنسان خلق هلوعاً}، ثم قال {إلا المصلين}، فدل استثناء الجماعة منه على أن المراد به الكثرة والعموم؛ لامتناع استثناء الجماعة من الواحد. وهذه الإشارة في أسماء الأجناس إنما هي إلى ما في عقول الناس وأفهامهم من معرفة الجنس، وليس على حد الإشارة إلى الواحد من الجنس الذي عرف حساً، كقولي "الرجُل" وأنا أعني واحداً بعينه مخصوصاً بعهد لنا به؛ ألا ترى أن جميع الجنس لا يعلمه أحد من الناس من هذا الوجه، كما يعلم من هذه الجهة الواحد من الجنس. فإذا كان كذلك تبين أن الجنس لم يعلم من حيث عُلمت الآحاد منه.

وأما ما كان تعريفاً بالإشارة إلى حاضر فنحو "مررت بهذا الرجل" و {يا أيها الإنسان}. وأما الزيادة فنحو ما حكى أبو الحسن من أنهم يقولون "الخمسة العشر درهماً" و "قد أمر بالرجلِ مثلك". فاللام التي في "العشر" لا تكون إلا زائدة؛ لأن "خمسة عشر" اسمان جُعلا اسماً واحداً، فإن جعلت اللام الثانية غير زائدة لم يخل من أحد وجهين، إما أن تعرف بعض الاسم، أو تعرفه تعريفين. فلا يجوز تعريف بعض الاسم، كما لا يجوز أن تعرفه تعريفين. فإذا لم يخل من أحد هذين، ولم يجز واحد منهما، ثبت أنها زائدة. وأما تقدير خبر "ليس"، وحذفه في الوجهين اللذين حملا على ذلك، فشائع، وذلك أن "ليس" تدخل على المبتدأ والخبر، فكما ساغ حذف خبر المبتدأ، كذلك ساغ حذف خبر "ليس" لكونه بمنزلة خبر المبتدأ، وإن كان انتصابه كانتصاب/ المفعول، والمفعول لا يمتنع حذفه كما يمتنع حذف الفاعل. ومثل ذلك قولهم في مثل "إن لاحظيةٌ فلا أليةٌ"، تقديره: إن لا تكن له في الناس حطيةٌ فإني غير ألية، ولو عنت بالحظية نفسها لم يكن فيها إلا النصب، وصار المعنى: إلا أكن حظيةً، وحكاه مرفوعاً.

الإضمار قبل الذكر

وكذلك قول الشاعر: قد قيل ذلك إن حقٌ وإن كذبٌ ... فما اعتذارك من شيءٍ إذا قيلا أي: إن كان فيه حق، وإن كان فيه كذب، فحذف الخبر. فكما ساغ حذف الخبر في هذا ونحوه، كذلك يسوغ حذف خبر "ليس" في قولهم "ليس الطيبُ إلا المسكُ". وما تقدم في بعض وجوه هذه الحكاية أنه على إضمار القصة والحديث، فإن حكم ما يضمر من الأسماء أن يكون بعد أن يُعرف المضمر في الأمر العام الأكثر، وما يُعرف به على ضربين: أحدهما أن يتقدم ذكره، فيضمر للمعرفة به لتقدم ذكره. والآخر أن يعرف لدلالة الحال عليه، وإن لم يتقدم له ذكر، كقوله {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقوله {ما ترك على ظهرها من دابةٍ}، و {حتى توارت بالحجاب}، ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم: "إذا كان غداً فائتني" يريد: إذا كان ما نحن عليه غداً فائتني. ومن هذا الضرب قولهم "من كذب كان شراً له"؛ لأنك أضمرت الكذب، ولم يتقدم له ذكر، وإنما ذُكر ما يدل عليه. وإنما صار دلالة الحال على المضمر كتقدم الذكر لاجتماعهما في أن عرف بهما المضمر، ولمّا كان حكم الضمير في الأمر العام ما ذكرت، وأضمرت الأسماء في مواضع قليلة

التفسير المبين للمضمر على ضربين: أحدهما أن يكون مفردا، والآخر أن يكون جملة

قبل الذكر أو ما يقوم مقامه من دلالة الحال، أُلزم التفسير ليكون لزومُ التفسير في باب إبانة المضمر والدلالة عليه بمنزلة تقدم الذكر. وهذا التفسير المبين للمضمر على ضربين: أحدهما أن يكون مفرداً. والآخر أن يكون جملة. فالمفرد على ضربين: أحدهما إضمار في فعل، والآخر إضمار في حرف. فالذي في الفعل كقولهم "نعم رجلاً" و "بئس غلاماً"، لما أضمرت فاعل "نعم" قبل أن يذكر بيّن بالنكرة، ليبين هذا التفسيرُ المضمر، كما يبينه تقدم الذكر أو دلالة الحال، فصار هذا التفسير في إبانة المضمر بعدُ بمنزلة المذكور قبله في باب الدلالة عليه. وهذا المضمر على شريطة التفسير لا يجوز إظهاره. والدليل على ذلك أنهم قد أوقعوا هذا الضمير حيث لا يجوز فيه وقوع الظاهر، وذلك قولهم "رُبهُ رجلاً"؛ ألا ترى أن المظهر لو وقع على حده لجاز دخول "رُبَّ" على المعارف المظهرة، كما دخلت على المضمر، وفي امتناع ذلك ورفضهم لاستعماله دلالة على أن المضمر على شريطة التفسير لا يجوز إظهاره، وإذا كان كذلك، لم يكن قولهم "الرجل" في "نعم الرجل" إظهاراً للضمير الذي كان في قولهم "نعم رجلاً"، إذ لو كان على ذلك الحد لجاز إظهاره في "رُبَّ" أيضاً، فكما أن قولهم "رُبَّ رجلٍ" ليس على إظهار لقولهم "رُبَّه رجلاً" بلا إشكال، كذلك لا يكون قولهم "نعم الرجل" إظهاراً للضمير في "نعم رجلاً". فإذا ثبت هذه الدلالة في المضمر على شريطة التفسير في "رُبه رجلاً"، ثبت أن كل ما أضمر على شريطة التفسير بهذه المنزلة، ولهذا قال سيبويه: "هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمراً"، أراد بقوله "المعروف" المعروف من هذا الوجه الذي هو إضمار قبل الذكر؛ لأنه قد أفصح عن مراده هذا بقوله: "فهي - يعني

نِعَم- مرة بمنزة رُبه رجلاً، ومرة بمنزلة ذهب أخوه". وإذا كان كذلك فكأنه قال: هذا لا يعمل في هذا المضمر إلا في حال إضماره دون حال إظهاره، فأطلق لفظة معناها الخصوص والتقييد غير مقيدة، وليس ذلك بمعيب إذا أوضحه ما يفهم به عن غرضه؛ لوجود ذلك في التنزيل؛ وفي كلام الحكماء. وإذا كان هذا سائغاً كان اعتراض محمد بن يزيد عليه في هذا الموضع في كتابه المترجم بـ "الغلط" بقوله: "زعم سيبويه أنه لا يعملفي المعروف إلا مضمراً، وقد يعمل فيه غير مضمر في قولهم: نِعمَ الرجلُ زيداً" اعتراضاً غير صحيح؛ لما ذكرنا من أن المظهر ليس على حد المضمر. فإن قال قائل: فهلا جعل إتباعهم التفسير المظهر في هذا الباب كإتباعهم المضمر، دلالة على أن المظهر في قولهم "نِعم الرجلُ رجلاً" هو الذي كان مضمراً فظهر؟ قيل: لا دلالة في هذا على ما ذكرت، ولم يتبع التفسير المظهر على حد ما تبعه في المضمر؛ ألا ترى أن التفسير في نحو "نِعم رجلاً" و {بئس للظالمين بدلاً} لازم لا يحذف، وليس بلازم في نحو قوله:

تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزادُ زادُ أبيك زادا لأنك لو لم تذكر "زاداً" المفسر لم تحتج إليه، كما أنك لو لم تذكر المفسر في قلك"عندي من الدراهم عشرون" لم تحتج إليه. فقد بان أن المفسر في "نعم الرجل رجلاً" ليس بمنزلته في "نِعُمَ رجلاً". ومما يدل على أن هذه المضمرة قبل الذكر على شريطة التفسير ليست كالمضمرة بعد الذكر، وأن إظهارها غير جائز عندهم، أنا لا نعلم أحداً من العرب والنحويين يجيز العطف على المضمر في "نِعْمَ" ولا توكيده، كما أجازوا ذلك فيما أضمر بعد الذكر، وذلك أن هذا الاسم لما أضمر قبل أن يذكر على شريطة التفسير، كان غير مستغنٍ ومفتقراً إلى التفسير، فصار كأنه لم يتم بعد، والعطف والتأكيد لا يُحملان على الاسم حتى يتم الاسم، فلما كان هذا في غير حكم الأسماء الآخر من حيث لم يستقل بنفسه، وجب أن لا يجوز تأكيده ولا العطف عليه. فإن قال قائل: فإن تم بتفسيره فأجز العطف عليه والتأكيد له، كما أن الموصول إذا تم بصلته جوّزت ذينك فيه. قيل: ليس هذا التفسير مع هذا المفسَّر كالصلة مع الموصول؛ لأن الصلة تجري مجرى الصفة؛ ألا ترى أنها إيضاح للموصول، كما أن الصفة كذلك. يدل على ذلك أنه يقتضي ذكراً يعود إليه، وأنه بالصلة يدل على معنى زائد على الموصول، كما أنه بالصفة كذلك، والمفسر إذا تبع المفسر يصير بانضمامه إليه يدل على المعنى الذي يدل عليه الموصول قبل انضمام الصلة إليه؛ ألا ترى أن "مَنْ" و "ما" و "أي" و "الذي" يدل كل واحد منها على معنى لغير الصلة، فإذا انضمت الصلة إليها أوضح ذلك المعنى. والمضمر في "نعم" إذا انضم إليه التفسير صار حينئذ يدل على ما يدل عليه الاسم الموصول بلا صلة. فإذا كان كذلك علمت أنه ليس مثله، وأنه إذا فُسِّر لم يجز العطف بلا صلة. فإذا كان كذلك علمت أنه ليس مثله، وأنه إذا فُسر لم يجز العطف عليه، كما لا يجوز قبل أن يُفسر؛ لأن التفسير له لم يخرجه عن أن يكون المعطوف

عليه على غير حدّ الأسماء المعطوف عليها. فإذا كان كذلك لم يجز، ألا ترى أن سائر الأسماء مستقلة بأنفسها، ولم تجعل في دلالتها على المعاني موكولة إلى غيرها، وليست كذلك الأسماء المضمرة بعد الذكر، لأن تلك تقدم مظهراتها تنبيهاً، وتدل عليها، وإذا قبح في نوع من ذلك العطف مع تقدم ذكر مظهراتها نحو "قام وزيدٌ"، وجب أن لا تجوز في هذا العطفُ. ومما يدل على أن هذا المضمر على شريطة التفسير ليس على حد ما أضمر بعدُ، أنه لم يُكْنَ عنها في شيء من كلامهم، كما كني عن المضمر بعد الذكر، ولم يعد ذكر إلى مظهر كما عاد المضمر بعد، وإذا كان كذلك فلو قال قائل "كان زيدٌ منطلقٌ" [و]: ......................... .... وليس منها شفاءُ الذاء مبذولُ فأخبر عما في "كان" بالذي وبالألف واللام، وعما في "ليس" بالذي، لم يجز، ألا ترى أنه لو قال: الكائن زيد منطلق هو، أو: الذي ليس منها شفاء الداء مبذول هو، للزم أن يرد ما في "الكائن" و "ليس" على اللام والذي، وهذا الضمير لم يعد إلى مذكور في موضع من كلامهم، فإذا أدى هذا الإخبار إلى ما كان مرفوضاً عندهم لم يجز. فإن قلت: لا أجعل الضمير يعود إلى الموصول، كان أذهب في الخطأ؛ لأن الموصولة حينئذٍ لا يعود عليها من صلاتها شيء، فإذا أخرجه الإخبار عنه عما حكمه أن يكون جارياً عليه، لم يجز؛ ألا ترى أنهم لم يجيزوا الإخبار عن الاسم في "رُبَّ رجلٍ"، لأن الإخبار عنه يخرجه عما يكون عليه في الكلام. فإن قلت: فقد أخبروا عما أضمر على شريطة التفسير في قولهم "ضربني وضربتُ زيداً"؟ فإن ذلك ليس من كلام العرب، وإنما أرادوا به أن لو كان كيف كان

قياسه، على أن منهم من لم يجز الإخبار في هذا الباب، ولو أخبر عنه على أن لا يعود الذكر على الموصول مع فساده، لفسد من وجه آخر، وهو أنك إذا أوقعت المخبر عنه خبر الابتداء على عبرة هذا الباب لم يجز، لأن المخبر عنه حكمه أن يكون هو وحده الخبر، ولا يجوز في هذا الاسم أن يكون وحده الخبر؛ لأن التفسير يلزمه، وإذا لزمه التفسير لم يكن وحده خبراً، فخالف بذلك سائر الأسماء المخبر عنها، وخرج عن عبرة هذا الباب وأصوله. ومن الأفعال التي يضمر فيها على شريطة التفسير، وفُسِّر المضمر منها بالمفرد، الفعلُ المعطوف عليه فعل إذا أعمل الثاني منهما، وذلك قولك "ضربني وضربتُ زيداً"، وهذا هو الذي يختاره أهل البصرة، وعليه التنزيل، وذلك قوله {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}، وقوله {آتوني أُفرغ عليه قِطراً}. فإذا أعمل الآخر في هذا النحو لزم أن تضمر في الفعل الأول الفاعل قبل الذكر؛ لأن الفعل لا يخلو من الفاعل، وما يذكر من المفعول والفعل الثاني يفسره، ولا يجوز أن يحذف الفاعل ويفرغ الفعل منه كما يحذف المبتدأ؛ من حيث اجتمعا في أنهما محدَّث عنهما؛ لأن الفاعل يضمر في فعله حيث يحذف المبتدأ. فإذا كان كذلك لم يجز أن يحذف الفاعل من حيث حذف المبتدأ، كما ذهب إليه الكسائي. فلما اجتمع في هذا الموضع أمران مكروهان عندهم، أحدهما حذف الفاعل، والآخرُ الإضمار قبل الذكر، ولم يكن حذف الفاعل وإخلاء الفعل من الإسناد إليه سائغاً في الأفعال الصحيحة التي لم تشابه الحروف، ولم تنزل منزلتها، ولم تكن بمنزلة أسماء الزمان في المعنى، ولا مستعملاً في كلامهم، رفضوا

ذلك، وعدلوا إلى الإضمار قبل الذكر لاستعمالهم له في مواضع من كلامهم، وليس اتصال الفعل بالفاعل كاتصال المبتدأ بخبره، فيجوز أن يحذف الفاعل كما حذف المبتدأ، لعدة أدلة ذكرت في غير هذه المسألة. وقال بعض البغداديين: إن الفراء قال في قولهم "ضربني وضربت زيداً": لا يجوز قول الكسائي؛ لأن الفعل لا يكون بلا فاعل، ولا يجوز قول البصريين؛ لأنه لا يضمر قبل الذكر، ولا يجيزها هو إلا أن يجعل الفعلين كشيء واحد، كأنه رفع "زيداً" بهما. وهذا الذي أخذ به، وترك قول الناس إليه، أبعدُ من الأقوال التي تركها، وذلك أنه لا يخلو في قوله: الفعلان كفعل واحد، وجعله إياهما بمنزلة، من أن يكون رفع الفاعل بالفعلين أو بأحدهما، أو جعلهما جميعاً كالشيء الواحد. فإن كان رفع الفاعل بالفعلين، فذلك ممتنع؛ لأنا لا نعلم فاعلاً عمل فيه فعلان في موضع واحد. بل لم نعلم شيئاً واحداً اسماً مفرداً، ولا كلمة مفردة عمل فيها عاملان، ولا يمكن أحداً أن يوجد ذلك؛ ألا ترى أن كل عامل يوجب عملاً، فلو عمل فيه عاملان للزم أن يكون في حرف الإعراب منه إعرابان، كما أنه إذا عمل فيه عامل واحد صار فيه ضرب واحد من الإعراب، وذلك مما لا خفاء بفساده. وإن كان رفع الفاعل بأحدهما فقد ترك الآخر بلا فاعل، ودخل فيما عابه على الكسائي. فإن كان قد جعلهما كالشيء الواحد، فجعله إياهما كالشيء الواحد غير جائز؛ لأنه لا دلالة عليه، ولا نظير له، ألا ترى أنه لا يوجد في الأفعال فعلان جُعلا بمنزلة فعل واحد. ولا فصل بين أن يقول: أجعل فعلين كفعل واحد، وبين: ما زاد على الواحد الاثنان فما فوقهما.

ويقال له: كيف جعلتهما بمنزلة الفعل الواحد؟ أبِان أعملتهما جميعاً في الفاعل الواحد؟ فهذا لا نظير له، أم بأن أعملت أحدهما وتركت الآخر؟ بيِّنْ ذلك، فإنه إنما هو عبارة لا يصح لها معنى ولا يلتئم. فأما ما ذكرته من أنه لا يضمر قبل الذكر، فقد أريناه أشياء أضمرت قبل الذكر. وقول الكسائي أشبه، وإلى الصواب أقرب، وإن كان خطأ عندنا؛ لأن له أن يقول: شبهت الفاعل بالمبتدأ، فحذفته من حيث اجتمعا في أن كل واحد منهما محدَّث عنه، وإن كان الفاعل لا يشبه المبتدأ للفصول التي أريناها في مواضعهما. فإن قلت: إذا كان الفعل لا يجوز عندكم أن يخلو من الفاعل، فإلام أسند الفعل في قوله تعالى {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات}، وقوله {أو لم يهد لهم كم أهلكنا} في من قرأ بالياء، وقول الهذلي: فقلت تحمل فوق طوقك إنها ... مطبعةٌ، من يأتها لا يضيرها وهذه الأشياء المذكورة بعد هذه الأفعال لا يجوز أن يسند إليها حديث قبلها، لانقطاعها عما قبلها من حيث كانت جزاء واستفهاماً أو بمنزلة الاستفهام. قيل: أما قوله {ثم بدا لهم} فإن أبا عثمان يقول: إن فاعله مضمر

فيه. كأنه عنده: ثم بدا لهم بدوٌ، فأضمر الفاعل لدلالة فعله عليه. وجاز هذا وحسُن وإن لم يحسُن أن يقول: ظهر ظهورٌ، وعلِن علنٌ؛ لأن البدو والبداء قد استعمل على غير معنى المصدر؛ ألا ترى أن قولهم: بدا لهم بدوٌ، بمنزلة: ظهر لهم رأيٌ، كما أن قولهم "قد قيل فيه قولٌ" كذلك فلهذا أقيم المصدر فيه مقام الفاعل. وأما قوله {أو لم يهد لهم} فإن شئت جعلته من هذا الوجه، لأن الهداية قد تستعمل استعمال الدلالة التي يراد بها الحجة على الشيء والبرهانُ فيه، فكأنه قال: أو لم نُبين لهم حُجتنا. وإن شئت جعلت فاعله مدلولاً عليه فيما تقدم، كأنه قال: أو لم يهدِ لهم قصصُنا وضربُنا لهم الأمثال. وأما قوله {ليسجننه} فحمله أبو عثمان على أنه حكاية، تقديره: بدا لهم أمر قالوا ليسجننه، فأضمر القول، كما قال {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} أي: قالوا ما نعبدهم/، وكما قال {والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ* سلام عليكم} أي: يقولون، وهذا كثير. فأما قوله {كم أهلكنا} فيجوز أن تكون الجملة في موضع نصب بما دل عليه قوله {أولم يهد لهم} لأنه بمنزلة: أولم يعلموا، فتحمله على ذلك. وأما قول الهذلي: ..................... ... ................... من يأتها لا يضيرها

على مذهب سيبويه -وتقديره فيه التقدم- ففاعله فيه المصدر، كالفاعل في قوله {ثم بدا لهم}؛ لأنك تقول: لا يضيرُك ضيرٌ، فدل المصدر على الفاعل. وأما قوله تعالى {هيهات هيهات لما توعدون} ففي كل كلمة ذكر لما تقدم، تقديره: هيهات إخراجُكم، نشركُم وبعثكُم، على مذهبهم في استبعادهم النشر وإنكارهم البعث، كما قالوا {من يحيى العظام وهي رميم}، وكما قالوا {أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجعٌ بعيدٌ}، فقال تعالى محتجاً عليهم {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه}، وقال تعالى {كذلك النشور}. وأما قول جرير: فهيهات هيهات العقيقُ وأهلهُ ... وهيهاتَ خِلٌ بالعقيقِ نُواصِلُه ففي الكلمة الأولى- في من أعمل الثاني- ذكر العقيق، وأضمره قبل الذكر. ومن أعمل الأول كان في الثانية ذكر من الفاعل. ومن ذلك قول الهذلي:

فلم يبق منها سوى هامدٍ ... وسُفعُ الخُدودِ معاً والنُّئيُّ إن قلت: ما فاعل "يبق"؟ فالقول فيه: إنه لا يخلو من أحد أمرين: إما [أن] تسنده إلى ما تقدم ذكره، فتضمره، لأن قبل هذا البيت: على أطرقا باليات الخيا .... م إلا الثُّمامُ وإلا العِصِيُّ فدل هذا على أنه لم يبق كثير أثر، فأضمره لذلك. وإما أن تجعل الفاعل "سوى"، لأنه، وإن كان لم يجر في الكلام إلا ظرفاً، فقد يجعل في الشعر اسماً، كما أن "سواء" كذلك، قال: ................ .... وما قصدت من أهلها لسوائكا وكما أن كاف الجر كذلك، قال: أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ ... كالطعنِ يهلكُ فيه الزيتُ والفُتُلُ

وأنشدنا محمد بن السري: فوا عجبا إن الفِراق يروعُني ... به كمناقِيشِ الحُلىِّ قِصارِ فالكاف فاعلة، كما أنها في بيت الأعشى فاعلة. ومن ذلك قول الشاعر: ومجوفات قد علا أجوازها ... أسار جُرد مُترصات كالنوى أي: علا التجويف أجوازها، فأضمر لدلالة ما تقدم عليه، والمعنى: بلغ البياض من بطونها إلى غيرها. وكذلك قول أبي زبيد: لم يهب حُرمة النديم وحُقت ... يا لقومي للسواةِ السواءِ أي: حُقت الحرمة أن تهاب وقال: {فزادهم إيماناً} أي جمعُ الناس لهم. وقال: {ما زادهم إلا نفوراً} أي: ما زادهم مجيء النذير. فكل هذا فيه ضمير دل عليه ما تقدم. وأما قوله تعالى {وقلن حاش لله} فإن (حاشا) لا يخلو من أن

يكون فعلاً أو حرفاً، فلا يجوز أن يكون حرفاً لأنه جار، وحرف الجر لا يدخل على مثله في كلام مأخوذ به، فثبت أنه فعل. فإذا كان فعلاً فلابد من إسناده إلى فاعل، والمسند إليه "حاشى" "يوسف"؛ لأن ذكره قد جرى. ومعنى "حاشى" "فاعل" من "الحشا"، وهو الناحية، قال الهذلي: ................ ... بأي الحشا صار الخليطُ المُباينُ فكأن المعنى: بعُد من هذا الأمر، فصار في ناحية، ولم يقترفه. ويدل أيضاً على كونه فعلاً الحذفُ اللاحق له، والحذف يلحق الأسماء والأفعال دون الحروف. ومما أضمر على شريطة التفسير، وفُسِّر باسم مفرد، قوله "رُبه رجُلاً"، فأضمر ذكر الرجل في "رب"، وفسر بالمنصوب، كما أضمر في قولهم "نِعم رجُلاً"، وفسر بالمنصوب، فالهاء في موضع جر بالحرف وانتصب "رجلاً" لحجز المضمر بينه وبين الجار أن يكون فيه بمنزلته، كما انتصب في قولهم "كذا درهماً" لحجز المبهم بينه وبين الكاف، وكما انتصب في قولهم "كأيٍ رجلاً أتاني" لحجز التنوين بين "أي والمفسر. فإن قلت: فكيف دخلت "رُبَّ" على المضمر، والمضمر معرفة، و "رُبَّ" لا تدخل إلا على النكرة من حيث أريد بالمفرد بعدها جماعة، وهذا المعنى يكون في الآحاد النكرة؟

فإنه إنما جاز ذلك لأن هذا المضمر لما لم يختص بذكر متقدم، صار الاسم لما يقتضيه من التبيين بالتفسير مشابهاً للنكرة، وإن كان على لفظ المعرفة، فكأنهم استجازوا لذلك إدخاله على الضمير، واستتب ذلك في هذا الباب لما ذكرنا، إذ كانوا قد أجروا المضمر بعد تقدم الذكر، مع أنه لا يقتضي تفسيراً، مجرى النكرة، وذلك قولهم في الاستثباب لقائل قد قال: "ذهبت معهم": "مع منين"؟ ألا ترى أن الاستثبات بهذا الحرف إنما يكون في النكرات دون المعارف، فإذا تركوا هذا مع اختصاصه، فإنه لا يقتضي تفسيراً، [يجري] مجرى النكرة، فالضمير في "رُبه" أجدر. وهذا مما يدلك على أن المعرفة المظهرة لا يصلح وقوعها بعد "رُب" كما جاز وقوع المضمر؛ ألا ترى أن المظهر لا يقتضي لهذا التفسير، فيشابه بذلك غير المختص، ولم يشتثبت عنه كما يستثبت عن النكرة. فإن قلت: فقد حكى أبو الحسن أن بعض العرب يجعل "واحد أمه" و "عبد بطنه" نكرة، ويدخل عليه "رُبَّ"، وأنشد: أماوي إني رُبَّ واحِدِ أُمِّهِ ... أخذت، فلا قتلٌ عليه ولا أسرٌ فقد حكى هذا، وقال مع ذلك: الوجه الجيد أن يكون معرفة، وهو أكثر. ووجه قول من أجاز ذلك أنه لما كانا صفتين، قدر فيهما الانفصال كما قالوا: مررت بفرس قيدِ الأوابد، وبناقةٍ عُبر الهواجر، حيث قدر

فيهما الانفصال، فكذلك "عبد بطنه" و "واحد أمه" تقدير: عبدٌ لبطنه، وواحدٌ لأُمِّه، ويؤنس بذلك قولهم: رُبَّ رجلٍ وأخيه، وكلُّ شاةٍ وسخلتها، وقوله: وكم دون بيتك من مهمهٍ ... ودكداك رملٍ وأعقادها ووضع سقاءٍ وإحقابه ... وحلِّ حُلُوسٍ وإغمادِها فإن قلت: فإن ما يدخل عليه "رُبَّ" من الأسماء النكرة يراد به الأكثر من الواحد، وهذا المعنى يكون في النكرة المظهرة دون المضمرة، فهلا امتنع دخول "رُبَّ" على المضمر لذلك؟ فالقول: إن دخول "رُبَّ" على المضمر لا يمتنع من أجل هذا، لما ذكرنا من بعده عن الاختصاص لاقتضائه التفسير؛ ألا ترى أن الفعل المخصوص بالمدح أو الذم لا يعمل في الأسماء المخصوصة، كما لا تعمل "رُبَّ" فيها، وقد احتمل هذا الضمير، فكما أن "نِعمَ" ونحوه لا يعمل في

(ب) الجملة

الأسماء المخصوصة وقد احتمل هذا الضميرَ، كذلك يحتمله "رُبَّ"، وإن لم يعمل في الأسماء المخصوصة. ومما يؤنس بذلك أن محمد بن السريٌ أخبرني عن محمد بن يزيد عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سمعت أبا السمال يقول "هؤلاءٍ قومك" فنون، وذلك أنه جعله نكرة. قلت لأبي عثمان: كيف تكون هذه نكرة وهو يوميٌ به إلى "قومك"؟ فقل: ألا ترى أنك تقول: هؤلاء رجالٌ فـ "هؤلاء" معرفة، وما بعده نكرة. الضرب الثاني من القسمة الأولى: ما أضمر قبل الذكر وفُسر بجملة. هذا الضرب أصله أن يقع في الابتداء، وإذا كان موضعه الابتداء دخل عليه ما يدخل على المبتدأ من "كان" و "إن" وبابيهما، و "علمت" و "ظننت" وأخواتهما. قالوا في قوله تعالى {قل هو الله أحد}: إن الضمير للأمر والحديث، وإن الجملة التي هي المبتدأ وخبره في موضع خبره. وتدخل "إن" على المبتدأ فتقل "إنه زيدٌ منطلقٌ"، وفي التنزيل {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له} وفيه {فإنها لا تعمى الأبصار}، فجاء التأنيث على ضمير القصة، كما جاء التذكير على ضمير الحديث والأمر. فإن قلت: هلا فُسر هذا بالمفرد كما فُسر ما تقدم به؟ فإن هذا لم يجز فيه التفسير بالمفرد كما جاز فيما تقدم؛ لعدم ما ينصب المفسر في هذا الموضع؛ ألا ترى أن النصب إنما يكون بفعل أو ما شُبِّه به، والاس المضمر ليس بفعل، ولا فيه شبهٌ منه، فإذا لم يكن في هذا الموضع كـ "نِعْمَ" وبابه هناك، ولا جاز فصل بينه وبين المنصوب مجروره ولا بتنوين

لعمل فصله، فيكون كالفاعل في فصله بين المفعول وفعله، ثبت أنه لا سبيل إلى تفسير هذا الضمير على نحو ما فُسر في "نِعْمَ" و "رُبَّ". فأما قولهم "ضربني وضربت زيداً" فليس تفسير "زيد" للضمير في "ضربني" على حد تفسيره النكرة المنصوبة في "نِعْمَ" و "رُبَّ"؛ لأن المفسر في "نِعم" و "رُب" شائع مفسر بالمنكور الذي تفسر به الأسماء الشائعة المبهمة، والمضمر في "ضربني" مخصوص ليس شائعاً، فمن ثَمَّ لم يبين إلا بإظهار اسمه المخصوص، كما يبين الاسم المخصوص بصفته والعطف عليه، ولما لم يجز أن يبين المضمر في الابتداء بالمفرد، فُسِّر بجملة هي حديث وقصة، كما فُسر ما كان أمراً نحو "الوصية" و "العِدة" و "المَثل" بجمل هي هي في المعنى، وذلك نحو قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} ثم قال {للذكر مثل حظ الأنثيين} فبين الوصية، وقوله {وعد الله الذين آمنوا} ثم قال {لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ} ففسر الوعد، وقال {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} ثم فسر المثل فقال {خلقه من ترابٍ}. ومن هذا قول الفرزدق: عشية ما ود ابن غراء أنها ... لها من سوانا إذ دعا أبوانِ ففسر بقوله "لها أبوان" فكذلك فُسر هذا الضمير الذي هو أمر وحديث، بما هو حديث وأمر في الابتداء وما دخل عليه. فإن قال قائل: هلا جاز أن يُفسر هذا الضرب أيضاً بالمفرد، كما فُسر

بالجملة، لقولكم إن هذه الجملة في موضع مفرد، فإذا كان الموضع للمفرد، والأصل له، والجملة داخلة عليه، فهلا كان المفرد أولى من حيث كان الأصل؟ أو هلا استويا جميعاً في ذلك، وصلحا له؟ قيل: كونُ المفرد الأصل في هذا الباب، والحكمُ على الجملة بأنها في موضعه، لا يوجب إجازة وقوع المفرد ههنا؛ ألا ترى أن في كلامهم مواضع أصلها للمفرد، ولم يجز مع ذلك وقوع المفرد فيها. فمن ذلك قولهم "كاد زيد يذهب" وقوله {يكاد سنابرقه يذهب بالأبصار} و {إذا أخرج يده لم يكد يراها}، وقولهم "ما أحسن زيداً"، وقولهم "اذهب بذي تسلم". فكما أن هذه جملة واقعة موقع المفرد، ولم يستجيزوا استعمال [الأسماء] المفردة الواقعة هذه الجمل مواقعها، كذلك لم يستجيزوا استعمال المفرد في موضع هذه الجملة. على أنه لو بُيِّن بالمفرد لم يكن إلى نصبه سبيل لتعري الاسم من معنى الفعل وشبهه، وإذا لم يكن سبيل إلى نصبه وجب أن يكون المفرد مرفوعاً لعدم ما ينصبه، وإذا ارتفع كان في موضع الخبر عنه، وإذا حصل في موضع الخبر عنه لم يكن تفسيراً له ولا تبييناً، كما أن سائر الأخبار عن المبتدآت لا تكون تبيناً لها ولا تفسيراً، وكان مع ذلك يُلبس بما تقدم ذكره من المضمرة، فلا يوصل إلى تحصيله فيما تقدم ذكره، وإذا كان كذلك ثبت أن هذا المضمر لا يُفسر بالمفرد؛ إذ لا يخلو الأمر فيه من أن يُفسر بما تقدم ذكره من المضمرة، فلا يوصل إلى تحصيله فيما تقدم ذكره، وإذا كان كذلك ثبت أن هذا المضمر لا يُفسر بالمفرد؛ إذ لا يخلو الأمر فيه من أن يُفسر بالمفرد

أو الجملة، وقد قامت الدلالة على أنه لا يجوز تفسيره بالمفرد، فبقي الجملة. ومن هذا الباب قوله تعالى {من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريقٍ منهم}، ومذهب سيبويه، أن في "كاد" ضمير القصة والحديث، وفُسر بالجملة من الفعل والفاعل. وجاز ذلك فيها وإن لم تكن مثل "كان" وبابها من الأفعال المجردة من الدلالة على الحدث لمشابهتها لها في لزوم الخبر إياها، ألا ترى أنها لا تخلو من الخبر، كما أن تلك الأفعال كذلك، ومِنْ أخوات "كاد" ما جاء خبره منصوباً كـ "كان"، وذلك قولهم في المثل "عسى الغُوير أبؤساً". وأنشدنا عن محمد بن يزيد.

أكثرت في القول مُلِحاً دائما ... لا تُكثِرن إني عسيتُ صائما فإن قلت: فإن الخبر لا يلزمه لزوم "كان" وبابها؛ لأنه قد جاء {عسى أن يبعثك ربك مقاماً}، {وعسى أن تكرهوا شيئاً}، فقد اضطر الشاعر فقال: قد كاد من طُول البِلى أن يمصحا قيل: هذا الذي ذكرته من أن الخبر لا يلزمه، لا يخرجه من شبه ما يدخل على الابتداء؛ لأن الخبر إنما يستغنى عنه لوقوع الحديث والمحدَّث عنه في الصلة، كما استغنى عنه في "علمت أنك قائم" وكما قالوا "ليت أنك قائم" فكما استغنوا عن أخبار هذه الأشياء، وإن كانت مما تدخل على الابتداء والخبر، كذلك إذا استغنى عن خبر "عسى" و "كاد" بما ذكرت، لا يدل على أنهما لا يشابهان ما يدخل على الابتداء والخبر. وحكى أبو عُمر أن أبا الحسن أجاز "ليت أك قائم" فكما استغنوا عن أخبار هذه الأشياء، وإن كانت مما تدخل على الابتداء والخبر، كذلك إذا استغنى عن خبر "عسى" و "كاد" بما ذكرت، لا يدل على أنهما لا يشابهان ما يدخل على الابتداء والخبر. وحكى أو عُمر أن أبا الحسن أجاز "ليت أنك ذاهب"، و "لعل أنك ذاهب"، و "كأن أنك ذاهب". قال أبو عمر: وهذا ضعيف؛ لأنها إنما تدخل على المبتدأ، وهذا لا يبتدأ به، فكما لا يبتدأ به، كذلك لا تعمل فيه "ليت" قال: وقد سُمع هذا في "ليت". ووجه قول أبي الحسن عندي أن "أن" وإن لم يبتدأ به، ولم يكن إلا

مبنياً على شيء فإنه لما تقدمت "ليت" جاز ذلك فيه؛ ألا ترى أنه قد جاز وقوعها بعد "لولا" حيث كانت متقدمة عليها، والاسم بعدها مرتفع بالابتداء، ولولا تقدم "لولا" لم يجز أن يبتدأ بعدها، فكما جاز أن يبتدأ "أن" بعد "لولا" حيث تقدمت عليه، وإن لم يجز أن يبتدأ به أولاً، كذلك جاز أن تقع بعد "ليت" وإن لم يجز أن يبتدأ بها أولاً، بل ذلك في "ليت" أولى؛ لأنه عامل فيها ومغير، وليس لـ "لولا" في "أن" عمل. فأما "كأن أنك منطلقٌ" فلو قال قائل: إنه قبيح لدخول "أنط على "أن"؛ لأن الكاف في "كأن" داخلة على "أن" فإذا استقبح أن يجتمع "أن" مع "أن" ولم يجز "أن أن"، فكذلك هذا لا يحسن، بل يكون أقبح لاتفاقهما واختلاف "أن أن"، لكان قولاً. ووجه الجواز الذي ذهب أبو الحسن إليه أنها لما ضُمت إلى الكاف صار للتشبيه، وزال ذلك الحكم عنه، فصار لدخول هذا المعنى فيه بمنزلة حرف آخر، فكأن اللفظين، وإن اتفقا، فالمعنيان مختلفان. وقد أجاز أبو الحسن في قوله تعالى {من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم} ما أجازه سيبويه على التشبيه بـ "كأن"، وأراد أن يكون في "كاد" ضمير ممن تقدم، ويُرفع "قلوب" بـ "تزيغ"، قال: "وإن شئت رفعتها -يعني القلوب- بكاد، وجعلت تزيغ حالاً". فأما احتماله الضمير مما جرى، فوجهه أنه لما تقدم قوله {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العُسرة}،

البغداديون يسمون الضمير المفسر بالجمل المجهول

وكانوا قبيلاً، ومن عاندهم من الكافرين والمنافقين قبيلاً، قال {من بعد ما كاد} أي: كاد القبيل تزيغ قلوب فريق منهم، كما قال: إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهويني بالفتى أن تقطعا وأما رفع القلوب على "كاد" و "تزيغ" حالاً، فيدل على صحته قول العجاج: إذا سمعت صوتها الخرارا ... أصم يهوي وقعها الصرارا ألا ترى أنه قد قدم "يهوي" على "وقعها" وهو في موضع "هاوياً". وهذا يدل على جواز تقديم الحال من المظهر. والبغداذيون يسمون هذا الضمير المفسر بالجمل "المجهول". ونرى أنهم سموه مجهولاً لأنه أضمر قبل أن يذكر، وإنما يعرف الضمير إذا تقدمه ذكر، فلما لم يتقدم هذا الضمير مظهرٌ كان مجهولاً إلى أن يبين بالتفسير. ومذهب سيبويه في قوله {ولم يكن له كفؤاً أحدٌ} أن انتصاب

{كفؤاً} على أنه خبر "يكن"، مثل قوله {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} في نصب الخبر متقدماً، ولم يجعل له مستقراً وإن كان متقدماً، قال: "وأهل الجفاء يقرؤون {ولم يكن كفواً له أحد}، فيؤخرون الظرف إن لم يجعلوه مستقراً". ومن البغداذيين من قال في قوله {ولم يكن له كفؤاً أحد} إن في "يكن" مجهولاً، وإن "كفؤاً" انتصب على الحال لما تقدم على الاسم وكان نكرة. وهذا ينبغي أن يكونوا حملوا الكلام فيه على المعنى؛ لأنه إن لم يحمل على المعنى فحُش وامتنع؛ لأن الجملة التي تقع بعد المجهول توجب. فإذا كان كذلك صار {له كفؤاً أحدٌ} بمنزلة "له أحد كفؤاً"، فهذا عظيم، وحكي عن أبي عثمان إنكار له. ووجه جوازه -عندي- أنه يكون محمولاً على معنى النفي في "يكن". وجاز ذلك لأن المعنى: لم يكن أحد كفؤاً له، كما جاء "ليس الطيبُ إلا المسكُ"، فدخل "إلا" بين المبتدأ والخبر حيث كان المعنى: ليس إلا الطيبُ المسكُ، ولولا النفي اللاحق لأول الكلام لم يجز. فإن قلت: هل يجوز أن يكون "له" حالاً من "كفؤ" في قولنا؛ لأن

"له" قد كان يجوز أن يكون صفة لـ "كفؤ"، فلما قدم انتصب على الحال؟ فإنا لا نسحب ذلك؛ لأن سيبويه قال: "إن هذا كلام يقل في الكلام، ويكثير في الشعر"، ولو أجازه مجيز لكان العامل فيه "يكن". وعلى قول البغداذيين يكون العامل في "كفؤاً" المنتصب على الحال "له"، و "له" متعلق بمحذوف في الأصل، و "أحد" مرتفع به على قولهم. وكأن "له" إنما قدمت، وإن لم يكن مستقراً، لأن فيه تبييناً وتخصيصاً للكفؤ، فلهذا قدم وحسُن التقديم، وإن لم يكن مستقراً. ولما كان أصل هذا الضمير أن يكون في المبتدأ كما تقدم، وكان مفسراً بجملة واقعة موضع خبر المبتدأ، والجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تخلو من أن تكون مبتدأ وخبراً، أو فعلاً وفاعلاً، أو ظرفاً، أو شرطاً وجزاء، فسر هذا الضمير بهذه الأشياء. فمما جاء من ذلك مفسراً بالابتداء والخبر ما أنشده سيبويه: هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها ... وليس منها شفاءُ الداءِ مبذولُ

وأنشد أبو زيد: ولا أُنبأن أن وجهك شانه ... خُموشٌ وإن كان الحميمُ حميمُ وأنشد غيره: قنافذ هداجون حول خبائهم ... بما كان إياهم عطيةُ عودا فـ "عطية" يرتفع بالابتداء، والفعل والفاعل في موضع الخبر، ولا يكون "كان" إلا على إضمار القصة أو الحديث؛ لأنك إن لم تحمله على ذلك، فصلت بين الفعل والفاعل بمفعول مفعول "كان"؛ ألا ترى أنك إن حملت "عطية" على "كان"، فصلت بينهما بـ "إياهم" الذي هو مفعول "عودا"، فإذا صار في "كان" ضمير الحديث ارتفع بهذا الفعل، وكان "إياهم" مفعولاً مقدماً بمنزلة قولك "عمراً زيدٌ ضاربٌ" في تقديمك مفعول خبر المبتدأ على المبتدأ، وتقديم خبر المبتدأ حسنٌ كما حكاه سيبويه في قولهم "تميمي أنا ومنشوءٌ من يشنؤك". ويدل على جواز ذلك وحسنه قول الشماخ: كلا يومي طواله وصل أروى ... ظنونٌ آن مُطرحُ الظنونِ

ألا ترى أن "كلا" من صلة "ظنون"، وأنه لولا حسن تقديم "ظنون" ما جاز تقديم ما تعلق به عليه. ومما جاء مُفسراً بالفعل والفاعل قوله: فأصبحوا والنوى عالي مُعرسهم ... وليس كل النوى يُلقي المساكين فقوله "يلقي المساكين" في موضع نصب لكونه خبراً لـ "ليس"، ولا يكون "المساكين" على "ليس" لفصلك بينهما بـ "كل النوى"، وهو مفعول "يُلقي". فإن قلت: إذا كان الفصل بين الفاعل وفعله قد جاء في قوله: ألا هل أتاها - والحوادثُ جمةٌ - ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا وقول الآخر: وقد أدركتني - والحوادث جمةٌ- ... أسنة قومٍ لا ضعافٍ ولا عُزل فهلا جاز الفصل بينهما بهذا المفعول؟ قيل: ليس هذا الفصل كالفصل بمفعول المفعول؛ لأن في هذا الفصل تسديداً للقصة وتوكيداً لها، فلما كان كذلك لم يكن الفصل بهذه الجملة كالفصل بمفعول المفعول الذي هو أجنبي من الفعل والفاعل.

فأما استجازتهم الفصل بين الفعل والفاعل بالظرف نحو "كان فيك زيد راغباً"، وامتناعهم من هذا الفصل بالمفعول، فلأن الظرف قد اتسع في الفصل به ما لم يتسع بغيره؛ ألا ترى أنهم قد فصلوا به بين المضاف والمضاف إليه في الشعر، وفصلوا به بين "إن" واسمها، وبين "كم" ومميزها في قوله: على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولاً كميلا فكما فصلوا به في هذه المواضع التي لم يفصل فيها بغيره، كذلك فصلوا بين الفعل وفاعله إذا كان مفعول مفعوله. ويدل على جواز ذلك قوله: فلا تلحني فيها فإن بحبها ... أخاك مُصابُ القلبِ جمٌّ بلابله

هكذا أنشده سيبويه. وحكي أن من البغداذيين من نصب "مُصاب القلب". وكأن الذين أنشدوه "مصاب" بالنصب لم يجعلوه من صلة الإصابة، شبهوه بالمستقر، إذ كان قبيحاً عندهم أن يفصلوا بين العامل والمعمول بما لم يكونوا يفصلون به لو كان مفعولاً به؛ لأن الظرف ضرب من المفعولات أيضاً، فنصب "مُصابَ القلبِ" على تقدير الحال؛ لأنه بمنزلة "حسن الوجه". ومما يمكن أن يكون على ما أنشده سيبويه من رفع "مصاب" قولُ النمر بن تولب: ولو أن من حتفه ناجياً ... لكان هو الصدع الأعصما ومما فُسر من هذا الضمير بالفعل والفاعل إلا أن الضمير حذف لإقامة الوزن قول الراعي: فلو أن حُق اليوم منكم إقامةٌ ... وإن كان سرحٌ قد مضى فتسرعا وأنشد أبو زيد: وليت دفعت الهم عني ساعةً ... فبتنا على ما خيلت ناعمي بال

وأنشد الأصمعي: ألا ليت أني حين تدنو منيتي ... لثمتُ الذي ما بين عينيك والفم وأنشدنا علي بن سليمان: فليت كِفافاً كان خيرك كله ... وشرك عني ما ارتوى الماء، مُرتوي ومن ذلك ما يرويه البغداذيون من قولهم "أليس إنما قمت"، ينبغي أن يكون فيها ضمير؛ لأن الفعل لا يخلو من الفاعل، ولا يجوز في قول من قال: "ليس الطيبُ إلا المسكُ"، فجعل "ليس" بمنزلة "ما"، أن يجعلها في هذه الحكاية بمنزلة "ما"؛ لأنك لو أوقعت "ما" هناك لم يجز. فأما ما أنشده أبو زيد من قوله: ندمتُ على لسانٍ كان مني ... فليت بأنه في جوفِ عكمِ

فلا يكون على إضمار القصة والحديث، ولكن الباء زائدة، وهي مع المجرور في موضع نصب، كقوله {ألم يعلم بأن الله يرى} وقولهم "يا زيدُ" و "يا لزيدٍ". ومما جاء قد فُسر بالشرط والجزاء قوله تعالى: {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم}. ومثله إلا أن علامة الضمير قد حذفت لإقامة الوزن قول أمية: ولكن من لا يلق أمراً ينُوبُهُ ... بعُدتِه ينزل به وهو أعزلُ ومثله قول الأعشى: إن من لام في بني بنت حسا ... ن ألمه وأعصِهِ في الخُطُوبِ

ولا يحسن أن يحمل قوله تعالى في من رفع {إن هذان لساحران} على هذا؛ لأنه جاء في الشعر للحاجة إلى إقامة الوزن. وزعم الجرمي أن أبا عمرو وعيسى وعمرو بن عبيد قرؤوه بالنصب (إن هذين لساحران). وقد ذكرنا ذلك في المسائل المصلحة من كتاب أبي إسحاق. ولو جاء شيء مثل "إنه في الدار زيدٌ أخوك" لكان على قول سيبويه مثل قوله: .................... ... بما كان إياهم عطيةُ عودا [و]: ................... ... وليس منها شفاءُ الداءِ مبذولُ

استعمال "ليس" و "لا يكون" في الاستثناء

وعلى قول أبي الحسن والبغداذيين مثل: ................... ... وليس كل النوى تُلقي المساكينُ ولو استعملت "ليس" و "لا يكون" في الاستثناء، وذلك قولك "أتأني القومُ لا يكون زيداً" و "أتاني إخوتُك ليس عمراً"، ووجه الاستثناء أنه لما قال "أتاني القوم" ظن المخاطب أن "زيداً" فيهم، فاستثنى "زيداً" بقوله "ليس زيداً" و "لا يكون زيداً"، لصار التقدير: لا يكون بعضهم زيداً، وليس بعضهم عمراً، إلا أن المضمر هنا لم يستعمل إظهاره، كما أن المضمر في {ولات حين مناصٍ}، وخبر "لولا"، والفعل المضمر في نحو "رأسك والسيف"، لم يستعمل إظهار شيء من ذلك. وزعم الخليل أنهما قد استعملا وصفين، وذلك قولهم "أتتني امرأة ليست فلانة" و "أتتني امرأة لا تكون فلانة"، فدل إلحاقهم علامة التأنيث على إجرائهم إياه صفة؛ لأن استعمالها في الاستثناء لا يكون الفعل فيه إلا على التذكير؛ لتقدير فاعله "البعض"، والبعض مذكر.

أجاز بعض البغدادين جعل "ليس" نسقا

والبغداديون أو طائفة منهم قد أجازوا هذا، فحكوا "قام القوم ليس زيداً"، وقالوا: إن شئت صيرت "ليس" نسقاً، فرفعت الاسم بعدها على النسق. قالوا: وقد حكي عن بعض العرب [أنهم] قد قالوا: ذاك ليس واحد ولا اثنان، فرفعه. قال أبو علي: فهذه الحكاية إن كانت مسموعة من فصيح فلا حجة فيها لاحتمالها غير النسق؛ ألا ترى أنه يجوز أن يضمر فيها القصة والحديث، ويكون التأويل: ليس القائل واحدٌ منهم، أي: ليس الأمر القائل واحدٌ منهم، فحذف المبتدأ للدلالة عليه. ويجوز أن يكون "واحد" مرتفعاً بـ "ليس" ويحذف الخبر، قالوا: فإن قلت: قام عبد الله ليس زيدٌ، لم يكن إلا الرفع، و "ليس" نسق، ولا يكون استثناء لأنه لا يستثنى واحد من واحد. قال أبو الحسن: وهذا عندنا على معنى: ليس زيدٌ قائماً، فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه، ولا يكون استثناء، ولكن جملة أُتبع جملةً. وكذلك ما أنشدوه من قول لبيد: ...................... .... إنما يجزي الفتى ليس الجمل

أنشده سيبويه: .............................. ... إنما يجزي الفتى غير الجمل وليس في إنشادهم إياه حجة على أنها عطف؛ ألا ترى أنه يجوز أن يكون "الجمل" خبر "ليس"، كأنه قال: ليس الذي يجزي الجمل، أي: إنما هو الفتى ليس إياه. ويجوز أن يكون "الجمل" اسم "ليس"، والخبر مضمر، كأنه قال: ليس الجمل جازياً. فإن قال قائل: ما تنكرون من كون "ليس" حرف عطف؟ أو ليس قد استعمل "لكن" حرف عطف، وقد أُعمل عمل الفعل، فكذلك يكون "ليس" حرف عطف، وإن كان قد أُعمل عمل الفعل؟ قيل: ليس استعماله حرف عطف بواجب من حيث أُعمل عمل الفعل؛ ألا ترى أنك تجد أشياء كثيرة أعملت عمل الفعل، ولم تستعمل حروف عطف، فإذا كان كذلك لم يحكم بأنها حرف عطف حتى تقوم على ذلك دلالة قاطعة، فأما الحكم بأنها حرف عطف لما ذكروا فلا يسوغ لاحتماله غير ذلك، على أن أبا عمر الجرم يحكى في قولهم "ما ضربت زيداً لكن عمراً" أن يونس كان ينكره. قال الشيخ: وموضع الإنكار أن يقول: إن هذا حرف كان يدخل قبل التخفيف على الابتداء والخبر، فينبغي أن يكون بعد التخفيف مثله قبل التخفيف؛ ألا ترى أن سائر أخواتها كذلك، وأن "إن" كان قد دخل على الفعل إذا خفف نحو {إن كان ليضلنا عن آلهتنا} من حيث كان تأكيداً، فإن ذلك لم يمنعه من أن يجوز الانتصاب به كما كان يجوز به قبل، فكذلك ينبغي

"أليس" تدل على الإيجاب

في "لكن" إذا خفف، لا يخرج من الدخول على الجمل، كما لم يخرج "إن" عن ذلك، وكما لم يخرج "كأن" عن ذلك. وهذا الإنكار من يونس ينبغي أن يكون في قولهم "ما ضربت زيداً لكن عمراً"؛ لأن "ضربت زيداً لكن عمراً" إذا لم ينف لا نعلم أحداً لا ينكره، فنقول: إذا كان ذلك فيه يؤدي إلى الخروج عن أحوال نظائره وما وضع له في الأصل، وجب أن لا يجوز. وكأن النحويين غير يونس إنما قاسوا ذلك على "بل" وشبهوه بها، ولم يجعلوه مثلها؛ لأن الحروف التي تنتقل لا تلزم موضعاً واحداً لا يكون لها من التمكن والاتساع ما يكون للملازم؛ ألا ترى أن "حتى" لما لم يلزم الجر لم يجيزوا إضافته إلى المضمر نحو "حتاه" كما قالوا "إليه"، وكذلك "هل" لما لم يلزم الاستفهام لم يدخل في جميع ضروبه. و"ليس" كلمة مستعملة في النفي، فإذا دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير كقوله {أليس الله بكافٍ عبده} صار إيجاباً، ولم يجز دخول "إلا" عليها، كما لا يجوز دخولها مع الموجب نحو "ثبت زيد إلا قائماً"، وكما لا يجوز دخول "إلا" عليه لكون الكلام بدخول الهمزة موجباً، كذلك لا يجوز أن ينصب معها المضارع بعد الفاء كما ينصب بعد النفي نحو "ما تأتيني فأحدثك". فكما لم يجز "أليس زيد إلا قائماً" كذلك لا يجوز "أليس زيد قائماً فأقوم"، وإن كان يجوز قبل الإيجاب "ليس زيد قائماً فأقوم" كما كان يجوز "ليس زيد إلا قائماً". وإنما امتنع هذان الأمران لما آل الأمر إلى الإيجاب؛ لأنهما كانا يجوزان للنفي، فلما زال النفي بطل جوازهما. وكذلك لا يجوز "ما زال زيد إلا قائماً" و "ما انفك زيد إلا قائماً". فكما لم يجز ذلك، فكذلك

لا يجوز "مازال زيد قائماً فنكرمه"، كما لم يجز في الكلام وحال السعة "ثبت زيد فنكرمه". ولا يجوز أيضاً "ما قام إلا زيد فنقوم" من حيث لم يجز "قام زيد فنقوم". فإن قلت "ما خالفنا أحدٌ إلا زيد فنُقومه" جازت من جهة وامتنعت من أخرى. فجهة الجواز أن يكون الذكر في نقومه" عائداً على "أحد"، فيصير التقدير: ما خالفنا أحد فنقومه إلا زيد. وإن جعلت الذكر في "نُقومه" عائداً إلى "زيد" لم يجز؛ لأن المعنى: خالفنا زيد فنقومه، وهذا لا يجوز. فإن قال قائل: هل يجوز: والله ما زال زيد ذاهباً، على أن يكون "ما" جواباً للقسم؟ قيل له: كان القياس أن لا يجوز هذا لأنه بمعنى الإيجاب؛ ألا ترى أنه لا يجوز "مازال زيد إلا قائماً"، ولم يجيزوا "ما زال زيد قائماً فنكرمه"، فلما لم يُجز هذا مُجرى النفي، ولكن أُجري مُجرى الإيجاب، كذلك القياس أن يُجرى في القسم مُجرى الإيجاب، وإذا جرى مجراه فكأنك قلت: والله ثبت زيد قائماً، وهذا لا يسوغ في الإيجاب، ولكن لما جاء في التنزيل {تالله تفتأ تذكر يوسف}، والمعنى: لا تفتأ، أي: لا تزال. وقال أوس: فما فتئت خيلٌ تثوبُ وتدعي .... ........................ وقد جاء في الشعر الفصيح:

تالله لا تنفك عيني سخينةٌ ... عليك، وجلدي آخر الليل أغبرا قلنا: يجوز أن يحمل هذا على اللفظ، ويترك له ذلك القياس؛ لأنه شبه الألفاظ قد استعمل في باب القسم؛ ألا ترى أنه قد جاء: لما أغفلت شُكرك فاصطنعني ... ........................ فجعلت "ما" النافية بمنزلة الموصولة، فإذا جعلت النافية بمنزلة الموصولة حتى ألحق اللام، فأن تجعل النافية في اللفظ معلقة للقسم، وإن آل المعنى إلى الإيجاب وإلى تغيير المعنى فيه، أجوز. ومما يؤكد هذا ما أنشده أبو زيد: يرجي العبد ما إن لا يراه ... وتحدث دون أبعده خطوب وقوله: ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيراً لا يزال يزيد

حمل "إلا" على المعنى

لما كانت "ما" على لفظ النافية زيدت معها "إن"، كما زيدت في قوله: ما إن يكاد يُخليهم لوجهتهم ... ............................ وقد حمل أبو الحسن قوله تعالى {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} على اللفظ. فإذا جازت هذه الأشياء من أجل الشبه اللفظي، كان الحقيقة أولى. فإن قلت: فهلا جوزت أيضاً "مازال زيد إلا قائماً"، واستحسنت ذلك على اللفظ، كما جاء ذلك فيما ذكرته من القسم، وحملته على اللفظ، كما حملت القسم على اللفظ؟ قيل: لا يجوز هذا في "إلا" كما جاز في القسم؛ لما ذكرنا من مجيء القسم على اللفظ فيما جاء، ولم نعلم مثل ذلك في "إلا"، بل قد جاء "إلا" في مواضع على المعنى دون اللفظ، وذلك قولهم "ليس الطيبُ إلا المسك" لما كان المعنى: ما الطيب إلا المسك، ولولا المعنى لم يجز، كما لم يجز "زيد إلا منطلق". وقالوا: نشدتك الله إلا فعلت" للطلب، لما كان المعنى: ما أسألك إلا فعلك، فليس "إلا" في هذا كالقسم. ومما حمل فيه "إلا" على المعنى قوله تعالى {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً}، و {فأبى الظالمون إلا كفوراً}، و {يأبى الله إلا أن يُتم

نوره}. وقال الشاعر: أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العِضاهِ تروق وقال الحطيئة: أبوا غير ضربٍ يُجثم الهام وقعه ... وطعنٍ كأفواه المرقعة الحُمر فـ "إلا" في هذا النحو محمول على المعنى؛ ألا ترى أنك لو قلت "ضربت إلا زيداً" لم يستقم، إلا أن هذا جاز لمّا كان المعنى: أبوا كل شيء إلا عُتواً، حملاً على المعنى، لا أن المنصوب بعد "إلا" بدل كما يكون بدلاً إذا قلت: ضربت كل أحد إلا زيداً. فإن قلت: هلا قلت إن ذلك لما في "أبى" من معنى النفي؛ لأن معنى "أبى": ما انقاد؟ قيل: هذا لا يستقيم؛ لأنه ليس شيء من النفي يمتنع على هذا أن يقدر بالإيجاب، ولا شيء من الإيجاب يمتنع أن يمثل بالنفي، ولو جاز هذا لكان لا فصل بين الإيجاب والنفي، وفي فصل العرب والنحويين وسائر الناس بين الإيجاب والنفي ما يدل على فساد هذا المذهب.

مسألة: قولهم "ما زال زيد قائما" ما معناه، وعم انقلاب الألف فيه

مسألة وسألنا سائل قديماً عن معنى قولهم "ما زال زيدٌ قائماً" ما معناه؟ وعم انقلاب الألف فيه؟ والجواب في ذلك أنه يقال "زال الشيءُ يزول زوالاً" إذا فارق ولم يثبت، والزوال خلاف الثبات، قال يعقوب: "أزاله من مكانه يُزيله إزالةً، وأزال الله زواله، وزال زواله، إذا دعا له بالبلاء والهلاك"، فهذا الذي حكاه من "أزال" يدل على أن "زال يزولُ" فعل غير متعد، فإذا نقل بالهمزة تعدى. قال: "ويقال: زال الشيء من الشيء يزيله إذا مازه". قال: "ويقال: زِلته". فبين من ذلك أن "زال" فعل متعد، وأن عينه ياء. وأما "زال يزال" وقولهم "ما زال يفعلُ كذا" و {فما زِلتُم في شكٍ} فالعين منه ياء، قال سيبويه: "أما زيلتُ ففعلت من زايلتُ، وزايلتُ: بارحتُ؛ لأن مازلتُ

أفعلُ: [ما برِحت أفعل] فإنما هي من زِلت، وزِلتُ من الياء". ويستدل أيضاً على أن "زيلت": "فعلت" وليس بـ "فيعلت" أنهم قالوا في المصدر "تنزيلاً"، ولم يقولوا "زيلة"، فهذا دليل على ثان، وما قدمه من قولهم "زايلت: بارحت" دلالة على أن العين ياء وليست واواً، فـ "زال" هذا الذي هو "فَعِلَ" ومضارعه "يفعلُ": "يزالُ" غير متعد، يدلك على ذلك قولهم "زيلتُ"، و "زايلت" كجالست من جلست، و "زيلتُ" كخرجت من خرج. ويدلك على هذا ما أنشده محمد بن يزيد. سائل مجاور جرمٍ هل جنيتُ لهم ... حرباً تُزيلُ بين الجيرة الخُلُطِ فهذا في المعنى قريب من "تفرق". وقولنا في صفة القديم سبحانه "لم يزل" إنما هو "لم يفعل" من هذا الذي عينه ياء، وهو الذي فسره سيبويه بأن "ما زلت أفعل: ما برحت أفعل". يدلك على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون منها أو من "زال/ يزيل" أو من "زال يزول"، فلو كان من واحد منهما دونها لكان "لم يزل" و "لم يزل"، فبين إذاً أنه مما ذكر سيبويه وفسره بما يوجب، و "لم يزل" كلام معناه الإثبات. وقال: "إن زال: برح"، فإذا أدخل حرف النفي نفى البراح، فعاد إلى الثبات وخلاف الزوال،

فمن ثم لم يجز "لم يزل زيدٌ إلا راكباً" كما لم يجز "ثبت زيدٌ إلا راكباً"؛ لأن معنى "مازال": "ثبت"، ومن ثم غلط من غلط ذا الرمة في قوله: حراجيج ما تنفك إلا مُناخةً ... على الخسف، أو نرمي بها بلداً قفرا فأصل "زال" البراح الذي ذكره، ولا يمنع عندي أن يجوز الاقتصار على الفاعل فيه كما يجوز في "كان" إذا أريد به "وقع". ويدل على هذا ما حكي في تصاريف هذه الكلمة من قوله "زيلت" و "زايلت" و "تُزيل بين الجيرة الخُلط"، ثم نقل إلى الأفعال التي تدل على الزمان مجردة من الحدث "كان" وبابه، فيلزمها الخبر ولا يجوز الاقتصار على فاعليها. ورأيت أحد أهل النظر في كلام له قرئ علي يفصل بين "مازال" و "ما برِح" بأن يقول: إن "بَرِحَ" لا يستعمل في الكلام إلا أن يراد به البراح من المكان، فيذكر المكان أو الحدث للدلالة عليه. وهذا الذي قاله في "لا يبرحُ" من أنه لا يستعمل إلا في المكان لا يصح، وقد جاء "لا أبرحُ"لم يرد به المكان، وذلك قوله تعالى {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين} فـ "لا أبرح" هنا لا يجوز أن يراد به البراح من المكان،

ما معنى: "زال زوالها" في قول الأعشى

بدلالة أنه قال {حتى أبلغ}، ومحال حتى يبلغ هذا المكان وهو لم يبرح من مكانه، فإذا لم يخلُ "لا أبرح" من أحد معنيين في الآية، البراح من المكان، أو بمعنى "لا أزال"، ولم يخلُ حمله على "البراح" من المكان لما ذكرنا، ثبت أنه بمعنى "لا أزال"، فالمعنى: لا أزال حتى أبلغ، و "برِح" مثل "زال" في أنه استعمل مقتصراً به على الفاعل، ثم نقل إلى حيز الأفعال التي لا يستغنى بفاعليها كـ "كان"، وذلك نحو ما أريتك في الآية، ونحو قوله: فقلت: يمين الله أبرحُ قاعِداً ... ولو ضربوا رأسي لديك وأوصالي وكأن الكلمة تدل في الآية على معنى المجاورة، ومن ثم قال: ...................... ... فأبرحت رباً، وأبرحت جارا أي: جاوزت ما يكون عليه أمثالُك في الخِلال المرضية. وأما قول الأعشى: هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالُها بالليل زال زوالُها فإن محمد بن السري -رحمه الله- روى عن أبي العباس: يقال: "زلتُ الشيء وأزلته". فهذا على هذا القول دعا عليها، كأنه قال: زال الله زوالها، كما تقول: أزال الله زوالها، هذا قول البصريين والكوفيين. وقال أبو عثمان: "ارتحلت بالنهار، وأتاه طيفها بالليل، فقال: ما بالُها بالليل زال

خيالُها زوالها" كما تقول: "إنما أنت شُرب الإبل" والمعنى: تشربُ شُرباً مثل شُرب الإبل، فحذفت لعلم السامع. وحكى أحمد بن يحيى عن أبي عمرو بن العلاء "زوالُها" بالرفع، قال: صادف مثلاً، فأعمله، وهي كلمة يدعى بها، فتركها ولم ينظر إلى القافية ما هي. وعن أبي عبيدة: "زال زوالها" يريد: أزال الله زوالها، فألقى الألف، وإلقاؤها لغة. الأصمعي: "لا أدري ما هذا". قال أحمد بن يحيى: وقال غيره: زال ذلك الهم زوالها: دعا عليها أن يزول الهم معها حيث زالت. والقول عندي فيه إنه "زال" التي هي "فعل" من الياء، من قولك: زال الشيء يزيلُه إذا مازُه، وتمييز الشيء من الشيء مفارقة كل واحد منهما للآخر، فكأنه قال: زال الله زوالها، والزوال: التصرف والحركة، فكأنه قال: أذهب الله حركتها، وهذا دعاء بالهلاك ومبالغة فيه؛ لأن الحركة تشمل جميع تصرف الحي وتقلبه، وقد دعوا في الهلاك بما هو أيسر من هذا في المعنى وإن كان المراد بهما واحداً، وهو قولهم: "أسكت الله نأمته"، والنئيم من التصويت، والصوت ضرب من الحركة. ويجوز أن يكون المعنى في "زال زوالها" زال ذا زوالها، أي: صاحب

حركتها وهو هي في المعنى، ويكون "زال" أيضاً من المعتدي الذي ذكرناه. وكذلك قول ذي الرمة: وبيضاء لا تنحاش منا، وأُمها ... إذا ما رأتنا زيل منا زويلها يمكن أن يكون "الزويل" بمعنى "الزوال" مثل "الصحاح" و "الصحيح"، أو بناه على "فَعِيل" للمعاقبة؛ لأن الألف لا يترادف مع الياء كما تترادف الياء والواو في نحو "صُدُود" و "عَمِيد". قال ابن الأعرابي: يقال لكل شيء "زائلة"، وأنشد: وكنت امرأً أرمي الزوائل مرةً ... فأصبحت قد ودعن عني الزوائلُ كأنهم أنثوا "زائلة" على النفس أو الذات، وهو "فاعِلة" من "زالَ يزولُ". ومثله في التأنيث لما أريد به البعض ما روي من قوله عليه السلام لبعض من تبعه وقد مال إلى دمث ليبول: "تنح فإن كل بائلةٍ تفيخ". قال التوزي: "تُفيخ، وتفوخ، وتفيخ".

وأما "الزيال" في قول ابن مقبل: غنيت تواصلني فلما رابني ... منها الهوى آذنتها بزيال فإنه كالقيام والصيام، وهو مصدر "زال" و "الزوال" كالطواف والقوام، وقد يكون "فعالاً" من "زايل" الذي هو: بارح. وروى أبو بكر أن أحمد بن يحيى أملى عليهم عن الفراء: "لا أزيل أقول ذاك"، فإن كان ذلك مسموعاً ممن يؤخذ بلغته فهو مثل "نَقِمَ يَنْقُم" و "نَقَمَ ينقمُ"، و "زِيَل": "فُعِلَ" من "زال يزيلُ"، كأنه قال: إذا رأتنا بُعدت عنا حركتها، أو بعدُ صاحبُ حركتها، كما تأولنا في بيت الأعشى؛ لأن النعامة توصف بالشراد كثيراً، قال: ......................... ... وأشرد بالوقيط من النعام فإن قلت: ما تنكر أن يكون "زِيلَ" في بيت ذي الرمة "فَعِلَ" ولا يكون "فُعِلَ" لأن سيبويه قد حكى عن أبي الخطاب أن منهم من يقول: "كيذ زيدٌ يفعلُ، وما زيل يفعلُ، يريد: كاد، وزال"، فينقل حركة العين إلى الفاء في "فعِلَ" كما نقلها في "فُعِلَ". قيل: قد حكى ذلك إلا أن قول ذي الرمة لا يكون على هذا؛ ألا ترى أن ذلك إنما حكوه في "زال" التي يلزمها الخبر المنتصب، ووزنه "فعِلَ يفعلُ" مثل "فرقَ يفرقُ"، والذي في بيت ذي الرمة وزنه "فعل" في الأصل، وإنما

هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها ما معنى "ما تنفك إلا مناخة" فلأ قول ذي الرمة

هو "فُعِلَ" من زلته" الذي [هو] معناه: مزته؛ ألا ترى أنه مقتصر به على الفاعل، فلو كانت التي حكاها عن أبي الخطاب لزمها الخبر، وفيما حكاه يعقوب من قولهم "زلت الشيء أزيله" مقنعٌ في تعدي الفعل، والفعل إذا تعدى ساغ بناؤه للمفعول. ويدلك على أن "زيل" في بيت ذي الرمة مما ذكرناه، أنه لا يخلو من أن يكون من "زال" المتعدية أو من أختيها الأخريين، فلا يجوز أن يكون من واحدة منهما لأنهما لا يتعديان فاعليهما، وإذا لم يتعدياهما لم يجز أن يبنى منهما فعل للمفعول به. وأما قول ذي الرمة: حراجيج ما تنفك إلا مناخةً ... على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا فالذي ذكره الأصمعي في ذلك أن يكون "مُناخةً" الخبر، وتكون "إلا" داخله عليه؛ لأنه: "ثبت إلا مناخةً"، فيكون على هذا التأويل من صلة الإناخة. وقد يمكن أن لا يجعل من صلة الإناخة، ولكن تجعله "مُستقراً"، ويكون "إلا مناخة" حالاً، و "إلا" واقعة في غير موضعها، والتقدير: ما تنفك على الخسف إلا مناخةً.

حراجيح ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا روي "كل" بالرفع والنصب في قول الشاعر

فإن قلت: إن ما وقع "إلا" فيه في غير موضعها إنما أُخر ومعناه التقديم، كقوله {إن نظن إلا ظناً}، [و]: ......................... ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا قيل: إذاً جاز التقديم لأنه مثله في أنه واقع في غير موضعه. ومعنى "إلا مُناخةً على الخسف" قال محمد بن يزيد: يقال: شرب فلانٌ الماء على الخسف، تأويله: أنه لا ثُفل في معدته، فالماء يهوي إلى قرارها. وقالوا في هذا المعنى: هو شَرِبَ الماء بارداً. وفي دعاء بعضهم: إن كُنتَ كاذباً فحلبت قاعِداً، وشربت بارِداً. وقد قال بعض البغداديين فيه قولاً آخر، وهو أن يكون "تنفك" مضارع "فككته"، ومعنى "لا تنفك" أنها بعضها متصلة ببعض، إما بأن تقطر، أو بأن تصطحب للساري في السير، فـ "تنفك" بمنزلة "تنفصل"، كأنه قال: لا تنفصل إلا أن تُناخ على الخسف أو نرمي بها بلداً قفراً على غير الاستعمال لهن في السير، كما أن المعنى في الوجه الثاني: أنها لا تنفك على الخسف إلا أن تُناخ فتترك سيرها. وقد قيل: إن بعضهم أنشد: "لا تنفك ألا مُناخةً"، والآل: الشخص، وجعله خبر "تنفك". وأما قول الشاعر: ليس الفتى كلُّ الفتى ... إلا الفتى في أدبه

تقديم خبر "ليس" عليها

فإنه ينشد على ضربين: "كلُّ الفتى" و "كل َّالفتى" كان صفة لـ "الفتى"، وموضع قوله "إلا الفتى" نصب بأنه الخبر، وتقديره: ليس الفتى الكاملُ إلا الأديب، والظرف متعلق بـ "فتى" لأن صفته معنى فعل. ومن أنشد "كلَّ الفتى" أبدل قوله "إلا الفتى في أدبه" من "الفتى" الذي هو اسم "ليس"، فصار تقديره: ليس الكامل إلا الفتى الأديبُ، والمعنى في الأول: ليس الكاملُ إلا الأديب، فهذا تفسير أبي بكر. وفي تقديم خبر "ليس" على اسمها خلاف، فذهب أبو الحسن إلى جواز تقديم خبرها عليها وحكى أن الكوفيين لا يجيزونه. ولم يجز تقديمه محمد بن يزيد. ومن الدليل على جواز تقديمه أن العوامل في المبتدأ وخبره على ضربين: فَعْل، ومُشبه بالفعل، ووجدنا ما لم يكن فِعلاً وكان مشبهاً به لا يجوز تقديم خبره على اسمه، ووجدنا الفعل قد جاز فيه هذا الذي امتنع في المشبه به من تقديم الخبر كما جاز عليه، فلما وجدنا "ليس" قد جاز فيه ما امتنع في غيره من تقديم الخبر، كما جاز ذلك في الفعل، وجب أن يجوز تقديم خبرها عليها من حيث جاز تقديم خبرها على اسمها، فكما جاز "ليس قائماً زيدٌ" بلا خلاف، كذلك جاز "قائماً ليس زيدٌ" كما جاز "قائماً كنت" لما جاز "كان قائماً زيدٌ"، ولما لم يجز تقديم أخبار "إن" وأخواها على أسمائها، كذلك

مذهب الخليل والفراء في أن أصل "ليس": "لا أيس"

لم يجز تقديمها عليها، ويؤكد ذلك قوله {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم}؛ ألا ترى أن المعنى: لا يُصرف عنهم يوم يأتيهم، فإذا كان هذا الظاهر كان "يوم" معمول الخبر، والمعمول إنما يقع حيث يجوز وقوع العامل. ومن امتنع من تقديم خبر "ليس" جعل الظرف معمول ليس، وكان له أن يقول: إذا كانت المعاني تعمل في الظروف إذا تقدمتها كقولهم "أكل يومٍ لك ثوبٌ"، جاز ذلك في "ليس" أيضاً؛ لأنها بالفعل أشبه منها به، فأجعل الظرف معمول "ليس"، وأعلقه بما يدل عليه "مصروف"، كما أن قوله {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين} كذلك. ولا يكون "ليس" مشتقاً لمشابهة الحروف، كما أن "ليت" لا يكون مشتقاً وإن كانوا قد قالوا "الليساء" للواسعة ما بين الجنبين من النُّوق، و "الأليس" للشجاع، كما قالوا "لاته السلطان حقه يليته ليتاً" إذا منعه، و "ألته يألته" كما أن سائر الحروف كذلك. ومن زعم أن "ليس" أصله "لاأيس" قيل له: ما تريد بقولك: إن أصله هذا؟ أتريد أن تفيدنا الحروف التي ركبت منها هذه الكلمة، أم تريد أن معناها الآن بعد التركيب "لا أيس" كما أن معنى "ويلمها" إنما هو "ويلٌ لأمها"؟ فإن أردت إفادتنا الحروف فذلك ما لا طائل فيه؛ لأن هذه الكلمة إذا حصلت دالة على المعنى الذي وضعت له، فلا فائدة في تعريف الحروف

التي ركبت منها من أي شيء هي. على أن ذلك لا تقوم عليه دلالة من جهة النظر، وأنه لا يجد فضلاً بين من قال إن اللام فيه من "ليس" والياء من "ينع" والسين من "مسه" وبينه، وحكم ما وقف المدعي له هذا الموقف أن يكون ساقطاً. وإن قال: إن معنى "ليس" الآن: "لا أيس"، كان ظاهر الفساد، لأنه يصير على قوله اسماً منفياً، والأسماء المنفية نحو {لا ريب} و {لا ملجأ} لا تتصل بها علامة الضمير، وفي قولهم "ليسوا" و "ليسا" و "لستم" ونحو ذلك دلالةٌ على أنه ليس باسم منفي، ولا يكون على هذا مثل ما قاله الخليل في "لن" إنه "لا أن"؛ لأن معنى النفي ثم قائم، وعمل النصب في الفعل ظاهر، وقد كثر إضمار "أن" وإعمالها مضمرة في الأفعال، وليس الأمر في هذه الكلمة في من حملها على هذا الوجه كذلك. وروى محمد بن السري عن أحمد بن يحيى: "جيء به من حيث وليسا" و "من حيث ليسا" وهي التي كانت المشيخة يستحبونها، ويقولون: لا يكون "من حيث وليسا" و "حيث لا" أكثر من كلام العرب من الذي كانوا يستحبون، و "من حيث ولا"، و "من حيث لا". وأنشد عن ابن حبيب: قد سوأ الناس يا ما ليس بأس به ... وأصبح الدهر ذو العلاتِ قد خدعا

خدع النوءُ: إذا نأى فلم يُمطر. قال: ليس بأس به، فجعل "ليس" مثل "لا"، وبناها معها على الفتح، كما جعل "لا" بمنزلة "ليس" في قوله: ......................... لا مُستصرخُ

مسألة في تأويل أسماء كتاب الله تعال

مسألة في تأويل أسماء كتاب الله تعالى القول في تأويل أسماء كتاب الله تعالى. قد ثبت بقوله تعالى {بما أوحينا إليك هذا القرآن}، أن "القرآن" اسم لكتاب الله جل وعز، وهو اسم منقول، وأسماء المُسمين إذا كانت متمكنة فليس يخلو من أن تكون اسم جنس نحو "الرجل" و "العلم" و "الفرس" و "الجمل"، أو اسم واحد من الجنس نحو "رجل" و "درهم" و "أكلة" و "قومة"، أو اسماً مشتقاً للصفة من الأسماء التي هي عبارات عن الأحداث وما ينزل منزلته نحو "ضاربٍ" و "ظانٍ" و "حسنٍ" و "شديد"، أو علماً لواحد من جنس ليعرف به من سائر جنسه، أو ما جرى مجراه، وهذا الضرب يكون على أحد أمرين: إما أن يصاغ له اسم عند التسمية كقولهم "حيوة" و "موهب" و "موألة" في من أخذه من "وألت"، و "معدي كرب"، وإما أن يُسمى باسم منقول من بعض ما قدمنا نحو "أسد" و "حِمار" و "الحارث" و "العباس" و "زيد" و "فضل". وقولنا "القرآن" من هذا الضرب؛ ألا ترى أن أبا عبيدة فسر قوله تعالى {فاتبع قرآنه} أي: جمعه، فيبن على هذا أنه اسم

منقول من اسم هذا الحدث، كما أن قولنا "زيد" اسم رجل منقول من مصدر "زاد يزيد". فأما دخول لام التعريف فيه في حال النقل فإن الأسماء الأعلام على ضربين: أحدهما لا تدخله لام التعريف كـ "طلحة" و "عثمان" و "بكر" و "زيد"، وهذا هو القياس؛ لأنها قد تعرفت بتعليقها على ما سمي بها، واختصت من هذه الجهة، فأغنى ذلك عن التعريف باللام. والآخر تدخله لام التعريف كـ "الحارث" و "العباس" و "القاسم". ومذهب الخليل وسيبويه في هذه الأسماء التي سمي بها وفيها الألف واللام، أنها بمنزلة صفات غالبة كـ "النابعة" و "الصعق"، فلذلك تدخله الألف واللام. ومن لم يرد هذا الوجه، وأراد الوجه الأول الذي هو تعريف العلم، قال "حارث" و "عباس" و "قاسم" كما قال "طلحة" و "بكر" و "زيد". والدليل على صحة مذهب الخلي فيما وصفنا، وأن العرب أجرت هذا الضرب على مأخذ الخليل، قول الأعشى: أتاني وعيد الحوص من آل جعفرٍ ... فيا عبد عمروٍ لو نهيت الأحاوصا فتكسيه الاسم على "الحُوص" يدلك على أنه ذهب به مذهب "الحارث" و "العباس"؛ ألا ترى أن "فُعلاً" إنما تُكسر عليه الصفات التي هي على "أفعل" دون الأسماء، نحو "أحمر" و "حُمر"، و "أسود" و "سُود"، ولو كان "أفعلُ" اسماً غير صفة لم يكسر على "فُعل".

وقوله "الأحاوصا" يدلك على أنه أجراه مجرى "حارث" و "عباس"؛ ألا ترى أنه كسره تكسير الأسماء نحو "أزمل" و "أزامل" و "أرمل" و "أرامل"، وعلى هذا قالوا "أبطح" و "أباطح" و "أدهم" و "أداهم"، فكسروه على "أفاعِل" حيث استعملت استعمال الأسماء، فكما جعلوه في التسكير مرة بمنزلة الصفة، ومرة بمنزلة الاسم الذي هو غير صفة، كذلك يكون في إلحاق لام التعريف به وترك الإلحاق، يكون على هذين المذهبين. ومثلُ قول الأعشى "أتاني وعيدُ الحوص" ما أنشده الأصمعي: أحوى من العوج وقاح الحافر فـ "العوج" و "الحوص" على مذهب قول من قال "الحارث"، كُسرا تكسير الصفات غير الأسماء، كما أدخل لام التعريف على "العباس" من حيث جعل في المعنى: الذي يعبس، وإن كان قد غلب حتى أغنى عن تعريف العلم في المسمى كما أغنى "الصعق" و "النابغة" عن ذلك. ويدل أيضاً على لحاق اللام في هذا الضرب للمعنى الذي ذكرنا، أن من قال "الحارث" و "العباس" لم يقل إذا سمى باسم جنس غير صفة بإلحاق لام التعريف؛ ألا

ترى أنهم لم يقولوا في رجل اسمه "ثور" أو "يربوع" أو "أسد": "الثور" ولا "الحجر" ولا نحو هذا. فإن قلت: فقد قالوا "الفضل" في رجل اسمه "فضل". فإنما ذلك لأنه على حد الصفة، كأنهم جعلوه عبارة عن الحدث الذي هو خلاف النقص من حيث جاز في "حسنٍ" أن يقصد بالتسمية ذلك، كما حسُن أن يقصد بـ "الحارث" و "العباس"، فدخلت اللام في هذا على حد دخولها في "الحارث" و "الصعق". وعلى هذا دخلت في قولنا "القرآن". فأما قول الشاعر: أما ودماءٍ لا تزال كأنها ... على قنة العُزى وبالنسر عندما فقال "بالنسر". وفي التنزيل {ولا يغوث ويعوق ونسرا}. وما حكاه سيبويه من أنهم يقولون "هذا يوم اثنين مباركاً فيه" ويقولون أيضاً "يوم الاثنين"، وما حكاه أبو زيد، من قولهم: لقيته الندرى وندرى وفي الندرى وندرى، وفينة والفينة بعد الفينة، فليس من باب "الحارث" و "حارث"، ولكنه مما تعاقب عليه ضربان من التعريف مختلفان، وعلى هذا جاء "إلاهة" و "الإلاهة" في اسم الشمس.

وإن شئت قلت: إن اللام في نحو "النسر" زائدة، كما جاءت زائدة في قول الآخر: باعد أم العمرو من أسيرها وكقول الآخر، أنشده أحمد بن يحيى: يا ليت أم العمرو كانت صاحبي وأنشد أبو عثمان عن الأصمعي: ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وحكى عنه أنه قال: "الألف واللام فيه زائدتان". ويجوز أن يكون قد اعتوره تعريفان مثل "فينة" و "الفينة". ويجوز أن تجعله للتعريف على أن "أوبر" نكرة، وإنما امتنع من الصرف في قولهم "بنات أوبر" للوصف لا للتعريف؛ ألا ترى أن سيبويه قد أجاز في "ابن عِرْس" في قول من قال "هذا ابن عِرْسٍ مُقْبِلٌ" أن يكون نكرة، فكذلك يكون "أوبر" نكرة على هذا الحد، ثم يتعرف باللام.

لام المعرفة أربعة أضرب

فأما [ما] في التنزيل من قوله {واليسع} فقد تكون اللام فيه زائدة؛ لأن نحو "يزيد" و "يشكر" و "تغلب" إذا جعلت أعلاماً لم تدخلها اللام كما تدخل "الحارث". ومن قال {الليسع} أمكن أن يكون من باب "الحارث" لأنه على ألفاظ الصفة كـ "الضيغم" و "الجيدر"، وإن كان أعجمياً في هذا الوجه أيضاً فالأشبه أن تكون زائدة؛ لأن الأعجمية تلحق هذه اللام شيئاً منها. ومما يقوي زيادة هذه اللام أن أبا الحسن حكى أنهم يقولون "الخمسة العشر درهماً". فاعلم أن لام المعرفة لا تخلو من اربعة أضرب: أحدها أن تكون تعريفاً للجنس. الآخر: أن تكون تعريفاً للواحد من الجنس. والثالث: أن تكون تعريفاً للإشارة إلى حاضر. والرابع: أن تكون زائدة. فأما كونها تعريفاً للجنس فكقولك "الملك أفضل من الإنسان" و "أهلك الناس الدينار والدرهم"، وفي التنزيل {إن الإنسان خلق هلوعا} ثم قال {إلا المصلين}، فدل استثناء الجماعة منه على أن المراد به الكثرة والعموم لامتناع استثناء الجماعة من الواحد. وهذه الإشارة في أسماء الأجناس إنما هي إلى ما في عقول الناس وأفهامهم من معرفة الجنس، وليس على حد الإشارة إلى الواحد من الجنس الذي عرف حساً كقولنا "الرجل"

ونحن نعني به واحداً بعينه مخصوصاً بعهد لنا به؛ ألا ترى أن جميع الجنس لا يعلمه أحد من الناس من هذا الوجه كما نعلم من هذه الجهة الواحد من الجنس، فإذا كان كذلك تبين أن الجنس لم يعلم من حيث عُلم الآحاد منه. وأما ما كان تعريفاً بالإشارة إلى حاضر فنحو "مررت بهذا الرجل" و {يا أيها الإنسان}. و [أما] الزيادة فنحو ما حكي من قولهم "الخمسة العشر درهماً"، فاللام في "العشر" لا تكون إلا زائدة؛ لأن "خمسة عشر" اسمان جعلا اسماً واحداً، فإن جعلت اللام الثانية غير زائدة لم تخل من أحد أمرين: إما أن تعرف بعض الاسم، أو تعرفه بتعريفين، ولا يجوز تعريف بعض الاسم، كما لا يجوز أن تعرفه بتعريفين، وإذا لم تخل من أحد هذين، ولم يجز واحد منهما ثبت أنها زائدة. وتأول أبو الحسن {اللات} في قول الله تعالى {أفرأيتم اللات والعُزى} أن الألف واللام فيه زائدتان. والدليل على صحة ذلك -عندي- أنه اسم علم، والأعلام لا تدخلها لام المعرفة إلا على حد ما دخلت في "الحارث" و "العباس" و "الفضل"، وليس "اللات" من واحد من هذين القبيلين، فإذا لم تكن منهما، ولم تدخل الأعلام اللام إلا على هذا الحد، ثبت أنه زيادة. فأما قوله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه

وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} فقال أبو الحسن: كان يحرك به لسانه ليستذكره، فقال {لا تحرك به لسانك} إنا سنحفظه عليك. وهذا - والله أعلم- في المعنى مثل قوله {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه}. ومثله {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ}. ومثله {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} أي: مما يرفع تلاوته للنسخ. وليس المراد بقوله {جمعه وقرآنه} القرآن الذي هو اسم التنزيل، ولكنه المصدر المنقول عنه هذا الاسم. ويدل على ذلك أن الضمير المضاف إليه هذا المصدر هو ضمير للتنزيل، وإنما أضمر في قوله تعالى {لا تحرك به لسانك} وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه، كما أضمر في قوله تعالى {إنا أنزلناه في ليلة القدر} لذلك، وإن كان أول سورة، ولم يجر له في هذا الكلام ذكر، ومثل هذا كثير في التنزيل وغيره. وإذا كان هذا الذكر

المضاف إليه المصدر في قوله {إن علينا جمعه وقرآنه} راجعاً إلى التنزيل، ثبت أن المصدر لا يكون عبارة عنه لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه؛ ألا ترى أنك لا تقول "رجلُ زيدٍ" وأنت تعني بـ "رجل" زيداً نفسه، وإنما أضيف المصدر إلى المفعول ههنا، ولم يذكر الفاعل كما أضيف إليه في قوله {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} و {بسؤال نعجتك}، والمعنى: من دعائه الخير، وبسؤاله نعجتك، فكما أن المعنى في قوله تعالى {من دعاء الخير} إنما هو: من دعائه الخير، كذلك المعنى: قرآننا إياه، وجمعنا إياه. وكذلك في التقدير في قوله {فاتبع قرآنه}. فإن قال قائل: فإذا كان تأويل قوله {إن علينا جمعه وقرآنه} مجازه في قول أبي عبيدة: تأليف بعضه إلى بعض، وكان قوله {فاتبع قرآنه} تأويله: وجمعه، فكيف ساغ أن يتكرر على تأويله لفظان لمعنى واحد؟ وهل يحسن على هذا: إن علينا جمعه وجمعه، و: إن علينا قرآنه وقرآنه؟ قيل: إن الآية على نظم ليس يدخل معه هذا السؤال؛ لأن لقولنا "الجمع" نحواً من الاتساع في التصرف ليس لقولنا "قرآن"، ألا ترى أنك تقول

"جمعت الناس" و "أجمعت الرأي" وفي التنزيل {جامع الناس} وفيه {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}. ولو قلت: قرأت الناس، وقرأت الرأي على هذا/ الحد لم يُسغ، فلما دخل قولنا "القرآن" هذا الاختصاص الذي دخله حسن التكرير، كما أنك إذا قلت: أعلمت زيداً وأنذرته حسن ذلك، ولم يكن بمنزلة قولك "أعلمت زيداً أعلمته" لاختصاص الإنذار بمعنى التخويف المتعري منه "أعلمت"؛ ألا ترى أن كل مُنذرٍ مُعلمٌ وإن لم يكن كل مُعلمٍ مُنذراً، فكما أن الإنذار أخصُّ من الإعلام، فكذلك "قرأت" أخص من "جمعت"، كما أن "ضممت" أخص منه، [و] إذا كان المعنى الواحد إذا جاء بلفظين مختلفين قد جاء واستجيز استعمالهما نحو "أقوى" و "أقفر"، فهذا النحو الذي يختص فيه إحدى الكلمتين بمعنى ليس في الأخرى أجدر أن يُستحسن وأولى أن يُستعمل. فإن قال قائل: فما تُنكر أن يكون ما تأولناه في قول ابن عباس في قوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه}: "إذا بيناه لك بالقراءة فاعمل بما بيناه لك بالقراءة". أولى من قول قتادة وأبي عُبيدة في قوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه}: "إنه حفظه وتأليفه" بدلالة أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في غير آية من تنزيله باتباع ما أُوحي إليه، ولم يُرخص له في ترك اتباع

شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن له، ولو وجب أن يكون معنى قوله {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}: فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه لك فيه، لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، ولا فرض {يا أيها المدبر* قم فأنذر} قبل أن يؤلف ذلك إلى غيره من القرآن، وذلك - إن قاله قائل- خروج من قول أهل الملة. فالقول: إن هذا الذي ذكره السائل لا يلزم له أن يكون التأويل الذي ذكره أولى من قول قتادة، وذلك أن قوله {يا أيها المدير * قم فأنذر} و {اقرأ باسم ربك} قرآن في الاسم والحكم، وإذا كان كذلك كان داخلاً تحت قوله تعالى {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قبل أن يُضم إلى غيره، كما أنه بعد ذلك واقع تحته. على أن قوله تعالى {فإذا قرأناه} لا يدل على أنه إذا لم يجمع إلى غيره؛ ألا ترى أنه قد جاء {فإن لم يكونا رجُلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}، وقال {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ولو وجد رجلين فعداهما وعدل عنهما مع وجوده لهما، وأشهد رجلاً وامرأتين، لكان ذلك جائزاً له غير مضيق عليه. فكذلك نحو قوله {اقرأ باسم ربك الذي خلق} و {يا أيها المدثر* قم فأنذر} لا يلزمك ألا يجب اتباعه قبل أن يضم إليه غيره من الآي، وإن كان قد جاء {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}. فإذا كان كذلك ثبت صحة قول قتادة وما تأوله أبو عبيدة من قوله {فاتبع قرآنه}: إنما هو جمعه لما استشهد به على ذلك من قولهم: "ما قرأت هذه الناقة سلى

قط"، وبيت عمرو بن كلثوم. على أن حمله على "القراءة" لا يخرج من تأويل أبي عبيدة لموافقته له في المعنى ألا ترى أن القارئ بقراءته متبع الحروف بعضه بعضاً، فهو كالضام بعضه إلى بعض. فأما قول الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يُقطع الليل تسبيحاً وقرآنا فإنه يحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون المعنى يُقطع الليل تسبيحاً وقراءة قرآنٍ، فحذف القراءة، وأقام القرآن مقامها، كما أن قوله تعالى {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي: في خلقكم، كما أن قوله {فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يُسارعون فيهم} أي: في اتباعهم، أو: في

نصرهم، و {إلا كنفسٍ واحدةٍ} أي: كخلق نفسٍ واحدة، وهذا واسع فاشٍ. وعلى هذا قوله تعالى {لا تحرك به لسانك} أي: بتلاوته {لتعجل به} أي: بتلاوته. ومثل ذلك قول زهير: القائد الخيل منكوباً دوابرُها ... قد أُحكمت حكماتِ القِدِّ والأبقا أي: أُحكمت حكمات القِد وحكمات الأبق، والأبق: الكتان، زعموا. وقال أمية: وترى شياطيناً ترُوغُ مُضافةً ... ورواغُها ضمنٌ إذا ما تُطردُ المعنى: قدر رواغها. وقد كثر هذا الحذف فيما لا يلبس، حتى قد استجازت الشعراء ذلك فيما أدى حذفه إلى الإلباس، أنشدنا محمد بن السري عن محمد بن زيد لكثير في ابن الحنفية: تُخبر من لاقيت أنك عائذٌ ... بك العائذُ المحبوسُ في سجنِ عارمِ

وصي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاكُ أعناقٍ، وقاضي مغارمِ إنما يريد: ابن وصي النبي وابن عمه. وقد جاء أبيات غير هذا أُخر. ويجوز أن يكون جعل "قرآناً" مصدراً لـ "قرأت" ولا يكون هذا الذي هو اسم التنزيل، كأنه قال: "تسبيحاً وقراءة". وزعم بعض أهل التأويل أن "القرآن" من قرنت الشيء بالشيء. وهذا سهو منه، وذلك أن لام الفعل من "قرأت" همزة، ومن "قرنت" نون، فالنون في "قرآن" لست كالذي في "قرن"؛ لأنها في "قرآن" زائدة، وفي "قرن" لام الفعل. ونُرى أن الذي أشكل هذا عليه من أجله هو أنه إذا خففت الهمزة من "قرآن" حذفت، وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها، فصار لفظ "قرآن" إذا كان مخفف الهمزة كلفظ "فُعال" من "قرنت" وليس هو مثله؛ ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بـ "قُران" مخفف الهمزة لم تصرفه في المعرفة، كما لا تصرف "عُثمان" اسم رجل، ولو سميته بـ "قران" وأنت تريد به "فُعالاً" من "قرنت" لانصرف في المعرفة والنكرة. وأما قوله تعالى {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ} فهو عبارة عن التنزيل، وليس كقوله {إن علينا جمعه وقرآنه} لمكان قوله {لتقرأه على الناس على مكثٍ} وكذلك قوله تعالى {قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ} هو حال من (القرآن) في قوله {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ}، ولا يمتنع أن يُنكر ما جرى في

كلامهم معرفة من نحو هذا، ومن ثم أجاز الخليل في قول الشاعر: يا هند هندٌ بين خلبٍ وكبد أن يكون المعنى: يا هندُ أنت هندٌ بين خلبٍ وكبد، فجعله نكرة لوصفه بالظرف: ومثل ذلك قوله الآخر: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... .................... فأما انتصاب "قُرآن" في قوله {وقرآناً فرقناه} فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون محمولاً على {أنزلناه} كأنه قال: بالحق أنزلناه وأنزلنا قرآناً، فانتصابه على أنه مفعول به، ولا يجوز أن ينتصب على الحال كما أجزنا في قوله {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن ... قرآناً عربياً} أن يكون انتصابه على الحال، ألا ترى أنك لو قلت: "جاءني زيدٌ وراكباً" لم يستقم حمل هذا على الحال، لمكان حرف العطف. والوجه الآخر في قوله {وقرآناً فرقناه} أن تعطفه على ما يتصل به، كأنه: وما أرسلناك إلا مُبشراً ونذيراً وذا قرآن وصاحب قُرآن، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

القول في الفرقان

القول في الفرقان قد ثبت أن "الفُرقان" اسم القرآن، بدلالة قوله تعالى {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}. قال أبو عبيدة: "تقديره تقدير رجل قُنعان، أي يرضى الخصمان به ويقنعان". فإن قال قائل: هلا قال: إن "القرآن" أيضاً صفة كما زعم أن "الفُرقان" صفة؟ قيل: إن الدلالة قد قامت على أن "القرآن" لا يكون صفة كما جاز أن يكون "الفرقان" صفة، ألا ترى أن "القرآن" قد أضيف إلى ضمير التنزيل في قوله {إن علينا جمعه وقرآنه}، ولو كان صفة لم تجز هذه الإضافة فيها؛ لأن من أضاف المصدر إلى الفاعل نحو قوله تعالى {ولولا دفع الله الناس} لم يضف إليه اسم الفاعل فيقول: "هذا ضاربُ زيدٍ" فيضيف الصفة، إلى الفاعل؛ من حيث كان اسم الفاعل هو الفاعل في المعنى، والشيءُ لا يضاف إلى نفسه، فكذلك لو كان "القرآن" صفة كما أن "الفُرقان" صفة في قول أبي عبيدة، لم تجز إضافته إلى التنزيل في قوله {جمعه وقرآنه}، فدل جواز هذه الإضافة فيه على أنه مصدر في الأصل، وليس بصفة، وليس يمتنع المصدر أن يضاف إلى الفاعل، كما لا يمتنع أن يضاف إلى المفعول لأنه غير الفاعل، كما أنه غير الفاعل، فمن ثم ساغ إضافته إلى الفاعل كما ساغ إضافته إلى المفعول. فإن قال: فهلا جاز أن يجري صفة على موصوفه كما قيل "رجلٌ قنعانٌ"، فأجري صفة على الموصوف؟

قيل له: ليس يمتنع أن يكون صفة وإن لم يجر على الموصوف؛ لأن كثيراً من الصفات قد يستعمل استعمال الأسماء؛ ألا ترى أنك تقول: هذا عبدٌ، ورأيت عبداً، وهو في الأصل صفة، ولا تكاد تقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وعلى هذا عندهم "صاحبٌ"، ومن ثم لم يُعمل إعمال أسماء الفاعلين نحو "ضاربٍ" و "آكلٍ"، وحسُن لهذا ترخيمه في نحو: أصاح أُريك برقاً هب وهناً ... ......................... وإن لم يرخموا من هذا الضرب من الأسماء غيره. وكذلك "الأجرع" و "الأبطح" و "الأدهم"، ولذلك كسروه "أجارع" و "أباطح" و "أبارق"؛ ألا ترى أنه لو لم يستعمل استعمال الأسماء لما تعدوا فيه "فُعلاً" أو "فُعلاناً" كـ "أحمر وحُمر وحُمران" و"أسود وسُود

وسودان"، فإذا كثُر في كلامهم هذا النحو من الصفات التي تجري مجرى الأسماء في أن لا تجري على الموصوف، وفي أن تكسر تكسير الأسماء، لم يدل امتناعهم من إجراء "الفرقان" صفة على موصوف على أنه ليس بصفة. ويقوي كونه صفة مجيئه على وزن جاءت عليه الصفات نحو "عريان" و"خصمان". فأما قوله تعالى {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} فقال أبو عبيدة: الفرقان ما فرَّق بين الحق والباطل. وأجاز غيره أن يكون المعنى: وإذ آتنيا موسى الكتاب وآتيناك الفرقان، وشبه بما جاء من قولهم: ....................... ... متقلِّداً سيفاً ورُمحا ويدل على أن "الفرقان" في قوله {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} محمولٌ على هذا الفعل الظاهر دون الفعل المضمر الذي ذكره غير أبي عبيدة قوله تعالى {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين}، فكما أن "الفرقان" في هذه الآية لا يكون إلا محمولاً على هذا الفعل المظهر، فكذلك يكون في الآية الأخرى محمولاً عليه. وإذا كان كذلك كان "الفرقان"

منتصباً بالعطف بالواو على الفعل الظاهر، وكان مما أوتيه موسى كما أنه في الآية الأخرى كذلك. وقال في تفسير قوله {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}: إنه المخرج. إنما اعتبر - والله أعلم - قوله {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}. وقيل في قوله تعالى {فالفارقات فرقاً}: الملائكة تفرق بين الحلال والحرام. وقال مجاهد في قوله {يوم الفرقان}: "يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل". وهذا لأن المسلمين علت كلمتهم بالغلبة، ونصروا على العدو يوم بدر، كما نصروا قبله بالحجة. وإذا جاء "الفرقان" على هذا المعاني من الفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل، كان تأويل أبي عبيدة قوله تعالى {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} على أنه ما فرق به بين الحق والباطل، أولى ممن تأول وقال: إنه انفراق البحر؛ لأنه يعم انفراق البحر وغيره، ولأنه قد استعمل في هذه المواضع على معان غير عين، ولأن مصدر "فرقت" قد جاء في التنزيل {فرقاً}، ولم يجيء "فرقاناً" وإن كان بعض أمثلة المصادر قد جاء على مثال "فعلان".

القول في الكتاب

القول في الكتاب فأما "الكتاب" فهو مصدر قولك "كتبت". والدلالة على كونه مصدراً انتصابه عما قبله في نحو قول الله تعالى {كتاب الله عليكم}، وقوله {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً}. فمذهب سيبويه في هذا النحو أنه لما قال {حُرِّمت عليكم أمهاتكم} دل هذا الكلام على "كتب عليكم"، وكذلك دل قوله {وما كان لنفسٍ أن تموت} دل على "كتب الله موته ومدة حياته"، فانتصب بـ"كتب" الذي دل عليه الفعل المظهر. ومذهب غيره من أصحاب أنه انتصب بالفعل الظاهر. وكيف كان الأمر فقد تبين من ذلك أن "الكتاب" مصدر، كما أن "الوعد" و"الصنع" من قوله {صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ}، وقوله {وعد الله لا يخلف الله وعده} مصدران انتصبا لما ذكر قبلهما من قوله {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}، وقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين}. فإذا ثبت أنه مصدر لـ"كتب" وسمي به التنزيل بدلالة قوله تعالى {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيماً}، علمنا أنه مما أجري عليه اسم المصدر، والمراد به المفعول كقولهم "الخلق" يريدون به المخلوق لا الحدث الذي هو اختراع وإبداع،

ولكن كما تقول "جاءني الخلق" و"كلمت الخلق". وكذلك "هذا الدرهم ضرب الأمير" و"هذا الثوب نسج اليمن"، وإنما يراد "مضروبه" و"منسوج اليمن". فكذلك "الكتاب" يراد به المكتوب. وكذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الراجع في هيبته" يراد: في موهبة الذي هو العين القائم لا الحدث الذي قد تقضى. وعلى هذا تأول أحد فقهائنا قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} أي: للمقول فيه، وهو من ظاهر منه من النساء. ومن ثم لم يوجب أبو حنيفة الكفارة على من حلف، فقال: "وعلم الله لأفعلن"، ثم حنث؛ لأن علم الله سبحانه قد صار يتعارف به المعلوم؛ ألا ترى أن في عادة الناس أن يقولوا "غفر الله لك علمه فيك"، قالوا: فلا مصرف لهذا الكلام إلا إلى هذا الوجه؛ لأن الله - سبحانه - عالم بنفسه لا بعلم، فإذا تصرف ذلك إلى المعلوم لم يكن يميناً، ولو قال "وقدرة الله" كان عنده يميناً، ولم يكن كالعلم الذي يراد به المعلوم، ولم يكن المراد بالقدرة المقدور؛ لأنه لم يتعارف تعارف العلم في هذا، قالوا: ولأن الموجودات إذا وجدت خرجت عن أن تكون مقدورات، فإذا خرجت بوجودها عن أن تكون مقدورات لم توجه القدرة إلى المقدور كما وجه العلم إلى المعلوم؛ لأن المعلوم ليس يخرجه وجوده عن أن يكون معلوماً، كما يخرج الموجود المقدور عن أن يكون مقدوراً، فإذا خرج "القدرة" بما ذكرنا عن أن يكون المراد به

"المقدور"، ثبت أنه يراد به "القادر" تعالى، إذ هو سبحانه قادر بنفسه. وإنما أجري اسم المصدر على المفعول به فيما ذكرنا من قولهم "الخلق" و"ضرب الأمير" و"نسج اليمن"، كما أجري على الفاعل في نحو "رجلٌ عدلٌ ورضاً" و"هم رضاً" و"هم عدلٌ" و {إن أصبح ماؤكم غوراً}، ويسوي بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوي بينهما في إضافة المصدر إليهما، وكما سوي بينهما في أن بني لكل واحد منهما فعل يختص به، كقولنا للفاعل "ضرب" وللمفعول به "ضرب"، فلما سوي بينهما في إسناد الفعل إلى كل واحد منهما، وإضافة المصدر إلى كل واحد منهما، كذلك سوي بينهما بالوصف بالمصدر، ولم يسغ ذلك في سائر المصادر والمفعولات؛ لأن الفعل لا يُبنى له كما يبنى للمفعول به، إلا أن يتسع فيجعل غير المفعول به بمنزلة المفعول به، كالظرفين من الزمان والمكان، والمصدر. وما تأولناه في قولنا "الكتاب" المسمى به التنزيل أنه لا يراد به المكتوب، أرجح عندي من قول من قال: إنه سمي بذلك لما فرض فيه، وأوجب العمل به؛ ألا ترى أن جميع التنزيل مكتوب، وليس كله فروضاً، وإذا كان كذلك كان العام الشامل لجميع المسمى أولى مما كان بخلاف هذا الوصف. وأما قوله تعالى {لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ} فهو مصدر يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون المراد بقوله (كتاب) ما في الآية الأخرى من قوله

{كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالةٍ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفورٌ رحيمٌ}. والآخر: يكون المراد به قوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}. والوجه الأول - والله أعلم - أشبه بتأويل قول الله تعالى {لولا كتابٌ من الله سبق}؛ لأن المعنى بقوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم} عذاب الاصطدام، وهذا الضرب من العذاب لا يعذب به أمةً نبيها بين أظهرها؛ لما ذكر الله -تعالى- في قصة لوط. يدل على المراد بقوله (ليعذبهم) عذاب الاصطلام قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}، فهذا الضرب غير الأول، وإنما هو عذاب السيف أو نحوه، وليس بانتقام عام شامل كالأول. وسأل سائل عن قول الله - تعالى - {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله} ما معنى (في كتاب الله) بعد قوله (عند الله)؟ وإذا كان في كتاب الله فهو عند الله.

والجواب: أن في قوله - سبحانه - {في كتاب الله} من الاختصاص ما ليس في قوله (عند الله)؛ ألا ترى أنه قد توصف أشياء بأنها عنده - سبحانه - ولا توصف بأنها في كتابه، كقوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة}. وإذا كان كذلك كان في قوله (في كتاب الله) من التخصيص معنى زائد على ما في (عند الله)، فجرى في هذا المعنى مجرى قولك: خرج من الدار من البيت، في حصول الفائدة في الظرف الثاني. فأما القول في الظرفين، وبما يتعلقان، فإن (عند الله) متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهو العامل فيه. وقوله (في كتاب الله) متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لـ (اثني عشر). ولا يجوز أن يكون بدلاً من قوله (عند الله)؛ لأنك إن أبدلت على هذا فصلت بين الصلة والموصول. وقد يجوز في قوله تعالى (في كتاب الله) شيء آخر، وهو أن يكون متعلقاً بـ (حُرُ)، تقديره: منها أربعة حُرُم فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، كأنه قال: منها أربعة حرم في كتاب الله، والمعنى أن الحرم منها في كتاب الله، أي: فيما فرض كونه حرماً أربعة أشهر لا أكثر منها، فإذا نسأتم أنتم الشهور جعلتم أكثر من أربعة أشهر، وحللتم ما حرم الله، وحرمتم ما أحل الله، كما ذمهم الله تعالى بفعل ذلك، وجعله زيادة في كفرهم، فقال: {ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}. فأما {يوم خلق السموات والأرض} فمتعلق بالمصدر الذي هو (كتاب).

مسألة: "اثناء عشر": كيف أعرب من بين سائر الأعداد التي بين العشرة والعشرين

مسألة سأل سائل عن قولهم "اثنا عشر": كيف أُعرب من بين سائر الأعداد التي بين العشرة والعشرين؟ والقول في ذلك إنه أعرب من بين ما أشبهه من الأعداد؛ لأن "عشراً" من "اثني عشر" بمنزلة النون، وليس "عشر" معه بمنزلته مع سائر الأعداد الذي يشبهه مما ضم "عشر" فيه إلى ما قبله وبني معه، فلما لم يكن مثله فلم يلزم بناؤه؛ إذ المعنى الموجب فيه للبناء هو تضمنه معنى حرف العطف منضماً إلى الصدر، فلما عَرِيَ قولهم "اثنا عشر" من ذلك لم يلزم فيه البناء، ووجب إعرابه، كما وجب إعراب سائر الأسماء المتمكنة العارية من شبه الحرف وتضمنه لمعناه. ومن الدليل على أن "عشراً" من "اثني عشر" ليس كسائر هذه الأعداد، أنها عاقبت النون فلم تجتمع معه، فلما عاقبتها علم أنها بدل منها، إذ ليس هنا إضافة توجب حذف النون لها، فهذه النون إنما تحذف للإضافة. ويدل على ذلك أيضاً أن "عشراً" فيه لا يخلو من أن يكون مضموماً إلى الأول على حد "أحد عشر" و"ثلاثة عشر" ونحوه مما جعل الاسمان فيه اسماً واحداً، لوجب أن يكون "اثنا عشر" في جميع الأحوال الثلاث بالياء؛ لأنه كان يلزم أن يفتح آخر الصدر، كما تفتح أواخر الصدور إذا لم تكن حروف لين،

من هذه الأسماء "خمسة عشر" و"بيت بيت"؛ لأن الفتح نظير النصب؛ ألا ترى أن من فتح "هيهاة" في الواحد قال في جمعه "هيهات" فكسر، فجعله في كسر التاء في جمعه بمنزلة ما كان الواحد منه منصوباً، فكذلك لاو كان "عشر" مضموماً إلى "اثنين" من "اثني عشر" لوجب أن يكون بالياء في جميع الأحوال، كما أنها لو كانت منصوبة كانت بالياء؛ لأن الفتح بمنزلة النصب، ومن ثم قالوا إنك لو سميت رجلاً بنحو "زيدين" و "البحرين" ثم ناديته في قول من قال "يا زيد بن عمروٍ" لقلت "يا بحرين بن زيدٍ" و"يا زيدين بن بكرٍ". وكذلك لو سميت بـ"فلسطين" في قول من قال "هذه فلسطون" و"سكنت فلسطين"، قلت: "يا فلسطين بن زيدٍ" و"يا يبرين بن عمروٍ"، فتحتها. وكذلك "يا أذرعات بن زيدٍ"، فتكسره في موضع الفتحة، كما تكسره في موضع النصبة، ومن ثم قالوا "لا يدين بها لك"، فجعلوها في موضع الفتح بالياء، كما جعلوه في موضع النصب بها. وهذا أصل هذه المسائل؛ لأن قولهم "لا يدين بها لك" مسموع منهم. فإن قلت: فلم لا تكون الياء فيه للنصب الصحيح، ولا تكون للبناء، كما أن الفتحة في "لا غلام رجلٍ عندك" نصبٌ صحيح، كما قال من خالف سيبويه؟ فالقول: إن ذلك ليس بنصب صحيح كالفتحة التي تكون في "لا مثل زيدٍ" و"لا خيراً في زيد عندك"؛ لأن قولك "لا يدين بها لك" بمنزلة "لا رجل لك" و"لا قوة إلا بالله"؛ ألا ترى أنه ليس بمضاف إلى شيء، كما أن

ما ذكرت من ذلك نحو "لا غلام رجلٍ" مضاف، وإذا لم يكن مضافاً كان في حكم الأسماء المفردة المبنية على الفتح في هذا الباب، وكون حرف التثنية فيه لا يمنع من بنائه مع "لا" وجعله معها بمنزلة اسم واحد؛ ألا ترى أن حرف التثنية ليس بشيء مضاف إليه كـ"رجل" في "لا غلام رجلٍ"، وإنما هو بمنزلة تاء التأنيث وألفيه، وكياءي النسب. فكما أنك لو قلت "لا كرسي لك" و "لا بصري عندك" و"لا جمعة له"، لم يمتنع أن تبني هذه الأسماء مع "لا"، فتجعلها معها كاسم واحد، كذلك لا يمتنع في ذلك من المثنى والمجموع لموافقتهما ما ذكرنا في أنه ليس بمضاف، وأنه في حكم الإفراد. ومما يدل على جواز بناء ذلك مع "لا" أن آخر المجموع بمنزلة سائر أواخر الكلم المعربة، فمن حيث جاز بناء سائر الكلم المعرفة مع "لا"، كذلك يجوز في المثنى والمجموع. فأما كون النون في الآخر في التثنية والجميع فليس مما يمنع ذلك، للحاقها ما يلحق سائر المبنية من هاء الوقف في "مسلمونه" و"تعلينه"، كما لم تمنع الميم اللاحقة لقولهم "اللهم" أن يجري البناء المطرد في النداء على حرف الإعراب الذي قبله. وإذا كان كذلك كان "لا يدين بها لك" مثل "لا غلام لك"، وقعت الياء في التثنية من حيث كانت الفتحة بمنزلة النصبة، فساوتها في لفظ التثنية، كما تساويا في لفظ الإفراد. وليس قول من قال إنه لا يجوز ذلك؛ لأنه لم يجد مثله، بمستقيم في هذا؛ لأن الشيء إذا دلت الدلالة على صحته، لم يقدح في دلالته أن لا نظير له، وإن كان في إيجاد النظير بعض الإيناس. فالصحيح في هذا عندنا ما ذهب إليه سيبويه. ولو جعلت نحو "أذرعاتٍ" و"مسلماتٍ" مع اسم آخر اسماً / واحداً

على حد "حضرموت" و"بعلبك"، أو على حد "بيت بيت"، جعلت نحو "أذرعات" الصدر، وسميت به رجلاً أو غيره، لقلت "هذا أذرعات زيد"، فكسرت التاء، كما أنه لو يكان مفرداً لفتحت آخره. فإن أخرت الذي فيه الألف والتاء منهما قلت على قياس "حضرموت" "هذا سرح أذرعات" فتضم التاء، وتكسرها في موضع الجر والنصب. وتقول في قول من قال "بيت بيت" و"كفة كفة" على قياس قول أبي عثمان "هذا سرح "أذرعات" فتفتح التاء، ولا تكسرها؛ لأن الفتحة الآن ليست للاسم الثاني وحده، كما كانت تكون للاسم وحده إذا وقع صدراً في نحو قولك "هذا أذرعات زيد"؛ لأن الفتحة للاسم الأول وحده، وهذه الفتحة تكون في موضعها في هذه التاء الكسرة. ولو قلت "لا أذرعات لك"، فأخرجته مخرج النكرة على قولك: لا هيثم الليلة للمطيِّ فجعلت "لك" للإضافة كالتي في قولك "لا أبا لك" و "لا غلامي لك"، لكسرت التاء لأنها في موضع نصب، وهي تكسر في هذا المكان لأنها مضافة في موضع نصب، ولذلك لم تنون التاء، كما تقول "إن مسلماتك". ولو جعلت "لك" خبراً أو تبييناً، وأصمرت الخبر، لقلت "لا أذرعات لك"،

ففتحت التاء؛ لأن الفتحة الآن ليست للاسم وحده، إنما هي لـ"لا" وللاسم. أخبرني أبو بكر عن أبي العباس، قال: سألته - يعني أبا عثمان - عن "لا أذرعات لك" إذا أراد الإضافة، فقال "لا أذرعات لك". فقلت: لِمَ وأنت تفتح التاء في غير الإضافة؟ فقال: لأني إذا لم أضف فالفتحة لـ"لا" ولـ"أذرعات" جميعاً؛ لأنه اسم واحد، فقد زال ما كان لـ"أذرعات" وحدها، وإذا إضفتها فهي منفصلة من "لا" لأنها مضافة، فهي منصوبة بـ"لا"، كأني قلت "لا أذرعاتك". ولذلك منعتها التنوين. ورويت عن أبي عثمان من غير هذا الطريق أنه قال: إذا قلت "لا مسلمات لك" وأنت لا تضيف، ولكن تجعل "لا" و"مسلمات" اسماً واحداً، فتحت التاء لأنها مبنية، فصار بمنزلة "خمسة عشر"، ولا تكسر التاء لأنه ليس بمعرب، فإذا نويت الإضافة قلت "لا مسلمات لك"، كأنك قلت "لا مسلماتك"؛ لأنك لا تجعل "لا" و"مسلمات" والكاف اسماً واحداً، لأنها ثلاثة أشياء، ولكن "لا" عاملة في "مسلمات"، قال: والفتحة في "خمسة عشر" للاسمين جميعاً. ومن قال "خمسة عشر" قال "هذا مسلمات زيدٌ" إذا أراد اسم رجل، كسر التاء لأنها في موضع الفتح، وكسرة التاء في الجميع نظيرة فتحة الهاء في "مسلمة"، كما أن الكسرة في "هيهات" حين جعله جمعاً نظيرة الفتح من "هيهاة". وكذلك إذا قلت "لا مسلمة لك"، وأنت تريد أن تضيف إلى "لك"، تقول في الجماعة "لا مسلمات لك"، فكسرة التاء نظيرة فتحة الهاء. وقال أبو عثمان أيضاً "لا مسلمات لك"، إنما فتحت التاء ولم تكسرها، وهي نظيرة الهاء في قولك "لا مسلمة لك". وإذا كانت الهاء مفتوحة تكون

التاء مكسورة، من قبل أنك جعلت "لا" والمسلمات اسماً واحداً، وهو بناء، ولم تُعمل فيه "لا" إنما هو بناء كبناء "خمسة عشر"، فصارت الحركة التي في التاء لكل الاسم لـ"لا" وللمسلمات، وليست هي لـ"مسلمات" دون "لا" فتكسرها؛ لأنك قد استأنفت بناء اسم من اسمين، فلا تكسر التاء؛ لأنك لا تريد معنى الجماعة، ولأن الأول، وهو "لا" الذي جعلته مع "مسلمات" اسماً واحداً، قد شرك "مسلمات"، وصار كبعض حروفها، فصارت التاء كأنها هاء، وليست جماعة. فإذا لم تجعل "لا" مع "مسلمات" اسماً واحداً، ونويت الإضافة، قلت "لا مسلمات لك"، فتكسر التاء لأنها نظيرة الهاء في الفتح، ولأن الكسرة الآن لـ"مسلمات" دون "لا"، و"لا" هي العاملة في "مسلمات"، فلا تغير التاء لأنك لم تجعلها مع "لا" اسماً واحداً، فالحركة الآن في التاء هي للمسلمات خاصة دون "لا". وكذلك {يابن أُمَّ}، فتحة الميم هي للابن وللأم؛ لأنك جعلت {ابن أُمَّ} كله اسماً واحداً، كما أن الحركة في الراء في "خمسة عشر" لكل الاسم بني عليه، والحركة في النون هي لـ"ابن" خاصة دون الأم؛ لأنه ليس منتهى الاسم. وكذلك الحركة في الهاء من "خمسة عشر" هي لـ"خمسة دون "عشر"؛ لأنك لا تريد أن تجعل "خمسة" اسماً، وإنما منتهاه "عشر" فإذا سميت رجلاً "مسلمات زيد" كسرت التاء لأنها نظيرة الهاء إذا قلت "هذه مسلمة زيد"، فكما كانت الهاء مفتوحة، كذلك تكسل التاء؛ لأن الكسرة في "مسلمات زيد" هي للمسلمات خاصة دون "زيد"؛ لأن زيداً هو منتهى الاسم، والحركة في الدال من زيد لـ"المسلمات" ولـ"زيد".

ومن قال "هذه خمسة عشر" قال "هذه مسلمات زيد" ففتحة الدال لكل الاسم للمسلمات ولزيد، فالحركة التي تكون في آخر الاسمين من الاسمين اللذين يجعلان اسماً واحداً، هي لكل الاسم للأول والثاني، مبنياً كان أو معرباً، والحركة التي في آخر الاسم الأول للاسم الأول خاصة دون الآخر، لأنه ليس منتهى الاسم، كما أن الحركة التي في الزاي من "زيد" هي للزاي دون سائر الاسم، والحركة التي في الدال لكل الاسم. انتهت الحكاية عن أبي عثمان. وكما أن الكسرة قد وقعت موقع الفتحة في الإعراب والبناء في قولهم "رأيت مسلماتٍ" و"إن مسلماتٍ" و"لا مسلمات لك"، وفي البناء في جمع "هيهاة": "هيهات"، كذلك وقعت فتحة الإعراب في موضع كسرته في باب ما لا ينصرف، نحو "رأيت إبراهيم" و"مررت بإبراهيم". قيل: وإنما وقع كل واحد من ذلك موضع الآخر في الإعراب لاتفاقهما في المعنى، كما اتفقا في المواضع الأخر لذلك، وأُتبع الفتح النصب في البناء، وليس الفتح في موضع الجر فيما لا ينصرف حركة بناء، إنما هو حركة إعراب. يدل على ذلك أن البناء لا يوجد في شيء من الأسماء إلا لمشابهته الحرف، ولا شيء في هذا الاسم من مشابهة الحرف. فإذا كان كذلك لم يسغ الحكم ببنائه، وكانت الحركة للإعراب. فإن قلت: إن الأسماء المفردة المعربة تجري متمكنة في أحوالها الثلاث، ولا يمنعها ذلك أن تبنى في النداء، فكذلك ما ينكر أن يجري الاسم غير المنصرف معرباً في موضع الرفع والنصب، ويُبنى في الجر. فإن بناء ذلك لا يستقيم من حيث بُنيت المفردة المعرفة في النداء؛ الا ترى أنها في هذا الباب واقعة موقع ما يغلب عليه شَبَهُ الحرف، وهو جارٍ مجراه، وهي الأسماء المضمرة الموضوعة للخطاب، وشبه الحرف على هذه

الأسماء أغلب من معنى الاسم؛ ألا ترى أن كل موضع تكون فيه اسماً لا تنفك فيه من شبه الحرف، وقد تتجرد حروف ولا معنى اسم فيها، فتعلم بهذا أن كون معنى الحرف فيها أعم وأغلب، فإذا وقعت الأسماء المفردة المعرفة موقعها، وجب بناؤها، كما أن سائر الأسماء، ما وقع منها موقع الحرف وسدّ مسدّه، وجب بناؤه. ومما يدلك على أن هذا الاسم معرف في هذه الحال غير مبني فيها، أن هذه الحركة وجبت بعامل، والحركات التي تجب بعامل لا تكون حركات بناء، ولو جاز مع وجوبها بالعامل أن تكون حركة بناء لجاز ذلك في سائر حركات المعربة، فامتناع ذلك في غير هذا الموضع دلالة على أن الحكم به هنا فاسد. فإن قلت: فقد قالوا "لا رجل عندك"، وهذه الحركة حركة بناء، وهي موجودة مع عامل قد عمل ذلك فيه، فما تنكر من مثل ذلك فيما لا ينصرف في حال الجر؟ قيل: العامل هنا لم يعمل حركة بناء، وإنما نصب الاسم نصباً صحيحاً؛ ألا ترى أن سيبويه قال: "إن لا تنصب ما بعدها كنصب إن لما بعدها". ويدلك على أنها نصبت الاسم، أن الاسم المنفي بها إذا كان مضافاً أو ممطولاً ظهرت فيه صحة النصب، كقولك "لا خيراً من زيد" و"لا امرأ يوم الجمعة لك". فنصبها للمفرد على حد نصبها لهذا الممطول، والموجب للبناء فيه غير الموجب للإعراب، وهو جعلهم الاسم مع "لا" كشيء واحد. فهذا هو المعنى الموجب للبناء فيه. فإذا جُعلت كلمتان كلمةً واحدة فهم مما يبنونها على الفتح، وذلك كضمهم الاسم إلى الاسم حيث

يدخلهما معنى الحرف، وكضم الفعل إلى الاسم في قول النحويين، والحرف إلى الاسم، والصوت إلى الصوت. فهذه الأنواع مع اختلافها يغلب عليها البناء على الفتح، فكما بني إذا ضم إليه الصوت، كذلك بني إذا ضم إليه الحرف في هذا الباب. فهذا هو المعنى الموجب للبناء، لا أن حركة البناء حدثت بعامل، إلا أن حركة البناء في هذا المبني هي الحركة التي كانت تكون للإعراب في هذا المبني قبل حاله المفضية به إلى البناء. ونظيره في هذا المعنى قوله {بابن أُمَّ} في من جعلهما اسماً واحداً. وما احتججنا به في أن آخر ما لا ينصرف معرب غير مبني، فإنه حجة على من قال إن تاء التأنيث اللاحقة مع الألف في الجمع مبني في موضع النصب غير معرب. فإن قلت: كيف فتح "عشر" من "اثني عشر"، فبني ولم يعرب؟ فإن القول في ذلك إنه لو أعرب لم يخل إعرابه من أحد أمرين: إما أن يضاف الأول إليه أو بأن يجعل الأول معه بمنزلة اسم واحد، نحو "بعلبك". فلم تستقم الإضافة فيه من حيث لم يكن المعنى عليه؛ ألا ترى أنه ليس يراد اثنان لعشرة، ولا اثنان من عشرة، وإنما المعنى: اثنان وعشرة، فلما كان المعنى على هذا لم يكن للإضافة فيه وجه. فإن قلت: فمن البغداديين من قد أنشد:

بنت ثماني عشرةٍ من حِجته فإن ذلك مما لا يصح الاعتراض به، وذلك أن ذلك إن كان ثبتاً، فإن الشاعر شبهه بما لا يشبهه، وهو أنه لما رأى "كفة كفة" و"بيت بيت"، وكان مثل "خمسة عشر" في البناء، ووجدهم يقولون "كفة كفة" و"كفةَ كفةٍ"، شبهه [به] حيث اتفقا في البناء على الفتح وضم أحدهما إلى الآخر، كما أن هذا تشبيه لفظ، وليس المعنى عليه، كما أن الشاعر شبه قولهم "ثمانٍ" بـ"جوارٍ" حيث كان مثله في اللفظ، وإن لم يكن مثله في التكسير، وذلك في قوله: يحدو ثماني مولعاً بلقاحها ... .................... على أن هذا أقرب من الأول؛ لأن الاسم في المعنى جمع، وإن لم يكن تكسيراً، فالإضافة في هذا لا تجوز؛ لأن المعنى ليس عليها لما قدمنا. ولو جازم ذلك فيما بعد العشرة إلى العشرين، لجاز فيما بعد العشرين إلى الثلاثين، فكنت تقول "أحد عشرين" و"اثنا عشرين".

فكما لم يستجيروا ذلك في هذا الباب، فكذلك ما قبله. ولم يجز أيضاً أن تجعل "عشر" مع ما قبله بمنزلة اسم واحد نحو "حضرموت"، لأن سائر أمثال على خلاف ذلك، فكأنهم كرهوا إخراج هذا الاسم عن حال نظائره وما هي عليه؛ لأن من كلامهم أن يشاكلوا بين الأشياء المشتبهة؛ ألا ترى أنهم أتبعوا حركة التاء اللاحقة مع الألف في جمع المؤنث جمع المذكر، فجعلوا الكسرة للجر والنصب ليكون بمنزلة الياء في جمع المذكر، ولم يفتحوا التاء في الجمع، وإن كان ذلك غير ممتنع في اللفظ، لولا ما آثروا فيه من تشبيهه بجمع المذكر والإجراء عليه. فإذا أتبعوا ذلك جمع المذكر من حيث اجتمعا في أنه جمع تصحيح مع مخالفة التأنيث التذكير [أجدر]؛ الا ترى أن المعنى: اثنان وعشرة، كما أن المعنى في "خمسة عشر": خمسةٌ وعشرةٌ، وكذلك سائر ما أشبهه. وليس معنى "مَعدي كرب" و "رامهرمز" معنى العطف والمعطوف عليه، إنما هما بمنزلة حروف الاسم، ليس يراد بكل واحد منهما في التسمية به معنى مفرداً من الآخر، كما يراد العدد الأول والثاني في باب "اثني عشر". فإن قلت: فإذا جاز أن يخالف "اثنا عشر" سائر نظائره في أن أعربت هي، ولم يعرب سائر ما أشبهه، فما كان ينكر من أن يضم الآخر فيه إلى الأول على حد "بعبلك" و"حضرموت"، فيخالف سائر نظائره في ذلك أيضاً؟ قيل: لم يكن يستقيم أن يخالفه فيما ذكرت، كما خالفه في إعراب الاسم الأول منهما؛ لأن قليل الخلاف بينه وبينهن إذا احتملا لم يلزم أن يحتمل كثيره؛ ألا ترى أنهم احتملوا كون الاسم ثانياً من جهة واحدة، ولم يخرجوه لذلك من أحكام الأسماء، ولو انضم إليه معنى آخر لأخرجوه إلى بعض أحكام الفعل في منعه من الجر والتنوين، وعلى هذا جميع

ما لا ينصرف. على أن التثنية قد جاءت فيما ليس بمعرب، وذلك قولهم في العدد "واحد": "اثنان"، فلحقت المبني، وجرت مجراه، كما لحقت المعرب إذا كان كذلك، فكأن "اثني عشر" لم يخالف أمثاله لمجيء التثنية في موضع البناء؛ لأن الألف حرف إعراب وليس بإعراب، فلذلك أقره قوم في أحوال الاسم الثلاث على صورة واحدة، كما أقروا الألف في "رحى" و"عصا" و"مُثنى" و"معلى" و"حبنطي" و"حبلى" و"قبعثرى" على صورة واحدة، حيث اجتمعن في أنهن حروف إعراب مع اختلافهن في غير ذلك. فإنما فتح الآخر من "عشر" من "اثني عشر" ليكون على لفظ أمثاله، وإن لم يفتح من حيث فُتحن، كما قالوا "إداوة" و"أداوى" و"حُبلى" و"حبالى"، فجعلوا أواخر الجمع على لفظ أواخر آحادها، وإن لم يكن تقدير الجمع في ذلك كتقدير الآحاد، فـ"عشر" من "أحد عشر" فتح آخره من حيث جعل مع الاسم الذي قبله بمنزلة اسم واحد، وبني لتضمنه معنى حرف العطف، وفتح الآخر من "عشر" من "انثى عشر" لوقوعه موقع الحرف الذي عاقبه، والاسم إذا وقع موقع الحرف بُني؛ ألا ترى أنهم بنوا أسماء الضمير حيث وقع موقع حروف الخطاب، وبنوا المفرد المعرفة حيث وقع موقع

ما لا يكون إلا مبنياً، وبنو الأسماء الموصولة التي لم يحملوها على مثل أو خلاف كـ"أي" لكونها كبعض أجزاء الاسم. فكذلك بني "عشر" من "اثني عشر" لوقوعه موقع الحرف المبني، ولم يمنعه البناء الذي بني عليه لوقوعه موقع الحرف من أن يفيد ما يفيد الاسم؛ ألا ترى أن "متى" لم يمنعه ما حصل فيه من البناء، لوقوعه موقع الحرف وتضمنه له، من أن يفيد ما تفيده الأسماء المعربة غير المبنية، كذلك جميع ما أشبهه، فكذلك لم يمنع هذا الاسم في "اثني عشر" من أن يدل على ما يدل عليه الأسماء المعربة. وإن شئت قلت في "عشر" من "اثني عشر" إنه بني لوقوعه موقع ما لا يكون إلا مبنياً من الأسماء، كما أن المنادى المفرد المعرفة بني لوقوعه موقع ما لا يكون إلا كذلك، ألا ترى أن "عشراً" وقع موقع الأسماء التي تكون للضمير، فتحذف النون معها في نحو "الضارباك" و"الضاربوك"، من حيث كانت هذه الأسماء بمنزلة الحروف في أنها لا تنفصل من الاسم، كما أن النون لا تنفصل منه، فلما اشتبها من هذه الجهة تعاقبا فلم يجتمعا، وما جاء في الشعر من قوله:

.............. والآمرونه ... .......................... [و]: ولم يرتفق والناس محتضرونه ... ......................... زعموا أنه مصنوع. وإن شئت قلت: إن "عشر" بني لمشابهته ضرباً آخر من الحروف غير الوجه الأول، وهو أنه لما حذف معه النون أشبه حرف الندبة في أنه حذف معه التنوين، فلما حذفت النون معه كما حذف التنوين مع حرف الندبة ضارع حرب الندبة، فبني لوقوعه موقعه. فإن قلت: لِم لَم تكن علامة الندبة بمنزلة علامة الإنكار، يثبت التنوين معها كقولك "واغلام زيداه"، كما يثبت في قولك "اعمرنيه"؟ إذا قيل لك "اضرب عمراً"؟ قيل: لم تثبت علامة الندبة كما ثبتت علامة الإنكار؛ لأن علامة الإنكار لم تلزم لزوم علامة الندبة، فلما لم تلزم لمعاقبة العلامة الأخرى له، وهو قولك "أعمرإنيه"، صار بمنزلة ما ينفصل من الاسم نحو لام المعرفة في "زيد الطويل" ونحوه، ولم تنفصل علامة الندبة، ولم تكن إلا على حرف واحد، فصارت التنوين في أنه على حرف، كما أنه على حرف، ولم تنفصل

من الكلمة كما لم ينفصل، فيعاقبها كذلك، ولم تكن علامة الإنكار مثلها لما ذكرنا. وأما قول سيبويه في "اثني عشر": "إنه لا يضاف ولا يضاف إليه"، فالذي يريد بقوله "لا يضاف" أنه لا يضاف الإضافة التي يراد بها التخصيص، نحو "غلام رجلٍ" و"دار زيدٍ". وإنما لم تجز إضافته لأن "عشراً" فيه بمنزلة التنوين، فلا يخلو إذا أضفته من أن تثبت فيه "عشراً" مع الإضافة أو تحذفه. فلا يجوز أن تثبت مع الإضافة، كما لا يجوز أن تضيف ما فيه نون التثنية مع إقرارها في الإضافة وترك حذفها؛ لأن هذه النون تعاقب الإضافة. ولا يجوز أن تحذف "عشراً" وتضيف كما تحذف النون من الاسم المثنى إذا أضفت؛ لأنك إذا حذفت لم يدل من أجل الحذف على المعنى الذي أردت من العدد. وإذا لم يخل من هذين، ولم يجز هذين، ولم يجز هذان، ثبت أن إضافته لا تجوز. والذي يريد بقوله "ولا يضاف إليه" أنه لا ينسب إليه، يريد إضافة التخصيص كاللفظة الأولى؛ ألا ترى أنه لا يمتنع أن تقول "هذا صاحب اثني عشر". ولكن الإضافة التي هي نسبة لا تجوز فيه؛ لأنك إذا نسبت إليه لم يخل من أن تحذف "عشراً" والألف أو تثبتهما، فإن أثبتها لم يجز مع إلحاقك ياءي الإضافة، لأنك لو أضفت إلى مُثنىً لزم حذف علامة التثنية، كما يلزم حذف علامة الجمع، وذلك لأنك لو أثبتها ولم تحذف، لاجتمع في الاسم الواحد علامتان للإعراب، فلما لم يجز ذلك حذفت العلامتين في التثنية والجمع. ولو سميت رجلاً "اثني عشر" فأضفت إليه، جازت الإضافة، كما أنك لو سميت بـ"رجلين" و"مسلمين" جازت الإضافة إليه، وحذفت الألف والنون، ولم يتمتنع ذلك كما امتنع فيه وهو اسم عدد؛ لأنه إذا كان علماً

لم تزل دلالته على عدد كما تزول إذا كان عدداً غير علم. فإن شئت قلت "اثني" كما تقول في الإضافة إلى ابن "ابني"، وإن شئت قلت "ثنويٌّ" فترد اللام إذا ذفت همزة الوصل. فإن قلت: فهل يجوز في قول من قال إذا سمي بـ"رجلين" "هذا رجلان"، فيعرب النون ويجعله كنون "عثمان"، أن تقول في الإضافة إلى رجل سميته بـ"اثني عشر": "اثنا عشريٌّ"، فثبت "عشراً" ولا تحذفه، كما تثبت النون إذا أضفت في قول من قال "رجلان" فضم، فتقول "رجلاني" كما تقول "عثماني" وكما قالت العرب في رجل "هذا خيلان" فضم؟ قيل: قد حكي عن أبي الحسن أنه أجاز ذلك على هذا القياس. وهذا غير ممتنع؛ لأنه كما وقع "عشر" في موضع النون المكسورة، كذلك يجوز أن يقع موقع النون التي هي حرف الإعراب. وينبغي أن يكون "عشر" في هذا القول مفتوح الآخر، كما كان في وقوعه موقع نون التثنية، لأن المعنى الموجب لبنائه هو وقوعه موقع الحرفي الموضعين جميعاً، والاسم إذا وقع موقع الحرف وجب بناؤه لدلالة بنائهم عامة الأسماء الموصولة، مع أن صلاتها توضيح لها، وأنها قد يرجع إليها منها ذكر، والكناية عن الاسم تؤذن بالتمام، فإذا بنيت الموصولة مع ما ذكرنا، كان بناء هذا الاسم الذي هو "عشر" إذا وقع موقع النون التي هي حرف إعرابه أولى؛ لأن الحرف الذي وقع هذا الاسم موقعه إنما هو جزء من جملة اسم، وليس كالموصولة التي قد لحق بعضها التثنية والجمع، وعاد الضمير إلى عامتها. فإذا بني مع ما ذكرنا، كان بناء "عشر" من "اثني عشر" في من جعل النون في موضع حرف الإعراب أولى؛ لخلوه من المعاني التي ذكرنا في الموصولة، وكونها حرفاً منفرداً من جملة اسم.

مسألة: كيف تبني من "متى" في قولك "متى انطلاقك" مثل "جعفر"؟

مسألة سأل سائل: كيف تبني من "متى" في قولنا "متى انطلاقك؟ " مثل "جعفر"؟ والقول: إن البناء لا يصح منه وهو على ما هو عليه لمشابهته الحرف، كما أنه لا يصح البناء من الحروف. ومما يدل على ذلك أنهم لم يبنوا من هذه الكلم شيئاً، فإذا لم يصح البناء منه حتى ينقل بتسمية شيء به صح حينئذ البناء منه، كما جاز أن تبنيه إذا سمي به. ويدلك على أن هذه الكلم في حكم الحروف فيما ذكرنا، صحة الألف في الأواخر منها من غير أن تكون في موضع حركة، كما صحت في الحروف في نحو "ما" و"لا"، فتقول في مثل "جعفر" على حد ما ذكرنا "متيا" فتحكم بأن اللام ياء، وتزيد ياء أخرى، فتنقلب لوقوعها لاماً مفتوحاً ما قبلها، وهذا قياس قول سيبويه.

مسألة: كيف تبنى من "ضرب" مثل "أخت"؟

مسألة وسأل: كيف يبنى من "ضرب" مثل "أخت"؟ وليس يخلو هذا السؤال من أن يراد به: كيف يُبنى مثله في وزنه فقط مُعَرَّى من البدل الواقع في "أخت"، أو: كيف يُبنى منه مثل "أخت" ويبدل منه كما أبدل في "أخت" و"بنت". فإن أراد الوجه الأول كان البناء "ضربٌ"، وإن أراد الوجه الثاني لم يجز، لأن هذا البدل لم يقع إلا فيما لامه ياء أو واو نحو "أخت" و "بنت" و"ثنيتان"، وليس "ضرب" منه فيجوز البناء منه على الحد الذي ذكرت.

مسألة: كيف تبني من "قد" و "هل" و "بل" مثل "عصفور"؟

مسألة وسأل: كيف يبنى من "قد" و "هل" و "بل" مثل "عصفور"؟ والجواب: أن "هل" و "بل" ونحوه لا يجوز البناء منه وهي حروف؛ لأن هذه الحروف لا يبنى منها شيء وهي حروف؛ لأن البناء منها تصريف لها وحكم بأنها مثل المصادر، وهذه المعاني لا تصح لها مع كونها حروفاً حتى تنقل عن ذلك. فإن قلت: فإن الحروف بمنزلة الأصوات، وقد بنوا من بعض الأصوات أفعالاً كقولهم "دعدع" إذا قال: داع داع، و"بأبأ الصبي أياه" و"بأبأه أبوه" إذا قال: بابا، فإذا جاز بناء الأفعال من الصوت، فهلا جاز من الحروف؟ فالقول: إن هذه الأصوات التي بنى منه قليلة، ومع ذلك فإن البناء لم يقع منه إلا على التقدير الذي يجوز البناء فيه استدلالاً بنظائره. وكذلك ما حكى عن بعض رواة البغداذيين أنه قال: "سألتك حاجةً فلا ليت لي" أي: قلت لك: "لا"، و"سألتك حاجةً فلوليت لي" أي: قلت لي: "لولا"، هذا مما قد جعل بمنزلة الأصوات، وليس ذلك بالأكثر، إنما هو نادر، وإذا كان

كذلك لم يستقم القياس عليه ولا رد غيره إليه، ولكن يقاس على الأقيس وما هو أكثر، وهو أن يزاد على ما كان من هذا النحو على حرفين حرف لين، كما قال: ......................... ... .................... وإن لوَّعَناء ومما يدلك على أن هذا الوجه أولى من الأول، أن عامة ما كان من الحروف والأصوات وما جرى مجراها إذا كان على حرفين فجعلته اسماً، جعل الذي يلحق به حرف لين، وليس توجد هذه الأصوات قد اشتق منها عامتها؛ ألا ترى أن "غاق"، "وماء" لصوت الشاء، و"قب" و "طيخ": لوقع السيف، والضحك، لم يشتق منه شيء على حد "فعلت" غير مضاعف، ولا على حد "عاعيت" و"حاحيت" و "لاليت"، وعلى كلا الوجهين فقد أزيل عنه أحكام الحروف والأصوات، وألحق بالأسماء؛ ألا ترى أن "لوليت" مثل "قوقيت" و"زوزيت" و "لاليت" و "حاحيت" من باب "صيصية"، يعني أنه مضاعف، فهذا مما يبين لك أنه لا يجوز أن يبنى من "هل" و "بل" شيء وهما على ما هما عليه من كونهما حرفين، فإن آثرت أن تبني منه شيئاً لزم أن

تنقله فتجعله اسماً، فإذا نقلته جعلت الذاهب منه حرف علة، فيصير من الثلاثة، والحرف الذاهب الذي هو لام واوٌ، لأن ما حذف منه اللام وهو واوٌ أكثر من الياء، وهو قول أبي الحسن. فإذا كان كذلك، فبنيت مثل "عصفور" من "هل" قلت: "هلوي"، ومن "بل": "بلوي"، أبدلت الثالثة ياء. ومثل "دحرج": "هلوى زيدٌ" و"هلويت" أبدلت من اللام الثانية ياء كما أبدلت منها في "أغزيت".

مسألة: كيف تبني من "ضرب" مثل "إما" و "ألا"؟

مسألة وسأل سائل كيف تبني من "ضرب" مثل "إما" و"ألا". وهذا سؤال غير صحيح، ولا يستقيم أن يبنى من "ضرب" شيء على مثالهما؛ لأنهما كل واحد منهما مركب؛ ألا ترى أن "إما" لا تخلو من أن تكون "إما" التي في قوله {فإما تريَّن}، {وإما تخافنَّ}. وهذه "إن" الجزاء ألحقت "ما" كما ألحقت في قوله {أينما تكونوا يدرككم الموت}. أو تكون "إما" التي في قوله {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً}. وهذه أيضاً مركبة عند سيبويه؛ ألا ترى أنه على هذا حمل ما أنشده من قول الشاعر:

لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً، وإن إجمال صبر على أن المعنى: فإما جزعاً وإما إجمال صبر. فإن كان كذلك لم يجز أن تبني من "ضرب" شيئاً مثل "إما" هذه؛ لأنك كأنك تقول للمسئول: اجعل المتصلة منفصلة بأن تحذف منها ما هو منها، وتضم إليها شيئاً ليس منها، وتجعل الكلمة مع ذلك حرفاً، وهي اسم متمكن أو فعل متصرف، وهذا بيِّن الفساد. وكذلك "ألا" هي في ما ذكرنا مثل "إما" ألا ترى أنها لا تخلو من أن تكون "أن" الناصبة للفعل، أو المخففة من الثقيلة، ضمت إليها "لا"، أو تكون "الا" التي تستعمل للتخصيص، وإنما هي "هل" ضمت إليها "لا"، فتغير المعنى لذلك، كما تغير المعنى في "لو" لما ضمت إليه "لا" في "لولا"، والهمزة بدل من الهاء. فالبناء من هذا لا يجوز، ولكن لو قلت: ابن من "أما" المفتوحة الهمزة، ومن "إلا" التي للاستثناء المكسورة الهمزة، بعد أن تنقلهما فتجعلهما اسمين، لكان سؤالاً صحيحاً في "أما" بلا خلاف علمته، وفي "إلا" التي للاستثناء في قول سيبويه وأصحابه، ومن ثم قال: إنك لو سميت بها رجلاً لأعربت [ولمي] تحك. ولم يجز في قياس قول البغداذيين على ما حكاه محمد بن يزيد من قولهم، لأنه حكى عنهم أنهم يقولون إن تقديرها "إن

لا". ولكان الجواب أن يقول في مثال "أما" من "ضربت": "ضربا كما ترى" في النكرة. فإن قلت: فكيف لم تقل فيه "أضرب"، فتجعل الهمزة زائدة؛ لأن من قول سيبويه أنها إذا وقعت أولاً حكم بزيادة حتى يقوم ثبتٌ يخرج عن ذلك؟ فالقول: إنك لم تفعل هذا ورفضته، لأنك لو فعلته لحكمت بأن الفاء والعين من موضع واحد، وما كانت فيه الهمزة فاء أكثر مما كانت فاؤه وعينه من موضع واحد، فقست على الأكثر، وعدلت إليه عن الآخر. فإن قلت: فهلا قلت "ضربنٌ"، فكررت اللام بإزاء الألف؛ لأن الألف وإن لم تكن في الأسماء والأفعال أصولاً، وإنما تكون زيادة أو منقلبة، فإنها في الحروف أصل. وإذا كان أصلاً وجب أن توازي به اللام؛ ألا ترى أنك لو بنيت مثل "جعفر" من "ضربت" لقلت "ضرببٌ"، فكررت اللام، ولم تقل "ضربا". فالقول: إنها وإن كانت في الحروف كما وصفت، فإنها في الأسماء كما ذكرنا من كونها زيادة أو منقلبة، وأنت إذا بنيت من حرف على مثال حرف شيئاً من هذه الأسماء المتمكنة أو الأفعال المتصرفة، فقد أخرجته إلى حيز الأسماء، وإذا أخرجتها إلى حيزها وجب أن تكون الألفات فيها على حد الألفات في الأسماء؛ ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بـ"على" أو "إلى"

أو "متى" أو "بلى" لجعلت الألفات فيها منقلبة، وإن كانت قبل النقل على خلاف هذا الوصف، فكذلك الألف في "أما" تكون في الآخر، إذا نقلت الكلمة فجتلها اسماً، زائدةً للإلحاق، كما تكون في "أرطىً" كذلك. ولا فصل فبين "إلا" فيما ذكرنا وبين "أما" عندنا، إلا أنك تكسر الفاء، كما أنه في "إلا" كذلك.

مسألة: ما مثل "أوتاه"؟

مسألة وسألت - أعزك الله - فقلت: ما مثل "آوتاه"؟ والقول في ذلك: إنه لا يخلو من أن تكون الهمزة المبدوء بها في الكلمة أصلاً أو زائدة. فإن كانت أصلاً كانت "فاعلة". فأما حركة العين فلا تخلو من أن تكون من أقسام الحركات الثلاث. فالذي يجوز أن تتحرك به الكسرة أو الفتحة، فإن قدرت حركتها الكسرة كانت "فاعلة" بمنزلة "العاقبة" و"العافية" وما أشبه ذلك مما يكون على "فاعلة". وإن قدرت الفتحة كانت بمنزلة "الطابق" و"التابل" وما أشبه ذلك. ولا يستقيم أن تقدر حركة العين بالضم؛ لأنه ليس في كلامهم مثل "كابل". والأول أوجه - عندي - لأنه أكثر في الأسماء وأوسع تصرفاً؛ ألا ترى أنه قد جاء في الأسماء نحو "الكاهل" و"الغارب"، وفي المصادر نحو "العاقبة" و"العافية"، وجاء

اسماً للجمع نحو "الجامل" و "الباقر" و "السامر" و"الدابر"، وفي الصفات من الكثرة في نحو "ضارب" على ما لا خفاء به. وإن كانت الهمزة زائدة كان وزنها "أفعلة"، وحركة العين لا تخلو من أقسام الحركات الثلاث. فإن قلت: فعلى أي هذه الأوزان تحمل؟ فالقول: إنه لا يجوز أن تُحمل على واحد منها؛ ألا ترى أن الهمزة لو كانت زائدة لوجب أن تكون الألف منقلبة عن الفاء، والفاء التي يقدر انقلاب هذه الألف عنها تكون همزة، وهي التي يكون انقلاب الألف عنها في هذا النحو في الأمر العام الشائع. فلو كانت العين متحركة بالكسرة لوجب أن تبدل منها الياء، كما أبدلوها منها في "أيمة". ولو كانت متحركة بالفتح لوجب على قول أبي الحسن أن تبدل منها الواو، كما تقول "هذا أوَمّ من هذا". وكذلك لو كانت متحركة بالضمة. فثبات الألف بعد الهمزة دلالةٌ على أنها زائدة، وأنها ليست بفاء كالتي في "آدم" و "آخر" ونحوه. وإذا ثبتت زيادة الألف بعد الهمزة ثبت أن الهمزة في "آوتاه" فاءٌ، ليست زيادة على تقدير حركة المدغم، بالكسرة، لا تصح فيه لأنه لو كان كذلك لكانت "أفعلة"، و"أفعلة" بناء يختص الجموع، وليست الكلمة بجمع.

فإن قلت: فـ"أفعلة" قد جاء في الآحاد نحو "أسمنة"، فهلا حملت الكلمة عليه؟ قالقول إن ذلك لا يصح حملها عليه لقلته، ولما ذكرته لك مما كان يلزم من إلقاء حركة المدغم في الفاء. فإن قلت: فهل يجوز أن تقدر انقلاب الألف في "آوتاه" عن الياء وعن اليواو؛ لأن الياء خاصة قد أبدلت منها ساكنةً الألف من مواضع، كقولهم في "الحيرة": "حاري"، وفي "طيِّئ": "طائيّ"، وقال سبويه في "آية" و "راية" و"ثاية": "قال غيره - يعني غير الخليل -: إنه فعلة، وأبدلت الألف من الياء". وأخذ بعض البغداديين هذا منه، فقال في قولهم "ضرب عليه سايةً": "إنما هو سية، أبدلت الألف من الياء المنقلبة عن الواو". وقال في "داويّة": إن الألف أيضاً منقلبة عن الواو. كأنه لما رآهم يقولون "الدو" ودوِّيّة" و"داوية" ذهب إلى انقلاب الألف، كما قال سيبويه ذلك في باب "ثاية" و "راية"؟

فالقول: إن تقدير انقلاب الألف في هذه الكلمة عن أحد هذين الحرفين لا يصح من حيث جاز انقلابها عن الياء فيما ذكرت؛ لأنها في هذا الموضع لو كانت واواً أو ياء للزم تحركها بإلقاء حركة المدغم عليها، وإذا حركت لم تقلب؛ ألا ترى أنهم يقولون "رجل أيَلُّ" و"الإوزّ"، وقالوا في جمع "وَدٍّ": "أوُدُّ"، قال: إني كأني لدى النعمان أخبره ... بعض الأود حديثاً غير مكذوب فصححوا الواو والياء في هذه المواضع لما لزم تحريكها. على أن قولهم "تأوَّه" وظهور الهمزة يوضح أن تلك الهمزة فاء في الكلمة، قال: ......................... ... .............................. تأوهاً وذميلا وإذا ثبتت الهمزة فاء ثبت أن الألف زائدة. وكما أن قولهم "تأوه" يدل على أن الهمزة فاء، كذلك يدل قولهم "تأله" على أن الهمزة فاء الفعل، وأن من قال: إن إلهاً مأخوذ من وله العباد إليه مخطئٌ خطأً فاحشاً؛ ألا ترى أن أبا زيد أنشد لرؤبة: سبَّحن واستجعن من تألهي

ومن قال في "وشاح": "إشاح"، ورأى بدل الهمزة من الواو المكسورة [فكسروأ]، لم يقل "توشح" إلا بتصحيح الواو. فأما من ذهب إلى أن الالف في "داويّة" بدل من العين التي هي واو، فقوله لا دلالة عليه؛ لأنه يجوز أن يكون بنى من "الدو" "فاعلة"، وألحقه ياءي النسب، فحذف اللام كما حذف مما أنشده من قوله: كأس عزيزٍ من الأعناب عتقها ... لبعض أربابها حانيةٌ حوم وكما قالوا "رجل ضاويّ"، وإنما هو "فاعلٌ" من "الضوى"، ألحق ياءي الإضافة كما ألحق في قولهم "أحمر" و "أحمريّ" و "أعجم" و"أعجميّ"، والمعنى واحد. وكذلك يجوز أن تكون "داويّة". وإذا احتمل هذا فلا دلالة على ما ذهب إليه من أن الألف في "داويّة" بدل من الواو. ومنع من ذلك أن الواو لم يكثر بدل الألف منها كما أبدل من الياء فيما ذكرنا، وفي نحو "عاعيت" و "حاحيت". وإذا كانت مواقع البدل ينبغي أن تعتبر كما تُعتبر مواقع الزيادة، فنفس الحرف المبدل أولى بأن تعتبره. فأما ما أنشده أبو زيد من قوله:

والخيل قد ....................... ... .................... تعتسف الداوية فإن شئت قلت: بنى من "الدو" "فاعلة"، وأبدل من اللام الياء كما أبدل منها في "غازية". وإن شئت قلت: أراد "الداويّة" المحذوفة اللام كـ"الحانية" إلا أنه خفف كما خففها فيما أنشده أبو زيد: بكى بعينك واكف القطر ... إبن الحواري العاليَ الذكر ثم نرجع إلى المسألة، فنقول: إن الهمزة قد ثبت أنها فاء الفعل في الكلمة، وثبتت أن الألف زائدة فيها، إما أن تكون ألف "فاعل" أو "فاعل"، إذ لم يجز أن تكون الهمزة زائدة والألف منقلبة عن الفاء، بدلالة ثباتها ألفاً، وأنها لو كانت فاء لم تثبت ألفاً؛ ألا ترى أنهم قالوا "أيّمة" فقلوا، ولم تثبت الفاء كما ثبتت في "أوى" و "إوز". فإن قلت: هلا لم يجز أن يكون وزنها "فاعلة" لأنها لو كانت كذلك للزم أن تنقلب اللام ألفاً لوقوعها طرفاً وانفتاح ما قبلها، كما أنك لو قلت "أقواه زيدٌ" تريد "أفعله" من "القوة" لانقلبت ألفاً، وفي صحة الواو وسكون ما قبلها دلالة على أنها لا يجوز أن تكون "فاعلة"؟ قيل: لا يجوز أن لا تكون "فاعلة" لما ذكرت؛ لأنه لو امتنع أن تكون على هذا الوزن لما أوردته لامتنع أيضاً أن تكون "فاعلة"؛ لأنك لو بنيت "فاعلة" من القوّة للزم انقلاب اللام ياء، كما لزم انقلابها في "غازية"

و"محنية"، وكما لزم انقلابها ألفاً في "أقوى زيدٌ عمراً"، فكما أن ما أوجب من قلب اللام في "فاعلة" إلى الياء لم يمنع من الحكم بأنها "فاعلة"، وإنما جاز ذلك في الموضعين جميعاً لأن الكلمة لما لم تصرَّف، ولم تقع اللام طرفاً، لم يلزم فيها انفصال أحد المثلين من الآخر، كما لزم ذلك في باب "قوة" و "حوة"، لتصرفهما، فلما لم يلزم ذلك صارا بمنزلة الصحيح؛ ألا ترى أن منهم من أدغم {حيَّ عن بيِّنةٍ}، و: عيُّوا بأمرهم ............... ... ......................... لما اجتمع المثلان لازمين في هذه الكلمة، فجعل ذلك بمنزلة الصحيح، وإن كانت هذه اللام هي التي في "يُحيي" و "لم يحي" و "أريد أن يُحيي". فإذا جعلوا هذه المتصرفة في هذا الموضع لما لزم بمنزلة الصحيح، كانت هذه الكلمة التي لم يصرف منها فعل ولا غيره أجدر أن تكون بمنزلة الصحيح في لزوم الإدغام لها، مع بنائهم إياها على التأنيث.

ومثل ذلك في الإدغام ما قاله سيبويه في جمع "هبيّ" و "هبيّة" من أن جمعه "هبأيُّ" بالإدغام. ووجه قوله أنه لما جرى مجرى الصحيح في الواحد لسكون ما قبله وتعاقب حركات الإعراب عليه، جعله بمنزلة "مرضّة" ونحوها، فقال في الجمع "هبايّ" كما تقول "مراضّ". وحكي عن أبي عثمان، وأبي عمر أيضاً، أنه قال: أقول "هبايي" فأُظهر ولا أدغم؛ لأن ما بعد ألف الجمع حكمه أن يكون متحركاً. كأن أبا عثمان جعله بمنزلة "معايٍ"، ولم يجعله بمنزلة "مراضّ"؛ لأن الضاد الثانية مرازمة للأخرى، والياء الثانية لا تلزم الأولى في "معايٍ"؛ ألا ترى أنها تسقط في الجر والرفع، فلما لم تلزم لم يجز الإدغام، ولم يجز الإدغام في حال النصب كما لم يجز في قوله {أن يحيي الموتى} من حيث كانت تسكن في الرفع، وتحذف في الجزم، والفصل بينه وبين "معيية" بيّن؛ لأن الإدغام كما لم يجز في واحد "معايٍ" لتصرفه، كذلك لم يجز في جمعه لذلك وأن الثاني منهما غير لازم، وليس كذلك الواحد من "هبايّ"؛ الا ترى أن كل واحد من المثلين قد لزم صاحبه في الواحد ولم ينفصلا، وكما كانا في الواحد بمنزلة الصحيح في هذا المعنى، كذلك كانا في الجمع بمنزلته، فكان تشبيهه بـ"مراضّ" لما ذكرنا أولى من تشبيهه بـ"معايٍ". وإذا كانوا قد قالوا في جمع "حياء": أحيَّة" و"أحيية"، فأجازوا الإدغام مع أن الثانية لا تلزم الأولى في كثير من تصرف الكلمة كلزوم الأولى الثانية، وجب أن لا يجاز في "هبأيّ" إلا الإدغام؛ لأن الثانية ملازمة غير مفارقة.

ويدل على صحة قول سيبويه في هذه المسألة هذه الكلمة؛ ألا ترى أنهم ألزموها الإدغام، ولم يجعلوها كـ"فاعلة" من "قويت" لما لزمت حالة واحدة من الجمود والامتناع من التصرف. على أن لهذه الكلمة مزية في التصحيح على قولك في جمع "هبيّ": "هبايّ"، وذلك أنها مبنية على التأنيث، والبناء على التأنيث قد جاز معه ما لم يجز مع غيره؛ ألا ترى أنهم قد احتملوا له نحو "ترقوة" و "عرقوة" و "قلنسوة"، ولولا البناء على التأنيث لم يكن هذا النحو في الأسماء. وكذلك "النهاية" والشقاوة". وكما جاز هذا النحو في تاء التأنيث لما كان بناء الكلمة عليها، ولم يكن التذكير أولاً ثم دخل التأنيث بعد، كذلك احتملوا ذلك في الاسم إذا بني على التثنية نحو "مدروان" و "عقلته بثنايين" وهاتان لما بنيتا في أول أحوالهما على التثنية لم يفرد لهما، ولولا ذلك لم تصح الواو كما لم تصح في نحو "رجل مغزىً" إذا بنيت منه مثل "مِحرب". ونظير هذا في التثنية من الجمع قولهم "مقتوو، " في أحد قولي سيبويه

حيث لم يكن له واحد يُفرد. يريد أنه لما بني "مذروان" على التثنية، كذلك بني هذا على الجمع حيث لم يفرد له واحد من هذا اللفظ، كما لم يستعمل واحد "مذروين". وقال فيه أيضاً: "إن شئت قلت: جاؤوا به على الأصل كما قالوا مقاتوة، حدثنا بذلك أبو الخطاب" يريد: إن شئت صححت الواو في جمع التصحيح كما صحت في جمع التكسير؛ لأن جمع التصحيح قد جرى مجرى التكسير؛ ألا ترى أنهم قالوا "الأشعرون" كما قالوا "الأشاعرة"، كانهم كسّروا "أشعر"، كما أنهم في "الأشعرون" إياه جمعوا، فكما أجروا التصحيح مجرى التكسير في هذا، كذلك أجروه مجراه في التصحيح. ويحتمل - عندي - وجهاً ثالثاً، وهو أن تكون الواو صحت في هذا الموضع ليكون تصحيحها دلالة على إرادة النسب وأمارة له، كما صحت العين في "عور" وأجتوروا" ليكون دلالة على أن المراد "اعورَّ" و "تجاوروا"، فكذلك صححت في "مقتوىّ" ليكون التصحيح دلالة على إرادتهم النسب، قال أبو عثمان: ولم يجئ في كلامهم مثل "مقاتوة" إلا قولهم "قوم سواسوة"، سمعته من أبي عبيدة. وإذا كان البناء على التأنيث وما أشبه التأنيث من التثنية والجمع قد احتمل ما لا يحتمله غيره من تصحيح ما لا يصحح إذا لم يقع البناء على التأنيث؛ كانت هذه الكلمة جديرة بالتصحيح لبنائها على التأنيث مع ما ذكرنا من ملازمة المثل الثاني الأول، وأنها لا تتصرف.

أحرفها

والدليل على أنها مبنية على التأنيث وأن التاء له ما حكاه أبو الحسن من أنهم يقولون "آوتاه"، وإبدالهم إياهم تاء في الدرج، ولا يمتنع بناؤها، وأنها لم تتصرف للحاق تاء التأنيث بها؛ ألا ترى أنهم قد قالوا: كان من الأمر ذيَّة وذيّة، وكيَّة وكيَّة، فألحقوا تاء التأنيث هذه الأسماء وإن كانت مبنية. وقالوا "هيهاة"، فألحقوها التاء. وقالوا "منه" في الوقف. وأحلقوا التاء في الحروف في نحو "لات" و"ثُمَّت" و"رُبَّت". فإذا لحقت الحروف لم يمنع أن تلحق هذه الكلمة أيضاً. فإن قلت: ما حروف هذه الكلمة؟ فالقول: إن الفاء منها همزة، والعين واللام واوان. أما كون الفاء همزة فقد تقدمت الدلالة عليه. وأما لاعين فبيّن أنها واو؛ ألا ترى أنها لو كانت ياء لم تصح الواو المدغم فيها، كما لم تصح في "سيد" ونحوه. فإن قلت: فلم لا تكون اللام همزة وقد أبدلت واواً للتخفيف على حد قولهم [في] أبو أيوب: "أبوَّيُّوب"، وكما قالوا في المتصل "سوَّة" في "سوءة"؟ قيل: لا ينبغي ذلك لأمرين: أحدهما أن هذا النحو من القلة بحيث لا يجب أن يقاس عليه. والآخر أنه لو كان كذلك لكان التحقيق قد جاء فيه كما جاء في "سوءة"، ولم يجئ هذا النحو مثل "النبي" و "البرية" و"الخابية". ومن هنا يفسد قول من قال: إن "أول" مأخوذ من "وأل". ويفسد أيضاً قولهم "أولى"، لأنه لو كان كما زعم لجاز تصحيح الفاء. وعلى

أن باب "قوة" أكثر من باب "أجأٍ" بكثير، ولو لم يكن إلا هذا لكان كافياً. والهاء قد تقدم أنها للتأنيث بدلالة ما حكاه أبو الحسن من قولهم "آوتاه"، وقلبهم لها في الصلة تاء، كما فعل بغيرها مما ألحق للتأنيث. فأما قولهم "تأوه" فيحتمل - عندي - قولين: أحدهما - وقد قيل - أنه يكون مأخوذاً من جملة الكلام، كقولهم "هلل" و "لبَّى"، فأخذ من حروف قولنا "لا إله إلا الله" حروفٌ صيغ منها هذا الفعل، وكذلك أُخذ "لبَّى" من "لبيك" مع ما فيه من حرف التثنية. فكما أُخذ من الكلمة وما فيها من حرف التثنية، كذلك أخذ من هذه الكلمة مع ما فيها من تاء التأنيث. فإن قيل: فما تنكر أن يكون "هلل" من الإهلال الذي هو الصوت كقولهم "استهل المولود"، وقوله: يهل بالفرقد ركبانها ... .................... ونحو ذلك؟ قيل: لو كان على هذا الذي ذكرته لكان "هلل" قد استعمل في المواضع التي يستعمل فيها "أهل"، فيقال: هلل المولود، وهلل بالحجز ففي امتناعهم من ذلك وقصرهم "هلل" على من قال "لا إله إلا الله" دلالة على

ما قلناه، وأنه مأخوذ من حروف الكلمة على حد قولهم "بأبأ" و "دعدع" و "تأتأ بالتيس" و"سأسأ بالحمار"، إذا صوت بهذه الأصوات المأخوذة هذه الأمثلة منها. وكذلك "لبى" لا يكون "لبب"، ثم أبدل على حد "تقضيب". والآخر: أن تكون الهاء لغة في الكلمة، فتكون اللام مرة هاء ومرة واواً، كما أن "سنة" كذلك، لقولهم "أسنتوا"، فأبدل من الياء المنقلبة من اللام في "سنوات" التاء، وقولهم "ساناه"، فاللام واو على هذا. وقالوا "سهناء". وكذلك "عضة" في من قال "بعير عاضةٌ"، وقال: ......................... ... نسعٌ لها بعصاه الأرض تهزيز فاللام عنده هاء. ومن قال:

وعضواتٌ تقطع اللهازما كانت اللام عنده واواً. وهذا يمكن أن يكون قوله: هما نفثا فيْ فيَّ من فمويهما ... ....................... لو قال قائل: إن الواو التي في موضع اللام بمنزلة التي في "سنوات"، لكان مذهباً. فكذلك هذا الحرف في من قال: ........................... ... تأوه آهة الرجل الحزين كانت اللام عنده هاء، بدلالة قوله "تأوه" و "آهة". ومن قال: فأولذاكراها ..................... ... ...........................

فاللام عنده واو كـ "القوة" و "الحوة"، و"أو" مثل "قو زيداً". فكما أن الكلم المتقدم تكون اللام منه مرة واواً ومرة هاء، فكذلك هذه الكلمة تكون على ذلك. فأما قولهم "يا هناه أقبل" فالقول فيه إن الهاء الآخرة لا تخلو من أن تكون لاماً على حد اللام في "شفة"، أو على حد اللام في "سنة"، أو بدلاً. أو تكون هاء الوقف لحقت الكلمة وحركت كما حكي عن أحد عملائنا. فلا يتجه أن تكون على هذا النحو؛ لأن هذه الهاء لم تجعل بمنزلة ما في نفس الكلمة في شيء، ولم تحرك في شيء من كلامهم يكون ثبتاً عندنا، فإذا كان كذلك لم يجز هذا القول لدفع الأصول له، وتعرية من دلالة تقوم عليه. فإذا لم يجز ذلك بقي أن تكون لاماً. فلا يجوز أن تكون لاماً على حد اللام في "شفة" لقولهم "هنوك"، وأن اللام في "شفة" هاء في جميع تصرف الكلمة. ولا يقرب أن تجعلها لاماً على نحو ما جعلته في "سنة"؛ لأن الفاء أيضاً هاء، وقد قلّت الهاء في الموضع الذي يكثر فيه التضعيف، وإنما جاء - فيما علمته - في "الفهه" و "مهاهٍ". فإذا قل في الموضع الذي يقل فيه التضعيف، ألا ترى أن باب "قوة" و "حية" لما قلا في هذا الموضع لم يجئ من نحو "سلس" و "قلق" إلا "يديت إليه يداً" وقولهم "واو"، فكذلك إذا قل هذا فيما ذكرنا وجب أن لا تحمل "هناه" أيضاً على أنه من نحو "سلس" و "قلق"، وإذا لم يحمل عليه حمل على أن الهاء بدل من الواو التي هي

لام في قولهم "هنوك" و "هنوات". وأبدلت الواو منها كما أبدلت هي من [الواو] في هذه الكلمة، وكما أبدلت الهمزة منها في "ماء"؛ لأن هذه الحروف تتقارب؛ الا ترى أنها قد أجريت مجرى حروف اللين في نحو قوله: ........................ ... وعرِّي أفراس الصبا ورواحله وقوله: ....................... ... وبَكِّي النساء على حمزة فإن قال قائل: فإذا كان بدلاً من اللام كما ذكرت، فهلا ثني الاسم عليه فقيل "يا هناهان"؟ قيل: إن امتناعهم من تثنيته على هذا لا يدل على أنه ليس ببدل؟ لأن البدل قد يختص المكان المخصوص؛ ألا ترى أنهم قالوا "تالله" و "الله" ولم يلحقوهما المضمر، وقالوا "هذه" فأبدلوا الهاء في الاسم، ولم يثن عليه، فكذلك يكون قولهم "يا هناه". فإن قلت: هل لهذه الكلمة موضع من الإعراب؟ وما هي؟ فالقول فيها: إنها من الكلم التي سميت بها الأفعال في غير الأمر

والنهي كـ"شتان" و "سرعان" و "شكان"، وأقرب إليها في الشبه منهن "هيهات" ألا ترى أنها مثلها في أنها ليست مشتقة، وقد دخلت عليه تاء التأنيث كما دخلت عليه. ومثله "أو"، كأن هذه الكلمة اسم لقولك "أتألم"، كما أن "هيهات" اسم لـ"بَعُدَ"، وكما أن "أُفٍ" بمنزلة "أتضجر". وكانهم لم يستعملوا معها "لك" كما قالوا "أُفٍ لك"؛ لأن المتكلم إنما يعني بها نفسه، فاستغنى عن "لك" التي للتبيين لذلك.

مسألة: الأسكرجة: هل له اشتقاق؟ وهل الهمزة فيها أصل أم لا؟ وكيف تصغيرها؟

مسألة ذكرت - أعزك الله - "الأسكُرَّجة"، وهل لها اشتقاق؟ وهل الهمزة فيها أصل أم لا؟ وكيف تصغيرها؟ والقول فيها: إنها لا اشتقاق لها في اللغة العربية؛ لأنها فارسية ترجمتها "مقرب الخل". والقول في الأسماء الأعجمية المعربة إنها على ضربين: أحدهما ما نقل معرفاً نحو "إسماعيل" و "إبراهيم" و "إسحاق" و"يعقوب". والآخر ما نقل منكوراً، وذلك نحو "الآجر" و "الإبريسم" و "الفرند" و"الديباج" و"الديوان". فهذا الضرب وإن كان مثل الأول في العجمة، فإنه أشبه بما أصله معرَّب من الأول، بدلالة إدخالهم الألف واللام عليه كإخالهم إياهما على أسماء الأجناس التي هي الأول عندهم، ولصرفهم ما كان منه

عاريا من المعاني التي تمنع الأسماء العربية من الصرف في المعرفة، ولاشتقاقهم منه على حد ما اشتقوا من العربية؛ ألا ترى أن رؤبة قال: هل ينجيني خلفٌ سختيت ... أو فضة أو ذهب كبريت فـ "سختيت": "فعليل" من السخت، وهو الشديد بالفارسية، فصار "سختيت" من "سخت" كـ"زحليل" من باب "زحل". وهذا وإن كان كما ذكرنا، فليس يخرجه عن مساواة الضرب الأول في أنه لا يكون مشتقاً من الألفاظ العربية، كما لا يكون الأول مشتقاً منها، لمخالفة هذين الضربين الأسماء العربية في الخبر. وإذا كان العجمي الموافق للعربية في حروفه التي صيغ منها المماثل بناؤه لبنائها، لم يكن مع ذلك مشتقاً منه، فما خالفه في الحروف وفي البناء أجدر أن يكون مشتقاً منه؛ ألا ترى أن "قابوس" و"سابور" و "إدريس" و "إبليس"، وإن كانا من لفظ القبس والسبر، وكانا على مثال "عوقول" و "حاطوم" و "جاروف"، فليسا منهما، ولو كانا منهما انصرفا اسمي رجلين، وفي امتناعهم من صرفه في قوله:

..................... ... وملك أبي قابوس أضحى وقد نجز وقوله: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام دلالةٌ على أنه ليس منه، ولو كان منه لصرفت، كما أنك لو سميت بـ"عاقول" رجلاً لصرفت، وليس "سابور" من "سبرت الجراحة والأمر"، وإنما هو في الفارسية "شاة بور"، وعلى هذا أتى به في قوله: أقام به شاهبور الجنو دحولين تضرب فيه القدم وكذلك "إبليس" ليس من قوله {يبلس المجرمون}؛ لأنه لو كان منه لصُرف؛ ألا ترى أنك لو سميت بـ"إخريط" و "إجفيل" رجلاً لصرفته في المعرفة. وكذلك " قارون"، وهو "فاعول" من "قرن"، ولا يكون مثل "زيتون"، [فيجب] أن يكون من "دار قوراء"؛ لأنه لو كان كذلك لصحت الواو لسكونها.

وكذلك "هامان" لا يكون "فعلان" من "هومت" ولا من "هام يهيم". فإن قلت: أليس لو جعلته "فعلان" من واحد منهما لم تصرفه اسم رجل، فهلا قلت في "هامان" إنه عربي؟ قيل: إنه وإن كان كما ذكرت، فإنه لم يمنع من الصرف من حيث امتنع "سعدان" ونحوه من الانصراف في المعرفة، ولكن من أجل العجمة والتعريف؛ ألا ترى أنك لو جعلت الألف زائدة، وجعلت الكلمة مثل "ساباط" لم تصرف أيضاً. فأما "طالوت" من قوله {فلما فصل طالوت بالجنود} فلا يكون "فعلوت" من الطول كـ"الرغبوت" و "الرهبوت" و "التربوت"، وإن كان قد روي في بعض الآثار أنه كان أطول من كان في ذلك الوقت. كما أن "جالوت" لا يكون "فعلوت" من "الجولان"، وإن كنت لو بنيت من "طُلت" و"جلت" مثل "الرغبوت" لكان على هذا اللفظ؛ لأنهما غير منصرفين في التنزيل، ولو لم يكن أعجمياً لصرف؛ لأنك لو سميت رجلاً بمثل "الرغبوت" و "الرهبوت" لصرفت في المعرفة. فإذا كان الأمر في هذا النحو على ما ذكرنا من أنه غير مشتق من العربي بالدلالة التي وصفنا،

همزتها

فـ"أسكُرَّجة" ونحوها من المخالفة للعربي في الحروف والبناء، أجدر أن لا يكون مشتقاً. وهذه الكلم المعرفة التي الهمزة في أوائلها ليس تخلو من أن تكون من ذوات الثلاثة، أو مما هو أكثر منه، وليس في حكم الأسماء الأعجمية أن يحكم في بعض حروفها بالزيادة، كما حكم بذلك في الأسماء العربية؛ لأن المعنى الذي يتوصل به إلى علم ذلك من الاشتقاق وغير ذلك، ليس في لغة العجم، فإذا كان كذلك كان بمنزلة الحروف في اللغة التي لما لم يشتق منها ولم تصرف كما صرفت الأسماء والأفعال، لم يحكم في شيء من الحروف التي فيها بالزيادة؛ ألا ترى أن النحويين يجعلون الألف في الحروف نحو "لا" و "ما" و "يا" أصلاً، وإن لم يجعلوها في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة، فكذلك الحكم في الأسماء الأعجمية أن لا يحكم في حروف الزيادة منها بالزيادة، إلا أنها إذا أعربت ودخلت بالتعريب في كلامهم، جاز أن يجعل حكم حروفها كحكم حروف العربي في الزيادة والأصل، ولم يمتنع أن يتكلم فيه على أنها قد صارت بمنزلة العربية، أو على أنها لو كانت منها كيف كان يكون حكمها. فمما جاء من المعربة من بنات الثلاثة في أولها الهمزة "استبرقٌ"، لا يخلو من أن يكون من بنات الثلاثة أو من غيرها، فلا يجوز أن تكون حروفها كلها أصولاً؛ لأن أكثر ما يبلغه الأسماء العربية من الحروف الأصول خمسة أحرف، فإن جعلتها كلها أصولاً لم يجز لخروجه عما عليه الأسماء، وخروجه إلى ما تدفعه الأصول. ولا يجوز أن تجعل الهمزة زائدة لتبقى خمسة أحرف تكون أصولاً؛ لأن الحروف التي تلحق زائدة أوائل بنات الثلاثة، لا تلحق

بنات الأربعة إلا أسماء الفاعلين والمفعولين والأفعال المضارعة منها [نحو] "مدحرجٍ" و "يدحرج"، فإذا لم تلحق بنات الأربعة كان من أن تلحق الخمسة أبعد، فلا يجوز إذاً أن تكون الهمزة زائدة وباقي الحروف أصولاً، فتكون الكلمة من بنات الخمسة. ولا يجوز أيضاً أن تكون السين على انفرادها زائدة والأخرى أصلاً، [ولا أن تكون التاء وحدها زائدة والأخرى أصلاً]؛ لأنهما ليسا من الحروف التي تزاد في هذه المواضع؛ ألا ترى أن التاء في "عنترٍ" و"بلتعٍ"، والسين في نحو "عسجدٍ" و "يستعور"، لا يحكم بزيادة واحدة منهما، فإذا لم يجز أن تكون هذا الحروف الثلاثة كلها أصولاً، ولم يجز أن تكون الهمزة مع السين زائدة والباقي أصلاً، ولا التاء مع الهمزة زائداً والسين أصلاً، ثبت أنها كلها زوائد. وإذا كانت كلها زوائد لم يخل من أن تكون كلمة التي فيها اسماً أو فعلاً، فلا يجوز أن تكون اسماً لما تقدم ذكره، فثبت أنه في الأصل كأنه بناء فعل نقل فسُمي به، وأشبه ذلك من كلامهم "اليرمع" و"اليعمل"؛ ألا ترى أنهما على وزن الفعل، وفي أوائلهما زيادته، وهما مع ذلك اسمان لجنسين، كما أن "إستبرق" اسم جنس، وعلى وزن الفعل، وفي أوله زيادته، وهو منصرف في النكرة، كما أنهما كذلك. ولو امتنع ممتنع من صرفه في النكرة لكان مخطئاً خطأ ظاهراً؛ لأنه على وزن الفعل، فلم يجتمع فيه سببان

يمنعان الصرف. فأما هذا الضرب من العجمة فلا اعتداد به في منع الصرف، إنما يعتد به في الضرب الآخر من الأعجمية، وهو ما نقل معرفة نحو "إبراهيم" و"يعقوب"، فأما ما نقل نكرة، وكان اسم جنس، فإن العجمة فيه لا يعتد بها معنى مانعاً من الصرف، ومن ثم كان "النيروز" و "اللجام" و "الديباج" و"السهريز" ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية النكرة مصروفة في المعرفة والنكرة، ولم يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي المحض، ولذلك كان قولنا "إستبرق" مصروفاً في مواضع من التنزيل، فلو امتنع ممتنع من صرفه لكان مخطئاً تاركاً لمذهب العرب ولغتهم فيه. وفي هذه الكلمة - أعني قولهم إستبرق - موضع جعله النحويون أصلاً لفروع كثيرة قاسوها عليها، وردوها إليها، وهو أنهم إذا سموا بفعل في أوله همزة موصولة قبل التسمية بها، وذلك نحو رجل سميته بـ"اضرب" أو "اقتل" أو "اذهب"، فإن الهمزة في ذلك كله تقطع، فيصير "أقتل" بمنزلة "أبلم"، وإضرب" بمنزلة "إثمد" و "إذهب" بمنزلة "إصبع"، وذلك إذا وقعت التسمية بالفعل فارغاً من الفاعل، وإن سمي بشيء من ذلك وفيه ضمير الفاعل حُكي ولم يغير، وإنما تقطع الهمزة إذا وقعت التسمية بها مفردة؛

إهليلج

ألا ترى أن "إستبرق" مقطوعة الهمزة مصروفة في التنزيل. ولو حُقّر "إستبرق" أو كسر لكان التحقير "أُبيرقاً"، والتكسير "أبارق" بحذف السين والتاء جميعاً؛ لأنهما زائدتان زيدتا معاً، فجرتا لذلك مجرى الزيادة الواحدة، كما أنك لو رخمت مثل "حمراء" و "عقرباء" و "عنصلاء"، لحذفت الزيادتين كما تحذف الزيادة المفردة حيث جرتا مجراها في أن لم تنفصل إحداهما من الأخرى، فكذلك السين والتاء في "إستفعل" لما لحقتا معاً حذفتا معاً؛ لتكون الكلمة بعد حذفهما منه على مثال تكون عليه الأسماء، فـ "إستبرق" لما أعرب جعلوا حكمه حكم العربي، وجعلوه من بنات الثلاثة، فكذلك جمع المعربة حكمه حكم هذه الكلمة. فأما "إهليلج" فيقاي الهمزة فيها أن تكون زائدة؛ لأنها من الثلاثة؛ ألا ترى أن العين منها لام قد كررت. وإذا كان كذلك كان "إفعيعل". وحكم الهمزة إذا لحقت بنات الثلاثة [من] العربي أن يحكم بزيادتها حتى تقوم دلالة تخرجها من ذلك، فكذلك حكم الهمزة في هذه الكلمة. وكذلك الهمزة في "أشكر". وكذلك "الأردن". وإن شئت جعلت "الأردن" مثل "أُبلمٍ"، وجعلت التثقيل فيه من باب:

آسك

................... سَبْسَباً رجع إلى "أشكر"، حكم الهمزة فيه أن تكون زائدة؛ لأنها بمنزلة التي في "أترج" و "أسكفّة" و"أسطمَّة"، وهذه زوائد بلا إشكال، كما كانت التي في "أهليلجة" لاجتماعها معها في المعنى الذي وصفنا، ولأن العين قد تكررت بتوسط زيادة بينهما، فصار من باب "عقنقل" و"عثوثل". ومما ينبغي أن تكون الهمزة في أوله زائدة من الكلم المعربة قولهم في اسم الموضع الذي قرب من "أرجان": "آسك"، وهو الذي ذكره الشاعر في قوله: أألفا مسلمٍ فيما زعمتم ... ويقتلهم بآسك أربعونا و"آسك" مثل "آخر" و "آدم" في الزنة، ولو كانت على "فاعل" نحو "طابق" و "تابل"، لم ينصرف أيضاً للعجمة والتعريف. وإنما لم نحمله على "فاعل" لأن ما جاء من نحو هذه الكلم والهمزة في أوائلها زائدة، هو العام الكثير، فحملناه على ذلك، وإن كانت الهمزة الأولى لو كانت أصلاً، وكانت "فاعل"، لكان اللفظ كذلك.

آزر

ومثل ذلك في التنزيل من قوله {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} قياسه أن يكون "أفعل". وأخبرنا أبو إسحاق أنه ليس بين الناس اختلاف أن اسم أبي إبراهيم "تارح"، والذي في القرآن يدل على أن اسمه "آزر"، وقيل: "آزر" ذم في لغتهم، كأنه: لا مخطئ. قال: وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع. قال: وقد يكون على هذا الوجه صفة، كأنه: لأبيه المخطئ. ومحمله على أنه "أفعل"، وإن أمكن أن يكون "فاعل" قياساً على الأكثر. ومن العجمي الذي وافق لفظ العربي نحو "الإزار" و "الإزرة"، وفي

التنزيل {أخرج شطأه فآزره". فأما قوله {وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها} فعلى القصر، و [أتينا] على هذا: "فعلنا" من الإتيان. ومن قرأ (آتينا بها) جعلها على "فاعلنا" فالهمزة في كلتا القراءتين على هذا أصل. فأما قوله {ثم سئلوا الفتنة لآتوها}، فقد قرئ {لأتوها} بالقصر، و {لآتوها} بالمد. فمن قال {آتوها} كانت الهمزة زائدة على قراءته، ولم تكن مثل الذي {آتينا بها} في من مد، في أنها أصل في مد، كما كانت كذلك في من قصر. ومن قرأ {لأتوها} فلمكان المسألة، كأنه: لو سُئلوا لأعطوها، ولأتوها: جاؤوها من الإتيان، حسنٌ؛ لأن في قوله

{ويستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة} دليلاً على أنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الإتيان والوقوف معه، فكأن المعنى: ويستأذن فريق منهم النبي في أن لا يأتوه لاشتغالهم بحفظ بيوتهم المعورة في زعمهم، {ولو دخلت عليهم من أقطارها} أي: لو بلغ من إعوار البيوت أن دُخل عليهم من جوانبها كلها لفرط إعوارها، ثم سئلوا معونة العدو على المسلمين لأتوها وأسرعوا إليها، ولم يعتلوا عليهم أن بيوتهم عورة، كما اعتلوا به في إرادتهم تأخرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرهم، فالمعنى: يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقعدوا عنه ولا يأتون، وهم يأتون العدو لينصروهم ويعينوهم على المسلمين لو سألوهم، فالقراءة بـ {أتوها} أشكل بما قبله وما بعده، وأشبه بالقصة؛ لأن القصة في تركهم نصرة النبي عليه السلام وقعودهم عنهم؛ ألا ترى أن بعدها {ولا يأتون البأس إلا قليلاً}. ومن قرأ {لآتوها} يريد: لأعطوها، فهو في المعنى راجع إلى هذا؛ لأن إعطاءهم الفتنة معونتُهم على المسلمين، وإتيانُهم للعدو لهم ناصرين، فـ {أتوها} أشد إبانة للمعنى المراد. وهذه الآية في المعنى قريبة من قوله {فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم} أي: في نصرهم، {يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرةٌ}، فقوله {يسارعون فيهم} مثلُ {ثم سُئلوا الفتنة لآتوها}؛ لأن في الموضعين

دلالة على أنهم إلى المعونة على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين مسارعون، وعلى ذلك متضافرون، وهم عنه غير متثاقلين، فكما أن المسارعة إليهم إتيان، فكذلك ينبغي أن تكون القراءة {لأتوها} بالقصر. و {نخشى أن تُصيبنا دائرةٌ} يقرب من قوله {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غُروراً}، إلا أنهم في هذه الآية كأنهم أشد بأساً في النصر، لحرصهم على أن ما وعدهم الله والرسول به غرور، ويجتمعان في الإخبار عنهم بأن قلوبهم لم تثلج بالإيمان، ولم تسكن إلى قول الرسول والقرآن وما أُخبروا به من الظفر، ووُعدوا به من الفلح والنصر في قوله تعالى {ليظهره على الدين كله}، وقوله {ألا إن حزب الله هم المفلحون}، وما أشبه هذا من الآي التي تدل على غلبة الإسلام وأهله، وقمع الكفر والشرك. وقوله {وما تلبثوا بها إلا يسيراً} أي: ما تلبثوا بدورهم إلا زماناً قليلاً، حتى يأتوا العدو ناصرين لهم، مظهرين لمثل ما هم مبطنون، [ولو فعلوا ذلك] لاستؤصلوا بالسيف، ولغُلوا كما غُلب العدو، أو نزل بهم من العذاب ما يهلكهم ويبديهم إذا باينوكم في الديار. ويقوي هذا الوجه قوله {وإذا لا تمنعون إلا قليلاً}.

أنبار وأرفاد وإرمينية

وكذلك "أنبار" في اسم البلد. و "أرفاد". وكذلك "إرمينية" قياس الهمزة أن تكون فيها زائدة، وحكمها أن تكسر لتكون مثل "إجفيل" و "إخريط" و "إطريح" ونحو ذلك، ثم ألحقت ياء النسب، وأُلحق بعدها تاء التأنيث. وكان القياس في النسب إليه "إرميني"، إلا أنه لما وافق ما بعد الراء منها ما بعد الحاء من "حنيفة"، حذفت الياء، كما حذفت الياء من "حنيفة" في النسب. وأجريت ياء النسب في "إرمينية" مجرى تاء التأنيث في "حنيفة"، كما أُجريتا مجراها في "رُومي" و "رُوم" و "سِندي" و "سِند"، أو تكون مثل "بدوي" ونحوه مما غُير في النسب. وكذلك "إبريق"، وترجمته بالفارسية أحد شيئين: إما أن يكون طريق الماء، أو: صاب الماءِ على هينة. فلذلك حكمنا أن الهمزة في هذا زائدة. فكذلك في "أُردن" و "أُسرُبٍ". وكذلك "أصبهانُ".

أرجان

فأما "أرجان" فوزنه "فعلان"، ولا تجعله "أفعلان"؛ لأنك إن جعلت الهمزة زائدة جعلت الفاء والعين من موضع واحد، وهذا لا ينبغي أن يحمل عليه شيء لقلته؛ ألا ترى أن الذي جاء من ذلك حروف قليلة. فإن قلت: فإن "فعلان" بناء لم يجيء في شيء من كلامهم، و"أفعلان" قد جاء، نحو "أنبجان" و "أرونان". فإن هذا البناء وإن لم يجيء في الأمثلة العربية، فقد جاء في العجمية "بقم" اسماً. فـ "فعلان" مثله إذا لم يعتد بالألف والنون. ولا ينكر أن يجيء العجمي على ما لا يكون عليه أمثلة العرب؛ ألا ترى أنه قد جاء فيه "سراويل" في أبنية الآحاد، و "إبريس" و "آجر"، ولم يجئ على ذلك شيء من أبنية كلام العرب. فكذلك "أرجان". ويدلك على أنه لا يستقيم أن يحمل على "أفعلان" أن سيبويه جعل "إمعة" "فعلة"، ولم يجعله "إفعلة" [لأنه] بناء لم يجيء في الصفات، وإن كان قد جاء في الأسماء نحو "إشفي" و "إنفحة" و "إبين". وكذلك قال أبو عثمان في "أما" من

الآجر

قولك "أما زيد فمنطلق": إنك لو سميت بها لجعلتها "فعلاً" ولم تجعله "أفعل" لما ذكرنا. فكذلك يكون على قياس ةول سيبويه وأبي عثمان "الإجاص" و "الإجانة" و "الإجار" "فِعالاً"، ولا يكون "إفعالاً"، فالهمزة معها فاء الفعل. وحكى أبو عثمان في همزة "إجانة" الكسر والفتح. وأنشدني محمد بن السري: أراد الله أن يخزي بجيراً ... فسلطني عليه بأرجان وكذلك "الآجر"، الهمزة فيه فاء الفعل، كما كانت في "أرجان". قال: وهذا وإن لم يجيء في أمثلة العرب شيء على وزنه، فقد اشتقوا منه ما دل على أن الهمزة أصل فاء، وذلك قولهم "الآجور"، فـ "الآجور" كـ "العاقول" و "الجاروف" و "الحاطوم"، ولا يكن إلا كذلك؛ لأنه ليس في الكلام شيء على "أفعول". فإذا ثبت أنها أصل بهذه الدلالة، فالتي في "آجرٍ" هي هذه التي ثبت أنها أصل في "الآجور". ولو حقرت الآجر" كنت في حذف أي الزيادتين شئت بالخيار، فإن

أيوب

حذفت الأولى قلت "أُجيرة"، ولا يستقيم أن تعوض من الزيادة المحذوفة، وإن حذفت الأخرى قلت "أويجرة". فإن عوضت قلت "أويجيرة". ومثل ذلك قولهم "أيوب"، الهمزة فاءٌ أصلٌ، وذلك أنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون "فيعولا" أو "فعولا". فإن جعلته "فيعولا" كان قياسه لو كان عربياً من "الأوب" مثل "قيوم"، وانقلبت العين التي هي واو من "الأوب" للياء الساكنة قبلها. ويمكن أن يكون "فعولاً" مثل "سفودٍ" و "كلوبٍ"، وإن لم يعلم في العربية هذ الصنف؛ لأنه لا ينكر أن يجيء العجمي على ما ليس له مثل في العربي. ولا يكون من "الأوب"، وقد قلبت الواو فيه إلى الياء؛ لأن من يقول "صُيم" في "صُوم" إذا تباعد من الطرف لم يقلب، ولم يقل إلا "صُوام"، فكذلك هذه العين إذا تباعدت من الطرف، فحجز الواو بينه وبين الآخر، لم يجز [فيه] القلب. ومثل ذلك في أن الهمزة فيه ينبغي أن تكون أصلاً في القياس غير زائدة قولهم "إيوان"؛ ألا ترى أن الهمزة لا تخلو من أن تكون زائدة أو أصلاً، ولو كانت زائدة لوجب إدغام الياء في الواو وقلبها إلى الياء، كما قلبت في "أيام"، فلما ظهرت الياء ولم تدغم دل أن الياء عين، وأن الفاء همزت، وقلبت ياء لكسرة الفاء وكراهة التضعيف، كما قلبت في "ديوان" و "قيراط"، وكما أن الدال والقاف فاءان، والياءين عينان، كذلك التي في "إيوان". ومثل ذلك في أن الهمزة فيه أصل ليس بزائدة في القياس قولهم

آلوسة

"آلوسة"، هي "فاعولة"؛ ألا ترى أنه ليس في كلامهم شيء على "أفعولة"، فهو مثل قولهم "آجور". ومثل ذلك من العربي قولهم "الآري" و "الآخي"، فـ "الآري": "فاعول"، وكذلك "الآخية"، وإنما انقلبت واو "فاعول" فيه ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء التي هي لام الفعل، واللام ياء بدلالة أن أبا زيد حكى أنهم يقولون: "أرت القدرُ تأري أرباً: إذا احترق ما في أسفلها فالتصق به". وإنما قيل لمواثق الحبالة "الآري" لتعلقها بها واحتباسها إليها، وكذلك آري الدابة، قال: وكان الظباء العفر يعلمن أنه ... وثيق عُرا الآري في العشراتِ وأما "أُشنان" فالهمزة فيه أصل، وذلك أنك إن جعلتا زائدة لم تصادف شيئاً من أصول أبنيتهم، فإذا كان كذلك كانت أصلاً. وحكمُ النون أن تكون اللام، كررتها للإلحاق بـ "قرطاسٍ"، فيكون كـ "قُرطاطٍ". ولو سميت بها رجلاً على هذا القول لصرفته في المعرفة، وإن شئت جعلت النون المزيدة مع الألف، وجعلته مثل "دُكان" و "قُرطاط"؛ لأن هذا الضرب قد جاء اسماً، ولكن الحمل على "قُرطاط" أولى؛ لأن تكرير اللام أكثر من باب "عُثمان" و "دُكان".

أربان

وأما "أُربانٌ" من قولهم: أعطيته أُرباناً، قال أبو عثمان: أعطني عُربوناً وأُربوناً وأرباناً، يعني رهناً، ولا يقال ربوناً، فالقول في الهمزة في "أربان" إنها فاء. وكذلك همزة "أُرندٌ"، في الاسم هذا النهر، ينبغي أن تكون فاء والنون زائدة، ولا يكون على غير هذا؛ لأنه لم يجيء في شيء، وقد حكى سيبويه "عُرندٌ"، فهو مثله. وكذلك الهمزة في "أيبلي" أصل؛ لأنهم قد قالوا بمعناه "الأبيل"، قال الأعشى: ........................ ... وما صك ناقوس الصلاة أبيلُها وقوله: وما أيبلي على هيكلٍ ... بناه، وصلب فيه، وصارا فهو من "الأبيل". قال أبو عبيدة: "أيبلي": صاحب "أبيلٍ"، وهو عصا الناقوس. وقال آخر جاهلي:

الأبلة

وما سبح الرهبان في كل بيعةٍ ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما فظاهر قول هذا يدل على أنه يعني بـ "الأبيل" ما يعني بـ "أيبلي"، إلا أن يقول أبو عبيدة: إن المعنى: صاحب أبيل الأبيلين، وإن الأبيلين كالأشعرين والأعجمين، ولو كان عربياً لكان من أبلت الإبل: إذا اجتزأت بالرطب عن الماء من قوله: كأن جلدات المخاض الأبال أو من "الأبل" الذي يراد به السياسة، كأنه سائس الدين والمقيم به، وقال: لو أن شيخاً رغيب العين ذا أبلٍ ... يرتاده لمعدٍ كلها لهفا ومن هذا قولهم "الأبلة" في اسم البلد، الهمزة تكون فاء، و "فُعُلة" قد جاء اسماً وصفة، نحو "خُضُمة"، و "غُلبة"، وقالوا "قُمُدٌ". فلو قال قائل إنه "أفعلة" والهمزة فيه زائدة مثل "أُبلمة" و "أُسنمة"،

لكان قولاً. وذهب أبو بكر في ذلك إلى الوجه الأول. كأنه لما رأى "فُعُلة" أكثر من "أُفعُلة" كان عنده أولى من الحكم بزيادة الهمزة لقلة الهمزة. ولمن ذهب إلى الوجه الآخر أن يحتج بكثرة زيادة الهمزة أولاً. وقالوا للفدرة من التمر "الأبلة"، [قال الشاعر، وهو أبو المثلم الهذلي]: فيأكل ما رُض من زادنا ... ويأبى الأُبُلة لم تُرضض فهذا أيضاً "فُعُلة" من قوله {طيراً أبابيل}. فسره أبو عبيدة: "جماعات في تفرقة". فكما أن "أبابيل" "فعاعيل"، وليست بـ "أفاعيل"، كذلك "الأبلة" "فُعُلة"، وليست بـ "أفعلة". وحكي عن الأصمعي في قولهم "الأبلة" الذي يراد به اسم البلد، أن البلد كانت به امرأة خمارة تعرف بـ "هوب" في زمن النبط، فطلبها قوم من النبط، فقيل لهم: "هوبُ لاكا"، أي: ليست ههنا. قال: فجاءت الفرس

أورى سلم

فغلطت، فقالوا: هُوبُ لت، فأعربتها العرب فقالت: الأبلة. ومن ذلك قولهم لبيت المقدس "أورى سلم"، قال الأعشى: وقد طُفت للمال آفاقه ... عُمان فحمص فأورى سلم فأورى سلم: بكسر اللام. وقال أبو عبيدة: هو عبراني معرب. والقياس في الهمزة إذا كانت في اسم أن تكون فاء مثل "بُهمى"، والألف للتأنيث، ولا تكون للإلحاق في قياس قول سيبويه. وإذا كان كذلك لم ينصرف في معرفة ولا نكرة. وجاء من هذه الحروف في ألفاظ العرب "الأوار"، قال: ...................... ... كأن أوارهن أجيج نار وقالوا في اسم موضع "أوارة"، وأنشد أبو زيد:

إيلياء

عُداويةٌ هيهات منك محلها ... إذا ما هي احتلت بقدس أوراة وروى بعض أصحابه: "إذا ما هي احتلت بقدسٍ وآرة". وهذا من لفظ الأول إذا قدرت الألف منقلبة عن الواو. وقال الأعشى: ها إن عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أوارة فإن قلت: فهل يجوز أن يكون "أُورى" "أُفعل"، فتكون الهمزة زائدة من "أوريتُ"، وما في التنزيل من قوله {أفرأيتم النار التي تُورون}؟ فإن ذلك لا يمتنع في القياس؛ لأن الأعلام قد تسمى بما لا يكون إلا فَعلاً، نحو "خصم" و "بذر"؛ ألا ترى أنه ليس في النكرات شيء على زنة "فعل". وقد سمي أيضاً "إيلياء"، قال الفرزدق: وبيتان: بيت الله نحن ولاته ... وبيتٌ بأعلى إيلياء مُشرف

فـ "إيلياء" الهمزة في أولها فاء لتكون بمنزلة "الجربياء" و "الكبرياء"، وتكون الكلمة ملحقة بـ "طِرمساء" و "جلخطاء"، وهي الأرض الحزن. والياء التي بعد الهمزة لا تخلو من أن تكون منقلبة من الهمزة أو من الواو. وقياس قول سيبويه أن تكون من الواو، ولا تكون منقلبة من الهمزة على هذا القول؛ لأن الهمزتين إذا لم تجتمعا [جاء فيه الألف من المؤنث لا يكون إلا مبنياً عليها وليست مثل التاء التي تبنى تارة على التأنيث وتارة على التذكير].

الآنك

وأما قولهم "الآنُكُ" فالهمزة فيه زائدة لـ "أفعل"، ولا يجوز فيه غير هذا كما كان في "آزر" و "آصف"؛ ألا ترى أنه ليس في الكلام شيء على وزن "كابُل". فإن قلت: فقد زعم أبو عبيدة أنه قد روي في قول الأعشى: "وما أيبلي على هيكل": "وما آبليٌّ على هيكلٍ". فكان ذلك أيضاً يشبه أن يكون معرباً. فإن شئت قلت: أبدل الألف من الياء، كما أبدلت منها في "طائي". وإن شئت قلت: [لما] كان "فيعل" بناء ليس من كلامهم، استكره فبنى الكلمة على "أفعلٍ"، والألف على هذا منقلبة عن الهمزة؛ لأن "أفعلاً" وإن كان بناء لم يجيء في الآحاد، فقد جاء في أبنية غيرها، فكأن الذي قال إنها على "أفعُل" صار آنس به منه بما لم يجئ في بناء واحد ولا جمع، فإنما الآنك أعجمي. فإن قلت: فقد جاء في اسم الموضع "أسنمة"، وهذا على "أفعُل".

الأرز

فقد روى أبو بكر عن أبي العباس أنه قال: روايتي "أُسنُمة" بضم الهمزة. قال أبو بكر: وغيره يفتح الهمزة. وهذا لأنه اسم مخصوص لا يثبت به فيقول من فتح الهمزة "أفعُلٌ" في الآحاد؛ لأن المعارف قد تغير كثيراً عن حد ما عليه الأسماء النكرات الأول. فأما "الأرز" فهو "أفعُلٌ" لا محالة، فالهمزة فيه زائدة، والراء متحركة بالحركة المنقولة من العين إليها للإدغام. ودل قولهم "وزٌ" على أن الهمزة في "إوزٍ" زائدة، وأنه ليس بمنزلة "خدبٍ" ونحوه، كما دل قولهم "رُزٌ" على أن "الأرُزة" ليس بمنزلة "تلُنة" في أن تاءها فاء؛ لقولهم "تَلُونة". ولو لم تجد "الوزَّ" و "الرُّز" لجعلت الإوز" بمنزلة "الإشفى" و "الإنفحة" و "إبين"، و "الأرُز" بمنزلة "الأصُك" للكثرة. وقد عاب محمد بن يزيد وغيره قول من قال في "الأرُز": [أرزٌ، ورُنزٌ]، وذهبوا إلى أن ذلك ليس بثبت. ويشبه أن يكون أصل الكلمة أعجمياً، وإن كانوا قد تكلموا به؛ لأنا لم نجد في الآحاد شيئاً على هذه الزنة.

آزاذ

وأما "آزاذ" فإن شئت قلت إنه "أفعال"، وإن كان بناء لم يجئ في الآحاد، كما جاء "الآنك". وإن شئت قلت إنه مثل "خاتام"، فالهمزة على هذا أصل. ويُستدل على ذلك بأنه واحد، فإن جعلت الهمزة فيه زائدة لم تصادف له في الآحاد نظيراً، فجعلتها أصلاً كما جعلتها في "إمعة" كذلك حيث لم تجد في أبنية الصفات شيئاً على "إفعلة". وأما "أُردن" و "أُورم" فلا تكون الهمزة فيهما إلا زائدة في قياس العربية. ويجوز في إعرابهما ضربان: أحدهما أن يجرد الفعل من الفاعل، فتعرب ولا تصرف. والآخر أن يبقى فيه ضمير الفاعل، فيحكي. وكذلك "آضطفن" و "آرتاح" إن جعلت "آصطفن": "افتعل" من "صفن الصافنات"، ولم تنزع منه الضمير، حكيت ولم تقطع الهمزة، وتركتها موصولة. وإن فرغت الضمير أعربت، وقطعت الهمزة. وكذلك "أرتاحُ"، إلا أن همزتها مقطوعة حكيت أو لم تحك. ويمكن أن يكون

أستاذ وأسوار

"أرتاح": "أفعال" كـ "أنبار". فأما "أرفاد" فـ "أفعال" لا غير. وأما قولهم "أُستاذٌ" و "أُسوارٌ" فقد ذكرناهما في "المسائل المُصلحة من كتاب أبي إسحاق". وأما قولهم "أبنبم" فهو عربي، وقد ذكره سيبويه، وزعم أن وزنه "أفنعل". ونظيره من الصفات "ألنددٌ". فالدلالة على أن الهمزة زائدة أن النون ثالثة ساكنة، والنون إذا كانت ثالثة ساكنة حكم بزيادتها لكثرة كونها زائدة في هذا الموضع، نحو "عقنقلٍ" و "جحنفلٍ" و "عفنججٍ"، ولتعاورها وحروف اللين على الموضع، نحو "شرنبثٍ" و "شُرابثٍ" و "جرنفسٍ" و "جُرافسٍ"، ولحذفهم لها في نحو "عرنتنٍ" وقولهم

"عرتُنٌ"، كما حذفوا الألف في نحو "دودمٍ" و "خُزخزٍ". فكما أجروها في هذه الأشياء مجرى الألف، أجروها مجراها في الزيادة أيضاً، فثبت زيادتها في "أبنبم" لذلك. وإنما أبدلوا منها الميم لوقوعها ساكنة قبل الباء، كما أبدلوا في "شمباء" و "عمبر"، ليس أن الميم أصل من نفس الكلمة، فلو كانت أصلاً لم تلحق الهمزة أولها زائدة. فالكلمة من باب "ددنٍ" و "كوكبٍ" وأنشد الأصمعي: يا جارتي وقد أرى شبهيكما ... بالجزع من تثليث أو بيبنبما كذلك أنشده الأصمعي. ولا ينبغي أن يجوز على هذا أن يقال "يبنبم" كما قيل "يُسروع" و "أُسروع"؛ لأن الهمزة إنما قلبت في البيت للتخفيف مثل "ميرٍ"، فإذا زالت الكسرة الموجبة لقلب الهمزة صحت الهمزة، كما أنك إذا قلت "مأرت بين القوم" لم يكن في الهمزة إلا التحقيق أو جعلها بين بين على قول أهل التخفيف. فهذا شرح هذا الحرف، وما خالف هذا مما ذكره بعض الرواة للغة فإنما هو خطأ لقلة الخبرة بهذا الشأن. فهذا حكم الهمزة إذا جاءت أولاً فيما كان على ثلاثة أحرف أو أكثر منه بالحروف الزائدة.

حكم الهمزة إذا وقعت أولا في ما كان بعدها أربعة أحرف أصول

فأما إذا جاءت أولاً فيما كان بعدها أربعة أحرف أصول، فإنه يحكم بأنها أصل غير زائدة في الأسماء الأعجمية، كما أنها في العربية كذلك، وذلك نحو "إصطخر" و "إصطبل" و "إطريفل" و "إبريسم"، وترجمة "إبريسم" بالعربية: الذاهب صُعُداً. و "أردبيل". فهذه الهمزت أصول؛ لأن بنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أوائلها إلا الأسماء الجارية على أفعالها وحروف المضارعة، فلذلك قدح من قدح فيما حكاه سيبويه عن الخليل أنهم قالوا في تحقير "إبراهيم": "بُريهيم"؛ لأن ذلك يلزم منه الحكم بزيادة الهمزة لحذفهم لها. وليس حكايته ذلك مما يُلزمه خطأ لأنه روى ذلك. ووجه قول من قال ذلك أن الأعجمية لما لم تكن من أصل كلامهم غيروه، فزادوا فيه ونقصوا منه، ولم يجروه على سنن ما استقر في كلامهم، فعرفوه وألفوه؛ ألا ترى أنهم قالوا في "جبرئيل" ألفاظاً ليس كثير منها كلامهم، وذلك نحو "جبريل" و "جبرئل". فكذلك قول من قال "بُريهم"، كأنه رخمه من "برهام"، وليس أنه حذف الهمزة من أول بنات

تحقير الأسكرجة

الأربعة، لكنه لم يلحق الهمزة، كما أن الذي قال "جبريل" لم يلحق الهمزة، كما ألحق من قال "جبرئيل"، ليس أنه ألحق ثم حذف. فكذلك "أُسكُرجة"، قياس الهمزة لو كانت الكلمة عربية، وإذا أُعربت، أن تكون الهمزة أصلاً، وإن كان على بناء لم يجئ في أمثلة العربية قبلها، كما أن "إصطخر" مثل "جردحلٍ"، و "أردبيل" على مثال "عندليب" و "حنبريت". وقد قدمنا أن الأعجمية كثيراً ما تجيء على ما لم يجيء مثلُها في المثال العربي. فإن حقرت حذفت الجيم، فقلت: "أُسيكِرة"، وإن عوضت من المحذوف قلت "أُسيكيرة". كذلك قياس التكسير إذا اضطر إليه. وزعم سيبويه أن بنات الخمس لا تكسر إلا على استكراه. فإن جُمع على غير التكسير أُلحق الألف والتاء. وقياسُ ما رواه سيبويه من "بُريهم" و "سُكيرجة" وما تقدم، الوجه. فأما "أذربيجان" فالهمزة في أولها أصل؛ لأن "أذر" مضمومٌ إليه الآخر. وروي عن أبي بكر أنه قال: "الصوف

أرسناس

الأذربي" في النسب إلى "أذربيجان". وقولهم "أرسناس" عندي مثلُه، كان الصدر "أرس"، فالهمزة أصل على هذا، كما كانت في "أذر" من "أذربيجن" كذلك. ومثل ذلك من الأسماء الأعجية المضموم أحدهما إلى الآخر قولهم "باذنجان"، حكى أبو بكر عن أبي العباس في تحقيرهم اختلافاً، فمنهم من يقول "بُذينجانة" مثل "حُضيرموت"، ومنهم من يكسر النون فيقول "بُذينجانة" فيكسر النون التي بعد ياء التحقير. فمن قال "بُذينجانة" جعله كـ "حُضيرموت"، وكان القياس على قوله أن يقول "بويذن جانة"، فيحقر الصدر، ثم يضم الثاني إليه، والصدر على "فاعِلٍ"، وتحقير "فاعِلٍ" على "فُويعِل"، إلا أنه يجوز أن يكون اختار في هذا الموضع تحقير الترخيم لطول الاسم، وقالوا في "حارثٍ": "حُريثٌ". فإن قيل: فهل يكون في الأسماء التي جعل فيها اسمان اسماً واحداً ما آخر الآخر منهما الهاء؟ فإن ذلك قد جاء في أسماء العدد. ومن قال "بُذينجانة" جعله بمنزلة "زُعيفران"، وحذف الألف الزائدة في "فاعلٍ" ليكون على أمثلة التحقير. والوجه الأول أشبه وأحسن؛ لأن ما هو من هذه الأسماء المعربة أشبه بأصول كان ذلك أدل على تعريبه، وليس في أبنية

كلامهم شيء على بناء "باذنجان"، وقد جاء في هذه المعربة ما لا إشكال في جعلهم إياه بمنزلة اسم واحد، وذلك قولهم "أذربيجان"، بدلالة قولهم "أذري"، فكذلك "باذنجانة". تمت المسائل المصنوعة بحلب، صنعة الشيخ الجليل أبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، رفع الله درجته، وأظهر حجته. وكان الفراغ من النسخ بالمدينة المنورة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، في غاية ذي الحجة الحرام ختام شهور سنة 1300. نسخها الفقير لربه الراجي عفوه ومغفرته علي بن محمد بن مصطفى شمس الدين الجزائري نشأة، المدني داراً، للمحترم الفاضل، العلامة الكامل، وحيد دهره، وفريد عصره، الشيخ محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي داراً، المدني سكناً، حفظه الله، ووفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، بجاه نبيه ومجتباه، آمين. كتبت من نسخة قديمة بقلم الشيخ سلامة بن عياض بن أحمد الكفرطابي، مؤرخة في العشر الأول من شوال سنة 494.

§1/1