المزدكية هي أصل الاشتراكية

عبد اللطيف سلطاني

عبد اللطيف بن علي السلطاني المزدكية هي أصل الاشتراكية (1394 - 1974)

عبد اللطيف بن علي السلطاني المزدكية هي أصل الاشتراكية 1394 - 1974

الطبعة الأولى 1394 - 1974 جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

الإهداء

الإهداء إلى روح من كان السبب - بعد الله - في خروجي إلى هذا العالم. إلى روح من لم يمتعني الله بحنوه وحنانه. إلى من لم يسعدني القدر بالتعرف على شخصه وملامحه، وإن كنت لمست آثار أعماله، ورأيت تأثيرها في أهل زمانه. إلى روح الذي عاش داعيا إلى الله، ومحاربا للباطل وأنصاره، لا تأخذه في ذلك لومة لائم. إلى روح الذي وهب كل حياته للعلم، بين التعلم والتعليم، حتى فارق هذه الحياة المملوءة بالأتعاب راضيا مرضيا عليه. إلى روح والدي الشيخ علي ابن السلطاني أهدي كتابي هذا، مع الدعوات له بالعفو والرضوان، من رب واسع الرحمة كثير الغفران.

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: الحمد لله الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تفرد بالربوبية الحقيقية، وتقدس عن الشرك والشركية، الخالق المدبر لكل شيء وحده، لا شريك له ولا معين، المتصرف في خلقه بما جرت به حكمته، وفق إرادته ومشيئته، نحمده على ما أنعم به علينا مخلصين، ونشكره بكل جوارحنا صادقين، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه محمد بن عبد الله أكرم رسله أجمعين، عليهم من ربنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ورضوان الله عن صحابته الأبرار، وأهل بيته الأخيار، من المهاجرين والأنصار، {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وقفوا إلى جنبه وقفة صادقة، قضت على الشرك والضلال، واقتلعت جذور الوثنية والشر والفساد، ونشروا نور الهداية بين الأنام، وأوقفوا نفوسهم وباعوها لله وفي سبيل الله، وللدعوة للحق والهدي، فأعانوا على تثبيت قواعد الإسلام، بما بذلوه من نفوس أبية، وأموال زكية، وأوقات جليلة، كل ذلك بإيمان صادق، وعزم راسخ، لم يرجوا من وراء ذلك إلا الخير والسعادة لبني الإنسان - وخاصة - الذين: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} فجزاهم الله أحسن ما جازى به عباده العاملين آمين. وبعد فيقول العبد المفتقر إلى رحمة الله الغني، عبد اللطيف بن علي بن أحمد ابن السلطاني القنطري، كان الله له وليا ونصيرا، وكان في عون العاملين المخلصين

على نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة - هاديا ودليلا: إن ما يطرأ في هذا العالم - بين الحين والآخر - من أحداث ومذاهب، قد يكون فيها الخير والشر، والصلاح والفساد، والرشد والغي، والنفع والضر، وقد يخفى شرها وفسادها وضرها وغيها على بعض الناس، ولا يفطن له إلا ذوو الأبصار والبصائر الحية، ومن أجل هذا رأينا الكثير من علماء المسلمين - في كل زمان ومكان - كانوا حراسا أمناء على هذا الدين، يقظين بالمرصاد لكل طارئ يطرأ، ممن يحاول العبث بدين الله، فنصحوا وبينوا، وكشفوا وأوضحوا، حتى لا يتجرأ مفتر زنديق على الأمانة التي هم مسؤولون عنها - أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام أمتهم - فيسلبها منهم - شأن اللصوص الماهرين - وهم ينظرون إليه صامتين، فواجبهم الديني أن يكونوا مع الدين: حاملين وعاملين، داعين ومناصرين ومدافعين، إن كانوا من العلماء النزهاء العدول، الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم - كما في الأثر -: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) يقولون الحق لله وللحق، في غير مطمع ولا مطمح، في دنيا أو جاه فأولئك هم العلماء الرجال، الذين لا يرضون - أبدا - أن يهان الإسلام وهم ينظرون، أو تعطل أحكامه وآدابه وأخلاقه وهم ساكتون لاهون. وقد ظهرت في هذا العصر - في غير بلاد المسلمين - مذاهب ونزعات - أو إن شئت فقل نزغات - تخالف شرائع الله التي جاء بها الرسل الكرام، عليهم من الله الصلاة والسلام، ظهرت في غير بلاد الإسلام، وتسربت فدخلت إلى أرض المسلمين، فأفسدت على الضعفاء عقيدتهم، وعلى المحاويج دينهم، بدعاوى شيطانية، وأطماع دنيوية، ووعود لماعة، وأماني خلابة، وما هي في الواقع والحقيقة إلا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. من هذه النزعات - بل النزغات - الشيوعية الملحدة الكافرة بالخالق وبالأديان والأخلاق الفاضلة، التي تسترت بستار وشعار (الاشتراكية) لتخفي على البسطاء مقاصدها وأهدافها، فضربت لهم على النغم الذي يحبونه، ويخلب عقول الضعفاء - بالخصوص - مدعية أنها رحمة جاءت لترحم المحرومين، ونعمة سابغة للمضطهدين، وما هي في الحقيقة إلا سم ناقع، وداء قتال يقتل - فيمن ابتلي به - الشعور بالكرامة الإنسانية، لهذا لم يقبل عليها ويتقبلها إلا النادر

القليل - عن طواعية واختيار - وإن تبنتها وحمتها بعض الهيآت الحاكمة في بعض البلاد الإسلامية، واتخذتها منهاجا تسير عليه، فساء من أجل ذلك الحال، وانشرت الفوضى وسوء السلوك في الأعضاء الحساسة في هياكل الأمة - التي تسربت إليها - بالرغم من التمويه والتدليس على ضعفاء الأحلام، فقد فشلت ولم تنجح إلا في الضلال والتضليل، لهذا أخذت تتراجع عن أشياء كانت من مبادئها. والدارس للتاريخ القديم يعلم - بالمقارنة - أن هذه (الشيوعية) أو (الاشتراكية) وليدة نزعة قديمة ظهرت في الأمه الفارسية قبل الإسلام، ظهرت من رجل اسمه: مزدق - أو مزدك - دعت الناس إلى ما تدعو إليه الاشتراكية الشيوعية اليوم، من إلحادية مضللة وإباحية فاجرة، فواجب على كل مسلم في دينه لرب العالمين، مؤمن بالله ألا يسكت عنها، فإن هدفها القضاء على الدين والأخلاق الكريمة، ويتأكد ذلك الواجب - بالخصوص - على علماء الدين الأحرار المخلصين، فهذا هو جهادهم المطالبون به، يتقدمون إلى ميدانه في شجاعة وصدق عزيمة ونزاهة، لا تأخذهم في قول الحق لومة لائم. ومن المؤسف المحزن أننا رأينا بعض المنتسبين للعلم والذين كتبوا فيها، فمنهم الداعي والمؤيد لها، ومنهم المنتحل لها الأسباب الداعية إليها، وقليل منهم المنكرون لها، فبعضهم سماها إشتراكية الإسلام، وآخر أطلق عليها اشتراكية عمر بن الخطاب، ومنهم من سماها الاشتراكية العربية، ومنهم من نسبها إلى حزبه السياسي الخ كل ذلك ترضية للهيئة الحاكمة، أو طمعا في مال أو جاه أو منصب، وهنا ضاعت جوهرة الحقيقة في رمال الأطماع، وفي يوم الحساب يجد كل واحد جزاءه. ومن العلماء - الصادقين - من كتب فيها بصدق وإخلاص ونزاهة وأمانة، فأظهر حقيقتها مكشوفة كما هي، فأدى الأمانة - أمانة العلم والدين - ونصح لله رب العالمين، غير راغب ولا راهب - من المخلوق شيئا - عملا بقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه

وسأذكر في هذا الكتاب الذي أسميته ـ[المزدكية هي أصل الاشتراكية]ـ بحول الله وقوته أصل هذه النحلة القديمة - المزدكية - وأذكر أقوال المؤرخين النزهاء من المسلمين وغيرهم فيها، ثم أقابل ذلك - في مناقشة - بما شاع في وقتنا هذا وما هو جار في مجتمعنا الإسلامي - مما له صلة وثيقة بها - وبالمقارنة وذكر الأهداف والغايات يظهر لذوي العقول النيرة أن هذه الاشتراكية ما هي إلا فرع عن تلك المزدكية القديمة، فقد طلعت علينا بأحداث ووقائع كشفت عن المستور من النيات، والمخبوء من المقاصد والغايات. والله المسؤول أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ويسدد خطانا في سبيل الحق والصلاح، وهو من وراء القصد: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. القبة (الجزائر) في 3 جمادى الأولى عام 1393 هـ الموافق لـ 4 جوان سنة 1973 م.

الباب الأول

الباب الأول تمهيد: 1 - ما هي المزدكية؟ 2 - من ابتدعها؟ 3 - أين نبتث شجرتها؟ 4 - ما هو هدفها؟

الفصل الأول: ما هي المزدكية؟

الفصل الأول: ما هي المزدكية؟ المزدكية هي نحلة من النحل - أو مذهب من المذاهب - البشرية، والأحرى دعوة تدعو الناس إلى ما دعا إليه إبليس من قبل، فهي تتزعم حركة (إصلاحية) كما قال صاحبها ... المقصود منها - حسب قوله أيضا - نشر الأمن والسلام في الأرض - كما يدعي - وهي إلى جانب هذا تلزم أتباعها ومعتنقيها العاملين بها وبمبادئها: بأن يزيلوا من بينهم جميع الفروق وأنواع الاختصاص، فلا فرق فيما بينهم، ولا يختص الواحد منهم على أخيه فيها بأي شيء من أنواع الاختصاص حتى في المخصصات الفطرية، كالعرض والشرف، فلا شرف عند المزدكيين، ولا عرض ولا غيرة - والغيرة غريزة حتى عند الحيوانات التي لا تعقل - مثلما هو معروف عند شرفاء النفوس. وسأعمل - ما استطعت - بإذن الله على توضيحها، وتوضيح شقيقتها العصرية (الاشتراكية الشيوعية) فإنها نبتت من بذرتها وأصلها، واتحدت معها في المبادئ والغايات، فهما كما قال القائل القديم: فإن لم تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها سأعمل على توضيح ذلك حتى يدرك الواقف على هذا الكتاب مدى شرورها وآثامها، ومفاسدها ومكائدها، وما نشرته في زمانها من فوضى في الأموال والأعراض، الأمر الذي تألم منه العقلاء في وقتها، ولم يتنفسوا الصعداء، ولم يستريحوا من كيدها إلا بعد أن قضي عليها، فطهرت الأرض من رجسها، بعد أن دنست بأفعال (مزدك وجماعته) الفظيعة والمنكرة، وسأدعم مما أقوله بأقوال السابقين، من العلماء والمؤرخين الذين كتبوا عنها وعن الطوائف والنحل الأخرى، كي يتبين خطرها وشرها للعقلاء منا، فإن المتقدمين كشفوها للناس،

الفصل الثاني: من ابتدعها؟

فهتكوا سترها الذي تسترت به، وفضحوا حيلها ومكائدها، وحذروا بذلك عقلاء الناس من أمرها، حتى لا ينخدعوا بدعوتها التي جعلتها وسيلة لنيل مرادها وما ترمي إليه، من إلحاد في الدين وفساد للعقيدة، وشر في الأرض. إذن ما هي إشتراكية مزدك ... ؟ تعتمد (المزدكية) أو إشتراكية مزدك على عنصرين اثنين هامين في حياة الفرد والأمة، هما عنصر المال، وعنصر المرأة، لهذا نجده - كما نجد من سلك سبيله - فتح ثلمتين في حصن الفرد والأمة، نفذ منهما إلى قلب الفرد والأمة، ومن استولى على المال والمرأة ... فقد استولى على كل شيء، وسخر كل شيء في سبيل أغراضه ومطامحه، واتبعه لذلك أكثر الناس، لأن الأكثرية من الناس تقدم - في الاعتبار - هذين العنصرين على ما سواهما. هذا هو الأساس الذي أرسى عليه (مزدك) بنيان دعوته إلى اشتراكيته. الفصل الثاني: من ابتدعها؟ مبتدع هذه النحلة، أو الدعوة، أو المذهب - بل مجددها لأنها قديمة - رجل مجوسي من مجوسيي الفرس ادعى النبوة، وجاء بهذه النحلة أو المذهب، على أنها شريعة من الله أرسلها إلى عباده بواسطته هو، واسم هذا الرجل (مزدق بن بامداذ) والفرس يبدلون القاف كافا، فينطقون به (مزدك)، وادعى أن الله أمره هو ومن اتبعه بالعمل بها، فإذا عملوا بشريعته كان لهم الثواب الكثير والأجر العظيم. هذا (النبي) صاحب هذه الشريعة هو مزدك كما قلنا آنفا، وإليه تنسب نحلته فيقال لها: (المزدكية). متى ظهرت هذه النحلة؟ ظهرت هذه النحلة - حسبما ذكره المؤرخون - سنة (484) ميلادية. ومزدك هذا إذا قلت أنه شيطان، بل هو من أكبر شياطين الإنس لم أكن - حقا - من المبالغين أو المخطئين، فهو شيطان - ذكي - علم أن الناس ينقادون إليه بيسر، ويقبلون على شريعته برغبة، ويعملون بها بسرعة وبدون تردد، إذا هو جاءهم بشريعة توافق ما تميل إليه النفس البشرية، فتبيح لهم الشهوات

والملذات، بل ويرضى عنهم الله تعالى - حسب دعواه - ويثيبهم على أفعالهم تلك إذا هم اتبعوا شريعة مزدك. وشريعة (مزدك) كما تقدم مبنية على عنصرين هامين في الحياة البشرية: (1) عنصر المال و (2) عنصر المرأة، أما العنصر الأول وهو (المال) فهو قدر مشترك بين أتباع هذه الشريعة، فلا يختص أي واحد منهم بأي شيء من المال، فكل الأتباع فيه شركاء، فلا يتميز واحد منهم بدار، أو ببستان، وهكذا فأين وجد الواحد من أتباعه دارا أو غيرها أخذها ودخلها واستولى عليها، لأن شريعة مزدك تبيح له ذلك. وأما العنصر الثاني - في المزدكية - وهو (النساء) فقد أباحت شريعته لأتباعها جميع النساء، فلا يختص رجل بامرأة، ولا تختص امرأة برجل معين، فكل المزدكيين شركاء في نسائهم. هذه خلاصة شريعة (مزدك) المجوسي الذي كان يعيش في الربع الأخير من القرن الخامس وبداية القرن السادس المسيحي، أي قبل ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كما مر قريبا. توضيح دعوته: قال هذا النبي الفاجر الكذاب: (رأيت الناس إنما تكون بينهم الخصومات والأحقاد، بل وحتى القتال والحروب - من أجل الأموال والنساء - لهذا رأيت أن أزيل من بينهم الأسباب التي تؤدي بهم إلى الخلاف والخصام والعداوة والقتال. من أجل هذا يجب أن نزيل الأسباب حتى لا تكون المسببات، ومن العداوة والخصام تكون الحروب بين الناس، من أجل ذلك يجب أن يعيش الناس كلهم في اتفاق وأخوة وسلام. فشريعته كما رأيناها من خلال دعوته فكرة شيطانية، تفسد المجتمع الذي تطبق فيه، فتفسد أخلاقه وتجعله مجتمعا إباحيا حيوانيا كسولا، لا قيمة له بين الشعوب في الأرض، بل إن شريعته على العكس مما قال، تقوي العداوة بين الناس لا أنها تزيلها وتقضي عليها كما زعم زعيمها. وقد وجد أصحاب الشهوات البهيمية في هذه الشريعة الإباحية، والكسالى الذين لا يحبون أن يعملون ليكسبوا كما يعمل غيرهم ويكسب، كما وجد

الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها؟

فيها الفجار والفساق - ضالتهم المنشودة - وجد كل هؤلاء بغيتهم وما تشتهيه نفوسهم الخبيثة في هذه الشريعة الخبيثة. فالرجل لا يتعب نفسه في كسب المال والكد من أجل تحصيله، فالناس يتعبون وهو يجد ما يريد من غير تعب، كذلك لا يكلف نفسه نفقة الزوجة والأولاد، بل يكفيه أن يتبع (مزدك) فكل امرأة تعلقت رغبته بها فهي مباحة له حلال عليه - حسب شريعة مزدك - فكانت دعوته إلى شريعته مقبولة عند السفهاء والفساق والفجار، وعند الكسالى والعاطلين، فانتشرت دعوته بسرعة - لأنها شيطانية - وكثر أتباعه كثرة عظيمة، حتى اضطر ملك البلاد (كسرى) كما يلقب الفرس الساسانيون ملوكهم بهذا اللقب - إلى أتباعه خوفا على ضياع كرسيه، واسم كسرى هذا الذي آمن بـ (مزدك) واتبعه فيما دعا إليه: (قباذ بن فيروز) - بضم القاف، وأجبر على اتباعه لأنه بقي في قلة من أهل الشرف والمروءة والأنفة والحمية، ذلك أن مزدك هدده وتوعده بالخلع عن كرسيه وإبعاده عن العرش الكسروي إذا هو لم يؤمن به ويتبع شريعته، فاتبعه، الملك مضطرا، وذلك سنة (488) م وصارت الشريعة المزدكية شريعة الملك - بدخوله فيها وقبوله لها - معترفا بها من قبل القصر الكسروي، فلحق الناس منها عار عظيم لم يمح بقتل مزدك كما سيأتي، بل بقي مكتوبا ومسجلا في التاريخ إلى يوم الناس. الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها؟ ظهر مما ذكر آنفا أن الأرض التي نبتت فيها هذه الشجرة الخبيثة كانت أرض الفرس - بلاد العجم - وسكانها كانوا وثنيين، لهم معبودات شتى من بيوت النار وغيرها، كما كانت لهم شرائع يدينون بها كشريعة (زرادشت) وغيرها، واستمر عملهم بهذه الشرائع أحقابا طويلة إلى أن أنقذهم الله من وثنيتهم تلك بشريعة الإسلام، شريعة التوحيد الخالص، ففتحت أرضهم ودخلها الإسلام في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا زالت إلى الآن دار إسلام كسائر بلاد الإسلام. فبعد أن عرفنا شيئا عن هذه النحلة، نرى لزاما علينا أن نأتي هنا بما قاله علماء التاريخ الذين قصوا علينا أخبار هذه الفرقة الضالة، وتتبعوا في جميع مراحلها وأطوارها، كي نزداد بها وبأختها (الاشتراكية) معرفة، ومنها فرارا ويقظة وحذرا.

الباب الثاني

الباب الثاني أقوال علماء التاريخ في المزدكية وفي دعوتها

الفصل الأول

الفصل الأول: 1 - تعريف الشهرستاني لمزدك ونحلته. جاء في كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني عند الكلام على هذه النحلة قوله: (هو مزدك الذي ظهر في أيام - قباذ والد أنوشروان - ودعا قباذ إلى مذهبه فأجابه، واطلع أنوشروان على خزيه وافترائه فطلبه فوجده فقتله) وجاء فيه أيضا: (وكان مزدك ينهي الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلاء (¬1). 2 - تعريف المسعودي: ورد في كتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي عند كلامه على ملوك الفرس قوله: (ثم ملك قباذ بن فيروز، وفي أيامه ظهر (مزدك) الزنديق، وإليه تنسب (المزدكية) وله أخبار مع قباذ، وما أحدثه في العامة من النواميس والحيل، إلى أن قتله أنوشروان في ملكه) وزاد على ما تقدم فقال: (ولما ملك أنوشروان قتل مزدك وأتبعه بثمانين ألفا من أصحابه) (¬2) وسيأتي بيان أوسع من هذا يوضح كيف قبل الملك (قباذ) الدخول في مذهبه، وكيف توصل كسرى أنوشروان بن قباذ إلى قتل هذا الزنديق المفسد. ¬

_ (¬1) الملل والنحل ج 2 ص 69 طبع صبيح. (¬2) مروج الذهب ج 1 ص 263 - 264 طبع السعادة.

معنى أنوشروان: ولما قتل كسرى أنوشروان (مزدك) وأراح منه ومن شره البلاد والعباد، اجتمع الكهان وخلعوا على الملك هذا اللقب (أنوشروان) شكرا له وتقديرا لما فعل بمزدك وجماعته المفسدين في الأرض، ومن ذلك الوقت صار يدعى (كسرى أنوشروان) ومعناه بالعربية - الروح الخالدة، أو مجدد الملك - لأنه أعاد للأمة الفارسية - ذات الحضارة القديمة - ما كانت أضاعته من أراضيها في أيام الملوك المتقدمين عليه، فجمع ملكها الكبير بعد شتات استمر أزمانا. 3 - ما قاله المؤرخ الطبري: وذكر المؤرخ الطبري - مبينا دعوة مزدك - ما يلي: (قال مزدك وأصحابه إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا - يقصد مزدك وجماعته - أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة (¬1) ذلك واغتنموه، وكانفوا (¬2) مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلي الناس بهم وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله، ونسائه، وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على ذلك، وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به، وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم) (¬3). وهكذا في كل زمان ومكان من قديم الزمان إلى يومنا هذا، إذا أحاطت حاشية السوء والفساق بالملوك - ومن كان في منزلتهم - فإنهم يحولون ¬

_ (¬1) السفلة: بفتح السين وكسر التاء وفتح السلام، أو بكسر السين وسكون الفاء وفتح السلام هم: شرار الناس وأراذلهم، وجدوا في دعوة مزدك فرصة لهم فاغتنموها. (¬2) المكاتفة: المعاونة. (¬3) تاريخ الرسل والملوك ج 2 ص 92 - 93 - طبع المعارف.

بينهم وبين ذوي الحاجات من عامة الناس، فلا يصل إليهم مظلوم ليرفع ظلامته إليهم كي ينصفوه من ظالمه. 4 - تعريف صاحب المنجد في الأدب والعلوم لمزدك: جاء في منجد العلوم ما يلي: (مزدق رجل إيراني، دعا إلى مذهب غايته نزع الخلاف بين الناس، بجعل الحق في الأموال والنساء مشاعا بينهم، قد نجح سعيه على أيام الملك (قباذ) (488 - 531) مات قتيلا) (¬1). كيف اتبع الملك قباذ مزدك؟ ولماذا؟ فقباذ لم يستجب لـ (مزدك) وجماعته إلا بعد أن توعده وهدده بخلعه وإزالته عن عرشه وكرسيه إذا هو لم يتبعهم ويتركهم يعبثون بأموال الناس ونسائهم كما يشاؤون ويبتغون، فقبل - مكرها - واتبعهم على مذهبهم، وبهذا صار المذهب المزدكي مذهب الملك (كسرى) فاكتسب بذلك قوة، وهكذا قوي الباطل باتباع أهل الرأي الصائب له، ولكن إلى حين. نعود مرة أخرى إلى المؤرخ ابن جرير الطبري، فنجده ذكر في مكان آخر من تاريخه نبذة من أقوال وأفعال هذا الزنديق الذي نشر الفساد والعار في الأرض، فقال: (وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه: التآسي (¬2) في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وإنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين كان مكرمة في الفعال، ورضا في التفاوض، فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله (¬3). فقد رأينا من خلال هذا التوضيح، أن الفاحشة وانتهاك الحرمات والاعتداء ¬

_ (¬1) المنجد في الأدب والعلوم ص 493. (¬2) التآسي المواساة والتعاون. (¬3) تاريخ الطبري ج 2 ص 99 طبع المعارف.

على كرامة وحرمة الحرائر المصونات، هذا كله يعد قربة وطاعة لله في المذهب المزدكي الشيطاني!!! يا لها من وقاحة وبهتان. فإذا كانت الفواحش قربة وطاعة فهي - في الحقيقة - للشيطان، فهو الذي يأمر أتباعه بالفواحش ويزينها لهم، ويدعوهم إليها، أما الخالق الحكيم مرسل الرسل الصادقين بالشرائع السماوية الطاهرة حاملة معها قوانين إصلاح البشر وإسعادهم، مبينة لهم الحدود التي لا يجوز للإنسان أن يتعداها ويجاوزها إلى ما وراءها - قلنا أما الخالق الحكيم فحاشاه أن يأمر بالفواحش أو يثيب عليها وهو القائل: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). 5 - ما قاله ابن النديم في المزدكية والخرمية: وهذا ابن النديم يقص علينا في كتابه "الفهرست" عن محمد بن إسحاق من خبر هذا الشيطان المارد ودعوته الخبيثة الفاسدة المفسدة للمجتمع وأخلاقه - تحت عنوان "مذهب الخرمية والمزدكية" - ما يلي: (وهؤلاء أهل مجوس في الأصل، ثم حدث مذهبهم، وهم ممن يعرف بـ "اللقطية"، وصاحبهم مزدك القديم، أمرهم بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات، والأكل والشرب والمواساة، والاختلاط وترك الاستبداد بعضهم على بعض، ولهم مشاركة في الحرم والأهل، لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر، ولا يمنعه، ومع هذه الحال فيرون أفعال الخير، وترك القتل، وإدخال الآلام على النفوس، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم، إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان، وعلى هذا المذهب (مزدك الأخير) الذي ظهر في أيام قباذ بن فيروز، وقتله أنوشروان وقتل أصحابه، وخبره مشهور معروف (¬2). فالمفهوم مما ذكره ابن النديم أن اسم مزدك سمي به رجلان، أولهما مزدك القديم والثاني مزدك هذا الذي ظهر في أيام الملك (قباذ بن فيروز) والذي قتله أنوشروان بن قباذ عندما ورث عرش أبيه، وسيمر بنا قريبا - إن شاء الله - ¬

_ (¬1) الآية 28 من سورة الأعراف. (¬2) الفهرست ص 493 طبع الاستقامة.

زيادة بيان لهذه النقطة، أما دعوتهما فواحدة في هدفها وما ترمي إليه، لم تختلف حسبما أوضحه المؤرخون. ما هي الخرمية؟ أما الخرمية (¬1) التي جاءت في عنوان ابن النديم مع المزدكية فقد بينها وأوضح أهدافها الكثيرون ممن كتبوا عن الطوائف والفرق، ونكتفي هنا بما ذكره العالم المستشرق الألماني (يوليوس فلهوزن)، وهو باحث محقق في التاريخ العربي واليهودي والمسيحي، لأنه كان ابن قسيس، وقد درس المسيحية وأجيز فيها. 6 - ما قاله (فلهوزن) في الخرمية والمزدكية: قال: (أما الخرمية فلم تكن حزبا، بل كانت نزعة إباحية عامة وكان الخرمية - كما يزعمون - لا يرضون عما في الإسلام من نزعة يهودية، أعني أنهم كانوا يعترضون على روح التطهر والتشدد الحزينة في ذلك، فكانوا يريدون أن يجعلوا للطبيعة وللمرح مكانهما في الدين، وهم في ذلك يصلون مذهبهم بالديانة الوثنية التي كانت في بلاد العجم من قبل، ويجوز أنهم كانوا إلى جانب ذلك متأثرين بمبادئ اجتماعية، كانت تلائم ما يطمح إليه الموالي أحسن ملاءمة، ويروى أن الخرمية، والراوندية، قد جددوا الدعوة إلى الشيوعية في النساء، وهي الشيوعية التي كان مزدك قد دعا إليها من قبل) (¬2). فقد اتضح من هذا الرأي الذي أبداه العالم الألماني (يوليوس فلهوزن) أمران: 1) أن الشيوعية متفقة مع الخرمية في مقاصدها وأهدافها ¬

_ (¬1) الخرمية بضم الخاء وفتح الراء المشددة وكسر الميم: نسبة إلى خرمة، قال صاحب القاموس: خرمة كسكرة بلدة بفارس ومنها بابك الخرمي، وتخرم دان بدين الخرمية لأصحاب التناسخ والإباحة، وقال ياقوت في معجم البلدان: الخرمية قيل أنه اسم بلدة قرب أردبيل، وإليها ينسب بابك الخرمي، وقيل فارسي معناه: الذين يتبعون الشهوات ويستبيحونها، وهذا يلائم فيها ما قاله (فلهوزن). (¬2) عن كتاب: (تاريخ الدولة العربية) ليوليوس فلهوزن ص 488.

وهي الشيوعية في النساء، - 2 - أن الخرمية - أخت للشيوعية. وهما لا يحبان التطهر والتدين، ويريدان أن يجعلا للطبيعة وللمرح مكانهما في الدين، ومن أجل هذا رأينا في البلاد الاشتراكية والشيوعية عناية كبرى بالغناء والرقص بجميع أصنافهما، وصارت الأموال تنفق عليهما من خزينة الدولة بغير حساب مع مسيس الحاجة إلى تلك الأموال لصرفها في المشاريع المفيدة للأمة، فهذه الفرق - الفنية - الكثيرة يؤتى بها من كل مكان لتقيم الحفلات الساهرة في الليالي العديدة، في المناسبات وفي غير المناسبات - تطبيقا وعملا بهذا المبدأ الذي أشار إليه العالم الألماني - وصار للفن الماجن الخليع انتشار كبير مذهل، وصاروا يلقبون صاحب المجون حامل رسالة، وللفن الفاجر رسالة .. فإن كان الفن الخليع رسالة، وحامله رسولا، فذلك للشيطان، كما صار لهذا الفن، مكانته في وزارات الأخبار والثقافة، وصارت كلمة - الثقافة - تطلق على الرقص والمجون، وما ينشأ عنهما، والأمة في حاجة أكيدة إلى المدارس والجامعات والمستشفيات والمساكن وغير هذا من المشاريع الهامة والنافعة لأبناء الأمة المحرومين من كثير من وسائل الحياة الكريمة. فالمال الذي ينفق على جلب فرق الرقص والغناء الخليع والماجن ربما يفوق - كثرة - أو يساوي ما ينفق على جلب العلماء لتعليم أبناء الأمة ما يعود عليهم بالنفع والفائدة، من شتى أصناف العلوم والصناعات جاء في المثل العربي (خَرْقَاءُ وَجَدَتْ صُوفًا). وقد رآى النظارة بواسطة التلفزة الجزائرية - في أيام أسبوع العلم - الذي يقام - عادة - بمناسبة ذكرى وفاة العالم الكبير، والمصلح الجزائري الشيخ (عبد الحميد ابن باديس) - نعمه الله بنعيمه الدائم - الذي لا يستطيع أحد أن ينكر علمه وفضله وورعه وصلاحه وطهارة نفسه، والذي بذل كل جهوده وطاقاته في سبيل بعث الأمة الجزائرية من جديد - وقد أنجح الله جهوده - بواسطة علمه وتقواه لربه وإخلاصه في عمله - أقول رآى النظارة في أسابيع العلم تلك ما يمجه الذوق السليم، وينكره الضمير الحي، وينبذه العقل الواعي، وخاصة في أسبوع هذه السنة - من 16 أفريل 1973 إلى 22 منه، فقد مر الأسبوع معظمه - إن لم نقل كله - بسهراته في الرقص الخليع، بل شاهد

النظارة حتى رقصة البالي - وهي كما يعرف الجميع من كشف وتهتك - وكان أسبوع هذه السنة أكثر خلاعة ومجونا من أسابيع السنوات الماضية، ففيه تدرج إلى ما لا يليق بالعلم، وعلماء الدين بالخصوص. فهل هذا وفاء وبرور بالعلم، وعالم الجزائر العظيم ... ؟؟؟ أو هو عقوق لهما من أقبح وأشنع أنواع العقوق؟ وما هذا في الحقيقة إلا تطبيق للنزعة الخرمية والاشتراكية الشيوعية، التي تعمل - جاهدة - على تلهية الأمة بشتى أنواع اللهو، ولو كان لا يوافق طبيعة الأمة والذوق السليم، كما شاهد الجزائريون سنة (1967) حتى الفرق اليهودية الصهيونية (¬1) التي جيء بها للغرض نفسه، وقد يكون ذلك في ليالي الشهر المبارك - شهر رمضان المعظم من المؤمنين - بعنوان - إحياء ليالي رمضان - وهذا أمر غريب عن الشريعة الإسلامية، فليالي رمضان إنما يكون إحياؤها بما جاء في شريعة الله، لا بما جاء في شريعة الشيطان، فهؤلاء كما قال العالم الألماني: (يريدون أن يجعلوا للطبيعة وللمرح مكانهما في الدين). اللهم هب لنا عقولا مدركة صافية من كل ما يكدرها ... وبمناسبة الكلام على الفن وفرقه أقول: إن الوقت الذي يقضيه المسلم في الاستماع إلى هذه الفرق الفنية التي تبث في أوساطها ما لا يليق بالمسلم سماعه وقت ضائع لا خير فيه، زيادة عن كونه يبعث في الناس الكسل - وخاصة الشبان - وما لا يليق من الأخلاق، والأمة ¬

_ (¬1) فقد جيء بالمغني الصهيوني (جوني هاليدي) إلى الجزائر وغنى وأطرب عشاقه كما شاء وأراد وأثر في المشاهدين له، حتى بلغ الأمر بالبعض .... إلى أن ارتمى عليه ومزق له قميصه - كما ذكر المشاهدون - إعجابا به، وليأخذ منه قطحة يحتفظ بها كعربون حب وولاء له، والبعض مزق قميص نفسه كما بلغنا، ولما رجع إلى فرنسا شرع في الدعاية إلى برتقال إسرائيل .... فمتى ينتبه المسؤولون متى؟؟ أما الصهيوني الآخر فهو (شارل أنزيفور) فبعد أن خرج من الجزائر وأخذ معه ما أخذ من المال صرح بأنه سيرسل ما عنده من المال إلى إسرائيل .. هذه هي الوطنية الحقيقية وإلا فلا ..

التي تكثر منه ومن فرقه لا تستطيع أن تواجه خصومها في ميادين الحياة والجد، لأنها أضاعت أوقاتها في الهزل واللعب، ولربما يقضي ذلك عليها كأمة بين الأمم فهل نسينا أن الفن والغناء هما العامل القوي الذي عجل بضياع الأندلس - الفردوس المفقود -؟ فقد كان الغناء وما جر إليه هو الشغل الشاغل للأمراء وقادة الجيوش وبيوت العظماء وذوي الثراء منهم، فاشتغلوا به وأعرضوا عن النظر في شؤون الدولة وشؤونهم، وهم أمام أعدائهم، فلم ينتبهوا من سكر الفن حتى داهمهم الشر والعدو من كل جانب، فالحياة حياة جد وعمل، لا حياة هزل وكسل. وكضياع الوقت بلا طائل ضياع المال الذي ينفق على الفن، فهو مال ضائع إذ لا فائدة تعود منه، فلا يستفيد منه إلا المحترف له، وقد صار الفنانون - وخاصة المغنون منهم - من أغنى طبقات الشعوب، لما يملكون من عمارات وغيرها، ولهم أرصدة مدخرة في المصارف، وقد يبلغ كراء المقعد الواحد في حفلة غنائية مائة دينار جزائري، أي عشرة جنيهات أو أكثر، وهذا يدل على السفه وسوء التدبير، ولعل البعض منا لا يعجبه هذا الكلام، ويعده صادرا من رجل متأخر - حسبما يرى - ومع هذا فهو الحقيقة، والحقيقة لا تخفى على أحد، ولبعض المغنين تطأطأ الرؤوس، فقد رأيت مرة رئيس جمهورية ذهب إلى المطار لملاقاة أحد المغنين المشهورين. نعود - بفكرنا - لما تقدم لنرى أن المذهب المزدكي - وما تفرع منه - ذلك المذهب الذي يحمل لأهله وأتباعه كل أنواع الخزي والعار - لم يدع إليه ويحث عليه أي عاقل من البشر، حتى الوثنيون، فقد كانت عندهم أخلاق وعادات حسنة، وغيرة وأنفة على الحرمات، فما هو إلا مذهب من المذاهب الحيوانية البهيمية، وقد بان مما ذكرناه هنا وفيما سبق - أن الشيوعية والاشتراكية اللتين انتشرتا - حديثا - إنما هما تجديد وامتداد للمزدكية. 7 - رأي أحمد أمين في مذهب مزدك: قال المرحوم أحمد أمين بعد أن نقل كلام ابن جرير الطبري، وما أمر به - مزدك - أتباعه ما يلي: (فترى من هذا أن تعاليمه - يعني مزدك - إشتراكية من أسبق الاشتراكيات في العالم.) (¬1). ¬

_ (¬1) فجر الإسلام ص 130 الطبعة الثانية.

8 - ما قاله المفكر الكبير العلامة ابن خلدون: وشبيه بهذا ما ذكره العلامة ابن خلدون في تاريخه (كتاب العبر) حيث قال: (وسورة الخبر - يريد نزاع ملوك الفرس - أن مزدك الزنديق كان إباحيا، وكان يقول باستباحة أموال الناس، وأنها فيء - أي غنيمة - وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجزه، (وهذا هو نفسه ما تدعو إليه الاشتراكية الشيوعية)، والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس، ولا يختص به أحد دون أحد، وهو لمن اختاره، فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد) (¬1). فظاهر من قول ابن خلدون (والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس) ومما تقدم من قول الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) عند الكلام على مزدك والمزدكية وهو قوله: (فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء، والنار، والكلاء) أن المزدكية هي نفس الشيوعية والاشتراكية اليوم فيما ترميان إليه من إلحاد وكفر وزندقة وفجور، واستيلاء على أموال الناس، بدعوى ردها إلى الفقراء، وكما رأينا ذلك - أيضا - في كلام المؤرخ الألماني (فلهوزن) حيث قال: (ويروى أن الخرمية، والراوندية، قد جددوا الدعوة إلى الشيوعية في النساء، وهي الشيوعية التي كان مزدك قد دعا إليها من قبل ..). فهذه الفرق الأعجمية الضالة: المانوية، والمزدكية، والخرمية، والراوندية وغيرها - كالشيوعية، والاشتراكية- هي التي بلبلت أفكار ضعفاء العقول وأصحاب المطامع والشهوات. فبان من هذه الأقوال كلها أن (الشيوعية) و (الاشتراكية) اللتين ظهرتا في عصرنا هذا هما صنوان - أختان - لشيوعية واشتراكية (مزدك) المجوسي، فالجميع من فصيلة واحدة كما قال القائل الحكيم: (فإن لم تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها) بل - هما هي وهي هما - وإن اختلفت أسماء هذه الاشتراكيات بحسب البلدان التي ابتليت بها وبحسب ما يناسب جو أهل البلد والوطن الذي طبقت فيه، فكل بلد سماها ونعتها بما يوافق هواءها أو هواها، كما تقدت الإشارة إليه من قبل. ¬

_ (¬1) كتاب العبر المجلد 2 ص 356 طبع ونشر دار الكتاب اللبناني.

فنرى وجه الشبه والاتفاق موجودا فيها كلها، وخاصة في الملك الفردي الخاص، وما عطف عليه مما يقبح التصريح به والتعرض له، فمبدأ الجميع واحد - كل شيء على الشياع لا يختص به أحد دون آخر - ومن أجل هذا الحلم اللذيذ أقبل عليها الذين وجدوا في دعوتها ما يوافق أهواءهم وغرائزهم، فاعتنقوها ودعوا إليها وهم يعلمون أنها لا تتوافق ولا تتلاقى مع تعاليم الشرائع الإلهية، التي أنزلها الخالق العليم بحسب ما يصلح مخلوقاته، فاعتنقوها واتخذوها دينا لهم ومذهبا، بدلا من دين الله، ومذهب الحق والعدل، وأخذوا يزينونها ويزينون مبدأها للأغرار وضعفاء العقول، وأرباب الأطماع والشهوات، ويذيعون فيهم ذلك بواسطة أجهزة الإعلام الحكومية، من شركات الأخبار، والصحافة، والإذاعة، والتلفزة، وغير ذلك من وسائل الإعلام. وَقَدِيماً مَالَأَ مُزْدَكَ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ وَأَصْحَابُ الشَّهَوَاتِ وَالْكُسَالَى وَشِرَارُ النَّاسِ. لهذا أحب الاستيلاء على أموال الناس، أولئك الذين لم يستطيعوا أن يعملوا - كما عمل غيرهم - لمركب النقص الذي هو فيهم، فلم يعملوا كما عمل غيرهم، حتى يملكوا ما يعود عليهم بالنفع والفائدة، فاتخذوا مذهب الشيوعية والاشتراكية وسيلة للاستحواذ على أموال الناس وأخذها، وبعد ما تعب أصحابها ونصبوا في العمل والكد توصلوا إلى امتلاك شيء قد ينفعهم عند الحاجة إليه، وقد كان استحواذهم عليها بواسطة التسلط بالقوة، وبدون حق شرعي، أو قانون عادل - تماما - كما فعل مزدك وأصحابه، ولو حاول محاول انتزاع كراسيهم منهم لقتلوه ... كما اتبع المزدكية - أيضا - ضعاف النفوس وشرار الناس من الفجرة والفسقة، لأن شريعة الحق والعدل - شريعة الله - لا تبيح للناس أن يستبيحوا أعراض النساء، ولا أن يأخذوا أموال الغير بغير رضاه وبدون موجب شرعي مقبول، فكل من اتبع المذاهب والقوانين البشرية - مثل المزدكية القديمة والجديدة - وأعرض عن القوانين الدينية والشرعية فإنه إنما اتبعها وعمل بها من أجل شيء واحد لا غير، هو مصلحته العاجلة وإشباع شهواته بواسطتها، فراح يبحث عن شريعة الشيطان يتبعها ويدعو إليها، لأنها

تعينه على بلوغ أغراضه، فاعتنقها وشرع يزينها للناس، بل ويحثهم على العمل بها. 9 - ما قاله بروكلمان في المزدكية وأصلها وما تولد منها: ونضيف إلى ما سبق ما قاله العالم الألماني والمستشرق الكبير (كارل بروكلمان) في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية" ما نصه: (وفي فترة الفوضى التي عقبت هزيمة الملك (فيروز) ومصرعه في المعركة التي خاضها ضد الهون البيض (¬1) سنة 484 م ظهر معلم ديني آخر هو (مزدك) الذي واصل فعل ماني من قبل النزعة (الغنوسية) (¬2) في إيران، لكن تعاليمه أدت عند التطبيق إلى الاشتراكية في الزوجات والأموال، وقد اعتنق الملك الجديد (قباذ) الأول مذهب مزدك سنة 488). وقال - أيضا - بعد الذي تقدم ذكره: (حتى إذا خلفه ابنه كسرى الأول جعل "الزرادشتية الرشيدة" مذهب الدولة الرسمي من جديد، فخلع عليه كهانها الشاكرون لصنيعه لقب (أنوشروان) أي الروح الخالدة (¬3). فالعالم الألماني سمى النحلة المزدكية "الاشتراكية في الزوجات والأموال" كما سبق لزميله (فلهوزن)، وهذان العالمان الألمانيان معروفان بالتحليل والتدقيق. 10 - ما قاله النويري في المزدكية وأصحابها، وما فعله كسرى أنوشروان بهم: ولزيادة التوضيح والبيان أو الدراسة التحليلية لهذا المذهب الباطل نورد هنا ما ذكره العلامة شهاب الدين (النويري) في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب" عند كلامه على ملك أنوشروان وإبطاله لملة (زرادشت) الثاني ومزدك ما يلي: (وكان أول ما بدأ به أن أبطل ملة (زرادشت) الثاني الذي كان من ¬

_ (¬1) الهون: أصلهم من شعب صيني أو مغولي الأصل، خرج من بلاد قزوين في منتصف القرن الخامس وطغى على أوربا واجتاح بلاد غوليا تحت قيادة ملكه أتيلا. (منجد العلوم) ص 558. (¬2) الغنوسية: مذهب ديني فلسفي، يرى أن المادة أشبه بسجن زجت فيه الروح (منجد العلوم) ص 373. (¬3) تاريخ الشعوب الإسلامية ج 1 ص 108 - 109، الطبعة الثانية - دار العلم للملايين.

أهل (فسا)، وأبطل ملة المزدكية، وقتل على ذلك خلقا كثيرا وسفك من الدماء بسبب أبطال هذين المذهبين ما لا يحصى كثرة، وقتل قوما من المانوية) (¬1). وزاد النويري بعد الذي تقدم ذكره بقليل قوله: (وأما تدبيره - يعني به أنوشروان - في أمر المزدكية وإبطال ما فعلوه، فإنه ضرب أعناق رؤسائهم وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن عرف من الذين كانوا يدخلون على الناس في بيوتهم، ويشاركونهم في أموالهم وأهاليهم، ورد الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو في سيمائه، وأمر بكل امرأة غلب عليها أن يؤخذ الغالب عليها حتى يغرم لها مهر مثلها، ثم تخير المرأة بين البقاء عنده وبين تزويج غيره، إلا أن يكون لها زوج أول فترد إليه، وأمر بكل من أضر برجل في ماله، أو ظلمه أن يؤخذ منه الحق، ويعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه) (¬2). وكان النويري قد ذكر قبل هذا كلاما يشبه في معناه ما قاله المؤرخ ابن جرير الطبري، مع شيء من التفصيل نورده هنا: (وفي أيام قباذ ظهر مزدق ويقال فيه مزدك، وتفسيره حديد الملك، وإليه تنسب المزدكية، ويقال لهم "العدلية" وقال: إن الله تعالى إنما جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالسوية، ولكن الناس يظلمون، واستأثر بعضهم على بعض، فانضم إليه جماعة وقالوا: نحن نقسم بين الناس بالسوية، ونرد على الفقراء حقوقهم من الأغنياء، ومن عنده فضل من المال، والقوت، والنساء، والمتاع وغير ذلك فليس هو له، ولا أولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه واتبعوا مزدك وأصحابه، فقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على ما فيها من ماله ونسائه، ولا يستطيع أن يردهم عنه ولا يدافعهم، ورآى الملك قباذ رأي مزدك وأصحابه وتابعهم، فازداد قوة، فلم يلبث الناس إلا قليلا حتى صار الأب لا يعرف ولده، ولا الولد يعرف والده، ولا يملك أحد شيئا، وصيرت العدلية قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم، فاجتمعت الفرس على خلع قباذ من الملك، ففعلوا ذلك) (¬3). ¬

_ (¬1) المانوية كالمزدكية، مذهب منسوب إلى ماني بن فاتك المجوسي. (¬2) نهاية الارب ج 15 ص 191. (¬3) المصدر السابق ص 188 طبع دار الكتب.

ففي هذا الكلام تفصيل لأعمال فرقة المجرمين (المزدكية) ولما لاقته من جزاء عادل - لأنها سمت نفسها العدلية - على إجرامها، استأصلها وقطع دابرها واقتلع عروق شجرتها الخبيثة، هذه الفرقة التي ابتليت بها أمة الفرس ذات التاريخ القديم والحضارة الأصيلة، وذلك في الربع الأخير من القرن الخامس من ميلاد المسيح عليه السلام، كما مرت الإشارة إليه سابقا، ومن الغريب المضحك أنها نسبت نفسها للعدل وهي الظالمة، فالأسماء لا تغطي الأفعال، إذا كانت الأفعال تخالف الأسماء، فالإعتداء على الناس في أموالهم وأعراضهم لا يسمى عدلا. 11 - ما قاله ابن نبالة المصري في هذه الفرقة الشريرة: وذكر ابن نباتة المصري في شرحه المسمى "سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون" عند الكلام على كسرى، وعند قول ابن زيدون: (وكسرى حمل غاشيتك) قال: (إن هذا الاسم لقب لملك الفرس، والمراد هنا كسرى أنوشروان، فإنه أشهر ملوك الفرس، وأحسنهم سيرة وأخبارا، وهو كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز، وفي أيامه ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ولدت في زمن الملك العادل) (¬1) يعني كسرى، وكان ملكا جليلا محببا للرعايا تام التدبير، فتح الأمصار العظيمة في الشرق، وأطاعه الملوك، وتزوج ابنة خاقان ملك الترك، وقتل مزدك وأصحابه، وذلك أن أباه قباذ قد بايع رجلا زنديقا يسمى مزدك، أحدث مقالات في إباحة الفروج والأموال، وقال: إنما الناس فيها سواء، وكان لا يسفك الدم. ولا يأكل اللحم، وأنه دخل يوما على قباذ وعنده زوجته أم كسرى أنوشروان، وكانت من أحسن النساء، وعليها حلي عظيم، فأعجبته، فقال لقباذ: إني أريد أن أنكحها، لأن في صلبي نبيا يكون منها، فأطاعه قباذ - لقوله بمقالته - فلما هم مزدك بها - وكان كسرى صغيرا - قبل قدميه وتضرع له في أن لا يفعل، فوهبها له. فأول ما ولي كسرى بعد موت أبيه قتل مزدك وأصحابه، فعظم في أعين الفرس (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث الذي أورده ابن نباتة غير معروف، ولم أجده في مظانه بعد البحث الكثير عنه. (¬2) سرح العيون المطبوع على هامش شرح لامية العجم للصفدي ج 1 ص 49 - 50.

إن هذا الملك العظيم (كسرى أنوشروان) قد أظهر من حسن التدبير والعدل في سياسة الملك ما جعله محبوبا عند أمته - زيادة عما فعله بالمزدكية المفسدة - وصار يضرب بعدله الأمثال - وإن كان مشركا - وفي هذه القصة التي أقصها هنا ما يؤيد ذلك: جاء في كتاب "مروج الذهب" للمسعودي عند الكلام على ملك أنوشروان الملك العادل قوله: (وانصرف أنوشروان إلى العراق، ووفدت عليه رسل الملوك وهداياها والوفود من الممالك، وكان فيمن وفد إليه رسول لملك الروم قيصر بهدايا وألطاف، فنظر الرسول إلى إيوانه (¬1) وحسن بنيانه، واعوجاج في ميدانه، فقال: كان يحتاج هذا الصحن أن يكون مربعا، فقيل له: إن عجوزا لها منزل من جانب الاعوجاج منه، وإن الملك أرادها على بيعه وأرغبها فأبت، فلم يكرهها الملك وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى، فقال الرومي: هذا الاعوجاج الآن أحسن من الاستواء ...) (¬2). فرسول قيصر ملك الروم أعجبه عدل الملك، وفضله على استواء الميدان لو أخذ الملك دار العجوز منها بالغصب والقوة - وهو قادر على ذلك - ولكنه العدل. والعدل وحده هو الذي وقف بينه وبين الظلم. سقت هذه القصة لنرى من خلالها عدل الملوك في الأزمنة الغابرة. 12 - ما قاله الملك المؤيد في المزدكية، وكيف لقيت جزاءها: وفيما ذكره الملك المؤيد أبو الفداء زيادة بيان لأعمال هذه الفرقة الخاسرة، فقد ذكر في تاريخه المسمى: "المختصر في أخبار البشر" عند كلامه على ملوك الفرس ما يلي: (وفي أيام قباذ المذكور ظهر مزدك الزنديق، وادعى النبوة، وأمر الناس بالتساوي في الأموال، وأن يشتركوا في النساء لأنهم إخوة لأب وأم - آدم حواء - ودخل قباذ في دينه، فهلك الناس وعظم ذلك عليهم، أجمعوا على خلع قباذ، وخلعوه). ثم زاد أبو الفداء الموضوع بسطة على ما تقدم ذكره فقال: (ثم ملك بعد قباذ ابنه أنوشروان ¬

_ (¬1) الإيوان مكان جلوس كسرى في قصره. (¬2) مروج الذهب ج 1 ص 264.

الفصل الثاني

ابن قباذ بن فيروز) ثم استرسل في سرد النسب إلى أن قال: (وملك أنوشروان ثمانيا وأربعين سنة، ولما تولى الملك كان صغيرا، فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه: إني عاهدت الله - إن صار الملك إلي - على أمرين: أحدهما أني أعيد آل المنذر إلى الحيرة، وأطرد الحارث عنها، وأما الأمر الثاني فهو قتل المزدكية الذين أباحوا نساء الناس وأموالهم، وجعلوهم مشتركين في ذلك، بحيث لا يختص أحد بامرأة ولا بمال، حتى اختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وتسهيل سبيل العاهرات إلى قضاء نهمتهن، واتصلت السفلة (¬1) إلى النساء الكرائم التي ما كان أولئك يتجاسرون على أن يملؤوا أعينهم منهن إذا رأوهن في الطريق، فقال له مزدك - وهو قائم إلى جنب السرير -: هل تستطيع أن تقتل الناس جميعا؟ هذا فساد في الأرض، والله ولاك لتصلح لا لتفسد ... فقال له أنوشروان: يا ابن الخبيثة أتذكر وقد سألت قباذ أن يأذن لك في المبيت عند أمي فأذن لك؟ فمضيت نحو حجرتها فلحقت بك وقبلت رجلك، وإن نتن جواربك ما زال في أنقي منذ ذلك إلى الآن، وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت؟؟ قال: نعم ...). الفصل الثاني: أنوشروان يأمر بقتل مزدك وإحراق جثته، ثم يتبعه بقتل أصحابه. (فأمر حينئذ أنوشروان بقتل مزدك، فقتل بين يديه، وأحرقت جيفته، ونادى بإباحة دماء المزدكية، فقتل منهم في ذلك اليوم عالم كثير، وأباح دماء المانوية أيضا، فقتل منهم خلقا كثيرا) إلى أن قال مبينا ذلك: (وقسم أموال المزدكية على الفقراء، ورد الأموال التي لها أصحاب إلى أصحابها، وكل مولود اختلف فيه ألحقه بالشبه، وإن كان ولدا للمزدكية المقتولة جعله عبدا لزوج المرأة التي حبلت به من المزدكية، وأمر بكل امرأة غلبت على نفسها أن تعطى من مال المزدكي الذي غلبها بقدر مهرها، وأمر بنساء المعروفين اللائي مات من يقوم عليهن، أو تبرأ منهن أهلهن لفرط الغيرة والأنفة أن يجعلن في وضع أفرده لهن وأجرى عليهن ما يمونهن ¬

_ (¬1) السفلة: هم أراذل الناس وسفهاؤهم.

الفصل الثالث: وقفة هاهنا للتأمل والاعتبار.

من مال كسرى، وكذلك فعل بالبنات اللائي لم يوجد لهن أب، وأما البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه، ورد المنذر إلى الحيرة وطرد الحارث عنها) (¬1). فبان جليا مما ذكره المؤرخون الثقات أن هذه الشرذمة الشيطانية وعلى رأسها (زعيمها مزدك) كانت غاية ما تدعو إليه استباحة النساء والأموال، لتنال من وراء ذلك ما تشتهيه، وحتى امرأة الملك قباذ لم تسلم من شرهم لولا تدخل ابنها الطفل (أنوشروان) وتوسله إلى مزدك واحتياله عليه حتى صرفه عنها - لوقع لها مثل ما وقع لغيرها من النساء - ولهذا لما تمكن منه (أنوشروان) بعد أن صار ملكا ومصلحا عظيما انتقم منه وقتله شر قتلة، وأحرق جثته المدنسة بالخزي والعار. وبعد أن مرت بنا أسماء عدد من فرق ونحل ألاحظ هنا أن هذه الفرق والنحل الشيطانية كان - ولا زال - المقصود منها هو صرف الناس عن شرائع الله، ودعوتهم إلى اتباع وساوس الشيطان وأعوانه، فأصحاب هذه النحل دعاة للشيطان وأعوان له على إضلال الناس عن شرائع الله - الشرائع السماوية - فهم كما قال الله - محذرا منهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (¬2). الفصل الثالث: وقفة هاهنا للتأمل والاعتبار. لنقف هنا دقيقة للتأمل والتفكير - لا دقيقة صمت للترحم على أرواح الشهداء - ولكن للتأمل جيدا فيما ذكره المؤرخ الملك المؤيد (أبو الفداء) وغيره ممن قصوا علينا أخبار وحوادث مزدك والمزدكية من أولها إلى آخرها، وكيف كانت نتائجها وعواقبها: ومبلغ الأثر السيئ الذي أحدثته في المجتمع الفارسي في ذلك الزمان، والذي امتد أثره إلى وقتنا هذا. وقد أكثرت من عرض ونقل أقوال المؤرخين - بالقصد - على ما فيها ¬

_ (¬1) المختصر المذكور ج 1 ص 66 - 67 طبع وإصدار داري الفكر - والبحار. (¬2) سورة الأنعام الآية 112.

من اتفاق في البعض، وتشابه في البعض الآخر، وتباين في غيرهما - وطول أيضا - فعلت ذلك ليزداد الموضوع توضيحا ومعرفة، وكل المؤرخين متفقون على ما أحدثه (مزدك) في المجتمع الفارسي من الشر والفساد والظلم بذلك المذهب الإباحي الفوضوي، ويكفي للحكم على مذهبه، هذه النتائج التي لا يحمد صاحبها، ولا يشرف بها، بل لا يذكر إلا بالخزي والعار، متبوعا باللعنات. ومثل تلك الآثار السيئة التي أوجدها المذهب المزدكي في المجتمع الفارسي مثل الإباحية، والغصب، والظلم الخ مثلها ما أحدثته الاشتراكية والشيوعية في البلدان التي ابتليت بهما، فقد كثر فيها الظلم والفواحش بجميع أنواعهما، وخنق الحريات في الدعوة إلى الخير ومحاربة الشر، وإعطاء الحرية التامة لكل من يعمل الشر أو يعين عليه، وكثر الأولاد اللقطاء نتيجة لاختلاط الرجال بالنساء بدعوى التقدمية، والتحرر، والانعتاق الخ حتى وصلت النتائج إلى ما قاله كسرى أنوشروان: (حتى اختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، واتصلت السفلة إلى النساء الكرائم التي ما كان أولئك يتجاسرون على أن يملؤوا أعينهم منهن إذا رأوهن في الطريق الخ) وخرجت المرأة إلى الشوارع - بما زينوه لها - لملاقاة من تحب ومحادثة من تريد، أو للعمل في الإدارات وفي غيرها، وفي هذا يكمن الشر والفساد - فساد المجتمع - حتى صار بنات ونساء بعض الأغنياء، وبعض من ينسبون للعلم والدين عاملات في المتاجر والإدارات، وهن في غير حاجة إلى العمل بما أعطاه الله لآبائهن وأزواجهن، ولكنه حب الكسب للمال وغيره، وصارت البنت أو المرأة التي لا تعمل في الإدارة كأنها غير حية، فذهب الشرف، والمروءة والعفاف، والحياء، والأمر لله من قبل ومن بعد. نرجع إلى ما جاء في العنوان فنقول: إن الجدير - حقيقة - بالملاحظة والاهتمام هو موقف الملك كسرى أنوشروان بن الملك قباذ، ذلكم المصلح العظيم الذي أنقذ البلاد والشرف الإنساني، والكرامة الآدمية - بموقفه الحازم ويقظته الفريدة - من ذلكم الخطر العظيم الذي نزل بالأمة الفارسية، فقضى على المزدكية الخبيثة التي ضعف عنها أبوه قباذ بن فيروز، فوقف هو تجاهها موقفه الحازم الذي يدل على شجاعة قوية، وروح نقية، وهمة أبية، فقد خلد له التاريخ ذكرا جميلا، لا يمحى أبد الآبدين بمواقفه

الجريئة في قضائه على الفساد والمفسدين، بقدر ما سجل التاريخ على (مزدك) وجماعته صفحة سوداء مدنسة بما لا يصدر إلا من الأشرار، والأوباش، والأنذال واللقطاء. وهكذا يجب أن يكون المسؤول الكبير، الذي بيده تصريف الأمور، حزم، وشجاعة، وطهر، وإخلاص، وقوة، حتى يبعد الشرور والأخطار عن الأمة والوطن، سواء أكان هذا المسؤول ملكا، أو رئيسا، أو أميرا، أو وزيرا، فإن لم يفعل مثل ما فعل (كسرى) أنوشروان فقد أعان بسكوته أو ضعفه - أمام المفسدين - على ازدياد وامتداد الشرور والمفاسد، وكيف يكون حال الأمة إذا كان واحد من الكبار المذكورين آنفا شريكا أو نصيرا للأشرار والمفسدين ... ؟؟ فليتق الله - الذي لا تخفى عليه خافية - بعض المسؤولين من عقبى المآل، ولقد أحسن الشاعر في قوله: وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم فإذا اندلعت النار في دار أو غيرها فإخمادها لا يكون بالوسائل الهينة، كالنفث بالشفاه أو غيره من الوسائل الضعيفة، بل لا بد لإطفائها - بسرعة - من الوسائل القوية الفعالة، كالمياه الغزيرة والعقاقير المطفئة للهب، فإذا وجدت النار عند شبوبها واشتعالها الحزم والحرص والقوة انطفأت واستراح الناس من ويلاتها، وإلا ازدادت وامتدت واتسعت رقعتها مع هبوب الرياح عليها، حتى تصل إلى الأماكن الأخرى البعيدة عن محل شبوبها واندلاعها. والخبائث والشرور كالنار تماما، فإذا كانت الهيئة الحاكمة في البلاد طاهرة تحب الطهر، شريفة تحافظ على الشرف، فإنها لا تطمئن على حياة الأمة المسؤولة عنها إلا بالقضاء على أصل الخبائث ومادتها التي تمدها بوسائل الحياة والقوة والبقاء، إذ هي منبع الشر والفساد. وبالعكس من هذا فإذا ضعفت عن القضاء عليها، أو أهملتها وسكتت عنها فإن آثامها تزداد، وتتسع مساحتها، ويصعب بعد هذا القضاء عليها كالمرض إذا لم يعالج في أول ظهوره فإن خطره يزداد، ولربما يقضي على المريض في النهاية.

فليتأمل في هذا القادة المصلحون، وليفكر فيه الزعماء المخلصون، وليتعظ بحوادث الزمن الغافلون، فمن لم يتعظ بما وقع لغيره، ويترك سبيل الغرور - غرور النفس وخداعها - فهو من الغافلين الضائعين. ذكرت ما قاله المؤرخون - على ما فيه من طول - كي أوضح ما بين المزدكية القديمة والمزدكية الجديدة - الممثلة في دعوة الشيوعية والاشتراكية - من تشابه قوي والتحام متين في: الدعوة، والأعمال، والنتائج، وإن اختلفت ألقاب الجميع، ذلك أن المقصود واحد، والهدف ظاهر - وهو القضاء على الدين والخلق الكريم - وهذا من أهم ما تحمله الشيوعية والاشتراكية في وطابيهما للأمم التي ساقها سوء طالعها إليها، فإنها حملت إليها الإلحاد والفوضى الخلقية، مضافا إلى ذلك الرذائل والنقائص بدون استثناء، والمشاهد في الأوطان الاشتراكية أكبر دليل وأقوى حجة لما قلناه. مادة الشيوعية والاشتراكية اللغوية: الشيوعية أصلها من مادة - شيع - و - شاع - ومن معاني هذه المادة الذيوع وعدم القسمة أو التعيين وعدم الاختصاص بالشيء، وكذلك شقيقتها الاشتراكية، فإنها تزيل الاختصاص وتفرض الاشتراك، فـ (الشيوعية والاشتراكية) فرعان لأصل واحد قديم - كما علمناه سابقا - وهو المزدكية، وفي الاشتراكية من مادة الشرك حروفه كما قيل. فهل ما نراه في هذا العصر نذير ينذر وينادي بأن (المزدكية) ستظهر إلى الوجود مرة أخرى بواسطة هذين المذهبين، متسترة باسميهما؟ فالدعوة لهما بشتى الوسائل، وإفساح المجال لنشرهما، وانتشارهما حجة قوية على ذلك، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا مهما طرز الخطاب، وشرح الأسباب، وفتح الأبواب. رأي الاشتراكية والشيوعية في خلاص العالم من الفقر والظلم: يقول دعاة هذين المذهبين الإلحادين: إن خلاص البشرية - في رأيهم الفاسد وتفكيرهم الباطل - مما تتخبط فيه من شقاء وتعاسة، وتفاوت في الأموال والأرزاق والمعيشة الخ إنما يكون بهما لا بسواهما من شرائع الله،

فانخدع بهذه الدعاوة الكاذبة المضللة بعض البسطاء الذين ليس لهم تفكير سليم يقيهم من الوقوع في مثل هذا الضلال المبين، أما من بصره الله بعواقب الأمور ونتائجها فنور قلبه بنور الإيمان، فإنه لم ينخدع بها، فسخر وضحك من دعوة إبليس وأعوانه، فرمى بها إلى مكان سحيق. المعتبر إنما هو الأعمال لا الأقوال: والمعتبر عند ذوي العقول السليمة هو أعمال العباد لا أقوالهم، فالأعمال واحدة في هذه النزعات الثلاث، وهو إرضاء شهوات النفس التي لم تجد لها طريقا في شرائع الله، إذ لم ترخص لها في الفواحش والمناكر وفي هذه النزعات - أيضا - العمل على القضاء - تدريجيا - على تلك الشرائع، فما ينتبه الناس إلا وقد ذهبت من الأرض، وامحت - عمليا - وما بقي منها - ظاهرا - فهو لاحق بالذي ذهب، إذن فالمهم في كل شيء إنما هو الأعمال لا الأقوال. دموع صياد العصافير: ذكر علماء التربية أن أحد صيادي العصافير قد اصطاد عصفورين، فكسر أجنحتهما وأدخلهما في قفص أعده لذلك، فهبت ريح حملت معها ترابا فدخل في عيني الصياد شيء منه، فأخذت عيناه تدمعان، فقال أحد العصفورين لصاحبه إن صائدنا رجل رقيق القلب رحيم ... فرد عليه رفيقه قائلا: وما الذي دلك على رقة قلبه ورحمته بنا؟ فأجابه رفيقه: انظر إلى عينيه فإنهما تذرفان الدموع وما ذلك إلا شفقة علينا ورحمة بنا مما أصابنا من كسر اجنحتنا التي بها نطير، فرد عليه رفيقه بهذا الرد الواقعي البليغ: (يا رفيقي ... لا تنظر إلى دموع عينيه ... ولكن انظر إلى عمل يديه). فكم، وكم من مرة سمعنا بعض المسؤولين ينوهون بالدين ويشيدون بفضائله - عند الحاجة إلى سلطانه - ولكن سرعان ما تذهب تلك الكلمات مع الريح التي حملتها، ويعقب ذلك أعمال لا مصلحة للدين فيها، ولا للفضائل المنوه عنها.

الباب الثالث

الباب الثالث

الفصل الأول: الشرائع السماوية وسعادة البشرية.

الفصل الأول: الشرائع السماوية وسعادة البشرية. إن الشرائع الإلهية أنزلت لإسعاد البشرية، والسير بها في طريق الحق والخير والفضيلة. فهي تمنع الخبث والكذب والبهتان وكل ما لا يليق، وتشدد في ذلك المنع. كما تحرم أكل أموال الناس بالباطل والظلم والعدوان، وتعاقب على ذلك باقي العقوبات، حتى يتطهر المجتمع من الفساد والظلم، فالإسلام - دين - جاء في الوقت الذي فسدت فيه المجتمعات الإنسانية، بأمثال المزدكية والمانوية وغيرهما من النحل المضلة للعباد، فتطهر به المجتمع الإنساني من ذلكم الشر والفساد والإلحاد. إن الشرائع السماوية تمنع ذلك ولا تبيحه أبدا، لأنه شر عظيم وفساد كبير في الأرض. فكل من دعا إلى ما دعت إليه المزدكية أو عمل على إعادتها متسترة بستار غيرها من استباحة أموال الناس ونسائهم، فهو منها وعلى مذهبها، وناشر لعظامها البالية، ولمخازيها الماضية، وإن لم يعلن عن نفسه أنه مزدكي وذلك ما نرى بوادره ومقدماته تظهر في هذا الزمن - زمن العجائب والغرائب - بين الحين والآخر. فقد شاهد العقلاء وسمعوا - متألمين - ما أصاب الخلق الطيب من تدهور وسقوط إلى حضيض الحيوانية البهيمية، من إباحية مكشوفة، ودعاية لها منظمة، مع احتضان ورعاية البعض لها ممن لهم الكلمة المسموعة والنافذة، فسخر لها ما تحت يده وتصرفه من وسائل، وحاول أن يمنع من كشف أمرها، وأزاح القناع عنها ورفع الغطاء عن وجهها، وعن مخازيها المستورة بستار التقدم، والحرية - بلا حدود - ومسايرة الزمن، إلى غير هذا من العناوين التي أعطيت للمزدكية العصرية، حتى لا يتضح أمرها، وينكشف للبله مستورها، ويهتك حجابها الخادع.

الفصل الثاني: ما نتج عن توريد المبادئ الأجنبية الهدامة.

إن الأمة العربية المسلمة لها من ماضيها المشرق الذي أناره وبيضه الإسلام العظيم - ما يكفيها ويسد حاجتها عن كل تشريع كيفما كان مصدره ومغزاه، فهي غنية بنظام الإسلام ودقته، لذلك فهي ليست في حاجه إلى أن تجلب من خارج حدودها مذاهب لا تشبه ما عندها - بل تخالفها تماما - من نظم وقوانين إسلامية محكمة، بل تحارب هذه القوانين الإسلام ونظمه في بلده وفوق تراب أرضه. الفصل الثاني: ما نتج عن توريد المبادئ الأجنبية الهدامة. وقد نتج عن استيراد النظم الأجنبية - سواء أكانت شيوعية أو غيرها بواسطة عملائها - نتج تحول عن ماض مجيد إلى حاضر سيئ، أو إلى مستقبل أسوأ. فقد رآى الناس المدركون للواقع الهوة السحيقة التي انحدرت إليها الأخلاق الفاضلة، فصارت الأعراض تستباح بعناوين براقة، خلابة للألباب، مثل التطور العصري، ولحوق الركب الحضاري، وترك الجمود والجامدين، والتحول الاجتماعي، والقضاء على التخلف، والانعتاق، إلى آخر ما سمعناه، ولا زلنا نسمعه - دوما - من أفواه الأبواق المرددة له والداعية إلى ذلك فهي أقوال حلوة في الظاهر مرة في الباطن، وقالوا عنها إنها أفكار - تحررية - فقد تحررت من الدين والأخلاق الفاضلة التي جاء بها الإسلام، كما هي أيضا خلق الشرائع السماوية السابقة، فهي تحررت - في زعمها - من الدين، ووقعت في أسر وعبودية الشيطان والشهوات، وما هذه الدعاية في الواقع إلا مثل السم يوضع في الدسم ليسهل ابتلاعه، ومن وراء ذلك كله تكمن الحقيقة، وتختفي النفوس المريضة الشريرة المدنسة بدنس الإلحاد والزندقة، فنتج من ذلك كله الفوضى، والنفاق، والخبائث والكفر بالدين، وبالماضي، ونكران لجهاد الجدود، وغير ذلك. هذه هي النتيجة الحاصلة من توريد المذاهب والنزعات الهدامة، كفران بالماضي، وقطع الصلة بتاريخ الجدود النير. الفصل الثالث: الصحافة تنشر ما يساعد على بعث المزدكية. ومن البلايا أن بعض الصحف تنشر ما يساعد على فساد الأخلاق، ويدعو

إلى المذهب المزدكي بالآراء والصور القبيحة - بلا مراقبة عليها - كصور الفرق الرياضية للإناث على أوضاع لا تقرها الآداب العرفية والأخلاق الحسنة، ولا القوانين الإنسانية العادلة، يسود بياضها بعض الصبيان الأغرار الذين أسموا أنفسهم - صحافيين - وما أنزلهم هذا المنزل إلا قلة خبرتهم بما يكون عليه الصحفي الواعي لمسؤوليته، يضاف إلى ذلك الطمع، مع التشجيع المطلق، والترغيب الكامل، بما كتبوا ولو كذبوا على الحقيقة والواقع. على حساب من يا ترى كل هذا؟ ومن هو الفائز المجلى في حلبة السباق .. ؟ لا ريب أنه الشيطان عدو الإنسان، فقد وجد في هؤلاء الأعوان ضالته المنشودة، فهم دعاة له مخلصون، أراحوه من عناء الإغراء والوسوسة، فجلس بعيدا - مرتاحا - قرير العين بعمل هؤلاء الأعوان المتطوعين الصادقين. إن الصحفي الحري بهذا اللقب هو ذلك الذي إذا كتب حرر وما غرر، يفخر ويعتز بمهنته، فهو لا يكتب إلا عن يقين وصدق، وهو يعرف أن هذه المهنة تعلو بصاحبها إلى أسمى وأعلى منازل العظماء الذين بذلوا حياتهم في تنوير عقول قارئيها، فحازوا بذلك ثناء القراء وإعجابهم بأفكارهم النيرة وأقلامهم الحرة النزيهة، إذا كتبوا درسوا الموضوع درسا وافيا، بعيدا عن الأغراض الرخيصة والمطامع الخسيسة، لا يكتبون إلا للحقيقة، لعلمهم بأن وراء ما يكتبون قراء نقادا، لم يكونوا من الغباوة والبلاهة بحيث يصدقون بالكذب ويؤمنون بالبهتان. فهل عندنا صحافيون من هذا الطراز ... ؟؟؟ وبالعكس من ذلك، تنزل مهنة الصحافة ببعض أصحابها إلى دركات الهوان فيذهب ما يسودونه بذهاب وقته، لا يؤثر ولا يفيد إلا بقدر ما يناله الكاتب من أجر حقير لقاء ما قدم، وهذا راجع إلى الإحساس بالكرامة المهنية وعزة النفس الإنسانية. هو - أيضا - ذلك الصحافي الذي يعلم أن مركب الصحافة مركب صعب وخطير، غير مذلل إلا للفرسان القادرين على ركوب متنها - وهو أيضا - يعرف أن الصحافة منزلتها منزلة الملك المتوج، فهي تأمر وتنهى، وتولي وتعزل، كما فعلت - أخيرا - برئيس الولايات المتحدة (نيكسون) فقد حملت عليه حملة شديدة وفضحته فضيحة منكرة ولم تسكت عنه حتى أنزلته من فوق

الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين.

كرسيه وهو ذليل، وتحكم وتنفذ حكمها - تماما - كالملوك العادلين في أحكامهم، وقديما لقبت بـ (صاحبة الجلالة) - وكفى - فهل يعرف هذا - أيضا هؤلاء الصحافيون الأغرار المحترفون .. ؟؟ إن الصحفي الحر النزيه لا يرضى أن يكون أجيرا لأحد، وأكثر صحافيينا أجراء لإدارة الصحيفة، فهم لا يكتبون إلا ما يرضي إدارة الصحيفة ومن كان وراءها. وإني أذكر - هنا وبهذه المناسبة - كلمة كان قالها زعيم مصر العظيم المرحوم سعد زغلول - يوم كانت الصحافة حرة ونزيهة، وكانت الصحافة المصرية - فيما أذكر - تكتبها - فيما مضى من الزمن - بحروف بارزة تحت اسم الصحيفة كشعار لها ولمهمتها العظيمة، وهذه الكلمة هي: (الصحافة حرة، تقول في حدود القانون ما تشاء وتنتقد من تريد، فليس من الرأي أن نسألها: لم تنتقدنا؟ بل الواجب أن نسأل أنفسنا لم نفعل ما تنتقدنا عليه؟). هذه كلمة مسؤول عظيم، وزعيم كبير، قالها يوم كانت الصحافة حرة يملكها الأفراد - لا الحكومات - ينورون بواسطتها الرأي العام والحكومات، حتى يكون الجميع على علم بما يجري فوق تراب الوطن، وفي العالم كله، هذه هي الحقيقة التي يجب ألا تخفى على من وضع نفسه موضع من تقدمت صفته من ذوي الرأي الناضج، والفكر النير، وإلا كانوا كمن قال فيهم القائل القديم: أما لخيام فإنها كخيامهم ... وأرى (¬1) رجال الحي غير رجاله أو قوله الآخر: لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين. إذا ما هب حماة الإسلام والأخلاق الكريمة ينكرون الإلحاد الذي رفع رأسه وصوته، ويدافعون عن العقيدة والفضيلة المهانة، والكرامة المداسة، ¬

_ (¬1) وفي بعض الروايات: وأرى نساء الحي غير نسائها.

قام - إخوان مزدك - من أبناء هذا العصر وأشياعه وقعدوا رافعين أصواتهم بواسطة أبواقهم وأقلامهم الرخيصة، منكرين على المنكرين - أنصار الإسلام - دفاعهم عن الفضيلة وعن خلق الحياء الذي قضت عليه - ولم يبق إلا في قلة من المؤمنين - هذه العقائد الزائغة والزائفة الواردة علينا من شعوب لا تدين بديننا ولا تتخلق بأخلاقنا. فقد كتبت بعض الصحف تنعت المدافعين عن الإسلام وأخلاق الإسلام بما لا يتفق والحقيقة، فكتبت تحت عنوان: (المراؤون) (¬1)، والعنوان لرواية - هزلية مسرحية - للكاتب الفرنسي (موليير)، وسبب ذلك أني تكلمت في خطة الجمعة، وفي جامع "كتشاوة" يوم الجمعة 5 نوفمبر 1965 م لما شاهدت العرض الذي جرى في الجزائر يوم أول نوفمبر 1965 بمناسبة ذكرى ثورة نوفمبر 1954، ذلك العرض الذي شاهدناه بواسطة التلفزة والذي لا ننكر ما شاهدناه فيه من قوة الجيش ونظامه ووفرة السلاح، وأعجبنا به كثير الإعجاب - وقد نوهت بهذا في نفس الخطبة - ولكن الذي أنكرناه - ودعونا إلى إبطاله - هو زج الفتيات وسط ذلك العرض بثياب فاضحة - لا تغطي من الجسم إلا قليلا - فالفتاة التي تلبس (التبان) (¬2) وتظهر به أمام حشود وافرة جاءت من جميع الأوطان لتمثل دولها في هذا الحفل الوطني، أمر لا ينبغي السكوت عنه والرضى به وبفعله، فهل يتوجه اللوم هنا على منكر المنكر؟ لا، بل اللوم كل اللوم يوجه أولا وقبل كل اعتبار على من جلبها - الفتاة - وزج بها وسط جيش عرمرم من الشبان وأمام النظارة، كما يلام وليها الذي رضي بكشف جسد ابنته، والسير بها شبه عارية أمام النظارة - والمصورون من شركات السينما والتلفزة الأجنبية يصورون - فهل يلام الخطيب الواعظ إذا أنكر منكرا رآه ونبه المسلمين المصلين إلى قبحه وخطره على الدين والأخلاق الإسلامية؟؟؟؟ ¬

_ (¬1) صحيفة "الشعب الجزائرية" عدد 904 الصادرة بتاريخ 13 نفمبر سنة 1965، وصحيفة "المجاهد" الصادرة بالفرنسية في نفس التاريخ. (¬2) التبان سراويل صغير لا يستر إلا العورة المغلظة (سليب).

لا ينكر على الخطيب الواعظ إلا جاهل مغرور أو صاحب نية سيئة نحو الدين والفضيلة والوطن. الحقيقة أن البعض من ولاة المسلمين تنقصهم التربية الدينية الإسلامية حتى يكونوا في مستوى أمتهم، وقد لاحظنا - فيما لاحظناه - أن البعض من حكام المسلمين الذين يتولون مناصب عليا في دولهم يداخلهم الغرور بالنفس والكبرياء على الناس، ولعلهم يظنون أنفسهم أنهم صاروا ملوكا مستبدين، لا يرد عليهم قول ولا يوجه إليهم لوم، أو لعلهم صاروا أكثر من الملوك، وهذا ناتج عن انعدام التربية الإسلامية الصحيحة، ولو عرفوا حقيقة أنفسهم لما جاوزوا بها درجتها، إذ هم من الشعب الذي يتولونه، وكم نحن في حاجة إلى التربية الإسلامية التي تأمر حكام المسلمين بالتواضع وخفض الجناح لعامة أفراد الأمة، ولنذكر هنا مثالا من التربية الإسلامية: ذكروا أن سلمان الفارسي كتب إلى أبي الدرداء - رضي الله عنهما - لما ولي هذا الأخير القضاء من قبل معاوية رضي الله عنه: (بلغني أنك جعلت طبيبا تداوي، فإن كنت تبرئ فنعما، وإن كنت متطببا فانظر أن تقتل إنسانا فتدخل النار). فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا نظر إليهما ثم قال: (ارجعا إلي أعيدا علي قضيتكما متطبب - والله -). فما كتب به سلمان الفارسي إلى أخيه أبي الدرداء - وهما صحابيان جليلان آخى بينهما الرسول صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهما يعد من باب النصيحة للوالي، فلا غضاضة فيها عليه، لهذا تقبلها أبو الدرداء بالرضى والاعتبار، وعمل بها العالم الفقيه الورع. فأين نحن الآن من هذه التربية الإعلامية الرفيعة الغالية، إلى التربية الإلحادية التي تدخل الغرور والصلف والكبرياء على الحكام منا، حتى ظن البعض منهم أن الأمة ملك لهم يتصرفون فيها حسب رغباتهم وشهواتهم، لا ينازعهم فيها وفي توجيهها أحد سواهم، حتى صاروا كالأوثان تعبد من دون الله، تطاع ويعصى الله، ترضى ولا بأس بغضب الله. فاللهم رفقا بعبادك المسلمين، ممن: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} قرابة ولا عهدا.

نرجع إلى الموضوع من هذا الاستطراد الذي دفعت إليه الحاجة فنقول: لما قرأت ما كتب في الصحيفة بأمر المسؤول عن الأخبار في ذلك الوقت 1965 - الوزير بومعزة - قلت: سبحان الله!!! يا للعجب العجيب!!! إنهم لم يفهموا حتى ما يكتبون أو يقرأون، خصوصا وكاتب الرد علي في الصحيفة الفرنسية اللسان امرأة فرنسية الجنسية والعقيدة - فيما بلغني - نسأل: أي داع لإقحام امرأة فرنسية في الرد على واعظ في خطبة الجمعة؟؟ ألكون الموضوع يتصل بالمرأة وكفى؟ والموضوع يتصل بالمرأة الجزائرية المسلمة، وعنوان الرد - أيضا - أصله لكاتب فرنسي كما أشرت إليه سابقا، وهو (المراؤون) أيضا، فما هو الرياء الذي يرمي به الخطيب الواعظ؟ وكانوا يدركون الحقائق من غير تحريف؟ إنهم لم يفهموه، ولو فهموه لما كتبوا ذلك الهراء الركيك. والحقيقة التي يعرفها العقلاء: أن من قام يدافع عن حق رآه ضائعا لا يقال في دفاعه - حسب إيمانه به - أنه رياء، وما تكلم إلا ليراه الناس - والكلام يسمع ولا يرى - ويقال عنه ما يقال، ومما لا ريب فيه أن الصدمة كانت عنيفة وغير منتظرة على أعوان مزدك، فلم يقووا على تحملها، خصوصا وخطبة الجمعة تلك كانت قد أذيعت من المسجد بواسطة الإذاعة الجزائرية، فرفعوا أقلامهم لتدافع عن الرذيلة والخلق المشؤوم. نقول لهؤلاء: إن الشعب الجزائري - مثلا - لما قام في ثورته، وحمل السلاح للدفاع عن كرامته المهانة ووطنه السليب، قاصدا من وراء حمل السلاح إرجاع كرامته ووطنه، فهل يقول له عاقل: إنك مراء أيها الشعب الجزائري؟ فإنك ما حملت السلاح إلا من أجل أن تراك الشعوب والأمم فقط، وتسمع ببطولتك ومواقفك، وما ادعيته لنفسك من دعوى إرجاع حريتك وكرامتك ووطنك دعوى باطلة وبهتان، لا يقول أحد من الناس في الشعب الجزائري مثل هذا القول إلا اتهمه العقلاء بالجنون، أو بالجهل بالمقاصد، أو بالغباوة، أو بالغرور والتغرير، أو بالخداع. فقد سقط في يد الموحي بالفكرة، ولم يجد حجة ودليلا يبرر به فعله فأخذ يتهم المدافعين عن الدين والفضيلة والوطن بالباطل والتزوير والبهتان، وكل دفاع بالباطل مصيره الفشل والخسران.

الباب الرابع

الباب الرابع

الفصل الأول: ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية.

الفصل الأول: ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية. ثم نتساءل مرة أخرى: هل ما قدمته الجزائر المسلمة من ضحايا وافرة، أنفس بشرية غالية، وأموال غزيرة عزيزة عليها، ضنينة بها، وعذاب مهين، سلطه عليها المستعمر المحتل لها، الذي كان ماسكا بخناقها، ويشدد في الإمساك، فقد شمل تعذيبه ذلك جميع أنواع التعذيب والتنكيل، ولكنه كان عليها عذبا لا عذابا .. ؟؟ وهل كان كل ذلك - وغيره - من أجل أن تفرض عليها مذاهب هدامة لكيانها، وفدت عليها - مع الوافدين - من خارج وطنها ودينها وأخلاقها، من شيوعية وغيرها ... ؟؟؟ أو من أجل أن يعتنقها بعض المسؤولين باختياره يجب أن يفرض هذا الاختيار على الأمة كلها ... ؟ أتحقق أن كل مسلم جزائري - في قلبه مثقال حبة خردل من الإيمان بدينه ووطنه وكرامته - يجيب عن هذا السؤال لا بـ (لا) واحدة فقط، بل يجيب بألف (لا) أو بألف ألف (لا) أي مليون (لا) أو بأكثر، نظرا لما قدمته الجزائر من تضحيات في سبيل دينها الإسلام وعقيدته وفضائله وأحكامه. الفصل الثاني: كيف يكون الدفاع عن الإسلام؟ نسمع بعد الحين والحين كلاما صادرا عن أشخاص عصريين كما يقولون،

قالوا أنهم أرادوا به الدفاع عن الإسلام - في زعمهم - فلفقوا لدفاعهم حججا وأقوالا دلت على جهلهم بالإسلام - كشريعة - قاصدين من وراء ذلك جعل الإسلام دينا عصريا، يناسب عصر الذرة كما يقولون، وقالوا أن الإسلام مرن، يطاوع كل وقت وحين، وما قصدهم بهذا إلا القضاء عليه - تدريجيا - حتى لا يفطن لهم أبناء الإسلام الصادقون، فهم كاللصوص يختلسون مال غيرهم، فإذا فطن لهم رب المال قالوا له: نريد صونه وحفظه من الضياع والتلف، والإسلام لم يعرفهم من أبنائه في مظاهره وأماكنه، فلم يعرفهم ولم يجدهم في المسجد، والمسجد أظهر مظاهر الإسلام. ولم يعرفهم في صوم رمضان أو غيره من شعائر الإسلام، فكما أنه لم يعرفهم في كل ذلك فهم - أيضا - لم يعرفوه في أي شيء منه، ولهذا فإنهم إذا كتبوا عنه أو خطبوا فضحوا أنفسهم بأنفسهم، وكشفوا الغطاء عن وجودهم، فظهر جهلهم للإسلام. من المعروف أن الإسلام رحمة من الله بهذه البشرية المعذبة من طرف الطغاة وأعوانهم، فالإسلام سهل خفيف على المؤمنين الصادقين، وهو صعب ثقيل على المنافقين الكاذبين، كما قال الله جل جلاله في محكم كتابه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (¬1). هل يتصور الدفاع عن الإسلام من قوم لا يؤمنون به .. ؟؟ فإذا قام من يعرفه ليدفع عنه تهجمات خصومه غضبوا عنهم ورموهم بكل نقيصة ليخلو لهم الميدان كي ينفذوا خطتهم كما يريدون. ماذا يبتغي الغاضبون من المدافعين عن الإسلام وشريعته الطاهرة؟ وهم - الغاضبون - ينقضون عرى الإسلام عروة بعد عروة، أيبتغون منهم السكوت والكف عن الدفاع عن دينهم وعقيدتهم .. ؟ إن كانوا يبتغون منهم هذا فهم غالطون، أو يبتغون منهم أن يجيزوا لهم ما يفعلون وما يذرون مما هو مخالف للدين أو محرم في شريعة الإسلام؟ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام.

أيريدون أن يقول لهم علماء الإسلام: إن أقوالكم وأعمالكم موافقة - وهي غير موافقة - لما جاء في الشريعة الإسلامية، إن وجد من يقول لهم هذا فهو قليل، ومع قلته فهو صادر من شخص انتهازي قليل البضاعة - بضاعة العلم والدين - ولو كان له نصيب من العلم والدين - وتجرد من الأطماع - لما تجرأ وقال ما قال، وسيبقى قوله دليلا عليه. أيريد الحانقون على العلماء أن يقولوا لهم: إنه لا لزوم لفرائض الإسلام في هذا العصر، وغير ممكن تطبيق حدوده وأحكامه؟ كما يشتهي هذا بعض رجال السياسة والحكم، بدعوى أن وقت العمل بالإسلام قد فات ومضى مع الوقت الذي كان يستعمل فيه الجمل للحمل والركوب، أما الآن فالوقت للسيارة والطيارة وغيرهما، فهم يريدون أن يجردوه من عقائده وفرائضه وأحكامه وأخلاقه، إذن فماذا يبقى من الإسلام إذا فعلوا به هذا ... ؟؟؟ لا شك أنه يبقى هيكلا بلا روح، كما فعل أحبار اليهود ورهبان النصارى بتجريد شريعتي موسى وعيسى عليهما السلام من كل ما يسمى دينا سماويا، فصارتا طقوسا شكلية، فيصير الإسلام بهذه العملية - عملية تجريده من فروضه وأحكامه - دينا عصريا يبرز ويظهر في الحفلات الرسمية كغيره من الأديان الأخرى، فإذا وقف العلماء موقف المدافع عن الإسلام رموهم - كما سمعنا ذلك المرات العديدة - بالجمود والتحجر، وبالتمسك بالقديم البالي - في زعمهم - ولا أظن أن عالما واحدا - عالما - يشعر بثقل المسؤولية وخطرها - التي يحملها - أمام الله والتاريخ والأمة والوطن يتساهل في فتوى بإباحة محرم - شرعا - أو بتعطيل حكم منصوص عليه، فإن وجد - ولعله وجد - ورضي بتعطيل حكم، أو بتحليل محرم، فقد عمل على تحطيم الإسلام، دفعه إلى ذلك دافع خارج عن أصل الدين وشريعة الإسلام - من قلة بضاعته، أو طمع، أو غيرهما - ورضي لنفسه باللعنة وغضب الله - عياذا بالله - بنص الآية القرآنية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 159.

إن علماء المسلمين - أين كانوا - ليس لهم أي حق في تبديل شرائع الله، سواء أكان ذلك بالمحو أو بالزيادة، أو بالنقصان، ومن فعل ذلك فقد اعتدى وأقحم نفسه فيما ليس من خصائصه، وما خصائصه إلا الفهم الصائب لروح الشريعة والشرح والتوضيح، والدعوة لها والدفاع عنها الخ، وقد سمعنا من بعض البسطاء من قال: لماذا يتصلب العلماء هذا التصلب؟ ولماذا لا يكونون كعلماء اليهود والنصارى الذين خففوا عن أتباعهم ثقل الشرائع، فيسروا - مثلا - أمر الصيام وجعلوه شيئا قليلا؟ ولماذا نصوم نحن المسلمين شهرا كاملا، في حين لا يصوم غيرنا أصلا، أو لا يصومون إلا سويعات قليلات؟؟ نقول لهؤلاء الطائشين إن الدين الإسلامي دين إلهي أنزله وأمر به رب العباد وخالقهم، بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد - كيفما كان - بعد موت الرسول أن يبدل أو يغير شرع الله - وليس ذلك إلا للرسول والرسول قد مات فلا تغتروا بما فعله علماء اليهود والنصارى بشرائعهم، فإنهم مأمورون بالمحافظة على شريعتهم والدفاع عنها، فتركوا ذلك، وسيلقون جزاء عملهم وسكوتهم يوم الحساب، فإنهم ضيعوا ما استحفظوا عليه من كتاب الله وشرعه وكانوا عليه شهداء، ولم يقف علماء بني إسرائيل مواقف أنبيائهم في الدعوة إلى الدين والدفاع عنه، وبنو إسرائيل اشتهروا بنقض الشرائع الإلهية وتركها والصدود عنها إلى ما تزينه لهم نفوسهم وشهواتهم وقد قص الله علينا في القرآن الكثير من أخبارهم للاعتبار، منها أن بني إسرائيل لما أنجاهم الله من قبضة عدوهم فرعون الظالم، وأخرجهم من البحر سالمين وأهلك عدوهم بالغرق وهم إليه ينظرون، نسوا نعمة الله هذه عليهم بالنجاة من عدوهم، فرأوا مشركين يعبدون الأصنام، فطلبوا من رسولهم موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلها يعبدونه كما لهؤلاء المشركين آلهة يعبدونها - بدل عبادتهم لله وحده - فنهاهم رسولهم موسى عليه السلام، وبين لهم أنهم هم خير وأفضل من غيرهم عباد الأوثان والأصنام، قال الله تعالى مبينا ذلك: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف.

الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها.

نرى من خلال هذه الآيات وغيرها نعمة الله ظاهرة على بني إسرائيل، حين أنجاهم الله من عدوهم (فرعون) وأهلكه غرقا في البحر وهم ينظرون بأبصار رؤوسهم، فلم يشكروا لله هذه النعمة والنصر على عدوهم ومذلهم، ونسوها في لحظات قليلة من نجاتهم، وسولت لهم نفوسهم الخبيثة الشرك بالله كالمشركين، وفي هذا عبرة بالغة لنا - ولغيرنا - نحن الجزائريين الذين أعاننا الله - وحده - على تحرير أنفسنا ووطننا من المستعمر الغاصب، ولكن في لحظات قليلة نسينا نعمة الله وفضله علينا، فجحدنا نعمته وإحسانه، وأنكرنا فضله علينا، فألغينا شريعة الله، وعوضناها بقوانين الملحدين الكافرين. توجد في بعض بلاد المسلمين مخالفات كثيرة لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا أنكر المنكرون ذلك لم يرق إنكارهم في أعين حكامهم، وإلا فبأي نص وبأي دليل شرعي يباح في أغلب الأقطار الإسلامية - شرب الخمر - وصنعها، وبيعها، والاتجار فيها،؟؟؟ بعد الوعيد والتهديد الوارد في ذلك، فهل لم يبلغ إلى علم حكامهم النهي عن ذلك؟؟ وإذا بلغهم فلماذا لا يمتثلون لنهي الله؟ ولعل البعض منهم يقول - أو قد قال - أن المهم في حياتنا هذه وفي حياة الدولة إنما هو المادة - المال - فقط لأن ذلك يدل على قوة الدولة، وهذا هو المشاهد الملموس، فنقول لهم إذن هذا أساس المذهب الشيوعي الاشتراكي، وهو المادة فقط، أما الروح والدين فالكلام عليهما تضييع للوقت، والبيان الشيوعي يقول: (لا إله والحياة مادة) أما نحن المسلمين فإننا لازلنا - ولن نزال - نؤمن بما في شرعنا من تشريع إلهي حكيم، أحل الله لنا فيه الطيبات من الرزق وغيره، ومنع عنا فيه الخبائث كذلك، وقد نقل عن مسؤول في الحكومة - وقد وجه إليه التماس بمنع الخمر المحرمة شرعا في الإسلام - قوله: (المسجد مفتوح، والمخمرة مفتوحة، فمن أراد أن يذهب إلى المسجد فليذهب، ومن أراد أن يذهب إلى المخمرة فليذهب ...) هذا قول من لا يشعر بالمسؤولية الملقاة عليه، وإلا فما هي مهمة الحكومة إذا لم تحافظ على سلامة الأمة من كل ما يضر بها؟. الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها. إن إدخال المذاهب والمبادئ الإلحادية الإباحية الهدامة إلى الأوطان الإسلامية قد سهل كثيرا على المسلمين تعاطي شرب الخمور، وذلك بتزهيدهم في الدين

الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا.

والخلق الكريم، فقد أعان المستهترين بهما وسهل عليهم تناول الخمور المحرمة شرعا وإدخالها للشعوب الإسلامية. إن تحريم الخمر - شربا، وصناعة، وتجارة - معلوم من الدين بالضرورة - كما يقول علماؤنا - بنص القرآن والحديث، فمن أنكر التحريم فهو مرتد كافر، فلا يحسب في عداد المسلمين، ولو كان اسمه مما اشتهر استعماله بين المسلمين إذ كيف يعد في المسلمين من أنكر أمرا معلوما، الله حرمه بقوله في آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1) وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا الموضوع منها ما أخرجه أبو داوود في سننه وبسنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) وفي بعض طرق الحديث زيادة ((وآ كل ثمنها)) فهؤلاء العشرة لعنهم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عقوبة أشد من اللعن لمن عرف - مدلوله ومعناه. الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا. بما أن الخمر سبب في ارتكاب كثير من الشرور والآثام والجرائم، فقد ورد النهي من الرسول على الله عليه وسلم عن بيع العنب لمن يتخذ منه خمرا، فقد خرج الحافظ ابن حجر في كتابه "بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام" نقلا عن الطبراني في الأوسط - بإسناد حسن - عن بريدة بن الحصيب عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة)) (¬2) قال شارحه الإمام الصنعاني: وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث بريدة بزيادة ((حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة)) قال شارحه المذكور: والحديث دليل على تحريم ¬

_ (¬1) الآية 90 من سورة المائدة. (¬2) ج 3 من بلوغ المرام الحديث 37، تقحم النار رمى بنفسه إلى النار على علم.

بيع العنب ممن يتخذه خمرا لوعيد البائع بالنار، وهو مع القصد محرم إجماعا، فما حرمه الله ورسوله فهو حرام ليس لأحد من الناس أن يحله، ومن تعمد المخالفة فقد رضي لنفسه بالدخول إلى نار جهنم واقتحامها عن عمد وإصرار، فالممنوع ممنوع تعاطيه إلا لضرورة ملحة خشية أن تذهب معها روحه، أما الأعذار الأخرى ككونها مادة وموردا ذا بال في ميزانية الدولة، أو كون المستعمرين هم الذين غرسوا شجرتها وأنتجت وقلعها الآن يؤدى إلى خسارة في المال إلى غير هذا من الأعذار فهي كلها باطلة، لا ينسخ الشرع بها، وتوقف أحكامه بسببها. التداوي بالخمر - وهل يجوز للمسلم أن يستعمل دواء فيه خمر؟ ذلك ما ورد النهي فيه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج مسلم في صحيحه وأبو داوود في سننه، أن طارق بن سويد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ليست بدواء ولكنها داء)) (¬1) وفي هذا المعنى ما أخرجه البيهقي عن أم سلمة رضي الله عنها -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) (¬2) وجاء في بعض الروايات بيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بين فيه أن الخمر لا منفعة فيها بعد أن حرمها الله فقد جاء في هذه الرواية قوله: ((إن الله تعالى لما حرم الخمر سلبها المنافع)) (¬3) وهذا كأنه رد على من يعتمد على ظاهر الآية القرآنية وحدها، وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬4) فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله نزع من الخمر جميع المنافع بعد أن حرمها على المسلمين، فلا منفعة فيها لا للتداوي ولا لغيره. وأخرج الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر (¬5) فقال له رسول ¬

_ (¬1) بلوغ المرام ج 4 الحديث 12 في باب حد الشارب وبيان المسكر. (¬2) نفس المصدر ج 4 الحديث 11. (¬3) المصدر نفسه أسنده الثعلبي وغيره. (¬4) الآية 219 من سورة البقرة. (¬5) الراوية - القربة.

الفصل الخامس: إنتهاك الحرمات الشرعية سببه من المبادئ الإلحادية.

الله صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت أن الله حرمها؟)) قال لا: فساره رجل إلى جنبه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بم ساررته؟)) فقال أمرته أن يبيعها، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) (¬1). هذا بعض ما ورد في الخمر من النهي والوعيد، غير أن الوازع الديني فقد من بعض المسلمين، فتعاطوها وقد حرمها الله عليهم لما فيها من الأضرار والآثام، فتعاطوا صنعها وبيعها وشربها وأكل ثمنها إلى آخر أنواع التعاطي والاستغلال، والكل ممنوع - شرعا - وهم يعلمون أن كل ذلك حرام عليهم ممنوع في شريعتهم، فهم يفعلون ذلك عن معرفة وإصرار، فاستحقوا أن يدخلوا النار عن بينة من أمرهم .. كل هذا وأمثاله سببه المبادئ الأجنبية الهادمة للشرائع التي وردت علينا من الخارج، والتي لا تؤمن بالأديان السماوية، فجرأت المسلمين على احتقار دينهم، بل والسخرية منه أحيانا، والأمر واضح لا يحتاج إلى تفصيل. الفصل الخامس: إنتهاك الحرمات الشرعية سببه من المبادئ الإلحادية. وما قيل في انتهاك حرمة النهي عن الخمر يقال كذلك في انتهاك بقية الحرمات فقد كثر الاستخفاف وعدم المبالاة والاهتمام بحرمة الفروض الدينية وانتهاكها جهارا نهارا، بلا خوف من عقاب ينال المنتهك لحرمة الشرع العزيز، فهذا شهر رمضان المعظم من الله ومن المسلمين مثال لذلك، فقد تجرأ بعض من لا خلاق لهم على الإفطار في نهاره، ولم يجد من يعطيه درسا صارما جزاء على تهاونه واستخفافه بدين الله ودين الأمة التي تحترمه وتعظمه، وقد تجاوز الانتهاك من بعض الطائشين إلى بعض كبار المسؤولين في بعض دول الشعوب المسلمة التي سطرت في دستور ها ... مادة تنص على أن الإسلام دين الدولة - وهو يمثل الدولة - وهنا كان الواجب على هذا المسؤول الكبير أو الأكبر أن يكون حاميا لدستور بلاده لا هادما له، ومن المؤسف - حقا - أن يكون هو مثالا سيئا للمنتهكين المعتدين، ويفطر في نهار رمضان والأجانب عنه ينظرون إليه، ليظهر للعالم ¬

_ (¬1) الموطأ في باب جامع تحريم الخمر.

تهاونه وشجاعته على نبذ شريعة الله، بحجة أن الصيام يضعف الصائم، ويقلل من نشاطه وإنتاج عمله وتأخر بلاده، في الحين الذي يرجوها أن تلحق ركب الدول العظيمة في إنتاجها وغناها وقوتها، فبعد أن رغب الشعب وحثه على الإفطار والشعب - الواعي المدرك - لا يستجيب بسهولة لمن أراد أن يجرده من دينه وخلقه، فبعد ذلك الحث والترغيب أراد أن يبدأ بنفسه وأمام جمع كبير فيهم غير المسلمين، بدأ بنفسه ليكون قدوة في الشر يقتدي به الأشرار، بدعوى القضاء على التخلف، ولكي يلحق ركبه الفقير ركب بعض الدول الثرية (فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ...) غير ناظر إلى رقعة بلاده الضيقة، وإلى انعدام وسائل الثراء في بلاده، فظن أن صيام شهر رمضان هو الذي أخر بلاده، ففضحه الله الذي اعتدى على حرمة شرعه، فازداد فقره وحاجته إلى الغير بالاقتراض منه، ولم يغنه الإفطار في نهار رمضان ولا غيره، وهذا كله وغيره مبعثه الغرور بالنفس والعظمة الخادعة، والاستخفاف، بدين الله، وعصيان أوامره ونواهيه، ولو فرضنا أن شخصا واحدا من مواطنيه - كيفما كانت منزلته - عصى أمره أو نهيه - وهو بشر - لعذبه أو قتله غضبا لعصيانه إياه، وانتقاما لكرامته المهانة في نظره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا المسؤول الذي انتهك حرمة شهر رمضان وأفطر فيه هو الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. وما قيل في شهر رمضان يقال في غيره من كل ما هو راجع إلى أمر الدين، فإننا رأينا ولمسنا تضييقا - ضيقا - مبالغا فيه على من أراد أن يقوم بأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، بدعوى قلة العملة الصعبة، وأن البلاد في حاجة إليها لتكميل تجهيزها الصناعي وغيره، وفي الوقت ذاته نرى الأموال تنفق - بسخاء - على الوفود - الصادرة والواردة وما أكثرها - التي تذهب إلى بيوت الشياطين، إما إلى بيت الله فلا. قيل أن المال الذي ينفق في القيام بشعيرة دينية مال ضائع وخسارة لا تعود على الأمة وخزينة الدولة بالنفع والفائدة، وهو قول يدل على جهل أصحابه لأسرار التشريع وأحكام الدين، وقائله لا يخلو من نزعة إلحادية دفعت به إلى أن قال ما قال، في حين تحبذ - وتفعل - السياحة للنزهة والتنقل في ربوع أروبا الفاجرة، وما يتبع ذلك مما لا يليق، ففي هذه السياحة تصرف الأموال بكرم لأن ذلك علامة على التقدم والحيوية.

الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.

والبعض قال في المؤسسة التي لها إشراف - محدود - على الشؤون الدينية: أنها لا تنتج، وهو يعني أنها لا تأتي بالفائدة لصندوق الدولة كما في شجرة العنب مثلا - فإنها تدر على صندوق الدولة - من الخمر - بالأرباح الوافرة، وهذه الآراء والأقوال في مجموعها دليل على ما في النفوس من تقدير واحترام للدين وجهل بما يأتي به الدين للأمة - من خيري الدنيا والآخرة - وما يتركه في نفوس المسلمين من الخلق الكريم، والاستقامة على المنهج القويم، والمعروف لدى العارفين أن الدين يشارك جميع الوزارات في أعمالها، فهو مع الداخلية في الأمن وغيره، وهو مع الخارجية في الاتصالات وغيرها وهو مع التربية والتعليم في التهذيب، ومع العدل في الاستقامة، ومع المالية في الاقتصاد، وكذا يقال في جميع أجهزة الدولة، لكن لو وجد من يعرفه ويعمل به ويرعاه حق رعايته. الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. نعود من قريب إلى شجرة - العنب - ففيها العبرة البالغة لمن أراد أن يعتبر. دلت هذه العبرة على رحمة الله بهذه الأمة الجزائرية المسلمة، لو وجدت من يفهمها حق فهمها، وهي بينة جلية في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬1). أمتنا الجزائرية أمة مسلمة - عقيدة وعملا - ابتلاها الله بدولة استعمارية كافرة قوية استحوذت على أرضها بالقوة، وأعطتها لأبنائها، فاستغلوها، وفعلوا فيها ما فعلوه في أرضهم وبلادهم، وحسب شهواتهم، فأكثروا فيها من غراسة أشجار الكروم - العنب - ليعصروها خمرا، وفعلا نجحوا فيها نجاحا كبيرا، وربحوا منها أرباحا طائلة، ولما أراد الله اليقظة لأمتنا - بعد نوم طويل - وجاء وقت اليقظة والانتباه، قامت واستيقظت من نومها، وطالبت بحقها في أرضها، فلم يلب المحتل لها رغبة، ولم يسمع لها صوتا، عند هذا حملت السلاح واتحدت - معظمها - سنة 1954 وخاضتها حربا شعواء ضروسا دامت سبع سنوات ونيفا، وبعد تضحيات كبيرة وصلت إلى هدفها، ونالت ما أرادت - وهو الاستقلال - وفي أثناء الثورة المسلحة، ¬

_ (¬1) من الآيتين 2 - 3 من سورة الطلاق.

وفي سنوات الكفاح المرير الشديد، قام المستعمر الفرنسي بالبحث والتنقيب عن البترول في صحرائها، فوجده - فيها - بجميع أنواعه ومحتوياته، وتدفق في الأرض الجزائرية، وصار يصدر منها ويباع في الأسواق العالمية، ويدر على خزينة الدولة - وعلى شركاته - بأرباح كثيرة، زادت بمر السنين، وبتحسين وسائل العمل والإخراج والاستغلال، هذا واقع لا ينكر، ومحل العبرة ظاهر فيه لمن تدبر. ذلك أن الله العالم بما تحمله الأيام في أحشائها، وما تخفيه السنون في طياتها، قد سبق علمه كل شيء، ففي العثور على الغاز وإخراجه والانتفاع به تنبيه للغافلين منا، فكأن الله قال لنا: قد علمت من حربكم أنكم على حق، وأنكم ستنالون حقكم الذي قمتم تطالبون به، فها أني قد هيأت لكم ما فيه الغناء لكم في أرضكم، ورزقتكم من الحلال الذي لا تبعة فيه، ولا ذنب يترتب عليه، أعطيتكم كنزا كبيرا - ادخرته لكم - وذخرا عظيما، أعطيتكم الغاز في أرضكم، فإذا وصلتم إلى ما تحبون، ونلتم ما تبغون - وهو استقلالكم - وفزتم بحرية بلادكم، فالغاز يكفيكم عن شجرة الخمر الملعونة التي غرسها المستعمر الكافر الجاحد في أرضكم، فاقتلعوها، وأزيلوا جذورها، فإن الشر كل الشر فيها وفي محصولها، فلتكن لكم الكفاية فيما رزقتكم به من الحلال فاعتبروا بهذا يا أولي الأبصار .. ولكن أين من يعتبر ويدكر؟ ورد في بعض الأدعية المأثورة هذا الدعاء، وفيه تعليم لنا جميعا، وتنبيه للساهين: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)) (¬1) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) - وفي رواية: ((كل جسد نبت من سحت)) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن، أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير وأبو نعيم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وله قصة.

الباب الخامس

الباب الخامس

الفصل الأول: العلماء والتعصب.

الفصل الأول: العلماء والتعصب. يتهم الملاحدة وأذنابهم بعض العلماء بالتعصب والتشدد في أمر الدين، ويقولون أنهم لا يتساهلون - نظرا للعصر - كما يتساهل غيرهم، وقد قال لي أنا شخصيا - مسؤول - كان - في الحزب، في مقابلة وقعت بيني وبينه، قال لي هكذا حرفيا: (قالوا لي عنك أنك متعصب) فقلت له: نعم أنا متعصب لديني، ولا أتساهل فيه أبدا، ذلك لأني لم أرض ببيع ديني مقابل رضى بعض الجهات عني، كما هي راضية عن غيري ممن يصفونهم بالمرنين المطواعين، وفي بعض الأوقات يصفوننا بالجمود للسيب نفسه، وهكذا يجري الصراع بين المتمسكين بدينهم والمحافظين على أخلاقهم، وبين الضعفاء المنشقين عن دينهم وأخلاقهم، كان هذا من أجل المواقف التي وقفها بعض العلماء لا عندنا في الجزائر فقط بل في جميع الأقطار الإسلامية تجاه حملة الإلحاد والاستهتار بالقيم الخلقية، والاستهزاء بالشريعة الإسلامية، وهي اتهامات يقصد من ورائها التنفير من الدين، كما هي باطلة لا دليل عليها يقبله العقل السليم ويسلم به، وذلك شأن العاجزين، يلتجئون إلى إلصاق التهم بغيرهم ليدعموا بها دعواهم، وهل يقال لمن يتمسك بعقيدته أنه متعصب؟ فحبذا المتعصب الذي يتمسك بدينه وعقيدته ومبدئه إذن .... الفصل الثاني: من لا يتعصب لمبدئه فلا خير فيه. نقول لهؤلاء للذين يحاولون نعت العلماء بالتعصب: إذا كان الإيمان بالمبدأ والدفاع عنه، والوقوف في وجه من يعمل على هدمه وإزالته - إذا كان هذا في نظركم تعصبا - غير لائق - فهو إتهام باطل وغير صحيح، ورأي فاسد

الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب.

يدل على سوء القصد، وفي الوقت نفسه هو - أي التعصب - إخلاص للمبدأ والدين الذي ندين الله به، لأن من دافع اللصوص الذين أرادوا أن يسرقوا ماله لا يعد في نظر العقل السليم متعصبا، لأنه قام بواجب، ودافع عن ماله، والدفاع عن الدين والمال واجب مشروع، إذ هو من الواجبات المنصوص عليها، وهي المجموعة في قول القائل: وحفظ دين، ثم نفس، مال، نسب ... ومثلها عقل، وعرض، قد وجب هذه هي الواجبات الستة التي يجب على المسلم أن يصونها ويحافظ عليها ويحفظها من كل من يريد أن يصل إليها بأذى، فعلى هذا الرأي الفاسد - التهمة بالتعصب - أما أن تدع اللصوص يأخذون مالك - وأنت تنظر - وأما أن تعد متعصبا فيما إذا عارضت اللصوص ودافعتهم عن أخذ مالك، هذا مثل الذين يرمون العلماء بالتعصب عند ما هبوا ليدافعوا اللصوص المهاجمين فمن يدافع عن مكاسبه لا يعتبر متعصبا، كمن يدخل يده في جيبك ليأخذ منك محفظة نقودك، فإذا فطنت له ومنعته مما أراد، قال لك: لماذا منك هذا؟ أنت رجل متعصب، إنها من العجائب والله. كل إنسان له مبدأ ارتضاه، أو عقيدة آمن بها، إلا والمبدأ يحتم عليه ويطالبه ويتقاضاه، أن يدافع عنه - ما استطاع - ولا لوم ولا عتاب عليه، لأنه آمن بمبدئه فدافع عليه، وكدليل على ذلك نقول: الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب. إننا لمسنا في الأحزاب السياسية - وهي من وضع البشر الذي يخطئ ويصيب - ورأيناها توصي أتباعها والمنخرطين فيها والمنتفعين من هياكلها - بالمحافظة على مبادئها، وسمعتها، والدفاع عنها في كل وقت وحين، والوقوف في وجه من يحاول التنقيص من قيمتها، هذا مشاهد لا ينكره أحد، بل يذهب التعصب ببعض أصحابها إلى محاولة القضاء على كل ما خالف حزبه من بقية الأحزاب، حتى يصفو الجو لحزبه فقط، ويزول كل حزب سياسي - في الوجود - من الوجود، وأظهر ما يظهر هذا في الحزب الشيوعي - مثلا - فهو يعمل - جاهدا - ليسود العالم كله والدنيا بأجمعها، ويقضي على جميع الأحزاب السياسية الأخرى، فمن خالفه ولم يقبله وينخرط فيه فهو رجعي،

متأخر، إمبريالي، عميل، رأسمالي، إلى غير هذا من الألفاظ التي نسمعها تتكرر على آذاننا في كل يوم والنعوت التي تمنح لكل من لم يكن شيوعيا، في حين خلعوا على أنفسهم خلعة - التقدميين والتحرريين - هذا رأيكم ودعايتهم فليقولوا في أنفسهم وفي غيرهم ما شاؤوا، ذلك أن الحقيقة لا تخفى على أحد وهي أن التعصب الموجود في الحزب الشيوعي غير موجود في أي حزب سياسي آخر سواه، وقد رأينا كيف أن الشيوعيين لا يتساهلون مع مخالفيهم في الحزبية أبدا - ويرونهم أقل شأنا وفهما واعتبارا منهم هم، ومن مبادئ الحزب الشيوعي إظهار عيوب ونقائص غير الشيوعي حتى يقضي عليه، ليخلو الميدان لهم وحدهم، فهل هذا من الشيوعيين تعصب لحزبهم أم ماذا يسمى ... ؟؟ فمحاولة القضاء على المخالف في الرأي - رأي غير سديد - لأن حرية التفكير والرأي من الأمور الضرورية اللازمة لحياة الفرد والمجتمع، كالهواء للتنفس والغذاء والماء لحياة الجسم وسلامته، فالذي يحاول أن يحجر ويمنع الأفكار من التفكير إلا كما يفكر هو يكون على جانب من الخطأ كبير - كما تفعل ذلك الشيوعية والاشتراكية - فللإنسان أن يفكر، وله أن يختار ما يحلو له من الآراء، إذا كان صاحب رأي وتفكير. هذه تربية الإسلام للمسلمين ليتعودوا استعمال عقولهم عند الحاجة - من غير تعطيل لها - وهي ظاهرة في بعض الآيات القرآنية، كقول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬1) وكقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (¬2) هذا دين الله الذي يجب أن تخضع له النفوس، وتؤمن به القلوب - ولا حق لها في اتباع غيره - ومع هذا فقد ترك للرأي حريته وحكمه وقوله، وللإقناع سبيله، لم يمنع المخالف له من الاحتفاظ برأيه ولو خالف الحق والواقع والجمهور. فهذه الماركسية الشيوعية - مثلا - تحارب الدين وتمنع أتباعها من الإيمان بالله الخالق لكل شيء وهذا مخالف لفطرة البشر، كما تمنع من الإيمان بالرسل والعمل بالشرائع السماوية، وفي مقابل الإيمان بالله والرسل والعمل بالشرائع تأمر أتباع مذهبها بالإيمان بالماركسية الشيوعية في نظامها ليكون ذلك عقيدة ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 99. (¬2) الآية 256 من سورة البقرة.

الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات ... ؟ وما شأنها ... ؟

لهم بدل العقيدة الدينية، فياله من ضلال واضح، فالاتحاد السوفياتي لا يسمح بالدعاية للأديان والعمل على نشرها، بل بالعكس من ذلك يسمح للدعاية ضد الأديان ويشجعها وهذا المبدأ معروف للجميع، أما الدعاية الماركسية فقد غزت البلدان الإسلامية بواسطة عملائها من أساتذة في الثانويات والجامعات ومراكز الفنيين وغيرهم، هكذا نشاهد شباننا الأغرار يقعون فريسة لهذه الدعاية المضللة، حتى توصلوا بتلك الدعاية إلى تمزيق القرآن وحرقه، والمسؤولون لم يحركوا ساكنا، جاء في الدستور السوفياتي المادة "124" بالحرف (كما أن حرية الدعاية المضادة للأديان مضمونة لكل مواطن) فحرية الكفر مسموح بها أما حرية الفكر فممنوعة، هذا ما شاهدناه في البلدان الاشتراكية. الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات ... ؟ وما شأنها ... ؟ أصوات ترفع بين الحين والآخر وكتب تظهر كذلك مدعية أنها تدافع عن الإسلام الذي قتله المتعصبون - يعنون بهم العلماء - وما دفاعهم في الواقع إلا قتل للإسلام وعقيدته وأخلاقه، باسم الدفاع عنه، إذ كيف يدافع المدافع عن شيء وهو غير مؤمن به. من هذه الفصيلة التي رفعت صوتها لتدافع به عن الإسلام - وهي غير مؤمنة به - امرأة ورجل، ادعيا أنهما جزائريان، أما المرأة فقد سودت بياضا وسمته كتابا - أو سود لها - بالفرنسية وسمته (المرأة الجزائرية) وملأته بالترهات والأباطيل على الإسلام وعلى الأخلاق الإسلامية، قاصدة بذلك دعوة المرأة الجزائرية المسلمة إلى نبذ الإسلام القديم المتعصب لأنه لا يوافق على اختلاط الرجال بالنساء، كما لا يوافق على أن تذهب المرأة إلى حيث تشاء من غير أن يمنعها وليها من ذلك، إلى غير هذا من الرغبات الشيطانية، فقد ظهر مما أذاعته أنها صنيعة للماركسية تخدم دعوى الملاحدة - قياسا على نفسها - وإن ادعت أنها تدافع عن المرأة الجزائرية - والمسلمة أيضا - والاسم الذي أعطته لنفسها (فضيلة مرابط) والاسم مستعار. فلو درست هذه المرأة الإسلام دراسة ولو كانت قليلة - كما درست الماركسية - وأحرى إذا كانت دراستها عميقة باحثة عن الحقيقة في غير كتب خصوم الإسلام، لو فعلت ذلك لوصلت إلى الحقيقة، وعرفت ما هو الإسلام

وطهارته ونزاهته، ولذاقت حلاوته التي لا توجد في غيره، أو لو تخلقت بأخلاقه، وتأدبت بآدابه لعرفت فضل الإسلام على البشرية كلها، ودعوته إلى الخير والفضيلة، وأيضا لو كانت زوجا لرجل مسلم - نشأة وعقيدة - لما تجرأت على الكلام في شيء تجهله، ولما جاءت بالبهتان والافتراء، مما دل على بعدها عن مبادئ الإسلام البسيطة، وعلى سوء قصدها، ويكفي دليلا على جزائريتها أنها تركت الزواج من خطيبها الجزائري المسلم وتعلق قلبها برجل فرنسي - شيوعي - قالوا عنه أنه أسلم وتسمى باسم بطل من الأبطال المسلمين - طارق بن زياد - ولم يظهر عليه شيء قليل من الإسلام، ويقال أيضا أنه أعان الثورة الجزائرية، ومن مظاهر إسلامه أنه كان يغري تلاميذه - وكان أستاذا في إحدى الثانويات بعاصمة الجزائر - بالإفطار في نهار رمضان، ويقول لهم من يفتح نافذة الحجرة أعطيه سيجارة يدخنها الآن، أما زوجته تلك فقد كانت تشبع المؤذن للصلاة - وكانت معلمة هي الأخرى مع زوجها في نفس الثانوية، وكانت نافذة حجرتها قريبة من المسجد - شتما وإهانة وتصفه بالحمار الخ، ولو كانت هذه المرأة في بلد يحمي الدين ويرعاه، أو يتتبع باهتمام ما يكتب عنه لما ترك هذه المرأة تعبث وتسخر بعقيدة الشعب الجزائري، من غير محكمة قانونية، لأن دين الشعب الجزائري الذي من أجل تحريره دفع دماء وأرواح أبنائه - إنما هو الإسلام - والإسلام وحده - ولأن دين الدولة الجزائرية هو الإسلام، كما هو مسطر في الدستور الجزائري الذي كتبه الشهداء بدمائهم قبل أن يكتبه النواب بحبر أقلامهم. وكانت هذه المرأة قد أعطت تصريحا - مع زميلات لها على مبدئها - إلى التلفزة الفرنسية عن المرأة الجزائرية المسلمة، فرأت وزارة التعليم - التي هي عاملة فيها وإليها يرجع النظر في شأنها - أن ذلك التصريح فيه تهجم على الإسلام وعلى المرأة الجزائرية، فأوقفتها عن التعليم - كما أوقفت بطلها - غير أن المرأة طالبت الوزارة - شرعا - فحكمت المحكمة لفائدتها، وأعيدت إلى عملها لتستمر في تضليل التلامذة، أما الأن فقد فارقت الوطن مع بطلها. وأما الرجل فهو كاتب خيالي قصصي، تعود أن يزين ما يكتبه بخياله وتزيينه وتزويقه وتزويره كي يجلب القراء لما يكتبه وينشره، فهو في حقيقة الواقع بعيد عن فهم الإسلام وما يدعو إليه من عقيدة سليمة وطهر وتطهير للأفكار من رواسب الجهالة والإلحاد، يؤيد ذلك الدليل والعقل والواقع.

فقد كتب هذا الكاتب في صحيفة أسبوعية، جزائرية الطبع والصدور فرنسية اللسان والأفكار، لا تكتب عن الأحداث الدينية إلا قليلا، وإلا إذا أرادت أن تحتقر. كبر على هذا الكاتب أن يرى ويسمع ما يغيظ إبليس ويزعجه ويهرب منه عند سماعه، كبر عليه أن يرى مآذن المساجد مشيدة عالية، منها يرتفع صوت المؤذن داعيا المؤمنين بربهم إلى الصلاة، إلى طاعة ربهم، إلى مخالفة إبليس في وساوسه، إلى الخير والفلاح، إلى توحيد الله خالق هذا العالم بما فيه، إلى الشهادة والإقرار بأن الله واحد في ألوهيته، لا شريك له في ربوبيته، وبأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول مرسل من الله، إلى عباد الله، إلى آخر ما في كلمات النداء من معان، والمؤمن الصادق في إيمانه إذا سمع المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة امتلأ قلبه خشوعا وحضر فكره الشارد في متاهات المادة والحياة البشرية المعقدة، وذكر ربه بكل إجلال واحترام، وأسرع إلى أداء ما فرضه عليه ربه في دينه، إلى أداء عادة هي أجل وأعظم ما في الشريعة الإسلامية من فروض وطاعات - بعد كلمة الشهادة - وهي الصلاة، أحب القربات إلى الله تعالى، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى صالح المؤمنين، وهي الفارق بين الكفر والإيمان، كما ورد في الحديث النبوي الشريف. هذا الرجل أو هذا الكاتب دفعه جهله بحقيقة الإسلام وإلحاده المنبعث من سوء تربيته إلى أن يكتب في صحيفة أسبوعية تصدر باللسان الفرنسي في الجزائر، ويظهر مما كتبه أنه مدفوع إلى التهجم على الإسلام. والصحيفة هي: (أكتياليتي الجريان) أي - أخبار الوقت الجزائرية - مظهرا بما كتبه بغضه لمشاهدة آثار الإسلام باقية وماثلة أمام بصره - كالقذى في عينيه - فهو يريد أن تزال الصوامع وتنسف وتهدم حتى لا يبقى لها أثر في الوجود، وحتى لا يتأذى برؤيتها - كما يتأذى الشيطان من سماع صوت المؤذن من فوقها فيفر هاربا إلى حيث لا يسمع صوته - لأنها علامة الإسلام، وهو لا إسلام له. هذا الكاتب لقبه واسمه هكذا: (كاتب ياسين) والصحيفة التي كتب فيها ما سأذكره تحمل عدد (77) بتاريخ 9 أفريل سنة - 1967 - كتب مستهزئا وساخرا تحت عنوان (كلاب الدوار) ما جبلت عليه نفسه الحقيرة، والعنوان

وحده كاف في التعبير عن مراده، والكلاب جمع كلب وهو الحيوان المعروف، أما الدوار في الجزائر فإنه يطلق على وحدة سكنية تشبه القرية الصغيرة تجمع عددا من السكان يكونون - عادة - من عائلات متقاربة في النسب (والدوار بضم الدال وتخفيف الواو). kateb Yacine : les chiens du douar كاتب ياسين يقول في المؤذنين: كلاب الدوار ومن هم كلاب الدوار في نظر كاتب ياسين؟ هم المؤذنون الذين يرفعون أصواتهم - من أعلى الصوامع - عند دخول وقت كل صلاة، يدعون المؤمنين إلى أداء فريضة الصلاة التي فرضها الله على عباده المؤمنين قائلين - الله أكبر - والأذان علامة على أن البلد بلد إسلامي، وضم إلى ذلك العنوان الساخر في وجه الصحيفة سورة كلب ينبح وصومعة وصاروخين لتطابق السورة العنوان، أحد الصاروخين انطلق في الفضاء وفارق الأرض والآخر بدأ في الانطلاق، والصاروخان من الصواريخ التي صنعت حديثا والتي تطلقها أمريكا في الفضاء، وهي من صنع البشر، وإلى الجانب من صور، الصاروخين سورة صومعة مسجد، تشبه صوامع الحرم المكي أو الحرم المدني، وهي ثابتة في مكانها، وكتب فوق الصور - ساخرا متهكما من مئذنة المسجد - قائلا: (الصاروخ الذي لا ينطلق).

une fusée qui ne démarre pas ويقول في الصومعة: الصاروخ الذي لا ينطلق

والصحيفة التي تحمل ذلك العنوان الساخر مع الصور بيعت هنا في الجزائر تحت نظر السلطة، ولم تصادر وتحجز، بل وتمنع من الصدور على ما فعلت من جرح شعور الأمة في دينها ومسجدها ومؤذنيها، كما تباع هنا مجلات أجنبية فيها صور تحمل معها السفه والمجون، من غير حجز ولا مصادرة ولا منع، فهي ما دامت لم تمس سياسة وسلطة البلاد فلا حرج عليها، ولو سخرت من دين الأمة وعقيدتها. نقول لهذا الكاتب الملحد ... ولأمثاله الكثيرين 1 - إن الصومعة علامة على المسجد، والمسجد في الإسلام كما هو بيت عبادة الله الخالق، هو أيضا مركز تهذيب وثقافة وتعليم وتربية - ومن غير شك أنك تجهل هذا - وكم أخرج المسجد من رجال عظماء، وفطاحل نجباء، أناروا الطريق للسائرين في متاهات الحياة، وأرشدوهم لما فيه السلامة والنجاة، أمثال المجاهد البطل الأمير عبد القادر، والشيخ عبد الحميد ابن باديس وغيرهما لم تخرج أمثالهما الجامعات يا مسكين ... 2 - لماذا لم تقل ما قلته في صوامع الكنائس المسيحية التي هي عنوان الاستعمار وأثر من آثاره التي تركها في البلاد والتي تحمل أجراسا عظيمة تدق دقا شديدا كلما دعت المناسبة لدقها؟ وأنت تسمع دقاتها، وتشاهد بناءها عاليا في الفضاء، نقول هذا لمجرد التنبيه لا غير، وإلا فلكل دين شعائره ومميزاته. وهكذا نرى بعض - ربائب - الاستعمار الذين تغذوا بلبانه، وتربوا في أحضانه، وأشربوا في قلوبهم حبه وحب أخلاقه، فذهب وتركهم في هذا الوطن - بعد أن أخرج منه - يقومون بنفس المهمة التي كان يقوم بها - ولربما أكثر - وهي محاولته القضاء على الإسلام، فهم على آثاره يهرعون، وإلى مرضاته يسرعون، ومن أجل ذلك رأيناهم يمجدون آثار المستعر، كما رأيناهم يعظمون آثار أجدادهم الرومان، ويحتقرون آثار المسلمين الذين أتوا إلى هذا الوطن بالرحمة والهداية. 3 - ونقول له ثالثا - جوابا عن تهكمه وسخريته بالصومعة صاروخ الإسلام -: إن صاروخ الإسلام - الصومعة - الذي تسخر منه وتمتهنه

الفصل الخامس: جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا.

قد هدم قصور الظالمين، وحطم عروش الطغاة الجبارين لو كنت تدري - ومن أين لك أن تدري في - وقد تغذيت بلبان خصوم الإسلام، فشببت وأنت أشد على الإسلام منهم، فقد قضى صاروخ الإسلام - الصومعة - على دولتي البطش والظلم والطغيان - في أول ظهوره منذ أربعة عشر قرنا - أعني دولتي الفرس والروم في المشرق وفي المغرب، وهما الدولتان القويتان اللتان كانتا تتحكمان في المشرق، ولا زال الإسلام إلى الآن يقضي على جبروت الجبابرة وطغيان الطغاة - إذا دعت الحاجة إلى ذلك - أيها المغرور. ولا نذهب بهذا الساخر الهازئ بعيدا، ففي أرضنا الجزائرية، وفوق تراب وطننا، وفي أيام ثورة الأمة الجزائرية المسلمة والمسلحة، كان جنودها المخلصون صواريخ موجهة إلى قلاع المستعمر وحصونه، فدكتها دكا عجيبا، وقضت عليها قضاء تركتها عبرة للمعتبرين، وأثرا بعد عين، لم يبق منها سوى هياكل تلك الحصون والقلاع مبعثرة هنا وهنالك في سائر نواحي القطر الجزائري، رآها كل الناس إلا من أعمى الله بصره وبصيرته فلم يقو على رؤية قوة الإسلام، في عقيدته وصواريخه البشرية، فيرون فيها العبرة والموعظة والقوة أيضا. الفصل الخامس: جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا. قد كان الجندي الجزائري المسلم - إبان حرب التحرير - في جيش التحرير الجزائري إذا هاجم جنود العدو المستعمر واشتبك معهم، كان صاروخا صارخا ناطقا قائلا: (الله أكبر)، وهي الكلمة التي يعتز بها المسلم، وهي كذلك الكلمة التي يفتتح بها المؤذن أذانه من فوق المئذنة، كما أنها الكلمة التي يفتتح بها المصلي صلاته، فإذا قالها امتلأت نفسه قوة وعزيمة وشجاعة، وفي نفس الوقت تمتلئ نفس جندي المستعمر ضعفا وخورا ورعبا وانهزاما، بالرغم مما معه من سلاح قوي مدمر فتاك، فيفر هذا الأخير من الأول، نعم يفر منه لائذا بحاميته ومركزه الذي تجمعت فيه قواته وجيوشه ومعداته.

إن هذه المعاني التي ذكرتها - وغيرها كثير - هي التي بعثت القوة والشجاعة في قلوب جنود جيش التحرير الجزائري وكلها حقائق لمسها من عاش وسط جيش التحرير، ولكن أنى للبعيد عنها - حسا ومعنى - أن يدركها أو يتذوقها؟ ولعله لا يصدق بها، فنقول له: (اسأل به خبيرا) إذ لازال الكثيرون من جنود جيش التحرير الصادقين أحياء، فإذا أردت الحقيقة فاسأل، ولا تحكم خيالك في أمر واقع ومشاهد. كالبدر لا تختفي ليلا أشعته ... إلا على أكمه لا يعرف القمر فالنتيجة التي شاهدناها نحن هنا، كما شاهد العالم - أجمع - آثارها نتيجة لا تنكر، وهي انتصار جيش التحرير الوطني الجزائري على جيش - بل جيوش - مغتصب بلاده، انتصر عليه بصواريخه البشرية التي صنعت في مصاخ المآذن المسجدية، فانطلقت مدوية في الفضاء، محطمة كل قوة وجدتها أمامها، فأحيت بذلك عمل أسلافها الأبطال وأثبتوا للعالم أجمع أن قوة الإسلام - المؤيدة من الله - لا تغلب، لأن الله معها وفي عونها، ومن كان الله في عونه فاز بالنصر والغلبة، ولم نسمع ولم نر في ذلك الوقت شيئا يدل على بطولة الملاحدة أو انتصاراتهم على العدو الجاثم على صدر الوطن، بل الذي نعرفه عنهم أنهم فروا هاربين إلى خارج حدود الوطن، خوفا على أنفسهم من الموت أو التعذيب أو حتى الاعتقال تاركين الشعب الجزائري - بإسلامه - يواجه العدو في محنته، وما أن انتصر على المستعمر وهدأت موجة الاعتقالات والسجن، ولا أقول الموت لأنهم ليسوا ممن يتشرفون بها، قلنا ما إن هدأت العاصفة حتى رجعوا إلى البلاد وجاؤوا للاستغلال، مقترحين وعاملين بحيلهم على قادة البلاد بأن تكون الدولة الجزائرية الجديدة دولة - لائكية - أي لا دين لها كالمولود - غير الشرعي - الذي يولد من أبوين غير معروفين، فلا يعرف له أصل، ولا دين، ولا وطن، فباؤوا بالفشل، وجاء دستور البلاد ينص على أن دين الدولة (الإسلام) فبقوا ينشرون - بين الحين والآخر - ما يمسون به شعور المسلمين، ويؤذون به أرواح الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداء لدينهم وعقيدتهم، يؤذونهم في أعز عزيز عليهم وهو دينهم وعقيدتهم. ليعلم هؤلاء - وغيرهم - أن الجزائر تحررت بقوة الإيمان والإسلام

الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين.

الدافعة إلى الأمام، إذ أن هذه القوة لا تعرف الرجوع إلى الوراء، فأخرجت العدو المستعمر من أرضها، وتحررت من عبودية العدو الغاشم، بالإسلام ودفعته إلى ما وراء البحار: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). إذا، فأين هذه الصواريخ البشرية النافعة - بالمقارنة - من تلك الصواريخ الجهنمية المدمرة التي تفخر وتفاخر بها - يا كاتب ياسين؟ - فتعدها شيئا عظيما، وما هي في واقع أمرها إلا آلات أعدت للتخريب والتعذيب، واكتشفت لتزيد الطغاة طغيانا، والظلمة ظلما وعتوا وفسادا في الأرض، كما زادت وتزيد الضعفاء تعاسة ومهانة وتشريدا في الأرض. ليفهم هذه المعاني الحقيقية - التي لا خيال فيها - من لا يزال لم يفهم، ليفهم من أراد أن يفهم سر الإيمان وما يتركه الدين من أثر طيب صالح نافع في نفوس أتباعه، فالشعب الجزائري حارب عدوه المستعمر بروح إسلامية، فكلمات: شهيد، وشهداء، وجهاد، ومجاهدين، وفي سبيل الله كل هذه الكلمات التي كانت مستعملة إبان المعركة كلمات دينية إسلامية أحب من أحب وكره من كره، لأن مدلول الكلمات لا يتغير بتغير الأفكار والأشخاص ولا زالت هذه الكلمات مستعملة إلى الآن، ولا يزال يعيش في ظلها أناس لم يكونوا من أهلها. الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين. وهكذا نشاهد في كل وقت اعتداآت تصدر ممن لا يقدر أحاسيس الأمة الجزائرية المسلمة، نشاهدها تتكرر بين الحين والآخر، وهنا قد يخطر على البال سؤال يوجه إلى العلماء وهو: لماذا أنتم ساكتون عن هذا الهذيان أو الأباطيل من هؤلاء المحمومين؟ وما لكم لا تردون عليهم بهتانهم، وتقنعونهم إن كانوا يريدون الاقتناع بأن آراءهم خاطئة؟ وأفكارهم مسمومة بسم الإلحاد والملاحدة، والاستعمار والمستعمرين، وكل هؤلاء خصوم وأعداء للإسلام والمسلمين، يعملون بكل طاقاتهم على محو الإسلام وآثاره من هذه الأرض ... ؟ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 45.

نجيب بأن العلماء على علم من هذا وأمثاله، غير أنه لم يسمح لهم، بنشر الردود على افتراآت المفترين، وكم من رد أرسلوه للصحف لينشر فأهمل، وقد كانت "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" (المؤسسة عام 1931) بالمرصاد - في أيامها - لكل من يتهجم على الإسلام - سواء ممن ينتسبون إليه أم من خصومه - ترد عليه بما يليق به وبأمثاله، وأعمالها ومواقفها معلومة غير مجهولة، غير أن ظروف الجزائر الحالية - وبعد الاستقلال طبعا - قضت على كل مؤسسة كانت قبل الاستقلال بالتعطيل، لذلك اجتمع جماعة من العلماء وأنصار العلم والدين، وأسسوا جمعية دينية - حسبما يسمح به الدستور الجزائري - باسم (جمعية القيم الإسلامية) سنة 1963م، وأصدرت الجمعية مجلة لها تحمل اسم "مجلة التهذيب الإسلامي" وعملت الجمعية مدة ثلاث سنوات - في دائرة محدودة - غير أن كل ما له مساس بالدين لم يرق في أعين من كانت نياتهم سيئة بالنسبة للدين الإسلامي - بالخصوص - لما فيه من الروح والحيوية، فترصدوا لها المراصد علهم يجدون لها سببا يقضون به عليها، فكانت محنة محاكمة العلماء في مصر سنة "1966" وعلى رأسهم الشهيد (سيد قطب) فأرسلت الجمعية برقية التماس لرئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر، ترجوه فيها أن يتدخل في القضية بأن يخفف على من حكمت عليهم المحكمة بالإعدام، والذي قامت به الجمعية أمر يقتضيه واجب التراحم والأخوة الإسلامية، فظهر أن هذا السعي الإسلامي لم يعجب الملاحدة، سواء من كان منهم في الداخل أو في الخارج، إذ المكيدة كانت مدبرة من قبل الملاحدة - كما كشف عنها النقاب من بعد - وما الاتهامات والمحاكمات إلا شيء صوري لا غير. والمعروف عند جميع الدول والشعوب أن عملا مثل هذا العمل الذي قامت به جمعية (القيم الإسلامية) شيء معروف ومستعمل، فهل في إرسال الجمعية لبرقية الالتماس شيء مخالف للقوانين والأعراف الدولية؟ وهل يعد مثل هذا تدخلا في شؤون الغير؟ - والإسلام جعل المسلمين كلهم إخوة - فقاموا للبرقية - تلك - وقعدوا ولم يجدوا لها غير صلاح واحد، وهو حل جمعية (القيم الإسلامية)، وتعطيل المجلة، وبذلك وقف نشاطها - كجمعية - وتعطلت عن أداء مهمتها، وهذا هو النظام الاشتراكي في كل بلد، فإنه لا يسمح بتأسيس أية هيئة أو تشكيلة - كيفما كانت - إلا إذا كانت تخدم مبادئه وتحمد أفعاله وتؤيدها.

الفصل السابع: الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين: ما هو الداعي إلى هذا؟

والأمة الجزائرية لم تعرف في أيام محنتها الطويلة إلا الإسلام، فهو الذي أمدها بالحياة والبقاء، فأبقى فيها روح الإيمان، وهو الذي أوقد فيها شعلة الحياة الحرة الكريمة، فلم تعرف الملاحدة إلا من بعيد، ولكنها اليوم تعاني من تدخلاتهم الشيء الكثير. الفصل السابع: الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين: ما هو الداعي إلى هذا؟ لقد رأينا - أمثال - كاتب ياسين - يمجدون ويعظمون ويحفلون بالآثار الرومانية التي تركوها في هذه الأرض - لا الآثار الإسلامية - ويعظمونها إلى حد كبير. حقا لقد رأينا في هذه السنوات الأخيرة - وبعد الاستقلال طبعا - البعض ممن لا يزالون يحنون إلى عهد القهر والظلم واغتصاب الأوطان، عهد الرومان المشركين، رأينا هذا البعض يعملون - جاهدين - على ترضية الاستعمار الذي طرد من البلاد، فقد عمدوا إلى إقامة حفلات سنوية - فنية - تقام بين أطلال بلدة (تيمقاد) الرومانية القريبة من مدينة "باتنة" عاصمة ولاية "الأوراس" يقام وسط الأحجار المنحوتة، والهياكل الرومانية، تنفق من أجلها الأموال الكثيرة، كل ذلك احتفاء بأجدادهم الرومان - ولعلم من حفدتهم - تقام هذه الحفلات بين بقايا آثار الرومان بالمكان المذكور، وأمام التماثيل والأحجار والأقواس، تماما كما يفعل عباد الأوثان بأوثانهم في أعيادهم لآلهتهم، يجتمعون فيها للرقص والغناء والطرب الخ، ويدعى إليها حفدة الرومان من أروبا، ويجعلون لها أسبوعا معينا في السنة، يمر كله وهم تحت التماثيل التي نحتها الرومان عباد الأوثان، فهو احتفال واحتفاء - في الواقع - بها، أسبوع كامل يمر وهم بين الأقواس والمسارح الحجرية، بعنوان (أسبوع الثقافة) أو المحافظة على الآثار الرومانية - حقا إن العرق دساس - فالثقافة صارت عندنا عنوانا على الرقص والغناء والمحرمات الشرعية وغير ذلك كما تقدمت الإشارة إلى مثل هذا في أسبوع - العلم - الذي يقام عادة لذكرى وفاة المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وأصل الثقافة حذق الشيء وفهمه، بمعنى العلم والمعرفة.

الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم.

كل هذا تضليل وبهتان، والواقع أنه تمجيد وتعظيم وتقدير لما تركه الرومان هنا في هذه الأرض وهو في نفس الوقت تزلف وترضية لحفدة الرومان. إننا لم نشاهدهم يحتفلون بالآثار الإسلامية - وهي كثيرة - أصلا، فما الذي دفعهم إلى الاحتفال بالآثار الرومانية ... ؟؟؟ والفرق عظيم جدا بين ما تركه الإسلام والمسلمون فوق هذه الأرض - عندما حلوا بها - وما تركه الرومان فيها عندما استولوا عليها، فالإسلام والمسلمون أتوا إلى هذه الأرض بالنور الإلهي، النور الذي بدد ظلمات الجهل والشرك والضلال، وقضى على الخرافات التي كانت منتشرة في الأرض، كما قضى على عبادة المخلوق للمخلوق - فيما هو من خصائص الخالق - وطاعة المخلوق للمخلوق، والخوف من المخلوق إلى غير ذلك مما جاء به الإسلام - شريعة الله - من رحمة وعدل وإحسان وحب وخير وفضائل، وفي المقدمة تحرير العقل من كل ما كان يتخبط فيه من أنواع الضلالات، فقد كون الإسلام مجتمعا خاليا من الفواحش والمناكر التي تفسد الأخلاق، وتولد الأمراض في المجتمع الذي تزرع فيه، والمشاهد أقوى حجة على من لم يفهم أو يعترف. كل هذه الفضائل الإنسانية بثت إلى المسلمين في المساجد - ولا زالت تبث لهم إلى الآن - التي في جوانبها المآذن الشامخة، التي يهزأ منها كاتب ياسين وأمثاله، ومنها يستمع المسلمون إلى دعوة الداعي، فيهرعون إليها ملبين النداء، ويفر الشيطان وأعوانه منها بعيدا حتى لا تسمع آذانهم تلك الدعوة الروحية. الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم. إن الإسلام هو دين التوحيد الخالص من كل شائبة شرك، فهو الدين الذي يبطل عبادة الآلهة الباطلة، ويثبت الألوهية الحقيقية لله الواحد القهار الخالق لكل شيء، خلقه فقدره تقديرا، فأساس الإسلام هو التوحيد - لا إله إلا الله - بمعنى لا معبود بحق غير الله، ولا شريك مع الله، فكل من اتخذ مع الله إلها آخر فهو مشرك كافر بالله، جاحد لخالقه، ولهذا ورد النهي من الله تعالى عن تعظيم الآلهة الباطلة، والافتخار بالمشركين

وأعمالهم وآثارهم، ولو كانوا آباء أو أجدادا أو إخوة، فالإسلام قد قطع جميع الصلات بين المسلمين المؤمنين بالله الواحد الأحد، وبين المشركين الجاحدين، السابقين منهم واللاحقين، فيحرم على المسلم المؤمن الموحد لله أن يفتخر أو يفاخر أو يعظم المشركين ومعبوداتهم وآثارهم، لأن الفخر بهم إقرار لهم على شركهم، ورضى بكفرهم، ولا يصدر هذا وأمثاله ممن آمن بربه، ودرى أن الشرك باطل وظلم عظيم: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأن المشركين كانوا على ضلال مبين. لمثل هذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم من آمن من قومه - قريش - عن الافتخار بآبائهم، لأنهم كانوا مشركين، والشرك لا يستحق التعظيم والفخر به والانتساب إليه. جاءت الأخبار تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند باب الكعبة - المشرفة - يوم فتح مكة المكرمة - وخاطب قومه قريشا بأن يدعوا مما كانوا عليه من الفخر بآبائهم المشركين الضالين، فبعد أن وحد الله وأثنى عليه بما يليق بجلاله، بين أن الله هو الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: (يا معشر قريش ... إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1). وأخرج أبو داود في سننه، في كتاب "الأدب" تحت عنوان (التفاخر بالأنساب) بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية (¬2) الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام، والآية 13 من سورة الحجرات. (¬2) عبية بضم العين وكسرها وكسر الباء وفتح الياء المشددتين هي التعاظم والتفاخر.

رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)) (¬1). فالرسول عليه الصلاة والسلام خاطب قريشا بهذا الخطاب - في ذلك اليوم - الذي له عواقبه في الطاعة والعصيان، وقريش كانت تذكر دائما مفاخر آبائها وأجدادها وتعتز بها، فهو يقول لهم: إن الله ينهاكم عن الافتخار بعظمة آبائكم وأجدادكم الكفار المشركين، ويأمركم بترك نخوة الجاهلية، حيث أبدلكم بذلك فخر الإسلام وعز التوحيد واتباع سبيل الحق والصواب، بعد أن كنتم وكان آباؤكم وأجدادكم يتخبطون في ظلام الجاهلية الجهلاء، ويسلكون طريق الباطل والظلم والعدوان والفساد في الأرض فليفتخر وليفاخر - من أراد ذلك - بالإسلام والمسلمين الرحماء، لا بالشرك والمشركين القساة، والأحساب الماضية لا تساوي شيئا، ثم أكد عليهم بترك ذلك الفخر، وإلا كانوا أحقر على الله من - الخنافس - التي تدفع القذرة والنجاسات بأنفها، وتشم بذلك الرائحة الكريهة الخبيثة، وهو تمثيل عجيب، فيه معنى دقيق لمن تدبره وفهم ما فيه من معاني الخسة والحقارة والهوان. ويزيد هذا توضيحا ما رواه الإمام أحمد في مسنده - وانفرد به - عن أبي ريحانة، واسمه سمعون، وقيل شمعون، وقيل غيرهما، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وفخرا - وفي رواية عزا وكرما - كان عاشرهم في النار)) أو هو عاشرهم في النار كما جاء في بعض طرق الحديث. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر المسلمين من الانتساب إلى أجدادهم المشركين، بقصد الفخر والاعتزاز بهم، فالاعتزاز بالرومان أو بالفراعنة ¬

_ (¬1) الجعلان بكسر الجيم وسكون المين، جمع جعل بضم الجيم وفتح العين: دويبة صغيرة مثل الخنفساء، تجعل من العذرة كرة - لتتمعش منها - ثم تدفعها بأنفها، ولا تعيش إلا من الأوساخ والنجاسات، ويقال أنها تموت من رائحة الورد وكل رائحة طيبة ..

أو غيرهم كالبربر المشركين الكافرين يشمله هذا النهي وهذا الوعيد الشديد، إذ لا عزة إلا بالتوحيد وطاعة الله وتقواه، كما في الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فمن - يا رب - للمسلمين الذين تركوا عز الإسلام والتوحيد والخلق الكريم، وراحوا يبحثون وينقبون في المقابر والآثار عن رفات الجاهليين والمشركين، ليباهوا بها وبهم الأمم الجاحدة لربها المنكرة لخالقها، بأنهم هم - أيضا - كان لهم أصل في الشرك، فها هم يحنون إليه، ويعتزون به .. ؟؟ فاللهم أنقذهم من هذا الضلال المبين، فقوم منهم يفاخرون بآثار الرومان، وآخرون بآثار الفراعنة، وآخرون بآثار البابليين أو الآشوريين أو العمالقة، أو القرطاجنيين، أو البربر ... وتنفق حكوماتهم في سبيل ذلك الأموال الوافرة في سبيل المحافظة على تلك الآثار - لأنها تجلب السواح ومعهم المال، أما العقيدة وأثرها فلا قيمة لها - فهي تذكر بالشرك والمشركين، وما لهم لا تكون لهم أسوة فيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بأصنام المشركين التي كانت في الكعبة المشرفة؟ فقد كسرها جميعها يوم فتح مكة، وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬1) إذ من هذه التماثيل يدخل الشرك إلى القلوب، ويعود إلى الحفدة، كما ذكر العلماء في سبب عودة الشرك وظهوره إلى الأرض بعد أن طهرت منه بالطوفان، ذلك أن إبليس أخرج الأوثان التي كانت ردمت بالطوفان، وهي المذكورة في سورة نوح عليه السلام في الآية (23) وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وهي تماثيل كانت تمثل رجالا صالحين، فجاء إبليس إلى الحفدة ووسوس لهم وحثهم على عبادتها، وقال لهم: هذه آلهة آبائكم فاعبدوها - برورا بهم - كما كانوا يعبدونها فعكفوا على عبادتها، وكما فعل - السامري - ببني إسرائيل - قوم موسى - كما أخبر بذلك القرآن في قوله: {فَكَذَلِكَ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 81.

أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (¬1)؛ فالسامري اتخذ من ذهب بني إسرائيل عجلا له خوار - وهو صوت العجل - وحث بني إسرائيل على عبادته، وقد رأينا من تعلق بعض المسلمين بذلك ما يذهل، فشرعوا يسلكون طريق العودة إلى ما كان عليه أولئك الأجداد المشركون، بتعظيمهم والانتساب إليهم والافتخار بهم وبأسمائهم، فمن أنواع ذلك التعظيم وإحياء تلك الآثار الرجوع إلى التسمي بأسمائهم، فقد صاروا يسمون أولادهم بأسماء أولئك الأجداد المشركين، مثل (فرعون) وهو الذي قال - جهلا وغرورا - {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، ومثل هذا من سمى ابنته (الكاهنة) (¬2) يقصد ملكة الأوراس البربرية، أو من سمى ولده (يوغرطة) مما رأيناه آخذا في الانتشار إذا لم يرجع المسلمون إلى أصل دينهم النقي من هذه الآثار والأقذار الشركية. ومن تعظيم آثار المشركين الدعوة إلى العودة للغة البربرية، فقد أخذ البعض ممن أصلهم بربري في وضع حروف للغة البربرية - وهي لغة بلا حروف - يريد من وراء ذلك الاعتزاز بها، ولتكون عوضا عن اللغة العربية - لغة القرآن - في الجهات التي لا زالت مستعملة فيها كلغة للتخاطب في منطقتها فقط، ولسنا ندري ما تحمله الأيام في طياتها، ولعله سيتقدم - في يوم ما - بمشروعه، طالبا من الحكومة موافقتها عليه ليصبح نافذ المفعول والتطبيق، وهي دعوة جاهلية عنصرية يمقتها الإسلام، لأنها تدعو الأمة إلى الانقسام والتفرق، زيادة عن كونها تحارب لغة القرآن. وبهذه المناسبة نذكر ما قام به المستعمر أيام احتلاله للوطن، فقد حاول التفرقة بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد، من جهة العنصرية والطائفية فلم يفلح، بالرغم مما بذله من مجهود، من ذلك أنه أنشأ محطة إذاعية خاصة باللغة البربرية، تبث برامجها سائر اليوم وطائفة من الليل، واستمر عملها إلى يومنا هذا، ولربما زاد على ما كان في أيام المستعمر، كما استمر عمل محطتي الإذاعة والتلفزة باللغة الفرنسية - لغة المستعمر - إلى الآن أيضا في أرض ¬

_ (¬1) سورة طه الآية 88. (¬2) وهي التي أعانت ملك البربر "كسيلة" على قتل الفاتح العظيم عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه.

الجزائر العربية اللغة، نحن نعرف أن الأمم كلها تذيع برامج بلغات أجنبية، وفي أوقات قليلة لتطلع الأجانب عنها بما يحدث في الداخل والخارج من غير أن تهضم حق لغة الوطن. كلنا يعرف أن أشرف اللغات إنما هي اللغة العربية، باعتراف جميع العلماء في القديم والحديث، لأن الله عز وجل أنزل بها القرآن، وهو أشرف الكتب السماوية، فما معنى إبعاد استعمالها من وسط قسم من سكان الجزائر المسلمين؟ واستعمال اللغة البربرية بدلها، وهي اللغة التي لا حروف لها ولا حساب، لو لم يكن المقصود من ذلك إنما هو إحياء النعرات القديمة التي قضى عليها الإسلام، وفي ذلك تشتيت لعناصر الأمة الواحدة التي وحدها الإسلام دين التوحيد. فمشروع كهذا لا يستحق إلا الرفض والإهمال، لأنه يهدف إلى إحياء العنصريات التي أماتها الإسلام، وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم - دعوة الجاهلية - وقال: ((دعوها فإنها منتنة)) وقد سمعنا البعض ممن ينتسبون إلى العلم والدين لا زالوا يستعملونها في دروسهم، ومخاطبوهم يحسنون العربية. ولعلهم يظنون أن هذا دليل على وطنيتهم وإخلاصهم للغتهم البربرية. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن استعمال لغة غير اللغة العربية لمن يحسن التكلم بها، لأنها لغة القرآن والدين والوحدة، فقد أخرج الحاكم في المستدرك ما يفيد ذلك. 1) أخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية، فإنه يورث النفاق)). 2) وجاء فيه أيضا: عن يحيى بن كثير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم بالفارسية زادت في خبثه، ونقصت من مروءته)) فمتن الحديثين وإن لم يبلغ درجة الصحة أو الحسن إلا أن معناهما يوافق دعوة الإسلام إلى الوحدة ونبذ العنصرية. فالتكلم بلغة غير اللغة العربية في وسط إسلامي فيه نوع من النفاق والخبث والبغض للغة العربية، وذلك يعود في الدرجة الأولى إلى مدى تمكن الإسلام من القلب والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر اللغة الفارسية لأنها اللغة التي كانت مستعملة في زمنه ومثلها الآن الفرنسية والبربرية الخ، نسأل الله الهداية والتوفيق.

الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم، واعتزازهم بدينهم.

الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم، واعتزازهم بدينهم. كان الحكام المسلمون محل احترام ومحبة وطاعة لأنهم الحماة لهم والمحافظون على أموالهم وأعراضهم، والمدافعون عن حرماتهم، من دين وعقيدة وأعراض وغير ذلك، وقد طبع الإسلام الواحد منهم بطابعه الخاص، ورباه بتربيته الكاملة من حبه الخير للمسلمين، وأمره بالتواضع للكبير والصغير والذكر والأنثى، والغني والفقير، بلا فرق بينهم، ونهاه عن إغلاق بابه دون ذوي الحاجات منهم، كي يصلوا إليه في كل أوقات الحاجة وهو يجتمع معهم في المسجد ومشاهد الخير ولم يرض له أن يكون جارا عنيدا قاهرا لا يصل إليه أحد من ذوي الحاجات إلا إذا كان من المقربين إليه، أو من أصدقاء المقربين إليه، تلك هي تربية الإسلام للحكام المسلمين، نراها ظاهرة جلية في فخر الإسلام والمسلمين، الأمير العادل والخليفة الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أفصح عما كان عليه العرب قبل الإسلام من ذلة وهوان وتفرق، وعما وصلوا إليه بعد أن جاءهم الإسلام من عزة وكرامة وقوة واتحاد، فمن أراد العزة والفخر فعليه بالإسلام. فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده إلى طارق بن شهاب قال: (خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة (¬1) وعمر على ناقة له، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟؟؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك (¬2) فقال له عمر: أوه ... لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله)، قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وفيه أيضا عن طريق آخر عن طارق بن شهاب قال: (لما قدم عمر الشام لقيه الجنود، وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو أخذ برأس بعيره يخوض الماء، فقال له يعني قائل (يا أمير المؤمنين تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه ... ؟ فقال ¬

_ (¬1) المخاضة موضع فيه ماء فيخوضه المارة مشاة وركبانا. (¬2) استشرفوك رأوك من مكان عال.

عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العز بغيره) (¬1) نرى من هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا مقام قائده عنده أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل لولا ذلك المقام والمنزلة التي هو فيها لضربه عمر ونكل به حتى يجعله نكالا وعبرة لغيره، لأنه اغتر بالمظاهر، ولم ينظر - كعمر - إلى حقيقة العربي المسلم الذي رفع الله عنه الذل والمهانة بعز الإسلام لا بغيره، فكلمة عمر ردع وتوبيخ لأولئك الذين يحاولون أن يصلوا إلى العزة من غير طريق الإسلام، فالعزة والقوة إنما هما في الإسلام لا غير، ولهذا رأينا ما أصاب العرب والمسلمين من ذلة وهوان حين تركوا الإسلام بما فيه من عبادات ومعاملات وعظمة وتشريع، ولن يرجع إليهم ما فقدوه إلا برجوعهم إلى دينهم، وإلا فلا يطمعون. ومن إدراك بعض أمراء العرب لحقيقة أنفسهم - كما تقدم في كلمة عمر رض الله عنه - ومقارنة حالتهم وما كانوا عليه قبل الإسلام من الفقر والمذلة والهوان، وما صاروا إليه بعد أن جاءهم الإسلام من الغنى والعزة والكرامة، من أولئك الذين لم تطغهم الإمارة فعرفوا حقيقة أنفسهم: الصحابي الجليل عتبة بن غزوان أمير البصرة من قبل الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما، فلنستمع إلى خطبته القيمة، بل إلى موعظته البليغة أمام ملإ من رعيته. قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، وأن ما بقي منها صبابة كصبابة الإناء، وأنتم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما يحضركم، فإنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، والله لتملأن، أفعجبتم!؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليها يوم وللباب كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى تقرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فاشتققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت ببعضها، واتزر هو ببعضها، فما أصبح اليوم منا واحد إلا وهو أمير على مصر ¬

_ (¬1) المستدرك ج 1 ص62.

من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الناس صغيرا). ومن هذا القبيل ما ذكره ابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما عند تفسيرهما للآية 26 من سورة الأنفال وهي: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فقد رووا عن قتادة رضي الله عنه أنه قال: (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعزاه جلودا، وأبينه ضلالة، مكعومين (¬1) على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كان أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل). سمعنا من بعض المغرورين من قال: تريدون منا أن نرجع إلى عهد عمر وما كان عليه، فذلك زمان وهذا زمان ... ولولا الغرور بالنفس لما صدر منه هذا القول، ولو تأمل في حياة عمر وفي زمنه لرأى أن تطبيق ما كان عليه عمر هو الآن أيسر، نظرا لما بسط الله من الرزق وتيسير سبل الحياة، والذي ينقصنا الآن عن زمن عمر إنما هو الإيمان بالله وبقضائه والامتثال لما ورد في شرع الله، إن عمر كانت تأتيه الأموال الوافرة، والألبسة الفاخرة من حرير وغيره، فلم يكن - رضي الله عنه - يقتطع لنفسه ما يعجبه، والباقي يوزعه على رعيته، بل كان يوزعها على الرعية ويبقى هو في عباءته المرقعة وكسرة الشعير، والمميز الوحيد بين حياة اليوم والحياة في زمن عمر إنما هو الإيمان وقوته وسيطرته على النفوس والمشاعر، وتقوى الله والخوف من حسابه وعقابه، وانعدام ذلك منا، وقد أعز الله به الإسلام استجابة لدعوة الرسول صلى الد عليه وسلم، أما أمثال ¬

_ (¬1) مكعومين مأخوذ من كعم الجمل إذا ربط فاه بحبل حتى لا يعض غيره

من صدر عنه ذلك القول فقد أذل الله بهم الإسلام لأنهم أعرضوا عن مادة عزهم واتبعوا الشهوات، فالقرآن ينبه المسلمين إلى أن عزهم واعتزازهم كامن في دينهم، فالله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1)، نزلت هذه الآية بعد ما قال كبير المنافقين - عبد الله بن أبي بن سلول - قوله الدال على غروره ونفاقه كما حكاه القرآن ليبقى يذكر المؤمنين بأقوال المنافقين، وذلك قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (¬2) فالمنافق يريد بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صدق قول الله وخاب المنافق، فأعز الله رسوله والمؤمنين، وأذل الكفر والمنافقين، "قاتل بسعد وإلا فدع". ومن خلال ما تقدم نرى أن البعض من المتعلمين والمثقفين ثقافة غير عربية إسلامية لم يفيدوا أمتهم بشيء مفيد من ثقافتهم تلك - إلا القليل منهم - بل راحوا يسخرون ويضحكون من أمتهم وثقافتها العربية ومقدساتها الدينية، مثل ذلك الكاتب - كاتب ياسين - الذي سخر واستهزأ بحرمة المسجد وصومعته، وفي الوقت ذاته يفخرون بلسانهم الأعجمي الجديد، ويفخرون بما تعلموه، ومنهم من تنكر لدينه ولغته ووطنه وجنسه فنبذ الدين وحقوقه، والوطن وواجباته، والجنسية وفضائلها التي كان عليها أجداده، فلم يأت لأمته بالمحاسن التي وجدها في اللغة التي تعلمها، كما هو الشأن في كل من تعلم لغة غير لغته الأصلية، يأخذ ما فيما من آداب ومحاسن، وينقلها إلى لغة قومه - من طريق الترجمة - بل رأيناهم بعكس هذا يعملون على الابتعاد من لغتهم وآدابها ساخرين مستهزئين منها ويستعملون في مخاطباتهم لبعضهم اللغة الأجنبية عوضا عن اللغة العربية الشريفة التي شرفها الله بالقرآن، مما عاد بالخسارة عليهم وعلى أمتهم. فالذي يستعمل في محادثاته ورسائله لغة غير اللغة العربية - وهو يعرف العربية - فذلك دليل على بغضه للعرب، كما هو دليل على نفاقه، فقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حب العرب إيمان وبغضهم نفاق)) (¬3) وقال عليه الصلاة والسلام لسلمان الفارسي ¬

_ (¬1) و (¬2) الآية 8 من سورة المنافقون. (¬3) رواه الدارقطني عن ابن عمر ذكره العجلوني.

رضي الله عنه: ((يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك))، قال سلمان: فقلت: يا رسول الله وكيف أبغضك وبك هداني الله عز وجل؟ قال: (تبغض العرب فتبغضني) (¬1). إن البعض من هؤلاء المتعلمين للغات الأجنبية لو فعلوا ذلك لوسعوا مدارك إخوانهم بما جلبوه لهم من اللغات الأخرى، كما فعل الأولون، فقد أتقنوا اللغات الأجنبية ومنها نقلوا لنا علوم اليونان، من طب وفلسفة وغيرهما مما عاد على الإنسانية كلها بالخير والمنفعة، فلم يفعلوا هذا وأخذوا يسخرون من مقدسات أمتهم وتقاليدها ودينها القويم، مثل ذلك الذي سخر من صومعة الجامع، وهو في الحقيقة سخر من الجامع وما يقع فيه من طاعات لله ومن المؤمنين الذين يؤمونه في كل وقت لتأدية فروضهم الدينية. فالمئذنة - مثلا - تؤدي واجبها ووظيفتها، فهو يحلو له أن تهدم وتحطم وتطير في الفضاء حتى لا يراها ماثلة أمام عينيه ترمز إلى شعيرة من شعائر الإسلام وهي الصلاة، كما هي دليل على أن البلد بلد إسلامي. ولعل هذا الملحد يتألم أكثر لو تجول في أطراف الوطن الجزائري، وفي مدنه وقراه لرآى ما قام به الشعب الجزائري من بناء المساجد الكثيرة الضخمة والواسعة، ولا زال مستمرا في بنائها، ليعوض بذلك ما هدمه الاستعمار حين دخل إلى هذا الوطن، مما يدل على أن هذا الشعب مسلم عريق في الإسلام، لا يصده عنه صاد أو صدى مهما تنوعت في ذلك الطرق والحيل، وقد أكثر منها - وخاصة بعد الاستقلال - بصفة هائلة أذهلت الملاحدة ومن على شاكلتهم، وهم يتألمون من رؤيتها ولا يتألمون من رؤية صوامع الكنائس التي تحمل في أعاليها الصلبان، فقد كان المستعمر يخطط المدينة أو القرية وبين دورها وأنهجها الكنيسة أولا، وكان يضع في أعلى الصومعة الصليب محاطا بالنور الكهربائي ليراه الداخل إلى البلاد من بعيد فيقول: أن هذا البلد بلد مسيحي، وقد زال هذا بعد الاستقلال - والحمد لله - فهو لم ينظر إلى هذا الصنيع الذي يخالف تقاليد البلاد ووضع أمامه - فقط - صومعة الجامع، ولعله يرى فيها أنها تمثل الانحطاط والتأخر، ¬

_ (¬1) المستدرك للحاكم ج 4 ص 86 وأحمد والترمذي.

في حين يرى نفسه وثقافته الأعجمية في أعلى الطبقات، أنه مغرور - والله - ومخدوع، خدعته نفسه، وغره الشيطان. ويجب أن نلاحظ أن البعض ممن تألم مما شاهده من انحراف وخروج عن منهج الشرع والصواب - حسب إيمانه - أخذ ينبه المنحرفين إلى عواقب انحرافهم عليهم وعلى الأمة التي يعيشون في وسطها، وينور الطريق الذي أظلمه بعض من لا خلاق لهم، وأخذ يدافع عن الإسلام كيد الظلمة الكائدين للإسلام وأحكامه وأخلاقه، يدافع عن الإسلام - بحق ونزاهة - فلم يعجب هذا بعض الذين لا يرضون بالرجوع إلى الإسلام وآدابه وأحكامه. إن ما جرى ويجري في بعض الأوطان الإسلامية يدل على ما يلقاه هؤلاء المدافعون عن الإسلام من بعض المسؤولين في حكومات تلك البلاد من التعنيف والتضييق من أجل دفاعهم عن الإسلام المعتدى عليه في بلده ووطنه، يلقون من ذلك الشيء الكثير، كما يجدون فيهم الغضب وعدم الرضى، وفي بعض الأوقات يبعدون إلى الصحراء والأماكن القاصية والقاسية، وتحاك لهم المكائد والحيل الإبليسية، ويتهمون بشتى أنواع التهم المزيفة الباطلة، كتهمة أخذ المال من دولة أجنبية، أو محاولة قلب نظام الحكم القائم في البلاد، أو الاغتيال، أو اتصاله بأسلحة من دولة أجنبية، إلى آخر ما سمعناه ونسمعه دائما مما يضحك الثكلى، كل هذا من أجل أن يجد الحاكم سندا يستند إليه في حكمه ومحاكمتهم والقائهم في غياهب السجون، ليصفو لهم الجو وليخيفوا بهم غيرهم، حتى لا يتجرأ أحد على إنكار المنكر، وتارة يعدمون أو يشنقون. وفي نفس هذه الأوطان التي أشرنا إليها قد وجد آخرون - من الملاحدة - اتهموا بنفس التهمة من محاولة القتل أو قلب نظام الحكم، أو إدخال الأسلحة أو غيرها، لكن عند المحاكمة كانت الأحكام أشبه شيء باللعب والهزل، وذلك لأن وراءهم قوة الملاحدة والخوف من غضبهم وقوتهم، والرغبة فيما عندهم، فهل هذا تمييز عنصري أم ماذا يسمى ... ؟؟ من يحب الفضيلة ويعمل لها يضيق عليه في السجن أو يعدم، ومن يبث الإلحاد ويحاول إضعاف سلطة الإسلام يلقى التخفيف، والسبب في ذلك ظاهر لمن فكر قليلا، وهو القضاء على الإسلام في أشخاص الذين يدافعون عنه، واستجابة لرغبة الملاحدة في ذلك.

إن الهدامين للعقيدة والشريعة الإسلامية، والمخربين للأخلاق الحسنة، الجانين على الفضيلة والكرامة، إن هؤلاء مرضي عنهم، بل ويشجعون على هدمهم وتخريبهم، مع الكلمة المسموعة والاحترام، وما هذا من بشائر الخير. إن المدافعين عن الإسلام يكفيهم - جزاء - رضى ربهم عنهم، ويكفيهم أنهم قاموا بواجب مفروض عليهم، أرضوا بعملهم ذلك ربهم، وبيضوا صحائف تاريخهم وتاريخ دينهم، ليس لهم - من وراء ذلك - مطمع دنيوي، ولا غرض دنيء يعملون من أجله، وحسبهم هذا شرفا وذكرا حسنا، ذلك أنهم في زمان قل فيه حماة الفضيلة وأنصار الحق والخير، وكثر فيه أشياع الرذيلة والباطل والشر، ولقد أحسن القائل القديم في قوله: مررت على الفضيلة وهي تبكي ... فقلت على ما تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي ... جميعا دون خلق الله ماتوا؟ إن الرضى النافع إنما هو رضى الله، والسخط المهلك إنما هو سخط الله، ومن أجل هذا يعمل العقلاء على أن ينالوا رضى ربهم ويبتعدوا - ما استطاعوا - عما يسخطه ويغضبه، أما غيرهم فإنهم يعملون مجتهدين لما يرضي المخلوق، وإن أغضبوا الخالق في سبيل ذلك. ذكروا أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم يقول: أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت له: أما بعد فإني سمعت رسول الله يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) والسلام) (¬1) كما جاء في حديث آخر قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه، وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه من أسخطه في رضاه، حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينيه)) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي. (¬2) رواه الطبراني بسند جيد وقوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

ذلك أن العمل على إرضاء المخلوق - كيفما كان ولو كان هذا المخلوق ممن تجب طاعته كالأبوين - بما يغضب الخالق لا يقع إلا ممن لا يخاف الله ويخاف المخلوق، فهو يعمل - جاهدا - على إرضائه بكل الوسائل ولو فارق دينه في سبيل ذلك. أخرج الحاكم في المستدرك عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أرضى سلطانا بما يسخط ربه خرج من دين الله)). هذا وعيد شديد لأولئك الذين لا يخافون الله فيغضبونه من أجل أنهم يعملون ليرضى عنهم ذوو السلطة والحكم، فقد أهلكوا أنفسهم وأهلكوا حكامهم من حيث زينوا لهم ما يفعلون، ولو خالف الشرع والحق، ولو أنصفوهم لنصحوهم حتى يبعدوهم عن الضلالة والخسران. الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم (¬1). يتولى أمور المسلمين العامة - بالإصلاح والرعاية - صنفان من الناس: العلماء المرشدون والحكام المسيرون، آمرين بالخير ومحذرين من الشر، وموجهين لإخوانهم، حتى لا يضلوا ولا يزلوا، لهم علماؤهم في توضيح السبيل وإنارة الطريق، وأمراؤهم وحكامهم في رعاية مصالحهم، من جلب خير، أو دفع ضر، فإذا أخلص العلماء في عملهم التوجيهي والإرشادي وإذا صدق الأمراء في إماراتهم وأحكامهم سعدت الحياة واستقامت الأمور، وكان كل واحد من هذين الصنفين في مستوى منصبه، الإخلاص رائده، والصدق قائده، وحب الخير والصلاح غايته، إذا كان ذلك كتب النجاح والفوز لكل واحد من الصنفين، وفاز بلذة نجاحه، وإذا انعدم الإخلاص وجاء الطمع والأنانية وحب الذات والهيمنة ساء الحال وخسرت الأمة المآل. ومن لطف الله بهذه الأمة - أمة محمد صل الله عليه وسلم - أن فرض عليها صلاة الجمعة المسبوقة بخطبتين، فإذا حان وقتها أسرع المسلمون ¬

_ (¬1) نشر هذا الفصل في صحيفة "الشهاب" اللبنانية تحت عدد 11 من السنة السابقة بتاريخ 7 شوال 1393 هـ الموافق لـ 1 نفمبر 1973 م.

إلى المساجد، الأمير والمأمور، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، فهي تجتمع - بعد كل أسبوع - اجتماعا واجبا مؤكدا، تجتمع لتتذكر فيه ما كانت سهت عنه في تلك الأيام الماضية، تستمع إلى أمر الله عباده بالطاعات، من آيات قرآنه، أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى نهيه عن مخالفة ما في شرعه، من اقتراف الذنوب والمعاصي، حتى يستقيم المسلمون على نهج الإسلام المستقيم، فيفوزوا بهناء الحياة ولذتها، في كنف الدين الذي اختاره الله لعباده، يسمعون ذلك يتلى عليهم من خطيب واعظ - يشعر بمركزه ومهمته - يعظ المسلمين، فيذكر الناسي، لقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} فيوقظ الغافل الساهي، ويرشد الحيران، لأن كلمة الواعظ مسموعة من الجميع، لا فرق بين الأمير والمأمور، فلا ينتهي من موعظته إلا والقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، فيبقى أثرها في النفوس المؤمنة، فتستقيم على النهج القويم في سلوكها، فلا تتراخى في فروض دينها، ولا تقترف ما يشينها، وهكذا تتجدد الموعظة في كل أسبوع، فيقوى في القلوب الإيمان، وتضعف في النفوس دواعي الشرور والآثام، هذه هي النتيجة المرجوة إذا وجدت أسبابها، وهي تتمثل في حسن سلوك الخطيب الواعظ، فإن كان سلوكه حسنا وإخلاصه كاملا أفاد واستفاد، وإلا كانت الخسارة على المتكلم والسامع، وما هذا من مقاصد الشريعة. من أجل هذه المقاصد الشريفة فرضت صلاة الجمعة على كل مسلم، فوجب عليه أن يسعى إليها إذا نادى مناديها، لا يشغله عنها بيع ولا شراء، ولا عمل إداري ولا غير ذلك، ولكن مع شديد الأسف رأينا الكثير من المسلمين والكثير من حكامهم - إلا القليل من هؤلاء - زهدوا في أداء هذا الركن الجليل، وفي هذا اليوم الذي هدى الله إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ضل عنه اليهود والنصارى كما جاء في الحديث النبوي الشريف، فاشتغلوا فيه بالأعمال الدنيوية - وهي كثيرة لا تنتهي - فلم يعطلوا فيه أعمالهم ساعة الصلاة، وصار من يقصدها منهم قليلا، ولكنه مؤمن صادق الإيمان، فضاعت حكمة هذا اليوم في فلاة شتى الأغراض وحب الكسب، هذا من جانب الموعظة وتأثيرها.

وفي الجانب الآخر من حياة المسلمين، هناك حكام جلسوا فوق كراسي السلطة والحكم، يتولون أمور المسلمين، يحمونهم من كل مكروه ويسوسونهم بالرفق واللين، يوجهونهم وجهة الخير والسعادة، يعطفون عليهم كما يعطفون على أبنائهم أو أشد، يحافظون على حرماتهم، ويسهرون من أجل راحتهم، ويتعبون من أجل سعادتهم، وفي أيديهم كتاب الله وسنة رسوله، بهما - لا بغيرهما - يسوسون أمتهم، لأن الكل مسلمون. هؤلاء وأولئك هم صفوة هذه الأمة، وهم منارها وكهفها، وقد كان الوفاق تاما شاملا بين من اعتلى منبر الخطبة الجمعية وبين من تربع على كرسي السلطة الزمنية - لا يعلو أحدهما على الآخر علو عتو واستكبار - يأمر الخطيب وينهى، وما أمره ونهيه إلا بما فيه طاعة الله ورضوانه، فيسمع الحاكم والمحكوم، سماع قبول ورضى وطاعة، في قلوب الحكام حب للعلماء واحترام لجانب العلم والدين، وفي قلوب العلماء إخلاص وولاء وطاعة لجانب الحكام، بل كان في الأزمان الزاهرة للإسلام الحاكم هو الإمام وهو الخطيب، ولذلك لقب بالإمام، جمع في يديه السلطة الروحية إلى جانب السلطة الزمنية، يسترشدون العلماء فيرشدونهم، ويستفتونهم فيما يحدث لهم من قضايا ومشكلات فيفتونهم، فيتعاون الجميع على حلها، لا يعادي أحدهما الآخر، إلا إذا اعتدى ذلك الآخر على حرمة الشريعة، فعند هذا يقف الآخر في وجهه، أن قف عند حدك ... ولا تتجاوز الحدود، فيصير كل واحد من الصنفين يرهب الجانب الآخر ويخشى غضبه، فيعمل كل واحد منهما على إصلاح نفسه، حتى لا يكون عرضة لغضب الله والأمة المسلمة، وبصلاحهما تصلح الأمة وبفسادهما تفسد كذلك، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء)) والسر في هذا ظاهر، لأنهما محل القدوة ومحط أنظار العامة، إننا في زمان تأله فيه بعض حكام المسلمين وصاروا كالأوثان التي كانت تعبد من دون الله، تقرب لها القرابين، ويقدم قولها على قول الله الخالق العزيز، تطاع ويعصى الله. إننا رأينا العجائب والغرائب في عصرنا هذا، فقد خرج الكثير من

الصنفين المذكورين عن طوره وخطة عمله المحددة له في الشريعة الإسلامية، فلم تبق تلك الصلة المتينة - صلة الدين - قائمة بين الصنفين، فالوعاظ تركوا ما هم مطالبون به - دينا - والحكام احتقروهم ولم يقيموا لهم وزنا، فكانت الشحناء والبغضاء بينهم، وصار الحكام لا يمتثلون لمواعظ العلماء، بعد أن كانوا يأتمرون بأمرهم، وينتهون لنهيهم، فضعف قول العلماء فيهم لضعفهم، وقويت سلطة الحكام عليهم حتى تجاوزت الحدود، وصاروا هم الكل في الكل، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى أن صار يفرض على الوعاظ خطبة الجمعة، فمنهم من يرسلها مكتوبة إلى الخطباء حسبما يشتهي ويريد، ومنهم من يأمر الوعاظ بأخذ موضوع خطبة الجمعة من خطابه السياسي الذي تعود أن يلقيه كل أسبوع، ومعنى هذا وذاك أن هذا الحاكم أراد أن يخضع خطباء الجمعة إلى سلطته لا إلى سلطة الدين والواجب والضمير، وهذا كما قلنا آت من ضعف العلماء الخطباء - وأسباب ضعفهم كثيرة - وفي بعض البلدان الإسلامية تصدر خطبة الجمعة - كاملة - مكتوبة من وزارة الشؤون الدينية إلى خطباء المساجد، وما على الخطيب إلا أن يصعد إلى المنبر ليلقي خطبة - بل أمرا - ليست من إنشائه ولا من رأيه، تقرأ في الوطن كله، حتى إذا حدثت حادثة في بلد ما وأراد الخطيب أن ينبه عليها - كما هو الواجب - ويلفت النظر إليها لم يجد لها وقتا يبلغها فيه للمصلين، فيكون حال الخطيب كحالة آلة التسجيل، تسجل ما يلقى إليها، أو كالببغاء تعيد من الكلام ما تسمعه، وهذا أحد المواقف التي ضعف فيها العلماء - وما أكثرها - وقد يبعد بعض الخطباء عن المنابر لأنهم لم يرضوا بهذه المعاملة المهينة والبعيدة عن المغزى الديني، وقد يكون موضوع تلك الخطبة في شيء لا صلة له بالحياة الإسلامية. وهنا ظهر أن الكرسي - وأعني به كرسي الحكم الحزبي - سيطر وتحكم في المنبر وعلى المنبر، لتكون كلمته - النافذة - نافذة يطل منها على الأمة. ولولا حب الهيمنة والتسلط لكان المنبر حرا محترما من الجميع، كما هو الشأن فيما سلف من الزمن، غير أن الكرسي أراد أن يعتلي على المنبر - منبر خطبة الجمعة - لتكون له السلطة عليه، حتى يملي إرادته كما يشاء ويحب. وفي هذه الحال نرى أن مقام المنبر مقام جليل - لمن عرف قدره -

فهو أرفع وأعلى منزلة من غيره - من غير احتقار لأحد - نظرا لما يلقى منه. وفي صنعهما على الهيئة التي نراها عليهما الآن حكمة خفية دقيقة لمن تدبرها، تلك هي أن النجار الذي صمم هيئة المنبر ألهمه الله بأن يجعل درجاته أكثر عددا حتى يرتفع عاليا وليبلغ صوته بعيدا، وأقلها ثلاث درجات كما كان منبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما الكرسي ليس له درجات كالمنبر، فدل هذا على أنه دونه وأنه خاضع له خضوع استماع وعمل لا خضوع سلطة وهيمنة، وهذا يرجع إلى معرفة والتزام كل واحد من الصنفين المذكورين لمنصبه، واحترامه لمنصب الآخر، فقد قص علينا تاريخ علمائنا وأمرائنا قصصا تصلح لأن تكون مثالا يحتذى من الجانبين، فالأمراء والحكام عليهم أن يعرفوا فضل علمائهم، فيضعونهم في المقام الذي وضعهم فيه منصبهم من غير أن ينتقصوهم حقهم أو يعتدوا عليهم، والعلماء عليهم أن يدركوا منزلة أمرائهم وحكامهم ويكونوا في عونهم على إصلاح الأمة وإرشادها من غير أن ينتقص أحدهما الآخر، وعلى كل واحد منهما المحافظة على مقامه. وعندما كان كل واحد منهما يعرف منزلة غيره كانت الكلمة الأخيرة للإسلام الذي يمثله العلماء العاملون، وهي الكلمة الفصل في كل شيء، الأمراء والحكام يستمعون إلى نصائح العلماء، ويأخذون برأيهم، لأنه رأي الشرع وعلى الجميع احترام الشرع والخضوع له. وهذه بعض المواقف التي وقفها بعض العلماء العاملين من بعض أمراء زمانهم عندما رأوا منهم انحرافا عن الصراط المستقيم. 1 - ناظر أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع المنصور صوته عاليا، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية، وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، وأن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان أبو جعفر ورضي بما قاله الإمام مالك. 2 - ذكروا أن الخليفة هارون الرشيد حلف على شيء وحنث، فجمع

العلماء واستفتاهم في كفارة يمينه فأجمعوا على أن عليه عتق رقبة، وسأل مالكا فقال له: عليك صيام ثلاثة أيام كفارة يمينك، فقال له الرشيد: لم أأنا معدم؟ وقد قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فأقمتني مقام المعدم ... فقال له: نعم يا أمير المؤمنين، كل ما في يديك ليس لك، فعليك صيام ثلاثة أيام. 3 - ولا ننسى كذلك موقفه المشهور عندما طلب منه الرشيد أن يأتي إليه ليقرأ عليه وعلى أولاده كتابه - الموطأ - فأبى مالك وأمره بأن يأتي هو وأولاده ليحضروا مجلس القراءة مع عامة الناس - احتراما للعلم ورجاله - فامتثل الرشيد، وحضر هو وأولاده إلى مجلس العلم حتى لا يميز عن غيره في هذا الباب. 4 - ومن هذا القبيل موقف تلميذه العالم الفقيه راوي الموطأ يحيى بن يحيى الليثي - عاقل الأندلس كما سماه مالك بن أنس إمامه - فقد استدعى الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالمرتضي صاحب الأندلس - العلماء عندما ارتكب في نهار رمضان ما أفسد عليه صومه، ذلك أنه عبث بجارية له كان يهواها حتى واقعها، فندم، واستدعى العلماء إلى قصره، فلما أتوه سألهم عن كفارة ما فعله - بعد أن تاب وندم - فأول من تكلم من الحاضرين يحيى بن يحيى اللثي، فقال للأمير: يكفر عنك ذلك صيام شهرين متتابعين، فسكت كل من كان في المجلس من العلماء، ولما خرج الجميع من عند الأمير قال الفقهاء ليحيى بن يحيى - وكان محترما مهابا -: ما لك لم تفته بما في مذهب مالك؟ ففي مذهبه أنه مخير بين العتق، والإطعام، والصيام؟ فقال لهم: لو فتحت له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة فيه، ولكني حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. 5 - ولا يغيب عنا موقف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - أمير المؤمنين في الحديث - مع سلطان بلده - بخارى - خالد بن أحمد الذهلي، فإنه أرسل له رسوله فقال له: إن السلطان يقول لك: أن أحمل إلى كتابيك، "كتاب الجامع" وكتاب "التاريخ" لأسمعهما منك، فقال للرسول: قل له: إني لا أذل الغلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي أو داري. 6 - وهذه مواقف العالم المجتهد الشيخ "عز الدين بن عبد السلام" سلطان

العلماء شيخ القرافي وابن دقيق العيد، وهذا الأخير هو الذي لقبه بسلطان العلماء، فقد كانت له مواقف دلت على تقواه وخوفه من ربه وشجاعته، منها أنه لما كان خطيب الجامع الأموي بدمشق - وكان الذي ولاه الإمامة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل - حدث أن سلم الملك الصالح إسماعيل إلى الفرنج قلعتي صيدا والشقيف على أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب ملك الديار المصرية، فساء ذلك التسليم المسلمين وشق عليهم، فذمه الشيخ ونال منه وأنكر عليه وقوع ذلك منه في خطبة الجمعة - وذلك دأب العلماء العاملين إذا رأوا منكرا فإنهم ينكرونه ولا يسكتون عنه، ولو صدر من أعلى شخص في الأمة - ولم يدع له كالعادة، وبذلك الاتفاق بين الملك إسماعيل وبين الفرنج صار هؤلاء يدخلون دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق هذا أيضا على الشيخ واستفتاه الناس في بيع السلاح للفرنج فقال لهم: يحرم عليكم مبايعتهم السلاح لأنهم سيقاتلون به إخوانكم المسلمين، ولما بلغ السلطان إنكار الشيخ عليه تسليمه حصون المسلمين - بواسطة أعوان الشيطان - إلى الفرنج أمر بعزله من الخطابة واعتقاله فبقي معتقلا إلى أن جاء الملك إسماعيل إلى دمشق فأفرج عنه، فأقام مدة بدمشق ثم تركها وارتحل عنها إلى بيت المقدس. ثم جاء الصالح إسماعيل ومعه ملوك الفرنج إلى بيت المقدس قاصدين الديار المصرية، فسير الملك إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ، وأوعز إليه بأن يصلح بينهما ويعود الشيخ إلى مناصبه، بشرط أن يذهب الشيخ إلى السلطان إسماعيل وينكسر له ويقبل يده، فأجابه الشيخ سلطان العلماء بهذا الجواب الذي دل على همته العالية ونفسه العظيمة وأنه فوق هذه السفاسف .. (والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به)، فقال له الرسول: إنه رسم لي إن لم توافق على ما طلب منك أن أعتقلك، فقال له: افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان. وكان الشيخ عز الدين يقرأ القرآن والسلطان إسماعيل يسمعه، فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا نعم، قال هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره على تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء إلى القدس،

وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم ... فقال له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتهما ...) (¬1). ثم أفرج عنه فهاجر إلى القاهرة، فولاه ملكها نجم الدين أيوب خطة القضاء في مصر فأعطى للقضاء حرمته وهيبته، حيث أراد أن يجعل القضاء مستقلا عن تدخلات الأمراء. ومن مواقفه أنه أراد بيع الأمراء المماليك، وقال لهم أنكم مملوكون للأمة أبيعكم في الأسواق أمام الملأ بالمزاد وأجعل ثمنكم في بيت مال المسلمين، فشق ذلك عليهم - وهم الأمراء - ولما حضرت العامة لتبايع الملك الظاهر ركن الدين أبا الفتح بيبرس أبى أن يبايعه - وهو القاضي - فقال له: يا ركن الدين أنا أعرف أنك مملوك "البندقدارى". ولم يبايعه حتى جاء من شهد له بالخروج عن ملك البندقدارى إلى الملك نجم الدين أيوب وهذا أعتقه، ولما قامت عنده هذه البينة العادلة بايعه، وفي مدة توليه القضاء بمصر بني بعض الأمراء بيتا فوق سطح مسجد بمصر أعده لغير مصلحة المسجد، فأنكر ذلك عليه سلطان العلماء واعتبره إهانة لبيت، من بيوت الله، وحكم بفسق من فعل ذلك وجاء بجماعة إلى ذلك البيت وهدمه، ثم أقال نفسه من منصب القضاء ولزم بيته إلى أن توفي في جمادى الأولى سنة (660) هـ عن ثلاث وثمانين سنة قضاها في خدمة العلم والدين، أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر رحمه الله ورضي عنه. هذه مواقف وقفها بعض العلماء الأعلام في وجه من حاول من الحكام إهانة الدين والعلم، وفي بعضها توقير بعض الأمراء للعلماء واحترامهم والأخذ برأيهم والامتثال لنصائحهم، وفق الله العلماء لإعزاز الإسلام، وهدى الأمراء والحكام لنصرة الحق والدين، وفي هذا وذلك خير الجميع. ويعجبني في العلماء العاملين اعتزازهم بعلمهم، وشحهم بدينهم، وحفظهم لكرامتهم من الابتذال. وتجمع هذه المعاني أبيات من قصيدة القاضي الشيخ أبى الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله وهي: ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي ج 8 ص 244 ترجمة 1183 طبع الحلبي.

يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقفه الذل احجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما وما زلت منحازا بعرضي جانبا ... من الذم اعتد الصيانة مغنما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما انهينها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيم؟ أو لما؟ ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟ ... إذن فاتباع الجهل قد كان احزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما

الباب السادس

الباب السادس

الفصل الأول: المال في نظر (مزدك) واشتراكيته.

الفصل الأول: المال في نظر (مزدك) واشتراكيته. إن العنصر الثاني في اشتراكية مزدك هو المال، المال الذي جعلته اشتراكيته أحد هدفيها، فالهدف الأول والغرض المقصود هو النساء، والهدف والغرض الثاني هو المال، والمال به قوام الأعمال، والمال هو المادة المهمة والمعتبرة في حياة الأفراد والشعوب والحكومات، وبه تقوى الأمم أو تستعبد، فلننظر إلى المال بالنظرة المزدكية، ثم ننظر إليه بالنظرة الإسلامية التي يجب علينا - كمسلمين - ألا نتخطاها إلى غيرها. تقدم ما نقلناه عن المؤرخ الطبري أن مزدك قال: (أن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد فيما بينهم بالتآسي، لكن الناس تظالموا فيها، وزعموا - يعني مزدك وأصحابه - أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضل من الأموال، والنساء، والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره) فقوله هذا هو نفس إشتراكية اليوم، وإن اختلفت الأسماء، فمدلولهما واحد، ونتيجتهما واحدة. هذا نظر مزدك إلى المال، وهو نظر فاسد بناه على أساس فاسد من أصله، وفساده ظاهر جلي حيث أنه يبعث في الأمة التواكل والكسل والطمع فقد شاهدنا - عيانا لا خفاء فيه - قلة الإنتاج والإهمال المتعمد ممن جعلوهم مستفيدين من الأراضي والنخيل التي انتزعت من أربابها وأعطيت لهم، زيادة عما فيه من أخذ أموال الناس بالباطل، وهو ظلم فادح وشر عظيم، وتعطيل للمواهب الإنسانية التي أودعها الله الخالق وركبها في الإنسان، والإنسان - ابن سعيه - كما يقولون. فليكن نظرنا إلى المال نظر المسلم المؤمن بشريعته الإسلامية المبنية على الحب

الفصل الثاني: بالكد والعمل ندرك المآرب.

والعدل والحرية والمساواة وكرامة النفس، فنظر الإسلام إلى المال يخالف نظر الاشتراكية المزدكية غيرها إليه. إذا نظرنا إلى المال وجدنا أن الإسلام قد حكم فيه بحكمه العادل، وشرع فيه تشريعا محكما، اعتبره الكثيرون من المفكرين والمقننين والباحثين - مسلمين وغير مسلمين - تشريعا عادلا رفع كثيرا من الأحمال والأثقال التي كانت ترزح تحت وطأتها الإنسانية المعذبة، ولم يوجد إلى الآن قانون من القوانين الوضعية أتى على المشاكل المالية العصرية فحلها حلا لا ظلم فيه، حلها بقوانين فيها الرحمة واللطف والعطف على البشرية المهانة بقوة المال والطغيان، رغم الطبول التي دقها مقننوها، والمزامير التي زمروا بها، ورغم ما نشروا من دعايات ملفقة، وما أذاعوا من الكتب والنشرات والحسابات، إلى غير ذلك من وسائل الإشهار والاشتهار، فالفرق عظيم بين ما شرعه الحكيم العليم بما يصلح مخلوقاته كما قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1) وبين ما شرعه المخلوق مهما كان اجتهاده وحرصه ومعرفته بطرق الإصلاح واسعة. الفصل الثاني: بالكد والعمل ندرك المآرب. أباح الإسلام للفرد أن يملك ما شاء - ولم يقيد حريته - إذا كان ذلك بالوسائل المشروعة فيه، والعمل الشريف، وأوجب عليه - في نفس الوقت - في ماله حقوقا وواجبات يؤديها إلى أهلها، وحبب إليه فعل الخير وتقديم المساعدات والإعانات إلى المحاويج من الفقراء واليتامى والأيامى وغير ذلك من سبل الخير الكثيرة، كبناء المساجد ومراكز العجزة والأوقاف على سبل الخير والإحسان، فعليه - مثلا - أن يخرج زكاة ماله، ويدفعها لأصناف ثمانية ذكرهم الله في آية صرف الزكاة وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). كما رغبه في مديد المعونة إلى كل ما فيه النفع والمصلحة لبني الإنسان وغيره ¬

_ (¬1) الآية 14 من سورة الملك. (¬2) الآية 60 من سورة التوبة.

من باقي المخلوقات، فإذا كان تملكه له وقع بسعي شريف تبيحه الشريعة الإسلامية وقوانينها، فلم يكن مغتصبا بالقوة، أو مستولي عليه بالحيل والطرق الغير الشرعية، فهو مباح له، حلال تملكه، يتصرف فيه كما يريد فلو جمع ما جمع وكنز وادخر ما أراد واستطاع، فلا يعتبر - شرعا معتديا ولا ظالما، ولا يسمى ماله كنزا، والأدلة على هذا كثيرة، وهي ما أوضحته السنة النبوية في أحاديث ثابتة عن الرسول المبلغ عن رب العباد، بما يصلح العباد. ما هو الكنز ... ؟ كان الصحابي العالم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (ما أدي زكاته فليس بكنز) وهذا ليس من رأيه لو لم يسمعه من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، وقد جاء مصرحا به في كتب الحديث. جاء في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه من كتاب الزكاة بعنوان (باب ما جاء في الكنز) قال: (حدثني يحيى عن مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو؟ فقال: (هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة) وجعله الإمام البخاري في صحيحه عنوان باب، فقال في كتاب الزكاة: (باب ما أدي زكاته فليس بكنز). وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي مال أديت زكاته فليس بكنز))، ومن المعلوم أن معنى الكنز هو جمع المال وادخاره من غير أن تخرج منه الزكاة، هذا ما صرحت به أحاديث صاحب الشرع الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، ونقله وفهمه من تلقاه عنه مباشرة، وهم أصحابه الذين عاشوا معه وأخذوا منه شريعة الله كما جاءت، بلا تبديل ولا تحريف ولا تزييف رضوان الله عنهم، وكان سلف هذه الأمة حريصا على الامتثال للشريعة، شغوفا بدراستها وتطبيق نصوصها، عاملا على إعزازها واحترامها، لأنه يعلم أن المسلم لا يكون مسلما إلا إذا عمل بشريعة الله، وطبقها كلها بأوامرها ونواهيها، يحل ما أحلته شريعة الله ويحرم ما حرمته، فهي كل لا تتجزأ. وعندما قل العمل بالشريعة الإسلامية، أو تعطل في الكثير من أحكامها ونصوصها الصريحة، حاول خصوم الإسلام وأعداء الدين أن يظهروها بمظهر العاجز عن حل مشاكل الساعة والعصر، أو مسايرة هذا الوقت

المادي البحت، وقالوا فيها إن قوانينها - وقولهم كذب وبهتان - رجعية، غير موافقة لعلم الذي تكشفت فيه عناصر جديدة في حياة البشر، وأخذ أعداء الإسلام يفتنون بهذا بعض ضعاف الإيمان من المسلمين الذين لم تكن لديهم دراية كافية، ومعرفة وافية بما في الإسلام من تشريع حكيم، وعدالة اجتماعية لا توجد في غيره، وتوجيه صالح لم يكن في سواه إلى يومنا هذا، بل وإلى يوم الناس. وما ذلك في الحقيقة وواقع الأمر إلا دسيسة وخديعة قدموها لمن ذكرنا، بقصد فتنتهم عن دينهم، والقضاء على النظم والقوانين الإسلامية العادلة، ولا يخفى على ذوي الألباب أن الإسلام في حرب مع خصومته من يوم ظهوره إلى الآن، فما هو قول الخصم - غير الشريف - في خصمه ... ؟ ففي الشريعة الإسلامية التي وضع قوانينها رب العالمين، وهو العالم بما يصلح عباده، ما يضمن لعباده الحياة الشريفة بدون ميز ولا محاباة، ولا ظلم ولا عدوان، لكن المسلمين أعرضوا عن دواء أمراض مجتمعهم الذي وصفه لهم الطبيب العارف بأمراضهم، وأخذوا يعالجون أمراض أمتهم بأدوية الجهلة والعجائز، فازدادت عللهم، وتمكن منهم المرض الذي لا شفاء منه إلا بالرجوع إلى استعمال دواء الطبيب العارف بالأمراض وعلاجها، شأنهم في هذا شأن المريض الذي أهمل دواء طبيبه الحاذق وأعرض عنه إلى العلاج بغيره. وما هو ذنب الطبيب الذي عرف المرض ووصفه، وأعطى الدواء للمريض، وهذا أهمله ورمى به جانبا، واستشفى بغيره، فهل من فعل هذا تزول علته ... ؟؟؟ وهل يلام الطبيب - في هذه الحالة - أو يرمى بالجهل وعدم المعرفة والمريض لم يستعمل دواءه؟ الواقع يقول ... لا، كما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول فلا بد إذن من العودة إلى منبع الإسلام الصافي، ودوائه الشافي - بإذن الله - وإلا فلا نطمع - ما دمنا على هذه الحال - في تكوين مجتمع صالح قوي ومتماسك، سليم من أمراض الخلافات والعداوات التي تؤدي إلى التخاصم والتباغض والتقاتل على كراسي الحكم وغيرها، وإرادة الشر لبعضنا بعضا.

الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح في الأفق ..... ؟؟؟؟

علمنا أن ما أذاعه خصوم الإسلام عن الإسلام إنما هو دسيسة ومكيدة ميتة، وإن ستروا وجهها بستار التقدم والرقي ومسايرة الوقت، وما هذه في الحقيقة إلا بقية من بقايا الحروب الصليبية، ولكنها بسلاح آخر، وبأسلوب مغاير لأساليب الحروب الصليبية القديمة المعروفة. كل من عرف الإسلام يعرف أنه لم يمنع المسلمين من التقدم والرقي في حدود الحق والعدل والفضيلة، إنما يمنع الإسلام أتباعه من الظلم والجور والإباحية والرذيلة وجميع أنواع الشرور والمفاسد، والتاريخ شاهد عدل، فقد قص علينا أن الإسلام جعل المسلمين يسبقون غيرهم من الأمم مهما تقدمت هذه الأمم وارتقت. الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح في الأفق ..... ؟؟؟؟ يتساءل ذوو الرأي المسلمون قائلين: هل ما نشاهده في بعض الأوطان الإسلامية بوادر تنذر بعودة المزدكية ... ؟ سؤال يفرض نفسه أما جوابه فيأتي من واقع حياة الحكام والشعوب الإسلامية في هذه الأزمنة الأخيرة، وخاصة بعد استقلال هذه الشعوب وتولي حكام تربوا في أحضان المستعمرين، والكثير منهم اغتصبوا الحكم إما بقوة الجند وإما بالاحتيال والخديعة، ففعلوا ما أرادوا وخنقوا حريات الشعوب ولم يتركوا لها حريتها لتعبر عما في ضمائرها عن نوع الحكم الذي تريده وترغب فيه، والذي ظهر من تصرفات هؤلاء الحكام أنذر برجوع المذهب المزدكي، وهو ظاهر لا خفاء فيه، وذلك بسعي حثيث من خصوم الإسلام، فهم يحاولون جادين تأييد المزدكية - العصرية - الملعونة، والتي عرفنا فيما سبق أهدافها وغاياتها من قبل النساء والأموال، ونزيد هنا هذا العنصر الأخير - المال - من عنصري المزدكية بيانا وتوضيحا. تعمل المزدكية على انتزاع الأموال من أربابها الذين تعبوا في اكتسابها بوسائل شريفة ونزيهة وعادلة، وبطرق شرعية وقانونية، في حين أن الإسلام يقر الناس على ما اكتسبوه، ويترك لهم أموالهم ليتملكوها إذا أدوا ما عليهم من فروض، فالدين الإسلامي الخالد يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، كما قال علام الغيوب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1). وقد حاول البعض أن يلبس المزدكية العمرية لباس الإسلام، ويجد لها في التشريع الإسلامي سندا، وكل ذلك تمويه وتضليل، فالإسلام في نظامه الخاص المستقل بريء منها ولا يأمر بها. فإذا أرادوا بذلك تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأرض التي استولى عليها المسلمون في حربهم مع الفرس، وأبى عمر أن يوزعها بين المحاربين، ويملكها لهم كما هو الشأن فيما غنموه من الأموال، نقول لهم لم يوزعها عليهم ورأى أن يبقيها لجميع المسلمين نظرا لمن سيأتي من بعد، وهو اجتهاد من عمر رضي الله عنه، ظهرت فائدته فيما بعد. وهنا ننبه إلى استغلال آراء بعض قادة المسلمين وعلمائهم، إذا وافقت في النفس هوى صاحب الدعوة، أما إذا خالفت الهوى فإنه لا التفات إليها. قد سمعنا - كثيرا - بعض الحكام في البلدان الإسلامية يحتجون بعمل عمر هذا لأنه يتفق مع أهدافهم، وما لهم لا يعملون بأعمال عمر في غير هذا؟ ما لهم عن ورعه؟ وعدله؟ وزهده؟ وتقواه لربه؟ وسهره على راحة أمته؟ فهل أباح عمر الخمور والفجور والفسوق؟؟؟ وهل أخرج عمر الحرائر المقصورات في بيوتهن ورمى بهن في الشوارع مع الفسقة الفجرة؟؟؟ فليتدبروا قليلا في أقوالهم وأعمالهم، فإن للناس آذانا تسمع وعيونا تبصر، وعقولا تدرك، بل وليسوا من الغافلين. كنا نسمع - كثيرا - من الإذاعة الجزائرية - قبل انقلاب "19" جوان 1963 - كلمة الصحابي الجليل الزاهد (أبي ذر الغفاري) رضي الله عنه - وهي قوله: (يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار، تكوى بها جباههم وجنوبهم. الخ) وكانت تكرر من المذيع في غالب الأوقات، لتكون دليلا على الدعوى، ذلك أن أحد كبار الصحابة نادى بسوء عاقبة الذين يدخرون الأموال ولا يدفعونها للفقراء، ترى من هم هؤلاء الفقراء الذين تدفع إليهم هذه الأموال المدخرة في نظرهم؟ ومن هم المستحقون ¬

_ (¬1) الآية 90 من سورة النحل.

الفصل الرابع: من هو أبو ذر هذا؟

لهذه الأموال المكنوزة؟ ولعلهم الفقراء المساكين القابعون في الحانات ومحال الفجور ... ليستعينوا بها على ما هم فيه، غير أننا لم نعد نسمع كلمة أبي ذر بعد 19 جوان 1965 فتكون قد ذهبت مع من ذهب من أصحاب الأطماع. تلك كلمة أبي ذر التي نقلت عنه - وحفظت - وجيء بها لتكون عونا على انتزاع الأموال من أهلها، والاستيلاء عليها، تطبيقا لرأي أبي ذر رضي الله عنه في الظاهر، أما في الباطن فالله يعلم ما هو المقصود. الفصل الرابع: من هو أبو ذر هذا؟ المعروف من كتب السير والتراجم أن أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه - كان من السابقين الأولين إلى الدخول في الإسلام، فهو رابع أربعة أو خامس خمسة كما جاء عنه، كما أنه من عظماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشجعان، نطق بكلمة الشهادة - أعلن إسلامه - أمام عظماء قريش الطغاة، وناله من العذاب في سبيل إسلامه ما ناله، وكان زاهدا في ملك الدنيا ورعا رقيق القلب كثير الخشوع لله، كما كان أكثر الصحابة طاعة وامتثالا لولي أمر المسلمين، ولو كان الوالي عبدا حبشيا كما قال هذا هو نفسه، لا رغبة له في المال ولا في جمعه، ولم يكن الكثير من الصحابة مثله في هذا، فكل مال دخل يديه أنفقه في سبيل الله والخير، أو أنفقه على المحتاجين، فيصرفه إليهم من غير أن يبقي منه تحت يده شيئا لنفسه، ويبقى هو كواحد من الفقراء، ولم يعرف عنه أنه أنفق ماله في سبيل الشيطان، كما ينفقه من أرادوا أن يستغلوا كلمته لمصالحهم الخاصة، قال فيه الحافظ الذهبي: (وكان رأسا في الزهد والصدق، والعلم والعمل، قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه) (¬1). وفي القصص التالية أمثلة من زهده في الدنيا وإعراضه عنها، وقد أتت إليه عفوا من غير تعب ولا طلب. ذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى في ترجمة أبي ذر قال: إن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، وذكر في ترجمته من طريق آخر، عن عبد الله ابن الصامت، أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، قال: ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء ج 2 ص 32.

فجعلت تقضي حوائجه، قال ففضل معها سلع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسا، قال: قلت: لو اذخرته للحاجة تبوء بك، أو للضيف ينزل بك، فقال: (إن خليلي عهد إلي إن أي مال - ذهب أو فضة - أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله). وأخرج أبو نعيم في الحلية - بسنده - عند الكلام على أبي ذر في ترجمته قال: بعث حبيب بن سلمة - وهو أمير الشام - إلى أبي ذر بثلاثمائة دينار وقال استعن بها على حاجتك، فقال أبو ذر لمن جاءه بها: ارجع بها إليه، أما وجد أحدا أغر بالله منا؟ ما لنا إلا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل. وقال أبو نعيم أيضا من طريق آخر عن أبي ذر: إني لأقربكم مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها)) وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث بشيء منها غيري. والمعروف أيضا أن أبا ذر عندما كان في الشام كان يبث في الناس مبدأ الزهد في الدنيا، وينهاهم عن كنز المال وادخاره، وحاول أن يحمل الناس على رأيه ومذهبه فلم يستطع، وأحرج بعمله هذا موقف العامل فيها - أي في الشام - وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ووقع بينهما خلاف في فهم الآيتين الكريمتين من كتاب الله عز وجل وهما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). فاختلف الصحابيان - أبو ذر ومعاوية - في فهمهما، فمعاوية رآى أنهما نزلتا في حق أهل الكتاب خاصة، خصوصا وذلك بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ¬

_ (¬1) الآيتان: 34 - 35 من سورة التوبة.

النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) وأبو ذر رأى أنهما نزلتا فيهم وفينا معاشر المسلمين، هذا هو منشأ الخلاف بينهما كما ذكره المفسرون، والذي اتفق عليه علماء المسلمين أنهما نزلتا في الجميع - كتابيين ومسلمين - غير أن المسلم إذا أخرج زكاة ماله ودفعها إلى بيت مال المسلمين لتصرف في أوجهها المبينة في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِالخ ...} أو دفعها منه مباشرة إلى الفقراء ومن ذكر معهم من الأصناف الثمانية المستحقين لها فيما إذا لم توجد بيت مال المسلمين، فإذا دفع المسلم زكاة ماله فلا يسمى ما جمعه واذخره كنزا المتوعد عليه في الآية الآنفة الذكر، وبالخصوص إذا علمنا أن آية الزكاة لمستحقيها نزلت بعد هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَالخ ...}، ففرضت الزكاة تطهيرا للمال ولصاحبه من الشح والبخل كما ورد في آية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَاالخ} (¬2) وكما ورد ذلك أيضا عن الرسول صلى الله عليه وسلم. من أجل هذا الخلاف في فهم الآيتين، ومن أجل ما يقوم به أبو ذر - حسب زهده في الدنيا - من عتاب على جامعي الأموال ومدخريها من أجل ذلك شكا معاوية إلى أمير المؤمنين الخليفة الثالث - عثمان بن عفان - رضي الله عنه ما يلقاه من أبي ذر ودعوته إلى تزهيد الناس في الدنيا، وحملاته الشديدة على جامعي الأموال ومدخريها، فكتب معاوية إلى عثمان: (إذا كان لك حاجة بالشام فأقدم أبا ذر إليك)، فاستقدمه عثمان إلى المدينة المنورة وأسكنه الربذة - بفتح الراء والباء والذال - باختيار أبي ذر لها، وهي قرية خارج المدينة اختارها لتكون مقرا له من غير إلزام ولا جبر عليه. وهنا نسأل أصحاب هذه الدعاية - وغيرهم - الذين استعملوا ويستعملون كلمة أبي ذر تلك كحجة لهم على دعواهم، فنقول لهم: لماذا لم تأخذوا من أقوال أبي ذر غير هذا ... ؟؟؟ أللتزهيد في جمع المال وادخاره؟ والكل يعلم أن أرباب هذه الدعاية عملوا - جادين - على كسب المال وادخاره، أو لكون كلمة أبي ذر فيها دعاية وترغيب لمبدأ (مزدك) المجوسي؟ إن وراء هذه الدعاية سرا مكتوما يعلمه الراسخون في العلم. ¬

_ (¬1) الآية 34 منها. (¬2) الآية 103 من نفس السورة.

إن أبا ذر رضي الله عنه معروف بفكرته تلك، وأول من عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن أبا ذر طلب ذات يوم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على بعض الولايات، فكان جواب الرسول الكريم الحكيم الرحيم بأمته عليه الصلاة والسلام لصاحبه الذي طلب منه أن يوليه عملا من الأعمال، كان جوابه ما عرفه فيه من أنه لا يصلح للولاية، لا لتهمة وجهت إليه، ولا لخيانة ربما تصدر منه، ولا لجهل بالأعمال والأحكام، ولا، ولا، فالجواب ما ذكره أبو ذر نفسه كما جاء في صحيح مسلم (عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها - الولاية - أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) (¬1). فالولاية وهي الحكم بين الناس ورعاية مصالحهم، تتطلب من الوالي أن يكون حازما شجاعا يقظا لكل ما يطرأ عارفا بسياسة الحكم يداري الناس في سبيل المصلحة العامة الخ، فالرسول صلى الله عيه وسلم عرف أن صاحبه أبا ذر لا يصلح للولاية والحكم، ولهذا قال له ما قال - شفقة عليه من تبعات الولاية - ولم يعطه أية ولاية لضعفه عنها، ولا يسمى هذا نقصا أو تنقيصا في مرتبة أبي ذر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) (¬2)، وأيضا فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعطي الولاية من يطلبها أو يحرص عليها. ونذكر هنا قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي ذر رضي الله عنه: ((رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)) (¬3) قال فيه هذا عندما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام في جيشه قاصدا تبوك، وخلف أبا ذر بعيره الهزيل الذي لم يستطع مسايرة الجيش، فتخلف عنه، ولما تفقده الرسول لم يجده فسأل عنه، وبينما الناس ينظرون إلى الطريق رأوا رجلا راجلا قادما إليهم من بعيد، فقالوا: يا رسول الله هذا رجل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم وطبقات ابن سعد الكبرى. (¬2) الطبراني عن ابن عباس وغيره. (¬3) ج 2 من سيرة ابن هشام عند الكلام على غزوة تبوك ص 524 من القسم الثاني طبع مطبعة مصطفى الحلبي.

قادم من بعيد، فقال الرسول: ((كن أبا ذر)) فكان هو نفسه، ولما وصل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما أخرك إلى الآن؟))، قال: بعيري الهزيل، ولما أبطأ بي حملت متاعي وجئت أمشي وتركته، فقال فيه الرسول كلمته تلك. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما مخاطبا أصحابه: ((أيكم يلقاني - يعني يوم القيامة - على الحال الذي أفارقه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدقت)، ثم قال: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى ابن مريم)) (¬1) وفي رواية أخرى ((من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر)). هذه نظرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه أبي ذر رضي الله عنه، وهي شهادته فيه، وقد تحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر. وقد كان من علماء الصحابة، في درجة عبد الله بن مسعود في العلم، سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبي ذر فقال: (وعى علما عجز فيه، وكان شحيحا حريصا، شحيحا على دينه حريصا على العلم) (¬2). وقد اختار أبو ذر الربذة مقرا له كما سلف، وكان يعيش مع زوجته وغلامه فيها فلما حضرته الوفاة أوصى امرأته وغلامه فقال: إذا أنا مت فاغسلاني وكفناني وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا هذا أبو ذر، فلما مات فعلا به ذلك، فاطلع ركب، فما علموا حتى كادت ركائبهم تطأ السرير الذي عليه الميت، فإذا عبد الله بن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال ما هذا؟ قيل جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)) فنزل وتولى هو بنفسه دفنه، هذه رواية وهناك رواية أخرى تثبت أن الركب وجده لا زال حيا فحضر وفاته ودفنه، وقال لهم: قد أصبحت اليوم حيث ترون ولو أن ثوبا من ثيابي ¬

_ (¬1) الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهم. (¬2) ج 4 من الطبقات الكبرى لابن سعد ص 232.

الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر.

يسعني لم أكفن إلا فيه، أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا، أو عريفا، أو بريدا، فكل القوم كان نال من ذلك شيئا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم قال: أنا صاحبك ثوبان في عيبتي - حقيبتي - من غزل أمي وأحد ثوبي هذا الذي علي، قال: أنت صاحبي، فكفني (¬1). هذه نبذة مختصرة من ترجمة هذا الصحابي العظيم، الذي استغل زهده وتقواه بعض من يريدون أن يجمعوا الأموال باسم الزهد فيها، وهو من السابقين الأولين في الإسلام كما تقدم، وهو من الذين وحدوا الله على الفطرة، وعبد الله قبل ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بمبعثه سارع إلى مكة واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ولحقه في سبيل ذلك من عذاب المشركين والجوع الشيء الكثير، ثم رجع إلى قومه - غفار - يدعوهم إلى الإسلام وترك الشرك والخرافات، ومما يدل على فضله أنه أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، فقال له: (السلام عليك). الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر. والذي يجب أن يعلم هنا وبهذه المناسبة، وبالخصوص استعمال كلمة أبي ذر السالفة الذكر، كدليل على دعوى ترك ادخار المال، والمقصود منها - تدعيم الغرض لا غير - إن أصلها ومصدرها من يهودي فنشير إلى أن كتب التاريخ سجلت والسير أوضحت ونصت على محاربة اليهود للإسلام، ودعوته من أول ظهوره إلى يومنا هذا، بل وإلى ما بعد يومنا هذا، واليهود لا يكفون عن عداوتهم ومحاربتهم للإسلام، فكم دسوا ودلسوا وزوروا على الإسلام ورسول الإسلام من أقوال وأحاديث نسبوها إليه - زورا وبهتانا - قاصدين من وراء ذلك فتنة المسلمين وتخليط الإسلام على المسلمين، وتشويه وجهه المشرق الجميل الطاهر، بأكاذيب وقصص ملفقة، فقد حفظ لهم التاريخ مكائد كادوها للإسلام ولرسول الإسلام، كإرادة تسميمه بواسطة لحم الشاة المعروفة ليموت بالسم - بواسطة امرأة يهودية - وكمحاولة قتله - غدرا - بإلقاء صخرة رحا عظيمة عليه وهو تحت حائط من حيطان ديارهم لتكون القاضية عليه، وكسحره على يد اليهودي لبيد بن الأعصم، وغير ما ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 233 طبع داري بيروت وصادر.

ذكر من أنواع المكر والكيد المعروفة فيهم - إلى اليوم - والمذكورة في كتب التاريخ والسير، لكن الله الذي أرسله رحمة للعالمين حفظه ونجاه من جميع المكائد اليهودية، كما نجاه من مكائد المشركين، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (¬1) فكم لليهود من دسائس منكرة كشف عنها أولوا البصر الثاقب من علماء الإسلام الأجلاء الذين يغارون على دينهم، ولا يرضون أبدا أن ينال منه أحد أو ينتقصه منتقص - كائنا من كان - وغيرهم يسمع ويبصر ولا يتحرك للدفاع عنه، كمكيدة الاشتراكية اليهودية التي ارتمى في أحضانها بعض حكامهم الذين لا يخافون الله والتاريخ فرحم الله علماء الإسلام وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به العاملين المخلصين. وكم من يهودي ادعى الإسلام - ظاهرا - من غير أن يسلم في باطنه وواقعه وحقيقة أمره، بل أسر الكفر بالإسلام وبرسوله، ليتمكن من محاربة الإسلام وهو آمن لا خوف عليه. والذي جعل اليهود يتظاهرون بالإسلام - بلا إسلام - إلا القليل منهم - هو تأمين حياتهم في الوسط الإسلامي الذي كانوا يعيشون فيه، مع أنهم أهل ذمة لهم الأمن والحفظ على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم - حسبما أوصى بذلك الإسلام - ففي وسط هذه المعاملة الحسنة لهم عملوا على جلب عدد من المسلمين إلى آرائهم وأفكارهم، حتى يأنس المسلمون إليهم ويثقوا فيهم، فيكونون بهذا الاختفاء والتستر بالإسلام قد قضوا أوطارهم، من إفساد دين المسلمين على المسلمين، مع التأمين على حياتهم. فكثيرا ما اغتر المسلمون بالمظاهر، مكتفين بها من غير تعمق واستقصاء في البحث إلى دواخل الأمور: وذلك راجع إلى طهارة قلوبهم وحسن نياتهم، ونظرهم إلى الناس بمنظار الإيمان الصافي، لهذا ينخدعون سريعا بالمظاهر، وفي تاريخ الإسلام والمسلمين - القديم والحديث - أمثلة شاهدة على ما قلت إلى يومنا هذا. وفي الجزائر - مثلا - وقعت أمور من هذا النوع، والأمثلة كثيرة - منها قصة بوشناق وبوخريص - باكري - اليهوديين الجزائريين الذين كانت لهما ¬

_ (¬1) الآية 43 من سورة فاطر.

ديون على (فرنسا) فاتفقا معها - سرا - على خيانة الجزائر، وهما أحد أسباب احتلال (فرنسا) للجزائر عام 1830 م. ومن أمثلة انخداع المسلمين بالمظاهر قصة ذلك الجاسوس الفرنسي "ليون روش" الذي أوفدته حكومته (فرنسا) ليكون عينا لها وجاسوسا على "الأمير عبد القادر" رحمه الله وعفا عنه عندما كان يخوض حرب الدفاع عن الجزائر إبان غزو فرنسا لها، عندما وطئت أقدام جندها تراب الجزائر سنة 1830 م - والوقت وقت حذر - فتقدم هذا الجاسوس - ليون روش - الفرنسي إلى الأمير مظهرا إسلامه، وأنه من المسلمين، وأن حكومته - فرنسا - اضطهدته من أجل إسلامه، والمثل العربي القديم يقول - لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ - فخصه الأمير بالعطف عليه، وجعله ضمن خاصته وحاشيته، وأخذ يتقرب إليه شيئا فشيئا مظهرا إخلاصه له حتى جعله كاتبه الخاص، فاطلع على كل شيء في محيط الأمير عبد القادر رحمه الله وعفا عنه، فقام بالمهمة التي جاء من أجلها وأسلم لها - ظاهرا - ولما غلب الأمير على أمره في النهاية واستسلم - بعد قتال مرير - لفرنسا كما هو معروف، رجع هذا المسلم الكاذب إلى دينه الأول كما كان، وترك دينه الثاني - الإسلام - لأنه لم يسلم حبا في الإسلام وإيمانا به، بل هو كما قيل: (صلى وصام لأمر كان يقضيه) وقد كتب كتابا ضمنه عمله هذا الذي قام به، والدور الذي لعبه في ذلك، وسمى كتابه هذا (ثلاثون عاما في الإسلام)، وقد طبع الكتاب بالفرنسية وبيع وإن كانت نسخه الآن قليلة، وسنأتي فيما بعد - إن شاء الله - بشيء مما كتبه عن مهمته، وعن الأمير عبد القادر، وعن الإسلام والمسلمين، وما فهمه من الإسلام، وثنائه على ما فيه من حلول للمشاكل الحاضرة لو وجد في المسلمين من يعمل به، وقد عرفت حكومته - فرنسا - منزلته، فأمست عليه نهجا في الجزائر تخليدا لاسمه واعترافا بخدماته لدولته، في سبيل احتلالها للجزائر، حتى لا ينساه أبناؤها. ذكرت هذه القصة لأن الكثير منا لم يطلع عليها، ولنقارن بينهما وبين الوقائع الكثيرة من مثيلاتها، إذ لعل ما وقع لأبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - من هذا النوع، جاءه من يهودي أسلم، يلقب بابن السوداء - واسمه: عبد الله بن سبأ، كما يأتي بيانه قريبا - بحول الله - وكان ابن السوداء هذا منافقا، ذلك أن هذا اليهودي - المسلم ظاهرا - قد اندس في صفوف المسلمين يفتنهم عن دينهم، ويفسد عليهم ذات بينهم، وقصته مشهورة أيام كان في الشام.

وحيث كانت قصته متصلة بابي ذر وكلمته تلك التي استغلت للدعاية يجمل بنا أن نوردها هنا - للاعتبار - منقولة عن المؤرخ القديم القدير الثقة ابن جرير الطبري والمذكورة في كتابه المشهور (تاريخ الرسل والملوك) قال: (وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار، تكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم، فما زال يرددها حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقونه من الناس) (¬1) ثم بعث معاوية بأبي ذر إلى عثمان بن عفان بالمدينة حتى لا يفسد عليه أهل الشام، ولما دخل على عثمان قال له: (يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذربك (¬2)؟ فأخبره بأنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا) (¬3). ويوضح لنا الطبري كيف كان اتصال عبد الله بن سبأ اليهودي بأبي ذر الغفاري الذي وجد فيه ضالته، وكيف لم يجدها في الصحابيين: أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، فيقول الطبري: (عن يزيد الفقسعي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية!!! يقول: المال مال الله؟ ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين، هذا كلام اليهودي لأبي ذر، وهو يرمي إلى إشعال نار الفتنة بين المسلمين، فذهب أبو ذر إلى معاوية بعد أن سمع كلام اليهودي فقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال - يقصد معاوية -: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله؟ والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين. قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهوديا. فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: (هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر) (¬4). فظهر مما تقدم أن هذا اليهودي المنافق لعب ¬

_ (¬1) ج 4 من تاريخ الطبري ص 283 طبع المعارف. (¬2) ذربك شدة لسانك نفس المصدر ص284. (¬3) المصدر نفسه ص283. (¬4) المصدر والصفحة المذكوران.

دورا هاما في هذه القضية غير أنه صادف في أبي ذر بغيته، وخاب سعيه مع أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وقال المرحوم أحمد أمين بعد أن نقل كلام الطبري المذكور: (ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري، وبين رأي (مزدك) في الأموال فقط) (¬1) وزاد أحمد أمين قائلا: (فترى من هذا أن رأيه - يعني أبا ذر - قريب جدا من رأي مزدك في الأموال، ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ ثم ذكر كلام الطبري المتقدم) (¬2). وأضاف أحمد أمين إلى ما سلف هذا البيان فقال: (ونحن نعلم أن ابن السوداء هذا لقب لقب به عبد الله بن سبأ، وكان يهوديا من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنه حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبث في البلاد عقائد كثيرة ضارة قد نعرض لها فيما بعد) (¬3) وزاد على ما تقدم فقال: (فمن المحتمل القريب أن يكون - يقصد ابن السوداء - قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقاده، وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان - يريد أبا ذر - من أتقى الناس وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة التي أثرت في الصوفية). ومما تقدم ندرك يقظة بعض الصحابة وحذرهم، فلم ينخدعوا بقول اليهودي - ابن سبأ - كأبي الدرداء وعبادة بن الصامت ومال إلى قوله أبو ذر الغفاري رضي الله عنهم كلهم، لأن قول اليهودي وافق مذهبه في الزهد في الدنيا، وترك زينتها، فقد ظهر من هذه الأقوال والآراء سر هذه الدعوة ومغزاها التي دعا إليها الصحابي الزاهد أبو ذر الغفاري عن حسن نية، كما ظهر من ذلك أيضا منشؤها ومصدرها، وهم اليهود الذين لم يفتأوا يحاربون الإسلام بشتى أنواع الحروب والأسلحة، من أول ظهوره إلى الآن، حتى ولو ألزمهم ذلك الدخول فيه ظاهرا. ويزيدنا يقينا فيما قلناه تلك الدعاية المسمومة بسم اليهود، وهي قول اليهودي لأبي ذر: (لماذا يقول معاوية: المال مال الله؟) وما قال هذا ¬

_ (¬1) فجر الإسلام الطبعة الثانية ص 130. (¬2) المصدر السابق. (¬3) كالذي قبله.

إلا ليستحوذ على المال ويفعل به ما يريد، وكان الواجب عليه أن يقول: المال مال المسلمين، فنرى هنا فطنة معاوية - المعهودة فيه - لهذه الكلمة المسمومة، ولهذا أجاب رغبة أبي ذر بجواب الحكيم والسياسي الخبير، من غير أن ينفي المال عن الله - كما هو الواقع - ومن غير أن يغضب أبا ذر - - لله دره من سياسي حاذق - فقال: لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين، فجوابه هذا إرضاء لأبي ذر - في الظاهر - وإن كان المال مال الله كما قال أول مرة، وهذه حيلة ودسيسة دسها اليهودي ليتوصل بها إلى الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهذه إحدى دسائس اليهود الماكرين ومكائدهم للمسلمين. ومثل ذلك في عصرنا الحاضر هذه النحلة الماركسية اليهودية الاشتراكية والشيوعية الملحدة التي أخذت مبادؤها الهدامة للعقيدة الإسلامية والأخلاق الكريمة الفاضلة تظهر وتنتشر في الأوطان الإسلامية في وقتنا هذا مستعملة كل وسائل الخداع والتمويه والتضليل في أوساط المسلمين الضعفاء في دينهم وأخلاقهم وعقيدتهم، وقد ألبسوها لباس التقدم والتقدمية، وأطلقوا على أنفسهم - التقدميين - وعلى من خالفهم في كفرهم بربهم - الرجعيين - ليجلبوا ضعفاء الإيمان إليهم، فيكونون ناجحين بإخراج طائفة من المسلمين من دينهم وكفرهم بدين الله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلا فقد انخدع بها البعض منهم كما انخدع أبو ذر بعبد الله بن سبأ اليهودي فيما دعاه إليه، كما مر آنفا. غير أن حقيقة الخداع والتمويه ستنكشف وتظهر الحقائق فيما بعد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 227.

الباب السابع

الباب السابع

الفصل الأول: هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل .. ؟؟

الفصل الأول: هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل .. ؟؟ هذا سؤال سمعناه كثيرا - ولا زلنا نسمعه - من أشخاص مختلفي الأغراض والغايات، يقوله المسلم ليعرف مقدار صلاحية دينه لمسايرة أطوار الحياة، ويقوله الزنديق ليشكك المسلمين في دينهم وصلاحيته للوقت الحاضر. ليعلم الجميع أن في ديننا الإسلام كل قواعد وقوانين الحياة الفاضلة، من غير إضرار بأحد، ولا ظلم لأحد، فلم يبح - مثلا - للغني أن يظلم الفقير، ولا للفقير أن يعتدي على الغني بما ليس من حقه، وهذا هو النظام الذي تسعد به البشرية في حياتها، فكل المسلمين - بل وحتى غير المسلمين - يسعدون إذا عملوا بقوانين الإسلام التي أعطت كل ذي حق حقه. فالمسلمون - لو طبقوا أحكام الإسلام وقوانينه وعملوا بها - أغنياء بها من كل النحل والطوائف وقوانينها الوضعية البشرية، فلا حاجة تلجئهم إلى النظم الأخرى، كالنظام الشيوعي، أو الاشتراكي، أو الرأسمالي، أو غير ما ذكر، فدينهم ضمن لهم الحياة الشريفة، العفيفة، النزيهة عن كل شوائب التكدير، إذا عملوا به ولم يهملوه، كما قال الله جل شأنه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى - وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). هذا وعد الله، وعد به عباده المؤمنين به، وعدهم بالحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الأحسن الأوفى في الآخرة. إذن فالمسلم غني بشريعته السماوية التي وضع قوانينها الخالق العليم بما ¬

_ (¬1) الآية 97 من سورة النحل.

الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية.

يصلح العباد، وهو الذي قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1) فشرع لهم ما فيه الخير والسعادة والكفاية لهم، فهم في غنى عن كل قانون وضعه البشر، لأن نظر البشر مداه قصير ومحدود، ولو بلغ أعلى درجات العلم والمعرفة، ولكنه الضلال البشري، والإلحاد والكفر والتمرد والخروج عن قانون الخلاق العليم الحكيم، وذلك دليل على الضلال المبين، والخسران العظيم، نسأل الله السلامة والعافية. فالواجب على حكومات الشعوب الإسلامية - إن أرادت الخير للمسلمين - أن تعمل وتجبر المسلمين على تطبيق أحكام وقوانين الشريعة الإسلامية، لا أن تجردهم منها بدعوى أنها غير قادرة على حل مشاكل الوقت الحاضر، أو أنها لا توافق روح العصر والتطور البشري كما يتفوه بهذا بعض الجهلة الأغرار. الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية. أي قانون وضعي يحمي العامل الكادح المسكين من ظلم رئيسه أو رؤسائه، ويأمر رب العمل بإعطاء أجرة العامل بكل سرعة ممكنة؟ لم نعلم لهذا قانونا وضعيا، بالرغم مما تذيعه وتدعيه بعض الدول التي تبنت قوانين العمل والعمال وجعلتها من خصائصها ومميزاتها، أما في قانون الشريعة الإسلامية فإننا نجد ذلك في أوامر الله ورسوله ونواهيهما، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (¬2)، وجاء في رواية بعد قوله: قبل أن يجف عرقه زيادة ((وأعلمه أجره وهو في عمله)) (¬3). كما توعد الله من استعمل عاملا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره، فالله رب العباد هو خصمه يوم القيامة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة - رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم فأكل ثمنه، ¬

_ (¬1) الآية 14 من سورة الملك. (¬2) رواه ابن ماجه في باب أجر الأجراء. (¬3) رواه البيهقي.

ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره)) (¬1). فالمسلمون في حاجة أكيدة إلى تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بروح خالصة من كل ما ينافي الإيمان، ونية صادقة - لا إلى جلب قوانين وضعية لا تطبق إلا بقوة سلطة الحكومة القائمة. ومن أمثلة تطبيق المسلمين بأنفسهم لقوانين شريعتهم على العمال، ما جاء في كتب السنة من أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان له غلام - عامل - كساه مثل اللباس الذي عليه هو، فرآه أحد إخوانه - المعرور بن سويد - وعليه حلة - كسوة - مثل التي على خادمه، فسأله عن ذلك، فأجابه بما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله قنية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)) (¬2). فالعامل أخ لصاحب العمل، وحقوق الأخوة في الإسلام تتطلب الرحمة والعطف واللين والمساعدة، فهل في القوانين الأخرى - غير الإسلامية - مثل هذا .. ؟؟ ذلك أن الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬4) فالمسلمون قد أحكم الإسلام رابطة الأخوة بينهم، فالحب متبادل بين العامل ورب العمل، من غير أن يكون لصراع الطبقات مكان بين الأخوة كما نشاهده في الوقت الحاضر، من إيقاد نار الفتنة والعداوة والخصومات بين طبقات العمال وأرباب الأعمال من أبناء الأمة الواحدة، فالفقراء يبغضون الأغنياء، والأغنياء يحتقرون الفقراء، وهذا لا يحبه الإسلام، ولا يرضى به، ولهذا أمر بإزالة أسبابه. هذا هو عامل الإسلام في بذر بذور الأخوة والمحبة بين جميع طبقات الأمة، غير أن بعض العمال في البلاد الإسلامية قد تأثر بالدعاية الشيوعية التي تثير الأحقاد وتزرع الضغائن بين أبناء وطبقات الأمة الواحدة، فقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري وابن ماجة في الباب المذكور. (¬2) أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي ذر. (¬3) الآية 10 من سورة الحجرات. (¬4) أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس.

رأينا وسمعنا بعض الفقراء يصيحون عمن يرون عليه ثيابا نقية: يا بورجوازي أنت أكلت حقوقنا!!! ولو تأملوا في لباس من أثاروا هذه الفتنة بين الإخوة في الأمة الواحدة لعلموا أن أولئك هم البورجوازيون - حقيقة - لما يشاهدونه عليهم من آثار التنعم والبذخ: في لباسهم، ومركوبهم، ومساكنهم، وغير ذلك، ولكنها الدعاية المضللة والمهرجة والطمع القبيح. فالشريعة الإسلامية جعلت للمخالفات والمنازعات أحكاما وحدودا، لو عمل بها المسلمون لزالت من بينهم كل أسباب العداوات، حتى الجنايات لها حدود وعقوبات بحسب الظروف والملابسات والأحوال، فإذا ارتكب المسلم مخالفة أو جناية عوقب عليها إلا في ظروف وأحوال خاصة، كالسرقة - مثلا - إذا كانت من اضطرار واحتياج، فإن السارق لا يطبق عليه الحد، ولا تقطع يده، لأنه سرق مضطرا، اضطره الجوع والحاجة إلى القوت، والشرع رحيم بالعباد، وفي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة ما يدعم ذلك، وهو الحريص على تنفيذ الحدود والعقوبات، ولو على أقرب الناس إليه، إذا قامت البينة على ذلك، فقد ذكر المؤرخون وهم يتحدثون عن عدل عمر واجتهاده في أحكام الشريعة القصة التالية: (روي أن غلمانا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتي بهم عمر فأقروا فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، فلما رآهم صفر الوجوه، عليهم أثر الجوع والفاقة عدل عن إقامة حد السرقة عليهم، وقال لسيدهم: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم، ثم وجه القول إلى عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة فقال: وايمن الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة، وأعفى الغلمان السارقين من الحد، لأن حاطبا اضطرهم إلى السرقة لجوعهم وحاجتهم إلى سد رمقهم) من هذه القصة نعلم مبلغ اهتمام الحاكم المسلم بحالة العمال. إن المجتمع المسلم الذي كونه الإسلام بتعاليمه وأحكامه العادلة مجتمع فاضل شغوف بالخير والإحسان، وقد بلغ درجة عالية في حب الخير،

حتى للعاجزين عن ذلك، فقد جاء في أخبار السنة النبوية أن فقراء الصحابة قد اهتموا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل الخير والإحسان، غير أنهم وجدوا أنفسهم عاجزين عن ذلك، فهم يحبون أن يتصدقوا أو يعتقوا الرقاب أو يجهزوا المجاهدين في سبيل الله أو غير ذلك من أوجه البر والإحسان، لذلك ذهب منهم جماعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون حالهم وفقرهم وقصر ذات أيديهم عن بذل المال، لأنهم فقراء لا مال لهم، فهم لم يحسدوا الأغنياء على ما في أيديهم من الأموال، ولم يشكوهم لأنهم أكلوا عرقهم، إنما لأنهم يحبون أن يفعلوا الخير ولا قدرة لهم عليه، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور - يعنون الأغنياء - بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فأرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمل يلحقهم بمن سبقهم ويسبقون به غيرهم، ولا يكون أحد أفضل منهم إلا من صنع مثل صنعهم، فلما رضوا بذلك أرشدهم إلى أن تسبيح الله وتحميده وتكبيره عقب كل صلاة مفروضة ثلاثا وثلاثين مرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخر ما جاء في متن الحديث بطرقه وألفاظه المتعددة، في كل ما ذكر أجر عظيم وثواب كثير، يوازي ما يقدمه الأغنياء من صدقات وغيرها، لأن فيه تنزيه الله عما لا يليق به وتكبيره وتعظيمه الخ، لأن ذلك يدل على قوة الإيمان، في حين ربما قد لا يكون للمتصدق بماله ثواب ولا أجر، لاختلال في صدقته. نستلهم من هذا الإرشاد النبوي سبل تربية الإسلام للمسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوغر صدور الفقراء على الأغنياء، فلم يقل لهم - مثلا - أنهم ظلموكم، أو أكلوا عرق جبينكم، أو امتصوا دماءكم أو غير ذلك مما نسمعه اليوم من محترفي السياسة وزعماء الإشهار، بل دلهم على أعمال تعود عليهم بالنفع والخير، من غير خصومة ولا عداوة لأحد، فليس في القوانين البشرية الوضعية ما في قوانين الشريعة الإسلامية لو وجد في المسلمين من ينفذها ويعمل بها. يزعم واضعوا القانون البشري أن فيه الحماية والرعاية لحقوق العامل

ومصالحه، غير أن الواقع بخلاف ذلك، فكم من عامل رفع شكواه وظلامته إلى النقابة التي تتزعم حركة العمال، أو إلى المجلس القضائي الخاص بقضايا العمل والعمال طالبا إليها أن تأخذ له حقه وتنصفه ممن ظلمه، ولكن بدون جدوى وفائدة، انتظار طويل، وتسويف كثير مخل وممل، والعامل المسكين يجيء ويذهب، ويصعد وينزل، إلى أن ييأس، فيترك الدعوى آسفا على ما ضيعه من وقت ومال. إذ من المشاهد المسلم به أن الطبائع الخلقية قد فسدت وتغيرت وزال من القلوب الخوف من الله القادر على كل شيء، واستحوذ عليها حب الأثرة، ونسي الناس الجبار المنتقم من الظالم للمظلوم، فصارت فطر الناس تتأثر بالمظاهر الظاهرة الخلابة الخادعة، وبما يزينه لها شياطين الإنس والجن، فزال منها الذوق الفطري السليم، وصارت كالآلة الحديدية الصماء تعمل حسب تصميمها ووضعها من غير أن تشعر بأن عليها مراقبا يراقب عملها وسيرها. وكمثل على هذا فليجرب من أراد التجربة، كي يلمس بنفسه ويده ما ذكرته من فساد الطبائع الخلقية وذهاب الروح الدينية إلا من القليل، فليجلس إلى جماعة - أي جماعة كانت - ويشاركهم فيما يدور بينهم من أحاديث وحوار وآراء، فإنه يرى ويسمع منهم العجب العجاب، فلا يسمع إلا ما يستبين به بعد الناس عن الخوض فيما له صلة بالدين وقوانينه، وفرارهم من كل ما فيه صلة بالروحيات والشرائع الإلهية، اللهم إلا النادر القليل، الذي لا زالت فيه بقية صالحة من عقيدة التوحيد وحب الإسلام، فإذا أراد أن يشاركهم فيما يتناولون من مواضيع، وتكلم معهم وطرق في حديثه موضوع الإسلام وقوانينه وعدالته وشريعته وحبها للطهر والفضيلة والأخلاق الطيبة، فإنه سرعان ما يرى الانقباض باديا على الوجوه، هذا إذا لم يتفرق من حوله من كانوا إلى جنبه، فإذا تكلم أحد الجالسين بكلام لا صلة له بالإسلام - وقد يكون منافيا للأخلاق - فإنه يرى الوجوه تتهلل وتستبشر، لماذا هذا التحول السريع فيما يظهر؟ لأن الكلام قد ابتعد عن الجو الديني ودخل ميدانا آخر، وهذا إنما حدث ويحدث غالبا من الدعايات المضللة الملحدة التي تصور الدين وكأنه شر وبلاء، لا خير ورحمة، وساعد هذه الدعاية على تأثيرها في أوساط الشبان المسلمين بالخصوص أنها تملك في حيازتها شتى وسائل الإعلام، من صحافة وإذاعة وغيرهما، ولم يعط

للإسلام ودعوته أية قيمة تذكر، وما أعطيت له من حصص فهي قليلة جدا، وتعطى لأناس لا صلة لهم بالدين - إلا القليل منهم - وفي بعض الأوقات تعطى للنساء، وبضاعتهن في هذا الميدان قليلة، وقد أعطيت في بعض الأوقات لمن لا يحسنون التكلم بالعربية، فيخاطبون الناس بالفرنسية فيما يرجع إلى الأمور الدينية!!! فيقول بعضهم في الإسلام - لِزْلَامْ - كما ينطق به غير العربي، وفيهم حتى المتجنس بالجنسية الفرنسية، وبه خرج من الشريعة الإسلامية بفتاوي العلماء. والمقصود من هذا كله إبعاد علماء الإسلام عن الاتصال بالأمة المسلمة، حتى لا تتأثر بكلامهم، فإذا سمعت كلاما من غيرهم - قصد به سد الفراغ - فإنه لا يؤثر فيها التأثير المطلوب وذلك هو المقصود. وفي مثل هؤلاء ما حكاه القرآن عن حال الكافرين المشركين حين يذكر الله وحده في مجالسهم من غير ذكر لمعبوداتهم الباطلة، فقال: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬1)، ومما يناسب هذا وما تقدمه من الكلام على - مزدك والمزدكية - أن أذكر هنا بيتين أوردهما الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" وقيل إنهما للأصمعي في هجو البرامكة - وأصلهم من الفرس - بعد أن حل بهم ما حل - في نكبتهم - من الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهما: إذا ذكر الشرك في مجلس … أنارت وجوه بني برمك وإن تليت عندهم آية … أتوا بالأحاديث عن مزدك (¬2) فالشعب المسلم - أينما كان - يرد على دعاة الإلحاد والكفر والزندقة الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأقلامهم المسمومة، كما يحاولون تغليط الأمة المعلمة بواسطة مبادئ شيطانية - مزدكية - يرد آراءهم وبضاعتهم الرخيصة بقول الله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} (¬3). هذا ما أمر الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن ¬

_ (¬1) الآية 43 من سورة الزمر. (¬2) ج 2 ص 309 طبع مطبعة الاستقامة. (¬3) الآية 57 من سورة الأنعام.

يرد به على مشركي زمانه، كما يقوله المؤمنون الصادقون لملاحدة هذا العصر، ويقول الشاعر العربي: مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، من قصيدة ناظر بها إسحاق بن إسرائيل فقال منها: وقد سنت لنا سنن قوام … يلحن بكل فج أو وجين (¬1) وكان الحق ليس به خفاء … أغر كغرة الفلق المبين وما عوض لنا منهاج جهم … بمنهاج ابن آمنة الأمين فأما ما علمت فقد كفاني … وأما ما جهلت فجنبوني (¬2) كيف يرضى شعب مسلم له تاريخ حافل بالأعمال الشريفة والمواقف العظيمة، ورث الأخلاق الإسلامية عن آبائه الأمجاد، تلكم الأخلاق المشبعة بروح الإيمان القوي، المؤمن بدينه وشريعته وأحكامها؟ كيف يرضى أن ينبذ كل ذلك وينسلخ عنه بما فيه من محامد وأيام بيض غر في جبين التاريخ؟ من أجل طائفة لا تؤمن بالدين، أرادت ذلك، ولم تفكر في العواقب والنتائج، كيف يرضى شعب مسلم أن يعوض ويبدل منهاج وشريعة محمد بن آمنة عليه الصلاة والسلام بمنهاج (جهم) أو (مزدك) أو (ماركس) أو غيرهم، كما قال موسى لبني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬3) أم هل من له كنز عظيم كالإسلام ينفق منه ويجد فيه كل ما يحتاج إليه من تشريع كامل، ورحمة شاملة، من له هذا الكنز يحتاج إلى الاقتراض من الغير، أو يمد يده إلى غيره كالسائل المستجدي؟ اللهم لا إلا من كان جاهلا بأن له كنزا فهو لا يعرف عنه شيئا. فمن رغب في تبديل قوانين الشريعة الإسلامية الكاملة، بقوانين أخرى وضعية - أو وضيعة - كيفما كان واضعها فهو غاش للمسلمين، بل ولم يكن منهم، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من غشنا فليس منا)) (¬4) وإنما هو عميل للملاحدة الكفرة، لأن الحق واضح، وهل يستطيع معاند ¬

_ (¬1) الوجين شاطئ وطرف النهر. (¬2) ج 2 من كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر. (¬3) الآية 61 من سورة البقرة. (¬4) رواه ابن ماجه.

مكابر صحيح البصر أن يفضل نور النجم على ضوء الشمس أو على نور القمر ... ؟ أو في إمكانه أن يفضل قنديل الزيت الضعيف على مصباح الكهرباء الوهاج، أو على ضياء الشمس؟؟؟ إذا كان كل ذلك غير ممكن ولا يقوله عاقل يدري ما يقول، فالواقع والحقيقة أنه لا أعدل ولا أشمل لمصالح البشر من تشريع الإسلام العظيم، ولله در البوصيري في قوله: الله أكبر إن دين محمد … وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا تذكروا الكتب السوالف عنده … طلع النهار فأطفئ القنديلا فإذا طلع النهار بشمسه المضيئة وجب أن يطفأ قنديل الزيت الضعيف، فالإسلام كما قيل: كالبدر لا تختفي ليلا أشعته … إلا على أكمه لا يعرف القمرا لكن الجهالات المتفشية في المجتمعات العصرية دفعت بالمسلمين إلى الاقتداء بغيرهم حتى في الكفر، فقد كفروا بالاتباع والتقليد لغيرهم، ولهذا حذر العقلاء من الاندفاع وراء من لا يقدرون للعواقب نتائجها كما قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي تحت عنوان "كفروا تقليدا"؟ لا يخدعنك عن دين الهدى نفر … لم يرزقوا في التماس الحق تأييدا عمي القلوب عروا عن كل فائدة … لأنهم كفروا بالله تقليدا

الباب الثامن

الباب الثامن

الفصل الأول: الاشتراكية والدين.

الفصل الأول: الاشتراكية والدين. إن كل من درس أصل الاشتراكية - وهي الشيوعية - أدرك ما تبيته للدين - وخاصة للإسلام - وعقيدته من نيات سيئة، فهي ترى أن الذي يقف في طريق انتشارها وإقبال الناس عليها إنما هو الدين - وبالخصوص الإسلام وعقيدته - لهذا نراها في كل بلد وجدت فيه لا تهتم بأمر الدين - وهو رأس مال الإنسان - ولا توليه - وهو هو - أية عناية، فهو عندها من الأمور الزائدة، هذا إن لم تحاربه، وتصد الناس عنه كما سنعرفه - إن شاء الله - فيما بعد، وأظهر ما يظهر ذلك في بعض المظاهر الإسلامية: 1 - المظهر الأول من مظاهر الإسلام التي عملت الاشتراكية على أن لا يظهر فيها الإسلام وشريعته: إبعاده عن كل عمل أو ميدان يخدم فيه الشعب خدمة مباشرة، تطهره من أدناس البشرية الضالة، وجعله مقصورا ومحبوسا ومحصورا بين جدران المساجد، بدعوى أنه عاجز عن العمل في المجتمع، وإذا أريد له الظهور - في بعض المناسبات - ففي المقابر وبين الأموات بالدعوات ورفع الأكف - التقليدي - إلى السماوات، وهل يجيب الله دعاء قوم لا يعتقدون فيه - الدعاء -؟ فلإجابة الدعاء شروط وعلامات، منها التغذي بالحلال والطهر، كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، إلى أن قال: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟)). فظهر من متن الحديث أن أكل الحلال هو السر الأكبر في إجابة الدعاء، وأن الله طاهر لا يقبل إلا الطاهرين،

ففي هذا الحديث تنبيه للغافلين، وتقريع للمتغافلين، الذين يرفعون أيديهم بالدعاء وهم على ما هم عليه. 2 - المظهر الثاني من مظاهر الإسلام: القضاء الشرعي - وما أدراك ما القضاء الشرعي؟ - تعمل الكثير من حكومات الشعوب الإسلامية - الاشتراكية - على إلغاء القضاء الشرعي وتعويضه بالقضاء المدني. والقضاء الشرعي مظهر من مظاهر سلطة الإسلام التي تنشر الأمن والرحمة والعدل بين العباد، فيكون المسلمون على صلة بربهم، فأحكامه مستمدة من نصوص الآيات القرآنية أو من أحاديث ثابتة عن صاحب الشريعة فيكون الحكم معتمدا على نص في كتاب الله، أو في سنة رسول الله، بخلاف القضاء المدني، فإن أحكامه تدعم بفصل كذا من قانون كذا المؤرخ بكذا، ومصدرا: باسم الشعب الفلاني حكمت محكمة كذا - لا باسم الله - على فلان بكذا الخ ... وللقضاء الشرعي في الإسلام مرتبة رفيعة عالية تلي مرتبة الخلافة، أو الإمارة، وله من الحرمة والاعتبار ما جعل أمراء المسلمين والخلفاء يختارون له من اجتمعت فيهم الصفات العالية: كالعلم الواسع، والفهم الصائب، - والورع الحقيقي لا المزيف الكاذب الخادع، والشجاعة في الحق، وألا تأخذ القاضي في سبيل العدل لومة لائم، والمساواة بين الخصمين أو الخصوم في كل شيء، حتى في النظر والاستماع إلى آخر ما في ذلك من السمو والرفعة، وكانت محاكم الشرع الإسلامي - فيما مضى من الزمن - عندنا في الكثير من مدن الجزائر متصلة البنيان بالمساجد، بل هي جزء منها، فإذا حضر وقت الصلاة خرج القاضي من المحكمة إلى المسجد لأداء فرض الصلاة، وكان الأمراء المسلمون يحترمون القضاة الشرعيين ويهابونهم، ويتركونهم أحرارا في أحكامهم، بعد أن يفوضوا لهم الحكم في النوازل حسب النصوص الشرعية، وقد يكون ابن الخليفة، أو أخوه - مثلا - أو هو نفسه متهما - وفي تاريخ الأمراء والقضاة الكثير من هذا - فيأتي إلى المحكمة، ويقف أمام القاضي مع خصمه. ولا يخفى علينا موقف القاضي العادل - سلطان العلماء - عز الدين ابن عبد السلام المتوفى عام 660 هـ رحمه الله، من الأمراء المماليك في مصر عندما أراد بيعهم في السوق وقال لهم: إنكم مملوكون للأمة، ولستم

بأحرار حتى تنالوا الإمارة والسيادة على الأحرار، وقد غضب عليه السلطان من أجل موقفه هذا، ولكنه فضل - رحمه الله - رضى خالقه عن رضى السلطان، وهكذا ينبغي أن يكون علماء الإسلام، كما قال القائل فيهم: إن الأكابر يحكمون على الورى … وعلى الأكابر يحكم العلماء فالقضاء سنة محكمة كما جاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وقد ذكر فيها من أصول الأحكام ما لا يوجد في غيرها من مواد القانون المدني في الوقت الحاضر. فالقضاء الشرعي يحسم مادة الخلاف من أصلها، ويمحو الخصومات من أساسها إذا تولاه رجال أكفاء قادرون على تحمل مسؤوليته الثقيلة، رجال أطهار - لا نساء كما هو في الوقت الحاضر - ملئت قلوبهم بالإيمان بربهم والنزاهة والخوف من عقابه الذي ينتظرهم إذا هم جاروا عن علم، أو حكموا عن جهل أو هوى، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((القضاة ثلاثة - اثنان في النار وواحد في الجنة - رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)) (¬1). والقضاء في الإسلام من الوظائف والمناصب الخاصة بالرجال، نلاحظ هذا في الحديث المتقدم وفي غيره، فإنه لم يقل فيه - امرأة عرفت الحق - وقال أيضا: ((إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ منه وألزمه الشيطان)) (¬2) وقال أيضا: (لا يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها من قويها حقه))، (¬3)، وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: ((لا قدس الله أمة لا تأخذ للمظلوم حقه من الظالم غير متعتع)) (¬4) كما ورد هذا المعنى للحديث المتقدم بلفظ: ((لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع)) (¬5). أي من غير أن ¬

_ (¬1) رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم عن بريدة. (¬2) رواه الحاكم والبيهقي في السنن عن ابن أبي أوفى. (¬3) وراه في مسند الفردوس. (¬4) ذكره العجلوني في كشف الخفاء. (¬5) أخرجه الطبراني عن معاوية رضي الله عنه.

يصيبه أذى يقلقه ويزعجه. والأحاديث وأقضية الصحابة كثيرة متعددة في هذا الباب. أما القضاء المدني فإنه يشعب النوازل ويطيل أيام الخصام، ولربما نمى النوازل وزاد في مشاكلها، وقد يصعب حلها من بعد. هذا وقد جرد القضاء الشرعي من التدخل في الأمور المهمة المتعلقة بحياة المسلمين، وحصر نظره في الأحوال الشخصية لا غير، وهذه الأخيرة هي أيضا في طريق الزوال. فنجد - مثلا - أن عقد الزواج حسب القانون المدني الجديد يجوز إيقاعه لدى القاضي المدني الذي أبدل لقبه بـ "الموثق" أو لدى رئيس البلدية، وهذا الأخير كثيرا ما يكون جاهلا بالأحكام الشرعية، فإذا حضر أمامه الزوجان - ولا بد من حضورهما معا - عملا بقانون استعماري سنه المستعمر وقت الثورة المسلحة، وأطلق عليه اسم - عانس - تدعى (سيد قارة) كانت نائبة وقت حرب التحرير في البرلمان الفرنسي، وبقي قانونها معمولا به إلى ما بعد الاستقلال، وإلى يومنا هذا، قلنا لا بد من حضور الزوجة في البلدية أو المحكمة - كالأروبيين - إلا إذا كان القاضي يحمل الروح الإسلامية، فإنه لا يرضى بحضور الزوجة لما في ذلك من الفضيحة، فإنه يكتفي بالولي، فإذا حضر الزوجان أمام رئيس البلدية أو أمام الموثق، سأل الزوجة أولا: - كالأروبيين - هل أنت راضية بالزواج من هذا الرجل؟ فتجيب بنعم، ثم يسأل الزوج: وهل أنت راض بالزواج من هذه؟ فيقول: نعم. بعد هذا يقدم لهما السجل - سجل الحالة المدنية - ليضعا عليه إمضاءيهما ثم، ينصرفان، هذا ما هو واقع الآن، وفي هذا الإجراء ما هو مخالف للنصوص الشرعية من عدة وجوه، منها أن فيه عزلا للولي الشرعي وإبعادا له عن رعاية مصلحة من هو مسؤول عنها، وصحة العقد الشرعي تتوقف عليه لحديث: ((لا نكاح إلا بولي)) (¬1) ولحديث: ((أيما امرأة زوجت نفسها فهي زانية)) (¬2) ولحديث ((أيما امرأة نكحت - تزوجت - بعير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه عن ابن عباس وأبي موسى. (¬2) رواه الخطيب عن معاذ.

باطل الخ ...) (¬1) ومنها أنه لا يجوز - شرعا - للمرأة أن تتولى بنفسها عقد نكاحها، والذي يتولاه - شرعا - إنما هو وليها للحديث الشريف: ((لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها (¬2). من أجل هذه المخالفات الظاهرة والكثيرة لما شرعه الإسلام للمسلمين في بناء الأسرة على قواعد سليمة من كل تدخلات إبليس، رأينا في هذه السنوات الأخيرة ما هال المفكرين وحيرهم على مستقبل الأسرة المسلمة، وذلك من كثرة الطلاق وانحلال رابطة الزوجية، وقد كثر وتفاحش إلى حد كبير جدا جدا، وما ذلك إلا من عدم اتباع سبيل الشرع العزيز الذي أرسى قواعد الأسرة المسلمة على أسس ثابتة متينة، فالمرأة المسلمة غرر بها أعوان الشيطان، فوقعت في الهاوية، فهي مهما كانت حريصة على اختيار زوجها فإن هناك جوانب في الرجل قد تخفى عليها، ومما زاد في كثرة الطلاق خروج المرأة سافرة متبرجة - وقد عد هذا من التقدم وحسنات العصر - فقد يتزوج الرجل اليوم وبعد أسبوع أو أسبوعين يرى امرأة أخرى تعجبه فلا يفكر إلا في فراق الأولى ليتزوج من الثانية، وهكذا، فصار زواج المسلم والمسلمة كزواج الأمريكي والأمريكية، فقد يتزاوجان المرتين والثلاثة في الشهر الواحد، فالمرأة - العصرية - أدخلت في حسابها أنها كسبت شيئا كبيرا بخروجها سافرة مبدية مفاتنها، متبرجة تبرج الجاهلية - الأخيرة لا الأولى - كما قيل لها أنك كسبت حريتك بخروجك من سجن المنزل إلى حرية العمل والاجتماع بمن ترغبين، غير أن الحقيقة الملموسة - لا المتخيلة - أظهرت خلاف ذلك، وهي أن المرأة العصرية خسرت كل شيء في هذه الحياة له وزنه وقيمته، خسرت قيمتها الغالية، وخربت بيتها برجلها لا بيدها. نعود إلى قضية القضاء الشرعي ونتساءل: كيف يكون حال أمة مسلمة أماتت القضاء الشرعي وألغت أحكام الإسلام وعوضتها بالقانون المدني المأخوذ من قوانين الأمم التي لا تؤمن بخالقها، هل لا زالت في حظيرة ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وأبو داوود، والترمذي وابن ماجه والحاكم عن عائشة. (¬2) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.

الإسلام؟ سؤال يجيب عنه الواقع، وكفى به، والله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). 3 - المظهر الثالث من مظاهر الإسلام التي تعمل الاشتراكية الشيوعية على إبطالها وإلغائها الأوقاف والأحباس الإسلامية، التي هي حسنة من حسنات الإسلام والمسلمين، ففي بعض الأوطان الإسلامية التي دخلتها نحلة الاشتراكية المزدكية عمدت حكوماتها إلى حل وإبطال جميع أوقاف المسلمين الأولين أولي الخير والصلاح - وهي في المكان العالي من الدين - واستولت عليها بحجج واهية، وهو أمر مخالف لما رغب فيه الإسلام وحببه إلى المسلمين وحثهم عليه، وذلك بوقف وتحبيس أملاك وعقارات على سبل الخير ومنافع المسلمين، ومنها ينتفع محاويج المسلمين، وتنتعش بها مراكز إشعاع نور الإسلام، من مساجد ودور العجزة وغيرهما، ويعظم بها الأجر والثواب للمسلمين المحبسين، فكم أفادت هذه الأوقاف الخيرية المسلمين وأبقت نور الإسلام يشع لينير الطريق للسالكين، فإبطالها وإلغاؤها تعطيل لما حواه الحديث النبوي الشريف، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات اب، آدم - وفي رواية الإنسان - انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (¬2). فالمسلم طبعه الإسلام بطابع حب الخير وتحصيله، أما مقاصد المحبسين فكثيرة، وقد ذكر العلماء منها أنواعا تظهر فيها رغبة المسلم في إعانة إخوانه في الدين بما يوقفه عليهم، من عقارات وغيرها يرجع ريعها وفائدتها عليهم، إذ للواقفين والمحبسين مقاصد خيرية يرجون من ورائها الأجر والمثوبة والنفع في الدنيا والآخرة، كعمارة المساجد بالدروس العلمية والقرآن وإنارتها وفرشها وغير ذلك، ومما يلفت النظر إلى مقاصد المحسبين نياتهم في التحبيس، منها - وهو الأهم والأغلب - عمارة المساجد وإصلاحها الخ، ومنها إعانة العجزة والأرامل، وإعانة البنات الفقيرات أو اليتيمات على تزويجهن حتى لا يرغب عنهن الراغبون، ومن المقاصد الإنسانية وقف كان بعنوان (مؤنس العليل) سببه أن رجلا غنيا أصيب بعلة ومرض فبات ساهرا يتململ من علته، فنام أهله ¬

_ (¬1) الآية 44 من سورة المائدة. (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة.

واستوحش في ليله، فلم يأنس إلا بالمؤذن الذي شرع في تلاوة القرآن والأدعية من أعلى صومعة الجامع في آخر الليل وقبل طلوع الفجر، فلما شفاه الله من علته تلك أوقف وقفا لمؤذن خاص يصعد كل ليلة - بعد رقاد الناس - إلى الصومعة لتلاوة القرآن والأذكار والقصائد بصوت حنون، إذ لعل هناك من هو عليل أصابه الأرق فيأنس بما يسمع من صوت المؤذن من أعلى الصومعة، وهذا كله من أثر العقيدة الإسلامية، ورعاية حقوق الأخوة الإسلامية بمكان. ومن ذلك وقف يأخذ منه الفقير أجرة الوضوء - الغسل - في الحمام حتى لا تفوته صلاة الصبح عن وقتها وهذا من الإعانة على العبادة في وقتها، ومنها ما هو معد للفقراء وأبناء السيل، الخ فأوجه البر كثيرة، والأهم من ذلك كله ما هو معد للمساجد من إصلاح وعمارة وغير ما ذكر. 4 - المظهر الرابع من مظاهر الإسلام المناصب الدينية، فقد صارت تسند إلى رجال غير أكفاء لها، وليس لهم - إلا القليل - من ماضي حياتهم ما يجعلهم ينالون ما أسند إليهم عن جدارة وأهلية، لضعف بضاعتهم فيما أسند إليهم، وعدم تمكن الدين من نفوسهم حتى يدافعوا عنه ويحموه ممن يتربص به الدوائر ويتحين الفرص له لينفذ مرغوبه فيه. والدافع الذي يدفع المسؤولين إلى إسناد المناصب الدينية إلى من ذكرنا ما يعرفونه فيهم من ضعف، لأنهم سيكونون أطوع لهم من غيرهم الذين لا يتساهلون في التفريط ولو بجزء يسير منه. أو تضييع أي جزء ولو كان مقدار قلامة ظفر، فهم إن لم يكونوا قوة له فلا يكونون عونا على القضاء عليه. ويولونهم - أيضا - بدعوى أن فيهم مرونة - والإسلام مرن كما يقولون وأنهم يسايرون ركب الاشتراكية، بل ويجعلون الإسلام اشتراكيا - إذا اقتضى الحال - كل ذلك ليرضى عنهم زعماؤها المتحمسون لها، فيكثرون الكلام - كما سمعنا ذلك منهم المرات العديدة - على موافقة الإسلام للاشتراكية - وهم كاذبون - فهم يعملون على تعويض الإسلام بالاشتراكية - وهذا ما يرمي إليه خصومه - ومحو آثاره شيئا فشيئا إلى أن يزول - لا قدر الله ذلك - ويمحى من الوجود، ولا تبقى إلا الاشتراكية، وهذا هو المقصود، فيكون محوه بأيدي من ينتسبون إليه. فالإسلام دين سماوي قائم بذاته، مستقل بنفسه، وشريعته كاملة لا نقص

فيها حتى تكملها قوانين الملاحدة، فمن ادعى أن الإسلام ناقص، أو لا قدرة له على حل مشكل الوقت الحاضر كما يقولون - من ادعى ذلك فهو كاذب ومكذب ومرتد كافر برب العالمين، منزل القرآن الذي جعله دستور المسلمين، كما هو خائن لأمانة العلم وعهد الدين، فإذا قالوا أن في الإسلام بعض أهداف الاشتراكية، أو نزعة تشبه الاشتراكية، فهذا نعم، وأما أن يكون هو هي فلا ... فالإسلام ليس بالشيوعية في نظامها، ولا بالرأسمالية في أهدافها، فهو وسط بينهما ولعل هذه الآية تتحمل هذا المعنى وهي قوله، تعالى وتقدس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1) فالأمة الإسلامية أمة وسط في حياتها، فليست بالمتغالية في كسب المادة كالرأسماليين، ولا بالمفرطة كالذين يتظاهرون بأنهم ليسوا من عباد المال وأربابه، لهذا فالاشتراكية لا تتفق - أبدا - مع الإسلام مهما حاول بائعو دينهم ذلك، فتعاليمه وتعاليمها متغايران متناقضان ومتضادان، فكيف يمكن الجمع بين هذه المتناقضات، كالجمع بين النور والظلمة، أو بين الليل والنهار، وذلك أمر مستحيل، فهو دين إلهي أساسه الإقرار بوجود الله وتوحيده والإيمان به وطاعته، وهو موجود موجد لكل شيء، أما هي فإنها من وضع البشر، تحمل فيما تحمل ما يناقض الدين فلا إيمان فيها لا بالإله ولا بالدين ولا بطاعة الخالق العليم، إذ من الأصول التي بنت عليها دعوتها (لا إله والحياة مادة) فمن ذا الذي يدعي أنه لا تنافي بين الإسلام وبين الاشتراكية؟ وأمرهما ما يعرف الجميع، وتثبيتا لهذا المبدأ الاشتراكي فإننا لم نر - الاشتراكيين - يقومون بأداء الفروض الدينية كما يقوم بها غيرهم ممن ليسوا على مذهبهم، فلا يقصدون المساجد إلا في المناسبات كالأعياد، إذ كيف يفعلون شيئا يرونه خلاف مذهبهم،؟ فإذا تظاهر واحد منهم بالتدين فإنه لحاجة في النفس لا غير، وقد سمعنا رئيس الجمهورية الجزائرية السابق أحمد ابن بلة يصرح في حفلة أقيمت في قاعة سينما الماجستيك سنة 196 بما يلي، إذ قال وهو يتكلم عن الدولة الجزائرية: (تأخذ مكانها في البناء الاشتراكي، تأخذ مكانها الطبيعي) وهل طبيعة الأمة الجزائرية ودولتها هي الاشتراكية ... ؟؟ ومن المعلوم في النظم الدولية أن المسؤولين الكبار كالملوك والرؤساء إذا تكلموا أوجزوا فيقلون الكلام بلا ثرثرة، وفي مناسبات خاصة، ¬

_ (¬1) الآية 143 من سورة البقرة.

ولكلامهم مفاصل ومواقع، وهكذا فقد ساقه الغرور إلى أن يرمي الإسلام والقائمين عليه بما لا يتفق والواقع فقال فيما قال: (نندد بالأفكار البالية، طائفة باسم الدين، هذاك الدين البالي - حسب تعبيره - تخلينا - يقصد تتركنا - في حالة ركود) هكذا قال، فقد تجرأ على أن رمى الإسلام بالبلى، فقد ظن أن الإسلام كالثوب البالي القديم الممزق، وتجاهل أنه ما أحله ذلك المحل إلا الإسلام، وهو الدين القوي الصحيح لا البالي الخلق، فلا ينكر أحد دور الإسلام الفعال وعقيدته الحية في تحرير الجزائر من الاستعمار، فإن هذه الكلمات التي كانت مستعملة إبان الثورة المسلحة - ولا زالت - كلمات إسلامية وهي، الجهاد، والمجاهدون، والشهيد، والشهداء، وفي سبيل الله الخ، وبعد أن قال ما قال في الإسلام أخذ يرمي العلماء بما لا يليق، ويتهكم بهم، في نفس الوقت، فقال في نفس المناسبة: (أهل الرزز - يقصد أصحاب العمائم - الذين أشبعوا بطونهم، هذوك - يريد أولئك - الناس الذين يتغنون بالدين ماشفناهمش - يعني ما رأيناهم - في أيام "لاكوست") - حاكم الجزائر وقت الحرب التحريرية - بهذا صرح رئيس الدولة الجزائرية الأولى، وهو مسؤول عن كل ما قال في جمع حاشد أكثره - بل أكثرهن - من النساء كما هي العادة في كل اجتماعاته. فأصحاب العمائم - الذين قصدهم بالكلام - قاموا بواجبهم نحو الثورة والوطن، ففيهم من انضم إلى ثورة التحرير في وقتها، فكان في صفوفها، أو داعيا لها في الخلف أو في المساجد، وغير ذلك من أوجه النشاط، ففيهم الشهداء، والمعذبون، والسجناء والمعتقلون الخ، ولم يمنوا على أمتهم بما نالهم من المستعمر وجنده كما من عليها غيرهم، فكيف يتجاهل اليوم متجاهل أو جاهل ما قدمه العلماء - وهم الذين هيأوا الشعب لذلك بالعلم - لتحرير الجزائر من ضحايا في شتى الميادين، وكان فيهم الهالكون والناجون كباقي أفراد أمتهم، ولكن أنى له أن يعرفهم أو يعرف أعمالهم وهو في وقت الثورة المسلحة كان يعيش خارج الجزائر ... ؟؟؟ وفي أصحاب الرزز - العمائم - من كان ضد ثورة التحرير، وفي صفوف الجيش الفرنسي، عملوا كثيرا على تحطيم الثورة المسلحة - وكنا نظن أن الثورة ستعاقبهم بالشنق بعد الاستقلال - غير أننا رأيناهم جالسين إلى جنبه في الحفلات الرسمية - ولا زالوا إلى الآن - وهم يتبوؤون أعلى المناصب، وكان من هذا النوع

الأخير الأئمة الممتازون - هكذا الممتازون - يا ابن بلة، ولكنه العداء السياسي والحزبي القديم يعمي صاحبه عن رؤية الأمور على حقيقتها، وياليته استثنى البعض، فلو استثنى البعض ولم يعمم لقلنا أنه أراد بكلامه الذين كانوا في صفوف الجيش الاستعماري، وهذا النوع - منهم - بالطبع صفق - ولا زال يصفق - للاشتراكية ونادى بها في الدولة الجديدة، فهم مع كل من حضر وقته وليس لهم مبدأ - شأن الأحرار - فهم أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، كما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكما قال الشاعر القديم: وإذا تكون كريهة أدعى لها … وإذا يحاس الحيس يدعى جندب جرنا إلى هذا الحديث ما قلناه سابقا من أن الإسلام والاشتراكية لا يلتقيان، لهذا يعادي دعاة وأنصار الاشتراكية العلماء الذين لا يجارونهم فيما ذهبوا إليه. وهنا يجمل بنا أن نوجه هذا السؤال الذي تتفرع عنه أسئلة أخرى والتي تفرض نفسها علينا - ليزداد الموضوع وضوحا، وهي موجهة إلى حكام المسلمين الذين عوضوا الشريعة الإسلامية بالاشتراكية الشيوعية، والسؤال هو: هل الإسلام أفضل وأكمل وأوفى بالحاجات الإنسانية أو الاشتراكية؟ أو هو مساو له؟ أو هو دونها وأقل منها؟ والجواب لا يخلو عن واحد من ثلاثة: 1 - فإن أجابوا بأن الإسلام أفضل وأكمل وأوفى بالحاجات الإنسانية - وهذا لا يرجى منهم - قلنا لهم: لماذا - إذن - استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ 2 - وإن قالوا: الإسلام والاشتراكية متساويان، قلنا لهم - أيضا - ولماذا عوضتم الإسلام بمساويه؟ وهذا لا يفعله عاقل. 3 - وإن أجابوا بأن الاشتراكية أفضل وأكمل منه وأحسن للبشرية - ولهذا عوضناها به - قلنا لهم هذا ردة وكفر - عياذا بالله - فاجهروا بهذا الرأي حتى تعرفه شعوبكم، وانظروا هل ترضى بتكفيرها أو لا.؟ 5 - المظهر الخامس من مظاهر الإسلام عدم الاهتمام بالدين وترك أهل الشر والفساد يفسدون في الأرض ولا يصلحون، من غير أن ينالهم العقاب، وفي هذا إغراء وتشجيع لغيرهم باتباع سبيلهم، وبالعمل مثلهم، وفي الناس الصالح والطالح والخير والشرير - ومعظم النار من مستصغر الشرر - والحكومة

الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام.

الواعية لواجباتها يجب أن تكون يقظة لا تترك الأشرار يجهرون بشرورهم، ومن الغريب أنهم يجدون التشجيع والعون من بعض الدوائر الحكومية. 6 - المظهر السادس مجاهرة الاشتراكيين التقدميين - حسب تعبيرهم - بعداوتهم للدين، واحتقارهم له، وتحميله جميع أوزارهم وخيباتهم، فإذا لم ينجحوا في عمل ما فذلك راجع إلى الدين، وإذا هزموا في معركة ما فانهزامهم من الدين، وإن لم تكن لهم قوة كقوة غيرهم فذلك سببه الدين، إلى غير ذلك مما نسمعه ونراه، والواقع أنهم لو اتبعوا الدين لما حل بهم ما يكرهون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬1). الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام. إن محاربة الاشتراكية الشيوعية للأديان بصفة عامة، وللإسلام بصفة خاصة أمر شائع ومعروف يعرفه الخاص والعام، ولكن حربها للإسلام أشد. وعامة المتتبعين لما يجرى في الأوطان الإسلامية التي استحوذت عليها الاشتراكية الشيوعية يعرفون ما يلاقيه إخواننا المسلمون فيها من اضطهاد واحتقار وتضييق بلغ أقصاه من هذه الشيوعية الملحدة، وحربها للإسلام مكشوفة غير مستورة، وأمثلتها كثيرة، نذكر منها بعض العينات على سبيل الاستشهاد. 1 - كتب المدعو (أ - جاكو فينسكي) في جريدة "برافدا فوستوكا" الصادرة بتاريخ (29 جوان عام 1965) تحت عنوان (الماركسية اللينينية والدين يقول: (ما زلنا نجد عندنا أناسا لا يزالون يعتقدون بالله، متأثرين بالخرافات والسخافات الدينية ... وهم يقومون بطقوس دينية، ويحافظون على الصيام وعلى الأعياد التي سنها القرآن، ومن بين هذه الطقوس تجد صوم ثلاثين يوما في رمضان، فالذي يصوم رمضان لا يحق له أن يأكل ولا أن يشرب ولا أن يستحم - كذا قال - من الفجر إلى الليل، ولا يحق للصائم أن يستعمل العلاج حتى ولو كان لصقا فوق الجرح، وبالإضافة إلى ما يعتري الأفكار من أدران من جراء هذا الاعتقاد الباطل - في نظر الشيوعي طبعا - فإن الذين يصومون يفقدون جزءا من قدرتهم على العمل، وإذا ما علمنا أن رمضان يأتي في أفضل الأوقات ¬

_ (¬1) الآيتان 11 - 12 من سورة البقرة.

لزراعة القطن، أدركنا ما يحدثه صيام هذا الشهر من رمضان في زراعة القطن، وفي الحصول على قطن جيد ...) (¬1) فالشيوعي يرى أن الإنسان كالحمار والبغل يأكل ليقوى على حمل الأثقال. أبعد هذا الذي رأيناه يدعي مدع أنه اشتراكي ومسلم أيضا؟؟؟ فالاشتراكية والإسلام لا يجتمعان في شخص واحد أبدا، بالرغم مما يصرح به ويعلنه زعماؤها الذين هم من أبوين مسلمين، وقد سمعت مرة كلمة قالها السيد أحمد ابن بلة قال أنه قالها لزعماء - الكريملن - عندما زارهم فيه وهي: (أن الإسلام لا ينافي الاشتراكية) وهذا منه خطأ ظاهر إذا كان يعرف ويدرك مدلول الإسلام وأهداف الاشتراكية. 2 - وفي هذه القصة التي أذرها هنا - أيضا - والتي وقعت من سنوات قليلة مضت الدليل الكافي على ما يبيته الاشتراكيون للدين - وكم لها من نظائر - وقد كان لوقوعها ووقعها صدى بعيد في العالم الإسلامي نبه الغافلين وأيقظ النائمين، وكشف القناع عن وجوه الملحدين، خصوصا وهي واقعة فوق أرض عربية وفي بلد عربي يعز علينا أن يوسم بميسم الإلحاد - من أجل بعض الطائشين!! - ونبذ الإسلام - الذي به لا بسواه كان عز العرب - ذلك البلد العربي هو (سوريا) وكفى!!! التي ابتلاها الله بحزب البعث - بل العبث - الشيوعي كما ابتلى الله به العراق - أيضا - فقد كتب كاتب - الإنسان البعثي العربي الاشتراكي - في مجلة "الجيش السوري" يصف ويعرف الاشتراكي العربي من هو؟ فقال بالحرف: (والطريق الوحيدة لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي، هو خلق - كذا - الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن ... أن الله، والأديان، والإقطاع، والرأسمال، والاستعمار، والمتخمين، ... وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ ... الخ ثم يستطرد فيقول: الإنسان الذي لا يعتمد إلا على نفسه، وعمله، وما يقدمه للبشرية جمعاء ... لأنه يعلم أن نهايته الحتمية: الموت، وليس غير الموت، لن يكون هناك ¬

_ (¬1) عن العدد العاشر - الصفة الخامسة - من صحفة (المجتمع) اللبنانية الصادرة في 24 رمضان 1385 هـ وفي 10 جانفي 1966 م.

نعم، أو جحيم، بل سيصبح ذرة تدور مع دوران الأرض .. الغ) (¬1) فقائل هذا القول إن كان غير مسلم فأمره واضح، وإن كان مسلما - بالوراثة أو الدعوى - فهو كافر مرتد ملحد، وفيما كتبه براءة من الإسلام، لأنه أنكر وجود الله - وهذه هي عقيدة الاشتراكيين - والأديان، بل سوى في إنكاره وجحوده الله الخالق بالاستعمار والرأسمال، وهذا مما يدل صراحة على جهل أصحاب هذا المذهب السياسي وإلحادهم، ومما يضحك أنه أنكر بعث الله للأجساد في الآخرة - وهو بعثي - وآمن ببعث الإنسان في الدنيا - إذ أنكر البعث وما بعده إلى آخر ما هذى به هذا المحموم - وأمثاله كثيرون - وما أظهره من مكنون عقيدته الإلحادية، وقول هذا البعثي في الواقع ليس له وحده، بل له في ميدان هذا السباق فرسان كثيرون من المضللين، وهم يتمتعون بالحصانة والمساندة من بعض أعضاء حكومات الشعوب الإسلامية، من غير التفات إلى ما تحدثه هذه النزعات في الشعوب المسلمة. 3 - ويقول بعثي آخر: (لو امتدت يد الله إلى حزب البعث لقطعناها!!!) عجيب والله من هذا الغرور، فإذا كان لهذا البعثي - المغرور - القدرة على قطع يد الله - والله منزه عن اليد - ولا تستطيع بعوضة مثل هذا البعثي أن تصل إليه، فلماذا لم يقطع رجل إسرائيل التي داست كرامته وأنفه وهي - إلى الآن - فوق تراب أرضه العربية، كفاكم من الهذيان أيها المخادعون. من هذه الكلمات وأمثالها التي تعبر - بصراحة لا خفاء فيها - عن عقيدة الاشتراكي الشيوعي سرت في شباب المسلمين - إلا من قل - روح العداوة والبغضاء للدين الإسلامي نظرا لما يتلقونه من تلقين الشيوعيين لهم. وهنا أشير إلى حادثة رأيتها بعيني تؤيد ما قلت وهي: 4 - كنت دعيت فيمن دعي من الأساتذة لتصحيح امتحان الدخول إلى مدرسة المعلمين الكائنة بـ (بوزريعة) في نهاية السنة الدراسية - 1965 - لتصحيح مادة الكتابة فكان من نصيبي أوراق بعض التلامذة الممتحنين. ¬

_ (¬1) مجلة "الجيش السوري" بواسطة صحيفة "الشهاب" اللبنانية المجاهدة العدد 12 الصادر في 15 ماي 1967 السنة الأولى.

فرأيت عجبا، وكان الموضوع - فيما أذكر - (الاقتصاد في حياة الأمة والفرد) فكان الطلبة يستدلون بأقوال وآراء قادة روسيا الشيوعية، فهذا يقول: قال ماركس الاقتصاد كذا، وذاك يقول: قال لينين، وآخر يقول قال ستالين، وهكذا مما علمت منه أن المعلمين الذين تولوا تعليم أبناء هذا الشعب المسلم لم يكونوا يحملون في نفوسهم عقيدة المسلم، ولا يعرفون شيئا مما ذكره القرآن في الموضوع، ولا الحديث الشريف، فعلمت أن الأمر مقصود، وهو محو الإسلام من هذه الأرض وإثبات الشيوعية مكانه، وبثها في عقول شباب الأمه، وهذا أمر مدبر ومبيت ولم يأت عفوا من غير قصد، وإلا فما هي قيمة أقوال هؤلاء الملاحدة؟ وكم تساوي إذا قارناها بالقرآن؟ كما في قول الله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (¬1) وهي آية عظيمة القدر في الاقتصاد لمن أراد أن يكون مسلما له في قرآنه ما يرشده إلى سبيل العيش الهني والحياة الفاضلة، وجاء في آية صفات عباد الرحمن ما هو بين واضح، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2). ومثل هذا ما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاختصار والدلالة الوافية بالمراد. من ذلك قوله: ((ما عال من اقتصد)) (¬3). والحديث على قلة كلماته جامع لمعان الاقتصاد كلها. وفي رواية أخرى قال: ((ما عال مقتصد) (¬4) والحديثان من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام. وقد نبهت الأستاذ مدير المدرسة - في الوقت - إلى هذا الخطر الذي غزا أفكار شبابنا بواسطة المعلمين الذين لا يحملون الروح الإسلامية، وفي ذلك يكمن الخطر الكبير الذي يبعد شبابنا عن ماضيه العظيم، وفي الوقت نفسه تحشى أفكار شبابنا بعقائد الزيغ والضلال، ويظهر هؤلاء المعلمون لتلامذتنا عجز الإسلام عن مسايرة الوقت، وتلك هي الأغنية التي يتغنى بها الملاحدة، أشباههم ويقولون أن الإسلام ليس فيه ما يصلح لهذا الوقت، وهذه الأفكار المريضة من الإسلام - نعم هي ¬

_ (¬1) الآية 29 من سورة الإسراء. (¬2) الآية 67 من سورة الفرقان. (¬3) رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود. (¬4) رواه الطبراني في الكبير والدارقطني في السنن عن ابن عباس.

مريضة من الإسلام - ومبادئه هي التي دفعت بشباب المسلمين إلى التمرد عن دينهم وتاريخهم. 3 - ما يلقاه إخواننا المسلمون - في بلغاريا - من حكومتها - الاشتراكية الشيوعية - ونحن نعلم أن في الوطن - البلغاري - عددا لا بأس به من المسلمين، سواء من كان منهم من أصل تركي، أو من أصل بلغاري أسلموا حبا في الإسلام أيام كانت - بلغاريا - تحت حكم الدولة التركية العثمانية، فها هي الشيوعية - صاحبة الحرية - تتدخل بين العبد وعقيدته، لصرفه عنها إلى العقيدة الشيوعية الملحدة. فقد قامت حكومة بلغاريا - أخيرا - وقعدت ضد مسلميها، فهي تحارب الإسلام حتى في الاسم الشخصي، فقد فرضت على المسلمين البلغاريين أن يغيروا أسماءهم الإسلامية وأسماء أولادهم، ومن تمسك باسمه القديم ولم يستجب لما طلب منه فإنه لا حق له - كمواطن - في التمتع بحقوق المواطن التي ينالها غيره من بقية المواطنين البلغاريين، كذلك إذا بقي مصرا على الاحتفاظ باسمه الإسلامي فإن المولود الذي يولد له لا يسجل في سجل الحالة المدنية، وكذلك لا حق له في المنحة العائلية أو الضمان الاجتماعي أو عقد الزواج الخ، وهذا نوع جديد من أنواع الحرب التي يحارب بها الإسلام، وهي ترك الدين الإسلامي من باب أولى، فإلغاء حتى التسمي بالأسماء الإسلامية نوع آخر من الحروب التي يلقاها الإسلام من الملاحدة أو العقاب المتعدد الأنواع والأشكال، فيا لله للمسلمين من هذه العداوة الشيوعية المتأصلة في النفوس الملحدة، أما في البلدان الإسلامية فإن البلغاريين يعيشون فيها من غير أن يطلب منهم تبديل أسمائهم، فانظروا إلى تسامح الإسلام وترفعه عن الأمور التافهة كهذه. هذا هو واقع حقيقة من غير مبالغة ولا تهويل، وقد وجه المؤتمر الإسلامي العام في عمان نداء إلى العالم الإسلامي كي يتدارك إخوانه فيما يلقونه من دولة بلغاريا الشيوعية ورجا من دول المسلمين التي لها علاقة سياسية طيبة مع حكومة بلغاريا أن تتدخل في القضية لإزالة هذا الضغط والاضطهاد الإلحادي للعقيدة الإسلامية. ولكن هل استجابت حكومات الشعوب الإسلامية لنداء المؤتمر الإسلامي

هذا ... ؟ إن الذي يظهر في الأفق السياسي أن حكومات الشعوب الإسلامية - الحاضرة - تفضل تمتين العلاقات - السياسية والاقتصادية - على العلاقات الدينية الروحية، فهي مهتمة إلى أقصى حدود الاهتمام بالحرب الفيتنامية الشيوعية، وما هو واقع في - الشيلي - المسكين المضطهد من طرف (الإمبريالية) ولله في خلقه شؤون ... جاء في نداء المؤتمر الإسلامي العام ما يلي: (إن إخوانكم المسلمين في بلغاريا يتعرضون لمحنة قاسية بسبب عقيدتهم الإسلامية، ويضطهدون في محاولة لمحو الصبغة الإسلامية عنهم، ومن أهم الأمور التي تواجههم: "1" إجبارهم على تغيير أسمائهم الإسلامية؛ "2" إبعادهم عن وظائف الدولة؛ "3" محاربتهم في رزقهم وإفقارهم ما داموا مصممين على التمسك بعقيدتهم؛ "4" محاولة إفناء الطائفة الإسلامية، بتعريضهم لعمليات قتل جماعية. وإزاء ذلك فإننا نهيب بكل مسؤول في الأمة الإسلامية أن يبادر إلى الإسهام في دفع هذا البلاء ورفع هذا الظلم عن إخواننا مسلمي بلغاريا، ونرجو بسورة خاصة من الدول التي تربطها علاقات ودية ودبلوماسية مع بلغاريا أن تهب لنجدة إخواننا في العقيدة، بأن تضغط على حكومة بلغاريا لتكف عن تنفيذ خططها التعسفية الرامية إلى إفناء مسلمي بلغاريا) اهـ النداء (¬1). نرجع إلى ما سبق من أقوال وأعمال صدرت من أصحاب النحلة الشيوعية تطعن في الإسلام والقرآن والعقيدة، وعندما هب علماء الإسلام - كما هو مفروض عليهم - لإنكار مثل هذه الأقوال والأعمال الفظيعة والمنكرة من لدن كل عاقل، فأنكروا هذا التجاهر بالكفر والإلحاد، كان جزاؤهم من حكومات شعوبهم الإسلامية السجن والشنق وما يتبعهما من إبعاد عن وظائفهم وبلدانهم وغير ذلك، هذا واقع بدلا من أن ينال العقاب المنحرفين والمستهترين والمستهزئين، لم يصبهم من ذلك شيء وصب العقاب عل المنكرين المحقين في إنكارهم وفي أداء واجبهم. ¬

_ (¬1) صحيفة الشهاب اللبنانية المجاهدة، العدد الرابع "السنة السابعة" الصادر في 15 - 6 - 1393 هـ الموافق - 15 - 7 - 1973 م.

الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي.

الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي. لقد حورب الإسلام - في الجزائر - بشتى الأسلحة، فمن الأسلحة النارية القاتلة للذوات البشرية إلى الأسلحة العقائدية القاتلة للإيمان بالله والشعور الروحي، إلى الرذائل القاتلة للكرامة والعزة النفسية، إلى التبشير المسيحي المحارب للإسلام. كل هذه الأصناف من الحروب ذقنا ويلاتها من المستعمر الفرنسي الذي احتل بلادنا، وغزاها بكل ما يملك من أسلحة ومعدات، فقد جلب معه المبشرين المسيحيين لينصّروا - بتشديد الصاد لا بتخفيفها - المسلمين، بأن يخرجوهم من دينهم الإسلام إلى النصرانية المسيحية، ومكنهم من كل وسيلة لذلك، غير أنهم خابوا في مسعاهم بالرغم من المجهودات المبذولة، والأموال المصروفة، لصرف المسلمين عن دينهم، فلم ينالوا شيئا يذكر، إلا في بعض الجهات الفقيرة، والتي يكثر فيها الفقر وينتشر فيها المرض ويقل العلاج، فإذا قيست الخسارة والأتعاب بالفائدة كانت النتيجة صفرا، وذلك راجع إلى صلابة عقيدة المسلم الجزائري، ولولا هذه الصلابة في العقيدة لما بقي في الجزائر إسلام ولا عروبة، ولو ما نزل بالجزائر نزل بغيرها لامحى منها كل أثر للعقيدة الإسلامية - وهذا من فضل الله علينا - فالمسلم الجزائري عرف أن المبشر المسيحي الفرنسي ما هو إلا جندي من جنود الاستعمار الفرنسي، فأخذ حذره منه واتقاه. ولما استيقظ الشعب الجزائري من نومه حارب عدوه المحتل لبلاده، المغتصب لأرضه، فأخرجه من وطنه بعد احتلال استمر قرنا وأكثر من ربع قرن، قال: الآن استرحت، أو (الآن يمد رجله أبو حنيفة) كما جاء في المثل، الآن أستريح في وطني من الاحتلال الأجنبي، بعد أتعاب وأتعاب، وسأحيى بتراثي الروحي وديني الإسلام الذي اختاره لي خالقي، فما راعه إلا والإلحاد الشيوعي يتسرب إليه - كالمرض - ويتغلغل في أوساطه وخاصة في الشباب وبعض الطلبة الأغرار - بدعايته المناهضة للدين - والعقيدة الإسلامية، وكان تسربه ذلك - بتساهل بعض المسؤولين - إحدى المشاكل التي لا زال يعاني منها الشعب الجزائري أنواعا من الأتعاب، فالمحتم على قادة الأمة المخلصين الناصحين أن يتنبهو إلى هذا الخطر الجديد، أو الاستعمار

الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية - وشهد شاهد من أهلها.

الفكري الجديد الذي أخذ دعاته يمهدون له، وينشرون محاسنه - في نظرهم - بين أبناء الأمة، والعجب أن الشيوعية تعمل - جاهدة - على نشر مبادئها المخربة في أوطان المسلمين، في حين أنها لا تسمح هي بنشر مبادئ الإسلام في وطنها بل تحاربه وتمنعه، وهذا هو مبدؤها، كالإضراب عن العمل، فإنها تحرض عليه بواسطة عملائها، في غير بلدها وفي غير وطنها، أما في وطنها فإنه يعد جريمة يعاقب عليه القانون، وبذلك تحدث الاضطرابات والمشاكل في العالم وتكون هي في منجاة منها، ويسأل السائل فيقول: ترى، هل للعمال في وطنها مشاكل عمل أولا ... ؟؟؟ وهل إن كانت هناك مشاكل عمل وخلافات تسوى بسهولة فلا حاجة إلى الإضرابات؟؟ يقول العارفون بما هنالك: إن الحكم هنالك حكم قوة فلا يسمح - أبدا - بتعطيل العمل لحظة واحدة، بدعوى أن العامل هو صاحب المصنع، إلى آخره، وهو قول أجوف، لا قيمة له، فإن العمال هناك أشبه شيء بالعبيد القدامى المسخرين، لا يحق لهم الكلام ولا الاحتجاج، فهم مسخرون كما يسخر العبيد، من لدن حكومة "ديكتاتورية". الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية - وشهد شاهد من أهلها. إن الاستهتار بالقيم الروحية، وبالدين والأخلاق الإسلامية الصادر من جماعة من الشبان المسلمين كان لأسلافهم الفضل في مواقفهم المشرفة التي نشروا بها النور الإسلامي، فأزاح عن العالم ظلمات: الجهالة والشرك، والفجور، قد فشا وكثر، ويؤسفنا من هذا الخلف أن ينحرف عن طريق أسلافه، نتيجة للدعاية الإلحادية التي وجدت آذانا صاغية - في بعض الشبان - وقلوبا من الإيمان خالية، فتمكنت منها كما تتمكن الجراثيم الوبائية من الجسوم الضعيفة التي لا مناعة لها تحفظها من تأثير تلكم الجراثيم فيها. إن قول البعثي - الشيوعي - السابق مستمد من البيان الشيوعي الذي حدد فيه "ماركس" اليهودي الألماني مبادئ وأهداف الشيوعية الماركسية. والذي جاء فيه قوله: (ما الدين، والأخلاق، والقانون في نظر - البروليتاريا - (¬1) إلا آراء بورجوازية، ورسالة - البروليتاريا - هي ¬

_ (¬1) البروليتاريا هي طبقة العمال.

القضاء على الدين والداعين إليه) (¬1) وقوله: (إن القانون، والأخلاق، والدين، ليست كلها في نظر البروليتاري إلا أوهاما بورجوازية) (¬2) وقوله: (إن الماركسية تؤمن بأهدافها، وكل وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية فهي خير) (¬3) وكان يقول: (لا إله والحياة مادة) وقال ماركس أيضا: (إن النظام الخلقي في كل مجتمع، وديانته وقوانينه، ليست غير جزء من بناء زائف، أقامته ظروف الإنتاج، فهي تترجم بالتالي عن مصالح الطبقة السائدة) (¬4). هذه الفقر جاءت في البيان الشيوعي الماركسي، الذي هو بمنزلة الدستور للشيوعية، والمتأمل فيها يرى الجهل والغباوة وسوء النية وإرادة الشر للإنسان تفوح روائحها الكريهة من بينها، فالماركسيون أرادوا أن يتولوا أو أن يستولوا على الحكم وسلطة البلاد وليست لهم مؤهلات ذلك، فابتدعوا هذه الخدعة ليتولوا بها على عقول العمال البسطاء ليكونوا لهم قوة يقاومون بها قوة جيوش الدولة، وبذلك نالوا مرغوبهم وتولوا الحكم في البلاد لا أكثر ولا أقل، ولما استولوا على الحكم فعلوا في الشعوب أكثر مما فعله الملوك المستبدون الإقطاعيون ومن أنكر هذا فقد أظهر قلة تفكيره وإدراكه للحقائق الواضحة، وما لمسناه في البلدان الاشتراكية حجة على ما قلناه وقد شهدت الشيوعية على نفسها بأنها تتخذ كل وسيلة توصلها إلى أهدافها. بل وتراها خيرا ... فليتنبه الغافلون وليستيقظ النائمون لهذه المكائد التي تكيدها الشيوعية اليهودية للإنسانية (لا إله والحياة مادة) فمن خلقك وركب فيك العقل الذي توصلت به إلى أن قلت هذا القول أيها المغرور الغرار؟ إن كل شيء في الوجود ينادي بأنه مخلوق للخالق الواحد العظيم القهار، ولا أظن أي كائن من الكائنات ينكر وجود الخالق غير الشيوعي البليد. وفي كل شيء له آية … تدل على أنه الواحد أليس ما جاء في هذا البيان الشيوعي الذي أذاعه ماركس اليهودي عن أهداف الشيوعية هو الذي أثر في بعض الأفكار العربية - بواسطة عملاء وصنائع الشيوعية الملحدة - فبدأت تتبرأ من دينها، وماضيها، وأخلاقها ¬

_ (¬1): (¬4) ص 81 من كتاب "التضليل الاشتراكي" للدكتور صلاح الدين المنجد، وكذلك الأرقام، 2، 3، 4، من صفحات 131 - 132 منه.

وقيمها؟ ومن ذلك البيان استمد ذلكم الاشتراكي البعثي العربي - والأليق أن نقول: الشيوعي - ما هذى به، فإن تسمية بعض الأحزاب السياسية بأسماء تتفق في أهدافها مع الشيوعية دلت على أن تلك التسمية ما هي إلا للتمويه والتغطية حتى لا تفطن شعوبهم لما يراد بها، فلا تستفيق إلا وهي شيوعية - لحما ودما وتفكيرا - وشبيه بقول الاشتراكي البعثي ما جاء في كتاب (في الاشتراكية العربية) لصاحبيه الدكتور مخيمر، ورفيقه رزق، فقد جاء فيه قولهما: (وبديهي ألا تجد القيم الخالدة في العقائد الدينية مكانا ضمن هذا الجهاز الفكري عن الأخلاق، وبديهي أن تغير القيم ... وأن يعدم التقيد بأية قيم تقليدية، ما دامت المعركة تقضي بذلك) (¬1) فقولهما هذا هو قول البعثي الاشتراكي الملحد، وهما - القولان - من نفس البيان الشيوعي، وكلها أقوال غير المسلمين، والعجب العجاب من تأثير هراء هذه الأفكار الملحدة في عقول بعض قادة المسلمين، والمسلم المفكر لا يلتفت إليها فضلا عن الاهتمام بها أو العمل بمحتواها. إن السكوت عن انتشار هذه الأوهام - التي يسمونها أفكارا - يعد رضى بها، وهي تنتشر بمساعدة دولة الملاحدة، بل السكوت عنها يعد جريمة من أكبر الجرائم في هذا الوقت يتحمل وزرها العلماء الأمناء على الدين والعقيدة؟ فليتكلموا ولينكروا ذلك بصراحة، وليكن ما يكون، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (¬2) وهنا يظهر جهاد العلماء وزحفهم على العدو المهاجم على الدين والعقيدة، أو توليهم الأدبار ونكوصهم على أعقابهم خاسرين، ولا يخفى عليهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الجهاد كلمة حق - وفي رواية عدل - عند سلطان جائر)) (¬3) ولهم أسوة بصالح العلماء المجاهدين الذين وقفوا في وجوه ملوك زمانهم وأمرائهم الذين دفعت بهم نزوات السلطة والحكم إلى أن يعملوا غير مقيدين بالدين والخلق الكريم، فقام العلماء الصادقون ينافحون ويدافعون عن الدين بل ويهاجمون ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الآية 113 من سورة هود. (¬3) رواه ابن ماجه وغيره.

أوكار المفسدين، حتى كان لدفاعهم عن الدين الأثر البالغ في إصلاح الأوضاع المتعفنة من أجل حب الرئاسة الخطير، ومثل العلماء في تحمل المسؤولية، المسؤولون في حكومات الشعوب الإسلامية، إن لم يكونوا هم الذين جلبوا - الشرور والمفاسد - أو تساهلوا في دخولها أو في إدخالها، فانتشرت بسكوتهم عنها. فلا غرابة في حوادث هذه الحياة وأحداثها، فقديما كانت محنة العلماء الصادقين شديدة وقاسية عليهم - لوقوفهم في وجوه طغاة زمانهم - ذلك لأنهم لم يلينوا لهم ولم يتساهلوا في القيام بواجبهم، فكانت المحن تنزل عليهم من كل جانب وهم صابرون، كما أخبر بذلك أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه)) (¬1) وقد ظهر ذلك في كبار الأئمة - رحمهم الله - خاصة، فقد امتحن إمام دار الهجرة مالك بن أنس والأئمة أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وابن تيمية، وسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، وغيرهم كثير رضي الله عنهم، لقيامهم في وجوه حكام زمانهم الطغاة، فلم يستكينوا لهم، ولم يوافقوهم على أعمالهم المخالفة للدين، وأنكروا عليهم ما يفعلون في جرأة وصراحة، كما يوجب ذلك عليهم دينهم، مما هو داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو واجب على من تعين عليه، وبدون هذا لا يستقيم حال الأمة - حاكمها ومحكومها - غير أن حكام المسلمين - اليوم - لا تتسع صدورهم وعقولهم لتلقي النصائح الدينية المفيدة والتوجيه النزيه، والنقد المفيد - أو البناء - ولا يرضون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحسبون أنفسهم أنهم فوق كل أحد، فما رأوه واختاروه فهو الحق الذي يجب أن يجد الآذان صاغية، والقلوب واعية، وما سواه فهو الباطل المتروك، ولا يراجعون في شيء ارتضوه، وهذا خطأ من بعض الحكام، متمكن في نفوسهم، واستعلاء وتجبر على عباد الله، كما هو مخالف للتربية الإسلامية، فذلكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - وكفى به مثالا - رضي الله عنه كان يقبل النقد والتوجيه، ويعترف بخطئه أحيانا وإصابة غيره، ¬

_ (¬1) رواه الأئمة: البخاري، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه.

كما جاء في قصة عزمه على التحديد أو التقليل من مهور النساء، فبعد أن خطب في الناس وأمر بذلك - وهو أمير المؤمنين - بالتقليل تراجع عن أمره، ذلك أن امرأة واحدة عارضته فيما ذهب إليه، وقالت له: ليس لك ذلك يا عمر، قال لها: ولم؟ فتلت عليه الآية القرآنية وهي قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الآية} (¬1) فقبل قولها ورجع إلى رأيها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر، ولم تأخذه العزة بالإثم، ولم يتمسك برأيه، وإن كان مما حقا وصوابا، فهذه هي نتيجة تربية الإسلام لحكام المسلمين، ومما حفظ عنه قوله: ((رحم الله عبدا أهدى إلي عيوبي)) (¬2). ويجرني الكلام عن أعمال الملاحدة المخربين في البلاد الإسلامية إلى ما هو واقع من الأعمال فيها تلكم الأعمال المنافية حتى للمجاملة وحسن الاستقبال أو الجوار، فهم - ما وجدوا إلى ذلك سبيلا - جادون في إفساد عقيدة المسلمين في مقدساتهم، ويتخذون لذلك كل وسيلة - لإهانة الإسلام - يتوصلون بها إلى نيل أغراضهم - كما مر في البيان الشيوعي - أقول يجرني الكلام إلى ذكر أحداث مؤلمة تمس أعز ما يقدسه المسلمون، وهو القرآن العظيم كتاب الله المقدس، حدثت هذه الأحداث في الجزائر - المسلمة - ووقعت هذه الأحداث فيما بين شتاء 1967 وشتاء 1973 م مما سأقصه - إن شاء الله - وهذه الأحداث يجب أن تذاع ولا تكتم، لعلها تنبه الغافلين لما يجري في البلاد الإسلامية، ليهبوا لإبادة هذه الحشرات الطفيلية التي خرجت من القمامات المتعفنة عندما نزلت أمطار الحرية والاستقلال، بعد أن سقيت أرضها - الجزائر - بدماء المسلمين، لا بدماء الملاحدة، فإن هذه الأعمال دلت على أن عمل الملاحدة متواصل، لاحتقار الإسلام وتوهين دعوته وتهوين شأنه في قلوب المصلحين، وخاصة في أوساط الشباب الفاقد - للأسف - لحسن القيادة والتوجيه والرعاية، وفيها مس لشعور المسلمين في عقيدتهم التي حافظوا عليها أيام عهد الاستعمار المظلم، ولم يستطع أن يحولهم عنها، رغم وعوده وإغوائه، وهذه الحادثة لم يقع مثلها فيما سمعنا حتى في زمن الاستعمار الذي كان يحكم هذه الديار، وكان يحترم - إلى ¬

_ (¬1) الآية 20 من سورة النساء. (¬2) مقدمة سنن الدارمي.

الفصل الخامس: تمزيق المصحف، وإحراقه.

حد ما - شعور المسلمين وعقائدهم لفائدته، كما كان واقفا بالمرصاد في وجه الشيوعية الخاسرة، ولا يسمح لها ببث دعايتها إلا بمقدار. الفصل الخامس: تمزيق المصحف، وإحراقه. هذه سورة حادثة من حوادث ثلاث وقعت، وسأذكرها كما بلغتني وذكرها من وقعت أمامه، وصورتها: 1 - كان أحد الرجال الكبار الطاعنين في السن جالسا في أحد مقاعد الحديقة العامة - حديقة الحرية - الكائنة في أعلى شارع "مراد ديدوش" في عاصمة الجزائر، وكان ذلك في شهر دسمبر من سنة 1967 م؛ فبينما كان ذلك الأشيب جالسا تقدم إليه شبان ثلاثة، من هؤلاء الشبان الذين ضللتهم الدعاية الشيوعية الإلحادية المخربة للعقائد والفضائل، والتي يدعونها بالأفكار التحررية - كما يزعمون - تحرروا من الذوق السليم، والمجاملة واحترام الشعور وكرامة الفرد والمجتمع، ولما اقتربوا من الشيخ المسن أخرج أحدهم مصحفا من جيبه وقال للشيخ: ما هذا؟ فأجابه الرجل: قرآن، فقال له الشاب: هذا هو الذي أخركم وجعلكم في آخر الأمم!!! ثم مزقه - مزق الله لحمه - حسب الرواية وألقاه على الأرض متبوعا بالبزاق والدوس بالأقدام والإهانة شأن الأشياء الحقيرة، ثم مضوا في حالهم آمنين، وحارس الحديقة قريب منهم، ففزع إليه الأشيب وأبلغه الحادثة كما وقعت من هؤلاء الطائشين، مستنجدا به عله يقبضهم فيعاقبوا على ما ارتكبوه، فلم تتحرك من الحارس شعرة واحدة تدل على إيمانه وغيرته على المصحف المهان، بل هز كتفيه وقال للشيخ مثل قول الشبان الطائشين الأغرار. هذه الحادثة التي ذكرتها كما وقعت وحسبما بلغتني هي نتيجة غض النظر عن دعاية الملاحدة في بلادنا، والتضييق على المدافعين عن الإسلام وعقيدته، وقد رأيت المصحف الممزق بعيني في منديل من حرير. وعندما يرفع الأمر إلى المسؤولين على المحافظة عن الأمن وغيره يكون الجواب: لا تجزعوا من هذه الأعمال، فإنها صدرت من شبان طائشين!!! يقولون هذا - ظاهرا - ولعلهم راضون به باطنا، حتى يستمر الاستهزاء بالدين ومقدسات المسلمين. ولما نقل خبر المصحف الممزق، والمصحف نفسه إلى المسؤول - قانونا -

وهو وزير الأوقاف آنذاك - العربي سعدوني - عن حماية الدين ورعايته، لم يفعل شيئا ذا بال - بل لم يعمل شيئا أصلا - إنما أنكر ذلك العمل الطائش بالقول فقط ماذا عمل؟؟ - والحادثة ليست بالأمر الهين - قام وقعد، وأبرق وأرعد، وأزبد وهدد - حسبما بلغنا عنه - وقلنا سينتصر للمصحف المهان بعد ما توعد المجرمين بأشد العقاب ... ثم هدأ غضبه وجلس - مرتاحا - على كرسيه الوثير ولسان حاله يردد المثل الشعبي - يا ناس ما عليكم باس - ولعله أمر بالسكوت؟؟؟ ثم سلط غضبه على بعض أئمة المساجد. 2 - الحادثة الثانية من نوع الأولى وتتلخص فيما يلي: دخل - في نفس السنة 1967 - بعض الشبان المفتونون بالأفكار التحررية - كما يقولون - إلى الجامع الأعظم بعاصمة الجزائر، وقصد خزانة المصاحف القرآنية، وتناول واحدا منها وفتحه ورسم على إحدى صفحاته الصليب المعقوف - رمز هتلر النازي - يشير بهذا الصنع إلى أن القرآن فشيستي - حسب الدعاية الشيوعية - وكما هي أقوالهم فيه، فعل هذا وانصرف من غير أن يراه أو يفطن إليه أحد، لأن الملحدين يترددون دائما على خزانة المصاحف للتلاوة، فمن رآه لم يظن فيه غير ما ذكر، وإن تعجب من هذا الصنيع فالعجيب أن الصليب وضع - مصادفة - فوق آية تحث على طاعة الله الحي القيوم والخضوع للقوي العزيز الجبار، وتخبر بخيبة الظالمين، وما درى هذا الجهول معنى الآية التي رسم عليها الصليب المعقوف، إنها آية تشير إلى إجرامه في عمله، والآية هي قوله تعالى جل جلاله {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (¬1) قد رأيت - أيضا - هذا المصحف المرسوم عليه الصليب النازي. إن المسؤول في الهيئة التي تتزعم - وتحتكر لنفسها - الدفاع عن الإسلام والدعاية له في المحافل الدولية لما بلغه هذا النبأ المزعج كان في شغل شاغل عن تتبع المجرمين - إن كانوا في نظر القانون المدني مجرمين - الذين اعتدوا على أعظم ما يعظمه المسلمون، وله ألف حق في تتبعهم - قانونيا - لو أراد ذلك. 3 - الحادثة الثالثة - حادثة إحراق المصحف - وقعت في مساء الأحد أول أفريل سنة 1973 م في مسجد جامعة الجزائر، حيث عمدت شرذمة ممن لقنوا المبادئ الهدامة ودخلت إلى مسجد الجامعة، في يوم عطلة الأسبوع، وبعد ¬

_ (¬1) الآية 111 من سورة طه.

أن خرج الطلبة إلى شؤونهم الخاصة، دخلت هذه الشرذمة إلى الجامع، وجمعت عددا من المصاحف القرآنية وأشعلت فيها النار، ولما رآى بعض الطلبة الدخان خارجا من نوافذ بيت الصلاة أسرعوا إليها، فوجدوا البعض منها قد احترق والبعض الآخر لا زالت منه بقية، فأطفأوا النار وأنقذوا البقية الباقية من الحريق هذه هي الحادثة ذكرتها كما وقعت حسب رواية الطلبة، وهي ترمز إلى أمور ثلاثة هامة في النظر المصيب. 1 - أولها: ما شعر به الملاحدة من خيبة في مسعاهم الحقير، لهذا صبوا جام غضبهم على المصحف الشريف، وهذا هو عمل الجبناء، يشعرون بالقوة في الظلام، وفي غيبة الأبطال - الشباب الإسلامي - وهؤلاء المجرمون لم يرتكبوا جريمتهم المنكرة لو لم يكونوا مدفوعين إليها بأيد خفية، وبدافع قوى خارج عن نطاقهم الضيق الأفق، ومن غير شك أن يكون المحرض لهم على ما فعلوا خارجا عن وسط الطلاب الجامعي، وقد أذيعت الحادثة وانتشرت بواسطة الطلبة الأبطال - رغم الأوامر التي صدرت بكتمانها وإسدال الستار عنها كأنها أمر تافه لا يستحق الاهتمام والذيوع - انتشرت في جميع الأحياء والمدن والقرى الجزائرية، وتناولها الخطباء في خطبة الجمعة، ولم نسمع عن المسؤول الكبير عن الجامعة أنه فعل شيئا - وقد بلغه خبر الحادثة - كما لم نسمع أنه قام ولو ببحث بسيط عرف به نوع ومصدر هذه الحادثة المفجعة والمفزعة، أو الإهانة التي ألحقت بالمصحف في بيت الصلاة، وفي حرم الجامعة - كما يقولون - بل كأنه لم يقع أي شيء يستحق الاهتمام به، ولم يظهر الجاني - فضلا عن عقابه - حتى يعرف المحرك له من هو .... ؟؟؟؟ 2 - الأمر الثاني، أو المغزى الثاني مما يستنتج من هذه الحادثة هو حنق الملاحدة وغضبهم عن الشباب الجزائري المسلم - عقيدة وعملا - فقد اغتاظ الملاحدة إلى حد كبير من أن يروا جماعة مهمة من طلبة الجامعة يؤمون المسجد للصلاة أو لتلاوة القرآن - وهذا أمر لا يعجب إبليس وأعوانه - فقد تعود هؤلاء الطلبة الأبرار على ترددهم على الجامع، وخاصة يوم الجمعة، حيث يؤمهم إما أحد الأساتذة - متطوعا بالصلاة - في صلاة الجمعة، أو أحد نجباء الطلبة القادرين على الخطبة والصلاة، هذا هو الذي أدخل الحقد إلى قلوب الملاحدة فعملوا ما عملوا، لأن المعروف أن الطلبة أو الشباب الجامعي يتلقون تعليمهم عن معلمين - عفوا - بل دكاترة، يرون أن الدين رجعي وعلامة على

التأخر، و - فكرة - كما يقول خصوم الإسلام، وقد سمعت مرة أحد الدكاترة - الجدد - خصص لتوجيه الشباب بواسطة الإذاعة والتلفزة، وقد سأله المذيع في الندوة عن العصبية عند العرب، فكان جوابه: إن العرب كانوا يتعصبون للقبيلة، ولما جاءهم الإسلام - والإسلام فكرة!!! - تعصبوا له ... هذا قول الدكتور عبد الماركسية، وهذا نفس القول الذي يقوله خصوم الإسلام من مبشرين وغيرهم في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الإسلام فكرة فكر فيها محمد ثم قدمها للعرب - وهذا الدكتور الذي يقول في الإسلام إنه فكرة كأنه قرأ في مدارس المبشرين ومن معينهم أخذ معلوماته، ألم يعلم أو يتعلم هذا الدكتور أن الإسلام شريعة سماوية نزلت من السماء على رسول من رسل الله وهو محمد عليه الصلاة والسلام؟ إذا كان هذا هو قول أستاذ الجامعة فما هو قول التلميذ الذي كثيرا ما يتأثر برأي أستاذه؟ وهو نسخة منه إذن فكيف يتخيل مثقف جامعي أن يرى الطلبة الجزائريين يصلون ويقرأون القرآن ويصومون رمضان، هذا - في نظرهم - شيء لا يكون، ونسوا التربية الإسلامية المنزلة، وأن هؤلاء الطلبة آباؤهم مسلمون وأمهاتهم مسلمات، والشاب الجزائري - مسلم بطبعه وفطرته - لو لم يصب بطاعون الملاحدة، فلا غرابة إذا قام بشعائره الدينية، بل رأينا هذا الشباب - الجامعي - المسلم، قد تحدى الملاحدة، وأقام بعد أيام قليلة من إحراق المصاحف، وبمناسبة ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم - أقام أسبوعا أو ملتقى أسماه - أسبوع القرآن - ردا على عمل الملاحدة، وقد انقضى أسبوع القرآن هذا في الدروس الدينية والمحاضرات التوجيهية، مما زاد في قيمة القرآن، وفي حب الدين الإسلامي عند شبابنا المسلم الواعي. 3 - ثالث الأمور هو إرخاء العنان للعابثين بالقيم الإسلامية، يفعلون ما يشاؤون من غير أن ينالهم أدنى عقاب على ما فعلوا، ولو عوقب السابقون لكف اللاحقون، ولماذا أوجد قانون العقوبات إذن وعمن يطبق ... ؟؟ رأينا في دساتير الحكومات والدول العصرية مادة من مواد الدستور تنص على احترام شخص رئيس الدولة أو الحكومة سواء كان ملكا أو رئيسا، لأنه الرمز لسيادة البلاد، واحترامه واجب على كل المواطنين، وقانون البلاد يعاقب كل من مد لسانه أو قلمه أو يده واعتدى على كرامته أو شخصه أو منصبه، فقد أحيط رئيس الدولة بسياج محكم من التقديس والاحترام - لتبقى هيبته

في نفوس الرعية - وهو العبد المخلوق، أما الخالق الواحد الذي تجب طاعته واحترامه على كل العباد، ودينه، وقرآنه المحكم فلا حرج ولا عقاب على من تطاول إلى مقامه العالي في نظر ضعاف الإيمان والعقول العصفورية، وهذا هو الضلال البشري. إن شعور المسؤول - الموظف - بالتبعات والمسؤوليات يجعله لا يفرط في أدنى جزء من الواجب الملقى عليه، فعليه أن يعمل حسب منصبه ومركزه، فإذا لم يلق التأييد من السلطة العليا على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فواجب كرامة النفس يحتم عليه الانسحاب من كرسي لا تسمع كلمة الجالس عليه، فإنه أفضل وأليق بالكرامة الشخصية من البقاء على كرسي حقير لا قيمة للجالس عليه. فلنفكر معاشر المؤمنين في هذا الإعتداء على كرامة وقدسية القرآن وعلى شعور المسلمين، والشعور الذي استعملته كثيرا هنا المراد به الشعور بمعنى الإحساس، لا الشعور - الجمع - المتدلية على أكناف فتياننا البواسل المتشبهين بالفتيات، فإنه لا يليق بنا - كمسلمين - أن نمر بهذه الحوادث مر الكرام أو مر اللئام، فإن لها ما بعدها من الآثار السيئة، كما كان يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحادثة تقع: (هذا يوم له ما بعده) كذلك نقولهما نحن هنا. لو فرضا - جدلا - أن هذه الإهانة التي لحقت كتابنا المقدس كتاب الله - القرآن - المعظم عند المسلمين أصابت كتاب العهد القديم - التوراة - أو أصابت كتاب العهد الجديد - الإنجيل - المعظمين عند اليهود والنصارى، لو حدث ذلك لعمل أهلهما ما يوجبه عليهم احترامهم لكتابيهم، ولهب رجال الدين منهم يطالبون بإنزال أشد العقوبات وأقصاها على المعتدين الآثمين، إذ من المعروف لدى الجميع أن المسيحي يشتري كتابه (الإنجيل) ويحله في المكان اللائق به من الاحترام والتقدير، ومثله اليهودي مع كتابه (التوراة) يحب كتابه ويعتز به، فهل المسلمون أقل احتراما لكتابهم - السالم من التحريف - من الطائفتين المذكورتين؟؟؟ ما سمعنا أن ملحدا مستخفا بدينه - سواء أكان من اليهود أو النصارى أو من المجوس - مزق أو أحرق كتاب قومه وأهانه أمام الناس، ولو كان هو لا يؤمن به، كما أهين قرآننا ومصحفنا!!!

فالمسألة خطيرة جدا، وإن حاول البعض تهوينها أو إظهار تفاهتها وجعلها حادثة بسيطة وقعت من شبان طائشين، فقائل هذا القول يعتبر شريكا ونصيرا للمجرمين ومؤيدا لهم على ما ارتكبوه، كما يعد تشجيعا لغيرهم وإغراء للسفهاء بأنه لا خوف عليهم من العقاب، فليمضوا في سبيل ما يريدون، ما داموا لم ينالوا من رمز سلطة وسيادة البلاد شيئا. فالواجب يقضي بتتبع المجرمين حتى يعرف المحركون لهم والدافعون بهم إلى ارتكاب مثل هذا العمل الجنوني، وليعلموا أن المسلمين منهم بالمرصاد، لا تخفى عليهم أعمالهم التخريبية، ولو فرضنا أن هذه الإهانة أصابت موظفا يعتز بنفسه وشرف مركزه، فمزق أحد السفهاء ثوبه - لا لحمه - أو كسوته لسارع إلى الانتقام لنفسه وشرفه المهان - وله الحق في ذلك - ممن لم يعرف له قدره وفضله وشرفه ومركزه، وإذا عجز عن الانتقام لنفسه استعان بسلطة الدولة. وهكذا تنتهك حرمة الدين جهارا نهارا من غير أن ينال المنتهكين العقاب الرادع الزاجر لهم ولأمثالهم من المستخفين بالمقدسات الدينية والطائشين، ولعل هذا السكوت نتيجة لأوامر صدرت بإخفاء القضية وإسدال الستار عنها، لعل!!! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) (¬1) وقوله: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) (¬2) والسبب الحقيقي الباعث لهؤلاء الطائشين على فعل ما فعلوه هو ذلك التوجيه اللا إسلامي الإلحادي الذي يتلقاه التلامذة والطلبة من معلمين جيء بهم من الخارج - لحاجة الجزائر إليهم - يحملون العداوة للدين الإسلامي بالخصوص، مع غض النظر عن أعمال المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أغضب هؤلاء ما رأوه من إقبال الشباب الجامعي على الدين، فجن جنونهم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد والحاكم كلاهما عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ذكره أبو أيوب لمروان بن الحكم عامل المدينة في قصة. (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الباب التاسع

الباب التاسع

الفصل الأول: الاشتراكية الشيوعية، والديموقراطية والحرية.

الفصل الأول: الاشتراكية الشيوعية، والديموقراطية والحرية. تدعي النحلة الاشتراكية أنها ديموقراطية، في تكوينها، وفي مبادئها، وفي تسييرها، وفي حياتها إلى آخر ما تملأ به فراغ صحفها وإذاعاتها، غير أن الواقع الذي يشاهده الناس لا يوافقها على هذه الدعوى، لأن العمل الذي يصدر عن زعمائها وحكامها غير موافق للدعوى، فالواقع يظهرها بمظهر المتصرف الجبار المطلق التصرف في تصرفه الديكتاتوري، الذي لا يرحم، فهي تتخذ جميع الوسائل والطرق لفرض مبادئها في أوساط العمال والفلاحين والطلبة الذين لا تفكير لهم، يتحصنون به من الانخداع لأقوال المغررين المغرورين. فالاشتراكية الشيوعية توجه النقد الساخر إلى الأديان الإلهية لأن مبدأها الأول - لا دين ولا رب الدين - لا إله والحياة مادة - وتحاول أن تجعل تأخر البشرية وفقرها وظلم حكامها يرجع أولا وقبل كل اعتبار إلى التمسك بالدين والعمل بالشرائع السماوية. والذي يفكر قليلا في هذه الدعوى يهتدي بفطرته السليمة، وبقليل من التدبر إلى بطلان هذه الفرية المتعمدة، فنحن - كمسلمين - نعلم من ديننا ومبادئه وأهدافه ما لا نغتر ولا ننخدع بحيل الماركسية الملحدة، وإذا وجد في المسلمين من اعتنق النحلة الشيوعية الاشتراكية فهو واحد من اثنين: إما جاهل بدينه - وإن ادعى أنه يعلمه - وهذا هو الأعم والأغلب فيهم، لم يتمكن الدين من قلبه، فإسلامه ورثه عن آبائه بدون فهم - كما هو في الكثير من المسلمين - ولا وعي، وإما مذبذب لا مبدأ له، ولا عقيدة فيه تحفظه، فهو يمشي إلى أين يجد منفعته وفائدته الخاصة به، ولو كان

ذلك بالتنكر إلى ما كان عليه أسلافه، فهو قد اعتنق المذهب الاشتراكي الشيوعي ويدعو إليه لا حبا فيه، ولا إيمانا به، وإنما لقصاء مآربه، فيتظاهر به، وينادي إليه على حد قول المثل: (إذا وجدت قوما يعبدون حمارا فعليك بتقديم الحشيش) فالذي يقدم الحشيش للحمار المعبود غير مؤمن بألوهيته، إنما فعل ذلك ليزداد تقربا إلى عابدي الحمار حتى يرضوا عنه. فالاشتراكية - وكلها شيوعية - ولا أستثني منها بلدا دون بلد للواقع المكشوف - توجه نقدها واعتراضها إلى الأديان السماوية، محاولة بذلك أن تظهرها بمظهر العاجزة عن حل مشاكل العباد - والحياة كلها مشاكل - القصيرة النظر عما يحدث للبشر من مشاكل وأتعاب، والحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أن مشاكل العباد إنما نشأت عن إهمال العباد لوصايا الأديان السماوية، وعدم العمل بما جاءت به قوانينها، لا من الأديان نفسها، فهذه هي الحقيقة، وإن حاول طمسها المغرضون، إن الشيوعية تدعي لنفسها - والواقع لا يصدقها - أن فيها كل أنواع العلاج لجميع مشاكل البشرية، ولهذا فهي تستطيع أن تقضي على ما أخر البشرية - في زعمها - أزمانا ودهورا ... فهي قد تحل بعض المشاكل - حسبما تدعي - ولكن بقوة الحديد والنار والقهر والقوة. إن الواقع كشف عن إفلاسها في كل ميادين الحياة، وإن لم تعترف هي بذلك، ولولا فرضها نفسها بالقوة والخداع على بعض الشعوب الضعيفة لما بقي لها ذكر، وقد ظهر عجزها أخيرا في تقربها لأمريكا الرأسمالية. وبناء على جرأتها في نقدها واعتراضها على الأديان، واستهزائها بها - كما مرت الإشارة إليه سابقا - فهل في صدر الاشتراكية سعة لتلقي النقد الصحيح والصريح من لدن من لا يؤمن بها - لأنها خرافة -؟ وهل تتقبل ذلك بصدر رحب .. ؟ وقد يجيء النقد والاعتراض حتى من الذين يؤمنون بها ... وهل تفتح أذنيها لتسمع أقوال غير الشيوعيين، مظهرين عجزها في تشريعها وفي حلها للمشاكل، بل هي صاحبة المشاكل؟ لعلها تقبل ذلك إذا تجردت من جبروتها وغطرستها - وهذا ما لا يكون منها - فيوجه إليها النقد كما توجه هي اعتراضها ونقدها للأديان الإلهية، وإظهارها بمظهر العاجز، بل ونعتها بكل أنواع النعوت الحقيرة، المنفرة منها ... ؟

هذا غير موجود ولا مسموح به في بلد الاشتراكية والديموقراطية كما تدعي، فإن الأخبار تتوارد بين الحين والآخر بتسليط أشد أنواع العقاب على من ينتقد نظامها، وما جزاؤه إلا السجن والتعذيب. وإليك أحد الأمثلة على ذلك، وهي كثيرة: وقع في سنة (1966) أن وجه كاتبان روسيان (¬1) نقدا إلى النظام الشيوعي وأظهرا ما فيه من عيوب ونقائص، فهل اتسعت صدور حكام روسيا - الاشتراكيين الديموقراطيين - لقبول هذا النقد؟ وهو منهم وإليهم، وهل أحلوه محله اللائق به؟ وناقشوا آراء الكاتبين فلعلهما مصيبان فيما قالا؟ وهل يحترمون أفكار الناس وآراءهم؟ لم يستطيعوا حتى سماعه - فضلا عن مناقشته - شأنهم في هذا الشأن شأن كل الحكام الاشتراكيين ولو كانوا من المتطفلين على الاشتراكية، بل عمدوا إلى القوة - كعادتهم - والانتقام، فحوكم الكاتبان على أفكارهما - التحررية كما هي العادة - وحكم عليهما بالسجن، كم يا ترى؟ عشر سنين - فقط - من أجل مقال في صحيفة - لا من أجل قتل نفس بشرية - والحادثة هذه هز صداها العالم كله، وأذيعت في الإذاعات العالمية، كما نشرتها الصحافة أيضا وعلقت عيها على ما تراه حسب منهاجها، هذه هي الحرية والديموقراطية التحررية التي يتغنى بها زعماء الاشتراكية وإلا فلا، هذه حادثة واحدة من أمثالها، وهي كثيرة، فضيق صدور الحكام الاشتراكيين لا يتسع للنقد والتوجيه، ولعلهم يعتقدون أنهم - دائما - على الصواب لا يخطئون وهذا نفس الخطإ، وفي المثل المعروف: (من كان بيته من زجاج فلا يرم الناس بالحجارة). كلنا يعرف أن من خصائص الدول الاشتراكية خنق حريات الشعوب التي تتحكم فيها، فلا حق لذوي الرأي في إبداء آرائهم وإظهار عواطفهم، لا بالكلام وحرية القول ولا بالسماح بإصدار الصحف لتعبر عن رغبات وعواطف الأمة، ولا بطبع الكتب إلا برخصة خاصة من وزارة الأخبار والثقافة، كأن الناس في حالة حرب يجب أن تفرض عليهم الرقابة، كما أنه لا يسمح أيضا بتأسيس الجمعيات لخدمة الأمة، إلا إذا كانت لخدمة مصلحة الاشتراكية والواقع أوضح دليل على ذلك، فأنى للحاكم أن يعرف ¬

_ (¬1) هما الكاتبان: دانيال ورفيقه.

الصواب من الخطإ إذا لم يقبل التنبيه على ذلك؟ ولعل حكام الاشتراكية يضفون على ذواتهم المحترمة صفة العصمة من الخطإ، لهذا فهم في غنى عن النصائح وعمن يرشدهم إلى خطإهم. وقد مضى ذلك الزمان الذي كان الحكام يقبلون فيه النصيحة والإرشاد، ويرون ذلك علامه على حيوية الأمة ويقظتها واهتمامها بما يقع فوق ترابها، فهي لا تسكت عن الخطإ أو الظلم ولو كان مصدره رمز سيادتها، وأذكر بهذه المناسبة أن حاكم تركيا (مصطفى كمال) لما استولى على الحكم بعد أن طرد الخليفة العثماني - السلطان عبد المجيد - وألغى الخلافة الإسلامية سنة (1924) وأسس حزبه - حزب الشعب - وأسس البرلمان بنوابه، طلب من المعارضة - ولا بد من وجود معارضة في كل بلد - أن تؤسس حزبا لمعارضة الحكومة وانتقادها إذا انحرفت عن الطريق السوي، وتم ذلك، وأصبحت المعارضة - بنوابها - تناقش الحكومة في كل شيء، وبوجود المعارضة يظهر الخطأ من الصواب، أما النظام الاشتراكي وما يدور في فلكه فإنه لا يسمح بتأسيس أي حزب أو هيئة، ولو كانت دينية توجيهية، وما وجد منها فهو معرض للتعطيل بأدنى سبب، وهذا ما يطلق عليه بـ (نظام الحزب الواحد) فهل هذا من الحرية والديموقراطية التي تدعيها الاشتراكية؟ الجواب عند الواقع وكفى. اذ من المعلوم - بناء على هذا - أن كل قرار يصدر يفرض على الشعب فرضا، ولا يحق لأي أحد أن يبدي رأيه فيه، بل ما عليه إلا الرضى والقبول - سلم تسلم - وهي الكلمة التي كان يقولها الطرقيون، وإن عارض معارض أو انتقد منتقد فعاقبته السجن والتعذيب والإبعاد إلى البقاع القاصية القاسية، ثم الطرد من منصبه والتنكيل به، وهلم جرا، ويحرم من حقوقه - كمواطن - وللمواطن في كل دولة حقه الطبيعي، فإذا طلبه مكن منه إلا في النظام الاشتراكي، فإذا طلبه - أي حق المواطن - من وسم بسمة المعارضة للنظام الاشتراكي فإنه لا يمكن منه، وما هنالك إلا ما قاله الحزب الحاكم، فهو إذن حكم استبدادي لا شورى فيه، ولا مناقشة فيما يقرر بل يفرض على الشعب فرضا لأن مجلس نواب الأمة - لا نواب الحزب - معطل وملغى، وفي المناسبات يصرح المسؤولون بأن الشعب هو الذي اختار النظام الاشتراكي، والشعب المسكين بريء من ذلك.

هذه هي الحقيقة تتبعنها في كل بلد انتحل الاشتراكية مبدأ وسياسة له. وما يذاع وينشر عن لقاءات وجلسات أعمال بدعوى التشاور وأخذ الآراء، فإنما هو تمويه وتغطية للواقع، إذ لا يسمح بالمناقشة إلا لمن حاز الرضى، وهو بالطبع لا يقول - لا - ولا يقول ما يثير الغضب والانزعاج كما هو الحال في الانتخابات وغيرها، إذ لا يسمح بالترشيح لأحد إلا لمن رشحه الحزب ورضي عنه، ولو كان لا يساوى شيئا عند الأمة وعقلائها ومفكريها، ثم يقال بعد ذلك إن الانتخابات قد جرت بسورة حرة وديموقراطية، وأن المرشح الفلاني أحرز على أغلبية: 99% ولربما بزيادة فاصل كل هذا زيادة في التحري. وكمثال على الديموقراطية الاشتراكية - حسب المزاعم - نقول: إن ألمانيا - مثلا - مقسمة إلى قسمين، أحدهما وهو القسم الشرقي، هو تحت الحكم الاشتراكي الروسي، والآخر وهو القسم الغربي، وهو تحت حكم أمريكا وحلفائها وفي أيهما تسود الحرية والديموقراطية يا ترى .. ؟؟ أفي القسم الشرقي أين يوجد الحكم الاشتراكي الشيوعي؟ أم في القسم الغربي أين يسود النظام الأمريكي وما معه؟ الواقع الذي لا شك فيه أننا نسمع - باستمرار - وبدون انقطاع هروب الألمان من القسم الشرقي - بالرغم من الجدار الحديدي الفاصل بين القسمين - إلى القسم الغربي عن رضى واختيار من أنفسهم - مع الحراسة الشديدة وقلة وسائل الهروب، ولم نسمع بهروب أحد من القسم الغربي إلى القسم الشرقي. فأي القسمين الألمانيين أفضل من الآخر يا ترى؟ مما لا ريب فيه أن الناس لا يفرون مما فيه الخير والراحة إلى ما فيه الشر والشقاء، ولا من الحرية إلى العبودية، فالألمانيون أعرف وأدرى من غيرهم بمصالحهم، إنما هذه ملاحظة فقط أبديتها في هذا المكان بمناسبة الكلام عن الحرية والديموقراطية، التي يتبجح بها النظام الاشتراكي الشيوعي، ولكن الحق يقال على كل حال. وأنا - كمسلم يعتز ويفخر بإسلامه - لا أدافع عن أمريكا ولا عن غيرها ولست عميلا لها - حسب الاصطلاح الاشتراكي الذي يطلق كلمة العميل على كل من لا يؤيد النظام الاشتراكي - أقول إن أمريكا - في نظري -

هي العدو الأول للإسلام والمسلمين، فهي مستغلة الشعوب الضعيفة، وهي التي تمتص دماءها، وفوق كل شيء وقبل كل اعتبار هي ناصرة اليهود، ونصيرة الصهيونيين اللؤماء على العرب الأحرار الكرماء، فواجب على كل مسلم يؤمن بربه ويعتز بإسلامه ألا يحمل لها في قلبه أي احترام فضلا عن أن يكون عميلا وصنيعة لها. إن الذين يعرفون ما يجري داخل البلاد الاشتراكية الروسية يذكرون أن الناس لو وجدوا السبيل أمامهم مفتوحا للخروج من الوطن الاشتراكي لخرجوا، ولما بقي منهم خمسة في المائة، وهذا من علامات الخير، وهكذا العمل في كل البلاد الاشتراكية، فإنها تضيق أشد التضييق على الناس في الخروج من وطنهم حتى لا يروا ما يتمتع به الناس من الحريات في غير البلدان الاشتراكية. إن بعض الحكومات - مسلمة وغير مسلمة - ارتمت في أحضان الاشتراكية الشيوعية راجية منها تخليص شعوبها من محنها، فشرعت في تطبيق النظام الاشتراكي الشيوعي في بلادها - ترضية لروسيا - وخاصة ضد الدين والعقيدة الدينية، فهي قد استبدلت استعمارا باستعمار أشد من الأول، وقد كشف الواقع عن حقيقة النظام الاشتراكي الشيوعي وخيبته، وأنه لا يستطيع أن يواجه المشاكل المتجددة في كل وقت وحين إلا بالقوة - والقوة لا تحل المشاكل - وفعلا فقد أصاب هذا النظام الفشل الذريع - بل الإفلاس - الظاهر الذي لا يخفى على كل ذي عقل نقي، فهو نظام لا يأتي إلا بالفقر وضنك العيش وقلة الموارد والنتائج ولو كان في أغنى بقاع العالم، ولا يستفيد منه إلا المسيرون له والقائمون عليه، فإنهم أغنوا منه غناء لا مثيل له على حساب الطبقة الفقيرة الكادحة، ولا يستطيع أحد أن ينكر الواقع، لهذا أخذت بعض الشعوب المطبقة له تستفيق من نومها، وتزول عنها غفلتها كما فعل أخيرا الاشتراكي الشيوعي المتحمس لها (فيدال كاسترو زعيم كوبا) فقد أذاع من أيام قريبة تركه للنظام الاشتراكي، وقال: إنه خيال لا يمكن تطبيقه، وأظهر عيوبه، كما أظهر أنه تسرع أولا في تطبيقه، واستدل على عدم صلاحيته بقلة الإنتاج وبكثرة اليد العاملة فيه، وهذا شيء طبيعي في البشر، لأنهم - العمال - يرون أنفسهم يشقون بأجر زهيد وغيرهم ينعم في رغد من العيش بسبب كدهم وسعيهم المتواصل.

الفصل الثاني: خداع العناوين.

يقال: فلان يدس السم في الدسم، ذلك ما يحكى عن المنح الدراسية التي تمنح من بعض الدول الصناعية لبعض البلدان المتأخرة علميا وصناعيا فقد قص علي أحد الآباء أن ولده أعطيت له منحة - أو محنة - دراسية ليتم بها دراسته في إحدى البلدان الاشتراكية، فسافر الولد للدراسة فيها غير أنه تبين له فيما بعد أن ما يتلقونه عن النظام الشيوعي ومحاسنه أكثر مما يتلقونه من العلوم التي غادروا وطنهم من أجلها، وقد قال مرة مسؤول في بلد اشتراكي لتلميذ جزائري ما معناه: إننا نعلمكم هنا في بلدنا ونرجوكم إذا عدتم إلى الجزائر أن تكونوا في عوننا على إخراج الإسلام من الجزائر، وابدأوا بأسرتكم أولا، ثم بأصدقائكم، وهكذا حتى نقض بواسطتكم على الإسلام، وتصبح الجزائر إشتراكية شيوعية، فرجع التلميذ هاربا بدينه - وهذا يرجع إلى فضل تكوينه العائلي وتربيته المنزلية - وكم من تلميذ عاد من دراسته في البلدان الاشتراكية إلى وطنه وهو شيوعي في نفسه وداعية لها، وفي نفس تلك الدولة عوقب تلميذ جزائري لأنهم وجدوا عنده مصحفا، هذا بعض من حرب الشيوعية للإسلام، والذي ينقص تربيتنا الدينية المنزلية قلة تزويد أبنائنا بوسائل الدعاية الكافية ليكونوا هم أيضا دعاة صادقين ومبشرين مخلصين لدينهم الحق وعقيدتهم الفريدة في عالم استولى عليه الشيطان بوساوسه وغوايته، فنكون من أبنائنا - زيادة عن تمكن الدين منهم - شبانا صالحين يجلبون بسيرتهم الطيبة الغرباء عن الدين الحق، زيادة عن دعوتهم غيرهم إلى الإسلام الحي، ولا نخاف بعد هذا من خروجهم من دينهم وانسلاخهم عن عقيدتهم. الفصل الثاني: خداع العناوين. اختارت بعض الدول أن تزيد إلى اسمها كلمة - الديموقراطية - فتقول - مثلا - ألبانيا الديموقراطية، رومانيا الديموقراطية، وهكذا: بلغاريا، ألمانيا، فيتنام، كوريا إلى آخر ما نسمع في عناوين الدول. والواقع أن هذا العنوان - الديموقراطية - يخفي وراءه أو تحته - الاشتراكية الشيوعية - لأن الشعوب لا تقبل الشيوعية - مختارة - ولا تقبل عليها، وتفر منها فرارها من الجذام والطاعون، وللتغطية والتعمية

تأتي الدول بهذا العنوان الخداع، حتى لا تفطن الشعوب المسكينة إلى الحيلة والخدعة، فإذا تمكنت الحكومة من السلطة والسيطرة على الشعب شرعت في تطبيق النظام الشيوعي من أخذ الأموال وغيرها، رغم أنف الشعب، وسخرت له كل ما في إمكانياتها، حتى لا يرد ولا يرفض، وهيأت له كل ما يعين على تثبيته ولو بالقوة، وتدعي أن الشعب هو الذي اختار هذا النظام، والواقع أن الشعب لم يستشر في ذلك بتاتا، بل فرض عليه بالقوة. وقد كنت يوم 31 أكتوبر 1965 م في حفل أقيم بمسجد "الحراش" بمناسبة توسيعه، وكان معي في المجلس بعض الإخوان بما فيهم وزير الأوقاف الأسبق، ورئيس المجلس البلدي لعاصمة الجزائر، فامتد بنا الحديث الى طرق عدة مواضيع، كل يدلي بما عنده، وأذكر أنني قلت لهم - فيما قلت -: إنني تتبعت عناوين بعض الدول المعاصرة فرأيت أن كل دولة تضم إلى عنوانها كلمة - الديموقراطية - هي دولة شيوعية، وذكرت لهم كمثال على هذا: ألمانيا الديموقراطية، ألبانيا الديموقراطية، إلى آخر ما ذكرته سابقا، فالكثير منهم وافقني على هذا الرأي ... لهذا فالنظام الاشتراكي - وهو شيوعي لحما ودما - تفرضه الحكومات فرضا على شعوبها، وخاصة في الشعوب الإسلامية، لأن الشعوب الإسلامية لا تقبل ولا ترضى أن تسلخ من دينها من غير أن تكون للشعوب كلمة رضى أو رفض أو معارضة وسخط، إنما فرض ذلك النظام عليها فرضا، وعندما يصرح مسؤول ما يدعي ويقول - بلا حياء - أن الشعب قد اختار الاشتراكية مذهبا له، وأنا أتحقق - وكل العقلاء النزهاء البرآء معي - أن الشعب لو استشير - أي شعب كان - وأعطيت له حرية التعبير - وهو حق لكل إنسان متمدن - لرفضها رفض الحذاء المرقع، ولفر منها فراره من الأسد المفترس أو الغول المخيف. من أجل هذا، فكل المسؤولين في الشعوب الإسلامية مسؤولون أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام أرواح الشهداء عما حدث لشعوبهم وفيها، من كفر وإلحاد، وخيبة أمل، وضياع حقوق وشرف قديم وجاه وطهر وعفاف وغير ذلك مما أتت به هذه الاشتراكية المزدكية إلى الشعوب،

وسيلقى كل واحد منهم جزاءه على أعماله، سواء آمن بذلك أو كفر. والإسلام يأمرنا بالتناصح فيما بيننا، فإذا أدى العلماء واجبهم تلقاء حكامهم وولاة أمورهم، وتقدموا إليهم بالنصائح حسبما يمليه الإيمان والإسلام، لم يجدوا فيهم قلوبا متفتحة على الخير - إلا النادر القليل - وعقولا تدرك خطر المسؤولية، بل أنفوا من قبول النصيحة، واتهموا العلماء بالضدية للدولة، ورموهم بالرجعية والتأخر والجمود الخ، والرجعية في النظام الاشتراكي معناها التدين، لأن الاشتراكيين لا دين لهم كما نعلم، ولأن الدين مصباح مضيء، ونور كاشف، إذا سلط على المبادئ والأهداف كشف حقيقتها كما هي من غير تدليس ولا تلبيس ولا تزييف، لهذا نسمع كثيرا كلمة الاستعمار القديم والجديد، والتنفير منهما - الاستعمار بنوعيه القديم والجديد - لنقول هذا الاستعمار القديم عرفناه، ترى ما هو الاستعمار الجديد؟ فلا نجد لهذا السؤال جوابا إلا أن نقول هو "الاشتراكية الشيوعية" ومثل كلمة الاستعمار القديم والجديد في لغة الاشتراكية كلمة الإمبريالية، والرجعية المستنزفة لدماء الشعوب، القاهرة للعباد، المعذبة للبشرية، إلى آخر ما شاع وذاع وملأ الأسماع حتى مل الناس سماعه، وهي دعاية شيوعية قصد بها التضليل وإخفاء الحقائق وراء العناوين الضخمة الخادعة البراقة. ومن العجيب الغريب المضحك أن الكثير من الدول العربية الإسلامية!!!! تسطر في دساتيرها كلمة: (الإسلام دين الدولة) وإذا بحثنا عن معنى الإسلام ومدلوله في هذه الدول لم نجد له أثرا، إلا في الصلاة والصوم عند البعض من أفراد هذه الشعوب، أما الأحكام والحدود وحماية الدين فلا تسأل عنها، وهي في ذلك تخادع شعوبها، لأن الشعوب لا ترضى أن تستبدل الإسلام - وهو الدين الذي حررها من الاستعمار - بالشيوعية عدوة الأديان، أما أحكامه فقد أبطلت وعوضت بأحكام وضعية، فأين هو الإسلام إذن ... ؟؟ فلو قيل في تلك الدساتير: (الإسلام دين الشعب) لكان أصدق وأصلح في طائفة من أبناء الشعب، لأن الدولة لا تعمل بالإسلام ولا تطبقه ولا تحميه من عبث العابثين، بل تضيق عليه سبل نشره والعمل به، والذي نلاحظه هنا أن (الاشتراكية) صارت مودة - موضة - العصر كاللباس، فكل دولة لشعب مسلم لبست لباس هذه المودة أو الموضة حتى لا تتهم

الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل.

بالتأخر أو بالمحافظة على القديم ولو كان صالحا مختارا من الله، أو بالرجعية - التدين - إلى غير ذلك من نعوت الازدراء والسخرية بالإسلام. الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل. مما لا ريب فيه أن الأمة المهابة والمحترمة هي الأمة القوية، وقوتها تشمل جميع أصولها وفروعها، من عدد أفرادها إلى تربيتهم وأخلاقهم، ومن علوم وصناعات واختراعات وغير هذا، والمعتبر في الأمم هو الكم والكيف، فإذا وجدا في الأمة - وخاصة الأخير - كانت أمة قوية ذات شأن وبال. والإسلام - ديننا - يأمرنا بأن نكون أقوياء في كل شيء في عزيمتنا وفي إرادتنا وفي إيماننا بربنا وبأنفسنا وبوجودنا، حتى لا يطمع فينا طامع، لا في أوطاننا ولا في عقولنا ولا في اتجاهاتنا، فبقوانا تلك نحافظ على وجودنا، ونواجه خصومنا - وكل كائن لا يخلو من خصوم - كيفما كانوا، سواء أكانوا من البشر أم من غيرهم؟ فنحارب الفقر بالعمل والصناعات، ونحارب الجهل بالعلم النافع، نحارب الطامع في الاستيلاء على عقولنا وبلادنا باتحادنا وقوة جيوشنا، كما نحارب الأمراض بالوقاية والعلاج، هذا هو التفكير الصحيح لقوانا كلها، مجتمعة في كثرة أبنائها، وما بقي فمن الفروع التابعة للأصول كالمال مثلا. والقرآن يأمرنا باتخاذ القوة والاستعداد لكل الطوارئ كما يأمرنا بالحذر، حتى لا نؤخذ على غرة أو خديعة، فهو يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1) ويقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (¬2) كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن من الخير لها أن تكون قوية فقال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 60 من سورة الأنفال. (¬2) الآية 102 من سورة النساء. (¬3) أخرجه الأئمة مسلم وأحمد وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فقوة الإسلام والمسلمين رحمة وإحسان للبشرية كلها، فالأمة الإسلامية أمة حرم الله عليها الظلم، وأمرها بإقامة العدل ونشر الفضيلة في العالم - كما كان سلفنا الطيب الخير - وخاصة في هذه الظروف التي كثر فيهال الجور والباطل والطغيان، وعم فيها الجبروت وهضم الحقوق وابتلاع الشعوب والأفكار. إذن فالواجب علينا أن لا ننظر إلى المسلم كما ننظر إلى البغل والحمار والبقرة وغيرها من الحيوانات الأعجمية التي تطلب منا أن نهيئ لها الأكل من حشيش وغيره حتى يمكن لنا الانتفاع بها ولكي تؤدي عملها في هذه الحالة على أكمل ما تكون، فالحيوانات يؤتى لها بالأكل اللازم لكي تستغل في الأعمال، فهي تأكل لتعيش. إن المسلم في هذه الحياة بخلاف الحيوانات، فهو مطالب بواجبات يؤديها لمجتمعه، كما هو مكلف بمهمة عالية وغالية أنيطت بوجوده، ومسؤولية كبرى لا يسعه جهلها أو تجاهلها أو التفريط والتهاون فيها. هذه المهمة أو المسؤولية هي التبشير بالإسلام وعقيدته، عقيدة التوحيد وشريعة الله، شريعة العدل وسمو النفس والفضيلة. تلك المهمة أو المسؤولية أو الواجب هي نشر التوحيد، هي الجهاد - بكل أنواعه - في سبيل إسعاد عباد الله، وإيصال الخير إليهم، وفي هذا السبيل يجب أن يقضي حياته، ويشغل أوقاته في ذلك - بعد السعي والعمل لكسب معيشته ومعيشة من هم تحت نظره، وما تتطلبه منه الحياة ومشاكلها - حتى يؤدي المهمة التي عليه من غير إخلال بها أو تفريط فيها. هذه هي مهمة المسلم، وهي مهمة في خير الإنسان وإسعاده دنيا وأخرى، وهذا ما يجب أن يعرفه كل مسلم في وقتنا هذا، كما عرفه أسلافنا الأولون، وقاموا به حق القيام، فقد جردوا أنفسهم من كل شيء يشغلهم - إلا ما لا بد منه - وانتشروا في الأرض دعاة هداة رحماء كرماء فأنقذوا أمما من الغواية والجهالة، لا زالت تذكرهم بكل إجلال وإكبار. جهل المسلمون في وقتنا هذا ما هم مطالبون به، فظن الواحد منهم أنه يعيش لنفسه، ويتمتع بما شاء من متع الحياة، ويقضي واجبات نفسه، غير ناظر إلى حقيقة وجوده، وما عليه من أحمال ثقال، ومسؤوليات جسام،

فمن أجل هذه النظرة الخاطئة توقف نشر الإسلام - دين التوحيد - وانتشاره، حتى طمع فيهم من لا يساويهم، ومن أجل ترك المسلمين ما هم مطالبون به نحو دينهم خرج من الإسلام أقوام استهوتهم زخارف الحياة، ولذائذها فكانوا من الخاسرين. إن خصوم الإسلام أذهلهم وهالهم تزايد عدد الأولاد عند المسلمين في كل الأقطار، وهذا بالطبع لا يكون في صالح خصومهم ولا يعجبهم، فهم يريدون أن يكون المسلمون أقلية ضعيفة غير قوية، فعملوا - الخصوم - ما استطاعوا لذلك، وأكثروا من الوسائل لصرف المسلمين عن التمسك بدينهم، كما أكثروا من وسائل إخراجهم منه، كالتعليم اللاديني، ومن تلك الوسائل ما أشاعوه في أوساطهم من مخاوف المجاعة الناتجة عن كثرة الأولاد وما يتبعها من نفقة المعيشة، والتعليم، والكفالة وغير هذا، وجسموا لهم شبح المجاعة التي تنتظرهم في مستقبل أيامهم، فأدخلوا الاقتصاد والحساب في حياة المسلم، وبعد عمليات الضرب، والطرح، والقسمة، نشروا نتيجة الحساب، وأذاعوا أن كل شعب لا يستعد من الآن لأخذ الحيطة على حياة أبنائه في المستقبل فسيكون مهددا بالمجاعة، بل بالموت جوعا إذا حل الأجل الذي أفصحت به عملية الحساب، فسارع المسلمون المساكين! إلى الدعاية لذلك والعمل بوسائل التقليل من إنجاب الأولاد، خوفا من الموت جوعا، ومن رؤسائهم من خصص جائزة لمن نظم ذريته كما يريد عدوه، من إضعافه، وتقليل قيمته، ونتيجة ذلك جعلت المسلمين لا يساوون شيئا. نقول لأصحاب هذا التفكير، أن تفكيركم سقيم، وحسابكم عقيم، لأن تفكيركم مبني على عدم إيمانكم بالخالق الرازق، فالإسلام يأمر المسلم بالسعي والعمل حتى يضمن لنفسه ولأطفاله الحياة الهنية الكريمة، وينهاه عن الكسل والقعود عن العمل، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الموضوع لا تخفى أهميتها، وكلمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بينة واضحة في الحث على العمل والنهي عن تركه، قال رضي الله عنه: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة). لهذا فغير المسلمين ينظرون إلى الحياة نظرة الجاحد لرب الكائنات ورازقها، ونحن - المسلمين - ننظر إليها نظرة المؤمن بربه، الواثق بوعده، وهو جلت

عزته المتصرف في كل شيء وحده، لا نحن ولا أنتم وما علينا إلا السعي والعمل فعلينا أن نسعى ونعمل، والرزق تكفل الله به خالقنا وخالقكم فهو الذي بيده كل شيء - آمنا به وكفرتم - وهو لا يضيع أجر العاملين. في القرآن آيات تدل على قسمة الأرزاق والحظوظ، وأن الذي خلق لا يضيع خلقه، ومن المؤسف ما يتفوه به بعض المغرورين من حكام المسلمين عندما يتوصلون إلى مناصب عالية في الحكم، فيغترون بمنصبهم ذلك، ويظنون أن فطنتهم وحذقهم هو الذي بوأهم ذلك المنصب، فيسخرون بالعباد ويهزؤون بالقرآن ويريدون أن يفسروا القرآن كما واتتهم به الفرص والحظوظ، جاهلين حكمة العليم الحكيم، وأن الحظ الذي واتاهم هو من الله ليريهم للناس على حقيقتهم، ليشكروا أو يكفروا، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬1) قال الله تعالت قدرته، وبهرت العباد حكمته، مبينا أنه هو الرزاق لا غيره {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2) وقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3). آه ثم آه لو فكرنا في هذه الآية الأخيرة تفكيرا صحيحا فطريا لاهتدينا جميعا إلى الطريق المستقيم، فهذه الآية في قسمة الأرزاق يفهمها ويؤمن بها المؤمن وينكرها الكافر المنكر، الجاحد المخطئ، وسيعلم بعد حين عاقبة كفره وجحوده وخطئه. إن الملاحدة وغيرهم ابتدعوا - في تضليلهم - دعاوى ينفرون بها المسلم من دينه، ويجعلونه يتبرأ منه ويحاربه ويوسوسون له بأن ما نزل بالمسلمين من محن ومصائب إنما هو من تمسكهم بدينهم. وهذا توضيح موجز في حكمة جعل الناس درجات وطبقات - كما مر في آية الزخرف - متفاوتة، فيما يمكن فيه التفاوت، في أصل خلق الإنسان ¬

_ (¬1) من الآية 40 من سورة النمل. (¬2) الآية 6 من سورة هود. (¬3) الآية 32 من سورة الزخرف.

وتكوينه، ذلك أن التفاوت يكون في أشياء - مثلا - في العقل، وفي العلم والجهل، والذكاء وضده - البلادة - وفي الصحة الجسمية والضعف، وتفاوت أيضا في المنصب والوظيفة إلى آخر ما هنالك من أصناف البشر ودرجاتهم، فالله يقول: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي مسخرا، فالملاحدة يعترضون على القرآن بأنه جعل الناس طبقات ودرجات، وقائل هذا القول جاهل بحكمة الخلاق العليم، فلو كان الناس كلهم في درجة واحدة - كالفقر أو الغنى - لضاعت مصالحهم، فلا أحد يحتاج إلى أحد، أما وهم في درجات متباينة تجعلهم لا يستغني الواحد منهم عن غيره، فكل واحد يحتاج إلى سواه ولو في أبسط الحاجات، وبهذا تلتئم مصالحهم، ويكمل بذلك نظام هذا الكون. أما جعل الناس في درجة واحدة لا يحتاج الواحد منهم إلى غيره فذلك ما لم يكن - ولن يكون - وأصحاب هذه الفكرة - التي تدل على الغباوة، أو التغابي وسوء القصد - هم أنفسهم يحتاج الواحد منهم إلى غيره، ليخيط له ثوبه، أو يصنع له حذاءه، أو يسوق به سيارته الخ ... أما على دعواهم فكان الواجب عليهم أن يتولى كل واحد منهم شأنه بنفسه ويباشره بيده، وهذا ما لا يستطيعه أحد كيفما كانت قوته ومداركه، وهل في بلد أصحاب هذه الدعوى توجد المساواة في كل شيء؟ حدثني من زار "موسكو" أنه لاحظ - فيما لاحظ - على بائعي الخبز - مثلا - فرقا كبيرا لم يره في بلد غيره بالرغم من كثرة تجواله وتنقله في البلدان والعواصم، ذلك أن الخبز في موسكو على ثلاثة أنواع لكل نوع أصحابه وأهله. 1 - نوع رديء الدقيق والصنع والنضج تزن الخبزة الواحدة نحو (2 ك ق) وهو في دكان خاص يتولى بيعه عمال باللباس الأزرق - وهو خاص بالعمال -. 2 - وإلى جنبه دكان آخر بنوع آخر من الخبز أقل رداءة من الأول، وأقل وزنا منه، وبائعوه في لباس أحسن من الأولين، وأصحابه في درجة أعلى من العمال وأقل من الاختصاصيين. 3 - أما الدكان الثالث فخبزه أحسن وأجمل من السابقين، في كل شيء في جودة الدقيق والنضج وقلة الوزن، يتولى بيعه وتوزيعه فتيات باللباس الأبيض مع اللطافة في المعاملة الخ ولكل نوع من هذه الأنواع طبقة من الناس لا يسمح لأفراد الطبقة الأولى أو الثانية أن تأخذ من خبز الطبقة الثالثة،

لأن هذا النوع الأخير خاص بطبقة الموظفين الكبار والعلماء الاختصاصيين وهكذا!! ما سمعنا عن بلد - ما - أنه نوع الخبز هذا التوزيع إلا في هذا البلد الذي ملأ الدنيا دعاوة وصراخا بأن الشيوعية قضت بنظامها على نظام الطبقات، وسوت بين جميع الناس وأعطت للعمال حقوقهم، ويقولون ويذيعون أنه يجب ألا يكون الإنسان مسخرا لأخيه الإنسان، هذه أقوالهم التي ملأوا بها أجواء الدنيا، أما أعمالهم فهي تخالف أقوالهم خلافا واضحا يدركه أبسط الناس، فقد رأيناهم اتخذوا الشرطة - مثلا - كالعبيد القدامى المسخرين لأسيادهم المالكين لهم، يحيطون بسياراتهم إذا تنقلوا من مكان إلى آخر، ويؤدون لهم التحية إذا دخلوا، مقرونة بشكل غريب من الخضوع والمسكنة وعدم الحركة، حتى ليخيل للناظر إليهم على تلك الحالة كأنهم تماثيل من حجر نصبت فوق قواعدها، مع أن الشرطة جعلت للمحافظة على الأمن وملاحقة المجرمين حفاظا على راحة السكان وأمنهم، ومقاومة الشر والفساد وتتبع من يصدر ذلك منه حتى يقضي على كل ما يخل بالأمن والراحة فصارت الشرطة حارسة لطائفة مخصوصة ومحظوظة من كبار الموظفين والزعماء لا غير، وهذا لا يوجد إلا في بعض البلدان الاشتراكية!!! هذه الأعمال المرئية تناقض الأقوال المسموعة، والشواهد على هذا كثيرة جدا، ولله در الإمام البوصيري في قوله الحكيم: والدعاوى ما لم تقيموا عليها … بينات أبناؤها أدعياء من هذه الدعاوى المبتدعة بقصد تضليل المسلمين الضعفاء في إيمانهم كلمتان كثر تردادهما على الألسن والأقلام حتى مل الناس سماعهما ورؤيتهما، - وهما الإقطاع والرجعية - يقولونهما كدليل على أن صاحبهما الذي قيلتا فيه هو من بقايا القرون الوسطى المشهورة بالجهل والتخلف العقلي والصناعي الخ، ويطلقون على أنفسهم كلمة - التقدميين - وفي شيء من التفكير البسيط يرد المسلمون على الملاحدة هذه الدعوى أو الوصمة - إن كانت وصمة عار - ويقولون لهم: أن الماضي كفيل بتكذيبكم وفضيحتكم وتسفيه آرائكم، فأنتم الرجعيون - حقيقة لا ادعاء - والمسلمون هم التقدميون - حقيقة لا ادعاء - فالدين الإسلامي الطاهر قدم المسلمين يوم كانوا عاملين

به، بل جعلهم هم السابقين لجميع الأمم، ويوم كان المسلمون مسلمين حقيقة لا ادعاء، مسلمين بالأقوال والأعمال والعقيدة والتفكير، - والتاريخ وأحداثه شاهد على ذلك - ولما انحرفوا عن الطريق التي خطها لهم دينهم الإسلام ومالوا إلى طرق شتى، حل بهم ما أخرهم وجعلهم أضحوكة بين أهل زمانهم، حتى صاروا يصدقون كل محتال دجال خداع يعيب دينهم الطاهر فلا يغارون عليه، ويؤمنون بما يقوله أعداؤهم في دينهم، فكانت أفعالهم القبيحة أفعى لهم. فهؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم لقب التقدميين هم في الواقع على العكس من هذا اللقب الذي لقبوا به حضراتهم المحترمة، ذلك لأنهم يعملون الآن للرجوع إلى عهد الإنسان الأول البدائي، الذي كان يحيى حياة البهائم التي لا تعقل، لا دين يهذبه، ولا حدود تردعه، ولا خوف من ربه يزجره، يأكل ما وجد أمامه، لا يعرف حدود غيره فيحترمها ويبتعد عنها، يمشي عاريا أو شبه عار، لا يعرف خالقا ولا حراما ولا حلالا، لا علاقة له بغيره إلا علاقة المادة والملذات، ينام في المغاور والكهوف وعلى رؤوس الأشجار، فالتقدميون - على زعمهم - يعملون من أجل الرجوع إلى العهد البدائي القديم، عهد الجهالة الأولى (لا إله ولا دين والحياة مادة). إذن فمن هو التقدمي ومن هو الرجعي؟؟، إن التقدمين - إدعاء - هم الرجعيون حقيقة ونحن - المسلمين - التقدميون حقيقة وواقعا، وهذا ما أقوله وأصرح به في كل المناسبات، فالمسلمون بالحجة هم التقدميون، والملاحدة - بالدليل - هم الرجعيون، فالقضية قضية أدلة وبراهين، لا قضية كلام فارغ ودعوى باطلة، وتهم ساذجة. ومثل كلمة - الرجعية - كلمة - الإقطاع - التي أكثروا من تكرارها وإذاعتها حتى ملتها الآذان تكرر في كل مناسبة للدعاية، وحتى في غير مناسبة، نقول لهم أين هو الإقطاع الآن ... ؟؟؟ فلنبحث عنه فهو غير موجود بالمعنى الذي كان متعارفا به في الماضي، والإقطاع القديم كان بإقطاع الملك أو الأمير قطعة من الأرض إلى من خدم الدولة بإخلاص، تعطى له على سبيل التمليك يستغلها ويعيش منها لنفسه خاصة، أما الآن فقد صار

إقطاعا من نوع آخر إقطاعا عصريا تقدميا، وهو إقطاع أو إعطاء الصديق المؤمن بالمبادئ وظيفة عالية، أو إدارة مؤسسة وطنية كبيرة يتولاها ليستغلها كما شاء، من غير أن يحاسبه محاسب، أو يراقبه مراقب - وإلا غضب - هذا هو إقطاع هذا الوقت (العصري) فهل فهمتم معنى الإقطاع العصري التقدمي أيها الإقطاعيون ... ؟؟؟ نعود إلى الموضوع المعنون له بـ - الاشتراكية وتحديد النسل - فنلقي نظرة على حياة العرب قبل الإسلام، فقد كانت حياتهم حياة جاهلية، وكان الرجل منهم يخشى ضيق العيش - لجهله - وقلة الرزق، كما كانت نظرتهم إلى المرأة نظرة خاطئة، فهي عندهم عضو أشل عاطل في جسد الأسرة والمجتمع، كما هي عندهم أيضا عبء ثقيل يحمله عائل الأسرة، لهذا زينت لهم نفوسهم الجاهلية التخلص منها بوأدها - دفنها - حية في التراب، وهي طفلة صغيرة، حتى لا تضايق الأسرة في رزقها، كما كانوا يخشون العار الذي قد ينجر للأسرة أو القبيلة بسبب سوء سلوكها وخروجها عن تقاليد الأسرة والوسط، لهذا ولغيره من الأسباب والاعتبارات السائدة في ذلك الزمان الجاهلي كانوا يدفنونها وهي حية ضعيفة، وقد تستغيث، ولكن ما لها من مغيث، كما كانوا يقتلون أولادهم الذكور خوفا من الفقر والجوع. ولما جاء الإسلام - رحمة الله - أبطل هذا الجرم الفظيع بشرعه الرحيم، وأبان للعرب الجاهليين قبيح صنعهم، وأظهر لهم خطأهم فيما ذهبوا إليه، مبينا لهم ولغيرهم أن الرزق والقوت بيد الله الخالق العليم الرحيم - مع السعي منهم بالوسائل المعروفة - لا بيدكم أنتم معاشر العباد، وقد أمر رسوله - المبلغ عنه - بأن يتلو على قومه ما حرمه عليهم ربهم، وهو ما منعهم من إتيانه وفعله، لما فيه من الفساد والضرر وسوء الأعمال فقال تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ (¬1) نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (¬2) وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ¬

_ (¬1) الإملاق - الفقر والاحتياج. (¬2) الآية 151 من سورة الأنعام.

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬1). والملاحظ في التعبير القرآني: أن الآية الأولى - آية الأنعام - نصت على أن قتل الآباء للأبناء كان بسبب الفقر الموجود فعلا، ولم يستطع معه الآباء أن يقوموا بواجب النفقة على أولادهم، ولم يتحملوا رؤية أبنائهم في حاجة إلى لقمة العيش، فيتخلصون منهم بقلتهم، لهذا قدم في الذكر رزق الآباء على الأبناء، وبين لهم أن الكل من الله. أما في الآية الثانية: "آية الإسراء" فهي بالعكس من ذلك، فإنه قدم في الذكر رزق الأبناء على رزق الآباء لأن قتلهم لهم كان من أجل الخوف من فقر متوقع ومنتظر - فهو غير موجود - يرون أنهم لا يقدرون معه على القيام بنفقة أبنائهم، فيتخلصون منهم بقتلهم، فهذا التعبير البليغ من دقائق القرآن العجيبة، كما أشار إلى ذلك علماء التفسير القرآنيون، والمسلمون الآن صار البعض منهم يسلك سبيل الجاهلية الأولى، فيستعمل وسائل منع الحمل وهذا هو الوأد الخفي، كما في الحديث عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن - العزل - الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، وهو قوله: ((ذلك الوأد الخفي)) إشارة لقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬2) فإذا تأملنا جيدا آيتي الأنعام والإسراء وجدنا أن القرآن يوصي الأبناء بالإحسان إلى آبائهم في حال كبر السن أو العجز عن اكتساب القوت، كما يوصي الآباء بالرحمة بأبنائهم في حالة الصغر والضعف، كل ذلك لتنشأ سلسلة الأسرة متماسكة الحلقات، كونت على أساس ومادة من الرحمة والحب والعطف والعدل، وبهذا يكون تكوين الأسرة وصوغها قويا وصنعها متينا محكما، لا تزعزعه الرياح والأعاصير مهما اشتدت واستمرت، إذ كل واحد فيها يعرف ما له وما عليه. هكذا تربى الأسرة المسلمة بوصايا القرآن، غير أن صدوف المسلمين المتأخرين عن هدى القرآن ونور الإسلام الكامل، ونبذهم لشريعتهم - عملا وتطبيقا - ظانين أنهم يجدون الراحة والخير في غيرها، وصلاح ¬

_ (¬1) الآيتان 30 - 31 من سورة الإسراء. (¬2) الآيتان 8 - 9 من سورة التكوير.

أمورهم في سواها، كل ذلك صيرهم إلى ما نرى ونشاهد من تفكك وضعف، ونقص واحتياج، وقساوة على بعضهم واحتيال حتى بين الآباء والأبناء، لأن رابطة الدين والقرآن - وهي أمتن الروابط - ضعفت فيهم، فمدوا أبصارهم وأيديهم إلى خارج ما رسمه لهم دينهم، وراحوا يقلدون ويتبعون من لا يؤمن بربه، ولا يعترف بخالقه، لهذا حل بهم ما حل بمن سبقهم من الأمم الغابرة - سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا - تلكم الأمم التي كفرت بربها ونبذت شرائعه واتبعت الشياطين وآمنت بالطواغيت، فلم يكن لهم فيهم العبرة البالغة، والعظة الكاملة، وكيف يكون فيهم هذا وهم لا يرون نصح الناصحين وموعظة الواعظين علاجا لأمراضهم، وصلاحا لشؤونهم، فساء حالهم وانحطت أخلاقهم، وانفلتت الدنيا من أيديهم، والآخرة كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالناظر البصير بالأمور يدرك أن مما ينشره ويذيعه الملاحدة بين الشعوب المسلمة بشتى وسائل الشر، المقصود منه بالذات أولا وقبل كل اعتبار إنما هو التعطيل لنشر الإسلام بين الناس، بل وانتزاعه من منابته، والمسلمون غافلون عن المقصود من ذلك، بل إن منهم من يرى أن ذلك في خيرهم وصلاحهم، وما هو في الحقيقة إلا الشر والإلحاد ينشر ويذاع بينهم، وعلى حساب دينهم، وسيعلمون نبأه بعد حين. نعود بعد هذه البسطة إلى عنوان هذا الفصل وهو "تحديد النسل" أو منعه وإبطاله، وتحديد النسل إذا تدبرنا مدلوله نجده خدعة أو لعبة أريد بها ومن ورائها إنقاص عدد المسلمين وإضعافهم ليسهل دوسهم أو ابتلاعهم في يوم - ما - فهو مكيدة مبيتة، ودسيسة مدبرة من طرف خصوم الإسلام، زينوها للجاهلين وحسنوها للغافلين، ذلك أن الدارس للشريعة الإسلامية وأحكامها المحكمة وأهدافها الواضحة البينة يدرك ما قلناه سابقا من أن المطلوب من المسلم مطلوب شريف، مطلوب منه أن يكون عنصر صلاح وفلاح بين أبناء البشرية التائهة، فقد ضلت عن الطريق السوي الرشيد الذي يجب عليها أن تسلكه لتنجو من المهالك والأخطار. المطلوب من المسلم أن يعمل - ما استطاع - لإرجاع إخوانه في الإنسانية إلى الجادة المثلى، إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي رسمه في شرعه ليسلكه عباده المؤمنون المهتدون بهديه.

من أجل هذا، ومن أجل أن الخالق تكفل بأرزاقنا وأقواتنا - إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين - إذا سعينا لها بالوسائل المطلوبة، فالمسلمون - مهما كثر عددهم - فهم قلة قليلة إلى جنب من كفروا بربهم، وجحدوا ألوهية خالقهم، وتمسكوا بخيوط واهية لا تمسكهم إلا كما تمسك خيوط العنكبوت أثقل الأشياء وزنا، وتركوا حبل الله المتين الذي لا نجاة للعباد من الهلاك والخسارة إلا في التمسك به والاعتصام بقوته ومتانته. فتحديد النسل - الذرية - معناه أن نجعل لتزايد الأولاد حدا محدودا لا نتعداه، أو منعه وإبطاله مرة واحدة، فهو بهذا الاعتبار مخالف لما جاءت به الشريعة الإسلامية - مثل جميع الشرائع السماوية - فالمسلمون إذا عملوا على التقليل من نسلهم أو منعه فهم ضد شريعتهم، كما يتبين ذلك من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول المبلغ عن الله رغب أمته في تكثير نسلها وعددها لتكون به قوية. من ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه في باب: (النهي عن تزويج من لم يلد من النساء) عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)). كما أخرجه النسائي أيضا بألفاظ متشابهة عن معقل بن يسار، وفي بعضها اختلاف يسير وعنون له بقوله: (كراهية تزويج العقيم)، وأخرج الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل (¬1) نهيا شديدا، ويقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيام)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وأقره وقال: وإسناده حسن. هذه هي سنة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام التي كان يأمر بها أصحابه والتي لا ينبغي تركها والعدول عنها إلى ما دعت إليه الشياطين، فسيكاثر بأمته الأنبياء والأمم يوم القيامة، يوم يجمع الله فيه الخلائق، هذه ¬

_ (¬1) الباءة القدرة على التزوج، والتبتل ترك الاشتغال بالدنيا والانقطاع للعبادة.

الكثرة إنما تكون بالعدد الصالح المؤمن القوي، هذه الكثرة في العدد سيتباهى بها الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يفاخر الأنبياء والأمم ويفتخر عليهم بالكثرة المؤمنة الموحدة، لا بهذه القلة الزائغة الملحدة الضالة المضللة التي تشبه البهائم في البحث عن الأكل واللهو والملاذ والشهوات لا غير، هذه هي سنته، ومن رغب عنها ولم يعمل بها فليس من أتباعه كما قال: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)). فبناء على هذا الترغيب النبوي يجب على المسلمين ألا يخالفوا رسولهم فيما رغبهم فيه وحثهم عليه، بل وأمرهم به، كما يجب أن يكونوا دعاة له، لا دعاة لمخالفته، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). اللهم إن عبادك المسلمين فعلوا ما حذرتهم منه، وخالفوا أمر رسولك إليهم، وشتتتهم الأهواء والفتن، وأضعفتهم الشهوات، ونزل بهم العذاب الأليم، فقد صدق فيهم وعيدك وهم غافلون. فتحديد النسل أو منعه قضية دينية قبل أن تكون اقتصادية، فالعمل بها مخالف للشريعة الإسلامية، ورد لرغبة محمد صلى الله عليه وسلم. إن الأروبيين الذين حاولوا كم من مرة أن يوهنوا الإسلام أو يقضوا عليه بقوة السلاح وخابوا - كالحروب الصليبية - قد رجعوا إلى الأوطان الإسلامية بعنوان - التعمير أو الحماية - في غفلة وضعف من الشعوب الإسلامية، وبعد أن هبت نسمة الحرية أو التحرير كان العالم الإسلامي في طليعة المحاربين، والمتتبع لسير الأحداث العالمية يدرك أن الشعوب غير الإسلامية أخذت حريتها واستقلالها بدون حرب تذكر وقتال شديد، وهذه القارة الإفريقية السوداء مثال لما قلت ودليل عليه، أما الشعوب الإسلامية فإنها ما بلغت إلى حريتها واستقلالها إلا بعد أن دفعت الثمن فيه باهظا جدا جدا من خيرة أبنائها. فأروبا هالها وأفزعها كثرة تزايد عدد المسلمين، يضاف إلى ذلك استقلال الشعوب الإسلامية، وما يتبع ذلك من قوة وغيرها، فأخذت تفكر في ¬

_ (¬1) الآية 63 من سورة النور.

مستقبلها وماذا سيكون فيه بعد أن استعاد المسلمون أوطانهم وقوتهم التي فقدوها بسبب استيلاء المستعمرين عليها، ففكروا كثيرا وقدروا تقديرا فهداهم تفكيرهم وتقديرهم إلى أن الشعوب الإسلامية سيأتيها يوم تسيطر فيه على العالم نظرا لبهرة عددها وقوتها المتزايدة وما تملكه في أوطانها من مواد خام وغير ذلك، وبذلك سينتزعون السيادة والقيادة منهم، لهذا أخذوا ينشرون تقارير خبرائهم الاقتصاديين، ويعلنون: أن العالم مقبل على مجاعة عظيمة بالنظر إلى عدد السكان وكثرتهم، وقلة الأقوات، وأذاعوا بياناتهم ناصحين، بأن الواجب يحتم على الشعوب - وخاصة النامية - والحكومات أن تستعد لمواجهة خطر هذه المجاعة المنتظرة بتنقيص عدد السكان - من غير أن ينقصوا هم من وسائل القتل والتدمير والإحراق والخراب، وهي وسائل تحصد البشرية حصدا - فكان أول الملبين لندائهم بعض الشعوب الإسلامية - إسما لا عملا - فتأثروا بتلك البيانات، فخطب نوابهم في المجالس، وخطباؤهم على المنابر، وسخروا لهذه الحملة ما عندهم من وسائل الإعلام والأخبار، من صحافة وإذاعة وغيرهما، وحتى من يسمون أنفسهم بـ - علماء الدين - باحثين ومنقبين عن المرخصات لتحديد النسل أو منعه، حتى لا يموت المسلمون - المساكين!!! - جوعا، وقد وجدوا في كلمة الإمام الغزالي سندا يستندون عليه، فصدرت بذلك الفتاوى من أصحاب الفضيلة حماة الدين، في الصحافة وغيرها مرغبة في اتخاذ الوسائل للتنقيص من الأولاد أو منعهم بتاتا، كأن الأرزاق بأيديهم لا بيد الله خالق العباد سبحانه لا إله غيره، ولا رازق سواه، حتى أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد أعد جائزة مالية لمن ينظم نسله. وهنا نكون قد رجعنا من حيث نشعر أو لا نشعر إلى حالة العرب الجاهليين التي نعاها عليهم القرآن مبينا لهم خطأهم في تقويم الأرزاق كما جاء ذلك في الآيات السابقة. إن منع الحمل لا يجوز - شرعا - إلا في ظروف خاصة لا صلة لها بكثرة تزايد عدد سكان المعمورة، فإذا كان المنع من أجل الخوف من الجوع فهو من أعمال الجاهليين التي خطأهم فيها القرآن فيكون المسلمون قد رجعوا إلى عقيدة الجاهلية وعهدها، فمجوزه وفاعله لا إيمان لهما بربهما ولا بوعده، مهما تستر العامل به أو المجوز له بغير ما أظهره،

فإن الله لا تخفى عليه خافية، والعمل هنا تعينه النية، كما جاء في الحديث الصحيح: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)). فالذي يفكر ويعمل لتحديد النسل - خوفا من الجوع - فلماذا لا يعمل للإكثار من الصناعات ونشرها، وإيجاد وسائل العمل الشريف، وتوزيع الثروات توزيعا عادلا مفيدا على الأمة، ينال منه كل واحد على ما عنده من تجارب ومعرفة بطرق الإنتاج والتنمية، حتى تكتفي الأمة بما عندها من طاقات، وتستغني بذلك عن غيرها. ألم ينظر هؤلاء - الفطن الحذاق - الذين خافوا على أبناء الأمة أن يموتوا جوعا - إلى الأمة الصينية الحالية، وكثرة السكان فيها وتزايدهم بصفة مهولة، حتى أن دولة أمريكا وطاقاتها البشرية وغيرها صارت تقرأ لها ألف حساب، وحساب ... ؟؟ إن الأمة الصينية بصناعتها التي غزت بها العالم لم تخف من الموت جوعا، لأنها تعلم أن قوتها في كثرة أفرادها، وما يقال في الأمة الصينية يقال في الأمة اليابانية الحديثة وصناعاتها العجيبة في إتقانها ورواجها في جميع أطراف العالم، وسكانها مع ضيق أرضها، والفارق الوحيد بيننا وبينهم هو العمل والكسل، والتقليد البليد، فاعتبروا بهذا يا أولي الأبصار. إن الشعوب الإسلامية أصيبت بمرض الكسل والتكاسل - وكثرة الكلام الفارغ والثرثرة الحقيرة - ولو كانت حازمة وعاملة كالشعوب الأروبية أو بعض الشعوب الأسيوية - مثلا - لغيرت وجه أرضها بالصناعات، ولكانت أغنى بكثير من الشعوب الأروبية بالنظر لما عندها من خيرات وإمكانيات قل أن توجد في غيرها من البلدان الأخرى. فالأبناء الشرعيون - أولاد الحلال - يجب التقليل منهم، حتى لا يموتوا جوعا، وأمال الأولاد غير الشرعيين - أولاد الحرام - فلا خوف عليهم ومنهم إذا كثروا - ما دامت لدى بعض الحكومات الإسلامية مراكز تؤويهم - وقد كثروا في هذا العهد الأخير كثرة فاحشة، بكثرة الأسباب والطرق التي تجيء بهم إلى هذه الحياة، والتي هي نتيجة حتمية لاختلاط الرجال بالنساء في كثير من الميادين - ولا ينشأ من الاختلاط إلا الشرور

والآثام - ولخروج المرأة المسلمة إلى الشوارع متبرجة كاشفة لما أمرها الله بستره، مع ضعف الإيمان أو انعدامه وموت الوازع الديني والأخلاق الإسلامية، والذين هم - أيضا - نتيجة جناية الأشرار والفساق على المجتمع الإسلامي الذي أفسدته الأخلاق الأجنبية الوافدة عليه من الخارج والتي تحارب الأخلاق الإسلامية، فهم - الأولاد غير الشرعيين - في ازدياد مطرد، ولم نسمع أن من المسؤولين من أخذته الشفقة والغيرة على الأخلاق والفضيلة فتكلم على منعهم، أو حتى التقليل منهم بإزالة الوسائل التي جاءت بهم إلى هذه الحياة السيئة، وهذا من نتائج المزدكية القديمة كما مر الكلام عليها سابقا، وأختها الاشتراكية الحديثة. فالعامل على تقليل النسل - الأولاد - والآمر به والمجوز له كل هؤلاء مكذبون بوعد الله برزق عباده، والذي أفتى بجوازه من غير ضرورة شرعية - تبعا لهوى غيره - يجب عليه أن يراجع موقفه، وإلا فيا ويله يوم يقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية ... فالمجوز له باع ضميره، واستجاب لرغبات العباد، وأعرض عما يوجبه عليه إيمانه، ودينه، وورعه - إن كان عنده ورع - وخوفه من خالقه. والملاحظ هنا - بهذه المناسبة - أنني أعرف كثيرا من الرجال كانوا فقراء قبل أن تكون لهم زوجات وذرية، وكانوا في ضيق من العيش، وما أن تزوجوا ورزقوا أبناء حتى كثر رزقهم، واتسعت معيشتهم، وظلوا وباتوا في رغد من العيش، وهم هم كما كانوا قبل ازدياد أولادهم، لم تزد لهم أعضاء أخرى في أجسادهم، فلم يصر للواحد منهم رأسان - مثلا - وأربع أيد وأربع أرجل حتى يزداد سعيهم ودخلهم، وما ذلك إلا لأن المولود جاء برزقه معه لأن الرزاق حي لم يمت، وصدق الله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1). هذا في شريعتنا الإسلامية الخالدة، فقد علمنا ما دلت عليه آيات قرآنية لا تجيز - بدعة العصر - التي جاءت من قوم لا يؤمنون بخالقهم ولا يصدقون شرعه. ¬

_ (¬1) الآية 58 من سورة والذاريات.

والذي أعرفه - في خارج شريعتنا الإسلامية - أن رجال الدين من اليهود والمسيحيين عارضوا معارضة قوية في تطبيق هذه البدعة - الإلحادية - من لدن أتباعهم من اليهود والنصارى، فقد أنكروا تحديد الأولاد عندما طلب إليهم أن يقولوا كلمتهم في ذلك، فقالوها، ولم يجوزوا استعمال الطرق التي تستعمل لمنع الحمل، وطلبت منهم حكوماتهم ذلك أيضا، فكان موقفهم واحدا، فكيف أجازه خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم؟؟ - إن كانوا خلفاء له حقا - وخالفوه فيما رغب فيه ودعا أمته إليه؟ وأذكر أنني سجلت في مذكرتي الخبر التالي: (استمعت إلى إذاعة نشرة الأخبار من محطة "لندرة" يوم الإثنين 29 جويلية - تموز - 1968 في نشرة أخبار الساعة الرابعة بعد الظهر هذا الخبر: (قداسة البابا يؤكد مرة أخرى تحريم موانع الحمل الصناعية، كما يحرم الإجهاض) فالرئيس الديني المسيحي يعلن لأتباع دينه ما يوجبه مقامه الديني وكرسيه الجالس عليه، من غير أن يخشى المعارضين له وهم كثيرون، ومن غير أن يخاف أن يتهم بالرجعية. والملاحظ أن أظهر ما ظهرت فيه الدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل إنما هي الأوطان التي اتخذت المذهب الاشتراكي الشيوعي - المزدكي - دستورا لها، وأبطلت الدساتير الأخرى - وخاصة القرآن - وفي الأوطان الإسلامية بالخصوص التي ابتعدت كثيرا عن منهاج الشريعة الإسلامية، وابتدعت قوانين أخرى أقل ما يقال فيها إنها حرب مكشوفة سافرة أعلنت على شريعة الله - الإسلام - الطاهرة من كل الأقذار. قلت إن أظهر ما ظهرت فيه الدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل إنما هي في الأوطان الاشتراكية، ذلك لأنها لا تعترف بالدين، ولا تتبع ما تدعو إليه الأديان، فكل من عمل على تحديد النسل أو منعه فعلى نهجها سار وبمذهبها اقتدى، بعد أن علمنا أن رجال الدين من الديانتين "اليهودية والنصرانية" لم يجيزوه بل منعوه. إذا ساغ للحكومات الملحدة أن تدعو إلى تحديد النسل أو منعه - نظرا لمذهبها الاقتصادي والمادي واللاديني - فإنه لا يجوز - بأي حال - أن تجيز

ذلك حكومات الشعوب الإسلامية، التي تدعي أن الإسلام دين الدولة، فما لهذه الحكومات ابتعدت كثيرا عن شعور غالبية شعوبها، التي لم ترض أن تلبي هذه الرغبة؟ فلم لم تأخذ بعين الاعتبار رغبات شعوبها؟ ومالت إلى رغبات طائفة من الملاحدة معينه، أولئك الذين لا رغبة لهم في الدين والتدين ...

الباب العاشر

الباب العاشر

الفصل الأول: مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية.

الفصل الأول: مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية. إن حكومات الشعوب الإسلامية مسؤولة أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام شعوبها عن كل تحريف أو انحراف - عن سبيل الله - يقع لشعوبها فإن المسؤولية عظيمة، والتبعات كبيرة، وتقلبات الأيام غير مأمونة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). والملاحظ - أيضا - أن البعض من أولئك المسؤولين غير مهتمين بانحراف بعض أفراد شعوبهم عن طريق دينهم - بقدر اهتمامهم بكراسيهم الجالسين عليها - ذلك أن البعض منهم لم يطبع بطابع الإسلام الصحيح غير المزيف، فلو أنهم ربوا تربية إسلامية كاملة غير ناقصة لكانوا هم في طليعة من يحمي الإسلام - بما في أيديهم من السلطة - ويدافع عنه عدوان المعتدين، وضلال الضالين، غير أن البعض منهم هو المعتدي الأول. فقد لمسنا في بعض المسؤولين الكبار في بعض الشعوب الإسلامية ما لمسناه وعرفناه - قديما في الحاكم المطلق المتصرف بأمره، غير مبال بشعور الشعب ولا بالأمانة الملقاة على عاتقه، فحسب نفسه أنه أصبح ملكا من الملوك - غير الدستوريين - له وحده الأمر والنهي، فلم يبعدوا عن الملوك الديكتاتوريين الذين قص علينا التاريخ حياتهم الخاصة والعامة، مثل تضييع أموال الأمة في سبيل شهواتهم وملاذهم، إلى مرض التظاهر بالعظمة والقوة، إلى الترفع والتكبر عن شعوبهم - كأنهم خلقوا من عنصر آخر خاص بهم - إلى احتقار الشعوب في كرامتها وقد أحاطوا أنفسهم بهالة من التقديس، والألقاب الفخمة ¬

_ (¬1) سورة النور الآية 63.

- وهي لا تساوي فحمة - والهيمنة المصطنعة المكشوفة، إلى كثير من الصفات التي صيرتهم ملوكيين أكثر من الملوك. قلت فيما سبق - قريبا - أن البعض من المسؤولين في بعض الشعوب الإسلامية لم يكونوا ممن يحمون الإسلام أو يدافعون عنه عدوان المعتدين، فكيف نفهم؟ وماذا نقول؟ فيمن ادعى لنفسه أنه أدرك - بعلو تفكيره - ما فات علم الخالق، وما سطره في الشريعة الإسلامية وأمر عباده المؤمنين به أن يتبعوه ويعملوا به، وذلك فيما يخص المرأة المسلمة وغيرها مما سنتعرض له في هذه الدراسة للمزدكية وفرعها الاشتراكية، فتدارك ذلك بتشريعه، وإزال عن المرأة كل غبن أو حيف وانحطاط جاءها من الشريعة الإسلامية، بل ذهب بعيدا في تحديه وإبطاله لأحكام الإسلام والقرآن، وعد ذلك منه إصلاحا، فقد أبطل ما شرعه القرآن بنصوص آياته الصريحة. هذا ما قاله - وفعله - الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، فقد أكثر من من اعتداآته على الإسلام والقرآن حتى تجاوز حدود البشر، ودخله الغرور والعجب إلى أن رفع شخصه الخيالي فوق مقام الرسالة المحمدية. وإني أضع بين يدي القراء ما صرح به لمراسل صحيفة (لوموند) الفرنسية الذائعة الصيت، وكثيرة الانتثار، فقد نشرت هذه الصحيفة تصريح الرئيس التونسي في عددها الصادر بتاريخ (26 ماي 1969) في (لوموند الديبلوماسي) تحت عنوان: حديث مع الرئيس حبيب بورقيبة أجراه معه الصحافي الفرنسي الشهير "جان لاكوتور" وسأعقب عليه بما أراه لازما، فإليكم ترجمة ما به الحاجة من ذلك التصريح: (إن الأمر الهام الآخر الذي عالجناه يتعلق بالمرأة عموما، الساكنة منها في الريف أو في المدينة، وعملنا هذا من أجل المرأة، لأننا نعتقد أن المرأة كائن بشري (ومن قال له أنها حيوان أو جماد). إنكم تعلمون كيف كانت معتبرة من قبل في عهد الانحطاط، كما أن وضعيتها التي تجعل منها كائنا منحطا كانت تعززها الاعتبارات الدينية.

إن الدين والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى، وفي مستوى أدنى، فهي أقل ذكاء، وحقها في الإرث أقل من حق الرجل، ووظيفتها الوحيدة هي إنجاب الأولاد. ولقد أقدمت على هذا الإصلاح منذ بداية الاستقلال، ويرجع تاريخ القانون الذي يغير حالة المرأة، والزواج، والذي يحرم تعدد الزوجات إلى يوم "13 أوت 1956" أي أربعة أشهر بعد الاستقلال، واعتمدت في هذا على السمعة التي تم الحصول عليها أثناء الكفاح ضد السيطرة الأجنبية، وأردت أن أعمل كل هذا من بين الأعمال التي شرعنا في تحقيقها آنذاك، وليس من السهل القيام بشيء يخالف ويتعارض مع القرآن، وإني متيقن بأن عددا كبيرا من البلاد الإسلامية متفقة معنا، غير أنها لا تجرؤ على الإعلان بذلك. وهناك إصلاح آخر لم تقس أبعاده كما ينبغي، وهو إغلاق جامعة الزيتونة، تلك الجامعة التي تكون أناسا هم من القرون الوسطى، ويوجد نفس الوضع في المغرب وفي مصر، يجب قبل كل شيء الذهاب إلى المدرسة، ومن شاء التخصص في علم التوحيد - الدين - فله ذلك بعد أن يحصل على شهادة البكالوريا كجميع الناس - وهذا شيء مشترك - لا بواسطة تعليم ديركليني (مكان في فرنسا) وفي عهد أبلارد (عالم ديني عاش في فرنسا من (1079 إلى 1142) وهذا في القرن العشرين). انتهى ما به الحاجة من هذا التصريح. والذي يتأمل في هذا التصريح البورقيبي الخطير يدرك ما يرمي إليه صاحبه، فقد أظهر بصراحة تامة لا تقبل التأويل ما هي قيمة الشريعة الإسلامية في نظره، وما هي منزلة القرآن في قلبه.؟؟ لا أقول أنه لا يفهم ما يقول في الجملة - ولعله يضحك علي أنا ويقول لي أنك لم تفهم مرادي، كعادته مع كل من لم يتبعه على ضلاله - فالرجل الذي يقول: أن الدين، والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى وفي أدنى مستوى (وهو خلاف ما في الدين والقرآن) هو متعمد ما قاله، - وحاش الدين والقرآن من ذلك - إنما الأمر مقصود منه لاعتبارات شتى، فهو يرى أن دراسته للحقوق - أو للعقوق - رفعته إلى مكان أرفع من مكان الشرائع

السماوية - خصوصا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم - المشرع بعد الله - ليس عنده "شهادة الحقوق"مثل التي عنده هو - فهو يرغب في الإتيان بشريعة أحسن وأليق بالبشر من شريعة الله، فجاء بـ (المزدكية). وتعقيبنا على هذا التصريح نوجزه فيما يلي: 1 - قوله أن الدين والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى الخ. نقول حاش لله وحاش للدين والقرآن أن يكون منهما هذا القصد السيء الذي أبداه هو فمن درس التاريخ القديم - لما قبل الإسلام - علم أن الإسلام والقرآن قد رفعا منزلة المرأة إلى أعلى مراتب الاحترام والكرامة، هذا إذا درس التاريخ بنزاهة وبدون روح التعصب الممقوت، وما قاله بورقيبة هو قول قديم مشهور لخصوم وأعداء الإسلام، فما هو إلا تابع لهم وسائر في ركبهم - لا أكثر ولا أقل - فإذا ظلم رجل مسلم امرأة مسلمة فليس معنى هذا أن الإعلام هو الذي ظلمها، والظالمون من هذا الصنف كثيرون، وإن لم يعترفوا بذلك، فليتفطن لهذه الأقوال بعض الغافلين. 2 - فها بورقيبة شهد على نفسه بأنه خالف القرآن وكفر به - ويا ويله من ذلك - وعارضه بتشريع آخر، في منعه من تعدد الزوجات، وفي الإرث حسبما جاء في القرآن، حيث سوى المرأة بالرجل في الإرث ... أما تعدد الزوجات الذي أباحه القرآن وحرمه بورقيبة فهو فيه تابع للأروبيين الذين يقتصرون على زوجة واحدة في الظاهر، أما في غير ذلك فالعدد لا يحلمه إلا علام الغيوب، فالإسلام طاهر يحب الطهر للمسلمين الصادقين في إسلامهم أما الخبائث فقد حرمها الله عليهم، وهذه الدعاية لا تروج إلا على البسطاء، إن الإسلام نهى أتباعه عن تعدد الزوجات بمجرد الخوف من عدم العدل، وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (¬1) بهذا نطق القرآن، إن هذه الرخصة - رخصة التعدد - قل من يعمل بها شأنها شأن الرخص، غير أن الأروبيين ومن كان على شاكلتهم من بعض المفتونين بهم يظنون أن التعدد سيئة قبيحة في هذا العصر أساء بها الإسلام إلى المرأة، وهي حسنة من حسنات الإسلام لو كانوا يفقهون معنى العفة والتطهر، إن المطلوب من حكومات ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 3.

الشعوب الإسلامية أن تعمل على تطبيق أحكامه الطاهرة المطهرة لا على إلغائها. من أجل أن بعض المسلمين لم يعملوا بوصاياه. والموضوع درسه علماء الإسلام الناصحون وكفى. وأما الإرث، أو تسوية المرأة بالرجل فيه. فالذي يدقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية ويبتعد عن السطحيات وسوء القصد يعترف بأن الإسلام أعطى للمرأة في الإرث ما يفوق ما يأخذه الرجل، ذلك أن الرجل مطالب بالنفقة على زوجه وأولاده وغيرهما، وهذا بخلاف المرأة، فإن نفقتها واجبة على زوجها، فما تأخذه المرأة توفره وتذخره لنفسها، وما يأخذه الرجل ينفقه على من ذكرنا، فأي الوارثين أكثر نصيبا من أخيه؟ الرجل الذي ينفق نصيبه أم المرأة التي تدخر نصيبها؟ لكن لا يستبعد ممن تربى في أحضان فرنسا ولم يذق للإسلام طعما أن يصدر منه هذا وأكبر منه، ومن جهل شيئا عاداه. 3 - وأما قوله: أنه متيقن بأن عددا كبيرا من البلاد الإسلامية متفقة معه، غير أنها لا تجرؤ على الإعلان بذلك، فهذا منه بعيد عن الواقع، وقد أظهر بهذا جرأته على إلغاء أحكام القرآن، في حين يعترف بأنه فعل شيئا خطيرا، وذلك حين قال: - وليس من السهل القيام بشيء يخالف ويتعارض مع القرآن - وهنا ومن خلال تصريحه بأنه تعمد إلغاء أحكام القرآن ظهرت نيته السيئة نحو القرآن، وأراد أن يثبت بأنه ليس وحده في هذا غير أن الجرأة التي يفتخر بها هو تعوز غيره، ولهذا لم يقم - واحد - من هذه البلدان بمثل ما قام به هو، والمتتبع لتصريحات بورقيبة يرى أن هذا المخلوق معجب بنفسه كثيرا إلى حد الغرور المفرط، وقد أداه هذا إلى احتقار غيره من الملوك والرؤساء في البلاد الإسلامية، ويرى أن سياسته وتسيير دفة الحكومة في بلده "تونس" لا يصلح لها أحد إلا هو، وأنه هو وحده الذي حارب الاستعمار الفرنسي، وأنه هو الذي جاء بالاستقلال لبلده، هل يصدق الناس أن بورقيبة هو الذي جاء بالاستقلال لتونس؟ فهو كثير المن والامتنان على الأمة التونسية بهذا، فكأنه لم يدخل تونسي واحد السجن غير بورقيبة، ولم ينف غيره، وهذا منه احتقار للأمة يأسرها، والواقع الذي سجله التاريخ العدل خلاف هذه الدعوى الباطلة منه، فقد حارب الشعب التونسي في جميع الميادين سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية

الخ ... وقد مات من الشعب التونسي شباب لتحرر بلادهم لا ليترأس بورقيبة وينكر فضلهم، ولا يعرف لأحد سواه بالنضال والتضحية. والذي يعرفه المتتبعون لحركات الشعوب التحريرية أن تونس لم تنل استقلالها الكامل إلا بعد أن قامت الثورة التحريرية في الجزائر واشتد ساعدها، أما قبل ذلك فقد رضيت تونس - بزعامة بورقيبة - بشبه الاستقلال الداخلي، وكلنا يعرف مدى أهمية المعاهدة التي عقدت بين فرنسا وتونس في جوان - يونيو - سنة 1955، تلك المعاهدة التي وقعت من طرف الطاهر ابن عمار عن تونس ومعه المنجي سليم، وعن فرنسا ادقار فور وبيير جولي. وكان الطاهر بن عمار يتردد على بورقيبة في السجن ويأخذ رأيه في كل شيء ولا يوافق على بند من بنودها إلا بعد أن يوافق عليه بورقيبة أولا، فوقعت بأمر ورضى بورقيبة تلك المعاهدة التي قيدت تونس بقيود لم تكن موجودة في معاهدة الحماية التي عقدت سنة 1881 مما أثار سخط الشعب التونسي، وخاصة الحرار منه الذين قالوا لا نرضى إلا بالاستقلال التام، وخاصة بعد أن قامت الجزائر تحارب إلى جنب تونس، ولا ننسى المعارضة التي كانت ضد بورقيبة وكيف قضى على المعارضين ليخلو له الجو وحده. والتاريخ لا يحابي، فإنه لولا حرب التحرير الجزائرية لما نالت تونس استقلالها، وهذا ينكره بورقيبة، ويعترف به الرجل الحر العظيم في كرامته وهمته المرحوم المنعم ملك المغرب محمد الخامس، فقد صرح غير ما مرة بأن استقلال المغرب لا يعد شيئا ولا يتم إلا إذا استقلت الجزائر، لأنه يعرف أن فرنسا سترجع عما أعطته للمغرب إذا قضت على حرب التحرير الجزائرية. فالجميع يعرف أن فرنسا لم تستعمر مستعمراتها في إفريقيا إلا بعد أن استولت على الجزائر ووطدت أقدامها فيها، فهي قد أخذت كل الأقطار الإفريقية لما أخذت الجزائر، وخرجت منها بسبب حرب الجزائر لأن الجزائر لا تعرف ولا تعترف بسياسة المراحل، و (صل على من علمك)، وقد أطلت في سرد هذه الحقائق التاريخية لأنبه على أن هذا الرجل مفتون بحب شخصه، ويريد أن يكون قدوة في سياسته ومواقفه حتى في الأمور الدينية، قد واتاه الحظ في حرب الجزائر، فالواجب عليه ألا يغفل عن هذا. 4 - وأما فخره بإغلاق الجامعة الزيتونية - الجامعة الدينية العظيمة ذات

التاريخ المشرق، في المغرب والمشرق - الذي عده إصلاحا، فكل العقلاء يرون فيه عملا بعيدا عن الإصلاح، بل هو هدم وتخريب لركن عظيم من أركان الدين الإسلامي في الشمال الإفريقي. ذلك أن هذه الجامعة قد أمدت بعض بلدان الشمال الإفريقي، وخاصة تونس في الدرجة الأولى، والجزائر في الدرجة الثانية، وكذلك ليبيا، أمدتها بعلماء أفذاذ جهابذة كبار نالوا شهرة عالمية لا تنكر في الدين واللغة العربية والأدب، كالإمام ابن عرفة صاحب الحدود الفقهية وغيره ممن لا يتسع المقام لسرد أسمائهم، وكان فضلها علينا - معشر الجزائريين - عظيما، فالكثير من علماء الجزائر في القرن العشرين تخرجوا منها مباشرة أو بواسطة من تخرج منها، فكيف يعد إغلاقها وتعطيلها إصلاحا؟ وكيف ساغ له - لو كان فيه بقية من حياء - أن يقارن بين بيت من بيوت الله أعد لعبادة الله وحده تقام فيه الصلوات وتدرس فيه علوم الدين الإسلامي من فقه وتوحيد وتفسير لكلام الله وغير ذلك، يقارن بينها وبين - ديركليني - أين يعبد الصليب ويعصى الله فيه، فهل من يقول هذا له عقل الإنسان؟ ثم كيف يتهم الجامعة الزيتونية بأنها تخرج وتكون أناسا من القرون الوسطى؟ إنما بغض الإسلام، وكراهية الدين هما كل الأسباب في هذا وفي غيره، وعلى الفرض والتقدير أن البعض من علمائها حاد عن السبيل السوي، فما هو جرمها هي في والواقع الذي سجله التاريخ المنصف أن رجالها هم الذين علموا الكثيرين ممن يوجهون إليها الآن معاول الهدم والتخريب والنقد السمج البارد، وهم الذين كان تعلمهم في المدارس الاستعمارية، فهم نسخة من المستعمر الحقود على الإسلام والقرآن بالخصوص. فبورقيبة أبطل التعليم الديني وغيره في الجامعة الزيتونية وصيرها كالمتحف يغشاها السواح الأجانب بكثرة، لأنهم يأتون معهم بالعملة الصعبة، فهو قد باعها بالعملة الصعبة. كل من عرف تونس في عهدها القديم - قبل الاستقلال - رأى إلى جانب كل باب من أبواب مساجدها "لافتة" كتبت باللغات الفرنسية، الإنجليزية وغيرهما عليها هذه العبارة: (ممنوع الدخول إلى المسجد على غير المسلمين) أما في العهد الجديد فقد نزعت منها تلك اللافتات، وصار دخول غير

المسلمين إلى بيوت الله الطاهرة مباحا للمشركين والمجنبين وغيرهم ممن لا يجوز لهم دخول المساجد لما قلناه سابقا، وقد زرت تونس في صيف 1966 فأحزنني ما رأيته في جامع الزيتونة من فراغ وهجر وغشيان السواح الأجانب له، فكأن الجامع صار متحفا من المتاحف بعد أن كان تلقى فيه الدروس الدينية من علماء زينوا تونس للقاصدين، وأشاعوا لها ذكرا حسنا في الأولين، وفي جميع البلدان، وكان حيثما تنقل الزائر بين عرصاته إلا ووجد أمامها شيخا جليلا يحيط به تلاميذه يسمعون إليه بانتباه ما يلقيه عليهم من الدروس، وما بقي للإسلام ذكر في الشمال الإفريقي - بعد استيلاء فرنسا عليه - إلا بفضل تلكم المساجد والمعاهد الدينية. فالرئيس بورقيبة يفتخر بأنه أغلق الجامعة الزيتونية وأبطل عملها، ويزيد فيقول على عمله هذا - الذي عده إصلاحا -: (لم تقس أبعاده كما ينبغي)، ولعله كان ينتظر من أمثاله الشكر على فعله هذا والتنويه بشجاعته - النادرة - على ما أقدم عليه، أو لعله كان ينتظر من الملك الحسن الثاني ملك المغرب أن يقتدي به فيبادر إلى إغلاق جامعة القرويين بفاس وإلى جمال عبد الناصر فيصنع صنيعه ويسارع إلى إغلاق الجامعة الأزهرية بمصر، فلم يفعلا مثل فعله لأنهما أعقل من أن يرتكبا جريمة حرمان المسلمين من نور مصباحين كانا يضيئان الطريق للمسلمين قرونا طويلة. فيطغى عليهما الغرور والخرق فيفعلا فعله الشنيع. لأنه قصدهما بقوله: ويوجد نفس الوضع في المغرب وفي مصر. ترى ماذا كان يقول لو أقدمت دولة الحماية - فرنسا - في عهدها على إغلاقها يوم كانت تحكم تونس، هل يشكرها على صنيعها ويعتبره إصلاحا يقيس هو أبعاده كما ينبغي؟ أنا أعتقد - جازما - أن فرنسا لو فعلت ذلك - وهي أعقل من أن تفعله - لملأ بورقيبة الدنيا صراخا وعويلا واحتجاجا على عملها ذلك، ولعده جرما لا يغتفر - والحق إلى جانبه في ذلك - من فرنسا عدوة الله والدين، ولو فعلت فرنسا ذلك لعده أيضا انتهاكا لحرمة الدين، وخرقا لتعهداتها باحترام شعائر الإسلام وشعور المسلمين والمقدسات الإسلامية، أنا لا أحب فرنسا ولا أدافع عنها، لكنه الواقع الذي لا ينكره إلا الأغبياء، وما قلت هذا إلا للمقارنة بين عهد الحماية، وبين عهد الحرية والاستقلال، إذن فما باله فعل ذلك؟ حقا لقد صدق القائل في قوله:

يقضى على المرء في أيام محنته … حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن أما قوله: (تلك الجامعة التي تكون أناسا من القرون الوسطى) فهو اتهام لها بأنها لا تخرج إلا الجامدين أمثال رجال القرون الوسطى، فلهذا لا يسايرون رجال العصر الحاضر الحديث، عصر الإلحاد والكفر والزندقة والفجور الخ، كل هذه النعوت التي تقال - اليوم - في رجال الدين هي شنشنة عرفناها من قبل، يتهم بها ربائب الاستعمار الذين رضعوا لبن أمهم فرنسا ولغتها الأعجمية - رجال الدين - وتخلقوا بأخلاقها الفاجرة الإلحادية، فهذا الاتهام قديم، وهذه النعوت الاستعمارية متأصلة في الكثيرين من المدرسيين ضد الزيتونيين، نعرف هذا من قبل ولا نجهله، هذه النعوت كانت تثيرها وتغذيها فرنسا - لمصلحتها - حتى لا يتحد الزيتونيون والمدرسيون ضدها. والتاريخ شاهد عدل، والواقع لا ينكره عاقل منصف وهو: أن الجامعة الزيتونية كونت رجالا أبطالا كانوا في الطليعة، لهم مواقفهم المشرفة في العلم، والدين، والسياسة، والزعامة أيضا، وكل زعماء السياسة في القديم تغذوا من الزيتونة المباركة، كما أن خريجي الجامعة الزيتونية كانوا - دائما - في طليعة الأحداث السياسية والمظاهرات التي كان يقوم بها رجال السياسة للمطالبة بالحقوق الوطنية، كانت أكثريتها العظمى من التلامذة الزيتونيين، نظرا للروح الوطنية التي يتحلى بها الزيتونيون، نتيجة ما يتلقونه من التعليم، فيكونون في الصفوف الأولى منها، فمظاهرة المرسى - مثلا - في عام 1922 عندما تنازل المرحوم (الناصر باي) عن كرسي العرش التونسي غضبا على فرنسا التي لم تف بوعودها، تلك المظاهرة معروفة غير خافية عن الوطنيين التونسيين الصادقين لا المحترفين، فقد ذهب المتظاهرون وفيهم الكثيرون من أساتذة الزيتونة وطلابها من تونس إلى المرسى - مقر سكنى الباي - مشيا على الأقدام، والمسافة بينهما في حدود العشرين ميلا، ومن ورائهم خيول جيش الاستعمار الفرنسي تدوسهم بسنابكها والجنود فوق متونها، ذهبوا إلى (الباي) ليطلبوا منه الرجوع عن تنازله. وكذلك المظاهرات المتعددة التي نظمت بمناسبة تنصيب وإقامة تمثال الداعية المسيحي الكاردينال "لافيجري" في أول مدخل المدينة العربية وفي النهج

المؤدي إلى جامع الزيتونة بعد باب البحر مباشرة، وهو واقف على قاعدته وبيده كتاب الإنجيل، وقد عد الوطنيون هذا العمل عملا موجها ضد الإسلام وبالقرب من أحد معاقله الكبيرة، فدعوا إلى المظاهرة، وطاف دعاتها على مدارس سكنى الطلبة الكثيرة طالبين منهم المشاركة فيها، فلبى طلبة الزيتونة الدعوة مسرعين، وفيهم الكثيرون من دعاتها، وقد نالهم من عصي البوليس الفرنسي وسجنه الشيء الكثير، ولم يكن من بين المتظاهرين طلبة المدرسة الصادقية، ولا العلوية، ولا ترشيح المعلمين، وهي المدارس ذات التعليم المزدوج اللغتين، كل ذلك راجع إلى الروح التي يتحلى بها الطالب الزيتوني، وكنت - وأنا جزائري - ممن شارك في بعضها، وأنا أعجب كيف ينسى هذا ولا يعده من نفحات أو نفخات الزيتونة المباركة؟؟ ومنها مظاهرة وقعت في إحدى الليالي - من أجل وضع الكاردينال لافيجري على قاعدته - ابتدأت سيرها من قرب جامع الزيتونة، وبالأحرى من مدارجه وما حولها، وفي المقدمة الطلبة الزيتونيون، وكان من قادتها صديقي المرحوم الشيخ العربي القروي وغيره، وذلك سنة 1926 والمسيرة تنشد: تونسي وحسبي أنني تونسي … حزبها الحر حزبي حزبها الوطني للشاعر المرحوم محمد الشاذلي خزندار فيما أظن، بأصوات عالية، وذهبت إلى القصبة - مقر الحكومة التونسية - مارة بمحافظة الشرطة، ثم فرقها البوليس الفرنسي بعد أن أسمعت صوتها لمن يهمه ذلك. والمعروف لدى الأوساط التونسية ذات الخبرة السياسية: أن حكام فرنسا في تونس قالوا: (كنا نظن أن جامع الزيتونة يعلم كيفية الاستنجاء والوضوء والصلاة لا غير، فإذا بالأمر على خلاف ذلك، فالعلة كلها خرجت لنا من جامع الزيتونة) هذا ما قاله المقيم العام وغيره. هذه هي الجامعة الزيتونية كما عرفتها من سنة (1341 هـ - 1922 م) وهذه هي آثارها في الميادين كلها سواء منها العلمي، أو الوطني، أو السياسي،

فإغلاقها والافتخار به وطمس معالمها والتنقيص من قيمة أعمالها ونتائجها على هذه السورة لا يدل على بعد النظر، سواء للماضي أو للحاضر، إذ معظم قادة تونس وزعمائها الصادقين كانوا يمتون إلى الزيتونة بسبب أو أسباب، والتوفيق من الله وحده وهو الواحد القهار. 5 - أما دعواه - وغيره في هذه الدعوى كثيرون - التي ادعاها فيما يخص تحرير المرأة المسلمة من القيود التي فرضتها عليها الشريعة الإسلامية في قوله: (إنكم تعلمون كيف كانت معتبرة من قبل في عهد الانحطاط، كما أن وضعيتها التي تجعل منها كائنا منحطا كانت تعززها الاعتبارات الدينية ...) أي الاعتبارات الدينية التي عززت أسباب انحطاط المرأة المسلمة؟؟ هل منعها من غشيان الاجتماعات العامة أين لا يوجد فيها إلا الشيطان وأعوانه وأين يوجد الخمر والفجور الخ ... وذلك صونا لحرمتها وكرامتها وعرضها وشرفها؟؟؟ أم ماذا تريد؟؟ إن ما تدعو إليه الآن دعا إليه (مزدك) المجوسي منذ خمسة عشر قرنا قبلك، حقا إنه بعث وتجديد للفرقة المزدكية الغابرة. ثم هذه دعوى ادعاها هذا الرجل، والواقع لا يقره على دعواه، ويقول له: إن الأمر عكس ما ذهبت إليه، فقد كانت المرأة المسلمة في الماضي حرة، سيدة في بيتها، عزيزة، مكرمة، مصونة في محيطها الإسلامي، فدعوتها أنت للسفور والخروج من محيطها العزيز، ورميت بها وسط مجتمع لا أخلاق له، فانغمست في حماة الرذائل - وذلك ما يرغب فيه الشيطان وأعوانه - فانقلبت أمة كالإماء اللائي كن في العهد البائد مبتذلة ابتذال الإماء المملوكات للشهوات، فهل بهذا تفخر؟ وهل يعد هذا عند العقلاء تحريرا أو تغريرا واستعبادا؟؟ الجواب يعرفه من كان له عقل راجح وضمير حي ولا يسير مع الأهواء والشهوات النفسية (ما لجرح بميت إيلام) لم تمته الشهوات - وما أكثرها - في وقت الشهوات، هذا ما نراه الآن، فقد صارت المرأة - آلة - حرب تحارب بواسطتها الشريعة الإسلامية، فكل من أراد أن يتهجم على الشريعة الإسلامية رفع المرأة في يده مثل آلة الحرب واقتحم الميدان صارخا: هذا المظلوم، انصروه، ردوا إليه حقوقه، فقد ظلمته الشريعة الإسلامية انظروا إليه نظرة عطف، ارحموه، تعالوا إلى نصرته وإلى تحريره من قيود العبودية الخ ... والواقع أن ذلك الحماس كله للمرأة له دوافع منهال الخفي ومنها الظاهر، منها أن تمسك بالداعي

الكرسي الجالس عليه - وكان قد اغتصبه - حتى لا يزلق به فيسقط على الأرض، تلك أفكار من تعلم في غير مدارس الإسلام، وبالتأمل يظهر أن ذلك كله دعوة أو عودة للمزدكية. أما الدوافع الخفية فلا تخفى على ذوي الألباب وهي دواء الشيطان الخبيثة وما جر إليها، فهذه الدعوة لا تخلو أن تكون دعوة شيطانية، ذلك أن الإسلام أراد للمرأة الصيانة وأراد لها الشيطان أن تكون عونا له على إفساد دين المؤمنين عليهم، وفعلا فقد رأى الناس كيف لعبت المرأة بعقول ضعاف الإيمان أو منكريه، فصاروا أطوع لها من الخاتم في أصبعها تدير الرجل إلى حيث تريد. إن فتنة المرأة للرجل معروفة غير مجهولة، ولذا حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (¬1). إن دعاة حرية المرأة - بلا حدود كما هو مشاهد - إنما قاموا بذلك لا حبا في العدل - لأن العدل ضائع عندهم - وإنما لإفساد المجتمع الإسلامي النقي الطاهر، وأعانهم على ذلك ما في أيديهم من السلطة والقوة، فدل عملهم هذا على أنهم لا يريدون الخير والصلاح للأمة، ولو أرادوه لسلكوا سبيله الواضح البين، ذلك أن دعاة الاختلاط ما حملهم على ما قالوا وما فعلوا إلا سوء القصد، وإرادة الشر بالمرأة، واللبيب تكفيه الإشارة أما غيره فيقنعه مشاهدة الواقع الذي لا ينكره إلا معاند بليد. إن الإسلام الطاهر لا يأمر بما يجر إلى الشر والرذيلة، فقد رأينا الشرع الإسلامي يحمي المرأة حتى في أماكن العبادة خوفا من الفتنة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فصفوف المصلين في المساجد مرتبة حسب هذا المقصد الشريف، فصفوف الرجال مقدمة على صفوف النساء لا للتفضيل كما يفهم المنحرفون بل للوقاية من الفتنة مراعاة لهذا المعنى، أما على طريقة الشيطان فصفوف النساء في المقدمة، فقد تجلس المرأة وأكثر بدنها عار. وهذا عار، وحتى في الطواف بالبيت العتيق يأمر الإسلام بعدم الزحام والاختلاط هناك، فقد روى ابن الحاج في المدخل في صلاة العيدين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء)). ¬

_ (¬1) رواه الأئمة البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عن أسامة.

وذكره ابن جماعة في منسكه دليلا لقولهم: لا تدنو النساء من البيت في الطواف مخافة اختلاطهن بالرجال إن كانوا، كل هذا حفاظا على حرمة المرأة وشرفها، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما في الجابية فقال فيما قال عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))، رواه الترمذي بسند صحيح. تلك دعوة الإسلام إلى التطهر والتعفف، لا دعوة المزدكية إلى الخبث والفساد وإفساد عضو له قيمته في المجتمع الإسلامي، فدعوة الاختلاط والتبرج ما هي إلا تغرير بالمرأة وتحقير لشأنها. الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يعتدي على عظمة القرآن ومقام الرسالة المحمدية. وأخيرا - لا آخرا - فقد طلع الرئيس التونسي "الحبيب بورقيبة" على المسلمين بما لا قبل لهم به إلا بما صدر ويصدر من أعداء الله وأعداء الأديان، وخصوم الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فقد تطاول إلى مقدسات المسلمين، ونال منها بالاحتقار والتنقيص من مرتبتها - جهلا وغرورا - ورماها بما لم يقع إلا من أكبر الملحدين الكافرين أعداء الإسلام - العظيم - فكيف بذلك إذا صدر من رجل يتولى رئاسة حكومة لشعب مسلم عريق في الإسلام، فقد أطلق لسانه في القرآن الكريم المحفوظ ممن أنزله على رسوله الأمين. فقد خطب في جمع من المدرسين والمربين التونسيين المجتمعان بمناسبة انعقاد "الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي" في شهر مارس - آذار - 1974، في تونس، وأظهر لهم هذه المرة ما يكنه في قلبه للقرآن العظيم وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم من احتقار واستخفاف، دل على ما في قلبه، والمسائل التي تعرض لها في خطابه ذلك نشرتها صحيفة "الشهاب" اللبنانية المجاهدة الصادرة في 24 ربيع الأول 1394 هـ الموافق لـ 15 أفريل - نيسان - 1974 م تحت عدد - الواحد والعشرين، السنة السابعة - والشهاب نقلتها عن جريدة "الصباح" التونسية اليومية الصادرة في: 20 و 21 من الشهر المذكور، والبعض سمع منه مباشرة، وهذه هي المسائل التي تعرض لها في خطابه ذاك، قال الرئيس التونسي بورقيبة:

1 - إن في القرآن تناقضا لم يعد يقبله العقل (!!!) بين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. 2 - الرسول محمد (هكذا) كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك عصا موسى، وهذا شيء لا يقبله العقل بعد اكتشاف "باستور"، وقصة أصحاب الكهف. 3 - إن المسلمين وصلوا إلى تأليه محمد، فهم دائما يكررون (محمد صلى الله عليه وسلم)، الله يصلي على محمد ... وهذا تأليه لمحمد!!! 4 - الفطر في نهار رمضان عمدا وبدون عذر شرعي مقبول، إذا كان في الفطر مصلحة الدولة!!! 5 - الرسول محمد أقرب العرب على الشرك!!! هذه هي أهم المسائل التي أوردها في خطابه ذاك، وسنتعرض لها بالرد عليه فيما يخص هذه المسائل التي طرق أبوابها لأن كلامه فيها خطير جدا، ونذكر في خلال ذلك بعض الأحكام التي صدرت من العلماء على من تجرأ على النيل من منزلة القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم، كما نذكر بعض الفتاوى التي أفتى بها علماء الإسلام - يوم كانوا أقوياء لا تأخذهم في قول الحق لومة لائم - في أمثاله من العابثين بالكتب السماوية، والشرائع الإلهية. إن كل من يفكر قليلا ويعرف حقيقة هذا الرجل الذي يتلون كما تتلون الحرباء لا يستغرب ما صدر منه، كما يدرك أنه وجد الميدان أمامه خاليا ممن يناقضه ويناقشه، فأخذ يسيء لا إلى التونسيين فحسب بل إلى كل المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها. وإلا فما حمله على أن يقول ما قال، ويزيد على قوله ذاك رغبته - أوامره - إلى المسلمين والمربين التونسيين أن ينقلوا آراءه تلك!!! إلى الناشئة المتعلمة، فما حمله على هذا إلا إرادة الشر بالناشئة المسلمة، لينشئها - المجاهد الأكبر - نشأة إلحادية مذبذبة كافرة منكرة لما كان عليه آباؤها.

إن علماء الإسلام في كل قطر من الأقطار الإسلامية مطالبون بالوقوف في وجه هذا الرجل الذي اعتدى على حرمات الإسلام، فيردون عليه الرد المقنع على هذه المفتريات التي صدرت منه، لأنه اعتدى اعتداء علنيا وصريحا على دينهم وقرآنهم ورسولهم، ولا يسكت عنه إلا من رضي بقوله، أولئك هم العلماء العدول الذين حملوا أمانة العلم والدين، وهم المعنيون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) قال القرطبي في مقدمة تفسيره: أخرجه أبو عمر وغيره، ولا يعد موقفهم منه وردهم عليه تدخلا في شؤون غيرهم - كما هي النزعة السياسية - بل ذلك واجب ديني عليهم، وإلا يفعلوا يكونوا من الهالكين، ذلك أنهم لم يتدخلوا في شؤونه الخاصة به أو في تسيير حكومة شعبه كما شاء وأراد، ولا في تبذير أموال الشعب التونسي في إنشاء قصوره وقبوره وغير ذلك، فلا يعد هذا من ذلك القبيل، لأنه خرج عن حدوده الخاصة به ومد يده - القصيرة - إلى ما في قلوب المسلمين، لينتزع منها ما عقدته العقيدة الإسلامية من ضروب الإيمان، فهو قد اعتدى، والمعتدي لا حرمة له، خصوصا واعتداؤه كان على الدين الذي هو حق للمسلمين كلهم وخاص بهم، وما دفعه إلى ذلك إلا الحمق والخرق والجهل. ذكر المفسرون أنه كان في مكة امرأة حمقاء خرقاء لديها صوف كثير، ولم تكن تحسن صنعته، فكانت تعمل الشيء ثم يستولى عليها حمقها وخرقها فتنقضه وتحله وتعيده صوفا كما كان، فضرب الله بها المثل في القرآن حتى لا يفعل المسلمون مثل فعلها في نقض العهود وغيرها، قال الله جل من قائل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} سورة النحل الآية 92 - كما ضربت العرب بخرقها وحمقها المثل فقالوا: (خرقاء وجدت صوفا) فهذا المثل العربي ينطبق تمام الانطباق على الرئيس التونسي لما بينهما من التشابه، كلاهما وجد شيئا لم يحسن استعماله. إن نيته سيئة نحو الإسلام والمسلين، فهو يحاول أن يشككهم في دينهم وقرآنهم ورسولهم، لأنه لا يؤمن هو بذلك، بل لا يؤمن إلا بما قاله أمثاله، مثل باستور ولنين اللذين استشهد بآرائهما: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} لهذا قدم رأيهما على القرآن وأحكام القرآن، وهذا من

علامات الزيغ كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورة الصف، الآية 5، وقال: {أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} آل عمران، الآية 7، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} سورة الحج، الآيتان 3 - 4 لذلك فسأبين فساد ما ذهب إليه بورقيبة من تلك الأقوال الشنيعة والمنكرة في حق القرآن والرسول محمد عليه الصلاة والسلام. 1 - قال أن في القرآن تناقضا، لم يعد يقبله العقل، بين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}. و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. نقول له أنه لا تناقض بين ما في الآيتين لمن تدبرهما بعقل صاف من رواسب الكفر والزندقة والنفاق، ذلك أن الآية الأولى "51 من سورة التوبة" صرحت بأن كل ما يقع في هذا العالم من خير وشر، وموت وحياة، وغير هذا هو بتقدير الله وإرادته، فالجميع تحت مشيئته وإرادته، لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالي: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}، فالله يظهر لرسوله موقف المنافقين من الدين والدعوة إليه، ومن الرسول الكريم، وبهذا فضحهم الله وكشف أمرهم ونياتهم لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم إذا ناله الخير من فتح ونصر وغيرهما اغتموا وحزنوا لذلك الخير وساءهم ما أحرز عليه الرسول والمؤمنون، وإن ناله غير ذلك مما لا يليق فرحوا به وقالوا قد أخذنا الحيطة لأنفسنا، فلم يصبنا ما أصاب المسلمين، وذلك باحترازنا عن متابعته والسير معه، فأرشده ربه بأن يقول لهم: كل ما أصابنا من فتح ونصر على الأعداء، أو غيره مما تكرهه نفوسنا فهو من الله، مقدر علينا منه، فهو مولانا ولا مولى لنا غيره، ونحن متوكلون عليه، والقضاء والقدر هو ما يسمى بالتخطيط في نظام الحكومات الآن. أما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} - الآية 11 من سورة الرعد - فهي كتلك صريحة في أن مصدر كل شيء يقع فهو من الله، إنما المسببات لا تأتي إلا بعد حصول الأسباب، فهل يحصد الناس الزرع - مثلا - بدون حرث وبذر وسقي؟ فتلك أسباب لحصاد الزرع، والواقع لا ينكره إلا معاند، فللإنسان سعي في تغيير حاله من ضيق إلى سعة، ومن عسر إلى يسر، وبالعكس، والكل مراد لله تعالى، كما قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} معناه ما تشاؤونه أنتم فهو ما شاءه الله وأراده، ولو لم يشأه لم يقع أبدا، وكم من واحد أراد شيئا وتعاطى له الأسباب القوية لإدراكه، وسعى له سعيا حثيثا ظن أنه يوصله إلى ما شاءه وأراده، ومع ذلك لم ينجح في مسعاه ولم ينل مراده وخاب، لماذا يا ترى؟ ذلك لأن الله تعالى لم يشأ وجوده، ولو شاءه لكان، فأين التناقض ها هنا بين معاني هاتين الآيتين؟ إنما عدم الفهم والغرور هو الذي يدفع بالمرء إلى أن يخرج عن حدود المعقول، فهو كما قال المتنبي: وكم من عائب قولا صحيحا … وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الآذان منه … على قدر القرائح والعلوم وكما قال المعري: والنجم تستصغر الأبصار صورته … والذنب للطرف لا للنجم في الصغر إن الاستخفاف والاستهزاء بالقرآن العظيم إلى هذا الحد لا يصدر ممن له ذوق سليم وعقل صحيح. ذكر المفسر الكبير القرطبي في مقدمة تفسيره عند الكلام على تعظيم القرآن واحترامه - حديثا في ذلك قال: روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القرآن أفضل من كل شيء، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن قد استخف بحق الله تعالى الخ ...) اهـ. منها ص 26. وأذكر هنا أحد أحكام أو فتاوى العلماء الموفقين - الكثيرة - على من لم يوقر الله واستخف بحرمته وحقه على عباده، فقد حكموا على هذا المستخف بالردة والقتل، والقصة التي أذكرها هنا تبين ذلك، ذكرها الخشني صاحب

كتاب "قضاة قرطبة وعلماء افريقية"، كما ذكرها القاضي عياض في كتابه "المدارك" - وأذكرها هنا للموعظة والاعتبار - وقد وقعت هذه الواقعة في أيام حكم الأمير (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي في قرطبة، وفي ولاية القاضي (محمد بن زياد اللخمي) وملخصها: أنه كان ابن أخي "عجب" حظية الأمير - الحكم - والد عبد الرحمن - المذكور - نطق بكلمة متعبثا بها في يوم غيث خفيف، فقال: (بَدَأَ الْخَرَّازُ يَرُشُّ جُلُودَهُ) فبلغ هذا القول إلى الأمير (عبد الرحمن) فأمر بحبسه، فطلبت عمة هذا العابث "عجب" من الأمير إطلاقه من سجنه، لأنها كانت "حظية" أبيه الحكم، وبهذا كانت مدلة عليه، لمكانها من أبيه، فقال لها: (نكشف أهل العلم عما يجب في لفظه، ثم يكون الفصل في أمره) فأمر - الأمير - محمد بن السليم الحاجب أن يحضر القاضي (محمد بن زياد اللخمي) وفقهاء البلد، فجمعهم في مجلس النشمة، وحضر من الفقهاء عبد الملك ابن حبيب، وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب، وأبو زيد بن إبراهيم، وأبان بن عيسى بن دينار، فشاورهم الحاجب في أمره، وأخبرهم بما كان من لفظه، فتوقف عن الإشارة بسفك دمه: القاضي محمد بن زياد، وأبو زيد، وعبد الأعلى، وأبان، وأشار بقتله: عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل، فأمرهم الحاجب محمد بن السليم أن ينصوا فتياهم على وجهها في صك ليرفعها إلى الأمير، ففعلوا، فلما تصفح الأمير قولهم استحسن قول عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل ورأى ما رأيا من قتله، وأمر حسان الفتى فخرج إليهم، فقال لمحمد بن السليم: قد فهم الأمير ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق، وهو يقول للقاضي: اذهب فقد عزلناك، ثم بين الأمير عيوب الفقهاء الآخرين، ثم قال حسان الفتى - فتى الأمير - لصاحب المدينة: الأمير يأمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين: عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل، فتأمر لهما بأربعين غلاما - من الغلمان - ينفذون لهما في هذا الفاسق ما رأياه. فخرج عبد الملك وهو يقول: (سب رب عبدناه إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء) ثم أخرج المحبوس فوقفا حتى رفع في خشبه، وهو يقول لعبد الملك: (أبا مروان اتق الله في دمي فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وعبد الملك يقول له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} حتى صلب وانصرفا اهـ. من كتاب "قضاة قرطبة" ص 90 - 91، و"تاريخ قضاة الأندلس"

ص 55 - 56، و "المدارك" للقاضي عياض ج 3 ص 39 - 40 بألفاظ متقاربة. هذا هو حكم العلماء الصادقين في حق من استخف بالله، وكذلك من استخف بكلامه، وعبد الملك بن حبيب من كبار علماء المالكية، تفقه بالأندلس وسمع بها، ثم رحل فلقي أصحاب مالك، وقيل أنه أدرك مالكا في آخر حياته، روى عن عبد الملك بن الماجشون، ومطرف، وأصبغ بن الفرج وغيرهم، أما أصبغ بن خليل فهو من علماء قرطبة سمع من يحيى ابن يحيى، وأصبغ بن الفرج، وسحنون بن سيد وغيرهم. وقد رأينا كيف كان الأمير إلى جانب العلماء في الحفاظ على حق الله، فكيف الحال إذا كان الأمير هو المعتدي، (من يعلق الجرس على القط): إذا كان رب الدار للطبل ضاربا … فلا تلم الصبيان في حالة الرقص 2 - أما قول فخامة الرئيس: (الرسول محمد كان إنسانا بسيطا الخ)، فاسمعوا وعوا - يا مسلمون - ما قاله هذا الرجل في رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، ذي العقل الراجح الذي لو وزنت عقول جميع الناس لكان عقله أرجحها، فقد اختاره الله لحمل الرسالة الخالدة، والله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الآية 124 من سورة الأنعام، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} الآية 57 من سورة الأحزاب. فهو هنا قد احتقر الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، ووسمه بالبساطة، فهو لم يقصد البساطة في المعيشة، أو في اللباس، أو غير ذلك من المظاهر الخارجية للرسول، إنما أراد بساطة عقله الكبير، ليعلو هو عليه، لأنه اتهمه بنقل الخرافات العربية إلى القرآن، تلك الخرافات التي كان تلقاها من العرب البسطاء أمثاله، والتي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل عصا موسى وأصحاب الكهف. فهو يرمي الرسول - من غير حياء - محمدا - الصادق المصدوق - بالتزوير والكذب عن الناس - نعوذ بالله من ذلك - حيث أدخل في القرآن ما ليس منه، ومتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسافر كثيرا عبر الصحراء، كما قال؟ فهو لا يسافر إلا من أجل نشر العقيدة الإسلامية،

فالرجل جاهل بالسيرة النبوية، وتلك الكلمات التي قالها تلقفها من بعض الأفواه المتزلفة عنده، أما سفر الرسول قبل الرسالة فقليل. إن القرآن كلام الله - لا كلام محمد ولا كلام غيره - الله أنزله عليه، والله تولى حفظه وصونه من التحريف والتزييف والزيادة والنقصان، وهذا قول الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية 9 من سورة الحجر، وقوله أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} من سورة فصلت، فهذه الآيات الثلاث جاءت بعد قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} الآية 40. إن الكتب السماوية السابقة النزول على القرآن، قد أوكل الله حفظها إلى علماء الأمة في ذلك الزمان، كالتوراة والإنجيل، فلم يحفظوها من التحريف والزيادة والنقصان، ولهذا عاتبهم ربهم بقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية 44 من سورة المائدة، فالله جعل التوراة والإنجيل عندهم وديعة وطلب منم حفظهما والعمل بهما، فضيعوهما وحرفوهما، أما القرآن فقد تولى الله جل جلاله حفظه من التحريف والتزييف، ومن كل تغيير. وكم حاول أعداء القرآن وخصوم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدلوا منه حرفا واحدا فلم يفلحوا، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل والخيبة، مثل ذلك اليهودي الذي عرض عليه الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد الإسلام لما رأى فيه من الاستعداد للإيمان فتمسك بدينه وأبى وامتنع أولا، ثم أسلم بعد الامتحان. روى البيهقي بسنده إلى يحيى بن أكثم قال: دخل يهودي على المأمون - في يوم يجتمع فيه للنظر - والمأمون إذ ذاك أمير - فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، فدعاه المأمون إلى الإسلام فأبى، ثم بعد سنة جاء مسلما فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فسأله المأمون ما سبب إسلامه؟ فقال: انصرفت من عندك فامتحنت هذه الأديان، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها "البيعة" - معبد اليهود والنصارى -

فاشتريت مني، وعمدت إلي الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها فوجدوا فيها الزيادة والنقصان فرموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي) والقصة معروفة ومذكورة في عدة كتب منها تفسير القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وفي كتاب "تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه" للسيد محمد طاهر الكردي، قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان ابن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال مصداق هذا في كتاب الله عز وجل، قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع اهـ. تفسير القرطبي ج 10 ص 6. ومثل ذلك - أيضا - قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} قال قتادة: يعلمون أنه كلام الرحمن، فالقرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الباقية والخالدة، أيده الله بها، فهي كسائر معجزات الرسل، وتزيد عليها بالبقاء والخلود حتى قيام الساعة. أبعد هذا لحفظ من الله للقرآن، والامتحان من الناس له يدعي دعي بما لم يكن، ولن يكون أبدا؟؟؟؟ إن من مزايا القرآن على غيره من الكتب السماوية أنه محفوظ في صدور المسلمين، ولم تكن التوراة ولا الإنجيل محفوظة في صدور اليهود والنصارى إلى اليوم، ولا يقرؤونها إلا نظرا، قال الله تعالى مصداقا لذلك: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} من سورة العنكبوت. أما عصا موسى التي لم يقبل عقله "النير" وجودها وحسبها - خرافة - فهي معجزة أيد الله بها رسوله موسى عليه السلام كباقي المعجزات التي أيد الله بها رسله الكرام، وكانت من نوع ما كان متعارفا في ذلك الزمن

من السحر والشعوذة، فجاء موسى بالعصا فأبطلت سحرهم وشعوذتهم حتى قيل في ذلك: إذا جاء موسى وألقى العصا … فقد بطل السحر والساحر ومن السذاجة في التفكير بل والبلاهة أن تقاس معجزات الرسل - أو تنكر وتكفر - بآراء البشر واكتشافاتهم - كيفما كانوا - كما ادعى هذا المدعي، إذ قدم رأي "باستور" العالم الفرنسي على قول الله خالق باستور الذي ركب فيه العقل والإدراك، ورحم الله محيي الدين بن عربي في قوله الحكيم: ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن … يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل فباستور لم يرد معارضة الخالق في خلقه، لهذا فلا يجوز الاستهزاء والسخرية بالرسل ولا بالمعجزات التي خصهم الله بها تصديقا لهم، وهي الأمور الخارقة للعادة، ومنكرها كافر بالله، ومن أجل هذه العقيدة في المسلمين أنكر الخليفة العباسي هارون الرشيد على أبي نواس الشاعر المعروف قوله: فإن يك باقي سحر فرعون فيكم … فإن عصا موسى بكف خصيب وقال له: يا ابن اللختاء أنت المستخف بعصا موسى نبي الله حين تقول: فإن بك الخ وأمر بإخراجه من معسكره من ليلته. أما قصة أصحاب الكهف التي أنكرها فخامة الرئيس الجليل فإن فيها العبرة البالغة لذوي العقول النيرة، فإن من فر وهرب بدينه وعقيدته إلى الله حماه الله، خصوصا وقوم زمانهم أنكروا البعث والحياة بعد الموت، فأراهم الله - وهو القادر على كل شيء - قدرته الباهرة فيهم. في إحيائهم وإماتتهم، فالاعتراض على هذا قدح في قدرة الله تعالى على كل شيء، وبالأحرى في ذلك نسبة العجز إلى الله تعالى، وهذا وحده كاف في الحكم على قائله بالردة والكفر وما يتبع ذلك من أحكام. 3 - قال المجاهد الأكبر: إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون: "محمد صلى الله عليه وسلم" الخ ... وهذا تأليه لمحمد ... ويعلم الله أني حين قرأت هذه الجملة قلت في نفسي: إن المجاهد

الأكبر - أصابه الخرف - فلم يعد يصلح لأي شيء وما بقي إلا أن يحجر عليه، فلم تبق فيه صلاحية للتصرف في شؤونه الخاصة، فضلا عن شؤون شعب كامل مسلم، إن بقي في مكانه فهو سائر به إلى الكفر والنفاق، كما سار به إلى الإفلاس الخلقي وما في كلمة الإفلاس من معان، إذ هو قابض على الشعب التونسي بيد من حديد بواسطة من باعوا ضمائرهم وعقولهم لرجل، هذه آثار تصرفاته، فلا يترك الواحد منهم يناقشه في أبسط الأمور، فضلا عن عظائمها، فدل بهذا على جهله بسيرة أفضل الخلق أخلاقا، وفيه نزل القرآن تزكية لأخلاقه الحميدة في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهنا يظهر الفرق بين من يزكيه الخالق العالم بالسرائر وبين من يزكيه الشيطان. فهو قد فهم من إكثار المسلمين من الصلاة عليه امتثالا لأمر مولاهم أنهم ألهوه وجعلوه إلها يعبدونه - والإله هو المعبود - فمن أين جاءه هذا الفهم الجديد؟ وما الصلاة عليه إلا من باب التعظيم والاحترام والأدب لرسول أحبه الله واختاره للرسالة العامة الدائمة إلى قيام الساعة، وأيضا فإن الخالق قد صلى عليه تعظيما لقدره العالي عنده، وأمر ملائكته بالصلاة عليه، كما أمر أمته المسلمة بالصلاة عليه، وذلك هو قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الآية 56 منها. فصلاة الله تعالى ثناء عليه عند الملائكة ليعظموه، وصلاة الملائكة دعاء له، وقيل غير هذا. وهل صلاة الله وملائكته على عباده المؤمنين عبادة لهم؟ وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الآية 43 من سورة الأحزاب هذا لا يقوله عاقل، فصلاة الله على عباده المؤمنين ذكره لهم، فالواجب عليهم أن يذكروه ولا ينسوه، كما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} فذكر العبد لله عبادة، ودليل على أن العبد قلبه معلق بربه، وذكر الله لعباده تكريم لهم وتذكير حتى لا ينسوه، كما قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الآية 19 من سورة الحشر. فهل قال محمد صلى الله عليه وسلم لأمته اعبدوني؟ بل قال لأتباعه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد قولوا عبد الله ورسوله)) أخرجه البخاري عن عمر،

هذا قوله لأتباعه، لا كما قلت أنت للتونسيين: عظموني - كما في الأمسيات الشعرية - ومن لم يفعل صار مغضوبا عليه، مثل: المجاهد الأكبر، - ولا جهاد ولا مجاهد - وسيد الأسياد؟ وغير هذا من الألقاب الفارغة الخالية من المعاني والتي مل الناس سماعها، ومن لم يقل ويفعل ناله من التوبيخ ما ينال المجرمين، فالرجل مصاب بداء (الغيرة) التي تكون في النساء - عادة - فقد تتبعنا حياته ومواقفه من الأحرار والزعماء الصادقين فوجدناه سار في هذا الطريق - الغيرة - إلى أبعد غاية، فهو يعمل - دائما - على إبعادهم من كل ميدان، حتى لا يزاحموه، ولم ننس مواقفه ... مع الزعيم الإسلامي الخالد المرحوم الشيخ عبد العزيز الثعالبي - رحمه الله - حين رجوعه من منفاه في صيف 1937 وكيف عمل على إبعاده من الميدان السياسي بأساليب المراوغة والتزوير، والشيخ الثعالبي ذلكم الرجل العظيم هو الذي أنشأ حزب الدستور التونسي سنة 1922، ثم نفته فرنسا فطاف جميع بلدان الشرق الإسلامي، ولم يرفع عنه حجر العودة إلى مسقط رأسه إلا في سنة 1937م، فلما عاد وجد بورقيبة عمل على تقسيم الحزب إلى قسمين، القديم والجديد، فاستقل بالجديد وتزعم حركته واستعملها لنفسه، وعند الله تجتمع الخصوم، وهل نسينا كذلك الزعيم المحبوب في أمته (صالح بن يوسف) وكيف تم القضاء عليه للاستراحة منه. فإذا كان هذا هو مرضه - وهو الواقع - علمنا سبب غيرته من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لأن المسلمين لا يذكرونه إلا بالتعظيم والاحترام، وعنوان ذلك الصلاة والسلام عليه، وإذا لم تكن الغيرة هي الدافعة له على ما قال فما له ولمقام الرسالة المحمدية الذي لا مطمع فيه لبشر كائنا من كان، فهو هبة من الله لا من العباد؟ نعود بالله من هذا التعدي والجهل بحقيقة الرسالة والرسل. ومن افتتانه بحب شخصه أن فرض على الأمة التونسية أن تحتفل بذكرى ميلاده كل سنة يوم 3 أوت، وتعطل فيه الأعمال الإدارية والتعليم وغير ذلك، (ذكرى ميلاد فخامة الرئيس) كما هو مطبوع في اليوميات، يوم واحد كذكرى مولد صاحب الرسالة العامة صلى الله عليه وسلم، كما رأيناه فرض على أمته أن لا تنسى (الاجحار) التي أدخل إليها أيام النضال

التونسي السياسي، فقد صير تلك (الجحران) مزارات تزار في الأعياد الوطنية والمناسبات كما تزار مقامات وأضرحة الأولياء ومقامات العظماء، وحجزها لتبقى - كديار الآثار - دليلا على أن الزعيم الجليل قد أدخله المستعمر الغاشم إلى هذه (الزنزانة) أو إلى هذا البرج، أو إلى هذا السجن أو إلى هذا المعتقل الخ ... هذا له فقط لا يشاركه فيه أحد، كأن أفراد الشعب التونسي لم يسجن أي واحد منهم، أو لم ينف غيره، فهو وحده المناضل والمحرر للأمة التونسية من ربقة الاستعمار الفرنسي، وهل سمعتم أن فردا واحدا حرر أمة من عدوها؟ وهل سمعتم بأن أحد القادة أو الزعماء هيأ في حياته تمثاله الذي سينصب له على قاعدته إذا مات؟ وذهب إلى إيطاليا ووقف على صنعه بنفسه؟ وهل سمعتم بمن أوجد قصرا ليكون له قبرا إذا مات وأنفق عليه من المال ما لا يعلمه إلا علام الغيوب؟ وكان محلى بكل أنواع الزينة والتحلية، ولعله يموت في البحر فيبتلعه الحوت، أو لعل التونسيين إذا مات أحرقوه بالنار ليتخلصوا من هيكله، والمعروف عند جميع الأمم أن مثل هذا يترك للأمة، فهي التي تكرم قادتها بعد موتهم بما تراه لائقا بأعمالهم التي قدموها لها في حياتهم النضالية. هذا قليل من كثير مما يقوم به فخامة المجاهد الأكبر أطال الله حياته الغالية. ولا زلنا نذكر موقفه من خطباء الجمعة، فقد مر عليه وقت يخطب فيه كل يوم خميس خطبة سياسية ويفرض على خطباء المساجد أن يأخذوا موضوع خطبهم من خطبته، أي عاقل يفعل هذا ويضيق على الخطباء ميدانهم الفسيح؟ ويحجر على عقولهم هذا التحجير؟ 4 - وتكلم عن فطر الرسول صلى الله عليه وسلم وفطر أصحابه في نهار رمضان لما قربوا من مكة في غزوة الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في عبادة عظيمة وشاقة وهي - الجهاد - في سبيل الله، ولهذا أمر أصحابه بالفطر ليتقووا به على الصمود أمام الأعداء المشركين، فالرئيس الجليل قد اكتشف شيئا كان المشائخ لا يذكرونه في أحاديثهم وهو موجود في السيرة، فهو أراد من هذا أن يبرر انتهاكه لحرمة شهر رمضان، حيث أفطر أمام جمع من الصحافيين الأجانب عن الإسلام، وأوجب على التونسيين أن يفطروا - مثله - وأمر المقاهي أن تفتح أبوابها وإلا عوقب أصحابها، كل ذلك ليتقووا بالفطر على كثرة الإنتاج!!! كي يلتحق ركبه - المتخلف -

بركب الأغنياء كأمريكا - مثلا - فإذا صنع الحذاء حذاء أو بلغة، أو بنى البناء بيتا أو غيرهما فإن ميزانية الدولة ترتفع ودخلها يزداد إلى أن يصل إلى مراتب الدول العظمى، التي تعد ميزانيتها آلاف الآلاف من الدولارات، على حساب الإسلام والصيام. وهنا قال الزعيم في الرسول: (وبذلك قدم مصلحة الدولة على العبادات ..) وكما قلنا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عبادة الجهاد الشاقة، فهو لم يخرج من عبادة الصيام إلا للدخول في عبادة الجهاد لا إلى الزيادة في صندوق الدولة - هكذا - كما فهم هذا المجتهد العصري الحاذق. وقال: إنه لما كان قاصدا مكة لفتحها أدركهم شهر رمضان الخ والواقع أنه خرج من المدينة في شهر رمضان لا أنه أدركه شهر رمضان في الطريق، إذ كان خروجه منها لعشر مضين منه، فكيف يقول إنه أدركهم رمضان في الطريق. إن تكلم المرء بشيء لا يعرفه قد يجعله يفضح نفسه بنفسه، فقد تكلم المجاهد الأكبر بكلام أراد أن يعير به الرسول صلى الله عليه وسلم وينسبه إلى الجهل بالحياة ووسائل الانتصار على العدو، وكأنه يرمي بهذا إلى أن يفضل فخامته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يصلح إلا للدين ونشره، فقد ذكر نزوله بالجيش في مكان غير لائق بالنزول فيه في غزوة بدر، ولما أشار عليه أصحابه بالارتحال عنه - كما هو معلوم - قال لهم الرسول حسب قول بورقيبة -: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) والصواب غير ما ذكر، فهو لم يقل لهم هذه الكلمة، إنما أخذ برأي من أشار عليه في موضع النزول، وانتقل منه إلى مكان آخر لائق بالنصر والغلبة والحرب، فبورقيبة يريد أن يظهر الرسول بمظهر الجاهل بأساليب الحرب والنصر، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم دل بهذا على أنه على جانب عظيم من لين الجانب والأخلاق العالية والنزول عند رأي أصحابه إذا بانت له فيه المصلحة، فهو كما قال الله فيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وهل يقبل بورقيبة من أي كان أن يرد عليه أمرا رآه لائقا؟ فالمعروف عنه أنه لا يقبل من أي كان أن يعارضه ولو فيما فيه مصلحة الأمة.

إن المشير عليه بعدم صلاحية مكان النزول بذلك الموضع إنما هو (الحباب ابن المنذر فقط) ولما علم الرسول صدقه استحسن رأيه وقال له: ((لقد أشرت بالرأي)) ولم يتمسك برأيه صلى الله عليه وسلم. أما قول بورقيبة: أن الرسول قال لهم: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) فهذه العبارة لم تخرج من فم الرسول، إنما الجهل بالسيرة النبوية يرمي بصاحبه من شاهق، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم) كما جاء في حديث عائشة عند مسلم، لكن في مناسبة أخرى غير غزوة بدر كما قال الزعيم، فهي في تأبير النخيل - تلقيحه - فإنه حين قدم إلى المدينة - مهاجرا - وجد أهلها يلقحون النخل، فقال لهم: ((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا))، وفي رواية ((لصلح))، فتركوا التلقيح فلم يصلح التمر وخرج - شيصا - فلما رآه غير صالح سألهم عن سببه، فقالوا له: كنا نلقحه وقلت لنا ما قلت فتركنا التلقيح فخرج كما ترى، عند ذلك أقرهم على عملهم الأول وقال لهم: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))، هذا هو الصواب يا بورقيبة. إذا لم تستطع شيئا فدعه … وجاوزه إلى ما تستطيع قال لهم ذلك ليبرهن لهم على بشريته، كما قال لأصحابه مرة أخرى: ((إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)) أخرجه مسلم عن رافع بن خديج لنفس الغرض. 5 - ثم اتهم بورقيبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنه أقر أصحابه على الشرك - عياذا بالله - فقال: (وحتى يوحد الرسول كلمة العرب ولا ينفرهم من دعوته اضطر إلى قبول كثير من طقوسهم التي لا تختلف في الحقيقة كثيرا عن عبادة الأصنام، مثل التمسح بالحجر الأسود ورجم الشيطان). هل يقول مثل هذا القول رجل له مسكة من عقل يتدبر بها، فيما يقول، فيتهم الرسول الذي جاء بالتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى يتهمه بأنه أقر أصحابه على الشرك، - كما يفعل رجال السياسة في سبيل مصلحتهم - من أجل تقبيل الحجر الأسود - لا التمسح به - أو رجم الشيطان - كما قال - أن الرسول ربى أصحابه على التوحيد لا الشرك، ألم يبلغك قول عمر بن

الخطاب رضي الله عنه عندما جاء لتقبيل الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) أخرجه البخاري ومسلم، وهذا من بورقيبة احتقار واستخفاف - كعادته - بالحجر الأسود، فظنه حجرا كسائر الأحجار التي كانت تعظم وتعبد في الجاهلية من دون الله. إن الحجر الاسود وردت في فضله أحاديث متعددة الطرق والأسانيد يقوي بعضها بعضا وتثبت أنه من أحجار الجنة - لمن يؤمن بها - منها الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وابن عدي، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو: (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك)، والحكمة في رؤيته أو تقبيله أو لمسه أنه يذكر بالجنة ويشوق إليها وإلى نعيمها وما فيها، لا أن ذلك عبادة له، كما هو أيضا من بقايا البيت الذي بناه إبراهيم إمام الموحدين، إذ لم يبق منه غيره، وأنبه إلى شيء فطري في الإنسان لا يستطيع نكرانه أحد، ذلك أنه لو فرضنا أن شخصا تغيب عن بلده مدة طويلة فاشتاق إلى رؤية أهله وأبناء عشيرته، فإنه إذا رآى - والحال هذه - إنسانا قدم من بلده فإن نفسه تحن إلى رؤية هذا الوافد من بلده كي يسأله عن أبناء العشيرة والأقارب، هذا مثل فقط، ذلك أن الحجر الأسود ورؤيته تذكر بالجنة وما فيها، فهو حقيقة يبعث في الإنسان حب الجنة، وهي لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، فيكون ما ذكر سببا في الإكثار من الطاعات لله - لا للشيطان - وهو المطلوب من المسلم، والله يفضل بعض الأشياء على بعض، كتفضيل المساجد على غيرها من بقاع الأرض. أما رجم الشيطان الذي ذكره الرئيس الجليل بورقيبة وحسبه من الشرك الذي أقر الرسول عليه أمته، ففهمه هذا دليل على خلو قلبه من الإيمان بما جاء به الرسول صل الله عليه وصلم، وهو شرع الله، - فلا شيطان الآن هناك حتى يرجم - والشيطان معنا في كل وقت ليفتننا، إن الرجم بحصيات الواحدة منها مثل الفولة - وهو المعروف برمي الجمار - يذكر المسلم بأن لا ينسى الشيطان ووساوسه ونزغاته، فإنه عدوه الذي حذره منه خالقه، فعليه أن يحتاط لنفسه منه، وأن يأخذ حذره منه ما استطاع. هذه المعاني - وغيرها كثير - هي التي تمر بخاطر الحاج في تلك الأمكنة

المطهرة من الشرك والخرافات، فكيف فهم بورقيبة أنها تدخل الشرك؟ ولله في خلقه شؤون. هذا أهم ما جاء في خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ذلك الخطاب الذي لم يتورع فيه عن جرح شعور المسلمين نحو الله والرسول والقرآن، وأظهر لهم ما تكنه نفسه للدين الإسلامي وللقرآن وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أساء للمسلمين إساءة كبرى لا تصدر إلا من خصوم الإسلام والقرآن والرسول، والمرء إنما يؤاخذ على أقواله وأفعاله فهي المعتبرة، لذلك فإن الإسلام الذي أساء إلى أتباعه إنما يحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وإني أرى - بناء على ما صدر منه - أن أقواله تلك التي صدرت منه باختياره وإرادته، أنه خارج من الإسلام - إن كان مسلما - مرتد عن الشريعة الإسلامية، فيحكم عليه بالردة والكفر بالله، وبالقرآن، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام، لا شك في هذا بناء على ما صرح به وما أفتى به العلماء في حق من تجرأ على مقام الربوبية أو الرسالة أو الدين أو القرآن، كما علمنا من فتوى علماء قرطبة وغيرهم، وقد ذكر العلماء في فتاويهم: أن من شتم محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل، من ذلك ما ذكره الشيخ عيسى بن مسعود الزواوي في ترجمته للإمام مالك ابن أنس رضي الله عنه المطبوعة مع ترجمة السيوطي للإمام مالك أيضا في أول المدونة ص 36 ما نصه: (قال - يريد مالكا - رضي الله عنه: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب) هذا حكم الإمام مالك رضي الله عنه، فبورقيبة لم يشتم الرسول فقط، بل رماه بالكذب والتزوير والزيادة في القرآن مما يسمع من العرب من الخرافات، فهل يشك الآن شاك في كفره ونفاقه ومروقه من الإسلام؟؟ وجاء في فتاوى الشيخ عليش - المالكي - المصري قوله في سؤال وجه إليه: ما قولكم في من سب عزرائيل عليه السلام، ولم يعلم وجوب حرمته، فهل يعذر بجهله أم لا؟ فأجاب بقوله: (لا يعذر بجهله، ويقتل ولو تاب، قال في المجموع: وإن عاب ملكا أو نبيا ولو في بدنه قتل ولو جاء تائبا) ج 2 ص 337. إن العلماء هم حراس هذا الدين، فمنذ تركوا حراسته وتخلوا عن مراكزهم في الحراسة - إلا من قل منهم - تسرب إلى حماه الطاهر كل

دعي زنديق، فمد لسانه ويده إلى جوهر حياة المسلم، وهو الإسلام ونال منه، ذلك أن العلماء مسؤولون - أمام الله - عن ضياع ما بقي من الإسلام، وعندما تركوا الذب عنه تطاولت إلى حماه الثعالب وأكثرت - من الصياح - وهم ساكتون - وخصوم الإسلام غير ساكتين - لاهون بغيره، وقد شرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال في العاملين المخلصين منهم، وهم العدول المدافعون عن الدين الحق في قوله: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله الخ ...). إن الأمة الإسلامية تنتظر أقوال علمائها المخلصين في هذا الرجل الذي تجرأ هذه الجرأة الغريبة وتطاول إلى ما يعظمه المسلمون، فقال فيه ما قال. فأقواله وأفعاله وحدها كافية في الحكم عليه بالمروق من الإسلام، فإذا مات فإنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين - إذ له قبره الخاص به - لأنه نافق والنبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عن الصلاة على المنافقين في قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} سورة التوبة الآية 84. على العلماء أن يقولوا له: (إن بني عمك فيهم رماح). والملاحظ هنا أن رؤساء الدول الإسلامية في هذا الوقت أولوا عناية خاصة بأشخاصهم فسنوا لها ولحمايتها القوانين الزاجرة والأحكام القاسية، أعدوها لكل من يتكلم في شخص رئيس الدولة أو الحكومة، من غير أن يذكروا في قوانينهم ما ينال رئيس الدولة أو الحكومة إذا خرج هو عن الطريق المستقيم، كل ذلك ليرفعوا مكانتهم عن أن تنالهم الأحكام أو العقوبات التي تنال غيرهم، فقدسوا أنفسهم تقديسا كبيرا لم يعطوا منه شيئا للرسل والخالق والأديان، إن حكم الله - لا حكم البشر - ينال كل من اعتدى وخرج عن طريق الحق والصواب، وحق الله على العلماء مقدم على حق رؤساءهم عليهم. فهو واحد من رجلين، إما أن يكون أصابه "الخرف" وهو فساد العقل من كبر السن، فأصيب في عقله، والعقل أفضل ما في الإنسان، وهنا لم يعد صالحا لإدارة دفة الحكومة، فالواجب على شعبه إبعاده عنها، وأما أن يكون سليم العقل كامل الإدراك، وهنا يتحمل ما قال فتلقى عليه تبعات أقواله، فالحكم هنا للدين الذي يمثله العلماء. أما أن يبقى هكذا

الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية.

يعبث بالمقدسات الإسلامية فلا، وإذا بقي يتصرف كما كان، فإن الواجب على الحكومات الإسلامية التي تغار على الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم - الواجب - عليها - دينا - أن تقطع كل صلة لها مع حكومة يرأسها هذا الرجل، لتريه غضبها على ما ارتكبه من جرائم ضد الدين والمقدسات الإسلامية، وأن أية دولة لم تفعل هذا تعد راضية بأقواله وأفعاله مقرة له عليها، والتوفيق من الله العلي الكبير. وإني أختم هذه الكلمة بحديث نبوي شريف أخرجه الترمذي، والحاكم، والبيهقي، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتا وطغا ونسي المبتدا والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، بئس العبد عبد رغب يذله)). الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية. إن التربية الإسلامية تجعل الملك، أو الرئيس، أو الأمير، أو الوزير كأحد أفراد الأمة بجميع طبقاتها، فلا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فكل من قصد خليفة من الخلفاء إلا وأذن له في الدخول عليه - إلا في حالات خاصة - وكل من طلب حاجة قضيت له في حدود الإمكان، ما لم تكن باطلا - والباطل قد يجاب صاحبه - وما أحوج حكام المسلمين - في وقتنا هذا - إلى التحلي بصفات حكام المسلمين السابقين، مع الاختلاف في الزمن والبيئة. ونذكر هنا - على سبيل المثال - قصة واحد من عامة المسلمين، أو قصة رجل - شعبي - مع أول أمير مسلم مطلق التصرف من أمراء المسلمين، وفيها عبرة بالغة لمن يريد أن يعتبر: ذكرت كتب السير والتراجم أن (أبا مسلم الخولاني) دخل في يوم من الأيام على أمير المؤمنين (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنهما، ومعاوية

في مجلسه وبين أفراد حاشيته ودولته، فحياه بتحية الإسلام، قائلا له: (السلام عليك أيها الأجير) ... فرد عليه أفراد الحاشية وقالوا له قل: الأمير، فعاد أبو مسلم الخولاني إلى التحية الأولى وقال: السلام عليك أيها الأجير، فرد عليه القوم ثانية كالأولى، وأبو مسلم يعيد نفس القول الأول، ويحيي الأمير - معاوية - بعنوان الأجير، ومعاوية يسمع ما يدور بين الزائر والحاشية - ومعاوية هو معاوية في دهائه ونظره البعيد - ثم تكلم معاوية إلى حاشيته وأفراد دولته - من غير أن يغضب - وحسم الخلاف بين أبي مسلم والحاشية، فقال لهم: (دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول). هذه هي تربية الإسلام للمسلمين الذي سوى بينهم، فلا ميزة بين الأمير والمأمور، ولا بين الحاكم والمحكوم، ولا بين الغني والفقير، وكان إلى جانبهم دولتا الفرس والروم، ومع هذا لم يتأثروا بما كان يجري في تلك القصور من حفلات ومجالس، ولربما بلغ بهم الخضوع إلى أن يرفعوا مقام (كسرى، أو قيصر) إلى مقام التقديس، وقد أراد بعض الصحابة أن يحترم الرسول صلى الله عليه وسلم فحياه بانحنائه - كالأعاجم - وقال له: إن الروم يحيون قياصرتهم هكذا - لأنه رآهم في الشام - فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن العودة إلى مثلها، وقال له: ((إن ذلك لا يكون إلا لله رب العالمين))، بل وطلب منه بعض الصحابة أن يأذن له في السجود له فنهاه، لأن ذلك لله. قلنا إن ذلك من تربية الإسلام للراعي والرعية، وهي تربية استقلال - لا تربية استغلال - وحرية وكرامة نفسية، ذلكم هو الإسلام العظيم الذي كون أمة عظيمة، والذي صار - الآن - ينعت من طرف الأغبياء الجهلة المأجورين العملاء للأجنب - بالرجعي - أين نجد هذه المساواة الآن.؟؟؟ ترى ماذا يحدث لو دخل رجل من عامة الناس في زمننا هذا - بعد أن يؤذن له بالدخول من الأبواب الحديدية المحروسة بالجنود - على وزير، أو رئيس، أو ملك وقال له: السلام عليك أيها الأجير؟ ماذا يكون موقف ذلك الوزير أو الرئيس أو الملك من هذا الرجل الشعبي .. ؟؟ من غير جدال إن كل واحد من أولئك يغضب من هذه التحية غير اللائقة - في العرف الدولي - بالمقام الرفيع العالي، أو بصاحب الفخامة، أو الجلالة، الخ، ونحن في

الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني؟

القرن العشرين، قرن النور والعلم والحرية والديموقراطية، بل كثيرا ما شاهدنا - بواسطة التلفزة - زوار بعض الملوك والرؤساء إذا دخلوا عليهم انحنوا لهم انحناء الراكعين الخاضعين العابدين لله رب العالمين، والركوع - شرعا - لا يكون إلا لله الخالق الواحد القهار، فمتى يكون حكام المسلمين سالمين من تحيات الأعاجم التي تحمل معها عصر الجبروت والقهر وعبادة المخلوق للمخلوق، ومتى يكونون متواضعين، وبتربية الإسلام عاملين؟؟ متى يكونون في مستوى أمتهم أمة الحرية النفسية والكرامة الذاتية؟ تاركين عناوين وألقاب الجبابرة والفراعنة الطغاة التي ذهبت مع زمانها وزمانهم إلى غير عودة، ولا ننسى كذلك قول - بلال - الحبشي رضي الله عنه لعمر بن الخطاب لما قال للناس: من رآى منكم في اعوجاجا فليقومني، فقام له بلال - وهو غير عربي - وأجابه قائلا - بعد أن سل سيفه - والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ... فلم يغضب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من جرأة هذا الحبشي - الذي رباه الإسلام على الحرية - على مقام أمير المؤمنين العربي ويهدده بالسيف إذا رآى انحرافه عن الطريق السوي واعوجاجه عن سبيل الرشاد، فما كان من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلا أن حمد الله على وجود من يقوم اعوجاج عمر بسيفه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لان الأمة إذا كانت تخاف أن تقول للملك أو للرئيس: إنك أخطأت الصواب أو فعلت كذا وكذا وهذا ليس من خصائصك الخ إذا كانت تهاب أن تقول كلمة الحق فقد مات فيها الإيمان بالله والخوف منه وحده والشعور بالكرامة الإنسانية، وهذا ما نشاهده في مسلمي هذه الأعصر الأخيرة مع حكامهم الذين تجبروا معهم تجبر الفراعنة في زمانهم، وأذلوهم إذلالا قاهرا شنيعا، فعلى الجميع بالرجوع - من غير أن نتهم بالرجعية - إلى أصل ديننا الحنيف، ففيه التربية الكاملة والكافية للجميع. الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني؟ ولا بد من كلمة نقولها هنا عن هذا الرجل الصالح والمسلم الكامل أبي مسلم الخولاني، فإن حياته عجيبة وإيمانه قوي، ودينه متين يصلح للقدوة، وقد لحقه ما لحقه من الفتن والبلايا فصبر لها حتى مرت، فدل ذلك على قوة إيمانه، وعزة نفسه الكبيرة، وصبره العديم المثال في أمثاله.

أبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن (ثوب) بضم الثاء وفتح الواو المخففة. وقيل غير هذا، وهو من قبيلة "خولان" المشهورة في بلاد اليمن. هو الرجل الناسك العابد، وهو معدود في كبار التابعين، أسلم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته، ولما جاء مهاجرا إلى المدينة وجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فهو لم يره ولم يجتمع به، كما هو الشرط في الصحبة، لهذا فهو غير صاحب، جاء إلى المدينة المنورة في خلافة (أبي بكر) الصديق رضي الله عنه، فهو يمني من اليمن، ووقع له مع النبي الكذاب (الأسود العنسي) الذي ادعى النبوة في اليمن ما دل على قوة إيمانه وصدقه في ذلك الإيمان. ذلك أن "الأسود العنسي" المذكور لما تنبأ في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي مسلم ليحضر إليه، فلما جاءه قال له: أتشهد أني رسول الله، فقال له أبو مسلم: ما أسمع، فقال له الأسود العنسي: أتشهد أن محمدا رسول الله في قال: نعم، فأعاد عليه الأسود النسي قوله الأول، وأعاد عليه أبو مسلم قوله الأول كذلك، ووقع هذا بينهما مرات، فكل منهما تمسك بقوله، ولما لم يؤمن أبو مسلم الخولاني بالنبي الكذاب الأسود العنسي وآمن بالرسول الصادق محمد صلى الله عليه وسلم اغتاظ لذلك الأسود العنسي وأمر بنار عظيمة فأججت ثم ألقي فيها أبو مسلم الخولاني، فلم تضره النار بشيء، وخرج منها بعد خمودها فلم تحرق حتى ثيابه، عند هذا قيل للأسود العنسي: انفه عنك وأخرجه من بلدك وإلا أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرحيل والخروج من بلده، فخرج أبو مسلم الخولاني من اليمن قاصدا الهجرة إلى المدينة المنورة، فأتاها، ولما وصل إليها وجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد قبض، واستخلف أبو بكر رضي الله عنه، فأناخ راحلته عند باب المسجد النبوي الشريف، ثم أتى المسجد وقام يصلي إلى سارية، فبصر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وكان حاضرا في المسجد - فقام إليه عمر وهو لا يعرفه، غير أنه سمع بما وقع له من المحن مع النبي الكذاب الاسود العنسي، فقال له عمر: ممن الرجل؟ فقال أبو مسلم: من أهل اليمن، قال عمر، ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذلك عبد الله بن ثوب، قال عمر: أنشدك الله أأنت هو؟ قال: اللهم نعم، فارتمى عليه عمر وقبله

بين عينيه وبكى، ثم ذهب به إلى أبي بكر وكان جالسا في إحدى نواحي المسجد وأجلسه بينهما وعرفه به ثم قال: - عمر - الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم (¬1). هذه هي تربية الإسلام القويمة، وقد رأيناها كيف أعطت للإنسان كرامته وأحلته المحل الذي يستحقه في هذه الحياة، لا ألوهية - عبادة - ولا ربوبية - خلق وتكوين - إلا لله الواحد القهار، والبشر كلهم سواء، حاكمهم واحد منهم، بيد أنه أعظمهم مسؤولية، وأثقلهم حملا بل أحمالا، وكم نتمنى لحكام المسلمين أن يتأسوا بأسلافهم العظماء، وأن يترفعوا عن الغرور وتقليد الأعاجم، فيتأسون بهم في أخلاقهم الإسلامية العالية، وفي شعورهم بمسؤولياتهم الثقيلة، حتى لا يغلقوا أبوابهم الحديدية دون ذوي الحاجات والضعفاء منهم، وعند ذلك يأمنون غوائل - الاغتيال - التي يأباها الإسلام وي! هي عنها، ولا يقبلها كيفما كانت الدوافع إلى ذلك، لأنها تؤدي بالمسلمين إلى التفكك والضعف والعداوة وغير ذلك مثلما حدث في الماضي. هذا وقد أخذ الشاعر الكبير: أبو العلاء المعري من تحية أبي مسلم الخولاني لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ذلك المغزى الدقيق في التحية التي لقبه فيها بـ - الأجير - أجير الأمة المحمدية - فنظمها في قطعة شعرية، ولا ينكر هذا المعنى إلا المغرور بنفسه، لأن الواقع أن كل من يعمل عملا في هيئة - ما - أو دولة كذلك، ولو كان هو الملك نفسه أو الرئيس ذاته - مثلا - فهو أجير، لأنه يأخذ أجرة عمله - رئاسة، أو ملك - من خزينة الدولة التي هي للأمة في الحقيقة، فلماذا يأنف إذا لقب بالأجير؟ لعله قد وجد من بين بعض السادة الملوك أو الرؤساء من يتوهم أن الموظفين في أجهزة الدولة التي يتولى رئاستها هم أجراء عنده، وفعلا فقد وجد هذا ¬

_ (¬1) القصة مبسوطة في كتب السير والتراجم مثل - الاستيعاب لابن عبد البر، والإصابة لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير، والحلية لأبى نعيم وغيرها.

النوع في عصرنا الحاضر، فقد بلغني أن أحد الرؤساء تكلم فقال: ألم تروا إلى - فلان - الذي كان يعمل ضدي؟ فها هو الآن يعمل عندي!! والحقيقة التي لا تخفى على أحد تنادي بأن كل من يتولى عملا كيفما كان نوعه في أجهزة الدولة هو أجير عند الأمة، يأخذ أجرة عمله من خزينة الدولة وهي - الخزينة - ملك للأمة، من الملك إلى الشرطي وإلى أبسط عامل، كلهم أجراء يأخذون أجرة عملهم من خزينة الدولة وهي ملك للأمة كما قلنا، فلا ينبغي أن يمن أحد على أحد، ذلك أن الأجير هو الخدام أو العامل الذي يعمل بأجرة، قلت فيما سبق: أن أبا العلاء المعري أخذ من تحية أبي مسلم لمعاوية مغزاها ومعناها فنظمها في قطعة شعرية ذكرها في لزومياته، فصاغها في قطعة شعرية رائعة من شعره المطبوع، تحت عنوان (جور الحكام) فقال، فيما قال: مل المقام فكم أعاشر أمة … أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها … فعدوا مصالحها وهم أجراؤها (¬1) وفي هذه القصيدة ذمه للدنيا، وللفقهاء والعلماء الذين يصطادون الدنيا بالتظاهر بالعلم والدين، كي ينالوا مرغوبهم منها بالتزلف والتملق والتقرب إلى الملوك والرؤساء، وشبهها تشبيها لا يليق إلا بها وبهم فقال: ووجدت دنيانا تشابه طامثا … لا تستقيم لناكح أقراؤها (¬2) هويت ولم تسعف وراح غنيها … تعبا وفاز براحة فقراؤها وتجادلت فقهاؤها من حبها … وتقرأت لتنالها قراؤها (¬3) وإذا زجرت النفس عن شغف بها … فكأن زجر غويها إغراؤها (¬4) ¬

_ (¬1) عدوا مصالحها - تجاوزوها، أجراؤها جمع أجير وهو العامل الخدام. (¬2) الطامث هي المرأة الحائض، والأقراء واحدها قرء وهو الطهر وقيل الحيض. (¬3) تقرأت أراد تظاهرت بالنسك والعبادة، والتقرؤ التنسك. (¬4) المجلد الأول من اللزوميات ص 54 - 55 طبع دار صادر ودار بيروت.

الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة.

الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة. إذا قلنا أن الإسلام دين ونظام حياة فهو كذلك، ذلك أن ما في الإسلام من تشريع وأحكام يتناول حياة المسلم في جميع أطوارها، فقد أتاح للمسلم الفرصة لينظم حياته تنظيما صالحا يعود عليه وعلى من يساكنه بالسعادة والراحة فقد رسم له الإسلام ما يجب له وما يجب عليه في حياته الأولى هذه، إذ أمره بأن يكون موحدا لخالقه بحق، لتتحقق بذلك عبوديته - مطيعا لربه الذي لا رب - بحق - غيره، فتكون عقيدته مبنية أساسا على التوحيد، وكذلك عبادته وطاعته فهي لله وحده؟ كما نظم له حياته مع من يعاشره فوق هذه الأرض، بأحكام تجعل منه المواطن الحر الصالح للحياة مع غيره بسلام وطمأنينة ووئام، وتلك هي عين السعادة والراحة. والدين ضروري للبشر - خلافا للجهلة وأشباههم من الملاحدة - لأنه لازم للإنسان، إذ هو فطرة الله التي فطره عليها، فلزمه ذلك، فالذين يحاولون أن يستغنوا عن الدين هم قوم أرادوا أن يخرجوا عن الفطرة، ويتركوا الحق والواقع، ويتبعوا الباطل والهوى، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه)). (¬1) فالدين الحق السماوي من الله، والإنسان مخلوق لله، وهو أعلم بعبده منه هو بنفسه. فالأديان السماوية إنما جاءت لتربية الإنسان وتأديبه وتهذيبه - والإنسان لا يستغني عن التأديب والتهذيب كيفما كان - فيها المأمور به المشتمل على ما يزكي النفس البشرية، ويرتفع بها من حيوانيتها البهيمية إلى الإنسانية العاقلة، وفيها المنهي عنه الذي لا يتفق مع إنسانيته المكرمة بالعقل والإدراك. فالذين أنكروا الدين، ورأوه غير لازم لحياة الإنسان هم قوم من الجهل والغباوة بمكان ... ولو كانوا من أعلم الناس ببعض طرق الحياة، بل ولو كانوا من مخترعي ما يحتار فيه العقل البشري، فهم أجهل الناس بحقيقة أنفسهم؟ فجهل الإنسان بحقيقة نفسه جعله ينكر وجود خالقه، وما تبع ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني وغيره.

ذلك الاعتراف بالموجود من طاعة وتعظيم وغيرهما، لهذا جاءت الأديان السماوية لتعرف الإنسان المغرور المخدوع بالمظاهر، تعرفه من هو؟ وكيف جاء إلى هذه الحياة؟ وما هي المهمة التي جاء من أجلها؟ فمن تدبر الآيات الكونية، أو تدبر الآيات القرآنية اهتدى إلى حقيقة نفسه وسر وجوده مثل قول الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1) وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالخ ...} (¬2) فالذي أنكر الدين أنكر الديان - وهو الله تعالى - والمنكر للدين منكر لوجود الخالق الصانع لهذا العالم، ذلك أنه لا يمكن وجود مصنوع بدون صانع، وهل يتصور الإنسان العاقل المميز وجود شيء مصنوع من غير صانع أوجده؟ فهل يصدق الإنسان العاقل بوجود دار - مثلا - عالية متقنة البناء، ذات طبقات متعددة رافعة رأسها، من الإتقان على جانب كبير، هذه الدار وهي على ما وصفنا وجدت بدون مهندس وضع تصميمها، وبغير بنائين مهرة بنوها، وصنعة ماهرين صاغوها ذلك الصوغ العجيب، في شكل جذاب خلاب، كما وجدت أبوابها وشبابيكها بلا نجار أو نجارين عارفين مهرة صنعوا أبوابها حسب التصميم والذوق السليم، هل يوجد هذا كله من تلقاء ذاته؟ هذا أمر مستحيل لا يصدقه عقل مدرك ... ؟؟؟؟ أن العاقل المدرك إذا وجهت إليه هذه الأسئلة فإنه يبادر بالجواب الصحيح بالبداهة بأن ذلك لا يكون، - وهو وجود الشيء من غير موجد له - أبدا، لأنه مشاهد محسوس، يدرك بالبداهة، فكيف ينكر ذلك قوم أعماهم الجهل عن رؤية وتأمل صنعة الصانع الحكيم، الخالق العليم وهو رب العالمين؟ من المنكرين لوجود الخالق من قال: إن الطبيعة هي التي أوجدت هذا العالم، بمعنى أنه إذا نزل المطر نبت الزرع - مثلا - وجميع الخضر وغيرهما من تلقاء ذاته ... فيقال لهم: (والمطر من أنزله؟ والطبيعة من أوجدها؟) أهي أوجدت ذاتها؟ وهذا أمر مستحيل عقلا، لا يصدقه إلا الأبله الغبي، ولماذا لا تعطينا هذه الطبيعة القمح - مثلا - بدون حرث الأرض، وبذر الحب، والسقي والرعاية؟ فلو اعتمد الفلاح على الطبيعة من غير عمل وعلاج ¬

_ (¬1) الآية 85 من سورة الإسراء. (¬2) الآية 36 من سورة والذاريات.

لخسر لا محالة، فلا تنت له أرضه سوى الحشيش والشوك على أصل خلقتها. أليس ما في هذا العالم من موجودات بكاف لمن تدبر في الدلالة على وجود الله؟ وأكبر آية في الدلالة على وجود الخالق الحكيم هي الإنسان نفسه. ومعه هذا الكون الكبير، قال الله الخالق العليم لتعليمنا وإرشادنا - حتى لا نضل ولا نزيغ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬1) {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬2) فإذا أقررنا بوجود الله الله الخالق الحكيم وجبت علينا طاعته وعبادته، كما أمرنا ونهانا بما في شرعه القويم. فالإسلام - وهو دين البشرية كلها ولا دين لها سواه - وضع للعباد منهاجا وطريقا لعبادة الله، كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك، وأمر العباد بعبادة الله وطاعته فيما أمر به ونهى عنه، ووعدهم بالثواب والجزاء على طاعته، وأوعدهم بالعقاب على معصيته، سواء أصدق الناس بهذا الوعد والوعيد أم كذبوا؟ ولكنها الحقيقة التي يجب أن تعلم وتذاع، والله سبحانه قال لرسوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (¬3). فدين الإسلام يزكي النفس ويطهرها من الأرجاس والخبائث، كما قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬4) وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬5) والله الرحيم بعباده لم يكلفهم بما فيه العنت والمشقة التي لا تتحملها النفوس البشرية ولا تطيقها، فكل تكاليف الشريعة الإسلامية - من مأمورات ومنهيات - في طوق البشر واستطاعتهم، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة والذاريات. (¬2) الآية 46 من سورة الحج. (¬3) الآية 29 من سورة الكهف. (¬4) الآيتان 9 - 10 من سورة والشمس. (¬5) الآية 18 من سورة فاطر. (¬6) الآية 78 من سورة الحج.

فإذا قيس التشريع الإسلامي بما جاء في غيره من الشرائع يلفى أن ما جاء به الإسلام ميسور وسهل على البشر، وفي حدود الاستطاعة والقدرة. وقد حط عنا ربنا الكثير من التكاليف الشديدة والثقيلة التي كانت فرضت على من سبقنا من الأمم في دياناتها، كاليهود والنصارى، وفي هذا يقول رب العباد للعباد: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) ولكنه الضلال البشري الذي يعمي الأبصار عن رؤية الحق، والبصائر عن الانتفاع بما في هذا العالم من آيات كونية مفصحة ودالة على وجود الصانع القدير. أما أن الإسلام دين فيه نظام الحياة فهو بين وظاهر في تشريع الأحكام، ذلك أن الإسلام نظم للمسلم حياته تنظيما دقيقا ومحكما، وأمره بالعمل بما في هذال النظام الذي وضعه رب العباد، فقد أحاط الإسلام المسلم بما شرعه له بسياج من الفضائل والمحامد بالنظر إلى المهمة التي أنيطت به، والمسؤولية التي ألقيت عليه، فتحملها كأمانة يجب عليه أن يرعاها ويحافظ عليها، فقد رسم له منهاجا بينا واضحا وأمره باتباعه والسير فيه، فأمره بما فيه خيره وسعادته، ونهاه عما فيه شره وشقاؤه، فإذا لم يمتثل لما طلب منه فقد خان العهد، ونقض الوعد، وإذا ساء حاله في حياته، فذلك يعود بالذات إلى سوء سلوكه وبعده عن منهج الإسلام الواجب اتباعه عليه، فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على اتباع ما رسمه الله لعباده - وبلغه هو لهم - فقال: ((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) (¬2) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، تلك الموعظة البليغة التي أثرت فيهم حتى ذرفت منها عيونهم ووجلت منها قلوبهم بعد أن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف. (¬2) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم عن العرباض.

طلبوا منه أن يعهد إليهم بشيء فقال لهم: قد تركتم الخ ... وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)) (¬1). فإذا لم يؤد المسلم فروضه الدينية كلها من صلاة وصيام وغيرهما، وإذا لم يهجر ما حرمه عليه ربه في شرعه، ففيم يظهر إسلامه؟ وإذا لم تطبق حكومات الشعوب الإسلامية قوانين الإسلام فيما يحدث بين المسلمين من خصام ومخالفات ونزاع فكيف ساغ لها أن تجعل مادة في دساتيرها تنص على أن الإسلام دين الدولة؟ في حين أن الإسلام بعيد - ومبعد - تطبيقه في المجتمع الإسلامي، في الأسر والعائلات، وفي الأسواق والمنتديات وفي المحافل ومحاكم القضاة، وما وضعت تلك المادة في الدستور إلا للتلهية أو السخرية بالإسلام، لأن الإسلام كل لا يقبل التجزئة والتقسيم، فإما أن يؤخذ كله أو يترك كله. وما نسمعه أو نقرأه عن وجود مادة في دستور أية دولة من دول الشعوب الإسلامية تنص على أن الإسلام هو دين الدولة من غير عمل بالقوانين الإسلامية. أو بعبارة أوضح من غير تطبيق لما جاء في الشريعة الإسلامية - فكله تضليل وتغطية لا حقيقة عن أعين الشعوب الإسلامية، التي لن ترضى - أبدا - أن تنسلخ أو تسلخ عن دينها الإسلام الذي رضيه لها ربها دينا قيما. فإذا سكتت الشعوب المسلمة عما تراه يخرج بها شيئا فشيئا عن دينها ولم تطالب حكوماتها بتطبيق أحكام الإسلام، وسكتت - أيضا - عما ترى من مخالفات صريحة لنصوص الشريعة الإسلامية - عملا وتطبيقا - فكأنها رضيت بذلك السكوت عما يجري في مجتمعها، فإنها تتحمل - هي الأخرى - قسطها من تبعات ضياع الإسلام في أرضها، وسيأتيها يوم لا تستطيع فيه الكلام، فتكون بسكوتها شريكة لحكوماتها في إهمال أحكام الإسلام، ويكون الجميع مسؤولين عن ضياع الإسلام - لا قدر الله - في أوطانه، وهي ساكتة كأن الأمر لا يعنيها ولا يهمها، إذ من المعروف أن الشعوب الحية - اليقظة - مراقبة دائما وباستمرار لحكوماتها وحارسة لها خوفا من الانحراف والانجراف إلى مهاوي الهلاك والخسران، وإذا جاء ذلك فعلى الجميع. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم عن أبي هريرة.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات المؤكدة على كل مسلم وشعب فيه قابلية لذلك، ولولاهما لما بقي من الدين شيء، فليس في قلب كل مسلم حب واحترام ومكانة للإسلام، وتقدير لشعور غيره. ولو كان هذا لما رأينا الخمور - المنهي عنها شرعا - تباع وتشترى وتصنع وتشرب - علنا وأمام أعين المؤمنين - كما يشرب الماء أو الحليب، ونرى المسلم يحملها إلى بيته كما يصل الحليب أو الزيت أو غيرهما من المباحات شرعا، الجائز استعمالا. إن الإسلام لما بين لنا نظام حياتنا، وحدد لنا الحدود، وأوضح لنا المناهج لكل ذلك، في كل ما له صلة وارتباط بحياتنا - كأفراد وجماعات - لم يهمل أي شيء في هذه الحياة؟ أما ما عساه أن يحدث بحسب الظروف والأحوال فهو موكول إلى أولي الرأي والشأن في جماعة المسلمين، - ومن الخطإ - المتعمد - أن يقول الملاحدة: إن الإسلام لم تكن فيه الأحكام الكافية لكل حادثة ونازلة، والذي جرى به العمل في كل أنحاء العالم أن كل القوانين المدنية معرضة للتبديل والتغيير والنسخ والإبطال. أما الإسلام فأحكامه وقوانينه لا تبدل ولا تغير، فإذا لم يكن نص صريح في نازلة من النوازل فالاجتهاد من العلماء الراسخين في العلم يوجد لها حكما مماثلا لها من الشبيه والمثيل في النصوص الواضحة، وهذا ما جرى للمتقدمين من سلفنا الصالح، فقد قاسوا الفروع على الأصول والأشباه على النظائر من غير أن يحتاجوا إلى جلب أحكام ليست في شريعتهم يتعاملون بمقتضاها. إننا نجد في السنة النبوية - مثلا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الصحابي العالم بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أميرا وحاكما، وكان على جانب كبير من معرفة الشريعة وأحكامها، ويكفي شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فقد ورد في حديث أنس - المرفوع - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)) وجاء فيه: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)) (¬1) ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن جابر وأنس.

الفصل الخامس: من هم المتهوكون ... ؟

عزم معاذ بن جبل على السفر إلى مقر عمله في اليمن دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم - كالممتحن له - قائلا: بم تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: قلت، بما في كتاب الله، فقال له الرسول: فإن لم يكن في كتاب الله في قال: قلت، أقضي بما قضى به رسول الله، قال: فإن لم يكن فيما قضى به رسول الله؟ قال: قلت، أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب صدري بيده وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله)) (¬1). مما ذكرنا من بيانات - وغيرها كثير - نرى أن الإسلام فيه الحل الكافي لجميع مشاكل الحياة المتجددة، وما تتطلبه حياتنا في حدود العفاف والكرامة البشرية والفضيلة الإنسانية، وهو الحق الذي به يرتفع الإنسان عن درجة بقية الحيوانات. فالإسلام إذن دين ونظام حياة صالح لكل زمان ومكان إذا طبقه المسلمون كما هو، فقد نظم لهم حياتهم، وأبان لهم ما يفعلون وما يذرون مما لا ينكره العقل السليم والطبع الإنساني الصافي من الأمراض والوساوس الشيطانية مع ما فيه من أنواع الطاعات والقربات للخالق العليم، كي يعيش المسلم عيشة السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة. وهنا نتساءل: هل في مقدور المسلمين - في العصر الحاضر - أن يحكموا شريعة الإسلام في نظام حياتهم، فلا يخرجون عنها إلى غيرها من النظم التي تخالفها .. ؟؟ الجواب عن هذا السؤال يكون بنعم ... إذا كانوا مسلمين حقا، ويحملون في قلوبهم عقيدة الإسلام، فإنهم يستطيعون أن يطبقوها - روحا ومعنى - بسهولة، أما بدون ذلك فإنهم لا يستطيعون مهما قالوا أنهم مسلمون. الفصل الخامس: من هم المتهوكون ... ؟ ((... فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون)) من حديث نبوي شريف. ما أكثر التهوك والمتهوكين في وقتنا هذا!!! ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد والإصابة.

التهوك هو التحير، كما جاء في كتب اللغة، جاء في "لسان العرب" للتهوك هذه المعاني: (التهوك: السقوط في هوة الردى، والأهوك والأهوج واحد، والأهوك الأحمق، فيه بقية، وقال الجوهري: التهوك مثل التهور، وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وغير روية - والتهوك التحير الخ) والتهوك، أو التهور، أو التحير، معناه عدم الاستقرار على أمر، وهو دليل على قلة الإيمان والجزم بالأمر، والحقيقة أن البعض من المسلمين - إن لم نقل الكثير منهم - قد أصابهم هذا المرض الخطير وهو التهوك والتحير في أمر دينهم، مع أن دينهم - الإسلام - الذي اختاره لهم رب العالمين قد جاءهم بما فيه الكفاية من الإيمان واطمئنان النفوس وراحة البال والضمير. فالمسلم الصادق في إسلامه لا يشك ولا يتحير فيما جاءه من عند الله بواسطة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو شريعة الإسلام الجامعة لما فيه صلاح الإنسان وسعادته في دنياه وفي أخراه؟ فقد أغناه الله بها عن كل شرع أو تشريع سواها. فلا حيرة ولا تحير، ولا اضطراب ولا تهوك في حياة المسلم الموقن بربه وبدينه وبنبيه. فقد تهوك اليهود والنصارى في أمر دينهم، فأدخلوا فيه وأخرجوا منه ما لم يأذن الله به، فحرفوا وبدلوا وغيروا، ومن هنا جاءهم التهوك والتحير، ودعما لهذا المعنى نورد - كتحذير لإخواننا المسلمين - ما حدث لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه - عن حسن نية ورغبة في ازدياد الخير - كما جاءت بذلك الأخبار والآثار: فقد جاء في الأخبار والآثار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له صديق كتابي - يهودي - يزوره بين الحين والآخر، فذهب إليه ذات يوم فوجده يقرأ كتاب التوراة، فأعجبه ما سمعه منه، فطلب إليه استنساخه ففعل وجاء عمر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا مسرورا بهذه الغنيمة، ولما عرض ما جاء به - قرأ شيئا منه - على الرسول صلى الله عليه وسلم، تغير وجهه الشريف، وقال لصاجه عمر ما قال، وأغلظ له في القول، فانزعج عمر لما رآى من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه الصفح والعفو، والروايات في هذه الواقعة متنوعة متعددة الطرق، وإن كانت ترجع إلى شيء واحد وهو إنكار الرسول صلى

الله عليه وسلم على عمر ثقته في اليهود الكذبة وتوراتهم المحرفة، وأرشده إلى أن ما في القرآن وشريعة القرآن يغنيه عن كل ما سواهما. فقد روى الإمام أحمد - رحمه الله - بسنده عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فغضب وقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) معناه - كما قال أبو عبيدة - أمتحيرون في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود؟ وقال الإمام أحمد بسند آخر: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن ثابت: فقلت له - لعمر -: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمجمد رسولا، قال: فسرى عنه الغضب وقال: ((والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)). وورد الخبر هذا من طريق آخر فيه شيء من التفصيل، قال عمر: انطلقت أنا فاستنسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا في يدك يا عمر؟)) قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي: (الصلاة جامعة)، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح ... فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فيهم خطيبا فقال: ((يا أيها الناس إني أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا ...

ولا يغرنكم المتهوكون)) (¬1) قال عمر: فقلت رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبك رسولا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء في رواية أخرى ذكرها ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث" قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟)). والمتأمل في هذه القصة التي تعددت طرق نقلها يدرك ما يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء هذا الغضب الذي غضبه على صاحبه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه - وهو ذلكم المؤمن القوى في إيمانه الغيور على دينه - فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن اليهود والنصارى بدلوا وغيروا كتابيهما ودينيهما، فهو يخشى أن يتأثر المسلمون من بعده - بما فعله أهل الكتاب قبلهم، فيغيرون هم كتابهم القرآن - وبذلك تكون قد سرت إليهم عدوى أهل الكتاب - اليهود والنصارى - كما يرمي إلى أن القرآن كتاب الله حق لا شك فيه، فلا يليق بالمسلم أن يستبدل به كتابا آخر، فهو كتاب جامع مانع، فيه ما يغني المسلمين ويكفيهم عن غيره، سواء في العقائد، أو في العبادات، أو في التشريع والأحكام، كما أن الشريعة الإسلامية صافية نقية من عقائد الزيغ والضلال، بينة الأحكام، طاهرة من كل الأدناس والأرجاس، شريعة العقل الصافي السليم، لأنها تسير معه ولا تصادمه، فالمسلمون في غنى عن أخذ أي شيء من غيرها، بعدما بان لهم التحريف والتزوير في اليهودية والنصرانية، ثم حلف الرسول صلى الله عليه وسلم على أن موسى - الذي أتى بالتوراة - لو كان حيا لا يسعه ولا يكفيه أي شرع ودين إلا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يليق بالمسلم بعد هذا أن يأخذ شيئا من شريعة محرفة ومزورة؟ وهذا المحذور الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم صاحبه عمر - الحريص على كسب الخير - قد وقع فيه المسلمون بعد أعصر الإسلام الأولى الطاهرة النقية، فقد أهملوا القرآن - تشريعا، واتباعا، واعتبارا - وأبدلوا به غيره من تشريع البشر، فسلبوا ما كانوا فيه من عز وسيادة وهيبة، ¬

_ (¬1) البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف لابن حمزة، قال أخرجه أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم.

فلو درسوا القرآن كما درسوا غيره من القوانين الوضعية والأعراف الدولية لما تنكبوا عن صراط الله السوي. ومما يناسب المقام أن نذكر هنا بعض ما جاء في بيان فضل القرآن ومكانته، من التنويه بشأنه ولفت النظر إليه، في ذلك قول الله جل جلاله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات الثلاث من سورة يوسف عليه السلام قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا، فأنزل الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا الخ} (¬1) ثم ملوا ملة أخرى فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}، قال: فأرادوا الحديث فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص، وزاد من طريق آخر، فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). فلنتأمل هذا التوجيه الرباني الذي وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عامة، إذ قال لهم: إن لكم في القرآن - كلام الله - ما تزيلون به مللكم وسآمتكم، قصص واقعة لا خيال فيها، فيها العبرة بما حدث في القرون الخوالي، فمنها تأخذون الدروس الكافية لكم في حياتكم - والحياة كلها دروس - عما حدث للأمم السابقة التي أعرضت عن شرائع الله ونبذت أحكام دينه، وكذبت رسله - وتهوكت - وتحيرت في أمرها، كيف كانت عاقبة أمرها؟؟ حقا لقد كانت عاقبة أمرها خسرا، ذلك أن في القصص الصادقة عبرا جليلة عظيمة، ولهذا قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ ¬

_ (¬1) الآية 23 من سورة الزمر. (¬2) الآية 16 من سورة الحديد.

بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2) هذا هو القرآن الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬3) وهذا هو أثره وتأثيره في النفوس المؤمنة المطمئنة لا تهوك فيها ولا اطراب {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية، ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه. اهـ. فهل يليق بالمسلم الصادق أن يترك القرآن ويلغي أحكامه؟ وهو الذي أحاط به الشرف من كل جانب، وهو حبل الله المتين، ويتشبث بخيوط هي أوهى وأضعف من خيط العنكبوت، كما هي معرضة في كل وقت وحين للتغيير والتبديل. إن المتتبع لما جرى ويجري في بعض الأوطان العربية الإسلامية من صدود وإعراض عن كتاب الله القرآن وإهمال لما فيه من أحكام هي عين الحق والعدل، وترك لشريعة الله وتعويضها بقوانين البشر الكفرة - ليدرك مدى السقوط والضلال، والهوة السحيقة التي وقع فيها بعض "المتهوكين" ممن يسمون أنفسهم مسلمين - وما هم في الحقيقة بالمسلمين - لأن الإسلام لا يكتفي - من المسلم - بالانتساب إليه فقط قولا بلا عمل، فالإسلام رفع شأن العرب الأوائل بالعمل به إلى أن جعلهم قدوة حسنة لمن هم في زمانهم من الشعوب ولمن جاء بعدهم من الأمم. فجاء من بعدهم قوم من ذريتهم أضاعوه ونسوه، فلم يقيموا له وزنا ¬

_ (¬1) الآية 120 من سورة هود. (¬2) الآية 111 من سورة يوسف. (¬3) الآية 42 من سورة فصلت.

ولم يرعوا له حرمة، كما قال رب العالمين: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (¬1) وذلك لخلو قلوبهم من نوره، وغفلتهم من أسرار تشريعه، وصاروا يأنفون من الانتساب إليه بأفعالهم وأقوالهم، وراحوا يبحثون في - قمامات - الشعوب غير المسلمة - التي ليس لها تاريخ مثل تاريخهم - يلقطون من فضلات فتات موائدهم القذرة ما يتوهمون أنه خير لهم وأفضل مما جاءهم به الإسلام العظيم في تشريعه وإصلاحه للأوضاع البشرية، فزاد شقاؤهم، واتسع بلاؤهم، وعمت الفوضى جموعهم كبارهم وصغارهم، عامتهم وخاصتهم رؤساءهم ومرؤوسيهم - إلا من رحم ربك وقليل ما هم - فتهوكوا وتحيروا في أمرهم، وهذا ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم صاجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاروا: لا هم بالمسلمين الصادقين، ولا هم بالكافرين الجاحدين .... ؟؟؟؟ هذا الخلف لا شك أنهم قوم من أبناء جلدتنا، تعلموا في غير معاهد المسلمين، فسولت لهم نفوسهم أنهم بلغوا درجة الكمال العقلي، فهم في غنى عن الدين وأحكامه، فأول شيء بدأوا به هو الانسلاخ من دينهم وتاريخهم، ولم يكتفوا بهذا بل ضموا إليه احتقار كل ما هو من سمات الإسلام والمسلمين، من تكاليف شرعية، وأخلاق دينية، وألفاظ عربية، وعادات وطنية، فانكشف أمرهم عن تهوك وحيرة واضطراب. وأولئك قوم آخرون - منهم - نقلوا إلى أمتهم المسلمة شعارات ومبادئ هدامة، هدمت ما بناه سلفهم الصالح، من فضائل ومكرمات، وهدمت العقائد الإسلامية والأخلاق المرضية، وتلك المبادئ هي من صنع اليهود المجرمين، فاشتركوا معهم في الجريمة والفساد من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فهم متهوكون متحيرون متهورون وقعوا فيما ذهبوا - بأمتهم - إليه بقلة مبالاة. وإلى جانب آخر رأينا بعض البلدان العربية الإسلامية قد منحها الله خالق الكون ومدبره، نعمة عظيمة جليلة، لها وزنها وقيمتها في هذه الحياة. ¬

_ (¬1) الآية 59 من سورة مريم.

كما لها وزنها في الغنى والاستغناء بها عن الغير، تلك هي نعمة "كنوز الغاز والبيترول المدخرة في طبقات الأرض" فلم يرعوا نعمة الله حق رعايتها، واستعانوا بها على معاصي الله، من خمر، وفجور، وفسق، وغير ذلك كظلم العباد والكبير على عباد الله، وصدق الله في قوله {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬1) هذا والعدو اليهودي فوق أنوفهم - مواقع عزهم - ماسك بخناقهم، جالس فوق أكتافهم، ركبهم كما يركب صاحب الحمار حماره، يهمزه بالمهماز، ويسوقه بالعصا إلى حيث يشاء ويريد، فضيق عليهم موارد رزقهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، وهم إلى جانب هذا الذل المحدق بهم لم يستيقظوا من نومهم وغطيطهم، وإذا استيقظوا هرعوا إلى مجالس (الأمم المتحدة) .. - وكأنها اتحدت ضدهم - - وهي من أسباب محنتهم وشقائهم - أسرعوا إليها يبكون ويشتكون - شأن الأطفال الصغار - وهم منهم يسخرون ومن تهوكهم يضحكون، هذا شأنهم كلما مسهم ضر اليهود - أو طاف بهم طائف من ربك وهم نائمون - فلو رجعوا إلى العمل بدينهم الذي رفع من شأن أسلافهم وأنابوا إلى ربهم - وتركوا هذه المزدكية العصرية - لأعانهم على كشف ما مسهم من الضر فيقوى إيمانهم بربهم وبأنفسهم، ومنه يأخذون عدتهم وقوتهم. فالعرب اليوم قد اشتغلوا ببعضهم - أو قل بكراسيهم - وتركوا عدوهم يمرح ويلعب في ديارهم بأرواحهم، وفوق تراب أرضهم، وإذا رفع منهم نذير صوته منذرا بالخطر الداهم المدلهم نفوه أو سجنوه - أو شنقوه - ليستريحوا من صوته، بدعوى أنه أحدث شغبا أو أراد أن يحدث انقلابا ليستولي على السلطة أو على كرسي الحكم. فهم كما قال الفرزدق: يستيقظون إلى نهاق حميرهم … وتنام أعينهم عن الأوتار حقا، لقد نامت أعين العرب عن الأخذ بثأرهم من عدوهم، فلم تكن بهم قوة لذلك، ولم تبق في قلوب أعدائهم هيبة منهم، ولا رعاية لحقهم، ومع هذا البلاء العظيم فهم لا زالوا - العرب - يمرحون ويلعبون، ويسودون بياض ورق الصحف بالتصريح تلو التصريح، وقد نسوا ما كان يقوله المظلوم من أجدادهم العرب الأحرار، فقد كان يقول الواحد منهم ¬

_ (¬1) الآيتان 6 - 7 من سورة العلق.

إذا ظلم، أو قتل له قتيل، أو سيقت إبله بغيا وعدوانا - كما هي عادتهم في القديم - كان يقول: الطيب أو الغسل علي حرام حتى أثأر لنفسي ممن ظلمني، أما أحفادهم فقد مسهم الذل والمسكنة من كل جانب، فسكتوا ولم يثأروا لأنفسهم، بل ما إن توقفت مدافع اليهود وطائراتهم عن دك ونسف دورهم وحصونهم والاستيلاء على أراضيهم حتى هرعوا - مسرعين - إلى دور السينما والرقص والتمثيل، كأنهم كانوا في جولة للتفسح والنزهة ونسوا كل ما نزل بهم في ساعات قليلة. قالوا: إن أمريكا - القوية - في عون اليهود، ونحن ضعفاء لا حول لنا ولا طاقة بحرب أمريكا، فنقول لهم: إن رب أمريكا أقوى منها - إن كنتم مؤمنين به - فلو أطعتموه وعملتم بدينه لصرف عنكم أمريكا وإعانتها لليهود - رحمة بأوليائه وأنصار دينه - ولكنكم عصيتموه ونبذتم دينه فسلط عليكم من قهركم واستباح حماكم - والكفر كله ملة واحدة - فـ (لا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون). وأذكر بهذه المناسبة ما قاله الرجل العالم العامل الشجاع المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس - رحمه الله - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لرئيس وزراء فرنسا: دلاديي، عندما ذهب مع الوفد النيابي الجزائري إلى باريس ليطالب بحقوق الشعب الجزائري، فلما كان الوفد في مكتب الرئيس دلاديي وقدموا له مطالب الشعب الجزائري، رد عليهم مطالبهم ردا غير لائق، وفي الرد شيء من التهديد والوعيد، فقال مخوفا لهم: (إن فرنسا عندها مدافع طويل يصل إلى كل مكان ...) فسكت عنه النواب المثقفون ثقافة فرنسية، وكان فيهم المحامي والطبيب وغيرهما، فلم يستطع أي واحد منهم أن يرد عليه قوله بمثله غير الشيخ عبد الحميد ابن باديس العالم الديني الشجاع - والعلماء الآن ينعتون بالرجعيين من طرف ... - إذ رد عليه تهديده بقوله الدال على قوة إيمانه بربه، فقال له: (إن مدفع ربي أطول من مدفع فرنسا ...) فتأثر رئيس وزراء فرنسا وسكت، مما قاله الشيخ وهكذا كان الأمر، وصدق ما قاله الشيخ المؤمن بربه وحده، فلم تمر سوى مدة يسيرة من الزمن حتى قامت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) فكانت فرنسا أول دولة هزمت وانهزمت فيها، ولم ينفعها مدفعها الطويل، كما قال رئيس وزرائها، غير أنه لم يدرك هزيمة فرنسا القوية بمدفعها

الطويل، فقد مات الشيخ رحمة الله عليه بعد زوال يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359 هـ، الموافق لـ 16 أفريل - نيسان - سنة 1940، وفرنسا ألقت السلاح في جوان - حزيران - 1940، أي بعد شهرين فقط من وفاته. ألقت - فرنسا - السلاح في حرب لم تمكث سوى خمسة أيام فقط، وسقطت من علوها وجبروتها، وانهزمت شر هزيمة في التاريخ، ثم جاء مدفع الجزائر - القصير - في ثورة التحرير، فحرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي صاحب المدفع - الطويل - وأخرجه منها إلى غير عودة إن شاء الله. سقت هذه الواقعة للذكرى - لا غير - والذكرى تنفع المؤمنين. إن طريق خلاص العرب مما وقعوا فيه لا زال واضح المعالم غير موصد ولا مسدود، وهو يكمن في العودة إلى النبع الصافي من كل الأكدار، إلى الشريعة الإسلامية الطاهرة المطهرة، وذلك بنبذ ما جلبوه - بعد ما جربوه - من أوطان لا تدين بدينهم "كالاشتراكية المزدكية الملحدة"، أما وهم ما زالوا في شك من أمرهم وتهوك - تهور - في شأنهم فهيهات منهم النصر على عدوهم هيهات ... وهذه كلمة صريحة - أو نصيحة - في هذا المعنى لأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مرشدة إلى ذلك، فالواجب على كل مسلم أن يدرسها بعناية بالغة ويضعها نصب عينيه - وخاصة قادة العرب وزعماءهم - إن أرادوا النصر على عدوهم والتغلب على خصومهم - والمسلم لا يخلو من أعداء وخصوم - وهي تتلخص في تقوى الله والعمل بشرعه، والخوف من الذنوب والمعاصي أكثر من الخوف من العدو، كما جاء في رسالته إلى قائد جنده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد قال عمر لسعد في تلك الرسالة: (أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم،

ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا - وإن أسأنا - فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كفار المجوس، {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه العون على عدوكم، أسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم) (¬1) إلى آخر ما في هذه الرسالة من حسن التوجيه والنصح والإرشاد، وذلك ما يجب أن يطلع عليه - ويحفظه - كل من اضطلع بأمر من أمور المسلمين، من القادة وغيرهم. فالعرب - المسلمون - ما داموا منحرفين عن منهج شريعتهم البين الواضح لا يطمعون في النصر على اليهود أو الأمريكان أو غيرهم، بل ما ينتظرهم إلا الهزائم تلو الهزائم، فلو أطاعوا ربهم وعملوا بدينهم لصرف عنهم اليهود والأمريكان الذين أمدوهم بكل قوة ممكنة، أما والعرب يذهبون إلى الميدان بغير عقيدة، وكثيرا ما كانوا مزودين بغير ما يرضاه الإسلام ولا رب العالمين، فمن أين يأتيهم النصر وهم في حالة عصيان وشر وفساد ... ؟؟؟ فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن أخذ شيء من اليهود - كما سلف - كالتوراة المحرفة - قد استفاد من هذا الدرس القاسي الذي تلقاه من الرسول، وقد اعتمده في حياته كلها، وفي زمن خلافته بالخصوص، لم يرض للمسلمين أن يعتمدوا على ما عند أهل الكتاب، ولا ننسى قضية الكاتب - الكتابي - الذي اتخذه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لضبط ديوانه، ذلك الذي لم يأذن له عمر بالدخول إلى المسجد ليقرأ عليه ما كتبه وضبطه، وكتب إليه في رسالة لما بلغه عنه ذلك: (مات الكتابي) ولم يزده على هذا، فالمعنى الذي يعطيه هذا اللفظ: هو الاستعداد لتكوين من يقوم بأمورنا من غير ¬

_ (¬1) العقد الفريد لابن عبد ربه ج 1 ص 130 طبع اللجنة.

الفصل السادس: اعتراف جاسوس فرنسي، قال: "إن الإسلام دين المحامد والفضائل".

أن نعتمد على غيرنا، فكأنه قال له: لنفرض أن الكتابي مات فكيف تفعل؟ كل ذلك منه ليجعل المسلمين يعتمدون على أنفسهم، ولا يعتمدون على غيرهم، رضي الله عنه ما أشد حرصه على استقلال المسلمين بأنفسهم، وتحريه للطوارئ قبل وقوعها، كما لم يرض لهم بأخذ شيء من غير القرآن. فقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لأول سورة يوسف عليه السلام: أن عمر بن الخطاب ضرب بعض الناس لأنه استنسخ بعض ما في كتاب اليهود، فاستحضره عمر وأمره بمحو ما كتبه، وقال له: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس، ولئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة، ثم قال له: اجلس، فجلس بين يديه، وقص عليه ما جرى له هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الأمة الإسلامية قد أصابها ما أصاب غيرها من الأمم السابقة، فاتبعت سبيلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به إلا لتجتنب أمته ما وقع لتلك الأمم السابقة، حتى لا تقع في مثل ما وقعت فيه تلك الأمم. فهل في دروس الماضي ما يجعلنا نتعظ ونعتبر، فنعود إلى شريعة الله - الإسلام - وإذا عدنا إليها عاد إلينا عزنا وما سلب منا؟ أو إننا ما زلنا غافلين عن ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (¬1). نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يحفظنا من الزلل، وأن يزيل عنا ما نزل بنا، وأن يهدينا إلى العودة إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. الفصل السادس: اعتراف جاسوس فرنسي، قال: "إن الإسلام دين المحامد والفضائل". ذكرت فيما سبق (في الفصل الخامس من الباب السادس: من مكائد ¬

_ (¬1) الآية 11 من سورة الرعد.

اليهود واغترار المسلمين بالمظاهر)، إن المسلمين اغتروا كثيرا بمن تظاهر لهم بالدخول في الإسلام ليفسد عليهم أمر دينهم، ومنهم اليهودي المسمى (عبد الله بن سبأ) والملقب بـ "ابن السوداء"، ووعدت بأني سآتي بكلمة مما كتبه الجاسوس الفرنسي المسمى (ليون روش) عن الإسلام وما فيه من الفضائل والحلول للمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وما لمسه في المسلمين من إهمال لهذه القوة الباهرة. ووفاء بالوعد أذكر هذه الجمل التي كتبها الجاسوس المذكور، وفي ذلك ما فيه من العبر لمن أراد أن يعتبر منقولة عن كتيب (الحديقة) الذي جمعه الداعي الإسلامي الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله قال: (ندبت الحكومة الفرنسية في القرن الماضي "ليون روش" ليكون جاسوسا على الأمير عبد القادر الجزائري، وأوعزت إليه أن يتظاهر عنده بالإسلام، وأن يتوصل إلى أن يكون موضع ثقته ومحل أمانته، ففعل ذلك ونجح، وأقام في ديار المسلمين ثلاثين عاما، تعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، والإسلام وعلومه، واختبر الأوطان الإسلامية المهمة: الجزائر، وتونس، ومصر، والحجاز، والقسطنطينية، ثم ألف كتابا أسماه (ثلاثون عاما في الإسلام)، قال فيه معترفا بما عمله، وبما فهمه من الإسلام، ومتحدثا عن نفسه: (اعتنقت الإسلام زمنا طويلا لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من قبل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة، فوثق بي الأمير وثوقا تاما، واتخذني سكرتيرا له - فوجدت هذا الدين - الذي يعيبه الكثيرون منا - أفضل دين عرفته، فهو دين إنساني، طبيعي، اقتصادي، أدبي، ولم أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعا فيه، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها "جول سيمون" الشريعة الطبيعية فوجدتها كأنها أخذت من الشريعة الإسلامية أخذا، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين فوجدته قد ملأها شجاعة، وشهامة، ووداعة، وجمالا، وكرما، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة والمعروف، في عالم لا يعرف الشر والكذب، فالمسلم بسيط لا يظن بأحد سوءا، ثم هو لا يستحل محرما في طلب الرزق، ولذلك كان أقل مالا من الإسرائيليين ومن بعض المسيحيين. (ولقد وجدت في الإسلام حل المسألتين اللتين تشغلان العالم طرا، الأولى

في قول القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية، والثانية في فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء - بواسطة ولي الأمر المسلم - حق أخذها غصبا إن امتنع عن دفعها طوعا، وهذا دواء الفوضوية. إن الإسلام دين المحامد والفضائل، لو أنه وجد رجالا يعلمونه الناس حق التعليم، ويفسرونه تمام التفسير، لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وجد بينهم شيوخ يحرفون كلامه، ويمسخون جماله، ويدخلون عليه ما ليس منه، وإني تمكنت من استغواء بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان، والإسكندرية، ومكة، فكتبوا إلى المسلمين في الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسيين، وبأن لا ينزعوا إلى الثورة، وبأن فرنسا خير دولة أخرجت للناس، وكل ذلك لم يكلفني سوى بعض الآنية الذهبية (¬1) انتهى كلام ليون روش. والمتأمل في هذا الاعتراف التلقائي المقرون بالثناء على ما جاءت به الشريعة الإسلامية للمسلمين من قوانين عادلة قادرة على حل مشاكلهم، يدرك أمرين اثنين: أولهما: انخداع المسلمين بالمظاهر الخارجية - وهذا راجع إلى طهارة قلوبهم من سوء الظن - كما قلت هذا سابقا وكما شهد بهذا هذا الجاسوس الفرنسي، من غير بحث عميق وترو في العلاقات الفردية والجماعية والدولية والظروف المحيطة بهم، وكم جر مثل هذا عليهم من ويلات ومصاعب ومتاعب تجرعوا مرارتها أحقابا وأحقابا، وقد أمر الله المسلمين بأخذ الحيطة والحذر من عدوهم حتى لا يخدعوا، قال الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (¬2)، فمن الحزم واليقظة ألا يركن المسلم إلى من لا يعرفه بسهولة، ولكن كثيرا ما يقع مثل هذا للمسلمين، فينخدعون من جهة الإيمان، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على ذلك، فقد قال: ((المؤمن غرم كريم4 والفاجر - وفي رواية والمنافق - خب لئيم)) (¬3) وليس معنى ¬

_ (¬1) الحديقة ج 7 ص 192. (¬2) النساء الآية 102. (¬3) رواه أبو داوود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة.

هذا أن المسلم أبله مغفل، بل هو من الإيمان، فالمؤمن يظن بغيره خيرا - يزن غيره بميزان نفسه المؤمنة الطاهرة من الكذب والنفاق - وذلك بحسب إيمانه، والفاجر أو المنافق يتوقع دائما الشر بالقياس على نفسه الشريرة، وأنشد نفطويه في هذا المعنى: إن الكريم إذا تشاء خدعته … وترى اللئيم مجربا لا يخدع ونقل عن عمر بن الخطاب المشهور بالحزم والحذر قوله: (لست بخب، والخب لا يخدعني) (¬1). وثانيهما فهم بعض الأجانب - عن الإسلام - لمحاسن الإسلام وفضائله، فأثنوا عليه - بعدما درسوه - ووجهوا النقد واللوم للمسلمين الذين لم يعملوا به ليتخلصوا بواسطته من الشرور والموبقات والتأخر، لم يفعلوا هذا وطلبوا علاج ما هم فيه من تأخر وانحطاط في غيره، فلم يزدادوا إلا بعدا عن حل مشاكلهم، وتوغلا في الفوضى والاضطراب، والمسؤولية الكبرى والعظمى يتحملها علماؤهم، وأمراؤهم، ورؤساؤهم، وزعماؤهم، فهم الذين استبدلوا لهم الطيب بالخبيث، والصحة بالمرض، والحق بالباطل، والنصح بالغش، والصدق بالكذب، فهم كما قال موسى لبني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، (¬2) ذلك أن الله تعالى أكرمهم - في أرض التيه - بالمن والسلوى - خير الطعام وأفضله - فسألوه - بواسط، موسى - أن يرفعه عنهم ويعوضه لهم بالثوم والبصل والعدس الخ. فنرى المسلمين لذلك قد طال بلاؤهم، وكثر شقاؤهم - ولا زال يطول ويكثر - وطمع فيهم أضعف أعدائهم، ورؤساؤهم في خصام، وزعماؤهم في نزاع وتطاحن من أجل المناصب والكراسي الوثيرة، يتنازعون عن كراسي السلطة والحكم - وهم مرضى بحب الزعامة، والرئاسة، والسيطرة - فمن محاولة انقلاب فاشلة على حكومة قائمة، إلى انقلاب ناجح - إلى حد ما - ومن محاولة اغتيال أو قتل سياسي - للتوصل إلى السلطة - خائبة إلى أخرى صالحة وناجزة، فاليوم فلان جالس على كرسي الوزارة - مثلا - والشرطة تحرسه، والجنود يحيونه، والباب يقرع عليه بلين ورفق، ¬

_ (¬1) الخب بفتح الخاء وكسرها الخداع، والغر الذي لا ينتبه للشر. (¬2) سورة البقرة الآية 61.

والرغبات تقدم إليه وتطرح للبحث، والتحايا والهدايا تصل من القريب ومن البعيد، فلا يمضي عليه من الوقت إلا قليل على ذلك، إلا والحال معكوسة، فلان الرئيس أو الوزير مكبل في السلاسل، ومودع في سجن مظلم، أو مبعد محروس بشرطة كانت بالأمس القريب تؤدي له التحية بإجلال واحترام، وتتقرب إليه ليرضى عنها، أو مطرود إلى خارج الوطن، أو فر هاربا إلى إحدى الدول، فصار لاجئا - سياسيا - ربما كانت تلك الدولة عدوة له بالأمس القريب، واليوم يلتجئ إليها تاركا وطنه، وإذا بالنقائص والعيوب - عيوب كانت بالأمس محاسن - تنشر وتذاع، والعرض ممزق ملوث بعدما كان مصونا محفوظة كرامته، هو وحده عنده مفتاح الخلاص، وهو الفارس المجلي في هذه الحلبة، وهكذا دواليك، فكأنه جاء إلى هذا المنصب أو ذاك أو جيء به ليقضي فترة من الزمن (تدريبية) كما يفعل بصغار الموظفين، أو كأن حكام المسلمين اليوم مثل الحفظة من الملائكة، لا في الطهر والطاعة لله، بل في التداول والتعاقب على المناصب، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحفظة الكرام الكاتبين: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) (¬1) فلا استقرار على كرسي ولا اطمئنان على مستقبل، ولا بقاء على حال، فهم كما قيل - ما سلم حتى ودع - نعم هذا شأن الدنيا من قديم الزمان، غير أن ما يحدث هي وقتنا هذا فاق - بكثير - ما كان يحدث في سالف الزمان، وذلك راجع لما قلناه من النزاع والخصام وحب السيطرة الموجودة في رؤساء المسلمين وحكامهم، من غير نظر لمصالح الشعوب، فليكن في هذا العبرة البالغة لذوي الأبصار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} والدوام لله وحده، والملك لله الواحد القهار. كل هذا الاضطراب دليل على أن البناء غير راس على قواعد سليمة ومتينة بل على أسس مزيفة وملفقة غير منظور فيها إلى الكفاءات - مع مراعاة الماضي النزيه - بل قد يكون الاختيار للوظائف مراعى فيه الصداقة والصحبة من زمن الصغر - مثلا - واللعب، وقد تكون مبدية على مبادلة المنافع، انفعني أنفعك، كن في عوني أكن في عونك، لهذا ساء الحال - ولعل - والمآل أيضا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة.

الفصل السابع: مأساة اليمن.

فإذا أراد حكام المسلمين الخير والراحة لهم ولشعوبهم وأممهم، فما عليهم إلا أن يقلعوا عما أوصلهم إلى هذا الاضطراب، وأن يعودوا إلى ما كان عليه سلفهم - الصالح - من التمسك بحبل الله الإسلام الذي اختاره لهم ربهم وارتضاه لهم دينا قيما، وأن يعملوا على تطبيقه في أحكامه وتشريعه المبني على الصدق والحق والنزاهة والطهر، فإذا عادوا إليه - عملا وتطبيقا وحماية ودفاعا - عاد إليهم مجدهم الضائع، ومنيتهم الحقة - لا المزيفة - وقوتهم، وهيبة عدوهم منهم، وكان الله معهم في كل وقت وحين، فإذا رجعوا إلى الدين ونبذوا الاشتراكية المزدكية، فقد سلكوا طريق الخلاص مما نزل بهم، والتوفيق من الله. الفصل السابع: مأساة اليمن. في سبيل من هذه الخلافات بل الحروب المشؤومة التي يعاني منها ومن ويلاتها إخوتنا - في الإيمان - في بلد ما - كاليمن مثلا -؟؟؟ إنها في سبيل الاستيلاء على الحكم كما قلت هذا سابقا من قريب، لا أكثر ولا أقل، - ولعلها أيضا في سبيل الاشتراكية - فزعيم يطرد زعيما، وقائد يزيل قائدا ليحل مكانه، والشعب اليمني المسكين يعاني ما يعاني من تخريب وتهريب، وتشتيت لقواه، والأجانب عن الإسلام يضحكون ويسخرون - {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} - ويبيعون للإخوة أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد، واللغة الواحدة آلات الدمار والفتك والتخريب، والشعب اليمني في حاجة إلى المدارس لتعليم أبنائه، والمصانع لسد حاجاته، والمستشفيات وتعبيد الطرق وغير ذلك مما يعود نفعه وفائدته إلى أبناء الشعب اليمني، فإذا تسلح فللأعداء لا إلى الأشقاء، فما كادت أقدام المستعمرين الإنكليز تزايل تراب الوطن حتى بدرت بوادر الخلافات السياسية تلوح من بعيد تنذر بالشر، وظهرت آثارها مكشوفة بعد أن كانت مستورة إلى حين بستار السياسة الملعونة، كل ذلك من أجل الكرسي. فلو حكم المتنازعون الإسلام وقوانينه العادلة، وردوا أمرهم إلى الله ورسوله كما يأمرهم بذلك القرآن لنجوا مما هم فيه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬1)، لو فعلوا ذلك لاستراحوا من كل هذا العناء والتعب، ألم يقل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام، ماله، وعرضه، ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (¬2) فهذه هي الوحدة الحقيقية التي يجب أن تكون في قلب كل مسلم لا غيرها، وحدة تجعل المسلم يحترم حقوق أخيه المسلم، فلا يؤذيه ولا يعاديه، ولا يعين عدوه عليه، وأحرى فلا يقتله أو يعين على قتله، أو يظهر الشماتة بما يصيبه من مكروه، ألم يقل للمسلمين رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه)) (¬3). وبمناسبة الكلام على اليمن وما دار ويدور فيه بين الإخوة الأشقاء في العهد الأخير، تذكرت ما كان وقع بين الملكين العربيين المرحومين: الملك عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز، والإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن، عندما وقع بينهما نزاع على الحدود بعد استيلاء السعوديين على (الأحساء) أدى بهما ذلك النزاع إلى الحرب والقتال، وفعلا اشتعلت بين الإخوة الأشقاء نار حرب عمياء سنة (1352 هـ 1934 م) ابتدأها الإمام يحيى، فهجم على (نجران) واحتلها، كل ذلك من أجل قطعة رملية، ولم تخف عل المهتمين بالشؤون السياسية العربية اليد الأجنبية التي حركت الإمام يحيى إلى الهجوم على الأرض السعودية، وأصبح فيها المسلم - ولا أقول العربي - حاملا السلاح على أخيه المسلم، والأرواح تزهق، وأنات الجرحى تتصاعد من المستشفيات، شاكية إلى خالقها ظلم الملوك، وحب الاستيلاء والمطامع، فضج المسلمون وتألموا مما هو واقع بين الأخوين من أجل شيء تافه لا خير فيه، والتاريخ سجل أن الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - وقف موقف المسلم الشاعر بالمسؤولية، فتأنى ولم يعجل في الرد بالمثل، ولما يئس ¬

_ (¬1) النساء الآية 59. (¬2) أخرجه أبو داوود وابن ماجه، في سننيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه الشيخان وأبو داوود والإمام أحمد وغيرهم عن أبي بكرة.

من كف خصمه عن القتال قام بالعمل المماثل ودحر خصمه وأرجعه إلى حدوده، ولما رآى زعماء المسلين ما سيؤول إليه أمر النزاع من تشعب وخسارة في ذلك الوقت الحرج الدقيق، تقدم أولئك الزعماء - باسم الإسلام والقرآن - رافعين - صوتيهما - داعين الملكين إلى التوقف - حينا - على القتال، تقدم إليهما الإسلام والقرآن راجين منهما أن يقبلا تحكيمهما، ويرضيا بحكمهما حسب النص القرآني في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1) وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2) بهاتين الآيتين من القرآن تقدم زعماء المسلمين وعلماؤهم إلى الملكين العربيين المسلمين طالبين منهما العمل بهما وإلا كانت الخسارة على من أبى، لأنه هو الباغي. تقدم - باسم الإسلام والقرآن إلى المتحاربين - إخوة مسلمون مؤمنون، أمرهم القرآن بالتقدم والوساطة بين المتحاربين، هؤلاء الإخوة المؤمنون كلهم ماتوا - رحمهم الله ونعمهم - إلا واحدا لازال على قيد الحياة (¬3) فيما أذكر - أولئك هم المؤمنون الصادقون السادة: الأمير شكيب أرسلان اللبناني، ومحمد علي علوبة باشا المصري، وهاشم الأتاسي السوري، والحاج أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المؤتمر الإسلامي العام، وهو رئيس هذا الوفد الميمون - والمؤتمر الإسلامي العام في القدس هو الذي أمر بالسعي وكون الوفد - فأبرقوا إلى الملكين العربيين - بعد تأليف الوفد - طالبين منهما التوقف - حينا - عن القتال، وسيتولون الحكم بينهما بما حكم به الإسلام في مثل هذه الحال، ومن عصى هذا الأمر ولم يقبل تحكيم الإسلام وتمادى في الحرب حكم عليه الإسلام بالعدوان وعصيان القرآن، ويكون كل المسلمين عليه. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات الآية 9. (¬2) النساء الآية 59. (¬3) عنيت المفتي الشيخ أمين الحسيني الذي توفي هو الآخر في 14/ 6 / 1394 موافق 4 - 7 - 1974.

فبأي شيء رد الملكان؟ أجابا جواب المؤمن بربه وبدينه وبقرآنه، أجابا بالرضى بحكم القرآن، كما كان الرد مشعرا بالتوقف عن الحرب وانتظار لجنة التحكيم، فبادرت لجنة التحكيم والوساطة بالسفر إلى مكة فصنعاء، واستمعت إلى كل واحد منهما يدلي بحجته، وألف كل واحد منهما وفدا للتفاوض، فاجتمعت الوفود الثلاثة وهي: وفد لجنة الوساطة، وعلى رأسه المفتي الحاج أمين الحسيني، والوفد السعودي وعلى رأسه فؤاد حمزة، والوفد اليمني وعلى رأسه عبد الله الوزير، وبعد الاجتماع والاستماع وفهم الموضوع، أصدرت اللجنة حكمها الفاصل في القضية، فرضي به الطرفان المتنازعان، واطمأن به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وارتاحت له ضمائر المؤمنين في العالم الإسلامي كله، وهللت له واستبشرت به روح محمد صلى الله عليه وسلم هي عليائها - لبقاء هذه الروح الإسلامية في أمته - وهذا كما قال الله العلي القدير: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬1). هذا هو الإسلام الذي يعالج الأمراض النفسانية والمشاكل العويصة الحل إذا وجد المؤمنين به حقا، فهو يسوي الخلافات بين أتباعه بالعدل، وحتى الحروب يوقفها وينهيها ويحل مشاكلها حلا عادلا يرضى به المتشاكسون المتخاصمون: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. فها هو اليمن - اليوم - ينقسم على نفسه - بعد استقلاله - إلى شطرين اثنين، شمالي وجنوبي، وتدخل اليد الأجنبية - دائما - بينهما ويشتد النزاع بين الإخوة أبناء الوطن الواحد، فشطره الشمالي تمسك بعروبته وإسلامه، وشطره الجنوبي انتحل الاشتراكية اليسارية دينا له ومذهبا يسير على مبادئه، وكان يحاول أن يضم إليه الشطر الشمالي، كما هي خطة هذه النحلة، مما أدى إلى الحرب بينهما. والذي يعرفه الجميع أن النزاع الحالي بين قسمين اليمن: الشمالي والجنوبي قد لعبت فيه وفي توسيعه وتشعبه أغراض سياسية توسعية مذهبية، حتى أن بعض الدول العربية تدخلت فيه تدخلا سافرا مكشوفا، لا للصلح بين الإخوة الأشقاء بل لتوسيع شقة الخلاف ولتغليب قسم على قسم، ونصرة ¬

_ (¬1) الآية 25 من سورة الأحزاب.

طائفة على طائفة للمبدئ السياسي المعروف، غير أنها أخذت صفعة قوية على وجهها أيقظتها من غفلتها عما يجب عليها وأرجعتها إلى رشدها خاسرة خاسئة مما هو معلوم. لم تتدخل بينهما بالصلح مثلما فعلت لجنة المؤتمر الإسلامي العام - ونجحت - بل أرادت أن تحمل إلى القسم الشمالي منه مرض أو طاعون (الاشتراكية المزدكية) فخابت، ولازال هذا الطاعون يضعف القسم الجنوبي منه، وهنا رأينا كيف طغت عقيدة الاشتراكية المزدكية على العقيدة الإسلامية، كما رأينا تأثير العقيدة الإسلامية على النفوس المؤمنة والمشاعر الحسنة، وهذا هو سبب نجاح المسعى الأول، وخيبة المسعى الثاني. وإذا تأملنا ودققنا النظر في تلك الحادثة التي وقعت بين الملكين العربيين، والتي لم يمض عليها طويل وقت - أربعون سنة فقط - توصلنا إلى عمل الإسلام في قلوب أتباعه، وعرفنا حقيقة زعماء المسلمين في الماضي والحاضر. ومن جهة أخرى نقول: أين عمل تلك اللجنة الخيرية الصلحية، التي حملت في يدها المصحف ونادت بتحكيمه، فرضي به الخصمان حاكما بينهما، من عمل (جمعية الأمم المتحدة) الحية والميتة ... ؟؟؟ وما فيها من مجالس، كمجلس الأمن وغيره، فإنها لم تستطع حل مشكلة واحدة من المشاكل التي يعاني منها العالم ما يعاني من آلام ومتاعب، كما أنها لم تستطع أن توقف أية حرب، بالرغم من الألقاب الضخمة التي يحملها أعضاؤها، ورغم الأموال التي تبذل - بسخاء - لها، ولهم، ولهن. إن للإسلام قوة وسيطرة على القلوب المؤمنة به لا توجد في غيره، فقوته روحية خالصة لا تضاهيها قوة الحديد والنار، في قوة كامنة في نفوس المؤمنين، بها تغلبوا على خصومهم - ويعمل الآن خصوم الإسلام على إضعاف هذه القوة في المسلمين وهم لا يشعرون - وإن كانوا أكثر منهم قوة، فالمسلمون كما قال - ليون روش - الجاسوس الفرنسي الذي تقدم ما قاله في الإسلام والمسلمين حيث قال: (ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة، وشهامة، ووداعة، وجمالا، وكرما).

قد علمنا فشل جمعية الأمم المتحدة أمام المشاكل العالمية الحالية - التي وجدت بين أعضائها - بالرغم من وجود قوى العالم كلها وكله في إطاراتها، فقد خاب فيها الرجاء، وانقطع منها الأمل، فإذا قررت قرارات فإنها لا تنفذ، وتقضي جل أوقات السنة في البحث والجلسات، وأعضاؤها في شغل آخر عن مشاكل الأمم، والجلسات تتعاقب من غير نتيجة - تسمع جعجعة ولا ترى طحنا - كما جاء في المثل العربي - والواقع أكبر دليل على ذلك، وإلا فأين قرارها رقم 242 في شأن خروج اليهود الإسرائيليين من الأراضي العربية التي احتلوها في حرب جوان - حزيران - 1967، أين هو ذلك القرار المقرر في نفمبر من تلك السنة، واليهود ظالمون معتدون، ما لهم لم يخرجوا من أرض العرب النائمين الغافلين، من هنا ظهر عجز العصبة عن إنصاف المظلوم من ظالمه، فظهر أن وجودها لم ينفع أعضاءها فضلا عن غيرهم ... ؟؟؟ فليتأمل في هذا مرضى النفوس المخدوعون المغرورون بالمظاهر، المتنكرون لدينهم، الجاهلون لتاريخهم، الغافلون عن حضارتهم الزاهرة وآثارها الباقية، فليكن عملهم - إن كانوا يريدون أن يعملوا - على إعادتها، وإحياء الروح الدينية فيهم تلك الروح التي قضى عليها سيرهم في طريق الملاحدة، فإنهم سيشرفون بذلك، كما شرف به آباؤهم الأولون. لو فكر - قليلا - عقلاء أو زعماء العرب في جمعية الأمم المتحدة وفي أعمالها تجاههم، وتجاهلها لهم، وسخريتها منهم، لخرجوا منها وتركوها لمن له فيها مصلحة، أما هم فلا مصلحة لهم فيها إلا خسارة الوقت والمال، ولكن أنى لهم هذا؟ وهم يعرفون أنها آلة مسخرة في يد أمريكا، فما يرضي أمريكا كان وما لا يرضيها فلا محاولة ... وهذه كلمة أخرى أو شهادة عالم غير مسلم عما في الإسلام من قوى الخير والصلاح الكامنة فيه - وكلمات غير المسلمين في الإسلام كثيرة - قالها أحد الأجانب عنه اعترافا بفضائله، وتنبيها للغافلين أو الجاهلين ممن ينتسبون إليه. وهذه الشهادة للعالم الدكتور - انستابو - الإيطالي، جاءت في كتابه "الإسلام وسياسة الحلفاء" الذي نشره سنة 1919 قال، (إن الكرم العلمي

والصدقة الفكرية، صفتان من صفات الإسلام، شأنهما أن تجعلا الأمة العاملة بهذا الدين أهلا لأن تبلغ من الحضارة ذروتها) (¬1). والواقع الحالي يقول لهذا العالم: أن مسلمي هذا العصر أبعدوا الإسلام عنهم - إلا من قل - وأحلوا محله الاشتراكية المزدكية الملحدة، فخسروا بذلك دينهم وعزهم وحضارتهم. ¬

_ (¬1) الجزء الخامس من الحديقة ص 162.

الباب الحادي عشر

الباب الحادي عشر

الفصل الأول: مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر.

الفصل الأول: مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر. إن الكثير من شبابنا في هذا الجيل - وقد لحق بهم شباب الأمس وكهول اليوم وشيوخه - لم يفهم التمدن والمدنية كما يجب أن يفهمهما بحسب مدلولهما الحقيقي ومفهومهما الواقعي، ومن أجل هذا زلت بهم الأقدام، فغير الشباب اتجاهه من طريق سليم مأمون العواقب، إلى سبيل لا أمن فيها ولا نجاة من أخطارها. فهم هذا الشباب ومن عطف عليه، أن التمدن أو التقدم لا يسمى تمدنا أو تقدما إلا بالانسلاخ عن تقاليد الزمن الماضي كلها لا فرق بين صالحها وطالحها، صحيحها وسقيمها، بل وبالبراءة - أيضا - من الأخلاق الطيبة التي ما تخلى عنها آباؤهم حتى خرجوا من دنياهم، تاركين وراءهم ذرية ظنوهم سائرين على نهجهم، محافظين على تراثهم ... وبتلك الأخلاق وسموها حفظ لهم التاريخ أطيب الذكر وعاطره. إن الباحث المدقق، الذي يستخرج النتائج من المقدمات الصحيحة، يرى أن ما ظهر على المسلمين أخيرا من الانحراف عن نهج أسلافهم مرده إلى سوء التربية في الدرجة الأولى، وعدم العناية بالذرية وحياتهم المقبلة، والكثير من هؤلاء المنحرفين كانت تربيتهم في أحضان المستعمر عدو الدين والوطن، ولهذا لمسنا في بعض مسؤولي حكومات الشعوب الإسلامية الزهد وعدم الاكتراث بكل ما يرجع إلى اللغة العربية والدين والأخلاق الإسلامية، وهذه الثلاثة هي مقومات الشعوب وعنوان شخصيتها، فإذا ما طرحت أمامهم إحدى المشاكل التي يتألم منها المسلمون والتي تعود إلى إحدى تلك المقومات للشخصية الوطنية، وطلب منهم العمل على حلها وتصفيتها تثاقلوا

في ذلك حتى يمر الوقت الطويل وتبقى المشكلة بلا حل وبلا علاج، وبذلك تبقى المعضلة معضلة، بل وتزداد خطورتها أحيانا، كل هذا راجع إلى تراخي وتهاون المسؤولين في المهمة الملقاة على كواهلهم، وشاركهم في ذلك أولياؤهم الذين ألقوا بحبل ذريتهم على غاربهم وتركوهم مهملين عندما كانوا في طور التربية. إن الشعوب المسلمة تتألم مما تراه وتلمسه من انحراف الشباب، ذلك الانحراف الذي ستكون عواقبه سيئة كثيرا وسيتحمل المسؤولون - من حكام وآباء - عاقبة ذلك، بما لهم من السلطة والكلمة المسموعة. إن الأمثال لا تعوز الباحث المدقق، فشبابنا فقد القائد الحكيم الذي يقوده إلى ساحل النجاة والسلامة، كي يخرجه من بحر خضم متلاطم الأمواج العاتية، فغرق فيه إذ لم يقو على السباحة وسط هذا البحر العظيم، بحر الإلحاد والزندقة، بحر انتشار الشرور والمفاسد، فهو يراها ماثلة أمام عينيه أينما سار وتوجه، فإذا حاول العلماء المصلحون العمل على إصلاح الحال لم يجدوا من أولئك المسؤولين العون على ذلك، لأن وسائل الإعلام - وهي وسائل اتصال العلماء بجماهير الأمة - لم تكن بأيديهم، ولم يمكنوا منها حتى يؤدوا ما هو واجب عليهم، وإذا ألحوا في الطلب والعمل منعوا، ومنهم من يزج به في السجن - مع المجرمين - ليكون عبرة لأمثاله، وحتى لا يعود هؤلاء إلى ما رغبوا فيه، كل هذا كما قلنا مرده إلى أن الكثير من المسؤولين في الشعوب الإسلامية تربوا في مدرسة المستعمر الحقود على الإسلام، وغذوا بلبن ثقافته وأخلاقه حتى الإلحادية منها، مع الاستهتار بالقيم الإسلامية والأخلاق العربية - فأنى يستقيم الظل والعود أعوج -؟ بل إن التلاميذ قد زادوا على ما تلقوه من أساتذتهم - من البغض للإسلام - في حقل تربيتهم، فالتقدم الذي تنشده وتطلبه الشعوب الإسلامية يجب أن يكون في حدود تقاليدها ودينها وأخلاقها - لتحافظ على ذاتيتها - تقدم تكون فيه العزة والقوة والمهابة في جميع ميادين التقدم، من علوم واختراعات وصناعات إلى كل ما يتطلبه كياننا ووجودنا، ومن الغلط والخطإ أن يظن شبابنا أن التقدم لا يسمى تقدما إلا إذا كان بترك الدين والعمل به، فهذا لا يسمى تقدما وإنما يسمى تقليدا، والتقليد اتباع الأجانب عن الإسلام عن

غير بصيرة وروية: وبلا تفريق وتمييز بين المفيد وغير المفيد، بل وحتى بين الحسن والقبح، فما هو إلا محاكاة للغير لا أكثر ولا أقل. لنأخذ مثلا على ذلك، هذا الخلق الذي فقدناه من أوساط الكثيرين منا، هذا الخلق الإسلامي العظيم، هو خلق (الحياء)، فإن لخلق الحياء سلطانا على النفوس المؤمنة. وله تأثير ظاهر في حياة المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء)) (¬1). والحياء في الإنسان - وخاصة المسلم - ينهاه عن فعل كل مرذول قبيح يلام ويذم فاعله، من ترك واجب أو فعل مخالفة، فإذا انعدم هذا الخلق من المسلم فقد ضاع عنه كل خير وصلاح، فيصير لا يبالي بما يفعل من موبقات، أو ما يترك من واجبات، فلا تحدثه نفسه - ولا يوبخه ضميره - بأنه فعل أمرا شنيعا قبيحا، بل ربما زينته له ورغبته فيه وحببته إليه، فلو كان خلق الحياء متمكنا من النفوس لما رأينا المنكرات تفعل علنا، وبدون وازع ولا رادع ولا رقابة ضمير، وانعدام (الحياء) دليل على انعدام الإيمان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الحياء من الإيمان)) (¬2) وفي قوله أيضا: ((الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) (¬3). فقد انعدم هذا الخلق العظيم من الكثيرين منا، فلو قدر العالم موقفه بين يدي مولاه للحساب على علمه ماذا فعل فيه - كما ورد في الحديث - لما توانى فيما يجب عليه، ولما داهن مع المداهنين، وتملق مع المتملقين، وما قيل في العالم يقال في الغني، ويقال في المسؤول الكبير والصغير والذكر والأنثى على السواء، لأن الكل سيمر من ذلك الباب، ويقف ذلك الموقف، وسيتلقى من الأسئلة - التي قد يعجز عن الأجوبة عنها - ما يتمنى معها أن لو كان حجرا ملقى على الأرض تدوسه الأقدام، ولم يتحمل أية مسؤولية. إن الدافع إلى عدم الاكتراث بالموقف المنتظر - الذي لا شك فيه - هو ما بثه في أوساطنا الملاحدة، من أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ولا بعث ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ. (¬2) رواه مسلم وغيره عن ابن عمر. (¬3) رواه أبو نعيم في الحلية والحاكم وغيرهما.

الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب.

ولا نشور، ولا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، فالملحد لا يؤمن بهذا، والمؤمنون يقولون: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (¬1)، هكذا قال الله جل جلاله، وبهذا يؤمن المؤمنون بربهم، غير أن إلحاد الملحدين قد وصل إلى قلوب بعض المسلمين، وذلك لما يجده الملاحدة وأعوانهم من التسهيل والتشجيع على نشر إلحادهم، فمال بعض ضعفاء الإيمان من المسلمين إلى ما يقوله الملحد الجاحد، فمن يتأمل هذه الآية القرآنية - وغيرها كثير - يهتدي إلى ما تحيله من تنبيه فيه الكثير من الوعيد، قال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (¬2) ومن الله نسأل التوفيق والهداية. الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب. وبهذه المناسبة - إنكار البعث للأجساد، والنشور، والحساب الخ - يليق بنا أن نذكر - ونذكر - ما يتفوه به بعض من سلب منهم الإيمان، أو قل من ليس لهم عقول سليمة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (¬3) ممن يتطاولون إلى مقام الخالق الرحيم، ويبثون هذا في أوساط شباب المسلمين، ويقولون لهم: إنه لا حياة بعد هذه الحياة، ولا بعث للأجساد، ولا نشور ولا حساب ولا جزاء على الأعمال التي وقعت في هذه الحياة، إلى آخره، فأنكروا وجود الله، ووعده ووعيده وشرائعه وكتبه ورسله، كما رأينا ذلك مسطرا ومنشورا في كلمة - الإنسان البعثي العربي الاشتراكي - التي مرت في فصل (محاربة الاشتراكية للإسلام) والتي جاء فيها (الموت، وليس غير الموت، لن يكون هناك نعيم، أو جحيم الخ ...) لأنهم في دعواهم - لا يصدقون بما هو غائب عنهم لا يرونه، هذه هي عقيدة الملاحدة التي بنوا عليها اشتراكيتهم، كما هو معروف من مبادئها، والتي راحوا يبثونها في المجتمعات التي اختارت حكوماتها ¬

_ (¬1) الآيتان 6 - 7 من سورة المعارج. (¬2) الآيتان 13 - 16 من سورة طه. (¬3) الآية كه من سورة الفرقان.

اشتراكيتهم، ولا يقبلون المناقشة فيها ولا يفسحون المجال لمن يناقشهم فيها، وهي باطلة - عقلا - لا يؤمن بها إلا غبي لا تمييز له بين الحقائق والأوهام. وكثيرا ما أنبه إلى هذا وأحذر منه المؤمنين، كي لا ينخدعوا، ولا ينخدع شبابنا - بالخصوص - الموفق بهذه السموم التي تبث في أوساطهم، وأقول لهم لا تصدقوهم بما يقولون، فإنهم مأمورون ومأجورون على ذلك، ولو من الشيطان، بإفساد عقيدة الشباب المسلم، وأزيدهم بيانا بأمثلة واضحة بينة. من ذلك أني أقول لهم: إن الملاحدة أنكروا وجود الخالق، كما أنكروا ما جاء من عنده، من شرائع وكتب سماوية ورسل الخ ... وآمنوا وصدقوا بما يقوله لهم رؤساؤهم، والإنسان قد يكذب ويقول خلاف الحقيقة، إذا كان له في الكذب منفعة، - ولا يكذب إلا ضعيف النفس الحقير - أما الخالق الحكيم فإنه لا منفعة له في أي شيء سواء آمن العباد أم كفروا، إذ هو الخالق لكل شيء وكفى، فأخباره كلها صادقة، لأنها وفق علمه ومشيئته. نعلم أن العلم قدم الإنسان في هذا العصر تقدما ملموسا، وخفف عنه الكثير من أنواع العناء والعذاب، تقدم بالإنسان إلى الدوران حول الأرض في دقائق من الزمن معدودات، والصعود به إلى القمر والنزول على سطحه والجولان في بعض جهاته، وقد شاهد الناس ذلك بواسطة النظر البعيد - التلفزة - وهذا غير محال على الإنسان لما ركب فيه الخالق العليم الحكيم من قابلية واستعداد للتطور والرقي. ومن حادثة الإخبار بنزول الإنسان على سطح القمر نأخذ منها عبرة بليغة تصل بنا إلى الاعتقاد بوجود الله وقدرته على كل شيء، وتسخيره للإنسان كل ما في هذا الكون من موجودات، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1) وقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت الآية 61.

السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (¬1). وكثيرا ما كنت أنبه من يحضر الدروس إلى جهل الإنسان وخطئه، من ذلك أن الأمريكان قالوا وأذاعوا: أنهم نزلوا بمركباتهم على سطح القمر، وأنزلوا روادهم عليه وساروا فيه أشواطا، وقد ضاهد الناس ذلك بواسطة "التلفزة"، والنظارة الذين شاهدوا هذا النزول قد صدقوا به واعتقدوه صحيحا لا يتطرق إليه أدق شك، كل ذلك ممكن - عقلا وواقعا - غير أني ألفت النظر - دائما - إلى هذه الحقيقة وهي: كيف يصدق النظارة المشاهدون الأمريكان في أخبارهم وإخبارهم بنزولهم على سطح القمر، والمشاهدون لم يكونوا - طبعا - مع من في المركبة حتى يصدقوا ذلك بالمشاهدة والمعاينة الحسية؟؟ فالنظارة قد صدقوا بشيء هو غائب عن أعينهم ... يصدقون بهذا ولا يصدقون الله الخالق لكل شيء في إخباره بأنه ستكون حياة بعد هذه الحياة، وسيكون بعث للناس من قبورهم وإعادة الأرواح إلى أجسادها، وسيكون حساب على الأعمال وجزاء عليها، إلى آخر ما جاء في قواعد الإيمان. نصدق الأمريكان أو الروس المخلوقين، ويمكن عقلا أن يكونوا كاذبين لمصلحة اقتضت ذلك، لأن تلك الصور التي شاهدها الناس لعملية النزول والجولان بواسطة التلفزة يمكن أن تكون مصورة - فقط - من غير نزول ومسجلة ومهيأة لتعرض على النظارة، ليظهر الأمريكان للعالم قدرتهم ومبلغ علوم رجالهم، كيف نصدقهم فيما أخبروا به - وهم بشر كفرة بخالقهم - ولا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الله - وهو الصادق المصدوق - ولم ينقل عنه الكذب - وحاشاه - بل قامت الأدلة وتواترت الأخبار بصدقه صلى الله عليه وسلم. إن الخالق أخبر بواسطة رسله في جميع الشرائع السماوية عباده بأنه سيحييهم بعد موتهم - كما خلقهم أول مرة - وسيحاسبهم على أعمالهم، وعليها يكون الجزاء، وبهذا ظهر ضلال الإنسان الجحود المنكر للحقائق الثابتة بالبراهين والأدلة، ويصدق المخلوق، بما قال - وقد يكون في أخباره ¬

_ (¬1) سورة لقمان الآية 20.

كاذبا لغرض أراده لنفسه - ولا يصدق الخالق المنزه عن الكذب والغرض والمنفعة، ولكنها الحقيقة التي لا تقبل الجدل والعناد، وأخيرا هذا هو الإيمان وأثره، والله قال: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (¬1) ولكنه الضلال البشري يذهب بصاحبه إلى نكران الموجودات وجحود الحقائق الثابتة التي لا ينكرها إلا جاهل أو غبي بليد. ومن قبيل ما تقدم أخبار علماء الفلك، فإنهم يخبرون - بناء على ما علموه ودرسوه في هذا العلم - بأن الشمس ستكسف ويذهب ضوؤها في يوم كذا من شهر كذا ساعة كذا مع الدقيقة والثانية الخ، فيؤمن الناس بما قالوه، ويصدقونهم في أخبارهم، ويتنقل المهتمون به من قارة إلى قارة مع المعدات العلمية والآلات الحديثة، لمشاهدة ذلك الحدث العظيم، ومثل كسوف الشمس خسوف القمر فيما تقدم في الأخبار والضبط. نرى هؤلاء الضالين يؤمنون ويصدقون بما أخبر به علماء الفلك - ويمكن أن يخطئوا - ولا يؤمنون بما أخبر به خالق الأفلاك ومدبر سيرها سبحانه وتعالى. نحن - المسلمين - نؤمن بالغيب - وهو ما غاب عن الحس - إذا قامت الأدلة القاطعة على صدق المخبر، وهذا هو سبيل المؤمنين الصادقين. قال الله القادر الحكيم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 122. (¬2) سورة المؤمنون الآية 115.

الباب الثاني عشر

الباب الثاني عشر

الفصل الأول: هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ازدياد عدد الفقراء فيها.

الفصل الأول: هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ازدياد عدد الفقراء فيها. أكثر دعاة - الاشتراكية - من الدعاية لها والترغيب فيها حتى أسرفوا في ذلك، وكادوا يقولون للناس: إن الوطن الذي لا إشتراكية فيه وطن شقي لا سعادة لأهله، وجذبوا إليهم حتى من لا يؤمن بها، ولكنه اندفع معها ومعم ومعهن لأغراض خاصة، فهو قد وجد فيها ما تصبو إليه نفسه، وما لا يجده فيما سواها .... قالو أن الاشتراكية رحمة للضعيف - العامل والفلاح - ولطف به، وقالوا: إنها تنقذ العامل - أو العالم - من سيطرة طبقة معينة عليه، وأنها تجلب الخير والراحة له ولأطفاله وعائلته، وإنها، وإنها، والواقع المحسوس أنها بخلاف ذلك تماما، فقد سيطرت - وتسلطت - بواسطتها طبقة معينة على كل شيء واستغلت ذلك لمصالحها الخاصة بها، قد جلبت النفع المادي وغيره إلى طبقة السادة المشرفين عليها والمسيرين لسفينتها، وتركت العامل والفلاح في شقائهما وتعاستهما، بل ما زادت الفقراء إلا فقرا، ومن خفي عليه هذا فعليه بالبحث والتعمق في داخلها، ولا يكتفي بالظاهر، وسيرى ويسمع ما يقنعه، فبعض الأغنياء اتخذوها ستارا أخفوا وراءه مطمعهم ومطامحهم، فصاروا اشتراكيين ظاهرا أكثر من الاشتراكيين باطنا، كل هذا ليخفوا ما عندهم من نيات مبيتة وهروبا مما يتوقع لهم. إن الإيمان - الشرعي - لا يعتبر إيمانا يعتد به إلا إذا وافق الظاهر العقيدة والباطن، أما إذا لم يوافق الباطن الظاهر فهو النفاق.

حقيقة - لا شك فيها - لم تجعل الاشتراكية الفقراء أغنياء كما يتوهم ذلك بعض البسطاء في التفكير، بل صيرت الأغنياء فقراء، فلم ترفع الفقراء إلى مستوى الأغنياء لتريحهم من ألم الفقر والحاجة، بل نزلت بالأغنياء إلى درك الفقراء - وهذا من أهم مقاصدها وأهدافها - مساواة لأولئك بهؤلاء، وقد صرح بهذا وزير سابق عندنا - هو الآن يعيش خارج تراب الوطن، فارا بعد أن ملأ حقائبه من عرق ودموع العمال والفلاحين - صرح بهذا لبعض العمال والفلاحين والتجار الصغار لما زاروه في مكتبه وقدموا له ملتمسا فيه بعض ما يشكون منه، وقد رجوه لرفع الحيف عنهم، وإنصافهم ممن ظلمهم، فأجابهم على ملتمسهم قائلا: - حسبما قيل لنا - إننا على علم من معالمكم وظالميكم، أولئك الظالمون الذين تركوكم تمشون حفاة بدون أحذية، وإني أعدكم بأننا سننزلهم إليكم - هكذا قال - ونتركهم يمشون حفاة بدون أحذية مثلكم!!!! هذا ما أفصح به هذا الوزير - وزير الشغل في السابق - فقد أبرز مما في ضميره، وكان العمال المساكين يرجون منه أن يرفعهم إلى منازل الأغنياء حتى تصير لهم أحذية، كما للأغنياء أحذية، فإذا بالأمر يظهر على خلاف ما كان يظن، وهو بقاؤهم أو إبقاؤهم في فقرهم كما كانوا، بل سيزاد إليهم فقراء آخرون، وهم من كان عندهم نصيب من المال يتمعشون منه، ويستعملونه في حركة فيها عمال يعملون، ومنها يتمعشون، فمعنى هذا أيضا تجريدهم مما كان عندهم وحشرهم في زمرة الفقراء والعمال الذين هم - دائما - في حاجة إلى طلب العمل للمعيشة، لتبقى الميادين خالية للحذاق الماهرين في تصريف الأمور (حدث ما قلته في سنة 1964) والعمال والفلاحون غافلون ساهون يعيشون بالأماني الحلوة كـ (الكمون) الذي قيل إنه يمنى بالسقي كلما عطش، حتى لا ييبس، كما جاء في المثل: (عش بالمنى يا كمون)، فهناك فئة تعيش عيشة البذخ والترف - وهي إشتراكية طبعا - تبدد الأموال - بلا حساب - وكل أفراد الأمة يرون ذلك بأعينهم، وتتنقل على ما ارتفع ثمنه من أفخم وأضخم ما أحدثته مصانع السيارات - وهي إشتراكية طبعا أيضا - وتنزل منازل ذوي الثراء الواسع، سواء في الداخل أو في الخارج - باسم الاشتراكية - إلى جانب فئة تعيش عيشة الفقر والحرمان، وهي صابرة، عاملة، ناصبة، تسقى من عين آنية، ولكنها لم تفقد أملها في المستقبل وسترى ...

هذه الحقيقة شاهدة في جميع البلدان التي انتحلت (الاشتراكية) مذهبا لها. ومن أهداف الاشتراكية - أيضا - التأميم، وهو انتزاع الشيء - عقار أو مصنع، أو غيرهما - من مالكه الأصلي، وجعله تحت تصرف الحكومة - النائبة عن الأمة - وهو سلاح يلتجأ إليه وقت الحاجة، فقد رأينا بعض الناس لم يكونوا محل رضى عند بعض الدوائر الحكومية - بل وحتى عند لعض الأشخاص - مع هؤلاء يلتجأ إلى استعمال هذا السلاح - التأميم - فينتزع ما يراد انتزاعه، لأسباب توجد في ذلك الوقت، من غير نظر إلى ماضي هذا الشخص المؤمم رزقه، وكم من ضحية ذهب رزقه لمنافع خاصة وأغراض شخصية دنيئة ... ؟؟ بقي لنا أن نسأل بصفتنا مسلمين: هل في تاريخ الدولة الإسلامية أنها انتزعت الأراضي أو غيرها من أيدي أصحابها المالكين لها ملكا شرعيا قانونيا، من غير أن يصدر منهم شيء يعاقبون عليه؟ ذلك ما لم يكن - فيما أعلم - وإن كان - على قلته - فلربما كان عقوبة، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو المشرع بعد الله - مفصح بذلك، روى ابن ماجة في سننه - في باب المزارعة - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كانت لرجال منا فضول أرضين يؤجرونه على الثلث والربع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له فضول أرضين فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه)) الحديث رقم 2451. ومثل رواية جابر رواية أبي هريرة رضي الله عنه في نفس الكتاب والباب، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك, أرضه)) الحديث رقم 2452. فالرسول "وهو المشرع للمسلمين بعد الله" لم ينتزع ما فضل من الأرض عن أصحابها من أصحابها، إنما أمرهم بالتراحم بينهم والعطف على بعضهم بعضا، إذ أمرهم بأن لا يؤاجروها - يكروها - بل يمنحوها منحة لإخوانهم ينتفعون بها مدة ثم تعود لأصحابها وهذا هو العدل الإسلامي، ذلك العدل الذي تحدث عنه التاريخ بإسهاب. وفي قصة عدل - كسرى أنوشروان - التي تقدم الكلام عليها عند الكلام على قضائه على المزدكية وعدله بين رعيته ما يكون موعظة للغافلين، ومثل قصته قصة نقلت عن خليفة عباسي ضايقته في قصره بيت لامرأة عجور، وكم حاولها على بيعها له وبذل لها في مقابلة ذلك المال الكثير

الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة.

فأبت ولم يكرهها على بيعها أو يأخذها منها بالقوة، وقالت له: أردت أن يتحدث الناس بعدلك في الرعية، وذلك خير لك وأولى بك من أن يتحدثوا بجمال قصرك وبهائه وعظمته، وهو موضوع على أساس من الظلم والجور، ولله در حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح العرب بعلو الهمة والشمم في قوله: بيض الوجوه كريمة أحسابهم … شم الأنوف من الطراز الأول هذا هو الرفق بالأمة الذي يتحلى به كبار المسؤولين في الدولة الإسلامية، وهؤلاء الحكام هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)) (¬1) وقال أيضا: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) (¬2) وقال كذلك: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي عما سواه)) (¬3) وقال محببا الرفق لأمته: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)) (¬4). الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة. كل حركة محدثة تبحث - دائما - عن فئة تعتمد عليها وتتقوى بها، وتجعلها النواة الأولى لها، باسمها تتكلم، وعليها تدافع، ومن أجلها كانت ومن أجل حقوقها - الضائعة - تكونت، هذا شيء معروف في الدنيا كلها، يعرفه من له عقل نقي يتتبع به مما يحدث هنا وهنالك، والحركات المحدثة في حاجة إلى السند الذي يساندها ويقويها وينشرها، فإذا لم يكن موجودا هذا السند في الإبان أوجد من بعد لهذا الغرض فعلا، وصبغ بصبغة المظلوم المهان الذي يجب الدفاع عنه، وإعطاؤه ما يطلبه، ويتطلب تكوينه. فكما اعتمدت الاشتراكية الماركسية على العمال والفلاحين، فكذلك ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن عائشة. (¬2) رواه الأئمة: مسلم، وأحمد، وأبو داوود، وابن ماجة، عن عائشة (¬3) رواه مسلم عنها. (¬4) أخرجه عبد ابن حميد والضياء المقدسي عن أنس رضى الله عنه.

اعتمدت الاشتراكية الحديثة على من ذكر، وزادت عنصرا جديدا فيها وهو عنصر المرأة، تلك الاشتراكية التي رأيناها تتسمى بأسماء مختلفة، حسب جو القطر الذي أحدثت فيه وطبقت على أهله، ففي الوطن العربي هناك عدة اشتراكيات ... منها الاشتراكية العربية، واشتراكية عمر بن الخطاب، وفي البلد الذي يتمسك بإسلامه: الاشتراكية الإسلامية، وفي البلد الذي يسيطر عليه الحزب السياسي: إشتراكية الحزب الفلاني، إلى غير هذا من العناوين الكثيرة، فلا الإسلام يرضى بهذه النحلة الإلحادية التي أضيفت إليه، - لأنها مسخ له، ولأنه دين كامل في هيئته وتشريعه - ولا عمر بن الخطاب يرضى ويفرح بإضفاء الاشتراكية الإلحادية على عمله الإسلامي الخالص، وعلى شخصه الكريم وإيمانه القوي، وسيرته العادلة، إنما ذلك تمويه وتدليس على البسطاء من المؤمنين، حتى يقال لهم إن للاشتراكية الحديثة أصلا في الإسلام، وسندا في شريعة رب العالمين، التي أنتم بها مؤمنون، وأن الخليفة الثاني - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، عمر وما أدراكم من عمر؟ كان اشتراكيا، فلم لا نكون نحن على خطته وطريقته اشتراكيين مثله؟ أليس لكم قدوة به؟ نعم، إن كان للاشتراكية الحديثة سندا وأصلا فما هو إلا في - الاشتراكية المزدكية - فهي أصلها وسندها، وهذه فرع عنها وغصن من شجرتها، ولهذا أثمرت ثمرتها، وأعطت نتائجها، أما الإسلام فهو بعيد عنها بعد السماء عن الأرض، إذ هو شريعة الله جاء لها رسول الله صلى الله عليه رحمة للعالمين كما قال فيه مرسله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1) أما الاشتراكية فهي من وضع اليهودي - كارل ماركس - فهي نحلة يهودية: واليهود لا يأتي منهم أي خير للإنسانية، فهم دائما يزيدون الإنسانية عذابا إلى عذابها، وشقاء إلى شقائها، كما أريد من ورائها الاستيلاء على السلطة والحكم، وجعل الناس في قبضتها. اعتمدت الاشتراكية الحديثة - فيمن اعتمدت - على المرأة، والمرأة مخلوق ضعيف في الظاهر قوي في الباطن، له تأثير كبير في المجتمع وفي الفرد، وخاصة على الأشخاص البارزين فيه، من ملوك وأمراء ومن هو في طبقتهم - وهذا أمر معروف ومذكور في أسرار القصور - فقد تنقذ ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء الآية 107.

المرأة أنفسا بريئة من الموت والهلاك، وقد تهلك البرآء من الناس، والشواهد على هذا كثيرة ومتوفرة في التاريخ، منها قصة امرأة العزيز مع سيدنا يوسف عليه السلام والمكيدة التي دبرتها له، غير أن الله أبطل مكيدتها ونجاه من كيدها، فلولا عناية الله به لهلك بمكيدتها، وهذه (كاترين) زوجة بطرس (قيصر) روسيا فقد أنقذت حياة طائفة من الرجال المتهمين بمحاولة اغتيال قيصر - بعد أن حكمت عليهم المحكمة بالإعدام - دخلت مكتبه فوجدته يقرأ الأحكام التي صدرت من المحكمة التي حكمت عليهم بالموت شنقا، وأراد أن يصادق عليها بوضع إمضائه عليها بالموافقة لينفذ فيهم الحكم - وكانت امرأة عاقلة - فصاحت به قائلة: قف، ماذا تفعل .. فأعلمها بأن المحكمة حكمت على هؤلاء المجرمين بالموت وحكمها يتوقف تنفيذه على موافقته عليه بإمضائه تحت وثيقة الحكم، فأبت عليه أن يضع إمضاءه ليوافق به على وثائق الحكم الذي حكمت به المحكمة، فقال لها: ماذا أفعل والمحكمة قد حكمت؟ فقالت له: إن المحكمة أدت واجبها حسب القانون، ولكن بقي واجبك أنت، فقال لها: وما هو؟ قالت: العفو ... وليس غير العفو، فقال لها: إنهم أرادوا قتلي، فقالت له: ولكنك لم تمت، إنك مثل الأب لجميع أبناء الشعب، وأظهرت له من حسن التدبير والإشارة ما أقنعه وجعله يعدل عن موافقة المحكمة في حكمها ويبدله بالعفو عنهم، وبهذا ازداد حبه في شعبه، حتى عند خصومه، لما ظهر به من سمو النفس والترفع عن سفك الدماء. ليت لنا مثلها - في عصرنا هذا - حتى لا يشنق العلماء والمفكرون وغيرهم من البرآء الذين يذهبون وتذهب أرواحهم هدرا نتيجة وشايات مغرضة ومكائد مدبرة، وسيلقى شانقوهم ربهم - غدا - بدماء المشنوقين، يطالبون به من شنقهم، بهما تطالب الموءودة وائدها. قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬1) وكما قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع خصومه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (¬2). وفي التاريخ البشري القديم قصص تدل على قوة تأثير المرأة، وفي القرآن ¬

_ (¬1) سورة التكوير الآية 8 - 9. (¬2) الآيتان 30 - 31 من سورة الزمر.

مقارنة لطيفة بين كيد الشيطان وكيد المرأة، فوصف كيد الشيطان بالضعف ووصف كيد المرأة بالعظمة، وفي ذلك سر لا يخفى، قال الله تعالى في ذلك: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬1) وقال في الآخر وفي التهمة التي حاولت امرأة عزيز مصر أن تلصقها بيوسف عليه السلام، فبرأه الله منها، حين خاطبها زوجها عزيز مصر بعد أن ظهر له من الشواهد الحسية براءته منها وكذبها هي: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (¬2). فالمرأة فيها من اللباقة وقوة التأثير على الرجل - بشتى وسائل التأثير - ما لا يوجد عند الرجل. قيل للمرأة في الدول الاشتراكية الحديثة: إنك مستعبدة فطالبي بتحررك، وقيل لها: إنك مهانة فطالبي بعزك، وقيل لها: إنك سجينة البيت فتمردي واخرجي إلى الشارع، وفكي قيودك بيدك وحطمي السلاسل التي قيدتك، وقيل لها: إنك مظلومة فاعملي على رفع الظلم عنك، وقيل لها، وقيل لها الشيء الكثير وهي حيلة قصد بها الدعاية والتضليل، وبالتالي التأثير على المرأة، لتستغل حسب الظروف والأحوال فتأثرت المرأة بذلك، حتى أنه قال مسؤول كبير عندنا في سابق الأيام في خطاب له أمام جمع كبير من النساء على عادته في جمعه للنساء: (أخرجي إلى الشارع وخذي حقك بيدك، ولا تنتظري من الرجل أن يعطيه لك) ويقول لها آخر كذلك: (أخرجي بنفسك، ولا تنتظري منا أن نفتح لك الباب) فخرجت المرأة إلى الشارع متأثرة بما سمعته، لكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت سيئة للغاية القصوى من السوء، كانت خراب البيت، كانت تشتيت العائلة، كانت تحطيم هيكل الأسرة، كانت في كثرة الطلاق والفراق التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي، وكان أيضا غير ذلك من كل أمر شنيع، مما نتج عنه فراق الكثيرات من النساء لأزواجهن وبيوتهن، كما كانت هروب الكثيرين من الأزواج عن نسائهم وأطفالهم، كل ذلك نتيجة لدعاية التغرير والخداع والتخريب، ولا يستطيع أحد نكران هذا وما ذكرته قليل من كثير. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 76. (¬2) الآية 28 من سورة يوسف.

قال أنصار هذا المبدأ ما قالوا للمرأة، من غير أن يفكروا في أخلاق المسلمين وتقاليدهم الحسنة، في صون المرأة وحفظها من العبث بها، وكيف يفكرون في هذا والكثير منهم لا يرعى للدين حرمة؟ مع تربيته في مدرسة المستعمر، وقد دربوا المرأة وجرأوها على الاستخفاف بالدين وبالأخلاق الإسلامية، حتى بلغ بطائفة منهن إلى أن ينكرن الأخبار الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما قالته امرأة في الملتقى الخامس للتعرف على الفكر الإسلامي الذي تدعو إليه وتنظمه وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية الجزائرية، والذي انعقد في مدينة وهران من 27 جمادى الأولى إلى 10 جمادى الآخرة من سنة 1391 هـ، وقد نشرت كلمة هذه المرأة في سجل المحاضرات التي تعودت الوزارة المذكورة إصداره كل سنة. هذه المرأة أعطي لها هذا الاسم واللقب (فاطمة الجامعي) وهي زوج الأستاذ الحبابي المغربي، وكلاهما أستاذ في جامعة الجزائر، وتقول إنها من الوفد المغربي، وكلمتها عنونتها بـ "المرأة المسلمة، حقوق وواجبات" ونشرت في السجل ابتداء من صفحة "302". قالت هذه المرأة فيما قالت، بعد أن أكثرت وأسرفت من تمجيد المرأة، وحشرت الكثير من الآيات الواردة في ذلك، وهكذا رأيناهم ورأيناهن لا يذكرون القرآن أو الدين الإسلامي إلا عند الاحتجاج والاحتياج إلى آياته ونصوصه، قالت: (وإن الزوجة - ولعلها تقصد المرأة - خلقت من نفس الطين الذي خلق منه الرجل، خلافا لما يروجه الخرافيون من أن المرأة خلقت من الضلع الأعوج، والحقيقة أن الرجل الذي يعتقد هذه الأسطورة - كذا - معوج المخ وكل الأضلع). وبعد أن نقلت الكثير من الآيات القرآنية الدالة على منزلة المرأة قالت: (إذا كانت هذه هي نظرة الإسلام إلى المرأة، لم يبق مجال للقول بأنها أقل قيمة من الرجل، وأنها - ناقصة عقل ودين - فالعقل مقسم بالتساوي بين النساء والرجال الخ ...) وضربت على هذه النغمة الحلوة على الأسماع في كلمتها تلك، وسارت بعيدا في تمجيد المرأة، من غير أن تحض المرأة المسلمة على التمسك والعمل بالشريعة الإسلامية، التي رفعت منزلة المرأة بعد الحطة والهوان اللذين كانت تعاني منهما ما تعاني، فلم تأمرها بتقوى الله وعمل الصالحات والوقوف عند حدود الشريعة الإسلامية، لأن ما نالته المرأة المسلمة من عز ورفعة إنما نالته بشريعة الإسلام، فهي

التي رفعت عنها الحيف والجور، فوجب عليها أن تتبعها ولا تتبع المرأة الغربية فيما لا يليق بشرف المرأة المسلمة، وإلا فما ذلك التنويه إلا من باب الدعاية والاستغلال على حساب الإسلام، لأغراضها الشخصية. إن هذه المرأة تقصد بقولها - حسب الألفاظ التي استدلت بها - الاعتراض أو الرد لما جاء في القرآن، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا الخ} الآية الأولى من سورة النساء، فماذا عساها أن تقول في قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}؟ يا سبحان الله كيف تجرأت المرأة هذه الجرأة الكبيرة!!! وهكذا يفعل الجهل والغرور والتغرير بضعاف الأحلام، حتى يخرجهم أو يخرجهن من الإسلام. ولما جاء في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أنها قالت: (خلافا لما يروجه الخرافيون من أن المرأة خلقت من الضلع الأعوج الخ) وبقولها: (لم يبق مجال للقول بأنها أقل قيمة من الرجل، وأنها ناقصة عقل ودين الخ ...). وهذا منها جرأة كبيرة، ثم على من تعترض يا ترى؟ وما هو قول الخرافيين هذا؟ ومن هم الخرافيون الذين تعنيهم؟ إن ما ذكرته حديث من أحاديث ثابتة نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتراض عليه رد لقوله وعدم إيمان به، وهذا لا يقع إلا من غير المسلمين. وهذا هو نص الحديث. أخرج مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المرأة خلقت من ضلع لن تسقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)) فهل في قول الرسول هذا خرافة؟ الواقع أنه وصية خير وإرشاد للمسلمين كي لا يسيئوا إلى زوجاتهم. أما قولها: (لم يبق مجال للقول بأنها أقل قيمة من الرجل، وأنها ناقصة عقل ودين) فهو رد لآية قرآنية ولحديث نبوي صحيح. وبيان ذلك، أن الله تعالى عندما ذكر ضبط المال بالإشهاد عليه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ

مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} سورة البقرة الآية 282. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مغزى هذا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه. في باب (ترك الحائض الصوم) أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (جرح في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار))، قلن: وبم يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل))؟ قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم))؟ قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها)). رأينا من خلال جواب الرسول للنساء تلطفه معهن من غير تعنيف كعادته صلى الله عليه وسلم مع النساء وغيرهن، فهو لم يرد بذلك احتقارهن ولا التنقيص من شأنهن كما يدعي المغرضون، بل ما أراد إلا التنبيه لحالهن فقط، أما نقصان دين المرأة فواضح مما قاله الرسول، وأما نقصان العقل فهو إشارة إلى قول الله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وذلك في باب الشهادة، حيث أن المرأة الواحدة قد تنسى فتذكر إحداهما الأخرى كما جاء في الآية، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: فسؤال النساء الرسول عن ذلك دليل على نقصان عقلهن، إذ الأمر معروف لا يحتاج إلى السؤال، فالسيدة المعترضة على هذا الحديث لم تفهمه، ولعلها لم تسمع به، وكثير من النساء مدحن المرأة فوق وأكثر من اللازم، لأغراض لا تخفى على أحد، والأعجب من ذلك أني لم أسمع واحدا من العلماء الحاضرين ردها عن خطئها ذلك لأني سمعت كلمتها تلك بواسطة التلفزة الجزائرية، والملاحظ الذي لا ينكر أن أصل خلقة المرأة وتكوينها أضعف من خلقة وتكوين الرجل، فهل تعترض المرأة على الخالق الذي اقتضت حكمته أن يخلقها هكذا؟ أو هل تنكر هذا أيضا؟ ومن أنكرته فلتتقدم إلى ميدان الرجل وتحمل الأثقال مثل الرجل ولتكن حينئذ مثله أو فلتسكت عن شقشقة الكلام الفارغ فقد أسرفت في قيمة نفسها بما لا يقبله العقل، بل وادعت أنها كل شيء في هذه الحياة.

كونوا للمرأة - في كل البلاد الاشتراكية - اتحادا سموه "الإتحاد النسائي" ومنحوه من القوة ما لم يعط غيره من اتحادات الرجال، بل ما لم تنله أية هيئة، ولو كانت تربوية أخلاقية دينية أو غيرها، وأعطي من المال ما لم يعط غيره كذلك، وبهذه الامتيازات - أو التمييز العنصري إن شئت - صارت للمرأة قوة لا تضاهيها قوة الرجل، فالرجل - مهما علا - لا يساوي قلامة ظفر أمام المرأة - مهما نزلت - لغرض لا يخفى على أحد، فكلما تقدمت المرأة بشكوى ضد الرجل - رجل الحروب والكفاح والأعمال - إلا ونال ما نال من التعذيب والاحتقار والإهانة، وكم من رجل ترك داره وأولاده وفر هاربا بنفسه ودينه وشرفه مما يلقاه، هذا هو الواقع فعلا في كل بلد انتحل الاشتراكية المزدكية. كما سخرت لها وسائل الإعلام، وجعلت تحت تصرفها، من صحافة، وإذاعة، وتلفزة، فللإتحاد أن ينشر ويذيع ما بدا له، وصارت المرأة المسلمة - وفي هذا الوصف نظر - (عضوة الإتحاد) تسافر وحدها بدون محرم لها يحميها - وهذا ما تنهى عنه الشريعة الإسلامية - تطوف أطراف العالم القريبة والبعيدة بدعوة من الإتحاد الفلاني الخ ... وجعل للمرأة يوم خاص بها سموه - يوم المرأة - تقول فيه ما تريد، وتعطل فيه - وحدها - عن العمل، ولم يجعل للرجل مثله، فإذا قابلنا النوع بالنوع، وتفضيل صنف على صنف قلنا أليس هذا: هو - التمييز العنصري - الذي تنادي بإبطاله الحكومات والشعوب العالمية ... ؟؟؟ الجواب: أي وربي إنه لهو هو. وإذا دققنا النظر في أصل الموضوع - موضوع المرأة - فإننا نجد أنفسنا - كمسلمين - قد أنزل الله كل واحد من الصنفين في منزلته، فالرجل له مقامه لا تغني عنه فيه المرأة، كما أن للمرأة منزلتها لا يغني عنها فيها الرجل فنحن في حاجة إلى تطبيق أحكام ديننا فقط، وإذا ظلم رجل مسلم امرأة مسلمة فليس معنى هذا أن الإسلام هو الذي ظلمها، فكم تظالم المسلمون - - وغيرهم - سواء في ذلك الرجال والنساء، كما قال الشاعر المشهور أبو الطيب المتنبي: والظلم من شيم النفوس فإن تجد … ذا عفة فلعلة لا يظلم

الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والمملوك، والمرأة.

فكان الواجب على المسؤولين المسلمين أن يرجعوا - إن كانوا مسلمين - إلى قوانين دينهم فيطبقوها لا إلى إلغائها وتعويضها بقوانين بشرية وضعت لأمة غير مسلمة ولا مؤمنة. إن الكمال البشري كما يكون في الرجال يكون في النساء، غير أنه فيهن قليل كما حكاه التاريخ الإنساني وهذا راجع إلى أصل الخلقة والتكوين، وقد ورد في الحديث الصحيح قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران الخ) بلا غرور أو تغرير. والموضوع - موضوع المرأة - محرج كثيرا - حسبما نرى - ودقيق جدا، والخوض فيه قد يجعل للخائض فيه خصوما وأعداء - إذا تكلم فيه بالحقيقة - قد يفوقون في العدد المؤيدين والأنصار والأصدقاء - وإن كان على الحق - ذلك لاندفاع الناس وراء الشهوات والأغراض والأطماع حتى صاروا يشبهون المزدكيين - تماما - تاركين الشريعة الإسلامية وراء ظهورهم، متأثرين بما يذيعه بينهم إبليس وأعوانه بغوايته ووسوسته، حتى أنساهم ربهم ودينهم: في كل شيء إذا ضيعته عوض … وليس في الله إن ضيعته عوض الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والمملوك، والمرأة. إن الإسلام كان - ولن يزال - مصدر نور لبني آدم، بنوره يتجنبون الأخطار والمهالك، وبوصاياه يسعدون ويسعدون. فالإسلام في تشريعه ووصاياه لم يظلم أحدا، لا المرأة ولا غيرها، بل نجده يوصي الأقوياء ويؤكد عليهم، يوصيهم بأن يعاملوا الضعفاء بالرفق والإحسان، والرحمة والحنان - بالنظر لضعفهم - ولا أضعف من هؤلاء الثلاثة: اليتيم، والعبد المملوك - أو الخادم -، والمرأة، من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((اتقوا الله في الضعيفين: المملوك والمرأة)) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر عن ابن عمر.

1 - أما اليتيم فقد أوصى الله به خيرا، فإن كان له مال أوصى بالمحافظة عليه، حتى لا يبدد ويذهب سدى، ويبقى له إلى أن يصير رشيدا يحسن التصرف، ويدرك واجباته، ولا يخفى علينا هذا الوعيد الشديد من الخالق العليم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (¬1) وإن كان فقيرا فقد أوصى بالإحسان إليه، في تربيته، ورعايته، وكفالته، قال عليه الصلاة والسلام: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة)) (¬2) وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى كما فعل هذا راوي الحديث لمشاهدته فعل الرسول ذلك، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} والوصايا باليتيم كثيرة، كحديث المسح على رأسه وملاطفته وعدم إبكائه، ويبقى عطف المسلين عليه إلى أن يحتلم ويبلغ مبلغ الرجال، ويعتمد على نفسه عند ذلك يزول عنه لقب اليتيم، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يتم بعد احتلام)) (¬3) فأي قوانين البشر توصي بمثل هذا؟ 2 - أما المملوك - أو الخادم - هو الآخر فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على أن تعامله المعاملة الحسنة، كما تعامل أولاد الصلب، تطعمه مما تأكل، وتلبسه مما تلبس، ولا يكلف بما لا طاقة له به، فإن كلف بما يشق عليه أعين عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) (¬4). فهل في قوانين البشر ما يشبه هذا؟ لا نعلم شيئا من ذلك، خصوصا ونحن نعلم أن العبيد كانوا يعاملون قبل وقت مجيء الإسلام معاملة دون معاملة الحيوانات ... والتاريخ شاهد عدل على هذا ... فالخوف من مخالفة شرع الله - والله عالم بما يقع - والشعور بمراقبة الله فوق الخوف من القانون البشري. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 10. (¬2) أخرجه البخاري وغيره عن سهل بن سعد. (¬3) أخرجه أبو داوود عن علي. (¬4) أخرجه البخاري عن أبي ذر.

3 - أما المرأة فقد رفع الإسلام قدرها، وأعلى منزلتها، في حدود وظيفتها، وأوصى بها خيرا، بالإحسان إليها كيفما كانت، أما، أو بنتا، أو زوجة، بعد أن كانت قبله محتقرة لا تذكر ولا تستشار في أي شيء حتى فيما يعود إليها شأنه، وقد خولها الإسلام ما تستحقه، فإن كانت أما فحقها على ولدها عظيم، فعليه رعايتها ونفقتها إذا كانت فقيرة، فلها عليه حقوق ثلاثة ولأبيه عليه حق واحد، كما نبه على هذا أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان - البخاري ومسلم - وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من.؟ قال ((أبوك))) وأعظم من هذا فإن رضى ربه موقوف على رضاها، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الجنة تحت أقدام الأمهات) (¬1) كفاية. وإن كانت بنتا فقد أوصى الإسلام أباها بتربيتها وتعليمها حتى تستقل بنفسها في بيتها، وسيرة السلف فيها الكثير من هذا الإرشاد الديني الذي جهله الخلف، فأصابه الانحراف والتلف. أما إن كانت زوجا فالله جل وعلا أوصى الرجال بحسن معاشرة الزوجات، كما قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) وفي هذا الأمر ما فيه من شتى الوصايا. وفي حجة الوداع خطب الرسول صلى الله عليه وسلم خطبته المشهورة - في يوم عرفة - في المشهد الحافل، تلك الخطبة التي جمعت الشيء الكثير من حسن التوجيه وأصول الدين وفروعه، وهي في الحقيقة خطبة رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين كي يسيروا عليها، في هذه الوقفة المشهورة في التاريخ الإسلامي لم ينس الرسول الرحيم المرأة المسلمة، فاهتم بها، فقد أوصى واستوصى بالنساء خيرا، بل وحتى في اللحظة الأخيرة من حياته، وقبل مفارقته لهذا العالم، فقد أوصى بالصلاة وبالنساء خيرا. ¬

_ (¬1) أخرجه القضاعي والخطيب في التاريخ. (¬2) الآية 19 من سورة النساء.

الفصل الرابع: صون الإسلام للمرأة، وابتذال غيره لها.

فكذلك المرأة في محيط الحياة التي تحياها - كمسلمة - تحترم دينها، فتؤدي فروضه وتبتعد عن منهياته، فإنها لم تهمل أو تهن، فالله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى - وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). فهل بعد هذه العناية والاهتمام بالمرأة المسلمة - طبعا - ومكانتها في الشريعة الإسلامية المحمدية - وما لم أذكره كثير - ينعق الناعقون - دعاة الإلحاد - اتباع كل ناعق، كما قال علي كرم الله وجهه - وأعوان إبليس، بأن الإسلام لم ينصف المرأة ... ؟؟؟ وهل هم أرحم بالمرأة من خالقها الرحيم العالم بتكوينها ووظيفتها في المجتمع الذي تعيش فيه .. ؟ نقول ونؤكد بأن الإسلام أوصى خيرا بالمرأة المسلمة حقيقة لا بالمتشبهة بالمرأة الأروبية. إن الإسلام لم يجحف المرأة حقها، بل ساوى بينها وبين الرجل في كل شيء إلا فيما هو من اختصاصه أو من اختصاصها، من غير تزاحم بينهما فيه، بل وفضلها عليه - بالنظر لضعفها - في بعض الأمور كالنفقة - مثلا - فإنه أوجبها عليه، ولم يكلفها بشيء منها في جميع حالاتها - صونا لها وحفظا لكرامتها من الابتذال والتذلل في سبيل التحصيل على لقمة العيش - وكالحضانة فإنه خصها بها دون الرجل لمزاياها في هذا الشأن، وفضله عليها في الإرث نظرا لما عليه من واجبات النفقة على زوجته وأطفاله، وهي معفوة منها، هذا بعض فقه حكمة التشريع التي تعامى عنها المغرضون الهدامون، في حق المرأة المسلمة. الفصل الرابع: صون الإسلام للمرأة، وابتذال غيره لها. أراد الإسلام للمرأة الصيانة، والعفة، والطهارة، والكرامة، والشرف، وأراد لها إبليس وجنوده وأنصاره خلاف هذه الأوصاف، فهم يريدون لها أن تحوم حول حمأة الحياة المنتنة القذرة، ليسهل عليهم جرها إلى الحمأة وإدخالها فيها، واقتناصها وصيدها منها، لأغراض إبليس الملعون، ولا يستطيعون أن ينكروا ذلك، فالمشاهدة لا تنكر، وهي أقوى دليل على ما يخفون. ¬

_ (¬1) الآية 97 من سورة النحل.

والإسلام يحب لها أن تبتعد عن كل هذه القاذورات والأوساخ التي تصادفها في الطريق، وتلقاها أينما توجهت وحلت، فكل من دعا أو عمل على الزج بالمرأة في وسط المجتمع الفاسد السيء الخلق، هو داخل في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). وصدق الله في قوله الحكيم. قالوا للمرأة المسلمة: إنهضي وطالبي بحقك في المساواة - التامة - حتى تكوني مثل الرجل في كل شيء. وهل هي في خلقتها وتكوينها مثل الرجل ... ؟؟ استجابت المرأة المسلمة - في بعض الأقطار الإسلامية - للرغبة الملحة عليها، فقامت ورفعت صوتها: أريد حقي .... في السياسة، والوزارة، والإدارة، والاقتصاد، وفي تسيير دفة الحكم ومقاليد الأمور، وفي غشيان المجتمعات العامة بلا حدود توقفني أو تحد من نشاطي، إلى غير ذلك من المطالب - المحترمة والمعقولة جدا - وقالت: أريد المساواة - التامة - وإزالة الفروق بيننا حتى في فروق اللغة العربية، تلك اللغة التي تفرق بين الرجل والمرأة ... وهذه الفروق التي تعنيها سيدة الزمان - المرأة المسلمة - هي من حسنات اللغة العربية الدالة على سعة مفرداتها وأساليبها في الخطاب، والغيبة، والافراد، والتثنية، والجمع، ليسهل على السامع فهم المراد من الكلام. فمن الفروق - مثلا - تاء التأنيث، ونون النسوة، وكسر التاء، والكاف في خطاب المؤنث، فالمرأة العربية المتحررة - كما تزعم - قد طالبت - فعلا - بأن تزال وتحذف من اللغة العربية تاء التأنيث ونون النسوة وكاف الخطاب المكسورة، لأن في المذكورات فرقا أو تفريقا بين الفعل المسند إلى المذكر والفعل المسند إلى المؤنث، فعوضا من أن تقول: - قامت زينب - يجب أن تقول: - قام زينب - بإسقاط التاء كما تقول في المذكر: قام صالح، وبدلا من قولنا: النسوة قمن، يجب أن نقول: النسوة قاموا، مثلما نقول: الرجال قاموا، وبهذا الاقتراح السديد - أو الأعرج - تكون ¬

_ (¬1) الآية 19 من سورة النور.

المساواة - تامة - بين الرجل والمرأة في اللغة العربية، التي ظلمت المرأة حين ميزت بينها وبين الرجل - كما ظلمها الإسلام حين ميز بينهما في الإرث - كي لا يختلط الفعل المسند للرجل بالفعل المسند للأنثى، وهو اقتراح يدل على الجهل والغرور والغباوة. حقا ... إننا في زمن الخلط، والتخليط ... والاختلاط ... هذا الذي ذكرته مطلب قدمته - أو قدمه - إحدى - أو أحد - الجمعيات النسائية إلى بعض مجامع اللغة العربية، طالبة - أو طالبا - منه أن يقرر حذف تاء التأنيث ونون النسوة، وبينما المجمع اللغوي - الأمين على اللغة العربية - يناقش الاقتراح الجريء بل العجيب في نوعه، إذا بأحد أعضائه الأذكياء يفاجئ المجمع برأي سديد - أو نكتة - فيلقي بين أعضائه في وسط المجمع قنبلة - ذرية عربية - نسفت الاقتراح من أساسه وقاعدته، فبعثت بالاقتراح الغريب إلى سلة المهملات الحقيرة، وتلك القنبلة هي قول هذا العضو الذكي: (للمجمع أن يقرر ما يشاء، ولكنه لن يستطيع أن يحذف النون التي خلقها الله ...). ولعل المرأة - ومن ورائها من يدفعها، أو يجرها - ستطالب في يوم - ما - بمساواتها بالرجل في إبطال - العدة - عنها كالرجل - كما أشار إلى هذا بعض النبهاء - ذلك أن المرأة إذا طلقت أو مات عنها زوجها، أوجبت عليها الشريعة الإسلامية أن تعتد - وتتربص - المدة المعروفة حتى يظهر أمرها، هل هي ذات حمل من زوجها المطلق أو المتوفي أو لا؟ والحكمة في إيجاب العدة على المرأة دون الرجل ظاهرة، وهي اختبار براءة الرحم، حتى لا تختلط الأنساب والأولاد، لأن المرأة هي المنجبة للأولاد، فلعلها تطالب في يوم من الأيام بإلغاء العدة، وتقول: يجب أن تجعلوا قانونا وضعيا يبطل العدة الشرعية على المرأة ويبيح لها أن تتزوج من يوم طلاقها أو موت زوجها أو ما يقرب منه بدون انتظار أمد العدة الذي قد يطول، فهي تريد أن تكون كالمرأة الأمريكية. والذي نعرفه أن المرأة الأمريكية قد تتزوج مرتين أو أكثر في الشهر الواحد، وتفارق كذلك، وأمريكا هي بلاد العجائب، كما يقال ...

ولعل المرأة المسلمة تجد من أصحاب القانون - الوضعي - من يلبي طلبها ويقول: إن المرأة المسلمة مظلومة ظلمها الإسلام، حيث لم يسو بينها وبين الرجل، مثلما سمعناها تطالب بتسويتها معه في الوظيف وتحمل مسؤولية شؤون البلاد، وفعلا فقد تم لها بعض ما طلبت، والعاقل يسأل هذا السؤال ويقول: هل للمرأة من الاستعداد والقدرة ما يجعلها كالرجل في تحمل المسؤولية في هذه المهمة الصعبة ... ؟؟؟ إن الواقع قد كشف عجزها عن تسيير الشؤون العامة في غير ما بلاد، وهذا هو السر في قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) (¬1) وليس هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم قدحا في المرأة، أو تنقيصا من شأنها - كما توهمه بعض الجاهلين - إنما ذلك راجع بالذات إلى طبيعة خلقتها وتكوينها، و ((كل ميسر لما خلق له)) (¬2) كما ورد في الحديث. فالإسلام - دين الله الحكيم العليم - قد راعى في المرأة مزاجها وذاتها، فكلفها بما هو من خصائصها، فمنحها إنجاب الأولاد، وتكوين الرجال والأجيال، وتهيئتهم للمستقبل وللبلاد - وليس هذا بالأمر الهين - فإذا زج بها في وسط المجتمع المختلط، للخدمة وغيرها، فقد ضاعت المهمة التي كلفتها بها الفطرة وساء حال الأمة، وفعلا وقع هذا ولا يستطيع أحد نكرانه ... لنفرض - جدلا - أن طبيبا حاذقا لصنعته يعالج المرضى في المستشفى أو في المصحة، والأمة في أمس الحاجة إلى خدماته فيما هو من خصائصه، فإذا أخرجناه من محل عمله - المستشفى أو المصحة - وأوليناه عملا آخر لا صلة بينه وبين عمل ما هو خاص به، كمحافظ للشرطة أو غيره من الأعمال، هل يعتبر هذا العمل إصلاحا - في المجتمع - قمنا به وتوفيقا ورعاية للمصلحة العامة ... ؟؟؟ اللهم لا يقول بهذا الإصلاح إلا المجنون ... وبالعكس من هذا لو نقلنا محافظ الشرطة من عمله إلى عمل الطبيب في المصحة أو في المستشفى، لو فعلنا هذا لذهبت البلاد إلى الهاوية السحيقة، نتيجة لسوء التصرف وتصريف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري والإمام أحمد والنسائي، سببه أن أمة الفرس أولت بنت كسرى لما مات أبوها، فبلغه ذلك فقال: لن .... (¬2) أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه غيره.

الأمور، ولقال العقلاء لنا: إنكم قوم مجانين جهلة لا ذوق لكم، فأنتم والحيوانات العجماوات سواء، كما هو واقع - فعلا - الآن ... إن الشريعة الإسلامية - العادلة - قد وزعت الأعمال والأدوار - حسب الفطرة - على صنفي بني آدم وحواء - الذكر والأنثى - فلكل منهما عمل يؤديه، ودور يقوم به في هذه الحياة، فإذا قام كل واحد منهما بعمله أحسن القيام، وأتقن دوره صلحت الحياة، وعمها البشر والسرور والطمأنينة، وكانا شريكين صادقين أمينين فيه، أما إذا أخل أحدهما بما أسند إليه فتركه وراح يعمل عمل غيره، فإن الحالة تنعكس إلى ضدها - وهذا مما هو مشاهد - وتهلك البلاد. ولنفرض - ثانيا - أن بلادا - ما - هاجمت بلادا أخرى، فإن النظام المتبع أن الجيش هو الذي يتولى الدفاع عن البلاد، والعمل على صد العدوان بكل وسيلة هي في الإمكان. هذا الجيش الذي يذهب إلى الواجهة يحمل معه السلاح ليقوم بواجب الدفاع عن تراب الوطن، هو في حاجة إلى من يحضر له جميع ما يحتاج إليه، من طعام ولباس وذخيرة حربية وغير ذلك من الضروريات اللازمة للموقف، فلا يقبل عقلا - وعرفا - أن نقول: يجب على كل فرق الجيش أن تتوجه إلى الواجهة حتى الفرقة التي كانت تهيئ له المعدات الضرورية وغيرها، من غير أن تبقى فرقة لتهيئة ما يلزم من الضروريات، فإذا ذهبت - على هذا الفرض - كل فرق الجيش إلى ميدان المعركة، فإنها لا تقوى على الثبات في وجه العدو الذي يحاربها، فإذا أصابها الجوع أو العطش، أو نفدت لها الذخيرة، أو لم يكن لديها طعام وشراب وذخيرة، أصابها الضعف وتقهقرت إلى الوراء وخسرت المعركة وغلبت على أمرها، لأن قواها ضعفت، ولم تبق لها قوة للدفاع عن نفسها وبلادها، وانهزم الجيش في هذه المعركة، فإن كل فرق وأفراد الجيش شركاء في الهزيمة. أما على النظام المتبع الذي جرت به العادة - لدى جيوش جميع دول العالم - فإن طائفة تحمل السلاح وتسير إلى ميدان المعركة لمحاربة الأعداء، وهي مطمئنة على قوتها وضرورياتها، لأنها تعرف أن طائفة أخرى من الجيش بقيت وراءها لتحضر لها طعامها وشرابها وضرورياتها من لباس ومعدات وغيرهما.

فإذا انتصر هذا الجيش الذي حارب عدوه بنظامه المعروف، فإن النصر الذي ناله يشمل جميع فرق الجيش، - كما أن الهزيمة تشمل الجميع - لا فرق بين من حمل السلاح، وبين من بقي في المؤخرة يهيئ الطعام أو يحرس الذخيرة الخ ... فإذا تطاول حاملو السلاح في الواجهة على الطباخين - مثلا - وقالوا لهم - مفتخرين - نحن اللذين جئنا بالنصر، والفضل لنا، أجابهم طباخو الطعام: نحن شركاء لكم، إذ لنا سلاحنا كما لكم سلاحكم، ولولانا لما قدرتم على الوقوف في الواجهة، والحق إلى جانبهم، وكل العقلاء يوافقونهم على قولهم، ويحكمون لهم بأنهم شركاء في النصر، فهم ومن حمل السلاح سواء. هذا هو الواقع، وهو ظاهر فلا يمكن تغطيته بكلمات فارغة جوفاء لا معنى لها، وخطب تطرز وتحشى بألفاظ العطف والشفقة ورعاية المصلحة إلى غير هذا، ولكنها في الحقيقة تضليل ومخادعة وتضييع للمصلحة العامة، كل ما فيها هو إفساد للمجتمع بإفساد عضوه العامل في دائرة عمله، وتعطيله عن العمل الخاص به، من أجل إرضاء رغبات شيطانية ألبست لباس العدل ودفع الحيف والإجحاف، ولا ينبئك مثل خبير، فإن الأخبار بفساد المجتمع - الاشتراكي - في كل مكان - متواترة - والتواتر يفيد القطع كما هو معلوم. فالمرأة المسلمة أكرمها الله، وأسبل عليها ستره، وحفظها بحفظه، غير أن البعض منهن - أو منهم - أراد أن يكشفها، فكشفها - فعلا - ورمى بها وسط مجتمع لا تربية إسلامية له، ولا آداب ولا أخلاق حسنة فيه، فذهبت ضحية الأغراض السيئة، فالمرأة المسلمة أعزها الله في شرعه، وأراد إخوة إبليس إذلالها وإهانتها وشقاءها، فكثيرا ما غبطتها المرأة الأروبية القديمة والحديثة، وتمنت أن لو كانت مثلها - في كرامتها وتكريمها - وفي هذه القصة التي أذكرها الآن نوع من ذلك التمني. ذكر لي أحد الأصدقاء من الذين قضوا مدة في فرنسا - كعامل فيها - هذه القصة قال: في يوم من الأيام قمت لعملي مبكرا، وركبت القطار الذي يسير تحت الأرض المسمى - ميترو - وكان - بالطبع - مختلطا بالعاملين والعاملات،

وكان إلى جنبي امرأة أروبية عاملة هي الأخرى وكانت تتأفف من - الحياة وأتعابها، ولما عرفتني أنني مسلم جزائري قالت لي: كم أتمنى أن لو كنت امرأة مسلمة أقيم في بيتي، أربي أطفالي، وأقوم بشؤون بيتي، وزوجي يعمل خارج البيت، كي نعيش مع أطفالنا عيشة هنية سعيدة، قال محدثي: فقلت لها: وما الذي أسخطك وأغضبك من هذه الحياة؟ قالت: ها أنت ترى حالي، إنني أفارق بيتي كل صباح في الساعة السادسة ولا أعود إليه إلا ليلا، وأنا فيها بين رئيسين اثنين: رئيس المعمل، فهو يطالبني بالعمل في المصنع، ولا يسمح لي بالتأخر لحظة، وإذا تأخرت فهناك الزجر والتقريع والتهديد بالطرد من المصنع، ورئيس البيت - زوجي - يطالبني بحقه علي، فأنا في أشد الاضطراب والحيرة من حياتي التعسة، ثم تنفست وقالت: آه لو كنت امرأة مسلمة لكنت في راحة تامة من كل هذا العناء الذي أعانيه والتعب والشقاء الذي أنا فيه ... قال: فقلت لها: اصبري وتحملي هذه هي حياة مجتمعكم ... هذه شهادة امرأة أروبية - تقدمية بلا شك - عرفت أن هناءها وسعادتها في بيتها، ووسط زوجها وأطفالها، لا في المصنع ولا في - الإدارة - وكم من امرأة أروبية قالت وتمنت مثل هذه السيدة، ذلك أن المرأة أدركت - بعد التجربة - أن قسمة العمل بين الرجل والمرأة أولى وأفضل بها، فهي عاملة في البيت، وهو عامل خارجه، ليقتسما أتعاب الحياة، وليخف الحمل على المرأة الضعيفة، وبهذا تكون الحياة خفيفة - نوعا ما - وسعيدة عليهما، إذ هي شركة بينهما. ولعل في كلمة الفيلسوف الإنكليزي - المعاصر - والمتوفى أخيرا - بيرتراند راسل - درسا بليغا لمن أراد أن يفهم حقيقة الحياة والواقع - من حمقى المتزعمين - حقيقة عمل المرأة خارج بيتها ومملكتها وإدارتها. هذا العمل المخالف لما أوصت به الشريعة الإسلامية من صون المرأة المسلمة عن الاختلاط بالرجال، حتى في أوقات العبادة كالصلاة والطواف بالبيت وغيرهما مما قد يحدث فيه اجتماع في وقت واحد، وقد علمنا أن الشريعة الإسلامية وزعت الأعمال بين الذكر والأنثى، فالفيلسوف الإنكليزي (بيرتراند راسل) غير رجعي، وغير تقدمي أيضا ... ولكنه فيلسوف أدرك الحقيقة بفكره الصافي النير، كتب هذا الفيلسوف يقول تحت عنوان:

الفصل الخامس: مثال من حصافة رأي المرأة العربية المسلمة.

(المرأة الغربية العاملة) قال: (لقد انحلت الأسرة باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وتبين أن كثرة الجرائم في - أمريكا - وسبب الأزمات العائلية فيها، هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل، ولكن انخفض مستوى الخلق. كما أن انطلاق المرأة نحو العمل أورث الحضارة الغربية مشكلات عميقة، وأفقد المرأة نفسها الكثير مما اختصت به، فقد أنهكتها المهنة، وتدبير المنزل والأطفال. وأصبحت مخلوقا جديدا، لا هو رجل ولا هو امرأة ...) الفصل الخامس: مثال من حصافة رأي المرأة العربية المسلمة. ومثلما فهمته تلك السيدة الأروبية من حياة المرأة، وكذلك ما أدركه الفيلسوف الإنكليزي "بيرتراند راسل" في كلمتيهما السابقتين، مثل ذلك أرشد إليه الإسلام في تشريعه، ونبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، وقد أجاب به سيدة عربية مسلمة - مبعوثة - النساء إليه، حين جاءته موفدة من قبل النساء الصحابيات رضوان الله عليهن. وردت قصة هذه المرأة الموفدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث والسير، قالوا: ان (أسماء بنت يزيد بن السكن الأشهلية الأنصارية) جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم موفدة إليه من جماعة النساء يسألنه عن الأعمال التي يقوم بها أزواجهن خارج البيت، وعن الأعمال التي تؤديها زوجاتهم داخل البيت، فهل بين عمل الزوج وزوجته صلة وارتباط واشتراك أو لا؟ وهل الجميع شركاء فيه؟ وأسماء هذه من العربيات المسلمات المبايعات للرسول صلى الله عليه وسلم، الوارد خبرهن في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ

بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). كانت هذه السيدة الفاضلة - أسماء بنت يزيد - تلقب بـ "خطيبة النساء" ويكفي دليلا على تصديق هذا اللقب فيها هذه الأسئلة العجيبة التي تقدمت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما دل على حصافة رأيها وجيد عقلها، وفصاحة لسانها وشجاعتها في الموقف الذي وقفته بين يدي الرسول وهو مع أصحابه، وقد أعجب بها وبفصاحة لسانها، حتى لفت أنظار وانتباه أصحابه إلى بلاغتها في عرض ما جاءت من أجله عليه. وهذه قصتها وأسئلتها، وهي عبرة للمعتبرين والمعتبرات منا، قالوا: (إن أسماء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بين أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا - معشر النساء - محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم - معاشر الرجال - فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وأن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في هذا الأجر والخير ... ؟؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال لهم: ((هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه ..))؟؟ فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ... فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقال: ((افهمي أيتها المرأة واعلمي من خلفك من النساء، أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله)) (¬2). فانصرفت المرأة - عائدة - من لدن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بعدما سمعت منه هذا الإرشاد النبوي الكريم، والتوجيه القويم، وبعدما اسمعته رغبات النساء اللائي بعثن بها إليه، انصرفت مسرورة مستبشرة وهي ¬

_ (¬1) الآية 12 من سورة الممتحنة. (¬2) أسد الغابة لابن الأثير ج 3 ص 398 - 399.

تهلل، ورجعت إلى جماعة النسوة تحمل معها إجابة رغباتهن، عادت إليهن وهي تحمل معها فوق وأكثر ما كانت المرأة تتخيله في خيالها، فهي مأجورة - من الله - بأجر يعادل ويماثل أجر زوجها الرجل في الجهاد، وفي الصلاة، وفي الحج، وفي العمرة الخ، وهي شريكة للرجل في أجر جهاده، وحجه وصلاته، وعيادة المريض، وغير هذا بشرط أن تحسن عشرته - ليتفرغ لأعماله المذكورة - وتعمل من أجل مرضاته، وأن تكون له زوجة صالحة، وفية، أمينة، تعمل على موافقته، وأن تتجنب معاكسته ومخالفته، وهذا هو حسن التبعل. فبمثل ما ذكر تحصل السعادة الزوجية الحقيقية، فتكون بتقسيم الأعمال، فنظام الأسرة شبيه بنظام الحكومة، فوزير الخارجية في الحكومة مكلف بالاتصالات الخارجية - وهو هنا الزوج - ووزير الداخلية مكلف بتنظيم البلد وأمنه ورفاهيته ونظافته إلى آخر ما يتطلبه وظيفه ومركزه - ويمثل وزير الداخلية هنا الزوجة - فإذا لم يقم كل وزير بما أنيط بعهدته ساء الحال، وتراكمت الأعمال، وتطرق الخلل إلى أجهزة الحكومة، وهذا ما يكون سببا في ضعفها وانقضاء أيامها. فماضي المرأة المسلمة القديمة ماض مشرق نير، وحاضرها حاضر مظلم، مملوء بالمتناقضات والمخازي، بالرغم مما حف به من هالة التمجيد والتعظيم المزور ليزداد غرورها وخداعها، والحقيقة تكذب دعاة الشيطان ورسله، وأنصار الرذيلة وحماتها. فالمرأة المسلمة في هذا الوقت تركت مهمتها التي خلقت لها - ولها فقط خلقت - وأرادت أن تترجل - أو أريد لها ذلك - لتكون ألعوبة وملهاة - كلعب الصبيان - في يد إبليس - بعد أن أنقذها الله منه بالإسلام - فضاعت المهمة التي كانت لها، فخربت البيت التي كانت عامرة بها، وانتشرت الفوضى في المجتمع الإسلامي - وهو المجتمع المنظم بنظام الإسلام - فكثر بسبب ذلك الطلاق بين الأزواج كثرة مهولة، وعم النزاع والخلاف، واستحكم بينهما، وساءت العشرة، وذهبت الثقة بينهما بسبب كثرة الخيانة منهما - إلا من قل - والسبب ظاهر غير خاف، فالمرأة تركت مركزها في البيت وإدارتها في الأسرة، ومصنعها في وسط العائلة، إلى إدارة غريبة عنها وعن تكوينها، إلى إدارة أو مصنع لا قدرة لها عليهما، فاستحوذت

كلمة ختامية

- بدفع إبليس وأعوانه - على مركز الرجل وأخرجته منه، وتركته عاطلا بلا عمل، فزادت في مشاكل البطالة مشاكل أخرى، فكثرت السرقات والجرائم، وأبعدت الرجل والشاب عن محل عملهما، ذلك العمل الذي استحقاه بفضل تكوينهما العقلي والجسدي، ودفعت بهما إلى ما وراء البحار، باحثين عن عمل يقوم بهما وبحياتهما، وتربعت السيدة المحترمة، أو الأنسة المهذبة على كرسيهما في الإدارة المغصوبة، فتعطلت بهذا الأعمال وتراكمت القضايا، والزمن يمر مسرعا، والإنجاز قليل. فالمرأة المسلمة كانت - مقصورة - في بيتها قصر صيانة، وحفظ، وتكريم، لا قصر إهانة وسجن واحتقار، كما يقال في ذلك، وفي هذا كرامتها وصونها وحفظها من كل قبيح ومكروه، وقد أجاد كثير عزة في قوله: وأنت التي حببت كل قصيرة (¬1) … إلي وما تدري بذاك القصائر عنيت (قصيرات الحجال (¬2) ولم أرد … قصار الخطا شر النساء البحاتر (¬3) فكثير يقول - مادحا عزة - ان "عزة" القصيرة - بمعنى المقصورة - في بيتها هي التي حببت إلي كل امرأة تلازم حجلتها - بيتها - صونا لعرضها وشرفها، وإن كن لا يشعرن بأنهن محبوبات عندي بهذا الوصف يقول هذا هو ما أردته، ولم أرد من النساء قصيرات الخطا اللائي هن شر وأقبح النساء وهن البحاتر، فالقصيرة هي: المقصورة والملازمة لبيتها، لا تطوف في الطرقات وعلى المنازل، والنساء عند العرب يمدحن - فيما مضى من الزمن - بملازمتهن البيوت لدلالة ذلك على صيانتهن عن كل شيء مرذول لا يليق بالعفة والشرف. كلمة ختامية: إن الدافع - الوحيد - الذي دفعني إلى طرق باب هذا الموضوع الشائك ¬

_ (¬1) القصيرة هي المرأة الملازمة لبيتها. (¬2) الحجال جمع حجلة بفتح الحاء والجيم، وهي بيت يزين للعروس. (¬3) البحاتر جمع بحترة بضم الباء وسكون الحاء وضم التاء، هي المرأة القصيرة المجتمعة الخلق والتكوين، وهو من عيوب النساء، قال الله تعالى في نساء الجنة: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}.

والخطير على حياة المتكلم فيه - لانعدام حرية الرأي والقول - في هذا الوقت - كما طرقه غيري من قبل - هو العمل على ما يعزز جانب الإسلام وعقيدته، فقد كثرت التهجمات والإهانات والدعاوي الباطلة على الإسلام، وعلى كل ما هو من الدين، وخصوم الإسلام من بين سائر الأديان - بالخصوص - يزداد هذا منهم يوما بعد يوم، والمقصود من وراء عملهم هذا ظاهر غير خاف، وهو العمل على القضاء على الإسلام - في زعمهم - وعقيدته، وإحلال الإلحاد والزندقة محله. وقديما كانت فرق الضلالة والغواية تعمل عملا متواصلا لهذا الغرض نفسه، غير أن علماء الدين الغيورين عليه تصدوا لها وواجهوها بنقضها وإظهار تزييفها وخداعها، فأبطلوا مفعولها كما يبطل الخبراء الفنيون مفعول القنابل والمتفجرات - في هذا العصر - التي يريد واضعوها من وراء تفجيرها نسف وتخريب ما وضعت فيه، فيذهب صنعها ووضعها والأمل فيها أدراج الرياح، فيستريح الناس المقصودون بها من شرها وضررها، فتكون الخسارة على من حاولوا التخريب والدمار، فيدمرهم الله ويقضي عليهم، فلا يبقى من بعدهم إلا اسم إجرامهم، يجلب لهم السخط والغضب واللعنات. والتاريخ يذكر أن هذه الفرق - الخاسرة - التي أريد منها أن تكون معاول هدم وآلات تخريب وفساد، تحارب الأديان والعقائد - لا غير - هذه الفرق لم تأت بمفيد لبني الإنسان، بل ما جاءتهم إلا بما يهلكهم ويجلب لهم الشقاوة الأبدية، وهذا ما يضرهم، ولا ينفعهم. وتعجبني في هذا الموضوع كلمة - بل هي نصيحة وتحذير أولى - للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، جاءت في آخر الجزء الرابع من كتابه المفيد (الفصل في الملل والأهواء والنحل) جعلها كخاتمة له، قال بعد أن ذكر أقوال وأفعال بعض فرق الضلالة ما يلي: (واعلموا - رحمكم الله - أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيرا، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية، ولا رفع للإسلام بهم راية، وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين،

ويسلون السيف على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين، ... ثم قال: فالله الله أيها المسلمون، تحفظوا بدينكم). فهذه الكلمة - أو النصيحة الغالية - كأنها قيلت في عصرنا هذا، ونحن نعلم أن الإمام ابن حزم الظاهري توفي سنة "456" هـ رحمه الله ورضي عنه. ففرق الضلالة يشبه بعضها بعضا، سواء ما كان منها في القرون الخالية، أو ما كان منها في العصور الأخيرة، فكلها متفقة في وجهة واحدة، وهي محاربة الشرائع السماوية، لتبقى للناس شريعة إبليس، وهذا هو المقصود منها في القديم والحديث، فالقائمون بها أعوان لإبليس ودعاة له ولتضليله، وكل العقلاء يعرفون من هو إبليس وما هي أهدافه ومقاصده. فقد وجد في الاشتراكية العصرية أكبر عون له على محاربة الشرائع الإلهية، لتبقى شريعته فقط. ذكرت في الباب الثامن: (الاشتراكية والدين) في الفصل الثاني منه: (محاربة الشيوعية الاشتراكية للإسلام) ما كتبه المدعو (أ. جاكو فينسكي) في صحيفة "برافدا فوستوكا" الشيوعية، فيما يخص صيام شهر رمضان، محاولا بذلك التنقيص من قيمة الإسلام الذي فرض على المسلمين صوم شهر رمضان، وهو كلام جاهل غير عارف لمغزى الدين وحكمة التشريع، وما قاله هذا الشيوعي قال مثله بعض المسؤولين في الشعوب الإسلامية، وقد وقفت - أخيرا - على كلمة كتبها عالم صوفياتي يمدح فيها الصوم، ويظهر ما فيه من أنواع العلاج للمرضى، فأحببت نقلها في خاتمة الكتاب: لنقارن بها بين ما يقوله جهلة الروس الشيوعيون وما يقوله علماؤهم وحكماؤهم في خصوص الصوم. نشرت جريدة "الشعب" اليومية الجزائرية في العدد (3149) بتاريخ 14 ذي الحجة 1393 هـ الموافق لـ 8 جانفي - يناير - 1974 م في الصفحة الثامنة ما يلي تحت عنوان: (العلاج بالصوم) (أعلن العالم السوفياتي "بيرتر انوخين" أن الصوم عن الطعام لفترة طويلة، وتحت إشراف الأطباء يكون علاجا لبعض الأمراض المزمنة، مثل القرحة

المعدية، والربو، ومرض السكر، وقال العالم السوفياتي الخبير في - فيزيولوجيا الأعصاب -: إن الجسم البشري يتحمل الصوم المتواصل عن الطعام لمدة - 40 - يوما، على أن يستهلك الصائم خلال هذه الفترة كمية غير محدودة من السوائل، وقال "انوخين" في حديثه لوكالة "تاس": إن الصوم يعد أحد أنواع العلاج القائم على تنشيط الجهاز العصبي، وذلك من وجهة نظر علم - فيزيولوجيا - الإنسان، وأضاف: إن التجارب العلمية التي أجريت على الحيوانات أثبتت أن الجوع يحدث تغييرات كبيرة في قشرة الدماغ، ابتداء من اليوم الثالث للصوم عن الطعام وأن هذه التغييرات تثير النشاط الدفاعي للجسم مما يؤثر بدوره على التركيب المرضي للشخص الذي لا يستجيب للعلاج العادي بالأدوية). هذا كلام عالم طبيب من أطباء الأجساد في الصوم ومنافعه الجسدية - ولم يهتد فيه إلى المنافع الروحية - فماذا أبقى للجهلة الذين ينظرون إلى الإنسان وكأنه حمار أو بغل يأكل ليقوى على حمل الأثقال، كما مرت الإشارة إلى ذلك في الموضوع المذكور سابقا .. ؟ نقلت هذه الكلمة لنرى من خلالها هذا التناقض العجيب بين العلماء والجهلة من الروس السوفيات الذين يحاربون بجهلهم المطبق الشرائع الدينية التي فرضت الصوم على المؤمنين بها. إن السعادة الروحية التي يشعر بها المؤمنون الصائمون، والأثر الكبير الذي يتركه الصيام في نفوس المسلمين لا يتذوقهما الملاحدة وأعداء الدين، في الصيام لذة تفوق لذة أطيب الأطعمة وأشهى الأشربة، لهذا فهم محرومون منها، وهو حرمان ما بعده حرمان، ولا تظاهيه لذة الطعام الذي لا يصبر عنه أمثال الحيوانات العجماوات ... فما أشبههم بالحيوانات التي لم يركب فيها خالقها العقول المدركة لمنافعها الروحية والبدنية، فهؤلاء قد ركب الخالق فيهم عقولا، ولكنهم أهملوها في جانب الدين والروح، فصاروا أشباه الأنعام التي همها الوحيد هو الأكل والشرب والملذات البدنية، وفي أمثالهم قال الله تعالى في القرآن: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (¬1). لهذا تصدوا لمحاربة الأديان - من جهل ¬

_ (¬1) الآية 12 من سورة محمد عليه الصلاة والسلام.

شيئا عاداه - وهم في هذا من المنهزمين الخاسرين، ومن حالفهم على ضلالهم وإضلالهم كان خاسرا مثلهم، والتوفيق من الله وحده. إن الحق سينتصر على الباطل - إن شاء الله - طال الزمان أو قصر، وإن الباطل سيهزم ويولي الأدبار - بحول الله كذلك - في الحاضر كما هزم في الماضي، وما رفع الباطل رأسه إلا في غفلة الحق عنه، والحق أحق أن يتبع. (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من أهل النار) (ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم). يقول الفقير إلى ربه الغني: عبد اللطيف بن علي بن أحمد بن السلطاني القنطري: إلى هنا انتهى ما أردت جمعه وتحريره من هذا الكتاب الذي عنونته بـ "المزدكية هي أصل الاشتراكية" بعون الله وتوفيقه مع كثرة شغول النفس، ومطالب الحياة، وكان الفراغ من تبييضه في منتصف يوم الخميس العشرين من شهر جمادى الأولى، سنة 1394 هـ أربع وتسعين وثلاثمائة وألف من هجرة خير البرية، الموافق للثالث عشر جوان سنة 1974 م أربع وسبعين وتسعمائة وألف ميلادية. اللهم واجعل عملي خالصا لوجهك الكريم، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، (والسلام على من اتبع الهدى).

فهرس كتاب (المزدكية هي أصل الاشتراكية)

_ الإهداء ........................ 3 تقديم .......................... 5 الباب الأول تمهيد: ما هي المزدكية؟ من ابتدعها؟ أين نبتت شجرتها، ما هي أهدافها؟ الفصل الأول: ما هي المزدكدية؟ وما هي اشتراكية مزدك؟ ............................................................. 11 الفصل الثاني: من ابتدعها ? ......................................................................................... 12 متى ظهرت هذه النحلة؟ .............................................................................................. 12 توضيح دعوته ....................................................................................................... 13 الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها؟ .................................................................................... 14 الباب الثاني أقوال علماء التاريخ في المزدكية وفي دعوتها الفصل الأول: (1) تعريف الشهرستاني لمزدك ونحلته ................................................................................. 17 (2) تعريف المسعودي لها .............................................................................................. 17 معنى أنوشروان ......................................................................................................... 18 (3) ما قاله المؤرخ ابن جرير الطبري .................................................................................... 18 (4) تعريف صاحب المنجد في الأدب والعلوم لها ......................................................................... 19 كيف اتبع الملك (قباذ) مزدك؟ ولماذا؟ .................................................................................... 19 (5) ما قاله ابن النديم في المزدكية والخرمية .............................................................................. 20 ما هي الخرمية؟ ......................................................................................................... 20 (6) ما قاله (يوليوس فلهوزن) في المزدكية والخرمية ....................................................................... 21 وأنهما يريدان أن يجعلا للطبيعة والمرح مكانهما في الدين .................................................................. 22 لهذا ظهر الفن الفاجر الخليع في أسبوع العلم، أو ذكرى عالم الجزائر الفذ الشيخ عبد الحميد ابن باديس ...................... 22 (7) رأي احمد أمين في مذهب المزدكية ................................................................................... 24

فهرس

_ (8) ما قاله المفكر الكبير العلامة ابن خلدون فيها .......................................................... 25 (9) ما قاله (بروكلمان) في المزدكية وأصلها وما تولد منها ................................................... 27 (10) ما قاله النويري في المزدكية وأصحابها، وبما فعله "كسرى أنوشروان" بهم ............................... 27 (11) قول ابن نباتة المصري في هذه الفرقة ................................................................ 29 مثال من عدل كسرى المشرك .............................................................................. 30 (12) ما قاله الملك المؤيد في المزدكية، وكيف لقيت جزاءها؟ ............................................... 30 الفصل الثاني: أنوشروان يأمر بقتل مزدك وإحراق جثته، ثم يتبعه بقتل أصحابه .............................. 31 المقصود من فرق الضلالة صرف الناس عن الشرائع السماوية .............................................. 32 الفصل الثالث: وقفة ها هنا للتأمل والاعتبار ............................................................... 32 مادة الشيوعية والاشتراكية اللغوية .......................................................................... 35 رأيي الاشتراكية والشيوعية في خلاص العالم من الفقر والظلم ................................................ 35 المعتبر إنما هو الأعمال لا الأقوال ........................................................................ 36 دموع صياد العصافير ..................................................................................... 36 الباب الثالث الفصل الأول: الشرائع السماوية وسعادة البشرية ............................................................ 39 الفصل الثاني: ما نتج عن توريد البادئ الأجنبية الهدامة .................................................... 40 الفصل الثالث: الصحافة تنشر ما يساعد على بعث المزدكية ................................................ 40 فهل عندنا صحافيون من هذا الطراز ... ? ................................................................. 41 الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين، من هم المراؤون؟ ..................................................... 42 الباب الرابع الفصل الأول: ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية ................................................................. 49 الفصل الثاني: كيف يكون الدفاع عن الإسلام؟ ............................................................. 49 انتشار شرب الخمور بتساهل من الاشتراكيين ............................................................... 53 الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها ............................................................ 53 الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا ........................................................ 54 التداوي بالخمر، هل يجوز للمسلم أن يستعمل دواء فيه الخمر؟ .............................................. 55 الفصل الخامس: انتهك حرمات الشرع سببه من المبادئ الإلحادية ........................................... 56

فهرس

_ الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام، (فاعبروا يا أولي الأبصار) ............................... 58 الباب الخامس الفصل الأول: العلماء والتعصب ........................................................................ 63 الفصل الثاني: من لا يتعصب لمبدئه فلا خير فيه ....................................................... 63 الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب ............................................................. 64 الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات؟ وما شأنها؟ المدعوة "فضيلة مرابط" الجاهلة تحارب الإسلام، و"كاتب ياسين" يسخر من شعائر الإسلام ................................. 66 ربائب الاستعمار يعملون ضد الإسلام .................................................................... 71 الفصل الخامس: جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا ............................................................................................ 72 الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين ....................................................... 74 الفصل السابع: الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين، ما هو الداعي إلى هذا؟ .................................................................................. 76 أسبوع (الثقافة) يمر كله في الاحتفال بالآثار الرومانية، فهل هذه هي الثقافة؟ ..................................................................................... 76 الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم ....................................... 77 من تعظيم آثار المشركين الدعوة إلى العودة للغة البربرية والتسمي بأسمائهم ................................. 81 الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم واعتزازهم بدينهم ........................................... 83 عمر بن الخطاب يعاتب أبا عبيدة، ويقول له: إن عز العرب إنما كان بالإسلام، لا بغيره .................... 83 عتبة بن غزوان يشيد بنعمة الإسلام وفضله على العرب ................................................... 84 قتادة يكشف عن حالة العرب قبل الإسلام وبعده ........................................................... 85 الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم ........................................................... 90 مواقف بعض علماء الإسلام المشرفة للعلم والدين .......................................................... 94 الباب السادس الفصل الأول: المال في نظر مزدك واشتراكيته .............................................. 101 الفصل الثاني: بالعمل والكد تدرك المآرب ................................................................. 102 ما هو الكنز؟ ............................................................................................ 103

فهرس

_ الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح من بعيد .................................................... 105 الفصل الرابع: من هو أبو ذر؟ استغلال كلمته للدعوة إلى الاشتراكية الملحدة ...................................................................................... 107 عبد الله بن سبأ اليهودي وأبو ذر ........................................................................ 114 الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر ................................... 112 الباب السابع الفصل الأول: هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل؟ ............................................... 121 الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية ............................................... 122 اعتبار العمال إخوة لأرباب الأعمال ..................................................................... 123 المجتمع الإسلامي مجتمع فاضل شغوف بحب فعل الخير والإحسان ..................................... 124 فقراء الصحابة يعتذرون للرسول صلى الله عليه وسلم عن قصر ذات أيديهم في ذلك .............................................................................. 125 الباب الثامن الفصل الأول: الاشتراكية والدين، مظاهر الإسلام ........................................................ 133 (1) القضاء في الإسلام ................................................................................ 134 (2) عقود الزواج والقانون الاستعماري القاضي يتولى المرأة المسلمة عقد زواجها بنفسها .................... 136 (3) الأوقاف ومكانتها في الإسلام وحاجة المسلمين إليها ................................................. 138 (4) المناصب الدينية وإسنادها إلى العاجزين عن القيام بها .............................................. 139 الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام ..................................................... 143 كلمة شيوعي في (برافدا) يذم فيها صوم رمضان ........................................................ 143 كلمة البعثي الاشتراكي الشيوعي ....................................................................... 144 ما يلاقيه المسلمون في (بلغاريا) الشيوعية ............................................................. 147 الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي ............................................ 149 الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية، وشهد شاهد من أهلها ......................................... 150 الفصل الخامس: تمزيق المصحف وإحراقه ............................................................ 155 الباب التاسع الفصل الأول: الاشتراكية الشيوعية، والحرية، والديمقراطية ............................................ 163 معاقبة من ينتقد النظام الاشتراكي الشيوعي ........................................................... 165

فهرس

_ الفصل الثاني: خداع العناوين ............................................................................................... 169 ما هو الاستعمار الجديد؟ ..................................................................................................... 171 الاشتراكية صارت (مودة) العصر ............................................................................................ 171 الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النصل، هيبة الأمة وقوتها في كثرة أفرادها الصالحين لا في القلة الملحدة ......................................................................... 172 الرزق مقسوم من الله مع السعي والعمل ...................................................................................... 175 ما معنى الإقطاع والرجعية؟ من هم التقدميون ومن هم الرجعيون؟ ومن هم الإقطاعيون العصريون؟ ............................ 177 الإسلام يحث على التزوج بالمرأة الولود ...................................................................................... 182 الأولاد الشرعيون (أولاد الحلال) يجب التقليل منهم، أما الأولاد غير الشرعيين (أولاد الحرام) فلا خوف عليهم .................... 185 الباب العاشر الفصل الأول: مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية ......................................................................... 191 تصريح الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة لمراسل صحيفة (لوموند) الفرنسية .......................................................................................................... 192 الرئيس التونسي يعتدي مرة أخرى على عظمة القرآن ومقام الرسالة المحمدية .................................................. 203 الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية .......................................................................... 221 الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني؟ ................................................................................. 223 الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة ..................................................................................... 227 الفصل الخامس: من هم المتهوكون؟ ....................................................................................... 233 غضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب بيان فضل القرآن عما سواه ..................................... 235 نصيحة عمر بن الخطاب إلى قائد جنده سعد بن أبي وقاس ومن معه من الجنود، ويوصيهم بتقوى الله، وأنها العامل المهم في انتصار المسلمين .......................................... 242 الفصل السادس: اعتراف جاسوس فرنسي، وقوله: أن الإسلام دين المحامد والفضائل ..................................................................................................... 244 الفصل السابع: مأساة اليمن، وما وقع فيها من المحن ....................................................................... 249 كيف نجح تحكيم القرآن في إيقاف الحرب بين الملكين

فهرس

_ المرحومين عبد العزيز آل سعود، ويحيى حميد الدين؟ وكيف خابت الاشتراكية ووسعت شقة الخلاف بين قسمي اليمن الشمالي والجنوبي؟ ................... 250 شهادة عالم إيطالي في الإسلام ..................................................................... 254 الباب الحادي عشر الفصل الأول: مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر ...................... 259 الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب ........................................... 262 يصدق العباد في أخبارهم، ولا يصدق الخالق في إخباره .............................................. 264 الباب الثاني عشر الفصل الأول: هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ................................. 269 ازدياد عدد الفقراء في الدول الاشتراكية .............................................................. 270 الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة والإسلام ........................................................... 272 امرأة ق ملتقى الفكر الإسلامي تنكر الأحاديث الصحيحة ............................................ 276 الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والخادم، والمرأة .............................. 280 الفصل الرابع: صون الإسلام للمرآة وابتذال غيره لها ................................................ 283 المرأة المسلمة العصرية تطالب بمساواتها بالرجل حتى في خصائص اللغة العربية .................... 284 المرآة الغربية العاملة وكلمة الفيلسوف الإنكليزي (برتراند راسل) فيها .................................. 290 الفصل الخامس: مثال من صحافة رأيي المرأة العربية المسلمة ....................................... 290 خطيبة النساء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ............................................. 290 كلمة ختامية: رأي الإمام ابن حزم الظاهري في فرق الضلالة ....................................... 293 كلمة لطبيب شيوعي في العلاج بالصوم ........................................................... 295 * تم الطبع على مطابع دار الكتاب الدار البيضاء

تصويبات: بالرغم من العناية المبذولة في التصحيح فقد ظهرت في الكتاب بعض الأخطاء المطبعية، فالمرجو من القارئ أن يتداركها بالتصحيح، كما ظهرت بعض الأوساخ الحبرية، وهي لا تخرج الكلمة عن معناها، فتركت اعتمادا على انتباه القارئ لها. ـ[تم تصحيح الأخطاء في متن الكتاب]ـ

هذا الكتاب جرى العمل في هذا العصر بأن يعرف القراء بالكتاب- الذي هو بين أيديهم- بموجز عنه في آخر صفحات غلافه، وفي هذا التعريف إشارة إلى ما جاء في الكتاب، ليكون باعثا للقارئ على الإلمام والاهتمام بشيء مما جاء فيه. وهذا الكتاب "المزدكية هي أصل الاشتراكية" يتضح مدلول ما حواه من عنوانه، فهو يذكر أن أصل المزدكية ومذهبها صدرا عن رجل مجوسي، جاء في مذهبه بما خالف المتعارف بين الناس في الشرائع والأديان، سواء منها السماوية أو غيرها، ذلك أنه مذهب إباحي، لأباح لأتباعه كل شيء ولو خالف العقل. ومن أجل هذا حاربه العقلاء المدركون لحقوق الناس، ولم يمل إليه إلا الظلمة والفسقة وأصحاب الشهوات البهيمية، وقد عاقه المفكرون، كما نبذه ذوو الرأي الحصيف وأنكروه. وهذا الكتاب - ديني قبل كل اعتبار- يبحث في الاشتراكية- بوضوح وصرحة لا لبس فيهم- ويرجع بها إلى أصلها الأول. وهو المزدكية، كما يحذر المسلمين المتدينين وأهل العقول الصافية من الانخداع بالعنوان الجديد الذي أعطى لوارثة المزدكية في تركتها، وهي الاشتراكية الحديثة، هذه الجرثومة- الميكروب- التي تمكنت من أجسام بعض الشعوب، فأفقدتها حياة الصحة والراحة والهناء، بل هذه الفتنة الصماء عن كل نصيحة، التي افتتن بها بعض من ينسبون إلى الإسلام، والإسلام لا يرتظيها- أبدا- أن تكون بدلا منه وعوضا عنه. فديننا- الإسلام- نهانا عن كل بدعة وفتنة تصرفنا عنه، والفتنة بلية ومصيبة تقضي على الدين. وقد حذرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من الفتن كيفما كان نوعها، فقال: (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من استشرف لها استشرفت له) يعني لا تسمع نصحا ولا تنطق بالحق ولا ترى الرشد والصواب، وقال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن). فالمزدكية المجوسية القديمة والاشتراكية اليهودية الحديثة كلاهما خطر وشر أصيبت بهما الإنسانية الفاضلة، في دينها وعقيدتها وأخلاقها، فهما شيء واحد لمسمى واحد. فقد أصابت فتنة "الاشتراكية" الدين في الصميم، بمبادئها الإلحادية، فعطلت فرائضه، وأخلاقه، زيادة عن أحكامه وحدوده، كما نشرت في الشعوب التي طبقت فيها الكفر، والنفاق، والزندقة، والمعاصي التي لم تكن معروفة قبلها، كما نشرت الجوع والفقر، والخصاصة، والخساسة فيها، وهذا كله س علامات الخسران. وفي هذا الكتاب مقارنة بين المزدكية والاشتراكية في الدعوة والنتيجة، وضمير الفصل في العنوان له مدلوله العربي الخاص. فحذار ... حذار ... أيها العقلاء من هذه الجراثيم والفتن.

§1/1