المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا = تاريخ قضاة الأندلس

النباهي

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم، قَاضِي الْجَمَاعَة بالبلاد الأندلسية، وخطيب حضرتها الْعلية أَعَادَهَا الله لِلْإِسْلَامِ {أَبُو الْحسن بن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد ابْن عبد الله بن الْحُسَيْن النباهي وصل الله سُبْحَانَهُ سعادته، وشكر إفادته} أما بعد حمد الله، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على مُحَمَّد رَسُول الله، فَهَذَا كتاب أرسم فِيهِ بحول الله نبذاً من الْكَلَام فِي خطة الْقَضَاء، وسير بعض من سلف من الْقُضَاة، أَو بلغ رتبه الِاجْتِهَاد، وفيمن يجوز لَهُ التَّقْلِيد وَمن لَا يجوز لَهُ، وصفات الْمُفْتى الَّذِي يَنْبَغِي قبُول قَوْله، والاقتداء بِهِ لمن ذهب إِلَى مقلده، وبالجاري من الْفَتَاوَى على منهاج السداد، وَهل يجوز للمفتي قبُول الْهَدِيَّة من المستفتى، أم هِيَ فِي حَقه من ضروب الرشاء الْمُحرمَة على الْجَمِيع. وَلست أَجْهَل أَن هَذَا الْغَرَض قد سبق لَهُ غَيْرِي، وصنف فِي مَعْنَاهُ أنَاس قبلي؛ لَا كنّى رَأَيْت أَن أُعِيد مِنْهُ الْآن مَا أُعِيدهُ على جِهَة التَّذْكِرَة لنَفْسي، والتنبيه لمن هُوَ مثلي. وَحَاصِل مَا أُرِيد إثْبَاته من ذَلِك فِي هَذَا الْكتاب يرجع على التَّقْرِيب إِلَى أَرْبَعَة أَبْوَاب. فَأَقُول وَالله الْمُوفق للصَّوَاب:؟

الباب الاول في القضاء وما ضارعه

الْبَاب الأول فِي الْقَضَاء وَمَا ضارعه فصل لفظ الْقَضَاء يَأْتِي فِي اللُّغَة على أنحاء مرجعها إِلَى انْقِطَاع الشَّيْء وَتَمَامه. يُقَال: قضى الْحَاكِم إِذا فصل فِي الحكم؛ وَقضى دينه أَي قطع مَا لغريمه قبله بالاداء؛ وقضيت الشَّيْء أحكمت عمله؛ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: " إِذا قضى أمرا " أَي أحكمه وأنفذه. وخطة الْقَضَاء فِي نَفسهَا عِنْد الكافة من أَسْنَى الخطط؛ فَإِن الله تَعَالَى قد رفع دَرَجَة الْحُكَّام، وَجعل إِلَيْهِم تصريف أُمُور الْأَنَام، حكمون فِي الدِّمَاء والأبضاع وَالْأَمْوَال، والحلال وَالْحرَام. وَتلك خطة الْأَنْبِيَاء وَمن بعدهمْ من الْخُلَفَاء: فَلَا شرف فِي الدُّنْيَا بعد الْخلَافَة أشرف من الْقَضَاء. وَلأَجل منيف قدره فِي الأقدار، ولسمو خطره فِي الأخطار، اشْترط الْعلمَاء فِي متوليه، من شُرُوط الصِّحَّة والكمال، مَا تقرر فِي كتبهمْ، واستبعد حُصُول مَجْمُوعه الْأَئِمَّة المقتدى بهم. فقد نقل عَن مَالك بن أنس رَحمَه الله {أَنه كَانَ يَقُول فِي الْخِصَال الَّتِي لَا يصلح الْقَضَاء إِلَّا بهَا: لَا أَرَاهَا تَجْتَمِع الْيَوْم فِي أحد؛ فَإِذا اجْتمع مِنْهَا فِي الرجل خصلتان الْعلم والورع، قدم. قَالَ عبد الْملك بن حبيب فِي كِتَابه: وَإِن لم يكن علم، فعقل وورع} فبالعقل يسئل وَبِه تحصل خِصَال الْخَيْر كلهَا؛ وبالورع يعف؛ وَإِن طلب الْعلم وجده؛ وَإِن طلب الْعقل، إِذا لم يكن عِنْده، لم يجده. وَقد قيل: كثير الْعقل مَعَ قَلِيل الْعلم أَنْفَع من كثير الْعلم مَعَ قَلِيل الْعقل. وَلَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة وَالْحِفْظ، كَمَا قَالَه ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ {: وَإِنَّمَا الْعلم نور يَضَعهُ الله فِي الْقُلُوب. قَالَ الْمُؤلف أدام الله توفيقه} : وَمن قلد الحكم بَين الْخلق وَالنَّظَر فِي شَيْء من أُمُورهم: فَهُوَ أحْوج النَّاس إِلَى هَذَا النُّور وَإِلَى اتصافه بالتذكير والتيقظ والتفطن. وَلذَلِك كَانَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، قَاضِي الْقُضَاة بِبَغْدَاد، يَقُول: من لم تكن فِيهِ، لم يكن

فصل

لَهُ أَن يَلِي الْقَضَاء. وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: لَا يَنْبَغِي أَن يستقضى إِلَّا ذكى، فطن، فهم، فَقِيه، متأن، غير عجول، وَذكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ: لَا يصلح للْقَضَاء إِلَّا الْقوي على أَمر النَّاس، المستخف بسخطهم وملامتهم فِي حق الله، الْعَالم بِأَنَّهُ، مهما اقْترب من سخط النَّاس وملامتهم فِي الْحق وَالْعدْل وَالْقَصْد، اسْتَفَادَ بذلك ثمنا ربيحاً من رضوَان الله {. فصل قَالَ عز الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام: وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْوُلَاة أفضل من غَيرهم. وتفصيل ذَلِك أَن الْولَايَة تشْتَمل على غَرَض شَرْعِي، وغرض طبعي؛ فَنهى عَنْهَا من يغلبه طبعه وهواه، وَأمر بهَا من يكون قاهراً لطبعه، غَالِبا لهواه. فَلَا يتولاها من لَا يملك هَوَاهُ إِلَّا أَن يتَعَيَّن لَهَا؛ فَيجب عَلَيْهِ أَن يتولاها، وَأَن يُجَاهد نَفسه فِي دفع هَوَاهُ مَا اسْتَطَاعَ. وَمِمَّا يُشِير إِلَى التَّرْغِيب فِي الحكم لمن قدر على الْعدْل فِيهِ، قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} " إِن المقسطين عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة، على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن. وكلتا يَدَيْهِ يَمِين الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوه. " وَقَوله " عَن يَمِين الرَّحْمَن " مَعْنَاهُ فِي الْحَالة الْحَسَنَة والمنزلة الرفيعة؛ وَالْعرب تنْسب الْفِعْل الْمَحْمُود وَالْإِحْسَان إِلَى الْيَمين، وضده إِلَى الشمَال أَي الْمنزلَة الخسيسة؛ وَأما الأقساط، فَهُوَ الْعدْل؛ يُقَال: أقسط إِذا عدل. قَالَ الله تَعَالَى: " وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين {" وَفِي كتاب أبي حبيب، عَن ابْن شهَاب، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} قَالَ: " مَا من أحد أقرب مَجْلِسا من الله يَوْم الْقِيَامَة، بعد ملك مصطفى، أَو نَبِي مُرْسل، من إِمَام عدل {" وروى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} قَالَ: " إِن الله مَعَ القَاضِي، مَا لم يحف عمدا. " وَفِي الصَّحِيح: إِذا حكم الْحَاكِم، ثمَّ اجْتهد فَأصَاب، فَلهُ أَجْرَانِ؛ وَإِذا حكم فاجتهد، ثمَّ أَخطَأ، فَلهُ أجر وَاحِد. قَالَ أهل الْعلم: وَالْمرَاد هُنَا بالحاكم، الْبَصِير بالحكومة، المتحري الْعدْل. وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث من يرى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! جعل لَهُ أجرا. وَاحْتج بِهِ أَيْضا أَصْحَاب القَوْل

فصل في الخصال المعتبره في القضاه

الآخر بِأَن الْمُصِيب وَاحِد وَالْحق فِي طرف وَاحِد، لِأَنَّهُ، لَو كَانَ كل وَاحِد مصيباً، لم يسم أَحدهمَا مخطئاً، فَيجمع الضدين فِي حَالَة وَاحِدَة. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل بن مُوسَى فِي إكماله: وَالْقَوْل بِأَن الْحق فِي طرفين هُوَ قَول أَكثر أهل التَّحْقِيق من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء؛ وَهُوَ مروى عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة، وَإِن كَانَ قد حكى عَن كل وَاحِد مِنْهُم اخْتِلَاف فِي هَذَا الأَصْل. وَهَذَا كُله فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. وَأما مَا يتَعَلَّق بِأَصْل وَقَاعِدَة، من أصُول التَّوْحِيد وقواعده، مِمَّا مبتناه على قواطع الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَإِن الْخَطَأ فِي كل هَذَا غير مَوْضُوع، وَالْحق فِيهَا فِي طرف وَاحِد، بِإِجْمَاع من أَرْبَاب الْأُصُول والمصيب فِيهَا وَاحِد، إِلَّا مَا روى عَن عبد الله الْعَنْبَري، من تصويبه الْمُجْتَهدين فِي ذَلِك، وعذره لَهُم؛ وَحكى مثله عَن دَاوُود وَكله لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَقد حكى عَن الْعَنْبَري أَن مذْهبه فِي ذَلِك على الْعُمُوم؛ وَعِنْدِي أَنه إِنَّمَا يَقُول ذَلِك فِي أهل الْملَّة دون الْكَفَرَة؛ وَالِاجْتِهَاد الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ بذل الوسع فِي طلب الْحق وَالصَّوَاب فِي النَّازِلَة. انْتهى. وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! أذن لَهُ أَن يجْتَهد بِرَأْيهِ فِيمَا لم يكن فِي الْكتاب وَالسّنة؛ وَقد ورد: مَا من قاضٍ يقْضِي بِالْحَقِّ إِلَّا كَانَ عَن يَمِينه ملك وَعَن شِمَاله ملك، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَاب. فصل فِي الْخِصَال الْمُعْتَبرَة فِي الْقُضَاة من التَّنْبِيهَات وشروط الْقَضَاء، الَّتِي لَا يتم للْقَاضِي قَضَاؤُهُ إِلَّا بهَا، عشرَة: الْإِسْلَام؛ وَالْعقل؛ والذكورية؛ وَالْحريَّة؛ وَالْبُلُوغ؛ وَالْعَدَالَة؛ وَالْعلم؛ وسلامة حاسة السّمع وَالْبَصَر من الْعَمى والصمم؛ وسلامة حاسة اللِّسَان من الْبكم؛ وَكَونه وَاحِدًا لَا أَكثر؛ فَلَا يَصح تَقْدِيم إثنين على أَن يقضيا مَعًا فِي قَضِيَّة وَاحِدَة، لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض، وَتعذر الِاتِّفَاق وَبطلَان الْأَحْكَام بذلك. ثمَّ من هَذِه الشُّرُوط مَا إِذا عدم فِيمَن قلد الْقَضَاء بِجَهْل، أَو غَرَض فَاسد، ثمَّ نفذ مِنْهُ حكم، فَإِنَّهُ لَا يَصح وَيرد؛ وَهِي الْخَمْسَة الأولى: الْإِسْلَام؛ وَالْعقل؛ وَالْبُلُوغ؛ والذكورية؛ وَالْحريَّة. وَأما الْخَمْسَة الْأُخْرَى، فَينفذ من أَحْكَام من عدمت مِنْهُ

مَا يُوَافق الْحق، إِلَّا الْجَاهِل الَّذِي يحكم بِرَأْيهِ. وَأما الْفَاسِق، فَفِيهِ خلاف بَين أَصْحَابنَا؛ هَل يرد مَا حكم بِهِ، وَإِن وَافق الْحق وَهُوَ الصَّحِيح، أم يمْضِي إِذا وَافق الْحق وَوجه الحكم. وشروط الْكَمَال عشرَة أَيْضا: خَمْسَة أَوْصَاف يَنْتَفِي عَنْهَا، وَخَمْسَة لَا يَنْتَفِي؛ مِنْهَا أَن يكون غير مَحْدُود؛ وَغير مطعون عَلَيْهِ فِي نسبه بِوِلَادَة اللّعان وَالزِّنَا؛ وَغير فَقير؛ وَغير أُمِّي؛ وَغير مستضعف؛ وَأَن يكون فطناً، نزيهاً، مهيباً، حَلِيمًا، مستشيراً لأهل الْعلم والرأي. قَالَ القَاضِي أَبُو الْأَصْبَغ بن سهل: وللحكام الَّذين تجْرِي على أَيْديهم الْأَحْكَام سِتّ خططٍ: أَولهَا الْقَضَاء، وأجله قَضَاء قَاضِي الْجَمَاعَة؛ والشرطة الْوُسْطَى؛ والشرطة الصُّغْرَى؛ وَصَاحب مظالم؛ وَصَاحب رد، وَيُسمى صَاحب رد بِمَا رد عَلَيْهِ من الْأَحْكَام؛ وَصَاحب مَدِينَة؛ وَصَاحب سوق. هَكَذَا نَص عَلَيْهِ بعض الْمُتَأَخِّرين من أهل قرطبة، فِي تأليف لَهُ. وتلخيصه: الْقَضَاء، والشرطة، والمظالم، وَالرَّدّ، وَالْمَدينَة، والسوق. وَإِنَّمَا كَانَ يحكم صَاحب الرَّد فِيمَا استرابه الْحُكَّام، وردوه عَن أنفسهم؛ هَكَذَا سمعته من بعض من أَدْرَكته. وَصَاحب السُّوق كَانَ يعرف بِصَاحِب الْحِسْبَة، لِأَن أَكثر نظره إِنَّمَا كَانَ يجْرِي فِي الْأَسْوَاق، من غش، وخديعة، وتفقد مكيال وميزان وَشبه ذَلِك. وَلَا عجب للْقَاضِي أَن يرفع من عِنْده إِلَى غَيره، كَمَا يرفع غَيره إِلَيْهِ. وحدود الْقُضَاة، فِي الْقَدِيم والْحَدِيث، مَعْرُوفَة، لَا يعارضون فِيهَا، وَلَا تكون إِلَى غَيرهم من الْحُكَّام. وَقد عَددهَا عَليّ بن يحيى، وفسرها فِي كِتَابه؛ فَقَالَ: ويشتمل نظر القَاضِي على عشرَة أَحْكَام: أَحدهَا: قطع التشاجر وَالْخِصَام من المتنازعين، إِمَّا بصلح عَن ترَاض يُرَاد بِهِ الْجَوَاز، وَأما بإجبار بِحكم بِآيَة يعْتَبر فِيهِ الْوُجُوب. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاء الْحق لمن طلبه، وتوصيله إِلَى يَده، إِمَّا بِإِقْرَار، أَو بِبَيِّنَة. وَالثَّالِث: إِلْزَام الْولَايَة للسفهاء والمجانين، والتحجر على الْمُفلس، حفظا للأموال. وَالرَّابِع: النّظر فِي الاحباس، وَالْوُقُوف والتفقد لأحوالها وأحوال النَّاظر فِيهَا. وَالْخَامِس: تَنْفِيذ الْوَصَايَا على شُرُوط الْمُوصى إِذا وَافَقت الشَّرْع؛ فَفِي المعينين يكون التَّنْفِيذ بالاقباض، وَفِي المجهولين يتَعَيَّن الْمُسْتَحق لَهَا بِالِاجْتِهَادِ فَإِن كَانَ لَهَا وصّى، راعاه، وَإِلَّا تولاه. وَالسَّادِس: تزوج

فصل

الْأَيَامَى من الاكفاء، إِذا عدم الْأَوْلِيَاء وأردن التَّزْوِيج. وَالسَّابِع: إِقَامَة الْحُدُود؛ فَإِن كَانَت من حُقُوق الله تَعَالَى، تفرد بإقامتها، إِمَّا بِإِقْرَار يتَّصل بِإِقَامَة الْحَد، وَإِمَّا بِبَيِّنَة أَو ظُهُور حمل من غير زوج؛ وَإِن كَانَت من حُقُوق الأدميين، فبطلب مستحقها. وَالثَّامِن: النّظر فِي الْمصَالح الْعَامَّة، من كف التَّعَدِّي فِي الطرقات والأفنية. وَإِخْرَاج مَالا يسْتَحق من الأجنحة والأفنية. وَالتَّاسِع: تصفى الشُّهُود، وتفقد الْأُمَنَاء، وَاخْتِيَار من يرتضيه لذَلِك. والعاشر: وُجُوه التَّسْوِيَة فِي الحكم بَين القوى والضعيف، وتوخي الْعدْل بَين الشريف والمشروف. وَمن الْإِكْمَال: لجمهور الْعلمَاء أَن للقضاة إِقَامَة الْحُدُود، وَالنَّظَر فِي جَمِيع الْأَشْيَاء، من إِقَامَة الْحُقُوق، وتغيير الْمَنَاكِير، وَالنَّظَر فِي الْمصَالح، قَامَ بذلك قَائِم، أَو اخْتصَّ بِحَق الله. وَحكمه عِنْدهم حكم الْوَصِيّ الْمُطلق الْيَد فِي كل شَيْء، إِلَّا مَا يخْتَص بضبط الْبَيْضَة من إعداد الجيوش، وجباية الْخراج. وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي هَل من نظره مَال الصَّدقَات، والتقديم للْجمع والأعياد، أم لَا، إِذا لم يكن على هَذَا وُلَاة مخصصون من السلطنة، على قَوْلَيْنِ؛ إِلَّا يَخْتَلِفُونَ، إِذا كَانَت هَذِه مُخْتَصَّة بِولَايَة من قبل السلطنة، أَنه لَا نظر لَهُ فِيهَا. وَذهب أَبُو حنيفَة أَنه لَا نظر لَهُ فِي إِقَامَة حد، وَلَا فِي مصلحَة، إِلَّا لطَالب مخاصم، وَلَا تَنْطَلِق يَده إِلَّا على مَا أذن لَهُ فِيهِ، وَحكمه حكم الْوَكِيل الْخَاص. وَمن كتاب الْإِعْلَام بنوازل الْأَحْكَام: خطة الْقَضَاء من أعظم الخطط قدرا، وأجلها خطراً، لَا سِيمَا إِذا اجْتمعت إِلَيْهَا الصَّلَاة. وعَلى القَاضِي مدَار الْأَحْكَام، وَإِلَيْهِ النّظر فِي جَمِيع وُجُوه الْقَضَاء. فصل وكل من ولى الحكم بَين الْمُسلمين، من أَمِير، أَو قَاض، أَو صَاحب شرطة، مسلط الْيَد. وكل مَا كَانَ فِي عقوبتهم من موت، وَكَانَ فِي حد من حُدُود الله تَعَالَى، وأدب لحق، فَهُوَ هدر؛ وَمَا أَتَى من ظلم بَين، مَشْهُور، مُعْتَمد، فَعَلَيهِ الْعود فِي عمده، وَالْعقل فِي خطائه. وَكَذَلِكَ مَا تعمد من إِتْلَاف مَال بِغَيْر حق، وَلَا شُبْهَة، فَذَلِك فِي مَاله، يَأْخُذ بِهِ الْمَظْلُوم إِن شَاءَ مِنْهُ، أَو من الْمَحْكُوم لَهُ بِهِ. من كتاب الِاسْتِغْنَاء لِابْنِ عبد الغفور. وَفِي الْمقنع: قَالَ سَحْنُون: وَإِذا قضى القَاضِي

على رجل يجوز فِي الْأَمْوَال، وَكَانَ الَّذِي قضى لَهُ بِالْمَالِ قد أكله، واستهلكه، وَلم يُوجد عِنْده، كَانَ مَا قضى بِهِ على الرجل على القَاضِي فِي مَاله. وَإِذا لم يجر فِي قَضَائِهِ، وَهُوَ عدل، رضىٍ، وَإِنَّمَا خطأ أخطأه، أَو غلط غلطه، لم يكن عَلَيْهِ شَيْء من خطئه. وَإِذا أقرّ القَاضِي على نَفسه أَنه جَار فِي قَضَائِهِ، إِذا كَانَ قَاضِيا، فِي قتل نفس، أَو قطع يَد، أَو قصاص، أَو جراح، فَمَا أقرّ بِهِ، أَو ثَبت عَلَيْهِ من غير إِقْرَار، أقيد مِنْهُ. قَالَ أَبُو أَيُّوب، فِي بَاب خطأ القَاضِي من الْكتاب الْمُسَمّى: وَقد أقاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَأَبُو بكر، وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا} من أنفسهم. وَمِمَّا تقرر فِي الشَّرِيعَة أَن حكم الْحَاكِم لَا يحل الْحَرَام، وَأَن الْفروج والدماء وَالْأَمْوَال سَوَاء، بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {: إِنَّكُم تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض؛ فأقضى لَهُ على نَحْو مَا أسمع. فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه شَيْئا، فَلَا يَأْخُذهُ، فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار} فَأجرى الله تَعَالَى أَحْكَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! على الظَّاهِر الَّذِي يستوى فِيهِ هُوَ وَغَيره من الْبشر، ليَصِح اقْتِدَاء أمته بِهِ فِي قضاياه، ويأتون مَا أَتَوا من ذَلِك على علم من سنته، إِذْ الْبَيَان بِالْفِعْلِ أولى من القَوْل وَأَرْفَع لاحْتِمَال اللَّفْظ: وَقَوله: " أَقْْضِي لَهُ على نَحْو مَا أسمع " احْتج بِهِ من لَا يُجِيز حكم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ لقَوْله: فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض أَي أفطن لَهَا، وَقَوله: على نَحْو مَا أسمع؛ وَلم يقل: أعلم؛ وَمن يرى حكم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ لَا يلْتَفت إِلَى مَا سمع، خَالف أَو وَافق. قَالَ عِيَاض: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي حكم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ، وَمَا سَمعه فِي مجْلِس نظره. فمذهب مَالك وَأكْثر أَصْحَابه أَن القَاضِي لَا يقْضِي فِي شَيْء من الْأَشْيَاء بِعِلْمِهِ، إِلَّا فِيمَا أقرّ بِهِ فِي مجْلِس قَضَائِهِ، خَاصَّة فِي الْأَمْوَال. وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَجَمَاعَة من أَصْحَاب ملك الْمَدَنِيين، وَغَيرهم، وحكوه عَن مَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي مَشْهُور قوليه، وَأَبُو ثَوْر، وَمن تبعهما، أَنه يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي كل شَيْء من الْأَمْوَال، وَالْحُدُود، وَغير ذَلِك، مِمَّا سَمعه أَو رَآهُ قبل قَضَائِهِ وَبعده، وبمصره وَغَيره. وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنه يقْضى بِمَا سَمعه فِي قَضَائِهِ وَفِي مصره، فِي الْأَمْوَال، لَا فِي الْحُدُود. انْتهى. وَوَقع كَذَلِك فِي الْمَسْأَلَة، بَين الْفُقَهَاء بقرطبة، اخْتِلَاف؛ فَذهب مِنْهُم أَبُو إِبْرَاهِيم، وَمُحَمّد بن الْعَطَّار، فِي آخَرين، إِلَى أَن القَاضِي لَهُ أَن يقْضِي بِعِلْمِهِ دون شُهُود. وَمَال قوم

إِلَى خلاف ذَلِك، وَقَالُوا: إِنَّمَا لم يقْض بِعِلْمِهِ، دون بَيِّنَة، لِأَن فِيهِ تَعْرِيض نَفسه للتهم، وإيقاعها فِي الظنون. وَقد كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الظَّن. قَالَ القَاضِي أَبُو الْأَصْبَغ بن سهل: وَهَذَا عِنْدِي الْقيَاس الصَّحِيح المطرد لمن قَالَ: لَا يقْضِي القَاضِي بِعِلْمِهِ، وَلَا بِمَا سمع فِي مجْلِس نظره، لَكِن الَّذِي قَالَه أَبُو إِبْرَاهِيم وَابْن الْعَطَّار، وَجرى بِهِ الْعَمَل، وَهُوَ عِنْدِي الِاسْتِحْسَان، ويعضده قَول مطرف، وَابْن الْمَاجشون، وَأصبغ فِي كتاب ابْن حبيب، أَن القَاضِي يقْضِي على من أقرّ عِنْده فِي مجْلِس نظره، بِمَا سمع مِنْهُم، وَإِن لم تحضره بَيِّنَة. وَقَالَهُ ابْن الْمَاجشون فِي الْمَجْمُوعَة، وَبِه أَخذ أَبُو سعيد سَحْنُون بن سعيد، وَقَالَهُ أصبغ فِي كِتَابه؛ وَهُوَ ظَاهر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} : " إِنَّمَا أَنا بشر، وَإِنَّكُمْ تخصمون إِلَيّ {فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض؛ فأقضي لَهُ على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ " الحَدِيث. وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام} : " إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ {" مَعْنَاهُ حصره فِي البشرية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاطِّلَاع على بواطن الْخُصُوم، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل شَيْء؛ فَإِن للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} وَصَايَا كَثِيرَة. فللقاضي، على مَا تقرر فِي الْمَسْأَلَة من كَلَام ابْن سهل وَغَيره، أَن يقْضِي بِمَا صَحَّ عِنْده وسَمعه من أَمر الْخَصْمَيْنِ، وَأَن لَهُ أَن ينفذ ذَلِك بَينهمَا، ويمضيه من نظره وَحكمه. قَالَ مَالك: وَإِذا قضى بِمَا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَحكمه نَافِذ. وللحاكم الْمُجْتَهد أَن يتَخَيَّر عَن الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ، وَأَن يَأْخُذ بِمَا يرَاهُ أحوط لدينِهِ وَعرضه. قَالَ: وَإِن لم يكن على مَا قضى بِهِ مَذْهَب الْعلمَاء بذلك الْموضع، فَلَيْسَ لقاض بعده نقضه، وَلَا اعتراضه؛ وَإنَّهُ نَافِذ تَامّ؛ وَإِن ظهر لَهُ فِي نَفسه أَن قَول غير من أَخذ بقوله خير مِمَّا أَخذ بِهِ، كَانَ لَهُ نقضه هُوَ خَاصَّة، وَلم يكن ذَلِك لأحد بعده. وَفِي كتاب الْأَقْضِيَة من الْمُدَوَّنَة: إِذا تبين للْقَاضِي أَن الْحق فِي غير مَا قضى بِهِ، رَجَعَ عِنْده؛ وَإِنَّمَا لَا يرجع بِهِ فِيمَا قَضَت بِهِ الْقُضَاة مِمَّا اخْتلف فِيهِ. قَالَ صَاحب التَّنْبِيهَات: حمل أَكْثَرهم مذْهبه فِي الْكتاب على أَن الرُّجُوع لَهُ، كَيفَ كَانَ حَاله من وهم أَو انْتِقَال رأى، وَهُوَ قَول مطرف وَعبد الْملك. وَوَقع فِي منتخب ابْن مغيث: وتنقسم أَحْكَام الْقُضَاة، على مَذْهَب مَالك وَجَمِيع أَصْحَابه، على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهمَا فِي الحكم الْعدْل الْعَالم: فأحكامه كلهَا نَافِذَة على الْجَوَاز،

فصل في التحذير من الحكم بالباطل او الجهل

وَلَا يتعقب لَهُ حكم؛ وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الحكم الْعدْل الْجَاهِل الْمُقَلّد: فللحكم الَّذِي يَلِي بعده أَن يتعقب أَحْكَامه؛ فَمَا وَافق الْحق. مِنْهَا، نفذ وَمضى، وَمَا خَالف الْحق رده وفسخه؛ وَالْوَجْه الثَّالِث فِي الحكم الجائر المتعسف: فللحكم الَّذِي يَلِي بعده أَن يفْسخ أَحْكَامه كلهَا، وَلَا ينفذ لَهُ حكما. وَمن كتاب سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن بطال: قَالَ ابْن الْمَوَّاز: لَو أَن قَاضِيا نقض حكم قَاض قبله قد كَانَ حكم بِهِ، ثمَّ ولى قاضٍ ثَالِث وعزل الثَّانِي. نظر: فَإِن كَانَ حكم القَاضِي الأول مِمَّا يحكم بِهِ، وَمِمَّا يخْتَلف فِيهِ الْقَضَاء والفتيا، رَأَيْت نقض الثَّانِي لَهُ خطأ صراحاً؛ فَأرى للثَّالِث أَن ينْقض حكم الثَّانِي، وَينفذ حكم الأول، وَإِن كَانَ خلافًا لما يحكم بِهِ الثَّالِث؛ وَإِن حكم الأول خطأ صراحاً مِمَّا لَا اخْتِلَاف فِيهِ، لم أر للثَّالِث أَن يرد حكم الثَّانِي إِلَى مَا حكم بِهِ الأول. فصل فِي التحذير من الحكم بِالْبَاطِلِ أَو الْجَهْل قَالَ الله عز وَجل {: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى. " " ويجرمنكم " مَعْنَاهُ يحملنكم. قَالَه ابْن حبيب. عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} أَنه قَالَ الْحُكَّام ثَلَاثَة. إثنان فِي النَّار وَوَاحِد فِي الْجنَّة. حَكَمٌ حَكَمَ بِجَهْل، فخسر، فَأهْلك أَمْوَال النَّاس، وَأهْلك نَفسه، فَفِي النَّار؛ وحكمٌ حكمَ فخدل أَي جَار، فَأهْلك أَمْوَال النَّاس وَأهْلك نَفسه، فَفِي النَّار؛ وحكمٌ علم، فَعدل فأحرز أَمْوَال النَّاس وأحرز نَفسه، فَفِي الْجنَّة {قَالَ الْهَرَوِيّ فِي كتاب الغريبين لَهُ فِي الحَدِيث: وَرجل علم فخدل أَي جَار يُقَال إِنَّه لخدل غير عدل. ذكر ذَلِك فِي بَاب الْخَاء وَالدَّال. قَالَ ابْن سيدة فِي بَاب الْخَاء مَعَ الدَّال: خدل على خدلاً: ظَلَمَنِي، وخدل علىَّ خدولاً وخدلاً: جَار. وَفِي الحَدِيث: من ولى قَاضِيا، فقد ذبح بِغَيْر سكين. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ أبي ذويب: فقد ذبح بالسكين. وَفِيه: الْولَايَة أَولهَا ملامة، ووسطها ندامة، وَآخِرهَا عَذَاب فِي الْقِيَامَة، إِلَّا من اتَّقى الله عز وَجل. وَفِي الْمُوَطَّأ بَاب مَا يكره من الْقَضَاء مَالك عَن يحيى بن سعيد أَن أَبَا الدَّرْدَاء كتب إِلَى سلمَان الْفَارِسِي أَن: هَلُمَّ إِلَى الأَرْض المقدسة} فَكتب

فصل

إِلَيْهِ سلمَان: إِن الأَرْض لَا تقدس أحدا، وَإِنَّمَا يقدس الْإِنْسَان عمله وَقد بَلغنِي أَنَّك جعلت طَبِيبا تداوي النَّاس: فَإِن كنت تبرى، فَنعما لَك {وَإِن كنت متطبباً، فاحذر أَن تقتل إنْسَانا، فَتدخل النَّار} وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاء، إِذا قضى بَين إثنين، ثمَّ أدبرا عَنهُ، قَالَ: ارْجِعَا {أُعِيد على قضيتكما متطبباً وَالله} وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقَائِل: وليت قَضَاء الْكُوفَة، وَأَنا أرى أَنه لَيْسَ على الأَرْض شَيْء من الْعلم، إِلَّا وَقد سمعته. فَأول مجْلِس جَلَست للْقَضَاء، اخْتصم إِلَيّ رجلَانِ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا {وَفِي المستخرجة: قَالَ مَالك: قَالَ عمر بن الْحُسَيْن: مَا أدْركْت قَاضِيا استقضى بِالْمَدِينَةِ إِلَّا رَأَيْت كآبة الْقَضَاء وكراهيته فِي وَجهه} . وَفِي الصَّحِيح عَن أبي ذَر: قلت: يَا رَسُول الله، أَلا استعملتني {فَضرب بِيَدِهِ على مَنْكِبي، ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَر، إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خزي وندامة، إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا، وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا} فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم على الْعَمَل إِلَّا من وثق بِنَفسِهِ وَتعين لَهُ وأجبره الإِمَام الْعدْل عَلَيْهِ. وَللْإِمَام الْعدْل إِجْبَاره إِذا كَانَ صَالحا، وَله أَن يمْتَنع عَنهُ إِلَّا أَن يتَحَقَّق أَنه لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَة من يصلح للْقَضَاء سواهُ؛ فَلَا يحل لَهُ الِامْتِنَاع حِينَئِذٍ لتعيين الْفَرْض عَلَيْهِ. فصل من الْمَجْمُوع الْمُسَمّى؛ الْمَقْصد الْمَحْمُود: الْقَضَاء محنة وبلية، وَمن دخل فِيهِ، فقد عرض نَفسه للهلاك، لِأَن التَّخَلُّص مِنْهُ عسير؛ فالهروب مِنْهُ وَاجِب، لَا سِيمَا فِي هَذَا الْوَقْت، وَطَلَبه حمق وَإِن كَانَ حسبَة. قَالَه الشّعبِيّ. وَرخّص فِيهِ بعض الشَّافِعِيَّة: إِذا خلصت نِيَّته للحسبة، بِأَن يكون وليه من لَا ترْضى أَحْوَاله؛ وَالْأول أصح لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {: إِنَّا لَا نستعمل على عَملنَا من أَرَادَهُ. وَفِي إِكْمَال الْمعلم: اخْتلف الْعلمَاء فِي طلب الْولَايَة مُجَردا، هَل يجوز أَو يمْنَع، وَأما إِن كَانَ الرزق يرتزقه، أَو فَائِدَة جَائِز يسْتَحقّهُ، أَو لتضييع الْقَائِم بهَا أَو خَوفه حُصُولهَا فِي غير مستوجبها، وَنِيَّته فِي إِقَامَة الْحق فِيهَا؛ فَذَلِك جَائِز لَهُ. وَقد قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام} : " اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض ". وَمن الحَدِيث

الصَّحِيح: من ابْتغى الْقَضَاء، واستعان عَلَيْهِ بالشفعاء، وكل إِلَى نَفسه؛ وَمن أكره عَلَيْهِ، أنزل الله عَلَيْهِ ملكا يسدده. وَمِنْه: من مَال إِلَى الْإِمَارَة وكل إِلَيْهَا، وَمَعْنَاهُ: لم يعن على مَا يتعاطاه؛ والمتعاطى أبدا مقرون بِهِ الخذلان؛ فَمن دعِي إِلَى عمل، أَو إِمَامه فِي الدّين، فَقص نَفسه على تِلْكَ الْمنزلَة، وهاب أَمر الله، رزقه الله المعونة. وَهَذَا مَبْنِيّ على من تواضع لله، رَفعه الله. فَمن الْوَاجِب على كل من ابتلى بِالْقضَاءِ أَن يكثر من التذلل لله، والمراقبة لَهُ عِنْد أَمر وَنَهْيه، وَالْأَخْذ بالشفقة على عباده. فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ} من ولى من أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم، فأشفق عَلَيْهِ {وَمن ولى من أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم، فارفق بِهِ} " وكل قَاض مَطْلُوب مِنْهُ أَن يحكم بِالْعَدْلِ على نَفسه وعَلى غَيره، وَأَن يعْتَقد أَنه حَاكم فِي ظَاهره، مَحْكُوم عَلَيْهِ فِي بَاطِنه. روى اللَّيْث بن سعد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَنه قَالَ: من ولى ولَايَة، فَأحْسن فِيهَا أَو أَسَاءَ، أَتَى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَقد غلت يَمِينه إِلَى عُنُقه؛ فَإِن كَانَ عدلا فِي أَحْكَامه، أطلق من أغلاله وَجعل فِي ظلّ عرش الرَّحْمَن؛ وَإِن كَانَ غير عدل فِي أَحْكَامه، غلت شِمَاله إِلَى يَمِينه، فيسبح فِي عرقه حَتَّى يغرق فِي جَهَنَّم. وَلما تقرر من بلَاء الْقَضَاء، فرَّ عَنهُ كثير من الْفُضَلَاء وتغيبوا، حَتَّى تركُوا. وسجن بِسَبَبِهِ عِنْد الِامْتِنَاع آخَرُونَ، مِنْهُم أَبُو حنيفَة، وَهُوَ النُّعْمَان بن ثَابت، دَعَاهُ عمر بن هُبَيْرَة للْقَضَاء؛ فَأبى؛ فحبسه وضربه أَيَّامًا، كل يَوْم عشرَة أسواط، وَهُوَ متماد على ابايته إِلَى أَن تَركه. وَقد نقل عَن عُثْمَان بن عَفَّان أَنه قَالَ لعبد الله بن عمر بن الْخطاب: اقْضِ بَين النَّاس. قَالَ: لَا أَقْْضِي بَين رجلَيْنِ مَا بقيت} قَالَ: لتفعلن {لَا أفعل} فَإِن أَبَاك كَانَ يقْضِي. قَالَ: كَانَ أبي أعلم مني وأنقى! وَمن غَرِيب مَا يحْكى عَن مسلمة بن زرْعَة، وَقد تكلم فِي تباعات الْقَضَاء، أَنه قَالَ رَأَيْت فِي الأندلس قَاضِيا يدعى مهَاجر بن نَوْفَل الْقرشِي، مَا رَأَيْت مثله فِي الْعِبَادَة والورع. وَلَقَد بَلغنِي فِي مَوته أعظم الْعجب. أَخْبرنِي بِهِ ثِقَات من أهل بَلَده. وَذَلِكَ أَنه لما مَاتَ دفن فِي مقبرتهم لَيْلًا، وَأَظنهُ عهد بذلك، فَلَمَّا أهيل التُّرَاب عَلَيْهِ،

سمعُوا من الْقَبْر كلَاما فَاسْتَمعُوا لَهُ؛ فسمعوه يُنَادي: أنذركم ضيق الْقَبْر وعاقبة الْقَضَاء {قَالَ: فكشفوا عَنهُ، وظنوه حَيا؛ فوجدوه مَكْشُوف الْوَجْه، مَيتا، بحالته الَّتِي قبر بهَا رَحمَه الله وَغفر لنا وَله} وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد فِي كِتَابه، عِنْد ذكر من عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء، فَأبى من قبُوله: اسْتَشَارَ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة، أول الْخُلَفَاء بالأندلس من بني أُميَّة أَصْحَابه، فِي قَاض يوليه على قرطبة. فَأَشَارَ عَلَيْهِ وَلَده هِشَام، وحاجبه ابْن مغيث، فالمصعب بن عمرَان؛ ووقف الِاخْتِيَار عَلَيْهِ. فَوَقع بِنَفس الْأَمِير، وَأمر بِالْإِرْسَال إِلَيْهِ؛ فَلَمَّا قدم مُصعب، أدخلهُ على نَفسه، بِحَضْرَة وَلَده هِشَام، وحاجبه، وخاصة أَصْحَابه؛ فَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء. فَأبى من قبُوله، وَذكر أعذاراً تعوقه عَنهُ؛ فَردهَا الْأَمِير وَحمله على الْعَزِيمَة، وأصر مُصعب على الإباية الْبَتَّةَ؛ فاغضب الْأَمِير، وهاج غَضَبه، وَأطَال الإطراق؛ ثمَّ رفع رَأسه إِلَى مُصعب وَقَالَ: اذْهَبْ {عَلَيْك العفا وعَلى الَّذين أشاروا بك} وَلما أَرَادَ هِشَام للْقَضَاء بقرطبة زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن، وعزم عَلَيْهِ، خرج مِنْهَا فَارًّا بِنَفسِهِ، على مَا حَكَاهُ ابْن حَارِث. فَقَالَ هِشَام عِنْد ذَلِك: لَيْت النَّاس كلهم كزياد، حَتَّى ألغى أهل الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا {وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء من الْفُقَهَاء بالأندلس فَأبى من قبُوله، إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن بار، دَعَاهُ إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن لقصة رفعت من قدره عِنْده؛ فأباه فَأرْسل إِلَيْهِ بذلك هَاشم بن عبد الْعَزِيز صَاحبه؛ فَامْتنعَ عَلَيْهِ وَلم يجد فِيهِ حِيلَة؛ فَأَعَادَ إِلَيْهِ الْأَمِير هاشماً بِوَصِيَّة يَقُول: إِذا لم تقبل قضاءنا، فَاحْضُرْ مَجْلِسنَا، وَكن أحد الداخلين علينا، الَّذين نشاورهم فِي أمورنا، ونسمع مِنْهُم فِي رعيتنا. فَلَمَّا اسْتمع رسَالَته، قَالَ: يَا أَبَا خَالِد، إِن ألح عَليّ الْأَمِير فِي هَذَا وَمثله، هربت وَالله} بنفسي من بَلَده! فَمَا لي وَله؟ فَأَعْرض عَنهُ الْأَمِير عِنْد ذَلِك، وَعلم أَنه لَيْسَ من صَيْده. وَمِنْهُم أبان بن عِيسَى بن دِينَار، ولاه الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَضَاء كورة جيان؛ فَأبى ولح. فَأمر الْأَمِير بإكراهه على الْعَمَل وَأَن يُوكل بِهِ نَفرا من الحرس، يحملونه إِلَى حَضْرَة جيان، فيجلسونه هُنَاكَ مجْلِس الْقَضَاء، ويأخذونه بالحكم بَين

النَّاس. فأنفذ الوزراء أمره، وَسَار بِهِ الحرس، فأقعدوه بجيان؛ فَحكم بَين النَّاس يَوْمًا وَاحِدًا. فَلَمَّا أَتَى اللَّيْل، هرب على وَجهه؛ فَأصْبح النَّاس يَقُولُونَ: هرب القَاضِي {فَرفع الْخَبَر إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد؛ فَقَالَ: هَذَا رجل صَالح فر بِدِينِهِ} فليسئل عَن مَكَانَهُ ويؤمن مِمَّا أكره {وَمن أهل سرقسطة، قَاسم بن ثَابت بن عبد الْعَزِيز الفِهري، صَاحب كتاب الدَّلَائِل فِي شرح غَرِيب الحَدِيث. دعِي للْقَضَاء بِبَلَدِهِ؛ فَامْتنعَ من ذَلِك. فَلَمَّا اضطره الْأَمِير وعزم عَلَيْهِ، استمهله ثَلَاثَة أَيَّام، يستخير فِيهَا الله عز وَجل} فَمَاتَ خلال تِلْكَ الْمدَّة. فَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَنه دَعَا الله تَعَالَى فِي الاستكفاء؛ فكفاه وستره. وَصَارَ حَدِيثه موعظة فِي زَمَانه. قَالَه أَحْمد بن مُحَمَّد. وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء، فِي عصرنا هَذَا المستأخر، فأباه وَامْتنع من قبُوله، الْفَقِيه أَبُو عِيسَى أَحْمد بن عبد الْملك الإشبيلي، عرضه عَلَيْهِ الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر مُدبر أَمر الْخَلِيفَة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه، عَن أَمر الْخَلِيفَة مرَّتَيْنِ؛ فَلم يجد فِيهِ حِيلَة. أولاهما إِذْ توفّي قَاضِي قرطبة مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب، سنة 381؛ أحضرهُ وخاطبه مشافهة بِمحضر الوزراء؛ فَقَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد بِاللَّه اختارك للْقَضَاء، وَرَأى تقديمك مُبَارَكًا لَك فِيهِ. فَقَالَ: أعوذ بِاللَّه من ذَلِك {لست، وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} اتهمَ إِلَى هَذَا وَلَا أقبله الْبَتَّةَ {فَإِنِّي لَا أَسْتَطِيع وَلَا أصلح وَمَا أفتى النَّاس فِي ذَلِك إِلَّا وَأَنا مُضْطَجع أَكثر أوقاتي لكبرى وضعفي. وَوَاللَّه} لقد صدقتك {فَانْظُر للْمُسلمين وانصح لإمامك وَفقه الله} فَتَركه. وَمِمَّنْ جاهر بالإصرار على الإباية من الْقَضَاء، مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي، أَرَادَهُ الْأَمِير مُحَمَّد لتقليد الْقَضَاء بجيان؛ وَأمر الوزراء أَن يجلسوه ويلزموه ذَلِك؛ فَفَعَلُوا وأدوا إِلَيْهِ رِسَالَة الْأَمِير. فَأبى عَلَيْهِم وَنَفر نفوراً شَدِيدا؛ فلاطفوه وخوفوه بادرة السُّلْطَان؛ فَلم يزدْ إِلَّا أباء ونفوراً. فَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد بلجاجه واعياء الْحِيلَة عَلَيْهِم فِي إجَابَته. فَوَقع الْأَمِير توقيعاً غليظاً مَعْنَاهُ: إِن من عاصانا، فقد أحل بِنَفسِهِ وَدَمه. فَلَمَّا قرأوه على الْخُشَنِي، نزع قلنسوته من رَأسه وَمد عُنُقه وَجعل يَقُول: أَبيت كَمَا أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، إباية إشفاق، لَا إباية نفاق!

فَكَتَبُوا إِلَى الْأَمِير بِلَفْظِهِ؛ فَكتب إِلَيْهِم أَن سلمُوا أمره وأخرجوه عَن أَنفسكُم {فَقَالُوا لَهُ: انْصَرف} فَانْطَلق عَنْهُم وَلم يهيجوه بعد. وَقد شدد بعض الْعلمَاء على الفار مِنْهُ، إِذا كَانَ مِمَّن توفرت فِيهِ دواعيه. فَنقل عَن سَحْنُون أَنه قَالَ: إِذا كَانَ الرجل أَهلا لخطة الْقَضَاء، فاستعفى مِنْهَا، عوفى مِنْهَا إِن وجد لَهَا عوض مِنْهُ؛ وَإِن لم يُوجد، أجبر عَلَيْهَا؛ فَإِن أَبى، سجن؛ فَإِن أَبى، ضرب. قَالَ الشَّعْبَانِي: فَإِن لم يُوجد غير وَاحِد مِمَّن يشكل للْقَضَاء، أجبر عَلَيْهِ بالسجن وَالضَّرْب. وَمن جَامع كتاب الِاسْتِغْنَاء: وَإِن كَانَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الْعَمَل غير عدل، لم يجز لأحد إعانته على أُمُوره، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي فعله؛ فَيجب لَهُ أَن يصبر على الْمَكْرُوه، ويدع الْعَمَل مَعَه؛ وَإِن كَانَ عدلا، جَازَ بِالْعَمَلِ مَعَه، وَيسْتَحب لَهُ إعانته. انْتهى. وَالَّذِي يظْهر من كَلَام مَالك، الْأَخْذ بِالتّرْكِ، والتحذير من الْولَايَة على كل تَقْدِير، فقد روى عَنهُ ابْن وهب فِي الرجل يدعى للْعَمَل، فَيكْرَه أَن يُجيب إِلَيْهِ، وَخَافَ على دَمه، وَجلد ظَهره، وَهدم دَاره. كَيفَ ترى فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: أما هدم دَاره وَجلد ظَهره وسجنه، فَإِنَّهُ يصبر على ذَلِك، وَيتْرك الْعَمَل خير لَهُ، وَأما أَن يُبَاح دَمه وَلَا أَدْرِي مَا حد ذَلِك، وَلَعَلَّه فِي سَعَة من ذَلِك إِن عمل. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: إِن دعِي إِلَى الْعَمَل، فَأبى، وخشي ضرب ظَهره أَو على دَمه أَو سجنه، فَأَما الضَّرْب والسجن، فَإِن صَبر، فَهُوَ أفضل؛ وَأما دَمه، فَإِن عمل، فعله فِي سَعَة أَن يجْرِي الْعدْل والإنصاف؛ وَإِن لم يُمكنهُ، لم يجز لَهُ أَن يتَعَدَّى الْحق، ويصبر على مَا يلْحقهُ من الْمَكْرُوه، إِذْ لَا يجوز لَهُ أَن يبطل حق الْمُسلمين وحريمهم لنَفسِهِ. وَمن كتاب ابْن حَارِث. لما توفّي يحيى بن معن، بَقِي النَّاس بِلَا قَاض نَحوا من سِتَّة أشهر، روى فِيهَا الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فِي الإيتاء للْقَضَاء. فقلق النَّاس لذَلِك؛ فَقَالَ: وَالله {مَا يَمْنعنِي من التَّعْجِيل إِلَّا النّظر لَهُم} فَإِنِّي لَا أجد رجلا أرضاه، غير وَاحِد، وَهُوَ لَا يجيبني! فَقَالَ لَهُ أحد جُلَسَائِهِ: فَإِذا أرضيته للْقَضَاء، وأباه، فإلزمه أَن يدلك على سواهُ. فأحضر يحيى بن يحيى وألزمه أَن يُشِير عَلَيْهِ، إِذْ لم يجبهُ. فَامْتنعَ من الْوَجْهَيْنِ مَعًا، الْولَايَة وَالدّلَالَة، وَقَالَ: قد صدقت عَن نَفسِي لمعرفتي بهَا؛ وَلنْ

أتقلد الدّلَالَة على غَيْرِي، فَإِنَّهُ، إِن جَار، شاركته فِي جوره {فاغضب ذَلِك الْأَمِير ولح فِي أَن لَا يعفيه. وألزمه صَاحب رسائل غدابه إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع، فأجلسه مجْلِس الحكم، وَقَالَ للخصوم: هَذَا قاضيكم} فَلبث يحيى على تِلْكَ الْحَال ثَلَاثًا، وَهُوَ لَا يمد يَده لكتاب، وَلَا يتَكَلَّم مَعَ أحد، إِلَى أَن ضَاقَ صَدره؛ فَكتب إِلَى الْأَمِير يُشِير بإبراهيم ابْن الْعَبَّاس؛ فقلده، وكف عَن يحيى. وَمِمَّنْ تخلف عَن قبُول خطة الْقَضَاء، الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي. فراجع أَمِير الْمُؤمنِينَ، عِنْد الْعَزْم عَلَيْهِ فِي التَّوْلِيَة، بِأُمُور مِنْهَا أَن قَالَ لَهُ: إِن هَذَا الْأَمر لَا يصلح لَهُ من يشركك فِي نسبك. وَتوقف عَن الْعَمَل حَتَّى ترك. وَهُوَ الْقَائِل: من ولي الْقَضَاء، وَلم يفْتَقر، فَهُوَ سَارِق؛ وَمن لم يصن نَفسه، لم يَنْفَعهُ الْعلم. وبمثل مقَالَة الشَّافِعِي فِي الِاعْتِذَار عَن قبُول الْقَضَاء، أَشَارَ عبد الْملك بن حبيب على عبد الرَّحْمَن ابْن الحكم، فِي نازلة القَاضِي إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الْقرشِي؛ وَهِي النَّازِلَة الَّتِي تنْسب لَهُ. وللفقيه يحيى بن يحيى السُّورَة على الْخَلِيفَة؛ فَقَالَ لَهُ ابْن حبيب وَأما القَاضِي، فَلَا يَنْبَغِي للأمير أعزه الله {أَن يُشْرك فِي عدله من يشركهُ فِي حَسبه. فعزل الْأَمِير الْقرشِي قاضيه، وَذَلِكَ آخر سنة 213. وَولي الْقَضَاء مَكَانَهُ مُحَمَّد بن سعيد. وَعرض أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد على الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي قَضَاء الْمَدِينَة، وجائزته أَرْبَعَة آلَاف دِينَار. فَامْتنعَ؛ فَأبى الرشيد أَن يلْزمه، فَقَالَ: وَالله} يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {لِأَن يحنقني الشَّيْطَان أحب إِلَيّ من أَن أَلِي الْقَضَاء} فَقَالَ الرشيد: مَا بعد هَذَا شَيْء {وأعفاه، وَأَجَازَهُ بألفي دِينَار. وَرَأَيْت فِي كتاب تَرْتِيب المدارك تصنيف القَاضِي عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض وَمن خطه نقلت، وَقد ذكر عبد الله بن فروخ الْفَارِسِي، فَقِيه القيروان فِي وقته؛ فَقَالَ: كَانَ أكره النَّاس فِي الْقَضَاء. وَكَانَ يَقُول: قلت لأبي حنيفَة: مَا مَنعك أَن تلِي الْقَضَاء؟ فَقَالَ لي: يَا ابْن فروخ} الْقُضَاة ثَلَاثَة: رجل يحسن العوم، فَأخذ الْبَحْر طولا، فَمَا عساه أَن يعوم، يُوشك أَن يكل فيغرق؛ وَرجل بعومه، عَام يَسِيرا فغرق؛ وَرجل لَا يحسن العوم، ألْقى بِنَفسِهِ على المَاء، فغرق من سَاعَته. وَمن الْكتاب الْمُسَمّى أَن روح بن حَاتِم أرسل إِلَى ابْن فروخ ليوليه الْقَضَاء فَامْتنعَ؛

فَأمر بِهِ أَن يرْبط ويصعد بِهِ على سقف الْجَامِع؛ فَقيل لَهُ: تقبل؟ فَقَالَ: لَا {فَأخذ لِيطْرَح؛ فَلَمَّا رأى الْعَزْم قَالَ: قبلت. فأجلس فِي الْجَامِع وَمَعَهُ حرس؛ فَتقدم إِلَيْهِ خصمان؛ فَنظر إِلَيْهِمَا وَبكى طَويلا؛ ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ لَهما: سألتكما بِاللَّه} أَلا أعفيتماني من أنفسكما، وَلَا تَكُونَا أول مشوش عَليّ {فرحماه، وقاما عَنهُ. فَأعْلم الحرس بذلك روحاً؛ فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقولُوا لَهُ يُشِير علينا بِمن نولي أَو مَا قبل. فَقَالَ: إِن يكن، فعبد الله بن غَانِم؛ فَإِنِّي رَأَيْته شَابًّا لَهُ صبَابَة يَعْنِي بمسائل الْقُضَاة. فَعَلَيْك بِهِ} فَإِنَّهُ يعرف مِقْدَار الْقَضَاء. فولى ابْن غَانِم؛ فَكَانَ يشاوره فِي كثير من أُمُوره وَأَحْكَامه؛ فأشفق ابْن فروخ من ذَلِك، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أخي {لم أقبلها أَمِيرا أقبلها وزيراً} وَخرج إِلَى مصر هرباً من ذَلِك وورعاً، وَمَات هُنَالك. وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء بإفريقية، فَامْتنعَ مِنْهُ، أَبُو ميسرَة أَحْمد بن نزار. فَلَمَّا عرض عَلَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ {إِنَّك تعلم أَنِّي انْقَطَعت إِلَيْك، وَأَنا ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة} فَلَا تمكنهم مني {فَمَا جَاءَ الْعَصْر إِلَّا وَقد توفّي. فَغسل وكفن وَخرج بِهِ. فَوجه إِلَيْهِ الْأَمِير إِسْمَاعِيل الْعَبْدي كفناً وطيباً فِي الأطباق؛ فوافاه الرَّسُول على النعش؛ فَجعل عَلَيْهِ الْكَفَن من فَوق. وَمن غَرِيب مَا حكى عَنهُ أَنه بَينا هُوَ يتهجد لَيْلَة من اللَّيَالِي ويبكي وَيَدْعُو، إِذا بِنور عَظِيم، خرج لَهُ من حَائِط الْمِحْرَاب، وَوجه كَأَنَّهُ الْبَدْر. فَقَالَ: تملأ، يَا أَبَا ميسرَة} من وَجْهي: فَإِنِّي رَبك الْأَعْلَى {فبصق فِي وَجهه وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا مَلْعُون} يَا شَيْطَان {لعنك الله} قَالَ الْمُؤلف رَضِي الله عَنهُ {: التَّوْفِيق صحب ابْن نزار عِنْد مشاهدته لما أخبر عَنهُ بحائط محرابه؛ فثبتت الْمعرفَة قدمه، وأنطقت بِالصَّوَابِ لِسَانه. فذات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ ذَات مَوْصُوفَة بِالْعلمِ، مدركة بِلَا إحاطة، وَلَا مرءية بالأبصار فِي دَار الدُّنْيَا؛ وَهِي مَوْجُودَة بحقائق الْإِيمَان، من غير حد، وَلَا إحاطة، وَلَا حُلُول؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لَا تُدْرِكهُ؛ ينظر إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة بالأبصار، بِغَيْر إحاطة، وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة. وَمن بَاب التمنع عَن المسارعة إِلَى الْأُمُور الَّتِي يخَاف من الدُّخُول فِيهَا، السُّقُوط فِي الْفِتْنَة، مَا جرى لجَعْفَر بن الْحسن بن الْحسن الأمدي قَاضِي بلنسية آخر أَيَّام قَضَائِهِ بهَا. وَذَلِكَ أَنه بُويِعَ لمروان بن عبد الْعَزِيز ببلنسية، عِنْد انْقِرَاض الدولة اللمتونية، طلب بِالشَّهَادَةِ فِي بيعَته فَقَالَ: وَالله} لَا أفعل وبيعة تاشفين فِي عنقِي {ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ}

فصل

اقبضني إِلَيْك {قَالَ ابْن الْأَبَّار فِي تكملته، وَقد ذكره: فَتوفي فِي ليلته وَدفن فِي الْغَد. وَكَانَ رجلا صَالحا. ورعاً، مجاب الدعْوَة. وَكَانَت بيعَة مَرْوَان فِي صفر سنة 540. وَذكر يحيى بن إِسْحَاق أَن هشاماً، لما ولي، قيل لَهُ: لَا يتعدل مَا تُرِيدُ إِلَّا بِولَايَة زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن على الْقَضَاء} فَبعث إِلَيْهِ؛ فتمنع؛ فألح عَلَيْهِ هِشَام، وأحضر الوزراء؛ وكلموه فِي ذَلِك عَن الْأَمِير وعرفوه عزمه. فَقَالَ لَهُم: أما إِذْ عزمتم، وأكرهتموني على الْقَضَاء، فأخبركم مَا أبدأ بِهِ على الْمَشْي إِلَى مَكَّة. إِن وليتموني، وَجَاءَنِي أحد متظلماً مِنْكُم، إِلَّا أخرجت من أَيْدِيكُم مَا يَدعِيهِ، ورددته عَلَيْهِ، وكلفتكم الْبَيِّنَة لما أعرف من ظلمكم {فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك، عرفُوا صدقه؛ فَعَلمُوا عِنْد الْأَمِير فِي معافاته. فَقيل ليحيى بن يحيى: أهوَ وَجه الْقَضَاء؟ قَالَ: نعم} فِيمَن عرف بالظلم وَالْقُدْرَة! فصل هَذِه الْمَسْأَلَة، الَّتِي هِيَ إِخْرَاج مَا يَدعِيهِ الطَّالِب من يَد الْمَطْلُوب الموسوم بالظلم، وَقع من أَمْثَالهَا فِي أُمَّهَات الْكتب نَظَائِر؛ مِنْهَا فِي الْعُتْبِيَّة قَالَ فِي سَماع يحيى: قلت: فقوم عرفُوا بِالْغَصْبِ لأموال النَّاس من ذَوي الاستطالة بالسلطان؛ ثمَّ جَاءَ الله بوال أنصف مِنْهُم وأعدى عَلَيْهِم؛ فَلَا يجد الرجل من يشْهد على مُعَاينَة الْغَصْب، ويجد من يشْهد على حق أَنهم يعرفونه ملك الْمُدَّعِي، ثمَّ رَأَوْهُ بيد هَذَا الظَّالِم، لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا صَار إِلَيْهِ إِلَّا أَن الطَّالِب كَانَ يشكو إِلَيْهِم ذَلِك، أَو لَا يشكوه. قَالَ: إِذا كَانَ من أهل القهرة والتعدي وَمن يقدر على ذَلِك، وَالْبَيِّنَة عادلة، فَذَلِك يُوجب للْمُدَّعِي أَخذ حَقه مِنْهُ، إِلَّا أَن يَأْتِ الظَّالِم بِبَيِّنَة عادلة على شِرَاء صَحِيح، أَو علمية لمن كَانَ يَأْمَن ظلمه، أَو يَأْتِ بِوَجْه حق ينظر لَهُ فِيهِ. قَالَ: فَإِن جَاءَ بِبَيِّنَة عادلة على شِرَائِهِ، وَزعم البَائِع أَن ذَلِك البيع عَن فَوق من سطوته، وَهُوَ لَا يقدر عَلَيْهِ؛ قَالَ: يفْسخ البيع إِن ثَبت أَنه من أهل الظُّلم والاستطالة. قَالَ: وَإِن زعم البَائِع أَنه بَاعَ وَقبض مِنْهُ الثّمن ظَاهرا، ثمَّ دس إِلَيْهِ سراق، أَخذه مِنْهُ. وَلَو لم يفعل لَهُ ذَلِك لَقِي مِنْهُ شرا قَالَ: لَا يقبل مِنْهُ هَذَا؛ وَعَلِيهِ دفع الثّمن إِلَيْهِ، بعد أَن يحلف الظَّالِم أَنه مَا ارتجعه، وَلَا أَخذه مِنْهُ بعد أَن دَفعه إِلَيْهِ. قَالَ ابْن رشد: أما مَا ذكره من أَن الظَّالِم، الْمَعْرُوف بِالْغَضَبِ لأموال النَّاس والقهرة لَهُم عَلَيْهِم، لَا ينْتَفع بحيازته مَال الرجل فِي وَجهه، وَلَا يصدق من أجلهَا على مَا يَدعِيهِ من

شِرَاء أَو هبة، أَو صَدَقَة يُرِيد، وَإِن طَال ذَلِك فِي يَده أعواماً: أما إِذا أقرّ بِأَصْل الْملك لمدعيه، وَقَامَت لَهُ بَيِّنَة بذلك، فَهُوَ صَحِيح لَا أعلم فِيهِ اخْتِلَافا، لِأَن الْحِيَازَة لَا توجب الْملك؛ وَإِنَّمَا هِيَ دَلِيل عَلَيْهِ بِوَجْه تَصْدِيق غير الْغَاصِب فِيمَا ادَّعَاهُ من تصييره إِلَيْهِ، لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يجوز أَخذ مَال أحد، وَهُوَ حَاضر لَا يَدعِيهِ وَلَا يَطْلُبهُ، إِلَّا وَقد صَار إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ، إِذا حازه فِي وَجهه الْعشْرَة الأعوام وَنَحْوهَا {لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} : من حَاز شَيْئا عشر سِنِين، فَهُوَ لَهُ {مَعْنَاهُ عِنْد أهل الْعلم بِدَعْوَاهُ مَعَ يَمِينه؛ وَأما الْغَاصِب فَلَا دَلِيل لَهُ فِي كَون المَال بِيَدِهِ؛ وَإِن طَالَتْ حيازته لَهُ فِي وَجه صَاحبه لما يعلم من غصبه لأموال النَّاس والقهرة لَهُم عَلَيْهِم. قَالَ: وَأما إِن أثبت الْغَاصِب الشِّرَاء وَدفع الثّمن، فَادّعى البَائِع أَنه أَخذه مِنْهُ فِي السِّرّ، بعد أَن دفع إِلَيْهِ، فَهُوَ مُدع لَا دَلِيل لَهُ على دَعْوَاهُ، فَوَجَبَ أَن يكون القَوْل قَول الْغَاصِب الْمُدعى عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام} : الْبَيِّنَة على الْمُدعى، وَالْيَمِين على من أنكر. وَقد روى عَن يحيى بن يحيى أَنه قَالَ: إِذا قَالَ البَائِع إِنَّه أعطَاهُ الثّمن بِالظَّاهِرِ، فَدس عَلَيْهِ من أَخذه مِنْهُ، فَإِنَّهُ ينظر إِلَى المُشْتَرِي؛ فَإِن عرف بالعداء وَالظُّلم والتسلط، فَإِنِّي أرى القَوْل قَول البَائِع، مَعَ يَمِينه لقد دفع المَال إِلَيْهِ قهرة وَغَلَبَة، وَيرد مَاله عَلَيْهِ بِغَيْر أَن يرد إِلَيْهِ الثّمن. وَقَالَهُ ابْن الْقَاسِم. دفع ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، وَهُوَ إغراق. فَإِذا أقرّ أَنه دفع إِلَيْهِ، ثمَّ أدعى أَنه أَخذه مِنْهُ، وَأما لَو لم يقر أَنه قبض الثّمن؛ وَقَالَ: إِنَّمَا أشهدت لَهُ على نَفسِي بِقَبْضِهِ، تقية وخوفاً مِنْهُ! لَا شبه أَن يصدق فِي ذَلِك مَعَ يَمِينه فِي الْمَعْرُوف بِالْغَصْبِ وَالظُّلم؛ وَإِنَّمَا يكون مَا قَالَ يحيى من تَصْدِيق البَائِع فِيمَا ادَّعَاهُ من أَنه دس إِلَيْهِ فِي السِّرّ من أَخذ الثّمن مِنْهُ، إِذْ أشهد لَهُ أَنه فعل ذَلِك بِغَيْرِهِ. وَنَرْجِع إِلَى مَا كُنَّا بسبيله؛ فَنَقُول: وَمِمَّنْ عرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فأباه، الشَّيْخ الصَّالح بَقِي بن مخلد. كَانَت لَهُ خَاصَّة بالأمير الْمُنْذر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قبل ولَايَته الْملك؛ وَكَانَ قد قدم إِلَيْهِ فِي حَيَاة وَالِده الْبُشْرَى بالخلافة، لرؤيا قصها عَلَيْهِ. فَلَمَّا ولي الْخلَافَة، ضاعف لَهُ الْبر والكرامة والإعظام والتبجلة، وأحضره وأراده لولاية الْقَضَاء. فَأبى عَلَيْهِ. فَذهب إِلَى استكراهه. فَقَالَ الشَّيْخ بَقِي: مَا هَذَا جَزَاء محبتي وانقطاعي وصاغيتي؟

فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر: أما إِذْ أبيته، فأشر عَليّ بقاض ترضاه للْمُسلمين {فَأبى عَلَيْهِ؛ فضايقه، وعزم عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: لَا بُد أَن تلى أَو تُشِير} فَقَالَ: أُشير عَلَيْك بِرَجُل من آل زِيَاد، يسكن بَريَّة، يعرف بعامر بن مُعَاوِيَة. فَقبل مِنْهُ، وَأرْسل فِي عَامر؛ فولاه. وَمِنْهُم أَبُو غَالب عبد الرؤوف بن الْفرج بن أبي كنَانَة. كَانَ الْأَمِير عبد الله بن مُحَمَّد بِهِ معجباً، وَله مفضلاً؛ وَكَانَ قد اشْتهى رُؤْيَته من غير أَن يستدعيه؛ فتعرض لذَلِك يَوْم الْجُمُعَة من طاق الساباط: فَرَآهُ عِنْد رَوَاحه إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع، وَأَعْجَبهُ سمته، وَأحب اجتذابه إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا بُد أَن أضمه إِلَى الوزارة أَو الْقَضَاء {فذاكر بِشَأْنِهِ الْوَزير ابْن أبي عَبدة، وَكَانَ صديقا لأبي غَالب؛ فَقَالَ: يَنْبَغِي للأمير أَن لَا يهجم على الرجل بالاستدعاء، حَتَّى يعرف مَا عِنْده فِي ذَلِك. فَقَالَ لَهُ: فَكُن أَنْت الَّذِي يتعرف ذَلِك. قَالَ الْكَاتِب الْمَدْعُو بسكن بن إِبْرَاهِيم: فأرسلني الْوَزير إِلَيْهِ؛ فعرضت عَلَيْهِ مُرَاد الْأَمِير؛ فَتلقى ذَلِك مني بالنطق والتضاحك، حَتَّى أطمعني فِي نَفسه؛ وَجعل يَقُول: كَيفَ كَانَ تنبهكم لنا بعد طول الْغَفْلَة؟ وَمَا نرى هَذَا مِنْكُم عَن صِحَة نِيَّة: فانتم أشح بدنياكم من أَن تعطوا مِنْهَا أحدا شَيْئا، وتشركوا فِيهَا صديقا} قَالَ سكن: فَلَمَّا صرت بِهِ إِلَى الْجد، تنمر لي، وَقَالَ آخر قَوْله: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ {لَئِن عاودتني أَو غَيْرك، أَو بلغتني فِيهِ عَن الْأَمِير عَزِيمَة، لأخْرجَن عَن الأندلس} فَلَا أعودن إِلَيْهَا آخر الدَّهْر {فَترك عَن ذَلِك. وَقدم للْقَضَاء بالجزيرة الخضراء وَمَا يرجع إِلَيْهَا، عبد الله بن أَحْمد بن الْحسن الجذامي النباهي، وَذَلِكَ بِإِشَارَة شَيْخه الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ الإفليلي، أَيَّام ولَايَته الوزارة للمستكفي بِاللَّه. والمستكفي هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله ابْن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر من بني أُميَّة. فَأبى من الْقبُول؛ وَقع الْعَزْم عَلَيْهِ فِي الْعَمَل من الْأَمِير، فنفر، وَقصد الْوَزير وخلابه. وَكَانَ من جملَة مقاله لَهُ: سَأَلتك بِاللَّه} أتعلم أَن الْولَايَة لمثلي أولى من الإباية؟ فأقف عِنْد إشارتك؟ أم تعلم أَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أخي! حَاصِل مَا أرَاهُ أَن الْولَايَة فِي الْوَقْت كَرَامَة وَترك الْعَمَل سَلامَة.

فَقَالَ لَهُ ابْن الْحسن: أبقاك الله {أخْتَار السَّلامَة} وَلَيْسَ يجمل بك أَن تكون نتيجة معرفتي بك تكليفي مَا يصعب عَليّ تحمله {فحاول استبداله بِغَيْرِهِ. وَانْقطع هُوَ للاشتغال بإصلاح حَاله، والاقتصاد على التعيش من مَاله. وَقد ذكره خلف بن عبد الْملك فِي صلته لكتاب القَاضِي أبي الْوَلِيد بن الفرضي؛ فَقَالَ فِيهِ بعد اسْمه: يكنى أَبَا مُحَمَّد؛ أَخذ عَن أبي الْقَاسِم بن الإفليلي كثيرا. وَكَانَ عَالما بالآداب واللغات والإشارات؛ وَله رد على أبي مُحَمَّد بن حزم فِيمَا انتقده على ابْن الإفليلي فِي شَرحه لشعر المتنبي؛ أَخذ عَنهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان شَيخنَا رَحمَه الله} وَعَن سَحْنُون قَالَ: مَاتَ بعض قُضَاة إفريقية. فَقدم رَسُول الْخَلِيفَة، وَجمع الْعلمَاء، واستشارهم فِي قَاض يوليه، فَقيل لشيخه أبي الْحسن بن زِيَاد: هَذَا رَسُول الْخَلِيفَة، يشتشيرك فِي قاضٍ يوليه. فحول وَجهه إِلَى الْقبْلَة؛ فَقَالَ: وَرب هَذِه الْقبْلَة {مَا أعرف بهَا أحدا يسْتَوْجب الْقَضَاء. قومُوا عني} قَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون وَأصبغ: لَا يستقضي إِلَّا من يوثق بِهِ فِي عفافه، وصلاحه، وفهمه، وَعلمه بِالسنةِ والْآثَار وَوجه الْفِقْه؛ وَلَا يصلح أَن يكون صَاحب حَدِيث لَا فقه لَهُ، أَو فَقِيها لَا حَدِيث عِنْده. وَلَا يُفْتى إِلَّا مَا كَانَ هَذَا وَصفه إِلَّا أَن يخبر بِشَيْء سَمعه؛ وَلَا يَنْبَغِي، وَإِن كَانَ صَالحا عفيفاً. أَن يولي إِلَّا أَن يكون لَهُ علم بِالْقضَاءِ. وَمِمَّنْ عرضت عَلَيْهِ الْولَايَة بمالقة، من أَهلهَا، فَأبى وتمنع مِنْهَا، الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي. وَاعْتذر بِأُمُور، مِنْهَا كَثْرَة وَلَده، وتعدد ذَوي رَحمَه وَقد ورد: لَا يحكم القَاضِي إِلَّا لمن تجوز لَهُ شَهَادَته من قومه؛ واستثقل مَعَ ذَلِك القهرة لأهل بَلَده بالحكم من قبله؛ وَكَانَ قد جرى لوالده مُحَمَّد بن الْحسن، آخر أَيَّام ولَايَته الْقَضَاء بكورة رية، مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد الْكثير، من إِعْمَال الْحِيلَة فِي غدره، والإقدام على قَتله. فَقبل الْأَمِير عِنْد ذَلِك معاذيره، وَترك سَبيله ثمَّ جدد الْعَزْم عَلَيْهِ فِي الْولَايَة. قَالَ ابْن فريد فِي كِتَابه: فاستقضى بغرناطة؛ وَكَانَ من أهل النباهة وَالْجَلالَة، توفّي سنة 473. وَذكره ابْن بشكوال فِي صلته. وَمن الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين، الْمُتَقَدِّمين فِي الْعلم وَالدّين، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَيَّاش الْأنْصَارِيّ ثمَّ الخزرجي، أحد أَشْيَاخ بلدنا مالقة، وفريد عصره بهَا عقلا، وفضلاً،

وورعاً وزهداً؛ استدعاه أَمِير الْمُسلمين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن نصر رَحمَه الله وأرضاه {لحضرته؛ فقلده بهَا قَضَاء الْجَمَاعَة وَالْخطْبَة أَيَّام الْجُمُعَة بِمَسْجِد حمرائها؛ فَخَطب جُمُعَة وَاحِدَة، وَأقَام رسم الْقَضَاء ثَلَاثَة أَيَّام حسبَة، إِذْ كَانَ أَولا قد عزم على تَركه، وَالْخُرُوج عَن عهدته؛ فَلم يقبل كسْوَة، وَلَا أَخذ جراية، وأفصح رَابِع يَوْمه بالاستعفاء عَن خطة الْقَضَاء. وَكَانَ أعلم قُضَاة زَمَانه بِالْأَحْكَامِ، وأحفظهم للمسائل، وأبصرهم بالنوازل؛ لاكنه نَفعه الله بِقَصْدِهِ} هاب أَمر الله، وَأثر مَعَ ذَلِك رَاحَة بدنه، وخلاص نَفسه من تبعاته. وَعلم الْأَمِير صدق مقَالَته، وَصِحَّة عزيمته؛ فأعفاه. وارتحل عِنْد ذَلِك بَقِيَّة يَوْمه إِلَى بَلَده، وَتقدم للخطبة وَالصَّلَاة بالجامع مِنْهُ. وَتَوَلَّى ذَلِك إِلَى وَفَاته، وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ مُرَتبا. مُدَّة حَيَاته. فَكَانَ فِي انقباضه عَن الْولَايَة أشبه النَّاس بمُوسَى بن مُحَمَّد ابْن زِيَاد، إِذْ ولاه الْأَمِير عبد الله من بني أُميَّة الْقَضَاء بقرطبة، وَالصَّلَاة مَعًا بِأَهْلِهَا؛ فصلى بِالنَّاسِ جُمُعَة وَاحِدَة، واستعفى فِي الثَّانِيَة، وَالْتزم الْقعُود بداره والتقوت من فائد عقاره. وَإِضَافَة لفظ الْقَضَاء إِلَى الْجَمَاعَة، جرى الْتِزَامه بالأندلس مُنْذُ سِنِين إِلَى هَذَا الْعَهْد. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْجَمَاعَة جمَاعَة الْقُضَاة، إِذْ كَانَت ولايتهم قبل الْيَوْم غَالِبا من قبل القَاضِي بالحضرة السُّلْطَانِيَّة، كَائِنا من كَانَ؛ فَبَقيَ الرَّسْم كَذَلِك. وَأما قَاضِي الْخلَافَة، بالبلاد المشرقية، فيدعى بقاضي الْقُضَاة. وَمِمَّنْ دعى بِهَذَا اللقب بالأندلس من قُضَاة قرطبة، وَكتب لَهُ بذلك عِنْد اسْمه فِي السجلات المنعقدة عَلَيْهِ والمخاطبات الموجهة إِلَيْهِ، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن ذكْوَان الْأمَوِي، وَأَبُو بكر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن وَافد اللَّخْمِيّ؛ وَلم يكن الْأَمر بحدثان ذَلِك كَذَلِك. قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد، وَقد ذكر فِي كِتَابه يحيى بن يزِيد اللَّخْمِيّ: لما دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة قرطبة، وَقَامَ بِالْإِمَامَةِ، ألفى فِيهَا يحيى بن يزِيد قَاضِيا؛ فأثبته على الْقَضَاء، وَلم يعزله إِلَى أَن مَاتَ. قَالَ: وَكَانَ يُقَال لَهُ وللقضاة قبله بقرطبة، قَاضِي الْجند. قَالَ مُحَمَّد بن حَارِث: وَقد رَأَيْت سجلاً عقده سعيد بن مُحَمَّد ابْن بشير بقرطبة، يَقُول فِيهِ: حكم مُحَمَّد بن بشير قَاضِي الْجند بقرطبة. قَالَ: وَإِن تَسْمِيَة القَاضِي الْيَوْم بقاضي الْجَمَاعَة اسْم مُحدث، لم يكن فِي الْقَدِيم. هَذَا مَا ظهر لي رسمه صدر هَذَا الْكتاب، من الْكَلَام. وَفِيه، بِحَسب الْغَرَض الْمَقْصُود من الِاخْتِصَار، غنية كَافِيَة لمتأمله بِعَين الْإِنْصَاف. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب!

الباب الثاني في سير بعض القضاه الماضين وفقر من انباء الائمه المتقدمين

الْبَاب الثَّانِي فِي سير بعض الْقُضَاة الماضين وفقر من أنباء الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين مِنْهَا، قَالَ حميد الطَّوِيل: لما ولي إِيَاس بن مُعَاوِيَة الْقَضَاء، دخل عَلَيْهِ الْحسن، وَإيَاس يبكي؛ فَقَالَ لَهُ: مَا يبكيك؟ فَذكر إِيَاس الحَدِيث: الْقُضَاة ثَلَاثَة، إثنان فِي النَّار، وَوَاحِد فِي الْجنَّة {فَقَالَ الْحسن: إِن مِمَّا نَص الله عَلَيْهِ من نبإ سُلَيْمَان وداوود مَا يرد قَول هَؤُلَاءِ النَّاس. ثمَّ قَرَأَ: " وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين؛ ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلماً " وَلم يذم دَاوُود. ويروى عَن الْحسن أَيْضا أَنه قَالَ: لَوْلَا مَا ذكر الله تَعَالَى من أَمر هذَيْن الرجلَيْن، لرأيت أَن الْقُضَاة قد هَلَكُوا؛ فَإِنَّهُ أثنى على هَذَا بِعِلْمِهِ وَعذر هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. وَأول من قدم قَاضِيا فِي الْإِسْلَام؛ على مَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر، عمر بن الْخطاب: ولاه أَبُو بكر الصّديق وَقَالَ لَهُ: اقْضِ بَين النَّاس؛ فَإِنِّي فِي شغل. وَقد تقدم قَول عُثْمَان ابْن عَفَّان لعبد الله بن عمر: اقْضِ بَين النَّاس: فَإِن أَبَاك كَانَ قَاضِيا. وَنقل عَن مَالك أَن مُعَاوِيَة كَانَ أول من استقضى فِي الْإِسْلَام. وَلما جَاءَت خلَافَة عمر بن الْخطاب، وَفتحت الْبِلَاد، قدم بهَا جملَة من الأكابر؛ فاستقضى شريحاً على الْكُوفَة، وَوجه عبَادَة بن الصَّامِت، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الإثنى عشر، إِلَى الشأم قَاضِيا ومعلماً. وَقدم على قَضَاء الْبَصْرَة كَعْب بن سور بِخَبَر عَجِيب؛ وَذَلِكَ أَن كَعْبًا كَانَ جَالِسا عِنْد عمر، فَجَاءَت امْرَأَة فَقَالَت: مَا رَأَيْت رجلا قطّ أفضل من زَوجي} إِنَّه يبيت ليله قَائِما، ويظل نَهَاره صَائِما {فَاسْتَغْفر لَهَا عمر وَقَالَ: مثلك اثنى بِالْخَيرِ} فاستحيت الْمَرْأَة وَقَامَت رَاجِعَة. فَقَالَ كَعْب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {هلا أُعِيدَت الْمَرْأَة على زَوجهَا؟ فَقَالَ: أذاك أَرَادَت؟ قَالَ: نعم قَالَ: ردوا على الْمَرْأَة} فَردَّتْ. فَقَالَ: لَا بَأْس بِالْحَقِّ تقولينه {إِن هَذَا يزْعم أَنَّك جِئْت تشتكين} قَالَت: أجل إِنِّي

امْرَأَة شَابة، وَإِنِّي أَبْتَغِي مَا يَبْتَغِي النِّسَاء {فَأرْسل إِلَى زَوجهَا وَقَالَ لكعب: اقْضِ بَينهمَا. قَالَ: فَإِنِّي أرى لَهَا يَوْمًا من أَرْبَعَة أَيَّام وَكَانَ زَوجهَا لَهُ أَرْبَعَة نسْوَة فَإِذا لم يكن لَهُ غَيرهَا، فَإِنِّي أَقْْضِي لَهُ بِثَلَاثَة أَيَّام ولياليها يتعبد فِيهَا، وَلها يَوْم وَلَيْلَة. قَالَ عمر: وَالله} مَا رَأْيك الأول بِأَعْجَب إِلَيّ من الآخر {اذْهَبْ} فَأَنت قاضٍ على الْبَصْرَة {وَهَذَا من حُقُوق الزَّوْجَة، إِذا فرط فِيهِ الرجل، ودعت إِلَيْهِ الْمَرْأَة، فَحكم بِهِ عَلَيْهِ وَتطلق من أَجله على زَوجهَا إِذْ امْتنع عَنهُ بِغَيْر عذر، حَسْبَمَا تضمنته مسَائِل هَذَا الْبَاب، فِي مَوْضِعه من كتب الْفِقْه. وعَلى قَول الزُّهْرِيّ: أول قاضٍ فِي الْإِسْلَام ابْن يزِيد بن سعيد. وَقيل: بل، أول قاضٍ كَانَ زيد بن ثَابت. وَقيل أَيْضا مثل ذَلِك عَن أبي الدَّرْدَاء. وَأما أرسخ الصَّحَابَة فِي الْعلم بِالْقضَاءِ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ} فَهُوَ عَليّ بن أبي طَالب من غير خلاف. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {: وأقضاهم عَليّ وَكَانَ عمر بن الْخطاب يتعود من معضلة لَيْسَ فِيهَا أَبُو حسن. وَقَالَ فِي الْمَجْنُونَة الَّتِي أَمر برجمها، وَفِي الَّتِي وضعت لسِتَّة أشهر: فَأَرَادَ عمر إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا؛ فَقَالَ لَهُ عَليّ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا. وَقَالَ لَهُ: إِن الله رَجَعَ الْقَلَم من الْمَجْنُون الحَدِيث. فَكَانَ عمر يَقُول: لَوْلَا عَليّ، هلك عمر} وَقيل لعطاء. أَكَانَ من أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أحد أعلم من عَليّ؟ قَالَ: وَالله أعلمهُ} وَكَانَ مُعَاوِيَة يكْتب فِيمَا ينزل بِهِ ليسأل لَهُ عَليّ بن أبي طَالب عَنهُ؛ فَلَمَّا بلغه قَتله، قَالَ: ذهب الْعلم بِمَوْت عَليّ {وَمن كَلَام ضرار فِيهِ، وَقد طلب مِنْهُ مُعَاوِيَة وَصفه بعد وَفَاته؛ فَقَالَ: كَانَ وَالله} بعيد المدى، شَدِيد القوى، يَقُول فصلا، وَيحكم عدلا، يتفجر الْعلم من جوانبه، وتنطق الْحِكْمَة من نواحيه، إِلَى غير ذَلِك من صِفَاته. وَفِي مُصَنف أبي دَاوُود عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ {قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} إِلَى الْيمن قَاضِيا؛ فَقَالَ: إِن الله عز وَجل سيهدي قَلْبك، وَيثبت لسَانك؛ فَإِذا جلس بَين يَديك الخصمان، فَلَا تقضى حَتَّى تسمع من الآخر، كَمَا سَمِعت من الأول! فَإِنَّهُ أَحْرَى

أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء. قَالَ: فَمَا زلت قَاضِيا، وَمَا شَككت فِي قَضَاء بعد. وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة بن صَخْر جرى بِجهْدِهِ على سنَن من تقدمه من مُلَاحظَة الْقُضَاة؛ وَبَقِي الرَّسْم على حَذْو ترتبه زَمَانا. ثمَّ فتر أَيَّام يزِيد بن عبد الْملك وَابْنه الْوَلِيد إِلَى أَن ظهر بَنو الْعَبَّاس؛ فظفروا بِالْملكِ، فاشتدوا فِي شَأْن الْقَضَاء، وتخيروا للأعمال الشَّرْعِيَّة صُدُور الْعلمَاء. فدعوا مَالك بن أنس، وَابْن أبي ذِئْب، وَأَبا حنيفَة للْقَضَاء: فَأَما مَالك، فاحتج بِأَن قَالَ: إِنِّي رجل مَحْدُود، وَلَا يصلح أَن يَلِي الْقَضَاء مَحْدُود. وَاحْتج ابْن أبي ذِئْب بِأَن قَالَ: إِنِّي قرشي؛ وَمن يُشْرك فِي النّسَب، لَا يَنْبَغِي أَن يُشْرك فِي الحكم {وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِنِّي لمولي؛ وَلَا يصلح أَن يَلِي الْقَضَاء مولى. فاحتج كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا علم الله صدق نِيَّته فِيهِ؛ فعاناهم من محنة الْقَضَاء. وَفِي طَبَقَات قُضَاة مصر لأبي عمر الْكِنْدِيّ: ولي الْحَارِث بن مِسْكين الْقَضَاء من قبل أبي الْفضل جَعْفَر الْمَدْعُو بالمتوكل بن المعتصم. وَأَتَاهُ كِتَابه، وَهُوَ بالإسكندرية فَلَمَّا قَرَأَهُ، امْتنع من الْولَايَة؛ فأجبره أَصْحَابه على ذَلِك، وشرطوا عونهم لَهُ. قَالَ بَعضهم: رأى أحد أَشْيَاخ بِمصْر كَأَن ابْن أكتم ذبح الْحَارِث. فَلم يكن حَتَّى جَاءَهُ قَضَاء مصر، وَكَانَ على يَد ابْن أكتم قَاضِي الْقُضَاة حِينَئِذٍ. وَفِي تغريب المسالك.: حكى القَاضِي يُونُس قَالَ: ولي جَعْفَر المتَوَكل الْحَارِث قَضَاء مصر، بعد أَن سجنه على إباية ذَلِك زَمَانا. قَالَ مُحَمَّد بن عبد الْوَارِث: كُنَّا عِنْد الْحَارِث؛ فَأَتَاهُ عَليّ بن الْقَاسِم الْكُوفِي؛ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْت فِي النّوم النَّاس مُجْتَمعين فِي الْمَسْجِد الْحَرَام؛ فَقلت: مَا اجتماعكم؟ فَقَالُوا: عمر بن الْخطاب جَاءَ ليقعد الْحَارِث بن مِسْكين للْقَضَاء} فرأيته أَخذه، وَسمر مَقْعَده فِي الْحَائِط، وَانْصَرف؛ فتبعته، فَلَمَّا أحس بِي، قَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قلت: أنظر إِلَيْك. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى الْحَارِث، واقرأه مني السَّلَام، وَقل لَهُ يقْضِي بَين النَّاس بإمارة أَنَّك كنت بالعراق؛ فَقُمْت من اللَّيْل، فَعَثَرَتْ، فنكثت إصبعك، ودعوت بذلك الدُّعَاء، فَجئْت من الْغَد. فَقَالَ الْحَارِث: صدقت وَهَذَا شَيْء مَا اطلع عَلَيْهِ أحد إِلَّا الله. فَسَأَلته عَن الدُّعَاء؛ فَقَالَ: يَا صَاحِبي عِنْد كل شدَّة {وَيَا غياثي عِنْد كل كربَة} وَيَا مؤنسي فِي كل وَحْشَة {صل على مُحَمَّد، وعَلى آل مُحَمَّد، وَاجعَل لي من أَمْرِي فرجا ومخرجاً} وَمن الْقُضَاة بِمصْر عِيسَى بن الْمُنْكَدر بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، أَيَّام ابْن طَاهِر. أَشَارَ بِهِ

عبد الله بن عبد الحكم، وأعلمه أَنه فَقير؛ فَأجرى لَهُ سَبْعَة دَنَانِير فِي كل يَوْم، وَأَجَازَهُ بِأَلف دِينَار. وَكَانَ رجلا صَالحا. وَهُوَ أول قاضٍ أجْرى عَلَيْهِ الْمُرَتّب بِمصْر. وَلما امْتنع ابْن فروخ من الْقبُول لخطة الْقَضَاء، وَأَشَارَ بِابْن غَانِم، وَهُوَ عبد الله بن عمر ابْن غَانِم، تقدم من قبل هَارُون الرشيد بإفريقية، وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة 171، وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين سنة، فِي حَيَاة مَالك. وَلما بلغته ولَايَته، قَالَ: مَا ذَلِك بِخَير لَهُ {وَكَانَ يُوَجه بمسائله أَيَّام قَضَائِهِ إِلَيْهِ، فِيمَا ينزل بِهِ من نَوَازِل الْخُصُوم، وَيكْتب إِلَى ابْن كنَانَة؛ فَيَأْخُذ لَهُ الْأَجْوِبَة من مَالك. وَكَانَ لَهُ حَظّ من صَلَاة اللَّيْل؛ فَإِذا قَضَاهَا وَجلسَ فِي التَّشَهُّد آخرهَا، عرض خصم يُرِيد أَن يحكم لَهُ على ربه؛ فَيَقُول فِي مناجاته: يَا رب} إِن فلَانا نَازع فلَانا وَادّعى عَلَيْهِ بِكَذَا؛ فَأنْكر دَعْوَاهُ؛ فَسَأَلته الْبَيِّنَة؛ فَأتى بَيِّنَة شهِدت لَهُ بِمَا أدعى. وَقد أشرفت أَن آخذ لَهُ من صَاحبه بِحقِّهِ الَّذِي تبين لي أَنه حق لَهُ؛ فَإِن كنت على صَوَاب، فثبتني {وَإِن كنت على غير صَوَاب، فاصرفني} اللَّهُمَّ {لَا تسلمني} اللَّهُمَّ سلمني {فَلَا يزَال يعرض الْخُصُوم على ربه حَتَّى يفرغ مِنْهُم. وراكب يَوْمًا الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب، فزادت دَابَّة إِبْرَاهِيم فِي الْمَشْي. فحول ابْن غَانِم دَابَّته وعرج إِلَى دَاره. فَعَاتَبَهُ على ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: أصلح الله الْأَمِير} إِنَّمَا تنفذ أَحْكَام القَاضِي على قدر جاهه. وَلَو ساعدتك، وحركت دَابَّتي، سَقَطت قلنسوتي؛ فلعب بهَا الصّبيان {وراكبه مرّة أُخْرَى؛ فشق إِبْرَاهِيم زرعا؛ فَلم يسْلك ابْن غَانِم مَعَه. وَرَأَيْت بِخَط القَاضِي أبي الْفضل مَا نَصه: قَالَ ابْن غَانِم: دخلت مجْلِس إِبْرَاهِيم ابْن الْأَغْلَب. فَبَيْنَمَا نَحن قعُود، إِذْ أشرف علينا إِبْرَاهِيم، فَقَامَ إِلَيْهِ من كَانَ فِي الْبَيْت غَيْرِي، فَجَلَسَ مغضباً، ثمَّ قَالَ لي: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن} مَا مَنعك أَن تقوم، كَمَا قَامَ إخوانك؟ فَقلت: أَيهَا الْأَمِير {حَدثنِي مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} : من أحب أَن يتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قيَاما، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار! فَنَكس إِبْرَاهِيم رَأسه وأطرق. فَكَانَ هَذَا القَاضِي يكثر إنشاد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: إِذا انقرضت عني من الْعَيْش مدتي ... فَإِن غناء الباكيات قَلِيل سيعرض عَن ذكرى وتنسى مودتي ... وَيحدث بعدِي للخليل خَلِيل

فصل

وَتُوفِّي قَاضِيا فِي ربيع الأول سنة 179: فَكَانَت ولَايَته ثَمَانِي عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر غفر الله لنا وَله، ورحمنا وإياه { فصل مَسْأَلَة الْقيام الَّتِي تكلم فِيهَا ابْن غَانِم تحْتَاج إِلَى تَفْصِيل. وَحَاصِله مَا قَالَه أَبُو الْوَلِيد فِي بَيَانه. وَنَصه: الْقيام للرِّجَال على أَرْبَعَة أَنْوَاع: وَجه يكون الْقيام فِيهِ مَحْظُورًا؛ وَوجه يكون فِيهِ مَكْرُوها؛ وَوجه يكون فِيهِ جَائِزا؛ وَوجه يكون فِيهِ حسنا. فَأَما الْوَجْه الأول، الَّذِي يكون فِيهِ مَحْظُورًا، لَا يحل: فَهُوَ أَن يقوم إكباراً وتعظيماً لمن يحب أَن يُقَام إِلَيْهِ تكبراً وتجبراً على القائمين عَلَيْهِ. وَأما الْوَجْه الَّذِي يكون الْقيام فِيهِ مَكْرُوها، فَهُوَ أَن يقوم إكباراً وتعظيماً وإجلالاً لمن لَا يحب الْقيام إِلَيْهِ وَلَا يُنكر على القائمين إِلَيْهِ؛ فَهُوَ يكره للتشبه بِفعل الْجَبَابِرَة وَلما يخْشَى أَن يدْخلهُ من تغير نفس الْمُقَوّم إِلَيْهِ. وَأما الْوَجْه الَّذِي يكون الْقيام فِيهِ جَائِزا، فَهُوَ أَن يقوم تَجِلَّةً وإكباراً لمن لَا يُرِيد ذَلِك، وَلَا يشبه حَاله حَال الْجَبَابِرَة، ويؤمن أَن تَتَغَيَّر نفس الْمُقَوّم إِلَيْهِ لذَلِك؛ وَهَذِه صفة مَعْدُومَة إِلَّا فِيمَن كَانَ بالنبوءة مَعْصُوما، لِأَنَّهُ، إِذا تَغَيَّرت نفس عمر بالدابة الَّتِي ركب عَلَيْهَا، فَمن سواهُ بذلك أَحْرَى} وَأما الْوَجْه الرَّابِع الَّذِي يكون الْقيام فِيهِ حسنا، فَهُوَ أَن يقوم الرجل للقادم عَلَيْهِ من سفر، فَرحا بقدومه ليسلم عَلَيْهِ، أَو إِلَى القادم عَلَيْهِ مَسْرُورا بِنِعْمَة أولاها الله اياه، ليهيه بهَا، أَو القادم عَلَيْهِ الْمُصَاب بمصيبة ليعزيه بمصابه، وَمَا أشبه ذَلِك. وعَلى هَذَا يتَخَرَّج مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من الْآثَار، وَلَا يتعارض شَيْء مِنْهَا. قَالَ شهَاب الدّين أَحْمد بن إِدْرِيس، وَقد أَشَارَ إِلَى الْأَوْجه المفسرة فِي الْبَيَان: وَبِهَذَا يجمع بَين قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {: من أحب أَن يتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قيَاما، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده النَّار وَبَين قِيَامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام} لعكرمة ابْن أبي جهل، لما قدم من الْيمن، فَرحا بقدومه، وَقيام طَلْحَة بن عبيد الله لكعب بن مَالك، ليهنيه بتوبة الله عَلَيْهِ، بِحُضُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَلَا قَامَ من مَجْلِسه. فَكَانَ كَعْب يَقُول: لَا أَنْسَاهَا لطلْحَة} وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام!

يكره أَن يُقَام لَهُ؛ فَكَانُوا إِذا رَأَوْهُ، لم يقومُوا لَهُ، لعلمهم بكراهيته لذَلِك. وَإِذا قَامَ إِلَى بَيته، لم يزَالُوا قيَاما حَتَّى يدْخل بَيته. قَالَ لما يلْزمهُم من تَعْظِيمه، قبل علمهمْ بكراهيته لذَلِك. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {للْأَنْصَار قومُوا لسيدكم} قيل: تَعْظِيمًا لَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيد ذَلِك؛ وَقيل: ليعينوه على النُّزُول عَن الدَّابَّة. وَحكى أَحْمد أَنه كَانَ عِنْد عز الدّين بن عبد السَّلَام، من أَعْيَان عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة. فحضرته فتيا: مَا تَقول فِي الْقيام الَّذِي أحدثه النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان؟ هَل يحرم، أم لَا؟ فَكتب رَحمَه الله {: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} : لَا تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا {وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا} وَترك الْقيام فِي هَذَا الْوَقْت يفضى للمقاطعة والمدابرة. فَلَو قيل بِوُجُوبِهِ، مَا كَانَ بَعيدا. فقرأتها بعد كِتَابَته وَالنَّاس تحدث لَهُم أَحْكَام بِقدر مَا يحدثُونَ من الْأَحْوَال، من السياسات والمعاملات والاحتياطات؛ وَهِي على القوانين الأول. ثمَّ قَالَ: وَيلْحق بِالْقيامِ النعوت الْمُعْتَادَة وأنواع المكاتبات، على مَا قَرَّرَهُ النَّاس فِي المخاطبات؛ وَهَذَا النَّوْع كثير لم تكن أَسبَابه فِي السّلف، غير أَنه تقرر فِي قَاعِدَته الشَّرْع اعْتِبَارهَا، كَمَا قَالَ الشَّيْخ: فَإِذا وجدت، وَجب اعْتِبَارهَا. انْتهى. وروى بَعضهم أَن مَالِكًا قيل لَهُ: مَا تَقول فِي الرجل يقوم الرجل لَهُ للفضل وَالْفِقْه؟ فيجلسه فِي مَجْلِسه. قَالَ: يكره لَهُ ذَلِك. وَلَا بَأْس أَن يُوسع لَهُ. قيل: فالمرأة تتلقى زَوجهَا، فتبالغ فِي بره وتنزع ثِيَابه ونعليه مَتى يجلس؟ قَالَ: ذَلِك حسن غير قِيَامهَا حَتَّى يجلس. وَهَذَا فعل الْجَبَابِرَة وَرُبمَا كَانَ النَّاس ينتظرونه حَتَّى، إِذا طلع، قَامُوا لَهُ. لَيْسَ هَذَا من فعل الْإِسْلَام فِي شَيْء. وَفعل ذَلِك لعمر بن عبد الْعَزِيز، أول مَا ولي حِين خرج إِلَى النَّاس، فَأنكرهُ، وَقَالَ: إِن تقوموا، نقم {وَإِن تقعدوا} وَإِنَّمَا يقوم النَّاس لرب الْعَالمين {قيل لَهُ: فالرجل يقبل يَد الرجل أَو رَأسه؟ قَالَ: هُوَ من عمل الْأَعَاجِم، لَا من عمل النَّاس} وَنقل أَيْضا عَن مَالك أَنه كَانَ رَحمَه الله! يقوم لتلقي أَصْحَابه عِنْد قدومهم عَلَيْهِ من السّفر. وَمن ذَلِك مَا ذكره القَاضِي أَبُو الْفضل فِي كِتَابه الْمُسَمّى بترتيب المدارك، وتقريب المسالك، وَقد ذكر عبد بن مسلمة بن قعنب التَّمِيمِي. وَمن أَصله الَّذِي بِخَطِّهِ نقلت: قَالَ ابْن رشد فِيمَا حَكَاهُ عَن الْجُهَنِيّ. كُنَّا عِنْد مَالك؛ فَجَاءَهُ

ذكر عبد السلام بن سعيد بن حبيب الملقب بسحنون قاضي افريقيه

رجل فَأخْبرهُ بقدوم القعْنبِي؛ فَقَالَ: مَتى فَقرب قدومه فَقَالَ: قومُوا بِنَا إِلَى خير أهل الأَرْض نسلم عَلَيْهِ {. فَقَامَ، فَسلم عَلَيْهِ. وَكَانَ مَالك، إِذا جلس، قَالَ ليلني مِنْكُم ذَوُو الأحلام وَالنَّهْي} فَرُبمَا جلس القعْنبِي عَن يَمِينه. وَهُوَ أحد عباد الْبَصْرَة فِي زَمَانه. قَالَ أَحْمد بن الْهَيْثَم: كُنَّا إِذا أَتَيْنَا القعْنبِي، خرج إِلَيْنَا؛ فنراه كَأَنَّهُ مشرف على جَهَنَّم {وَتُوفِّي بِمَكَّة سنة 220 أَو 221. وَفِي الِاسْتِيعَاب عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا " أَنَّهَا قَالَت مَا رَأَيْت أحدا كَانَ أشبه كلَاما أَو حَدِيثا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} من فَاطِمَة؛ وَكَانَت إِذا دخلت عَلَيْهِ، قَامَ لَهَا، فقبلها ورحب بهَا، كَمَا كَانَت تصنع هِيَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا الْقدر من الْكَلَام على مَسْأَلَة الْقيام الْكِفَايَة. ذكر عبد السَّلَام بن سعيد بن حبيب الملقب بسحنون قَاضِي إفريقية وَتقدم لولاية الْقَضَاء بإفريقية، بعد ابْن غَانِم بِزَمَان، أحد الآخذين الْعلم بهَا عَنهُ، وَهُوَ عبد السَّلَام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون؛ وَذَلِكَ سنة 234. قَالَ عِيَاض بن مُوسَى، وَمن خطه نقلت: وسنه إِذْ ذَاك أَربع وَسَبْعُونَ سنة. فَلم يزل قَاضِيا إِلَى أَن مَاتَ. ثمَّ ذكر عَن أبي الْعَرَب أَنه قَالَ: لما عزل ابْن أبي الْجواد، قَالَ سَحْنُون: اللَّهُمَّ {ولِّ هَذِه الْأمة خَيرهَا وأعدلها} فَكَانَ هُوَ الَّذِي ولي بعده. وَقَالَ: لم أكد أرى قبُول هَذَا الْأَمر حَتَّى كَانَ من الْأَمِير مَعْنيانِ، أَحدهَا: أَعْطَانِي كل مَا طلبت، وَأطلق يَدي فِي كل مَا رغبت، حَتَّى أَنِّي قلت أبدأ بِأَهْل بَيْتك وقرابتك وأعوانك؛ فَإِن قبلهم ظلامات للنَّاس وأموالاً مُنْذُ زمَان طَوِيل {فَقَالَ لي: نعم} لَا تبدأ إِلَّا بهم، وَأجر الْحق على مفرق رَأْسِي. وجارني من عز مِنْهُ مَعَ هَذَا مَا يخَاف مِنْهُ الْمَرْء على نَفسه، وفكرت؛ فَلم أجد لنَفْسي سَعَة فِي رده. وَلما تمت ولَايَته، سَار حَتَّى دخل على ابْنَته خَدِيجَة؛ وَكَانَت من خِيَار النِّسَاء. فَقَالَ لَهَا: الْيَوْم ذبح أَبوك بِغَيْر سكين! فَعلم النَّاس قبُوله للْقَضَاء؛ ويومئذ

كتب لَهُ عبد الرَّحْمَن الزَّاهِد بِمَا نَصه: أما بعد، فَإِنِّي عهدتك وشأن نَفسك إِلَيْك مهما تعلم الْخَيْر وتؤدب عَلَيْهِ. وأصبحت، وَقد وليت أَمر هَذِه الْأمة، تؤدبهم على دنياهم، يذل الشريف بَين يَديك والوضيع؛ وَقد اشْترك فِيك الْعَدو وَالصديق. وَلكُل خطة من الْعدْل: فَأَي حالتيك أفضل؟ الْحَالة الأولى أم الثَّانِيَة؟ وَالسَّلَام. فَرَاجعه سَحْنُون بِأَن قَالَ لَهُ: أما بعد، فَإِنَّهُ جَاءَنِي كتابك وفهمت مَا ذكرت فِيهِ؛ وَإِنِّي أجيبك إِنَّه لَا حول وَلَا قُوَّة فِي شَيْء من الْأُمُور إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى {عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} وَمَا كتبت إِنَّك عهدتني وشأن نَفسِي إِلَيّ مهما أعلم الْخَيْر وأودب عَلَيْهِ، وَقد أَصبَحت وَقد وليت أَمر هَذِه الْأمة وأود بهم على دنياهم. ولعمري إِنَّه من لم تصلح دُنْيَاهُ، فَسدتْ أخراه. وَفِي صَلَاح الدُّنْيَا إِذا صَحَّ الْمطعم وَالْمشْرَب، صَلَاح الْآخِرَة. وَقد حَدثنِي ابْن وهب وَرفع سَحْنُون سَنَده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قَالَ: نعم المطية الدُّنْيَا} فارتحلوها {فَإِنَّهَا تبلغكم الْآخِرَة} وَلنْ تبلغ الدُّنْيَا الْآخِرَة من عمل فِي الدُّنْيَا بِغَيْر الْوَاجِب من حق الله {وَأما قَوْلك وليت أَمر هَذِه الْأمة، فَإِنِّي لم أزل مبتلى، ينفذ قولي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة فِي أبشار الْمُسلمين وأشعارهم. وَمن كَلَام عبد الله بن أبي جَعْفَر: لن تزالوا بِخَير مَا تعلمتم. فَإِذا احْتِيجَ إِلَيْكُم، فانظروا كَيفَ تَكُونُونَ. وَإِنَّمَا الْمُفْتِي قَاض يجوز قَوْله فِي أبشار الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ. فَعَلَيْك بِالدُّعَاءِ} فألزم ذَلِك نَفسك {وَالسَّلَام. وَكَانَ سَحْنُون يُؤَدب النَّاس على الْإِيمَان الَّتِي لَا تجوز، من الطَّلَاق وَالْعتاق، حَتَّى لَا يحلفوا بِغَيْر الله؛ ويؤدبهم على سوء الْحَال فِي لباسهم وَمَا نهى عَنهُ، وَيَأْمُرهُمْ بِحسن السِّيرَة وَالْقَصْد. وتخاصم إِلَيْهِ رجلَانِ صالحان من أَصْحَابه؛ فأقامهما، وأبى أَن يسمع مِنْهُمَا، وَقَالَ: اسْتُرْ عني مَا ستر الله عَلَيْكُمَا} وَهُوَ أول من نظر فِي الْحِسْبَة من الْقُضَاة، وَأمر بتغيير الْمُنكر؛ وَأول من فرق حلق الْبدع من الْجَامِع، وشرد أهل الْأَهْوَاء مِنْهُ؛ وَأول من جعل الودائع عِنْد الْأُمَنَاء؛ وَكَانَت قبل فِي بيُوت الْقُضَاة. قَالَ عِيسَى بن مِسْكين: فَحصل النَّاس بولايته على شَرِيعَته من الْحق؛ وَلم يل قَضَاء إفريقية مثله وَيُقَال إِنَّه مَا بورك لأحد، بعد أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! مَا بورك لسَحْنُون فِي أَصْحَابه؛ فَإِنَّهُم كَانُوا أَئِمَّة بِكُل بَلْدَة. وَكَانَ الَّذين يحْضرُون مَجْلِسه من الْعباد أَكثر من طلاب الْعلم. وَكَانَ يَقُول: مَا أحب أَن يكون عَيْش الرجل إِلَّا على قدر

ذَات يَده. وَلَا يتَكَلَّف مَا فِي وَسعه؛ وَأكل أَمْوَال النَّاس بالمسكنة وَالصَّدَََقَة خير من أكله بِالْعلمِ وَالْقُرْآن. وَهُوَ الْقَائِل: من لم يعْمل بِعِلْمِهِ، لم يَنْفَعهُ الْعلم، بل يضرّهُ وَإِنَّمَا الْعلم نور يَضَعهُ الله فِي الْقُلُوب، فَإِذا عمل بِهِ، نور الله قلبه؛ وَإِن لم يعْمل بِهِ، وَأحب الدُّنْيَا، أعمى حب الدُّنْيَا قلبه، وَلم ينوره الْعلم {وَكَانَ يَقُول: ترك الْحَلَال أعظم من جَمِيع عبَادَة الله؛ وَترك الْحَلَال لله أفضل من أَخذ وإنفاقه فِي طَاعَة الله} وَقَالَ: ترك دانق مِمَّا حرم الله أَكثر من سبعين ألف حجَّة، يتبعهَا سَبْعُونَ ألف عمْرَة مبرورة متقبلة، وَأفضل من سبعين فرسا فِي سَبِيل الله بزادها وسلاحها، وَمن سبعين ألف بَدَنَة يهديها إِلَى بَيت الْعَتِيق، وَأفضل من عتق سبعين ألف رَقَبَة مُؤمنَة من ولد إِسْمَاعِيل {قَالَ صَاحب المدارك: فَبلغ كَلَامه هَذَا لعبد الْجَبَّار بن خَالِد؛ فَقَالَ: نعم} وَأفضل من ملْء الأَرْض إِلَى عنان السَّمَاء ذَهَبا وَفِضة كسبت وأنفقت فِي سَبِيل لَا يُرَاد بهَا إِلَّا وَجه الله {وَهَذَا القَوْل بِنَاء على أَن التروك لَا توازيها الْأَفْعَال. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي مَسْأَلَة ترك الْحَلَال لله إِنَّه أفضل من أَخذه وإنفاقه فِي طَاعَة الله مِمَّا وَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء. قَالَ عز الدّين أَبُو مُحَمَّد بن عبد السَّلَام السّلمِيّ: فَقَالَت طَائِفَة تَركهَا أفضل. وَقَالَ آخَرُونَ: بل} فعله مَعَ السَّلامَة أولى. قَالَ صَاحب الرِّعَايَة: لِأَنَّهُ قد اكْتسب من الْعَمَل مَا لم يكْتَسب غَيره وَإِنَّمَا يسْأَل عَن ذَلِك كَمَا يسْأَل عَن الصَّلَاة وَالصِّيَام ليثاب عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَمر بِالتّرْكِ خوفًا أَن لَا يسلم. وَتُوفِّي سَحْنُون رَحمَه الله! صدر شهر رَجَب سنة 240 وَدفن من يَوْمه. وَصلى عَلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن الْأَغْلَب. وَلم يَأْخُذ لنَفسِهِ، مُدَّة قَضَائِهِ، من السُّلْطَان شَيْئا. ذكر القَاضِي عِيسَى بن مِسْكين وَمِنْهُم عِيسَى بن مِسْكين بن مَنْصُور. سمع من سَحْنُون بالقيروان، وَسمع بِمصْر من الْحَارِث بن مِسْكين، وَمُحَمّد بن الْمَوَّاز، وَغَيرهم. وَكَانَ رجلا صَالحا، فَاضلا، طَوِيل الصمت، رَقِيق الْقلب، متفنناً فِي الْعُلُوم. وَكَيْفِيَّة ولَايَته الْقَضَاء أَن الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن الْأَغْلَب كَانَ قد اضْطر يحيى بن عمر إِلَى ولَايَة الْقَضَاء. فَقَالَ لَهُ: إِن دللتك على

من هُوَ أفضل مني، فِي الْوَجْه الَّذِي تحب، تعفيني فَقَالَ لَهُ: نعم {فدله عِيسَى ابْن مِسْكين. وَكَانَ بالحضرة حمديس؛ فَقَالَ: إِنَّه، وَالله} أَيهَا الْأَمِير، صاحبنا عِنْد سَحْنُون. جمع الله فِيهِ خلال الْخَيْر بأسرها {فَأرْسل فِيهِ إِبْرَاهِيم إِلَى كورة السَّاحِل، وأوصله إِلَى نَفسه، وَقَالَ: تَدْرِي لم بعثت لَك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لأشاورك فِي رجل قد جمع الله فِيهِ خلال الْخَيْر. أردْت أَن أوليه الْقَضَاء، وألم بِهِ شعث هَذِه الْأمة؛ فَامْتنعَ. قَالَ: يلْزمه أَن يَلِي. قَالَ: تمنع. قَالَ: يجْبر على ذَلِك} قَالَ: تمنع. قَالَ: يجلد {قَالَ: قُم} فَأَنت هُوَ {قَالَ: مَا أَنا الَّذِي وصفت} وتمنع. فَأخذ الْأَمِير بِمَجَامِع ثِيَابه، وَقرب السَّيْف من نَحره؛ فَتقدم إِلَيْهِ بخنجره. قَالَ حمديس: وَكنت فِي الْمجْلس؛ فَقُمْت من مَكَاني، لِئَلَّا يُصِيبنِي من دَمه. فَلم يزل بِهِ حَتَّى ولى على شُرُوط، مِنْهَا قَالَ لَهُ: أستعفيك فِي كل شهر {قَالَ: نعم} قَالَ: وأجعلك، وَبني عمك، وجندك، وفقراء النَّاس، وأغنياءهم فِي دَرَجَة وَاحِدَة. قَالَ: نعم {قَالَ: وَلم توجه ورائي، وَكَذَا وَكَذَا. فَمَتَى لم تف لي بِشَرْط، عزلت نَفسِي. قَالَ: نعم} وَعرض عَلَيْهِ عِنْد ذَلِك الْكسْوَة والصلة. فَامْتنعَ وَقَالَ لَهُ: أَنا رجل طَوِيل الصمت، قَلِيل الْكَلَام، غير نشيط فِي أُمُور، وَلَا أعرف أهل الْبَلَد. فَقَالَ لَهُ الْأَمِير: عِنْدِي مولى نشيط، قد تدرب فِي الْأَحْكَام. أَنا أضمه إِلَيْك: يكون عَنْك كتابا يصدر عَنْك فِي القَوْل. فَمَا رضيت مِنْهُ، أمضيت؛ وَمَا سخطت، رددت. فضم إِلَيْهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن مفرج. قَالَ الْمخبر: فكثيراً مَا كنت آتِي مَجْلِسه وَهُوَ صَامت لَا يتَكَلَّم؛ وَابْن مفرج يقْضى. وَسُئِلَ عَن فرط انقباضه فِي قَضَائِهِ. فَقَالَ: ابْتليت بجبار عنيد، خفت أَن يبْعَث إِلَيّ من طَعَامه، أَو يدعوني إِلَيْهِ. وَلَا آتيه؛ فَحملت نَفسِي على ذَلِك، ليقطع طمعه مني {وَمن كَلَام هَذَا القَاضِي رَحمَه الله} : من قَاس الْأُمُور، علم المستور. من حصن شَهْوَته، صان قدره. فِي تقلب الْأَحْوَال، علم جَوَاهِر الرِّجَال. الْحسن النِّيَّة، يَصْحَبهُ التَّوْفِيق. المعاش مذل لأهل الْعلم. كَفاك أدباً لنَفسك مَا كرهته لغيرك. قَارب النَّاس فِي عُقُولهمْ، تسلم من غوائلهم. وَكَانَ، إِذا تحدث عَن أَيَّام قَضَائِهِ، يَقُول: كنت

ذكر القاضي ابن سماك الهمذاني

فِي بليتي.، وَكنت أَيَّام تِلْكَ المحنة. وَلما تَابَ الْأَمِير وتخلى عَن الْملك وَتوجه للْجِهَاد، أَتَاهُ عِيسَى بن مِسْكين؛ فَقَالَ لَهُ: إِن الله عافاك مِمَّا كنت فِيهِ. فشاركني فِي الْخُرُوج عَمَّا أدخلتني فِيهِ؛ فقد كبر سني، وَضعف بدني. وعَلى الْأَثر وَقع انْفِصَاله. وَكَانَت ولَايَته ثَمَانِيَة أَعْوَام وَنصف عَام. ذكر القَاضِي ابْن سماك الهمذاني وَولى من أَصْحَاب سَحْنُون الْقَضَاء بإفريقية أَبُو الْقَاسِم حماس بن مَرْوَان بن سماك الهمذاني الْفَقِيه الزَّاهِد. وَكَانَ من زهده وتواضعه يفتح الْقَنَاة بِنَفسِهِ، على مَا حَكَاهُ عِيَاض وَغَيره، وَيكسر الْحَطب على بَاب دَاره، وَالنَّاس حوله يختصمون إِلَيْهِ ويسألونه. وَكَانَ يلبس الصُّوف الخيش. وَلم يركب دَابَّة فِي الْبَلَد، أَيَّام ولَايَته؛ فَإِذا خرج إِلَى منزله بالبادية على حمَار، يشْتَد دون خف، يتقوت مِمَّا يَأْتِيهِ من مَاله؛ وَلم يَأْخُذ على الْقَضَاء أجرا. ذكر القَاضِي إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن زيد الْأَزْدِيّ وَمن أيمة الْفِقْه على مَذْهَب مَالك بن أنس، ومشيخة الحَدِيث، وأعلام الْقُضَاة، إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن زيد الْأَزْدِيّ. قَالَ الفرغاني التأريخي: لَا نعلم أحدا من أهل الدُّنْيَا بلغ مبلغ آل حَمَّاد بن زيد، وَلم يصل أحد من الْقُضَاة إِلَى مَا وصلوا إِلَيْهِ من اتِّخَاذ الْمنَازل، والضياع، وَالْكِسْوَة، والآلة، ونفاذ الْأَمر فِي جَمِيع الْآفَاق. وَمن كتاب تقريب المسالك، بِمَعْرِِفَة أَعْلَام مَذْهَب مَالك، وَقد ذكرهم فِيهِ، فَقَالَ: كَانَت هَذِه الْبَيْت، على كَثْرَة رجالها، وشهرة أعلامها، من أجل بيُوت الْعلم بالعراق، وَأَرْفَع مَرَاتِب السودد فِي الدّين وَالدُّنْيَا؛ وهم نشرُوا هَذَا الْمَذْهَب هُنَاكَ، وعنهم اقتبس وَتردد الْعلم فِي طبقاتهم وبيتهم نَحْو ثَلَاثمِائَة عَام، من زمَان جدهم الإِمَام مُحَمَّد بن زيد وأخيه سعيد. وَلما ولى عبد الله بن سُلَيْمَان الوزارة للمعتضد، وَكَانَ سيء الرَّهْن فيهم لما أَرَادَ الْإِيقَاع بهم وأعمال الْحِيلَة، فَلم يقدر على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق؛ فَفتح الْبَاب لعبد الله فِي ذَلِك؛ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! بَنو حَمَّاد مشاغيل بِخِدْمَة

السُّلْطَان، وَأَسْبَاب النَّفَقَات، والمظالم عَن الحكم. فَلم يقْدَح ذَلِك فيهم. وَلم يزل بِهِ بعد مُدَّة حَتَّى جعله، وَولى أَبَا حَازِم الْحَنَفِيّ قَضَاء الشرقية، وَعلي بن أبي الشَّوَارِب قَضَاء مَدِينَة الْمَنْصُور؛ وَكَانَ ابْن الطّيب، مؤدب المعتضد، يعظم أَمر آل حَمَّاد، وَيَقُول: حَسبك أَن لَهُم بتادريا سِتّمائَة بُسْتَان؛ غير مَا لَهُم بِالْبَصْرَةِ وَسَائِر النواحي. وَكَانَ فيهم على اتساع الدُّنْيَا رجال صدق وأيمة ورع وَعلم وَفضل. وَفِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق المترجم لَهُ أَولا، قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي زيد: هُوَ شيخ المالكيين فِي وقته، وَإِمَام تَامّ الْإِمَامَة، يقْتَدى بِهِ. وَكَانَ النَّاس يصيرون إِلَيْهِ؛ فيقتبس كل فريق مِنْهُ علما لَا يُشَارِكهُ فِيهِ الْآخرُونَ: فِيمَن قوم يحملون الحَدِيث، وَمن قوم يحملون علم الْقُرْآن، وَالْقِرَاءَة، وَالْفِقْه، وَغير ذَلِك. وَقد نقل عَنهُ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فِي تَذكرته أَشْيَاء من الْعَرَبيَّة. قَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وسمى من بلغ دَرَجَة الِاجْتِهَاد، فَقَالَ: وَلم تحصل هَذِه الدرجَة بعد مَالك إِلَّا لإسماعيل القَاضِي. وَذكره الْمُقْرِئ أَبُو عَمْرو الداني فِي طَبَقَات الْقُرَّاء فَقَالَ: أَخذ الْقِرَاءَة عَن قالون؛ وَله فِيهِ حرف. وَحكى أَبُو عَمْرو أَيْضا عَن أبي المثاب القَاضِي قَالَ: كنت عِنْد إِسْمَاعِيل يَوْمًا؛ فَسئلَ لم جَازَ التبديل على أهل التَّوْرَاة، وَلم يجز على أهل الْقُرْآن؛ فَقَالَ: قَالَ الله تَعَالَى فِي أهل التَّوْرَاة: " بِمَا استحفظوا من كتاب الله ". فَوكل الْحِفْظ إِلَيْهِم. وَقَالَ فِي الْقُرْآن: " إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون. " فَلم يجز التبديل عَلَيْهِم. فَذكر ذَلِك الْمحَامِلِي فَقَالَ: مَا سَمِعت كلَاما أحسن من هَذَا. وَقد روى أَن نَصْرَانِيّا سَأَلَ مُحَمَّد بن وضاح عَن هَذِه الْمَسْأَلَة؛ فَأجَاب بِمثل هَذَا الْجَواب. وَحصل لإسماعيل هَذَا فِي الْقُلُوب من الْقبُول مَا لم يحصل لغيره من أهل زَمَانه. قَالَ يُوسُف بن يَعْقُوب: قَرَأت فِي توقيع المعتضد إِلَى عبد الله بن سُلَيْمَان بن وهب الْوَزير: اسْتَوْصِ بالشيخين الخيرين الفاضلين إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق الْأَزْدِيّ ومُوسَى بن إِسْحَاق خيرا؛ فَإِنَّهُمَا مِمَّن، إِذا أَرَادَ الله بِأَهْل الأَرْض سوءا، دفع عَنْهُم بدعائهما!

وَقَالَ يقظويه: كنت عِنْد الْمبرد؛ فَمر بِهِ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق؛ فَوَثَبَ الْمبرد إِلَيْهِ وَقبل يَده وَأنْشد: فَلَمَّا بصرنا بِهِ مُقبلا ... حللنا الحبي وابتدرنا القياما فَلَا تنكرن قيامي لَهُ ... فَإِن الْكَرِيم يجل الكراما قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وأنشدنا إِسْمَاعِيل القَاضِي لنَفسِهِ: لَا تعتبن على النوائب ... فالدهر يرغم كل عَاتب واصبر على حدثانا ... إِن الْأُمُور لَهَا عواقب وَلَكِن صَافِيَة قذى ... وَلكُل خَالِصَة شوائب كم فُرْجَة مطوية ... لَك بَين أثْنَاء النوائب ومسرة قد أَقبلت ... من حَيْثُ تنْتَظر المصائب قَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: مَا عرض لي هم فادح، فَذكرت هَذِه الأبيات، إِلَّا وَوجدت من روح الله مَا يحل عقالي، وينعم بالي؛ ثمَّ تؤول عَاقِبَة مَا أحذره فَاتِحَة مَا أوثره. وَذكر بَعضهم قَالَ: اجْتمع أَبُو الْعَبَّاس بن شُرَيْح القَاضِي، وَأَبُو بكر بن دَاوُود الإصبهاني، وَأَبُو الْعَبَّاس الْمبرد على بَاب القَاضِي إِسْمَاعِيل. فَأذن لَهُم؛ فَتقدم ابْن شُرَيْح، وَقَالَ: قدمني الْعلم وَالسّن وَتَأَخر الْمبرد وَقَالَ: أخرني الْأَدَب وَقَالَ ابْن دَاوُود: إِذا صحت الْمَوَدَّة سَقَطت المعاذير. وَأول مَا ولى قَضَاء الْجَانِب الشَّرْقِي، فِي أَيَّام المتَوَكل، سنة 246، إِلَى سنة 262، فَجمعت لَهُ بَغْدَاد كلهَا؛ فَكَانَ يَدعِي قَاضِي الْقُضَاة. قَالَ وَكِيع فِي كِتَابه فِي الْقُضَاة: وَأما شَدَائِد إِسْمَاعِيل فِي الْقَضَاء، وَحسن مذْهبه فِيهِ، وسهولة الْأَمر عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ يلتبس على غَيره، فَهُوَ شَيْء شهرته تغنى عَن ذكره. وَكَانَ فِي أَكثر أوقاته، وَبعد فروغه من الْخُصُوم، متشاغلاً بِالْعلمِ، لِأَنَّهُ اعْتمد على حَاجِبه أبي عمر مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعلي كَاتبه أبي الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بالباز

الْأَشْهب، فَكَانَا يحْملَانِ عَنهُ أَكثر أمره، من لِقَاء السُّلْطَان وَغَيره، وَأَقْبل هُوَ على الحَدِيث وَالْعلم. وَكَانَ شَدِيدا على أهل الْبدع يرى استنابتهم، حَتَّى ذكر أَنهم تحاموا بِبَغْدَاد فِي أَيَّامه، وَخرج دَاوُود بن عَليّ من بَغْدَاد إِلَى الْبَصْرَة لإحداثه منع الْقيَاس. وَحبس أَبَا زيد إِذْ أنكر عَلَيْهِ بعض مَا حدث بِهِ. وَقد تقدم صدر هَذَا الْكتاب أَنه كَانَ يَقُول: من لم تكن لَهُ فراسة، لم يكن لَهُ أَن يَلِي الْقَضَاء. وَقيل لَهُ: لَا تؤلف كتابا فِي أدب الْقَضَاء؟ فَقَالَ: اعْدِلْ وَمد رجليك فِي مجْلِس الْقَضَاء {وَهل للْقَاضِي أدب غير الْإِسْلَام؟ قَالَ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ، وَقد ذكره: كَانَ إِسْمَاعِيل من عُلَمَاء الدُّنْيَا، وسَادَة الْقُضَاة، وعقلائهم. وَكَانَ مؤاخياً لأبي الْحسن بن أبي الْورْد أحد عُلَمَاء الْبَاطِن. فَلَمَّا ولي إِسْمَاعِيل الْقَضَاء، هجره ابْن أبي الْورْد. ثمَّ اضْطر أَن دخل عَلَيْهِ فِي شَهَادَة؛ فَضرب بِيَدِهِ كتف إِسْمَاعِيل، وَقَالَ: إِن علما أجلسك هَذَا الْمجْلس، لقد كَانَ الْجَهْل خيرا مِنْهُ} فَوضع إِسْمَاعِيل رِدَاءَهُ على وَجهه، وَبكى حَتَّى بله. وَلما كَانَت محنة غُلَام الْخَلِيل، ومطالبة الصُّوفِيَّة بِبَغْدَاد، ونسبتهم إِلَى الزندقة، وَأمر الْخَلِيفَة بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم، وَكَانَ فِيمَن قبض عَلَيْهِ شيخهم إِذْ ذَاك أَبُو الْحسن النَّوَوِيّ، فَلَمَّا دخلُوا على الْخَلِيفَة، أَمر بِضَرْب أَعْنَاقهم؛ فَتقدم النَّوَوِيّ مبتدئاً إِلَى السياف ليضْرب عُنُقه. فَقَالَ لَهُ: مَا دعَاك إِلَى هَذَا دون أَصْحَابك؟ قَالَ آثرت حياتهم على حَياتِي بِهَذِهِ اللحظة {فَرفع الْأَمر إِلَى الْخَلِيفَة؛ فَرد أَمرهم إِلَى قَاضِي الْقُضَاة إِسْمَاعِيل. فَقدم إِلَيْهِ النَّوَوِيّ وَسَأَلَهُ عَن مسَائِل من الْعِبَادَات. فَأَجَابَهُ؛ ثمَّ قَالَ لَهُ: وَبعد هَذَا، لله عباد يسمعُونَ بِاللَّه، وينطقون بِاللَّه، وَيَصْدُرُونَ بِاللَّه، ويردون بِاللَّه، ويأكلون بِاللَّه، وَيلبسُونَ بِاللَّه} فَلَمَّا سمع إِسْمَاعِيل مقَالَته، بَكَى. ثمَّ دخل على الْخَلِيفَة؛ فَقَالَ: إِن كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم زنادقة، فَلَيْسَ فِي الأَرْض موحدون! فَأمر بإطلاقهم. ولإسماعيل جملَة تواليف فِي فنون الْعلم. وَحكى أَنه توفّي فَجْأَة، وَقت صَلَاة الْعشَاء الآخر لثمان بَقينَ فِي ذِي الْحجَّة سنة 383، وَهُوَ قَاض. وَحكى الْكَاتِب ابْن أَزْهَر: ارْتَفع الْمَطَر. فَخرج إِسْمَاعِيل إِلَى الْمصلى؛ فصلى رَكْعَتَيْنِ بسبح " وَهل أَتَاك "

ذكر القاضي ابي عمر محمد بن يوسف

ثمَّ صعد الْمِنْبَر، وخطب خطبتين، وحول رِدَاءَهُ، وَحدث بِحَدِيث طَوِيل خشع لَهُ النَّاس، وَبكى، وَانْصَرف خَاشِعًا؛ فَقبض ليلته يَوْم استسقائه، وَهُوَ ابْن إثنين وَثَمَانِينَ سنة. وَمن المنظوم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ: من كَفاهُ من مساعيه ... رغيف يفتديه وَله بَيت يواريه ... وثوب يكتسيه فلماذا يبْذل العر ... ض لذل وتسفيه ولماذا يتمادى ... عِنْد ذِي كبر وتيه ذكر القَاضِي أبي عمر مُحَمَّد بن يُوسُف وَمن الْقُضَاة بِتِلْكَ الْبِلَاد المشرقية، أَبُو عمر مُحَمَّد بن يُوسُف، حَاجِب القَاضِي إِسْمَاعِيل الْمُتَقَدّم الذّكر، وَابْن عَمه. وَفِي أَيَّام هَذَا القَاضِي قتل الحلاج. وَابْن عَمه هُوَ الَّذِي أفتى بقتْله، بعد تَقْرِيره على مذْهبه، وَقيام الشَّهَادَات عَلَيْهِ بإلحاد. فَضرب ألف سَوط، ثمَّ قطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ، ثمَّ طرح جسده، وَبِه رمى من أَعلَى مَوضِع ضربه إِلَى الأَرْض وأحرق بالنَّار، وَالْعِيَاذ بِاللَّه. وَحضر يَوْمًا بَين يَدي أبي عمر رجل يدعى قبل الآخر مائَة دِينَار، وَلم تكن لَهُ بَيِّنَة. فتوجهت الْيَمين على الْمَطْلُوب بِنَفْي مَا زَعمه الطَّالِب فَأخذ الْخصم الدواة وَكتب: وَإِنِّي لذُو حلف فَاجر ... إِذا مَا اضطررت وَفِي الْحَال ضيق وَهل لَا جنَاح على مُعسر ... يدافع بِاللَّه مَالا يُطيق فَأمر القَاضِي بإحضار مائَة دِينَار وَدفعهَا عَنهُ. فَعجب الراضي من أدب الرجل وكرم القَاضِي، وَبحث عَن النَّاظِم؛ فَلَمَّا وجده، أَمر لَهُ بِأَلف دِينَار، وَخمْس خلع، ومركوب حسن، وملازمة دَار السُّلْطَان.

ذكر القاضي ابي بكر الباقلاني

ذكر القَاضِي أبي بكر الباقلاني وَمن الْقُضَاة بالعراق أَيْضا، أَبُو بكر مُحَمَّد بن الطّيب، الْمَعْرُوف بالباقلاني، الْمَالِكِي، الْمُتَكَلّم على مَذْهَب أهل الحَدِيث وَطَرِيقَة الأشعرية. إِمَام وقته، وعالم عصره، المرجوع إِلَيْهِ فِيمَا أشكل على غَيره. وَمن كَلَام الصَّيْرَفِي فِيهِ: كَانَ صَلَاح القَاضِي أَكثر من علمه. وَمَا نفع الله هَذِه الْأمة بكتبه وبثها فيهم، إِلَّا بِحسن نِيَّته، واحتسابه بذلك مَا عِنْد الله من الثَّوَاب. ونقلت من خطّ القَاضِي أبي الْفضل، وَقد ذكره فِي مداركه مَا نَصه: حكى أَبُو بكر الْخَطِيب أَن ورد القَاضِي كل لَيْلَة، كَانَ عشْرين ترويحة؛ مَا تَركهَا فِي حضر وَلَا سفر. وَكَانَ كل لَيْلَة، إِذا صلى الْعشَاء، وَقضى ورده، أَخذ الدواة بَين يَدَيْهِ، وخمساً وَثَلَاثِينَ ورقة، تصنيفاً يَكْتُبهَا عَن حفظه. وَكَانَ يذكر أَن كِتَابه بالمداد أسهل عَلَيْهِ من الْكتاب بالحبر. فَإِذا صلى الْفجْر، دفع إِلَى بعض أَصْحَابه مَا ضَبطه ليلته، وَأمر بقرَاءَته عَلَيْهِ، وَأَوْمَأَ إِلَى الزِّيَادَات فِيهِ. وَكَانَ بَعضهم يَقُول: جَاءَ فِي الْأَثر إِن الله تَعَالَى يتَعَاهَد عباده بأنبيائه وَرُسُله؛ فَلَمَّا ختم الرسَالَة بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {تعاهد أمته برباني من علمائها، يحيي أحاديثها، ويجدد شريعتها. فَكَانَ إِمَام رَأس الأربعمائة أَبُو بكر بن الطّيب. أَخذ عَنهُ الْعلم جمَاعَة لَا تعد لكثرتها؛ ودرسوا عَلَيْهِ أصُول الْفِقْه وَالدّين: مِنْهُم القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن نصر؛ وَمن أهل الْمغرب أَبُو عمرَان الفاسي رَحل إِلَيْهِ ولازمه بِبَغْدَاد، وَأخذ عَنهُ. وَكَانَ أعرف النَّاس بِعلم الْكَلَام، وَأَحْسَنهمْ فِيهِ خاطراً، وأجودهم لِسَانا، وأوضحهم بَيَانا، وأصحهم عبارَة. وَصَارَ لَهُ اخْتِصَاص بعضد الدولة. وَلما وَجهه سفيراً عَنهُ إِلَى ملك الرّوم، ليظْهر بِهِ رفْعَة الْإِسْلَام، ويغض من النَّصْرَانِيَّة، وتهيأ لِلْخُرُوجِ، قَالَ لَهُ وَزِير الدولة: أاخذت الطالع لخروجك؟ فَسَأَلَهُ أَبُو بكر. فَلَمَّا فسر مُرَاده، قَالَ: لَا أَقُول بِهَذَا، لِأَن السعد والنحس وَالْخَيْر وَالشَّر بيد الله} لَيْسَ للكواكب هَا هُنَا مِثْقَال ذرة من الْقُدْرَة؛ وَإِنَّمَا وضعت كتب النُّجُوم ليتمعش بهَا الجاهلون من الْعَامَّة؛ وَلَا حَقِيقَة لَهَا. فَقَالَ الْوَزير: احضر إِلَى ابْن الصُّوفِي! وَقد كَانَ لَهُ تقدم فِي هَذَا الْبَاب. فَلَمَّا حَضَره، دَعَاهُ الْوَزير إِلَى مناظرة القَاضِي، ليصحح مَا أبْطلهُ بِزَعْمِهِ فَقَالَ ابْن الصُّوفِي: لَيست المناظرة من

شأني، وَلَا أَنا قَائِم بهَا. وَإِنَّمَا أحفظ علم النُّجُوم وَأَنا أَقُول: إِذا كَانَ من النُّجُوم كَذَا، يكون كَذَا {وَأما تَعْلِيله، فَهُوَ من علم أهل الْمنطق وَأهل الْكَلَام. وَجَرت لَهُ فِي ذَلِك الْوَجْه بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بَين يَدي ملكهَا، مَعَ بطارقته ونبلاء مِلَّته، مناظرات ومحاورات: مِنْهَا أَن الْملك قَالَ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَدعُونَهُ فِي معجزات نَبِيكُم من انْشِقَاق الْقَمَر، كَيفَ هُوَ عنْدكُمْ؟ قلت: هُوَ صَحِيح عندنَا. وَانْشَقَّ الْقَمَر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} حَتَّى رأى النَّاس ذَلِك، وَإِنَّمَا رَآهُ الْحُضُور وَمن اتّفق نظره لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال. فَقَالَ الْملك: وَكَيف لم يره جَمِيع النَّاس؟ قلت: لِأَن النَّاس لم يَكُونُوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فَقَالَ: وَهَذَا الْقَمَر بَيْنكُم وَبَينه نِسْبَة وقرابة. لأي شَيْء لم تعرفه الرّوم وَغَيرهَا من سَائِر النَّاس، وَإِنَّمَا رَأَيْتُمُوهُ أَنْتُم خَاصَّة؟ قلت: فَهَذِهِ الْمَائِدَة بَيْنكُم وَبَينهَا نِسْبَة؛ وَأَنْتُم رأيتموها دون الْيَهُود، وَالْمَجُوس، والبراهمة، وَأهل الْإِلْحَاد، وخاصة يونان جِيرَانكُمْ؛ فَإِنَّهُم كلهم منكرون لهَذَا الشَّأْن {فتحير الْملك وَقَالَ فِي كَلَامه: سُبْحَانَ الله} وَأمر بإحضار فلَان القسيس ليكلمني، وَقَالَ: نَحن لَا نطيقه. فَلم أشعر إِذْ جَاءُوا بِرَجُل كالدب أشقر الشّعْر؛ فَقعدَ. وحكيت لَهُ الْمَسْأَلَة؛ فَقَالَ: الَّذِي قَالَ الْمُسلم لَازم. مَا أعرف لَهُ جَوَابا، إِلَّا الَّذِي ذكره. فَقلت لَهُ: أَتَقول إِن الْكُسُوف، إِذا كَانَ، أيراه جَمِيع أهل الأَرْض، أم يرَاهُ أهل الإقليم الَّذِي فِي محاذاته؟ قَالَ: لَا يرَاهُ إِلَّا من كَانَ فِي محاذاته. قلت: فَمَا أنْكرت من انْشِقَاق الْقَمَر، إِذا كَانَ فِي نَاحيَة لَا يرَاهُ إِلَّا أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَمن تأهب للنَّظَر لَهُ، فَأَما من أعرض عَنهُ أَو كَانَ فِي الْأَمْكِنَة الَّتِي لَا يرى الْقَمَر مِنْهَا، فَلَا يرَاهُ {فَقَالَ: هُوَ كَمَا قلت} مَا يدفعك عَنهُ دَافع {وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي الروَاة الَّذين نقلوا. وَأما الطعْن فِي غير هَذَا الْوَجْه، فَلَيْسَ بِصَحِيح} فَقَالَ الْملك: وَكَيف يطعن فِي النقلَة؟ فَقَالَ النَّصْرَانِي: تَنْبِيه هَذَا من الْآيَات: إِذا صَحَّ وَجه أَن يَنْقُلهُ الجم الْغَفِير، حَتَّى يتَّصل بِنَا الْعلم بِهِ، وَلَو كَانَ كَذَلِك، لوقع لنا الْعلم الضَّرُورِيّ بِهِ. فَلَمَّا لم يَقع، دلّ على أَن الْخَبَر مفتعل بَاطِل. فَالْتَفت الْملك إِلَيّ وَقَالَ: الْجَواب؟ قلت: يلْزمه فِي نزُول الْمَائِدَة مَا لزمني فِي انْشِقَاق الْقَمَر؛ وَيُقَال لَهُ: لَو كَانَ نزُول الْمَائِدَة صَحِيحا، لوَجَبَ أَن يَنْقُلهُ الْعدَد الْكثير؛ فَلَو نَقله الْعدَد الْكثير،

فَلَا يبْقى يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ، إِلَّا وَيعلم هَذَا بِالضَّرُورَةِ؛ وَلما لم يعلمُوا ذَلِك بِالضَّرُورَةِ، دلّ على أَن الْخَبَر كذب {فبهت النَّصْرَانِي وَالْملك وَمن ضمه الْمجْلس. وانفصل الْمجْلس على هَذَا. قَالَ القَاضِي: سَأَلَني الْملك فِي مجْلِس آخر فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم؟ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام} قلت: روح الله، وكلمته، وَعَبده، وَنبيه، وَرَسُوله، كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ: " كن فَيكون {" وتلوت عَلَيْهِ النَّص. فَقَالَ: يَا مُسلم} تَقولُونَ: الْمَسِيح عبد؟ فَقلت: نعم؟ كَذَا نقُول وَبِه ندين {قَالَ: وَلَا تَقولُونَ إِنَّه ابْن الله؟ قلت: " معَاذ الله} مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه " الْآيَتَانِ. " إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما ". فَإِذا جعلتم الْمَسِيح ابْن الله، فَمن كَانَ أَبوهُ، وَأَخُوهُ، وجده وخاله، وَعَمه؟ وعددت عَلَيْهِ الْأَقَارِب. فتحير وَقَالَ: يَا مُسلم {العَبْد يخلق وَيحيى وَيُمِيت وَيُبرئ الأكمة والأبرص؟ فَقلت: لَا يقدر العَبْد على ذَلِك. وَإِنَّمَا ذَلِك كُله من فضل الله تَعَالَى} قَالَ: وَكَيف يكون الْمَسِيح عبد الله، وخلقاً من خلقه، وَقد أَتَى بِهَذِهِ الْآيَات، وَفعل ذَلِك كُله؟ قلت: معَاذ الله {مَا أحيي الْمَسِيح الْمَوْتَى، وَلَا أَبْرَأ الأكمة والأبرص} فتحير وَقل صبره، وَقَالَ: يَا مُسلم {تنكر هَذَا، مَعَ اشتهاره فِي الْخلق، وَأخذ النَّاس لَهُ بِالْقبُولِ} فَقلت: مَا قَالَ أحد من أهل الْفِقْه والمعرفة إِن الْأَنْبِيَاء يَفْعَلُونَ المعجزات من ذاتهم؛ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء يَفْعَله الله تَعَالَى على أَيْديهم، تَصْدِيقًا لَهُم، يجْرِي مجْرى الشَّهَادَة {فَقَالَ: قد حضر عِنْدِي جمَاعَة من أولى دينكُمْ والمشهورين فِيكُم وَقَالُوا إِن ذَلِك فِي كتابكُمْ. فَقلت: فِي كتَابنَا إِن ذَلِك كُله بِإِذن الله تَعَالَى} وتلوت عَلَيْهِ مَنْصُوص الْقُرْآن فِي الْمَسِيح " بإذني " وَقلت: إِنَّمَا فعل الْمَسِيح ذَلِك كُله بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ، لَا من ذَات الْمَسِيح. وَلَو كَانَ الْمَسِيح يحيي الْمَوْتَى وَيُبرئ الأكمة والأبرص من ذَاته وقوته، لجَاز أَن يُقَال إِن مُوسَى فلق الْبَحْر، وَأخرج يَده بَيْضَاء من غير سوء من ذَاته {وَلَيْسَت معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام} من ذاتهم دون إِرَادَة الْخَالِق {فَلَمَّا لم يجز هَذَا، لم يجز أَن تسند المعجزات الَّتِي ظَهرت على يَد الْمَسِيح، للمسيح}

ذكر القاضي عبد الوهاب

وَذكر ابْن حَيَّان، عَمَّن حَدثهُ أَن الطاغية وعد القَاضِي أَبَا بكر بالاجتماع مَعَه فِي محفل من محافل النَّصْرَانِيَّة، ليَوْم سَمَّاهُ. فَحَضَرَ أَبُو بكر، وَقد احتفل الْمجْلس، وبولغ فِي زينته. فأدناه الْملك، وألطف سُؤَاله، وَأَجْلسهُ على كرْسِي دون سَرِيره بِقَلِيل، وَالْملك فِي أبهته؛ وخاصته وَرِجَال مَمْلَكَته على مَرَاتِبهمْ. وَجَاء البطرك، قيم ديانتهم، آخر النَّاس، وَحَوله أَتْبَاعه يَتلون الأناجيل ويبخرون بِالْعودِ الرطب، فِي زِيّ حسن. فَلَمَّا توَسط الْمجْلس، قَامَ الْملك وَرِجَاله، تَعْظِيمًا لَهُ؛ فقضوا حَقه، ومسحوا أعطافه. وَأَجْلسهُ إِلَى جنبه، وَأَقْبل على القَاضِي أبي بكر؛ فَقَالَ لَهُ: يَا فَقِيه {البطرك قيم الدّيانَة، وَولي النحلة} فَسلم القَاضِي عَلَيْهِ أحفل سَلام، وَسَأَلَهُ أحفى سُؤال، وَقَالَ لَهُ: كَيفَ الْأَهْل وَالْولد؟ فَعظم قَوْله هَذَا عَلَيْهِ وعَلى جَمِيعهم وطبقوا على وُجُوههم، وأنكروا قَول أبي بكر عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ {تستعظمون لهَذَا الْإِنْسَان اتِّخَاذ الصاحبة وَالْولد، وتربون بِهِ عَن ذَلِك، وَلَا تستعظمونه لربكم عز وَجهه} فتضيفون إِلَيْهِ ذَلِك سدة لهَذَا الرَّأْي {مَا أبين غلطه} فَسقط فِي أَيْديهم، وَلم يردوا جَوَابا، وتداخلتهم لَهُ هَيْبَة عَظِيمَة، وانكسروا. ثمَّ قَالَ الْملك للبطرك: مَا ترى فِي أَمر هَذَا الرجل؟ قَالَ: تقضى حَاجته، وتلاطف صَاحبه، وَتخرج هَذَا الْعِرَاقِيّ عَن بلدك، من يَوْمك إِن قدرت؛ وَإِلَّا لم تأمن الْفِتْنَة على النَّصْرَانِيَّة مِنْهُ! فَفعل الْملك ذَلِك، وَأحسن جَوَاب عضد الدولة وهداياه، وَعجل تَسْرِيح الرَّسُول. وَبعث مَعَه عدَّة من أسرى الْمُسلمين، ووكل بِهِ من جنده من يحفظه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه. قَالَ غَيره: وَكَانَ سير القَاضِي إِلَى ملك الرّوم سنة نَيف وَثَمَانِينَ وثلاثمائة. ذكر القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَمن أَعْلَام الْعلمَاء، وصدور الْقُضَاة الروَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه الْمَالِكِي، أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن نصر بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن هَارُون الْبَغْدَادِيّ. ولي الْقَضَاء بمواضع مِنْهَا الدينور. فسما قدره، وشاع فِي الْآفَاق ذكره. قَالَ الشِّيرَازِيّ فِي تَعْرِيفه:

أَدْرَكته وَسمعت كَلَامه فِي النّظر. وَكَانَ قد رأى أَبَا بكر الْبَصْرِيّ إِلَّا أَنه لم يسمع مِنْهُ شَيْئا. وَكَانَ فَقِيها متأدباً. وَخرج فِي آخر عمره إِلَى مصر؛ فَحصل لَهُ بهَا حَال من الدُّنْيَا. قَالَ عِيَاض بن مُوسَى: قَوْله لم أيسمع من أبي بكر غير صَحِيح، بل: قد حدث عَنهُ، وَأَجَازَهُ، وتفقه على كبار أَصْحَابه كَأبي الْحسن بن الْقصار، وَأبي الْقَاسِم بن الْجلاب. ودرس الْفِقْه وَالْكَلَام وَالْأُصُول على القَاضِي أبي بكر الباقلاني الْمُتَقَدّم الذّكر وَصَحبه وَألف فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول تواليف بديعة مفيدة، مِنْهَا كتاب التَّلْقِين، وَكتاب شَرحه، وَكتاب شرح الرسَالَة والنصرة، لمَذْهَب دَار الْهِجْرَة، وَكتاب المعونة وأوائل الْأَدِلَّة، فِي مسَائِل الْخلاف بَين فُقَهَاء الْملَّة، وَكتاب الإشراف، على نكت مسَائِل الْخلاف، وَكتاب الإفادة فِي أصُول الْفِقْه، وَكتاب التَّلْخِيص فِيهِ، وَغير ذَلِك. وَعَلِيهِ تفقه أَبُو عمر وَأَبُو الْفضل الدِّمَشْقِي؛ وروى عَنهُ هَارُون الْفَقِيه، والمازري الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو بكر الْخَطِيب، وَجَمَاعَة من أهل الأندلس، مِنْهُم القَاضِي ابْن شماخ الغافقي، وَصَاحبه مهْدي بن يُوسُف، وَغير من ذكر. وَسبب خُرُوجه عَن حَضْرَة بَغْدَاد، كَلَام نقل عَنهُ أَنه قَالَه فِي الشَّافِعِي؛ وَطلب لأَجله؛ فَعجل بالفرار مِنْهَا، خَائفًا على نَفسه. قَالَ الشِّيرَازِيّ: وَأنْشد بعد ارتحاله عَنْهَا: سَلام على بَغْدَاد فِي كل موطن ... وَحقّ لَهَا مني السَّلَام المضاعف لعمرك مَا فارقتها عَن قلي لَهَا ... وَإِنِّي بشطي جانبيها لعارف ولاكنها ضَاقَتْ عَليّ برحبها ... وَلم تكن الأرزاق فِيهَا تساعف فَكَانَت كخل كنت أَهْوى دنوه ... وأخلاقه تنأى بِهِ وتخالف وَنسب لَهُ بَعضهم: وقائلةٍ لَو كَانَ ودك صَادِقا ... لبغداد لم ترحل فَكَانَ. جوابيا يُقيم الرِّجَال الموسرون بأرضهم ... وَتَرْمِي القوى بالمفترين المراميا وَمَا هجروا أوطانهم عَن ملاحظ ... وَلَا كن حذاراً من شمات الأعاديا

ذكر القاضي مهدي بن مسلم

وَلما وصل مصر، وبنيته الْمغرب، وصفت لَهُ بِلَاده، فزهد فِيهَا، وَقد كَانَ خَاطب فُقَهَاء القيروان ورام الْقدوم على الأندلس، وَكتب أَيْضا فِي ذَلِك إِلَى مُجَاهِد الْمُوفق صَاحب دانية؛ فعاجلته منيته. وَتُوفِّي بِمصْر فِي شعْبَان سنة 422، وَقد جَازَ المعترك. وَحكى أَنه لما أحس الْمَوْت، وَهُوَ بِمصْر، إِثْر مَا اتسعت حَاله، قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله {لما عِشْنَا متْنا} غفر الله لنا وَله ورحمنا وإياه { ذكر القَاضِي مهْدي بن مُسلم وَمن أقادم الْقُضَاة بالأندلس، قبل توطد الدولة المروانية بهَا، مهْدي بن مُسلم؛ استقضاه على قرطبة عقبَة بن الْحجَّاج، واستخلفه عَلَيْهَا، وَأمره بِالْقضَاءِ بَين أَهلهَا وَكَانَ من أهل الْعلم والورع وَالدّين المتين. وقبره عِنْد المصريين. وَلما أَرَادَ عقبَة تَوليته، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ عَهْدك لنَفسك} فَكَتبهُ بِخَط يَده. قَالَ ابْن الْحَارِث: وَإنَّهُ الْيَوْم لأصل من الْأُصُول للْعهد فِي الْقَضَاء. ذكر القَاضِي عنترة بن فلاح وَمِنْهُم عنترة بن فلاح. حدث عَنهُ الشأميون، ووصفوا فَضله. وَكَانَ تقياً، ورعاً؛ استسقى يَوْمًا بِالنَّاسِ على مَا حَكَاهُ ابْن زرْعَة؛ فَأحْسن فِي قِيَامه فِي الْخطْبَة، وخشع النَّاس بوعظه وتذكيره، وحركهم بدعائه وابتهاله. فَلَمَّا فرغ، قَامَ إِلَيْهِ رجل من عَامَّة النَّاس؛ فَقَالَ لَهُ: أَيهَا القَاضِي الْوَاعِظ {قد حسن عندنَا ظاهرك؛ فَحسن الله باطنك} فَقَالَ: اللَّهُمَّ آمين وَلنَا أَجْمَعِينَ {فَهَل أضمرت؛ يَا ابْن أخي، شَيْئا؟ فَقَالَ لَهُ: نعم يَا قَاضِي} بتفريغ أهرائك، يتم فضل استسقائك {فَقَالَ: عمري} لقد نصحتني وَإِنِّي أشهد الله أَن جَمِيع مَا حواه ملكي من الطَّعَام صَدَقَة لوجه الله الْكَرِيم! ثمَّ أقسم أَن لَا يضع مقَامه حَتَّى يُرْسل إِلَى دَاره؛ فَيُفَرق جَمِيع مَا ادخره. قَالَ: فغيث النَّاس من يومهم غيثاً عَاما.

ذكر القاضي يحيي بن زيد

ذكر القَاضِي يحيى بن زيد وَمِنْهُم يحيى بن زيد التجِيبِي. ولاه الْقَضَاء بالأندلس عمر بن عبد الْعَزِيز، على مَا روى عَن مُحَمَّد بن وضاح. وَكَانَ رجلا صَالحا، ورعاً، منقضباً، وَقد وَقع التَّنْبِيه على سيرة مهَاجر بن نَوْفَل: وَكَانَ من رسمه، إِذا اجْتمع النَّاس عِنْده للحكومه، بَدَأَ بوعظهم وتذكيرهم؛ فَلَا يزَال يخوفهم الله تَعَالَى، ويحذرهم وبال الْجِدَال بِالْبَاطِلِ، وَمَا يلْحق الْمُبْطل من سخط الله عز وَجل! وعقوبته، ويمثل لَهُم مواقفهم بَين يَدَيْهِ فِي الْقِيَامَة، ثمَّ يذكر مَا يلْزم القَاضِي من الْحساب، وَمَا يجب عَلَيْهِ من التَّحَرِّي لإصابة الْحق، وَالِاجْتِهَاد لتخليص نَفسه؛ ثمَّ يَأْخُذ فِي النوح والبكاء على نَفسه. فَيكون ذَلِك دأبه، حَتَّى لربما انْصَرف عَنهُ أَكثر المختصمين، بَاكِينَ، وجلين، قد تعاطوا الْحق بَينهم. ذكر القَاضِي مُعَاوِيَة بن صَالح الْحَضْرَمِيّ وَمن الْقُضَاة الْمُتَقَدِّمين، مُعَاوِيَة بن صَالح الْحَضْرَمِيّ الْحِمصِي. خرج من الشأم إِلَى الأندلس؛ فوصلها سنة 123. فاستوطن مَدِينَة مالقة، وَبنى بِأَسْفَل قصبتها مَسْجِدا هُوَ مَنْسُوب حَتَّى الْآن لَهُ. ثمَّ انْتقل إِلَى إشبيلية؛ فسكنها. ثمَّ ولاه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ابْن مُعَاوِيَة الْقَضَاء بقرطبة. وَكَانَ من جلة أهل الْعلم، وكبار رُوَاة الحَدِيث؛ شَارك مَالك بن أنس فِي بعض رِجَاله كيحيى بن سعيد وَأَمْثَاله. وَأخذ عَنهُ جملَة من الأيمة، مِنْهُم سُفْيَان الثَّوْريّ، وَاللَّيْث بن سعد، وَابْن عُيَيْنَة. وَذكر أَن مَالك بن أنس روى عَنهُ حَدِيث وَاحِدًا. وَكَانَ مِمَّن يَسْتَغْنِي بعقله وَعلمه وفهمه عَن مُشَاورَة غَيره. ورحل إِلَيْهِ زيد بن الْحباب من الْكُوفَة؛ فَسمع مِنْهُ بالأندلس حَدِيثا كثيرا. وَتُوفِّي بقرطبة، وَدفن ببقيع ربضها؛ وَصلى عَلَيْهِ الْأَمِير هِشَام بن عبد الرَّحْمَن وَمَشى على قَدَمَيْهِ فِي جنَازَته؛ وَذَلِكَ سنة 168.

ذكر القاضي نصر بن ظريف اليحصبي

ذكر القَاضِي نصر بن ظريف الْيحصبِي وَمِنْهُم نصر بن ظريف الْيحصبِي. ولي الْقَضَاء زَمَانا، على مَا حَكَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر. فَسَار فِيهِ بأجمل سيرة: مِنْهَا عمله فِي قَضِيَّة حبيب الْقرشِي؛ وَذَلِكَ أَنه دخل على الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة؛ فَشكى إِلَيْهِ بِالْقَاضِي، وَذكر أَنه يُرِيد أَن يسجل عَلَيْهِ فِي ضَيْعَة قيم فِيهَا، وَادّعى عَلَيْهِ الاغتصاب لَهَا، ولاذ بالأمير من إسراع القَاضِي إِلَى الحكم عَلَيْهِ من غير تثبيت. فَأرْسل الْأَمِير إِلَيْهِ، وَكَلمه فِي حبيب، وَنَهَاهُ عَن العجلة عَلَيْهِ؛ فَخرج ابْن ظريف من يَوْمه، وَعمل بضد مَا أَرَادَ الْأَمِير، وأنفذ الحكم. وَبلغ الْخَبَر حبيباً؛ فَدخل إِلَى الْأَمِير متغراً غيظاً؛ فَذكر لَهُ مَا عمله القَاضِي، وَوَصفه بالاستخفاف بأَمْره والنقض لَهُ، وأغراه. فَغَضب الْأَمِير على القَاضِي واستحضره؛ فَقَالَ لَهُ: من أَمرك على أَن تنفذ حكما، وَقد أَمرتك بِتَأْخِيرِهِ والإناءة بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: قد منى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَإِنَّمَا بَعثه الله بِالْحَقِّ، ليقضي بِهِ على الْقَرِيب والبعيد، والشريف والدنئ. وَأَنت أَيهَا الْأَمِير، مَا الَّذِي حملك على أَن تتحامل لبَعض رعيتك على بعض، وَأَنت تَجِد مندوحة بِأَن ترْضى من مَالك من تعنى بِهِ، وتمد الْحق لأَجله؟ فَقَالَ لَهُ: جَزَاك الله، يَا بن ظريف، خيرا} وَخرج القَاضِي؛ فَدَعَا بالقوم الَّذين صَارَت الضَّيْعَة إِلَيْهِم بِالِاسْتِحْقَاقِ، وكلمهم؛ فَوَجَدَهُمْ راضين بِبَيْعِهَا؛ إِن أجزل لَهُم الثّمن. فعقد فِيهَا البيع مَعَهم، وَصَارَت إِلَى جبيب. فَكَانَ بعد ذَلِك يَقُول: جزى الله ابْن ظريف عَنَّا خيرا {كَانَ بيَدي ضَيْعَة حرَام؛ فَجَعلهَا حَلَالا} وَكَانَ هَذَا القَاضِي، من زهده وورعه، إِذا شغل عَن الْقَضَاء يَوْمًا وَاحِدًا، لم يَأْخُذ لذَلِك الْيَوْم أجرا. ذكر القَاضِي يحيى بن معمر وَمِنْهُم يحيى بن معمر. لَهُ رحْلَة إِلَى الْمشرق، لَقِي فِيهَا أَشهب بن عبد الْعَزِيز، وَسمع مِنْهُ وَمن غَيره. وَكَانَ فِي مذْهبه ورعاً، زاهداً، فَاضلا. استقصاه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن.

ذكر القاضي المصعب بن عمران

وَكَانَ صَلِيب الْقَنَاة، قَلِيل المبالاة بالعتب فِي سَبِيل الْحق؛ وَكَانَ، إِذا أشكل عَلَيْهِ أَمر من أَحْكَامه، كتب فِيهِ إِلَى أصبغ بن الْفرج ونظرائه بِمصْر: فكشفهم عَن وَجه مَا يُرِيد علمه؛ فيحقق عَلَيْهِ ذَلِك فُقَهَاء الأندلس. وَكَانَ هُوَ قَلِيل الرِّضَا عَن طلبه قرطبة، شَدِيد التقضي عَلَيْهِم، لَا يلين لَهُم فِي شَيْء مِمَّا يُرِيدُونَ، وَلَا يصغى إِلَيْهِم؛ وَبلغ من تجاهله عَلَيْهِم أَن سجل بالسخطة على تِسْعَة عشر مِنْهُم؛ فنفروا عَنهُ بأجمعهم. ونشأت بَينه وَبَين يحيى بن يحيى لأجل ذَلِك عَدَاوَة؛ فسعى فِي عَزله عِنْد الْأَمِير، وَأقَام عَلَيْهِ بِمَا زَعمه الشُّهُود: فَعَزله. وَلما احْتضرَ ابْن معمر، وَهُوَ بِبَلَد إشبيلية، وأيقن بِالْمَوْتِ، قَالَ لمولى لَهُ، على مَا حَكَاهُ الزَّاهِد عُثْمَان بن سعيد أَقْسَمت عَلَيْك، إِذا أَنا مت، إِلَّا مَا ذهبت إِلَى قرطبة؛ فقف بِيَحْيَى بن يحيى، وَقل لَهُ: يَقُول لَك ابْن معمر: " وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون {. " فَفعل ذَلِك مَوْلَاهُ لما مَاتَ سَيّده، وَبلغ يحيى مَا تقرعه بِهِ. قَالَ: فَبكى وَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} مَا أَظن الرجل إِلَّا خدعنَا فِيهِ ثمَّ ترحم عَلَيْهِ، واستغفر لَهُ { ذكر القَاضِي المصعب بن عمرَان وَقد تقدم الْكَلَام فِي إباية المصعب بن عمرَان عَن الْقَضَاء، أَيَّام خلَافَة الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة. فَلَمَّا ولى ابْنه هِشَام الْملك، اخْتَار المصعب للْقَضَاء، واستحضره، وَقَالَ لَهُ: قد علمت أَنه إِنَّمَا مَنعك عَن الْقبُول من أبي رَحمَه الله} الْأَخْلَاق الَّتِي كَانَت فِيهِ. وَقد عرفت أخلاقي وبلوتها: فاحمل عني هم الْقَضَاء {فأباه واستعفاه؛ فَغَضب هِشَام عَلَيْهِ عزماً شَدِيدا، وتهدده، وأوعده. وَذكر بَعضهم أَنه قَالَ: لَئِن لم تعْمل على الْقَضَاء، لأسطون بك سطوة تزيل اسْم الْحلم عني} فَلَمَّا رأى ذَلِك، وَخَافَ على نَفسه، تولى لَهُ الْعَمَل كرها؛ وَاشْترط على هِشَام أَن يَأْذَن لَهُ فِي اطلَاع ضيعته يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَة: السبت والأحد، وَيحكم لسَائِر الْأَيَّام. فَأَجَابَهُ إِلَى

ذَلِك. وَلم يزل على قَضَاء الْأَمِير هِشَام إِلَى أَن توفّي؛ فأقره ابْنه الحكم؛ وَكَانَ قد عرف صلابته وتنفيذه الْأَحْكَام؛ فَاشْتَدَّ مَعَه، وَصَارَ يُؤَيّدهُ، وَلَا يسمع فِيهِ مقَالَة طَاعن، ويجيز أَفعاله، وَينفذ أَحْكَامه، وَإِن وَقعت بِغَيْر المحبوب مِنْهُ. وَفِي كتاب الْحسن بن مُحَمَّد: إِن الْعَبَّاس بن عبد الْملك المرواني اغتصب رجلا من أهل جيان ضيعته. فَبينا هُوَ ينازعه فِيهَا، هلك الرجل، وَترك أيتاماً صغَارًا. فَلَمَّا ترعرعوا، وسمعوا بِعدْل القَاضِي مُصعب وقضائه، قدمُوا قرطبة، وأنهوا إِلَيْهِ مظلمتهم بِالْعَبَّاسِ، وأثبتوا مَا وَجب إثْبَاته؛ فَبعث القَاضِي فِي الْعَبَّاس، وأعلمه بِمَا دَفعه إِلَيْهِ الْأَيْتَام، وعرفه بالشهود عَلَيْهِ، وأعذر إِلَيْهِ فيهم، وأباح لَهُ المدافع، وَضرب لَهُ الْآجَال فَلَمَّا انصرمت، وَلم يَأْتِ بِشَيْء، أعلمهُ أَنه ينفذ الحكم عَلَيْهِ. فَفَزعَ الْعَبَّاس إِلَى الْأَمِير الحكم، وَسَأَلَهُ أَن يوصى إِلَى القَاضِي التخلي عَن النّظر فِي قصَّته، ليَكُون هُوَ النَّاظر فِيهَا. فأوصل إِلَيْهِ الْأَمِير ذَلِك مَعَ خَليفَة لَهُ من أكَابِر فتيانه؛ فَلَمَّا أدّى الْوَصِيَّة إِلَيْهِ، اشتدت عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِن الْقَوْم قد أثبتوا حَقهم {ولزمهم فِي ذَلِك عناء طَوِيل وَنصب شَدِيد، لبعد مكانهم، وَضعف حالتهم. وَفِي هَذَا على الْأَمِير أعزه الله} مَا فِيهِ {فلست أتخلى عَن النّظر وإنفاذ الحكم لوجهه. فَلْيفْعَل الْأَمِير بعده مَا يرَاهُ صَوَابا من رَأْيه} فَرجع الرَّسُول إِلَى الْأَمِير بجوابه، فَوَجَمَ مِنْهُ؛ وَجعل الْعَبَّاس يغريه بمصعب، وَيَقُول: قد أعلمت الْأَمِير بِشدَّة استخفافه وغلطه فِي نَفسه، وَتَقْدِيره أَن الحكم لَهُ، وَلَا حكم للأمير عَلَيْهِ {فَأَعَادَ الْإِرْسَال إِلَيْهِ بعزمه مِنْهُ، يَقُول: لَا بُد لَك من أَن تكف عَن النّظر فِي هَذِه الْقَضِيَّة، لأَكُون أَنا النَّاظر فِيهَا} فَلَمَّا جَاءَهُ بعزمته، أمره بالقعود؛ ثمَّ أَخذ قرطاساً، فسواه، وَعقد فِيهِ حكمه للْقَوْم بالضيعة؛ ثمَّ أنفذه لوقته بالاشهاد عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ للرسول: اذْهَبْ إِلَى الْأَمِير أصلحه الله {فاعلمه أَنِّي قد أنفذت مَا لزمني إِنْفَاذه من الْحق خوف الْحَادِثَة على نَفسِي، وَرَهْبَة السُّؤَال عَنهُ. وَإِن شَاءَ نفذه، فَذَلِك لَهُ} يتقلد مِنْهُ مَا شَاءَ {فَذهب مغضباً، وَحرق كَلَام القَاضِي؛ وَحكى عَنهُ أَنه قَالَ: قد حكمت بِالْعَدْلِ؛ فلينقضه الْأَمِير إِن قدر} فاستشاط غيظاً، وأطرق مَلِيًّا، وَالْعَبَّاس يهيج غَضَبه؛ وهم بمصعب، إِلَى أَن تداركته عصمَة من الله، ثبتَتْ بصيرته، فسرى عَنهُ، وَقَالَ للْعَبَّاس: إربع على ظلعك! فَمَا أشقاه

نبذ من اخبار محمد بن بشير المعافري وبعض سيره

من جرى عَلَيْهِ قلم القَاضِي {فقف عِنْد أمره} فَإِنَّهُ أشبه بِنَا وَأولى بك {وَأقَام على حسن رَأْيه فِي القَاضِي، وَلم يعرضه. وَقَول الْأَمِير: إربع على ظلعك} مَعْنَاهُ: إِنَّك ضَعِيف فانته عَمَّا لَا تُطِيقهُ {قَالَ صَاحب الْأَفْعَال: أربعت على الشَّيْء: عطفت عَلَيْهِ؛ وَمِنْه: إربع على نَفسك: قَالَ أَبُو عُثْمَان: مَعْنَاهُ: الزم أَمرك وشأنك. قَالَ: وتمثل الْمَأْمُون، حِين وضع رَأس مُحَمَّد المخلوع بَين يَدَيْهِ، بقول الشَّاعِر: يَا صَاحب الْبَغي إِن الْبَغي مصرعة ... فاربع عَلَيْك فَخير القَوْل أعدله فَلَو بغى جبل يَوْمًا على جبل ... لاندك مِنْهُ أعاليه وأسفله وَقَالَ الْهَرَوِيّ: فِي حَدِيث بَعضهم، إِنَّه لَا يربع على ظلعك من لَيْسَ يحزنهُ أَمرك. سَمِعت أَبَا مُحَمَّد الْقرشِي يَقُول: مَعْنَاهُ: لَا يُقيم عَلَيْك، فِي حَال ضعفك، من لَيْسَ يحزنهُ أَمرك، أَي لَا يهتم بشأنك إِلَّا من يحزنهُ حالك. قَالَ: وَأَصله من ربع الرجل يربع ربوعاً إِذا أَقَامَ بالْمقَام. والظلع العرج كَأَنَّهُ يَقُول: لَا يُقيم على عرجك، إِذا تخلفت عَن أَصْحَابك، إِلَّا من يهتم بشأنك. وَكَانَ المصعب يشاور فِي شَأْنه صعصعة بن سَلام، وَعبد الرَّحْمَن بن مُوسَى، وَعبد الْملك بن الْحسن، والغازي بن قيس، وأمثالهم. وَقَالَ فِيهِ ابْن عبد الْبر، وَقد ذكره: يكنى أَبَا مُحَمَّد؛ شأمي الأَصْل، دخل الأندلس فِي أَيَّام عبد الرَّحْمَن؛ واستقضاه هِشَام وَكَانَ يرْوى عَن الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره. وَكَانَ لَا يُقَلّد مذهبا، وَيقْضى بِمَا يرَاهُ صَوَابا. وَكَانَ خيرا فَاضلا. نبذ من أَخْبَار مُحَمَّد بن بشير الْمعَافِرِي وَبَعض سيره كَانَ هَذَا الرجل رَحمَه الله} مِمَّن لَقِي مَالك بن أنس عِنْد توجهه إِلَى حج بَيت الله الْحَرَام. فَلَمَّا عَاد إِلَى الأندلس، استقضاه الحكم بن هِشَام؛ وَقبل قَضَاءَهُ على شُرُوط: مِنْهَا نَفاذ حكمه على كل أحد، من الْأَمِير إِلَى حارس السُّوق؛ وَأَنه إِذا ظهر لَهُ الْعَجز من

نَفسه، أعفى، وَأَن يكون رزقه كفافاً من المَال الفئ. وَكَانَ من صُدُور الْقُضَاة، وَذَوي الْمذَاهب الجميلة، شَدِيد الشكيمة، ماهر الْعَزِيمَة. قَالَ أَحْمد بن خَالِد: وَكَانَ أول مَا أنفذه فِي قَضَائِهِ التسجيل على الْأَمِير الحكم؛ فِي رحى القنطرة، إِذْ قيم عَلَيْهِ فِيهَا، وَثَبت عِنْده من الْمُدعى وَسمع من بَينته مَا اعذر بِهِ إِلَى الْأَمِير الحكم؛ فَلم يكن عِنْده مدفع. فسجل فِيهَا، وَأشْهد على نَفسه. فَلَمَّا مَضَت مدَّته، ابتاعها ابتياعاً صَحِيحا. فَكَانَ الحكم بعد ذَلِك يَقُول: رحم الله مُحَمَّد بن بشير {لقد أحسن فِيمَا فعل بِنَا على كره منا: كَانَ بِأَيْدِينَا شَيْء مشتبه؛ فصححه لنا، وَصَارَ حَلَالا، طيب الْملك فِي أعقابنا} وَمِمَّا يذكر عَلَيْهِ أَن رجلا كَانَ يُدَلس فِي كتب الوثائق، وَإنَّهُ عقد وَثِيقَة بَاطِل على رجل من التُّجَّار، وَقَامَ بذلك عِنْد مُحَمَّد بن بشير. فَلَمَّا صَحَّ لَدَيْهِ تدليسه، أَمر بِقِطْعَة؛ فَقطعت يَده. وَكَانَ إِذا اخْتلفت عَلَيْهِ الْفُقَهَاء بقرطبة، وأشكل عَلَيْهِ الْأَمر فِي قَضِيَّة، كتب إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بِمصْر، وَإِلَى عبد الله بن وهب، وأشباههما؛ وَرُبمَا قبل الشَّاهِد على التوسم. وَنقل عَن عبيد الله بن يحيى عَن أَبِيه أَنه قَالَ لمُحَمد بن بشير: إِن الْحَالَات تَتَغَيَّر، وَلَا تثبت. فَإِذا عدل عنْدك الرجل بِحكم شَهَادَته، ثمَّ تطاول أمره، وَشهد عنْدك ثَانِيَة، فكلفه التَّعْدِيل، وَأخر فِيهِ الْكَشْف؛ فاعمل بِحَسب الَّذِي يَبْدُو لَك. فَقبل ذَلِك مِنْهُ ابْن بشير. فَلَمَّا أشعر النَّاس بِهِ أخذُوا حذرهم مِنْهُ. وَمن كتاب مُحَمَّد بن حَارِث، حَدِيث أَحْمد بن خَالِد؛ قَالَ: سمعنَا مُحَمَّد بن وضاح يَقُول: وكل سعيد الْخَيْر بن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة عِنْد القَاضِي مُحَمَّد بن بشير وَكيلا يُخَاصم عَنهُ فِي شَيْء اضْطر إِلَيْهِ. وَكَانَت بِيَدِهِ فِيهِ وَثِيقَة، فِيهَا شَهَادَات من أهل الْقبُول، وَقد أَتَى عَلَيْهِم الْمَوْت؛ فَلم يكن فِيهَا من الْأَحْيَاء إِلَّا الْأَمِير الحكم بن هِشَام وَشَاهد آخر مبرز. فَشهد ذَلِك الشَّاهِد عِنْد القَاضِي، وَضربت الْآجَال على وَكيله فِي شَاهد ثَان رجى بِهِ الْخِصَام فَدخل سعيد الْخَيْر بِالْكتاب إِلَى الْأَمِير الحكم، وَأرَاهُ شَهَادَته فِي الْوَثِيقَة وَكَانَ قد كتبهَا قبل الْإِمَارَة، فِي حَيَاة وَالِد وعرفه مَكَان حَاجته إِلَى أَدَائِهَا عِنْد قاضيه، خوفًا من بطول حَقه. وَكَانَ الحكم يعظم سعيد الْخَيْر عَمه، وَيلْزم مبرته؛ فَقَالَ لَهُ: يَا عَم! إِنَّا

لسنا من أهل الشَّهَادَات؛ فقد التبسنا من فتن هَذِه الدُّنْيَا بِمَا لَا تجهله؛ ونخشى أَن توقفنا مَعَ القَاضِي موقف مخزاة، كُنَّا نفديه بملكنا. فصر فِي خصامك إِلَى مَا صيرك الْحق إِلَيْهِ {وعلينا خلف مَا انتقصك} فَأبى عَلَيْهِ سعيد الْخَيْر، وَقَالَ: سُبْحَانَ الله {وَمَا عَسى أَن يَقُول قاضيك فِي شهادتك، وَأَنت وليته، وَهُوَ حَسَنَة من حَسَنَاتك} وَلَقَد لزمك فِي الدّيانَة أَن تشهد لي بِمَا عَلمته، وَلَا تكتمني مَا أَخذ الله عَلَيْك {فَقَالَ لَهُ الْأَمِير: بلَى} إِن ذَلِك لمن حَقك كَمَا تَقول. وَلَكِنَّك تدخل بِهِ علينا دَاخِلَة؛ فَإِن أعفيتنا مِنْهُ، فَهُوَ أحب إِلَيْنَا؛ وَإِن اضطررنا، لم يمكننا عقوقك. فعزم عَلَيْهِ سعيد الْخَيْر عزم من لم يشك أَن قد ظفر بحاجته. وضايقته الْآجَال؛ فألج عَلَيْهِ؛ فَأرْسل الْأَمِير الحكم عِنْد ذَلِك عَن فقيهين من فُقَهَاء حَضرته، وَخط شَهَادَته تِلْكَ بِيَدِهِ فِي قرطاس، وَختم عَلَيْهِ بِخَاتمِهِ، وَدفعهَا إِلَى الفقهين، وَقَالَ لَهما: هَذِه شهادتي بحطى تَحت طابعي {فأدياها إِلَى القَاضِي} فَأتيَاهُ بهَا إِلَى مَجْلِسه، فِي وَقت قعوده للسماع من الشُّهُود فإدياها إِلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهما: قد سَمِعت مِنْكُمَا؛ فقوما راشدين {وانصرفا. وجارت دولة وَكيل سعيد الْخَيْر؛ فَتقدم إِلَيْهِ مذلاً، واثقاً بالخلاص؛ فَقَالَ لَهُ: أَيهَا القَاضِي} قد شهد عنْدك الْأَمِير أصلحه الله {فَمَا تَقول؟ فَأخذ القَاضِي كتاب الشَّهَادَة، وَنظر فِيهِ؛ ثمَّ قَالَ للْوَكِيل: هَذِه شَهَادَة لَا تعْمل بهَا عِنْدِي} فجيء بِشَاهِد عدل {فدهش الْوَكِيل، وَمضى إِلَى مُوكله؛ وأعلمه؛ فَركب من فوره إِلَى الْأَمِير الحكم وَقَالَ لَهُ: ذهب سلطاننا وأزيل بهاؤنا} ويجترئ هَذَا القَاضِي على رد شهادتك، وَالله تَعَالَى قد استخلفك على خلقه، وَجعل الْأَمر فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَيْك {هَذَا مَا لَا يَنْبَغِي أَن تحتمله عَلَيْهِ} وَجعل يغريه بِالْقَاضِي، ويحرضه على الْإِيقَاع بِهِ. فَقَالَ لَهُ الحكم: وَهل شَككت أَنا فِي هَذَا؟ يَا عَم {القَاضِي، وَالله} رجل صَالح، لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم {فَقل الَّذِي يجب عَلَيْهِ، وَيلْزمهُ، ويسد بَابا كَانَ يصعب علينا الدُّخُول مِنْهُ} فَأحْسن الله عَنَّا وَعَن نَفسه جزاءه {فَغَضب سعيد الْخَيْر من قَوْله، وَقَالَ لَهُ: هَذَا حسبي مِنْك} فَقَالَ لَهُ: نعم {قد قضيت الَّذِي كَانَ عَليّ؛ وَلست، وَالله} أعارض القَاضِي فِيمَا أحتاط بِهِ لنَفسِهِ، وَلَا أخون الْمُسلمين فِي قبض يَد مثله {وَلما عوتب ابْن بشير فِيمَا أَتَاهُ من ذَلِك، قَالَ لمن عاتبه: يَا عَاجز} أَلا تعلم أَنه لَا بُد من الْإِعْذَار فِي الشَّهَادَات؟ فَمن كَانَ يجترى على

الدّفع فِي شَهَادَة الْأَمِير لَو قبلتها؟ الدّفع فِي شَهَادَة الْأَمِير لَو قبلتها؟ وَإِن لم اعذر، بخست الْمَشْهُود عَلَيْهِ بعض حَقه {وَكَانَ القَاضِي مُحَمَّد بن بشير لَا يُجِيز الشَّهَادَة على الْخط فِي غير الأحباس، وَلَا يرى الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد. وَلذَلِك اعتل عِنْد شَهَادَة الْأَمِير الحكم فِي خُصُومَة عَمه سعيد الْخَيْر بِمَا اعتل. وَمَسْأَلَة الْيَمين مَعَ الشَّاهِد مِمَّا اخْتلف فِيهِ أهل الْعلم؛ فَأَما مَالك، فَإِنَّهُ كَانَ يرى ذَلِك؛ وَأما اللَّيْث، فَإِنَّهُ كَانَ يرى أَن كل حق لم يشْهد عَلَيْهِ عَدْلَانِ بِاللَّه تَعَالَى لم يرد إِتْمَامه. قَالَ عبيد الله بن يحيى: وَكَانَ أبي رَحمَه الله} يحْتَج بقول اللَّيْث. ويحكى عَن مُحَمَّد بن بشير أَنه لم يحكم فِي ولَايَته بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، وَلَا حكما وَاحِدًا. وَفِي أَحْكَام ابْن أبي زِيَاد: قَالَ مُحَمَّد بن عمر بن لبَابَة: قد علم القَاضِي حفظه الله {اخْتِلَاف أهل الْعلم، وَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، وَأَصْحَابه من الْيَمين مَعَ الشَّاهِد، وَمَا ذهب إِلَيْهِ قُضَاة بلدنا مُنْذُ دَخلته الْعَرَب، من أَنهم لَا يرَوْنَ الْيَمين مَعَ الشَّاهِد، وَلَا يقضون بِهِ. فليتخير القَاضِي مَا أرَاهُ الله. وَإِنِّي لمتوقف على الِاخْتِيَار فِي هَذَا، لما ظهر لي من فَسَاد النَّاس، وَقلة الدعة فِي الشَّهَادَة. وَمن نَوَازِل أبي الْأَصْبَغ بن سهل: قَالَ ابْن حبيب: حَدثنِي ابْن أبي أويس، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن يُونُس بن يزِيد، عَن سَلمَة بن قيس، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} اسْتَشَارَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد؛ فَأمره بذلك. وَعَن عَليّ بن أبي طَالب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قضى فِي الْحُقُوق بِهِ؛ وَقضى بذلك عَليّ وَشُرَيْح. قَالَ مَالك: مَضَت بِهِ السّنة؛ يحلف الطَّالِب مَعَ شَاهده، وَيسْتَحق حَقه؛ فَإِن نكل، حلف الْمَطْلُوب، وَإِلَّا غرم. وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَال خَاصَّة، لَا فِي الْحُدُود، وَلَا فِي النِّكَاح، وَلَا فِي الطَّلَاق، وَلَا فِي الْعتاق وَالسَّرِقَة والفرية. وَأجْمع عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد من الْحِجَازِيِّينَ وَغَيرهم، أَنه لَا يقْضى بِهِ إِلَّا الْأَمْوَال والديون وَغَيرهمَا. وَقَالَهُ عَمْرو بن دِينَار، وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} وَقَالَ ابْن حبيب، عَن مطرف، عَن مَالك: يجوز الْيَمين مَعَ الشَّاهِد فِي الْحُقُوق، والجراح عمدها وخطئها، وَفِي المشاتمة، مَا عدا الْحُدُود من الْفِرْيَة وَالسَّرِقَة وَالطَّلَاق. قَالَ: وحَدثني أصبغ بن الْفرج، عَن ابْن وهب، عَن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه، أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يقْضى بِهِ فِي المشاتمة وَفِي الْجراح الْعمد وَالْخَطَأ، وَلَا يُجِيزهُ

فِي الْفِرْيَة وَالطَّلَاق وَالْعتاق وأشباهه. ثمَّ قَالَ القَاضِي: ومسائل هَذَا الْبَاب كَثِيرَة. وَالْمرَاد مِنْهُ الْإِعْلَام بالمذاهب فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين. وَمَا جرى بِهِ الْعَمَل فِي الأندلس وَقد ذَكرْنَاهُ، وَمن صَحَّ نظهر فِي أَحْوَال النَّاس الْيَوْم والمعرفة باخْتلَاف الشَّهَادَات لم تطب نَفسه على الْقَضَاء، وَلَا مَعَ الشَّاهِد المبرز فِي الْعَدَالَة والنباهة. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب {وَترك الحكم بِالشَّاهِدِ الْوَاحِد مَعَ الْيَمين من الْمسَائِل الْأَرْبَع الَّتِي خَالف أهل الأندلس فِيهَا قَدِيما مَذْهَب مَالك بن أنس؛ وَهِي أَن لَا يحكموا بالخلطة، وَلَا بِالشَّاهِدِ الْيَمين. وأجازوا كِرَاء الأَرْض بالجزء مِمَّا يخرج مِنْهَا، وَهُوَ مَذْهَب اللَّيْث بن سعد، وأجازوا غرس الشّجر فِي الْمَسَاجِد، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ. وَلم يزل مُحَمَّد بن بشير مُتَوَلِّيًا خطة الْقَضَاء إِلَى أَن توفّي سنة 198. قَالَ عَنهُ بَقِي بن مخلد، وَقد ذكره، وَأثْنى عَلَيْهِ: كَانَت لَهُ فِي قضاياه مَذَاهِب ودقائق، لم تكن لأحد قبله بالأندلس، وَلَا بفاس، وَلَا بِمن تقدم من صُدُور هَذِه الْأمة رَحمَه الله وأرضاه} وَمن المطالب الَّتِي للْقَاضِي على سُلْطَانه، حَسْبَمَا شَرطه ابْن بشير مُحَمَّد بتوليته، والإعانة لَهُ على مَا أَهله إِلَيْهِ من الْقيام بخطته، وإمضاء أَحْكَام الْحق على جِهَته والأقربين من عشيرته، فضلا عَن خوله وحاشيته. وَقد كَانَ الْخَلِيفَة الْمَدْعُو بالمنصور، من بنى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، بالمثابة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا من شموخ أَنفه وسمو سُلْطَانه. فَمَا زَاده التذلل للْحكم الشَّرْعِيّ إِلَّا رفْعَة إِلَى رفعته، وَعزة إِلَى عزته. فقد جرى حَتَّى الْآن الْمثل بِمَا حدث لَهُ مَعَ مُحَمَّد بن عمرَان، قَاضِي الْمَدِينَة فِي وقته: وَذَلِكَ أَنه لما وصل إِلَيْهَا حَاجا، تظلم مِنْهُ الجمالون، وصاحوا على القَاضِي. قَالَ الشَّيْبَانِيّ: فَكنت كَاتبه؛ فَأمرنِي أَن أكتب إِلَى الْمَنْصُور رقْعَة فِي الْحُضُور مَعَ من تظلم مِنْهُ. فَقلت: تعفيني من هَذَا {فَإِنَّهُ يعرف خطي} فَقَالَ: إِذا لَا يحملهَا غَيْرك {فَكتب، تمّ ختم الْكتاب، ومضيت، ودفعته إِلَى الرّبيع، واعتذرت. وَقَالَ: لَا عَلَيْك} وَدخل بِالْكتاب، ثمَّ خرج؛ فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْكُم السَّلَام؛ وَيَقُول لكم: قد دعيت إِلَى مجْلِس الحكم الشَّرْعِيّ؛ فَقَالَ يَتبعني أحد مِنْكُم، وَلَا يكلمني، وَلَا يقم إِلَى إِذا خرجت.

قَالَ: ثمَّ برز، وَبَعض وزرائه بَين يَدَيْهِ، وَأَنا خَلفه، وَهُوَ فِي مئزر ورداء؛ فَلم يقم إِلَيْهِ أحد. فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد، بَدَأَ بالقبر؛ فَسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ثمَّ قَالَ للربيع: أخْشَى أَن تدخل ابْن عمرَان مَتى هَيْبَة، فيتحول عَن مَجْلِسه. وَلَئِن فعل، لَا ولي لي ولَايَة أبدا} ثمَّ سَار إِلَى القَاضِي. فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَ متكياً، أطلق رِدَاءَهُ عَن عَاتِقه، ثمَّ احتبى ودعا بالخصوم، ثمَّ قضى لَهُم بحقهم، وانفصل الْخَلِيفَة إِلَى مَحَله. فَلَمَّا وصل أَمر الرّبيع بإحضار القَاضِي، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: جَزَاك الله عَن دينك وَعَن نَفسك وَعَن خليفتك أحسن جَزَائِهِ {وَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. فبقى هَذَا الْفِعْل من الْمَنْصُور عبد الله العباسي معدوداً، على مر الْأَيَّام، فِي مناقبه، مَعْرُوفا من فضائله، مرسوماً فِي كتاب حَسَنَاته. وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يكون شَدِيد التثبت فِيمَا أسْند إِلَيْهِ من أَمَانَته، غير هائب فِي الْحق لسلطانه، وَلَا مُتبعا لَهُ فِيمَا يقْدَح فِي وَجه ورعه وَظَاهر أَحْكَامه. ولقضاة الْعدْل فِي هَذَا الْبَاب أَخْبَار حسان، مِنْهَا قصَّة أَحْمد بن أبي دَاوُود مَعَ الواثق، فِي المسالة الَّتِي أغراه بهَا كَاتبه عبد الْملك بن الزيات، ورام إغضابه عَلَيْهِ؛ وَهِي مَسْأَلَة الْأَعْرَاب الَّذين كتب لَهُ فيهم عتاب بن عتاب؛ فَإِنَّهُم كسروا السجْن، وهربوا، فَقطعُوا الطَّرِيق، وارتكبوا العظائم، وانتهكوا الْمَحَارِم؛ وَلَقَد ظفر بهم. وَوَافَقَ الدواة الَّتِي كَانَ الواثق يكْتب بهَا بَين يَدي قاضيه ابْن أبي دَاوُود؛ فَقَالَ لَهُ: قدمهَا إِلَيّ، لأوقع بهَا فِي ضرب أَعْنَاق هَؤُلَاءِ الفتكة} فَأمْسك؛ فَقَالَ لَهُ الواثق: أَنْت قَرَأت عَليّ قَدِيما أَن خَالِد بن الْوَلِيد كتب إِلَى عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا {فِي قوم عتوا وأفسدوا وَقتلُوا، يستأمره فِي أَمرهم. فَكتب إِلَيْهِ بِضَرْب أَعْنَاقهم. أَفلا ترْضى أَن أكون مثل خَالِد وأجرى مجْرَاه؟ فَأقبل القَاضِي عَلَيْهِ وَقَالَ: سَأَلتك بِاللَّه الْعَظِيم} أَنْت كعمر وعتاب كخالد {أشركك فِي دِمَائِهِمْ وأعينك على مَا تُرِيدُ من أَمرهم} فَأمْسك الواثق على الْمُرَاجَعَة وَقَالَ لغلامه: قدم الدواة {فَإنَّا لَا نكلف أَبَا الْعَبَّاس مَا يشق عَلَيْهِ} وعَلى كل حَاكم أَن يكون شَدِيد الحذر من دسائس نَفسه، قَاطعا أَسبَاب مطامعه، وَأَن لَا يكون من شَأْنه حب الْمَدْح فِي وَجهه، والركون إِلَى الثَّنَاء على شيمه؛ فَإِنَّهُ مهما عرف بذلك، تضوحك بِهِ، وَأكْثر الْوُقُوع فِي جنابه، والتهاون بناحيته. قَالَ

ذكر القاضي الفرج بن كنانه

ابْن يُونُس: بل يكون همه فِي ثَلَاث خِصَال: رِضَاء ربه، ورضاء سُلْطَانه، ورضاء من يَلِي عَلَيْهِ. وَكَانَ الشَّافِعِي يَقُول: لما رَأَيْت النَّاس لَا يَجْتَمعُونَ على حَالَة، أخذت لنَفْسي بِالَّذِي هُوَ أولى. ونظم بَعضهم هَذَا الْمَعْنى، فَقَالَ: اعْمَلْ لنَفسك صَالحا لَا تحتفل ... بكبير قيل فِي الْأَنَام وَقَالَ فَالنَّاس لَا يُرْجَى اجْتِمَاع قُلُوبهم ... لَا بُد من معن عَلَيْك وَقَالَ ذكر القَاضِي الْفرج بن كنَانَة وَمن الْفُقَهَاء الْمَعْدُودين بالأندلس فِي صُدُور الْقُضَاة، الْفرج بن كنَانَة الْكِنَانِي، رَحل إِلَى الْمشرق، وَسمع من عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَغَيره. وَلما قدم من رحلته، استخلصه الْأَمِير الحكم بن هِشَام، وولاه قَضَاء الْجَمَاعَة بقرطبة. وَهُوَ كَانَ القَاضِي بهَا أَيَّام الْهَرج الْمَعْرُوف بوقيعة الربض. وَمِمَّا جرى لَهُ حِينَئِذٍ، أَن بعض أَصْحَاب الْأَمِير الحكم، الَّذين أرسلهم على النَّاس، تعلقوا بجار الْفرج بن كنَانَة، أتهموه بالحركة فِي الصُّبْح، وتسوروا عَلَيْهِ. وَصَاح نساؤه؛ فَسمع القَاضِي الصُّرَاخ؛ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقيل: جَارك فلَان {تعلق بِهِ الحرس؛ فأخرجوه ليقْتل} فبادر الْخُرُوج، وكف الْقَوْم عَن جَاره، وَقَالَ لَهُم: إِن جاري هَذَا بَرِيء الساحة، سليم النَّاحِيَة، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء مِمَّا تظنون. فَقَالَ لَهُ رَئِيس الحرس، الْمُرْسل مَعَهم: لَيْسَ هَذَا من شَأْنك {عَلَيْك بِالنّظرِ فِي أحباسك وحكومتك} ودع مَا لَا يَعْنِيك {فَغَضب الْفرج عِنْد ذَلِك، وَمَشى إِلَى الْأَمِير الحكم؛ فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ. فَلَمَّا دخل، قَالَ لَهُ بعد السَّلَام: أَيهَا الْأَمِير} إِن قُريْشًا حَارَبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وناصبته الْعَدَاوَة فِي الله تَعَالَى؛ ثمَّ إِنَّه صفح عَنْهُم، لما أظفره الله تَعَالَى بهم، وَأحسن إِلَيْهِم. وَأَنت أَحَق النَّاس بالاقتداء بِهِ، لقرابتك مِنْهُ، ومكانك من خِلَافَته فِي عباد الله} ثمَّ حكى لَهُ قصَّة جَاره، وَمَا عرض لَهُ فِي الدفاع عَنهُ. فَأمر بتخليه سَبيله، وبعقاب النَّاظر الَّذِي عَارض القَاضِي؛ وَعَفا عِنْد ذَلِك عَن بَقِيَّة أهل قرطبة، وَبسط الْأمان بجماعتهم، وردهم إِلَى أوطانهم.

ذكر القاضي سعيد بن سليمان الغافقي

وَكَانَ القَاضِي فَارِسًا شجاعاً، يَقُود الْخَيل، ويتصرف للسُّلْطَان فِي الولايات. وَقد غزا مَعَ عبد الْكَرِيم بن عبد الْوَاحِد بن مغيث، معقوداً لَهُ على جند شذونه بَلَده، إِلَى جليقية وَقدمه عبد الْكَرِيم إِلَى جمع النَّصْرَانِيَّة؛ فعضهم؛ وَقتل فيهم قتلا ذريعاً. وَبَقِي قَاضِيا وَصَاحب صَلَاة زَمَانا. ثمَّ استعفى. وَأخرجه الْأَمِير إِلَى الثغر الْأَقْصَى؛ فَقَامَ مقَام صُدُور الْغُزَاة. وَكَانَ لَهُ قدر جليل فِي النَّاس. وَكَذَلِكَ كَانَ أَسد بن الْفُرَات بن سِنَان، أحد صُدُور الشجعان: ولاه زِيَادَة الله الْقَضَاء بإفريقية، وَقدمه على غَزْو صقلية؛ فَخرج فِي عشرَة آلَاف رجل، مِنْهُم ألف فَارس. فَلَمَّا خرج إِلَى سوسة ليتوجه مِنْهَا إِلَى صقلية، خرج مَعَه وُجُوه أهل الْعلم، يشيعونه، وَقد صهلت الْخَيل، وَضربت الطبول، وخفقت البنود، قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ {يَا معشر النَّاس} مَا بلغت مَا ترَوْنَ إِلَّا بالأقلام {فاجهدوا أَنفسكُم فِيهَا، وثابروا على تدوين الْعلم، تنالوا بِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} قَالَ عِيَاض، وَقد سَمَّاهُ فِي مداركه: حكى سُلَيْمَان بن فَارس أَن أسداً القَاضِي لَقِي ملك صقلية فِي مائَة ألف وَخمسين ألفا. قَالَ الرَّاوِي: فَرَأَيْت أسداً، وَفِي يَده اللِّوَاء، وَهُوَ يزمزم، وَأَقْبل على قِرَاءَة يس؛ ثمَّ حرض النَّاس، وَحمل، وحملوا مَعَه. فَهزمَ جموع النَّصَارَى. وَتُوفِّي رَحمَه الله! فِي حِصَار سرقوسة من غَزْو صقلية وَهُوَ أَمِير الْجَيْش وقاضيه، وَذَلِكَ سنة 213. ذكر القَاضِي سعيد بن سُلَيْمَان الغافقي وَمن الْقُضَاة، سعيد بن سُلَيْمَان الغافقي. قَالَ فِيهِ مُحَمَّد بن وضاح: ولي الْقَضَاء فِي الأَرْض أَرْبَعَة فِي وَقت وَاحِد: فانتشر الْعدْل بهم فِي آفاقها. وهم دُحَيْم بن الْيَتِيم بالشأم؛ والْحَارث ابْن مِسْكين بِمصْر؛ وَسَحْنُون بن سعيد بالقيروان؛ وَأَبُو خَالِد سعيد بن سُلَيْمَان بقرطبة. وَحكى عَنهُ ابْن عبد الْبر أَنه كَانَ يخْطب بِخطْبَة وَاحِدَة طول أَيَّامه، لم يبدلها مُدَّة ولَايَته، وَأَنه خرج ليستسقي للنَّاس فِي بعض أوقاته؛ فَلَمَّا بَدَأَ خنقته الْعبْرَة، وتخبلت عَلَيْهِ الْخطْبَة؛ فَلم يكمل الاسْتِسْقَاء وَاخْتصرَ الْكَلَام، وَانْصَرف. فسقى النَّاس فِي ذَلِك النَّهَار.

ذكر القاضي معاذ بن عثمان الشعباني

ذكر القَاضِي معَاذ بن عُثْمَان الشَّعْبَانِي وَمِنْهُم معَاذ بن عُثْمَان الشَّعْبَانِي. ولاه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن الْقَضَاء، فَأَقَامَ قَاضِيا سَبْعَة عشر شهرا؛ ثمَّ عَزله. وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ، على مَا حَكَاهُ ابْن حَارِث، يعجل بالحكومة فأحصى عَلَيْهِ، فِي تِلْكَ الْمدَّة، سَبْعُونَ قَضِيَّة أنفذها، فاستنكرت مِنْهُ. وَخيف عَلَيْهِ الزلل؛ فَجعل عَزله. قَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَكَانَ عابداً، زاهداً، خيرا. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد اللَّخْمِيّ وَمِنْهُم مُحَمَّد بن زِيَاد اللَّخْمِيّ. سمع من مُعَاوِيَة بن صَالح سَمَاعا كثيرا. وَلما احْتضرَ الْفَقِيه يحيى بن يحيى، أسْند وَصيته فِي أَدَاء دين وَبيع مَال إِلَى ابْن زِيَاد؛ وَكَانَ هُوَ القَاضِي يَوْمئِذٍ؛ فَكَانَ وَصِيّه فِي ذَلِك الْوَجْه خَاصَّة. قَالَ ابْن حَارِث: وَكَانَ السَّبَب فِي عَزله عَن الْقَضَاء مَا كَانَ من أَمر ابْن أخي عجب حظية الْأَمِير الحكم. وَذَلِكَ أَنه شهد عَلَيْهِ بِلَفْظ نطق بِهِ عابثاً فِي يَوْم غيث. فَأمر الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بحبسه، وَطلب الشَّهَادَات عَلَيْهِ. وأبرمته عجب عمته فِي إِطْلَاقه؛ وَكَانَت مدلة عَلَيْهِ لمكانها من أَبِيه. فَقَالَ لَهَا: مهلا يَا أُمَّاهُ، فَلَا بُد، وَالله {من أَن نكشف أهل الْعلم عَمَّا يجب عَلَيْهِ فِي لَفظه ذَلِك الَّذِي شهد بِهِ عَلَيْهِ؛ ثمَّ يكون الْفَصْل بعد فِي أمره. فَإنَّا، معشر بني مَرْوَان، لَا تأخذنا فِي الله لومة لائم} وَمَا نرى أَن الله رفع ملكنا، وَجمع بِهَذِهِ الجزيرة فلنا، وَأَعْلَى فِيهَا ذكرنَا، حَتَّى صرنا شجى فِي حلق عدونا، إِلَّا بِإِقَامَة حُدُوده، وإعزاز دينه، وَجِهَاد عدوه، مَعَ مجانبة الْأَهْوَاء المضلة، والبدع المردية. ثمَّ تقدم الْأَمِير عبد الرَّحْمَن إِلَى مُحَمَّد بن السَّلِيم الْحَاجِب أَن يحضر القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد، وَالْفُقَهَاء بِالْبَلَدِ. فَجَمعهُمْ، وَفِيهِمْ عبد الْملك ابْن حبيب، وَأصبغ بن خَلِيل، وَعبد الْأَعْلَى بن وهب، وَأَبُو زيد بن إِبْرَاهِيم، وَأَبَان ابْن عِيسَى بن دِينَار. فشاورهم فِي أَمر ابْن أخي عجب، وَأخْبرهمْ بِمَا كَانَ من لَفظه. فتوقف

نبذ من اخبار سليمان بن الاسود الغافقي

القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد على القَوْل بسفك دَمه. وَتَبعهُ فِي ذَلِك من الْفُقَهَاء أَبُو زيد وَعبد الْأَعْلَى وَأَبَان. وَأفْتى بقتْله عبد الْملك بن حبيب، وَأصبغ بن خَلِيل مَعًا. فَأَمرهمْ مُحَمَّد ابْن سليم أَن ينصوا فتواهم على وجوهها فِي صك، ليرفعها إِلَى الْأَمِير، ليرى فِيهَا رَأْيه. وفعلوا. فَلَمَّا تصفح الْأَمِير أَقْوَالهم، اسْتحْسنَ قَول ابْن حبيب وَأصبغ، وَرَأى مَا رَأيا من قَتله. وَأمر الْفَتى حسانا؛ فَخرج إِلَيْهِم؛ فَقَالَ لِابْنِ السَّلِيم: قد قهم الْأَمِير مَا أفتى بِهِ الْقَوْم من أَمر هَذَا الْفَاسِق. وَهُوَ يَقُول لَك: أَيهَا القَاضِي {اذْهَبْ؛ فقد عزلناك. وَأما أَنْت، يَا عبد الْأَعْلَى} فقد كَانَ يحيى يشْهد عَلَيْك بالزندقة؛ وَمن كَانَت هَذِه حَاله، فحرى أَلا تسمع فتواه {وَأما أَنْت، يَا أبان بن عِيسَى} فَإنَّا أردنَا أَن نوليك قَضَاء جيان؛ فَزَعَمت أَنَّك لَا تحسن الْقَضَاء. فَإِن كنت صَادِقا، فَعَلَيْك أَن تتعلم؛ وَإِن كنت كَاذِبًا، فالكاذب لَا يكون أَمينا مفتياً {ثمَّ قَالَ حسان لصَاحب الْمَدِينَة: يَأْمُرك الْأَمِير أَن تخرج الْآن مَعَ هذَيْن الشخصين عبد الْملك وَأصبغ؛ فتأمر لَهما بِأَرْبَعِينَ من الغلمان ينفذون لَهما فِي هَذَا الْفَاسِق مَا رأياه} ثمَّ أخرج الْمَحْبُوس، ووقفا مَعًا حَتَّى رفع فَوق خَشَبَة، وَهُوَ يَقُول لعبد الْملك: يَا أَبَا مَرْوَان {اتَّقوا الله عز وَجل} فِي دمي {فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَعبد الْملك يَقُول: الْآن وَقد عصيت} حَتَّى طعن. وانصرفا. نبذ من أَخْبَار سُلَيْمَان بن الْأسود الغافقي مِنْهَا قَالَ القَاضِي أَبُو عمر بن عبد الْبر: كَانَ القَاضِي سُلَيْمَان بن الْأسود رجلا صَالحا متقشفاً، صليباً فِي حكمه، مهيباً. وَكَانَ السَّبَب فِي تَقْلِيد الْأَمِير مُحَمَّد اياه قصاء قرطبة، حكم أَمْضَاهُ بِمَدِينَة ماردة، وَهُوَ قَاض عَلَيْهَا للأمير عبد الرَّحْمَن وَالِده، وَمُحَمّد أَمِير عَلَيْهَا: وَقد احْتبسَ لرجل يَهُودِيّ من تجار جليقية مَمْلُوكَة أَعْجَبته، واشتط الْيَهُودِيّ فِي سومها، فَدس غلمانه لاختلاسها من الْيَهُودِيّ. وفزع الْيَهُودِيّ إِلَى سُلَيْمَان بمظلمة، وَاسْتشْهدَ بِمن حول دَار الْإِمَارَة مِمَّن عرف خَبَرهَا. فأوصل سُلَيْمَان إِلَى مُحَمَّد، يعرفهُ بِمَا ذكره الْيَهُودِيّ، وَمَا شهد لَدَيْهِ، ويقبح عِنْده سوء الأحدوثة عَنهُ، ويسأله

دفع مملوكته إِلَيْهِ. فَأنْكر مُحَمَّد مَا زَعمه الْيَهُودِيّ، ولواه بِحقِّهِ، فَأَعَادَ القَاضِي إِلَيْهِ الرسَالَة يَقُول لَهُ: إِن هَذَا الْيَهُودِيّ الضَّعِيف لَا يقدر أَن يدعى على الْأَمِير بباطل {وَقد شهد عِنْدِي قوم من التُّجَّار} فليأمر الْأَمِير بإنصافه {فلج مُحَمَّد ولج سُلَيْمَان. فَأرْسل إِلَيْهِ سُلَيْمَان ثَانِيَة، يقسم بِاللَّه الْعَظِيم لَئِن لم يصرف على الْيَهُودِيّ جَارِيَته، ليركبن دَابَّته من فوره، وَيكون طَرِيقه إِلَى الْأَمِير وَالِده، يُعلمهُ الْخَبَر، ويستعفيه من قَضَائِهِ. فَلم يلْتَفت مُحَمَّد إِلَى وَصيته. فَشد سُلَيْمَان على نَفسه، وَركب دَابَّته سائراً إِلَى قرطبة؛ وَكَانَت طَرِيقه على بَاب دَار الْإِمَارَة؛ فَدخل الفتيان إِلَى مُحَمَّد؛ فعرفوه بسيره. فأشفق من ذَلِك، وَأرْسل خَلفه فَتى من ثقاته، يَقُول لَهُ إِن الْجَارِيَة قد وجد خَبَرهَا عِنْد بعض فتيانه، وَقد كَانَ أخفاها بِغَيْر أمره، وَهَا هِيَ حَاضِرَة، ترد إِلَى الْيَهُودِيّ. فَلحقه الرَّسُول على ميل أَو نَحوه من ماردة، وأعلمه. فَقَالَ: وَالله} لَا أنصرف من موضعي رَاجعا، أَو أُوتى بالجارية إِلَى هَذَا الْمَكَان، ويقبضها الْيَهُودِيّ هَا هُنَا {وَإِلَّا مضيت لوجهي} فَأرْسل مُحَمَّد الْجَارِيَة إِلَيْهِ. فَلَمَّا صَارَت بَين يَدَيْهِ، أرسل فِي الْيَهُودِيّ مَوْلَاهَا، وَفِي ثِقَات من ثِقَات أهل الْبَلَد، وَدفعهَا إِلَيْهِ بمحضرهم. وأعجب الْأَمِير مُحَمَّدًا مَا كَانَ مِنْهُ، واسترجحه واعتقد تفضيله. فَلَمَّا ولى الْخلَافَة، وَاحْتَاجَ إِلَى قَاض، ولاه وأعزه. قَالَ أسلم بن عبد الْعَزِيز: سَمِعت أخي هاشماً يَقُول: إِنِّي لقاعد يَوْمًا بَين يَدي الْأَمِير، إِذْ دخل عَلَيْهِ فتاه بدرون الصقلبي وَكَانَ أثيراً لَدَيْهِ باكياً. فَقَالَ لَهُ: مَا دهاك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا مولَايَ {عرض لي السَّاعَة مَعَ القَاضِي مَا لم يعرض لي مثله قطّ} ولوددت أَن الأَرْض انضمت عَليّ وَلم أَقف بَين يَدَيْهِ {قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: دست على امْرَأَة تطالبني فِي دَار فِي يَدي، فأغفل مَا كنت إِذْ جَاءَتْنِي بِطَابع القَاضِي، وَكنت أَنْت أَمرتنِي بِمَا تعلمه؛ فاعتذرت إِلَيْهَا وَقلت: أَنا الْيَوْم مَشْغُول بشغل الْأَمِير أعزه الله} وسأكتب إِلَى القَاضِي، واستعلم مَا يُرِيد. ثمَّ إِنِّي أَقبلت إِلَى الْقصر وَقد أتيت بَاب القنطرة؛ فَإِذا برَسُول من أعوان القَاضِي بَادر إِلَيّ؛ فَضرب على عَاتِقي، وصرفني عَن طريقي إِلَيْهِ؛ فَدخلت عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الْجَامِع؛ فَوَجَدته غَضْبَان. فنبهني وَقَالَ: عَصَيْتنِي، وَلم تَأْخُذ طابعي {فَقلت لَهُ: لم أفعل} وَقد عرفت الْمَرْأَة بِوَجْه تأخيري. فَقَالَ لي:

وَرب هَذَا الْبَيْت {لَو صَحَّ عِنْدِي عصيانك، لأدبتك} ثمَّ قَالَ لي: أنصف هَذِه الْمَرْأَة {فَقلت: أوكل من يخاصمها عني} فَأبى عَليّ إِلَّا أَن أَتكَلّم. فَلَمَّا رَأَيْت صعوبة مقَامي، أعطيتهَا بدعواها، ونجوت بنفسي. أفيحسن عنْدك، يَا مولَايَ {أَن يركب مني قاضيك مثل هَذَا؟ ومكاني من خدمتك مَكَاني} قَالَ: فَتغير وَجه الْأَمِير مُحَمَّد، وَقَالَ لَهُ: يَا بدرون {اخْفِضْ عَلَيْك} فمحلك مني تعلمه؛ فسئلنا بِهِ حوائجك، نجبك إِلَيْهَا {مَا خلا مُعَارضَة القَاضِي فِي شَيْء من أَحْكَامه؛ فَإِن هَذَا بَاب قد أغلقناه؛ فَلَا نجيب إِلَيْهِ أحدا من أَبْنَائِنَا، وَلَا من إِخْوَاننَا، وَلَا من أَبنَاء عمنَا، فضلا عَن غَيرهم. وَالْقَاضِي أدرى بِمَا فعل} فَمسح بدرون عَيْنَيْهِ، وَانْصَرف. قَالَ القَاضِي أسلم: وَإِنَّمَا كَانَ يحْتَمل مثل هَذَا من أُولَئِكَ الْقُضَاة. وَأما أمثالنا نَحن فَلَا. وَصدق أسلم رَحمَه الله {فالقهر بالحكم لَا يحْتَمل فِي الْغَالِب، إِلَّا لمن تخلص نِيَّته فِي الْقَصْد بِهِ وَجه الله. وَمَا تسرع ملامة النَّاس إِلَّا لمن يتقيها ويتخوف عَاقِبَة أَمر أَهلهَا. وَسخط الله أكبر من ملامة الْخلق. ونسأل الله الْهِدَايَة والوقاية} وَكَثِيرًا مَا كَانَ ابْن أسود ينشد: تضحى على وَجل تمسى على وَجل ... بَين الْأَقَارِب وَالْجِيرَان والخؤل كل التُّرَاب وَلَا تعْمل لَهُم عملا ... فالشر أجمعه فِي ذَلِك الْعَمَل وَكَانَت فِيهِ دعابة تستحسن وتستظرف، مِنْهَا أَنه كَانَ يعلم شدَّة شَهْوَة إِبْرَاهِيم بن يزِيد فِي الصَّلَاة بِالنَّاسِ، وترشيحه نَفسه لَهَا؛ وتربصه بِهِ الدَّوَائِر ليثبت عَلَيْهَا. فَلم يشْعر سُلَيْمَان غَدَاة يَوْم من بعض الْجمع، وَقد أحب الدعة فِي بَيته، إِذْ اسْتَأْذن عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور. فَذهب إِلَى المداعبة بِهِ، وَقَالَ لغلامه: اخْرُج إِلَيْهِ متباكياً، وَأظْهر الإشفاق عَليّ، وَقل لَهُ: أَحسب مولَايَ فِي الْمَوْت {ثمَّ أدخلهُ} فَدخل، وَقد اضْطجع سُلَيْمَان، وسجى على نَفسه، وَجعل يتنفس تنفس الْهَالِك. فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ؛ ترجع واستغفر. ثمَّ خرج عَنهُ، فَمضى من فوره إِلَى هَاشم بن عبد الْعَزِيز قيم الدولة؛ فَعرفهُ حَال سُلَيْمَان وَأَنه يعالج الْمَوْت، وَمَا أَظُنهُ يبلغ وَقت صَلَاة الْجُمُعَة؛ وَإِن بلغ دماؤه،

ذكر القاضي محمد بن عبد الله بن ابي عيسي

فَإِنَّهُ لَا يُصليهَا {وَحمله على إِعْلَام الْأَمِير مُحَمَّد بذلك، والكتب إِلَيْهِ، ليرتاد الصَّلَاة قبل الضَّيْعَة. فَقَالَ لَهُ هَاشم: انْظُر مَا تحكيه} فَلَيْسَتْ لَهُ عندنَا مُقَدّمَة. أَنْت رَأَيْته بِعَيْنِك السَّاعَة على هَذِه الْحَال؟ قَالَ: نعم {هَذَا خروجي من عِنْده إِلَيْك. فَقَالَ هَاشم: مَا بعد هَذَا شَيْء} ثمَّ وضع يَده، وَكتب إِلَى الْأَمِير يُخبرهُ بِمَا حَكَاهُ ابْن يزِيد، من شدَّة مرض القَاضِي سُلَيْمَان، ويأسه من قِيَامه للصَّلَاة، وتحركه للنَّظَر فِيمَن يصلى مَكَانَهُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْأَمِير كِتَابه، استراب فِيهِ، وفكر فِي الْأَمر. فَوقف على أَن إِبْرَاهِيم شَدِيد الشَّهْوَة فِي الصَّلَاة، واستحال عِنْده أَن لم يسمع بِأول مرض قاضيه وَلَا بانتهائه؛ فَعلم بجودة نظره أَن فِي الْخَبَر خللاً. فَقَالَ لخادم من خُدَّامه، من وُجُوه صقالبته: انْطلق السَّاعَة، وادخل على القَاضِي سُلَيْمَان بن الْأسود، وَانْظُر حَاله وَمَا تَجدهُ عَلَيْهِ {فَإِن وجدته متخففاً، يتَكَلَّم، ويهين عَن نَفسه، فتسئله إِن كَانَت بِهِ طَاقَة على الصَّلَاة وَالْخطْبَة أم لَا؟ فَأتى الْفَتى إِلَى سُلَيْمَان، وَدخل عَلَيْهِ؛ فَوَجَدَهُ جَالِسا جُلُوس صَحِيح؛ فروى لَهُ عَن بعض الْخَبَر، وألطف مَسْأَلته؛ فأنكرها سُلَيْمَان وَقَالَ: هَا أَنا رائح بِحَمْد الله} ودعا بوضوئه بِحَضْرَة الرَّسُول؛ فَتَوَضَّأ، وَلبس ثِيَابه، وَخرج مَعَ الرَّسُول، ساعياً على قَدَمَيْهِ، إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع. فَرجع الْفَتى إِلَى الْأَمِير، وأعلمه بالقصة على وَجههَا، وبخروجه مَعَه. فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ: لقد طيب سُلَيْمَان فِي ابْن يزِيد وَلعب بِهِ لعب الصِّبَا وحرك مِنْهُ سَاكِنا {وَصَارَ يضْحك مَعَ هَاشم بذلك عدَّة أَيَّام، حَتَّى شاع ذكره فِي الْعَامَّة. وعاش ابْن أسود هَذَا تِسْعَة وَتِسْعين عَاما وَعشرَة أشهر. وَكَانَت مُدَّة قَضَائِهِ مِنْهَا، على مَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر، اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَاما غفر الله لنا وَله، وأرضى عَنَّا خلقه وَعنهُ} ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عِيسَى وَمن الْقُضَاة، مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عِيسَى. ولي قَضَاء عدَّة من الكور، مَا بَين طليطلة وبجانة، بسيرة عادلة، الْتزم فِيهَا الصرامة فِي تَنْفِيذ الْحُقُوق، وَإِقَامَة الْحُدُود، والكشف عَن الشُّهُود. قَالَ ابْن الفرضي: وَكَانَ حَافِظًا للرأي، معتنياً بالآثار، جَامعا

للسنن، متصرفاً فِي علم الْإِعْرَاب ومعاني الشّعْر. استقضاه النَّاصِر؛ وَكَانَ آخر مَا ولاه قَضَاء إلبيرة، وقلده مَعَ الْقَضَاء أَمَانَة الكورة، وَالنَّظَر على عمالها؛ فَكَانُوا لَا يقدمُونَ وَلَا يؤخرون إِلَّا عَن أمره، وَلَا يظلم أحد فِي جَانب من جوانبها إِلَّا نَصره وَكَانَ مَعَه. ثمَّ نَقله مِنْهَا، فولاه قَضَاء الْجَمَاعَة بقرطبة فِي ذِي الْحجَّة سنة 326. وَأقر مُحَمَّد بن أَيمن على الصَّلَاة، إِلَى أَن ضعف ابْن أَيمن، فاستعفى، فعفاه النَّاصِر لدين الله، وَجَمعهَا لِابْنِ أبي عِيسَى؛ فتولاها إِلَى أَن مَاتَ. وَكَانَ الْخَلِيفَة لَا يخليه، مَعَ قِيَامه لَهُ بِالْقضَاءِ، من تصريفه فِي مهمات أُمُوره، وإخراجه فِي السفارات إِلَى كبار الْأُمَرَاء، والأمانات إِلَى الثغور والأطراف للإشراف عَلَيْهَا، وللإعلام بمصالحها، والبنيان لحصونها، وترتيب مغازيها، وَإِدْخَال جيوشها إِلَى بلد الْحَرْب؛ وَرُبمَا أَقَامَهُ فِي ذَلِك مقَام أَصْحَاب السيوف من قواد جيوشه؛ فيغنى غناءهم بِحسن تَدْبيره، وصحيح ديانته، وصريح مناصحته. فاستخلف فِي خرجه من خرجاته الْفَقِيه ابْن زونان؛ فصلى جُمُعَة. ثمَّ كتب إِلَى الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد يَقُول: إِنَّه شيخ من شُيُوخ الْمُسلمين، وَمن أهل الْعلم فيهم، وَوَلَاؤُهُ أشرف الْوَلَاء، إِذْ كَانَ مولى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {. فَكيف يكون مَعَ هَذَا مُخَالفا لِابْنِ أبي عِيسَى؟ وَهُوَ صبي فِي عدد وَلَده} يسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يأنف لَهُ من هَذَا. فَأَعْرض الْخَلِيفَة عَنهُ؛ وَلم ير بِابْن أبي عِيسَى بديلاً. وَانْصَرف القَاضِي من وجهته مستعجلاً، وَقد اتَّصل بِهِ مَا كَانَ من ابْن زونان؛ فَأَضْرب عَنهُ، واستخلف غَيره. وَذكر ابْن مفرج أَن رجلا من أَصْحَاب ابْن أبي عِيسَى أَتَاهُ لَيْلًا، فَذكر لَهُ أَن فقيهين مشهورين يقدمان عَلَيْهِ فِي قصَّة سَمَّاهَا لَهُ بِشَهَادَة مدخولة. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، أَتَاهُ أَحدهمَا؛ فَأَعْرض عَنهُ القَاضِي، وَتَبَسم فِي وَجهه لَعَلَّه يقوم، فيكفى شَأْنه. فتمادى. وَلما رأى عزمه على أَدَاء الشَّهَادَة، تنَاول القَاضِي سحاءة بَين يَدَيْهِ؛ فَكتب فِيهَا، وطواها، وَأَلْقَاهَا فِي حجره. فَلَمَّا تصفحها، وجد مَكْتُوبًا فِيهَا: أَتَتْنِي عَنْك أَخْبَار ... لَهَا فِي الْقلب آثَار فدع مَا قد أتيت بِهِ ... فَفِيهِ الْعَار وَالنَّار فَلم يكد يَقْرَأها حَتَّى قَامَ مُنْطَلقًا، ولقى صَاحبه؛ فَقَالَ لَهُ: النجَاة {فقد شعر بِنَا}

فصل

قَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد، كَاتبه أَيَّام قَضَائِهِ بإلبيرة: ركبنَا مَعَ القَاضِي فِي مركب حافل، مَعَ وُجُوه الْبَلَد، إِذْ عرض لنا فَتى متأدب، قد خرج لنا من بعض الْأَزِقَّة يتمايد سكرا؛ فَلَمَّا رأى القَاضِي، هابه، وَأَرَادَ الْفِرَار؛ فخانته رِجْلَاهُ. فاستند إِلَى الْحَائِط وأطرق. فَلَمَّا قرب مِنْهُ القَاضِي، رفع رَأسه إِلَيْهِ، ثمَّ أنشأ يَقُول: أَلا أَيهَا القَاضِي الَّذِي عَم عدله ... فأضحى بِهِ فِي الْعَالمين فريدا قَرَأت كتاب الله ألف مرّة ... فَلم أر فِيهِ للشراب حدودا فَإِن شِئْت أَن تجلد فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الخطوب جليدا وَإِن شِئْت أَن تَعْفُو تكن لَك مِنْهُ ... تروح بهَا فِي الْعَالمين حميدا وَإِن كنت تخْتَار الْحُدُود فَإِن لي ... لِسَانا على هجو الرِّجَال حديدا قَالَ: فَلَمَّا سمع القَاضِي شعره، وَتبين لَهُ أدبه، أعرض عَنهُ وَمضى لشأنه، كَأَن لم يره. فصل الظَّاهِر من القَاضِي ابْن أبي عِيسَى أَنه ذهب إِلَى الْأَخْذ بالقضية الَّتِي تضمنتها أَبْيَات الْفَتى المتأدب بقول زفر إِن حد الْخمر لَا يقوم بِالْإِقْرَارِ مرّة وَاحِدَة حَتَّى يقر الشَّارِب على نَفسه بالشرب مرَّتَيْنِ، أَو يَقُول الشَّافِعِي وَالْكَافِي أَنه لَا يحد إِلَّا من الشَّهَادَة على شربهَا أَو قيئها، لَا من الرَّائِحَة، أَو يتخيل السكر أَو ظن القَاضِي أَن الْفَتى مِمَّن لم يبلغ سنّ التَّكْلِيف، أَو قيل لَهُ عَنهُ إِنَّه كَانَ مكْرها وَحسب النَّازِلَة من بَاب دَرْء الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ. وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ؛ فَلَا وَجه لحكم فِي إِسْقَاط حد لغير عذر وَلَا تَأْوِيل؛ فإجماع الْمُسلمين مُنْعَقد على تَحْرِيم خمر الْعِنَب النئ قَلِيله وَكَثِيره، وعَلى وجوب الْحَد فِيهِ. وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّفْصِيل وَالْقدر: فمذهب الْجُمْهُور من السّلف وَالْفُقَهَاء: مَالك، وَأبي حنيفَة، وَالثَّوْري، والأوزعي، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَغَيرهم أَن حَده ثَمَانُون جلدَة وَقَالَ قوم مِنْهُم أهل الظَّاهِر، أَن حَده أَرْبَعُونَ. قَالَ الشَّافِعِي: بِالْأَيْدِي وَالنعال وأطراف الثِّيَاب. وَعند مَالك وَغَيره: الضَّرْب فِيهِ بِسَوْط بَين سوطين وَضرب ضَرْبَيْنِ؛ وَالْحُدُود كلهَا سَوَاء. وَعند الزُّهْرِيّ، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق، وَأحمد، وَالشَّافِعِيّ أَن حد الْخمر أَضْعَف الْحُدُود. قَالَ صَاحب الْإِكْمَال: وَرَأى مَالك وَبَعض أَصْحَابنَا

فِي المدمن عَلَيْهِ التَّغْلِيظ بالفضيحة، وَالطّواف، والسجن. وَاخْتلفُوا فِي الْمَرِيض الَّذِي لَا يرحى بُرْؤُهُ: فمذهب مَالك والكوفيين وَجُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يجْرِي فِيهِ إِلَّا مَا يجْرِي فِي الصَّحِيح، وَيتْرك حَتَّى يبرأ أَو يَمُوت. وَقَالَ الشَّافِعِي: يضْرب بمثكول نخل يصل جَمِيع شماريخه إِلَيْهِ، أَو مَا يقوم مقَامه. وَالْمذهب إِلْزَام السَّكْرَان جَمِيع أَحْكَام الصَّحِيح، لِأَنَّهُ أَدخل ذَلِك على نَفسه وَهُوَ حَقِيقَة مَذْهَب الشَّافِعِي وَفرق بَين الشَّارِب مُخْتَارًا وَبَين المستكره. وَأكْثر الْعلمَاء ذهب إِلَى أَن الْحُدُود كَفَّارَة؛ وَمِنْهُم من وقف، وَاحْتج بقوله تَعَالَى " لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم. " وَفِي حَدِيث مَا عز الثَّابِت فِي الصَّحِيح، مَا يدل على أَن التَّوْبَة لَا تسْقط حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْخمر، وَإِنَّمَا تَنْفَع عِنْد الله. وروى عَن الشَّافِعِي أَن التَّوْبَة حد الْخمر. وعَلى كل تَقْدِير، فَمن الْوَاجِب على من وَقع فِي مَعْصِيّة، وترتب بِسَبَبِهَا قبله حق لله وَالنَّاس، من دم، أَو مَال، أَو عرض، أَو انتهاك حُرْمَة، أَن يُبَادر أَولا إِلَى التَّوْبَة، ثمَّ يرجع بعْدهَا إِلَى الإقادة من نَفسه لِلْخلقِ، والتحلل من التَّبعَات بِجهْدِهِ، على الْوُجُوه المقررة فِي الفقهيات، وَأَن يكثر مَعَ ذَلِك مُدَّة حَيَاته من الْعَمَل الصَّالح وَمن الدُّعَاء والبكاء، وبخصوص فِيمَا يرجع إِلَى الدِّمَاء. فالمنقول عَن مَالك. وَقد سُئِلَ عَمَّن كتب إِلَيْهِ والٍ فِي قتل رجل، فَقتله، ثمَّ أَرَادَ التنصل وَالتَّوْبَة، فَعرض نَفسه على أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، وَأخْبرهمْ، فَقَالُوا: لسنا بقاتليك {إِنَّا نَخَاف إِن قتلناك عَاقِبَة ذَلِك} وَعرض عَلَيْهِم الدِّيَة، فَأَبَوا أَن يقبلوها؛ فَكَانَ من جَوَابه رَضِي الله عَنهُ {أَن قَالَ: أحب إِلَيّ أَن يُؤدى دِيَته إِلَيْهِم، وَأَن يعْتق الرّقاب، وَيتَصَدَّق، ويكرر الْحَج والغزو، وَإِن اسْتَطَاعَ أَن يلْحق بالثغور، وَيكون فِيهَا أبدا حَتَّى يَمُوت، فَهُوَ أحب إِلَيّ} وَفِي الحَدِيث: " أقيلوا ذَوي الهئيات عثارهم " وَالْمرَاد بذلك أهل الْمَرْوَة وَالصَّلَاح. ويبينه مَا روى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قَالَ: تجافوا عَن عُقُوبَة ذَوي الْمَرْوَة وَالصَّلَاح} والمأمورون بالتجافي عَن زلات ذَوي الهئيات عِنْد الْعلمَاء هم الْأَئِمَّة الَّذين إِلَيْهِم إِقَامَة الْعُقُوبَات على ذَوي الْجِنَايَات. وَالْإِقَالَة هِيَ فِيمَا عدا الْحُدُود والزلات الَّتِي أَمر بالتجافي عَنْهَا، هِيَ مَا لم يخرج بهَا فاعلها من أَن يكون من ذَوي المروءات

ذكر القاضي اسلم بن عبد العزيز

والهيئات الَّتِي هِيَ الصّلاح. فَأَما من أَتَى مَا يُوجب حدا مَا قذف مُحصنَة أَو مَا سوى ذَلِك من الْأَشْيَاء الَّتِي توجب الْحُدُود، فَلَا يجب التَّجَافِي عَنهُ، لِأَنَّهُ قد خرج بذلك عَن ذَوي الهيئات وَالصَّلَاح، وَصَارَ من أهل الْفسق؛ فَوَجَبَ إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ، ليَكُون ذَلِك ردعاً لَهُ وَلغيره رزقنا الله الاسْتقَامَة { ذكر القَاضِي أسلم بن عبد الْعَزِيز وَمن الْقُضَاة بقرطبة وصدور رجالها، أسلم بن عبد الْعَزِيز. وَكَثِيرًا مَا كَانَ النَّاصِر لدين الله يستخلفه فِي سطح الْقصر، إِذا خرج فِي سَبِيل الْغَزْو، ثِقَة مِنْهُ بِعِلْمِهِ وَدينه وحزمه. ذكر القَاضِي أَحْمد بن عبد الله بن أبي طَالب وَمِنْهُم أَحْمد بن عبد الله بن أبي طَالب الأصبحي. قَالَ عَنهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَنه كَانَ يحلق شَاربه ويستأصله؛ وَكَانَ ذَلِك مذْهبه فِي إحفاء الشَّارِب. وَكَانَ رجلا وقوراً، متثبتاً، متورعاً؛ إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة، أخرج الْكتاب الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الْمَسْأَلَة بِعَينهَا؛ فقرأها على السَّائِل، وَقَالَ لَهُ: هَذَا مَا قيل فِي هَذَا. فَإِن سُئِلَ عَن فَرِيضَة من الْمَوَارِيث، أفتى السَّائِل فِيهَا بأصلها؛ فَإِذا سَأَلَهُ عَن الْقِسْمَة، قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى الحاسب} ذكر القَاضِي أَحْمد بن بَقِي بن مخلد وَمِنْهُم أَحْمد بن بَقِي بن مخلد. ولي الْقَضَاء سنة 314. وَكَانَ من خير الْقُضَاة، وَأَكْثَرهم رفقا وإشفاقاً، بِحَيْثُ يُقَال إِنَّه لم يقرع أحدا من النَّاس فِي طول مُدَّة قَضَائِهِ بِسَوْط وَكَانَت نَحوا من عشرَة أَعْوَام إِلَّا رجلا وَاحِدًا مجمعا على فسقه. وَكَانَ شَأْنه فِي الْحُكُومَة أَن ينفذ من الْأُمُور الظَّاهِر الْبَين الَّذِي لَا ارتياب فِيهِ، ويتأنى،

ويتمهل فِيمَا خالجه فِيهِ شكّ، حَتَّى تظهر لَهُ الْحَقِيقَة؛ أَو يصل المتخاصمان إِلَى التصالح والتراضي. قَالَ ابْن حَارِث: وَلَقَد قَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه السُّلْطَان فِي كَلَام جرى بَينهمَا: إِنَّا لنعيبك بلين الْجَانِب، والتطويل فِي الْحُكُومَة {فَقَالَ لَهُ ابْن بَقِي: أعوذ بِاللَّه من لين يُؤَدِّي إِلَى ضعف، وَمن شدَّة تبلغ إِلَى عنف} ثمَّ جعل يذكر فَسَاد الزَّمَان، واحتيال الْفجار، وَمَا يُبَاشر من الْأُمُور المشتبهة، الَّتِي لَا تتبين لَهَا حَقِيقَة، وَلَا ينْكَشف لَهَا وَجه، وَقَالَ: قد أسندت على عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ {وَهُوَ هُوَ، حُكُومَة قوم طَال نظره فِيهَا، والتبس عَلَيْهِ أمرهَا؛ فكره أَن يحكم على الِاشْتِبَاه، وَأمرهمْ بابتداء الْخُصُومَة من أَولهَا} قَالَ: وحَدثني أصبغ بن عِيسَى قَالَ: كنت يَوْمًا مُقبلا مَعَ القَاضِي أَحْمد بن بَقِي، حَتَّى عَن لنا رجل سَكرَان يمشي بَين يَدَيْهِ مخبولاً؛ فَجعل أَحْمد يمسك من عنان دَابَّته، ويترفق فِي سيره، ويرجو أَن يعدل السَّكْرَان عَن طَرِيقه أَو يحبس بِهِ، فينجو بِنَفسِهِ؛ فَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك، إِلَّا أَن توقف مُسْتَقْبلا. فَلم يكن للْقَاضِي بُد من الدنو مِنْهُ، وَالنَّظَر إِلَيْهِ. قَالَ أصبغ: وَكنت أعرف لياذه من مثل هَذَا، وكراهيته للانتشاب فِيهِ، ورقة قلبه من أَن يقرع أحدا بِسَوْط. فَقلت فِي نَفسِي: لَيْت شعري كَيفَ تصنع فِي هَذَا، يَا ابْن بَقِي {وَرُبمَا تتخلص مِنْهُ} فَلَمَّا دنونا من السَّكْرَان، ولصقنا بِهِ، مَال إِلَى أَحْمد؛ فَقَالَ: مِسْكين هَذَا الرجل {أرَاهُ مصاباً فِي عقله} فَقلت: نعم {أَيهَا القَاضِي، ببلية عَظِيمَة} فَجعل يستعيذ بِاللَّه من محنته، ويسأله أَن يأجره على الْمُصَاب فِي عقله؛ ومضينا. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كَانَ أَحْمد بن بَقِي حَلِيمًا، عَاقِلا، وقوراً، مسمتاً، هيناً، لينًا، صليباً فِي بعض أحيانه، غير أَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ كَانَ اللين. لم يكن بالأندلس قَاض يُقَارِبه فِي الصمت وَالْوَقار والسكينة. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عَارِفًا بِحقِّهِ، ومجلاً لَهُ، لم يعزله، وَلَا كره شَيْئا من حَاله، إِلَى أَن توفّي سنة 324. وَكَانَ قد ولى الصَّلَاة قبل الْقَضَاء. ثمَّ ولى الْقَضَاء، فَاتخذ لخدمته أعواناً شُيُوخًا، وَأولى سداد، سَأَلَ أَن يرزقوا من بَيت المَال، وَأجِيب إِلَى ذَلِك. وَكَانَ من رسمه إِذا جَاءَهُ الحكم الملبس الَّذِي يخَاف

أَن تدخل عَلَيْهِ فِيهِ دَاخله، طول فِيهِ أبدا، ولواه حَتَّى يصطلح أَهله. وَكَانَ يَقُول: صَاحب الْبَاطِل، إِذا طول عَلَيْهِ ترك طلبه ورضى باليسير فِيهِ. وَقد كثر الْآن شُهُود الزُّور، والتبست الْأُمُور: فَرَأَيْت هَذَا المطل أخْلص لي {وَقد علمت حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} فِي الْقَتِيل الَّذِي وجدته يهود، وَأَنه، لما أشكل عَلَيْهِ الْأَمر من عِنْده، قَالَ أحد أَصْحَابه مداعباً: أفتنشط أَنْت رَحِمك الله {أَن تُعْطى الصُّلْح من عنْدك، إِذا التبست عَلَيْك الْمَسْأَلَة؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: لَا} إِنَّمَا هَذَا على الإِمَام الَّذِي بِيَدِهِ بَيت المَال؛ لَيْسَ هَذَا عَليّ {وَقَالَ الْحسن: وجدت بِخَط الْخَلِيفَة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه: سَمِعت القَاضِي أَحْمد بن مخلد يخْطب يَوْمًا؛ فَقَالَ فِي فصل الدُّعَاء مِنْهَا، لما انْتهى إِلَى قَوْله: اخلصوا الله دعاءكم} ثمَّ سكت مَلِيًّا؛ فَلَمَّا ظن النَّاس قد دعوا، انْبَعَثَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ {وَقد دعَاك هَذَا النَّفر من عِبَادك، الساعون لثوابك، المجتمعون ببابك، فَزعًا من عقابك، وَطَمَعًا فِي ثوابك؛ وقبلهم من الذُّنُوب مَا قد أحَاط بِهِ علمك، وأحصاه حفظتك؛ فعد عَلَيْهِم فِي موقفهم هَذَا برحمة توجب لَهُم جنتك، وتجيرهم بهَا من عذابك} آمين {يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ مَالك بن الْقَاسِم: وَكَانَ أَحْمد بن بَقِي شَدِيد الْحِفْظ لِلْقُرْآنِ، كثير التِّلَاوَة لَهُ، يقوم بِهِ آنَاء ليله ونهاره. وَكَانَ على شدَّة حفظه، يلْتَزم تِلَاوَته فِي الْمُصحف على نَحْو مَا كَانَ يلتزمه أَبوهُ بَقِي بن مخلد للفضل من النّظر فِيهِ؛ متقشفاً، دمثاً، صبوراً، يتلَقَّى من أَسَاءَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَبِيه قبله بالصفح، وَالْمَغْفِرَة للزلة، وَوضع الْحَسَنَة مَكَان السَّيئَة. وَلما توفّي، صلى عَلَيْهِ وَلَده عبد الرَّحْمَن بإيصاء أَبِيه إِلَيْهِ بذلك، وسنه أَربع وَسِتُّونَ سنة. قَالَ عياص فِي مداركه عِنْد ذكر أَحْمد: مِنْهُم وولاؤهم لامارة من أهل جيان؛ سمع من أَبِيه. وَكَانَ زاهداً، فَاضلا؛ ولى تَفْرِيق الصَّدقَات وَالصَّلَاة؛ ثمَّ قَضَاء الْجَمَاعَة مَقْرُونا بِالْخطْبَةِ.

ذكر منذر بن سعيد ونبذ من اخباره

ذكر مُنْذر بن سعيد ونبذ من أخباره قَالَ ابْن عفيف: هُوَ مُنْذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن عبد الْملك ابْن نجيح النفري، ثمَّ الكزني. فَأول الْأَسْبَاب فِي مَعْرفَته بالناصر الْخَلِيفَة، وزلفاه لَدَيْهِ، أَن النَّاصِر لدين الله، لما احتفل فِي الْجُلُوس لدُخُول رَسُول ملك الرّوم الْأَعْظَم، صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَلَيْهِ، بقصر قرطبة، الاحتفال الَّذِي شهد ذكره فِي النَّاس، أحب أَن يُقيم الخطباء وَالشعرَاء بَين يَدَيْهِ بِذكر جلالة مَقْعَده، وَوصف مَا تهَيَّأ لَهُ من توطيد الْخلَافَة فِي دولته. وَتقدم إِلَى الْأَمِير الحكم ابْنه وَولي عَهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أَمَام نشيد الشُّعَرَاء فَأمر الحكم صنيعته الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الْبر من الكسنياني بالتأهب لذَلِك، وإعداد خطْبَة بليغة، يقوم بهَا بَين يَدي الْخَلِيفَة. وَكَانَ يَدعِي من الْقُدْرَة على تأليف الْكَلَام مَا لَيْسَ فِي وَسعه. وَحضر الْمجْلس السلطاني. فَلَمَّا قَامَ يحاول التَّكَلُّم بِمَا رَوَاهُ، بهره هول الْمقَام وابهه الْخلَافَة؛ فَلم يهتد إِلَى لَفظه، بل غشي عَلَيْهِ، وَسقط إِلَى الأَرْض. فَقيل لأبي عَليّ الْبَغْدَادِيّ إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم، صَنِيعَة الْخَلِيفَة وأمير الْكَلَام: قُم {فارقع هَذَا الوهى} فَقَامَ؛ فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله وَصلى على نِيَّته مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ثمَّ انْقَطع بِهِ القَوْل؛ فَوقف ساكتاً مفكراً فِي كَلَام يدْخل بِهِ إِلَى ذكر مَا أُرِيد مِنْهُ. فَلَمَّا رأى ذَلِك مُنْذر بن سعيد وَكَانَ مِمَّن حضر فِي زمرة الْفُقَهَاء، قَامَ من ذَاته؛ فوصل افْتِتَاح أبي عَليّ لأوّل خطبَته بِكَلَام عَجِيب، وَفصل مُصِيب، يسحه سَحا، كَأَنَّمَا يحفظه قبل ذَلِك بِمدَّة، وَبَدَأَ من الْمَكَان الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَبُو عَليّ الْبَغْدَادِيّ. فَقَالَ: أما بعد حمد الله، وَالثنَاء عَلَيْهِ، والتعداد لآلائه، وَالشُّكْر لنعمائه، وَالصَّلَاة على مُحَمَّد صَفيه وَخَاتم أنبيائه، فَإِن لكل حَادِثَة مقَاما، وَلكُل مقَام مقَالا، وَلَيْسَ بعد الْحق إِلَّا الضلال. وَإِنِّي قد قُمْت فِي مقَام كريم، بَين يَدي ملك عَظِيم؛ فأصغوا إِلَيّ معشر الْمَلأ} بأسماعكم وأيقنوا عني بأفئدتكم؛ إِن من الْحق أَن يُقَال للمحق: صدقت؟ وللمبطل: كذبت

وَإِن الْجَلِيل تَعَالَى فِي إسمائه، وتقدس بصفاته وأسمائه {أَمر كليمه مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى جَمِيع أنبيائه} أَن يذكر قومه بأيام الله عِنْدهم؛ وَفِيه وفى رَسُول الله مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أُسْوَة حَسَنَة} وَإِنِّي أذكركم بأيام الله عنْدكُمْ، وتلافيه لكم بخلافة أَمِير الْمُؤمنِينَ، الَّتِي لمت شعثكم، بعد أَن كُنْتُم قَلِيلا، فكثركم؛ ومستضعفين، فقواكم؛ ومستذلين، فنصركم {ولاه الله رعايتكم، وَأسْندَ إِلَيْهِ إمامتكم، أَيَّام ضربت الْفِتْنَة سرادقها على الْآفَاق، وأحاطت بكم شعل النِّفَاق، حَتَّى صرتم فِي مثل حدقة الْبَعِير، بِضيق الْحَال ونكد الْعَيْش والتقتير} فاستبدلتم بخلافته من الشدَّة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إِلَى تمهيد الْعَافِيَة بعد استيطان الْبلَاء. أنْشدكُمْ الله معاشر الْمَلأ {ألم تكن الدِّمَاء مسفوكة؟ فحنقها} والسبل مخوفة؟ فَأَمَّنَهَا {وَالْأَمْوَال منتهبة؟ فأحرزها وحصنها} ألم تكن الْبِلَاد خراباً؟ فعمرها {وثغور الْمُسلمين مهتضمة؟ فحماها وزهرها} فاذكروا آلَاء الله عَلَيْكُم بخلافته، وتأليفه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حَتَّى أذهب الله غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدا على عَدوكُمْ بعد أَن كَانَ باسكم بَيْنكُم {ناشدكم الله} ألم تكن خِلَافَته قيد الْخلَافَة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صَلَاح الْأُمُور بِنَفسِهِ بعد اضْطِرَاب أحوالها، وَلم يكل ذَلِك إِلَى القواد والاجناد؟ حَتَّى بَاشرهُ بالمهجة وَالْأَوْلَاد، وَاعْتَزل النسوان وهجر الأوطان، ورفض الدعة وَهِي محبوبة، وَترك الركون إِلَى الرَّاحَة وَهِي مَطْلُوبَة، بطوية صَحِيحَة، وعزيمة صَرِيحَة، وبصيرة نَافِذَة ثاقبة، وريح هابة غالبة، ونصرة من الله وَاقعَة وَاجِبَة، وسلطان قاهر، وجد ظَاهر، وسيفٍ مَنْصُور، تَحت عدل منشور، متحملاً للنصب، مُسْتَقْبلا لما نابه فِي جَانب الله من التَّعَب، حَتَّى لانت الْأَحْوَال بعد شدتها، وانكسرت شَوْكَة الْفِتْنَة عِنْد حدتها، وَلم يبْق لَهَا غارب إِلَّا جُبَّة، وَلَا نجم لأَهْلهَا قرن إِلَّا جده! فأصبحتم بِنِعْمَة الله إخْوَانًا، وبلم أَمِير الْمُؤمنِينَ لشعثكم على أعدائكم أعواناً، حَتَّى تَوَاتَرَتْ لديكم الفتوحات، وَفتح الله عَلَيْكُم بخلافته أَبْوَاب البركات، وَصَارَت وُفُود الرّوم وافدة عَلَيْهِ وَعَلَيْكُم، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إِلَيْهِ وإليكم، يأْتونَ من كل فج عميق، وبلد سحيق، لأخذ حَبل مِنْهُ ومنكم جملَة وتفصيلاً، ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولا، وَلنْ يخلف الله

وعده، وَلِهَذَا الْأَمر مَا بعده، وَتلك أَسبَاب ظَاهِرَة بادية، تدل على أُمُور باطنة خافية، دليلها قَائِم، وغيبها عاتم؛ وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم الْآيَة؛ وَلَيْسَ فِي تَصْدِيق مَا وعد الله ارتياب، وَلكُل نبأ مُسْتَقر وَلكُل أجل كتاب {فاحمدوا الله، أَيهَا النَّاس، على آلائه، واسألوا الْمَزِيد من نعمائه} فقد أَصْبَحْتُم بَين خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله بالعظمة والسداد، وألهمه محَاضِر التَّوْفِيق إِلَى سَبِيل الرشاد {أحسن النَّاس حَالا، وأنعمهم بَالا، وأعزهم قرارا، وأمنعم دَارا، وأكثفهم جمعا، وأجلهم صنعا، لَا تهاجون وَلَا تواذون، وَأَنْتُم بِحَمْد الله على أعدائكم ظاهرون. فاستعينوا على صَلَاح أحوالكم، بِالنَّصِيحَةِ لإمامكم، والتزام الطَّاعَة لخليفتكم، فَإِن من نزع يدا من الطَّاعَة، وسعى فِي فرقة الْجَمَاعَة، ومرق من الدّين، فقد " خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين ". وَقد علمْتُم أَن فِي التَّعَلُّق بعصمتها، والتمسك بعروتها، حفظ الْأَمْوَال وحقن الدِّمَاء، وَصَلَاح الْخَاصَّة والدهماء، وَأَن بقوام الطَّاعَة تُقَام الْحُدُود، وَتوفى العهود، وَبهَا وصلت الْأَرْحَام، وَصحت الْأَحْكَام، وَبهَا سد الله الْخلَل، وآمن السبل، ووطأ الأكناف، وَرفع الِاخْتِلَاف، وَبهَا طَابَ لكم الْقَرار، واطمأنت بكم الدَّار؛ فَاعْتَصمُوا بِمَا أَمركُم الله بِلَا اعتصام بِهِ؛ فَإِنَّهُ تبَارك وَتَعَالَى} يَقُول: " أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم " الْآيَة وَقد علمْتُم معشر الْمُسلمين {مَا أحَاط بكم فِي جزيرتكم هَذِه من ضروب الْمُشْركين وصنوف الْمُلْحِدِينَ، الساعين فِي شقّ عصاكم، وتفريق ملتكم، الآخذين فِي مخاذلة دينكُمْ، وهتك حريمكم، وتوهين دَعْوَة نَبِيكُم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ} أَقُول هَذَا، وأختمه بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين {وَأَسْتَغْفِر الله الغفور الرَّحِيم: فَهُوَ خير الغافرين} فَخرج النَّاس يتحدثون عَن مقَام مُنْذر، وثبات جنانه، وبلاغة مَنْطِقه. علمْتُم معشر الْمُسلمين {مَا أحَاط بكم فِي جزيرتكم هَذِه من ضروب الْمُشْركين وصنوف الْمُلْحِدِينَ، الساعين فِي شقّ عصاكم، وتفريق ملتكم، الآخذين فِي مخاذلة دينكُمْ، وهتك حريمكم، وتوهين دَعْوَة نَبِيكُم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ} أَقُول هَذَا، وأختمه بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين {وَأَسْتَغْفِر الله الغفور الرَّحِيم: فَهُوَ خير الغافرين} فَخرج النَّاس يتحدثون عَن مقَام مُنْذر، وثبات جنانه، وبلاغة مَنْطِقه. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله أَشَّدهم تَعَجبا مِنْهُ، فَأقبل على وَلَده الْأَمِير الحكم يسائله عَنهُ، وَلم يكن يثبت معرفَة عينه، وَقد سمع باسمه. فَقَالَ لَهُ الحكم: هُوَ مُنْذر بن سعيد

البلوطي. فَقَالَ لَهُ: لقد أحسن مَا شَاءَ {فلئن كَانَ حبر خطبَته هَذِه وأعدها، مَخَافَة أَن يَدُور مَا دَار، فيتلافى الوهى، إِنَّه لبديع من قدرته واحتياطه، وَلَئِن كَانَ أَتَى بهَا على البديهة لوقته، إِنَّه لأعجب وَأغْرب} فَكَانَ ذَلِك سَبَب اتِّصَاله بِهِ، واستعماله. وَذكر ابْن أصبغ الْهَمدَانِي عَن مُنْذر القَاضِي أَنه خطب يَوْمًا وَأَرَادَ التَّوَاضُع؛ فَكَانَ من فُصُول خطبَته أَن قَالَ: حَتَّى مَتى؟ وَإِلَى مَتى؟ فكم الَّذِي أعظ وَلَا أتعظ؛ وأزجر وَلَا أزدجر، أدل الطَّرِيق على المستدلين، وَأبقى مُقيما مَعَ الحائرين {كلا إِن هَذَا لَهو الضلال الْمُبين} " إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء " الْآيَة. اللَّهُمَّ {فرغني لما خلقتني لَهُ} وَلَا تشغلني بِمَا تكفلت لي بِهِ {وَلَا تحرمني وَأَنا أَسأَلك} وَلَا تعذبني وَأَنا أستغفرك {يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ: وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله كلفاً بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها، وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة الْملك وَعز السُّلْطَان؛ فأقضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى أَن ابتنى مَدِينَة الزهراء، الْبناء الَّذِي شاع ذكره: استفرغ وَسعه فِي تنميقها، وإتقان قُصُورهَا، وزخرفة مصانعها. فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ ثَلَاث جمع مُتَوَالِيَة؛ فَأَرَادَ القَاضِي مُنْذر أَن يغض مِنْهُ بِمَا تنَاوله من الموعظة بِفضل الْخطاب وَالْحكمَة والتذكرة بالإنابة وَالرَّجْعَة؛ فَأدْخل فِي خطبَته فصلا مبتدئاً بقوله: أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون. وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون {وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين} فَاتَّقُوا الله وأطيعون {وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تَعْمَلُونَ} أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم {وَلَا تَقولُوا " سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين " فمتاع الدُّنْيَا قَلِيل، وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} وَهِي دَار الْقَرار، وَمَكَان الْجَزَاء! وَوصل ذَلِك بِكَلَام جزل، وَقَول فصل، وَمضى فِي ذمّ تشييد الْبُنيان، والاستغراق فِي زخرفته، والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ؛ فَجرى طلقاً؛ وانتزع فِيهِ قَوْله تَعَالَى: " أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من

أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم " إِلَى آخر الْآيَة. وأتى بِمَا يشاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ، والتحذير من فَجَاءَتْهُ، وَالدُّعَاء إِلَى الزّهْد فِي هَذِه الدَّار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لَهَا، وَالنَّدْب إِلَى الْإِعْرَاض مِنْهَا؛ والإقصار عَن طلب اللَّذَّات، وَنهى النُّفُوس عَن اتِّبَاع هَواهَا. فأسهب فِي ذَلِك كُله، وأضاف إِلَيْهِ من آي الْقُرْآن مَا يطابقه، وجلب من الحَدِيث والْآثَار مَا يشاكله، حَتَّى اذكر من حَضَره النَّاس وخشعوا، ورقوا، واعترفوا، وَبكوا، وضجوا، ودعوا، وأعلنوا فِي التضرع إِلَى الله فِي التَّوْبَة، والابتهال فِي الْمَغْفِرَة، وَأخذ خليفتهم من ذَلِك بأوفر حَظّ، وَقد علم أَنه الْمَقْصُود بِهِ؛ فَبكى، وَنَدم على مَا سلف لَهُ، واستعاذ بِاللَّه من سخطه، إِلَّا أَنه وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا تقرعه بِهِ؛ فَشَكا ذَلِك لوَلَده الْأَمِير الحكم بعد انْصِرَافه، وَقَالَ: وَالله {لقد تعمدني مُنْذر بخطبته، وَمَا عَنى بهَا غَيْرِي} فأسرف عَليّ وأفرط فِي تقريعي، وَلم يحسن السياسة فِي وعظي، فزعزع قلبِي، وَكَاد بعصاه يقرعني {واستشاط غيظاً عَلَيْهِ؛ فأقسم أَن لَا يُصَلِّي خَلفه صَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة؛ فَجعل يلْتَزم صلَاتهَا وَرَاء أَحْمد بن مطرف صَاحب الصَّلَاة بقرطبة، ويجانب الصَّلَاة بالزهراء. فَقَالَ لَهُ الحكم: فَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر عَن الصَّلَاة بك، والاستبدال مِنْهُ إِذْ كرهته؟ فزجره وانتهره، وَقَالَ لَهُ: أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وَعَمله وخيره؟ لَا أم لَك} يعْزل لإرضاء نفس ناكبة عَن الْحق {هَذَا مِمَّا لَا يكون} وَإِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن لَا أجعَل بيني وَبَينه فِي صَلَاة الْجُمُعَة شَفِيعًا مثل مُنْذر فِي ورعه وَصدقه {وَلَا كنه أحرجني، فأقسمت. ولوددت أَنِّي أجد سَبِيلا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني، بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا، إِن شَاءَ الله} وقحط النَّاس آخر مُدَّة النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد. فَأمر القَاضِي مُنْذر ابْن سعيد بالبروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بِالنَّاسِ فتأهب لذَلِك، وَصَامَ بَين يَدَيْهِ أَيَّامًا، تنفلاً، وإنابةً، وَرَهْبَة. وَاجْتمعَ لَهُ النَّاس فِي مصلى الربض بقرطبة، بارزين إِلَى الله تَعَالَى فِي جمع عَظِيم. وَصعد الْخَلِيفَة النَّاصِر فِي أَعلَى مصانعه المرتفعة من الْقصر، ليشارف النَّاس، ويشاركهم فِي الْخُرُوج إِلَى الله، والضراعة لَهُ، فَأَبْطَأَ القَاضِي حَتَّى اجْتمع النَّاس، وغصت

بهم ساحة الْمصلى. ثمَّ خرج نحوهم مَاشِيا، متضرعاً، مخبتاً، متخشعاً؛ وَقَامَ ليخطب. فَلَمَّا رأى بدار النَّاس إِلَى ارتقابه، واستكانتهم من خُفْيَة الله، وإخباتهم لَهُ، وابتهالهم إِلَيْهِ، رقت نَفسه، وغلبته عَيناهُ؛ فَاسْتَغْفر، وَبكى حينا؛ ثمَّ افْتتح خطبَته بِأَن قَالَ: سَلام عَلَيْكُم {ثمَّ سكت، ووقف شبه الْحصْر، وَلم يكن من عَادَته. فَنظر النَّاس بَعضهم بِبَعْض، لَا يَدْرُونَ مَا عراه، وَلَا مَا أَرَادَ بقوله. ثمَّ انْدفع تالياً بقوله: سَلام عَلَيْكُم} كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم، وتوبوا إِلَيْهِ، وتزلفو بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَات لَدَيْهِ} قَالَ: فهاج النَّاس بالبكاء، وجأروا بِالدُّعَاءِ، وَمضى على تَمام خطبَته؛ فقرع النُّفُوس بوعظه، وانبعث الْإِخْلَاص بتذكيره؛ فَلم ينْقض النَّهَار حَتَّى أرسل الله السَّمَاء بِمَاء منهمر، روى الثرى، وطرد الْمحل، وَسكن الْأَزَل. وَالله لطيف بعباده {وَكَانَ لَهُ فِي خطب الاسْتِسْقَاء استفتاح عَجِيب؛ وَمِنْه أَن قَالَ يَوْمًا، وَقد سرح طرفه فِي مَلأ النَّاس، عِنْد مَا شخصوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ؛ فَهَتَفَ بهم كالمنادي: يَا أَيهَا النَّاس وكررها عَلَيْهِم، مُشِيرا بِيَدِهِ فِي نواحيهم أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد. إِن يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد. وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} فَاشْتَدَّ وَجل النَّاس، وَانْطَلَقت أَعينهم بالبكاء، وَمضى فِي خطبَته. وَمن أَخْبَار المحفوظة مَعَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن، فِي إِنْكَاره عَلَيْهِ الْإِسْرَاف فِي الْبناء، أَن النَّاصِر كَانَ قد اتخذ، لسقف القبيبة المصغرة الِاسْم للخصوصية الَّتِي كَانَت مماثلة على الصرح الممرد الْمَشْهُور شَأْنه بقصر الزهراء، قراميد مغشاة ذَهَبا وَفِضة، أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيماً، وقرمد سقفها بهَا، تشَتت الْأَبْصَار بأشعة أنوارها. وَجلسَ فِيهَا يَوْمًا، اثر تَمامهَا، لأهل مَمْلَكَته، فَقَالَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم من الوزراء وَأهل الْخدمَة، مفتخراً بِمَا صنعه من ذَلِك: هَل رَأَيْتُمْ أَو سَمِعْتُمْ ملكا كَانَ قبلي فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: لَا {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} وَإنَّك لوَاحِد فِي شَأْنك كُله، وَمَا سَبَقَك إِلَى مبتدعاتك هَذِه ملك رَأَيْنَاهُ، وَلَا انْتهى إِلَيْنَا خَبره! فابهجه

قَوْلهم وسره. وبينما هُوَ كَذَلِك، إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد، واجماً ناكس الرَّأْس؛ فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه، قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف الْمَذْهَب، واقتداره على إبداعه؛ فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته، وَقَالَ لَهُ: وَالله {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان لَعنه الله} يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ، وَلَا أَن تمكنه من قبلك هَذَا التَّمْكِين، مَعَ مَا آتاك الله من فَضله وَنعمته، وفضلك بِهِ على الْعَالمين، حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين {قَالَ: فانفعل عبد الرَّحْمَن لقَوْله، وَقَالَ لَهُ: انْظُر مَا تَقول} وَكَيف أنزلتني مَنْزِلَتهمْ؟ فَقَالَ لَهُ: نعم {أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون. فَوَجَمَ الْخَلِيفَة، وأطرق مَلِيًّا، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سُبْحَانَهُ، ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ: جَزَاك الله، يَا قَاضِي} عَنَّا وَعَن نَفسك خيرا {وَعَن الدّين وَالْمُسْلِمين أجل جَزَائِهِ} وَكثر فِي النَّاس أمثالك {فَالَّذِي قلت هُوَ الْحق} وَقَامَ عَن مَجْلِسه ذَلِك، وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة، وَأعَاد قرمودها تُرَابا على صفة غَيرهَا. وَكَانَ هَذَا القَاضِي على متانته وَشدَّة جزالته، حسن الْخلق، خَفِيف الوطاة، سهل الْجَانِب، كثير الدعابة، منطلق الْبشر، حَتَّى أَنه رُبمَا استراب بباطنه من لَا يعرفهُ إِذا شَاهد استرساله؛ فَإِذا دَامَ أحد أَن يُصِيب من دينه، ثار ثورة اللَّيْث. وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عمر بن لَبِيب، أَنه حضر عِنْد الْخَلِيفَة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يَوْمًا، فِي خلْوَة لَهُ، وَهُوَ فِي الْبُسْتَان على بركَة، فِي زمَان صيف شَدِيد الْحر والوهج، وَذَلِكَ منصرف القَاضِي من صَلَاة الْجُمُعَة، فَشَكا إِلَى الْخَلِيفَة من قُوَّة الْحر جهداً؛ فَأمره بخلع ثِيَابه، وَالتَّخْفِيف عَن جِسْمه؛ فَفعل؛ فَلم يطف ذَلِك مَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحكم: من الصَّوَاب أَن تنغمس فِي هَذَا الصهريج انغماسة تبرد جسمك وتعدله. فَقُمْ {فَلَيْسَ هَا هُنَا من تحتشمه} وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُمَا جَعْفَر الصقلبي أثير الْخلَافَة، لَا رَابِع لَهُم؛ فَكَأَنَّهُ استحيى من ذَلِك، وانقبض عَنهُ وقاراً. فَأمر الحكم حَاجِبه جعفراً بسبقه إِلَى النُّزُول فِي الصهريج، ليسهل الْأَمر فِيهِ على القَاضِي؛ فبادر جَعْفَر إِلَى ذَلِك، وأتزر، وَألقى بِنَفسِهِ

فِي المَاء؛ وَكَانَ يحسن السباحة. فَلم يسع القَاضِي عِنْد ذَلِك إِلَّا إِنْفَاذ أَمر الْخَلِيفَة؛ فَقَامَ وأتزر وتجرد، وَألقى بِنَفسِهِ خلف جَعْفَر، ولاذ بالقعود فِي درج الصهريج متبرداً؛ فَلم ينشط فِي السباحة، وجعفر يجول فِيهِ مجاله، مصعداً فِي الصهريج ومصوباً، فَدَسَّهُ الحكم على القَاضِي، فَهُوَ يَدعُوهُ إِلَى المساجلة فِي العوم، ويعجزه فِي إخلاده إِلَى الْقعُود، ويباغيه بإلقاء المَاء عَلَيْهِ، والرش لَهُ، وَالْآخر لَا ينبعث، وَلَا بفارق مَكَانَهُ إِلَى أَن كَلمه الحكم وَقَالَ لَهُ: مَا لَك أَيهَا القَاضِي؟ لَا تساعد الْحَاجِب فِي فعله وتعوم مَعَه {فَمن أَجلك تبذل فِيمَا تبذل فِيهِ} فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي، الْحَاجِب سلمه الله مُطلق، لَا هوجل مَعَه {وَأَنا بالهوجل الَّذِي معي، يعقلني ويمنعني من الأعماق فِي الصهريج} يُرِيد بمقالته أنثييه وَأَن جعفراً مجبوب. فاستفرغ الحكم ضحكاً من نادرته، ولطف تعريضه فَخَجِلَ الْحَاجِب من قَوْله، وسبه سبّ الْأَشْرَاف. وخرجا من المَاء. فَأمر لَهما الْخَلِيفَة رَحمَه الله بكسوة تشاكل كلا مِنْهُمَا، ووصلهما بصلَة سنية. قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد فِي كِتَابه: وَذكر أَن الْخَلِيفَة الحكم قَالَ لقاضيه مُنْذر يَوْمًا، فِي بعض مَا جاوبه: بَلغنِي أَنَّك لَا تجتهد للأيتام، وَأَنَّك تقدم عَلَيْهِم أوصياء سوء، يَأْكُلُون أَمْوَالهم {قَالَ نعم} وَإِن أمكنهم نيك أمهاتهم، لم يعفوا عَنْهُن {فَقَالَ لَهُ: وَكَيف تقدم مثل هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: لست أجد غَيرهم، ولاكن أحلني على الْفَقِيه اللؤْلُؤِي، وَأبي إِبْرَاهِيم، وأمثالهما لأقدمهم، فَإِن أَبَوا، أجبرتهم بالسجن وَالضَّرْب، ثمَّ لَا تسمع إِلَّا خيرا. وَإِلَّا، فدع الْأُمُور تمْضِي كَمَا هِيَ} فَالله بالمرصاد {وَكَانَ شَيخنَا القَاضِي أَبُو عبد الله بن عَيَّاش الخزرجي يستحسن من كَلَامه قَوْله فِي التَّزْكِيَة: اعْلَم أَن الْعَدَالَة من أَشد الْأَشْيَاء تَفَاوتا وتبايناً، وَمَتى حصلت ذَلِك عرفت حَالَة الشُّهُود، لِأَن بَين عَدَالَة أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} وعدالة التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم {بون عَظِيم، وتباين شَدِيد، وَبَين عَدَالَة أهل زَمَاننَا، وعدالة أُولَئِكَ، مثل مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} وعدالة أهل زَمَاننَا، على مَا هِيَ عَلَيْهِ،

بعيدَة التباين أَيْضا. وَالْأَصْل فِي هَذَا عِنْدِي وَالله الْمُوفق للصَّوَاب {أَن من كَانَ الْخَيْر أغلب عَلَيْهِ من الشَّرّ، وَكَانَ متنزهاً عَن الْكَبَائِر، فَوَاجِب أَن تعْمل شَهَادَته؛ فَإِن الله تَعَالَى قد أخبرنَا بِنَصّ الْكتاب أَن: " من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية. " وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: " فَأُولَئِك هم المفلحون} " فَمن ثقلت مَوَازِين حَسَنَاته بِشَيْء، لم يدْخل النَّار؛ وَمن اسْتَوَت حَسَنَاته وسيآته، لم يدْخل الْجنَّة فِي زمرة الداخلين أَولا؛ وهم أَصْحَاب الْأَعْرَاف، فَذَلِك عُقُوبَة لَهُم، إِذْ تخلفوا أَن تزيد حسناتهم على سيآتهم. فَهَذَا حكم الله فِي عباده. وَنحن إِنَّمَا كلفنا الحكم بِالظَّاهِرِ؛ فَمن ظهر لنا أَن خَيره أغلب عَلَيْهِ من شَره، حكمنَا لَهُ بِحكم الله بعباده؛ وَلم نطلب لَهُ على الْبَاطِن. وَلَا كلفه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! فقد ثَبت عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّمَا أَنا بشر، وَأَنْتُم تختصمون إِلَيّ؛ ولقل بَعْضكُم أَن يكون ألحق بحجته من بعض؛ فأحكم لَهُ على نَحْو مَا أسمع بِأَحْكَام الدُّنْيَا على ماظهر، وَأَحْكَام الْآخِرَة على مَا بطن، لِأَن الله تَعَالَى يعلم الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَنحن لَا نعلم إِلَّا الظَّاهِر. وَلأَهل كل بلد قوم قد تراضى عَلَيْهِم عامتهم؛ فبهم تَنْعَقِد مناكحهم وبيوعهم؛ وَقد قدموهم فِي مَسَاجِدهمْ، ولجمعهم وأعيادهم؛ فَالْوَاجِب على من استقضى فِي مَوضِع، أَن يقبل شَهَادَة أماثلهم، وفقهائهم وَأَصْحَاب صلواتهم، وَإِلَّا ضَاعَت حُقُوق ضعيفهم وقويهم، وَبَطلَت أحكامهم. وَيجب عَلَيْهِ أَن يسْأَل إِن استراب فِي بَعضهم فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن عَنْهُم؛ فَمن لم يثبت عِنْده عَلَيْهِ اشتهار فِي كَبِيرَة، فَهُوَ على عَدَالَة ظَاهِرَة، حَتَّى يثبت غير ذَلِك. انْتهى. وَسَماهُ مُحَمَّد بن حُسَيْن الزبيدِيّ فِي مُصَنفه فِي طَبَقَات النَّحْوِيين واللغويين؛ فَقَالَ: أَبُو الحكم مُنْذر بن سعيد القَاضِي، سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ونظرائه، ثمَّ رَحل حَاجا سنة 308؛ فَسمع بِمَكَّة من مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي كِتَابه الْمُؤلف فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء الْمُسَمّى ب الْأَشْرَاف. وروى بِمصْر كتاب الْعين للخليل، عَن أبي الْعَبَّاس ابْن ولاد، وَعَن أبي جَعْفَر بن النّحاس. وَكَانَ متفنناً فِي ضروب الْعلم. وَغلب عَلَيْهِ التفقه بِمذهب أبي سُلَيْمَان دَاوُود بن عَليّ الإصبهاني الْمَعْرُوف بالظاهري؛ فَكَانَ يُؤثر مذْهبه، وَيجمع كتبه، ويحتج بمقالته، وَيَأْخُذ بهَا لنَفسِهِ، فَإِذا جلس مجْلِس الْحُكُومَة، قضى

ذكر القاضي محمد بن السليم

بِمذهب مَالك بن أنس وَأَصْحَابه الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل فِي بَلَده، وَلم يعدل عَنهُ. قَالَ: وَكَانَت ولَايَة مُنْذر لقَضَاء الْجَمَاعَة بقرطبة فِي ربيع الآخر سنة 339. ولبث قَاضِيا إِلَى أَن توفّي فِي عقب ذِي الْقعدَة سنة 355. فَكَانَت ولَايَته الْقَضَاء سِتّ عشرَة سنة كَامِلَة رَحمَه الله وَغفر لنا وَله { ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن السَّلِيم وَولي الْقَضَاء بعد البلوطي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن السَّلِيم. وَنَصّ ظهير ولَايَته: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} هَذَا كتاب أَمر بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن السَّلِيم؛ ولاه بِهِ خطة الْقَضَاء، وَاخْتَارَهُ للْحكم بَين جَمِيع الْمُسلمين، وَرَفعه إِلَى أَعلَى الْمَرَاتِب عِنْده فِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام، غير مُطلق يَده إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلسَانه إِلَّا بِالْعَدْلِ {ورسم لَهُ فِي كِتَابه رسوماً بَدَأَ فِيهِ بأمانة الله عز وَجل} إِلَيْهِ، وَجعل الله الشَّهِيد بهَا عَلَيْهِ؛ أمره بتقوى الله الْعَظِيم الَّذِي يعلم خَائِنَة الْأَعْين، وَمَا تخفي الصُّدُور؛ وَأَن يَجْعَل كتاب الله أُمَامَة ينظر فِيهِ نظر المتفكر الْمُعْتَبر؛ فَإِنَّهُ عهد الله الَّذِي بعث بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فأحل حَلَاله، وَحرم حرَامه، وأمضى أَحْكَامه، وَفَارق الْأمة. على أَنهم لن يضلوا مَا اتَّبعُوهُ؛ فَهُوَ العروة الوثقى، والطريقة المثلى والنهج الْمُنِير، وَدين الله القويم. وَأمره أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَقْتَدِي بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} الَّتِي بهَا عملت الْأَئِمَّة، وَعَلَيْهَا اتّفقت الْأمة، فَالْحق مَعْرُوف؛ وَالْبَاطِل مَكْشُوف؛ وَبَينهمَا مُشْتَبهَات فِيهَا يحمد التَّوَقُّف، وَعِنْدهَا يشْكر التثبت، فَفِي كتاب الله تَعَالَى اسْمه {وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} أصل الدّين، وفرعه، وَدَلِيله، وتأويله، وَمن يرد الله بِهِ خيرا يوفقه للاقتداء بهما، والاقتباس مِنْهُمَا. وَأمره أَن يصلح سَرِيرَته فِيهَا، يصلح الله عَلَانِيَته؛ وَأَن يبرأ من الْهوى؛ فَإِنَّهُ مضلة عَن طَرِيق الْحق؛ وَأَن يَجْعَل النَّاس فِي نَفسه سَوَاء، إِذا جلس للْحكم بَينهم، حَتَّى لَا يطْمع فِيهِ الشريف، وَلَا ييأس مِنْهُ الضَّعِيف. وَأمره أَن يعْتَبر أمره وَمَا قَلّدهُ؛ فَيعلم أَنه رَاكب طَرِيقا متهاها إِلَى الْجنَّة أَو النَّار:

لَيْسَ عَن أَحدهمَا مصرف، وَلَا بَينهمَا موقف، فَحق لمن أَرَادَ النجَاة أَن يستكثر من الْحَسَنَات، وَيمْنَع دينه مِمَّن أَرَادَ أَن يؤنسه فِي الشُّبُهَات، وَيعلم أَنه حَاكم فِي ظَاهره، مَحْكُوم عَلَيْهِ فِي بَاطِنه، تطوى كل يَوْم صَحِيفَته على مَا أودعها، حَتَّى ينظر فِيهَا غَدا بَين يَدي الله عز وَجهه {" يَوْم توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} " فَمن حاسب نَفسه فِي الدُّنْيَا، كَانَ أيسر حسابا فِي الْآخِرَة. وَأمره أَن يتحفظ فِي حِين وُقُوع الشَّهَادَات عِنْده؛ فَلَا يقْضِي بَين الْمُسلمين مِنْهَا إِلَّا بِمَا أَقَامَهُ بِهِ التَّحْقِيق على أَلْسِنَة الْعُدُول، ذَوي الْقبُول، وَإِن استراب فِي شَهَادَة أحدهم وقتا مَا، أَن يبْحَث عَنْهَا، فَإِن ثَبت أَنه ارتشى، أَو شهد بالهوى، فَعَلَيهِ أَن يسْقط شَهَادَته، ويخل عَدَالَته، وتنكيلاً لَهُ، وتشديداً لمن خَلفه، وَأَن يحمل على النَّاس معاريض الوكلاء على الْخُصُومَات، ويطرح أهل اللدد الظَّاهِر مِنْهُم، وَلَا يحمل فضل حجاجهم عَمَّن لَا يقوم بهم. وَأمره أَن يحترس بأموال الْيَتَامَى، وَلَا يولي عَلَيْهِم إِلَّا أهل العفاف عَنْهَا وَحسن النّظر فِيهَا؛ وَأَن يجدد الْكَشْف والامتحان عَن أَمْوَال النَّاس والأحباس واليتامى، وَيمْنَع من قبالتها إِلَّا على وجوهها مِمَّا لَا بُد مِنْهُ من التَّنْفِيذ فِيهَا، وَطلب الزِّيَادَة عِنْد ذَوي الرَّغْبَة فِي قبالتها. وَأمره أَن يختبر كَاتبه وحاجبه وخدمته، ويتفقد عَلَيْهِم أَحْوَالهم إِذا غَابُوا عَن بَصَره. وَأمره أَن لَا يعجل فِي أَحْكَامه؛ فَمن الْعجل، لَا يُؤمن الزلل؛ وَأَن يرفع إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أشكل عَلَيْهِ الْفَصْل فِيهِ، ليصدر إِلَيْهِ من رَأْيه مَا يعْتَمد عَلَيْهِ، إِن شَاءَ الله {وَالله يسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ التَّوْفِيق بمنه وفضله} وَكتب يَوْم الْإِثْنَيْنِ، لِلنِّصْفِ من شعْبَان سنة 353. وَلما استمرت أَيَّام ولَايَة أبي بكر بن السَّلِيم، عَمَدت النَّاس سيرته، واطمأنوا إِلَى عدله، وَلم يعبه مِنْهُم عائب، إِلَّا من طَرِيق البطء بِقَضَائِهِ، والتطويل فِي أَحْكَامه. وَكَانَ كثيرا مَا يفعل ذَلِك فِيمَا يتلبس عَلَيْهِ، ويحتذي طَرِيق أَحْمد بن بَقِي القَاضِي؛ فَكَانَ رُبمَا أفشى لومه

نبذ من انباء محمد بن يبقي بن زرب

بعض من لحقه ذَلِك، مِمَّن يُخَاصم عِنْده؛ ثمَّ، لما مَاتَ، أشْفق النَّاس جَمِيعًا من فَقده، واجتمعوا على ثنائه وَالدُّعَاء بِالْخَيرِ لَهُ. وَكَانَت وَفَاته عشي يَوْم السبت لسبع بَقينَ لجمادي الأولى سنة 367. نبذ من أنباء مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب وَهُوَ أحد صُدُور الْفُقَهَاء فِي زَمَانه بالأندلس؛ فقد كَانَ ذَاك يُسمى فِي علمه وورعه ابْن الْقَاسِم. وَكَانَ لَهُ حَظّ كَبِير من علم الْإِعْرَاب وَالْفِقْه، يجمع ذَلِك إِلَى الْعِبَادَة، وسرد التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ. وَكَانَ من أَخطب النَّاس فَوق مِنْبَر، وَأَحْسَنهمْ ترتيلاً لمنطقه، وأظهرهم خشوعاً فِي موقفه لخطبته، وأقرعهم لمن تقرعه بوعظه؛ لَا يملك أحد من الْبكاء عَيْنَيْهِ، عِنْد سَمَاعه. قَالَ فِيهِ ابْن عفيف: يُحَقّق قَول الْحسن الْبَصْرِيّ من أَن الموعظة، إِذا خرجت من الْقلب، وَقعت فِي الْقلب، وَإِذا خرجت من اللِّسَان، لم تجَاوز الْأَذَان. وَكَانَ فِي تعرفاته حازماً فطناً. قَالَ ابْن حَيَّان: سَمِعت المشيخة يَقُولُونَ إِنَّه لما ولي الْقَضَاء، احْتبسَ خَواص أَصْحَابه المشاورين، وَقد جَاءُوهُ مهنين؛ فَأمر غُلَامه: فكشف عَن مَال عَظِيم صَامت فِي صندوق لَهُ، وَقَالَ: يَا أَصْحَابنَا، قد عَرَفْتُمْ مَا نَحن بِهِ من تولى الْقَضَاء قَدِيما من سوء الظنة؛ وأخشى أَن أطلق النَّاس على غرضي {وَهَذَا حاصلي، وَفِيه من الْعين كَذَا، وَفِي مخازني مَا بَقِي بِقِيمَتِه، وحظى من التِّجَارَة مَا علمْتُم} فَإِن فشى من مَالِي مَا يُنَاسب هَذَا، فَلَا لوم؛ وَإِن تبَاعد عَن ذَلِك، فقد وَجب مقتى. وأسأل الله تخليصي مِمَّا تنشبت فِيهِ {فدعوا لَهُ. وَكَانَ، مَعَ سَعَة حَاله وَعلمه، مُجْتَهدا، ورعاً، كثير الصَّلَاة والتلاوة، حَتَّى قيل إِنَّه كَانَ يخْتم الْقُرْآن كل لَيْلَة. وَمن المدارك: رَأَيْت ابْن زرب بعد وَفَاته؛ فَسَأَلته؛ فَقَالَ: مَا وجدت أضرّ من الِاخْتِلَاف إِلَى أَبْوَاب الْمُلُوك. وَمَا وجدت شَيْئا أَنْفَع من تِلَاوَة الْقُرْآن} وَلما بنى الْمَنْصُور بن أبي عَامر مَسْجِد الزهراء، وَاسْتَشَارَ الْفُقَهَاء فِي التجميع فِيهِ، أفتى القَاضِي بِمَنْع ذَلِك. وَقَالَ بقوله ابْنا ذكْوَان، وَابْن المكوى، وَابْن وليد. وساعده ابْن الْعَطَّار على التجميع؛ فاستحيى ابْن زرب، وَلم يجمع فِيهِ حَتَّى مَاتَ؛ فَجمع حِينَئِذٍ. وَقَالَ

عَنهُ ابْن حَارِث: كَانَ لَا يحكم فِي شهر رَمَضَان، ويفرغ فِيهِ نَفسه للْعَمَل وَالْعِبَادَة، لم يزل مواظباً على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله {قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد: وَكَانَ أحفظ أهل زَمَانه للفقه على مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه، حَلِيمًا، مُحْتملا، صبوراً، نَفَّاعًا لمن علق بحبله، جميل المنظر، سهل الْخلق، حسن الصُّورَة، طيب الرَّائِحَة، نظيف الملبس والمركب وَالطَّعَام والفاكهة، سَمحا، صليباً فِي ذَات الله، رَفِيقًا، لم يحفظ عَنهُ أَنه قرع أحدا بِسَوْط مُدَّة قَضَائِهِ، لَا تَأْخُذهُ مَعَ ذَلِك فِي الله لومة لائم. وَلم يكن يُخَاطب الْخَلِيفَة هشاماً وَلَا الْمَنْصُور بن أبي عَامر قيم دولته بِغَيْر التسديد على الرَّسْم الْقَدِيم؛ قَرَأت مخاطبته لَهما فِي كتاب ارتقاب الْأَهِلّة المرسوم للقضاة فِي شهر رَمَضَان، ومخرجه على الْعَادة الْمَعْرُوفَة للأعلام فَمَا يَصح لَدَيْهِ من أمرهَا؛ فَكَانَت مخاطبته للأمير هِشَام: أصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ سيدى، وأبقاه، وأيد بِطَاعَتِهِ} وَكَانَت مخاطبته لحاجبه الْمَنْصُور: يَا سَيِّدي، وَمن وَفقه الله لطاعته وَعَصَمَهُ بتقواه! واعتنى القَاضِي ابْن زرب بِطَلَب أَصْحَاب ابْن مَسَرَّة، والكشف عَنْهُم، واستتابه من علم أَنه يعْتَقد مَذْهَبهم؛ وَأظْهر للنَّاس كتابا حسنا وَضعه فِي الرَّد على ابْن مَسَرَّة، قرئَ عَلَيْهِ وَأخذ عَنهُ. وَكَانَ سنة 350. اتتاب جملَة جِيءَ بهم إِلَيْهِ من أَتبَاع ابْن مَسَرَّة؛ ثمَّ خرج إِلَى جَانب الْمَسْجِد الْجَامِع الشَّرْقِي، وَقعد هُنَاكَ؛ فَأحرق بَين يَده مَا وجد عِنْدهم من كتبه وأوضاعه؛ وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ فِي سَائِر الْحَاضِرين. ووقف يَوْمًا هَذَا القَاضِي بِبَاب أبي بكر الزبيدِيّ النَّحْوِيّ، معلم الْخَلِيفَة هِشَام؛ فَلَمَّا أُوذِنَ بِهِ، بَادر بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ حافياً، مَكْشُوف الرَّأْس، كَمَا كَانَ يجلس فِي بَيته، فَوقف بَين يَدَيْهِ، قَائِما على قَدَمَيْهِ، إجلالاً لَهُ، وأبلغ فِي شكره على تعهد؛ فوافاه ابْن زرب حق تكرمته إِيَّاه، وَسَأَلَهُ الْجُلُوس؛ فَأبى عَلَيْهِ وأنشده متمثلاً: أقوم وَمَا بِي أَن أقوم مذلة ... عَليّ فَإِنِّي للكرام مذلل على أَنَّهَا مني لغيرك هجنة ... وَلَا كنها بيني وَبَيْنك تجمل قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد فِي كِتَابه الْمُسَمّى ب الاحتفال فِي تَارِيخ أَعْلَام الرِّجَال: وأمتحن القَاضِي ابْن زرب، على فَضله، مَعَ عوام النَّاس بقرطبة، فِي بَاب ابتطائهم للسقي؛ فَدَعَا بهم

فِي الْمحل الَّذِي توالي عَلَيْهِم بأعظم مَا امتحن بِهِ قَاض قبله، وَذَلِكَ أَنه برز بهم عشرَة مرّة: حضر مَعَهم الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر استسقاء وَاحِدًا، ولبوسه ثِيَاب بيض، وعَلى رَأسه أقرف وشي أغبر، على شكل أهل المصايب بالأندلس قَدِيما، قد أبدى الْخُشُوع، وَهُوَ باك، ودموعه تسيل على لحيته؛ فَتقدم إِلَى جنَاح الْمِحْرَاب عَن يَمِين الإِمَام، وَقد كَانَ فرش لَهُ هُنَاكَ حَصِير ليُصَلِّي عَلَيْهِ؛ فَدفعهُ بِرجلِهِ، وَأمر بنزعه، وَجلسَ على الأَرْض، وَشهد الاسْتِسْقَاء؛ فَلَمَّا تمّ، أَمر القَاضِي بتفريق صدقَات كَثِيرَة من مَال أَو طَعَام عَن خَلِيفَته وَعَن نَفسه. ولهجت الْعَامَّة بذم القَاضِي، واستبطاء الرَّحْمَة بوسيلته، وأطلقوا ألسنتهم بالطعن فِي دينه، وَوَصفه بالركون إِلَى ابْن أبي عَامر، وعابوه بِالْقبُولِ لهداياه، والاستساغة لعطيته؛ فَلَمَّا تكَرر بالاستسقاء وإبطاء الْغَيْث، هَاجَتْ الْعَامَّة فِي بعض بروزه إِلَى الربض، وثارت، فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ بعد إِتْمَامه الصَّلَاة، يعطعطون، وينكتونه بمعابه، وَيَقُولُونَ لَهُ: بئس الْوَسِيلَة أَنْت إِلَى الله تَعَالَى وَالشَّفِيع فِي إرْسَال الرَّحْمَة، إِذْ أَصبَحت إِمَام الدّين، وقيم الشَّرِيعَة {ثمَّ لَا تتورع عَن قبُول مَا يُرْسل بِهِ إِلَيْك من الْهَدِيَّة الَّتِي لَا تلِيق إِلَّا بالجبابرة} وأبدوا فِي ذَلِك، وأعادوا، وهموا أَن يبسطوا إِلَيْهِ أَيْديهم ويمتهنوه، حَتَّى لَاذَ مِنْهُم بالتربة المنسوبة إِلَى السيدة مرجان، بمقبرة الربض بقرطبة؛ وَكَانَت حَصِينَة الْأَبْوَاب، منيعة الأسوار، فَصَارَ فِيهَا، وأغلق أَبْوَابهَا عَلَيْهِ، واحتصن بهَا مِنْهُم؛ وَأرْسل إِلَى صَاحب الْمَدِينَة يستغيثه، فَأرْسل الفرسان والأشراط إِلَى ناحيته؛ فكشفوا عَنهُ من كَانَ قد تلفف بِهِ من الْعَامَّة، وفرقوهم، وَانْصَرف إِلَى دَاره سالما؛ وَقد لقى مِنْهُم أَذَى شَدِيدا. فَلَمَّا عاود البروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بعد ذَلِك، أرسل الْمَنْصُور إِلَيْهِ خيلاً كَثِيرَة من عِنْده، أحاطت بِأَكْنَافِ الْمصلى عِنْد تَكَامل النَّاس فِيهِ قبل الصَّلَاة، استظهر بهم على شغب الْعَامَّة؛ فَلم يَجْسُر أحد من السُّفَهَاء على النُّطْق بِكَلِمَة شَرّ. وَكَانَ لَا يجلس للحكومة حَتَّى يَأْكُل؛ وَكَانَ مَوْصُوفا بِطيب الطَّعَام: لَهُ مِنْهُ وَمن الْحَلْوَاء والفاكهة وَظِيفَة مَعْلُومَة. وَكَانَ يَقُول: لَا شرف فِي لونين {وَرفع فِيهِ على مَا حَكَاهُ عِيَاض حَدِيثا لبَعض السّلف. ثمَّ قَالَ: توفّي رَحمَه الله} فِي رَمَضَان سنة 381. ومولده فِي رَمَضَان سنة 319.

وتفاقده النَّاس، وأثنوا عَلَيْهِ حسنا. وَأظْهر ابْن أبي عَامر لمَوْته غماً شَدِيدا، وَكتب لوَرثَته كتاب حفظ ورعاية أنتفعوا بِهِ؛ واستدعى ابْنه مُحَمَّدًا، وَهُوَ طِفْل، ابْن ثَلَاثَة أَعْوَام؛ فوصله بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وألطاف، قيمتهَا مَا يناهز الْعدَد الْمُسَمّى، وَلَيْسَ ذَلِك من أَفعَال الْمَنْصُور ببدع؛ فقد كَانَ فِي حسن مُعَامَلَته للنَّاس، وَالْوَفَاء لَهُم، بِمَنْزِلَة لَا يقوم بوصفها كتاب، حَتَّى يُقَال إِنَّه لَا يَأْتِي الزَّمَان بِمثلِهِ فِي فَضله، وَلَا طفرت الْأَيْدِي بشكله. وَمن عَجِيب أَخْبَار مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عَامر وَحَدِيثه رَحمَه الله {مَا وَقع فِي كتاب الْفَقِيه أبي جَعْفَر أَحْمد بن سعيد بن أبي الْفَيَّاض، عِنْد ذكره أَيَّام الْمَنْصُور ودولته. وَنَقله غَيره؛ وَنَصه: قَالَ: أَخْبرنِي بعض من رويت عَنهُ أَنه كَانَ بائتاً لَيْلَة، مَعَ بعض إخوانه، فِي غرفَة؛ فرقد رَفِيقه ودنيه؛ وَلم يرقد هُوَ قلقاً وسهراً؛ فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا هَذَا} قد أضررتني فِي هَذِه اللَّيْلَة بِهَذَا السهر؛ فَدَعْنِي أرقد. فَقَالَ: إِنِّي مفكر مَشْغُول البال {فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا هَذَا} وَأَنت أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ: هُوَ ذَلِك {فَعجب مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: بِاللَّه} لتأْخذ معي هَذَا الْأَمر، وساعدني فِيهِ {فَقَالَ لَهُ: يصلح فلَان وَيصْلح فلَان} وسمى لَهُ جمَاعَة، وَهُوَ لَا يجوز من الْمَذْكُورين أحدا، إِلَى أَن قَالَ لَهُ: يصلح أَبُو بكر بن يبْقى بن زرب فَقَالَ لَهُ ابْن أبي عَامر: يَا هَذَا {فرجت عني} لَيْسَ بِاللَّه يصلح أحد غَيره {ثمَّ رقد. فمضت الْأَيَّام والليالي؛ وَولى ابْن عَامر الخطط، إِلَى أَن صَار لَهُ ملك الأندلس كُله بخلافة الْمُؤَيد بِاللَّه، وَاسْتولى على الْأَمر وَالنَّهْي بِهِ؛ وَذَلِكَ الرجل رَفِيقه وَصَاحبه يتَوَقَّع أَن يتَذَكَّر الْمَنْصُور لاحتقاره فِي تِلْكَ اللَّيْلَة؛ فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي، مَاتَ القَاضِي ابْن السَّلِيم لَيْلًا. وَكَانَت لمُحَمد بن أبي عَامر فِي أَيَّامه عُيُون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، لَا يَقع أَمر من الْأُمُور حَتَّى يعلم بِهِ. فَأخْبر بِمَوْت ابْن السَّلِيم سَاعَة مَوته فِي اللَّيْل؛ فَبعث فِي ذَلِك الرجل رَفِيقه فِي تِلْكَ السَّاعَة. فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ رَسُوله، تداخله من الْفَزع غير قَلِيل؛ فخشي على نَفسه؛ فَنَهَضَ إِلَيْهِ، وأكفانه مَعَه؛ فَلَمَّا وصل قَالَ لَهُ: يَا هَذَا} قد مَاتَ القَاضِي ابْن السَّلِيم {قَالَ: فَزَاد فزع الرجل، ثمَّ قَالَ لَهُ: من ترى أَن يولي الْقَضَاء؟ قَالَ لَهُ: الَّذِي رَأَيْنَاهُ تِلْكَ اللَّيْلَة} مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب! فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: فانهض إِلَيْهِ، واقرأه سلامي، وبشره

بِالْقضَاءِ، وَأخْبرهُ بِكُل مَا دَار بِي مَعَك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، حرفا بِحرف؛ وَلَا تنقصه شَيْئا؛ وَلَا توجده عذرا إِن اعتذر {وَسكن روع الرجل ونهض إِلَى ابْن زرب؛ فَاعْتَذر لَهُ؛ فَلم يقبل لَهُ عذرا، وَحكى مَا دَار لَهُ مَعَ الْمَنْصُور قَدِيما؛ فرضى الْقَضَاء، وَتقدم لَهُ. وَمن الْكتاب الْمُسَمّى: إِن الْمَنْصُور كَانَ كثيرا مَا يترشح للإمارة، ويترجح لملك الأندلس كلهَا؛ وَيكثر من التحدث بذلك فِي حدثان سنة، وإقبال أمره؛ ويتمنى ذَلِك، ويرصده، ويعد بِهِ أَصْحَابه، ويوليهم الخطط، ويمنيهم بالولايات، فَيَأْتِي ذَلِك كَمَا يذكرهُ، وعَلى مَا كَانَ يرسمه. وَمِنْه قَالَ: أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن مُوسَى بن عزرون، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، قَالَ: اجْتَمَعنَا يَوْمًا فِي منتزه لنا، بِجِهَة الناعورة بقرطبة، مَعَ الْمَنْصُور بن أبي عَامر؛ وَهُوَ فِي حَدَاثَة سنة، وَأَوَان طلبه، وَهُوَ مرجى مُؤَمل، ومعنا ابْن عَمه عَمْرو بن عبد الله بن عسقلاجة، وَالْكَاتِب ابْن المرعزي، وَالْحسن بن عبد الله بن الْحسن المالقي. وَكَانَت مَعنا سفرة فِيهَا طَعَام؛ فَقَالَ ابْن أبي عَامر، من ذَلِك الْكَلَام الَّذِي كَانَ يتَكَلَّم بِهِ: إِنِّي لَا بُد أَن أملك الأندلس، وأقود العساكر، وَينفذ حكمي فِي جَمِيع الأندلس} وَنحن نضحك مَعَه، ونتعجب من قَوْله؛ فَقَالَ لنا: تمنوا عَليّ {فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُم؛ فَقَالَ عَمْرو بن عبد الله بن عَمه: أَتَمَنَّى أَن توليني على الْمَدِينَة} نضرب ظُهُور الجناة ونفتحها مثل هَذِه الشاردة {وَقَالَ ابْن المرعزي: أشتهي أَن توليني أَحْكَام السُّوق} وَقَالَ ابْن الْحسن: أحب أَن توليني قَضَاء رية {قَالَ مُوسَى بن عزرون: فَقَالَ لي: تمنَّ أَنْت} فشققت لحيته، وَقلت كلَاما سمجاً. فَلَمَّا صَار الْمَنْصُور إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ من ملك الأندلس، ولي ابْن عَمه الْمَدِينَة، وَابْن المرعزي السُّوق، وَولي ابْن الْحسن رية، وَبلغ كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى مَا تمنى. وأغرمني مَالا عَظِيما أحجف بِي وأفقرني، لقبح مَا كنت قد جِئْته بِهِ. وَكَانَ الْمَنْصُور من أهل الذكاء والنبل والبأس والحزم؛ تصرف، بعد الْعلم والطلب، أَيَّام الْخَلِيفَة لحكم، فِي الْأَمَانَات وَالْقَضَاء؛ ثمَّ ملك الأندلس بِولَايَة الحجابة لهشام، وَذَلِكَ فِي النّصْف من شعْبَان سنة 366؛ فاستولى على كثير من الْأَمْصَار، وَصَارَ خَبره أطيب الْأَخْبَار. وَلم يزل على حَالَته من الظُّهُور، والعز الْمُتَّصِل الْمَشْهُور، إِلَى أَن توفّي بِمَدِينَة سَالم، سنة 392، وَهُوَ منصرف من غَزْو بِلَاد الرّوم. وَقد كَانَ عهد إِلَى ثقاته أَن يدفنوه

ذكر الحسن بن عبد الله الجذامي قاضي ريه

حَيْثُ يَمُوت، وَلَا يحملوه فِي تَابُوت؛ فقبروه هُنَالك. وعَلى مشهده مَكْتُوب رَحمَه الله وأرضاه {: آثاره تنبيك عَن أخباره ... حَتَّى كَأَنَّك بالعيان ترَاهُ تالله} مَا يَأْتِي الزَّمَان بِمثلِهِ ... أبدا، وَلَا يحمى الثغور سواهُ ذكر الْحسن بن عبد الله الجذامي قَاضِي رية وَأما الْحسن بن عبد الله الجذامى المالقى، فَهُوَ أول قُضَاة الدولة العامرية بكورة رية، حَسْبَمَا حَكَاهُ ابْن أبي الْفَيَّاض وَنَقله غَيره. وَكَانَ رَحمَه الله! فَقِيها، نبيها، فطناً، متفنناً، بَصيرًا بمذاهب الْعلمَاء، نَفَّاعًا للفقهاء، شَدِيدا على أهل الْأَهْوَاء، رَفِيقًا بالضعفاء، سكن بقرطبة مَعَ أَبِيه، إِذْ كَانَ لَهُ بهَا مَال وإصهار، وَتردد إِلَيْهَا. وَصَحب فِيهَا، أَيَّام قِرَاءَته، مُحَمَّد بن أبي عَامر وَغَيره من أَهلهَا، وَأخذ عَن أشياخها. وَأَصله من رية. من الْعَرَب الشأميين، النازلين بهَا عِنْد الْفَتْح. واختص سلفه مِنْهُم بسكنى مآلقة، وَهِي إِحْدَى مَدَائِن الكورة؛ وحد عمالتها فِي الْقَدِيم، من جِهَة الشرق، الْحمة، حَيْثُ المَاء السخن العجيب الْغَرِيب؛ وَمن نَاحيَة الغرب، حصن الْورْد، الْمَعْرُوف الْآن بمنت ميور، الْقَرِيب من مربلة؛ وَمن جِهَة الْجوف، وَادي شنيل، حَيْثُ حصن بني بشير، والرنيسول، ثمَّ الأَرْض الْمَعْرُوفَة بالخنوس، إِلَى قَرْيَة جليانة الْقَرِيبَة من استبة، إِلَى حوز مورور. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن عَسْكَر، صدر كِتَابه الَّذِي وصف فِيهِ مالقة: أما الِاسْم المنطلق على جَمِيع الكورة فِرْيَة؛ وأظنها اسْما عجمياً. والري عِنْدهم الْملك وَنَحْوه؛ وَلِهَذَا الِاسْم تُوجد فِي كتب الْأَعَاجِم. وَكَانَ ابْن الْحسن الْمُتَقَدّم الذّكر من أَصْحَاب الْمَنْصُور، الملازمين لَهُ فِي أَسْفَاره، لم يخْتَلف عَنهُ فِي غَزَوَاته إِلَى بلد، مُدَّة حَيَاته، معقوداً لَهُ على جند بَلَده، مُعظما فِي قطره، مرجوعاً إِلَى نظره؛ وَكَانَ كثير البدار إِلَى ملاقاة الْعَدو بِنَفسِهِ. وَكَانَ هجيراه عِنْد الْقِتَال

قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {: لَا يجْتَمع كَافِر وقاتله فِي النَّار أبدا} وَاسْتشْهدَ رَحمَه الله فِي غَزْوَة جربيرة الْمَشْهُورَة، فِي جملَة من اسْتشْهد من الْمُسلمين؛ وَكَانُوا نَحْو ثمانمائه فَارس: قتل فيهم رُؤَسَاء الْعَسْكَر، مثل يحيى بن مطرف، وقاسم بن مَنْصُور، وَالْكثير من وُجُوه النَّاس. ثمَّ نصر الله جنده وَعَسْكَره؛ فَحسن الظَّن وحقق الرَّجَاء، ومنح عبَادَة الظفر، بعد الْيَأْس مِنْهُ. قَالَ أَحْمد بن سعيد: وَذَلِكَ بِرَأْي رأه الْمَنْصُور بن أبي عَامر. وَهُوَ أَن عهد وشدد فِي نقل الْمحلة إِلَى ربوة مشرفة، أشرف مِنْهَا على جَمِيع النَّصَارَى؛ فَلَمَّا رأى النَّاس شخصه فِي أَعْلَاهَا، وَعَلمُوا مَكَانَهُ، رجحوا ظنونهم، مَعَ مَا ألْقى الله تَعَالَى فِي قُلُوب الرّوم من الرعب، وَأَن الْمُسلمين فِي قُوَّة، والمدد يَأْتِيهم، والأجناد تتكافل عَلَيْهِم؛ فَانْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا؛ وتبعهم الْمُسلمُونَ نَحْو عشرَة أَمْيَال، واستولوا على محلتهم. وَعند ذَلِك كتب الْمَنْصُور كِتَابه الْمَشْهُور إِلَى من فرَّ عَنهُ من جنود، يوبخهم. وَمن فصوله مَا نَصه: وَكَثِيرًا مَا فرط من قَوْلكُم، وَسبق من عزمهم، إِنَّكُم تجهلون قتال المعاقل والحصون، وتشتاقون ملاقاة الرِّجَال على العجول. فحين جَاءَكُم شانجه بالأمنية، وقاتلكم بالشرطية، وَظَهَرت لكم رعلة الطَّائِفَة النَّصْرَانِيَّة، أنكرتم مَا عَرَفْتُمْ، ونفرتم مَا ألفتم، حَتَّى فررتم فرار اليعافير من آساد الغيل، وأجفلتم إجفال الرئال عَن المقتنصين {فألحقتم الْعَار بِأَنْفُسِكُمْ، بعد اخْتِيَاري لكم؛ وطرقتم الشَّرّ على أَعْنَاقكُم، وضيعتم حرماتكم، وأحضرتم ذمتكم؛ فَلَا نعمتي رعيتم، وَلَا تزييني حفظتم، وَلَا وُجُوهكُم أبقيتم، وَلَا غضب الله وَرَسُوله أتقيتم} فقد قَالَ الله عز وَجل: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا {إِذا لَقِيتُم فِئَة، فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا؛ لَعَلَّكُمْ تفلحون} " وَقَالَ: " وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفاً لقِتَال، أَو متحيزاً إِلَى فِئَة، فقد بَاء بغضب من الله؛ ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير {" فَفِيمَ وَلم كَانَ انحيازكم، أشكاً فِي وعد ربكُم؟ أم خوراً فِي أصل طبعكم؟ أم عَجزا عَن دفع باطلهم بحقكم؟ مَا كَانَ إِلَّا لسفه أحلامكم وَسُوء نظركم فِي عَاقِبَة أُمُوركُم} يَا أَحْلَام الْأَطْفَال، وأخلاق الرِّجَال! أنجوتم إِلَى دَار الفناء، الَّتِي لَا تَنْقَطِع همومها

ذكر القاضي ابن برطال والقاضي ابي العباس بن ذكوان

وَلَا ترْتَفع غمومها؟ وتركتم النُّزُوع إِلَى دَار الْبَقَاء، الَّتِي لَا ينصرم نعيمها؟ لَوْلَا رجال من الله صدقُوا، فَرَفَضُوا عَنْكُم الْعَار بجلادهم وحرروا رِقَابكُمْ من الذل بجهادهم، وبذلوا فِي الله مَا بذلوا بِحكم الْقُرْآن، وَالرِّعَايَة لذمم الدّين وَالسُّلْطَان، لبرئت من جماعتكم، وأوجبت الْمُؤَاخَذَة على كافتكم، وَخرجت الإِمَام وَالْأمة عَن عهدتكم، وَنَصَحْت الْمُسلمين فِي الِاسْتِبْدَال مِنْكُم بغيركم {وَلنْ أعدم من الله الْعلي الْعَظِيم عَاجل نصر وَحسن عُقبى لِعِبَادِهِ المخلصين، وأوليائه الْمُتَّقِينَ} فَلَا بُد أَن ينصر دينه بِمَا شَاءَ " لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ! " وَخلف القَاضِي ابْن الْحسن بعد وَفَاته، فِي مَكَان يَتَوَلَّاهُ، أَخُوهُ أَحْمد بن عبد الله ابْن الْحسن. قَالَ عِيَاض، وَقد ذكر فِي مداركه: سمع من قَاسم بن أصبغ وَغَيره. واستقضى بكورة رية إِلَى أَن توفّي. وَكَانَ مشاوراً. وَكتب عَنهُ فِيمَا قيل. توفّي فِي آخر سنة 392. ذكر القَاضِي ابْن برطال وَالْقَاضِي أبي الْعَبَّاس بن ذكْوَان وَتقدم بقرطبة قَاضِيا، بعد ابْن زرب، مُحَمَّد بن يحيى بن زَكَرِيَّاء التَّمِيمِي، الْمَعْرُوف بِابْن برطال، خَال الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر. ثمَّ تلاه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن ذكْوَان، وَتسَمى بقاضي الْقُضَاة. قَالَ ابْن عفيف: وَكَانَ من خير الْقَضَاء نزاهة، وعلماً وَمَعْرِفَة، ورزانة، وعدلاً، وحزامة. وَقَالَ غَيره: كَانَ القَاضِي أَحْمد بن عبد الله فِي ولَايَته موقر الْمجْلس، مهيب الحضرة؛ مَا رَأَيْت مجْلِس قَاض قطّ أوقر من مَجْلِسه. وَكَانَ إِذا قعد للْحكم فِي الْمجْلس، وَهُوَ غاص بأَهْله، لم يتَكَلَّم أحد مِنْهُم بِكَلِمَة، وَلم ينْطق بِلَفْظَة غَيره وَغير الْخَصْمَيْنِ بَين يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَام النَّاس بَينهم إِيمَاء ورمزاً، إِلَى أَن يقوم القَاضِي؛ فَصَارَ حَدِيثه فِي ذَلِك عجبا. وَلَقَد أَتَتْهُ، فِي بعض مجالسه، من الأديب أبي بَحر أنس بن أَحْمد الجياني، داهية لم يبلغهُ بِمِثْلِهَا أحد، لفرط هيبته؛ وَذَلِكَ أَنه كلم بَين يَدَيْهِ خصما لَهُ، كلَاما استطال فِيهِ عَلَيْهِ، بِفضل أدبه، وطلاقة لِسَانه؛ وَفَارق عَادَة الْمجْلس فِي التوقير، فَرفع صَوته، وَعز عطفه

وحسر عَن ساعديه، وَأَشَارَ بيدَيْهِ، مَادًّا لَهما إِلَى وَجه خَصمه، واعياً على الأعوان تَقْدِيمه. فتاوله القَاضِي بِنَفسِهِ، وَأنكر عَلَيْهِ إكثاره، وَقَالَ: مهلا {عافاك الله} اخْفِضْ صَوْتك واقبض يدك {فَقَالَ لَهُ أنس: ومهلاً يَا قَاضِي} أَمن المحذرات أَنا؟ فأخفض صوتي، وأستر يَدي، وأغطي معصمي لديك {أم من الْأَنْبِيَاء أَنْت؟ فَلَا أَجْهَر بالْقَوْل عنْدك} وَذَلِكَ شَيْء لم يَجعله الله تَعَالَى إِلَّا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لقَوْله تَعَالَى: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون. " وَلست بِهِ وَلَا كَرَامَة} وَقد ذكر الله تَعَالَى أَن النُّفُوس تجَادل عِنْده يَوْم الْقِيَامَة فِي الْموقف الَّذِي لَا تعدله مقامات الدُّنْيَا فِي الْجَلالَة والهيبة. قَالَ الله تَعَالَى " يَوْم تَأتي نفس تجَادل عَن نَفسهَا وَتوفى كل نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ {" لقد تعديت، يَا قَاضِي} طورك {وعلوت فِي منزلتك} وَإِنَّمَا الْبَيَان، بِعِبَارَة اللِّسَان، وبالمنطق، يستبين الْبَاطِل من الْحق؛ وَإِنَّمَا البوس، مَعَ النحوس، وَلَا بُد فِي الْخِصَام، من إفساح كَلَام {قَالَ: فبهت القَاضِي بقوله، وأغضى على تقريعه، وَجعل يَقُول: الرِّفْق أولى من الْخرق} وَانْصَرف أنس، وَالنَّاس يعْجبُونَ من صبره لَهُ. قَالَ: وَكَانَ من أرفع خلال القَاضِي ابْن ذكْوَان، صِحَة رَأْيه، وإمحاضه النَّصِيحَة لمن شاوره. ولاه الْقَضَاء الْمَنْصُور بن أبي عَامر؛ وَكَانَ من جلة أَصْحَابه وخواصه؛ وَمحله مِنْهُ فَوق مَحل الوزراء، يفاوضه فِي تَدْبِير الْملك وَسَائِر شَأْنه. قَالَ عِيَاض فِي مداركه: لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي غَزْوَة من غَزَوَاته، وَلَا فَارقه فِي ظعن وَلَا إِقَامَة؛ وَكَذَلِكَ كَانَ حَاله مَعَ ولديه المظفر والمأمون بعده: وَقد تيمنوا بِرَأْيهِ، وَعرفُوا النجاح فِي مشورته. وَكَانَ لَهُ بداخل الْقصر بَيت خَاص بِهِ، يَأْتِيهِ آخر النَّهَار؛ فيجلس فِيهِ إِلَى أَن يخرج إِلَيْهِ ابْن أبي عَامر: فيفاوضه فِي جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَرُبمَا بَات عِنْده بالنزاهة وخفة الْوَطْأَة، حَتَّى قيل إِنَّه مَا سَأَلَهُ، على مكانته مِنْهُ، حَاجَة لنَفسِهِ وَلَا لغيره بتصريح، مَعَ كَثْرَة مَا انْقَضتْ على يَدَيْهِ من حوائج النَّاس؛ بل كَانَ يعرض مَا يحْتَاج إِلَيْهِ

عرضا بالمنكر والمستحسن، فيستطرد للبحث عَنْهَا. وَلم يزل على هَذَا إِلَى أَن توفّي الْمَنْصُور، وَولى ابْنه المظفر؛ فَزَاد أَثَره، إِلَى أَن فسد مَا بَين القَاضِي وَبَين وَزِير الدولة عِيسَى بن سعيد، بِسَبَب فسخ شِرَاء ضَيْعَة اشْتَرَاهَا عِيسَى من ولد ابْن السَّلِيم السَّفِيه؛ فَقضى ابْن ذكْوَان بردهَا إِلَى السَّفِينَة، وَفسخ بَيْعه. فالتحمت بَينهمَا الْعَدَاوَة، وَعمل عِيسَى فِي طلب ابْن ذكْوَان وُجُوه الْحِيلَة، إِلَى أَن أوقع المظفر بخادمه، الْغَالِب على أمره، طرفَة؛ فسعى بِهِ عِيسَى. وَكَانَت لِابْنِ ذكْوَان من طرفَة ألطف منزلَة. وَنسب عِيسَى طرفَة وَأَصْحَابه إِلَى الْقدح فِي الْملك؛ فَقتل طرفَة فاشتملت التُّهْمَة على ابْن ذكْوَان خَاصَّة؛ فَوجدَ عِيسَى السَّبِيل. وَصرف المظفر أَبَا الْعَبَّاس بن ذكْوَان عَن الْقَضَاء وَالصَّلَاة، وَصرف أَخَاهُ أَبَا حَاتِم عَن الْمَظَالِم؛ وساء رَأْيه فيهمَا. وَولي الْقَضَاء وَالصَّلَاة عبد الرَّحْمَن بن فطيس؛ فَلم يقم، على استقامته واستقلاله، مقَام ابْن ذكْوَان لتبريزه. فحن الْقَضَاء إِلَيْهِ، وأسف النَّاس على فَقده. وَحسن رَأْي عبد الْملك عَمَّا قريب مِنْهُ؛ فصرف أَبَا الْعَبَّاس إِلَى خطته بعد تِسْعَة أشهر من عَزله؛ فازداد رفْعَة إِلَى رفعته، وسمت حَاله عِنْد المظفر، لَا سِيمَا عِنْد اتهامه وزيره عِيسَى عَدو ابْن ذكْوَان بالقدح فِي دولته، وبطش المظفر بِهِ وَقَتله إِيَّاه؛ ففرغ مَكَانَهُ لأبي الْعَبَّاس، واستراح مِنْهُ. فَلم يكن يجْرِي شَيْء من أُمُور المملكة إِلَّا عَن مشورة ابْن ذكْوَان، إِلَى أَن هلك عبد الْملك المظفر، وَولى أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن، فَرفع مَنْزِلَته، وولاه الوزارة مَجْمُوعَة إِلَى قَضَاء الْقُضَاة. وَبَقِي ذَلِك إِلَى أَن انقرضت دولة بني عَامر، بِقِيَام الْمهْدي بن عبد الْجَبَّار المرواني عَلَيْهِم، أول مُلُوك الْفِتْنَة، وأحقد النَّاس على ابْن ذكْوَان لخاصته من العامرية، ناقماً عَلَيْهِ أحكاماً أمضاها عَلَيْهِ فِي قَضَائِهِ، فتوقف عَنهُ لجلالته، وأزال عَنهُ اسْم قَاضِي الْقُضَاة وَاقْتصر بِهِ على قَضَاء الْجَمَاعَة. وعَلى إِثْر ذَلِك قتل الْمهْدي، وَبَايع النَّاس لهشام، خِلَافَته الثَّانِيَة. وَقَامَ وَاضح الصقلبي بأَمْره وحجابته؛ والبرابرة، مَعَ سُلَيْمَان المستعين، يأْتونَ قرطبة، ويرومون دُخُولهَا؛ وَكَانَ ميل النَّاس وَابْن ذكْوَان إِلَى السّلم وَصلح البرابرة؛ فَيُقَال إِن ابْن ذكْوَان نصح لهشام فِي وَاضح؛ فبلغته المناصحة؛ فسعى على بني ذكْوَان بعلة التُّهْمَة فِي الْميل إِلَى البرابرة، وَأَن النَّاس تبع لاشارتهم. فنفذ أَمر هِشَام بإخراجهم عَن الأندلس، ونقيضهم إِلَى العدوة؛ فحملوا إِلَى المرية، وأجيزوا لحينهم

ذكر القاضي ابي المطرف بن فطيس

الْبَحْر فِي الْحَال شدَّة ارتجاجه؛ وعنف بهم، وسلبوا دوابهم وثيابهم. فَكتبت سلامتهم، وَخَرجُوا إِلَى وهران؛ وَقَامَت لنكبتهم بقرطبة الْقِيَامَة. ثمَّ قتل وَاضح وَحسن الرَّأْي فيهم، وَوجه عَنْهُم، وعادوا إِلَى وطنهم، إِلَّا أَنهم لم يتعاودوا الْعَمَل، وَلَا تقلدوه، مَعَ تكْرَار الرَّغْبَة لَهُم. وَتَمَادَى أَبُو الْعَبَّاس على حَالَته من السّكُون والانقباض، إِلَى أَن توفّي سنة 413. ثمَّ تلاه أَبُو حَاتِم أَخُوهُ. ورثى الأديب ابْن الحناط الضَّرِير أَبَا الْعَبَّاس بقصيدة فريدة، أَولهَا: عفاء على الْأَيَّام بعد ابْن ذكْوَان ... وقبحاً لدُنْيَا غيرت كل إِحْسَان سأبكي دَمًا بعد الدُّمُوع بعبرة ... تغير إحساني وتعبر عَن شأني وَإِن حَياتِي الْيَوْم بعد وَفَاته ... دَلِيل بِأَن الْعذر فِي كل إِنْسَان أحقاً سراج الْعلم أخمده الردى ... وَهدم ركن الدّين من بعد شان وغودر فِي دَار البلا علم الْهدى ... فزعزع آساس مضعضع أَرْكَان فشقت عَلَيْهِ المكرمات جيوبها ... وَأَلْقَتْ رُؤُوس الْمجد عَنْهَا محان ذكر القَاضِي أبي الْمطرف بن فطيس وَمن الْقُضَاة بعد ابْن ذكْوَان، أَبُو الْمطرف عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن فطيس. وَقد كَانَ تقلد خطة الْمَظَالِم بِعَهْد الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر؛ فَكَانَت أَحْكَامه شداداً، وعزائمه نَافِذَة؛ وَله على الظَّالِمين سُورَة مرهوبة. وشارك الوزراء فِي الرَّأْي؛ إِلَى أَن ارْتقى إِلَى ولَايَة الْقَضَاء بقرطبة، مجمعا إِلَى خطة الوزارة وَالصَّلَاة؛ وَقل مَا اجْتمع ذَلِك لقاض قبله بالأندلس. وَلَقَد بَلغنِي أَن عبد الرَّحْمَن بن بشر، قَاضِي آل حمود، خَاطب ابْن هِشَام، قَاضِي القيروان، فِي بعض مَا يُكَاتب لَهُ الْقُضَاة من أَمر الْحُكُومَة؛ وَكَانَ ابْن بشر مِمَّن احْتمل إِلَى خطة الْقَضَاء خطة الوزارة، وأثبتهما مَعًا فِي العقد

ذكر القاضي يحيي بن وافد اللخمي

الَّذِي أدرجه فِي كِتَابه إِلَى ابْن هِشَام، مقدما ذكر الوزارة على الْقَضَاء؛ وَذَلِكَ كَانَ رسمها عِنْد مُلُوك بني مَرْوَان؛ فَلَمَّا قَرَأَ العقد، رمى بِالْكتاب وَقَالَ: مَا عهدنا وزراء الْقَوْم تنفذ أحكامهم {وَترك النّظر فِي تِلْكَ الْحُكُومَة. وتعجل مِنْهُ قَاضِي الأندلس مخزاة وهجنة. وَكَانَ لَهُ بداره مجْلِس عَجِيب الصَّنْعَة، حسن الْآلَة، ملبس كُله بالخضرة: جدراته وأبوابه. وسقفه وفرشه وستوره ونمارقه، وكل ذَلِك متشاكل الصِّفَات، قد ملأَهُ بدفاتر الْعلم ودواوين الْكتب الَّتِي ينظر فِيهَا وَيخرج مِنْهَا؛ وَبِهَذَا الْمجْلس كَانَ أنسه وخلوته رَحمَه الله} ذكر القَاضِي يحيى بن وَافد اللَّخْمِيّ وَمِنْهُم يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن وَافد اللَّخْمِيّ. ولي الْقَضَاء سنة 401، فاستقل بِهِ خير اسْتِقْلَال، على مَا كَانَ بذلك الزَّمَان من فتن واعتلال. قَالَ ابْن حَيَّان: كَانَ آخر كملاء الْقُضَاة بالأندلس علما، وهدياً، ورجاحة، وديناً؛ جَامعا لخلال الْفضل. تقلد الشورى بِعَهْد العامرية، فَكَانَ مبرزاً فِي أَهلهَا. وتقلد الصَّلَاة بالزهراء مُدَّة، إِلَى أَن استعفاها؟ وَلما قَامَت فتْنَة البرابر، كَانَ ابْن وَافد أحد الْأَشِدَّاء عَلَيْهِم، وأكبر النَّاس نفاراً مِنْهُم؛ فتغلبوا على قرطبة، وخلعوا أميرها؛ وَاشْتَدَّ طَلَبهمْ على القَاضِي، وَقد استخفى؛ فعثر عَلَيْهِ عِنْد امْرَأَة؛ فسيق رَاجِلا، مَكْشُوف الرَّأْس، نَهَارا، يُقَاد بعمامته فِي عُنُقه، والمنادى يُنَادي عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاء قَاضِي النَّصَارَى، ومسبب الْفِتْنَة، وقائد الصَّلَاة {وَهُوَ يَقُول مجاوباً: بل وَالله} ولي الْمُؤمنِينَ، وعدو المارقين {أَنْتُم شَرّ مَكَانا، وَالله أعلم بِمَا تصفون} وَالنَّاس تتقطع قُلُوبهم لما نزل بِهِ؛ فَلَقِيَهُ فِي هَذِه الْحَالة بعض عداهُ؛ فَقَالَ لَهُ: كَيفَ رَأَيْت صنع الله بك؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم قُضَاة {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطوراً} ولقيه بعض أَصْحَابه، فَقَالَ: نرى أَن أبلغ أَمرك أَبَا الْعَبَّاس بن ذكْوَان؟ فَإِنَّهُ مَقْبُول القَوْل عبد البرابرة فَقَالَ: لَا حَاجَة لي بذلك! فَأدْخل على المستعين سُلَيْمَان بن الحكم فِي تِلْكَ الْحَالة؛ فَأكْثر توبيخه؛ وأغرته بِهِ البرابرة؛ فَأمر بصلبه. فشرع فِي ذَلِك. فوردت عَلَيْهِ شفاعات من الْفُقَهَاء وَالصَّالِحِينَ

الَّذين لَا يرى ردهم، يرغبون إِلَيْهِ فِي شَأْنه ويقبحون إِلَيْهِ مَا أَمر بِهِ فِيهِ؛ فَرفع عَنهُ الصلب والمثلة، وَأمر بضمه إِلَى المطبق، وتثقيفه. وَكَانَ السُّلْطَان يجْرِي وَظِيفَة على من فِيهِ؛ فَكَانَ ابْن وَافد لَا يَأْكُل مِنْهَا. وَلم يبعد رَحمَه الله {أَن اعتل فِي محبسه؛ فَأخْرج مَيتا فِي نعش، منتصف ذِي الْحجَّة سنة 404؛ فَوَضعه الأعوان بالساقية، مَوضِع غسل المجاذم. فاحتمله قوم إِلَى دَار صهره؛ فسد بَابه فِي وَجه النعش، وتبرأ مِنْهُ تقية. سمع الزَّاهِد حَمَّاد بن عمار بالقصة؛ فبادر، وَصَارَ بنعشه إِلَى منرله؛ فَقَامَ بأَمْره. قَالَ صَاحب المدارك. وَكَانَ من عَجِيب الِاتِّفَاق أَن ابْن وَافد كَانَ قد أودع عِنْد هَذَا الصَّالح كَفنه وحنوطه وقارورة من مَاء زَمْزَم لجهازه، فتم مُرَاده. وعدت من كراماته. وَجَاء بنعشه وَصلى عَلَيْهِ فِي طَائِفَة من الْعَامَّة عِنْد بَاب الْجَامِع. ثمَّ سَارُوا بِهِ؛ فَوَارَوْهُ التُّرَاب غفر الله لنا وَله} وعطل سُلَيْمَان بن الحكم، إِمَام البرابرة، خطة الْقَضَاء بقرطبة طول ولَايَته، زاعماً أَنه لم يرتض لَهَا أحدا، لما تأبى عَلَيْهِ وليه أَحْمد بن ذكْوَان من تقليدها؛ فعطل اسْم الْقَضَاء مُدَّة من ثَلَاثَة أَعْوَام وَثَلَاثَة أشهر، إِلَى أَن هلك إِمَام البرابرة فِي محرم سنة 404، وَولى عَليّ بن حمود الفاطمي، وَأعَاد رسم الْقَضَاء الَّذِي كَانَ قد عَفا بقرطبة، وأحياه بِأَن ولاه الْفَقِيه المشاور عبد الرَّحْمَن بن بشر. وَكَانَ آخر قُضَاة الْخُلَفَاء رَحِمهم الله تَعَالَى! وَذَلِكَ سنة 407، ايام تغلب ابْن حمود الْمَذْكُور على ملك بني مَرْوَان بالأندلس، وظهوره على آخِرهم سُلَيْمَان بن الحكم صَاحب البرابرة، وَملكه لدار مملكتهم قرطبة. ثمَّ هلك عَليّ بن حمود، وَولى وكانه الْقَاسِم أَخُوهُ؛ فَأمر القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن بشر على مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ من الْقَضَاء لِأَخِيهِ. وَكَذَلِكَ فعل المعتلى بِاللَّه يحيى بن عَليّ لما ولى، تبع رَأْي أَبِيه وَعَمه فِي القَاضِي الْمَذْكُور؛ فأثبته فِي مَكَانَهُ، وَقدم مُحَمَّد بن الْحسن، ولد عمته زَيْنَب شَقِيقَة أَبِيه، قَاضِيا بمالقة أَيْضا؛ وَذَلِكَ سنة 426.

ذكر محمد بن الحسن الجذامي النباهي قاضي مالقه

ذكر مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي قَاضِي مالقة ولنذكر الْآن فِي هَذَا الْبَاب نبذاً من أنباء هَذَا القَاضِي، وَكَيْفِيَّة ولَايَته الْقَضَاء، ومحنته. فَنَقُول: هُوَ مُحَمَّد بن الْحسن بن يحيى بن عبد الله بن الْحسن الجذامي النباهي. وَلما عرض عَلَيْهِ الْأَمِير يحيى الْولَايَة، تمنع، وَأظْهر الإباية وَسَأَلَهُ المتاركة بالرحم الَّذِي بَينهمَا. وَاعْتذر بِأُمُور، مِنْهَا صغر سنه، وَأخْبرهُ أَن بِالْمَدِينَةِ من هُوَ أقعد مِنْهُ بِالْقضَاءِ وَأولى بِهِ؛ فَرد عَلَيْهِ اعتذاره، وعزم عَلَيْهِ عزماً أخافه؛ فَإِنَّهُ مد يَده إِلَى سَيْفه وَقَالَ: إِن شِئْت، الْقَضَاء؛ وَإِن شِئْت، هَذَا! مثل مَا فعل الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب مَعَ ابْن عَمه القَاضِي عبد الله بن طَالب، حِين اخْتَارَهُ للْقَضَاء بإفريقية، فأباه. وَعند مَا شَاهد ابْن الْحسن من عزم المعتلى مَا شَاهده، قبل الْولَايَة على شُرُوط، مِنْهَا أَن يسْتَخْلف عَنهُ من يظْهر لَهُ مَتى احْتَاجَ إِلَى ذَلِك، وَإِن كَانَ مُقيما بقصره؛ وَإِن ينْفَرد يَوْمَيْنِ من كل جُمُعَة برسم تفقد أملاكه، وَالنَّظَر فِي مصَالح نَفسه الْخَاصَّة بِهِ؛ وَأَن يكون لَهُ النّظر على وُلَاة الكورة وَسَائِر المشتغلين بهَا، حَتَّى لَا يجْرِي حيف على أحد، فِي نَاحيَة من نَوَاحِيهَا، وَلَا يَقع فِيهَا نصرف لحَاكم فِي أمرهَا إِلَّا عَن إِذْنه. فأنفذ ذَلِك كُله وأمضاه. وَمَا كَانَ قَصده، على مَا قيل عَنهُ، إِلَّا إبعاده الكلفة عَن نَفسه، وطمعه، عِنْد الِاشْتِرَاط فِي تَركه. وَكَانَ حازماً، صَارِمًا، عدلا فِي أَحْكَامه، جزلاً. وَبَقِي على حَالَته إِلَى أَن قتل الْأَمِير يحيى الملقب بالمعتلى بِظَاهِر قرمونة، وَتَوَلَّى الْأَمر بعده وَلَده حسن؛ وحاجبه بجاء الصقلبي، ووزيره أَبُو مُحَمَّد اللسطيفي؛ فاستعفى ابْن الْحسن من الْقَضَاء، وَذهب إِلَى الْعُدُول عَن طَرِيق الْحَاجِب والوزير، لما رَآهُ فِي الدولة من الِاضْطِرَاب. وَفِي أثْنَاء ذَلِك، توفّي حسن الْأَمِير، وَأَرَادَ نجاء بَقَاء الْأَمِير باسم ابْن صَغِير كَانَ لَهُ؛ فَمَاتَ لحينه. وَيُقَال إِن نجاة قَتله وَأجْمع على نَحْو أَمر الحسنين وَأَن يضْبط هُوَ الْبَلَد لنَفسِهِ؛ فَدَعَا لذَلِك البربر، وهم كَانُوا أَكثر الأجناد؛ فساعدوه فِي الظَّاهِر؛ وَعظم ذَلِك عَلَيْهِم. ثمَّ إِن الْحَاجِب ترك اللسطيفي بمالقة، وَتوجه إِلَى الجزيرة ليملكها؛ فَلم يتَّفق لَهُ ملكهَا؛ فَرجع إِلَى مالقة.

فَلَمَّا كَانَ بقرية فرت بعون، قتل الْجند نجاء، وَقَطعُوا رَأسه؛ وَسبق مِنْهُم فرسَان إِلَى مالقة؛ فَقَالُوا: جِئْنَا للوزير لنأخذ مِنْهُ الْبُشْرَى بِدُخُول نجاء الجزيرة. فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ، وضعُوا فِيهِ سيوفهم، وقتلوه، وَاسْتَخْرَجُوا إِدْرِيس بن يحيى من محبسه إِذْ كَانَ معتقلاً هُنَالك من قبل الْحَاجِب والوزير. وَبَايَعَهُ النَّاس، وَتسَمى بالعالي بِاللَّه، الظَّاهِر بِأَمْر الله. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن عَسْكَر، وَقد ذكر فِي كِتَابه هَذَا الْأَمِير: وَكَانَت بيعَته يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من جُمَادَى الْأَخِيرَة من سنة 434. وَكَانَ نبيه الْقدر رفيع الذّكر رَحِيم الْقلب يتَصَدَّق كل يَوْم جُمُعَة بِخَمْسِمِائَة دِينَار ورد كل مطرود عَن وَطنه إِلَى مَحَله، وَلم يسمع بغياً فِي أحد من رَعيته. وَكَانَ أديب اللِّقَاء، حسن اللبَاس، يَقُول من الشّعْر الأبيات الحسان. ثمَّ قَالَ ابْن عَسْكَر: قدم للْأَحْكَام بمالقة الْفَقِيه أَبَا عبد الله بن الْحسن. ووقفت على كتاب تَقْدِيمه بأيدي عقبه، ابتداؤه بعد الْبَسْمَلَة: هَذَا كتاب أَمر بِهِ، وأنفذه، وأمضاه من عَهده، وأحكمه الامام أَمِير الْمُسلمين، عبد الله العالي بِاللَّه، الظافر بحول الله، إِدْرِيس بن المعتلى بِاللَّه أَعلَى الله أمره وأعز نَصره {للوزير القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن وَفقه الله} قَلّدهُ بِهِ الْقَضَاء بَين الْمُسلمين بِمَدِينَة مالقة حرسها الله {وأعمالها. وَهُوَ كتاب كَبِير فِي رق، وتاريخه فِي إِحْدَى عشرَة لَيْلَة من ربيع الأول سنة 445؛ وَعَلِيهِ توقيع العالي بِخَط يَده، نَصه: ينفذ هَذَا وَيعْمل عَلَيْهِ} وَالله الْمُوفق {وَهُوَ الْمُسْتَعَان} قَالَ ابْن عَسْكَر: وَكَانَ الْحَاجِب المظفر أَبُو مَسْعُود باديس بن حبوس بن ماكسن ابْن زيري بن مُنَاد الصنهاجى، صَاحب غرناطة، يَدْعُو للعلويين الَّذين بمالقة؛ فَلَمَّا توفّي إِدْرِيس بن يحيى العالي، طمع فِي مالقة، فنزلها بجيشه؛ وَكَانَت بهَا فتنه. ثمَّ دَخلهَا يَوْم الثُّلَاثَاء منسلخ ربيع الآخر سنة 448، فملكها. وَقدم القَاضِي ابْن الْحسن الجذامي، المشتهر عقبه الْآن ببني النباهي للْقَضَاء والوزارة، على مَا كَانَ فِي أَيَّام العالي، ثمَّ إِن باديس خرج عَن ملك مالقة إِلَى وَلَده الملقب بِسيف الدولة بلقين، ورشحه للولاية من بعده، وَحمله على مجاملة القَاضِي بهَا، والمعاهدة لَهُ بسنى إلطافه؛ فَعمل بِحَسب ذَلِك. وَمن جملَة مكتوباته لَهُ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم! هَذَا مَا الْتَزمهُ، واعتقد الْعَمَل وَالْوَفَاء

بِهِ، بلقين بن باديس، للوزير القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن سلمه الله {واعتقد بِهِ إِقْرَاره على خطة الْقَضَاء والوزارة، فِي جَمِيع كورة رية، وَأَن يجْرِي من الترفيع بِهِ، وَالْإِكْرَام لَهُ إِلَى أقْصَى غَايَة، وَأَن يجرى على الْجِزْيَة فِي جَمِيع أملاكه بكورة رية حاضرتها وباديتها، الموروثة مِنْهَا، والمكتسبة الْقَدِيمَة الِاكْتِسَاب والحديثة، وَمَا ابْتَاعَ مِنْهَا من العالي رَحمَه الله} وَغَيره، لَا يلْزمهَا وَظِيفَة بِوَجْه، وَلَا يُكَلف عَنْهَا كلفة على حَال، وَأَن يجرى فِي قرَابَته، وخوله، وحاشيته، وعامرى ضيَاعه، على الْمُحَافظَة وَالْبر وَالْحريَّة وَأقسم على ذَلِك كُله بلقين بن باديس بِاللَّه الْعَظِيم وَبِالْقُرْآنِ الْحَكِيم. وَأشْهد الله على نَفسه وعَلى الْتِزَامه لَهُ، وَكفى بِاللَّه شَهِيدا! وَكتب بِخَط يَده فِي مستهل شهر رَمَضَان سنة 449. وَالله الْمُسْتَعَان. واستمرت إِمَارَة بلقين بمالقة إِلَى عَام 456؛ فَتوفي بهَا من وجع أَصَابَهُ. وعادت الْمَدِينَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من إيالة المظفر وَالِده؛ فَزَاد ابْن الْحسن أَثَرَة إِلَى أثرته، وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء حَضرته؛ ورام نقلته من عَادَته فِي ترك الجراية المتعارفة لأمثاله من الْقُضَاة؛ فَثَبت على حَالَته، وَلم يَأْخُذ على الْقَضَاء رزقا من بَيت المَال مُدَّة حَيَاته. وَكَانَ عَن التعال بالمرتب فِي غناء، لِكَثْرَة مَاله، وَلما تقدم من إرفاقه بتحرير أملاكه؛ وَكَانَت من الْكَثْرَة بِحَيْثُ ناهز أَمْلَاك صَاحبه القَاضِي بإشبيلية، إِسْمَاعِيل نب مُحَمَّد بن عباد؛ وَرُبمَا زَاد خَارجه، وَلَا سِيمَا فِيمَا يرجع إِلَى النَّفَقَات وَالصَّدقَات: فَإِنَّهُ كَانَ يصنع الدَّعْوَات الواسعة، ويحضرها شُيُوخ وقته من الْفُقَهَاء والأماثل: فيوليهم إِكْرَاما، ويوسعهم إطعاماً. وَكَانَ فِي كل رَمَضَان يحذو حَذْو صهره القَاضِي بقرطبة أَحْمد بن زِيَاد؛ فيدعو بدار لَهُ، تجاور الْمَسْجِد عشرَة من الْفُقَهَاء، فِي طَائِفَة من وُجُوه النَّاس، يفطرون كل لَيْلَة عِنْده، ويتدارسون كتاب الله بَينهم، ويتلونه. وَكَانَ يذهب مَذْهَب الْعَبَّاس بن عِيسَى، أحد أَشْيَاخ أبي مُحَمَّد ابْن أبي زيد، أَن يَنْوِي الْإِنْسَان فِي كل تطوع وَصِيَّة يُوصي بهَا، وَصدقَة برد التَّبعَات المحصولة، لِأَن ردهَا أوجب من التَّطَوُّع؛ وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَوَات: إِذا أحب أَن يتَنَفَّل، صلى صَلَاة يَوْم، وَنوى بهَا الْخمس تكون قَضَاء عَمَّا لَا يدْرِي أَنه فرط فِيهِ أَو فسد عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي قَضَائِهِ مَاضِيا، مهيباً، صَلِيب الْقَنَاة، قَلِيل المداراة فِي الْحق، لَا يقْضِي على هناة، وَلَا يخَاف لومة لائم.

وَجَرت عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك عظائم، آخرهَا مَا حَكَاهُ الْأَمِير عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس فِي كِتَابه الْمُسَمّى: التِّبْيَان عَن الْحَادِثَة الكائنة بدولة بني زيري فِي غرناطة. فَقَالَ عَن جده السُّلْطَان المظفر باديس إِنَّه كَانَ قد ولج إِلَى القَاضِي أبي عبد الله ابْن الْحسن النباهي، فِي أُمُور مالقة، قليلها وكثيرها. وَكَانَ ابْن السقاء صَاحب قرطبة قد نقل إِلَيْهِ عَنهُ أَن المظفر أَرَادَ أَن يوليه قَصَبَة مالقة، لَوْلَا مَا أَشَارَ القَاضِي بِخِلَاف ذَلِك؛ فحقد عَلَيْهِ ذَلِك. وَكَانَ بمالقة رجل غَرِيب، يعرف بِابْن البزلياني، طمع فِي توليه الْقَضَاء، وَقَامَ فِي باله أَنه، لَو فقد النباهي، لم يُوجد للْقَضَاء غَيره. وَكَانَ حسن صَاحب الدبوس أَمينا للمظفر على الذَّخَائِر، قد أشربت نَفسه خوف القَاضِي؛ فاتفق رأىُ جَمِيعهم على قتل عِنْد ابْن الفاسي بقرطبة؛ وَكَانَ الْمَذْكُور يرِيه الصداقة والتخدم لإرادته. وَكَانَت للْقَاضِي ضَيْعَة بقرطبة، كثيرا مَا يتَصَرَّف إِلَيْهَا؛ وَابْن الفاسي يتَوَلَّى إصلاحها. فَلَمَّا أَتَى قدره، مضى على عَادَته لجِهَة قرطبة، وَنزل بقريته؛ فهبط إِلَيْهِ ابْن الفاسي، يَقُول لَهُ: شرفني، يَا سَيِّدي {بالطلوع إِلَيّ، وَالْقَبُول لضيافتي} وَمَا هِيَ إِلَّا من مَالك ومتاعك فِي الْحَقِيقَة! فطلع هُوَ وَمن كَانَ مَعَه من الْفُقَهَاء، مِنْهُم الأديب غَانِم؛ فَلَمَّا تمّ بِالطَّعَامِ، أَرَادَ الِانْصِرَاف؛ وَابْن الفاسي قد هيأ لَهُ سوداناً، متأهبين لأَخذه، فبادروا بِهِ، وخنقوه؛ وَأطلق الأخرين. وَعدد عَلَيْهِ قبل ذَلِك مَا أفْسدهُ من تَوليته مالقة. ويحكى أَن القَاضِي الْمَذْكُور سمع صَوتا، فِي بعض زَوَايَا بَيته، نَهَارا؛ وَلم ير شخصا قبل الَّذِي حل بِهِ من هَاتِف، يَقُول لَهُ بِصَوْت ضَعِيف: قل للوزير القَاضِي النباهي: ... هَل تَسْتَطِيع دفاع أمره الله؟ فجزع لذَلِك جزعاً شَدِيدا، وَلم يدر من أَيْن يُؤْتى؛ وتكرر عَلَيْهِ الصَّوْت ثَلَاث مَرَّات. ونافق بعد ذَلِك ابْن الفاسي بقرطبة، وَمضى إِلَيْهِ المظفر بِنَفسِهِ، وعبأ أَمْوَاله، وَجمع عسكره، وَنزل عَلَيْهَا؛ فَأحْسن ابْن الفاسي بميل الْجند إِلَى الرئيس، وَخَافَ على نَفسه؛ فَخرج من الْحصن على غَفلَة، وَدخل فِي قِطْعَة من الْبَحْر، وفر بِنَفسِهِ. وَصَارَ المعقل إِلَى الْحَاجِب، وثقفه بعد إِنْفَاق كثير عَلَيْهِ، وامتحن قَضِيَّة القَاضِي؛ فَأعْلم بسعي صَاحب الدبوس فِيهَا؛

ذكر القاضي اسماعيل بن عباد وابنه محمد

فَأمر بقتْله وَقتل ابْنه، أخذا بثأر قاضيه، إِذْ كَانَ لَهُ ناصحاً، وعَلى دولته مشفقاً. هَذَا مَا حَكَاهُ الْأَمِير أَبُو مُحَمَّد؛ وَمن خطه الْمَنْسُوب لَهُ نقلت. قَالَ غَيره: وَكَانَ مقتل القَاضِي أبي عبد الله بن الْحسن فِي عَام 463. وَذكر ابْن عَسْكَر فِي مصنعه عَنهُ، عِنْد ذكر وَلَده، أَنه استقضى بغرناطة أَيْضا. وَالظَّاهِر أَن ذَلِك كَانَ على إِثْر وَفَاة سيف الدولة. وَقد مضى الْقَاتِل والمقتول، وَعند الله تَجْتَمِع الْخُصُوم! ذكر القَاضِي إِسْمَاعِيل بن عباد وَابْنه مُحَمَّد وَمن الْقُضَاة بإشبيلية، أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن عباد اللَّخْمِيّ الإشبيلي. قَالَ ابْن حَيَّان: كَانَ حسن الْمعرفَة بِقطع من الشّعْر، صَالح النّظر فِي الْفِقْه، عَالما، كَاتبا، حَلِيمًا، أديباً، حسيباً، وافر النَّفَقَة، ذكرُوا أَن أملاكه كَانَت ثلث كورته، قديم الجاه على سُلْطَان الأندلس من العامرية، مشتغلاً لَهُم بالأمور الْعَظِيمَة. فولى قَضَاء بَلَده وَعَمله مُدَّة. ثمَّ صرف عَنهُ، أَيَّام المظفر عبد الْملك، عِنْد ارتياده للْقَضَاء أهل السَّلامَة بِرَأْي ابْن ذكْوَان؛ فاستقدم إِلَى قرطبة. وَولى مَكَانَهُ أَبُو عمر بن الْبَاجِيّ نَحْو سنة؛ فَلم يجدوه فِي أُمُورهم، وَلَا قَامَ لَهُم مقَامه؛ فاضطروا إِلَيْهِ وردوه إِلَى عمله وصرفوا الآخر صرفا جميلاً. وَلزِمَ ابْن عباد عمله؛ ثمَّ قعد عِنْد الْقَضَاء، وَتُوفِّي سنة 410. وانتصب لرياسة مَكَانَهُ ابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد؛ وَكَانَ جزلاً، ذَا أدب ومروءة؛ ولاه الْقَاسِم بن حمود الْقَضَاء. مَكَان أَبِيه؛ فَبعد صيته. وَكَانَ مِمَّن اعتنى بِالْعلمِ، إِلَى أَن ثار بِبَلَدِهِ بعد اضْطِرَاب بني حمود؛ فثار بِهِ، وَحَازَ رياسته، وأورثها عقبَة؛ فَجَاءُوا بعد من أجل الْمُلُوك بالأندلس، إِلَى أَن أخرجهم عَنْهَا المرابطون سنة 484. قَالَ ابْن أبي الْفَيَّاض: وَكَانَ سَبَب ثورة ابْن عباد خلع أهل إشبيلية الْقَاسِم بن حمود؛ وَذَلِكَ أَنه، لما خرج الْقَاسِم من قرطبة، أرسل إِلَى إشبيلية إِلَى ابْنه فِي إخلاء ألف وَخَمْسمِائة دَار لوجوه البربر، فعز ذَلِك على أهل إشبيلية، فَاجْتمعُوا على أَن يضبطوا مدينتهم، ويخلعوا طَاعَة الْقَاسِم.

ذكر القاضي ابي الوليد سليمان الباجي

ذكر القَاضِي أبي الْوَلِيد سُلَيْمَان الْبَاجِيّ وَمن الْقُضَاة بِبِلَاد شَرق الأندلس، أَبُو الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ. قَالَ عِيَاض فِيهِ: جال بِبِلَاد الْمشرق نَحْو ثَلَاثَة عشر عَاما، وَكَانَ يصحب الرؤساء، وَيقبل جوائزهم، فَكثر الْقَائِلُونَ فِيهِ من أجل ذَلِك. ولي قَضَاء مَوَاضِع من الأندلس تصغر عَن قدره، فَكَانَ يبْعَث إِلَيْهَا خلفاء، وَرُبمَا قَصدهَا بِنَفسِهِ. وَمن شعره: إِذا كنت أعلم علما يَقِينا ... بِأَن جَمِيع حَياتِي كساعه فَلم لَا أكون ضنيناً بهَا ... وأجعلها فِي صَلَاح وطاعه وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد هَذَا من الْقَوْم الَّذين سما ذكرهم بعد وفاتهم، وانقضاء أمد حياتهم؛ فبهرت ولايتهم، واشتهرت فِي الْآفَاق درايتهم. وَمِنْهُم كَانَ القاضيان أَبُو بكر ابْن عبد الله بن الْعَرَبِيّ، وَأَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الْيحصبِي؛ فجرت عَلَيْهِمَا محن، وأصابتهما فتن، وَمَات كل وَاحِد مِنْهُمَا مغربا عَن أوطانه، مَحْمُولا عَلَيْهِ من سُلْطَانه. وَقَالَ بَعضهم: سم ابْن الْعَرَبِيّ، وخنق الْيحصبِي تغمد الله الْجَمِيع برحمته، وَجعل أجورنا موفورة بمنته { ذكر القَاضِي أبي الْوَلِيد يُونُس بن مغيث وَمِنْهُم يُونُس بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مغيث، يكنى أَبَا الْوَلِيد. قَلّدهُ الْخَلِيفَة هِشَام ابْن مُحَمَّد المرواني الْقَضَاء سنة 419، وَهُوَ شيخ قد زَاد على الثَّمَانِينَ؛ وَهُوَ ذُو ذهن ثَابت، جزل الخطابة، حَاضر المذاكرة؛ وَله كتب حسان فِي الزّهْد والدقائق. قَالَ ابْن بشكوال، وَقد ذكره فِي صلته قَالَ: صَاحبه أَبُو عمر بن مهْدي، وقرأته بِخَطِّهِ: كَانَ نفع الله بِهِ} من أهل الْعلم بالفقه والْحَدِيث، كثير الرِّوَايَة، وافر الْحَظ،

ذكر القاضي ابي بكر محمد بن منظور

قَائِلا للشعر النفيس فِي مَعَاني الزّهْد وَمَا شابهه، بليغاً فِي خطبَته، كثير الْخُشُوع فِيهَا، لَا يَتَمَالَك من سَمعه من الْبكاء مَعَ الْخَيْر وَالْفضل، والزهد فِي الدُّنْيَا، والرضى مِنْهَا باليسير؛ مَا رَأَيْت فِيمَن لقِيت من شيوخي، من يضاهيه فِي جَمِيع أَحْوَاله. كنت، إِذا ذاكرته شَيْئا من أُمُور الْآخِرَة، رأى وَجهه يصفر ويدافع الْبكاء مَا اسْتَطَاعَ، وَرُبمَا غَلبه؛ فَلَا يقدر أَن يمسِكهُ. وَكَانَ الدمع قد أثر فِي عَيْنَيْهِ وَغَيرهمَا، لِكَثْرَة بكائه. وَكَانَ النُّور بادياً على وَجهه. وَكَانَ قد صحب الصَّالِحين، ولقيهم من حدثانه؛ مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ لأخبارهم وحكاياتهم. وَمن تآليفه: كتاب فَضَائِل المنقطعين إِلَى الله. توفّي رَحمَه الله! لليلتين بَقِيَتَا من رَجَب سنة 429. ذكر القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن مَنْظُور وَمن الْقُضَاة بقرطبة، مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن مَنْظُور الْقَيْسِي من أهل إشبيلية، يكنى أَبَا بكر. روى بِبَلَدِهِ عَن الْفَقِيه الزَّاهِد أبي الْقَاسِم بن عُصْفُور الْحَضْرَمِيّ، وَأبي بكر ابْن عبد الرَّحْمَن العواد، وَغَيرهمَا. واستقضاه الْمُعْتَمد مُحَمَّد بن عباد بقرطبة. وَكَانَ حسن السِّيرَة فِي قَضَائِهِ، عدلا فِي أَحْكَامه. وَلم يزل متولى الْقَضَاء بهَا إِلَى أَن توفّي، فِي غرَّة جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة 464. ذكره ابْن بشكوال. ذكر القَاضِي أبي الْأَصْبَغ عِيسَى بن سهل وَمن الْقُضَاة بغرناطة، أَيَّام دولة الصناهجة، الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْأَصْبَغ عِيسَى بن سهل بن عبد الله الْأَسدي. ذكره ابْن بشكوال؛ فَقَالَ فِيهِ: سكن قرطبة. وَأَهله من جيان، من وَادي عبد الله من عَملهَا. روى عَن أبي مُحَمَّد مكي بن أبي طَالب، وَأبي عبد الله بن عتاب الْفَقِيه وتفقه مَعَه، وانتفع بِصُحْبَتِهِ وَعَن أبي عمر بن الْقطَّان، وَأبي مَرْوَان بن مَالك، وَأبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَابْن شماخ، وَأبي زَكَرِيَّاء القليعي وَغَيرهم. وَكَانَ من جلة الْفُقَهَاء، وكبار الْعلمَاء، حَافِظًا للرأي، ذَاكِرًا للمسائل، عَارِفًا

ذكر القاضي موسي بن حماد

بالنوازل، بَصيرًا بِالْأَحْكَامِ، مُتَقَدما فِي مَعْرفَتهَا. وَجمع فِيهَا كتابا حسنا مُفِيدا، يعول الْحَاكِم عَلَيْهِ. وَكتب للْقَاضِي أبي زيد الحشاء بطليطلة؛ ثمَّ للْقَاضِي أبي بكر بن مَنْظُور بقرطبة. وَتَوَلَّى الشورى بهَا مُدَّة. ثمَّ ولي الْقَضَاء بالعدوة. ثمَّ استقصى بغرناطة. وَتُوفِّي مصروفاً عَن ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة، وَدفن فِي يَوْم السبت الْخَامِس من الْمحرم سنة 486. وَمن الْكتاب الْمُسَمّى بالتبيان عَن الْحَادِثَة الكائنة بدولة بني زيري فِي غرناطة، تصنيف أميرها عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس، وَقد تكلم فِي أَمر المرابطين؛ فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِن أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تأشفين، لما اسْتَقر بسبته، يروم عبور الْبَحْر برسم الْجِهَاد فِي الأندلس، وَجه إِلَيْهِ الْأَمِير عبد الله الْمُتَقَدّم الذّكر قاضيه ابْن سهل رَسُولا، فِي معرض الهناء لَهُ، والتلقي بالرحب، والإعلام عَن الْأَمِير الَّذِي أرْسلهُ بالمسارعة إِلَى مَا يذهب إِلَيْهِ فِي جهاده؛ فقابله بالمبرة والكرامة، وَقَالَ لَهُ: لست من يُكَلف أحدا فَوق طاقته {دهاء مِنْهُ وحذقاً. وَحين ظهر لِابْنِ سهل، على مَا حَكَاهُ الْأَمِير فِي الْكتاب، مَا تحَققه من خلاف جند مرسله، واختلال أنفس أهل بلدته، قدم بِنَفسِهِ عِنْد يُوسُف بن ناشفين، وتفرب إِلَيْهِ، وأعلمه أَن الْقطر لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ مُخْتَلف. وَلما كَانَ من ظُهُور الْمُسلمين على الرّوم مَا كَانَ، وانقلب الأجناد بعد ذَلِك، ودانوا المرابط بِالطَّاعَةِ، فتملك عز ونعمة، ورجوا أَن يَكُونُوا عِنْده فِي أَعلَى مرتبَة، أهملهم، وَقطع، وَقَالَ: مَا نصحوا مَوْلَاهُم رب الْإِحْسَان عَلَيْهِم} فَكيف يكون حَالهم مَعَ غَيره؟ وعَلى إِثْر ذَلِك أخر ابْن سهل عَن الْقَضَاء، فالتزم دَاره إِلَى وَفَاته تجَاوز الله عَنَّا وَعنهُ، وَغفر لنا وَله! ذكر القَاضِي مُوسَى بن حَمَّاد وَمن صُدُور الْقُضَاة، وثقات الروَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه الْعدْل النزيه أَبُو عمرَان مُوسَى ابْن حَمَّاد. ولي الْقَضَاء بجهات شَتَّى؛ فحمدت سيرته، وشكرت طَرِيقَته. وَكَانَ شَدِيدا على أهل الْأَهْوَاء، مترفقاً بالضعفاء، متقاضياً عَن هَنَات الْفُقَهَاء؛ وَآخر ولَايَته مَدِينَة غرناطة: استقضاه عَلَيْهَا أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين.

ذكر القاضي ابي الوليد محمد بن احمد بن رشد

وَمن المرسوم لَهُ عِنْد ذَلِك مَا نَصه: وَبعد، فَإنَّا قد فرغناك بُرْهَة من الدَّهْر لشأنك، وَأَرْسَلْنَا على وَجهه الترفيه زَمَانا من عنانك؛ وَحين علمنَا أَنَّك قد أخذت لحظك من الْإِجْمَاع، وَدَار بتودعك وراحتك دور الْأَيَّام، خيرناك لخطة الْقَضَاء ثَانِيَة بزمانك، وأعدناك إِلَى سيرتك الأولى من لزامك؛ وقلدناك بعد استخارة الْقَضَاء بَين أهل غرناطة وأعمالها أَمنهم الله وحرسها {للثقة المكينة بإيمانك، والمعرفة الثاقبة بمكانك؛ فتقلد معاناً مُسَددًا مَا قلدناك، وانهض نهوض مُسْتَقل بِمَا حملناك؛ وتلق ذَلِك بانشراح من صدرك، وانبساط من نَفسك وفكرك، وقم فِي الْخطْبَة مقَام مثلك مِمَّن استحكمت سنه وَرجح حلمه، وكفه عَن التهافت ورعه وَعلمه. وَلَيْسَ هَذِه بِأول ولايتك لَهَا، فنبتدئ بوصيتك ونعيد، ونأخذ بِالْقيامِ بِحَقِّهَا الْعَهْد الْمُوفق السديد؛ بل، قد سلفت فِيهِ أيامك، وشكر فِيهَا مقامك، واستمرت على سنَن الْهدى أحكامك؛ فَذَلِك الشَّرْط عَلَيْك مَكْتُوب، وَأَنت بِمثلِهِ من إِقَامَة الْحق مَطْلُوب. وَإِنَّا على مَا نعلمهُ من جميل نظرك، واعتدال سيرك، لم نر أَن نقفل توصيتك بحكام الأنظار القاصية عَنْك، والقريبة مِنْك؛ فَلَا تنصر فِيهَا إِلَّا من كثر الثَّنَاء عَلَيْهِ، وأشير بالثقة إِلَيْهِ. ولتكن رقيباً على أَعْمَالهم، وسائلاً عَن أَحْوَالهم؛ فنم بطئ بِهِ سَعْيه، وساء فِيمَا تولاه نظره ورأيه، أظهرت سخطته، وأعلنت فِي النَّاس جرحته. فَذَلِك يعدل جَانب سواهُ، ويشربه النَّصِيحَة فِيمَا يَتَوَلَّاهُ} وتأريخ هَذَا الْمَكْتُوب أَوَائِل شهر رَمَضَان الْمُعظم الَّذِي من عَام 524. ذكر القَاضِي أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن رشد وَمِنْهُم مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد بن رشد. ذكره ابْن بشكوال فَقَالَ: قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة، وَصَاحب الصَّلَاة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع بهَا؛ يكنى أَبَا الْوَلِيد. روى عَن أبي جَعْفَر أَحْمد ابْن رزق، وتفقه مَعَه، وَعَن أبي مَرْوَان بن سراج، وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن خيرة، وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن فرج، وَأبي عَليّ الغساني؛ وَأَجَازَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس العذري مَا رَوَاهُ. وَكَانَ فَقِيها عَالما، حَافِظًا للفقه، مقدما فِيهِ على جَمِيع أهل عصرهن عَارِفًا للْفَتْوَى على مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه، بَصيرًا بأقوالهم واتفاقهم وَاخْتِلَافهمْ، نَافِذا فِي علم الْفَرَائِض وَالْأَحْوَال، من أهل

الرياسة فِي الْعلم والبراعة والفهم، مَعَ الدّين وَالْفضل وَالْوَقار والحلم، والسمت الْحسن، وَالْهدى الصَّالح. سَمِعت الْفَقِيه أَبَا مَرْوَان عبد الحكم بن مَسَرَّة يَقُول: شاهدت شَيخنَا القَاضِي أَبَا الْوَلِيد يَصُوم يَوْم الْجُمُعَة فِي الْحَضَر وَالسّفر. وَمن تواليفه كتاب الْمُقدمَات لأوائل كتاب الْمُدَوَّنَة وَكتاب الْبَيَان والتحصيل، لما فِي المستخرجة من التَّوْجِيه وَالتَّعْلِيل، واختصار المبسوطة، واختصار مُشكل الْآثَار للطحاوي، إِلَى غير ذَلِك من تواليفه؛ سمعنَا عَلَيْهِ بَعْضهَا، وَأَجَازَ لنا سائرها. وتقلد الْقَضَاء بقرطبة، وَسَار فِيهِ بِأَحْسَن سيرة، وأقوم طَريقَة. ثمَّ استعفى عَنهُ؛ فأعفى، وَنشر كتبه وتواليفه، ومسائله وتصانيفه. وَكَانَ النَّاس يلجؤون إِلَيْهِ، ويعولون فِي مهماتهم عَلَيْهِ. وَكَانَ حسن الْخلق، سهل اللِّقَاء، كثير النَّفْع لخاصته وَأَصْحَابه، جميل الْعشْرَة لَهُم، حَافِظًا لعهدهم، كثير الْبر بهم. وَتُوفِّي عَفا الله عَنهُ! لَيْلَة الْأَحَد الْحَادِي عشر من ذِي الْقعدَة سنة 520؛ وَدفن عشي يَوْم الْأَحَد بمقبرة الْعَبَّاس؛ وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو الْقَاسِم، وشهده جمع عَظِيم من النَّاس. وَكَانَ الثَّنَاء عَلَيْهِ حسنا جميلاً. ومولده فِي شَوَّال سنة 450. وَقد كَانَ أَيَّام حَيَاته توجه إِلَى الْمغرب، إِثْر الكائنة الَّتِي كَانَت بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى بالموضع الْمَعْرُوف بالرنيسول، وَذَلِكَ منتصف شهر صفر عَام 520. فاستخار القَاضِي أَبُو الْوَلِيد فِي النهوض إِلَى الْمغرب؛ مُبينًا على أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تأشفين بالجزيرة عَلَيْهِ. فوصل إِلَيْهِ؛ فَلَقِيَهُ أكْرم لِقَاء، وَبَقِي عِنْده أبر بَقَاء، حَتَّى استوعب فِي مجَالِس عدَّة إبراد مَا أزعجه إِلَيْهِ، وتبيين مَا أوفده عَلَيْهِ، فَاعْتقد مَا قدره لَدَيْهِ، والفصل عَنهُ، وَعَاد إِلَى قرطبة؛ فوصلها آخر جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة. وعَلى إِثْر ذَلِك أَصَابَته الْعلَّة الَّتِي أضجعته، إِلَى أَن أفضت بِهِ إِلَى قَضَاء نحبه، ولقاء المرتقب من محتوم لِقَاء ربه. وتبارى الأدباء وَالشعرَاء فِي تأبينه، وَحقّ لَهُم ذَلِك رَضِي الله عَنهُ وأرضاه

ذكر القاضي محمد بن سليمان الانصاري المالقي

{ ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأنْصَارِيّ المالقي وَمن الْقُضَاة، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن خَليفَة بن عبد الْوَاحِد الْأنْصَارِيّ، وَمن أهل مالقة، وَجلة علمائها. ولي الْقَضَاء بِبَلَدِهِ مُدَّة طَوِيلَة؛ فَسَار فِيهِ بأجمل سيرة من الْعَدَالَة والنزاهة؛ وَكَانَ فِي مذْهبه صلباً، ورعاً، زاهداً، متفنناً، أدبياً؛ وَله على كتاب الْمُوَطَّأ شرح كَبِير حسن فقيد، روى على القَاضِي أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَابْن عتاب، وَابْن شماخ وَغَيرهم. ذكره ابْن عَسْكَر فِي كِتَابه؛ ثمَّ قَالَ: وَمن شعره: كَانَ الزَّمَان وَكَانَ النَّاس أشبهه ... فاليوم فوضى فَلَا دهر وَلَا نَاس أسافل قد علت لم تعل من كرم ... ومشرقات الأعالي مِنْهُ أنكاس وَمعنى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ينظر إِلَى قَول لبيد بن ربيعَة فِي بيتيه أَيْضا: ذهب الَّذين يعاش فِي أَكْنَافهم ... وَبقيت فِي خلف كَجلْد الأجرب يتأكلون مذمة وخيانة ... ويعاب قَاتلهم وَإِن لم يشغب وَكَانَ قعُود القَاضِي أبي عبد الله الْمَذْكُور، لتنفيذ الْأَحْكَام، بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور لَهُ من دَاخل مالقة، بِإِزَاءِ قبر كَانَ قد حفره بِالزِّيَادَةِ هُنَالك، وأعده لنَفسِهِ؛ وَفِيه دفن. وَذَلِكَ صدر جُمَادَى الأولى من سنة 500 رَحمَه الله وأرضاه} وَذكره خلف بن عبد الْملك ابْن بشكوال فِي صلته؛ وَأثْنى عَلَيْهِ هُوَ وَغَيره. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن المالقي وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن بن عِيسَى المالقي، يكنى أَبَا عبد الله. أَخذ عَن أهل بَلَده، وَألف كتابا حسنا فِي الزّهْد، سَمَّاهُ المؤنس فِي الْوحدَة، والموقظ من سنة الْغَفْلَة. ولي قَضَاء غرناطة بعد القَاضِي أبي سعيد، وَذَلِكَ سنة 515 وَكَانَ على الهمة،

ذكر القاضي ابي الفضل عياض اليحصبي

شرِيف النَّفس، موفور الْحَظ من الْعلم، عدلا، نزيهاً، سرياً، فَاضلا، جَلِيلًا، بارع الْأَدَب. توفّي سنة 519. ذكره ابْن عَسْكَر، وَأثْنى على تأليفه الْمَذْكُور. وَذكره ابْن الزبير وَابْن عبد الْملك. ذكر القَاضِي أبي الْفضل عِيَاض الْيحصبِي وَمن الْقُضَاة بغرناطة، فِي حُدُود 530، عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض الْيحصبِي من أهل سبتة. وَذكره فِي صلته خلف بن عبد الْملك بن شكوال؛ فَقَالَ فِيهِ: يكنى أَبَا الْفضل. قدم الأندلس طَالبا للْعلم؛ فَأَخذه بقرطبة عَن القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ بن حمدين، وَأبي الْحُسَيْن سراج بن عبد الْملك بن سراج، وَعَن شَيخنَا أبي مُحَمَّد ابْن عتاب وَغَيرهم. أجَاز لَهُ أَبُو عَليّ الغساني مَا رَوَاهُ. وَأخذ بالشرق عَن القَاضِي أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد الصَّدَفِي كثيرا، وَعَن غَيره؛ وعني بلقاء الشُّيُوخ وَالْأَخْذ عَنْهُم؛ وَجمع من الحَدِيث كثيرا. وَله عناية كَبِيرَة بِهِ، واهتمام بجمعه وتقييده. وَهُوَ من أهل الْيَقِين فِي الْعلم والذكاء واليقظة والفهم. واستقضى بِبَلَدِهِ مُدَّة طَوِيلَة؛ فحمدت سيرته فِيهَا. ثمَّ تولى عَنْهَا إِلَى قَضَاء غرناطة؛ فَلم يطلّ أمده بهَا وَقدم علينا قرطبة فِي ربيع الآخر سنة 531، وأخذنا عَنهُ بعض مَا عِنْده. وسمعته يَقُول: سَمِعت القَاضِي أَبَا عَليّ حسن بن مُحَمَّد الصَّدَفِي يَقُول: سَمِعت الإِمَام أَبَا مُحَمَّد التَّمِيمِي بِبَغْدَاد يَقُول: مَا لكم تأخذون الْعلم عَنَّا وتستفيدونه منا؟ ثمَّ لَا تترحمون علينا {فرحم الله جَمِيع من أَخذنَا عَنهُ من شُيُوخنَا وَغَيرهم} ثمَّ كتب إِلَى القَاضِي أبي الْفضل بِخَطِّهِ يذكر أَنه ولد فِي منتصف شعْبَان من سنة 476. وَتُوفِّي رَحمَه الله بمراكش، مغرباً عَن وَطنه، وسط سنة 544. قلت: وَسكن القَاضِي أَبُو الْفضل بمالقة مُدَّة، وتمول بهَا أملاكا، وَأَصله من مَدِينَة بسطة. ذكر ذَلِك حفيده فِي الْجُزْء الَّذِي صنفه فِي التَّعْرِيف بِهِ وبتواليفه وَبَعض أخباره وخطبه تغمدنا الله وأياه برحمه

ذكر عيسي بن الملجوم قاضي فاس

{ ذكر عِيسَى بن الملجوم قَاضِي فاس وَمن الْقُضَاة، عِيسَى بن يُوسُف بن عِيسَى الأزدى، من أهل مَدِينَة فاس، وَجلة أعيانها، يكنى أَبَا مُوسَى، وَيعرف بِابْن الملجوم. رَحل إِلَى قرطبة عَام 475؛ فَأخذ بهَا عَن أبي عَليّ الغساني، وَأبي عبد الله بن فرج بن الطلاع، وَأبي بكر حَازِم. وكر رَاجعا إِلَى بَلَده؛ فولى الْقَضَاء بِهِ. وَكَانَ فَقِيها نزيهاً، عدلا، جزلاً. وَبَقِي قَاضِيا إِلَى أَن توفّي فِي شهر رَجَب عَام 543. ذكره ابْن الزبير وَابْن عبد الْملك. ذكر القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحَاج وَمِنْهُم، مُحَمَّد بن أَحْمد بن خلف بن إِبْرَاهِيم التجِيبِي، الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج، قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة؛ يكنى أَبَا عبد الله. روى عَن أبي جَعْفَر أَحْمد بن زرق الْفَقِيه، وتفقه عِنْده؛ وَقيد الْغَرِيب واللغة وَالْأَدب عَن أبي مَرْوَان عبد الْملك بن سراج، وَسمع من أبي عبد الله مُحَمَّد بن فرج الْفَقِيه، وَمن أبي عَليّ الغساني وَغَيرهم. وَكَانَ من جلة الْفُقَهَاء، وكبار الْعلمَاء، معدوداً فِي الْمُحدثين والأدباء، بَصيرًا بالفتيا، راسماً فِي الشورى؛ وَكَانَت الْفَتْوَى فِي وقته تَدور عَلَيْهِ، لمعرفته، وثقته، وديانته. وَكَانَ معتنياً بِالْحَدِيثِ والْآثَار، جَامعا لَهَا، مُقَيّدا لما أشكل من مَعَانِيهَا، ضابطاً لأسماء رجالها ورواتها، ذَاكِرًا للغريب والأنساب واللغة وَالْإِعْرَاب، وعالماً بمعاني الْأَشْعَار وَالسير وَالْأَخْبَار. قَالَ ابْن بشكوال: قيد الْعلم عمره كُله، وعنى بِهِ عناية كَامِلَة: مَا أعلم أحدا فِي وقته عني كعنايته. قَرَأت عَلَيْهِ، وَسمعت، وَأَجَازَ لي بِخَطِّهِ. وَكَانَ لَهُ مجْلِس بالجامع بقرطبة، يسمع النَّاس فِيهِ. وتقلد الْقَضَاء بقرطبة مرَّتَيْنِ وَكَانَ فِي ذَاته لينًا، صَابِرًا، طَاهِرا، حَلِيمًا، متواضعاً، لم يحفظ لَهُ جور فِي قَضِيَّة، وَلَا ميل بهواة، وَلَا إصغاء إِلَى عناية. وَكَانَ كثير الْخُشُوع وَالذكر لله تَعَالَى. وَلم يزل، آخر عمره، يتَوَلَّى الْقَضَاء بقرطبة، إِلَى أَن قتل ظلما بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع بقرطبة، يَوْم الْجُمُعَة، وَهُوَ ساجد لأَرْبَع بَقينَ من صفر من سنة 529. ومولده فِي صفر سنة 458. وَكتابه من نَوَازِل الْأَحْكَام، المتداول لهَذَا الْعَهْد بأيدي النَّاس، من الدَّلَائِل على تقدمه فِي المعارف وبراعته تغمدنا وإياه برحمته}

ذكر القاضي ابي القاسم بن حمدين

ذكر القَاضِي أبي الْقَاسِم بن حمدين وَمن صُدُور الْقُضَاة، أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن حمدين التغلبي، قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة. ذكره ابْن بشكوال فِي كِتَابه، فَقَالَ فِيهِ: يكنى أَبَا الْقَاسِم. أَخذ عَن أَبِيه، وتفقه عِنْده، وَسمع من أبي عبد الله مُحَمَّد بن فرج، وَأبي عَليّ الغساني، وَأبي الْقَاسِم بن مَدين الْمُقْرِئ، وَغَيرهم. وتقلد الْقَضَاء بقرطبة مرَّتَيْنِ. وَكَانَ نَافِذا فِي أَحْكَامه، جزلاً فِي أَفعاله، وَهُوَ من بَيت علم، وَدين، وَفضل، وجلالة. وَلم يزل يتَوَلَّى الْقَضَاء بقرطبة إِلَى أَن توفّي عشي يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَدفن يَوْم الْخَمِيس لتسْع بَقينَ من ربيع الآخر سنة 521، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو عبد الله. ذكر القَاضِي حمدين بن حمدين وَمِنْهُم حمدين بن مُحَمَّد بن حمدين التغلبي. قَالَ عَنهُ صَاحب الذيل: ولى الْقَضَاء بِبَلَدِهِ، بعد أبي عبد الله بن الْحَاج الشَّهِيد، فِي شعْبَان سنة 529. وَكَانَ مقتل ابْن الْحَاج فِي الرَّكْعَة الأولى من صَلَاة الْجُمُعَة. ثمَّ صرف ابْن حمدين بِأبي الْقَاسِم بن رشد سنة 532. واستعفى ابْن رشد، فأعفى، وأعيد هُوَ ثَانِيَة. ثمَّ صرفت إِلَيْهِ الرياسة، عِنْد اختلال أَمر المرابطين، وَقيام ابْن قسي عَلَيْهِم بغرب الأندلس، وَهُوَ على قَضَاء قرطبة. ودعى لَهُ بالإمارة، يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس من رَمَضَان سنة 539، وَتسَمى بأمير الْمُسلمين الْمَنْصُور بِاللَّه. وَيُقَال إِن ولَايَته كَانَت أَرْبَعَة عشر شهرا. وتعاورته المحن. فَخرج إِلَى العدوة الغريبة، فِي قصَص طَوِيلَة. وَأقَام هُنَالك وقتا. ثمَّ رَحل إِلَى الأندلس؛ فاستقر مِنْهَا بمالقة. وَمن أَسبَاب انحياشه إِلَيْهَا، المواصلة الْقَدِيمَة الَّتِي كَانَت بَين سلفه، وَبَين بني الْحسن من أَهلهَا؛ فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن توفّي عَفا الله عَنَّا وَعنهُ! وَذكره ابْن الزبير، فِي بَاب أَحْمد من حرف الْألف، وَقَالَ فِيهِ مَا حَاصله: روى

ذكر القاضي ابي محمد عبد الله الوحيدي

عَن سلفه، وَأهل بَلَده؛ وَولي قَضَاء الْجَمَاعَة. وَكَانَ ذَا رِوَايَة، ودراية، وعناية بِالْعلمِ. وبويع لَهُ. فَمَا استقامت لَهُ حَال، وَلَا رضى مِنْهُ ذَلِك الانتحال، إِلَى أَن اسْتَقر بمالقة تَحت إيالة غَيره؛ فَتوفي بهَا سنة 547. وَبعد وَفَاته أخرج من قَبره، وصلب فِي اثنى عشر رجلا من أَصْحَابه. وَسَماهُ أَبُو عبد الله بن عَسْكَر فِي تأريخه، وَذكر نبذاً من أخباره، وَأَنه كَانَ يحدث فِي صغره، بِمَا يؤول إِلَيْهِ أمره فِي كبره. وَوصف كَيْفيَّة إِخْرَاجه من قَبره، وصلبه بمالقة، إِثْر الِاسْتِيلَاء على رئيسها أبي الحكم بن حسون وَقَتله، وَإنَّهُ لم يكن لَهُ عقب، وَبَقِي عقب أَخِيه. قَالَ الْمُؤلف أبقى الله بركته {وَعند الْفِتْنَة الأشقيلولية، انْتقل من بقى من بني حمدين من مالقة، فاستقروا بِمَدِينَة سلا من العدوة الغربية حاطها الله تَعَالَى} وَأَعْقَابهمْ بهَا حَتَّى الْآن، تَحت عناية ورعاية. فسبحان مُدبر الْأُمُور، ومداول الْأَيَّام والشهور! ذكر القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الله الوحيدي وَمِنْهُم، الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عمر بن أَحْمد الوحيدي، أحد أَعْلَام زَمَانه جلالة، وجزالة، ونباهة، ووجاهة، ولي الْقَضَاء بَريَّة سنة 531، فَقَامَ بأعبائه أجمل قيام، فَذهب إِلَى انتقاء الشُّهُود، والتسوية فِي الْأَحْكَام بَين الشريف والمشروف، وَأخذ فِي تَجْدِيد مَا كَانَ قد درس من رسم الأحباس، وَتحفظ من جَمِيع النَّاس. واستمرت ولَايَته مُدَّة من نَحْو ثَمَانِيَة عشر عَاما. ثمَّ استشعر من نَفسه قُصُور ملالة، وفتور شاخة؛ فآلى إِلَى الزهادة، وَقبض يَده عَن أَخذ الجراية المتعادة لأمثاله من الْقُضَاة، وَأكْثر من الإفصاح بالإستعفاء، فَترك لشأنه، وَسمع مِنْهُ قَوْله يُخَاطب أحد طلبته: صن الْكتاب وَلَا تَجْعَلهُ منديلاً ... وَلَا يكن صونه للدرس تعطيلا وسل فقيهك فِيمَا أَنْت جاهله ... فَرُبمَا كنت بعد الْيَوْم مسؤولا وَله، يُرَاجع الْخَطِيب ابْن أبي الْعَيْش، وَقد تكلم مَعَه فِي خصومه أحد اللائذين بِهِ:

ذكر القاضي ابي بكر بن العربي المعافري

وهبك الله وأياي من نعْمَة السوابغ الضوافي {وأوردك من نسمَة الْعَذَاب الصوافي} وَلَا زلت بَصيرًا بمكايد النَّاس، خَبِيرا بِظَاء خدعهم، وَلَو كنت فِي الكناس {فَإِنَّهُم، كَمَا تدريهم، يريشهم الْبَاطِل وَيُرِيهمْ، والعاقل يَعِظهُمْ وَلَا يغريهم. وَمثلك من الإخوان، مِمَّن علم تلون الزَّمَان، وَعرف سير الْعَجم وَالْعرب، وَلم يغب عَنهُ الْفرق بَين السّمع وَالضَّرْب. لَا سِيمَا وَالدُّنْيَا الْآن قد صَارَت مكشوفة، وأخلاق أَهلهَا مفصوحة مَعْرُوفَة، فهناك وَجب أَن يعْذر الْمَرْء أَخَاهُ، وينصر مَا قَصده من وهيه وتوخاه، والولى تكفيه الْإِشَارَة، وَإِن قصرت عَن الْغَرَض الْمَطْلُوب الْعبارَة، وَلَقَد أقسم مَا رفع إِلَى ذَلِك الحضم شَاهدا بِدَعْوَاهُ، وَلَا أَخا ارتدع عَن المسارعة إِلَى مَا قَادَهُ إِلَيْهِ هَوَاهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا هُوَ دهر ملامات وشؤوم وَابْتِدَاء عَورَة ولدود خصوم، وَقد رفعت، أَيهَا الْأَخ الْأَمر، إِلَى الَّذِي طَال فِي مثل هَذَا الْعَمَل الْعُمر؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يقْضى بِالْحَقِّ، ويمضي حكمه على جَمِيع الْخلق، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَالسَّلَام. وَأكْثر أَخذه عَن القاضيين أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَأبي الْمطرف الشّعبِيّ. توفّي بعد انْقِطَاعه لِلْعِبَادَةِ، وإيثار الزهادة، وَدفن بِمَسْجِد حكمه، الْمَنْسُوب لَهُ إِلَى هَذَا الْعَهْد، من دَاخل سور مالقة. وَمَشى أَمِير وَطنه فِي جنَازَته على رجله، وَذَلِكَ سنة 542. ذكر القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي وَمن الْقُضَاة بإشبيلية، مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي، المكنى بِأبي بكر، من أَهلهَا. رَحل إِلَى الْمشرق سنة 485، فَدخل الشأم وَلَقي بهَا أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْوَلِيد الطرطوشي، وتفقه عِنْده. ورحل إِلَى الْحجاز فِي موسم سنة 489 وَدخل بَغْدَاد مرَّتَيْنِ، وَصَحب أَبَا بكر الشَّاشِي، وَأَبا حَامِد الطوسي الْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء والأدباء، وَأخذ عَنْهُم. ثمَّ صدر عَن بَغْدَاد، وَلَقي بِمصْر والإسكندرية جمَاعَة. ثمَّ عَاد إِلَى الأندلس سنة 493. وَكَانَ من أهل التفنن فِي الْعُلُوم، مُتَقَدما فِي المعارف كلهَا، متكلماً فِي أَنْوَاعهَا، حَرِيصًا على نشرها. استقضى بِمَدِينَة إشبيلية؛ فَقَامَ بهَا أجمل قيام.

وَكَانَ من أهل السرابة فِي الْحق، والشدة، وَالْقُوَّة على الظَّالِمين، والرفق بالمساكين. ثمَّ صرف عَن الْقَضَاء وَأَقْبل على نشر الْعلم وبثه. قَالَ الْمُحدث أَبُو الْقَاسِم خلف بن عبد الْملك: قَرَأت عَلَيْهِ بإشبيلية؛ وَسَأَلته عَن مولده؛ فَقَالَ لي: ولدت لَيْلَة الْخَمِيس لثمان بَقينَ من شعْبَان سنة 468. وَتُوفِّي رَحمَه الله! بالعدوة. وَدفن بِمَدِينَة فاس فِي ربيع الآخر سنة 543. وَفِي تَكْمِلَة الْمُحدث أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن الْأَبَّار، عَن أبي عبد الله بن مُجَاهِد الاشبيلي الزَّاهِد العابد، أَنه لَازم القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ نَحْو ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ تخلف عَنهُ. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؛ فَقَالَ: كَانَ يدرس، وَبغلته عِنْد الْبَاب، ينْتَظر الرّكُوب إِلَى السُّلْطَان. وَذكره الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الزبير فِي صلته وَقَالَ فِيهِ: رَحل مَعَ أَبِيه أبي مُحَمَّد، عِنْد انْقِرَاض الدولة العبادية، إِلَى الْحَج سنة 485؛ وَسنة إِذْ ذَاك نَحْو سَبْعَة عشر عَاما. فلقي شُيُوخ مصر وَعدد لنا أُنَاسًا. ثمَّ قَالَ: وَقيد الحَدِيث، وَضبط مَا روى، واتسع فِي الرِّوَايَة، وتقن مسَائِل الْخلاف وَالْأُصُول وَالْكَلَام على أيمة هَذَا الشَّأْن. وَعَاد إِلَى بَغْدَاد بعد دُخُولهَا، وَانْصَرف إِلَى مصر؛ فَأَقَامَ بالإسكندرية؛ فَمَاتَ أَبوهُ بهَا، أول سنة 493. ثمَّ انْصَرف إِلَى الأندلس؛ فسكن بَلَده إشبيلية؛ وشوور فِيهِ، وَسمع، ودرس الْفِقْه وَالْأُصُول، وَجلسَ للوعظ وَالتَّفْسِير، وصنف فِي غير فن تسانيف مليحة حَسَنَة، مفيدة. وَولى الْقَضَاء مُدَّة، أَولهَا رَجَب من سنة 538؛ فنفع الله لصرامته، ونفوذ أَحْكَامه. وَالْتزم الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، حَتَّى أوذي فِي ذَلِك بذهاب كتبه وَمَاله؛ فَأحْسن الصَّبْر على ذَلِك كُله. ثمَّ صرف من الْقَضَاء، وَأَقْبل على نشر الْعلم وبثه. وَكَانَ فصيحاً، حَافِظًا، أديباً، شَاعِرًا، كثير الْملح، مليح الْمجْلس. ثمَّ قَالَ: قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى وَقد وَصفه بِمَا ذكرته ثمَّ قَالَ: ولكثرة حَدِيثه وأخباره، وغريب حكاياته ورواياته، أَكثر النَّاس فِيهِ الْكَلَام؛ وطعنوا فِي حَدِيثه. وَتُوفِّي مُنْصَرفه من مراكش؛ من الوجهة الَّتِي توجه مِنْهَا مَعَ أهل بَلَده إِلَى الحضرة؛ بعد دُخُول مَدِينَة إشبيلية؛ فحبسوه بمراكش نَحْو عَام؛ ثمَّ سرحوه؛ فَأَدْرَكته منيته بطريقه على مَقْبرَة من فاس بمرحلة؛ وَحمل مَيتا إِلَى مَدِينَة

ذكر القاضي ابي المطرف عبد الرحمن الشعبي

فاس. فَدفن بهَا بِبَاب الجيسة. قَالَ: وروى عَنهُ الجم الْغَفِير؛ فَمن جملَة من روى عَنهُ، من عُلَمَاء الْمِائَة الْخَامِسَة، القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى، وَأَبُو جَعْفَر بن الباذش، وَطَائِفَة. وَالصَّحِيح فِي القَاضِي أبي بكر أَنه إِنَّمَا دفن خَارج بَاب المحروق من فاس؛ وَمَا وَقع من دَفنه بِبَاب الجيسة وهم من ابْن الزبير وَغلط. وَقد زرناه وشاهدنا قَبره بِحَيْثُ ذَكرْنَاهُ أرضاه الله وَغفر لنا وَله! ذكر القَاضِي أبي الْمطرف عبد الرَّحْمَن الشّعبِيّ وَمِنْهُم الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو الْمطرف عبد الرَّحْمَن بن قَاسم الشّعبِيّ المالقي. ولي الْقَضَاء بِبَلَدِهِ نِيَابَة، ثمَّ اسْتِقْلَالا. وَكَانَ عَالما، متفنناً، بَصيرًا بالنوازل، حَافِظًا للمسائل؛ وَعَلِيهِ كَانَت الْفتيا تَدور بقطره، أَيَّام حَيَاته، وَجَرت بَينه وَبَين القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ، عِنْد اجتيازه على مالقة، مناظرات فِي ضروب من الْعُلُوم. وَكَانَت لَهُ فِي الْأَقْضِيَة مَذَاهِب من الِاجْتِهَاد، لم تكن لغيره من أهل طبقته، وَلَا سِيمَا فِيمَا يرجع إِلَى راوية أَشهب؛ وَنَظره من ذَلِك أَنه كَانَ يَقُول فِي اللُّصُوص الْمُحَاربين، إِذا أخذُوا وَمَعَهُمْ أَمْوَال؛ فجَاء قوم يدعونَ ملك الْأَمْوَال، وَلَيْسَت لَهُم بَيِّنَة، إِن القَوْل قَوْلهم فِي أَن المَال لَهُم بعد الاستيناء قَلِيلا. وروجع فِي ذَلِك فَقَالَ: المروى عَن مَالك أَنه قَالَ: يقبل قَوْلهم على اللُّصُوص، ودعواهم بِغَيْر بَيِّنَة. وَمَا أَعْطَاهُم مَالك ذَلِك، إِلَّا بسيئة الْحَال الَّتِي عَلَيْهِم من أنفسهم بِالْفَسَادِ؛ فَكَانَت حَالهم السَّيئَة فِي السَّعْي فِي الأَرْض، بِغَيْر الْحق بَيِّنَة عَلَيْهِم. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول فِي الظَّالِم الْمَعْرُوف بِأخذ أَمْوَال النَّاس، واستباحتها لغير حق؛ ويردد قَول عمر بن عبد الْعَزِيز: تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور، وَلَا فجور أعظم من الظُّلم والتسلط على أَمْوَال النَّاس وأبشارهم بِغَيْر الْحق؛ وَقد جعل الله عَلَيْهِم بذلك السَّبِيل فَقَالَ: " إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس، ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ". فَإِذا كَانَ للمظلوم سَبِيل، فَالْقَوْل قَوْله وعَلى الْمُدعى عَلَيْهِ؛ فَإِن الْبَيِّنَة فِي لِسَان الْعَرَب مُشْتَقَّة من الْبَيَان، فكيفما تبين الْأَمر، فَهُوَ بَيِّنَة كُله،

فظلم الظَّالِم بَيِّنَة عَلَيْهِ. أَلا ترى أَن مدعى اللّقطَة إِنَّمَا بَينته الْوَصْف للعفاص والوكاء؟ وَرب رمية من غير رام؟ وإرخاء الستور بَيِّنَة، يجب بهَا للْمَرْأَة أَخذ صَدَاقهَا، وَتصدق فِي دَعْوَاهَا؛ فقد صَار السّتْر بَيِّنَة لَهَا؛ فظلم الظَّالِم يدعى عَلَيْهِ بعد عَزله مَقْبُول عَلَيْهِ من مدعيه، لِأَن ظلمه شَاهد بِمَا يدعى عَلَيْهِ، كَمَا كَانَت معرفَة العفاص والوكاء شَاهدا لوصفها، والستر شَاهد للْمَرْأَة. وَقد مر طرف من الْكَلَام عِنْد ذكر زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن من هَذَا الْكتاب على الْغَاصِب وَالْمَغْصُوب. وَكَانَ يحكم فِي الرجل يُرِيد أَن ينْتَقل عَن الأندلس بعياله، إِلَى غَيرهَا من عدوة الْبَحْر، فتأبى زَوجته الْخُرُوج مَعَه، لمَكَان الْبَحْر، وشدته على ركُوبه؛ بِأَن لَهُ أَن يُخرجهَا، ويسيرها حَيْثُ شَاءَ، إِذا كَانَ مَأْمُونا فِي غيبته عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول فِي الْأَب، إِذا أَرَادَ أَن يرتحل إِلَى بَلَده ليسكن فِيهِ، فَلهُ أَخذ بنيه، وَلَا يُكَلف بَيِّنَة أَنه قد استوطن وَسكن مُدَّة، لِأَنَّهُ لَو تمكن أَن يُكَلف الرجل ذَلِك فِيهَا قرب، لم يتَكَلَّف فِيمَا بعد: فقد يُرِيد أَن يرتحل من الأندلس إِلَى مَكَّة أَو مصر أَو خُرَاسَان، وَهَذَا مَالا يُسْتَطَاع إِلَّا بذهاب المدد المتطاولة. وَقد ذكر ابْن الْهِنْدِيّ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقَالَ مَا حَاصله: فَيجب على النّظر أَن يكون القَوْل قَوْله فِي الِانْتِقَال للسُّكْنَى وَفِي الْموضع الَّذِي يُرِيد أَن يَتَّخِذهُ موطناً، مَعَ يَمِينه على ذَلِك. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل طلب الحاضن، أَبَا كَانَ أَو غَيره، ثُبُوت الِانْتِقَال بِمَالِه، واستمرار استيطانه فِي الْبَلَد الَّذِي ارتحل إِلَيْهِ. وَذكر ابْن مغيث أَن أقل مُدَّة الاستيطان سِتَّة أشهر، وَلَيْسَ للْأَب فِيمَا دونهَا أَخذ الْوَلَد. وَيذكر عَن الْفَقِيه أبي الْمطرف أَنه كَانَ يستحضر كتابي الْمُوَطَّأ والمدونة عَن ظهر قلب حرفا حرفا ونصاً نصا. وَله مَجْمُوع نبيل فِي نَوَازِل الْأَحْكَام، يقرب من مُفِيد ابْن هِشَام، إِلَى جملَة تقاييد فِي مسَائِل. وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة 499.

ذكر القاضي عبد الحق بن غالب بن عطيه

ذكر القَاضِي عبد الْحق بن غَالب بن عَطِيَّة وَمِنْهُم القَاضِي عبد الْحق بن غَالب بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة الْمحَاربي، من أهل غرناطة، يكنى أَبَا مُحَمَّد، أحد الْقُضَاة بالبلاد الأندلسية، وصدور رجالها. وبيته بَيت علم، وَفضل، وكرم، ونبل. وَكَانَ هَذَا القَاضِي رَحمَه الله {فَقِيها، نبيها، عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ والْحَدِيث وَالتَّفْسِير، أديباً بارعاً، شَاعِرًا، لغوياً ضابطاً، مُقَيّدا. ولي الْقَضَاء بِمَدِينَة المرية فِي شهر الْمحرم عَام 529. وَألف كِتَابه الْمُسَمّى ب الْوَجِيز فِي التَّفْسِير؛ فجَاء من أحسن تأليف وأبدع تصنيف. ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير فِي كِتَابه، وَأثْنى عَلَيْهِ؛ ثمَّ قَالَ: مولده سنة 481. وَتُوفِّي فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين لرمضان سنة 541 بِمَدِينَة لورقة: قصد مرسية مولى، قضاءها؛ فصد عَن دُخُولهَا، وَصرف مِنْهَا إِلَى لورقة، اعتداء عَلَيْهِ؛ فَتوفي بهَا رَحمَه الله} ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن سماك العاملي وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد بن سماك العاملي، يكنى أَبَا عبد الله. أصل سلفه من مالقة، من بَيت نباهة وجلالة. وَهُوَ أول من ولي الْقَضَاء للموحدين بغرناطة. ذكره الملاحي، وَقَالَ فِيهِ مَا حَاصله: إِنَّه كَانَ فَقِيها جَلِيلًا، ذَاكِرًا للمسائل، عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ، مُسَدّد الْأَغْرَاض. وَذكره ابْن عَسْكَر، وَتكلم فِي الْمُنَازعَة الَّتِي وَقعت بَينه وَبَين حسون، وَأَنه خرج بسببهم فَارًّا إِلَى غرناطة؛ ثمَّ جَازَ إِلَى مراكش، فِي أول أَمر الْمُوَحِّدين؛ فسكن بهَا. وَمِنْهَا ولي قَضَاء غرناطة. وَولي قَضَاء مالقة أَيْضا. وَذكر الْأُسْتَاذ ابْن الزبير، وَأخْبر عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد أَنه ولي قَضَاء غرناطة سنة 537.

ذكر القاضي عبد المنعم بن الفرس

ذكر القَاضِي عبد الْمُنعم بن الْفرس وَمن الْقُضَاة بِمَدِينَة غرناطة، عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم الخزرجي، الْمَعْرُوف بِابْن الْفرس. ولي الْقَضَاء بِجَزِيرَة شقر، وبمدينة وَادي آش؛ ثمَّ بجيان؛ ثمَّ بغرناطة. ثمَّ عزل عَنْهَا. ثمَّ وَليهَا الْولَايَة الَّتِي كَانَ من مضمن ظهيره بهَا قَول الْمَنْصُور لَهُ: أَقُول لَك مَا قَالَه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {لِأَخِيهِ هَارُون: اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين. وَجعل إِلَيْهِ النّظر فِي الْحِسْبَة والشرطة وَغير ذَلِك، وَقَامَ بالجموع كلهَا أحسن قيام. وَألف عدَّة تواليف، مِنْهَا كتاب الْأَحْكَام. ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير وَقَالَ: مولده سنة 524. وَتُوفِّي عصر يَوْم الْأَحَد الرَّابِع من جُمَادَى الأولى سنة 597. وَدفن فِي عصر يَوْم الِاثْنَيْنِ بِبَاب إلبيرة؛ وازدحم النَّاس على نعشه حَتَّى حملوه بالأكف رَحمَه الله} ذكر القَاضِي الْحسن بن هاني اللَّخْمِيّ وَمِنْهُم الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم اللَّخْمِيّ، من أهل غرناطة، وَذَوي بيوتها الْمَعْرُوفَة بِالْعلمِ وَالْفضل. قَالَ فِيهِ الملاحي مَا حَاصله، إِنَّه روى عَن غَالب بن عَطِيَّة، وَأبي الْحسن بن الباذش، وَأبي مُحَمَّد بن عتاب، وَأبي الْوَلِيد بن رشد. وَكَانَ من أهل التَّقَدُّم فِي النَّحْو وَالْأَدب، بارع الْخط. ولي الْقَضَاء بِبَلَدِهِ سنة 541. وَتُوفِّي فِي جُمَادَى الأولى سنة 562. ذكره ابْن الزبير وَغَيره. ذكر القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن أبي زمنين وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي زمنين المري الإلبيري، يكنى أَبَا بكر. وَهُوَ من بَيت مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي زمنين الزَّاهِد العابد، المُصَنّف فِي الْفِقْه وَغَيره. ولي قَضَاء

ذكر القاضي ابن رشد الحفيد

مالقة فِي سنة 592. وَكَانَ فِي قَضَائِهِ عدلا، مهيباً، جزلاً، فَإِذا انْفَصل من مجْلِس الحكم، صَار من أَلين النَّاس جانباً، وَأَحْسَنهمْ خلقا، وَأَكْثَرهم تواضعاً، وَكَانَ مُحدثا جَلِيلًا فَاضلا؛ أَخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مَرْوَان بن قزمان، وَأَبُو عَليّ بن سهل الْخُشَنِي، وَابْن مُحرز، وَابْن النِّعْمَة؛ وَمن أهل الْمشرق عَن السلَفِي، والعثماني، وَابْن عَوْف، وَغَيرهم. وَقد كَانَ ولي الْقَضَاء قبل مالقة بجهات شَتَّى من الأندلس، مِنْهَا برجة؛ فَكَانَ ينشد، إِذا ذكرهَا أَو شَاهد أحدا من هلها. إِذا جِئْت برجه مستطلعاً ... فحط بهَا الرحل وَأنس السّفر وَلَا تَبْغِ مِنْهَا خُرُوجًا وَلَا ... دُخُولا إِلَيْهَا فَذَاك الحذر فَكل مَكَان بهَا جنَّة ... وكل طَرِيق إِلَيْهَا سقر وَتُوفِّي القَاضِي أَبُو بكر رَحمَه الله! بغرناطة إِثْر انْفِصَاله من مالقة، وَذَلِكَ فِي عَام 602. ذكر القَاضِي ابْن رشد الْحَفِيد وَمن الْقُضَاة بقرطبة، مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم أَحْمد بن أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن رشد، يكنى أَبَا الْوَلِيد. وَهُوَ حفيد أبي الْوَلِيد قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة، صَاحب كتاب الْبَيَان والتحصيل. كَانَ من أهل الْعلم والتفنن فِي المعارف. قَالَ ابْن الربير: أَخذ النَّاس عَنهُ، واعتمدوا عَلَيْهِ، إِلَى أَن شاع عَنهُ مَا كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ فِي علومه من اخْتِيَار الْعُلُوم الْقَدِيمَة، والركون إِلَيْهَا. ثمَّ قَالَ: فَترك النَّاس الْأَخْذ عَنهُ، وَتَكَلَّمُوا، وَمِمَّنْ جاهده بالمنافرة والمجاهرة، القَاضِي أَبُو عَامر يحيى بن أبي الْحسن بن ربيع، وَبَنوهُ. وامتحن بِسَبَب ذَلِك. وَمن النَّاس من تعامى عَن حَاله، وَتَأَول مرتكبه فِي انتحاله. وَتُوفِّي حُدُود سنة 598. وَمن تواليفه كتاب الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة، وَكتاب مناهج الْأَدِلَّة فِي الْكَشْف عَن عقائد الْملَّة، وَشرح الحمدانية فِي الْأُصُول، والكليات فِي الطِّبّ، وَشرح رجز ابْن سينا، وَكتاب فصل الْمقَال، فِيمَا بَين الفلسفة والشريعة من الِاتِّصَال وَغير ذَلِك.

ذكر القاضي ابي محمد عبد الله بن حوط الله الانصاري

ذكر القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الله بن حوط الله الْأنْصَارِيّ وَمن صُدُور الْقُضَاة، وأعلام الْفُقَهَاء، الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان بن دَاوُود بن عبد الرَّحْمَن بن حوط الله الْأنْصَارِيّ المالقي. كَانَ رَحمَه الله! إِمَامًا فِي الْعُلُوم، عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ، مُتَقَدما فِي علم الحَدِيث، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من التأريخ، والأنساب، وَأَسْمَاء الرِّجَال، بَصيرًا بالأصول، أديباً قاهراً، معتنياً بالرواية، زاهداً، فَاضلا. وَمن شعره: أَتَدْرِي انك الخطاء حَقًا ... وانك بِالَّذِي تَأتي رهين وتغتاب الورى فعلوا وَقَالُوا ... وَذَاكَ الظَّن والأثم الْمُبين ولي الْقَضَاء بكور كَثِيرَة من الأندلس وَغَيرهَا؛ فولى بإشبيلية، وميورقة، ومرسية، وقرطبة، وسبتة وسلا؛ ثمَّ عَاد من سلا، والياً قَضَاء مرسية؛ فَتوفي بِمَدِينَة غرناطة فِي شهر ربيه الأول سنة 612. فَدفن بهَا. ثمَّ نقل إِلَى مالقة؛ فَدفن بجبانتها. وَأخذ عَنهُ عَالم كثير. ذكره ابْن خَمِيس، وَابْن الزبير، وَابْن عبد الْملك، وَغَيرهم. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن النباهي وَمن الْقُضَاة بالأندلس، أَيَّام الْأَمِير مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن ابْن مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي. ذكره مُحَمَّد بن خَمِيس فِي التكملة؛ فَقَالَ فِيهِ إِنَّه كَانَ من علية الْفُقَهَاء، ونبهائهم، ذكياً، فطناً، بارع الْخط، كَاتبا، بليغاً، أديباً، شَاعِرًا مطبوعاً، عالي الهمة، سني الْمحل، كثير الِاتِّبَاع. ولي الْقَضَاء بمالقة فِي سنة 626 نَحوا من أَربع سِنِين، ثمَّ إِن أهل مالقة بغوا عَلَيْهِ، وشنعوا عَلَيْهِ الْقيام على الْأَمِير ابْن هود؛ فَخرج عَن مالقة قَاصِدا لِابْنِ هود إِلَى إشبيلية، ليعرفه بذلك، وَيطْلب مِنْهُ

الْإِقَالَة؛ فلقي أَبَا عبد الله الرميمي، وَزِير ابْن هود، فَرده عَن الطَّرِيق إِلَى مالقة، ثمَّ ذهب مَعَه إِلَى غرناطة، فَأمْسك بهَا فِي أحد أبراجها مُدَّة، ثمَّ سرح بعد ذَلِك، على شَرط الْمقَام هُنَالك. قَالَ: وامتحن رَحمَه الله {فِي حَيَاته كثيرا. وانتقم الله لَهُ مِمَّن ظلمه وَبَقِي عَلَيْهِ؛ فَكَانَ فِي أَمرهم عِبْرَة للمعتبرين؛ فَمَا مِنْهُم إِلَّا من مَاتَ بِالسَّيْفِ وَالسَّوْط، ورأواهم فِي أنفسهم، من البلايا والمحن، مَا يقصر الْمُعْتَبر عَنهُ. فنسأل الله الْعَافِيَة} وَمن شعره، أَيَّام اعتقاله بغرناطة، يصف رَوْضَة ونهراً: أيا رَوْضَة تبدى نُجُوم أزاهر ... وتختال فِي ثوب من الْحسن رائق لقد سَالَ فِيك النَّهر بيضًا كَأَنَّهَا ... بَيَاض الشيب فِي سَواد المفارق إِذا انساب مَا بَين الرّبيع تخاله ... سنى الْبَدْر حسنا أَو وميض البوارق كَأَن أليل المَاء إِذْ يخصم الْحَصَى ... مدافع محزون ورنات عاشق وَتُوفِّي رَحمَه الله! بغرناطة، وسيق مِنْهَا مَيتا إِلَى مالقة، وَدفن بجبانة جبل فاره؛ وَذَلِكَ عَام 631. وَذكره القَاضِي أَبُو عبد الله بن عبد الْملك المراكشي فِي صلته. وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير عَنهُ، إِنَّه أَخذ عَن أهل بَلَده مالقة، وتفقه بهم. وَولي الْقَضَاء بِهِ. ثمَّ إِن أهل مالقة بغوا عَلَيْهِ، ونسبوا إِلَيْهِ مَا أوجب خُرُوجه عَن مالقة. وَتُوفِّي بعد سنة 630. وَكَانَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن الْحسن جزلاً فِي أَحْكَامه، رماء فِي تَصَرُّفَاته، غليظاً على وُلَاة الْجور، شَدِيدا فِي ردع أهل الْأَهْوَاء والأراء الْفَاسِدَة. ورامه ابْن هود عِنْدَمَا ولاه قَضَاء بلدته، ا، يصرف إِلَيْهِ أَمَانَة كورتها، حَسْبَمَا كَانَت قبل ذَلِك، لنظر أبي عَليّ القَاضِي؛ فتمنع، واستعفى؛ فأعفاه من الْأَمَانَة. وَتفرد بِالْقضَاءِ، وَالنَّظَر فِي الأحباس؛ فصانها، واسترجع مَا كَانَ مِنْهَا قد ضَاعَ، أَيَّام دوَل الْمُوَحِّدين، إِلَى الألقاب المخزنية؛ وَقدم لضبطها، وَالشَّهَادَة فِيهَا، ووضعها فِي أماكنها، الْفَقِيه الْمُقْرِئ الْوَرع أَبَا مُحَمَّد عبد الْعَظِيم بن الشَّيْخ، وأجراها على منهاج السداد. واستكتب أَبَا عبد الله بن عَليّ، المشتهر بِابْن عَسْكَر، مؤلف الْكتاب الْمُسَمّى بالمشرع الروي، فِي الزِّيَادَة على كتاب الْهَرَوِيّ فِي غريبي الْقُرْآن والْحَدِيث. ثمَّ استنابه فِي بعض أَعماله، وَرشح

من الْفُقَهَاء كَابْن الشَّيْخ الْمَذْكُور، وَابْن دحمان، وَابْن ربيع، وَابْن لب، وأمثالهم. وَتثبت فِي الحكم، وَتحفظ فِي شُهُود زَمَانه، وتعفف عَن قبُول تحف أَقَاربه، فضلا عَن أجانبه. وَكَانَ قد انْتهى هُوَ وَقَومه، بَريَّة، من سَعَة الْحَال، وَكَثْرَة المَال، وتعدد الرِّجَال، إِلَى مَا يشابه حَالَة آل حَمَّاد بن زيد بالعراق، الَّذين مِنْهُم القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق؛ وَكَانُوا قد بلغُوا من تنوع الرباع، وَكَثْرَة الضّيَاع والآلة والماشية والحرث، إِلَى مَحل لَا غَايَة لعهده من الثروة بِالنِّسْبَةِ لأمثالهم من أهل زمانهم، حَسْبَمَا نقلته الثِّقَة عَنْهُم. وَلما اسْتَقل ابْن الْحسن برياسة بلدته، رشقته سِهَام حَسَدْته، وسلقته أَلْسِنَة تعديه، وَنسب إِلَيْهِ عداته مَا كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ، من الْقيام على ابْن هود؛ فاعتقل بغرناطة، على مَا تقدم، واستخلصت ملاكه، وسيرت للجانب السلطاني؛ وعاثت أَيدي الْوُلَاة فِي سَائِر مَاله، وشملت النكبة جملَة ناسه. وَأخر أَخُوهُ عَمَّا كَانَ يَتَوَلَّاهُ من الْقَضَاء بالجزيرة الخضراء، وَابْن عَمه عَن الْجِهَة الغربية؛ فاستقرا مَعًا بِمَدِينَة سبتة. وتعدت الْعلَّة إِلَى الفقية ابْن عَسْكَر كَاتبه؛ فأنزلته عَن مَحَله من الشورى والنيابة؛ وبقى رسم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة معطلاً جملَة. وخلا لعبد الله بن زنون، أحد الْبُغَاة، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، الجو مِنْهُ وَمن قومه. قَالَ ابْن خَمِيس فِي كِتَابه: وَبَقِي ابْن زنون يشْتَغل بالطائفة الْأُخْرَى الَّتِي كَانَت مَعَه على ابْن الْحسن، إِلَى أَن أفناهم وَاحِدًا بعد وَاحِد، بَين النَّفْي وَالْقَتْل والسجن الطَّوِيل؛ وبقى الْبَلَد فِي حكمه؛ فَلم يكن ينفذ أَمر من الْأُمُور إِلَّا بمشورته. وَتَمَادَى أمره إِلَى أَن هلك ابْن هود؛ فضبط هُوَ الْبَلَد، ورام الْمقَام بِهِ؛ فَلَمَّا خَالَفت الْبِلَاد وَرجعت للأمير أبي عبد الله بن نصر، فرَّ ابْن زنون؛ فدرك فِي الطَّرِيق، وانتهبت دياره وديار قرَابَته، ورد إِلَى مالقة، ليخرج مِنْهَا مَالا أتهم أَنه كَانَ عِنْده؛ وَمَا زَالَ يتعاقب عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ، حَتَّى مَاتَ. وَقيل إِنَّه تنَاول مُوسَى كَانَت لَدَيْهِ؛ فذبح بهَا نَفسه. نسْأَل الله الْعَافِيَة {قَالَ الْمُؤلف أبقى الله بركته} وَرب قَائِل يَقُول، إِذا وقف على مَا تضمنه هَذَا الْمَجْمُوع، من ذكر بني الْحسن المالقيين، ونبذ أخبارهم: مَا لهَذَا المُصَنّف أطَاق فِي ميدان الْقَوْم عنانه، وأدر من سَمَاء فكره عنانه، وأدمج طي كَلَامه مدح

ذكر القاضي محمد بن حسن بن صاحب الصلاه

قومه، وَقطع فِي معرض الثَّنَاء عَلَيْهِم سَواد ليلته وَبَيَاض يَوْمه، حَتَّى وَقع فِي التشطيط، وأتى بالغريب من التخطيط؟ وَلَو أَخذ بالإمساك عَن ذَلِك كُله، لَكَانَ من الأجمل بِمثلِهِ {وَالْجَوَاب أَنِّي مَا رسمت من أسمائهم، إِلَّا بعض مَا علمت من أنبائهم، وأثبتته الْأَئِمَّة فِي مصنفاتهم، ودفاتر مروياتهم؛ وَمن دَاخله ريب فِي محصوله، فليحققه، إِن شَاءَ من أُصُوله} وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِذا كَانَ ذكر الْأَمْوَات بِالْخَيرِ من الْأَجَانِب، فضلا عَن الْأَقَارِب، قد تعين شرعا، وَاسْتحْسن طبعا، وَتبين أَنه على الْخَيْر من آكِد الْحُقُوق، وَأَن الإضراب عَن إثْبَاته فِي مَحَله ضرب من العقوق؛ فَلَا لوم على مثلي، فِي الْإِخْبَار عَن قومه، بِمَا يَدْعُو إِلَى الترحم على أمواتهم، وَيبْعَث على الِاعْتِبَار فِي طوارق أوقاتهم، والمحن الَّتِي أصيبوا بهَا أَيَّام حياتهم. وَلَو ذهبت إِلَى التَّعْرِيف بجملة من يرجع إِلَى عَمُود نسبى فِي هَذَا الدِّيوَان، وَشرح مَا حدث لَهُم من النَّوَازِل فِي ماضي الزَّمَان، لَخَرَجت عَن الْحَد الَّذِي قصدته من الِاخْتِصَار؛ فَلذَلِك اقتصرت من القَوْل على هَذَا الْمِقْدَار تجَاوز الله عَن الْجَمِيع؛ وَختم لنا بِخَير؛ وَسَار بِنَا فِي الطَّرِيق الَّتِي لَا بُد من سلوكها أوطا سير، بمنّه وفضله! ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن حسن بن صَاحب الصَّلَاة وَمن الْقُضَاة فِي الْمِائَة السَّابِعَة، مُحَمَّد بن حسن بن مُحَمَّد بن صَاحب الصَّلَاة الْأنْصَارِيّ المالقي، من أهل الْعلم، وَالْعدْل، وَالدّين، وَالْفضل؛ لَهُ رحْلَة إِلَى الْمشرق، روى فِيهَا عَن أَعْلَام أهل الْعلم؛ ثمَّ عَاد إِلَى الأندلس، فاستقضى بالحصون الغربية من بَلَده؛ فحمدت سيرته، وشكرت طَرِيقَته. ثمَّ ولي الصَّلَاة وَالْخطْبَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع دَاخل مالقة، عَن رَغْبَة فِيهِ، واجتماع عَلَيْهِ. وَكَانَ رجلا صَالحا، مزهداً، كثير الْحيَاء؛ فاتفق لَهُ، فِي أول عيد خطب فِيهِ، أَن افْتتح التَّحْمِيد؛ فَلَمَّا رَمق النَّاس ببصره، غلب عَلَيْهِ الخجل، وضعفت قواه، وخانته رِجْلَاهُ، فَقعدَ؛ وأقيم غَيره. وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا، مقرئاً، متفنناً. وَاسْتشْهدَ فِي وقْعَة الْعقَاب، الكائنة على الْمُسلمين فِي أَيَّام مُحَمَّد بن يَعْقُوب من الْمُوَحِّدين؛ وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس عشر من شهر صفر سنة 609. وَذكر عَنهُ من الثَّبَات، والحضّ على حُصُول الشَّهَادَة، وَالرَّغْبَة فِي المجاهدة، مَا دلّ على حسن نِيَّته،

ذكر القاضي ابي الخطاب احمد بن واجب القيسي

وَصدق بغيته. وَفِي تِلْكَ الكائنة، الَّتِي أفضت إِلَى خراب الأندلس، واستيلاء الرّوم على كثير من بلادها، فقد الزَّاهِد أَبُو عمر بن هَارُون بن أَحْمد الشاطبى ابْن عَاتٍ، صَاحب كتاب الطرر على الوثائق الْمَجْمُوعَة، مَعَ طَائِفَة كَثِيرَة، يطول تعدادهم، من الْعلمَاء الْفُضَلَاء تغمدنا الله وإياهم برحمته { ذكر القَاضِي أبي الْخطاب أَحْمد بن وَاجِب الْقَيْسِي وَمن الْقُضَاة أَبُو الْخطاب أَحْمد بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن وَاجِب الْقَيْسِي. ذكره الْمُحدث أَبُو عبد الله بن الْأَبَّار، وَقَالَ: حَامِل راية الرِّوَايَة بشرق الأندلس، وَآخر الْمُحدثين المسندين. وَعدد جملَة وافرة من أشياخه. ثمَّ قَالَ: فَصَارَ لَا يعدل بِهِ أحد من أهل وقته عَدَالَة، وجلالة، وسعة أسمعةٍ، وعلو إِسْنَاد، وَصِحَّة قَول وَضبط إِلَى تقلب فِي الْعليا، وتقلل من الدُّنْيَا، مَعَ رسوخ فِي الدّين والورع، تخنقه الْعبْرَة للرقائق، وتعلوه الخشية عِنْد المواعظ. ولي الْقَضَاء ببلنسية وشاطبة حقباً عدَّة، وأوقاتاً مُخْتَلفَة. فَمَا نقمت عَلَيْهِ سيرة، وَلَا وَقعت بِهِ استرابة، سوى حِدة متعارفة مِنْهُ. وَذكره ابْن عَسْكَر، وَأخْبر أَنه أَخذ عَن أبي الْحسن بن هُذَيْل، وَأبي مَرْوَان بن قزمان، وَالْقَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ، وَأبي الْوَلِيد بن الدّباغ، وَغَيرهم؛ وَقَالَ إِنَّه توفّي بمراكش فِي رحْلَة إِلَيْهَا، سنة 614. وَذكره ابْن الزبير فَقَالَ: كَانَ رَحمَه الله} على سنَن الْمُتَّقِينَ، من فضلاء الْمُحدثين، وعدول الْقُضَاة، وبقايا الشُّيُوخ الجلة، من أهل الْعلم وَالْفضل وَالدّين؛ وَله جملَة مصنفات. وَكَانَ بَين وَفَاة القَاضِي أبي الْخطاب، وَدخُول النَّصَارَى بلنسية، أحد وَعِشْرُونَ عَاما. ذكر القَاضِي إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ الغرناطي وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ المشتهر بالغرناطي. ولي الْقَضَاء بجهات شَتَّى، آخرهَا ميورقة، تقدم بهَا من قبل أميرها إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن غانية

ذكر القاضي احمد بن يزيد بن بقي الاموي

اللمتوني وتصدر بهَا للإقرار والإسماع؛ فَأخذ النَّاس عَنهُ. وَكَانَ رجلا فَاضلا، عابداً مُجْتَهدا، زاهداً. وَلم ينْتَقل عَن ميورقة إِلَى أَن تغلب عَلَيْهَا الرّوم، فاستشهد بهَا، وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع من شهر صفر سنة 627. ذكره ابْن الْأَبَّار وَقَالَ فِيهِ: كَانَ فَقِيها أديباًن عَارِفًا بالفقه، حَافِظًا لَهُ، بَصيرًا بالوثائق المختصرة المنسوبة لَهُ وَغير ذَلِك. ذكر القَاضِي أَحْمد بن يزِيد بن بقى الْأمَوِي وَمِنْهُم أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن بَقِي بن مخلد الْأمَوِي قَاضِي الْقُضَاة بالمغرب؛ من أهل قرطبة. ذكره أَبُو عبد الله بن الْأَبَّار فِي كِتَابه، فَقَالَ: يكنى أَبَا الْقَاسِم. سمع أَبَاهُ أَبَا الْوَلِيد، وجده أَبَا الْحسن عبد الرَّحْمَن، وَأَبا عبد الله بن عبد الْحق الخزرجي، وَابْن بشكوال؛ وَسمع من السُّهيْلي تأليفه الرَّوْض الْأنف؛ وَأَجَازَ لَهُ شُرَيْح بن مُحَمَّد، وَهُوَ ابْن عَام، وَابْن قزمان وسواهما. ثمَّ قَالَ: وَولي قَضَاء الْجَمَاعَة بمراكش، إِلَى أَن تقلد قَضَاء بَلَده؛ فَسمع مِنْهُ النَّاس وتنافسوا فِي الْأَخْذ عَنهُ؛ وَكَانَ أَهلا لذَلِك. وَهُوَ آخر من حدث عَن شُرَيْح. وَانْفَرَدَ بِرِوَايَة الْمُوَطَّأ عَن ابْن عبد الْحق قِرَاءَة، وَعَن ابْن الطلاع سَمَاعا. قَالَ الْمُؤلف وَفقه الله! وَقد قَرَأت بِمَدِينَة مالقة بعض كتاب الْمُوَطَّأ للْإِمَام أبي عبد الله مَالك بن أنس، وَسمعت سائره على شَيخنَا الْمُقْرِئ الْحسن الْفَاضِل أبي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَيُّوب، وَحدثنَا بِهِ عَن الْخَطِيب الْمُحدث أبي عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن أبي الْأَحْوَص الْقرشِي، عَن القَاضِي أبي الْقَاسِم بن يزِيد بن بَقِي الْمَذْكُور. قَالَ ابْن الْأَبَّار: وأنشدنا الْخَطِيب الْيَعْمرِي قَالَ: أنشدنا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن بَقِي لنَفسِهِ: أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا كراح عتيقة ... أَرَادَ مديروها بهَا جلب الْأنس فَلَمَّا أداروها أثارت حقودهم ... فَعَاد الَّذِي راموا من الْأنس بِالْعَكْسِ

ذكر القاضي ربيع بن عبد الرحمن بن ربيع الاشعري

وَتُوفِّي إِثْر صَلَاة الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من رَمَضَان سنة 625. وَمن شعره أَيْضا: إرجع إِلَى الله ودع غَيره ... فَكل شَيْء غَيره بَاطِل وكل مَا بُطْلَانه مُمكن ... فَلَيْسَ يغتر بِهِ عَاقل قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير، وَقد سَمَّاهُ فِي صلته: إِنَّه كَانَت لَهُ إِمَامَة فِي اللُّغَة، وَعلم الْعَرَبيَّة؛ وَألف كتابا فِي الْآيَات المتشابهات، قيل إِنَّه من أحسن شَيْء فِي بَابه؛ وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي سفر، وَلَا فِي حضر. وَكَانَ قَاضِي الْخلَافَة المنصورية، الْقَدِيم الِاخْتِصَاص بهَا، والإثرة لَدَيْهَا وَكَانَ كِتَابه إِذا كتب حسنا مُخْتَصرا سهل المساق مَحْذُوف الحشو وَكَانَ يمِيل إِلَى الظَّاهِر فِي أَحْكَامه، مُدَّة ولَايَته. وعَلى ذَلِك كَانَ الْمَنْصُور فِي مدَّته. كَانَ ابْن بقى لَا يرى الحكم بالتدمية، وَلَا الْعَمَل عَلَيْهَا بِوَجْه. ذكر القَاضِي ربيع بن عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ وَآخر الْقُضَاة بقرطبة أَعَادَهَا الله لِلْإِسْلَامِ {الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو سُلَيْمَان ربيع بن عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ. ولي قضاءها بعد أبي الْقَاسِم بن بقى، من قبل الْأَمِير مُحَمَّد ابْن هود. وَقد كَانَ استوطنها قبل ذَلِك، وَأخذ على أشياخها، واكتسب هُنَالك مَالا وعقاراً. وأصل بني ربيع، على مَا ذكره ابْن عَسْكَر وَغَيره، من صَالِحَة رية، من بَيت نباهة ووجاهة. وَلم يزل أَبُو سُلَيْمَان قَاضِيا بقرطبة، إِلَى أَن استولت الرّوم عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال من عَام 633. فتحول إِلَى إشبيلية، وَبهَا توفّي إِثْر انْتِقَاله إِلَيْهَا. وَيُقَال إِنَّه مَا هاله عَظِيم الزرء فِي مُفَارقَة المَال والوطن، عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ، مَعَ سنّ الشاخة، وَلَا بلغ لَدَيْهِ شَيْء من ذَلِك مبلغ الزرء فِيمَا تلف لَهُ من كتبه رَحمَه الله ونفعه بمصابه} ذكره ابْن الْأَبَّار وَغَيره.

ذكر القاضي ابي الربيع سليمان الكلاعي

ذكر القَاضِي أبي الرّبيع سُلَيْمَان الكلَاعِي وَمن الْقُضَاة بالبلاد الشرقية؛ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُوسَى بن سَالم الْحِمْيَرِي الكلَاعِي، من أهل بلنسية. تقدم للْقَضَاء بهَا؛ فَسَار فِي أَحْكَامه بأجمل سيرة، وَأحمد طَريقَة من الْعدْل، والتثبيت وَالْفضل. وَكَانَ حسن الْهَيْئَة والمركب والملبس وَالصُّورَة، كريم النَّفس، يطعم فُقَرَاء الطّلبَة، وينشطهم، ويتحمل مؤنتهم. وَكَانَ قد تجول فِي بِلَاد الأندلس وَالْمغْرب؛ فَأخذ عَن أبي الْقَاسِم حُبَيْش، وَأبي بكر بن الْجد، وَابْن زرقون، وَأبي الْوَلِيد بن أبي الْقَاسِم، وَغَيرهم. قَالَ صَاحب التكملة: وَكَانَ حسن الْخط، لَا نَظِير لَهُ فِي الإتقان والضبط، مَعَ الاستبحار فِي الْأَدَب، والاشتهار بالبلاغة، فَردا فِي إنْشَاء الرسائل؛ خَطِيبًا فصيحاً مفوهاً مدْركا، مَعَ الْإِشَارَة الأنيقة؛ والزي الْحسن. وَكَانَ هُوَ الْمُتَكَلّم عَن الْمُلُوك فِي مجَالِسهمْ، والمبين عَنْهُم لما يريدونه على الْمِنْبَر فِي المحافل. وَولي الْخطْبَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع من بلنسية فِي أَوْقَات. وَكَانَ رَئِيسا فِي الحَدِيث وَالْكِتَابَة. وَله تصانيف وتواليف مفيدة شهيرة فِي فنون شَتَّى، مِنْهَا كتاب الِاكْتِفَاء بِمَا تضمنه من مغازي الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! وَمَغَازِي الثَّلَاثَة الْخُلَفَاء فِي أَربع مجلدات؛ والمسلسلات من الْأَحَادِيث والْآثَار والإنشاءات وَكتاب نُكْتَة الْأَمْثَال، ونفثة السحر الْحَلَال؛ إِلَى غير ذَلِك. ثمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ كَانَت الرحلة فِي عصره للأخذ عَنهُ، وَالسَّمَاع مِنْهُ. وأنشدنا لنَفسِهِ: إِذا برمت نَفسِي بِحَال احلتها ... على أمل باد فقرت بِهِ النَّفس وَانْزِلْ أرجاء الرَّجَاء ركائبي ... إِذا رام إلماماً بساحتي الْيَأْس وَإِن أوحشتني من أماني نبوة ... فلي بالرضى بِاللَّه وَالْقدر الْأنس مولده بِخَارِج بلنسية، أول لَيْلَة الثُّلَاثَاء مستهل رَمَضَان سنة 565. وسيق إِلَى بلنسية، وَهُوَ ابْن عَاميْنِ اثْنَيْنِ؛ فَنَشَأَ بهَا، إِلَى أَن اسْتشْهد بكائنة أنيشة، على ثَلَاثَة فراسخ مِنْهَا، مُقبلا، غير مُدبر، والراية بِيَدِهِ، وَهُوَ يُنَادي المنهزمين: أعن الْجنَّة تفرون؟

إِلَى أَن قتل، وَذَلِكَ ضحى يَوْم الْخَمِيس الموفى عشْرين لذِي الْحجَّة سنة 634؛ وَهُوَ ابْن سبعين سنة إِلَّا شهرا. وفقد من الْمُسلمين، فِي تِلْكَ الكائنة الشنعاء، عَالم كثير بَين قَتِيل وأسير. وَللْإِمَام أبي عبد الله بن الْأَبَّار، فِي رثاء شَيْخه أبي الرّبيع، وَالْإِشَارَة إِلَى من فقد مَعَه فِي الْوَقْعَة، من الْعلمَاء وَسَائِر الْفُضَلَاء، منظوم بديع أَوله: ألما بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنى والصوارم وعوجا عَلَيْهَا مارباً ومفازة ... مصَارِع غصت بالطلى والجماجم نحيى وُجُوهًا فِي الحنان وجيهة ... بِمَا بقيت حمرا وُجُوه الْمَلَاحِم وأجساد إِيمَان كساها نحيفها ... مجاسد من نسج الظبي واللهاذم مكرمَة حَتَّى عَن الدّفن فِي الثرى ... وَمَا يكرم الرَّحْمَن غير الأكارم هم الْقَوْم راحوا للشَّهَادَة واغتدوا ... وَمَا لَهُم فِي فوزهم من مقاوم تساقوا كؤوس الْمَوْت فِي حومة الوغى ... فمالت بهم ميل الغصون النواعم وَهَان عَلَيْهِم أَن تكون لحودهم ... متون الروابي أَو بطُون التهائم أَلا بِأبي تِلْكَ الْوُجُوه سواهُمَا ... وَإِن كن عِنْد الله غير سواهُم عَفا حسنها إِلَّا بقايا مياسم ... يعز علينا وَطْؤُهَا بالمناسم لَئِن وكفت فِيهَا الْعُيُون سحائبا ... فَعَن بارقات لحن مِنْهَا لشائم وَيَا بِأبي تِلْكَ الجسوم نواحلا ... بإجرائها نَحْو الأجور الجسائم تغلغل فِيهَا كل أسمر ذابل ... فجذل مِنْهَا كل أَبيض ناعم فَلَا يبعد الله الَّذين تقربُوا ... إِلَيْهِ بإهداء النُّفُوس الكرائم مَوَاقِف أبرار قضوا من جهادهم ... حقوقاً عَلَيْهِم كالفروض اللوازم أصيبوا وَكَانُوا فِي الْعِبَادَة أُسْوَة ... شبَابًا وشيباً بالغواشي الغواشم فعامل رمح دق فِي صدر عَامل ... وقائم سيف قد فِي رَأس قَائِم وَيَا رب صوام الهواجر وَاصل ... هُنَالك مصروم الْحَيَاة بصارم ومنقذ عانٍ فِي الأداهم راسف ... ينوء برجلي راسف فِي الأداهم

أضاعهم يَوْم الْخَمِيس حفاظهم ... وكرهم فِي المأزق المتلاحم سقِِي الله أَشَاء بسفح أنيشة ... سوافح يزجيها ثقال الغمائم وَصلى عَلَيْهَا أنفساً طَابَ ذكرهَا ... بِطيب أنفاس الرِّيَاح النواسم لقد صَبَرُوا فِيهَا كراماً وَصَابِرُوا ... فَلَا غرو إِن فازوا بصفو المكارم وَمَا بذلوا إِلَّا نفوساً نفيسة ... تحن إِلَى الْأُخْرَى حنين الروائم وَلَا فرقوا وَالْمَوْت يتلع جيده ... بِحَيْثُ التقي الْجَمْعَانِ صدق العزائم بعيشك طارحني الحَدِيث عَن الَّتِي ... تعبر عَنْهَا رائحات مآثم جلائل دق الصَّبْر فِيهَا فَلم تطق ... سوى غض أجفان وغض أباهم أَبيت لَهَا تَحت الظلام كأنني ... رمى نضال أَو لديغ أراقم أغازل من برح الأسى غير بارح ... وأصحب من سَام البكا غير سائم وأعقد بِالنَّجْمِ الْمشرق ناظري ... فيغرب عني ساهراً غير نَائِم وأشكو إِلَى الْأَيَّام سوء صنيعها ... ولاكنها شكوى إِلَى غير رَاحِم وهيهات هَيْهَات العزاء ودونه ... قواصم شَتَّى أردفت بقواصم وَمِنْهَا: وَبَين الثنايا والمخارم رمة ... سرى فِي الثنايا طيبها والمخارم بكتها الْمَعَالِي والمعالم جهدها ... فلهف الْمَعَالِي بعْدهَا والمعالم كَأَن لم تبت تغشى السراة قبابها ... ويرعى حماها الصَّيْد رعى الصوائم سفحت عَلَيْهَا الدمع أَحْمَر وارساً ... كَمَا نثر الْيَاقُوت أَيدي النواظم وسامرت فِيهَا الباكيات نوادبا ... يؤرقن تَحت اللَّيْل ورق الحمائم وقاسمت فِي حمل الرزية قَومهَا ... وَلَيْسَ قسيم الْبر غير المقاسم فوا أسفا للدّين أعظم داؤه ... وأياس من أَسد لمسراه حاسم ووا أسفا للْعلم أذوت ربوعه ... وَأصْبح مَمْدُود الذرى والدعائم تفرد بالعلياء علما وسؤددا ... وحسبك من عَال على الشهب عَالم مَتى صادم الْخطب الملم بخطبه ... كفى صادماً مِنْهُ بأكبر صادم

ذكر القاضي احمد بن الغماز

لَهُ منطق سهل النواحي قريبها ... فَإِن رمته ألفيت صَعب الشكائم وَمَا الرَّوْض حلاه بجوهره الندى ... وَلَا الْبرد وشته أكف الرواقم بأبدع حسنا من صحائفه الَّتِي ... تسيرها أخلاقه فِي الأقالم أَتَاهُ رداه مُقبلا غير مُدبر ... ليحظى بإقبال من الله دَائِم هَنِيئًا لَك الْحسنى من الله إِنَّهَا ... لكل تَقِيّ خيمه غير خائم تبوأت جنَّات النَّعيم وَلم تزل ... نزيل الثريا قبلهَا والنواعم لعمرك مَا يبْلى بلاؤك فِي العدى ... وَقد جرت الْأَبْطَال ذيل الهزائم وَبِاللَّهِ لَا ينسى مقامك فِي الوغى ... سوى جَاحد نور الغزالة كاتم لقِيت الردى فِي الروع جذلان باسماً ... فبوركت من جذلان فِي الروع باسم وجمت على الفردوس حَتَّى وردته ... ففزت بأشتات المنى فوز غَانِم عدمتك مَوْجُودا يعز نَظِيره ... فيا عز مَعْدُوم وَيَا هون عادم ورمتك مَطْلُوبا فأعيا مناله ... وَكَيف بِمَا أعيا منالاً لرائم فابكي لشلو بالعراء كَمَا بَكَى ... زِيَاد لقبر بَين بصرى وجاسم واعبر أَن يمتاز دوني عِبْرَة ... بعلياء فِي تأبين قيس بن عَاصِم وَهَذِه القصيدة طَوِيلَة، بِحَيْثُ تزيد أبياتها فِي الْعد على الْمِائَة. وَقَوله اعبر مَعْنَاهُ انف. وخاتمها: وهاذى المراثى قد وفيت برسمها ... مسهمة جهد الوفى المساهم فَمد إِلَيْهَا رَافعا يَد قَابل ... وكب عَلَيْهَا حَافِظًا يَد لاثم ذكر القَاضِي أَحْمد بن الغماز وَمن الْقُضَاة بالعدوة الغريبة والقبلية، الْفَقِيه الْجَلِيل، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن الغماز، قَاضِي الْجَمَاعَة بإفريقية تقدم على شُرُوط: مِنْهَا أَن يكون على رَأْيه

ذكر القاضي ابي عبد الله بن عسكر

فِي الدُّخُول على الْخَلِيفَة؛ وَمِنْهَا، إِذا أَعرَضت لَهُ مُؤَامَرَة السُّلْطَان فِي شَيْء من شؤونه، أَجَابَهُ عَلَيْهَا لحينه بالمشافهة وَالْمُكَاتبَة، وَأَن تكون خراجته وأعوانه من الأعشار الرومية. وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْعدْل وَالْفضل. توفّي سادس شهر رَمَضَان الْمُعظم عَام 633. ذكر القَاضِي أبي عبد الله بن عَسْكَر وانقرضت مُدَّة ابْن هود، وَظَهَرت الدولة النصرية، وَهلك ابْن زنون على الْوَجْه الَّذِي وَقع التبيه عَلَيْهِ. وَتقدم أَيْضا بمالقة قَاضِيا أَبُو عبد الله بن عَسْكَر، وَهُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن خضر بن هَارُون الغساني. وَكَانَ من أهل الْمعرفَة بِالْأَحْكَامِ، وَالْقِيَام على النَّوَازِل، إِلَى الشّعْر الرَّائِق، والكتب الْفَائِق. وَله جملَة تواليف، مِنْهَا المشرع الروي فِي الحَدِيث؛ والتكميل والإتمام، لكتاب التَّعْرِيف والإعلام، والمختصر فِي السّلم عَن ذهَاب الْبَصَر، وَغير ذَلِك. وَمن شعره: وَلما انْقَضتْ إِحْدَى وَخَمْسُونَ حجَّة ... كَأَنِّي مِنْهَا مَا تذكرت احلم ترقيت أَعْلَاهَا لأنظر فَوْقهَا ... إِلَى الحتف مني علني اسْلَمْ إِذا هِيَ قد أدنته مني كَأَنَّمَا ... ترقيت فِيهَا نَحوه وَهُوَ سلم وَله، وَقد طرقه هم: اصبر لما يعتريك تغنم ... غنيمتي رَاحَة وَأجر فَإِن هم الخطوب ليل ... لَا بُد يجلوه ضوء فجر وَمن مكتوباته فِي معرض العزاء، مقامة سَمَّاهَا ب رِسَالَة ادخار الصَّبْر، وافتخار الْقصر والقبر، وَهِي غَرِيبَة فِي مَعْنَاهَا. وَبَقِي بمالقة قَاضِيا، إِلَى أَن توفّي صدر جُمَادَى الْآخِرَة من عَام 636؛ وَدفن مِنْهَا بسفح جبل فاره، فِي رَوْضَة مستكتبه القَاضِي أبي عبد الله بن الْحسن تجَاوز الله عَنْهُمَا، وَغفر لنا وَلَهُمَا! ذكره ابْن خَمِيس، وَابْن عبد الْملك، وَابْن الزبير.

ذكر القاضي يحيي بن عبد الرحمن بن ربيع الاشعري

ذكر القَاضِي يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ وَتقدم بعده الْفَقِيه أَبُو عَامر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ، شَقِيق القَاضِي بقرطبة أبي سُلَيْمَان الْمُتَقَدّم الذّكر. وَكَانَ أَبُو عَامر هَذَا صدر عُلَمَاء زَمَانه بالأندلس، وقدوة رُوَاته. أَخذ عَن أبي بكر بن الْجد، وَابْن زرقون، وَابْن بشكوال، وَغَيرهم. وَله تآليف فِي علم الْكَلَام جليلة، نبيلة. واستمرت ولَايَته بهَا، إِلَى أَن نَقله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْغَالِب بِاللَّه أَبُو عبد الله بن نصر رَحمَه الله! إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة بِحَضْرَتِهِ من غرناطة. وَكَانَ من أعلم الْقُضَاة عَدَالَة، وصرامة، ونبلاً، وفضلاً. وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى مَا وَقع بَينه وَبَين القَاضِي أبي الْوَلِيد بن أبي الْقَاسِم بن رشد، من المنافرة والمهاجرة، بِسَبَب إِنْكَاره الْأَخْذ فِي الْعُلُوم الْقَدِيمَة، والركون إِلَى مَذَاهِب الفلاسفة. وَكَانَ أَبُو عَامر مِمَّن قَرَأَ الْفِقْه وأصوله، وَعلم الْكَلَام وَغَيره. أَكثر عمره بقرطبة وإشبيلية، ومالقة، وغرناطة. وَبَقِي مُتَوَلِّيًا خطة الْقَضَاء، وَمَعَ الْأُمَرَاء، إِلَى أَن أَصَابَته الزمانة الَّتِي أقعدته عَن ذَلِك؛ فَعَاد إِلَى مالقة. فَلَزِمَ بهَا منزله، إِلَى أَن توفّي فِي شهر بيع الأول من عَام 639. ذكره ابْن الزبير. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن غَالب الْأنْصَارِيّ وتلاه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن غَالب الْأنْصَارِيّ. وَكَانَ من الْفُقَهَاء الْفُضَلَاء، وَمِمَّنْ اجْتمع لَهُ الْعلم، وَالْمَال، وَحسن الْخلق، وَتَمام الْخلق. وَتُوفِّي إِثْر ولَايَته. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن أضحى الْهَمدَانِي وَتقدم بعده مُحَمَّد بن أضحى الْهَمدَانِي، من الْبَيْت الشهير بالأندلس. وَكَانَ عدلا نزيهاً، فَقِيها نبيلاً. وَلم تطل مُدَّة حَيَاته؛ فاخترمته الْمنية لحدثان ولَايَته. وَهُوَ من

ذكر القاضي ابي القاسم عبد الرحمن بن ربيع الاشعري

ذُرِّيَّة أبي الْحسن بن أضحى، مؤلف كتاب قوت النُّفُوس، وإنس الْجُلُوس، القَاضِي كَانَ فِي غرناطة أَيْضا فِي حُدُود 640. وَفِي كتاب الرَّازِيّ من الْإِشَارَة بأصالة بَيت بني أضحى مَا يغنى عَن الإطالة. وَخَلفه فيهمَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ من الحكم كَاتبه مُحَمَّد بن سعيد الْعَنسِي. وَبَيت بني سعيد أَيْضا بقلعة يحصب، المنسوبة حَتَّى الْآن إِلَيْهِم، بكورة البيرة؛ وانتماؤهم إِلَى عمار بن يَاسر الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ {شهير، إِلَى مَا نجح مِنْهُم من الأماثل الأمجاد، وأرباب الرحل إِلَى الْبِلَاد؛ لاكنَّ هَذَا القَاضِي قعدت بِهِ دماثة أخلاقه، ولين جَانِبه، وَعَن رُتْبَة من كَانَ قبله؛ فَأخر لعشرة أشهر من ولَايَته ذكر القَاضِي أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ وَتقدم بدله أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن أبي عَامر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن ربيع الْأَشْعَرِيّ، ولد قَاضِي الْجَمَاعَة الْمُتَقَدّم الذّكر. وَكَانَ على سنَن سلفه من التفنن فِي المعارف، والإشتداد على أهل العتو وَالْفساد، كَاتبا بارعاً، شَاعِرًا مطبوعاً. كتب عَن سُلْطَانه، أَيَّام استدعائه من بالمغرب، وتحريك الْقَبَائِل إِلَى الْجِهَاد، غير مَا كتاب، بِمَا يشحذ العزائم، ويوقظ النَّائِم. وتمادت ولَايَته إِلَى أَن توفّي، بعد مُضِيّ سَبْعَة أَعْوَام من زمَان تَقْدِيمه. ذكر القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد الأشبرون وَخَلفه فِي خطة الْقَضَاء صَاحبه أَبُو بكر مُحَمَّد بن فتح بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ الإشبيلي الأشبرون، بعد تَوليته حسبَة السُّوق والشرطة مَعًا، لما كَانَ عَلَيْهِ من المضاء والصرامة، وَالْقُوَّة، والاكتفاء. ولبث موليا ذَلِك كُله وناظراً فِيهِ، إِلَى وَفَاة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أبي عبد لله؛ وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله} آخر جُمَادَى الثَّانِيَة من عَام 671! وَصَارَ الْأَمر إِلَى وَلَده السُّلْطَان الثَّانِي أبي عبد الله أَيْضا، الْمَدْعُو بالفقيه ممهد الدولة النصرية، وبديع مآثرها، ومقيم رسوم الْملك فِيهَا فأفرد أَبَا بكر

ذكر القاضي غالب بن حسن بن سيد بونه

بِالْقضَاءِ، وَقصر نظره على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة؛ فَذهب من الشدَّة فِي استخلاص الْحُقُوق كل مَذْهَب. وَكَانَ مَعَ ذَلِك حسن الْأَخْلَاق، حُلْو الشَّمَائِل، بَاقِيا على طبيعة بَلَده. وَلم ينْتَقل على حَالَته، إِلَى أَن توفّي، وَذَلِكَ فِي حُدُود عَام 698. ذكره القَاضِي أَبُو عَامر ابْن مُحَمَّد بن ربيع فِي كِتَابه؛ فَقَالَ فِيهِ: كَانَ فَقِيها عَارِفًا بِالشُّرُوطِ، درياً بِالْأَحْكَامِ. وَكَانَ يتَوَلَّى الْخطْبَة بِحَمْرَاء غرناطة؛ لَا أعلمهُ حدث، إِذْ لم يكن يشْتَغل بذلك. ذكر القَاضِي غَالب بن حسن بن سيد بونة وَمن الْقُضَاة الْفُقَهَاء الْفُضَلَاء، غَالب بن حسن بن أَحْمد بن سيد بونة. ذكره ابْن الزبير فَقَالَ: يكنى أَبَا تَمام. روى عَن أَبِيه، وَأبي عبد الله بن مزين، وَصَحب قرينه الشَّيْخ الصَّالح أَبَا أَحْمد بن سيد بونة، ولازمه، وانتفع بِصُحْبَتِهِ. وَكَانَ يحدث بِكَثِير من فضائله وكراماته. وَكَانَ أَبُو تَمام شَيخا فَاضلا، ومقرئاً مُبَارَكًا. ولي الْقَضَاء. وَكَانَت وَفَاته سنة 651. بِحَضْرَة غرناطة. انْتهى. ذكر القَاضِي أَحْمد بن الْحسن الجذامي وَمن الْقُضَاة بَريَّة، فِي منتصف الْمِائَة السَّابِعَة، الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحسن بن يحيى بن الْحسن الجذامي. ولي الْقَضَاء بالجانب الغربي من أَعمالهَا؛ فَكَانَ مشكوراً فِي قصد سيرته، وَحسن هَدْيه، فَقِيه الْبَأْس والبذل، صَاحب رَأْي وَنظر فِي الْمسَائِل، بَصيرًا بِالْأَحْكَامِ. صَحبه القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن أَحْمد بن السُّكُوت، وانتفع بِهِ، واقتدى بهديه فِي كثير من أنحائه. وَكَانَ لَا يرى بالاقتصار على الرِّوَايَة: وَعَلَيْكُم بِالْعَمَلِ، وَإِيَّاكُم من الْأَخْذ فِي الجدل! . كَانَ يكثر من إنشاد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: أرى الَّذِي يروي ولاكنه ... يجهل مَا يروي وَمَا يكْتب كصخرة تتبع أمواهها ... تَسْقِي الْأَرَاضِي وَهِي لَا تشرب

ذكر القاضي ابي علي بن الناظر

ذكر القَاضِي أبي عَليّ بن النَّاظر وَمن الْقُضَاة، وصدور الروَاة، الشَّيْخ أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أبي الْأَحْوَص الْقرشِي الفِهري، من أهل غرناطة، وَأَصله من بلنسية؛ يكنى أَبَا عَليّ، وَيعرف بِابْن النَّاظر. ارتحل عَن غرناطة لغَرَض عَن لَهُ بهَا؛ فَلم يقْض؛ فَأَنف من ذَلِك، فاستقر بمالقة، مقريئاً ومحدثاً، وَاقْتصر على الْخطْبَة بقصبتها، بضعاً وَعشْرين سنة. ثمَّ خرج من مالقة، فَارًّا إِلَى غرناطة، لتغيير كَانَ سَببه فتْنَة الْخلاف بهَا، ودساس الْفَزارِيّ، الْمَقْتُول بعد بغرناطة على كفره وتسرعه لإضلال غَيره. فولى قَضَاء المرية؛ ثمَّ قَضَاء بسطة؛ ثمَّ ولي قَضَاء مالقة، عِنْد ذهَاب الْفِتْنَة، وَخُرُوج بني أشقيلولة عَنْهَا. وَكَانَ من أهل الْمعرفَة، والدراية، وَالرِّوَايَة الواسعة، والثقة، وَالْعَدَالَة؛ جال فِي الْبِلَاد، وَأكْثر من لِقَاء الرِّجَال؛ فَأخذ بغرناطة عَن الْأُسْتَاذ أبي مُحَمَّد الكواب، وبإشبيلية عَن الْمُقْرِئ أبي الْحسن بن جَابر الدباج. ولازم فِي الْعَرَبيَّة وَالْأَدب الْأُسْتَاذ أَبَا عَليّ الشلوبين: أَخذ عَنهُ أَكثر كتاب سِيبَوَيْهٍ. وروى عَن الْوَزير سهل بن مَالك الْأَزْدِيّ، وَعَن القَاضِي أبي الْقَاسِم بن بَقِي، وببلنسية عَن أبي الرّبيع بن سَالم، وبمرسية عَن أبي الْعَبَّاس بن عَيَّاش، وبجزيرة شقر عَن الْخَطِيب أبي بكر بن وضاح، وبمالقة عَن الْحَاج أبي مُحَمَّد عَطِيَّة، وَعَن أبي الْقَاسِم بن الطيلسان، وَعَن غير من سمي. وَكتب إِلَيْهِ بِالْإِجَازَةِ آخَرُونَ. وروى عَنهُ الجم الْغَفِير: مِنْهُم الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الزبير الثَّقَفِيّ، والخطيب الْأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد بن أبي السداد الْبَاهِلِيّ، وَآخر من روى عَنهُ بالأندلس شَيخنَا الْمُقْرِئ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَيُّوب التجِيبِي. وَله مصنفات فِي الحَدِيث والقراءات. وَتُوفِّي القَاضِي أَبُو عَليّ مُؤَخرا عَن قَضَاء مالقة فِي الرَّابِع عشر لجمادى الأولى سنة 699 غفر الله لنا وَله!

ذكر القاضي الحسن بن الحسن الجذامي النباهي

ذكر القَاضِي الْحسن بن الْحسن الجذامي النباهي وَتقدم بعد قَاضِيا بمالقة من أَهلهَا الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الجذامي النباهي. وَكَانَ رجلا صليباً فِي الْحق، متعززاً بِاللَّه، قَوِيا فِي ذَاته، لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم، رَفِيقًا مَعَ ذَلِك بالمساكين، شفيقاً على الضُّعَفَاء، ومبغضباً فِي أهل الْأَهْوَاء. وَأول يَوْم قعد فِيهِ للْحكم، تقدم إِلَيْهِ رجلَانِ فِي الطّلب بدين ترَتّب لأَحَدهمَا قبل الآخر؛ وَأقر الْمَطْلُوب بِبَقَائِهِ فِي ذمَّته، وَزعم أَنه فِي الْوَقْت غير قَادر على أَدَائِهِ؛ وَلم تقم لَهُ بَيِّنَة على صِحَّته دَعْوَاهُ، وَلَا حَضَره حميل بِهِ؛ فَتوجه عَلَيْهِ السجْن. فحين شَاهد أَسبَاب ذَلِك، قَالَ يُخَاطب القَاضِي: أصلحك الله {أيجمل بك، وَيحسن عنْدك استفتاح عَمَلك بسجن مثلي من الضُّعَفَاء؟ ولى صبية أصاغر لَا كاسب لَهُم، وَلَا كافل غَيْرِي. فَإِن حبستني عَنْهُم، لم يبعد تلفهم جوعا وعطشاً} فارفق بساحتي، وَانْظُر لحالتي {فَأمر القَاضِي بإحضار مِقْدَار الْعدَد الْمَطْلُوب من مَال نَفسه، وَأذن فِي دَفعه لمطالبه، وخلى سَبِيل الْغَرِيم يمضى لشأنه. وَكَانَ قد أصَاب الْمَاشِيَة بكورة رية من الْغَضَب والنهب، أَيَّام فتْنَة الْخلاف بهَا، مَا صَار دَاعِيَة لتغلب الْحَرَام عَلَيْهَا؛ فَرد شَهَادَة كل من ثَبت فِيهِ لَدَيْهِ أَنه أكل من ذَلِك اللَّحْم الْمَغْصُوب؛ وَهُوَ عَالم بِعَيْنِه، سَوَاء كَانَ مُشْتَريا لَهُ من الْغَاصِب أَو أكله دون عوض. ورد شَهَادَة الْوَلَد إِذا كَانَت مَعَ وَالِده؛ فَاشْتَدَّ فِي أَحْوَاله. وَفِي أثْنَاء ذَلِك، وسيق لَهُ رجل، شهِدت الْبَيِّنَة بِأَنَّهُ وجد فِي خربة بحذاء مقتول؛ وقربه. وَسَأَلَ الرجل حِين اعذر لَهُ؛ فَذكر أَنه كَانَ مُخْتَارًا عَلَيْهَا لمنزله؛ فرام أَوْلِيَاء الدَّم الْأَخْذ لَهُم بالقسامة فِي الْمَسْأَلَة، على مَا رَوَاهُ ابْن الحكم فِي مثل النَّازِلَة، وَرَوَاهُ ابْن وهب عَن مَالك؛ فَأجرى النّظر الْقَضِيَّة، وَتوقف عَن الْفَصْل، وَعقد النِّيَّة على ترك الْولَايَة مَا بَقِي من مُدَّة حَيَاته، واستعفى على الْفَوْر من الحكم بَين النَّاس. وَقد كَانَ القلق وَقع بِهِ من أولى الامر، فاعفى على الْأَثر. فَكَانَت مُدَّة ولَايَته الْقَضَاء نَحْو شهر. وَهُوَ أعظم الله أجره} مِمَّن أُصِيب فِي ذَاته وَمَاله، بِسَبَب إِنْكَاره على إِبْرَاهِيم الْفَزارِيّ، ولي بني أشقيلولة أَيَّام ثورتهم بَريَّة، وامتعاضه لما أظهره لَهُم من الْبِدْعَة وادعاه النُّبُوَّة، وَعند ذَلِك فرَّ من مالقة

ذكر القاضي ابي جعفر المزدغي وبعض قضاه فاس بعده

أَبُو جَعْفَر بن الزبير، وأتبع ليقْتل؛ فَأَفلَت، ولاذ بأمير الْمُسلمين، السُّلْطَان، الْمُؤَيد الْمَنْصُور، أبي عبد الله الْمَدْعُو بالفقيه رَحمَه الله وأرضاه {فحاول على الْفَزارِيّ حَتَّى تحصل فِي حكمه، وَأمر بقتْله وصلبه؛ فَقتل بغرناطة على كفره، هُوَ وَبَعض أَصْحَابه. وَقد أَشَارَ إِلَى مَا نبهنا عَلَيْهِ الشَّيْخ القَاضِي الرِّوَايَة الْمُحدث، الْوَزير المشاور، أَبُو عَامر بن عبد الله بن قَاضِي الْجَمَاعَة أبي عَامر بن ربيع، فِي كِتَابه الْمُسَمّى ب تنظيم الدّرّ فِي ذكر عُلَمَاء الدَّهْر. وَالَّذِي وَقع فِي الْكتاب الْمُسَمّى بعد اسْم أبي عَليّ بن الْحسن، من أَوله إِلَى آخِره، مَا هُوَ نَصه: الْحسن بن مُحَمَّد الجذامي من أهل مالقة، من أعيانها وَجلة بيوتها، يعرف بالنباهي، ويكنى أَبَا عَليّ. أَخذ بمالقة عَن شيوخها. وَكَانَ رَحمَه الله} صَالحا، فَاضلا، دينا، صليباً فِي الْحق، فامتحن فِي الله تَعَالَى، وقيامه بِالْحَقِّ، بِالضَّرْبِ وَالنَّفْي عَن بَلَده نَفعه الله {وَاسْتقر بِمَدِينَة فاس، تَحت تكرمه ومبرة، يتَوَلَّى عقد الوثائق، ويحترف بهَا. وَكَانَ من جلة الْعُدُول. ثمَّ عَاد إِلَى بَلَده مالقة، عِنْد خُرُوج بني أشقيلولة مِنْهَا، وَأقَام بهَا بَقِيَّة عمره، يتعيش من فائد بقايا أملاكه بهَا. ودعى إِلَى الخطابة بجامعها الْأَعْظَم؛ فَأبى. وَقضى أَيَّامًا يسيرَة، واستعفى. توفّي رَحمَه الله} فِي حُدُود سنة 700. ذكر القَاضِي أبي جَعْفَر المزدغي وَبَعض قُضَاة فاس بعده وَمن أهل الْمغرب؛ الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن المزدغي. ولي الْقَضَاء بِحَضْرَة فاس، بعد تمنع، واباية، وعزم عَلَيْهِ من الْخَلِيفَة؛ فَسَار فِيهِ بأجمل سيرة من الْعدْل، وَالْفضل، والاشتداد على أهل الجاه. وامتدت ولَايَته، إِلَى أَن توفّي عَام 669. فولى مَكَانَهُ أَبُو عبد الله بن عمرَان، ثمَّ استعفى لزمان قريب، فَتقدم بدله بفاس شيخ طلبتها إِذْ ذَاك، وخطيب خلافتها، الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّبْر أَيُّوب؛ وَكَانَ فِي زَمَانه وَاحِد قطره عَدَالَة، وجلالة، وصلاحاً، وفضلاً، وَهُوَ أَيْضا مِمَّن لم يَأْخُذ على الْقَضَاء أجرا، وَنَجَا فِيمَا يخْتَص بِهِ الجراية منحى سَحْنُون بن سعيد فِي وقته، وَطلب

ذكر القاضي محمد بن يعقوب المرسي

أَن يكون رزق وزعته من بَيت المَال، لَا من قبل أَرْبَاب الْخُصُومَات، فَأمْضى ذَلِك كُله. وَكَانَ مُعظما عِنْد سُلْطَانه، كَبِير الشَّأْن فِي زَمَانه. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الزليجي وَقد ذكره فِي كِتَابه: توفّي عَام 687. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن يَعْقُوب المرسي وَمن الْقُضَاة بِتِلْكَ الْبِلَاد، مُحَمَّد بن يَعْقُوب المرسي، نزيل تونس، يكنى أَبَا عبد الله. ولي قَضَاء الْجَمَاعَة بهَا، وَقد كَانَ ولي قبل ذَلِك قَضَاء باجة. وَكَانَ عَالما، زاهداً، ورعاً، فَاضلا، مَحْمُودًا، مشكوراً. توفّي تَقْديرا بعد 690. ذكر القَاضِي أبي عبد الله بن عبد الْملك المراكشي وَمِنْهُم مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سعيد بن عبد الْملك الْأنْصَارِيّ الأوسي المراكشي؛ يكنى أَبَا عبد الله، وَيعرف بِابْن عبد الْملك. ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير وَقَالَ فِيهِ: روى عَن الْكَاتِب الْجَلِيل أبي الْحسن بن مُحَمَّد الزغبي، وصحبة كثيرا. وروى عَن غَيره. ثمَّ وَصفه بِأَنَّهُ كَانَ نبيل الْأَغْرَاض، عَارِفًا بالتأريخ والأسانيد، نقاداً لَهَا، بعيد التَّصَرُّف أديباً بارعاً، شَارِعا مجيداً، ذَا معرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ واللغة وَالْعرُوض. وَألف كتابا جمع فِيهِ بَين كتابي ابْن الْقطَّان وَابْن الْمواق على كتاب الْأَحْكَام لعبد الْحق، مَعَ زيادات نبيلة من قبله؛ وكتاباً آخر سَمَّاهُ بالذيل والتكملة لكتاب الصِّلَة وَولى قَضَاء مراكش مُدَّة؛ ثمَّ أخر عَنْهَا، لعَارض سَببه مَا كَانَ فِي خلقه من حِدة أثمرت مناقشة موثور وجد سَبِيلا، فنال مِنْهُ. توفّي بتلمسان الجديدة أَوَاخِر محرم عَام 703. وَمن شعره: لله مراكش الغراء من بلد ... وحبذا أَهلهَا السادات من سكن إِن حلهَا نازح الأوطان مغترب ... أنسوه بالأنس عَن أهل وَعَن وَطن عَن الحَدِيث بهَا أَو العيان لَهَا ... ينشا التحاسد بَين الْعين وَالْأُذن

انْتهى حَاصِل مَا قَالَه ابْن الزبير فِي صلته. قَالَ المولف رَضِي الله عَنهُ {: وأوقفني وَلَده، صاحبنا الْفَقِيه أَبُو عبد الله، على كثير من المكتوبات الصادرة عَن أَبِيه القَاضِي أبي عبد الله، مَا بَين منظوم ومنثور. وَمن ذَلِك قَوْله رَحمَه الله} : يَا عاذلي {دع الْمَلَامَة أَو سلا ... عَن صَادِق فِي الْحبّ مثلي هَل سلا؟ كَيفَ السلو ولي بِحكم الْبَين فِي ... مراكش جسم وقلب فِي سلا هَيْهَات} أسلو عهد حل لي بهَا ... أسلا ابْن حجر عهد جازة مَا سلا وافى إليى على الْعباد كِتَابه ... فبمهجتي أفدي كتابا أرسلا أوردت من مرآه روضاً مونقاً ... ووردت من فحواه مَاء سلسلا طرس كنحر معذر أبدت بِهِ ... صدغاه وشي الْحسن حِين تسلسلا أأحبتي رحماكم فِي موقف ... ألقِي يَد استسلامه واستبسلا؟ أأحبتي رحماكم فِي نازح ... بكم إِلَيْكُم فِي الدنو توسلا؟ أحللتم هجري وخللتم أنني ... وَصلى الْحَرَام كَمَا علمْتُم بسلا إِن أعلن الشكوى فَمَا أَشْكُو سوى ... بَين نعيم الْأنس جور البسلا حسبي أدكار قد أثار صبابتي ... وَلما ترقرق فِي التنائي أرسلا ولواعج طي الظلوع بشيها ... دمع تتَابع مرّة واسترسلا فَعَن أدمعي عَن زفرتي عَن لوعتي ... أروى الحَدِيث مُعَنْعنًا ومسلسلا من لي بتيسير الْمسير إِلَيْكُم ... فأصمم الْعَزْم الَّذِي لن يكسلا وأصارم الْقُرْبَى وأهجر موطنا ... وأجوب حومات أنعي عَن سلا فَلَو الْقَضَاء أتاح مَا عَلمته ... مَا كنت مِمَّن فِي البدار ترسلا حَتَّى أحل مثابة الْفضل الَّذِي ... لسواه قلبِي بعده مَا استرسلا فاكون فِي رَأْي كذائن حنظل ... كره العبير وعافه فاستعملا أَو ينعم الله الْكَرِيم برجعة ... يروي بهَا خبر السرُور مسلسلا وَحكى عَنهُ وَلَده الْمَذْكُور أَنه قصد أَيَّام شبيبته عبور الْبَحْر، برسم الْجَوَاز إِلَى الأندلس؛ فَبلغ مِنْهَا الجزيرة الخضراء، وَحضر بهَا صَلَاة جُمُعَة وَاحِدَة، وَأقَام بهَا ثَلَاثَة

ذكر القاضي ابي العباس الغبريني

أَيَّام، جلائل فِي نَوَاحِيهَا، آخِذا عَن أَهلهَا؛ ثمَّ قَالَ: حصل لنا الْغَرَض من مُشَاهدَة بعد الْبِلَاد الأندلسية، والكون بهَا؛ وَالْحَمْد لله على ذَلِك! وَعَاد قَافِلًا إِلَى أرضه. وَلما توفّي قَافِلًا جرى بعد ابْنه الْمُسَمّى تحامل فِي متروكه لتبعة تسلطت على نشبه، أدته إِلَى الْجلاء عَن وَطنه؛ فاستقر بمالقة، وَأقَام بهَا زَمَانا، لَا يَهْتَدِي لمَكَان فَضله إِلَّا من عثر عَلَيْهِ جزَافا. وَلم ينْتَقل عَن حَالَته من الخشنة، والانقباض، والعكوف على النّظر فِي الْعُلُوم، إِلَى أَن توفّي فِي ذِي الْعقْدَة من عَام 743. ذكر القَاضِي أبي الْعَبَّاس الغبريني وَمِنْهُم الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أَحْمد الغبريني ولي الْقَضَاء بمواضع عدَّة، أَخّرهَا مَدِينَة بجاية. فَكَانَ فِي حكمه شَدِيدا، مهيباً ذَا معرفَة بأصول الْفِقْه، وَحفظ لفروعه؛ وَقيام على النَّوَازِل، وَتَحْقِيق للمسائل. وَلما ولي خطة الْقَضَاء، ترك حُضُور الولائم، وَدخُول الْحمام، وسلك طَرِيق الْيَأْس من مداخلة النَّاس. وَمن أناشيده: لَا تنكحن سرك الْمكنون خاطبه ... وَأَجْعَل لميته بَين الحشا جدثا وَلَا تقل نفثة المصدور رَاحَته ... كم نافث روحه من صَدره نفثا وَهَذَا القَاضِي مِمَّن ذكره عبد الرَّحْمَن الزليجي فِي تأريخه، وَقَالَ عَنهُ: توفّي عَام 704. ذكر القَاضِي أبي عبد الله بن عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الْمُهَيْمِن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ؛ يكنى أَبَا عبد الله، وَيعرف بنسبته. وَكَانَ فِي قطره كَبِير الْقدر. ولي الْقَضَاء بسبتة. ولقرابته من رؤسائها بني الغزفي، وَذَلِكَ عَام 683؛ فَقَامَ بِالْأَحْكَامِ أجمل قيام، مستعيناً بِحسن النّظر وَفضل الجاه وَعز النزاهة. فَكَانَ مَجْلِسه يغص بعمائم الْعلمَاء، وهم كَأَنَّمَا على رؤوسهم الطير هَيْبَة لَهُ، وتأدباً مَعَه. وَكَانَ فِي بَاب الْقبُول شَدِيدا على الشُّهَدَاء؛ فيذكر أَن أحد الظلمَة

ذكر القاضي ابي اسحاق الغافقي

عرض لَهُ كتاب رسم فِي قَضِيَّة نزلت بِهِ؛ فنقده القَاضِي ومطل فِي تخليصه؛ فتحيل على أَن كتب بحائط مجْلِس القَاضِي مَا نَصه: بسبتة قَاض حضرمي إِذا انتسب ... وَفِي حَضرمَوْت الشؤم واللوم بِالنّسَبِ فَمن شؤمه لَا يثبت العقد عِنْده ... وَمن لومه يَرْمِي أولى الْفضل بالريب فَلَمَّا وَقعت عين القَاضِي على الْمَكْتُوب وتفهمه، أَمر بإزالته، وَأمْسك عَن عنانه، وَأخذ فِي إصْلَاح شَأْنه، وَترك الْبَحْث عَن ناظم الْبَيْتَيْنِ وكاتبهما بِخَط يَده. واستمرت أَيَّام ولَايَته إِلَى أَن تصير أَمر بَلَده إِلَى الإيالة النصرية، فِي أَوَاخِر عَام 705؛ فصرف إِلَى غرناطة مَعَ سَائِر أَقَاربه بني العزفي فوصلها، وَأقَام بهَا وَابْنه الْكَاتِب البارع، أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن؛ ثمَّ أذن لَهُ فِي الِانْتِقَال إِلَى وَطنه؛ فَعَاد إِلَيْهِ، وَقد أحدث مِنْهُ السن، وَأَقْعَدَهُ الْكبر؛ فَلم يبرح بعد عَنهُ إِلَى أَن توفّي غرَّة صفر من عَام 712. ذكر القَاضِي أبي إِسْحَاق الغافقي وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن عِيسَى بن الغافقي الاشبيلي؛ يكنى أَبَا إِسْحَاق، وَيعرف أَيْضا بنسبته إِلَى غافق؛ أستاذ الطّلبَة، وَإِمَام الحلبة. خرج عَن بَلَده إشبيلية، عِنْد تغلب الرّوم عَلَيْهَا، وَذَلِكَ سنة 646؛ فلازم الشَّيْخ أَبَا الْحسن بن أبي الرّبيع، وتصدر بعد وَفَاته للأفراء فِي مَكَانَهُ، فَأخذ عَنهُ الْكَبِير وَالصَّغِير. ولي الْقَضَاء بسبتة نِيَابَة، ثمَّ اسْتِقْلَالا؛ وَكَانَ وَاحِد عصره، وفريد قطره، وعمدة طلبته الموثوقين بِمَا اسْتُفِيدَ فِي مَجْلِسه من فنون الْعُلُوم. أَخذ علم الْعَرَبيَّة على صدر النجَاة ابْن أبي الرّبيع الْمَذْكُور، والقرءات عَن الْأُسْتَاذ أبي الْحسن بن الخضار؛ وروى عَن الْمسند المسن أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن سُلَيْمَان، والأديب الفرضي أبي الحكم مَالك بن المرحل المالقي، وَالْقَاضِي أبي عبد الله بن قَاضِي الْجَمَاعَة أبي مُوسَى عمرَان بن عمرَان، إِلَى أُمَم من أهل الْمشرق وَالْمغْرب والأندلس. وَدون فِي علم الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا كتبا نافعة. وَتُوفِّي قَاضِيا رَحمَه الله! آخر شهر ذِي الْقعدَة من عَام 716. وَعَلِيهِ اعْتمد شَيخنَا الْوَلِيّ الْمُقْرِئ أَبُو الْقَاسِم بن يحيى بن مُحَمَّد

ذكر القاضي محمد بن محمد اللخمي القرطبي

الوازر وَالِي دِرْهَم فِي قِرَاءَة الْقُرْآن، والتلفظ وَالْأَدَاء، وعَلى الْخَطِيب الصُّوفِي أبي جَعْفَر الزيات، من أهل بلش مالقة، على كَثْرَة من لقِيه من حَملَة كتاب الله وقرائه بالمشرق وَالْمغْرب. وعَلى الغافقي أَيْضا كَانَ فِي تعلم الْعَرَبيَّة اعْتِمَاد شيخ النُّحَاة بِحَضْرَة غرناطة، الْأُسْتَاذ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْخَولَانِيّ، المشتهر بقيرى رحم الله جَمِيعهم وكافي صنيعهم! ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد اللَّخْمِيّ الْقُرْطُبِيّ وَمِنْهُم مُحَمَّد بن مُحَمَّد اللَّخْمِيّ الْمَعْرُوف بالقرطبي، من أهل سبتة، وَالْقَاضِي بهَا. وَكَانَ من جلة الْحُكَّام الصُّدُور والأعلام؛ خطب بِمَسْجِد بَلَده، ودرس بِهِ الْفِقْه وَغَيره. وَكَانَ قَائِما على الْمَذْهَب، مُنْقَطع القرين فِي حفاظه. وَكَانَ من شَأْنه، إِذا أَتَى الْمَسْجِد للْحكم فِيهِ بَين النَّاس، يتركع ويتضرع إِلَى الله تَعَالَى، ويلح فِي الدُّعَاء، ويسأله أَن يحملهُ على الْحق ويعينه عَلَيْهِ، ويرشده للصَّوَاب؛ وَإِذا فرغ من الحكم، يتركع، وَيسْتَقْبل الله تَعَالَى يسْأَله الْعَفو وَالْمَغْفِرَة عَمَّا عَسى أَن يكون صدر عَنهُ، مِمَّا تلْحقهُ تبعة فِي الْآخِرَة. أَخذ عَن الشُّيُوخ الجلة أبي الْحسن بن أبي الرّبيع، وَابْن الخضار، وَابْن الطّيب وَغَيرهم. وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ قَاضِيا مشكوراً، وَهُوَ على سنّ عالية؛ وَذَلِكَ صدر ربيع الآخر من عَام 723. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن مَنْصُور التلمساني وَمن الْقُضَاة بِمَدِينَة تلمسان، الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَنْصُور بن عَليّ بن هديمة الْقرشِي، كَبِير قطره فِي عصره نباهة، وجاهة، وَقُوَّة فِي الْحق، وصرامة. وَكَانَ أثيراً لَدَى سُلْطَانه؛ قَلّدهُ مَعَ قَضَائِهِ كِتَابَة سره، وأنزله من خواصه فَوق منزلَة وزرائه؛ فَصَارَ يشاوره فِي تَدْبِير ملكه؛ فقلما كَانَ يجْرِي شَيْئا من أُمُور السلطنة إِلَّا عَن مشورته، وَبعد استطلاع نظره. وَكَانَ أصيل الرَّأْي، مُصِيب الْعقل، مذكراً لسلطانه بِالْخَيرِ،

ذكر القاضي محمد بن علي الجزولي ابن الحاج

معينا عَلَيْهِ، كَاتبا بليغاً ينشئ الرسائل المطولة فِي الْمعَانِي الشاردة، ذَا حَظّ وافر من علم الْعَرَبيَّة واللغة والتأريخ. شرح رِسَالَة مُحَمَّد بن عمر بن خَمِيس الحجري الَّتِي استفتح أَولهَا بقوله: عجبا لَهَا أيذوق طعم وصالها ... من لَيْسَ يأمل أَن يمر ببالها وَأَنا الفقيد إِلَى تعلة سَاعَة ... مِنْهَا وتمنعني زَكَاة جمَالهَا إِلَى آخر الرسَالَة. من نظم ونثر، شرحاً حسنا، أَتَى فِيهِ بفنون الْعلم وضروب الْأَدَب، بِمَا دلّ على براعته. وَكَانَ جميل الْأَخْلَاق، جم الْمُشَاركَة، مُفِيد المجالسة، مردداً لقَوْل الْأُسْتَاذ أبي إِسْمَاعِيل الطغرائي فِي معرض النَّصِيحَة والتنبيه والتذكرة: لَا تطمحن إِلَى الْمَرَاتِب قبل أَن ... تتكامل الأدوات والأسباب إِن الثِّمَار تمر قبل بُلُوغهَا ... طَمَعا وَهن إِذا بلغن عَذَاب وَتُوفِّي صدر سنة 736، قبل هَلَاك سُلْطَانه، وَدخُول أهل فاس إِلَى بَلَده بأشهر تغمدنا الله وإياه برحمته! ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الْجُزُولِيّ ابْن الْحَاج وَمن الْقُضَاة بِحَضْرَة فاس، مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الزراق الْجُزُولِيّ، الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج؛ يكنى أَبَا عبد الله. وَهُوَ أحد أَعْلَام الْمغرب تفنناً فِي المعارف، وفضلاً، وعقلاً. وَكَانَ محافظاً على الزتبة، مُقيما للأبهة، جميل الْهَيْئَة، حمولاً لمكاره السلطنة، صبوراً على الرحلة، خَطِيبًا بليغاً مفلقاً، كَاتبا بارعاً مُرْسلا، رَيَّان من الْأَدَب، سريع الْقلب، منقاد البديهة، مهما تنَاول القرطاس وَكتب، أَتَى على الْفَوْر بعجب. رَحل إِلَى الْمشرق، وَلَقي أعلامها. وَدخل الأندلس، وَأقَام مِنْهَا بمالقة زَمَانا، وروى عَن أشياخها. وَصَحب بهَا الْخَطِيب الْمدرس أَبَا عُثْمَان بن عِيسَى الْحِمْيَرِي. ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه؛ فَتَوَلّى خطة الْقَضَاء بفاس. وتقلد أزمتها مَعَ الخطابة مُدَّة طَوِيلَة، إِلَى أَن انتزعت مِنْهُ، وأضعف قواه الْهَرم؛

ذكر القاضي ابي اسحاق ابراهيم التسولي شارح الرساله

فاستبدل بالفقيه المتفنن الْحَافِظ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري بِفَتْح الْمِيم، مَنْسُوب إِلَى مقرة مَوضِع من عمله إطرابلس وَلزِمَ هُوَ منزله، تَحت عناية ورفد جراية، إِلَى وَفَاته رَحمَه الله وَغفر لنا وَله { ذكر القَاضِي أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم التسولي شَارِح الرسَالَة وَمِنْهُم الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى التسولي التازي، تولى خطة الْقَضَاء، وَاسْتعْمل فِي السفارة؛ فحمدت حَالَته، وشكرت سيرته. وَكَانَ صدر فُقَهَاء وقته مُشَاركَة فِي الْفُنُون، وقياماً على الْفِقْه. شرح كتاب الرسَالَة لأبي مُحَمَّد بن أبي زيد شرحاً ممتعاً حسنا؛ وَقيد على الْمُدَوَّنَة مجْلِس الشَّيْخ أبي الْحسن الصَّغِير قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس، وَضم أجوبته فِي نوازله فِي سفر. وَكَانَ مَعَ ذَلِك فَارِسًا شجاعاً، جميل الصُّورَة، نبيه الْمُشَاورَة، فاره الْمركب، وجيهاً عِنْد الْمُلُوك: صحبهم وَحضر مجَالِسهمْ. وفلج بآخر عمره، فالتزم منزله بفاس، يزوره السُّلْطَان، فَمن دونه. وتعرفت أَنه نقل إِلَى دَاره من تازة بَلَده؛ فَتوفي بهَا فِي حُدُود 749 نفعنا الله بِهِ وَغفر لنا وَله} ذكر القَاضِي أبي تَمام غَالب بن سيد بونة الْخُزَاعِيّ وَمن الشُّيُوخ السراة، الْمَذْكُورين بالأندلس فِي الْقُضَاة، أَبُو تَمام غَالب بن حسن بن غَالب بن حسن بن أَحْمد بن يحيى بن سيد بونة الْخُزَاعِيّ. تقدم ذكر جده؛ ولنذكر الْآن نبذة من التَّنْبِيه على سيره، والتعريف بسلفه. فَنَقُول: أصلهم، على مَا تقرر، من بونة الَّتِي بإفريقية، وَهِي الْمُسَمَّاة بِبَلَد الْعنَّاب. وانتقل جده إِلَى الأندلس؛ فاستوطن مِنْهَا وَادي آش من عمل دانية إِلَى أَن استولى الْعَدو على تِلْكَ الْجِهَات؛ فَخرج قومه من مَدِينَة آش إِلَى غرناطة؛ فبنوا بخارجها الربض الْمَعْرُوف بالبيازين، ونشروا مَذْهَبهم فِي الْإِرَادَة؛ وانضم إِلَيْهِم من تَبِعَهُمْ من أهل الْمشرق. وَتقدم الْفَقِيه أَبُو تَمام شَيخا لَهُم، وقاضياً فيهم، وخطيباً بهم؛ فَقَامَ بالأعباء، سالكاً سنَن الصَّالِحين من الإيثار والتسديد

ذكر القاضي محمد بن محمد بن هشام

بَين قومه، مكباً على الْعِبَادَة والخفوق على الْجِهَاد. وَله رِوَايَة عَن وَالِده أبي عَليّ، وَعَن الْخَطِيب أبي الْحسن بن فَضِيلَة وَغَيرهمَا. وَله تأليف فِي منع سَماع اليراعة الْمُسَمَّاة بالشبابة وعَلى ذَلِك درج جمهورهم. مولده فِي ذِي الْقعدَة من عَام 653؛ ووفاته فِي شَوَّال من عَام 733. وَأما الشَّيْخ أَبُو أَحْمد، الصُّوفِي الْكَبِير، الْوَلِيّ الشهير، فَهُوَ جَعْفَر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سيد بونة. قَرَأَ ببلنسية وَغَيرهَا. قَالَ ابْن الْأَبَّار: وَكَانَ يحفظ نصف الْمُدَوَّنَة أَو أَكثر، ويؤثر الحَدِيث وَالْفِقْه والتمييز على غَيره من الْعُلُوم. ورحل إِلَى الْمشرق؛ فَأدى فَرِيضَة الْحَج وَلَقي جلة من الْفُضَلَاء، أشهرهم وأكبرهم فِي بَاب الزّهْد والورع؛ وسنى الْأَحْوَال، ورفيع المقامات، الشَّيْخ الصَّالح أَبُو مَدين شُعَيْب بن الْحُسَيْن مُقيم بجاية؛ فصحبة كثيرا، وانتفع بِهِ، وارتوى من ذلاله. توفّي رَحمَه الله وأرضاه! عَن غير عقب من الذُّكُور، وَذَلِكَ فِي شهر شَوَّال سنة 624. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن هِشَام وَتقدم أَيْضا بغرناطة لتنفيذ الْأَحْكَام مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن هِشَام؛ استقضاه السُّلْطَان أَبُو عبد الله الْمَدْعُو بالفقيه، لقصة رفعت من شَأْنه؛ وَذَلِكَ أَن هَذَا الرجل نَشأ فِي الدجن بِبِلَاد الرّوم من شَرق الأندلس. ثمَّ هَاجر مِنْهَا؛ فاستقر بوادي آش؛ فأقرأ الْعلم بهَا، وَصحح مَا كَانَ قد تحمله من فنون الْعلم. فَلَمَّا توفّي قَاضِي الْبَلدة، أَيَّام خلاف بني أشقيلولة بهَا، عرض عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ فتمنع وَأبي لمَكَان الْفِتْنَة، إِلَّا أَن يكون التَّقْدِيم من قبل أَمِير الْمُسلمين المحق بالخلافة، السُّلْطَان أبي عبد الله الْمَذْكُور. فَأَعْرض عَنهُ، وَقدم غَيره. فَلم يرض النَّاس بِهِ؛ فدعَتْ الرؤساء الْمَذْكُورين الضَّرُورَة إِلَى طلب التَّقْدِيم من حَيْثُ ذكر. فأنفذ لَهُم الْمَطْلُوب. وَلما ذهبت الْفِتْنَة، وتملك السُّلْطَان الْمَدِينَة، تحقق فضل ابْن هِشَام وصلابته فِي الْحق؛ فنقله إِلَى مَدِينَة المرية وَعند وَفَاة أبي بكر الأشبرون، استقدمه من هُنَالك، وقلده الْقَضَاء بِحَضْرَتِهِ. فحسنت

ذكر القاضي ابي جعفر احمد بن فركون

بِهِ الْحَال، واقتضيت الْحُقُوق إِلَى آخر مُدَّة مستقضيه رَحمَه الله {وَكَانَت صدر شعْبَان من عَام 701. وافضى الْأَمر إِلَى وَلَده أبي عبد الله مُحَمَّد، ثَالِث الْأُمَرَاء من بني نصر؛ فَجرى على منهاج أَبِيه فِي الِاغْتِبَاط بقاضيه؛ فأقره على مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ، وَزَاد فِي التنويه. فظهرت الخطة بواحدها وَصدر رجالها؛ وَبَقِي يَتَوَلَّاهُ إِلَى أَن توفّي، وَذَلِكَ عَام 704. ذكره القَاضِي أَبُو عَامر يحيى بن ربيع فِي مزيده وَقَالَ فِيهِ: كَانَ فَقِيها عَارِفًا، أديباً، كَاتبا بارعاً، فَاضلا، لين الْجَانِب، سَمحا، درياً بِالْأَحْكَامِ، عدلا، نزيهاً؛ وَتَوَلَّى الْخطْبَة بِجَامِع الْحَمْرَاء. قَالَ الْمُؤلف رَضِي الله عَنهُ} لله در مُحَمَّد بن هِشَام فِي إصراره على الاباية من الْقَضَاء فِي الْفِتْنَة الأشقيلولية {فَإِنَّهُ جرى فِي تَمنعهُ على منهاج السداد، وَأخذ لنَفسِهِ الْوَاجِب فِي الِاحْتِيَاط. وَقد تقدم صدر هَذَا الْكتاب أَن الدَّاعِي إِلَى الْعَمَل، إِذا كَانَ غير عدل، لم يجز لأحد إعانته على أُمُوره، لِأَنَّهُ مقْعد فِي فعله؛ فَيجب عَلَيْهِ أَن يصبر على الْمَكْرُوه، وَلَا يلى الْعَمَل مَعَه؛ وَإِن كَانَ عدلا، جَازَ، وَقد تسْتَحب لَهُ الْإِعَانَة. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب} ذكر القَاضِي أبي جَعْفَر أَحْمد بن فركون وَولي بعد ابْن هِشَام قَضَاء الْجَمَاعَة الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد الْقرشِي، الْمَعْرُوف بِابْن فركون، أحد صُدُور الْفُقَهَاء بِهَذَا الْقطر الأندلسي اطلاعاً بالمسائل، وحفظاً للنوازل، وَقُوَّة على حمل أعباء الْقَضَاء، وتفنناً فِي المعارف. وَكَانَ رَحمَه الله! منشرح الصَّدْر، مثلا فِي حسن الْعَهْد بِمن عرفه وَلَو مرّة فِي الدَّهْر، مُفِيد المجالسة، رائق المحاضرة، مترفقاً بالضعيف فِي أقضيته، كثير الِاحْتِيَاط عِنْد الِاشْتِبَاه، دَقِيق النّظر، مهتدياً لاستخراج غَرِيب الْفِقْه وغوامض نكت الْعلم، رائق الأبهة، مَوْصُوفا بالنزاهة وَالْعَدَالَة، شَدِيد الْوَقار، مشغلاً عِنْد المواجهة والتجلة، مَعَ التحلي بِالْفَضْلِ، والخلق الرحب، والدعابة الحلوة. طَال يَوْمًا بَين يَدَيْهِ قعُود رجل

ذكر القاضي ابي بكر يحيي بن مسعود المحاربي وابنه ابي يحيي

اسْمه أَحْمد بن مُعَاوِيَة، دَعَا إِلَيْهِ فِي حق وَقع الْفَصْل فِيهِ؛ فاستأذنه فِي الذّهاب؛ فَقَالَ: يَا سَيِّدي {ينْصَرف أَحْمد؟ فَقَالَ: لَا ينْصَرف} فَأَقَامَ ذَلِك الرجل وجلاً حَتَّى نبه على أَن القَاضِي إِنَّمَا قصد التورية. قَرَأَ على الْمدرس المتفنن أبي الْحسن الأبلح، وَأكْثر الْأَخْذ عَن الْمُقْرِئ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الطَّائِي الْمَعْرُوف بمستقور وَغَيرهم. وَكَانَ خَطِيبًا. بليغاً، كَاتبا ناظماً ناثراً، بَصيرًا بعقود الشُّرُوط، سَابِقًا فِي علم الْفَرَائِض. قضى بمواضع مِنْهَا رندة، ومالقة، والمرية، وَسَار فِيهَا بسيرة عادلة سنية. وَاسْتمرّ قَضَاؤُهُ مَعَ الخطابة بِحَضْرَة غرناطة إِلَى أول الدولة الإسماعيلية؛ فصرف عَن ذَلِك، لما كَانَ لَهُ فِي مشايعه المخلوع عَن السلطنة من الْأُمُور الَّتِي حقت عَلَيْهِ الخمول، بعد اسْتِقْرَار ذائلها الْأَمِير أبي الْوَلِيد بِالْملكِ رَحْمَة الله عَلَيْهِ {ومولد القَاضِي أبي جَعْفَر الْمَذْكُور فِي عَام 649، ووفاته فِي السَّادِس من ذِي الْقعدَة عَام 729. ذكر القَاضِي أبي بكر يحيى بن مَسْعُود الْمحَاربي وَابْنه أبي يحيى وَتقدم بعده لقَضَاء الْجَمَاعَة الْوَزير الْفَقِيه أَبُو بكر يحيى بن مَسْعُود بن عَليّ بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن مَسْعُود الْمحَاربي الغرناطي، من أهل الْأَصَالَة والجزالة وَالْجَلالَة. وَكَانَ رَحمَه الله} سامي الهمة، ماضي الْعَزِيمَة، شَدِيد الشكيمة، ولي الْقَضَاء بجهات شَتَّى، مِنْهَا مَدِينَة المرية، وصدرت عَنهُ فِي مُدَّة حِصَار الرّوم لَهَا جملَة أَقْوَال وأفعال لَا تصدر إِلَّا من حزماء الرِّجَال. ثمَّ نقل إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة بالحضرة؛ فاشتهر بالمضا والاشتداد على أهل الجاه، وَإِقَامَة الْحُدُود، وإخافة الشُّهُود. وَكَانَ لَا يخط بِعقد عَلامَة بِثُبُوتِهِ عِنْده إِلَّا بعد شَهَادَة أَرْبَعَة من الْعُدُول؛ وَقصر أَصْحَابه ذَلِك وَقَالُوا: أَلا ترى، لَو أَن رجلا دفع إِلَى آخر حَقًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَطَلَبه أَن يشْهد بِهِ، فَأشْهد عَدْلَيْنِ، وأبى أَن يشْهد غَيرهمَا، وَأَرَادَ صَاحبه الاستكثار من الْبَيِّنَة، فَإِنَّهُ لَا يلْزمه أَن يشْهد لَهُ أَكثر من شَاهِدين عَدْلَيْنِ، على مَا قَالَه القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد، وَرَوَاهُ غَيره لقَوْله تَعَالَى " وَاسْتشْهدَ شهيدين من رجالكم. " قَالُوا: وَإِن كَانَ قصد

القَاضِي من الْإِكْثَار من الشُّهَدَاء التَّوَثُّق لتحصل الْبَرَاءَة المتحققه لَهُ وَلغيره، فقد يجمع أَرْبَعَة من الضُّعَفَاء فِي رسم وَاحِد. فَلَزِمَ إِذا مرتكب هَذَا النّظر الْإِمْسَاك عَن خطاب مثل هَذَا الرَّسْم، إِلَى غير ذَلِك من المضار الْمُتَعَلّقَة بِهِ فَلم يثن الشَّيْخ أَبَا بكر بن مَسْعُود شَيْء من هَذَا كُله من غَرَضه، وَاسْتمرّ على ذَلِك مُدَّة قَضَائِهِ. وَكَانَ لَهُ من أَخِيه أبي الْحسن، وَزِير الدولة الإسماعيلية وعميد الْبَلدة، ردء كثير على إنقاذ الْأَحْكَام، ومصادمة أساطين الرِّجَال. وَنَفر بعض أهل الْمَدِينَة عِنْد التخاصم عِنْده، تقيه من تعاظم شدته واتصال عبوسته؛ وَجرى لَهُ فِي ذَلِك مَعَ القَاضِي بربض البيازين كَلَام حَاصله أَن طلب مِنْهُ الِاقْتِصَار بِالنّظرِ على جِهَته، رفعا للتشويش عَن الْخُصُوم. وَالْمَنْصُوص جَوَاز قاضيين فِي بلد وَاحِد وَأكْثر، كل مُسْتَقل ومختص بناحيته، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوع شَرط الِاتِّفَاق فِي كل حكم، لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض، وَتعذر الِاجْتِمَاع. وَقد تقدم الشبيه على ذَلِك عِنْد التَّكَلُّم فِي شُرُوط الْقَضَاء. ثمَّ إِذا تنَازع الخصمان فِي الِاخْتِيَار، حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ، وازدحم متداعيان، فالقرعة. قَرَأَ على الْأُسْتَاذ أبي جَعْفَر بن الزبير، وَابْن الطلاع، وَابْن أبي الْأَحْوَص، وَاسْتعْمل فِي الرسَالَة إِلَى ملك الْمغرب عَام 727، وَأقَام بِظهْر سلا؛ ثمَّ طرقه الْمَرَض، فتوفى هُنَالك يَوْم الْخَمِيس سَابِع ذِي قعدة من الْعَام الْمَذْكُور. وَدفن بالجبانة الْمَعْرُوفَة بشلة، خَارج رِبَاط الْفَتْح. ومولده لست خلت من شَوَّال عَام 653. وَكَانَ رَحمَه الله! قد ترك نَائِبا عَنهُ فِيمَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ من الْقَضَاء بغرناطة وَلَده الْفَقِيه أَبَا يحيى. فحين بلغه أَنه توفّي بِحَيْثُ ذكر، اسْتَقل بعده وَلَده بِالْولَايَةِ، واستكملت لَهُ ألقاب الخطة، وَجرى على طَريقَة أَبِيه من الجزالة والصرامة، فِي استخلاص الْحُقُوق، وَنصر الْمَظْلُوم، وقهر الظلوم. وَكَانَ فِي نَفسه شجاعاً، فَارِسًا، مقدما، جليل الْهَيْئَة، نبيه الشارة، رائق الأبهة، يبرز عِنْد الْقِتَال فِي مصَاف صُدُور الْأَبْطَال؛ فَيحسن دفاعه، ويجمل عناده. وَلما ضايقت الرّوم مَدِينَة المرية، وَكَانَ أَبوهُ الشَّيْخ أَبُو بكر مِمَّن شَمله الْحصار بهَا، كَمَا تقدم، شقّ أَبُو يحيى محلّة الْعَدو لَيْلًا، وتحيل وصل إِلَى سور الْبَلَد، وَأَعْلَى حرسته باسمه، فسر الْمُسلمُونَ بتخلصه، وانتفع هُنَالك أَبوهُ. وَبَقِي هَذَا القَاضِي مُتَوَلِّيًا خطة الْقَضَاء

ذكر القاضي محمد بن يحيي بن بكر الاشعري

نِيَابَة واستقلالاً نَحوا من خَمْسَة أَعْوَام. ثمَّ نقل قَاضِيا إِلَى مَدِينَة المرية، فَأَقَامَ بهَا. وَكَانَ أَيْضا نَائِب الشَّيْخ أبي بكر، ومشاوره فِي أَحْكَامه ونوازله، شيخ الْفُقَهَاء بقطره فِي وقته، العابد الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قُطْبَة الدوسي. وَكَانَ رَحمَه الله {لمكانه فِي الْمعرفَة وَالْعَدَالَة أَهلا للاستقلال بأعباء الْحُكُومَة. ذكر القَاضِي مُحَمَّد بن يحيى بن بكر الْأَشْعَرِيّ وَخَلفه فِي الْأَحْكَام بِحَضْرَة غرناطة الْأُسْتَاذ مُحَمَّد بن يحيى بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن بكر ابْن سعد الْأَشْعَرِيّ المالقي، من ذُرِّيَّة بلج بن يحيى بن خَالِد بن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن أبي بردة واسْمه عَامر بن أبي مُوسَى واسْمه عبد الله بن قيس صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} ذكره ابْن حزم فِي جملَة من دخل الأندلس من الْمغرب؛ يكنى أَبَا عبد الله، وَيعرف بِابْن بكر. هَذَا نَص مَا وَقع إِثْر اسْمه عِنْد ذكره فِي الْكتاب الْمُسَمّى ب عَائِد الصِّلَة وتحققنا من غَيره صِحَة مَعْنَاهُ. ولنذكر الْآن نبذاً من أنبئه وسيره فِي قَضَائِهِ. فَنَقُول أَولا: كَانَ شَيخنَا هَذَا أَبُو عبد الله رَحمَه الله وأرضاه! مِمَّن جمع لَهُ بَين الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة؛ لَازم من قبل سنّ التَّكْلِيف صهره الشَّيْخ الْفَقِيه الْوَزير أَبَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن الْحسن، وَقَرَأَ عَلَيْهِ بمنزله الْقُرْآن، وتأدب مَعَه، واختص بالأستاذ الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي السداد الْبَاهِلِيّ الْأمَوِي، وَأخذ عَن الرِّوَايَة أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَبَّاس الخزرجي بن السُّكُوت، والخطيب الْوَلِيّ أبي الْحسن بن فَضِيلَة، والأستاذ أبي الْحسن ابْن اللباد الْمدنِي. ورحل إِلَى مَدِينَة سبتة؛ فَأخذ بهَا عَن عميد الشرفاء أبي عَليّ بن أبي التقي طَاهِر بن ربيع، وَأبي فَارس عبد الْعَزِيز الهواري، وَأبي إِسْحَاق التلمساني، وَأبي عبد الله ابْن الخضار، والمقرئ أبي الْقَاسِم بن عبد الرَّحِيم، والأستاذ أبي بكر بن عُبَيْدَة. وَأَجَازَهُ من أهل الْمشرق الإِمَام شرف الدّين عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي بِالدَّال الْمُهْملَة، وَالرِّوَايَة المتحدث أَبُو الْمَعَالِي أَحْمد بن إِسْحَاق القوصي، إِلَى جمَاعَة من المصريين والشاميين

وَغَيرهم. وَعَاد إِلَى بَلَده مالقة، وَقد صَار سباق الحلبات معرفَة بالأصول، وَالْفُرُوع، والعربية، واللغة وَالتَّفْسِير، والقراءات، مبرزاً فِي علم الحَدِيث تأريخاً، وإسناداً، ونسخاً، وتصحيحاً، وضبطاً، حَافِظًا للألقاب والأسماء والكنى؛ فتصدر فِي فنون الْعلم. وَكَانَ كثير النَّصِيحَة، حَرِيصًا على الإفادة؛ فنفع وأدب، وَخرج وهذب، حَتَّى صَار أَصْحَابه على هَيْئَة متميزة من لِبَاس واقتصاد، وجد واجتهاد. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول لفتيان الطّلبَة مَا قَالَه الْجُنَيْد بن مُحَمَّد، وَهُوَ: يَا معشر الشَّبَاب {جدوا قبل أَن تبلغوا مبلغي} فتضعفوا وتقصروا كَمَا قصرت! وَكَانَ الْجُنَيْد وَقت الشاخة لَا يلْحقهُ الشَّبَاب فِي الْعِبَادَة. وَمن تِلْكَ النِّسْبَة أَيْضا كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله بن بكر؛ فَإِنَّهُ لم يكن فِي الْغَالِب يَأْكُل إِلَّا عِنْد حَاجَة، وَلَا ينَام إِلَّا عَن غلبته، وَلَا يتَكَلَّم بِغَيْر الْعلم إِلَّا عَن ضَرُورَة. وَبَقِي كَذَلِك زَمَانا، يدرس بِالْمَسْجِدِ الْقَرِيب من منزله سكناهُ احتساباً. ثمَّ تقدم ببلاده للوزارة، نَاظرا فِي أُمُور العقد والحل، ومصالح الكافة. ثمَّ ولي الْقَضَاء بِهِ؛ فأظهر من الجزالة والشدة مَا مَلأ بِهِ وجدا صُدُور الحسدة، ونسبوا إِلَيْهِ أموراً حملت على إِخْرَاجه من مالقة، وإمكانه بغرناطة؛ فَبَقيَ بهَا يَسِيرا، وَتقدم مِنْهَا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع خَطِيبًا. ثمَّ ولي قَضَاء الْجَمَاعَة؛ فَقَامَ بالوظائف، وصدع بِالْحَقِّ، وبهرج الْعُدُول؛ فزيف مِنْهُم مَا ينيف على الثَّلَاثِينَ عددا، استهدف بذلك إِلَى محادة ومناسبة ومعادلة خَاضَ ثبجها وصادم تيارها غير مبال بقيل أَو قَالَ؛ فَأصْبح فِي عمله، مَعَ كتبة الوثائق بغرناطة، أشبه الْقُضَاة بِيَحْيَى بن معمر فِي طلبه قرطبة، إِذْ بلغ من مناقشته أَن سجل فِي يَوْم وَاحِد بالسخطة على تِسْعَة عشر رجلا مِنْهُم وَجَرت لِابْنِ بكر فِي هَذَا الْبَاب حكايات يطول ذكرهَا، إِلَى أَن استمرت الْحَال على مَا أَرَادَهُ. وعزم عَلَيْهِ أميره فِي إِلْحَاق بعض من أسخطه بِالْعَدَالَةِ؛ فَلم يجد فِي قناته مغمزاً؛ فَسلم لَهُ فِي نظره. وَلم يزل مَعَ ذَلِك ملازماً أَيَّام قَضَائِهِ للاقراء مَعَ التَّعْلِيم: درس الْعَرَبيَّة، وَالْأُصُول، وَالْفِقْه، وإقراء الْقُرْآن، والحساب، والفرائض؛ وَعقد مجَالِس الحَدِيث شرحاً وسماعاً، وَرُبمَا نحا فِي بعض أَحْكَامه أنحاء مُصعب بن عمرَان أحد الْقُضَاة قَدِيما بقرطبة؛ فَكَانَ لَا يُقَلّد مذهبا، وَيَقْضِي بِمَا يرَاهُ صَوَابا. وَسَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بعد، بحول الله. وَإِن قُلْنَا عَن القَاضِي ابْن بكر إِنَّه كَانَ فِي شَدَائِد أَحْكَامه أشبه عُلَمَاء وقته بسحنون

ابْن سعيد، لم يكن فِي ذَلِك بِبَعِيد؛ فَإِنَّهُ أدب النَّاس على الْحلف بِالْإِيمَان اللَّازِمَة، وَأنكر سوء الْحَال فِي الملابس، وَفرق مجتمعات أَرْبَاب الْبدع، وشدد أهل الْأَهْوَاء بالسجن وَالْأَدب، على سَبِيل فِي ذَلِك كُله من اتِّبَاع السّنة وإطراح الْهَوَاء لَهُ، وخفض الْجنَاح لأهل الْخَيْر. وَكَانَ فِي خطبه وَصلَاته كثير الْخُشُوع، لَا يَتَمَالَك من سمع صَوته فِي الْغَالِب من إرْسَال الدُّمُوع؛ يقْرَأ فِي الصُّبْح بِمَا فَوق الْمفصل؛ فيحسبه الْمصلى خَلفه كَأَنَّمَا قَرَأَ بِآيَة وَاحِدَة، لحسن قِرَاءَته، وَطيب نغمته، وَصدق نِيَّته؛ وَإِذا ذكر شَيْء؛ من أُمُور الْآخِرَة، ظهر على وَجهه الاصفرار؛ ثمَّ يغلبه الْبكاء، ويتمكن مِنْهُ الانفعال. فَكَانَ، فِي مُعَامَلَته لأَصْحَابه، على مَذْهَب الْفرج بن كنَانَة، لَا يرى زلَّة لصديقه، وَلَا يعدل فِي حَاجته إِلَيْهِ عَن طَرِيقه؛ وقلما كَانَ يتَخَلَّف فِي يَوْم من أَيَّامه عَن عِيَادَة مَرِيض، أَو شُهُود جَنَازَة، أَو تفقد مُحْتَاج، أَو زِيَارَة منكوب. وَمن ذَلِك مَا حَدثنِي بِهِ قريبنا وقريبه الشَّيْخ الرِّوَايَة الْمُحدث الْحَاج أَبُو الْقَاسِم بن عبد الله، وَهُوَ أَنه لما اعتقل بدار الإشراف من الحضرة، على مَا نسب إِلَيْهِ من الْمُسَامحَة فِي إِضَاعَة مَال الجباية، أَيَّام كَانَت أشغال السلطنة لنظره، أَن زَارَهُ القَاضِي أَبُو عبد الله يَوْمًا فِي محبسه. قَالَ: فَذَكرته بعادته من مشاركته لأَصْحَابه ولإخوانه وَله ابْن عوَانَة. قَالَ: فاستعبر، واستغفر، وَأقَام معي هنيئة ساكتاً مفكراً؛ ثمَّ تنَاول القرطاس، وَكتب يُخَاطب الْأَمِير بِمَا نَصه: الْحَمد لله {مولَايَ أمدك الله بتوفيقه، وحملك من الرشاد على أوضح طَرِيقه} أسلم عَلَيْك وأسائلكم، حققت رَجَاء الآملين وسائلكم، وَلَا خَابَ من قصد لديكم قاصدكم وسائلكم! مَا كَانَ من حَدِيثي الَّذِي لم يزل ذَا قدم صدق فِي خدمَة الإيالة الإسماعيلية وبنيها، وخاصتها وذويها، واداً لأودائها. نَائِبا عَن متاربها، يرفع لنصحها فِي كل ميدان خدمَة لِوَاء، ويؤم أولياءها ثِقَة وأعداءها مقتاً ولواء، ويجر من نصحها من حسن الطوية رِدَاء، إِلَى أَن تحمل من عدوى الْجوَار دَاء، وَجعل لصَاحب الجريمة، من أَخذ بالجريرة غير ناره، وكوى لعجز جَاره، وَتارَة عدوه وَلم يقم لَهُ هُوَ ولي بثأره. فَهَل عثر البحاث البدعي فِي نواحي عمله وَفِي خفيات سره، على مقربة خبر. أَو أَتَى البحاث السَّرِيع فِي هزجه ورمله بأثارة علم تكشف الْعَمى وتضئ الطَّرِيق لأولى الْبَصَر؟

حنانيك أعد النّظر فَمَا هِيَ إِلَّا القيت يقرقر زجاجة، من قضابها لغيرك فِيمَا اخبث حَاجَة. وَإِن كَانَ وَقع لما أَلْقَاهُ فِي الْأَمر شَيْء من الباس، وَحضر لما زينه وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ من النَّاس، فَمَا بِنَا من ظُهُور الْحق لديك اياس، وحاشاك أَن يخْفض للجوار بِحَضْرَة عَهْدك الْكَرِيم كَبِير أنَاس. فَأَعْرض عَمَّا تسوله شياطين الْأنس وتحلية، وتعده من الأباطيل وتمنيه، وعد عَمَّا يزخرفه كل خف مزق القَوْل مِنْهَا فيستند كل نقل رِوَايَته إِلَى أصل غير ثَابت؛ فيربط قِيَاس رُؤْيَته بِمَا اطمع خضراء الدمن نابت، قد غمس فِي آل القَاضِي يَمِين طعمه، وجزاه على غموس الْيَمين فرط هلعه. فَمَا ينْطق لِسَانه إِلَّا بِمَا يَجْعَل فِي كَفه من الصَّامِت، وَاعْتمد مشورة نَاصح لَك بإلغاء نصحه حذر الوشاة فتخافت. وَإِذا حضرك الْغَاوُونَ المستبغون، وألقوا من حبال كيدهم وَعصى مَكْرهمْ مَا هم ملقون؛ فتعوذ بِاللَّه من شَرّ مَا يشركُونَ، واستحضر من الْحق كلمة تلقف مَا يافكون، وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا فقد احْتمل بهتاناً وإثماً مُبينًا. ثمَّ اسْمَع من لِسَان الْحَال، وَهُوَ أفْصح من لِسَان الْمقَال، حجَّة من اعْتَادَ سيلان الْفَضَائِل من يَديك، وَمثله جاثياً للاحتكام لديك، أَلَيْسَ من قَوَاعِد الحكم نظر حَال الْمُدعى وَحَال الْمُدعى عَلَيْهِ، وَمن يَلِيق بِهِ مَا عزى لَهُ وَمن لَا يناط بِهِ مَا نسب إِلَيْهِ؟ هَل يستويان مثلا، أَو يتقاربان قولا، ويتقارنان عملا، أَو يتباعدان بعد المشرقين، ويتباينان فَوق مَا بَين عطاردين؟ فَمن الَّذِي يَتْلُو الْآيَات ويردد واعظها، ويسرد الْأَحَادِيث وَيسمع مواعظها، ويطرد فِي الاسحار الهجوع، وَيُرْسل فِي مجَالِس الْخَيْر الدُّمُوع، ويتعبد مَعَ العابدين، ويتقلب مَعَ الساجدين؟ أم هُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَيْت وَكَيْت مِمَّا يكثر عِنْد التعداد، وَلَا يحمل فِي مثله اسْتِعْمَال الْقَلَم والمداد؟ فعلى من تحمل الْيَمين وَالْكذب، أَعلَى من أَلفه الْجد أم على من غلب عَلَيْهِ اللّعب؟ فَإِن غير هَذَا أَو غير هَذَا لأمر مَا وَقيل هما فِي الثَّنَاء سيان، وَعند النداء سميان، وَقد ظهر للْمُدَّعى فِي صكوك الْحساب رُجْحَان، وَهَذَا ديوَان الْعَمَل فِيهِ شَهَادَة فلَان على خطّ الْمَطْلُوب وَفُلَان، فادرا هَذِه الشُّبْهَة المشوهة وَالْحجّة الداحضة المموهة. فَإِن اضْطِرَاب الْمذَاهب فِي الْعَمَل بِالْكتاب، وتفرق أَرْبَابهَا على أشتات الطّرق والشعاب، فَمنهمْ من أهمله جملَة فِي كل الْأُمُور

وَمِنْهُم من أعمله فِي بَعْضهَا وَهُوَ القَوْل الْمَشْهُور {يَا للعجب إِذا كَانَت شَهَادَة الْعُدُول ترد بالاستبعاد، بِدَعْوَى فِيمَا يقدر على تَحْصِيله بِيَسِير العثرات والاحاد} وَعند التَّأَمُّل بإنصاف، وتجنب الْميل والانحراف، يَبْدُو من أَحْوَال هَذِه الْقَضِيَّة قَرَائِن توجب فض ذَلِك الْمَكْتُوب، وتؤذن بِبَرَاءَة الْمَحْبُوس من الْعدَد الْمَطْلُوب، وَإِن كَانَ من جد هَذَا القَوْل لَيْسَ من أهل التحبير، وَلَا مِمَّن عرف بجودة الْبَيَان وبلاغة التَّعْبِير، فَإِنَّهُ ذُو عسرة جاد بِمَا وجد، وحليف وجد عصر بلالة طبعه شدَّة مَا بِهِ من الكمد، أبقاك الله وَكتب لَك سداد الرَّأْي وسعادة الْأَبَد، وَعزا ونعيماً لَا يحصرهما حد، وَلَا ينتهيان إِلَى أمد {وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله صَلَاة دائمة مَا دَامَ ثَنَاؤُهُ فِي الألسن وثراه فِي الْخلد} قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم: وَختم الْكتاب بعد مَا علقه لأعجمي لَهُ وَدفعه لمن بلغه. فَمَا تمّ النَّهَار إِلَّا والبشير قد وصلني بالإعتاب، وَرفع التَّوَجُّه من العتاب. وَالْحَمْد لله على مَا منح من ذَلِك {قَالَ الْمُؤلف أدام الله سعادته} وَهَذَا المرسوم الفريد، إِن كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله بن بكر قد أَتَى بِهِ على البديهة، إِنَّه لأغرب من الْخطْبَة الَّتِي قَامَ بهَا مُنْذر ابْن سعيد بَين يَدي الْخَلِيفَة النَّاصِر، حِين أرتج على مُحَمَّد بن عبد الْبر وحيل بَينه وَبَين مَا رَوَاهُ، وَانْقطع القَوْل بأمير الْكَلَام أبي عَليّ القالي. وَإِن كَانَ الشَّيْخ قد جدد قَدِيما مَا أظهره وأعده، قصد مناظرة أَخِيه؛ فَلَقَد أحسن فِي عمله مَا شَاءَ، وأجاد الإبداع والإنشاد. وَيقرب من هَذَا النمط مَا حَدثنَا بِهِ صاحبنا الْخَطِيب أَبُو جَعْفَر الشقوري عَن القَاضِي أبي عبد الله الْمَذْكُور، أَنه كَانَ قَاعِدا يَوْمًا بَين يَدَيْهِ، فِي مجْلِس قَضَائِهِ من حَضْرَة غرناطة مهدها الله تَعَالَى {وَإِذا بِامْرَأَة قد رفعت لَهُ بطاقة مضمنها: يَا سَيِّدي رضى الله عَنْكُم} إِنَّمَا محبتها فِي الرجل الَّذِي طَلقهَا وَهِي تُرِيدُ من يكلمهُ فِي ارتجاعه لَهَا وردهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَتَنَاول الْقَلَم، وَكتب على ظهر البطاقة أحرفاً، وَدفعهَا إِلَيّ؛ فَإِذا هِيَ: الْحَمد لله {من وقف على مَا فِي الْقُلُوب فليصخ لسماعه إصاخة مغيث، وليشفع لتِلْك الْمَرْأَة عِنْد مفارقها تأسياً بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} لبريرة فِي مغيث {وَالله تَعَالَى يسلم لنا الْعقل وَالدّين، ويسلك بِنَا سَبِيل المهتدين} وَمن نصائحه لطلبته: أوصيكم، بعد تقوى الله الْعَظِيم، بِثَلَاث خِصَال: أَلا تكْتبُوا

خطا دَقِيقًا؛ فَإِنَّهُ يضر بأبصاركم، ويقل انْتِفَاع الْغَيْر بِهِ بعدكم؛ وَإِذا خططتم أحدا، فَلَا حظوا تخطيطه أَن يكون الشَّخْص المخطط غير خلي من الْمَعْنى الْوَاقِع فِي اسْمه، توخياً مِنْكُم للصدق، وتحرياً عَن التجاوز الْمَحْض؛ وَلَا يكن همكم بكتب الشُّيُوخ لكم على مَا قَرَأْتُمْ. وَليكن همكم أَن تَكُونُوا من الدّيانَة والدراية بِمَثَابَة من يقبل قَوْله فِيمَا يَدعِيهِ وَلَا يكذب فِيهِ إِلَى غير ذَلِك من خطبه ومواعظه وأدبه. وَكَانَ فِي أقضيته لَا يرى الحكم بِمُجَرَّد التدمية، إِذا لم يقْتَرن بهَا لشَيْء من اللوث، ويرخص للرجل فِي مُتَابَعَته لزوجته بالأدب، ويوجبه على الصَّلَاة، بِخِلَاف مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن أبي زيد فِي نوادره، ويردد مَا ورد فِي الصَّحِيح: أَلا كلكُمْ رَاع، وكلكم مسؤول عَن رَعيته {وَكَانَ لَا يُوسع للناشر عَن رَأْي الْفِرَار بعد الدُّخُول ويجبرها على الرُّجُوع، إِلَى أَن أحدثت لَهُ بمالقة، أَيَّام قَضَائِهِ بهَا، مَعَ رجل من أَهلهَا يعرف بِعَبْد الله الوردي؛ فَأمْسك عَن ذَلِك. وَكَانَ يَأْخُذ بِمذهب اللَّيْث بن سعد فِي كِرَاء الأَرْض بالجزء مِمَّا تنْبت، ويحذر من الركون إِلَى مقالات مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ الْمَعْرُوف بِابْن خطيب الرَّأْي فِي المباحث، وينكر عَلَيْهِ مَا قَرَّرَهُ آخر محمله من الأراء وَقَوله فِي الْأَرْبَعين: أما الْكَافِر، فَهُوَ على قَول الْأَكْثَر من الْأمة يبقي مخلداً فِي النَّار؛ وَهَذَا القَوْل من ابْن الْخَطِيب فِيهِ مَا فِيهِ؛ فَإِن الْمُخَالف فِي تخليد الْكَافِر فِي النَّار هُوَ من الْقلَّة والشذوذ، بِحَيْثُ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَلَا يعد كَلَامه قولا فِي الْمَسْأَلَة. وَكَانَ يَقُول: من لم يتمرن فِي عُقُود الشُّرُوط، وَلَا أَخذ نَفسه بالتفقد فِي كتب التوثيق، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يكون قَاضِيا، وَإِن كَانَ قَوِيا فائقاً فِي سَائِر الْعُلُوم} وَإِن ذَهَبْنَا إِلَى تَقْدِير مَا تلقيناه من شَيخنَا القَاضِي أبي عبد الله فِي مجالسه العلمية من نكت النَّوَازِل وطرف الْمسَائِل، طَال بِنَا القَوْل، وَأدْركَ فريضتنا الْعَوْل {وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ الْعِنَايَة الكافية. وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَا ذكر بَقِي بن مخلد عَن مُحَمَّد بن بشير حَيْثُ قَالَ: مَا كَانَ يُقَاس إِلَّا بِمن تقدم من صُدُور هَذِه الْأمة. وَمن تِلْكَ الطَّبَقَة كَانَ مُحَمَّد بن بكر عِنْد من عرفه وَاسْتمرّ على عمله من الِاجْتِهَاد، وَالرَّغْبَة فِي الْجِهَاد، إِلَى أَن فقد رَحمَه الله} فِي مصَاف الْمُسلمين، يَوْم المناجزة الْكُبْرَى بِظَاهِر طريف، شَهِيدا محرضاً، يشحد البصائر، ويدمن الْأَبْطَال، وَيُشِير على الْأَمِير أَن يكثر من قَول: حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل!

ذكر القاضي عثمان بن منظور

وَقد كتف دَابَّته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبًا، وَهُوَ رابط الجأش، مُجْتَمع القوى، وَأَنْشَأَ عَلَيْهِ بالركوب وَقَالَ لَهُ: انْصَرف {هَذَا يَوْم الْفَرح} يُشِير، وَالله أعلم، إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: " فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله "؛ وَذَلِكَ ضحى الْإِثْنَيْنِ السَّابِع من جُمَادَى الأولى عَام 741، عَن غير عقب من الذُّكُور. ومولده فِي أَوَاخِر شهر ذِي الْحجَّة من عَام 673. ذكر القَاضِي عُثْمَان بن مَنْظُور وَمن الْقُضَاة بمالقة، أَيَّام ابْن بكر بغرناطة، شَيخنَا أَبُو عمر عُثْمَان بن مُحَمَّد بن يحيى بن مُحَمَّد بن مَنْظُور الإشبيلي، أحد بيُوت النباهة بالأندلس. ذكره صَاحب كتاب الْعَائِد فَقَالَ فِيهِ: كَانَ رَحمَه الله! صَدرا فِي عُلَمَاء بَلَده، أستاذاً ممتعاً، من أهل النّظر وَالتَّحْقِيق، ثاقب الذِّهْن، أصيل الْبَحْث، مضطلعاً بالمشكلات، مشاركاً فِي الْفِقْه والعربية، إِلَى أصُول وقراءات وطب ومنطق. قَرَأَ كثيرا، ثمَّ تلاحق بِأَصْحَابِهِ. ثمَّ غبر فِي وُجُوه السوابق. لَازم الْأُسْتَاذ أَبَا مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ، وانتفع بِهِ. وَقَرَأَ على الْأُسْتَاذ أبي بكر بن الفخار، وَتزَوج زَيْنَب ابْنة الْفَقِيه المشاور أبي عَليّ بن الْحسن؛ فاستقرت عِنْده كتب والدها. فاستعان بهَا على الْعلم، والتبحر فِي الْمسَائِل. وَقيد بِخَطِّهِ الْكثير، واجتهد، وصنف، وَقَرَأَ بِبَلَدِهِ محترفاً بضَاعَة التوثيق؛ فَعظم بِهِ الِانْتِفَاع. وَولي الْقَضَاء بآش، وملتماس، وقمارش، ثمَّ بِبَلَدِهِ مالقة. وَتُوفِّي بهَا مصروفاً عَن الْقَضَاء، دون عقب، فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الْخَامِس وَالْعِشْرين لذِي حجَّة عَام 735؛ وَلم يخلف بِبَلَدِهِ مثله فِي وقته مُشَاركَة فِي الْفُنُون، وجودة نظر، وثقوب ذهن. وَخرج عَلَيْهِ طَائِفَة من الطّلبَة. وَولي بعده بِقَيْد الْحَيَاة بمكانه من خطة الْقَضَاء صَاحبه، المنتفع بِهِ قبل ذَلِك قِرَاءَة علية وسكوناً إِلَيْهِ، مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج، الْمَدْعُو بِأبي البركات البلفيقي، حَسْبَمَا يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ بعد بحول الله تَعَالَى.

ذكر القاضي ابي عبد الله محمد بن عياش

ذكر القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَيَّاش واستقضى بعد ابْن بكر، من أَصْحَابه الآخذين عَنهُ، الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَيَّاش الخزرجي؛ استدعاه أَمِير الْمُسلمين أَبُو الْحجَّاج لحضرته، وقلده قَضَاء الْجَمَاعَة بهَا؛ فَأَقَامَ الرَّسْم ثَلَاثَة أَيَّام حسبَة، كَمَا تقدم فِي اسْمه، وأفصح رَابِع يَوْمه بالاستعفاء؛ فَترك لشأنه. ذكر القَاضِي أبي جَعْفَر أَحْمد بن برطال واستقدم على أَثَره من مالقة أَيْضا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد الْأمَوِي، الْمَعْرُوف بِابْن برطال، أحد المترددين للْقَاضِي أبي عبد الله بن بكر أَيَّام كَونه بِبَلَدِهِ. فولى قَضَاء الْجَمَاعَة بغرناطة وَالْخطْبَة. قَالَ صَاحب عَائِد الصِّلَة: على قُصُور فِي المعارف؛ وَلذَلِك يَقُول الشَّيْخ نَسِيج وَحده أَبُو البركات: إِن تَقْدِيم ابْن برطال دَعَا ... طالبي الْعلم إِلَى ترك الطّلب حسبوا الْأَشْيَاء عَن أَسبَابهَا ... فَإِذا الْأَشْيَاء من غير سَبَب فأعنته الدربة وأنجدته الخطة على تَنْفِيذ الْأَحْكَام؛ فَلم يُؤثر عَنهُ فِيهَا أحدوثه، وَاسْتظْهر بجزالة أمضت حكمه وانقباض عافاه من الهوادة. فرضيت سيرته، واستقامت طَرِيقَته. وصير إِلَى مالقة بعد ذَلِك. فَتوفي بهَا أَيَّام الطَّاعُون الْكَبِير، وَذَلِكَ فِي منصف لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس صفر من عَام 750: خرجت جنَازَته فِي الْيَوْم لليلة وَفَاته، صَحبه ركب من الْأَمْوَات يزِيد على الْألف، مِنْهُم شَيخنَا المقريء الْوَلِيّ أَبُو الْقَاسِم بن يحيى بن دِرْهَم، والأستاذ الْوَاعِظ أَبُو عبد الله أَحْمد الْمَعْرُوف بالقطان رَحْمَة الله عَلَيْهِم!

ذكر القاضي ابي القاسم الخضر بن ابي العافيه

ذكر القَاضِي أبي الْقَاسِم الْخضر بن أبي الْعَافِيَة وَمِنْهُم الْخضر بن أَحْمد بن أبي الْعَافِيَة الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا الْقَاسِم وَيعرف بِابْن أبي الْعَافِيَة، من أهل غرناطة. وَكَانَ رَحمَه الله {من صُدُور الْقُضَاة، وجهابذة النُّحَاة، وَأهل النّظر والعكوف على الطّلب، حَتَّى صَار مضطلعاً بنوازل الْأَحْكَام، مهتدياً لاستخراج غرائب النُّصُوص. نسخ بِيَدِهِ الْكثير، وَقيد من الْمسَائِل، فَعرف فَضله، وبهر نبله، واستشاره الْقُضَاة فِي المشكلات، واستظهروا بنظره عِنْد الْمُهِمَّات. وَكَانَ بَصيرًا بِعقد الشُّرُوط، ظريف الْخط، بارع الْأَدَب، مكثراً من النّظم؛ وَمن ذَلِك قَوْله: لي دين على اللَّيَالِي قديم ... ثَابت الرَّسْم مُنْذُ خمسين حجَّة أبعاد وبالحكم بعد عَلَيْهَا ... أم لَهَا عَن تقادم الْعَهْد حجَّة وَتُوفِّي رَحمَه الله} قَاضِيا ببرجة؛ وسيق إِلَى غرناطة. فَدفن بِبَاب إلبيرة عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء آخر يَوْم من ربيع الأول عَام 745. وَقد أَجَابَهُ على بيتيه الْمَذْكُورين طَائِفَة من الأفاضل بِقطع من الشّعْر الرَّائِق. وإنهما لمن نمط الظريف. وَلقَائِل إِن يَقُول: بل هما من الْكَلَام الضَّعِيف المنقود على مثل الْفَقِيه، فَإِنَّهُ إِن كَانَ قد أَرَادَ بِالدّينِ الَّذِي زَعمه على اللَّيَالِي، مَا نَوَاه من التَّوْبَة! وحَدثني بِنَحْوِ هَذَا الْغَرَض عَنهُ بعض الْأَصْحَاب، وَذكر لي أَنه أخبرهُ بذلك عَن نَفسه أَيَّام حَيَاته. فالملام إِذا مُتَوَجّه عَلَيْهِ لأجل تفريطة وانحلال عزيمته. وَبَيَان ذَلِك أَن التَّوْبَة فرض بِإِجْمَاع الْأمة فِي كل وَقت وعَلى كل حَال من كل ذَنْب أَو تَقْصِير، فِي كَمَال أَو غَفلَة؛ وحالها حَال الشَّيْء الَّذِي يُتَاب مِنْهُ، فَإِن كَانَ الْوَاقِع حَرَامًا، كَانَت التَّوْبَة على الْفَوْر إِلَى تَمام المقامات فَمن أَخّرهَا زَمَانا، عصى بِالتَّأْخِيرِ فَيحْتَاج إِلَى تَوْبَة من تَأْخِير التَّوْبَة. وَكَذَلِكَ يلْزم على تَأْخِير كل مَا يجب تَقْدِيمه. فعلى هَذَا التَّقْدِير، تَأْخِير الشَّيْخ التَّوْبَة مُدَّة من خمسين سنة وإصراره على الذَّنب ذنبان مضافان إِلَى الْخَطِيئَة. وَإِن كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ الملحة والتورية بالديون الَّتِي تكلم عَلَيْهَا الْفُقَهَاء فِي بَاب الْمُعَامَلَات من غير الْتِفَات مِنْهُ لغَرَض معِين، فَكَانَ من حَقه أَن

يَأْتِي بِمَا يُطَابق أَقْوَال الْعلمَاء، وَلم يقل أحد مِنْهُم بإلزام الغرامة لمدين بعد مُرُور خمسين سنة من تأريخ الرَّسْم الْمَطْلُوب بمضمنه. وَلذَلِك قلت فِي معرض الْجَواب منبهاً على هَذَا الْوَجْه: قل لمن ألزم اللَّيَالِي دينا ... وَهُوَ فِي الْعرف قد تجَاوز نهجه مُقْتَضى الْفِقْه رفض مَا تدعيه ... فَاتق الله حَيْثُمَا تتَوَجَّه وَلَو أَتَى النَّاظِم بِعشْرين بدل الْخمسين، لَكَانَ أقرب إِلَى مَحل الْخلاف. وَإِن كَانَ الأَصْل بَقَاء الدّين فِي ذمَّة الْمديَان؛ لكنه قَالَ يشْهد الْعرف للْمَدِين فَيكون القَوْل قَوْله فِي الدّفع. وَهَذَا قد يَتَّضِح الْعرف فِيهِ فيتفق عَلَيْهِ. وَقد يخْتَلف فِيهِ لكَون الْعرف لم يَتَّضِح. وَهَذِه الْمَسْأَلَة تفْتَقر إِلَى بسط. وَنحن نورد من الْكَلَام عَلَيْهَا فِي هَذَا الْموضع مَا أمكن، إِذْ هُوَ وَقت الِاحْتِيَاج إِلَى الْبَيَان. فَنَقُول وَالله الْمُوفق للصَّوَاب {فَمن مثل مَا اتَّضَح فِيهِ الْعرف، مَا ذكر فِي الْمُدَوَّنَة أَن مَا يُبَاع على النَّقْد كالصرف، وَمَا يُبَاع فِي الْأَسْوَاق كَاللَّحْمِ، والفواكه، وَالْخضر، وَالْحِنْطَة، وَالزَّيْت وَنَحْوه، وَقد انْقَلب بِهِ الْمُبْتَاع، فَالْقَوْل قَوْله إِنَّه قد دفع الثّمن مَعَ يَمِينه يصدق المُشْتَرِي هُنَا فِي دفع الثّمن لشهادة الْعَادة لَهُ بصدقه. قَالَ الْمَازرِيّ: وَهَذَا لم يخْتَلف فِيهِ لَا تضاح الْعَادة الدَّالَّة عَلَيْهِ. وَهَكَذَا ذكر ابْن رشد أَنه لَا اخْتِلَاف فِي أَن القَوْل هُنَا قَول الْمُبْتَاع. قَالَ أَبُو إِسْحَاق التّونسِيّ: مَا كَانَ من الْأَشْيَاء عَادَتهَا أَن تقبض قبل دفع السّلْعَة أَو مَعهَا مَعًا؛ فَإِذا قبض المُشْتَرِي السّلْعَة، كَانَ القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه دفع الثّمن لدعواه الْمُعَادَة. وَقَالَ ابْن مُحرز: إِن لم يَنْقَلِب بِهِ، وَكَانَ قَائِما مَعَ بَائِعه، فقد اخْتلف فِي ذَلِك؛ فروى أَشهب عَن مَالك: القَوْل قَول رب الطَّعَام مَعَ يَمِينه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: القَوْل قَول الْمُبْتَاع. قَالَ ابْن الْقَاسِم: وَذَلِكَ إِذا كَانَت عَادَة النَّاس فِي ذَلِك الشَّيْء أَخذ ثمنه قبل قَبضه أَو مَعَه. قَالَ ابْن مُحرز: فقد نبه ابْن الْقَاسِم رَحمَه الله} على الْمَعْنى الَّذِي يَنْبَغِي أَن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي هَذَا الأَصْل، وَهُوَ الْعَادة؛ فَمن ادّعى الْمُعْتَاد كَانَ القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه فِي جَمِيع الْأَشْيَاء الْمُشْتَرَاة على اختلافها من دور، ورقيق، وبز، وَطَعَام، وَغير ذَلِك؛ وَمن مثل هَذَا أَيْضا إِذا بَاعَ سلْعَة، وَادّعى بعد طول أَنه لم يقبض ثمنهَا، فَإِن القَوْل قَول الْمُبْتَاع مَعَ يَمِينه.

لَا كن اخْتلف فِي حد الطول؛ فَقَالَ ابْن حبيب: أما الرَّقِيق، وَالدَّوَاب، وَالرّبع، وَالْعَقار، فالبائع مُصدق وَإِن تفَرقا مَا لم يطلّ، فَإِن مضى عَام أَو عامان، فَالْقَوْل قَول الْمُبْتَاع، وَلَيْسَ يُبَاع مثل هَذَا على التقاضي. وَأما الْبَز وَشبهه من التِّجَارَات، فَمَا يُبَاع على التقاضي والآجال؛ فَإِن قَامَ مَا لم يطلّ، فَزعم أَنه لم يقبض الثّمن، حلف وَصدق؛ وَإِن قَامَ بعد طول مثل عشر سِنِين، فَأَقل مِنْهَا مِمَّا لَا يبْتَاع ذَلِك إِلَى مثله، صدق الْمُبْتَاع وَيحلف. وساوى ابْن الْقَاسِم بَين الْبَز وَغَيره مَا عدا الْحِنْطَة وَالزَّيْت وَنَحْو ذَلِك، وَجعل القَوْل فِي ذَلِك قَول البَائِع، وَلَو بعد عشْرين سنة، حَتَّى تجَاوز الْحَد الَّذِي لَا يجوز البيع إِلَيْهِ. قَالَ الْمَازرِيّ: وَالتَّحْقِيق أَن هَذَا الطول غير مَحْدُود، وَلَا مُقَدّر، لَا بِحَسب مَا تجْرِي بِهِ الْعَادة فِي سَائِر الْجِهَات، وَفِي أَجنَاس التِّجَارَات؛ فَلَا معنى للرُّجُوع إِلَى هَذِه الرِّوَايَات، لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على شَهَادَة بعادة. وَمن هَذَا أَيْضا مَا قَالُوا إِن القَوْل قَول المكترى فِي دفع الْكِرَاء إِذا طَال الْأَمر بعد انْقِضَاء أمد الْكِرَاء، حَتَّى يُجَاوز الْحَد الَّذِي جرى الْعرف بِتَأْخِير الْكِرَاء إِلَيْهِ. وَمن مثل هَذَا أَيْضا، دَعْوَى الزَّوْج دفع الصَدَاق إِلَى الزَّوْجَة: فقد قَالَ مَالك وَابْن الْقَاسِم: إِن الزَّوْج يصدق فِي الدّفع إِذا اخْتلف فِي ذَلِك بعد الْبناء. وَمن مثل هَذَا أَيْضا، مَا قَالُوا فِي أَن رب الدّين، إِذا حضر على قسْمَة تَرِكَة الْمديَان، وَلم يقم بِدِينِهِ، وَلَا عذر لَهُ بِمَنْعه من الْقيام، فَلَا شَيْء لَهُ. وَمن مثل هَذَا أَيْضا مَا قَالَ مَالك فِي الوسى: يدعى دفع المَال إِلَى الْيَتِيم إِنَّه لَا يصدق إِلَّا إِن يكون رجلا ادّعى على وليه أَنه لم يدْفع إِلَيْهِ مَاله بعد زمَان طَوِيل، قد خرج فِيهِ عَن حَال الْولَايَة، حَتَّى إِذا طَال الزَّمَان، وَهلك الشُّهُود، قَالَ: فلَان وليى، وَلم يدْفع إِلَيّ مَالِي؛ فَلَيْسَ هَذَا بِالَّذِي أُرِيد! قَالَ ابْن رشد هَذَا، كَمَا قَالَ من أَن ولي الْيَتِيم يصدق مَعَ يَمِينه فِي دفع مَال الْيَتِيم إِلَيْهِ إِذا أنكر الْقَبْض وَقد طَالَتْ الْمدَّة، لِأَن طول الْمدَّة دَلِيل على صدقه لِأَن الْعرف يشْهد لَهُ؛ فَيكون القَوْل قَوْله، كَمَا يكون القَوْل المكترى فِي دفع الْكِرَاء إِذا طَال الْأَمر بعد انْقِضَاء أمد الْكِرَاء، حَتَّى يُجَاوز الْحَد الَّذِي جرى الْعرف بِتَأْخِير الْكِرَاء إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن يبْقى بن زرب: إِذا قَامَ على وَصِيَّة بعد انطلاقه من الْولَايَة بأعوام كَثِيرَة كالعشرة والثمان، يَدعِي أَنه لم يدْفع إِلَيْهِ مَاله؛ فَلَا شَيْء لَهُ قبله يُرِيد من المَال وَيحلف، لقد دفع إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِذا لم يكن فِي حد ذَلِك سنة، يرجع إِلَيْهَا فَالَّذِي يُوجِبهُ النّظر أَن يكون القَوْل قَول

ذكر القاضي ابي محمد عبد الله بن يحيي الانصاري

الْيَتِيم إِنَّه مَا قبض حَتَّى يمْضِي من الْمدَّة مَا يغلب على الظَّن مَعهَا كذبه فِي أَنه لم يقبض وَيصدق وليه فِي أَنه دفع. وَهَذِه الْمَسْأَلَة، وَإِن لم تكن من الدُّيُون، فَإِنَّهَا تشارك الدُّيُون فِي أَن الْوَصِيّ لَا يصدق فِي الدّفع إِلَى الْيَتِيم مَعَ الزَّمَان الْقَرِيب. وَالْأَصْل فِي هَذَا كُله شَهَادَة الْعرف وَالْعَادَة. فَإِذا شهد الْعرف للمديان وَرجح قَوْله، صدق فِي الدّفع مَعَ يَمِينه؛ وَإِن لم يشْهد لَهُ الْعرف، فَالْقَوْل قَول رب الدّين فِي أَنه لم يقبض، وَقيام رب الدّين بعد طول الزَّمَان بِهِ ودعواه عدم الْقَبْض مِمَّا يوهن دَعْوَاهُ ويكذبه؛ فَيكون القَوْل قَول الْمديَان فِي الدّفع مَعَ يمنيه لشهادة الْعرف بِهِ. وَمِقْدَار الطول التَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الإِمَام أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ إِنَّه غير مُقَدّر، وَلَا مَحْدُود، إِلَّا بِحَسب مَا تجْرِي بِهِ الْعَادة فِي سَائِر الْجِهَات وَفِي أَجنَاس التِّجَارَات. وَالله أعلم! وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة. ذكر القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الله بن يحيى الْأنْصَارِيّ وَمن الْقُضَاة، عبد الله بن يحيى بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زَكَرِيَّاء الْأنْصَارِيّ الأوسي، من أهل غرناطة؛ وَأَصله من مرسية، من بَيت جود وَفضل يكنى أَبَا مُحَمَّد. كَانَ مِمَّن ولى الْقَضَاء وَهُوَ دون عشْرين سنة، وَتصرف فِيهِ بَقِيَّة عمره بالجهات الأندلسية؛ فأظهر نزاهة وعدالة، وَأكْثر مَعَ ذَلِك من الْقِرَاءَة والإجتهاد، حَتَّى صَار من أهل الْقيام، والإحكام، والتقدم فِي عقد الشُّرُوط، والإمامة فِي علم الْفَرَائِض وَالْعدَد، وَمَا يرجع إِلَيْهِ، عَن الْأُسْتَاذ أبي عبد الله بن الرقام. وروى عَن أبي جَعْفَر بن الزبير، وَالْقَاضِي أبي عبد الله بن هِشَام، والخطيب أبي الْحسن بن فَضِيلَة. وَكَانَ فِي قَضَائِهِ على طَريقَة حَسَنَة من دماثه أَخْلَاق، وسلامة أغراض، وَتثبت فِي المشكلات، والأمور المشتبهات؛ وَكَثِيرًا مَا كَانَ يُطِيل الْجُلُوس فِي آخر النَّهَار، خشيَة أَن يَأْتِي مُحْتَاج ضَعِيف، أَو شَاك ملهوف من مَكَان بعيد؛ فَلَا يُوجد. وَإِذا بَان لَهُ وَجه الْحق فِي الْحُكُومَة، أنفذ دون استراب فِي شَيْء مِنْهُ، أَخذ فِيهِ بِمذهب ابْن مخلد من الأستيناء، حَتَّى يصير الْفَرِيقَانِ إِلَى التصالح، احْتِيَاطًا لنَفسِهِ وَلغيره. مولده منتصف شهر جُمَادَى الآخر عَام 675. وَتُوفِّي وَهُوَ قَاض ببسطة، فِي التَّاسِع عشر فِي شهر رَمَضَان عَام 745.

ذكر القاضي ابي بكر محمد بن احمد بن شبرين

ذكر القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن شبرين وَمِنْهُم مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الجذامي نزيل غرناطة، وَأَصله من إشبيلية، من حصن شلب من كورة باجة غربي صقعها؛ يكنى أَبَا بكر، وَيعرف بِابْن شبرين. وانتقل أَبوهُ عَن إشبيلية عِنْد تغلب الْعَدو عَلَيْهَا، وَذَلِكَ عَام 646: فاحتل رندة، ثمَّ غرناطة، ثمَّ انْتقل إِلَى سبتة، وَبهَا ولد ابْنه أَبُو بكر هَذَا. ثمَّ عَاد عِنْد الْحَادِثَة الَّتِي كَانَت بهَا فِي أَوَاخِر عَام 705 إِلَى غرناطة؛ فارتسم بهَا فِي الْكِتَابَة السُّلْطَانِيَّة. ثمَّ تولى الْقَضَاء بِكَثِير من الْجِهَات. وَكَانَ رَحمَه الله! فريد دهره فِي حسن السمت، وجمال الرواء، وبراعة الْخط، وَطيب المجالسة، من أهل الدّين وَالْفضل وَالْعَدَالَة، غابة فِي حسن الْعَهْد ومجاملة الْعشْرَة، أَشد النَّاس اقتداراً على نظم الشّعْر والكتب الرَّائِق. قَرَأَ على جده لأمه الْأُسْتَاذ أبي بكر بن عُبَيْدَة الإشبيلي، وعَلى الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الغافقي. وَكَانَت لَهُ رحْلَة إِلَى مَدِينَة تونس، لَقِي بهَا قَاض الْجَمَاعَة الشَّيْخ الإِمَام أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرفيع وَغَيره؛ فاتسع بذلك نطاق رِوَايَته. وَمن شعره: لي همة كلما حاولت أمْسكهَا ... على المذلة فِي أرجا أراضيها قَالَت: ألم تَكُ أَرض الله وَاسِعَة ... حَتَّى يُهَاجر عبد الْمُؤمن فِيهَا وَله فِي برد غرناطة: رعى الله من غرناطة متبوءاً ... يسر كئيباً أَبُو يجير طريدا تبرم مِنْهَا صَاحِبي بعد مَا رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا هِيَ الثغر صان الله من أهلت بِهِ ... وَمَا خير ثغر لَا يكون برودا توفّي، عَن غير عقب من الذُّكُور، ثَالِث شعْبَان من عَام 747.

ذكر القاضي ابي اسحاق ابراهيم بن يحيي بن زكرياء

ذكر القَاضِي أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يحيى بن زَكَرِيَّاء وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يحيى شَقِيق الْفَقِيه القَاضِي مُحَمَّد بن زَكَرِيَّاء الْمُتَقَدّم الذّكر. وَكَانَ من سراة الْقُضَاة، طرفا فِي الْخَيْر والاقتصاد والتعزز والانقباض، بارعاً فِي الْخط؛ أَخذ بحظ من النّظم والنثر، وَاسْتعْمل فِي الْقَضَاء؛ فَسَار فِيهِ بأجمل سيرة وَأحمد طَريقَة. قَرَأَ على أَبِيه؛ ثمَّ تحول إِلَى الْأُسْتَاذ أبي جَعْفَر بن الزبير، وَأخذ بسبتة عَن أبي إِسْحَاق الغافقي، وَصَحب صوفية وقته كَأبي عبد الله التّونسِيّ، وَأبي جَعْفَر بن الزيات، وَأبي الطَّاهِر بن صَفْوَان. وَكتب بِالدَّار السُّلْطَانِيَّة؛ فَكَانَ زين أخدانه، وَصدر إخوانه. مولده فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين لشعبان من عَام 751. ذكر القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن عبيد الله بن مَنْظُور الْقَيْسِي وَمن أَعْلَام الْقُضَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبيد الله بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن يحي بن عبيد الله بن مَنْظُور الْقَيْسِي المالقي، وَأَصله من إشبيلية، من الْبَيْت الأثيل الْمَشْهُور؛ وَيَكْفِي من التَّعْرِيف بقدم إصالته الْكتاب الْمُسَمّى ب الرَّوْض المنظور، فِي وصاف بني مَنْظُور. وَكَانَ هَذَا القَاضِي رَحمَه الله! جم التَّوَاضُع، كثير الْبر. مبذول الْبشر، قَوِيا مَعَ ذَلِك على الحكم، بَصيرًا بِعقد الشُّرُوط، مترفقاً بالضعيف. ولي الْقَضَاء بجهات شَتَّى من الأندلس، فحمدت سيرته، وشكرت طَرِيقَته؛ ثمَّ تقدم بِبَلَدِهِ مالقة قَاضِيا وخطيباً بقصبتها. وَكَانَ سريع الْعبْرَة، كثير الخشية، جَارِيا على سنَن أسلافه من الْفضل وإيثار الْبَذْل. قَرَأَ على الْأُسْتَاذ أبي مُحَمَّد بن أبي السداد الْبَاهِلِيّ، ولازمه، وانتفع بِهِ وَسمع على غَيره. وَأَجَازَهُ ابْن الزبير، وَابْن عقيل الرندى، وَأبي عَمْرو الطنجي، وَغَيرهم. وَله تآليف، سَمِعت عَلَيْهِ بَعْضهَا، وناولني سائرها؛ مِنْهَا نفحات النسوك، وعيون التبر المسبوك، فِي أشعار الْخُلَفَاء والوزراء والملوك؛ وَكتاب السجم الواكفة، والظلال الوارفة، فِي الرَّد على مَا تضمنه المظنون بِهِ من

ذكر القاضي ابي عبد الله محمد بن احمد الطنجالي

اعتقادات الفلاسفة؛ وَكتاب الْبُرْهَان وَالدَّلِيل، فِي خَواص سور التَّنْزِيل. وأنشدني لنَفسِهِ من لَفظه: مَا للعطاس وَلَا للفأل من أثر ... فثق بِدينِك بالرحمان واصطبر فَسلم الْأَمر فالأحكام مَاضِيَة ... تجْرِي على السّنَن المربوط بِالْقدرِ وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ مالقة؛ وقبر بهَا شَهِيدا بالطاعون، وَذَلِكَ منتصف شهر صفر من عَام 750. وعقبه مُسْتَعْمل فِي خطة الْقَضَاء على الطَّرِيقَة المثلى من المبرة وَكَثْرَة الحشمة تولاه الله تَعَالَى { ذكر القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الطنجالي ومهم قريبنا وصاحبنا، الْخَطِيب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن شَيخنَا الْخَطِيب أبي جَعْفَر أَحْمد ابْن شَيخنَا أَيْضا الْوَلِيّ الْكَبِير الشَّهِيد أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن يُوسُف الْهَاشِمِي الطنجالي، أحد أماثل قطره، وَذَوي الْأَصَالَة وَالْجَلالَة من أَهله. تقدم قَاضِيا بِبَلَدِهِ مالقة، وَقد نجمت بن بواكي الوباء الْأَكْبَر، وَذَلِكَ صدر عَام 750، بعد تمنع مِنْهُ واباية. فَلم يوسعه الْأَصْحَاب عذرا فِي التَّوَقُّف، وشرطوا لَهُ عونهم اياه، كَالَّذي جرى لِلْحَارِثِ بن مِسْكين بِمصْر مَعَ إخوانه فِي الله تَعَالَى. وَمَا كَانَ إِلَّا أَن ولي الطنجالي وَحمى وطيس الطَّاعُون الْأَعْظَم الَّذِي حسبت ظُهُوره فِي زَمَاننَا هَذَا أَنه من عَلَامَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} فقد ثَبت عَنهُ فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه قَالَ لعوف بن مَالك فِي غَزْوَة تَبُوك: اعدد سِتا بَين يَدي السَّاعَة: موتى؛ ثمَّ فتح بَيت الْمُقَدّس؛ ثمَّ موتان يَأْخُذ فِيكُم كعقاص الْغنم؛ ثمَّ استفاضة المَال؛ حَتَّى يعْطى الرجل مائَة دِينَار، فيظل ساخطاً؛ ثمَّ فتْنَة لَا يبْقى بَيت من الْعَرَب إِلَّا دَخلته، ثمَّ هدنة تكون بَيْنكُم وَبَين بني الْأَصْفَر، فيغدرون، فيأتونكم تَحت ثَمَانِينَ غَايَة، تَحت كل غَايَة إثنا عشر ألفا! هـ نَص. والغاية هِيَ الرَّايَة؛ وَبَنُو الْأَصْفَر هم الرّوم. وَلَا يبعد أَن تكون المهادنة الْمشَار إِلَيْهَا هَذِه الَّتِي نَحن فِيهَا فِي الأندلس مُنْذُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ

سنة، أَولهَا هَلَاك ملك النَّصَارَى الْمُسَمّى بالفنش بن هرانده بن شانجه، وَهُوَ بِظَاهِر جبل الْفَتْح حاصراً لَهُ، وَذَلِكَ عَاشر الْمحرم من عَام 750 والى هَلُمَّ. وقلما يعلم أَنه جرى بَين الملتين مثلهَا فِي طول الْمدَّة واستصحاب المسالمة. وَالله أعلم بالمراد من ذَلِك كُله، فِي الحَدِيث الَّذِي أوردناه، هَل هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ وَنَبَّهنَا عَلَيْهِ، أم غَيره {وعَلى كل تَقْدِير، وَالله تَعَالَى يلطف بالساكن فِي هَذِه الجزيرة المنعطفة من الْبَحْر الزاخر، والعدو الْكَافِر، وَيجْعَل عَافِيَة من بهَا إِلَى خير} والعقاص الْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ دَاء يُصِيب الْغنم، فتموت بِإِذن الله. والطاعون سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَقَالَ: رِجْس أرسل على بني إِسْرَائِيل} وَقيل إِنَّه أول مَا بَدَأَ بهم فِي الأَرْض، وَمَات بِهِ مِنْهُم عشرُون ألفا. وَقيل: سَبْعُونَ ألفا فِي سَاعَة وَاحِدَة. وَقيل إِنَّهُم عذبُوا بِهِ. وَفِي الحَدِيث أَيْضا سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَام {عَن الطَّاعُون؛ فَقَالَ: غُدَّة كَغُدَّة الْبَعِير، تخرج فِي المراق والآباط. قَالَ أَبُو عمر: قَالَ غير وَاحِد: وَقد تخرج فِي الْأَيْدِي، والأصابع، وَحَيْثُ مَا شَاءَ الله من الْبدن. وَمَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} حق وَإنَّهُ الْغَالِب. وَقَالَ الْخَلِيل: الوباء الطَّاعُون. وَقَالَ غَيره: كل مرض يشْتَمل الْكثير من النَّاس فِي جِهَة من الْجِهَات، فَهُوَ طاعون. وَعَن عِيَاض: أَصله القروح فِي الْجَسَد؛ والوباء عُمُوم الْمَرَض: فَسمى لذَلِك طاعوناً، تَشْبِيها بِالْهَلَاكِ. وَقيل فِيهِ غير مَا ذكر. وَقد شاهدنا مِنْهُ غرائب يقصر اللِّسَان عَن بَيَان جملَة أَجْزَائِهَا. وَمِنْهَا انْتهى عدد الْأَمْوَات فِي تِلْكَ الملحمة الوبائية بمالقة إِلَى مَا يزِيد فِي الْيَوْم على الْألف، بَقِي بعد ذَلِك أشهراً حَتَّى خلت الدّور، وعمرت الْقُبُور، وَخرج أَكثر الْفُقَهَاء والفضلاء والزعماء، وَذهب كل من كَانَ قد شَرط للْقَاضِي أبي عبد الله إعانته على مَا تولاه. وَكَانَ من لطف الله تَعَالَى بِمن بَقِي حَيا من الضُّعَفَاء بمالقة كَون القَاضِي لَهُم بِقَيْد الْحَيَاة، إِذْ كَانَ قبل ذَلِك، على تبَاين طبقاتهم، قد هرعوا إِلَيْهِ بِأَمْوَالِهِمْ، وقلدوه تَفْرِيق صَدَقَاتهمْ؛ فاستقر لنظره من الذَّهَب، وَالْفِضَّة، والحلي، والذخيرة، وَغير ذَلِك، مَا تضيق عَنهُ بيُوت أَمْوَال الْمُلُوك؛ فأرفد جملَة من الطّلبَة وفقراء الْبَلدة، وتفقد سَائِر الغربة، وَصَارَ يعد كل يَوْم تهيئة مائَة قبر حفراً، وأكفانهم برسم من يضْطَر إِلَيْهَا من الضُّعَفَاء فَشَمَلَ النَّفْع بِهِ الْأَحْيَاء والأموات. بَقِي هُوَ وَغَيره من أهل الْقطر على ذَلِك زَمَانا،

مُشَاركَة بالأموال ومساهمة فِي المصايب والنوازل، إِلَى أَن خف الوباء، وَقل عدد الذاهبين بِهِ والمسالمين بِسَبَبِهِ؛ فَأخذ بالجد التَّام فِي صرف الْأَوْقَات إِلَى إمكانها، وَوضع العهود فِي مسمياتها؛ فانتشع بذلك الفل، وَذهب على أَكْثَرهم القل. وَالله لطيف بعباده. وَكَانَ هَذَا الرجل المترجم بِهِ جلدا، قَوِيا فِي نَفسه، بدناً، طوَالًا هاشمياً خلقا وخلقاً، نبيها، نزيهاً، خَطِيبًا، مهيباً، أصيل الرَّأْي، رصين الْعقل، قَائِما على عقد الشُّرُوط وَعلم الْحساب والفرائض على طَريقَة جده وسميه الْوَلِيّ أبي عبد الله. وَلما من الله سُبْحَانَهُ بِرَفْع مَا كَانَ نزل بالناحية المالقية من الطَّاعُون، واستروح من بَقِي بهَا من الْخَلَائق روح الْحَيَاة، وكادت النُّفُوس أَن ترجع إِلَى مألوفاتها، وَتقوم بِبَعْض معتاداتها، نَهَضَ بِنَفسِهِ القَاضِي أَبُو عبد الله إِلَى أَمِير الْمُسلمين السُّلْطَان الْمُؤَيد أبي الْحجَّاج رَحمَه الله وأرضاه {فورد عَلَيْهِ، وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ، وَطلب مِنْهُ الإنعام عَلَيْهِ بالإعفاء من الْقَضَاء؛ فأنزله بِمَنْزِلَة التجلة، وراجعه بعد ذَلِك بِمَا حَاصله: حوائجك كلهَا مقضية لدينا، إِلَّا مَا كَانَ الْآن من الإعفاء؛ فَارْجِع إِلَى بلدك، واكتب إِلَيْنَا إِن شِئْت من هُنَالك بِمَا يظْهر لَك، بعد تَقْدِيم الاستخارة. وَلَعَلَّ الْعَمَل أَن يَقع بموافقة إرادتك، إِن شَاءَ الله} فارتحل عَنهُ شاكراً فعله، وداعياً بِالْخَيرِ لَهُ، هُوَ وكل من بلغه عَن السُّلْطَان مَا قَابل بِهِ مستعفيه. هَذَا من التَّلَفُّظ الْجَمِيل، وَالْفضل الجزيل. ثمَّ كتب من بَلَده مالقة، يخبر باستمرار عزيمته على مَا نَوَاه أَولا من الْخُرُوج عَن الْقَضَاء، والاقتصار على الخطة. فوصله الْجَواب بإسعاف غَرَضه. وَتقدم الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم بن سَلمُون الْكِنَانِي قَاضِيا فِي مَكَانَهُ. فأظهر السرُور بذلك كُله. وَلما قدم ابْن سَلمُون على مالقة، تَلقاهُ، وحياه، وَحضر عَن اخْتِيَاره، تخلقاً مِنْهُ وتواضعاً فِي جملَة الْفُقَهَاء وَعَامة أهل الْمصر بالقبة الْكُبْرَى من الْمَسْجِد الْجَامِع، عِنْد قِرَاءَة رسوم الْولَايَة، على الْعَادة الْمُعْتَادَة هُنَالك. ثمَّ انْتقل القَاضِي الْجَدِيد، إِثْر الْفَرَاغ من الْغَرَض الْمَطْلُوب، بالاجتماع إِلَى مجْلِس الْحُكُومَة؛ فَمَال إِلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، وتبعوه بجملتهم، وَتركُوا صَاحبهمْ الْقَدِيم، كَأَن لم يشعروا بِهِ، كَالَّذي جرى ليحيى بن معمر بقرطبة مَعَ أَصْحَابه، إِذْ النَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان. وَلم يثبت إِذْ ذَاك مَعَ الطنجالي أحد من الْقَوْم غَيْرِي، وَغير الْخَطِيب أبي عبد الله بن حفيد الْأمين. فتأملت، أثْنَاء مَا دَار بَيْننَا من الْكَلَام

فِي الموطن، وَجه صاحبنا القَاضِي؛ فَإِذا هُوَ على هَيْئَة المتخشع، لمفارقته المألوف قبل من أيمة الخطة، وتكاتف الْحَاشِيَة، وترادف الوزعة. فتذكرت عِنْد ذَلِك الْحِكَايَة الَّتِي نقلهَا الْحسن بن مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد بن أَسد، وَقد أثبتها ابْن بشكوال أَيْضا فِي صلته. وَهِي أَن السُّلْطَان كَانَ قد تخيره لقِرَاءَة الْكتب الْوَارِدَة عَلَيْهِ بالفتوح بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع من قرطبة على النَّاس، لفصاحته، وجهارة صَوته؛ فَتَوَلّى لَهُ ذَلِك مُدَّة قوته ونشاطه؛ فَلَمَّا بدن، وتثاقل، استعفاه؛ فأعفاه، وَنصب سواهُ. فَكَانَ يَقُول عِنْد ذكره الْولَايَة والعزل: مَا وليت لبني أُميَّة ولَايَة قطّ غير قِرَاءَة كتب الْفتُوح على الْمِنْبَر {فَكنت أنصب فِيهِ، واتحمل الكلفة دون رزق وَلَا صلَة. وَلَقَد كسلت مُنْذُ أعفيت عَنْهَا، وخامرني ذل الْعُزْلَة} وَلم تكن نفس الْخَطِيب أبي عبد الله المستعفى عَن الْقَضَاء بِتِلْكَ الْمنزلَة الْمُوَحدَة؛ ولاكنه ظهر لي إِذْ ذَاك، لأجل مَا تَخَيَّلت من انفعاله، أَن كتبت لَهُ، عِنْد حُلُوله بمنزله، بالأبيات المثبوتة بعد على جِهَة التسلية، والتغبيط بِالتَّخْلِيَةِ. والمنظوم هُوَ مَا نَصه: لَك الله با بدر السَّعَادَة والبشر ... نشرت بِأَعْلَى راية الْفَخر وَلَا سِيمَا لما وليت أمورها ... فرويتها من عذب نائلك الْغمر ودارت قضاياها عَلَيْك بأسرها ... على حِين لَا بُد يَمِين على بشر فَقُمْت بهَا خير الْقيام مصمماً ... على مثل تصميم المهندة السمر فسر بك الْإِسْلَام يَا ابْن حماية ... وأمست بك الْأَحْكَام باسمه الثغر تعيد عَلَيْك الْحَمد ألسن حَالهَا ... وَتحفظ مَا يرضيك من سور الشُّكْر وَلَكِنَّك استعفيت عَنْهَا تورعاً ... وَتلك سَبِيل الصَّالِحين كَمَا تدرى جريت على نهج السَّلامَة فِي الَّذِي ... تخيرته فابشر بأمنك فِي الْحَشْر وحقق بِأَن الدّين ولاك خطة ... من الْعِزّ لَا تنفك عَنْهَا مدى الْعُمر تزيد على مر الجديدين جدة ... وتسرى النُّجُوم الزاهرات وَلَا تسر وَمن لاحظ الْأَحْوَال وازن بَينهَا ... وَلم ير للدنيا الدينة من خطر وَأمسى لأنواع الْولَايَة نابذاً ... فَقير نَكِير أَن تواجه من نكر

فيهنيك يهنيك الَّذِي أَنْت أَهله ... من الزّهْد فِيهَا والتوقي من الْوزر وَلَا تكترث من تاركيك فَإِنَّهُم ... حَصى والحصى لَا ترتقي مرتقى الْبَدْر وَمن عَامل الأعوام بِاللَّه مخلصاً ... لَهُ فيهم نَالَ الجزيل من الْأجر بقيت لربع الْفضل تحيى رسومه ... وخار لَك الرَّحْمَن فِي كل مَا يجرى وَكَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله بن بكر يتَوَهَّم فِي أبي عبد الله الطنجالي السودد وَهُوَ صبي. وسمعته يَقُول، وَقد دخل عَلَيْهِ فِي مجْلِس إقرائه بمالقة: هَذَا هاشمي، أشعري، إِذْ كَانَت والدته أمة الْعَزِيز بنت القَاضِي أبي عَامر بن مُحَمَّد بن ربيع الْأَشْعَرِيّ. وَرُبمَا قصد الشَّيْخ بمقالته الْوَصْف بِالْمذهبِ الْأَشْعَرِيّ والتورية. والطنجاليون ينتسبون من أَوْلَاد هَاشم بن عبد منَاف إِلَى جَعْفَر بن عقيل بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم، وَبَنُو هَاشم آل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمَا فَوق غَالب غير آل. وَمَا بَينهمَا قَولَانِ. وَكَانَ من الْأَسْبَاب الحاملة للْقَاضِي أبي عبد الله على الاستعفاء من الحكم، ترادف النَّوَازِل المشتبهات عَلَيْهِ، بعد انصراف الطَّاعُون، وَاخْتِلَاف من عَاشَ بعده من الْفُقَهَاء، عِنْد الْأَخْذ مَعَهم فِيمَا يشكل عَلَيْهِ من الْمسَائِل. وَكَانَ يكره مُخَالفَة من جُمْلَتهمْ، ويحذر مُوَافقَة بَعضهم. وطمع فِي الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله بن عَيَّاش بَقِيَّة أَن يسمعهُ بحظ من نظره وإرشاده؛ فنفر عَن ذَلِك كل النفور، وراجعه فِيمَا قَالَه ابْن فروخ لِأَبْنِ غَانِم. وَنَصه: وَلم أقبلها أَمِيرا} أقبلها وزيراً؟ وَأَخْبرنِي مَعَ ذَلِك كُله صاحبنا بِأَنَّهُ رأى فِي الْمَنَام مَا يقتضى قرب وَفَاته من قِرَاض مُدَّة حَيَاته؛ فَجعل النّظر لنَفسِهِ. فَتوفي رَحمَه الله {بعد استعفائه، واجتهاده فِي طلب التَّخَلُّص من تبعات قَضَائِهِ، وَذَلِكَ صدر عَام 753، عَن غير عقب من الذُّكُور. وفجع بِهِ وَالِده الْخَطِيب أَبُو جَعْفَر نَفعه الله وَأعظم أجره} وَقَوْلنَا فِي الأبيات فابشر بأمنك فِي الْحَشْر، وَهُوَ بِفَتْح الشين، يُقَال بشرت بِكَذَا، أبشر بِكَسْر الشين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الْمُسْتَقْبل، إِذا سررت بِهِ واستبشرت. فَالْأَمْر مِنْهُ إبشر بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الشين، نَحْو الْأَمر من علم يعلم وهمزته همزَة وصل، لِأَنَّهُ أَمر من فعل ثلاثي بعد حرف المضارعة مِنْهُ سَاكن؛

فتجتلب لَهُ همزَة الْوَصْل، لتعذر الِابْتِدَاء بالساكن، وَتَكون الْهمزَة مَكْسُورَة، لِأَن ثَالِث الْمُضَارع مَفْتُوح كإِعْلَمْ وإجعَلْ. فعلى هَذَا تَقْدِير سُقُوط الْهمزَة من الْبَيْت الَّذِي هُوَ: جريت على نهج السَّلامَة فِي الَّذِي ... تخيرته فابشر بأمنك فِي الْحَشْر جَار على الْقيَاس فِي سُقُوط همزَة الْوَصْل فِي الدرج والاعتراض فِي ذَلِك. وَيكون معنى فابشر بامنك فِي الْحَشْر أَي اسرر واستبشر. قَالَ الْجَوْهَرِي رَحمَه الله {بشرت الرجل ابشره بِالضَّمِّ بشرا وبشوراً من الْبُشْرَى وَكَذَلِكَ الإبشار والتبشير ثَلَاث لُغَات. وَالِاسْم الْبشَارَة، والبشارة بِالْكَسْرِ وَالضَّم فِي الْبَاء. يُقَال بَشرته بمولود فأبشر إبشاراً أَي سر. وَتقول أبشر بِخَير بِقطع الْألف. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: " وأبشر بِالْجنَّةِ " وبشرت بِكَذَا أبشر أَي استبشرت. قَالَ الشَّاعِر: فَإِذا رَأَيْت الباهتين إِلَى العلى ... غبراً أكفهم بقاع معجل فأعنهم وَابْشَرْ بِمَا بشروا بِهِ ... وَإِذا هم نزلُوا بضنك فَانْزِل وأتاني أَمر بشرت بِهِ أَي سررت بِهِ. وبشرني فلَان بِوَجْه حسن أَي لَقِيَنِي وَهُوَ حسن الْبشر أَي طلق الْوَجْه. والبشارة الْمُطلقَة لَا تكون إِلَّا فِي الْخَيْر، وَإِنَّمَا تكون فِي الشَّرّ إِذا كَانَت مُقَيّدَة كَقَوْلِه تَعَالَى: " فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} " وتباشر الْقَوْم أَي بشر بَعضهم بَعْضًا. وتباشير الْأَمر أَوَائِله، وَكَذَلِكَ أَوَائِل كل شَيْء. والبشير المبشر. والمبشرات الرِّيَاح الَّتِي تبشر بالغيث. والبشر الْحميل وَالْمَرْأَة بشرة هـ. وَإِذا بنينَا على أَنه يُقَال بشر بمولود أَو خير بتَخْفِيف الشين، فأبشر إبشاراً أَي سر، فالمضارع مِنْهُ يبشر بِضَم الْيَاء وَكسر الشين. وَالْأَمر مِنْهُ أبشر بِقطع الْألف كَقَوْلِه تَعَالَى: " أَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ! " فعلى هَذَا تكون همزته همزَة قطع؛ فسقوطها فِي الدرج مَمْنُوع فِي النثر، اتِّفَاقًا؛ وَكَذَلِكَ فِي الشّعْر عِنْد الْخَلِيل وَجل أهل الْبَصْرَة؛ وَأما أهل الْكُوفَة فَقَالُوا. بِجَوَازِهِ فِي الشّعْر، وَإِن كَانَ فِيهِ خُرُوج من أصل إِلَى فرع، وَلِأَن الشّعْر مَحل الضَّرُورَة، وشبهوه بالمقصور، وَقَالُوا: والضروارات تبيح المحذورات.

ذكر القاضي ابي عبد الله محمد بن عبد السلام المنستيري

ذكر القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام المنستيري وَمن الْقُضَاة بِحَضْرَة تونس، وصدور علمائها فِي زَمَانه، الشَّيْخ الْفَقِيه الْمدرس، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام المنستيري، مَنْسُوب لقري بظاهرها. وَهُوَ مِمَّن برع فِي المعقولات، وَقَامَ على حفظ المنقولات؛ وَعلم، وَفهم، وأدب، وهذب، وصنف كتبا، مِنْهَا شَرحه لمختصر أبي عَمْرو عُثْمَان بن عمر بن الْحَاجِب الفقهي، المتداول لهَذَا الْعَهْد بأيدي النَّاس. وَكَانَ رَحمَه الله {فِي أقضيته على نَحْو مَا وصف بِهِ. وَكِيع فِي كِتَابه للْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، حَيْثُ قَالَ: وَأما شدائده فِي الْقَضَاء، وَحسن مذْهبه فِيهِ، وسهولة الْأَمر عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ يلتبس على غَيره، فشئ شهرته تغنى عَن ذكره، إِلَى مَا عرف بِهِ فِي قطره من الْقُوَّة على أَمر النَّاس، وَالِاسْتِخْفَاف بسخطهم، وملامتهم فِي حق الله، وَحفظ مَا يرجع لرسوم الْقَضَاء. وَمن ذَلِك عمله فِي العقد الَّذِي شهد فِيهِ جملَة من أَعْلَام الْمغرب، أَيَّام كَونهم بتونس عِنْد دُخُولهَا فِي الأيالة المرينية؛ فَرد شَهَادَتهم وَعُوتِبَ على ذَلِك؛ فَقَالَ: أَو لَيْسَ قد فروا من الزَّحْف، مَعَ توفر الْأَسْبَاب الْمَانِعَة لَهُم شرعا عَن الْوُقُوع فِي معرة الأدبار} وَيُشِير إِلَى الكائنة الشنعاء الَّتِي كَانَت لَهُم بِظَاهِر طريف مَعَ الرّوم عَام 741. وَمن أخباره أَنه، لما تغلب الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافرجين على مَدِينَة تونس دون قصبتها، عِنْد خُرُوج السُّلْطَان أبي الْحسن أَمِير الْمُسلمين عَنْهَا، بِقصد مدافعة وُفُود الْعَرَب العادية على أرْضهَا، فهزمت جيوشه، وَاسْتقر هُوَ وَمن بَقِي مَعَه من جنده محصوراً بداخل القيروان. فجَاء قي أثْنَاء ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة؛ فَقَالَ المتغلب على الْأَمر للخطيب بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع بتونس: اخْطُبْ بدعوة الْأَمِير أبي الْعَبَّاس بن أبي دبوس من الْمُوَحِّدين {وَكَانَ فِي الْمَسْجِد القَاضِي ابْن عبد السَّلَام؛ فاقل: وَالسُّلْطَان المريني؟ فَرَاجعه الشَّيْخ بِأَنَّهُ فِي حكم الْحصار دَاخل القيروان بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الدفاع عَن نَفسه. قَالَ: فتلزم إِذا مناصرته، وَالْعَمَل على الْوَفَاء بِمَا شَرط لَهُ عِنْد مبايعته} فَرد عَلَيْهِ بِأَن

الْأَخْبَار تَوَاتَرَتْ بعد ذَلِك بتلفه، وانتزاع ملكه. فَقَالَ الْخَطِيب وَقَالَ على تَقْدِير صِحَة هَذَا النَّقْل: الْفَرْع زَالَ بِزَوَال الأَصْل. انْظُرُوا مَا يصلح بكم لخطبتكم {وَارْتَفَعت الْأَصْوَات والمراجعات؛ فَقطع القَاضِي الْكَلَام بمبادرته إِلَى الْخُرُوج، وَهُوَ يَقُول: وَلم يثبت لدينا مَا يُوجب الْعُدُول عَن طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن، واستصحاب الْحَال حجَّة لنا وعلينا} وَكَاد وَقت صَلَاة الْجُمُعَة أَن يفوت؛ فَوجه عِنْد ذَلِك المتغلب على الْمَدِينَة إِلَى القَاضِي ثِقَة، يُخبرهُ باستمرار الْأَمر فِي الْخطْبَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ؛ فَدَعَا الْخَطِيب وتمت الصَّلَاة على الرَّسْم الْمُتَقَدّم؛ وحصلت السَّلامَة للْقَاضِي بِحسن نِيَّته، وعد مُخَالفَة فُقَهَاء مدينته جزاه الله وأياهم خير جَزَائِهِ {وحَدثني بِهَذِهِ الْحِكَايَة غير وَاحِد من الثِّقَات الْأَثْبَات، مِنْهُم صاحبنا الْفَقِيه المتفنن الْأَصِيل أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن خلدون الخضرمي. وَأَخْبرنِي كَذَلِك عَن هَذَا القَاضِي رَحمَه الله} بِمَا حَاصله: إِن الْأَمِير أَبَا يحيى استحضره مَعَ الْجُمْلَة من صُدُور الْفُقَهَاء للمبيت بدار الْخلَافَة، والمثول بَين يَدَيْهِ، لَيْلَة الميلاد الشريف النَّبَوِيّ، إِذْ كَانَ قد أَرَادَ إِقَامَة رسمه على الْعَادة الغربية، من الاحتفال فِي الْأَطْعِمَة، وتزيين الْمحل، بِحُضُور الْأَشْرَاف، وتخير القوالين للأشعار المقرونة بالأصوات المطربة؛ فحين كمل الْمَقْصُود من الْمَطْلُوب، وَقعد السُّلْطَان على أريكة ملكه، ينظر فِي ترتيبه، وَالنَّاس على مَنَازِلهمْ، بَين قَاعد وقائم، هز المسمع طره، وَأخذ يهنئهم بألحانه؛ وَتَبعهُ صَاحب يراعة بعادته من مساعدته، تزحزح القَاضِي أَبُو عبد الله عَن مَكَانَهُ، وَأَشَارَ بِالسَّلَامِ على الْأَمِير، وَخرج من الْمجْلس؛ فَتَبِعَهُ الْفُقَهَاء بجملتهم إِلَى مَسْجِد الْقصر؛ فَنَامُوا بِهِ. فَظن السُّلْطَان أَنهم خَرجُوا لقَضَاء حاجاتهم؛ فَأمر أحد وزرائه بتفقدهم وَالْقِيَام بخدمتهم، إِلَى عودتهم وَأعلم الْوَزير الموجه لما ذكر القَاضِي بالغرض الْمَأْمُور بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله {هَذِه اللَّيْلَة الْمُبَارَكَة الَّتِي وَجب شكر الله عَلَيْهَا، وجمعنا السُّلْطَان أبقاه الله} من أجلهَا، لَو شَهِدَهَا نَبينَا الْمَوْلُود فِيهَا صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ {لم يَأْذَن لنا فِي الِاجْتِمَاع على مَا نَحن فِيهِ، من مُسَامَحَة بَعْضنَا لبَعض فِي اللَّهْو، وَرفع قناع الْحيَاء بِمحضر القَاضِي وَالْفُقَهَاء} وَقد وَقع الِاتِّفَاق من الْعلمَاء على أَن المجاهرة بالذنب محظورة، إِلَّا أَن تمس إِلَيْهَا حَاجَة كَالْإِقْرَارِ بِمَا يُوجب الْحَد أَو الْكَفَّارَة. فليسلم لنا الْأَمِير أصلحه الله {فِي الْقعُود بمسجده هَذَا إِلَى الصَّباح} وَإِن كُنَّا فِي مُطَالبَة أخر من تبعات رِيَاء،

ودسائس أنفس، وضروب غرور، لَا كُنَّا، كَمَا شَاءَ الله، فِي مقَام الِاقْتِدَاء لطف الله بِنَا أَجْمَعِينَ بفضله {فَعَاد عِنْد ذَلِك الْوَزير الْمُرْسل للْخدمَة الموصوفة إِلَى الْأَمِير أبي يحيى، وأعلمه بالقصة؛ فَأَقَامَ يَسِيرا، وَقَامَ من مَجْلِسه، وَأرْسل إِلَى القَاضِي من نَاب عَنهُ فِي شكره، وشكر أَصْحَابه، وَلم يعد إِلَى مثل ذَلِك الْعَمَل بعد. وَصَارَ فِي كل لَيْلَة يَأْمر فِي صَبِيحَة اللَّيْلَة الْمُبَارَكَة بتفريق طَعَام على الضُّعَفَاء، وإرفاق الْفُقَرَاء، شكرا لله. وَكَانَ هَذَا القَاضِي رَحمَه الله مشتغلاً بِالْعلمِ وتدريسه، قَلما يفتر فِي كَثْرَة أوقاته عَن نظره واجتهاده. حضرت مجْلِس إقرائه بتونس عِنْد وصولي إِلَيْهَا فِي الموكب الغربي؛ فالفيته يتَكَلَّم فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب المعالم للفقيه ابْن الْخَطِيب الداني، إِلَى أَن بلغ إِلَى مناظرة أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ لأستاذه أبي عَليّ الجبائي، المنصوصة فِي الْبَاب التَّاسِع، حَيْثُ سَأَلَهُ عَن ثَلَاثَة إخْوَة، أحدهم كَانَ مُؤمنا وَالثَّانِي كَانَ كَافِرًا، وَالثَّالِث كَانَ صَغِيرا، مَاتُوا كلهم؛ فَكيف حَالهم؟ فَقَالَ الجبائي: أما الْمُؤمن، فَفِي الدَّرَجَات؛ وَأما الْكَافِر فَفِي الدركات؛ وَأما الصَّغِير فَمن أهل السَّلامَة} فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: إِن أَرَادَ الصَّغِير أَن يذهب إِلَى دَرَجَات الْمُؤمن، هَل يُؤذن لَهُ فِيهَا؟ فَقَالَ الجبائي: لَا لِأَنَّهُ يُقَال لَهُ: إِن أَخَاك الْمُؤمن إِنَّمَا وصل إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَات بِسَبَب طَاعَته الْكَثِيرَة، وَلَيْسَ لَك تِلْكَ الطَّاعَة {فَقَالَ أَبُو الْحسن: فَإِن قَالَ ذَلِك الصَّغِير: التَّقْصِير لَيْسَ مني، لِأَنَّك لَا أبقيتني وَلَا أقدرتني على الطَّاعَة؟ فَقَالَ الجبائي: يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى} " كنت أعلم " أَنَّك لَو بقيت وصرت مُسْتَحقّا للعقاب فراعيت مصلحتك. قَالَ أَبُو الْحسن: فَإِن قَالَ الْكَافِر: يَا إلاه الْعَالمين {كَيفَ علمت حَاله علمت حَالي} فَلم رعيت مصْلحَته دوني {فَانْقَطع الجبائي. وَهَذِه المناظرة دَالَّة على أَن الله سُبْحَانَهُ يخص برحمته من يَشَاء، وَأَن أَفعاله غير معللة بِشَيْء من الْأَغْرَاض. انْتهى مَا تيَسّر من نبذ أَخْبَار القَاضِي أبي عبد الله بن عبد السَّلَام، سمي مَالك ابْن أنس وشبيهه نحلة وَحُمرَة وشقرة رَضِي الله عَنْهُمَا ورحمهما} توفّي فِي أَوَائِل الطَّاعُون النَّازِل بِبَلَدِهِ قبل عَام 750. واحتمله طلبته إِلَى قَبره، وهم حُفَاة، مزدحمون على نعشه نفعهم الله واياه بفضله!

ذكر القاضي ابي البركات المعروف بابن الحاج البلفيقي

ذكر القَاضِي أبي البركات الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاج البلفيقي وَمن مشاهير الْقُضَاة الشَّيْخ أَبُو البركات، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ابْن خلف السّلمِيّ، من ذُرِّيَّة الْعَبَّاس بن مرداس الْمَعْرُوف فِي بَلَده بِابْن الْحَاج، وَفِي غَيره بالبلفيقي. وبلفيق حصن من عمل مَدِينَة المرية. وبيته بَيت دين وَفضل. ذكر ابْن الْأَبَّار جده الْأَعْلَى أَبَا إِسْحَاق، وَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح. وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ المترجم عَنهُ مِمَّن نَشأ على طَهَارَة وعفاف؛ واجتهد فِي طلب الْعلم صَغِيرا وكبيراً، وَعبر الْبَحْر إِلَى بجاية؛ فَأدْرك بهَا الْمدرس المعمر أَبَا عَليّ مَنْصُور بن أَحْمد بن عبد الْحق المشدالي، وَحضر مجالسه العلمية، وَأخذ عَنهُ وَعَن غَيره من أَهلهَا؛ ثمَّ إِنَّه أَتَى إِلَى مراكش، وتجول فِيمَا بَينهَا من الْبِلَاد. وأثار السُّكْنَى بسبتة على طَريقَة جده إِبْرَاهِيم الْأَقْرَب إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ أَيْضا قد استوطنها. ثمَّ عَاد إِلَى الأندلس؛ فَأَقَامَ مِنْهَا بمالقة، واختص بخطيبها الشَّيْخ الْوَلِيّ أبي عبد الله الطنجالي، وروى عَنهُ وَعَن غَيره، وَقيد الْكثير بِخَطِّهِ، ودام فِي ابْتِدَاء طلبه التَّشْبِيه بِالْقَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ، فِي لِقَاء الْعلمَاء ومصاحبة الأدباء، وَالْأَخْذ فِي المعارف كلهَا، والتكلم فِي أَنْوَاعهَا والإكثار من ملح الحكايات، وطرف الْأَخْبَار، وغرائب الْآثَار، حَتَّى صَار حَدِيثه مثلا فِي الأقطار؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِك، على شدَّة انطباعه، وَكَثْرَة ردعته، سريع الْعبْرَة عِنْد ذكر الْآخِرَة، قريب الدمعة. وَكَانَ كثير الضَّبْط لحاله، مهتماً بِالنّظرِ فِي تثمير مَاله، آخِذا فِي نَفَقَته بقول سَحْنُون بن سعيد: مَا أحب أَن يكون عَيْش الرجل إِلَّا على قدر ذَات يَده؛ وَلَا يتَكَلَّف أَكثر مِمَّا فِي وَسعه {وَكَانَ يمِيل إِلَى القَوْل بتفضيل الْغَنِيّ على الْفَقِير، ويبرهن على صِحَة ذَلِك، وَيَقُول: وبخصوص فِي الْبِلَاد الأندلسية، لضيق حَالهَا، واتساع نطاق مدنها، وَلَا سِيمَا فِي حق الْقُضَاة؛ فقد شَرط كثير من الْعلمَاء فِي القَاضِي أَن يكون غَنِيا، لَيْسَ بمديان وَلَا مُحْتَاج. وَمن كَلَامه رَحمَه الله} من اقْتصر على التعييش من مرافق الْمُلُوك، ضَاعَ هُوَ وَمن لَهُ، وشمله القل، وخامره الذل. اللَّهُمَّ! إِلَّا من كَانَ من الْقُوَّة بِاللَّه قد بلغ من الزّهْد فِي الدُّنْيَا إِلَى الْحَد الَّذِي يكسبه الرَّاحَة بِالْخرُوجِ عَن متاعها، وَترك

شهوتها، قليلها وكثيرها، مَالهَا وجاهها. بِأَمْر آخر {وَمن لنا بالعون على تَحْصِيل هَذَا الْمقَام، وَلَا سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم نسْمع مِمَّن قاربه من الْوُلَاة الْمُتَقَدِّمين بالأندلس إِلَّا مَا حكى عَن إِبْرَاهِيم بن أسلم، وَقد أَرَادَ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه رياضته؛ فَقطع عَنهُ جرايته؛ فَكتب إِلَيْهِ عِنْد ذَلِك: تزيد على الإفلال نَفسِي نزاهة ... وتأنس بالبلوى وتقوى مَعَ الْفقر فَمن كَانَ يخْشَى صرف دهر فإنني ... أمنت بِفضل الله من نوب الدَّهْر فَلَمَّا قَرَأَ الحكم بيتيه، أَمر برد الجراية، وَحملهَا إِلَيْهِ. فَأَعْرض عَنْهَا، وتمنع من قبُولهَا، وَقَالَ: إِنِّي، وَالْحَمْد لله} تَحت جراية من إِذا أعصيته، لم يقطع عني جرايته {فَلْيفْعَل الْأَمِير مَا أحب} فَكَانَ الحكم بعد ذَلِك يَقُول: لقد أكسبنا ابْن أسلم بمقالته مخزاة عظم منا موقعها، وَلم يسهل علينا المقارضة بهَا {وَتَوَلَّى الشَّيْخ أَبُو البركات الْقَضَاء فِي بِلَاد عديدة، مِنْهَا مالقة: تقدم بهَا بعد شَيخنَا أبي عَمْرو بن مَنْظُور، وَذَلِكَ صدر عَام 735؛ ثمَّ نقل إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة بِحَضْرَة غرناطة والخطابة بهَا. وَكَانَ مُسْتَوْفيا لشروط الْخطْبَة وجوبا وكمالاً من صُورَة وهيئة، وَطيب نَغمَة، وَكَثْرَة خشوع، وتوسط إنْشَاء. وَشهر بالصرامة فِي أَحْكَامه، والنزاهة أَيَّام نظره. ثمَّ تَأَخّر عَن قَضَاء الحضرة، وَأقَام بهَا مُدَّة، إِلَى أَن صير إِلَى مَدِينَة المرية} ثمَّ أُعِيد إِلَى قَضَاء الْجَمَاعَة، وَاسْتعْمل فِي السفارة بَين الْمُلُوك؛ فصحبه السداد، ورافقه الإسعاد، وَكَانَ فِي أطواره سريع التكوين، طامعاً فِي الْوُصُول إِلَى مقَام التَّمْكِين، كثير الِانْتِقَال من قطر إِلَى قطر، وَمن عمل إِلَى عمل، من غير اسْتِقْرَار منزل أَو مَحل وَاحِد. وَلذَلِك قَالَ فِي أبياته الَّتِي أَولهَا: إِذا تَقول: فدتك النَّفس فِي حَالي ... يفنى زماني فِي حل وترحال وَكَانَ التَّكَلُّم بالشعر من أسهل شَيْء عَلَيْهِ، فِي كثير مراجعاته، وفنون مخاطباته. وَله مِنْهُ ديوَان كَبِير، يحتوي من ضروب الْأَدَب على جد وهزل، وسمين وجزل، سَمَّاهُ ب العذب والاجاج؛ وَكتاب وسمه ب المؤتمن فِي أنباء من لقِيه من أَبنَاء الزَّمن.

وَاسْتقر أخيراً بِمَدِينَة المرية قَاضِيا وخطيباً، إِلَى أَن توفّي بهَا فِي شهر رَمَضَان عَام 773، عَن بنت من أمته، لَا غير من الْأَوْلَاد، وَأَرْبع زَوْجَات، وعاصب بعيد. وَكَانَ، أَيَّام حَيَاته، مِمَّن اكْتسب المَال الجم، وتمتع من النِّسَاء بِمَا لم يتأت فِي قطره لأمثاله من الْفُقَهَاء. وَهُوَ من أَصْحَابنَا القدماء، الَّذين ورثنا ودهم، وشكرنا عَهدهم رَحمَه الله وَغفر لَهُ وأرضاه! وَمن شعره فِي المجبنات، وَهُوَ النمط البديع: ومصفرة الْخَدين مطوية الحشا ... على الْجُبْن والمصفر يُؤذن بالخوف لَهَا بهجة كَالشَّمْسِ عِنْد طُلُوعهَا ... ولاكنها فِي الْحِين تغرب فِي الْجوف وَقَوله: إِذا مَا كتمت السِّرّ عَمَّن أوده ... توهم أَن الود غير حقيق وَلم أخف عَنهُ السِّرّ من ضنة بِهِ ... ولاكنني أخْشَى صديق صديقِ وَقَوله: قَالُوا: تغربت عَن أهل وَعَن وَطن ... فَقلت: لم يبْق لي أهل وَلَا وَطن مضى الْأَحِبَّة والأهلون كلهم ... وَلَيْسَ لي بعدهمْ سُكْنى وَلَا سكن أفرغت دمعي وحزني بعدهمْ فَأَنا ... من بعد ذَلِك لَا دمع وَلَا حزن وَقَوله: رعى الله إخْوَان الْخِيَانَة إِنَّهُم ... كفونا مؤنات الْبَقَاء على الْعَهْد وَلَو قربوا كُنَّا أُسَارَى حُقُوقهم ... نراوح مَا بَين النَّسِيئَة والنقد وَقَوله يعْتَذر لبَعض الطّلبَة، وَقد استدبره لبَعض حلق الْعلم بسبتة: إِن كنت أبصرتك لَا أَبْصرت ... بصيرتي فِي الْحق برهانها لَا غرو إِنِّي لَا أشاهدكم ... فالعين لَا تبصر إنسانها

ذكر القاضي ابي القاسم بن سلمون

وَقَوله: يلومونني بعد العذار على الْهوى ... ومثلي فِي حبي لَهُ لَا يفند يَقُولُونَ: أمسك عَنهُ قد ذهب الصِّبَا ... وَكَيف أرى الْإِمْسَاك وَالْخَيْط أسود وَقَوله: وَإِنِّي لخير من زماني وَأَهله ... على أنني للشر أول سائق لحى الله عصراً قد تقدّمت أَهله ... فَتلك لعمر الله إِحْدَى البوائق ذكر القَاضِي أبي الْقَاسِم بن سَلمُون وَمن الروَاة الْقُضَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُحدث الْفَاضِل أَبُو الْقَاسِم سَلمُون بن عَليّ بن عبد الله بن عَليّ بن سَلمُون الْكِنَانِي البياسي الأَصْل، الغرناطي المولد والنشأة. وَمن أهل بلنسية مُحَمَّد بن أَحْمد بن سَلمُون، أحد أَشْيَاخ القَاضِي أبي الْعَبَّاس الغماز. وَكَانَ صاحبنا أَبُو الْقَاسِم هَذَا الْمَذْكُور أَولا رَحمَه الله! فَقِيها جَلِيلًا، فَاضلا، أصيلاً، بَصيرًا بِعقد الشُّرُوط وَالْأَحْكَام. وَله فِيهَا تَقْيِيد مُفِيد. أَخذ عَن جملَة من الشُّيُوخ أَوَّلهمْ الْأُسْتَاذ أَبُو جَعْفَر بن الزبير. وَأَجَازَهُ من أهل الْمغرب والمشرق والأندلس عدد كثير يزِيد على الْمِائَة، حَسْبَمَا تضمنه برنامج رِوَايَته: مِنْهُم ابْن الغماز البلنسي قَاضِي الْجَمَاعَة بتونس بعد خُرُوجه من الأندلس وَهُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد الخزرجي؛ وَالشَّيْخ الراوية شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد بن أَحْمد بن خلف الدمياطي صَاحب دَار الحَدِيث بالبلاد المصرية فِي زَمَانه؛ وَمِنْهُم تَاج الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عبد الْحسن الغرابي وغراب الَّذِي ينْسب إِلَيْهَا بَلْدَة فِي أَرض وَاسِط؛ وَالشَّيْخ الْفَقِيه المعمر أَبُو عَليّ مَنْصُور بن أَحْمد بن عبد الْحق المشدالي، وقاضي الْقُضَاة بالديار المصرية زين الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم

ذكر القاضي ابي عمرو عثمان بن موسي الجاني

ابْن جمَاعَة الْكِنَانِي؛ وَغَيرهم. وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم فِي قَضَائِهِ مَوْصُوفا بِالْفَضْلِ وَالْعدْل، مترفقاً بالضعفاء، متغاضياً عَن زلات الْفُقَهَاء. تقدم بجهات شَتَّى من الأندلس؛ ثمَّ ولى قَضَاء الْجَمَاعَة بِحَضْرَة غرناطة؛ فحمدت سيرته، وشكرت مداراته. وَكَانَ فِي نَفسه هيناً، لينًا، آخِذا بِمُقْتَضى قَول عِيسَى بن مِسْكين، القَاضِي بالقيروان أَيَّام أبي الْأَغْلَب، وَهُوَ: قَارب النَّاس فِي عُقُولهمْ، تسلم من غوائلهم {وَفِي تقلب الْأَحْوَال، علم جَوَاهِر الرِّجَال} توفّي رَحمَه الله {لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ الثَّالِث عشر لجمادى الأولى عَام 767. وَولد بغرناطة فِي صفر عَام 688. وعقبه لهَذَا الْعَهْد بِحَالَة نباهة؛ من أَوْلَاده من هُوَ مستول فِي خطة الْقَضَاء تولاهم الله، وخار لنا وَلَهُم بمنّه وفضله} ذكر القَاضِي أبي عَمْرو عُثْمَان بن مُوسَى الْجَانِي وَمن الْقُضَاة بِمَدِينَة ملى من أَرض الْحَبَشَة، الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن مُوسَى الْجَانِي، مَنْسُوب لبطن من بطُون السودَان. تردد إِلَى أَرض مصر؛ فَقَرَأَ بهَا، وَأخذ عَن أشياخها. أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الساحلي الغرناطي أَنه لقِيه بِبَلَدِهِ، وَأَنه كَانَ من أهل الْفضل وَالْعدْل، وَالْقِيَام على الْعلم، والصرامة فِي الحكم. قَالَ الساحلي: وَمن ذَلِك نازلة حدثت لَهُ فِي أَحْكَام الدِّمَاء؛ فتحرى فِيهَا الْحق المخلص بَين يَدي الله. وَهِي أَن أحد بني عَم سُلْطَانه ترتبت قبله الْمُطَالبَة بِدَم قَتِيل كَانَ قد أشهد الْعُدُول، وَهُوَ جريح، بِأَن دَمه عِنْده، وَتُوفِّي إِثْر الشَّهَادَة عَن عصبَة من ولد وإخوة؛ فَقَامُوا طَالِبين من السُّلْطَان النّظر لَهُم فِي صَاحبهمْ؛ فَاسْتَحْضرهُ عَن أمره بِمَجْلِس الحكم الشَّرْعِيّ، وأعذر لَهُ فِيمَا استظهر بِهِ أَوْلِيَاء دم الْقَتِيل. فَادّعى الدّفع فِي ذَلِك، وتأجل آجالاً وسع فِيهَا عَلَيْهِ. وانفرضت الْأَيَّام، وقهرته الْأَحْكَام؛ فَشكى بِالْقَاضِي لسلطانه، وَسَأَلَ مِنْهُ الْأَخْذ مَعَ الْفُقَهَاء فِي قَضيته؛ وَقد كَانَ صانعهم بِجهْدِهِ، وَاسْتظْهر بِإِثْبَات عداوته بَينه وَبَين من رَمَاه بدمه. فَجَمعهُمْ الْأَمِير بِحَضْرَتِهِ، وَأخذ مَعَهم فِي نازلة ابْن عَمه؛ فَوَقع الِاتِّفَاق مِنْهُم على الْأَخْذ بِمذهب الشَّافِعِي، أَنه لَا يقسم بِمُجَرَّد قَول الْمُصَاب: دمي عِنْد

ذكر القاضي ابي عبد الله المقري التلمساني

فلَان. وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الثَّابِت فِي الصَّحِيح الَّذِي نَصه: لَو يُعْطي النَّاس بدعواهم، لأدعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ. قَالُوا: وبخصوص فِي هَذِه النَّازِلَة، لما اقْترن بهَا من الْأَسْبَاب المرجحة للانتقال عَن الْمَذْهَب، وَذكروا مَسْأَلَة عبد الله بن سهل وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وداه من عِنْده بِأَنَّهُ ثِقَة. فَمَال السُّلْطَان إِلَى موافقتهم، وَأَن تكون الغرامة من قبله؛ ولاكنه قَالَ لقاضيه: مَا عنْدك فِيمَا اجْتمع عَلَيْهِ أَصْحَابك؟ فَقَالَ لَهُ: أمدك الله بإرشاده، وأراك الْحق حَقًا، وأعانك على اتِّبَاعه} أَنْت مالكي الْمَذْهَب، وَأهل بلادك كَذَلِك، والانتقال من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب آخر لَا يسوغ إِلَّا بعد شُرُوط لم يحصل فِي نازلتها مِنْهَا شَرط وَاحِد {وَحَدِيث الْقسَامَة أصل من أصُول الشَّرْع، وركن من أَرْكَان مصَالح الْعباد: وَبِه أَخذ جلّ الْأَئِمَّة وَالسَّلَف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وفقهاء الْأَمْصَار. وَالَّذِي يجمل بك، أَيهَا الْملك، إمرار الْحق بِوَجْهِهِ، وَلَو كَانَ على نَفسك، فضلا عَن ابْن عمك} قَالَ: فَأخذ بِرَأْي قاضيه، وَأمر بِابْن عَمه؛ فَدفع بِذِمَّتِهِ إِلَى أَصْحَابه؛ فَقَتَلُوهُ بالقسامة. قَالَ الْمخبر: فَحسب النَّاس مَا صدر فِي النَّازِلَة عَن الْأَمِير وَالْقَاضِي من المناقب الشَّرِيفَة، والمآثر الحميدة، وَالْأَفْعَال الدَّالَّة على تَعْظِيم الشَّرِيعَة. ذكر القَاضِي أبي عبد الله الْمقري التلمساني وَقد تقدم الْإِلْمَام بِطرف من التَّنْبِيه على الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري التلمساني، أحد قُضَاة بِحَضْرَة فاس أَيَّام خلَافَة أبي عنان رَحمَه الله ومهدها {وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه رَحمَه الله} فِي غزارة الْحِفْظ، وَكَثْرَة مَادَّة الْعلم، عِبْرَة من العبر، وَآيَة من آيَات الله الْكبر؛ قَلما تقع مَسْأَلَة إِلَّا وَيَأْتِي بِجَمِيعِ مَا للنَّاس فِيهَا من الْأَقْوَال ويرجح ويعلل، ويستدرك ويكمل؛ قَاضِيا مَاضِيا، عدلا جذلاً؛ قَرَأَ بِبَلَدِهِ على الْمدرس أبي مُوسَى عمرَان المشدالي صهر أبي عَليّ نَاصِر الدّين، وعَلى غَيره؛ وَقَامَ بوظائف الْقَضَاء أجمل قيام. ثمَّ إِنَّه كره الحكم بَين النَّاس، وتبرم من حمل أَمَانَته، ورام الْفِرَار عَنهُ بِنَفسِهِ؛ فتنشب فِي انتظامه، وَتوجه عَلَيْهِ الْإِنْكَار من

ذكر القاضي ابي عبد الله محمد الفشتالي

سُلْطَانه. ثمَّ إِنَّه ترك، بعد عناء شَدِيد، لشأنه. وَقد سَأَلته يَوْمًا عَن حَالَة بَيْتِي أبي عمرَان بن عبد الرَّحْمَن، وهما: حَالي مَعَ الدَّهْر فِي تقلبه ... كطائر ضم رجله شرك همته فِي فكاك مهجته ... يروم تَخْلِيصهَا فتشتبك وَتُوفِّي رَحمَه الله {على إِثْر ذَلِك وَهُوَ مَحْمُود السِّيرَة، مشكور الطَّرِيقَة. ذكر القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد الفشتالي وَولي بعده الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله الفشتالي. وَبَيت قومه بفاس الْبَيْت الْمَعْمُور بالجود وَالصَّلَاح وَالْخَيْر. وَكَانَ هُوَ رَحمَه الله} أحد أَعْلَام قطره الغربي نبْلًا، وفضلاً، وسكوناً، وعقلاً. وَحين بلغ إِلَى مُرَاده من الخطة بِبَلَدِهِ نحا فِي سيره منحى القَاضِي أبي عبد الله بن عَليّ بن عبد الرَّزَّاق من الْمُحَافظَة على الرُّتْبَة، وَإِقَامَة رسوم الْأَئِمَّة، وَالصَّبْر على مكاره السلطنة، والميل إِلَى الْأَخْذ بالترفق فِي الْحُكُومَة. فسكن النَّاس إِلَى ولَايَته، ووثقوا بِحسن نظره، ودانوا بإثرته. وَقد كَانَ ولي قبل تقدمه بفاس الْقَضَاء أَيْضا بإطرابلس، وتجول فِي نواحي إفريقية، ثمَّ إِنَّه، عِنْد تجول الْبِلَاد، أم قطره وَقد صلب الدَّهْر شطره، فاستقصى بِهِ، وتصدر لإقرار الْعلم وبثه. وَكَانَ على شدَّة وقاره، وتعاظم قاره، كثير النُّزُول للطلبة، والحرص على الإفادة، وَالصَّبْر عِنْد المباحثة. وَكَانَ من عَادَته تَقْدِيم دوَل الْفِقْه على التَّفْسِير. وَذهب إِلَى عكس هَذَا التَّرْتِيب الشَّيْخ الرّحال أَبُو إِسْحَاق الحسناوي، أحد جلساء القَاضِي عِنْد إقرائه فِي آخَرين؛ فجرت بَين الطّلبَة إِذْ ذَاك بفاس فِي الْمَسْأَلَة مراجعات ومخاطبات وقفت على بَعْضهَا؛ فَرَأَيْت فِيهَا من تخلق القَاضِي وتجمله مَا لَيْسَ بنكير على رجاحة عقله، وسعة صَدره تغمدنا الله وإياهم برحمته {فقد أَصْبحُوا جَمِيعًا بعد الْحَيَاة، وعصارة الْعَيْش، رِبَاطًا}

ذكر القاضي ابي القاسم الشريف الغرناطي

ذكر القَاضِي أبي الْقَاسِم الشريف الغرناطي وَمن أَعْلَام الْقُضَاة بالأندلس، وصدور النجَاة، الشَّيْخ الْفَقِيه الْأُسْتَاذ المتفنن الشريف الْمُعظم أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله الحسني النِّسْبَة، السبتىُّ النشأة. وَكَانَ رَحمَه الله {نَسِيج وَحده براعة وجلالة، وفريد عصره بلاغة وجزالة؛ إِلَى الشيم السّنيَّة الَّتِي الْتزم إهداءها، وَالسير الْحَسَنَة الَّتِي لَا يُنَازع فِي شرف مُنْتَهَاهَا. ارتحل عَن بَلَده سبتة، وَقد تملأ من الْعُلُوم، وبرع فِي طريقتي المنثور والمنظوم؛ فطلع على الأندلس طُلُوع الصَّباح عقب السرى، وخلص إِلَيْهَا خلوص الخيال مَعَ سنة الْكرَى؛ فانتظم فِي الْحِين فِي سلك كتبتها، وَأمسى وَهُوَ صدر طلبتها؛ لما كَانَ قد حصل لَهُ من الْأَخْذ بأطراف الطّلب، والاستيلاء على غَايَة الْأَدَب؛ وَرَئِيس الْكتاب يَوْمئِذٍ الشَّيْخ الْعَلامَة أَبُو الْحسن بن الجياب، الشهير التَّشَيُّع لأهل الْبَيْت الْكَرِيم، الموسوم بالشم الرضية، وَالْقلب السَّلِيم؛ وَكَانَ رَحمَه الله} مَعَ أدوات كَمَاله، وَمَا خص بِهِ فِي وقته من سني أَحْوَاله، وَصَالح أَعماله، مِمَّن شغف بالمذاكرة فِي الْفُنُون الأدبية، وغوامض أسرار الْعَرَبيَّة، والرسائل السُّلْطَانِيَّة، والمسائل البيانية. فألفى من ذَلِك كُله لَدَى الشريف، الخليق بصنوف التشريف، مَا شاءه من معنى رقاق، وَلَفظ رقراق، وطبع بالمعارف دفاق. فَجَذَبَهُ الشَّيْخ إِلَيْهِ، وتلقاه براحيته، وَذهب إِلَى مقارضته بالقريض، ومساجلته فِي الطَّوِيل والعريض. فقلما كَانَ بهَا رسم الْكِتَابَة إِذْ ذَاك يفنن عَن أدب يعْتَبر، ونتف طرف تبعثر، وقسطاس يُوزن بِهِ مَا يقل من الْمقَال وَيكثر؛ ثمَّ صرف إِلَى الِاسْتِعْمَال فِي الخطط القاضوية صرف الِاسْتِظْهَار، وبمعارفه الباهرة الْأَنْوَار، وَأَحْكَامه القاضية بتأمين الأوطان وتأميل الأوطار؛ فَتقدم بذلك بجهات شَتَّى، مِنْهَا رية، وحلبة الطّلبَة بهَا سوابق غايات، وخوافق رايات. وَكَانَت ولَايَته عَلَيْهِم حلَّة نشرها الْفضل من صوانها. ودرة أَكْثَرهَا الْعدْل لأوانها. أنزل أماثلهم من رعايته منَازِل الْإِكْرَام، واختص مِنْهُم بمصاحبة الزَّاهِد أبي عبد الله بن عَيَّاش، أحد الْعلمَاء الْأَعْلَام؛ فتفقه مَعَه فِي أَحْكَامه، ونوازل أَيَّامه، وَأخذ نَفسه بالاشتداد فِي نصْرَة الْمَظْلُوم، وَالضَّرْب على يَد الظلوم؛ وَله فِي

هَذَا الْبَاب أَخْبَار مأثورة، وحكايات مَشْهُورَة؛ وَعند ابْتِدَاء الْفُقَهَاء، بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع مجْلِس إقراء، افتتحه أَولا بالتمهيد، وختمه بِعلم الْخَلِيل، وحبره بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّعْلِيل. وَكَانَ فِي إقرائه سريع الْجَواب، متبحراً فِي علم الْإِعْرَاب، فصيح اللِّسَان، بارع البنان؛ فظفرت أَيدي الطّلبَة مِنْهُ بالكنز المذخور، المروية جَوَاهِر معارفه بدور الشذور؛ وَحصل النَّاس بولايته على طَريقَة عادلة من الشَّرْع، واعتضد مِنْهَا الأَصْل بالفرع. وَلما جرى فِي ميدانها ملْء عنانه، وشاع فِي الْآفَاق مَا شاع من سمو شَأْنه وَعدل قَضَائِهِ، وَفصل مضائه، نقل من مالقة إِلَى غرناطة حَضْرَة الْملك، وواسطة السلك أيد الله سلطانها، ومهد بعزته أوطانها {فَتقدم بهَا لتنفيذ الْأَحْكَام، بعد أَن ولي وَادي آش بأيام. فهنيت مِنْهُ الخطة الشَّرْعِيَّة بِسَيِّد مضطلع بأعباء الْقَضَاء، قد شمخ من عز النزاهة بأنف، وأمد من نور الْعقل ببرهان غير خلف؛ ثمَّ إِن الْقدر جرى بِتَأْخِيرِهِ عَن الخطة؛ من غير مُوجب سخطه. فَكَانَ فِي حَالَته كالبدر خسف عِنْد الِاسْتِقْبَال، وأدركه السوار بعد تناهي الْكَمَال: إِذا تمّ أَمر دنا نَقصه ... توقع زوالاً إِذا قيل تمّ وَلَيْسَت عوامل التَّأْخِير والتقديم، بمستنكر دُخُولهَا على كل وَال فِي الحَدِيث وَالْقَدِيم؛ فقد عزل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ} زِيَاد بن أبي سُفْيَان دون باس، وَقَالَ لَهُ: كرهت أَن أحمل فضل عقلك على النَّاس {وعزل أَيْضا شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، فَقَالَ لَهُ: أعن سخطَة عزلتني؟ قَالَ: لَا} ولاكن وجدت من هُوَ مثلك فِي الصّلاح، وَأقوى مِنْك على الْعَمَل {قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} إِن عز لَك عيب {فَأخْبر النَّاس بعذري} فَفعل عمر ذَلِك. وَكَانَ صرف الشريف أبي الْقَاسِم عَن قَضَاء الحضرة، والخطابة بهَا، فِي شهر شعْبَان من 747؛ فَانْقَطع إِلَى تدريس الْعلم، وَإِظْهَار عيونه، والاشتغال بِإِقْرَار فنونه. وَكَانَ بَينه وَبَين شَيخنَا إِمَام البلغاء أبي الْحسن بن الجياب مَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ، من المصادقة؛ فصدرت عَنهُ فِي أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة بَدَائِع من المخاطبات، وضروب المفاكهات، مِنْهَا قَول الشَّيْخ يرقب خطة الْقَضَاء الَّتِي كَأَنَّهَا تركت صَاحبه، وأهملت جَانِبه:

لَا مرْحَبًا بالناشز الفارك ... إِذْ جهلت رفْعَة مقدارك لَو أَنَّهَا قد أُوتيت رشدها ... مَا بَرحت تعشو إِلَى نارك أَقْسَمت بِالنورِ الْمُبين الَّذِي ... مِنْهُ بَدَت مشكاة أنوارك ومظهر الحكم الْحَكِيم الَّذِي ... يَتْلُو علينا طيب أخبارك مَا ألفت مثلك كُفؤًا وَلَا ... أوت إِلَى أكْرم من دَارك وَهَذِه الْقطعَة قد بلغت الْغَايَة من البراعة، وَتمكن البلاغة، وَإِن كَانَ فِي طي مَا تضمنته من وصف الخطة الشَّرْعِيَّة بالناشز الفارك، وبأنها لم تؤت رشدها مَا فِيهِ. ثمَّ إِن الْولَايَة حنت إِلَيْهِ، ووقفت مرادها عَلَيْهِ، فَعَاد إِلَيْهَا، وَالْعود أَحْمد. وَاسْتمرّ قِيَامه بهَا، إِلَى أَن هلك السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج مستقضيه، مَأْمُوما بِهِ، فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صَلَاة الْفطر عَام 755 رَحمَه الله وأرضاه {عدا عَلَيْهِ شقي كَأَنَّهُ وَحشِي، فَضَربهُ بظهره، وَهُوَ ساجد لرَبه. وَولي الْأَمر بعد وَلَده الْخَلِيفَة الْمُؤَيد الْمَنْصُور أَبُو عبد الله أبقاه الله ووقاه} فجدد ولَايَته، وأكد رعايته؛ وَقد كَانَت رحى الوقيعة دارت على القَاضِي الْخَطِيب، وَهُوَ فِي محرابة حِين الكائنة؛ فعركته، وَلم تتركه، إِلَّا وَقد أشفى على التّلف؛ فعوجل بِإِخْرَاج الدَّم، وَعند ذَلِك تنفس عَنهُ بعض مَا وجده من الْأَلَم. وَكَانَ لَهُ فِي الْمجَالِس الملكية، والمجتمعات الجمهورية، من جلالة الأبهة وملازمة التؤدة، وإمساك النَّفس عَن المسارعة عِنْد الْمُخَالفَة إِلَى الْمُرَاجَعَة، مَا لم يكن لغيره من أهل طبقته؛ فَإِذا خلا بمنزله، أَدخل عَلَيْهِ فِي خَاصَّة أَصْحَابه. رَأَيْته؛ فَكَأَنَّهُ من تنزله، وتبدله، بِمَثَابَة أصاغر طلبته. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يُبَاشر خدمَة الواردين عَلَيْهِ بِذَاتِهِ، دون وزعته، اقْتِدَاء بالأئمة الماضين من قبله فَمن كَلَامهم: لَيْسَ ينقص من الرجل الشريف أَن يخْدم ضَيفه، وَلَا أَن يتصاغر لسلطانه، وَأَن يتواضع لشيخه! وَلَقَد بتنا مَعَه لَيْلَة بحشه من خَارج الحضرة، فِي أنَاس مِنْهُم الشريف أَبُو عبد الله بن رَاجِح السُّوسِي، والأستاذ أَبُو عَليّ الزواوي، والوزير أَبُو عبد الله بن الْخَطِيب اللوشي، فمالت ذبالة الشمعة فِي أثْنَاء اللَّيْل إِلَى الذبول؛ فَذهب أحد الْحَاضِرين ليقويها؛ فأمسكه القَاضِي، وبادر هُوَ بِنَفسِهِ لَهَا؛ فأذكى نارها، وقوى نورها، وَقَالَ: هم السراج أَن يخمد لَيْلَة

عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله {فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجَاء بن حَيْوَة ليصلحه؛ فاقسم عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز؛ فَجَلَسَ. فَقَامَ هُوَ؛ فأصلحه. فَقَالَ رجل: أتقوم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} قَالَ: قُمْت، وَأَنا عمر بن عبد الْعَزِيز {وَرجعت، وَأَنا عمر بن عبد الْعَزِيز} ثمَّ قَالَ لنا: واضطربت عِمَامَة هِشَام بن عبد الْملك. فَأَهوى الأبرش الْكَلْبِيّ إِلَى تعديلها. فَقَالَ لَهُ هِشَام: مَه {فَأَنا لَا نتَّخذ الإخوان خولاً} وَجرى بَين الْأَصْحَاب الْمَذْكُورين فِي تِلْكَ اللَّيْلَة من المحاورة بِطرف الْعلم، وَقطع الشّعْر، مَالا يرجع فِي الْحسن إِلَى حصر. وَمن ذَلِك أنْشدهُ ابْن رَاجِح، فِي أَبْيَات لِابْنِ مامة: أَلا رب من يَدعِي صديقا وَلَو ترى ... مقَالَته بِالْغَيْبِ ساءك مَا يفرى مقَالَته كالشهد مَا كَانَ شَاهدا ... وبالغيب مطرور على ثغرة النَّحْر يَسُرك باديه وَتَحْت أديمه ... نهيمه غش تفتري عقب الظّهْر وَذكر لنا عَن صَاحبه الْعَلامَة فِي زَمَانه بالمغرب، الرئيس أبي مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ السبتي، أَنه سَمعه ينشد بتونس، وَقد مر بِهِ قوم من أَعْيَان جند فاس، بعد إهماله لتخلفه عَن سُلْطَانه، أَيَّام تنشبه بالقيروان وحصاره: يَا أَيهَا النَّاس سِيرُوا إِن قصدكم ... أَن تصحبوا ذَات يَوْم لَا تسيرون حثوا الْمطِي وأرخوا من أزمتها ... قبل الْمَمَات وأقضوا مَا تقضون كُنَّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُم فغيرنا ... دهر فَأنْتم كَمَا كُنَّا تَكُونُونَ وَهَذِه الأبيات أول شعر قيل فِي الْعَرَب على مَا نَقله ابْن إِسْحَاق. وَذكر ابْن هِشَام أَنَّهَا وجدت مَكْتُوبَة فِي حجر بِالْيمن، وَقَالَهَا من قَالَهَا لحكمة صَرِيحَة، وموعظة صَحِيحَة. وأنشدنا القَاضِي الشريف فِي تِلْكَ اللَّيْلَة لنَفسِهِ، يصف أقداس سانية حشه: ومترعة يعل الرَّوْض مِنْهَا ... إِذا علت من المَاء الْفُرَات بدا دولا بهَا فلكاً وراحت ... بدائرة كواكب سائرات إِذا مَا الرَّوْض قابلهن كَانَت ... عَلَيْهِ بِكُل سعد طالعات ترَاهَا إِن شُعَاع الشَّمْس لَاقَى ... بَيَاض المَاء مشرقة الأيات أوعجب أَنَّهَا دارت بِنَوْء ... غزير وَهِي تغرب خاويات

النوء الْعَرَب سُقُوط نجم من نُجُوم الْمنَازل الثَّمَانِية وَالْعِشْرين؛ وَهُوَ مغيبها بالغرب مَعَ طُلُوع الْفجْر وطلوع مُقَابِله بالمشرق. وَعِنْدهم أَنه لَا بُد أَن يكون مَعَ أَكْثَرهَا نوء من مطر، أَو ريَاح عواصف، وَشبههَا؛ فَمنهمْ من يَجعله لذَلِك السَّاقِط، وَمِنْهُم من يَجعله للطالع، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ناء أَي نقص؛ فينسبون الْمَطَر إِلَيْهِ؛ وَجَاء الشَّرْع بِالنَّهْي عَن اعْتِقَاد ذَلِك ثمَّ أنشدنا القَاضِي من نظمه: يَا أَيهَا الرَّاكِب المزجي ركائبه ... يحثها السّير بَين القار والأكم أبلغ بسبتة أَقْوَامًا ودونهم ... عرض الفلا وذميل الأنيق الرَّسْم ولج ذِي ثبج طام كَأَن بِهِ ... أَعْلَام لبنان أَو كُثْبَان ذِي سلم ألوكة من غَرِيب دَاره قدم ... مرماه لَا صدد مِنْهُم وَلَا أُمَم إِنِّي بأندلس آوى إِلَى كنف ... للمجد رحب وظل للعلى عمم وَإِن غرناطة الغرا حللت بهَا ... فصرت من ريب هَذَا الدَّهْر فِي حرم لَيست لأخرى فَلَا ربع بهَا وجبا ... رَهْط واخفر مَا للمجد من ذمم وأنكرتني مغانيها وَمَا عرفت ... إِلَّا بقومي فِي أيامنا الْقدَم لَوْلَا الْمغرب من آل النَّبِي بهَا ... وَهن مَا بَين من طيب وَمن كرم وفتية من بني الزهراء قد كرموا ... لَهُم أوَامِر من ود وَمن رحم لَقلت لَا جادها صوب الحيا أبدا ... إِلَّا بناقع سم أَو عبيط دم ليسفحن عَلَيْهَا الدمع من جزع ... يَوْمًا وَلَا أقرّ عَن السن من نَدم مَا ضرني أَن نبابى أَو بِنَا وطني ... مِنْهَا ولي شرف الْبَطْحَاء وَالْحرم وَمن الْجُزْء المحتوي على طَائِفَة من شعره، الَّذِي وسمه ب جهد الْمقل، قَوْله: ظَفرت بلثمها فَبَدَا احمرار ... بوجنتها يزِيد الْقلب وجدا فاغراها بِي الواشي فظلت ... تلوم وَلم أكن مِمَّن تعدا فَمَا كَانَت سوى قبل فَفِيهَا ... جَنِين أقاحياً وغرسن وردا

وَقَوله: مهفهف الْقد بديع الحلا ... يُعْطي بجيد للرشا الخاذل رمى بنبل اللحظ فِي مهجة ... غادرها بشغل شاغل وانعطف الصدغان فِي خَدّه ... رد كلامين على نابل وَالْبَيْت الْأَخير مَبْنِيّ على قسيم امْرِئ الْقَيْس حَيْثُ قَالَ: نظمتهم سلكي ومخلوجة. ونظمه كُله رائق الْمَعْنى، صَرِيح الدّلَالَة، صَحِيح المبنى؛ وَلَيْسَت المعارف؛ وَإِن تعدّدت طرقها وعزت ثَمَرَتهَا، متعذراً إِدْرَاكهَا، وَلَا سِيمَا على من جد فِي طلبَهَا؛ وَإِنَّمَا الصعب العسير معالجة الْأَخْلَاق بترك عوائدها، والتثني عَن سفسافها؛ ومجموع الْأَدْوِيَة المتخذة لأصلاح فاسدها يرجع إِلَى الْعقل الَّذِي عَلَيْهِ مدَار الْأَعْمَال كلهَا. وَلذَلِك قَالَ الْعلمَاء حَسْبَمَا تقدم عِنْد التَّكَلُّم فِي خِصَال الْقَضَاء: إِذا اجْتمع مِنْهَا فِي الرجل الْعقل والورع قدم. قَالَ ابْن حبيب: فَإِنَّهُ بِالْعقلِ يسْأَل، وبالورع يقف، وَإِذا طلب الْعلم وجده، وَإِذا طلب الْعقل لم يجده. وَكَانَ قد حصل مِنْهُ للشريف الْمَوْصُوف زِيَادَة لشرفة وفنون معارفه الْحَظ الوافر الْكَبِير، وَالْقدر الَّذِي يقصر عَن نعت محاسنه التَّعْبِير، بِحَيْثُ صَار الْمثل يضْرب بِهِ فِي كظم الغيظ، وَترك حظوط النَّفس، وَكَثْرَة التقاضي عَن النّظر للمساوي، إِلَى غير ذَلِك من سيره السّنيَّة، وسمائله الحسنية. هَذَا مَا تيَسّر بِحَسب الْوَضع من التَّنْبِيه على صِفَاته والتعريف بِبَعْض كمالاته. وَأما مشيخته، فَقَرَأَ بِبَلَدِهِ سبتة الْقُرْآن على وَالِده الْمُنْقَطع لإقراء كتاب الله ومدارسته، أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله! وَأكْثر من مُلَازمَة الْأُسْتَاذ الشَّهِيد أبي عبد الله ابْن هاني وَالْأَخْذ عَنهُ؛ فَانْتَفع بِهِ وتأدب بأدبه؛ وَقَرَأَ على القَاضِي الإِمَام أبي إِسْحَاق الغافقي وروى عَن أبي عبد الله الغماري وَعَن القَاضِي أبي عبد الله الْقُرْطُبِيّ وَعَن الْخَطِيب بن رَئِيس وَابْن حُرَيْث وَغَيرهم. وَله جملَة تصانيف مِنْهَا: رفع الْحجب المستورة، عَن محَاسِن الْمَقْصُورَة شرح فِيهِ مَقْصُورَة حَازِم بِمَا لاغاية بعده فِي المحاسن. وَمِنْهَا رياضة الْآن فِي شرح قصيدة الخزرجي، أبدع فِي ذَلِك غَايَة الإبداع. وَقيد على كتاب التسهيل لِابْنِ مَالك تقييداً مُفِيدا وبدائع جمة أثيرة. وناب عَنهُ فِي أقضيته، أَيَّام أَسْفَاره فِي معرض الرسَالَة إِلَى مُلُوك الْمغرب وَفِي غير ذَلِك،

وليه الشَّيْخ الْفَقِيه القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن فرج بن جذام اللَّخْمِيّ، أحد أماثيل بَلَده نباهة قدر، وسلامة صدر، لم ينْتَقل عَن ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي آخر عَام 757. فخلفه فِي النِّيَابَة بِمَجْلِس الحكم الشَّرْعِيّ صَاحبه الْفَقِيه الْأَجَل، القَاضِي الأنوى الْأَكْمَل، أَبُو جَعْفَر أَحْمد ويدعى بِأبي بكر بن شَيخنَا الْأُسْتَاذ الْحَافِظ الْخَطِيب الشهير أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن جزى الْكَلْبِيّ، ذُو الْبَيْت الْأَصِيل، وَالْمجد الرفيع الأثيل؛ فَنَهَضَ بأعباء الْقَضَاء. ثمَّ إِنَّه اشْتغل بعد وَفَاة القَاضِي الشريف بخطبته واستقرت أزمتها فِي يَده؛ ثمَّ صرف عَنْهَا إِلَى غَيرهَا؛ وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد بِقَيْد الْحَيَاة تولاه الله {ومولد الشريف السمى بسبتة سادس ربيع الأول الْمُبَارك الَّذِي من عَام 697؛ وَفَاته بغرناطة ضحى يَوْم الْخَمِيس الْحَادِي وَالْعِشْرين لشهر شعْبَان من عَام 760؛ وَبَنوهُ من بعده فِي الأندلس بِحَال نباهة وَاسْتِعْمَال فِي الْقَضَاء وَالْكِتَابَة. وَمن الحَدِيث الثَّابِت فِي الصَّحِيح عَن أنس بن مَالك أَنه قَالَ: قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَأَبُو بكر وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَعمر وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة وَوَافَقَ أَن كَانَت وَفَاة الشريف أبي الْقَاسِم على حسب وِلَادَته وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة؛ وَتلك من جملَة كراماته تغمدنا الله وإياه برحمته} وَقد كمل الْغَرَض الْمَقْصُود من هَذَا الْبَاب. وَقد ذكرت فِيهِ من أَعْلَام الرِّجَال مَا عولت عَلَيْهِ، وادتنى المذاكرة إِلَيْهِ. وَإِلَى الله تَعَالَى أَبْرَأ من الاحاطة فَرُبمَا أغفلت، أَضْعَاف مَا نقلت؛ وَفِيمَا جلبته من الأنباء، وأدرجته من الْأَخْبَار طي الْأَسْمَاء، مَا يحمل النَّاظر فِيهِ على الِاعْتِبَار، وإيثار سير الْفُضَلَاء والأخيار، بحول الله! وَلَا اعْتِرَاض علينا من أهل الْحق فِيمَا أَثْبَتْنَاهُ من الحكايات، وضروب المقالات، إِذْ حَاصِل مجموعها مَنَاقِب ومواعظ، يَأْخُذ مِنْهَا على قدر همته السَّامع والواعظ، مَعَ أَنه قد ثَبت من الْأَئِمَّة الْمُتَكَلِّمين فِي هَذَا الشَّأْن أَنهم قَالُوا: يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يحفظ فَضَائِل أهل الْعدْل ومآثرهم، وينافسهم على ذَلِك، وَأَن يَأْخُذ نَفسه بسيرهم، وَحفظ أحكامهم ورسائلهم ومواعظهم، مَعَ علمه بالفقه والْحَدِيث؛ فَإِن ذَلِك قُوَّة لَهُ على مَا قَلّدهُ الله. وَمن المروى عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه كَانَ يَقُول: سَمِعت جَعْفَر الْخُلْدِيِّ يَقُول: سُئِلَ الْجُنَيْد: مَا للمريدين فِي مجازات

الحكايات؟ فَقَالَ: الحكايات جند من جنود الله، يُقَوي بهَا قُلُوب المريدين {قيل لَهُ: فَهَل فِي ذَلِك شَاهد؟ فَقَالَ: نعم} قَوْله عز وَجل: كلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك. وَمعنى تثبيت الْفُؤَاد فِي الْآيَة عِنْد الْمُفَسّرين لَهَا أَي نقوى نَفسك فِيمَا نَلْقَاهُ ونجعل لَك أُسْوَة بِمن تقدمك. وَتكلم أَبُو الْفضل الرَّازِيّ فِي كِتَابه على الْمَسْأَلَة؛ فَأتى بِنَحْوِ مَا ذَكرْنَاهُ؛ ثمَّ قَالَ: وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان إِذا ابتلى ببلية ومحنة، وَرَأى لَهُ مشاركاً، خف ذَلِك على قلبه، كَمَا يُقَال: الْمُصِيبَة، إِذا عَمت، خفت. وَفِي الْوَجِيز: قيل لمُحَمد بن سعيد مَاذَا الترديد للقصص فِي الْقُرْآن؟ فَقَالَ: ليَكُون لمن قَرَأَ مَا تيَسّر مِنْهُ حَظّ فِي الِاعْتِبَار. وَعَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله أَنه قَالَ: سَمِعت حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن يَقُول: الْعلم دراية وَرِوَايَة، وَخبر وحكاية. وَلما رجوناه من الِانْتِفَاع بذلك كُله، أشفعنا القَوْل فِي هَذَا الْبَاب، وجلبنا من الأنباء مَا فِيهِ عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب جعلنَا الله من الَّذين يسمعُونَ القَوْل، فيتبعون أحْسنه؛ وَصرف عَنَّا فتن الْقَضَاء ومحنة، بمنه وفضله. وَالْحَمْد لله {لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه} وَهَذَا فِي كتاب الْقُضَاة إِلَى الْقَضَاء، وَصفَة من بلغ مِنْهُم رُتْبَة الِاجْتِهَاد، وَحكم الْقَاصِر عَن تِلْكَ الْمنزلَة فِي استنباط الْأَحْكَام، وَكَيْفِيَّة الِاسْتِخْلَاف، وفيمن يجوز لَهُ التَّقْلِيد، وَمن لَا يجوز لَهُ من النَّاس: وَالْكَلَام فِيمَا ذَكرْنَاهُ يرجع على الْقَرِيب إِلَى فُصُول، الأول مِنْهَا فِي كتب الْقُضَاة ونبذ من الْمسَائِل الْمُتَّصِلَة بذلك. وَالَّذِي جرى أَولا بِهِ بِالْعَمَلِ، إِذا أَتَى القَاضِي كتاب من قَاض آخر، يسْأَل الَّذِي جَاءَهُ بِالْكتاب إِحْضَار صَاحبه إِن كَانَ فِي عمالته؛ ثمَّ إِذا أحضرهُ، سَأَلَهُ الْبَيِّنَة على كتاب القَاضِي أَنه من قبله. قَالَ سَحْنُون بن سعيد: ولينظر القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ الْكتاب. فَإِن كَانَ القَاضِي الَّذِي كتبه قد ثَبت عِنْده أَنه من أهل الِاسْتِحْقَاق للْقَضَاء، لفهمه ومعرفته بِأَحْكَام من مضى وآثارهم، مَعَ فهمه فِي دينه، وورعه وانتباهه وفطنته، غير مخدوع فِي عقله، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، نظر فِي كِتَابه وَعمل بِمَا يجب فِيهِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ صَاحب الْجَوَاهِر الثمينة، وَقد أَتَى فِيهَا من صِفَات القَاضِي الْعدْل بِنَحْوِ مَا تقدم: فَإِن عرفه بِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل ذَلِك، لم يقبله. وَفِي سَماع يحيى: وَإِن لم يكن قَاضِي الكورة موثوقاً بِهِ، وَفِي الكورة رجال يوثق

بهم، كتب إِلَيْهِم سرا لِيَسْأَلُوا لَهُ عَمَّن شهد عِنْده من أهل تِلْكَ الكورة؛ فَإِن كتبُوا لَهُ أَنه مَشْهُور بِالْعَدَالَةِ، مَعْرُوف بالصلاح، أجَاز شَهَادَته، وَإِلَّا تَركهَا حَتَّى يعدل عَنهُ من يرضى. وَقَالَ أَشهب: إِذا كتب إِلَيْهِ غير الْعدْل: أَن بَينه فلَان تثبت عِنْدِي، فَلَا يقبل كِتَابه لِأَنَّهُ مِمَّن لَا تجوز شَهَادَته وَإِن لم يعرف حَاله؛ فروى ابْن حبيب عَن أصبغ: إِن جَاءَهُ بِكِتَاب قَاض لَا يعرفهُ بعدالة وَلَا سخطَة، فان كَانَ من قُضَاة الْأَمْصَار الجامعة مثل الْمَدِينَة، وَمَكَّة، وَالْعراق، وَالشَّام، ومصر، والقيروان، والأندلس، فلينفذه؛ وَإِن لم يعرفهُ، وليحمل مثل هَؤُلَاءِ على الصِّحَّة. وَأما قُضَاة الكور الصغار، فَلَا ينفذهُ حَتَّى يسْأَل عَنهُ الْعُدُول وَعَن حَاله. وَإِذا كتب قَاض إِلَى قَاض بِكِتَاب فِيهِ أَمر من الْأَقْضِيَة، وَفِيه اخْتِلَاف بَين الْفُقَهَاء والمكتوب إِلَيْهِ، لَا يرى ذَلِك الرَّأْي. فَإِن كتب إِلَيْهِ أَنه قد ذكر بِمَا فِي كِتَابه وأنفذه، جَازَ لَهُ ذَلِك وأنفذه؛ هَذَا وَإِن لم يكن قطع فِيهِ بِحكم وَإِنَّمَا كتب بِمَا ثَبت عِنْده، فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْمل فِيهِ بِرَأْي الَّذِي كتبه، وليعمل فِيهِ بِرَأْيهِ. قَالَ سَحْنُون: وَإِذا كتب بِأَمْر، فَرَأى هُوَ خِلَافه، فَلَا ينفذهُ، لِأَن ذَلِك لم يفد شَيْئا؛ فَلَا ينفذ هَذَا مَا لَيْسَ بصواب عِنْده. وَقَالَ ابْن حبيب عَن مطرف وَابْن الْمَاجشون مثله. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِي الإِمَام الْبَين الْعَدَالَة يَأْمر رجلا بِإِقَامَة حد فِي رجم، أَو حرابة، أَو قتل، أَو قطع فِي سَرقَة، وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بقول الإِمَام؛ فَعَلَيهِ طَاعَته. قَالَ أَشهب. فَإِن لم يعرف بِالْعَدَالَةِ، فَلَا يطيعه فِي ذَلِك إِلَّا أَن يرى أَنه قد قضى فِي ذَلِك بِحَق؛ فَعَلَيهِ طَاعَته. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِذا اتَّضَح أَنه حكم بِحَق وَعلم، وَأَنه كشف عَن الْبَيِّنَة وَعدلُوا. قَالَ أَشهب: وَإِذا لم يدر مَا قضى بِهِ أبحق أم بهوى، فَلَا يجِيبه. قَالَ ابْن الْمَاجشون وَهُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز، وَابْن الْمَاجشون مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ الْورْد: وَلَا تُطِع الجائر وَلَا تخدمه وَلَا تصدقه. وَقد تقدم صدر كتَابنَا هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن وهب عَن مَالك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَمَا ذهب إِلَيْهِ فِي مثلهَا الْأَبْهَرِيّ وَالله المرشد للصَّوَاب! فرعان: أَحدهَا: على القَاضِي الْغَائِب أَن يخْتَار الْبَيِّنَة الَّتِي تحمل كِتَابه، إِذا كَانَ مِمَّن يرى بذلك؛ وَيلْزم القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ قبُوله، وَيَقُول الشَّاهِد: إِن هَذَا كِتَابه إِلَيْنَا مَخْتُومًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأَبُو ثَوْر: إِذا لم يقرأه عَلَيْهِمَا القَاضِي، لم يجز، وَلَا يعْمل القَاضِي الْمَكْتُوب

إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ. وروى عَن مَالك مثله. قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن بن خلف بن بطال: وحجتهم أَنه لَا يجوز أَن يشْهد الشَّاهِد إِلَّا بِمَا يعلم، لقَوْله تَعَالَى " وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا ". وَحجَّة من أجَاز ذَلِك أَن الْحَاكِم، إِذا أقرّ أَنه كِتَابه، فقد أقرّ بِمَا فِيهِ، وَلَيْسَ الشَّاهِدَانِ على مَا ثَبت عِنْد الْحَاكِم فِيهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَض مِنْهَا أَن يعلم القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَن هَذَا كتاب القَاضِي الْكَاتِب لَهُ، وَقد يثبت عِنْد القَاضِي من أُمُور النَّاس مَا لَا يحبونَ أَن يُعلمهُ كل أحد، مثل الْوَصَايَا الَّتِي يتخوف النَّاس فِيهَا، ويذكرون مَا فرطوا فِيهِ، وَلِهَذَا يجوز عِنْد مَالك أَن يشْهدُوا على الْوَصِيَّة المختومة، وعَلى الْكتاب المدرج، ويقولوا للْحَاكِم: نشْهد على إِقْرَاره بِمَا فِي هَذَا الْكتاب. وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يكْتب إِلَى عماله، وَلَا يقْرؤهَا على رَسُوله. وفيهَا الْأَحْكَام وَالسّنَن. وَاخْتلفُوا كَذَلِك إِذا انْكَسَرَ ختم الْكتاب. فَقَالَ أَبُو حنيفَة: وزجر لَا يقبله الحكم. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يقبله، وَيحكم بِهِ، إِذا شهِدت الْبَيِّنَة؛ وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَاحْتج الطَّحَاوِيّ لأبي يُوسُف؛ فَقَالَ: كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} إِلَى الرّوم كتابا، وَأَرَادَ أَن يَبْعَثهُ غير مختوم، حَتَّى قيل: إِنَّهُم لَا يقرؤون إِلَّا أَن يكون مَخْتُومًا {فَاتخذ الْخَاتم من أجل ذَلِك. فَدلَّ أَن كتاب القَاضِي حجَّة. وَإِن لم يكن مَخْتُومًا. وخاتمه أَيْضا حجَّة؛ وَالْمَنْقُول عَن مَالك أَنه لَا يجوز كتاب قَاض إِلَى قَاضِي إِلَّا بِشَاهِدين أشهدهما بِمَا فِيهِ. قَالَ ابْن الْقَاسِم: وَإِن لم يكن فِيهِ خَاتمه، أَو كَانَ بِطَابع، فانكسر. وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: وَإِذا شهد العدلان أَن هَذَا كتاب القَاضِي، أَمْضَاهُ. وَقَالَ أَشهب: لَيْسَ قَوْلهم وشهادتهم أَن هَذَا كتاب قَاض بشئ، حَتَّى يشْهدُوا أَنه أشهدهم. وَلَا يضر إِن لم يختمه، إِذْ لَو شهدُوا أَن هَذَا خَاتمه، وَلَو شهدُوا أَن الْكتاب كِتَابه إِلَى هَذَا القَاضِي، لم ينْتَفع بذلك، لِأَن الْخَتْم يستشعر، فَلَا يعرف، وَالْكتاب يعرف بِعَيْنِه. وَمن كتاب القَاضِي أبي عبد الله بن الْحَاج: ضرب عمر بن الْخطاب فِي التَّعْزِير معن بن زَائِدَة مائَة سَوط حَيْثُ نقش على خَاتمه، وَأخذ مِنْهُ مَالا وحبسه. ثمَّ كلم فِي أمره فَقَالَ: ذَكرتني الطعْن، وَكنت نَاسِيا} فَضرب مائَة؛ ثمَّ حبس. وَلذَلِك وَالله أعلم! قَالَ

مَالك فِيمَا روى عَنهُ ابْن نَافِع: كَانَ من أَمر النَّاس الْقَدِيم إجَازَة الْخَوَاتِم حَتَّى أَن القَاضِي ليكتب للرجل الْكتاب فِيمَا يزِيد على خَتمه؛ فيجاز لَهُ. ثمَّ اتهمَ النَّاس. فَصَارَ لَا يقبل إِلَّا بِشَاهِدين. وَقَالَ ابْن كنَانَة، وَعَن مطرف وَابْن الْمَاجشون: وَلَا ينفذ قَاض كتاب قَاض فِي الْأَحْكَام إِلَّا بعدلين، وَلَا ينفذهُ بِشَهَادَتِهِمَا أَنه خطّ القَاضِي، كَمَا لَا يجوز الشَّهَادَة على الْخط فِي الْحُدُود. وَلَا بَأْس إِذا كَاتبه فِي شَيْء يسْأَله عَنهُ من عَدَالَة شَاهد أَو أَمر يستخبره من أَمر الْخُصُوم أَن يقبل كِتَابه بِغَيْر شُهُود، إِذا عرف خطه، مَا لم يكن فِي قَضِيَّة قاطعه، أَو كتاب هُوَ ابتدأه بِهِ؛ فَلَا ينفذهُ إِلَّا بعدلين. وَأما كِتَابه إِلَى قَاضِي الْجَمَاعَة، أَو إِلَى فَقِيه يسْأَله ويسترشده ويخبره، فَهَذَا يقبله إِذا عرف خطه، أَو أَتَى بِهِ رَسُوله أَو من يَثِق بِهِ، إِلَّا أَن يَأْتِيهِ بِهِ الْخصم الَّذِي لَهُ الْمَسْأَلَة؛ فَلَا يقبله إِلَّا بعدلين. وَإِذا كَانَ لَهُ من يكاتبه فِي نواحي عمله، فِي أُمُور النَّاس وتنفيذ الأقضيه وَغير ذَلِك، فَلَا يقبل الْكتاب، يَأْتِيهِ مِنْهُم بالثقة يحملهُ، وبالشاهد الْوَاحِد، وبمعرفة الْخَاتم لقرب الْمسَافَة واستدراك مَا يخْشَى فَوته. وَإِذا افترق العملان، فَلَا بُد من الْبَيِّنَة؛ وَقَالَهُ أصبغ. ولسحنون نَحوه فِي أمنائه بِخِلَاف كتاب قُضَاته. وَفِي الْكتاب الْمقنع: قَالَ من أَثِق بِهِ: رَأَيْت الْعَمَل عِنْد الْقُضَاة أَن يكتبوا إِلَى أمنائهم، أَو إِلَى من أَحبُّوا أَن يتعرفوا من قبلهم، عَدَالَة بِشُهُود وَوضع شَهَادَات، ليعلموا فِي صِحَّتهَا من قبلهم، إِذا لم يكن الْمَكْتُوب إِلَيْهِم حكاماً، أَن يبعثوا إِلَيْهِم كتبهمْ مَعَ الطَّالِب بِغَيْر إِشْهَاد عَلَيْهَا، لَا يقبلوها مِنْهُم إِلَّا بعدلين من الشُّهُود. وَقَالَ ابْن حبيب عَن مطرف وَابْن الْمَاجشون: لَا يجوز إِشْهَاد الْأُمَنَاء بِمَا أَمرهم القَاضِي بإنقاذه إِلَّا أَن يثبت إِشْهَاد القَاضِي على أصل الحكم، أَو على أمره لأمنائه بإنفاذه ذَلِك، وعَلى أَنهم أنفذوه ورفعوه إِلَيْهِ؛ وَيثبت ذَلِك كُله بِشَهَادَة غير الْأُمَنَاء. وَذكر ابْن عَبدُوس عَن ابْن الْقَاسِم: إِذا شهد شَاهِدَانِ على أَن الْأُمَنَاء أشهدوهم قبل عزل القَاضِي، على مَا أَتَاهُم من القَاضِي بِمَا ثَبت عِنْدهم من إِنْفَاذ القَاضِي لمن أنفذه، أَنه يكون بمنزله مَا يشْهد القَاضِي على مَا يَأْتِيهِ من الْقُضَاة، وَمَا يثبت عِنْده من إنفاذها. قَالَ القَاضِي أَبُو الْأَصْبَغ بن سهل: رَأَيْت قُضَاة شَرق الأندلس كتب بَعضهم إِلَى بعض فِي الْأَحْكَام بالخاتم، وَمَعْرِفَة الْخط، وَإِن لم يكْتب للْقَاضِي مِنْهُ بِخَط يَده إِلَّا العنوان لَا غير، وَإِن كَانَ حامله هُوَ الْمَكْتُوب لَهُ فِي الْكتاب،

ويسلمونه إِلَيْهِ مَخْتُومًا؛ وَهُوَ عِنْدِي مِمَّا لَا يجوز الْعَمَل بِهِ، وَلَا إِنْفَاذه، لَا سِيمَا إِذا كَانَ حامله صَاحب الْحُكُومَة. وَقد ذكر ابْن حبيب عَن ابْن الْقَاسِم وَغَيره: إِذا كَانَ حَامِل الْكتاب صَاحب الْقَضِيَّة، لم يجر فِيمَا هُوَ أخف من هَذَا فِي تحمله من عِنْد الْأمين، أَو من عِنْد الْفَقِيه وَشبهه. فَكيف فِي نفس الْحُكُومَة وَمن قَاضِي بَلَده إِلَى قَاضِي بَلْدَة أُخْرَى؟ هَذَا لَا يجوز عِنْد أحد، وَالْقَضَاء بِهِ مفسوخ؛ وَالله أعلم {وَأما إِذا تحمل الْكتاب شَاهِدَانِ، وشهدا بِهِ عِنْد الْمَكْتُوب إِلَيْهِ، وَأثْنى عَلَيْهِمَا بِخَير، وَأَن لم تكن تعديلاً بَينا وزكى أَحدهمَا، وَلم يزك الآخر، أَو توهم فيهمَا الصّلاح، وَكَانَ الْخَتْم والخط مشهورين معروفين عِنْد الْمَكْتُوب إِلَيْهِ؛ فَأَنا لَا أستحسن إجَازَة مثل هَذَا أَو إِنْفَاذه لَهُ، لتعذر مُوَافقَة الْعُدُول عَن الطَّالِب، وَلما قد جرى بِهِ الْعَمَل فِي صدر السّلف الصَّالح من إجَازَة الْخَاتم. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ} وَمن هَذَا الأَصْل: إِن مُحَمَّد بن شماخ، قَاضِي غافق، خَاطب صَاحب الْأَحْكَام بقرطبة مُحَمَّد بن اللَّيْث بخطاب أدرج فِيهِ إِلَيْهِ كتاب عِيسَى بن عتبَة فَقِيه مكناسة، وَعقد استرعاء بِملك بغل بعث فِيهِ ثَبت اسْتِحْقَاقه عِنْد ابْن عتبَة فَقِيه مكناسة على عين الْبَغْل وَعين مُسْتَحقّه؛ وَقَالَ ابْن شماخ فِي كِتَابه إِلَى صَاحب الْأَحْكَام: ثَبت عِنْدِي كتاب الْفَقِيه ابْن عتبَة مستخلف قَاضِي الْجوف، المدرج فِي طي كتابي إِلَيْك. وَلم يسم القَاضِي الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ من هُوَ، وَلَا سمي ابْن عتبَة وَلَا كناه، وَلَا أَن ثُبُوته كَانَ عِنْده على عين الْبَغْل ومستحقه؛ وشاور صَاحب الْأَحْكَام فِي ذَلِك؛ فَأفْتى ابْن عتاب وَابْن الْقطَّان وَابْن مَالك أَن إِعْمَال خطاب ابْن شماخ هَذَا وَاجِب، وَأَن الحكم فِيهِ نظر مِنْهُ مَحْمُول على الْإِكْمَال؛ وَفِي اتِّفَاقهم على الْجَواب عجب، وَفِيه من الضعْف مَا فِيهِ؛ وَقد كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيمَا هُوَ أصح من هَذَا فِي النّظر؛ وَمَا جوابهم هَذَا إِلَّا مُسَامَحَة. وَالله أعلم! قلت: وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ الْعَمَل لهَذَا الْعَهْد، بالأندلس وَالْمغْرب، مَا تعرفناه عَن كثير من بِلَاد الْمشرق من الِاقْتِصَار على معرفَة الخطوط بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا؛ فَإِذا أثبت عِنْد الْحَاكِم الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَن الْخطاب هُوَ بِخَط يَد القَاضِي الَّذِي خاطبه بِهِ، وَكتب اسْمه فِيهِ قبله، إِن كَانَ عِنْده من أهل الْقبُول، وأمضاه، وَحكم بِمُقْتَضَاهُ. وَمَا استأهل الْمُتَأَخّرُونَ الْأَخْذ

بذلك على مَا فِيهِ، وَرَأَوا الْعُدُول عَن إِلْزَام شهيدين لكل ذِي كتاب، يروم الِاسْتِظْهَار بِهِ فِي غير مصره بِأَن القَاضِي أشهدهما بِمَا فِيهِ، وَأَنه كِتَابه، وَالْخطاب خطابه، على مَا تقدم تَقْرِيره، إِلَّا لما يلْحق فِي ذَلِك من المشاق الَّتِي يتَعَذَّر مَعَ وجودهَا التَّوَصُّل فِي الْغَالِب إِلَى الشَّيْء الْمَطْلُوب؛ فَلَيْسَ كل طَالب يقدر على اسْتِصْحَاب عَدْلَيْنِ يتحملان الشَّهَادَة لَهُ على القَاضِي بكتابه، ويلازمانه من الْبَلَد الَّذِي هُوَ بِهِ إِلَى الْبَلَد الَّذِي يكون فِيهِ مَطْلُوب، وَلَا سِيمَا عِنْد تبَاعد الأقطار، وَمَا حدث فِي هَذِه الْأَزْمِنَة من تكاثر القواطع، وترادف الْأَعْذَار. فأجروا الْمَسْأَلَة مجْرى الشَّهَادَة على خطّ الشَّاهِد الْغَائِب أَو الْمَيِّت، إِذا لم يستنكر النَّاظر فِي المرسوم شَيْئا. وَكَانَ قد تحقق عَدَالَة الرجل الْمَشْهُود على خطه وَقبُول شَهَادَته أَيَّام وَضعهَا فِي المكتوبات بِيَدِهِ، وَكَأَنَّهُم لاحظوا اسْتِحْسَان الرُّجُوع عِنْد الضَّرُورَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمر الْقُضَاة فِي الْقَدِيم من إجَازَة الْخَوَاتِم، والخط فِي التَّوَثُّق كالخاتم وَأَشد مِنْهُ عِنْد التَّأَمُّل. وَفِي كتاب الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بعث بكتابه رجلا. قَالَ الْخطابِيّ عِنْد شَرحه فِيهِ من الْفِقْه أَن الرجل الْوَاحِد يُجزئ حمله كتاب الْحَاكِم إِلَى حَاكم آخر، إِذا لم يشك الْحَاكِم فِي الْكتاب وَلَا أنكرهُ، كَمَا لم يُنكر كسْرَى كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} وَلَا شكّ فِيهِ وَلَيْسَ من شَرطه أَن يحملهُ شَاهِدَانِ. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحَاج، وَقد ذكر الْمَسْأَلَة: كَمَا يصنع الْيَوْم الْقُضَاة والحكام على شَاهِدين فِي ذَلِك، لإدخال النَّاس من الْفساد، وَاسْتِعْمَال الخطوط، وَنقش الْخَوَاتِم؛ فاحتيط لتحصين الدِّمَاء وَالْأَمْوَال. قَالَ غَيره: وَأول من طلب الْبَيِّنَة على كتاب القَاضِي ابْن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله؛ وتعرفت عَن التَّرْتِيب فِي مكاتبات الْقُضَاة بالبلاد المشرقية أَنه يجْرِي على طَرِيق الْمُسَامحَة، من غير ارتباط فِي هَذِه الْأَزْمِنَة إِلَى عَادَة. وَالَّذِي أخذت بِهِ لنَفْسي من ذَلِك أَنِّي، مهما كتبت على عقد بالثبوت لمن يروم السّفر بِهِ، سَأَلت عَن الرّفْقَة المصاحبة لَهُ؛ فَإِن كَانَ فِيهَا أحد من أهل الْخَيْر، استدعيته وأشهدته على عين العقد الْمَخْتُوم بِالشَّهَادَةِ، بِمَا أرى فِيهِ من الثُّبُوت عِنْدِي؛ فَإِن الْخطاب الَّذِي فِيهِ أسمى هُوَ بِخَط يَدي، استبلاغاً فِي الِاحْتِيَاط، وَطَمَعًا فِي الْخُرُوج عَن الْخلاف، وَإِذا تعذر ذَلِك سلكت من التسهيل للضَّرُورَة مسالك الْجُمْهُور.

وَقد كنت أخذت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ شَيخنَا القَاضِي أبي عبد الله بن عَيَّاش؛ فَمَال إِلَى التَّسْلِيم، وَأَشَارَ بإيثار التسديد، وَإِن كَانَ رَحمَه الله {يستضعف الْعَمَل بِإِجَازَة الشَّهَادَة على خطوط الْقُضَاة، لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ من الحكم بهَا فِي الْحُدُود والأنكحة، وبعير ذَلِك من الْعمَّال، وبخصوص إِذا أَتَى بالمرسوم صَاحب حُكُومَة والمتكلم بِالْخُصُومَةِ؛ فكثيراً مَا كَانَ يتَوَقَّف على إِمْضَاء الحكم، وَيذْهب مَا ذهب إِلَيْهِ فِي مثلهَا ابْن سهل، وَمن تقدمه من الْأَئِمَّة، وَيَقُول عَن الشَّهَادَة على الْخط إِنَّهَا على الْجُمْلَة من العظائم، وَإِحْدَى الْمسَائِل الَّتِي حَملته على الاستعفاء من الْقَضَاء، إِذا لم يقدر على إِزَالَتهَا، وَلَا سهل عَلَيْهِ فِي كل النَّوَازِل تحمل عهدتها. وَقد وَقع التَّعْرِيف بِهَذَا الرجل الْفَاضِل عِنْد وضع اسْمه فِيمَا تقدم من هَذَا الْمَجْمُوع. وَمن أخباره إِنِّي كنت قَاعِدا يَوْمًا مَعَه بِمَجْلِس الْقَضَاء من مالقة، زمَان ولَايَته بهَا؛ فَأَتَاهُ أحد الْفُقَهَاء بِعقد عَلَيْهِ خطاب قَاض مَعْرُوف الْخط، مَعْلُوم الْولَايَة. فَقَالَ لَهُ: أبقاكم الله} يشْهد عَلَيْكُم بأعمال هَذَا الْخط؟ فَقَالَ: يشْهد بِثُبُوت ذَلِك الرَّسْم من وَجه آخر ذكره؛ ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن القَاضِي، الَّذِي قد كَانَ خاطبه بِهِ، لَيْسَ هُوَ عِنْده من أهل الِاسْتِحْقَاق للْقَضَاء فِي عَدَالَته، وورعه، ونزاهته؛ فَظهر لَهُ أَن يَأْخُذ فِيهِ بِمَا رَوَاهُ يحيى فِي مَسْأَلَة قَاضِي الكورة، إِذا لم يكن موثوقاً بِهِ. وَقد تقدم الْكَلَام فِي ذَلِك. تَنْبِيه على جَوَاز الْمُسَامحَة فِي الْخطاب، إِذا وَقع فِيهِ الْغَلَط: قَالَ عبد السَّلَام بن سعيد الملقب بسحنون: وَلَو كتب قَاض إِلَى قَاضِي الْبَصْرَة، وَسَماهُ، فَأَخْطَأَ باسمه أَو اسْم أَبِيه وَنسبه، لنفذ ذَلِك، إِذا نسبه إِلَى الْمصر الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَشهِدت الْبَيِّنَة بذلك، وَلَيْسَ كل من كتب كتابا يعنونه؛ فَإِذا شهِدت بَيِّنَة أَنه كتبه قلبه، وَلم ينظر فِي اسْمه، وَإِذا كَانَ الْكتاب لِرجلَيْنِ، فَحَضَرَ أَحدهمَا: فَإِنِّي أقبل الْبَيِّنَة وَالْكتاب، وأنفذ الحكم للحاضر؛ فَإِذا حضر الْغَائِب، أنفذت لَهُ الحكم، وَلَا أُعِيد الْبَيِّنَة وَإِذا أمكن تعْيين الْخطاب، فَهُوَ من الصَّوَاب؛ والاطلاق سَائِغ، لَا سِيمَا عِنْد شدود الْغَرِيم. فقد سُئِلَ مَالك عَن الرجل يثبت حَقه عِنْد القَاضِي، أيعطيه كتابا إِلَى أَي الْآفَاق كَانَ، وَلَا يُسمى فِيهِ

أحدا، لَا قَاضِيا بِعَيْنِه، وَلَا بَلَدا بِعَيْنِه. قَالَ: نعم {أرى ذَلِك يجوز، إِذا ثَبت عِنْد القَاضِي الَّذِي يرفع إِلَيْهِ الْكتاب أَنه كتاب القَاضِي الَّذِي كتبه وَبعث بِهِ مثل الرجل يُطَالب غَرِيمه لَا يدْرِي بِأَيّ الْآفَاق هُوَ، أَو أَيْن يلقاه، أَو العَبْد الْآبِق، وَمَا يُشبههُ. وَقَالَهُ ابْن الْقَاسِم وَأصبغ عَنهُ. قَالَ سَحْنُون: وَإِذا جَاءَ بِكِتَاب قَاض إِلَى قَاض، وَأَن فلَانا لَهُ من الدّين على فلَان كَذَا وَكَذَا، لم يجز ذَلِك، حَتَّى ينْسبهُ إِلَى أَبِيه، وَإِلَى فَخذه الَّذِي هُوَ مِنْهَا، أَو ينْسبهُ إِلَى تِجَارَة يعرف بهَا مَشْهُورَة. الْفَرْع الثَّانِي، إِذا كتب قَاض بِمَا ثَبت عِنْده، ثمَّ مَاتَ الْكَاتِب قبل أَن يصل الْكتاب إِلَى الْمَكْتُوب إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ ينفذهُ، ويبنى عَلَيْهِ إِذا بلغه، ويبنى عَلَيْهِ الحكم. قَالَ أَشهب الْمَجْمُوعَة: قَالَ مَالك: وَإِن عزل الْكَاتِب، فلينفذ بِهَذَا، إِن كَانَ مِمَّن تجوز كِتَابَته لعدالته. وَمثله عَن ابْن الْقَاسِم، وَسَوَاء مَاتَ أَحدهمَا، أَو عزلا، أَو أَحدهمَا، إِذا كَانَ الَّذِي كتبه هُوَ وَال. وَبِه أَقُول، وَلَا أعلم فِيهِ خلافًا بَين أهل الْعلم. وَمثله فِي كتاب ابْن حبيب، عَن ابْن الْمَاجشون، ومطرف، وَابْن عبد الحكم، وَأصبغ. قَالَ: وَجَمِيع أَصْحَابنَا. وَمن كتاب ابْن الْمَوَّاز: وَإِذا تظلم الْمَحْكُوم عَلَيْهِ من كتاب الأول، وَسَأَلَ الثَّانِي أَن يسْتَأْنف النّظر فِيهِ أَو فِي بعضه، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِأَمْر بَين؛ وَكَذَلِكَ لَو ولي قَاض آخر مَكَان القَاضِي، لَكَانَ مثل مَا قيل فِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد: لما كَانَ الأَصْل أَن القَاضِي ينفذ مَا ثَبت عِنْده من قَضَاء أَحْكَام الْبَلَد، وَأَن كَانُوا على كتاب إِلَى قَاضِي مصر، وَقد حج قَاضِي مصر، وَأمره بِالْخرُوجِ إِلَيْهَا، لم يكن لَهُ أَن يسمع من بَيِّنَة أحد فِي دَعْوَى على من بِمصْر، حَتَّى يصير إِلَيْهَا. قَالَ القَاضِي أَبُو الْأَصْبَغ، وَقد نقل مَا ذَكرْنَاهُ: وَنزلت من هَذَا الْمَعْنى مَسْأَلَة، سَأَلت عَنْهَا ابْن عتاب شَيخنَا: وَكَذَلِكَ القَاضِي يحل بِغَيْر بَلَده، وَقد كَانَ ثَبت عِنْده بِبَلَدِهِ حق لرجل؛ فَسَأَلَهُ الَّذِي لَهُ الْحق أَن يُخَاطب لَهُ من مَوضِع احتلاله قَاضِي مَوضِع مَطْلُوبه، بِمَا كَانَ ثَبت عِنْده بِبَلَدِهِ؟ فَقَالَ لي: لَا يحوز ذَلِك} قلت: فَإِن فعل؟ قَالَ: يبطل {ثمَّ قَالَ لي: وَلَيْسَ يبعد أَن ينفذ ذَلِك} قلت: فَإِن الْحق الثَّابِت عِنْده بِبَلَدِهِ على من هُوَ بِموضع احتلاله، فَأعْلم قَاضِي ذَلِك الْموضع مشافهة بِمَا ثَبت عِنْده، هَل يكون كمخاطبته أَيَّاهُ بذلك من بَلَده؟ فَقَالَ لي: لَيْسَ مثله! فَقلت لَهُ: وَمَا الْفرق؟ فَقَالَ لي: هُوَ فِي إخْبَاره هُنَا بِمَا ثَبت

عِنْده طَالب فضول وَمَا الَّذِي يَدعُوهُ إِلَى ذَلِك. قلت: وَمَا يمْنَع من إخْبَاره لَهُ وَيشْهد عِنْد الْمخبر بذلك، وينفذه كَمَا يشْهد عِنْده بِمَا يجْرِي فِي مَجْلِسه من إِقْرَار وإنكار، وَيقْضى بِهِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مثله. ولاكن إِن أشهد هَذَا القَاضِي الْمخبر بذلك شَاهِدين فِي منزله، وشهدا بذلك عِنْد قَاضِي الْموضع، نفذ وَجَاز! . قَالَ ابْن سهل: رَأَيْت فُقَهَاء طليطلة يجيزون بِإِخْبَار القَاضِي المحتل بذلك الْبَلَد قَاضِي الْبَلدة وَينفذ، ويرونه كمخاطبته أَيَّاهُ. وَفِي ذَلِك كُله من الِاضْطِرَاب مَالا خَفَاء بِهِ. فجواب أصبغ، فِي إِجَازَته القَاضِي أَن يسمع من الْبَيِّنَة فِي غير عمله، يُخَالف مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عبد الحكم فِي الْمَسْأَلَة، وَقَررهُ صَاحب النَّوَادِر من أَن القَاضِي، إِذا كَانَ فِي غير عمله، فَلَيْسَ لَهُ أَن يسمع من بَيِّنَة أحد، وَلَا يشْهد على كِتَابه إِلَى قَاضِي بلد آخر إِلَّا بِبَلَدِهِ. وَأما مَسْأَلَة خطاب القَاضِي فِي غير عمالته، وإنهاؤه مَا ثَبت عِنْده إِلَى غَيره، فَالصَّحِيح فِيهِ أَنه شَيْء لَا يَقُول عَلَيْهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بوال فِي غير ولَايَته، وَالْقَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ يصل حكمه بِحكم الْكَاتِب، ويثبته عَلَيْهِ. وَإِذ كَانَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يلْتَفت إِلَى قَول القَاضِي الْكَاتِب إِلَّا فِي مَوضِع تنفذ فِيهِ أَحْكَامه. وَقَوله فِي غير ولَايَته: ثَبت عِنْدِي كَذَا كَقَوْلِه بعد عَزله: ثَبت عِنْدِي كَذَا. وَهُوَ وَالْعدْل سَوَاء. قَالَ عبد الله ابْن شاش: وَلَو شافه القَاضِي قَاضِيا آخر، لم يكف لِأَن أَحدهمَا فِي غير مَحل ولَايَته؛ فَلَا ينفع سَمَاعه أَو إسماعه، إِلَّا إِذا كَانَا قاضيين لبلدة وَاحِدَة، أَو التقيا من طرفِي ولَايَته. فَذَلِك أقوى من الشَّهَادَة. فيعتمد، وَلَو كَانَ المسمع فِي مَحل ولَايَته؛ فَلَا يحكم بهَا إِذْ لَا يحكم بِمُجَرَّد علمه. مَسْأَلَة أُخْرَى فِي قريب من ذَلِك الْمَعْنى وَهُوَ فِي القَاضِي يشْهد على قَضَائِهِ، وَهُوَ مَعْزُول أَو غير مَعْزُول: فَفِي كتاب الْقُضَاة الْمُخْتَصر من العتيبة: قَالَ أصبغ: قَالَ لي ابْن الْقَاسِم فِي القَاضِي يشْهد على قَضَاء قضى بِهِ، وَهُوَ مَعْزُول أَو غير مَعْزُول، وَيَرْفَعهُ إِلَى إِمَام غَيره، إِن شَهَادَته لَا تقبل، وَلَا يجوز ذَلِك الْقَضَاء إِلَّا بِشَاهِدين عَلَيْهِ غَيره أَنه قضى بِهِ. قَالَه أصبغ. قَالَ ابْن رشد فِي بَيَانه: هَذِه مَسْأَلَة وَقعت فِي بعض الرِّوَايَات؛ وَهِي مَسْأَلَة صَحِيحَة، وفيهَا معنى خَفِي. وَهِي أَن قَول القَاضِي، وَهُوَ على قَضَائِهِ: حكمت

لفُلَان بِكَذَا لَا يصدق إِذا كَانَ قَوْله بِمَعْنى الشَّهَادَة، بِمثل أَن يتخاصم الرّجلَانِ عِنْد القَاضِي، فَيكون من حجَّته أَن يَقُول: قد حكم قَاضِي بلد كَذَا أَو كَذَا، وَقد ثَبت لي عِنْد قَاضِي بلد كَذَا أَو كَذَا {فيسأله الْبَيِّنَة على ذَلِك فَيذْهب إِلَيْهِ فيأتيه من عِنْده بكتابه إِنِّي قد حكمت لفُلَان على فلَان بِكَذَا وَكَذَا وَإِنِّي قد ثَبت عِنْدِي لفُلَان على فلَان كَذَا وَكَذَا} فَهَذَا لَا يجوز من أجل أَنه على هَذَا الْوَجْه شَاهد. وَلَو أَتَى الرجل ابْتِدَاء إِلَى القَاضِي قَالَ لَهُ: خَاطب لي قَاضِي بلد كَذَا بِمَا ثَبت لي عنْدك على فلَان بِمَا حكمت لي بِهِ عَلَيْهِ! فخاطبه بذلك، لجَاز من أجل أَنه مخبر وَلَيْسَ بِشَاهِد كَمَا يجوز وَقَوله: وَينفذ فِيمَا يسجل بِهِ على نَفسه، وَيشْهد من الْأَحْكَام مَا دَامَ على قَضَائِهِ. وَقد وَقع لِابْنِ الْمَاجشون، ومطرف، وَأصبغ فِي الْأَقْضِيَة من الْوَاضِحَة مَا يُعَارض رِوَايَة أصبغ هَذِه. وَمن الْكتاب الْمَذْكُور: وَسَأَلَهُ عَن القَاضِي يقر عِنْده الرجل؛ فَيكْتب إِقْرَاره؛ ثمَّ يُنكر الرجل أَن يكون أقرّ عِنْده بِشَيْء؛ هَل يقْضى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، أَو هَل يخْتَلف إِن قَالَ القَاضِي: أقرّ عِنْدِي من قبل أَن استقضى. قَالَ ابْن الْقَاسِم: رَأْيِي وَالَّذِي آخذ بِهِ فِي ذَلِك وَهُوَ الَّذِي سَمِعت أَنه لَا يقْضى عَلَيْهِ حَتَّى يشْهد على إِقْرَاره عِنْده شَاهِدَانِ عَدْلَانِ سوى القَاضِي، وَإِلَّا لم يقْض عَلَيْهِ بِشَيْء؛ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة مَا اطلع عَلَيْهِ فِيهِ من الْحُدُود يعلمهَا، فَهُوَ لَا يقيمها عَلَيْهِ، إِلَّا أَن يكون مَعَه شَاهِدَانِ عَدْلَانِ سواهُ. فَإِن لم يكن قد مَاتُوا، أَو عزلوا، كَمَا ينفذ مَا ثَبت عِنْده من قَضَاء الْحَاكِم بِبَلَدِهِ الْمَيِّت أَو الْمَعْزُول، وَجب أَن ينفذ كتبهمْ، وَإِن كَانُوا قد مَاتُوا أَو عزلوا، كَمَا ينفذ مَا ثَبت عِنْده أَنه مضى من عمل الحكم قبله الْمَيِّت أَو الْمَعْزُول، فيصل حكمه بِحكمِهِ أَو يبنيه عَلَيْهِ، وَلَا يَأْمر الْخَصْمَيْنِ باستئناف الْخِصَام عِنْده، إِن كَانَ الشُّهُود قد شهدُوا عِنْد الْمَيِّت أَو الْمَعْزُول، فَأشْهد على ذَلِك أَو كتب بِهِ إِلَى حَاكم بلد آخر، ثمَّ مَاتَ أَو عزل، وَلم يَأْمر بِإِعَادَة الشَّهَادَة عِنْده، وَإِن كَانُوا قد شهدُوا عِنْده، فقبلهم اعذاراً إِلَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ فِيمَا شهدُوا بِهِ دون أَن ينظر فِي عدالتهم، وَإِن كَانَ قد أعذر فِي شَهَادَتهم إِلَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ، فعجز عَن الدّفع فِيمَا امضى الحكم بهَا دون أَن يسْتَأْنف الْإِعْذَار إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى وَإِذا مَاتَ الإِمَام الَّذِي تُؤَدّى إِلَيْهِ الطَّاعَة، وَقد قدم حكاماً وقضاة، وَولي الْأَمر غَيره، وَقضى الْحُكَّام الَّذين قدمهم الإِمَام الْمَيِّت وَالْقَاضِي يقْضى بَين موت الإِمَام الأول وَقيام الثَّانِي

أَو بعد قِيَامه، وَقبل أَن ينفذ لَهُم الْولَايَة، فَمَا قضوا بِهِ فِي الفترة وحكموا بِهِ نَافِذ. وَمَا سجلوا بِهِ قَاض لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى إِمْضَاء القَاضِي الَّذِي يَلِي بعده. وَمن الْمُدَوَّنَة: سُئِلَ عَن القَاضِي يقْضِي لرجل أَظُنهُ فَلَا يجوز المقضى لَهُ مَا قضى بِهِ لَهُ حَتَّى يَمُوت القَاضِي أَو يعْزل، هَل يسْتَأْنف الْخُصُومَة فِي ذَلِك الْأَمر، أم يَنْفَعهُ مَا كَانَ قضى لَهُ، ثمَّ أَقَامَ يمْضِي الْقَضَاء الَّذِي قضى بِهِ القَاضِي الأول، وَلَا ينظر فِيهِ القَاضِي الثَّانِي إِلَّا أَن يكون جوراً بَينا، فينقضه؟ قَالَ ابْن رشد: هَذَا كَمَا قَالَ من أَن حكم القَاضِي لَا يفْتَقر إِلَى حِيَازَة، وَهُوَ مِمَّا لَا اخْتِلَاف فِيهِ. وَإِذا عزل القَاضِي، ثمَّ ولي بَعْدَمَا عزل، قَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب: فَهُوَ كالمحدث لَا يقبل شَهَادَة من شهد عِنْده قبل أَن يعْزل، فِيمَا لم يتم الحكم فِيهِ، حَتَّى يشْهدُوا بِهِ عِنْده. قَالَ ابْن لبَابَة: والتعليم على الشَّهَادَة فِي الوثائق من سنة الحكم، وَلَا يَكْتَفِي بِسَمَاعِهِ للشَّهَادَة دون التَّعْلِيم، لِأَنَّهُ يتَذَكَّر بِهِ مَا شهد عِنْده فِيهِ. وَكتاب الْحَاكِم جَائِز إِلَّا فِي الْحُدُود والأنكحة على خِلَافه. وَمن كتاب ابْن خلف، وَقد كتب عمر إِلَى عَامله فِي الْجَارُود، وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي سنّ كسرت. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي جَائِز إِذا عرف الْكتاب والخاتم. وَكَانَ الشّعبِيّ يُجِيز الْكتاب الْمَخْتُوم بِمَا فِيهِ من الْقَضَاء، ويروى عَن ابْن عمر مثله. وَقد تقدم قَول مَالك فِي الْوَصِيَّة المختومة. وَقَالَ مُعَاوِيَة بن عبد الْكَرِيم الثَّقَفِيّ: شهِدت عبد الْملك بن يعلى قَاضِي الْبَصْرَة، وَإيَاس بن مُعَاوِيَة، وَالْحسن، وتمامة بن عبد الله بن أنس، وبلال بن أبي بردة، وَعبد الله بن بُرَيْدَة الْأَسْلَمِيّ، وعامر بن عَبدة، وَعباد بن مَنْصُور، ويجيزون كتب الْقُضَاة بِغَيْر محْضر من الشُّهُود؛ فَإِن قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكتاب إِنَّه زور، قيل لَهُ: اذْهَبْ {فالتمس الْمخْرج من غير ذَلِك} وَمن كتاب منهاج الْقُضَاة لِابْنِ حبيب: وَسَأَلت أصبغ بن الْفرج عَن القَاضِي يَبْعَثهُ الإِمَام إِلَى بعض الْأَمْصَار فِي شَيْء مَنَابه من أَمر الْعَامَّة، فيأتيه رجل فِي ذَلِك الْمصر يذكر أَن لَهُ حَقًا قبل رجل من أهل عمله، وَهُوَ عائب بِعَمَلِهِ، وَيذكر أَن شُهُوده بِهَذَا الْمصر، ويسأله أَن يسمع مِنْهُ؛ أيجيبه إِلَى ذَلِك؟ وَلَا ترى بِهِ بَأْسا؟ قَالَ: نعم! يسمع من ذِي بَيِّنَة، ويوقع شَهَادَتهم، ويسأله تعديلهم، وَإِن شَاءَ، سَأَلَ قَاضِي ذَلِك الْمصر عَنْهُم؛ فَإِن أخبرهُ عَنْهُم بعد التهم، اجتزى بذلك، لأَنهم من أهل عمله؛ وَلَو اجْتمع الخصمان عِنْده

بذلك الْمصر، فأرادوا الْمُخَاصمَة عِنْده، وَالشَّيْء الَّذِي يختصمان فِيهِ فِي بِلَاد ذَلِك القَاضِي الْغَائِب عَن عمله، إِلَّا أَن يتراضيا عَلَيْهِ، كتراضيهما بعد أَن يحكم بَينهمَا، ويلزمهما أَن قضى بِالْحَقِّ. وكل من تعلق بِرَجُل فِي مطلب، فَإِنَّمَا يخاصمه حَيْثُ تعلق بِهِ، إِن كَانَ ثمَّ قَاض أَو أَمِير، كَانَ الْمَطْلُوب بذلك الْبَلَد أَو غَائِبا عَنهُ، كَانَ إقرارهما بذلك الْبَلَد أَو لم يكن، لَا تكن الْخُصُومَة إِلَّا حَيْثُ ترافعا. وَمن كتاب أدب الْقُضَاة لمُحَمد بن عبد الله ابْن عبد الحكم فَإِذا حج القَاضِي، فَنزل بِمصْر أَو غَيرهَا، فَأَتَاهُ قوم من أهل عمله يسألونه أَن يسمع من بينتهم على رجل فِي عمله، وَكَانَ قد شهد عِنْده شُهُود فِي عمله، فأرادوا مِنْهُ أَن يكْتب إِلَى وَالِي الْعرَاق، أَو يشْهد على كتبه بذلك إِلَى وَالِي مَكَّة، أَو يحكم لَهُم بِحكم من شهد عِنْده عَلَيْهِ قبل ذَلِك، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ وَالِي ذَلِك الْبَلَد؛ فَلَيْسَ لَهُ أَن يسمع من بَينته، أَو يشْهد على كتاب قَاض إِلَى قَاضِي بلد آخر، أَو يشْهد كَذَلِك رَفعه إِلَى من هُوَ فَوْقه وَكَانَ هُوَ شَاهدا. قَالَ ابْن رشد: حكم القَاضِي على الرجل، بِمَا أقرّ بِهِ عِنْده دون بَيِّنَة تشهد عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ عِنْده، يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهمَا أَن يقر عِنْده قبل أَن يستقضى؛ وَالثَّانِي أَن يقر عِنْده فِي غير مجْلِس الحكم بعد أَن يستقضى؛ وَالثَّالِث أَن يقر بَين يَدَيْهِ لخصمه فِي مجْلِس حكمه. فَأَما إِذا أقرّ عِنْده قبل أَن يستقضى، فَلَا اخْتِلَاف بَين أحد من أهل الْعلم فِي أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار؛ فَإِن فعل، رد ذَلِك الحكم وفسخه هُوَ وَمن بعده من الْقُضَاة والحكام؛ وَأما مَا أقربه عِنْده بعد أَن يستقضى فِي غير مجْلِس الْقَضَاء، فَلَا اخْتِلَاف فِي الْمَذْهَب فِي أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار دون بَيِّنَة تشهد بِهِ عَلَيْهِ. وَأهل الْعرَاق يَقُولُونَ أَنه يقْضى عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار دون بَيِّنَة بِخِلَاف الْحُدُود، على مَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة. وَقد حكى عَنْهُم أَنه يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُود وَهُوَ بعيد؛ فَإِن قضى عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار، نقض حكمه بذلك مَا لم يحكم على الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب، وَلم يردهُ من بعده من الْقُضَاة والحكام، مُرَاعَاة لقَوْل أهل الْعرَاق. وَأما مَا أقرّ بِهِ عِنْده أحد الْخَصْمَيْنِ فِي مجْلِس قَضَائِهِ، ثمَّ جَحده وَلَا بَيِّنَة عَلَيْهِ، فالاختلاف فِيهِ مَوْجُود فِي الْمَذْهَب، وَإِن كَانَ ابْن الْمَوَّاز قد ذكر أَنه لَا اخْتِلَاف فِي ذَلِك بَين أَصْحَاب مَالك. قَالَ ابْن الْمَاجشون: وَالَّذِي عَلَيْهِ قضاتنا بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا، وَلَا أعلم مَالِكًا

رَحمَه الله {قَالَ غَيره، أَنه يقْضِي عَلَيْهِ بِمَا سمع مِنْهُ وَأقر بِهِ عِنْده. وَإِلَيْهِ ذهب مطرف، وَأصبغ، وَسَحْنُون. قَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: وَهُوَ دَلِيل قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} فِي الصَّحِيح: إِنَّمَا أَنا بشر وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ {الحَدِيث، إِلَى قَوْله: فأقضى لَهُ على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ لِأَنَّهُ قَالَ: على نَحْو مَا أسمع وَلم يقل على مَا ثَبت عِنْدِي من قَوْله. وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنه لَا يقْضى عَلَيْهِ إِذا جحد، وَهُوَ قَوْله فِي هَذِه الرِّوَايَة، إِلَّا أَن يشْهد عَلَيْهِ عِنْده من حضر مَجْلِسه؛ فَيحكم عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ دون إعذار. وَمن عقد الْجَوَاهِر: فَإِن لم يُنكر حَتَّى حكم، ثمَّ أنكر بعد الحكم، وَقَالَ: مَا كنت أَقرَرت بِشَيْء} لم ينظر إِلَى إِنْكَاره. قَالَ اللَّخْمِيّ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الْمَذْهَب. وَقد تقدم لنا طرف من الْكَلَام صدر هَذَا الْكتاب على تَفْسِير الحَدِيث الْمُسَمّى؛ وَذكرنَا أَن عياضاً نقل عَن الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر وَمن تبعهما أَن للْقَاضِي أَن يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي كل شَيْء من الْأَمْوَال وَالْحُدُود وَغير ذَلِك، مِمَّا سَمعه، أَو رَآهُ قبل قَضَائِهِ وَبعده، وبمصره وَغَيره. ونضيف الْآن إِلَى ذَلِك من الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة مَا يَأْتِي بعد على التَّقْرِيب، وَإِن كَانَ قد مر حَاصِل مَجْمُوعه. فَنَقُول، تبركاً بِإِعَادَة الْكَلَام فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ: ثَبت فِي كتاب البُخَارِيّ بَاب من رأى للْقَاضِي أَن يحكم بِعِلْمِهِ فِي أُمُور النَّاس إِذا لم يخف الظنون والتهمة كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام {لهِنْد: خذي مَا بكفيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ ابْن خلف فِي شَرحه مَا نَصه: اخْتلف الْعلمَاء فِي القَاضِي يقْضِي بِعِلْمِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: جَائِز لَهُ أَن يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي حُقُوق الله وَحُقُوق النَّاس سَوَاء، علم ذَلِك قبل الْقَضَاء أَبُو بعده. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَا شَاهده الْحَاكِم من الْأَفْعَال الْمُوجبَة للحدود قبل الْقَضَاء أَو بعده فَإِنَّهُ يحكم فِيهِ بِعِلْمِهِ إِلَّا الْقَذْف، وَمَا علمه قبل الْقَضَاء من حُقُوق النَّاس لم يحكم فِيهِ بِعِلْمِهِ فِي قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يحكم فِيمَا علمه قبل الْقَضَاء. وَقَالَ طَائِفَة: لَا يقْضِي بِعِلْمِهِ أصلا فِي حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق الْآدَمِيّين، وَسَوَاء علم ذَلِك قبل الْقَضَاء أَبُو بعده، أَو فِي مَجْلِسه. هَذَا قَول شُرَيْح وَالشعْبِيّ؛ وَهُوَ قَول مَالك، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَأبي عبيد. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: مَا أقرّ بِهِ الخصمان عِنْده، أخذهما بِهِ، وأنفذه عَلَيْهِمَا،

إِلَّا الْحُدُود. وَاحْتج الشَّافِعِي بِحَدِيث هِنْد وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قضى لَهَا ولولدها على أبي سُفْيَان بنفقتها، وَلم يسئلها عَن ذَلِك بَيِّنَة، لعلمه بِوُجُوب ذَلِك عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَيَقن بِصِحَّة مَا يقْضى بِهِ، إِذا علمه على يَقِين. وَلَيْسَت كَذَلِك الشَّهَادَة، لِأَنَّهَا قد تكون كَاذِبَة أَو واهمة. وَقد أَجمعُوا على أَن لَهُ أَن يعدل، وَيسْقط الْعُدُول بِعِلْمِهِ، إِذا علم أَن مَا شهدُوا بِهِ على غير مَا شهدُوا بِهِ. وَينفذ فِي ذَلِك وَلَا يقْضى بِشَهَادَتِهِم. وَمِثَال ذَلِك أَن يعلم بنت الرجل ولدت على فرَاشه: فَإِن أَقَامَ شَاهِدين على أَنَّهَا مملوكته، فَلَا يجوز أَن يقبل شَهَادَتهمَا، ويبيح لَهُ فرجا حَرَامًا. وَكَذَلِكَ لَو رأى أَن رجلا قتل آخر، ثمَّ جئ بِغَيْر الْقَاتِل، وَشهد أَنه الْقَاتِل، فَلَا يجوز أَن يقبل الشَّهَادَة؛ وَكَذَلِكَ لَو سمع رجلا طلق امْرَأَته طَلَاقا بَائِنا، ثمَّ ادَّعَت عَلَيْهِ الْمَرْأَة الطَّلَاق، وَأنكر الزَّوْج ذَلِك. فَإِن جعل القَوْل قَوْله، فقد أَقَامَهُ على فرج حرَام، فيفسق بِهِ، فَلم يكن لَهُ بُد من أَن لَا يقبل قَوْله وَيحكم بِعِلْمِهِ. وَاحْتج أَصْحَاب أبي حنيفَة بِأَن مَا علمه الْحَاكِم قبل الْقَضَاء إِنَّمَا حصل فِي الِابْتِدَاء على طَرِيق الشَّهَادَة؛ فَلم يجز أَن يَجعله حَاكما، لِأَنَّهُ، لَو حكم بِهِ، لَكَانَ قد حكم بِشَهَادَة نَفسه، وَكَانَ مُتَّهمًا، وَصَارَ بِمَنْزِلَة من قضى بِدَعْوَاهُ على غَيره. وَأَيْضًا، فَإِن عمله لما تعلق بِهِ الحكم على وَجه الشَّهَادَة، فَإِذا مضى بِهِ، صَار كَالْقَاضِي بِشَاهِد وَاحِد. قَالُوا: وَالدَّلِيل على جَوَاز حكمه بِمَا علمه فِي حَال الْقَضَاء وَفِي مَجْلِسه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام} : أَنا أَقْْضِي على نَحْو مَا أسمع! وَلم يعرف بَين سَمَاعه من الشُّهُود أَو الْمُدعى عَلَيْهِ. فَيجب أَن يحكم بِمَا يسمعهُ من الْمُدعى عَلَيْهِ، كَمَا يحكم بِمَا يسمعهُ من الشُّهُود. وَاحْتج بعض أَصْحَاب مَالك؛ فَقَالُوا: الْحَاكِم غير مَعْصُوم، وَيجوز أَن تلْحقهُ المظنة فِي أَن يحكم لوَلِيِّه وعَلى عدوه. فحسمت الْمَادَّة فِي ذَلِك بِأَن لَا يحكم بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ ينْفَرد بِهِ، وَلَا يشركهُ غَيره فِيهِ. فَظهر، على مَا تقرر فِي الْمَسْأَلَة من مَذْهَب الشَّافِعِي وَمن تبعه، أَن قَول ابْن رشد نَحْو الرجل إِذا أقرّ عِنْد القَاضِي قبل أَن يستقضى، فَلَا اخْتِلَاف بَين أحد من أهل الْعلم، فِي أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار لَيْسَ بِصَحِيح؛ بل الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة مَوْجُود اللَّهُمَّ إِلَّا إِن أَرَادَ بقوله مَا يرجع إِلَى الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَو قصد الْأَعَمّ والأغلب. فقد يُوجد نَحْو هَذَا لِابْنِ الْمَوَّاز وَابْن حبيب فِي غير مَا مَوضِع. وَالِاخْتِلَاف فِيهِ حَاصِل. قَالَ القَاضِي أَبُو عبد الله بن الْحَاج فِي نوازله، عِنْد تكَلمه فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة:

وَقد سبق إِلَى ذَلِك الْأَئِمَّة كمالك وَمن تقدمه؛ يَقُولُونَ: أجمع النَّاس وَالِاخْتِلَاف مَوْجُود إِذْ لَا يعبأ بالشذوذ. وَكَذَلِكَ قَول ابْن رشد فِي الْقسم الثَّانِي من أقسامه الثَّلَاثَة. فَإِن قضى عَلَيْهِ بذلك الْإِقْرَار، نقض حكمه بذلك مَا لم يعْزل؛ وَلم يردهُ من بعده من الْحُكَّام مُرَاعَاة لقَوْل أهل الْعرَاق. فَيلْزمهُ أَيْضا على قِيَاسه عدم بعض أَحْكَامه من أَخذ بِمذهب الشَّافِعِي أَيْضا فِي جَوَاز حكم القَاضِي بِمَا علمه قبل قَضَائِهِ. وعَلى كل تَقْدِير، فطريق الِاحْتِيَاط هُوَ الْعَمَل فِيمَا أمكن على الْإِشْهَاد. وَلذَلِك عد الْعلمَاء فِي أدب الْقَضَاء أَن يكون الحكم بِمحضر عدُول، ليحفظوا إِقْرَار الْخُصُوم خشيَة رُجُوع بَعضهم عَن مقالتهم. وَلَو كَانَ القَاضِي مِمَّن يقْضى بِعِلْمِهِ، لَكَانَ أَخذه بِمَا لَا خلاف فِيهِ أحسن لمثله، وليكون حكمه بِشَهَادَتِهِم لَا بِعِلْمِهِ. وَقد روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ {أَنه لم يكن ينفذ الْأَحْكَام فِي الْغَالِب إِلَّا بمجمع من الصَّحَابَة وحضورهم ومشورتهم مَعَ علمه وفضله وفقهه، وَحسن بصيرته بمآخذ الْأَحْكَام وطرق الْقيَاس وَمَعْرِفَة الْآثَار. وَنقل عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ} أَنه كَانَ، إِذا جلس، أحضر أَرْبَعَة من الصَّحَابَة، ثمَّ استشارهم؛ فَإِذا رَأَوْا مَا رَآهُ، أَمْضَاهُ. قَالَ مُحَمَّد بن عبد الحكم: وَلَيْسَ يَنْبَغِي لأحد أَن يتْرك الْمُشَاورَة، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَثِق بِرَأْي نَفسه؛ وَلَا يدْخل على الإِمَام من فعل ذَلِك استكبار: فَإِن سلف هَذِه الْأمة وَخيَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ {كَانُوا يسْأَلُون عَمَّا ينزل بهم، ويتفاوضون فِي أُمُورهم، ويلاحظون فِي أحكامهم قَول الله الْعَظِيم: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ، شُهَدَاء لله، وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما " أَي: يَا أهل الْإِيمَان {اقيموا الْعدْل بِالْإِقْرَارِ على أَنفسكُم وبالشهادة على غَيْركُمْ، من غير مبالاة فِي قَول الْحق وَالْقِيَام بِهِ بِقرَابَة وَلَا بغني وَلَا بفقير. يَقُول: لَا تداهنوا فِي ألحق حبا للنَّفس وَلَا حمية للقريب وَلَا رِعَايَة للغني، وَلَا شَفَقَة على الْفَقِير: فَالله أولى بِالْجَمِيعِ} فقد أخبر الله سُبْحَانَهُ فِي هَذِه الْآيَة جَمِيع الْمُؤمنِينَ من الْحُكَّام وَغَيرهم بِالْقيامِ بِالْقِسْطِ. وَذَلِكَ فِي النَّوَازِل مُتَوَجّه على المشاورين والمفتين، إِذا وقفت النَّازِلَة عَلَيْهِم، وعَلى الْأَئِمَّة والقضاة، إِذا تأدت الْقَضِيَّة إِلَيْهِم. فَإِذا تبين للنَّاظِر فِي النَّازِلَة

الْحق الْمَحْض الَّذِي لَا مرية فِيهِ، وكملت لَدَيْهِ موجباته، أنفذه وأمضاه أحبه من أحبه، أَو كرهه من كرهه. وَمِمَّنْ قَامَ بِهِ من الْقُضَاة بقرطبة، نصر بن ظريف. وَمِنْه علمه مَعَ حبيب الْقرشِي فِي الضَّيْعَة الَّتِي قيم فِيهَا عَلَيْهِ بِدَعْوَى الاغتصاب، وَنَهَاهُ الْأَمِير عِنْد شكواه عَن العجلة عَلَيْهِ، فَخرج من فوره وَعمل بضد مَا أُرِيد مِنْهُ، وأمضى الحكم على وَجهه وسجل بِهِ، وَقد مر ذكر ذَلِك فِي اسْمه. وَمن كَلَام سَحْنُون، حِين سُئِلَ عَن القَاضِي يثبت عِنْده الْحق للرجل، فيريد أَن يسجل لَهُ كتابا بِمَا ثَبت عِنْده، فيحضر خُرُوج الإِمَام غازياً؛ فيأمر القَاضِي بِأَن لَا ينظر إِلَى أحد إِلَى انْصِرَافه، فَيكون من رأى القَاضِي الْإِشْهَاد والتسجيل لصَاحب الْحق، فيفعل بعد تقدم الإِمَام إِلَيْهِ، لَازم أَو لَا؟ أَتَرَى حكمه مَاضِيا؟ قَالَ: نعم {أرَاهُ لَازِما مَاضِيا. قَالَ ابْن رشد: هَذَا بَين مَا قَالَ، لِأَنَّهُ لم يعزله، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَن الحكم؛ والتسجيل لَيْسَ بِحكم. فَلهُ أَن يسجل بِمَا تقدم حكمه بِهِ قبل أَن يَأْمُرهُ بالتوقف عَن الحكم. وَفِي الْوَاضِحَة: إِن الإِمَام، إِذا أَمر القَاضِي أَن يدع الحكم فِي أَمر قد شرع فِيهِ عِنْده، فَلهُ أَن يدع ذَلِك إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ حق أَحدهمَا؛ فَلَا يدع ذَلِك إِلَّا بعزل. وَهُوَ قَول سَحْنُون. هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق} وَقد مر الْكَلَام أَيْضا فِي اسْم المصعب بن عمرَان، عِنْد قصَّة الْعَبَّاس بن عبد الْملك أَيَّام خلَافَة هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة. وحاصلها أَن الْأَمِير أرسل إِلَيْهِ مَعَ خَليفَة لَهُ من أكَابِر فتيانه بعزمه مِنْهُ، يَقُول لَهُ: لَا بُد أَن تكف عَن النّظر فِي هَذِه الْقِصَّة، لأَكُون أَنا النَّاظر فِيهَا. فَلَمَّا جَاءَهُ وأبلغه عزمته، أمره بِالْعُقُودِ، ثمَّ أَخذ قرطاساً، فسواه وَعقد فِيهِ حكمه وأنفذه لوقته بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ؛ ثمَّ قَالَ للرسول: اذْهَبْ إِلَى الْأَمِير أصلحه الله {فَأعلمهُ أَنِّي قد أنفذت مَا لزمني من الْحق خوف الْحَادِثَة على نَفسِي وَرَهْبَة من السُّؤَال عَنهُ. إِن شَاءَ تنقضه، فَذَلِك لَهُ} فليتقلد مِنْهُ مَا أحب {فَوَافَقَ هَذَا الْعَمَل الجزل من المصعب رَحمَه الله} نَص الْوَاضِحَة، وَجرى فِي ميدانه على الطَّرِيقَة الحميدة.

وَسميت فُصُول المقالات المنعقدة عِنْد الْقُضَاة قبل التسجيلات وَهِي الَّتِي تستفتح بهَا الْخُصُومَات محَاضِر، على ماحكاه مُحَمَّد بن حَارِث؛ وَاحِدهَا محضرة ليلزمها من هَذَا الِاسْم عِنْد الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين وَهُوَ مَأْخُوذ من حُضُور الْخَصْمَيْنِ بَين يَدي القَاضِي. وَاخْتلف فِي اللَّفْظ الَّتِي تفتتح بِهِ تِلْكَ الْفُصُول، فَكتب بَعضهم: حضرني فلَان، لِأَن تِلْكَ الصَّحِيفَة عِنْده وَفِي ديوانه، فَكَأَنَّهُ مُخَاطب لنَفسِهِ، ومذكر لَهَا بِمَا كَانَ بَين يَدَيْهِ. وَكتب بَعضهم: وَقَالَ القَاضِي فلَان بن فلَان، بِبَلَد كَذَا: حضرني فلَان وَكَانَ بَعضهم يكْتب: قَالَ القَاضِي: حضرني. قَالَ عِيسَى: وَهَذَا كُله عِنْدِي إِذا كتب بِخَط يَده؛ وَأما إِن كتب عِنْده كَاتب، فَلَا يكْتب: حضرني، لِأَنَّهُ يَقع فِي الظَّاهِر كِنَايَة عَن الْكَاتِب. قَالَ ابْن حَارِث: وَالَّذِي جرى بِهِ رسم قُضَاة الْجَمَاعَة بقرطبة أَن يكْتب الْكَاتِب: قَالَ القَاضِي فلَان بن فلَان، قَاضِي الْجَمَاعَة بِكَذَا: فلَان بن فلَان قَامَ عَلَيْهِ خَصمه فلَان، فَادّعى عَلَيْهِ بِكَذَا. فَقَالَ فلَان إِنَّه لَا يعرف شَيْئا من ذَلِك، وَلَا يقر بِهِ. تَنْبِيه: وَيجب على القَاضِي، إِذا حضر الخصمان، أَن يٍسأل الْمُدعى عَن دَعْوَاهُ، ويفهمها عَنهُ. فَإِن كَانَت دَعْوَى لَا يجب بهَا على الْمُدعى عَلَيْهِ حق، أعلمهُ بذلك، وَلم يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن شَيْء، وَأَمرهمَا بِالْخرُوجِ عَنهُ. وَإِن نَقصه من دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَان مطلبه ومعزاه، أقره بِتَمَامِهِ. وَإِن أَتَى بإشكال، أمره كَذَلِك ببيانه؛ فَإِذا صحت الدَّعْوَى، سَأَلَ الْمَطْلُوب عَنْهَا؛ فَإِن أقرّ أَو أنكر، نظر فِي ذَلِك بِمَا يجب؛ وَإِن أبهم جَوَابه، أمره بتفسيره، حَتَّى يرْتَفع الْإِشْكَال عَنهُ، وَقيد ذَلِك كُله عَنْهُمَا فِي كتاب، وَيشْهد عَلَيْهِمَا بِهِ من حضر. وَقد سطر المؤثقون فِي ذَلِك مَا فِيهِ مقنع ومفتاح الطّلب وَالْإِعْرَاب عَن الْمَذْهَب، وَفِيه رفع الشغب، فَلَا يدع الْحُكَّام أَخذ المخصوم بِهِ. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب! فَإِذا انْعَقَد فِي مجْلِس القَاضِي مقَال بِإِقْرَار أَو إِنْكَار، وَشهد بِهِ عِنْده على الْقَائِل شُهُود الْمجْلس، على مَا ذَكرْنَاهُ، أنفذ القَاضِي تِلْكَ الْمقَالة على قَائِلهَا، وَلم يعْذر إِلَيْهِ فِي شَهَادَة شهودها، لكَونهَا بَين يَدَيْهِ، وَعلمه بهَا، وَقطعَة بحقيقتها. قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيم وَسُقُوط الْإِعْذَار فِي هَذَا إِجْمَاع من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين. وَكَذَلِكَ ذكر ابْن الْعَطَّار فِي وثائقه وَأنْكرهُ عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عمر بن الفخار الْحَافِظ وَقَالَ: هَذَا اخْتِلَاط؛ وَكَيف يجوز أَن يقْضى بِشَهَادَتِهِمَا، من غير

أَن يعْذر فِيهَا إِلَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ، وَقد ينْكَشف عِنْد الْإِعْذَار فيهمَا أَنَّهُمَا غير عَدْلَيْنِ، إِذْ قد يأتى الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِمَا يُوجب رد شَهَادَتهمَا من عَدَاوَة، أَو تفسيق، وَإِنَّمَا لم يقْض القَاضِي بِعِلْمِهِ دون بَيِّنَة، لِأَن فِيهِ تَعْرِيض نَفسه للتهم. وَقد حكى حَاصِل ذَلِك كُله ابْن سهل فِي كِتَابه، وَنَصه غَيره من نظرائه. وَيُؤَيّد مَا قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيم وَابْن الْعَطَّار مَا فِي سَماع أَشهب وَابْن نَافِع عَن مَالك فِي الْقَوْم يشْهدُونَ عِنْد القَاضِي. ويعدلون. قيل لمَالِك: هَل يَقُول القَاضِي للَّذي شهد عَلَيْهِ دُونك مخرج؟ فَقَالَ: إِن فِيهَا لتوهيناً للشَّهَادَة، وَلَا أرى إِذا كَانَ عدلا أَو عدل عِنْده أَن يفعل. فَهَذَا مَالك قد أسقط الْإِعْذَار هَا هُنَا فِيمَا عدل عَنهُ، فَكيف بِهِ فِيمَن هُوَ عِنْده عدل، وَشهد لَدَيْهِ بِمَا سَمعه فِي مَجْلِسه، واستوى فِيهِ علم الشُّهُود وَعلمه؟ وَمن الْفُقَهَاء من قَالَ: إِن كتب الشُّهُود فِي مجْلِس القَاضِي شَهَادَتهم على مقَال مقرّ أَو مُنكر فِيهِ، وَلم يشْهدُوا بهَا عِنْد القَاضِي فِي ذَلِك الْمجْلس، ثمَّ أدوها بعد ذَلِك عِنْده، إِذا احْتِيجَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ يعْذر فِي شَهَادَتهم إِلَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِخِلَاف إِذا أدوها فِي الْمجْلس نَفسه الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمقَال. والإعذار للْمُبَالَغَة فِي طلب إِظْهَار الْعذر. وَمِنْه: قد أعذر من أنذر، أَي بَالغ فِي الْعذر من تقدم إِلَيْك فأنذرك. وَمِنْه أَيْضا: إعذار القَاضِي إِلَى من ثَبت عَلَيْهِ حق يُؤْخَذ فِي الْمَشْهُود بذلك. وَمن أعذر إِلَيْهِ، فَادّعى مدفعاً أجل فِي إثْبَاته فِي الدُّيُون وَشبههَا ثَمَانِيَة أَيَّام سوى الْيَوْم الْمَكْتُوب فِيهِ الْأَجَل، ثمَّ سِتَّة أَيَّام، ثمَّ أَرْبَعَة أَيَّام، ثمَّ يتلوم عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام. وَقيل: الأَصْل فِي الْإِعْذَار قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {فِي الهدهد: " لأعذبنه عذَابا شَدِيدا أَو لأذبحنه أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين} " وَقيل فِي التَّلَوُّم أَصله قَوْله تَعَالَى " تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام. وَذَلِكَ وعد غير مَكْذُوب! ". وَضرب الْآجَال مَصْرُوف إِلَى اجْتِهَاد الْقُضَاة والحكام، وَلَيْسَ فِيهَا حد مَحْدُود لَا يتَجَاوَز، إِنَّمَا هُوَ الِاجْتِهَاد، وبحسب مَا يُعْطِيهِ الْحَال. فَإِذا كَانَ الْأَجَل الْمَضْرُوب فِي الْأُصُول أجل الْمَعْذُور إِلَيْهِ من طَالب أَو مَطْلُوب خَمْسَة عشر يَوْمًا، ثمَّ ثَمَانِيَة أَيَّام، ثمَّ

أَرْبَعَة أَيَّام، ثمَّ تلوم لَهُ أَرْبَعَة، تَتِمَّة ثَلَاثِينَ يَوْمًا فِي الْجَمِيع. ذكر ذَلِك ابْن الْعَطَّار وَمُحَمّد بن عبد الله. وَالْغَالِب لهَذَا الْعَهْد فِي كتب المقالات الْجَارِيَة بَين الْخُصُوم بقواعد الْبَلَد هُوَ أَن تكون فِي غير مجَالِس الْقُضَاة. وَفِي تِلْكَ الطَّرِيقَة توسعه على الْكَاتِب والمكتوب لَهُ أَو عَلَيْهِ. وَلَا إعذار عندنَا فِيمَا تقيد من ذَلِك بِشَهَادَة أهل التبريز فِي الْعَدَالَة، وَسَوَاء كَانَ بِمحضر القَاضِي أَو فَقِيه، لما تقدم من تَعْلِيله. مَسْأَلَة. وَإِذا سكت الْمَطْلُوب وأبى أَن يتَكَلَّم، أَو تكلم وَقَالَ: لَا أخاصمه إِلَيْك {قَالَ لَهُ القَاضِي: إِمَّا أَن تخاصم؛ وَإِلَّا، أحلفت هَذَا الْمُدعى على الَّذِي ادّعى قبلك، وحكمت لَهُ بِهِ عَلَيْك} فَإِن تكلم، نظر فِي كَلَامه وَفِي حجَّته؛ وَإِن لم يتَكَلَّم، أَحْلف الآخر وَقضى لَهُ بِحقِّهِ إِن كَانَ مِمَّا يسْتَحق مَعَ نُكُول الْمَطْلُوب عَن الْيَمين. قَالَه ابْن حبيب. وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمَوَّاز فِي كِتَابه. إِن لم يرجع فَيقْرَأ أَو يُنكر، حكمت عَلَيْهِ للْمُدَّعى بِلَا يَمِين. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي زيد: قَالَ ابْن سَحْنُون عَن أَبِيه: إِن قَالَ الْخصم مَا أقرّ وَلَا أنكر، أَو قَالَ: مَا لَهُ عِنْدِي حق {وَالْآخر يدعى دَعْوَى مفسرة، وَيَقُول: أسلفته، أَو بِعته، أَو أودعته فَقَالَ: لَا، يقبل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ: مَاله عِنْدِي شَيْء حَتَّى يقر بِالدَّعْوَى بِعَينهَا أَو ينكرها، فَيَقُول: مَا بَاعَنِي، وَلَا أَسْلفنِي، وَلَا أودعني} فَإِن تَمَادى على الرَّد، سجنه. وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز فِيمَن ادّعى عَلَيْهِ سِتِّينَ دِينَارا، فَيقر بِخَمْسِينَ، ويأبى فِي الْعشْرَة أَن يقر أَو يُنكر، أَنه يجْبر بِالْحَبْسِ حَتَّى يقْرَأ أَو يُنكر ذَلِك، إِذا طلب ذَلِك الْمُدعى. هَكَذَا قَالَ مَالك. وَأَنا اسْتحْسنَ، إِذا تَمَادى على شكه، وَقَالَ لَا أَحْلف على مَا لَا يَقِين لي فِيهِ {إِنِّي أحلفه أَنه مَا وقف عَن الْإِقْرَار وَالْإِنْكَار إِلَّا أَنه على غير يَقِين} فَإِذا حلف على هَذَا أدّى الْعشْرَة أَو يحسن فِيهَا بالحكم؛ فَلَا يَمِين على الْمُدعى لِأَن كل مدعى عَلَيْهِ لَا يدْفع الدَّعْوَى؛ فَإِنَّهُ يحكم عَلَيْهِ بِلَا يَمِين. وَقَالَ أَشهب مثله. وَإِذا تشعبت المقالات المكتبية من المتشاجرين فِي الْخُصُومَات، وأشكل حَدِيثهَا، طرح جَمِيعهَا، وَلَا حرج فِي ذَلِك؛ فقد نقل عَن قَاضِي كَانَ فِي أَيَّام أبان بن عُثْمَان أَنه رفعت إِلَيْهِ كتب قد تقادم فِي أمرهَا والتبس الْبَيَان فِيهَا؛ فَأَخذهَا وأحرقها بالنَّار. فَقيل لمَالِك:

أيحسن ذَلِك؟ قَالَ: نعم؟ إِنِّي لأراه حسنا. قَالَ ابْن رشد فِي بَيَانه معنى هَذِه الْكتب إِنَّهَا كتب فِي خصومات طَالَتْ المحاضر فِيهَا والدعاوى، وطالت الْخُصُومَات حَتَّى الْتبس أمرهَا على الْحُكَّام. فَإِذا أحرقت، قيل لَهُم: بينوا الْآن مَا تدعون، ودعوا مَا تلبسُونَ بِهِ من طول خصامكم! وَهُوَ حسن الحكم على مَا استحسنه مَالك. وَمن كتاب أبي الْقَاسِم بن الْجلاب: إِذا ذكر الْحَاكِم أَنه حكم فِي أَمر من الْأُمُور، وَأنكر الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، لم يقبل قَول الْحَاكِم إِلَّا بِبَيِّنَة. قَالَ أَبُو الْحسن اللَّخْمِيّ: وَهُوَ أشبه فِي قُضَاة الْيَوْم لضعف عدالتهم. وَقَالَ أَيْضا: وَلَا أرى أَن يُبَاح هَذَا الْيَوْم لأحد من الْقُضَاة؛ وَلَا اخْتِلَاف فِي اعْتِمَاد القَاضِي على علمه فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل؛ فَأَما الْخط، فَلَا يعتمده إِذا لم يتَذَكَّر، لِإِمْكَان التزوير عَلَيْهِ. وَمن عقد الْجَوَاهِر: قَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد: وَإِذا وجد فِي ديوانه حكما بِخَطِّهِ، وَلم يذكر أَنه حكم بِهِ، لم يجز لَهُ أَن يحكم بِهِ إِلَّا أَن يشْهد بِهِ عِنْده شَاهِدَانِ. وَإِذا نسي القَاضِي حكما حكم بِهِ، فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ أَنه قضى، نفذ الحكم بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِن لم يتَذَكَّر، كَمَا ذكر القَاضِي أَبُو مُحَمَّد. وَحكى الشَّيْخ أَبُو عمر رِوَايَته أَنه لَا يلْتَفت إِلَى الْبَيِّنَة بذلك، وَلَا يحكم بهَا وَلَو شهد الشَّاهِدَانِ على قَضَائِهِ عِنْد غَيره لحكم بِشَهَادَتِهِمَا وَنفذ قَضَاؤُهُ. قَالَ ابْن حبيب: وَأَخْبرنِي أصبغ عَن ابْن وهب، عَن مَالك، فِي القَاضِي يقْضى بِقَضَاء، ثمَّ يُنكره، فشهر بِهِ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ: فلينفذ ذَلِك، وَإِن أنكرهُ الَّذِي قضى بِهِ معزولاً كَانَ أَو غير مَعْزُول عَن الْقَضَاء. وَمن كتاب الْمقنع لأبي أَيُّوب: قَالَ أصبغ عَن أَشهب، عَن مَالك، فِي القَاضِي يكْتب شَهَادَة الْقَوْم فِي الْكتاب أَو الْأَمر يُريدهُ من أَمر الْخَصْمَيْنِ، ثمَّ يخْتم الْكتاب ويدفعه إِلَى صَاحبه، ثمَّ يُؤْتى بذلك الْكتاب، فيعرفه بِخَاتمِهِ، أيجيز مَا فِيهِ لغير بَيِّنَة أَنه خَاتمه. والخواتم رُبمَا عمل عَلَيْهَا: قَالَ مَالك: هُوَ أعلم وَأحب أَن يكون الْكتاب عِنْده. وَقد كَانَ بعض الْقُضَاة لَا يَلِي كِتَابه إِلَّا هُوَ بِنَفسِهِ. قَالَ أصبغ: وَأرى أَن يُجِيز مَا فِي الْكتاب إِذا عرفه وَعرف خَاتمه. ولختم هَذَا الْفَصْل بنبذة من الْكَلَام فِي الشَّهَادَة على الْخط وَمَا يجوز من ذَلِك وَمَا يضيق فِيهِ. فَنَقُول: الشَّهَادَة على الْخط ترجع إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهمَا: الشَّهَادَة على خطّ

القَاضِي فِي خطاب أَو حكم؛ الثَّانِي: الشَّهَادَة على خطّ الْمقر على نَفسه بِحَق من مَال، أَو طَلَاق أَو عتاق، أَو وَصِيَّة، وَشبههَا؛ الثَّالِث: شَهَادَة الشَّاهِد على خطّ يَده فِي شَهَادَته وَهُوَ لَا يذكرهَا؛ الرَّابِع: الشَّهَادَة على خطوط الشُّهُود فِي الرسوم، وَهِي الَّتِي يكثر دورانها والاحتياج إِلَيْهَا. أما الشَّهَادَة على خطّ القَاضِي، فقد تقدم عَلَيْهَا من الْكَلَام مَا فِيهِ الْكِفَايَة إِن شَاءَ الله. وَأما الشَّهَادَة على خطّ الْمقر على نَفسه، فَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: لم يخْتَلف فِيهَا قَول مَالك يُرِيد فِي إعمالها على الْمقر؛ وَفِي المستخرجة عَن ابْن الْقَاسِم فِي الْمَرْأَة يكْتب إِلَيْهَا زَوجهَا بِطَلَاقِهَا مَعَ من لَا شَهَادَة لَهُ؛ فَوجدت الْمَرْأَة من يشْهد أَن هَذَا خطّ زَوجهَا أَنَّهَا، إِن وجدت من يشْهد على ذَلِك، نَفعهَا؛ وَفِي سَماع يحيى عَن ابْن الْقَاسِم: وَإِن ذَلِك؛ وَإِن شهد رجل على كتاب ذكر الْحق أَنه كتاب الَّذِي عَلَيْهِ الْحق بِيَدِهِ، حلف صَاحب الْحق مَعَ ذَلِك؛ وَإِن شهد عَلَيْهِ اثْنَان جَازَ، وَسَقَطت الْيَمين عَنهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك. وَفِي الْمجَالِس: إِن كتب الْوَثِيقَة بِخَط يَده وشهادته، نفذت، لِأَنَّهُ قَلِيل مَا يضْرب على جَمِيع ذَلِك؛ وَإِن لم تكن شَهَادَته فِيهَا، لم تنفذ لِأَنَّهُ كتب. ثمَّ لم يتم الْأَمر. وَإِن قَالَ لفُلَان: عِنْدِي أَو قبلي بِخَط يَده، قضى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خرج مخرج الْإِقْرَار بالحقوق. وَإِن كتب لفُلَان على فلَان إِلَى آخر الْوَثِيقَة وشهادته فِيهَا، لم يجز إِلَّا بِبَيِّنَة سواهُ، لِأَنَّهُ أخرجهَا مخرج الوثائق، وَجَرت مجْرى الْحُقُوق. وَلم تجز الشَّهَادَة فِيهَا على خطه. قَالَ أَبُو عمر بن هَارُون، وَقد ذكر هَذَا التَّفْصِيل: هُوَ تَفْسِير جيد وفيهَا اخْتِلَاف. قَالَ المحتج والخط عِنْده شخص قَائِم وَمِثَال ماثل، تقع الْعين عَلَيْهِ وتميز سَائِر الْأَشْخَاص والصور. فالشهادة على الْخط جَائِزَة وَكَذَلِكَ حكى ابْن سَحْنُون فِي كِتَابه عَن مَالك وَغَيره من أَصْحَابه أَن الْخط شخص تميزه الْعُقُول فَكَمَا يجوز فِي الْأَشْخَاص مَعَ جَوَاز الِاشْتِبَاه فِيهَا فَكَذَلِك يجوز فِي الْخط من كتاب الِاسْتِغْنَاء المُصَنّف فِي أدب الْقُضَاة والحكام لخلف بن مسلمة بن عبد الغفور؛ وَمِنْه قَالَ الْأَبْهَرِيّ: كَمَا تجوز الشَّهَادَة على الصُّور وَإِن كَانَت يشبه بَعْضهَا بَعْضًا، إِذْ الِاخْتِلَاف فِيهَا لَيْسَ بغالب. وَفِي بَاب الشَّهَادَة على الْخط من الْكتاب الْمقنع عَن مَالك أَنَّهَا جَائِزَة مثل أَن يشْهد على خطّ الرجل فِي شَيْء أقرّ بِهِ وَقَالَ إِنَّه كَالْإِقْرَارِ صراحاً. وَعَن أبي الْقَاسِم فِيهِ: وَمَعْرِفَة الشُّهُود لَهُ كمعرفة الشُّهُود للثياب وَالدَّوَاب وَسَائِر ذَلِك. وَمن نوع الشَّهَادَة الْخط الشَّهَادَة أَيْضا فِي الصَّوْت؛ وَلذَلِك جَازَت شَهَادَة الْأَعْمَى على معرفَة الصَّوْت.

ورد صَاحب الْجَوَاهِر الشَّهَادَة على الْخط إِلَى ثَلَاثَة أوجه؛ فَقَالَ: الأول: الشَّهَادَة على خطّ الْمقر، وَهُوَ أقواها فِي جَوَاز الشَّهَادَة؛ ويليه الْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ الشَّهَادَة على خطّ الشَّاهِد الْمَيِّت أَو الْغَائِب؛ ويليه الْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ شَهَادَة الشَّاهِد على خطّ نَفسه، وَهُوَ أضعفها فِي إجَازَة الشَّهَادَة. مَسْأَلَة. قيل للْقَاضِي مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب: مَا تَقول فِي رجل كتب وَصيته وَأشْهد عَلَيْهَا، ثمَّ كتب فِي أَسْفَلهَا بِخَط يَده: هَذِه الْوَصِيَّة قد أبطلتها إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِنْهَا. فَيخرج عني {وَشهِدت بَيِّنَة أَنه خطه. فَقيل: لَا ترد بِهَذَا وَصيته الَّتِي أشهد عَلَيْهَا وَهُوَ كمن كتبت وَصيته بِخَط يَده، وَلم يشْهد عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ وَشهد على خطه فِيهَا، فَلَا تنفذ. وَمن نَوَازِل القَاضِي أبي الْأَصْبَغ بن سهل: وَقع الْكتاب الثَّانِي من أَحْكَام مُحَمَّد ابْن عبد الله بن عبد الحكم: وَإِذا كَانَ لرجل على رجل آخر حق، فَكتب لَهُ إِلَى رجل لَهُ عِنْده مَال من دين أَو وَدِيعَة، أَن يدْفع إِلَيْهِ مَاله؛ فَدفع الْكتاب إِلَى الَّذِي عِنْده المَال؛ فَقَالَ: أما الْكتاب، فَإِذا عرفه وَهُوَ خطه، وَلَا كنَّى لَا أدفَع إِلَيْك شَيْئا} فَذَلِك لَهُ، وَلَا يحكم عَلَيْهِ القَاضِي بِدَفْعِهِ، وَلَا يُبرئهُ دَفعه إِن جَاءَ صَاحب الْحق فَأنْكر الْكتاب. وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: قد أَمرنِي أَن أدفَع إِلَيْك، وَلَا كن لَا أفعل! فَذَلِك لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُبرئهُ ذَلِك، إِن أنكر الَّذِي لَهُ المَال أَو مَاتَ. وَمن نَوَازِل القَاضِي أبي عبد الله بن أَحْمد بن الْحَاج: إِذا قَالَ رجل أَو وجد بِخَطِّهِ بعد وَفَاته لفُلَان قبلي كَذَا وَثَبت إِقْرَاره أَو خطه، فلفظه قبلي مُحْتَملَة أَن يكون أوجب لَهُ قبله هبة مائَة دِينَار أَو صَدَقَة بهَا، فموته أَو فلسه قبل قبضهَا يُبْطِلهَا. وَمن عقد الْجَوَاهِر: وَلَو كتب وَصِيَّة بِخَطِّهِ، فَوجدت فِي تركته، وَعرف أَنَّهَا خطه بِشَهَادَة عَدْلَيْنِ، فَلَا يثبت شَيْء مِنْهَا حَتَّى يشْهد عَلَيْهَا. وَقد يكْتب وَلَا يقدم. رَوَاهُ ابْن الْقَاسِم فِي الْمَجْمُوعَة والعتيبة. قَالَ مُحَمَّد عَن أَشهب: وَلَو أقرها، وَلم يَأْمُركُمْ بِالشَّهَادَةِ فَلَيْسَ بِشَيْء حَتَّى يَقُول: إِنَّهَا وصيتي، وَإِن مَا فِيهَا حق. وَيقرب من هَذَا الْبَاب مَسْأَلَة من وجد بِخَطِّهِ هجو أحد من النَّاس أَو قذفه، وَثَبت بِالْبَيِّنَةِ العادلة أَنَّهَا خطه، وَأنكر هُوَ ذَلِك، وأعذر إِلَيْهِ؛ فَلم يكن عِنْده مدفع. وَقع فِيهَا

للْقَاضِي أبي الْوَلِيد كَلَام حَكَاهُ عَنهُ ابْن جرير فِي نوازله، مضمنه الْفتيا بِأَن يحلف الْمَشْهُود على خطه أَنه مَا كتب، وَلَا قذف، وَلَا سبّ؛ فَإِن حلف، برِئ، وَإِن لم يحلف، حبس حَتَّى يحلف؛ فَإِن طَال ذَلِك وَلم يحلف، أطلق بأدب فِيمَن كَانَ من أهل السَّفه ودونه فِي غَيره. وَبنى فتياه هَذِه على أَن الْخط غير مَعْمُول عَلَيْهِ، إِلَّا فِي كَونه شُبْهَة كالشاهد الْوَاحِد. وأحال فِي فتياه على مَا فِي سَماع ابْن الْقَاسِم من كتاب الْحُدُود فِي الْقَذْف، وعَلى مَا قَالَه أصبغ فِي سَمَاعه فِي ذَلِك الْكتاب. وَالَّذِي وَقع لَهُ فِي كَلَامه على رِوَايَة ابْن الْقَاسِم، فِي الْكتاب الَّذِي ذكر من كِتَابه الْمُسَمّى ب الْبَيَان، أَن فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا أَنه يحلف؛ فَإِن نكل، سجن حَتَّى يحلف؛ فَإِن طَال سجنه وَلم يحلف، خلى سَبيله وَلم يُؤَدب. وَقَالَ أصبغ: يُؤَدب إِن كَانَ مَعْرُوفا بالأيذاء؛ وَإِن كَانَ مبرءاً فِي ذَلِك، أَي مبرزاً فِيهِ، خلد فِي السجْن. وَالثَّانِي أَنه، إِن كَانَ مَعْرُوفا بالسفه والأيذاء، عذر وَلم يسْتَحْلف؛ وَإِن كَانَ غير مَعْرُوف بذلك، اسْتحْلف؛ وَهُوَ قَول مَالك فِي سَماع أَشهب. وَالثَّالِث أَنه يحلف مَعَ شَاهده، وَيحد لَهُ. روى ذَلِك عَن مطرف. قَالَ: وَهُوَ شذوذ فِي الْمَذْهَب أَن يحد فِي الْقَذْف بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد وَإِذا ثَبت الْقَذْف لأحد من النَّاس، فَمَاتَ قبل أَخذه، فللعقبة الطّلب بِهِ. قَالَ مَالك: وَيقوم بِحَق الْمَيِّت وَلَده، وَولد وَلَده، وَأَبوهُ، وجده لِأَبِيهِ، من قَامَ مِنْهُم أَخذ الْحَد، وَإِن كَانَ ثمَّ من هُوَ أقرب مِنْهُ، لِأَن هَذَا عيب يلْزمه. وَقد اسْتندَ فِي جعل الْخط وَالْقَذْف شُبْهَة. وَإنَّهُ لَيْسَ كالنطق إِلَى مَا فِي الْوَاضِحَة أَن الشَّهَادَة على الْخط لَا تجوز فِي طَلَاق، وَلَا عتاق، وَلَا نِكَاح، وَلَا حد من الْحُدُود، وَلَا تجوز إِلَّا فِيمَا كَانَ مَالا من الْأَمْوَال خَاصَّة. وَذكرنَا تَأْوِيل الشُّيُوخ لقَوْل مَالك فِي سَماع أَشهب من العتيبة فِي الْمَرْأَة تدعى طَلَاق زَوجهَا وتستظهر بِخَطِّهِ، وَهُوَ مُنكر. قَالَ: إِن كَانَ لَهَا من يشْهد على خطه، نَفعهَا. قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَن ذَلِك لَهَا شُبْهَة كالشاهد الْوَاحِد توجب لَهَا الْيَمين عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْبَيَان: وَالَّذِي أَقُول بِهِ إِن معنى مَا فِي كتاب ابْن حبيب إِنَّمَا هُوَ أَن الشَّهَادَة لَا تجوز على خطّ الشَّاهِد فِي طَلَاق، وَلَا عتاق، وَلَا نِكَاح، وَلَا حد، وَتجوز على خطّ الرجل أَنه طلق، أَو أعتق، أَو نكح، كَمَا لَا تجوز فِي إِقْرَاره بِالْمَالِ. قَالَ: فَالصَّوَاب أَن يحمل قَوْله فِي الرِّوَايَة نَفسهَا على ظَاهر كَلَامه فِي الْبَيَان، حَيْثُ خص الْمَنْع بِالشَّهَادَةِ على خطّ الشَّاهِد خَاصَّة

تكون الإنشادات كلهَا الخطية واللفظية على سنَن وَاحِد فِي الحكم بهَا عِنْد الشَّهَادَة عَلَيْهَا فِي الْأَمْوَال وَغَيرهَا. وَلما ذكر ابْن خيرة طَريقَة شَيْخه ابْن رشد فِي الْجمع بَين مَا فِي الْوَاضِحَة وَمَا فِي سَماع أَشهب، فِي مَسْأَلَة دَعْوَى الطَّلَاق على الزَّوْج، قَالَ: إِنَّه جمع حسن إِلَّا أَن نَص مَا فِي الْوَاضِحَة خلَافَة؛ فالأصوب أَنَّهُمَا قَولَانِ. وَقد قَالَ ابْن الْمَوَّاز: الَّذِي نَأْخُذ بِهِ بِأَن لَا يجوز من الْخط شَيْء إِلَّا من كتب خطه على نَفسه؛ فَإِنَّهُ كَالْإِقْرَارِ على نَفسه. قَالَ: وَهُوَ قَول مَالك. وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمُخَالف لما فِي الْوَاضِحَة أَنه أطلق القَوْل فِي لُزُوم ماالتزمه الْإِنْسَان بِخَطِّهِ، وَلم يخص مَالا من غَيره وَوجه الْفرق بَين خطّ الشَّاهِد وخطه الالتزامات. وَمَا ترَتّب من الْحُقُوق الْوَاجِبَات، مَا ذكره ابْن حَارِث فِي كتاب الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف لَهُ؛ وَذَلِكَ أَنه ضعف الشَّهَادَة على خطّ الشَّاهِد. قَالَ: لِأَنَّهُ قد يكْتب شَهَادَته من لَا يُؤدى، وَمن إِذا سُئِلَ الْأَدَاء، استراب، وَمن لَا يعرف من أشهده إِلَّا على عينه؛ وَهَذَا كُله توهين للْعَمَل على خطّ الشَّاهِد، بِخِلَاف إِقْرَار الْإِنْسَان على نَفسه أَو كتبه مَا يعلن عَلَيْهِ حَقًا لغيره. مَسْأَلَة أُخْرَى. وَهِي: من وجد بِخَطِّهِ شَيْء من الْمذَاهب الفلسفية الْمُخَالفَة للشريعة، أَو مَا بمنزلتها فِي هَذَا الْمَعْنى، حكمهَا أَن ينظر فِي الْمَكْتُوب؛ فَإِن كَانَ فِيهِ تَصْرِيح أَن كَاتبه يَقُول بِهِ ويرتضيه، وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنكره وينفيه، فيجرى حكمه على مَا سبق ذكره فِي الْخط، إِذا ثَبت من تَعْلِيق يَمِين بِهِ، أَو سجن إِن لم يحلف على نَفْيه، أَو إِنْفَاذ مَا يُوجِبهُ الْخط على من أقرّ بمضمنه، بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ؛ وَإِن كَانَ الْخط بِتِلْكَ الْمذَاهب نقلا مُرْسلا غير مُضَاف قولا لكَاتبه، وَلَا مرتضى لَهُ مذهبا من قبله، فبئس من كتب بِيَدِهِ، مِمَّا هُوَ عرضة للإخلال، وَهُوَ رصد لِلطَّعْنِ على الدّين بِسَبَبِهِ؛ وَهُوَ حقيق بالتحريق والزجر عَن مثله. وَقد قَالَ تَعَالَى فِي قوم أَضَلُّوا غَيرهم بمكتوبهم: " فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم! " وَقد تقدم فِي اسْم مُحَمَّد بن يبْقى بن زرب مَا كَانَ من عمله سنة 350 جملَة من أَتبَاع ابْن مَسَرَّة الْجبلي، وَأَنه استتابهم، وأحرق مَا وجد من كتبهمْ وأوضاعه عِنْدهم.

وَجرى مثل ذَلِك أَيْضا بِحَضْرَة غرناطة، منتصف عَام 773، فِي كتب ألفيت بهَا من تواليف مُحَمَّد بن الْخَطِيب، فِيمَا يرجع إِلَى العقائد والأخلاق؛ فأحرقت بِمحضر من الْفُقَهَاء، والمدرسين من الْعلمَاء، وأماثيل الْفُقَهَاء، لما تضمنته الْكتب الْمَذْكُورَة من المقالات الَّتِي أوجبت ذَلِك عِنْدهم، وحققته لديهم. وَمن الْكَلَام الَّذِي استعظم بالأندلس فِي حق القَاضِي أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ، الَّذِي أفْصح بِهِ قَوْله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِنَّه كتب بِيَدِهِ؛ وَكَانَ أصل ذَلِك أَنه قرئَ عَلَيْهِ بِمَدِينَة دانية فِي كتاب البُخَارِيّ حَدِيث المقاضاة؛ فَتكلم عَلَيْهِ، وَأَشَارَ إِلَى تصويب من قَالَ بِظَاهِرِهِ. فَقيل لَهُ: وعَلى من يعود ضمير قَوْله كتب} فَقَالَ: على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَقيل لَهُ: وَكتب بِيَدِهِ؟ قَالَ: نعم} أَلا تَرَوْنَهُ يَقُول فِي الحَدِيث: فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الْكتاب وَلَيْسَ يحسن الْكتاب؛ فَكتب: هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي سراجه: فأعملوا ونسبوا كل تَكْذِيب وتعطيل إِلَيْهِ. كَانَ من قَوْله إِن النَّبِي الْأُمِّي يجوز أَن يكْتب بعد أميته؛ فَيكون ذَلِك من معجزاته. وَكتب أَمِير وَطنه فِي الْمَسْأَلَة إِلَى إفريقية وصقلية، برغبة الْبَاجِيّ فِي ذَلِك. فَجَاءَت الْأَجْوِبَة من هُنَالك بتصديقه وتصويب مقَالَته. فَسلم فِيهَا قوم؛ وصدرت من بعض الْفُقَهَاء بالأندلس، فِي معرض الرَّد لَهَا وَإِبْطَال مضمنها، أوضاع، مِنْهَا جُزْء للزاهد أبي مُحَمَّد ابْن مفوز. قَالَ صَاحب الْإِكْمَال: فطال كَلَام كل فرقة فِي هَذَا الْبَاب، وشنعت كل وَاحِدَة على صاحبتها. " وربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا} " وَنَرْجِع مَا كُنَّا بسبيله من الْكَلَام. فَنَقُول: وَأما شَهَادَة الشَّاهِد على خطّ يَده فِي شَهَادَته وَهُوَ لَا يذكرهَا، فَفِي سَماع أَشهب: قيل لمَالِك، فِي الرجل يُؤْتى بِخَط يَده على شَهَادَة لَا يذكر مِنْهَا شَيْئا؛ قَالَ: أرى أَن يرفع شَهَادَته على وَجههَا، يَقُول: أرى كتابا يشبه كتابي، وَأَظنهُ اياه؛ وَلست أذكر شهادتي، وَلَا مَتى كتبتها قيل لَهُ: فَإِن كَانَ جلدا أَبيض لَا محو فِيهِ وَلَا شَيْء، وَعرف خطّ يَده، فَقَالَ: رُبمَا ضرب على الْخط وعَلى الْكتاب؛ فَأرى أَن يرفع شَهَادَته على وَجههَا. وَقَالَ عَنهُ ابْن نَافِع:

لَا يشْهد. وَقَالَ: قد أتيت غير مرّة بِخَط يَدي، وَلم أثبت على الشَّهَادَة؛ فَلم أشهد. قَالَه ابْن الْقَاسِم وَأصبغ. وَقَالَ ابْن حبيب: وَهُوَ الْأَحْوَط. وَفِي المستخرجة: قيل لسَحْنُون: أَرَأَيْت الرجل يعرف خطه فِي الْكتاب، لَا يشك فِي ذَلِك، وَلَا يذكر كل مَا فِيهِ؟ فَقَالَ: قد اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا؛ وَالَّذِي أَقُول بِهِ، إِذا لم ير فِي الْكتاب محواً وَلَا لَحقا وَلَا شَيْئا يستذكر، وَرَأى الْكتاب كُله خطا وَاحِدًا، فَأرى أَن يشْهد، وَأَن يَقُول: أشهد بِمَا فِيهِ. وَهَذَا الْأَمر لَا يجد النَّاس مِنْهُ بدا، وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يذكر جَمِيع مَا فِي الْكتاب. قيل لَهُ: فَلَو أَنه عرف الْكتاب كُله وَعرف خطه فِي الْكتاب كُله، وَفِيه شَهَادَته، وَلم ير شَيْئا يستذكر، وَلم يذكر مِنْهُ شَيْئا؟ فَقَالَ: أرى أَن يشْهد بِهِ؛ وَلَو أَنه أعلم بذلك القَاضِي، رَأَيْت للْقَاضِي أَن يُجِيز شَهَادَته جَائِزَة إِذا ذكر أَنه خطّ الْكتاب، وَكتب شَهَادَته بِيَدِهِ، وَلم ير فِيهِ محواً، وَلَا يَشكونَ أَنَّهَا جَائِزَة. وَقَالَ سَحْنُون: قَالَ ابْن وهب عَن مَالك: إِذا أَتَى الرجل بِالْكتاب فِيهِ شَهَادَته، فَيعرف خطّ يَده وَلَا يذكر شَهَادَته وَلَا شَيْئا مِنْهَا، فَيَقُول بعض الشُّهُود الَّذين فِي الْكتاب مَعَه: نشْهد أَنه كتاب يدك وَأَنَّك كتبته مَعنا، وَلَا يذكر هُوَ شَيْئا من ذَلِك قَالَ: إِن كَانَ استيقن أَنه كِتَابه وَخط يَده، وَيعلم ذَلِك ويثبته، فَيشْهد عَلَيْهِ؛ وَإِن كَانَ إِنَّمَا يعلم ذَلِك بِخَبَر غَيره، وَقَوْلهمْ لَهُ، فَلَا أرى أَن يشْهد عَلَيْهِ. وَعَن ابْن وهب عَن مَالك: من عرف خطّ يَده فِي شَهَادَته فِي ذكر حق وَلم يثبت عدَّة المَال، إِن استيقن أَنه خطّ يَده، وَإِن كَانَ لَا يثبت عدَّة، فليشهد عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقْضى بِهِ إِذا اشْهَدْ عِنْده أَنه خطّ يَده، وَإِن لم يشْهد عِنْده على عدَّة المَال. وَمن شرح خلف بن بطال: اتّفق جُمْهُور الْعلمَاء على أَن الشَّهَادَة على الْخط لَا تجوز، إِذا لم يذكر الشَّهَادَة وَلَا يحفظها. قَالَ الشّعبِيّ: وَلَا يشْهد أبدا إِلَّا على شَيْء يذكر: فَإِنَّهُ من شَاءَ، انتقش خَاتمًا، وَمن شَاءَ كتب كتابا. وَمِمَّنْ رأى أَن لَا يشْهد على الْخط، وَإِن عرفه، حَتَّى يذكر الشَّهَادَة، الْكُوفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَأكْثر أهل الْعلم. وَقد فعل مثل هَذَا فِي أَيَّام عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ! : صَنَعُوا مثل خَاتمه، وَكَتَبُوا مثل كِتَابه، فِي قصَّة مَذْكُورَة فِي مقتل عُثْمَان.

وَأما الشَّهَادَة على خطّ الشُّهُود، وَهِي الَّتِي يكثر فِي الْغَالِب الِاضْطِرَار إِلَيْهَا. فحاصل الْمَذْهَب فِيهَا يرجع إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا الْجَوَاز، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مطرف عَن مَالك فِي الْوَاضِحَة أَن الشَّهَادَة جَائِزَة على خطّ الْمَيِّت وَالْغَائِب إِذا لم يستذكر الشَّاهِد شَيْئا. حَكَاهُ ابْن وهب أَيْضا عَنهُ. وَقَالَهُ أصبغ. وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم. وَاخْتلف فِي حد المغيب الَّذِي تجوز فِيهِ الشَّهَادَة على خطّ الْغَائِب؛ فَقَالَ ابْن الْمَاجشون فِي ديوانه مَا تقصر فِيهِ الصَّلَاة؛ وَنَحْوه عَنهُ فِي الْمَجْمُوعَة. وَقَالَ ابْن سَحْنُون عَن أَبِيه: الْغَيْبَة الْبَعِيدَة من غير تَحْدِيد. وَقَالَ ابْن مزين فِي كتبه الْخَمْسَة عَن أصبغ: مثل إفريقية ومصر أَو مَكَّة من الْعرَاق. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن شَهَادَة الشُّهُود على خطّ الشَّاهِد بِمَا علمت من حكم بِهِ وهما لَو سمعا الشَّاهِد ينص شَهَادَته، لم يجز أَن ينقلاها حَتَّى يَقُول لَهما: اشهدا بذلك {قَالَ: وَالَّذِي آخذ بِهِ أَلا تجوز الشَّهَادَة على الْخط إِلَّا خطّ من كتب شَهَادَته على نَفسه؛ فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ. وَقَالَهُ ابْن الْقَاسِم أَيْضا، رَوَاهُ عَن مَالك. وَقَالَ مُحَمَّد بن حكم: لَا أرى أَن يقْضى فِي دَهْرنَا بِالشَّهَادَةِ على الْخط، لما أحدث النَّاس من الْفُجُور وَالضَّرْب على الخطوط. وَقد كَانَ فِيمَا مضى يجوزون الشَّهَادَة على طَابع القَاضِي؛ وَرَأى مَالك أَلا يجوز. وَقَالَ ابْن الْمَاجشون فِي غير الْوَاضِحَة: الشَّهَادَة على الْخط بَاطِل. وَمَا قتل عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنْهُمَا} وَهُوَ خير هَذِه الْأمة بعد نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَبعد أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا} إِلَّا على الْخط وَمَا هِيَ بِهِ مِنْهُ وَكتب عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَا أرى أَن يشْهد على الْخط وَلَا أَن يشْهد الرجل إِلَّا بِمَا يعرف على من يعرف ويعلمه فِيمَن يعلم. أما سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول: " وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا " وَقَالَ: " أَلا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ. " وَقَالَ مطرف مثله. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: خَالف مَالك جَمِيع الْعلمَاء فِي الشَّهَادَة على معرفَة الْخط، وعدوا قَوْله شذوذاً؛ إِذا الْخط قد يشبه الْخط، وَلَيْسَت شَهَادَة على قَول مِنْهُ وَلَا مُعَاينَة فعل. وَقَالَ مُحَمَّد بن حَارِث: الشَّهَادَة على الْخط خطأ. وَلَقَد قلت لبَعض الْفُقَهَاء: أتجوز شَهَادَة الْمَوْتَى؟ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَقوله؟ قلت: إِنَّكُم تجيزون الشَّهَادَة الرجل بعد مَوته، إِذا وَجَدتهمْ خطه فِي وَثِيقَة. فَسكت. وَمن الْكتاب الْمقنع: كَانَ مُحَمَّد بن عمر

ابْن لبَابَة لَا يُجِيز الشَّهَادَة على الْخط فِي شَيْء من الْأَشْيَاء، اسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ. وَهُوَ أحوط لحوالة الزَّمَان وَفَسَاد أَهله. وَشَهَادَة الْأَحْيَاء رُبمَا دَخَلتهَا الدواخل؛ فَكيف بِشَهَادَة الْمَوْتَى؟ وَفِي كتاب القَاضِي أبي الْأَصْبَغ بن سهل، وَقد قدر مسَائِل من هَذَا النَّوْع، وَقَالَ: من ضعف أَمر الْخط وَضعف الشَّهَادَة، أَن رجلا، لَو قَالَ، وَهُوَ قَائِم صَحِيح {هَذَا خطي} وَلست أذكر الْقِصَّة وَلَا أحفظ الْمَعْنى الَّذِي كتبت خطي فِيهِ {لما كَانَت شَهَادَة وَلَا جَازَت جَوَاز الْعلم وَالْقَبُول، فَكيف يأتى رجل إِلَى خطّ غَيره، وَيشْهد عَلَيْهِ، وَيقطع إِنَّه كِتَابه وَعَمله؛ فيمضي ذَلِك وَينفذ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْدِي: لَا أَقُول بِغَيْرِهِ، وَلَا أعتقد سواهُ؛ وَهُوَ دَلِيل الْمُدَوَّنَة وَغَيرهَا. ثمَّ قَالَ: لَا كنى أذهب إِلَى جَوَاز ذَلِك فِي الأحباس خَاصَّة، على مَا اتّفق عَلَيْهِ شُيُوخنَا رَحِمهم الله} اتبَاعا لَهُم، واقتداء بهم، واستحساناً لما درجت عَلَيْهِ جَمَاعَتهمْ، وَقضى بِهِ قضاتهم، وانعقدت بِهِ سجلاتهم. وَحسب الْمُجْتَهد منا اتِّبَاع السّلف؛ فقد أَجَازُوا غير مَا شَيْء على الِاسْتِحْسَان وَأخذُوا بِهِ بِالتَّخْفِيفِ؛ وَمَا أَجمعُوا على ذَلِك فِي الأحباس إِلَّا حيطة عَلَيْهَا، وتحصيناً أَن تحال عَن أحوالها، وَتغَير عَن سَبِيلهَا، واتباعاً لمَالِك وَأَصْحَابه فِي الْمَنْع من بيعهَا، والمناقلة بهَا، والمعاوضة فِيهَا، وَإِن خربَتْ، وَذهب الِانْتِفَاع بهَا. وَاحْتج ببقائها بِالْمَدِينَةِ خراباً، لَا تحال عَن وجوهها الَّتِي اثبتت فِيهَا؛ فَظَاهر اختيارهم هَذَا، على مَا ذكره ابْن سهل، يمْنَع من تَجْوِيز الشَّهَادَة على الْخط فِي التقية وَشبههَا، مِمَّا فِيهِ توهينها ونقضها؛ فَلَا يجوز إِذا الْعَمَل بِهِ، وَلَا يسوغ القَوْل بذلك، إِلَّا لمن اعْتقد جَوَاز الشَّهَادَة على الْخط مُطلقًا، وَلم يخص شَيْئا من شَيْء لَا حبسا وَلَا غَيره، وَخَالف مَا اتّفق عَلَيْهِ الشُّيُوخ، وَجرى بِهِ الْعَمَل. وَأما من ذهب مَذْهَبهم بتخصيص الأحباس بهَا، فَلَا يَصح لَهُ القَوْل بذلك فِي التقية، وَلَا فِي غَيرهَا. وَالله الْمُسْتَعَان {وَقد شافهت فِي ذَلِك بعض من لقِيت من الْعلمَاء؛ فَأَخْبرنِي أَن اخْتِيَاره إبِْطَال التقية، وَأَنه شَاهد الْقُضَاة بذلك. وَمن أَحْكَام ابْن جرير: قَالَ ابْن زرب: الشَّهَادَة على الْخط جَائِزَة فِي مَذْهَب مَالك رَحمَه الله} فِي جَمِيع الْأَشْيَاء. وَالَّذِي جرى بِهِ الْعَمَل،

أَنه تجوز الشَّهَادَة على الْخط فِي الأحباس المعقبة الموقفة المسبلة. وَقَالَ ابْن حَارِث: لم أسمع، وَلَا علمت أَن الَّذين رَأَوْا إجَازَة الشَّهَادَة على خطّ الشَّاهِد فرقوا بَين الأحباس وسواها من الْأَمْوَال فضلا عَن أَن يفرق بَين الْحَبْس الَّذِي يكون مرجعه إِلَى الْمَسَاكِين، وَيرجع متملكاً. هَذَا مَا وسع الْوَقْت من الْكَلَام على كتب الْقُضَاة إِلَّا الْقُضَاة، وَفِي الشَّهَادَة على الخطوط، وَبَعض مَا يرجع إِلَيْهَا وَيتَعَلَّق بهَا من الْمسَائِل. وَفِيه الغنية الْكَامِلَة للمتأمل، بِفضل الله. الْفَصْل الثَّانِي فِي صِفَات من بلغ من الْقُضَاة رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَحكم القاهر عَن تِلْكَ الْمنزلَة فِي استنباط الْأَحْكَام؛ وَضبط مَعَاني هَذِه التَّرْجَمَة يفْتَقر إِلَى إطالة، وغرضنا إِيثَار الِاخْتِصَار. فَنَقُول على جِهَة التَّقْرِيب وَالله الْمُوفق للصَّوَاب {: أما الصِّفَات الَّتِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهَا كملاء الْقُضَاة، فَهِيَ الْعلم بِالْكتاب وَالسّنة وَمَا وَقع عَلَيْهِ إِجْمَاع الْأمة؛ وَالِاجْتِهَاد الْمُتَكَلّم بِهِ عِنْد الْفُقَهَاء هُوَ استفراغ الوسع فِي الْمَطْلُوب لُغَة، واستفراغ الوسع بِالنّظرِ فِيمَا يلْحق فِيهِ لوم شَرْعِي اصْطِلَاحا. هَذَا هُوَ الْمعبر عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَأما هَل سجن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ {أحدا أم لَا، فَذكر بَعضهم أَنه لم يكن لَهما سجن وَلَا سجناً أحدا. وَذكر بَعضهم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} سجن بِالْمَدِينَةِ فِي تُهْمَة دم: رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُود. وَفِي أَحْكَام ابْن زِيَاد عَن أَيُّوب بن سُلَيْمَان: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {سجن رجلا أعتق شَرِيكا لَهُ فِي عبد؛ فَوَجَبَ عَلَيْهِ استتمام عتقه. قَالَ فِي الحَدِيث: مَتى بَاعَ لَهُ. وَفِي كتاب ابْن شعْبَان عَن الْأَوْزَاعِيّ: أَن رجلا قتل عَبده مُتَعَمدا؛ فجلده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} مائَة جلدَة، ونفاه سنة، وَلم يقره؛ وَأمره أَن يعْتق رَقَبَة. قَالَ ابْن شعْبَان: وَقد رويت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَنه حكم بِالضَّرْبِ والسجن. وَمن غير كتاب ابْن شعْبَان عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ} أَنه كَانَ لَهُ سجن، وَأَنه سجن الحطيئة على الهجو، وسجن آخر على سُؤَاله عَن الذاريات والمرسلات والنازعات وَيس، وضربه مرّة بعد مرّة، ونفاه

إِلَى الْعرَاق. وَقد تقدم أَنه ضرب فِي التَّعْزِير معن بن زَائِدَة مائَة سَوط حَيْثُ نقش خَاتمه وحبسه. وسجن عُثْمَان ابْن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ {ضابئ بن الْحَارِث، وَكَانَ من لصوص بني تَمِيم وفتاكهم، حَتَّى مَاتَ فِي السجْن. وسجن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ} بِالْكُوفَةِ. وَاحْتج بعض الْعلمَاء مِمَّن يرى السجْن فِيكُم وَهن بقول الله تَعَالَى " فِي الْبيُوت حَتَّى يتوفهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا "، وَبقول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {فِي الَّذِي أمسك رجلا آخر حَتَّى قَتله: اقْتُلُوا الْقَاتِل واصبروا الصابر} قَالَ أَبُو عبيد: قَوْله اصْبِرُوا الصابر يَعْنِي احْبِسُوا الَّذِي حَبسه للْمَوْت حَتَّى يَمُوت. وَكَذَلِكَ ذكره عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ {يحبس الممسك فِي السجْن حَتَّى يَمُوت. وَمن كتاب ابْن سهل، فِي اتِّخَاذ الْحميل على من أقرّ بِمَال أَو ثَبت قبله: قَالَ أَبُو صَالح: من وَجب عَلَيْهِ حميل، فَلم يقدر عَلَيْهِ، فالحبس حميله. وَأهل الْمشرق يَقُولُونَ بالملازمة وَلَا يبارحه. وَهَذَا القَوْل قد رَوَاهُ مُحَمَّد بن سَحْنُون عَن أَبِيه وَقَالَ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بن غَالب: الَّذِي نرَاهُ أَن يتَّخذ عَلَيْهِ حميل بِالْمَالِ، توقعاً من الشُّح والهرب؛ فَيذْهب حق ذِي الْحق. فَإِن لم يقم حميلاً، حبس لَهُ. وَقَالَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد بِمثلِهِ. وَقَالَ ابْن الْعَطَّار فِي كتاب السجلات من وثائقه: إِذا لم يَأْتِ الْمَطْلُوب بحميل بِمَا يثبت عَلَيْهِ، سجن للطَّالِب، إِن طلب ذَلِك؛ وَلَا يسجن، إِذا لم يقم حميلاً بِالْخُصُومَةِ فِي أول الطّلب؛ وَيُقَال للطَّالِب: لَازمه إِن أَحْبَبْت، ركن مَعَه حَيْثُ انْصَرف} وَفِي وثائق ابْن الْهِنْدِيّ، هَذَا الْوَجْه أَنه يسجن إِن لم يقم حميلاً بِوَجْهِهِ. وَسُئِلَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد عَمَّن كَانَ لَهُ على رجل دين حَال، وللغريم سلْعَة يُمكن بيعهَا مسرعاً؛ فَطلب صَاحب الدّين بيع السّلْعَة، وَطلب الْمديَان أَن لَا يفوت عَلَيْهِ سلْعَته، وَأَن يضع السّلْعَة رهنا، ويؤجل أَيَّامًا ينظر فِيهَا فِي الدّين هَل لَهُ ذَلِك أم لصَاحب الدّين بيع السّلْعَة؟ فَأجَاب فِيهَا: إِن من حَقه أَن يَجْعَل السّلْعَة رهنا، ويؤجل فِي إِحْضَار المَال بِقدر قلته وكثرته، وَمَا لَا يكون فِيهِ ضَرَر على وَاحِد

مِنْهُمَا، على مَا يُؤدى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الْحَاكِم فِي ذَلِك. فَهَذَا هُوَ الَّذِي جرى بِهِ الْقَضَاء، وَمضى عَلَيْهِ الْعَمَل؛ وَهُوَ الَّذِي تدل عَلَيْهِ الرِّوَايَات عَن مَالك وَأَصْحَابه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق {نجز وَتمّ وَالْحَمْد لله على مَا خص من نعمه وَعم} كتاب المرقبة الْعليا، فِيمَن يسْتَحق الْقَضَاء الْفتيا، تأليف الشَّيْخ الإِمَام أبي الْحسن ابْن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد الله النباهي رَحمَه الله تَعَالَى رضى عَنهُ.

§1/1