المرآة

حمدان خوجة

المرآة

حمدان بن عثمان خوجة المرآة تقديم تعريب وتحقيق د. محمد العربي الزبيري منشورات ANEP

سلسلة التراث: صدر عن نفس المجموعة • مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي • الليلة المتوحشة لمحمد ديب • ليل الإستعمار لفرحات عباس • وجهة العلم الإسلامي لمالك بن نبي • نصوص مختارة لعبد الحميد بن باديس • Le miroir, hamdan Khodja • La nuit coloniale, Ferhat Abbas • lettre aux français, Emir Abdelkader • Les Mémoires de Messali Hadj, Messali Hadj • L'avenir de l'Islam et autres écrits. Si M'hamed Benrahal • Lettre au Président Wilson et autres écrits. Emir Khaled • Visages d'Algérie, Assia Djebar • L'Algérie. Civilisations anciennes du Sahara, Abdelaziz Ferrah • L'Etoile Nord-Africaine, collectif • OEuvre poétique, Bachir Hadj Ali • El Fuldj, captif des Barbaresques, Chukri Khodja • Les poèmes de Si Mohand, Mouloud Feraoun • Les conditions de la renaissance, Malek Bennabi

تصدير

تصدير وأنا أطوي كتاب حمدان خوجة ـ[المرآة]ـ وهو الأول ضمن سلسلة من عشرة كتب كانت محطات في تاريخ الفكر السياسي في بلادنا منذ أن أرخى عليها (الليل الإستعماري) سدوله، عشرة كتب بادرت المؤسسة الوطنية للإتصال والنشر والإشهار مشكورة بمناسبة الصالون الدولي العاشر للكتاب، بإصدارها مجتمعة في إطار الإحتفال بالذكرى الخمسين لثورتنا التحريرية الوطنية، اعتراني تأثر كبير من حيث أنني مواطن جزائري ورئيس الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية لكن كذلك من حيث أنني مسلم محب للإنسانية، يعتقد الإعتقاد الراسخ أن الثقافات والحضارات على تنوعها العجيب، تنبجس من منبع انساني واحد. وتمثل جوانب مختلفة للحضارة الإنسانية الشاملة، وتستطيع بالتالي، مهما كانت الصعوبات، التحاور فيما بينها. إن كتاب ـ[المرآة]ـ هو بالفعل الوثيقة الوحيدة ذات الأهمية الموضوعة من قبل جزائري، التي وصلت إلينا والتي تشهد على الكارثة التي أوقعها الاحتلال الفرنسي على الجزائر العاصمة وما جاورها، بعد استسلام الداي حسين ورحيله إلى المنفى من قبل حتى أن يتخد التدخل الفرنسي شكل استراتيجية غزو استدماري ممنهج لبلادنا.

لقد سلم كتاب ـ[المرآة]ـ من التدمير والتخريب الشاملين اللذين طالا تراثنا قاطبة بما في ذلك، بل وخصوصا، تراثنا المكتوب، لأن حمدان خوجة نشره بباريس باللغة الفرنسية سنة 1833، إنه كتاب يمكن، بل يجب قراءته بصفته شهادة على الغزو الإستدماري وإدانه لما كان عليه منذ مهلته الأولى: أي عملية إبادة للحضارة والتمدن لا يمكن أن تنجح إلا بفناء ساكنة الجزائر وإبادتها. إلا أنه لا ينبغي قراءة كتاب ـ[المرآة]ـ بصفته بيانا مناهضا للاستعمار وكفى. فبالنسبة لهذا الكرغلي المنتمي الى الأقلية الحاكمة التركية، الذي سافر إلى أوروبا والذي كان يحسن الفرنسية والانجليزية، إذا كان الاحتلال الفرنسي أمرا سلبيا على الإطلاق، فإن الإطاحة بالداي حسين. بفعل الاجتياح العسكري الفرنسي، يمكن أن تكون لها آثار إيجابية من حيث أنها تفتح المجال أمام إمكانية تحديث المجتمع الجزائري وانبعاثه وفق نمط الدولة الوطنية. إن مسعى حمدان خوجة وفكره السياسي في مجملهما. إلى غاية ذهابه إلى المنفى باسطنبول سنة 1836 والتحاقه بالرفيق الأعلى سنة 1842، كان يرومان تحقيق هدف ذي أبعاد ثلاثة، إعادة رسم استقلال الجزائر على أساس إقامة دولة وطنية ومباشرة حوار مع فرنسا يضع حدا لمواصلة حرب الإبادة ومباشرة تحديث المجتمع الجزائري. إن حمدان خوجة، بعيدا عن بعض ما نشهده حاليا من تخوفات وتشنجات، لا يخشى التحديث هذا، خاصة عنى المستوى الفكري والسياسي، بل إنه ينشده، ويتطلع إليه ولايعتبر تحقيقه صعبا مستعصيا: (وفي أثناء رحلتي إلى أوربا، درست مبادئ الحرية الأوروبية التي تشكل أساس الحكم التمثيلي والجمهوري، ووجدت أن هذه المبادئ كانت تشبه المبادئ الأساسية لشريعتنا إذا استثنينا فارقا بسيطا في التطبيق، وعليه فكل من يدرك الشريعتين إدراكا صحيحا يستطيع الموافقة بينهما.

لم يمتد العمر بحمدان خوجة حتى يشهد تجسيد الهدف الثلاثي الأبعاد هذا للجزائر، فجهوده في سبيل ترقية الوحدة الوطنية بإصلاح ذات البين بين أحمد باي، باي قسنطينة، والأمير عبد القادر باءت بالفشل، شأنها في ذلك شأن الحوار مع السلطات الفرنسية. لقد تعين مرور 130 سنة من الإبادة ومن إعادة تشكيل عموم مجتمعنا على وقع توالي ضربات النظام الاستدماري كي تبثق أفكار حمدان خوجة النيرة أخيرا وتخرج من حجب ظلام (الليل الاستدماري). فقبلت الدولة الفرنسية، في مارس 1962، على أسس أخرى وبعد معاناة طويلة. قبلت على مضض الاعتراف بسيادة الدولة الوطنية الجزائرية واستقلالها. منصفة حمدان خوجة ضد الجنرال كلوزيل وصوت التحديث السلمي والإرادي ضد التحديث الحربي والإبادي. رجاؤنا هو أن يملأ، في 2005. صوت حمدان خوجة الأسماع في ضفتي البحر الأبيض المتوسط. عبد العزيز بوتفليقة

الكتاب الأول

مقدمة هل تتجدد مصائب القرن السادس عشر في القرن التاسع عشر؟ إن كل ما وقع في الجزائر، منذ ثلاث سنوات، يفرض علي واجبا مقدسا يتمثل في التعريف بالوضع الحقيقي لهذا البلد قبل الغزو وبعده، وذلك لألفت انتباه رجال الدولة الى هذا الجزء من العالم، ولأقدم لهم ما لدي من معلومات وأنورهم حول بعض النقاط التي لا شك أنهم يجهلونها. أفعل ذلك لعلهم يبدون عطفهم على الجزائريين عندما يرون أوضاعهم. وبسرد الشرور التي تعرض لها أبناء وطني، فانني أريد، كذلك، أن أرفع من معنويات بعض المساكين. ومن الصعب جدا أن أجد، في مسألة الجزائر، جانبا إيجابيا بالنسبة للأهالي. إنني لا زلت أبحث بدون جدوى عن مسليات لهؤلاء السكان. فمصالحهم مجهولة، وآمالهم مغيبة، ولا شفقة عليهم ولا رحمة ولا عدالة، وبالتالي، فإنني أتساءل لماذا تزعزع بلادي في جميع أسسها وتصاب في جميع مبادئها الحيوية. وإلى جانب ذلك أنظر إلى الأوضاع التي توجد عليها دول أخرى مجاورة لنا، فلا أرى أية واحدة

منها مجبورة على تحمل ظروف مشابهة للظروف المفروضة علينا: إنني أرى اليونان تساعد وتتكون على أساس متين بعد أن فصلت عن الامبراطورية العثمانية، وأرى شعب بلجيكا يفصل عن هولنده بسبب بعض الاختلاف في المبادىء للسياسية الدينية، وأرى، جميع الشعوب الحرة تهتم بالبولونيين وباسترجاع سيادتهم، كما أنني أرى الحكومة الإنكليزية تخلد مجدها بعتق الزنوج، ويضحي البرلمان البريطاني بنصف مليار للمساعدة على ذلك العتق، وعندما أدير البصر إلى بلاد الجزائر، فإنني أرى هؤلاء السكان المساكين يرزحون تحت نبر الاستبداد معرضين للإبادة ولجميع آفات الحرب وتلك المظالم كلها التي ترتكب باسم فرنسا الحرة. وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من الكتاب قد نشروا مؤلفات عن الجزائر فإن معظمههم لم يعالج هذه المسألة إلا من زاوية المنافع المادية في البلاد. هذا بقطع النظر عن الطرق التي اتبعها السادة الولاة للحصول على تلك المنافع. هذا هو الجانب الذي اهتممت به في كتابي، وأعتقد أن السلطات الفرنسية قد تصرفت بكيفية تتعارض كليا مع المبادىء التحررية ومع الإحسان الذي كان من حقنا أن ننتظره من حكومتها. ولقد شذ السيد بيشون عن قاعدة هؤلاء الكتاب. إن معرفتي لأنحاء هذا البلد ووضعي الاجتماعي في مدينة الجزائر قد مكنني من تقديم صورة صادقة، كما أنني اعتمدت في ذلك على معرفتي لأحوال الإنسانية بصفة عامة. إن مسألة الجزائر مسألة خطيرة لأنها تخص حياة أمة بأجمعها، تتكون من عشرة ملايين نسمة، وهي الآن، من سوء الحظ، في نقصان يتزايد من يوم لآخر بسبب الحرب، والبلاد يقودها الظلم والطغيان مند ثلاث سنوات.

ورغبة مني في القيام بالمهمة الخطيرة الملقاة على عاتق المؤرخ الحقيقي: تلك المهمة التي ما زال لم يضطلع بها أي واحد من المؤلفين الذين كتبوا عن إيالة الجزائر، وعزما مني على عدم إخفاء أي شيء، بعيدا عن الزعم بأنني أكتب أحسن من غيري، ولكنني مقتنع من أن لفرنسا رجالا لن بهملوا، لاكتشاف الحقيقة، أية وسيلة تقدم لهم ونمكنهم من التأمل في عواقب تجاوزات السياسة، ومتأكد من أن هؤلاء الرجال المعتبرين سيهتمون أساسا بمجد الأمة الفرنسية وذلك بالقضاء على جميع الأعمال المنافية لذلك المجد الذي يجب أن تهتم به فرنسا كل الاهتمام لكي تحظى بثناء الأجيال المقبلة. على هذا الأساس، فإنني أتوجه خاصة لهؤلاء الرجال الذين يضحون بسعادتهم لإسعاد الآخرين ولمضاعفة العلاقات الاجتماعية وتدعيمها. إن المدنية الحقة لا تكون بالكلام فقط، ولا يمكن أن تطبق إلا بواسطة أناس مجربين يميزون بين احترام الإنسان ومصالحهم. ومن جهة أخرى، فإنني أجنبي ولا أريد أن أعرض نفسي لانتقاد السوقة أو الفضوليين، خاصة وأن واجبي يتمثل في قضية مقدسة لها علاقة بسعادة الإنسانية. إنني لست مرتاح البال، بل على العكس فإن مصائب بلدي تقلقني باستمرار، ولقد كنت في كثير من الأحيان، وأنا أسجل تلك المصائب، أجبر على التوقف عن الكتابة لأترك المجال لدموعي تنساب. وعلى الرغم من أن كتابي رواية تاريخية، فإنه قد كتب ليقرأه أشخاص من ذوي الرحمة والإحساس. لقد قال أحد الفلاسفة: (إن كل جملة تصاغ بعبقرية تدل في نفس الوقت على الجوهر وعلى مساوىء الإحساس، إن الإنسان الذي يقلقه الحب

يكون ملكا لشعوره، ولا يهتم على الإطلاق بالكيفية التي يعبر بها عما يخالج نفسه: إن التعبير الأكثر بساطة هو قبل كل شيء ذلك الذي يفهمه). وإذن، فإن هناك موضوع آخر يشغل بال الناس في هذه الدنيا، وهو الخلاف الموجود بين الديانات والعادات والقوانين. فلا ينبغي أن يندهش القارىء لتنوع الأخلاق والتقاليد في مختلف المقاطعات التي تكون إيالة الجزائر كالصحراء والتل والجبال والمدن. ولو أننا نزور جزءا من سويسرا، أو إيطاليا، أو المجر، وألمانيا، فإننا سنجد في تلك البلدان، أيضا، تنوعا كبيرا حتى فيما يخص القوانين. وكل شعب بصفة خاصة ألا يعتقد أنه يملك أحسن التقاليد وأحسن القوانين؟ ومع ذلك فليس ثمة حتى في نظر السوقة ما هو أكثر سخرية من مثل تلك الادعاءات. وعلى من له تلك الأفكار أن يراجع نفسه ليرى أنه يهزأ بها عندما يسخر من الآخرين. ومن سوء الحظ، فإن مثل هذا الاختلاف في العادات والتقاليد هو الذي يكون دائما في أساس احتقار الأمم بعضها لبعض، وهو أمر ما كان يجب أن يحدث لأن الحضارة لا تتمثل في كيفية الجلوس على مقعد أو على أريكة، أو في اللباس بهذه الطريقة أو بتلك، ذلك أن بعض الناس أنيقون، يترددون على الصالونات ولكنهم يشكلون، في بعض الأحيان، خطرا على الأخلاق أو على المجتمع، أما البعض الآخر فهم أناس بما في الكلمة من معنى يحتاجون في بعض الأحيان إلى من يصلح أحوالهم. وبكل تأكيد، فليست هذه هي الحضارة التي نريد إدخالها إلى إفريقيا. إن الشرقيين يعتبرون الحضارة هي اتباع الأخلاق الشاملة والعدل إزاء الضعيف والقوي على حد سواء، والمساهمة

في إسعاد الإنسانية التي تشكل أسرة كبيرة واحدة. ولكن التغلب على الأهواء والنزوات، وللقيام بالواجبات، ينبغي أن نستعمل جزءا من الوقت للتعرف حق المعرفة على الأسباب التي تجلب للبعض توبيخا من الناس أجمعين وتغطي الآخرين بمدح أبناء وطنهم، وكذلك للتعرف على عظمة الأمم وانحطاطها قصد اتباع الخير وتجنب الشر. إن المجربين المتعودين على القضايا سيفهمون كما ينبغي هذا الأسلوب الفلسفي، فإلى هؤلاء الناس أهدي هذا الكتاب. حمدان بن عثمان خوجة

لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر

لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر يسكن إيالة الجزائر عشرة ملايين نسمة، وتتكون هذه الإيالة من مدن، وقرى، وموانىء وأرياف. غير أن الجزء الأكبر الذي هو قاعدتها ومصدر ثرواتها يوجد خارج المدن التي يبدو أنها تكونها. ويسكن هذا الجزء أناس يطلق عليهم اسم البدو.

الفصل الأول البدو وأصلهم

الفصل الأول البدو وأصلهم ينقسم البدو إلى طبقتين أو على الأصح، إلى نوعين متميزين من السكان فالذين يسكنون السهول هم العرب الحقيقيون، أصلهم من الشرق وينحدرون من قبائل عربية مختلفة. أما الذين يسكنون الجبال أو الأماكن الوعرة المنحدرة فهم البرابرة الحقيقيون أو (القبائل) الذين تختلف لغتهم عن لغة العرب. والفرق واضح بين اللغتين، فمثلا يقول البربر، للتعبير عن كلمة رجل ارغاز، ويسمون الحجر ادغاغ. وعندما احتل بن يومي أفريقيا لاحظ أن هؤلاء السكان كانوا جهلة متزمتين محبين للحرب شجعان ولكنهم عنيدون، يعيشون مرتاحي البال لا ينشغلون بالمستقبل إلا قليلا ويتخذون من جبالهم الوعرة حصونا تحميهم من كل هجوم ولاحظ في الأخير أنهم كانوا يعيشون بطريقة بسيطة جدا، ويرتدون ملابس غاية في البساطة ولا يعرفون أي نوع من أنواع الترف ولا أي إمتياز من الامتيازات الاجتماعية.

ومراعاة لعاداتهم، اكتفى هذا الفاتح بقبولهم الدخول في الاسلام أو على الأحرى بحملهم هذا الاسم، ولم ير من حقه، لصالحهم وصالحه، أن يفرض عليهم قوانين غير قانونهم. بل ترك الناس يعيشون، كما كانوا في السابق في تعصبهم وأخطائهم، ولم يفرض القانون الذي يحرم المرأة من الميراث، ووافق على عدم إقامة الحد على الذي يخالف الشرع أو التقاليد، مع العلم أن من عادتهم في مثل هذه الحالات، اتباع قانون الجانب القوي، وهلما السلوك الذي رأى الفاتحون المسلمون اتباعه في الفترات الأولى قد جعلهم يأملون في أن تصبح هذه الشعوب مثلهم بمرور الزمن وبالتعاشر المستمر ولذلك تركوا في كل قرية عالما مستنيرا اطلق عليه اسم (المرابط) يتحتم عليه تعليل كل ما يريد منهم أن يتبنوه في صالحهم، وفي سبيل الوصول إلى سعادة مشتركة. وعندما أراد العرب فتح اسبانيا (¬1)، استعملوا هؤلاء البرابرة كأداة تخدم مشاريعهم، وجعلوهم يؤمنون بأن الموت في سبيل الدين تضحية لها قيمة كبرى عند الله، كما خلقوا فيهم حقا تعصبيا ودينيا ضد جميع الذين لا يؤمنون بالإسلام، وفي نفس الوقت أظهروا لهم كل الفوائد التي تنتج عن الحرب والفتح، وعن نهب أملاك الأعداء. وما دامت هذه المبادىء لا تتنافى مع أخلاق المغلوبين، فانه كان من السهل على المسلمين أن يبقوا بينهم إلى يومنا هذا، وأن يحتفظوا بثمرة فتوحاتهم. أما مبادىء ¬

(¬1) وقع الفتح سنة 710 م، ولكن إمارة الأندلس لم تتكون إلا سنة 718 م. وقد ظلت تابعة للخلافة الأموية إلى أن كان عام 756 وجاء عبد الرحمن الأول. فأعلن استقلاله عن الوطن الأم.

الحرب أو السلم وإنحاز المعاهدات، فإنهم لم يطلعوا عليها، خاصة وأنه لا توجد في جوارهم شعوب على دين موسى أو عيسى، بل وأنهم لم يطلعوا حتى على المعنى الحقيقي لهذه الآيات القرآنية التي تقول: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} (¬2). كما انهم يجهلون حديث الرسول الذي يؤكد أن كل عداوة ينبغي أن تنتهي بعد السلم. وأن احترام أملاك الأعداء يصبح بعد ذلك واجبا كما يجب إعطاء هذه الأملاك نفس الامتيازات التي تحظى بها أملاك المؤمنين. وأخيرا، فإنهم لا يولون أي اعتبار لغير ذلك من المبادىء التي تهدف إلى المحافطة على الجنس البشري وتحسين مصيره، وصيانة ما يسعى، عموما في أوروبا، بحرية الشعوب أو الحقوق الاجتماعية. ومن المعلوم أننا بهذه المبادىء الأخلاقية التي هي أساس مؤسساتنا، قد صنعنا كثيرا من المعجزات وكسبنا العديد من الأنصار. وبفضل هذه الوحدة وباتباع هذه السياسة سيطر الفاتحون على جزء كبير من العالم كما يعلمنا بذلك جميع المؤرخين. وعلى الرغم من أن الخلفاء لم يطبقوا هذه المبادىء الطيبة، وانقلبوا إلى ملوك متجبرين على الشعوب، فإننا لا نكذب في صحة مؤسساتنا الدينية. ولقد رأينا أن هؤلاء الملوك، عندما يحيدون عن هذه المبادىء، كثيرا ما يخفقون في مشاريعهم قبل تحقيق أهدافهم الحكومية التي يصبون إليها. ومنذ ذلك الحين احتفظت هذه القبائل التي ظلت تعيش في جهل ¬

(¬2) الآية 98 من سورة النحل.

مطبق، احتفظت بأفكار غالطة متزمتة , غير أن إحدى خاصيات عاداتهم هي تلك الروح الوطنية التي تتحلى بها كل قبيلة. ذلك أنه إذا ما تعرضت واحدة لاعتداء قبيلة مجاورة بدون أي سبب، فإن القبائل الأخرى تتبنى قضيتها حتى ولو عرفت أنها ستهلك وتبيد في تلك المعركة. وعليه، فإن الحروب بين هؤلاء السكان كثيرة، وأن هذه المناسبات هي التي تعودهم على المجازر، وفيها يكتسبون الشجاعة، وتبرز أبطالهم. وفيما بينهم، ان حق القرابة مقدس، كما أنهم يولون الأجنبي الذي ينضم إليهم برابطة الزواج تأييدا وحماية لا رجعة فيهما. أما السلم، فإنه يتم دائما بتدخل المرابط. وعلى الرغم من عدم وجود قانون يسوون به خلافاتهم ويكبحون به جماحهم وعلى الرغم من أنهم لا يقبلون الخضوع لأي سلطان، فإن طاعتهم للمرابط، طاعة لا يمكن تفسيرها إذا أخذنا بعين الإعتبار الوصف السابق لطبائعهم. وأما الشيوخ، فإنه لا يكاد يكون لهم تأثير إذا قارناهم بالمرابط , وفي هذا الصدد ها هي نبذة عن جمعياتهم التي يبحثون فيها مصالحهم المشتركة. ان هذه الجمعية تتكون من جميع رجال القبيلة، شبانا كانوا أم شيوخا. ويبدأ الشيوخ بالكلام، فيقدمون مشاريعهم، ويعرضون فوائدها، وإذا لم تقبل هذه المشاريع بالإجماع، أو إذا وجد معارضون واحد، فإن ذلك المعارض يطلق صرخة من وسط الجمعية. وان هذه الصرخة التي يسمونها صرخة الإنذار، يعبرون عنها في لغتهم بكلمة (ويك)!. وبعد هذه الصرخة يقول المعارض بصوت مرتفع: (انظروا لهذا الرجل الذي يريد أن يدنس كرامتنا ويجعلنا من الأنذال!). وبانتهاء هذه العبارات يحدث الاضطراب وتتفرق الجمعية. وان المرابطين الذين يقطنون بين القبائل يعلمون الأخلاق ويفسرونها

بقدر المستطاع وبقدر إدراك هؤلاء السكان. انهم يعلمونهم الصلاة، ويهدونهم إلى المكارم الأخلاق، ومقابل ذلك يجنون الطاعة المطلقة المحفوفة بالاحترام، وتعتقد القبائل ان كل دعائهم مقبول عند الله الذي يؤمنون بقداسته وجلاله. وهكذا، فعلى سخط أو على بركة المرابط تتوقف سعادة القبائلي الخيالية. وكل من رغب في شيء، فإنه يقدم القرابين ويتوجه إلى المرابط لكي يأمل في تحقيق ما تمنى. أما الذي تلاحقه الشرور، وتعذبه الآلام، فإن إيمانه ناقص، وانه للمذنب الذي يعاقبه الإله. ان اسم المرابط مشتق من كلمة ربط العربية التي تعني الالتزام والتعهد، أي أن المرابط يعامد الله على ألا يتصرف إلا لما فيه خير الإنسانية. ولذلك. فحتى بعد موتهم، يبقى هؤلاء المرابطون محل توقير دائم. وتدفن أجسامهم في قبر يحاط بتابوت يمكن أن يلجأ إليه كل مجرم. وبالتالي، فإن المكان يصبح موقرا إلى درجة أن الابن لا يجرأ على اقتحامه لمطاردة قاتل أبيه. وهكذا فان المرابط، وهو ميت، قد يحظى باحترام يفوق الذي كان من الممكن أن يحظى به وهو حي. وهذه القبور كثيرة جدا في إيالة الجزائر، وقد احتل الجيش الفرنسي معظمها بعد الغزو. وترك هذا التدنيس أثرا سيئا في نفوس الطبقة الدنيا. وعلى الرغم من أن بعض أبناء هؤلاء المرابطين لم يتبعوا سلوك آبائهم، وأهملوا مبادئهم فإن الشعب ينظر إليهم باحترام ولا يدعوهم بأسمائهم وإنما يطلق عليهم اسم سيدي، متبوعا باسم الشهرة أفراد العائلة. إن وجود هؤلاء المرابطين في المجتمع الأفريقي نعمة، إذ بمجرد ما لهم من نفوذ على هذه الشعوب يسكتون أسلحة الخصوم، ويمنعون إراقة الدماء. وإن سلظانهم على نفوس القبائل الجاهلة المحدودة النظر لعجيب. ويبدو أن

الله نفسه يرشدهم ويقودهم، وأن تصديق هذه الشعوب لهم ليبلغ درجة الضلال والعمى. وفي يومنا هذا، فإن المرابط الذي ما زال يتمتع بأكبر ثقة، والذي يكاد يؤله من طرف القبائل يدعى: سيدي علي بن عيسى، ويسكن فرومه (¬3) وهو من مريدي المرابط الشهير المسمى سيدي محمد بن عبد الرحمن. ولق أحرز هذا الأخير في حياته على أكبر شهرة يمكن تصورها في الطهارة. وانتقلت هذه الشهرة حتى إلى مدينة الجزائر وأواسط القبائل الذين يسكنونها. وقد مات هذا الشخص العجيب في نهاية القرن الثامن عشر، ودفن في الحامه (¬4) وذات ليلة اختطف القبائل جثته وحملوها إلى جبال جرجرة ثم دفنوها في قرية فرومة على مقربة من فليسه (¬5) غير أن المكان الذي سبق أن دفن فيه ما زال محترما. وعلى القرب منه تعود الناس أن يتصدقوا على الفقراء، فيوزعون عليهم الخبز والدراهم، أملا في أن يستجاب دعاؤهم. وإن هذا النوع من العبادة غير معقول، خاصة وإن مبادىء الدين الاسلامي لا تسمح بتأليه الآدميين. ونحن نعتقد بأن مشيئة الرحمن واحدة في الأرض وفي السماء وإن الله الموجود في كل مكان لا يمكن حصره في مكان، وإن ما نتصدق به على أمثالنا دليل على إيماننا وقبل أن نستحق نعمة الاله يجب علينا أن نعمل بما أوصانا به. ونحن نؤمن أيضا بأن أعالنا من خير ومن شر ستجازى في يوم من الأيام. وهكذا إذن، فإن الاعتقاد الشعبي إزاء المرابطين، أساسه الجهل والمبادىء الغالطة والتعصب وليس من السهل إصلاحها، غير أن المتعلمين منا ¬

(¬3) قرية صغيرة تقع في ضواحي مدينة الأخضرية. وتوجد الأخضرية على بعد خمسة وسبعين كيلومترا شرقي مدينة الجزائر. (¬4) حي الحامة حاليا، ويوجد بين بلكور والعناصر في القسم الشرقي من مدينة الجزائر. (¬5) تقع شمالي شرقي فرومة على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من مدينة الأخضرية.

ورؤساء الحكومة التركية يدركونها حق الإدراك. والسياسة هي التي جعلت الآخرين يبقون على هذه المبادىء الغالطة أو يتركونها تستمر ويحترمون الأماكن التي تقدسها القبائل. وهذه المعالجة هي التي مكنتهم من الحصول على ما حطمه الجيش الفرنسي منذ أن وصل إلى أراضي الجزائر ذلك انه بدلا من أن يطبق نفس هذه المبادىء، أراد استبدالها بمادىء جديدة لتعارض تماما مع عادات وتقاليد السكان. ولكي نعود إلى المرابط ابن عيسى ونعرف ما له من نفوذ على نفوس الجزائريين يكفي أن نقول بأنه هو نفس الشخص الذي قدم على أثر الغزو الفرنسي وساطته لإبرام السلم بين الفرنسيين والقبائل ويمتد سلطان هذا الرجل إلى مملكة تونس وله في كل قبيلة ومدينة وقرية على أرض الإيالة ممثل في المساجد يتقبل الهدايا الموجهة إليه ويجمع عشر الغلال ثم توزع هذه المحصولات على الطبقة المعوزة وتستعمل في الإعتناء بالمحلات المخصصة للضيافة. وأينما وجد ممثل جامع توجد دار مفتوحة للضيافة يطعم فيها المسافرون ويبيتون بلا مقابل وكذلك الحيوانات التي يستعملونها والتي ترافقهم. وفي نهاية كل سنة يرسل إلى المرابط الرئيسي كل ما لم ينفق في هذه المؤسسة. ولقد اجتمعت شخصيا بهذا المرابط ووجدت فيه رجلا بسيطا، ليس له غرور، وإنما ذو بصيرة، تحدوه العواطف الإنسانية بلا تحيز، لا يملك ثروة طائلة، ذلك إنه، بعد أن يوزع الصدقات، لا يبقى له أكثر مما يقتات به. أمام بابه يوجد عدد كبير من الأجفان لإطعام ضيوفه، وكذلك أكياس من الشعير والتبن للحيوانات التي ترافقهم. وهو يستضيف كل شخص يقصد بيته. وقد أراد في ذلك الحين أن يكلفني ببيع جنان كان يملكه في مدينة الجزائر ولكنني جعلته يعدل عن هذه الفكرة حتى يتمكن بما له من نفوذ من أن يخدم المصالح الفرنسية، وربما من أن يدفع

بواسطة باي قسنطينة إلى إبرام صلح مشرف. وفي هذا الإطار كان الدوق دوروفيقو (¬6) يعمل على أن يضمه إليه ويجعل منه صديقا له لأنه كان يريد أن يعترف له ببعض الجميل. إن المرابط الذي يعرف أغراض دينه يعرف كيف يسخر تسخيرا مثمرا وذكيا جميع الوسائل الموجودة بين يديه. إنه لن يقول للقبائل: يجب أن تطيعوا القانون، وعليكم بالاستماع إلى الموعظة وباتباعها، وإنما يقول لهم: لعن الله من لا يفعل كذا! وهكذا يجعلهم يطيعون ويحصل منهم على كل ما يريد، وإذا اقتضى الأمر فإنه يستعمل عبارات مطلقة تبدو كأوامر العلي الجبار. غير أن هؤلاء المرابطين يتصرفون بلطافة وكياسة ولا يسمحون أبدا بأي تجديد ولا يقومون بأي شيء مما يمكن أن يتعارض مع كرامة أو عادات الشعب وبهذا السلوك يحتفظ هؤلاء المرابطون بنقوذ لا حدود له. ¬

(¬6) سياسي وجنرال فرنسي، اسمه الكامل: آن جان ماري روني هافري، ولد سنة 1774 وتوفي سنة 1833. خلف فوشي بوزارة الشرطة سنة 1810، وكان من أنصار نابليون الأوفياء. وبعد هزيمة واترلو ألقي عليه القبض في جزيرة مالطة، ثم فر من السجن إلى مدينة أزمير سنة 1816. وبعد ذلك بثلاث سنوات توجه إلى لندن، ومن هناك استطاع أن يحصل على عفو الحكومة الفرنسية واسترجاع رتبته العسكرية. وفي سنة 1831 عين قائدا أعلى الجيوش الفرنسية في الجزائر، حاول أن يتفاوض مع الباي أحمد بواسطة حمدان خوجة لكنه لم ينجح في محاولته. له مذكرات كتبها سنة 1828.

الفصل الثاني طبائع البربر وعاداتهم

الفصل الثاني طبائع البربر وعاداتهم يرتدي الرجال قماشا من الصوف. ولأبستهم شكل كيس مثقوب في الوسط لإخراج الرأس، وبه ثقبان آخران على الجنبين لإخراج اليدين، عرضه حوالي ذارع ويهبط إلى منتصف الساق. والقماش من الصوف الأسود، وهو من صنع النساء، وبما أن هذه الصوف لا تغسل كما ينبغي، فإنها تصدر رائحة لا تطاف عندما تبللها الأمطار، وعندئذ يصبح هذا اللباس ثقيلا جدا وهو بمثابة القميص والسروال وغيرهما في آن واحد. لكن الأغنياء منهم يضيفون لباسا آخر فوقه يسمونه البرنس، وهو دئما من نفس القماش، وشكله معروف في أوروبا وهذا النوع من الكساء يرفع ويبقى إلى أن يتساقط إربا إربا وعادة فإن برنسا واحدا يكفي لمدة حياة الإنسان لا يفارق الجسم، يتبلل وييبس على ظهر صاحبه إما بمفعول الهواء أو بفضل حرارة النار. وتتدثر النساء في حائك يشبك بالدبابيس ويصنع هو أيضا من قماش ينسجنه بأنفسهن يكف هذا الكساء بقطعة أخرى من القماش ذي اللون الأحمر أو الأزرق عرضها حوالي أربعة أصابع وتستورد هذه الصوف الملونة من مدينة الجزائر، والمثريات من النساء يغطين رؤوسهن بقطعة من الكتان أو منديل قطني. أما

الأطفال، فإنهم عراة تماما كما رأيتهم بنفسي، ولا تعطى لهم ألبسة إلا في الشتاء. أو عندما يصلون سن البلوغ. والذي يغطي رأسه بقلنسوة لا يجرأ أحد في مدينة الجزائر على أن يتقلنس بها، يعتبر أنيقا. ونرى بعض هؤلاء الأنيقين يحتفظون بهذه القلنسوة مدة طويلة دون أن يبدلوها حتى تصبح سوداء من العرق والغبار. أما عن الأحذية، فإن أغنياء القبائل يلبسون مثل الرومان نوعا من الكوثرن مربوط بالجلد، ولقد شاهدت هؤلاء البربر في مناطقهم وفي مدينة الجزائر، شاهدتهم صيفا وشتاء يخلعون ثيابهم ويجعلون منها وسادة عند النوم. ومن كان له برنس فإنه يغطي به نفسه ويتمدد على حصيرة ان وجدت. وفي الصيف يرقد أغلبهم متفرقين فوق الرمال، وفي الشتاء يشعلون نارا كبيرة بما يحتطبونه من الغابات المتكاثرن ويرقدون جاعلين أرجلهم أمام هذه النار، فينامون هكذا، نوما هادئا. أما غداؤهم فخبز الشعير وزيت الزيتون والتبن المجفف والبلوط. وإلى جانب ذلك فإن الأثرياء أي الذين يملكون عنزتين أو ثلاثا، يشربون الحليب. وهناك، أيضا من يملك عددا من المعز والشياه المخصصة للبيع في المدن. والقبائل، عادة، لا يأكلون الأغنام ولا الدواجن ولا يذبحونها إلا عندما يؤمهم ضيف، لأن قانون الضيافة مقدس عنهم. ويعتبر ذلك اليوم في القبيلة، يوم عيد، يتطاير فيه الأولاد فرحا وتذبح الشاة ثم يطهى اللحم مع الكسكسي وعندما يحضر الطعام يقطع اللحم أطرافا يزن الواحد حوالي رطل (¬1) ويقدمه صاحب الدار إلى الضيوف على ¬

(¬1) كان يوجد في الجزائر، قبل الاحتلال، أربعة أنواع من الرطل: الرطل الكبير والرطل الخضاري والرطل العطاري والرطل الفضي، ونعتقد أن الذي يعنينا هنا هو الرطل الخضاري ويساوي بالغرامات: 614،3، وعليه فهو أكثر من رطلنا الحالي. أما الرطل الكبير فيزن بالغرامات 921،5 ولذلك أبعدناه.

النحو التالي: يعطى لكل ضيف طرف لحم وإذا بقي شيء يعطى للجيران الذين يرقبون الأحداث من بعيد نصيبهم من الطعام، وفي جميع الحالات، فان رب البيت يغالي في الأدب إلى درجة أنه يطعم هؤلاء الفضوليين قبل أبنائه. وفي التحلية يأكل القبائل التين المجفف حتى ولو كانت لديهم فواكه أخرى. وبما أن الأشجار المثمرة كثيرة، فإنهم يحتفظون بثمارها ويبيعونها لسكان المدن في الأسواق أما هم فإنهم لا يكادون يعرفون طعم هذه الفواكه.

الفصل الثالث طبائع وعادات البربر (تابع)

الفصل الثالث طبائع وعادات البربر (تابع) تبنى المنازل في القرى الصغيرة أو في الأكفار بالأخشاب والقصب بربط بعضه في بعض ولكل منزل أربعة أوجه، وتفرش أرضه بنفس مادة البناء ثم يحصن الكل بخليط من الطين وخثي البقر لمنع المياه من التسرب وعلى السطح يزرع نوع من العشب يسمى الديس. ولا يزيد إرتفاع هذا البناء عن قامة رجل. ثم إن الأهالي يجمعون الحشائش وأوراق الأشجار فيدخرونها لتغذية الحيوانات عندما يسقط الثلح، وتأوي هذه المساكن في نفس الوقت النعجة، والمعزة، والبغل والدواجن، والكلاب والرجال والنساء والأطفال، كلهم يعيشون منكسين في مكان واحد. وعندما تشعل النار للتسخين، فإن الأوخام التي تنشرما هذه الكائنات بالإضافة إلى الدخان الذي لا مخرج له تشكل ضبابا كثيفا وغير صحي وبما أنني لم أتعود هذا النمط من الحياة فإنه كان من المستحيل علي أثناء رحلتي إلى قسنطينة أن أتحمل العيش داخل هذه المساكن التي كنت أفضل النوم في الهواء الطلق على المبيت وسط سفينة نوح هذه. ولقد اضطر صاحب المسكن الذي نزلت عنده إلى الخروج معي يحميني ويحمي حيواناتي ضد غارات اللصوص واعتداء الحيوانات المتوحشة لأن الأسود

تأتي في بعض الأحيان تدور حول المساكن لاختطاف بعض المواشي بيد أن السكان يبعدون هذه الحيوانات الكاسرة بنفس البرودة التي نطرد بها الكلاب وذلك نظرا لتعودهم زيارة مثل هذه الحيوانات المهولة واذا استثنينا ما يمكن استعماله في الفلاحة وفي تربية الماشية فإن السكان لا يملكون أي نوع من أنواع الأثاث وانك لتجد عندهم مطحنة صغيرة لطحنن الحب وكذلك كمية من دقيق الشعير ومن الحبوب يحتفط بها لما يطرأ من الأحداث، وترى أيضا عندهم تينا مجففا في كيس، وبعض الأواني الخشبية وقربة فيها ماء الشراب معلقة على الدوام. إن الحروب متعددة بينهم والمنتصر يحرق دار المهزوم غير أن تلك الدار يعاد بناؤها في أقرب ما يكون لوفرة الأخشاب التي تغطي هذه البلاد. وتصعد الخيل والبغال والحمير الأماكن الوعرة بكل سهولة ويستعمل السكان الأسلحة النارية في أغلب الأحيان ولذلك يولونها كل العناية، ويحفظونها في القماش وهذه الأسلحة هي التي يقصدها اللصوص ويفضلونها على أي شيء آخر يأخدونه من الأهالي الذين كثيرا ما يجردون على الرغم من حذرهم الشديد. ومساجد هذه القرى مبنية على منوال المساكن بفارق واحد هو أنها تبيض بالجير والذين يحسنون الشعائر الدينية من بين الأهالي يعتبرون كما نعتبر العلماء في مدننا. أما القرى الكبيرة، الواقعة في الجبال الوعرة، فإنها منيعة لا يصلها العدو إلا بشق النفس. وتستخرج من هذه الجبال الحجارة الصالحة لبناء المساكن. ولقد زرت بنفسي جبال فليسه، وزواوه وبني عباس ووادي بجاية وبني جنات

حيث توجد قرى كبيرة تشبه المدن عندنا. وكل العمارات فيها مبنية بناء متينا بالحجارة وبالكلس، والسطوح مغطاة بالقرميد، وفي المساجد مآذن كمآذن مدينة الجزائر. وفي هذه القرى مصانع للأسلحة النارية تصنع فيها على نحو ما في الجزائر أساتين البنادق المرصعة بالفضة، كما يصنع فيها البلاتين. ويعرف السكان طريقة استخراج خامات الحديد ومناجم الرصاص وملح البارود موجودة لديهم بكثرة فهم أناس كثيرو الأشغال بالصناعة. وتشمل صناعتهم على الخصوص صنع البرانس والأغطية التي يمكن استعمالها في المدن لأنها من الصوف الجيد , ويوجد في هذه القرى كذلك مشاغل تصنع فيها النقود المزيفة. فالأهالي ذوو مهارة ومقدرة فائقة في نقش المعادن وتقليد جميع أنواع النقود مثل نقود الجزائر (¬1) وقروش اسبانيا (¬2) ولو انهم يتصلون بالجيش الفرنسي فإنهم لن يترددوا في تقليد النقود الفرنسية إلى درجة انه يصعب على الصراف التمييز بين النوعين. ففي هذه الجبال قدم لي المسفوف، وفيها مدينة تدعى القلعة (¬3) لا يتم الوصول إليها إلا بشق الأنفس وبما أنني لم أتمكن من الذهاب إليها راكبا فإنني قطعت الطريق راجلا لأراها وإنه لطريق وعر منحدر جدا إلى درجة أننا عندما يتسلقه ثلاثة أشخاص بالتتالي، نرى رأس الثالث عند قدمي الأول. وفي مثل هذه المدن التي حصنتها الطبيعة يودع سكان السهول لرواتهم وحبوبهم ولا يبقون لديهم الا ما كان ضروريا للحياة اليومية، ولقد أكدوا لي انهم يعرفون طريقة للاحتفاظ بالحبوب مدة تزيد عن العشرين سنة. ¬

(¬1) من جملة نقود الجزائر في ذلك الحين: السلطاني، والريال بووجه والباناك شبك والريال مجبور، والموزونة والصائم، الخ ... (¬2) كان القرش الاسباني أو البياستر يساوي نصف سلطاني أو 5،5 من فرنكات فرنسا. (¬3) هي قلعة بني عباس الواقعة في سلسلة جبال البيبان على مقربة من مزيطة.

أما لغتهم وطبائعهم وطريقة معيشتهم فتكاد تشبه لغة وطبائع وطريقة معاش سكان الأكوار السابقة الذكر. ولو أنني لم أكن في مثل ما كنت فيه من الحيرة والعذاب من جراء ما آل اليه بلدي المسكين، ولو أنني لم أكن في مثل هذه السن المتقدمة، ولولا الاتعاب التي أصابتني لكان باستطاعتي أن أجمع وثائق غاية في العجب حول هذا الجزء من افريقيا، وثائق قد تساعد على كتابة تاريخ هذه المناطق. ومن بعيد كنت أشاهد مدنا تكاد تشبه ضواحي بجاية والمرابطين ابن عيسى وأكرومه. انني لا أقدم هنا تاريخا مفصلا وانما عرضا ضروريا لتكوين فكرة عن هذه المناطق وعن سكانها، هؤلاء السكان الذين هم على العموم أناس رحل قريبون من التوحش، ولكننا نعتقد ان من الصعب على فرنسا أو على غيرها من الدول أن نخضعهم. وإلى جانب ذلك فإن هذا الاحتلال بالنسبة لفرنسا لن يكون في مستوى عظمتها. انها تملك ثروات متعددة من حيث الرجال والأموال فماذا ستستفيد من محاربة هؤلاء السكان وإنفاق كنوزها واراقة دماء جنودها وتعريضهم للموت الناتج عن المناخ؟ وما هو الهدف من قيامها بمثل هذه الحملة أيكون ذلك لمجرد الرغبة في إبادة الناس أم لأجل نيتها الحمقاء في اكتساب أراض لا تنبت شيئا.

الفصل الرابع سكان السهول: طبائعهم وعاداتهم

الفصل الرابع سكان السهول: طبائعهم وعاداتهم ينقسم سكان الاماكن المنخفضة أو السهول إلى قسمين: أهل الصحراء الرملية وأهل التل ساكني الجبال الصغيرة القليلة الإرتفاع. والجميع من أصل عربي ويتكلمون اللغة العربية كما ذكرنا ذلك في الفصل الأول. مهنتهم كلها فلاحة، ومسكنهم تحت الخيام المصنوعة من الوبر، ليس لهم مكان مستقر، ينزلون حيث يجدون المرعى لماشيتهم ونظرا للأهمية التي يولونها للزراعة ولما يريدونه من حماية لغللهم وضمان لأملاكهم، فإنهم يدفعون طواعية ضريبة لرئيس الإيالة. ولا يوجد بين هؤلاء الأهالي الرحل مرابطون غير أن أصول دينهم هي نفس أصول دين القبائل، وكما هو الشأن بالنسبة للآخرين فإن لديهم تعصبا ليس من التعقل العمل على استئصاله. يتدثر الرجال بحائك شائع في أوروبا تربط نهايته إلى الرأس بجبل من وبر يقارب شكله شكل العمامة: ويلبسون تحته نوعا من القمصان يسمونه القندورة كنا تكلمنا عنها في الفصل الخاص بالقبائل، إلا ان هناك فارق في نوع القماش فه قطني بدلا من أن يكون صوفيا وتستعمل الأغلبية منهم أحذية متينة

تصنع في القرى ويحمل الأغنياء منديلا من القطن أو من الحرير بحسب الطاقة، يربطونه في الحائك لكي لا يضيع. وتلتف النساء أيضا في نوع من الحائك يصنع من قماش القطن صيفا ومن الصوف شتاء ويتمنطقن بأحزمة ملونة مصنوعة من الصوف أو من الوبر الجيد خبزهم من القمح والشعير أو من الشعير وحده ولا يكون أبدا من القمح الصافي وذلك راجع إما للمناخ وإما لقناعتهم، وعلى الرغم من وفرة القمح لديهم، فإنهم يستهلكون الشعير بكثرة. والزيت نادر عندهم ولذلك تحضر المأكولات بالزبدة التي تملح للاحتفاظ بها طويلا. في الصباح لا يخرج أحدهم من بيته قبل ان يفطر بخبز الشعير والزبدة. ويستخدم الأغنياء أو الملاكون في هذه المناطق، العمال والأجراء (لا يمكن مقارنة ثروات هذا البلد بثروات أوروبا). وقد جرت العادة أنهم عندما يشغلون أو يسخرون واحدا من هؤلاء، يدفعون عنه ديونه، ان كانت عليه ديون، أو يقدمون له مسبقات تساعده على سد حاجاته، وهم بذلك كأنما يبيتون نية في أن يشدوه اليهم، ويسكن هذا الرجل عند المالك صحبة زوجته وأطفاله على النحو الذي سنذكره مفصلا في ما يلي: يعطي المالك، صاحب المزرعة أو المؤسسة، لهذا العامل بقرة أو بقرتين حسب إمكانياته أو حسب الاتفاقيات المبرمة بينهما. ويتعهد الأخير بتسليم الأول أرطالا معينة من الزبدة (الرطل في هذا البلد أكبر من الرطل الأوروبي، إنه يساوي 28 أوقية) (¬1) وهكذا، فان هذا الرجل ¬

(¬1) المقصود هنا هـ الرطل الكبير الذي يساوي بالغرامات 921،5.

يجمع الزبدة ويلمها إلى صاحبه في نهاية كل فصل. ومن الفلاحين من يستعمل، أحيانا، الزبدة التي يجمعونها ثم لا يتمكنون من تسليم الكمية الموعودة أو المتفق عليها: وعليه يضطرون إلى تجديد الإلتزامات أو إلى الإستدانة، وهناك من يوفي بالعهد ويستفيد في بعض الأحيان. يعيش هؤلاء المالكون عيشة معتدلة ومنتظمة، لا يأكلون اللحم إلا في بعض أيام الأسبوع أو في أيام السوق، وفي هذه الأسواق تجتمع القبائل المختلفة لتبيع سلعها ومواشيها. للوصول إليها يمشي المرء ساعتين أو ثلاث ساعات: وان من عادات البلاد ان تتنقل الأسر من بعيد إما لتبيع وإما لتشتري بضاعة أو سلعا مختلفة وتنقل الصوف والزبدة والعسل على البغال، وكذلك تحمل الحيوانات المخصصة للجزائريين. وعلى الرغم من أن صاحب المزرعة يملك الكباش والخرفان والعجول، فانه لا يذبح منها إلا عندما يؤمه ضيف جديد. وهؤلاء السكان هم، ربما، أكرم من القبائل، ومأكولاتهم المبجلة هي الكسكسي والحليب. الأراضي شديدة الخصب بحيث ان ارتفاع سنابل القمح والشعير يزيد في بعض الأحيان عن قامة رجل. وفي أثناء الحصاد تهمل السنابل القصيرة، ويترك في الحقول كثير من التبن والحبوب ترعاها الماشية فيما بعد، ولذلك فإن الحيوانات تكون دائما سمينة والحليب جيدا وكثيرا. وفيما يتعلق بوصف خيامهم، لقد سبق ان قلنا أنها من الوبر، وهو قماش مضلع بالأحمر أو بالألوان الأخرى. وتأخذ هذه الخيام شكلها المكور أو المثبت بواسطة أوتاد من الخشب وتقاس ثروة المالك باتساع هذه

الخيام وبعدد الأوتاد التي تشدها (أنطر رسم مختلف أشكال هذه الخيام آخر الكتاب) (¬2). تحاط الخيمة بحجارة توضع عليها الأواني والذخائر اليومية , ويخصص جزء منها للمطبخ، وفيه توجد الطناجر والقدور وهي من الطين ولكن الصحون والملاعق خشبية وكذلك الأوعية التي تحفظ السمن والعسل الذي يودع في الأجلاف. وفي المطبخ أيضا تربى الدواجن. ويستعمل الجزء الآخر من الخيمة لاستقبال الضيوف وللاجتماعات الودية. ومن داخل الخيمة كنت أسمع حركة وخوار العجول والبقر وكذلك غثاء الخرفان، والنساء هن اللاتي يحلبن الماشية ويعتنين بصغارها، كما أنهن راعيات، بينما تقوم الكلاب بحراسة القطعان، وعندما يقترب الأسد تحس الكلاب بذلك فتنبح ويكون نباحها هذا بمثابة تنبيه وإنذار، فيستيقظ الأهالي ويطرد الأسد بواسطة التهديد فقط، ومن خاف منه وقع ضحية. أما الخيل والبغال فانها تربط أمام الخيمة مدة ثلاثة فصول، وفي الشتاء، عندما يكثر البرد والجليد توضع على ظهورها أغطية من الصوف. هؤلاء السكان يحبون الخيل حبا جنونيا. ولا يفكرون إلا في مضاعفة أعدادما، وهم يفرفون بين أنواعها ويحفظونها بعناية. وتستعمل السلالات الوضيعة للحصول على البغال، وهناك سلالات تخصص للحرث، ولكن أحسن الأنواع، أي الجياد، فإنها للسباق وللحرب ولا تباع إلا نادرا، وفي هذه المناطق يسمى تجمع عدد من الخيام (دوارا). ¬

(¬2) لم يرد هذا الرسم في الترجمة الفرنسية، ولعل هذه العبارة دليل على أن الأصل العربي قد ضاع.

وهكذا، كما رأينا، فإن المالكين أو أصحاب المزارع يستخدمون العمال والرعاة الخ ... وليس لهؤلاء أرض، ولا أموال ولا مواشي، وإنما تعطى لهم التسبيقات حسب حاجاتهم. ويسكنون بأزواجهم وأولادهم عند الملاك. ويقوم كل واحد بما يقدر عليه من العمل وكثيرا ما يتزوج بعضهم بأكثر من امرأة ليستعين بهن في أشغاله، ولأن من الصعب على امرأة أن تحصل على عيشها ان لم يكن الى جانبها زوج. والأسرة بأكملها تعاون صاحب الضيعة على زرع الأراضي وانجاز جميع الأشغال اليدوية. يعطي المالك أو صاحب الضيعة للعامل خمس الغلة مقابل أتعابه والمجهودات المادية التي يقوم بها أفراد أسرته. وإذا لم يكفه ذلك، فانه يستقرض الحبوب من قمح وشعير. وقبل تسليم الخمس لهؤلاء العمال، وذلك عادة أثناء جمع المحاصيل، فان فائدة الدوار يخصم كل ما عليهم من ديون وتسبيقات، ولا يعطى لهم إلا ما تبقى. وعلى أثر التقسيم يذهب العامل إلى السوق لبيع محصولاته. وبما أن الغلل تجمع في نفس الوقت تقريبا، فإن الحبوب تكون رخيصة في فترة معينة من العام، بينما تكون الأسعار ثابتة عندما يقوم الأغنياء بتمويل الأسواق. ويرى هؤلاء السكان الرحل أن من الضرورة الملحة أن يكتسب المرء حصانا وبندقية وسيفا. والذي لا يملك هذه الأشياء يكون محتقرا ومنبوذا، لأنه، كما يقولون، لا يقدم أي ضمان سواء للقيام بواجباته أو الدفاع عن المجموعة. يوجد قائد بالنسبة لعدد من الدواوير، ويعين من طرف الباي أو من طرف آغا الناحية التي ينتمي اليها، وتنحصر اختصاصاته في جمع الضرائب والسهر على تنفيذ القوانين وتبليغ تدابير حكومته.

ومن بين مالكي هذه الدواوير أو رؤساء العائلات، هناك من يبدو ثريا. ولقد دعيت، شخصيا لتناول الطعام عند أحد هؤلاء الملاكين فقدم لي (ابريقا) من الفضة لأغسل يدي قبل الأكل، على الطريقة الشرقية، وأحضر الوجبة في صحون من الخزف الصيني. وكما ذكرنا سابقا، فإن النساء اللاتي يكلفن بالحلب، يذهبن كذلك لجلب الماء وقطع الحطب لإشعال النار. وفي الأماكن التي يوجد فيها الحطب بقلة، كما هو الشأن في نواحي قسنطينة، فإن الأهالي يستعملون محروقات من نوع آخر، مكونة من خليط العشب وخثي البقر المجفف. والنساء هن اللاتي ينسجن الخيام، والحياك والبرانس، وهن اللاتي يمخضن، ويتبعن طريق الحصادين لجمع السنابل كما أنهن يتولين طحن الحب، وعجن الدقيق، والقيام بكل ما هو منزلي على العموم، ولذلك نرى هؤلاء النساء اللاتي لا يتوقفن عن الإشتغال، نراهن قذرات لا يعتنين بهندامهن، الأمر الذي يجعلهن عرضة للحمى ولغيرها من الأمراض الناتجة عن كثرة ما يلاقين من أتعاب. وعلاجهن عبارة عن نباتات معروفة بنجاعتها لأن السكان هنا لا يعرفون مبادىء التطيب. وبالنسبة اليهم، فالطبيعة وحدها هي التي تصنع المعجزات، ومن العادة أنهم، في مثل هذه الحالات، يلجؤون إلى الحمية (¬3). أما فيما يخص حيواناتهم فإنهم يعرفون علم البيطرة كما هو معروف في أوروبا. وتوجد لديهم طريقة للاحتفاط بالحبوب سنوات متعددة دون أن يلحقها ¬

(¬3) وذلك عملا بقول الرسول عليه السلام: المعدة بيت الدائ والحمية رأس الشفاء (أو كما قال).

ضرر، وذلك بأن يضعوها في مطامير بعيدة عن الهواء والرطوبة. وانك لتجد عندهم، بدون مغالات، قمحا مخزونا منذ أكثر صمن خمس عشرة سنة، واني لمتأكد من هذه الحقيقة المعروفة في افريقيا معرفة جيدة. ولكننا نلاحظ عند الطحن أن دقيق هذه الحبوب التي تخزن طويلا لا يحتفظ بنفس البياض الذي يتسم به القمح الجديد، كما يكون له طعم لا يطيقه جميع الناس، ويحبه هؤلاء السكان حبا جما، ويقدمونه للضيوف كشيء نادر مثلما تقدم، في أوروبا، الخمر المعتقة أثناء وجبات الغذاء. ويدعى هذا النوع من القمح (المطمورة)، وتختار لخزنه، أماكن مجهولة تهيأ بدقة حتى أن الأعداء يمشون فوقها عندما يغزون المنطقة ولا يكشفوننها إلا إذا دلهم على ذلك أحد الخونة. ويوجد بين هؤلاء السكان فرسان ممتازون يتسمرون بكثير من الشجاعة والمهارة، عندما يركب الواحد منهم لا يتردد في محاربة عشرين أو ثلاثين شخصا، وله القدرة على رد هجوماتهم، وهم معروفون ببسالتهم وبعزة النفس، وجعل أبناؤهم على هذه الأخلاق، فلا يرضون بفعل أدنى دنيئة، ولا أعتقد أن هناك من يستطيع إنكار هذه الحقيقة. ومن الفرسان من يمد يده إلى الأرض، أثناء الركض، فيلتقط حجرا أو شيئا آخر دون أن يغادر صهوة جواده. أما سكان الصحراء البعيدة، فإنني لم أزرهم شخصيا، وما أقوله عنهم إنما هو رواية عن أشخاص موثوق بهم. وتنحصر ملكيات هؤلاء السكان في الجمال والبقر والخيل، وليس لاعلاهم درجة قطعان من الغنم ولا من المعز، لأن هذه الحيوانات تعرقل

فرارهم عندما تهاجمهم قبيلة من القبائل العدوة، وفي كثير من الأحيان يضطرون إلى تركها. وهم يحبون خيلهم حبا شديدا، ويجعلونها في مكانة خاصة إلى درجة أنهم يقدمون لها حليب النوق. عدد هؤلاء السكان كبير، وأصلهم عربي كما تقدم، والقيادة فيهم يتورثها الابن من الأب. ويزعمون أن هؤلاء القادة ينحدرون عن النبي داوود. ويتصرف كل قائد في حوالي عشرة آلاف خيمة لا تبقى في مكان واحد أكثر من شهر. وأهم ما يتغدى به هؤلاء الأهالي التمر وحليب النوق، ويقدمون منتوجاتهم للسكان المزارعين مقابل الشعير والقمح وكذلك القماش الذي يصنعون منه لباسهم والمناديل الحريرية التي تستعملها نساؤهم. ويحملون على ظهور الجمال الصوف والسمن الخ ... ويعتبر صوفهم من أجود الأنواع وهو يشبه المرينوس الى حد كبير. جمالهم شبيهة بالمتوحشة لا تروض إلا بصعوبة، ولا تستعمل في الأشغال كما يفعل ذلك سكان التل. ويوجد لدى هؤلاء السكان نوع من أجود أنواع الخيل، وهم بالطبع، أكثر نشاطا، وقوة من السكان المزارعين الذين ذكرناهم أعلاه، ونستطيع القول بأن الرجل منهم يساوي عشرة من الآخرين. وتعيين مشايخ الصحراء من اختصاصات باي قسنطينة، وعندما يقلدهم زمام الحكم يهدي إليهم معطفا مدبجا بالخيوط الذهبية. ويضع تحت تصرف الشيخ الواحد عشرين خيمة من الجنود الأتراك وأعلاما وجوقة موسيقى عسكرية، ويكون هذا الشيخ كالملك بالنسبة لسكان الصحراء، الذين تبذل جميع الوسائل الممكنة لجلبهم إلى قسنطينة، فيدعون للتنقل إليها أيام السوق

يبدلون فيها منتوجاتهم خدمة لمصالح هذه العاصمة، ولذلك نجد مدينة قسنطينة التي ما كانت تبلغ هذه المكانة لولا هذه المنافع، نجدها مزدهرة تتمتع بكل ما تدره التجارة المركزة فيها، إلا أن هناك بعض المشايخ، الذين لا تسمح لهم كبرياؤهم بالخضوع لسلطة الباي، يفضلون الذهاب لأسواق أخرى في الجهة الغربية مثل التيطري وغيرها من المدن. وبفضل تنقلاتهم اليومية، يفيدون مقاطعة باي التيطري دون أن يخضعرا لأي واجب من الواجبات، ولأجل هذه المنافع يهتم البايات كثير الاهتمام بالتحالف، عن طريق المصاهرة، مع رؤساء هؤلاء السكان الرحل الأباة. إن الحاج أحمد (¬4)، ياي قسنطينة الحالي، ابن أخت أحد كبار رؤساء هؤلاء العرب، ويدعى الذوادي بن قانة. وقد كان الباي ابراهيم (¬5) الذي سلم عنابة للفرنسيين، بايا في قسنطينة أيام الأتراك وفي ذلك العهد صاهر أحد أفراد عائلة الشيخ فرحات (¬6)، وهو من قواد الصحراء. ¬

(¬4) هو الحاج أحمد بن محمد الشريف وحفيد الباي أحمد القلي. أما أمه فهي الحاجة وفية من أسرة ابن قانه الصحراوية. ولمزيد من المعلومات حول هذه الشخصية الجزائرية الفذة راجع مذكرات الباي أحمد التي ترجمناها عن الفرنسية. (¬5) عزله حسين داي سنة 1821 نتيجة تصرفاته اللامسؤولة والجدير بالذكر أن هذا الباي هو الذي كاد للحاج أحمد، خليفته آنذاك، وأقنع الداي بضرورة إبعاده عن قسنطينة فنفاه إلى المدية فالبليدة. (¬6) هو فرحات بن سعيد من أسرة بو عكاز. عينه إبرهيم باي شيخا للعرب بعد أن أجبر ابن قانه على التخلي، وهو شخصية فريدة يبحث عن المسؤولية فقط. ولكنه كان شجاعا وطموحا. يقول عنه الباي أحمد في مذكراته: إنه رجل بارود، لا يهاب المنية. حاربني مدة سبع سنوات، فكان يساوي وحده مائة فارس.

وعندما غزا الفرنسيون الجزائر، استلى مصطفى بومزراق (¬7)، باي التيطري، على المدية الواقعة غربي مدينة الجزائر، وأعلن نفسه باشا، وارتأى إبراهيم باي، الذي كنا نتكلم عنه والذي تحالف مع مصطفى المذكور، أن ينصب نفسه، بمساعدة صهره الشيخ فرحات، بايا على قسنطينة مكان الحاج أحمد، وأن يستولي على المدينة وعلى ثروات هذا الأمير (كان يجهل أن هذه ثروات قسنطينة وأنها نقلت إلى الصحراء). وقد كان يأمل أنه يجد في كنوز الحاج أحمد ما يكفيه للقيام بمحاربة الفرنسيين، واعتقد الشيخ فرحات، بهذه المناسبة، أن من حقه أن يبذل كل ما في وسعه، ظنا منه أن مسألة المدية تكون لها نتائج مرضية. وفي الوقت الذي فشلت فيه مخططات باي التيطري، كانت المعركة قائمة بين الحاج أحمد والشيخ فرحات الذي منعته عزة النفس من التراجع على الرغم من أن جيشه كان في وضع سيء، وعندما انتصر عليه الحاج أحمد استولى على ثرواته وأتباعه وعلى كل ما ينتسب إليه، ولكن الحاج أحمد المنتصر كان رحيما وكريما، فأعاد النساء والأطفال إلى خيماتهم وأرجع للشيخ جميع ثرواته كما هي العادة عند البواسل، ثم أحضر لهم الخيل وما عداها من الحيوانات الضرورية لنقل أمتعتهم، وعندما يحل السلم تنطفىء الضغائن ويسود الإحسان، وفي جميع الحالات تجب حماية النساء واحترامهن، ولا تكون ¬

(¬7) المزراق هو الرمح. وقد حكم بومزراق بايلك التيطري من سنة 1819 إلى سنة 1830، كان شجاعا ونشيطا في جميع أعماله. شارك في معركة سطاولي، غير أن القبائل ثارت عليه بعد سقوط مدينة الجزائر ونهبت أملاكه، فاضطر إلى طلب الأمان من الجنرال كلوزيل ثم غادر الجزائر وتوجه إلى الإسكندرية.

الحرب إلا بين الرجال. وبعد أن أعادهن لرئيسهن ولأبائهن، وجه الحاج أحمد لفرحات رسالة يؤمنه فيها من كل خوف، ويقدم له الأمان، ويدعوه إلى زيارته. بيد أن هذا القائد، الذي أخزته الهزيمة، رفض التنقل شخصيا ولكنه ظل، من ذلك الحين، يراسل باي قسنطينة، فشرح له الأسباب التي أدت إلى الحرب، وبعث له الرسائل التي تكون علاقاته مع الدوق ((دوروفيغو))، وأحاطه علما بجميع الاتصالات التي يقوم بها يهود الجزائر، كما أحاطه علما بالجواب الذي أخص به الدوق والذي يقول فيه أنه لا يستطيع قبول عروضه، وأن شرفه ومركزه الاجتماعي بين الرؤساء الآخرين، يفرضان عليه عدم مساعدة أي كان ضد وطنه، وبالتالي فإنه ليس من طبعه أن يخون مواطنيه وبلاده. وقد أطلعني الحاج أحمد على أسرار كل هذه المراسلات، وبهذا الصدد قال لي: كيف أن الفرنسيين الذين اشتهروا بالفكر الثاقب وبحدة الذكاء يظهرون العكس في مثل هذه الظروف؟ كيف يثقون ثقة عمياء في يهود مناورين، وفي ذلك المدعو ابن قارة علي الذي عين خليفة في المنطقة الشرقية والذي لم يتمكن من شغل هذا المنصب أكثر من ثلاثة أيام؟ ان هذا السلوك قدبين للعرب أن الفرنسيين يثقون بأناس لا أهلية لهم ولا كفاءة، وينقص من قيمتهم في نظر هؤلاء العرب أنفسهم وفي نظر سكان الصحراء. وزيادة على ذلك، فإن هؤلاء السكان بعيدون بطبعهم عن جميع الأوربيين ودلك بسبب الاختلاف الموجود في اللغة، واللباس، والطبائع، ثم إن أفكارهم التعصبية تعد من أهم الحواجز التي تمنع كل تقارب ولذلك، كما قال الحاج أحمد، فإنه ليس للفرنسيين أن يأملوا في أن يساعدهم هؤلاء الأهالي على أن يصبحوا سادة عليهم وعلى البلاد. وعلاوة على ذلك، أضاف الحاج أحمد، فإن إدارة

الفرنسيين والأساليب التي استعملوها حتى الآن لم توضع للإغراء. وفي الصفحات المقبلة، عندما أتكلم عن رحلاتي إلى قسنطينة، ومحادثاتي مع باي هذه المقاطعة، سأذكر بعض الملاحطات القيمة التي أبداها الحاج أحمد. ويحق لي أن أذكر بأنني كنت كلما قدم الحاج أحمد حججا، أبذل كل ما في وسعي لإقناعه بالتخلي عن الفكرة التي تكونت لديه، ولقد أردت أن أفهمه بأن ليس للحكومة الفرنسية سوى نوايا حسنة، وأن الآمال التي قام بها بعض القادة والتي يعتبرها ناقصة وتستحق العقاب إنما نصفها مبالغ فيه، والربع لم يؤول تأويلا صحيحا، والباقي، الذي تدينه الأمة الفرنسية، لم تأمر به حكومتها. ان وصول رسل الشيخ فرحات الذوادي كان سببا في الحادث المفجع الذي وقع لقبيلة العوفية (¬8). ولقد قدم السيد بيشون (¬9)، في كتابه، تفصيلا عن تلك الفضيحة التي ستكون صفحة سوداء في تاريخ الشعوب والتي لا يصدق الكثير أنها وقعت في القرن التاسع عشر، عهد الحرية والحضارة الأوربية. منذ ذلك الوقت، أخذ الشيخ فرحات حذره، وصار باي قسنطينة يحترس من الفرنسيين، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع القادة الآخرين وللسكان بأكملهم. إنهم يعتقدون أن عدل الفرنسيين ظاهري فقط. وأن كل قبيلة تحتمي بهم ¬

(¬8) قبيلة كانت تسكن ناحية الحراش. نظم الدوق دوروقكو حملة ضدها فباغتها ليلة السابع من شهر أفريل 1832 فقتل جميع أفرادها العزل باستثناء بعض الأطفال والنساء. وتذكر المصادر أن البارون بيشون قد حاول أن يمنع تلك المذبحة ولكنه لم يفلح (انظر بيشون، وبيلي في الحوليات الجزائرية، الجزء الأول، الكتاب العاشر). (¬9) ديبلوماسي فرنسي، ولد سنة 1771 في مدينة نانت وتوفي في باريس سنة 1850. كان أول معتمد مدني في الجزائر بعد الاحتلال، ولم يغادر البلاد إلا سنة 1832. له مؤلفات كثيرة أهمها: (الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي) نشر سنة 1833 أي في نفس السنة التي نشر فيها المرآة باللغة الفرنسية.

وتبدي الإخلاص لقضيتهم تلقى مصير العوفية. هل ان الفرنسيين لا يودون التقرب منا إلا لإبادتنا ونهبنا، كما فعلوا ذلك بالنسبة لتلك القبيلة الضعيفة؟ ان الفائدة التي يمكن انهم حصلوا عليها نتيجة نهبهم إياها لضئيلة جدا، إذا قارناها بالخزي والعار اللذين أصابا المتسببين في هذه النكبات. والذي يدهشني في هذه الواقعة، ويخجلني عندما أتكلم عن هذه الأحداث هو أن السيد بيشون قد عرض قبلي، في كتاب، وبكيفية صادقة هذه الأحداث، ولم تتخذ الحكومة الفرنسية أدنى الإجراءات للتنديد بهذه الأعمال التي لا تليق بمقامها وبكرامتها. ولقد كان من حقها أن تبرهن على أن مشاعرها تتعارض مع هذا النوع من التصرفات، ومن واجبها، كما فعلت ذلك بمناسبة الاستيلاء بالقوة على الصوف، أن تشجب بشدة وبواسطة تصريح وقوع مثل هذه الكوارث التي يتسبب فيها أعوانها. وأخيرا، كان عليها أن تعوض للسكان القلائل الذين سلموا من المذبحة ما أتلف من أملاكهم، وأن تمنع بيع الغنائم المغتصبة. لقد تم هذا البيع في باب عزون، ومن جملة ما رأينا أساور ما تزال مشدودة إلى زنود مقطوعة وقرطا دامية. وعلى العكس فإن جميع الأعمال التعسفية كانت تشجع وانطمست مبادىء العدالة كلها في أذهان الحكام. وبهذه التصرفات، سوف تستحيل الإقامة في هذه القارة بالنسبة للفرنسيين الذين سيفقدون إلى الأبد جميع الامتيازات التي يكونون قد اكتسبوها. وهكذا نظمت حملة عسكرية ضد البليدة التي كانت بين أيدي الفرنسيين وفي حمايتهم، وعلى غرار ما وقع في العوفية، فإن سكانها نهبوا وذبحوا. وهذه المدينة المعرضة، دائما، لهجومات المفسدين المقيمين في الجبال المحيطة

بها. ليس فيها أي حصن ولا يمكن لها أن تقاوم طويلا. وإنني لأذكر هذا الحادث وأترك الحكم فيه للأجيال المقبلة. لقد خضع سكان البليدة للفرسيين على رغم أنف جيرانهم سكان الجبل، ثم أن الفرنسيين تركوهم فريسة للأحقاد، يموتون دون أن يقدموا لهم وسيلة للدفاع عن أنفسهم. وكل هذه الأعمال التخريبية الهدامة معروفة ويزداد انتشارها من يوم لآخر في كامل أنحاء الإيالة. ان هذا البلد، كأنه سلسلة في إحساسه بالخير والشر، يكفي أن تمس حلقة واحدة لتقوم الباقية برد الفعل. وهكذا، فإن الانطباعات التي تنتح عن تصرفات الحكام تسري حينا وإلى كل مكان، لكن، مع الأسف، فإن جزءا من الإنسانية وحده هو الذي يرزح تحت عبء كل ما يمكن تصوره من الشرور. ولكي أعود إلى وصف الخيم، فعلى الرغم من أنني لم أتجول في هذه الدوارير التابعة للشيخ الشهم الكبير الذوادي ابن قانه، خال الحاج أحمد، باي قسنطينة، أستطيع القول بأنها رحبة ومقامة بأناقة وأبهة. وعلى كل مدخل تجد الخيل الجميلة مربوطة. ولقد سألت عن عدد الفرسان الذين يمكن تجنيدهم عند أول إشارة، وكان الجواب أن الشيخ ابن قانه يستطيع الاعتماد على عشرة آلاف فارس. ولا أعتقد أن في هذا العدد مبالغة، لأن مجموع الخيم يزيد عن العشرة آلاف وإذا فرضنا أن كل خيمة يمكن لها أن تجهز فارسا واحدا وجدنا بكل سهولة العدد المطلوب، أما أنا، فإني أعتقد أنه بالإمكان، عند الحاجة، مضاعفة العدد، وذلك نظرا لكثرة ما يملكه هؤلاء السكان من

الخيل ولكثرة شغفهم بركوبها وبخوض الحروب. وهناك، أيضا، مشايخ كثيرون يعرفهم ابن قانه ويسكنون هذه المناطق. وها هي الآن بعض التفصيلات عن الصحراء. إنها باب وموطن للرمال، نرى فيها من حين لآخر جبلا شامخا ثم يزول في لمح البصر لأنه من رمل وليس من أجسام صلبة. إن الرياح تصنع الجبال وتهدمها كما شاءت، وتصنع السهول والأكوام. ومن المستحيل شق طريق تضمن الذهاب من نقطة والإياب إليها، إننا لا نجد فيها شجرة ولا حجرة ولا أنهار ولا أودية، ولا أية علامة لمعرفة الاتجاه. غير أن سكان هذه الناحية يتمتعون بموهبة خاصة تقودهم في الأسفار، إنهم يهتدون بكواكب النهار ونجوم الليل، ويكشفون المياه بسهولة عجيبة، وفي بعض الأحيان فإن هذه الينابيع تكون مغطاة بقدم وقدمين من الرمل، ولكن ذلك لا يمنع من الوصول إليها وهذه ملكة اختصوا بها دون غيرهم. يوجد في وسط الصحراء بعض المدن مثل بسكرة، ميزاب، لغواط وغيرهما ... مقامة على الأنهار أو على الينابيع، وتخضع لإدارة مشايخ الصحراء الذين يتقاضون نوعا من الغرامة مقابل حمايتهم لأهالي هذه المدن. وسكان الصحراء لا يعرفون البذلة الأوربية، ما عدا أولائك الذين يذهبون إلى المدن الساحلية مثل مدينة الجزائر وغيرها. ويوجد في هذه المناطق عدد كبير من الحيوانات السامة مثل الثعابين والعقارب، وهي خطيرة جدا، ولا أستطيع ذكر أنواع الحذر التي يتدرع بها السكان لحماية أنفسهم، لأن هذه الحيوانات تختبىء في الرمال، وهناك أيضا، الأفاعي بأحجام مختلفة، ونوع آخر قصير ونحيل ينطلق نحو الأفراد

وكأنه السهم، وبمجرد ما تتصل هذه الزواحف بالجسم تطلق النار ثم تقتل نفسها بعد أن تميت الشخص الملدوغ، ويقال كذلك أنها تترك أثرا في قطعة الحديد أو الفولاذ التي تصطدم بها. فمثلا ان ركاب الخيل في هذه المناطق عريض ومحقق لتجد الرجل فيه مكانها، وعندما يلمسه هذا الحيوان، فإنه يترك فيه علامة. ولن أنتهي من هذا الفصل دون التذكير بأن هذه المنطقة الواقعة في داخل البلاد هي مصدر ثروات الإيالة وأساس كيانها السياسي، وأنها تشكل بمفردها أكبر جزء تعتمد الإيالة كل الاعتماد عل سكانه. - وهنا أصل إلى تفاصيل أقل أهمية على الرغم من أن بعض مشاهير الكتاب أرادوا أن يظهروا بأن المناطق الساحلية أهم وأغنى، وسأبين في الفصل القادم مدى خطأ زعمهم، وأبرهن، بكيفية منطقية وهندسية، على أنهم ارتكبوا أغلاطا فادحة عندما تكلموا عن أشياء لا يعرفونها إلا معرفة سطحية. وأن إقناع ذوي المنطق السليم والرأي الصائب لا يتم أبدا بواسطة الجمل المنمقة، والمحيط لا يمكن أن ينشأ فوق مونتمارنر كما أن القصور في اسبانيا ستظل خرافات، وعلى الرغم من كل ما قد تفوهت به تلك الشخصية التي هي بلا شك أقرب إلى أن تكون رجل سيف منها إلى أن تكون رجل قلم، عل الرغم من ذلك وعلى الرغم من أني من مواليد المشرق، فإنني سأقف ضد حقوق غير مشروعة وأحارب الآرام الخاطئة بواسطة حجج لا تقبل المنازعة.

الفصل الخامس المتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم

الفصل الخامس المتيجة: طبائع سكانها وعاداتهم إن المتيجة التي دوخت بعض الشيء ذلك الكاتب المشهور (¬1) وجعلته يحلم بأنها الأرض الموعودة، التي أراد الجنرال أن يحولها إلى جزيرة في وسط هذه القارة الواسعة بعد أن أوحت له بعدد آخر من المشاريع الوهمية، رقعة منقعية وغير صحيحة. أنها سهل لا تساوي تربته تربة غيره من سهول الإيالة، بالإضافة إلى كونه موطنا لحمى تظهر في أوقات متقطعة، فتصيب السكان وتلازم حتى المتأقلمين. وعليه، فإن الجنرال الشهير وأنصاره مخطئون كل الخطأ وأرى من واجبي أن أتصدى لوسائلهم التي تبدو لي غير صالحة. يعتقدون أن باستطاعتهم استصلاح هذا السهل، ويتوهمون أنهم اكتشفوا قنوات كتلك التي تعود الرومان أن يستعملوها وظنوا أنها كافية لتجفيف التربة. ¬

(¬1) المقصود هنا هو السيد كلوزيل الذي سنتكلم عنه فيما بعد.

ومن واجبي، كمالك - من أب لابن - لجزء كبير من هذا السهل مثل أسر أبي قندورن، وأبي هراوه، وناصف خوجة، - من واجبي أن أقول بأنني أجهل تماما وجود قنوات تشبه قنوات الرومان. وشخصيا، فإنني أملك عددا من هذه القنوات على مقربة من مزارعي ومن الأليق أن نسميها ميازيب لأنها معدة فقط لإبعاد المياه العفنة والمضرة ولجعل الضواحي قابلة للإسكان. وكلما حاول بعض الكتاب أن يقارنوا رقعة منقعية كمنطقة المتيجة بأراضي أمريكا، فإنهم يكونون عرضة للانتقاد. ومن الأفضل لهم التفكير في مقاطعات لومبالديا (¬2) أو في ضواحي روما اللاصحية لتكون المقارنة عادلة ومنطقية. وعليه، فإن من واجبي أن أقوم، عن وعي، بتكذيب كل ما قيل عن هذه المنطقة حتى ولو كان في ذلك خيبة أمل بعض الأشخاص الذين ينتظرون منافع كبيرة من الاستعمار. ان سكان الإيالة، أو الأهالي كما يسمون، يعرفون بلادعم أحسن من الأجانب الذين زاروها مرة أو مرتين والذين يمكن التشكيك في إدعاءاتهم الإحصائية والطبوغرافية. هناك أشخاص يزعمون أنهم يعرفون مقاطعة أو مملكة، جبلا جبلا وحجرا حجرا، وهم في الواقع لم يشهدوا تلك الأماكن إلا عرضا ومن بعيد. تماما كما لو قلت إنني أعرف فرنسا حق المعرفة لأنني قطعت المسافة ما بين مرسيليا وليون وبارس وكالي، ذهابا وإيابا فوق العربة. فبكل نزاعة لا أستطيع أن أكتب مقالة وصفية إعتمادا على ¬

(¬2) منطقة في شمال إيطاليا تقع بين جبال الألب ونهر البو. مناخها صعب جدا، بارد في الشتاء وحار في الصيف. اشتهر سكانها بزراعة الكروم والأرز، والقنب وبتربية دودة القز. وهي الآن منطقة فلاحية وصناعية في نفس الوقت.

مثل هذه المعطيات، وأترك للقارىء حرية الحكم على الملاحظات التي قد تتعارض مع الإستلاحة. ان الطبيعة لم تحب سكان المتيجة. انهم مجبلون على الكسل والنذالة والخيانة والحقد والدسيسة. وليس لهم مورد غير التسبيقات التي يقدمها لهم الجزائريون (سكان العاصمة) مقابل الإعتناء بمزارعهم وقطعانهم، وما يدره عليهم الحليب الذي يبيعونه في مدينة الجزائر. وعندما يراد وصف شخص بأنه كسول ومسكين يقال عادة أنه من متيجة. ان قمح هذه المنطقة أقل جودة من غيره، ولونه يميل إلى الواد وكمية النشاء فيه أقل من تلك التي تحتوي عليها القموح الأخرى. ولا يمكن خزنه أكثر من سنة لأنه يتعرض للفساد حتى ولو كان البذر من مكان آخر. وهذا العيب ناتج عن جو المنطقة ومناخها، ويقول الفلاحون أن اللون القريب من السواد ناتج عن كثرة الندى الذي يتساقط على القمح قبل فترة النضج. وهذا أمر لا نجده في بافي أنحاء الإيالة. إنني أتكلم عن بصيرة لأنني كما ذكرت في السابق، أحد المالكين في المتيجة، وأزرع سنويا في هذا السهل، ولحسابي الخاص، حوالي مائة وستين حمولة جمل من القمح، وحولي مائة أو مائة وعشرين من الشعير. إنني أزور هذا السهل مرة في ربيع كل سنة لأنني أخشى الحمى في الفصول الأخرى، وحتى في هذه الفترة آخذ معي ماء الكولونيا وغيره مما يقيني شر الهواء الفاسد، كما أتزود من ماء مدينة الجزائر أشرب منه. إن هذا السهل يشبه الغدير في الشتاء، وفي الصيف والخريف تستوطنه

الحمى باستمرار إلى درجة أنه من الصعب جدا إتقائها، وما تمسكي بهذا السهل إلا لأنه قريب من المدينة ولأن فيه مزارع ومواشي عير بعيدة عن ضواحي الجزائر التي أزرع فيها القطن وهي زراعة منتجة لا يعرفها العرب. وعلى اثر الغزو الفرنسي ضيعت هذه الزراعة كما أرغمت على ترك منافع أخرى. ان هذا السهل يكاد يكون مملوكا من طرف سكان مدينة الجزائر وحدهم، أما معاش سكان المتيجة فمن وادي جر ومليانة، (¬3) وعندما لا تكون الغلل كافية يلجأون جميعا إلى المناطق الغربية. وبعد مجيء الفرنسيين ارتفعت الأسعار وقلت الموارد في هذه المنطقة بكيفية ملموسة. وأصحبت الطرقات غير آمنة مما جعل سكان الغرب لا يسلكونها كما كانوا يسلكونها في السابق. ان هذا الشر قد ظهر خاصة هذه السنة بعد اعتقال مرابط القليعة الذي هو أكثر المرابطين تأثيرا في هذه المنطقة، والذي كان يحمي المسافرين ويدفع السكان البعيدين إلى الإتيان ببضائعهم وذلك بأن يحفظهم من جميع أنواع الشتم. لقد أصبح اعتقال هذا المرابط مصيبة على المنطقة، لا سيما وأنه اعتقال غير شرعي وان براءة الشيخ لا يشك فيها أحد. ويبدو ان الإعتقال ما يزال مستمرا، وان غرامة مجحفة قدرها مليون قد فرضت عليه وأغاظ هذا التصرف الجائر جميع سكان الإيالة إلى درجة أنه لم يعد لديهم أي استعداد للإتحاد مع الفرنسيين الذين صاروا ينظرون إليهم كمغتصبين. ولقد باع أهالي هذا المرابط كل ما يملكون من ماشية وخيل وأراضي وحبوب ولم يتمكنوا إلا من جمع عشرة آلاف فرنك. وعلى الرغم من دفع هذا المبلغ، واستحالة الحصول على أكثر من ذلك، فإن اعتقال قائدهم ¬

(¬3) وادي جر سهل شاسع يبعد عن مليانة بحوالي عشرين كيلومترا.

ووالدهم ما يزال مستمرا. وهذا هـ السبب الذي دفعني إلى القول بأن سكان المتيجة تألموا كثيرا من هذا الوضع، وبأن فلاحتهم قد توتفت كما انقطعت وسائل عيشهم الأخرى لأن هذا القائد هو حامي الفلاحين في هذا السهل، وهو نفسه واحد منهم,. وعلى فرض هؤلاء السكان سيخلصون الى الفرنسيين، فان وسيلة عيشهم محصورة في بيع البقر والدواجن، فيا لهم من تعساء! لأن عرب الجبال يتحكمون في هذا السهل بحكم موقع المنطقة الطبوغرافي. والخيل غير موجودة بتاتا، وما هو في حوزة السكان منها يستعمل للركوب ولنقل السلع وحرث الأرض. وعندما يصل أهالي هذه الناحية إلى مدينة الجزائر يعرفون بكل سهولة نظرا لما هم عليه من جهد وتعب، وذلك لأنهم لا ينقصون تغدية فحسب، ولكن العذاء الذي يتناولونه لا ينفع كثيرا بل هو غذاء مضر , ونظرا لكل هذه الإعتبارات يبدو لي من العجب أن يكون (الدوق دوروفيكو) أراد أن يفرض على هؤلاء المساكين ضرائب كتلك التي كانت تفرض عليهم في عهد حكومة الأتراك. وهم كذلك يقولون ((إننا كنا ندفع الضرائب للأتراك مقابل قيامهم بتهدئة البلاد وتأمين الطرق وحمايتنا الخ ... فافعلوا مثلهم وسندفعها لكم!!!)). ان دفع الضرائب في بلاد الإسلام واجب ديني لأن الأموال المتأتية منها تنفق في صالح المجتمع بصفة عامة، ومعنى ذلك ان رئيس الدولة ليس إلا أمين مال المجموعة. يجمع الضرائب لينفقها في سد حاجات البؤساء والأرامل والأيتام ورجال الدين وأبناء السبيل. وأخير، في العمل على صيانة النوع البشري وتحسين أوضاعه. ولكي تكون هذه الضريبة شرعية يجب ان يكون رئيس الدولة مسلما، لأنه إذا لم يكن كذلك، يتحتم على

السكان ان يقوموا، حسب ضمائرهم، بتوزيعها بأنفسهم. وإذا أرغموا على الدفع، فإنهم يعتبرون ذلك قرصنة أو سرقة، ولا يمكن ان تكون السرقة عملا شرعيا. ولا يمكن لجميع الأشخاص الذين يعرفون التشريع الإسلامي ان ينكروا هذه المبادىء. ومن خلال هذه التفاصيل يجب نفهم بأنهم اذا امتنعوا عن إبداء هذه الملاحظات للدوق دوروفيكو، فلأنهم كانوا يخشون ضغينته والتعرض لمصير قبيلة العوفية. ومن نتائج هذا التعسف ان جميع السكان هاجروا وفروا وأخذوا جميع ثرواتهم إلى الجبال المجاورة ليكونوا في مأمن من سائر أنواع العدوان. ولم يبق، اذن، سوى الضعفاء والبؤساء وهم لا يقدرون على حرث الأرض. وسيكون من الصعب إجبار هؤلاء السكان على دفع الضرائب خاصة بعد ان حرموا من الفلاحة التي هي من أهم وسائل عيشهم. وحتى إذا دفعوا الضرائب، فإنهم لن يحصلوا على أمن الطرق ولا على الحماية التي وعدوا بها، بل سيكونون كسكان البليدة الذين اضطهدوا وأجبروا على دفع ضرائبهم بعد ان خضعوا للفرنسيين، وتعرضوا بسبب ذلك إلى انتقام سكان الجبال المجاورة لهم والذين هم أقوى منهم، بدلا من أن يحصلوا على الحماية الفرنسية وعلى وسائل إقامة الحصون التي تقيهم وتدفع عنهم الشرور. ولأجل ذلك تركوا البلاد ووجدوا أنفسهم مجبرين على إقامة العلاقات مع سكان الجبال. وفيما يخص طريقهم في الحياة وألبستهم، فإنهم يعيشون ويلبسون على وجه التقريب مثل السكان الذين تحدثنا عنهم سابقا، حسب ما توفره لهم وسائلهم المالية. ولن أخصص بابا لوصف طبائعهم وعاداتهم على الرغم من أن شخصا مدفوعا بمصالح شخصية، - ما في ذلك من شك - قد قام

بوصف هذه المنطقة وبوصف سكانها وصفا سطحيا لا أساس له من الصحة، وإنني أمتنع، في الوقت الحاضر، عن محاربة هذه الأغلاط التاريخية التي، بالرغم من أنها تخدع القارىء، أكسبت صاحبها مرتبة أعلى وهو يأمل أن يرى المخططات التي وضعها تتحقق. وإذا سمحت لي الظروف فيما بعد، فإنني سأعود الى الوراء وأعالج هذا الموضوع. البليدة سكان البليدة يشبهون بعض الشيء سكان المتيجة إلا أنهم أكثر منهم حضارة، أنهم يصنعون قماش المناديل التي تباع في مدينة الجزائر، وبرغم ذلك، فإنهم فقراء لا يعرفون تجارة ولا صناعة. مناخهم غير صحي.

الفصل السادس عن سكان الجهة الغربية

الفصل السادس عن سكان الجهة الغربية هذه المنطقة أقل خصبا وأقل اتساعا من قسنطينة. وتلمسان التي هي إحدى المدن الرئيسية فيها ما زالت تحتضن أوابد كبيرة ومآثر هندسية جميلة للغاية. وقد كانت هذه المدينة، في القرن السابع، عاصمة للمقاطعة، تأوي حكومة مستقلة (¬1)، وهي أقدم من مدينة الجزائر، كما أنها كانت مقرا رسميا لدولة عبد المؤمن (¬2). وفي المدينة ما زال يعثر على نقود تحمل اسمه، ومن جملة هذه النقود قطع من الذهب الدقيق في حجم نصف العملة الانكليزية أو سكين جمهورية البندقية القديمة. ومدينة تلمسان التي هي أكبر مدن الإيالة كانت قد تهدمت، وشرع في بنائها من جديد وهي الآن آهلة بالسكان الذين ينقسمون إلى صنفين: الأتراك والعرب أو الأهالي. ¬

(¬1) هي حكومة دولة بني عبد الوادي التي أسسها بوعمراسن سنة 1248 ;بعد أن افتك مدينة تلمسان والنواحي من السلطات الموحدية. وقد كانت تلك الدولة تشتمل على ولايتي وهران والجزائر وبنو عبد الوادي هم أنفسهم بنو زيان. (¬2) أول رئيس للدولة الموحدية. ولد سنة 1100، وتوفي بعد ذلك بثلاث وستين سنة، استولى على ممتلكات المرابطين في المغرب وأبانيا كما أنه أخضع الجزائر وتونس، وبذلك كون دولة عظمى.

وبما أن الجزائر كانت تحت حمياة الباب العالي، فإن من المسلم به أن حكامها يكونون دائما أتراكا وكذلك نظامها العسكري، وإن العرب لا يقبلون أبدا في صفوف الميليشيا. ونتيجة هذا التمييز تولد بين الصنفين، في تلمسان، حقد ما زال إلى يومنا هذا وكثيرا ما يؤدي إلى صراع بينهما في وسط المدينة. وعندما دخل الفرنسيون الجزائر قامت معركة بين الطرفين، وحتى لا تسود الفوضى، طلب من سلطان المغرب (¬3) أن يتدخل ليضع حدا لهذه الحرب الأهلية. وقبل السلطان هذه الدعوة، ولكنه بدلا من أن يحمي السكان ويعيد الأمن سلط على المدينة ظلما أدهى وأمر من الظلم الذي كان يسودها. فأبعد إلى مدينة فاس عشرين من الأعيان ولم يطلق سراحهم إلا عندما استولى على سائر ممتلكاتهم. ولما رأوا أن سلطان المغرب بغى عليهم، وإن الفرنسيين، من جهتهم، سلطوا على مدينة الجزائر حكما جائرا، ووجدوا أنفسهم بين نارين. بادروا إلى إبرام الصلح فيما بينهم. كانت مصالحهم تستدعي الوحدة فنسوا كل الضغائن المهلكة التي لا معنى لها. وفي هذه الفترة أرسلت فرنسا السيد دومرني في مهمة لدى سلطان المغرب قصد الحصول على الانسحاب من هذه المقاطعة التي تحتلها الجيوش المغربية. وفي أثناء الانسحاب شكل الأهالي حكومة مستقلة مكونة من أشخاص محنكين يعرفون جميع التقلبات البشرية، وباختصار، أقاموا نوعا من الجمهوريات اذ أن الحكم أصبح بيد جمعية يؤلفها عدد من أعيان المقاطعة. لقد اطلعت على تفاصيل هذه الأحداث عن طريق مستغانم التي هي أيضا ¬

(¬3) هو السلطان عبد الرحمن.

مدينة من مدن الجزء الغربي في مملكة الجزائر، وتقع على مقربة من وهران. وتأكدت لدي هذه المعلومات بواسطة جزائريين يسكنون تطوان وغيرها من مدن المملكة المغربية أجبروا على الخروج من مواطنهم بسبب التنكيلات التي تعرضوا لها من طرف الفرنسيين. وكما سبق أن ذكرنا، فإن سكان تلمسان من الأتراك والعرب، أشداء، ذو خلقة حسنة، عنيدون ومغترون، يحبون المجد وهم شجعان. ولكنهم طيبون واجتماعيون وتجار وفلاحون في أرضهم. يوجد في منطقتهم عدد من معامل الصوف يصنع فيها نوع من الأقمشة العادية التي يستعملها الجيش، كما تصنع فيها المحازم التي يبلغ عرضها أربع بوصات والتي تنسج (¬4) نسجا متينا وتنقل إلى كامل أنحاء البلاد. مناخ تلمسان ألطف من مناخ الجهات المجاورة لها، ووضعها الطوبرغرافي جعل منها منطقة ثرية ومزدهرة، انها أحسن من منطقة الجزائر لو تزود بحكومة عادلة. ومن الممكن أن تصبح تلمسان مخزنا للسلع بالنسبة لكامل الجزء الغربي ولجنوب غربي افريقيا. إن مملكة المغرب تفرض على المواد الصناعية والتجارية الأوروبية ضريبة قدرها 10%. وعليه فبالإمكان أن نستورد عن طريق البر بجميع أنواع السلع دون أن ندفع رسوما، كما يمكن لنا أن نجد أسواقا جديدة في مملكة المغرب وفي داخل افريقيا. ¬

(¬4) البوصة هي الجزء الثاني عشر من القدم. وكان القدم في فرنسا يساوي 32،5 سنتم وفي انكلترا 30،47.

المدية (¬5) سكان المدية شجعان ومتصلبون. لا يميلون إلى الصناعة. مناخهم معتدل ولكنه بارد دائما تقريبا. إنهم يجنون ثمارا ممتازة والجو صحي في منطقتهم. مليانة (¬6) يتسم سكان مليانة بنوع من العناد. أرضهم خصبة للغاية وهم فلاحون وثمرهم ممتاز. لا يمارسون أي نوع من أنواع الصناعة وليس لهم حرف غير تجفيف الفواكه، وصناعة نوع من المعجون بعصير العنب واللوز يمكن الاحتفاظ به طوال السنة. مناخهم صحي. وهران لم تدخل هذه المدينة في حوزة الجزائريين إلا سنة 1790 (¬7). والذي استرجعها من الاسبانيين هو الباي قاره محمد (¬8). وهي آهلة بسكان معسكر والمغاربة وبني مزاب والبرابرة. وضعها الجغرافي جعل من سكانها تجارا وذلك ¬

(¬5) توجد جنوب غربي الجزائر، وتقع في مفترف الطرق الرابطة بين سهول الشلف والمتيجة. كانت تسمى لميدية في عهد الرومان. أنشئت في القرن العاشر، وكانت عاصمة لبايلك التيطري. (¬6) تبعد حوالي مائة كلم عن الجزائر. وتقع في سفح جبل زكار الغني بالمناجم. ولقد كانت، في العهد العثماني، تابعة لبايلك الغرب، وقبل الاحتلال ضمت إلى دار السلطان. (¬7) تذكر كتب التاريخ أن خروج الإسبانيين من وهران كان سنة 1792. (¬8) ويسمى، أيضا، محمد الكبير، عزله حسن داي بعد أن حكم أكثر من عشرين سنة. وفي مطلع القرن التاسع عشر عين ابنه عثمان بايا على قسنطينة، وهو الذي قتله الزبوشي أثناء ثورة ابن الأحرش سنة 1804.

لما في التجارة من منافع ولأن الباي مهتم بها. ويأخذ الباي من التجار رسما مقداره 5 بالمئة من السلع، ويبيع هذه البضائع إلى السكان نقدا أو مقابل حبوب ومواشي كالأبقار والأغنام. وبهذه الحالة يكون هو أيضا تاجرا. إن الدراهم متوفرة والفلاحة مزدهرة والبلاد في رخاء. معسكر (¬9) سكانها من الأتراك والعرب والبربر وفيهم كثير من الكراغلة. طبائعهم وعاداتهم كثيرة الشبه بطبائع وعادات أهل تلمسان. إنهم فلاحون ويشتغلون خاصة بمضاعفة أجناس الخيل المختلفة وغيرها من الحيوانات الأخرى. يمارسون التجارة مع بني ميزاب. وفي هذه المنطفة تصنع البرانس الشهيرة السوداء ذات اللون الطبيعي والأقمشة الكتيمة والتي تستعمل في كامل أنحاء إيالة الجزائر، وتصدر إلى مصر وتركيا، يباع البرنس الواحد من البرانس المهفهنة بسعر يبلغ المائة قرنك. ولقد أصبح الفرنسيون أنفسهم من هواة البرانس. مدينة معسكر أقل قيمة من مدينة تلمسان. وعندما كانت وهران في قبضة الإسبانيين، كانت معسكر هي مقر الباي، وكانت المقاطعة عندئذ غنية، وشاع الترف في معسكر يظهر ذلك من خلال منازلها وهندستها. إنها مدينة أكثر تقدما من مدينة تلمسان. أما المدن والقرى الأخرى، فلا يبدو لي من المفيد أن أتكلم عنها إذ هي شبيهة بها لا تختلف عنها إلا بحسب موقعها. ¬

(¬9) تشرف على سهول اغريس. كانت عاصمة بايلك الغرب قبل استرجاع وهران. اتخذها عبد القادر عاصمة له سنة 1832.

وتبلغ مقاطعة التيطري نصف مقاطمة تلمسان وقد وصفناها ووضعنا حدودها. ويقطن باي التيطري في المدية، وتعتبر المقاطعة أسهل مقاطعة يمكن أخذها في الإيالة، والأتراك يعرفون ذلك كما أعرف أنا. وهناك مثل يقول بأن باي التيطري أضعف وأفقر من أمين بني ميزاب. وبنو ميزاب هم سكان الميزاب الذين تكلمنا عنهم عندما ذكرنا الصحراء، يأتون مدينة الجزائر كعمال يشتغلون بأحقر المهن، فيشتغلون مثلا في الحمامات والمطاحن ولبيع اللحوم والفحم، ويمكن مقارنتهم، في باريس، بسكان مقاطعتي الليموزين والصافوا (¬10). وحفاظا على الأمن العمومي، تعين الشرطة أمين بني ميزاب أو مسؤول الطبقة الشغلية. لا ينبغي اعتبار التيطري منطقة جبلية تصعب على المدفعية أو على الخيالة، وإذا قيل عن حملة التيطري أنها تشبه حملة أوسترليتز (¬11) أو حملة وفرام (¬12)، فإن ذلك بلا شك للحصول على تقدير الأمة الفرنسية. أما الهزيمة التي مني بها الجنرال بارتوزين (¬13) في المدية، فإنها لا ترجع ¬

(¬10) منطقتان فقيرتان في فرنسا. وتشتهر الثانية بجبالها، وأهم وارداتها تربية البقر واستغلال الغابات، كما أنها تشتمل على كثير من المياء المعدنية مثل إيفيان وتونوب، الخ ... (¬11) مدينة صغيرة في تشيكوسلوفاكيا تسمى حاليا: سلافكوف، وقد انتصر فيها نابليون على النمساويين والروس سنة 1805. (¬12) قرية نمساوية أحرز فيها بونبرت على انتصار باهر أمام جيوش النمسا التي كان يقودها الأرشدوق كارلة، وذلك يوم 6 جوليت سنة 1809. (¬13) جنرال فرنسي ولد سنة 1775 وتوفي سنة 1847. شارك في حروب الثورة وفي جميع الحملات التي نظمها نابليون. هو الذي كان يقود الجيوش الفرنسية التي انتصرت على إبراهيم آغا في سطاولي. غادر الجزائر سنة 1832. يقول حمدان إنه كان إنسانا يعرف قوانين الحرب.

أبدا إلى تفوق قوات التيطري، ولكن اتحاد مجموعات أخرى من برابرة الجهة الغربية هو الذي زاد في عدد القوات التي قد تكون وجدت في هذه الناحية، وجعل الجنرال بارتوزين ينخدع في حساباته. إنه لم يكن ينتظر مجابهة مثل هذه القوات المجتمعة ففشل في مهمته. غير أن الذين نصحوا الجنرال بتنظيم هذه الحملة ادعوا - تخلصا من التوبيخ - بأن الاتحاد تم بإيعاز من الأتراك الباقين في مدينة الجزائر. ولذلك اضطهد هؤلاء المساكين وأخذتهم القوات المسلحة من ديارهم لينفوا أو ليزج بهم في السجون. وكان صهري من جملة هؤلاء المظلومين. فقصدت الجنرال بارتوزين لأعرف أسباب الاعتقال ولكنه أعتذر وأجابني بأن قائد الشرطة ; الذي كان آغا، هو صاحب القرار الذي أفقد صهري حريته. وعندما توجهت إلى قائد الشرطة أجابني بكل برودة ولم يزد على قوله: (يجب أن تذهب، يجب أن تبعث النساء إلى تطوان أو إلى غيرها). ولما ذكرت له بأني لا أوافق على ذهاب بناتي أجابني بقوله: (اذن، فليطلق!). إننا لم نعرف الطلاق الإجباري في عهد أكثر الحكومات جورا، ولكن الإدارة الفرنسية سنت هذا القانون في إفريقيا مع أنه غير موجود في فرنسا، ولا يمكن - مهما كان الأمر - أن يوجد على هذه الصيغة. وفي هذه الحالة وجدتني مجبرا على الاحتجاج ضد هذا الإجراء، وتوجهت إلى القاضي لإبقاء الزواج وللبحث عن كيفية الخضوع لهذا العمل التعسفي خضوعا ظاهريا على الأقل. كل هذه الإهانات جعلت الجزائريين ييأسون. وإن الطريقة التي تسلكها

الإدارة الفرنسية قد نفرت السكان ونقلت الحضارة أكثر من قرن إلى الوراء. وفيما يخصني، إنني مقتنع بأن الحكومة الفرنسية لا تعلم بكل ما يجري من أحداث، وإذا كانت على علم بهذه التدابير اللاإنسانية واللادستورية ولم تعاقب أصحابها، فإنا نستطيع القول بأنها تشجع الإجرام وتساعد على البغي. وفي هذه الحالة تكون سيرتها مناقضة تماما للمبادىء التحررية وللفكرة التي أخذتها عن الشعب الفرنسي. تبدأ حدود هذه المقاطعة في مليانة (شرقا) وتمتد إلى وجدة (غربا) (¬14). مساحتها تقارب ربع مساحة قسنطينة، وقد أخذت هذه التفاصيل عن باي قديم مارس سلطته في وهران ثم في قسنطينة. أما المدن الأخرى التابعة للمدية، فإنني أستطيع أن أعفي نفسي من وصفها لأنني لا أعرف عنها ما يمكن أن يكون عجيبا أو مفيدا. هذه هي، إذن، التفاصيل الوصفية والإحصائية والجغرافية والزمنية الخاصة بالجهتين الشرقية والغربية في إيالة الجزائر، ولقد ذكرت كذلك الأقسام التي تتكون منها المقاطعات في كل منها، وبقي علي أن أتكلم عن العاصمة وعن تنظيم الحكم التركي والوسائل التي تمكن بها من إخضاع هذا الشعب، والطريقة التي استعملها لاكتساب قلوب هؤلاء الناس، ذلك أن هذا الحكم استطاع ; بفضل سياسته التي يزعم أنها همجية، أن يثبت ثلاثة قرون (¬15) في جوار أوربا. ¬

(¬14) مدينة مغربية قريبة من الحدود الجزائرية. مشهورة بزراعة الحبوب والزيتون والخضراوات. أنشئت سنة 994. فيها مناجم من الرصاص. (¬15) ابتدأ ذلك الحكم سنة 1516، ولم يسقط إلا عندما وقع الاحتلال الفرنسي سنة 1830.

الفصل السابع الجزائر

الفصل السابع الجزائر تسكن الجزائر طبقات مختلفة من الناس، وكان سكانها في الأصل من العرب الذين فروا من إسبانيا عندما كان الإسبانيون يستعملون مضيق جبل طارق لاقتراف جريمة الإغراق إلى درجة أن عدد الضحايا بلغ ثلاثة ملايين نسمة. وفي ذلك الحين جاء الأتراك لنجدتهم، ولقد عرفنا التاريخ بهذه الفترة المشؤومة حق المعرفة. وإذن، فإن جزءا كبيرا من سكان مدينة الجزائر مكون من العرب والأتراك. والأطفال الذين يولدون نتيجة الزواج بين هذين الصنفين يسمون الكراغلة. ويسكن المدينة، أيضا، أعراب وقبائل لهم نفس عادات ونفس حضارة العرب والأتراك. وإن مر الزمن قد أتى على الأصول الأولى وأصبح جميع الذين يسكنون مدينة الجزائر اليوم يسمون جزائريين. ولهؤلاء السكان صفات خاصة وأخرى عامة، وإن المناخ لذو تأثير كبير على طبيعة الإنسان. وعلى العموم، فإن سكان هذه المدينة شجعان واجتماعيون وأوفياء للعهود وكرماء وبسطاء في نمط حياتهم ونظيفون في منازلهم، وصناعيون

وتجار. وإذا وضعوا ثقتهم في شخص فللأبد، وكذلك إذا خدعوا فإنهم سيحذرون إلى الأبد الشخص الذي خدعهم. إن معظم مبايعتهم يتم بدون عقد وبدون شهادة، وبكل أمانة ينفذون جميع التزاماتهم. عندما تقع أفراح الزواج أو عندما تكون هناك أعياد عائلية، فإن هؤلاء السكان يستلفون من بعضهم حليا وجواهر ثمينة يفوق سعرها في بعض الأحيان عشرة أو خمسة عشر ألف فرنك. وكل شيء في هذه الظروف، يرتكز على الثقة ولا يشترط أي دليل لإثبات الدائنية. ولقد يوثق بامرأة عجوز إذا كانت معروفة حتى ولو كانت فقيرة. وإننا لا نذكر أن مشكلا قد وقع من جراء ذلك. ولقد جرت العادة كذلك أن بعض الأسر الغنية (التي نفي مغظمها من الجزائر نتيجة الحكم الفرنسي الجائر) تشتري جواهر وحليا فاخرة تعار للأيتام عند زواجهم وللفقراء الذين لا يستطيعون الحصول عليها. وتعتبر الأسر هذا التصرف كعمل من الأعمال الخيرية ونحن نعتقد أن الخير لا يتم فقط بواسطة التصدق على الفقراء، وإعطاء فرنك أو ألف فرنك لشخص معين، ولكن الخير يكون كذلك في كل ما يفرح الجار ويحدث في نفسه شعورا بالغبطة والسرور. وهكذا، فإن هذه الحلي مخصصة فقط للاستعمال المحلي كما فصلنا ذلك أعلاه، ومن ثمة، فإن قيمتها تشكل نوعا من الرأسمال الجامد. إن الجزائريين مسالمون بالطبع، ويخضعون للسلطة حتى ولو جارت. وإن المحنة التي سلطها عليهم الفرنسيون لخير دليل على ذلك، إذ ما أكثر الآلام التي تعرضوا لها من طرف السادة الحكام ابتداء من بورمون (¬1) نفسه إلى ¬

(¬1) هو قائد الحملة الفرنسية. ولد سنة 1773 وتوفي سنة 1846. كان من جنرالات الامبراطورية ثم انضم إلى لويس الثامن عشر. هو الذي وقع على ثيقة الاستسلام وأول من نكث العهد الذي عقده مع الجزائريين باسم الأمة الفرنسية.

هذا الذي يحكم الجزائر اليوم (¬2)، إلا أنه يجب أن نستثني الجنرال بارتوزين. إن الجزائريين صريحون وصادقون، لا يعرفون الحقد والبغضاء، وهم كرماء في أعمالهم، يحترمون الجيران كما لو كانوا أقرباء. وعلى الرغم من أن النساء عند المسلمين يحجبن عن الرجال الأباعد، فإن الأسر التي تنتمي إلى الطبقة الفقيرة والتي لا تستطيع أن تسكن وحدها، تجتمع في دار مشتركة على أن يخصص مسكن لكل عائلة، ويبقى الرجال في معزل عن النساء. إن الهندسة المعمارية الشرقية وتقسيم المنازل المحيل يختلفان كل الاختلاف، عما تعود عليه أهل فرنسا - وعلى العموم، فإن الأمن يسود المدينة، وليس في استطاعة الرجال، حتى ولو كانوا أشرارا، أن ينالوا من التقاليد لأن ذلك يكون بهتانا وتدنيسا. وإذا كانت هذه هي الخاصية العامة، فإن هناك بعض الاستثناءات، وهناك، أيضا، أشخاص لهم نوع من الفلسفة يخيل إليهم أنها متصلة بالدين، ومفادها أنهم يبذرون أموالهم دون التفكير في المستقبل. غير أن الدين أو القانون لا يتدخلان في مثل هذه الأمور. وإنما يحث الدين على اكتساب المال الحلال وعلى عمل الخير بقدر المستطاع. وبما أن عمل الخير لا يتأتى إلا بالثروة ; فإنه يحث، بالتالي، على النشاط والحركة. ويوجد لدى الجزائريين من المحاسن ما يجلب الانتباه، إنهم أوفياء لا يعرفون سرقة ولا خيانة ولا قتلا ولا أي نوع من أنواع الجريمة. وعلى العموم فهم رجال شرف لا يخلون بعهودهم أبدا. وعلى الرغم من أنهم بنو وطني، ¬

(¬2) هو المارشال كلوزيل الذي سيجد القارىء، عنه كلاما وافيا في عدة فصول من الكتاب الثاني.

فإنني أعترف لهم بهذه الخلال الحميدة. وقد يتمكن الفرنسيون من مناقضتي، لكنه لن يكون في وسعهم إلا الثناء على الجزائريين، في حين أن الفرنسيين لم ينجزوا الجزء المئوي مما وعدوا به في بياناتهم ومعاهداتهم. إن معظم الفرنسيين لم يؤدوا حتى واجباتهم الاجتماعية - التي تسمى بالحقوق العمومية - إزاء أمثالهم من البشر وبصفتهم ينتمون إلى أمة متحضرة. وعندما وطأت أقدامهم أرض الجزائر، نسي الفرنسيون جميع قواعد الأدب والأمانة، بينما لم يطرأ أي تغيير على الجزائريين الذين استسلموا استسلاما كليا لمصيرهم البائس حتى أن السيد كلوزيل وصف هذا الاستسلام بالقدرية الشرقية. إن الفرنسيين يتركون أبواب منازلهم مفتوحة طوال الليل ويجوبون الشوارع في الظلام وبدون سلاح، ومع ذلك لم نسمع أنهم تعرضوا لمكروه أو لشيء مما كان يقوم به ضدهم الإيطاليون والإسبانيون وغيرهم من سكان البلدان التي حملوا إليها الحرب. أما في الجزائر، وعلى الرغم من هذا الظلم، فإن الفرنسيين لا يشكون من السكان ظلما ناتجا عن التعصب أو الاختلاف في الدين، لأن قوام ديننا أخلاق فاضلة فقط، وأساس شريعتنا مبادىء حقوق الإنسان، والجزائريون يطبقون هذه المبادىء. أما من حيث الطاقات الفكرية، فإن خيال الجزائريين خصب، وأفكارهم منظمة. إنهم يدركون الأمور بكيفية عجيبة ولا يصعب عليهم أي عمل يدوي كان أم آلي، أوله علاقة بالعبقرية. إنهم يصنعون مختلف الأقمشة الحريرية والمحازم، يصدرونها إلى مملكة المغرب وتونس وطرابلس وكامل أنحاء آسيا. ولهم كذلك معامل تصنع الألبسة المطروزة بالحرير التي تنال إعجاب

الشرقيين وغيرهم من سكان الدول الأخرى. وبالنسبة لمعظم هذه الحرف، فإن مدية الجزائر هي التي تزود تونس وغيرها من المدن بالعمال. إن الجزائريين يعتنون كذلك بالعلوم والآداب، ففيهم الشعراء والأدباء وأساتذة التاريخ والمشرعون. ومن حيث التكوين الجسدي، فإن أجسام الجرائريين رشيقة، ذلك أن امتزاج العنصر الترر بالعنصر الأندلسي قد أنتج عنصرا مختلطا من النوع الرفيع. الأمر الذي جعلنا لا نجد في مدينة الجزائر رجالا من ذوي العاهات أو المصابين بالأراض المزمنة مثل النفرس وغيره، كما لا نجد فيها تلك الأمراض الكريهة أو أمراض الجلد، ومرض الزهري لم يعرف إلا حديثا ويسمى (باريس) ويعالج بحمية من أصعب ما يكون ولكن المريض يشفى شفاء كاملا في ظرف شهرين.

الفصل الثامن حكومة الأتراك: تنظيمها وأصلها

الفصل الثامن حكومة الأتراك: تنظيمها وأصلها في سنة 1530، عندما طرد الإسبانيون الأندلسيين من بلادهم بواسطة الاضطهاد، أرسل الباب العالي خير الدين باشا لنجدة المسلمين ووضع تحت تصرفه أسطولا صغيرا للقضاء على الأعمال الوحشية التي يتعرضون لها (¬1). فجاء هذا الرسول، إذن، إلى الساحل الإسباني لإنقاذ البؤساء المطاردين ¬

(¬1) المعروف عند المؤرخين أن عروج وخير الدين وأخويهما كانوا يعملون في البحر لحسابهم الخاص ولكن إسلامهم المتين هو الذي حتم عليهم الجهاد البحري لإنقاذ المسلمين المضطهدين في الأندلس ولافتكاك بعض الموانىء المغربية التي كانت قد سقطت في قبضة الإسبانيين. ولم يبدأ هؤلاء الأخوة أعمالهم سنة 1530 كما ذكر حمدان، وإنما دخلوا إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط مع مستهل القرن السادس عشر. ولو أن الباب هو الذي أرسلهم لكان قد زودهم بأسطول قوي، ولكان يتتبع نشاطهم في كل مكان. ومعلوم أن أيا من هذين الأمرين لم يتم.

من الأندلسيين وقيادتهم إلى جيجل وبجاية (¬2) وغيرهما من الأماكن المجاورة، ولم يكن في الجزائر في ذلك الوقت سوى حصن فانال (¬3) الذي يشكل جزيرة كانت في قبضة الأوروبيين، أما الباقي فهو عبارة عن قرية مسلمة. وقبل هذا الحادث بقليل، كان سلطان المغرب (¬4) قد بنى في هذا المكان مسجدا وكذلك صومعة للاعلان عن المواقيت، كما شيد معهدا لتدريس العلوم وأحياء صحية مفصولة عن هذين المبنيين للراحة والاستجمام. والمسجد ما زال موجودا إلى يومنا هذا وسمى الجامع الكبير، والأسوار التي تحيط به قد بنيت في ذلك الحين. والقصبة أيضا من الآثار القديمة. وكانت تتكون في ذلك الوقت من بضعة منازل تحيط بجامعها والباقي كان خلاء يعقد فيه البدو والبرابرة أسواقهم في أيام معينة من الأسبوع. وتحمل هذه الأماكن أسماء خاصة مثل: سوق الجمعة وهي السوق التي تعقد يوم الجمعة، وسوق السمن وهي التي تباع فيها الزبدة. وسوق الكتان وهي خاصة بالأقمشة، وما زالت هذه التسميات شائعة في مدينة الجزائر إلى يومنا الحالي. أما عن حكومة الأتراك، فإن هؤلاء السكان عندما رأوا أن هذا القائد المسلم جاء لنجدة الأندلسيين ولمنع الإسبانيين من أن يقتلوهم أو يغرقوهم، ¬

(¬2) من المدن الساحلية في شرقي الإيالة. كانت الأولى ميناء تجاريا تحت تصرف شركة بكري وبو جناح، والثانية مدينة يغلب عليها النشاط الصناعي. وقد احتلهما الإسبان مدة وكان خلاصهما على يد الأخوة المذكورين. (¬3) المقصود هنا هو البينون. (¬4) هو يوسف بن تاشفين. وقد بنى المسجد الكبير سنة 460 هـ الموافق لأواسط القرن 11 م.

استقبلوه بالعرفان والحماس وعينوا له القصبة ليتخذها مقرا (¬5). وبعد حين من ذلك تكونت في مدينة الجزائر حكومة قائمة على مبادىء معتدلة وتدعو إلى التفاهم لربط مصالح الأهالي بمصالح الأندلسيين. وقد ساعد وجود الأندلسيين في الجزائر مساعدة كبيرة على تنظيم الحكومة وعلى تقدم الحضارة وهكذا نشأت ثلاث سلطات: إحداها مدنية، والثانية، قضائية، والثالثة هي سلطة السيادة التنفيذية. وجعل على رأس السلطة المدنية شيخ المدينة يساعده مجلس بلدي. ومن اختصاصاته المحافظة على الأمن والنظافة والعمل على توفير كل ما من شأنه أن ينفع المدينة. كما أنه مكلف بجمع الضرائب، وكانت في ذلك الوقت تفرض على الحوانيت فيدفع كل حانوت شهريا حوالي ست (سوردي) من سوارد فرنسا (¬6). وضبطت غرامة على اليهود والأغنياء لحماية أشخاصهم وضمان معتقداتهم، وهي غرامة تتناسب مع ثرواتهم وتتماشى مع قانون البلاد. ومن بين الأسر التي كانت تفر من إسبانيا عدد كبير من اليهود الذين فضلوا مدينة الجزائر على غيرها لما رأوا فيها من حكم معتدل وأمن على أشخاصهم. ولتمكين الدولة من الحصول على مدخولات، أنشئت، أيضا، مصلحة للجمارك تفرض رسوما على الصادرات والواردات ; وسأتطرق فيما بعد إلى الكيفية التي كانت تدار بها هذه المدخولات. لكني أشير إلى أن هذه الرسوم كانت قد حددت بخمسة في المائة بالنسبة للمسلمين والأوروبيين على السواء (¬7). ¬

(¬5) كان ذلك سنة 1516. (¬6) السوردي أو الصولدي هو جزء من الأجزاء العشرين التي تكون الفرنك الرنسي. (¬7) وتذكر المصادر أن اليهود كانوا يدفعون 12,5 %.

وكانت السلطة القضائية تشمل على محكمتين، ومكونة من قاضيين ومفتيين أحدهما مالكي والآخر حنفي. سأشرح فيما بعد الفارق بين هاتين الوظيفتين، الحنفي وهو الذي يتولى الرئاسة لأن الباب العالي هو الذي يعين رئيس الدولة، والباب العالي حنفي، وقصره يعتبر محكمة عليا. وتنظر هذه السلطة التشريعية في القضايا الإجرامية والتأديبية والجنائية، والمدنية والحكومية، وتنظر كذلك في الخلافات التي قد تقع بين رئيس الدولة وأي شخص أخر. وهذه المحاكم مستقلة عن السلطان، وحكمها لا رجعة فيه. وأخيرا سلطة السيادة، التي بالإضافة إلى سهرها على تنفيذ الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية، والتشريعية، وفقا للمبادىء الأساسية التي يقوم عليها قانوننا ومؤسساتنا والتي تكاد تكون، من سوء الحظ، مجهولة في أوروبا يعهد لها بجمع المدخولات العمومية وإدارتها التي تشتمل على الأغنياء بالمؤسسات والمحاكم ودفع أجور موظفي الدولة، ومساعدة الفقراء والأرامل والأيتام الذين يتحتم على الدولة أن تسهر على مصلحهم بقطع النظر عن معتقداتهم، وأخيرا المحافظة على الحصون والجسور والطرقات والغابات، الخ ... وإن باب الحكومة في قانوننا ليكلف العاهل بالسهر على العائدات العمومية المأتية من الفلاحة كما سأشرح ذلك فيما بعد. هكذا نشأت إيالة الجزائر. وشرح الأهالي إلى هذا العاهل طبائع الشعب البربري، وبينوا له نقطة الضعف فيه، أي أنهم نصحوه بأن يمنح المرابطين ثقة مطلقة لأن ذلك يمنع الجميع من أن يقفوا موقفا معارضا خاصة وأن هؤلاء السكان لن يتددوا في قتل أصدقائهم وحتى أقاربهم إذا علموا أنهم يحتقرون المرابطين، أحياء كانوا أم أمواتا. ومن ذلك الحين لم يكتف الأتراك بأن

فرضوا على أنفسهم احترام هؤلاء المرابطين، وإنما صاروا يقدمون لهم أكبر الامتيازات وأثمنها. وصارت أماكن سكانهم وضرائحهم، بعد الموت، مقدسة، كما أن القانون لا يمس كل من لجأ إليها. كانت هذه من إحدى الوسائل التي استعملها الأتراك لاكتساب ود العرب والبربر. وهناك وسيلة أخرى استعملوها وتتمثل في أنهم كانوا يظهرون أنفسهم في مظهر حماة الذين، ويمتنعون عن القيام بكل ما هو مناف للقوانين، ولا يعملون إلا بالقانون ولفائدة القانون. ثم هناك وسيلة ثالثة عرضية فحواها أن الأتراك يقيمون الصلاة بانتظام مما جعل البرابرة يتصورون أنهم مرابطون وصالحون. هذه هي الأسباب التي جعلت سكان الإيالة يخضعون طواعية للأتراك ويثقون فيهم ثقة عمياء. وإذا اعتزمت إحدى القبائل على تشويش الأمن العام، فإن القبائل الأخرى تنضم إلى الأتراك لمحاربتها. وقلما يلجأ هؤلاء إلى قوتهم الحربية، وإنما كانوا يفضلون الاعتدال لبلوغ الأهداف التي وضعوها لأنفسهم. والدليل على ذلك أنهم عندما يخضعون قبيلة عدوة ثم تستسلم تلك القبيلة، يستقبلونها بحفاوة ويعيدون إليها ما أخذ منها أثناء الحرب، وقد يعوضون لها الأشياء المتلفة حتى يتمكنوا من أن يجلبوها إليهم بعد الانتصار عليها. لقد كانوا يبرهنون لمثل هذه القبيلة على ثقتهم بها ويدفعونها إلى أن تعيش هادئة. وكانوا يقولون لها بأن الهجوم لم يكن موجها لإبادتها وإنما لتأديبها وإرجاعها إلى الصراط المستقيم. وعلى الرغم من أن هؤلاء البربر أميون، فإن الاعتدال والإكرام يؤثران فيهم أكثر من القوة والعنف. وإذا كانت بعض القبائل، كما ذكرت، تضم أحيانا إلى الأتراك لإخضاع القبائل الثائرة، فإن القبائل في ناحية بجاية وفي الجبال المجاورة

للمنطقة، لم تكن ترضى بأن تأتي قبائل أخرى إلى أرضها لتساعد الأتراك على إعادة الأمن. وإن كبار المنطقة ورؤسائهم هم الذين يسهرون على أمن الطرقات الواقعة في المقاطعة، ولكن ذلك لا يتم إلا إذا قام الشخص أو القافلة، باتخاذ أحد المرابطين كمنقذ أو كحام، ويزعمون أن ليس في استطاعتهم، بدون مرابط أن يؤمنوهم من الحوادث التي قد تقع في أثناء السفر. وجعلت الضرورة من هذا الإجراء شيئا لا بد منه تبناه الأتراك بدورهم للمحافظة على أمن الطرق. وما زال هذا النظام ساري المفعول إلى يومنا. وإن الحاميات التركية نفسها عندما تتوجه إلى حصن بجاية، سنويا، مضطرة إلى اصطحاب مرابط، وإلا فإنها تأخذ طريق البحر. ونتج عن هذه السياسة وهذا الاعتدال طاعة العرب والقبائل وأمن الطرقات. وهناك وسيلة أخرى استعملها الأتراك لاكتساب ثقة الأهالي. وتتمثل في تطبيق العدالة والإنصاف اللذين يعتبران أساسا لجميع الحكومات التي تريد أن تكون عظمتها دائمة. وعندما يتم التأثير على العقول فإن الأجسام تتبع بالطبع، وما الفتح الحقيقي إلا ذلك الذي يستهدف القلوب لا الأجساد. وبما أنني أرغب صادقا، في إسعاد وطني، رأيت من واجبي أن أبلغ إلى الجنرال بواي هذه المبادىء لأبين له الوسائل التي ينبغي استعمالها لإخضاع قبائل الداخل. إذ أن هذه الطريقة هي التي مكنت الأتراك من السيطرة على هذه الرقعة الشاسعة التي تمتد من وجدة غربا، إلى الكاف في الجنوب التونسي. ولقد رجوته أن يقول للجنرال كلوزيل ألا يحيد عن هذه المبادىء إذا كانت فرنسا تنوي الاستفادة من الجزائر عن طريق نشر العلم والحضارة. وأوصيته بعدم اللجوء إلى وسائل العنف وباحترام المبادىء السائدة عند هؤلاء الأقوام

الذين ليس لهم المعرفة الكافية لاستبدال عاداتهم مقابل للقوانين الأوروبية التي لن يخضعوا لها بالقوة أبدا. وإن تطبيق النظام القائم وحده هو الذي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مرضية. ولكن التعطش إلى الثروة الذي يبدو أنه استهوى الفرنسيين في الجزائر قد نفى عنهم كل حذر وكل تعقل، فأصبحوا صما عميا لا يبصرون. إن هذا النظام الذي ظل يطبق منذ زمن طويل لم يعد نظاما نظريا، وإن الأحداث لتشهد بصحة ومتانة المبادىء القويمة التي نريد إثباتها. ولكنني أكرر بأن طمع الفرنسيين في الثروات قد وصل، في الجزائر، إلى درجة أنني عندما ألجأ إلى الاستعارة أشبه هؤلام الأوروبيين بعملاق يدفعه العطش، وأشبه المدينة بحوض صغير من الماء المالح، كلما شرب العملاق ازداد عطشا، ويجف الحوض ولكن العطش لا يزول. وللدلاة على ما يحدثه العدل والاعتدال من مفعول حسن، أشير إلى أنه تم غزو تونس إحدى عشرة مرة، منذ أن استقر الأتراك في الجزائر، وفي جميع هذه الغزوات لم تنتهك ولو مرة واحدة مبادىء الحرب ومبادىء حقوق الإنسان، ومعنى ذلك أن هذه الحروب لم تكن من أجل التنافس على السلطة. ولقد كان الغالب يدخل تونس منتصرا فيخلع الباي الحاكم وينصب الباي الجديد ثم يقيم معه معاهدات فيها منافر للجزائر وإذلال للمغلوبين. ولم يحاول الغالبون، ولو مرة واحدة، الاستيلاء على تونس، أو الاستحواز على ممتلكات الأهالي التي ورثوها عن آبائهم أو التي حصلوا عليها بمجهوداتهم الخاصة. لقد كانوا دائما يحترمون الأملاك بما فيها من عقارات ومنقولات ولم يتسببوا، أبدا، في قلب النظام الاجتماعي وإنما كانوا يغادرون البلاد

بعد إبرام المعاهدات مباشرة كما يحدث ذلك عند الشعوب المتحضرة، وليس ثمة أمة تستعمل القوة إزاء شعب ضعيف دون أن تنال من مبادىء حقوق الإنسان. ولتدعيم هذه الحجج، أذكر بالأحداث الأخيرة التي أصبحت فيما بعد من التاريخ، والتي تتمثل في غزو الجزائريين للإيالة التونسية. وأتمنى أن يحقق قراء هذا الكتاب في صحة ما أوردته قبل أن يتهموني بالتحيز ضد الفرنسيين وبالحقد عليهم. وأترك للمتنورين والفلاسفة مهمة المقارنة بين أعمال الحكام الفرنسيين وأعمال الحكام الأتراك، وبين عنف الأولين واعتدال الآخرين. كما أترك لهم أن يحددوا أي الحكمين كانت لهم أحسن المبادىء. وإذا رجعنا إلى تفاصيل نظام حكم الأتراك، وتنظيمات الأهالي المجاورين لمدينة الجزائر مثل المتيجة وبئر سليمان، الخ ... أعيد إلى الأذهان بأن هؤلاء السكان قد طلبوا من الباشا .. قائد الإيالة، أن يعين لهم أحد الأتراك يجمع الضرائب ويقيم بينهم شهيدا على تصرفاتهم وشاهدا على طاعتهم للباشا. واستجابة لهذا الطلب تم تعيين قائد هذه المنطقة. ولأمور سياسية، كان الباشا يثق في السكان أكثر من ثقته بعامله، وذلك أن السلطان أو الملك يستطيع الاستغناء عن أي حاكم ولكنه لا يستطيع أن يكون على ما هو عليه إذا لم يكن تحت إمرته شعب يشكل أساس حكمه. وهكذا، إذن، كان الباشا مستعدا لتأييد شعبه أكثر من استعداده لمساندة عامله، اللهم إلا إذا حظي هذا الأخير بشهادة جزء من السكان لتزكية سلوكه وتبرير مواقفه. هذه هي الطريقة التي استعملها الأتراك لبسط نفوذهم، ثم تمكنوا بالتدريج من تمدين القبائل

بواسطة إشراكهم في النشاط البحري حيث كانوا يحاربون بشجاعة وإقدام موقنين بأنهم إنما يستشهدون في سبيل الدين. ومن بين هؤلاء القبائل رجال أذكياء يتكيفون مع الحياة البحرية. وهناك أمثلة رائعة عن استعداداتهم الطبيعية (¬8)، ومنخم من يستولون على السفينة بعد رحلتهم الأولى وهم يجهلون مبادىء الملاحة الأولية، وبما أنهم يعرفون الجبال وقممها معرفة جيدة، فقد كانوا يتمكنون من التمييز، بدقة بين نقطة وأخرى. وعلى أثر الترقيات، فإنهم ينتقلون من درجة نوتي إلى رتبة ربان. وعندما يتخلون عن المهنة، يأتون إلى مدينة الجزائر حيث يغيرون أوضاعهم وأنماط حياتهم وينتقلون من البساطة إلى البذخ. وعندئذ، يتركون جبالهم إلى الأبد ليستقروا في المدينة. وسرعان ما يتبنون عادات المدنيين وطبائعهم. وعندما يلاحظ العربي أو البدوي، هذا التغيير في وضعه يزداد ارتباطا بالأتراك الذين تصبح مصالحهم هي نفس مصالحه. وعلى أثر الغزو الفرنسي تعرض القبائل أو البدوي إلى جميع أنواع الاضطهاد فصاروا ولا زالوا يتمنون الحكم التركي الذي كان يمكنهم الاستفادة من منافع كثيرة حرموا منها الآن، ولكن كانت خيبتهم كبيرة عندما اطلعوا على حقيقة محاسن الحضارة والحرية الفرنسيتين. ¬

(¬8) لقد اشتهر من الجزائريين رياس كثيرون كانت لهم سمعة عالمية ولكن أهمهم، والذي دوخ أساطيل أوروبا وأمريكا هو الريس حميدو الذي توفي سنة 1815 أثناء معركة مع أحد الأساطيل الأمريكية. ولقد ترجمنا كتابا خاصا به ونشرناه في جريدة المجاهد الأسبوعية (أنظر الأعداد الصادرة في شهري جوليت وأوت).

الفصل التاسع حول كيفية تجهيز سفن القرصنة في الجزائر وتوزيع الغنائم، وحول التنظيم العسكري والديوان

الفصل التاسع حول كيفية تجهيز سفن القرصنة (¬1) في الجزائر وتوزيع الغنائم، وحول التنظيم العسكري والديوان لقد نتجت فكرة تجهيز سفن القرصنة في الجزائر عن الرغبة في الانتقام. وكان لا بد أن تتسم مثل هذه الاستعدادات بالعنف والضراوة ضد الإسبانيين الذين تشكو منهم هذه الشعوب أكثر من أية أمة أجنبية أخرى. وفيما بعد سوف تستعمل هذه السفن في تصفية النزاعات الدينية. كان الجزائريون يجهزون سفنا صغيرة تشبه سفن الإسبانيين، وكانوا يراقبون السواحل ويقومون بنوع من التجارة، وفي نفس الوقت يحتجزون السفن الأسبانية ويقودونها إلى مدينة الجزائر. ولا تدوم هذه الجولات البحرية، في العادة أكثر من خمسة أو ستة أيام. وعلى الرغم من أن قواد هذه السفن يجهلون فن الملاحة، كما سبق أن ذكرنا ; فإنهم يعرفون أن الساحل الإسباني في الشمال والساحل الإفريقي في الجنوب، وكانت قمم الجبال هي بوصلتهم التي تقودهم في سيرهم وتساعدهم على بلوغ الهدف. ¬

(¬1) هي الصفة التي كان الغربيون يطلقونها على الجهاد البحري الذي كان يقوم به سكان شمال إفريقيا ضد القراصنة من الأوروبيين وغيرهم.

ونطرا للنظام البحري الذي وضعته الإيالة، وتشجيعا للطامحين على امتهان هذه الحرفة، كان هؤلاء البحارة يستطيعون الارتقاء حتى إلى درجة أميرال ويشاركون في المجالس التي تنظر في أمور السلم أو الحرب مع هذه الأمة أو تلك. وليس للداي، في هذا المجلس، أكثر من حقه في التصويت. وكيل الحرج هي التسمية التي تطلق على من يتولى وزارة الحبرية. وتنحصر اختصاصاته في الجزائر، في كونه محاسبا للعتاد الحربي في الإيالة، ومراقبا لأشغال الترسانة. وعندما تجلب الغنائم إلى مدينة الجزائر، تباع للسكان وتوزع قيمتها حينا على ذوي الحقوق. وتأخذ الخزينة العامة الخمس كنصيب لها ووفقا لما تنص عليه شريعتنا، على أن هذا الخمس لم يكن تاما أبجا لأن الأشياء الثمينة كانت تؤخذ قبل الاطلاع على الغنائم. وفي كثير من الأحيان تعلم الحكومة بذلك ولكنها تغض الطرف حتى لا تفشل هؤلاء البؤساء الذين يعرضون أنفسهم للموت إما تعصبا للدين وإما رغبة في الحصول على الغنيمة. وكانت حكومة الأتراك تعلم كل العلم أنها إذ تشجع السكان في إنجاز مشاريعهم هذه، وتدفعهم في طريق الثروة، إنما تعمل على إثراء نفسها. وعلى الرغم من أن العائدات كانت ضئيلة عندما تأسست الإيالة، فإنها كانت تدرك بأنها إنما تعمل للمستقبل، وإنها سوف تتمكن فيما بعد من أن تجني، بطريقة شرعية، ثمار صناعتها وسياستها مثل رسوم الجمارك وغيرها. وعندما تأسست الإيالة كانت الميليشيا تتكون من الأتراك وأبنائهم من النساء العربيات، لأنهم كانوا يتزوجون من الأهالي.

ويتسم الآتراك بالقناعة والشرف والكرم. وبمجرد ما يحصل أحدهم على بغض المال يسافر إلى تركيا مسقط رأسه (¬2)، فيأخذ معه ألبسة فاخرة ليظهر في مظهر الرخاء والترف أمام بني وطنه وليعجبهم، إذ ربما هو ابن لأحد العمال أو المزارعين. وعندما يعود إلى الجزائر حيث عائلته، يصطحب معه جماعة من سكان بلاده يقدمهم إلى الدفتر، وتحت ضمانة يقبلون في صفوف الميليشيا ثم يتولى بنفسه تدريبهم على الجندية وتعليمهم واجباتهم الجديدة. ويخبرهم بأن في استطاعتهم الارتقاء، يوما، إلى أعلى مرتبة، وفي إمكانهم، على غراره وبعد أتعاب الحرب، أن يتمتعوا براحة طيبة، ويعيشوا في هناء ورخاء في أوساط المجتمع، وأن يتزوجوا بدورهم من الأهالي. ومن النادر أن تجد سارقا أو قاتلا من بين هؤلاء الجنود. وقد كانوا شديدي الحرص على احترام عادات البلاد ليحببوا أنفسهم إلى سكان الإيالة. ومن كانت لهم بعض المساوئ، كانوا يعملون على إصلاحها أو يخفونها بدقة للأسباب التي ذكرنها ولأن مستقبلهم موقوف على حسن سيرتهم. وبعد المشاركة في إحدى الحملات، يستطيع الجندي التركي أن ينخرط في صفوف البحرية تدفعه إلى ذلك مصلحته الشخصية وتساعده تربيته والصدف في بعض الأحيان. وتشتمل هذه المهنة على إمكانيات كبيرة للهلاك ولاكتساب الثروات. فبعض البحارة يموتون أو يستعبدون، وبعضهم يحصلون على الثروة والرتب. وفي الفصل الخاص بالفن العسكري سأذكر الدرجات التي يمكن لهم أن يبلغواها. ¬

(¬2) لم تكن تركيا هي مسقط رأس جميع الانكشاريين، وإنما استعمل حمدان ذلك تجاوزا فقط.

وفي وقت من الأوقات، رأى الداي نفسه مضطرا إلى بناء مسكن يقيم فيه خارج القصبة، وتشييد حصون لحماية المدينة، وثكنات للجيش. وحتمت عليه مثل هذه المصاريف ألا يمنح الجندي الواحد سوى أجر مقداره 18 فرنكا عن كل شهرين وأربع خبزات يوميا، وللاقتصاد، كان هذا الخبز يحتوي على ثلثين من القمح وثلث من الشعير. ويعطى للجندي، عند انخراطه في السلك العسكري، بذلة عادية وبندقية وطقان وقليل من البارود وقطعة من الرصاص يذيبها ويقولبها بنفسه، وبما أن الغنائم كانت معتبرة في ذلك الحين، فإن هذه المؤن كافية بالنسبة للجندي الذي يستعد للمشاركة في حملة من الحملات. أما الأجناد المتزوجون، فإنهم يتنازلون عن الخبز عندما يرون أن خزينة الإيالة مثقلة بالديون، ولما تجمع الحكومة، فيما بعد، مبالغ كافية تمنح لكل واحد منهم، اعترافا له بالجميل، صاعا قمحا (¬3) أي ما يعادل حوالي مئة رطل في فرنسا. يسكن الجنود أو الميليشيا التركية، في الثكنات تحت إشراف قوادهم، كل غرفة تحمل رقما، ويسير كل كتيبة ثلاثة قواد، اسم الأول بولكباشي والثاني أوضاباشي والثالث باش بولداش. وعندما يتغيب أحدهم يستخلفه الآخر ويتولى تطبيق الانضباط. وكلما نظمت حملة أو وقع تغيير حامية تحتم على بولكباشي أن يقود الكتيبة صحبة نائبه. ولهذين القائدين فقط حق ركوب الخيل حتى ولو كانت المسافة قصيرة، كما أنهما يستطيعان اصطحاب الشواش. ولهؤلاء الجنود الأتراك قوانين عسكرية لا يتجاوزونها أبدا، ¬

(¬3) هذا غير صحيح لأن الصاع يزن حوالي قنطار وثلاثين كيلوغراما.

ولا يحظى أحدهم بشيء، ولا يتقدم في الرتبة إلا بعد مرور الوقت الذي يحدده القانون. ولكي يصبح الجندي قائدا يجب أن يقضي على الأقل، عامين أو ثلاث سنوات في الخدمة العسكرية ويجب أن يمر بجميع الدرجات. والقواد برتبة بولكباشي هم الذين يكونون الديوان , وعددهم في هذه الهيأة ستون، يجتمعون صبح كل يوم في محل مخصص لمداولاتهم لاطلاع على الأعمال الإدارية أي لمراقبة الحكومة بمقتضى السلطات المخولة لهم بصفتهم هيأة عليا تتكون من قواد الجيش. ولا يحصل الداي أو الباشا على مرتبته إلا منهم وبحضورهم، وحتى عندما يبعث الباب العالي بالقفطان والقرمان (¬4) فإنهم هم الذين يقومون بعملية الانتخاب ويعينون العاهل لمبعوث الباب الذي يحمل تعيين من تم تعيينه بعد. وعند كل بيرم (¬5) تنظم الاحتفالات كالآتي: يعقد الاجتماع في قاعة وينتصب الداي الحاكم وسط المجتمعين ثم تقترح إعادة انتخابه، وبمجرد ما يتم ذلك تسلم له الإجازة، وإذا ما وجد اختلاف في الآراء يعين آخر في مكانه ولا يمكن أن يصبح الإنسان عضوا في الديوان إلا إذا توفرت فيه الشروط التي ينص عليها القانون، يجب أن يبرهن عن خبرة ومقدرة، وأن يكون عمل في الجيوش البرية والبحرية، ولذلك فإن جميع أعضاء الديوان تقريبا يكونون متقدمين في السن ومتزوجين من الأهالي. ويسمى رئيس ¬

(¬4) كلمة فارسية تعني عهد السلطان للولات. ويتضمن الفرمان عادة الأوامر والتوجيهات. (¬5) عيد الفطر.

الديوان آغا العسكر، ويحمل سيفا ونوعا من القراب يضع فيه قوانين الإيالة. ولا يحق للآغا أبدا أن يتخلى عن هذا القراب. كما أنه يركب حصانا مدبجا ويتولى، صباح كل يوم، رئاسة الديوان الديوان كما ذكرنا ذلك. ولا تدفع أجور الجنود إلا بمحضر هذا الرئيس. لأن خزينة الدولة، في الجزائر، لا تفتح إلا بحضور الخوجه أو موثق الدولة وبحضور لجنة خاصة يكون لكل عضو فيها مفتاح وكلما استدعى جاء لتقييد المدخولات والمخروجات. وإن الداي نفسه لا يستطيع التصرف في خزينة الأمة. وإنما يأتي كالجندي البسيط ليتقاضى مرتبة أو مخصصات الملك. ومن اختصاصات رئيس الديوان تطبيق العدالة، في منزله، على الأتراك الذين يخلون بقواعد الانضباط أو يتعدون على القوانين، كما أنه يقوم بنفس المهمة بالنسبة للكراغلة الذين هم أبناء الأتراك أو من سلالتهم. وفي القضايا الخاصة بالعادات والقووانين العسكرية، يتوجه رؤساء المحاكم الجنائية والتأديبية إلى القاضي لمعرفة رأيه ولتطبيق القوانين. وإذا كانت هناك عقوبة، فإن رئيس الديوان هو الذي يأمر بتنفيدها في مقر الديوان حتى نعطى لقرار القاضي صبغة رسمية. لا يمكن أن يدخل الأتراك أو من كان من نسلهم إلى أي سجن آخر غير سجن الديوان. وفي حالات مختلفة، يلجأ القاضي نفسه إلى الديوان لتنفيذ الأحكام لأن العسكريين لا يحاكمون أبدا بواسطة القوانين المدنية وإنما بواسطة القوانين العسكرية. لا تدوم مهمة رئيس الديوان سوى شهرين، ويتولى الرئاسة كل عضو

بالتناوب وحسب الأقدمية، وإذا وجد خلاف يكون الفصل بأغلبية الأصوات. وعندما تؤول الرئاسة إلى أحد أعضاء الديوان، يضاعف مرتبه. والديوان هو الذي يقرر في كل ما له علاقة بسياسة الإيالة الخارجية أو الداخلية. وإذا حدث أي اضطراب في الداخل كتمرد قبيلة أو انقطاع طريق، فإن أعضاء الديوان يحققون في أمره ثم يعطون رأيهم فيما يخص الوسائل التي يجب استعمالها لإعادة الأمن. وكما هو الشأن في فرنسا، فإن القانون لا يعترف بالعهر. وإنما ترجع إباحته إلى عادات البلاد وأمن المجتمع، والديوان، دون القاضي، هو الذي ينظر في جميع الخلافات التي تحدث في هذا الميدان. وبما أن أبناء الأتراك ومن كان من نسلهم قد قبلوا، في وقت من الأوقات لعضوية الديوان، فإنني سأوضح فيما بعد الأسباب التي أدت إلى حرمانهم من التمتع بهذه العضوية.

الفصل العاشر حول الداي وحكومته ومختلف العادات

الفصل العاشر حول الداي وحكومته ومختلف العادات ليس للداي سلطة غير الأمر بتطبيق القوانين المدنية والعسكرية، والإشراف على حصون المدينة وتنظيم الجيوش ومراسلة القبائل المختلفة قصد التهدئة والمحافظة على الأمن، وقصد حماية تلك القبائل من سائر أنواع الظلم وذلك بأن يبرز لها منافع السلم ومساوىء الحرب. إن المالية العمومية والتنظيم الضروري لإدارتها، وكذلك تعيين الوزراء وغيرهم من أعضاء حاشيته تدخل أيضا في جملة اختصاصاته. ومن خلال النظام السياسي الذي وضعوه في الجزائر، يحاول الأتراك، بقدر المستطاع، أن يتحالفوا مع البرابرة وأن يشجعوا الصناعة بجميع أنواعها. ولكل حرفة أمين أو مفتش، ويسمى رئيس كل هؤلاء الأمناء شيخ البلدة أو والي المدينة. زيادة على ذلك يوجد في كل مدينة حاكم ثان يختار من بين الأسر الشريفة التي تنتمي إلى أحد المرابطين. ويسمى هذا الشخص نقيب الأشراف، وواجبه كلما حدث أمر هام، أن يجمع في بيته شيخ البلدة وسائر الأمناء التابعين له للبحث عن التدابير التي يجب اتخاذها.

فهؤلاء هم الذين ينظمون شؤون المدينة، ويحافظون على الأمن في أوساط مختلف الطبقات العاملة، ويراقبون الشرطة المحلية، والنظافة والقنوات والمؤسسات العمومية والجمعيات الخيرية والمستشفيات، الخ ... وأخيرا، فإليهم تلجأ السلطة في جميع الحالات. ومن قوانينهم أنه لا ينبغي أن يساهم جميع المواطنين، بدون استثناء، في تكوين الجيش، لأن بعضهم يشتغل بصناعته أو يسهر على رعايته أسرته، ومثل هؤلاء لا يطلب منهم القيام بما قد يعرقل أعمالهم أو يعقدهم عن واجباتهم، وإنما يكونون، فقط، أجنادا متطوعين لحماية مناطقهم الخاصة إذا كانت هناك تعبئة عامة، ومعنى ذلك أنهم ينخرطون في جيش لا يتقاضى أجرا ويمكن مقارنته بالحرس الوطني في فرنسا (¬1). وعندما وضع هذا التنظيم للإيالة، كان الأتراك يريدون أن يساهم مواطنوا الجزائر في الديوان الذي تكلمت عنه أعلاه; غير أن هؤلاء المواطنين رفضوا حتى لا يكونوا مسؤولين أمام الحكومة، وقالوا بأنهم يفضلون أن يكونوا وسطاء بين الحاكم وسكان الداخل ; ومراقبين لما يقوم به الحاكم أو أعوانه من أعمال، أملا منهم بأن سلوكهم هذا يجعل الأتراك يزدادون ارتباطا بالإيالة ويرتاحون للثقة التي يوالونها إياهم. أما الذين يصبون إلى المسؤوليات، فإنهم كانوا يقدسون القوانين ولا يخالفونها أبدا. وبما أن هناك جنودا من الميليشيا يرتبطون بالأهالي عن طريق الزواج ويندمجون في المجتمع قبل بلوغهم درجة بولكباشي، فإن الواجب يحتم عليهم قبل ارتقائهم إلى ¬

(¬1) نوع من الميليشيا، أنشء سنة 1789 من الطبقة البورجوازية وألغي في عهد (العودة) ليظهر للوجود مرة أخرى سنة 1848 تحت اسم الحرس الوطني المتجول.

الديوان أن يقضوا عدة سنوات في دراسة الشؤون الإدارية والحكومية. وللحصول على هذه العلوم الجديدة الضرورية لعضوية الديوان، يجتمعون عند شيخ البلدة ونقيب الأشراف، ذلك أن الديوان هو المجلس الأعلى للحكومة التركية المكلف بمراقبة جميع أعمالها. وبواسطة هذا التنظيم الحكومي، تمكن الأتراك من بسط نفوذهم في إفريقيا، لأن غالبية سكان الإيالة، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، مكونون من الأندلسيين ومن القبائل أو البرابرة الذين تمدنوا وغيروا أوضاعهم. وبتبنيهم الطرق الجديدة لحياة المدينة حدث التقارب بينهم وساعدت على ذلك مصالح الأسرة والمصالح الصناعية والتجارية. وتأكدت الحكومة التركية من أن قوة القبائل لا تقهر، وأيقنت أنها لن تتمكن من إخضاعهم بحد السيف وإنما باللطافة والتسامح والإرادة الحسنة التي أسفرت عن نتائج مرضية تتمثل في بقاء الحكومة مدة تزيد على ثلاثة قرون. وللباشا أو الداي نائب يحتفظ بمفتاح الخزينة ويسمى الكاهية. ومن جملة أعضاء الحكومة يوجد اثنان أحدهما يسمى وكيل الحرج، وثانيهما يسمى الخزناجي ومن بين هؤلاء الأشخاص يختار الداي، لأن الحكم، في الجزائر، ليس وراثيا، إذ أن الاستحقاق الشخصي لا ينتقل إلى الأطفال. وبعبارة أوضح نستطيع القول بأن الجزائريين اختاروا مبادىء الحكم الجمهوري (¬2)، ورئيس الجمهورية هو الداي. ¬

(¬2) هناك من يقول أن الجزائر كانت جمهورية عسكرية، ويذكر آخرون أنها كانت مملكة. والواقع أنها لم تكن هذه ولا تلك، وإنما كانت تحكم بنظام خاص لم يعرف في أي بلد آخر، أهم ميزاته أنه كان يجمع بين الصبغة المدنية والعسكرية.

وبعد الوظائف التي ذكرناها تأتي مرتبة الآغا وهي درجة سامية، إذ هو الذي يقود وحدات الفرسان التي تتكون في معظمها من العرب أو القبائل. وعليه يتحتم على الآغا أن يتكلم العربية ليتمكن من إعطاء الأوامر وتسيير جيوشه. وبعد الآغا يأتي خوجة الخيل الذي يشرف على الأملاك الوطنية، وتدخل في اختصاصاته، أيضا، إدارة الحارات (¬3) والتصرف في الجمال المخصصة لنقل الجيوش والعتاد الحربي. وهو الذي يأمر بتوزيع هذه الخيول والجمال على مختلف قبائل الإيالة التي تتولى الاعتناء بها والمحافطة عليها، وذلك بعد أن تدمغ بخاتم الدولة. وإذا وقع حادث يؤتي بقطعة الجلد التي تحمل العلامة للتدليل على صوت الحيوان. ونتيجة لهذه الطريقة في العمل يحظى الحيوان بعناية وتمنح الثقة لتلك القبائل التي تجد منفعة في استعمال الحيوانات لقاء حاجتها. وبالإضافة إلى ذلك تعمل هذه الوسيلة على تمكين الرباط بين القبائل ومصالح الحكومة. ويحدث في بعض الأحيان أن رعاة الخيل والجمال هؤلاء يحتاجون إلى دراهم فيبيعون صغارها. عندئد يحدد خوجة الخيل سعر المبيعات بأثمان تكون دائما معتدلة، ولتسهيل الأمور على هؤلاء الرعاة، غالبا ما يعطيهم أجلا للدفع يتراوح ما بين عام وعامين. وكثيرا ما يقدر الحيوان المباع بثمن أقل من سعره الحقيقي، وذلك لشدهم إلى الدولة وللحصول على طاعتهم طوعا، وإقناعهم بعدل الحكومة إزاءهم وبالعناية التي توليها لإسعادهم. ¬

(¬3) الحارات جمع حارة وهي الزقاق تسكنه، عادة، عائلة واحدة أو عدة أسر من سلالة واحدة.

وهناك شخص آخر هو رئيس الكتبة ويسمى المقطجي (¬4) وهو الذي يشرف على سجل محاسبات الدولة وسجل القوانين العسكرية الذي يحتوي على الأسماء والألقاب والدرجات المختلفة بالنسبة لكل فرد. ويوجد تحت تصرف هذا الكاتب الأول ثلاثة أشخاص مكلفين بالسجلات. يسهر أحدهم على المحاسبات الخاصة بالعسكريين وعلى كل ما يتعلق بهم، ويقوم الثاني بالمحاسبات العامة فيما يخص الدولة، أما الثالث فيعتني بسجلات الجمارك. وتنقل هذه السجلات الثلاثة على سجل رئيسي كبير، لأن كل واحد منها يعتبر كمجرد دفتر يقيد فيه بالضبط كل ما يجري لتجنب سائر أنواع الخطأ والنسيان. إن مهمة المقطجي أو الكاتب الأول لفي غاية من الأهمية. وتعتبر كمهنة شيخ الإسلام الذي هو المفتي الحنفي. ومن الواحب على هذا الكاتب الأول، الذي يستشيره العاهل في جميع الحالات، أن يعرف القوانين الأساسية والتاريخ وحقوق الإنسان حتى لا يقوم بأي عمل ضد القانون، كما أنه يحظى بلقب أفندي الذي لا يلقب به سوى الداي والمفتي. وعلى الرغم من أن رتبة الخزناجي مساوية لدرجات هؤلاء الأشخاص الثلاثة، فإنه لا يتمتع بهذا اللقب. وعندما يحضر أحد هذه الشخصيات الأربع يتحتم الوقوف على جميع القادة العسكريين الذين يكونون الديوان. وإذا كان الخزناجي يحظى من العامة بنوع من الاحترام فلأنه من الممكن أن يصبح دايا في يوم من الأيام، ولذلك يتوددون إليه مسبقا. إن الحكومة التركية لم تتمكن أبدا من تأسيس إمبراطوريتهما في إفريقيا إلا ¬

(¬4) ويقال له كذلك المكتويجي. وقد كان والد حمدان مكتويجيا.

بالعدل وبتطبيق النظام السياسي الذي انتهيت الآن من وصفه. ومكانتي في مدينة الجزائر هي التي مكنتني من أن أقدم هذه التفاصيل بدقة. لقد كان والدي مشرفا وأستاذا بالقانون، كما أنه اشتغل مقطجي أو كاتبا أول، وهو الذي علمني نظام الحكم التركي، وفي عهده درست شريعتنا ثم اشتغلت بالتدريس بعد وفاته. وفي أثناء رحلتي إلى أوروبا، درست مبادىء الحرية الأوروبية التي تشكل أساس الحكم التمثيلي والجمهوري، ووجدت أن هذه المبادىء كانت تشبه المبادىء الأساسية لشريعتنا إذا استثنينا فارقا بسيطا في التطبيق، وعليه فكل من يدرك الشريعتين إدراكا صحيحا يستطيع الموافقة بينهما وأعتقد أنه لن يتمكن من إنكار هذه الحقيقة. وهناك أحد المبادىء الأساسية في شريعتنا يقول: (تترتب عن الزمن وحاجات الإنسان ظروف لم تتوقعها القوانين، ولذلك يجب على المشرع أن يتفهم الضرورات ويعمل على إيجاد كيفية حكيمة لتطبيق هذه القوانين). لكن من سوء الحظ أن سائر الملوك يجهلون مبادىء هذه القوانين، مما تجعل أوروبا تنتقد تشريع الشرق. ولو أن السادة المتحررين كانوا يعرفون مبادىء قوانيننا معرفة جيدة ويدركون مدى الحرية التي تتسم بها مؤسساتنا، لكان من الممكن أن نجد فيهم مساعدين بدلا من أعداء كما هو الشأن الآن. سأقدم، فيما بعد بسطة عن شريعتنا وعن قواعدها الأساسية. وعلى الرغم من أنه ليس من اختصاص هذا الكتاب أن يعالج هذه المبادىء، وما دمت أتكلم عن تاريخ الإيالة. ونظام حكومة الأتراك وعن السياسة التي سلكوها للبقاء مدم طويلة، فإنني أرى من المستحسن بل من الضروري أن

أعطي فكرة عن القوانين الشرقية. وأقول شرقية لأن هذه القوانين هي التي تسير شؤون جميع البلدان الإسلامية أو 130 مليونا من المسلمين الذين يسكنون مختلف أنحاء المعمورة. وللرجوع إلى حكومة الأتراك، أقول بأن الإدارة لا تطاق إلا إذا كانت عادلة. ولذلك فبمجرد ما تعلن مقاطعة عن خضوعها لقوانين. كانت الحكومة التركية ترسل حامية تقي سكانها من كل هجوم، ويقود الحامية ضابط برتبة بولكباشي يساعد أوضاباشي وباش يولداش. وهؤلاء الثلاثة يمثلون الديوان، ويعتبرون قادة عسكريين وإداريين في نفس الوقت وعليهم أن يتفاهموا مع رؤساء المقاطعة لحماية المصالح المحلية والقيام بمهام الشرطة وبتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الفلاحة والتجارة، الخ ... وتغير الحماية كل سنة. وكان الشيوخ الذين مارسوا هذه الوظائف يرددرن، دئما، للشبان ولخلفائهم: (إننا أجانب، لم نخضع هذا الشعب ولم نمتلك البلد لا بالقوة ولا بحد السيف. إننا لم نصبح سادة إلا بالاعتدال واللطافة!!! وفي بلادنا لم نكن رجال دولة، وإنما حصلنا على ألقابنا ومراتبنا في هذه الأرض، فهذه البلاد إذن وطن لنا. وأن واجبا ومصالحنا تتطلب منا أن نعمل على إسعاد هؤلاء السكان كما لو كنا نعمل من أجل أنفسنا. ومن واجبات الداي كذلك العمل على معرفة مشاعر سكان الإيالة، وسلوك ولاته، وعلى كيفية تطبيق العدالة. وأداء هذا الواجب يكون على الدوام موضوع المناقشة بين الديوان والداي كلما دعي المجلس للانعقاد. وأن ارتباط المصالح والزواج من نساء جزائريات قد جعل من اختصاص أعضاء الديوان أن يتداولوا فيما يخص منافع البلاد وما يجري في الإدارة. وكانت

مجهوداتهم تهدف، دائما، إلى تحقيق السعادة والأمن العموميين. وباختصار لقد كانوا يتصرفون كأرباب أسر تجاه أبنائهم. هذا، وإن الأتراك - وأكرر ذلك - يبدؤون جنودا، فيعرضون أنفسهم إلى جميع المخاطر قصد الحصول على الثروة وعلى المسؤوليات. وعندما يتقدمون في السن يجنحون إلى الراحة ويتقاضون تعويضات تتناسب مع خدماتهم، وعندئد، فقط، يبلغون المراتب العليا، ويستطيعون الارتقاء حتى إلى درجة داي. وعندما يموت الباشا، يجتمع الديوان كما تنص على ذلك القوانين، ومن توفرت فيه جميع الشروط الضرورية يتم انتخابه ويعلن باشا، ثم يجلس حينا على أريكة الملك بعد أن يكون قد ارتدى قفطان الداي الراحل. بعد ذلك يؤدي اليمين القانونية ويحتفل بتعيينه , وعندما تنتهي عملية التنصيب يكلف أحد الأشخاص بالذهاب إلى الباب العالي للإخبار عن وفاة الباشا القديم وقيام الديوان بانتخاب الحاكم الجديد، وبهذه المناسبة تكتب رسالة تحمل إمضاء وخاتم كل واحد من أعضاء الديوان وخاصة القاضي والمفتي ونقيب الأشراف. ويوافق أعيان المدينة كذلك، على هذا الاختيار ويشهدون على مقدرة الشخص المعين. ويسمى الرسول الذي يحمل هذه الرسالة آغا الهدية، إذ أنه يحمل معه هدية مكونة من بضعة جلود الأسود والنمرة، وعدد من الأغطية الصوفية التي تصنع في الجزائر. والغرض الرئيسي من الهدية، التي لا تتجاوز قيمتها 5000 فرنك، هو تقديم نموذج عن منتوجات الإيالة الصناعية. وتوزع على السلطان وأعضاء حاشية الذين هم القبطان باشا والوزير، الخ ...

ويكلف هذا الرسول بأن يطلب شفاهيا، من الباب العالي أن يعطف على الإيالة ثم يطلعه على بؤس البلاد وقلة الأموال اللازمة لإقامة الحصون، ويطلب المساعدة والحماية. عندئذ يقدم الباب العالي للإيالة عتادا حربيا مثل المدافع والبارود والحبالة، وأخشاب البناء إلى غير ذلك، وفي بعض الأحيان يزودها ببواخر جاهزة. وإذا استمر عهد الباشا أو الداي حوالي عشرين سنة، فإن الأمر ينتهي عادة، إلى تجديد البعثة للحصول على قفطان جديد أو فرمان. وظلت هذه التقاليد سارية المفعول إلى سنة 1770. وفي عهد محمد باشا، سنة 1784، (كنت صغيرا آنذاك) صاحبت خالي الذي سافر إلى القسطنطينية مع آغا الهدية في ذلك الوقت. ويقال أن الهدية، في تلك الفترة، كانت معتبرة، ومع ذلك فأنا متأكد من أن قيمتها لم تتجاوز 6000 فرنك. وجاءت هذه السفارة بعد حملة الإسبانيين المشهورة عندما كانت الجزائر في حاجة إلى بعض العتاد الحربي، وبالفعل، فإن الباب العالي قد زودها منه بثلاث حمولات كاملة. وبعد وفات محمد باشا الذي خلفه مصطفى باشا (¬5)،كانت الهدية التي أرسلت إلى الباب العالي أكثر اعتبارا، إذ تتضمن الماس والمجوهرات وأشياء ¬

(¬5) غير صحيح، لأن الذي تولى بعد محمد باشا هو باباحسن خال مصطفى باشا، وقد حكم من سنة 1792 إلى سنة 1798. وعندما توفي، نتيجة دمل في رجله، خلفه مصطفى.

أخرى مماثلة مما يتقبله الدايات من البلدان الأوروبية (¬6) , ويمكن تقييم هذه الهدية بمبلغ مليون من الفرنكات. وبالمقابل كانت عطية الباب أكثر أهمية إذ اشتملت حتى على بعض الحراقات. هذه هي المساعدة التي تقدمها الجزائر إلى الباب، وهذا هو المقابل الذي تتلقاه بدورها من السلطان كإعانة للمحافظة على الإيالة التي تعد من جملة أملاكه. ووفقا لأحد قوانين حكومة الأتراك -عهد ذاك - تأسست في الإيالة، هيأة يسمى رئيسها التركي بيت المالجي، يساعد هذا الرئيس قاض وموثقان وكاتبا ضبط ومسجلون. تتولى هذه الهيأة مراقبة تركات جميع الأشخاص الذين يتوفون , والأولياء هم الذين يقدمون إليها المعلومات. ولا يمكن أن يقبر الميت إلا بأمر من رئيس هذه الهيأة التي تعين حقوق الورثة، وإذا كانوا متغيبين، فإن القاضي الخاص يقوم، صحبة أحد المسؤولين السامين، بتعيين وكيل يمثلهم، وأوصياء بالنسبة للقاصرين. وإذا كانت هناك وصية ما ينفذ محتواها بعد تسجيلها والتأكد من صحتها. عندئذ يؤذن بحمل الميت، في نعش، إلى مثواه الأخير، ويذهب الموثقان إلى محل سكناه يقيدان جميع الأشياء الموجودة فيه. وتنقل الأشياء الثمينة، التي يخشى أن تضيع، إلى مأمن حتى يجتمع الورثة أو غيرهم من ذوي الحقوق. وإذا كان الميت أجنبيا، مجهولا أو كان أهله متغيبين، فإن هذه الهيأة تمثلهم. فتبيع التركة بالمزاد العلني وتحتفظ بالقيمة كوديعة مقدسة ¬

(¬6) كانت جميع الدول الأوربية وأمريكية تدفع إتاوة سنوية للإيالة وكذلك كثيرا من الهدايا الثمينة. وذلك لتحمي أساطيلها من هجمات الجزائريين.

بعد أن تخصم منها المصاريف التي يجب أن لا تتجاوز سبعة في المائة لتدفع أجور كاتب الضبط والموثق ومصاريف البيع العلني الخ ... ويودع المبلغ في صندوق عمومي، ويسجل مقداره في ثلاثة سجلات، ولا يستطيع أحد أن يتصرف فيه إلا بإذن شرعي. وإذا لم يترك الشخص المتوفى وارثا حاضرا أو غائبا. تحسم المصاريف المترتبة عن دفنه وتدفع ديونه إن كانت عليه ديون، ثم تنفذ رغباته الأخيرة إذا كانت لا تتجاوز المقدار الذي ينص عليه الشرع. لأنه لا يملك التصرف إلا في ثلث أملاكه، هذا حتى ولو ترك أقرباء أما الثلثان الباقيان فيضمان إلى الأملاك الوطنية، وتستعمل الأموال التي يحصل عليها هذا الصندوق العمومي في دفن الفقراء والأجانب الذين لا مأوى لهم، وفي مساعدة المعوزين ودفع أجور الأساتذة العمومين الذين ينفقون أوقاتهم في تنوير المجتمع وتزويده بالمعرفة , كما أنها تستعمل لمساعدة المؤلفين والطلبة المعدمين، الخ ... وهناك من الأتراك من هو مرتبط أشد الارتباط بالإيالة. فنجد الكثير منهم لا يتزوجون عمدا ليتركوا ثرواتهم إلى بيت المال. ولهذا السبب كان دخل هذا الصندوق معتبرا في وقت من الأوقات. وبمجرد ما تجمع خمسون ألف فرنك في هذا الصندوق تحول إلى الخزينة العامة نظرا لمصاريف الدولة المرتفعة ودخلها الضئيل , وقد ظل هذا هو الشأن إلى أن كان الغزو الفرنسي. وتعتمد قوانين بيت المال على المبادىء الأساسية لشريعتنا، وفي بعض الأحيان يستلف صندوق من صندوق آخر دون أن يحدث أي خلل في النظام القائم.

وفي زمن الطاعون (¬7) كان لإدارة بيت المال نشاط يفوق نشاط جميع الإدارات الأخرى، فهي التي تقوم بإحصاء الموتى وتعمل على تجنب الفوضى التي قد تتسبب فيها كثرة الوفيات كما أنها هي التي تتولى التركات المهملة وتقوم بعمليات الميراث .. الخ. وعندما كان الغزو الفرنسي استولى الفرنسيون على صندوق بيت المال الذي كان يحتوي على مبالغ هائلة (¬8) كما إنهم استولوا على الودائع الخاصة التي كانت فيها، وبذلك صار الصندوق في عجز كبير. وعلى أثر هذا الغزو، ومنذ أن طرد الأغنياء، صار دخل بيت المال في نقصان كبير، وكيف يمكن لهذه الإدارة أن تسترجع دخلها العادي إذا كانت تركة الشخص الميت بالوقت الحاضر سواء كان له ورثة أم لا، لا تكفي إلا لدفع مصاريف دفنه؟ بل إنني أعتقد جازما أن رئيس بيت المال حاليا، وهو جزائري ; يدفع أموالا طائلة من عنده لدفن الفقراء كتسبيق للصندوق مثلما تعود أن يفعله سابقوه. ولكن الراجح هو أن هذا الرئيس إنما يقصد بتصرفه عمل الخير لأن تصرفاته كانت دائما هي تصرفات الإنسان السخي المحسن. والملاحظة هو أنه لا يمكن التصرف في الأموال المودعة في خزينة بيت المال لأنها لأشخاص مختلفين من الخواص وفي عهد الأتراك كانت هذه المودعات ¬

(¬7) آخر طاعون أصاب الجزائر المستقل هو ذلك الذي ظهر سنة 1817 ولم يختف إلا سنة 1822. وقد قضى على حوالي سدس سكان الإيالة. (¬8) تقدر تلك المبالغ بحوالي مائة مليون من الفرنكات , ويقال إنها نقلت إلى لندن حيث تقاسمها لويس قليب وتاليران وبعض أعونهما.

لتعتبر دائما من المقدسات التي لا تمس. وكأحد سكان مدينة الجزائر العالمين بنشاط خزينة بيت المال، أستطيع أن أؤكد صحة كل ما قيل أعلاه. وللأسباب التي ذكرتها، فإن مدخولات مداينة الجزائر غير معتبرة ولكن أعمال الظلم لا يمكن أن يكون لها أثر خارج المدينة، لأن السلطة الفرنسية لا تمتد إلى ما وراء الأسوار. لكن لم يكن للحكومة التركية، عندما أسست، موارد كبرى حتى أن أحد الدايات أو الباشوات قد وجد نفسه مضطرا، لدفع أجور الأجنااد، أن يقدم أشياء مختلفة مثل العتاد الحربي وغيره، ويعيد شراءها عندما تتوفر الأموال في الخزينة. وفي وقت من الأوقات، كان خمس الغنائم المخصص للدولة لا يكفي لسد حاجات الإيالة اليومية، الأمر الذي كان يجعل من الصعب إيجاد متطوع للحكم. ولقد حدث أن بقي العرش خاليا إلى أن رأى السلطان من الضروري إرسال أحد الباشاوات بعد تقليد زمام الحكم. وكان هذا الشغور يدوم فترات طويلة. وعندما تحسنت أوضاع الخزينة، وذللت الصعوبات، توقف الجزائريون عن مطالبة القسطنطينية بتعيين القادة ورضي السلطان بذلك. وعندما تم توحيد تلمسان وقسنطينة إلى باقي أجزاء الإيالة، وجد باشا الجزائر نفسه مضطرا إلى تنظيم إدارة هاتين المقاطعتين الجديدتين. وبهذا الصدد أرسل بايا أو واليا إلى قسنطينة وآخر إلى معسكر.

أما وهران، التي هي مقر الباي، فإنها كانت تابعة للاسبانيين في ذلك الوقت. ولم تخرج من قبضتهم إلا مؤخرا، كما أوضحنا ذلك سابقا. وفي نفس الوقت تم تعيين باي في المدية وهي أهم مدينة في مقاطعة التيطري. وفيما يلي قانون هؤلاء البايات: تأتي هذه المرتبة بعد درجة الآغا الذي ذكرنا اختصاصاته أعلاه. وعلى كل واحد من هؤلاء البايات أن يؤم مدينة الجزائر يخبر عن إدارته، ويقدم بنفسه فائض المدخولات، وذلك لأنه يخصم منها كل ما هو ضروري لموظفيه ولفرسانه ورجال المدفعية بحيث يكون المبلغ الذي يدفعه إلى الخزينة العمومية كل ثلاث سنوات مساويا لثمن مدخولاته. حدود كل مقاطعة مضبوطة، وكل باي مسؤول عن إدارته وعن الحدود. إن الأجزاء التي توجد بها أملاك وطنية تخضع في إدارتها وتسييرها لخوجة الخيل. أما الأراضي الكئنة في ضواحي مدينة الجزائر، والتي لا تدخل في ممتلكات الدولة ولا في مقاطعة من مقاطعان البايات الثلاثة، فإنها تكون تحت تصرف الآغا (¬9). وعندما يموت الباي، فإن الواجب، يقضي بأن يكون خليفته صهرا لشيوخ العرب ومطلعا كل الاطلاع على العادات والتقاليد. أما تركة الباي المتوفى فتعود لورثته، باستثناء العتاد الحربي وكل ما له صلة بالإدارة التي كان مكلفا بها، إذ أن هذه الأشياء تترك في المسكن تحت تصرف الباي الجديد ¬

(¬9) هو رئيس القوات المسلحة.

حتى لا يكون مضطرا لشرائها أو للمطالبة بالأموال اللازمة لذلك، وهكذا يجد الباي الجديد موردا هو بداية ثروته. وقد جرت العادة أن يرسل الباشا لكل باي حامية في كل سنة مرة. وبما أن سكان مقاطعة التيطري فقراء وقليلو العدد، فإن الحامية لا تبقى عندهم إلا شهرين ثم ترجع إلى مدينة الجزائر. وفي معسكر، في الجزء الغربي، تبقى الحامية أربعة أشهر، وأما في قسنطينة التي تشكل شرق البلاد، فإنها تبقى ستة أشهر. وإذا أراد أحد الجنود، في حامية ما، أن يقيم في المقاطعة إلى أن تعود الحامية المقبلة، فإنه يحصل على الإذن بكل سهولة. وإن الكثير من أعضاء الميليشيا يفضلون البقاء في المقاطعات على العودة إلى مدينة الجزائر: 1 - لأن مرتباتهم تتضاعف أثناء غيابهم، وادخارهم يتزايد لأن حياة المدينة أغلى من حياة الريف. 2 - لأن الباي الذي يبقون معه يقدم لهم العطايا والمنح. وفي أثناء السير تطعم الجيوش بالبرغل، أي بالقمح، يقلى ثم يرحى ويغربل لتنزع منه النخالة فيصبح نوعا من البسيسة. ويحتفظ بهذا القمح المطحون عاما كاملا، ويحضر ويطبخ تماما مثل البيلو (أكلة تركية شائعة في فرنسا). ويحضر بالزبدة فقط. ولا يأكل الجنود اللحم إلا مرة في الأسبوع. ولذلك يفضلون في الشتاء حياة الحامية في المقاطعات على البقاء في مدينة الجزائر وعلى حياة القرصنة. تتكون حامية قسنطينة من 100 خيمة، وحامية معسكر من 60 وحامية المدية من 40 وتأوي كل خيمة 30 جنديا يقودهم ضابط برتبة بولكباشي

وآخر بدرجة أوضاياشي وثالث يسمى باش يولداش. وفي كل واحدة من هذه الخيام محافظ للمؤونة يحرس المعاش والطبخ ويسمى الطباخ. ويساعده في مهمته عامل يسمى الصاغا، يكلف بجلب المياه من مختلف الآبار وتوزيعها على الجيوش. ولكل خيمة، بالإضافة إلى ذلك، خادم يتولى جمع المتاع ونقله على الجمال من مكان لآخر. وعؤلاء الأشخاص الخمسة الذين ذكرتهم يركبون الخيل، أما الباقي فيمشون راجلين ويحمل كل واحد سلاحه. ويشرف على كل معسكر قائد يسمى آغا المحل. ويختار عادة من بين الضباط الذين لهم رتبة بولكباشي ; بحيث لا يمكن التقدم في الدرجة إلا بقدر ما تكون الوفيات كما ينص على ذلك قانون الميليشيا في الجزائر. ويصطحب هذا الآغا شاوشا من ديوان الجزائر يعهد إليه بنقل أوامره. وعندما يقوم البايات بجولات في كامل أنحاء مقاطعاتهم لجمع الضرائب، فإنهم يصطحبون معهم الحامية التركية، وعندئذ يكلف الشاوش بنقل تعليمات الباي إلى الآغا. فعندما يشير الباي بتبديل المكان، يقوم الآغا بنقل أوامره إلى الأوضاباشوات الذين ينقلونها بدورهم إلى من هم أدنى منهم درجة بحيث تتخد جميع الإجراءات في رمشة عين. وبحسب الموقع الذي يكون فيه المركز، يجب أن تقام خيمة الباي وسط الجيوش محاطة بهالة من الفرسان هي نفسها مطوقة بدائرة من المشاة، ولا يترك سوى ممر يقود إلى وسط المركز، وعلى حافتي هذا الممر تقام خيمة كبيرة نحد فيها المستشفى والصيدلية والمقهى، وأخرى يقيم فيها آغا المحل. وأمام

هذه الأخيرة تنصب الأعلام من جهة، والمدافع والمدفعيون والعتاد الحربي من جهة أخرى. وعندما يريد الباشا عزل أحد البايات، يرسل تعليماته إلى آغا المركز أو آغا الحامية، بحسب المكان الذي يكون فيه الباي، فيضع حدا لسلطته ويلقي عليه القبض في بعض الأحيان إلى أن يأتي خلفه، وذلك مخافة أن يهرب، الأمر الذي قد يؤدي إلى وقوع الاضطرابات في البلاد. كان البايات لا يعزلون إلا نادرا، في الأيام الأولى من عهد الأتراك. وعندما أصبح الباشوات والدايات جشعين يجرون وراء الثروة كثرت التبديلات والتغييرات التي كانت مضرة بالنسبة للشعب وللحكومة على السواء. وكان من عادة الباشوات القديمة القيام بجولة ربيعية في كل سنة. ويرافق الباشا في هذه الجولة ديوانه الخاص الذي يشكل الحاشية، وكذلك أعضاء ديوانه الأعظم ما عدا آغا اليولداش الكبير ونائبه اللذين يجب أن يبقيا في المدينة. ويتبع الباشا ; أيضا، القواد والسناجق وفرقة موسيقية كاملة وعدد من الشخصيات الأخرى. وعلى بعد حوالي نصف ساعة من مدينة الجزائر، بجوار حديقة مصطفى باشا، يوجد مكان في موقع حسن وله منظر جميل، تقام فيه خيمة رائعة لاستقبال الباشا وحاشيته. وعندما يصل الباشا يدور الموكب دورة حول هذه الخيمة قبل النزول، ثم يقفز الفرسان إلى الأرض ويدخلون خيمة الداي حيث يجدون طاولة مجهزة بأنواع المبردات والحلويات والمرطبات، الخ ... وبعد أكل خفيف تقام صلاة يعقبها ابتهال إلى الله ليحفظ السلطان ويرفع عدد العرب ويسعدهم ويقوي إيمانهم في حدود معينة حتى لا يتقاسموا الحكم مع الأتراك. وبعد هذه الحفلة يرجع أعضاء الديوان

الأعظم وغيرهم من الشخصيات الأخرى إلى مدينة الجزائر، ولا يبقى في الخيمة إلا والباشا وحاشيته لتسوية قضايا البلاد , ويفتح المقطاجي السجل ليعين الجنود الذين سيعينون للقيام بالحملات ولتكوين الحاميات الضرورية لمختلف الجهات. ثم ترتب المعسكرات وتنظم، وتعين الوحدات التي ستقوم بالحملات البرية، وفي الحين تعطى الأوامر لإقامة الخيام ولتموين الجيوش، الخ ... يبدأ الاعتناء بالجيوش التي تجه إلى مستغانم، ثم تجهز جيوش التيطري وتبقى حامية قسنطينة هي الأخيرة، وكل هذه الحاميات يجب أن ترسل في الأيام الأولى من فصل الصيف. وعندما تتم جميع هذه الإجراءات، يعود الباشا إلى مدينة الجزائر. ولكنه بمرور الزمن، أهمل الدايات هذه الحفلة وصاروا لا يقيمونها بالكيفية التي وصفناها، وإنما أصبحت العادة شكلية فقط، أي أن الخيمة ظلت تقام في المكان المعين ويقصدها الديوان في اليوم الموعود كما لو كان يذهب إلى نزهة، وبدلا من أن يترك الداي وحاشيته في الخيمة، صار يترك فيها أحد الحراس فقط.

الفصل الحادي عشر تحديد رسوم الأرض وطريقة جمع الضرائب

الفصل الحادي عشر تحديد رسوم الأرض وطريقة جمع الضرائب وفقا لشريعتنا، ترتب الأرض على النحو التالي: إذا كانت البلاد ملكا للمسلمين بمقتضى الفتح وبحد السيف، وإذا كان سكانها القدماء قد بقوا فيها يعد تفاهم مع الفاتحين، فإن أراضيها تسمى خراجا وهي كلمة تعني أن الحكومة لن تطلب أكثر من المبلغ المتفق عليه حتى ولو انتقلت تلك الأراضي من مالك لآخر على شرط أن تحترم الالتزامات المنصوص عليها في بداية الأمر, وعندما بعتنق مالكو الأراضي الإسلام طواعية، فإنها تسمى عندئذ، حكرا. وعلى هذا النوع من الأراضي يؤخذ العشر أو الجزء العاشر من الإنتاج، وتوضع مقادير تلك الأعشار في صندوق الخزينة لدفع مرتبات الجيش وللاعتناء بالفقراء ولتربية الأيتام ودفع أجور القضاء الخ ... وحتى إذا لم تطالب الحكومة بهذه الأعشار، فإن كل واحد منا مجبر، حسبما يقتضيه ديننا على أن يضعها جانبا ويوزعها وفقا للطريقة المذكورة، ولا يستطيع أي أحد أن يستحوذ على تلك القسمة كما سبق أن أشرنا لذلك.

وتسمح القوانين للعاهل أن يتفاهم مع الشعب حول تلك الأعشار، واستبدالها بمبالغ معينة. وأراضي الجزائر كلها من هذا الصنف الثاني. وعندما علم الأتراك ان جباة الضرائب يقومون بتجاوزات، أي ان الدولة لم تكن تقبض بالضبط جميع المبالغ التي تعود لها، أو ان الجباة كانوا يجمعون أكثر من اللازم. عندئذ أوجدوا وسيلة تمنع تلك التجاوزات التي كانت تثبط الفلاحين وتعوقهم. لقد فرض على كل محراث بجره ثوران حمولة بعير من القمح وأخرى من الشعير، وعندما يأتي السكان بمقادير رسومهم، فان القابض يسلمهم مقابل ذلك وصلا. ان القائد في كل قبيلة مجبر على إحصاء عدد الفلاحين المالكين للمحاريث، وبعد ذلك يسلم نسخة صحيحة للقابض الذي يجمع الضرائب حسب ذلك الإحصاء. ويعطي الإيصالات لكل فرد، ويتفقد الكميات المقبوضة من الحبوب ليتمكن من محاسبة القابض الرئيسي في الدولة. ولكن عندما يثبث ان الأراضي لم تنتج شيئا، فان المزارعين يعفون من تلك الضرائب. يستعمل، في العادة لزراعة ما يغطيه محراث واحد حوالي ست حمولات من القمح وأربع من الشعير. لقد سبق ان تعرضنا لاستعمال هذه الضرائب، ولكن الشعب يعتقد كذلك، أنه عندما يدفع ما عليه يصبح من الواجب على الحكومة ان تحميه، وأن تؤمن الطرقات وتحرسها، وأن يكون الملك متدينا بدينه. وحسب قانوننا، فإذا قام مغتصب أو ملك لا يتدين بنفس الدين،

واستحود على الضرائب التي ينص عليها ذلك القانون، فان الفلاح يبقى في عين الشرع، مطالبا بأداء واجبه الذي لا يكون إلا عشر الكمية الباقية له بعد الإغتصاب. وحسب هذا القانون الشائع في افريقيا، فانني أعجب للدوق دوروفيكو الذي اشترط، بإيعاز من اليهود والأشرار، ان تدفع متيجة العشر وسكانها أفقر الناس وأكثرهم بؤسا. ومع ذلك، فان الولاة الفرنسيين كانوا قد نشروا بيانا يعلنون فيه لسكان الايالة أنهم يلغون جميع أنواع الضرائب ; وان الحكومة تتنازل عن هذه الأنواع من الموارد. وبقطع النظر عن هذا الوعد، فان الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تجمع الضرائب بكيفية شرعية ما لم تؤمن الطرق، وما دام البلد مضطربا، فعليها ان تبدأ بالحفاظ على الأمن وحمايته من كل هجوم تقوم به القبائل المعارضة والمعادية. وخلاصة القول، فان كل ما يمكن ان يعطى للحكومة الفرنسية التي لا تتدين بنفس دين هذا الشعب، لا يعتبر إلا من قبيل التعسف، ويبقى السكان - في عين الشرع - مطالبين بأداء واجبهم. ويترتب عن هذه الأوضاع، كذلك، ان قبائل الداخل، عندما تعلم بأن الضرائب دفعت للفرنسيين، ستحارب أولئك الذين دفعوها ونتهمهم بأنهم خضعوا لمن هم أعداء الايالة بأكملها.

لقد كانت الضرائب تدفع على النحو الذي ذكرنا، إلى أن كان الغزو الفرنسي. واليوم، وبما أن هذا الشعب لا يعرف ملكا شرعيا ولا ظاهرا في البلاد، فإن كل مالك سيوزع أعشاره بنفسه على الفقراء. وليكسب ثقة هذا الشعب، فإن باي قسنطينة، بدلا من أن يشترط حمولة بعير من القمح وأخرى من الشعير عن كل محراث، فقد اكتفى بأن يقبض مكان ذلك مبلغ 15 فرنكا، كما أنه اكترى للفلاحين، مقابل سبعة وعشرين فرنكا، كل ما يمكن أن يغطيه طوال السنة محراث يجره ثوران. يقوم القادة أو جباة الضرائب بالإحصاء عندما تجمع المحاصيل. وقد يحدث في كثير من الأحيان، أن هؤلاء الجباة يبقون لأنفسهم جزءا من الضرائب، ويتركون منها جزءا آخر للفلاحين، فيترتب عن ذلك أن الدولة لا تقبض جميع مدخولاتها. وعلى الرغم من أن الباي كان على علم بوقوع مثل ذلك التفاهم، فإنه كان يغمض عينيه لكي لا يثبط عزائم الفلاحين وليكسب الشعب حوله ويبين اعتداله. أما عن مقاطعة الغرب، فإنني أجهل وضعها الحالي، ولا أعرف شيئا عن فلاحتها ولا عمن تدفع إليه الضرائب. إن مقاطعة التيطري فقيرة، خاصة بعد الزيارة التي أداها لها الجنرال كلوزيل. ويعتبر جميع البدو والقبائل أن سكان التيطري من ألد أعدائهم لأنهم لم يبدون العداوة للفرنسيين، ويتهمونهم بالتفاهم معهم وبأنهم لم يخبروهم بوصول الجيش الفرنسي، ولو فعلوا لوفروا لهم الوقت الكافي لاتخاذ التدابير

وللدفاع عن أنفسهم. ومن هنا يتحتم على جميع القبائل أو كل من يخضع للفرنسيين أن يكون يقظا لتجنب سخط القبائل. وعندما نرى سلوك الولاة في افريقيا، نميل إلى الاعتقاد بأنهم إنما ينشرون الخلاف والشقاق من أجل التضحية بالشعب الجزائري.

الفصل الثاني عشر عن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها

الفصل الثاني عشر عن انحطاط حكومة الأتراك وسقوطها بعد أن ثبتت حكومة الأتراك أقدامها في هذا البلد، ووسعت سلطانها المتمثل في الحصول على طاعة هذا الشعب، كان من أسباب انحطاطها إرسال مندوبين إلى أزمير يجمعون الأجناد. وبدلا من أن يتبع هؤلاء المندوبون الطريقة القديمة التي لم تكن تسمح بأن يجند في الميليشيا إلا الرجال النزهاء الذين لهم جاه ومكانة، فإنهم كانوا يفتحون أبواب الميليشيا لأي كان حتى لأناس كانوا قد أدبوا أو أدينوا. وكان يوجد من بين المجندين يهود ويونانيون ختنوا أنفسهم. وكما أن حبة فاسدة تكفي لإفساد كوم كامل من القمح، فإن رجلا فاسد الأخلاق يكفي لجلب الشر على جميع الذين يخالطهم ويحيطون به. وهكذا، صارت تلك الميليشيا المسلحة التي لا مبدأ لها، صارت ترتكب المخالفات ضد البدر والقبائل. ثم قام هؤلاء البئساء بإشعال الثورات وقلب قادة الدولة بحسب هواهم.

وكان أول ضحاياهم الملكية هو الداي مصطفى باشا، والد سيدي إبراهيم الذي كان موجودا بباريس قبل مدة قصيرة. لقد جعل الثائرون على رأسهم المسمى أحمد خوجه الذي دبر المؤارة والذي كان دفتر دار معزولا. إنه هو الذي كان سببا في موت ذلك الداي عندما أمر بالهتاف في كل مكان لم نعد نبغي حكومة مصطفى باشا! واستجابة لتلك الهتافات تجمعت الميليشيا، فحطمت عظمة الداي مصطفى وقتلته دون أن يكون قد ارتكب أدنى خطأ (¬1). أما السكان، فإنهم لا يشتغلون أبدا في مثل هذه القضايا، ويخضعون لمن يختاره الديوان ملكا عليهم. إن الجريمة السياسية تؤدي دائما إلى جرائم أخرى تتبعها: لقد عامل هؤلاء المتهيجون بعنف ووحشية معظم أعضاء حاشية الداي وأهم أنصاره واستولى أحمد خوجه على الحكم (¬2). لقد ارتكب هذا الرجل، أثناء ولايته، عددا من الجرائم. ولمكافأة الميليشيا رفع أجور أفرادها. ولكنه عزل وقتل البايات للاستيلاء على أملاكهم وثرواتهم. وكانت الشخصيات المحيطة به والمكونة لحكومته تنقصها المهارة ولا تملك الوسائل، إذ لم تكن تعرف حتى تقاليد العرب ولم تكن لها أية علاقة بمختلف الشيوخ. وفي تلك الفترة، لم يكن على الذي يريد أن يصبح بايا إلا ¬

(¬1) لقد ارتكب مصطفى أخطاء كثيرة، أهمها والذي قتل من أجله هو إعطاءه لليهودي بو جناح سلطة مطلقة، يتصرف في الإيالة كيفما يشاء، حتى أن المؤرخين الغربيين كانوا يسمونه ملك الجزائر. (¬2) هو أحمد بن علي الذي جابه تمرد ابن الأحرش في بايلك الشرق، وأخمد تمردات أخرى في تلمسان وتامرت. وقد مات في إحدى المعارك سنة 1806 بعد أن حكم عاما واحدا.

أن يتجه لأقارب أحمد باشا ويمدهم بالأموال. لقد كانت تلك المناصب تباع وتشترى، وهو أمر كان يلائم رجال الحكم الذين كان ظلمهم يتجاوز القانون. ودام هذا الوضع إلى أن كانت الحادثة التي تعرضت لها مدينة قسنطينة التي كان باي تونس يريد استرجاعها. سأوري، فيما بعد وفي فصل آخر، تفاصيل تلك الأحداث وكذلك تفاصيل الحملة التي قام بها أحمد باشا ضد تونس. وبعد ثلاث سنوات من الحكم تعرض أحمد باشا بدوره إلى مؤامرة تهدف إلى قلبه. وكان على رأس الميليشيا مجهول يدعى علي خوجه الذي استطاع أن يدفع الميليشيا لاستبدال أحمد بعد أن فضح التجاوزات التي قام بها وكذلك الأعمال الوحشية والإعدامات التي سلطها على معظم أعيان الأتراك. لقد قتل أحمد مصطفى باشا فكان له نفس المصير. وبعده تولى الحكم علي باشا، ولم يكن هذا الملك إلا آلة في خدمة الأتراك، يستعملونها لتنفيد مشاريعهم، لأنه كان عاجزا عن الحكم وعن فرض طاعته. وبعد ذلك بفترة وجيزة (¬3) قتل خنقا واستبدل بالحاج علي باشا (¬4). ولقد برهن هذا الأخير على نوع من الكفاءة ولكنه كان سفاحا، فقتل كثيرا من العرب وبعض أعيان البلاد دون أن يرتكبوا أية جريمة. ¬

(¬3) لقد حكم الجزائر ثلاثة دايات في الفترة ما بين 1806 و1815. وكل واحد منهم كان يسمى عليا، ولذلك اختلط الأمر على حمدان. والصحيح أن قاتل أحمد باشا بقي في الحكم إلى غاية سنة 1808. وقد قتله علي خوجه غول والذي خلفه الذي ظل يحكم البلاد إلى أن قتل خنقا سنة 1809. (¬4) هو الذي خلف علي غول سنة 1809، وظل في الحكم إلى سنة 1815. وقد قتل في حرب وقعت ضد تونس.

وخلال ولايته، كاد الحظ ان يكون دائما إلى جانبه، ومع، ذلك لم يتمكن، بالرغم من مجهوداته، من غزو مملكة تونس التي كان يريد السيطرة عليها. سأتكلم عن هذه الحملة فيما بعد. كان الحاج، بعد أن استولى عل زمام الحكم في الجزائر، يشعر بتفوق كبير في العلوم والمعرفة، ولذلك احتقر وزراءه وآراءهم، وعندما أهين هؤلاء الأخيرون وملأ الرعب قلوبهم وضعوا مشروعا يهدف إلى التخلص منه. وهكذا فلما ذهب يستحم، ذات مرة، قام الشخص المكلف بإعداد الحمام على الطريقة الشرقية - وكان من امتآمرين - يغلق الأبواب غلقا محكما ثم ضاعف النيران بكيفية عنيفة إلى أن اختنق الحاج باشا بالبخار بدون ضجيج ولا هرج، واستبدل بخزناجبه المسمى الحاج محمد باشا (¬5). ويعتبر هذا الأخير نموذجا حقيقيا للأتراك القدماء، إذ كان رجلا فاضلا، وكان من الممكن أن يحكم مدة أطول لو لم يتعرض لخيانة آغاه المسمى عمر (¬6). وكغيره، ضحى عمر هذا بالحاج محمد باشا بعد ان تفاهم مع الميليشيا على ان تعطى له الولاية. وكان عمر، أيضا، سفاحا! وكانت الظروف تكاد تكون دائما غير مؤاتية له، وهذا الداي هو الذي أبرم مع اللورد آكسماوث، سنة 1816، معاهدة بعد ان قام بقنبلة المدينة. وقد ساهم هذا الحادث مساهمة كبرى في سقوط عمر. ¬

(¬5) عين في مكان الحاج علي ولكنه قتل في نفس اليوم من طرف خليفته كما ذكر حمدان. (¬6) حكم من سنة 1815 إلى سنة 1817، وقد قتل خنقا. وفي عهده تعرضت الجزائر لحملة آكسماوث 1816، وإلى الطاعون الذي قضى على عدد كبير من سكان الإيالة.

وقام علي (¬7)، وهو رجل مجهول ومعتوه، فاغتنم هذه الفرصة وجمع الجيوش ثم استولى على مقاليد الحكم في الجزائر. وعندما تولى الحكم، قام الداي علي هذا بثورة شاملة في نظم الإيالة القديمة. كما أنه ارتكب عددا من الجرائم ونفى كثيرا من الناس. وذات يوم، أمر سكان مدينة الجزائر ان يغلقوا أبوابهم في ساعة مبكرة، وأمر كذلك بغلق الثكنات، ثم جمع عددا كبيرا من البغال حمل عليها، ليلا، جميع كنوز الجزائر التي كانت في محلات الباشا القديم، ونقلها الى القصبة التي انتقل إليها مصحوبا بالجيش يحافظ على شخصه، وفي الصباح أعلن عن هذا التغيير بطلقات مدفعية. وخلال مدة ولايته التي لم تدم سوى ستة أشهر، ساءت أحوال الدولة الى أقصى درجة. وأثناء نقل الثروات الى القصبة، وقع كثير من النهب قام به وزراؤه وأعضاء حاشيته. وقد مات علي بالطاعون في مقر إقامته الجديد، ولو انه عاش لتسبب في خراب الايالة ما في ذلك شك. وكان أعداؤه الذين كان يضطهدهم هم أنصار عمر باشا. ولم ينج من هؤلاء الأنصار سوى حسين خوجة الذي عينه خزناجيا، وفيما بعد رفعه الى مرتبة خوجة الخيل. وقد دهش الجميع عندما رأوا ان حسين الذي كان من المقربين لعمر، يحظى بمثل تلك التقديرات من علي باشا. وحقيقة فإن حسين - من بين ¬

(¬7) هو علي بورصالي، تولى الحكم سنة 1817، وعلى عكس ما يقول حمدان، فإن الرجل كان ثقيا ورعا: حارب العهر والفساد وأراد أن يعطي الدولة طابعا آخر، إذ تخلص من الميليشيا وراح يعمل على إشراك الأهالي في الحكم وانتقاله إلى القصبة دليل على ذلك.

الشخصيات التي كانت تحيط بذلك الداي - هو الوحيد الذي كان نزيها وذا أخلاق فاضلة، أما الآخرون، فإنهم لم يكونوا سوى مغامرين. وعندما توفي علي باشا هذا، اجتمع الديوان لاختيار الملك، فوقع اختياره على حسين الذي كان آخر باشوات الأتراك قبل الغزو الفرنسي. ولقد ارتكب الأتراك خطأ فادحا عندما تركوا السلطة المطلقة بين أيدي الباشوات، لأن ذلك جرد الديوان من كل قوة وسلطان وجعله كلا شيء، في حين أنه أنشىء لمراقبه أعمال الباشوات ومساعدة الحكومة عن طريق تزويدها بالنصائح. ولم يعد يطلب من أعيان البلاد آراؤهم، كما ان أهم المناصب في الدولة والوزارات ووظيفة خوجة الخيل لم تعد تعطى إلا للأتراك لأن الكراغلة طردوا من الحكم على الرغم من أنهم كانوا فروعا لهؤلاء الأتراك أنفسهم. وفيما يخص الكراغلة، سأروي حادثة تاريخية كانت هي السبب في إبعادهم: ففي حوالي سنة 1630، وللاستيلاء على الحكم، وضع أفراد تلك الطبقة مشروعا يهدف إلى طرد الأتراك (آبائهم وأجدادهم) الذين كانوا يحكمون البلاد. ولهذا الغرض اجتمعوا في حصن الامبراطور. وعندما علم الأتراك بهذه المناورة فكروا. لإحباط المشروع ; في ان يلبسوا عددا من العمال الذين يدعون بني ميزاب ملابس نسائية، ولما تدثر هؤلاء بالملاحف أخذوا أسلحتهم والذخيرة في شكل متاع مستورد، ثم تقدموا الى مدخل الحصن وكأنهم نساء هربن من جور الأتراك. وبمجرد ما دخل أولئك الرجال الحصن وهم تحت ذلك القناع، هاجموا المتمردين بمساعدة فوج كان يتبعهم عن كثب، فأخضعوهم وأحبطوا مشاريعهم. وعلى اثر هذا الحادث،

وبما ان الأتراك لم يكونوا قادرين على ان يطردوا ذريتهم من البلاد، فانهم قرروا فقط، عدم السماح للكراغلة بشغل المناصب السامية. وقد عزل كل من كان يشغل منهم وظيفة حساسة في ذلك الحين. وهكذا، اذن، فان كل كرغلي يصل الى المرتبة السابعة، كان يعزل، وبهذه الكيفية لم يكن لأي واحد منهم ان يشتغل في البلاط. وان الترجمان الذي هو مترجم البلاط، أو أمين اللغات الأجنبية (وهي وظيفة هامة جدا) وكتاب الدولة، كلهم كانوا يختارون من بين العرب لا من الكراغلة كما ان مراقب المؤاسسات الخيرية التابعة لأملاك مكة والمدينة، كان يعين من بين العرب. وقد استمر هذا الحقد من الأتراك على أفلاذ أكبادهم مدة قرنين تقريبا. وهؤلاء الكراغلة كثيرو العدد، وموزعون على كامل أنحاء الايالة، وخاصة في المكان المسمى وادي الزيتون الواقع في سفح جبل فليسه، ويعتقد أنه يوجد منهم في هذا المكان وحده ما بين 8 و 10 آلاف محارب. ومعظمهم كان يأخذ أجرا من الدولة، وعلى الرغم من إبعادهم، فانهم ظلوا يتقاضون رواتبهم خوفا من إثارة سخطهم. وبعد ذلك فكر الكراغلة في استعطاف آبائهم ونيل رضاهم، ثم قاموا بإحضار جنود آخرين، على نفقتهم، وسجلوا أبناءهم كمتطوعين في الميليشيا. والكراغلة الذين كانوا يتقاضون أجورا من الدولة، والذين كانوا موزعين على مختلف أنحاء الإيالة، لم يكونوا يستطيعون الحضور، شهريا، كما هي العدة، لتقاضي مرتباتهم، ولذلك كانت جماعة من اليهود تسبق لهم رواتبهم السنوية مقابل وكالة تسمح لهم بأن يقبضوا - باسمهم - ما لهم

في ذمة الدولة. وفي العادة، فان هذه التسبيقة لا تكون في شكل نفود، وإنما تدفع في شكل بضائع وبالفائدة. وقد كان هؤلاء الرجال دائما في وضعية تجبرهم على قبول التسبيقات مهماكانت الشروط. ولكن، لو ان واحدا منهم يموت قبل نهاية السنة، ولم يترك وراءه شيئا، فان اليهودي، يخسر المبالغ المسبقة. وكانت قوانين الإيالة تسمح بهذا النوع من المعاملات وعندما قام الفرنسيون بغزو الجزائر توقفت أجور هؤلاء الكراغلة، وضاع الضمان المثمثل في الحكومة التركية بالنسبة لكل من كان مقرضا لهؤلاء الرجال، ذلك ان الفرنسيين لم يكونوا يدفعون الاجور للكراغلة. وعندئذ اجتمع اليهود وأرسلوا اعتراضاتهم إلى السيد المارشال بورمون يطلبون منه أن يدفع ذلك الدين المترتب على الدولة. وقد رفض المارشال التسليم لادعاءاتهم. إنهم كانوا يريدون الحصول على ديونهم من موارد المؤسسات الخيرية المخصصة للاعتناء بالثكنات التي تقوم في هذا البلد مقام دار العجزة والمقعدين في فرنسا لانها لم تكن آهلة إلا بالجنود المقعدين وبأرامل الجنود وأيتامهم وهؤلاء المقعدون هم وحدهم الذين لهم الحق في المطالبة بالمعونة من تلك المؤسسات. أما مطالب اليهود الناتجة عن ديون وقع التعاقد عليها مع جنود يعملون ويتمتعون بصحة جيدة، فإن وفاءها لو تم من صندوق تلك المؤسسات لشكل خرقا للترتيبات التي وضعها منشؤ تلك المؤسسات. وعندما رأى اليهود أنهم لن يحصلوا في الجزائر على أي شيء يرضيهم من الولاة الفرنسيين وجهوا مطالبهم إلى باريس قصد الحصول على المبلغ الذي هم به دائنون وأنني أجهل ماذا كانت نتيجة مطلبهم.

ولقد جاءني عدد من هؤلاء اليهود يسألونني رأيي فيما يخص مطالبهم وليعرفوا ماذا أفكر في مثل تلك المطالبة. وكانت إجابتي كالآتي يا أصدقائي ليس لكم أي حق في مطالبة الفرنسيين وليس في إمكانكم إلا أن تلتمسوا من تلك الحكومة لنمنحكم عطفها ومساعدتها، وأنني لا أشك في أنها ستستجيب لرغبتكم عندما تعرضون عليها أوضاعكم. ولكي أعود إلى ذلك الشقاق الذي كان موجودا بين الأتراك والكراغلة أقول انه منذ أن وقع الحادث المفصل أعلاه تكون حاجز بين الطائفتين بحيث أن الأتراك أصبحوا لا يستفيدون من علوم أبنائهم ولا من نفوذ ما لهم من أقارب في البلاد وقد كان حذر الأتراك شديدا إلى درجة أنهم لو أسدى لهم الكراغلة النصائح ولو كانت مفيدة لهم لنظروا إليها كحبائل منصوبة لاقتناص حسن نيتهم وإذا ما علموا أن هناك اجتماعا يعقده الكراغلة في مكان ما فإنهم كانوا يرسلون إليهم جواسيسهم تنظر هل يشتغلون بالسياسة وينتقدون بعض أعمال الحكومة أو حتى الحياة الخاصة للأتراك، كما أن الكراغلة كانوا يراقبون خشية أن يحدث بينهم وبين بعض الأعيان في داخل البلاد نوع من التفاهم بقصد الاستيلاء على الحكم، وعندما يكتشف الأتراك أنهم يضمرون لهم نوايا سيئة، بل عندما يخامرهم أدنى شك في ذلك، فإنهم كانوا ينفون قادتم ويفرقون اجتماعهم. وأخيرا لقد بلغت الإهانات التي كانت تسلط عليهم إلى درجة أن سكان الجزائر من كراغلة وغيرهم لم يعودوا يهتمون بالسياسة لا في اجتماعامم، ولا امام الملأ، ولا في مجتمعاتهم الخاصة. ومما يحدث أحيانا أن بعض الأشرار كنوا إذا ما أرادوا الانتقام يتهمون الشخص الذين يبغون هلاكه

بأنه يشتغل بالسياسة ولقد قضى هذا النوع من المراقبة على بذور الكفاءة عند رجال هذا البلد وخلق في المجتمع حذرا عاما استمر حتى مجىء الفرنسيين، وهذا الانحلال هو الذي جعل السادة الولاة يستطيعون القيام بأعمال تعسفية أو يتفننون في تطبيق الأحكام الجائرة دون أن يجدوا أناسا لهم من الشجاعة ما يمكنهم من التشهير بسلوكهم أمام الجمهور ومن أعلام الحكومة الفرنسيين بما هم عليه. ومن جهة أخرى فإن نصائح الغذر التي كان يسببها اليهود قد ساعدت على أن يتزايد الطغيان ويبلغ منتهاه، وعلى أن تنشأ فكرة مشوهة عن طبائع سكان الجزائر الذين يرزحون تحت نير الاستبداد. وفيما يخصني ووفاء مني للحكومة الفرنسية ولصالح قضيتها، فإنني قد حاولت أن أعرف بطبائع تلك الأمة الحرة وكذلك بالشعور النبيل الذي تتحلى به حكومتها التي لن توافق أيضا على أساليب الجور اللاسياسية والمناهضة للقوانين وبناء على هذا الاحتراز من الكراغلة والذي تكلمنا عنه أعلاء وضع الأتراك ثقتهم في اليهود لأنهم لا يخشون منهم الاستيلام على الحكم. وأقام سكان الجزائر من جهتهم حاجزا بينهم وبين الأتراك وأبدوا تحفظا شديدا إزاءهم بحيث لو طلب الأتراك من الجزائريين إبداء آرائهم لما افصحوا لهم عما يدور في أنفسهم. هذه هي الأسباب التي قضت على الديوان وعلى الشورى في الأمور. وهكذا، فإن اليهود قد ارتبطوا بالأتراك من أجل المصلحة وقد جمعوا في تلك الظروف أموالا طائلة. وسأذكر اليهودي بكري الذي كان أخوه ميخائيل يملك عندما قدم إلى الجزائر حانوت عطار صغيرة يبيع فيها الخردوات بالتفصيل. وكانت هذه الحانوت تقع في نواحي باب عزون. ومنذ تلك الفترة ارتبطت

محلات بكري هذه بمصالح حسن باشا ومصطفى باشا، واستطاعت أن تحصل على ثروة تقدر بالملايين وسأروي واقعة واحدة تستطيع أن تفسر الكيفية السريعة التي تمكن بها أولئك اليهود من جمع تلك الثروات: لقد قدم باي قسنطينة (¬8) كالعادة إلى مدينة الجزائر. ولما أراد أن يقدم هدية ثمينة إلى زوجة الداي توجه إلى يهودي يدعى نفتالي أبو جناح، شريك بكري، لشراء حلية نفيسة، فأحضر له سرماطا مرصعا بالماس تقدر قيمته بستين ألف بياستر (300،000 ف) فاشتراه وبما أنه لم يكن يملك المبلغ نقدا، فقد تعهد بأن يدفع بدلا من تلك القيمة كيلات من القمح يقدر ثمن الواحدة بأربعة فرنكات، وتزن أربعين كلغ. وبعد الحصاد، أرسل (البكريون) مراكب تشحن كمية من القمح قدرها خمسة وسبعون ألف كيلة نقلوها إلى فرنسا وكان ذلك أثناء الحصار الإنكليزي، فباعوها بخمسة فرنكا للكيلة الواحدة التي لم تكلفهم سوى أربعة فرنكات، وهكذا افادوا من تلك الشحنات ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف فرنك ويقال إن الحلية صنعت في باريس ولا يبلغ سعرها إلا ثلاثين ألف فرنك وبما أن أحد شركائهم لم يستفد من هذه الصفقة في حين أنه هو الذي أرسل الحلية من باريس فإنه قدم إلى الجزائر يطالب بحصته ولكنه لم ينل شيئا. ولقد حصلت على هذه التفاصيل من ذلك الشريك نفسه. وهذه الأموال هي المصدر، وأحد الأسباب الرئيسية للحرب التعسة بين فرنسا والجزائر ولسقوط حكومة الأتراك في هذا الجزء من أفريقيا. هذه هي، إذن، الكيفية التي جمع بها وبأمثالها أولئك اليهود ثروتهم على ¬

(¬8) المقصود هنا هو الوزناجي الذي كان بايا على التيطري ثم عزل سنة 1792 بعد حكم دام عشرين سنة. وفي سنة 1794 تدخل بو جناح وبكري لدى الداي فعينه على رأس بايلك قسنطينة. والداي في ذلك الحين هو بابا حسن.

حساب جميع سكان الإيالة. وقد كانوا يحظون بجميع منافع ذلك الاحتكار، في حين أن تلك التجارة كانت تمنع علينا ولا نستطيع التمتع بما ينتج عنها من منفع ; لأننا لا نستطيع الشراء بنفس الأسعار التي يشترون بها هم. وفي تلك الفترة سمعت أحد البولكباشيين يقول - وقد كان قائدا للحامية التركية في عنابة - إن كمية القمح التي صدرت إلى أوروبا في تلك السنة كانت تقدر بست وتسعين شحنة. وبما أنه كان يتقاضى رسما عن كل باخرة تحشن قمحا، فإن تصريحه جدير بالتصديق، ولا أشك في صحته. وقد كان ذلك الرسم يقدر بمربع ذهبي أو بثمانين فرنكا. وفي نفس تلك السنة وقع تصدير مائتين وأربعين ألف صاع قمحا من ميناء وهران، ولم تزد كلفة الصاع. الواحد عن ست فرنكات بالنسبة لأولئك اليهود الذين كان البايات مجبرين على إرضائهم نظرا لأنهم كانوا يحظون برعاية الباشا. وعلى هذا الأساس، فإن عددا قليلا من السنوات كان كافيا للقضاء على جميع ثروات بلدنا الجليل. وفي سنة 1800 أصيبت الجزائر بمجاعة كبرى، ووقعت الحاجة إلى الأقوات، فأمر الداي لتموين البلاد، بالذهاب إلى موانئ البحر الأسود لشراء القمح. وقد بيع ذلك القمح بثمانية وعشرين فرنكا للصاع الواحد وعلى الرغم من ذلك كان لا بد من تنصيب الجنود عند باب كل مخزن. ونستطيع، أيضا، أن نقول بأن اليهود، الآن، قد وجدوا نفس الحظوة لدى الفرنسيين. إنهم قد حصلوا على إمتيازات هذا النوع من الاحتكار ولكن الفوائد ستكون أقل بكثير، وذلك بسبب الوضع الذي توجد فيه الايالة.

الفصل الثالث عشر عن داخل الإيالة، وبعض الملاحظات حول حسين باشا آخر دايات الجزائر

الفصل الثالث عشر عن داخل الإيالة، وبعض الملاحظات حول حسين باشا آخر دايات الجزائر بعد أن قدمت ما أمكنني من تفاصيل حول تأسيس الحكومة التركية في الجزائر والقواعد التي تقوم عليها، وكذلك التجاوزات والأسباب التي أدت إلى انحطاطها، آخذ القلم، الآن، لأفسر عظمتها في داخل الإيالة. كان أول ما يهتم به البايات، عندما ينصبون، هو العمل على تحقيق أمن الطرقات حتى يستطيع الضعيف أن يتنقل من مكان لآخر دون أن يحتاج لحماية القوات المسلحة. وكانت كل قبيلة مجبرة على مساندة ذلك الإجراء لكي يستتب الأمن بينها وبين جاراتها. وإذا وقع قتل، فإن أعيان المنطقة التي وجدت فيها الجثة يصبحون مسؤولين عن القاتل، ويتحتم عليهم أن يبحثوا عنه، وإن لم يفعلوا يكونوا مجبرين على دفع ضريبة قدرها ألف سلطاني (10 آلاف فرنك) يوزع هذا

المبلغ على ورثة الشخص المقتول. وإذا لم يكن له ورثة نقل إلى صندوق بيت المال. وبفضل استتباب الأمن هذا اكتسب البايات عظمة هائلة وغزوا تونس مرات عديدة، مع أن تونس أقدم من الجزائر ومن الصعب الاستيلاء عليها. وتونس لا يمكن أن تؤخذ إلا بالتفاهم مع قادتها أنفسهم، ويكون ذلك عندما يوعدون بتخلصهم من الظلم المسلط عليهم، وباستبدال ملكهم بملك آخر من اختيارهم. بهذه الطريقة، استنطاع الجزائريون أن يفتحوا تونس. وقد كانوا دائما يفون بما يقدمونه للتونسيين من وعود. ولقد قدم الفرنسيون أيضا وعودا عندما فتحوا الجزائر لكنهم لم يعملوا أبدا على إنجاز الالتزامات التي تعهدوا بها والتي كانت موضوع بياناتهم تلك البيانات التي وزعت في كامل أنحاء الإيالة , ولقد رأيت عددا منها عند القبائل عندما قمت برحلتي إلى قسنطينة؛ ولقد شهدت بهذا الصدد، أكثر من مناقشة. إن هؤلاء السكان يقولون بأن الفرنسيين قد انتهكوا حقوق الشرف عندما أخلوا بالتزاماتهم، وان المسيحيين كلهم لا يختلفون عنهم، ولا يمكن الاعتماد على وعودهم. وآخر غزوة شنها الجزائريون على تونس وقعت سنة 1754 (¬1). كانوا يريدون أن ينصبوا على رأس الايالة أحد أبناء أخوة بايها (¬2)، كان في مدينة الجزائر ويدعى علي باي. ولقد حوصرت مدينة تونس ثم وقع الهجوم عليها ¬

(¬1) وقع ذلك عندما كان حسين كلباني بايا على قسنطينة. ويقول الحاج أحمد المبارك: (إن هذا الباي كان بطلا شجاعا. بنى الجامع الأعظم بسوق الغزل بحومة رؤوس الدوامس في قسنطينة). (¬2) باي تونس في ذلك الحين هو حسين بن علي عم علي باي.

وقد إرتكب - في تلك الأثناء - جرائم تشمئز منها الإنسانية وتدينها. وعندما وقع تقتيل قبيلة العوفية، فإن السيد الدوق دوروفيكو قد ارتكب جرائم مماثلة للتي ذكرناها: لقد ذبحت النساء والأطفال، وقطعت الآذان للاستيلاء على الأقراط المعلقة بها؛ ولم يكن الهدف من كل تلك الجرائم إلا الجشع والنهب. ومثل تلك الاعمال الوحشية تسيل دعوعا من الدم. وهكذا، إذن، ثم تنصيب علي باي كبباشا لتونس، وأبرمت معه معاهدة مخزية له، من جملة شروطها ألا يسلح حصن الكاف الذي هـ عبارة عن ممر ضيق منيع يقع في الحدود الفاصلة بين المملكتين. ومن الشروط، أيضا أن العلم الوطني عندما يرفع، لا ينبغي أن يكون إلا في وسط الصاري. وعندما يصل أحد مراكب الدولة الجزائرية إلى ميناء تونس، فإن قائد ذلك المركب هو الذي يتولى قيادة الميناء طوال المدة التي يقيمها فيه، أما وكيل الجزائر أو المكلف بشؤونها ووكيل باي قسنطينة فإنهما يحترمان كما يحترم سفراء البلاطات الأوروبية. وزيادة على ذلك، فقد تعهدت إيالة تونس بأن ترسل كضريبة سنوية حمولة سفينة من الزيت وعددا كبيرا آخر من الهدايا التي تصنعها أو تستوردها (¬3). وعاد ذلك الجيش المنتصر إلى الجزائر محملا بكنوز ثمينة. ومنذ ذلك الحين، صارت تونس تعتبر تابعة للجزائر، وقد احترق التونسيون ¬

(¬3) يقول الحاج أحمد المبارك في (تاريخ حاضرة قسنطينة)، ص 20 (ودخل علي باشا إلى تونس، ونزلت محلة الجزائر وحسين كلياني بالجزائرية وهو موضع قرب تونس حتى استراحوا وأخذوا من علي باشا ما شرطوه عليه ورجعوا إلى بلدهم).

غيظا من سلوك الجيوش الجزائرية تماما كما يفعل الجزائريون اليوم من سلوك الجيوش الفرنسية. لم يكن باي تونس إلا شبه ملك؛ وكان باشا الجزائر هو الذي يحكم البلاد والشعب حسب رغبته وكما يحلو له. ولذلك فإن وكيل الجزائر أو القائم بأعمالها، ووكيل قسنطينة التي هي أقرب محطة لإيالة تونس (وقايدان) القراصنة، كانوا يقومون بتجاوزات دون أن يعاقبوا عليها أبدا. وإن كل إنسان يريد التخلي عن سمعته ليجمع المال ويلعب الأدوار، ما علبه إلا أن يقدم الهدايا لأهم الشخصيات في بلاط الجزائر ليعين وكيلا في تونس وبأبسط الأسباب، كان (قايدان) القراصنة يدخل إلى الميناء ويعيث فيه فسادا ولشدة ما كانت تتكرر هذه الإهانات المتعدةة، اغتاظ التونسيون، واشتعلت نيران الفتنة بين الشعبين وعلى الرغم من أن الأشراف الذين يشكلون الأغلبية في الجزائر كانوا دائما يستنكرون مثل ذلك السلوك، فإنهم لم يستطيعوا إصلاح ما وقع من ضرر. أعتقد أن الأمر سيكون كذلك بالنسبة لجميع الفرنسيين الحقيقيين عندما يطلعون على السلوك الاستبدادي المتبع في الجزائر إزاء جميع سكانها. إنهم سياسيون لتعاستنا، ولقد رأيت منهم من كانوا يبكون عندما يحاطون علما بما نقاسيه من آلام ويحتجون أمام الملأ ضد تلك الأعمال التي لم يكن في استطاعتهم أن يمنعوها. ولقد استمر هذا الوضع مدة طويلة في تونس، لأن مبدأ هذه التجاوزات يرجع إلى سنة 1791 وهي الفترة التي كان منصب الباي فيها لا يعطى إلا بالمحسوبية كما سبق أن ذكرنا. وبما أن هؤلاء البايات كانوا يعلمون أن حكمهم

لا يطول، فإنهم كانوا يهتمون فقط بمضاعفة ثروتهم في أقرب وقت ممكن، وذلك على حساب الشعب، وهو أسلوب جائر يؤدي إلى إنزال الشعب إلى آخر دركة من دركات البؤس، أو إلى حمله على إشعال الثورات. عندما توفي علي، باي تونس الذي نصبه الجزائريون سنة 1754، خلفه ابنه حمودة، وعلى الرغم من أن هذا الباي الجديد كان شابا، فقد برهن على أنه يحسن التدبير عندما اتبع بالتدقيق سياسة والده. ولقد إزدهرت تونس في عهده. وبعد سنوات من توليه الحكم، وعندما لاحظ الفوضى المستولية على حكومة الجزائر والفساد المنتشر في بلاطها؛ رأى حمودة من واجبه أن يتحلل من المعاهدات المخزية التي ظلت تثقل كاهل بلاده منذ سنوات عديدة، وذلك للتلخص من سيطرة الجزائريين. وفي سنة 1801 كنت عائدا من القسطنطينية صحبة خالي؛ فأرسينا بتونس وأقمنا فيها أسبوعا. وقد قام باي تونس المسمى يوسف خوجة وهو رجل فاضل بدعوتنا إلى بيته. وأثناء الحديث اشتكى بشدة من التجاوزات التي يقوم بها في تونس وكيل الجزائر ووكيل قسنطينة والرجال المحيطون بهما (¬4) ولاحظ لنا بأنه يخشى أن تؤدي تلك التجاوزات وتهاون حكومة الجزائر وقلة مراعاتها لتونس إلى ثورة تشتعل حتما بسبب الخلاف الذي كان قائما بين الحكومتين. وعلى الرغم من أن خالي كان في خدمة الدولة، فإنه وجد ملاحظاته عادلة ¬

(¬4) يقول الحاج مبارك في هذا الصدد: (فكانوا (الجزائريون) يغلظون على رعية تونس ويظلمونهم في طريقهم ... وكان أهل مخزن قسنطينة أهل غلظة وفظاظة لكون غالبهم من أهل البادية فلا يراعون حق السلطنة بل تحملهم غلظتهم على العنف ومجاوزة الحد).

وأكد له بأن تلك التصرفات تتنافى مع شعور الجزائريين الذين يحبون الأمن والعدالة. وبعد ذلك قدمنا إلى حمودة باشا باي تونس الذي استقبلنا بكل رعاية وحفاوة. وبما أن العادة الجارية في الشرق تقضي بأن الأجنبي الذي يأتي إلى البلاط يقدم كدكيل على الاحترام، بعض الهدايا، وبعض الأشياء من بلاده مقابل هدية يقدمها له. وتكون دائما أثمن بكثير مما جاء به، فإن حمودة باشا كان يعتقد أننا سنقوم نحوه بتلك اللياقة، ولذلك أعد لنا هدايا نفيسة كان المقصود منها؛ أيضا، أنها ستجعلنا ندافع، بطريقة غير مباشرة، عن شكاياته لدى حكومة الجزائر. ولكننا لم نقدم له شيئا لأنه لم يكن من اللائق بنا أن نقبل مثل تلك الهدايا، واصلتنا بقنا إلى الجزائر. وبعد ذلك بمدة قصيرة أحجم باي تونس عن إرسال شحنة الزيت التي تعود بعثها إلى الجزائر. وقد فعل دلك ليعلن عن بداية اللامبالاة، والإرادة السيئة. وبمجرد ما ورد النبأ إلى الجزائر اغتاظ الداي أحمد باشا غيظا شديدا لذلك السلوك الذي كان نوعا من القطيعة وخروجا عن الطاعة. والجدير بالذكر أن باي قسنطينة (¬5) في تلك الفترة كان شابا بدون تجربة وأن الأتراك لم يكونوا متفقين أتم الاتفاق فيما بينهم. ¬

(¬5) هو حسين بن صالح باي المشهور، ويقول الحاج أحمد المبارك إنه (كان ولدا صغير السن، حضريا لا يقدر على الركوب والغزو، ولا له معرفة بالحروب وسياسة الملك). (نفس المصدر، ص 15).

ولذلك أراد حمودة باشا أن يغتنم تلك الفرصة، فأرسل جيشا هاما إلى قسنطينة حاصرها مدة سبعة عشر يوما. وهوجمت المدينة، بالمدفعية والقنابل، ولكن سكانها أبدوا مقاومة مستميتة إلى أن جاءتهم النجدة من مدينة الجزائر لأنهم كانوا يعرفون حق المعرفة كيف كان تصرفهم في السابق مع تونس ومتأكدين من أن هؤلاء الأخيرين لن يعاملوهم بالحسنى لو انتصروا عليهم. وبالفعل لم يلبث الآغا أن اقترب على رأس أحد الجيوش وهزم الجيش التونسي، ثم رجع إلى الجزائر ومعه خمسمائة أسير من الونسيين. وكان أحمد باشا عبدا لهواه وقاسيا، فأمر بخنق ذلك الآغا الذي عاد منتصرا واستولى على ثرواته. وعين بعدها ابن أخيه ليخلف من أقدم على التضحية به؛ ثم نظم جيشا آخر ضد تونس وأرسل مبلغا هاما من المال إلى قسنطينة لسد حاجيات الحرب. عند ذلك قام الأتراك المكونون لحامية قسنطينة بثورة، وقتلوا باي تلك المقاطعة وكذلك الآغا الجديد الذي هو ابن أخ الباشا. ولما رجعوا إلى الجزائر أشعلوا ثورة أخرى فقتل أحمد باشا وجيء بعلي باشا في مكانه (¬6). ولم يلبث هذا الباشا الجديد أن سير جيوشا برية وبحرية ضد تونس، ولكنه كان دائما يفشل في خططه، وكانت محاولاته في ذلك الميدان بدون جدوى. ولكي يكون المشروع صالحا وقابلا للتنفيذ يجب أن يسير كما ينبغي وأن يكون أساسه العدل والإنصاف. ولقد كان الجزائريون، أثناء غزوتهم الأخيرة لتونس، قد ارتكبوا، كما ذكرنا، أعمالا تعسفية وإجرامية كثيرة بحيث أنها لم تنمح من ¬

(¬6) انظر الفصل السابق.

أذهان التونسيين الذين - بدلا من أن يستسلموا - أعلنوا أنهم يفضلون الموت عن آخرهم. ومؤخرا، لقد أصدر التونسيون نفس الجواب عندما أرادت سردينيا أن تغزو بلادهم. وأذكر في هذا الصدد رسالة كتبت في تونس ونشرت في جريدة (لاتريبين) يوم 21 ماي 1833 وكانت كالآتي: (إن جميع الأفريقيين، الذين يسكنون نفس القارة، من بدو وقبائل قد شاهدوا ما جرى أخيرا، في الجزائر، ورأوا ما قام به الولاة الفرنسيون من تجاوزات، ولذلك؛ وبدلا من أن ينخدعوا بالكلام المعسول، فإنهم يفضلون الحرب إلى أن يموتوا عن آخرهم). وهكذا، أيضا، عقد التونسيون العزم على أن يدافعوا عن أنفسهم ضد الجزائريين. ومن أكبر التجاوزات التي وقعت في عهد حكومة الأتراك بالجزائر هو إعطاء منصب الباي لأشخاص بلا مروءة ولا كفاءة. وهكذا عين المسمى مصطفى بايا على وهران، وكان حظيا للخزناجي ومن صنائعه. وللحصول على ذلك المنصب كان قد وعد بتقديم مبالغ ضخمة من المال. ولم يكن لذلك الرجل أية علاقة بالمشائخ كما أنه لم يكن يعرف أنحاء تلك المقاطعة. وميزته الوحيدة تتمثل في نهب الشعب، وإرسال أسلابه لمجيره. وعلى أثر هذه الأوضاع السيئة غضب الشعب وثار، وكان على رأس الثورة المسمى، درغاوي، وقد استولى الثوار على معسكر بعد حصار قصير، ثم ساروا ضد وهران وحاصروها. وعندما رأى مصطفى باي استحالة صد ذلك الجمهور من الناس ومحاربته،

سدم أبواب المدينة وركز قواته وراء الحيطان، ثم أخبر الجزائر بالحادث عن طريق البحر. وضبطت الحكومة أمرها لاسترجاع السلطة وإقرارها، فأخمدت الثورة، لا بالقوة وإنما بالاعتدال. وعينت بايا آخر قوي النفوذ في أوساط الشعب وله علاقات ودية وروابط قرابة مع مختلف المشائخ. وبالإضافة إلى ذلك، كان ابنا لابن قاره محمد الذي انتزع وهران من الإسبانيين. ولكن الطرق بين الجزائر ووهران كانت مقطوعة، فاضطر الباي الجديد إلى المجيء لوهران عن طريق البحر. وبمجرد ما وصل فتح أبواب المدينة وخرج إلى الدرغاوي بنفسه على رأس الجيش؛ ولما انضم إليه أنصاره هزم المتمردون ووقع تشتيتهم. كان هذا الباي الذي خلص وهران من المتمردين ذا كفاءة ومروءة. وقد ساعد وجوده في تلك المقاطعة على تحقيق الأمن العمومي. وعلى الرغم من ذلك فإنه عزل بعد سنوات قليلة، وقتل ليخلفه نفس مصطفى الذي كان بايا قبله، والذي لم يكن له من فضل إلا رعاية الخزناجي له كما سبق أن ذكرنا. ذلك. وبعد ذلك بمدة قصيرة عين مصطفى خزناجيا، وخلفه في تلك المقاطعة ديلي باي شقيق قاره محمد باي. ونفس هذه الأعمال قد تعرض لها بايات قسنطينة. ومن جملة ما نتح عنها ظهور أحد المغامرين على رأس حزب من المتمردين، يسمى ذلك المغامر:

ابن الأحرش (¬7)، وقد أقام مقر قيادته في نواحي بجاية ليتمكن من التحصن في الجبال المجاورة لتلك المنطقة. كان باي قسنطينة، في ذلك الحين، هو عثمان بن قاره محمد. ولما أراد هذا الباي أن يطبق أحد مبادىء السياسة القائل بأن الجسم لا ينتصر عليه إلا عضو من أعضائه أو جزء من أجزائه، فإنه عمل على الاتفاق مع قادة القبائل، فوعدهم بهبات كبيرة لو أنهم وافقوا على التخلي عن رئيس المشوشين وخانوا قضيته. ولكنه فشل في محاولاته وذهبت مجهوداته أدراج الرياح. لم يكن عثمان باي من صنيعة الخزناجي، ولذلك وسوس هذا الأخير للداي بأن سبب الثورة هو ذلك الباي الذي لم يخمدها لأنه كان متفقا مع المتمردين. وقد نتج عن هذا التدخل أن أرسل الداي للباي برقيات شديدة اللهجة ووليدة الغضب، يسأله فيها أن يعترف بعجزه أو أن يبعث له برأس الفتنة. ولم يكن باي قسنطينة قد تعود على سماع مثل هذه اللهجة، ولذلك فهم بأن روحا شريرة قد تدخلت في الموضوع، وأن تلك الروح هي خصمه الخزناجي. وعلى أثر ذلك الأمر الملح والمهدد، خرج الباي من قسنطينة كاليائس على رأس كل ما استطاع أن يجمعه من جيوش، وهاجم بعنف تلك ¬

(¬7) هو الشريف بن الأحرش: رجل مغربي كان يزعم أنه من شرفاء ملوك فاس، دخل وسط القبائل ووعد الناس بأخذ قسنطينة. وسبب مجيئه إلى الجزائر أنه كان يقود ركب الحجيج عندما وقعت الحملة الفرنسية ضد مصر، فتوقف بالقرب من الاسكندرية وشارك في القتال ضد جيوش بونبرت. وقد اشتهر، في جميع المعارك التي خاضها، بالشجاعة والإقدام والمقدرة على تسيير المحاربين. وبعد النصر تحالف مع الانكليز فأعادوه ومن معه إلى مدينة عنابة، ثم ذهب إلى قسنطينة ومنها التحق بالجبال واستقر بمدينة جيجل حيث بدأ يجمع الأنصار.

الجموع المكونة من القبائل. ولكنه عندما وصل إلى ممر جبلي ضيق جدا، تعرضت له القبائل وصدته بنجاح؛ وقد كانت الطلقة الأولى موجهة إليه فأصابته. ثم هزم جيشه هزيمة نكراء بعد أن لاذ بالفرار. وسقط المعسكر، فتقاسم المنتصرون ما كان فيه من غنائم. وقد أسر، في تلك الظروف، كثير من الأتراك، مضى زمن طويل قبل أن يتمكنوا من الفرار أو من أن يطلق سراحهم. وعندما تولى الحكم الحاج علي باشا (¬8)، كانت مقاطعة قسنطينة في بؤس شديد، وكانت الزراعة تكاد تكون معدمة. وهذا الوضع هو عكس ما كان موجودا في غربي البلاد. ففي تلك الأثناء، أراد ذلك الباي أن بغزو تونس؛ وعين لرئاسة الجيش دالي، باي وهران، لا لأنه كان يعتمد على قوته، ولأن جيشه كان منظما كما ينبغي وعلى أحسن ما يرام فحسب، ولكن لأن ذلك الباي كان رجلا يعترف الجميع بكفاءته. ولكن، بما أن دالي باي كان يعرف جيدا مصدر الحقد الموجود بين الشعبين، وان التونسيين يفضلون الموت عن آخرهم بدلا من الاستسلام للجزائريين، وبما أنه كان يخشى، كذلك، أن تحدث الاضطرابات في مقاطعة وهران بعد أن يغادرها، فإنه رفض - لكل هذه الأسباب - قبول القيادة التي عرضت عليه. ولم يكن الحاج علي باشا ليتفهم مثل هذه الأسباب، وعلى العكس، فقد ألح بشدة على أن يسير الباي ضد تونس واعدا إياه بأنه سيترك له كنوز تلك الإيالة، وبأنه سيحظى بشرف النصر. وليثير نعرته كتب إليه الداي قائلا: ¬

(¬8) انظر الفصل السابق.

(إنك كرغلي، وباي تونس أيضا كرغلي؛ فأنت، إذن، لا تريد أن تلحق الضرر بأخيك. إنك تفضل عصياني على أن تحاربه). ولما رأى ذلك الباي استحالة السير ضد تونس، وتأكد من أن الداي سيعاقب عصيانه، عقد العزم على إعلان الثورة؛ وليحصل على السلم شوش ومنع جميع الطرق التي تصله بالجزائر. ولكي ينتقم، سير الحاج علي باشا جيشا، ضد وهران، تحت قيادة عمر آغا (¬9). وقد تحققت رغبة ذلك الطاغية بكل نجاح، واضطر الباي المسكين إلى الاستسلام للجيش فحكم عليه بالإعدام. كما أن زوجته وأطفاله قد تعرضوا لمعاملة سيئة، ثم حملت جميع ثرواته إلى الجزائر وعين باي آخر في مكانه. لقد تكررت مثل تلك التعيينات إلى أن تولى حسن باي الذي سلم وهران للفرنسيين. وكان حسن باي هذا صهرا لباي وهران القديم: دالي باي. وقد ساهمت هذه القرابة مساهمة كبيرة في ازدهار تلك المقاطعة. واستطاع حسن، على وجه الخصوص، أن يطبع إدارته بالاعتدال طوال الأربعة عشر عاما التي دامها حكمه. كان ذلك الباي يحكم بعطف أبوي، فلا يفرض على الشعب إلا ضرائب قليلة ولا يستعمل العنف ضده أبدا. ولأجل ذلك ازدهرت المقاطعة إزدهارا كبيرا وكان السكان يعترفون له بالجميل. ¬

(¬9) انظر الفصل السابق.

وعلى الرغم من أننا ذكرنا بأن الأتراك كانوا قد قرروا أل يرفعوا واحدا من الكراغلة إلى رتبة باي، فإن الضرورة، وحب الحرية والاعتدال الذي يميز حسين داي قد جعلاه يعين الحاج أحمد على قسنطينة، وهو ما يزال، إلى يومنا هذا يشغل ذلك المنصب. وقبل أن يكون بايا; كانت مقاطعته فقيرة؛ والأراضي مهملة إلى درجة أن السكان لم يكونوا قادرين على تسديد الضرائب القليلة التي لا تدفع، مع ذلك، إلا كل ثلاث سنوات. وإنني أذكر، عندما قدم باي قسنطينة بنفسه إلى الجزائر، أن الباشا كان - لكي يخفي فقر تلك المقاطعة - قد أرسل له سرا ومسبقا مبلغا من المال ليتمكن، عند وصوله، من أن يحضر كما جرت العادة وبكيفية مشرفة. وهكذا، إذن، فإن الحاج أحمد باي قد عين في قسنطينة لأجل كفاءته واستحقاقه، والدليل على ذلك أنه عرف كيف يبقى حتى بعد سقوط الحكومة التركية، كما أنه عرف كيف يكون لنفسه ثروات طائلة بفضل ارتباطاته مع مختلف القبائل. وسأعطي، حول ذلك، تفاصيل أكثر دقة عندما أتكلم، فيما بعد، عن الرحلتين اللتين قمت بهما إلى قسنطينة. لقد بدأت تجاوزات الأتراك والفوضى الناتجة عن عزل البايات سنة 1791، واستمرت إلى غاية 1818 وهي السنة التي وصل فيها حسين باشا إلى الحكم. وحسن باشا هو آخر داي تركي في الجزائر. وينتمي هذا الرجل الفاضل إلى أسرة كريمة، كما يتمتع بثقافة واسعة. وقد خدم الإيالة أكثر من ثلاثين سنة.

وبما أنني أعرف طبعه؛ فإنني أستطيع القول بأنه من ذلك الأصل التركي العريق، أي أنه شريف النفس كريمها. ولا أعتقد أن هناك من يستطيع إتهامه بالطمع. فقد حرص دائما على عدم إراقة الدم البشري، ووفاؤه فيما يخص القيام بالالتزامات معروف في كامل أنحاء أوربا. ولما أنه لا يوجد بلاط واحد اشتكى من أن حسين باشا قد خرق المعاهدات التي أبرمها سواء مع القوي أو مع الضعيف، فإنني متيقن من أنه، بهذا الصدد، سينصف كما ينبغي. أما عن تلك الحرب المشؤومة التي أجبرته على ترك الحكم، فإننا سنرى فيما بعد وبالتفصيل أن الحظ إنما خانه بسبب أخطاء وكلائه والميليشيا. كما أن حاشيته كانت تشتمل على كثير من الأشخاص ممن ليس لهم مبادىء ولا تجربة ولا شجاعة. ولقد كان، أثناء ولايته، ينوي أن يعيد الأمن والانضباط إلى نصابيهما، لأنه، عندما تولى، كان قد وجد الحكومة تتخبط في فوضى يصعب وصفها. وكانت هناك تجاوزات قديمة، وجدت منذ سنوات عديدة. وللتمكن من القضاء على الشر، ولتطهير حكومة الإيالة، كان لا بد أن يتدخل الحظ، وأن تدوم ولايته مدة أطول. وإذا كان هناك ما يلام عليه، فيما يخص حكومته، فهو أنه لم يسترجع الديوان القديم ليتمكن من المداولة حول أهم القضايا، والإفادة من النصائح التي يمكن أن تصدر عن تجربة القدماء ومعرفتهم لتكون نبراسا يهتدى به. ويجب، كذلك، ان يسند إليه خطأ كونه لم يستعمل جميع الوسائل الممكنة لمنع الحرب التي وقعت مع فرنسا. ـ[انتهى الكتاب الأول]ـ

الكتاب الثاني

الكتاب الثاني

الفصل الأول الحرب وأسبابها

الفصل الأول الحرب وأسبابها إن الأصل أو الأسباب الأولى لهذه الحرب المشؤومة التي سببت بؤس جميع الجزائريين سيجعل الأجيال المقبلة تدين الفرنسيين لأنهم سمحوا بوقوع جميع الأهوال التي أصبحت الجزائر مسرحا لها، لكي لا نقول: التي سلطوها عليها. لقد كنا نعتقد أن الأفكار التعصبية الضيقة قد نسبت في القرن التاسع عشر، وإن عصر تحرر الشعوب قد حان، وإنه أصبح من المحتوم اعتبار جميع سكان المعمورة كأسرة واحدة. نقول إذن، إن أحد الأسباب الأولى لهذه الحرب هو المطالبة التي تقدم بها بكري (¬1) للحكومة الفرنسية فيما يخص ديون يرجع تاريخها إلى الثورة، ¬

(¬1) هو لقب لأسرة يهودية قدم رئيسها الأول - ابن زقوط - من ليفورته إلى مدينة الجزائر سنة 1770. وكان لزقوط هذا أربعة أبناء أسسوا في مستهل العقد الثامن من نفس القرن شركة تجارية لم تلبث أن اتسع نشاطها وصارت تتعامل مع الخارج. وأهم ما قامت به تزويد فرنسا بالحبوب والاندماج في مؤسسة أخرى يهودية كان يقودها حفيد ابن زقوط السيد نفتالي بو جناح. أما الأخوة بكري فهم: يوسف ومردوشي ويعقوب وسليمان.

قبل عهد الامبراطورية، ترتبت عن تزويدات في مادة الحبوب كنا قد تكلمنا عنها. ولقد حددت الحكومة الفرنسية، بقرار، ثمن هذه التزويدات بسبعة ملايين من الفرنكات (¬2). ولكن التسديد طال كثيرا وبقي سنوات متعددة. وكان الاعتراف باسم بكري وشريكه ميكائيل بو جناح (¬3). وبما أن بكري كان مدينا لخزينة الجزائر بمبالغ هامة تمثل قيمة كميات من الصوف اشتراها من الدولة، فإنه كان يعتمد على التصفية لدفع هذا الدين وغيره من الديون التي ترتبت عليه في فرنسا. وتقدم عدد كبير من دائني بكري إلى الخزينة معترضين على الدفع وقد تعقدت التصفية نتيجة لهذه الاعتراضات. ولما رأى هؤلاء اليهود أن تسوية القضية ما زال بعيدة، شرعوا في ¬

(¬2) كان هذا المبلغ في بداية الأمر 24 مليونا من الفرنكات كما ورد في محضر اللجنة التي كونها الملك لويس فليب لهذا الغرض. ثم وقع اتصال بالمعنيين وجرت مفاوضات نزل المبلغ بمقتضاها إلى سبعة ملايين أبرم في شأنها اتفاق، أمضاه الملك نفسه يووم 28 أكتوبر 1819. وينص ذلك الاتفاق على أن الدين يدفع مشاهرة في ظرف عام ابتداء من فاتح مارس 1820. (¬3) هو حفيد ابن زقوط كما رأينا، قدمت أسرته من ليفورنه إلى مدينة الجزائر في نهاية الربع الأول من القرن الثامن عشر. وقد بدأ نجمه يلمع في عالم التجارة سنة 1782. وفي مستهل العقد التاسع، استطاع بدهائه ومكره أن يكسب ثقة الداي حسن ويصبح مستشارا له ذا نفوذ لا مثيل له، حتى أن المصادر الغربية كانت تسميه ملك الجزائر. ونتيجة للتعسفات التي كان يقوم بها ضد الأهالي تطوع أحد جنود الميليشيا وقتله رميا بالرصاص صباح يوم 28 جوان سنة 1805، في عهد الداي مصطفى باشا الذي سيلقى نفس المصير بعد ذلك بقليل.

مفاوضات مهلكة. فوقعوا سندات بمائة ألف فرنك وتنازلوا عنها بعشرين ألف لأن المهم عند هؤلاء اليهود هو أن يحصلوا على الدراهم. وفي هذه الأثناء تقرب بكري من قنصل فرنسا السيد دوفال ووعده بمبلغ هام إن هو عمل على إسراع التصفية ف باريس. ويزعم البعض أنه أعطى الدراهم نقدا إلى القنصل المذكور، ويقول آخرون بأن القنصل لم يحصل إلا على الوعود. وفيما يخصني، فإنني لا أعرف شيئا إيجابيا عن هذا الموضوع، وعليه فإنني أكتفي، هنا بترديد ما سمعه من الناس. ولكنني أعرف أن كثيرا من المناورات وقعت بشأن هذه القضية حتى أن حسين باشا قرر أن يرسل بنفسه إلى الحكومة الفرنسية للإسراع بالتصفية دون أن يعلم بأن أعمال غير لائقة قد تمت في هذا الموضوع وأن السبب الوحيد الذي جعله يقبل التدخل في الأمر هو أن بكري كان جزائريا، ومدينا لخزينة الإيالة: فكان الباشا يأمل، بعمله هذا، أن يسترجع أموال الدولة. يقال، أيضا، أن نفس السيد دوفال قد ساهم، لفائدته الخاصة ولكن باسم جماعة من أصدقائه، في بعض تلك المفاوضات التي أهلكت بكري، وأنه استغل احتياج هذا اليهودي وشريكه. ويقال كذلك، أنه كان ينوي أن يستولي مع أصدقائه على مجموع ذلك المبلغ الهام الذي كانت الحكومة الفرنسية مدينة به لبكري. وبالفعل، فإن أحدا لم يستفد من الدين غير السيد دوفال وأصدقائه. ولتسهيل التصفية في باريس، ولكي تدفع الحكومة الفرنسية ذلك المبلغ احتراما للداي فإن السيد دوفال قد وعد بأنه سيحضر للعاهل المذكور المبلغ المترتب على بكري لفائدة الخزينة (الجزائرية). وعلى الرغم من أن الداي

سلم لدوفال البرقية التي طلبها منه، فإن شيئا لم يتم من وعود القنصل وواصل الداي بدون جدوى إرسال برقيات أخرى إلى الحكومة الفرنسية مستعملا لذلك طرقا مختلفة وبالطبع، عال صبر الداي لعدم تلقيه أجوبة من الحكومة الفرنسية جاهلا أن هذه الأخيرة لم تطلع على أي واحد من مطالبه المختلفة. لقد جرت العادة أن تقوم قناصل الدول الأوروبية المعتمدين لدى الجزائر بزيارة إكرام إلى الداي بمناسبة اليوم الأول من البيرم (¬4)، وكان القنصل الإنكليزي والقنصل الفرنسي يتنافسان الصدارة في هذه المناسبات. ولذلك، ولتجنب كل مناقشة قرر الداي أنه يستقبل الواحد عشية الاحتفال والآخر في يوم العيد نفسه. وعلى هذا الأساس جاء السيد دوفال عشية عيد البيرم ليؤدي زيارته للداي بمحضر جميع أعضاء الديون. وكان هذا القنصل لا يجيد التركية إلا كما أتكلم أنا اللغة الفرنسيةء فلا يعرف معانيها ولا عبقريتها. وبعد الحفل، سأل الباشا القنصل لماذا لم تجبه حكومته عن برقياته العديدة الخاصة بمطالب بكري. فكان جواب السيد دوفال في منتهى الوقاحة إذ جاء كالآتي: (إن حكومتي لا تتنازل لإجابة رجل مثلكم). نستطيع لصالح السيد دوفال أن نقول بأن إجابته هذه كانت بسبب جهله للغة، لأن الفرنسي الأصيل لا يتلفظ بكلام بذىء مع إنسان عادي، ناهيك إذا كان ذلك الإنسان رئيس إيالة. ومما لا شك فيه أن الداي كان يمكن أن يعذر السيد دوفال لو وقع ذلك بمناسبة أخرى، ولكن هذه الكلمات، أمام ديوانه، قد مست كرامته إلى درجة أنه لم يتمالك نفسه من الغضب وضربه بالمروحة ضربة واحدة. (هذه المروحة مصنوعة من سعف النخيل). إن حسين باشا ¬

(¬4) كلمة تركية تعني عيد الفطر.

أبعد من أن يكون رجلا فظا. وكل إنسان يعرفه لا يمكن أن يتهمه بالخشونة. وإنني لأحكم؛ في ذلك، جميع القناصل الأجانب. وعلى ما يقال، فإن القنصل قد أفاد من الظروف، ولتغطية سلوكه وإسدال ستار النسيان على عباراته الوقحة، عرض ضربة المروحة بكيفية غير مؤاتية للداي. ولما علم الداي أن لجوزيف بكري، أحد قادة المؤسسة اليهودية، ديونا في ذمة البلاط الإسباني؛ وأن تلك الحكومة كانت مدينة له بمبلغ هام زيادة على الفائدة المتراكمة منذ حوالي عشرين سنة (كان بكري يزعم أن ماله من دين على الحكومة الإسبانية يبلغ خمسة ملايين من الفرنكات)، فإنه طلب من قنصل هذه الأمة أن يكتب لحكومته ملزما إياها بتصفية هذا الدين وبتسديده إلى خزينة الجزائر وعلى أثر مناقشة حادة جرت في هذا الموضوع بين الداي وقنصل إسبانية، غادر هذا الأخير المدينة وركب سفينة من سفن بلاده. عندئذ، دعاه الداي إلى الهبوط، وجلب انتباهه إلى أنه لا يجب أن يخلق المشاكل، وبأنه لم يكن ينوي الإساءة إليه، وأن العبارات التي وجهها له لا تخص إلا الحكومة التي يمثلها. ولما رفض القنصل النزول إلى الأرض، قال له الداي بأنه يعتبر تماديه في الرفض قطيعة بين الحكومتين. وعلى الرغم من ذهاب القنصل، فإن الداي لم يتصرف بشدة، بل على العكس، فإنه اتجه بود إلى البلاط الإسباني مطالبا بحقوقه، ومقترحا على الحكومة الإسبانية للتفاهم بينها وبين بكري. وبما أن إسبانيا لم تكن موافقة، ولها الحق في ذلك، على دفع فائدة قدرها ثلاثون في المائة، كان بكري يطالب بها، فإن الداي اقترح عليها أن تدفع

له مليونا من الفرنكات مقابل أن يجعل حدا لادعاءات بكري وأن تسوى القضية تسوية نهائية. وزيادة على ذلك، طلب الداي بمبلغ 500،000 فرنك كتعويض لمصاريف الحرب. وقد كتب هذه البرقية الأخيرة بخط يده. ولما وافقت الحكومة الإسبانية على الاقتراح المعقول، فإن الصداقة قد عادت إلى ما كانت عليه في الحين. وعندما تم دفع المبلغ المذكور، وزع المليون بالتقسيط على من كانت لهم ديون في ذمة بكري ووقع ذلك بمحضر هذا الأخير، وعلى مشهد من الخزناجي للتأكد من السندات، أما الخمسمائة ألف فرنك، فإنها صبت في الخزية كتعويض لمصاريف الحرب كما سبق أن ذكرنا , وقد دفع الداي من هذا المبلع الأخير خمسين فرنكا لكل جندي بحيث لم يبق للخزينة إلا حوالي خمسين ألف فرنك. لقد رفض الداي تلك النسبة المرتفعة من الفائدة لأن القوانين الأوروبية لا تعرف سوى بخمسة في المائة، ولأن قوانيننا لا تسمح بالربى مهما كان نوعه. هذه هي الأحداث التي جرت في تلك الظروف وقد كنت عليها شاهد عيان. لقد كان للداي كرئيس دولة وكأب للشعب وولي للأيتام تعترف به القوانين، كل السلطة لتسوية هذه القضية. وكان لبكري شريك، هو أخوه، يوسف الذي هلك وترك ورثته، ولذلك كان من المحتوم عليه أن يضع حدا لهذه المسألة. وعندما دخل الجنرال دوبرمون إلى الجزائر ورأى بكري أنه كان يحسن

وفادته توجه إلى حسين باشا ومعه وثيقة رسمية تثبت أن بكري أودع في الخزينة مبلغ خمسمائة ألف فرنك، وطلب منه أن يوقعها له مقابل 125،000 فرنكا. وقد كتب هذه الوثيقة بخط يد اليهودي نفسه أما الخمسمائة ألف فرنك، فإنه كان يريد الحصول عليها كبقية من حسابه مع إسبانية. وهكذا رجا من الداي أن يوقع هذا الاعتراف الذي كان ينوي أن يقدمه للقاضي والمفتي يصادقان عليه، وكان متأكدا على حد زعمه أنه سيحصل على المبلغ. وبعد أن تأمل الداي في هذه الوثائق رد بكري خائبا دون أن يوقع ولا أن يضع ختما. ومع ذلك فقد أبقى عنده تلك البيانات التي أعدت لارتشائه، وأجاب الراشي قائلا: إن شرفي يمنعني أن أقوم بمثل هذه الأعمال. ويقال إن الداي أعطى لهذا اليهودي، قبل أن يطرده، صدقة يتراوح قدرها ما بين 7 و8 آلاف فرنك، فدمها له من أمواله الخاصة لمساعدته وإعالة أبنائه، وذلك لأن بكري كان آنذاك، في وضع مادي يرثى له. يقال أن بكري طلب من الحكومة الفرنسية أن تدفع له الخمسمائة ألف فرنك. لست أدري كيف يمكن أن يبرر طلبه هذا، وكل ما أستطيع قوله هو أن ما ذكرته الآن، عن وعي، وقع كله بمحضر مني. وفيما، يخص طلقات المدفعية المشؤومة التي وجهت للسفينة والبروفانس) (¬5) ¬

(¬5) هي السفينة البرلمانية التي كان يركبها السيد دولابروتونيار، والتي وصلت إلى ميناء الجزائر يوم 30 جوليت سنة 1829 للتفاوض مع سلطات الإيالة حول إمكانية التوصل إلى حل للأزمة القائمة بين الدولتين منذ أكثر من عامين. ولما فشلت المحادثات، أبحرت السفينة، وبدلا من أن تأخذ طريقها مباشرة إلى فرنسا، مالت كثيرا إلى الساحل واقتربت من الحصون الحربية حتى ظن بعض القادة الجزائريين أنها تتجسس عليهم، فأمر بإطلاق النيران حولها لتبتعد. ولو كان الغرض هو تخريبها لما تعذر ذلك، لأن المصادر تذكر بأنها كانت قريبة جدا من المدفعية، وأن الريح كانت في ذلك الحين غير مؤاتية للملاحة.

والتي ضاعفت من الأسباب وجعلت فرنسا تقرر الحرب وعجلت بؤسنا وخرابنا، فإنني أستطيع التأكيد بأن حسين باشا (¬6) لم يكن على علم بها ولكننا نقول باللغة العربية. إن السيد مسؤول على أخطاء عبده). فلو أن الداي كان قد عين في وزارة البحرية رجلا أهلا للمنصب لما وقعت الحرب ولما انتهت الحصانة البرلمانية (إن عزل هذا الوزير؛ وإبعاد رئيس المدفعيين الذي أمر بإطلاق النيران لم تكن لها أية نتيجة بالنسبة إلينا) وفي الحين، توجهت بنفسي إلى الآغا وطلبت منه أن يخبر الباشا أنني أعتقد: حسب رأيي، بأن ما وقع سيعتبر خيانة، وهو مناف لشريعتنا ولقوانين المجتمعات والحضارة. ولغسل هذا العار الذي أصابنا كان يجب على الباشا أن يرسل، حينا، سفيرا إلى فرنسا يعرض الأحداث، ويعترف أمام الملأ بأخطائنا، ويخبر بعزل الوزير وإبعاد رئيس المدفعيين. وفي حالة ما إذا طلبت الحكومة الفرنسية من السفير تفسيرات حول مبدأ الحرب يقتصر على الإجابة بقوله: إن مهمتي خاصة وهي ترمي إلى الاعتراف بأخطائنا وتقديم توضيحات حولها، أما عن مسألة الحرب، فنعتقد أننا على صواب. ومن حقكم أن توفدوا رسولا إلى الداي وأن تتخذوا عدلنا كمثال تقتدون به. ثم ينهي الرسول كلامه قائلا: إن الداي متأكد من أن الحكومة الفرنسية سترضى بالاعتذار الذي كلف بتقديمه، وأنه يأمل أن يقع التوصل إلى الاتفاق حول القضية الرئيسية التي زاد ¬

(¬6) هو آخر الدايات، تولى الحكم مرغما سنة 1818. وكان رجلا عالما وشجاعا حكيما. في عهده أصيبت البليدة بزلزال، ووقعت حادثة المروحة والحصار سنة 1827، ثم الاحتلال سنة 1830. أكبر خطأ ارتكبه أثناء ولايته هو سماعه للواشين في قضية يحيى آغا الذي كان أكبر قائد عسكري عرفته الإيالة في عهد الآغوات والدايات.

في تعقيدها السيد دوفال (¬7) عندما لوث شرف حكومته بأعمال الرشوة، وباحتجاز برقيات الداي. ولو تم الأمر على هذا النحو، لكان من الممكن ; بعد هذه التوضيحات، أن تعود المياه إلى مجاريها بين الجزائر وفرنسا، وأن يتجنب كثير من الشرور. ¬

(¬7) هو آخر قنصل فرنسي في الجزائر قبل الاحتلال. كان في نفس الوقت تاجرا، تورط في كثير من القضايا مع محلات بكري وبوجناح، ولق كانت مواقفه الشخصية من الأسباب التي زادت الوضع تعفنا عندما وقعت الأزمة الأخيرة بين الجزائر وفرنسا.

الفصل الثاني قصة وصول الجيش إلى سيدي فرج

الفصل الثاني قصة وصول الجيش إلى سيدي فرج لقد كتب حسين باشا إلى القبائل والعرب يخبرهم بالنوايا العدوانية التي يضمرها لهم الفرنسيون، ويأمرهم بأن يسعدوا ويكونوا رهن الإشارة. فأجابوه بأنهم مستعدون وبأنهم لا ينتظرون سوى أوامر الباشا ليسارعوا إلى نصرته. كما أن حسين باشا كتب إلى باي وهران (¬1) وأوصاه بتحصين مدينته وباليقظة وأمر باي قسنطينة (¬2) بتحصين ميناء عنابة (¬3): وبما أن هذا الأخير لم يأت إلى الجزائر منذ ثلاث سنوات، فإنه أمره بالمجيء وفقا لما جرت عليه العادة، ودون أن يزعج القبائل. ¬

(¬1) هو حسن باي الذي دفعته ثروته وشيخوخته إلى الاستسلام دون مقاومة. ولقد حكم مدة 7 أشهر باسم الفرنسيين وفي نهاية الأمر اضطهد، فاضطر إلى الفرار إلى الاسكندرية ومنها إلى مكة حيث قضى أيامه الباقية. (¬2) هو الحاج أحمد باي الذي تكلمنا عنه في الكتاب الأول. (¬3) كانت عنابة ميناء تجارية تحت تصرف الفرنسيين إلى أن وقع الحصار سنة 1827.

وأمر الباشا، كذلك بإحصاء العمال في مدينة الجزائر، وبأن يرسل إلى الحصون للمساهمة في مناورات المدفعية، جميع القادرين، وبأن يعين قائد على رأس كل فيلق. لقد كان الآغا إبراهيم صهرا للباشا، لكنه لم يكن قائدا ممتازا في يوم من الأيام، ولم يكن يعرف الشيء الكثير من التكتيك العسكري ; وكان سابقه يحيى آغا (¬4) قد شغل هذا المنصب مدة اثنتي عشرة سنة في عهد حسين باشا , فشاهد كثيرا من المعارك التي جرت بين العرب والقبائل ; وكان مدة ما بقيت، لا يعرف الركود على الإطلاق. لقد كان شديد الطموح، صائبا في منطقه ويعرف كيف يحبب نفسه خاصة إلى العرب والقبائل، ولو أنه ظل في هذا المنصب مدة أطول لاستفادت الجزائر منه أشياء كثيرة على ما أعتقد. ولكن الحسد والغيرة اللذين أثارهما في نفس الخزناجي، نتيجة مكانته عند الباشا وعمل هذا الأخير بنصائحه، قد جعلا الخزناجي يتآمر ضده. وقد تمت الدسيسة بواسطة تقارير كاذبة وشهود زور كان وعدهم بمناصب عندما تنجح الخطة. وبهذه الطريقة عزل يحيى آغا، ثم نفاه الباشا إلى البليدة واستبدله بصهره إبراهيم وهو رجل لا منطق له ولا كفاءة كما سبق أن ذكرنا. وخشي المتآمرون أن تنكشف أفعالهم، وأن يعود منافسهم إلى الحكم فحاكوا خيوطا جديدة واتهموه بأنه يتفاهم مع مختلف رؤساء العرب والقبائل، ¬

(¬4) أشهر قائد عسكري عرفته الجزائر في عهد الآغوات والدايات. صاحب فضل كبير علي أحمد باي إذ هو الذي شفع فيه وساعده على تدعيم سلطته في شرق الإيالة. ويعتبر قتله أكبر خطأ ارتكبه حسين داي في حياته.

وأن هؤلاء الرؤساء كانوا يزورونه ليلا، وأنه كان يعقد الاجتماعات في بيته لمهاجمة الجزائر وللاستيلاء على الحكومة وتعيين نفسه على رأسها، وبالاعتماد على هذه المزاعم، قدمت وثائق مزيفة تشبه الحقيقة وتم إقناع الباشا بأن الآغا السابق يحيى خائن، فأمر بإعدامه. من السهل أن ندرك، بعد هذه التفاصيل، بأنه لو كان يحيى، أثناء هذه الحرب الأخيرة، على رأس الجيوش الجزائرية لكان سير الأمور أحسن، لأن التجربة التي حصل عليها في البر والبحر وشجاعته في جميع الحالات، كلها كان يمكن أن تشكل ضمانا بالنسبة للجندي الذي يحارب تحت إمرته. وبما أن إبراهيم قد عين آغا خلفا ليحيى، بعد حادثة (البروفانس) المشؤومة، فقد أرسل له مخطط الفرنسيين، وأخبر بالمكان الذي كانوا ينوون النزول فيه، كما أحيط علما بالعدد الصحيح فيما يخص مكونات الجيش من سفن وجنود (¬5): وعلى الرغم من هذه المعلومات المنجية، فإنه لم يعد أي شيء ولم يتخذ أي نوع من التدابير ولم يعط أي أمر، بل كان يزعم أنه عندما تطأ أقدام الفرنسيين الأرض، سيطوقهم بالقبائل الذين لم يكونوا تحت تصرفه، لأنه كان يجب أن يعطي الأوامر مسبقا، لكي يتسنى لهم أن ينتقلوا إلى الأماكن المعلومة بدون تعب ولكي يتمكنووا من صد الأعداء. وبالفعل، فإن قدوم البعض يتطلب أسبوعا بينما يقتضي مجيء غيرهم أكثر من ذلك. وإذا كانت ¬

(¬5) يقول الباي أحمد في مذكراته: (عندما مثلت بين يدي حسين داي قال لي: (لم يعد لديكم سوى ما يكفي من الوقت للخروج للفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج. إنني أعرف مكان النزول بواسطة الرسائل التي تصلني من بلادهم وعن طريق منشور طبع في فرنسا وأرسله لي جواسيسي من مالطة وجبل طارق (مذكرات أحمد باي الصفحة الأولى).

جماعة تستعمل الخيل، فإن هناك من يأتي راجلا. أما الخيالة العرب الذين يستحقون الشهرة التي حصلوا عليا، فإنهم يقيمون بعيدا، في أطراف الإيالة؛ كما أن هؤلاء الأبطال أيضا، لم يتصلوا بأي أمر. وعلى هذا الأساس فإن الجيش الذي كان يحيط بهذا الآغا لم يكن مكونا إلا من سكان متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب. لقد سمعت من يقول لهذا الأبله أن له تحت تصرفه خمسة آلاف سارق سيعملون ليلا على مفاجأة الفرنسيين في جميع الأنحاء ويجعلونهم يتحاربون فيما بينهم. أما العدد الضئيل من القبائل الذين كانوا يأتونه، فإنهم لم يحصلوا، بالنسبة لهم ولخيلهم، لا على مؤن ولا على ذخيرة، وبما أنهم لم يكونوا يستطيعون حتى شراء ذلك على نفقتهم الخاصة فإنهم كانوا يعودون من حيث أتوا ويتركونه وحده. وفي سيدي فرج لم تحضر المدفعية، ولم تحفر الخنادق ولم يكن هناك سوى اثني عشر مدفعا كان الآغا السابق قد نصبها في بداية إعلان الحرب. وفي اليوم الذي نزل فيه المارشال دويرمون مع جيشه لم يكن تحت تصرف الآغا سوى 300 فارس؛ ولم يكن مع باي قسنطينة إلا عدد قليل جدا من الأجناد (¬6)،لأنه لم يكن مستعدا لخوض المعركة. وكان باي التيطري (¬7) في المدية ¬

(¬6) يقول الباي أحمد: إنني جئت إلى العاصمة كالعادة أحمل الدنوش، ولذلك لم أصطحب معي سوى حوالي 400 فارس. ومن جملة القادة الذين كانوا مع: ولد مقران وابن الحملاوي آغا، وشيخ ريغا وقائد الزمالة والعربي قائد ابن عاشور وشيخ بو شنان. (¬7) يذكر الباي أحمد أن باي التيطري كان موجودا في الجزائر قبل النزول، وأنه حضر مجلس الحرب الذي ترأس الآغا إبراهيم، وشارك في جميع المعارك وخاصة معركتي سيدي فرج وسطاولي.

ولم يصل منها إلا بعد بضعة أيام ولقد سمعت أن نزول المارشال دوبرمون كان صدفة وأنه كان معرضا لأخطار جسام لأنه أنزل الرجال قبل المؤن والمدفعية. وظلت الأمور على هذه الحال ثلاث أيام بسبب الرياح المعاكسة التي كانت تبعد سفن النقل. وما من شك أن الجيش الفرنسي كان يمكن أن يهزم لو وقع نوع من التحضير لصد هذا النزول. هذا بالإضافة إلى أن جيش وهران كان غير بعيد عن سيدي فرج تحت قيادة خليفة باي تلك المقاطعة، كما أن باي التيطري كان قد أعلم الباشا بأنه يوجد تحت تصرفه 20 ألف فارس نصفهم من حملة الرماح (لأجل ذلك سمي هذا الباي: بو مزراق، والمزراق هو الرمح). وباي التيطري هذا رجل وقح وذو شجاعة يغبط عليها لكنه عاجز عن قيادة جيش. وعندما وصل لم يكن معه أكثر من ألف فارس بدلا من العشرين ألف التي كان قد أخبر عنها. كل هؤلاء الفرسان تمركزوا في سطاولي (¬8)، كما جاء إلى هذا المكان الآغا مع فرقته المشهورة المكونة من أهل متيجة والتي تكلمت عنها آنفا، وحضر، كذلك جنود من القبائل لكنهم سرعان ما انسحبوا إلى الدار البيضاء (¬9) لعدم توفر المؤن والذخائر الحربية ¬

(¬8) سطاولي أو أوسه ولي (بالتركية) يقع على مسافة سير ساعة من سيدي فرج وقد وقعت فيه المعركة على مرحلتين، جاء في أحد المخطوطات: فلما كان ليوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة من السنة المذكورة الموافق 9 يولية قاموا (الجيوش الجزائرية) جميعا على الفرانسوية وهزموهم وبددوا شملهم وأخذوا رؤوس من قتلوه (كذا) منهم وبعثوا بها إلى مدينة الجزائر لتكون علامة دالة على النصر وإعلانا بالظفر ... وبعد مدة يسيرة من الأيام انهزم المسلمون وصاروا يقاتلون وهم مدبرون (انظر أحمد الجزائري: كيف دخل الفرنسيون إلى الجزائر). (¬9) ضاحية من ضواحي مدينة الجزائر تقع في شرقيها على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من سيدي فرج.

وفي صباح كل يوم كان هؤلاء الأجناد يعودون إلى مراكزهم. لقد لاحظ باي قسنطينة على الآغا بأن تنظيم الجيش هذا لا يسمح بأي أمل في النجاح. وفي حالة ما إذا سار الجيش الفرنسي نحو مدينة الجزائر، فإن انسحابنا سيكون دليلا لها. وحسب رأيه، فإننا لن نكون قادرين على صده ولا على مقاومته. كما أشار، كذلك، إلى أنه ليس من السياسة في شيء أن تجمع قواتنا في نقطة واحدة، وإن من الواجب توزيعها بحيث يحمل جزء منها إلى غربي سيدي فرج، ومعنى ذلك أن الفرنسيين إذا لاحقونا، فإنهم سيبتعدون عن هدفهم الذي هو مدينة الجزائر، وسيكون ذلك لصالحنا، إذ نستطيع أن نبدأهم بالهجوم. وإذا قصد الفرنسيون الجزائر دون أن يهاجموننا، فإننا عندما سنكون أقوى وأقدر على الدفاع عن أنفسنا والانتصار عليهم. واقترح، أيضا، أن يتولى كل قائد الاعتناء بجزء من الجيش. وكان مقر القيادة الذي وقع عليه اختيارنا هو الدار البيضاء التي تفصلها عن سطاولي مسيرة أربع ساعات. وعن كل هذه الملاحظات كانت إجابة الآغا كالآتي: (إنكم لا تعرفون التكتيك الأوروبي، إنه يتعارض كل المعارضة مع تكتيك العرب). ورأى باي قسنطينة في هذه الإجابة البليدة إهانة له، لذلك التزم الصمت ولمي يسمح لنفسه بإبداء أية ملاحظة أخرى (¬10). كنت بنفسي عشية الاستيلاء على سطاولي، عند الآغا للتعرف على الأوضاع فتعشيت معه، ومع باي قسنطينة وباي التيطري، وخليفة باي ¬

(¬10) حول هذه القضية أنظر مذكرات الباي أحمد، فإنها تشتمل على كثير من التفاصيل.

وهران، وخوجة الخيل: في تلك الليلة اقترب مني الآغا وأسر لي الخبر الهام الذي مفاده أن فلانا وفلانا (مع ذكر أسماء الأشخاص) قد ذهبوا إلى مركز الفرنسيين كأنصار لقضيتهم؛ يقدمون لهم تقارير كاذبة حول وضع البلاد ويطلبون منهم أن يرسلوا عن طريق البحر جزءا من جيوشهم إلى بعض الأماكن واعدين إياهم بأنخم سينضمون إليهم ويقودونهم إلى حصن الامبراطور لمخادعة الجزائريين. وأضاف الآغا قائلا: أعتقد بأن المخطط سينفذ غدا وعندما يجرون الجيش الفرنسي إلى طريق قاحل وصعب يقوم العرب بالهجوم من جهة، وأتولى الهجوم من الجهة الأخرى. وفي انتظار ذلك؛ وزعت على كل جندي عشرة خرتوشات. لم أدر ماذا أقول عندما رأيت هذا الآغا يهذي بذه الكيفية. ومع ذلك سألته ماذا يصنع الأجناد عندما يطلقون الخرتوشات العشرة، فأجابني بأن تلك الكمية كافية لقتل نصف الجيش الفرنسي وبعد ذلك لن يكون في حاجة إلى توزيع البارود. وعندما لاحظت له بأنه كان يجب أن يحفر الخنادق لحماية الجيش والدفاع عنه أجاب بنفس الثقة: نحن نشكل الخنادق الحقيقة ومن المؤسف ألا نعرف كيف نحمي أنفسنا. لكن، قلت له، لتكن هذه الخنادق على الأقل لتغطية المدفعية. إنها أمام مدفعية العدو ومن واجبكم حمايتها. على أثر هذه الملاحظة الأخيرة أعطى أمرا في الحين، بنشر إعلان في الجيش يطلب فيه من كل عربي غير مسلح أن يأتي للآغا قصد تزويده. ونتيجة لهذا الأمر، اجتمع عنده عدد كبير من الأجناد، وبدلا من الأسلحة أعطاهم الفؤوس لحفر الخنادق. وبالفعل لقد تم خلال تلك الليلة، حفر خندق لم يستعمل في الواقع لأي شيء.

لقد سلم حسين باشا لهذا الآغا مبالغ كبيرة من الدراهم لتوزع على المحاربين لكي يسرعوا في الأعمال وتشجيعا للجنود. غير أن هذا الآغا لم يعط شيئا لمن وجه الداي إليهم تلك المبالغ. ودائما لتشجيع المعركة وإثارة طمع القبائل، وعد حسين باشا بأنه يعطي مكافأة قدرها خمسمائة فرنك لكل من يحمل رأس أحد الأعداء. وكلف الآغا بحساب هذا المبلغ، وجميع الايصالات من أصحاببها بعد تقديم الأدلة المقنعة. وبدلا من أن ينفذ إرادة سيده ويدفع المكافأة الموعودة. فإنه كان يرد الجنود طالبا منهم أن يعودوا بعد المعركة لتقاضي ما لهم. ولا أدري ماذا كان مصير المبالغ الهائلة التي كانت في حوزة الآغا. وفي صباح الغد توجه الآغا وحاشيته والمرافقون إلى المكان المسمى: سيدي فرج، وبقي المركز شاغرا، ليس فيه على أكثر تقدير، إلا حوالي أربعين شخصا لحماية الأمتعة وكانوا بدون أسلحة ولا يملكون أية وسيلة دفاعية. عندئذ إقتنعت بنفسي أن قيادة الجيش أسندت لرجل لا يعرف الفن العسكري، واعتبرت الإيالة قد ضاعت ثم رجعت حزينا إلى الجزائر. فهل من التكتيك الدفاعي أن يترك معسكره خاليا؟ ألم يكن عليه أن يبقي فيه حوالي ثلث جيشه للاحتفاظ بجنود غير متعبين يستطيع أن يدعم بهم جيوشه المنتصرة أو يسهل بهم عملية الانسحاب؟ إن هذا التكتيك يخلق في الميدانين، المعنوي والمادي، نوعا من الثقة ويلهم الشجاعة، وإذا لم يكن كذلك وانسحب الجيش نحو خيمة فوجدما خاوية، فإنه لا يستطيع إلا أن يهرب وكله خيبة ويأس. ولأعطي فكرة دقيقة عن قصر نظره وعجزه، أذكر حادثة وقعت لي خلال المدة التي قضيتها عنده.

لقد كنت، ذات ليلة، في وسط معسكره، واحتجت إلى بعض الأشياء وبدلا من إرسال أحد الخدم توجهت بنفسي إلى خيمة. فقطعت المعسكر ودخلت إليه ثم أخذت ما جئت من أجله دون أن يشعر بي أحد لأن الجيش كله كان في نوم عميق، ولم ألآقي في طريقي أي حارس يسهر على حماية المعسكر من هجوم الأعداء. نرى من خلال كل ما تقدم فرقا كبيرا بينه وبين سابقه يحيى آغا من حيث الوسائل العسكرية والإدارية التي كانت لكل منهما. لقد تعودت كلما رجع يحيى آغا من الحرب أن أذهب للقائه في متيجة حيث أقضي معه يوما كاملا. وأتذكر، آنذاك على الرغم من أن الوقت كان سلما، فإن جيشه كان أحسن تجهيزا وأكثر تنظيما، كما أنه كان أكثر عددا من الجيش الذي نظمه إبراهيم آغا لمحاربة الفرنسيين. لقد كان من العادة أن يدرب مدفعيته يوميا، وأن يستعد للدفاع كما لو كان العدو سيهاجمه. لقد كانت مراكز معسكره في يقظة دائمة: فهناك مركز يكلف بحراسة المعسكر عامة وهناك آخر خاص بالسهر على دخول الخيل وخروجها، وأخيرا هناك ثالث يحيط بخيمته، ويتكون من ثمانية رجال في الخارج واثنين في الداخل وواحد عند الباب، وفي كل نصف ساعة كان حارس باب الخيمة يطلب من حارس الخارج أن يجيبه بالإشارة المتفق عليها، ثم يتوجه حارس الخارج بنفس الطريقة إلى حارس الخيل ثم إلى حارس المدفعية، فحارس المدفعية العام وهلم جرا، بحيث أن المعسكر كان محروسا كأحسن ما يكون. وعندما فقدت الإيالة يحيى آغا تنبأ كل عاقل بانهيار الجزائر، ولم يوافق أحد على الحادث وحتى لو كان مذنبا؛ فإنه ما كان ينبغي أن يستبدل بإبراهيم

آغا. إنها غلطة فادحة لا تغتفر، قد تكون هي الوحيدة التي يمكن أن يلام عليها حسين باشا خلال السنوات الثلاث عشرة التي دامها عهده. ولقد كان لهذه الغلطة تأثيرها الكبير خاصة وأنها وقعت في الوقت الذي كنا فيه في حرب مع فرنسا. وإن الذي ارتكبها أمير برهن على كثير من الاعتدال والعدل بحيث أننا لم نكن ننتظر منه مثل هذا العمل. وهكذا، إذن، كان إبراهيم آغا يريد محاربة الفرنسيين بدون جيش منظم ولا دخيرة حربية ولا مؤن، ولا شعير للخيل وبدون أن تكون له المقدرة الضرورية للقيام بالحرب. وعندما وقعت هزيمة سطاولي، غادر هذا الآغا المعسكر وكله يأس كما لو أنه فقد رأسه لقد ترك كل شيء: الخيم، فرق الموسيقى، الاعلام وجيشه بأكمله. ولو أن بورمون سير جيوشه في ذلك اليوم، إلى حصن الأمبراطور لما لاقى أية صعوبة. وبعد ذلك بيومين دعاني حسين باشا لمعرفة حقيقة الأمور فأجبته قائلا: إن الحرب حظ مخطر، ولا يحق للقائد أن ييأس، لأن يأسه يؤدي إلى الهزيمة النكراء , والقضية الظالمة يمكن أن تصبح عادلة، إذا توفرت لها المقاومة والصمود. عندئذ تكلمت له بكل صراحة عن سلوك صهره إبراهيم آغا المخزي، وهو ما لم يجرأ أحد على فعله قبلي، فكلفني بالذهاب إليه وتشجيعه. وإلزامه بجمع جيشه وبعدم التفكير في الماضي، وعندما وصلت إليه، لم أجد إلا بعض الجنود المشتتين هنا وهناك، وبعد بحث طويل تمكنت من العثور عليه في دار

ريفية كان يختفي فيها مع ثلاثة أو أربعة من خدمه. وبمجرد ما وجهت له الكلام علمت أنني لا أخاطب رجلا وإنما طفلا لما كان يبديه من ضعف وقنوط ويأس. ولذلك ضاعت كل محاولة مني لتحميسه ورأيتني مجبرا على الرجوع إلى الداي الذي قال لي عندما أعلمه بسيرة صهره وبالجهود التي بذلتها للعثور عليه: (إنكم ذهبتم يحدوكم الأمل، ورجعتم دون أن تنجح مساعيكم). عندئذ أجبته بأن الشعب ليس إلا قطيعا، ولا بد له من راع، وإن شعبكم بدون راع والعدو يتقدم. كان الجيش بدون قائد، والقبائل يجهلون في أي مكان يختبىء. وعليه، لم يبق إلا تسليم المدينة للفرنسيين. لم يكن الباشا يعرف أن الآغا رعديد وكان يظن أن له مقدرة أكبر من التي أظهرها. ولذلك طلب مني أن أرجع إليه وأرغمه على العودة إلى معسكره. وفعلا تبعني رغم أنفه، وجمعنا ما أمكننا من الجنود الذين كانوا مجهزين ومستعدين، وعلى الرغم من أنني كنت على يقين - مسبقا - من أننا لن نتمكن من فك حصار المدينة والدفاع عنها، فإنني بذلت كل ما في وسعي لأداء هذه المهمة. وعندما تحرك بورمون في سطاولي انهزم الآغا وجيشه لتوهما ولم يعرف أحد إلى أي مكان تم الانسحاب. وفي هذه الحالة دعا الباشا المفتي (¬11) (شيخ الإسلام)، فسلمه سيفا وطلب ¬

(¬11) في هذا الصدد يقول أحمد الجزائري: (وفي هذا الوقت (أي بعد هزيمة سطاولي) أمر حضرة الباشا بإحضاري لديه ليخبرني بما حصل لعساكر المسلمين من الهزيمة، فأخذت في تسلية خاطره ... فنهض حتى قام أمام المهزومين وأخذ يحثهم على القتال، ويحذرهم

منه أن يجمع الشعب للدفاع عن البلاد. ولكن من سوء الحظ، كان الأوان قد فات، وعند الغروب كان الجيش الفرنسي قد اقترب من حصن الامبراطور. إن شيخ الإسلام رجل عادل، فاضل ولكنه بعيد عن أن يكون محاربا، وفي مثل هذه اللحظة الحرجة لم يكن من الممكن أن يقود جيشا ويصد عدوا. إن أعضاء الدواوين والفقهاء لا يهتمون إلا بالعلوم والقوانين، وهم أحسن لإعطاء النصائح من أن يقوموا بالأعمال، وبما أنني كنت على اتصال بهذه الشخصية فإنه دعاني، كتابة للتوجه إليه، وكان جوابي: أنه لم يبق أي أمل بالنسبة لهذه القضية. إن هلاكنا محقق ولا أريد أن أشهد مثل هذه الكارثة المفجعة. لم يكن المشاة منظمين، فما بالك بالمدفعية، ولا ندري كيف يمكن أن تأمل في تحقيق النجاح؟ ولقد كان ذلك ممكنا لو ثم تعيين رجل مجرب لقيادة الجيش ووضعت تحت تصرفه عشرة آلاف من القبائل مع الأمر بإعطاء كل واحد 10 بوجوات (18 فرنكا)، يوميا لتشجيعهم. عندئذ يوجه هؤلاء القبائل إلى مختلف النقاط لسد الطرق الرابطة بين سطاولي ومقر قيادة بورمون. وكان من الواجب أيضا أن يوضع تحت تصرفهم كل أنواع الذخائر التي يمكن أن يحتاجوا إليها. لقدكان النصر مرهونا فقط، بمثل هذه التدابير. ولكن الأميين الذين كانوا يحيطون بالمفتي لاحظوا بأن حمدان عميل للفرنسيين: سافر إلى بلدهم وأعجب بعاداتهم، وعليه يجب الاحتراس منه. وأخيرا قيل بأنه لو ¬

من عاقبة القرار حتى ردهم إلى الحرب، فساروا إلى أن وصلوا إلى الموضع المسمى العين الزرقاء، وكانت الفرنسيس هناك، فوقعت العين على العين والتحم القتال بين الفريقين، فلم تمض لحظات من الزمن حتى انهزمت الفرانسوية وولوا مدبرين، وتمادوا على هزيمتهم حتى وصلوا إلى الموضع المسمى سيدي فرج وأقاموا به (انظر نفس المصدر).

تعيين، بينما نحن نكون أشد قوة ونشاطا لحماية أنفسنا وهزمهم وتضليلهم. ثم اقترح أحمد باي - أيضا - أن يأخذ كل قائد حصة كتيبته من الميرة ويلتزم بتموينها. وخاطب الآغا بقوله: إن مكان اجتماع القواد الذي اخترناه أن يكون بالحراش لبعيد عن مخيمنا ياسطوالي، وأن المسافة بين المكانين تستغرق أربع ساعات مشيا. وبعد كل هذه الملاحظات كان جواب الآغا ما يلي: (إنك لا تعرف الحيل الحربية للأوروبيين، فهي مخالفة - تماما - لحيل العرب). فتأثر الباي بهذا الجواب الغبي، وقرر أن لا يبدي أية ملاحظة أخرى في المستقبل، وفي الليلة التي استولى الفرنسيون على اسطوالي، كنت موجودا لدى الآغا؛ بقصد الاطلاع على أوضاع الأمور. وقد تعشينا جميعا مع باي قسنطينة وباي تيطري وملازم باي وهران وخوجة الخيل. وفي نفس هذه الليلة اقترب مني الآغا وسارني بخبر هام جديد. وهو أن فلانا وفلانا (وقد سمى لي هذين الشخصين) قد تقدما إلى معسكر الفرنسيين، متظاهرين بالانضمام إلى صفوفهم والعمل بجانبهم، وأنهما أتيا ليقدما إليهم تقاريرا عن حالة البلاد. ثم يحثانهم على إرسال قسم من جنودهم - عن طريق البحر - إلى المكان الفلاني الـ ... والمكان الفلاني ... وسيجدونهما في انتظارهم - عند نزولهم من المراكب - بالأماكن المحددة، ليسيرا بهم إلى (برج مولاي حسن)، ويوهمانهم بأن هذه الخطة سيخدعون بها يقظة الجزائريين. ثم تابع الآغا مساوئه بقوله: أعتقد أن هذه الخطة ستنفذ غدا، وعندما يميل الجيش الفرنسي بسيره إلى طريق وعر صعب، ينقض عليه العرب من ناحية وأنا (بجيشي) من ناحية أخرى. ومن أجل ذلك فإني قد زودت كل جندي من الجيش بعشر فشكات. وعندما رأيت هذا الآغا يهذي بهذا الشكل لم أجد ما أقول له؛ بيد أنني سألته: ماذا يصنع هؤلاء الجنود بعدما يستنفد كل منهم تلك الفشكات العشر؟! فأجابني: إن هذه الكمية لكافية لقتل نصف الجيش الفرنسي، ولست بحاجة إلى توزيع البارود على الجنود. ثم نبهته أنه كان من الواجب

عليه أن يأمر بحفر خنادق لحماية جيشه. فأجابني - بنفس الجرأة -: إننا -نحن - الخنادق الحقيقيون، وسنكون تعساء إذا عجزنا عن حماية جيشنا. فقلت له: ولكن هذه الخنادق ستحمي على الأقل عمل المدافع المواجهة لمدافع العدو. وبناء على هذه الملاحظة الأخيرة أمر - حالا - أن يذاع في صفوف الجيش أن الآغا يدعو جميع العرب الذين ليس لديهم سلاح أن يحضروا عنده، ليوزع عليهم السلاح. وبعد هذا الإعلان اجتمع لديه عدد كبير من الجنود، وبدل أن يوزع عليهم السلاح، أعطى كل واحد فأسا، وأمره أن يشرع في حفر الخندق. وقد أتموا حفر هذا الخندق في تلك الليلة، ولكنه قد فات أوانه، وأصبح عديم الجدوى. وكان حسين باشا قد وضع في يد هذا الآغا مبلغا ضخما من المال، ليوزعه على المحاربين بقصد الحث على القتال، وتشجيع الجنود، بيد أن هذا الآغا لم يدفع شيئا غلى هؤلاء الذين قد خصهم الداي بهذا المبلغ. ودائما من أجل الحث على القتال وتهييج الجشاعة في نفوس القبائل، قد وعد حسين باشا أيا من يأتي منهم برأس أحد الأعداء، سيكافئه بمبلغ قدره خمسمائة فرنك. وقد كلف الآغا بأن يقوم بإحصاء المبالغ التي يدفعها إلى المنتصرين بعدما يتسلم منهم أوصالا من لدى الداي، غير أن الآغا لم يطبق إرادة رئيسه، ولم يدفع حالا هذه المكافأة الموعود بها لمستحقيها، بل أخذ يسوف الجنود بقوله لهم: ستقدمون بعد انتهاء المعركة لأخذ نصيبكم. وأجهل تماما مصير كمية الأموال الضخمة التي كانت موجودة بيد الآغا. وفي صبيحة اليوم التالي (من استيلاء الفرنسيين على اسطوالي) توجه الآغا بأتباعه وأشياعه إلى مكان (سيدي فرج)، وتركوا المعسكر شاغرا، ما عدا أربعين شخصا - على الأكثر -، بقوا هناك يحرسون الأمتعة بدون سلاح وبدون أية وسيلة تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم. ومن ذلك الحين اقتنعت وتأكدت بأن تسيير الجيش قد أسند إلى رجل ليس له أية معرفة بالنظام العسكري، فعندئذ عدت إلى مدينة الجزائر حزينا، متيقنا بأن الإيالة قد ضاعت (من أيدي أهلها).

وهل من الحيل الحربية أن يهمل (هذا الآغا) معسكره؟ أليس من واجبه أن يترك هناك زهاء الثلث من جيشه، ويبقي فصائل مرتاحين ليتمكن بهم من تعزيز جيشه المنتصر، أو على الأقل يدعم بهم جيشه عند تقهقره؟! وأقولها - بالقلب والقالب -: إن هذه الحيلة الحربية لتمنح الثقة وتوحي بالشجاعة. وفي حالة انعكاس القضية، أي: إذا تقهقر الجيش عائدا إلى معسكره ووجد هناك جميع الخيام فارغة، فلم تبق له أية وسيلة، سوى الفرار واليأس، ومن أجل إعطاء فكرة مضبوطة عن غفلة هذا الآغا وعدم كفاءته، فإني سأقص حادثا وقع لي في غضون الأيام التي قضيتها بجانبه: ففي إحدى الليالي قد وجدتني في سرة معسكره. فاحتجت إلى شيء في خيمته، وبدل أن أرسل الخادم في طلب ذلك الشيء ذهبت أنا بنفسي، فاخترقت المعسكر ثم دخلت الخيمة وأخذت الشيء الذي أتيت من أجله، دون أن ينتبه إلي أي شخص، وكان الجيش كله في سبات عميق، ولم أصادف في طريقي حارسا واحدا يراقب هجوم العدو. وبناء على ما تقدم نلاحظ أن بين هذا الآغا وبين سابقه: يحيى بونا شاسعا، من حيث كفاءة كل منهما؛ سواء في الميدان العسكري أو التنظيم الإداري. وكان من عادتي أن أذهب إلى لقاء يحيى آغا بمتيجة، عند عودته من الحرب، وهناك أقضي معه يوما. وإني أتذكر حينذاك - رغم وقت السلم - أن جيشه قد كان مجهزا أفضل تجهيز، ومنظما تنظيما أحسن من جيش إبراهيم آغا المهيء لقتال الفرنسيين. وكان من عادات يحيى آغا أن يقوم كل يوم في جيشه بغارات وهمية، وتحركات تدريبية لجنوده، فيضعهم في حالة الدفاع، ويجعلهم يفترضون أن العدو يوشك أن يباغتهم بالهجوم. وكانت مراكز الحراسة لمعسكره دائما يقظة حذرة. فأحد هذه المراكز مكلف بحراسة المعسكر كله، وآخر خاص بحراصة الخيل، من حيث دخولها وخروجها، وآخر

(1) أمير: هو حسين داي.

[صفحة مكررة]

فيما مضى. فذهبت إليه، فلم أجده. بل وجدت جنوده مشتتين يمينا وشمالا، ولكن - بعد الطويل - استطعت أن أعثر عليه في أحد منازل الريف، مختفيا مع أربعة أو خمسة أفراد من خدامه، وعندما كلمته تبين لي أنني لم أكلم رجلا، وإنما أكلم صبيا. كثيرا ما أظهر الفشل والقنوط. فمن العبث - إذن -أن أبذل ما في وسعي من أجل إلهامه إلى الشهامة، وحثه على العزم، ورأيت من الأفضل أن أعود أدراجي إلى الداي. وبعدما اطلع هذا الأخير على سلوك صهره وتصرفه قال لي: (لقد ذهبت منتعشا بالأمل، وعدت دون أن تحقق أقل نجاح لمساعيك). فعندئذ أجبته: (إن الرعية بمثابة القطيع، والقطيع لا بد له من راع وها هي رعيتك بدون راع. وها هو العدو يتقدم). فقد أصبح الجيش بدون قائد، وأمسى القبائل يجهلون المكان الذي يختفي فيه هذا القائد. فلم يبق - إذن - سوى تسليم المدينة إلى الفرنسيين. والباشا لم يكن يعرف أن الجبن من شيم هذا الآغا، بل كان يعتقد فيه أكثر مما يستحقه، ولهذا أمرني أن أعود إليه - مرة ثانية - وأبذل وسعي حتى يعود إلى معسكره. فعدت إلى الآغا الذي امتثل أمري على مضض، وجمعنا ما ستطعنا جمعه من الجنود القليلين الذين كانوا حاضرين مجهزين. ورغم أني كنت متأكدا - مسبقا - بأننا لا نستطيع فك الحصار ولا حماية المدينة، ومع ذلك فإني بذلت جميع في ما وسعي من أجل أداء هذه المهمة. وبعد تحرك جيش (بورمون) باسطوالي أصبح الآغا وجنوده تقريبا مشتتين، ولم يعلم أي شخص أين انسحبوا، وفي هذا الوقت دعا الباشا المفتي: شيخ الإسلام، وأعطاه سيفا وأمره أن يجمع الرعية من أجل الدفاع عن حوزة الوطن، ولكن فيا للأسف! فقد فات الأوان. وأصبح الجيش الفرنسي على مقربة من (برج مولاي حسن) وقت الغروب من هذا اليوم. إن شيخ الاسلام رجل عادل وذو جدارة واستحقاق. ولكنه بعيد عن أن يكون رجل حرب. فيصعب عليه أن يقود جيش في وقت حرج. كما لا يستطيع أن يرد العدو.

إن رجال العلم وأعضاء القضاء لا يهتمون سوى بالعلوم والقوانين، فهم في ميدان الاستشارة والنصائح أفضل منهم في ميدان العمل الحربي. وبما أنني كنت مرتبطا بهذه الشخصية (شيخ الاسلام) استدعاني بواسطة بطاقة كي أحضر لديه. فكان جوابي له: (لم يبق أمل في هذه القضية. فخسارتنا لا مفر منها، وأنا لا أريد أن أكون شاهد عيان لكارثة مفزعة). فالعساكر المشاء لم يكونوا منظمين. والمدفعيون أقل منهم تنظيما - إذن فكيف يؤمل في بعض النجاح؟ بل بالعكس. فكان من الواجب أن يعين لقيادة الجيش رجل ذو خبرة وحنكة. وتوضع تحت تصرفه عشرة آلاف من رجال القبائل، فيدفع لكل جندي منهم عشرة (بودجوات) (ثمانية عشر فرنكا) في اليوم، بقصد تشجيعهم وحثهم على القتال. ثم تتوجه تلك القبائل إلى مختلف الأماكن (الاستراتيجية) ليقطعوا الطريق الرابطة بين اسطوالي وبين معسكر القائد (بورمون). وكان من الواجب - أيضا - أن يوضع تحت تصرف الجيش الجزائري جميع أنواع الأسلحة الممكن احتياجهم إليها. فبغير أمثال هذه الخطة لا يمكن أن يتحقق النجاح. وكان الأشخاص الجهلاء الموجودون في حوزة هذا المفتي، قد لاحظوا: (أن حمدان أصبح رجل الفرنسيين، لأنه سافر إلى بلادهم وأعجب بنظامهم، وعلى هذا الأساس يجب الاحتراس منه). ثم ختموا كلامهم بقولهم: (إذا قطعت الطرق على الفرنسيين المغتاضين، فإنهم سيعملون على إرهاقنا ويحملون علينا حملة رجل واحد ; انتقاما لأنفسهم من أجل العراقيل التي وضعناها في سبيلهم). وفي الغد أدرك الباشا أن تخميني في إبراهيم آغا قد تحقق، وتبين له أن هذا الآغا لم يكن سوى رجل ساقط لا قيمة له. ثم عزل إبراهيم آغا وسمى باي تيطري آغا في منصبه. ولكن لا فائدة في استبدال هذا بذاك، فلو أن يحيي آغا نفسه الذي ذكرته أعلاه قد عاد في هذه الظروف وأسند إليه أمر الجيش، ما اتسطاع أن يغير شيئا في الأوضاع، لأن الحالة قد تأزمت والأفكار أصبحت مضطربة، فلم يبق اتساع في الوقت لإيجاد الوسائل التي يمكن بها

الدفاع عن الجزائر. ثم ان الآغا الجديد قد دخل منزله بهدوء واطمئنان ليجمع غنائمه. وقد بلغني أن نبوغ هذا المحارب (الآغا الجديد) كان محصورا في اختياره للبنادق الطويلة. ليستعملها - هو نفسه - في إطلاق الرصاص على الفرنسيين!! وفي هذه الحالة ظن حسين باشا أن من الواجب إرسال الخزناجي إلى (برج مولاي حسن)، وكمل ما كان يطمح إليه هذا الرجل هو أن يستطيع نسج دسيسة تمكنه من كسب جميع الإنكشارية وجعلهم تحت أمره، ثم الإطاحة بحسين باشا ليستولي على الحكم. وعلى هذا الأساس قد وضح مشروعا يهدف إلى إبرام صلح مع الفرنسيين بالشروط التي يريدون اشتراطها، كما أنه سيقف نشيطا بجانبهم، عندعا يتحرك جيشهم صوب (برج مولاي حسن). وحينما رأى (الخزناجي) هجوم الفرنسيين عليه، أضاع شجاعته، واستولى عليه الرعب إلى غاية أنه ذعر ونسي أن يغلق أبواب البرج. أما أتباعه فقد أصبحوا أكثر منه ذعرا، فراحوا يفتشون عن جميع الوسائل التي تمكنهم من الفرار بأنفسهم. ثم لما رأى الخزناجي أنه بقي - تقريبا - وحيدا في وسط هذا الخطر المهدد، هرع في الحين إلى ذر مادة البارود في خط يربط مكان وجوده بمستودع البارود، ثم أضرم النار في المادة فتسربت إلى المستودع، فانفجر ونسف البرج. وكان من حسن الحظ أن ينفجر المستودع الصغير، دون الكبير الموجود أسفله، إذ لو انفجر هذا المستودع لكانت المدينة تقاسي أكثر مما قاسته، بسبب احتوائه على أكبر كمية من البارود، وقبل هذه الحادثة كانت لحسين باشا فكرة سامية في هذا الخزناجي، إذ كان كثيرا ما يستشيره ويأخذ برأيه. وعندما دخل (بورمون) برج مولاي حسن) جمع حسين باشا جميع أمناء البلاد ووجهائها، ورجال التشريع الخ ... وشرح لهم الحالة الخطيرة التي توجد فيها مدينة الجزائر، ثم طلب منهم أن يبدوا نصائحهم، من أجل إيجاد وسيلة مفيدة لمعالجة الضرر. فقال لهم: (أصدقائي! لا جناح عليكم أن تعبروا - بصراحة - عن آرائكم: ففي مثل هذه الظروف قد

قد أصبح التشاور وتداول الآراء شيئا واجبا، بالنسبة إلى النظر في الوسائل الأكثر تأثيرا ونجوعا. ولست سوى واحد منكم، فماذا ترون؟ فهل يمكن لنا أن نقاوم الفرنسيين مدة طويلة، أو نسلم إليهم المدينة بعد إبرام معهم معهدة تعرف بـ (معاهدة التسليم)؟ فهذه الأسئلة قد أقعت أعيان المجلس في حيرة، لأنهم يجهلون ما يكنه هذا الباشا، أهو صريح معهم فيما فاه به؟ أم تكلم بذلك من أجل سبر أغوار آرائهم؟ وكذلك كانوا يخشون أن الباشا لا يريد بهذه الأسئلة سوى معرفة مدى تأثير النشرات التي أطلقها (بورمون) في صفوف الرعية بالجزائر (وسأتحدث - فيما بعد - عن جميع هذه النشرات) وكانوا يعتقدون أن من الواجب إخفاء آرائهم في مثل هذه الظروف. وأنهم يخشون بعض تأثيرات الداي وإغاظته؛ إذا هم أبدوا رغبتهم في السلم. ولذلك كان الجواب العام كما يلي: (إننا نقاتل حتى آخر شخص منا، بيد أنه إذا كان سموكم يفضل وسيلة أخرى، فلكم الكلمة العليا والأمر المطاع فيما ترونه ملائما، ونحن تحت أمركم وعند إرادتكم). ثم افترق المجلس بنية متابعة القتال. ومع ذلك، فيجب الاعتراف بأن انتشار النشرات باسم الدولة الفرنسية. التي عرفت بالشهامة والعدالة، قد ساهم كثيرا في استمالة الرعية، وجعل الأشخاص البصراء المعتدلين يفكرون في تفصيل الوسائل السلمية. وبعدما أمعنوا في التفكير قالوا فيما بينهم: (إننا دون أن نعرض حاكم البلاد للخطر، يجب علينا - في نفس الوقت - أن لا نجنح إلى أقصى التشديد المؤدي بالمدينة وسكانها إلى الخطر الكبير). وبعد هذأ التعقل يسهل علينا أن ندرك أن أعيان البلاد لم يكونوا يخشون أنهم سيصبحون رهن الظلم والسلب والتقتيل. ولو حشوا ذلك لقاتلوا الفرنسيين بكل ما يملكون من قوة وبسالة، بل لو كانوا يفكرون أنهم سيرون الفرنسيين يعاملوننا مثل معاملتهم إيانا الآن لضحوا بالكل في سبيل الكل، لأن منافع الحرب - كما أنبأنا المؤرخون - رهينة الاستبسال ووضع حياة النفوس في أكف الأخطار. فالحياة السعيدة - على هذه البسيطة - محفوفة بالمصائب

العظيمة؛ ومن أراد شراءها فعليه أن يدفع ثمنها من دمه الخاص. ولذلك يقول القدامى: (من لا يغامر لا ينال شيئا). وهكذا - إذن - أصبحت جميع قوانا - التي كان في إمكاننا أن نبليها - مشلولة، بسبب موجة هذه النشرات الكاذبة، التي لا دخل لها في الحيل الحربية، إذا كان المقصود منها إعطاء كلمة الشرف والتعبير عن النية الحسنة. وكانت هذه النشرات تضم مواعد حقيقية قطعية: نستطيع أن نجهر بأن الفرنسيين لم يوفوا بها. وذلك يعتبر ارتكابا لخطيئة سياسية. وفي نفس الليلة اجتمع عدد من أعيان الجزائر بـ (برج باب البحرية). وكان هؤلاء الأعيان يتألفون من تجار وأصحاب رؤوس أموال. فاتضح لهم أن خسران مدينة الجزائر شيء محتم لا مفر منه، وأن الفرنسيين متى دخلوا بالقوة واستولوا على المدينة عنوة، فإنهم لا يكفون عن السلب والنهب، وقتل جميع السكان، بما فيهم النساء والصبيان، دون مقاومة. فمن الأحسن أن نأخذ باقتراحات الداي السلمية التي ترمي إلى إبرام معاهدة تسليم البلاد بشروط نعقدها مع قائد الجيش الفرنسي. وفي اعتقادنا أن دولة (مثل فرنسا) ذات سيادة واحترام، لا تسمح لها مكانتها بمخالفة هذه الشروط أو خرق تلك المعامدة ; بل سوف نصبح تحت جناحها نتمتع بالحرية وننعم بالعدالة والإنصاف. ليحكمنا زيد أو عمر! أي منهما على السواء. فالمهم أن تكون شؤوننا مدبرة على أحسن ما يرام، وحسبما تقتضيه أسس الحكومة الفرنسية، ولكن هل يبقى ديننا محترما؟ إن الدين أمر معنوي يتعلق بالعقل والقلب، فلا يتجادل فيه. ثم إن الفرنسيين بشر مثلنا، والأخوة البشرية قد جمعتنا معهم. وإذا كانت المدنية قد أسست على حقوق الإنسان، إذن فلا شيء يخيفنا من حكومة متمدنة. وهكذا كانت انعكاسات أفكار هذا المجلس. التي انتهت بقرار يقضي بعدم مقاومتهم للجيش الفرنسي.

نعم. كان من واجبنا أن نفضل حكومة الأتراك؛ لأننا قد جمعنا وإياهم دين واحد؛ ولكن الظروف قد أجبرتنا أن نستبدل بها الحكومة الفرنسية، التي وعدتنا باحترام ديننا وعوائدنا وأرزاقنا. وإذا لم نفعل ذلك أصبحت حياتنا في خطر، ودماؤنا وديارنا وأرزاقنا مسلوبة، ونساؤنا وأطفالنا مقتولين. وكثرة هذه الاعتبارات قد جعلتنا نفضل إبرام معاهدة السلم، وقد تم ذلك بالفعل. ثم أرسل هذا المجلس - في الحين - وفدا إلى القصبة لإطلاع الداي على هذا المشروع، فكان جوابه لهم: أنه سينظر في القضية، وغدا سيجيبهم عن رغباتهم التي تقدموا بها إليه. وفي الغد أرسل - بالفعل - (المكتابجي) مرفوقا بالقنصل الانجليزي، كرسول صلح وسيدي (أحمد) أبي ضربة وولدي الحاج حسن. وهذان الأخيران أرسلهما كمترجمين، لأنهما يحسنان اللغة الفرنسية. (وكان إرسال هؤلاء الأشخاص الثلاث) من أجل أن يتقدموا إلى القائد العام ليدخل في المفاوضات مع الداي. وكان هذا المكتابجي شريكا مع الخزناجي في الدسيسة التي تحدثنا عنها أعلاه. ولذلك أراد أن يخدع الداي، ويستبد هو بالمفاوضة مع القائد العام، بنية رفع الخزناجي إلى منصب الداي، وبهذه المناسبة تجاسر على هذا القائد وعرض عليه أن يأتيه برأس حسين داي، ثم يوقع - هو - مع فرنسا معاهدة، حسبما تقتضيه رغباتها. فأجابه القائد (بورمون) بقوله: (ما أتيت من أجل تشجيع الاغتيالات، وإنما أتيت من أجل خوض الحرب نعم سأوافق على اقتراح حسين باشا الذي طلب إبرام معاهدة السلم وسأرحب بمشاعره الإنسانية، التي دفعت به أن يستعمل هذه الوسيلة، لكي يحقن كثيرا من الدماء). وهكذا تمت محادثة المعاهدة بنجاح؛ واتفق الطرفان على تحريرها بالنمط التالي: أولا: إن جميع حصون مدينة الجزائر بما فيها حصن القصبة، وكذلك ميناء هذه المدينة ستسلم إلى الجيش (الفرنسي) صباح هذا اليوم في الساعة العاشرة (بتوقيت فرنسا).

اتفاقية بين قائد جنرالات الجيش الفرنسي وسمو داي الجزائر

للاتصال بقائد الجنرالات والتفاوض معه. كان هذا المقطاجي على علم بمؤامرة الخزناجي التي أشرنا إليها أعلاه، ولذلك أراد بكل مكر أن يتفاهم مع قائد الجنرالات لرفع الخزناجي إلى مرتبة داي واقترح على قائد الحملة أنه يحمل إليه مقابل ذلك رأس حسين داي ثم يبرم مع فرنسا معاهدة تكون حسب رغبتها ولكن الجنرال بورمون أجابه قائلا: (إنني لم آت لتشجيع القتالين وإنما لأحارب. وإنني لا أرضى باقتراح حسين باشا الرامي إلى تحديد شروط الاستسلام. إنني مبتهج لهذه العواطف الإنسانية، لأنه بعمله هذا يمنع سفك كثير من الدماء). وهكذا إذن وقع النقاش حول الاستسلام، وتم الاتفاق عليه من الطرفين كما يلي: اتفاقية بين قائد جنرالات الجيش الفرنسي وسمو داي الجزائر: 1 - يسلم حصن القصبة وجميع الحصون الأخرى التابعة للجزائر وكذلك ميناء هذه المدينة إلى الجيوش الفرنسية، هذا الصباح على الساعة العاشرة (حسب توقيت فرنسا). 2 - يتعهد قائد جنرالات الجيش الفرنسي بأنه يترك لسمو داي الجزائر حريته وكذلك جميع ثرواته الشخصية. 3 - الداي حر في الانسحاب مع أسرته وثرواته الخاصة إلى المكان الذي يحدده، وسيكون هو وكامل أفراد أسرته تحت حماية قائد جنرالات الجيش الفرنسي، وذلك طيلة المدة التي يبقاها في الجزائر، وستقوم فرقة من الحرس بالسهر على أمنه وأمن أسرته. 4 - يضمن قائد الجنرالات نفس المزايا ونفس الحماية لجميع جنود الميليشيا.

5 - تبقى ممارسة الديانة المحمدية حرة، كما أنه لن يقع أي اعتداء على حرية السكان من جميع الطبقات ولا على دينهم وأملاكهم وتجارتهم وصناعتهم، ونساؤهم سيحترمن. إن قائد الجنرالات يتعهد بشرفه على تنفيذ كل ذلك. وأن تبادل هذه الاتفاقية سيتم قبل الساعة العاشرة من هذا الصباح، وبعد ذلك مباشرة تدخل الجيوش الفرنسية إلى القصبة ثم إلى جميع حصون المدينة والبحرية. في المسعكر المخيم أمام الجزائر، يوم 5 جوليت سنة ثلاثين وثمانمائة وألف. إمضاء: كونت دوبرمون خاتم حسين باشا، داي الجزائر وعندا علم العرب والقبائل بدخول الجيش الفرنسي إلى الجزائر، ظنوا أنه فعل ذلك عنوة لا عن طريق المفاوضات، واعتقدوا، كذلك؛ أن المدينة نهبت، ولذلك قاموا بدورهم ينهبون ويخربون ديارنا في البادية حتى لا يستفيد منها الفرنسيون على حسابهم. وهكذا، أخذوا كل ما يمكن حمله: المواشي، الخيل، البغال، الخ ... وأشعلوا النيران في المخازن، وكسروا جرار الزيت والزبدة، ثم اصطحبوا معهم كل ما قدروا على نقله حتى لا يتركوا شيئا للفرنسيين، وبدورهم، قام هؤلاء الأخيرون باقتلاع سياجات الحديد، وتهديم الحمامات وحملوا إلى الأسواق ما تبقى من أشياء فباعوها أمام أعيننا، وبذلك يكون الفرنسيون قد اتبعوا طريقة البرابرة، بل إنهم كانوا أكثر فسادا، لأنهم هدموا ما كان مبنيا وخربوا ما كان موجودا.

لقد كان العرب والقبائل يعلمون أن متيجة كلها كانت ملكا لسكان الجزائر ولذلك نهبوا وخربوا كل ما كان في متناولهم. وسأعود، فيما بعد إلى الكلام عن هذا الحادث المؤلم.

الفصل الثالث عن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر

الفصل الثالث عن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر لقد قام كثير من الضباط الفرنسيين بوصف الظروف التي غادر فيها الداي وحاشيته القصبة، وغذ أوردوا ذلك في مؤلفاتهم، فإنهم كفوني مشقة وصف تلك الاحتفالات، وسوف لن أهتم إلا بالخاصيات التي وقعت، والتي ألمت. عندما غادر القصبة، لم يمس حسين باشا أي شيء مما هو تابع للخزينة العامة ولم يسمح لأحد بأن يفعل دلك. لقد كان يرى نفسه مسؤولا حسب شروط الاستسلام عن كل ما يمكن امتلاكه. وبذلك لم يؤخذ أي شيء من كنوز الجزائر، واستطاعت فرنسا أن نتسلمها كاملة. كان يوجد من القصبة صندوق مستفل يشتمل على حوالي 20،000 فرنك أداء النفقات اليومية التافهة، وكان صاحب هذا الصندوق يقيم حسابا جاريا كما سنرى ذلك فيما بعد. أن هذا المبلغ قد ضاع، على حد ما يقال، ولا ندري من الذي أخذه. أما المحفوظات حيث كانت الدفاتر والسجلات مودعة فإنها ظلت محترمة. وكان هناك مكان توجد فيه ورقات طائرة عليها

معلومات معدة لتيجيل في الدفاتر اليومية وفي دفتر المقطاجي كما بينا ذلك أعلاه. ولقد أخذت هذه الأوراق وشتتت. ومن الممكن أن الفرنسيين الذين أخذوها كانوا يظنون بأنها تشتمل على معلومات ذات قيمة؛ بينما لم تكن لها، في الحقيقة أية أهمية. وهكذا، ضاعت الأوراق على الأرض، ولقد مشيت بنفسي على بعضها في حي القصبة. لقد كانت هناك، في ذلك الحين، فوضى وعدم نظام لا مثيل لهما. كان قنصل السويد يملك ويسكن دارا للاستحمام. وكان ذلك المسكن محلى ومجهز بأفخر الأثاث وأواني الفضة وغيرها من الأشياء الثمينة. وعندما وصل الجنرال بورمون إلى أبي زريعة (¬1) طلب منه أن يخلي الدار ليفتح حيطانها على حد قوله، ويتمكن من مهاجمة حصن الأمبراطور. وبعد أن تشاور مع زملائه في هذا الشأن خضع القنصل لرغبة الجنرال، ولكنه حمله مسؤولية الخسائر التي قد تحدث من جراء هذا العمل العسكري. وقبل أن يخرج من داره؛ أخذ كل حذره، فجمع في بيت مستقل جميع الأشياء الثمينة ثم سد الأبواب. وعلى الرغم من هذه الاحتياطات، فقد أخذ كل شيء، وقطعت الأشجار، وقع تخريب لا مثيل له في جناحه. وظن القنصل المذكور أن من حقه أن يتقدم بطلب للمرشال بورمون قصد الحصول على قيمة الخسائر التي لحقت به ولما لم يتصل بأي جواب، اشتكى لحكومته التي أمرته بأن يتوجه إلى الحكومة الفرنسية، ولا أدري أين أصبحت القضية، وكل ما أستطيع قوله هو أن هذا القنصل كان رجلا فاضلا ونزيها، ويبدو أن ثروته كلها كانت مخزونة في جنان المسكن. ¬

(¬1) هو الحي الذي ما زال يعرف بهذا الاسم، ويقع في غربي مدينة الجزائر.

إن الجنرال بورمون لم يجب لا دعوات الخواص ولا طلبات من كانت لهم ديون في ذمة الدولة. ومع ذلك فإن الحق العام المعمول به في جميع البلدان يحتم على كل حكومة أو من يخلفها أن تدفع ديونها كما أنه يسمح لها بمطالبة المدينين بما لها عليهم. إن حكومة العودة (¬2) قد دفعت ديون الإمبرطورية، كما أن الإمبراطورية وحكومة جوليت (¬3) قد دفعت كل منهما ديون الحكومات السابقة. إن الدولة هي الأمة، فهي لا تتغير لأنها راسخة في الأرض، ولذلك فإن ديونها مقدسة. لقد طلبت بنفسي من بورمون أن يسدد لي قيمة كمية من الورق كان الداي قد أخذها مني لصناعة الخرتوش عندعا كان الجيش الفرنسي في سطاولي. وتقدر هذه القيمة بحوالي عشرة آلاف فرنك. ولكن المارشال بورمون لم يتفضل حتى بإجابتي. وكررت هذا الطلب لدى السيد كلوزيل (¬4) فسلك مسلك ¬

(¬2) تطلق العودة على الفترة التي تلي الامبراطورية الأولى، والمقصود بها هي عودة أسرة البورمون إلى الحكم. وهناك عودة أولى وعودة ثانية تفصل بينهما حوادث المائة يوم الشهيرة. (¬3) هي ثورة ثلاثين جوليت 1830 التي قامت بها جماعة المتحررين والتي قضت على أسرة البوربون وجاءت إلى الحكم بالدوق دورليان الذي سيصبح، بعد ذلك، لويس فيليب. (¬4) ولد كلوزيل سنة 1772، وتوفي بعد ذلك بسبعين سنة. ساهم في إعداد وإنجاح ثورة جوليت التي منحته قيادة الجيش الفرنسي في الجزائر ابتداء من شهر أوت 1830. ثم خشيه لويس فيليب فاستدعاه في شهر فيفري سنة 1831.وبعد اندلاع الثورة بعام واحد حصل على رتبة مارشال فرنسا. وعاد لقيادة الجيش في الجزائر يوم 8 جوليت 1835، فارتكب أبشع الجرائم. وعندما استبدل بدامرمان، يوم 12 فيفري 1837، التحق بمجلس النواب الفرنسي حيث أراد أن يبرر سلوكه، ويثبت نزاهته وعدم صحة الاتهامات الموجهة إليه.

سابقه وأخيرا دعمت طلبي بوصل من الترجمان، وشهادة جماعة أعضاء البلاط مثل وكيل الحرج والسائجي، ومع ذلك فإنني لم أحصل على المبلغ الذي يمثل قيمة تلك المادة. ولقد سمعت أن فوجرو، المالي المستبد، المتدكتر على حقوق الغير، قد أشار على الحاكم بأن لا يدفع أي دين من ديون الدولة لأنه لو فتح هذا الباب ستتكاثر الطلبات التي يجب إرضاؤها. إن للسادة المسيرين مبادىء واسعة، وتتمطط إلى درجة أنهم يغيرونها كيفما شاؤوا. ولنرجع إلى أحداثنا دون مقارنة ولا تعليق لأن مؤلفنا سيطول لو فعلنا ذلك. إننا نقدمه محدودا في هذا الإطار، إلى عقول القراء وقوة تمييزهم دون أن ندخل، بأنفسنا، في تفاصيل الملاحظات التي يمكن القيام بها فيما يخص كثيرا من الموضوعات. عندما وجد الجنرال بورمون نفسه في القصبة وسط كنوز هامة كما لا يخفى على أحد، فإن جماعة من الحاضرين قد تكون، على ما يقال، أوردت نوادر مختلفة تتعلق بتلك المناسبة، ومفادها أن رئيس الجيش هذا لم ينج من بعض الأطماع وكذلك كثير من ضباطه المقربين. غير أن هذه ليست إلا إشاعات يؤمن بها الجميع، ولكن لا يريد أحد أن يشهد بها. لقد جرت العادة أن يعطي صائدو المرجان، سنويا، للدولة خمسة أرطال من النع الرفيع. وكان ذلك المرجان يجمع ثم يباع فيشكل جزءا من موارد الإيالة. وبعد دخول الفرنسيين جاءني أحد اليهود، وطلب مني أن أبعث، باسمي، إلى ليفورنة (¬5) عددا من صناديق المرجان. ولما كنت أجهل الطريقة ¬

(¬5) ميناء تجاري هام في إيطاليا الجنوبية. كانت الجزائر تقيم معه علاقات متينة عن طريق محلات بكري وبوجناح خاصة.

التي كسبه بها، اشترطت عليه - قبل أن ألبي رغبته - بيانا يثبت بأن المرجان الموسوق ملك له حتى أكون في مأمن مما قد يقع. ولقد أجدت فعلا إذ اتخذت هذه الاحتياطات لأن السيد فوجرو، عندما اكتشف إرسال هذا المرجان، طلب مني بعض التوضيحات، فقدت له بيان اليهودي، وبعد ذلك لم أسمع شيئا عن هذه القضية، اللهم إلا أن الظواهر تدل على أنها سويت بالتراضي بين اليهودي والمالي الفرنسي. لقد تعود خالي، أمين الشركة، على غرار سابقيه أن يأخذ من الخزينة كميات موزونة من الفضة لتصنع منها النقود، وكانت تلك الفضة في صندوق بدار العملة تحت تصرف يهودي كان هو أمين صندوقه، يقدم له حسابات كل ما يدخل وما يخرج من هذه المادة. وكان ذلك الأمين مكلفا، أيضا، بصندوق آخر فيه مادة الذهب المعدة لصنع النقود. ومفتاح هذا الصندوق الأخير يوجد عند نفس الأمين الذي كان يدفع إلى الخزينة قطع النقود مقابل بعض المواد الأخرى وهكذا دواليك. ولقد كانت حسابات أمين السكة جاهزة على الدوام. وكان باستطاعة أمين السكة، كذلك أن يشتري الأشياء الذهبية القديمة من مختلف الأشخاص والهيئات فيودعها في الخزينة التي تأخذ القيمة بعين الاعتبار (¬6). وفي العهد الأخير لحكومة الأتراك، كان لهذا الأمين في صندوقه حوالي ¬

(¬6) تقابل هذه الوظيفة في وقتنا الحاضر وظيفة مدير البنك المركزي.

ستين رطلا من الذهب اشتراها بنفسه ليودعها في الخزينة ويأخذ مقابلها مالا وكان في الصندوق، أيضا، عشرة أرطال من ذهب الخزينة. وأثناء قنبلة المدينة، وبما أنه كان من الممكن أن تهدم القنابل دار العملة، فإنه نقل ذلك الصندوق إلى مكان أمين ووضعه تحت سلم متين في نفس المحل. وفي صندوق الفضة، كان هناك حوالي عشرة قناطير من تلك المادة تم صنعها وأصبحت جاهزة لتسك نقودا. وكان مفتاح الصندوق عند أمينها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك أعلاه، ولكن عندما غادر الداي القصبة، تخلى أمين السكة، كذلك، عن منصبه. وعندما دخل الجنرال بورمون، استدعى خالي بواسطة السيد بكري الذي كان إذاك بمثابة خادم لذلك القائد. وبعد ذلك بثلاثة أو أربعة أيام دعانا السيد دوبرمون - خالي وأنا - للمثول بين يديه فتوجهنا إلى القصبة، ولكن بدلا من أن يستقبلنا الجنرال، أحالنا على السيد دوني بكيفية غير لائقة. لقد علمت فيما بعد أننا إنما استدعينا بنصيحة من بعضى المناورين الذين كانوا يحيطون بالجنرال. ولما طلب السيد دوني من خالي أن يخبره بما بقي عنده من أموال الخزينة، أجابه قائلا: (عندي عشرة أرطال من الذهب وحوالي خمسة قناطير من الفضة). من الممكن أن السيد دوني قد وجد ذلك مطابقا لكتابات الدفاتر. (أما عن الستين رطلا من الذهب التي اشتريتها. فإنها لي، لأنني لم أحصل على مقابلها، وهي موجودة في دار العملة، الخ ...) وتوقف الحديث عندما حضر السيد دوفال والسيد دوبينيوز (¬7) الذي كان معه على ما أعتقد. ¬

(¬7) كان في السابق رئيس شرطة نابليون، وقد عاد إلى نشاطه بعد ثورة جوليت 1830.

سلم السيد دوني إلى خالي مفتاح دار العملة وأذن له أن يذهب إليها صحبة أحد الضباط ليأخد ماله ويترك ما هو للخزينة. وعندما وصلنا إلى الدار وجدنا الأبواب مكسرة وصندوق الفضة محطما بينما لم نجد شيئا تحت السلم؛ ومعنى ذلك أن صندوق الذهب قد ضاع. عندئذ رجعنا إلى السيد دوني وأعلمناه بما جرى فأجاب: (إذن ذلك من عمل الجنود؛ ولكنني الآن، مشغول جدا، تشدني أمور جسيمة، وسأتولى التحقيق في ذلك فيما بعد، فاذهبا). في نهاية هذا المجلد سأتكلم عن كل ما له علاقة بخالي وعن طلبه الخاص بذهبه الذي يقدر بستين رطلا، والذي نهبه الأجناد. وحتى الآن، فإنه لم يحصل على أي شيء بهذا الصدد. أما عن الفضة المصنوعة والجاهزة لأن تسك، فإنها كانت بين أيدي الجنود، وقد اشتراها الصرافون بأسعار بخسة. وعندما غادر الداي القصبة ليكن داره الخاصة؛ وقعت أعمال نهب متنوعة لن أتكلم إلا بما سمعته عنها، لأنني لم أشاهد أي عمل منها. لقد كان المارشال بورمون يقول للسكان ويوهمهم بأن الجيش الفرنسي لن يبقى في الجزائر أكثر من ستة أشهر، وكان يقول أن تلك هي نية الحكومة، وعندما يشرع في الجلاء؛ فإنني أترك البلاد بين أيدي أعيانها وتحت تصرفهم، وكان يقول كذلك أن الجزائر كانت من ممتلكات الباب العالي. وبعد هذا البيان الذي كان يبدو إيجابيا، فإن كثيرا من السكان الذين كانوا يطمحون في الوصول إلى الحكم وفي أن يكونوا من جملة أولئك الذين سيسيرون الحكومة الجزائرية عحا قريب، قد أحاطوا بالمارشال وكونوا حاشية ملازمة له، وناوروا ليبعدوا عن ذلك القائد كل من كانت له كفاءة ومقدرة،

وكل من كان يمكن أن تكون نصائحه مفيدة لصالح سكان المدينة والإيالة. إن الهدف من هذه النشرة هو الكشف عن التجاوزات التي وقعت في الجزائر، والأخبار بأن انقسام سكان هذه المدينة، قد أضر كثيرا بمصالح الجميع، وأن جميع الأهواء المؤدية إلى التفكك، مثل الغيرة والطمع والحقد قد انتشرت، وكانت سببا في نفي بعض الأعيان وإخلاء المدينة، إن الشر هو المسيطر، والويل للمغلوبين ولقد كان الخلاف سائدا بين السكان وكل الأشخاص الذين استهوتهم تلك الغاية قد تقربوا من المارشال بورمون وأظهروا له إخلاصا لا حدود له لمواصلة مشاريعهم الجنونية آملين أنهم سيخلفون الفرنسيين فيما بعد. ولكن، لقد مضت أكثر من ثلاث سنوات وهؤلاء ما يزالون يحكمون، وما نشاهده من سيرة هؤلاء السادة يجسم تماما تلك المساوىء المشتركة عند الناس أي حب الذات والأنانية، والضعف والعمى والكبرياء ليس هذا هو الوقت الذي تثار فيه الأحقاد بمثل هذه الدنايا والتفاصيل الشخصية، ولذلك، فإنني أفضل تعميم الأحداث لأقترب، بذلك، أكثر فأكثر من أسلوب المؤرخ الحقيقي، لعل الأجيال المقبلة تستفيد من بعض ما أرويه هنا.

الفصل الرابع عن الاحتلال العسكري

الفصل الرابع عن الاحتلال العسكري إن أعيان مدينة الجزائر وأعضاء الحاشية (¬4) الذين لا يسكنون القصبة قد وضعوا مساكنهم تحت تصرف ضباط الجيش السامين ليسكنوها. فكانت لكل واحد حصته، وبهذا الصدد أقول أن الجنرال لوواردو، الذي كان يسكن دار الآغا إبراهيم، كان رجلا شريفا حقا ذا أخلاق كريمة في مستوى أمة عظيمة , لقد ملكوه بهذه الدار وما حوته، ونقول بسرعة إنها لم تصب بأي ضرر، ولم يضع منها شيء. فهو لم يكتف بعدم الإضرار بها، ولكنه منع الحاشية وغيرها من أن تفسد فيها وتعبث. وتستحق عنايته هذه كل تقدير، لأنه طلب، قبل مغادره المسكن، من السيد سان جوهن القنصل الإنكليزي ووكيل إبراهيم أن يدون كل ما وضع تحت تصرفه. ¬

(¬4) أعضاء الديوان والموظفون السامون.

وإذا كانت مثل هذه الأفعال تستحق الذكر، فهناك أفعال أخرى، ولكن معاكسة يجب أن يشهر بها. إني أعرف حق المعرفة أنه كان يوجد في مسكن باي قسنطينة، بالجزائر ملابس وأشياء أخرى تقدر قيمتها بأكثر من مليون فرنك. تتمثل هذه الأشياء في حياك وبرانس وأوان فضية، الخ ... ويبدو أن الضابط السامي الذي أعطي له هذا المسكن، كان يعتقد بأن له الحق في التمتع بكل ما اشتملت عليه. فيقال أنه باع كل شيء بمبلغ 2،200 فرنك لأنه لم يكن يعرف القيمة الحقيقية لتلك الأشياء وقد استفاد من هذا النهب أحد اليهود المحيطين به، اسمه ابن دران، الذي اشترى منه كمية هائلة من الملابس تطلب نقلها سبعة أيام. هناك ديار أخرى كان لها نفس المصير، وجد اليهود في ذلك تجارة رابحة. ولقد استطاع كثير منهم أن يحملوا، بواسطة التخويف بعض السكان الأثرياء على بيع أثاثهم وأمتعتهم قبل أن يأتي الفرنسيون للاستيلاء عليها. وكدليل على ما أقول أذكر الحادث التالي: لقد حمل اليهودي بكري وكيل الحرج على أن يبيع له أثاثه الثمين وأنواعا مختلفة من أمتعة الزينة، تقدر قيمتها بحوالي خمسين ألف فرنك بمبلغ أربعة آلاف فرنك. ولم يدفع له ذلك نقدا، وإنما وقع له سندا لأجل معلوم. ثم نفي وكيل الحرج هذا، وبقيت القيمة عند بكري، وبما أن هذا الأخير أصبح الآن غير قادر على الدفع، فإنه لا يملك إرغامه على تأدية ما عليه. وهناك ألف قضية أخرى تشبه هذه، وهي حقيقة على الرغم من أنها تبدو مستبعدة، وإنني لا أكاد أصدق أعيني، بالرغم من أن الأمور كانت تقع بمحضري.

ومن جملة المؤلفات التي نشرت حول أحداث الجزائر، لا شك أن بعضها قد تكلم عن كل هذه الخاصيت. وإذا أهمل ذكرها، فإنه ينبغي أن نفترض بأن المصلحة الشخصية هي السبب في ذلك.

الفصل الخامس عن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسي

الفصل الخامس عن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسي بعد أن تم التوقيع على معاهدة الاستسلام، توجه خليفة باي وهران مع كل من كان معه إلى مقاطعته وبما أنه أسرع في سيره، فإنه كان أول من نقل خبر كارثة الجزائر إلى سكان تلك المقاطعة. لقد كانت الطرق ما تزال هادئة ولو لم يكن كذلك لعرقل الأعراب مسيرته. وفي نواحي وهران التقى بالباي وأخبره بالحادث. كان هذا الباي عاعنا في السن، ولم يكن له أطفال. وبما أنه لم يكن يأمل الاحتفاظ بمنصبه بعد سقوط الجزائر، فإنه رجع إلى وهران ينتظر نتائج تلك الظروف الحرجة. وعندما علم العرب بأن الفرنسيين دخلوا إلى الجزائر، رفضوا أن يواصلوا الاعتراف بسلطة الباي وشقوا عصا الطاعة. وزيادة على ذلك نهبوا المزارع التابعة لباي وهران، واستولوا على كل ماشيته كالدواب والخيل الخ ...

إنهم كانوا يعتقدون أن الفرنسيين يريدون غزو كامل الإيالة، وعليه قاموا بنهب كل ما كانوا يلاقونه للاستفادة منه بدلا عن تركه لهم. وحتى لو أراد حسن، باي وهران، أن يتفاهم معهم مثل ما فعل باي التيطري، لما استطاع ذلك لأنه لم يكن محبوبا. كان حسن شيخا قد مل الحكم، ولذلك لم يكن يطمح إلا في حياة هادئة. وكان يأمل أن الفرنسيين سيحترمون راحته إذا ما أظهر أنه لا يضمر لهم العداوة. وعلى العكس، فإن باي التيطري الذي كان يدفعه الطموح قد جمع سائر الأتراك الذين أرادوا أن يتبوه، واقترب من الجزائر رغبة في الاتصال بالفرنسيين، واستطاع بفضل نفوذ صديقه بكري أن يحصل على مرتبة آغا بتعيين من المارشال بورمون. ولكن هذه الأوضاع ستعكر، فيما بعد، بسبب إحدى المناورات، فيعزل بدون ما سبب ويستبدل في منصبه كآغا العرب بحمدان بن أمين السكة (¬1)، وعندما حان الوقت، الذي فقد فيه بورمون كل سلطة بالجزائر قدم باي التيطري هبات كثيرة للتمكن من الرجوع إلى المدية، ومواصلة تسيير للبايلك كما كان في السابق وسأقص كل هذه المغارات فيما بعد. أما باي قسنطينة، فإنه رجع إلى مقاطته متبعا الساحل حيث وجد كثيرا ¬

(¬1) لقد كان بعض المؤرخين، مثل بلايفر، لا يفرقون بين حمدان خوجه وحمدان بن أمين السكة فقد كان هذا الأخير عسكريا، وعينه بورمون آغا العرب، ثم عندما أحس كلوزيل بميوله للوطنية عزله يوم 7 جانفي 1831. وفي العام التالي نفاه روفيكو إلى باريس حيث تزوج بفرنسية، وتوفي سنة 1834.

من المدافع والذخيرة الحربية. وقد تمركز مدة ثلاثة أيام في نواحي الدار البيضاء ليجمع الخيل والبغال التي كانت للدولة، وكذلك كل ما استطاع أن يعثر عليه في مزارع الدولة وضيعها. فجمع حوله ثلاثة آلاف تركي وعددا كبيرا من أسر مدينة الجزائر التي تركت المدينة لأن بعضها لم يعد مطمئنا لها بينما هرب البعض الآخر خوفا من الظلم. لقد أخذ باي قسنطينة، إذن، كل هذا العدد الكبير من الناس تحت حمايته. وكان يوجد ضمن هذا العدد حوالي خمسمائة امرأة، ولم تؤخذ المؤن لمجابهة أتعاب الطريق لأنه لم تكن هناك استعددات لهذه الرحلة. غير أن باي قسنطينة، قد برهن، في هذه الظروف الطارئة، على كثير من الإنسانية والبطولة، وأن أعماله لكفيلة بأن تمجد، إذ تولى بنفسه إشباع جميع الحاجات الضرورية لهذه الهجرة، وثم اتخاذ كل ما يمكن من الإجراءات. ثم سار بقافلته نحو قسنطينة، ووعد الأتراك بنصف أجورهم. وقد وصل الجميع إلى أبواب تلك المدينة دون أن يمسهم البرابر بأذى. عندئذ وسوس الشيطان لذلك العدد العديد من الأتراك وأوحى لهم ذلك المشروع الفظيع الرامي إلى عزل القائد الذي أوصلهم إلى هناك. إن الحاج أحمد باي قسنطينة، لم يعدهم إلا بنصف الأجر، ولكي يحصلوا على الأجر كله فكروا في عزله من منصبه واستبداله بابن شاكر باي (¬2) وقد كان شاكر هذا بايا على قسنطينة. ولكن الابن كان شريرا وسكيرا. ¬

(¬2) هو ابن محمد شاكر باي الذي خلف محمد نعمان باي سنة 1813، وقتل شنقا في شهر جانفي 1818. وقد ظل هذا الولد يناور للحصول على منصب والده ولكنه لم يفلح.

غير أنه وعد، وقبلت الشروط ثم وقع الاتفاق. وبالفعل، ففي اليوم المحدد لدخولهم إلى قسنطينة ترك الجنود أبواب المدينة وابتعدوا بحوالي ميلين: هناك كان رئيسهم الجديد في انتظارهم. وبعد ذلك بقليل أخبروا الحاج أحمد بنواياهم، وصرحوا له بأنه ينبغي أن يعتبر نفسه معزولا. ولم يضيع هذا الباي لحظة واحدة في إخبار سكان قسنطنية بتلك الإجراءات الغادرة، وقال لهم أنه لا يريد أن يكون سببا في نشوب حرب أهلية، وإذا كانت لهم نفس نوايا المتمردين، فإنه يرجوهم أن يخرجوا من المدينة كامل أفراد أسرته، وإنه بعد ذلك سينسحب إلى الصحراء عند أهله (¬3)، إنه كان يفضل أن يتصرف كذلك بدلا من أن يسفك دماء مواطنيه. بعد أن وصلت هذه المعلومات إلى أعيان المدينة والفقهاء، اجتمعوا للتشاور حول الحزب الذي يجب أن يختاروه، وقد تقرر ما يلي: إن الحاج أحمد باي قد عين من طرف حسين باشا، وكان هذا الأخير وكيلا للسلطان. ولذلك لا نعترف إلا بسلطة السلطان. وأن السلطان ما يزال موجودا وإذا كان ممثله في الجزائر لم يعد موجودا سياسيا، فإن ما قام به هذا الأخير قد تم بموافقة الباب العالي وعليه يجب أن يكون الحاج أحمد هو رئيسنا، وهو صالح لنا فعلا. ولا نستطيع تغيير هذه الأمور دون أن تكون هناك تعليمات جديدة من الباب العالي. ونظرا إلى المسافة الفاصلة بين البلدين، وفي حالة وفاته فإنه يمكننا أن نختار، دائما بموافقة السلطان، من يصلح بنا لحماية الأمن والسهر ¬

(¬3) أهله هم أخواله في بيت ابن قانه شيخ العرب.

على هدوء البلاد وفي جميع الحالات، فإن ابن شاكر مغامر، ولا يمكن أن يكون تعيينه شرعيا. وهكذا، إذن، فإننا لن نواصل اعترافنا بسلطان الحاج أحمد باي فقط، وإنما ينبغي أيضا أن نعترف به كباشا ليتمكن من تهدئة القبائل والعرب، إنه سيخلف باشا السلطان، وبعد ذلك نطلب رأي السلطان فيوافق أو لا يوافق على هذا الإجراء. وفي الحين أرسل هذا القرار إلى الحاج أحمد، وأخبر بأن جميع السكان مستعدون لحمايته ضد أعدائه لأنهم يعتبرونه كباشا، وعندئذ توجه لمحاربة المتمردين وهزمهم. وليبرهن هؤلاء الأخيرون على خضوعهم، أرسلوا له رأس قائدهم. وزيادة على ذلك اشترط الحاج أحمد أن يسلم إليه المحركون الرئيسيون لهذه الثورة وعددهم عشرون، فينفيهم إلى تونس. غير أن عددا منهم قد هرب وتفرق في أوساط القبائل والعرب. وبعد ذلك دخل الحاج أحمد منتصرا إلى قسنطينة. وبعد هذا الحادث، أرسل باي قسنطينة قرار أعيان هذه المقاطعة إلى باقي سكان الإيالة ودعاهم إلى طاعته ففعلوا. ثم طلب من سكان عنابة أن يرسلوا له كمية من الذخائر الحربية، وولى عليهم المسمى الحاج عمار الذي كان وكيلا له في تونس. ولكن الحاج عمار هذا كان يحظى بسمعة سيئة في عنابة، وكان يعتبر حاكما عاجزا، وبما أنه كان قد شغل هذا المنصب في نفس المنطقة، فإن السكان أصبحوا يقدرونه حق قدره. وعلى هذا الأساس شق سكان عنابة عصا الطاعة؛ فلم يمتثلوا لأوامر الحاج أحمد باي ورفضوا أن يرسلوا له ما طلبه من ذخيرة، ولما أحس الباي

وعليه فقد آن الأوان لتتسلحوا ضد الفرنسيين، ولتتحدوا قصد طردهم. وهكذا، إذن، اتحدوا فيما بينهم، وأمنوا الطرقات. لقد توقعوا أن يقوم الفرنسيون بنهب الجزائريين، ولذلك سارعوا إلى الاستيلاء على ممتلكات سكان مدينة الجزائر في متيحة، إنهم لم يتركوا ماشية ولا حبوبا.

الفصل السادس عن إدارة المارشال بورمون

الفصل السادس عن إدارة المارشال بورمون عندما نزل المارشال بورمون بأرض الجزائر، نشر، باسم الأمة الفرنسية، بيانا ذكر فيه بأنه سيقضي على نظام اظلم السائد في الجزائر. وتنص معاهدة الاستسلام على أن الأتراك يعتبرون من سكان المدينة. ولكن، بعد استسلام المدينة بفترة وجيزة، قام بورمون بنفيهم واختطافهم. ففصلوا عن نسائهم وأطفالهم دون أن يقترفدا أي ذنب. وكانوا يقادون إلى السفن قبل ساعة الإبحار بأيام عديدة. وأشيع أمام الرأي العام بأنه ثبت أنهم ينوون التآمر ضد الفرنسيين، وهي جريمة مزعومة لا أساس لها من الصحة. ألم يكن من حق رجل كالسيد دوبرمون، المكلف بمهام سامية والمتمثل لأمة متحضرة، أن ينظر في المسألة ليتأكد من صحة أو عدم صحة الاتهام؟ وهل يمكن أن يكون لذلك أساس؟ .. أن قلة عددهم وكذلك ضعفهم لا يسمحان لهم بتدبير أية مؤامرة. وقد كان عليه قبل أن يتصرف بهذه الكيفية،

أن يستخبر هل أن الوشاية كانت لفائدة الصالح العام، أم هل هي لمجرد الانتقام. هناك مثل عندنا يقول: (إذا كان النمام مجنونا، يجب أن يكون المستمع عاقلا). كيف يمكن أن تكون لهم نوايا عدوانية، وهم بدون سلاح ولا عتاد حربي ولا مدفعية، وعددهم قليل؟ لقد كان الأتراك في السلطة، وكانت لهم كنوز وجيش، وكان البايات معهم، وكانت لهم القصبة والحصون، ومع ذلك فإنهم لم يحاربوا الفرنسيين. وبدون كل هذه الموارد، هل يستطيعون التآمر ضدهم؟ كيف إذن، يمكن لقائد جيش أن يهتم يتقارير كاذبة، بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا تدل إلا على النوايا السيئة التي يضمرها أعداء الأمن العمومي. وفيما يلي أذكر حادثا يدعم أقوالي: لقد تجمهر الناس ذات يوم بالقرب من القصبة وكانوا جميعا من المسلمين الذين يريدون تقديم شكوى ضد إهانات كان اليهود قد وجهوها إليهم، وفي الأخير أوفدوا من بينهم اثنين إلى الجنرال بورمون ليعرضا له موضوع الشكوى باسم الجميع. ولكن المبعوثين، بدلا من أن يقوما بالمهمة التي كلفا بأدائها، إنقادا لدعايات الماكرين وتقدما إلى الجنرال قائلين له: بأن الجماهير تشتكي من الأتراك. صدق المارشال تقرير هذين الشخصين، وبذلك يكون قد اتخذ تدابير على أساس تصريح بسيط. إنني أسمح لذينك المتناورين وأغفر ذنبهما ونواياهما الخبيثة ولكنني لا أستطيع أبدا أن أسمح لرجل مثل السيد دوبرمون الذي يشتغل منصبا ساميا أن ينخدع لبعض الطامعين ويحكم في الأمور عن غير معرفة وبدون تفكير. ولو أنه حقق في القضية لعرف السبب الحقيقي الذي قاد للتجمع، ولما

كانت النتيجة هي طرد الأتراك من وطنهم، وجعلهم ييأسون ويفصلون عن نسائهم وأطفالهم. لقد رأيت بنفسي بعض الفرنسيين يولون ظهورهم للمشهد؛ ويدرفون الدموع من الألم. لقد استطاع كثير من الناس أن يلحظوا مثلي كنه هذه المكيدة، فرأوا كيف أن شكوى كان من المفروض أن توجه ضد اليهود، قد حولت ضد الأتراك. إن الإدارة إذا، لا تقوم بواجبها. إنها لا تهتم إلا بالذهب والفضة، وأضل رجال السلطة سعيهم وراء الثروات. ومن سوء الحظ بالنسبة إلينا، فإن ما أقوله هنا حقيقة لا تخفى على أحد، وهي السبب في كل الشرور التي أصابتنا. إن هذه الأساليب قد أجبرت الأغنياء على مغادرة البلاد على الرغم من أنهم هم المورد الوحيد بالنسبة للطبقات الفقيرة ولذلك حدث سخط عام في أوساط الشعب وبدأ الاحتراز من الفرنسيين الذين لا يوفون بعهدهم. وافتري على القاضي الحنفي بدوره فنفاه السيد دوبرمون متهما إياه بأنه جمع أعيان المدينة في أحد المساجد لتدبير مؤامرة ضد الفرنسيين، وأصبحت إدارة دوبرمون عهد خوف ورعب تتهم فيها النوايا الحسنة بالإجرام، ويسير العدل وفقا للأهواء والنميمة. ومع ذلك، فإن للسيد دوبرمون تراجمة فكان باستطاعته أن يستشير السكان قبل أن يتصرف بتلك الطريقة الظالمة. إنه لم يحترم وثيقة الاستسلام التي وقع عليها بنفسه، لأنه نقض أهم موادها بعد التوقيع بثمانية أيام فقط. هل ينبغي أن ننتظر من الحكومة الفرنسية أنها تتصرف بمثل هذا الجور نحو أمة يزعم أنها كانت، قبل الاحتلال، جاضعة لحكم تعسفي ظالم. وفيما يلي حادث آخر يكاد يشبه الذي انتهيت الآن م روايته ولكنه

وقع في عهد حسين باشا. إنني سأنقل حرفيا ما جرى أمامي في تلك الأثناء. لقد اشتكى بعضهم، ذات يوم، للداي بأن القاضي لا يحكم بالعدل، وقيل له أنه أصدر حكما منافيا للقانون، لم يسبق لغيره من الفقهاء ورجال العدالة أن أوردوه. وبدلا من أن يعاقب المتهم دون الاستماع إليه؛ فإن حسين باشا، قد طلب من القاضي - في أدب - أن يحضر إلى بيته حيث كان قد جمع سائر رجال القانون، ثم دعاه إلى تقديم الأسباب التي دفعته إلى إصدار حكم ظالم، وأمر المفتي والفقهاء أن يتناقشوا معه في الموضوع وأن يطلبوا منه ذكر المادة التي جعلته يتخذ مثل ذلك القرار. ولما تلكأ القاضي في أجوبته، وثبتت الشكوى التي قدمت ضده، عزله الداي في حينه ونفاه إلى وهران دون أن يرسل معه رجال الدرك. هذه مقارنة بين إدارة الإيالة والإدارة الفرنسية، ومع ذلك، فإن السيد دوبرمون يزعم أنه جاءنا ليقضي على التعسف، ويطبق القانون وفقا للعدالة والإنصاف. فلو أن هذه الأخطاء ارتكبها شخص آخر غير السيد دوبرمون لكان يمكن غفرانها. ولذلك صار كل واحد منا يقول: أين هم، إذا أولئك الفرنسيون المشهورون، تلامذة نابليون العظيم، أين هم أولئك الجنرالات المتصرفون، والمواطنون والقضاة النزهاء؟. ماذا فعلوا بعلمهم، ومقدرتهم وذكائهم؟ لقد احتجزت أسلحة الميليشيا وسكان المدينة. وجال في أذهاننا أن تلك الأسلحة ستوضع في مستودعات كوسيلة ضمان وأمن. ولكننا كنا نعتقد، كذلك، أن الفرنسيين سيصرفون مثل الروس عندما غزوا الإمبراطورية العثمانية، لقد قام هؤلاء الروس بجمع الأسلحة ثم جعلوا لكل قطعة بطاقة تحمل اسم صاحبها وأودعوا الكل في مسجد على أن تعاد لأصحابها في الوقت المناسب.

وأقول في إمكاننا أن نعتقد بأن من واجب الفرنسيين أن يصنعوا مع الجزائريين، مثلما صنع الروس مع الأتراك على الأقل. وزيادة على ذلك، أن هناك أشخاصا بين سكان الإيالة يعتبرون السلاح كأثاث منزلي يزينون به حجرات منازلهم، وتكون قيمته حسب ثروة صاحبه. فهناك من يملك أسلحة محلاة بالفضة والذهب وبالجواهر الثمينة. فهذه الأسلحة تحتوي على ثروة؛ وقد سلمت إلى الفرنسيين عن طريق الشرف وحسن النية اللذين يستوجبان صيانتها. ومن الواحب أن تكون لديهم بمثابة أمانة مقدسة. لا يجوز التعدي على حرمتها. فبأي قانون استطاعوا أن يستولوا على هذه الأسلحة، لتصبح ملكا لهم؟ أباسم الشراء، أم باسم الإيجار ; أم باسم الهبة؟ إنهم أصبحوا أسيادا في البلاد. وقد فعلوا ما بدا لهم في هذه الظروف أن يفعلوه؛ مع أنه يستحيل أن يوجد قانون فرنسي يسمح بالسلب، والاغتصاب. فبالعكس، فإن قانون الإنسان يعارض ذلك تماما وأنا - كذلك - كنت أملك أسلحة ثمينة، مثلما كان يملكها أبنائي. وكانت هذه الأسلحة محلاة بالذهب، والفضة، والمرجان، والأحجار الكريمة. وكانت قيمتها تقدر بعشرين ألفا من الفرنكات. ومن أجل امتثال الأوامر جعلتها في صندوقين، ثم وضعتهما لدى القائد (لوفير دو) (loverdo) الذي تسلمهما مني في منزله. وبعد مدة قصيرة طلب مني هذا القائد أن أرفع أمانتي من عنده، فنقلتها إلى منزل صديقي قنصل (نابولي) (Napoli) . ثم إن هذا الأخير قد دخله بعض الخوف من ذلك،

فظننت من واجبي أن استودعها بين أيدي القائد هـ ... (1) الذي كان يسكن بمنزلي المخصص للنزهة والاستجمام. فوضع هذا القائد الصندوق في إحدى الغرف؛ واحتفظ بمفتاحيهما في شقته وفي يوم خروجه من المنزل لم أجد هناك سوى الظرفين أعني: وجدت الصندوقين فارغين فعندئذ سألته: ماذا حدث لأسلحتي وأين هي؟ فأجابني: (إن ولدك أخذ جزءا منها وأنا أخذت الجزء الآخر. وها هو - كما أظن - الثمن المقدر لقيمة الجزء الذي احتفظت به لنفسي). ولعلني أتذكر أنه أعطاني ستة وثلاثين دينارا من فئة (نابليون). ثم تبين لي - فيما بعد - أن والدي لم يأخذ أي شيء من تلك الأسلحة، لأنه لا يمكن أن يسرق ما هو ملك له. إذن فالقائد وأتباعه هم الذين اختلسوا أسلحتي.

الفصل السابع عن أحداث الترسانة والاحتلال العسكري

الفصل السابع عن أحداث الترسانة والاحتلال العسكري عندما أيقن مصطفى، وزير البحرية، بأن الكارثة آتية لا ريب فيها، فتح صندوق النفقات اليومية، ووزع ما فيه من مبالغ على العمال، ثم أحرق السجلات، عندئذ أبحرت كثير من الأسر على متن قوارب الترسانة قاصدة بلاد القبائل وبجاية. وجاءت السفن التجارية المرافقة للحملة إلى المرسى، فنهبت الميناء، وأخذت السلاسل والحبالة والصوف التي كانت في الخنادق، والمراسي، والقنب ومجموعة أخرى من العتاد والذخائر، وتقدر كل هذه الأشياء التي أخذتها تلك السفن ليلا، بواسطة قواربها، نعم تقدر بمبالغ هائلة، ونحن نجهل إذا كان ذلك قد ثم بالاتفاق مع السلطة الفرنسية. ولكنني أعتقد أن كل واحد كان يأخذ لنفسه، لقد كان هناك ما يكفي الجميع، وكان اللصوص متفقين فيما بينهم فلا يوشي بعضهم ببعض. كانت تلك هي الثمرات الأولى للاحتلال وللحضارة الفرنسية؟

كان نصف الجيش الفرنسي متمركزا في أجنة سكان المدينة (أو في ديارهم المعدة للاستجمام). ولن نقر إلا حقيقة، إذا ذكرنا هنا بأن مالكي تلك المساكن لم يحصلوا أبدا على أي تعويض، ولم يكن لهم حق التمتع بملكياتهم وأن الأبواب كانت تكسر لتحرق، وسياجات الحديد تقلع. وكان الجنود يحفرون الأرضيات بحثا عن الكنوز الموهومة. وأخيرا، فإن الأجنة والمساكن قد خربت إلى درجة أنها لم تعد صالحة لشيء. وكل ما أرويه هنا بعيد عن المبالغة والمغالاة، ولكن، لكي تكون للمرء فكرة واضحة يجب أن يرى بنفسه ما وقع من تخريب. كانت هذه أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الملاك إلى التنازل عن ممتلكاتهم بالشروط التي تقدم لهم وبأسعار بخسة. وهكذا لم يعد في استطاعة أي واحد أن يفخر بكونه يمتلك عقارات في الجزائر. وبهذه الطريقة كانت الأملاك الوطنية تكتسب في فرنسا أثناء الثورة، ولكي تنسى هذه الاغتصابات، يجب أن ننتظر قرونا، أو ينبغي أن تدفع تعويضات تقدر بالملايين لكي يرتاح ضمير المالكين. أنه عهد الثورة والفوضى، ذلك الذي يخرب فيه كل ما يمكن تخريبه. إن بعض الأوروبيين من المالكين الجدد قد اختلققوا النزاع ليتحللوا من العقود التي أمضوها، وذلك بعد أن اقتلعوا الأشجار، وخربوا الأجنة وجمعوا الأموال من كل شيء، ثم أصبحوا عاجزين عن دفع المبالغ السنوية المتفق عليها، وكانت المحكمة مكتظة بالمترافعين لأن معظم تلك العقود كان قد تم بالتراضي عن طريق الدلالين. ومن ثمة فإن بعضهم قد خرب كل شيء ثم أظهر سوء نيته، بينما كان الآخرون يبيعون من جديد وكانت تلك العمليات المتتالية تخلق كثيرا من النزعات، لأن البيع الأول لم يكن شرعيا ولا خاليا من الإشكال

لقد كان هناك غموض بالنسبة للسكان وللمحاكم على السواء. وأصبح من المحتوم، في هذه الحالة، على المالكين الحقيقيين، أن يرضوا بالتفاهم بدلا من أن يخسروا كل شيء. بهذه الطريقة وقعت كثير من عمليات البيع والشراء، وتوصل الفرنسيون أو سيتوصلون إلى امتلاك جميع الملكيات في البلاد. إنني لا أعلم أن هناك ملكية واحدة قد اشتريت بكيفية عادية وشرعية. وليست هذه العقود كلها إلا كرامات دائمة وقانوننا لا يعترف بصحتها، لأن عقد الكراء عندنا لا يمكن أن يكون إلا لسنة. ويزعم بعض الفقهاء أنه يمكن أن تمتد العقود على ثلاث سنوات. ولكنه يبقى، دائما، للمالك حق تمديد الكراء أو إلغائه بعد السنة الأولى. إنني سأتطرق في فصل خاص بكيفية واضحة ومفصلة إلى كل ما له علاقة بقوانيننا. إن الأسباب التي منعت الفرنسيين من أن يشتروا بالطرق الشرعية على غرار ما يتم عندنا وفي فرنسا، يمكن تفسيرها كما يلي: 1 - لأنهم غير متأكدين من مواصلة الاستعمار. 2 - لأن معظم الأوروبيين الذين ذهبوا إلى الجزائر مغامرون بدون أموال، يريدون اكتساب الثروات على حساب الجميع. وعلى هذا الأساس، فإن الجنرال كلوزيل قد أخطأ عندما زعم، في أحد كتبه، أن بيع العمارات في البلدان الإسلامية لا يتم بنفس الطريقة المعمول بها في فرنسا وإنما مقابل ريع دائم. وإننا نود أن يكون اليهود، مستشاروه المفضلون، هم الذين أضلوه، وإلا فإنه قد يتهم بأنه أضل الأمة الفرنسية، وأولئك الذين توجهوا إلى الجزائر للحصول على ملكيات بطريقة في مثل تلك السهولة.

الفصل الثامن عن الاحتلال العسكري وسلوك أهم ضباط الجيش الفرنسي

الفصل الثامن عن الاحتلال العسكري وسلوك أهم ضباط الجيش الفرنسي لقد أسكن عدد كبير من الجنرالات والكولونالات وغيرهم خارج المدينة. فكانوا يتسابقون لاختيار أجمل الحدائق، والمساكن الأكثر ملاءمة، ينتصبون فيها سادة لا ينازعهم منازع. وكانوا يقطعون الأشجار أو يقلمونها حسب رغبتهم، ولم يعد المالكون قادرون على الدخول إلى ممتلكاتهم، ولم ينفق فرنك واحد لإصلاح أبسط الأمور، وإنما كانت المصاريف تخصص لاقتلاع الأشجار أو للتخريب. وفيما يخصني، فإن الجنرال هـ .... قد استحوذ على جناني، على غير علم مني، وطرد خدمي وعنبدما علمت بذلك أرسلت ولدي إلى المارشال بورمون ليطالب بالحماية التي تعهد بشرف الأمة، أنه يقدمها لنا. ولما لم يتمكن ولدي من رؤية المارشال توجه إلى الجنرال تولوزان، فأعطاه هذا العسكري الممتاز، حينا، أمرا بترحيل الجنرال هـ ... الذي كان قد سكن داري المعدة للإستجمام. وعندما قدم له ولدي الأمر، غضب ثم قطعه وقال:

لقد احتللنا الجزائر، وأصبحنا سادتها بلا منازع، كل ما فيها ملكنا، وليس من حق السيد تولوزان أن يبعث لي بمثل هذه الأوامر. ولما وصلتني إجابة هذا الضابط سارعت إليه لعلي أجد فيه إنسانا متحضرا ومتسما بالاعتدال والعواطف الفرنسية النبيلة، وقلت له إن ولدي كان مخطئا عندما اشتكى عليه، وأنه يجب أن يعذر شابا صغيرا، وإنني جد مسرور باستقبال ضيف كريم مثلك لأنني متيقن من أنه سيحمي الدار من نهب الجنود. وفي الحين فتحت جميع الخزائن لكي لا تكسر ووضعت تحت تصرفه أغلى ما فيما من أثاث وحلي وزرابي وأوان خزفية، (عدد هذه الأواني كان يزيد عن 500 قطعة). وكذلك طقم خزفي لتناول الشاي اشتريته من باريس بثلاثمائة فرنك، ومجموعة من أدوات الطبخ كلها من الخزف، والخزف المزخرف وجرار مملوءة بالزيت والزبدة وغير ذلك من المؤن الكثيرة التي تعودنا أن نعدها في البادية. ومن ثمة، فقد وضعت تحت تصرفه دارا كاملة، مجهزة بكل ما يحتاج إليه بما في ذلك أدوات الزينة. كما أنني تركت له بعض البغال، وشاتا للاعتناء بها. وبالتالي لم يكن هناك قائد أسعد منه في هذا الميدان. ومع ذلك، فإنه تقبل كل ذلك باعتزاز ولم يوجه لي حتى عبارة شكر، كما لو كنت قد قدمت متاعا هو له. وفي نظري، لقد كان من الواجب عليه أن يتصرف بطريقة أكثر تأدبا ولباقة وأن يبرهن على أنه يعرف كيف يقدر المواقف، وأن أصله يتناسب مع مرتبته. إن هذا الجنرال لم يمتنع عن شيء مما قدمته له، واستعمل بسعة كل ما وجد، وعندما شارك في حملة المدية مع الجنرال كلوزيل، أخذ اثتين من بغالي، نفقا، من التعب أو الجوع، بعد رجوعهما من الرحلة مباشرة.

لقد كان من الضروري القيام بمثل تلك المجاملة لأنني كنت مجبرا على ذلك. وإذا بدا لي أن أزور جناني، فإنني أمنع، أو يطلب مني أن أحضر أمرا من الجنرال ليسمح لي بالدخول، ومع ذلك، فقد كانوا يعلمون أنني أنا المالك الحقيقي. وعندما غادر الجنرال هـ .... مسكني أخذ معه كل ما أعجبه، وما كان يمكن أن يحمل حتى أواني الخزف المزخرف، مدعيا بأن كل تلك الأشياء إنما سرقها مترجمه. وبالإضافة إلى ذلك أخذ صندوقي الأسلحة اللذين سبق أن تكلمت عنهما. أن ديار المدينة التي سكنها الأجناد لم تعد صالحة للسكن. لقد علمت من أناس مطلعينا أن الشخصيات التي سكنت القصبة (مقر الداي) قد حفرت كل الأراضي آملة أن تعثر على الكنوز المخفية. كما أن بعض الأسوار قد هدمت لنفس الغرض. ومن جهة أخرى أجبر الخواص على الرحيل عن مساكنهم لكي تحتل عسكريا، وقد غلب اليأس على هؤلاء السكان فهاجروا عن طريق البر أو البحر. يا لها من أساليب تلك التي استعملها رجال السلطة الذين كان يجب عليهم، على الأقل، أن يدفعوا أجرا للمالكين تعويضا لحرمانهم من ممتلكاتهم. وبعد أن تمركز، أرسل الجنرال بورمون إلى باي وهران يطلب منه أن يستسلم لفرنسا. ووفقا لرغبة قائد الجنرالات، استجاب هذا الباي للأوامر وأعلن ولاءه للفرنسيين ولذلك كلف بالبقاء في وهران إلى أن يحين الأوان، وأن يحصن المدينة، ضد سكان المناطق الداخلية، من الإيالة، ويحفظ الأمن إلى أن ترسل له الجيوش. وباستسلامه لفرنسا، قطع الباي كل علاقة ودية مع القبائل وتخلى عن صلاته القديمة. وللاحتفاظ بالمنصب، كان عليه أن ينفق

من أمواله الخاصة على جيش من الأتراك. إن هذا الرجل، قلت في السابق، مسن ومسالم، لا يرغب إلا في الراحة. ولذلك استجاب لإرادة الجنرال الفرنسي، ولم يعد ينتظر إلا تنفيذ الوعود التي ضربت له والتي تتعلق باحترامه واحترام كل ما كان يملك. وحسب العدالة، لقد كان يجب أن يجازى هذا الباي وأن تدفع مصاريفه لأنه حكم وهران لحساب الفرنسيين منذ استسلامه إلى أن غادرها، أي مدة سبعة أشهر. وقبل أن يحتل الفرنسيون تلك المدينة وردت وفود متعددة إلى إحدى الشخصيات، وإنني أعرف كما يعرف الجميع أن هذه السخصية أرسلت بدورها، مرات متعددة، بعض البواخر إلى وهران تحمل رجالا من حاشيتها، وكان هؤلاء الرجال يشترطون على هذا الباي كثيرا من التضحيات التي لم يحدت أن رفضها في يوم من الأيام. سأقص في مكان آخر مغامرات هذا الباي مع الجنرال كلوزيل. عندها علمنا بالتغيير الهام الذي حدث في النظام الملكي الفرنسي ; فرحنا بالحادث أشد الفرح، وقد ابتهجنا خاصة للظروف التي أدت إلى وقوعه. واعتقدنا بدورنا أننا سنستفيد من ثمار تلك الحرية. لقد كان أملنا وطيدا في العاهل الجديد، لويس فليب (¬1) الذي كان ينبغي أن تحفظه تجربته ومآسيه من كل ضعف، والذي كان يجمع في نفس الوقت جميع الصفات الضرورية لقيادة أمة عملت على تعيينه ليكون رئيسها وحاميها، إنه رجل يجمع بين الشجاعة ¬

(¬1) ولد لويس فليب الأول في باريس يوم 6 أكتوبر 1773، في نفس السنة التي ولد فيها حمدان، وتوفي يوم 26 أوت سنة 1850. بايعته ثورة جوليت ملكا يوم 9 أوت 1830. ولكن ثورة 1848 ستقضي على ملكه وتعلن الجمهورية الثانية يوم 24 فيفري. أما لويس، فإنه فر بجلده إلى انكلترا حيث قضى العامين الباقيين من حياته. اشتهر لويس فليب بالجبن والنفاق حتى مع أعز أصدقائه.

والإحساس، ولقد شوهد في ميدان المعركة يظهر كل عطف الأبوة والزوج الصالح. وكما يقول الشاعر: (لا يعرف الحب إلا من كان عاشقا). فالفرنسيون، إذن، لم يكن في استطاعتهم أن يختاروا أحسن منه. ومن جهتنا كنا نقول: ليس هذا هو العاهل الذي يسمح بأن يخضع الجزائريون لنظام تعسفي، ليس هو الذي سيأمر بفصل الزوج عن زوجته وأطفاله، ولا بأن تؤخذ أملاكنا وكل ما لنا من موارد). في سنة 1820، كنت في باريس، وتشرفت برأية الدوق دورليان (¬2) يتأبط ذراع الدوقة زوجته وهو محاط بكامل أفراد أسرته. كنا لا نسمع عنه إلا الخير، وكان الحفل كله مديحا وتبركا. لقد كان هو الطيبة نفسها، ومثال الإحساس الرقيق، والحلم المشخص، لقد كان الدوق دورليان هو أفضل رجال القرن. عندما علمت بالحادث السعيد الذي جاء بتعيينه قلت لنفسي: (إن الفرنسيين سعداء، إنهم سيتمتعون بالحرية). وطمأنت جميع الأصدقاء مؤكدا لهم إن هذا الأمير كان كثير الاعتدال، عادلا وأهلا لأن يحب، وعليه يجب أن نهنىء أنفسنا بحكومته. ولكن مع الأسف لقد طال صبرنا وخاب أملنا. وأخيرا رفع العلم المثلث واستبدل المارشال بورمون بالجنرال كلوزيل. وكان أول أعماله، لطمأنة سكان الجزائر، هو إلغاء ما يسمى بالمحكمة الحنفية وإقرار محكمة الإسرائيليين. وكسابقه، لم يحط نفسه إلا باليهود الذين لا يستحون ولا يترددون أمام أي شيء. إن لنفوذهم ودهائهم الماكر دورا ¬

(¬2) هو نفس لويس فليب قبل أن يتولى الملك.

كبيرا في تسيير بلدي المسكين: اغتصاب الأملاك وسفك الدماء، والنهب والجرائم .. تلكم هي الأعمال التي تتم في الجزائر، يا له من دستور، ويا لها من قوانين لا إنسانية تتعارض مع نظم المساواة والسلام،؛ يا له من ميثاق هذا الذي يسير شؤوننا! إن النفي والاغتصاب يكونان منه المادة 57. وينبغي أن نعتبر أنفسنا سعداء إذا لم تضف مادة أخرى تقضي بإبادة الشعب الجزائري. وإذا كان مكتوبا (لاستعمل عبارة السيد الجنرال كلوزيل) فإنه يجب أن نستسلم للأمر الواقع، ولكن من سيكون جلادنا! إن إلغاء هذه المحكمة كما ذكرت؛ خطأ لا يغتفر؛ وهو مناف لترتيبات قوانيننا. وهناك مادة من معاهدة الاستسلام تنص على حصانة تلك القوانين. وعليه، فإن إلغاء هذه المحكمة يتناقض مع مبادىء المعاهدة المبرمة بين الجزائر وفرنسا. فبمقتضى أي حق وأي قانون قام السيد كلوزيل بإلغاء هذه المحكمة؟ أليعارض الأمة العثمانية؟ وبما أنه لا توجد أية عداوة بين فرنسا والإمبراطورية العثمانية فلماذا تحتقر قوانينها ويستهان بنظمها؟ وبهذه المناسبة أورد بعض الفقرات من قرار 22 أكتوبر 1830. المادة الأولى: ترفع جميع دعاوى المسلمين، في الميدانين المدني والجنائي إلى القاضي العربي، ينظر فيها بكل حرية وبدون استئناف، وفقا للقوانين وللعرف السائد في البلاد. وفي حالة ما إذا كان القاضي العربي (المالكي) في حاجة إلى مساعدة المفتي أو القاضي التركي (الحنفي) فإن هذا الأخير لا يكون له إلا صوت استشاري، لأن القرار من اختصاص القاضي العربي وحده. المادة الثانية: ترفع جميع دعاوى الإسرائيليين، في الميدانين المدني

والجنائي، إلى محكمة تتكون من ثلاثة رباينة تنظر فيها بكل حرية وبدون استئناف، وفقا للعرف والتقاليد الإسرائيلية، الخ ... وهكذا، إذن، نرى من خلال ما تقدم أن المحكمة الحنفية التي يسيرها قاض تركي قد ألغيت على الرغم من الاحتفاظ بالمحكمة الإسرائيلية. إن هذه التدابير الظالمة من شأنها أن تخلق كثيرا من الغموض في قوانين البلاد.

الفصل التاسع عن مصطفى بومزراق، وباي التيطري

الفصل التاسع عن مصطفى بومزراق، وباي التيطري عندما وصل بو مزراق مصطفى، باي التيطري الذي سبق أن تكلمنا عنه، إلى المدية وضع مشرعا جنونيا لإعلان نفسه باشا أو رئيسا مستقلا للإيالة: فنظم ديوانه، وعين من بين الأتراك خزناجيا وآغا، وسك العملة. وبعد ذلك، تام بأعمال تعسفية، واختلاسات وجرائم مختلفة. وأرسل آغا، لإجبار القبائل المجاورة لمدينة الجزائر على أن تدفع له دراهمها وكل ما تملك بحجة أنها كانت تحمل المؤن لتغذيه الفرنسيين في المدية، وكتب كذلك إلى باي وهران لينجده بالأموال والذخائر الحربية والقهوة، وقد ثبت لي أن هذا الباي أرسل له كل ما طلب واعدا إياه بأنه سيضم إلى قضيته عندما يحين الأوان. وبعث باي التيطري نفس البيان إلى باي قسنطينة، ولكن هذا الأخير رفض طلبه وأجابه قائلا: (إننا متساويان، ولا فضل لأحدنا على الآخر). ثم حذره من أن يوجه إليه مثل هذه الطلبات في المستقبل، وأخبره بأنه لن يستسلم له كما دعاه إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة. وأراد مصطفى أن يجدد

الكرة، فأرسل له، في هذه المرة الثانية، قفطانا ومرسوم تعيينه على رأس البايلك. إن هذه الوقاحة المخزية لم تزد باي قسنطينة إلا غضبا حتى أنه لم يتفضل بإجابته. واغتاظ باي التيطري بدوره من عدم اللياقة هذا، مما أدى إلى اشتعال الحرب بينهما. ثم اتصل باي التيطري بإبراهيم ليكون إلى جانبه، وكان إبراهيم هذا بايا على قسنطينة في عهد الأتراك، وقد عزل لعجزه وسوء تدبيره، وعندما كان في الحكم تزوج من بنت أحد شيوخ الصحراء اسمه فرحات (¬1). ولذلك حمل إبراهيم السلاح إلى جانب باي التيطري، ولكن هذه المحاولة لم تنجح رغم تضافر المجهودات (¬2). وواصل -مصطفى- باي التيطري - تصرفاته الجنونية التي لم يستفد منها إلا الجنرال كلوزيل. لقد أرسل لهذا الجنرال برقية مليئة بالمآخذ والتعابير العدوانية، وأخيرا أعلن أمام الملأ أنه يتخلى عن المهمة التي كلفه بها بورمون. لقد ترجمت بنفسي هذه البرقية وكلفت بالرد عنها. وعلمت أن سكان المدية اتصلوا سرا بالجنرال كلوزيل وطلبوا إليه أن يأتيهم. وبهذه المناسبة طلب الجنرال من أعيان الجزائر أن يقدموا له قائمة بأسماء أشخاص متوسطي العمر ينتسبون إلى أسر كريمة، ليختار من بينهم واحدا يعينه بايا على التيطري. وكان يوجد ضمن القائمة الطويلة التي قدمت له اسم مصطفى بن عمر الذي قيل إنه ابن أخ حسين باشا داي الجزائر القديم، وهذا خطأ لأنه لم يكن إلا ابن خال زوجة حسين باشا. وكذا تم تعيين مصطفى بن عمر بايا على التيطري. ¬

(¬1) هو فرحات بن سعيد شيخ العرب الذي تكلمنا عنه. (¬2) حول هذه القضية انظر الفصل الثالث من مذكرات الباي أحمد.

الفصل العاشر تابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضذ المدية والبليدة نسخة المعاهدات

الفصل العاشر تابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضذ المدية والبليدة نسخة المعاهدات خرج القائد الأعلى من الجزائر على رأس جيش ومعه آغا العرب (حمدان ابن أمين السكة) متوجها إلى المدية. لقد كان سكان الإيالة، إلى أن جاء الفرنسيون، يرون في مدينة الجزائر حصنا منيعا، ولذلك ظنوا أن الأمة الفرنسية التي استولت عليها هي أمة عظيمة واعتقدوا أنه لا يوجد شعب يستطيع مقاومة جيوشا. ومن جهة أخرى، فإن تعسفات مصطفى باي التيطري (بو مزراق)، ومراسلات حمدان الآغا المذكور التي كتبها في صالح القضية الفرنسية، كلها أفادت الفرنسيين وساعدت كثيرا على القيام بحملة المدية. ويقال كذلك - لكنني أستيعده - أن الجنرال كلوزيل قد وزع الأموال سرا، لتسهيل وصوله إلى المدية. وعندما دخل إلى هذه المدية نشر بيانا يؤكد فيه تلك الوعود التي ضربها المارشال بورمون. وقد كتب هذا البيان في البليدة، وهي مدينة أو

قرية تقع في سفح الجبل، معظم سكانها من الجبليين الذين تحضروا لتحسين أوضاعهم. وعندما اقترب الجيش الفرنسي فروا إلى الجبال. وغادر الفرنسيون هذه المدينة بعد أن تركوا فيها حامية صغيرة تتكون من 600 شخص فقط. وقد استعد الجبليون بمساعدة بعض سكان البليدة لمهاجمة تلك الحامية، ولولا أن الجنرال كلوزيل رجع بسرعة من المدية لأبادوها عن آخرها. ولما علم الجبليون برجوع الجيش تفرقوا ولاذوا بالفرار. وعندما قام الجنود الفرنسيون بأعمال وحشية في هذه المدينة وأحدثوا مجزرة رهيبة، لم ينج فيها رجال ولا نساء ولا أطفال. هناك من يذكر أنه تم تقطيع بعض الرضع على صدور أمهاتهم. ووقع النهب في كل مكان، ولم يستثن حتى الجزائريون الذين فرا إلى هذه المدينة لينجوا من ظلم الحكومة الفرنسية، وليجدوا وسائل تمكنهم من العيش (إنني أتكلم هنا بكل نزاهة، ولا أروي وقائع الأحداث إلا كما جرت). وهكذا، فإن عددا كبيرا ممن لم يكونوا يفكرون في خيانة الفرنسيين، ولا حتى في معاداتهم، قد وقع تقتيلهم في هذه الظروف! هل من العدل أن يكون الاحتداد أو الغضب في سبب مثل هذه الأعمال؟ وبهذه المناسبة أذكر الحادثة التالية: لقد اضطر المسمى محمد بن سفطة إلى المجيء إلى البليدة ليعيش فيها، وكانت مهنته كإسكافي لا تكفي لتوفير وسائل عيشه، وعيش امرأته وبناته الصغيرات الأربع. وقد كان يسكن دارا صغيرا، دخل إليها في أثناء الهجوم وأغلق الباب. إنه لم يملك أي نوع من أنواع السلاح، ولم يكن معه سوى الأدوات التي يشتغل بها. وعندما دق الجنود الباب خرج إليهم صحبة زوجته،

ولكن سرعان ما وجهت إليه طلقات عديدة أودته قتيلا، كما قتلت طفلة لها من العمر عامان، أما زوجته فقد كسرت ذراعها، ونهبت الدار كلها. ولما بقيت الزوجة المسكينة بدون مورد بعد أن كسرت ذراعها وأصبح عليها أن تعول ثلاث بنات، توجهت إلى القائد الأعلى، ولكن شفقته لم تزد على أنه أركبها بغلة دون أن يضمد جرحها الذي ظل يدمي طيلة الطريق. إنه ليؤلمنا كثيرا أن نذكر هذه التفاصيل! لأن المؤرخ أيضا، إنسان، وهو مجبر على أن يتوقف عن التفكير وعن المتابة ليتحسر على بعض أفعال الناس. ومع الأسف، فما هو العلاج لكل هذه الشرور؟ إن شياطين السوء تظهر في كل العصور، تحر وراءها أنواعا من الآفات. والملوك - في كل عهد - مجبرون على مشاهدة تلك المعارك، يدوسون الجثث بأقدامهم ويسمعون صيحات الألم ... ويرون، أخيرا، جميع ويلات النهب والموت!!! إن هذه المرأة قد أصبحت تتسول بعد هذا الحادث. وغيرها من السكان كثيرون. ولقد كنا فيما مضى، نستطيع إعانتهم لأننا كنا نملك مؤسسات خيرية. أما الآن فإن تلك المؤسسات كلها أصبحت في أيدي السلطات الفرنسية التي توزع من حين لآخر بعض الصدقات ... فيعطى لكل فقير في كل أسبوع (سوردي) أو اثنين في بعض الأحيان. يأتي هؤلاء البؤساء بالآلاف، فيتنازعون ويتضاربون على تلك المعونة البسيطة. روفي أثناء التوزيع تنسد الطرقات. إن مثل هذه المساعدة وهذا التوزيع القليل لا يحققان الهدف المنشود، ولا يكفيان لسد حاجات مثل ذلك العدد من المعوزين. ولكن المدير لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. ومن جهة أخرى، فإن نصف المبالغ المخصصة لهذا النوع من الإعانات يعطى

لشخص لن أذكر اسمه، ويوزع الربع الأول من النصف الباقي على المدير والموظفين والمعوزين أما الربع الأخير، فإنه، يحفظ لأملاك الدولة ولتنمية خزائن فرنسا. ولكي نعود إلى حوادث البليدة، أقول، أخيرا، إنه كان يجدر بالجنرال ألا يترك أية حامية في المدينة بدلا من أن يترك واحدة لا تستطيع أن تحمي نفسها من الجبلين الكثيري العدد، وعندما يأتي المرء للحرب في هذه المقاطعة، كان يجب عليه أن يتوقع جميع أنواع الانتقام خاصة عن شعب تعصبي ساخط، ثم إن هذا الغزو لا يشرف فرنسا لأن نتائجه تؤدي، حتما، إلى إبادة جزء كبير من المخلوقات التي تكون الجنس البشري. وهل كان الفرنسيون يتصرفون بمثل هذه الطريقة لو أن الجزائريين كانوا يتدينون بدينهم؟ وعلى الرغم من أني لا أعتقد، شخصيا، بأن الفرنسيين قدموا إلى الجزائر بدافع ديني، فإن تلك هي فكرة كثيرة من الأشخاص الآخرين الذين يدعمون رأيهم بواقع لا تقبل المنازعة. ما هو الغرض من مساعدات قدمت لليونانيين ومقدارها ستون مليونا، ساهمت فيها فرنسا وحدها بعشرين دون أن يكون لها أي مقابل، أليس الغرض من تقديم المساعدة هو بناء مجد فرنسا، ولكي تتمكن تلك الأمة العظيمة من احتلال مكانة في سجلات التاريخ؟ والمساعدات التي قدمت للبلجيكيين، وللبولونين، وتلك التي تقدم حاليا للبرتغاليين، ألم تعط كلها لنفس الغرض لأن كل هذه الشعوب لا تقدم لفرنسا أي مقابل يتناسب مع مثل هذه التضحيات كلها؟ وعندما نرى مثل هذه النوايا الحسنة كيف نصدق بأن نفس فرنسا هذه ترضى بأن يحكم الجزائريون التابعون لها بمثل تلك الطريقة الجائرة.

إن وقوع مثل هذا العدد الكبير من الأحداث الجائرة يحتم علي أن أعرف بها ليسجلها التاريخ، ولنبين للأجيال القادمة كيف كانت تفهم الحضارة في القرن التاسع عشر. إننا نظلم، في الجزائر، وإذا أردنا أن نرفع أصواتنا ضد هذا النظام التعسفي، فإننا ننفى ... أيستطيع الناس، إذن، أن يفرضوا السكوت؟ ولماذا لا يحكمنا الفرنسيون حسب نظامهم القانوني؟ لماذا لا يكونون معتدلين، ولا يتصرفون وفقا لقوانين العدالة إذا كانوا يريدون حكمنا بسلام؟ وما من شك أنه كان يسرنا أكثر أن نتكلم بلغة أخرى، فنذكر محاسنهم ونجه لهم عبارات الشكر والتقدير، ولكننا، مع الأسف، مجبرون على ذكر وقائع تنتصب لهم في شكل متمم. وإننا لا نذكر هنا ولا نعيد إلا رسم المشاهد المؤلمة لكل ما يجري، مع العلم بأننا لا نستطيع نقلها كما ينبغي. ولأتمم ما له علاقة بحملة المدية، أقول: إن الجنرال كلوزيل لم يلق - صحبة آغا العرب وابن عمر باي التيطري - أية مقاومة في طريقه. لم يقم أي واحد بحمل السلاح ضد الحملة للأسباب التي ذكرناها، وأن معظم من كان يمكن لهم أن يحاربوا الفرنسيين قد انسحبوا إلى جبالهم الوعرة حيث يستطيعون حماية أنفسهم من جميع الهجومات بالحجارة فقط. لم يكن لمصطفى، باي التيطري، أنصار من بين البرابرة، ولما تأكد من عجزه وفشل قضيته لجأ إلى أحد المرابطين. وهكذا، إذن، استسلمت المدية لسلطان الفرنسيين، وفي الحين شرعت السلطة في الاستيلاء على أملاك الأتراك وكل ما كان تابعا للحكومة القديمة. وبهذا الصدد نقلت إلي الواقعة التالية، ومع ذلك فإنني لا أستطيع تأكيد صحتها: قبل أن يسحب القائد الفرنسي جيوشه ترك بن عمر في المدية بصفته بايا، ولكنه لم يترك له أية حامية لتدعيم سلطته. وقد سمح له بأن يجمع الضرائب على الطريقة التي كانت

تجمع بها في عهد الأتراك، وذلك بقطع النظر عن كون البيانات تؤكد إلغاء تلك الضرائب. وإن أسر ابن عمر بجمع الضرائب وحده كاف للتدليل على أن وعود الفرنسيين ليست إلا كلاما فارغا، وحيلا مخزية للوصول إلى الهدف الذي يصبون إليه. لقد كان أخذ الضرائب هو عمل الجور الذي تعير به الإدارة التركية، ومع ذلك لم يكن هناك نفي ولا نهب ولا تقتيل. لقد كان الأتراك مستبدين، ولكن في درجة أقل من استبداد الفرنسيين الذين حققوا تقدما كبيرا في هذا الميدان!. ومن الواجب على الجنرال كلوزيل أن يعجب بجزء من هذا التأليف. هناك من يؤكد بأن الحكومة الفرنسية قد أمرت بأن يعتنق المسلمون الديانة المسيحية. ويبدو أن (البريد الفرنسي) الصادر بتاريخ 20 جوان قد اكتشف السر، ومع ذلك لم يصدر أي تكذيب في الجرائد الوزارية. من الممكن أن ثمة من يعتقد، في أوروبا، أن الجرائد لا تصل إلى البدو، وأن هؤلاء الأخيرين لا علم لهم بالسياسة الأوربية، وهذا خطأ لأن البدو يعرفون كل ما يجري في أوروبا، بينما لا يعرف الأوروبيين ماذا يصنع البدو في أفريقيا، ولكنهم يضخمون الوقائع. وأن معظم البرابر الموزعين في مدن الإيالة وفي مدينة الجزائر خاصة ما زالوا يحتفظون بعلاقاتهم مع أهاليهم الذين يسكنون الأرياف. وموضوع أحاديثهم بالطبع هو أحداث اليوم. وكل ما يجري في مجال السياسة. وتتردد الأخبار من فم إلى أذن إلى أن تصل حدود الصحراء، وكما يقول الشاعر العربي: إن الوقائع تتكلم بالنسبة لمن يريد أن يخفيى سيرته). وعندما رجع من المدية لم ينس الجنرال أن ينسب لنفسه مجد ونتائج هذه الحملة. فعزل حمدان آغا الذي لم تعد لنفوذه أية فائدة في إنجاح مثل هذه الحملات الداخلية، وأعطيت الأوامر لكي يصحب برجلين من رجال

الدرك كلما أراد الخروج من داره (¬1). ويوجد حمدان آغا، الآن في باريس، وقد أعطاه الجنرال كلوزيل شهادة تثبت بأنه خدم القضية الفرنسية بإخلاص ونجاح. فلماذا عزل إذن؟ ولماذا كل ذلك التشكيك العجيب في سيرته؟ لماذا استبدل بحاكم آخر؟ وإن سلطات الحاكم الجديد لا تتعدى حدود المتيجة. فيا لها من إدارة طائشة؟! يستعمل أحد أبناء البلد كل سمعته ونفوذه وثروته لخدمة القضية الفرنسية. وعندما يقدم خدمات جليلة يعزل! يعلن عن إلغاء الضرائب ثم يكلف ابن عمر باي ويؤمر بجمع تلك الضرائب في المدية على الطريقة التي كانت تجمع بها في عهد الأتراك، وذلك بعد أن نشر الجنرال يوسف، بأمر من الجنرال المذكور بيانا يؤكد إلغاءها، يا لها من تناقضات عجيبة! ومع ذلك يبدو لي أن هذا الجنرال كان يجب أن يكون صادق الوعد لأنه يمثل ملك الفرنسيين في مملكة الجزائر. وإذن، فقد وجد ابن عمر نفسه في حيرة إزاء سكان المدية، فالذين كانوا خارج المدية، رفضوا أن يدفعوا، ولم يكن يملك الوسائل لإرغامهم. إذ لم يترك له سوى مدفعين وقليل من البارود. ولقد كان من الممكن أن يذهب ابن عمر ضحية لو لم يساعده بعض المغتربين من مدينة الجزائر الذين هاجروا إلى المدية. إنه لم يكن قادرا على الاعتماد على سكان المدينة الأخيرة، التي لم تستسلم للفرنسيين إلا منذ مدة قصيرة، ثم إن هؤلاء السكان كانوا يخشون البدو أكثر مما يخافون السلطة الفرنسية. إن هجوم هؤلاء البدو شديد، ومن الصعب أن يقاومو عندما يهيجون. لقد كانوا يهاجمون الجزائر من حين لآخر، ولولا وجود الجيش الفرنسي ومدفعيته لقتل الجزائريون عن آخرهم، ¬

(¬1) أي أنه وضع تحت الإقامة الجبرية.

وسبب تلك الهجومات هو أن هؤلاء الأخيرين قد تبنوا قضية الجيش الفرنسي لقد كان من الواجب على الجنرال كلوزيل أن يترك لبن عمر قوات كافية, وأن يبدي استعدادات حسنة، واعتدالا، وأن يوفي بعهوده وبالالتزامات التي أخذها على نفسه. بهذه الوسائل كان من الممكن ألا يظهر البدو أية عداوة، وأن تعيش المنطقة في هدوء وأن يستغني ابن عمر عن استعمال القوة. عندما قام الجنرال كلوزيل بحملته ضد المدية كانت المواصلات بين هذه المدينة ومدينة الجزائر تكاد تكون مقطوعة. ولما رجع جاءه الأشرار وأخبروه بأن عددا من السكان كانوا قد أشاعوا بأن الجنرال انهزم أمام القبائل وكنت واحدا من المتهمين بارتكاب هذا الذنب. وبهذه المناسبة كان السيد، كادي دوفو، قد جمع المجلس البلدي وكنت عضوا فيه لتهنئة الجنرال بالعودة سالما. وعلى أثر الزيارة أخبرنا بالتقارير التي وصلته. وقال بأنه عملا على راحته وللتدليل على الثقة للحكومة الفرنسية، يجب أن نجمع له على الأقل 50 من أبناء الأعيان، يبعثون إلى فرنسا كرهائن، وليتعلموا اللغة، الخ ... أيد شيخ البلدية هذا الطلب واقترح أن يشرع في تنفيذه، وإلا إذا تعذر ذلك، أن تشترط مبالغ مالية بدلا من الأطفال، ثم أضاف السيد كادي دوفو بأن رفض إرسال الأطفال إلى فرنسا سيعتبر خروجا عن طاعة الفرنسيين، والذي لا يريد الامتثال لهذا الإجراء يجب عليه أن يخرج من مدينة الجزائر. ومع ذلك، فإنه لم يجرأ أحد على الخروج من الجزائر، وعلى إرسال أبنائه إلى فرنسا. 1 - لأن الوالي لم يكن موثوقا به. 2 - لأن هذا الطلب جائر، وحتى من كان يرغب في إرسال ولده ليتعلم في فرنسا، فإنه أصبح يرفض الموافقة على هذا الطلب

التعسفي. وعليه، فإن شيئا لم يتم في هذا الميدان، وضاعت القضية في عالم النسيان. كان المجلس البلدي يتكون من سبعة أعضاء كانوا، قبل تعيين السيد كادي في منصب شيخ البلدية، يستطيعون التداول بحرية حول القضايا. غير أن السيد كادي لم يعد يعطي أي اهتمام لآرائهم، وصار، بتصرفاته كأنه يحتقر هذا المجلس. ونتيجة لذلك هاجر اثنان من أعضائه وهما: سيدي مصطفى السائجي ومحمد ولد إبراهيم ريس. نظرا لذلك التغيب شرع في العمل على استبدالهما. وهكذا دعاني، الجنرال تولوزان، لشغل إحدى الوظيفتين. فقبلت لأنه لم يكن بإمكاني أن أرفض. وقبل هذا العرض كنت متهما، نظرا لأنني كنت في خدمة الأتراك، بأنني أرغب في عودتهم، وبأنني لن أرضى بأية وظيفة في ظل الحكومة الفرنسية. ولذلك، وعلى الرغم من أن وقتي يكاد يضيق عن مشاكلي الخاصة، فإنني قبلت منصبا كان الجميع يرفضونه، ومن جهة أخرى، فإننا لم نكن قادرين على التعبير عن آرائنا أثناء اجتماعات المجلس. فالمداولات كانت صامتة وشكلية فقط، وبكلمة، فإن مساهمتنا كانت غير مجدية. كان أحد أعضاء هذا المجلس، وهو المسمى بو ضربة، في نزاع معي. فلم أكن أرغب في لقائه، وكان كل منا يشتكي بصاحبه إلى القائد الأعلى، وقد انتهت هذه القضية بعزل أربعة منا واستبدالهم بآخرين. كان هذا العزل مصدر سعادة لنا وتخلصا من أحد الأعباء التي تثقل كواهلنا ذلك أنه على الرغم من أن السيد شيخ البلدية لم يكن يتبع سوى هواه، فإننا

كنا مسؤولين، تجاه سكان الجزائر، عن أعماله لأننا كنا نوافق عليها كما لو أنها كانت أعمالنا. قبل أن أتخلى عن وظيفتي كان الجنرال كلوزيل قد طلب من البلدية أن تسلمه مسجد العاصمة الكائن بناحية ميناء المسمكة ليحول إلى مسرح، وأكد بأن حكومته أذنت له بأن يقدم مثل هذا الطلب فقلنا له: إننا لا نستتطيع الموافقة على هذا الإجراء، وحتى لو أردنا أن نفعل ذلك، فإننا لا نتتطيع، لأنه ليس من اختصاصنا، واكتفينا، بأن قلنا له: إذا كان المرغوب هو إقامة مسرح، فإنه يمكن استعمال مسكن الداي القديم الذي هو واسع، كما أنه يمكن استعمال الأراضي المحيطة به لبناء مسرح جديد إذا اقتضى الأمر ذلك. وهكذا ظل الطلب غير مجاب ولم يبن المسرح. كان من بين اليهود المقربين إلى الجنرال واحد اسمه ب ... ، وهو رجل لئيم لكنه يجيد التآمر، وتوجد لديه جميع الوسائل الضرورية للتسرب إلى المجتمع يدير المكائد ويقوم بالأعمال الذميمة. وهكذا أرسل حظي هذا الجنرال إلى وهران، في مهمة لدى الباي، يستخرج منه الفوائد ويجعل منه بقرة حلوبا. ومقابل هذه الخدمات وتلك المحاباة أعطي للسيد بـ ... (¬1) وسام جوقة الشرف. وعندما قدم رسل تونس إلى الجزائر قدموا إلى السيد كـ ..... (¬2) هدايا رائعة، أجهل نوعها. كانت مهمة هؤلاء الرسل إمضاء عقد خاص ببيع مقاطعتي قسنطينة ووهران. كانت المفاوضات حول هذا الموضوع قد ابتدئت من طرف السيدين د ...... (¬3) وجـ ...... (¬4) اللذين أرسلهما الجنرال بورمون خاصة لتوزيع ¬

(¬1) و (¬2) و (¬3) و (¬4) نعتقد أن بـ هو بكري وك هو كلوزيل ود دوبيتيوسك صاحب الشرطة، أما جـ .. فلم نتمكن من اكتشافه ولكن يحتمل أن يكون السيد جيراردين.

البيانات التي تدعو الشعب إلى عدم الاعتداء على الجيش. وقد رأيت بنفسي أثاء سفري إلى قسنطينة، تلك البيانات المختلفة التي يكاد يكون معناها واحدا، فهي تدعو العرب والقبائل إلى مصادقة الفرنسيين، وتعدهم وعدا قاطعا بأنه لم يعد يشترط منهم تلك الضرائب التي تعودوا دفعها للأتراك، وبأن جميع أنواع الظلم والإهانات ستتوقف، وبأنهم سيتمتعون بالعدالة والحرية، وتضمن لهم حرية العبادة، الخ ... عندما وصل مبعوثا الفرنسيين السيدان د .... وجـ .... ، إلى تونس، اتصلا بالباي عن طريق قنصل فرنسا. عندها ظهر مشروع بيع المقاطعتين وبمقتضى هذا المشروع تسلم قسنطينة ووهران إلى باي تونس مقابل مورد سنوي قدره مليون من الفرنكات يدفعه لفرنسا عن كل مقاطعة. ويقال إنه كان يتوقع أن ينال المبعوثان الفرنسيان مكافأة هامة، ولكن التغيير المفاجىء في الحكومة الفرنسية، وعزل المارشال بورمون بعد ذلك، منعا من إدخال المعاهدة في حيز التنفيذ. ولما وجد الجنرال كلوزيل مشروع البيع هذا في وثائق سابقة، أمر بإحيائه من جديد وتم التوقيع عليه من الأطراف المعنية. ويقال لنا بهذا الصدد، وإن كنا لا نجزم القول، إنه بالإضافة إلى المليون السنوي تم الاتفاق على أن يعطى مليون آخر لشخصية لا أريد ذكرها هنا، ومائة ألف فرنك لشخصية أخرى لها مرتبة أدنى. ويقال إن هذا المبلغ الأخير قد وقع تحويله وإنه /يوجد عند أحد رجال البنوك بباريس، وإن الصيرفي قد دفع عربونا قدره بضعة آلاف من الفرنكات. وحسب ما أعرفه، فإن الحكومة التركية، لم تكن تستخرج من كل

مقاطعة، في ميدان الضرائب، إلا ثلاثمائة ألف فرنك على أكثر تقدير (¬5). وهكذا، إذن، فإن تلك البيانات التي تؤكد إلغاء الضرائب تتعارض مع معاهدات الجنرال كلوزيل التي تجعل الشاري، باي تونس، مجبرا على أن يستخرج من السكان أكثر من ثلاثة أضعاف الضرائب العادية التي كانت تدفع للأتراك، كل ذلك بقطع النظر عما كان يمكن أن يطلبه ذلك الجنرال من منافع أخرى. وبهذه الكيفية، فإن من كان يدفع عشر فرنكات يصبح مطالبا بأربعين على الأقل. هذا ما أدركه العرب والقبائل أنفسهم. وإن هذه التصرفات، كما نرى لا تحتاج إلى تعليق. كل هذه الظروف قد أبقت العرب والقبائل في حالة عداء دائم ضد الفرنسيين، وساهمت كثيرا في تقريبهم من باي قسنطينة. ومن حقنا أن نصرح هنا بأن فرنسا. عندما أبرمت مثل هذه المعاهدات، قد تصرفت في الإيالة بكيفية لا يمكن أن تضاهيها كيفية من حيث الجور والتعسف (¬6)، وما من شك في أن هذه الأعمال كانت ستدان من طرف الدول الأوربية التي تهتم بتحرير الشعوب وعتق الرقيق (¬7). بمثل هذه (النوايا الحسنة) كيف لا تريدون أن يرغب العرب والقبائل ¬

(¬5) هذا خطأ لأن الدنوش وحده كان يقدر بحوالي مليونين ونصف من الفرنكات بالنسبة للمقاطعات الثلاث. مع العلم بأن بايلك التيطري هو أفقرها. وبالإضافة إلى الدنوش هناك أنواع مختلفة من الإتاوات والضرائب المفروضة على الواردات والصادرات الخ ... (¬6) من الثابث أنه ثم التوقيع على المعاهدتين الخاصتين ببيع مقطعتي وهران وقسنطينة، ولكنهما ألغيتا من طرف الحكومة الفرنسية. أنظر نسخة من كل منهما في آخر هذا الفصل. (¬7) يظهر أن حمدان كان يؤمن كثيرا بحقوق الإنسان.

في أن يعود إليهم السيد المارشال كلوزيل؟ وما من شك أن سلوكه هذا هو الذي جعل الجرائد تكتب يوميا، بأن هذه الشخصية محل عبادة في إفريقيا. ولقد كنت أود؛ عندما سافرت إلى قسنطينة، لو صاحبني بعض الشهود ليسجلوا (الثناء) الذي كان يوجه لهذا القائد الفرنسي طوال الطريق، من الجزائر إلى قسنطينة. كان المفتي سيدي محمد العنابي رجلا نزيها وناضلا. ذنبه الوحيد أنه كان يكتب دائما إلى الجنرال كلوزيل يلومه على تصرفاته التي كانت تبدو له مخالفة لوثيقة الاستسلام، للقوانين الفرنسية ولحقوق الإنسان. ولكن الوالي كان عنيدا، وعليه قبض رجال الدرك على المفتي وقادوه إلى السجن؛ وتعرضت أسرته لجميع الإهانات بحجة أنها كانت تدبر مؤامرة. يا ترى، ما هي الجناية التي يمكن إسنادها للنساء والأطفال؟ وعندما تقدمت إلى الجنرال كلوزيل أسأله عن سبب هذا الاعتقال أجابني بأنه كان يتفاهم مع القبائل لإثارتهم ضد الفرنسيين. ثم توجهت إلى المفتي فحدثته عن هذا الاتهام وسألته عن الأسباب التي يمكن أن تكون في أصل تلك الادعاءات، فاحتج أشد الاحتجاج ضد هذه التهم، وقال إنها كاذبة، وما عليهم إلا أن يأتوا بالبراهين. وبعد التمحيص فيما يمكن أن يكون السبب أو الأصل في الاتهام، وجدت أنهم إنما استعملوا تلك الحجة لإبعاد المفتي عن الجزائر حتى لا يقال أنهم نقضوا المعاهدة فجأة. وبعد ذلك علمت من المفتي نفسه كيف وقع اعتقاله، وأرى من

الواجب علي، لفائدته، أن أقدم لقرائي تفاصيل الحادث (¬8). لقد جاءه ترجمان الجيش وأخبره بأن الجنرال ينوي إخلاء مدينة الجزائر، قال له: (إنه يريد أن يسلمك الحكم، هل في استطاعتك أن تنظم جيشا وقوة كافية، لتهدئة البلاد وللدفاع عن نفسك؟). أجاب المفتي بأنه (عندما يحين الأوان، سأبذل كل ما في وسعي للقيام بإعادة التنظيم). - هل ستحصلون على الجنود من الداخل، أم هل لكم الكفاية في مدينة الجزائر؟ - في المدن وفي كامل أنحاء الإيالة؛ وعندما يقتضي الأمر، فإنني أستطيع الحصول على ثلاثين ألف جندي يكونون تحت تصرفي. ويقال إن الترجمان كان قد أخفى شخصين ليكونا شاهدين على هذه المحادثة، ولاستعمالهما، عند الحاجة، ضد المفتي. هذه على ما يبدو هي الوسائل التي استعملت للتخلص من المفتي. وتلك هي المبادىء التي كان يطبقها السيد الوالي! فعندما يريد هذا المسؤول أن يقوم بعمل نعسفي أو أن ينفي هذا، ويبتز أملاك ذاك، فإن جميع الوسائل (تبدو له صالحة). والذي ينفي أو يفقد أملاكه يجب أن يعتبر نفسه سعيدا لأن هناك من يقدم للمحكمة العسكرية. وعلى هذا الأساس، فإذا أراد الوالي أن يتبرأ من نفي هذا المفتي، فما عليه إلا أن يدلنا على القانون الذي خول له القيام بإجراءات ضده! ¬

(¬8) قال: لفائدته، لأنه، كان قد وعد بأنه لن يفشي السر لأحد.

عندما أخبر المفتي بالنفي توجهت من جديد للقائد الأعلى، أتوسل إليه أن يسمح له، على الأقل، بتسوية شؤونه وبيع أملاكه وأثاثه وعقاراته. وبعد كثير من الصعوبات حصلت له، تحت كفالتي، على أجل مهلته عشرون يوما سوى خلالها حساباته, وعند انتهاء الأجل رحل إلى الاسكندرية. إن هذا العمل الجائر قد جعل الناس كلهم يرتابون، وخاصة السلطة التشريعية والقاضي والمفتي. فلم يعد أي وحاد منهم يجرؤ على الكلام عن وثيقة الاستسلام خشية أن ينال مصير المفتي المذكور. وأمر المكلف بإدارة أملاك مكة والمدينة بأن يدفع إلى صندوق أملاك الدولة كل ما كان يحتفظ به من أموال، وأن يسلم في نفس الوقت جميع الدفاتر. لقد امتثل ذلك المدير إلى تلك التدابير وعلمت أن المبالغ المسلمة كان قدرها 140 ألف فرنك. غير أنه أذن لهذا الشخص أن يواصل اقتضاء مقادير الكراءات حسب العادة، ولكنه تلقى تعليمات جديدة تغير قوانين المؤسستين تغييرا كليا. لقد كان الهدف من هذه القوانين هو مساعدة الطبقة الفقيرة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، وتوزيع جميع الواردات عليها، أما الآن فإنه لم يعد يوزع عليهم أسبوعيا، إلا حوالي 800 فرنك. ما هي الوسائل التي استعملت لجعل الحكومة الفرنسية توافق على هذه التدابير؟ فيا ليتني كنت أستطيع أن أرى مراسلات هذا الوالي إبان حكمه لكي أتعرف على ما الذي أيد آراءه في مثل ذلك التناقض مع نوايا الحكومة الفرنسية، خاصة فيما يتعلق بالطبقة الفقيرة المحتاجة. لقد كان الجنرال بارتوزين، خلال المدة التي حكم فيها الجزائر، ينوي إعادة أملاك مكة والمدينة لأصحابها. وكان للسيد بيشو والدوق دوروفيكو

نفس التفكير، ولكن واحدا من هؤلاء لم يطبق تلك الإجراءات الحسنة. ولأبرهن لقرائي على أنني لست إلا مرددا لآراء مواطني، فإنني أحيلهم على كتاب السيد بشؤون الصفحة 442 للاطلاع على وثيقة كان أحد قادة العرب قد وجهها لذلك الوالي. وبدلا من أن يصلح الأضرار ويعوضنا، فإن السيد جان تي دوبيسي، قد فعل أحسن من ذلك: أنه صرح بأن جميع المساجد والمؤسسات الخيرية والأوقاف ملك للدولة. وهكذا، تم الاستحواذ على جزء كبير من المساجد، اكتري بعضها لتجار حولوها إلى محلات، وخصص بعضها الآخر لإسكان جيوش الحملة (¬9). لقد سبقني سيدي إبراهيم بن مصطفى، الذي غادر باريس منذ مدة وجيزة، إلى تقديم جميع هذه الاعتراضات إلى الحكومة الفرنسية. وأجيب بأن تعليمات ستوجه إلى السيد جانتي دوبيسي لإصلاح الأخطاء ولتكون إدارته مطابقة للعدالة (¬10). غير أن الرسائل التي ترد علينا من الجزائر، تخبرنا بأن نفس النظام ما يزال سائدا، وأن السيد جانتي ما زال يتصرف بنفس العنف إلى درج أنه أجبر عددا من مستأجري بعض العمارات التابعة لأملاك مكة والمدينة على أخلائها قبل انتهاء العقد. ¬

(¬9) لقد وجهت إلى معالي وزير الحرب مذكرة فيها جميع اعتراضات سكان مدينة الجزائر. كما أنني توجهت إلى الملك في نفس هذا الموضوع (انظر آخر هذا الجزء نسخة المطالبات). (¬10) انظر في آخر هذا الجزء تحليل المذكرات والكلمات التي وجهها سيدي إبراهيم بن مصطفى باشا، وجواب الوزير في هذا الموضوع.

وفي رسالة وزير الحربية، بتاريخ 18 جويلت 1833، التي يلاحظ فيها بأنه يجب أن أكون راضيا وردت الفقرة التالة: (لقد أمرت بأن يسمح لكم بتقديم اعتراضاتكم. ولقد استقبلتم من طرف الشخص الذي كلفته بشؤون الجزائر). هذا الشخص هو السيد مارتينو. وها هو ما قاله لي عندما مثلت بين يديه: (فكروا في كل ما تقدمونه للحكومة من كلام، ولا تكونوا متحيزين ولا مبالغين). إنني لا أعرف كيف أفسر مثل هذه الإجابة. إنني أعترف بأنني لست فرنسيا، ولا أعرف جميع دقائق هذه اللغة. وإنني عرضت الوقائع، في مذكرة المطالبات، بكيفية صريحة ولا يعتبريها غموض ; ولكني لا أعتقد، ولا يمكن أن أتصور أن تلك طريقة مباشرة للإجابة. بسم الله الرحمن الرحيم، الحاكم المريد لكل سيء. (إن الموقعين أسفله، بارون فولان، رئيس مقتصدي الجيش الفرنسي في إفريقيا ومقتصد مملكة الجزائر، المفوض من طرف الجنرال كلوزيل القائد الأعلى لجيش افريقيا، وسيدي خير الدين آغا الممثل لجلالة باي تونس، وأحمد باي وهران، المجتمعين للاتفاق على ضبط الشروط التي يتولى بها أحمد باي إدارة بايلك وهران، قد اتفقوا على ما يلي: المادة الأولى: إن أحمد باي، أمير البيت المالك في تونس، الذي عين بايا بقرار من القائد الأعلى للجيش بتاريخ 4 فيفير الحالي، سيتولى حينا ولاية

البايلك المذكور بجميع ملحقاته ما عدا حصن المرسى الكبير الذي تحتفظ به الحكومة الفرنسية لنفسها. المادة الثانية: سيبقى إزاء الاحتلال الفرنسي، الذي يوجد مقره بالجزائر في نفس وضع التبعية التي كان عليها سابقوه من البايات إزاء إيالة الجزائر. وبديهي أن هذه المادة لا تتعلق إلا بكلمات التي حصلت عليها فرنسا بواسطة الغزو. المادة الثالثة: لا تؤخذ عن البضائع والسلع القادمة من فرنسا إلى موانئ البايلك غير الرسوم التي تفرض على مثيلاتها عندما تدخل ميناء الجزائر. وعليه فإن تعاريف الجمارك المسنونة أو التي ستسن في الجزائر هي التي تطبق دائما. المادة الرابعة:؛ يحظى الفرنسيون والأوروبيون بحماية خاصة في كامل أنحاء البايلك. ومن يأتي منهم لفلاحة الأرض تعفى منتوجاته من جميع الرسوم والضرائب خلال السنتين الأولى والثانية. المادة الخامسة: إن الباي هو الذي يتقاضى جميع موارد البايلك مهما كان نوعها وبدون أي استثناء. ويدفع الباي بدوره إلى حكومة الجزائر، في صيغة إتاوة مبلغا سنويا قدره مليون من الفرنكات، ولا يشترط شيء آخر مهما كان نوعه. المادة السادسة: يدفع هذا المبلغ إلى خزينة الجزائر فصليا بالتساوي، وذلك ابتداء من اليوم الذي يتولى فيه الباي منصبه الجديد. وقد تم الاتفاق على أن تخفض الأتاوة في السنة الأولى إلى ثمانمائة ألف فرنك، وإن أجل الدفعة الأولى يؤخر إلى فاتح سبتمبر القادم.

المادة السابعة: يتعهد الباي بأنه سيستعمل، بعدل واعتدال، السلطة التي سيمارسها على هؤلاء السكان، وبأنه يعمل على حمايتهم من اعتداءات الخارج، وعلى بذل كل ما في وسعه للحفاظ على السلام والهدوء في الداخل. المادة الثامنة: يستطيع جلالة باي تونس، بصفته رئيسا للبيت المالك، بفعل ذلك إلا بعد الحصول على موافقة الحكومة الفرنسية أو القائد الأعلى الذي يمثلها. المادة التاسعة: لا يمكن للحكومة الفرنسية أن تعزل الباي إلا عندما يخل بالالتزامات الواردة في هذه الاتفاقية. المادة العاشرة: في حالة ما إذا تبين من خلال مرور الزمن والتجربة والظروف أنه لابد من تغيير أو تعديل هذه الوثيقة، فإنه لا يمكن أن تتم تلك التغييرات أو التعديلات إلا بموافقة جميع الأطراف المتعاقدة. المادة الحادية عشرة: إن جلالة باي تونس هو الضامن والمسؤول فيما يخص الالتزامات التي يتعهد بها باي وهران في هذه الاتفاقية التي تقدم له للمصادقة عليها. المادة الثانية عشرة: لقد تم التوقيع على هذه الاتفاقية المصوغة باللغتين من طرف المفوضين، كل حسب صفته المذكورة أعلاه، وأرسلت في نسختين أصليتين ليصادق عليهما الطرفان المتعاقدان؛ وسيتم تبادل الوثائق في أقرب وقت ممكن. إمضاء: بارون فولان، في أصلية العقد 5، وختم سيدي خير الدين آغا.

شهد على أنها نسخة طبق الأصل: الجنرال، القائد الأعلى لجيش افريقيا كلوزيل. إن الجنرال، القائد الأعلى للجيش الفرنسي في افريقيا، بمقتضى السلطات التي خولها له ملك الفرنسيين، وبصفته قائدا أعلى، وسيدي مصطفى المفوض المطل لجلالة باي تونس، ولأخيه سيدي مصطفى، والذي ستبقى نسخة من تفويضه ملحقة بأحد هذه الأصول، قد اتفقا على ما يلي: المادة الأولى: بما أن القائد الأعلى قد عين بمقتضى السلطات المذكورة أعلاه بايا على قسنطينة، سيدي مصطفى الذي اختاره جلالة باي تونس، أخوه، وبما أن سيدي مصطفى الباي المعين قد فوض ذلك التفويض المطلق المذكور أعلاه، سيدي مصطفى الوزير وحافظ الأختام على أن يضمن باسم جلالة باي تونس وباسم الباي المعين، تنفيذ الشروط التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين المتعاقدين، فإنه قد تم الاتفاق على صياغة تلك الشروط في هذه الاتفاقية، على أن تكون الكتابة باللغتين، وأن يكون التوقيع على الوثيقة من الطرفين كل حسب صفاته المذكورة في المقدمة. هذه الشروط هي كالآتي: 1 - يضمن جللالة باي تونس، ويتعهد شخصيا بأن يدفع في تونس، كضريبة عن مقاطعة قسنطينة، مبلغا قدره ثمانمائة ألف فرنك بالنسبة لسنة 1831. وتكون الدفعة الأولى، وهي الربع، في خلال شهر جوليت القادم، ثم تأتي الدفعات الأخرى في أوقات لاحقة بحيث تكون الأخير في نهاية ديسمبر 1831، ولتسوية الحساب، فإن سيدي مصطفى حافظ الأختام، وأحد

الأطراف المتعاقدة يقدم، باسم باي تونس ولصالح الخزينة في الجزائر، أربع سندات تقدر الواحدة بمائتي ألف فرنك. 2 - وبالنسبة للسنوات المقبلة، فإن الدفع يكون بالربع أو فصليا. ويرفع المبلغ إلى مليون من الفرنكات يقسم على أربع دفعات. هذا بقطع النظر عن الاتفاقات التي قد تحدث عندما تتم تهدئة مقاطعة قسنطينة. 3 - تسمح الحكومة التونسية بإرساء السفن الفرنسية، مجانا، في جزيرة طيرقة كما تسمح لها بصيد المرجان وغيره. 4 - لا يدفع الفرنسيون في موانىء عنابة وستورة وبجاية وغيرها من مراسي مقاطعة قسنطينة إلا نصف الرسوم التي تفرض على الأمم الأخرى (¬11). 5 - إن الباي هو الذي يتقاضى موارد مقاطعة قسنطينة مهما كان نوعها. 6 - تقدم جميع أنواع الحماية للفرنسيين والأوروبيين الذين يأتون للاستقرار في مقاطعة قسنطينة كتجار أو كفلاحين. 7 - لن تنصب أية حماية فرنسية في موانىء، البايلك أو في مدنه، ما لم يتم إخضاع المقاطعة كلها؛ وعلى أية حال سيقع الاتفاق فيما يخص اتخاذ التدابير الرامية لحفظ الأمن لصالح الطرفين. 8 - وإذا استدعى جلالة باي تونس، باي قسنطينة، أخاه، فإنه سيتم تعيين أمير آخر تتوفر فيه الصفات الضرورية. وبعد موافقة القائد بعهد له بتسيير بايلك قسنطينة. ¬

(¬11) من المعلوم أن تلك الرسوم كانت تقدر بنسبة 5% من الواردات أو الصادرات.

المادة الثانية: لقد وقع على هذا العقد المكتوب باللغتين، القائد الأعلى وسيدي مصطفى، كل حسب صفاته المذكورة أعلاه وكان ذلك في نسختين بقيت إحداهما عند القائد الأعلى والثانية عند سيدي مصطفى. الجزائر، يوم 18 أكتوبر سنة 1830 إمضاء: كومت كلوزيل سيدي مصطفى شهد على أنها نسخة مطابقة للأصل الباقي عند القائد الأعلى أمين عام الحكومة إمضاء: ف. كز.

الفصل الحادي عشر عن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لها تلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونها أثناء ولاية الجنرال كلوزيل

الفصل الحادي عشر عن الأوقاف، والتغييرات التي تعرضت لها تلك المؤسسات والمحاكم التي تنظر في شؤونها أثناء ولاية الجنرال كلوزيل لقد أنشئت، حسب قوانيننا، مؤسسات خيرية وأوقاف تهدف كما ذكرنا إلى تحسين أوضاع الفقراء والتخفيف من مصائبهم. وهناك طرق متعددة للتصرف في هذه الأملاك. فوفقا لمبادىء القضاء المالكي، أن الذي يهب ملكا م يتعهد بأن يسمح للمؤسسات المهدى لها أن تشرع حينا بالتمتع بذلك الملك. وحسب مبادىء القضاء الحنفي، فإن إرادة الواهب تصبح بدورها قانونا. غير أن الذي يوقف أملاكه على فقراء من غير مديتته أو قريته، فإن إرادته لا تنفذ إلا بعد النظر فيما إذا لم يكن فقراء البلدة التي توجد فيها الأملاك أكثر احتياجا من غيرهم. في هاته الحالة يفضل الفقراء الأكثر احتياجا، وكذلك إذا كان الواهب يرغب في أن يعطي حق استثمار أملاكه للفقراء مدة عشر أو خمسة عشر عاما، وبعد انقضاء الفترة المحددة تعاد له أملاكه كاملة، فإن ذلك لن يكون شرعيا، ولا يستطيع الواهب أو ورثته أن يتصرفوا

فيه بعد تلك المدة، ويصبح حق الإنتفاع هبة أبدية. وبمقتضى هذه القوانين المختلفة، أجمع الفقها على أن يطبق المذهب الحنفي على كل الهبات المشروطة، وذلك لرفع الموارد الخاصة بالطبقة المعوزة. وعلى العكس، فلو نطبق مبادئ القضاء المالكي، فإن الأوقاف تقل بكثير عما هي عليه. وإذا كنت قد دخلت في هذه التفاصيل الخاصة بالوقف، فلأنني متأكد من أن الأوروبيين سيقرأون هذه التفسيرات بكل اهتمام حتى يتحققوا من أن شريعتنا تعتمد أساسا على مبادئ حضارية وأخلاقية. وحسب هذه المبادئ نفسها، فإن جميع الممتلكات في الأرض لله، ولسنا في هذه الدنيا إلا عابري سبيل، وما تمتعنا فيها إلا وقتي. هكذا تأسست قوانيننا، وهكذا أصبحت تلك الأعمال مفيدة للسكان المعوزين، ووافق عليها أهل العصر. إن كل من يهب ملكية ما إلى مؤسسة من هذا النوع، لا يستطيع، أن يرجع في هبته أو أن يتراجع في أعماله، ويعتبر عقد الهبة أحسن وثيقة، ولا يختلف عن أي نوع من أنواع عقود البيع بشرط أن تتم الهبة لصالح مؤسسة تتوافر فيها حميع الصفات المطلوبة لهذا الغرض. وهكذا، فإنه يحق لجميع الفقراء أن يطالبوا بالإجراءات التي تقع لصالحهم، أي الإعانات، ولكنه لا يسمح بأن يتصرفوا في ملكية معينة. وحسب القضاء المالكي، فإن الهبة لا تقبل إلا إذا كانت في حينها وبدون أي تقييد. فالذي لا يريد أن يهب ملكه لمسجد ما أو لمؤسسة أخرى إلا بعد وفاته، فإن هبته لا تقبل إلا بالنسبة للقضاء الحنفي، ووفقا لقول نبينا: نوايا المرء الحسنة أبلغ من أفعاله - العوائد المتداولة تتحول إلى قانون - لا تحابوا واحد على الآخر، بل يجب أن تكون المنافع مشتركة - حاولوا أن

تقطعوا جذور الشر قبل البحث عن الخير.- (أو كما قال) مثلا: هناك رجل يملك دارا يسكنها ثم يريد أن يقوم بعمل خيري. حسب المذهب الحنفي فإنه يواصل التمتع بمسكنه طيلة حياته وبعد ذلك تنتقل الدار إلى إحدى المؤسسات الخيرية. وأما المذهب المالكي، فإنه يعتبر العمل باطلا. وبالإضافة إلى ذلك، تقر قوانيننا شروطا وشكليات ضرورية. فالمدير أو الوكيل على المؤسسات الخيرية يجب أن يكون مسلما، يقوم بتعيينه الحاكم الذي هو أيضا من المسلمين. وتساعد هذا الوكيل جماعة من الجباة والموثقين لجمع حقوق الإنتفاع وتوزيعها وفقا للتراتيب القانونية. ويتقاضى هؤلاء العمال أجورا عن متاعبهم وأشغالهم. وعلى الرغم من أن القوانين لا تنص على هذه الخاصيات، فإن العمل قد جرى بها وفقا للمبادىء المشروحة أعلاه والقائلة: إن العوائد المتداولة تتحول إلى قانون. يجب أن تتوفر في وكيل أملاك مكة والمدينة نفس الخصال التي تشترط في من يوكل على أملاك المؤسسات الخيرية الأخرى، ويتحتم عليه أن يعمل حسب العرف والعادات الجاري بها العمل منذ تكوين تلك المؤسسات. مثلا، فإن مساكن هذه المؤسسات كانت تكترى بأجور معتدلة على شرط أن يقوم المستأجرون بالإصلاحات الضرورية، ولكن هذه التأجيرات لم يكن يسمح بها إلا لبعض الأشخاص الذين كانوا يحصلون على الإمتياز نتيجة أوضاعهم الإجتماعية، ويعتبرون تلك المساكن كأملاك لهم. وحسب الإجراءات الجديدة التي سنتها السلطات الفرنسية، فإن الفقراء لا يحصلون إلا على جزء من موارد هذه المؤسسات، أما الباقي فيدفع إلى صندوق أملاك الدولة. وتلك لم تكن هي نية المؤسسين. وبمثل ذلك الإجراء

وقع تغيير وجهة تلك الأوقاف، وحصل انتهاك حقوق الإنسان. إن هذه الإجراءات لظالمة، ولا أخلاقية. إنها تدخل اليأس على سكان الإيالة، وتجعلهم يكرهون سائر الأوروبيين بوجه عام، ويعتبرون كل من يحمل قبعة مسيحيا. وبالتالي عدوا لشعوب أفريقيا. أعود إلى ملاحظاتي عن المؤسسات الخيرية فأقول: أن من كان يريد أن يهب شيئا بعد وفاته، يتوجه إلى ما يسمى بالمحكمة الحنفية، غير أن هذه المحكمة قد ألغيت من طرف الجنرال ملوزيل، والمالكيون أنفسهم، فإنهم كانوا يحيلون عقودهم على تلك المحكمة لتشجيع الواهبين ومساعدتهم، ولمضاعفة موارد الطبقة المعوزة. هذه هي الأسباب التي أدت إلى ضرورة إبقاء محكمتين وقاضيين، وكل محكمة لا تقرر إلا بعد أن يبحث الفقهاء شروط العقد. ويكون هؤلاء الفقهاء من المدرسة التي ينتمي إليها القاضي، وذلك لكي لا يقع غموض عند الناس. غير أن هناك حالات يتحتم فيها على المحكمتين، المالكية والحنفية، أن تتفقا وتقررا في أتجاه المبدأ الأساسي. وإذا كان رب أسرة قد قدم هبة، تنتقل، بعد وفاته، حسب المذهب الحنفي، إلى إحدى المؤسسات الخيرية، وكانت أسرته نفسها معوزة، فإن الهبة تلغى وينظر اليها بحسب المبادىء المشروحة أعلاه والتي تقول: (حاولوا أن تقطعوا جذور الشر قبل البحث عن الخير). وليس من العدل في شيء أن نساعد الأجانب على حساب أفراد الأسرة المحتاجة. وإذا كان الواهب غنيا، ثم هلك ولم يترك وارثا، فإن تركته تعود

إلى بيت المال. وإذا كان قد أوصى بشيء لبعضهم، فإنهم ينظرون أولاء، إلى الوضع الذي يكون عليه صندوق بيت المال، وتلغى وصية الواهب إذا كان ذلك الصندوق فارغا. وإذا أراد أحد المسيحيين أن يهب أملاكه لكنيسة أو لفقراء من المسيحيين؛ فإن القاضي يثبت العقد الذي يعتبر شرعيا، ويكون للهبة نفس مفعول هباتنا نحن. وعلى العكس، فإذا أوصى ذلك المسيحي بنفس الهبة لمساجدنا أو لفقراء من المسلمين، فإن القاضي لا يستطيع أن يثبت بنفسه ذلك العقد الذي يعتبر غير شرعي والذي لا يعترف القانون بصحته مهما كانت الصفة التي يقدم بها. ويظل المالك حائزا على أملاكه يتصرف فيها كيفما شاء. والسبب في ذلك هو أن ذلك المسيحي لم يقدم ذلك العمل الخيري إلا مجاملة أو بدوافع لها ارتباطات بالسياسة. وهكذا، إذن، فإن الهبة تكون صحيحة ما دامت نيته لم تتغير، وإذا أراد إلغاءها بسبب من الأسباب، فإنه يترك وشأنه دون تجديد العقد أو إعادة غيره. تكون الهبة بتصريح أمام شهود أو بتخصيص الغاية للأشياء. مثلا: يقيم رجل بناية لا يمكن بطبيعتها، أن تعود عليه بأية فائدة، كمسجد يشيده في أرضه ويسمح فيه للعموم بأن يجتمعوا لأداء الصلوات. فبدون أن يقال بأن تلك البناية مخصصة لكذا أو كذا، وبدون أن تفصل عن الملكية الأساسية، فإن المالك يكون قد قدم هبة صحيحة تتوفر فيها جميع الشروط حسب المبدأ القائل: (إن العمل صريح كالقول، والعرف هو أحسن القضاة) إن شكل هذه البناية نفسه يدل في العادة، على أنه لا يكترى. وإذا وقع، بدلا من ذلك، بناء قاعة كبيرة في دار المالك للإجتماع فيها وللقيام بالشعائر

الدينية، مرة أو عدة مرات، فإن المكان لن يصبح هبة: أولا إنه لن يعتبر كمسجد لأن شكله يختلف عن شكل المسجد، وثانيا لأنه لن يكون مفصولا من الملكية. إن التفاصيل الخاصة بشكل وطريقة تسيير تلك المؤسسات الخيرية كثيرة جدا، تؤلف وحدها كتابا كاملا، ومن الصعب جدا أن نتمكن، في لمحة، من تحديدها كما ينبغي، وإشباع فضول قرائنا، ومع ذلك، فإنني سأذكر المبادىء الأولية في الجزء الخاص بالتشريع. إن مثل هذه المؤسسات لا يمكن إلا أن تحظى بتأييد الرجال الطيبين والمشرعين في جميع البلدان وسائر الأزمان، لأن هدفها الإنساني لا يرمي إلا للتخفيف من آلام أمثالنا، وللمساهمة في إسعاد ذلك المجتمع الكبير الذي تربطنا به روابط لا تفصم. وهناك سبب آخر سياسي وهو العمل على تخفيض أسباب الجنوح، لأن البؤس كثيرا ما يؤدي إلى القيام بأعمال شريرة ويدفع إليها ذلك الذي، لولا الضيق والحاجة، لما جنح وارتكب، جريمة يبدو أن وضع أسرته البائس قد جعلها شرعية في نظره. ومن ثمة فكيف أقدم الجنرال كلوزيل على تهديم قواعد تلك المؤسسات واستمع إلى نصائح السيدين فوجرو وفولان فاستولى، باسم الحكومة الفرنسية، على ذلك الصندوق المتواضع وصده عن الهدف الذي أنشىء من أجله، وهو هدف، يبدو لي، شريف وجدير بالمدح؟. وعندما نقارن ثروة فرنسا بثروة هذا الجزء من إفريقيا، ومواردها المتعددة وتأثيرها وعظمتها بموارد وتأثير وعظمة إيالة الجزائر، فإن المقارنة

تحط من قيمة تلك الأمة في نظر الإفريقيين، وفي أذهان أصدقاء الإنسانية والحضارة الذين يعملون على التوفيق بين الشعوب وتوحيدها، وعلى تدعيم علاقاتها الإجتماعية والتجارية والسياسية. في عهد ولاية السيد بورمون، كان السيد دوبينيوز هو الرئيس المكلف بقسم الشرطة وكان يدرك مصالح البلاد إدراكا تاما، يضاهي إدراكه لمصالح فرنسا. وأثناء إقامته القصيرة في مدينة الجزائر، جاءني ذات ليلة يريد الإجتماع بي لنبحث عما يمكن استعماله من وسائل للإعانة الطبقة المحتاجة. كان أثرياء المدينة يهاجرون منها، وكانت الصناعة قد أصبحت أثرا بعد عين، وكان البؤس قد انتشر، وأذكر أنني أثناء حديثنا حول هذا الموضوع ; قد قلت له: بما أن المؤسسات الخيرية، المخصصة أساسا لمساعدة هذه الطبقة توجد تحت تصرف السلطة الفرسية، فإنه يجب أن يكون كل حق الانتفاع، الناتج عن تلك المؤسسات، لفائدة أولئك المحرومين. عندما طلب مني السيد دوبينيوز أن أقدم له قائمة بأسماء أهم الأعيان لتكوين لجنة تشرف على الأوقاف. فقدمت له القائمة، ولكن الأمر بقي عند ذلك الحد، إذ لم يعمل بالآراء التي أبديتها، واحتفظت السلطة بتلك المؤسسات الخيرية. ومن سوء حظ سكان مدينة الجزائر أن السيد دوبينيوز استبدل في مهامه، لأن ذلك الرجل الموقر كان يفهم الأوضاع ويعمل، بقدر الإمكان، على إصلاح مفاسدها. أعتقد أنني عثرت على السبب الذي جعل الموظفين الفرنسيين يشيرون على الحكومة الفرنسية بالاستيلاء على تلك المؤسسات: إنهم فعلوا ذلك، أولا للحصول على وسيلة يكسبون بها ثروة طائلة، في أسرع وقت ممكن، ولو على حساب

الإنسانية وشرف الأمة. وثانيا، لافتتان الأنفس، وترغيب فرنسا في الاحتفاظ بالايالة لنفسها عندما يظهرون لها أن المدخول معتب، غير مبالين بشرعية أو عدم شرعية تلك الحقوق. إنكم تعطون الملايين لليونانيين وللبولونيين:!! .. وتنجدون تلك الشعوب بأموال الجزائريين!! إنكم تستغلون هذا البلد المسكين، ومع ذلك، فإن الجزائريين، أيضا، أناس!! ... ما هي الذنوب التي اقترفوها لتسلط عليهم مثل هذه العقوبات؟؟ .. وبالتالي، ماهو في هذه الظروف، موقف الحكومة الفرنسية؟. لقد كان من الأفضل أن تحجم الحكومة عن تقديم تلك المساعدات ما دامت تتسبب في شقاء مواطنيها. وكيف يمكن أن نفترض بأنه لم يتفطن أحد لهذه الوقائع؟ لا بكل تأكيد، وأن التاريخ سيسجل كل هذه الأعمال الشريرة!! أيحق أن نعتقد بأن الناس لا يصلحون؟، إن أخطاء القرن السادس عشر، وزلات المستبدين تتكرر في أيامنا هذ, لماذا؟. لأن الناس احتفظوا بأهوائهم الذميمة التي ورثوها عن آبائهم، وعلى الرغم من أن الإمبراطوريات أصبحت تحكم بكيفيات مختلفة، فان النتائج ما تزال واحدة .. فالجريمة المسموح بها تبقى جريمة، وعند الملوك حل الضعف محل الطغيان. وهكذا، إذن، إذا كان وكيل الأمة يقوم بأعمال تثير الظنون، وإذا كان سلوكه مشبوه ومطبوع بضعف مخز، فما هي الطريقة التي تقدمه بها ليتمكن المعاصرون من تقييمه؟. إن المجتمع، في بداية الأمر، قد سن القوانين لتيسيره. ثم تزايدت الحاجات على التوالي، فنشأت تللك الأوضاع والمهن الختلفة، وبدت

ضرورة تكوين حكومة وتعين رئيس يقودها، من هنا يبدأ كل شيء. وسواء أكان الرئيس سلطانا، ملكا أو واليا، أو غير ذلك، فإنه يقود ويعطي المثال. وأن أعماله الجائرة توهن عزيمة شعب بأكمله. لقد أمر السيد الجنرال كلوزيل بتهديم محلات تدعى القيصرية كانت تبيع الكتب التي هي أدوات الحضارة، والتي تنير طريق الإنسان المثقف. وفيها كان يوجد الناسخون، لأن المطابع معدومة في أفريقيا. وبما أن الفرنسيين كانوا ينوون إدخال الحضارة إلى إفريقيا، فلماذا وقع تهديم هذا المصدر الذي كان يعطي العلم والمعرفة في جميع الميادين؟، إن هذا السلوك يدل على أن هذا الجنرال، بدلا من أن يعمل على تزويدنا بنور العلم والحضارة، كان ينوي إغراقنا في الظلمات والجهل. وهدم الجنرال كلوزيل، كذلك، محلات كانت تدعى سوق المقايس، تصنع فيها الأساور من قرون الجواميس وهي أساور جرت العادة أن تزين بها نساء العرب والقبائل أذرعتهن. وكانت تشكل فرعا رئيسيا من فروع الصناعة في مدينة الجزائر، وتصدر إلى تونس وطرابلس وحتى إلى مصر. وكانت المادة الأولية، التي هي قرون الجواميس تشترى حمولات بأكملها وكان لأصحاب المصانع مندوبون مكلفون بشراء تلك المادة الأولية وتوزيعها على كل مصنعي حسب أهمية المؤسسة وبرؤوس أموال قليلة، كانوا يقومون بتجارة واسعة، وكان هذا الفرع من الصناعة يشغل عددا كبيرا من السواعد. وبعد تهديم هذه المحلات أصبح كل هؤلاء العمال بدون مورد واضطروا إلى التسول. وهدم نفس الجنرال محلات ثالثة تدعى سوق الصباغين، كان العرب والبدو يتعمدون المجىء إلى مدينة الجزائر ليصبغوا فيها كل ما لديهم من

قماش. وكانت هذه الصناعة هامة؛ تستهلك كمية كبيرة من القرمز والنيلة والقوة وغيرها من التوابل الصالحة للتلوين. عندما تهدمت هذه المحلات الثلاث، قضي على جزء كبير من الصناعة. ووقع تهديم محلات أخرى تسمى القرارية، وهي خاصة بجميع أنواع الأدوات الحديدية المصقولة مثل الأقفال وصفائحها وأنابيب البنادق الخ ... الخ ... ولم يترك إلا حوالي ثمانية حوانيت معزولة. ووقع كذلك تهديم ثلاثة مساجد كانت خاصة بسكان تلك المحلات الثلاث. وهدمت أيضا، مصانع الحرير. وكانت صناعة الحرير من أهم الصناعات في مدينة الجزائر. لقد كانت حمولات المراكب من الحرير تأتي من بيروت أو إزمير فتصنع منها الأقمشة وغيرها من الموارد الأخرى، ثم تصدر إلى مملكة المغرب وتونس وطرابلس وتركيا ومصر، وحتى إلى سوريا. وهناك محلات أخرى تسمى السوق الكبير كان يباع فيها الكتان، والملابس المنسوجة وتصنع فيها الحبالة الحريرية والفتائل والأزرار. لقد قام الجنرال كلوزيل بتهديم جزء من هذه المحلات، وما تبقى أكمله الدوق دوروفيكو. ولم تنج المراحيض الضرورية لسلامة المدينة وراحة السكان، ووقع تهديم المحلات المخصصة لصائدي الأسماك. إن الأماكن التي خصصت لبناء ساحة الجزائر، لا تتناسب مع مساحة

المدينة ولا تتلائم مع هندستها المعمارية، وذلك أن ساحة الجزائر لا تقل سعة عن ساحة الفاندوم في باريس ودائرة المدينة لا تزيد عن دائرة حديقة التويلري؛ وعليه فإن هذه المساحة بالنسبة للمدينة كقلنسوة الجندي بالنسبة لرأس طفل يتراوح عمره ما بين 5 و6 سنوات. كان يحيط بالجنرال كلوزيل عدد كاف من اليهود الذين كانوا يوحون إليه بأخلاقهم الخاصة، تلك الأخلاق التي وصفها كما ينبغي فاتل وكروتيوس. ويقول تاسيت في حديثه عنهم: إن اليهود، بسبب تعصبهم، يحملون حقدا شديدا للأمم الأخرى. وكان المرؤوسون، كذلك محاطون بأناس من نفس الجنس يسيرونهم حسب أهوائهم. وعندما أطلع هؤلاء اليهود على نقطة الضعف عند الجنرال، أي على طمعه في الثروة، جعلوه يلعب أكبر دور مثير للسخرية، فأوهموه بأن المسجد المسمى: جامع السيدة، يحتوي على كنوز الداي. ولذلك صار هذا الجنرال يزور في خشوع، ذلك المكان التعبدي ويقصده مرارا، (للصلاة فيه وللدعاء)، ثم قرر (بكل عفة) أنه يستولي عليه وعلى الزرابي والثريات والمشاعل وعلى منبر رخامي كان هناك. وهكذا أمر الجنرال كلوزيل بغلق أبواب المسجد، وأدخل إليه، ليلا جماعة من العمال للبحث عن الكنز المزعوم. وظل الأمر كذلك إلى أن استنفذت جميع وسائل البحث وضاع كل أمل. ولتغطية هذه الفضيحة شرع حينا في تهديم ذلك المسجد الذي كان يشمل على أعمدة من الرخام النادر وعلى أبواب ضخمة قيل إنها بيعت فكيف يمكن بيع أشياء هي من ملك المسلمين وحدهم؟

ومن هم الذين اشتروا؟ يقال إن تلك الأشياء نقلت إلى تولوز (¬1) وقد كانت حيطان ذلك المسجد مغطاة بمربعات الخزف الصيني التي استوردت من اسبانيا. وكانت في المسجد أيضا عارضات كبرى من خشب الكرسنة النادر الذي يستورد من فاس بإذن، لأن امبراطور المغرب لا يوافق على تصديرها إلا بصعوبة، وقبل الإنتهاء من تهديم هذا المسجد الذي لم يحصل إلا للبحث عن الكنز الموهوم وقع الإستيلاء على جميع الأشياء المذكورة أعلاه، وأهملت عملية مواصلة الهدم، واعتقد أن مصاريف ذلك الهدم لا تتجاوز مبلغ 10،000 فرنك. إن نفس الجنرال كلوزيل الذي يزعم أن الأفريقيين يرغبون بشدة في عودته؛ قد أوجب على المفتي أن يسلمه المساجد الواقعة أمام الأبواب التي يدخل منها البدو المتزمتون الذين يمولون مدينة الجزائر. لقد طلب هذه المساجد ليجعل منها مستشفيات لجيوشه، وتعهد للمفتي أنه لن يستعملها أكثر من شهرين واضطر المفتي إلى تنفيذ ذلك الأمر السامي. وهناك أفعال أخرى كثيرة أستطيع أن أقول بأنها منافية لتقاليدنا، وهي التي تنفر السكان من السلطة. هذه هي الأسباب التي جعلت الجزائر غير قابلة للاستعمار، , وبإمكاننا القول بأن السيد كلوزيل هو الذي كان أصلا في وجودها. وعندما كنت عضوا في مجلس البلدية، في عهد بورمون، طلب منا شيخ البلدية أن نسمح له بتحويل عدد من المساجد إلى مستشفيات للجيش، ذلك الذي قال عنه بأنه لا يملك مسكنا يأوي إليه في الشتاء، فأجبناه بأن تلك الأماكن ¬

(¬1) مدينة كبيرة في الجنوب الغربي من فرنسا.

معدة لأمور لا نستطيع تغييرها وعليه لن نوافق لمحض إرادتنا، ولكنه إذا أراد استعمال القوة للاستيلاء عليها فإننا نكون عاجزين عن منعه. وبعد قليل من المحادثات، رفضت ملاحظاتنا ووقع الاستيلاء،، ظلما على المساجد. إن الحكومة الفرنسية باستعمالها العنف، تنفر السكان وتثيرهم ضدها كما أنها تتصرف ضد المعاهدات والالتزامات التي كانت قد وقعت عليها. وحسب شريعتنا، فإن المساجد ملك للجميع وهي مخصصة، فقط لعبادات المسلمين. والقاضي نفسه لا يستطيع تغيير هذه الوجهة، والمسجد مكان مقدس لا يحق انتهاكه بالنسبة لجميع المسلمين، سواء منهم سكان فارس والمغرب أو الصين. وبما أن وثيقة الإستسلام تعترف باحترام المساجد وتتعهد بضمان ذلك (¬2)، فإن سكان مدينة الجزائر لن يتوقفوا عن الإحتجاج ضد هذه الانتهاكات. وبقطع النظر عن هذه الملاحات، فإن السيد جانتي دوبيسي قد صرح أمام الملأ بأن كل المساجد والمؤسسات الخيرية تابعة لأملاك الدولة، والإدارة العامة هي التي تتصرف فيها وتستغلها كيفما شاءت تكتريها كمحلات أو تستعملها لأشياء أخرى. والذي يدهشنا في هذا الموضوع هو إذن رئيس الوزراء لأننا نفهم من ¬

(¬2) جاء في المادة الخامسة من وثيقة الاستسلام: أن الدين المحمدي سيبقى معمولا به كما كان سابقا. إنه سيبقى على ما هو عليه. إن حرية أهل البلاد، مهما كانت طبقتهم ستبقى محترمة، وأن دين هذا الشعب وممتلكاته وتجارته وصناعته بالإضافة إلى نسائه ستبقى محترمة.

خلال ملاحظات السيد بيشون، بهذا الصدد، في تاريح 11 ماي 1832، أنه أعطى أوامر فيما يخص ذلك. وفيما يلي فقرة السيد بيشون: (لقد درست قضية المحلات التابعة للدين الإسلامي، وإنني، منذ أن وصلت وأحطت علما بوجود لجنة تدعى (لجنة المحلات العسكرية) لم أسمع إلا صيحات متوالية فيما يخص المساجد وضرورة استزادة خمسة أو ستة منها بالإضافة إلى الستة أو السبعة التي توجد في حوزتنا. إن بعض الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم كمبيدين للديانة الإسلامية وللسكان الذين يتدينون بها، لا يهمهم أن يعرفوا إذا كان ذلك يتفق مع وجهة نظر الحكومة ونواياها أم لا. إن هؤلاء الأشخاص كانوا يتقدمون إلي بنوع من الابتهاج والسخرية ليشكروني على عدم تمكني من إنقاذهم. كل هذه الوقاحات لم تؤثر في. ومن حسن الحظ أن هناك من يقدر أعمالي غير هؤلاء الجهلة المجانين. ومن ثمة، فإنني انتظرت إلى أن جاءتني أشغال اللجنة. إنكم تدركون جيدا. سيدي الرئيس بأنه لا يمكن أن أتردد لحظة واحدة للمساهة في أخذ جميع المساجد لو كنا في حاجة إليها، ذلك لأن سلامة الجيش هي الهدف الأسمى بالنسبة لي. ولكن القضية قضية ذوق وهوى بالنسبة للأشخاص الذين ذكرتهم. فالمسألة إذن ليست مسألة حاجة وضرورة الخ ... عندما نرى مثل هذه الأعمال، يمكن لنا أن نتوقع الكثير من نوعها. وهكذا فمن الممكن أن يكون مشروع تمسيح الجزائر قد وجد في أذهان ولاتنا كما أشار إلى ذلك (البريد الفرنسي الصادر بتاريخ 20 جوان سنة 1833، مستعملا العبارات التالية: إن الذي لن يفاجأ به الجمهور هو أن رئيس مجلس الوزراء الحقيقي منذ ثورة جوليت وإلى عهد قريب جدا كان قد كتب إلى المقصتد

المدني في الجزائر يوصيه بتمسيح الإيالة. وسكوت الجرائد الوزارية عن هذا الموضوع لا يدل أبدا على أن في الأمر خيرا. وعلى الرغم من أنني لا أعتقد أن من الضروري تمسيح افريقيا لإدخال الحضارة والحرية إليها، وبما أننا لا نعرف نية السادة الوزراء الرسمية فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن هذا المشروع يبدو لنا صعب التنفيذ. وأكرر أن العدد الكبير من البناءات التي هدمت في مدينة الجزائر يستوجب مبالغ هامة للتعويض إذا لم تكن الوعود؛ في هذه المرة أيضا، حبرا على ورق. ومع ذلك فإننا علمنا أن عددا كبيرا من تلك التهديمات لم يقيد. ولكي يكون هناك تعويض من الضروري أن يقع قبل الهدم، تقييد كل ما يمكن أن يكون محل مطالبة. إن كل ما يمكن تصوره من الشرور ممكن في عهد الظلم والطغيان. وبمجرد الاتفاق على مبدأ التعويض أنشئت لجنة مكونة من موثقين عموميين لدى المحكمة، ومن سيدي محمد بن إبراهيم ريس، وسيدي الحاج العربي ابن الرايس وكلاهما من أعضاء المجلس البلدي، ومني أنا حمدان. ووقع الاتفاق على أن تقيم الأملاك حسب أجور الكراء أي 5 % بالنسبة للمساكن و2،5 % بالنسبة للمحلات والحوانيت. وهكذا فإن الدار التي تكترى بألف فرنك تقدر قيمتها بعشرين ألف. والمحل التجاري الذي يكترى بمائة فرنك تقدر قيمته بأربعة آلاف. تلك هي على الأقل الطريقة التي اتبعها لتحديد قيم المباني المهدمة. وقد حددت الأجور حسب ما كانت عليه في العهد التركي، لا وقفا لما أصبحت عليه منذ احتلال الجيش الفرنسي. وفي هذا الصدد نشر الجنرال كلوزيل قرارا، أنقل، بكل أمانة، نصه فيما يلي:

(إن الجنرال، القائد الأعلى، بعد الإطلاع على تقرير مقتصد مملكة الجزائر، والاستماع إلى اللجنة المكلفة بمصلحة الطرقات، يقرر ما يلي: المادة الأولى: إن سكان مدينة الجزائر الذين شملت مساكنهم وحوانيتهم ومحلاتهم التجارية، أو ستشملها، في المستقبل، تلك التهديمات التي أمر بها لفائدة المصلحة العامة، وتوسيع الطرقات وتجميل المدينة وصيانتها، إن هؤلاء السكان سيعوضون على أساس أجور الديار والحوانيت والمحلات التجارية التي تهدم أو التي تصبح غير قابلة للاستعمال. المادة الثانية: إن العمارات التي دخلت في أملاك الدولة هي التي ستخصص لتلك التعويضات وذلك بمجرد أن يبين الإحصاء الجاري ما هي البنايات التي يمكن للحكومة الفرنسية أن تتصرف فيها. المادة الثالثة: إن اللجنة التي سبق أن أنشئت، ستواصل تسجيل الاعتراضات لينظر فيها عندما يحين الأوان. المادة الرابعة: إن مقتصد مملكة الجزائر، مكلف بتنفيذ هذا القرار. في مقر القيادة بالجزائر، يوم 29 أكتوبر 1830. إمضاء: كومت كلوزيل عن نسخة ثانية من الأصل، أمين عام الحكومة. إمضاء: ف. دوكاز.

غير أن هناك فارقا بسيطا بين النص الفرنسي والنص العربي (لأن هذا البيان نشر باللغتين).ولا نستطيع أن نفسر كيف وقع ذلك: أبحيلة من المترجم أم عن عجز. مثلا، ففي النص العربي، المادة الأولى، بدلا من أن يقال: سيعوضون على أساس أجور الديار الخ ... جاء ما يلي: سيتقاضى المالكون حوالي قيمة كراء الديار أو غيرها، ويعطى لمن حرموا من التمتع بأملاكهم الخ ... وعلى الرغم من أننا استطعنا أن نقرأ ونفهم بأن التعويض سيكون كراء دائما -حسب الوثيقة العربية، وإن كان المعتبر كنص شرعي هو ذلك الذي كتب بالفرنسية وأمضاه الجنرال باسم الحكومة الفرنسية- فإن الحكومة الفرنسية أصبحت، بمقتضى هذا القرار مسؤولة أمام الجزائريين عن قيمة أجور ممتلكاتهم المهدمة لا تنفعها في ذلك حجة. وإذا أرادت أن تتهرب من تلك المسؤولية فإنها ستتهم، عن جدارة؛ بسوء النية. وبمقتضى هذا البيان، حضر جميع المالكين الذين كانوا موجودين في مدينة الجزائر وجاؤوا معهم بالعقود. وقدمت قائمة القيم المثبتة إلى القاضي باللغة العربية، وقدمت نسخة عنها بالفرنسية إلى شيخ البلدية. وعندما تقدم بعض السكان إلى مدير أملاك الدولة للمطالبة بالأجور حسب ما فهم من النص العربي، أمرهم بأن يذهبوا إلى القاضي المالكي لكي يثبت صحة تلك العقود. وللقيام بذلك، أخذ القاضي المذكور خمسة فرنكات عن كل شهادة، وبعد ذلك فإن بعض الأشخاص فقط قد حصلوا، ولكن بشق الأنفس على قيمة ستة أشهر من الكراء من صندوق أملاك الدولة وأجل الآخرون

إلى وقت لاحق، غير أنهم اليوم قد يئسوا بعد مطالبات كثيرة قدموها بدون جدوى. لقد دامت عملية التهديم طوال المدة التي تولى فيها الجنرال كلوزيل على الجزائر ويقال، بهذه المناسبة، إن أعوان الوالي قد ارتكبوا مخالفات كثيرة، لأنهم كانوا يبقون على كثير من الديار مقابل تعويض، حتى ولو كان الأمر قد صدر بتهديمها. وهناك أشخاص آخرون من المشتغلين في الهندسة العسكرية، قد دفعتهم خيانتهم إلى أن يكتروا لحسابهم بأثمان بخسة وان تشتروا مقابل ريع دائم. ومن ثمة، فإن عمليات التهديم كانت هامة، ولكن المسؤولين في ذلك الحين كانوا على الأقل يسجلون عدد البنايات التي تهدم. أما بعد تعيين السيد جانتي دوبيسي، فإن المسؤولين لم يعودوا يتبعون أنفسهم بالتسجيل، لأنهم كانوا يعتقدون بأن تصرفاتهم شرعية!! ولقد صرح السيد جانتي دوبيسي لأحد أعضاء البلدية بقوله: إننا أخدنا الجزائر، فنحن أصحابها بلا منازع، وسنعمل فيها كل ما يحلو لنا سواء من ناحية الهدم أو غيره. عندما وصلت إلى باريس عرضت على معالي وزير الحرب عددا كبيرا من الاعتراضات من جملتها هذا العمل التعسفي (¬1)؛ ولما لم أتلق من هذا الوزير إلا جوابا لم أكن أنتظره في الواقع رأيت من واجبي أن أتوجه للملك نفسه بشكوى متواضعة يوجد مضمونها في آخر هذا المجلد. لم أحصل على أية نتيجة من تلك المساعي الجديدة ومع ذلك، فإن وثيقة ¬

(¬1) انظر الوثيقة رقم واحد.

الاستسلام تضمن ملكياتنا، وإن البيانات التي نشرها كل من المارشال بورمون والجنرال كلوزيل لتؤكد ذلك. هل ينبغي أن نؤمن بأن مزايا المعاهدات، لا تنالها إلا الشعوب القوية على حساب الشعوب الضعيفة؟ وعندها ماذا يكون مصير المبادىء الأخلاقية التي نرتكز عليها؟ لماذا يدرس علم القانون العام في أوروبا وفي فرنسا؟ لماذا وجدت مدارس الحضارة والحرية؟ هناك تعارض مع مبادىء المسيحية التي يؤمن بها الأوربيون. ومن ثمة فماذا يكون مصير أخلاق المسيح أو أخلاق نبينا؟ قال محمد: (إن شريعة خلفائي وأخلاقهم هي تعاليمي). ولأعود إلى حججي، فلو كان بإمكاني أن أعرض للجميع ما أستطيع ذكره دون أن أضطهد لقدمت أشياء كثيرة! ولكنني في عالم مجهول ولا أدري أين توجد المصائب. إنني أخشى أن أنال مصير عدد من مواطني: أن أسجن ما بقي لي من أيام أو أن أبعد عن أسرتي وبلادي. من يدري لعلي أتهم بالتآمر مع القبائل. وأنى لي أن أعرف التهمة لأدافع عن نفسي. وعلى الرغم من أنني لا أتفاهم مع أبي ضربة، فإنني أنصفه عندما أقول بأن الاتهامات الموجهة له خاطئة. إنه لم يكن أبدا إلى جانب العرب والقبائل ضد الفرنسيين إنه لمن المدهش أن يصدق السادة الولاة الأكاذيب، وأكثر من ذلك دهشة أن يطالب أبو ضربة بالعدالة ولا يحصل عليها في بلد كفرنسا. لقد تم الاستيلاء على المعابد وتحويلها إلى مساكن في زمن ولاية السيد كلوزيل على افريقيا. ولقد سبق أن شرحت كيف كان يتوجب احترام مثل هذه البنايات التي تجد سندا قويا في تقاليد وتعصب الطبقة الفقيرة. وفي عهد الأتراك، أدرك المسؤولون ضرورة مسايرة تلك الأوضاع لأسر القلوب

وإذن، فإن الحكومة الفرنسية قد استولت على تلك المعابد ووضعتها تحت تصرف إدارة أملاك الدولة، كما أنها اكترت بعضها لعدد من التجار فبمقتضى أي قانون تستولي تلك الادارة على تلك البنايات؟ ألتنفر قلوب الأفريقيين؟ أو لتجدد التعصب وتضاعف الإهانات، وتجعل البلاد غير قابلة للاستعمار؟ أم هل تستعمل هذه الوسائل لإثراء فرنسا ومضاعفة كنوزها؟ لا إن الهدف هو أن يجعل من الاسم الفرنسي أو الاسم الأوروبي اسما بغيضا في هذه القارة التي يميز فيها الإنسان بالقبعة والشاش. إننا لا ندرك بحق، الأسباب التي جعلت حكومة متنورة تسمح لموظفيها أن يثروا أنفسهم بواسطة النهب والمخالفات وعلى حساب فرنسا وشرفها. وكذلك فإن سيدي إبراهيم بن مصطفى باشا قد عرض على الحكومة الفرنسية جزءا من الأعمال الشائعة التي وقعت عنف ضد مواطنيها. وكانت إجابة الحكومة أنها ستكتب إلى الجزائر لتمنع مثل تلك الأعمال التعسفية. ولكن على الرغم من هذه التأكيدات، فإن جميع الأخبار التي تردنا من الجزائر تعلمنا بأن الاستبداد ما يزال مستمرا وأنه يتطور إذا صح استعمال هذه العبارة وإنه وقع الاستيلاء أيضا على معبد المرابط المسمى سيدي الجودي للاستفادة من أجره المتواضع الذي يقدر بمائة فرنك. هل صحيح أن الحكومة كتبت في هذا الموضوع؟ هل يمكن أن تعارض أوامرها؟ إنه للغز بالنسبة لي. ودائما في زمن ولاية السيد كلوزيل، وقبل أن استقيل من عضوية المجلس البلدي، دخلت ذات يوم غلى بيت خالي الحاج محمد، ابن السكة، فوجدت عنده السادة: فوجرو المفتش العام للجالية وجيرودين مدير أملاك الدولة، ودوفال رئيس المحكمة. كان الأمر يتعلق بدين في ذمته زعموا أنهم عثروا عليه في سجلات الإيالة،

وكان الغرض من زيادة هؤلاء السادة هو أن يحملوه على التفاهم معهم؛ وعلى أن يدفع لهم مبلغا هاما من المال. ويستطيع قرائي أن يروا في نهاية الجزء، جميع التفاصيل حول هذه القضية التي كانت قد رفعت إلى مجلس الدولة. وهناك مكيدة أخرى استهدفت باي وهران بعد الاستسلام مباشرة ودخول الفرنسيين إلى الجزائر؛ كان هذا الباي كما سبق أن ذكرنا، قد أعلن عن طاعته للقائد الأعلى مبديا له رغبته الشديدة بإخلاء المدينة لفائدة الجيش الفرنسي. وكان الجنرال عندئذ مشغولا بجمع كنوز الداي فاكتفى بأن طلب منه أن يحتفظ بوهران وينتظر أوامره ولكن بعد حوادث جوليت مرض الباي فتوجه إلى الجزائر صحبة أسرته وحاشيته. ولتفادي أطماع بعض الأشخاص أحضر معه عددا من الهدايا، ولم يقتصر على اليد كـ ... وأسرته، وإنما قدم لكل من كان محيطا به كثيرا من الحلي والسيوف الذهبية وغيرها من أسلحة الزينة المحلاة بالحجارة الكريمة. أما الأموال، فإنه لم يعط منها إلا إلى السيد كـ ... حدثني حسن، باي وهران، نفسه بأنه أرسل لذلك الجنرال، أولا 2000 رباعي من الذهب (170،000 ف). وعندما تجدد طلب هذا الأخير أرسل له مرة أخرى، 10،000 سلطاني ذهبي (90،000 ف). بودنا لو نعرف إذا كان ذلك الجنرال يستلف بالقوة لحساب حكومته، أم هل كان يتوجه إلى باي وهران ليقرضه شخصيا فقط؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، وبما أن الاستدانة كانت عن ثقة، وإن الكتابة عند الأشراف غير ضرورية لإثبات الدين، فإننا نعتقد بأن شخصية كبيرة مثل السيد الجنرال كـ ... لا تنتظر إلا وقتا مناسبا لإرجاع الفرض هذا، أكرر مرة أخرى، إذا كانت الاستدانة لحسابه الخاص. حسن باي هو أحد أصدقائي القدماء، أعرفه إنسانا، فاضلا ومن واجبي

أن أقر له بهذه الحقيقة أمام الملأ. وعندما جاء إلى مدينة الجزائر لم أر مانعا من أن أكون معه خاصة وأنه كان يعمل لصالح الفرنسيين. ونطرا إلى أنه حكم وهران سبعة أشهر لحساب الفرنسيين فإنه كان ينتظر نوعا من الاحترام والتقدير من السلطة وهو أهل لأن يحظى بالعناية. ولكنه في الواقع لم يحظ إلا ببعض الزيارات الهادفة. قال بنفسه وهو يتحسر على وضعه: إن السيدين ف ... (¬2) وف ... (¬3) وغيرهما من أعوان الجنرال، لم ينقطعوا عن زيارتي للحصول على مختلف المنافع. إن المقربين إليهم من اليهود كانوا يقولون لهم بأن هذا الباي كان أغنى من حسين باشا، داي الجزائر، وإنه كان عندما يأتي إلى الجزائر قد تعود أن يقدم كثيرا من الهدايا لجميع أفراد حاشية الداي، وعليه فمن حقهم أن ينتظروا منه، أو أن يجبروه على تقديم نفس المزايا. عجيب أمر هؤلاء المستشارين وهل كان ينبغي اتباع نصائحهم؟ ففي تلك الأثناء أمر الجنرال ك بالعودة إلى فرنسا؛ وكان حسن باي يفكر في الابتعاد عن الجزائر بعد أن أعياه نهب أصدقائه الجدد، وصار يخشى العقاب إن هو رفض إطعام أناس لا يشبعون ولذلك اقترح عليه الجنرال ك أن يذهب معه إلى فرنسا على متن سفينة تابعة للدولة. استشارني حسن باي في هذا الموضوع فأجبته صادقا بقولي: (تستطيعون البقاء هنا في أمان سيعاملكم الفرنسيون كما ينبغي لأنكم تستحقون ذلك منهم). ولاحظت له كذلك بأن باي التيطري أجير الفرنسيين عندما حمل السلاح ضدهم على أن يتصرفوا معه بكل شدة، وأن زميله باي قسنطينة لم يعط أي اهتمام لهؤلاء الفرنسيين. وعليه فنظرا لموقفكم الودي، لا أعتقد أنكم ستمسون بسوء بل على العكس إنكم ستجازون، ومن الممكن أنهم سيسندون لكم قيادة العرب ¬

(¬2) و (¬3) فوجرو وفاتوا اللذان سبق أن تكلم عنهما حمدان.

فتكونون جنرالا، وأضفت حسب رأيي بأن: (جميع العرب سيخضعون لكم بكل سهولة نظرا لثروتكم الشخصية الطائلة، لأنهم لن يخشوا منكم أن تفرضوا عليهم ضرائب مفرطة). إنني كنت أرغب في أن تبقى هذه الشخصية في الجزائر لتساهم في تخفيف آلام الطبقة المحتاجة، لأن كل الأثرياء والأغنياء قد غادروا البلاد. وكنا قد بدأنا نشعر بالبؤس الشديد. إنه لم يبق في المدية إلا الشيوخ الأتراك والمقعدون الذين كانوا في السابق، يتقاضون أجرا أو منحة من الدولة، وكذلك العمال في مختلف الميادين، وكل هؤلاء لم تكن لهم ثروة ويكادون يكونون معدمين. وأخيرا، استجاب ذلك الرجل الفاضل إلى رغبتي الملحة. ولقد كان الجنرال كـ ..... أكثر مني تبصرا، إذ من الممكن أنه كان يحس بأن بعض الأشخاص في الجزائر لم يكونوا ذوي نية حسنة وشريفة، إزاء حسن باي ولأجل ذلك كان قد اقترح عليه أن يأخذه معه إلى فرنسا! وبعد رحيل الجنرال كـ .... بدأت الاضطهادات تسلط على حسن باشا: سأذكر كل هذه التفاصيل في الفصل الذي يتعلق بالجنرال بارتوزين وولايته على الجزائر. غير أنني أقول بأن تلك اضطهادات كانت قاسية إلى درجة أنها أجبرته على الهجرة إلى الاسكندرية، متهما إياي بأنني خدعته فيما يخص تقديري للفرنسيين. ومن الاسكندرية توجه إلى مكة حيث مات، وترك فيها كنوزه. ولو أنه عومل كما كان يستحق ذلك لبقيت ملايينه في الجزائر ولورثت منها الحكومة ما في ذلك شك، ولكن هناك كثيرا من الأشخاص لا يستشيرون إلا مصلحتهم الخاصة، ولإرضائها ينسون مصالح أمة بأكلمها.

أذكر أن السيد الجنرال كلوزيل دعاني مرة لأتناول طعام العشاء مع أعضاء البلدية، وفي ذلك اليوم نفسه أعلمنا بأننا عزلنا لأننا لم نكن متفقين فيما بيننا! وبعد ذلك دخل الترجمان زاكر وبدأ يسخر من اجتماعنا عند الجنرال، موجها كلامه المازح إلى هذا الأخير قائلا: (أتوسل إليكم، أيها الجنرال، فلا تقطعوا رؤوس هؤلاء الأفاضل، إنهم أرباب أسر). وإذا كنت فيما يخصني، لم أهتم بهذا المزاح فهناك، من بيننا، من استاء له. وبعد أن انتعشت المحادثة تكلما عن سيرة باي وهران. فلاحظ بعضهم بأن هذا الباي، لو كان عند حكومة غير الحكومة الفرنسية، لكان يخشى الكثير ولوقع قتله للاستيلاء على ثروته. وعليه، فإنه لا يليق به بلد أحسن مما تلائمه فرنسا، ومن ثمة يجب أن يبقى تحت سيطرة الفرنسيين. في تلك الظروف كنت أفكر مثلهم، فوافقتهم ولم أنتبه إلى أنهم كانوا يتكلمون كذلك عن خبث، لأنهم كانوا يعرفون أنني كنت صديقه، وإنني سأنصحه بالبقاء. ولكي أذكر فضائل الجنرال كلوزيل، ما علي إل أن أعدد بعض الأعمال الخالدة التي وقعت أثناء ولايته لافريقيا. ففي عهده نهب الأموات في مدافنهم، وسمح بالاتجار بالعظام البشرية، وبيعت حجارة المقابر ثم نقلت إلى باب الوادي لتحول إلى مادة الجير ووقع الاستيلاء على آجر المقابر، الخ ... وقد تزايدت هذه التجاوزات إلى درجة أن القاضي رأى من الواجب عليه أن يقدم للجنرال كلوزيل اعتراضات في هذا الموضرع، ولكن هذا الأخير لم يجبه إلا بكيفية غامضة، كما لو كان يريد التخلص منه، هناك من يرى أن الحكومة الفرنسية لم تسمح بانتهاك المقابر إلا لحقدها على ديننا. وفيما يخصنا، فإنه لا يوجد أي اعتبار يمكن أن يسمح بتجريد الأموات من لباسهم الأخير، وتشتيب عظامهم في التراب ..

وفي أثناء ولاية كلوزيل على الجزائر، لم يكن يستمع لأية شكوى، ولقد كان الفقهاء يريدون تقديم الاحتجاجات باسم أبناء وطنهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ذلك، وكلما قدمنا اعتراضا أجبنا عليه بعمل أكثر ظلما وتعسفا. ومن ثمة وجب السكوت والصبر. وبهذه المناسبة، فإن هؤلاء المساكين، الذين يزعم الجنرال كلوزيل بأنهم كانوا تحت تأثير التعصب الشرقي قد قالوا مستسلمين: (أنها إرادة الله! ولا يمكن أن تعارض القدر). وبالفعل هل كان في استطاعتهم أن يحتجوا ضد الجور؟ هل كانت لهم الوسائل والقدرة على دفعه؟ لقد كان على هذا الجنرال الذي ردد تلك العبارات بكيفية ساخرة، وهو لا يؤمن، بلا شك، بعظمة الإله الصمد، لأنه كان عليه أن يستعمل عبارات أكثر احتراما للخالق الذي أحسن إليه، لأنه لا يتكلم مع ملكه إلا باحترام، وأن ملكه نفسه ينسب كل أفعاله لإرادة الله العلي العظيم. إن الطغاة أنفسهم لا يبدأون خطاباتهم إلا باسمه تعالى. وعلى الرغم من أن الله رحيم وقوي في آن واحد، يبدو لي أنه كان على هذا الجنرال أن يستعمل لغة تكون أكثر لياقة.

الفصل الثاني عشر تفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر

الفصل الثاني عشر تفسيرات حول ممتلكات الأوربيين في الجزائر لقد حصل الأوروبيون، في الجزائر، على الملكيات بشروط كلها لصالحهم. إنهم كانوا يستطيعون الامتلاك بواسطة الريع الدائم أو بأثمان زهيدة جدا، وهذه الطريقة للحصول على الأملاك قد استوردت حديثا لبلادنا، ولا يسمح بها قانوننا الإسلامي. ولذلك كان الباعة والمالكون الجدد في خصومات مستمرة دائمة، خاصة إذا كان هناك سوء نية من أحد الجوانب، وجهل من الجانب الآخر. ومن ثمة، كان لا بد أن تكون هذه الطريقة في الاكتساب محل غموض ومحاكمة لا تنتهي. إن السكان الذين غادروا البلاد برضاهم قد وافقوا على هذا النوع من المعاملات ليتمكنوا من الاعتناء بمساكنهم ومن أن يستخرجوا منها بعض المنافع. ولكن هناك من المالكين الأوروبيين من استغل الثقة وأحدث كثيرا من الخسائر، فهدموا كل ما يمكن أن توجد فيه أشياء تباع للاستفادة منها، وضاعت حقوق المالكين القدماء في تلك

القضايا، لأن الهدم كان يقع في حين أنه لم تكن هناك إمكانية لاستبقاء حقوقهم، خاصة وأن معظم عقود البيع كانت تتم بواسطة تحايل السماسرة اليهود. وفي الجزء الخاص بالتشريع الإسلامي، سأتكلم بإسهاب عن تلك التجاوزات والعقود التي كانت - وأكرر ذلك - تتنافى مع قوانيننا. غير أنني سأذكر فيما يلي، بهذا الصدد، حادثة عرضية. لقد كان أحد أقربائي يملك جنانا فيه دار للاستجمام أنيقة البناء. وكانت هذه الملكية من جملة الأملاك المحتلة عسكريا. ولما رأى بعضهم تلك الأبهة وتلك الزينة، ظنوا أن الدار تحتوي على كنز دفين (لأن معظم السادة الأوروبيين لا يحلمون إلا بالكنوز). وهكذا، سارعوا إلى الحفر وتفتيش الأرضيات وتهديم بعض الحيطان التي شك في أنها تخفي بعض الثروات. ولما لم يجدوا شيئا باعوا كل المواد التي كان لها ثمن لجمع كمية من المال. وفضل وصي هؤلاء الأيتام الذين كانوا يملكون الجنان، فضل الكراء على أن يقوم بإصلاحات. وتقدم طبيب إنكليزي للشراء، وبما أن الوصي لا يستطيع القيام بغير الكراء، فإن المفاوضة وقعت فيما يخص حق الانتفاع، لا فيما يخص الملكية. وطلب مني أن أحرر البنود والشروط وفقا للقانون، وقد أوضحت بأن ذلك الملك كان مستأجرا فقط مقابل مبلغ سنوي قدره كذا، ولا تدوم الاتفاقية إلا ما دام المبلغ يدفع مضبوطا. وبعد إبرام العقد، تسلم الطبيب الملك وقام بجميع الإصلاحات الضرورية في ذلك المسكن. ولما علم القنصل الإنكليزي في الجزائر بإمكانية أجراء مثل هذه الصفقة، وبأن نفس الأيتام كان لهم جنان محتل عسكريا كذلك، اقترح على الوصي المذكور أن يسلمه له بشروط مشابهة للشروط التي وقعت مع الطبيب الإنكليزي،

لقد طلب الوصي 1800 فرنك عن الكراء السنوي، ولكن الجنرال كـ .... الذي سمع بهذا الاقتراح تدخل في المفارضات، وأبلغ الوصي بأنه سيهدم البنايات ويقتلع الأشجار لو وقع اكتراء الجنان للقنصل الإنكليزي ومن ثمة، فإن ذلك الوصي لم يتمكن من الاكتراء للقنصل الإنكليزي بسبب الضغط الذي وقع عليه. ويقال إن الجنان اكتري فيما بعد للجنرال كـ .... مقابل 1023 فرنك عن كل سنة فيما أعتقد. وبدلا من أن يقوم الجنرال المذكور بتصليحات وإعادة الجنان إلى وضعه الأول، فإنه قد أهمله وتركه يزداد تخريبا. وبنفس الطريقة، استولى الجنرال كـ ... على ضيعة جميلة كانت من أملاك علي باشا (¬1) وتشتمل عل بنايات ممتازة، فيها جميع المرافق التي يمكن تصويرها، ولكن الملاك يشتكون من أن السيد كـ .... لا يدفع حتى أجرة الكراء. وبالفعل، فإنه كان يعتبر كل هذه الأملاك من أملاكه الخاصة، ويقال أنه كان يحتفظ بالعقود ولا يريد تسليمها لأصحابها. واستولى نفس الجنرال على ضيعة أخرى تعرف باسم (والي دادي) (¬2) كانت تابعة للمؤسسات الخيرية، كما أنه استولى على ضيعة كبيرة كانت تعرف باسم (الآغا) وتدعى اليوم (الدار المربعة) ابتناها يحيى آغا)؛ وقد كلفته أكثر من مليون من الفرنكات. ومقابل هذه الضيعة فإن الجنرال كـ ... لم يعط لأيتام يحيى آغا سوى حانوت أخذه من أملاك الدولة لهذا الغرض. وإذا كان وصي هؤلاء الأيتام قد وافق ¬

(¬1) هو علي بورصالي الذي عين دايا سنة 1817 فحاول أن يقوم إصلاح ديني، ولكن الطاعون الذي كان قد بدأ في تلك السنة قد أصابه فتوفي بعد عام واحد من الحكم وترك المنب لحسين داي سنة 1818. (¬2) نقول الأسطورة بأن والي داده هو الذي أثار العاصفة التي حطمت أسطول شارل الخامس سنة 1541.

على العملية فلأنه لم يكن قادرا على معارضة ذلك العمل التعسفي الذي ما كان ليقع في عهد الأتراك.، وهكذا، أخذ الوصي ما أعطي له في المقابل بدلا من أن يضيع كل شيء. بهذه الطريقة أصبحت للجنرال كـ .... أملاك في مدينة الجزائر! فهو لا يريد دفع الكراء ولا إعادة العقود لأصحابها. إن السيد كـ ... يزعم بأنه تحرري، ويعارض حكومته لأنه لا يشغل منصبا. أن السيد كـ ... العضو في مجلس النواب، مكلف ببحث المصلحة العامة في فرنسا. ولكن ما أعظم أخطاؤه في إفريقيا، وهو مع ذلك شخصية بارزة! وبمقتضى أية مبادىء أخلاقية يتصرف على ذلك النحو؟ إننا نرى بأن هذا المشروع يطبق، على الأقل نوعين من المبادىء يختلفان كل الاختلاف إذا قارنا تلك التي اتبعها في إفريقيا وتلك التي يدينها في فرنسا. ونراه كذلك بوجهين: فهو تحرري من جهة ورائد للحكم المطلق من جهة أخرى. وأخيرا نسأله هل هو يريد تسيير الجزائريين وحماية مصالحهم وفقا لقوانين نابليون أم لقوانين الإقطاعية القديمة. يستخلص مما ذكر أعلاه، أن الجنرال كـ ... قد اغتنى على حساب الجزائريين وشرف الأمة الفرنسية، إن هذا الجنرال يتلقى كراء مرتفعا من الحكومة الفرنسية عن جنان علي آغا. إنه يعرف كيف يأخذ مقابل أملاكه المزعومة، أما الجزائريون الذين أخرجوا بحد السلاح من مساكنهم فإنه لا يدفع لهم ثمن بيع ولا كراء. ولتتويج أعماله، فإن هذا الجنراد لم يخش أن اقترح إبادة الجزائريين بعد أن تفاهم وجردهم من جميع ممتلكاتهم. أرجو أن يثق قرائي بأنني لم أعزم على ذكر سيرة السيد الجنرال كـ ...

في هذا الكتاب إلا بعد أن رأيت أعماله وقرأت كتاباته. وشخصيا، فإنني لا أحقد على هذا الجنرال، وعليه، فإنني لن أعرض هنا إلا الأفعال التي شاهدتها بنفسي، وأستطيع القول بأنني أمر مر الكرام على بعض الأحداث التي لو ذكرتها لأبعدتني عن الإطار الذي حددته لنفسي، والتي كان يمكن أن تجلب انتباه محبي الإنسانية والعدالة. إن كل إنسان عادل يرى بوضوح أن السيد كـ ... قد نقض ما جاء في وثيقة الاستسلام، وأن هذا الخطأ الأول كاف للتدليل على سلوكه السيء إزاء الإفريقيين، وأن طريقته في الحكم كانت تتنافى مع مصالح الفرنسيين. وعلى هذا الأساس، فإن أنانية شخص واحد هي التي تسببت في العار والتوبيخ اللذين تعرضت لهما الحكومة الفرنسية في إفريقيا. وهذا صحيح بحيث أن القبائل صاروا يجيبون كل من يريد إقناعهم بإمكانية حدوث اتفاق سلمي، بقولهم: (لا ينبغي أن نصدق من لا يفون بوعودهم) - وبالفعل فما هي الثقة التي توضع في تاجر لا يلتزم بوعوده؟ ويوفي ما عليه من سندات بالكلام الطيب؟ إنه يكون مجبرا على أن يشتري كل شيء نقدا. إن الحكومة الفرنسية، بالنسبة للقبائل، توجد في نفس وضعية التاجر المذكور، وهؤلاء القبائل لم يعودوا يفرقون بين الأوروبيين، إنهم يعممون ويقولون: (إنهم مسيحيون ولا يمكن أن يصادقوهم ولا أن ينسوا حقدهم الديني، ذلك لأنهم لو أتيحت لهم الفرصة للاعتداء عليهم لفعلوا، ولأنهم لا يعتدون على الأحياء فقط إنما يسلطون حقدهم كذلك على الأموات بتهديم مدافنهم، الخ ... الخ ...). وهكذا، فإن سلوك السيد كـ ... وإدارته في الجزائر لم يؤديا إلا لتنفير قلوب الجزائريين والإفريقيين بصفة عامة - إنه جعلهم يحذرون من نوايا

فرنسا إزاءهم، وقدم لهم الدليل القاطع على أن الفرنسيين، بدلا من أن يأتوا لنشر مبادىء الحرية والحضارة، إنما جاؤوا معهم، على العكس من ذلك، بالتعسف والعبودية اللذين يجيدون تطبيقهما أحسن من الأتراك أنفسهم، لقد كان هؤلاء الأتراك على الأقل، يوحدون مصالحهم بمصالح الأهالي، ويحترمون ملكياتهم وعاداتهم وحتى تقاليدهم القديمة على الرغم من أنها مخالفة للصواب. فبتلك السياسة، وباتباعهم تلك الطريقة، استطاعوا أن يحكموا هذا الشعب وأن يكتسبوا قلوب الإفريقيين الذين لم يستعملوا معهه، أبدا، لا القوة ولا العنف. إن الظلم لا يدوم، والعدالة خالدة، والحرية هي أساس النظام الاجتماعي. لقد لوحظ أن هذا الجنرال كان يذرف الدموع وهو يغادر الجزائر .. يا له من ارتباط ويا له من عطف على هذا البلد! إنه التعطش إلى الثروة، لا يمكن التخفيف من حدته، فكلما شربنا تقنا إلى الشرب، ولذلك نستطيع القول إن نشوة الجنرال كـ ... ما تزال مستمرة. إنه يقارن الجزائر في مؤلفاته بالأرض الموعودة، وأخبث الأراضي في الجزائر هي بالنسبة إليه، أحسن من أراضي الهند والجزر. ولكن الأغرب في الأمر هو أنه يزعم أنه محبوب، وبأن جميع سكان مدينة الجزائر يرغبون أشد الرغبة في عودته. وفي مناسبات أخرى يتهم الجزائريين بأنهم منعوه من تحقيق مشاريعه ويسأل السيد دوفنتان إذا كانت هناك وسائل أخرى للتخلص منهم غير الإبادة. إن الجنرال كـ .... في نظرنا، قد قدم مشاريع جنونية لا تطبق، إن نظريته تبدو لنا صعبة التطبيق لأنه يريد أن يجعل من متيجة مصدر ثروة لفرنسا

وسهلا صحيا، كما أنه يريد أن يلطف جوها وهواءها. ومن حقنا، قبل أن يشرع في هذا العمل، أن نشير عليه بالعمل على تخفيف حدة الطمع عند بعض الأشخاص والتخفيف من سخط سكان سهل متيجة عليه، وعلى اكتساب قلوب القبائل وجميع الجزائريين. بقي لي الآن، أن أبين لقرائي التناقضات المترتبة عن أقوال الجنرال كـ .... وسلوكه. إن هذا الجنرال لا يرى، لضمان أمن المعمرين، وسيلة أخرى غير بناء الحصون، ولا يعتمد في شيء على القانون والإدارة العادلة. إنه يبدو لي من المحزن بالنسبة للمعمرين والأهالي على حد سواء، أن يكونوا مضطرين على التحارب باستمرار، وأن يبقوا فيما بينهم أوضاعا عدوانية تقدم لأوروبا جمعاء نوع الحضارة التي يريد السيد كـ .... أن يفرضها على الإفريقيين. إذا كان الجزائريون قد أسفوا على تغيب أو رحيل السيد كـ .... كما أراد هذا الجنرال أن يقنعنا بذلك في كتاباته وجرائده، وإذا كان محبوبا في هذا البلد، فلماذا إذن، يقدم تلك المشاريع الرامية لخلق العداوة؟ وإذا كان صديقا فلماذا يخشى أن يعامل معاملة الأعداء؟ لا، إنه غير محبوب عند الجزائريين، ولا يمكن أن يكون كذلك. إنه يريد أن تعينه الحكومة الفرنسية نائب ملك في إفريقيا ليتمكن من إتمام أعماله وتحقيق مشاريعه. أعتقد أن الجنرال كـ ... سيغضب علي عندما يقرأ كتابي الذي يفضح جزءا من سلوكه وتصرفه في الجزائر، وعليه، فإنني أقول مسبقا بأنني، للدفاع عن نفسي، سأكتفي بذكر الشهود من بين أصدقائه أنفسهم. ولكن لماذا سأكون في حاجة إلى الدفاع عن نفسي؟ إنني لا أذكر هنا إلا أفعالا لا يستطيع هو نفسه إنكارها، وأن يدي لا تخط إلا أحداثا ووقائع حقيقية.

ومن ثمة، فإذا كان السيد الجنرال كـ ... يريد تقديم لوم فما عليه إلا أن يوجهه لأهوائه وضميره، لا لقلمي الذي لم يكتب إلا الحقائق. إن تفوقي الرئيسي في المعركة التي تلوح من بعيد، هو أن قرائي الذين ينتمون إلى أمة يضاهي عدلها عظمتها وكرمها، سيشيرون عليه بدلا من اتهامي، بالتزام الصمت لأن الإشهار سيزيد من اللوم الذي يستحقه. يجب على السيد المارشال، في مصلحته الخاصة، أن يفكر ويراجع نفسه، وأن يحكم ضميره فيما قام به من أفعال، وإذا وجد أن هذه المرآة لا تعكس له صورة محمودة عن شخصه، فإنه مع ذلك، ينبغي له أن يشكرها لأنه يرى نفسه فيها على حقيقتها، ولأن تلك الصورة يمكن أن تساهم في أن تجعل منه ذلك الشخص الذي يجب أن يكونه. لقد تكلمت (الفصل الأول من الكتاب الأول) عن سكان إيالة الجزائر، وقلت بأن عددها يبلغ عشرة ملايين نسمة، قد يعتقد بعض قرائي أنني أبالغ ولذلك أقول لهم بأن على المرء أن ينتقل في داخل الإيالة لمدة أسبوع على الأقل ليكون لنفسه فكرة تكاد تكون صحيحة عن عدد هؤلاء السكان واستعداداتهم، ولكي يصدق ما قدمته من أقوال. إن خصوبة أرضها وصحبة جبالها وقناعة أهلها قد ساعدت كثيرا على مضاعفة الجنس البشري فيها. وعند سكان الصحراء والقبائل، وهم كثيرون جدا، لا يصادف المقعدون إلا نادرا، ولا يعرف هؤلاء السكان أماضا مزمنة ولا كريهة. إن الرحلتين اللتين قمت بهما إلى قسنطينة، والأحاديث التي أجريتها

مع المرابطين وأصدقائي الذين كانوا يرافقونني، كلها قد ساعدتني على زيارة داخل الإيالة. ولقد ركزت انتباهي كملاحظ بسيط، وتوجهت إلى الحياة في المدن والقرى والقبائل لأعرف عدد الأسر في كل مكان، ثم حصرت عدد كل أسرة في أب وأم وخادم. كما أنني سألت هؤلاء الجباة رأيهم في عدد سكان المدن أو القبائل المجاورة لأتجنب الأخطاءا والمبالغة وعندما كنت أصل تلك المدن والقرى، كنت ألجأ في حسابي إلى الحلول الوسطى، وهكذا استطعت أن أؤكد بأن عدد سكان الإيالة عشرة ملايين نسمة. إن الكتاب الذين نشروا مؤلفات عن الجزائر، لم يقدموا إلا بعض المعلومات المشكوك في صحتها عن تلك القارة الفسيحة. وقبل الغزو، ان الأوروبيين لم يكونوا يعرفون حتى الجزء الساحلي من مملكة الجزائر الذي يقع بين وجدة في المغرب وغدامس في الجنوب الشرقي (مملكة طرابلس). إن بعض الجنرالات المشهورين (¬3) لم يترددوا في اقتراح إبادة أمة بأكملها مركزين اقتراحهم على قلة عدد السكان. ولو افترضنا أن هذا العدد القليل لا يتجاوز المليونين كما ذكر ذلك بعض المتاب، ألا تكون إبادة مليونين من الناس جريمة في نظر الشعوب المتحضرة والإنسانية جمعاء. إنني أرى أنه لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الدين سببا في سلب الحقوق الاجتماعية. ¬

(¬3) يقصد كلوزيل ودورو شمبو ودورو فيكو، الخ ...

إن خصوبة الأرض الجزائرية لا شك فيها، وقرب هذه القارة من فرنسا أمر بديهي، كما أن استسلام سكان مدينة الجزائر لا يخفى على أحد. ولكن الاستعدادات العنائية لباقي سكان الإيالة تجاه الفرنسيين قد احتدمت إما بسبب التعصب نظرا لانتهاك المساجد ومعابد المرابطين وحتى مدافن الأموات، وإما كذلك، بسبب الطرق السيئة التي يستغلها المتصرفون الفرنسيون في الجزائر. إن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تستفيد من منافع الإيالة دون أن تنفق كنوزها وتعرض شرفها بمحاربة هذا الشعب المعارض لنظرها. ذلك أن تلك الحكومة لن تستخرج منافع الإيالة مني ومن ألف رجل مسالم آخر يستسلمون للظروف. هذا أمر مفروغ منه، ولا أستطيع أن أخادع قرائي، ولا أن أداهن الأمة الفرنسية العظيمة وأقول لها بأنها تستطيع أن تحصل على المنافع المتوقعة في إيالة الجزائر. إن كل من يداهن الحكومة الفرنسية، ويزعم أنه يدلها على وسائل تذليل تلك المصاعب كلها، ليس إلا مناورا يريد أن يغتني على حساب الأهالي وعلى حساب فرنسا نفسها. ولكن، على العكس، فإن أي رجل عادل، والحكومة نفسها لا يستطيعان، حسب براهيني الرياضية المذكورة، أن ينكرا الحقيقة المتمثلة في أن الجزائر حمل ثقيل على فرنسا نظرا لكلفة الاحتلال الباهظة (¬4) ومن ثمة، فهي عملية تتناقض مع مبادىء الحكومة التي تدعو إلى التخفيف من مصائب الشعب وإلى تحرره. ومن جهة أخرى، فإن نفس تلك الحكومة مضطرة إلى أن تسند إلى عدد قليل من الناس ¬

(¬4) تذكر المصادر أن سنوات الحصار وحدها قد كلفت فرنسا حوالي ثلاثين مليونا من الفرنكات.

تسيير شؤون الجزائر، وبذلك تعرض السكان للاستبداد، وهو مبدأ يتنافى كليا، مع مؤسساتها التحررية. إن تجربة ثلاث سنوات من الاحتلال قد بددت كل نواع من أنواع الشك في هذا الموضوع. إن فرنسا لن تنتفع من الجزائر ولن تدخل إليها الحضارة إلا إذا طبقت أحد المبدأين: الأول هو الإبادة، والثاني هو دعوة جميع سكان الإيالة بصراحة وبواسطة امبراطور المغرب وباي تونس وباشا طرابلس إلى بيع ممتلكاتهم والخروج من إيالة الجزائر، أو إلى إعطاء ضمانات لفرنسا على أن يبقوا خاضعين لها دون أن تكون مجبرة على إراقة دماء البشر. وبهذا الصدد، فإن جريدة (البريد الفرنسي) قد قالت في عددها الصادر بتاريخ 6 سبتمبر: (ولكن ماذا ستفعل حسب زعمها؟. (متكلمة عن الحكومة) أمستعمرة أم حقلا للإبادة؟ (متكلمة عن الجزائر) لأن طرق السادة ولاة الجزائر قد أدت إلى استفحال المرض وجعله غير قابل للشفاء .. غير أن المبدأين المذكورين يتناقضان كل التناقض مع المفهوم الدستوري. أما أنا الذي أرى الأشياء على حقيقتها، فإنني أحجم عن أن أعطي رأيي بكل صراحة، ومن الممكن أن بعض الأشخاص سيجدون في ذلك إساءة لهم ويتهمونني بالبحث عن مصلحتي الخاصة أو بالعمل على إعاقة المؤسسات الأوروبية. إنني أتحدى أيا كان يزعم بأنه يستطيع معالجة الأوضاع في الجزئر دون استعمال إحدى الوسيلتين المشروحتين أعلاه، أو الخروج من البلاد والتخلي عن فكرة الاحتلال، وذلك بإقامة حكومة أهلية حرة مستقلة، كما وقع في مصر، تتدين بنفس الدين وتتبع نفس العادات، على أن تبرم معها معاهدات تكون في صالح الشعبين. عندئذ، فإن فرنسا ستجد مصلحتها بكل

تحقيق أحسن من أنه لو تبقى الجزائر مستعمرة لها، وأن العالم كله سيطرب لذلك العمل الكريم. عندئذ، فإن روسيا من جهتها ستكون مضطرة إلى الاعتراف بالجنسية البولونية ولا تستطيع أن تلوم فرنسا على سلوكها في الجزائر. إن هذا التحرر الليبرالي سيزيد من شهرة عصرنا، خاصة وأن الجزائريين لا يتدينون بنفس دين الأوروبيين. هذا هو رأيي إذا كانت فرنسا، كما أعتقد، لا تريد إلا إدخال الحضارة إلى القطر الجزائري، والقضاء على الاستبداد وعلى روح الانتقام وكل أنواع الحقد. وإن الحكومة الفرنسية تستطيع أن تتبع نفس الطريقة التي طبقت في مصر. وإن تقدمها سيكون أمرا محققا ولا يمكن أن يشك في نجاحها. ذلك أن إصلاح مصر وتدعيم النفوذ الفرنسي فيها لم يتحققا بواسطة الإدارة الفرنسية والعنف، وإنما يعود الفضل لنائب الملك وللعمل باسمه في إدخال الحضارة والفنون، وفي مضاعفة موارد ذلك البلد التي كانت منعدمة أو مشلولة في عهد المماليك. كما أن الفضل، أيضا، يعود لوجود نائب الملك في إقامة ذلك الرباط المتين الذي يوجد الآن بين الفرنسيين والمصريين. إن كل واحد من بين الكتاب العديدين الذين كتبوا عن إيالة الجزائر، قد عالج المسألة حسب مصالحه مقدما بذلك نظريته الخاصة، ولم يشر أي منهم إلى الطريقة ولم يهتم بإمكانية تطبيقها والفائدة العامة التي تنتج عنها، غير أنني أستثني السيد بيشون لأننا عندما نقرأ كتابه باهتمام نجد أن أفكاري عنده مرتبة

ومعلجة بكيفيات أخرى تدل بوضوح على الطريق السيىء الذي اتبعه السادة الولاة في الجزائر، وعلى وقوع بعض التجاوزات مثل الاستيلاء على أملاك الأتراك، والمؤسسات الخيرية، وتدنيس المساجد والمدافن والاحتلال العسكري الخ ... وغير ذلك مما اشتكينا منه. ما هي الفائدة التي جناها الفرنسيون من تلك الطرق؟ إنهم جعلوا الجزائر غير قابلة للإحتلال ونفروا قلوب سكان هذه القارة الشاسعة. هذا وإن السيد بيشون قد قدم ملاحظات منذ أكثر من سنة. فماذا نقول اليوم، وقد ازدادت التجاوزات وبلغ الشر أقصاه؟ إنني أستشهد، لتدعيم حججي بالجنرال بارتورين وغيره ممن لا يمكن للحكومة والأمة الفرنسيتين أن تنكرا عنهم وطنيتهم وغيرتهم. سيرى قرائي، في المجلد الثاني، تلك الإدارة الحسنة التي قام بها هذان الحاكمان (بيشون وبارتوزين) وكذلك تلك الحسرة التي تركها في نفوس المواطنين عند ذهابهما. ولئن لم أنشر المجلدين في نفس الوقت، فلأنني مكسور القلب من جراء الأخبار التي تصلني يوميا من الجزائر والتي تقول بأن الدماء تراق وديانا، وأن السخط عام، وأن بلدي يسير نحو الخراب وأترك لقرائي تقولون لي كيف تكون أفكار رجل حساس عندما يرى أن تلك الأعمال تتم باسم نفس فرنسا التي تدافع عن مصالح الشعوب وتحارب الحكم المطلق والتي يوجد من أبنائها أكبر الأساتذة في الأخلاق وفي حقوق الإنسان، وعندما يرى أن بلده، فقط، هو الذي يحرم من منافع تلك المبادىء الخيرية. لقد طلب مني أحد أصدقائي أن أنشر موجزا لكي أجعل الفرنسيين الحقيقيين يأسون لحالنا، ومن الممكن أن هذه اللمحة التي كتبت على عجل

ستزعج قرائي بتكرار الأحداث وكثرة الحشو، ويظنون بأن هذا الأسلوب متأثر بالأدب الشرقي. غير أنهم يجب أن يلاحظوا بأن أي رجل يحب بلاده حبا صادقا لا يستطيع أن يكتب بأعصاب هادئة دون أن يتوقف عند كل حادث يمثل له إبادة مواطنيه أو تقتيلهم أو تدنيس مدافن أجداده. ليس هذا الكتاب إلا مجرد تقرير، وأود من كل قلبي أن تسهر الحكومة الفرنسية على قضية إيالة الجزائر، وأن تأمر على الأقل، بأن تقوم اللجنة (¬5) التي أرسلت إلى تلك البلاد بالاستماع إلى شكاوى وتبليغات سكانها لكي يظهر الحق ويزهق الباطل. هذا وما أنا إلا صدى للأحداث ولسان لأبناء وطني. ¬

(¬5) هي اللجنة الإفريقية التي أنشئت يوم 7/ 7 / 1833 للتحقيق في الوضع الذي آل إليه الجزائريون ولإعطاء رأيها حول الاحتلال.

طبع بالمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية وحدة الرغاية الجزائر 2006 Achevé d'imprimer sur les Presses ENAG Réghaia -Algérie-

المرآة لقد تعين مرور 130 سنة من الإبادة ومن إعادة تشكيل عموم مجتمعنا على وقع توالي ضربات النظام الاستدماري كي تبثق أفكار حمدان خوجة النيرة أخيرا وتخرج من حجب ظلام (الليل الاستدماري). فقبلت الدولة الفرنسية، في مارس 1962، على أسس أخرى وبعد معاناة طويلة. قبلت على مضض الاعتراف بسيادة الدولة الوطنية الجزائرية واستقلالها. منصفة حمدان خوجة ضد الجنرال كلوزيل وصوت التحديث السلمي والإرادي ضد التحديث الحربي والإبادي. رجاؤنا هو أن يملأ، في 2005. صوت حمدان خوجة الأسماع في ضفتي البحر الأبيض المتوسط. مقتطف من التصدير

§1/1