المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها

عبد الله العفيفي

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم باسمك نعتزم وبركنك نعتصم وبحولك نستدفع الوهن ونستعدي على الزمن، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، لك الحمد في الأولى والآخرة، إنك أنت ملهم القول وولي التوفيق.

مقدمة

مقدمة في سبيل المرأة ماضينا وحاضرنا نحن لا ننزع إلى الكمال لأن لنا فيه نسباً عريقاً، وطريقاً عميقاً إذا أنني عطف الزمان، فنحن مطلع فجره فخره. أو التبست عُقد العظائم، فنحن حُماة شرعتها، وكماة حومتها بنا استصحفت مِرة المجد واستشرقت ذروته ولنا عُقد لو اؤه، وتأثل بناؤه، فإذا ابتغينا الحياة سنَية، وابتعثنا الأمل جنياًّ، فلسنا بغاة نصفة ولا عُفاة معدلة، وإنما هو ميراث سُلبناه في غفوت الليل، وغلس الظلام، فنحن ننزع عنه شرك العوائق، ونرد دونه كيد الخطوب.

تلك صفحة من صفحات تاريخنا الذي نعتز به، ونطرب له، ونستثني من الرجاء منه ولعلها أحفل الصفحات بالعظات، وأجمعها للعظائم، وآهلهَا بنُبل الُخلق، وسناء الحياة. تلك هي المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها، حياة العظمة الوادعة الرائعة؛ النفس الأبية النقية. تلك هي المرأة التي يحدث المؤرخ المُنقَرّ الإنجليزي العظيم (كلاي مما استَشفه من أطلال بابل إنها كانت منذ أربعة وأربعين قرناً تجاذب الرجل سياسة الأمة، وولايتها الأمر، إنها كانت منذ أربعة وأربعين تجاذب سياسة الأمة، وولايتها الأمر، وجدّ العمل، وشُئون الحياة. تلك هي للمرأة التي وثب بها الإسلام ووثبت هي به، وكان أثرها في تكوين رجاله، وتصريف حوادثه، أشبه ما يكون بأثر الهادئ الفياض في زهر الرياض. يريد نساؤنا أن ينهضنَ، فهن يبتغين الوسائل ويتلمسن الخطى. وما لهن لا ينهضن؟ ومنذا يذودهن عما شرع الله لهن؟ وهل هن إلا منابت حُماتنا، وأساة جراحنا، وبُناة دولتنا ومنار دعوتنا، ومثار قوتنا؟ وهل نحن وإياهن إلا كجناح النّسر الصاعد إذا ينهض أحدهما خفُض الآخر فيصبح لا يجد في الأرض مَقَعداً ولا في السماء مصعداً؟ لينهض النساء ما شئن أن ينهضن، ففي نهوضهن، وبلغ غايتنا، ولكن ليحذر الآخرون بيدها والداعون إلى نهوضها التواء القصد، والتباس الطريق فينالها الزلل وتَلِجُّ بها العثرات حتى يقول قوم لقد كان ما كانت فيه خيراً وأبقى.

ألا وإن من الالْتِواء القصد، وضلال الطريق، وأن ندع نساءنا يتخذن من المرأة الأوربية مثالاً يحتذينه، ويمعنَّ في التشبيه به. نحن قوم تحتكم بنا أمزجتنا، وأسلوب حياتنا، وأجواء بلادنا وتكوين طبائعنا، ونظم شرائعنا، فمن الظلم أن نقول لنسائنا خُضن ثَبَجَ البحر واقتحمن شعاف الجبل وكن نساء أوربيات تَرَيَنَ ما يرين، وتدّعن ما يدعين. ذلك تكليف لا قدرة عليه ولا خير فيه. . نعوذ بالله أن ننكر على المرأة الأوربية وفر فضلها، وسماحة عقلها، فذلك ما لا نجد له السبيل غلى جحده والإنكار له ولكننا ننكر عليها أعراضاً قد لا تبتئس بها، ولا يأبه لها من حولها، على أنها مما يحز المفاصل، ويستثير الغوائل وهي إذا نقلت إلينا كانت أشد وأفتك. ونخشى إذا حملنا نساءنا على الأسوة بنسائهم أن تكون الأعراض هي الأولى والآخرة. لا أكذب فالمرأة الأوربية ليست المثل الأعلى للمرأة العظيمة. فإن قيل هي كاتبة حاسبة، وصانعة بارعة، قلنا لم تزد أن دعمت حياة المادة وزادتها نوطاً جديداً. ولو كان لها أثر نافذ لنُسخت عبادة القوة، ودال سلطان الأّثَرَة ولأبصرت القوم يبادرون إلى عون الضعيف، وغوث اللهيف، ولما استمتعت أنه المظلوم تكاد تنفطر لها السماوات وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هَدّا. أجل بصرك بين أعطف هذا العالم وأطرافه ثم انظر هل ترى إلا رجلا مغشياً بالغل أو محنياً على الضغينة؟ وهل تجد إلا امرأة مَطْويةً على كبد حَرّى أو مهجة

حَسْرى؟ وهل تبصر إلا واتراً وموتوراً، قاهراً ومقهوراً؟ وهل تُحسُّ الأُلفاء والقرَناء بإخاء صاف، وودّ غير مدخول؟ وهل تعلم في القوم إلا الخُلق المضطرب، والخَلة المُموّهة، ويداً شعث الكلب، وتدمي قلوب الشعوب، فما ينهل من الدم ويشكو الأوام، فأين يد المرأة أثرها، غير تهذيب النفوس وتطهير القلوب خُلقت المرأة؟ لكل ذلك أُناشد نساءنا أن يَسْدلن الحُجٌب بينهن وبين نساء أوربا ففي أمهاتنا الأوليات فضل وغَناء. أولئك اللواتي نَستَنُّ عن طيب عروقهن وكرم أخلاقهن، وتلك دماؤهن تترقق بين جوانحنا وأعطاف قلوبنا. فأما نحن فيه من مظاهر النَّوْة بالواجب والنّكول عن الجد فإنما هو صدأ عارض وغشاء مستحدث علينا تطاول الزمن وتتابع الحادثات وما أصابنا في سبيل ذلك من فداحة الظلم وذل الإسار. ففي سبيل الكمال المُطلق، والحياة الخالدة، أسواق حديث المرأة لا إلى النساء فحسبُ، بل إليهن وإلى الرجال معهن فإن صلاح كل من الفريقين لا يقوم إلا على صلاح صاحبه، والتجاوز له عن حقه الذي شرع له، وسيعلم الناس مبلغ تلك المرأة في عهد جاهليتها من قّوة النفس. وحرمة الرأي، وعزة الجانب، ونبل الخليقة، وكيف انتهى بها الإسلام إلى أبعد مدى من الحياة ونهج لها أوضح سُنَّة من الفضائل وألبسها أحسن لَبوس من جلال الكمال وجمال الخلال. لذلك أنشأت كتابي مستعيناً بعناية الله، مستهدياً بهداه وحده وليّ النُّجْح، وهادي السبيل.

وقد فصلته على أربع أجزاء: الجزء الأول: المرأة العربية في عهد جاهليتها. الجزء الثاني: المرأة العربية المسلمة في عصورها الزاهية. الجزء الثالث: الدور الثاني من أدوار المرأة العربية في عصورها الزاهية. الجزء الرابع: المرأة العربية الحديثة، وفيه وصف المرأة في أرجاء جزيرة العرب. مما قاله أهلها وما كتبه المستشرقون الذين نزلوا بها. ووصفها في كل قطر من الأقطار المتعربّة.

المرأة في الحياة

المرأة في الحياة (ومن آياته أَن خَلقَ لكمِ مِن أَنفسكم أزواجاً لتَسكُنُوا إليها وَجَعَل بينَكم موَدة وَرَحمة لآيات لقوم يَتَفَكَّرُن). ما كان الله لِيَدَع الرجل تحت أوقار الدهر: وأثقال الحياة، حتى يخلق له من نظام نفسه، من يذود عنه هموم نفسه، ويحتمل دونه الكثير من شئونه، ويضيء له ما بين من شعاب العيش وظلم الخطوب. تلك هي المرأة قسيمة حياته، ومباءة شكاته، وعماد أمره، وعتاد بيته، ومهبط نجواه، وتلك هي آية الله ومنته ورحمته لقوم يتفكرون. ينهض الرجال إلى الحياة بعزم وقوة يستمدان عقله ورايه، وتستقبل المرأة الوجود بعواطف فياضة يتجلى بها قلبها الخفاق فتأسو بها ما جرحته من قلب الفضيلة. فإن ظهر الرجل بمضاءه وذكاءه فغن للمرأة غايتها من صفاء القلب، ونقاء السريرة، وما ينبعث عنهما من وفاء ووَلاء، وحنان وإحسان، وتسلية، وغَياث مكروب ونجدة منكوب، وما إلى ذلك مما يقيم مائل الارض، ويلم صدعات الحوادث. من أجل ذلك كان قول المرأة في قلب الرجل وأملك لنفسه سواه. ولقد ريع النبي صلى الله عليه وسلم لرؤية الروح الأمين أوَل عهده

به وملكه الفزع منه فلم يجد - وهو صفي الله وصفوتهُ من خلقه - من يُسرى روعه ويَشُدُّ قلبه إلا زوجه خديجة إذ تقول له: كلا والله لا يخزيك أبداً إنك تحمل الكَل، وتُكْسِبُ المعدوم. وتعين على نوائب الدهر. ذلك قول المرأة التي أزرت نبي الله، وَوَاسَتْهُ بمالها وقلبها، وفرجَت عنه مواطن محدقة مُطبقة واحتملت دونه خطوباً جمة فوادحَ، وكان قولها أنفذ في نشر دين الله من ألف سيف تنْتَضى في سبيل الله. ذلك وحي من الله وإلهامه على لسان المرأة فنزل برداً على قلب الرجل. أفبعد هذا القول من ذلك القلب غاية لمستمع أو سبيل لمستزيد؟ ألا إن خشية الله ودينه - وهما سبيل الكمال - لا يجدان مجالاً أهدى، ولا موطناً أخصب من قلب المرأة، لأن حاجة الدين إلى قلب صاف، وعواطف غالية أشد من حاجته إلى قلب ذكيّ، ورأى أَلَمعِي. إلى كل ذلك تنتقل المرأة إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أُعدّت له من كمال النفس وشرف العاطفة. ذلك طور الأمومة. فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن فصل عن لحمها ودمها تسهر لينام، وتظمئ ليروى، وتحتمل الألم الممض - راضية مغتبطة - لتذيقه طعم الدعة، وتنشيه نسيم النعيم. تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها. والجود بالنفس أقصى غاية الجود إن من آيات التضحية في المرأة ما يقف دونه الرجل عانَىِ الوجوه نادِىَ الجبين ومن أمثال ذلك ما أنا سائقه وقاُّصه عليك: -

في صيف 1329هـ كانت إحدى بواخر النيل تحمل العابرين غادية رائحة بين كفر الزيات ودسوق. ففي ذات مرة أخرج الرُّبان صدرها بمن احتملهم من قصاد المولد الدسوقي، فقذفها بضعفي ما تحمل. سارت البواخر متعثرة تتحامل على نفسها وتضطرب في خطاها فما كادت تنكشف إلى عرض النيل قليلاً حتى آدها حملها، فانبتَّ عِقدها، وانحلت عُقدتها ومالت على نفسها، وتدفق الماء من منافذها. هنالك خرج الناس عن عقولهم، وتملكهم الفزع الأكبر، وظنوا أنهم أحيط بهم، فأخذوا يتدافعون على صدر النيل علَّهم يلقون يداً تدفعهم أو ترفعهم. بين هذا الحفل المتماوج المتدافع تقطعت الأنساب، فلا أب ولا أم ولا زوج ولا ولد. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وفي ذلك الموطن الذي دارت عليه كؤوس الموت مُترعة ظهرت امرأة لا تتلمس الشاطئ كما يتلمسون، ولا تُلَوَّح بيدها كما تلوحون بل كان كن شُغلها والموج يرفعها ويخفضها والموت يقبضها ويبسطها: أن نزعت خمارها، وأدرجت فيه ولدها، ثم لوحت به إلى زوجها، وقذفته على صفحة الماء مترافقة إليه وصاحت به متهدجة قائلة: - خذ يا فلان فذلك وصيتي إليك. . . قالت ذلك ثم غاصت بين طيات الماء بعد ان أسلمت وديعتها وأبرأت إلى الله نفسها. . . إلى تلك المنزلة السامية رفع الله المرأة ليكل إليها أشرف منازل الحياة: منزلة

التربية والتعليم، منزلة الأستاذ الذي لا يمحو علمه، ولا ينسخ آيته أستاذ سواه، بل كل سائر على سنته، ومستنبع طريقه. لقد كان من سنن اليونان أيام سقراط وأفلاطون ومن لفَّ لفهما أن يقف الرجل خاشعاً حاسراً الرأس إذا مرت به حامل وما كان ذلك لمظهر جثماني فليس في ذلك ما يدعو إلى الهيبة والخشوع، بل ذلك لما مهد الله لها من عمل روحي ملكّي مقدّس. فيأيتها الأم الرؤوم: ليس ذاك الذي بين يديك بالطفل الذي يبقى أمد الحياة طفلا، بل هو سر الوجود يذاع عنك وصفحة الحياة تنشر عن أثرك وهو أدل عليك من أسارير وجهك وبيان لسانك. ليست هذه البَضْعة المتحركة باللعبة الُملهِيَة هي العاَلم الأكبر يضطرب كأضطرابه، ويتخايل في مخايله. فانضري على أي حالة تريدين أن يكون الكون. ليس ذلك الدارج بين عينيك بالصبى الخَلى بل هو خبيئة الدهر وعُدّتُه وربما ضم معاطف ثوبه على رجل الدنيا وواحدهما. وما ينبئك لعل هناك ملكاً يترقب سيفه، أو عرشاً يطمئن لقدميه، أو أمة تنتظر النصفة من وَضَح رأيه، وفيض بيانه. إن تلك النزلة التي أعدك الله لها هي تلك التي وصفها بحقّ وصفها بطلُ التاريخ لحديث - بونابرت - فقال: إن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسراها ولقد سائل ذات مرة: أي حصون فرنسا أمنع؟ فقال: المرأة الصالحة. . .

ليست المرأة باْلَخلْق الضعيف. فإن من احتمل ما احتملته في ظلمات التاريخ من عنت الدهر، وعسف الأب، وصَلَف الزوج، إلى وَقْر اَلحْمل، وألم المخاض وسُهد الأمومة - راضياً مطمئناً - لا يكون ضعيفا. وليست بالخلق الحقير. فإن من وكَلَهُ الله بابتناء الكون وإنشاء الأمة لا يكون حقيراً. ألا إنما المرأة دعامة الكون لا يزال ناهضاً مكيناً ما نهضت به. فإن وَهَنَتْ دونه، وتخاذلت عنه، تهاوت عمده، وتصاعدت جوانبه. ولقد فتح المعز لدين الله ما يلي أفريقية حتى البحر المحيط، ثم أخذ يرنو إلى مصر واجماً متهيباً فلم يزال ذلك أمره حتى قال قائل: إن نساء قصر الإخشيد أغرقن في الترف واستهن بالفضيلة. . . فما لبث أن قال: اليوم فتحت مصر. . . وكذلك وهنت نفس المرأة وهي مصدر قوتها وسبيل عملها فانَبت نظام الملك وانفصمت عروة الأمة، وكان حقاً على الله أن يبدلها ويُديل منها وما ربك بظلام للعبيد.

المرأة العربية في عهد جاهليتها

المرأة العربية في عهد جاهليتها نصيبها من الوجود لم تطْوَ التاريخ على امرأة بلغ من الضَّنَّ بها، والإيثار لها، وبذل المهج رِخصاً في سبيلها، ما بلغ بالمرأة العربية في تلك الحقب المتطاولة المترامية. نشأت المرأة المصرية في قوم غَلَبت عليهم دقت الحِسَّ، وسَورة النفس، وخوض مناهل الدم خوف انثلام الشرف، واستباحة الحمى، فكانت هي أدق أوتار الحس في قلوبهم، وأوضح مواطن الشرف في نفوسهم. ولولا المرأة ما كان بالرجل نزوع إلى حًمى، ولا رَعْى على وطن. لقد كان العرب رُوَّادَ غارات، وطلاَّب ثارات، وكان الرجل منهم يغتمر الموقعة لا يدري أَوقع على الموت أم وقع الموت عليه؛ غير أن ابنته وما عسى أن يصيبها بعده من حاجة وهوَ إن كان يتغلغل في نفسه فيهيج بها حبّ الحياة. فمثله في ذلك مثل إسحاق بن خلف حيث يقول: - لولا أُمَيْة لم أجزع من العدم ... ولم أَُجب في الليالي حِنْدِس الظُّلَم وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحِم تهوى بقائي وأهوى موتها شَفَقاً ... والموت أكرم نزال على الحرَم أحاذرُ يوماً أن يُلم بها ... فيكشف الستْرَ عن لحم على وَضَم إذا تذكرت بنتي حين تندبني ... فاضت لرحمة بنتي عَبرتي بدم

وفي سبيل ذلك يقول حَّطانُ بن المعلَّى: لولا بُنَيَّات كزُغْب القطا ... ردُدن من بعض إلى بعض لكان لي مُضْطَرَب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني عن الغمض كذلك كانت المرأة تهتف بالرجل أو تلمُّ به تحت ظلال السيوف، وقد ملَلك الروعُ القلوبَ، وعقد الهول الألسنة، وانثغرت الأفواه، وحارات النواظر في المحاجر؛ فيستمد عزماً نبا؛ ويسترد قوة عَزَبت. ومَثَل ذلك ما فعل ابنتا الفِنْد الزَّمَّاني يوم تَحْلاَق اللمم وهو يوم انتصاف بكر من تَغْلب. فقد اشتجرت

الأسنة، واعتنقت الأبطال، ونفذت السيوف إلى أعماق القلوب وظهرت تَغْلبُ كالجذوة المضطرمة، وبدأت تنكشف وترتد. وهنالك الفتاتان البكريتان خماريهما ونفذتا بين صفوف قومها وأخذتا تُنْشدَان نفوسهم، وتذْكيان نار الحفيظة فيهم وكان مطلع قولهما: وغى وغى وغى وغى ... حَرَّ الحَرَار واْلتَظَى ومُلَئت منه الرُّبى ... يا حَبّذَا الُمحَلّقون بالضحى وأقبلت من ورائهما كَرْمة بنت ضِلَع، أم مالك بن زيد، فارس بكر وواحدِها فتغنت بما يُحيل الجبان المستطار شهاباً ثاقباً، وسعيراً مستطيراً، وكان مما تغنت به قولها: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مَشْيَ القُطَيّ البارق ... المسكُ في المفَارق والدُّر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق ... فِرَاقَ غير وامِق عِرسُ المُوَلّي طالق ... والعار منه لاحق فلم يلبث القوم أن تدافعوا وراءهن على أعدائهم، واقتحموا صفوفهم، واستباحوا معاقلهم، وأعملوا السيوف في رؤوسهم، وأنهلوا الأسنة من صدورهم فلم ينكشف

الهول حتى كانت تغلب بين قتيل وأسير وشريد، وفي مثل هذا الموقف يقول عمرو بن كلثوم: على آثارنا بِيضٌ حِسَانٌ ... نُحاذر أن تُقَسم أو تهونا أخَذْنا على بعولتهنّ عهداً ... إذا لا قَوْا كتائب مُعلمينا لَيَسْتَلِبُنّ أفراساً وبيضاً ... وأسرى في الحديد مُقَرّنينا إذا ما رُحْن يمشين الهُوَينى ... كما اهْتَزَّت متون الشاربينا يقْتَن جيادنا ويقلن لستم ... بُعُولَتَنَا إذا لم تمنعونا إذا لم نحمهن فلا بقينا لشيء بعدهن ولا حيينا كل ذلك ينبئك أن المرأة العربية مَثَار عاطفة الرجل، ومَدَار وِجدانه، هي سر حياته وموته، هي مَهَاج غضبه، ومَعقِد أُلفته، هي مُجْتَلَى قريحته، ومطلع قصيدته، هي موطن غنائه، ومذهب غِنَائه، هي مَشْرِق وحيه، ومنار إلهامه، هي نور الوجود في ناظريه، هي كل شيء بين يديه. لقد بلغ خيال العربي من السموّ بالمرأة أن جعل الملائكة أشباهاً لها ونظائر فقال: هم بنات الله وصَفِيَّاته. . . تعالى الله عما يقولون علَّوا كبيرا. وإذا علمت العرب اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله فما ظنك بأشباههم يومئذ؟ بل ما ظنك بامرأة ملكت على الرجل قلبه ورأيه فلا يكاد يصيب معن، أو يطيف بموضوع، حتى يُلِمَّ بذكْرها، يتغنى بمحاسنها، ويمتدح بشمائلها، ويتأثر بأطلالها ومَعَالمها.

كذلك كان يفعل شعراء العرب، وهم ألسنة القوم، وحَفَظة آدابهم وحُماة مجدهم، وشُرَّاع فضائلهم. حتى لقد بكى مُهَلْهِلُ بن ربيعة كليباً أخاه وهو مُحْرَق الكبد، موصل الكَمد، فبدأ بالمرأة يذكرها ويصف دارها، قبل أن يذكر أخاه، وذلك حيث يقول: الدار قَفْرٌ عفاها بعد ساكنها ... بالريح بعد ارتحال الحيَ عافيها وغالها الدهر إن ذو غِيَل ... فأصبحت بَلْقعاً قفراً مغانيها إلا رَواكدَ سُفْعاً بين مُلْتَبِد ... مثل الحمامة منتوفاً خوافيها دار لمهضومة الكَشْحَين خَرْعَبةٍ ... كالشمس حين بدا في الَّضْوء باديها فما زال يستتبع قوله في وصف صاحبة الدار حتى قال: كليبُ لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلَّيتها فِيمن يُخَلّيها كذلك فعل الحارث بن عُباد بعد أن قتل مهلهل ابنهُ بحيراً واستَعَرَت جمرة الحفيظة والثأر في صدره، حتى صبها على آل مهلهل جحيماً وحميماً. فقال يصف فتكته، ويذكر ولده في قصيدة ضافية ألم في أولها بالمرأة فقال: بانت سعاد وما وَّفتك ما تعد ... فأنت في إثِرها حَرّانُ مُعتَمدُ

وما زال يمعن في وصف سعاد حتى استكمل فيها عشرة من أبيات كاملة، ثم عطف على موضوعه فقال: سل حتى تغلب عن بكر ووقعتهم ... بالِحنو إذ خَسِرُوا جهداً وما رَشَدوا لعمرك ما ترك الحزن لمهلهل ما يشغله عنه، وما أبقى الزمن للحارث ما يقوى على اللهو به. فما لهما يفعلان ذلك؟ أما إنهما لم يفعلا ما فعلا إلا ليتألفا المعاني النافرة ويستقيدا الألفاظ الشاردة. ولولا ذلك ما جاء قولهما كماء جاء عذباً فراتا. ذلك طبع العرب. وتلك سنتهم. ولقد كان الرجل منهم وما كاد يبتدر صالحةً، أو يسبق إلى مَكْرُمة، حتى يسبق إلى المرأة، فيسوق إليها الشعر فياضاً بمأثرته، حفيلاً بمفخرته، وأكبر أمله أن تذكره بكلمة طيبة بين نظرائه، فيروحَ عنها بفخر لا ينفد، ومجد لا يبيد. وفي مثل ذلك يقول شاعر قيس: إنا مُحَيُّوكِ فَحّيينا ... وإن سَقَيْتِ كرام الناس فاسقينا وإن دعوت إلى جُلى ومكْرُمة ... يوماً سَرَاة الناس فادعينا ويقول شاعر ذُهل يوم ذي قار: إن كنت ساقية يوماً ذوي كرم ... فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا واسقي فوارسَ حاموا عن ذِمارهم ... واعلي مفارقهم مسكاً ورَيحانا بل لقد كان الرجل يأتي الأمر تسوّغه نفسه؛ ويحمله عليه موقفه وربما كان الخير كله فيه، فلا تهدأ نفسه، ولا تطمئن سريرته، حتى يُفضى إليها بعذره،

ويكشف عن مكنونه أمره. وفي مثل ذلك ما يقول أَزهَرُ بن هلال التميمي يعتذر عن فراره: أعاتِكَ ما ولّيت حتى تبددت ... رجالي حتى لم أجد متقدّما وحتى رأيت الوَرد يَدْمَى لَبَاُنهُ ... وقد هزه الأبطال وانتعلَ الدَّما أعاتك إني لم أُلم في قتالهم ... وقد عَضّ سيفي كبشهم ثم صّمما أعاتك أفناني السلاح ومن يُطِل ... مقارعة الأبطال يرجعْ مُكلما وشبيه بذلك قول من يقول: قالت سَلاَمة ما رأى عادةً ... أن تترك الأعداء حتى تُعذِرا لو كان قتل ياسلامَ فراحةُ! ... لكن فررت مخافةً أن أوسَرا وسبقت قبل المقرفين فوارساً ... لبني فزارة دارعين وحُسَّرا ولعل هذا أبلغ من هذين معذرة، وأقوام سبيلاً، ذلك الذي يعتذر عن قراره في داره، ورضاه باليسير من عيشه، فيقول: قالت أما ترحل تبغي الغنى ... قلت فَمنْ للطارق المُعتم؟ قالت فهل عندك شيء له ... قلت نعم جُهْدُ الفتى المعْدِم فكم وحقّ الله من ليلة ... قد أُطعِمُ الضيف ولم أَطَعم إن الغِنَى بالنفس يا هذه ... ليس الغِنَى بالمال والدرهم ومن أمثل ما جاء في الاعتذار إلى المرأة قول عنترة العبسي: بَكَرَت تَخوّفني الحتوف كأنني ... أصبحتُ من غَرَض الحتوف بمعزلِ فأجبتها: إن المنية منهل ... لا بدّ أن أُسقى بكأس المنهل

أما ضنُّ الرجل بها، وإيثاره لها، وحرصه عليها، وتفديته إياها بنفسه وما ملكت يمينه فقد بلغ من أمره أن كسرى أَبْرويز ملك الفرس وسيد ملوك المشرق، وأرسل إلى النعمان يبغي مصاهرته - ولو أن ملكاً من أقطاب العالم وأبطاله الفاتحين خَطبَ إليه كسرى ابنته لوثب عن عرشه زهواً واختيالاً بتلك النعمة السابغة - على النعمان وهو مولاه، وصنيعته، والقائم بأمره، والقارّ لسيفه، والخاضع لسلطانه، رَدّ رسوله مُقَنّعاً بالخيبة ضنّا ببنات المنذر أن يكون قائد بيت أعجمي أيًّا كان مكانه وسلطانه. حتى إذا عاود الرسول مولاه بما لا يرضاه اضطرمت في صدره جذوة الغضب، وثارت بين جنبيه سورة الملك، فأرسل يستقدم عاهل العرب! هنالك أبصر النعمان وميض الموت يلمع من صوب المدائن، فأودع ابنته حرقة وما يعتزُّ به من سيوف ودروع هانئ بن قبيصة الشيباني وذهب إلى حيث طرح تحت أقدام الفيلة، فذهبت بلحمه وعظمه ودمه كل مذهب من ثَغَرات الأرض وسَوّت معالم جسمه بالتراب. بذلك نقع كسرى غليل غضبه، وأراد أن يعاود ما بدأ، فأرسل إلى هانئ يقضيه ابنة النعمان، فما كان نصيبه منه بأجمل من نصيب صاحبه. هاج كسرى هائجُ الحَنق على هذه الأمة التي استأسدت في وجهه، واحتجزت فتَاتَها دونه. فأرسل فيالقه يزَحم بعضها بعضاً ليوقع الخسف بها، وَيبسط رواق الذل ضافياً عليها. وهنالك قام العرب يدفعون عن حوزتهم، ويذودون عن أعراضهم فالتقوا بجحافل الفرس على بَطحاء ذي قار، في موقعة احمرّ لها وجه الأفق. وارتفع النّقْع المثار، حتى مَحَا آية الشمس، فظهرت الكواكب واضحة عند منتصف

النهار. وقام من أبطال العرب من قطع وُضُن النساء حتى لا يجدن سبيلاً إلى الفرار إذا جاشت به نفوس ذويهن؛ فتأججت عند ذلك قلوب القوم، وأرهفت أنياُبهم، واستحالوا إلى صواعق ساحقة. ثم انحسر القتال وقد ضربوا أعداءهم ضربة أطارت قلوبهم، فنكصوا على أعقابهم، وفزعوا إلى ديارهم، وسيوف أولئك البواسل، القلائل، الأباة الضيم، الحماةِ الذَّمار، تعمل في أقفيتهم حتى أرباض المدائن. وفي ذلك يقول العُديل العِجلى: ما أوقد الناس من نار لمكرُمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار وما يَعُدٌّون من يوم سمعت به ... للناس أفضَلَ من يوم بذي قار جئنا باسلابهم والخيلُ عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل أُسوار ذلك يوم ذي قار. ذلك يوم انتصاف العرب من الفرس، وتحريرهم من رقهم ولم تكن المغالاة بالمرأة العربية وقفاً على ذوات الثراء والسناء منهن. فقد كان يغَالي بها وتغالي بنفسها، مها هان أمرها، أو اتضعت عشيرتها، ومثل ذلك ما حَدَّث ابن الأثير أن أحد دهاقين الفرس جَهدَ أن يتزوج امرأة من باهلة فأبت عليه ذلك. كل ذلك رَغم ما لدَهاقين الفرس من سعة العيش، ونعومة الحال، وما بلغته باهلة بين العرب، من لؤم الحسب، وانصداع النسب. كذلك بلغ من غضب العربي للمرأة، وحرصه على كرامتها، ووقف شرفه على شرفها: أن يعمد الرجل منهم إلى الملك المتوج فيقصم هامته، حِيَاطة لهذا

الشرف، وذياداً عنه أن يُبذَل أو يُذال. فقد حَدثوا أن عمر بن هند ملك العرب قال لجلسائه: تعلمون أحداً تأنف أمه أن تخدُم أمّي؟ فقالوا: نعم! ليلى بنت مهلهل، لأن أباها مهلهل بم ربيعة، وعمها كليب وائلٍ أعزُّ العرب، وبعلها كلْثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد قومه، وليث كتيبتهم. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزيز أمّهُ أمّهُ، فأقبل عمرو من الجزيرة في جماعته من بني تَغلب، وأقبلت ليلى في ظُعٌنٍ من قومها. وأمر عمرو بن هند برواقه فضربه فيما بين الجزيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا. ثم دخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة واحدة. وقد كان الملك أمر أمه أن تُنَحَّى الخدم إذا دعا بالُّطرف وتستخدم ليلى! فدعا عمر بمائدته، ثم دعا بالطرَف. فقالت هند: ناولني يا ليلى هذا الطبق. فقالت ليلى: لِتَقْم صاحبة الحاجة إلى حاجتها! فأعادت هند ما طلبت، وألَحّت في ذلك وأكثرت. فصاحت ليلى: واذلاه! يا لَتَغْلِب! فسمعها عمروا ابنها فانتفض انتفاضة المحموم وقال: لا ذل لتغلب بعد اليوم! ثم نظر إلى سيف معلق بالرواق ليس هناك غيره. فاخترطه وصدع به رأس عمرو. ونادى بعد ذلك في بني تغلب فانتبهوا ما في الرواق. واستاقوا نجائب الملك. ففي ذلك يقول عمرو معلقته وفيها يقول: أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظِرنا نُخَبَّرْك اليقينا بأنّا نورِد الرايات بِيضا ... ونصْدِرُهُنّ حُمْراً قد رَوينا

حتى يقول: ألا لا يعلم الأقوام أّنا ... تضعضعنا وأنا قد ونينا ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا بأيَّ مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلِكم فيها قطِينا تَهدّدنا وأوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقْتوينا وكأن ما فعل عمرو بن كلثوم لم يغن تغلبَ كثيراً. فقام مُرة بن كلثوم وقتل ولد النعمان وأخاه ليطفئ جذوة من الغضب هاجها تعمد المهانة لأمه. ألا إن كلمة واحدة قذَفَت بها امرأة فأصابت مواطن الحسَّ من رجل فهاجمت لها الحرب أربعين عاماً لم يدرّ فيها ضرع، ولم يكتهل بين أثنائها فتى. وحديث ذلك: أن البسوس ابنة مُنقذ - خالة جَساس بن مرة سيد بني بكر نزل بها ضيف من ذويها يدعى سعداً، فأفسحت دارها له، وأناخت بحظيرتها ناقته، فما كاد يطمئن بالرجل مُقاُمهُ حتى انطلقت ناقته ترعى. وقادها حينها إلى حِمى لكليب بن ربيعة صهر جساس، وفتى العرب، وسيد تغلب - ولم يكن لأحد غير جساس أنن يُرْعِىَ إبِله حِمى كليب - فلما بصُرَ كليب بها غريبة بين إبله أنفذ سهمه في ضرعها، فانطلقت تعدو وهي تشخب دما ولبناً حتى نزلت بفناء البسوس. فلما استبانت ما بها صاحت وأعولت واندفعت تقول:

لعَمْرُك لو أصبحت في دار مُنقِذ ... لما ضيمَ سعد وهو جارٌ لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربة ... متى يعدُ فيها الذئب يَعد على شاني فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل ... فإنك في قوم عن الجار أموات ودونك أذْوَادي فإني عنهم ... لراحلةٌ لا يفقدون بُنَيّاتي سمع جساس تلك الكلمة الأخيرة فأصابت الوتر الأرَنّ من قلبه، فأجفل إجفال الأخيذة من تلك الوَصمةِ المنْدية؛ وصمة العجز عن حياطة بنيات خالته! فقال: اسكتي أيّتها المرأة فَلُيقْتَلَنّ غداً جمل أعظم عقراً من ناقة جارك ولم يزل يتوقع غِرة كليب حتى أنبئ بانفراده فاعتقل رمحه، وخرج للقائه. فلما أبصره طعنه، ودَقّ صُلْبهُ، وأبى عليه الماء أن يُبَلَغَهُ به. وعلى إثر ذلك ثارت حرب البسوس، وفيها استحرّ القتل باْلَحَّيين أربعين عاماً حتى كاد يلحقهما الدثور في أثرها وما عصفت بها إلا كلمةٌ واحدة كان خليقاً بها أن تذهب لحينها، لولا أن نَسَجَتَها امرأة، وحاكتها على امرأة. ربما قلت أولئك سَرَوات القوم وهاماتهم، غضِب بعضهم لبعض، وهاج بعضهم على بعض، فتدافع العرب في مَسَاقسهم طَوَاعيةً لهم، وانسياقاً في أثرهم. فمثلهم في ذلك مثل عامة الفرس والرومان وأمم القرون الوسطى من أشرافهم. على أن ذلك إن قيل فيمن سوى العرب من الأمم، فالعرب أجل وأعظم من أن يوصموا به، أو يكونوا في شيء منه. إن شرف المرأة العربية حَلْقَةٌ مُفْرَغةٌ لا طَرف لها. ولئن تدافعت عامّة العرب في مَسَاق أشرافهم يوم البسوس، لقد تدافع الأشراف في مساق عامتهم

يوم الفِجار قريش وهوازن. وكان من أمر ذلك أن شباباً من كنانة أطافوا بامرأة من غَمار الناس في سُوق عُكاظ، فأعجبهم ما رأوا من حسنها، وسألوها أن تسفِر لهم عن وجهها. فأبت ذلك عليهم، فأخذوا يُعْنِتُونها ويسخرون بها، وهنالك نادت يا آل عامر، فلبَّتها سيوف بني عامر. ووقف بنو كنانة يدرءون عن فتيانهم. وهاجت هوازن لعامر، واغتمرت قريش في كنانة، وهنالك تفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء. ولولا حكمة بدرت من حرب بن أمية يومئذ لكان الخطب أفدح، والمصاب أطَمّ. فقد بين القوم فحسم ضغينتهم، واحتمل ديات قتلاهم. لم تقف منزلة من الرجل عند حدّ حمايته لها، وسفك دمه دون البلوغ إليها، ففي ذلك ما عسى أن يشعر بشيء من رعاية المالك لما يملك، وما كذلك كان أمرهما. فقد كانا جميعاً على سواء، يتجاذبان الرأي، ويتساجلان المعونة، ويتآزران على نوائب الحياة. وإن من ضعف الأسلوب أن يقال إن العربي كان رفيقاً بالمرأة، عطوفاً عليها. فإن الرفق والعطف يُشعران بالضعف بين يدي القوة، على حين كان نصيبها من الحياة على قدر نصيبه منها، وقسطه من الإجلال والاحترام في قلبها على قدر قسطها في قلبه. ففي العهد الذي كانت المرأة الرومانية تدين فيه بالعبادة للرجل وكانت تعتدُّه من دون الله إلها قهاراً: كانت أختها العربية في الذروة والسّنام من الحرية والمساواة لها ما للرجل وعليها ما عليه.

وليس أمثلُ بذلك ولا أدلّ عليه من قولهم فيما سار من أمثالهم: إن النساءَ شقائق الأقوام يريدون بذلك أنّ نساءهم في سواء رجالهم فلا فضل فيهم لامرئ على امرأة. بل لقد كان للمرأة فرط من الكرامة، وحرمة الكلمة ما لم يستشرف له الرجال على هول قوّته، ومضاء عزيمته، ولقد عقدت فتاة من العرب أمانا لرجل فلم يستطيع ملك العرب وجبارها أن ينقضه أو يبلغ منه. وبيان ذلك فيما حدّثوا أن مَروان القَرَظ بن زنباع بكر بن وائل فقَصُّوا أثر جيشه فأسَرَه منهم وهو لا يعرفه فأتى به أمَّه فلما دخل عليها قالت له: إنك لتختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرَط. فقال لها مروان: وما ترتجين من مروان؟ قالت: عظم فدائه. قال: وكم ترتجين من فدائه؟ قالت: مائة بعير. قال مروان: ذاك لك على أن تؤدّيني إلى خُماعةَ بنت عوف بن مُلحم - وكان مروان قد أسدى إليها يداً فيما سلف من دهرها - فقالت المرأة: ومن لي بمائة من الإبل؟ فأخذ عوداً من الأرض فقال: هذا لك بها. فمضت به إلى عوف بن مُلحم فأجارته ابنته من كل مكروه. وكان مروان قد أساء إلى عمرو بن هند ملك العرب وطاغية الحبرة فأقسم عمرو لا يعفو عنه حتى يضع يده في يده. فلم علم بمستقره من عوف أرسل إليه ليأتيه به. فقال عوف: قد أجارته ابنتي وليس إليه من سبيل. فقال عمرو: قد آليت ألاَّ أعفو عنه أو يضع يده في يدي. قال عوف: يضع يده على يدك على أن تكون يدي بينهما. فأجابه عمرو

إلى ما طلب وعفا عن مروان وما كان ليعفو عنه بعد أن ظفِرَ به لولا أن أجارته المرأة. ولو أن عوفاً هو الذي أجاره لسامهُ الحرب أو يُسْلمه. تجاوزت المرأة مواطن الرعاية إلى ما هو أسمى وأجل. فقد كان حَسب الهارب المطلوب أن يعقد رداءه بطنُب خبائها فيعود آمناً ليس عليه من سبيل. وكذلك كانت ساحتها حرماً آمناً، إليه يفزع الخائفون، وببابه يتدافع العافون، ويهتدي السارون. ومن أبدع مظاهر ذلك ما حدّثوا أن سُبيعة ابنة عبد شمس بن عبد مناف كانت زوجاً لمسعود بن مالك الثقفي، فلما عصفت حرب الفجار الأكبر - بين كنانة وقيس - كانت سيادة الأولين لحرب بن أمية ابن أخيها، وقيادة الآخرين لمسعود زوجها. وكان مسعود قد ضرب لها خباء وراء جنده، فدخل عليها فأبصر بالدموع تجول بين خدّيها، فقال: ما يبكيك؟ قالت أبكي لما عسى أن يصيب قومي. فقال لها: من دخل خباءك من قريش فهو آمن، فأخذت تصل به قطعاً حتى يسع الجمع العديد من قومها. فلما انكشفت قيس وغُلب على أمره مسعود، قال لها ابن أخيها: من تمسك بأطناب خبائك آمن، ومن دار حول خبائك فهو آمن، فلم يبق قيسي إلاَّ اعتصم بها، ودار حول خبائها. وإني لمفضٍ إليك بحديث عن القوم يملأ قلبك روعة وإيماناً بما كان للمرأة يومذاك من سماحةٍ في الرأي، ووفور في الحرية، وسمو في المنزلة:

ذلك أن سيد العرب الحارث بن عوف المري قال لمن حوله: أتروني أخطب إلى أحد فيردني؟ قيل: نعم. قال ومن ذاك؟ قيل له: أوس بن حارثة الطائي فقال الحارث لغلامه: إرحل بنا إليه. فركبا ومعهما خارجة بن سنان حتى أتوا أوساً في بلاده، فألقوه في منزلة. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حارث. قال: وبك قال: ما جاء بك؟ قال: خاطباً: ليست هناك! فانصرف الحارث ولم يكلمه. ودخل أوس امرأته مُغْضَباً فقالت: من الرجل وقف عليك فلم تُطلْ ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف المرَّي. قالت: فما لك لا تستنزله؟ قال: إنه اسْتَحْمَقْ قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطباً! قالت: أفتريد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما قد كان منك. قال: ماذا قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط ما فرط إليه؟ قالت: تقول له إنك لقيتني مغضَباً بأمرٍ لم تُقدّم مني فيه قولاً فلم يكن عندي من الجواب إلا ما سمعتَ، فانصرف ولك عندي كل ما أحببت فإنه سَيفعل، فركب في أثَرهما. قال خارجة بن سنان: فوالله إني لأسير حانت منى التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يلمني غما، فقلت له: أوس بن حارثة في أثَرنا. قال: وما نصنع به؟ امض. فلما رآنا لا نقف عليه قال: يا حارث اربَعْ عَلَي ساعة فوقفنا له، فكلمنا بذلك الكلام، فرجع مسروراً. فبلغني أن أوساً لما دخل منزله قال لزوجته: أدعى لي فلانة - لكْبَرى بناته - فأتته، فقال: هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالباً خاطباً، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. ولَمِه؟ قالت

لأنني امرأة في وجهي رَدّة وفي خُلقي بعض العُهدَة ولستَ بابن عمه فيرعى رَحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمَن أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون على من ذلك ما فيه. قال: قُومي بارك الله عليك، ادعي فلانة - لابنته الوُسْطَى - فدَعَتها، ثم قال لها مقالتَهُ لأختها، فأجابته بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا من أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون عَلَى من ذلك ما تعلم، وليس بابن عمي فَيرْعى حقي، ولا جارك في البلد فَيْستَحييَك. قال: قومي بارك الله عليك، أدعى لي بُهَيْسَة - يريد الصُّغرى - فأُتي بها، فقال لها ما قال لهما، فقالت: أنت وذاك. قال: قد عرضت ذلك على أختيك فأَبتاه. فقالت: - ولم يذكر لهما مقالتيهما - لكنني والله الجميلة وجهاً الصّناع يداً، الرفيعة خُلقاً، الحسيبة أباً، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال: بارك الله عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوجتك يا حارث بُهَيْسَة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتُصْلح من شأنها حتى إذا حُملت إلى زوجها، وبلغ بها حماه كانت حرب داحِسٍ والغَبْراء بين عَبْس

وذُبيان قد عَصَفت هوجاؤُها بهم، واشتدت نارها فيهم، فلم تَذَرْ من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وهَمَّ من يليهم من العرب بأن يَكْتَوُوا بضرامها، ويصطلوا بلظاها. فلما بَصرت به مرتدياً مطارف العُرس قالت: والله لقد ذكرت من الشرف مالا أراه فيك؟ قال: وكيف؟ أتفرغ للنساء والعرب يقتل بعضها بعضا؟ قال: فيكون ماذا؟ قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهما. فخرج لساعته إلى صاحبه خارجةَ ابن سنان وقَص عليه حديث امرأته. فقال خارجة: والله إني لأرى همة وعقلا، ولقد قالت قولا. قال: فاخرج بنا إليه. فخرج الرجلان فمشيا بين القوم بالصلح واحتملا حمائل القوم وديات قتلاهم فكان ما نزلا عنه ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين وهي لعمر أبيك ثروة للأعرابي لا تقوم بما مَلك الحضري من ضياع. وما اختزن من أموال. ذلك شيء بلغته المرأة يومذَاك من سموّ في الوجود، وإكبار للرأي، وبلوغ من النفس بل لقد كانت وكان الرجل العربي - وهو مَنْ تَعْلم من صلابة العود، ورجاحة الرأي، وفرط الإباء - ينزل تحت حكمها، ويَفيءُ إلى ظلها لسلطانها. إذا آنس منها القدرة على قيادته وسياسته. وقد نبغ من النساء مشيرات آزرن أزواجهن وذويهن من الملوك والأبطال فأحسن مؤازرتهم؛ وملكات قمن بالأمر من دون الرجال فابتنين مجدا لا يُطاول وبلغن غاية لا ترام. ونحن ملمون لك بحياة امرأتين ملكتا فاختصهما التاريخ بصفحتين خالدتين واصطفاهما بآيتين بينتين. وهما: - بِلقيس مَلِكة اليمن وزَيْنَبُ ملكة تَدْمرُ

بلقيس ملكة اليمن

بلقيس ملكة اليمن هناك فوق مشارف الأرض، وبين أفياء الثمر وخمائل الزهر وفسحات الأودية، ومَسَايل الماء قامت مدينة مَأْرِب عاصمة اليمن، وقبلة أقيالها، ومستقر عواهلها. بين يدي هذه المدينة الغانية امتدَّ سدُّ مأْرب. مطلع الحضارة القديمة، وآيتها الناطقة. وأدنى ما يقال عنه أنه ثلاثون قنطرة ذراعها ثلاثة أميال في مثلها قد انبسط على جانبيه جنبتان، هما صُنع الله وآيته وحجته على تلك الأمة الوثَّابة الطَّموح. ومن حول هاتين الجنتين، وبين أفيائهما، انتثرت قصور مأرب، تلك التي جاذبت دور مصر دقة الوضع، وجلال الصنع، والنزوع إلى السماء، ونازعت قصور فارس حُسن النسق، وروعة المنظر، وجمال البناء. تلك هي مأْرب دارةُ الملك اليمني في هد بلقيس ابنة الْيَشْرَح أنفذ ملوك اليمن رأيا، وأسناهم ذكرا، وأهداهم سبيلا. ورثت بلقيس عرش زوجها وأبيها، وما كان لها بهما من حاجة. اتخذت لنفسها عرشاً بلغ من إبداع صنعه. وجمال نسقه، أن وصفه الله جل ذكره بالعظمة فقال: (وأُوتِيَتْ مِنْ كُلَّ شَيءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).

وهو الذي يصفه تُبع بقوله: عرشُها رافعُ ثمانين باعا ... كَلَّلَته بجوهر وفريد وبدُرّ قد قَيَّدَته وياقو ... تٍ بالتَّبر أيَّمَا تقييد أقامت بلقيس في ملكها خمس عشرة عاماً بلغت فيها من جلال الصولة وكمال القوّة أنها ركبت إلى سليمان صلوات الله عليه سار في ركابها مائة ألف من أمراء اليمن. أما وفور عقلها، ومضاء عزمها، وسناء منزلتها، واستمكانها من نفوس رعيَّتها فقد بلغ من أمره: أن سليمان حين أرسل إليها يُؤذنُها بدينه، ويدعوها إلى سُنته كان كلُّ ما كتب إليها: (إنَّهُ مِن سُلْيمَانَ وإنَّهُ بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم ألا تَعْلُوا عَلىَّ وأُتوني مُسْلِمِين). فأما هي فلم تأخذ العزة بالإثم ولم يَنَلْ من نفسها أنّ الكتاب لم يحو تَكْرِمَةً وتبجيلاً، ولم يذهب برُشدها أن صاحب الكتاب ليس له في ذات نفسها من بسطة الملك وقوة السلطان ما لها. بل جمعت كل من يلوذون بطاعتها من الملوك - وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر أقيال اليمن - وبرغم كل ما أسلفناه من أمر الكتاب أحلته محلاً كريماً فقالت: (يا أَيُّها المَلأُ إنّي أُلْقِي إليَّ كِتَاب كريم) ثم انثنت إليهم ذلك فقالت: (يَا أيُّها المَلأُ أَفْتُوني في أمْرِي ما كُنْتُ أمْراً حَتَّى تَشْهَدون) أما هم فوقفوا دون رأيها، ونزلوا تحت أمرها، فقالوا: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأُسٍ شَدِيدٍ والأَمْرُ إلَيْكِ فاْنظُري ماذا تأُمُرين).

هنالك بسطت لهم أمر الحرب، وأنها مدعاة دمار الديار، ومَتْلَفَةَ البلاد والعباد فقالت: (إنَّ الْمُلُوك إذا دَخَلُوا قَرْيةً أْفسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِهَا أذِلَّةً وكَذلِكَ يَفْعَلُون) ثم كشفت لهم عن وجه الرأي فقالت: (وإني مُرْسِلةٌ إلَيْهِمْ بهدِيَّةٍ) كفيلة بأن تصرف ذوي المطامع وتجتذب بُغَاةَ الدنيا فإن صرفته عن قصده فهو ملك ولنا من بأسنا وقوّتنا ما يَثُل عرشه ويَفل غربه وإن ردَّها وصُرف عنها فعسى أن يكون نبياً يُبصرنا الحجة، ويهدينا سواء السبيل. فلما جاءت رُسُلها سليمان بهديتها التي جمعت من كل شيء أسناه وأتمة قال: (أُتمدٌّونني بما فما آتاني اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أْنتمْ بِهَديِتكُمْ تَفْرَحُون). حتى إذا استبانت بلقيس وضح الهدى من سليمان تَبدّلت بدين آبائها دينَ الله وكان ذلك سبيلا إلى طمس آية المجوسية بين أرجاء اليمن. تلك آيات من الذكر الحكيم قامت بفضل المرأة، ورجاحة عقلها، وسماحة رأيها، وأن قوة الشوكة وعزة الملك لم تصرفاها عن ابتغاء الحق أيّاً كان سبيله، ومن أّي كان مفيضه. ولئن صح ما روى الفخر الرازي: أن بلقيس هي التي مدّت سدّ مأرب وجعلته طبقات ثلاثا بعضها فوق بعض لتكوننَّ تلك المرأة مهبط وحي العظمة ومشرق نور الحضارة في العالم كله. فأما ما بُنى قبل ذلك فجبال تعترض سَرَوَات الطرق، وترهق مناسم الأرواح، نُشرت على هاماتها ألوية الظلم ونُزفت على أقطارها دماء الضعفاء. تلك هي بلقيس ربة القوم الذين رضوا الزمان ومدّوا سدّ العَرم وشادوا قصر غمدان.

زينب ملكة تدمر

زينب ملكة تدمر مدينة قاصية قامت بين نطاق من الصحراء، فتألقَ لألاؤُها، وتبلَّجَ بهاؤها، وأخذت تبدو كما شق النجمُ رداء الظلمات، في كبد السماء. نهضت بها امرأة من العرب، فبسطت سلطانها، ونشرت أعلامها، على ما بين مجاهل السودان، ومعالم أنقرة، من مسالك وممالك، وأمم وشعوب. تلك هي تدمر، في عهد ملكتها زينب. تقع تدمر في بادية الشام إلى الشمال منها، على مدى مائة وخمسين ميلاً من دمشق، ومسيرة خمس أيام من الفرات. وهي ملتقى الغادين والرائحين بين الشام والعراق. لذلك كان انتجاع أهل هذا البلد إلى ذينك القطرين لا ينقطع. ومن أجل ذلك جمعوا بين مدينتي الفرس والرومان، فأرهفت لذلك طباعهم ورقت شمائلهم، ونَفَذَت أفهامهم، وطفقوا يقيمون البنية ترسخ أصولها في أعماق الأرض، وتناغى مشارفها منازل الأفلاك. ومن أدل ذلك على ما نقول هيكل الشمس أو هيكل بعل. والقصر الأعظم الذي بلغ ذرعه ألفى ذراع في مثلها. ولا تزال أطلالهما باقية تعنو لها الوجوه، وتخشع بين أيديها القلوب. تلك هي الأمة التي قامت بأمرها زينب فبلغت بها غاية ما أسلفنا لك. تَنَقَل الملك بزينب في دورين: فكانت مشيرة لزوجها، ثم وصية على ولدها وفي كلا الدورين كانت الوحي الُملهم، واليد الطائلة.

كانت زينب على فرط من جمالها، وعذوبة منطقها، وسماحة أسلوبها، ونفاذ لها، وعظمة قلبها؛ من أشد الناس بأسا، وأمضاهم عزماً، وأرسخهم في الحروب قدماً. وكانت إذا وقفت الصفوف، وأُشرعت الرماح، والتمعت الأسنة؛ تتقلد سيفها وتعتقل رُمحها، وعلى رأسها خُوذة مُرصعة بالدر والياقوت، وقد تَدَلَّت فوق غلالتها أهداب من الحرير الأُرجواني، ثم تمر بين الصفوف مُجَرَّدة يُمنى ذراعيها كما يفعل أبطال اليونان والرومان، فُيذهل القوم عن نفوسهم، وتملك عليهم مشاعرهم حتى تكون أبصارهم التي يبصرون. وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يشعرون، ثم يصَبُّون على أعدائهم كما تنصب النار على هشيم الكلأ. بذلك افتتح جندها ما افتتحوا من بلاد، واقتحموا ما اقتحموا من معاقل. ولذلك أشادت الأمم قديماً بذكرها، وأفسحوا لأخبارها وسِيَرها المكان الأوفى من صدور تاريخهم. وبطون صحائفهم. وكانت زينب تجيد لغات الفرس واليونان والرومان وأخلاط من يليها من شعوب وقبائل. على أن هذه الجمرة المستطيرة نكبت في آخر عهدها نكبة لم تجد لها من مُقيل. فقد فجأتها جنود الرومان معقودة اللواء بكف أورليان وكان في جيشها جمع لا يُحصَون عدداً ممن انحسر عنهم ظل الروم في عهدها، يولونها ظاهر الطاعة وزمام قلوبهم بأيدي سادتهم الأقدمين، فكانوا الفتنة والاضطراب في جندها. وكان سبيل ذلك أن تراجعت جنودها مرة بعد مرة حتى إلى أمرها إلى التسليم

لعدوها سنة 282م. فأخذت أسيرة إلى روما ثم أعيدت إلى موطنها لمكانها من نفوس قاهريها فعكفت على عزلتها ونسكها حتى ماتت. هذا وللعرب حديث عن ملكة تدمر يعزب لب الناقد عنه، وتضل حقائق التاريخ دونه. وهم يَدعونها الزّبّاء وينسبون إلى عمرو بن عَدِيٍّ الّلخمي أنه قادها إلى الموت انتقاما لخاله جذيمة بن مالك ملك الحيرة، ويزعمون أن عمراً خبأ لها الرجال في الغرائر. وتلك لعمرك أشبه بأساطير الأولين، منها بحقائق المؤرخين، والله بكل شيء عليم.

السباء والوأد

السباء والوأد أما بعد: فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله زهر الأشواك فيه. فلئن كان من الحب ما يُمضُّ ويؤذي، ومن الصداقة ما يضر ويؤلم، لقد أصيبت المرأة العربية في سبيل إعزازها والحرص عليها بلواذع بلغت في بعض المواطن حبة قلبها ومستقرّ حياتها. فمن ذلك السباء. وذلك أن العرب كانوا يُعقبون صفوف القتال بنسائهم، وذوات أرحامهم، تثبيتاً لأنفسهم، وتشديداً لعزائمهم. وربما أحيط بهم، وغلبوا على أمرهم، فيكون هَمٌّ الظافر أن يتخذ نساء المقهور سبايا يسوقهن إلى بيته، ويتحكم فيهن كما يتحكم في ماله، لا لحاجته إليهن، بل ليقطع باستلابهن آخر عرق ينبض من قلب عدوه فيعيش ذليل الناصية، مُقَنَّع الوجه أمد الحياة. على أنهم وإن غلظت إلى هذا الحد أكبادهم على أعدائهم فهم يعرفون لسباياهم منازلهم بين قومهن فيخلطونهن بأنفسهم، إلا قليلا ممن أرّث الحقد صدورهم، وملكت الضغينة منازع الرحمة من قلوبهم. وفي أولى الحالتين يقول حاتم بن عبد الله الطائي: فما أنكحونا طائعين بناتِهِم ... ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا فما زادها فينا السباء مذلة ... ولا كُلَّفت خَبزا ولا طبخت قدرا ولكن خلطناها بخير نسائنا ... فجاءت بهم بيضاء وجوهُهمُ زُهْرا وكائن ترى فينا من ابن سَبِيَّةٍ ... إذا لقي الأبطال يطعنهم عذْرا

ويأخذ رايات الطعان بكفه ... فيوردها بيضاً ويُصدرُها حمرا كريم إذا اعتز اللئيم تخاله ... إذا ما سرى الدجى قمراً بدرا وهنالك الكثير من سادات العرب وذوي زعامتهم انكشفت عنهم السبايا فلم يضع ذلك من منازلهم أو يُهَجَّنْ من أحسابهم. ومن بين أولئك دُرَيدُ بن الصَمَةِ حكيم العرب وشاعر فرسانهم وفارس شعرائهم وأمُّهُ ريحانة بنت معد يكرب أسرها الصَمَّةُ بن عبد الله تزوجها فأنجبت دريداً واخوته. وهي التي يقول عمرو في حديث إسارِها: أمن ريحانة الداعي السَّميعُ ... يُؤرَّقُني وأصحابي هُجُوع سباها الصَمَّةُ آلْجشَمِيُّ غصبا ... كأن بياض غُرتها صديع وحالت دونها فرسان قيس ... تَكَشَّفتُ عن سواعدها الدروع إذا لم تستطيع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وبرغم كل ذلك كان النساء يبذلن ما ملكن من جهد وحيلة في الخلاص من الأسر ولو إلى الموت أنفة واستحياء وإبقاء على ذكر آلهن وذويهن. ومن أمثلتهن في ذلك: المنية ولا الدنية كما حدّثوا أن فاطمة بنت الْخرشُب لما أسرها حَمَل بن بدر رمت بنفسها من الهودج منكسة فماتت. ومن أمثال العرب: شرُّ يوميها وأغواه لها وأصل ذلك أن امرأة من طَسْم يقال لها عَنز أُخذت سَبية فحملوها في هودج وألطفوها بما ملكت ألسنتهم وأيديهم فقالت عند ذلك: شرُّ يوميها وأغواه لها

بل ربما تزوج الرجل بسبيته وأقام بها مقام العشير الكريم من عشيرته الوفية، حتى إذا أتاح لها القدر معاودة أهلها أقامت بينهم وأنفت أن تعود سيرتها الأولى من زوجها وبنيها. ومن ذلك ما حدث به أحمد بن معاوية الباهلي قال: إن رجلا من العرب أستى امرأة فولدت له سبعة بنين ثم قالت له: أزرْني أهلي ليذهب اسم السباء عنى، ففعل. فلما نزلت بقومها وتذاكروا ما في السباء من ذل وعار لزوجها: قد أبى القوم أن ينتزعوني منك. فقال: لا أُفارقك حتى تثنى علىّ بما تعلمين. فقالت: العشية إذا اجتمع القوم. فاجتمعوا وحضر الرجل وزوجه فقال: نشدتك هل خُبَرتِني أو علمتنِي ... كريماً إذا اسودّ الكراسيع أزهرا فقالت: نعم. فقال: نشدتك هل خبرتني أو علمتني ... شجاعاً إذا هاب الجبان وقصرا فقالت: نعم. فقال: نشدتك هل خبرتني أو علمتني ... صبوراً إذا ما الشيء ولّى وأدبرا قالت: نعم. فانصرفت نادماً حزيناً وهو يقول: تُبكَّي على ليلى بحق بلادها ... وأنت عليها بالملا كنت أقدرا ومثل ذلك ما فعلت سَلْمَى الكنانية زوج عروة بن الورد. وكان عروة شاعرا بطلا كريما، وله في صفاته تلك مواقف لا يستهان بها، وكان قد أصاب سلمى في غزاة غزاها لبني كنانة، فأعتقها وتزوجها وحلت من نفسه وعشيرته محلاًّ كريماً، فأقامت عنده بضع عشرة سنة. وولدت له أولادا.

وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه، وكانت تقول له: لو حججت بي فأمُرَّ على أهلي وأراهم؟ فحج بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة فنزل في بني النَّضير - وكانت له بهم صلة وصداقة - وكان قومها يخالطون بني النضِير فأتوهم وهو عندهم، فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فَتَعالوا إليه وأخبره أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحتُهُ سَبِيةً وافتدوني فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدا. فأتوه فسقوه الشراب. فلما ثمل قالوا له: فادِنَا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفته، وإن علينا سُبَّةً أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فعلنا. فقال لهم: ذلك لكم. ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها قالوا: ذلك لك. فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها. فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، وشهد عليك بذلك جماعة ممن حضر. فلم يجد إلى الامتناع سبيلا، وفاداها. فلما فادوه بها خيروها، فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك. وأغَضَّ طرفاً، وأَقل فُحشاً، وأجودَ يداً وأحمى لحقيقته. وما مَرَّ على يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أَحب إلى من الحياة بين قومك، لأني لم أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أَمةُ عروة كذا وكذا - إلا ما سمعته ووالله لا أنظر في وجه غَطْفَانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم. فانصرف عنها حزيناً حسيراً. وفيها يقول قصيدته التي مطلعها: أرقت وصُحبتي بمضيق عُمْقٍ ... لبرق من تهامة مُستطير سقى سلمى وأين ديار سلمى ... إذا كانت مجاورة السَدير

أقول: ولم يكن غريباً عند العرب أن تفعل المرأة ما فعلته سلمى إذا استطاعت إلى الخلاص سبيلا، ولكن الغريب ألاَّّ تفعله وهي قادرة عليه. كما حدثوا أن ربيعة أُغير عليهم، فسبيت ابنة لأمير لهم، فجهد الأمير في استردادها. حتى إذا خُيرت بين أبيها وسابيها، آثرت من هي عنده. فراع الأمير ذلك وغضب له قومه وسَن لهم وأْد البنات وسنوه هم لمن سواهم، ويروون شبيه ذلك عن قيس بن عاصم. أما الوأْد فأشتد وأشنع ما اقترفته يد ظالمة آثمة، في نفس بريئة طاهرة. وذلك يعمد الرجال إلى وليدته وقد بدأت تستقبل الوجود وتستنشي نسيم الحياة، فيقذفها في حفرة من الأرض، ويهيل على جسمها التراب. ثم يدعها في غمرة الموت بين طِبَاق الأرض!!. ولو أننا افترضنا تلك الجريمة الموبقة بين جمهور العرب لما آمنا بتلك الجيوش الخضارم التي وطئت نواصي الأرض، وطوَّقت أعناق الأمم، وهم أبناؤهم وحَفَدَتهم والحق أن الوأد لم يكن معروفاً إلا في فرائق من ربيعة وكندة وتميم، وأفذاذ مغمورين لا يعدون قلةً من مختلف القبائل وهم بين رجلين: رجل أملق من عقل ومال، فهو يخشى أن يسيء الفقر إلى أدب ابنته، ويهتك من سترها، ويبذل من عرضها. وذلك جبان لا عزم له ولا ثقة ولا إيمان. والعرب براء منه. وآخر من سَراة القوم ذهبت بعقله الغيرة، وهوى بنفسه الإشفاق من تبدل الحوادث، وتداول المَثُلات وما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء. وذلك وأمثاله شر مكانا وأقل عدداً.

ذلك وقد نهض من سادات العرب من حال دون الوأد بما بذل من مال جم، وسعي حميد. ومن بين هؤلاء صَعْصَعة بن ناجية التميمي. فقد كان يلتمس من مسها المخاض فيغدو إليها ويستوهب الرجل حياة مولوده إن كان بنتاً على أن له في سبيل ذلك بعيراً وناقتين عُشَرَاوين. فجاء الإسلام وقد افتدى أربعمائة وليدة. ومنهم زيد بن عمرو بن نُفيل القرشيّ. كان يضرب بين مضارب القوم فإذا بَصُر برجل يهم بوأد ابنته قال له: لا تقتلها. أنا أكفيك مؤونتها. فيأخذها ويلي أمرها حتى تشب عن الطوق فيقول لبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها. وللعرب غير السباء والوأد هَنوات ظلموا بها المرأة، وموعدنا بذكرها والوفاء بها عند الكلام عن المرأة العربية في عهد إسلامها إن شاء الله. ولعمري إذا نحن أرخينا على تلك المظالم وضربنا صفحاً من أولئك الوائدين من القوم، فإنا واجدو العرب من وراء ذلك يكادون يذوبون عطفاً وحناناً على بناتهم، فهم ينزلون عما ملكت أيمانهم إغلاء لهن وإيثاراً للعز والنعمة والدلال فيهن. وأذكر أن صعصعة بن معاوية خطب إلى عامر بن الظرب - حكم العرب - وابنته عمرة فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري مني كبدي، فارحم ولدي قبلتك أو رددتك، والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، أفر من السر إلى العلانية. يا معشر عَدْوان خرجت من بين أظهركم كريمتكم، من غير رهبة ولا رغبة؛ أقسم لولا قسم الحظوظ على الجدود، ما ترك الأول للآخر ما يعيش به.

سمو أدبها ونفاذ لبها

سمو أدبها ونفاذ لبها إن المرأة التي انحسرت عن أشد أمم الأرض بأساً، وأسماها نفساً، وأدقها حساًّ وأرسخها في المكْرمات أقداماً، وأرفعها في الحادثات أعلاماً، وأوفرها في المشكلات أحلاماً، وأمدها في الكرم باعاً، وأرحبها في المجد ذراعاً؛ تلك المرأة التي انحسرت عن هذه الأمة، وأحلها الرجل أسمى المواطن من نفسه ورأيه ومشورته، لحريٌّ بالقلم أن يقف دون وصفها خاشعاً متراجعاً. نشأت المرأة العربية ونشأ معها نصيب من عزة الجانب وحرمة الرأي. وقد علمت مما أسلفنا لك وستعلم مما يمر بك أنها بلغت منها غايتهما فأنالها ذلك فضل ما وصلت إليه من شرف النفس، ومضاء القلب، ونفاذ الرأي، وسموّ العاطفة. إن المرأة التي سُلِبتْ نفسها ورأيها، وحُرمت نصيبها من الوجود، ووسمت بوسام من الذل والهوان، لا تكون امرأة فاضلة، ولا تنكشف عن أُمة فاضل. ذلك لأن المرأة إذا استشعرت المهانة من ذويها هانت عليها نفسها، وأحر بمن هانت عليه نفسه ألا يمتنع عن دينه، ولا يعتصم من منقصة. كل ذلك أدركه العرب منذ التاريخ القديم. فقد ذكر كلاي - فيما وصل من مباحثه عن دولة بابل أو العمالقة الأقدمين 2460 - 2081 ق م - أن المرأة يومذاك كانت ممتعة بحريتها كاملة غير منقوصة وأنها كانت هي والرجل على سواء في تصريف الرأي، وتسُّنم المناصب.

حياتها الزوجية

كذلك كان نساء العرب منذ أربعة وأربعين قرناً لا فرق بينهن وبين أحدث نساء هذا العصر مدنية إلا أنهن فطرة الله وصبغته، ونثار الطبيعة وأنوارها، لم تثقلهن كلْفة، ولم تحجب صفاءَهن صناعة. قلب نقّي، ووجه غير مخضوب. إن الكذب والزور والخديعة والخيانة وأشباه تلك الدنايا لا تجد السبيل إلى قلب المرأة العربية لأنها جميعاً من فضول النفس الضعيفة، وهي بمنجاة عن ذلك الضعف. وأين للضعف من سبيل إلى المرأة التي تقول وقد استَحَرَّ القتل بقادتها والْحُماة المدافعين عنها: أبو أن يفروا والقنا في نحورهم ... ولم يبتغوا من رهبة الموت سُلما ولو انهم فروا لكانوا أعزة ... ولكن رأوا صبراً على الموت أكرما تلك هي المرأة العربية في قصِيّ عهدها، وبعيد أمدها. قوة في حياء، ورقة في مضاء، وذكاء في صفاء، ورعى ووفاء وصبر على الَّلأواء، وحدب على الأزواج والأبناء. ونحن أولاد موفون لك الكلام على المرأة العربية في حياتها الزوجية، ثم في عهد الأمومة، ثم في حياتها العامة. حياتها الزوجية ما أسبغ على امرئ أعظم أثراً، ولا أسنى خطرا، ولا أجمع لشتات النعم، ولا أجلَبَ لنعيم الحياة من المرأة الصالحة، هي عُدّة في الشدّة، وزينة في الرخاء. هي منار أمل الرجل، منها يستمده، وبها يستفيده، وإليها يعود به. تلك هي المرأة الصالحة. فأما أحفل مشاهدها، وأخصب منابتها، فبين تلك

اختيار الزوجة

المهامه القفرة والأطلال البالية من بلاد العرب. وإليك آية ما نقول: يقوم صلاح الزوجة على دعائم ثلاث إذا تكاملت لها وتوافرت فيها صُرفت عن كل شيءٍ إلا الوفاء بواجبها. أُولاها: حسن اختيارها. الثانية: رعايتها وبذل الود والوفاء لها. الثالثة: شرف الرجل وعفته وبعد همته. اختيار الزوجة كان مرجع العربي في اختيار عشيرته إلى شرف الحسب وسناء الذكر، وليس بضائره ما عسى أن ينال ذلك من فقر وإقتار. . بل قد يطلب السيد الكريم في زوجه أن يخالط شرفها فراغ يدها حتى يدرأَ بذلك ما عسى أن يحدثه الثراءُ من الصَّلَف والكبرياءِ، فقد نزع قيس بن زهير سيد بن عبس وبطلها إلى النَّمر بن قاسط بعد أن أسرف في الدماء يوم الهباءة فقال:

يا معشر النمر، نزعت إليكم غريباً حزيناً، فانظروا إلى امرأة أتزوجها، قد أَذَلَّها الفقر وأَدَّبها الغنى، لها حَسَب وجَمَال. فزوجوه على هيئة ما طلب فكانت آثر الناس عنده وأذهبهم لبلواه. ومنهم من كان يخطب في المرأة سعة الحيلة، ومضاءَ الذكاءَ. وما أراد بذلك إلا أن يكون ذكاؤها تراثاً لبنيها كما زعموا أن امرأَ القيس الكندي آلى بألية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين. فجعل يخطب النساءَ فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته، فقال: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان. فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها، فارتضى خِطبته، وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال فجعل لها ذلك، وعلى أن يسوق إليها مائة من الإبل. فلما بلغ الموعد استاق إليها الإبل ومولىً له معه، حتى إذا كانا ببعض الطريق وامرؤ القيس على شفير بئر يشرب رمى به مولاه، وذهب بالإبل حتى أتى الفتاة. فقالت: والله ما أدرى أزوجي هو أم لا؟ ولكن انحروا له جَزُوراً وأطعموه من كَرشها وذنبها. ففعلوا. فقالت: اسقوه لبنا حاذراً. فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له بين الفَرْث والدم ففرشوا له فنام. فلما أصبح قالت: عليم العبدَ فشدوا أيديكم به. ففعلوا وما عرفت ذلك منه إلا لرضاه بالدنية وقراره على الهوان.

قالوا: ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر فعاود حيّه واستاق مائة من الإبل وقصد إلى فتاته، فقالت: والله ما أدرى أزوجي هو أم لا، ولكن انحروا له جزوراً فأطعموه من كرشها وذنبها. فلما أتوه بهما قال: وأين الكَبد والسّنام وأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبناً حاذراً. فأباه وقال: أين الصريف والرثيئة؟ فقالت: افرشوا له بين الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التَّلْعَة الحمراء، واضربوا عليها خباء. ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي إليك في المسائل الثلاث. فأرسل إليها أن سلي عما شئت فقالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لشربي المُشعشعات. قالت: فمم يختلج كشحاك؟ قال: للبس الحَبِرات. قالت: فمم يختلج فخذاك؟ قال: لركض المطهمات. قالت: هذا زوجي لعمري فعليكم به، ودونكم العبد فاقتلوه. هل أتاك حديث شنٍّ - وكان رجلاً من دهاة العرب وعقلائهم - إذ قال: والله لأُطوَفَنّ حتى أجد امرأة مثلى أتزوجها. فبينما هو في بعض مسيره غذ وافقه رجل في الطريق. فسأله: أين تريد؟ فقال: موضع كذا - يريد القرية التي يقصدها شنّ - فوافقه، حتى إذا أخذا في مسيرهما قال له شنٌ: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل أنا راكب وأنت راكب، فكيف أحملك أو تحملني؟! فسكت عنه شَنٌّ. وسار حتى إذا قرُبا من القرية إذا بزرع قد استحصد. فقال شنٌّ. أترى هذا الزرع أُكل أم لا فقال له الرجل: يا جاهل ترى نبتاً مُستحصداً فتقول أُكل أم لا؟ فسكت عنه شنٌّ، حتى

إذا دخلا القرية لقَيتهما جنازة، فقال شنٌّ: أترى صاحب هذا النعش حيّاً أو ميتاً؟ فقال له الرجل: ما رأيت أجهل منك! ترى جنازة تسأل عنها أميت صاحبها أم حيٌّ؟! فسكت شنٌّ وأرد مفارقته، فأبى الرجل أن يتركه حتى يصير به إلى منزله. فمضى معه. وكان للرجل بنت يقال لها طَبَقَةَ، فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه. فأخبرها بمرافقته إياه وشكا غليها جهله، وحدثها بحديثه. فقالت: يا أبت ما هذا بجاهل! أما قوله: أتحملني أم أحملك؟ فأراد أتحدثني أم أحدثك، حتى نقطع طريقنا. وأما قوله: أترى هذا الزرع أُكل أم لا، فأراد هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا. وأما قوله في الجنازة، فأراد هل ترك عقباً يحيا بهم ذكْره أم لا. فخرج الرجل فجلس إلى شنّ، فحادثه ساعة ثم قال: أتحب أن أفسر لك ما سألتني عنه؟ قال: نعم. ففسره. فقال شن: ما هذا من كلامك، فأخبرني من صاحبه؟ قال: ابنة لي. فخطبها إليه، فزوّجه إياها وحملها إلى أهله. فلما رأوها قالوا: وافق شَنّق طَبَقَةَ. فذهبت مثلاً لكل اثنتين متوافقتين. وكان مرجع الرأي في الأمر كله إلى الفتاة. فقد كان لها - إذا ذكر عن خطيبها ما يُهجَنه، أو وصف منه ما ينبو الطبع عنه، أو نزلت من الأمر على ما يحول دون الزواج به - أن ترُدّ خطبته، وليس لأهلها أن يستاقوها قسراً إليه. بذلك تجمل لأشرافهم واستَنّ في أثرهم من دونهم. وفي سبيل ذلك أبت الخنساء بنت عمرو بن الشَّريد أن تساق إلى دريد بن الصمة - وكان سيد قومه وفارسهم وشاعرهم - لأن بينهما من تفاوت السن ما يرنق صفو العيش ويسئ طبع العشير. ولما أقبل سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب على عتبة بن ربيعة يخطبان إليه ابنته هندا عرض عليها أمر كل منهما وحسر لها عن بيَنة أمره في نفسه.

وأسرته، وعشيرته. فآثرت أبا سفيان فَزُجت منه. وقالوا: أن الحارث بن سليل الأسدي زار علْقَمة بن خَصفة الطائي - وكانا حليفين وكلاهما سيد قومه - فأبصر ابنته الزباء - وكانت كأجمل أهل دهرها - فخطبها إليه، فقال له علقمة: أنت كفء كريم يُقبل منك الصفو وُيؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك - وأنى أن يقْطع القول له - ثم انكفأ على أمها فقال لها: إن الحارث بن سليل سيد قومه حَسَباً ومَنْصِباً وبيتاً وقد خطب إلينا الزباء فلا ينصرفن إلا بحاجته. فنهضت المرأة إلى ابنتها، وأنشأت تؤامرها في أمر الحارث - وكان الحارث شيخاً لا شباب فيه - فكان أول ما بدأتها أن سألتها: أي الرجال أحب إليك الكهل الجحجاح، الواصِلُ المنّاح، أم الفتى الوضاح؟ وهنالك تجاذبا الحوار في أيهما أمثل بالفتاة وأولى لها. وكلٌّ يؤثر شكله، ويضرب الأمثال في نفاذ قوله. على أن الأمَّ كانت أدل بحجتها. فنزلت ابنتها دون رأيها. . . فهل رأيت مدى في الحرية أبعد من هذا؟ وشبيه ذلك ما حدثوا أن زيد الخيل، وأوس بن حارثة، وحاتم بن عبد الله الطائيين نزعوا إلى ماوية ابنة عفْزر إحدى ملكات الحيرة يخطبونها فقالت: ليصف كل إنسان منكم نفسه. فقال زيد: أنا زيد الخليل، تفخر بي طّي على العرب، ولي في كل مرْباع غنيمة، وغزوت ثلاثاً وسبعين غزاة، لم تثكل طائية

فيها ولداً، ولم تُفْجع فيها بحليل. ولم أخب في شيء منها. ثم إني لم أرُد سائلاً، ولم ألاَح جاهلاً، ولم أنطق باطلاً، ولم أبت على وغم. فقال أوس أوَّل ما أخذْت من لحيتي قامت سُعْدى فالتقطت كل شعرة سقطت منها فأعتقت بها نسمة من معد. فقال حاتم الطائي: أنهبت مالي ثلاث عشرة مرة، وأحلتْ لي طيء أموالها، آخذ وأدع ما شئت. قالت: هاتوا بذلك شعراً. فتنازعوا ذلك القول شعراً. فلما انتهوا قالت: أما أنت يا زيد فقد وترْت العرب. فمقام الحرة معك قليل. وأما أنت يا أوس فرجل ذو ضرائر، والدخول عليهن شديد. وأما أنت يا حاتم فرجل كريم المُنتسبِ، قريب المنصب، وقد تزوجتك، ورضيت بك. فتزوجها. وقد أسلفنا لك حديث أوس بن حارثة. ومؤامرَتَه بناته في زواجهن، وفيه بلاغ. وقل أن غُلبت امرأة من العرب في أمر زوجها على أمرها. ومن حديثهم أن ملكاً من ملوك غسان كان يَغْدر النساء، لا يبلغه عن امرأة جمال غلا أخذها، غير آبه برأيها ورضاها. فأخذ بنت يزيد بن الصَّعق الكلابي - وكان أبوها غائباً - فلما قَدم أخبر، فوفد إليه، فصادفه مُنْتَدياً - وكان الملك إذا انتدى لا يحجب عنه أحد - فوقف بين يديه فقال: يأيها الملك المُقيت أما ترى ... ليلا وصبحاً كيف يختلفان هل تستطيع الشمس أن تأتي بها ... ليلاً وهل لك بالمليك يدان فاعلمْ وأيقن أن ملكك زائل ... وأعلم بأن كما تدين تُدان

فأجابه الملك فقال: غن التي سَلَبت فؤادك ... مرفوضة مِلآنَ يا ابن كلاب فارجع بحياتك التي طالبتها ... والحق بقومك في هضاب إراب ثم نادى أن هذه السُّنة مرفوضة. وربما اختارت المرأة لنفسها وهي الشرف الصميم، والمجد القديم، من قومها، فلا لوم ولا نكير، وما كانت تخطب منه إلا صفو الخلق، وكرم الضريبة فقد وصف لخديجة بنت خويلد محمدُ بن عبد الله - صلوات الله عليه - وما كمله الله به، أثراً عنده، وأسناهن ذكراً في الحياة. وقد حدّثوا أن بنى كنانة توقعت غارة يفجؤها بها بعض الضاربين حولها القبائل فخرجت إحدى كرائم الحي، وجلست بين صواحب لها، ثم دعت وليدة من ولائدها وقالت: أدعى لي فلاناً، فدعت لها رجلاً من الحيّ، فقالت له: إن نفسي تحدثني أن خيلاً تُغير على الحي فكيف أنت إن زوجتك نفسي؟ قال: أفعل وأفعل - وجعل يطنب في وصفه نفسه ويفيض - فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي، وأقبلت على صواحبها فقالت: ليس عنده غَناءٌ. ادعى لي فلاناً. فدعت فخاطبته بمثل ما خاطبت صاحبه، وأجابها بمثل جوابه. فصرفته. ثم قالت للوليدة: ادعي لي ربيعة بن مُكدَّم. فقالت لم مثل قولها للرجلين قبله. فقال: إن أعجز العجز أن يصف الرجل نفسه، ولكني إن لقيت أعْذَرت، وحسب المرءِ غَناءً أن يُعذر. فقالت له: قد زوجتك نفسي، فاحضر غداً مجلس الحي ليعلموك ذلك. فلما كان الغد تزوجها وخرج من عندها، ودافع الخيل، وردَّ كيد المعتدين.

وكذلك كان حسن الاختيار مجاذبة بين المرء وزوجه، وهي تختار منه شرف الهمة، وسناء القدر، وهو يخطب فيها كرم المنبت، وجلال الخلال. لقد نشأت الفتاة بين أُم كريمة، وأب كريم، فليس عجيباً أن تبتغي العشير الكريم. لقد أحلَّها أبوها موطن الرعاية والإكرام، وزوّتها أُمها بزاد من الأدب والفضائل، وليس من الحق أن يضيع كل ذلك عند زوج مُضيع. كذلك كانت المرأة العربية زهرة طيبة الغرس، كريمة المجتنى، خرجت من دارة العز، إلى دارة الجدّ وصدق العمل. ذلك وكان من حق النساء أن يجلسن إلى خّطابهن من الرجال، ويجاذبنهم عقدة الأمر، وشجون الحديث. وأكثر ما كان يخطبُ إلى غير عشيرته. وحجتهم في ذلك أن الغرائب من النساء أولدُ للنجباء من الأبناء، فأما بنات العم فلا يلدن فيما زعموا إلا ضعاف الأجسام، والأحلام. قال قائلهم: أُنْذِر من كان بعيد الهمَّ ... تزويجَ أولاد بنات العمَّ فليس ناج من ضَوًى وسُقْم وقال آخر: أَلاَ فَتىً نال العلى بِهمَّه ... ليس أبوه بابن عم أُمته ترى الرجال تهتدي بأَمّه وعلى هذا النسق سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: اغْتَرِبوا لا تْضُووا أي تزوجوا الغرائب ولا تتزوجوا بنات العمومة - حتى لا ينكشفن عن الضعاف -

ومن حديثهم أن عمر بن الخطاب نظر إلى قوم من قريش صغار الأجسام فقال: مالكم صغرتم؟ قالوا قُرْبُ أُمهاتنا من آبائنا. قال: صدقتم. فتزوجوا في البعداءِ فأنجبوا. على أن من العرب من كان يُؤثر بنات العم لأنهن أصبر على نَبْوَة الخلق وريب الزمان. وكان بنو عبس يؤثرونهن، وقد سئلوا أيَّ النساءِ وجدتم أصبر؟ فقالوا بنات العم. ومن قول شقيق بن السُّلَيك، وقد خطب امرأة من قومه فردته: ونُبَّئْتها أَحرَمَتْ قومها ... لتنكح في مَعْشَرٍ آخرينا فإما نَكَحْتِ فلا بالرَّفاءِ ... إذا ما نَكَحْتِ ولا بالبنينا وزُوجت أَشْمطَ في غُربةٍ ... تَجن الْحِليلةُ منْهُ جُنُونا خَلِيلَ إماءٍ يُراوحْنَهُ ... وللْمُحْصَنَاتِ ضَرُوباً مُهنا إذا ما نُقلتِ إلى داره ... أَعد لظهرك سوطاً متينا وقَلَّت طرفك في ماردٍ ... تَظَل الْحَمَامُ عليه رُكُونا يُشِمُّك أَخْبَثَ أضراسِهِ ... إذا ما دنْوتِ لتَسْتَنْشِقِينا كأن المساويك في شدْقِهِ ... إذا هُنَّ أكرِهْنِ يَقْلَعْن طينا وبعد فكل ما أسلفنا من حق المرأة في الزواج لم يكن كل ما تملك المرأة منه، بل كان لها فوق ذلك فصل القول في فصمه. لقد كان من حق المرأة في حاشية الجزيرة العربية، وبين أعطاف الزمن السحيق العميق، أن تطلق الرجل، كما كان

لها الحق أن تختاره! قال أبو الفرج: وكان النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية. ولم يكن النساء يومذاك في حاجة إلى المصارحة بالطلاق، بل كان حسب البدويات منهن أن يحوّلن أبواب أخبيتهن إن كانت إلى الشرق فإلى الغرب. أو كانت إلى الجنوب فإلى الشمال. كذلك طلقت ماويّة بنت عَفْرَ زوجها حاتماً حين أمعن به جنون الكرم فلم يُبق لأبنائه ما يتبلغون به. وفي سبيل ذلك أرسل إليها قصيدته التي استهلَّها بقوله: هل الدهرُ إلا اليوم أو أمْس أو غدُ ... كذلك الزمان بيننا يتردد وفيها يقول: فأقسمت لا أمشي على سر جارتي ... مدى الدهر ما دام الحمام يُغَرّد ولا أشتري مالاً بغدر علمته ... ألا كلُّ مال خالط الغدر أنكَدُ إذا كان بعض المال ربّاً لأهله ... فإني بحمد الله مالي مَعْبَدُ يُفَكُّ به العاني ويؤكل طيباً ... ويعطي إذا منَّ البخيل المُطَرَّدُ إذا ما البخيل الْخب أخمد ناره ... أقول لمن يصلي بنارِيَ أوْقِدُوا ولهن - إذا لم يكنَّ ذوات أخيه - أساليب يدللن بها الرجال على الطلاق، فليس لهم عليهن من سبيل. قال أبو هلال: وكانت عَمْرَة بنت سعد، ومارية بنت الْجُعيد العبدية وعاتكة بنت مُرَّة السُّلَمِيَّة، وفاطمة بنت الخُرْشُب الأنمارية، والسَّوَّاءُ العنزية

كرامتها على زوجها

وسلمى بنت عمرو زيد النجارية وهي أم عبد المطلب بن هشام، إذا تزوجت الواحدة منهن رجلاً وأصبحت عنده كان أمرها إليها، وتكون علامة ارتضائها أن تعالج طعاماً إذا أصبح. على أن من النساء من تناسين هذا الحق فنزلن عنه حياء لأزواجهن. ولكن الرجال بغوا في ذلك وأسرفوا حتى أن الرجل ليموت فيقول وليّه - وربما كان أخاه أو ابن عمه: - أنا أحق بامرأته. فينقلها إلى داره، ثم إن شاء استبقاها لنفسه، وإن شاء زوجها وذهب بمهرها! ذلك ما نهى الإسلام عنه وقطع أسباب الأخذ به. كرامتها على زوجها هنالك فيما أوردنا من حديث القوم. وأسلفنا من مساق أشعارهم، وشتات آرائهم علمت مكان المرأة من زوجها، واستمكانها من نفسه، واحتكامها بذات يده واستئثارها بالصميم من قلبه. ورأيت كيف حرصه عليها. واحتفاظه بها، ووفاؤه لها، وتفديته إياها بالتالد والطريف من ماله والحر الشريف من دمه. لقد كان العربي يعتد زوجه العشير الأدنى، والمشير الأمين، وكان يُطرق لقولها، ويطمئن إلى رأيها، ويسكن دون الصفيّ العذب من لفظها، وكان عزيزاً عليه أن تطلب فلا تجاب، أو تشفع فلا تُشَفَّع. ولقد كان من أمر عمرو بن حُجر يوم خطب غلى عوف بن مُلحم ابنته أن أمهرها ضيعة له في كندة. وأضاف إلى ذلك أن يمنحها حاجات قومها فلا تُرَدُّ لأحد منهم حاجة، وكان ذلك شرطاً معقوداً.

أما لقد نشبت الحرب بين أعظم شعوب العرب - عدنان وقحطان - حتى انقلب بها ميزان القوة، واستحالت لها مقادة الملك للطمة أصابت امرأة من زوجها. ذلك أن ملوك اليمن لهم سيادة العرب جميعاً. وكانوا يرسلون ولاتهم وعمالهم يجمعون لهم الأتاوى، ويرهقون العرب في سبيلها إرهاقاً لا يطاق، وكانت ربيعة قد انتقضت على اليمن فرماها الملك بوالٍ عتيد شديد هو لَبيد بن عَنْبَسةَ الغَسّاني فأقام فيهم وتزوّج امرأة منهم يقال لها عَمْرة بنت الحَباب التَّغلبية فبينما هو يحدثها ذات يوم قال لها: ما بال كليب - عظيم ربيعة - ينصر مُضر ويتهدد الملوك؟ قالت: لا أعلم في ولد إسماعيل ذا لِبْدة هو أشد منه! فهاج ذلك القول لبيداً حتى عمد إليها فلطمها وقال لها: أترين أنك حرة؟ أنت أمَتي فاقبلي ما يأتيك منا معشر الملوك. قالت: أنا أكرم منك. ثم خرجت مُغْضَبَة حتى انتهت إلى كليب وهي تقول: ما كنت أحسب والحوادث جمة ... أنا عبيد الحي من غَسان حتى علتني من لبيد لطمة ... سُجرت لها من حَرها العينان إن ترض تغْلب وائل بفعالهم ... تكن الأذلة عند كل رهان لولا الوجيهة قطَّعتني بكرةٌ ... جرباء مُشْعَلة من القطران فلما سمعها كليب خرج حتى هتك على لبيد قُبّته، وصدع بالسيف هامته، وهنا لك ساقت اليمن جحافلها، وجمعت مضر وربيعة جموعها، وقاد الأولين عمر من بابل اللخْمي، ورَأَس الآخرين كليب بن ربيعة التغلبي، واقتتل الفريقان

من صبيحة اليوم إلى أصيله في موقعة بذلت فيها المهج، وبيعت الأرواح بيع السماح ثم حمل كليب على عمرو فحال أصحابه دونه بالرماح. ويقولون إن أربعة آلاف سيف عرضت دونه فشقها كليب جميعاً حتى انتهى إلى عمر فطعنه فقصم صلبه، وحملت ربيعة في أثره، ومضر من ورائها، حتى أوقعوا بجيوش اليمن، ومزقوها كل ممزق وحرروا العرب من وسم عارها، وذل أسارها. ولعمر أبيك ما كان مثل الزوجين في توادّهما وتآلفهما وتجاذب الودّ والولاء بينهما إلا كما قالت صفية الباهلية في رثاء زوجها: عشنا جميعاً كغصني بانة سمقا ... حينا على خير ما تنْمى له الشجر حتى إذا قيل قد طابت فروعهما ... وطال قنواهما واستنضر الثمر أخنى على وإحدى ريب الزمان ولا ... يبقى الزمان على شيء ولا يذر فاذهب وحيداً على ما كان من أثر ... فقد ذهبت فأنت السمع والبصر وما رأيتك في قوم أسر بهم ... إلا وأنت الذي في القوم تشتهر كنا كأنجم ليل بيننا قمر ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر وربما نادى الرجل امرأته فذكر اسمها مجرداً لأنه للود أوثق، وبالقلب ألصق، وقد يذكره مصغراً لأن ذلك أروح لنفسها وأبقى على الدلال فيها. وقد يكنى عنه بما هو من خاصة شأنها، ولِزام أمرها، فيقول: يا ربة البيت. كما يقول مُرة بن مَحْكان التميمي: يا ربة البيت قومي غيرَ صاغرة ... ضمي إليك رِحال القوم والقربا أو يا ربة الخدْر كما يقول: ألم تعلمي يا ربة الخدر إنني ... أبيّ إذا رام العدوّ تهضمي

شرف الرجل وعفته

وربما سمى بندائها فألطفه بأسى مفاخرها، كما يقول قيس بن عاصم المنْقَرِي يخاطب زوجه مَنْفُوسة بنت الخيل - وكانت قد أتت بطعامه في الليلة الثانية من بنائه بها فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تعلم ما يريد حتى قال: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس النَّهد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي قصياً كريماً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف ما دام نازلا ... وما في صفاتي غيْرها شِيم العبد شرف الرجل وعفته إذا رأيت الرجل يخشى مواطن السوء، ويغتمر مكامن الريب، ويعتم خفيات الدنايا، فأشفق على زوجه أن يصيبها ما أصابه. لأن القرين سنَّة القرين، والرجل مرآة أخيه. فكيف بزوجه وهي ألزم له، وأعلم بخبيئة أمره؟ إن سيرة الرجل في نفسه هي الجزء الأكبر من عرضه ومن فَرَّط في النصيب الأوفر أوشك أن يتبعه بالأقل. ومن لا أمانة له في نفسه، لا أمانة له فيمن سواه. وأن تعجب فعجب ما يقول الرجل، أن الله اصطفاه وفضله وآثره بوفر العقل، ورياضة النفس، وغلبة الهوى، وإلى المرأة إنما هي حِسٌّ ثائر، وعاطفة نَزَّاعة،

يتضاءل العقل بينهما، ويتَفيَّل الرأي دونهما، ثم هو يجري في اللهو مخلوع العذار لا عاصم له من عقل ودين، حتى إذا آنس منها ما يكره، وأنزل من أمرها على ما يريب، طاش لبه وانخلع قلبه، والْتَفَع بقناع العار وجهه، وحملها من التبعة ما لو حمل نفسه اليسير الدنيَّ منها لبلغ نظام الكون أقصى مداه من الكمال. ولكنه أساء إلى نفسه، فأساء إلى عشيرته، وتنكب الطريق السوي، فعمت النكبة، وتوالت المثُلات وما ظلمهُم الله وَلكن أنْفُسَهُم يظلمِون. ذلك مثل ما يختلج بنفوس القوم الذين وهنت إرادتهم دون نزعات أهوائهم وناءت نفوسهم بعقبى جرائرهم، والرجل العربي أبعد ما يكون عن هؤلاء. إن الذي يكْلمُ العربي في سيرته، ويرميه في عفته، إنما يطعنه في أمَسَّ صفاته به وأبقاها أثراً فيه؛ التي أُرهفت عليها، وشرفه الذي يموت وهمته التي تضطرم بين جنبيه. إن الرجل الذي يتأثر النساء في مسيرهن، ويجعل همه ابتغاءَ المهنيات منهنّ جبان، ساقط الهمة، مغمور العرض، وليس العربي في شيءٍ من ذلك. لقد كان الرجل من هؤلاء يزهيه ويهز عطفيه أن يمتدح بعفة المئزر أكثر مما يكون لو مدح بشجاعته واعتزامه. وكان إلى ذلك مرجع فخره بنفسه وتمدحه بشمائله لأن مغالبة النفس، وقمع الهوى أدل على الشجاع، وأمثل به من مغالبة الأسد في غبلها واقتياد العُصم من جوها. على أننا لا نكْذبُ التاريخ، ولا نَتَبغّى المحال، فنقول إن العرب سنَّيهم ودينهم، شريفهم ومشروفهم، كانوا على سواءٍ في اطراح المآثم واجتناب المحارم،

فذاك سبيل أهل الخيال، الذين يرون من كل شيءٍ غايته ويأخذون من كل أصفاه، فإن في تنزيه العرب أنفسهم عن الدنيا دليلا على وجودها. وكما افترضنا بين غمار العرب الجبان المستطار حق لنا أن نفترض الفاحش المريب. على أن هؤلاء أوزاع صعاليك العرب وشرادهم كان مغداهم إلى ماءٍ قَلَّ بينهن من تنتسب إلى العرب، وكان يتوارين عن العيون بمنجاة عن المدائن والقرى ومضارب خيام البادية. وكان الرجل إذا غدا إليهن اَّدرع الظلام وأرخى إزاره على أثر خطاه فوق الرمال حتى لا يتعرف الناس أثره. وكان العرب يدعون المرأة المهنية بالمظْلمة من أجل ذلك. ومن جوامع كلهم في المدح: فلانٌ لآيرخى لمظْلِمةٍ إزاره. قالت العوراء بنت سُبيع: أبكى لعبد الله إذ ... حُشَّت قُبيل الصبح نارُه طَيانَ طاوِي الكَشْح لا ... يُرْخَي لُمظْلِمةٍ إزارُه أما بغاة الشرف وأبناء سادات العرب فهم بنجوة عن كل ذلك. وقد أطرد امرأ القيس أبوه، ووكل به من يقتله، لأنه اْشتَم روح الفجور من شعره. وقالوا: ليس سيداً من غلبته شهوته. وكان من أكبر المآثم عند العرب أن يلتقي الرجل بالفتاة فيبدأها بالكلام أو يُلقي إليها السلام، وربما هاج ذلك شرّاً عقاماً. وقد يكون من ذوي قرباها والراغبين في خطبتها فتحول تحيته دون ما يبتغي. وفي ذلك يقول حُميد بن ثور: ومالي من ذنب إليهم علته ... سوى أنني قد قلت يا سْرحةُ اسلمي

نعم فاسلمي ثم اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تَكَلَّمي وقد كف عنترة عن طلب عبلة جارية أبيه وسام نفسه البعد عنها، والحرمان من زواجها، لأنه ذكرها في شعره، حتى لا يثلم سنة العرب، ولا يحل حرامهم. ومن أمثال العرب: كل شيءٍ مَهَةٌ ما خلا النساءَ وذكرهن أي كل شيء يسير يحتمله الحر إلا أن يذكر النساء وتذاع أخبارهن. لذلك كله ولفرط ما طبعت عليه منذ نشأتها الأولى من صفاء الفطرة وسماحة الخلق، وكرم التأديب، اشتملت الزوجة العربية على خير ما أشتمل عليه فضليات النساء من مواتاة الزواج، والبر به، والإخلاص له، والحدب عليه. ولئن ذكر عن الرجال أنهم يموتون ذوداً ن حريمهم. لقد أثر مثل ذلك عن النساء أنهن يمتن دون الدنية في أحرج المواقف وأضيقها، إيثاراً لشرف أزواجهن على غوالي حياتهن، وإن لك فيما أسلفنا من أمر فاطمة بنت الخرْشُب وقتلها نفسها دون أن تتخذ سبية أسيرة ودون أن يوصم اسم زوجها وبنيها ما فيه غناء. ومن أمثلتهن في ذلك: المنية ولا الدنية. لقد كانت الزوجة العربية من الزوج لا يملك أمر مادته ولا معناه إلا بها، فهي تعلم من أمر الحياة ما يعلم، وتحسن من رياضة الكلام ما يحسن، وتجيد من إجالة الرأي، وتصريف الأمر ما يجيد، فهي عديل نفسه، وملاك أمره، وقوام نظامه. إن أعوزه السمر أطربته، أو جدّ به الأمر آزرته، أو التبس عليه الرأي أوضحته، أو ضاق به الصدر فرجته. وحدثوا أن رجلاً من سراة قريش - جمع بين ضيق الخلق وسماح اليد -

خطب إحدى كرائم قومه وحسيباتهم، فلما وفق إلى قبولها ذهب إليها فقال لها: يا هذه إن في سوءِ خلق يعود إلى احتمال وتكرُّم، فإن كان بك على صبر وإلا فلست أغُرُّك مني. فقالت له: إن أسوأ خلقاً منك لمن يحوجك إلى سوء. . . فما جرت بينهما كلمة حتى فرق بينهما الموت. ليست تلك بالمتفردة في خلقها، فإن ما عرف عن نساء العرب جميعاً سعة الصدر وطول الإنارة وقد راضهن على ذلك كثرة ما رأينه من تبدل الحال بين عسر ويسار، وطوال ما أَلفْنهُ من نشوة الكرم، وجنون السخاء في أزواجهن، حتى لا يبقون على ما يتبلغ به أطفالهم. كل ذلك إلى ما عهدنه من تتابع الخطوب، وموالاة الحروب، وما إليها من ثُكل وفجائع؛ مما وطنهن على احتمال الأذى، وجعل مدى الصبر في صدورهن بعيداً مديداً. والصبر والوفاء توأمان متشابهان، ورفيقان متلاحقان، إذا اكتمل أحدهما استتم الآخر ولئن كان حميداً من المرأة أن تعاشر زوجها على الوفاء له، فإن أحمد من ذلك أن تفي له بعد طلاقها منه، فتذكر له ولآله خير ما عرفت عنهم. وليس ذلك بعزيز على امرأة أقامت كريمة وفارقت كريمة إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان وسأورد لك من أمرها في ذلك ما يطمئن به قلبك. ويسكن له ثائر نفسك. حدث محمد بن زياد الأعرابي، قال: قامت امرأة عروة بنت الورد العبسي في نادي قومه بعد أن طلقها، فقالت: أما والله إنك للضَّحوك مقبلا، السكوت مدبراً. خفيف على ظهر الفرس ثقيل على مَتْنِ العدو، رفيع العماد، كثير الرَّماد، ترضى الأهل والأجانب. فقال: فتزوجها رجل بعده فقال: أثنى علَّي كما أثنيت عليه. قالت: لا تحوجني إلى ذلك فإني

إن قلت قلت حقا. فأبى. فقالت: إن شملتك الالتفاف. وإن شربتك الاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف. وحدث أبو عمر بن العلا قال: تزوج رجل من بني غدانة بامرأة من جعدة ثم وقع بين الحيين ما حمله على فراقها، فمسه من ذلك غمٌّ وأحزان، فلما اعتزمت الرحيل قال: استمعي ويستمع من حضر: أما لقد اعتمدتك برغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم أجد عليك زلة، ولم تدخلني لك ملة، وإن كان ظاهرك لسروراً، وباطنك للهوى، ولكن القدر غالب، وليس له صارف. فقالت له المرأة مجيبة: أثنيت وأنا مثنية، فجزيت من صاحب ومصحوب خيراً، فما استربت خيرك، ولا شكوت ضيرك، ولا تمنت نفسي غيرك، وما ازددت إليك إلا شرهاً، ولا أحسست في الرجال لك شبهاً. ثم افترقا. وحدث المدائني قال: تزوج حصْن بن خليد ببنت الورد بن الحارثثم طلقها فجاء اخوتها ليحملوها فقالت: مُروا بي على المجلس بالحي أسلم عليهم فنعم الأحماءُ كانوا. فأقبل هو وهي في قبتها فقالت: جزاكم الله خيراً، فما أكرم الجوار، وأكف الأذى! قالوا: ما الذي كان عن ملإمنا ولا هوى. فقالت اللهم إني لم أُطلق من بغض ولا قلًى فعليكم السلام.

الأم العربية

الأم العربية هي منبت فتيان العرب ومعْقدُ فخرهم، ومَثَارُ حميتهم، ومُستَقَ أدبهم، وملاذهم إن جدَّ بهم الدهر، ومفزعهم إن أشكل عليهم الأمر، ومُعولهم غن فدح الخطب، وعز المعين. تلك هي الأم العربية موطن ثقة الأب وفخر الابن، وعز العشيرة. لقد نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفخره - وهو أكرم العالمين خليفة وأكملهم كمالاً - إلى أمهاته في الجاهلية فقال: أنا ابن العواتك من سليم وما كان ذلك إلا لأن الله قرن منزلته الملكية العلية بأسمى مراتب البشر، وتلك التي هيأته لها منذ القدم أرحام أمهاته الطاهرة وأرواحهن الزكية. وشبيه بذلك قول على عليه السلام للأشعث بن قيس وقد خطب إليه ابنته: غَرَّك ابن أبي قحافة إذ أعطاك ابنته وليست من الفواطم من قريش ولا العواتك من سليم.

وإذا كان من القبائل من اتخذت آباءها منتهى أنسابها كمضَر وربيعة فإن منها من آثرت الانتساب إلى أمهاتها كخِنْدف وجديلة. وإذا كان من الملوك من نسب إلى أبيه كالنعمان بن المنذر، فمنهم من نسب إلى أمه كعمرو بن هند. على أن المناذرة جميعاً نسبوا إلى أمهم ماء السماء وهي ماوية بنت عوف بن جشم ملكة وأم العراق وأم ملوكها. وإليها ينتهي جلال الجمال الخلال؛ وعنها ورث ملوك العراق سناء الشرف ومضاء الذكاء وبها العرب يعْتَزُّن؛ وباسمها يقسمون ويعتزمون. وإذا كان شديداً على الرجل أن يقال له: لا أدب لك؛ فأن أوجع من ذلك وأشد أن يقال له: لا أمّ لك. وليس عجيباً بعد ذلك أن يقوم بن ربيعة بني عامر بين يدي النعمان ابن المنذر فييقولنحن بنو ربيعة أم البنين الأربعة وكذلك يجعل المرأة منزع القوم بأسرهم في فخرهم. وما كان لأحد من العرب ان يجذب امرأته فخر تربية أبنائها: وفضل تأديبهم فكل ذلك منها مفيضة؛ وإليها مرجعه. حتى لو كانوا يلقبون المرأة إذا انحسرت عن ثلاثة بنين فَنُبه ذكرهم وذاعت بين الخافقين مآثرهم بالمُنْجبة ويتخذونها لذلك مضرب أمثالهم ومسار أشعارهم، ومساق مفاخرهم؛ وما كان الرجل في شيء من ذلك اللقب الكريم المجيد.

وقد حلىِ بذلك اللقب الكثير من عقائل العرب نذكر منهن. - فاطمة بنت الْخُرْشُب وهي التي أنجبت الكلمة لزياد العبسي وهم: ربيعُ الكامل، وقيسُ الْحافظ، وعِمارَة الوهّاب، وأنس الفوارس. وقيل لها: أي بنيك أفضل؟ فقالت الربيع، لا بل قيس، لا بل عمارة، لا أنس، ثكلْتهم إن كنت أدرى أيهم أفضل، هم كالْحَلقة المُفْرغة لا يُدْرَى أين طَرَفاها. - أم البنين ابنة عامر بن عمرو زوج مالك بن جعفر، وأبناؤها: مُلاعب الأسنة، وطُفيل الخيل، وربيع المُقترين، ونَزل المضيف، ومُعَوّذ الحكماء، وهي التي أسلفنا فيها قول لبيد: نحن أم البنين الأربعة وقد أثكلتها القافية ولدا وإلا فهم خمسة كما بينا. - خَبِيثة بنت رياح الغَنَوية هتف بها هاتف في منامها فقال: أعشرة هدَرَةٌ أحب إليك أم ثلاثة كالعشرة؟ ثم هتف بمثل ذلك في الليلة الثانية فقصت رؤياها على زوجها فقال: إن عاد ثالثة فقولى: ثلاثة كعشرة. فولدت خالداً الأصبع ومالكا الطيان، وربيعة الأحْوَص. - عاتكة بنت هلال السُّلمية. أنجبت لعبد مناف بن قُصَيّ هاشما وعبد شمس، والمُطَّلب. - ريحانة بنت معد يكرب. ولدت للصِّمة بن عبد الله دريداً، وعبد الله وعبد يغوث وقيساً وخالدا. ولولا خشية الإطالة، وأن نخرج من حديث النساء إلى حديث الرجال لعقدنا الفصول الطوال في مآثر أولئك الرجال وآثارهم وما منهم إلا السيد الكريم والبطل العظيم.

كل ذلك وأمثاله مما جعل نساء العرب يَشْخَصْن بأبصارهن، ويرمين بأمانيهن، إلى أبنائهن. إن حَسْب الطفل أن يضطرب في أحشاء أُمه حتى يدعوها إلى الإطراق الطويل، والتفكير الكثير، وربما هاج ذلك ضرباً من الخيال ينبعث من أعماق صدرها فيثير دمها، ويرهف حسَّها، ويتمثل بين مسارب سمعها صوتاً واضح المنطق، فياض المعاني: يسوق لها البشرى، ويضيء بين يديها مناهج الأمل، ويهديها إلى خير العمل، فتحسب ذلك هاتفاً يهتف بها. وما هو إلا صوت القلب يشدو بإيقاع الأماني. وأكثر ما يستمع النساء الهواتف إذا هدأت عيونهن، فيستيقظن على صوته. وقد يستمعنه وهن يقظات. وممن سمعن الهاتف ووعينه ليلى بنت مُهلهل أم عمرو بن كلثوم. هتف بها الهاتف حين حملت بابنها فقال لها: ياَ لك لَيلى من ولد ... يُقدِم إقدام الأسد من جُشَم فيه العدد ... أقول قولاً لا فَنَد فلما استكمل وليدها سنة أتاها ذلك الآتي حين اشتمل عليها الليل فأشار إلى الطفل وقال: إني زعيم لك أمَّ عمرو ... بماجِدِ الجَدَّ كريم النَّجْرِ أشجع من ذَي لَبِدٍ هزَبْر ... وَقَّاص آدابٍ شديد الأسر يسودهم في خمسة وعشر

قبل فساد قومه، ولم يجاوز الخامسة عشرة من سنيه. ومنهن عُتبة بنت عفيف أم حاتم الطائي سيد سُمحاء العرب وإمام أجوادهم هتف بها الهاتف فقال لها: أغلامٌ سمح يقال له حاتم أحب غليك أم عشرة غلمة كالناس. ليوث ساعة الباس، وليس بأوغاد ولا أنكاس، فقالت: حاتم. وأمثال هاتين كثيرات لا يحُصين عدداً. على أثر ذلك يولد الطفل فتبدأ بتسميته - وكانت تَشرك زوجها تسمية بنيها - فإن كان وليداً تخيرت له كل صُلبٍ شديد من الأسماء يَنمي به حسُّه، وتُنبت عليه شجاعته. فمن أسمائهم: صَخر، وحَرب؛ وحَنْظلة؛ وعَلْقَمة؛ وأَسد وذئب؛ وأشباهها مما لا يشعر بوهى عند النداء؛ ولا انثناء عن الأعداء. ومن طريف أمر التسمية وغريب أثرها ما حدَّث ابن حبيب أن أسماء بنت دُرَيْم كانت في خباءٍ لها؛ وكان بنوها يرعون بمنجاة عنها؛ فمر بها وائل بن قاسط فنظر إليها نظرة مريبة. فقالت: لعلك أسررت في نفسك مني شيئاً؟ فقال: أجل. قالت: لو دعوت سباعة لمنعتني منك وأعانتني عليك. فقال: أو تَفْهَم السباع عنك؟! قالت: نعم. ثم رفعت صوتها: يا كلب؛ يا ذئب، يا فهد؛ يا دب؛ يا سرْحان؛ يا أسد. فجاءَ بنوها يتعاوَوْن ويقولون. ما خبرك يا أماه؟ قالت: ضيفكم هذا أحسنوا قرِاه. ولم تَرَ أن تفضح نفسها عند بنيها. فذبحوا له وأطعموه. فذهب وهو كالمأخوذ عجباً مما رأى. وسمى ذلك بوادي السباع فهو اسمه منذ ذلك اليوم.

أما البنات فيختار لهن خفيف المسمع؛ بديع الموقع من الأسماء. فمن أسمائهن حُبَّى وبَيِبة والنَّضيرة؛ وسُعدى؛ ومَيَّة؛ وأُميمة؛ ونظائرها. إلى ذلك يأتي دور الرضاع. وهنالك تمهد طفلها لما هو أهل له من عظمة الحياة؛ فتجهد ألا يصدع سمعه شيءٌ من دنيّ الألفاظ ورَذْلها. بل تردّد له في إرضاعه ومداعبته ألفاظ الشرف والسؤدد؛ وتلقنه آيات المجد والكرم. وللنساء في سبيل ذلك ما لا يناله العد من الأناشيد القصار؛ يُغَنَّين بها أولادهن ويرقصنهم بها؛ وفيها من غُر المكارم؛ وحُر العظائم؛ ما هو خليق بأشبال أولئك الأبطال. ومن يقول بنت زيد الخيل وهي ترقص ولدها: أشبه أخي أو أشْبِهنْ أباكا ... أما أبي فلن تنال ذاكا تَقْصُرُ عن مَنَاله يداكا ولقد يظن قصار النظر في قولها شيئاً من تعجيز الطفل وتقصير همته. على أنه من ذلك بعيد. فهو مبالغة في الإغراءِ؛ وافتنان في التشويق؛ وخليق بالغلام أن يفكر حين يستمع ذلك الكلام في منزلة جده قبل منزلة أبيه. ومن قول فاطمة بنت أسد وهي ترقص ولدها عقيل بن أبي طالب. أنت تكون ماجدٌ نبيل ... إذا تهب شمأل بَلِيل ومن قول أم الفضل بنت الحارث وهي ترقص ابنها عبد الله بن عباس: ثَكِلتُ وثكلت كبرى ... إن لم يسد فِهْراً وغيرَ فِهْر بالحسب الوافي وبذل الوفر وليس بفائتنا ونحن في أول عهد الأم بابنها أن نسوق إليك حديثين لاثنتين من نساءِ العرب. وستعلم من تناسق رأيهما ووثوق الصلة بينهما إلى أي

حد وصلت المرأة العربية من تربية طفلها وإعداد نفسها له منذ الاشتمال عليه. قالت أُمَيمة أم تأبط شرا - وقد سئلت عن أمر تربيتها لولدها -: والله ما حملته تُضَعاً ولا وُضَعاً ولا ولدته يَتْناً ولا أرضعته غَيْلا ولا أَبته مَئِقاً ولا آنَمْتُه تَئِداً ولا سَقَيْتُه هُدَبِداً ولا أطعمه قبل رِئةٍ كبداً. وقالت فاطمة بنت الخرشب - وقد سئلت أي بنيك أفضل -: والله ما أدرى، ما حملت واحداً منهم تُضَعاً ولا ولدته يتْناً ولا أرضعته غَيلا ولا منعته قَيلا ولا أنمته تئداً ولا سقيته هُدبداً ولا أطعمته قبل رئة كبداً ولا أبتّه على مأقة. ونحن أولا موفون لك القول في شرح هذه الألفاظ ورأى الطب الحديث في حالاتها. فالحمل التُّضع أن تحمل المرأة قبيل الحيض. والوُضع أن تحمل في أعقابه. وفي كلتا الحالتين ينضحُ الرحم سائلاً يؤذى النطفة ويضعها وهي قفي أول منابتها ومقْتَبَل عهدها بالحياة ولها ما لها من سوء نشأة الطفل وضعف تركيبه. أما ولادة الطفل يَتنا فَأن يولد منكساً، رجلاه قبل رأسه؛ وهنالك تصاب عظام الطفل اللدنة الناعمة بتأثير من الضغط الذي ينالها وقَلَّ أن يتلافاه مهما تطاول به العمر وامتدت بأيامه الحياة. وأما الإرضاع غَيْلا فأن تُرضع وليدها وهي حامل واللبن حينذاك فاسد موبق يكاد يكون مسموماً وقد يكون قاتلاً. وأما القَيل الذي لا تمنعه طفلها فتناول اللبن وقت اشتداد الهاجرة واتّقاد

الرمضاء وهو يطفئ الحر وينقع غُلة الجسم. فأما بلوغ ذلك فقد يعقبه كثير من الأذى. وأما المبيت مئقاً فأن يقضي الطفل ليلة مُغْضَباً أو حزيناً. وفي ذلك أمن التأثير على نوم الطفل وذات نفسه ما فيه وليس هنالك أزكى لنفس الطفل وأنهض بعقله وأصفى لدمه وجسمه من أن يكون مبتهجاً في نومه ويقظته. وأما النوم تئداً فأن ينام على موضع نكد لصلابته أو استقذاره ولكليهما تأثير قوىٌّ شديد في عظام ونمائه واتجاه صحته. وأما الهُدبِد فالَّلبن المتكَبد الذي لان بعضه وجف بعضه وذلك إما لقرب انقطاعه وإما لحالة نفسية أو جثمانية أصابت الأم. وذلك لعمرك السم النقيع يتناوله الطفل فَيذْوِي وينحل جسمه وليس وراء ذلك ألاّ الموت أو الحياة على شر من الموت. وأما الرئة والكبد فكل منهما يحتاج في هضمه إلى لُعاب الأسنان فإذا لم يستوف طعامها ذلك اللعاب وَخِماً ثقيلاً لا تملك المعدة أن تتخذ منه نصيبها من الفائدة فيستحيل إلى إسهال شديد يعقبه ضعف شديد. لذلك كله لم يكن بدعاً أن يمتدح أبو كبير الهذلي بعض رفاقه ببعض تلك الحالات ثم ينسب إليها قوته وصلابة عوده وبعد همته. فذلك حيث يقول: ومُبرإ من كل غُبَّر حَيْضةٍ ... إفساد مرضعة وداءِ مُغيلِ

ثم يقول في وصفه: وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى مَخارمَها هُوِىَّ وإذا نظرت إلى أَسِرَّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلَّل صعب الكريهة لا يرام جَنَابة ... ماضي العزيمة كالحسام المِقْصَلِ يحمي الصحابَ إذا تكون عظيمة ... وإذا هُمُ نزلوا فمأوى العُيّل ولم يكن ذلك شأن من ذكرنا من النساء فحسب؛ بل لقد كانت العرب تعيّر من قصّرت به أمه في بعض ذلك وتسبه به. وبعد فذلك ما تواصى به نساء العرب في تربية أطفالهن وهن في جاهليتهن الأولى وما يبتغي الأطباء بعد بضعة عشر قرناً من عهدهن أن يكون النساء أتم عناية بأبنائهن وأشد حرصاً عليهم من كل ذلك. ويدرج الطفل بعد ذلك فتجعل الأم مسلاته حديث الأبطال؛ وآيات النزال وبذل النوال؛ واصطناع الرجال. ثم يشب فتنشر بين يديه من جليل العظائم كتاباً؛ وتقيم بين عينيه من جميل المكارم محراباً؛ وتتعاهده كما يتعاهد الزارع الضَّنين منابت الغَرْس؛ ومساقط الغَيْث. إن احتكمت به نزوة الشر؛ وطاشت بلبه سورة الحقد؛ بغير حق وفي غير حزم؛ عَّطفت صدره؛ وألانت جانبه؛ وأوضحت نهج الخير له. وإن سكنت همته؛ وفترت عزمته؛ أذكت حميته؛

وأثارت حفيظته؛ وهاجت غضبته. ونحن أولا نضرب لك الأمثال ومنها تعلم إلى أي منزلة من نفاذ الرأي؛ وقوة التأثير؛ وحسن الهدايا؛ وصلَت الأم العربية في ذلك العهد السحيق. جعل قوم لبشر بن أبي حازم الأسدي - وكان عبداً - جُعلاً على أن يهجوا أوس بن حارثة بن لأم. فأخذ يتلفقه بلسانه في كل مجتمع وناد حتى إذا ضاق بأوس أمره أرسل رسولا من لدنه ليشتري العبد من مولاه بالغاً ما بلغ. فلما اشتُري له وجيء به إليه قال له: هجوتني ظالماً لي؛ أنت بين قطع لسانك؛ وحبسك في سرب حتى تموت؛ أو قطع يديك ورجليك وتخلية سبيلك؛ ثم دخل على أمه سُعدى - وكانت قد سمعت كلامه - فقالت له: يا بنّي: مات أبوك فرجوتك لقومك عامة فأصبحت أرجوك لنفسك خاصة؛ وزعمت أنك قاطع رَجُلاً هجاك فمن ما قاله غيره؟ قال: فما أصنع؟ قالت: تكسوه حلتك وتحمله على راحلتك وتأمر له بمائة ناقة. ففعل ما قالت. فملأ بشٌر عراض الآفاق بمدائح أوس. وكان مما مدحه به قوله: إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي ولقد قضاها فما وطىء الحصى مثل ابن سعدي ... ولا لبس النعال ولا احتذاها وشبيه بهذا ما حدّث أبان بن تغلب قال: خرجت في طلب الكلأ فانتهيت إلى ماء من مياه كلب؛ وإذا أعرابي على ذلك الماء ومعه كتاب منشور يضطرم وعيداً وتهديداً؛ وجعل يقرأه على من بين يديه من القوم. فقالت له أمه وهي في خبائها - وكانت مُقْعَدَة كَبرا - ويلك! دعني من أساطيرك! لا تَحْمل عقوبتك على من لم يحمل عليك؛ ولا تتطاول على من لم يتطاول عليك؛ فإنك

لا تدري ما تُقرَّبُك إليه حوادث الدهر. ولعل من صيرك لهذا اليوم أن يصير غيرك إلى مثله غداً؛ فينتقم منك أكثر مما انتقمت منه؛ فاكفف عما أسمع منك: ألم تسمع إلى قول الأول: لا تعاد الفقير عللّك أن تر ... كع يوماً والدهر قد رفعه وأما ابتعاثها الهمم من مكانها؛ وانتضاؤها العزائم من أغمادها؛ فذلك ما لا يكلفها جهد القول؛ فحسب الكلمة أن تخرج من فيها هادئة وادعة؛ فيكون لها ما بعدها. ومَثَل ذلك ما روى الراوون أن ذؤاب بن أسماء العبسي قتل عبد الله بن الصمة - وكان ذؤاب بطلاً أَيِّداً عتيداً - فلبث دريد يترقبه حتى أعياه. فلما انقضى الحول ولم يأخذ بثار أخيه قالت له أمه ريحانة بنت معد يكرب: يا بني عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته من زَبيد. فأنف لذلك. وحلف أن لا يَّدهن ولا يكتحل؛ ولا يمس طيباً؛ ولا يأكل لحماً؛ ولا يشرب خمراً؛ حتى يدرك ثأره. ثم استجمع لعبس وفاجأهم وأوقع بهم واقتاد ذؤاباً أسيراً وذهب به إلى فناء أمه فقتله بمرقب منها قال لها: هل بلغت ما في نفسك؟ قالت نعم مُتعت بك. ألا إن أشد ما يملك النفس من أمر أولئك النساء أن يدفعن بأبنائهن في غمرة الواجب؛ ومن دونها رَصَدَ الموت؛ وبذل المهجات؛ لأن مية العز أروح في نفوسهن وأمثل بأبنائهن؛ من حياة العجز. ودونك حديثاً؛ لولا أن التاريخ العرب حافل بالكثير من مثله؛ لكان أنشودة العظمة والفخار لتلك الأمة المجيدة الكريمة. ذلك أن ظعائن بني كنانة خرجن في ركبهم؛ وكان على خفارتهن ثلاثة

من رجال القوم أحدهم ربيعة بن مكدَّم - وكان غلاماً فتياً له ذؤابتان - فبينما هم في طريقهم أبصروا بجمع من بني سُليم يملك عليهم عُرض الطريق؛ وبين الحيين ثارات وأحقاد لا تلتئم جراحها؛ ولا تخمد جذوتها. فقال ربيعة لمن معه: أنا آتيكم بخبر القوم. فلما هّم بالسير قالت امرأة: هرب مني ربيعة! فقالت أخته: أين تنتهي نفرة الفتى؟! فعطف عليهن وقد رجف بما سمع منهن وقال: لقد علمت أنني غير فَرق ... لأطعنن طعنةً وأعتنق أصبحهم صاحي بمحمرّ الحدق ... عَضْباً حساماً وسناناً يأتلق ثم انطلق يعدو به فرسه؛ فأصاب رجلاً من بني سليم فقتله، ورماه رجل منهم بسهمه فأصاب يده فنزف دمه؛ فلحق بالظعائن يستدمي حتى انتهى إلى أمه؛ فقال: اجعلي على يدي عصابة. ثم أخذ يقول: شُدي علَىّ العصب أمَّ سَيّار ... فقد رُزيت فارساً كالدينار يَطَعنُ بالرُّمح أمام الأدبار أما أمه فلم يذهب بلبها ما رأت؛ ولم يفلتها ما سمعت من شطر قلبها عن السير به في سبيل الواجب. فما كان جوابها إلا قولها: إنا بنو ثعلبة بن مالكْ ... مُرَزّأ أخيارُنا كذلكْ من بين مقتول وبين هالكْ ... ولا يكون الرزء إلا ذلكْ قالت ذلك بينما هي تشد العصابة، فاستسقاها ماء فقالت إن شربت الماء مت؛ ولكن كُر على القوم فكر راجعاً يشتد على القوم وينزفه الدم؛ وقال للظعائن أوضعنْ ركابكن حتى تنتهين إلى أدنى البيوت من الحي فإني لمائت

وسوف أقف دونكهن فأعتمد على رمحي فلا يقدمون عليكن لمكاني؛ ثم وقف على فرسه يعترض طريق القوم وركز رمحه في الأرض واعتمد عليه؛ وهنالك فاضت روُحه والقوم عنه؛ لا يقدّمون هيبة له؛ ورعباً من بلائه واعتقاداً منهم بأنه رابض في موقفه ربضة الأسد المستجمع المتحفز. فلما طال بهم موقفهم ورابهم مكان صاحبهم؛ رماه أحدهم بسهم فأصاب فرسه فوقع جثة هامدة؛ على حين اعتصم النساء بالحي لم يكن إليهن من سبيل. فلُقب ربيعة منذ يومئذ بحامي الظُّعُن؛ وهو الذي حماهن حيّاً وميتاً. كذلك تقذف الأم بولدها في لهوة الموت وما به من هوان عليها؛ ولا بها من غَناء عنه. فهو عَرف الحياة تتنسمه؛ ونور الوجود تتلمسه. ومن أجل ذلك آثرته بحياة الخلود؛ حياة المجد والحمد والذكر الكريم. ألا إن الناس ليظلمون تاريخ العرب أن زعموا أن حانماً مُسْتنُّ الجود بين العرب فذلك ميراُ أمته ائتمنه عليه؛ وسجيتها طبعته عليها؛ فما كان له إلا أن يكون جواداً كريماً. لقد كانت عُتبة بنت عفيف أم حاتم الطائي موفورة الثروة؛ فياضة اليد؛ فكانت لا تبقى على شيء إذا قصدها سائل؛ أو هبط بفنائها نزيل. فلما رأى أخوتها إتلافها حجروا عليها مالها؛ حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها طائفة من إبلها؛ فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيها كل سنة تسألها فقالت لها: دونك هذه الإبل فخذيها؛ فواله لقد عضني الجوع ما لا أضيّع معه سائلاً. وأنشأت تقول: لعمرك قِدماً عضى الجوع عضة ... فآليت ألاّ أمنع الدهرَ جائعا

فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... وإن أنت لم تفعل فَعضَّ فماذا عساكم أ، تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعاً وماذا ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا تلك أثارة نفاذ المرأة العربية في بنيها واحتكامها بنفوسهم؛ واستثارتها روح الفضائل والمكارم فيهم؛ وما بلغت ذلك إلا بفرط حبهم لها؛ ولياذهم بها؛ وعكوفهم عليها. ومن أمثالهم: إلى أمة يَلهَفُ الَّلهْفان ولقد بلغ من كرامتها عليهم؛ ووفور منزلتها بينهم؛ أن السُّليك بن السُّلكة السَّعدي وأمه جارية حبشية - أطار نومه، وأثار همه، أن تشتل بلاد العرب على خالاته، ونظائر أمه، جواري قد ملكهن الرق، وأزرى بهن التبذل، وودَّ لو وجد من ذات يده ما يمكنه من افتدائهن. فذلك حيث يقول أشابَ الرأس أني كل يوم ... أرى لي خالة بين الرحال يَشُقُّ عَلَى أ، يَلقين ضيما ... ويَعْجِزُ عن تخلصِهِنّ مالي ذلك أمر المرأة في بنيها. فأما بناتها فهن أتم بها ائتماماً؛ وأطول معها مقاماً؛ وأكثر لها لزاما. ومن أجل ذلك كن بها أشبه؛ وكان أدبها بهن أمثل؛ لعمر أبيك إنهن لزهر الروض شبيه بعضه ببعض؛ وهن لأمهاتهن أولى بقول من يقول: فإن يك سيار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن فقد الورد ولا تزال الفتاة عاكفة على أدب أمها حتى تحمل إلى زوجها فإذا احتملت طوقتها بوصية تجمع بين شتاتها أشد ما يحوجها في دار زوجها.

وإن لك فيما أنه سائقه إليك من الحديث لآية بالغة بما كان للمرأة يومذاك تكرمة وتأديب: ذلك أن الحارث بن عمرو ملك كندة خطب إلى عوف بن مُحَلِّم الشيباني ابنته؛ فلما كان يوم بنائه بها وأرادوا أن يحملوها إليه قالت لها أمها: أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب؛ تركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل؛ ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها؛ كنت أغنى الناس عنه؛ ولكن النساء للرجال خلقن، ولهنّ خلق الرجال. . . أي بنية: إنك فارقت بيتك الذي منحه خرجت، وعشك الذي فيه درجت، إلى رجل لم تعرفيه؛ وقرين لم تألفيه، فكوني له أمَة، يكن لك عبداً واحفظي له خصالا عشراً يكن لك ذخراً؛ أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة؛ وحسن الطاعة. وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع مَلهبة؛ وتنغيص النوم مَغضبة. وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تفشِنّ له سرا فإنك إن خالفت أمره؛ أو غرت صدره؛ وإن أفشيت سره، لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إن كان ترِحاً، والترح بين يديه إذا كان فرحا، فإن الخصلة الأولى من التقصير والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظاماً، يكن أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقة؛ يكن أطول ما يكون لك مرافقة.

واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك؛ فيما أحببت أو كرهت؛ والله يخيرُ لكِ. ثم احتملت إليه فعظم موقعها منه وولدت له الملوك السبعة الذين ملكوا بعده اليمن. وقالوا إن النعمان بن المنذر تزوج أربعاً من أربع قبائل تأييداً لعرشه وتثبيتا لملكه واحدة أنمارية: والثانية سُلمية؛ والثالثة نمرية؛ والرابعة أسدية. فقال للأولى: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي. عطري جلدك وأطيعي زوجك واجعلي الماء آخر طيبك. وقال للثانية: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي؛ لا تجلسي بالفناء؛ ولا تكثري المراء؛ واعلمي أن أطيب الطيب الماء. وقال للثالثة: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي؛ لا تطاوعي زوجك فُتمِليه ولا تعاصيه فتشْكيه؛ وأصدقيه الصفاء؛ واجعلي آخر طيبك الماء. وقال للرابعة: ما أوصتك به أمك؟ فقالت: قالت لي أَدني ستَرك؛ وأكرمي زوجك؛ واجتنبي الإباء واستنظفي بالماء.

المرأة العربية في عامة حياتها

المرأة العربية في عامة حياتها عملها الورهُ والخرق خلتان ينبو عنهما طبع الحرة الشريفة، فلا تطيقهما، ولا تحتمل أن توصم بهما. فأما الورهاء فالهوجاء التي لا يتم لها عمل. وأما الخرقاء فالتي تدعى العمل ولا تحسنه. وهما بغيضتان إلى العرب جميعاً. وقديماً تحاموْهما وتواصَوا باجتنابهما مهما أوتيتا من بسطة الثراء. ودرجتا بين مهاد النعماءِ لأن الفراغ مدعاة الملل، والملل سبيل الفساد. في سبيل ذلك يقول الحارث بن كعب المذْجحي لبنيه - وقد جمعهم بين يديه في آخر عهده بالحياة: - إياكم والورهاءَ، فإنها أدوأ الداء، وتجنبوا الخرقاء، فإن ولدها إلى أفن يكون. إن امرأة واحدة من قريش عرف عنها الحزن فكانت تجتلب الصوف فتغزله ثم تنقض ما تغزله. وبرغم ما كان لها من سعة العيش ودعة الحياة اتخذها العرب مثلا سائراً. كلما رأوا رجلا رزق اليسار وحُرم حسن التصرف فيه قالوا: خرقاء وجدت صوفاً. وإليها أشاروا، وبها شبهوا. وهي التي جعلها الله جل ذكره مضرب المثل في ذلك فقال: ولا تكونوا كالتي نُقَضَت غَزْلها من بَعد قوة أنكاثاً.

لذلك لم يكن بدعاً أن تأبى ابنة أوس بن حارثة على نفسها أن تكون زوجاً للحارث بن عوف لأنها لا عمل لها، فهي لا كفاية لها، وهي التي ستحتمل من دار سيد العرب إلى دار سيد العرب!. تلك أثارة من البيان بما كان للمرأة يومذاك من داعية إلى العمل. فأما ذلك العمل فعلى نوعين: نوع شامل ينضوي تحته النساء جميعاً وفيهن المدللة، والسرية السنية، قضاء للواجب، ودافعاً للملل، وتفادياً من سوء الأحدوثة. وآخر يتخذنه مجلبَةً للرزق، ومَعْدَاة على الحاجة، وعونا على الزمن، ودفعاً لسؤال اللئيم. فمن الأول: أ - أُسْوُ الجراح، وشد العظام، وحياطة الدم دون النزيف. ونفاذهن في ذلك شبيه بنفاذ الرجال في أساليب القتال، ومقارعة الأبطال، لحاجتهن إليه إذا اتقدت الحرب، واشتجرت السيوف، ونفذت الرماح إلى أعطاف الصدور. فهنالك يغتمرن الموقعة حاملات أداوى الماء، وإلى جانب كل منهن ما تحتاج إليه الجراح من لفائف وجبائر وما سوى ذلك. وهن يسمَين لذلك بالأواسي. وفيهن يقول قيس بن الخطيم وقد طعن عدوّة طعنة منفسحة الجوانب جمة الشعاب: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفَذٌ لولا الشعاع أضاءها يهون على أن تَرد جراحها ... عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها فجعل أقصى طعنته القاتلة أن ترد جراحها عيون الأواسي فلا يجدن إلى شفائها سبيلا.

وقد انبلج صبح الإسلام على كرائم حسيبات رافقن الغزاة الفاتحين مسعفات آسيات فكن في المحل الأمكن من نفوس المسلمين جميعاً. ولنا إليهن عودة في الكلام على المرأة المسلمة إن شاء الله. ب - غزل أصواف الغنم وأوبار الإبل. وذلك مُسْلاَتُهُنَّ وأداة لهوهن. ومن أمثالهن في ذلك: نعْم لَهْوُ الحُرَّة المغْزَل. ج - الضرب على المعَازف من دفوف وطبول وصنوج ومزاهر ومزامير وطنابير وأشباهها. بذلك كن يلهون في أفنيتهن أيام مواسمهن ومجامعهن وبذلك كن يخرجن مبتهجات لملاقاة بطل مظفر أو عند نبوغ شاعر مبين. وقد خرج نساءُ بني النجار وولائدْهنّ للقاءِ النبي صلى الله عليه وسلم عازفات على المزاهر صادحات متغنيات. وممن برع في الغناء ماوّية ابنة عَفزر إحدى ملكات الحيرة وهي التي زوجت نفسها فيما بعد من حاتم الطائي. وكانت على سموّ مكانها تتلقى فتيان العرب فيفضون إليها بأشعارهم فتوَقَّعه إليهم بصوت يميد بأجسامهم ويهز ما ضّمت عليه صدورهم. ومما ذكروا أن الحارث بن ظالم أساء إليه خالد بن جعفر بين يدي النعمان فخرج يهدرُ غضباً حتى انتهى إلى ماوية فاقترح عليها أن تغني هذه الأبيات: تعلَّم أَبَيْتَ الَّلعْنَ إني فاتك ... من اليوم أومِنْ بعده يا ابن جعفر أخَالِدُ قد نبهتني غير نائم ... فلا تأمَننْ فتكي يَدَ اَلَدهر واحذر

أَعَّيرْتَنيِ أَن نِلْت منا فوارساً ... غداة حُراضٍ مثلَ جِنات عبْقَرِ أصابهمُ الدهر الخَتُورُ بختْرِهِ ... ومن لا يقِ الله الحوادث يَعثُرِ فخرج من عندها ينتفض كالمحموم لفعل الصوت به، ونفاذ الإيقاع في نفسه، حتى عثر بخالد فقتله. على أن الغناء من حيث هو فنٌ ومرتزق لم يكن في شيء من نساءِ العرب. بل كان صناعة موقوفة على القَيان، وهن اللواتي يُجْتَلَبْن من أطراف بلاد الفرس والروم. وأول من شد بالغناء في زعم العرب قيْنتان لمعاوية بن بكر أحد العماليق الأول تدعيان بالجرادتين ثم ذاع الغناء على أثرهما بين القيان لأنهن كن يغنين الشعر العربي بالألحان الفارسية واليونانية فيكون له في أسماع العرب تأثير لا يناله الوصف. وفي أولئك القيان ومجالس غِنائهن عمرو بن الإطْنابة ملك الحجاز: علِّلاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المُروَّق ريَّا إن فينا القيان يعزفن بالدّف ... لفتياننا وعيشا رخيَّا يتبارين في النعيم ويصببُن ... خِلاَلَ القرون مسكاً ذكيا إنما هَمُّهن أن يتحلين ... سموطا وسُنْبُلاً فارسيا من سُمُوط المَرْجَانِ بالدُّر ... فأحسن بِحَلْيهنّ حُليَّا د - إلى كل ذلك تقوم المرأة بأمر البيت، وما إليه من إعداد المطاعم، ورعاية الخيل، وهنئ الإبل.

ولا يفوتنا وقد ذكرنا حاجة المنزل أن نلم بشيء من مطاعم العرب لأنها أمسُّ الأعمال بالمرأة، وألزم لها، فنقول: قوام هذه المطاعم اللبن والتمر والبر والشعير والعسل والسكر والأرزُ والزبد واللحم والزيت والشحم والسمن. وأشمل مطاعمهم الثريد والحيْس وهو من التمر يغلى مع اللبن والسمن ثم يدهك بعضه ببعض. وقد يضاف إليه بعد ذلك السَّويق. ولهم فيما عدا هذين مطاعم مألوفة. منها: الفالوذج: وكان عبد الله بن جدعان القُرشي قد أكله على مائدة كسرى فلما بلغ من نفسه سأل فقيل له هو لباب البر يُلبَكُ مع العسل فابتاع غلاماً فارسياً وقدم به مكة بها الفالوذج ومن هناك ذاع بين العرب. والسَّخية: وهي متخذة من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وأكثر ما عرفت عند قريش. وأشدّ ما يألفونها عند جهد وشدة الأزمات وكانوا يعيرون بها حتى سميت قريش في موطن التعريض والتنابز بالألقاب بالسخية. قال حسان بن ثابت يهجو قريشاً: زعمت سخية أن ستغلب ربها ... وليغلَبَّن مُغالب الغلاب والبريك: وهو الرطب يؤكل بالزبد أو السمن. والحزيرة: وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة.

والربيكة: وهي التمر بالسمن والأقِط فيؤكل وربما صب عليه الماء فشرب وفي المثل: غَرْثان فاربكوا له. وذلك أن رجلا قدم على أهله وهو جائع عطشان فبشر بغلام وأتوه به فقال: والله ما أدري أآكله أم أشربه فقالت امرأته: غرثان فاربكوا له. فلما طعم وشرب قال: كيف الطلا وأمُّه؟ والبسيسة: وهي الدقيق أو السويق يْلتُ بالسمن أو الزبد. والفَريقة: وهي شيء يعمل من البرَّ ويخلط فيه أشياء للنُّفساء. ومما يصنع للنَفساء أيضا الفُؤارةَ: وهي الحلبة تطبخ بالتمر. والحريرة: الحساء من الدَسم والدقيق. والبَهَط: وهو من الأرز يطبخ باللبن والسَّمن. والمتتبع لمعاجم اللغة يستوقفه كثير من هذه المطاعم. وهي على امتزاج موادها بسيطة هينة لا تعنتُ صانعتها ولا تُثقل طاعمها. وأما أعمال الارتزاق فالمرأة فيها قسيمة الرجل وشهرتها فيها تكاد تتمشى مع شهرته. فهم يقولون عن رُدَيْنة أنها صانعة رماح بالبحرين. وإليها تنسب الرماح الردينية وهي أكرم الرماح جوهراً وأسرعها نفاذاً وأمنعها على اغتماز. وكانت السيدة خديجة رضى الله عنها على نُبلها وسناء شرفها ذات متاجر واسعة ينتقل بها أتباعها بين الحجاز والشام. ومثلها في معاناة التجارة هند بنت عُتبة زوج أبي سفيان ابن حرب سرِى قريش وثريها.

وهنالك أعمال يتناولها ذوات الخصاصة من النساء دفعاً للحاجة واستدفاعاً لذل السؤال. ومن ذلك جمع الكمأة من الأودية وبيعها؛ ودبغ الجلود؛ وتنميق الحصير وانتجاع الأسواق؛ وارتياد مختلف الأحياء؛ لابتياع التمر والعسل والسّمِن؛ أو بيعها؛ أو استبدالها بأمثالها؛ واعتراض الركبان في مغداهم ورواحهم بالقُدُور والأدَم يبعْنها عليهم؛ والطواف على الفتيان والفتيات بالعطر يُطَيبْنهم به؛ والنداء في الأحياء بين النساء بالخرز لتحلية الثياب وبالعقود والدمالج والقرِطَةِ وودعات الأطفال وهي عقودهم من الودع. ومن النساء من اتخذن النياحة على الموتى عملا ومهنة. ومن أمثال العرب في ذلك ليست النائحة الثّكْلَى كالمستأجرة. ومنهن من همهّن تَعَرفُ الغيب وكشف حجب المستقبل. ولهن في ذلك وسائل. منها زجر الطير. وذلك أن تضرب الطير بحصاة أو تصبح به فيطير فان كان ما تراه منه مَيامِنه فهو سانح وإن أراها مياسره فهو بارح وأكثر العرب يتفاءلون بالسانح ويتشاءمون بالبارح. قال ذو الرُّمة: خَلِيلىّ لا لاقيتُما ما حييتما ... من الطير الا السانحات وأسعدا ومنهم من يتفاءلون بالبارح ويتشاءمون بالسانح. قال الأعشى: أجارَهما بِشْرٌ من الموت بعدما ... جرى لهما طير السنيح بأَشأَم وشبيه بالطير عند العرب الظباء فهي تزجر كما تزجر. غير أن لهذه قوماً؛ ولتلك آخرين. ومنها الطرق بالحصى. وذلك أن تضرب المرأة على الرمال بالحصى وتخط

عليها خطوطاً متعارضة؛ ثم تلقى على من بين يديها ما ينم عنه ذلك النظام من كوامن السر وخفيات الأمور. وهاتان الصناعتان وإن آمن بهما دَهماءُ العرب وعامّتهم فقد سخر بهما عقلاؤهم وذوو آرائهم. وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع ويقول ضابئ بن الحارث: وما عاجلات تدنى من الفتى ... نجاحاً ولا عن رْيثهنَّ يَخيبُ ورب أمور لا تُضيرُك ضيرة ... وللقلب من مخْشاتِهِنَّ وجيبُ ولا خَيْرَ فَيمنْ لا يوطَن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب ويقول المرقّش: ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واقٍ وحاتِم فإذا الأشائمُ كالأيا ... مِن والأيامن كالأشائم وكذاك لا خَيْر ولا ... شَرٌّ على أحد بدائم ويقول النابغة: تَعَلّمْ أنَّه لا طيْر إلا ... على مُتَطَيَّرٍ وهُوَ الثُّبُورُ بَلى شيءٌ يوافق بعض شيء ... أحاييناً وباطلُه كثيرُ ويقول جهم الهُذلى: يَظنّان مرة يُخْطئاِنهِ ... وأُخْرَى على بَعْضِ الذي يَصِفانِ قضى اللهُ أن لا يَعْلَم الْغَيب غيره ... ففي أي أمر الله يمتَربان ومنها الكهانة والعرافة. وهما آثر علوم القوم؛ وأنفذها في نفوسهم؛ وأجلبُها لتصديقهم وإقرارهم؛ ولهما القول الفصل في حكومتهم وخصوماتهم. وهم يقولون

إن مرجع هذين العلمين إلى الملائكة لأن رفاق الكهان والعرافين من الجن يعلو بعضهم بعضاً حتى يقاربوا السماء فيسترقوا السمع أن مما يتحدث به سكانها، والكهنة والعرافة كلمتان تكادان تترادفان. إلا أن من اللغويين من فرّق بينهما يأت الكهانة علم إدراك الماضي، والعرافة علم إدراك المستقبل. وهذان العلمان وإن ادعاهما الرجال والنساء على سواء فإن جمهور العرب يرى أن النساء فيهما أعمق، وأن أخبارهن أصدق، ورفاقهن من الجن أدق وأوثق. وفي الحديث الذي أورده عليك يتبين لك رأي العرب في الكواهن ومبلغهن من علمهن: حدث محمد بن ظَفَر في كتابه خير البُشَر بخير البَشَر فقال: رُوى أن مَرْثَدَ ابن عبد كُلالَ قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة. فوفد زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه، فرفع الحجاب عن الوافدين وأوسعهم عطاءً، واشتد سروره بهم. فبينما هو كذلك إذ نام يوماً فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وأهالته وهو نائم، فلما انتبه نسيها حتى لم يذكر منها شيئاً، وثبت في نفسه بها، فانقلبت سروره حزناً، واحتجب عن الوفود حتى أساء به الوفود الظن. ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكل كاهن كاهن، ثم يقول له أخبرني عما أريد أن أسألك فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنا عَلَمِهُ إلا كان إليه منه ذلك. فتضاعف قلقه، وطال أرقه. وكانت أمه قد تكهنت، فقال له أبيت اللْعن أيها الملك! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه، لأن أتباع الكواهن من الجان ألطف وأظرف من أتباع الكهان. فأمر مما أراد علمه. ولما يئس من طَلَبته سلا عنها. ثم

إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه، فرُفعت له أبيات في ذرى جبل، وكان قد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات وقصد بيتاً منها كان منفرداً عنها، فبرزت إليه عجوز فقالت له: أنزل بالرْحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المُدَعْدَعة، والعُلْبة المتْرعة. فنزل عن جواده ودخل البيت. فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح، نام. فلم يستيقظ حتى تصَرَّم الهَجِير فجلس يمسح عينيه. فإذا بين يديه فتاة لم يرى مثلها قَوَاما، ولا جمالا فقالت: أبيتَ اللعْن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته، وتصامم عن كلمتها فقالت له: لا حذر، فَذَاك البَشَر، فَجدُّك الأكبر، وحظنا بك الأوفر. ثم قربت إليه ثَرِيداً وقَديداً وحَيْساً. وقامت تَذثبُّ عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبنا صريفاً وضريباً. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة مدبرة، فملأت عينيه حسنا، وقلبه هوى، فقال لها: ما أسمك يا جارية؟ قالت اسمي عُفَيْراءُ. فقال لها: يا عفيراءُ، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت مَرْثَدٌ عظيم الشأن، حاشُر الكواهن والكهان لمُعْضلة بَعدَ عنها الجان. فقال: يا عفيراءُ أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراءُ، فما تلك الرؤيا؟ قالت رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لَهَبٌ لامع، ولها دخان ساطع، يقْفُوها نهر متدافع وسمعت فيما أنت سامع، دعاءَ ذي جرسٍ صادع.

هَلمُّوا إلى المَشَاَرع، فروى جارع؛ وغرق كارع؛ فقال الملك: أجل؛ هذه رؤياي فما تأويلها ياعفيراءُ؟ قالت: الأعاصيرُ الزوابع؛ ملوك تبايع؛ والنهر علْمٌ واسع؛ والداعي نبي شافع؛ والجارع وَليٌ تابع؛ والكارع عدوٌّ مُنازع. فقال الملك: يا عفيراءُ؛ أَسلْمٌ هذا النبي أم حرب؟ فقالت أقسم برافع السماء؛ ومنزل الماء من العماءِ؛ إنه لُمطِلّ الدّماءِ؛ ومنطْق العقائل نطق الإمام؛ فقال الملك: إلامَ يدعو يا عفيراءُ قالت: إلى صلاة وصيام؛ وصلة أرحام؛ وكَسر أصنام؛ وتَعْطيل أزلام؛ واجتناب آثام؛ فقال الملك: يا عفيراءُ إذا ذَبَحَ قومهُ فمن أعضاده؟ فقالت: أعضاده غظاريف يمانون؛ طائرهم به ميمون؛ يُغزيهم فَيغْزُون؛ ويُدَمّث بهم الحُزُون؛ وإلى نصره؛ فأطرق الملك يؤامر نفسه في خطْبتها. فقالت: أبيتَ اللعن أيها الملك؛ إن تابعي غَيُور؛ ولأمري صَبُور؛ وناكحي مثْبور؛ والكَلفُ بي ثَبُور. فنهض الملك وجال في صهوة جواده وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماءِ. ومن النساء من يَنْفُثن العُقد؛ وتلك قواعد السحر. وذلك أن تأتي المرأة بخيط أو وتر وتقرأ عليه شيئاً من مبهم القول ومعجمه، وبينا هي تقرأ تنفث في الخيط وتعقد عقدة منه ثم تدفنه في مَعْطن من الأرض فلا تزال الجن موكلة بأذى المسحور به ما دام الخيط في موطنه. وأولئك هن اللواتي أمر الله نبيه

صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ منهن فقال: (وَمِنْ شَر النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ). وهنالك المراضع. وكان نساءٌ من البادية يأتين المدائن والقرى مِلاَءَ الأثداءِ فَيؤُبْن بولدان الحَضَر يُرْضعنهم؛ ويتعهدن منابتهم؛ بين ملاعب البدو؛ ومضارب الخيام. وكانوا يختارون المُرضع في نفسها وعشيرتها فأيهن كانت أسمح خُلُقاً؛ وأقوم خَلْقاً؛ وأبْيَنَ بياناً. وأعزَّ نفراً، فهي الظافرة السابقة. وكان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد أن يلتمسوا له مرضعة في غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له. ومكن أجل ذلك دفع النعمان بن المنذر بابنه إلى بني مرة ليُسترضع فيهم فأرضعته سلمى بنت الحارث بن ظالم. وكان رسول الله صلى الله عليه يُرجع فصاحته المُعجزة إلى منبته في قريش واسترضاعه في بني سعد وهو الذي يقول: أنا أعْرَبُكُم وُلدت في قريش واستُرضعت في بني سعد. وقال له أبو بكر: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله. فقال: ما يمنعني! وُلدت في قريش وأُرضعت في بني سعد وفي حديث حليمة بنت أبي ذؤيب مرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد خبر المراضع وخروجهن إلى قرى العرب يبتغون المآب بأطفالهم. قالت: خرجت في نسوة من بني سعد عشرة يطلْبن الرُّضعاء، في سنة شَهْباء، على أتان قمراءَ، معنا شارِف ما تبضُّ، وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا، ما في ثدي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، حتى قدمنا مكة. فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه

إذا قيل لها يتيم. وذلك أنَّا إنما نرجو من أبي الصبى، فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعاً غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي: ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذته. قال: لا عليك، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته. وفي حديث أخر أَن حليمة قالت: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت: حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بَخٍ بخٍ سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر، وعزَّ الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيماً، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه، وقلن ما عند اليتيم من الخير؟ إنما نلتمس الكرامة من الآباء، فهل لك أن ترضعيه، فعسى أن تسعدي به؟ فقلت: ألا أنظرني حتى أشاور صاحبي؟ فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته، فكأن الله قذف في قلبه فرحاً وسروراً فقال لي يا حليمة خذيه. فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعداً ينتظراني فقلت: هلم الصبيَّ. فاستهَلَّ وجهه فرحاً. فأخذني وأدخلني إلى بيت آمنة فقالت لي. أهلاً وسهلا وأدخلني في البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مُدْرَج في صوف أبيضَ من اللبن، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه يغط، تفوح منه رائحة المسك، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكاً وفتح عينيه إلىَّ فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماءِ وأنا أنظر إليه. فقبَّلته بين عينيه وأخذته. والعرب يأبون أن تؤجر الحسيبات منهن على الرضاع. ويقولون في ذلك: تجوعُ الحرة ولا تأكل بثدييها.

على أن هذه الصناعات وإن آذن بعضها باتضاع في منزلته وهبوط في مادته فليس منها ما يؤذن بضَعَة في الخُلق. ولا ثَلمة في العقل، ولا ذلة في الحياة وإن كان شريفاتُ العرب وربات الحسب منهم يتعالين عن الارتزاق بالصناعة فلم يتجاوزن بذلك حد الإدلال بالعز، والمباهات بالغنى. فأما شرف النفس ونقاء العرض وصدق القول، وفرط الإباء، فهن فيها على سواء، وبين يدينا حديث عن امرأة تبيع الخرز بالبادية. وتلك المرأة وإن تأخر بها الزمن إلى أول العهد الإسلامي فإن في عراقة بداوتها ما يلحقها بالجاهليات. وقَلَّ من نساء الأعراب من غيَّرها الإسلام في طبع أو عادة أو خُلُق. أما الحديث فقد رواه رُسْتَم العَبْديّ قال: خرجت من مكة زائراً لقبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا جَويَرية تسوق بعيراً وتترنم بصوت حلو بهذا الشعر: فيا أيها البيت الذي حِيلَ دونه ... بنا أنت من بيت وأهلُك من أهل بنا أنت من بيت دخولك لذة ... وظلك لو يُسْطاع بالبارد السهل ثلاثة أبيات فبيت أُحبه ... وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي فقلت لمن هذا الشعر يا جُويرية؟ فقالت: أما ترى تلك الكَوَّة التي عليها الحمراءُ قلت: أراها. قالت: من هناك نجم الشعر. فقلت: أفحَيٌّ قائله؟ قالت هيهات! لو أن لميت أن يرجع لطول غيبة كان ذلك!. فأعجبني فصاحة لسانها، ورقة ألفاظها. فقلت ألك أبوان؟ فقالت: فقدت أكبرهما وأكثرهما وأجلَّهما، ولي أم. قلت: فأين أمك قالت: منك بمرأى ومسمع. وإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الريق بالجُحْفة. ثم قالت: ياأم، شأْنك، فاستمعي من عمي

ما يلقي إليك. فقالت: حياك الله هِيِه، هل من جائية بخير؟ قلت: هذه بُنَيَّتك؟ قالت: كذا كان أبوها يقول! قلت أتزوجينها؟ قالت: لعلة ما رغبت فبها! فوالله ما لها جمال، ولا لها مال. قلت: لحلاوة لسانها، وحسن عقلها. قالت: أُّينا أمْلك هي أم أنا؟ قلت: هي قالت: إياها فخاطب! قلت: تستحي أن تجيب غلى مثل هذا. قالت: ما هذا عندها، أنا أخبرُ بها. فقلت يا جارية، أما تسمعين ما تقول أُمك. قالت أسمع. قلت: ما عندك؟ قلت بحسبك أن قلت تستحي في مثل هذا! فإذا كنتُ من شيء فلم أفعله؟!. . . قالت ذلك ثم اعتزمت في إبائها وانصرفت. وشبيه هذا الحديث وما ضمَّ من صراحة في الرأْي، ومجانبة للكلفة، وحسن نسق في الكلام، بما أسلفنا من أحاديث ذوات الشرف والسنا من النساء. وفي ذلك وأمثاله ما يدلك على أن الدم العربي يتدفق إلى تلك القلوب من معين واحد، ويجري غلى غاية واحدة. وبعد فإن لأولئك النساء على ما بينهن من تباين في العمل، وتناءٍ في الحالات عملاً عامَّا، يجتمعن إليه، ويشتركن فيه. ذلك هو اقتياد مشاعر الرجال وتصريف أزمَّتها، بما أوتين من نفاذ في الرأْي، وسعة في الحيلة. وقوة في الأسلوب لا لرجالهن وأبنائهن فَحسب. بل للقول جميعاً: إن عصفت برؤوسهم عاصفة الشر واحتكمت بنفوسهم الحمية: حمية الجاهلية، سكَّن الثائر وأطفأْن النائرة. وإن بردت دماؤهم، وخَمَدت عزائمهم، وقَرّوا على الذل، وأغضْوا على القذى، هْجِن أشجانهم، وابتعثن أضغانهم، ورمينهم بكلمات دونها حَر الطعان، ووخز السنان. فهي ركن الأمة، وعماد البلاد، إن رجفت بها الأرض ومادت بأطرافها الحادثات. ولقد أخذ الربيع بن زياد العامري درع قيس بن زهير العبسي وغصبه إيّاها وأبى

أن يعيدها وكلاهما سيد قومه. وبرغم ما بينهم من المصاهرة استحكمت حلقات الخلاف بينهما، وقام كل يستصرخ قومه. وكاد السيف يكون حكماً بين الحَّيين لولا كلمات من امرأتين حسمت الجرح، ورأيت الصدع، وردت إلى ذي الحق حقه. فأما أولاهما ففاطمة أم الربيع. عرض لها قيس في طريقها وهي على راحلتها في مسير لها. فأراد أن يتخذها رهينة بدرعة. فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بنى زياد مصالحيك وقد ذهبت بأُمهم يميناً وشمالا وقال الناس ما قالوا وشاؤا؟ وإنَّحَسْبك من شّرٍ سماعهُ. فأخجل ذلك القول قيساً وتركها وهو يفكر في أمره. وأما الثانية فالجُمانة بنت قيس، قالت لأبيها لما شَرق ما بينه وبين الربيع؛ دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما وإلا كنت من وراء رأيك. فأذن لها فأتت الربيع فقالت: إذا كان قيس أبى فإنك يا ربيع جدي، وما يجب له من حق الأبوة علَّى كالذي يجب من حق النبوة لي. والرأي الصريح تبعثه العناية، وتجلى عن محضه النصيحة، إنك قد ظلمت قيساً بأخذ درعه، وأجد مكافأته إياك سوء عزمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممن يخوَّف بالوعيد، ولا يردعه التهديد. فلا تركنن إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهّابه بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال وبحقّ أقول لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم. ثم أنشأت تقول: أبي لا يرى أن يترك الدهَر درعهَ ... وجدي يرى أن يأْخذ الدرع من أبي فرأْى أبي رأْي البخيل بماله ... وشيمة جدي شيمة الخائف الأبي ولعمري لقد صدع الرجل بقوله ابنته. وكان ذلك فصل الخطاب.

أما صيحتها في القوم إن طالت رقدنهم، وهانت شوكتهم واطمأنت نخوتهم فأهون منها الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الأسنة. وأي جبان أمة يسمع قول عفيرة بنت عفان: وإن أنتمو لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل ودونكمو طيب العرس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مِشْية الفحل أو يسمع قولها بين مستجر القنا وتحت ظلال السيوف: ألا إن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء. ويسمع قول حُكيم بن عمرو العبدي: فإن لم تنالوا نيلكم بسيوفكم ... فكونوا نساء في المُلاءِ المُخَلَّق أي جبان أُمة يستمع هذا القول وأشباهه من بين شفاه النساء فلا يترشف الدماء، كما يترشف الظماء برد الماء. ولما خرجت قريش إلى أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معهن نساؤهم يحملون الدفوف ويبكين على أصواتها المشجيات قتلى بدر فيوقدن بذلك نار الثأر في قلوب الرجال. ثم لما التقى الجيشان خاض المسلمون في أحشاء قريش، فانخلعت شُعيب قلوبهم وانحلت عُقد صفوفهم، وطرح لواؤهم تحت أقدامهم، فلم يقدم رجل على حمله، حتى كانت عَمْرة بنت علقمة هي التي أخذته فرفعته. فاجتمعت قريش حولها وهنالك أخذت هند بنت عتبة ومن حولها من نساء قومها يتغنين بالمُقيم المُقعد من الشعر. وكان من غنائهن:

نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق إلى آخر الأبيات التي أسلفناها في يوم تحلاق اللمم. ويقلن أيضاً: وَيْهاً بنى عبد الدار ... وَيْهاً حُمَاة الديار ضربا بكل بَتَّار فكان ذلك أشد عليهم من فتكات السيوف. فانقلبوا يقاتلون المسلمين حتى ظفروا بهم. لم يكن كله جهد ما بلغته المرأة في مواطن القتال، ومجالات النزال، بل لقد اقتحمت الطريق إلى أقصى مداه فقادت الجحافل، وهتكت المعاقل، ونالت من مهج الأبطال كل منال. فقد عَبَرت طيء دهراً طويلاً تفيء في غزواتها إلى امرأة منهم يقال لها رَقَاش يعتزون بقوتها، ويستضيئون برأيها، ويطالعون النجح من خفقة سيفها، ووميض عزيمتها. تلك طيء بيضة اليمن، وعرين البواسل، ومربض القادة الكماة، والذادة الحماة، ومثار الكرم والبيان، والحرب والعَوَان، عقدت ألويتها على امرأة منهم فملكت بها رقاب أياد، وخلعت قلوب من سواهم. أما بعد فذلك عمل المرأة في بيتها، وبين عشيرتها، وفي مادة الحياة ومعناها. أفلا ترها في عامة ما تقصده وتعمد إليه مَفَيض الخير، ومعين الأمل، وعتاد البيت، وَعِماد البلاد؟.

حجابها وسفورها

حجابها وسفورها إن المرأة التي تضرم جمرة الحرب، وتخوض غمرتها، وترسل الكلمة فتعنوا لها الوجوه، وتتخلع من هولها القلوب! لا يضيرها أن تخرج - سافرة - إلى الرجال، تحت ظلال السلم، أو بين لوافح الحرب، وليس بنافعها أن تتوارى عن العيون، وتُسدل من دونها الحجاب. تلك كلمة نقدمها بين يدي موضوعنا لتعلم أن المرأة العربية إذا أرخت قناعها أو حسرته عن وجهها فليس ذلك قي شيء من خياطة السرف أو ابتذاله. ونحن إذا تكلمنا عن حجاب المرأة العربية فإن حقَّا علينا قبل ذلك أن نكشف عن معنى ذلك الحجاب حتى يكون حكم التاريخ فيه واضحاً لا عِوجَ فيه. يطلق الحجاب على واحد من اثنين: أولهما: قرار المرأة في دارها والاحتجاب دون الرجال فلا تكون بمرأى ولا مسمع منهم. الثاني: إرخاء القناع على وجهها إذا غادرت دارها لبعض شأنها. أما الأول فما كان بالمرأة من حَرَج أن تغشي مجالس الرجال، وتطرُق أنديتهم، وتخطب في محافلهم ومشاهدهم، لا في الخطب الملم، والأمر المهم، وكفى؟ بل في القليل التافه من الشئون أيضاً. فقد فصلنا فيما أسلفنا حديث امرأتين قامت كل واحدة تثني على زوجها في نادي قومه بعد طلاقها منه من غير تحرج ولا استحياء. وهنالك في سوق عكاظ وهو أحفل مجامع العرب، وأجمع مواسمهم، كان النساء يأتين من كل صوب وحَدَب على اختلاف مقاماتهن، وانشعاب ديارهن، فيزاحمن الرجال بالمناكب في كل ما قصدوا له، واحتفلوا به. فبينما كنت ترى امرأة تناضل الرجل في حومة القول، إذا بأخرى تخطب الناس. وإلى جانب من هؤلاء امرأتان تتناشدان الشعر وقد اجتمع عليهما خلق كثير.

فلقد حدثوا أن هند ابنة عتبة، والخنساء بنت عمرو بن الشريد، تلاقتا هنالك، فتذكرتا مصيبتهما، وكانت الأولى قد قتل عنها أبوها وعمها وأخوها يوم بدر. ومات عن الثانية أبوها وأخوها، وادّعت كل واحدة أنها أوجع مصاباً، وأَحَرُّ كبداً من أختها ولكي تفي كل بدليلها جاءَت بأبرع الشعر وأروعه في وصف مصابها، وجُهد ما فعل بها وبقومها. ثم انصرفتا وقد جاش بالناس الحزن، وتملكهم الإعجاب. وما كانت الخنساء ولا صاحبتها بالتي ينكرها أحد من العرب، فهما جميعاً في المكان الأرفع من زكاء الحسب، وسناء المنزلة. تقول العرب في أمثالها: ما يوم حليمةَ بِسّر. فَمْن حليمة وما يومها؟

أما حليمة فهي ابنة الحارث بن أبي شَّمر ملك الشام. وكانت كأجمل أهل دهرها وأكلهم وأما يومها فذلك الذي أقصه عليك: - استحكمت الجفوة بين المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، وطمع كل منهما في صاحبه، فخرج إليه بما ملك من قوة وبأس شديد. وبينا الحارث في طريقه إلى العراق قدم عليه قادم من الحيرة له نسب في الغساسنة فأخبره أن جيش المنذر لا يناله العد وأن لا طاقة له بقتاله! فلما تراءى الجيشان على عين أُباغ أختار الحارث مائة من فتيانه كلهم شديد البأس، قوي الشكيمة، وأمرهم أن يأتوا المنذر فيفْضُوا إليه بطاعتهم وطاعة أهل الشام جميعاً، حتى إذا أنسوا منه هدواء وغرّة فنكبوا به. ثم أمر ابنته حليمة فطافت بهم فضّمختهم بالمسك جميعاً، - وكان ذلك مما أفاض عليهم حمّية وعزماً - فذهبوا إلى حيث أمروا، وقتلوا المنذر هو في العدد العديد من قومه حتى إذا سمع الحارث وجنده صيحة الظفر من فتيانهم زحفوا فتلاقوا بأعدائهم وأوقعوا بهم. فراحوا فريق في الإسار ومثله ... قتيل ومثل لاذ بالبحر ذلك يوم حلمة وهو من أروع أيام العرب وأهواها وحسبه على ما نريد دليلا وأما حجاب الانتقاب فلم يكن له بينهن نظام شامل ولا هيئة واحدة، ففي القبيلة الواحدة ترى اْلبَرْزة وهي التي تجلس إلى الرجال وتجاذبهم الحديث سافرة غير محجوبة والمحتشمة وهي التي ترخي قناعها إذا خرجت عن بيتها فلا تطرحه حتى تعود. وهذا وذلك شأن السن منهن.

وشبيه بذلك شأن الفتيات. فمنهن سقوط القناع وهي التي لا تكاد تنتقب ثقة بنفسها وإدلالا بحسنها أو سيراً على سجيتها، وفي مثلها يقول المسيَّب ابن عَلَس: إذا تستبيك بأصلَتّيٍ ناعم ... قامت لتفته بغير قناع ويقول المرقَش الأصغر: أرتْك بذاتِ الضال منها معاصماً ... وخداً أسيلا كالوذيلةِ ناعما وإلى هذه يشير عمر بن أبي ربيعة في قوله: فلما توافقنا وسَلَّمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا ويقول أبو النجم في إحدى أراجيزه: من كل غراء سقُوط البرقع ... بَلْهَاء لم تحْفَظ ولم تُضَيّع ويقول الأصمعي: وقد تُلقى المرأة خمارها لحسنها وهي على عفة. وأنشد في ذلك بيت أبي النجم ومنهن التي لا تكاد تفارق قناعها إذا انحسرت عن دارها: إما لاحتشامها واستحيائها وفي مثلها يقول الشَّنْفَرَي: فواكبدي على أمية بعد ما ... طمعت فَهْبها نعمة العيش زلت لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفُّتِ وإما لكَلَف أصاب وجهها فهي تجهد أن تستره وفي نحو ذلك ما نقل أبو زيد في نوادره عن أعرابي قيل له: ما تقول في نساء بني فلان؟ فقال: بَرْقعْ وانظر، يريد بذلك أن عيونهن خير ما فيهن.

وشبيه ذلك ما حدث الراغب لأن أسد يا قبيح الوجه خطب امرأة قبيحة فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمم لك. فقالت: إن كان قد تعمم لنا فأنا قد تبرقعنا له. وبين أيدينا أمثال سائرة أرسله العرب تنبئنا أن كشف القناع أغلب حالات فتيات العرب وأمثلها بهن. فمن ذلك قولهم: تَرَكَ الخِدَاعَ منْ كَشَفَ الْقِنَاعَ، يريدون أن الفتاة لا تستر وجهها إلا لشر تُؤْثر أن تستره. وقولهم من لا يستر عيبه: كذاتِ الشيبِ ليس لها خَمِارُ فهم لا يرون الخِمارَ لزاما إلا لذات الشيب فإن خليقاً بها أن تواريه. وقولهم: إن العَوَان لا تَعلَّمُ الْخِمْرَةَ. فأما العوان فالنَّصفُ التي ناهزت الأربعين. وأما الخِمرة فهيئة الالتفاع بالخمار. ومعنى ذلك لان العوان جاوزت السن التي كانت تعاني فيها التقنع فلا تحسنه. مما جرى مجرى الأمثال ما روى ابن منظور أن امرأة قالت لبعلها: مُر بي على بني نَظَرَي ولا تمر بي على بنات نَقَرى. أي مرَّ بي على الرجال الذين ينظرون إلىّ ولا تمرّ بي على النساء اللواتي يعبنني ويُنَقّرْن في عرضي. وشبيه في ذلك ما روى صاحب التهذيب من أمثال العرب أن أعرابية قالت لصاحبة لها: مُرّي بي على النَظَرَى ولا تمري بي على النَّقَرَى. لكل ذلك لا نتحرج أن نقول إن طرح النقاب كان أغلب حالات نساء العرب. حتى لقد غلا الرازي والطبري فأطلقا الأمر على سنة وجهة فقالا: إن نساء العرب كن يخرجن مكشوفات مُتَبَذَّلات سواءٌ في ذلك حرائرهن أو إماؤهن فأمرن - أي في الإسلام - بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس.

ذلك قول الإمامين المفسرين أرسلاه على إجماله وطَوَياه على بِلاله ليخبرا به عن حالة شائعة وهيئة غالبة. والقول ما فصلناه فيما أسلفناه. تلك الحالة الشائعة التي عالجها القرآن الكريم في قوله جلت آيته: (يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وبِنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدنينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيِبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللهُ غَفُوراً رَحيماً). على أن هناك حالات شاملة لم تكن المرأة أياًّ كانت لتُعني فيها بأمر نقابها. وأشملها حالة الروع إذا اشتملت عليها الوقائع، أو دارت على فريقها الدوائر، وارتقبت من وراء ذلك ذل السباء وعار الإسار. وذلك إما لشغلها بالجليل المهم من الأمر. وإما لخشيتها السباء، فهي تظهر سافرة حاسرة حتى تلتبس بالإماء. وفي هذا الموطن يقول مُهَلهِلٍ بن ربيعة: قَرِبا مَرْبَط المشَّهر مني ... سوف تبدو لنا ذوات الحجال ويقول عوف بن عطية بن الَخزعِ التَيْمِي: ولِنعم فتيانُ لقيتهم ... وإذا النساءُ كالعنقر من كل واضعة الْخمار وأخْتُها ... تَسْعَى ومنْطَقُتها مكان الِمئْرِز وتكر أولاهم على أخراهم ... كر الُمحَلَّ عن خلاط الَمصْدَرِ أم مناحاتهن ومواقف أحزانهن فيها سوافر الوجوه، حواسر الرؤوس، وفي مثل ذلك يقول مُهلهل بن ربيعة:

حتى تبيد قبيلة فقبيلة ... ويَعضَّ كل مثَقّفٍ بالهمام وتقوم ربات الخدور حواسر ... يمسحن عُرض ذوائل الأيتام ويقول: كنا نغار على العواتق ... بالأمس خارجة عن الأوطان فخرجن حين ثوى كليب حُسَّرا ... مستيقنات بعده بهوان وترى الكواعب كالظباء عواكلا ... يبكين مصرغه فقد أبكاني ويقول الربيع بن زياد: من كان محزوناً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار قد كن الوجوه تستراً ... فاليوم حين برزن للنّثظار يضربن حُرَّ وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار وهنالك في أعياد القوم وأعراسهم وبين مظاهر زهوهم وأفراحهم إذا نبغ شاعر حكيم أو قدم قائد عظيم يخرج فتيات الحي سوافر الوجوه يعزفن على المعازف ويرقصن على المزاهر. وَيَتَغنْين بمآثر قوومهن ومفاخرهم ويتمدحن بعظائمهم ومكارهم ويرسلن القول عذباً ندياً في وصف من اجتمعن له واحتفلن به. ولقد راب عنْترة الفَوارِس ما رآه من انتقاب خدينته عبلة دونه وسكوتها عما شُغل به الناس من الإشادة به والثناء عليه بعد مآبه من حرب داحس والغبراء فقال: إن تُغْدفي القناع فإنني ... طبٌ بأخذ الفارس المُسْتلئم آثنى على بما علمت فإنني ... سمح مخالفتي إذا لم أُظلم

فإذا ظلِمتُ فإن ظلمي باسل ... مُر مذاقته كطعم العلقم وما زال يتمدح بحسن ضريبته، ويمن نقيبته، وجهد عزيمته حتى استوفاهن نيّفاً وأربعين بيتاً: أفلا تراه كيف عد انتقابها دونه إنكاراً لعظيم شأنه، وسموا مكانه؟ ثم ألا تراه كيف ساق إليها من مأثور مكارمه ما كان خليقاً أن تصوغ له، وتُفرغه عليه؟ ذلك ربما اختمرت المرأة حتى إذا التقت بالجبان في طريقها كشفت عن وجهها إزارء به، وإيماء له بأنه ليس بالذي يحتشم منه. وقد حدثوا عن نساء بني الحارث ابن كعب أنهن لم يكنّ يُقَنَّعْن دون جبنائهن. وذلك الذي عناه الحارث بن حلَّزَةَ الْيَشْكُرِيُ في قوله: عيشي بجَدٍّ لا يضرْ ... كِ النَّوكُ ما أوتيت جدَّا وضعي قناعك إن رأي ... ت الدهر قد أفنى مَعَدَّا يقول إذا ذهب بمعد فضعي قناعك فليس هناك عظيم يأخذك الحياء منه كل ذلك شأن الحجاب في أمم العرب الطارئة وهم بنو إسماعيل وحَفَدَةُ قحطان الذين خلفوا على جزيرة العرب بعد أن عصف الدهر بأهلها الأولين. أما الأمم البائدة - وهن عاد وثمود وطْسم وجَديس والعمالقة وأُخر غيرهن لا يعلمهن إلا الله - فلم يكن الحجاب معروفاً عندهن بل لقد تبرج النساء في تلكم الأيام تبرجاً أخذه الله عليهم فنهى المسلمين عن مثله في قوله تبارك أسمه: (ولا تَبرَّجْنَ تَبُّرجَ الجَاهِليَّةِ الأولى) وفي تفسير هذه الآية الكريمة يقول النيسابوري: كانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي به وسط الطريق بين

الرجال وفي كل ذلك ما ينبئنا أن طرح النقاب في تلك الحقب المتناكرة لم يكن مرجعه إلى بساطة البداوة وصفاء الملكات بل كان سبيله ما هم فيه من نعومة العيش وصفو الحياة. على أننا لا زال نثَني القول ونكرره بأن حجاب المرأة العربية وسفورها لم يكونا في شيْ من خُلقها ولا شرفها فقد تسفر الفتاة ترفعاً وكبرياء تحتجب اجتنابا للريب ودفعاً لسوآت الظنون. ومن ذلك ما كان يفعل الفواجر إذا مررن بديار الحرائر. فقد كن يرخين القناع حتى يسترن عامة وجوههن. وفي مثل ذلك يقول الحارث بن كعب في وصيته يابَنَّيِ! قد أتت على ستون ومائة سنة ما صافحت يميني يمين غادر ولا قنعت نفسي بخَلَّةِ فاجر ولا صبوت بابنة عم ولا كنة، ولا طرحت عندي مومسة قناعتها. وكما كان الحجاب في نظامه وسُنته كذلك كان مختلفاً في شكله وهيئته. فهنالك الخمار والقناع والبرقع والنصيف واللثام واللفام وأشباهها. فأما الخمار والقناع فقريب بعضهما من بعض وكلاهما شُقَّة توضع على الرأس ثم تلاث على جزء من الوجه. ويظهر أن أصل كونهما على الرأس ثم تسدل المرأة شيئاً منها على جزء من الوجه إذا أحوجها ذلك. وشاهد ذلك قول البحتري يصف امرأة اضطرها فأرخت قناعها عَلى فمها. عَجِلت إلى فضل القناع فآثرت ... عَذَباته بمواضع التقبيل وأما البرقع فغطاءُ سائر الوجه أو بعضه وله عينان نجلاوان على عيني المرأة وثقوب أخرى يظهر منها شيء من وجهها. ويسمى ذا الثقوب الضيقة بالوصْواص.

ثيابها

ويغلب أن يكون ذلك للإماء. أما ذو الثقوب المنفسخة فهو المَنجول كأن عيونه عيون الحسان النجل وفي ذلك يقول الشاعر: لهونا بمنجول البراقع حِقبه ... فما بال دهر لزَّنا بالوصاوص وأما النصيف فثوب رقيق به المرأة فوق ثيابها، وربما قُنعت ببعضه. وإنما سمى بالنصيف لأنه نصَف بين الناس وبينها! فهو يحجز أبصارهم عنها. وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الحور العين: ولنصيف إحداهن عنها خير من الدنيا وما فيها ويقول النابغة في وصف المتجردة امرأة النعمان بن المنذر سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتلقفته واتقتنا باليد أما اللثام والنقاب فكلاهما قناع الوجه من طرف الأنف إلى ما دونه فإن نزل إلى الفم فهو اللفام. والآن وقد بلغنا من حجاب المرأة، فإن حقا علينا أن نُلم قليلا بثيابها وزينتها وما احتواه بيتها فتقول: ثيابها لبست المرأة العربية ضروباً من الثياب مختلفاً فنونها وألوانها مما أخرجته مناسج اليمن وعُمان والبحرين والشام والعراق، وما اجتلته من بلاد فارس وسواحل الهند ومنها مارق نسجة، ودق خيطة، وذلك ما تسميه بالمهلهل المسلسَل والهفّاف. وما كثف حوْكه وضوعفت حواشيه؛ وذلك ما تدعوه بالصفيق، والشبيع، والحصيف. ومنها ما لم يخالط لونه لون آخر. ولهن في ذلك الأبيض والأسود، والأحمر، والأصفر، والأخضر، والمُدَمىَّ - وهو ذو الحمرة القانية - والمشْرق - وهو ما كان وسطاً بين الحمرة والبياض - والمفرق - وهو

ما أشرب بالزعفران - وما اجتمع فيه لونان فما فوقهما ومن ذلك المُشْرَب - وهو الذي يتماوج بين لونين - والمخَطط والمسَهم. بيض - والنّمِيق، أو المنمق - وهو المنقوش - والمُوشى وهو ما اجتمع عليه الزُّخْرُف - والمُعَين - وهو ما أشبهت نقوشه عيون النرجس - والمُصَلب - وهو ما تقاطعت خطوطه كتقاطع الصلبان - والمُذْهب - وهو ما حُبك نسجه بخيوط من الذهب - وفيه يقول سلمى بن ربيعة: والبيض يرفلن ... كالدمى في الريط والمُذهب المصون وأما مادتها فالحرير. ومنه الدَّيباج، والدَّمِقْس. والسندس. والاستبرق والخزر وهو وبر دابة كالأرنب تدعى بذلك الاسم ويشبه الحرير في ملاسته ونعومته - ووَبر الأرنب؛ وليس كل أرنب ينخذ وبرها، وإنما هو نوع خاص يجتلب من شمال العراق. والقطن، والصوف، والكتان، وأشباها. وأما نوعها فجمة العدد، مختلفة الهيئات. وأشملها وأعمها ما أنا سائقه إليك ومنه الشعار والدثار. أما شعارها على ما يلي جسدها - فالصدار والمُجُول - وهما قميصان قصيران متقاربان لا أكمام لهما ودونهما السراويل وأما دثارها - وهو ما يلي الشعار - فالدرع - وهو جلباب شامل بدثارها - والنطاق؛ ويلبس دون الدرع - وهو ثوب تشدّة المرأة وسطها وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل - وإذا نحن قربناه إلى متناول العصر الحاضر قلنا أنه ملكوف مضاعف. ومن فوق هذا البتَ - وهو ثوب

أخضر مهلهل يحيط بجسم المرأة ويُقَنّع جزء منه رأسها ووجها - فإن لم يكن ظاهر الثوبين رقيقاً شفافاً ليظهر ما يليه. وقد تطلق الحلة على الثوب المبطن. وقد ترتدى فوق ذلك بصنف من الأردية ازدياناً واختيالا أو تصَوُّنا واحتشاما. ومن هذه الأردية العطاف، أو المِعطف - وهو رداء تلقيه على عطفيها وترسله على جسمها - والرَّيطَة - وهي مَلاءة ذات لفْق واحد أي شقة واحدة -. والْخبَرَة - وهي بُرْدٌ موَشَّى من بُرُود اليمن - وليس هناك وصف أدق لها من قول صبي لحسان بن ثابت لسعه الزَّنبار ولم يكن قد عرف اسمه فقال لأبيه: يا أبت لسعني طائر كأنه مكتلف في بُردى حبَرَة يمانية. وهي أغلى وأبهج ما أرتداه النساء في ذلك العهد. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحواميم في القرآن بالحبرات تنويها بها وإشادة بفضلها. ومن أرديتهن المِرْط - وهي مُلاءة ذات شقتين - وليس بين أرديتهن ما هو أعم استعمالاته منه. ومنها الَّلفاع - وهو رداء تلتفع به - وهو بالشال أشبه. ولهن غير ذلك الوِشاح - وهو شُقَّة مُرَصَّعة بالجواهر تشدها المرأة بين عاتقيها وخصرها - والسرَق. واحدتُهُ سَرَقة - وهي شقاق من الحرير يلتفعن بها - والمِطْرَف - وهو رداء مربع من الخزَّ موشى بالأعلم -. والعَمَرُ - وهو منديل الرأس - ولا يلبسه إلا الحرائر. وهنالك المِيدع - وهو ثوب تضعه عند معاناة عملها فتصون به غوالي ثيابها من الابتذال - وهو شبيه بما ندعوه بالمريلة قال الضَّبُّي: أقَدَّمه قُدّام نفسي وأتقي ... به الموت إن الصوف للخز ميدَع

حليها

هل تَخِمشن إبلي علىّ وجهها ... أم تعصبنَّ رؤوسها بسلاب ولهن في هذه المواطن المِسح - وجمعه مسموح - وفيه وفي السُّلُب - جمع سلاب - يقول لبيد: يَخْمُشْنَ حُرّ أوجه صحاح ... في السُّلُب السود وفي الأمساح وأما ما تحتذيه فالْخُفُّ - وهو ما طال من الأحذية - والقَفش، أو الكَوْث وهو القصير المكشوف منها. والجورب - وهو شعار القدمين - والقفاز ويتخذ للقدمين واليدين معا، وهو أدق نسجا، وأنضر لونا من الجورب، ولذلك شبهوا به الحناء في اليدين والقدمين فقالوا: تقفزت الفتاة إذا خضبت بالحناء. حليها بلاد العرب محفوظة الجنبات بمغاوص اللؤلؤ والمرجان. وهي فوق ذلك مستورَدة للذهب والفضة والزُّمُرُّد والزَّبَرجد والعقيق والياقوت وأشباهها مما يهبط به التجار من مختلف الأقطار ليبيعوه بلؤلؤ العرب ومرجانهم. فليس بعد ذلك أن يتخذ النساء تلك الجواهر معقد زينتهن، ومُجْتَلَب الأبصار إليهن، فلم يتجاف عنها، إلا واحدة من اثنتين: امرأة عنيت بفرط جمالها، وبديع محاسنها، فهي تتركها ثقة بذلك الجمال، واستهانة بأمر الحلي، وتلك التي يدعونها العاطِل، وأخرى امرأة نكبها الدهر، واستلبت منها عزيزاً عليها، فهي تطرحها كراهية للزينة، وإيذاناً بالحِدَاد، وهي التي يسمونها الَمرهاء فأما مَن سواهن فهن جميعاً حاليات. تقلد الصبية العربية صنوفاً من الحِلي منذ بدء عهدها وأول نشأتها. وذلك حيث يقول الله جل ذكره حاكياً قول جهلة المشركين الذين إذا بُشَّر أَحدُهم بالأْنْثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وهو كَظيمٌ: أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ في الْحِلْيَةِ وهو في الخِصامِ غَيرُ مُبِينٍ فجعلوا التنشئة في الحلية شعار الإناث، وموطن الكناية عنهن.

أما ما عقدت الخناصر عليه من صنوف حليهن، وضروب زينتهن، فذلك الذي أورده عليك: فهنالك التاج أو الإكليل، وهو عصابة مرصعة بالجواهر تحوط جبين المرأة. والقُرط، ما علق في أسفل الأذن فأما ما علق في أعلاها فالشّنْف. والْحبُّ، وهو القرط من حبة واحدة. يسمى الخيط الذي يصل بين القرطين بالعُقاب. والخِرصْ، الحلقة من الذهب أو الفضة في أذن الصبي والصبية والمرأة. هذا، ويغلب على القرط أن تعلق به جوهرة أو لؤلؤة. وقد ضربوا المثل بقُرطي مارية ابنة ظالم بن وهب الكندي زوج الحارث الأكبر الغساني ملك الشام، وفيهما درّتان كبيضتي الحمام لم ير الراءون أعجب ولا أوضأ منهما، وقد توارثهما نساء الملوك من بعدها حتى كان مآلهما إلى فاطمة بنت عبد الملك، وكانت زوجها لعمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة. فلما وليها قال لها: إن أحببت المقام عندي فضعي القرطين في بيت مال المسلمين. فصدعت بأمره. فلم يزالا في موطنهما من بيت المال حتى انتقض الملك الأموي فذهب خبرهما. ومن أمثالهم: أنفس من قرطي مارية. يضربونه في كل غال وعزيز عليهم. قولهم: آتيك بما شئت ولو بقرطي مارية. قال قائلهم: يأيها الملك الذي ... مَلَلك الأنام علانية المال آخِذه سوا ... يَ وكنتُ عنه ناحية إني أؤديه إلي ... ك ولو بقُرْطَي مارية وهنالك القِلادة. وهي ما يجعل بالعنق. ويسمى موطنها بالُمقَلّد. وأنفُسها

ما كان من اللؤلؤ وحده أو مفَّصَّلاً مع غيره من الجواهر. ومنها الزمرد والزبرجد والياقوت والمرجان. وقد يضاف إلى ذلك الشذْر، وهو حبات من الذهب والْجُمَان وهي لآلئ من الفضة. وهم يسمون اللؤلؤة التي توسطت حبات العقد بالواسطة. والتَّقْصَار أو الِمْخنقة قلادة لاصقة بالعنق. وتسمى الأهداب المتدالية من القلادة على الصدر بالُّسمُوط، وواحدهما سِمْط والَسمط أيضاً الخيط ينظم فيه اللؤلؤ وغيره. والطوق حَلىٌ يحيط بالعنق، ويغلب أن يكون ذلك للأطفال. والسَّخاب قلادة من قَرَنْفُل أو ما يشابهه، ويغلب أن تكون تلك للأطفال أيضاً. والسّلْسُ نظم ينظم من الخرز، وللخرز صنوف جمة، أجملها وأحبها الخرز اليماني، وهو صنف من الخرز محلّى. والوِشاح، وهو خيطان من الجوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر. والسُوَار أو الأسْوِرة، وهو نطاق المِعصم. وهو من خصائص الحرائر، وفي أمثالهم لو ذاتُ سِوَارٍ لطمتني والمِعضَد أو الدُّملج طوق العضد. وهو شبيه بالسوار لليد. والخاتم والفَتَخ، وأؤلهما ما له نص، والثاني ما لا نص له. وكلاهما يلبس في أصابع اليدين والرجلين معاً. والْخَلخال، وإنما يطلق على ماله رنين، فإن لم يكن له رنين فهو الفَتَخ، فإن غاض في الساق فهو الْخَدَمة، وعند العرب صنف من الحلي يصاغ مجحوفاً ويحشى بالطيب ويسمى ذلك بالكبيس.

بيتها

ويسمى صوت الحليّ بالوسواس أو النقنقة. والتميمة، خرزة تعلق في عنق الصبي أو الصبية أو خيط تعلق فيه التعاويذ بزعم أنه يدفع عنهم الآفات. ومن لواحق الزينة عندهن بل من أصولها ودعائمها الطيب، وهو زينة العرب جميعاً رجالا ونساء وأطفالا. والطيب عندهن على صنفين: أعواد يُتَبَخّرُ بها، ودُهن يُدّهَن به. فمن الأول الصندل، والساج واللبنى - وهو شجر يسيل منه لبن كالعسل في طعمه - والعود. والند - وهو المسك يعجن بالعود - والرّند وهو شجر زكي الرائحة. ومن أزهارهن الآس، ومنه يعتصر دهن يُدهن به. ومن الثاني العنبر والمسك والغالية وهي أزكى صنوف الطيب عندهن وتتخذ من المسك يعجن بالعنبر والبان. فأما البان فشجر يسمو ويطول في استواء وورقة كورق الأثل وثمرته كقرن اللوبيا ولها حب يعتصر فيخرج منه ذلك الدهن. على أن هنالك من العرب - وأخصهم أهل البادية - من يتوصل باطراح الطيب وترك التضمج به ويرون في الماء غَناء عنه ومن ذلك ما يقول الحارث بن كعب المَذْحِجي فيما يوصي به بنيه: وتزوجوا الأكفاء وليستعملن في طيبهن الماء. بيتها لم تكن بيوت العرب على سواء في تكوينها ونظامها ومادتها. فهي تختلف باختلاف مواطنها وأقدر ذويها. فأهل البادية لحاجتهم إلى النجعة، واعتزامهم الرحيل، وتأثرهم مساقط الغيث. ومنابت الكلأ، كانت بيوتهم بحيث يسهل تقويضها، ومتاعهم بحيث يحْتمل حمله، فلم يجاوزوا به مواطن الحاجة، وسداد العَوَز.

فأما بيوتهم فأكثرها خيام تضرب ثم تطوى، وقَلَّ أن كانت من الحجر أو الَّلبِن. وهي من حيث هذا وذلك على عشرة أنحاء: خباء من صوف، وبِجاد من وبَر، وفُسطاط من شَعَر، وسُرِاَدق من قطن، وقشع من جلد، وطرف من أدم، وحَظيرة من شَذَب وخيمة من شجر، وأُقنة من جر، وكُبّة من لبن. وهي بسائط التكوين. ومَثَلها في ذلك كمثل ما أحاط بها من سهل، وجبل، وجوّ، وأرض، وسماء. وغير أن أشرفهم لغدوّهم على حواضر البلاد وغشيانهم مجالس الملوك، كانوا يتأنَّقون بعض الأنقة في بيوتهم، وينقلون إليها من تلك المظاهر ما لا تنبو عنه طباعهم، ولا أسلوب حياتهم. وربما جمع الرجل بين هذه البيوت كلها أو بعضها ليتخذ منها مأوى لضيفانه، ومثوى لعشيرته، وحظيرة لماشيته، وجلساً لنسائه، ومهبطا لسُماره. وكانت للنساء مجالس يجتمعن فيها فيتناقلن الحديث، ويتجاذبن أطراف الكلام، كما كانت للرجال أندية يتسامرون فيها ويتشاورون وذلك ما يراد من قول عمرو بن كلثوم في وصيته لأبنائه حيث يقول؛ وأبعدوا بيوت النساء عن بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر. أما المدن فمستقر الدور والقصور. وهي لا تقل في شيء عما سواها في مختلف الأقطار والأمصار، وبينها أبدع ما وضعته الأيدي، وأثمرته العقول. ففي غُمدان وظفار وأشباههما. وفي العراق الخَوَرْنَقُ والسَّدير وأضرابهما. وفي الشام السُّوَيداء وقصر الغَدير ونظائرهما. وفي تدمر وتيماء الرواق الأعظم، والأبلق الفرد وأمثالهما. وفي كل مدينة من القصور الشمم ما لا تناله العُصْم، ومن دونها قصور لا تدانيها سناء ولا بناء. على أن لها نصيبها من جلال وجمال. ومن ذلك تعلم أن

بلاد العرب لا تقل في بيوتها عن كل بلدُ مشرق العهد عريق المجد بعيد الأمد. أما أثاثها ومتاعها فإني ناقل لك أعمه وأهمه. ففيها من الفُرُش الْحَصير، ومنه المنمق المنقوش، وفي النساء صوانع خصصن بتنميق الحصير. قال النابغة: كأن مَجْرَ الرامِساتِ ذُيُولَها ... عليه حصيرٌ نمَّقَتْه الصوانع والبساط وهو كل شيء بسط ليجلس عليه. ومن البسط الرفرف، وهي بسط خضر - واحدتها رفْرَفة - والزرابي - جمع زربى - وهو بسط بديعة الرُّواء، لها خَمْل - هُدب - ناعم دقيق؛ وإنما سميت بذلك تشبيها بالزَّربى من الزهر، وهو نبت يجمع بين الصفرة والبياض: والطنافس - جَمع طنْفُسة - ومثلها كمثل الزرابي في خملها، وإن كانت دونها في رقة نسجها، ورُواء منظرها. والعَبْقَرِي - جمع عبقرية - وهي الطنافس الثَخان، أو البسط الموشيَة من الديباج، أو أبدع الزرابي. والنمارق - جمع نُمرُقة - ومنها وسائد وبسط هي جميعاً ذات وشي مرقوم وقد ذكر الله جلِ ذكره تلك الصنوف من البسط في القرآن في سياق وصف الجنة ليصورها بذلك للعرب على إبداع ما يفهمون، وأحبَّ ما يعلمون. أما ما على الفراش من المقاعد فمنه الحشايا - واحدته حَشِية - وهي مقاعد محشوة تبسط على الأرض للجلوس وفوق السرر للنوم. وقد يبالغون في حشوها فيتخذونه ريش النعام. فإذا ازداد حشوها وارتفع سَمكها فهي الوشائز. وعندهن الحَجَلة وهي غرفة العروس تزين بالفُرش والأسرة والستور. وبها الأرائك - واحدتها أريكة - وهي شبيهة بالوشائز. غير أنها أرفع وأرق وأبهج. ومن أجمل ذلك اختصوا بها غرفة العروس.

وأما الأسرة فصنوف شتى وأوضعُهَا ما اُّتخذ من سَعَف النخل. وأعزها ما كان من العاج. وذلك الذي يقول فيه القائل. واللهِ للَنّوْمُ على الديباج ... على الحشايا وسرير العاج أهون يا عمرو من الإدلاج ... وزفرات البازل العَجْعاج ولهن غير ذلك الكِلل - واحدتها كِلة - وهي ستور رقيقة من البعوض وموطنها فوق السرر ودونها. وهنالك الحِلْس وكن يضعنه تحت الفراش بينه وبين الأرض ويقابله النمط وهو ظُهارة الفراش. أما جدران الغرفة وحيطانها فكن يشددن عليها النجود، وهي ستور منَّمقة ذات صور، وأشكال تشد على جدران الغرف لتزدان بها. ولهن ما يحفظن به حُرّ المتاع. ومن ذلك الصندوق، والخزانة، والْجُوالق. وبعضها قريب من بعض. فأما صندوق الثياب خاصة فهي الصُّوان. وفي الغرفة المرآة والمِسرجة وموضعها فوق المنارة. وما يشتعل فيها هو السراج، والقنديل وتصله بسماء الغرفة سلسلة تدخل في عراه. وكلا المسرجة والقنديل تضيء فيه الذُّبالة وهي فتيلة تستقي. وأكثر ما يكون دهن المصباح من الزيت. وقد يتخذ من السمن. وشاهد ذلك الحديث الفأر يقع في السمن: إذا كان جامداً قوّر ما حوله وارم به. وإن كان مائعاً فاستصبح به. تلك هي غرفة المرأة العربية، أتينا على خير ما حوت من زينة، وضمت من متاع، حتى تتراءى بذلك صورة ما عليها وما حولها، وحتى تعلم من كل ذلك أن المرأة العربية وإن أَبرت على كثير ممن سواها في فضلها فلم تقتصر عنهن في شيء من مادتها وزينتها.

دينها وعقائدها

وإن أمتع ما قيل في وصف نواعم العيش منفتيات البادية قول المَرّار بن المُنقذ التميمّي يصف فتاة من سَنّيات قومه: ناعَمَتْها أمُّ صِدْقٍ بَرّةٌ ... وأبٌ برّ بها غير حَكم فهي خَذواء بعيش ناعم ... بَرَدَ العيشُ عليها وقَصُر لا تمسُّ الأرض إلا دونها ... عن بلاط الأرض ثوب منْعَفر تطأ الخزّ ولا تكْرِمُه ... وتطيلُ الذيل فيه وتجُر وترى الرّيط مَواديع لها ... شُعُاً تلبسها بعد شُعُر عَبِق العنبر والمسك بها ... فهي صفراء كعرجون العُمر وهي لو يُعصر من أردانها ... عَبِق المسك لكادت تنعصر دينها وعقائدها إذا استثنيت فصائل منْبَثة في تفاريق بلاد العرب، من اليهود والنصارى، وآحاداً من الموحدين، فلست بواجد للقوم ديناً قَيماً يعتدُّون به ويعتمدون عليه. فهم يعتقدون أن هناك إلهاً فاطر السماوات والأرض، وأودع سره وأفاض من روحه على ماشاء من خَلقه. لذلك عَبدوا الملائكة والكواكب، ولذلك اتخذوا الأصنام من الشجر والحجر. كل يختار أفضل ما يراه وأولاده - فيما يزعمون - بقوة الله، حتى لقد حلا لبنى حنيفة أن يتخذوا إلههم من الحَبيس فعبدوه دهراً طويلا ثم أصابتهم مجعة فأكلوه! فقال قائل من تميم:

أكلتْ ربَّها حنيفة من جو ... ع قديم بها ومن إعواز وغيره يقول: أكلت حنيفة ربها ... زمن التَّقَحُّم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتّباعة وقد بلغ من اضطراب هذا الدين أن تعبد العشيرة الحجر، فإن وجدوا غيره آنق منه تبدلوه به، وتركوا معبودهم القديم. وفي حديث أبي رجاء العُطاردي: كنا نعبد الحجر في الجاهلية. فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقيِ ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً حفنة من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به. وربما اتخذت الأسرة لعبادتها صنما خالصاً لها، بل ربما اتخذ الرجل لعبادتها صنماً خالصاً له. وآثر ما يعبدون من أصنامهم ثلاثة لثلاث من الإناث: اللاتُ، والعُزَّى، ومنَاةُ الثالثة الأخرى. جعلوهن رموزاً للملائكة لأنهم - فيما خُيل لهم - بنات الله، وأنثوا للاوليين منهن اثنتين من أسماء الله جل ثناؤه، فاتخذوا من الله اللات. ومن الأعزَّ: العزَّى! سبحانه الله وتعالى عما يصفون مثل ذلك الدين الواهن المضطرب لا أثر له في تكوين المرأة العربية، وليس في شيء مما طبعت عليه من سمُوَّ النفس. وجلال الخُلُق، لأنه لا مظاهر له من كتب منشورة، وقواعد منثورة، ومآثر مأثورة. على أن وَهَن هذا الدين أسلم دَهماء النساء إلى صنف من العقائد والهواجس رسخ في ذوات نفوسهن رسوخ الدين. وإني مُجمل لك القول في أعمق هذه العقائد

الخرزات والتمائم والرقي

في قلوبهن، وأعلقها بنفوسهن؛ لأكشف لك عن صورة غير مخضوبة، وصحيفة غير مكذوبة. الخرزات والتمائم والرُّقَي إن اختمار الوثنية في المرأة العربية خيَّل لها أن في بعض الحجر مآثر وأسراراً تكشف عنها العزائم والرُّقَى. فهنالك بين ثنايا الجبال، وبين أعطاف المفارز، صنوف من الخرز مما فُصل من شعب الصخور، تناولته يدُ القدم، فأبدعت أشكاله، ونوعت ألوانه، بما سلطت عليه من وَهَجَ الشمس، وتسكاب المطر. ألقى في روع المرأة العربية أن لكل طائفة من هذا الخرز أثراً في إصلاح أمرها من اجتلاب خير، أو دفع مكروه، وأعد لها السواحر كلمات تلقيها على كل فريق لتستثير ما يطويه، من أثر صالح، وسر كمين. وذلك الذي أورده عليك مختار خرزهن. ومأثور عزائمهن ورقاهن. فمن خرزاتهن: الهِمنة: وهي خرزة يجتلب بها النساء قلوب أزواجهن. وهن يَقُلن عليها: أخّذْتُه بالهِنَّة، بالليل زوج وبالنهار أَمَه والدّرْدَبيس وهي خرزة سوداء، كأن سوادها لون الكبد، إذا رفعتها واستشففتها رأيتها تشف كلون العنبة الحمراء. تتحبب بها المرأة إلى زوجها. وموطنها قبور عاد. قال قائلهم: قطعت القيد والخرزات عني ... فمن لي من علاج الدَّرْدَبيس

وقال: جَمَّعْن من قبلٍ لهن وفَطْسَةٍ ... والدردبيس مقابلاً في المنْظَم فانقاد كل مُشَذَّبٍ مَرشسِ القُوَى ... لحبالهن وكل جلد شَيظَم وهن يقلن في رقاهن عليها: أخَذْتُهُ بالدردبيس: تُدِرُّ العِرق اليِبَيس، وتَذَر الجديد كالدَّريس. وكَرَار: وهي خرزة يؤلف بها نساء البادية قلوب رجالهن. ومن مقالهن عليها: يا كَرارُ كرَّيه، يا هَمةُ أهمريه، إن أقبل فُسريه، وأن أدبر فضُريه. والقَبَلة: وهي من خرز نساء العرب. يتخذنها لإقبال أزواجهن عليهن ورثقيتها: يا قبَلة أقبليه، ويا كرارُ كُريه. والصَّرفة: وهي خرزة يصرفن بها الرجال عن مذاهبهم، وشتات أغراضهم. والعَطْفة: وهي خرزة يُعَطّفن بها الرجال إذا قَسَت قلوبهم. واليَنْجَلب: وهي خرزة يتخذنها للرضاء بعد الغضب، والأوبة بعد النَفار. ورُقيتها: أخَذْتُه باليَنْجِلب، فلا يَرم ولا يغيب، ولا يزل عند الطُنب. والسُّلونة: وهي خرزة شفَّافة إذا دفنت في الرمل اسودّ لونها فإذا أُخرجت سحقت وصب عليها ماء المطر فإن شربها من اْبتُلي بحب إنسان سلا عمن أحبه ويسمى ماؤها السُّلوان. قال قائلهم:

شربت على سُلوانة ماء مُزنة ... فلا وجديد العيش يا ميَّ ما أسلو وقال: يا ليت إن لقلبي ما يُعَلَّلُه ... أو ساقياً فسقاني عنك سُلوانا وقال الراجز: لو أشرب السلوان ما سَلِيتُ ... ما لي غنى عنكم وإن غَنِيتُ والسَّلوَة: وهي خرزة يشف ظاهرها عما وراءه، وإذا اسثشففتها رأيتها كزُالا البيض يُسقى نقيعها الحزين فيسلو والكلف فينصرف. قال الشمَردل: ولقد سُقِيتُ بسلوةٍ فكأنما ... قال المُدَاوِي للخيال بها ازدد وقال عروة بن حِزَام: جعلت لِعَراف اليمامة حُكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني فقالا نعم نشفى من الداء كله ... وظلا مع العُوَّاد يبتدراني فما تركا من رُقية يعرفانها ... ولا سَلوَة إلا وقد سقياني والقرْزَحْلَة: وهي من خرز الضرائر، إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون سواها قال قائلهم: لا تنفع القرزحلة العجائزا ... إذا قطعنا دونها المفاوزا والكَحْلة: وهي خرزة تجعل على الصبيان فتقيهم أذى العين والنفس من الجن والإنس ولها لونان بياض في سواد كالرُّب والسمن إذا اختلطا. وربما اتخذها النساء لتأليف قلوب الرجال.

والفطَسة: وهي خرزة يسْقم بها العدو حتى يموت. ومن مقالهم عليها: أخّذْته بالفَسطة، بالثَُّبا والعَطسَة، فلا يزال في تعسة، من أمره ونكْسَة، حتى يزور رَمسهَ. ومن رُقاهن لتأليف القلوب: هَوّابة البرقُ والسحابة، أخذته بِمركَن، فحُبُّهُ تمكن، أخذته بإبرة، فلا يزال في غبرة، جَلبته بإشفى، فقلبه لا يهدا. جلبته بِمبرد، فقلبه لا يَبرد. وهنالك التمائم، والتميمة خرزة رقطاء، أو طائفة من الخرز والعُوذ تنظم في سير ثم تعلق في عنق المولود حين يولد. ومما يفعلن أبناءَهن أذى العين، وشرور الجن، أن يعمدون إلى الوليد حين يولد فيخططن عليه من صمغ السّمُر - وهو شجر أشجار البادية يزعم العرب أن الجن يرهبونه منه - ثم يعلق عليه سن ثعلب أو هرة، ومن حديثهن أن جنية أرادت صبيا فلم تقدر عليه. فلما رجعت قيل لها في ذلك. فقالت. كانت عليه نُفرة، ثعالب وهَرَة، والحيض حيض السّمَرة. وربما علقن عليه كعب أرنب، لأن الأرانب لا يعلوها الجن ولا يقربونها قال ابن الأعرابي: قلت لأعرابي من علق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنّان الحي، ولا عُمَّارة الديار. فقال: إي والله، ولا شيطانة الْحَمَاطة ولا غُول القفر وتُطأْ عنه نيران السّعالي.

التفاؤل والتطير

التفاؤل والتطير المرأة العربية كمن سواها من الناس، إذا اعتزمت أمراً، أو صَبَت إلى مطلوب كان أكبرهمها أن تعرف مآله من الخير والشر، وتكشف عن نصيبه من العسر واليسر. لذلك عنيت في عامة أمرها أن تطالع ما تستقبله من مظاهر الكون فإن كان ممن خُيَّلَ لها أنه بادرة الخير، وطليعة التوفيق، ومضت في عملها آمنة مؤمنة مطمئنة، وإن مُنيت بما راعت نبْأَته وساءت طلْعته، رجف قلبها وانبعثت ريبتها، واستشعرت الهيبة من الخيبة. وهي في ذلك قسيمة الرجل لما اجتمع عليهما من غلبة المشاعر، وانفساح مدى الخيال. والعرب أمة لغة وبيان. يَكْلفون باللفظ ويستأسرون لديباجة الكلام. لذلك كان أول ما يأخذهم من الشيء اسمه، وما ينيء عنه اشتقاقه من خير أو شر؛ ثم ما ينم عنه صوته ومنظره، ثم مواطنه التي يهبط إليها، ويغلب عليها إن كان مما يألف الرياض الحالية، أو الطلول البالية، والرسوم العافية. ومما ينبئك عن موقع الأسماء من نفوسهم، ومبلغ أثرها في مشاعرهم، قول بَشَّار ابن المُضَرَّب. تغنى الطائران بِبَين ليلى ... على غصنين من غرَب وبان فكان البانُ أن بانت سُلَيمى ... وفي الغَربَ اغتراب غير دان فانظر كيف أخذ الغربة من الغرب! والبين من البان؟

ومثله قول من يقول: أقول يوم تلاقينا وقد سجعت ... حمامتان على غصنين من بان الآن أعلمُ أن الغُصن لي غَصَن ... وإنما البان بين عاجل دان فقمت تخفضني أرض وترفعني ... حتى ونَيْت وهد السير أركاني ومثل ذلك يقول جِرَان العَود: جرى يوم رححنا يَزُفُّها ... عُقاب وشَحّاج من البين يبرح فأما العُقاب فهو منا عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المُطوّح فلم يجد في العُقاب إلا العقوبة، وجعل الشّحاج - وهو غراب البين - دليل الغرب المطوّح. ولئن أشفق جِرَان العَوْد من العقاب. وارتفعت منه العقوبة، لقد تيمن به غيره، وتنظَّر منه العقبى، مما هو فيه من نار الشوق، فقال: وهاب رجال يقولوا جَمْجَموا ... فقالت لهم جار إلىّ ربيح عُقاب بأعقاب من النار بعد ما ... مضت نِيّةٌ لا تستطاع طروح وقالوا دَمٌ دامت مودة بيننا ... وعاد لنا غصن الشباب قريح وقال صِحابي هدهد فوق بأنة ... هدى وبيان في الطريق يلَوح وقالوا حَمامات فحّم لقاؤها ... وَطَلْحٌ فَزيرت والمَطيّ طَليح قالوا: فهو إذا شاء جعل الحمام من الحِمام والحميم والحِمىَ. وإن شاء قال: وقالوا حمامات فحّم لقاوها. وإذا شاء اشتق البين من البان. وإذا شاء اشتق منه البيان

وشبيه بذلك قول من يقول: وقالوا عُقاب قلت عقبي من الهوى ... دنت بعد هجر منهم ونزُح وقالوا حمامات فحُمّ لقاؤها ... وعاد لنا حلو الشباب ربيح وقالوا تغنى هدهد فوق بأنه ... فقلت هدى نغدو به ونروح لكل ذلك كان الغراب أشد ما يروعهم، وتُطوف به أعينهم، لما ينيء عنه اسمه من الغربة، ولروعة سواده إن كان أسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنه غريب لا يقطع إليهم، ولأنه لا يوجد في موضع خيامهم يَتَقَمم إلا عند معاينتهم لمساكنه، ومزايلتهم لدورهم. ولأنه ليس شيء من الطير أشد على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان. لأنه ينقب عن الدّبر حتى يبلغ إلى دايات العنق، وما اتصل بها خرزات الصلب وفقار الظهر قال عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع إن الذين نعيت لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلى التمام فأوجعوا وأشد ما يتشاءمون بالغراب إذا ولاهم ظهره أو شماله - وذلك البارح عندهم - أو أبصروه يتفلى وينتتف، أوصاح بهم صيحة واحدة. أما إذا استقبلهم بوجهه أو ثَنى في صوته، فهم به يتيمنون. ومثلُ الصُّرد عندهم كمثل الغراب فهو طليعة الشؤم، وسبيل الخراب. وهم إذا رأوه ذكروا التصريد، وهو القلة، وانزعجوا مما عسى أن يصيبهم من نقص في الأهل والمال قال قائلهم: دعا صُرَد يوما على غصن بانة ... وصاح بذات البين فيها غرابها

فقلت أتصريد وشَحْطٌ وغربة ... فهذا لعمري نأُيها واغترابها وحكم الرَّخم والبوم كحكم الصردِ والغراب. وهم يقولون: إن لئام الطير ثلاثة، الغربان والرخم والبوم. كذلك أمر الجراد عندهم لأنهم تنظروا منه الجرد لأنه مختلف الألوان فهو عندهم كحوادث الزمان. أما الهدهد فأمره من أولئك بعيد، فهو عندهم غرة النجح، وآية اليُمن، وسبيل الهداية. ويزعمون أنه الذي كان يدل سليمان صلوات الله عليه على مواضع الماء في أعماق الأرض. ويقولون أن القُنْزُعةَ التي على رأسه ثواب من الله على ما كان من بره بأمه لأن أمه لما ماتت جعل قبرها على رأسه وشعارهم إذا استمعوا من الطير ما يروعهم أن يقولوا طائر الله لا طائرك أما ما سوى الطير من الحيوان فهم يتشاءمون منه بالأعضب، والأعور، والأبتر والقعيد، والنطيح. فالأعضب المكسور القرن، أو المشقوق الأذن. والأبتر المقطوع الذنَب والقعيد ما أتاك من ورائك من ظبي أو طائر. والنطيح ما استقبلك من أمامك من طائر أو ظبي أو وحش أما النبات فهم يتشاءمون منه بالغرب والبان كما علمت، وبالخلاف لأنه سبيل القطيعة. ويتيمنون بالريحان لأنهم أخذوا منه الروح. وربما نظروا إلى مرارة طعمه فتشاءموا به

وللعرب فيما عدا الطير والوحش والنبات. بوادر يتشاءمون بها، ويعوذون منها، ومنها العُطاس. قال امرؤ القيس: وقد اغتدى العُطاس بهيكل ... شديدٍ منيع الجنب فْعمِ المُنطق يقول: إنه يغتدي قبل أن يستيقظ الناس لئلا يستمع عطاسهم فيخيب. وكان قولهم إذا عطَس من يحبونه: عمراً وشباباً. وإذا عطَس من يبغضونه: ورَياً وقُحَاباً. وإذا استمع أحدهم العاطس ممن لا يعرف قال: بِكِلابي أسأل الله أ، يجعل شُؤْمك بك لا بي وكانت المرأة تتطير إذا انكفأ الإناء وصب ما فيه. وتقول في العياذ من ذلك دافق خير. وكانوا إذا اشتروا الدار، أو بنوها، أو فجَّروا العين، ذبحوا عندها ذبيحة ودعوها ذبيحة الجن، حتى لا ينالها من الشؤم شيء. وبعد فإن كان التطير مما أسلفنا لزام العرب وسبيل قصدهم، فلقد جحده كثير من رجالهم، وأخَصُّهم أولو العزم والإقدام منهم. قال الحارث بن حِلَّزَة: يأيها المزمع ثم انثني ... لا يثنيك الحادي ولا الشاحج ولا قعيد أغضب قرنه ... هاج له من مربع هائج بينا الفتى يَسْعَى ويُسعَى له ... تاح له من أمره خالج يترك ما رَقَّحَ من عيشه ... يعيش منه هَمَجٌ هامج

سفر الرجل وطول غيبته

وقال حاتم بن عدي: وليس بهياب إذا شد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد تلك الهناة الْخُثَارم وقال علقمة الفحل: ومن تعرض للغربان يزجرها ... وعلى سلامته لا بد مشئوم سفر الرجل وطول غيبته إذا اقتعد الرجل راحلته، وابتدأ ارتحاله، فإن كان بغيضاً إلى المرأة عمدت إلى النار فأوقدتها، حتى تحول دون مآبه إليها. وإن كان عزيزاً عليها قبضت من مواطئ قدميه واحتفظت بها، فذلك أسرع لعودته قال قائل: قالت له واقتبضت من أثره ... يا ربَّ أنت جاره في سفره وقالت امرأة: أخذت تراباً من مواطئ رجله ... غداة غدا حتى يؤوب مُسَلَّما فإن طالت غيبته، وخَفي عليها خبره ... جاءت إلى بئر عادية مظلمة بعيدة الغور فنادت فيها. يافلان؛ أو ياأبا فلان، فإن سمهت بعد ذلك صوتا علمته حياًّ وإلا فهو مائت. وللرجال نصيبهم من هذا الخيال. قال قائلهم: دعوت أبا المغوار في الحفر دعوة ... فما آض صوتي بالذي كنت داعيا أظن أبا المغوار في قعر مظلم ... تُمِرُّ عليه الذارياتُ السوافيا

خدر الرجل واختلاج العين

وقال آخر وقد سمع رجع صوته: ألم تعلمي أني دعوت مجاشعاً ... من الحفر والظلماءُ بادٍ كُسورُها فجاوبني حتى ظننت بأنه ... سيطلع من جَوْفاَء صعب حدورها لقد سكنت وأيقنت أنه ... سيقدم والدنيا عُجَابٌ أمورها خَدَر الرَّجْل واختلاج العين مما يزعم العرب - رجالهم ونساؤهم - أن الرجْل إذا خدرت فذكر بها غائباً حبيباً ذهب خدرها. فإن اختلجت العين تنظَّرُ من وراء اختلاجها قرب لقاء الغائب الحبيب. قال قائلهم: إذا اختلجت عيني تيقنت أنني ... أراكِ وإن كان المزار بعيدا رأيها في مصير موتاها مما يزعم العرب، أن الميت إذا حال عليه الحول تحسرت عظام رأسه عن طائر على سُنَّة البوم يجثم على شفير قبره: فإن كان صاحبه قتيلاً لم يؤخذ بثأره أقبل يصيح: اسقوني اسقوني. فلا يزال على صاحبه حتى يؤخذ بثأره. وهم يسمون الطائر بالهامة، وعظام الرأس بالصدى. قال ذو الإصبع العدواني: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني وقال حاتم: أماويَّ إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدىَّ ولا خمرة ترىْ أن ما أنفقت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر

وقال أبو دؤاد: سُلَط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام وقال شدّاد بن الأسود الليثي: يخبرنا الرسول بأَن سنحيا ... وكيف لقاء أصداء وهام وقال مغَلَّس الفقعسي: وأن أخاكم علمتم مكانه ... بسفح قنا تسفى الأعاصر له هلمة تدعوا إذا الليل جَنّها ... بني عامر هل للهلالّي ثائر ومن العرب من يزعمون أن النفس طائر يتبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشاً على قبره. ويزعمون أن هذا الطائر يكون صغيراً ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم. وهو أبدأ مستوحش يألف المعطّلة، ومصارع القتلى، والقبور، وأنها لا تزال عند ولد الموتى ومُخلَّفة لتعلم ما يكون بعده فتخبره. والعرب يدينون بيوم القيامة ويرتقبونه. ومما يتخذون من العدة له أن يحفروا على جانب من قبر صاحبهم حفيرة، ويقيمون بها بعيراً، يعقلونه، لا يعلفونه، ولا يسقونه حتى يموت. فذلك مركبة يوم القيامة. فإن لم يفعلوا له ذلك خرج يوم البعث يسعى حافياً متسكعاً. وهم يسمون هذا البعير بلّية. قال قائلهم يوصي ولده: احمل أباك على بعير صالح ... يوم القيامة إن ذلك أصوب لا تتركن أباك يسعى خلفهم ... تَعِباً يَخِر على يديه وَيَنْكُب

ضمان القلوب

ضمان القلوب تشق المرأة رداء زوجها، ويشق برقعها، ذلك عندهم ضمان الحب، ووثاق القلوب! وحُجَّتهم في ذلك أن ترى المرأة صنيع زوجها، وهو يرى صنيعها، فلا تزال تذكره، ولا يزال يذكرها. وربما تبادلا ثيابهما فلبس كلٌّ بُرْد صاحبه ثم لا يزال يعبث بتمزيقه حتى يبليه. قال سُحَيم بن معد الأسدي: فكم قد شققنا من رداء مُحَبَّر ... ومن برقع عن طَفْلَةٍ غير عانس إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دَوَالَيك حتى كُلُّنا غيرُ لابس تروم بهذا الفعل بُقيَا على الهوى ... وإلْفُ الهوى يغرى بهذي الوسواس وقال آخر يصف ثوبه مما فعلت به امرأته: كأن ثيابي نازعت شوك عُرْفُط ... ترى الثوب لم يَخْلَق وقد شُقَّ جانبه صنيع المِقْلاَت المقلات هي المرأة التي اهتصر الموت أبناءها فلم يبق منهم على أحد. تلك المرأة إذا وطئت القتيل الشريف عاش في زعمهم أبناؤها قال قائلهم: تظل مقاليت النساء يطأنه ... يَقُلْنَ ألا يُلْقَى على المرء مئزر ولا أحسب ذلك إلا وسيلة مما ابتدعته العرب لإذلال أعدائهم، فألقوا في روع الثواكل من النساء أن في ذلك حياطة من الموت فلا يعود إلى انتزاع أكبادهن من بين جوانحهن. وإلى تلك السنة أشار الكْميت بن زيد الأسدي في مدحه الحسين بن علي عليهما السلام

البئر في شفة الصبي

وتطيل المرزّآت المقاليت ... إليه العقود بعد القيام يتعرّفن حُرّ وجه عليه ... عِقْبَةُ السَّرْوِ ظاهراً والوسام البئر في شفة الصبي مما يعمل النساء إذا بُثرت شفة صبيهن، أن يُحمَّلنه مُنخُلاً فيطوف على بيوت الحي ينادي: الْحَلاَ الْحَلاَ الطعام الطعام. فتلقي له النساءِ كِسَر الخبز وأقطاع الثمر واللحم في المنخل، فينثر ذلك للكلاب. فأيما كلب أو طفل تناول منه بثرت شفته وبرأ الصبي. قالت امرأة: ألا حَلاَ في شفة مشقوقة ... فقد قضى مُنْخُلتا حقوقه عمل الشمس في الأسنان كان عمل الصبي والصبية إذا سقط لأحدهما سنّ، أن يأخذها بين السبابة والإبهام، ويستقبل بها الشمس، ويقول يا شمس أبدليني بسنّ أحسن منها وْلتَجْرِفي ظَلْمِها آياتك. فهنالك تستقي من ضوء الشمس، فلا يكون سنٌّ أو أوضأ ولا أدق منها. وذلك المعنى بقول طَرَفة: شادن يجلو إذا ما ابتسمت ... عن أَقاحٍ كأقاح الرمل غُرّ بدلته الشمس من منبته ... بَرداً أبيض مصقول الأثر وقوله: سقته إياه الشمس إلا لثاته ... أُسِفَّ ولم تَكْدُمْ عليه بإِثمدِ

بعض شأنها

بعض شأنها عرسها للزوج عند العرب يومان: يوم الإملاك - وهو يوم العَقْد - ويوم البناء - وهو يوم الدخول -. ذلك بعد أن يُقَدَّم القوى بين يدي الأمر ما يرضونه ويمهده. يوم الإملاك في ذلك اليوم يأخذ ذوو الفتاة زينتهم، ويجمعون قاصيتهم، ويَنْتَدُون في ساحة دارهم، أو نَدىَّ عشيرتهم، وفي صدرهم وَلّيَ صاحبتهم، مرتدياً بُرْدَىْ حَبَرَة متخَلَفا بالخلوق. وهنالك يَقْدم رجال الفتى، فيهبطون من أكفائهم ونظرائهم مَهْبطاً كريماً. حتى إذا اطمأَن بالقوم المكان، أنشأ وليّ الزوج يخطب القوم خطبة رَيَّقةً مُونِقَةً، يكشف فيها عما تناجوا به، وقدموا له، ويقدّر فيها المهر عاجله وآجله. ثم يجيبه وليّ مخطوبتهم بمثلها، يُضَمَّنها الرضا بالقوم أخدانا وبصاحبهم صهرا. حتى إذا انتهيا نُحرت اُلجزُر ومُدَّت المطاعم، وسُمع الغناء من مجالس النساء. وتسمى وليمة ذلك اليوم بالنقيعة. وصيغة العقد عندهم، أن يقوم الزوج: خِطْبٌ. فيقول وليّ الزوجة: نِكْحٌ. وذلك حديث ذلك اليوم في أسرتين من سادات أسر العرب وهاماتهم. أرسلت خديجة بنت خويلد إلى أمين قريش ومأمونها محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - تخطبه وتقول له، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحُسْن خُلُقك، وصدق حديثك. فرجع محمد، صلى الله عليه وسلم،

خطبة أبي طالب

بالقول إلى عمه العظيم الكريم أبي طالب بن عبد المطلب، فرضيه، وأقرّه عليه، ولما استقر لخديجة من نُبْل اُلخلُق، وسناء الحياة. غدا الرسول على خديجة بالرضا، وبان القوم غادون في أثره، فأرسلت في آلها ورجال أسرتها، واستأذنت عمها، فأذن لها، وقال: هو الفحل لا يقرع أنفه. ثم نهضت إليه، فحلفته بالعبير، وكسته بردى حبرة حمراء، وأقبل القوم من بني هاشم، وفيهم كريم فتيانهم، ونجيب عشيرتهم، محمد بن عبد الله، فنزلوا من بني أكرم منزل وأسناه وهنالك تداول الخطابة أبو طالب بن عبد الله سيد قريش وإمامها، وورقة بن نوفل - ابن عمّ خديجة - حَبر قريش وعالمها. ولما انتهى القائلان نحر محمد - صوات الله عليه - جَزورين. وأمرت خديجة نساءها فرقصن وغنين. وإليك نص الخطابتين: - خطبة أبي طالب الحمد الله الذي جعلنا ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضِئضِىء مَعَد، وعنصر مُضر. وجعلنا حَضَنَة بيتهبيته، وسُوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرما آمنا وجعلنا حكام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونُبلا، وفضلا وعقلا. وإن كان في المال قُل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ورعايّةٌ مسترجعة. وهو والله بَعْدُ له نبأ عظيم، وخطر جليل. وقد رغبت إليكم، رغبة في كريمتكم خديجة. وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونَشا.

خطبة ورقة بن نوفل

خطبة ورقة بن نوفل الحمد الله جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددْت. فنحن سادة العرب وقادتها. وأنتم أهل ذلك كله. لا ينكر العرب فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم. فاشهدوا علىّ معاشر قريش، أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله. وكان ورقة في موقفه هذا ينطق بلسان عمرو بن أسد عم خديجة، الذي نهض فقال: اشهدوا علىّ معاشر قريش. أني قد أنكحت محمد بن عبد الله، خديجة بنت خويلد. وكان من سنة العرب، إذا خطب الرجل قومه، أن ينهض واقفا، أو يعتلى شَرَفا من الأرض؟ أو يتبوأ ظهر راحلته، إلا في خطبة الإملاك فإن شأنه أن يخطبها وهو جالس مطمئن. ذلك لأن المقام مقام دعة وتبسط لا حاجة فيه إلى فورة الدم وثورة العاطفة، بما يبذل من تطاول واستشراف، وقبض وبسط، وإرعاد وإبراق. المهر هو صلة الرجل لامرأته، تأخذه كاملا غير منقوص لا سبيل لأحد إليه ولا سلطان له عليه. لذلك عدّوا من اللؤم المؤتشب في نفس الرجل أن يتخذ حلوان ابنته أو مُوَلَيَتَهِ وذلك أن يتفق على جزء من المهر يبغيه لنفسه. وأعز مهورهم الذهب السبيك. والأينق العُشَرَاء، يبذلون منها على قدر ما رزقوا من نعمة العيش، وبسط الغنى على أن حدّ ذوي الجاه والسُّؤدد واليسار

مائة رطل أو مائة ناقة. وقد يجمع الرجل بينها. فقد أمهر عبد المطلب بن هاشم بنت عمرو مائة ناقة ومائة رطل من الذهب. وليس العرب بالذين يساومون في المهر قَلَّ أو كثر وحسبهم من الرجل جهد همته، وبعد غايته، وسناء نسبه، وصفاء ضريبته، فقد نزع لَقِيط بن زرارة شريداً إلى قيس بن خالد ذي الجدين، كرين العرب، وأحد ملوكها، فخطب إليه ابنته، وتكلم بكلمات كشفن منه عن قلب ذكي، وأنف حِمىٍّ، ونسب سنّىٍ. فزوجه الملك ابنته لليلة وساق إليها المهر عنه. أما ذوو الخصاصة فأن بِحَسْبِ الرجل أن يسوق إلى امرأته مما يباع ويشترى. ومن حديث العرب أن مُهلهِلَ بن ربيعة رحل بآل بيته بعد أ، اْستَذَلَّتْهُ بَكْريم يوم تحلاق اللمم، فاستجار بَمذْحج. وهنالك جاءه ناس منهم يقال لهم بنو جَنْبٍ فخطَبوا إليه ابنته طمعاً في أن يَشْرُفوا بشرف قومه، وينبهوا بوثوق الصلة به، فأبى ذلك عليهم. ثم سعى إليه مجيروه من مَذْحِج، وظاهروا جنباً في خْطَبتهم وأبصر هو القسر والكريهة منهم، فنزل لهم عن ابنته، وساقوا إليه في مهرها رقاعاً من جلد، وأفاءوا بها على فتى من غِمارها. فقال مهلهل في ذلك: نهنهني صاحبي فقلت له ... إن الخطوط جعلن بالقِسَم أصبحت لا مَنْفَساً أصَبْتُ ولا ... أُبْتُ كريماً حرّاً من الندم عز على وائل بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جُشَم أنكحها فقُدها الأرقم ... من جنب وكان الْحباء من أَدم

يوم البناء

ليس بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون عن عَيْلَة ولا عَدم لو بأبانَيْنَ جاء يخطبها ... ضُرَّب منه جبينه بدم وربما احترش الأعرابي ضبا إلى كفيئته فكان ذلك مهرها وعُقدة زواجها. قال أعرابي: أمهرتها بعد المطال ضبَّين ... من الضباب سَحَبَلَيْب سَبَطين نعم لعمر الله مهر العِرسَيْن فذلك مهره الذي أبرَّ به على غيره، وتجمل به على صاحبته، وعده تأنقاً في البذل وإفراطاً في السماحة. ذلك مهر العروسين. والعرب يقولون: الأزواج ثلاثة، زَوج مهْرٌ، وزوجٌ بهْر، وزوج دَهْرٌ أما زوج مهْر فرجل لا شرف له يُسْنىِ المهر ليُرغَّ فيه، وأما زوج بهر فالشريف وإن قَلَّ ماله تتزوجه المرأة لتفتخر به، وأما زوج دهر فذلك الكفء الذي لا عيب فيه. يوم البناء لا تجد في مأثورة حياة العرب ومعدود أيامهم، يوماً أتم بهاء، ولا أعم صفاء. ولا أبدع رُواء ولا أكثر ضياء ولا أجمع للبهيج الهني من محالفهم، ومعالم أفراحهم من يوم البناء. فهنالك يتبارى الفتيان فيلعبون بالرماح. وينتضلون بالصفاح ويَستَبِقون على متون الخيل. ويأخذون في الميسر - وهو أداة لهوهم وسنة الندى والكرم فيهم - ويسرحون ويمرحون، ويشربون ويطربون. أما بين يدي الدار وفي حجرتها، فهم يبسطون الأنماط، ويشدونها على الجدران وعليها النقوش المموهة والصور المزينة - وتلك التي استنكرها الإسلام

واطرحها في أعراس المسلمين - وعلى النمارق المصفوفة، والزرابي المبثوتة، يجلس النساء، ويأخذ فتياتهنّ فيما عف وظرُف من ضرب اللهو وفنون المرح. فأما الليل فأحسن ما اكتحلت به نواظر العرب حتى جعلوه مضرب أمثالهم فقال قائلهم يا ليلة ما ليلة العروس فهنالك تُجلى الفتاة، ويُفرع عليها الحُلّيِ مما تملك وما لا تملك، لأن قومها يستعيرون لها أمتع ما في الحي من حلي، بل ربما تجاوزوا حيهم إلى ما سواه. فقد استعار عتبة بن ربيعة - وهو في الشرف الصميم من قومه - حلي بني أبي الحقيق لتزف فيه ابنته هند على أبي سفيان ورهنم ابنه الوليد. فأقام بينهم شهراً ثم ردّ الحلي موفوراً. في ذلك الزَّيَّ البهيّ تسير الفتاة في حشد من لِدَتها وأترابها حتى يصلن بها إلى حجلتها. فينشئ الإمام يرقصن بين يديها، ويُغَنَّينها بمآثر آبائها. والغرّ الميامين من قومها. وفي ذلك الموطن لا يحتجب النساء من الرجال. وقد عَبَرَ العرب على سنتهم هده في مقتبل العهد الإسلامي. فقد حدّث البخاري عن الرُّبيَّع بنت معوذ بن عفراء أنها كانت قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بُني علَيّ فراش كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهنّ: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين. ومن مقال النساء لصاحبتهن عند مفارقتها: باليمن والبركة. وعلى خير طائر أما بعد فلا يهولَنَّك ما رأيت من اعتداد القوم بأَعراسهم فوق

مناحتها

اعتدادهم بمواسمهم وأعيادهم. فإن العرب على ما تعلم أمّة حرب وجلاد، وهم لا يزالون في وقائع تُبَهَّرِج دماءهم، وتعتصر مهجات نفوسهم حتى يخطب القبيلة إلى القبيلة فتتخذا من تعاطف الأرحام، تعاطفاً في القلوب، وأسواً للجروح، وأمته من الحادثات. وأخرى أنّ العرب إذا أكبروا أمر الزواج فإنما يكبرون ما تنحسر عنه النساء من الأبناء، وهم عُدَّة الحي، وغاب الحمى، وعز العشيرة. مناحتها لنساء العرب مظاهر من الوفاء كلها حسن جميل إلا ما تَعَسَّفته الثواكل منهنّ مناحاتهنّ ومَهاجات أحزابهن من توَرُّط في الجزع وإسراف في البلاء. والمرأة العربية أحمل الناس لنازلة وأصبرهم على مُلمة، إلا إذا انتزع الموت منها أليفاً حميماً أو عزيزاً عظيماً. فهي تسير في شعاب من الأحزان طَلْقَة العنان بل إنها لتضاعف أحزانها، وتورث ضرام جشاها، بما تنهجه يومذاك من خطة وتشتمل عليه من عادة. على أن نساءَ العرب في مواقف الحزن طبقات بعضها فوق بعض. فهنالك الُمتجَمَّلة المؤتزرة بالصبر، التي تشتفي بالبكاء، وتكتفي بالرثاء. ثم تأتي بعد هذه الصالقة والشاقة والحالقة. فالصالقة التي ترتفع صوتها وتدعو بدعوى الجاهلية كأن تقول في ندبة ولدها واولداه، وواكبداه، وفي كبيرها: واجبلاه، أو واعضداه.

والشاقة التي تُنحي على جيب جلبابها شقاً وتمزيقاً. وبذلك أوصى طرفة أخته بقوله: إذا مت فاْنعَيني بما أنا أهله ... وشقي علىَّ الجيب يا ابنة معبد والحالقة التي تحلق شعرها فلا تبقى على بقية منه. وأولئك اللواتي لعنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبريء منهن ومنهن التي في يديها نعلين تصفق بهما وجهها وصدرها، وإلى هذه يشير عبد مناف ابن رِبع الهْذَلي في قوله. يَريع قَلْبَ ابنتيْ رِبْعٍ عويلُهُما ... لا تَرْقُدان ولا يُؤْسَى لَمن رقدا كِلتاهما أُبطنَتْ أحشاؤهها تَصَبَا ... من بطن حَلْبة لا رَطْباً ولا نقِدا إذا تأَوَّب نَوْح قامتا معه ... ضرباً أليماً بِسبْتٍ يَلْعَجُ الجِلدا كل ذلك أو بعضه مما يفزع إليه الغاليات اللواتي اهتاجهن الحزن فأسرفن على أنفسهن. فأما ذوات الرأي الجزل والحسب الكريم فهو عندهن مأثمة يأبين أن يقارقنها ويهبطن إليها، على رغم ما يعالجن من حُرق وأحزان. وتلك هي الخنساء وما ضرب به المثل من تدلهها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها، لم ينزل به الهلع إلى منازل أولئك المسرفات. فلم تحلق شعراً، ولم تضرب صدراً، وذلك حيث تقول في رثاء أخيها معاوية: فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق

ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق وأشد القتال أثقال المصيبة في الرجل يلقي امرأته. فهي تقيم من بعده سنة كاملة لا تمس ماءً، ولا تُقَلَّمُ ظفراً، ولا تزيل شعراً بل ربما ضاعفت المرأة هذا الشقاء فانتبذت بيتاً صغيراً تقيم فيه عامها بنجوة من الناس، ولبست شر ما تلبس من الثياب. وإليك ذلك الحديث الكريم فإن فيه وفاءً بتلك العادة المُعْنتة: حدث البخاري عن حُميد بن نافع عن زينب ابنة أبي سَلمةَ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن ابنتي تُفي عنها زوجها. وقد اشتكت عينها أفَتكحْلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مرتين أو ثلاثاً. كل ذلك يقول لا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعْرة على رأس الحول، قال حُميد بن نافع: فقلت لزينب وما ترمي بالبعَرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها دخلت حِفْشاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً حتى تمر بها سنة ثم تُؤْتى بدابة: حمارٍ أو شاةٍ أو طائرٍ فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتَعْطى بعرة فترمى. ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب. على أن نظرة واحدة في رواية الحديث، وسؤال رواية عما يراد منه على قرب عهده بالجاهلية، تُنْبئنا أن تلك العادة لم تكن عامة شاملة في بطون العرب وشعرها. وكان قول النساء إذا حُمل الميت من بيته، أو وُوري قبره، أن يقلن: لا يَبْعَدْ. يردن بذلك أننا أحوج ما نكون إليك فلا تحجب دوننا أثر يمينك

ولا نور جبينك. والعرب كَلِفون بأن ينسبوا للميت بعد الموت جميل ما اشتمل عليه من صفات ومَكرُمات. فهم يقولون إن ربيعة بن مُكَدَّوم حمى الظُّعُنَ حيَّا وميتاً. وإن حاتماً تفح ضيوفه وهو في قبره بما كان يحبوهم به وهو حي. لذلك قال النساء: لا تبعد. قالت الفارعة بنت شداد في رثاء أخيها مسعود بن شداد: أبا زُرَارَة لا تَبْعَدْ فكل فتى ... يوماً رهين صفيحات وأعواد وقالت الخورنق بنت بدر: لا يَبَعْدَنْ قومي الذين همُو ... سُم العُدَاة وآفة الْجُزُر النازلين بكل معتَرَك ... والطيبون معاقد الأزُر وقالت امرأة ترثي ولدها: بُنِيتْ عليك بُنى أحَوجَ ما ... كنا إليك صفائحُ الصَّخر

لا يُبْعِدنكَ الله يا عَمْرِى ... إما مضيت فنحن بالإثر وقالت أم عمرو بنت مُكدّم في رثاء أخيها ربيعة بن مكدوم: فاذهب فلا يُبْعِدَنْكَ الله من رجل ... لاقي الذي كلُّ حيّ مثلَهُ لاق وقال الفرار السُّلمي: ما كان ينفي مقال نسائهم ... وَقُتلْتُ دون رجالهم لا تبعد وكانت المنادب والمناحات على سادة الحي وأشرافهم سنة كاملة. بذلك أوصى لبيد بن ربيعة ابنتيه في قوله: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي تعلمانه ... ولا تَخْمِشَا وجهاً ولا تحلقا شَعَر وقولا هو المرء الذي لا صديقهُ ... أضاع ولا خان الأمين ولا غدر إلى الحول ثم أسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر حتى إذا لحق لبيد بربه، نهض ابنتاه بما أمرهما به، فكانتا تلبسان ثيابهما كل يوم، وتقصدان إلى مجلس جعفر بن كلاب عظيم عشيرته فترثيانه ولا تُعْولان وكذلك أقامتا سنة كاملة ثم انصرفتا. وإنما أوصي لبيد بنيتهيه بما أوصاهما، وبعد أن آمن بالله واعتصم بدينه، لمِا اتصف به من الشرف القديم في قومه، فلم يشأ أن يرز أهم فيما عف من سننهم ومناهجهم.

تجملها

تجملها يحب الرجل العربي من المرأة أن تملأ أقطار عينه طولا، وعرضاً، وامتلاء. واستواء، وأن تكون إلى كل ذلك كَحْلاءَ، عيناء، زجَّاءَ، بلجاء، بيضاءَ، شماء، مأشورة، فلجاءَ، لمياءَ، لعساءَ، جيدا غيداء، أثيثة الشعر، مُشرِقة النحر، مهضومة الخصر. ذلك ما يروع الرجل العربي من جمال المرأة. وذلك ما تحب المرأة العربية من توسم به، وتطبع عليه. فإن حُرمت بعضه تصَنَّعَته، وتجمَّلت فيه بما لا ينبو الطبع عنه، ولا يُرد الطرف دونه. وتلك التي أوردها عليك، فنون من التجمل، كِلفَ بها اللواتي حُرِمن من الكفاية من الجمال. فهنالك: التكحل، والتنَمُّص، والتزجيج، والتفليج، والتَّلْميَة، والوشْر، والوَشم، والوصل، والخِضَاب. فالتَّكَحُّل أخذ العين بقليل من الكحل تداوياً وازدياناً وأكثر ما يكون التكحل بالإثمد، وهو حجر أسود إلى حمرة. ومعدنه بأصبهان. وليس في مذاهب العرب ما يجلو العين ويذهب بأقذائها مثله. ولا تكتحل المرأة إلا بين يدي المرآة.

قال قائل: إذا الفتى لم يركب الأهوالا ... وحالف الأعمام والأخوال فأعطهِ المِرْآة والمكْحالا ... واسع له وعُدّه عِيالا يقول أولى: بمن لم يقتحم الأهوال أن يكون من ذوات الحجال. والتَنمُّمصُ: أخذ ما بين الحاجبين من الشعر حتى تُخيل للناس البلج. والتزجيج: حف ما حول الحاجبين من الشعر وإطالتهما بالإثمد. والتفليج: تفريق ما بين الثنايا والرباعيات تشبهاً بالفُلْج من النساء. والتَّلْمية: خضاب الشفاه واللثات بالإثمد حتى تحكى اللمى. والوَشْرُ: تحريز الأسنان وتحديدها بمْبَرد ونحوه مَجْبلة للأشُر في الأسنان وأكثر ما يفعل ذلك ذوات السن منهن. لأن الأشر من صفات الحدثات. والوشم: وذلك ما يُوخَزَ ما تشاء المرأة من جسمها بإبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يُحْشَى بالنَّؤُر أو النَّيلج أو الكحل حتى يَخْضَرَّ أو يسودّ. وأكثر ما تَشمُ المرأة ذراعها وشفتاها ولثاتها، وقد تجاوزهم إلى غيرهن. وللمرأة العربية مَشَابِهُ مما تفعل القَرَوِيات من نساء مصر من وشم أذرعهن وما سواها بصور النبات والحيوان. وربما اتَشم الرجل بزعم أن الوشم يشد عَضُده ويُقوي دمه. والوصل: أن تصل المرأة شعرها بشَعَرٍ مُعار. وأكثر ما كان يفعل ذلك يهوديات العرب. وآية ذلك ما حَدَّثَ البخاري عن حُمَيد

بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عامَ حَجَّ وهو على المنبر وهو يقول - وتناول قُصة من شعر كانت بيد حَرَسِي -: ما كنت أرى يفعل ذلك إلا اليهود. أين علماؤكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن مثل ذلك. وهنالك صوانع من النساء خصصن بذلك وانقطعن له. ففيهن النامصات، والفالجات، والواشرات، والواصلات، والواشمات وهن يطفن على النساء مأجورات يكفيهنّ معانات ذلك بأيديهنّ. وأولئك اللواتي لعنهنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وأما الخضاب، فاكثر ما يكون بالحناء في أيديهنّ وأرجلهنّ، وبالكَتم الممزوج بالحناء في رؤوسهنّ. فذلك أجلب لفُحومة الشعر ونعومته. وعندهن خليط من الطيب يتمخضن به فيكسب وجوههنّ حمرة وإشراقا ولا يكون ذلك إلا في ذوات العز والثراء. والعرب يسمون أولئك يسمون أولئك المتضخمات بالعواتك. على أن تصنع الجمال مما يَنِدُّ عن الطبع العربي إلا أن يكون كحلا أو طيباً وأكثر ما ترى المرأة العربية غانية بجمالها، أو مغتنية بآلها، أو مشغولة بجدّها وأعمالها. بل قد تواصي الحسيبات من النساء بالاكتفاء بالماء ومن جوامع كَلِمهِن: أطيب الطيب الماء.

فصاحتها وسماحة منطقها

فصاحتها وسماحة منطقها إذا عُدت سِمَات وصفات الجمال، فحسن المنطق أروعها وأبدعها وأملكها للأنفس، وآخذها بالقلوب. لأنّ معالم الجمال تستمدّ روعته من البدن وحده. فأما جمال الكلام فوسط عدل بين الروح والبدن. وإذا عرفت المرأة في مختلف أطوارها بالإكثار من فضول القول، والإرسال من حواشيه، لتبلغ من نفوس جلسائها فإن المرأة العربية قد بلغت ذلك وتجاوزته بما ملك أسلوبها من دقة وبراعة، وسماحة رأي، وحسن بيان. ولعل ذلك خير ما مكن لها من نفوس الرجال، ومهد من أسماعهم، ووطاء من قلوبهم. لقد كانت المرأة العربية، وما تكاد تسامَى في ارتياد شعاب القول. وعَجْم أعواده وكشف فنونه وشؤونه، ودرك مواطن القوّة والضعف فيه، فاغتمرت حومه البيان قائلة ناقدة. فإن نقدت فنقد القائل الحكيم. أوقات فقول الناقد العليم. ولشَدَّ ما أخذت على فحول الرجال مواطن الزلل فيما ابتدعوه وتأنقوا فيه. ولها من دقة النقد، ولطف المأخذ، ونفاذ الإدراك وحسن البديهة، ما جعل لها في شتات مواقفها الرأي القاطع، والكلمة الفاصلة. وستعلم من هذين الشاهدين بعد شأوها من دقة النقد، ونفاذ البديهية، وفي تاريخ العرب ما لا يناله العدّ من أمثالهما. أما الأوّل، فما ما حدّثوا أنّ امرأ القيس، وعلقمة الفحل، تنازعا الشعر، فقال علقمة لصاحبه: قد حكمت بيني وبينك امرأتك أُمَّ جُنْدَب قال: قد

رضيت فقالت لهما: قولا شعراً، على أن روى واحد، وقافية واحدة، تصفان فيه الخيل. فقال امرؤ القيس أولها: خليلَّي مُرَّا بي على أُمَّ جُنْدَب ... لِنَقضِيَ حاجات الفؤاد المعذب وعارضها علقمة بمثلها ومطلعها: ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقّاً كل هذا النجب وأنشدها. فحكمت لعلقمة. فقال لها زوجها: بأي شيء غلّبته؟ فقالت: لأنك قلت: فللَسوط أُلهوبٌ وللساق دَرّة ... وللزجر منه دَفعُ أَخرَجَ مُهْذِب فَجَهدْت فرسك بسوطك، ومَرَيته بساقك، وأتعبته بجهدك. وقال علقمة: فولى على آثارهن بحاصب ... وعيبة شُؤْبوب من الشد ملهب فأدركهن ثانيا من عنانه ... بمرٍّ كمر الرائح المُتَحَلبِ فلم يضرب فرسه بسوط، ولم يمره بساق، ولم يتعبه بزجر. فلم يكن لامرئ القيس من ردّ إلا أن طلقها! وتلك آية العجز عن مقاومة الحجة بالحجة. أما هي فقد خلفته على صاحبه. أما الثانية، فحديث الخنساء بنت عمرو بن الشريد. ذلك أن النابغة الذبياني كان حكماً يحتكم إليه الشعراء في عكاظ. فكان فيمن تقدم بين يديه الخنساء، وحسان بن ثابت فلما أنشدته الخنساء قصيدتها التي تقول فيها:

وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتوا لَنَحَّار وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار قال لها: لولا أن أبا بصير الأعشى أنشدني لقلت إنك أشعر أهل الأرض فهاج ذلك جمرة الغضب في صدر حسان، وقال للنابغة: أنا أشعر منك ومنها ومن أبيك! قال النابغة: بماذا؟ فقال: بقولي: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فيروون أن النابغة قال للخنساء: خاطبيه يا خناس. فقالت له: أضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟ قالت: الجفنات والجفنات ما دون العشر. ولو قلت البيض لكان أكثر الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت بالضحى ولو قلت بالدجى لكان أكثر طُرَّقاً. وقلت: أسيافنا والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت سيوفنا كان أكثر. وقلت: يقطرن ولو قلت يسِلن لكان أكثر. وقلت: من نجدة والنجدات أكثر من نجدة. وقلت: دماً والدماء أكثر من الدم. فلم يحر حسان جواباً، وانصرف عند ذلك مستحيياً. لذلك كله نهجت المرأة العربية كل مناهج القول، واستنَّت في جميع ضروبه فأسهبت، حتى استرقت الأسماع. وملكت أزمة القلوب، وأوجزت حتى كشفت عن الحكمة وفصل الخطاب. ولقد وصف صلى الله عليه وسلم رجال هم أَمَسُّ الناس به، وأطولهم لزاما له وأملؤهم قلبا منه، وهم ملوك القول، وفرسان البيان، ومن بينهم بطل حومتهم، وإمام سُنهم، عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فلم يبلغ واحد من

وصفه ما بلغت امرأة عربية ألَمَّ عليه الصلاة والسلام بها وهو في طريقه إلى المدينة. فوضفته لزوجها وصفاً جعله ملء سمعه وبصره، ونفسه، ووجدانه. ولئن اعتز رجال العرب بقوم منهم ضربوا الأمثال، ونشروا مطارف الحكمة، وكشفوا قناع الحقيقة، فإنّ لسانهم أن يعتززن بفريق منهنّ لا يقل عن أولئك شأناً. ولم يتخذن دون مكانهم مكاناً. ومن هؤلاء صُحْر بنت لقمان، وحذَام بنت الريان، وخُصيلة بنت عامر بن الظَّرب. وفاطمة بنت الخرْشب، وهند وجمعة ابنتا الخس الإيادي، وأمثالهن ونظائر هنّ ممن تنبو الأقلام دون الوفاء بذكرهنّ، وذكر ما كان لهنّ من كلمة نافذة، ورأْي مسموع. أما الشعر - وأخصه شعر العاطفة - فهو حديث أنفسهنّ، ونجوى ضمائرهن، ومَبَثُّ أوجاعهن، ومثار سرائرهن، والمحتكم بألسنتهن احتكام الدموع بأعينهن. ويا رب مُهْتاجة هاضها الشوق، وأضناها الأسى، فلم يأسُ جراح كبدها ولم يطفئ لهيب حشاها إلاَّ بيتان من الشعر جاشت بهما نفسها فزفر بهما صدرها، فجرى بهما لسانها، ففاضت لهما عيناها فسكنت إلى حنين الصوت، واشتفت بنشيج البكاء. لعلَّ انسكاب الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشقي نجىّ البلابل ولئن وقف أبو طالب بن عبد المطلب فناح على أبيه بقصيدة رائعة لقد وقف إلى جانبه أخوته الست: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم، وأميمة، وأروى، فانحسرن عن ست قصائد، هنّ صبيب المهج، وذوب القلوب. وإن تبغ من القول، والفُسْحة في المقارنة، فدونك فاسمع هذا الحديث: أبو نواس الحسن بن هانئ شاعر الدولة العباسية. وشعره ثمرة نعَمائها، ومرآة

حضارتها، وصفحة أهوائها. ذلك الشاعر المُغدِق الفَيَّاض. هو يقول: أجهدت نفسي على أن تقع في الشعر عين أُباغ فامتنعت علىّ فقلت عَيْنْي أباغ فذلك حيث أقول: فما نجدت بالماء حتى رأيتها ... مع الشمس في عيني أباغ تغور ذلك قول الشاعر الذي فاق المُحْدثين نفاذاً في القول، ودقة في الوصف. فإذا وعيته وملأت بصرك منه، فانظر إلى قول امرأة من بني شيبان: وقالوا شاعراً منكم قتلنا ... كذلك الرمُح يَكلَفُ بالكريم بعين أُباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم ألسنا نرى الكلمة التي تأبَّت على شاعر المهدي والرشيد والأمين، سقيت إلى امرأة من غمار نساء العرب ريّقةً رَيضَة؟. وما عجب ذلك؟! ألم تدفن المرأة في عين أُباغ غصون روضتها، وليوث غابها؟ فما لها لا تلين لها. وتسكن إليها؟. ذلك شأن المرأة العربية في الشعر. وغلبتها فيه على الرجل، كغلبة عاطفتها على عاطفته وأي الرجال يملك أن ينوح على زوجه بمثل ما ناحت به جليلة بنت مرة على زوجها؟ أو ليسس ذلك لأنه لا يملك قلباً كقلبها؟ ولا يشعر بالنار تضطرم جوانحه كما تضطرم بين جوانحها؟ أما لقد تألقت المرأة العربية في سماء الشعر، فنفذ سناها إلى أعطاف الصدور فانحسرت ظلماؤها. وتفرّجت ضوائقها. على حين ترك غيرها من نساء الأمم المختلفة في تباين أطوارهن ومنشعب ديارهن أمكنتهن خالية مظلمة يرتَدُّ عنه الطرف خاسئاً وهو حسير.

وعجيب كل العجب أن تنازع المرأة في زماننا أمر معقولاته ومجهوداته، وتدعه يختص نفس بالشعر، وهو ثمرة نفسها، ونسج يدها. ولو شاءت لكان لها فضل الزعامة، وشرف الإمامة. ونحن أَولاء بمعونة الله وتوفيقه نجمع لك من نثار نساءِ العرب نظامهن ما لعل نفسك تزهو به وتسكن إليه.

أثارة من قولها

أثارة من قولها مأثور من المنثور بين امرأتين وافت جمعة وهند ابنتا الخَس سوق عكاظ. فاجتمعا بين يدي القَلمس الكناني فقال لهما: إني سائلكما لأعلم أبسط لسانا وأظهرُ بيان، وأحسن للصفة إتقانا. قالتا سلنا عما بدا لك. فستجد عندنا عقولاً زكية، وألسنة قوية وصفة جلية. قال القَلَمَّس: أيُّ ذكور الخيل أحب إليك يا جمعة؟ قالت: أُحبُ المنسوب جَدُّه، الأسيل خَدُّه، السريع شده، الطويل مَدُّه، الشديد هَدُّه، الجميل قَدُّه. قال القلمَّس: كيف تسمعين يا هند؟ قالت: هذا فرس خَلِيق إن طلب لم يُلْحَق، وإن جوري لم يُسْبق، وإن بوهي لم يُفق، وغير أحبُّ إلىّ منه. قال: فقولي قالت: أحبُ الوثيقَ الْخلق، الكريم العِرق الكثيرَ السَّبق، الشديد الذلق، يمرُّ من البرق. قال كلتا كما محسنة: فأي إناث الخيل

أحب إليك يا جمعة؟ قالت: أحبُّ كل حيِية الفؤاد، سَبُوح جواد، سلسة القيادة شديد الاعتماد، في الدَّفع والاشتداد، ذات هِباب وثماد. قال القلمس: كيف تسمعين يا هند؟ قالت: هذا فرس صاحبها خليق ألا يفوته أمر؛ ولا يهوله ذُعْر، إذا شاء كَرّ، وإذا هاب فرّ، وغيرها أحب إلي منها. قال. فقولي. قالت: أُحِبُّ الشديدَ أسْرها، البعيد صبرها؛ القليل فَترها، الجميل قدرها؛ السريع مَرُّها؛ المحفوف كرها قال القلمس: كلتا كما محسنة. فأي ذكور الخيل أبغض إليك يا جمعة؛ قالت: أبغض كل بليد، وارم الوريد؛ ذا ركال شديد لا ينجيك هارباً. ولا تظفر به طالباً ولا يسترك شاهداً ولا غائباً. قال القلمس: كيف تسمعين يا هند؟ قالت هذا فرس أمسكه بلاء؛ وعلاجه عناء؛ وركوبه شقاء، وغيره أبغض إلى منه. قال: فقولي. قالت أبغض السريع البُهر البطيء الحصر، السُّكيت الطفر. قال القلمس: كلتا كما محسنة. فأي النساء أحبُّ إليك يا جمعة؟ قالت: أحب الغريزة العذراء، الرُّعْبوبة العَيطاء؛ الممكورة اللفاء ذات الجمال والبهاء، والسَّتْر والحياء؛ البَضّة الرخصة كأنها فضة بيضاء قال: كيف تسمعين ياهند؟ قالت: وصفت جارية هي حاجة الفتى، ونُهْية الرّضا، وغيرها أحبُّ إليّ منها. قال: فقولي. قالت أحبُّ كل مشبعة الخَلْخال ذاتِ شكلٍ ودلال وظرف وبهاءٍ وجمال. قال القلمس: كلتا كما محسنة فأي النساء أبغض عليك يا جمعة؟ قالت: أبغض كل سلفع بَذِيّة؛ جاهلة

غبيّة، حريصة دنيَّة، كريمة ولا سَرِية، ولا ستَّيرة ولا حبيبة. قال: كيف تسمعين ياهند؟ قالت: وصفت امرأة صاحبها خليق ألا تصلح له حال، ولا يَنْعَمَ له بال، ولا يثمِرَ له مال، وغيرها أبغض إلى منها. قال: فقولي. قالت: أبغض المتجزَّفة الشوهاء، المنفوخة الكَبْداء، العِنفِص الوقْصاء، الحَمِشَة الزَّلاّء، التي إن وَلَدَت لم تنجب، وإن زُجرت لم تعتتب، وإن تركت طفقت تصخب. قال القلمس: كلتا كما محسنة. في الرجال أحب إليك يا جمعة؟ قالت: أحبّ الحُر النجيب، السري القريب، السمح الحسيب، الفطن الأريب، المِصْقع الخطيب، الشجاع المهيب. قال القلمس: كيف تسمعين ياهند؟ قالت: وصفت رجلاً سيداً جواداً ينهض إلى الخير صاعداً، ويسرك غائباً وشاهداً، وغيره أحب إلى منه. قال: فقولي. قالت: أحبُّ الرُّحْب الذراع، الطويل الباع، السخيّ النّفّاع، المنيع الدَّفاع؛ الدَّهْمَثي المطاع؛ البطل الشجاع، الذي يحل باليفاع؛ ويُهِين في الحمد المتاع. قال: كلتا كما محسنة. فأيُّ الرجال أبغض إليك يا جمعة؟ قالت: أبغض السئالة اللئيم، البغيض الزنيم الأشوه الدميم؛ الظاهر العُصُوم؛ الضعيف الحَيزُوم؛ قال كيف تسمعين ياهند؟ قالت ذكرت رجلا خطره صغير، وخَطبة يسير؛ وعيبه كثير؛ وأنت ببغضه جدير، وغيره أبغض إلى منه؛ قال: فقولي. قالت: أبغض الضعيف النُّخاع. القصير الباع،

أبلغ الكلم في أبلغ الكرم

الأحمق المِضياع، الذي لا يُكرم ولا يطاع. فقال أحسنتما وأجملتما، فبارك الله فيكما، ووصلهما وحباهما. أَبلغ الكَلم في أبلغ الكرم قالت ماوية امرأة حاتم: - أصابتنا سنَةٌ اقشعرت لها الأرض، واغَبَّر أُفق السماءِ، وراحت الإبل حُدْباً حدابير، وضَننَّت المَرَاضع على أولادها فما تَبِضُّ بقطرة، وحَلّقت ألسنَة المال، وأيقَنا بالهلاك. فوالله إنا لفي ليلة صَّنبرٍ بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبْيَتُنا جوعا، عبد الله وعدي وسَفّانة. فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللّني بالحديث. فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهوَّرت النجوم، إذا شيءٌ قد رفع كِسْرَ البيت ثم عاد. فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبْية يتعاوَوْن عُواءَ الذئاب وجدتُ معوَّلاً إلا عليك يا أبا عديّ. فقال أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم! فأقبلت المرأة تحمل اثنين وتمشي جنائبها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها. فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لَبَّته بمُديه فخرّ. ثم كشطه عن جلده ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك! فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتا فيقول هُبُّوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا. والتفع في ناحية ينظر إلينا.

امرأة تصف رسول الله

فوالله إن ذاق منه مُزعة وأنه لأحوج إليه منا. فأصبحنا وما على ظهر الأرض من الفرس إلا عظم وحافر فأنشأ حاتم يقول: مهلاً نَوَارِ أقلى اللوم والعذَلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطى السهل والجبلا يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا امرأة تصف رسول الله لما فارق رسول الله مكة مهاجراً إلى المدينة، خرج ومعه صاحبه أبو بكر ورائده عبيد الله بن أُرَيقط. فمروا على خيمة أم معبد - وكانت بَرَزة جَلدة تحتبي بِفناء الكعبة ثم تسقي وتطعم - فسألوها لحماً وتمراً ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك. وكان القوم مُرْمِلين مُسْنتين. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كِسْرِ الخيمة، فقال: ما هذا ياأم معبد؟ قالت: شاة خلَّفها الجهد عن الغنم. قال: هل بها من لبن؟ قالت هي أجْهَدُ من ذلك. قال أتاذَنين لي أن أحلبها. قالت: بأبي وأمي أنت أنت، نعم! إن رأيت بها من حَلَب فاحلبها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتثاجَّت عليه ودرَّت واجترَّت. ودعا بإناء يَرْبَصُ الرَّهْط، فحلب فيه ثَجا حتى غلبه الثمال ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رَوُوا. ثم شرب آخرهم. وقال: ساقي القوم آخرهم، فشربوا جميعاً عَلَلاً بعد نَهل. ثم أراضوا ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدءٍ حتى ملأ الإناء. ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا

عنها. فقلَّ ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حُيَّلا عجافا هزالا مُخهن قليل ولا نُقاً بهن. فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين يا أمّ معبد والشاة عازبة حِيال، ولا حَلوبة في البيت؟ فقالت والله، إنه مَرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: لي أمّ معبد. فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاء، أبلج الوجه، حسَنَ الخلق، لم تعِبه ثُجْلَة، ولم تزْر به صُقلة، وسيما قسيما، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطَف، وفي صوته صَحل، وفي عنقه سَطع، وفي لحيته كثاثة. أحور أكحل، أزَج، أقرن إن صمَت فعليه الوقار، وإن تكلم سماء وعلاه البهاء. فهو أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه من قريب. حُلْوُ المنطق، فصل، لا نزرٌ ولا هذر، كأن منطقة خَرَزات نُظمٍ يَتَحدّرن، ربعة، لا تشْنُؤُه من طول، ولا تقتحمه العين من قصر. غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قَداً. له رفقاء يُحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مُفند. صلى الله عليه وسلم. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره بمكة ما ذكر، ولو كنت وافقته لا لتمست صحبته، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

سناء الرأي وحسن الاستعطاف

سناء الرأي وحسن الاستعطاف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طيء فريقاً من جنده يقدمهم علىّ عليه السلام، ففزع عدي بن حاتم الطائي - وكان من أشد الناس عداء لرسول الله - إلى الشام، فصبح على القوم؛ واستاق خيلهم ونَعَمَهم ورجالهم ونساءهم إلى رسول الله فلما عرض عليه الأسرى نهضت من بين القوم سَفانة بنت حاتم فقالت: يا محمد، هلك، وغاب الوافد. فإن رأيت أن تُخَلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيده قومه: يَفُكُّ العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويُفَرَّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويُفشي السلام، ويحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه في حاجة فردّه خائباً، أنا بنت حاتم الطائي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً. لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وقال فيها: ارحموا عزيزاً ذل، وغنيا افتقر، وعالماً ضاع بين جهال. وقال لأصحابه: اسمعوا وعوا. فقالت: أصاب الله ببرَّك مواقعه، ولا جل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سبباً في ردّها عليه، فلما أطلقها إلى أخيها عدي وهو بدُومة الَجندل. فقالت له: يا أخي ائت هذا الرجل قبل أن تَعْلقَك حبائله. فإني قد رأيت هَدْياً سيغلب أهل الغلبة، ورأيت خصالاً تعجبني: رأيته يحب الفقير. ويفُكُّ الأسير. ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير. وما رأيت أجود ولا أكرم منه. فإن يكن نبياً فللسابق فضله. وإن يكون ملكاً فلن تزال في عز اليمن. فقدم عدي إلى رسول الله فأسلم وأسلمت سَفانة.

بين نارين

بين نارين لما قَتَلَ جساس بن مرة كلُيب بن ربيعة، وقفت جليلة بنت مرة في المناحة وقفة تذيب الصخر - وكانت أخت القاتل وزوج القتيل - فقال نساء الحي لأخت كليب: أخرجي جليلة عن مأتمك؛ فإن في قيامها شماتة وعارا علينا عند العرب. فقالت لها: يا هذه؛ اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخذت واترنا، وشقيقة قاتلنا. فخرجت وهي تجرأ عطافها، فقيل أبوها مُرة. فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثُكل العدد، وحزن الأبد، وفقد حليل، وقتل أخ عن قليل. وبين ذلك غرس الأحقاد، وتفتُّت الأكباد. فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح، وإغلاء الديات؟ فقالت أُمنيّةُ ورب الكعبة! أبِالبدْن، تدع لك تغلب دم ربها؟ قالوا: - ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي، وفراق الشامت! ويل غدا لآل مرة، والكرة بعد الكرة! فبلغ جليلة قولها فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سِترهها، وترقب وتْرها، أسعد الله جَدَّ أختي، أفلا نَفْرَة الحياء، وخوف الإعدام، ثم أنشأت تقول: يا ابنة الأقوام إن لمْت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي فإذا أنت تبينت الذي ... يوجب اللوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئ لِيمَت على ... شَفَقٍ منها عليه فافعلي جَلَّ عندي فعل جساس فيا ... حسرتي عما انجلى أو ينجلي لو بعينٍ فُديت عيني سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل

تداول الأيام

تحمل العين أذى العين كما ... تحمل الأم أذى ما تَعْتلي يا قتيلا قوّض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عَل هدم البيت الذي استحدثته ... وانثنى في هدمه بيتي الأول ورماني قتله من كثب ... رِمْيَة المُصْمَي به المستأصل يا نسائي دونكن اليوم قد ... خصني الدهر برُزْءٍ مُعْضِل خصني قتل كليب بلَظىً ... من ورائي ولظى مستقبلي ليس من يبكي ليوميه كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي يشتفي كان دمى فاحتلبوا ... درراً منه دمى من أكحلي ليته كان دمى فاحتلبوا ... درراً منه دمي من أكحلي فأنا قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي تداوُل الأيام لما صدع سعد بن أبي وقاص جيش الفرس بالقادسية، أتته حُرَقة بنت النعمان ابن المنذر في حفدة من قومها وجواريها - وهن في زيّها، عليهن المسموح والمقطعات السود مترهبات - تطلب صِلة. فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد. فقال: أيكن حرَقة؟ قالت هأنذا. قال: أنت حُرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟ ثم قالت: إ، الدنيا دار زوال لا تدوم على أهلها انتقالا، وتُعقبهم بعد حال حالا. كنا ملوك هذا المصر. يجبي لنا خراجه، ويطيعنا أهله، مدى الإمرة، وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فشق عصانا، وشتت شملنا. وكذلك الدهر يا سعد. إنه ليس يأتي قوماً بمسرة، إلا ويعقبهم بحسرة. ثم أنشأت تقول:

صفات في فقرات

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنَصَّفُ فأُفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تَقَلَّب بنا وتصرف فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد! كأنه إلى حيث يقول: إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الدهورا قد يبيت الفتى معافىً فَيَرْدَى ... ولقد كان آمناً مسرورا وحدثوا أن عمرو بن معد يكرب - وكان من قصاد النعمان وزواره - دخل عليها وهي بين يدي سعد، فلما نظر إليها قال: أنت حُرقة؟ قالت نعم. قال فما دهمك: فذهب بجوادات شِيَمك؟ أين تتابع نعمك، وسطوات نقمك؟ فقالت: ياعمرو، إن للدهر عثرات وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم، فتخفضهم بعد رفعة، وتُفْردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عز. إن هذا الأمر كنا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره. قالوا: فلما انصرفت من لدن سعد لقيها نساء القادسية، فقلن لها: ما فعل الأمير؟ قالت: أكرم وجهي، وإنما يكرم الكريم الكريم. صفات في فقرات لما قتل الحارث بن ظالم المُري، خالد بن جعفر العامري، لحق بحاجب بن زرارة التميمي يعتصم به من بني عامر. فاتبعه رجال منهم. حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عثروا بامرأة تميمية تجني الكمأة، فتعرفوا منها أمر الحارث ومكانه من حاجب. ثم احتجزوها عندهم. فترقبت حتى أنست غرة من القوم فأفلتت: وانطلقت تعدو إلى حاجب. فأخذت تحدثه حديث القوم. فقال لها: أخبريني أي قوم أخذوك؟ قالت أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء، ويدبرون بأعجاز النساء. قال: أولئك بنو عامر. قال: فحدثيني من في القوم؟ قالت: رأيتهم

نساء يصفن رجالا

يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمآقَيه حتى يرفعوا له من حاجبيه. قال: ذلك الأحوص بن جعفر. قالت: ورأيت شاّباً شديد الخَلق، كأن شعر ساعديه حَلق الدَّرع، يَعْذِم القوم بلسانه عذم الفرس العضوض. قال: ذلك عُتبة بن بشير بن خالد: قالت ورأيت إذا أقبل ومعه فَتَيان يُشرف القوم إليه، فإذا نطق أنصتوا قال: ذلك عمرو بن خويلد، والفتيان ابناه زرعة ويزيد. قالت: ورأيت شاباً طويلا حسنا إذا تكلم بكلمة أنصتوا لها. ثم يؤولون إليه كما تؤول الشُّول إلى فحلها. قال: ذلك عامر بن مالك قالوا: وجاء القوم كما قالت وقال. نساءٌ يَصِفْن رجالا حدث أبو بكر دريد قال: كان قيل من أقيال حِمْير مُنع الولد دهراً، ثم وُلدت له بنت. فبنى لها قصراً منيعاً عن الناس. ووكل بها نساء من بنات الأقيال يَخْدُمنها ويؤدبنها، حتى بلغت مبلغ النساء، فنشأت أحسن منشأ وأتمة في عقلها وكمالها. فلما مات أبوها ملّكها أهلُ مِخْلافها فاصطنعت النسوة اللاتي ربَّينها وأحسنت إليهن. وكانت تشاورهن، ولا تقطع أمراً دونهن. فقلن لها يوماً: يا بنت الكرام، لو تزوجت لَتَم لك الملك! فقالت: وما الزوج؟ فأخذت كل واحدة تصف العذب المهني من صفات زوجها فقالت: أمهلني أنظرْ فيما قلتنّ. فاحتجبت عنهن سبعاً، ثم دعتهن. فقالت: قد نظرت فيما قلتن فوجدتني أُملّكه رقّي، وأبثه باطلي وحقي. فإن كان محمود الخلائق، مأمون البوائق، فقد أدركت بِغيتي، وإن كان غير ذلك فقد طالت شِقْوَتي على

أنه لا ينبغي إلا أن يكون كفؤاً كريماً، يسود عشيرته ويَربُّ فصيلته، لا أتقنع به عارا في حياتي، ولا أرفع به شَنَار لقومي بعد وفاتي. فَعَليكُنَّه، وتفرقهن في الأحياء فأيتكن أتتني بما أحب فلها أجزل الحباء، وعلىّ لها الوفاء. فخرجن فيما وجَّهتهنّ له - وكن بنات مقال ذوات عقل ورأي - فجاءتها إحداهنّ - وهي عَمرطة بنت زُرعة بن ذي خنفر - فقالت أصبت الْبُغْية. فقالت: صفية، ولا تُسميه. فقالت: غيث في المحل، ثمِال في الأزلِ، مفيد مبيد، يصلح النائر، وينعش العاثر، ويَغْمُرُ الندىّ، ويقتاد الأبيّ، عرْضه وافر، وحَسَبه باهر. غَضٌّ الشباب، طاهر الأثواب. قالت: ومن هو؟ قالت: سَبرة بن عوال بن شداد بن الَهمّال. ثم خلت بالثانية فقالت: أصبت من بغيتك شيئاً؟ قالت: نعم قالت: صفية، ولا تسمية. قالت: مصامص النسب، كريم الحسب، كامل الأدب، غزير العطايا، مألوف السجايا، مُقتبل الشباب، خصيب الجناب. أمره ماض، وعشيره راض. قالت: ومن هو؟ قالت: يَعْلَي بن هَزال بن ذي جدن. ثم خلت بالثالثة، فقال: ما عندك؟ قالت: وجدته كثير الفوائد، عظيم المرافد يعطي قبل السؤال، وينيل قبل أن يستنال في العشيرة معظَّم، وفي الندى مكرم. جم الفواضل، كثير النوافل، بذَّال أموال، محقق آمال، كريم أعمام وأخوال. قالت: ومن هو؟ قالت: رواحة بن حمير بن مضحى ابن ذي هلاهلة، فاختارت يعلي بن هزال فتزوجته. فاحتجبت عن نسائها شهراً. ثم برزت لهن الحباء. وأعظمت لهن العطاء.

مجاذبة الثناء

مجاذبة الثناء وصفت أعرابية زوجها بكرم الأخلاق عند أمها فقالت: يا أُمه! منْ نشر ثوب الثناء؛ فقد أدّى واجب الجزاء. وفي كتمان الشكر جحود لما وجب من الحق ودخول في كفر النعم. فقالت لها أمّها: أي بنية أطبت الثناء؛ وقمت بالجزاء. ولم تدعى للذمّ موضعاً إني وجدت مَنْ عَقَل لم يعجل بذمّ ولا ثناء إلا بعد اختبار. فقالت: يا أُمه؛ ما مدحت حتى اختبرت؛ ولا وصفت حتى عرفت. قال الزوج: ما وفيتك حقك؛ ولا شكرتك إلا بفضلك؛ ولا أثنيت إلا بطيب حسبك، وكريم نسبك. والله أسأل أن يمتعني بما وهب لي منك. الكَلمِ القِصار قيل لهند ابنة الخُس: ما مائة من المعز؟ قالت: مُوَيلٌ يشِفّ الفقر من ورائه: مال الضعيف؛ وحرفة العاجز. قيل: فما مائة من الضأن؟ قالت: قرية لا حمى لها. قيل: فما مائة من الإبل؟ قالت بخٍ بَخ! جمال ومال. قيل: فما مائة من الخيل: طغى من كانت له ولا يوجد. قيل: فما مائة من الُحُمر؟ قالت عازبة الليل؛ وخزي المجلس. لا لبن فيحلب؛ ولا صوف فُيجز. وقيل لها: مَن أعظم الناس في عينيك؟ قالت: من كانت لي إليه حاجة. وقيل لها: الصيف خير أو الشتاء؟ فقالت: من جعل بؤساً كأذى

أمثال أرسلها النساء فتمثل بها الرجال

أمثال أرسلها النساء فتمثل بها الرجال أَغَيْرةً وَجُبْناً قالته امرأة من العرب تعير زوجها. وكان تخلف عن لقاء العدوّ واعتكف في منزله. ثم بَصُر بها تنظر إلى قتال الناس فضربها. فقالت: أَغَيْرَةً وجُبْنا؟! بَيْتيِ يَبْخَلْ لاَ أَنا قالته امرأة سئلت ما ليس في بيتها. فلما عزَّ عليها عطاؤه قيل لها: أتبخلين؟ فقالت: بيتي يبخل لا أنا. تَرَى الْفِتَيان كالنَّخل وما يُدريك مَا الدخَّل يضرب لذي المنظرِ لا خير فيه. قال المُفضَّل: أول من قال ذلك عَثْمَة بنت مطرود البُجلية. وكانت ذات عقل ورأي مسموع في قومها، وكانت لها أخت يقال لها خَوْد وسُميت بالجمال وكرم الخلال. وأن سبعة أخوة من الأزد خطبوا خَوْداً إلى أبيها. فأتوه عليهم الحُلل اليمانية وتحتهم النجائب الفُرْه فقالوا: نحن بنو مالك بن عُفية ذي النَحيين. فقالوا لهم: انزلوا على الماء. فنزلوا ليلتهم. ثم أصبحوا غادين في الحُلل ومعهم ربيبة لهم كاهنة يقال لها الشَّعثاء. فمروا بوصيدها، وكلهم وسيم جميل،

وخرج أبوها فجلسوا إليه، فرحبت بهم فقالوا: بلغنا أنك بنتاً ونحن كما ترى شباب. وكلنا يمنع الجانب، ويمنع الراغب. فقال أبوها: كلكم خِيارٌ فأقيموا نر رأينا. ثم دخل على ابنته فقال: ما ترين؟ فقد أتاك هؤلاء القوم، فقالت: زوجني على قدري، ولا تُشْطط في مهري، فإن تخطئي أحلامهم. لا تخطئني أجسامهم. لعلي أصيب ولداً، وأكثر عدداً. فخرج أبوها فقال: أخبروني عن فضلكم. قالت ربيبتهم الشعثاء: اسمع أخبرك عنهم: هم إخوة، وكلهم أٌسوة. أما الكبير فمالك، جري فاتك، يُتْعب السنابك، ويستصغر المهالك. وأما الذي يليه فالغَمْر، بحر غَمر، يقصر دونه الفخر، نَهْد صَقْر. وأما الذي يليه فعلقمة، صُلْبُ المُعْجمة، منيع المشتمة، قليل الجَمجمة. وأما الذي يليه فعاصم، سيد ناعم، جَلد صارم، أبيٌّ حازم، جيشه غانم، وجاره سالم. وأما الذي يليه فثُؤاب سريع الجواب، عتيد الصواب، كريم النصاب، كليث الغاب. وأما الذي يليه فُمدرك، بَذُول لما يملك، عزوب مما يترك، يفني ويهلك. وأما الذي يليه فَجْندلٌ، لقرنه مُجدل، مقل لما يحمل، يعطي ويبذل، وعن عدوّة لا ينكل. فشاورت أختها فيهم. فقالت أختها عَثمة: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل. اسمعي مني كلمة: إن شر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن، تزوجي في قومك، ولا تغررك الأجسام. فلم تقبل منها. وبعثت إلى أبيها: زوجني مدركا. فتم ذلك على مائة ناقة ورعاتها. وحملها مدرك. فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى صَبَّحَهم فوارس من بني مالك بن كنانة. فاقتتلوا ساعة. ثم انكشفت عنها زوجها واخوته وعشيرته. فسيبت فيمن سبين من النساء - فبينما هي تسير بكت - فقالوا: ما يبكيك؟ أعلى فراق زوجك؟ قالت: قبح الله جمالا لا نفع معه - إنما أبكي على عصياني أختي في

لا تأمني الأحمق وفي يده سكين

قولها: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل! وأخبرتهم كيف خطبوها. فقال لها رجل منهم يكنى أبا نُواس - شاب أسود أفوه مضطرب الخلق -: أترضين بي على أن أمنعك من ذئاب العرب؟ فقالت: لأصحابه: أكذلك هو؟ قالوا: نعم، إنه مع ما ترين ليمنع الحلية، وتتقيه القبيلة. قالت: هذا أجمل جمال، وأكمل كمال. قد رضيت به. فزوجوها منه. لا تَأمَني الأَْحَمق وفي يَدِهِ سِكيَّنٌ قالته امرأة من بني كنانة. رَمَتْني بِدائِها وانْسَلّتْ يضرب لمن يرمي الناس بعيبه. قالته امرأة لضرتها. وكانت الضرة تشتم النساء بعيب هو فيها. فلما بادأتها به قالت لمِن حولها من النساء: رمتني بدائها وانسلت. صارَتِ الفِتْيانُ حُمَماً من قول الحمراء بنت ضَمْرَه بن جابر. وذلك أن بني تميم قتلوا سعد بن هند، أخا عمرو بن هند الملك. فنذر عمرو ليَقْتلن بأخيه مائة من بني تميم. فجمع أهل مملكته، فسار إليهم. فبلغهم الخبر. فتفرقوا في نواحي بلادهم. فأتى دارهم فلم يجد إلا عجوزاً كبيرة وهي الحمراء بنت ضمرة. فلما نظر إليها وإلى حُمْرَتَها قال لها: إني لأحسبك أعجمية! فقالت: لا والذي أسأله أن يخفض جناحك، ويهد عمادك، ويضع وسادك، ويسلبك بلادك، ما أنا بأعجمية. قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر

لا تعدم الحسناء ذاما

ساد معدا كابراً عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة. قال. فمن زوجك؟ قالت: هو هَوْذَة بن جَرْوَل. قال: وأين الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: هذه كلمة أحمق، لو كنت أعلم مكانه حال بيني وبينك، قال: وأي رجل هو؟ قالت: هذه أحمق من الأولى، أعن هوذة يُسْأل؟ وهو والله طيب العرق، سمين العَرق لا ينام ليلة يُخاف، ولا يشبع ليلةُ يُضَاف، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد. فقال عمرو أما والله لولا أني أخاف أن تلدي مثل أبيك وأخيك وزوجك لاستبقيتك. فقالت: وأنت والله لا تقتل إلا نساء أعاليها ثُديّ، وأسافلها دُميّ. والله ما أدركت ثارا، ولا محوت عارا، وما من فَعلت به هذه بغافل عنك، ومع اليوم غد. فأمر بإحراقها. فلما نظرت إلى النار قالت: ألاَ فتى مكانَ عجوز؟! فذهبت مثلاً. ثم مكثت ساعة فلم يَفدِها أحد. فقالت: هيهات صارت الفتيان حُمَماً. فذهبت مثلا. ثم ألقيت في النار. ولبث عمرو عامة يومه لا يقدر على أحد. حتى إذا كان في آخر النهار أقبل راكب يسمى عماراً، تُوضع به راحلته. حتى أناخ إليه. فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا رجل من البَرَاجم. قال: فما جاء بك إلينا؟ قال: سطع الدخان، وكنت طويتُ منذ أيام فظننته طعاماً. فقال عمرو: إن الشَّقي وافدُ البراجم. فذهبت مثلا. وأمر به فألقَيِ في النار. فقال بعضهم: ما بلغنا أنه أصاب من بنى تميم غيره، وإنما أحرق النساء والصبيان. لا تعْدَمُ الْحسْناء ذامّاً قالته حُيَّ بنت مالك العَدْوانية. لا عِتابَ عَلى الجَنْدَلِ

ترك الخداع من كشف القناع

يضرب في الأمر إذا وقع لا مرد له. وأصله ما حدثوا أن إحدى ملكات سبأ، وفد إليها قوم يخطبونها. فقالت: ليصف كل رجل منكم نفسه ولْيْصدقْ وليوجز. لأتقدّم إن تقدمت، أو أدع إن تركت على علم فتكلم رجل منهم يقال له مدرك فقال: إن أبي كان في العز الباذخ، والحسب الشامخ وأنا شَرس الخليقة، غير رعْديِد عند الحقيقة. قالت: لا عتاب على الجندل، فأرسلتها مثلا، ثم تكلم آخر منهم يقال له صبيسُ بن شَرس، فقال: أنا في مال أثيث، وخُلقُ غير خبيث، وحسب غير عَثيث، أحذو الفعل بالفعل، وأجرى القرض بالقرض. فقالت لا يَسُّرُّك غائباً، منْ لا يَسُرُّك شاهداً. فأرسلتها مثلا. ثم تكلم آخر منهم يقال له شَمَّاس ابن عباس، فقال: أنا شماس بن عباس، معروف بالندى والبأس. حسن الخُلُق في سجية والعدل في قضية. مالي غير محظور على القُلَّ والكُثر، وبالي غير محجوب على العسر واليسر. قالت: الخَيْرُ مُتّنَعٌ، والشّر مَحْذُوف: فأرسلتها مثلا؛ ثم قالت اسمع يا مدرك وأنت يا ضبيس: لن يستقيم معكما معاشرة لعشير حتى يكون فيكما لين العريكة: وأما أنت يا شمس فقد حللت مني محل الأهْزع من الكنانة والواسطة من القلادة، لدماثة خلقك وكرم طباعك: ثم اسْع بِخَيْر أَوْدع: فأرسلتها مثلا وتزوجت شَماساً. تَرَك الخِدَاعَ مَنْ كَشفَ القِنَاعَ قالته امرأة من كندة يقال لها عَصام. وأصله ما ورد أن الحارث بن عمرو وملك كندة، لما بلغه جمال خُماعة ابنة

كل فتاة بأبيها معجبة

عوف ابن مُحَلم الشيباني وكمالها. وقوة عقلها دعا عصام - وكانت امرأة ذات عقل ولسان وأدب وبيان - وقال لها: اذهبي حتى تعملي لي علم ابنة عوف: فذهبت وأبصرت من جمال الفتاة، وروعة أدبها، وكمال شمائلها، ما ملك عليها بصرها وسمعها وقلبها: فخرجت وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع ثم انطلقت إلى الحارث، فلما رآها مقبلة قال لها ما وراءَك يا عصام؟ قالت: صَرّح المَحْضُ عن الزبد. فسار كلتا الجملتين مثلا: ثم حدثته حديثها، ووصفتها له أبدع وصف وأبينه وأتقنه، فأرسل الملك إلى أبيها فخطبها فزوّجها إياه. وقد أسلفنا حديث خطبتها، ووصية أمها لها. كُلُّ فَتَاةٍ بأبيهَا مُعْجَبَةٌ يضرب في عجب الرجل برهطه وعشيرته. وأول من قال ذلك العَجْفاء بنت السعدي وذلك أنها وثلاث نسوة من قومها خرجن فاتَّعدن بروضة يتحدثن فيها: فوافين بها ليلاً في قمر زاهر، وليلة طلقة ساكنة، وروضة مُعْشبة خصبة. فلما جلسن قلن: ما رأينا كالليلة ليلة، ولا كهذه الروضة روضة، أطيبَ ريحاً، ولا أنضر، ثم أفضن في الحديث فقلن: أي النساءِ أفضل؟ قالت إحداهن الخرود الودود، الولود قالت الأخرى: خيرهن ذات الغَنَاء، وطيب الثناء، وشدة الحياء قالت الثالثة: خيرهن السموع الجموع، النفوع غير المنوع، قالت الرابعة: خيرهن الجامعة لأهلها، الوادعة، الرافعة لا الواضعة. قلن: فأي الرجال أفضل؟ قالت إحداهن خيرهم الحَظِيٌّ الرضىُّ الخَطال ولا التّبّال. قالت الثانية. خيرهم السيد الكريم، ذو الحسب

لو ترك القطا ليلا لنام

العميم، والمجد القديم، قالت الثالثة: خيرهم السخيّ الوفيّ، الرضي، الذي لاُ يغيره الحرة ولا يتخذ الضرة. قالت الرابعة: وأبيكن، إن في أبي لنعتكن، كرم الأخلاق، والصدق عند التلاق. والفَلْج عند السباق، ويحمده أهل الرفاق. قالت العجفاء عند ذلك: كلُّ فَتاة بأبيها مُعْجَبة. وفي بعض الروايات أن إحداهن قالت: إن أبي يكرم الجار، ويعظم النار، وينحر العشار، بعد الحوار، ويحمل الأمور الكبار. فقالت الثانية: أبي عظيم الخَطَرِ، منيع الوَزَر، عظيم النَّفر، يحمد منه الوِرد والصَّدر. فقالت الثالثة. إن أبي صدوق اللسان، كثير الأعوان، يروي السنان، عند الطعان. قالت الرابعة: إن أبي كريم النزل، مُنيف المقال، كثير النوال، قليل السؤال، كريم الفعال ثم تنافرن إلى كاهنة معهن في الحي فقلن لها: اسمعي ما قلنا، واحكمي بيننا واعدلي: ثم أعدن عليها قولهن. فقالت لهن كل واحدة منكن ماردة، على الإحسان جاهدة، لصواحباتها حاسدة. ولكن اسمعن قولي: خير النساء المبقية على بعلها، الصابرة على الضرءِ مخافة أن ترجع إلى أهلها مطلقة. فهي تؤثر حظ زوجها على حظ نفسها. فتلك الكريمة الكاملة. وخير الرجال الجواد البطل. القليل الفشل، إذا سأله الرجل ألفاه قليل العلل، كثير النَّفل. ثم قالت: كل واحدة منكن بأبيها معجبة. لَوْ تُرك القطاَ لَيلا لَنام يضرب لمن حُمِلَ على مكروه من غير إرادته. وأول من قاله حَذَام بنت الريان،. وذلك أن عاطس بن خِلاج سار إلى أبيها

مرعى ولا كالسعدان

في حمير وخَثْعَم وجُعْفي وهَمْدَان. ولقيهم الريان في أربعة عشر حيا من أحياء اليمن فاقتتلوا قتالا شديداً. ثم تحاجزوا. وإن الريان خرج تحت ليلته هو وأصحابه هُرباً، فساروا يومهم وليلتهم، ثم عسكروا، فأصبح عاطس فغدا لقتالهم فإذا الأرض منهم بلاقع، فجرد خيله، وحث في الطلب، فانتبهوا إلى عسكر الريان ليلا؛ فلما كانوا قريباً منه، أثار القطا، فمرت بأصحاب الريان، فخرجت حذام بنت الريان إلى قومها فقالت: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لناما أي إن القطا لو ترك ما طار هذه الساعة؛ وقد أتاكم القوم. فلم يلتفتوا إلى قولها؛ وأخلدوا إلى المضاجع لما نالهم من التعب. فقام دَيْسَم بن طارق وقال بصوت عال: إذا قالت حَذَامِ فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وثار القوم؛ فلجئوا إلى واد قريب منهم؛ فانحازوا به وحتى أصبحوا وامتنعوا منهم مَرْعىً وَلا كالسَّعدَان يضرب للشيء يفضل على أقرانه وأشكاله. وأول من قال ذلك الخنساء بنت عمر بن الشريد. وذلك أنها أقبلت من الموسم - في عكاظ - فوجدت الناس مجتمعين على هند بنت عتبة بن ربيعة فَعرَّجت عليها وهي تنشدهم مراثي في أهل بيتها. فلما دنت منها قالت: على منْ تبكين؟ قالت: أبكي سادة مضوا. قالت: أنشديني بعض ما قلت؛ فأنشأت هند أبياتاً أسلفنا. فقالت الخنساء: مرعىً ولا كالسَّعدان.

ماء ولا كصداء

ماءٌ ولا كَصَدَّاء يضرب للرجلين بهما فضل ولكن احدهما أفضل. والمثل لقَذور بنت قيس بن خالد ذي الجدين الشيباني. وكان من حديثها أن زُرارة ابن عُدُس رأى لقيطاً يختال، فقال له: كأنك أصبت ابنة قيس بن خالد ومائة من هجان المنذر بن ماء السماء! فحلف لقيط لا يَمَسّ الطيب، ولا يشرب الخمر، حتى يصيب ذلك. فسار حتى أتى قيس بن خالد - وهو سيد ربيعة - وكانت عليه يمين لا يخطب إنسان إليه علانية إلا أصابه بسوءٍ، فخطب إليه لقيط في مجلسه، وقال: عرفت أني إن أُعالنك أشِنك، وإن اُناجك لم أخدعك، فزوجه بنته القذور، وساق المهر عنه أهداها إليه من ليلته، فاحتمل بها إلى المنذر، فأخبره بما يقال أبوه، فأعطاه مائة من هجانه، فرحل إلى أهله. فقالت: ألقي أبي وأودعه. فلما جاءته قال لها: يا بنية، كوني له أمة يكن لك عبدا، وليكن أطيب طيبك الماء. إنه فارس مُضر، ويوشك أن يقتل. فإن كان ذلك فلا تخمشي لك وجها، ولا تحلقي شعراً، فقتل لقيط، فاحتملت إلى قومها، فتزوّجها بعده رجل منهم فجعلت تكثر ذكر لقيط فقال لها: وأيَّ شيءٍ رأيت منه كان أحسن في عينك؟ قالت كل أموره حَسَن: ولكني أحدثك أنه خرج إلى الصيد في يوم دجن وقد تطيب وشرب، فرجع إلىّ ولقميصه نضح من دماء صيده، والمسك يضوع من أطرافه. . . فسكت عنها. حتى إذا كان يوم دجن شرب، وتطيب، وركب وصرع من الصيد، وأتى به نضح من الدم والطيب فقال لها: كيف تَريني؟ أنا أحسن أم لقيط؟ فقالت: ماءٌ ولا كصدَّاءٍ.

عيون من الشعر

عيون من الشعر في الحَنين إلى الوطَن قالت أمّ موسى بنت سِدْرة الكِلابية - وكانت تزوّجت فُنقلت إلى حُجْر -: قد كنت حُجْراً أموت بها ... وأن أعيش بأرض ذات حيطان يا حبذا الغُرق الأعلى وساكنه ... وما تضمل من ماء وعيدان أبيت أرقب نجم الليل قاعدة ... حتى الصباح وعند الباب عجلان لولا مخافة ربي أن يعالجني ... لقد دعوت على الشيخ ابن حيان جلست امرأة صبية تسمى زينب أم حسانة، على بركة في روضة بين الرياحين والأزهار، في ألطف وقت وأبهجه وكانت قد احتملت من البادية إلى الحضر فقيل لها: كيف حالك هنا؟ أليس هذا أطيب مما كنت فيه بالبادية؟ فأطرقت ساعة، ثم تنفست وقالت: أقول لأَني صاحبيَّ أُسِره ... وللعين دمع يُحْدِرُ الكحلَ ساكبُه لعمري لنهر باللَوى نازح القذى ... بعيد النواحي غير طَرْقٍ مشاربه أحَبُّ إلينا من صهاريج مُلَّئَت ... للِعب ولم تَمْلُحْ لدىَّ مَلاعبه فيا حبذا نجد وطيب ترابه ... إذا هضبته بالعشيّ هواضبه

البكاء

وريح صبا نجدٍ إذا ما تَنسَّمت ... ضحى أوشرت جنْح الظلام جَنائبهُ وأقسم لا أنساه ما دمت حية ... وما دام ليل من نهار يعاقبه ولا زال هذا القَطْرُ يُسفِر لوعة ... بذكره حتى يترك الماء شاربه وقالت وجيهة بنت أوس الضبية: وعاذلةٍ تغدُو علىَّ تلومني ... على الشوق لم تَمْحُ الصبابة من قلبي فما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طَرْفاء القُصَيبة من ذنب فلو أن ريحاً بَلَّغَت وَحْيَ مرسل ... حَفّي لناجيتُ الْجَنُوبَ على النَّقب فقلت لها أدي إليهم رسالتي ... ولا تخلطيها طال سَعدُك بالُّتْرب فإني إذا هَّبت شَمالاً سألتها هل ازداد صَدَّاح النُّمَيرةَ من قُرْب؟ البكاء بكاء الأبناء قالت أم تأبط شر ترثي ولدها: طاف يَبغي نَجوة ... من هلاك فهلك ليت شِعري ضِلَّةً ... أي شيء قتلك أمريض لم تُعَد ... أم عَدُوٌّ خَتَلَك

أم تولّى بك ما ... غال في الدهر السُّلك والمنايا رَصَد ... للفتى حيث سَلَك أيُّ شيء قاتلٌ ... حين تَلقَى أجلك طال ما قد نِلتَ في ... غير كدٍّ أمَلك إن أمراً فادحاً ... عن جوابي شَغَلَك سأعزَي النفس إذ ... لم تجب مَن سألك ليت قلبي ساعةً ... صَبْرَهُ عنك مَلَك ليت نفسي قُدَّمت ... للِمنايا بَدَلَك وقالت امرأة ترثي طفلها. وكانت قد سافرت به. فلما كانت ببعض الطريق فاضت نفسه: يا عمرو ما لي عنك من صبرِ ... يا عمرو يا أسفي على عمرو لله يا عمروٌ وأيَّ فتى ... كَفَّنْتُ يوم وضعت في القبر أحثو التراب على مَفَارقه ... وعلى غَضَارة وجهه النَّضرِ حين استوى وعلا الشباب به ... وبدا منير الوجه كالبدر ورجا أقاربه منافعه ... ورأوا شمائل سيد غَمرْ وأهَمَّه همي فساوَرَه ... وغدا مع الغادين في السَّفر تغدو به شَقْراءُ سامية ... مَرَطَى الجزاء شديدة الأسر

ثبتُ الجنان به ويُقْدمها ... فَلج يُقلّبُ مقلتْي صَقْر ربيته دهراً أفنَقُه ... في اليسر أغدوه وفي العُسر حتى إذا التأميل أمكنني ... فيه قُبيل تلاحق الثَّغْرِ وجعلت من شغفي أُنقَّله ... في الأرض بين تنائفٍ غُبر أَدَعُ المزارع والحصون به ... وأُحِلُّهُ في المَهْمَة القفْر ما زلتُ أُصْعِدُهُ وأُحْدِرُه ... من قُتر مَوماة إلى قُتْر هرباً به والموت يطلبه ... حيث انتويتُ به ولا أدري حتى دُفعتُ به لمصرعه ... سَوْق المعيز تساق للعتر ما كان إلا أن هَجَعْتُ له ... ورمى فأغفَى مطلع الفجر ورمى الكرى رأسي ومال به ... رمس يَساور منه كالسكر إذا راغى صوت هببت به ... وذُعِرتُ منه أيَّما ذُعر وإذا منّيته تُساوره ... قد كدحت في الوجه والسخر وإذا له عُلقٌ وحشرجة ... مما يجيش به من الصدر والموت يقبضُهُ ... كالثوب عند الطيّ والنشر

فدعا لأنصره وكنت له ... من قبل ذلك حاضر النصر فعجزت عنه وهي زاهقة ... بين الوريد ومدفع السَّحْر فمضى! وأيّ فُجِعْتُ به ... جَلت مصيبته عن القدر لو قيل تفديه بذلت له ... مالي وما جَمَّعت من وفرِ أو كنت مقتدراً على عُمري ... آثرته بالشَّطرِ من عمري قد كنت ذا فقر له فغدا ... ورمى علىّ وقد رأى فقري لو شاء ربي كان فقر له فغدا ... ورمى علىّ وقد رأى فقري لو شاء ربي كان متعني ... بابني وشدّ بأزره أزري بُنيت عليك بُنَىَّ أحوجَ ما ... كنا إليك صفائح الصخر لا يُبْعِدَنك الله يا عمري ... إما مضيت فنحن بالإثر هذى سبيل الناس كلهم ... لا بد سالكُها على سَفر أو لا تراهم في ديارهم ... يتوقعون وهم على ذعر والموت يوردهم مواردهم ... قسراً فقد ذَلوا على القَسْرِ وقالت أم بِسطام بن قيس الشيباني يرثي ذَلوا بسطاما: لِيَبْك ابن ذي الجدين بكرُ بن وائل ... فقد بان زينها وجمالها إِذا ما غدا فيها وكأنهم ... نجوم سماء بينهن هلالها فلله عينا من رأي مثله فتى ... إِذا الخيل يوم الرَّوع هَبَّ نزالها عزيز مِكرٌّ لا يُهَدُّ جناحه ... وليث إِذا الفتيان زَلت نعالها

وحمال أثقال وعائذ مِحجرَ ... تحل لديه كل ذاك رجالهاُ سيبكيك عَانٍ لم يجد من يفكه ... وتبكيك فرسان الوغى ورجالها وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملة ضاعت وضاع عيالها مُفَرّجُ حومات الخطوب ومدرك ... الحروب إذا صالت وعز صيالُها تغَشى بها حيناً كذلك ففجعت ... تميم بها أرماحها ونبالها فقد ظفرت منا تميم بعثرة ... وتلك لعمري عثرة لا تُقالها وقالت أمّ قيس الضّبية ترثي ولدها: من للخصوم إذا طال الضّجاجُ بهم ... بعد ابن سعد ومن للضُّمر القُود ومَشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصي القوم مشهود فرّجته بلسان غير ملتبس ... عندالحِفاظِ وقلب غير مزؤود إذا قناة امرئْ أزرى بها خورٌ ... هزّ ابن سعد قناةً صُلبة العود وحدّثوا أن رسول الله أرسل خالد بن الوليد ليحطم وَدّاً فقام بنو عامر عبدُ ود بدران عنه، فضرب خالد فتى من فتيانهم فقتله. حتى إذا علمت أمه حديثه أقبلت إليه والقوم على أهبة أن يدفنوه فقالت: يا قرحة القلب والأحشاء والكبد ... يا ليت أمّك لم تولد ولم تلد لما رأيتك قد أدرجت في كفن ... مطيباً للمنايا آخر الأبد أيقنت بعد أني غير باقية ... وكيف يبقى ذراع عن عضد ثم أكبلت عليه فزفرت كان فيها موتها فدفنا معاً.

قالت دّخنتوس ابنة بن زرارة ترثي أباها: عثر الأغرّ بخير خِنْ ... دَفَ كهِلها وشبابها وأضَرَّها بعدوها ... وأفكها لرقابها وقريعها ونجيبها ... في المُطْبقات ونابها ورئيسها عند الملوك ... وزين يوم خطابها وأتمها نسباً إذا ... رجعت إلى أنسابها يرعى عموداً للعشي ... رة رافعاً لنصابها ويعولها ويحوطها ... ويَذِبُّ عن أحسابها ويطأ مواطن للعدوّ ... وكان لا يُمشَي بها فِعلَ المدِلَّ من الأسو ... د لِحيْنِها ونبَابِها كالكواكب الدُّري في ... سيماء لا يخفى بها عبث الأغر به وكلُّ ... منية لكتابها فرّت بنو أسد فرا ... ر الطير عن أربابها لم يحفظوا حسباً ولم ... يأووا لغيّ عقابها عن خيرها نسباً إذا ... نصب إلى أنسابها وهوازي أصحابهم ... كالفأر في أذنابها

وقالت هند بنت عتبة تبكي أباها عتبة بن ربيعة: يريب علينا دهرنا فيسوءنا ... ويأبى فما نأتي بشيء نغالبه أبعد قتيل من لؤي بن غالب ... يراع امرؤ أن مات أو مات صاحبه ألا رب يوم قد رُزئت مُرَزَّأً ... تروح وتغدو بالجزيل مواهبه فأبلغ أبا سفيان عني مألُكا ... فإن ألقه يوما فسوف أعاتبه فقد كان حرب يسعر الحرب أنه ... لكل امرئ في الناس مولى يطالبه وقالت أيضاً تبكي آلها: لله عيناً من رأى ... هُلْكا كهلك رجاليه يا رُبّ باك لي غداً ... في النائبات وباكية كم غادروا يوم القلي ... ب غداة تلك الداعية من كل غيث في السني ... ن إذ الكواكب خاوية قد كنت أحذر ما أرى ... فاليوم حق حذاريه يا رُبّ قائلة غداً ... ياويح أم معاوية وقالت قُتَيْلَة بنت النضير بن الحارث تبكي أباها. وكان قد أسر فيمن أسر من مشركي بدر. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبراً بين يديه، للجاجة في عدائه، وإمعانه في هجائه: يا راكباً إن الأثَيْلَ مَظِنّة ... من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ به ميتاً فإن تحية ... ما أن تزال بها الركائب تَخْفِقُ مني إليك وعَبرةً مسفوحة ... جادت بوابلها وأخرى تخُنق هل يسمعَنَّ إن ناديته ... بل كيف يسمع مَيَّتٌ أو ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تَمزَّق قسراً يقاد إلى المنية متعاً ... رَسْف المُقيَّد وهو عان مُوثَقُ أمحمد ولأنت صنو نجيبة ... من قومها والفحل فحل مُعْرِق ما كان ضَرَّك لو منت وربما ... منَ الفتى وهو المَغِيظ المُحْنقُ فالنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم أن كان عتق يُعْتقُ لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يُفْدَى به من ينفُق قال ابن هشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته: قالت أروى بنت الْحَبَاب: قُل للأرامل واليتامى قد ثوى ... فلتَبك أعينها لفقد حَبَاب أودَى ابنُ كل مخاطر بِتلاَده ... وبنفسه بُقْيا على الأحساب الراكبين من الأمور صدورها ... لا يركبون معاقد الأذناب وقالت امرأة: ألا فاقصري عن دمع عينك لن تَرَىْ ... أباً مثله تنمي إليه المفاخر وقد علم الأقوام أن بناته ... صوادق إذ يندبنه وقواصر

بكاء الاخوة

وقالت لبنة مالك بن بدر: لله عينَا من رأى مثل مالك ... عَقِيرةَ قوم أن جرَى فرسان فليتهما لم يشربا قط قطرة ... وليتهما لم يجريا لرهان أحَدَّ به أمس الْجُنَيْدِبُ نَذْرَه ... فأي قتيل كان في غَطَفان إذا سجعت بالرقمتين حمامة ... أو الرس فابكى فارس الكَتِفان وقالت صبية، ماتت أمها، فأضرت بها امرأة أبيها: فلو يأتي رسولي أمّ سعد ... أتى أمي ومن يعينه حاجي ولكن قد أتى مضنْ بين وُدّي ... وبين فؤاده غَلَق الرَّتاج ومن لم يؤذه ألم برأسي ... وما الرئمانُ إلا بالنتاج بكاء الاخوة قالت فارعة ابنة شداد، تبكي أخاها مسعود بن شداد وذلك من قصيدة ضافية: يا عينُ بكي لمسعود بن شداد ... بكاَء ذي عبرات شُجوه باد من لا يُذاب له شحم السَّيِف ولا ... يجفوا العيال إذا ما ضُن بالزاد

ولا يَحُل إذا حَلَّ منتبذاً ... يخشى الرزية بين المالِ والنادي قَوّال مُحْكَمة نَقّاضُ مُبْرَمة ... فرّاح مُبْهَمة حَبّاس أوراد نَحَّار راغية قَتّال طاغية ... حَلاَّل رابية فكاك أْقياد حلال مُمرعة حمال مصلعة ... فراج مُفظِعة طلاع أنجاد شهاد أندية رفاع أبنية ... شداد ألوية فتاح أسداد جماع كل خصال الخير قد علموا ... زين القرين ونِكْلُ الظالم العادي أبا زُرَارَةَ لا تبعد فكل فتى ... يوماً رهين صفيحات وأعواد هلا سقيتم بني جرم أسيركم ... نفسي فداؤك من ذي كربة صاد وقالت هند بنت عتبة تبكي أخاها وأسرتها، وقد ذهبت بهم الحرب يوم بدر: من حسَّ لي الأخوين كال ... غصنين أو من رَآهُمَا قَرْمان لا يتظالما ... ن ولا يرام حِمَاهما ويْلي على أبويّ وال ... قبر الذي واراهما لا مثل كهلي في الكهو ... ل ولا فتى كفتاهما أسدان لا يتذللا ... ن ولا يرام حماهما رُمَحين خَطَّ يَّييْنِ في ... كبد السماء تراهما ما خلفا إذ ودعا ... في سؤدد شَرْوَاهما سادا بغير تكلف ... عَفْواً بفيض نداهما

وقالت ليلى بنت سلمى: أقول لنفسي في خفاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر ألا تفهمين الخبرَ أن لست لاقياً ... أخي إذا أتى من دونه أكفانه القبر وكنت أرى بيناً به بعض ليلة ... فكيف يبين دون ميعاده الحشر وهوّن وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوما وإن طال بي العمر فتى كلن يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي وتشتقي به الجزْر فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر فتى لا يَعُدُّ المال رَبّاً ولا ترى ... له جفوة إِن نال مالا ولا كبر فنعم مُناخ الركب كان إذا انبرت ... شَمالٌ وأمست لا يعَرَجها سِتر ومأوى اليتامى الممحلين إذا انتهوا ... إلى بابه شُعثاً تحِط القَطُر وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية: أريق من دموعك واستفيضي ... وصبراً إِن أطلقت ولن تطيقي وقولي إِن خير بني سُليم ... وفارسها بصحراء العقيق ألا هل تَرجعن لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق وإذ نحن الفوارس كل يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق وإذ فينا وعاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق فبكيه فقد أودى حميداً ... أمين الرأي محمود الصديق فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق ولكني رأيت الصبر خيراً ... من التعلين والرأس الحليق

بكاء الأزواج

بكاء الأزواج قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية، تبكي زوجها: يا عين بكي عند كل صباح ... جودي بأَربعة على الجراح قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ... فتركني أضحى بأجرد ضاح قد كنت ذات حَمِية ما عشت لي ... أمشي البَراز وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع عاذلي بالراح وإذا دعت قُمْرية شَجَناً لها ... يوماً على فَنَنٍ دعوت صباحي وقالت الهيفاء بنت صبح القُضَاعية: أبكى وأُبكي بإسفار وإضلام ... على فتى الأصل ضرغام لهفي عليه وما لهفي بنافعةٍ ... إلا تكافُحُ فُرسان وأقوام قل للحُجَيب لحاك الله من رجل ... حُمِّلت عار جميع الناس من سام أيَقتل ابُنك بعليِ يا ابن فاطمة ... ويشرب الماء؟ ذا أضغاث أحلام والله لا زالت أبكيه وأندبه ... حتى تزورك أَخوالي وأعماقي بكل أسمر لَدْن الكف معتدل ... وكل أبيض صافي الحد قَمْقام

وقالت امرأة من طَيء: تأوّب عيني نُصيبها واكتئابها ... ورجيت نفساً عنها إيابها أُعلل نفسي بالمراحم غُيبه ... وكاذبتها حتى أبان كِذَابها أَلَهْفي عليك ابن الأشَدْ لبهمة ... أَفَرّ الكماةَ طعنها وضربها متى يدْعُهُ الداعي إليه فإنه ... سميع إذا الآذان صَمَّ جوابها هو الأبيض الوضاح لو رميت به ... ضواح من الرَّيَّان زال هضابها وقالت خِرْنِق بنت بدر بن هفان تبكي زوجها بشراً وتذكر من أصيبوا معه يوم قُلاب: ألا أقسمت آسي بشر ... على حيّ يموت ولا صديق وبعد الخير علقمة بن بشر ... إذا نَزت النفوس إلى الحلوق وبعد بني ضُبَيعة حول بشر ... كما مال الجزوع من الحريق من لهم بوالبة المنايا ... بجنب قلاب للحين الَمسُوق فكم بقُلاَبَ من أوصال خِرق ... أخي ثقة وجُمْجُمة فليق ندامى للملوك إذا لقوهم ... حُبُوا وسُقوا بكأسهم الرحيق هُم جدعوا الأنوف وأوعبوها ... فما ينساغ لي من بَعْدُ ريقي

بكاء العشيرة

وبِيضٍ قد قَعدْن وكل كحل ... بأعينهن أصبح لا يليق أضاع قدورهن مصاب بشر ... وطعنة فاتك فمتى تفيق بكاء العشيرة قالت رَيطة بنت عاصم: وقفت فأبكتني بدار عشيرتي ... على رُزئهن الباكياتُ الحْوَاسرُ غدوا كسيوف الهند وُرَّاد حومة ... من الموت أعيا وردَهن الَمصَادر فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا ... بدار المنايا والقنا متشاجر ولو أن سلمى نالها رُزْئنا ... لهُدَّت ولكن تحمل الرزء عامر وقالت خِرنِق: لا يَبعَدَنْ قومي الذين همو ... سم العُدَاة وآفة الجزْر النازلون بكل معتَرَك ... والطيبون معاقد الأزْر الضاربون بحومة نزلت ... والطاعنون بأذرع شُعْر إن يشربوا يهبوا وإن يذروا ... يتواعظوا عن منطق الهجْر قوم إذا ركبوا سمعت لهم ... لَغَطاً من التأبيه والزجر من غير ما فُحشٍ يكون بهم ... في مُنتج المُهُرَات والمهر هذا ثنائي ما بقيت ... فإذا هلكت أجَنَّني قبري

في الفخر

وقالت أمامة بنت ذي الأصبع العدواني تبكي قومها: كم من فتى كانت له منْعَةٌ ... أبلج مثل القمر الزاهر قد مرت الخيل بحافاتهم ... مر الحيا بالجبال العاطر قد لقيت فَهْم وعدونها ... قتلا وهلكا آخر الغابر كانوا ملوكا ساد في الورى ... دهراً لها الفخر على الفاخر حتى تَساقَوْا كأسهم بينهم ... بغياً فيا للشارب الخاسر بادوا فمن يحلل بأوطانهم ... يحلل برسم مقفر داثر في الفخر قالت عاتكة بنت عبد المطلب تفخر بيوم عكاظ: سائل بنا في قومنا ... وكفاك من شر سماعُه قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمع باق شناعهُ فيه السنوّر والقنا ... والكَبْش مُلْتمِع قِناعهُ بعكاظ يعشي الناظرين ... إذا هم لمحوا شعاعهُ فيه قتلنا مالكا ... قسراً وأسلمه رَعاعهُ ومجدَّلاً غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه وقالت الخنساء تفتخر وتذم الزمان: تعرّفني الدهر نَهْساً وحَزَّا ... وأوجعني الدهر قرْعاً وغمزاً وأفنى رجالي فبادوا جميعاً ... فغُودر قلبي بهم مستَفَزا

كأن لم يكونوا حِمىً يُتّقى ... إذا الناس إذ ذاك من عزّ بزَّا وهم في القديم أساة العَدِي ... م والكائنون من الخوف حِرْزا وهم منعوا جارهم والنسا ... ءُ يَحْفز أحشاَءها الخوف حَفزا غداةَ لَقُوهم بملمومة ... رَدَاح تغادر في الأرض ركزْا ببيض الصَّفاح وسُمْر الرماح ... فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا وخيل تكَدّس بالدارعي ... ن تحت العَجاجة يْجمزْن جَمْزا جززنا نواصيَ فرسانها ... وكانوا يظنون ألا تُجَزّا ومن ظن ممن يلاقي الحروب بأن ... لا يُصاب فقد ظن عجزا نَعِفُّ ونعرف حق القِرَى ... ونتخذ الحمد ذخراً وكنزاً ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونسحب في السلم خَزّا وقَزّا وقالت الهيفاء بنت صبح القضاعية تفخر بأبيها: الخيل تعلم يوم الرَّوع إن هُزمت ... أن ابن عمرو لدى الهيجاء يحميها لم يُبد فُحشاً ولم يُهدَدْ لُمعظَة ... وكلُّ مَكْرُمة يلقي يُسَاميها المستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذ الهَنَاة أهمّ القوم ما فيها لا يرهب الجار منه غدرة أبداً ... وإن ألَمَّت أمور فهو كافيها وقالت خرنق بنت بدر تفخر بزوجها بشر بن عمرو وصحابته: لقد علمت جَدِيلة أن بشراً ... غداة مُرَبَّح مُرّ التقاضي

في اللوم والإغراء

غداة أتاهم بالخيل شُعثا ... يدق نسورها حدّ القِضَاض عليها كل أصيد تغلبيّ ... كريم مُرَكَّب الحدين ماض بأيديهم صوارم مرهفات ... جَلاَها القَين خالصة البياض وكل مثقف بالكف لَدْن ... وسابغةٌ منّ الحَلَقِ المُفَاض فغادر مَعقِلاً حِصْناً ... عفير الوجه ليس بذي انتهاض في اللوم والإغراء قالت امرأة من كندة: لا تخبروا الناس إلا أنّ سيدكم ... أسلمتوه ولو قاتلتموه امتنعا أنْعَى فتى لم تذر الشمس طالعة ... يوماً من الدهر إلا ضَّر أو نفعا وقالت بنت حُكيم بن عمرو العَبدِية: أيرجو ربيع أن يؤوب وقد ثوى ... حُكَيمٌ وأمسى شِلْوهُ بمُطبّق فإن كنتم قوما كراما فعجلوا ... لهُ جْرأَةً من بأسكم ذات مصدَق فإن لم تنالوا نيلكم بسيوفكم ... فكونوا نساء في الملاَءِ المُخَلَق وقولوا ربيع ربكم فاسجدوا له ... فما أنتم إلا كمعزي الحبلق

نساء يصفن أنفسهن

وقالت كبشة بنت معد يكرب تعير أخاها عمراً لقعوده عن ثأر أخيه عبد الله: وأرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهمُ دمي ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا ... وأترك في بيت بصُعدة مظلم ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم ... وهل بطن عمرو وغير شبه لمطعم فإن أنتمُ لم تثأروا واتّدَيتمُ ... فمشوا بآذان النعام المُصلم ولا تردوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم وقالت امرأة من غامد في هزيمة ربيعة بن مكدوم لجمع من قومها: ألهل أتاها على نأيِها ... بما فضحت قومَها تمنيتهم مائتي فارس ... فردّكم فارس واحد فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا لها حالب قاعد نساء يصفن أنفسهن حدث الأصمعي قال: كان أعرابي عنده أربع نسوة: كندية، وغسانية، وشيبانية، وغَنَوية، والأعرابي غساني. وكن متظاهرات على الغَنَوية، فجمع بينهن ثم قال: لِتَقُلْ

كل واحدة منكن قولاً تصف. فقالت الكندية: كأني جَنَى النخل والزنجبيل ... وصَفْوُ المدامة والسلسبيل يزن سنا الوجه لي مَبْسِم ... كمثل اللآلى وعين كحيل وقالت الغسانية: براني إلهي إله السما ... نصفاً قضيباً ونصفاً كثيباً وألبسني ما يسوء الحسود ... جمالا وملْحاً وحسنا عجيبا وقالت الشيبانية أفوق النساء إذا ما اجتمعن ... كبدر السماء نجوم الدجى ويقتصر عن جميع الصفات ... فمن نالني نال فوق المنى وقالت الغنوية: تزوّد بعينك من بهجتي ... فقد خلق الله مني الجمالا إذا ما تفرست في رؤيتي ... رأيت هلالا وأخوي غزالا

المرأة العربية في عهد إسلامها

المرأة العربية في عهد إسلامها تمهيد المرأة والدين للمرأة من دقة الحس، وقوة العاطفة، وبعد الخيال فوق ما للرجل،. فهي لا تبرح الدهرين خاطر مُتوثب، ووجدان متأثر. لا تكاد تستمع خبرا، أو تلمح منظرا، أو تُطيف بها ذكرى، حتى ينال ذلك من أعماق نفسها، وأسرار وجهها، وشئون عينيها وربما ألَّمت بالحديث وهي تعلمه ضرباً من الخيال، فلا تزال رغم ذلك بين دم يَتصعَّد ثم يَتَحدّر، وقلب يَثبُ ثم يطمئن، ووجه يَرَبدُّ ثم يشرق، وعبرة تطفو ثم تنحسر، حتى تنتهي منه وقد استبقى بنفسها أثراً لا تملك أن تمحوه. ذلك خَلق المرأة وتلك شيمتها. فطرةٌ طيبة، وسريرة صافية، وقلب دائم الخفقان. مثل تلك الطبائع المستكنة في نفس المرأة إن وفقت إلى من يتعاهدها، ويصلح نهجها ويزيل العوائق من دونها، كانت سبيل الكمال المطلق، والخير الصريح في الأمم. وإن مُنيت بمن يُموه لها الباطل، ويزيل لها صفحة الشر، ويَجُنبُها طريق السداد، قضاء لنهمة فاسدة، ومجلبَةً لعرض زائل، انعكست آيتها، وانتكست حالتها، وهاجت الداء الدويّ والشر العقام. وإن هي تركت وأمرَها وخُليت وسبيلها، وكان شأنها دفائن الكنوز في قفر من الأرض، تتحول الأزمنة، وتتبدل الأمم، وهي على حالِها، لا خير فيها ولا أثر لها.

حقيقة لا مرَاءَ فيها. . . فأي طرق التربية آثره في حياة المرأة. وأحمق باستكمال فضائلها، وإذاعة مزاياها؟ الدين وحده هو الكفيل بذلك. فهي بمالها من انفساح مدى التصور، وقوّة سلطان العاطفة. تتمثل عظمة الله بأكثر مما يتمثل الرجل. وتستشعر حبه والخوف منه بأشدّ مما يستشعر. إن إيمان المرأة إيمان لا مثار فيه للتريب، ولا مجال للشبهات. فهي لا تعتصم بالتأويل، ولا تفرع إلى الحيلة، شأن الرجل إذا أثقله الواجب وأعياه الاحتمال فإذا أشربت ذلك الإيمان منذ أول عهدها، ولدُونة عُودها، وجدت الله ملء سمعها، وبصرها، وقلبها، وسريرتها، فلا تشعر إلا به، ولا تعمل إلا له، ولا تقدم على ما عساه يغضبه، ويستنزل سخطه. إن تصديق المرأة تصديق وثيق عميق، فهي لا تحاول - كما يحاول الرجل - تطبيق أمور الدين جليلها ودقيقها على عقلها. وفي الدين أشياء لا تنالها العقول إلا إذا رسخت حكمتها. ورجحت كفتها، واتسعت رُقعتها، وأين للناس أن يكونوا جميعاً كذلك؟ ولستُ بناس أبد الدهر مشهداً لا يزال على طول العهد به يهتاج عواطفى، ويحيل جوانحي وجوارحي إلى وجدان فياض، ومشاعر ثائره. وهو على ما نقول أدل وبه أمثل. وذلك أقصه عليك: في أصيل يوم صيف سنة 1914 كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا أترقب القطار القادم من الإسكندرية، لأتخذه إلى القاهرة. لقد كان كلُّ في شغل بتلك الدقائق المعدودات يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغل بصديق يجاذبني

حديثاً شيقاً ممتعاً. في تلك اللحظات الفانية، وبين ذلك الجمع المحتشد، راع الناس صياح وإعوال، وتهدّج واضطراب، ومشادّة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا بفتاة في السابعة من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوربي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهي تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما. أقبل القطار ثم وقف فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أُصعدت الفتاة وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم. كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يَجُملُ معها الصبر، ولا يُحمد دونها الصمت. سألت الشيخ ما خطبه، وما أمر الفتاة فقال وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى: إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها. ثم أخذت تُنفِذ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود. وكانت تدعى روز فأبت إلا أن تسمى فاطمة وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة. فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها فلم يجد إلا شِمَاساً وامتناعاً. وعَزَّت على الرجل خيبته فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها. وهنالك آمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم. قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم

ولا جريمة فزفر الرجل زفرة كاد يتصدّع لها قلبه وأحناء ضلوعه ثم قال: أما لقد خُدعت وذهمت وغلب أمر الحكومتين أمري فما عساني أفعل على آثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله فقلت: ما بالك يا فاطمة؟ - وكأنها مني ما لم تأنسه ممن حولها - فأجابتني بصوت يتعثر من الضبنى: لنا جيرة مسلمون، أغو إليهم فأستمع أمر دينهم. حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، ويقول وهو يلَّوح إلى بيده: اقتربي يا فاطمة. ولو أنك أبصرتها وهي تنطق باسم النبي محمداً لرأيت رِعدة تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلى أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانها فعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه. فلم تكد تستتم جملتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها بناءُ منتقض إلى ذلك الحدّ غشى الناس ما غشيهم من الحزن. وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله أشهد أن محمداً رسول الله تنفست الصُّعَدَاء وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى. فلما أفاقت قلت لها: وممّ تخافين وتفزعين؟ قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير. . . حيث ينهلون السياط من دمي. ولست من ذلك أخاف ألا إن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي قلت لها: يا فاطمة أَولا أدلك على خير من ذلك؟ قالت أجل قلت إن حكم الإسلام على القلوب. فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟. هنالك نظرت إلىّ نظرة تضاءلتُ دونها حتى خفيت على نفسي. ثم قالت: دون ذلك حز الأعناق وتفصيل المفاصل دعني فإنني إن أطعت نفسي لساني. وكان ضلالا ما توسلت به أنا وأبوها ومن حولها.

وكان ذلك أوفينا على القاهرة فحيل دونها. لم أعلم بعد ذلك شيئاً من أمر فاطمة لأني لم أستطع أن أعلم. . . رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحرّ والإيمان الوثيق. ذلك ما رأيته، ولا والله ما غيرت منه شيئاً إلا أ، يكون اللفظ بمرادفه فإن يكن الوقوف دون الحقيقة تغييراً ما لي العذر فيه. مِثل ذلك التصديق العميق من شأن المرأة وطبيعتها، وسبيله ما أسلفنا من خلالها وسجاياها. وإذا كان جمهور النساء يقدسن أجداث الموتى، ويؤمنّ بنوافر العادات فلا يتحولن عن ذلك الإيمان المقدس مهما خانتهن التجارب وأخلفت منهن الظنون، فكيف بهن لو وجهت وجوههنّ إلى الله العزيز القهار، وعلمن حق العلم أنه وحده بارئ النسم، ومبيد الأمم، وأنه وحده العليم بخفيات السرائر ونزعات الضمائر؟ لذلك كان دين المرأة - إذا طبعت عليه - أكثر وضحا، وأوضح سنا، وأرسخ أصولا، وأبعد عن عثرات الحيرة ونزعات الشيطان من دين الرجل. ولذلك كانت - إذا أخذت به، ونشأت على حبه - أسد الناس عصمة في السر والعلانية، وأطهرهم صحيفة في المشهد والمغيب. وأبعدهم عن اقتراف المآثم، واجتراح المحارم، إذا سكنت ألسنة الزواجر، وهدأت عيون الرقباء. إن ضلالا أن تعمل الصَّبَّية فتعصبها بالشدة، وتُقَنّعَها بالهوان. فإنك إن فعلت هونت نفسها، وثلمت حسها، فلا تشعر بعدئذ بأوزار العار، ولا تبتئس بانثلام الشرف. ولخير للعالم يومئذ أن تطوى صفحاتها، وتودي بحياتها من أن تقذفه بها داء دويا، وجرثومة وبيئة.

وإن محالا إن تعمد إلى الأخلاق النظرية فتسوقها إليها قواعد يزدحم بعضها بعضاً وعظات ينهال بعضها على بعض. فإن ذلك مما يكدّ ذهنها، ويثقل خاطرها. وربما شق عليها استظهارها، فأبغضتها وأبغضت ما حوتها. ليس إلا الدين. فهو الذي يملك زمام نفسها. وقوام أمرها بما فيه ذكر الله، ووصف جلاله وعظمته، وملكوته وجبروته، وعجيب صنعه وبديع آياته وقدرته ورحمته، وناره وجنته، وأشباه ذلك مما يوافق سجيتها ويثير عاطفتها ويزيد غرسها زكاء ونفسها صفاء. وليس بفائتنا أن نقص عليك قصصاً مما يسوقه بعض كتب التربية الفرنسية دعماً لذلك الرأي وإعزازاً له: قالوا: إن صبية في التاسعة من عمرها مَرنت على الإساءة إلى أمها. ولم تزدها الأيام إلا جفوة وعنادا. حتى لقد رمتها ذات عشية بقطعة من الخبز كانت في يدها ذهلت الأم لذلك واضطربت. وخرجت لساعتها إلى مربية ابنتها بالمدرسة تشكو إليها بثها، وسوء صنيع ابنتها بها. فهدأت ثائرتها، وقالت لها: دعيني وإياها. استهل الصباح، فدرجت الصبية إلى مدرستها. ودق ناقوس الكنيسة فغدا إليها التلميذات وهي معهن، ثم أخذت كل واحدة مكانها. وأقبلت المربية فجلست مطرقة صامتة لا تقول شيئا، ولا تفعل شيئا. تطاول الوقت حتى أوشك أن ينتهي. ونشرت السكينة رواقها على البنات جميعاً، وأبى عليهن جلال المكان وهيبة المربية أن يكلمنها. ثم اعتزمت الكلام فكن جميعاً عيوناً شواخص إليها وقلوباً حوائم إليها. فانطلقت تقول: بينكن صبية أغضبت الله. . . وأخشى أن يشملنا جميعاً غضبه لوجودها فينا. أو تعلمن أي أثم اقترفت، وإلى أي هاوية من الخطيئة سقطت؟ إنها أهانت أمها

فأما حديثها ووصف إهانتها فأنتن في غنى عنه لأنه موجع مؤلم، وليس لمثلي أن يفوه به فأنا أخجل أن أُقرن بين يدي الله إلى صبية آثمة. هنالك أخذت كل واحدة تفتش في ثوبها هل تجد بين حواشيه تلك الفتاة الآثمة فأما من ذكرت لأمها قبلة، أو اعتناقة، أو دعوة بخير، فتلك الظافرة المبتهجة. أما صبيتنا فقد ودَّت لو انفجرت الأرض فوارتها بين أحشائها. ولو وفقت إلى ذلك لتلمست المهرب من غضب الله، وإيلام الضمير فلا تجده. أقامت الصبية نهارها، ولو أقامته على أنياب الأفاعي لكان أهون عليها وأروح لها مما لقيت. حتى إذا آذنت المدرسة بالانصراف، خرجت وهي تتلفت في كل ناحية. فما كادت تنتهي إلى أمها حتى ارتمت مُكِبَةً عليها، تقبلها وتبللها بدموعها. ومنذ ذلك الحين أصبحت أسمى البنات أدبا. وأسمحهن خلقا. فيا أيها الماضون في تعليم البنت وطنوا أنفسكم قبل أن تبدءوا أعمالكم، أن تجعلوا الدين علمها الخفاق على رأسها، وإكليلها المشرق فوق جبينها، وكوكبها المتألق في ظلمات الدهر، ومدلهمات الخطوب. وإِلا فقدتم خلقها، وهو أعز ما ملكت يمينها. وهنالك لا تجدون العلم إلا مدرجة الشر، وسبيل الفساد؟

المرأة العربية في ظل الإسلام

المرأة العربية في ظل الإسلام دور العظمة أسفر نور الإسلام فافترَّ الهر لنساء العرب عن جوّ مُشرق، وأمل بعيد، وأسلوب من الحياة جديد. لقد كان للمرأة العربية في عهد جاهليتها فضائلها المكسوبة، ومواهبها الموروثة، وحقوقها التي تم لها بعضها، وسلب الجهل وسوء نظام الاجتماع بقيَّمتها فأما وقد رسخت أصول الإسلام، ووَفرت ظلاله، وخفقت على الخافقين أعلامه، ونَعِمت هي تحت ظله بوثوق الإيمان، وتقلبت بين أعطاف الملك، ونهلت من معين العلم، وضربت بسهم في التشريعِ، وشُرِع لها من الحقوق ما لم يشَرع لأمة من الأمم في عصور من العصور - فقد أمعنت في سبيل الكلام طلَقَة العنان، حتى أخملت من بين أيديها، وأعجزت من خلفها، فلم تشبهها امرأَة من نساء العالمين في جلال حياتها، وسناء منزلتها. ذلك الحكم للحقيقة وللتاريخ، لا لعاطفة الدين، ولا لآصرة الرحم، ولا لحسن نسق اللفظ. له علله وحِكمه، وأسبابه ودواعيه، ومقدماته ونتائجه. وإنا لماضون بعون الله في الوفاء بذلك كله. بادئين بما منع الإسلام عنها من حيف، وما شرع لها من حق معتمدين فيما نقول على كتاب الله، وسنة رسوله وسيرة البررة الأخبار من آله وصحابته فذلك كله أمرنا ومنار بصائرنا.

المرأة العربية بين العهدين

المرأة العربية بين العهدين على الرغم مما لقيت المرأة العربية في عهد جاهليتها من كرامة لا تمارى، ومكانة لا تُسامي، ومجالات درجت فيها إلى مواطن الملك، ملك الجوارح والقلوب - على الرغم من ذلك كله تعثر بها الدهر عثرات، وَقرت في بعض المواطن عظمها، وانتظمت قلبها وتَغَشّها بظُل من الفزع، وظلمات من الأهوال. كذلك لبثت المرأة العربية تتعثر حتى استبان وضح الإسلام فأقالتها يد الله وهاأنذا أبسط القول فيما رفع الإسلام عنها من غواشي الظلم في عامّة أحوالها، ومختلف أطوارها الوليدة المسلمة من العب من كان يرى البنت حملاً فادحاً يضعف دونه احتماله، وتتخاذل لفرط ما يُشفق من وصمة الذل، ووسم العار، وإذا وهنت نفسها، أو ذهب السباء بها، فكان بين أن يستبقيها على كره لها، ومضض منها، وترقب لموتها، أو يفزع إلى الحفر فيقذفها في جوفها، ويُهيل التراب على غَضَارة عُودها، ونضارة وجهها. فما أشدَّ ما عاب الله أمر ذلك عليهم، ونقمة منهم، ودلّ على سفه رأيهم وسوء صنيعهم في مواطن كثيرة من كتابه الكريم. فقال جل ذكره: (وإذَا بُشَّرَ أحَدُهْم بِالأنثى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ أَيُمسِكُه عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ في الُّترابِ ألاَ سَاءَ ماَ يحْكمونَ).

وقد تباركت آيته: (وإذا المَوْءُودَةُ سُئلَتْ بِأيَّ ذَنْبٍ قِتلت). وقال تعالى حكمته: (قَدْ خَسِرَ الَّذِين قَتَلُوا أوْلادَهم سَفَهاً بِغَيْرِ علْمٍ وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ اْفِتراءٍ عَلَى اللهِ قَد ضَلُّوا وما كانوا مُهْتَدِين). وفي القرآن الكريم كثير من مثل ذلك أليم شديد. وكان قيس بن عاصم المِنقري بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضحايا الموءودات وأنه ذهب باثنتي عشرة منهن. فقال عليه السلام مَنْ لا يَرحم لا يُرحم وأمره أن يعتنق بكل واحدة جاريةً مؤنة. وكان العرب يأنفون أن يداعب الرجل وليدته، أو يسمح لها أن تمرح بين

يديه. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نقض تلك السنة السيئة، فلم يكن يضن بوقته الأعَزّ أن يداعب فيه الولائد من بناته أو بنات صحابته. فقد حدّث البخاري عن أبي قتادة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامه بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها. وحدثت أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلىّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَنه سَنَه - وهي بالحبشة حسنة - قال: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فانتهرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلي وأَخْلِفي، فُعَمَرت بعد ذلك ما شاء الله أنّ تعمر.

ومن حديث عنايته صلى الله عليه وسلم بهن، وأمر ببذل الرحمة، وإسداء المعونة لهنّ، ما حدثت عائشة أم المؤمنين قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة. فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها. ثم قامت فخرجت. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: من ابتلى من هذه البنات بشيء كنّ له ستراً من النار. أما حبه عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة، وشغفه بها، وحنانه عليها، فمما لا يحيط به وصف ولا يناله بيان. وهي التي يقول فيها: فاطمة بضعة مني يسوؤني ما يسوئها ويسرني ما يسرها. أبصر المسلمون كل ذلك. ورأوا أن الله لم يختص فاطمة بنت محمد بذرية رسوله إلا ليشيد بالمرأة، وينهض بأمرها، ويرفع من شأنها، ويأخذ العرب بحبها، والابتهاج بها. فغدوا من بعده بناتهم ويُكْرِمونهنّ، ويرون الخير كله معقودا بنواصيهن. وقد استخلص وهب بن مُنَبَّه من تقديمه سبحانه الإناث في قوله: (يَهَب لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أن من يُمن المرأة أن تلد الأنثى قبل الذكر. وكان لمعن بن أوس ثمان بنات، ويقول: ما أحب أن يكون لي بهن

رجال. وفيهن قال: رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا نُكذَبْ نساء صوالح وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح وحدثوا أن عمرو بن العاص دخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده من له يلاعبها. فقال له: انبذها عنك يا أمير المؤمنين! فوالله إِنهن يلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء. ويؤدَّين الضغائن. فقال معاوية: لا تقل، فما ندب الموتى، ولا تفقَّدَ المرضى، ولا أعان على الحزن مثلهن. وقال الزهري: كانوا - يريدون أصحاب رسول الله - لا يرون على صاحب ثلاث بنات صدقة، ولا جهادا، لحاجتين إليه، وشُغُلهِ بهن، والعناية بتربيتهن. وكان أبا خالد القَناني - وكان من غُلاة الخْوارج - يشير إلى ذلك، وكان قد طلب إليه الغُدُوُّ إلى القتال فقال: لقد زاد إلىَّ حبَّا ... بناتي إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف وأن يَعْرَين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف ولولا ذاك قد سَوَّمت مُهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف أبانا من لنا إن غبت عنا ... وجَدَّ الحي بعدك في اختلاف

فوارق النساء

فوارق النساء مزق الإسلام حجب الفوارق بين النساء، كما مزّقها بين الرجال. فتطامنت الرؤوس، وتساوت النفوس، فلم يكن بين المرأة والمرأة إلا الخير تتقدَّم به، أو العمل الصالح تسبق إليه. فأما أن تُدل َّ بعَرضَ طارف، أو تعتز بحسب قديم فذلك ما لا يقَدمها أُنملة، ولا يُغني عنها من الله شيئا. لقد شرع الله للمؤمنين شِرعة الإخاء بقوله جلّ شأنه: (إنما المؤمنين اخوة) فلم يكن يَفرق بين المسلمة والمسلم، ولا بين المسلم والمسلمة، إلا شريف الخلق وخسيسه فذلك حيث يقول الله تباركت حكمته في كتابه الكريم (الْخَبِيثات للْخبِيِثينَ والخَبيثُونَ للْخَبِيثاتِ والطَيَباتُ للطَيبينَ والطَّيَبونَ للِطَّيَباتِ). وكذلك استن رسول الله صلى الله عليه وسلم المساومة بقوله: ألا وإن المسلم فلا يحلُّ لمسلم وسبب يوم القيامة مقطوع إلا نسبي وسبي. ولا أدَلُّ على مل نقول من حديث فاطمة بنت الأسود المخزومية - وهي امرأة من ذوات اشرف والحسب من قريش - وَهَنت نفسها فسرقت فقامت عليها البينة، فوجب عليها الحدّ. فأهَمَّ ذلك قريشاً. فقالوا: من يُكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أتشفع في حدّ من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضلَّ مَنْ قبلكم إذا سرق الشريف تركوه

وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. أرأيت لو ذهبت صبية جارية بقطيع من الغنم، فعدا الذئب على واحدة فأكلها، فنهض مولى الصبية غليها يضربها، أكان ذلك غريباً على الناس، بعيداً عن موقع أسماعهم وأبصارهم؟ لقد حدث ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وغدا الرجل على رسول الله يخبره بما أصاب به جاريته. فاشتدّ بالنبي الغضب حتى احمرّ وجهه، وهاب أصحابه أن يكلموه. ووقف الرجل واجماً لا حراك به. وقال عليه الصلاة والسلام عند ذلك وما عسى الصبية أن تفعل بالذئب! وما عسى الصبية أن تفعل بالذئب! وما زال يكررها. ثم قال: إن خدمكم إخوانكم جعل الله لكم الولاية عليهم، فلم يجد الرجل مساغا من موقفه إلا بعتق جاريته.

ولقد ورث عليه الصلاة والسلام فيما ورث عن أبيه جارية عَسْرى اللسان لا تكاد تبين: هي أُم أيمن. فكان صلى الله عليه وسلم يدعوها أُمه. وكان إذا نظر إليها قال هذه بقية أهل بيتي. وكان من أشد ما يؤلم نفسه الكريمة، أن يسمعِ الرجل يعَّر الرجل بأمه. وآية ذلك ما حَدَّث المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذرّ الغِفَاري وعليه حُلة وعلى غلامه حُلة. فسألناه عن ذلك فقال: إني سأبيت رجلاً فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعَيَّرته بأمه! إنك امرؤ فيك جلهلية. ثم قال إن خدمكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يَغْلِبُهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم.

ذلك الإخاء الشامل هو الذي حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يزَّوج ابنه عاصماً - وهو أحب أبنائه إليه - من ابنة امرأة بيع اللبن في الطريق، وهو لو شاء زَفَّ إليه وأعز امرأة في العلم. ولكنه أثر الخلق العظيم على البيت الكريم، والمجد القديم، وتفصيل ذلك فيما رواه الميداني أن عمر رضي الله عنه مرّ بسوق الليل - وهي أسواق المدينة - فرأى امرأة معها لبن تبيعه، ومعها بنت شابة. وقد همت العجوز أن تمذق لبنها - تخلطه بالماء - فجعلت الشابة تقول: يا أُمَّه لا تمذقيه ولا تغُشّيه. فوقف عليها عمر فقال: مَن هذه منك؟ قالت: ابنتي: فأمر عاصماً فتزوجها. أقول: وقد أنجبت هذه المرأة - فيمن أنجبت - أورع وأعدلهم وأجلّهم عمر ابن عبد العزيز، فهي جدَّته لأمه. رضي الله عنهم أجمعين.

بوائق الغيرة

بوائق الغيرة الغيرة ضرب من ضروب الأثرة، لا بد منه لحياطة الشرف، وصيانة العرض وهي مثار الحمية والحفيظة فيمن لا حمية ولا حفيظة له. وإنما تقبل - بل تجب - إذا خاف الرجل على شرفه أن ينثلم، وعرضه أن يهان. فأما أن تقتاد الرجل في كل آنة، وتفزعه في كل موطن، فهي خَبْل ووسواس، وأولى بها أن تدنى إليه الشر من حيث يتقيه. ولقد مُنى العرب في جاهليتهم باتقاد الغيرة حتى جاوزوا بها طورها. وحتى قادت فريقاً منهم إلى قذف زوجته في عرضها، لهاجس اعتاده، أو خلجة من الشك نفذت إليه. فرفعوا خصومتهم، واحتكموا في أعراضهم إلى فريق الكهان والكواهن، وهم بَشَر يقذفون الغيب برجم الظنون، فيخطئون ويصيبون. وإن من أشد ضروب الوهم، وأفدح أثقال الظلم، أن ترى العربي يريد السفر، فيعمد إلى شجرة فيعقد بين غصنين منها، فإن عاد وكان الغصنان على حالهما، زعم أنها لم تخنه، وإلا فقد خانته. وذلك ما يسمونه بالرتيمة. كأن عرض المرأة، بل عرض الأسرة بل عرض الحي الذي نشأت المرأة بين ربوعه ودرجت بين مدارجه مُرْتَهن بغصنين تعصف بهما الريح، أو تعبث بهما الأيدي، فتفرق بينهما. أما أسباب تلك الغيرة الموبقة، فقد قطعها الإسلام، إلا أن تكون عن علم وبينة فأما حكم الرّيب؛ واحتكام الشبهات فذلك ما ليس من الدين في شيء. وقد فرض الله جل ذكره على من رمى امرأته في عرضها أن يشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين، فيما قال وادعى. والخامسة أن لعنة الله عليه

إن كان من الكاذبين. فإن لم يصدع بتلك الشهادات الخمس. فعقوبته عقوبة قاذف المحصنات يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، وهو الله من الفاسقين. وهنالك حديثين حَدَّث بهما البخاري عن نبي الله صلى الله عليه وسلم يكشفان عن مواطن الغيرة حقها وباطلها، وما ورد من حكم الله ورسوله فيها. فالأول حديث المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفحَ - أي غير مائل عرضاً - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أَتحبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه. والله أغير مني، وممن أجل غَيْرَة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأما الثاني فحديثه عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود. فقال هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال ما ألوانها؟ قال: حُمْر. قال: أفيها أوْرق؟ قال: نعم. قال: فأنَّى كان ذلك؟ قال: أراهُ عِرْقٌ نزعه. قال: فلعل ابنك هذا نزعه العرق.

فانظر كيف شرع النبي صلى الله عليه وسلم شرعة وَضَّاحة صافية لا مجال فيها لنزعات الوهم، وعثرات الوسواس، وكيف اتَّقاها ووَقى الناس شرها من التباس الشك واحتكام الظنون. إن في دفع النبي صلى الله عليه وسلم شر التهمة عن امرأة الأعرابي لدليلاً لا يقبل الشك على براءتها، وطهارة عرضها. فما كان الرجل فاعلا لو كان في عهد جاهليته ولم يهتد بِقَبس من نور النبوّة؟ ليس بين يديه إلا أن يفتك بها ويروي غليل نفسه بنقيع دمها، أو أن يتلمس العرّافين والمنجمين ليُلقوا إليه بالكلمة الحمقاء فيكون لها ما بعدها. وليس وراء الحالتين إلا عار الدهر، وذلّ الأبد. لذلك تحامى المسلمون مواطن الظَن، ومداحض التهم، حتى عدُّ الاعتساف في الغيرة سِمَة من الحمق، لا يستحقٌ صاحبها أن يُسَوَّد أو يطاع. ومن ذلك ما قال معاوية ابن أبي سفيان: ثلاث من السؤدد: الصلع، واندحاق البطن، وترك الإفراط في الغيرة. وقد ظهر في المسلمون كثيرون ذُّموا التورُّط في الغيرة، وتوكيل الريب والظنون بالمرأة؛ ومما سار من القول في ذلك، وحفل بوضوح الرأي فيه، قول مسكين الدارمي: وإني امرؤ لا آلف البيت قاعداً ... إلى جنب عِرسي لا أفرطها شبرا ولا مقسم لا أبرح الدهر بيتها ... لأجله قبل الممات لها قبرا

إذا هي لم تحصن أمام قبابها ... فليس بمنجيها بنائي لها قصرا ولا حاملي ظني ولا قيل قائل ... على حائط حتى أحيك بها خبرا فهبني امرؤ راعيت ما دمت شاهداً ... فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا وقوله: ألا أيها الغائر المستشيط ... علام تغار إذا لم تغر فما خير عرس إذا خفتها ... وما خير بيت إذا لم يزر تغار على الناس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظر فإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر إذا الله يعطه ودّها ... فلن يعطي الودّ سوط ممرّ ومن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضمه والمطي السفر وقوله: ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في غير حين من لم يزل متهماً عرسه ... مناصباً فيها بوهم الظنون يوشك أن يغريها بالذي ... يخاف أو ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمها ... منك إلى خلق كريم ودين لا تظهرن منك على عورة ... فيتبع المقرون حبل القرين ولعمرك ما كان مسكين في شيء من سقوط الهمة؛ وفتور العزيمة، ولؤم الحسب حتى يقال ضعف أن يملك امرأته فقال ما قال؛ فاللهم لا. فإنه هو السيد البطل الحكيم وحسبك منه قوله:

السباء

إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا ... مددت لها باعاً عليا فنلتها ومكرمة كانت رعاية والدي ... فعلَّمينها والدي فنقلتها وإني سألقى الله لم أرم حرّة ... ولم تأتمني يوم سرّ فخنتها ولا قاذف نفسي ونفسي بريئة ... وكيف اعتذاري بعد ما قد قذفتها بل حسبك منه قوله: ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جاري إذ أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر ويصم عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر السباء كانت الحرب تعصف بالعرب ما شاءت أن تعصف، ثم تنكشف عنهم وهم بين قاهر محتكم ومقهور ذليل. ثم لا تسكن نأمتها، ولا يخف هديرها حتى يستبيح القاهر حمى المقهور، ويستاق نساءه حواسر الرؤوس، بين ذل الغربة، وعار السباء، وهو بعد ذلك إما مجمل يعتقهن فيتزوجهن، وإما بغيض منتقم يتخذ منهن رعاة الإبل، وجواري الخسف ما شاءت له ثائرة نفسه، وسموم حقده، وبين هذا وذاك يحال بينهن وبين ذويهن فلا يلقون بعدهن إلا الهوان. وأي نكبة ثمرّ أشد عليها من أن تكون ناعمة في دارها، آمنة في سر بها، مبتهجة بين لداتها وعشيرتها ثم تمسى وقد سلها القاهر المستبيح من ذلك كله، وقادها إلى امرأة سَبية أسيرة تطلب رحمتها؛ وتسأل إنصافها. كان ذلك أشد مواطن الرَّوع والفزع في حياة المرأة العربية. فلما دخل العرب

في دين الله أفواجا، وأصبحوا بنعمته إخواناً، حرم عليهم السباء، فلا يحل للمسلم أن يسبي المسلمة مهما عصفت بالقوم عواصف الفتن، وفَرَّتهم شُعب الأهواء. ولما سار خالد بن الوليد إلى حرب المرتدين في عهد أبي بكر رضي الله عنه غدا على مالك أبو بكر وكان قد منع الزكاة إذا سمع صوت المؤذن في قوم أن يكف عن قتالهم فأذَّن مؤذن مالك، وخشي خالد خدعة الحرب، فقاتل مالكا وقتله، وانتزع زوجه واتخذها زوجاً له، فأثار ذلك حفيظة عمر بن الخطاب. وهاج غضبه، وقال لأبي بكر: اقتل خالداً، فقد قتل مسلماً وزنى بمسلمة، فقال أبو بكر: إن خالداً تأوّل فأخطأ ولا أشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين فلولا ثقة أبي بكر بإيمان خالد، وإيمانه بصفاء دينه، وقوة يقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إنه سيف من سيوف الله. لولا ذلك كله لما حمل عمله على خطأ الاجتهاد ولما جاوز فيه رأي صاحبه. ولقد ذاع الإسلام وبين أيدي العرب جوار من سباء الجاهلية، فأولئك أقرهم الله سبحانه وتعالى عليهن بمثل قوله: (فإنْ خفْتُم أَلاَّ تَعْدلِوا فَواحدةً أوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). على أنه جل ذكره حبب إليهم تحرير الرقاب، ورغبهم ترغيباً شديداً في افتكاكها ورفع رقها. بطرق ثلاث: الأولى - أنه جعل أسمي ما يتقرب به الإنسان إليه، شكراً له على جليل

نعمه، وجزيل إحسانه، فذلك حيث يقول جل ذكره: (ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنَ ولساناً وشَفَتَيْنَ وهدَيْناه النّجْدَيْنَ فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَو إِطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتيماً ذا مَقْرَبَةٍ أوْ مَسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ). الثانية - أنه تبارك آلاؤه، اختص تحرير الرقاب بسهم من ثمانية أسهم من الأرقاء، أعني أنّ الإمام إذا اجتمعت له أموال الزكاة أفراد مها جزءا لفكَ الرقَذ عن الأرقاء. فذلك حيث يقول سبحانه. (إنّمَا الصَّدَقَاتُ للِْفُقَراءِ والمَساكِين والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرَّقابِ والغارِمِين وفي سبيل اللهِ وابْنِ السَّبيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيم حَكيِمٌ). الثالثة - أنه جعل تحرير الرقاب في مقدمة كفارات كثيرة، عن جرائم تجترم. فقال في كفارة الظهار: (والَّذِين يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهم ثَّمَّ يَعُودُون لمَا

قالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ يَتَماسَّا). وقال في كفارة اليمين. (لاَ يُؤاَخِذُ كُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ ولكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدُتُم الأَيمانَ فكَفَّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكيِن مِنْ أوسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أو تَحرِيرُ رَقَبَةٍ). كذلك أوسع رسول الله صلى الله عليه وسلم القول في فضل تحرير الرقاب وأنه خير ما يقرّب العبد من الله ويفيض نعمته عليه. ومن قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: إيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران. وقال عليه الصلاة والسلام: أيما رجل أعتق امرأ مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار. على ذلك تتابع المسلمون وهم ينخلعون عما ملكت أيديهم بعضه أو جميعه تقرباً إلى الله وشكراً له، ومجلبة لرحمته، واستدفاعاً لسخطه. ومنهم من كان يطوف على غلاظ الأكباد من السرة يشتري منهم عبيدهم وإماءهم ليحرّرهم ويرفع رقهم في سبيل الله ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ومنهم من خرج عن عبيدة وإمائه جميعاً مؤثراً طاعة الله ورضاه، على نعيم دنياه. ولئن سارع رجال المسلمين إلى تحرير الرقاب، لقد كان نساؤهم أطول بذلك يدا، وأسخى نفسا. وأروح قلبا. فما جَدّت نعمة، أو تكشفت حادثة أو عارضهن ريب الأمر، أو نزعوا إلى رحمة من الله، إلا وعتق الرقاب بادرة خواطرهن، وسابقة إيمانهن. فقد تحللت عائشة أم المؤمنين من يمين أقسمتها بعشر من الجواري أعتقتهن.

وكانت أسماء بنت أبي بكر إذا أحست بدبيب المرض خرجت عن إمائها جميعاً وإن من ابتغاء الشطط أن يأتي القلم على إجمال ما أطلق المسلمات من إمائهن تأنقاً في الشكر، وتفريجاً للضر، وزلفى إلى الله. كذلك كان تحرير الرقاب مظاهر البر. وأوضح مواطن الخير عند الموسرين من المسلمين. كذلك أخذ الدين جماعة المؤمنين بالنزول عما ملكت أيديهم راضين مطمئنين، فإن لم يكن عتق، فرحمة، وإخاء، ورعاية حق، وبذل معونة. وما رأينا النبي الكريم تعاهد برحمته ووَصاته جماعة من المسلمين بمثل تعاهد جماعة الغلمان والجواري، حتى كان آخر ما أوصى به: الصلاة وما ملكت أيمانكم ولقد كان عليه الصلاة والسلام يجعل عتق الجارية فداء لها من لطمة تصيبها وهل تجد في قديم الأمم وحديثها من منع عسف الرق، ورفع شأن الأرقاء مثل رسول الله محمد بن عبد الله في قوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في خولكم، فإنهم أشقاؤكم، لم ينحتوا من جبل، ولم ينشروا من خشب. أطعموهم مما تأكلون، وأكسوهم مما تلبسون، واستعينوا بهم في أعمالكم، فإن عجزوا فأعينوهم، فإن كرهتموهم فبيعوهم ولا تعذبوا خلق الله. وقوله عليه الصلاة والسلام: إذا أتى أحَدَكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليطعمه أكلة أو أُكلتين ولي علاجه وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يقُلْ أحدكم عبدي، أَمَتي، وليقل فتاي وفتاتي. وأي مولاة قوم أو مولى لهم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم: للمملوك الصالح

توريث البنات

إذا نصح سيده وأخلص عبادة ربه أجران ثم لا يخفق قلبه غبطة وابتهاجاً بما سيضاعف له الله من أجر السراة الأحرار في الآخرة توريث البنات سنة من سنن العرب أن النساء لا يؤول إليهن من ميراث الرجال شيء. وكانوا يقولن في ذلك لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة. فإذا مات ورثه ابنه، فإن لم يكن فأقرب من وجد من أوليائه أبا كان أو أخاً أو عمَّا. على حين يضم بناته ونساءه إلى بنات الوارث ونسائه. فيكون لهن ما لهن، وعليهن ما عليهن. حتى جاء الإسلام فَصَدع ذلك الضرب من الظالم، واختص النساء بنصيب مما ترك الرجال. فذلك جل ذكره (للِرَّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَركَ الوَالِدنِ والأَقْرَبُونَ وللِنَّسَاءِ نَصِيبٌ مما تَرَكَ الْوَالِدانِ والأَقْرَبونَ مِماَّ قَلَّ مِنْهُ أو كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلام أبر وأرحم بالبنت من أبيها. وإن فيما حَدث البخاري عن سعد بن أبي وقاص لبلاغاً لقوم يعقلون.

قال سعد: مرضت بمكة كرضاً أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني. فقلت: يا رسول الله، إن لي مالا كثيراً، وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصَدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: الثلث؟ قال الثلث كبير. إنك إن تركت ولدك أغنياء، خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس. وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها في امرأتك. فأية امرأة تلك إذا مات أبوها تنتقل إلى بيت عمها، وقد صفرت يدها مما كانت تتمتع به من عز ومال، ثم تصبح فتجد من صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم تلك الرعايا العالية، وتستظل من قوله بتلك الظلة السابغة؟ ذلك مجمل ما اهتضمته العرب في عهد جاهليتهم من حقوق المرأة، على وفر نُبلها، وسماحة فضلها يومذاك. أسبغه الإسلام عليها، فأزال شكاتها، وأنصف مظلمتها. وإلى هذه الحقوق حقوق كانت لها، فزادها الإسلام تأييداً وتعزيزاً. ونفث فيها من روحه فأصبحت ديناً راسخاً، وحكماً نافذاً؛ ويقيناً مكيناً. وتلك التي نبدأ فنفي بها.

حقوق المرأة في الإسلام

حقوق المرأة في الإسلام هي والرجل المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها من الحق ما له، وعليها ما عليه ولا فضل إلا أن يقوم الرجل بماله من قوة الَجلْدَ، وبسيط اليد، واتساع الحيلة، فيلي رياستها. فهو بذلك وليها، يحوطها بقوّته، ويذود عنها بدمه، وينفق من كاسب يده. فأما فيما سوى ذلك، فهما في السراء والبأساء على سواء. ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه بقوله تباركت آيته: (ولَهنَّ مِثْلُ الذِي عَليْهِنَّ بالمعْرُوفِ وللِرَّجالِ عَليْهِنَّ دَرَجَة). تلك هي الرعاية والحياطة لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق. وفي سبيل تلك التسوية الشاملة، جعل الله الخبيثات أكفاء الخبيثين، والطيبات أكفاء الطيبين. فإذا تم للناس أن يكونا كذلك فلا نزاع بين زوجين. لأن شر الخبيثين يدفع بعضه بعضا، ويطمس بعضه آثار بعض، فيكون كل على حَذَر من صاحبه. فإني رأيت الشر للشر ما حيا ... كما خط في القرطاس سطر على سطر أما الطيبان فأين للشر أن يدب بينهما، أو يجد السبيل إليهما؟ وكما قرن الله سبحانه وتعالى بينهما في شؤون الحياة كذلك قرن بينهما في حسن المثوبة وادَّخار الأجر، وارتقاء الدرجات العلى في الآخرة. فإذا احتمل الرجل نار الهجير، واصطلى جمرة الحرب، وتناثرت أوصاله تحت

ظلال السيوف، فليس ذلك بزائد مثقال حبة المرأة إذا وفت لبيتها وأخلصت لزوجها، وأحسنت القيام على بنيها. وفي حديث مسلم عن أسماء بنت يزيد الأنصاري ما ينبئك أنّ بعض ما قلناه يعدل الرجل كله. قال: إن أسماء أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك. إنّ الله عز وجل بعثتك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك. إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجُمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل. وإنّ أحدكم إذا خرج حاجاً. أو معتمرا، أو مجاهدا. حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنُشارككم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كلمة ثم قال: هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا. يا رسول الله ما ظننا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا!. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقال: افهمي أيتها المرأة وأعلمي مَنْ خلفك من النساء، إنّ حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله. فانصرفت المرأة وهي تُهلل، حتى وصلت إلى نساء قومها من العرب، وعرضت عليهن ما قاله لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحن وآمن جميعهن.

وقد عز على النساء أن يكون وقت النبي صلى الله عليه وسلم للرجال دونهن فسألته أن يختصهن بيوم من كل أسبوع. فأجابهن صلى الله عليه وسلم إلى ما طلبن. فإذا كان يومهن غدون على رسول الله. فجلسن إليه، فأَقبل عليهن، يجيب السائلة، ويهدي الحائرة، ويأخذ بأيديهن جميعاً إلى النهج القويم، والصراط المستقيم. وكلن صلى الله عليه وسلم في مجلسه هذا على أتم ما يكون من الرحمة والرفق فلا يشق عليهن، ولا يكلفهن فوق ما تحتمل نفوسهن. أخذ عليهن عند مبايعته لهن ذات مرة ألا يُنحْنَ على الموتى، فقالت عجوز ممن حضرن يا رسول الله إن ناساً أسعدوني على مصيبة أصابتني؛ وأنهم أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أسعدهم. قال انطلقي فأسعديهم. فذهبت ثم عادت فبايعته. وأستأُذن عليه عمر بن الخطاب وهن بين يديه، فابتدرن الحجاب. فلما دخل عمر تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما يضحكك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رآك النساء فتبادرن الحجاب. فالتفت عمر إليهن وقال: يا عدوات أنفسهن تَهبْنَني ولا تهبن رسول الله؟ قلن: أنت أفظ وأغلط من رسول الله. ومن أبدع مظاهر رفق الله ورسوله بالنساء، أنه صلى الله عليه وسلم وقف بينهن وقد جئن يبايعنه على أن يأتمرن بأوامر الله ويجتنبن نواهيه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: فيما استطعتن وأطقتن. فقالت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. أما حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بين نسائه فقد كانت المثل الأعلى في المؤادة والموادعة، والمواتاة؛ وترك الكلفة، وبذل المعونة؛ واجتناب هُجر الكلام ومره. وهو الذي يقول: خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي

وسئلت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ فقالت كان في مهنة أهله حتى يخرج إلى الصلاة. تريد بذلك أنه يعاونهن ويعمل عهن. وكان من التبسط ورفع الكلفة إلى حد أن يستبق هو وامرأته. كما حدثوا عن عائشة رضي الله عنها. وكانت فاطمة بنت رسول الله تتولى الطحين والعجين بينما علي رضى الله عنه ينزع الماء ويحتمله ويهيئه. وكما كان الرجل يجاذب المرأة أمْرَ العمل. وتدبير المنزل. كذلك كانت تجاذبه شؤون العالم. وجد الحياة. ففي ساحات الوغى؛ وبين مشتجر القنا. وتحت ظلال السيوف. كانت المرأة تسير مع الرجل جانباً لجنب؛ تروي ظمأه. وتأسو جرحه. وتجبر كسره وترقأُ دمه وتثير حميته وتهيج حفيظته. وربما شبت حَر القتال؛ واصطلت جمرة الحرب، وصالت بين الصفوف وعرضت نحرها للحتوف؛ وصدرها للسيوف. فكانت لها مواطن صادقات؛ ومواقع صالحات؛ سنخصها بشيء من القول في مواطن آخر إن شاء الله. وقد طويت صحف السيَّر والسُّنن والتاريخ على كثير من فضليات النساء خرجن في رفقة رسول الله إلى غزواته ليداوين المرضى. ويأَسون الجرحى. ويسقين الماء، ورحن بأجر المجاهدين في سبيل الله. وإليك طائفة من أسمائهن وأعمالهن: 1 - فمنهن أمية بنت قيس الغفارية قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار؛ فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك

هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: على بركة الله. 2 - أم سنان الأسلمية: جاءت إلى رسول الله وهو خارج إلى خيبر فقالت: يا رسول الله أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المريض والجريح إن كانت جراح - ولا تكون - وأبصر الرّحل. فقال رسول الله: أخرجي على بركة الله، فإن لك صواحب قد كلمتني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك، وإن شئت فمعنا. قلت. قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي. قالت: فكنت معها. 3 - حَمْنَة بنت جحش: أخت أم المؤمنين زينب. حضرت أُحُداً. وكانت تروي الظَِّماء، وتأسوا الجراح. 4 - أم أيمن: مولاة رسول الله وحاضنته. حضرت أُحدُاً. وكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى. 5 - كُعَيْبة بنت سعد الأسلمية: تقام لها خيمة في المسجد، تداوي فيها المرضى، وتأسو الجرحى. وكان سعد بن معاذ حين رمى يوم الخندق عندها تداوي جراحه، حتى مات رضي الله عنه.

6 - الرُّبَيّع بنت معوذ. قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسقي القوم ونخدمهم، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وأشباه أولئك ونظائرهن كثير. كذلك كان أمرها فيما سوى الحرب من العظائم. فقلما رأينا عظيماً من عظماء المسلمين لم يصدر في كثير من المواطن عن رأي المرأة. فكث عليه وسلم يصدر عيراً ما كان رسول الله صلى فكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدر عن رأي زوجه خديجة رضي الله عنها. وكمثل ذلك صدور عبد الله بن الزبير عن رأي أمه أسماء، وصدور الوليد بن عبد الملك عن رأي زوجه أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وصدور السفاح عن رأي زوجه أمّ سَلَمَة، صدور الرشيد عن رأي زوجه زبيدة وأمثال هؤلاء في الإسلام جمّ كثير. وإنا لذاكرون في هذا الموطن موقف الحجاج من أم البنين حين أشار على الوليد بن عبد الملك بالامتناع عن مجاذبة النساء سياسة الملك وتدبير الحروب. قال ابن عبد ربه: قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداءَ وقوس عربية، وكنانة. فبعثت إليه أم البنين: من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة؟ فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسول إليه تقول، واله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلىَّ من أن يخلو بك الحجاج، فأخبره

الوليد بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير الممنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فأما المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة. فلا تطلعها على سرك. ومكايدة عدوك. فلما دخل عليها أخبرها بمقالة الحجاج. فقالت: حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مسلماً. ففعل ذلك. فأتاها الحجاج. فحجبته، فلم يزل قائما. ثم قالت له؛ إيه حجاج! أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك عبد الله بن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله أنّ الله علم أنك شرار خلقه، ما ابتلاك برمي الكعبة، وقتل ابن ذات النطاقين، أوّل مولود في الإسلام، وأمّا نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء، وبلوغ أوطاره منهنّ، فإن كنّ ينفرجنّ عن مثلك، فما أحقه بالأخذ عنك وإن كنّ ينفرجن عن مثله، فغير قابل لقولك. أما والله لقد نَفَضَ كساء أمير المؤمنين الطيب عن غدائرهنّ. بعثك في أعطية أهل الشام حتى كنت في أضيق من الفْرق، قد أضْلتك رماحهم، وأثخنتك صفاحهم، وحتى كان أمير المؤمنين أَحب إليهم من آبائهم وأبنائهم. فما نجاك الله من عدوّ أمير المؤمنين إلا بحبهم إياه. ولله درّ إذا نظر إليك، وسنان غزالة بين كتفيك: أسد علّى وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر

هلاَّ برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر صدعت غزالة جمعه بعساكر ... تركت كتائبه كأمس الدابر ثم قالت: اخرج فخرج مذموماً مدحورا!. . . على أن للمرأة حالتين أَبَرَّتْ فيهما - بحكم الإسلام وشهادته - على الرجل وهاتان هما حالتا الأمومة والزوجية، وهما أمثل حالات المرأة، وأظهرها لكرم خلالها وجلال سجاياها، وأنهضها ببناء الكون، وأتما لنعمة الله على الإنسان. فأما أولى الحالتين، فشاهدها ما حدث البخاري عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمَك. قال ثم من؟: قال أمّك: ثم من؟ قال: أبوك. فانظر كيف أنّ صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم آثرها بتقديم القول، ثم لم يكفه ذلك في بيان ما لها من فضل السبق، وشرف المنزلة، فاختصها من قلب ولدها بثلاثة أضعاف نصيب أبيه منه. وأمّا الثانية فشاهدها ما ذكره ابن سعد في حديث حَمْنة بنت جحش قال: قام النساء حين رجع رسول الله من أُحُد يسألن الناس عن أهلهن فلم يُخْبَرْن حتى أتين رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا تسأله واحدة إلا أخبرها. فجاءته حَمنة بنت جحش. فقال: يا حمنة، احتسبي أخاك عبد الله بن جحش. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله وغفر له. قم قال: يا حمنة احتسبي خالك حمزة ابن عبد المطلب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله وغفر له. ثم قال يا حمنة احتسبي زوجك مُصعب بن عمير. فقالت: يا حرباه. فقال النبي صلى الله عليه

كرامتها

وسلم: إن للمرأة لَشُعْبة من الرجل ما هي له في شيء. ولعمرك إن في قول رسول الله لبلاغاً أوثرت المرأة به وأبرت فيه من فرط الحنو على زوجها، وفضل الوفاء له بعد موته. ذلك موقف الرجل والمرأة من الشريعة الإسلامية. وهو شهيد بأنهما قسيمان في تدبير المنزل وشئون الحياة وعند الله وبين يدي رسول الله. كرامتها لئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن لقد عرف نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان. وأنها مناط شرف الرجل، ومواطن عرضه، فاختصها بنصيب من الحرمة والكرامة لم يظفر بمثله نظراؤها من الرجال. إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها. فمن حقها أن تكون هي في موطن الرعاية والعناية، وان يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان. لقد كانت المرأة في عهد الإسلام - كما كانت في الجاهلية - تجير الخائف وتفك العاني، وذلك كله إلى تجِلَّة واحترام، بلغت منهما غايتهما. فقد أجارت أم هانئ بنت أبي طالب رجلين من أحمأها كتب عليهما القتل، وذلك بحمل حديثها في سبيل ذلك. قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فرَّ إلى رجلان من أحمائي من بني مخزوم. فدخل علىَّ عليٌّ بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنهما. فأغلقت عليهما باب بيتي: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً وأهلاً

يا أم هانئ ما جاء بك فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي. فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمّنّا مَّنْ أمّنت فلا يقتلهما. وافتكت زينب بنت رسول الله إسار زوجها في الجاهلية أبي العاص بن الربيع - وكان من أسرى بدر - فأطلق بغير فداء ورُد عليه ماله. على أصِلتها به، وزواجها منه قد فصلهما الإسلام قبل ذلك

وكم كانت فاطمة بنت رسول الله إذا أهَلَّتْ مقْبلة على أبيها قام لها عن مجلسه وأخذ يدها فقبلها. أما كرامة سيرتها، وصيانة اسمها، فذلك ما لا نحسب شريعة من الشرائع حاطتهما بمثل حياطة الإسلام لهما. وحسبك أن الله سبحانه وتعالى اشتد في كتابه الكريم على قاذفي النساء في أعراضهن بأشد مما اشتدّ على القتلة وقطاع الطريق، فقد قال سبحانه وتعالى في سورة النور: (والذِينَ يَرمْقُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ يَأْتُوا بِأَرْبَعةِ شُهَدَاءَ فاْجلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً ولا تَقْبَلوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَداً وأُولئِك هُمُ الفَاسِقون). فجعل سبحانه وتعالى للقاذف عقوبة ثمانين جلدة ثم دعم هذه العقوبة بأخرى أشد وأخزى، وهي اتهامه أبد الدهر في ذمته، واطرح شهادته، فلا تقبل له شهادة أبدا ثم وسمه بعد ذلك بِسمَة هي شر الثلاثة جميعاً، وهي سمة الفسق، ووصمة الفجور. لم يكن كل ذلك عقاب أولئك الأئمة الجناة، فقد عاود الله أمرهم بعد ذلك بما هو أشد وأهول من تمزيق ألسنتهم فقال: (إِنَّ الذِينَ يَرْمُونَ المحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المٌؤمْناتِ لعِنُوا في الدُّنيَا والآخِرَةِ ولَهمْ عَذَابٌ عَظيمٌ، يَوْمَ تشْهَدٌ عَلَيْهِمْ أَلسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهم وأَرْجُلهُمْ بِما كانوا يَعْملُون، يَوْمَئذٍ يوَفَّيهِمُ اللهُ دِينَهُمْ ويَعْلَمون أَنّ هُوَ الحقَُّ المبين). وإن في حديث الإفك، وما فاض الله في شأنه. لموعظة وذكرى لقوم يعقلون. فإن ناساً لم يبرءوا بعد من وضر الجاهلية نالوا من اسم عائشة أم المؤمنين بألسنتهم، وأعقبهم جماعة المنافقين فذهبوا بالقول كل مذهب، واحتجز بقية

المؤمنين أنفسهم عن الخوض حيث يخوض الناس. فأنزل الله في سبيل ذلك تلك الآيات الكريمة، تبرئة للمرأة الطاهرة. وفيها أهال سخطه لعنته على المرجفين وأرسل لومه وتأنيبه لمن سواهم ممن سمعوا قولهم فلم يردوهم، ولا برئوا إلى الله منهم قال جلت آياته: (إِنَّ الذِينَ جاءوا بالإْفكِ عُصْبَة مِنكُم لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لكُم بَل هُو خَيْر لكُم، لِكُلَّ امْرِئٍ مِنْهمْ ما اكتَسَبَ مِن الإثْم والذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لهَ عَذابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوه ظنَّ المؤمِنونَ والمؤْمِناتُ بأَنفُسِهمْ خَيْراً، وقالوا هذا إِفكٌ مُبين، لولا جَاءوُا عَلْيهِ بأَرْبَعةِ شُهَداءِ فإذْ لمْ يأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فأُولئِكَ عنْدَ الله هُم الكاذِبون، ولوَلا فضْل الله عليْكُم ورْحَمتُهُ في الدُّنيا والآخِرةَ لَمَسَّكُم فيما أَفْضُّتمْ فيهِ عذَابٌ عظِيم، إِذ تلقَّوْنهُ بأَلسنَتِكمُ وتقولُون بأَفواهِكم ما ليْسَ لكم بهِ عِلْم وتَحَسبونهُ هيَّناً وهو عندَ الله عَظِيم، ولَولا إِذ سَمِعْتُمُوهُ قُلتُم ما يكُونُ لنَا أَن نتكّلَّمَ بِهذَا سُبحَانكَ هذا بُهتَان عَظِيم يَعِظكُمُ الله أن تعودُوا لِمثْلِه أَبَدا إِن كنْتمْ مُؤمِنين، ويُبيَّنُ الله لكم الآيات والله عليم حَكِيم، إِن الذِينَ يُحبونَ أَن تشيع الفَاحشَةُ في الذِينَ آمنوا لَهْم عذَابٌ أَلِيم في الدُّنْيا والآخِرَةِ والله يعْلمُ وأَنتم لا تعْلَمونَ، ولَولا فْضل اللهِ عَليْكُمْ ورحْمَتُهُ وأَنَّ اللهَ رؤُوف رحِيمٌ). ذلك قول الله وحكمه في طغَمَة الأفاكين المرجفين. الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس، فلا يزالون يلهثون، يبتغون بألسنتهم ما أكنته البيوت من أعراض الحرائر. فهل يسمع حفدتهم وورثتهم وهم قوم شَجى بهم حلق هذا البلد،

وضاق صدره وأظلم المشرق من جوّه؟ ينفس الرجل منهم على الرجل علمه، أو ينقم منه رأيه، أو يحقد عليه ظهور أمره ونباهة شأنه، فلا يجد وسيلة للنيل منه، إلا أن يلغ في عرضه، ويعيث في كرامة أهله. وربما أبصر الرجل منهم عرضه مصدوعاً، وشرفه مشدوها. فلا سبيل له إلا أن يتخذ لسانه كشباة العقرب، يصيب به يميناً وشمالا، عساه يدرأ عنه العيون المحدقة ويكف دونه غرب الألسنة المتوثبة. وسواء أحقت تلك الأراجيف أم أفكت، فإن ذيوعها في أمة من الأمم مما يؤول إلى سوء القدوة، وضعف النخوة وإغضاء العين على القذى، وتوطين النفس على المهانة، أسوة بمن قيل فيهم، وتعلة بمن سمع عنهم. وبعد فقد درج المسلمون بعد أن سمعوا من آيات الله ما سمعوا على تنزيه المرأة وتكرمة اسمها، وصيانة سيرتها، واتهام أنفسهم دون اتهامها، فقد مَرّ عمر بن الخطاب في هدأة من الليل، بدار إحدى نساء المدينة، فسمعها تتغنى بقولها: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج فلم يعد - وهو أمضى المسلمين في ذات الله - إلا إلى نصر بن حجاج - وكان كأجمل الناس وجها - فنفاه إلى البصرة حتى لا تتمناه امرأة غير هذه. وكانت في رجال قريش صرامة على نسائهم. ومنهم من كان يعمد إليهن بالأذى فأمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ضرب في حياته امرأة ولا خادماً. وهو الذي يقول: اتقوا الله في النساء واستوصوا بالنساء خيراً وكان كأغضب ما يكون إذا سمع بامرأة يضربها زوجها.

وقد حَدَّث ابن سعد في طبقاته جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد ضربها زوجها ضرباً شديداً. فقام رسول الله فأنكر ذلك وقال: يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد، ثم قال يظل يعانقها ولا يستحي. وحدّث هو أيضاً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب النساء. فقيل: يا رسول الله إنهن قد فسدن. فقال: اضربوهن ولا يضرب إلا شراركم. وتلك لعمري أشد وأوكد من المنع ومن ذا الذي يرضي أن يحتسب عند الله ورسوله من الأشرار؟ على أثر ذلك انقطعت تلك السنة الموبقة من قريش، فلم يقترفها إلا رجل لا يأبه بشرع، ولا يركن إلى دين، أما أَهل المدينة من الأوس والخزرج فكأنهم قد خلقوا من طبع رسول الله ومودته ورحمته. فكانوا من أشد الناس تكرمة لنسائهم ورفقاً بهن. بل لقد كانت لهن بينهم صولة لا تقهر، وسلطان لا يرام. وقد تأثرت طباع المسلمين جميعاً بطباع أنصار رسول الله، لمنزلتهم من الدين، مكانهم من عاصمة الإسلام. كما ريضت نفوسهم بقول نبيهم الكريم، صلى الله عليه وسلم. فتجملوا بمواتاة زوجاتهن وموادعتهن، وكف الأذى عنهن. وفي ذلك يقول شُريح صاحب قضاء المسلمين في عهد عمر بن الخطاب ومن أعقبه من الخلفاء: رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فُشلت يميني حين أضرب زينبا ولم يقف الإسلام من كرامة المرأة ورعايتها موقف المكتفي بكف الأذى عنها فحسب بل كان مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفيها، والحرص على سرورها واجتلاب ما يفرحها، ويشرح صدرها. فقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتيان الحبشة فلعبوا بحرابهم بين يديه في المسجد، ودعا عائشة رضي

الله عنها فوطأ لها عاتقه وحاط وجهها بيده وأشهدها ذلك المنظر البهيج فلا تزال ترقبه حتى تسأم، فتتركه، ثم تعود إليه. وحدّثت عائشة أنّ أبا بكر دخل عليها وبين يديها قينتان تغنيان وتلعبان بالدف يوم العيد، وعلى مقربة منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانتهزها أبو بكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها يا أبا بكر، فإنّ لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا. وروى ابن عبد ربه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال: أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو علمت أنّ الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول: أتيناككم أتيناكم ... فحيونا نحييكم ولولا الحبة السمرا ... ءُ لم نحلل بواديكم وحدّث البخاري عن الربيَّع بنت معوذة بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بُني عليّ. فجلس على فرراش. فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، حتى قالت إحداهنّ: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذا وقولي بالذي تقولين. وحدث هو أيضاً عن أنس بن مالك قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساء وصبيانا مقبلين من عرس. فقام ممتنا فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليّ.

حريتها وحرمة رأيها

حريتها وحرمة رأيها لا تجد قوما أبعد مدى في الضلال، ولا أقصر يداً عن الحقيقة، من أناس أجازوا لأنفسهم الحكم على الإسلام وليسوا منه في قليل ولا كثير، أولئك قوم من عامّة كتاب الفرنج. إذا كتبوا عن النساء في الإسلام زعموهنّ قعائد بيوت لا رأي يبديه، ولا نصيب من الحرّية يعتززن به. وتلك إحدى سخائم أنفسهم ونزعات أهوائهم، تنكشف كل يوم عن ذلك الإيقاع المبتذل، والأسلوب المرذول. فأمّا الدليل. . . فلا دليل!. ما شرع الإسلام للمرأة أن تكون رهينة البيت، أو سجينته. بل هي رَبَتُهُ، والقائمة بأمره، والمسؤولة عنه. يعاونها الرجل فيه، وتعاونه هي فيما سواه. وقد أسلفنا القول في ذلك، ولعلنا عائدون إليه في تفاريق هذا الكتاب إن شاء الله. أما حريتها، وحرمة رأيها، فلهما في الإسلام مظهران لا تطمع المرأة إلى أعز وأسمى منهما: هما حرّية الزواج، وحرية المجالس والمحافل تغشاها، وتظهر رأيها فيها. أما أمر الزواج فذلك شأنها وحقها. وليس لأحد أن يغصبها فيه رأيها أو يعدُو إذنها. وحرّيتها فيه أبعد مدى، وأتم شأنا من الرجل. فهو إذا عقد عليها، ثم لم يَرْضَها، فتركها قبل أن يبني بها، نزل عن نصف مهرها لها، وإن تركها بعد ذلك فلها المهر كاملا. وليس له أن يقول هي دوني نسبا أو منزلة، فكل النساء أكفاء للرجل، وليس كل الرجال أكفاء للمرأة. أما هي فلها أن تفصم عقدة الزواج إذا خدِعت فيه، أو أكرهت عليه، مهما أتفق في سبيلها. وليس لامرئ أن يقودها قسراً إلى من لا تريد. فلقد فصم

رسول الله صلى الله عليه وسلم زواج خنساء بنت خُذام الأنصارية، لأن أباها زوّجها وهي كارهة. وهل هناك من هو أدل على احترام رأي المرأة في هذا الموطن وهو أدق مواقفها وأمسها بحياتها، من حديث أم هانئ بنت أبي طالب، وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لأنت أحب الناس إليّ من سمعي ومن بصري، وإني امرأة مُؤتمة وبنَّي صغار، وحق الزوج العظيم. فأخشى إن أقبلت على زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده، ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت الإبل ما فضلت عليها أحداً. تلك امرأة أبدت صفحة العذر عن بلوغ أقصى منزلة تبلغها المرأة المسلمة وهي منزلة أمومة المؤمنين، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيها إكباراً قلّدَ قريشاً بأسرتها تلك الشهادة العالية الكريمة. وقد عَبَرَ النساء بعد ذلك وهن مستمسكات بهذا الحق، معتصمات به، لا يستجرن لآبائهن ولا لأوليائهن أن يغصبوه أو ينقصوه.

وكيف بالرجل يسوم المرأة نفسها. أو ينازعها فضل رأيها. وتلك فتاة تقوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقى كلمة لا تدع للرجل من بعدها إلى قهرها من سبيل. ونحن لكي ما نورد تلك الكلمة الرائعة الصادعة، نعود إلى حديث خنساء خذام فنرويه بما رواه صاحب المبسوط في كتابه. قال: قالت الخنساء: إني أبي زوجني من ابن أخيه وأنا لذلك كارهة. فقال صلى الله عليه وسلم: أجيزي ما صنع أبوك. فقالت: ما لي رغبة فيما صنع أبي. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبي فلا نكاح له، أنكحي من شئت. فقالت: أجزت ما صنع أبي لكني أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء قال صاحب المبسوط: ولم ينكر عليه الصلاة والسلام مقالتها. وبريرة! ومن بريرة؟ هي جارية من جواري الحبشة ملكها عتبة بن أبي لهب وزوجها عبداً من عبيد المغيرة ما كانت لترضاه لو كان لها أمرها. فأشفقت عليها عائشة أم المؤمنين فاشترتها وأعتقتها. فقال لها رسول الله: ملكت نفسك فاختاري. وكان زوجها يمشي خلفها ويبكي، وهي تأباه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا تعجبون من شدة حبه لها، وبغضها له؟ ثم قال: أتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك. فقالت: أتأمرني؟ فقال: لا إنما أنا شافع. فقالت: إذاً فلا حاجة لي إليه.

فهل يعجب الناس بعد ذلك أن يقف فتيات العرب دون عسف آبائهن وأوليائهن فإن انتهزوا منهن غِرة الصبي، وخجل الحداثة، وزجوهن ممن لا يدانيهن في طبع، ولا يواتيهن في خلق، رجعن عليهم باللوم والخصومة بعد ذلك. ومثل ذلك ما كتبت امرأة من هؤلاء إلى أبيها. وكان زَوَّجها وهي حدثَة بغير إذنها: أيا أبَتَا عنَّيتني وابتليتني ... وصَيَّرت نفسي في يدي من يُهينها أيا أبتاَ لولا قد دعا ... عليك مجابا دعوة يستدينها وقالت امرأة أخرى أُثر بها ابن عمها: أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ من القوم وتنبال دعاها إليه أنه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العم والخال وكان عبد الله بن جعفر قد زوج ابنته من الحجاج بن يوسف كره منها لأنه ليس في شيء من سنا نسبها، ولا كرم سجاياها، وما حمله على ذلك إلا ضيق ذات يده، وألف ألف درهم حُملت مهراً إليه. فلما زُفت نظر الحجاج إلى عبرتها تجول في عينيها. فقال: بأبي أنت وأمي مم تبكين؟ فقالت: أبكي من شرف اتضع، ومن ضَعة شُرفت. حتى إذا علم عبد الملك إلى بطلاقك. فقالت: هو والله أبر بي ممن زوَّجَنيك.

وقد ذهب إمام العراق ابن شُبرمة إلى أن زواج البنت باطل ما لم تبلغ وتصارح برأيها فيمن يريدها. وكان من سنن فريق من العرب في جاهليتهم أن الرجل إذا مات عمد أخص أولياته وأقرب ورثته فوضع ثوبه على امرأته وقال أنا أحق بها! ثم أن شاء تزوجها، وأن شاء زوجها غيره، وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها لتفتدي نفسها بما ورثت عن زوجها. فذلك ما حرمه الله جل ذكره إنصافا للمرأة، وإطلاقاً لحريتها فقال: (يا أَيُّها الذين آمنوا لا يَحل لكم أن ترثوا النساء كَرْهاً). كذلك عمد الله سبحانه إلى عقدة أخرى من عُقد الأسر والإكراه فحلها عن المرأة وذلك حيث يقول للأزواج: (ولا تعْضلوهُنَّ لِتذهَبوا بَبعض ما آتيْتُموهُن إلا يأتين بِفاحِشةٍ مُبيَّنةٍ). فأصبح حراماً على الرجل أن يستبقيها على كره منها، وإعنات منه،

حتى تفتدي نفسها بما بقي من صداقها. إلا إذا أتت بفاحشة مبينة. فتلك لا حق لها تطلبه، أو تنزل عنه. أما توارد القول الكريم من الله ورسله في محاسنة الزوجات وموادعتهن ولُبْسِهن على بعض ما فيهن، فمما يفيض رفقاً ورحمة، ورعاية وعناية. وحسبك أن الله جعل المرأة من آيات الله ومنته على الرجل وجعل المودّة والرحمة والألفة عقدة الصلة بينهما. فذلك حيث يقول جلت آيته (ومِن آيَاتهِ أَنْ خلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكم أزواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ ورَحْمَةً إِنَّ في ذلك لآيَات لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون). ومن ذا الذي يستمع قوله تعالى: (وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْروفِ فَإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). ثم يجفو امرأته، أو يستخطها بعد ذلك؟ قلَّب بين أعطاف هذه الآية بصرك، واملأ منها يدك، وروّ من مَعِين بيانها قلبك، ثم انظر هل تقيه على وجْدانك أو تقر على عاطفتك، فيما تكره من أمر امرأتك؟ وما ظنك بأمر تكرهه ثم تظل على لجِاجك فيه بعد أن مناك الله بالخير الكثير من ورائه؟ وأين ذلك من حسن الثقة وتمام الإيمان؟ ومما يرمي إلى ذلك الغرض الجليل، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَفرُك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي عن خُلقُ. ومما يرد هذا المورد ما حدثوا أن عمر رضي الله عنه قال لرجل طلَّق امرأته: لِمَ طلقتها؟ قال: لا أحبها. فقال: أكل البيوت بنيت على الحب؟ أيْنَ الرعاية والذمم؟؟.

تعدد الزوجات

ولنأخذ بالقول في مسألتين مما لعلهما يرهقان سعادة المرأة، ويكدران صفوها ويشعرانها بالحزن والموجدة. وهاتان هما: تعدد الزوجات والطلاق تعدد الزوجات ما كان الزوجات في شيء من مظاهر الإسلام ولا شعائره. بل لقد ضرب الله حوله نطاقاً محكما، وقيده بقيود ثقال، ففرض فيه العدل الشامل، واجتناب الانسياق مع النفس في ميلها وهواها، واتقاء ما من شأنه أن يثير الحقد والضغين بين زوجاته. وكم في الناس من يقوي على ذلك، وأي امرئ يغلب نفسه، ويمحو فضل عاطفته، ويبدل نظام طبيعته؟ يقول الله جل ذكره (فَإن خِفْتمْ ألاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) فجعل البقاء على وادةً فرضاً محتوماً عند توقع الجور، والإشفاق من الانحراف والخوف من إيثار واحدة على واحدة. وأي الناس لا يخاف ذلك، ولا يشفق منه، والله سبحانه يقول: (ولَئن تْستَطِيعُون أنْ تَعْدلُوا بيْن النَّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتمُ). وكان تعدد الزوجات معروفاً عند العرب، ولم يكن هناك حدٌّ يقف دونه الرجل. فقد يجمع بين عشر نساء - وإن غَني أكثرهم بواحدة - فلما جاء الإسلام قصرهم على أربع. ومن بين هؤلاء غيْلان بن سلمة، كان بين يديه عشرٌ. فقال له رسول الله أمسك عليك أربعاً.

وإنما نظر الإسلام في تلك الإباحة إلى أحد أمرين: الأول - الاحتفاظ بكيان الأمة. لأن الرجال مدفوعون في كثير من المواطن إلى اغتمار القتال، واقتحام الأخطار، مما عساه ينضب عندهم، ويذهب بالكثير منهم فإن لم يبح لرجال أن يتجاوزوا الواحدة قصر كثير من النساء عن منازل الأمومة: فتضؤل الأمة، وتلين قناتها، ويقل عددها، وربما أسرع الفساد إليها. واليوم وقد تخطى الإسلام نيفاً وثلاثة عشر قرنا، يقوم جمع من فلاسفة الفرنج ومتشرعيهم، فيقولون بتعدد الزوجات استكثار للنسل، حتى يسدّوا بذلك ما أصاب أممهم من الفراغ العظيم، بفقد بضعة عشر ألف ألف في حروبهم العظمى. الثاني - هنالك أناس لا تمكنهم طبائعهم، ولا تكوين جسومهم، من البقاء على واحدة. فأولئك روعي أمرهم حتى لا يفزعوا إلى ما هو أدهى وأمر من تعدد الزوجات. على أن الإسلام - رغم ذلك كله - أحاط تلك الإباحة بما رأيت من القيود حتى لا يصاب تكوين الأسر بما لا يجبر صدعه، ولا يدرك فائته. وعلى ذكر الفرنج وآرائهم نسوق إليك الكتاب الفيلسوف المؤرخ العظيم جوستاف لوبون، في تعدد الزوجات، وهو ما أودعه كتابه الكريم: حضارة العرب قال: ليس بالهين اليسير أن تدرك أسلوباً من الحياة لأمة من الأمم حتى تفترض كونك في هذه الأمة، يحيط بك ما يحيط بها. ويحتكم بذات نفسك ما يحتكم بذوات نفوسها. فأما أن تحكم - وأنت متأثر بطبائع قومك وعاداتهم، وما يحيط بهم من وسط وجوّ وبيئة - على نظام قوم لا يشاكلونك في شيء مما أنت فيه، فذلك ليس من الرأي في شيء. ذلك ما يراد بالناقد أن يأخذ به وينهجه إذا شاء أن يتولى بنقده كنظام

تعدد الزوجات، قبل أن تصل الأمم غير المسلمة إلى أعماق أعماقه. وكثيراً ما تُذيع الزراية والسخط عليه. بل تجد نظاماً أجمع الناس في أوربا على النيل منه، وتوكيل الظنون والأوهام به. كإجماعهم بذلك على ذلك النظام. فالمؤرخون الأوربيون - وفيهم من عرف بالدقة والنفاذ في استقصاء الحقائق وتمحيص الحوادث - يرون ذلك نظام دعامة الإسلام، ومدعاة انتشار القرآن والهاوية البعيدة القرار، في سبيل نهوض المسلمين. يقولون ذلك، ثم يتبعون ما يقولون بنوافر الكم عن حجاب المسلمات البائسات في كسور دورهن، يقوم بحراستهن، ويتولى رتاج أبوابهن جماعة من الحرس والخصيان غلاظ شداد، وقد يقتلن على غير إثم ولا جريرة، بغير هوادة ولا مرحمة، إذا صُرف عنهن أزواجهن إلى مَنْ سِواهن. إن تصوير المرأة المسلمة بهذه الألوان القاتمة بريء من الحق. وسيعلم القارئ - إذا شاء أن يطرح عنها ظنونه وأوهامه قبل تلاوة البحث - أن تعدد الزوجات على مثل ما شرعه الإسلام من أفضل الأنظمة، وأنهضها بأدب الأمة التي تذهب إليه وتعتصم به، وأوثقها للأسرة عقداً، وأشدها لآصرتها أزراً وسبيله أن تكون المرأة المسلمة أسعد حالا، وأوجه شأناً، وأحق باحترام الرجل من أختها الغربية. وقبل سياق الدليل على تلك الحقيقة الناطقة الناصعة أذكر للقارئ أن تعدد الزوجات لم يكن مُحْدَثات الإسلام. بل لقد كان ذائعاً بين أمم الشرق من فرس وعرب ويهود ومن سواهم. فإذا كانت الشعوب التي رضيت الإسلام ديناً قد أخذت به فلم يك ذلك بربح جديد نالته من ذلك الدين الجديد. وإنما هو أثر من تأثير البيئة وضرورة من ضرورات الجنس ونتيجة من نتائج احتكام الأحوال والأوساط عند الشرقيين.

وتأثير البيئة والجنس من الموضع والبيان لا نجد في إفاضة القول فيه فإن النظام العضوي للمرأة، وما يصيبها من الحمل والولادة، وما ينالها في سبيل ذلك من أوجاع وآلام، كل أولئك يضطرها إلى اعتزال فراش الزوج أمداً غير محدود. ولما كان سبيل ذلك الاعتزال أن يعيش الرجل قدره عيشة الأعزب - وهي عيشة لا يسيغها الشرقيون لما يحيط بهم من تأثيرات الإقليم وغلبة الأمزجة - أصبح تعدد الزوجات أمرا لا محيد عنه. أما في الغرب، فإن حكم الوسط، وتأثير الأمزجة وغلبة الحالة، مما يفعل بالرجل ورغم ذلك نجد البقاء على الواحدة نصّاً من نصوص القانون، لا أمراً واقعاً ولا حكما نافذاً. وليس في قدرة أحد أن يعترض ما أقول، أو ينكر أن الوقوف دون ذلك السياج - سياج الزوجة الواحدة - أمر لا يستمسك به إلا الأقلون. ولست أدري على أي قاعدة يبنى الأوربيون حكمهم بانحطاط ذلك النظام - نظام تعدد الزوجات - نظام التفرد المشوب بين الأوربيين بالكذب والنفاق؟!. على حين أرى هنالك أسباباً تحملني على إيثار نظام تعدد على سواه وليس عجيباً بعد ذلك أن نرى الشرقيين الذين ينتجعون إلينا، ويتنقلون بين مدائننا، يحارون من قسوتنا في الحكم على نظام تعدد الزوجات فيهم. وإن يسيراً على المرء أن يعرف السبب في إقرار الشريعة الإسلامية لذلك النظام بعد ما أسلفنا من الدواعي النفسية للقوم. وأن رغبة الشرقيين في خلود الذكر بالأبناء وغرامهم بتكوين الأسر، والحياة السعيدة بينها، وما فطروا عليه من العدل والإنصاف كل ذلك لا يجيز لهم إغفال الزوجة التي لا يتحول حبها عن صميم قلوبهم على مثال ما نراه في أوربا. ثم إن هناك أسبابا - سأعود إلى بيانها - تدعو إلى إقرار الشرائع للعادات

التي أصبحت من خلق الأمة وتقاليدها. وإن يكن ذلك فإن نظام تعدد الزوجات الذي ند عن حدود الشريعة عند الأوربيين، سينتهي الأمر بقوانيننا إلى إقراره والاعتراف به. وهنالك - فوق ما أسلفت - أسباب تؤيد هذا النظام، وتدعو إليه، وهي اختصاصهما بطبقات معينة، لا يخلو الوفاء بها من الفائدة، لتعلم أن بعض البلدان أحوج ما يكون إلى الأخذ به. على أن بين أشد الناس استمساكا بعروة الدين من الأوربيين من هم مسوقون بغلبة الضرورة إلى الاعتراف بالحاجة إليه. وخاصة إذا أمعنوا في أحوال الشعوب الآخذة به. ومن قبيل ذلك ما ذكره المسيو لا بلاي صاحب كتاب العمال في الشرق فقد انتهى به القول إلى الضرورة التي تدعو كبير الأسرة من القرويين إلى الاستكثار من الزوجات وكيف أن النساء أنفسهن هن اللواتي يطلبن إلى أزواجهن ابتغاء سواهن غير هائبات ولا آسفات على ما فعلن. وذلك بعض قوله: يحرص الشرقيون على أن يزوّجوا بكر الأسرة في بواكير أيامه. لذلك ترى امرأته بعد تتابع الوضع بعد الوضع، تسرع إليها الكهولة، بينما يكون زوجها نضراً فتياً، فلا بدع أن يعوزه الزواج بغيرها، وهو إذا هم بذلك فإنما يصدر في أكثر المواطن عن رأي زوجته. وقد يعجب الباحث من أن تغري المرأة زوجها بالانصراف إلى سواها. على أنه لا عجب في ذلك. فإن ربات المنازل في الجماعات الزراعية الإسلامية، عماد البيوت، وقوام أمرها فإذا شُغلت المرأة بتربية أبنائها، والانصراف إلى شؤونهم، فليس هناك من يشدّ أزرها في مهمة بيتها إلا الجواري. أو بعض بنات عشيرتها. وقد لا توجد المؤازرة من بنات العشيرة، كما قد تضيق اليد دون شراء الجواري

الطلاق

فليس لها يومئذ إلا أن تشير عليه بالزواج، حتى تؤدي حق الأمومة. وقد ذكر المؤلف ألا أثر للغيرة، ولا للخصومة بين زوجات الزوج الواحد ولا شك أننا بما وقر في نفوسنا من الأوهام الباطلة، نقول باستحالة ذلك. والحق أنا لم نقل بالاستحالة إلا لأننا نرجع في حكمنا إلى حِسَّنا وعواطفنا. فأما عواطف غيرنا فلسنا بآبهين بها، ولا مقيمين لها وزناً. الطلاق تلك هي قاعدة الحياة الزوجية في الإسلام (إمْساكٌ بِمعْروفٍ أَو تَسْرِيح بإِحْسانٍ) فإن محيت أية المعروف فدبت النعرة، وساءت العشرة؛ واتسع وامتنع التوفيق سواء أكان سبيل ذلك الزوجَ، أو الزوجة، أوهما معاً فما خير تلك الحياة، وما فضل البقاء عليها؟ وقد جعل الله الزواج مبعث الودّ والرحمة، لا سبيل التَّعَسِ؛ وبؤس الحياة لذلك أبيح الطلاق. ولقد يكون الطلاق من حق المرأة اشتراطه في عقد زواجها. فأما إذا لم تَقُله فهو حق الرجل وحده. وإنما أطلق هذا للرجل دونها لأنه يملك من كظم الغيظ؛ وطول الأناة؛ ما لا تملك. على أَن الإسلام لم يدع ذلك الحق دون أن يُضَيَّق مذاهبه، ويأخذ على النفس سبيل الوصول إليه؛ وقد هيأ لذلك من الوسائل ما نحن سائقون لك شيئاً منه وذلك هو: 1 - الترغيب في محاسنة الزوجات، والرضا منهن بخير ما فيهن. وضمان الخير الكثير فيما عساه يكره منهن. وقد أسلفنا من ذلك ما فيه الغناء.

2 - نعي الطلاق على المطلقين ونقمته منهن. ومن ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من حلال أبغض إلى الله من الطلاق. ويقول: ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق. ويقول: لا تطلّقُوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذوّاقين ولا الذواقات. 3 - التحكيم في الخصومة بين الزوجين إذا بدر النزاع، وبدأ الشقاق. وفي ذلك يقول الله جل ذكره: (وإنْ خِفْتُمْ شْقَاقَ بيْنِهما فَابَعثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلهِ وحَكَمَاً مِنْ أَهْلهَا إنْ يُرِيدا إصْلاَحاً يُوَفقِ الله بَيَنهُما إن الله كان بَما تَعْمَلُون خَبِيراً) وذلك أمر للمسلمين جميعاً يقوم به أولياؤهم، والقائمون بالأمر فيهم. 4 - جعل الله للمرأة بعد الطلاق عِدّة تعتدُّها في بيته وهي وفاء الحمل للحامل حتى تضع، وثلاثة اشهر لمن سواها؛ وبين أثناء تلك المدّة يراجع الرجل نفسه؛ وتفيء المرأة إلى عقلها؛ فإن نزعا إلى عهدهما القديم في هذا العهد القصير، راجع الرجل زوجته؛ وكان ذلك خيراً وأبقى. وفي ذلك يقول الله جلت آياته: (يَا أَيُّها النَّبيُّ إذاَ طَلّقْتُمُ النساءِ فَطَلَّقُوهُنَّ لِعِدّتِهنَّ وأحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا الله رَبَّكُم لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهنِّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشةٍ مُبيَّنةٍ وتِلك حُدُودُ الله ومَنّ يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظَلَم نَفْسَهُ لا تَدرِي لَعَلّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أمْرَاً). أما الأمر الذي لعل الله يحدثه؛ فمعاودة الرأي؛ ومراجعة النفس بعد رياضتها؛ وردّ جماحها وإسلاس قيادتها؛ بعد ذلك الهجر القصير الأمد. فإذا استكملت العدّة فله أن يعيدها إلى فيئه؛ أو أن يِبتّ فراقها؛ إن لم يكن إلى التوفيق سبيل، فذلك حيث يقول جل ذكره: (فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ

فاَمْسِكوهُنَّ بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقوهُنَّ بِمعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَى عَدلٍ منْكُمْ وأقِيمُوا الشَّهَادَةَ للِهِ). وللرجل أن يعاود زوجته بعد أن يطلقها مرتين، فإن عاد إلى الثالثة حيل بينه وبينها فلا يعود إليها حتى يخلفه غيره عليها، تأديباً له، وإذلالا لنفسه. وقد أمر الله الرجال بمجاملة زوجاتهم، والرفق بهن، وبذل كل ما يستطيعون بذله في سبيل مرضاتهن في أيام عدتهن، فذلك حيث يقول: (أسْكِنوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجَدِكُمْ ولا تُضارُوهُنَّ لِتُضَيقُوا عَلَيْهنَّ وإنْ كُنَّ أُولات حَملٍ فأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ لكُمْ فآتوهُنَّ أُجورَهُنَّ وأْتمِرُوا بَيْنَكم بِمَعْروفٍ وإن تَعَاسَرتُمْ فَسَتُرْضُع لهُ أُخْرى لِينُفقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ومَنْ قُدِرَ عَليْه رزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتاه الله لا يُكلفُ الله نَفْساً إلا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعدَ عُسرٍ يُسراً). ثم لقد فرض الله على الرجل أن يرُد إليها بقية ما سماه من مهرها حين طلاقها وحرم عليه أن يسترد شيئاً مما أجتلب لها كائناً ما كان ذاك المجتلب. وفي ذلك يقول الله جلتْ آياته (وإن أَرَدتُمُ استِبْدَال زَوجٍ مَكانَ زوْجٍ وآتَيْتُمْ إحداهُنَّ قِنطاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً أتأْخُذُونَهُ بُهْتاناً مُبيناً وكيْفَ تأخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكُم إلى بَعضٍ وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً). من ذلك كله تعلم ان الطلاق في الإسلام، لا يدينه نظام غيره دقة وإبداعاً. فلا هو بالمغلق المحظور حتى يكون أحد الزوجين شجاً في حلق صاحبه وغُلاَّ في عنقه، وكبلا في يديه وقيداً في قدميه. ولا هو بالسهل الهين فيتخذه

حريتها العامة

من لا عهد لهم، ولا رعي، ولا ذمام، مرتعا خصيباً، يتنقلون فيه كما شاءت أهواؤهم، وشهوات أنفسهم. وبعد فلنعد إلى المظهر الثاني من ظاهر حرية المرأة في الإسلام وهو: - حريتها العامة إذا كانت المرأة المسلمة عماد البيت بحكم الإسلام، فهي أيضاً دعامة الحياة العامة، بحكم الإسلام. فهي لم تدع موطناً عظيماً، ولا مشهداً حافلا، ولا عملا خالداً إلا وكانت فقار ظهره، وعماد أمره، فقد جلست إلى رسول الله متحدثة متعلمة، ورافقت جيشه آسية مدوية، وجالت بين يديه مقالته مستبسلة وهاجرت بدينها إلى المدينة والحبشة مع السابقين الأولين من المهاجرين. فأجزل الله في كل ذلك مثوبتها، وأحسن النبي مآبها، وأكبر المسلمون مواقفها. لقد كانت المرأة العربية في عهد جاهليتها تزن الرجل في ذكاء قلبه، ومضاء نفسه، وسناء خلائقه، فلما عمها الإسلام لم تقصر عن مداه في علم أو دين أو فضيلة. فمن أين للرجل أن يأنف من مجالستها، ومساجلتها، واستماع حديثها، وذلك شأنها معه، ومكانها منه؟ ولم يكن الحجاب مما تألفه المرأة العربية كثيراً في عهد جاهليها، فقد كانت تغشي المحافل، وتخوص الجحافل، وتخطب في الأندية، وتمشي في الأسواق، فلما انبسط ظل الإسلام تأثر الحجاب بمؤثرين متعارضين: أما أولهما فأمر الله زوجات رسوله بالقرار في بيوتهن، والابتعاد عن منال العيون. لأن موطنهن من رسول الله، ومكانهن من أمومة المؤمنين، لا يجعلهن كأحد من النساء. وذلك حيث يقول جل ذكره:

(ياَ نِساء النَّبيَّ لَسْتنَّ كأحدٍ مِنَ النَّساء إن اتَّقَيتن فَلا تخضَعْنَ بالقَول فَيطَمَع الذِي في قلبهِ مَرَض وقلنَ قَولا مَعرُوفا، وقَرْنَ بيوتِكنَّ ولا تَبرجْنَ تبرجَ الجاهِليَّةِ الأولى وأقِمن الصَّلاة وآتِين الزكاةَ وأطِعن الله ورَسُوله إنَما يريد اللهُ لِيذْهِبَ عَنكُمُ الرَّجس أهْل البيْتِ ويُطهَّركم تَطِهيراً). ومهما يكن نظرنا إلى الحجاب ورأينا فيه، فليس لنا متأول في أن الله اختص به نساء النبي دون سواهن، ولنا في الحديث التالي كفيل بما نقول: ذلك أن النعمان بن أبي الجون الكندي لما عرض على رسول الله ابنته أسماء. وارتضاها النبي زوجاً له، وقال له النعمان: فابعث يا رسول الله إلى أهلك من يحملهم إليك فأنا خارج مع رسولك فمرْسَهم معه. فبعث رسول الله معه أبا أسيد الساعدي. فلما قدما عليها جلست في بيتها وأذنت له أن يدخل. فقال أبو أسيد: إن نساء رسول الله لا يراهن أحد من الرجال. فأرسلت إليه: فَيسَّرني لأمري. قال حجاب بينك وبين من تكلمين من الرجال إلا ذا مَحرم منك. ففعلت حملت إلى رسول الله صرفه الله عنها فلم يبن بها فأقامت بالمدينة لا تبرحها.

حتى إذا كانت في عهد عمر تزوجها المهاجر بن أبي أُمية فأفزع عمر أن إحدى أمهات المؤمنين تتزوج بعد رسول الله. فأرسلت إليه: والله ما ضُرب عليّ الحجاب ولا سميت أم المؤمنين. ذلك إلى مساق الآيتين الكريمتين لنساء النبي، وأنهن لسن كأحد من النساء. على أن ذلك التشريع الخاص بنساء النبي يحبب ذوات الشرف والسناء من النساء، إن لم يكن في القرار الدائم، ففي إيثار القرار، تشبها بأكرم نساء المسلمين على الله ورسوله، ولولا أن هناك مؤثراً آخر، وازنه فعارضه. ذلك ما دعته وثبة الإسلام، وجد حياته، إلى خروج المرأة عن دارها طلباً للدين ودراسة للعلم، واشتراكا في مناسك الحج، وإسعاداً في معاناة الجهاد، وصدعا بما وقر في نفسها من حق أضيع، وحرمة أبيحت، وإنها لتعلم أن لها في ابتناء عظمة الإسلام شأنا لا يستهان بخطره، ولا أثره. هذان هما المؤثران اللذان تأثر بهما حجاب المرأة العربية في الإسلام، وهما تعارضهما لا يتكافآن قوة ورجحانا. لأن للثاني أثرا واقعاً، ووضحاً في الدين ظاهرا، ومثوبة من عند الله مكفولة، فلم يكن بدّ من غلبته. بل إن عائشة رضي الله عنها - وهي إحدى أمهات المؤمنين، وأجمعهن للمأثور من حديث رسول الله - لما رأت تدافع الواجبين - وهي إحدى اللواتي نزل فيهن صريح الأمر بالحجاب - آثرت الثاني فخرجت تخطب في المسلمين وتستنفرهم - بل وتقودهم - إلى قتال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، لأنها رأت في قومتها - إن صواباً وإن خطأ - قياماً بالواجب وثأراً للخليفة المظلوم. وليس بفائتنا أن نذكر لك شيئاً من إجابتها على لوامها.

فقد كتبت إليها أم المؤمنين أم سلمَة رضي الله عنها تقول لها: ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصّةً قعوداً من منهل إلى منهل وغداً تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتكة حجاباً ضربُه عليك؟. . . فأجابتها عائشة: من عائشة أم المؤمنين، إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا اله إلا هو. أما بعد: فما أقبلني لوعْضك، وأعرفني لحق نصيحتك. وما أنا بمعتمر بعد تعريج. ولنعم الطالع مطلع أصلحت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين. فإن أقعد فمن غير حرج وإن أمض فإلي ما لا غنى بي عن الازدياد منه والسلام.

فانظر إلى حسن وصفها لموقفها، وتبين قولها: وإن أمض فإلي مالا غني بي عن الازدياد منه. تَرها - على امتلاء حجة صاحبتها وقوّتها - لا تنثني عن داعية قلبها، ولا تتراجع عما رأت الخير فيه، وعقدت العزم عليه. بل هي تطلب المزيد منه وتسير قدُماً إليه. ذلك شأن عائشة أم المؤمنين. فأمّا جندها يكونوا من السَّوام الذين يتبعون أول صائح، بل كان مدعوم الصفوف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وليس واحد منهم بمتّهم في دينه، ولا مفرّط في كتاب اللهِ، وهم جزء من جماعة المسلمين الذين يُؤْتسى برأيهم، ويهتدي بمحجّتهم. ذلك ما فعلت عائشة أم المؤمنين وما كانت فيه بدعاً من أزواج رسول اللهِ فقد شركتها أم المؤمنين صَفية بنت حُي يوم حوصر عثمان؛ فخرجت علي بلغتها لِتدفع غارة المغيرين عنه.

أما من سوى أمهات المؤمنين فلم يكن يتحرجن من مجاذبة الرجال كل شئون الدنيا والآخرة. وسيمر بك في موطن خاصة من هذا الكتاب ما أسفر عنه رأي أولئك النساء في مجالس العلم، ومحافل الأدب، ومشاهد الرأي، وساحات العمل، وما قرّ لهن في مواطن كثيرة من زعامة المسلمين وقيادتهم، وتصريف سياستهم، وتكوين رجالهم. وما شيء من ذلك بالهيَّن اليسير. والآن وقد أخذ بالقول في حرية المرأة فيما عدا دارها، فإن حقا علينا أن نقول في أمر نِقْبَتِها، وما عليه هيئتها، إذا انكشفت عن بيتها. أول ما أمرت به المرأة إذا خرجت لبعض شأنها، أن تضرب بخمارها على صدرها، فذلك حيث يقول الله جل ذكره: (وَليَضْربنَ بِخُمُرِهنَّ عَلى جُيُوبِهنَّ) وذلك كي لا يظهر شيء من مكشوف صدرها، ولا زينة نحرها. وكان نساء الأنصار لا يتخذن الْخُمُرَ فاتخذنها لذلك. ثم زاد الله سبحانه ذلك الأمر بياناً وتوكيداً فقال: (يَا أَيُّها النَّبي قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ونِساءِ المُؤْمنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنََّ مِنْ جلابِيِبِهنَّ ذلِك أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يؤْذَيْنَ وكان الله غَفُوراً رَحيماً). فأُمرت المرأة إذا سارت في مذاهب الرجال أن تُرخي بعض ثيابها على بعض وجهها بأن تستره ببعض خمارها حتى لا تعرف بأنها من إماء المدينة وبغاياها اللواتي

يخرجن سوافر متبرجات فلا يؤْذَيَنَّها أرقّا الدين وفتيان المنافقين بتتبعها، أو التحرش بها. على ذلك عبَر جمهور نساء المسلمين، فكن يغدون لحاجاتهن، ويغشين المجالس، ويتصدرن الأندية، ويتناولن شتات أعمالهن، متنقبات غير متبرجات. ومن النساء من فهمن الأمر على خصوصه فجلسن إلى الرجال سوافر محتشمات لبعدهن عن منال الأذى ومجال الشبهات. ومن فضليات هؤلاء سُكَيْنَة بنت الحسين بن علي رضى الله عنهم. فقد كانت برْزَةً تجلس إلى العلماء والأدباء والشعراء ولا تكاد تحتجب منهم. ومنهن عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، وقد عاتبها في ذلك زوجها مصعب بن الزبير فقالت: إن الله وسمني بمِيسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم. فما كنت لأستره ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد. على أن الإسلام حيال ذلك النصيب البالغ من الحرية أخذ على المرأة ألا تتشبه بالرجل فيما هو من خاصة أمره ولزام شأنه وهيئته وتبذله بين صحابته وخاصته. فقد لعن الله المترجلات من النساء كما لعن المخنَّثين من الرجال. أما تشبهها به في رأيه وعلمه فممدوح ومحمود. فقد كانت عائشة أم المؤمنين رَجْلة الرأي والعلم. أما بعد فذلك رأي الإسلام والمسلمين في المرأة المسلمة وحريتها أتينا عليه، ولم نُفرط فيه، إنصافاً للتاريخ في قوم له من وضح دينهم، وسناء خلقهم، وشرف نفوسهم، ورجاحة عقولهم، وجدَّ حياتهم، حُجُبٌ لا تنالها الأوهام، ولا تهتكها الأيام، وعصمة لا تتقي الحجب المضاعفة وقاءها، ولا تبلغ البروج المشيدة أدنى مداها.

المرأة العربية

المرأة العربية بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته تأثرها بالإسلام إذا كانت المرأة العربية في عهد جاهليتها قد خضعت لدين، فإنما ذلك دين مضطرب لا أثر له، ولا خير فيه. وإن هي نزعت خلق فاضل، وخليقة كريمة، عَلقَتْ بهما شوائب الجهل، وفوضى الجماعة، فقنعت في بعض المواطن بجمالها، وجاوزت بهما قصد السبيل. وإن هي أفاضت على القوم روح الحمية، وحب التضحية، ووحي القول، وجمال الخيال فقد كان لهم من وجودها، ونفاذ قولها، حروب فرقت جماعتهم بلاءهم، ومزقت أوصالهم. وإن هي جاذبت الرجل حبل العمل، وساجلته جد الحياة، فقد احتملت من العبء أثقاله، ونالت من النصيب أقلة. وربما تناولتها المصائب من كل جانب، فلا تجد من حسن العزاء ما يطمئن بمثله ذوات الدين من النساء. لذلك كله كانت المرأة العربية أحوج ما تكون إلى دين سمح متين، يعمد إلى تلك الفضائل المودعة فيجلو صدأها، ويثير كامنها، وينهج بها الخير كله، ويَجَنُبهَا مداحض الزلل وعثرات الطريق. لقد هيأ الإسلام للمرأة الوسائل. ورفعها إلى أبعد مما يطمح خيالها، ويصبو أملها، وساق لها من آي الذكر الحكيم، ما بهر سناه بصرها، وما ملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصتت لما وصف به

الله رحمته وعزته، وناره وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر وسَنّي المنزلة، فأثر ذلك عاطفتها وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر وسَنيِّ المنزلة، فأثار ذلك عاطفتها وأفاض وجدانها، وأنار بصيرتها. فكان حقا لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجول في مجال دمها، ويتأشب أحناء ضلوعها. وأن يكون خَلجة شفتيها، وظلة رأسها، وسُنة وجهها ومَراد طرفها، وككُل شيء بين يديها. وكذلك كان أمر نساء العرب. فإن أول قلب خفق بالإسلام وتألق بموره، قلب امرأة منهن. وما كانت تلك المرأة سوى النساء، بل لقد هيء لها من جلال الحكمة، وبُعد الرأي، إلى زكاء الحسب، وذكاء القلب، ما عز على الأكثر من الرجال. فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به، وظمأ إليه. أجل. لقد تأثرت خديجة بنت خويلد زوج النبي وأم المؤمنين بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلبه الله عليه وسلم، فكانت مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النُّوَب، واشتداد الخطوب. ثم أعقبها جمهور النساء فتأثرن بهذا الدين تأثراً هان وراءه كل شيء. وأول من سبق الضعاف اللواتي فقدن النَّصفة، وعثر بجدهن الزمان. فابتدرن ورده، وتفيأن ظله، واستهن بما أصابهن في سبيله، من ظلم وذل وآلام. وكانت لقريش صولة وانبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف حتى لقد تجاوزوا به حدا التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل. ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب؛ سُمية أمّ عمار بن ياسر. كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى

الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المرّ بظاهرة من الكفر. وفيهما وفي أمثالهما أنزل الله بقوله (إلا مَنْ أُكرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئنٌّ بِالإيَمانِ) فأمّا المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرّت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان فذهبوا بروحها، وأفظعوا قتلها. وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتملت. فمنهنّ من كانوا يلقونها، ويحمون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها. ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ. وكان عمرو بن الخطاب وهو على دينه القديم، يتولى تعذيب جارية مسلمة

لبني المؤمّل فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا ملّ قال لها: إني أعتذر إليك إني أتركك إلاملالة فتقول له: كذلك فعل الله بك. إلى ذلك الحدّ احتمل أولئك النساء مظالم الرجال صابرات راضيات مطمئنات لا يسألن رحمة ولا يفزعن إلى حيلة. حتى لقد ذكر رواة السير أنّ المستضعفين من الرجال - إلا بلالا رحمة الله - استنقذوا أنفسهم من الموت بذكر وثن من أوثانهم على حين لم يذكروا عن امرأة شيئاً من ذلك. لم يقف حيال ذلك الأمد السحيق من العذاب موقف الواهن الضعيف. بل لقد استعذبنه. واستهنّ به حتى عَرَضْنَ له؛ ونزعن إليه، إعلاءه لكلمة الله، وإعزازاً لدينه. فكنَّ يَنْبثثن في البيوت لدعوة مَنْ بها من النساء إلى الإسلام. وفي حديث أمّ شريك القريشية العامرية ما يضرب لك المثل الأتَمَ مما نقول قال ابن عباس: وقع في قلب أمّ شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت. ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهنّ وترغبهنّ في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة؛ فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردّك إليهم. قالت فحملوني على بعير ليس تحتي سيئ موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني. قالت: فما أتت علىَّ ثلاث حتى ما في الأرض شيء، فنزلوا منزلا. وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا. فبينما أنا كذلك إذ بأثر شيء بارد وقع على منه ثم عاد، فتناوله، فإذا هو دلو ماء؛ فشربت منه قليلا، ثم نزع مني، ثم عاد، فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضاً. فصنع ذلك مراراً حتى رويت ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي. فلما استيقضوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني

حسنة الهيئة. فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله ما فعلت ذلك. كان من الأمر كذا وكذا. فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا. فنظروا إلى الأسبقية فوجدوها كما تركوها. فأسلموا لساعتهم. ذلك صنيع المستضعفات اللواتي لم يعتصمن إلا بشرف النفس، ولم يأوين إلا قوّة الإيمان. على أنّ ذوات الشرف والمكانة لم يقصرن عن اللحاق بهؤلاء. وإن كان أكثرهنّ قد آمن من ذويهنّ وأزواجهنّ، فمنهنّ اللواتي انفردن بالإسلام دونهم، واحتملن وحدهنّ آلام الهجرة، واعتساف الطريق. فقد آمنت أم كلثوم بنت عُقبة دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقرّ أمنها ودعتها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال. وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها، ومدار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أعقبتها بعد ذلك أمّها، فاتخذت سُنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون.

وما كان ثبات المرأة وقوّة نفسها، وسبوغ يقينها، واستهانتها بالموت في سبيل دينها وقفاً على عهد رسول الله. بل لقد صحبها كل ذلك، وخامر لحمها ودمها في كل أدوار عظمتها، وظهور شأنها. وإنما نريد بعد عظمة المرأة العربية ذلك العهد الذي احتفظ فيه العرب بعصبيتهم العربية، وذلك عهد الراشدين، والعهد الأموي، وأوائل أيام العباسيين بالعراق، والفاطميين بمصر، وبني مروان بالأندلس. ففي هذا الأيام كان تأثر المرأة شبيهاً بما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما انشعبت الآراء، وتباينت المذاهب في تلكم الأيام، كان ثباتها على رأُيها شبيها بثباتها على دينها. فلم يحوّلها عنه تحوّل الزمان، وتداول الدول. هذا معاوية بن أبي سفيان باقعة قريش وسائسها، ريضت له الدنيا وقرّ لأمره الأمر فتطامنت له رءوس القوم، وخضعت نفوسهم، ونطقت بما يجب ألسنتهم على حين أنّ خصومه اللواتي انضوين إلى علي رضي الله عنه وحرضْنَ عليه وهو بين صفوف صفين لم تأخذهن صولته، ولم يذهب برأيهن وميض سيفه، ولم ينثنين بين يدي وعيده وتهديده، بل كان يستقدم خطيباتهنّ وشواعرهنّ، والزعيمات بالرأي فيهنّ، فكن حياله وهو أمير المؤمنين، كما كنّ يوم صفين. وسيمرّ بك من مقالاتهن ومقاماتهنّ بين يديه. عند كلامنا على أدب المرأة المسلمة ما فيه غناء. كذلك كان إيمان نساء الخوارج وثبات قلوبهن وَرَباطة نفوسهنَّ حين يؤتي بهنّ في صفد الإسار بين الخلفاء والأمراء، وسيوفهم مُصْلتَةٌ، يلتمع شررها بين أعينهن، فلا خوف ولا وهن. فقد أتى عبد الله بن زياد بامرأة من هؤلاء كان لها في قتاله والإغراء به شأن عظيم. فبدأ يقطع رجلها وقال لها: كيف ترين؟ فقالت: إنّ في الفكر في هول المطلع لشغلا عن حديدتكم هذه.

وأتى الحجاج بأخرى منهن فجعل يكلمها وهي لا تلتفت إليه. فقيل لها: الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه؟ فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فأمر بها فقتلت. وقيدت إليه أخرى فقال: والله لأعدنكم عدّاً، ولأحصدنكم حصداً. فقالت له الله يزرع وأنت تحصد؟ فأين قدرة المخلوق من الخالق؟ وقد أورد الجاحظ والمبرد حديث البَلْجاء وأفاضاه. وهي امرأة خارجية من بني تميم نهضت تثير الخوارج في العراق، وتؤلبهم على عبيد الله بن زياد. فنذر بها عبيد الله قالوا: وذهب إلى شيخ الخوارج أبي بلال بن حُدير ذاهب، فقال له: يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء وأحسبها ستؤخذ فمضى إليها أبو بلال فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التَّقِيَّة فاستتري، فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد؛ قد ذكرك. فقالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يُعْنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله. فأُتى بها. فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق. فمرّ أبو بلال والناس مجتمعون فقال: ما هذا؟ فقالوا: البلجاء. فعرج إليها. فنظر، ثم عض لحيته وقال لنفسه. لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرادس. قالوا: ولبثت ما شاء الله أن تلبث، ولم تسمع لها آهة ولا أنة، إلا أن تذكر الله وتشكره. ذلك قبل قليل من كثير، مما يشهد للمرأة العربية في عهد إسلامها باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله. ولقد كان سبيل ذلك أن تأثرت كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم بَها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.

وأول ما لقنتّ من أدب الله ورسوله، الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب وجل المصاب. وهي وإن وسمت في الجاهلية بالصبر عند اشتداد الدهر وجهد البلاء. إنها لتعافه وتأباه إذا ذهب الموت بعزيز كريم من آلها وعشيرتها فهنالك يجتمع نساء الحي للمأتم، حواسر الرؤوس سوافر الوجوه، يشققن الجيوب، ويلطمن الوجوه، ويهجن الباكيات، بما يثير الرابض، والشجو المميت. وعادة المناحة على السيد الشريف أن تظل سنة كاملة. ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ذلك ما حال دونه الإسلام، ومنع المرأة أن تفعله، أو تقرب شيئاً منه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وبايعه الرجال على الإسلام، وقدم عليه النساء، فقلن يا رسول الله إن رجالنا قد بايعوك، وإنا نحب أن نبايعك فمدّ رسول الله يده إليهن. فبايعنه. وكان مما أخذ عليهن في بيعتهن: ألا ينحن، ولا يخمشن وجهاً، ولا يشققن جيباً، ولا يدعين ويلا، ولا ينشرن شعراً، ولا يقلن هجراً. وبذلك كان رسول الله يبايع كل من بايعته. تلك البيعة طوقت بها أعناق المؤمنات جميعاً، فأصبحت من أركان دينهن، وعمد إيمانهن ثم أصغين إلى ما كتب الله للصابرين والصابرات من جليل الأجر وجميل المثوبة، ورأينه خَلة الأنبياء وسنة الصديقين، وآية المقربين، وقرآن قول الله تباركت حكمتك (إنَّمَا يُوَفىَّ الصَّابرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله جلت آياته في الصابرين: (أُولئك عَلَيْهمْ صَلَوات مِنْ رَبَّهمْ ورَحْمة وأُولئك هُم المُهتدُونَ) وسمعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدّث عن الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل

ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديوناً وقوله عليه الصلاة والسلام: يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفية من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم لجماعة النساء: يا معشر النساء ما منكن امرأة تقدّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين. كل ذلك وأشباهه - وكثير ما هو - سمعنه ووعينه. فكان مسلاة نفوسهن، وراحة قلوبهن، وبرد أكبادهن. أو لم ترى إلى الخنساء وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها وازدهاف لبها، واضطرام حشاها، على أخويها صخر ومعاوية، مما نطقت به أشعارها، وذاعت بَحره أخبارها؟ لقد استحال كل ذلك إلى صبر أساغه الإيمان، وجمله التقى. فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا. أولئك أبناؤها. وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنوا رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجَّنت حسبكم، وما غيرت نسبكم: واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله تفلحون. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فيمموا وطيسها. وجالدوا رسيسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة. فلما كثرت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتوقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في أثر واحد.

ولما وافتها النعاة بخبرهم، لم تزد على أن قالت الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة. ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر، وقوة الإيمان. ولعل أبعد منه ما حدَّث أنس بن مالك، عن أمه أم سُليم بنت ملْحان الأنصارية زوج أبي زيد بن سهل قال: مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير. فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي. فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت أبنه. فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت. فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان. وقدمت له عشاءه. فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه. ثم أتمَّا ليلتهما على وأوفق ما يكون الزوجان. فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية، فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شقّ عليهم؟ قال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلاناً كان رعاية من الله فقبضه إليه. . فاسترجع وحمد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح غدا على رسول الله. فلما رآه قال: بارك الله لكما في ليلتكما. فاشتملت منذ تلك الليلة على عبد الله بن طلحة. ولم يمت عبد الله حتى رزق عشر بنين كلهم حفظ القرآن وأبلى في سبيل الله.

ذلك مثل الكمال في أسمى فضائله. على أن الإسلام قد أباح للناس أن يشتقوا بالدمع ويستريحوا إلى البكاء. فقد حدث البخاري أن رسول الله حمل ابناً لابنته زينب قد حُضر ونفسه تقعقع في صدره. ففاضت عيناه. فقال له سعد بن معاذ؛ ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء أما ما سوى البكاء، فقد لعن رسول الله الصالقة والحالقة والشاقة. بل لقد أمرت إذا مَر أعز موتاها - إلا زوجها - ثلاثة أيام أن تعود إلى سابق عهدها من زينة وطيب. فقد روى البخاري عن زينب ابنة سلمة أنها دخلت على زينب بنت جحش زوج رسول الله حين توفى أخوها. فدعت بطيب فمست منه. ثم قالت: أما والله مالي بالطيب من حاجة؛ غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تجدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً.

كذلك عمد الإسلام إلى قلب المرأة العربية فاستل سخيمته، وأخرج ضغينته وطهره من غل الثائر، ونزعة الانتقام. وقد كان ذلك من أشد ما يجيش به صدرها، وتهتف به نفسها، ويقذف حممه فمها ولسانها. فاليوم وقد شرع الله القصاص في الدنيا والآخرة واستنقذ العرب من مفارق الفرق، ومنازع الفتن، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، فقد تبدّل الحقد وُدَّا، واستحالت البغضاء ولاء. وأني يكون لسخائهم النفوس، وتطلب الأوتار، من أثر في صدر المرأة العربية المسلمة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعين بدعوة الجاهلية وقال: ليس منا من دعا بدعوة الجاهلية. وما دعوة الجاهلية إلا أن يقول الرجل أو المرأة: يالفَلان. فتعقد الألوية، وتجاش الجيوش، وتنتضي السيوف، وتخلص الدماء إن ظالماً وإن مظلوماً.

وهل طوى قلب على أشدّ وأهول مما طوى عليه قلب هند ابنة عتبة، من سموم الموجدة ونيران العداوة لرسول الله، وآل بيته؟ فهم الذين قتلوا آلها يوم بدر، واستقادوا زوجها يوم زحفهم على مكة. وهي التي أهدر نبي الله دمها يوم فتح مكة جزاء تمثيلها بُجثْمان عمه حمزة يوم أُحد؛ فجاءته مقنعة تبايعه فقالت: يا رسول الله الحمد لله الذي أظهر الدين الذي لنفسه لتنفعني رحمك. يا محمد إني امرأة مؤمنة بالله؛ مصدقة برسوله ثم كشفت عن نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة فقال رسول الله: مرحبا بك، فقالت: والله ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إليَّ أن يذلوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يعزوا من خبائك.

ففي سبيل الله، وفي سبيل دينه، ما غسل الدم، وزالت الوحشة، وأُتلفت نوافر القلوب. وكما أنّ الله طهر نفس المرأة من نزعة الحقد، وأبرأ قلبها من قرحة الغلّ، كذلك حسر عن عقلها حجاب الجهل؛ ونزع عن إدراكها غشاء الأباطيل. فلم تخضع لعقيدة فاسدة، ولم ترضخ لوهم ممُوه. وعلمت أنّ الله قد أسدل حجُب الغيب دون أوليائه وأصفيائه، فلم تطلبه، أو تحاول كشفه؛ فطويت بذلك صحف الكهان والعرافين؛ وزواجر الطير؛ وطوارق الحصى. وأمثال كل أولئك؛ من كل ذوي لغو مموهّ، وظن مُرجّم، وظلالة باطلة. وتبينت أن الأمر كله بيد الله، وأنه وحده مقلب القلوب، ومُحَول الحالات، فلم تَحْتَل على الحبّ واللقاء؛ والبُرْء والشفاء. ومدّ حبل العُمُر؛ وردّ سهم القَدَر؛ بتعليق الخرزات؛ والاستقاء بمائها؛ ولا يقل الرقي، وعقد التمائم. فلم يكن مفزعها في الأمر كله إلا الدعوة الصالحة: والرجا الطيب في الله وحده. وبطل ما كانت تعتقد في المعاني التي ألبسها الخيال لَبوساً من الأشباح المترائية. فلم تعد تعتقد في صور الهواتف؛ ولا أصداء الأرواح

كل أولئك محاه الدين، ومحقه العلم الصحيح، وقد علمت مبلغ إيمانها بالأول: وستعلم مبلغ نفاذها في الثاني. ولم يقف الإسلام بالمرأة عند حدّ صلاح قلبها، وخفيات قلبها. بل نظر إلى وجهها وظواهر هيئتها. فحرم عليها تمويه خلقها، وتلوين وجهها، وتوصيل شعرها، وكشف صدرها، والتبرج في ثيابها؛ وإبداء زينتها؛ إلا ما ظهر منها وأشباه ذلك، مما يدل فطرة الله ويغري مرضى القلوب؛ ويحول بينها وبين جدّ العمل؛ وسموّه الحياة. على أن الإسلام أباح للمرأة فيما سوى ذلك أن تتخذ من الثياب أدقها وأرقها. ومن الحلي أنفسها واضوأها، وأن تَدّهن، وتكتحل؛ وتختصب. وتتطيب، وتتجمل ما شاءت أن تتجمل. فقد خطب على كرم الله وجهه فاطمة بنت رسول الله؛ فباع بعيراً له بثمانين وأربعمائة درهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا ثُلُثين في الطيب وثُلُثاً في الثياب. وكانت عائشة أم المؤمنين تلبس المُعَصْفر؛ والمضرج من الثياب. وفيها الخزُّ والحرير. وتتحلى بالذهب. وربما حجت في بعض ذلك. وكذلك كان يفعل نساء رسول الله ودخلت عليها امرأة معصفرة فسألتها عن الحناء فقالت: شجرة طيبة وماء

طهور. وسألتها عن الحفاف فقالت لها: إن كان زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي. وبعد فذلك مجمل ما أحدث الإسلام من الأثر في قلب المرأة ولبها وعادتها وهيئتها فأما فضائلها التي جملها الله بها في عهد جاهليتها؛ فقد ازدادت رسوخاً وتمكيناً في عهد إسلامها، حتى بلغت بها غاية جلالها وكمالها. فقد حدّث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد. فكلمهن في الصدقة. فأخذن ينزعن الفتُخ والقِرَطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال - وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن. وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين. وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: (إنَّ المُصَّدّقِين والمُصّدّقاَتِ وأْقَرضُوا اللهَ قرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهمْ ولهم أَجْرٌ كرِيمٌ). وكان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة، وحسن الأحدوثة فأصبح بالإسلام مما تفيض به الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضاة الله. فقد حدث ابن سعد عن عروة قال: رأيت عائشة تَصدق بسبعين ألفاً، وأنها لترقع جانب درعها. وحدث عن أم ذرة: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يبلغ مائة ألف، فدعت بطبق - وهي يومئذ صائمة - فجعلت تقسم في الناس. فلما بلغ أمست قالت: يا جارية، هاتي فطري. فقالت أم ذرة: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه، فقالت لا تَعنّفيني! لو كنت أذكرتني لفعلت.

وحدثت برزة بنت رافع: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها. فلما دخل عليها قالت: غفر الله لعمري! غيري من أخوتي أمهات المؤمنين كان أقوى على قسم هذا مني. قالوا: هذا كله لك فاستترت منه بثوب وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً. ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى بني فلان وبني فلان - من أهل رحمها وأيتامها - حتى بقيت بقية تحت الثوب. فقالت لها برزة: غفر ما تحت الثوب. وحدث محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم حمل إليها فقسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، وحتى أتت عليه. فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير. فوقف على بابها وأرسل بالسلام وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال. وقالت زينب حين حضرتها الوفاة: إني قد أعددت كفني. ولعل عمر سيبعث إلي بكفن فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما. إن استطعتم إذا دليتموني أن تصدقوا بحقوي فافعلوا. وكانت سكينة بنت الحسين تجود بكل ما تجد من مال. فإن لم يكن مال فبدملج تنزعه، أو سوار. وخرجت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عن مالها كله لفقراء آل أبي سفيان.

وما استبقت المرأة والرجل في سبيل الكرم إلا وكانت هي أبعد مدى، وأطول يدا، وأصدق ندى لأنها تفقدت بإحسانها مواطن البؤس، وتتبعت مواقع الشقاء فحسمت الجرح الدامي، وسترت الجسد العاري، وراشت الجناح المهيض على حين تعمد الرجل بحرّ إحسانه قالت الشعر، ورواة الأخبار، فأذاعوا ذكره، وأنبهوا قدره وأكبروا أمره وعمدوا إلى موفور ما أكسبهم فصرعوه في مصارع المال، من سرف ولهو وضلال. وأي رجل ذلك الذي يهب على البيت من الشعر ألف دينار، وجاراته طاويات الحشى، باديات الضنى، قامحات الظما زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟ وأن فيما أتم الله على المرأة المسلمة من نعمة الصبر، وحبّ الإحسان لآية مما بلغته من شتات الفضائل التي أخذ بعضها بحُجُزات بعض، فبلغت منهن المقام الأوفى، والمكان المكين. ففي الوفاء لبيتها وزوجها وبنيها، كانت بحكم الإسلام وتأثيره المثل الأعلى والقدوة الصالحة، وقد علمت من حديث أسماء بنت يزيد أن الوفاء لذلك كله يعدل عند الله ما يعانيه الرجل من الجهاد في سبيل الله، وما فوقه، وما دونه. وفي حديث البخاري أن المرأة راعية على بيتها، مسئولة عنه. وكما أن الله حبب إلى الرجال مصابرة أزواجهم، وإيلاف قلوبهن، وبذل الود والرفق لهن، كذلك حبب إلى النساء مثل ذلك في أزواجهن.

فقد حدّث ابن سعد عن عمرو بن سعيد قال: كان في عليّ رضي الله عنه على فاطمة شدّة. فقالت والله لأشْكُوَنك إلى رسول الله. فانطلقت. وانطلق علي بأثرها. فقام حيث يسمع كلامهما. فشكت إلى رسول الله غلظ عليّ، وشدّته عليها. فقال: يا بنية! اسمعي واستمعي واعقلي: إنه لا إمرة لا تأتي هوى زوجها وهو ساكت. قال عليٌ: فكففت عما كنت أصنع وقلت: والله لا آتي شيئا تكرهينه أبدا. كذلك درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها ومصافاته، واستخلاص نفسها له واحتمال نبوة الطبع منه. وأكثر ما كان صفاء نفسها وسماح خلقها وعذوبة طبعها، إذا استحال الدهر بالرجل فرزاه في ماله، أو نكبه في قُوته، أو بَدَّلهَ بكرم المنصب، وروعة السلطان، أعرافا من السجن، وأصفاداً من الحديد. بل لقد كان له بعد عفاء أثره، وامّحاء خبره، عديل وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره. وكان إيثار الإسلام له بِمدَّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها. ولا تزدان، ولا تفارق داره إلى دار أبيها سُنَّة من سنن هذا الوفاء، وآية من آياته. لذلك كانت المرآة المسلمة ترى الوفاء لزوجها بعد الموت، وآثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها. فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل مواطن ومقام. بل ربما عرض ذكره وهي بين خليفته من بعده، فلا تتحرّج في ذكر فضائله وتفضيله إن كانت ترى الفضل له. ومن حديث ذلك: أنّ أسماء بنت عُميس كانت لجعفر بن أبي طالب، ثم لأبي بكر من بعده. ثم خلفهما عليٌ كرم الله وجهه ورضى عنه: فتفاخر مرة ولداها

محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل يقول أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك. فقال لها عليٌّ: اقضي بينهما يا أسماء. قالت: ما رأيت شابّاً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلا خيراً من أبي بكر. فقال علي: ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير الذي قلت لمقتك!. . فقالت أسماء: إنّ ثلاثة أنت أقلهم لخيار. ذلك علي بن أبي طالب فتى المسلمين، وأحبهم إلى رسول الله، وأعلمهم بدين الله، وأشدّهم بلاء في سبيل الله، آثرت عليه امرأته زوجيها السالفين، ولو جعلته خير الثلاثة لعقدت بكفيها لواء أنصاره وشيعته، وهم جمهور عظيم من المسلمين. ثم انظر إلى علي رضي الله عنه كيف رأى امرأة وأعظم وفاءها في قوله: ولو قلت غير الذي قلت لمقتُك. وأشد من ذلك وأجل وأعظم، أن تفي المرأة لزوجها بعد موته. وفي وفائها الموت النافذ، والبلاء المحيق. ومثال ذلك ما حدّثوا أن مُصعب بن الزبير لما غاب على المختار بن أبي عبيد الثقفي ثائر العراق وسفاحها وقتله، عرض آله وشيعته. فمن لم يقرّ بكفره ويبرأ

منه، ألحقه به. فلم يبق على عهده، والوفاء له، إلا امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فقد قالت حين سئلت: أشهد لقد كان عبداً من عباد الله الصالحين فأمر بها فقتلت، ولم تفتد نفسها حين ضربت بالسيف بكلمة واحدة تُبرئها منه مع أنها ضربت ثلاث مرات دون القتل. وتلك إحدى عثرات مصعب وسيئاته. وفي عمرة وما حدث لها يقول عمر بن أبي ربيعة: إن من أكبر الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عُطْبول قتلت باطلا على غير ذنب ... إن الله دَرها من قتيل كُتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات من الذيول ومع أن رغبة الأيم عن الزواج، وكراهيتها له، واعتكافها دونه، لم يكن من مبادئ الإسلام في شيء - فإن كثيراً من الأيامى أنِفن أن يتَبدَّلن ببعولتهن زوجاً آخر، وفاء لهم، وبقيا على ذكراهم. فقد روي صاحب أخبار النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى امرأة يخطبها فقالت: يا رسول الله إني عاهدت زوجي ألا أتزوج بعده. فقال: إن كان ذلك في الإسلام ففي له. بل لقد ظهر من عمدت إلى مواطن الجمال من وجهها فشوهته حتى لا يرتضيها الناس ولا يبتغونها. ومن أولئك نائلة بنت الفُرَافِصَة زوج عثمان رضي الله عنه. فقد تكاثر عليها طابها بعد قتل زوجها فأبتهم جميعاً. ولما خطبها معاوية بن أبي سفيان قالت: ووما أعجب أمير المؤمنين مني؟ قيل لها: حسن ثغرك. وكانت كأحسن النساء ثغراً. فدقت ثناياها وقالت: أذات ثغر تراني بعد عثمان؟

وقد صنعت خَولة بنت منظور بن زيان صنيع نائلة حين خطبها عبد الملك بن مروان بعد مقتل زوجها عبد الله بن الزبير. فقد أنحت على أسنانها تحطيماً لتشوه أجمل ثغر أبدعه الله. ومنهن زوج هُدبة بن الْخَشْرَم العذري، أَخذ عليها زوجها حين قيد إلى القتال، وأبصر طلعة الموت، ألا تتزوج بعده أحمق، أو لئيما فعمدت إلى سكين فقطعت أنفها، وقالت: أفيَّ مطمع لما تقول بعد ذلك؟ الآن طاب ورود الموت ومما حدث الأصمعي قال: رأيت بالبادية أعرابية لا تتكلم. فقلت أخرساء هي؟ فقيل لها: لا، ولكن كان زوجها مُعْجَباً بنغمتها فلم توفي أطبقت فمها فلا تتكلم بعده أبداً. على أن الإسلام وأن لم يحمد من المرأة كراهيتها للزواج بعد زواجها. ولم يعتدّ ذلك وفاء منها. لقد شكره لها. وأجزل عليه مثوبتها. إن اعتزمته. وأقدمت

عليه. فاء لأبنائها ورعياً عليهم وضنا بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم. فقد علمت من أمر أم هانئ بنت أبي طالب كيف أبت على نفسها شرف الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاء لأبنائها، وقضاء لحق الله، وحق التربية فيهم، وكيف امتدحها النبي، وشكر لها ذلك. وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله فأرسلت تقول له: إني مُصِبية. فأرسل إليها: أما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله. فقالت عند ذلك مرحبا برسول الله. ومات مالك بن النضر وابنه أنس رضيع، وزوجه أم سليم شابة حَدَثة. فكثر خطابها فقالت: لا أتزوج يأمرني أنس. فوفت بعهدها وبرت. وكان ذلك من مما أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى أم أثال وكانت كأحسن النساء وجهاً فلما مات زوجها، تدافع الخطاب على بابها فردّت كل خاطب، وفاء لأبنها أثال: لعمر أثال أفدى بعيشه ... وإن كان في بعض المعاش جفاء إذا استجمعت أم غضن طرفه ... وشاعره دون الدثار بلاءُ ذلك بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما خلقت له، ووكلت به. وإن لنا لعودة إليه في الكلام على تأثير المرأة المسلمة في الرجل، وتكوينها له، إن شاء الله تعالى. وبعد فإن نساء العرب في الإسلام لم يدعن لرجالهن خلة يستأثرون بها دونهن، ولم يتركن سبيل من سبل العظائم، ولا مشرفاً من مشارف المكارم إلا وكن السابقات إليه، الواثبات إلى غايته. حتى لقد جاذبن الرجال حبل البطولة،

نسيبة بنت كعب المازنية

واصطلين نيران الحروب، فأمَلْنَ ميزانها، وأثرن نيرانها، وعَقَدْن دخانها، وملكن عنانها. وهن وإن غشين الحرب لما دون القتال من إفاضة الرجمة، وبذل المعونة، لا يجدن بداً من انتضاء السيوف إذ أجفل الرجال، ورجفت قلوبهم، ورأين من لوائح الهزيمة ما لا خير في الحياة بعده. ولعل من النساء يقول: وما عسى المرأة أن تفعل ذلك يومذاك؟ ألا أنها لا تدع الرجل يقول: وما عسى الرجل يفعل يوم ذلك؟ وهل تجد الشَّجاعة إلا قوة تفيض من اليقين الثَّبْت، والصبر المكين، فتصدع ركن الدهر، وتفل غرب الحادثات. فانظر كيف تجد المرأة من جلال الصبر، وقوة الأيمان، ثم تبين مبلغ غنائها وكفايتها، إذا أحرج صدرها، واشتملت الحرب العوان عليها؟ ونحن بعون الله سائقون لك من مواقف النساء في مخاضات الدماء وتلك هي أسماء بعضهن، وأثارة من أثرهن، ووصف بعضهن: - نسيبة بنت كعب المازنية لكل بطل موقف عرف به، وأثر عنه، وكان مهبط الشرف من حياته، ومعقد الفخر من سيرته. وليس هنالك موقف أملأ للقلب، وأملك للنفس، وآثر في التاريخ، من موقف نسيبة بنت كعبة. خرجت نسيبة في جيش المسلمين يوم أحد، تسقي الظمأ، وتأسو الجرحى، وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين. ثم أشاحت بوجهها عنه، فتناولتهم سيوف المشركين، تنها من نحورهم وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين،

إلا عشرة أو نحوهم، وقفوا يدرءون عن رسول الله ويحولون دون الوصول إليه. هنالك جاء دور نسيبة، فانتفضت سيفها واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله: تنزع عنه القوس، وتضرب بالسيف وحولها من الغُر المذاويد عليٌ وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير والعباس، وولداها وزوجها فكانت من أظهر القوم أثراً، وأعظمهم موقفاً. وكانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله حتى تكون سداده وملء لهوته حتى قال صلى الله عليه وسلم: ما التفتّ يميناً وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني. ومما حدث به ابنها عمارة قال: جُرحْتُ يومئذ جرح في عضدي اليسرى. ضربني رجل كأنه الرَذقل، ومضى عني، ولم يُعَرَذج علي، وجعل الدم لا يرقأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعصب جرحك. فأقبلت أمي إلى، ومعها عصائب في حقويها. قد أعتدتها للجراح. فربطت جرحى، والنبي واقف ينظر إليّ. ثم قالت: أنهض بُني، فضارب القوم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم: ومن يُطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني فقال رسول الله: هذا ضارب ابنك، قالت: فاعترضت له، فضربت ساقه، فبرك. قالت: فرأيت رسول الله يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدّت يا أمّ عمارة. ثم أقبلنا نَعُلُّه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقرّ عينك من عدّوك، وأراك ثأرك بعينك. وأُصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلاثة عشر جرحا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه، وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة تضرب في نحور العدوّ،

خولة بنت الأزور

وترتمي بين صفوفهم غير آبهة ولا دارية بالدم الناعر من جسمها. فقال رسول الله: أمّك أُمّك اعصب جراحها. بارك الله عليك من أهل بيت. مقام أمك خير من مقام فلان وفلان. فلما سمعت أمّه قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. فقالت: ما أبالي ما أصابني في الدنيا. خَوْلَة بنت الأَزْوَرِ أخت القائد العظيم ضرار بن الأزور الكندي. وهي إحدى عقائل العرب، وبقية بنات الملوك. وبيتها بيت رسخت دعائمه على القوّة والمضاء في الجاهلية والإسلام. قتل أبوها بين يدي رسول الله دفاعا عنه. وأخوها ضرار من القادة الذين لا يغنى غناءهم أحد، وكان يُقاسُ إذا اشتملت عليه الوقائع بألف رجل. أما هي، فقد أوتيت من جمال الوجه، ومضاء القلب، ورباطة الجأش والاستبسال في القتال، ما لم يتح لكثير من الناس. ولها مواطن غرٌّ صالحات، شفت قلوباً، وروعت قلوباً. منها ما نحن ذاكروه لك، مما حدث به الواقدي قال: لما أُسر ضرار بن الأزور في وقعة أجنادين، سار خالد بن الوليد في طليعة من جنده لاستنقاذه فبينما هو في الطريق، مرّ به فارس معتقل رمحه، لا يبين منه إلاَّ الحَدقَ، وهو يقذف بنفسه، ولا يلوي على ما وراءه، فلما نظره خالد قال: ليت شعري منّ هذا الفارس؟ وأيم الله إنه لفارس ثم اتبعه خالد والناس من ورائه، حتى أدرك

جند الروم. فحمل عليهم، وأمعن عليهم، وأمعن بين صفوفهم، وصاح بين جوانبه، حتى زعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، فلم تكن غير جولة جائل، حتى خرج وسنانة ملطخة بالدماء. وقد قتل رجالا، وجندل أبطالاً ثم عرض نفسه للموت ثانية، فاخترق صفوف القوم غير مكترث، وخامر المسلمين من القلق والإشفاق عليه شيء كثير. وظنه أناس خالدا. حتى إذا قدم خالد قال له رافع بن عميرة: من الفارس الذي تقدّم امامك؟ فلقد بذل نفسه ومهجته، فقال خالد: والله لأنا أشد إنكاراً وإعجاباً لما ظهر من خلاله وشمائله وبينا القوم في حديثهم، خرج الفارس كأنه الشهاب الثاقب، والخيل تعدو في أثره. وكلما اقترب أحد منه ألوى عليه، فأنهل رمحه من صدره، حتى قدم على المسلمين، فأحاطوا به وناشدوه كشف اسمه، ورفع لثامه، وناشده ذلك خالد، وهو أمير القوم وقائدهم. فلم يحر جواباً. فلما أكثر خالد أجابه وهو ملثم فقال: أيها الأمير إني لم أعرض عنك إلا حيا منك، لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور، وبنات الستور. وإنما حملني على ذلك إني مُحْرَقة الكبد، زائدة الكمد، فقال خالد: من أنت؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور. كنت مع نساء قومي، فأتاني آت بأن أخي أسير، فركبت، وفعلت ما رأيت. وهنالك صاح خالد في جنده، فحملوا وحملت معهم خولة، وعظم على الروم ما نزل بهم، فانقلبوا على أعقابهم، وكانت تجول في كل مكان علّها أن تعرف أين ذهب القوم بأخيها، فلم تر له أثراً، ولا وقفت له على خبر. على أنها لم تزل على جهادها، حتى استنقذ لها أخوها. ومن مواقفها الرائعة، موقفها يوم أسر النساء في موقعة صحورا. فقد وقفت في النساء وكانت قد أسرت معهن، فأخذت تثير نخوتهن، وتضرم نار الحمية في قلوبهن، ولم يكن من السلاح شيء معهن، فقالت: خذن أعمدة الخيام وأوتاد

صفية بنت عبد المطلب

الأطناب، ونحمل على هؤلاء اللئام، فلعل الله ينصرنا عليهم. فقالت عَفّرَا بنت عَفَار: والله ما دعوت إلى ما هو أحب إلينا مما ذكرت. ثم تناولت كل واحدة عموداً من عمد الخيام، وصحن من صيحة واحدة. وألقت خولة على عاتقها عمودها، وتتابع النساء وراءها. فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكُنَّ كالحلقة الدائرة، ولا تتفرقن فتُملكن فيقع بكن التشتيت وأحطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم. وهجمت خولة، وهجم النساء وراءها، وقاتلت بهن قتال المستيئس المستميت، حتى استنقذتهن من أيدي الروم، وخرجت وهي تقول: نحن بنات تَّبعٍ وحِمْير ... وضربنا في القوم ليس ينكر لأننا في الحرب نار تُسعر ... اليوم تُسقون العذاب الكبر صفية بنت عبد المطلب هي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم الزبير بن العوام أحد القادة العظام في الإسلام. وكان من حديثها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما ثار عليه الأحزاب وحلَفائهم وذهبت جموعهم إلى المدينة تريد القضاء على المسلمين جميعاً - جمع النساء والصبيان في حصن بني حارثة، حتى لا يمسهم السوء. واعتصم بالحصن يومئذ حسان بن ثابت وكان ضعيفاً واهن القلب. وكانت صفية يومئذ بين النساء. فبينا هي مشرفة من الحصن، بصرت فارس يهودي يطيف بالحصن. فخشت أن يقتحمه، أو يدل عليه. فقالت لحسا: أنا هذا اليهودي يطيف بالحصن، وأني والله ما آمنة أن يدل علينا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. قال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب! والله لقد

ليلى بنت طريف

عرفت ما أنا بصاحب هذا. حتى إذا يئست منه، احتجزت بثوبها، واحتملت عموداً ونزلت إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب. ليلى بنت طريف أخت القائد البطل الثائر الوليد بن طريف الشيباني. كان أخوها الوليد بقية أبطال الخوارج الذين خرجوا على الخلفاء، وراعوا جندهم وحطموا كتائبهم. خرج الوليد على الرشيد فأمعن في جنده فتكا وقتلا. وكلما ساق إليه الرشيد فريقاً كان كهشيم في ضرام النَّار. فرماه بعد أن أعياه بقائده يزيد بن مزيد الشيباني. فظهر يزيد عليه فقتله. فخلفته على قيادة جنده أخته ليلى. فأطبقت بهم على جند الرشيد، حتى خلعت قلوبهم، ومزقت أوصالهم: لا تكون هذه إلا أخت الوليد لأن فعلها بفعله أشبه. حتى إذا أبصر يزيد الوهن في جنده، قال: دعوها. ثم خرج إليه وضرب الرمح قطاة فرسها، وقال: اعزبي الله عليك، فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت. وأقامت بعد ذلك بنجوة عن العيون، تبكي أخاها، بمراث تستنزف العبرات وتستثير الزفرات. غزالة الحرَورية زوج القائد البطل المخوف شبيب بن يزيد، قائد الخوارج وبطلهم، والقائم بالأمر فيهم.

وهي إحدى القادة الكفاءة الذين دوخوا البلاد، وروعوا الجيوش، وملئوا القلوب أثراً، والأفواه خبراً، والأرض عبراً. وكانت هي وزوجها يليان قيادة الخوارج. وكان الحجاج بن يوسف مبيد العراق، وسفاك بني أمية، يستمع خبرها، فيمتلئ قلبه رعباً ووهلا. وقد حدثوا: أنه خرج في جنده، وكله شاكي السلاح، مستكمل العدة، مرهوب الصولة، فعرضت له غزالة في أربعين، وهو في أربعة آلاف. فما لبث أن اختلط عليه الأمر، وخلع قلبه الفزع، وولى هارباً يخلط في قوله، وهو أعرف الناس بمواطن القول وأرفقهم بأساليب الكلام. ولكنه عُقل قلبه، فعقل لسانه. وفي ذلك كتب عمران بن حطان إلى الحجاج، وكان الحجاج قد لجّ في طلبه: أسد علىَّ وفي الحروب نعامة ... وبداء تجفل من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر صدعت غزالة بعساكر ... تركت كتائبه كأمس الدابر وبلغ من جسارتها، وقوة قلبها، أنها أقسمت لَتُصلين في مسجد الكوفة ركعتين، تقرأ في الأولى سورة البقرة، وفي الثانية آل عمران، والكوفة يومئذ معقل الحجاج، ودار إمرته ومجتمع قوّته. وقد برت غزالة بقسمها. ودخلت مسجد الكوفة هي وزوجها. ولبثت تصلي ركعتين تستنفذان نصف النهار. ولما أنبئ الحجاج بها، وتحصن واستوثق من رتاج بيته. وقد رمى الحجاج غزالة بخمسة جيوش، وهي تلتهمهم التهاماً، حتى أصبحت طِباق العراق ترجف لاسمها. وفي ذلك يقول أيمن بن خُزَيم.

أتينا بهم مائة فارس ... من السافكين الخرام العبيطا وهم مائتا ألف ذي مَوْنَسٍ ... يئط العراقان منهم أطيطا رأيت غزالة إن طرَّحَتْ ... بمكة هودجها والغبيطا سمت للعراقين في جمعها ... فلاقى العراقان بطيطا ألا يستحي الله أهل العرا ... ق أن قلدوا الغانيات السموطا وخيل غزالة تسبي النساء ... وتحوي النهاب وتحوي النبيطا وقتلت غزالة في موقعة الكوفة بين شبيب وبين الحجاج، غافلتها فرقة من جند الحجاج من ورائها بينما كانت تخوض في صدور جنده. ومن بعد قُوَّض جند شبيب وعفا أثره. وبعد فذلك شيء من حديث النساء في الحروب أفضنا فيه بعض القول لعلم أن المرأة لم تدع للرجل فضيلة يَثْنى عطفه بها. وما كان سيئ من ذلك لجفوة في الخُلق. ولا نبوة في الطبع، وهن الخَفِرات اللواتي يفرن من المدينة ويرتمين على الموت. وما كانت شجاعتهن أثراً من الغلظة إلى الدماء، ولكنها كما أسلفنا قوة فاضت بها وفْرَتَ الصبر وابتعثتها قوة اليقين. وإذا كانت أثبت من الرجل إيماناً، وأصبر منه على ريب الزمان، فما لها لا تكون في ساعة المحنة أبسل منه وأشد؟ وإذا كان العرب يقولون: الشجاعة صبر ساعة فلم لا تكون أشجع الناس عند البلاء وهي أصبرهم على البلاء؟

ونحن لا ندع القول في شجاعة النساء يمر، حتى نختمه بحديثين. ومنهما تعلم إلى حدّ بلغ ثبات المرأة، ووفور ثقتها بنفسها، واستمكانها من موقفها. أما أولهما ما حدث سعد عن أنس بن مالك، قال: شهدت أم سليم حُنينا مع رسول الله، ومعها خنجر قد حزمته على وسطها، وإنها يومئذ حامل بعبد اله بن أبي طلحة، فقال أبو طلحة: يا رسول الله إن أم سليم معها خنجر فقالت: يا رسول الله اتخذه إن دنا أحد مني أحد ممن المشركين بَقرت بطنه، أقتل به الطلقاء، وأضرب أعناقهم إن انهزموا بك. فتبسم رسول الله فقال: يا أم سليم، إن الله قد كفى وأحسن وأما الثاني فما رواه الجاحظ في البيان والتبيين قالك. كان حبيب بن مسلمة الفهري رجلا غزَّاء للترك، فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته فقالت له امرأته: أي موعدك؟ قال: سرادق الطاغية، أو الجنة إن شاء الله تعالى. قالت إني لأرجو أن أسبقك إلى أي الموضعين كنت به. فجاء، فوجدها في سرادق الطاغية، تقاتل الترك.

تأثير المرأة العربية في نهضة الإسلام وحضارته

تأثير المرأة العربية في نهضة الإسلام وحضارته ليس بدعا من المرأة التي وثب بها الإسلام إلى أبعد غاية من كمال النفس، وسموّ الحياة، أن تكون العضد الأقوى، والساعد الأشد، في نشر آيته، وبلوغ غايته. لقد وضح الإسلام فظهرت المرأة العربية في مشرق نوره، ملئا اليدين من حق موفور، وفضل مأثور، فياضة النفس، بما شئت من وجدان وإيمان. ثم أبصرت فإذا مجال القول متسع، ومستبق العمل فسيح. فانطلقت ملء عنانها، وهنالك، في أبعد شأو والفضيلة ركزت لواءها، واعتمدت بناءها فتساقطت الألوية، وانتقضت الأبنية دونها. ففي تصريف الحوادث، وفي تكوين الرجال، وفي نشر مطارف العلم، ونثر طرائف الأدب، تجد أثرها أشبه ما يكون بأثر الغدير الهادئ الفياض، في زهر الرياض ونحن أولا مرسلو القول في كل آثارها، مستعينين بمعونة الله، وحسن توفيقه، فهو وحده مرجع الأمر وولي التوفيق. أثرها في تصريف الحوادث تتابعت في الإسلام حوادث عظام، وتناوبته شدائد ثقال. وهي على عظمتها. وفدح أمرها. لم تقع بمنجاة عن المرأة. ولا بمعزل عن تصريف زمامها وتدبير الرأي فيها.

حديث النبوة

وهي إن تنو ولت بالنقد في بعض تلك المواطن. فتلك سنة التاريخ في كل عمل عظيم من عامل عظيم. ونحن مجملون لك القول في تلك الحوادث. ومبلغ رأي النساء فيها. واستمكان أثرها منها. حديث النبوة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد لئن أصيب رسول الله من رجال قريش بكل فادحة موقرة. لقد لقي من امرأتين منهم ما هوّن عليه أمرهم، وذهب بالشديد المؤلم من نوائبهم. هاتان هما خديجة بنت خويلد. وفاطمة بنت أسد. أما خديجة. فكانت له صلى الله عليه وسلم منذ أول ساعات النبوة. لقد نزل عليه الروح الأمين أول ما نزل في غار في الجبل. فلم يكن ما رآه بشراً من الناس. ولا خلقاً يتخيله المتخيلون؛ فأقرأه ما شاء الله أن يقرئه من آي الكتاب الكريم، ثم أخذ يتراءى له في طريقه بين السماء والأرض؛ فلا يلتفت يمنة ولا يسرة حتى يراه فيقف لا يتقدّم ولا يتأخر. كل ذلك ورسول الله بين شعاب الجبال؛ وفي وحشه الطريق؛ فلا أنيس ولا سمير ولا معين ولا نصير. لم يزل النبي في موقفه هذا؛ حتى انصرف الملك عنه، فانصرف هو إلى زوجه خديجة فزعاً مرعوباً مما سمع ورأى؛ فلما بصرت به قالت: أين كنت يا أبا القاسم؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة؛ ثم رجعوا إلى؛ فحدّثها رسول الله

حديثه. فقالت: أبشر يا أبن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة في يده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قالت له: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل مترائياً بين أقطار الغرفة، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبريل قد جاءني. قالت: قم يا ابن فاجلس على فخذي اليسرى فقام رسول الله فجلس. قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: قم فاجلس على اليمين، فقام، فتحول عليها فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. ثم تحسرت وألقت خمارها: وقالت له: هل تراه؟ قال: لا. قالت: أثبت وأبشر؛ فوالله إنه لَمَلك وما هو بشيطان. بعد ذلك قامت، فجمعت عليها ثيابها، وانطلقت إلى ابن عمها ورَقَة بن نوفل - وكان رجلا عليما نافذ العلم في التوراة والإنجيل ودقائقهما وأخبار النبوّة الأولى - فأخبرته خبر رسول الله. فقال ورقة؛ قدُّس قدُّوس! والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. فرجعت خديجة بقول ورقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت آية البشر والبُشْرى له. على ذلك النسق البعيد الفريد، سارت خديجة أم المؤمنين في تثبيت قلب النبي، وترويح نفسه وتأييد أمره. فلم ير شيئاً يحزنه، من ردٍّ عليه، وتكذيب له، وسخرية به، ونفور منه، إلا فرجت صدره، وأذهبت حزنه، وأثلجت قلبه وهونت الأمر عليه. تلك هي خديجة التي بعث الله إليها تحيته، فنزل بها جبريل على رسول الله فقال له: أقرئ خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا خديجة، هذا جبريل يقرئك السلام من ربك. فقالت: لله السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام. ولعمرك أنها لمثوبة من الله ما ظفر بها أحد من السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين ذلك لأن موقفها يومئذ أبرُّ برسول الله، وآثر في بسط دعوته، وتأييد أمره، من مواقف الأبطال المُعْلمَةِ، على الخيل المسَوَّمَة. وفي السنة التاسعة من ذلك الجهاد العظيم، ماتت خديجة، فاشتد حزن رسول الله على أعز نصرائه، وأصدق وزرائه. ماتت خديجة ولكن عظمة المرأة لم تمت، فقد خلفنها على رعاية النبي وتأييده وتثبيته وتدبيره، امرأة لم تكن دونها رأياً، ولا عطفاً ولا عقلا، ولا جاهاً ولا منصباً وتلك هي فاطمة بنت أسد زوج أبي طالب بن عبد المطلب، عم النبي، وأم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، قائد المسلمين، وصهر النبي الأمين. لم تكن فاطمة رضي الله عنها خلفاً من خديجة فحسب، بل كذلك خلفاً من ابي طالب في الذود عن النبي؛ والانتصار له، ورفع الصوت حرّاً ندياً في سبيله ولم يزل ذلك شأنها؛ حتى هاجر رسول الله إلى مهبط أمنه. ومستقرّ أنصاره، فتبعته في هجرته. فكان بيتها في المدينة؛ كما كان في مكة؛ مآباً طيباً، ومقيلا كريماً. وكما كانت فاطمة في نصرة الله وتأييد رسوله، منقطعة القرين كذلك كان لها رسول الله يوم لحقت بربها. فقد كفنها في ثوبه؛ ونزل في قبرها، واضطجع فيه، فكان حقا على القبر للنبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعته بهذه فقال: إنه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها. ذلك فضل الله يختص به من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

حديث الهجرة

حديث الهجرة رُقَيْقَةُ بنت صيفيّ وأسماء بنت أبي بكر تتصل رقيقة برسول الله في هاشم بن عبد مناف. فهو جدها وجد أبيه وكانت أسن من عمها عبد المطلب. فإذا أدركها الإسلام كانت قد تطاول عليها القِدم، وجاوزت حد الهَرَم. تلك هي المرأة التي استَشَفَّت خبر قريش يوم ائتمروا بالنبي ليقتلوه ليلا في كسر داره. فذهبت تدرج حتى انتهت إلى رسول الله، فحذرته مبينه في داره، وأشارت عليه بالنقلة أُلفته، ومهبط نبوّته، ومرتقى مناجاته وعبادته إلى دار هجرته، وموطن أنصاره وشيعته. واتخذ صاحبه الصديق رضي الله عنه رفيقاً له، وتَرَك ربيبه وابن عمه عليا عليه السلام. فنام على فراشه، وتسجى ببردته، وشغل بنومه جماعة المتآمرين المترصدين المتهامسين على رسول الله، الضاربين النطاق حول داره عن تأثره، واغتياله في عرض الطريق. ولعل هنالك من يقول: وأي عظمة تجدها في امرأة سمعت خبراً فألقته كما سمعته؟ ذلك قول من لم يستبطن الأمر، ويتبين دخيلته. فإن فئة قليلة العدد خطيرة الغرض؟ من هامات القوم، وأشد فتيانهم، بيتوا أمرهم، واحتجزوا خبرهم عن بقيتهم، والممالئين لهم، وتعاقدوا وتعاهدوا وتحالفوا ألا يذيعوه، حتى يمضوه فئة ذلك شأنها، وتلك غايتها، ليس بالهين كشف أمرها، والوقوف على ذوات نفوسها، واستنقاذ رسول الله من كيدها، وشر غائلتها.

ذلك حديث خفي عن الناس جميعاً، مسلميهم ومشركيهم، فأي جُهد من التدبير، ونفاذ من الحيلة، بذلته تلك التي أنافت على المائة، وأشرفت على ثنية الوداع، حتى حسرت الحُجب عنه، فنقلته ولم تأمن على نقله ابنها مخرمة بن نوفل، وهو من لحمة النبي وذوي صحبته؟ أما لقد اتخذ الله المرأة يوم ذاك كما اتخذها من قبله آية لطفه الخفي، ووحي إرادته البالغة في أعظم حوادث الإسلام خطراً، وأبقاها أثراً، وأدومها على مَرّ الدهور ذِكراً، وأقومها ببناء الإسلام وأكْفلها بوضَح محجته، واستطارة دعوته. تنقلت العظائم من يد طاهرة، إلى يد طاهرة. فبعد أن دعمت العجوز الفانية رُقيقة بنت صيفي أثرها، أقامت الفتاة الحدثة أسماء بنت أبي بكر أثرها. لقد أعجل النبي وصاحبه عن ابتغاء الزاد، وشغَلهما الغرض الأسمى عن العَرض الأدنى فسارا خفيفين إلى غار في الذروة العليا من جبل ثور، إخفاء لأمرهما، وإعياء للذاهبين في أثرهما. فكانت أسماء تُمسيهما كل ليلة بالزاد والماء وبما عسى أن تكون قد سمعته، أو رأته، من حديث القوم وخبرهم ثلاثة أميال إلا قليلا كانت تقطعها الصبية الناشئة في جوف الليل؛ ووحشة الطريق، بين أسنة الصخر، ومساخات الرمال، ماشية متخفية، حذرة مترقبة، حتى تصعد إلى هامة الجبل، ثم تنحدر في جوفه، فتوافي رسول الله وصاحبه، بما قصد له. تلك هي الصبية التي تركت الوِلدان والولائد من لداتها وأترابها يغدون إلى ملاعبهم ويأوون إلى صدور أمهاتهم، وذهبت إلى حيث يعجز أشداء الرجال وأبطالهم فأي قوّة تلك التي أمدها الله بها؟ وأي قلب ذلك الذي أودعه الله

بين ضلوعها؟ وأية عَزمة تلك التي خفقت في نفسها، والتلاعب بين جوانبها؟ ذلك مثل من تلك النفوس التي استخلصها الله لدينه؛ واصطنعها لدعوته، ونفث فيها من روحه، فكانت مستقر الكمال، ومجتمع أشتات الفضائل. ولعمري لئن سلمت أسماء من عثرات الطريق، لقد محنت بالشديد المؤلم من بلاء قريش وأذاهم، وهي وادعة في كسر دارها. فلقد أحاط بها رجال القوم ذات صباح ليتعرفوا منها أمر أبيها، فأنكرت أمره، وتجاهلت خبره، ثم أمعنوا في محنتها واشتدوا في أذاها، حتى لقد لطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة قوية طار لها قرطها، فلم يوهِن ذلك الشيء من عزيمتها، ولا عبث بمكنون سرها. كذلك اقتحمت أسماء ذلك الطريق الرائع المخوف ثلاث ليال متواليات. وفي الليلة الثالثة - وهي ليلة الزماع على مفارقة الغار إلى عرين الأنصار - وافتهما بزاد السفر كله. فلما آذن رسول الله بالرحيل، نهضت لتْعَلَّق سفرة الزاد، فإذا ليس لها عصام. فلم تجد ما تعصمها به إلا نطاقها. خرجت عنه فشقته نصفين. فعصمت السفرة بنصفه، وكأن السقاء بباقية. فأبدلها الله بنطاقها ذلك نطاقين في الجنة. كذلك وعدها رسول الله فُسميت منذ ذات النطاقين. ونذكر من شجون الحديث لأسماء، يتصل بطَرَف من الهجرة قالت: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله. خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف. فانطلق بها. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره. فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت فأخذت أحجاراً

فوضعتها في كَوة في البيت، كان أبي بضيع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا ولله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك. وبعد فكل ما أوردناه من حديث تينك المرأتين، لم يكن كل حديث النساء في الهجرة، بل لقد هاجر العدد الموفور منهنّ في رفقة أزواجهنّ إلى الحبشة، وإلى المدينة، فلم يكن في مهنة العمل وتهيئة الطعام فحسب بل من عادة العرب، ولا سنة الإسلام إذا غدا الرجل إلى قطر سحيق كالحبشة أن يُجَشم امرأته ذل الغربة، وأوعار الطريق. ولكنهن خرجن - كما خرج الرجال - في طاعة الله. وهاجرن - كما هاجروا - فراراً بدينهنّ. وذهبن في أزر أزواجهن، مشيرات مؤتمنات، ومعينات صادقات. فأُبْن مآبَ الرجال: فضل زكيّ، وأجر غير منقوص. ومما يجمل ذكره في هذا الموطن، ما رواه ابن سعد عن أبي حمزة، قال: لما قدمت أسماء بنت عُميس من أرض الحبشة؛ قال لها عمر بن الخطاب: يا حبشية، سبقناكم بالهجرة - وأحسبه قالها فاكها - فقالت: إي لعمري لقد صدقت! كنتم مع رسول الله فلأذكرنّ ذلك له. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن رجالاً يغمزون علينا، ويزعمون أناَّ لسنا من المهاجرين الأوّلين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة ونحن مُرْهَنون بمكة، ثم هاجرتم بعد ذلك إليَّ.

ألم تر إلى الذين هبطوا من الحبشة كيف قامت المرأة بحجتهم، وفيهم أربعة وثمانون رجلا، كلهم مشيع القلب، مصقول اللسان، فلا دفع منهم ولا استكراه. وهل رأيت إلى المرأة كيف قامت بأمرها إلى رسول الله، وبم تعرج به على زوجها، أو تطلب الإذن منه في خصومتها. ذلك لأن الأمر بينها وبين الله ورسوله، فلا إمرة لأحد عليها، أتى كان مكانه منها. وكانت هجرة رسول الله قد سبقت ببيعة العقبة، وهي البيعة التي اتحد فيها رسول الله مع الأنصار خفية، فتوافدوا تحت جنح الليل بالعقبة. وكان وفد الأنصار ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم من نسائهم وذوات آرائهم اثنتان: هما نسيبة بنت كعب المازية - وقد عقدنا لها فصلا خاصاً - وأم منيع أسماء بنت عمر السلمية، وهي من أتم القوم عقلا، وأحكمهم رأياً. وقد شهدت مع رسول الله خيبر فكان لها فيها المشهد الأروع والمقام المحمود.

حديث الخلافة

وقد أعطى القوم رسول الله ذمتهم أن يذودوا عنه ذيادهم عن أعراضهم. وأعطاهم ذمته ألا يعود فيقيم مع قومه؛ إذا دانت له أرضهم، وقرت لحكمه نواصيهم. فهل رأيت مثلا أدل على سموه المرأة؛ وعظم منزلتها؛ ورعاية حقها مما ترى؟ عهد سياسي حربي أسدل عليه ستر من السر، وألقى دونه حجاب من الليل أترى القوم أنفوا أن يكون للمرأة فيه شأن؟ ولم لا يكون لها ذلك الشأن وتلك مواقفها ومشاهدها ملء المسامع والأبصار؟ وقد علمت في جملة ما مر بك أن رسول الله يوم وافي المدينة، بسط يده للنساء فبايعهن. كما بسطها للرجال فبايعهم. من ذلك كله تعلم أن الهجرة بيد المرأة مهدت واختمرت، وعلى يدها تكونت وتكاملت؛ وبرأيها وعزمها أثمرت وأينعت. - حديث الخلافة أو المرأة المسلمة بين الحرب والسياسة ما زال المسلمون منذ لحق النبي بربه وهم من أمر خليفته؛ والقائم بالأمر بعده؛ في فتنة غاشية؛ تعصف بهم تارة وتقرّ؛ رابضة مترصدة متحفزة تارة أخرى؛ فهي يومئذ غافية غفوة الذئب، نائمة هاجعة، ساكنة مستجمعة.

فاطمة وأبو بكر

كذلك تدافعت الحقب على الخلافة، والدم ينعر من حروفها، والمهج تسيل على أطرافها، وشفار السيوف تصل من أقطارها، ورسل الموت رائحة بأسود الغاب، وفتيان الضراب، من كل معتزم لو جرّد في سبيل الله عزمته. لفل بها الصفوف وجندل الألوف. ولقد كان للمرأة في كل تلك الأدوار رأي ماثل؛ وصوت مسموع، وفي بعضها يد أبدة وبطش شديد، وذلك ما نحن آخذون بالقول فيه. فاطمة وأبو بكر ترك رسول الله للمسلمين أن يختاروا بعده من يرتضونه لدينهم ودنياهم. ففي

اليوم الذي رجفت الأرض لموته صلى الله عليه وسلم، سعت رجالات من المهاجرين والأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، وهناك وهناك - بعد جدال وحوار - بسطوا أيديهم إلى أبي بكر يبايعونه. على أن فاطمة بنت رسول الله أقامت في عهدها القصير بعد رسول الله مجافية أبا بكر؛ واجدة عليه. وسواء أكانت تلك الموجدة لما رأت من انتزاع الخلافة من آل بيت النبي - وكانت تراها حقاً لا يطاولون فيه، ولا يغالبون عليه - أو لحرمانها ميراث أبيها في فدك؛ وسهمه في خبير سواء أكانت موجدتها لهذا أو لذلك فقد كف عن البيعة كرامة لها زوجها علي عليه السلام، وانحاز بجانبه بنو هاشم جميعاً وانضم إليهم سفيان بن حرب رأس بني أمية. والزبير بن العوام بطل وحواري رسول الله. وأقام على والزبير بدار فاطمة لا يبرحانها. كذلك لبثوا أو بعض رصد. حتى لحقت الزهراء بربها. فانكشف بموتها ستر من ستور الهيبة الرائعة في بني هاشم. حتى لقد سعى عمر بن الخطاب بقبس من النار إلى بيت علي كرم الله وجه ليحرقه. وهناك خرج له الزبير والسيف مصلت بيمينه. يريد أن يصدع به رأس عمر. لولا أن عثرت قدمه بحجر في الطريق فوقع ووقع السيف من يده فأخذ. ولولا تلك العثرة المباركة لخضب بالدم رأس من أرفع رؤوس المسلمين. ولقد كادت الحرب تعود جذعة لولا حكمة من علي حسمت الجرح. ورأيت الصدع وجمعت الشمل. فخطب المسلمين خطبة ردّت صغيرهم على كبيرهم. وجمعت قصيهم وعصيهم ثم بايع أبا بكر. فلم يبقى بعد ذلك مخالف عليه.

عائشة وعثمان وعلي

عائشة وعُثمان وعليٌ تقضت أيام أبي بكر وعمر والمسلمون في أمنة من الفرقة. وقد فرغوا للجليل العظيم من أمرهم. فردوا المرتدين، إلى حظيرة الدين. ثم فتحوا العراق وفارس والشام ومصر وما وراءهن. حتى أصبحت الدولة الإسلامية يومئذ أورف الدول ظلا، وأسمقها بناء. ثم أعقبتها أيام عثمان، فبدأت الأرض تمور بالفتنة. لقد كان عمر صُلباً شديداً لا يبالي أن يُقَنع بِدرَّته وجه الشريف العظيم إذا مال به القصد، وحاد عن الطريق. وكان عثمان حييا خجولا. يبتدر الرجل الهفوة بين يديه فيندي جبينه، ويحمرّ وجهه. ومحال يروض الناس هذا بعد ذاك. وكانت من عثمان إلى المسلمين هفوات ساقها الضعف، فأسخطتهم، وأحفظت قلوبهم: منها أنه استعان على عمله بالأحداث من بني أمية، فأخذوا يخسفونه بعامة المسلمين، ويضربونهم بالسياط، ويعذبونهم بالمَسَاحي المُكْوَاة. حتى دوى الصوت من الحجاز إلى العراق إلى مصر بأن عثمان خليفة مستضعف وأن سواه أولى منه بخلافة المسلمين. وكان مصدر هذا الصوت من سُدَّة عائشة أم المؤمنين. فتجاوبت أصداؤه وانشعبت جِواؤه. ضاعف الثائرون ذلك الصوت وجوَّفوه، فكل يقول: قالت عائشة، وكتبت عائشة. حتى اتخذوا اسمها سبيلا إلا الإغراء بدم الخليفة المظلوم، كما اتخذوا اسم عليّ في ذلك بهتاناً وإثما مبيناً. على أن كليهما أراد النَّصفة للمسلمين باستصلاح الخليفة أو اعتزاله، فكان ما جرى به القضاء. وقتل عثمان في بيته مظلوماً مخذولاً. واستَحَلَّ الثائرون منه الحُرم الثلاث: حرمة الخلافة، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الشهر الحرام.

أبصرت أم المؤمنين ذلك، وأبصرت قَتلة عثمان يذهبون إلى ديارهم موفورين وحسبت الهوادة في القصاص، فانصدع قلبها وذابت حشاشتها. وإن يك عثمان قد مات مظلوماً، فقد عاش من بعده عليٌ مظلوماً. ومن أشدَّ مظلمته أن تُؤلّب أم المؤمنين عليه المسلمين. وأن تقود الجنود إلى قتاله، في وقعة الجمل، لأنها اتهمته بالممالأة على عثمان، كما اتهمها الناس بذلك. وفي موقعة الجمل ترامى جند عائشة على الموت كأن لهم فيه أربَا، حياطة لحرم رسول الله، وذياداً عنها، حتى لقد قتل حولها عشرون ألفا، وقُطعت على زمام هودجها سبعمائة يد، وكلما نُزعت عنه كف نَزَعت إليه أخرى. وكانت خاتمة القتال سقوط الجمل بما غشيه من النبال، وما أصاب قوائمه من السيوف ثم احتمل الهودج إلى دار عبد الله بن بُديَل، وهو أقرب الدور إلى ساحة القتال ومن هنالك آبت إلى المدينة بعد أن أحسن أمير المؤمنين مآبها، وبعث في رفقتها سبعين من نساء صحابته. رحم الله أم المؤمنين، لقد اشتَفَت من الداء بالداء. أما والله ما نفست على ابن عم ورسول الله خلافته، ولا وجدت عليه قديم أمره. لقد كانت تدعو الناس إليه يوم قتل عثمان، لأنها تعلمه أحق الناس بالأمر، وأقربهم قرابة من رسول الله. ولكنها رأت حقاًّ ضائعاً، ودماً مطولا، وألسنة مرجفة، ووسطاء سوء، فتعجلت ما رأته واجبا، ولو صبرت لكان خيراً وأبقى، ولعمري لهي آثر عند الله وأبرَّ ممن رأي وضح الحق في زمرة عليّ قعد عنه، ونَكَل عن نصرته، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

نائلة بنت الفرافصة وعلي بن أبي طالب

نائلة بنت الفُرَافصة وعليٌّ بن أبي طالب على أن أمير المؤمنين لم يطمئن به الأمر، ولم تصف له الحياة، بعد أمّ المؤمنين فقد عرض له منم النساء خصم جديد، ومن الرجال خصم جديد، وكلاهما اشتدّ أزره، وقوى أمْرُه بصاحبه. أمّا الرجل فمعاوية بن أبي سفيان، وأما المرأة فنائلة بنت الفرافصة زوج الشهيد المظلوم عثمان بن عفان. كانت نائلة من أعذب النساء قولاً، وأذكاهن قلباً، وأكملهن خلقاً. ولما تسَوَّر الثائرون على عثمان، وتبادروه بالسيوف، أَلقت بنفسها عليه حتى تكون له وقاء من الموت. فلم يَرْع القتلة الأثمة حُرْمتها، وضربوه بالسيف ضربة انتظمت أصابعها، ففصلتهن عن يدها، ونفذت إليه فجندلته، ثم ذبحوه كما يذبح الجمل الذلول رحمه الله ورضى عنه. أرادت نائلة أن تنتقم، وحُق لها أن تنتقم؛ ولكن ممن؟ لم تجد أمامها إلا عليا؛ فهو أمير الناس بعد زوجها؛ وولي الدم المُضيعة في نظرها. فلم تجد إلا رجال الشام؛ وجند الشام؛ وأمير الشام. فهم أولى بأن تثير ثائرتهم وتضرم نار الثأر فيهم. أرسلت نائلة إلى معاوية بأصابعها الممزقة؛ وقميص المُخضب؛ وأوحت إليه أن يعلق كل أولئك في المسجد الجامع في دمشق؛ وأن يقرأ على المجتمعين جميعاً ذلك الكتاب: - من نائلة بنت الفرافصة؛ إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام؛ وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر؛

ونصركم على العدوّ؛ وأسْبغَ عَلَيْكمُ نعمه ظاهرةً وباطنةً. وأنشدكم الله وأذكركم حقه وحق خليفته أ، تنصروه بعزم الله عليكم؛ فإنه قال: (وإِنْ طائفِتَانِ مِنَ المُؤمِنين اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بِيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقاتِلُوا التيِ تَبْغْي حَتى تَفيء إلَى أَمرِ اللهِ). فإن أمير المؤمنين بغي عليه؛ ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية؛ لحق كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام: وحسن بلائه؛ وأنه أجاب الله؛ وصدّق كتابه؛ واتبع رسول؛ والله أعلم به إذا انتخبه فأعطاه شرف الدنيا، وشرف الآخرة. وإني أقصر عليكم خبره - إني شاهدة أمره كله: - إن أهل المدينة حصروه في داره وحرسوه ليلهم ونهارهم؛ قياماً على أبوابه بالسلاح؛ يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء؛ فمكث هو ومن معه خمسين ليلة؛ وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى علي، ومحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وطلحة، والزبير، فأمروهم بقتله! وكان معهم من القبائل خزاعة، وسعد بن بكر؛ وهذيل، وطوائف من جهينة؛ ومزينة؛ وأنباط يثرب. فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر فرشق بالنبل والحجارة؛ فخرج ممن كان في الدار ثلاثة نفر معه. فأتاه الناس يصرخون إليه؛ ليأذن لهم في القتال؛ فنهاهم وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلهم؛ فردّوها عليهم؛ فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة؛ وفي الأمر إلا أغراقاً؛ فأحرقوا باب الدار؛ ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا إنّ ناساً يريدون أ، يأخذوا من الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد يأتوك. فانطلق فجلس فيه ساعة. وأسلحة القوم مصلتة عليه من كل ناحية. فقال: ما أرى اليوم أحداً يعدل! فدخل الدار. وكان معه نفر ليس على عامّتهم سلاح. فلبس درعه؛ وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم، فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة بعث بها إلى عثمان:

نصراء علي من النساء

عليكم عهد الله وميثاقه ألا تقربوه بسوء حتى تكلموه وتخرجوا. فوضع السلاح، فلم يكن إلا وضعه. ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحيته، ودعوه باللقب فقال: أنا عبد الله وخليفته عثمان. فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم. فسقَطتُ عليه، وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه، فيذهبوا به، فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي، فوُطئنا وطئا شديداً، وعرينا من حُليّنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم، فقتلوا أمير المؤمنين مقهوراً على فراشه؟. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه، فإنه والله إن كان أثم من قتله، فما سَلم منم خذله. فانظر أين أنتم من الله وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى الله عز وجل، وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم الله عثمان، ولعن قتلته، وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفي منهم الصدور. ذلك هو الكتاب الذي اجتمع لسماعه خمسون ألف شيخ من شيوخ الشام يصيحون ويعجون بالبكاء تحت قميص عثمان، وأصابع نائلة، ويتقاسمون فيها بينهم ألا يمسوا غسلا حتى يقتلوا عليّاً، أو تفنى أرواحهم. نصراء عليّ من النساء وبرغم خصومة تينك المرأتين لعلي كرم الله وجهه، كان جنده أحفل الأجناد بذوات القول الفصل، والرأي الجزل من النساء، ولهن في صفين مقامات ومواقف، أشجت حلوق العدو وصكت أسماعهم، وروعت نفوسهم.

ومن هؤلاء بكارة الهلالية، وسدودة ابنة عمارة، وآمنة بنت الشريد، وأم سنان بنت خيثمة، وكثيرات من نظائهرهن وأشباههن، ممن أوتين جوامع الكلم، وجمعن أشتات الحكم ولنا إليهن عودة عند الكلام على مقالاتهن، بين ازدحام الصفوف، وتحت ظلال السيوف. ولما تبدّلت الأيام بعهد عليّ عهد معاوية، كانت بلاد العراق مجالات الشيعة، ومباءات الفتن، وموطن الانتفاض عليه. فرماها بداهيتي العرب، المغيرة بن شعبة، وزياد بن أبي سفيان، واحدا بعد واحد، وأوصاهما أن يلعنا علياًّ على المنابر، وأن يتخذا السيف حَكَما بينهما وبين الناس. فقام في وجههما حُجْرُ بن المجامع تعْقَدُ بنجوة من أعين الرقباء. وما زال أمر حجر يستطير، وصوته يعلو، حتى اننتزعه زياد من العراق، وقاده إلى معاوية، فقتله. وكانت هند بنت يزيد الأنصارية ممن شايعنه وناصَرْنه وأعنّهُ. وهي امرأة قَلّ أن تدانيها امراءة، في بُعد الرأي، وقوة البيان. ومن قولها ترثي حجراً: ترفّع أيها القمر المنير ... تبصّ هل ترى حجْراً يسير يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبرت الجبابر بعد حجر ... وطلب لها الخَوَرْنقُ والسّدِير وأصبحت البلاد لها مُحُولا ... كأن لم يحيها بَرقْ مطير ألا ياحُجْرُ حُجْرُ بني عديّ ... تلقّتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أدري عديا ... وشيخاً في دمشق له زئير

يَرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمتته وزير فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا هُلك يصير ثم لما اقترف الخليفة المجرم الطاغية يزيد بن معاوية فعلته، بحفدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام المختار بن أبي عبيدة الثقفي للانتقام له، والاشتفاء من قَتَلته، كان النساء في عونه ورفقته. وبهن وبمن إليهن من الرجال أوقع القاضية بالبغاة المعتدين على أنه أخذ بالشبهة، وأسرف في الدماء. فقصده مصعب بن الزبير، وغلبه على أمره. حتى ضرب عليه النطاق حول قصره بالكوفة. وفي تلك الساعة الضائقة المرهقة، خلاه رفاقه، فلم يبقى إلا الأوفياء المخلصون، وقليل ما هم، على أن النساء بَدَ أ، فعالهن كعادتهن في كل خطب فدح وجدٍ نبا. فلقد كانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللّطف والماء قد ائتزرت عليه، والتفعت فوقه، وأرسلت خمارها على وجهها وصدرها، كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، أو تقصد النّفلة لذوات قرباها، فإذا دنت من القصر فتح لها الباب، فدخلت فتركت ما معها، ثم خرجت لِطيَّتها. وكان في الكوفة بيتان لامرأتين إليهما غلاة الشيعة، فيتسامرون ويتآمرون وهاتان المرآتان هما هند بنت المتكلفة الناعطية، وليلى بنت قمامة المدَنية. وكانت ليلى لا تليق شيئاً ممن مالها في سبيل نشر دعوتها، وبث مبدئها. وكانت تبغض أخاها رفاعة بن قمامة لاقتصاده وفتور أرْيَحيه. ومن هنالك خفقت نسمة التشيع، فانتظمت نغمتها بلاد فارس وخراسان وما وراءهما. وكان ذلك مما هيأ لآل رسول الله تنظيم دعوتهم، وإقامة دعامتهم

المرأة والخوارج

حتى اقتادوا الجيوش من صوب خراسان، فصدعوا بها ملك بني مروان. على أن يد المرأة لم تترك مقادة تلك الثورة المبيحة المُنيحة. هنالك قيض الله لعظيم بني هاشم من ملأت قلبه عزماً، ويده مالا، ونهجه وضحاً ونوراً وتلك هي زوجه أم سَلَمة ابنة يعقوب بن سلمة. كانت أم سلمة قبل أن تصير إلى السفاح زوجاً لعبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فكانت لذلك أعرف الناس بِسرّ بني أمية، وأوقعهم على خبيئة أمورهم فلما هلك عنها اجتمع لديها تراث زوجها وأبيها، وكلاهما كان غنيا موفور الغنى. فأما ما ملكت من سماحة الرأي ورجاحة العقل، فكان أوفر من مالها وأتم. أرسلت أم سلمة مولاتها إلى السفاح تخطبه، وحّملتها سبعمائة دينار تقدمها إليه إن شكا الفاقة إليها. فلما عرضت الجارية أمر مولاتها، قال: أنا مملق لا مال عندي. فقدمت إليه هدية سيدتها. وهنالك سارع السفاح إلى الزوجة المواتية بمالها. وكان ما لقيه من نفاذ رأيها وإحكام تدبيرها، أتم وأوفى. فلم يكن يصدر إلا عن رأيها ومشورتها، وبها عرف مواطن الداء من أعدائه، وإليها كانت إفاءته في خلافته: المرأة والخوارج الخوارج قوم يبتغون الكمال في الخلافة، فهم يريدون الإمام العادل الثَّبت، الذي يقوم بإجماع المسلمين، وينزل من الأمر على شورى المسلمين. ذلك مبدؤهم الذي خرجوا به، وقاتلوا الناس عليه. على أنهم أسرفوا فيه وغلوا غلوّاً كبيراً، حتى

حسبوا كل وزر كفراً يُقاتل مقترفه، ويقتل عليه. وكانوا في أول أمرهم قطعة من جند على. فلما رضى بالتحكيم في خلافته؛ قالوا: علام يقتتل المسلمون وأمراؤهم في شك من أمرهم؟! ومنذ ذلك اليوم انفصلوا عن علي، واستجازوا قتاله؛ وقتال من بعده من الخلفاء. وحجتهم في الخروج على علي داحضة. فقد يكون التحكيم مما يبعثه اليقين بالحق، والثقة بالعناية. كذلك شرع الخوارج لأنفسهم قتال كل خليفة لأنه أتخذ خلافة رسول الله تراثاً عن أبيه. وحَسبَ المسلمون سواه هملا، فساقهم بغير عهد منهم ولا رضي. ذلك ما يقوله له الخوارج. ومهما يكن من أمرهم فقد استبسلوا في سبيل غايتهم وأصبحوا مضارب الأمثال في البسالة والجسارة. وأوضح ظاهرة تراها في فريق الخوارج نباهة المرأة، ونزوعها منازع القادة الكفاءة، وقيامها في الطرف القصي من تفدية الغرض، والتضحية في سبيله. وكم احتمل نساء الخوارج من ولاة العراق وسفاحيه من نكال ووبال، وتمزيق أوصال. فلم يكن شيء من ذلك يروعهنّ، ولا يثَلم غرضهنّ، أو يحول غايتهنّ، حتى تقاد المرأة إلى القتل صابرة راضية. ولقد ظهر من الخوارج رجلان عظيمان، قاما واحداً بعد واحد. كلاهما اجتمع عليه القوم، وكلاهما لقب بإمرة المؤمنين. وكلاهما استمدّ من امرأته الجليل من رأيه: والشديد ممن قوته. أما أوّلهما فقطري بن الفجاءة؛ كانت زوجه أم حكيم من أتم النساء ذكاء ومضاء وجمال وجه، ونفاذ رأي، وقوة بيان. ومن قوله فيها: لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم

من الخَفِرات البيض لم يُرَ مثلها ... شفاء لذي بَثّ ولا لسقيم لعْمرُك إِني يوم الأطم وجهها ... على نائبات الدهر جِدُّ لئيم ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم حتى يقول: فلو شَهِدتنا يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم وأما الثاني فشبيب بن يزيد، وزوجه غزالة الحروية. وقد أسلفنا ذكرها وأفردنا خبرها. وكانت أمه جهيزة بالمكان الأوفى من الشجاعة. وكانت هي وغزالة ذكرها إلا في أخطر المواقف من الموقعة. وقالوا إن عِمران بن حِطان كان رجلا من أهل السُنة، فتزوج امرأة من الشراة إلا في أخطر المواقف من المواقعة. وقالوا إن عمران بن حِطان كان رجلا من أهل السنة، فتزوج امرأة من الشراة من عشيرته وقال أردها عن مذهبها فذهب هي به. وكان أخطر ما قام به الخوارج قتلهم عليا عليه السلام، قتله عبد الله مُلجم؛ وما أغراه بذلك إلا أمه وإلا زوجه قَطَام ابنة علقمة التي طلبت صداقاً لها: ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب على بالحسام المسمم ولعلك ذاكر ما فصلنا من حديث ليلى بنت طريف في عهد الرشيد مما يبين لك هو وأشباهه أن المرأة والرجل في تلكم الأيام كانا عودي سرحة واحدة وشبلي عرين واحد.

أثرها في تكوين الرجل

أثرها في تكوين الرجل أو الأم العربية المسلمة وفي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبة ملئوا بها الأرض قوة وبأساً وحكمة وعلماً، وفرضوا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقية، وأطراف أوربا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتنقلب بها الألسنة بعد أن كانوا فرائق بَدَاً لا نظام، ولا قوام ولا علم، ولا شريعة. ففي أي المدارس درجوا، ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع العرب تلك المرحلة التي سَهَمَ لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ ولم يقيموا معهداً أو ينشئوا جامعة، أستغفر الله بل لقد كانت خصاصهم وخيامهم ودورهم وقصورهم معاهد ومدارس وما شئت من مغارس حكمة ومغاوص آداب وَليِ أمرها أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وأرعاهن أشبال غابة، وائتمنهن على بناة ملكه، حُماة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأنهض بالفادح الشديد من أمره: لقد كان أبر هؤلاء القوم من أن يخرجهم مُخرجاً سيئاً أو ينبتهم منبتاً فاسداً، أو يضمهم إلى صدور واهية وقلوب سقيمة، ثم يسومهم أشرف مطالب الحياة، ويوردهم أسمى مقاصدها، ولو فعل لكان قد كلفهم شططاً وجشمهم محالا

لأن الأُم من الأمة بمثابة القلب من الجسد، فهي غذاء أرواحها، ومران أعوادها ومفيض مداركها ومبعث عواطفها، فإن وهنت كان كل أولئك واهناً ضعيفاً. لذلك كله عمد الإسلام إلى المرأة أول ما عمد، فرد مظلمتها وأتم نصفتها ورفع شأنها، وأطلق عنانها، وثبت إيمانها. لقد كانت نهضة المسلمين غريبة فريدة لأن المرأة كذلك كانت غريبة فريدة ولو لم تكن كذلك لكانوا في عظيم أمرهم ككل الناس بين جد وانتظار وإقبال وإدبار. وإذا كانت المرأة الحديثة قد أنصتت للِنْكُولن زعيم الجمهورية الأمريكية وهو يقول ولمهنئيه بأسمى مناصب العالم لا تهنئوني وهنئوا أمي فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا إذا كانت قد أنصتت لذلك فازدهرت وأشرقت وتطاولت واستشرفت فإن المرأة العربية المسلمة كانت تستمع لأشباه هذا الكلام من أشباه لنكولن فلا ينثني جيدها ولا يهتز عطفها لطول ما سمعته وألفته حتى لقد أصبح من بدائه العرب الظاهر وعقائدهم الراسخة أن الهُجَنَاء - وهم الذين لم تنجبهم نساء العرب - لا يُغْنُون في المهم، ولا يكفون في الملم، مهما أمعن آباؤهم في شرف المنبت، ونبل الشمائل. وما ظنك برجل من رجال البادية كعُقيل بن عُلفة المرَّي يخطب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ابنته بنيه فيقول له جنَّبني هجناء ولدك. وشبيه بذلك ما حدثوا أن هشام بن عبد الملك قال لزيد بن علي بن الحسين: بلغني أ، ك تحدث نفسك بالخلافة. ولا تصلح لها لأنك أبن أمة. أو تدري من تلك الأمة؟ إنها ابنة ملك الفرس الذي كان العرب يذكرون بين رعيته فلا يأبه بهم. أما أبوه فحفيد عليّ بن أبي طالب وسليل رسول الله صلى الله

عليه وسلم. ذلك هو الذي قصر به مدى الخلافة في رأي هشام بل وفي رأي العرب يومئذ أن أمة فارسية لم يجر الدم العربي بين نياط قلبها، وحَنِيات صدرها. بل لقد كان الرجل يرجع إلى الأمهات ما يراه بين الأخوين من الفوارق التي لا تظهر صلتها بهن. ومثل ذلك ما قالوا أن عبد الملك بن مروان سابق بين سليمان ومَسْلَمة ابنيه - وكان مسلمة هجينا - فسبق سليمان. فقال عبد الملك: ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدرك أرأيت كيف جعل الفتيان بالسبق أثراً من جهد المرأة ونزعة من روحها وثمرة من تنشئتها وتربيتها مع أن الأمين امرأتاه والفتيين ولداه؟ وأي غريبة تجدها في ذلك؟ أو لم يكن ركوب الخيل، وأدرع الليل، واقتحام الهول نوازع من عزمة مُتقدة وقوة غالبة ونفس حمية؟ وهل في كل أولئك شيء لم يرضعه في دارها، أو يسمعه من ثغرها، أو يقرأه على صدرها، أو يَتَنسمه من بين سحرها ونحرها؟ ولعل أوضح من ذلك علمهم بأن لها الأثر كله في قوة بيان الرجل وتقويم لسانه. وما رأيناه أمراً أجمع عليه قالةُ العرب ومن إليهم من أئمة اللغة ورواة الأدب وأعيان البيان، كإجماعهم على أن أول أصابت اللغة العربية لم يقذف بها إلا ألسنة الهجناء. وليس ذلك بالأمر الذي يحوجه الدليل ويعوزه البيان. فإن أمهات العرب لم يكن يناغين أبناءهن وهن زهر وغض وصحائف بيض إلا بكل مورق مثمر من القول فينشأ ناشئهن عذب البيان غدق اللسان. فأما بنو الإمام فما عساهم يسمعون إلا كل لفظ دعي من كل لسان عي.

ولئن يكن الخضوع لذلك الحق - حق تفرد المرأة بتكوين الرجل والتأثير فيه - مما أفاض عليها قوتها وشدة عزيمتها على المضي في عملها والبلوغ بواجبها، إن مما ضاعف ذلك كله احترامهم لها احتراماً لم يناله أحد سواها. لقد كان احترام الأم في الجاهلية طبعاً مألوفاً فأصبح بالإسلام فوق ذلك فرضاً يؤثر الأم ويرجع بفضلها في القول عنها. وإليك مثلا من ذلك قول الله جل ذكره: (ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ووَضَعَتْه كرها) فانظر كيف أجمل سبحانه الأب ثم أختص الأم بفضل البيان ووضح الإقناع بأنها حملته مؤلمة ووضعته مؤلمة وليس الأب في شيء من ذلك. وشبيه بذلك ما أسلفنا أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمّك. قال ثم من؟. قال أمّك. قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أبوك. وجاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي أُماً أنا مطيعها، أقعدها على ظهري، ولا أصرف عنها وجهي، وأرد إليها كسبي فهل جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة. وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القَرَني؟ ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله وأخذ البررة الأخيار من آله وصحبته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله به وما كانت آيته إلا بره بأمه وذلك حديث مسلم عنه: كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأَلهم أفيكم أويس بن عامر؟

حتى أتى على أويس بن عامر فقال أنت أويس بن عامر؟ قال نعم. قال من مُراد؟ قال نعم. قال كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال نعم. قال لك والدة؟ قال نعم. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن. كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بَارٌّ بها لو أقسم على الله لأبرَّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفري لي. فاستغفر له، فقال له عمر أين تريد؟ قال الكوفة. قال ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال أكون في غبراء الناس أحب إلي. كل ذلك وأشباهه مما جعل للأم المقام الأوفى والمنزلة التي ليس فوقها إلا الله ورسوله. وفي سبيل ذلك الاحترام نذكر ذلك الحديث الموجز: لما كانت موقعة أُحد أغرت هند بنت عُتبة بحمزة بن عبد المطلب من خالسه فصرعه - وكان قد قتل آلها يوم بدر - ثم نفذت إليه فَبَقَت بطنه ونزعت كبده وجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وجاء بعدها أبو سفيان فأخذ يطعنه بالرمح في فمه حتى مزقه. انقضت الوقعة وجثمان حمزة تكاد تحيل معالمه لفرط ما مثل به. فلما وقف به رسول الله اشتدّ حزنه لما أصاب عمه البطل الكبير، ووقف بنجوة منه ثم أبصر فوجد عمته صفيه بنت عبد المطلب مقبلة لتنتظر ما فعل القوم بأخيها فقال رسول الله لابنها الزبير دونك أمك فامنعها. وأكبر همه ألا يجد بها الجزع لما ترى. فلما وقف ابنها يعترضها قالت دونك لا أرض لك! لا أمّ لك! وهنالك رجفت أحناء بطل قريش وزلزلت قدماه واعتقل لسانه وكر راجعاً إلى رسول الله فحدثه حديث أمه، فقال: خلَّ سبيلها.

كذلك انفرجت صفوف الناس لعمة الناس لعمة رسول الله فسارت حتى أتت أخاها فنظرت إليه فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، وقالت لابنها قل لرسول الله ما أرضانا بما كان في سبيل الله لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فانظر إلى موقف البطل العربي حيال أمه قد أمره رسول الله أن يقف دونها فيعترضها! ولو سامه النبي أن يعترض الجيش اللهام لوقف في سبيله غير هائب ولا مدفوع. وماله لا يعنو وجهه ولا ترتجف أضالعه لعظمة الأمومة وعظمة الخُلق! وهل رأت الأمم قديمها وحديثها من سمو المرأة وجلال خلالها ما رأته من مثل صفية! امرأة يمثل بأخيها كذلك التمثيل ثم تقف عن جثمانه فلا تجاوز الصلاة له والاسترجاع عليه لأن جسده إنما مزق في سبيل واجبه وحياطة دينه! إن هذا لهو الخلق العظيم. ولقد كان الرجل وما يجاوز أمه ولا يستشعر الغناء عن مشورتها ونهج سبيلها مهما تطاول به العمر وأمعنت برأيه التجارب وحديث عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر آية بالغة ودليل كفيل بما نقول. ذلك أن عبد الله لبث على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين ثم أخذ عبد الملك بن مروان بقارعه فانتفض منه العراق ورماه بعد ذلك بالحجاج ابن يوسف فأخذ يطوي بلاده عنه حتى انتهى إلى مكة فطوقها ونصب المجانيق على الكعبة وأهوى بالحجارة عليها وفي الكعبة يومئذ أسماء بنت أبي بكر. وكان عبد الله يقاتل جند الحجاج مسنداً ظهره إلى الكعبة فيعيث فيهم ويروع أبطالهم وليس حوله إلا القوم الأقلون عدداً والحجاج بين ذلك كله يرسل إليه

يمينه الخير ويعده بالإمارة في ظل بني أميةَّ لو أغمد سيفه وبسط للبيعة يده. دخل عبد الله على أثر ذلك على أمه فقال يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبقى معي إلا اليسير ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه غامض عليه ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك. وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك ومن معك. وإن إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس فعل الأحرار ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير. والله لضربة بالسيف في عز أحب إلى من ضربة السوط في ذل. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله فقبل رأسها وقال لها هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى الله والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تهتك محارمه، ولكني أحببت أن اطلع على رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي، والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم أجر في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي حيف فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضاء ربي، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني أحتسبتك، وإن ظفرت بظفرك. اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك ثم قالت: اللهم أرحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأمه، اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في

عبد الله ثواب الشاكرين. قال: يا أُمّه لا تدعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده فقالت: لن أدعه. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. فتناول يدها ليقبلها قالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: مودّعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: أمض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقته وقبلته، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع ممن يريد ما تريد، فقال: ما لبستها إلا لأشد متنك، قالت: إنها لا تشد متني، فنزعها ثم درج لِمَّته، وشد قميصه وجبته، وخرج وهو يقول: أبي لابن سلمى أن يُعير خالداً ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما فلست بمبتاع الحياة بِسُبِة ... ولا مرتق من خشية الموت سُلَّما وقال لأصحابه: احملوا على بركة الله، وليشغل كل منكم رجلا، ولا يُلْهِنَّكم السؤال عني فإني على الرعيل الأول. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون وهنالك رماه رجل من أهل الشام بحجر فأصاب وجهه، فأخذته منه رعدة، فدخل شعباً من شعاب مكة يستدمي، فبصرت به مولاة له قالت: وا أمير المؤمنيناه! فتكاثر عليه أعداؤه عند ذلك فقتلوه، وصلبه الحجاج، فأقام جثمانه على الجذع عاماً كاملاً. حتى إذا أمر عبد الملك بإنزاله أخذته أمه فغسلته بعد أن ذهبوا برأسه، وذهب البلى بأوصاله. ثم كفنته، وصلت عليه، ودفنته. ذلك أمر ابن الزبير ومقامه من أمه وعكوفة على رأيها ونزوله مشورتها حتى آخر ساعة من ساعاته وقد طعن يومئذ في السبعين. وماله لا يكون كذلك؟ وهل ترى فيما ترى رأيت خطلا في الرأي، أو زللا في القصد، أو حياداً عن النهج، أو عثرة في الواجب؟ وهل أعانت امرأة ولدها على التضحية في نصرة الحق، وبذل النفس في حومة الشرف بمثل ما أعانت أسماء ولدها؟

اللهم إن ذلك سر عظمة القوم، سبيل نهضتهم، ومُنْبعَثَ قوّتهم. وإليه مرجع استبسالهم واستماتتهم. ولعمري لقد عمد عبد الله إلى أبيه فحوله عن رأيه ووجْهه ومبدئه في أدق مواقفه وأخطر مشاهده وهو دون الأربعين وأثرت فيه أمه برأيها وقولها في إحراج أمره وأهول سَاعِهِ وقد أطل على السبعين. وأما موقفه حيال أمه فقد علمته. وأما موقفه حيال أبيه فذلك بعد أن بايع علياًّ عليه السلام وعقد له من عهده وذمته على السمع والطاعة له فما زال عبد الله به حتى نقض بيعة أمير المؤمنين، وخلع طاعته، وشرع السيف في وجهه بعد أن شايعه منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا. وبعد فقد علمت مما سلف أن المرأة المسلمة اجتمع لها من وسائل التربية ومجالات العمل ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها، من إقرار بحقها وإمعان في احترامها وما شاة في الرأي والعمل لها إلى غير مدى ولا غاية في ذلك كله كل أولئك إلى ما علمت من رجاحة في العقل، وسماحة في الرأي واستمكان من الفضية، وبلوغ إلى الغاية القصوى من جلال الدين وفرط اليقين، مما جعلهن أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم، وفي مسارب دمائهم. ومن أجل ذلك كان أبناء النابهات الممتازات من النساء أنبل وأفضل وأمثل منم أبناء النابهين الممتازين من الرجال. حتى لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا أشماس الدهر وذلت لهن نواصي الحادثات إلا وهو ينزع بِعِرْقة إلى أم عظيمة. فالزبير بن العوّام قامت بأمره

أمه صفية بنت عبد المطلب فنشأ على طبعها وسجيتها. والكلمة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر وما منهم إلا له الأثر الخالد والمقام المحمود. وعلي بن أبي طالب كرم الله وجه تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بحلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله، ومكانهما من الفضل وبعد الرأي ما علمت. وعبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم تركه أبوه صغيراً فتعاهدته أمه أسماء بنت عُمَيس، ولها من الفضل والنبل مالها. وَمعاوية بن أبي سفيان أريب العرب وأَلمَعِيُّها ورث عن أمه هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان. وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بن يديها إن عاش معاوية ساد قومه - ثكلته إن لم يسد إلا قومه. ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه. فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمى به فيها لخرج من أيها شاء. وكان معاوية إذا نوزع الفخر بالمقدرة وجوذب المباهات بالرأي انتسب إلى أمه فصدع بذلك أسماع خصمه. ومن قوله في سجال الفخر لابن الزبير: أنا ابن هند، أطلقت عقال الخرب فأكلت السَّنام وشربت عنفوان المَكْرَع، وليس للآكل إلا الفَلْذَة، ولا للشارب إلا الرّنَق.

وعجيب أن معاوية لم يعرف يودع يزيد ابنه وخليفته، رأيه وحلمه وسياسته، ذلك لأن أمة امرأة أعرابية لا شأن لها، خطبها معاوية على الجمال واتخذها مقادة لقبيلتها ومرتقى لعشيرتها. وشبيه بمعاوية أخوه زياد بن أبي سفيان. فهو مساق المثل في ذكاء القلب وفرط الدهاء. إلى وفور في العلم، وقوة في البيان. وبرغم ذلك كان ابنه عبيد الله أبعد الناس عن خُلْقه وأنباهم عن طبعه. كان أحمق، أخرق، واهن العقيدة، مضطرب الفطنة، عييا، سفاكا، ذلك لأن أمه مَرجانة امرأة فارسية من فلول تلك الأمة المتهدمة المتحطمة، فهي ضعيفة ذليلة، لا تصلح أن تكون أماً لعزيز عظيم. ولقد انحسر ملك بني مروان عن رجلين، ذهب أحدهما بما أوتى من حَول وطول وما انتضى من حزم وعزم، وضربت الأمثال بما نهج ثانيهما من سَنَنَ العدل، وما أفاء على الناس من ظل الخيرات، وكلاهما مهبط وحي المرأة العظيمة. أما أولهما فعبد الملك بن مروان وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبي العاص بن أمية وكان لها من مضاء العزم، وذكاء القلب، ونفاذ الرأي ما لم يكن مروان في شيء منه، وهي التي يعنيها ابن قيس الرُّقيات في قوله لعبد الملك. أنت ابن عائشة التي ... فَضَلَت أرُوم نسائها لم تلتف لِلشداتها ... ومشت على غُلَوائها ولدت أغر مباركاً ... كالشمس وسط سمائها وإما الثاني فأبو حفص عمر بن عبد العزيز. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن الخطاب أكمل أهل دهرها كما لا وأكرمهن خلالا وأمها تلك التي اتخذها

عمر لابنه عاصم، وليس لها ما تعتز به من نسب ونشب إلا ما جرى على لسانها من قول الصدق في نصيحتها لأمها - وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه. فإذا نحن انتقلنا بك من مُلك بني مروان بالمشرق إلى ملكهم بالمغرب، وجدنا العظمة الرائعة، والهمة القصية، والأمل البعيد، والبأس الشديد، والأثر الخالد، والمجد المكين، لم يجتمع شيء منها على الرجل ما اجتمع لأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر. ذلك الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتَشرَق بالدماء، فما لبثت أن قرّت له وسكنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين حصناً في غزوة واحدة، ثم أمعن بعد ذلك في فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له؛ ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها وتُمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقرّ خلافة يحتكم إليها عواهل أوربا وملوكها يختلف إلى معاهدها علماءُ الأمم وفلاسفتها. أو أحدثك عن سر هذه العظمة ومهبط وحيها؟ هي المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً قَتل عمه أباه، فنفرت امه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السموّ في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت. ثم إذا نحن نشرنا صفحة العهد العباسي، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها امرؤا دانت له قطوف العلم والحكمة، ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد ابن إدريس الشافعي. فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض فملأ أقطارها علماً وتشريعاً. ذلك أيضاً ثمرة الأم العظيمة. فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها،

وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد. وهي التي تنقلت به من غزة مهبطة إلى مكة مستقرّ أخواله فربته بينهم هنالك. وكان جعفر بن يحي وزير أرفق الناس برياضة القول، وأعرفهم بفنون الكلام. وكان إذا عقب رسالة ووقع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة ونهاية الإيجاز حتى لقد يتدافع الكتاب على بابه فيشترون من حجابه كل توقيع بدينار. كل ذلك ورثه جعفر عن أمه لا عن أبيه. كذلك كان النساء في ذلك العهد الكريم مبعث كل شيء في نفوس أبنائهن والأمر في ذلك ما قال رافع بن هُريم: فلو كنتمِ لمُكْيسةٍ لكاست ... وَكَيْسث الأم يعرف في البنينا أما بعد فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام وسمت بهن عظمته، وصدعت بقوتهن قوّته، وعنهن وحدهن ذاعت مكارمه ورسخت قوائمه؛ فإن كان مما يذل الرجل في عصرنا هذا أن يقال له تربية أمه فقد كان ذلك في عصور الإسلام الزاهية، وأيامه الخالية: مهبط الشرف الحرّ، والعز المؤثل والمجد المكين.

أثرها في العلم والأدب

أثرها في العلم والأدب تصدت المرأة لفنون العلم وشئون الأدب جميعاً وأمعنت في كل ذلك إمعاناً أعيا على الرجل دركه في مواطن كثيرة. وبرغم ما مهد للرجل من مشاكل المسائل، وهيئ له من وسائل الكشف والاستنباط فقد كان للمرأة - على لحاقها بالرجل في كل ما أسلفناه - مظهر خلقي كريم في العلم والتهليم. أجل لقد امتازت العالمة المسلمة بالصدق في العلم، والأمانة في الرواية والحيدة عن مواقع التهم ومساقط الظُّن مما لم يوفق إليه كثيرون من الرجال. ومعاذ الله أن نقول ذلك محاباة أو مشايعة لموضوع كتابنا. فنحن أولاء ضاربون لك مثلا من إقرار عظماء بما نقول: الحافظ الذهبي المتوفى سنة ثماني وأربعين وسبعمائة ثقة من ثقات المسلمين وعظيم من عظماء المحدّثين ألف كتابه ميزان الاعتدال في نقد رجال الحديث خرّج فيه أربعة آلاف متهم من المحدثين، ثم اتبع قوله بتلك الجملة التي كتبها بخطه الواضح وقلمه العريض فقال وما علمت من النساء من اُّتهمت ولا من تركوها ولعل قائلا يقول: وما للنساء ورواية الحديث؟ وهل تركهن الذهبي إلا من قلة أو ذلة؟ ونقول نحن إن حديث رسول الله منذ عهد عائشة أم المؤمنين حتى عهد الذهبي ما حفظ ولا روي بمثل ما حفظ في قلوب النساء وروى على ألسنتهن.

ذلكم الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثاً - حتى لقبوه بحافظ الأمة - كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء. فهل سمع الناس في عصر من العصور، وأمة من الأمم أن عالماً واحداً يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علماً واحدا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ أرض مصر، ولا بلاد المغرب، ولا الأندلس، وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء. والحق الذي لا مراء فيه أن مزال النفس، ومنازع التهم، ونزعات الريب لا تجد مسرباً إلا في صدور الرجال، فإن دواعيها موفورة فيهم، مؤتشبة بين جوانبهم. فلهم من منازعة السياسة، ومجاذبة الرياسة، ومناصرة الآراء ومؤازرة الأهواء، والزلفى عند الملوك ومساومة قلوب العامة، ما لا سبيل إلى نفس المرأة وكل ذلك مما يميل بالرأي ويصدع ركن العقيدة. ولم تقف التهمة بالرجل عند حدّ الدين وحده، بل لقد طمس أناس من الرجال معالم الشعر والأدب والتاريخ ووصف الأمم والمواطن وأسرار الكون ومظاهر الطبيعة. وإذا هان على المرء أن يكذب على الله، فأهون ما يكون أن يكذب على كل شيء سواه. وإذا كان الصدق في النقل والعصمة من الهوى مما دعم قواعد الأثر العلمي للمرأة المسلمة وشاد جوانبه، فقد كان لها من صفاء فطرتها وقوة فطنها عماد وقوّة. إن الذين يقولون بالفوارق في المقدرة بين الرجل والمرأة لينتقض رأيهم إذا هم استمعوا حديث النهضة العلمية الإسلامية.

لقد لحق النبي بربه وعائشة أم المؤمنين لم تَخْطُ إلى التاسعة عشرة، على أنها ملأت أرجاء الأرض علما. فهي في رواية الحديث نسيج وحدها ولم يكن بين أصحاب رسول الله من كان أروى منها ومن أبي هريرة، على أنها كانت أدق منه وأوثق. وكانت من أنفذ الناس رأياً في أصول الدين ودقائق الكتاب المبين. وكان زعماء الصحابة إذا أشكلت عليهم الفرائض فزعوا إليها فحسرت حُجُبها وكشفت سُحُبَها. ولم يكن نفاذ رأيها ورجاحة كفتها وقفا على الدين وحده. فكذلك كان أمرها في رواية الشعر والأدب والتاريخ، وكذلك كان نفاذها في الطب وعلم الكواكب والأنواء والأنساب وما إلى كل ذلك، وذلك عروة بن الزبير فقيه المسلمين يقول: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر منم عائشة. وإليك فاسمع هذا الحديث ثم انظر إلى أي مدى بلغت عائشة من الإحاطة بحوادث الأمم ومشكلات التاريخ. لما وفد المسلمون إلى الحبشة مهاجرين أوطنهم النجاشي موطناً كريماً فأوفدت إليه قريش عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بأعز ما لديهم من طرائف وتلاد. وفي أنفسهم أن يبرأ من ذمة اللاجئين إليه ويعيدهم على أعقابهم، فردّ النجاشي على القوم هداياهم وقال: لا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرّشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه فحفظ الناس ذلك القول من ملك الحبشة ولم يعرفوا معناه حتى كانت عائشة هي التي حدّثته خبره مما تعلم من تاريخ الحبشة فقالت: إن أبا النجاشي كان ملك قومه ولم يكن له ولدا سواه. وكان للنجاشي عم له اثنا عشر رجلا كلهم من صلبه.

فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا الملك وولينا لأَمِنَّا على الملُكِ أن يضيع وعلى الملك أن ينقطع عَقِبة. فعدوا على ملكهم فقتلوه وملكوا أخاه فمكثوا على ذلك حيناً. وكان ولد القتيل أيداً حازماً، لبيبا، أديبا، فغلب عمه على الملك وأوجس القوم أن يثب على الملك فيأخذهم بأبيه، فحملوا الملك على بيعه من تاجر بستمائة درهم، فقذفه التاجر في سفينة وانطلق به، حتى إذا كان العَشِي من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحب الخريف فخرج الملك يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده هو مُحْمقٌ لا خير في ولده. ثم علموا أن لا مفزع لهم إلا إلى ملكهم القتيل، فخرجوا يطلبونه، فجاءوا به من صاحبه، فعقدوا عليه التاج. وعز على التاجر أن يضيع ماله وتذهب صفقته فاقتضى القوم حقه فجحده إياه، فشكا أمره إلى ذلك الملك فقال: لَتُعْطُنَّهُ ماله أو لَيَضَعَنَّ غلامه يده فليذهبن به حيث شاء، فقالوا: بل نعطه ماله. قالت: فلذلك يقول ما أخذ الله مني رشوة حين ردّ عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه. ذلك هو الحديث الذي خفي عن ثلاثة وثمانين رجلا، وابتدرته عائشة حين سئلت عنه. وكانت رضي الله عنها تحسن أن تقرأ ولم يكن يعرف ذلك إلا عدد محدود من أصحاب رسول الله. وكان زوجات رسول الله جميعاً قسيمات عائشة في إذاعة العلم وإفاضة الدين على المسلمين. وكما كانت عائشة أم المؤمنين تجيد القراءة كانت حَفْصَة أمّ المؤمنين تحسن

الكتابة وكانت الشفاء بنت عبد الله بن شمس القرشية هي التي علمتها إياها. ولم يكن أمهات المؤمنين بدعا من نساء هذا العصر. فقد عقد محمد بن سعد جزءا من كتاب الطبقات الكبيرة لروايات الحديث من النساء أتى فيه على نيَّف وسبعمائة امرأة روين عن رسول الله، أو عن الثقات من أصحابه، وروى عنهنّ أعلام الدين وأئمة المسلمين. وهل تجد موطناً أوثق، ومرتقي أسمق، ومنزلة أوثق، من أنّ علي بن أبي طالب وهو العَلم الأشم الذي لا يدانيه أحد في علمه وحكمته، وقربه من رسول الله وقرابته يتلقى الحديث على مولاه لرسول الله كانت تقوم على خدمته، وهي ميمونة بنت سعد فكيف بمن دون على أحد؟ وما من أعلام الإسلام إلا دونه. على أنّ رواية الحديث ومعاناة التشريع لم تكونا كل ما للنساء من هَمّ، فقد كان لهنّ في الأدب العربي شأن لا يدرك وغاية لا ترام.

ومما حدثوا عنه أن عائشة بنت طلحة وفدت على هشام بن عبد الملك فقال لهاما أوفدك؟ قالت حبست السماء مطر، ومنع السلطان الحق قال. إني سأعرفه حقك. ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي فاسمروا عندي الليلة لليلة، فحضروا، فما تذاكروا شيئاً من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا أغار إلا سمته فقال لها هشام أما الأول فلا أنكره وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت أخذتها عن خالتي عائشة. فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة. ودونك فاستمع حديث الحجاج عن نسائه، قال: عندي أربع نسوة: هند بنت المهَلب. وهند بنت أسماء بن خارجة، وأم الجُلاس بنت عبد الرحمن بن أسَيد وأمة الرحمن بنت جرير بن عبد الله البُجلي. فأما ليلتي بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان، يلعب ويلعبون، وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك، وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في حديثهم وأشعارهم، وأما ليلتي عند أمة الرحمن بنت جرير فليلة عالم بين العلماء والفقهاء. ومن حديث الذي نورده الآن عليك إلى أي مدى بلغت المرأة من رواية الشعر، والوقوف على مراميه، ونفاذ البديهة في اجتلابه وقت الحاجة إليه.

قالوا إن رجلا من العرب نزل بامرأة من بني عامر فأكرمته وأحسنت قراه، فلما هم بالرحيل أنشد ذلك البيت - وهو مما هجى بني عامر -: لعمرك ما تبلي سرابيل عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها حتى إذا سمعته قالت لجارتها قولي له ألم نحسن إليك ونفعل ونفعل؟ هل رأيت تقصيراً؟ قال لا. قالت فما حملك على البيت؟ قال جرى على لساني. فخرجت إليه جارية من بعض الأخبية فحدثته حتى أنس واطمأن ثم قالت له ممن أنت يا ابن عم؟ قال رجل من تميم. قالت أتعرف الذي يقول: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضَلّتِ أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى ... خلال المخازي عن تميم تَجَلَّتِ قال: والله ما أنا من تميم، قالت: ما أقبح هذا الكذب بأهله! فمن أنت؟ قال: من بني عجِل. قالت أفتعرف القائل؟ أرى الناس يعطون الجزيل وإنما ... عطاء بني عجل ثلاث وأربع إذا مات عجليّ بأرض فإنما ... يخط له فيها ذراع وإصبع قال: لا والله ما أنا منم بني عجل، قالت: فمن؟ قال: من بني عبس. قالت: أفتعرف القائل؟ إذا عبسية ولدت غلاماً ... فبشرها بلؤم مستفاد قال: والله ما أنا من بني عبس، قالت: فمن؟ قال: من بْجيْلة، قالت: أفتعرف القائل؟ سألنا عن بُجيلة حين جاءت ... لتخبر أين قَرَّ بِها القرار فما تدري بجيلة إذ سألنا ... أقحطان أبوها أم نزار فقد وقعت بجيلة بَيْنَ بَيْن ... وقد خُلعت كما خلع العذار

قال لا والله ما أنا من بجيلة. قالت فممن؟ قال من بني نمير. قالت أفتعرف القائل؟ فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا قال والله ما أنا من بني نمير، قالت فممن؟ قال من بني باهلة. قالت أفتعرف القائل؟ إذا نصّ الكرام إلى المعالي ... تنحى الباهليّ عن الزحام إذا ولدت حليلة باهليّ ... غلاماً زِيدَ في عدد اللئام ولو كان الخليفة باهليا ... لقصر عن مساماة الكرام وعرض الباهلي وإن توّقي ... عليه مثل منديل الطعام قال لا والله ما أنا باهلة. قالت فممن؟ قال من خزاعة. قالت أفتعرف القائل؟ إذا فخرت خزاعة. قالت فممن؟ قال من بني أمية. قالت أفتعرف القائل؟ وهي من أمية بنيانها ... فهان على الناس فقدانها وكانت أمية فيما مضى ... جريا على الله سلطانها فلا آل حرب أطاعوا الإله ... ولم يتق الله مروانها قال لا والله ما أنا من بني أمية. قالت فممن؟ قال من همدان. قالت: أفتعرف القائل؟ إذا همدان دارت يوم حرب ... رحاها فوق هامات الرجال رايتهم يحثون المطايا ... سراعا هاربين من القتال

قال لا والله ما أنا من همدان. قالت فممن؟ قال من النخع. قالت أفتعرف القائل؟ إذا النخع اللئام عدوا جميعاً ... تدكدت الجبال من الزحام وما تغني إذا صدقت فتيلا ... ولا هي في الصميم من الكرام قال لا والله ما أنا من النخع. قالت فممن؟ قال من لخَم. قالت أفتعرف القائل؟ إذا ما اجتبي قوم لفضل قديمهم ... تباعد فخر الجود عن لخم أجمعا قال لا والله ما أنا من لخم. قالت فممن؟ قال من كلب. قالت أفتعرف القائل؟ فلا تقربن كلباً ولا باب دارها ... ولايطمعن ساريري ضوء نارها قال والله ما أنا من كلب. قالت فممن؟ قال من سُليم. قالت أفتعرف القائل؟ إذا ما سليم جئتها في ملمة ... رجعت كما قد جئت نادماً قال والله ما أنا من سليم. قالت فممن؟ قال من الموالي. قالت أفتعرف القائل؟ ألا من أراد اللؤم والفحش والخنا ... فعند الموالي الجيدُ والكتفانِ قال لا والله ما أنا من الموالي. قالت فممن؟ قال رجل من الشيطان الرجيم قالت أفتعرف القائل؟ ألا يا عباد الله هذا عدوكم ... وذا ابن عدو الله إبليس خاسئاً حتى إذا ضاقت بالرجل مناسبه، وأعيت عليه مذاهبه، قال لها الله الله! أقيليني العثرة فوالله ما ابتليت بمثلك قط. ثم خرج خاسئاً وهو حسير ذلك حديث الصبية العربية التي لم تَعدُ بعد طور الحداثة، وتلك قوة بديهتها ودقة فطنتها وحضور جوابها. وأخذها المآخذ على خصمها. وفي الحديث كما رواه المسعودي هناتٌ للقبائل ومغامز ضربنا الصفح عنها.

ولقد أثمرت رواية الشعر في تلك النفوس الصافية النقية ثمراً جَنِيا فكانت المرأة ناقدة لا تباري، وشاعرة لا تجاري، وبنقدها وصوعها تبوّأ الشعر العربي تلك المنزلة التي لا تطاول روعة وجمالا. ولئن ثار الخلائف من بني أمية في نفوس الشعراء روحاً خبيثة من التنابر والأحقاد فأثابوهم على المخزيات والمنتديات يترامون بها، ويتهالكون عليها لقد دافع عقائل العرب تلك الروح بنفاذ نقدهن، ولطف مآخذهن، وجلال المعنى وكفى. وكانت سيدة الناقدين سُكينة بنت الحسين. فهي حَكَمُ الشعراء الذي لا يرد حكمه ولا يَفيل رأيه ولا تبدو مزلته، وكانوا يفدون على دارها من كل صوب وحدب وكلهم قد عقد يده على خير ما قال، وليس بينهم إلا من كان حديثه طوال طريقه عما عسى السيدة أن تقوله وتحكم به، لأنه سيكون بين المتأدّبين وبغاة الشعر يقيناً لا شك فيه. اجتمع إليها ذات مرة جرير والفرزْدَق وكُثَيَّر وجميل ونُصيب فنقدت لكل شعره وأخذت عليه المآخذ. ثم أثابت كلا بألف دينار فخرجوا بخمسة آلاف دينار وما كان الخليفة ليظفرهم حتى يجمعوا فيه من الفضائل ما تفرق في الأبرار والمقرّبين، والكرام الكاتبين، والقادة الفاتحين. كذلك كانت مثوبتها للمغنين. وكان بصرها بمذاهب الغناء وضروب الإيقاع كبصرها بأعطاف الشعر وقطاف الأدب. وكانت عائشة بنت طلحة تتأثر خطوات سُكينة في نقد الشعر والغناء، والاجتماع بالمغنين والشعراء، والرواة والأدباء، وذوي الرأي والسناء، فتحدّث كلا بما عني به، وخلق له، حتى لا تدع له مجالا يقول فيه.

وكانت عمرة الجُمَحِية - من سرَاة بني جُمَح - يجتمع إليها الشعراء والرواة في دارها، فتستمع لكل، وتوازن بينهم جميعاً. وكثير من هؤلاء خصصن بنقد الشعر فيه قوة الخيال، وروعة الجمال ومن عيون هؤلاء أسماء وعُلَيَّة ابنتا المهدي وأختا الرشيد في الدولة العباسية، وحفصه بنت الحاج الركونية - من شريفات غرناطة وحسيباتها - وولاّدة بنت الخليفة المستكفي في الأندلس. ونحن أولئك مرسلو القول في تبسط العقائل للشعراء وتأثير رأيهن وحكمهن في أنفسهم. وكان أبو محْجَن نُصيب بن ربَاح مولى أسود حالك السواد. فاضت به عاطفة الشعر فظهر له فيه أثر حميد. وهو الذي نسوق عنه ذلك الحديث: قال إنه خرج هو وكُثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء، فقال هل لكم في أن نركب جميعاً فنسير حتى نأتي العقيق فنمتع فيه أبصارنا؟ فقالوا نعم. فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكروا. ثم ساروا حتى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفحون ويرون بعض ما يشتهون. حتى رفع لهم سواد عظيم فأموه، حتى أتوه، فإذا وصائف ورجال من الموالي ونساء بارزات، فسألنهم أن ينزلوا فاستحوا أن يجيبوهن من أول وهلة، فقالوا لا نستطيع أن نمضي في حاجة لنا، فخلفنهم أن يرجعوا إليهن ففعلوا، وأتوا فسألنهن النزول فنزلوا، ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت ادخلو، فدخلنا على امرأة جميلة برزة على فرش لها، فرحبت وحيت، وإذا كراسي موضوعة. فجلسنا جميعاً في صف واحد كل إنسان على كرسي، فقالت

إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنصيحه ونعرك أذنه فعلنا - كناية عن ضرب العود - وإن شئتم بدأنا بالغداء. فقلنا بل تَدْعين بالصبي يفوتنا الغداء، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلا - كلا ولا - حتى جاءت جارية جميلة فرحبت بهم وحيتهم فقالت لها مولاتها خذي ويحكم من قول نصيب عافى الله أبا محجن: ألا هل من البين من بُدّ ... وهل مثل أيام بمنقطع السعد تمنيت أيامي أولئك والمني ... على عهد ما تعيد ولا تبدي قال نصيب فغنته فجاءت به كأحسن ما سمعته بأحلى لفظ وأشجى صوت. ثم قالت لها خذي أيضاً من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن: أرق المحب سُهُدُه ... لطوارق الهم التي ترده وذكرت من رقت له كبدي ... وَأبى فليس ترق لي كبده لا قومه قومي ولا بلدي ... فنكون جيناً جيرة بلده ووجدت وجداً لم يكن أحد ... من أجله بصبابة يجده قال فجاءت به أحسن من الأول فكدت أطير سروراً. ثم قالت لها خذي من قول أبي محجن عافى أبا محجن: فيالك من ليل تمتعت طوله ... وهل طائف من نائم متمع نعم إن ذا شجو متي يلق شجوه ... ولو نائماً مستعتب أو مودّع له حاجة قد طالما قد أسرها ... من الناس في صدور بها يتصدع تحملها طول الزمان لعلها ... يكون لها يوما من الدهر منزع قال فجاءني والله شيء حيرني وأذهلني طرباً لحسن الغناء وسروراً باختيارها الغناء في شعري وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها، ثم قالت لها: خذي من قول أبي محجن عافى أبا محجن:

يا أيها الركب إني غير تابعكم ... جتى تلموا وأنتم بي ملمونا فما أرى مثلكم ركباً كشكلكم ... يدعوهمو هوى إلا يعوجونا أم خبروني عن داء بعلمكم ... وأعلم الناس بالداء الأطبونا قال نصيب فو الله لقد زهوت بما سمعت زهواً خيل إلى أني من قريش، وأنّ الخلافة لي، ثم قالت حسبك يا بنية. هات الطعام يا غلام. فوثب الأحوص وكُثَيرٌ وقالا: لا والله لا نطعم لك طعاماً، ولا نجلس لك في مجالس. فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا. وقدّمت شعر هذا على أشعارنا، وأسمعت الغناء فيه، وإن في أشعارنا لما يفضل شعره، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا فقالت: فأي شعر كما أفضل من شعره؟! أقولك يا أحوص كذا كذا، وقولك يا كثير كذا كذا، وذكرت لهما أبياتاً أساءا فيها إلى النساء فخرجا مغضبين! واحتبستني فتغديت عندها، وأمرت لي بثلاثمائة دينار وحُلتين وطيب، ثم دفعت إلي مائتي دينار، وقالت ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلا فهي لك. فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصة. فأما الأحوص فقبلها، وأما كثير فلم يقبلها، فأخذتها وانصرفت. قال عبد الله بن إسماعيل فسألت نصيباً: ممن المرأة؟ فقال من بني أمية ولا أذكر أسمها ما حييت. وإذا نحن وازنا بين ثلاثة الشعراء وجدنا الأحوص وكُثَيَّراً قد ذهبا من ورقة القول، ودقة النسيج كل مذهب. على أن الحق الذي لا يماريان فيه أنّ شاعر حديثنا أشرفهم، وأكرمهم خلقا، وأنباهم عن هجر الكلام ومن أجل ذلك آثرته المرأة وأثابته وأنبهت شعره وذكره.

كل ذلك بينا تجد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي يضع خمسمائة دينار بين يديه وعنده من الشعراء جرير والفرزدق والأخطل لتكون مثوبة لمن يكون أشد مدحاً لنفسه فيمن سواه. وعلى ذكر كثير ونقد شعره نقول إنه خرج ذات مرة إلى البادية فدفع به طريقه إلى خباء لقطام علقمه فنزل بها وعرفها بنفسه فقالت له أنت كثير؟ أنت الذي تقول: فما روضة بالحزن باكرها الندى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة مَوْهِناً ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها قال: نعم. قالت: وهل أبقيت لعزة من الفضل فوق ما لهذه اللبنة الملقاة؟ أو لا تراها إذا أوقد المندل الرطب فوقها عبق منها ما يعبق من عزة؟ هلا قلت كما قال امرؤ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تَطَّيب فخرج كثير واستحيا بعد أن ملأ فخراً بنفسه. وإن من أعجب الأشياء أن تضع زوج أحد الشاعرين المتكافئين قوة وشيعة رأيها في كفة خصمه وتلك هي النور بنت أعين زوج الفرزدق همام بن غالب. سألها زوجها رأيها فيه وفي جرير فقالت: إن جريراً شاركك في مره وانفرد دونك في حلوه.

وما ظنك بامرأة تستمع بيوتاً من الشعر نفسها لقائلها بعد أن تكون قد رسخت منه وامتنعت عليه؟ ذلك ما كان من إحدى أدبيات العرب وجميلاتهم مع نصيب بن رباح فقد رامها نصيب فعزت عليه، بل لقد سخرت منه حين كلمها ودلف إليها فقالت له: ما أظرفك يا أسود! وأغضب ذلك نصيباً فانصرف عنها، فقال: فإن أك حالكا فالمسك أحوى ... وما لسود جلدي من دواء ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض عن جوّ السماء فإن ترضي فردّي قول راض ... وإن تأبى فنحن على السواء تلك شواهد موجزة مجملة عما للمرأة العربية المسلمة في الأدب من نفاذ وبراعة، ورجاحة وسماحة، وصفاء فطرة، ومضاء بديهية، وكريم مثوبة، وقوة عارضة، وصولة واستبسال، في حياطة مواطن الشرف والجمال من الشعر. وكان بودّنا لو ملأنا للقارئ أيدينا ممن ذلك الثمر الحلو الجني لولا خشية التياث القصد وترامي الطريق. ولئن نضرت جوانب الأدب العربي بموقف المرأة، وضاءت مذاهبه، ورقت مشاربه، لقد فاضت مشارعه، وتدفقت متالعه، وزكت فنونه، وتهدلت غصونه، بما أثمرت قريحتها، وانحسر عنه لبها من نثر الكلام وشعره. لقد وردت المرأة مناهل القول جميعاً. على أنها لم تجاوز الصافي الفرات منها، فكان قولها قطعاً من قلبها ومشاعرها. فهي إذا خطبت، أو كتبت، شافهت، أو نظمت، لم تعد ما تؤمن به، وتهفوا إليه. أما سفال القول من إغراق في المدح، وإقذاع في الهجاء، ومجون في الغزل، وذهاب في الخمر، وسخف في الدين، فذلك ما تركت الرجل يستأثر به ويتسكع فيه.

لا نكذب الحق فقد ظهر من الشواعر أخذن بطرف من ذلك اللغو. على أن هؤلاء لسن في شيء من موضوع كتابنا. فهن نوازح من الجواري جيء بهن إلى مدن العراق والشام والأندلس مما والاهن من الأقطار فتصدين لرجال العرب بما شئن من دعابة وتأنق، فظهر كثير من السرف والتهتك على مقالهن، حتى لقد سترن بذلك الانحسار تلك الملاحة الروحية المعنوية في المرأة العربية، فتضاءلت وتراجعت وقذف بها ذلك السيل الأتي إلى مكان سحيق، وسنفرد القول في ذلك في الجزء الثالث من كتابنا إن شاء الله. وإذا كانت المرأة العربية قد استمدت وحي البلاغة وسحر البيان من صبيب قلبها وخطرات سرائرها، فإن الرجل لم يستمد ذلك كله إلا من المرأة نفسها. وهل رأيت شاعراً ممن طار شعرهم كل مطار. وسار ذكرهم كل مسار يستمد خواطر شعره، أو يصطفي الحرّ السني من معناه وخياله إلا من المرأة؟. وكم قصيدة من تلك التي قيلت في العظائم وقدمت إلى العظماء لم تكن المرأة إلا مطلع أمرها ومنبلج فجرها؟ نقف الآن إلى ذلك الحدّ من منزلة المرأة في الأدب العربي وإنا لعائدون إليه إن شاء الله فيما نختاره لها من شئون وفنونه. ونأخذ ببقية القول في أثرها العلمي فنقول. لم تقف بالمرأة العربية قريحتها عند حدّ النبوغ في التشريع الإسلامي، والأدب العربي. فقد أخذت بنصيب موفور من النهضة التي استحدثها المسلمون عَمَّن سواهم من الأمم ذوات التاريخ الحافل والمجد القديم. وأخصن ما عنين به الطب، فهنّ فوق ما ورثنه عن أمهاتهن من أسْو الجراح، وجبر العظام، برعن إلى غير حدّ في بقية فروع الطب مما نقوله عن اليونان

والسريان والهند، حتى كانت بغداد وقرطبة وما سواهما من مدن العراق والأندلس مسارح للكثيرات منهن ممن خصصن بعلاج الأجسام ما ظهر منها وما بطن. ومن هؤلاء أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها. فقد حدّث صاحب طبقات الأطباء عن نفوذهن في فروع الطب جميعاً وفي أمراض النساء خاصة، وكان المنصور بن أبي عامر وارث الخلافة الأموية بالأندلس لا يدعو لنسائه وعامة أهله غيرهما. ومنهن زينب طبيبة بني أود وكان أخص ما برعت فيه علاج العين بالجراحة أو إجراء العمليات الجراحية للعين. وغير أولئك كثيرات وسنختصهن ببحث طويل في الجزء الثالث من هذا الكتاب. ولا يفوتنا أن نختم حديثنا بشيء مما كتبه الكاتب الفيلسوف العظيم جوستاف لوبون في كتابه حضارة عن المرأة المسلمة وأثرها العلمي، قال: أما نباهة شأن المرأة وسمو مكانها في عصور العرب الواهية، فما ينبئ عنه عدد اللواتي امتزن بنفاذهن في العلوم والآداب من نساء العرب ولقد نبغ منهن عدد موفور في العهد الأموي بالأندلس والعباسي ببلاد المشرق. ولنذكر من بين أولئك وَلاَّدَة بنت المستكفي بالله أمير المؤمنين بالأندلس. كتب كوند مجملا عمن كتب من مؤرخي العرب عن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر قال: كان هذا الخليفة وسط ما يحيط به من بدائع الزهراء وعجائبها يسره أن يستمع الغناء مما كانت تصوغه جاريته وصاحبة سره مُزنة من الأناشيد العذبة الرقيقة. ومن أولئك الناهضات النابهات عائشة إحدى

بنات السَّراة بقرطبة. وهي التي يقول ابن حيان عنها إنها أجمل وأعقل وأعلم نساء عصرها وصفية وكانت من أفتن النساء بجمالها وأدراهن بفنون الشعر. ومما قال بعض المؤرخون عن الْحَكَم بن الناصر في ذلك العهد الذي أولع فيه أهل الأندلس بالشعر وجنوا قطاف الفنون والعلوم كان النساء في عزلتهن يقبلن على الدرس وينصرفن إليه وأكثرهن قد امتاز بمضاء الذكاء وانفساح مدى العلم، وكان في قصر الخليفة بين نسائه لُبنى تلك التي جمعت إلى جمالها الساحر إحاطتها بالنحو والشعر والرياضة وما سوى ذلك من علوم وفنون. وكانت تكتب رسائل الخليفة بأسلوب يملأ النفس روعة وخط يملأ العين جمالا، فهي كاتبة قصره، ومنشئة رسائله، ولم يكن بين نساء القصر من يساميها عقلا وفطنة ورشاقة لفظ، وسماحة قافية، وفاطمة وَمَثلُها في رجاحة العقل وسماحة القول مَثَل لبنى. وكان شعرها كفاء نثرها وفي كليهما أمعنت حتى بلغت غاية لا تنال، وكان العلماء والشعراء يطربون لشعرها وما فيه من أنق وإبداع. ولها مكتبة جمعت أجل الكتب وأنفسها. ومنهن خديجة وهي التي جمعت إلى عذوبة المنطق وروعة الشعر، رخامة الصوت والذهاب في فنون الغناء، ومريم التي كانت تغدو على بنات سادات إشبيليه فتعلمهن القريض، وكان لها في التعليم ذكر نابه وشهرة ذائعة. وقد تخرج في مدرستها طائفة عظيمة من شهيرات النساء. وراضية ويدعونها - الكوكب الزاهي - وهي التي وهبها الناصر لابنه الحكم. وكانت آية العصر في الأدب والتاريخ. وقد تنقلت في بلاد المشرق أثر موت الحكم فكانت موطن الإجلال والإكبار من العلماء جميعاً. أما بعد: فذاك حديث النهضة العلمية الإسلامية وتلك آثار المرأة فيها ومآثرها عليها، فهل رأيت في أمة قديمها وحديثها؟ اللهم إنها حكمة الله ملأ بها أحناء تلك الصدور، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

أثارة من قولها

أثارة من قولها نثار من النثر حفيدة رسول الله تفحم أهل العراق حدث ابن أبي طاهر عن خذام الأسدي، قال: قدمت الكوفة سنة إحدى وستين. وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي عليهما السلام فرأيت نساء الكوفة قياماً يَلتدِمن ورأيت علي بن الحسين عليهما السلام وهو يقول بصوت ضئيل قد نحل من المرض: يا أهل الكوفة إنكم تبكون علينا فمن قتلنا غيركم، وسمعت أم كلثوم بنت علي عليهما السلام وهي تقول فلم أر خَفِرةً والله أنطق منها، كأنما تنزع عن لسان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وأشارت إلى الناس أن أمسكوا، فسكنت الأنفاس وهدأت، فقالت الحمد الله رب العالمين، والصلاة على جدّي سيد المرسلين. أما بعد:

يا أهل الكوفة! يا أهل الختر والْخَذْل، لا، فلا رَقأت العَبرة، ولا هدأت الرّنَّة. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف ومَلَق الإمام، وغمر الأعداء. وهل أنتم إلا كمرعىً على دِمنه؟ وكفضة على ملحودة؟ ألا ساءَ ما قَدمت أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون!! إي والله فابكوا! وإنكم والله أحرياءُ بالبكاء. فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأني ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة. وسيد شباب أهل الجنة، ومنار محجتكم، ومدرة حُجتكم ومُفرح نازتكم، فتعساً ونكساً! لقد خاب السعي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، لقد جئتم شيئاً إدّا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ لقد جئتم بها شوهاء خرقاء شَرها طلاع الأرض والسماء. أفعجبتم أن قطرت السماء دما! ولعذاب الآخرة أخرى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا تَحفزه المبادرة ولا يخاف عليه فوت الثأر. كلاّ إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد؛ ثم ولت عنهم. قال فرأيت الناس حيارى قد ردّوا أيديهم إلى أفواهم. ورأيت شيخاً كبيراً من بني جُعْفيّ، وقد اخضلت لحيته من دموع عينيه، وهو يقول: كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا عدّ نسل لا يبور ولا يخزى

بين الوفاء للرأي والمضاء فيه

بين الوفاء للرأي والمضاء فيه صواحب علي في مجلس معاوية سورة بنت عمارة استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها. فلما دخلت عليه قال يا بنت الأسك! ألست القائلة يوم صفين؟ شَمَّر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليّاً والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخو النبي محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان فقهِ الحتوف وسر أمام لوائه ... قُدما بأبيض صارم وسنان قالت إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق، أو أعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب عليّ عليه السلام، واتباع الحق. قال: فوالله ما أرى عليك من أثر على شيئا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نسى! قال: هيهات! ما مثل أخيك يُنسى وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وقوم أخيك. قالت: صديق فوك! لم يكن أخي ذميم المقام، ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء: وإن صخر لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار قال صدقت لقد كان ذلك، فقالت: مات الرأس، وبُتر الذنب. وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه. قال: قد فعلت. فما حاجتك؟ قالت: إنك أصبحت سيداً، ولأمرهم متقلدا، والله سائلك عن أمرنا وما افترض عليك

من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من يبوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة. ويسلبنا الجليلة، هذا بُسر بن أرْطأة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: فوهي بما استعصم الله منه وألجأ إليه فيه ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعه. فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرّفنك. فقال معاوية: أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول: صلى الإله على جسم تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به بدلا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا فقال لها ومن ذلك؟ قالت علي بن أبي طالب عليه السلام. قال وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا، قدم علينا من قبله، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت عليا عليه السلام لأشكو إليه ما صنع بنا، فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إلىّ انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف. ألك حاجة فأخبرته الخبر. فبكى ثم قال: اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجواب فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. قد جاءتكم بيَّنة من ربكم فأوْفُوا الكيلَ والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تَعْثَوا في الأرض مُفسدين. بقيةُ الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين. وما أنا عليكم بحفيظ. إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. فأخذته منه، والله ما خَتمه بطين. ولا خَزَمه بخزام، فقرأُتُه. فقال

أم الخير بنت الحريش البارقية

معاوية: لقد لمَّظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان. فبطيئاً ما تُعَظمون ثم قال: اكتبوا لها برد مالها والعدل عليها، قالت: ألي خاصة، أم لقومي عامة؟ قال ما أنت وقومك؟ قالت هي والله إذن الفحشاء إذن الفحشاء واللؤم! إن لم يكن عدلا شاملا وإلا والله فأنا كسائر قومي. قال: اكتبوا لها ولقومها. أم الخير بنت الحريش البارقية كتب معاوية إلى واليه بالكوفة: أن أوفد علي أم الخير بنت الحريش بن سُراقة البارقية، رحلة محمودة الصحبة، غير مذمومة العاقبة، واعلم أني مجازيك بقولها فيك بالخير خيراً، وبالشر شرا. فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقرأها إياه، فقالت أما أنا فغير زائغة عن طاعة، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري، وتجري مجرى النفس يغلي بها غلي المرجل بحب البُلْسُنِ يوقد بجذل السمر. فلما حملها وأراد مفارقتها قال: يا أم الخير إن معاوية قد ضمن لي عليه أن يقبل بقولك فيَّ. بالخير خيراً، وبالشر شرا، فانظري كيف تكونين؟ قالت: يا هذا لا يُطمعك والله برَّك بي في تزويقي الباطل، ولا تؤيسك معرفتك إياي أن أقول فيك غير الحق، فسارت خير مسير. فلما قدمت معاوية أنزلها مع الحرم ثلاثاً، ثم أذن لها في اليوم الرابع وجمع لها الناس، فدخلت عليه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال وعليك السلام. وبالرغم والله منك دعوتني بهذا الاسم! فقالت مه يا هذا! فإن بديهة السلطان مُدْحِضَة لما يجب علمه. فقال صدقت يا خالة، وكيف رأيت مسيرك، قالت لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفِدت إلى مُلك جَزل وعطاء

بذل. فأنا في عيش أنيق، عند ملك رفيق. فقال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم، قالت: مه يا هذا! لك والله من دحض المقال ما تُرْدى عاقبته، قال ليس لهذا أردناك. قالت: إنما أجرى في ميدانك، إذا أجريت شيئاً أجريته فاسأل عما بدا لك. قال: كيف كان كلامك يوم قتل عَّمار بن ياسر! قالت: لم أكن والله رويته قبل، ولا زَوَّرْته بعد وإنما كانت كلمات نفثهنّ لساني حين الصدمة. فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت. قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حفظ كلام أم الخير فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد، قال هاتهِ! قال نعم، كأني بها، يا أمير المؤمنين وعليها بُرد زَبيدي كشيف الحاشية، وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها حَوَاء وبيدها سوط مُنْتَشرُ الضَّفْر، وهي كالفحل يهدرُ في شقشقتهِ تقول: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم، إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مُدلهمة. فإلى أين تريدون رجمكم الله، أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من المؤمنين؟ أم فراراً من الزحف؟ أم رغبة عن الاسم؟ أم ارتداد عن الحق؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول: (ولَنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين على الهدى واردد الحق إلى أهله. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي والصديق الأكبر

إنها إحن بَدرية وأحقاد جاهلية. وصغائن أُحُدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس. ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. صبراً معشر الأنصار والمهاجرين. قاتلوا عن بصيرة من ربكم وثبات من دينكم. وكأني بكم غداً لقد لقيتم أهل الشام كَحُمر مستنفرة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى، عما قليل لَيُصْبحُن نادمين، حتى تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة. إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل؛ ومن لم يسكنه الجنة نزل النار: أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها؛ واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق؛ وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه. فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته؛ خلق من طينته، وتفرع من نبعته؛ وخصه بسره؛ وجعله باب مدينته. وعلم المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين فلم يزال كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته، ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحته الدَّاب. هاهو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أُحد، وفرق جمع هوازن فيالها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً، ورِدة وشقاقاً. وقد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، والله لو قتلتك

ما حرجتُ في ذلك. قالت والله ما يسوءني يا ابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه. قال هيهات يا كثيرة الفضول: ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس وهم عنه راضون، وقتلوه وهم له كارهون. فقال معاوية إيها يا أم الخير! هذا والله أصلك الذي تبنين عليه قالت لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً. ما أردت لعثمان نقصاً وإن كان لسباقاً إلى الخيرات، وأنه لرفيع الدرجة. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله قالت وما عسى أن أقول لكم في طلحة؟ اغتيل في مأمنه، وأتى من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. وقال فما تقولين في الزبير قالت يا هذا لا تدعني كرجيع الصبيغ يُعرك في المِركن قال حقا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك. قالت وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. ولقد كان سابقاً إلى كل مكرمة في الإسلام، وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشاً تحدث أنك أحلمها، وأسألك تسعني بفضل حلمك، وأن تعفني من هذه المسائل، وخذ فيما شئت من غيرها قال نعم وكرامة. قد أعفيتك، وردها مكة إلى بلدها.

الزرقاء بنت عدي

الزرقاء بنت عدي سهر معاوية ليلة فذكر الزرقاء بنت عدي غالب بن قيس - امرأة كانت من أهل الكوفة. وكانت ممن يعين عليا عليه السلام يوم صفيف. فقال لأصحابه أيكم يحفظ كلام الزرقاء؟ فقال القوم كلنا تحفظه يا أمير المؤمنين: قال فما تشيرون عليّ فيها؟ قالوا نشير عليك بقتلها، قال بئس ما أشرتم على به! أيحسن بمثلي أن يتحدث الناس أني قتلت امرأة بعد ما ملكت وصار الأمر لي؟ ثم دعا كاتبه في الليل فكتب إلى عامله في الكوفة أن أوفد إلىّ الزرقاء ابنة عدي في ثقة من محارمها. وعدة من فرسان قومها، ومهدها وطاءلين، وأسترها بستر حصيف فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طائفة، وإن كان أمير المؤمنين جعل المشيئة إلى لم أرم منم بلدي هذا، وإن كان حكم الأمر فالطاعة له أولى بي، فحملها في هودج وجعل غشاءه حبراً مبطنا بعصب اليمن، ثم أحسن صحبتها. فحملها في هودج وجعل غشاءه حبراً مبطنا بعصب اليمن، ثم أحسن صحبتها. فلما قدمت على معاوية قال لها مرحباً وأهلا خير مقدم قدم وافد. كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيت مسيرك؟ قال خير مسير، كأني كنت ربيبة بيت أو طفلا ممهداً. قال بذلك أمرتهم فهل تعلمين لِمَ بعثت إليك؟ قال سبحانه أني لي بعلم ما لم أعلم؟ وهل يعلم ما في القلوب إلا الله؟ قال بعثت إليك أن أسألك: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين صفين، توقدين الحرب وتحضين على القتال؟ فما حملك على ذلك؟ قالت يا أمير المؤمنين إنه قد مات الرأس وبُتر الذنب. والدهر ذو غَير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت ما أحفظه. قال ولكني والله أحفظه! لله أبوك. لقد سمعتك تقولين: أيها الناس! إنكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت

بكارة الهلالية

بكم عن قصد المحجة. فيالها من فتنة عمياء صماء، يسمع لقائلها ولا ينظر لسائقها أيها الناس! إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكوكب لا ينفذ في الفجر وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الزف لا يوازن الحجر. ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبرنا أخبرناه، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها. فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن اندمل شعب الشتات؛ والتأمت كلمة العدل؛ وغلب الحق باطله؛ فلا يعجلن أحد فيقول كيف وأنى ليقضي الله أمراً كان مفعول. ألا إن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور عواقباً إيها إلى الحرب قدما غير ناكصين. فهذا يوم له ما بعده. ثم قال معاوية والله يا زرقاء لقد شركت عليا عليه السلام في كل دم سفكه. فقالت أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك. مثلك من بشر بخير، وسر جليسه. قال لها وقد سرك ذلك؟ قالت: نعم لقد سرني قولك فأني بتصديق الفعل؟ قالت معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته احب غلي من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت؛ يا أمير المؤمنين إني قد آليت على نفسي ألا أسأل أميراً أعلنت عليه شيئاً أبداً. ومثلك أعطى عن غيرة مسألة. وجاد عن غير طلب. وقال صدقت، فأقطعها ضيعة أغلتها في أول سنة عشرة آلاف درهم. وأحسن صفدها، وردها والذين معها مكرمين. - بكارة الهلالية استأذنت بكارة الهلالية على معاوية فأذن لها، فدخلت؛ وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها، وضعفت قوتها. فهي ترعش بين خادمين لها، فسلمت ثم جلست، فقال معاوية كيف أنت يا خالة؟ قالت بخير يا أمير المؤمنين. قال: غيرك

الدهر. قالت كذلك هو ذو غير عاش كبر، ومن مات قبر. وكان هنالك مروان بن الحكم وعمرو بن العاص فابتداء مروان فقال ألا تعرف هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن هي؟ قال هي التي كانت علينا يوم صفين وهي القائلة: يا زيد دونك فاستثر من دارنا ... سيفاً حساماً في التراب دفينا قد كنا مذخوراً لكل عظيمة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا قال عمرو بن العاص: وهي القائلة يا أمير المؤمنين: أترى ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وما أراد بعيد مَنَّتك نفسك في الخلاء ظلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد فارجع بأنكد طائر بنحوسها ... لاقت عليا أسعد وسعود فقال سعيد يا أمير المؤمنين وهي القائلة: قد كنت آمل أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أمية خاطبا فالله أخر مدتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا في كل يوم لا يزال خطيبهم ... وسط الجموع لآل أحمد عائبا ثم سكت القوم، فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني، فقصر مْحِجَني وكثر عجي، وعشي بصري، وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، فامض لشأنك، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين، فقال معاوية: إنه لا يضحك شيء فاذكري حاجتك تقض. فقضى حوائجها وردها إلى بلدها.

عكرشة بنت الأطروش

عكرشة بنت الأطروش حدث ابن أبي طاهر عن الشافعي، فقال: دخلت عكرشة بنت الأطروش على معاوية وبيدها عكاز في أسفله زجٌ مسقي فسلمت عليه بالخلافة وجلست؛ فقال لها معاوية يا عكرشة! الآن صرت أمير المؤمنين قالت: نعم إذ لا عليٌ حي، قال الست صاحبة الكور المسدول والوسط المشدود والمتقلدة بحمائل السيف، وأنت واقفة بين الصفين يوم صفين تقولين: يا أيها الناس عليكم أنفُسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. إن الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها، ولا يحزن من سكنها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرهم همومها. كونوا قوم مستبصرين. إن معاوية دَلَفَ إليكم بِعجم العرب غُلف القلوب لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى البطل فلبّوه. فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتوكل فإن في ذلك نقض عروة الإسلام، وإطفاء نور الإيمان، وذهاب السُّنّة، وإظهار الباطل. هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى. قاتلوا يا معشر الأنصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كالحمر النهاقة والبغال الشحاجة، تضْفَع ضفع البقر، وتَروث روث العَنَاق، ثم قال معاوية فوالله لولا قدر الله وما أحب أن يجعل لنا هذا الأمر لقد انكفأ على العسطران. فما حملك على ذلك؟ قالت. يا أمير المؤمنين إن اللبيب إذا كره أمراً لم يحب إعادته. قال: صدقت، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين إن الله قد ردّ صدقاتنا علينا، وردّ أموالنا فينا إلا بحقها، وإنا قد فقدنا ذلك فما يُنْعَش لنا

جروة بنت غالب

فقير، ولا يجبر لنا كسير فإن كان ذلك عن رأيك فما مثلك من استعان بالخونة واستعمل الظالمين، قال معاوية: يا هذه إنه تنوبنا أمور هي أولى بنا منكم، من بحور تنبثق وثغور تنفتق. قالت: يا سبحان الله! ما فرض الله لنا حقا جعل لنا ضرراً على غيرنا ما جعله لنا وهو علام الغيوب. قال معاوية هيهات يا أهل العراق فقد فقهكم ابن أبي طالب فلن تطاقوا. ثم أمر لها بردّ صدقتها وإنصافها وردها مكرمة. جروة بنت غالب احتجم معاوية بمكة، فلما أمسى أرق أرقاً شديداً، فأرسل إلى جروة بنت غالب التميمة - وكانت مجاورة لمكة، وهي من بني أسد بن عمرو بن تميم - فلما دخلت قال لها مرحباً يا جروة، أرعناك؟ قالت إي والله يا أمير المؤمنين، لقد طرقت في ساعة لا يطرق فيها الطير في وكره، فأرعت قلبي، وريع صبياني، وأفزعت عشيرتي وتركت بعضهم يموج في بعض، يراجعون القول ويديرون الكلام خشية منك وشفقة عليَّ. فقال لها ليسكن روعك، ولتطب ونفسك، فإن الأمر على خلاف ما ظننت، إني احتجمت فأعقبني ذلك أرقاً، فأرسلت إليك تخبرني عن قومك قالت: عن أي تسألني؟ قال عن بني تميم. قالت يا أمير المؤمنين هم أكثر الناس عدداً، وأوسعه بلداً، وأبعده أمداً. هم الذهب الأحمر، والحسب الأفخر. قال فَنَزّليهم لي قالت يا أمير المؤمنين أما بنو عمرو بن تميم فأصحاب بأس ونجدة وتحاشد وشدة، لا يتخاذلون عن اللقاء، ولا يطمع فيهم الأعداء سلهم فيهم، وسيفهم على عدوهم. قال صدقت، ونعم لأنفسهم. وأما بنو سعد بن زيد مناة ففي العدد الأكثرون، وفي النسب الأطيبون. يضرون إن غضبوا

ويدركون إن طلبوا، أصحاب سيوف وحَجَف ونزال وزَلف، على أنّ بأسهم فيهم، وسيفهم عليهم. وأما حنظلة فالبيت الرفيع، والحسب البديع والعز المنيع، المكرمون للجار، والطالبون بالثار، والناقصون للأوتار. قال إنّ حنظلة شجرة تفرع، قالت: صدقت يا أمير المؤمنين. وأما البراجم فأصابع مجتمعه، وكف ممتنعة. وأما طَهيَة فقوم هُوج وقِرنٌ لَجورج. وأما بنو ربيعة فصخرة صماء، وحية رقشاء يغزون لغيرهم، ويفخرون بقومهم، وأما بنو ربيعة ففرسان الرماح، وأسود الصباح، يعتنقون الأقران، ويقتلون الفرسان. وأما بنو مالك، فجمع غير مفلول. وعز غير مجهول، ليوث هرّارة، وخيول كرارة، وأما بنو دارم، فكرم لا يداني، وشرف لا يسامى، وعز لا يوازي، قال: أنت أعلم الناس بتميم. فكيف، علمك بقيس؟ قالت كعلمي بنفسي. قال فخبرني عنهم، قالت: أما غطفان، فأكثر سادة، وأمنع قادة. وأما فزارة، فبيتها المشهور وحسبها المذكور. وأمّا ذبيان فخطباء شعراء، أعزة أقوياء. وأما عبس، فجمرة لا تطفأ، وعقبة لا تعلى، وحية لا ترقى وأمّا هوازن، فحلم ظاهر، وعز قاهر. وأمّا سليم، ففرسان الملاحم، واسود ضراغم، وعز ضخم، وأمّا بنو كلاب، فعدد كثير، وفخر أثير. قال الله أنت! فما قولك في قريش، قالت يا أمير المؤمنين هم ذروة السنام، وسادة الأنام، والحسب القمقام قال فما قولك في علي - عليه السلام - قالت حاز والله في الشرف حدّاً لا يوصف، وغاية لا تعرف، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما أتخوف. قال قد فعلت، وأمر لها بضيعة غلتها عشرة آلاف درهم.

الكلمات الخالدة

الكلمات الخالدة لما قُتل المفضل بن المهلب دخل ثابت قُطَنة العَتَكيّ على هند بنت المهلب، والناس حولها جلوس يعزونها فأنشدها: يا هند كيف بنُصب بات يبكيني ... وعائر في سواد الليل يؤذيني لما حنى الدهر من قوسي وعذرني ... قاسيت منه أَمَرّ الغلظ واللين إذا ذكرت أبا غسان أرّقني ... هم إذا عرّس السارون يشجيني كان المفضل عزا في ذرا يمن وعصمة وثمالا في المساكين ما زالت بعدك في هم تجيش به ... نفسي وفي نَصَب قد كان يسليني إني تذكرت قتلى لو شهدتهم ... في حومة الموت لم يصلوا بها دوني لا خير في العيش إن لم أجن بعدهم ... حرباً تنيء بهم قتلى فيشفوني فقالت له هند: اجلس يا ثابت، فقد قضيت الحق، وما من المَرْزئة بدّ، وكم من ميتة ميت أشرف من حياة حي، وليست المصيبة في قتل من استُشهد ذابّاً عن دينه، كطيعاً لربه، وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته، وخمل ذكره بعد موته، وأرجو ألا يكون المفضل عند الله خاملا.

قوة الحجة وحسن البيان

قوة الحجة وحسن البيان كانت أم جعفر بن يحيى - وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحْطيَة - أرضعت الرشيد مع جعفر، لنه كان رَبى في حجرها، وغَذي برسلها، لأن أمه ماتت عن مهده فكان الرشيد يشاورها مظهراً لإكرامها، والتبرك برأيها. وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شَفَّعها، وآلت أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذوناً لها، ولا شفعت لأحد مقترف ذنباً. قال سهل بن هارون: فكم أسير فكت ومهم عنده فرجت؛ ومستغلق فتحت. ولما فتك الرشيد بابنها جعفر، وقذف بزوجها وبقية أسرتها في غياهب السجن بعد إيقاعه بالبرامكة - طلبت الإذن عليه في دار البانوقة، ومتت بوسائلها إليه، فلم يأذن لها، ولا أمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها؛ محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب فقال: ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد. فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك، أو ساعية، قال: نعم يا أمير المؤمنين، حافية! قال ادخلها يا عبد الملك، فرب كبدٍ غذتها، وكربة فرجتها؛ وعورة سترتها، قال سهل قال يهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلابها، وإسعافها بحاجتها، فدخلت؟ فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفياً حتى يلقاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها، ومواضع ثدييها ثم أجلسها معه فقالت: يا أمير المؤمنين! أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفاً لك الأعوان ويحرك بنا هاتان وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل:

فآيسني من رأفته تركه لكنيتها آخر ما أطعمني من به بها أولا قالت: ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته وإشفاقه عليه، وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه قال لها: يا أم الرشيد أمر سبق وقضاء حم وغضب من الله نفذ قالت: يا أمير المؤمنين يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. قال صدقت! فهذا لم يمحه الله. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل: فأطرق الرشيد مليا ثم قال: وإذا المنية نشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فقالت بغير روية: ما أنا ليحي بتميمة يا أمير المؤمنين وقد قال الأول: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول الله عز وجل: والكاظِمِين الغَيْظ والعافينَ عن النَّاسِ والله يحبُّ الْمحِسنين. فأطرق هارون مليا، ثم قال يا أم الرشيد أقول: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبِلُ فقالت يا أمير المؤمنين وأنا أقول: ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدّل قال هارون: رضيت. قال فهبه لي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك شيئاً لله لم يوجده الله فقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: للهِ الأمر من قبلُ ومن بعدُ. قالت يا أمير المؤمنين آليتك ما استشفعت إلا شفعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليتك أن لا شفعت

لمقترف ذنباً، قال سهل: فلما رأته بمنعها، ولاذ عن طلبها، أخرجت حقا من زمردة خضراء فوضعته بين يديها. قال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه ذوائبه وثناياه قد غمست جميع ذلك في المسك. فقالت: يا أمير المؤمنين أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك، وبما صار معي من كريم جسدك، وطيب جوارحك، ليحي عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه ثم استعبر وبكى بكاءً شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظنّ إلا أن البكاء رحمة له، ورجوع عنه. فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق وقال لها: لَحَسن ما حفظت الوديعة، قالت: وأهل للمكافأة أنت. فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها. وقال: (إن الله يَأْمُركُمْ أنْ تُؤدُّوا الأمانات إِلى أَهْلها). قالت: والله يقول: (وإِذا حكْمتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحَكْمُوا بِالعَدْلِ). ويقول: (وأَوُْفوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ). ثم قال: وما ذلك ياأم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تمهني. قال: يا أم الرشيد أتشريه مُحَكَمَةَ فيه؟ قالت: أنصفت، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لا يُسْخطك: قال: يا أم الرشيد أما لي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ قالت: بلى! أنت أعز عَلَيّ، وهم أحب إليّ. قال: فتحكمي في ثمنه بغيرهم. قالت: بلى قد وهبتكه وجعلتك في حل منه وقامت عنه، وبقي مبهوتاً ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت فلم تعد ولا والله ما رأيت لها عبرة، ولا سمعت لها أنَّة.

بين القبور

بين القبور لما توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قامت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه على قبره، فقالت: نَضَّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مُذلاًّّ بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، وإن كان لأَجَل الأرزاء بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رُزْؤُك، واكثر المصائب فقدك، وإن كتاب الله ليعد بجميل العزاء فيك، وحسن العوض منك فأَتنجَّزُ من الله فيك، بالصبر عنك، وأستخلصه بالاستغفار لك. توفي الأحنف في دار عبد الله بن أبي العُصَيِفر بالكوفة، وكان مُصعب بن الزبير إذ ذاك أميراً على الكوفة من قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، فشيع مصعب جنازة الأحنف فخرج مُتَسَلَبا في قميص بغير رداء - وكانت الأمراء تفعل ذلك بالسيد إذا مات - فلما دفن الأحنف أقبلت صفية بنت هشام الِمنقرية على نجيب لها متحضرة وكانت بنت عم الأحنف حتى وقفت على قبره فقالت: لله دَرُّك من مُجَنٍّ ومدرج في كفن، إنا للهِ وإنا إليه راجِعون جعل الله سبيل الخير سبيلك، ودليل الرشد دليلك. أما والذي أسأله أن يفسح لك في مدخلك، وأن يبارك لك في محشرك، ووالذي كنت من أجله في عدّة، ومن كتابه في مدة، ومن الأثرة إلى نهاية، ومن المضمار إلى غاية، لقد كنت صحيح

الأديم، منيع الحريم، عظيم السلم، فاضل الحلم؛ واري الزناد، رفيع العماد، وإن كنت لمسوداً، وإلى الملوك لموفدا، وفي المحفل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً وكانت الملوك لقولك مستمعين، ولرأيك متعبين، ولقد عشت حميداً ودوداً، ومت شهيداً فقيداً. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: عباد الله؛ إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده، وإنا لقائلون حقا. ومثنون صدقاً، وهو أهل لطيب الثناء. فعليه رحمة الله وبركاته. وما مثله في الماس إلا كما قال الشاعر في قيس بن عاصم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما سلام امرئ أودعته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سَلما فما كان قيس هلكه واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما قال فتعجب الناس من كلامها وقال فصحاؤهم تالله ما رأينا كاليوم قط، ولا سمعنا أفصح ولا أبلغ من هذه. قال فبعث إليها مصعب بن الزبير فخطبها على نفسه فأبت عليه فما زال يتعهدها ببره حتى قتل حدث الأصمعي قال: دفعت يوماً في تَلَمسي بالبادية إلى واد خَلاءٍ لا أنيس به إلا بيْتٌ معتنز بفنائه لأعنز، ولقد ظمئت، فيممته، فسلمت، فإذا عجوز قد برزت كأنها نعامة راخم فقلت هل من ماء؟ فقالت: أو لبن؟ فقلت ما كنت بغيتي غلا الماء فإذا يسر الله اللبن فإني إليه فقير.

فقامت إلى قعب فأفرغت فيه ماء، ونظفت غسله، ثم جاءت إلى الأعْنز فَتَغَبَّرتْهُنَّ حتى احتلبت قُراب مِلءِ القعب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثُمالته كأنها غمامة بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى تَحَبَّبْتُ ريّاً واطمأننت، فقالت إني أراك معتنزة في هذا الوادي الموحش والحلة منك قريب فلو انضممت إلى جنابهم، فأنست بهم؟ فقالت يا ابن أخي: إني لآنس بالوحشة، واستريح إلى الوحدة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي الموحش فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم وَتَتَخَيَّل لي أندية رجالهم، وملاعب وُلدانهم، ومُندَّى أموالهم، والله يا ابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بشع اللديدين بأهل أدواح وقباب، ونعم كالهضاب، وخيل كالذَّئاب، وفتيان كالرماح يبارون الرياح، ويحملون الصَّباح، فأحال عليهم الجلاءُ قمّاً بغرفة، فأصبحت الآثار دارسة، والمحال طامسة. كذلك سيرة الدهر فيمن وثق به. ثم قالت: أرم بعينك في هذا الملا المتبطن فنظرت، فإذا قبور نحو أربعين أو خمسين فقالت: ألا ترى تلك الأجداث؟ قلت نعم. قالت: ما انطوت إلا على أخ، أو ابن أخ أو عم، أو ابن عم، فأصبحوا قد ألمأت عليهم الأرض، وانأ أترقب ما غلهم انصرف راشداً رحمك الله.

بين الرجاء والدعاء

بين الرجاء والدعاء وقفت امرأة من هوازن على عبد الرحمن بن أبي بكرة فقالت: أصلحك الله، أقبلت من أرض شاسعة، ترفعني رافعة، وتخفضني خافضة بملحات من البلاد وملمات من الدهور، برين عظمى، وأذهبن لحمي، وتركنني والها، وأنزلنني إلى الحضيض، وقد ضاق بي البلد المريض، لا عشيرة تحميني، ولا حميم يكنفني، فسألت في أحياء العرب من المرجو سيبه، المأمون غيبه، المكفي سائله، الكريمة شمائله، المأمول نائله فأرشدت إليك، وأنا امرأة من هوازن، مات الوافد، وغاب الرافد ومثلك من سد الخلة وفك الغلة، فاصنع إحدى ثلاث: إما أن تقيم من أودى أو تحسن صفدي أو تردني إلى بلدي. قال: أجمعهن لك وحبا. خرج المهدي يطوف بعد هدأة من الليل فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول في مبطلون، بنت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون. بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، أبناء سبيل وأنضاء طريق وصية الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل من امرئ يجبرهم؟ كلأه الله في سفره وخلفه في أهله. فأمر نضيرا الخادم فدفع إليها خمسمائة درهم.

الكلم القصار

لما قدم إبراهيم بن محمد المدينة أتته عجوز من ولد الحارث بن عبد المطلب فشكت إليه ضنك العيش، فقال: ما يحضني الكثير، ولا أرضى لك بالقليل وأنا على ظهر سفر، فاقبلي ما حضر، وتفضلي بالعذر. ثم دعا مولى له فقال ادفع إليها ما بقي من نفقتنا وخذي هذا العبد والبعير. فقالت بأبي وأمي! أجزل الله في الآخرة أجرك وأعلى في الدنيا كعبك، وغفر لك يوم الحساب ذنبك، فأنت والله كما قالت أم جميل بنت أمية: زين العشيرة كلها ... في البدو منها والحضر ورئيسها في النائبا ... ت وفي الرحال وفي السفر ورث المكارم كلها ... وعلا على كل البشر ضخم الدسيعة ماجد ... يعطي الجزيل بلا كدر خرجت أعرابية إلى مني فقطع بها الطريق، فقالت: يا رب أخذت وأعطيت، وأنعمت وسلبت، وكل ذلك منك عدل وفضل. والذي عظم على الخلائق أمرك لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك، يا قرّة أعين السائلين أغنني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمته، وأتقلب في رواق نضرته، واحملني من الرجلة وأغني من العيلة، وأسدل على سترك الذي لا تمزقه الرماح، ولا تزيله الرياح إنك سميع الدعاء. الكلم القصار دخلت امرأة من بني أمية على عبد الله بن علي بالشام فبكت، فقال مم تبكين أجزعا على أهلك على ما أصابهم؟ قالت لا، ولكنه ما كان يوم سرور إلا وهو رهن بيوم مكروه، وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عَبرة.

قيل لِحُبَّي المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم لا يجدي عليه. قيل لها فما الشرف؟ قالت: اعتقاد المنة في أعناق الرجال تبقى الأعقاب. قيل لأعرابية مات ابنها: ما أحسن عزاءك؟ قالت: إن فقدي إياه آمنني كل فقد سواه. وإن مصيبتي به هّونت علىّ المصائب من بعده. ثم أنشأت تقول: كنت السواد لناظري ... فعمِى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ليت المنازل والديا ... ر حفائر ومقابر إني وغيري لا محا ... لة حيث صرت لصائر حدّث إسحاق الموصلي عن رجل من أهل المدينة. قال: كنت في جنازة عبد الله ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإذا امرأة تقول: واحرّاه عليك! فسألت عنها، فقالوا هذه أُمه. فدنوت منها، فقلت يا أم عبد الله، إن عبد الله كان بعض البشر. فقالت: إن عبد الله كان ظهراً فانكسر، وأصبح أجراً ينتظر، وإن في ثواب الله لعزاء عن القليل، وجزاء على الكثير. كانت هند بنت المهلب تقول: إذا رأيتم النعم مستدرّة فبادروا بالشكر قبل الزوال. دعت أعرابية لابن لها وجَّهته إلى حاجة، فقالت: كان الله صاحبك في أمرك، ووليك في نجح طلبتك، امضِ مصاحباً مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوّا، ولا أرى محبيك فيك سوءا. وقفت أعرابية فقالت: يا قوم سنة جردت، وأيد جمدت، وحال أجهدت، فهل من فاعل لخير، وآمر بِمَير. رحم الله من رحم فأقرض من لم يظلم.

رأت عائشة أم المؤمنين رجلا متماوتا فقالت: ما هذا؟ فقالوا زاهد. قالت: كان عمر بن الخطاب زاهداً. وكان إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع. قال رجل لولادة العبدية، وكانت كأعقل النساء. إني أريد الحج فأوصيني قالت: أأوجز فأبلغ، أم أطل فأحكم؟ فقال: بما شئت. قالت: جد تسد، واصبر تفز. قال أيضاً. قالت: لا يتعد غضبك حلمك؟، ولا هواك علمك، وفّرْ دينك بدنياك، ووفر عِرضك بَعَرضِك. وتفضل تخدم، وأحلى تُقدم قال: فبمن أستعين؟ قالت: إن قلت من الناس. قلت الجلد النشيط، والناصح الأمين، قال: فمن أستشير؟ قالت المجرب الكيس، أو الأديب ولو الصغير. قال: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق الملم، أو المدجى المتكرم. ثم قالت يا ابناه إنك تفد على ملك الملوك فانظر كيف يكون مقامك بين يديه. قالت أعرابية لابنها: أي بني! غن سؤلك الناس ما في أيديهم، من اشد الافتقار إليهم، ومن افتقرت إليه هُنْتَ عليه، ولا تزال تحفظ وتكرم حتى تسأل وترغب فإذا ألحت عليك الحاجة، ولزمك سوء فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول. مات لأعرابية ميت فغمضته وترحمت عليه، ثم قالت: ما أحق من أُلبس العافية وأطيلت له النظْرَةُ ألا يعجز عن النظر لنفسه، قبل الحلول بساحته والحيال بينه وبين نفسه. قالت هند بنت عتبة: المرأة غُل، ولا بد للعنق منه، فانظر من تضعه في عنقك. نظرت أعرابية إلى امرأة حولها عشرة من بنيها كأنهم الصقور فقالت: لقد ولدت أمكم حزناً طويلا.

بلغ عاثمة بنت عاثم ثلب معاوية وعمرو بن العاص لبني هاشم. فقالت لأهل مكة: أيها الناس! إن بني هاشم سادت فجادت، وملكت ومُلكت، وفضلت وفُضّلت واصطفت واصطفيت، ليس فيها كدر عيب، ولا إفك ريب، ولا خسروا طاغين؛ ولا خازين، ولا نادمين، ولا هم من المغضوب عليهم ولا الضالين. لما ذهب صالح بن علي إلى الشام من قبل السفاح سيق إليه بني أمية وبناتهم، فلما دخل عليه تكلمت بنت لمروان فسلمت عليه بالخلافة. فقال: لست بالخليفة؛ ولكني عمه. فقالت يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله من أمرك ما تحب أن يحفظه، وخصك في الأمور كلها بخواص كرامته. وعمك بالعافية المَجَللة في الدنيا والآخرة، نحن بناتك وبنات أخيك، فلْيَسَعْنا عدلك، فقال: إذاً لا يستبقي منكم آل البيت أحداً، رجلا ولا امرأة. ألم يقتل أبوك بالأمس أخي الإمام في محس حران؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي وصلبه وأمر بقتل امرأته فقتلها يوسف ابن عمر صبراً؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد بخراسان وأحرق خشبته وجثته؟ فما الذي استبقيتم منا أهل البيت؟ قالت: قد ظفرتم فَلْيَسَعْنا عفوكم قال: أمّا هذا فنعم قد عفونا عنكم. دخلت ليلى على الحجاج بن يوسف فسألها عن نسبها فانتسبت إليه. فقال لها يا ليلى ما أتى بك؟ فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم وكَلَب البَرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرفد فقال لها: صفي الفجاج.

فقالت: الفجاج مغبرة، والأرض مُقشعِرة، والمنزل معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقِل، والناس مسنتون رحمة الله يرجعون، وأصابتنا سنة مجحفة مبطلة لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً ولا عافطة ولا نافطة أذهبت الأموال، وفرّقت الرجال، وأهلكن العيال. أُسرت أم علقمة الخارجية وأتي بها إلى الحجاج فقيل لها وافقيه في المذهب فقد يظهر الشرك بالمكر. فقالت قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. فقال لها قد خطبت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء. فقالت خفت الله خوفاً صيرك في عيني أصغر من ذباب - وكانت منكسة - فقال: ارفعي رأسك وانظري إلى. فقالت أكره أن أنظر غلى من لا ينظر الله إليه، فقتلها. كانت أسماء بنت أبي بكر تقول لبناتها ونساء آلها: أنفقن وتصدقن ولا تنتظرن الفضل فإنكن إن انتظرتن الفضل لم يفضلن شيئاً، وإن تصدقتن لم تجدن فقده. وقدم إليها ولدها المنذر بن الزبير من العراق بثياب رقاق عتاق بعد ما كف بصرها، فلمستها بيدها، ثم قالت: ردّوا عليه كسوته فشق ذلك عليه وقال يا أمّه إنها لا تَشفِ فقالت إن لم تشف فإنها تصف.

عيون من الشعر

عيون من الشعر الحنين إلى الوطن قالت فتاة أعرابية احتملها زوجها إلى مكان قصي: ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا فقد أضحى هوانا يمانيا نسائلكم هل سال نَعمان بعدنا ... وحُبَّ إلينا بطن نعمان واديا فإن به ظلا ظليلا ومشرباً ... به نقع القلب الذي كان صاديا تزوج رجل من تهامة امرأة من نجد، فلما نقلها إليه قالت ما فعلت ريح من نجد كانت تأتينا يقال لها الصبا؟ ما رأيتها هاهنا، فقال يحجزها عنا هذان الجبلان، فأنشأت تقول: أيا جبلي نعمان بالله ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها فإن الصبا إذا ما تنفست ... على قلب محزون تجلت همومها أجد بردها أو يشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها وقال حفص بن الأروع الطائي كنت أسيرا في بلاد طيء فإذا بجارية تسوق أعنزا، فقلت يا جارية أي البلاد أحب إليك؟ فقالت: أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلى وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

عهد الطفولة

وتزوج رجل من حجر بامرأة من تميم، فلما احتملها إليه قالت: لقد كنت حجر بعيدا فساقني ... صروف النوى والسابقات إلى حجر يقولون فرش من حرير وإنما ... أرى فرشهم عندي كحامية الجمر وقالت أعرابية مرضت بعيداً عن بلدها: خليلي إن حانت بحربة ميتتي ... وأزمعتما أن تجعلا لي بها قبراً ألا فاقرأا مني السلام على قنا ... وحرّة ليلى لا قليلا ولا نزرا سلام الذي قد ظن أن ليس رائيا ... رماصا ولا من حرّتيه ذرى خضراً عهد الطفولة قالت فتاة تتغنى بأيام طفولتها: ألا لا أبالي اليوم ما دمت جاريا ... وما دمت أسعى لا أبالي إزاريا وما دمت أسعى بين أم عزيزة ... وبين أب يحب جماليا إذا عصبوا بردي بشقة بردهم ... وقيل اقعدن في البيت يخلط ذا ليا ومر جواري الحي من كل وجهة ... لألعب إن اللعب كان شفائيا في البكاء بكاء الأبناء كان معاوية قد أرسل قائده الطاغية بسر بن أرطاة مغيراً على اليمن - وكانت في حوزة علي عليه السلام - ففر من وجهه أميرها عبيد الله بن العباس فلم يجد السفاح غير طفلين له، فعمد إليهما فذبحهما، وترك أمهما ذاهلة

اللب، مخطوفة القلب، تهيم في كل واد، وتغشى كل مجتمع وناد، وتتغنى بما يثير الحسرات ويسيل العبرات. ومن قولها فيهما: ألا يا من سبى الأخوي ... ن أمُّهما هي الثّكلى تسأل من رأى ابنيها ... وتستقي فما تُسْقَي فلما استيأست رجعت ... بِعَبْرة حَرَّى تتابع بين ولولةِ ... وبين مدامع تترى وكذلك قالت: يا من أَسَّ بابْنَيَّ اللَّذين هما ... كالدُّرَّتين تشظّي عنهما الصدَف يا من أحس بابني اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مُزْدَهَفُ يا من أحس بابني اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مُخْتطفُ نَّبئت بُسراً وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا انحي على ودجى طِفْلَّي مُرْهَفةً ... مشحوذة وكذاك الإفك يقترف مَن دلّ والهة حرّى مُولّهة ... على حبيبين ضَلاّ إذ غدا السلف ووقفت أعرابية قبر ابن لها يدعى عامراً فقالت: أقمت أبكيه على قبره ... من لي بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا وحشة ... قد ذل من ليس له ناصر وقالت زبيدة ابنة جعفر ترثي ولدها الأمين: أودي بإلفين من لم يترك الناسا ... فامنحْ فؤادك عن مقتولك الياسا لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا

بكاء الآباء

فبت مكتئباً أرعى النجوم له ... أخال سنته بالليل قرطاسا رُزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا فليس من مات مردوداً لنا أبداً ... حتى يرد علينا قبله ناسا وقالت أعرابية تندب ابناً لها: أَبُنَيَّ غيبك المحل اللحد ... إما بَعِدْتَ فأين من لا يَبْعَدُ أنت الذي في كل ممسي ليلة ... تبلي وحزنك في الحشا يتجدد وقالت فيه: لئن كنت لهواً للعيون وقرة ... لقد صرت شقماً للقلوب الصحائح وهوّن حزني أن يومك مُدْرِكي ... وإني غداً من أهل تلك الضرائح بكاء الآباء قالت امرأة من بني شيبان قتل أبوها ورجال من أسرتها مع الضحاك الحَرورِي: من لقلب شفه الحزن ... ولنفس مالها سَكنُ ظعن الأبرار فانقلبوا ... خيرهم من معشر ظعنوا معشر قضوا نحوبهم ... كل ما قد قدموا حسن صبروا عند السيوف فلم ... يَنْكلوا عنها ولا جَبُنُوا فتية باعوا نفوسهم ... لا ورب البيت ما غُبنُوا فأصاب القوم ما طلبوه ... مِنَّة ما بعدها منن

بكاء الاخوة

وقالت أروى بنت الحباب ترثي أباها: قل للأرامل واليتامى قد ثوى ... فلتبك أعينها لفقد حباب أودي ابن كل مخاطر بتلاده ... وبنفسه بقيا على الأحساب الراكبين من الأمور صدورها ... لا يركبون معاقد الأذناب وقالت فاطمة بنت رسول الله تبكي أباها صلى الله عليه وسلم: إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما نعيت وحالت دونك الكتب بكاء الاخوة وقالت ليلى بنت طريف التغلبية ترثي أخاها الوليد بن طريف: بتل نباتي رسم قبر كأنه ... على جبل فوق الجبال منيف تضمن جوداً حاتميا ونائلا ... وسورة مقدام ورأي حصيف ألا قاتل الله الحشى كيف أضمرت ... فتى كان للمعروف غير عيوف فإلا تجبني دمنة هي دونه ... فقد طال تسليمي وطال وقوفي وقد علمت أن لا ضعيفاً تضمنت ... إذا عظم المرزي ولا ابن ضعيف فتى لا يلوم السيف حين يهزه ... على ما اختلى من معصم وصليف فتى لم يحب الزاد إلا من التقي ... ولا المال إلا من قنا وسيوف ولا الخيل إلا كل جرداء شطبة ... وأجود عالي المنسجين غروف

فقدناه فقدان الربيع وليتنا ... فديناه من فتياننا بألوف وما زال حتى أرهق الموت نفسه ... شجاً لعدوّ أو لجاً لضعيف حليف الندى غن عاش يرضي به الندى ... وإن مات لا يرضى الندى بحليف فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فرب زحوف فضها بزحوف فيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف ألا يا لقومي للنوائب والردي ... ودهر ملح بالكرام عنيف وللبدر من بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس همت بعده بكسوف ولليث فوق النعش إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقوف بكت تغلب الغلباء يوم وفاته ... وأبرز منها كل ذات نصيف يقلن وقد أبرزن بعدك للورى ... معاند حلي من برى وشنوف كأنك لم تشهد مصاعاً ولم تقم ... مقاماً على الأعداء غدو خفيف ولم تشتمل يوم الوغى بكتيبة ... ولم تبد في خضراء ذات رفيف عليك سلام الله وقفا فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف وقالت كذلك تبكيه: ذكرت الوليد وأيامه ... إذا الأرض من شخصه بلقع فأقبلت أطلبه في السماء ... كما يبتغي أنفه الأجدع أضاعك قومك فلينظروا ... إفادة مثل الذي ضيعوا لو آن السيوف التي حدّها ... أصابك تعلم ما تصنع نبت عنك أو جعلت هيبة ... وخوفا لصولك لا تقطع

رثاء الأزواج

وقالت عمرة بنت مرادس - وهي ابنة الخنساء - ترثي أخاها: أعيني لم أختلكما بخيانة ... أبى الدهر والأيام أن تصبرا وما كنت أخشى أن أكون كأنني ... بعير إذا ينعى أخي تحسرا ترى الخصم زوراً عن أخي مهابة ... وليس الجليس عن أخي بأزورا وقالت امرأة ترثي اخوتها: رعوا من المجد أكنافاً إلى بلد ... حتى إذا أكملت أظماؤهم وردوا ميت بمصر وميت بالعراق وميت بالحجاز منايا بينهم بدد كانت لهم همم فرقن بينهم ... إذا القعاد عن أمثالها قعدوا بذل الجميل وتفريج الجليل وإعطاء الجزيل إذا لم يعطه أحد. رثاء الأزواج قال الأصمعي: دخلت بعض مقابر الأعراب ومعي صاحب لي، فإذا جارية على قبر كأنها تمثال، وعليها من الحلي والحلل ما لم أر مثله، وهي تبكي بعين غزيرة وصوت شجي، فالتفت إلى صاحبي، فقلت: هل رأيت أعجب من هذه؟ قال لا والله لا أحسبني أراه، ثم قلت لها يا هذه! إني أراك حزينة وما عليك زي الحزن؟ فأنشأت تقول: فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان وإني لأستحييه والتراب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني أهابك إجلالا وإن كنت في الثرى ... مخافة يوما أن يسؤك لساني

ثم اندفعت في البكاء وجعلت تقول: يا صاحب القبر يا من كان ينعم بي ... بالا ويكثر في الدنيا مواساتي قد زرت قبرك في جلي وفي حللي ... كأنني لست من أهل المصيبات أردت آتيك فيما كنت أعرفه ... أن قد تسر به في بعض هيئاتي فمن رآني رأى مولهة ... عجيبة الزي تبكي بين أموات وقالت عاتكة بنت زيد زوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه اليوم يمشي بسيد وقالت فيه: وفجعني فيروز لا درّ درّه ... بأبيض تال للكتاب نجيب رؤف على الداني غليظ على العدا ... أخي ثقة في النائبات مجيب متى ما يقل لا يكذ القول فعله ... يريع إلى الخيرات غير قطوب وقال الأصمعي: رأيت بصحراء جارية قد ألصقت خذها بقبر وهي تبكي وتقول: خدّي يقيك خشونة اللحد ... وقليلة لك سيدي خدّي يا ساكن القبر الذي بوفاته ... عميت على مسالك الرشد اسمع أبثك ولعلني ... أطفي بذلك حرقة الوجد وكان أمير المؤمنين الأمين قد عقد على لبانة ريطة بن علي فقتل عنها قبل البناء بها، فقالت تبكيه. أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس

أبكي على سيد فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس من للحروب التي تكون بها ... إن أضرمت نارها بلا قبس من لليتامى إذا هم سغبوا ... وكل عان وكل محتبس أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس وقال الأصمعي: خرجت إلى مقابر البصرة فإذا أنا بامرأة على قبر من أجمل النساء وهي تندب صاحبه وتقول: هل أخبر سائليه ... أم قرّ عينا بزائريه يا جبلا كان امتناع ... وطود عز لآمليه يا نخلة طلعها نضيد ... يقرب من كف مجتنيه يا موت ماذا أردت مني ... حققت ما كنت أتقيه دهر رماني بفقد إلفي ... أذم دهري واشتكيه آمنك الله كل خوف ... وكل ما كنت تتقيه أسكنك الله في جنان ... تكون أمناً لساكنيه قال: فقالت لها يا أمة الله ما هذا منك؟ قالت لو علمت مكانك ما أنشدت حرفاً! هذا زوجي وسروري وأنسي. والله لا زالت هكذا أبداً أو ألحق به.

في التذمم من الأزواج

في التذمم من الأزواج قالت امرأة تذكر ضيق صدرها وفرط عنائها من زوجها: يا من يلذذ نفسه بعذابي ... ويرى مقاربتي أشد عذاب مهما يلاقي الصابرون فإنهم ... يؤتون أجرهم بغير حساب لو كنت من أهل الوفاء وفيت لي ... إن الوفاء حلى أولى الألباب ما زلت في استعطاف قلبك بالهوى ... كالمرتجي مطراً بغير سحاب يا رحمتي لي في يديك ورحمتي ... لي منك يا شينا من الأصحاب يا ليتني من قبل ملكك عصمتي ... أمسيت ملكا في يد الأعراب هل لي إليك إساة جازيتها ... إلا لباسي حلة الآداب وحدث القالي قال كان رجل من أهل الشام مع الحجاج يحضر طعامه فكتب إلى امرأته يعلمها بذلك فكتب إليه: أيهدي لي القرطاس والخبر حاجتي ... وأنت على باب الأمير بطين إذا غبت لم تذكر صديقاً ولم تقم ... فأنت على ما في يديك ضنين فأنت ككلب السوء ضيع أهله ... فيهزل أهل البيت وهو سمين

في الأنفة والإباء

في الأنفة والإباء دخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد فرأى امرأة بدوية أنكرها فقال لها من أنت؟ قالت أنا الوالهة الحرّى ليلى الأخيليَّة. قال من القائل: أريقت جفان ابن خلع فأصبحت ... حياض الندى بهن المراتب فعُفَّاؤُها لَهفي يطوفون حوله ... كما انقض عرش البئر والورد عاصب قالت أنا الذي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا. قالت: ما أبقي الله لك؛ نسباً قُريشياَّ وعيشاً رخيا، وإمرة مطاعة. قال أفردته بالكرم! قالت: أفردته بما انفرد به فقالت عاتكة لعبد الملك: قد جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها، ولست لِيَزِيد إنن شفَّعتها من حاجاتها لتقديمها أعرابيا جِلْفاً جافيا على أمير المؤمنين، فوثبت ليلى فجلست على راحلتها وقالت: ستحملني ورحلي ذات لَوثٍ ... عليها بنت آباء كرام إذا جعلت سواد الشام دوني ... وأغلق دونها باب اللئام فليس بعائد أبداً إليهم ... ذوو الحاجات في غلس الظلام أعاتك لو رأيت غداة بنّا ... سلو النفس عنكم واعتزامي إذاً لعلمت واستيقنت أبي ... مشيعة ولم ترعَىْ ذمامي أأجعل مثل ما وخدت برحلي ... أبا الذبَّان فوه الدهر دامي معاذ الله ما وخدت برحلي ... تغذ السير في البلد التهامي أقلت خليفة فسواه أحجي ... بإمرته وأولي بالشآم لئام الملك حين تُعد كَعبٌ ... ذوو الأخطار والخطَطِ الجسام

آخر صفحة في كتاب العظائم

آخر صفحة في كتاب العظائم زبيدة بنت جعفر هي كوكب السحر في سماء العظائم، وآخر السُّوَرِ من كتاب العزائم، وهي زبيدة بنت جعفر، حفيدة المنصور، وزوج الرشيد، وأم الأمين. نشأت زبيدة في مهد الدولة العباسية، فكانت مهبط الحب وموطن الرعاية من قلوب بني العباس، وأخصهم فحل أجمتهم وركن دولتهم أبو جعفر المنصور، فقد كان يؤثرها بقلبه ويختصها بحبه، وهو الذي دعاها زبيدة لما رأى من بَضاضتها ونعومتها وقد أظهر من إعزازها والمغالاة بها يوم زفها عمها المهدي إلى ابنه الرشيد ما لا يتسع له مجال الخيال. فقد ألقي عليها من غوالي اللآلئ ما أثقلها وعاق سيرها. بل لقد نثر اللؤلؤ في جنبات طريقها على البسط الموشية بأسلاك الذهب. وكان لها من قلب الرشيد حِمى لا يرام. وبرغم من تصديق له من جواري الفرس وما تأنقن فيه من حسن مخضوب، وجمال مجلوب، وما ابتدعنه من ضروب اللهو، وفنون الإيقاع، وما امتزن به من خلابة ودعابة - برغم ذلك كله لبثت زبيدة ربة القول الفصل في قلبه وقصره ودولته. أما وفور فضلها، وسماح يدها وعظمة قلبها، ونفاذ لبها، ونبل خليقتها، وصفاء قريحتها، فمما سار مسار الأمثال، وذلك ميراث أمهاتها من عقائل قريس، وسلائل بني هاشم. وحديث حجها، وما ابتنت فيه من عظائم، وقدمت من مكارم، حديث لا يدع لقائل قولا ولا لمفتخر سبيلا، فقد بلغ ما بذلت فيما نولت من بر وما

ابتنت في طريق مكة من مساجد ومنازل ومشارب ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وما كان ذلك كله إذا قيس بعين زبيدة شيئاً مذكورا. وقبل أن نأخذ في القول عن عين زبيدة تقول نقول كلمتنا في الأمين وما ذهب من مقالات السوء عنه، فرب قائل يقول: وأي أثر تركته المرأة العظيمة في ولدها الخليع؟ أستغفر الله ما كان الأمين خليعاً، ولا مائقا، ولا مارقا، ولا سرفا في دينه ودنياه بل كان شأنه كشأن أبناء النابهات من العرب، كف نَدِية، وهمة قصية، وفطنة هاشمية، وظل في الفضل ممدود، وأمد في النبل غير محدود، ولكن هُمُ المرجفون، من شيعة المأمون وقالة السوء من شعوبية الفرس، ألحقوا به ما ألحقوا ظلماً وزوراً لأنه اعتصم بالعرب، وجعلهم حزبه وشيعته، وترك ما سنه آباؤه من استدناء الفرس، وابتغاء الوسيلة عندهم، وتفويض الأمر كله إليهم، فنزعوا إلى المأمون ونزع إليهم لما بينه وبينهم من وشيج الرحم وفرط الهوى، فأثاروها على الخليفة العربي حملة فارسية، وأجلب بهم المأمون على أخيه فساروا إليه محدَّدي الأظافر، مرهفي الأنياب، حتى هتكوا عليه داره فذبحوه وحملوا رأسه إلى صاحبهم فهل رأيت أشدّ وأشنع من ذلك؟ أخ يقتل أخاه، ويروى نفسه بدمه، ويحمل رأسه من بغداد إلى أعماق بلاد الفرس؛ ليجعله مسلاة الأعاجم وملهاة الموالي يقولون إن الأمين أسرف في الشراب فاللهم إنهم كذبوا، لقد علموا أن الرشيد حدّ ابنه المأمون في الخمر أو ما هو شر منها، فأما الأمين فلم يكد يلي أمر المسلمين حتى ارتهن أبا نواس في سجنه وأطال فيه بلاءه وعناءه، لأنه لجّ في الخمر وأكثر من ذكرها.

لعمري لقد ذل العرب بموت الأمين ذلة تصدع لها ركن الإسلام صدعا لم يجبره المأمون بما اجتلب من علم وأدب، حتى لقد قال قائلهم: سألونا عن حالنا كيف أنتم ... مَنْ هَوَى نجمه فكيف يكون نحن قوم أَذلنا حادث الده ... ر فَظَلْنا لريبه نستكين نتمنى من الأمين إياباً ... ليت شعري وأين منا الأمين وإن أعوزتك صفات الأمين، فاستمع لما قالته فيه لبانة ابنة ريطة ونحن نعيد شيئاً منه لحاجتنا إليه ونعلم أنّ الشعراء وإن أغرقوا في الصفات فهم لا يخلقونها قالت لبانة: أبكيت لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس حتى قالت: من للحروب التي تكون بها ... إن أضرمت نارها بلا قَبَس من لليتامى إذا هم سبغوا ... وكل عان وكل محتبس أم من لِبرّ من لفائدة ... أم من لذكر في الغلس وقال أبو نواس في رثائه: أيا أمين الله من للندى ... وعصمة الضعفى وفك الأسير خلفتنا بعدك نبكي ... دنياك والدين بدمع غزير يا ويلنا بعدك ماذا بنا ... من ضنك صروف الدهور لا خير للأحياء في عيشهم ... بعدك والزلفى لأهل القبور وعلى ذكر الأمين وأمه زيد نذكر لها وصية أوصت بها علي بن عيسى حين خرج للقاء جيش المأمون يا علي إنّ أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإني على عبد الله المأمون متعطفة مشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى. وإنما ولدي ملك

نافس أخاه في سلطانه، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ولا تَجْبَههُ بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوره في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه إذا ركب، وإن شتمت فاحتمل منه. فهل عرف المأمون أو بطانته أن يوصوا طاهر بن الحسين بمثل هذا؟ ونعود إلى ما نوهنا بالقول عنه في عين زبيدة فنقول: إذا قيست الآثار بما تنال على الدهر من خلود، وما ينال الناس منها من دفع غائلة، وتنفيس ضائقة، فكل عمل دون ذلك العمل الجليل، مهين ضئيل. وليس جلال الأثر أن تذهب به أقطار السماء، وتريق على جنباته دماء الضعفاء؛ ثم لا يكون للناس منه إلا أنه جبل يسامي الجبل الأشم، والغراب الأعصم، فإن ذلك سمة من سمات الظلم، ونزعة من نزعات الاستبداد، ولعمري إن كوخاً من هشيم الكلأ لامرأة ضعيفة معوزة، أعظم وأفضل في شرعه الإنصاف منه. لذلك كانت عين زبيدة أثراً صالحاً تفنى الآثار وتتحطم المعالم. لم يكن لأهل مكة من المناهل إلا المسايل التي يجودها المطر أحياناً، وبعض البئار التي تفيض آناً وتجف آناً، فإن جفاهم الغيث عاماً فالويل لهم ولكل راغية وثاغية عندهم. أما الحجاج فكانوا يحتملون من قرب ما يؤودهم ويوقر ظهورهم، ولقد أخذ بقلب زبيدة العظيم ما علمت في حجها أن رواية الماء تباع بدينار وأن الفقير إنما يتبلع بما يتساقط من قطرات الغنى فاعتزمت روّى الله بدنها أن تحفر

لآل مكة ولقصاد البيت الحرام نهراً جاريا يتصل بمنابع الماء ومساقط المطر من بعد الشقة ووعورة الطريق ما بلغت. ولم يسنح بخاطر أحد منذ عهد إسماعيل صلوات الله عليه حتى عهد زبيدة رضي الله عنها مثل ذلك الخاطر الوثاب، خاطر إجراء نهر بين شعاب مكة. بل ولم يتمنه تمنياً، لأنه أبعد من حدّ التمني. أما زبيدة التي تحتكم على خراج الدولة الإسلامية، والتي لها من مالها وجواهرها ما لا تفي به الأرقام، ولا تحيط به الوهام، والتي فاض حنانها، وثارت عاطفتها، إلى حد لا يدفع ولا يرد فقد اعتزمت أن تجري ذلك النهر ولو كان سبيله دجلة والفرات. هنالك دَعَت خازن موالها وامرأته أن يدعو العُرفاء والمهندسين والعمال من أطراف الأرض وأقاصي البلاد فعظم خازنها وما يُسْتَنفذ من المال فيه فقالت زبيدة تلك الكلمة الخالدة: اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً فلم يكن بعد ذلك إلا أن يراض العمل على اعتسافه، فيق إلى مكة أهل الكفاية من كل مهندس ناقد وعامل عتيد، فأخذوا يصلون بين منابع الماء في شعفات الجبال، ويظاهرون ذلك بما يحتفرون من الآبار، وما يعقمون من المسايل، ثم يغلغلون ذلك كله بين أعطاف الصخور تارة وفي أعماق الأرض طوراً حتى ينتهي ذلك كله إلى النهر الذي احتفروه. وأهم ما اعتمدوا عليه عين حنين في جبال طاد إلى الشمال من عرفة وعلى مدى خمسة وثلاثين كيلو مترا من مكة أعزها الله، وتجري في واد حنين ثم ظاهروا ذلك بمجرى آخر من وادي النعمان من مسايل جبال كسرى إلى الشرق والجنوب من عرفات وعلى مدى عشرة كيلو مترات منها وعززوا الْمَجْرَيبين بعد ذلك بسبع أقنية تتبعوا فيها مساقط السيل فسار ذلك كله في ممر عظيم بين الصخور حتى

ينتهي إلي فينحدر في خزان عميق نقروه لذلك في الجبل وسموه إلى اليوم بئر زبيدة ومن هنالك يسير الماء في فرعين: يذهب أحدهما إلى عرفات، وينتهي الآخر إلى مسجد نمرة. ولهذه العين بل لذلك النهر الفرات مَوَادع في أعماق أرض مكة يخزن الماء فيها. ولكي لا يأسَنَ الماء صرف ما فضل منه عن ري الظماء إلى بركة ماجن بالمسفلة فقام حولها الزهر الناضر والثمر الَجني. تلك هي عين زبيدة التي احتملت ماء الحياة سائغة هنية إلى أم القرى، إلى مُتَّجه أبصار المسلمين، ومعتصم أقطارهم، ومناط وحدتهم، وقبلة جماعته، إلى الوادي المقدس الذي يجتمع فيه ضيوف الله في بيته. ويصعدون فوق مرتقى رحمته، تهفو مآزرهم على مناكبهم، وتجف قلوبهم بين أعطافهم، وتحول دموعهم في مآقيهم. وهم يهتفون بصوت واحد ينبعث من قلب واحد لبيك اللهم لبيك فإن أظمائتهم مواقفهم فمن ذلك المنهل الطاهر المطهر نُهلةُ ريقهم، ونقيع زفراتهم وبلال أكبادهم. ذلك أثر المرأة التي تركت هُجناء الرجال في أودية الضلال يجد بهم الدهر وهم عنه لا هون؛ ويشتدّ بهم الأمر وهم في غيهم يعمهون. تلك هي النفوس التي صاغها الله من روحه، وروَّاها من رحمته، واصطنعها لإذاعة خُلُقه، وهيأها لتزكية خَلقهِ، وابتعثها غُرَّةً في جبين الزمان وأمنةً من كيد الحدثان. سلام على تلك الخلائق إنها ... مسلمة من كل عار ومأتم

الأمة العربية بين الرأي والهوى

الأمة العربية بين الرأي والهوى كان على العرب بعد أن لحق رسول الله بربه أن يبتغوا الوسائل لنشر دينه وإذاعة دعوته، وكان عليهم حين لا تجد الحجة البالغة سبيلا إلى القلوب أن يجعلوا السيف كفيلا بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وبقدر ما كانت الأمانة الملقاة على عواتقهم فادحة والغاية بعيدة كان جهدهم كذلك فادحاً وهمتهم بعيدة، فقد وثبوا وثبة رجفت لها قوائم الأرض، فلم يبقى سهل ولا جبل، ولم يبق قطر ولا مصر، ولم يبقى عرش ولا تاج إلا تبدل حالا بعد حال، وكذلك صاروا يضربون في مناكب الأرض فمن وادعهم ودخل في ذمتهم عاهدوه على الوفاء له والذود عنه، ومن حشد لهم ونهض لقتالهم وفرّقوا جمعه ومزقوا شمله ونكسوا وتولوا حكومته، وما كانت قوتهم التي أخضعت لهم الرقاب وذلك لهم الصعاب في وميض سيوفهم ولا عديد جنودهم ولا قوة سواعدهم ولا نفاذ آرائهم فما من أمة ممن ناصبوها الحرب إلا وهي أشد منهم قوة، وأكثر عدداً، وأسنى تدبيرا، وأنفذ تفكيراً، ولكنها كانت في قلوبهم التي ملأ الإيمان أقطارها فلم يدع فيها مطمعاً في أمل ولا مستمعاً بمتاع، وفي نفوسهم التي استمكنت العفة من صميمها فلم تفتنها المآرب ولم تلوثها الشهوات، وفي مشاعرهم التي لا تريع لآية من آيات الكتاب إلا ترقرقت في العيون عبرة جارية، وتأججت في الصدور نارا حامية. تلك كانت قوتهم التي أعزهم بها الإسلام فآمنهم من خوف، وجمعهم من شتات، وجعلهم خير أمة أخرجت

للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. على أن تلك القوة الروعة كان يساورها خطر محيق من الفتنة بما حوت الممالك المفتوحة من عيش ناعم، وملك باسم وزهو ولهو، وعزف وقصف، وما وراء ذلك مما يفسد سرائر القوم، ويكدر ضمائرهم ويطفئ نور اليقين من قلوبهم، ويخمد نار الحمية في صدورهم. وكان الإشفاق من وبال ذلك الداء أشد ما خامر قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وفي سبيله ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته الخالدة إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ومن أجله حرّم على رجال المسلمين أن يتحلوا بالذهب وقال للمتختم به: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده وحرّم عليهم لبس الحرير وقال: إنما يلبسه من لا خلاق له، وأشباه ذلك، مما كبح به الرسول جماح الفتن وأخمد به جمرة الشهوات كثيرة لا يناله التعداد. وكان ذلك الإشفاق مما يهيج اللوعة والحسرات في صدور الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومن قوله وهو مرتكس في مرض موته يخاطب المهاجرين من أصحاب رسول الله: والله لتتخذنّ نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم على حسك السعدان والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. وبينا كان الفاتحون يمعنون في أعماق فارس والروم وكانت مغانم العدوّ وسباياه تتوارد على الخليفة الأيد عمر بن الخطاب بينا كان ذلك كله وكان عمر في شغل بما عسى أن يصيب العرب من تلك الدنيا المقبلة والحياة المجلوة، وهو الذي يقول بعد أن وطئ المسلمون أعرف مدائن كسرى ليت بيني وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم ولا يصلون إلينا.

وكانت رهبة الدين وهيبة الخلافة لا تزالان تعقدان على عيون العرب حجاباً لا ينفذ النظر منه إلى متاع الحياة، وكانوا لا يزالون من نشر دينهم على غاية لم يبلغوها وهي غاية تملك عليهم خواطر نفوسهم ومدارج أنفسهم فلا يشعرون إلا بها ولا يحيون إلا لها ولا يلمحون ما دونها فلم تأخذهم لذلك فتنة ولم تفتنهم شهوة، ولم تبهرهم زينة. ولعلك تعلم أن مما أثار الناس على الشهيد المظلوم عثمان بن عفان وحملهم على اقتحام داره وسفك دمه ميله قليلا إلى ترفيه نفسه وساقوا من الأمثلة لذلك تعلية بيته وتزين جدرانه واتخاذ الوصائف لخدمته. وكانت فتنة عاتية قاتل فيها المسلمون بعضهم بعضاً وأذاقوا بعضهم بأس بعض ولم تنكشف حتى عصفت بعصر الخلافة وذهبت بجيل النبوة. وجاءت الدولة الأموية، وفي عهدها أخذت رهبة الدين تنحسر عن قلوب العرب وقيلت أقوال لم تكن قبل تقال واجترحت أفعال لم تكن من قبل تفعل؛ وأي قول أشنع من أن يقوم شاعر مسلم بين سمع المسلمين وبصرهم فيقص عليهم حديث اعتدائه أعراض المسلمات ثم لا يجد من الناس دفعاً ولا استنكارا. بل أي جرم أبشع من أن يقف شاعر نصراني بين يدي الخليفة الأموي فيسخر من شريعة الإسلام بقوله: ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بقائل كالعير يوما ... قبيل الصبح: حي على الفلاح ولكني سأشربها صبوحاً ... وأسجد قبل منبلج الصباح ثم لا ينثني من لدن الخليفة إلا مثوبا موفوراً. وهل أتاك حديث أبنا النبي وأحبائه الذين عاهد الله المسلمين على مودتهم بقوله تعالت آيته (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) أرأيت كيف قتلهم رجال هذه الدولة على مدرجة الطريق طعنا بالرماح وحزّا بالسيوف وصبراً

بالظمأ ثم ساقوا نساءهم سواهم الوجوه حواسر الرءوس تحملهن الإبل المعراة من بطحاء كربلاء إلى مقرّ الملك الأموي بدمشق. والمسلمون بمسمع وبمرصد ... لا جازع منهم ولا متصدع على هذه السنن من العقوق للإسلام سار الأمويون في غزو مدينة رسول الله وإباحتها وهدم الكعبة وإحراقها. وكان أكبر الظن بالقوم وتلك حالهم في انتهاك الحرمات أن يستمعوا بكل ما حوت البلاد المفتوحة من لذة ونعيم، لولا أن معاوية بن أبي سفيان شيخ بني أمية وفحل أجمعتهم نفخ في العرب روح العصبية العربية وحكم الأمم على أنهم السادة وغيرهم المسودون وأنهم الآمرون وغيرهم المأمورون فحجزهم بذلك عن مخالطة من يلونهم من الأمم إلا مخالطة الحذر المترفع الذي يرى الاتصال الوثيق بمواليه منقصة وعاراً. ذلك إلى أن العرب قضوا الشطر الأكبر من ذلك العهد وهم فرق متناحرة، بعضهم لبعض عدو، ليس منهم إلا من كفر خصمه واستحل ذمه؛ فهناك أهل الشام ومن حولهم من الأعراب يشايعون بني أمية، وهناك أهل العراق يبثون الدعوة لبني هاشم، وهناك أهل الحجاز يلوذون بابن الزبير، وهناك الخوارج الذين خرجوا على الخلافة الموروثة والملك المغصوب، فأي أولئك يتسع له الوقت ليمرح في مجال اللهو ويأخذ بأسباب النعيم. والحق أن شيئاً من وسائل اللهو وجُلب إلى الأمصار الثلاث دمشق والبصرة والمدينة وتذوقه الخواص من سادات العرب حين اطمأن وانقطعت أواصر الفتن، ومن هذه الملهيات فن الغناء، جاء به جماعة من موالي الفرس وعلموه القيان الفارسيات فأسمعن العرب أشعارهم موقعة على النغم الفارسي، على أن

ذلك لم يعد القليل من ذوي الجاه يسمعونه في كثير من التجمل والاعتدال. وكان حكماء بني أمية وعظمائهم يتواصلون باجتناب السماع وما يستدعيه من تبسط وابتذال. وهذا الوليد بن عبد الملك يطرق سمعه غناء مغن في عسكره ويرى جارية من جواريه تصغي إلى الصوت فيدعو بالمغني ويأمر بخصائه ثم يأمر بخصاء مخنثي المدينة الذين يغشون الديار ويغنون نساءها بالصوت المخنث والكلام المبذول. وهذا مَسْلَمة بن عبد الملك يستمع غناء المغنيات في قصر أخيه الخليفة سليمان فيزجره في غير رفق ولا هوادة فلا يسع الخليفة إلا أن يطوي بساط الغناء ثم لا يعود إليه. وكان من سنة المستمعين من خلفاء بني أمية أن يجلسوا وبينهم وبين ندمائهم ستر مضروب تصوّناً واستتاراً واحتفاظاً بما يطلبه الملك من هيبة ووقار. ولقد مكن الخليفة الخليع الوليد بن يزيد لخصومه من أهل اليمن أن يهتكوا عليه ستر الخلافة ويقتحمون عليه دارة الملك ويقتلوه جهرة بين قومه وعشيرته لأنه انحرف عن سبيل آبائه إلى سبيل اللهو والخلاعة والابتذال. وفي ذلك يقول قائلهم: قتلنا الفارس المختال لما ... أضاع الحق واتبع الضلالا ألا أبلغ بني مروان عني ... بأن الملك قد أودى فزالا ولم يكن للجواري في ذلك العهد شأن ولا خطر، فلم يُتخذن إلا قهارم للخدمة أو سراري للاستيلاد، وهم يسمون جفن سلاح تشبيهاً لها بغمد السيف الذي لا شأن له وإنما الشأن لما فيه. وقد ابتكر لهم هذه التسمية همَّام بن غالب الفرزدق في قوله وقد ماتت جارية حامل له: وجفن سلاح قد رزئت فلم أُنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو آن المنايا أمهلته لياليا

وكانوا ينكرون الهُجناء - أبناء الإماء - أن يطلبون الخلافة ولو كانوا من بيت النبوة! وقد زجر هشام بن عبد الملك يزيد بن علي عن طلب الخلافة بقوله: بلغني انك تطلب الخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة! وكان مسلمة بن عبد الملك أشجع إخوانه وأبعدهم همة، ورغم ذلك دُفع عن الخلافة دونهم لأنه هجين. وكانت المرأة العربية بفضل تلك العصبية العربية في الذَّروة والسَّنام من الإعزاز والإكرام. فقد أصبحت تجر أذيال النعمة بين خدمها ووصائفها وترفع أعلام العزة بين آلها وذويها من الخلفاء والأمراء والقادة والولاة ومن إليهم من كل ذي موقف مشهود ومقام محمود. ولم يؤثر ذلك النعيم الذي اجتَلَته المرأة العربية في شيء من نقاء فطرتها ولا صفاء طبيعتها ولا قسوة نفسها ولا توفرها على تربية أبنائها لأن العصبية العربية استبقت للرجل حميته وغيرته وعفته، والرجل مرآة المرأة. على أن هذه العصبية التي صنعت نفوس العرب عن التهور في ظلال الشهوات كانت مزلق الأمويين إلى السقوط الذي لا قيام بعده. فإن الفرس الذين أوطنهم العرب مواطن الخسف وأوردهم موارد الهوان لم يطيقوا القرار على ذلك طويلا. وكيف يطيقونه وهم أهل الرأي والعلم والتدبير والعدد؟ وكيف يقرّون وقد وجدوا في صفوف العرب ثغرة يقاتلون منها الأمويين باسم الدين؟ أو لم يتتبع الأمويين سلالة النبي بالقتل والصلب والحبس والتشريد؟ فما لهم لا يغضبون لآل النبي ويثورون بهم ويتخذون من دمائهم وأشلائهم سهاماً مسدّدة على أعدأئهم؟ أو ليس قميص عثمان المخضب بدمه هو الذي جمع لمعاوية الجموع وساق له الجيوش حين نصبه للعيون بمسجد دمشق حتى لبس به قميص

الخلافة؟ إذاً فلتكن الدماء المراقة على بطحاء كربلاء هي التي تدك عروشهم دكا! والفرس أعرف أمم الشرق القديم بتدبير المكايد وتنظيم الثورات، ولا تنس أن العصبية العربية أرجعت العرب إلى قديم أمرهم قبل الإسلام من فرقة وشتات، فبعد أن كانوا جميعاً قلباً واحداً تهزه كلمة واحدة وتدفعه عقيدة واحدة وتجتذبه غاية واحدة أصبحوا شعوباً وقبائل! فهنالك قحطان وعدنان، وهنالك مضر وربيعة، وهنالك قيس وتميم، وهنالك فرعا قريش من أمية وهاشم، وكل منهم يفتخر بعزه القديم ومجده الصميم. وفي تفاريق هذه الفرقة جمع الفرس شملهم وألفوا وحدتهم وأحكموا مادّتهم وجمعوا عديدهم ثم استاقوا الجيوش الزاخرة من إقليم خراسان فسارت حتى التقت بجيوش بني أمية على نهر الزاب ولم تكن إلا جولة بعد جولة حتى انتكثت شمل الأمويين والتاثت صفوفهم وتبدّدت جماعتهم وفر خليفتهم حتى لقي مصرعه في مصر، وعلى أنقاض ذلك الملك الدابر قامت خلافة بني العباس. وكان ملك بني العباس ملكا فارسيا يعلوه خليفة عربي، فالفرس هم ركن الخلافة ودعامتها، وهم ولاتها وساستها، وهم كفاتها وقادتها، وهم مشيروها ووزراؤها، وهم مفكروها وعلماؤها، وهم كتابها وشعراؤها، وهم مغنوها وندماؤها. وانتقلت الخلافة من بلاد العرب إلى العراق الفارسي فأصبحت بغداد خلفاً من المدائن. وأراد الفرس أن يخمدوا آخر جذوة من الحمية العربية وأن يقطعوا آخر عقدة من العصبية العربية فأجلبوا عليهم بكل ما يوهن النفوس ويصبي القلوب من سماع وشراب وكواعب أتراب، وأغرقوهم في بحر طام من السرف والترف والزهر واللهو والمحارم والمآثم، ولم يمض غير قليل حتى راح العرب يخطرون في مطارف الفرس ويلعبون في ملاعب الفرس ويشربون في مشارب الفرس ويتأدّبون بآداب الفرس ويتخلقون بأخلاق الفرس. والمرآة والرجل كقوتي الكهرباء إذا تأثر أحدهما تأثر الآخر، وكذلك بدأت المرأة العربية تتأثر.

وكانت تلك المرأة منزلة في القلوب تعنوا لها الوجوه وتطمئن دونها النفوس. ولم يكن مرجع ذلك لما لها من جلال ودلال وغضارة ونضارة وخلابة ودعابة، فما كانت من ذلك في قليل ولا كثير، ولكنها كانت فيما تفرّدت به بين نساء العصور الأولى من سموّ الروح إلى أبعد مرتقى، وصفاء النفس إلى أتم غاية، وكان من أثر ما ذاع عنها من نبل وسناء وعزة وكبرياء وجلال في الطبع والخلق، وترفع في القول والفعل، وإسعاد للزوج والولد، حتى كان من ثمرتها تلك الأمة التي جمعت أطراف الأرض وملكت نواحي الأمم في أقل من خمسين عاما. ومثل تلك المرأة إذا انحرفت عن المحجة وانثنت عن الغاية وأسفت إلى اللهو واستراحت إلى الشهوات خمد منها روح السمو وانهتك عنها ستر الجلال، وذلك ما قاد المرأة العربية إلى شفير الهاوية. وكانت أمور صرفت الرجل العربي عن المرأة العربية بعد أن كانت عينه التي بها يبصر، ويده التي عليها يعتمد، ونفسه التي بشعورها يشعر، وقلبه الذي بوعيه يعي؛ فلما أحاطت شهوته بعقله وغلبت مجانته على دينه وجد عن امرأته مصرفا، ثم ما زالت الصلة تهن والعقد تحلّ حتى استحال عدوّا لها يأخذ عليها مدارج أنفاسها ويحصي عليها لحظات عينها ونبرات صوتها وخطرات نفسها، وكان أشدّ ما فتن الرجل في نفسه وغلبه على عقله وصرفه عن امرأته ثلاثة أشياء: الأول: الجواري اللواتي سباهن العرب من مختلف الأقطار والأمصار. الثاني: الديارات التي بثها الروم والسريان وأشباههما في تفاريق البلاد لصرف العرب أولاً عن قوميتهم وأخيراً عن دينهم. الثالث: ذيوع البغاء وأمثال البغاء في حواضر العراق. وسنختص كلا من هذه الثلاثة بكلمة تكشف عن حقيقته وتبين ما كان له من عمق الأثر وبعد الخطر في الرجل العربي والمرأة العربية.

الجواري

الجواري كل ما وراء العدو من نفس ومال فهو في الله أفاءه على المسلمين وولىّ أمرهَ إمامهم، فإن شاء تجاوز عنه ومنّ به، وإن شاء بسط عليه يده وعاد به على ذوي الحق فيه. وبحكم ذلك كانت بنات العدوّ ونسوته من مغانم الحرب في كل بلد كان السيف حكم فتحه وامتلاكه. وقد خَلَصَ للمسلمين من وراء ذلك عدد لا يحده الإدراك من النساء على اختلاف أسنانهن وأجناسهن وأخطارهن، ومنهن الفارسيات والتركيات والأرمنيات والجرجيات والشركسيات والروميات والبربريات والحبشيات، وفيهنّ بنات الأكاسرة والقياصرة والأساور والبطارقة من كل قاصرة الطرف ناعمة الكف لم تبتذلها المهن ولم تمتهنها المحن. لم تَلْقَ بُؤساً ولم يضررُ بها عوز ... ولم تُرَجَّفْ مع الصالي إلى النار وكان قواد الدولة وولاة الأمصار يجمعون من أولئك أنضرهن وأنداهن صوتاً وأمثلهن أدباً ويرسلونهن إلى الخليفة وهو يصطفي منهن من يشاء ويثيب وزراءه وندماءه وخلصاءه بمن يشاء. ولقد ينبئك بما تجمع للخلفاء من الجواري ما روى ابن الأثير أن المتوكل أُهدي إليه في يوم واحد عشرون ألف جارية ولَهُن ولأشباههنّ بني قصر الجعفري حين ضاقت بهنّ مقاصير الخلافة في بغداد. وممن حديث تلك الكثرة أن الرشيد أهديت إليه جارية رائعة الجمال فاحتفل بها احتفالا أخرج فيه من جواريه المغنيات وساقيات الشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زي وأتم حلية، واتصل الخبر بزوجه زبيدة فالتهب صدرها غيظاً وغيرة، وفزعت إلى عُلَيّة بنت المهدي فصنعت لحناً بديعاً وخرجت هي وزبيدة في زهاء

ألفي جارية عليهن غرائب الثياب وكلهن بنشدن بصوت واحد ولحن واحد: منفصلٌ عنَي وما ... قلبَيِ عنه منفصلْ يا قاطعي اليوم لمِنْ ... نَوَيْتَ بعدي أنْ تصل فطرب الرشيد وقام حتى استقبل زبيدة وعُليَّةَ وقال لم أر كاليوم قَطّ! يا مَسرور! لا تبقين من بيت المال درهما إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثره يومئذ آلاف ألف. وعلى هذا السنن من الكثرة سار الخلفاء ومن دونهم من ذوي النعمة والثراء. وربما وقعت الفتاة الرود في سَهْم الزاهد الراغب في المال عنها فيبيعها من المقَيَّن وهو يذهب بها إلى جواريه فَيجْلُونها أحسن ويُزَيَّنها أنفس زينة ثم يعرضها للراغبين في معرضه من سوق الجواري أو يستبقيها في بيته ليُروَيها الشعر ويخرجها في الغناء، وبها وبمثلها تصبح داره مثابة القاصدين من الحلفاء ومن دونهم ليستروحوا منهن بحسن الحديث وطيب السماع، وربما رغب العظيم في اقتناء إحداهن فبذل لصاحبها غاية ما يتمناه. وكان الجواري أنفسهن ما يتهادى به ذوو الأخطار! وأفضل ما يثاب به الأدباء والشعراء والسُّمار، وبذلك انبثتن في كل موطن وحللن في كل دار. وإذا آملك أن يَسبي العرب هذا العدد العديد من النساء فاعلم أنهن اللواتي سبين العرب وملكن أزمتهم ووطئن أكتافهم، واقتعدن ظهورهم، وضربن بينهم وبين نسائهم بسور له باب ظاهره الحسن والدلال، وباطنه الذل والوبال. ذلك أنهن أصبحن عقدة تلك الحياة التي لم يعصمها دين ولم يحط بها رفق ولم يخالطها وقار، حياة الشرف والترف والشهوات واللذات. وكان لهنّ من وسائل امتلاك قلوب العرب ما يروض كل عصى، ويستقيد كل أبي، ويستميل كل نافر، ويستذل كل جامح.

الجمال

الجمال وأول تلك الوسائل الجمال، وأنت تعلم أن العرب فتحوا بلادا ليس لبلادهم شيء صفاء جوّها، ولا رخاء عيشها، ولا اعتدال إقليمها، ولا رقة نسيمها، ولا انسجام نعيمها، ولا ابتسام زهرها، ولا ازدهاء شجرها، فما يمنع نساءها أن يكون على سواء أولئك صفاء وبهاء، وجمالا واعتدالا؟ وقد احتوى الجميع بلد واحد وغذتهنّ طبيعة واحدة ونفحتهن نسمة واحدة. وكان من أيسر الأمور أن يطلب الجمال المطلق في واحدة فإن لم يكن ففي جماعة وهنّ من كثرة العد واختلاف النوع على مثال ما رأيت. التجمل وربما كان أفتن للعقول من الجمال، وأسبى منه للنفوس أن تحسن المرأة التجمل في زينتها وزينتها، وحديثها وإشارتها، وعبثها ودعابتها ودلها وخلاعتها، وجلوسها ومشيتها فتلك ضروب من الجمال لا يستوي النساء في تنسيقها ولا تأليفها. وربما أخرجتها المرأة في غير مُخرجها فأسأمت كل نفس وثقلت على كل روح، وقد تسيب بها مواضعها فتكون أمضى من الجمال سلاحا، وأعظم منه كبدا؛ والمرأة الفارسية أقدر نساء الشرق القديم على استلاب قلوب الرجال. ولقد شاء القدر أن تصارع المرأة الأجنبية ما في الرجل العربي من بداوة وحمية وعصبية فما زالت تفوق إليها من سهام الحسن المجلوب والجمال المخضوب ما مزق قوتها وأطفأ جمرتها. ولقد لذ هذا الصراع لبنات الفرس حتى الحرائر اللواتي لم يكتب عليهن رق ولم يفرض فيهن حق فكن يتزين بزي الجواري ويدلفن إلى سوقهن!! وعليهن الأوشحة والعصائب والأكاليل والتيجان، وبأيديهن المراوح وقد كتب على

كل ذلك بالذهب والجواهر من غرر الشعر ما تحار فيه القلوب والأبصار. فما كتبته إحداهنّ على جبينها بالمسك: كتبت في جبينها ... بعبير على قمر في سطور ثلاثة ... لعن الله من غدر وتناولت كفها ... ثم قلت اسمعي الخبر كل شيء سوى الخيا ... نة في الحب يغتفر ومما كتبته أخرى على عصابتها: فما زال يشكو الحب كأنما ... تنفس في أحشائه وتكلما فأبكى لديه رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما ومما كتبته أخرى: الكفر والسحر في عيني إذا نظرت ... فاغرب بعينيك يا مغرور عن عيني فإن لي سيف لحظ لست أغمده ... من صنعة الله لا من صنعة القين ومما كتبته واحدة على هلال في صدرها: أفلت من الحور الجنان ... وخلقت فتنة من يراني وربما ظهرت الجارية في زي فارس فتقلدت السيف واعتقلت الرمح واتخذت المنطقة على خصرها والقلنسوة فوق رأسها. ومما كتبته إحداهنّ على قلنسوتها: تأمّل حسن جارية ... يحار بوصفها القمر مذكرة مؤنثة ... فهي أنثى وهي ذكر

وعلى حمائل سيفها. لم يكفِهِ بِعَيْنَيْه ... يقتل من شاء بحديه حتى تردى مرهَفاً صارماً ... فكيف أبقى بين سيفيه فلو تراه لابساً درعهُ ... يخطِر فيها بين صفيه علمت أن السيف من طرفه ... أقتل من سيف بكفيه وأشباه ذلك كثير. إن القَيْنَةَ لا تكاد تناصح في ودها لأنا مكَتَسَبَة ومجبولة على نصب الحبالة والشرك للمتربطين ليقعُوا في أنشوطتها، فإذا شاهدها المشاهد رمتهُ باللحظ وداعبته بالنسم وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشرب، وأظهرت الشوق إلى طول مكثه، والصبابة لسرعة عودتهِ، والحزن لفراقهِ، فإذا أحسَّتْ بأن سِحْرها قد تغلب فيه، وأنهُ قد تغلغل في الشرك، تَزَيَّدَت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أن الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواها، وتقسم له أنها مدت الدواة بدمعها، وبلت السحاء بريقها، وأنه سبْحها وشجوها في فكرتها، وضميرها في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تُؤثرُ أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه ولا تريده لماله بل لنفسه، ثم جعلت الكتاب في سلاسل طومار وختمته بزعفران، وشدته بقطعة زير، وأظهرت سره عند مواليها ليكون المغرور أوثق بها، وألحتْ في اقتضاب جوانبه، فإن أٌجيب عنه ادّعت أنها صيرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:

وصحيفة تحكي الضمير ... مليحةٍ نغَماتُها جاَءت وقد فرح الفؤا ... دُ لطول ما استبطأتُها فَضَحِكْتُ حين رأيتها ... وبكيت حين قرأتُها عيني رأت ما أنكرت ... فتبادرت عبراتها أظلوم نفسي في يديك ... حياتها ووفاتها ثم تغنت حينئذ بـ: إن كتاب نَدْماني مُحَدَّثي تارةً وريحاني أضحكني في الكتاب ... ثم تمادى به فأبكاني ثم تجنت عليه الذنوب، وتغايرت على أهله، ووصمتُهُ النظر إلى صواحبها، وسقته أنصاف أقدحها وجمشته بعُضُوض تفاحها، ومنحته من ريحانها، وزودته عند انصرافه خصلة من شعرها، وقطعة من مرْطها، وشظية من مضاربها وأهدت إليه في النيروز تكة وسكرا، وفي المرجان خاتماً وتفاحاً، ونقشت على خاتمها رسمهُ، وأبدت عند العثرة اسمهُ وغنته إذا رأته: نظرُ المِحبَّ نعيم ... وصدوده خطر عليه عظيم ثم أخبرته أنها لا تنام شوقاً، ولا تهنأ بالطعام وجداً عليه، ولا تمل - إذا غاب - الدموع فيه، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت، وأنها قد جمعت قِنَّيَنَةً من دموعها من البكاء، وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون: وأهوى من الأسماء ما رافق اسمها ... وأشْبهَهُ أو كان منهُ مدانيا وعند الدعاء به قوله: وداع دعا نحن بالخيف من مني ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائر كان في صدري

أدب الجواري

أدب الجواري بذلك وأشبه استكمن الجواري من شهوات العرب، وبقي أن يملكن عليهم مجال أرواحهم، ويأخذن عليهم سبل مشاعرهم، ويحففن بهم من كل نواحيهم والعربي شاعر يهب الشعر قلبه وماله، طروب يهزه رزام الناقلة، ويبكيه نوح الحمام، وبلاد فارس بما حباها الله من حسن وإشراق، مشرق شمس الشعر، ومهبط وحي الغناء؛ وليس ينقص الفتاة الفارسية إلا أن تروي الشعر العربي حتى تكون شاعرة ساحرة، ومغنية مضنية، وذلك ما أقبل عليه الجواري ومؤدبوهنّ إِقبالا لا حدّ له. وكان المقَيَنون يحتازون الجارية، فان وجدوا منها لباقة في اللفظ أو رخامه في الصوت دفعوا بها إلى المؤدين والمغنين فيروّونها الشعر ويلقنونها الغناء، فإن تم لها هذان نبه شأنها، وتنافس ذوو السلطان في ابتغائها والمغالاة بها، ولصاحبها من وراء ذلك ربح غير معدود، وحفظ غير محدود. وكانوا قبل عهد بني العباس إلا يعلمون الغناء إلا الصفراء والسود، فلما ازدهر العهد العباسي وظهر إبراهيم الموصلي أخذ يختار الحسان ويعلمهن الغناء، فكانت داره أشبه ما تكون بمعهد موسيقى يتخرج فيه حسان المغنيات، فإذا تم ذلك لهن أخذ يبيعهن من الخليفة أو الوزير بما يكفل له الغنى والجاه والحظ العظيم. وفيما فعله إبراهيم يقول أبو عيينة: لا جزى الله الموصلي أبا إسحاق عنا ... خيراً ولا إحسانا جاءنا مرسلا بوحي من الشيطان ... أغلى به علينا القيانا من غناء كأنه سكرات الحب ... يصبي القلوب والآذانا ولم يمضي غير قليل حتى ظهرت الفرس في ميدان الشعر العربي والغناء العربي بدافعن الشعراء والمغنين بالمناكب، وأخذن يفرغن على الشعر العربي حلة مذهبة

النسيج، واضحة النهج، صفيَّة الديباجة، خفيفة الروح؛ وفي مذاهبهم سار الْمُرقون من الشُّعراء، أمثال إبراهيم بن العباس، وعلي بن الجهم، ومهيار الديلمي، ومن ذهب مذاهبهم ودرج على آثارهم. وكان هذا العصر عصر مطارحة للشعر بين الرجال والجواري، يبتدئ الشاعر ببيت من الشعر فتعارضه الجارية بمثله على وزنه وفي بقية معناه، وأكثر ما تكون الغلبة للنساء، فقد كُنَّ أسرعَ بديهة وأرقَّ طبعاً. ومن حديث ذلك أن اعرابيا ذهب إلى عنان جارية الناطفي وصاحبة أبي نواس فقال: بلغني أنك تقولين الشعر فقولي بيتاً. وكان السلوى الشاعر عندها فقال: قل أنت يا عم!! فقال السلوي: لقد جدَّ الفراق وعيل صبري ... عشية عيُرهم للبين زُمَّت فقال الأعرابي: نظرات إلى أواخرها ضُحَّيا ... وقد بانت وأرض الشام أمَّت فقالت عنان: كتمت هواكم في الصدر مني ... على أن الدموع عليَّ نمت فقال الأعرابي أنت والله أشعرنا ولولا أنكِ بحرمة رجل لقبلتك، ولكني أقبل البساط. وممن بديع المطارحة أن علي بن الجهم ألقى على فضل الشاعرة بحضرة المتوكل بيتاً غريب القافية ليُعْجزها فقال: لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا فما لبثت أن قالت: ولم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رَذاذا فعاتبوه فزاد عشقا ... فمات وجداً فكان ماذا

بذل

وسنسوق إليك في حديث الشواعر والمغنيات من ذلك شيئاً كثيراً. ومن فضل الشواعر من الجواري على نظرائهن من الرجال أنهن كن يجمعن الشعر والغناء، فكانت الجارية تقول الشعر ثم تُوّقعه ثم تتغنى به فتخرجه أحسن مخرج وتؤثر به أنفذ تأثير. بذل ومن هلاء بذل المغنية جارية جعفر بن موسى الهادي، وكانت أستاذة محسن ومحسنة، وكانت فيما ذكروا أروى خلق الله للِغناء وأخبار المغنين، وكانت قولها إنها تروي ثلاثين ألف صوت، لها كتاب جمعت فيه اثني عشر صوت ويقال إنها كتبته في يوم وليلة! وهو قولٌ ظاهر الغلق على أنه دليل على ما بلغته في فنّها من سموّ وبُعد غاية. وكان كلّ مغنّ يصف نفسه بالسبقِ في فنه والتفرّد في إحسانه إلا بين يدّي بذل فهنالك يتضاءل فخره ويلتبس سبيله حين تأخذ عليه نواحِيَ الفنّ فلا يجد عنها مَصْرفاً ولا مَحِيداً. وكان إبراهيم بن المهدي سيد الغناء يعظمها ويتوافى لها، ثم تغير بعد ذلك استغناء بنفسه عنها، فصارت إليه، فدعا بعود فغنت في طريقه واحدة وإيقاع واحد وإصبع واحدة مائة صوت لم يعرفه إبراهيم منها صوتاً واحداً، ووضعت العود وانصرفت فلم تدخل داره حتى طال عناؤه فيها وطلابه لها وتوسله إليها. ومن حديثهم أن شَيْخ المغنين إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنته في حضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة، ثم غنت ثلاثة أصوات وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه، فقالت للمأمون: يا أمير المؤمنين ثلاثة هي والله لأبيه أخذْتها من فيه! فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء لا غيره؟! فاشتدّ ذلك على إسحاق حتى رُؤِىَ في وجهه.

عنان

وكانت بذل لجعفر بن موسى الهادي فوصفت لمحمد الأمين في عهد خلافته فبعث إلى جعفر يسأله أن يُزِيره بذلاً فلم يفعل، فوافاه الأمين في منزله فسمع من الغناء ما لم يسمع مثله قط، وأحب الخليفة أن تكون له بذل فاستامها من ابن عمه، فقال جعفر: يا سيدي مثلي جارية. قال هبها لي، قال: هي مدبرة، فاحتال الأمين عليه حتى أسكره وأمره بحمل بذل إلى حرَّقته وانصرف بها، فلما أفاق جعفر سأل عنها فأخبر الخبر فسكت، فبعث إليه الأمين من غده فجاء وبذل جالسة فلم يقل شيئاً، فلما أراد أن ينصرف قال الأمين: أوقروا حراقة ابن عمى دراهم. فأوقرت فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم، ووهب لها الأمين من الجواهر ما لم يملك أحد مثله وبعد مقتله رغب غليها وجوه القواد والكتاب وبني هاشم في التزويج، فأبت وأقامت في مواطن الإجلال من الخلفاء والأمراء وصدور الدولة حتى ماتت. عنان وهي أحسن شعراء بديهة وأسبقهم نادرة وأعذبهم حديثاً وكل ذلك في رقة وجمال قلّ أن يكون لغيرها، وهي من مولدات اليمامة وبها كانت نشأتها ثم اشتراها الناطفي أحد المُقيّنين في بغداد، فكان بيته من أجلها مندَى العظماء والشعراء والعلماء. وكان أمراء الشعر يأتونها فيلقون عليها البيت أو البيتين فتجيزهما بما لم يخطر لهم على بال. ومن حديث مروان بن أبي حفصة شاعر المهدي والرشيد أن الناطفي لقيه فدعاه غلى بيته فانطلق معه، ودخل إلى عنان قبله، فقال لها: جئتك بأشعر الناس مروان ابن أبي حفصة، وكانت تشكو علة، فقالت إني عن مروان في شغْل. فأهوى إليها بالسوط، وقال لمروان، ادخل فدخل وهي تبكي ورأى الدمع ينحدر من عينها فقال: بكت عنانٌ فجرى دمعها ... كالدر إذ ينسلّ من خيطه

فقالت مسرعة: فليت من يضربها ظالماً ... تجفّ يمناه على سوطه فقال مروان: أعتق ما أملك إن كان في الجنّ والإنس أشعر منها. وقيل: إن الرشيد جلس ليلة ومعه سُمَّاُه، فغناه بعض من حضر منم المغنين بأبيات جرير التي يقول فيها: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال مَعينا فطرب لها الرشيد طرباً شديداً، وقال لجلسائه: هل نمكم من يجيز هذه الأبيات وله هذه البدرة - وبين يديه بَدْرَة من دنانير - فلم يصنعوا شيئاً، فقال خادم من خاصة خدمه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين، قال: شأنك، فاحتمل البدرة، ثم أتى الناطفي فقال: استأذن على عنان، فدخل وأخبرها الخبر، فقالت: ويحك وما الأبيات؟ فأنشدها إياها، فقالت اكتب: هيجت بالقول قد قلته ... داءً بقلبي ما يزال كمينا قد أينعت ثمراتهُ في روضها ... وسُقِين من ماء الهوى فَرَوِينا كذب الذين تَقَوَّلوا يا سيَّدي ... إن القلوب إذا هَوَيْن هوِينا فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون، فقال له: ويحك، من قالها؟ قال: عنان جارية الناطفي. فقال: حللتُ الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. فاشتراها منه بثلاثين ألفاً. وقال أحمد بن معاوية: تصفحت كتباً فوجدت فيها بيتاً جهدت جهدي أن أجد من يجيزه فلم أجد. فقال صديقي لي: عنك بعنان جارية الناطفي، فأتيتها فأنشدتها البيت وهو: وما زال يشكو الحبَّ حتى رأيتهُ ... تنفَّس من أحشائه وتكلما

فلم تلبث أن قالت ويبكي فأَبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيتُه دما ودخل عليها أبان بن عبد الحميد وأبو العباس بن رستم وهي في خيش، فقال لها أبان: العيش في الصيف خَيشُ. فقالت مسرعة: إذا لا قتالٌ وجيش، فأنشدها أبو العباس بن رستم قول جرير: ظللْت أْوارى صاحبيَّ صبابتي ... وقد عَلقَتْني من هواك عَلُوق فقالت مسرعة: فقالت مسرعة إذا عقل الخوفُ اللسان تكلَّمتْ ... بأسراره عين عليه نطُوق ولعنان مع أبي نواس فصول طوال، وكان يتعرّض لها بما يظنه أن يحرجها، فتردّ عليه بما يُفحمه ويَقهره. وقد صرفنا القول عما تجاذباه من الشعر لأن أكثره مما يند على السمع ولهُجره ومجانته. ومن حديث الجد بينهما أنه دخل عليها وهي جالسة تبكي لما أصابها من ضرب الناطفي، فأومأ هذا إلى أبي نؤاس أن يكلمها، فقال أبو نؤاس: عنانُ لو وُجِدْتِ لي! فإنِّي من ... عمريَ في (آمن الرسول بما) فقالت: فإن تمادي ولا تماديت في ... قطعك حبلي أكن كَمن ختما فقال أبو نواس: عُلَّقْتُ مَنْ لو أتى على أَنْفُس الْ ... ماضِين والغابرين ما ندما فقالت: لو نظرت عينها إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما

بصبص

بصبص جارية أوتيت كثيراً من ملاحة الوجه وسحر الغناء. تلقت صناعتها عن الطبقة الأولى من المغنين. وكانت في رق يحيى بن نفيس، وكان يحيى صاحب قيان، يُرَوَّيَهن الشعر ويعلمهن الغناء، ومن أجل ذلك كانت داره بالمدينة مهبطا للوجوه والأشراف، ووصفت للمهدي وهو ولي عهد فاشتراها بسبعة عشر ألف دينار، وقيل إنه استولدها ابنته عُلية، وكان عبد الله بن مصعب حفيد ابن الزبير يأتيها بالمدينة في فتيان قريش فيستمع منها، وكان من أشد الناس إعجابا بها، وفيها يقول حين قدم المنصور منصرفاً من الحج ومر بالمدينة: أراحل أنت أبا جعفر ... جاوزت العيس مِنْ بَصْبصا؟ هيهات أن تسمع منها إذا ... جاوزت العيس بك الأعوصا فخذ عليها مجلسَيْ لذة ... ومجلساً من قبل أن تشخصا أحلف بالله يمينا ومن ... يحلف بالله فقد أخلصا لو أنها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا وما كان أجرأ ذلك الفتى القريش على المنصور وهو الذي لا تأخذه في سفك الدماء ملامة ولا يثنيه عنها حرج، ولقد بلغ المنصور هذا القول فاشتد غضبه، ودعا الشاعر وقال له: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم النساء وشققتم معهن العصا حتى صرت أنت آخر الحمقى، تبايع المغنيات، فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم.

وفي بصبص يقول هرون بن محمد بن عبد الملك: بصبص أنت الشمس مزدانةً ... فإن تبدلت فأنت الهلال سبحانك اللهم ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال إذا دعت بالعود في مشهد ... وعاونتن يمنى يديها الشمال غنت غناء يستفز الفتى ... حذقاً وزان الحذق منها الدلال وممن شغف بهذه الجارية من أبناء الأشراف: محمد بن عيس الجعفري وقد هام بها طويلا ثم لما عز عليه طلابها سلى نفسه بعض السلو عنها، ومن حديثه أنه قال لصديق له لقد شغلتني هذه الجارية عن صنعتي وكل أمرى، وقد وجدت مس السلو عنها، فأذهبت بنا إليها حتى أكاشفها ذلك وأستريح فأتياها، فلما غنتهما قال لها محمد بن عيسى: أتغنين: وكنت أحبكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام فقالت: لا. ولكني أغني: تحمل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء فاستحيا محمد، وبدل بالسلو كلفا ووجداً، وأطرق ساعة ثم قال لها: أتغنين: وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنباً ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصل قالت: نعم. وأغني أحسن منه. فإن تقلبوا نقبل بمثله ... ونزلكم منا بأقرب منزل فتقاطعا في بيتين وتواصلا في بيتين، وما شعر بهما أحد وحضر أبو السائب المخزومي مجلساً فيه بصبص فغنت: قلبي حبيس عليك موقوف ... والعين عبري والدمع مذروف والنفس في حسرة بغصتها ... وقد شف أرجاءها التساويف

دنانير

إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنني بالهوى لموصف يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لي إليك معروف فطرب أبو السائب ونعر، وقال لا عرف الله من لم يعرف لك معروفك، ثم أخذ قناعتها من رأسها ووضعه على رأسه وجعل يبكي ويلطم بأبي أنت، والله إَني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهد لما تُوَليناه من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه! يا الله ما يلقي العاشقون! وحدّث عثمان بن محمد الليثي: قال كنت يوما في منزل ابن نفيس فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان في القوم فتى يحبها، فسألته حاجة، فقام ليأتيها بها، فنسى أن يلبس نعله، ومضى حافياً فقالت يا فلان نسيت نعلك، فرجع فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأول: وحبك يُنسى عن الشيء في يدي ... ويشغلني عن كل شيء أحاوله فأجابته فقالت: وبي مثل ما تشكوه مني وإنني ... لأشفق من حب لذاك تزايله دنانير وهو اسم لجارتين. أما الأول فجارية محمد بن كناسة، وكان ابن كناسة شاعراً في الطبقة الثانية من شعراء العهد العباسي، وكانت جاريته في مثل طبقته منهم، وممن حديثها ما رواه المرزباني عن بعض شعراء الكوفة، قال: قال لي محمد بن كناسة: اشتهت دنانير أن تنظر إلى الحيرة فهل لك أن تساعدنا؟ وكان الزمان ربيعا، فقلت نعم، فقال: تقدَّمْنا لنلحق بك، فقصدت الخورنق، وجلست في بعض المواضع المعشبة،

وإذا به أقبل على بغلة، ومعه دنانير على حمار، فنزلا وجلسنا، وقد سترت بعض وجهها عني، فقلت أداعبها - وكان محمد يأنس بي ويسكن إلي -: إنما تسترين وجهك عن شيخ، فقالت: طماح العين، فضحكنا ثم أخذنا ننظر إلى رياض الحيرة وبقاعها ونتذكر ما مضى بها من الزمان ونستحسن حمرة الشقائق على ائتلاف تلك الأنوار والألوان، فأخذ محموداً عوداً وكتب على الأرض: الآن حين تزين القطر ... أنجاده ووهاده العفر فقلت أحسنت وكتبت: برية في البحر نايتة ... يجيء إليها البر والبحر فكتبت: وسرى الفرات على مياسرها ... وجرى على أيمانها النهر وبدا الخورنق في مطالعها ... فرداً يلوح كأنه الفجر كانت منازل للملوك ولم ... يعمل بها لمملك قبر أقول ومن أشرف الشعر وأجزله وأنزهه قولها تخاطب أبا الشعثاء وكان رجلا عفيفا مزاحا، وكان يدخل إلى ابن يسمع غناءها ويعرض لها بأنه يهواها: لأبي الشعثاء حب كامن ... ليس فيه نبضة للمتهم يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحب به فاقعد وقم زارني منه كلام صائب ... ووسيلات المحبين الكلم صائد تأمنه غزلانه ... مثل ما نأمن غزلان الحرم صَلَّ إن أحببت أن تعطي المنى ... يا أبا الشعثا لله وصم ثم ميعاد يوم الحشر في ... جنة الخلد إنِ الله رحِم

وأما الثانية فجارية جعفر بن يحيى، كانت أنبه من الأولى ذكراً وأبدع شعراً وأتم ظرفاً وكمالا، وأزهى حسناً وجمالا، وأكثر رواية واطلاعا، واطلاعا، وأدق لحنا وإيقاعا، كانت لرجل من أهل المدينة وهو الذي خرّجها في الأدب والغناء، فلما رآها جعفر بن يحيى وقعت بقلبه فاشتراها، وكان الرشيد يسير إلى دار جعفر ليسمعها ويتحدث إليها حتى ألفها واشتد إعجابه بها فكان لما يشعر من شغفه بها ونزوعه غليها لا يطيق الصبر عن المسير إليها، وكان بره بها وألطافه لها مما ضرب به الأمثال. ومن ذلك أنه وهب لها ذات ليلة عقداً بثلاثين ألف دينار، وعلمت زبيدة كل ذلك فأحزنها ودفعها إلى شكوى الرشيد إلى عمومته فصاروا إليه جميعاً فعاتبوه فقال ما لي في هذه الجارية من أرب في نفسها وإنما أربي في غنائها فاسمعوها، فإن استحقت أن يُؤلف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم، فنقلهم إلى يحيى حتى سمعوها عنده فأولوه جانب العذر وعادوا إلى زبيدة فأشاروا عليها ألا تلح في أمرها فقبلت ذلك وأهدت الرشيد عشر جوار لعله يسلو بهنّ عنها ومنهن مارية أم المعتصم ومرَاحل أم المأمون وماردة أم صالح. ومما حدث به إبراهيم الموصلي: قال لي بن يحيى خالد إن ابنتك قد علمت صوتا اختارته وأعجبت به فقلت لها: لا يشتدُّ إعجابك حتى تعرضيه على شيخك فإن رضية فأرضَيهِ لنفسك، وإن كرهه فاكرهيه، فامض حتى تعرضيه عليه، فقلت له أيها الوزير فكيف إعجابك، فإنك والله ثاقب الفطنة صحيح التمييز قال أكره أن أقول لك أعجبني فيكون عندك غير معجب إذ كنت عند رئيس صناعتك تعرف منها ما لا أعرف وتقف من لطائفها على ما لا أقف، وأكره أن أقول لك لا يعجبني وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا، وإنما يتم السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا، قال: فمضيت إليها، وقد كان تقدم إلى

خدمه يعلمهم بأنه سيرسل بي إلى داره، فأدخلْت، وإذا بالستار قد نصبت، فسلمت على جارية من وراء الستارة فرددت السلام وقالت: يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم. ولا شك إليك خبره، وقد سمعتُ الوزير يقول إن الناس يُفْتنون بغنائهم فيعجبهم منه ما لا يعجب غيرهم يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن، وقد خشيت على الصوت أن يكون كذلك، فقلت هاتِ، فأخذت عودها وتغنت تقول: نفسي أكنتُ عليك مدعيا ... أم حين أزمع بينهم خُنْتِ؟ إن كنت مُولَعة بذكرهم ... فعلى فراقهم ألا مُتَّ؟ قال فأعجبني والله غاية العجب، واستخفني الطرب حتى قلت أعيديه فأعادته وأنا أطلب لها موضعاً أصلحه، وأغَيَّره عليها. لتأخذه عني، فلا والله ما قدرت، ثم قالت لها أعيديه الثالثة، فأعادته فإذا هو كالذهب المصفى، فقالت أحسنت يا بنية، وأصبت، وقد قطعت بحسن إحسانك، وجودة إصابتك، ثم خرج، فلقيه يحيى فقال: كيف رأيت صنعه ابنتك دنانير قال: أعز الله الوزير والله ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة، ولقد قلت لها أعيديه. وأعادته علىَّ مرات، كل ذلك أريد إعناتها لأجتلب لنفسي يؤخذ عني وينسب إلىّ فلا والله ما وجدته. وإذا شئت أن تعرف ما لهذه الجارية من بعد الشأو في الشعر، ولطف المدخل في الغناء، فإليك قول جحطة البرمكي: كنت وابن جامع نعاني دنانير جارية البرامكة فكثيراً ما كانت تغلبنا وكلا هذين الرجلين قطب من أقطاب الغناء، في الدولة العباسية، وعلم من أعلامه. ومن حديث وفائها لمواليها، أن الرشيد دعل بها بعد أن أوقع نكبته بالبرامكة، فأمرها أن تغني، فقال يا أمير المؤمنين، إني آليت ألا أغني بعد سيدي أبداً،

عريب

فغضب وأمر بصفعها فصفعت، وأقيمت واقفة، وأعطيت العود، فأخذته وهي تبكي أحرّ بكاء واندفعت فغنت: يا داري سلمى بنازح السَّنَد ... من الثنايا ومسقط اللَّبد لما رأيت الديار قد درسَت ... أيقنت أ، النعيم لم يَعُد فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها، فانصرفت. ولدنانير كتاب في الغناء يعده أهل الفن أصلا من أصوله، ومرجعاً من مراجعه عريب وهي فتنة هذا العصر، وعقدة سحره، وملتقى بدائعه، ومجتمع نوادره، نشأت في دار جعفر بن يحيى البرمكي، وقيل إنها من إحدى جواريه، ثم جحد البرامكة نسبتها، وبيعت فيمن بيع من جواري جعفر بعد نكبة، ثم احتازها ثمانية من خلفاء هذه الدولة، أولهم الأمين، وآخرهم المعتز، وما منهم إلا من يعدها زينة قصره، وآية عصره، وإليها اجتمعت محاسن هذا الجيل، وفيها انتظمت مواهبهم، من حسن الحظ، وحلاوة شعر، وجمال صورة، وغاية ظرف، وجودة ضرب، ودقة غناء، وفيها يقزل غسحاق الموصلي ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة، ولا أجمل وجها، ولا أخف روحاً، ولا أحسن خطاباً، ولا أسرع جواباً، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة، لم أر مثلها في امرأة غيرها، وإسحاق أمام أئمة هذا الفن، وشهادته لها مقطع الرأي وفصل الخطاب، وقد ذكر هذه الشهادة حماد بن إسحاق لقاضي يحيى بن أكثم فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك، قال: أسمعتها، قال نعم هناك يعني في دار المأمون قال أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق، قال يحيى: هذه المسألة الجواب فيها على أبيك هو أعلم بها مني.

وكان المأمون مشغوف بحبها، وقد ذكر صاحب نهاية الأرب أنه خلع في حبها عذار الخلافة حتى قبل مرة قدمها، وقد نسبت هي إليه فقيل لها عريب المأمونية، وكان إسحاق قد وصفها له قبل أن تصير غليه فأمره أن يشتريها بمائة ألف درهم، وأعطى إسحاق في وساطة شرائها مائة ألف أخرى. وقال إبراهيم بن رباح - كاتب ديوان المأمون - فلما أرادت أن أثبت هذا القدر من المال كتبت إن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة، ومائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلالها، فجاء الفضل بن مروان - الوزير - إلى المأمون، وقد رأى ذلك وأنكره، وسألني عنه فقلت نعم، هو ما رأيت، فسال المأمون عن ذلك فقال: وهبت لدلال وصائغ مائة ألف درهم! وغلظ القصة، فأنكرها المأمون، ودعاني فدنوت، وأخبرته أن المال الذي خرج في ثمن عريب، وصلة إسحاق وقلت أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت، أم أثبت في الديوان أنها خرجت ثمن مغنية وصلة مغن؟ فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب ثم قال للفضل بن مروان يا نبطّي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء. وما أظن أن المرأة بلغت في هذا العصر من نباهة الشأن وبعد الشأو ما بلغته عريب بل لا أظن مغنية في أي عصر من العصور نالت من الحظوة والجاه بين صدور الدولة وأعوان الخليفة ما بلغته هذه المرأة الممتازة بين النساء. ومن حديث إبراهيم بن محمد اليزيدي أحد أصحاب المأمون قال: كنت مع المأمون في بلد من بلاد الروم فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح؛ وإلى جانبي قبة، فبرقت برقة وإذا في القبة عريب، قالت: إبراهيم بن اليزيدي؟ قالت لبيك! قالت قل في هذا البرق أبياتا ملاحا لأغنى فيها، فقلت: ماذا بقلبي من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق

خالفته وهو أعز الخلق ... علىّ والزور خلاف الحق ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي قال فتنفست نفساً ظننت أنه قطع حيازيمها، فقلت ويحك! على من هذا؟ فضحكت، ثم قالت: على الوطن، فقلت هيهات! ليس هذا كله للوطن، فقالت ويلك! أفتراك ظننت أنك تستفزني! والله، لقد نظرتُ نظرة مريبة في مجلسي، فادع لها أكثر من ثلاثين رئيساً، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم. وكان بينها وبين إبراهيم بن المدبر أحد ولاة الدولة وكتابها وسراتها صحبة صادقة وودّ مكين، لم يجاوز ود للأديب، ثم حدث عتب فاحتجت عنه، وجد به الشوق والحنين إليها، وقال في ذلك - وهو مما يُتغنى به: - إلى الله أشكو وحشتي وتفجعي ... وبعد المدى بيني وبين عريب مضى دونها شهران لم أخلُ منهما ... بعيش ولا من قربها بنصيب فكنت غريباً بين أهلي وجيرتي ... ولست إذا أبصرتها بغريب وإن حبيباً لم ير الناس مِثله ... حقيق بأن يفدَى بكل حبيب وحدث أن اجتمع إبراهيم بن المدبر وعبد الله بن حمدان وابن منارة والقاسم في بستان بالمُطيرة في يوم يقطر أحسن قطر، ويُجتلي فيه أطيب العيش، قال عبد الله بن حمدان فلم نشعر إلا بعريب قد أقبلت من بعيد، فوثب إبراهيم بن المدير من بيننا فخرج حتى تلقاها، وأخذ بركابها حتى نزلت، وقبّل الأرض بين يديها فجاءت وجلست، وأقبلت عليه مبتسمة، وقالت: إنما حننتُ إلى مَن هنا لا إليك، فاعتذر لها. وقال: بأبي من حقق الظن به ... فأتانا زائراً مبتديا فكان كالغيث تراخي مدة ... وأتى بعد قنوط مُرْويا

طاب يومان لنا في قربة ... بعد شهرين لهجر مضيا فأقرَّ الله عيني وشفى ... سَقَماً كان لجسمي مبليا وقال فيها: ألا يا عريب وقيت الردى ... وجنبك الله صرف الزمن فإنك أصبحت زين النساء ... وواحدة الناس في كل فن فقربك يدنى لذيذ الحياة ... وبعدك ينفي لذيذ الوسن فنعم الأنيس ونعم الجليس ... ونعم السمير ونعم السكن ثم قال فيها وفي جاريتها بدعة وتحفة: إن عريباً خلقت وحدها ... في كل ما يحسن من أمرها ونعمة الله في خلقه ... يقصر العالَمُ في شكرها أشهدني جاريتاها على ... أنهما محسنتا دهرها فبدعة تبدع في شجوها ... وتحفة تتحف في زمرها يا رب أمتعها بما خُوَّلت ... وامدد لنا يا رب في عمرها وكانت عريب على موعد من زيارة إبراهيم، فلما كانت في صباح يوم الموعد لم تجد نشاطاً للزيارة، فأرسلت إليه بدعة وتحفة تحملان منها هذه الرسالة: بنفسي أنت وسمعي وبصري - وقَلَّ ذلك لك، أصبح يومنا هذا طيباً طَّيب الله عيشك - قد احتجبت سماؤه، ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، وكأنه أنت في رقة شمائلك، وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك منك، ولم يصادف حسنُه وطيبه منا نشاطاً ولا طرباً لأمور صدتني عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيهِ لك من السرور بشرحها، وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتُسر بهما، سرك الله وسرني بك.

فكتب إليها: كيف السرور وأنت نازحة ... عني وكيف يسوغ لي الطرب إن غبت غاب العيش وانقطعت ... أسبابه وألحت الكرب وابتدأ الجواب، فلم تلبث أن جاءت على حمار فبادر إليها وتلقاها حافيا حتى جاء بها إلى صدر المجلس، يطأ الحمار بساطه وما عليه حتى أخذ بركابها فأجلسها في مجلسه وجلس بين يديها، ثم قال: ألا ربَّ يوم قصر الله طوله ... بقرب عريب، حبذا هو من قرب بها تحسن الدنيا وينعم عيشها ... وتجتمع السراء للعين والقلب وكان يطيف الخاطر بعؤيب فتقوله شعراً ثم تصوغه لحناً ثم توقعه غناء يستطير قلب الحكيم ويستخف وقار الحليم، ومن شعرها ولحنها وغنائها قولها: لو كان يقدر أن يبثك ما به ... لرأيت أحسن عاتب يتعتب حجبوه عن بصري فمثَّل شخصه ... في القلب فهو محجب لا يحجب ومنه: أما الحبيب فقد مضى ... بالرغم مني لا الرضا أخطأ في تركي لمن ... لم أُلْفَ عنه مُعْرضا ومنه: إذا كنت تحذر ما تحذر ... وتزعم أنك لا تجسر فما لي أقيم على صبوتي ... ويوم لقائك لا يقدر ومن بديع إجازتها للشعر وتضمينها إياه، ما حدّث على ابن المنجم، قال: دخلت يوما على عريب مسلماً عليها، فلما جلست هطلت السماء بمطر عظيم، فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وأبعث إلى من أحببت من

إخوانك، فأمرت بدوابي فردت، وجلسنا نتحدّث، فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة الواثق ومن كان وأي شيء استحسناه من الغناء، فأخبرتها أنّ صوت الخليفة كن لحناً صنعه بنان المغني من الماخوري، وكان من أعلم الناس باللحن والإيقاع فقالت وما هو؟ فقلت: تجافي ثم تنطبق ... جفون حشوها الأرق وذي كلف بكى جزعا ... وسفرُ القوم منطلق به قلق يململه ... وكان وما به قلق جوانحه على خطر ... بنار الشوق تحترق فوجهت عريب رسولا إلى بنان فحضر وقد بلته السماء، فأمرت بخلع فاخرة فجعلت عليه، وقدّم له الطعام فأكل، وجلس يشرب معنا، فسألته عن الصوت فغناها إياه، فأخذت دواة ورقعة وكتبت: أجاب الوابل الغَدِق ... وصاح النرجس الغَرِق وقد غنى بنان لنا ... جفون حشوها الأرق فهاك الكأس مترعة ... كأن ختامها حدق قال علي بن المنجم: فما شربنا يومنا إلا على هذه الأبيات. ومن عجيب وفاء عريب لفنها ونسيان ذاتها في سبيله ما حكاه صالح بن علي بن الرشيد قال: تمارى خالي أبو علي والمأمون في صوت، فقال المأمون أين عريب؟ فجاءت وهي محمومة، فسألها عن الصوت فقالت فيه بعلمها، فقال لها غنيه، فولت لتجيء بالعود، فقال غنيه بلا عود. فاعتمدت من الحمى على الحائط وغنت، وأقبلت عقرب فرأيتها وقد لسبت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت، ثم سقطت وقد غشى عليها.

فضل

ومن بديع منطقها ما حدثوا أن المأمون عتب عليها فهجرها أياما، ثم اعتلت فعادها، فقال كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا، فخرج المأمون إلى جلسائهِ فحدثهم بالقصة ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النَّظَّام ألم يكن كثيراً؟ ولما قبل المأمون قدمها قالت: والله يا أمير المؤمنين لولا ما شّرفها الله من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها، ولكن لله ألا أغسلها لغير وضوء أو طهر إلا بماء الورد ما عشت. فكانت تفعل ذلك إلى أ، ماتت. فضل وعزيز علينا القول عن فضل في صفحة أو صفحتين فإن في ذلك الإجمال مظلمة للأدب العربي لا يبلغها العذر. نشأت فضل بالبصرة في دار شاعر من بني عبد القيس، وبالبصرة تأدبت وتخرجت ثم اشتريت وأهديت إلى المتوكل، وكانت في الغاية العلياء من قسامة الوجه، وحلاوة الطبع، وحسن البديهية، وظرف الحديث، أما الشعر فيه نسيج وحدها، بل إنك لا تجد لها في شواعر النساء ضريبا منذ جرى على ألسنتهن الشعر، وكان عصر المتوكل عصر الشعر الساحر الذي ينبعث عن الطبع الرقيق، وقد اجتمع فيه من الشعراء المُرَقَّقين ذوي الديباجة المُذْهَبة والأسلوب الغنائي البديع ما لم يجتمع في عصر من العصور، ففيه ظهر البحتري وسعيد بن حُمَيد وعلي بن الجهم وإبراهيم بن العباس وابن الرومي وأشباههم وفيه ظهرت فضل فما قصرت عن هؤلاء جميعاً، وكثيراُ ما تقدمتهم في الشعر الغنائي الذي يعتمد على فرط الرقة وقوّة التأثير وكم من الشعراء من يحسن أن يقول:

الصبر ينقص والسَّقام يزيد ... والدار دانية وأنت بعيد أشكوك أم أشكوك إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود ومن ذا الذي يستمع قولها في المتوكل يتغنى به: إن من يملك رقي ... مالك رق الرقاب لم يكن يا أحسن العا ... لم هذا في حسابي ثم لا تميد به النشوة ويستخفه الطرب. وهل يحسن البحتري وأشباه البحتري أن يقولوا خيراً مما تقول فضل: لأكتمن الذي بالقلب من حُرَق ... حتى أموت ولم يعلم به الناس ولا يقال شكا من كان يعشقه ... إن الشكاة لمن تهوى هي الياس ولا أبوح بشيء من كنت أكتمه ... عند الجلوس إذا ما دارت الكاس وانظر إلى استراضة الشعر لها، وانسياغه على لسانها يوم أهديت إلى المتوكل فقال لها أشاعرة أنت؟ فقالت كذا زعم من باعني واشتراني، فضحك وقال أنشدينا من شعرك، فقالت: استقبل المَلكَ إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الناس ثمانينا لا قدّس الله امرأ لم يقل ... عند دعائي لك آمينا وكانت فضل مضرب المثل في حسن البديهة وقوة الارتجال. ومما حدث ابن طاهر أن بعض الشعراء ألقى عليها قوله: ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر فقالت مسرعة: فوالله ما يدري بما جنت ... على قلبه أم أهلكته وما تدري

محبوبة

ومن حديث الفضل بن العباس الهاشمي أن المتوكل خرج متوكئاً على جاريتيه فضل وبنان، فقال لهما أجيزا قول الشاعر: تعلمت أسباب الرضا خوف سخطه ... وعلمه حبي له كيف يغضب فقالت فضل: تصد وأدنو بالمودة جاهداً ... ويبعد عني بالوصل وأقرب وقالت بنان: وعندي له العتبى على كل حالة ... فما منه لي وما منه مذهب وكانت فضل على بعد مرامها في الشعر بعيدة الغاية في النثر، ومما قاله إبراهيم ابن المهدي فيها: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا، وأفصحهم كلاماً وأبلغهم في مخاطبة، وأثبتهم في محاورة، قلت يوماً لسعيد بن حميد: أضنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها، وتقيدها وتخرجها؛ فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك، فقال لي وهو يضحك، ما أخيب ظنك! ليتها تسلم مني لأخذ كلامها ورسائلها والله يا أخي لو أخذ أفضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك. وبعد فكان أن نستوفي القول عن هذه الجارية ونبين ما لها على الأدب العربي من فضل وجميل، لولا أن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك، ولعلنا نوفيها القول فيما نكتبه عن أدب النساء في كتاب خاص. محبوبة وهي من نظائر فضل في نشأتها وتربيتها وإهدائها إلى المتوكل، فالبصرة نشأت وفيها تخرجت، وكانت أجمل من فضل وجها وأعلى نفساً وأشبه بها في رقة طبعها وعذوبة لفظها وحضور خاطرها وقوة ارتجالها وإن وقعت دون غايتها في ذلك كله.

ومن حديثها أم قبيحة حظية المتوكل كتبت على خدها بالغالية جعفر وهو اسم المتوكل فأعجبه ذلك منها، وطلب إلى علي بن الجهم أن يقول في ذلك شعراً، وكانت محبوبة حاضرة، فلم تدع لابن الجهم وقتاً يفكر فيه واندفعت من فورها تقول: وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا ... بنفسي محطَ المسك من حيث أثرا لئن كتبت في الخد سطراً بكفها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا فيا من لمملوك لمِلْك يَمينِه ... مطيع له فيما أسر وأظهرا ويا من هواها في السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك وأظهر وكان في المجالس علي بن يحيى المنجم أحد شعراء المتوكل وندمائه، فبقى الشاعران واجمين لا ينطقان بحرف، وأرسل إلى عريب فلحنت الشعر وغنى الشعر وغنى به المغنيات. ومن حديث علي بن الجهم قال: كنت يوماً عند وهو يشرب، ونحن بين يديه، فدفع إلى محبوبة تفاحة مغلفة، فقبلتها وانصرفت من حضرته إلى الموضع الذي كانت تجلس فيه إذا شرب ثم خرجت جارية لها ومعها رقة فدفعتها إلى المتوكل، فقرأها وضحك ضحكاً شديداً، ثم رمى بها إلينا فقرأناها، وإذا فيها: يا طيب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي أبكي إليها وأشتكي دنفي ... وما ألاقي من شدة الكمد لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمتي هذه التي بيدي إن كنت لا ترحمني ما لقيت ... نفسي من الجهد فارحمي جسدي وكان المتوكل لا يكاد يفارق محبوبته وقتاً من الزمان، حتى إنه وهو في مجلس خلافته كان يجلسها خلف ستر وراء الستر فيكلمها، ثم غاضبها يوماً فهجرها ومنع جواريه أن يكلمنها وانقطعت عنه وانقطع عنها، ثم أخبرته وصيفة بأنها في

حجرتها تغني، فذهب حتى انتهى إلى حجرتها واستمع إليها فإذا هي تغني بقولها: أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني حتى كأني ركبت معصية ... ليست لها فدية تخلصني فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارني في الكرى فصافحني حتى إذا ما الصباح عاد لنا ... عاد إلى هجره فصالحني ولما قتل المتوكل تفرق جواريه فكان مصير محبوبة إلى وصيف أحد المماليك الذين جلبهم المعتصم ثم غفل عنهم الزمان فأصبح لهم في هذه الدولة ملك وسلطان. وكان مصيرها إليه في كثير من جواري المتوكل، فلما انتهين إليه جلس للشرب وأحضرهن عليهن الثياب المذهبة والجواهر الوضاءة وقد تصنعن وتطيبن إلا محبوبة فإنها جاءت مرهاء متسلية حزناً على المتوكل، فغنى! فأخذت العود وغنت وهي تبكي وتقول: أي عيش يطيب لي ... لا أرى فيه جعفرا ملكا قد رأته عين ... ي قتيلاً معفرا كل من كان ذَا هُيَا ... م وحزن فقد برا غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشتوى لاشترته بملكها ... كل هذا لتُقبرا إن موت الكئيب ... أصلح من أن يعمرا فاشتد ذلك على وصيف وهم بقتلها، وكان بَغَا حاضراً - وهو خدينة وقسيمة في التغلب على الملك والعبث بالخلافة - فاستوهبها منه، فوهبها له، فأعتقها وأطلقها

فخرجت من سَّر مَن رأى إلى بغداد واحتجزت عن لقاء الناس حتى ماتت. وبعد، فإلى هذا الحد من الشواعر والمغنيات يقف القلم، وما نحاول أن نستوعب الموضوع أو نحيط، به لنه أوسع من أن يحاط به، وإذا استصفينا من ذلك شيئاً فحسبنا أن نقول إن أولئك الجواري أتين في الشعر والغناء ببدع جديدة؛ فالرقة النادرة، والخفة الساحرة، والأنوثة الظاهرة، وكل ما من شأنه أن يسترق عقول السامعين ويستخف ألبابهم كل ذلك كان أوضح ما عرف به جواري هذا العصر، وإذا علمت أن للمغنية من وسائل توطين النفوس وترويض الأرواح والاحتكام بالخواطر والمشاعر، والإمعان في الأعماق والسرائر ما لا يتاح للرجل شيء منه سهل عليك، أن تعرف قدر ما وصل النساء بهذا الفن من بعد الغاية وعلو المكان، وإذا قيل إن هناك أئمة الغناء من الرجال أمثال إبراهيم الموصلي وولده إسحاق وإبراهيم بن المهدي وأشباههم قلنا إن هؤلاء لم يكن يصطفيهم إلا الآحاد المعدودون من خلفاء الدولة وصدورها، فكان غناؤهم خبراً من الأخبار أما أولئك النساء فقد كن في منال العيون والأسماع فغلب ذكرهن على الألسنة وشاع حكمهن على النفوس، وفوق ذلك كن الحسن والإحسان في ملك وسلطان، حتى قال فيلسوف العرب وإمام مفكريهم أبو نصر الفاربي إن هذا الفن لا يسمع من لحية وشارب ولقد صور الشاعر البحتري هذا الأسلوب الذي أمتاز به المغنيات بقوله: وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التصابي صحاح فطربن لهن قبل المثاني ... وسكرنا منهن قبل الراح

غلبة الجواري على قلوب العرب

غلبة الجواري على قلوب العرب أما بعد فذلك الذي أسلفناه من فنون الجمال والتجمل عند الجواري لم يكن كل ما ملكن من مواهب، وما سلكن من مذاهب، وما ارتدين من حسن وإحسان، وما ابتدعن من فن وافتنان، وليس في الكتاب مستفاض لأصفهن لك طاهيات طعام، أو ساقيات شراب، أو سامرات ليل، أو ناسقات بيت. على أنهن في جملة ذلك كن صورة الحياة الناعمة، والحضارة الباسمة، والعيش الرغيد، فأنت إذا تناولتها من أشتات نواحيها لا تجد إلا بهجة باهرة، وفتنة ساحرة، وكان أول آثار ذلك غلبتهن على قلوب الرجال، واستحواذهن على عقولهم، حتى لقد هتكوا فيهن ستر كل حشمة وخلعوا عذار كل وقار. وكانت بيوت الخلفاء مسْتن القدوة ومسار الأمثال في كل ذلك، وأول من بذل نفسه، ورأيه، وذخره، وجلال منصبه لهؤلاء الجواري الخليفة الثالث محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور، وما كذلك كان السفاح والمنصور من قبله. أما السفاح فكان عصر عزم ومضاء وهدم وبناء، فلم يكن له متسع للهو ولا سبيل إلى النساء. وأما المنصور فقد ملك عليه بناء الملك وتوطين دعائمه وتوفير المال لتشييده سبيل خواطره ومشاعره. وكان بخيلا غيوراً مسوقاً إلى الجد من الأمر مخوفا مهيبا. وربما مال قليلا إلى التبسط للسماء فلم يكن يظهر لنديم، ولا رآه أحد يشرب غير الماء، وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعاً وبين الستارة والندماء مثلها، فإذا غناه المغني فأطربه حركت الستارة بعض الجواري فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول قل له أحسنت بارك الله فيك، وربما أراد أن يصفق فيقوم عن مجلسه

ويدخل بعض حجر نسائه فيكون ذلك هناك. وكان لا يثيب أحداً من ندمائه وغيرهم درهماً فيكون له رسماً في الديوان، ولم يُقطع أحداً ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض. ولما خلف من بعدهما المهدي أراد أول أمره أن يحتجب عن الناس متشبها بالمنصور فلم يطق البقاء على ذلك إلا قرابة سنة، ثم انكشف للندماء، فأشار عليه عبد الملك بن يزيد قائده وصاحبه أن يحتجب عنهم. فقال: إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراءهما فما خيرها ولذتها؟ ولو لم يكن في الظهور بين الندماء والإخوان إلا أني أعطيهم منم السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطوني من فوائدهم لجعلت لهم في ذلك حظا موفوراً. ومن ثم بدأ المهدي يتبذل. وقد غلب شغفه بالجواري. فكان لا يطيق الصبر عن محادثتهن ومجالستهن وكان وزيره يعقوب بن داود يستثمر تلك العاطفة لنفسه. فكان إذا غضب تقرب إليهِ بذكر الجواري وأخذ يحدّثه عنهنّ فيرضى عنه. وما أظنك بخليفة في جاريته حتى يقول فيها: أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكين ... وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الهوى أحسنت زيدي ذلك قول المهدي في حسنه جاريته. وفي سبيل المهدي تداعى بنوه وحفدته. فهذا الهادي تملك زمام قلبه جاريته غادر حتى لا يطيق فيها لوماً ولا يجد عنها مصرفا. وهذا الرشيد، ذلك الجبار الذي يرسل الكلمة فلا يبالي أي دم سفكت ولا أي

دار قوضت، إنه لا يبالي كذلك أن يرسل الشعر الباكي المسكين في جواريه! وإليك فاسمع قوله في ثلاث منهن: ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني وهؤلاء الثلاث هن اللاتي صرح بأسمائهن في قوله: إن سحراً وضياء وخنث ... هن سحر وضياء وخنث أخذت سحر ولا ذنب لها ... ثلثي قلبي وترباها الثلث وخنث هذه إحدى الجواري المغنيات التبذلات وتعرف بذات الخال، ولها حديث عجب، فقد تعشقها وشبب بها ثلاثة شعراء: هم: إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، والعباس بن الأحنف، وذاعت أشعارهم فيها في نواحي بغداد، وتجاوزت بغداد إلى ما سواها من البلاد، وتغنى بها الموصلي بين يدي الرشيد، ورغم كل ذلك لم يتحرج الرشيد أن يشبب بها ويتهتك فيها! وتَرَسَّم الأمين أثر أبيه، وما أظنه ابتكر ضرباً من ضروب اللهو، وأكثر ما قيل عن خلاعته ومجانته مما موهه مؤرخو الفرس على أنه كان أوهب الجميع في جد وهزل. ففي ليلة وهب إسحاق أربعين ألف دينار وفي أخرى وهب عمه إبراهيم مائتي ألف، ولا تنس أنه اشترى بذلا المغنية بعشرين ألف ألف درهم. أما المأمون عالم الخلفاء وفيلسوفهم فقد أحدث بابتذاله حدثا لم يسبقه أحد إليه ولا نظن أحداً لحقه فيه، فقد حدّث أحمد بن صدقة أنه دخل عليه يوم الشعانين وبين يديه عشرون وصيفة رومية مزنّرات قد تزَّين بالديباج، وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون.

نفوذ الجواري

فهل رأيت كهذا؟ خليفة رسول الله، تُشد بين يديه الزنانير وتعلق الصلبان ويُرفع الخوص والريحان! ذلك ما تحدثنا به الأخبار عن الخليفة المأمون. وهل كان يخطر بنفسك أن يستحل خليفة المسلمين دم مسلم من أكبر رجال دولته لأنه طلب جاريته، ثم علم أنها أصبحت حاملا منه. فلم يكن له سبيل إليها. أما الرجل فعلي بن هشام، وأما الجارية فمتيم الهاشمية، وأما الخليفة فالمأمون ومتيم تلك جارية تنقل بها الرق من رجل إلى رجل، واجتمع إليها الناس تغنيهم وتطربهم فهل تعلم مآل أمرها بعد أن قُتل سيدها في سبيلها؟ لقد اتخذها الخليفة المعتصم ابن الرشيد لا جارية ولا مغنية، بل زوجة ذات إكليل وتاج. وحديث القوم كله على هذا النسق، كلما جاء خليفة أحدث في تبذله حدثاً واستجد جديداً. وكان من أعجب حديثهم أن المسترشد خص ولده الراشد بعدة جوار ليلاعبه وهو صبي مراهق، فحملت منه إحداهن وهو دون البلوغ. هكذا يقول ابن الأثير. نفوذ الجواري وكان من أثر تلك الغلبة على القلوب أن غلبن كذلك على سياسة الملك وتدبير الرعية. فهذه الخيزران جارية المهدي وأم ولديه موسى وهارون، قد بلغت من سعة الجاه ونفاذ الكلمة ما لم يبلغه وزير أو أمير. وكان بابها محط الولاة والقواد، ومهبط ذوي الحاجات والآمال، حتى فشت فيها القالة وساء عنها الحديث وكذلك أمرها في عهد مولاها وزوجها المهدي. ولما صارت الخلافة إلى الهادي درجت على سيرتها في عهد أبيه. وكان الهادي فتى ألمعي القلب عزيز الجانب، غيوراً على الحُرم. فلما رأى الوفود تنثال على أمه

أرسل إليها ألا تخرج من خفر الكفاية غلى بذاذة التبذل، فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يحب لك فلم يثنها ذلك القول الحكيم عما أَلِفَتْهُ، حتى إِذا مضى عليها أربعة أشهر جاءت مرة تكمله في أمر لم يجد غلى إجابتها إليه سبيلا، فقالت لا بدّ من إجابتي! قال لا أفعل، قالت فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب موسى وقال ويلي علي ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها له، قالت إذاً والله لا أسألك حاجة أبدا، قال إذاً لا أبالي، وحمى وغضب، فقال مكانك تستوعب كلامي! والله - وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم - لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قؤادي أو أحد من خاصتي أو خدمي، لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك! ما فتحت بابك لملي أو لذمي فانصرفت ما تعقل ما تطأ فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة. ثم جمع الهادي قوّاده ورجال دولته. فقال لهم: أيما خير، أنا أو أنتم؟ قالوا بل أنت يا أمير المؤمنين، قال فأيما خير أمي أو أمّهاتكم؟ قالوا بل أمّك يا أمير المؤمنين، قال فأيكم يجب أن يتحدّث الرجل بأمّه فيقول فعلت أمّ فلان، وصنعت أمّ فلان، وقالت أمّ فلانة؟ قالوا ما أحد منا يحب ذلك، قال فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها؟! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها فشق ذلك عليها وحلفت ألا تكلمه. ولكن هل كفاها منه ذلك الهجر، وهل تروي المغاضبة غليل المرأة التي ترضعها أفاويق الملك، وتسكرها بكأسه، وتشعرها بعزته، ثم تعود فتكف يدها وتكم فاها وتلزمها خدرها؟

لم يكفها منه ذلك الهجر، ولا ما فوق الهجر من شقاق ومكابرة ونزاع ومعاندة بل أمعنت في الانتقام إلى آخر ما تصل إليه النفوس الممنعة في الشر العارية من الفضيلة، فقد حرضت الأمّ جواري ولدها الشاب فقتلنه بغط وجهه والجلوس عليه حتى ماتت. . . أفرأيت كيف تشتري الجارية عزة الملك وزهرة الحياة بدم العزيز النجيب من بنيها. أما الرشيد فقد قضى عليه أن يمكن في ملكه لامرأتين: الخيزران أمّه، وزبيدة امرأته، أمّا الخيزران فلأنها خلعت عليه رداء الملك مخضبا بدم أخيه، وأمّا زبيدة فلأن ذات الخال وأشباهها عبثن بقلبه، وغلبنه على عقله، فأراد أن يشغلها عنه. وهل ترى أعجب من أن تغنيه ذات الخال ذات عشية فيحكمها في ملكه فتسأله أن يولي صاحبها حمويه الخادم ولاية الخراج والحرب بفارس سبع سنين، فيصدع الرشيد بالرأي، ثم يخشى أن يموت في خلال هذا الأمد فيكتب عهداً على من يليهِ من الخلفاء أن يضمن نفاذ العهد للخادم الأمير! ذلك ما رواه صاحب الأغاني عن الرشيد. ومضت أجيال كان فيها للجواري عزّ وشأن، وملك وسلطان، وكان من أشدّهنّ استمكاناً في الملك ومضاء في الرأي أم المقتدر، وهي جارية تركية فقد كان لها سطوة قاهرة على رجال الدولة، وكانت تتصرف بالأحكام دون ولدها، وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفا من ذكرها. وقد عَرَض لذوات الجاه والنفوذ من الجواري فقال: ثم لم يزل والأشراف إما يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس. مثل خالصة جارية الخيزران، وعتبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسكر وتركية جاريتي أم جعفر زبيدة ودقاق جارية العباسة، وظلوم وقسطنطينية جاريتي أمّ حبيب، وامرأة هارون بن معبوبة، وحمدونة أمّة نصر بن السندي بن شاهك

الجواري عيون الخلفاء

ثم كنّ للناس أحسن ما كن وأشبه ما يتزين به، فما أنكر ذلك منكر ولا عابه عائب. الجواري عيون الخلفاء وهنالك ناحية من نواحي العمل انبثن فيها واستشففن أسرار الملك من خلالها وذلك باتخاذهن عيونا على الوزراء والقواد ووجوه رجال الدولة، فكان الخليفة يهب الرجل جارية من جواريه فترصد منه كل إشارة وتتسمع منه أو من جلسائه كل كلمة فإذا أصبح الصباح كان ذلك كله عند الخليفة. ومن أبناء ذلك ما حدث الطبري عن يعقوب بن داود وزير المهدي قال: بعث إلى المهدي يوما فدخلت عليه فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرو على بستان فيه شجر ورءوس الشجر على صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار، من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئاً أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها ولا أشط قواما ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو ما في المجلس من الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك، فقال لي يا يعقوب! كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت على غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به وهنأه إياه، قال هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به، قال فدعوت له بما يجب، ثم قال يا يعقوب! ولي إليك حاجة، قال فوثبت قائماً ثم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا إلا من موجود، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين، قال لا، ولكن أحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت لأمير المؤمنين وعلى السمع والطاعة، قال والله! قلت والله ثلاثا، قال وحياة رأسي، قلت وحياة رأسك، قال فضع يدك عليه واحلف به، فوضعت يدي عليه وحلفت به لأعلمن بما قال، ولأقضين حاجته، قال فلما استوثق مني في نفسه. قال هذا فلان بن فلان من ولد علي

بن أبي طالب أحب أن تكفيني وتريحني منه وتعجل ذلك، قلت أفعل، قال فخذه إليك، فحولته إلى وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك وأمر لي معه بمائة ألف درهم، قال فحملت ذلك جملة ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر وبعثت إلى العلوي فأدخلته على نفسي وسألته عن حاله فأخبرني بها وتجمل فيها وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة، وقال لي بعض ما يقوله، ويحك يا يعقوب! تلقي الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قال قلت لا والله، فهل فيك خير؟ قال: إن فعلت خيراً شكرت لك؛ عندي دعاء واستغفار، فقلت له أي الطريق أحب إليك؟ قال طريق كذا وكذا، قلت فمن هناك من تأنس به وتثق بموضعه؟ قال فلان وفلان، قلت فابعث إليهما وخذ هذا المال وامض إليهما مصاحباً في ستر الله؛ وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا؛ الذي اتفقوا عليه في وقت كذا وكذا من الليلة؛ وإذا الجارية قد حفظت علىَّ قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، قال: وبعث المهدي من وقته ذلك فشحن تلك الطريق والمواضع التي وصفها العلوي برجاله، فلم يلبث أن جاءوا بالعلوي نفسه وصاحبه والمال على السجية التي حكتها الجارية. قال وأصبحت من غد ذلك اليوم فإذا رسول المهدي يستحضرني، وكنت خالي الذراع غير ملق إلى أمر العلوي إلا حين أدخل على المهدي وأجده على كرسي بيده مخصرة فقال يا يعقوب ما حال الرجل؟ قلبت يا أمير المؤمنين قد أراحك الله منه؛ قال مات؟ قلت نعم! قال والله قلت والله؛ قال فضع يدك على رأسي، قال فوضعت يدي على رأسه وحلفت له به فقال يا غلام، اخرج إلينا ما في هذا البيت. قال ففتح بابا عن العلوي وصاحبه والمال بعينه، قال فبقيت متحيراً وسقط في يدي وامتنع على الكلام فما أدري ما أقول، قال: فقال المهدي لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته. ولكن احبسوه

أمومة الجواري

في المطبق فما زال به حتى انقضى عهد المهدي والهادي وأخرجه الرشيد في عهده. وممن أحسنوا بث الجواري للرقابة: المأمون، وكان عنده أسرار رجال دولته جميعا ولما ذاع رأيه في خلق القرآن وخاصمه عليه قوم من سراة أهل الرأي والعلم وثبتوا على خصومته رغم ما أصابهم منه من شدّة وعنت أذاع في الناس أسرار كل منهم وخفي عيوبه ومكنون دخائله! وما عرف ذلك كله إلا من هذا الطريق. والعجب أن هذا الأسلوب من الرقابة قد ذاع بين الناس حتى أرصد بعضهم الجواري على بعض، ويعجبني من رقيق الشعر قول الناشئ في جاريته رقيبة: فديتك لو أنهم أنصفوا ... لقد منعوا العين عن ناظريك ألم يقرءوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي طرفك في مقلتيك وقد بعثوك رقيباً لنا ... فمن ذا يكون رقيباً عليك أمومة الجواري وكان آخر حلقة من حلقات امتزاج الفرس بالعرب واندماج العرب في الفرس ما ناله الجواري الفارسيات من أمومة الأسر العربية. وقليل من رجال الحواضر العربية من لم ينزع بدمه إلى أُمّ أجنبية، ولكي نسوق لك المثل الواضح على ما نقول نذكر أن خلفاء الدولة العباسية الستة والثلاثين كانوا - إلا ثلاثة منهم - من ولد الجواري، وإذا نال الجواري شرف ولادة الخلفاء فلم يكن عزيزاً عليهن أن يلدن من سواهم. وهذا هو البيت العلوي الذي ينزع نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة الاثنا عشر منه وهم الذين أولاهم الشيعة الإمامية جانب الطاعة، ورفعوهم إلى مواطن التقديس، وهذا آخرهم محمد المهدي الذي يدينون بأنه لا يزال حيا يأذن الله له فيخرج إلى الناس ويملأ طباق الأرض نوراً وإيمانا وعدلا

الجواري في الأندلس

وإحسانا، أولئك جميعاً لا نجد منهم في العهد العباسي إلا من كانت أمه جارية. وبعد: فذلك كان شأن الجوار في العراق وتلك غايتهن التي انتهين إليها من الاحتكام بقلب الرجل العربي، والتفرد بالمكان المحبوب في المجتمع العربي، والتمكن من قيادة الأسرة العربية، والوصول بالأمة الفارسية إلى القضاء على العصبية العربية. والآن ننتقل إلى حديث الجواري في الأندلس ومدى أثرهن في حياتها وقوّة تأثيرها في نسوتها. الجواري في الأندلس أقام الأمويون ملكهم بالأندلس كما أقامه أسلافهم بالمشرق على دعائم العصبية القبلية والبداوة العربية، لأن هذه السياسة وسيلتهم في تمكين الملك ومعاناة الفتوح، فعبروا دهراً من الزمن لا يتخذون الجواري إلا للمهنة والاستيلاء، فأما الحظوة والمكانة فللعقائل من بنات العرب. كذلك لبثوا قرنا ونصف قرن أخمدوا فيها الفتنة وسكنوا مضطرب الملك ثم بدءوا يأخذون لأنفسهم نصيبا من الراحة ويبتغون لها طريقا إلى السرور فأصغوا إلى المشرق ونظروا إلى بغداد واستقدموا بعض جواريها المغنيات. قمر ومن أول هؤلاء قمر البغدادية، وهي قيْنة مغنية من أنواع قيان بغداد وأصنعهن في الغناء وأعرفهن بفنون الكلام، سمع بها إبراهيم بن حجاج صاحب أشبيلية في أخريات القرن الثالث فوجه إلى بغداد بأموال عظيمة اشتريت بها حتى إذا قدمت الأندلس ازدرى بها نساء العرب لأنهن يألفن جارية ذات مكانة، وأخذن يتهامسن إذا مرت ويتغامزن إذا غنت، فقالت هي في ذلك:

الناصر وجواريه

قالوا أتتْ زي أطمار ... من بعد ما هتكت قلبا بأشفار تمشي على وجل تغدو سبل ... تشق أمصار أرض بعد أمصار لا حرة هي من أحرار موضعها ... ولا لها غير ترسيل وأشعار لو يعقلون لما عابوا غريبتهم ... لله من أَمة تُزري بأحرار ما لابن آدم فخر غير همته ... بعد الديانة والإخلاص للباري دعني من الجهل لا أرضى بصاحبه ... لا يخلس الجهل من سب ومن عار لو لم تكن جنة إلا لجاهلة ... رضيت من حكم رب الناس بالنار وقمر هذه التي اعتمدت بناء الأدب النسائي بالأندلس، وهو الذي سنصفه لك فيما يمر بك، ومما يمثل لك أسلوب هذا الأدب أبدع تمثيل قولها تتشوق إلى بغداد وتتغنى بمحاسنها وحسانها: آها على بغداد وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذري من أخلاقها نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها الناصر وجواريه ولما ولي أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر أمر الأندلس بلغ الجواري في عهده مبلغهن في بغداد. وكان عبد الرحمن حين وثب إلى الملك في مشرق العمر ونضرة الشباب، وكان فتى لا تساميه الرجال في العزم ولا سناء في الرأي ولا نفاذاً في التدبير، وكانت أقاليم البلاد وأطراف الملك خاضعة للمتغلبين الذين استأثر كل منهم بما يملك من

الزهراء

دون الملك الأموي، فأراد عبد الرحمن ألا يبقى في الأندلس من ينازعه الملك ويجاذبه السلطان، فما زال ينتزع المتغلبين واحداً حتى دانت البلاد له وألقت أزمتها إليه، ثم اندفع بجيوشه إلى بلاد الفرنجة وما وراءها فدوّخ ملكها وأفزع ملوكها وأذل رجالها وسبى نساءها حتى تحامته القياصرة وتفادته الجبابرة، وأنشأ الجميع يهدونه أنفس ما عندهم من جوهر ومال حتى اعتلى ذروة المجد واقتعد ظهور الآمال. ومنذ ذلك العهد أخذ سيل الجواري يتدفق على الأندلس وأخذن يسقين العرب من بني أمية من الكأس التي شرب منها بنو العباس، بل كان أصحابنا في الأندلس أسرع نشوة وأشد اندفاعاً من أشباههم في العراق كدأب المقلدين من الناس أجمعين. هذا هو الناصر ومكانته من سناء الرأي ومضاء العزيمة ما علمت، تغلبه جاريته الزهراء على نفسه ورأْيه وهمته فيوجهها جميعاً إلى تذليل المستحيل لهذه الجارية وإن من تذليل المستحيل قيامه بابتناء مدينة الزهراء. الزهراء وإذا ذكرت الزهراء فاذكر ما يقول فيها صاحب نفح الطيب: أنه لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة أطبق الناس على أنه لمُ يبنَ مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنَّحل المختلفة من ملك وارد أو رسول وافد أو تاجر جاهد - وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة - إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبيها، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كونَ مثله. والحق أن القوة التي دفعت الناصر إلى بناء الزهراء لم تكن مما يدفع الناس إلى بناء قصورهم وعمائرهم ولا هي من جنون العظمة الذي دفع ملوك مصر الأقدمين

إلى بناء أهرامهم ومعابدهم، فإن لهذا النوع من الجنون حدّا دونه أو ينتهي إليه، ولكنها قوّة ساحرة يبثها النساء في قلوب الرجال فينخلعون عن أموالهم وأرواحهم في سبيلها. أرصد الناصر على بناء الزهراء ما ورثه من مال وما جلبه من مغانم، وإن تشأ فقد أرصد عليه ذخر أمم وأعلاق ملوك، واستقدم له المهندسين من بغداد ورومه والقسطنطينية، واجتلب له الرخام الأخضر والواردي والمجزع من إفريقية وتونس وقرطاجنة ورية ورومة، وأعطى على كل رخامة ثلاثة دنانير وعلى كل سارية ثمانية فكان ما جلب له ست عشرة وثلاثمائة وأربعة آلاف سارية. وأقام الناصر على بناء الزهراء عشرين عاما كانت تستنفد فيها كل يوم ستة آلاف صخرة غير ما كان يستنفده تمهيد طرقها وتعبيد مناهجها فذلك ليس في هذا الحساب. وكان يقوم على البناء عشرة آلاف رجل يعملون دائبين كلما غاب منهم فوج أعقبهُ آخر. أما وصف المدينة فمما يعجز عقل الإنسان عن تصويره وتصوّره، وهو كما يقول ضياء باشا صاحب تاريخ الأندلس كان بناء الزهراء أعجوبة الدهر التي لم يخطر مثل خيالها في ذهن بَنَّاء منذ برأ الله هذا الكون ولا تمثل رسم كرسمها في عقل مهندس منذ وجدت العقول. فأنت إذا شارفت المدينة وجدت سوراً يقوم عليه ثلاثمائة برج حربي كأبراج القلاع وينتظم على محيطه ثلاثة عشر وخمسمائة وألف باب كلها من الحديد الملَّبس بالنحاس أو الآبنوس المطعم بالفضة والذهب! فإذا نفذت إلى لمدينة من أحد أبوابها وجدت حديقة لا يحدها البصر، تشقها طرق منسقة وبرك وغدران تلتقي جميعاً على البحيرة العظمى التي جلب إليها أكثر ما عرف من صنوف السمك، وكان هذا

السمك من الكثرة بحيث يستنفذ اثني عشر ألف خَبزة وستة أقفزة من الحمص كل يوم. وعلى البركة تقوم تماثيل من الذهب المحلَّى بالجوهر على هيئة الأسد أو الطير فوق الغصون وكلها تتصل بأنابيب من الفضة تمدّها الماء من متالع جبل قرطبة، فإذا انتهى إلى أجوافها سمعت له زئيراً أو صفيراً ثم تلقيه من أفواهها في البحيرة، وإلى جانب من البركة حديقة للوحش، وأخرى للطير تظللها الشَّبَاك. أما القصور فكانت فوق منال العقول، ومنها قصر الخلافة وكان سَمْكُه من الذهب والرخام المتماوج الشفاف، وكانت قراميد بهو الخلافة من الذهب والفضة وفي سقفه علقت اليتيمة، وهي الدرّة أهداها إلى الناصر إليون ملك القسطنطينية وكانت تتألق في سماء الغرفة كما يتألق النجم في حاشية الظلام. وكان في كل جانب من جوانب هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، وقامت على سواري من الرخام الملوّن والبلور الصافي. وفي وسط هذا المجلس حوض عظيم مملوء بالزئبق وكانت الشمس تشرف على الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس فيتوهج من ذلك نور يأخذ سناه بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل المجلس أومأ إلى رجل من مواليه فيحرك ذلك الزئبق فتومض في المجلس بروق تغشي الأبصار وتخيل للرائين أن القصر طار بهم فيفزع الرجل حتى يقع. ومن القصور القصر المؤنس، وفيه بيت المنام، وفي وسطه الحوض الأخضر المنقوش الذي جلب إليه من بيت المقدس، وفيه نقوش وتماثيل وصور على هيئة الإنسان، وعلى جانبه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدرّ النفيس مما صنع بدار الصناعة بقرطبة، والماء يتدفق من أفواهها جميعا. وبين القصور مسجد الزهراء، وهو على هذا النسق الفريد من الجلال والجمال

صبح

ومن العجب أن الزهراء حين حلت به سألها الناصر كيف ترين هذا؟ فقالت حسن لولا أن هذا الأسود يضاجعني! - وأشارت إلى جبل قرطبة - فلم يكن غير قليل حتى كسي الجبل حلة مَوْشِيَّة منقطعة النظير من الزهر والريحان وشجر اللوز والصنوبر. ذلك هو القصر الذي استنفد جهد الناصر وهمته وماله عشرين عاماً، وما كان ذلك الجنون المبرح إلا لأن جاريته ثم زوجته الزهراء طلبت إليه بناءه فشرع به للناس شريعة الفناء في جواريهم، ولعمري لئن رفع الناصر بنيان الدولة العظيمة وأعلى كلمتها ووحد فرقتها لقد احتفر لها القبر العميق بما مكن لهؤلاء في الملك. ملك القلوب والأجساد. صبح وهذا ابنه الحكم قد غلبت على قلبه وعرشه جاريته صبح البشكنسية فتبادر العظماء وذوو الحاجات إلى غشيان دارها وابتغاء الوسيلة عندها والزلفى إليها، وبهذه الوسيلة انتقل المنصور بن أبي عامر من مقام الكتابة للناس على مدرجة الطريق إلى مقام الوزارة بل إلى مقام الملك لأنه تمكن بها من تقليم أظفار ولدها هشام ابن الحكم، وما زال ينتزع منه مظاهر الخلافة يوماً بعد يوم حتى حجبه عن الناس ومنع اسمه أن يذكر على أعواد المنابر أو يكتب في صدور الرسائل وفي طرر الدراهم، ثم استكتبه كتاباً جعل فيه ولاية العهد لعبد الرحمن بن أبي عامر دون الغطارف من قريش وسلائل الملوك من بني أمية، فثار الأمويون لذلك ثورة دمروا فيها الزهراء وانتهبوا كنوزها ونفائسها فأصبحت فردوس الدنيا أطلالا بالية ورسوماً عافية كل ذلك لأن الرجل توسل بدهائه وكياسته وجزيل هداياه وجميل ألطافه إلى قلب الجارية المُمَلَّكة فما زال يصعد بها درجة بعد درجة حتى أتعلى هامة الملك

شعر الملوك في الجواري

وكان كلما أراد الوثوب إلى أمانيه سرها بأمنية حتى لقد بنى لها مرة بيتاً من الفضة لم ير الراءون مثله. شعر الملوك في الجواري وجاء سليمان بن المستعين الخليفة الأموي فاتبع خلفاء بني العباس وأذاع شعره تغزلا وتبذلا في جواريه، مما تغنى به المغنون في عواصم الأندلس. ومن قوله يعارض في أبياته التي أولها ملك الثلاث الآنسات عناني: عجباً يهاب الليث حدّ سناني ... وأهابُ لحظَ فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران وتملكت قلبي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان ككواكب الظلماء لْحُنَ لناظر ... من فوق أغصان على كثبان هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حسنا وهذي أخت غصن البان حاكمت فيهنّ السلو إلى الصبي ... فقضى بسلطان على سلطان فأبحن من قلبي الحمى وثنينني ... في عز ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكا تذلل للهوى ... ذل الهوى ملك وعز ثان ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني إن لم أطلع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهن فلست من مروان ومن العجب أنك لا ترى عشاق الجواري مهما عز جانبهم وتسامت منازلهم إلا أرقاء في ألفاظهم، أذلاء في مشاعرهم، ضعفاء في ألفاظهم يتوسلون إلى جواريهم بالذل ويقدمون إليهم أعناقهم للرق ولا ترى ذلك في شعر من أضناه حب الحرائر من بنات العرب، بل إنه لا يتقدم إليهنّ إلا بغُرّ مآثره وعُظم مفاخره.

المعتمد وجواريه

هذا المستظهر بن هشام وهو الخليفة المستعين ونظيره في جلال لقبه وسناء حسبه أحب أن يتزوج فتاة من قرابته فمطلته فيها بعض ما استفاد من عاطفته شعراً يفيض عزة وإباء. وكان مما قال: يكلفها الأهلون ردّي جهالة ... وهل سَن بالشمس أن تمنع البدرا وماذا على أم الحبيبة إذ رأت ... جلالة قدري أن أكون لها صهراً وإني لأرجو أن أطوف بمفخر ... بملكي لها وهي التي عظمت فخراً وإني لطعَّان إذا الخيل أقبلت ... جرائدها حتى ترى جُنها شُقرا وإني لأولى الناس من قومها بها ... وأنبههم ذكراً وأرفعهم قدرا جمال وآداب وخُلق موطأ ... ولفظ إذا ما شئت أسمعتك السحرا المعتمد وجواريه ولعل أتعس مثل من أمثلة تبذل الملوك في جواريهم وتهوّرهم في مرضاتهن واندفاع إلى أعماق الهاوية من جرائهن: المعتمد على الله محمد بن عباد صاحب أشبيلية ووارث ملك بني أمية؟، فقد أنَهبَ نفسه حظاياه لبه واقتسمن قلبه ومن حديثه أنه أرسلهن ذات ليلة من قرطبة إلى أشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، ثم عاد عنهن وهو من فراقه في حسرة والتياع، ومما قاله: سايرتهم والليل أغفل ثوبه ... حتى تبدّى للنواظر معلما فوقفت ثَمَّ مسلما وتسلمت ... مني يد الإصلاح تلك الأنجما وقال في موقف الوداع ولما وقفنا للوداع غُدَيّة ... وقد خفقت في ساحة النصر رايات بكينا دماً حتى كأن عيوننا ... بِحريْ الدموع الحمر فيها جراحات

اعتماد

اعتماد وكان اشدهن امتلاكاً له واحتكاماً به جاريته اعتماد الرُّميكية التي اشتراها من رميك ابن حجاج، وإليها زمامه وفي سبيلها أرخى عنانه ومن اسمها اشتق فتسمى بالمعتمد وتلك التي يقول فيها الوزير الشاعر محمد بن عمار: تَزوجتَها من بنات الهجان ... رميكية لا تساوي عقالا فجاءت بكل قصير الذراع ... لئيم التجارب عما وخالا وكانت اعتماد لا تشعر بأن في الحياة أمينة عزيزة أو مطلباً بعيداً، فما نزعت نفسها إلى شيء حتى وجدته بين يديها على أحسن صوره وأتم وجوهه، ولقد رأت مرة فتيات أشبيلية يملأن الجرار من النهر وفي أقدامهن أثر الطين فأحبت أن تطأ الطين كما يطأن وتحمل الجرة كما يحملن، فصنع لها المعتمد جرة من سبيك الذهب وأوطأها المسك معجونا بماء الورد والغالية. وشاءت المقادير أن ينهك هذا الترف قوة الملك وأن يطمع فيه العدو المتغلب وأن يعرف ذلك يوسف بن تاشفين أمير الملثمين بالمغرب فيخوض البحر إلى أشبيلية ويقصي العدو عن الملك ثم يقود الملك المستهام أسيراً ويقود صاحبته ونساءه وبناته وجواريه سبايا أغمات من أعماق بلاد المغرب ولم تدرك الملك الملثم رقة الدين ولا نبل الخلق فألقى أسيره المسكين مكبلا بالحديد في غياهب السجن بين القتلة وقطاع الطريق، وترك بناته يطفن في الأسواق بما يغزلن من الصوف حافيات الأقدام باديات الأجسام معروقات العظام وكذلك دخلن على أبيهن في سجنه صبيحة عيد النحر فزفر زفرة كاد ينفطر لها قلبه ثم أنشأ يقول: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

الجواري المدنيات في الأندلس

برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا لا خَدَّّ إلا ويشكو الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس مطمورا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردّك الدهر مَنْهِيّاً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا ومن قوله يخاطب حين بلغ به العظم: قيدي أما تعلمني مسلما ... أبَيْت أن تشفق أو ترحما دمي شراب لك واللحم قد ... أكلتهُ لا تَهشِم الأعظما ارحم طفيلا طائشاً لبه ... لم يَخْشِ أن يأتيك مسترحما وارحم أخيات له مثله ... جرعتَهن السم والعلقما منهن مَن يفهم شيئاً فقد ... خفنا عليه للبكاء والعمى والغير لا يفهم شيئاً فما ... يفتح إلا لرضاع فما الجواري المدنيات في الأندلس وتلك طائفة أخرى من الجواري المجلوبات إلى الأندلس تصلها بغيرها صلة الاسم وتبعدها عنهن فوارق المبدأ والغاية والأثر. ولقد عُرفت المدينة منذ استوطنها اليمانيون من الأوس والخزرج بالرقة والظرف وإتقان الغناء والعزف، ودرجت على ذلك في الإسلام ولم تنحرف عن شهرتها في ذلك كله حتى في عهد النبوة والخلافة. واتصل الأندلسيون بأهل المدينة في مواسم الحج واستمعوا غناء جواريهم، فذهبن بهم كل مذهب من الطرب والإعجاب، وسارت الأنباء بذلك إلى الأمير

عبد الرحمن ابن الحكم صاحب الأندلس، فاستقدم منهنّ جماعة عرفن بالأدب الغض والشعر الرائع والغناء البديع، وابتنى لهن دار الدنيات بقرطبة وأجرى عليهن المثوبة واللطاف وأوسعهن بالبر والإكرام، ومن هؤلاء: فضل وعلم وقلم. وقد عرف هؤلاء جميعاً بشرف النفس ونبل الخلق وكمال الخلال. ولم يكن فيهن ما في بنات الروم والصقالبة والجلالقة من خلابة ودعابة فهنّ لا يصلحن لذلك وفيهن السوداء والحمشاء والعجفاء، ولكنهنّ مع ذلك كنّ مشرقاً من مشارق الجمال الفني في تلك البلاد. ولقد يجمل بنا أن نسوق حديثا عن إحدى هؤلاء الوافدات وتسمى بالجارية العجفاء لتعلم إلى أي حد بلغ أولئك الجواري في التأثير على نفوس أهل الأندلس. قال الأرقمي: قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء؟ فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى ابن زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه عشر ذراعا في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعا، وفي البيت نُمْرُقتان قد ذهبت عنهما اللحمة وبقي السَّدى وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا ممن قدمهما، ثم أُطلقتْ علينا عجفاء كلفاء عليها هَرَوى أصفر غسيل وكأن وَرِكها في خيط من وسخهما، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت ما هذه؟ فقال اسكت! فتناولت عوداً فغنت: بِيَدي الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم فاستيقني أنْ قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل اليوم بالصرم

قال فحسنت في عيني، وبدا ما أذهب الكلف عنها، وزحف أبو السائب وزحفت معه. ثم تغنت: بَرِح الخفاء فأيّ تكتم ... ولسوف يظهر ما تسر فيعلم مما تضَّمن من غريرٍ قَلْبُه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم يا ليت أنك يا حسام بأرضنا ... تلقى المراسِيَ طائعاً وتخيم فتذوق لذة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخواناً فماذا تنقم فزحفت مع السائب حتى فارقنا النُّمْرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة. ثم غنت: يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حل كل الأحبة الحرما ما كنت أخشى فراقكم أبداً ... فاليوم أمسي فراقكم عُزِما فألقيت طيلساني، وأخذت شادكونة وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة، وقام أبو السائب فتناول رقعة في البيت فيها قوارير ودهن، فوضعها على رأسه، وصاح صاحب البيت - وكان أحنف - قوانيني!! قواريري قواريري وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره. ومن هذا ونحوه تعلم أن هؤلاء الجواري لم يجتلبن لما اجتلب له غيرهن، وقد حُرّر هؤلاء وتزوجن وانبثثن في أسر الأندلس يُعلمن نسوتها الأدب، ويُرَوّينهن الشعر ويُلقَيَّننّ الغناء في حشمة ووقار. وقد ظهر في هؤلاء الوافدين من تجاوزت الأدب والغناء إلى الفقه والحديث كعابدة المدنية، فقد روت عن مالك بن أنس وغيره من أئمة المدينة، قدم بها الأندلس محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان كثير الإعجاب بعلمها وفهمها، وتزوجها بشر بن حبيب الأندلسي فمنه سائرُ ولده.

بنو الأغلب

وتعدّ وفادة هؤلاء الجواري غلى الأندلس مطلع عهد جديد للأدب والشعر والغناء بالأندلس، وذلك ما سنتناوله بالقول عند الكلام عن الأدب النسوي بالأندلس. بنو الأغلب ذلك حديث أهل الأندلس، وفي مساقهم سار بنو الأغلب ملوك تونس، وعنهم وعن ملوك العراق وردوا موارد اللهو وشربوا كؤوس النعيم، ومن بغداد وقرطبة استوردوا الجواري الفارسيات والصقليات، ومن حديثهم أن المعتمد على الله العباسي ساوم في جارية شغفته حبا، وأبلغها جهد ما يطيق وهو يومئذ ولي عهد الخلافة العباسية - فأبى عليه صاحبها وأبلغها حدا ليس في منال ولي العهد، فلما أعجزه شراؤها ذهب بها صاحبها إلى ابن الأغلب فباعها منه. ثم لما فتحت عليهم صقلية ومالطة تدفق سيل الجواري الروميات فحللن من منازلهم وقلوبهم محلا لا يرام، حتى انتهى الأمر إلى زياد الله آخر عقدهم فقسم نفسه بين مماليكه وجواريه. وبلغ من إيثاره لأحد غلمانه أن ضرب النقود باسمه وترك له زمام الملك يلهو بتصريفه. ثم غضب عليه فأقصاه، حتى جاءت جارية فشغفت فيه، فأعاده إلى مكانه. . .!! وكان ملكا عزيزاً فذل، وقوّة هائلة فهانت. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. الفاطميون وجاء الفاطميون في أعقاب بني الأغلب، وأورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم وما زال ظلهم يمتد وملكهم يتسع حتى وسع مصر، وبلاد الشام، والحجاز واليمن ووافتهم النعمة من كل مكان، وأضاء لهم العز من كل أفق، وجلبت إليهم الجواري

من كل قطر. ولكنهن لم يجدن عندهم من الحُظوَة ونفاذ الرأي وعلة الشأن ما وجدن في غير مصر من سائر البلدان، لأنهم راموا الخلافة بوسيلة النبوة المقدّسة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم كانوا يرَوَّجون لأنفسهم بالإرجاف ببني العباس، وإذاعة السوء عنهم، وقولهم فيهم إنهم ملكوا الجواري زمام أمورهم وقوام سياستهم. ولما علم المعز لدين الله - وهو لم يزال بعد أميراً على تونس - أن ابنة الإخشيد اشترت جارية حسناء من بنات بغداد لتستمتع بها، أرسل قائده جوهراً لفتح مصر، وقال الآن لا يصدنا عنها شيء. فكان الأمر وفاق ما قال. وكان كل ذلك حائلا دون بلوغ الجواري مبلغ التغلب على قلوب خلفاء مصر والاحتكام بملكهم والعبث في جماعتهم. وما زلن كما هنّ أدوات مهنة ووسائل زينة حتى جاء عهد المستنصر وكان قد أوتي الملك صبيا لم يبلغ السابعة، وأقام فيه سنتين عاما وسبعة أشهر. ولما تنصف ذلك الأمد الطويل أدركته ملالة فمال إلى اللهو. واستراض للجواري، على أن القدر لم يدعه في لهوه طويلا، فأصيبت مصر بمجاعة مهلكة ذهبت باليابس والأخضر. ولبثت تجتاح الحرث والنسل وتعصف بالحب والنوى سبع سنين دّأباً، حتى أشفق الخليفة على حُرمه وبناته أن يأكلهن الجوع فأرسلهن إلى بغداد، وحتى لم يبق في دار الخلافة إلا جواد مهزول يركبه الخليفة ويسير من حوله حرسه وحاشيته مشاة يميد بهم سكر الجوع. وكان للملك من ذلك عظة بالغة، فإنه أقلع من بعدها عن اللهو وأناب إلى الله. وجاء الملوك من بعده فلم يكن منهم إلى جواريهم نزوع شديد كالذي كان في قرطبة وبغداد. ذلك الذي بسطته لك شأن الجواري في العالم العربي، وقد ذكرته لك ضافياً مستفيضاً لأنه أقوى المؤثرات في حياة المرأة العربية. وسنجلو من ذلك الحديث

الديارات

وجه العظمة ونستخلص مدى الأثر حين نعرض لتلك المرأة وما نالها في هذه الدول من خير أو شر. وننتقل بمعونة الله وتوفيقه إلى ذكر الديارات المنبئة في بلاد العرب وما أنشئت له من غاية، وما كان لها من أثر. الديارات كان الفرس فيما قصدوا إليه من نشر وبث حضارتهم ينزعون إلى غاية واحدة هي إخماد العصبية العربية ليتم لهم ما أرادوا من إعادة مجدهم الغابر، وملكهم القديم، وما عليهم من سبيل أن يرتدوا لبوس الدين طائعين أو خادعين؟. أما الروم والسريان ومَنْ سواهما من نصارى المشرق والمغرب، فقد كان همهم من العرب غيرهمَّ الفرس منهم. غاية هؤلاء أن ينقُضوا دعامة الإسلام ليشقوا الصفوف للنصرانية في بلاد العرب، فأخذواُ يقلبون للإسلام وجوه الحيلة ويفوَّقون عليه سهام الغيلة، ويحشدون عليه جيوش التدبير، ولكنهم قوم أولو سياسة ودهاء، فهم لا يخطبون في حفل، ولا ينطقون في جمع، ولا يبعثون كتابا، ولا ينمقون صحيفة، ولا يبادهون أحداً برأْي، ولا يشافهون أحداً بمكروه. بل أخذوا يمزجون العسل المصفى في السم المذاب، وأنشئوا يبثون الشكوك والشبهات في مزاج من المآرب والشهوات. وذلك ما أعدوه في ديارتهم التي نثروها في كل مكان من بلاد العرب. وكانت عناية القوم بتنظيم ديارتهم وتنسيقها واختيار مواطنها الصالحة لها مما يفوق كل عناية، وأكثر ما تكون في أربض المدن وبين شتات القرى وعلى طرق القوافل، وفي منقطع الصحراء، وفوق سفوح الجبال، وفي كل مكان يكون انتياب الناس له وتواردهم عليه.

وعلى الرغم من تكاثر الديارات وانشعاب مواطنها وترامي قواصيها وتباين بلادها كانت كلها على نسق واحد من الجمال الغض الذي تنساق النفوس الزكية إليه ويحلو العيش فيه. فهنالك في نجوة من الأرض تجد خميلة من الزهر فعكفت عليها ظُلة من الكرم وانبعثت من ورائها أصوات ندية بجَمَّلها إيقاع جاوز غاية الإبداع؛ منظر يستهوي السمع والبصر ويستخف الأجسام والأحلام، حتى إذا دخلها الداخل - وهي لا تمتنع على قاصد - وجد النسيم بارداً خفاقاً والماء صافياً سلسالاً والخمر صرفاً معتقة، ووجد فوق ذلك كله إن شاء طعاماً هانئاً ومناماً هادئاً، وليس ذلك بشيء في جانب ما يسلب نهاهم من وَلهَ العشق وفتنة الجمال. ولشدّ ما غشيت تلك الديار بذوي الأخطار من خلفاء الودلة وأمرائها وساستها ووزرائها وكتابها وشعرائها، فكان لهم منها مآرب طيب وجدوا فيه كل ما تشتهي النفس من مطاعم ومشارب وأغراض ومأرب ينبئك عنها ما سار من شعرهم في وصف تلك الديارات وأفنائها وحسناتها وما أصابهم تحت ظلالها من حب شرد أحلامهم وسهّد أجفانهم وأحرق أكبادهم، وبين هذه المنايا وتلك النمى أثيرت روح الشبهات على الإسلام وعصفت ريح الزندقة والإلحاد. وليس من الحق أن نتهم العلم الذي نقله العرب عن أمم الحضارة بإثارة الشكوك والرَّيبِ فما عرف عن أئمة هذه العلوم إلا الدين الصريح الصحيح، وإنما الملحدون جماعة من الشعراء والمتأدبين والمتبطلين وأشباه المتعلمين ممن ألفوا غشيان تلك الديارات وأقاموا فيها ما أقاموا ثم انثنوا عنها بلا قلب ولا لب ولا دين ولا عقيدة. على أن الذي يعنينا الآن من هذه الديارات أن العرب أصيبوا فيها بنوع من الفتنة أشجى قلوبهم وأطال عناءهم لأن هذا الجمال الذي رأوه لم يكن مما ابتذله عيونهم وملكته أيمانهم. وكثير من ذوي الرأي والعلم كان يذهب إلى تلك الديار فيقيم فيها ما شاء

أن يقيم فإذا انصرف عنها شغفه الحب وشغله النوح عن بيته وآله. وما ظنك برجل من خاصة رجال الملك يسير في ركاب مولاه سميراً ونديماً حتى يبلغ ديراً فينفتل إليه ليلهو بالنظر إليه لحظة ثم يعاود فما هو إلا أن قدّموا له الشراب والطعام والكأس والنَّدام حتى ينسي الملك فيشرب وينام، وذلك ما يحدث به إسحاق بن إبراهيم الموصلي فيما رواه عنه صاحب الأغاني، قال: خرجنا مع الرشيد يريد الرَّقة فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا وخرج يتصيد وخرجنا معه فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت فأشرفت على صاحبه فقال هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقل إي والله وإني إلى ذلك لمحتاج، فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني - وكان شيخاً كبيراً وقد أدرك دولة بني أمية - فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض عليّ الطعام فأجبته، فقدم إليّ طعاماً من طعام الديارات نظيفاً طيباً فأكلت منه، وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أرَ أحسن وجهاً منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت ونمت وأنبهت عشاء فقلت في ذلك: بدير القائم الأقصى ... غزال شادن أحوى بَرَي حُبَّي له جسمي ... ولا يعلم ما ألقى وأكتم حبه جهدي ... ولا والله ما يخفي وركبت فلحقت بالعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد، وأخبرت بذلك فغنت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي أين كنت ويحك! فأخبرته وغنيته الصوت فطرب وشرب حتى سكر وأخّر الرحيل في غد ومضينا إلى الدير ونزله فرأى الشيخ واستنطقه ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه ودعا بالشراب وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن

تتولى خدمته وسَقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين فرحلنا، فلما صرنا من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها فأقمنا بها أياماً وطلبني الرشيد فلم يجدني، فلم رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي أين كنت؟ طلبك أمير المؤمنين فأخبرته بنزهتنا فغضب وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت: إن قلبي بالتل عزاز ... عند ظبي من الظباء الجوازي شادن يسكن الشآم وفيه ... مع ظَرف العراق شكل الحجاز يا لقومي لبنت أصابت ... منك صفو الهوى وليست تجازي وغنيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضوب فقال أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك! فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه فتبسم وقال عذر وأبيك أي عذر، وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر، فلما وصلت إلي رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا فوافيت فدخلت وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ، فقال لي يا ابن الموصلي أتدري ما جاء بنا فقلت لا والله ما أدري، فقال لكن والله أدري دراية صحيحة جاءت بنا نصرانيتك. . . عليك وعليها. . . وخرج الآن فأذن لنا فدخلنا، فلما رأيت الرشيد تبسمت فقال لي ما يضحكك فأخبرته بقول ابن جامع فقال ما صدق ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه، فعودوا بنا فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا. ذلك مثل من حديث الديارات، ومثله جم كثير، وما نحاول أن نتهم تلك المعابد بأنها كانت من مباذل القوم ودور خلاعتهم، ولا بأن رهبانها أباحوهم ما أرادوا من لهو ومجانة، ولكنهم وجدوا فيها فنّاً من الجمال لم يحوزوه في بيوتهم،

من ديارات العراق

ولم تنبسط عليه أيديهم، وأصاب ذلك منهم نفوساً مبيحة، وسرائر نازعة، فشغفوا به، وشغلوا بالحديث عنه، وغرّهم من أمره ما وجدوا من تبسيط الرهبان لهم بالسمَر والمحادثة، وبالمحاورة والمجادلة، وبالكرم والضيافة، وبكل ما تسكن إليه النفس وتطيب به، فإذا رأيت انخلاع القوم في الفتنة بهذه الديارات فإنما هي فتنة الطمع فيما عزّ عليهم، والتشبيب بما ندّ عن حياتهم، والولوع بفنون الجمال المتناسقة هنا لك من ظل وبستان ورَوح وريحان، ووجوه حسان، وشراب روىّ، ومسمع ندىّ، وما إلى ذلك من فتنة السمع والبصر والنفس والقلب. وجميل بنا أن نلم إلمامة بأشهر الدَّيَرَة التي فتنت العرب وأثارت مشاعرهم وأرسلت أشعارهم، ومن جملة ما يساق لك من الشعر تعلم كيف كان شغف القوم بتلك المواطن من ديارات العراق دير أحويشا ومكانه بديار بكر، وكان غاية في السعة والبهاء، وحوله البساتين والكروم، ويحمل خمره إلى ما حوله من البلدان لجودته، وإلى جانبه نهر يعرف بنهر الروم وفيه يقول محمد بن طناب الشاعر: وفتيان كهَّمك من أناس ... خفاف في الغدوّ وفي الرواح نهضت بهم وستر الليل مُلْقى ... وضوء الصبح مقصوص الجَناح نؤم بدير أحويشا غزالاً ... غريب الحسن كالقمر اللياح وكابدنا السرى شوقاً إليه ... فوافينا الصَّباح مع الصباح نزلنا منزلاً حسناً أنيقاً ... بما نهواه معمور النواحي قسمنا الوقت فيه لاعتباق ... على الوجه الجميل ولاصطباح

دير الأعلى

وظلنا بين ريحان وراح ... وأوتار تساعدنا فِصاح وساعفنا الزمان أردنا ... فأبنا بين ريحان وراح دير الأعلى ومستقره بالموصل في أعلاها على جبل مطل على دجلة، يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف، وفيه يقول الخالدي: قمر بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى لثم الصليب فقلت من حسد ... قُبَلُ الحبيب فمي بها أولى جُدْ لي بإحداهنّ تَحْوِ بها ... قلبي فحبته على المقلى فاحمرّ من خجل وكم قطعت ... عيني شقائق وجنة خجلي وثَكِلْت صبري عند فرقته ... فعرفت كيف مصيبة الثكلى دير باشهرا على شاطئ دجلة بين سامَرَّا وبغداد، وفيه يقول أبو العيناء: نزلنا دير باشهرا ... على قسيسه ظهرا على دين يسوعّي ... فما أسنى وما أمرا فأولى من جميل الفعْل ... ما يستعبد الحرّا وسقّانا وروّانا ... وربطنا به عشرا دير الثعالب على مقربة من بغداد، وبينه وبينها ميلان، ومَدَاه أكثر من ميل وفيه يقول محمد بن جعفر العباسيّ: دير الثعالب مألف الضلاَّل ... ومحل كل غزالة وغزال كم ليلة أحييتها ومُنادمي ... فيها أبحُّ مقطَّع الأوصال وسقيته وشربت فضلة كأسه ... فرويت من عذب المذاق زُلال

دير درمالس

دير درمالس في جانب بغداد، وهو نزه كثير الأشجار والبساتين، وفيه يقول أحمد بن حمدون النديم: يا دير دُرماس ما أحسنك ... ويا غزال الدير ما أفتنك لئن سكنت الدير يا سيدي ... فإني في جوف الحشا مسكنك ويحك يا قلب أما تنتهي ... عن شدّة الوجد لمن أحزنك أرفق به بالله يا سيدي ... فإنه من حتفه مكنك دير قُنَّى على بعد فرسخاً من بغداد ومسافة واحد من دجلة، وفيه يقول محمد بن الحسن القميّ: يا منزل اللهو بدير قُنَّى ... قلبي إلى تلك الربا قد حنَّا سقيا لأيامك لما كنا ... نمتار منك لذة وحسنا أيام لا أنْعَمُ عيشاً منا ... إذا انتشينا وصحونا عدنا وإن فَنِي دَنّ بَزَلنا دَنّا ... حتى يُظَنَّ أننا جُنِنَّا ومسعد في كل ما أردنا ... يحكي لنا الغصن الرطيب اللدنا أحسن خلق الله إذ تثنى ... وجَسّ زير عوده وغنّى بالله يا قسيسَ بَابا قُنى ... متى رأيت الرشأ الأغنا متى رأيت فتنتي تجنّي ... آه إذا ما ماس أو نثني أسأتُ إِذ أحسنت فيك الظنا دير قوطا على مقربة من البَرَدان بينه وبين بغداد، وهو من أبهج الديارات وأحسنها وأكثرها خمائل وبساتين. وفيه يقول عبد الله بن العباس بن الفضل ابن الربيع.

دير اللج

يادير قوطا هيجت لي طربا ... أزاح عن قلبي الأحزان والكُرَبا كم ليلة فيك واصلت السرور بها ... لما وصلت به الأدوار والنُّخبا في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا ... وأنفقوا في التصابي العِرضَ والنشبا وشادن ما رأت عيني له شبهاً ... في الناس لا عجماً منهم ولا عربا إذا بدا مقبلات ناديت واطربا ... وإن مضى معرضاً ناديت واحربا أقمت بالدير حتى صار لي وطنا ... من أجله ولبست المِسح والصُّلبَا وصار شماسه لي صاحبا وأخا ... وصار قسيسه لي والداً وأبا دير اللج من ديارات الحيرة، وليس في الحيرة موطن أحسن بناء ولا أنزه موضعا منه، وفيه قيل: سقى الله دير اللجَّ غيثا فإنه ... على بعده مني إلىَّ حبيب قريب إلى قلبي بعيدٌ محله ... وكم من بعيد الدار وهو قريب يهيَّج ذكراه غزال يحله ... أغنّ سحور المقلتين ربيب إذا رجَّع الإنجيل واهتز مائداً ... تذكر محزون وحنّ غريب وهاج لقلبي عند ترجيع صوته ... بلابل أسقام به ووجيبُ ومن ديارات الشام دير صليبا وهو في قبالة باب القراديس من دمشق، وفيه يقول أبو الفتح محمد ابن علي: جنّةٌ لقّبت بدير صليبا ... مبدعا حسنه كمالا وطيبا جئته للمقام فيه يوما فظَلْنَا ... فيه شهراً وكان أمراً عجيبا شجر محدق به ومياه ... جاريات والروض يبدو ضروبا

دير الطور

من بديع الألوان يضحي به الثَّكال ... مما يرى لديه طروبا كما رأينا به فوق غصن ... مائس قد علا بشكل كثيبا وشربنا به الحياة مداما ... تطلع الشمس في الكؤوس غروبا دير الطور وهو دير طور سينا ومكانه بين طبرية واللَّجُون، وحوله الكروم والبساتين، ومن دونه الغَور والمرْج، وفيه يقول الشابشتي: قد أبانت لَيِ الرياض من الزهر ... غريب الصنوف والألوان وبدأ النرجس المفتح يزنو ... من جنون الكافور بالزعفران وقف الطلُّ في المحاجر منها ... ثم ماست فانهل مثل الجُمان يا غلام اسقني فقد ضحك الوقت ... وقد تمّ طيب هذا الزمان أدْنِ مني الدنان، صُب الأباري ... ق استحثَّ الكؤوس صف القناني بادر الوقت واغتنم فرصة العي ... ش ولا تُكْذَبَنْ فالعمر فان دير المصلَّبة وموضعه في ظاهر بيت المقدس، وهو دير نَزه بديع الموقع حسن المنظر تحف به أشجار التين والزيتون والكروم، وفيه يقول الحسن الغَزَي: يا حسن أيام قطعتُ هنيئةً ... بالدير حيث التينُ والزيتونُ دير المصلَّبة الرفيع بناؤه ... تفدي عبيرَ ترابه دارين ومزنرين إذا تلوا إنجيلهم ... وتعطفوا فحممائم وغصون وسعوا بكاسات وما دروا ... أن للكؤوس الدائرات جنون فقضيت بينهم زماناً لم يزل ... عندي إليه تشوق وحنين تلك المنازل قد سفحن مدامعي ... لا مصر قاطبة ولا جيرون

دور المآثم

دور المآثم وامتد لسان الفتنة وأمعنت وسائل العبث حتى انبثت بيوت الدعارة وهي التي كانوا يدعونها بيوت الكشاخنة بين دور الحرائر في أشتات الحواضر، وكانت أثراً محتو ما من آثار أحكام الترف وتفاقم الشهوات وازدياد الجواري عن حاجة المحتاج، وكان ظهور تلك الدور في دار السلام أكفى دليل على عتوّ ريح الشهوة وإمعان سلطانها في النفوس. وقد بسط الجاحظ في رسالة القيان حديث تلك البيوت وذكر كيف تستباح فيها الأعراض وتنتهك فيها الحرمات. والعجب أن ترى رجلا من سمار الملوك وندمائهم وذوي المنزلة الدانية منهم مثل إسحاق الموصلي يذيع شعره في رثاء امرأة من صواحب تلك البيوت، وذلك ما يقوله في هشيمة الخمارة: أضحت هشيمة في القبور مقيمة ... وخلت منازلها من الفتيان كانت إذا هجر المحب حبيبه ... دبت له في السر والإعلان حتى يلين لما يريد قياده ... ويصير سيئه إلى الإحسان هذا إسحاق نديم الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق ومغنيهم وشاعرهم فمن منهم تنكر له أو تغير عليه من أجل ذلك؟! وكما ذاعت بيوت الدعارة في حواضر البلاد ذاعت كذلك الحانات في غير سر ولا استخفاء، وما ظنك بالخليفة الواثق يعقد حانتين إحداهما في دار الحرم ليغشاهما ويمتع نفسه بما يقال وما يدار فيهما، وإليك فاسمع حديث صاحب مسالك الأبصار في سياق ذلك:

قال محمد بن حمدون: كان الواثق يحب المواخير وما قيل فيها وما غنى به في ذكرها، فعقد حانتين إحداهما في دار الحرم والأخرى على الشط وأمر بأن يختار له خمار جميل المنظر حاذق بأمر الشراب ولا يكون إلا نصرانيا من أهل قُطْرَبُلّ فأتى بنصراني له بنان نظيفان مليحان وابنتان بهذه الصفة، فجعلهم الواثق في الحانتين وضم إليهم خدما وغلماناً وجواري رومية وأخدم النساء حانة الحرم وعلق عليهما الستور وجعل فيها الأواني المذهبة والدنان المدهونة فكأننا أحسن منظر وأبهاه. فلما فرغ منهما أمر بإحضار المغنين والجلساء ولم يدع أحداً من ضُرَّاب الطنابير إلا أحضره وحضرنا وخرج الخمار هو وأولاده معه عليهم الأقية المسهمة وفي أواسطهم الزنابير المحلاة ومعهم غلمان يحملون المكابيل والكيزان والمبازل في الصواني. وأخرجت تلك الدنان المذهبة فأقيمت بإزاء المجلس الذي كان فيه جالساً فُبزلت كما يفعل في الحانات وجعل يُؤتي بالأنموذجات فيذوقها ويعرض ذلك على الجلساء فيختار كل منهم ما يشتهيه فيأخذ دنّاً إلى الخمار ويكتال منه بمكيال في إنائه كما يفعل في المواخير ويوضع على رأس الحضور أكاليل الآس وما أشبهه من الرياحين. فشرب الواثق شرباً كثيراً وأمر للخمار بألف دينار ولزوجته بألف دينار ولكل واحد من أولاده بخمسمائة دينار. وحكى الحسين بن الضحاك قال: قال لي الواثق: هل لك في حانة الشط؟ فقلت إي والله يا أمير المؤمنين! فقام إليها فشرب وطرب وما ترك أحداً من الجلساء

والمغنين والحشم إلا أمر له بصلة، وكان من الأيام التي سارت أخبارها وذكرت في الآفاق. فلما كان من الغد غدوت عليه فقال: أنشدني يا حسين شيئاً قلته في يومنا هذا الماضي فأنشدته. يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا ... عودي بيوم سرور كالذي كانا لا تفقدينا دَعابات الإمام ولا ... طيب البَطالة إسراراً وإعلانا ولا تخالُعَنَا في غير فاحشة ... إذا تُطَرَّبُنا الطيور أحيانا وسلسل الرطلَ عمرو ثم عم بنا الس ... قيا فألْحَقَ أخرانا بأولانا سقيا لعيشك من عيش خصصت به ... دون الدساكر من لذات دنيانا قال فأمر الواثق بِصلة سنية مجددة واستحسن الشعر وأمر أن يغَنَّى فيه. ومن ذلك الغور العميق أصيبت الدولة العباسية بالداء الدويّ والنازلة المُضنية. والحق أن هذا العصر العباسي سما بالعقل الإنساني من طريق العلم والتفكير. إلى أبعد الآماد وأقربها من الكمال، فهم قد ترجموا علوم الأمم السالفة وناقشوا مسائلها وابتكروا علوماً سواها في أقل من خمسين عاماً، وهم قد تناولوا الأدب العربي فهذبوه وجّملوه وألبسوه حلة مذهبة اللفظ ضافية الخيال، وهم بحثوا في الكتاب والسنة وقيدوا منها مسائل التشريع وابتدعوا ممن العلوم ما يكشف عن أسرار القرآن الكريم ويوضح مقاصده ويبحث علومه وحقائقه، ولكن ضعف النفش يطغي على قوة العقل فيقسرها كما تشيع آفة النبات في العود الناضر فتضنيه وتقصفه ثم تسرى منه إلى المرج الخصيب فتفتك به وتذهب بريحه. وكان في الدولة البررةُ والأتقياء، ولكن التقي والبر يكمنان في الفتنة العاصفة ويسكنان في الهيضة الجامحة ويخشيان صولة الألسنة الباغية. وماذا يقول البررة

الأتقياء في هذا العهد وهم يرون إمام العراق أبا حنيفة ينكر على الشاعر الخليع يحيى بن زياد بعض خلاعته فيجيبه يحيى بقوله: إن كان نسْكُك لا يتم ... بغير شتمي وانتقاصي فاقعد وقم بي كيف شئ ... ت مع الأداني والأقاصي فلطالما زكيتني ... وأنا المقيم على المعاصي أيام نأخذها ونع ... طي في أباريق الرصاص فيسمع الإمام بعض هذه الأبيات فيبكي إشفاقاً على نفسه من لوثة ذلك الشعر ومن إذاعة هذا السوء ويرسل إلى الشاعر من يستوهب منه نفسه فبعد لأي يهبها له. هذا مثل من احتكام الشر والفجور بالتقي ونموذج من غلبة صوت المجان والخلعاء على وعظ البررة الأتقياء فأيهم بعد ذلك يقوم على النصح ويهم بالإرشاد؟ على أن الفقهاء والعلماء نالوا كذلك من طيبات هذه الحياة ونعموا بمناعمها وإن وقف أكثرهم عند حد السائغ البريء من هذه الحياة. ولكن هذا السائغ البريء إذا سرى في رجال الدين قعد بهم عن احتمال البلاء ومعاناة الأذى في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك ما كانوا عليه في هذا العصر الحافل بالمناعم والمآثم.

المرأة العربية في العراق

المرأة العربية في العراق كيف كان العباسيون ينظرون إلى المرأة كان مما قضى الله أن ينشطر البيت الهاشمي في الدولة العباسية إلى شطرين متنافرين لا تعطفهما عاطفة الدم ولا تأخذهما وشيجة الرحم، بعد أن أقاما منذ لحق النبي بربه أسرة واحدة لا تزعجها الحوادث ولا تفرقها الخطوب، وبعد أن بُثت دعوة الخلافة لهما معاً باسم الرضى من آل بيت رسول الله. فلما وَلىِ الخلافة أبو العباس السفاح سليل العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض من بعده أخوه أبو جعفر المنصور ثم نظر المنصور إلى ولده محمد المهدي - لما كان ذلك عرف العلويون وهم سلائل رسول الله وأحفاد علي بن أبي طالب أن بني عمهم الذين قاسموهم احتمال الظلم والخسف في عهد بني أمية غلبوهم على أمرهم واستأثروا بالخلافة من دونهم وهم أمس برسول الله رحماً، وأدناهم من الخلافة يداً، لأنها رَوِيت بدمائهم، ونهضت بأسماء الشهداء من قتلاهم، فاحتجزوا بأنفسهم وأطالوا النظر فيما عساهم يفعلون، وهكذا انصدع البيت العظيم ونظر بعضه إلى بعض نظر المقهور إلى قاهره والوتور إلى واتره، ثم خرج إمامهم النفس الزكية محمد بن الحسن ومعه أهل المدينة وجمهور من أهل العراق على الخليفة أبي جعفر، ولم يكن غير قليل حتى التقى الجيشان، وبينا رماح الفريقين متشجرة وسيوفهم متقطرة كان الإمامان محمد بن الحسن وأبو جعفر المنصور يتساجلان الرسائل ويتناظران بالكتب ليكسب كل منهما عطف جمهور المسلمين وانحيازهم إليه، وفي هذه الكتب يطاول كلاهما صاحبه بما له من فضل السبق وكرم العرق وقوة القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان مما فخر به محمد أمومة سيدتي نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله وخديجة أم المؤمنين، فكان مما أجاب به أبو جعفر أما بعد فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء لتُضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعَصَبة والأولياء ومن ثم أخذ العباسيون يتناولون أمر المرأة بالتهوين وقرابتها بالوهن وعقدتها بالانحلال كلما سنحت سانحة أو جدَّت داعية، وأخذ شعراؤهم وعلماؤهم وذوو آرائهم يُبْعِدون ما بين الرجل والمرأة كأن الله تعالى لم يجمع بينهما في كل موطن من كتابه العزيز. ولما قال مروان بن أبي حفصة شاعر العباسين يخاطب العلويين ويمدح العباسيين خلقوا الطريق لمعشر عاداتهم ... حطم المناكب كل يوم زحام ارضَوْا بما قسم الإله لكم به ... ودعوا وراثة كل أصيدَ حام أَّني يكون وليس ذاك بكائن ... لبنى البنات وراثة الأعمام بذل الرشيد مائة ألف وعشرة آلاف درهم، وما زال شعراء العراق يتداولون هذا المعنى تزلفاً لبي العباس واستدراراً لأموالهم ويكثرون الأخذ به واللجاج فيه حتى قال محمد بن يحيى التغلبي ردّاً عليهم: لم لا يكون وإن ذاك لكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام للبنت نصف كامل من ماله ... والعم متروك بغير سهام ما للطليق وللتراث وإنما ... صلى الطليق مخافة الصمصام وما زالت المرأة مَبتَّ هم أبي جعفر ومثار ألمه فلم تفته حتى آخر عهده من الدنيا وأول عهده من الآخرة حيث كانت آخر وصيته لولده المهدي وإياك والاستماع إلى مشورة النساء وأظنك ستفعل.

الصدمة الأولى

ولعل أوضح مظهر من مظاهر إساءة بني العباس إلى المرأة وتهوينهم من أمرها ودفعهم لها عن مواطن الحياة العامة ما كان من الخليفة المستنصر حين علم بولاية شجرة الدرّ أمرَ مصر، فإنه على الرغم من رضاء شعبها بها واطمئنانه لحكمها كتب إلى أمراء المماليك يقول لهم: اعلموا إن كان ما بقي عندكم في مصر من الرجال من يصلح للسلطنة فنحن نرسل لكم من يصلح لها! أما سمعتم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة ثم ختم رسالته بإنكار شديد ووعيد وتهديد وتمثل بعد ذلك بقول من قال: النسا ناقِصات عقل ودينٍ ... وما رأينا لهن رأياً سنيا ولأجل الكمال لم يجعل الله تعالى من النساء نبيا ومن كل ذلك نعلم أن بني العباس كانوا ينظرون إلى المرأة بمؤخر عيونهم حتى لا ينازعهم بنو عمهم زمام الملك باسمها ولا يساوموهم بسموّها، وأما تركهم الإماء يصرّفن قياد ويقلبن زمام الرعية، فما كان ذلك إكباراً للمرأة ولا تنويهاً بشأنها وإنما كان استضعافاً لنزوات النفوس وانغلاباً لحكم الهوى. الصدمة الأولى طلاق المكرَه وكان على المرأة أن تستقبل الصدمة بعد الصدمة وتستعدّ للطمة بعد اللطمة في ظل هذا العهد، وكان أول ما ابتدعوه لها من العنت والمكروه يمين البيعة الذي يفرضون فيه على الرجال والسيف مصلت على عنقه أن يحلف بطلاق امرأته على أن يبقى على بيعتهم ولا يحيد عن دولتهم ولا يحول عن نصرتهم ولا يشايع أحداً سواهم

التجني على المرأة العربية

والذين يقسمون هذه اليمين هم ذوو الرأي والجاه من الساسة الكفاة والقادة الحماة والأئمة الهداة، وقد يكون الرجل منصرفاً بقلبه عنهم ميالا بوده إلى سواهم، فما عسى أن تكون امرأته؟ أيفرق بينهما طواعية لإرادة الحكم القاهر وخضوعاً للبيعة المقهورة؟ وكيف تخضع تلك الشركة التي أحكم الله عقدتها وأوثق آصرتها لريح السياسة ونوازع الأهواء؟ وهل يقضي على امرأة آمنة في سربها في بيتها أمينة لزوجها ساهرة على أبنائها أن تقضي عن كل ذلك في غير ذنب ولا جريرة؟! ذلك ما كان يراه خلفاء العراق وفقهاء العراق؛ ولكن صوتاً دَوّى من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتظم دويه الشرق والغرب بأن طلاق المكرَه باطل ويمينه لاغية ومصدر ذلك الصوت إمام المسلمين وحجة الإسلام مالك بن أنس، صدع به بين سطوة السيف وصولة السيف، ولم يخش في الحق إلاًّ ولا ذمة ولم يرع في الله لومة لائم ودعم هذا الرأي الصارخ بآراء أئمة المسلمين علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وابن الزير ومن إليهم من أشياخ الصحابة وأعلام الإسلام، ولقد راع الخليفة الجبار أبا جعفر المنصور موقف الإمام الأعظم مالك بن أنس فأمر بأن يضرب بالسياط عاري الجسد فشدّ يده وضرب على جسده وعليها بالسياط حتى خلعت كتفه فما نبا له عزم ولا وهن له رأي ولا حلت له عقدة ولا زاغت منه عقيدة، بل خرج من المِحنة أثبت جناناً وأمضى لسانا وأشدّ إيمانا وأقوى برهانا. التجني على المرأة العربية قيل إن عبد الملك بن مروان خطب إلى عقيل بن علفة المرّي إحدى بناته لأحد بنيه فقال عقيل، أقَبلُ يا أمير المؤمنين على أن تجنبني هُجَناء ولدك. فذلك

أعرابي لا شأن له أكثر مما لغيره من سراة أهل البادية وهو مع ذلك لا يعد الهجناء من أبناء الخليفة أكفاء لبناته، لأن المرأة كانت في العهد الأموي كما كانت في العهد الجاهلي في أدق مشاعر العزة والكرامة من نفس الرجل، أما الآن في هذا العهد العباسي فقد أخذ الرجل العربي يتجنى على المرأة العربية لأنه رأى من غيرها ما بهر لبه وسحر عينيه، ولأن حميته وعصبيته تردتا تحت أثقال شهوته، ومن ثم أخذ يعرض بها ويوازن بينها وبين غيرها، وذاع في هذا العهد قولهم: من أراد قلة المئونة وخفة النفقة وارتفاع الحشمة فعليه بالإمام دون الحرائر، واشتهر قول من يقول: عجبت لمن استمتع بالسراري كيف يتزوج المهائر. وأول من جهر بهذا الصوت في المفاضلة الشاعر المبيح بشاربن برد، ومن قوله في وصف قينة: وأصفر مثل الزعفران شربته ... على صوت صفراء الترائب رودِ كأن أميراً جالساً في ثيابِها ... تؤمل رؤياه عيون وفود من البيض لم تسرح على أهل ثَلّة ... سواما ولم ترفع حِدَاج قَعود تميت به ألبابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد هجود إذا نطقت صحنا وصاح الصدى ... صياح جنود وجَّهت لجنود ظللنا بذاك الديدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود ولا بأس إلا أننا عند أهلنا ... شهود وما ألبابنا بشهود ومن قوله: وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش ... ببؤس ولم تركب مطية راع إذا قلدت أطرافها العود زلزلت ... قلوبا دعاها للوساوس داع وعلى أثر هذا الشاعر درج الشعراء على الغض من شأن المرأة العربية والزراية

الإغراء بالفساد

بها والتهوين من أمرها، وإن يكن ذلك عجيباً فأعجب منه أن تعتب المرأة على زوجها شغفه بإحدى القيان وانصرافه عنها فيجيبها في غير خجل ولا استيحاء بمثل ما أجاب به محمد ابن بشير الناشئ زوجته، ثم يذيع هذا الجواب في الناس فيتغنى به في بغداد، وغير بغداد وذلك بقوله: لا تذكري لوعة إثرى ولا جزعا ... ولا تقاسِمينَ بعدي الهم والجزعا بل ائتَسي تجدي إن ائتَسَيْتِ أُسىً ... بمثل ما قد فجعت اليوم قد فُجعا ما تصنعين بعينٍ قد طمحَتْ ... إلى سواك وقلب عنك قد نَزَعا إن قُلت قد كنتُ في خفض وتكرمة ... فقد صدقت ولكن ذاك قد نُزعا وأي شيء من الدنيا سمعت به ... إلا إذا صار في غاياته انقطعا ومن يطيق خليعاً عند صبوته ... أم من يقوم لمستور إذا خلعا؟ فهذا الشاعر يصارح امرأته الحرة بانصرافه عنها إلى غيرها من القيان ويأخذها بالتأسي بما أصيب غيرها من جفوة وهجران، وذلة وهوان، ثم يلقنها من الحقائق أن المستور إذا خرج إلى الفجور سار طلق العنان لا ترده قوّة ولا يثنيه بيان وفي ذلك كله ما يكشف لك عن صورة هذا العصر ويمثله أوضح تمثيل. الإغراء بالفساد وكان كل ما حول المرأة يدفع إلى الإثم ويغري بالفساد، فقد أصبحت وإذا هي في ميدان فسيح تغمره اللذات وتدفعه المحرجات، فعن الرجال يستحدثن كل يوم أسلوبا من اللهو، ويستجدّون ضروبا من الشهوات، لا يتورعن لمندية ولا يسكنون إلى روية، ولا ينزعون عن حمية، بل ساروا خفافا تدفعهم المآرب والأوطار، وتحدوهم الكؤوس والأوتار، وعن يسارها الجواري يجرّون أذيال اللهو

ويجرين في مستبق الفساد ويتصدّين للرّجال بما يستخف ألبابهم من خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وأنشأ الشعراء وهم ألسنة القوم وعنوان أدبهم يُغرون الرجال بالحرائر ويُضرونهم عليهنّ ويُشككونهم فيما عسى أن يبدينه من عفة وما يتجملن به من إباء، وكان إمام أولئك الغواة بشار بن برد، وهو أوّل من اتهم الحرّة في صيانتها وأمانتها وأطمع الرجال في إسلاس قيادها بعد إفراط عنادها، وذلك حيث يقول: لا يؤيسنَّك من مخدّرة ... قول تغَلَّظهُ وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والشيء يسهل بعدما جمحا ثم استن في غباره أبو نواس الحسن بن هانئ فأتى ببدع من القول في قوله: كان الشباب مطية الجهل ... ومُحَسَّن الضحكات والهزل والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أزور حليلة البعل فانظر إلى أي حدّ مَرِنت الألسنة واطمأنت الأسماع إلى مقال السوء وإشاعة الفاحشة بين الناس! فإذا تأمّلت ذلك فأشفق على قلبك أن يذوب أسى، وأبق على نفسك أن تذهب حسرات! يا ويْحَ هؤلاء الناس! أفي دولة إسلامية تُظلها خلافة إسلامية يقال ذلك القول وليس في الناس رادّ ولا دافع!! أبَلَغ من فساد المروءة ورقة الدين أن يتحدّث شاعر الخليفة بأنه كان يدرج في ظلمة الليل إلى حرم البيوت فيسلب ذات الزوج عفتها وفي المسلمين إمام يقيم الحدود ويمنع الحرمات!! فأين هذا من العهد الجاهلي الذي يقول قائله: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها أو العهد الإسلامي الذي يقول قائله: أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخِدر ما ضر جاري إذ يجاورني ... ألا يكون لبيته ستر

أو العهد الأموي الذي يقول قائله: قالت - وقلت تحرّجي وصِلي ... حبل امرئ بوصالكم صبَّ صاحب إذاً بعلي! فقلت لها ... الغدر سيئ ليس من ضربي ثنتان لا أدنو لوصلهما ... عرس الخليل وجارة الجَنب أما الخليل فلست غادِرَهُ ... والجار أوصاني به ربي وراح هؤلاء الخلعاء وأشباههم ينشدون من الأحاديث المبذولة ما يُروّض المرأة الآبية ويستنزل النفوس الرفيعة. وقد حدّثوا أن مطيع بم إياس مرّ بيحيى بن زياد وحماد الراوية وهما يتحدثان فقال لهما فيم أنتما؟ قالا في قذف المحْصنات! قال: أو بقيت في الأرض محصَنة فتقذفها؟! فهل هناك إغراء بالحرائر أشدّ وأشنع من اتهامهنّ جميعاً أعراضهنّ. ومن الشنع المهلكة للفضيلة المغرية بالرذيلة تلك المقطعات التي تحدّث فيها الشعراء بأحاديث التمرّد على العفاف وأرسلوها مؤنثة اللفظ سهلة المأخذ فتلقفها المغنون والمغنيات وأنشئوا يردّدونها في المجامع والأندية وبين الستور والخدور، ومما هو شبيه بذلك قول بشار: عجبت فطيمة من نعتي لها ... هل يجيد النعت مكفوف البصر بنت عشر وثلاث قسمت ... بين غصن وقضيب وقمر درّة بحرية مكنونة ... مازها التاجر من بين الدرر أرخت الستر وقالت ويلتا ... مِنَ وَلوع الكفَّ كَّاب الخطر أُمّتَا بدد هذا لُعَبي ... . . . . . . أقبلت مغضبة تضربها ... واعتراها كجنون مستعر أيها النوام هبوا ويحكم ... وسلوني اليوم ما طعم السهر

حلول الكارثة

ولم يكن الرجال وحدهم هم المغرين للنساء باقتحام الآثام بل إن الجواري قلن في ذلك أشد مما قال الرجال وأغرين النساء بأكثر مما أغروا! ولو أن ذلك كله مما لا يستجيز القلم ذكره لأثبتناه منه ما يدل على باقيه. حلول الكارثة كذلك توالت النُّذُر المؤذِنة بانصباب الخطْب وهبوب العاصفة، وأي نفس تقدحها تلك المحن ولا تهن؟ وأي قلب تبلوه تلك الفتن ولا يميل؟ وأي عزم ترضخه تلك المآثم ولا يُفلّ؟ وأي ضمير تترهقه تلك المحارم ولا يأثم؟ زأي عين تأخذها تلك المخاويل ولا تطمح؟ وأي قدم تدفعها تلك المزالق ولا تزال؟ وكذلك حقت كلمة الله على الأمة المترففة أن يندفع نساؤها في تيار الزمن، وكان سبيلهن أن تبرجن كما تبرج الإماء، وتصدين للرجال كما تصدين، وبذلن من الزمام كما بذلن إلا قليلا منهن أمعنّ في الفرار فلزمن المنازل، واتخذن المسابح، وانقطعن إلى المحاريب، وكذلك كانت بلاد العراق مسارح للتبرج والتهتك ومعابد للتزهد والتنسك وفي كلا المواطنين فقدت المرأة أنوثتها التي تنهج لها سبيل الزوجية السعيدة والأمومة الرشيدة، وكان للبيتين الكبيرين في هذا العهد - بيت العباسيين وبيت العلويين - أثر واضح في توجيه المرأة إلى ناحية من تينك الناحيتين. بيت بني العباس وكان المهدي أول ناشئ في مهاد الدعة وبين ظلال النعيم من بني العباس، وقد ترك له أبوه من ذخر المال ما لا يُنْفِذ سرف ولا يفنيه تلف فاتسع له بذلك مجال اللهو والترف ولقد علمت ما حدثتك ممن نفاذ جواريه إلى ذات نفسه

وعلى شؤون ملكه، وعلمت ما كان من صرف وجوه الرعية إلى دار الخيزران حتى فشت فيها القالة وأرجفت بها الألسنة وساء عنها الحديث. ولم يكن المهدي في غيرة أبيه بل كانت الغيرة أضعف نواحيه. سمع أبا العتاهية ينشد مدحه فيمن أنشده من الشعراء فكان أول قصيدته غزلا واضحاً وتشبيباً صريحاً بفتاة من جواري قصر الخلافة، وذلك ما يقول: ألا ما لسيدتي ما لها ... أدَلاًّ فأحملَ إدلالها وإلا ففيم تجنت وما ... جنيت سقي الله أطلالها ألا إن جارية للإما ... م قد أُسكن الحسنُ سربالها مشت بين حور قصار الْخُطَا ... تجاذب في المشيِ أكفالها وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب في اللوم عذالها فلم يرى الغضب على وجهه! بل لقد اختص هذا الشاعر دون غيره من سائر الشعراء بالجزيل من جائرته، وأشد من ذلك أنه حاول أن يستوهب ابنته عُلَيَّة تلك الجارية ليمنحها الشاعر وكاد يتم ذلك لولا أن توسلت الفتاة بألا يجعلها منحة لهذا الشاعر الدميم المنظر الداني من الموت، وشفعت فيها ابنته فبدله الخليفة منها مالا كثيراً. ولعلك تقول هي جارية تشري وتمنح فليس من شأن المهدي أن يستشعر الحفيظة لها والغيرة عليها، قلت فهلا حق له الغضب من نسبتها إليه وقرن اسمها باسمه! وأي الخلفاء كان يستمع قول أبي العتاهية: ألا إن ظبياً للخليفة صادني ... ثم يتركه وفيه عين تطرف ودعنا من الجارية: هذه ابنته البانوقة أعز الناس عليه وأحبهم إليه وأوحد أهل دهرها أنقاً وجمالا، فهل يجول في خيال أو يخطر ببال أن يلبسها أبوها ثياب

الجند ويقدّمها بين يدي موكبه في طريقه إلى الحج، وهي في نضرة العمر وربيع الشباب! أو كما يقول الطبري كان المهدي في موكبه يسير وابنته البانوقة تسير بين يديه في هيأة الفتيان عليها قَباء أسود ومنطقة وشاشية متقلدة السيف وقد رفع ثدياها القباء لنهودهما. . .!. فهل رأيت كيف أبرز المهدي ربيبة الخلافة وسليلة العباس وعقيلة بني هاشم ونصبها للعيون في زي يجتذب الأبصار ويستقيد النظار؟! ولم تطل حياة البانوقة بل هصرها الموت في مقتَبل الشباب فأخلت الطريق لأختيها عُليَّة والعباسة. فأما علية فكانت شاعرة مغنية جميلة متجملة، روت لها كتب الأدب كثيراً الشعر الغنائي، وفي كثير ما رووا تشبيبها بفتيين من مماليك الرشيد يُدعى أحدهما طَلاّّ والآخر رشا، وربما زجرها الرشيد فصفحت اسميهما وجعلت أولهما ظِلاًّ والثاني زينب وهما تصحيف طل ورشا ومن قولها في طل: أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل متى يلتقي من ليس يُقْضَى خروجه ... وليس لمن يَهوى إليه دخول عسى الله أن نرتاح من كربة لنا ... فيلقى اغتباطاً خلةٌ وخليل ومن قولها فيه كذلك: سلم على ذاك الغزال ... الأهيف الحلو الدلال سلم عليه وقل له ... يا غل ألباب الرجال خليت جسمي ضاحكا ... وسكنت في ظل الحجال وبلغتَ منَّي غايةً ... لم أدر فيها ما احتيال

ومن قولها في رشا: وجد الفؤاد بزينبا ... وجداً شديداً متعبا أصبحت من كلفي بها ... أدعى سقيما منصبا ولقد كنيت عن اسمها ... عمداً لكيلا تغضبا وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا قالت وقد عز الوصا ... ل ولم أجد مذهبا والله لا تلث المودّ ... ة أو تنال الكوكبا ومن قولها فيه وقد حلف ألا يشرب النبيذ: قد ثبت الخاتم في خنصري ... إذ جاءني منك تجنيك حرّمتُ شرب الراح إذ عفتها ... فلست في شيء أعاصيك فلو تطوعت لعوضتني ... منه رضاب الريق من فيك فيالها عندي من نعمة ... لست بها ما عشت أجزيك يا زينباً قد أرَّقَتْ مقلتي ... أمتعني الله بُحبيَّك وكان الرشيد يستمع غناءها غير متحرج، وذكر صاحب الأغاني أنها تغنت وأخزها يُزمر لها بقولها: تحبب فإنّ الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب تَبصَّر فإن حُدَّثْتَ أن أخا هوى ... نجا سالما فارج النجاة من الحب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وكان في جبين عُلية سعة غير مستحسنة فاخترعت له العصابة وهي شُقَّة من الحرير محلاة بصنوف الجوهر فسترت عيبها وزادتها جمالاً. وأما العباسة فقد قال المؤرخون في أمر صلتها بجعفر بن يحيى البرمكي ما قالوا،

وذكروا أن هذه الصلة هي التي حملت الرشيد على قتله وإيقاعه بالبرامكة؛ كذلك كان الناس يعرفون قبل ابن خلدون، فلما أنشأ هو مقدمة تاريخه جعل هذا القول من أوهام المؤرخين وقال في سبيل ذلك: وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبوتها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده العباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السَّجَّاد بن علي أبي الخلفاء بن عبد الله ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابنة خليفة، أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز وصحبة الرسول وعمومته وإمامة الملة ونور ومهبط الملائكة من سائر جهاتها، وقربة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد السرف ومراتع الفواحش، فأين يُطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقد من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي الأعاجم بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها الرسول وأشرف قريش، وغايته أن جذبت دولتهم بضعة وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف. وكيف يسوغ للرشيد أن يصهر إلى موالي العجم على بعد همته وعظم آبائه؟ ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف لاستنكف لها عن ثلة مع مولى من موالى دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه. وأين قدر العباسة والرشيد من الناس؟ وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه على سلطانه. .؟ ذلك قول ابن خلدون؛ وما كان أولانا بما رآه وأذهبنا فيما ذهب إليه لولا أنه ناقش المؤرخين بمشاعره وبعض عقله، وراح يعتمد على فخامة اللفظ ورنة الإيقاع

وكل ذلك ليس خليقاً بأن يمحو خبراً ذاع ويقطع حديثاً نمى، وكان أولى بابن خلدون حين ذكر للعباسية شرف المنصب وعلوّ النسب أن ينظر نظرة إلى الأمم فهي وحدها مرجع ما عليه البنت من علو أو هوان، بل مرجع ما عليه الولد من بعد همة أو فترو عزيمته، تلك الأم التي نزع الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إليها بقوله أنا ابن العواتك من سُليم. وكل ما يتصل به من الأبناء من عظمة البيت وشرف الأسرة ونبل العشيرة إنما يتضاءل فيما يرتضعونه من أمهاتهم من لؤم وخمول. ومَن أم العباسة؟ أليست مغنية من القيان اشتراها المهدي وكان من أمرها أن أصبحت أم ابنته؟ أفي قدرة هذه أن تنشئ قناة تحفظ ما لبيتها العظيم من سموّ وجلال! وإن النفس لا تطمئن لما ذكر ابن خلدون عن نكبة البرامكة، فإن المثْلَة الشنعاء التي مثلها الرشيد بجثمان جعفر من تمزيقه ثلاث فلذات وصلب كل واحدة على باب من أبواب بغداد بعد ما كان من فرط حبه له وتقريبه منه تقريباً لم يكن بين أخوين أليفين كل ذلك لا يكون إلا حين تتقد الغيرة وتهتاج الحفيظة ويصاب العرض، وما أظن ما قال القائلون من احتجان الأموال وممالأة بني علي بن أبي طالب إلا تمويهاً للأمر وإبلاغاً للعذر. ولو كان ذلك حقا لقتل البرامكة على سواء ولم يختص واحداً بالقتل ويترك الباقين رهائن السجن، بل لكان أولى بالقتل يحيى أبو جعفر لأنه هو الذي استنّ لبنيه سياسة الرفق والمودّة للعلويين. وكان بيت المأمون يقوم وعلى العلم والحكمة، وعلى المرح والدعابة كذلك، وكانت ابنته خديجة تجدّ في أثر عمة أبيها عليه من إرسال الشعر في التشبيب وابتكار الغناء والتلحين، ومن قولها في خادم من خدم أبيها. بالله قولين لمن ذا الرشا ... المثقل الردف الهضيم الحشا

بيت العلويين

أضرف ما كان إذا ما صحا ... وأملح الناس إذا ما انتشى وقد بنى برج حمام له ... أرسل فيه طائراً مُرْعَشا يا ليتني كنت حماماً له ... أو باشقاً يفعل بي ما يشا لو لبس القوهيّ من رقة ... أوجعه القوهي أو خدّشا وحسبنا أن نقف بالقلم عند هذا الحدّ ونكتفي منه بأن نقول إن نساء بيت بني العباس قد أخذن مآخذ الرجال من السرف والاندفاع، وما نريد أن نقول إنهن تجاوزن المرح والدعابة إلى ما وراءهما من العبث والفساد. وإذا زلت هنالك قد أو طمحت عين أو لَفَظ لسان، فإنّ لا يصدع البيت، ولا يئلم الأسرة إلا أن يقال إن ترف الحضارة ورونق النعيم، قد رفعا عن تلك البيئة كلفة الدين وخلعا عنها عذار الوقار. بيت العلويين أما نساء هذا البيت فقد عكفن على التبتل وأنِسْن بالوحشة وانقطعن عن الناس. وما ظنك بامرأة لا تنتقل من فاجعة إلا إلى فاجعة، ولا نصير من نازلة إلا إلى نازبة، قد رضّ الحديد عظام أهلها، ونهلت السيوف من دمائهم، وراح وحش الفلا بأشلائهم، وكأن بينهم وبين كل دولة ثأراً لا تسكن نأمته، ولا تروي غلته حتى لقد استجاز قُسَماؤهم وبنو عمهم أن يقودوا الطفل من ملعبه إلى مذبحه، وإليك فاسمع إحدى حوادثهم. قال الطبري: ذكر أبو يعقوب بن سليمان، قال: حدذثني حميدة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم أبو جعفر المنصور على الحج دعا رَيْطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن وتقدّم إليها وأحلفها ووكد

الأيمان ألا تفتح باب تلك الخزائن ولا تُطلع عليها أحداً إلا المهدي، ولا تَطْلع هي إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري غلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور أنه تقدّم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليها أحداً حتى يصح عندها موته، فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة فإذا فيه جماعة من قتلى الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيه أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى المهدي ارتاع لِما رأى فحفرت لهم حفيرة ودفنوا فيها. تلك فَغْلَة من فَعَلات أبي جعفر بأبناء عمه، وهي مَثَل واحد من كثير لا حدّ له. وما كان الرشيد بأنعم يداً، ولا أرق كبداً من جدّه المنصور، بل كانت سيوفه الطائشة كحمم النار ترتمي يميناً وشمالاً على رءوس الأبرياء من بني عمه، حتى لقد كانت سياسته فيهم سياسة إبادة وإفناء. فأين تقرّ العيون الباكية، وكيف تسر القلوب الدامية، وهل يطمئن بالحياة من تنذره كل لحظة بحيف نازل أو كيد محيق. لذلك لم يجد نساء هذا البيت فَرجة من الهم ولا متسعاً للسرور. ولذلك ائتنسن بالوحشة، واسترحن إلى الوحدة، وانعطفن إلى الدين، حتى لقد نشأ جواري ذلك البيت على غير ما ينشأ عليه جواري ذلك العصر. فما كانت تدخل في رقهم حتى تتلقاها إحدى نسائهم فترويها الحديث وتعلمها الفرائض. وقد حدثوا أن فتاة رومية من بيت القياصرة، وفدت على أبي محمد الحسن العسكري فلما رآها راغبة في مصاهرة بيت النبوّة، دعا أخته حكيمة فقال: خذيها إلى منزلك فعلميها الفرائض والسنن. ومما أذكر في وصف هذين البيتين وعقد الموارنة بينهما قول أبي فراس الحمداني

اتصال البيتين

من قصيدة يرد بها على ابن سكة الهاشمي العباسي، وكان ابن سكرة قد قال قصيدة يمدح فيها بني العباس وتعقد فيها لواء الفخر عليهم. خلوا الفخار إن سئلوا ... عند السؤال وعّمالين إن علموا تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً ... ومن بيوتكم الأوتار والنَّغَم إذا تلوْا آية غنىَّ إمامكُم ... قف بالديار التي لم يعفها القدم منكم عُلَيّة أم منهم وهل لكم ... شيخ المغنين إبراهيم أم لهم ما في بيوتهم للخمر معتصر ... ولا بيوتهم للشر معتصم اتصال البيتين وأقام هذا البيت أبْعَدَ ما يكون عن بيت بني العباس حتى لا يجرؤُ أحد من المتصلين بالعباسيين أن يصهر إلى علوي خوفاً من الخليفة أن يعرضه على السيف وبقي العلويون في منعزل سحيق من النأي، حتى إذا استخلف المأمون أراد أن يصل الحبل. ويَرأب الصدع، ويحسم الشقاق. فدعا بعلي بن موسى الرضا عميد هذا البيت وزعيمه والإمام المرتضى من آل البيت. فقلده ولاية عهد الخلافة، وزوجه ابنته أم حبيب، وزوج ابنه محمداً بنته الثانية أم الفضل، وضرب النقود باسم عليّ وقرن اسمه على المنابر، وخلع الشَّعار الأسود الذي اتخذه العباسيون عنوان دولتهم وبدل الشَعار الأخضر اختاره العلويون شارة إمامتهم. وكان من أثر ذلك تلك الخطة التي اختطها المأمون أن دوت صيحة بني العباس بالثورة على الخليفة القائم. واحتشدت جموعهم لقتاله، وخلعوا عن أعناقهم بيعته، وولوا عمه إبراهيم بديلا عنه. وقد قابل المأمون كل ذلك بجيش من مضائه ودهائه مزج فيه الشدة بالليين، والوعد بالوعيد. ثم ما زال بأهله حتى أخمد جمرتهم، وأطفا ثورتهم وإن كانت صدورهم لم تزال محنية على الحقد والحفيظة. وإذا كانت الحالة

القطيعة

السياسية قد صفت مظاهرها، فإن الحياة الزوجية في الأسرة المؤتلفة كان يشكو بها الكدر ويفسدها الشقاق، وذلك شأن الزواج الذي لا تأتلف فيه نشأة الزوجين وأسلوب تربيتهما، وكان الخلاف بين محمد وزوجه أشد مما كان بين أبيه وزوجه، تريد المرأة أن يبسط لها زوجها بساط النعيم، ويفسح مجال السرور. ويجلو لعينيها بهجة الملك، ويأبى الرجل إلا التضييق عليها في ذلك كله، وكلاهما في الطرف القصيّ من صاحبه، وكثيراً ما كانت تشكوه غلى أبيها المأمون فيقول لها: يا بنية أطيعيه واحتميه بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. القطيعة على أن الحبل ما لبث أن قطع من أحد طرفيه، فإن عليا مات بعد قليل ممن زواجه على أثر أكلة عنب قيل إنه مسموم، وقيل إن امرأته هي التي سمته، وقيل إن المأمون هو الذي أوحى ذلك إلى ابنته ليعود ودّ بني أبيه، ثم قطع الطرف الثاني في عهد المعتصم حين مات محمد بن علي، ويقول الشيعة إن امرأته كذلك هي التي قتلته لتفصم عقدة الحياة بينها وبينه، وبذلك عاد البيتان إلى قديم ما كانا عليه من فرقة وشتات وكان حُلماً فانقضى، وكان عقداً فانتثر. فإن الجرح ينفر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد الاقتداء وكان لا بد للمرأة أن تأتسي بأحد هذين البيتين: فأما بيت العباس فقد دخل في زمرته جمهور من النساء وأخَصُّهن ذوات الجاه والثراء لأن كل ما في الحياة من لهو واندفاع ينزع بهن إلى تلك الناحية، ومن شأن المقلد أن يندفع في تقليده إلى أبعد ممن يحكيه، وكذلك خرج النساء إلى مستَبَق المرح ومغتنَم السرور، وإذا استثنيت

النساك

ما يسوقه ابن خلدون من جدل وتأويل فإن المؤرخين مجمعون أن النساء قطعن الحوائل وكسرن القيود، ولم يكن سرا حديث ملاعب بغداد ومغانيها ودورها وقصورها وما أقيم فيها من عزف وقصف وما ساد عليها من لهو ولعب، فقد تواصفه شعراء هذا العصر ومؤلفوه، ولولا عفة القلم لنقلنا الكثير من الموفور مما وصفه أبو نواس في مقدمة ديوانه وما ساقه أصحاب الأغاني وكتاب بغداد والمنظوم والمنثور والعقد الفريد وصاحب بلاغات النساء في باب المجون وأشباههم من المؤرخين والأدباء وفي كلها من حديث المرح وإجماح ما لا نراه إلا قطعاً للصلة بين نساء هذا العصر ونساء العصر القديم، وهل كان يُقْدَرُ للمرأة غير ذلك المقدور وقد تقاسمتها الفتن وتنازعتها الأهواء ومن البداءة الظاهرة في تاريخ العراق أن المرأة في هذا العصر شربت النبيذ. ومن حديث الطبري أن نساء أقررن بالخمر بين يدي المهدي. ومن رواية الأصمعي أن أعرابية نزلت بغداد فسقوها النبيذ، فلما أخذتها النشوة قالت: أيشرب نساؤكم هذا؟ قالوا نعم، فقالت زنين ورب الكعبة. ومما يزيح لنا النقاب عن مبلغ ما أصاب الأخلاق من وهن وانتكاث قول علي بن هشام وهو ممن تصلهم ببيت الخلافة صلة الدم وآصرة المصاهرة: عشقت ألف امرأة ثم انتهيت على ألاَّ بامرأة أفرأيت كيف لانت مقادة النساء وهانت كرامتهن وأُذِيل فضلُ ما لهن من إباء وحياء حتى استعصى على الخبير بهن أن يثق بواحدة منهنّ. كذلك أقام الكسائي إمام اللغة والأدب دهرَة غير متزوج لأنه لا يثق بامرأة، وكثير من علماء هذا العصر درجوا ذلك المدرج فلم يتزوّجوا. النساك وكان من شأن تلك الحال أن تدفع كثيراً من الممستورين والمستورات إلى التحرّج منها والانحياز بأنفسهم عن مجالها والابتعاد عن مخالطة من يتصلون بها، وركبوا

في ذلك الحرج مركباً خشناً لا سواء فيه ولا صفاء، فاستوحشوا من الدنيا وانقطعوا عن لناس وتجافت جنوبهم عن المضاجع وتناءت قلوبهم من المطامع، وهذا الفريق من الناس هو الذي اتخذ أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم غاية مرومة وسنة مأمومة، ثم ما لبثوا أن تجاوزوا بالنسك أبعد حدوده فحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله فلبسوا الخشنِ الشائك وأكلوا اليابس القَفار وأنسوا بالظلمة الحالكة واستوطئوا الصلب العسير واندفعوا في سبيل ذلك كما يندفع المهر الأرَنّ فاعتسفوا الطريق إلى غايته واقتحموا الصعاب إلى مداها. وكان الزاهدات من النساء أشد اندفاعا في الزهد وانقطاعاً إلى العبادة واقتناعاً عن طيبات الحياة من زهاد الرجال، فلا تراهنّ إلا صائمات قائمات، باكيات والهات، وخليق باندفاع المتبرجات المتبذلات أن يقابله اندفاع المتنكسات المتبتلات، فإن حسب المرأة أن تشعر بالموجدة على شيء حتى تفر من كل ما يلابسه أو يحيط به، لذلك كان العراق أحفل بلاد الله بالخّيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الزهد عن فرط علم ورسوخ عقيدة لا عن حماقة وجهالة كما تجد في كثير ممن عرفن بالنسك والتصوّف من أشتات البلاد. ورأس هؤلاء الناسكات رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وكانت مضرب المثل في تدله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثار لرضاه، وكانت على تواصل صيامها وقيامها وتتابع زفراتها وتدفق عبراتها تستقل كل ذلك في جنب الله. قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: وحزناه! فقالت: لا تكذب! بل قل: وا قلة حزناه، ولو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس. ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال - وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها -: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في

عبدة البصرية

صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور، قالت عبدة: وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني وقالت يا عبدة: لا تؤذني بموتي أحداً، وكفنيني في جبتي هذه وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً. ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم. ومما أثر عنها من الشعر قولها في ذات الله تعالت ذاته: إني جعلتك في الفؤاد محدّثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانسٌ ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وكانت وفاتها رضوان الله عليها سنة خمس وثمانين ومائة. عبدة البصرية وهي امرأة عكفت على العبادة وأفرطت في السهر وأسرفت في البكاء حتى كف بصرها. سمعت قائلا يقول ما أشد العمى على من كان بصيراً! فقالت: يا عبد الله عمى القلب عن الله أشدّ من عمى العين، وددت أن الله وهب لي كنه محبته وأنه لم يبقى مني جارحة إلا أخذها. وقدم ابن أخ لها من فراق طويل فبُشرت به فبكت، فقيل لها. ما هذا واليوم يوم سرور! فازدادت بكاء، ثم قالت: والله ما أجد للسرور مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومثبور ثم أغمى عليها وسقطت.

فاطمة بنت عباس

فاطمة بنت عباس المفتية، المدرسة، الفقيهة، العابدة، العالمة، الصوفية، المجاهدة: وكل هذه ألقاب خلعها عليها أهل دهرها، وكلها صفات وصلت بها منتهى حدودها كانت تصعد المنبر وتعظ النساء. وانتفع بتربيتها والتخرّج عليها خلق كثير. وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول، وعلى سُنتها سارت ابنتها زينب فكانت تعظ النساء وتخطبهن في حياة أمها وبعد موتها. فخرية بنت عثمان البصرية كانت من أسرة عريضة الجاه موفورة الغنى، ولكن ذلك كله لم يطب لها فخرجت عنه وتزهدت وتنسكت وهجرت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم. وكانت أشبه الناس برابعة في الوحشة من الدنيا والتدله في ذات الله. هاجرت إلى بيت المقدس وأقامت أربعين عاماً تقف الليل كله بباب الحرم تصلي حتى يفتح الباب فتكون أول داخل وأخر خارج. مُعاذ بنت عبد الله العدوية البصرية روى عنها قتادة والجرمي وأيوب وغيرهم، وكانت إذا شملها النهار قالت لعلَّي أموت اليوم فلا تنام، وإذا جنَّها الليل قالت لعلي أموت الليلة فلا تنام. وكانت إذا أشتد البرد لبست الرقاق من الثياب ليمنعها البرد طيب فلا تنام. ومن قولها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة القبور. وكانت تصلي في اليوم والليلة ستمائة ؤكعة، ولم ترفع بصرها إلى السماء أربعين عاماً. وأكثر ما كان الزهد والتنسك في البصرة، وتلك كانت شهرتها من قديم عهدها ومن حديث هذا التبذل والتبتل تعلم أن المرأة تمردت على الحياة النَّسوية الكاملة، فليس في هؤلاء ولا أولئك مثل واضح للمرأة التي جعلها الله مبعث الودّ والرحمة للزوج

ومغرس النبل والكمال للولد، بل هي امرأة ثائرة على النظام نافرة من الجماعة، وما لهذا خلق النساء. ومن العجيب أن المرأة المتنسكة انصرفت عن الزواج! كأنها تعلم أن نسكها لا يتم إلا إذا انفردت عن سائر الناس! ومما رواه صاحب مصارع العشاق من حديث فتاة من المتبتلات نظر إليها فتى من جيرتها فهام بها فأومرت في الزوج منه فاعتذرت. أقول من هذا الحديث تعلم كيف يصرف هذا الصنف من النساء عنانه عن كل ما يتصل بالحياة. وحديث ذلك أن هذا الفتى رأى الفتاة فشغفته حبا فكتم أمرها حتى أنحل جسمه وأشفى على الموت، ثم كاشف بأمره امرأة من أهله فذهبت إلى الفتاة - وكان حديث مرض الفتى قد انتهى إليها - وحدثتها ساعة، ثم قالت لها: يا بنية أبليت شبابك وأفنيت أيامك على هذه الحال التي أنت عليها! قالت يا عمتاه أية حال سوء تريني عليها؟! قالت لا يا بنية، ولكن مثلك يفرح في الدنيا ويلذ فيها ببعض ما أحل الله عز وجل لك غير تاركة لطاعة ربك ولا مفارقة لخدمته، فيجمع الله لك بذلك الدارين جميعاً، فوالله ما حرّم الله عز وجل على عباده ما أحل لهم من الطيبات. فقالت يا عمتاه، أو هذه الدار دار بقاء لا انقطاع ولا فناء، فتكون الجوارح قد وثقت بذلك، فتجعل لله تعالى شطر همتها وللدنيا شطرها، فتعد الجوارح إذاً التعب راحة والكد سلامة؟ أم هذه الدار فناء وتلك دار بقاء ومكافأة، والعمل على حسب ذلك، قالت يا بنية لا، ولكن الدنيا دار فناء وانقطاع وليست بباقية على أحد ولا دائمة له ولكن قد جعل الله تعالى لعباده فيها ساعات صدقة منه على النفوس تنال فيها ما أحل لها مخافة الشدة عليها، فقالت الجارية: صدقت يا عمتاه، ولكن لله عباد قد علموا وصح في هممهم شيء من ذخر ذخروه عنده، فجعلوا هذا الشكر

ذخيرة عنده، إذا لم تكن الدنيا كاملة لهم، ولا هم منتقصون شيئاً قدموه لأنفسهم؟، وسكنت نفوسهم ورضيت بالصبر على الطاعة لتنال جملة الكرامة، وإن كلامك ليدلني على أن تحته علة وهي التي حملتك على مناظرتك لي على مثل هذا. وقد كنت أظن قبل اليوم فيك أنك تأمرين بالحرص على طاعة الله عز وجل والخدمة له والتقرب إليه بالأعمال الزكية التي تبلغ رضاه وترفع عنه، فقد أصبحت متغيرة عن ذلك العهد الذي كنت أعهدك عليه، فأخبريني بما عندك وأوضحي لي ما بقي في نفسك، فإن يكن لك جواب أعنتك، وإن يكن يكن فيه حظ تابعتك، وإن يكن أمراً بعيداً عن الله تعالى وعظتك. قالت يا بنية! فأنا مخبرتك به، والذي منعني من إلقائه عليك هيبتك، فأما إذا بسطتني وعلمت أن عندي خبراً وأمرتني بإلقائه فإن من قصة فلان كذا كذا: قالت قد ظننت ذلك، فأبلغيه مني السلام وقولي: أي أخاه إني والله قد وهبت نفسي لمليك يكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويعين من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع من بعد الهبة سبيل، فتوسل إلى مولاك ومولاي بمحابه، وأسرع إليه في غفران ما قدمت يداك من عمل لم يهبه ولم يرضه، فهو أول ما يجب عليك أن تسأله وأول ما يجب عليَّ أن أطيعك به، فإذا خدمته بقدر ما عصيته طاب لك الفراغ من سؤال شهوات القلوب وخطرات الصدور، فإنه لا يحسن بعبد كان لمولاه عاصياً وعن أمره ناسياً أن ينسى ذنوبه والاعتذار منها. ويلزم نفسه مسألة الحوائج لعلها داعية له غلى الفتنة إن لم يتداركه الله بكرمه، فاستنقذ يا أخي من مهلكات الذنوب فإن له فضلا وسع كل شيء، ولست مؤيستك من فضله إن رآك متبتلا إليه، ومما قدّمت يداك معتذراً أن يمن بي عليك، فإنه الملك الذي يجود علي من ولي عنه فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من تولى عنه يكون لمن أطاعه مكرماً وإليه وقت

المرحلة الثانية

الندامة مسرعاً، وأما بقيت لك حجة تحتج بها، فليكن ما أخبرتك به نصيب عينيك، ولا تراودني في المسألة فلا أجيبك، والسلام. فلما بلغته مقالتها زاد وجده حتى خولط عقله ومات بعلته. وبعد: فهذه صورة ما كان عليه نسوة هذا العصر من غلو في كل شيء، ولست أعني بذلك أن نساء العراق لم يبقى منهن إلا الجامحة في أحد هذين الطريقين فما زال فيهن المستورات اللواتي سرن في الطريق السوي الذي لا اعتساف فيه ولا انحراف، ولكن هؤلاء لم يكن في أسلوب حياتهم شيء يستحق التنويه به ولا مزية تستوجب الإشادة بها وهن مع ذلك قُل في النساء. المرحلة الثانية الكساد الزواج قيد من قيود الاجتماع أو ثقة الله بين الرجال والنساء لتنكسر به حدة الشهوة الطائشة، وترعوي به سورة النفوس المندفعة، فإذا تم لها ذلك، سمعت الروح وصفت السريرة، وغلبت الفضيلة، وسار الناس إلى الكمال في نهج وأضح وأمد قريب. لذلك لا تجد الأمة الغوية تنزع إلى الزواج، لأنها تريد إثارة الشهوات لا إمانتها، وإيقاظ الفتن لا إخمادها، وترضية النفوس لا ترويضها، فإذا نزع إليه منها نازع فبقدر ما يقضي نهمة جامحة، أو يسدّ مؤتشبا مطمعاً مؤتشباً، ثم يتركها كما يترك اللقَي المهمل، أو يطويها كما يطوي الثوب اللبيس. وذلك ما كان على أتم وجوهه في حواضر العراق، فقد كسد النساء حتى أصبحت المرأة تطلب بالدينار والدينارين فتساق، وهي تعلم أنها ستسلم حين اللقاء تسليم الوداع. ومما ينبئك عن هذا البوار ما حدث صاحب النجوم الزاهرة، أن عالماً من علماء بغداد زوج من تسعمائة امرأة!

فهل إذا قيل لك فلانا العالم ذبح في حياته تسعمائة شاة أفلا يكون ذلك إسرافاً مبيناً ذلك عالم ليس له إلا ما قيم أوده مما يوصف لأمثاله من بيت مال المسلمين فكم من النساء يمسك الغنى إذا نزل السوق الراكد ومعه ماله وجاهه. وفي هذا السوق قضى على المطلقات قضاء لا مرد له، فلا يطلب المطلقة طالب ولا تلمحها نفس راغب، وقد كان من سنة العرب حتى آخر العهد الأموي، أن المرأة يخلفها بعد زوجها زوج ومن بعده أزواج، فلا يتضع لها قدر، ولا تطمئن لها عزة، وربما كان آخر أزواجها أسنى شرفاً وأدنى إلى قلوب النساء من أولهم لأن المرأة إنما تخطب لسناء شرفها وعلو بيتها، ونبل خلالها، وذلك ما لم ينقصه الطلاق شيئاً. أما الآن وقد شغل الناس بلذاذات الشباب، واستمرءوا مرعى الجواري فأقل ما يطلب أبكار العرب بَلْه ثَيّبهن. وإلى تلك الحال أشار الجاحظ في كتاب القيان إشارة الآسف المحزون، وإن من أوضح ما يكشف عن رأي الرجل في المرأة ومنزلتها من نفسه وحالها في بيته قول القائل: اذهبي قد قضيت منك قضائي ... وإذا شئت أن تبيني فبيني ولعل أبلغ في الإنباء بحالها، وتجني الرجل عليها قول أبي الشيص: إذا لم تكن طرق الهوى لي ذليلة ... تنكبتها وأنحرت للجانب السهل وما لي أرضي منه بالجوز في الهوى ... ولي مثله ألف وليس له مثلي ثم انظر إلى المجاهرة بالغدر، والمجابهة بمكنون النفس، والمظاهر بدخيلة الرأي في قول القائل: يا رب مثلك في النساء كثيرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق لم تدر ما تحت الضلوع وغرّها ... مني تجمل شيمتي وخلاقي

إباحة المتعة والزواج الموقوت

وأعقب ذلك الكساد التفريط في حقوق المرأة. ومن ذا الذي يضن بالرخيص المبذول أو يصون البغيض المملول؟ ومن التفريط تركها في غياهب الجهل وطرحها في مطارح الإهمال، فلا تزويد بعلم، ولا تجميل بأدب، ولا تنشئة على دين. وانقضى بانقضاء القرن الثالث للهجرة عهد المرأة العربية الكاتبة والشاعرة والعالمة والخطيبة، وقالوا تَعلة لذلك، إن الذي يُعلم المرأة كمن يصقل السيف ليُقتل به، وقالوا: لا تسق السهم سما لترميك به يوماً ما، وقالوا إذا وصفت المرأة بالعقل فهي غير بعيدة عن الجهل، وقالوا: لا تدع المرأة تضرب صبيا فإنه أعقل منها. وأمثال ذلك ونظائره كثير. ومن التفريط في المرأة ترك الحفاظ لها، والغيرة عليها. ولا أقول إن ذلك كان سنناً عاماً لأهل العراق، ولكنه مما فشا فيهم، وذاع في أشعارهم وأخبارهم وأثر عن سامّتهم وعامّتهم. وليس بسر ما وضعه أهل هذا البلد من الكنايات وما أرسلوه من النوادر، وما أذاعوه من الشعر عن المفرّطين في أعراضهم، المغضبين عن الشرف حلائلهم مما استفاضت به الكتب، وتظاهرت عليهِ الأخبار. إباحة المتعة والزواج الموقوت المتعة عقد بين الرجل والمرأة صيغته أن يقول الرجل أتمتع أو أستمتع بك، أو ما إليهما مما اشتق من هذا اللفظ، فتجيبه المرأة بالقبول ولا تلزمه الشهود. والزواج الموقت صيغة كصيغة الزواج العامة إلا أنه موقوت بوقت، وقد أحلهما الإسلام معاً باسم المتعة في السنة الأولى من الهجرة، ثم حرمهما الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. على أن المسلمين ما برحوا يتمتعون طوال عهد أبي بكر وصدراً من عهد عمر لأن منهم من لم يصله حديث المنع حتى أخذهم عمر بمنعه

آثام الظنون

وحسر لهم عن حجة تحريمه عنه، وأقاموا بعدها لا يبيحون المتعة إلا فريقاً من الشيعة أباحوها معتمدين على فتوى نسبت إلى علي عليه السلام، وأخرى قال بها ابن عباس رضي الله عنهما، وما زال جمهور المسلمين يتحامون هذا الأسلوب من الزواج حتى أباحها المأمون للمسلمين عامة، وظاهر غرضه الانحياز إلى علي وابن عباس لأنه كان ينذر الأمة بالوبال العاجل والموت المحيق، على أنه لم يحسم داء ولم يدفع بلاء. لذلك حرّمه على الناس اعتداداً بحديث صدع به قاضيه يحيى بن أكثم. آثام الظنون استنشى الناس في العهد العباسي نشوة الحضارة وابتلوا سكرة النعيم وسارت المرأة في أثر الرجل ناهزة بدلوه مسلمة أفياء سرحته، والمرأة ذات حِسّ وثاب، تدفعها إلى الكمال فتسير إلى أبعد حدوده وتقذف بها إلى النقص فتتردى إلى أعمق وهاده، فلما أفاق الرجل وأبصر المرأة مرخاة العنان لا يردها زجر ولا يلويها تحرج أنشأ يَلْتدم حزناً ويستشري غضباً كأن لم تكن له في ذلك الْخَطب يد أيّدة ولا جهد عميق، على أن مما يملك الرجل التعليل والتأويل، فهو إذا ضل راح يلتمس المعاذير لهذا الضلال وربما موّه الرأي فإذا الضلال هدى وإذا الشطط قصد مبين، لذلك راح يعزو ما تورطت فيه المرأة إلى سوى فطرتها ولؤم غريزتها وقبح دخيلتها وأنها أشرى الشر وأسوأ السوء، وزوّر الرجال أحاديث نحلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها أن المرأة قرار اللؤم ودارته ومنبت الشر ونبعته كأن لم يكن منها أمه ولا زوجه ولا ابنته التي عدها عديل نفسه، وادخر الله منها سلالة نبيه، ونسبوا إلى فلاسفة اليونان والهند تشبيههم المرأة بالصائد الخاتل والحية الرقشاء؟! ومما زوّروه من الحديث: أوثق سلاح إبليس النساء - النساء حبائل الشيطان - شاوروهن وخالفوهن - إياك

ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن وعزمهن إلى وهن - النساء شر كله وشر ما فيهن كله الاستغناء عنهن، ومما نحلوه صحابة رسول الله دعواهم أن عليا عليه السلام قال لا تطيعوا النساء على حَال. ولا تأمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن العيال، فإنهن إن تركن وما يردن أوردن المهالك وأزلن الممالك، لا دين لهن عند لذاتهن، ولا عقل لهن شهواتهن، ينسين الخير ويحفظن الشر، يتهافتن في البهتان ويتمادين في الطغيان ويتصدّين للشيطان وقولهم على لسان سَلمان رضي الله عنه: النساء عِيّ وعورة، فداووا العي بالسكوت، والعورة بالبيوت. وزعموا أن من الأقدمين من قال لا تدع المرأة تضرب صبيا فإنه أعقل منها. ومنهم من قال إذا وصفت المرأة بالعقل فهي غير بعيدة عن الجهل وأن سقراط رأى امرأة تحمل ناراً فقال: ناراً والحامل شر من المحمول. وقيل له أي السباع شر؟ فقال المرأة. كل ذلك وأمثاله لم تقبله الألسنة إلا في العهد العباسي، وقد ظهر اختيان المرأة في أحط مظاهر على ألسنة الشعراء، ومن أشنع ما قيل في ذلك العهد. تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعا إذا بانت، فسوف تبين وإن هي أعطتك اللَيان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على مدد الأيام سوف تخون وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين ثم ما زال الشعراء يتداركون على ذلك السنن الوعر من هُجر الكلام ومُرَّه حتى جاء أبو العلاء فاتهم المرأة في ذمتها وأمانتها ودينها وخلقها! ولم يدع لها لمحة من الخير ولا حجب عنها لفحة من الشر، وهو في ذلك لم يَعْدُ ما يقوله أهل هذا العصر في المرأة، ونحن هنا نلم بشيء مما قال في هذا السبيل. قال:

الحجاب

وأظهر من ضوارب في نعيم ... نعام في الفلا متهبرات تَقَيَّد لفظها عن كل بر ... مواشي بالحليَّ مقيدات عجلن إلى مساءة مستجير ... لواه في الخطا متأبرات وتنقص خيَرها أثراً وفتكا ... صواحب منطق متزيدات وسَبَّح بالضحى ظَبَيات مَردٍْ ... بكل عظيمة متمردات وقد أُغْمِدْن في أرز ولكن ... سيوف لحاظهن مجرّدات وورّدت اللباس بِلَون صبغ ... خدود بالشباب مورّدات وقال: قد أهملت للخِيَاط إبرتها ... فصادفت إبرة لعقربها فهي تُسَقّي الحليب ليلتها ... ولم يكن من لذيذ مشربها الحجاب وكان لزاما بعد أن أوحشت عقيدة الرجل في المرأة أن يقصيها عن منال العيون ويحجبها عن محال المآثم، فما لبث أن أرخى عليها الحجب وأسدل دونها الأستار وعفى على كل أثر ينء عنها أو يشعر بوجودها، وراح يتأول فيما أَباح الدين رؤيته منها، وأكثر من فعل ذلك المتأخرون من فقهاء الحنفية، وأنت تعلم أن الإسلام أباح للرّجل أن يطَّع على وجه المرأة وكفيها وقدميها. فانظر كيف تأوّلوا في ذلك! أما الوجه فقد قال صاحب الدرّ وتُمنع - المرأة - من كشف الوجه بين الرجال مخافة الفتنة وأما الكف فقد قالوا: إن ظهره عورة كما قالوا: إن باطن القدمين عورة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الحجاب، بل إنهم تأوّلوا كذلك في صوتها فقالوا: إن نغمتها - حتى في قراءة القرآن الكريم - عورة. وزاد صاحب

الكافي فقال: لا يجوز للمرأة أن تلبي جهرة لأن صوتها عورة، بل لقد تجاوز صاحب الفتح كل ذلك إلى الفتوى بفساد صلاة المرأة لو جهرت بالقراءة. كل ذلك مما تأوله فقهاء القرن الخامس وما يليه - باسم الدين - درءا للفتنة الناشئة وحسما للداء الوبيل، وما عسى أن يفعل هؤلاء وقد طغى الفساد على مشاعر الفاضلة فلا يعرف من المرأة إلا أنها ذريعة إلى مأرب فاسد وسبيل إلى مطمح وخيم. ولقد أغرق الناس في حجاب المرأة حتى عيب عليهم أن يذكروا اسمها، وبعد أن كان معاوية يتحدث عن نفسه في مجلس خلافته فيبدأ حديثه بقوله أنا ابن هند وبعد أن جاء شاعر بني أمية يمدح فحل أجمعتهم عبد الملك بن مروان بقوله: أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها بعد كل هذا وأشباهه أصبح اسم المرأة عورة ذكره وتُتَلمسَ وجوه الكناية عنه، حتى لقد أراد أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي أن يرثي خَولة بنت حمدان أخت سيف الدولة فسماها فَعْلَة، وهذا قوله: كأن فَعْلَةَ لم تملأ مواكبها ... ديار بكر ولم تَخْلَع ولم تهب هذا والمتنبي شاعر نشأ بين الأعراب وسار في مساقهم ورغم ذلك لم يشأ أن يصرح باسم مرثِيَّته وذكر عنها تلك الكناية الغريبة. فانظر إلى هذا النوع من الحجاب كيف ألجأ الشاعر العظيم إلى تلك الكناية الفاسدة وأخرجه ذلك المخرج المعيب؟ ولقد أراد ذلك الشاعر أن يصف ذلك الحجاب في رثائه والدة سيف الدولة فدعاه دفناً! وذلك بقوله: صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال على المدفون قبل الموت صوناً ... وبعد الموت في شرف الخلال

محنة المرأة في فتنة القرامطة

وأصبح أولئك الشعراء يعدون الإغراق في الحجاب فضلا ومحمدة حتى البنات الصغيرات وانظر إلى الشريف الرضي كيف أراد أن يرثي صغيرة من هؤلاء فقال: يا أرض ما الدَّرء في شخص عصفت به ... بين الأقارب والعود والخول أردت أن تحجب البيداء طلعته ... ألم يكن قبل محجوبا عن المقل؟ إذاً فقد كتب على المرأة الشريفة في هذا العهد أن توأَد في الحجاب وتظل فيه حتى تموت. ومن بعد القرن الخامس غابت المرأة العراقية في الخفاء حتى عن التاريخ، فأصبح لا يهتم بها ولا يذكرها بخير ولا شر محنة المرأة في فتنة القرامطة فرقة الإباحة القرامطة فريق من غلاة الباطنية، ولهؤلاء الباطنية حديث طويل يجب أن نجمله إجمالا ثم نأخذ فيما قصدنا له. لقد ظهر مذهب الباطنية في القرن الثالث، والدعاة إليه قوم من أهل فارس أرادوا أن يوهنوا العرب في دينهم كما أوهنوهم في قوميتهم، ولهؤلاء القوم في دعوتهم حذق ورفق فلم يهاجموا الإسلام طعنا وتجريحا كما كان يفعل دعاة الأديان حين يدعون المسلمين إلى أديانهم، بل ظهروا للناس مسلمين لا يعدلون عن الإسلام إلى سواه، ثم تأولوا كل حقيقة من حقائقه وكل شعيرة من شعائره، فتأولوا الملائكة والعرش واللوح المحفوظ والبعث والجنة والنار إلى معان بعيدة لا ظواهر لها، حتى ذات الخالق عز وجل تأولوها إلى قوى الطبيعة، وتأولوا كذلك الصلاة والصيام

والحج إلى ما ليس من شأنها، وذهبوا يتصلون بنفوس العامة اتصالا بارعاً دقيقاً، فهم يأتون السنة من غير الناحية التي يأتون منها المعتزلى، ويخاطبون المتصوف من غير هاتين الناحيتين، ويبيحون للغواة صنوف اللذات. وجعلوا من حق المرء أن يتزوج أخته وابنته كما يفعل المجوس، وفي ذلك يقول أحد دعاتهم: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعى العقل ثم تكون له أخت أو بنت حسناء وليست له زوجة في حسنها فيحرمها على نفس وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي ويرى هؤلاء أن الأنبياء قوم أظهرتهم مواهبهم ونفاذ عقولهم وقوة تأثيرهم في نفوس الناس. والقرامطة فريق من غلاة الباطينة، وهم يدينون بالقتل والتدمير وإخافة السبيل أكثر مما يدينون برأي أو ينزعون عن عقيدة، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الحجيج في طريقه إلى مكة أو في طوافه أو عند إفاضته فيقتلون الرجال ويذبحون الأطفال ويستحيون من راق في أعينهم من النساء. وزعيم هؤلاء أحمد بن قرمط، وكان من صائبه حران، ثم قدم الكوفة فاجتذب غليه عامتها وأحل لهم الموبقات وخاض بهم الخبائث وقطع بهم السبيل واجتمع إليه خلق كثير. وخلف من بعده خلف كانوا أشد منه فتكا وأنكى طريقة. وقد حدثوا عن الحسين بن زكرويه القرمطي أنه ربما أغار على المدينة فقتل رجالها ونساءها وأطفالها وما شيتها وخرج وليس بها عين تطرف. وكانوا يبيحون للمرأة أن تتزوج بالكثير من الرجال. ومما حدث الطبري عن أبي الحسن المتطبب ببغداد قال: جاءتني امرأة بعد غلبة المكتفي بالله على صاحب الشامة - من زعماء القرامطة - فقالت لي: إني

أريد أن تعالج شيئاً في كتفي، قلت وما هو؟ قالت جرح، قلت جرح، قلت أنا كحال وهاهنا امرأة تعالج النساء وتعالج الجراحات فانتظري مجيئها، فقعدت ورأيتها مكروبة كئيبة باكية فسألتها عن حالها وقلت ما سبب جراحتك؟ قالت: قصتي تطول. قلت: حدثيني بها وأصدقيني، وقد خلا من كان عندي، فقالت كان لي ابن غاب عني وطالت غيبته وخلف على أخوات له فضقت واحتجت واشتقت إليه، وكان شخص إلى ناحية الرقة فخرجت إلى الموصل وإلى الرقة، كل ذلك أطلبه وأسال عنه فلم أدل عليه فخرجت عن الرقة في طلبه فوقعت في عسكر القرمطي، فجعلت أطوف وأطلبه، فبينا أنا كذلك إذ رأيته فتعلقت به، فقلت ابني فقالت أمي؟ فقلت نعم قال ما فعل أخواتي قلت بخير، وسطوت ما نالنا بعده من الضيق، فمضى بي إلى منزلة وجلس بين يدي وجعل يسائلني عن أخبارنا فخبرته، ثم قال دعيني من هذا وأخبرني ما دينك؟ فقلت يا بني أما تعرفنني؟ فقال وكيف لا أعرفك فقلت: ولم تسألني عن ديني وأنت تعرفنني وتعرف ديني؟ فقال: كل ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه الآن، فأعظمت ذلك وأعجبت منه، فلما رآني كذلك خرج وتركني، ثم وجه إلى بخبز ولحم وما يصلحني وقال اطبخيه، فتركته ولم أمسه، ثم عاد فطبخه وأصلح أمر منزلة فدق الباب داق فخرج إليه، فإذا رجل يسأله ويقول له: هذه القادمة عليه تحسن أن تصلح من أمر المساء شيئاً؟ فسألني فقلت نعم، قال امضي معي، فمضيت فأدخلني داراً وإذا امرأة تطلق فقعدت بين يديها وجعلت أكلها فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذي جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، أصلحي أمر هذه ودعي كلامها، فأقمت حتى ولدت غلاماً وأصلحت من شأنها، وجعلت ألمها وأتلطف بها وأقول لها يا هذه لا تحتشميني فقد وجب حقي عليك، أخبرني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبي؟ فقالت تسأليني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك؟ فقلت لا، ولكن أحب أن أعلم

خبرك فقالت: إني امرأة هاشمية - ورفعت رأسها فرأيت أحسن الناس وجهاً - وإن هؤلاء القوم أتونا فذبحوا أبي وأمي وأخواتي وأهلي جميعاً، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أخرجني فدفعني إلى أصحابه فقال طهروها، فأرادوا قتلي فبكيت، وكان بين يديه رجل من قواده فقال هبها لي، فقال خذها فأخذني، وكان بحضرته ثلاثة أنفس قيام من أصحابه فسلوا سيوفهم وقالوا لا نسلمها إليك أما أن تدفعها إلينا وإلا قتلنها، وأرادوا قتلي وضجوا، فدعاهم رئيسهم القرمطي وسألهم عن خبرهم فخبروه فقال تكون لكم أربعتكم، فأخذوني، فأنا مقيم معهم أربعتهم، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم. قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي هنيه فهنأته بالمولود فأعطاني سبيكة فضة آخر وآخر أهنئ كل واحد منهم فيعطيني سبيكة فضة، فلما كان في السحر جاء جماعة مع رجل وبين يديه شمع وعليه ثياب خز تفوح منه رائحة المسك فقالت لي هنيه فقمت إليه فقلت بيض الله وجهل والحمد لله الذي رزقك هذا الابن ودعوت له فأعطاني سبيكة فيها ألف درهم، وبات الرجل في بيت وبت مع المرآة في بيت، فلما أصبحت قلة للمرأة يا هذه قد وجب عليك حقي، فالهي ألهي في، خلصيني. قالت مما أخلصك؟ فخبرتها خبر ابني وقلت لها إني جئت راغبة إليه، وأنه قال لي كيت وكيت، وليس في يدي منه شيء، ولي بنات ضعاف خلفتهن بأسوأ حال، فخلصيني من هاهنا لأصل إلى بناتي، فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم فسليه ذلك فإنه يخلصك، فأقمت يومي إلى أن أمسيت، فلما انصرف تقدمت إليه، وقبلت يده وقلت يا سيدي قد وجب حقي عليك، وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني، ولي بنات ضعاف فقراء، فإن أذنت لي أن أمضي فأجيئك ببناتي حتى يخدمنك ويكنّ بين يديك فقال وتفعلين؟ قلت: نعم فدعا قوماً من غلمانه، فقال امضوا

معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا ثم اتركوها وارجعوا، فحملوني على دابة ومضوا بي، قالت فبينما نسير وإذا أنا بابني يركض وقد كنا سرنا عشرة فراسخ فيما خبرني القوم الذين معي، فلحقني وقال: يا فاعلة زعمت أنك تمضين وتجيئين ببناتك؟ وسل سيفه فمنعه القوم فلحقني طرف السيف فوقع في كتفي، وسل القوم سيوفهم فأرادوه فتنحى عني وساروا بي حتى بلغوا الموضع الذي سماه لهم صاحبهم فتركوني وقَدمت. فالقرامطة إذاً يجذبون قلوب الفتيات بما يزينون لهم من ضروب الملذات ومقاومة المآثم، وكانت سطوتهم مصبوبة على البيت الحرام ومن يلوذون به لأنه مثابة المسلمين ومعقد ألفتهم ومناط وحدتهم ومجتمع كلمتهم. وقد أحرقوا أستار الكعبة وكسروا الحجر الأسود وملئوا زمزم بأجساد القتلى وذبحوا من الحجاج من لا يحصيهم إلا الله، كل ذلك لينتقموا من الإسلام بالخسف والعسف ما لم يمكن الباطنيون من قمة بالرفق والحيلة. وقد أقامت الفرقة المنيحة المبيحة أمد القرن الرابع ثم تآزر عليهم المسلمون فأبادوهم جميعاً.

الحياة الفكرية للمرأة في العراق

الحياة الفكرية للمرأة في العراق تنقلت المرأة العربية العراقية في دورين متباينين: أما الأول فمداه مائتا عام، وربما أربى على ذلك قليلا. وفي ذلك العهد لم تقصر عن اللحاق بالرجل في بعض نواحي العلم والفن وأن لم يؤثر لها فيهما شيء كثير، فقد أسلفت لك شيئاً مما ذاع من دور الخلافة من شعر النساء وغناء النساء، وما أثر عن نساء العلويين من دراسة علوم الدين، وكذلك ظهر من النساء من تعلمن الطب ودرسن الفلسفة، ومن هؤلاء من جذبن الملحدين أسباب الزيغ والإلحاد وجهرن بذلك كله، وقد تحدث الطبري عن نساء أقررن بالزندقة بين يدي المهدي حين سلط سيفه عن الزنادقة. ومما أقر بها هنالك فاطمة بنت يعقوب ابن الفضل وخديجة امرأته وهما من بيت المهدي ولحمته. وظهر كذلك من درسن كتبها وأقررن بها بين يدي المأمون، ولعل هذا الدور الأول من العهد العباسي أول عهد للناس ظهرت فيه المرأة قاضية تحكم بين الناس باسم الخليفة أمير المؤمنين، وكان ذلك في عهد الخليفة المقتدر وكان مرجع الأمر حينذاك إلى امرأتين: السيدة والدة المقتدر وأم موسى القهرمانه، وكان لهما الرأي الأعلى في ما دق وجل من أر الخلافة وشئون الحكم، فقد عرض للسيدة أم المقتدر أن تروض النساء على القضاء فاختارت قهرمانة لها تدعى مثل وأمرتها أن تجلس بالرصافة للمظالم وتنظر في كتب الناس يوماً في كل أسبوع قال الصابي: فلما رأى الناس ذلك أنكروه واستبشعوه وكثر عيبهم له والطعن فيه، وجلست أول يوم فلم يكن لها فيه طائل ثم جلست في اليوم الثاني وأحضرت القاضي أبو الحسن فحسن أمرها وأصلح عليها

وخرجت التوقيعات على سداد فانتفع بذلك المظلومون وسكن النساء إلى ما كانوا قد نفروا منه من صدارتها للقضاء ونظرها في المظالم. لم يكن إذاً ذلك العهد من حياة المرأة عهد جهالة فاشية ولا تفكير مضطرب ولكنه كان عهد اضطراب في الخلق والتياث في السير وانحراف عن قصد السبيل وخروج عن سنة المرأة وواجبها الذي ناطه الله بها ووكلها به ومن خلق الرجل أن يندفع في لهوه ما شاء أن يندفع، فإذا تأثرت المرأة به - وحق لها أن تتأثر - لها عنها حتى يفيق، فإن أفاق وكان هناك سبيل غلى ردها عن غايتها دفعها بكلتا يديه وحملها وحدها عاقبة ما آل إليه أمره وأمرها من شر ووبال، ثم لا يزال يسلب منها كل يوم حقا ويحملها كل آن مغرماً حتى تصبح هملا من الإهمال، أما إذا طال الأمد على اندفاعها وطال إغضاء الرجل عنها حتى يسترخي عنانها وتستحيل طبيعتها ويصلب على تلك الحال فإن من أعسر الأمور أن يغلبها الرجل على أمرها ويردها عن غايتها. ومهما بدا من الرجل والمرأة من ضروب الرفق والود والمحانة والملاينة فإن بينهما صراعاً قد لا يحاسنه ولا يأبهان به. وغايته انتزاع كليهما ما شاء من حق صاحبه، ولقد ينزل أحدهما لصاحبه عن بعض حقه أو كله تجملا وتفضلا. فإذا أراد أن يسترده يوماً لا يجد السبيل إليه، ثم ينتهي هذا التجمل والتفضل إلى استرخاء واستخذاء وتسليم واستسلام، وقل من الفريقين من يرضى ببعض الغلبة على غريمة، بل لا يزال يقلم منه كل يوم ظفراً ويطوقه طوقاً حتى يجعل حياته لغواً ووجوده عدماً ويعد ذلك بعض حقه الذي لا يدفع عنه أو ينازع فيه. ونعود إلى المرأة العراقية في الدولة العباسية فنقول: إنها تنكبت الطريق وجاوزت النهج ولكن الرجل لم يمهلها حتى يكون خروجها طبعاً مألوفاً ودستوراً نافذاً وشريعة موضوعة بل عاجلها دون الغاية وردها قبل القرار، ولا يكفي قرن

المرأة البدوية

وبعض قرن ليكون للمرأة من محدثات الحقوق ما لا سبيل إلى تغييره والعبث به فلم يجد عناء في سبلها كل ما انتزعته من حق غير مشروع، ثم لم يقف عند هذا الحد من الغالب، بل ذادها عن قها الذي سوغه الله لها فحرم تعليمها، وحرم على نفسه العناية بأمرها، وأبعدها عن منال العيون والألسنة، ول يعد يذكرها إلا بالسوء ولا ينالها إلا بالشر، وتلك حال المندفع إذا رد، والمتغلب إذا قهر. وكان من أثر ذلك كله انحطاط نفيرها وشيوع أميتها، فلم نعد نسمع في العراق بالكاتبة ولا الشاعرة ولا المتأدبة ولا المتفقهة إلا ما يشبه الشجرة الناجمة في الصحراء المقفرة، وأصبح نسك المتنسكات خرقاً وشعوذة، وأصبحت الأسوة بهن جهلا وحماقة وشاع ذلك الضرب من النسك حتى رفعت القباب في كل إقليم وفي كل مدينة وفي كل قرية وكل دسكرة على أمثال هؤلاء، وكان شيوع ذلك من الفتن التي أصابت الإيمان المتين في صدور المؤمنين. المرأة البدوية أقام أهل بادية العراق على ما كانوا عليه من طبع وخلق وعادة وأدب، فلم يغير نظام الدولة شيئا من نظام الجماعة ولا أسلوب الحياة، ومن أجل ذلك بقيت المرأة الأعرابية على صفاء فطرتها وسناء رأيها وقوة نفسها ونصاعة أدبها، وكان علماء الأدب ورواة الشعر يذهبون غلى البادية فيستمعون مأثور الكلام من الرجال والنساء ثم يعودون فيطرفون به الخلفاء ويناقلون به العلماء ويتحدثون به في مجالس العلم وفي حلقات الدروس؛ وربما جد الخلاف بين أئمة النحو فلا يطمئن لهم رأي حتى يأتوا بأعرابي من البادية مباءة للصحيح من اللغة والفصيح من الأسلوب أمداً طويلا. وإذا

مأثور من أدب النساء

كانت المرأة الأعرابية قد فقدت في أخريات هذا العهد بيانها لعذب وأسلوبها البديع فلما أصاب الأعراب من التمزيق والشتات وما شملهم من الدعة والسكون، فلا مجامع تعقد ولا أسواق تقام ولا حروب تشب ولا غارات تثار، وقد كان لهم من هذه وتلك مجالات فساح يأتون فيها بالقصائد المفاضة، والأمثال المرسلة، والحكم الجامعة والخطب الطوال مأثور من أدب النساء قالت عليه بنت المهدي - وهو ما يتغنى به -: مالي أرى الأبصار بي جافيه ... لم تلتفت مني إلى ناحية لا ينظر الناس إلى المبتلى ... وإنما الناس مع العافية صحبي سلوا ربكم العافية ... فقد دهتني بعدكم داهيه صارَمَني من بعدكم سيدي ... فالعين من هجرانه باكيه خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ، وقدم هنالك النُّصيب ومعه ابنته حجناء، فدخل على المهدي وهي معه، فأنشدته قولها فيه: رُبَّ عيش ولذة ونعيم ... وبهاء بِمُشْرِقِ الميدان بسط الله فيه أبهى بساط ... من بهار وزاهر الحوذان ثم من ناضر من العشب الأخ ... ضر تزهي شقائق النعمان مدّه الله بالتحاسين حتى ... قصرت دون طوله العينان حفلت حافتان حيث تناهي ... بخيام في العين كالظلمان زينوا وسطها بطارمة مث ... ل الثريا يحفها النسران

ثم حشْوُ الخيام كأمثال ال ... مها في صرائم الكثبان يتجارين في غناء شجى ... أسعداني يا نخلتي حلوان فبقصر السلام من س ... لم الله وابقي، خليفة الرحمن ولديه الغزلان بل هن أبهى ... عنده من شوارد الغزلان ياله منظراً ويوم سرور ... شهدت لذيته كل حَصَان فأمر لها المهدي بعشرة آلاف درهم. حدث الأصمعي قال: سمعت امرأة من العرب تخاصم زوجها وهي تقول: والله إن شربك لا شتفاف، وإن ضجعتك لا نعجاف، وإن شملتك لالتفاف وإنك لتشبع ليلة تضاف، وتنام ليلة تخاف، فقال لها: والله إنك لكرواء الساقين، قعواء الفخذين، مقاء، الرفغين مفاضة الكشحين، ضيفك جائع، وشرك شائع. لما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه فوجدها تبكي فقال لها: أنا ابنك مكانه، فقالت إن أبناً ترك لي ابناً مثلك لجدير أن يبكي عليه. لما أرسل الأمين على بن عيسى إلى خراسان لقتال المأمون حضر إلى باب زبيدة ليودعها، فقالت له: يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي فإني على عبد الله - المأمون - منعطفه مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى. وإنما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه. فأعرف لعبد الله حق ولادته أخوته، ولا تجبه بالكلام فانك لست نظيراً له، ولا تقتسره اقتسار العبيد

حديث غربان النوى

ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه. قال الأصمعي: دفعت في بعض تطوافي إلى امرأة من ولد ابن هرمة فسألتها القرى، فقالت: إني والله مرملة مسنتة ما عندي شيء فقلت: أما عندك جزور؟ فقالت والله ولا شاة، ولا دجاجة، ولا بيضة، فقلت أما ابن هرمة أبوك؟ فقالت: بلى والله، إني لمن صميمهم، قلت: قاتل الله أباك ما كان أكذبه حيث يقول: لا أُمْتِعُ العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قرية الأجل إني إذا ما البخيل آمنها ... باتت ضموراً مني على وَجَل ووليت فنادت: أربع أيها الراكب، فعله والله ذلك أقله عندنا، فقلت: إلا تكوني أوسعتنا جواباً. حديث غربان النوى حدث ابن السراج قال: أخبرني بعض الإخوان أن بعض البصريين أخبره قال: كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضاً، فضجرنا من المقام في المنازل. فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه إذ سمعت ضجة راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال هؤلاء نسوة لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك، فقلت لصحابي أقسمت ألا يبرح أحد منكم حتى أعود، فنهضت وحدي

فصعدت إلى موضع أشرف عليهن وأراهن ولا يريني، فرأيت نسوة أربعا كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدم لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة، فلما اطمأن المجلس بهن جاء خادم لهن ومعه خمسة أجزاء من القرآن فدفع إلى كل واحدة منهم جزءا ووضع الجزء الخامس بينهن فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء ثم أخرجن صورة معهن في ثوب ديبقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعون لها ثم أخذن في النوح فقالت الأولى: خلس الزمان أعز مختلَس ... ويد الزمان كثيرة الخلس للهِ هالكه فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدنس أتت البشارة والنعي بها ... يا قرب مأتمها من العُرْس ثم قالت الثانية: ذهب الزمان بأنس نفسي عَنوةً ... وبقيت فرداً ليس لي من مؤنس أودى بملك ولو تُفَادَي نفسها ... لفديتها مِمَّن أُعِزُّ بأنفس ظلت تكلمني كلاماً مطمعاً ... لم أسترب فيه بشيء مؤيسِ حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسهلت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تَحثُّه بتنفُّس جعل الرجاء مطامعي يأساً كما ... قطع الرجاَء صحيفَةُ الملتمس ثم قالت الثالثة: جرت على عهدها الليالي ... وأُحِدثَت بعدها أمورُ فاعتضت باليأس منك صبراً ... فاعتدل اليأس والسرور فلست أرجو ولست أخشى ... ما أحدثَتْ بعدك الدهور فلُيبلغ الدهر في مساتي ... فما عسى جهده يضير

ثم قالت الرابعة: خدنٌ نفيس من الدنيا فجعت به ... أفضى إليه الردى في حومة القدر ويْح المنايا أما تنفك أسهمها ... معلقات بصدر القوس والوتر يبلي الجديدان والأيام ... والدهر يُبْلِى وتَبلى جدّة الحجر ثم قمن فقلن بصوت واحد: كنا من المساعده ... نحيا بنفس واحدة فمات نصف نفسي ... حين ثوى في الرمس فما بقائي بعدَهُ ... وشطر نفسي عنده فهل سمعتم قبلي ... فيمن مضى بمثلي عاش بنصف ... في بدن صحيح ثم تنَّحين وقلن لبعض الخدم كم عندك؟ قال أربعة، قلن ائت بهن، فلم ألبث إلا قليلا حتى طلع بقفص فيه أربعة غربان مكتفان فوضع القفص بين أيديهن فدعون بعيدان فأخذت كل واحدة منهن عوداً فغنت: لعمري قد صاح الغراب بينهم ... فأوجع قلبي بالحديث الذي يبدي فقلت له أفصحت بعدها ... بريش فهل للقلب ويحك من ردّ ثم أخذن واحداً من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنه، ثم غنت: أشاقك والليل مُلْقى الجران ... غراب ينوح على غصن بان أحَص الجناح شديد الصياح ... يبكي بعينين ما تهملان وفي نَعبَات الغراب اغتراب ... وفي البان بينٌ بعيد التداني ثم أخذ الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له:

أتبكي بلا دمع وتفرق بين لآلاف! فمن أحق بالقتل منك؟ ثم فعلن به ما فعلن بصاحبه، ثم غنت الثالثة. ألا يا غراب البين لونك شاحب ... وأنت بِلَوعات الفراق جدير فبيّن لنا ما قلت إذ أنت واقع ... وبين لنا ما قلت حين تطير فإن يك حقّاً ما تقول فأصبحت ... همومك شتى والجناح كسير ولا زلت مكسوراً عديماً لناصر ... كما ليس لي من ظاِلِميَّ نصير ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه، وأمرت فَفُعِل به ذلك، ثم غنت الرابعة: عشيةَ ما لي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع أخط وأمحو كل ما قد خططته ... بدمعيَ والغربانُ في الدار وقع ثم قالت لأخواتها: أي قتلة أقتله، فقلن لها علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئاً ثقيلاً حتى يموت، ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن ودعون بالغذاء فأكلن، ودعون بالشراب فشربن، وجعلن كلما شربن قدحاً شربن للصورة مثله وأخذن عيدانهن فغنين، فغنت الأولى: ابكي فراقكُم عينِي فأرَّقها ... إن المحب على الأحباب بكاءُ ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء ثم غنت الثانية: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمرُهُ الأمر لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يَروعهما الذعر ثم غنت الثالثة: سأبكي على ما فات منك صبابة ... وأندب أيام الأماني الذواهب

أحين من كنت أرجو دنوّه ... رمتني عيون الناس من كل جانب؟ فأصبحت مرحوماً وكنت مُحسّداً ... فصبراً على مكروه مُر العواقب ثم غنت الرابعة: سأُفني بك الأيام حتى يسرني ... بك الدهر أو تفنى حياتي مع الدهر عزاء وصبراً أسعَدني على الهوى ... وأحمد ما جربت عاقبة الصبر ثم أخذت الصورة فعانقتها وبكت وبكين ثم شكون إليها ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة فطريت، ففرِقْت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن، فقلت لقد ظلمتن الغربان، فقلن لو قضيت حق السلام وجعلته سبباً للكلام لأخبرناك بقصة الغربان، قال فقلت إنما أخبرتكن بالحق، قلن وما الحق في هذا؟ وكيف ظلمناهن؟ قلت إن الشاعر يقول: نعب الغراب برؤية الأحباب ... فلذاك صرت أحِب كل غراب قالت إحداهن صحفت وأحلت المعنى إِنما قال: بفرقة الأحباب فلذاك صرت عدو كل غراب. فقلت لهن: فبالذي خصكن بهذا المجلس وبحق صاحبة الصورة لَمَا خَّبرتُنَّني بخبركن! قلن لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه ما أخبرناك! كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب منا واحدة البارد دون صاحبتها فاخترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يوم نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت؛ قلت وما تلك العلة؟ قلن فرق بينها وبين أنس كان لها ففارقت الحياة فكانت تذمهن عندنا وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نمتثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان، ثم نهض فمضين ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثم طلبتهن بعد ذلك فما وقعت لهن على خبر ولا رأيت لهن أثراً.

حديث ناسكة

حديث ناسكة حدّث التوزي عن عتبة الغلام قال: خرجت من البصرة والأبلة فإذا أنا بخباء أعراب قد زرعوا، وإذا أنا بخسمة، وفي الخيمة جارية مجنونة عليها جبة صوف لا تباع ولا تشترى، فدنوت فسلمت فلم ترد على السلام، ثم وليت فسمعتها تقول: زهد الزاهدون والعابدون ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا أَسهروا الأعين القريحة فيه ... فمضى ليلهم وهم ساهرونا حيرتهم محبة الله حتى ... علم الناس أن فيهم جنونا هم ألبا ذوو عقول ولكن ... قد شجاهم جميع ما يعرفونا قال فدنوت إليها فقلت الزرع؟ فقالت: لنا إن سلم، فتركتها وأتيت بعض الأخبية فأرخت السماء كأفواه القرب، فقلت لآتينها فأنظر قصتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرق وإذا هي قائمة نحوه وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف سحر بصفي محبة اشتياقك إن قلبي ليوقن منك بالرضا، ثم التفت إليّ فقالت يا هذا! إنه زرعه فأنبته، وأقامه فسنبله وركبه، وأرسل عليه غيثاً فسقاه، وطلع عليه فحفظه، فلما دنا حصاده أهلكه، ثم رفعت رأسها نحو السماء فقالت العباد عبادك وأرزاقهم عليك، فاصنع ما شئت، فقلت لها كيف صبرك، فقالت: اسكت يا عتبة: إن إلهي لغني حميد ... لي كل يوم منه رزق جديد الحمد لله الذي لم يزل ... يفعل بي أكثر مما أريد بين القبور حدّث التوزي عن مصعب قال: قرأت على لوحين فوق قبرين: أمغطى على بصري في الحب أم كنت أكمل الناس حسنا

وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا ورأيت امرأة عند القبرين وهي تقول: بأبي! لم تمتعك الدنيا من لذتها، ولم تساعدك الأقدار على ما تهوى، فأوفرتني كذا، فصرت مطية للأحزان، فليت شعري كيف وجدت مقيلك، وماذا قلت وقيل لك، ثم قالت: استودعتك من وهبك لي ثم سلبني أسرّ ما كنت بك. فقلت لها يا أمه! ارضي بقضاء الله عز وجل وسلمي لأمره. فقالت: هاه! نعم فجزاك الله خيراً، لا حرمني الله أجرك ولا فتنني بفراقك. فقلت لها من هذا؛ فقالت: ابني وهذه ابنة عمه، كان مسمى بها زفت إليه ثم أخذها وجع أتى على نفسها فقضت، فانصدع قلب ابني فلحقت روحه روحها، فدفنتهما في ساعة واحدة، فقلت فمن كتب هذا على القبرين، قالت أنا، قلت وكيف؟ قالت: كان كثير ما يتمثل بهذين البيتين فحفظتهما لكثرة تلاوته لهما، فقلت ممن أنت، فقالت فزارية، قلت ومن قائلهما: كريم بن كريم، سخي ابن سخي؛ شجاع ابن بطل، قلت من؟ قالت: مالك بن أسماء بن خارجة يقولها في امرأته حبيبة بنت أبي جندب الأنصاري، ثم قالت وهو الذي يقول: يا منزل الغيث بعدما قنطوا ... ويا ولي النعماء والمنن يكون ما شئت أن يكون وما ... قدرت ألا يكون لم يكن يا جارة الحي كنت لي سكناً ... إذ ليس بعض الجيران بالسكن أذكر من جارتي ومجلسها ... طرائفاً من حديثها الحسن ومن حديث يزيدني مقة ... ما لحديث المرموق من ثمن

حديث أرملة

قال فكتبها، ثم قامت مولية فقالت: شغلتني عما إليه قصدت لتسكن ما بي من الأحزان. حديث أرملة حدّث الأصمعي قال: سمعت رجلا من تميم يقول: أظللت إبلا فخرجت في طلبهنّ، فمررت بجارية أعشى نورها بصري، فقالت ما حجتك؟ قلت: إبل لي أضللتها، فهل عندك شيء من علمها؟ قالت: أفلا أدلك على من عنده علمهن؟ قلت بلى! قالت الذي أعطاكهن هو الذي أخذهنّ، فاطلبهن من طريق التيقن لا من طريق الاختيار، ثم تبسمت وتنفست الصعداء، ثم بكت وأطالت البكاء، وأنشأت تقول: إني وإن عرضت أشياء تضحكني ... لموجع القلب مطويّ على الحزن إذا جاء الليل أحيا لي تذكُّرَه ... والصبح يبعث أشجانا على شجن وكيف ترقد عين صار مؤنسها ... بين التراب وبين القبر والكفن أبلى الثرى وتراب الأرض جدّته ... كأن صورته الحسناء لم تكن أبكي عليه حنيناً حين أذكره ... حنين والهة حنت إلى وطن ابكي على من حنت ظهري مصيبته ... وطير النوم عن عيني وأرقني والله لا أنس حبي الدهر ما سجعت ... حمامة أو بكى طير على فَنن فقلت عن ما رأيت جمالها، وحسن وجهها، وفصاحتها وشدة جزعها: هل لك من بعل لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه؟ فأطرقت مليا، ثم أنشأت تقول: كنا كغصنين في أصل غذاؤهما ... ماء الجداول في روضات جنات فاجتث خيرهما من جنب صاحبه ... دهرٌ يكر بفرحات وترحات

حديث فتاة

وكان عاهدني إن خانني زمن ... ألا يضاجع أنثى بعد مثواتي وكنت عاهدته أيضا فعالجه ... ريب المنون قريبا مذ سُنيات فاصرف عنانك عمن ليس يردعه ... عن الوفاء خلاب في التحيات حديث فتاة حدث التوزي عن بعض الكتاب قال: دخلت البصرة أنا وصديق لي فرأيت فتلة قد خرجت من بعض الدور كأنها فلقة قمر. فقلت لصاحبي: لو ملت بنا إليها فاستسقيناها ماء! ففعل، فقلنا لها، جعلنا الله فداءك! اسقينا ماء، فقالت؛ نعم وكرامة، فدخلت وأخرجت كوز وهي تقول: ألا حيَّ شخَصيْ قاصدَين أراهما ... أقاما فما إن يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما عظة امرأة حدث محمد بن سلام الجحمي يقول: سمعت رجلا من بني سليم يقول. هويت امرأة من الحي، فكنت أتبعها إذا خرجت إلى المسجد فعرفت ذلك مني، فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت نعم! قالت وما هي؟ قلت مودّتك، قالت دع ذلك ليوم التغابن قال فأبكني والله فما عدت إليها بعد ذلك. ومن حديث أخرى: أن رجلا رأى أعرابية بمكان خال، والليل منسدل الستر فقال: أما من سبيل إليك؟ فقالت: انظر هل يرانا من أحد! قال ما يرانا إلا الكواكب! قالت: وأين مكوكبها؟ فبهت الرجل وانصرف ذاهلا ما يتكلم.

المرأة الأندلسية

المرأة الأندلسية ابتعد العرب بانتقالهم إلى الأندلس عن أكثر ظواهر الحياة العربية الأولى، فهم من مهبطهم الجديد في خميلة نشر الله عليها من سمات الحسن وآيات الجمال ما يستقيد العين والنفس والقلب والخيال، حتى خيل لشاعرها أن يقول: يا آل أندلس لله درّكم ... ماء وظل وأنهار وأشجار ما جنة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار لا تثقوا بعد ذا تدخلوا سقرا ... فليس تُدخل بعد الجنة النار وهم فوق ما نعموا به من زهو الطبيعة وجلوة الأرض، نعموا كذلك بالكثير الموفور من رفاهة العيش وإغداق النعيم، لَمِا آل إليهم من كنوز القُوط ولما حوته أرضهم وديارهم من أفانين الثراء وأسباب النعماء. وقد أصبحوا بهبوطهم تلك البلاد في نجوة من بلادهم لا يصلهم بها إلا الوفود المتردّدة بين الشرق والغرب على بعد ونأي المزار، وأمّا جيرانهم الأدنَوْن وخلطاؤهم الأقربون فهم أهل البلاد الصميمون الذين تمتعوا بأوفى نصيب من بُلهْنية العيش ولذات الحياة وما يقتضيه كل ذلك من سرف وترف ولهو ونعيم. وعلى الرغم من ذلك سار الأمويون في الأندلس دهراً طويلاً على مسار أسلافهم في الشرق من الاحتجاز بأنفسهم عن الأمم المغلوبة لعصبيتهم ووقاية لأنسابهم وحماية لأخلاقهم أن يوهنها الضعف والانحلال. وفوق ذلك لبث الأمويون يطفئون الفتن ويخمدون الثورات ويدفعون العدوّ المتوثب على الثغور أمداً طويلا فلم يرخوا أعنة اللهو إلى حدّ بعيد كما كان العباسيون يفعلون، حتى إن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وهو الذي رفع

الأندلس إلى الذروة العليا من عزة الجانب ونضارة الحضارة وطيب العيش ونعيم الحياة لم يصف له من دهره - كما قال - إلا أربع عشرة ليلة، وقد أقام في الملك خمسين عاماً. وبحقٍّ لقد استحظى كثير من ملوك بني أمية كثيراً من الجواري الروميات والصقالبيات وبذلوا لهن أفضل ما يتمنين من رغيد العيش وبعيد الآمال، ولكنهن لم يفسدن العنصر العربي لأنهنّ لم يكنّ بالكثرة التي تمكنهن من غلبة الرجال على أمرهم وإفساد ما بينهم وبين نسائهم، ولم يكن من خلابة الفارسيات ولباقتهنّ واحتوائهن على ألباب الرجال في قليل ولا كثير، ذلك إلى أنهن لم يكنّ يعتمدن - كما كان الفارسيات يعتمدن - على فريق من الرجال يشدّون أزرهنّ، ويُنْهجون طريقهنّ، ويستثمرون نفوذهن في بيوت الخلفاء والوزراء. لم يكن أولئك الجواري إذاً سوى وسائل لهو وأدوات زينة، لأنهنّ لم يملكن من أسباب اقتياد الرجال إلا الجمال وحده، وللمتعة بالجمال حدّ ينتهي إليه، ومهما بلغت فإن غايتها إلى ابتذال وملال. ولم يكن ذلك العهد الأموي بالأندلس عهد لذات مجترَحَة ولا حرمات مباحة ولم يظهر من الناس من دأُبه قذف المحصنات، وإشاعة الفاحشة بين الناس كما كان يفعل ذلك شعراء الفرس وأدباؤهم في بغداد لتوهين الأعراض وإباحة الحرمات. وكان للدين سلطان مبين على الأعلياء والدَهماء، ومما زاد الروح الديني استطارة واستفاضة تلك الشوكة العظيمة التي كان المسلمون يقابلون بها عدوان الجلالقة وغيرهم من المترصدين للعرب والإسلام. من أجل ذلك لم يكن طريق المرأة الأندلسية وعراً ولا ضيقاً حرجا، بل كان واضحاً قصداً وصراطاً قويما، لا لغو فيه ولا تأثيم، فلم يكن بدعا أن تسير

عصر عظمة المرأة الأندلسية

لغايتها من إسعاد الأسرة، وإصلاح البيت. وتزكية النشء وأن يسير الرجل لغايته من ولاية الأمر ورياضة العمل وحياطة البلاد، ثم يلتقيان في معاهد العلم ومجامع الأدب. ولقد كان النساء يخرجن إلى المسجد الجامع في قرطبة وإلى سواه من معاهد العلم فيجلسن في حلقات للدروس منتقبات محتشمات. وقد ظهر من النساء عدد لا كفاء له في فنون من العم والأدب. وكان لهن في تلك الحياة العاملة شأن نابه وشأو بعيد، ومنهن الشواعر، والكاتبات، والمحدّثات، والمتفقهات، والمعلمات والمتطببات. وكان نساء الخلفاء في غنى عن الأطباء بالطبيبات، وعن المعلمين بالمعلمات. عصر عظمة المرأة الأندلسية امتدّ عصر المرأة الأندلسية حتى جاوز القرن الرابع إلى بعض ما يليه، وفي خلال ذلك الأمد الطويل كانت مضرب المثل في جلال الخلق وقوة النفس ووفرة العلم والبعد عن هَنات الاجتماع؛ وعلى الرغم من مسايرتها للرجل في طلب العلم والبلوغ في تحصيله لا تجد فيها زهواً ولا غروراً، ولا اندفاعاً فيم ليس من حقها من شئون الحياة، وما أثر عنها في طَوَال ذلك العهد أنها عاقرت النبيذ أو تبذلت في مجالس الرجال كما أثر ذلك عن المرأة العراقية في زهو الدولة العباسية. ذلك لأن الروح العربي والعصبية العربية كانا غالبين على كل مظاهر الحياة في ذلك العهد، حتى لقد احتفظت بطون العرب وعشائرها في تلك البلاد بوحدتها وجامعتها كأنها لم تزل في تهامة ونجد من أرجاء الصحراء، فكانت قيس تقيم في موطن وتميم في آخر وتجيبُ في ثالث، وبين الرجل وعشيرته عقدة جامعة ورباط وثيق.

القرن الخامس

القرن الخامس بدأت الأندلس في خلال المائة الخامسة تميد بأعباء الفتن السياسية، فقد سقطت الدولة الأموية ونهضت في أثرها دويلات المتغلبين من ملوك الطوائف وكان من شأن ذلك التمزيق لذي فرق أوصال الملك وشتت شمل الأمة أن يخمد جذوة العلم ويوهن قوة الأدب، لولا أن الرعيل الأول من أولئك المتغلبين كانوا من أئمة العلم وفرسان الأدب وأعيان البيان، فأعانوا العلماء والأدباء والشعراء بكل ما في طوقهم من معونة وما في خزائنهم من مال! وتنافسوا في استيزار الكتاب والشعراء واستزارة الأدباء والعلماء حتى أثمرت المواهب الناضرة وانحسرت العقول النيرة عن أفضل نتاج من العلم والأدب. وفي هذا العصر وما يليه تَسَامَى خيال أهل الأندلس إلى أبعد ما يتسامى إليه خيال الشاعر الساحر، وجاءوا بالمقطعات النادرة والموشحات المبتكرة، وبزُّوا أهل العراق في وصف ما امتازت به بلادهم ممن مظاهر الطبيعة المشرقة، ومسارح الحياة المتألقة، فلا تجد أوصف منهم للرياض والغياض والبحار والأنهار والمناره والملاعب والطير والهديل والسَّخَر والأصيل. وبدأت المرأة الأندلسية في هذا العصر تنكشف وتأخذ فيما أخذ الناس في من لهو ونعيم، وجاذبت الرجل فنون المرَح وقالت ما لم يكن يقوله غيره من تغزل وتخالع وتفرُّق وتواصل، ومناقصة ومماجنة، ومناقلة ومداعبة، ولكن الأخلاق بقيت في جملتها مستمسكة في هذا الجيل من النساء. وأو من سنت للنساء سنة الانكشاف والاستخفاف وَلاّدة بنت المستكفي سليلة بيت المُلك الأموي في الأندلس. وكان أبوها المستكفي بقية ملوك أمية، ولم يمهله الزمن حتى غُلب على أمره

وقتل، ومن بعدَهَ حَسَرت ولاّدة حجابها واتخذت قصرها مهبطاً ومنتدى خصيباً يأوي إليه كل مبدع منقطع النظير من الكتاب والشعراء، ومن هؤلاء الوزراء والعلماء والقضاة والولاة، فيتجاذبون الأدب ويتساجلون الشعر ويتناولون النقد ويتناقلون الحديث، وما كانت ولاَّدة بمقصرة عن السابقين الُمجَلّين من هؤلاء، بل إنها لتُعَد من مبتكرات الشعر الأندلسي الحديث. وكم من الشعراء من يحسن أن يقول قول ولادة: ودَّعَ الصبر محب ودعك ... ذائعٌ من سره ما استودعك يقرع السنَّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك يا أخا البدر سنا وسنا ... حفظه الله زماناً أطلعك إن يطل بعدك ليلى فلكم ... بت أشكو قِصَر الليل معك بل كم منهم من يحسن أن يقول قولها للوزير الكاتب الشاعر ابن زيدون: ترقَّب إذا جَنّ الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكْتَمَ للسر وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلُحْ ... وبالبدر لم يطلع، وبالنجم لم يسر وعلى رغم ما أقدمت عليه وَلاّدة من هتك حجابها وتسنية أبوابها. يقول المؤرخون إنها لم تْنزع إلى ريبة أو تنزلق إلى مأثمة، وأقامت حياتها لم تتزوج، وعُمَّرَت طويلاً، وتوفيت في العام الرابع والثمانين من المائة الخامسة. ولولادة صواحب نشأن على أدبها وانكشفن على سُنَتها وأخذن في الدعابة مثل مأخذها، ومن هؤلاء مهجة القرطبية وكانت أشد اندفاعا في مجانة الشعر من أستاذتها، وقد حاولنا أن نرى لها شعراً بريئاً لنثبته فلم نجد، على أن شعر ولادة لم يكن في متناول النساء لأن فيه فحولة وجزالة، وهو بشعر الرجال أشبه، ولكن أستاذة شواعر الأندلس التي أوردتهن من الشعر العذب الرقيق منهلا ندى النفحات

صفي النسمات هي حَمْدة - أو حمدونة - بنت زياد وأصلها من وادي آش أحد أعمال الأندلس وهي أسبق من ولادة عهداً وأبعد منها مدى، وفي شعرها أنوثة وسهولة نادرة وخيال بعيد. ومن شعرها، وكانت قد خرجت إلى النهر مع صبية، فلما نضت عنها ثيابها وعامت، قالت: أباح الدمع أسراري بوادي ... له في الحسن آثار بَوَاد فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يرف بكل واد ومن بين الظباء مهاة أنس ... سبت لي وقد ملكت فؤادي لها لحظ ترقده لأمر ... وذلك الأمر يمنعني رقادي إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد كان الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالسواد فهذا هو الشعر النسوي الذي تسيغه نفوس النساء ويتأثرن ويقتفين سبيله، ومن أفضل ما يسمو إليه الخيال قولها تصف الرملة من أراضي وادي آش: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم حللنا دوحه فحنا علينا ... حنوّ المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحميها ويأذن للنسيم يروع حصاة حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم فهذا الأسلوب من الشعر لا تحد أرق ولا أدق ولا أنعم في الآذن ولا أندى على الأكباد منه.

ومن أبلغ ما وصلت إليه صناعة الشعر قولها: ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وليس لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حُماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهمُ من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفَسي بالسيف والسيل والنار ولحمدة أخت تدعى زينب وكانت شاعرة كأختها. ومن أستاذات هذا العصر في الشعر مريم بنت يعقوب الأنصاري، وكانت تغدو على بيوت أشبيليه فتعلم نساءها الشعر والأدب، ولها بينهن منزلة محمودة لسمو أدبها وفرط حشمتها! وكان عظماء البلد يجلونها ويدنونها لعراقة أثرها ونبالة خلقها وحسن بديهتها. وقد أرسل إليها المهدي صاحب أشبيلية دنانير في قرطاس كتب فيه: مالي بشكر الذي أوليتِ من قِبَل ... لو أنني حزت نطق اللسن في الخِلل يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا ... وحيدة العصر في الإخلاص والعمل أشبهت مريما في ورع ... وفقت خنساء في الأشعار والمثل فأجابته الشاعرة: من ذا يجاريك في قول وفي عمل ... وقد بدرت إلى فضلٍ ولم تُسل ما لي بشكر الذي نظَّمت في عنقي ... من اللآلي وما أوليت من قبل لله أخلاقك الغر التي سقيت ... ماء الفرات فرقت رقة الغزل من كان والده العضب المهند لم ... يلد من النسل غير البيض والأسل وكان نساء غرناطة أعرف بالشعر ومعانيه وصوغه وصقله من غيرهن. وقد ذكر صاحب نفح الطيب أنهنّ كن يُدْعين العربيات لسيرهن على سَنن العرب في صفاء الشعر وفصاحة المعاني، فبدل أن يقال هذه غرناطية كان يقال هي عربية.

ومن شواعرها الصادحات نزهون الغرناطية، وكانت من أعذب النساء وأروحهن نفساً وأرفقهن بالشعر وأضربهن للأمثال، ولها في مجالس الوزراء والأمراء آثَرُ منزلة وأعز مكان، وكانت فوق ما عرفت به من رقة الطبع وسماحة الذوق من أحسن الناس بديهة وأحضرهم جوابا. ومما حدثوا عنها أنها كانت ذات على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي: لو كنت تبصر مَنْ تجالسه! وأُفحم. فلم يستطيع أن يتمم البيت الذي بدأه فقال نزهون: لغدوت أخرس من خلاله البدر يطلع من أزِرَّته ... والغصن يمرح في غلائله ومن شعرها الذي أرخت لنفسها العذار فيه: لله در الليالي ما أحيسنَها ... وما أحيسن منها ليلة الأحد لو كنت حاضرنا فيه وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر ... بل ريم خازمة في ساعدي أسد ومن نوادرها أن ابن قزمان الشاعر جاء ليناظرها - وكان يلبس غِفارة صفراء على زي الفقهاء - فلما رأته إنك اليوم كبقرة بني إسرائيل صفراء فاقع لونها، ولكن لا تسر الناظرين، فضحك الحضور، وثار ابن قزمان واندفع يسب، وتدافع القوم عليه حتى طرحوه في بركة أمام البستان الذي احتفل المجلس به. وفي هذا العصر ذاع الشعر النسوي القصصي، فكان مما يألفه النساء أن يبسطن حديثهن شعراً، وقد يكون ذلك في حفل حاشد أو بين يدي ملك أو في رسالة إلى أب أو صديق، ومن أمثلة ذلك رسالة بثينة بنت المعتمد إلى أبيها. وحديث ذلك أن المعتمد بن عباد بعد أن دفع به القضاء من قصره الأغن

في أشبيليه إلى سجن ابن تاشفين في أغمات - من أعمال فاس - سُبيت ابنته بثينة فيمن سبى من الجواري وبيعت من أحد تجار أشبيلية على أنها جارية، فوهبها التاجر ابنه، فلما رأت الجِد من الأمر كشفت القناع عن نسبها الملكي، وقالت لولد التاجر: لا أحل لك إلا بعقد يجيزه أبي، وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها إلى أبيها وانتظار جوابه فكان الذي كتبته هذه الأبيات: اسمع كلامي واستمع لمقالتي ... فهي السلوك بدت من الأجياد لا تنكروا أني سبيت وأنني ... بنت لملِك من بني عباد مَلِك عظيم قد تولى عصره ... وكذا الزمان يؤُول للإفساد لما أراد الله فرقة شملنا ... وأذاقنا طعم الأسى من زاد قام النفاق على أبي في ملكه ... فدنا الفراق ولم يكن بمراد فخرجت هاربة فحازنيَ امرؤ ... لم يأت في إعجاله بسداد إذ باعني بيع العبيد فضمني ... من صانني إلا من الأنكاد وأرادني لنكاح نجل طاهر ... حسن الخلائق من بني الأنجاد ومضى إليك يسوم رأيك في الرضا ... ولأنت تنظر في طريق رشاد فعساك يا أبتي تعرّفني به ... إن كان ممن يُرتجي لودادي وعسى رميكية الملوك بفضلها ... تدعو لنا باليمن والإسعاد فلما بلغته مقالة ابنته وهو ثاو في غياهب سجنه، مطوّق في قيوده وأغلاله أدركه شيء من حسن العزاء لنجاتها، وأشهد على نفسه بعقد زواجها، وكتب إليها يهنئها ويتسلى بحسن عاقبة الزمان فيها، وكتب آخر رسالته: بُنيتي كوني به بَرَّةً ... فقد قضى الدهر بإسعافه وشبيه بهذا الأسلوب من الشعر النسوي الأندلسي شكوى الشاعرة الشَلبيَّة

إلى السلطان يعقوب المنصور غرناطة من عماله على بلدها، فقد كتبت هذه الشكوى وألقتها على مُصَلَّى المنصور يوم الجمعة، فلما قضى صلاته فضها وقرأها فإذا فيها: قد آن تبكي العيون الآبية ... ولقد أرى أن الحجارة باكية يا قاصد المصر يُرجى به ... إن قدّر الرحمن - رفع - كراهيه ناد الأمير إذا وقفت ببابه ... يا راعيا إن الرعية فانيه أرسلتها هملا ولا مرعى لها ... وتركتها نهب السباع العاديه شِلْبٌ كلا شِلبٍ وكانت جنة ... فأعادها الطاغون ناراً حاميه حافوا وما خافوا عقوبة ربهم ... والله لا تخفى عليه خافية فأنصف المرأة بعدله ووصلها بجزيل ماله: وحديث الأدب النسويَّ في هذا العصر حديث شيَق أليف، وإذا قلت لك أن هناك أستاذات من النساء كن يدارسن بنات الأسر الشريفة الأدب ويروينهن الشعر فلا تظن هؤلاء على قدر محدود فيما أخذن فيه من دروس وتحصيل، ولكنهن كن مع أعلام هذا العصر وأفذاذ رجاله على سواء واحد من العلم والأدب والفهم والتخرج. ومن أمثلة هؤلاء الشاعرة العروضية إحدى فتيات بَلَسنة فقد تلقت النحو واللغة على الإمام أبي المطرف وعبد الرحمن بن غلبون، ثم فاقته فيهما وبرزت علماء عصرها في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والأمالي للقالي وتشرحهما شرحا مبينا، وقد قرأهما عليها العالم يوسف بن نجاح وأخذ عنها علم العروض. ولقد يمتد بنا الطريق إذا استوفينا جانب الأدب من حياة المرأة الأندلسية وهو أنضر جوانبها وأبهج حلاها في هذا العصر، فبحسبنا أن ندل عليه ونكتفي بهذا الطرف اليسير من حديثه.

بعد القرن الخامس

ولقد حدّثتك حديث الخلق النسوي في هذا العصر وانه بقي في جملته مستمسكا مستقيما وإن كانت عوامل الضعف لبثت تغالبه من كل جانب وتحيط به من كل سبيل. ومهَّد انقسام الأندلس وقيام ملوك الطوائف للعدوّ المترصد سبيل الظفر بالمنقسمين، وبدأت النازلة الفادحة والخطب الجلل يهويان على البلاد في أخريات هذا القرن منذ استباح الأذفونش طليطلة من صاحبها ابن ذي عام 478، ومن هنالك أخذ العدوّ المتغلب يجدّ في شططه وأخذ سلك البلاد ينتشر من وسَطَه كما قال الشاعر ابن العسال: حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أَطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف المقام مع الحيَّات في سفط وكذلك بدأت دعائم الخلق تهتز وأنشأ صرح الحياة يمبد. بعد القرن الخامس ألا مسعد منجدٌ فِطَن ... يُبَكي بدمع معين هَتِن جزيرةُ أندلس قَدْ سَطَت ... عليها غوائل حقد الزمن ويندب أطلالها آسفاً ... ويرثي من الشعر ما قد وهن ويبكي اليتامى ويبكي الأيامى ... ويحكي الحمام ذوات الشجن ويشكو إلى الله شكوى شج ... ويدعوه في السر ثم العلن وكان رباطاً لأهل الهدى ... فعادت مناطاً لأهل الوثن وكان معاذاً لأهل التقى ... فصارت ملاذاً لمن لم يدِن وكانت شَجي في حلوق العدى ... فأضحت لهم ما لها محتجن

ذلك بعض ما رثيت به الأندلس في القرن السادس الهجري أي قبل أن يحل بها القضاء الأخير بقرنين كاملين، فقد أخذ العدوّ يوغل في قلب البلاد وأخذ أولئك المتملكون يلقون إليه بالمودّة، ويتقدّمون إليه بالجزى، ويستعين به بعضهم على بعض، ومن لم يستعن به استصرخ المغيرين من ملوك فاس، وترك أهل الأندلس تلك القوى المتدافعة تتناجز على البلاد وراحوا يلهون ويلعبون، ويشربون ويطربون ويسبحون في مضمار الخلاعة أرسانا، ويستبقون في ميدان البطالة فرسانا، واستشرفوا إلى الجواري والروميات والمهاجرات المغربيات يتَسرّونهن ويستولدونهن، وغادروا المرأة الأندلسية تندفع فيما هم مندفعون، وتشرب بالكأس التي يشربون بها، فالتاثت الأخلاق، واضطربت الأعراق، وفترت الحمية، وضاع الحِفَاظ. وبدءوا يتشبهون بالفرنجة فيما أمكنه أن يتشبهوا به، وماذا يملك الضعيف الذليل من التشبه بالقوى العزيز؟ ليس إلا المظاهر الجذابة من زي يبسطه عليه. أو كلمات من لغته يتقرّب بها إليه، أو إنحاء بالطعن على أهل ملته وعشيرته، أو لجاج في البراءة من آداب دينه وأمّته، فأما الدأب في العمل والإمعان في الثبات والتضحية في الواجب وفناء الواحد في عز الجماعة، والطاعة في غير ذل، والبذل في غير رياء، فذلك ما لا يملك الضعيف أن يتشبه بالقوى فيه. لأن النفس واهنة، والعقل مضطرب. والقلب رخو مريض. وكذلك فعل الأندلسيون فقد غلوا في التشبه بالفرنج في عامة مظاهرهم، فلبسوا برانسهم، واعتمروا قلانسهم، ومضغوا ألفاظهم، وتزوّجوا الدنيات من نسائهم. وأول من سن طريق الغلو في اقتفاء الهين القريب من مظاهر الفرنجة محمد ابن سعد بن مردنيش الجذامي أمير شرقي الأندلس في منتصف القرن السادس،

وذلك ما يقوله عنه الوزير لسان الدين بن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة وآثر ابن مردنيش زي النصارى من الملابس والسلاح واللُّجُم والسروج، وكلف بلسانهم، وألجأه الخروج عن الجماعة والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى ومصانعتهم، والاستغاثة بطواغيتهم، وصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضريبة وصالح ملك قشتالة على الأخرى، فكان يبذل لهم في السنة خمسين ألفاً من المثاقيل، وابنتي لجيشه من النصارى منازل معلومات!! وحانات للخمور! وأجحف برعيته لأرزاق ممن استعان به منهم، فعظمت في بلاده المغارم وثقلت؛ وأما رسوم الأعراس والملاهي فحالاتها عجيبة. حدّث بعض المؤرخين عن الثقة قال: كنت بحيان مع الوزير أبي جعفر الوقشي فوصل إليه رجل من أهل مرسية كان يعرفه، فأساله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيرته، فقال الرجل أخبرك بما رأيت من جور عماله وظلمهم، وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن عبد الرحمن كان له بنظر شاطبة ضُيَيعة يعيش بها، وكان لازمها أكثر من فائدتها، فأعطى لازمها حتى افتقر، وفر إلى مرسية، وكان أمر ابن مردنيش أن من فرّ من الرعية أمام العدوّ أخذ ماله للمخزن، قال الرجل فلما رحلت إلى مرسية فارّاً عن وطني خدمت الناس في البنيان، فاجتمع لي مثقالان سعديان فبينما أنا أمشي في السوق وإذا بقوم منأهل بلدي شاطبة، فسألتهم عن أولادي وزوجتي، فقالوا إنهم في عافية، ففرحت فرحاً عظيماً وسألتهم عن الضييعة، فقالوا إنها باقية عند أولادك، فقلت لهم عسى أن تبيتوا عندي الليلة، فاشتريت لحماً وشرابا وضربنا دفا، فلما كان عند الصباح إذا بنقر عنيف بالباب،

فقلت من أنت! قال أنا الطرقون الذي بيده قبالة اللهو، وهي متفقة بيدي، وأنتم ضربتم البارحة الدف فأعطنا حق العرس الذي عملت، فقلت والله ما كان لي عرس فأخذت وسجنت حتى لافتديت بمثقال من الذي خدمت به وجئت إلى الدار فقيل له إن فلاناً وصل من شاطبة الساعة فمشيت لأسأله عن الدار وعن قرابتي وعرفته بالأمر الذي طرأ على وبكيت طول ليلتي وبكى معي، فلما كان من الغد إذا بناقر بالباب، فخرجت فإذا أنا برجل فقال أنا صاحب المواريث أعلمنا أنكم بكيتم وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غنى وأخذتم كل ما ترك، فقلت والله ما بكيت إلا نفسي، فكذبني وحملني إلى السجن فدفعت المثقال الثاني. ذلك بعض ما يحدث في عهد التياث واضطرا به وانحراف الأمر وانقلابه على أن ما أصاب البلاد من فتنة ناشئة وشر وبيل لم يثن مثله هؤلاء عن الاندفاع في اللهو إلى قرار الهاوية. وأصبح الاندماج في الفرنج بالمظاهر والعادات وبالملق والرياء سنة مسلوكة وطبعاً مألوفا عند أهل الأندلس، ومن العجب أن عالما ضليعاً كعزيز بن خطاب يُوَلي مُلك مُرسية لعلمه وفضله، فإذا جاءه الخطباء ليخطبوا له بالملك استمع أقوالهم حاسر الرأس كما كان يعمل ملوك الفرنج. وكان ابن هود ملك الأندلس يسير في أشتات بلاده حاسر الرأس، وعلى هذا السبيل كان بنو الأحمر ينهجون. وكان علماء الأندلس يرخون ذوائبهم، ولم يسمح لغيرهم أن يفعل ذلك سيراً على سنة الفرنج في رجال الأدب والفنون منهم. ولبس النساء المناطق الأسبانيولية! واعتمرن القبعات الأسبانيولية، وخرج الفتيات حواسر الرءوس كواشف الصدور على مثال الأسبان، وفي كثير من الصور

التي خلفها الأندلسيون منقورة في الجدران أو منقوشة في الزجاج أو مرقومة على الثياب أو محفوظة في الكتب والرقاع ما يدل على انسياق المرأة الأندلسية في مساق الأسبانية وانخلاعها عن تقاليد السلف الصالح من الأمهات الأندلسيات. ورغم ما تورطت فيه امرأة هذا العصر من تهور واندفاع لم تكن بنجوة من العلم والأدب، فقد نالت منهما أكثر مما نالت في عصورها السالفة، ولكن ويل للأمة من المرأة العالمة التي لا خلق لها ولا دين. وأستاذة الشواعر في العصر الأندلسي الأخير حفصة بنت الحاج الركونية، وهي إحدى شريفات غرناطة الظاهرات بوفر المال وفرط الجمال وما تزدان به المجالس من حسن المساجلة ولهو الحديث. ولذلك لم يكن بدعاً أ، يغدو في أثرها كثير من نساء هذا العصر، وكانت نشأتها في القرن السادس وعمرت إلى منتهاه. وكانت حفصة في شعرها متدفعة غير متجملة ولا محتشمة، لأنها إنما تحكي صورة هذا العصر وتنزع عن غايته، وكانت تذيع هذا الشعور فيرويه الناس عنها وهم بها معجبون. ومن شعرها ما كتبته إلى فتى اشتهرت به: أزورك أم تزور فإن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل فثغري مَورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل وقد أمّلت أن تظمأ وتضحي ... إذا وافى إليك بي المقيل فعجّل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل ومن شعرها وقد أرسلته إلى الأمير أبي سعيد في مجلسه أنسه: زائر قد أتى يجيد الغزال ... مطلع تحت جنحه للهلال بلحاظ من سحر بابل صيغت ... ورضاب يفوق بنت الدوالي

يفضح الوردَ ما حوى منه خدٌّ ... وكذا الثغر فاضح للآلى ما ترى في دخوله بعد إذن ... أو تراه لعارض في انفصال ومن شعرها: سلام يُفَتح زهر الكما ... م وينطق بالشدو ورق الغصون على نازح قد ثوى في الحشا ... وإن كان تحرم منه الجفون فلا تحسبوا العبد ينساكم ... فذلك والله ما لا يكون ومما نسب إليها: أغار عليك من عيني رقيبي ... ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني وعلى سنن ما أسلفت لك سارت المرأة الأندلسية بعد القرن السادس جامحة النفس مخلوعة العذار، ووهنت منه قوة الدين وخفر الحياء، وهدمت ركن البيت ومزقت آصرة الأسرة، وهي الغارس والأمة الغَرس، والباني والأمة البناء، فإذا صرفها اللهو واللعب عما وكلها الله به من حياطة خَلقه ورعاية حقه فما هي إلا نهلة بعد نهلة حتى ينتقض البناء، ويستحكم البلاء وترتفع صيحة القضاء، وتعصف عاصفة الفناء (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) وكذلك حقت كلمة الله على أهل الأندلس حين ائتمنهم الله على أرضه فلم يرعوا أمانته، واسترعاهم دينه فلم يوفوه رعايته، وأحلهم دار النعمة فأبطرتهم، وسوغ لهم صبابة الأمل فأسكرتهم، وكان ما أصابهم عبر العبر ومُثلةَ المُثلات، فقد ظهر عليهم العدو المستبيح فمرّق رجالهم واستعبد نساءهم وصرع بين أعينهم أطفالهم: فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ... عليهم من ثياب الذل ألوان ولو رأيت نساهم عند بيعهم ... لهالك الأمر واستهوتك أحزان

أثارة من أدب النساء في الأندلس

يا ربُ أُمّ وطفل حيل بينهما ... كما تفرّق أرواح وأبدان وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ طلعت ... كأنما هي ياقوت ومَرجان يقودها العِلجُ للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حرّان لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان أثارة من أدب النساء في الأندلس كتبت ولاّة بنت المستكفي إلى ابن زيدون: ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقي تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ... ولا الصبر ممن رق التشوق معتقي سقى الله أَرضاً قد غدت لك منزلا ... بكل سكوب هاطل الودق مغدق للشاعرة الغسانية البجانية وهي من شواعر المائة الرابعة: عهدتهم والعيش في ظل وصلهم ... أنيق وروض الوصل أخضر فينان ليالي سعد، لا يخاف على الهوى ... عتاب ولا يُخشى على الوصل هجران سألت امرأة من شريفات غرناطة حفصة الركونية تذكاراً تكتبه بخطها فكتبت إليها: يا ربة الحسن بل يا ربة الكرم ... غضي جفونك عما خطه قلمي تصفحيه بلحظ الودّ منعمة ... لا تحفلي برديء الخط والكلم كتبت حسانة التميمية إلى الحكم بن الناصر: أنت الإمام الذي إنقاذ الأنام له ... وملكته مقاليدَ النهي الأممُ لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفا ... آوى إليه ولا يعرونيَ العدم لا زلت بالعزة القعساء مرتديا ... حتى تذل إليك العُرب والعجم

فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه ووظف لها عطاء كريماً وكتب إلى عامله على البيره - من أعمال الأندلس - فجهزها بجهاز حسن. وكان الحكم قد كتب إلى والي البيره بتحرير أملاكها وردها إليها - ولا نعلم كيف نزعت منها - واتفق أن عوجل الحكم بالموت لم يقض الوالي لها بشيء فلما طال مطاله لها ذهبت إلى ابنه الخليفة عبد الرحمن فلما مثلت بين يديه انتسبت إليه، فعرفها وعرف أباها ثم أنشدت: إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي ... على شحط تصلي بنار الهواجر ليجبر صدعي إنه خير جابر ... ويمنعني من ذي الظلامة جابر فإني وأبنائي كفه ... كذي الريش أضحى في مخالب كاسر جدير لمثلى أن يقال مَرُوعة ... لموت أبي العاصي الذي كان ناصري سقاه الحيا، لو كان حيا لما اعتدى ... علىَّ زمان باطش قادر أيمحو الذي خطته يمناه جابر ... لقد سام بالإملاك إحدى الكبائر ثم بسطت أمرها وأرته أبيه فقبله وقال: لقد تعدى لبيد طوره حتى رام نقض رأى الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرافي يا حسانة فقد عزلته لك ووقع بمثل توقيع والده، وأجازها بجائزة كريمة فشكرت له صنيعه بقصيدة جاء فيها: ابن الهشامين خير الناس مأثرة ... وخير منتجع يوما لرُوّاد إن هز يوم الوغى أَثناء صعدته ... روَّى أنابيبها من صرف فرصاد قل للإمام أيا خير الورى نسباً ... مقابلا بين آباء وأجداد جوَّدت طبعي ولم ترض الظلامة لي ... نهاك فضل ثناء رائح غاد فإن أقمتُ ففي نعماك عاطفة ... وإن رحلت فقد زودتني زادي

لأمّ العَلاء بنت يوسف الحِجَارِيَّة - من شواعر المائة الخامسة: كل ما يصدر منكم حسنُ ... وبعليا كمْ تحلّى الزمن تعطِف العين على منظركم ... وبذكراكم تَلَذّ الأذن من يعيش دونكُم في عمره ... فهو في نيل الأماني يغبن وخطبها رجل أشيب فكتبت إليه تقول: الشيب لا يُخدَع فيه الصبي ... بحيلة فاسمع إلى نصحي فلا تكن أجهل مَن في الورى ... يبيت في الجهل كما يضحي وقالت تعتذر: افهم مطارح أقوالي وما حكمت ... به الشواهد واعذرني ولا تلم ولا تكلني إلى عذر أبينه ... شر المعاذير ما يحتاج للكلم وكل ما خلته من زلة فبما ... أصبحت في ثقة من ذلك الكرم لأم السعد بنت عصام الحِمْيرية القرطبية: آخ الرجال من الأبا ... عِدِ والأقاربَ لا تقارب إنّ الأقارب كالعقا ... رب أو أشدّ من العقارب للسيدة أمَة العزيز: لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود حكى الوزير أبو المغيرة بن حزم قال: نادمت يوماً المنصور بن أبي عامر في مُنيه السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير وهي جامعة بين روضة وغدير، فلما تضمخ النهار بزعفران العشي. ورفرف غراب

الغروب الدجوجي، وأسبل الليل جنحه، وتقلد السماك رمحه، وهم النسر بالطيران، وعام في الأفق زورق الزّبرقان، أوقدنا مصابيح الراح، واشتملنا مُلاء الارتياح، وللدجن فوقنا مُلاء مضروب، فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أُنس القلوب، وقالت: قدم الليل عند ستر النهار ... وبدا البدر مثل نصف السواري فكأن النهار صفحة خدّ ... وكأن الظلام خط عِذَار وكأن الكؤوس جامد ماء ... وكأن المدام ذائب نار نظري قد جنى عليّ ذنوباً ... كيف مما جنته عيني اعتذاري يا لقومي تعجبوا من غزال ... جائر في محبتي وهو جاري ليت لو كان لي إليه سبيل ... فأُقضّي من الهوى أوطاري كتب أبو عامر بن نيق إلى هندية جارية أبي محمد بن عبد الله بن مسلمة الشاطي يدعوها بهذين البيتين: يا هند هل لك في زيارة فتية ... نبذوا المحارم غير شرب السلسل سمعوا البلابل قد شدت فتذكروا ... نغمات عودك في الثقيل الأول فكتبت في ظهر رقعته: يا سيداً حاز العلا عن سادة ... شم الأنوف من الطراز الأول حسبي من الإسراع نحوك أنني ... كنت الجواب مع الرسول المقبل كان عباد المعتضد كلفاً بجاريته العَبّادية فسهر ليلة وهي نائمة فقال: تنام ومدنفها يسهر ... وتصبر عنه ولا يصبر فانتبهت له وأجابته: لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجداً ولا يشعر

لحفصة الركونية تذم عبيدها: يا رب إني من عبيدي على ... جمر الغضا ما فيهم من نجيب إما جهول أبلهٌ متعبٌ ... أو فطن من كيده لا يجيب لزينب المُرية: يا أيها الراكب الغادي لِطِيتَّه ... عرج أنبيك عن بعض الذي أجد ما عالج الناس من وجد تضمنهم ... إلا ووجدي به فوق الذي وجدوا حسبي رضاه وأني في مسرته ... وودّه آخرَ الأيام أجتهد دعا أمير المؤمنين الناصر بحَجَّامه ليفصده، واتخذت لذلك الأهبة في البهو الكبير من قصر الزهراء، فحين تقدم الحجام من سيده أطل عليه زرزور من حديقة القصر فتغنى بهذين البيتين: أيها الفاصد رفقاً ... بأمير المؤمنينا إنما تفصد عرقاً ... فيه محيا العالمينا فنظر الناصر إلى الطائر وأصغى إليه وقد ملكه العجب والإعجاب وسألا عمن أوحى إليه ذلك الوحي البديع فقيل إنها السيدة الجليلة مرجانة زوج أمير المؤمنين وأم ولي عهده فضوعف سروره وإعجابه. أما بعد فتلك طائفة من الأدب النسوي بالأندلس؛ وهو على ما به من ظرف ورقة لم يبلغ مبلغ نظيره في العراق، لأن هذا كان يغذيه طبع المرأة العربية في البادية، والجارية الفارسية في الحضر، ولكليهما منحى يستخف النفوس والأرواح، فالمرأة البدوية كانت كأفضل النساء صفاءٍ في الطبع، ونقاءً في النفس، وسموّاً في الخاطر وجلالا في الغرض، وروعة في الأسلوب، وكانت الجارية الفارسية على

ما علمت مثار الفتنة والسحر في الغناء والشعر، وكان للناس في العراق منم هذين الموردين معين غدِق، وروض خصيب، وهما من وسائل الرقة التي امتزجت بالأدب العربي في العراق. أما المرأة الأندلسية فمع مجاذبتها للرجل كثيراً من أطراف العلم والأدب لم تأت منه بما يعلو عن مألوف الكلام إلا قليلا، لأن للأدب النسوي جمالا خاصا تنقله المرأة عن المرأة لا عن الرجل، ولو أن المرأة العربية المتحضرة في العراق عنيت برواية الأدب النسوي في البادية وأخذت كفايتها منه وعمدت إلى ما أخذت فصقلته على غرار الحضارة وغذته بماء النعيم لأتت بأطيب الثمرات وأنداها على القلوب والأكباد. ولا أعلم كيف غفل متأدبو الأندلس ومؤلفوهم عن استقصاء شعر نسائهم والعناية بتقييده، فهم يسمنوا ولادة بنت المستكفي: عُلية الأندلس، ويدعون حمدة بنت زياد خنساء المغرب، وهم مع ذلك لا يذكرون لكليهما إلا القليل المحدود من الشعر الذي أثارته مناسبة أو قيدته حادثة، وقد لا يكون هذا من أفضل ما قالت الشاعرة، بل قد يكون فوق ذلك غَثّاً تافهاً لا شأن له، في حين أنهم دعوا ابن هانئ المغربي متنبئ الغرب وابن خفاجة الأندلسي صَنوبري الأندلس ذكروا لهما ما جل ودق من شعرهما حتى لم يُعد شيء منه خافياً عن أحد، والعجب أن هذا القليل المحدود الذي نقل عن نساء الأندلس كان يتناوله مؤلفو القوم بعضهم عن بعض، فليس هناك تبسط في النقل ولا استفاضة في البحث عن شعر النساء، فهل لم تأت خنساء العرب بأكثر من بضعة عشر بيتاً من الشعر أكثرها مداعبات ومطارحات، وهل لم تأت علية الأندلس بأكثر من عشرين بيتاً بعضها منسوب لغيرها! أقول ولعل لأن أكثر الكتب التي

وصلتنا عن حياة الأندلس ألف بعد سقوط ذلك البلد العظيم، وألف في بلاد خفي فيها أدب المرأة عن منال الأقلام، فلم يحفل كتابها بها، ولعلنا حين نجد في البحث عن ذخائر الكتب المودعة قصر الاسكوريا في مدريد نجد منها كثيراً مما كتبه الأندلسيون عن أنفسهم وصوروا فيه حقيقة شأنهم ومثال حضارتهم، فذلك أشفى للنفس وأروى للحقيقة. وعسى أن نصل قريباً بعون الله وتوفيقه إلى تلك الغاية المنشودة فنكون قد سددنا ثغرة من الأدب العربي لا تزال حتى اليوم عميقة الأثر بعيدة القرار. والله ولي التوفيق.

المرأة المغربية

المرأة المغربية وحسبنا في هذا الجزء من الكتاب أن نتكلم عن المرأة في المغرب الأقصى. أما المغرب الأدنى فحديث المرأة فيه طويل مستفيض لا يتسع له هذا الجزء، وموعدنا به الجزء الرابع مع المرأة المصرية، لأنّ بين نساء هذا القطر من بلاد المغرب وبين نساء مصر البدويات صلة الجوار وعقدة النسب وألفة الطباع والعادات. وإذا تحدثنا عن المغرب الأقصى فإنما نتحدّث عن قطر كان فيما سلف من الدهر لا تجف دماؤه المتفجرة ولا تخمد نيرانه المضطرمة، له في كل آونة عرش يقوم ومصرعي ترصد، قد اختلف فيه كل ما فيه اختلافاً بينا، ففيه البربر والعرب، وفيه الخوارج والرافضة، وفيه الواتر والموتور، وفيه الدخيل والأصيل، ذلك شانه وتلك حاله منذ بسط الإسلام ظله عليه. وكان شأن المرأة في عامّة البلاد كشأنها في كل الشعوب المستبسلة المتبدّية، لها قوّة عاملة وصفة مستقلة وحياة ظاهرة، وما كان يَضير الرجل هنالك أن ينتسب إلى أمّه ومن الذين ظهروا في هذه البلاد ممن انتسبوا إلى أمّهاتهم: ابن غانية القائد المتغلب المتملك وابن عائشة العالم الشاعر، وبنو سوط القادة الأبطال، وما كان عجيباً أن تسود المرأة وتحكم، وقديماً تكلم ابن خلدون عن امرأة تسمى شمس كان لها عشرة أبناء استفحل أمرهم وتفاقم سلطانهم وألقوا إليها أزمّة الأمر وروضوا لها حكم البلاد فلم يكن هنالك دفع أو استنكار. وكانت تأنف ويؤنف لها وتغار ويغار عليها إلى أن تؤثر ورود الموت على الذل والهوان. ومما رواه ابن خلدون أن جيش بني مرين قصد إلى السلطان أبي زيان ابن عثمان وأخذ ينتقص أطراف بلاده ولم يقو جيشه عليه، قال ابن خلدون: فبينا

السلطان وأخوه أبو حمو جالسان في بعض خاصتهما دخلت دعد قهرمانة القصر وقالت: يقول لكم حظايا قصركم وبنات زيَّان حُرمكم: ما لنا وللبقاء وقد أحيط بكم وأسف عدوّكم لا لتهامكم، ولم يبقى إلا فواق ناقة لمصارعكم، فأريحونا معرة السبي وقرَّبُونا إلى مصارعنا وأريحوا أنفسكم فينا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم، فالتفت أبو حمو إلى أخيه السلطان فقال قد صدقناك الخبر فما تنتظر بهن؟ فقال يا موسى أرجئني ثلاثاً لعل الله يجعل بعد عسر يسراً. فقال إلى تخرج مع قومنا إلى عدونا فتستميت ويقضي الله ما شاء! فغضب أبو حمو وأنكر عليه تأخير ذلك، وقال إنما نحن والله نتربص المعرة بهن وبأنفسنا. وقام عنه مغضباً وأجهش السلطان بالبكاء فبينما القوم في مجلسهم هذا دخل حَرَسي فقال: إن السلطان يوسف بن يعقوب - ملك بني مرين - قتل الساعة. وبمقتله انفض جيشه وذهب عن أبي زيان وعن قومه ما كانوا فيه من خوف وإشفاق. ولولا ذلك لذبحوا نسائهم ويناتهم وحظاياهم بقياً على العرض وأنفة من العار. ومن أعجب ما يؤثر من غضبة الشعب للمرأة وأنفته لها وثورته من أجلها، أن السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني لما لم يجد غناءً في وزرائه استعان برجلين من اليهود، فكانت رياستهما محنة على الأمة وبلاء على العباد، فلم يدعا وسيلة من الخسف والأذى في الأرواح والأموال إلا اتخذاها في غير حرج ولا هوادة، وصبرت الأمة لهذه النازلة وراضت نفوسها على احتمال تلك الكارثة، وكان احتمالها بالغاً وصبرها جميلاً، كان ذلك حتى ذاع في البلاد أن أحد اليهوديين قبض على امرأة شريفة وأمر بضربها بين يديه! وهنا اشتعلت النار الخابية واستطارت النفوس الوادعة وتمشت رجالات فاس بعضهم إلى بعض، فاجتمعوا عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى، وهنالك ائتمروا فيما بينهم، على الفتك باليهود وثل

الأسرة المتنبئة

عرش المستعين بهم وولوا من بينهم أحد أشرفهم وبايعوه على الثبات معه حتى الموت وأحاطوا باليهود فأفنوهم واقتسموا أموالهم واستعان عبد الحق بجنده فتنكروا له وخالفوا عليه، وقتل اليهودي الضارب طعناً بالرمح بين يديه، وسيق هو إلى فاس وطيف به مشهراً في أحيائها وأزقتها وتكاثرت عليه الجموع تريد أن تفترسه، ثم قدم إلى مصرعه فقتل وانتهى بموته عهد وانقرض بنهايته ملك وسلطان. الأسرة المتنبئة لم يكن أهل المغرب الأقصى سراعاً إلى الإسلام حين دعوا إليه فلم يسلموا إلا بعد لأي خيفة من السيف، ثم ارتد جمهورهم عن الدين الحنيف، ثم أثابوا أخيراً إليه، وفي عهد تلك الفتنة المضطربة نهض رجل في أحد أعمال فاس طريفاً أبا صبيح فادعى النبوة، واقتبس دينه من مآرب الناس وشهواتهم فاتبعه جمهور من الغوغاء، وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك بن مروان، ثم أعقبه ابنه فزاد على ما قال أبوه سخفاً من القول دعاه قرآنا وجعل من سوره: سورة الديك وسورة الحُمُر وأمثال تلك الأضاحيات. وعلى ذلك السَّنن تتابع سلالة ذلك الرجل، فليس منهم إلا من زعم أنه نبي يوحى إليه حتى انتهى أمرهم إلى أبي غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن طريف فازداد خطره واستفحل أمره، وأباح للرجل أن يتزوج بمن وصلت إليه يده من النساء بالغاً ما بلغ، وأخذ يبث شياطينه في البلاد، يقتلون رجالها ويسبون نساءها، وشأنه في ذلك شأن القرامطة، وهؤلاء وأولئك كانوا يتبعون سيرة آل فرعون في بني إسرائيل من قتل الرجال واستحياء النساء. وفي انسياق الغوغاء في مساق أبي غفير يقول بعض شعراء فاس:

قفي قبل التفرق واخُبرينا ... وقولي واخبري خبراً يقينا وهذي أمة هلكوا وضلوا ... وغادروا لا سقُوا مما سقينا يقولون النبي أبو غفير ... فأخزى الله أم الكاذبينا ألم تسمع ولم تر لؤم بيت ... على آثار خيلهم ربينا ستعلم أهل تامسنا إذا ما ... أتول يوم القيامة مُقطَعينا هنالك يونس وبني أبيه ... يقودون البرابر حائرينا واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعاً وأربعين، واشتدت نكايته بالبربر حتى غلب على قطر كبير من البلاد وتملكه وأقام في هذا الملك تسعة وعشرين عاما. ومن بعده جاء ابنه أبو الأنصار فتأثر سنة أبيه وازداد من إراقة الدماء، واستباحة النساء، وعظمت هيبته واشتد سلطانه، ودانت له قبائل المغرب. وكذلك كان ابنه من بعده أبو منصور عيسى فملك البلاد وجاءه ملوكها يسجدون عنوة له. وقد وقف مسلمو المغرب حيال تلك الطائفة المبيحة موقف مسلمي المشرق من القرامطة، فحاربهم الأدارسة والأموية والشيعة واجتاز جند المنصور بن أبي عامر البحر إلى بلاد المغرب فلم يغنوا شيئاً، ثم نهض لقتالهم بالكين بن زيرى في قبائل صنهاجة فقهر أبا منصور وقتله وأفنى جيشه، وأجاز المنصور بن أبي عامر للمرة الثانية جنده فأثخنوا فيهم قتلا وسبياً. ولم ينته أمر هؤلاء المفسدين إلا في أخريات المائة الخامسة، وبذلك يكون مدى أمرهم قرابة أربعة قرون. وهذا فيما نعلم أطول مدى أقامته أسرة متغلبة مبيحة.

الحالة الاجتماعية للمرأة المغربية

الحالة الاجتماعية للمرأة المغربية يأتلف أهل المغرب الأقصى من شعوب ثلاثة: البربر والعرب واليهود، وأكثر ما يتولى اليهود من العمل أشتات المهن من تجارة وصناعة وليس لهم فيما وراء ذلك شأن عظيم، غير أن أهل المغرب يذكرونهم كلما ناب خطب أو شبت فتنة أو أغير عليهم من حيث لا يعلمون. ويقوم العرب والبربر على نظام القبائل والبطون، وكان للمرأة العربية منذ الفتح الإسلامي نصيب أختها في بلاد العرب من القيام على الأسرة والاتصال بالحياة العامة على نحو ما أسلفناه في الجزأين الأولين من هذا الكتاب، ثم أخذت المدينة الأندلسية تسري على قدر في جنبات هذا الإقليم، وأخذ ملوك الدولة الإسلامية المتتابعة يَنْهجون المدن وينشئون القصور وينقلون إليها الكثير الموفور من مباهج الحضارة! ومناعمها واجتلبوا الجواري من الأندلس والعراق، وحجزت طبقات السَّراة والأشراف نساءها في دور الحُرم وأقاموا على خدمتهن وحجابتهن الخصيان من أرقاء الصقالبة، وقد كان هؤلاء سبباً في القضاء على دولة يوسف بن يعقوب بن عبد الحق حين استفحل أمرهم في قصره، فقد كان السلطان يخلطهم بأهله ولا يحجبهم عن حرمه وعياله، ثم رابته ريبة في بعضهم فاعتقل جملة منهم كان فيهم عنبر الكبير أستاذهم وحجب سائرهم فراعهم ذلك وأفزعهم. فبيتوا له الشر ودبروا له السوء حتى استأذن عليه واحد منهم يدعى سعادة وهو مضطجع في فراشه فلما أنس الغِرّة منه وثب عليه وطعنه طعنات أردته قتيلا. ودرج أوساط أهل المدن على تلك السنة من إرخاء الحجاب حتى أصبح من مسنون عاداتهم ألا تخرج المرأة من دارها إذا أعوزها الخروج إلا في جنح الليل

حالتها الفكرية

وإذا خرجت قنعت سائر وجهها فلا يظهر منه شيء، ولكن الحال أخذت تتبدل رويداً في هذا الجيل، وبدأ نسوة هذا العصر يتحسرن عن هذا الضرب من الحجاب فهن يخرجن الآن في وضع النهار، ويتركن ما كثف من الحجاب إلى ما شفّ منه، ويأخذن مأخذ المشرق الأدنى من الثورة ما كان عليه أمهاتهن من عزلة واحتجار على أن ذلك لم يجاوز أهل المدن، أما نسوة البادية فقد بقي لهن أكثر ما كان لأمهاتهن من فطرة وطبع وأخلاق. حالتها الفكرية لم تكن المرأة المغربية بنجوة عما كان عليه الرجل من علم محدود، فقد جاذبته أسباب ذلك العلم وظهرت في بعض نواحيه، ويتحدث أهل المغرب عن كثير من النساء تناولن الشعر والنثر وإن لم يكن فيما تناولنه شيء يستحق التدوين. وأكثرنا عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراءاته جميعاً ورواية الحديث ودروس الفقه والأصول وما إلى هذه من علوم الدين ويذكر أهل ذلك الإقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وهي أكبر المطوّلات الجامعة في الحديث والفقه. وفي إقليم شنقيط حيث البداوة التي لا تشوبها كلفة العيش ولا رفاهة الحياة يسير النساء في مساق الرجال من دروس علوم الدين وقراءات القرآن الكريم. وهنالك تعقد المحافل لامتحان الحفاظ الذين حفظوا الكتاب الكريم بمختلف قراءاته فيجلس أشياخ القراء صفا ممدوداً ويجلس الحافظ أمامهم وظهرُهُ إليهم ويتلو ما يطلبون تلاوته منه مرويا بما يقترحون عليه من الروايات. ولا بأس أن يكون في هذا المحفل طائفة من النساء.

واليوم يقف التعليم الفرنسي في بلاد المغرب الأقصى قبالة التعليم الديني، ولكل من التعليمين خصوم وأشياع. وقد بث الفرنسيون مدارسهم في عامة مدن المغرب الأقصى فأقبل عليها المحدثون إقبالا عظيما وصارعت اللغتان الفرنسية والأسبانية اللغة العربية في المدن الساحلية حتى إنك تطوف بأرجاء طنجة فلا تكاد تسمع كلمة عربية خالصة من رجل أو امرأة: واليوم تجد في تلك البلاد طائفة ظاهرة من النسوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية وأخرى من اللواتي تخرجن في المدارس الفرنسية. ومن الطائفة الأولى: السيدة الشريفة فاطمة الزهراء ابنة السيد محمد بن أحمد الإدريسي. تحفظ القرآن بقراءاته، وتحفظ كثير من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صلة بالعلوم العصرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدّها. السيدة عائشة الشنقيطية: تخرجت في شنقيط، وانتقلت إلى مراكش، ولها بها منزلة طيبة ومقام محمود وقد برعت في العلوم الدينية والعربية وحفظت سبعمائة حديث وأخرجت بعض الكتب والرسائل. ومن الطائفة الثانية: السيدة زينب الغرنيطية: من سلالة أندلسية، تخرجت في المدرسة الفرنسية بفاس، وعنيت بدراسة

الأدب العربي، وتكتب إلى جريدة الشهاب بالجزائر مقالات طيبة في الأخلاق، والاجتماع. السيدة خديجة المرينية: من أهل الرباط، تخرجت في مدرستها الحكومية وأقبلت على دراسة الأدب العربي حتى تسامت فيه، ولها كتاب في التدبير المنزلي ولعل لها غيره من المؤلفات. ولا نحاول هنا أن نستقصي الطبقة الظاهرة من متعلمات المغرب، فحسبنا أن ندل عليها بهؤلاء. على أننا نقول: إن الفصل الحاسم بين العلوم الدينية والمدنية وفصم الأواصر بينهما ليس من شأنه أن يخرج المرأة الصالحة للحياة. فكل ما رُكب في المرأة من عاصفة متوثبة ووجدان متأثر وحس دقيق إنما ينزع إلى الدين ويسعى إليه ويستنير به، الدين وحده عصمة المرأة ومنار وجدانها، ومثار الحنان والرحمة والبر في نفسها، ومعقد الشرف والأمانة من خلقها. فإذا فصمت ما بينها وبينه من عروة وسددت ما بينهما من طريق، فقد سلبت منها الجُنَّةَ الواقية وأوردتها المورد الوبيء، وقد عرف ذلك الإفرنج فطبعوا البنت منذ حداثتها الأولى على غرار الدين وجعلوه مستقى خلقها ومصدر قوتها ومشكاة حياتها سواء في ذلك أغنياؤهم وفقراؤهم وأشرفهم ودهماؤهم. وأي حصانة للمرأة أقوى من أن تراقب الله وتستمع قوله وتتلو آيته، وتمثل في الصلاة بين يديه، وتمتلئ مشاعرها بذكر جلاله وعزته، وناره وجنته، وما يظفر البررة الأخبارية من قربه ومحبته. وإن من أوهن الرأي أن نحاول إصلاح البنت بقطع ما بينها وبين أمهاتها السالفات من سُنن وعادات، وندخلها في غمار فئات من النساء ليس لها ما لهنّ من طبع وتكوين، فإنك بذلك تخرج المرأة الحائرة الثائرة المتمردة التي تزدري الماضي ويزدريها المستقبل، فهي هابطة بين القريتين، لا شرقية ولا غربية، وليس

لها سمة ولا شخصية. تحاول أن تحاكي المرأة الأوربية فيأبى عليها بعد ما بين الفطرتين فتقنع من المحاكاة بظواهر ملهية، كل ما فيها من الأثر أنها تغرها من نفسها وتحرفها عن دينها وتفتنها عن الطريق القويم. وليس من الخير في شيء أن تحمل المرأة الشرقية على نسيان ماضيها، ولكن الخير كل الخير في إصلاح ذلك الماضي وتهذيبه وإحكام الاعتصام به. تلك كلمة لا نخص هذا الإقليم من العالم الإسلامي، ولكننا نعم بها المسلمين في أقطار الأرض، فهم الآن على سَنن واحد من الحيرة في تعليم البنت وفصم ما بينها وبين الدين من صلة وأسباب، ولو أنهم اختطوا لها النهج الواضح من تاريخ المرأة العظيمة في الإسلام أيام كانت مناط الرحمة والودّ للأسرة ومغرس النبل والسموّ للولد ومعقد الحمية والعصبية للعشيرة مع تزويدها بما تقتضيه حاجة العمران من مبادئ العلوم والفنون التي تدعم كيان المنزل وتقيم نظام الحياة لو أنهم نهجو لها هذا الطريق لأوجدوا منها المرأة التي تؤلف الأسرة السعيدة والأمة المجيدة والوطن العظيم. لقد خلقت المرأة لتكون قوة من قوى الوحي والإلهام في نفس الرجل، فهي كالروح السارية تحرك الأحياء تملأ ولا ترى، وكالعقل المنير يضيء الشعاب ولا يَحَس وكالكهرباء الدافعة تملأ الوجود ولا تدرك، هي خَلق قوام حياته الجود بالنفس والفناء في سعادة الجماعة، واحتمال الآلام المضنية والأهوال المُروعة في راحة الزوج والولد، وهي كعود الثقاب ينشر الضوء في كل شيء ثم يحترق. تلك هي المرأة التي جعل الله السعادة بين شفتيها، وجعل الجنة تحت قدميها، وفرض لها من الطاعة في رقاب الأبناء أضعاف ما فرض للآباء. هي سر عظمة ومبعث قوتها ومشرق صفوها وسعادتها. فإذا تنكبت تلك المحجة وانحرفت عن هذا السبيل فثارت على البيت والولد وانكشفت في المجامع والأندية، وانغمرت في الملاعب والملاهي، وراحت

تعلن عن نفسها بشقاشق القول وفضول اللسان، فهنالك الويل والوبال، وهنالك الفناء والدمار.! ولا تقل إن مثل ذلك كائن في بلاد المدينة الحديثة. ففي تلك البلاد خير وشر، ومن شأن الجسم القوي أن تقاوم قوّته ما قد يُلم به من ضعف وفساد، فهنالك الخير يطوي الشر ويحمله، وهنالك نار الجدّ تنفي زيف اللهو وتحيله. على أنّ كثيراً من كتاب تلك البلاد ينظرون إلى ما أصاب المرأة من شطط واندفاع فيقولون إن هذا انتحار للأمة سريع الأجل! فما بالك بمن يأخذ بذَنَب الشر ويترك ناصية الخير، فالحياة عنده لهو ولغو وضجة وإعلان. ألا فليعلم القوم أن المرأة قطب الحياة، فإذا استقام استقامت، وإذا تمايل اندكت، وما قوامه إلا الدين، فهو الأساس الثابت والبناء المتين.

§1/1