المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها

د. غالب بن علي عواجي

المجلد الأول

المجلد الأول المجلد الثاني الباب العاشر: العلمانية مدخل ... الباب العاشر: العلمانية تمهيد: لم تقم العلمانية في أساسها على كتاب الله تعالى ولا على سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم, ولا على حب الدين، وهذا أمر مسلَّم به, فماذ ننتظر منها بعد ذلك؟ إنها مذهب هدَّام من المذاهب السيئة التي أنتجتها العقلية الأوربية في مقابل الأديان، ولا يزال أتباعها يصولون ويجولون ويقدِّمونها في أثواب برَّاقة مغرية، وفي حقيقتها السُّم في العسل، وقد اجتذبت كثيرًا من شباب المسلمين، خصوصًا من كانت له صلة مباشرة بالعلم الغربي, ومن قلَّت معرفته بدينه الإسلامي, أو قلَّت معرفته بحقيقة هذا المذهب العلماني الهدَّام, وما يبيته من مؤامرت على العقيدة والأخلاق وسائر جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية، بل والسياسة، وغيرها، وستشمل دارسة هذا المذهب الفصول الآتية: تمهيد: الفصل الأول: حقيقة التسمية. الفصل الثاني: التعريف الصريح للعلمانية. الفصل الثالث: نشأة العلمانية وموقف دعاتها من الدين, وبيان الأدوار التي مَرَّت بها.

الفصل الرابع: الرد على من زعم أنه لا مقافاة بين العلمانية وبين الدين. الفصل الخامس: أسباب قيام العلمانية في أوربا. الفصل السادس: هل العالم الإسلامي في حاجة إلى العلمانية, وأسباب ذلك. الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين, وبيان أسباب ذلك. الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين. الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين. تعقيب على ما سبق.

الفصل الأول: حقيقة التسمية

الفصل الأول: حقيقة التسمية يجب البدء أولًا ببيان حقيقة التسمية، وبيان صحَّة نسبتها إلى العلم، فهل هي كذلك؟ لقد انخدع الناس بتمسية العلمانية بهذا الاسم، ولا يزال أنصارها يتبجَّحون بها, ويتطاولون بتعاليمها, مغتَّرين بها؛ حيث وجدت لها سوقًا رائجة لدى فئات ممن قلَّت معرفتهم, أو كانت لهم أهدافٌ شريرةٌ ضد الدين لعزله عن قيادة البشر, أو التحاكم إليه لإحلال تعاليم عبدة الأوثان وأصحاب الأحقاد محلَّه. وحين أطلقت هذه التسمية في أوربا كان يُقْصَد بها عندهم حسب ترجمتها الصحيحة: فصلُ الدين عن السياسة، أو الفصل الكامل بينه وبين الحياة الاجتماعية، على أساس أنه لا يجتمع العلم مع الدين بزعمهم، وقد كذبوا في ذلك وقلبوا الحقيقة، فإن الدين والعلم حميمان يكمل أحدهما الآخر ويقويه، أما نسبتهم مذهبهم إلى العلم, فإن الحقيقة تدل على أنه لا علاقة بين العلم وبين هذه الفكرة الضالّة، بل إن تسميتها علمانية إنما هو بسب سوء الترجمة من معناها الغربيّ الذي هو الابتعاد عن الدين، أو من باب الخداع والتضليل؛ إذ كان الأولى أن تكون ترجمتها وتسميتها أيضًا هي "اللادينية"؛ لأن مفهومها الأصليّ هو هذا, وليس نسبة إلى العلم. وما أقوى التشابه بين تسميتهم العلمانية بهذ الاسم نسبة إلى العلم,

وبين تسميتهم الاشتراكية بهذا الاسم كذلك, كلاهما تمسُّح بالعلم وهو بريء منهما، وكلاهما خداع الناس وتضليل. وبعض الباحثين ذهب إلى أن "علمانية" -بكسر العين وسكون اللام- معناها: العلم الذي هو ضد الجهل، وأما "علمانية" -بفتح العين وسكون اللام- فمعناها: العالم أو الدنيا في مقابل الآخرة، وتأتي علمانية أيضًا بمعنى دهريّ تفسير لكلمة "لاتيك" الفرنسية, وهو تعبير نشره اليهود في فرنسا فيما بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر الميلاديين1.

_ 1 انظر "نشأة العلمانية ودخولها المجتمع الإسلامي" ص23.

الفصل الثاني: التعريف الصريح للعلمانية

الفصل الثاني: التعريف الصريح للعلمانية الواقع أن دارس العلمانية سيلاحظ تعريفات كثيرة، إلّا أن أصدق تلك التعريفات وأقربها إلى حقيقة العلمانية, هو أن العلمانية مذهب هدَّام يُرَاد به فصل الدين عن الحياة كلها وإبعاده عنها, أو هي إقامة الحياة على غير دين, إمَّا بإبعاده قهرًا, ومحاربته علنًا كالشيوعية، وإمَّا بالسماح به وبضده من الإلحاد, كما هو الحال في الدول الغربية التي تسمِّي هذا الصنيع حرية وديمقراطية, أو تدين شخصي، بينما هو حرب للتدين، ذلك أن حصر الدين في نطاق فردي بعيدًا عن حكم المجتمع وإصلاط شئونه هو مجتمع لا ديني؛ لأنه أقام حياته الاجتماعية والثقافية وسائر معاملاته على إقصاء الدين1. وهو حال الحضارة الغربية الجديدة ونظامها، وهذا هو الواقع الصحيح، ولا عبرة بمراوغتهم في زعمهم أنهم يرعون التدين، فإنها مجرد خداع للمتدينين، فإن تسميتهم لهذا الإلحاد علمًا هو من باب فرحهم بمعرفتهم ظاهرًا من الحياة الدنيا، وأين هو من العلم الحقيقيّ الذي يوصِّل صاحبه إلى معرفته ربه ودينه, وإلى السعادة في الدنيا والآخرة.

_ 1 انظر العلمانية, محمد قطب, ص5. 2 وانظر العلمانية, سفر الحوالي, ص21.

الفصل الثالث: نشأة العلمانية وموقف دعاتها من الدين وبيان الأدوار التي مرت بها

الفصل الثالث: نشأة العلمانية وموقف دعاتها من الدين, وبيان الأدوار التي مرَّت بها لقد قامت العلمانية اللادينية على الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى وإنكار الأديان، وهي رِدَّة في حق من يعتنقها من المسلمين مهما كان تعليله لها، وكانت العلمانية عند قيامها في مرحلتها الأولى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين, تنظر إلى الدين على أنه ينبغي أن يكون أمرًا شخصيًّا لا شأن للدولة به, إلّا ما يتعلق بحباية الضرائب للكنيسة، ولعلَّ هذا كان خداعًا لأهل الدين, ثم اشتدت المواجهة للدين على النحو الذي تطوَّرت إليه بعد ذلك، وكان الخلاف محتدمًا ما بين رجال الدين ورجال العلمانية على السلطة، مما جعلهم ينادون بفصل الدين عن الدولة ليستقلَّ كل فريق بسلطته. حتى إذا جاء القرن التاسع عشر، وهي المرحلة الثالثة؛ إذ بالعلمانيين يتجهون اتجاهًا منافيًا لكل مظاهر الدين والتدين، وأحلَّوا الجانب المادّي محل الدين، وبدأ الصراع يشتد بين العلمانيين اليساريين الناشئين وبين رجال الدين الكنسي المتقهقر، إلى أن أُقْصِيَ الدين تمامًا، ولم يعد للإيمان بالغيب أيّ مكانة في النفوس؛ إذ حلَّ محله الإيمان بالمادي المجرد المحسوس1.

_ 1 انظر "الاتجاهات الفكرية المعاصرة", ص92، 93.

ورغم وضوح الإلحاد في المذهب العلماني, فقد ظهر من يزعم زورًا وكذبًا أنه لا منافاة بين العلمانية وبين الدين، وأخذ بعض الجاهلين والمتجاهلين يرددون هذا الفكر المغالط كالاشتراكيين تمامًا، على أنه لا ينبغي أن يغيب عن ذهن القارئ أن حرب الغرب للدين وأهله إنما جاءهم من دين محرَّف معادٍ لكل مفهوم للحياة الجديدة؛ لأن النصرانية التي جاء بها المسيح -عليه السلام- قد اندثرت وحرِّفت وضاع إنجيله بعد رفعه بفترة قصيرة، فتزعَّم الديانة بولس اليهودي الحاقد، فجاءت خرافية مصادمة للعقل والمنطق والواقع، ومن هنا وجد أقطاب العلمانية أن الدِّين -وهو تعميم خاطئ- لا يمكن أن يساير حضارتهم الناشئة، وأن رجال دينهم طغاة الكنيسة لا يمكن أن يتركوهم وشأنهم -وهو ما حدث بالفعل, وعلى إثر ذلك قامت المعركة بين الدين وأقطاب العلمانية، ونشط العلمانيون في بسط نفوذهم، وساعدتهم على ذلك عامَّة الشعوب الأوربية التي أذاقتها الكنيسة الذل والهون والالتزام بدين لا يقبله عقل أو منطق، فوجدوا في الالتجاء إلى رجال الفكر العلمانيين خير وسيلة للخروج عن أوضاعهم. وإذا كان القارئ يرى أن للغرب حجَّتهم في رفض ذلك الدين البولسيّ الجاهلي، فإنه سيرى حتمًا أن انتشار العلمانية في بلاد المسلمين أمر لا مبرر له بأي حال، ولا سبب له إلّا قوة الدعاية العلمانية, وجهل كثير من المسلمين بدينهم, وجهلهمم كذلك بما تبيته العلمانية للدين وأهله, واتِّبَاعًا للدعايات البراقة.

الأدوار التي مرت به العلمانية في نشأتها: وقد ذكر الدكتور العرماني أن العلمانية قد مرَّت في تطورها بأدوار هي كما يلي: الدور الأول: وقد كان دور الصراع الدموي مع الكنيسة، وسمِّي هذا الدور بعصر التنوير, أو بداية عصر النهضة الأوربية, ويعود سببه إلى تأثر الأوربيين بالمسلمين إثر اختلاطهم بهم عن طريق طلب العلم في الجامعات الإسلامية، وقد ذاق علماء الغرب في هذا الدور ألوانًا من العذاب على أيدي رجال الكنيسة إثر ظهور الاكتشافات العلمية هناك, ووقوف رجال الكنيسة ضد تلك الاكتشافات وجهًا لوجه. الدور الثاني: ظهور العلمانية الهادئة, وتغلُّب رجالها على المخالفين من رجال الكنيسة، وفيه تَمَّ عزل الدين عن الدولة, وانحصرات مفاهيهم الكنيسة في الطقوس الدينية فقط, بعيدة عن الحياة الاجتماعية كلها. الدور الثالث: وفيه اكتملت قوة العلمانية ورجالها، وحلَّ الإلحاد المادي محل الدين تمامًا1. ثم برزت الرأسمالية من الروافد المقوية للإلحاد العلماني، فاكتمل تطويق الدين ورجاله, واعتبر الدين عدوًا للحضارة، وصار محلَّ سخرية الجميع في ردِّ فعل عارم يريد أن يكتسح كل شيء أمامه مما كان موجودًا؛ ليفسح الطريق أمام الوضع الجديد المتمرِّد على كل الأوضاع التي قبله.

_ 1 بتصرف عن "نشأة العلمانية ودخولها المتجمع الإسلامي" ص42.

الفصل الرابع: الرد على من زعم أنه لا منافاة بين العلمانية وبين الدين

الفصل الرابع: الردّ على من زعم أنه لا منافاة بين العلمانية وبين الدين ما أكثر المغالطات التي توجَّه إلى خلط المفاهيم, إما على جهل بالحقائق, وإما عن معرفة وطوية مبيتة شريرة. ومن العجيب حقًّا أن يتبجَّح منشئوا العلمانية بأنها حرب على الأديان, وتذويب للمجتمعات في بوتقة اللادينية, ثم يأتي بعد ذلك من يحاول تغطية هذا المفهوم الواضح فيدَّعي التوافق بينهما, بحجَّة أن العلمانية والدين يجتمعان في الحثِّ على نبذ التأخّر -حسب مفهومهم, وعلى الحثِّ على العلم والاكتشافات والتجارب، والدعوة إلى الحرية، أو أن العلمانية تخدم جوانب إنسانية, بينما الدين يخدم جوانب إلهية ... إلخ. ترهاتهم، ولنا أن نقول للمغالطين: إن العلمانية لم تظهر في الأساس إلّا بسبب الخلافات الشديدة بين دينهم وبين علمانيتهم، وإلّا فما الذي أذكى الخصومة بين الدين والعلمانية عندهم؟ نعم, إن الدين الصحيح يدعو إلى نبذ التأخُّر والأخذ بالعلم ومعرفة الاكتشافات والبحث والتجارب, ويدعو إلى الحرية، لكنه لا يجعل تلك الأمور بديلًا عن الخضوع للتعاليم الربانية, أو الاستغناء عنها وإحلال المخترعات محل الإله -عز وجل، بل يحكم على كل من يعتقد ذلك بالإلحاد ومحاربة الدين علنًا، وهو ما سلكته العلمانية بالنسبة لنبذها للدين.

والدين الصحيح لا يفصل السياسة والحكم بما أنزل الله تعالى، ولا يجعل قضية التدين قضية شخصية مزاجية، ولا يبيح الاختلاط ولا السفور, وإعلان الحرب على القيم والأخلاق, بينما العلمانية لم تقم في الأساس إلّا على تكريس البعد عن الدين -النصراني- وإباحة الشهوات بكل أشكالها, فأيّ وفاق بينهما؟! كذلك فإن الدين لا يبيح لأي شخص أن يشرِّع للناس من دون الله تعالى، ولا أن يتحاكموا إلى غير شرع الله تعالى, وهذا بخلاف العلمانية، كما أن التوافق بين شيئين في بعض الجوانب لا يجعلها متماثلين حتمًا. أما هل يوجد وفاق بين الإسلام بخصوصياته وبين العلمانية؟ فإنها إذا كانت العلمانية لا تتوافق مع بعض المذاهب الوضعية الجاهلية وتقف ضد نفوذها، أفيمكن أن تتوافق مع الإسلام بخصوصه، إن الذين يتصورون ذلك لا يحترمون عقولهم ولا مشاعر الآخرين, أليس الإسلام هو العدو اللدود لجميع الجاهليات مهما اختلفت أسماؤها في حزم وصرامة دون أي تحفظ, لا يختلف في ذلك مسلمان؟ وكيف تتفق العلمانية القامئة على الشرك بالله -عز وجل- والكفر به ورفض التحاكم إلى شرعه -عز وجل، وبين الإسلام القائم على عبادة الله وحده لا شريك له ذلًّا وخضوعًا وحكمًا في كل شيء.

لقد قامت العلمانية من أوِّل يوم على محاربة الدين وعدم التحاكم إليه، وعلى الخضوع لغير الله تعالى, إما الطبيعة وإما في عبادة بعضهم بعضًا, بعد أن ابتعدوا عن الدين وعن الخضوع لرب العالمين, وأشركوا معه سبحانه فئة من البشر يسمونهم بالمشرِّعين أو القانونيين، ويقدمون كل ما يقرره هؤلاء, وينفرون عن ذكر الشريعة الإلهية والرسل والرسالات؛ لأنها بزعمهم لا تقدم الحلول الناجحة كالتي اخترعوها. متناسين هذه الفوضى الفكرية والأخلاقية والاقتصادية.. إلخ، الفوضى التي تعيشها المجتمعات العلمانية ونقضها اليوم ما أثبتته بالأمس: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1. ولعل الذي حمل بعض القائلين بأن العلمانية لا تحارب الدين ما يرونه من عدم تعرُّض العلمانيين لسائر أهل العبادات بخلاف النظام الشيوعيّ، ولكن يجب أن تعرف أن أساس العلمانية لا ديني، ولعل تركهم لأهل العبادات إنما هي خطة أو فترة مؤقتة.

_ 1 سورة النساء، الآية: 82.

الفصل الخامس: أسباب قيام العلمانية في أوربا

الفصل الخامس: أسباب قيام العلمانية في أورب ا 1 لقد نشأت العلمانية في أوربا البلد المضياف لشتَّى الانحرافات والمذاهب الفكرية الضالَّة لأسباب عديدة، نذكر منها بعض الأسباب فيما يلي: 1- السبب الأول: هو الظروف القاسية التي عاشتها أوربا قرونًا طويلة تحت سيطرة طغاة الحكام وطغاة رجال الدين الكنسي, الذين وصلوا في الطغيان وضروب الخرافات إلى ما لا يتصوره العقل من التجبُّر والتناقض, والظلم الفادح, واستعباد الناس وإذلالتهم, والفقر المدقع, ومحاربة كل فكر يخالف ما هم عليه. 2- لقد أفاق العلمانيون الجدد على دين لا يقبله العقل ولا يقره المنطق، وعلى جرائم خلقية من جنس وبذخ ودعارة لا حدود لها بين رجال الكنسسية أنفسهم -رهبانها وراهباتها- وقد ذكر ول دبورانت: "إن سجلات الأديرة احتوت على عشرين مجلدًا من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين رجال الكنيسة وراهباتها"، واستمع للمزيد من إذاعة لندن في بيانها لمثل هذه الأمور بين فترة وأخرى تسمع العجب. 3- ظهور أشنع الخرافات الهابطة مثل: صكوك الغفران, والعشاء الرباني, والتثليث, وغير ذلك مما تحدثنا عنه في دراسة النصرانية في مادة الأديان.

_ 1 وبالأخص في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.

4- اتصال بعض الأوربيين بالمسلمين ومخالطتهم لهم في الجامعات لهم في الجامعات الإسلامية بالأندلس, واطلاعهم على حال المسلمين من حرية وعدالة اجتماعية، فتنبَّهوا لواقعهم. 5- ما كان يمارسه رجال الدين الكنسي من سوء المعاملة لمن خالفهم في قول أو فعل, وما كانوا يفرضونه من ضرائب باهظة, وتسخير مشينن للناس التابعين لهم تحت تسمية نظام السخرة، وما كان يتميِّع به رجال الكنيسة من امتيازات لا حدود لها, وحياة الترف والبذخ التي كانوا يعيشونها على حساب الفقراء والمعدمين. وعن فساد رجال الكنيسة تقول القديسة -كما يسمونها- "كاترين السينائية": "إنك أينما وليت وجهك سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين, أو الطوائف الدينية المختلفة, أو الأخبار من الطبقات الدنيا أو العليا, سواء أكانوا صغارًا في السن أو كبارًا, لم تر إلّا شرًّا ورذيلة تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة, إنهم كلهم ضيقوا العقل شرهون, اتخذوا بطونهم إلهًا لهم يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة؛ حيث يتمرغون في الأقذار, ويقضون حياتهم في الفسق والفجور"1. ومن الأدلة على ضيق أفق رجال الدين النصراني موقفهم المشين من العلم، وقد وصف "نورليان" ذلك فقال: "إن أساس كل علم عندهم هو الكتاب المقدَّس وتقاليد الكنيسة، فالكتاب المقدَّس يحتوي على العرفان

_ 1 قصة الحضارة, 21، 84، 85, عن الاتجاهات المعاصرة ص94.

على المقدار الذي قدر للبشر أن ينالوه، فجميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض وتاريخ الأمم, ما يجب أن نعتقد تسليمه مهما عارض العقل أو خالف شاهد الحس، فعلى الناس أن يؤمنوا به أولًًا, ثم يجتهدوا ثانيًا في حمل أنفسهم على فهمه، أي: على تسليمه أيضًا"1. لقد أفاق المفكرون على هذا الغبن الفاحش والفساد العريض والظم الذي لا يردعه رادع باسم الدين والتقرب إلى الله تعالى بطاعة الرهبان والخضوع لهم. فإذا بهم يطلقون الصرخات الحارة, والنداءات المخلصة للشعوب أن يفيقوا من تنويم الدين النصراني لهم, وأن ينفضوا عنهم غبار الجهل المتراكم بسببه. فانفجر الناس وكأنهم البراكين الثائرة, وأخذوا ينادون بإقصاء الدين ومن يمثله عن طريقهم, وخرجوا وكأنَّهم طلاب ثأر موتورين، وحصل بعد ذلك ما حصل من الحروب الخفية والظاهرة بين رجال الكنيسة وبين المفكرين ومن تبعهم، وإذا بالأرواح تزهق, والضحايا تتوالى وتزداد، وحلَّ كابوس مخيف على أوربا, وليل داج أسفر بعد ذلك كله عن انتصار المارد الجديد, ودحض الكنيسة وترهتها, وتمريغ أنوف رجال الدين في الوحل، وابتلى الله الظالمين بالظالمين، وتنفَّست أوربا الصعداء، وإذا العداء بين الفريقين ملتهبًا لا يقر له قرار, ومن هنا أدار رجال الفكر ظهورهم للدين

_ 1 الإسلام والنصرانية مع العلم والمدينة, ص27، 28, عن الاتجاهات المعاصرة ص94.

ورجاله، واتجهوا إلى عقولهم، وإلى نبش شتَّى الفلسفات القديمة لبناء مذهبهم اللاديني الجديد، وتبنَّوا كل فكر إلّا فكرًا يتصل بالدين وأهله. وإذا طلبت كلمة الإنصاف, فإن الجواب أنَّ كل ما فعله المفكِّرون من محاربة الدين ومن يمثله قد يكون أمرًا منطقيًّا تمامًا, ولهم حجتهم فيما فعلوه تجاه الدين القائم على رءوسهم؛ لأنه دين باطل، ومن يمثلونه كانوا يمثلون الطغيان بكل معانيه، ولكنهم أقاموا باطلًا على أنقاض باطل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يخرجون عن المسئولية تمامًا؛ لأنه كان يجب عليهم أن يبحثوا عن الدين السليم الذي يتفق مع فطرهم وعقولهم، وسيجدونه في متناول أيديهم، وسيجدون أنه الدين الذي يريحهم من ظلم وخرافات النصرانية البولسية المحرَّفة وطغاتها، ويتفق مع العقول، ويحثَّهم على إكمال مخترعاتهم, ويبارك جهودهم. إنه الدين الإسلامي الذي يحارب الظلم والخرافات, وينير الطريق لأتباعه ويسعدهم في الدنيا والآخرة, ويحثهم على العلم والتعلم واحترام العلماء وتجاربهم، ولو اتجه العلمانيون إليه لكانوا في راحة وسعادة بدلًا عن الشقاء الجديد الذي انتقلوا إليه، والذي تمثَّل في ظلم وطغيان الشيوعية والرأسمالية, وخدع الديمقراطية والعنصريات القومية والوطنية, وغيرها من المذاهب التي تخبَّط العلمانيون في ظلماتها، ولا يزالون, لبعدهم عن الطريق الصحيح الذي كان يجب عليهم أن يسلكوه؛ إذ أن الظلم لا يرتفع بالظلم، والجهل لا يرتفع بالجهل، فكان انقلابهم من قبضة رجال الدين

النصراني, وإطلاق سيقانهم للريح هربًا منهم دون أن يلووا على شيء, أشبه ما يكون يهرب عبد آبق من سيده الظالم ليقع في يد آخر أظلم منه وأطغى. وما تعيشه شعوب العلمانية اليوم من فوضى أخلاقية وظلم اجتماعي واستعلاء بعضهم على البعض الآخر، إنما هو دليل واضح على فساد تلك النقلة العلجة على أيدي المفكرين الغرييين، وهذا ما شهد به عقلاء الغرب والشرق على حدٍّ سواء, في انتقاداتهم لأوضاعهم الاجتماعية وحضارتهم القائمة على تأليه المادة وعبادتها. 6- وإذا كان طغيان، رجال الكنسية وحماقاتهم هو السبب الأكبر في نشأة العلمانية، فإن هذ لم يكن هو السبب الوحيد، بل انضافت إليه أسباب أخرى لا تقلّ أهمية عن كل ما تقدَّم، وتمثَّل ذلك كما عرفت في تلك المواقف المخزية لرجال الدين الجامدين القساة ضد أصحاب العلم التجريبي, وما وصلوا إليه من اكتشافات جديرة بالاحترام والقبول, لولا أن هؤلاء قابلوهم بأنواع الاضطهاد والتعذيب، وكان لرجال الكنيسة صولات وجولات مع كل المفكرين، حيث أذاقوهم من التعذيب ما لا يعلمه إلا الله وحده, بعد أن نصبت لهم محاكم التفتيش التي استعملت من أنواع التعذيب بالمخالفين الذين أطلق عليهم رجال الدين لقب "الهراطقة" ما لا يتصوره العقل، حيث "كانت المحكمة عبارة عن سجون مظلمة تحت الأرض, بها غرف خاصة للتعذيب, وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري, وكان الزبانية يبدأون بسحق عظام الأرجل, ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيًّا حتى يهشم الجسم

كله, ويخرج من الجانب الآخر كتلة كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم، وكان لدى المحكمة آلات تعذيبية أخرى, منها آلة على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، يلقون الضحية في التابوت ثم يطبقونه عليه فيمزقه إربًا إربًا، وآلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب, ثم تشد فتقطعه قطعة قطعة، وتعزر في أثداء النساء حتى تتقطع كذلك، وصور أخرى تتقزز منها النفوس وتشمئز لذكرها"1. وهكذا ظلَّ رجال الدين يطاردون العلم والعلماء خوفًا على مناصبهم أن تذهب بها فكرة أدراج الرياح. ولم يكن لأولئك الرجال من سعة الأفق ما يحملهم على تفهم اكتشافات وآراء المفكرين, ومقابلة الرأي بالرأي, والحجة بالحجة، بل قابلوا ذلك بالعنف الذي تحوّل لصالح المفكِّرين ونظرياتهم, وألهب قلوب الجماهير النصرانية في كل مكان. 7- الثورة الهائجة لتي قامت في فرنسا على تعاليم الكنيسة الظالمة بعد أن ذاق الفرنسيون ألوان الحرمان والجوع والشقاء, وبعد أن تبيِّن لهم أن كل أسباب تلك المصائب هم طبقة النبلاء الأشراف وطبقة رجال الدين، فخاضوا ثورتهم المشهورة التي أسفرت عن انتصار الشعب وسحق رجال الدين, وكل ما يتصل بالدين انتقامًا لما أسلفه رجال الدين نحوهم، وكانت سببًا من الأسباب القوية التي

_ 1 العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة, ص132، نقلًا عن "التعصب والتسامح" لمحمد الغزالي ص311-318.

أدت إلى قيام العلمانية، حيث تعتبر تلك الثورة هي الفاتحة والمشجِّع الأوّل لقيام العلمانية وإخفات أصوات طغاة الكنيسة، وكذا المناداة بإقامة الحكم على اللادينية, وعلى القوانين التي يصنعونها بدلًا عن قوانين الكنيسة وفلسفتها، وذاق رجال الكنيسة وبال أمرهم على أيدي زعماء هذه الثورة الذين كانوا من أعدى أعداء الدين والقيم والأخلاق, وكل ما يتصل بالدين وبالله -عز وجل. ولقد استفاد زعماء الثورة العلمانية من مواقف رجال الدين الذين حاولوا عبثًا تخويف الجماهير الغاضبة وكبح جحاحهم وإرجاعهم إلى حظيرة الكنيسة، ولكن كان غليان قلوب الجماهير فوق تصورات البابوات، فقد شبَّ الشعب عن الطوق, وأبصروا بأمِّ أعينهم الغبن الفاحش الذي حلَّ بهم على أيدي البابوات. 8- وانضاف إلى تلك الأسباب سبب آخر تمثَّل في الكيد اليهودي المندَّس ضمن الجماهير الهائجة في الميدان، فد اخترعوا مخططات لضرب الناس بعضهم بالبعض الآخر, وإشاعة الفوضى العارمة التي تسفك فيها الدماء بدون رقابة ولا تحقيق, إذا كانوا ينظرون إلى المسيحيين وإلى الدين المسيحي على أنه هو العدو الحقيقي الذي يحول بينهم وبين وصولهم إلى قمة العزة والكرامة, وملك اليهود العالم، كما أكدته الماسونية اليهودية. لذلك كانوا هم المحرِّك الفعال والداعم لهيجان الجماهير على رجال

الدين, ثم حوَّلوهم إلى الهيجان على الدين المسيحي نفسه، وقد أسفرت المعركة عن سحق رجال الدين الكنسي, وعن مطاردة الدين وعدم السماح له بالاستقرار في أي مكان من أجهزة الدولة الناشئة. 9- ثم جاء الإلحاد في ثورته العارمة ليضيف سببًا جديدًا لقيام العلمانية في أروبا، فساعد على زيادة النار اشتعالًا، والطين بلة, في موجة إلحادية قوية تمالأ عليها الملاحدة في شكل نظريات تبرهن على عدم وجود الله أصلًا, وأن الأشياء إنما وجدت بطبيعتها، وأن التدين إنما هو من صنع الإنسان وخيالاته, وليس من قوة إلهية خارجة عن البشر, وقد شكلت هذه الظاهرة مع ظاهرة الغضب الجماهيري كمَّاشة قوية على أعناق رجال الدين, وعلى الدين نفسه، مما أتاح فرصة سانحة لقيام العلمانية وسائر المذاهب في أوربا بقسميها الشرقي والغربي. وأودُّ هنا أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن دراسة حال أوربا قبل مجيء روَّاد الفكر والحرية, وبيان ما وصل إليه طغاة الكنيسة في الانحراف والخروج بالدين النصراني إلى الوثنيات على يد بولس وأتباعه, قد تمَّت دراسة كل ذلك في مادة الأديان، فارجع إليه إن شئت، وإنما الغرض هنا هو التنبيه إلى بيان السبب وراء ظهور العلمانية بإيجاز، ثم دراسة هذا المذهب بعد أن أصبح دينًا للقائمين عليه.

الفصل السادس: هل العالم الإسلامي في حاجة إلى العلمانية؟ وأسباب ذلك؟

الفصل السادس: هل العالم الإسلامي في حاجة إلى العلمانية؟ وأسباب ذلك؟ مما لا يصح أن يختلف فيه اثنان أن العالم الإسلامي ليس بحاجة إلى العلمانية بجميع صورها وأشكالها، وذلك لأمور كثيرة، من أهمها: 1- كمال الدين الإسلامي: وقد شهد بذلك أصدق القائلين ورب العالمين، عالم الغيب والشهادة، فقد قال في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلّا هالك" 2. فالإسلام دين كامل ونعمة تامَّة, رضيه الله لأمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم, وقد اتضح بما لا شك فيه حتى عند أعداء الإسلام أن هذا الدين هو الدين الصحيح, والمنهج السليم لسعادة وتحقيق آمالهم في الحياة السعيدة والأمن والأمان، قال الفيلسوف "برناردشو": "إني أعتقد أن رجلًا كمحمد لو تسلَّم زمام الحكم المطلق في العالم أجمع لتمَّ له النجاح في حكمه, ولقاده إلى الخير, ولحل مشاكله على وجه يكفل للعالم السلام والسعادة المنشودة"3.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 المستدرك على الصحيحين, الجزء الأول, ص175. 3 انظر: "الإسلام في نظر منصفي الشرق والغرب", ص131.

وقد جرَّبه المسلمون حينما كانوا يطبِّقونه قولًا وفعلًا، فكانوا سادة العالم, والمنقذين للبشرية من الجهل والخرافات والظلم, والتوجه الحقّ لعبادة فاطر السماوات والأرض, ونبذ عبادة من عداه، ولهذا ولغيره فإنَّه لا يوجد أدنى مبرر لأيّ مسلم أن يعرض عنه, ويتخذ العلمانية اللادينية الجاهلية عقيدة ومنهجًا له إلّا من سَفِهَ نفسه، ومن المؤسف أن يتكاثر السفهاء ممن ينتمون إلى الإسلام للتهافت على موائد العلمانية القذرة, وأن يزجُّوا بأنفسهم في الظلمات بعد أن وصلوا إلى النور, وأن ينحدروا إلى الهاوية بعد أن وصوا إلى قمَّة الأمان، وكأنهم لم يسمعوا بأنين أصحاب الحضارات الجاهلية, والظلم الفادح الذي يتجرَّعون غصصه, والخوف الشديد الذي يعيشونه, فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا, وكأنهم لم ينتفعوا بما جرَّبه غيرهم من طلب العزِّ بغير الإسلام, وما وصولوا إليه من الذل والحقارة. ومن كمال الإسلام أنه لم يدع أي أمر يحتاج الناس إليه إلّا وبيَّنَه أتمَّ بيان وأوضح حكم, سواء أكان ذلك في الاعتقادات أو في المعاملات, ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي أمثلة ذلك، بل يحتاج إلى دراسة خاصة، كما يلاحظ القارئ الكريم من خلال جهود علماء المسلمين قديمًا وحديثًا في بيانهم لكل ذلك على هدى من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, تجد ذلك الشمول في الإسلام لجميع جوانب الحياة عقيدةً وسلوكًا في كلِّ ما يتعلق بحياة الناس الدينية والدنيوية، وعلى سبيل المثال, انظر بيانه للشرك وأقسامه، والتوحيد وأقسامه، وتثبيت المراقبة الذاتية في قلب كل مسلم، والحثّ على الإخلاص

في كل شأن, وحسن المعاملة وتثبيت الفضائل, والتنفير عن الرذائل, والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، والتكافل الاجتماعي الحقيقي, والمساواة بين الناس. فلم يخلُ أي جانب من جوانب الأعمال القلبية والحسّية من وقوف الإسلام عنده, وبيانه بصورة واضحة ترغيبًا وترهيبًا. تجد فيه التنفير عن الرياء والغلظة والحسد والنفاق والكبر وسوء الظن والكذب والبهتان والغيبة والنميمة وشهادة الزور والغش وقذف المحصنات الغافلات وظلم النفس وظلم الآخرين وعدم الرفق بالإنسان أو الحيوان, وتحريم غمط الناس وإخلاف الوعد.... إلى آخر الصفات, فتنشأ في النفس المراقبة الذاتية لله تعالى, التي ينتج عنها الإخلاص الذي هو مصدر كل خير, وينتج عنها الخوف من الله تعالى، بينما هذه الصفات مفقودة في العلمانية، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولهذا نجد أن الجرائم في العالم العلماني منتشرة بشكل مخيف, دون أن تجد لها الأحكام الرادعة في غياب الخوف من الله تعالى وعدم مراقبته، فلا تجد فيها الدعوة إلى التواصل والتراحم والعطف على الضعفاء والمساكين وصلة الرحم وحسن الجوار, والمعاملة بالتي هي أحسن، كما يظهر فيه النقص الواضح في قضايا المعاملات, سواء كانت في البيوع أو النواحي الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية, وسائر المعاملات، فلا يوجد ذلك الإحساس الطيب بين الفرد ونفسه, وبينه وبين قرابته، وبينه وبين سائر المجتمع، وعلى هذا

فإننا نقول وبكل تأكيد واطمئنان: إنه لا توجد أي حاجة أو مبرر للالتفات إلى الجاهلية العلمانية وقوانينها البشرية القائمة على التناقض والاضطراب، بل ليس فيها ما يغري بها عند أصحاب العقول والهمم الرفيعة طلاب الحق والمعرفة. 2- لأنها لا تتفق مع الإسلام، وقد سبق الرد على زعم وجود التوافق بينهما. 3- ولأنها لا تصل إلى بلد إلّا وأنتجت من الشقاء والفوضى في الحكم والأخلاق والقيم وسائر السلوك ما لا يعلمه إلا الله تعالى. 4- ولقد ثبت فشلها في إسعاد المجتمعات التي ابتليت بها، فلماذ يجربها من ليس في حاجة إلى شيء من تعاليمها، ولماذا يدخل نفسه في شقاء لا مبرر له، والعاقل من اتَّعظ بغيره. 5- ولأن المسلم لا يجوز له الشك في صحة تعاليم الإسلام الحنيف، ولا أن يفضِّل القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية. 6- ولأن وجودها في أوربا وفي سائر المجتمعات الجاهلية كان له ما يبرره لفساد الحال فيها كما تقدَّم، بخلاف الأوطان الإسلامية التي أشرقت تعاليم الإسلام بها. 7- ولأن عقيدة الإسلام واضحة تمام الوضوح في بيان أمر الألوهية والنبوات, وكل ما يتعلق بأمر البشر والتشريع، فالله تعالى واحد لا شريك له

{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1 والأنبياء بشر أرسلهم الله بأنباء الله تعالى ولا شركاء له، والبشر كلهم عبيد الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} 2, والتشريع كله لله تعالى, الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة على حساب أحد, كما هو حال القوانين الوضعية. 8- ليس في الإسلام حجر على أن شخص أن يتصل بربه مباشرة وبلا واسطة؛ إذ الكل عبيد له سبحانه، أقربهم إليه أتقاهم له، بخلاف ما كانت عليه الكنيسة؛ إذ لا وصول فيها إلى الله تعالى إلّا من خلال رجال الدين, الرهبان والقسس الذين هم نواب عن المسيح الرب, ويمثلونه -بزعمهم, مما أثار ثائرة المفكرين الغيورين على مستقبل حياتهم وحياة أبنائهم. 9- ليس في الإسلام رجال دين ورجال دنيا، أو رجال تشريع وقانون، أو رجال طبقات مسخرة، وغير ذلك من أوضاع الجاهلية، فالناس في الإسلام كلهم في درجة واحدة في الأصل والتكليف, لا يتفاضلون إلّا بعلمهم وعملهم الصالح، فلا مزية بينهم إلّا في هذا الميدان، وبالتالي فلا يوجد فيه ما يبرر وجود تلك العداوات والعنصريات التي توجد في النظم الجاهلية العنصرية.

_ 1 سورة الإخلاص، الآيتان: 3، 4. 2 سورة النساء، الآية: 172.

10- الإسلام يحترم العلم ويحثّ على طلبه بكل الوسائل, كما يحترم العلماء ويثني عليهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2، وميدان العلم في الإسلام فسيحٌ يشمل كل جوانب المعرفة، سواء ما يتعلق منها بالدين ومعرفته, أو بالأمور الدنيوية ومعرفتها؛ من طب وزراعة وتجارة وصناعة وغير ذلك، بينما في الديانة النصرانية لا علم إلّا ما أشار إليه الكتاب المقدَّس، ولا حقَّ إلّا ما تفوَّه به رجال الدين مهما كان الأمر، ومن هنا كان العلم عند المسلمين يدعو إلى الإيمان, بخلاف ما عند النصاري ورجال العلمانية المحاربين للدين باسم العلم. ومن الغريب أن تجد في العالم الغربي اللاديني أن الذين ينادون بالعلمانية اللادينية هم أنفسهم الذين يساعدون الاتجاه الديني عند النصاري في دعم التنصير والاستشراق، وهم الذين يمدون الكنائس بالأموال السخيّة في سبيل نشر الفكر الغربي، بينما العلمانية في البلاد الإسلامية أُرِيَد لها أن تقوم على قطع كل صلة للمسلم بدينه؛ إذ كانت القسمة هكذا, إمَّا أن تكون شخصًا علمانيًّا مثقفًا متطورًا، وإما أن تكون دينيًّا جامدًا متخلفًا، ومن هنا نشأ بغض الدين الإسلامي في قلوب الحمقى ممن ركن إلى هذه الخدع الإجرامية الغربية النصرانية، فلماذا لم يظهر هذا التمايز اليوم بصراحة في الغرب

_ 1 سورة فاطر، الآية: 28. 2 سورة الزمر، الآية: 9.

النصراني الذي تسلل إلى زعامته كبار المنصِّرين، والذي اتخذ من التنصير والاستشراق ستارًا كثيفًا, بسط نفوذه في العالم الإسلامي. لماذ أصبح المندهشون من الحضارة الغربية وهم ينتسبون إلى الإسلام يستحي أحدهم أن يقول: أنا متطور ومثقف ومسلم في آنٍ واحد، وديني هو الدين الذي دعا إلى العلم, وعزَّز القائمين عليه وأكرمهم غاية الإكرام. وفي كل ما تقدَّم وغيره عظة لكل عاقل؛ إذ يزداد المؤمن إيمانًا بدينه وبنبيه -صلى الله عليه وسلم, ويعرف أهداف العلمانية وما تسعي إليه من حرب الإسلام والمسلمين وسائر السلوك الحسن.

الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين وبيان أسباب ذلك

الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين, وبيان أسباب ذلك عرفت مما سبق أن المسلمين ليس بهم حاجة إلى العلمانية، ومع ذلك فقد انتشرت العلمانية في ديار المسملين انتشارًا قويًّا، وأوجد لها أعداء الإسلام عملاء من أهل كل بلد, ينوبون عنهم في نشرها بالحيل أحيانًا, وبالقوة أحيانًا أخرى، وكان هؤلاء النواب أشدّ من ملاحدة الغرب شراسة وإلحادًا، وأشد جرأة وتعسفًا لأبناء جنسهم في إرغامهم على قبول اللاديينة, وربُّوا عليها أجيالهم، وأصبحت في كثير من البلدان أمرًا مسلَّمًا به، وحلَّت محل الإسلام في كل ناحية, مع التظاهر عند البعض بالتزام الإسلام. والأمثلة لا تخفى على القارئ، فقد أصبحت تركيا دولة علمانية لا دينية على يد المجرم "أتاتورك", الذي قطع كل صلة لتركيا بالإسلام والمسلمين, والذي كان علي يديه إسقاط آخر خليفة مسلم في الدولة العثمانية، وإسقاط الدستور الإسلامي, واستبداله بالقانون المدني السويسري، وقانون الجزاء الإيطالي، والقانون التجاري الألماني، وغيرها من القوانين الوضعية الجاهلية، وتعهَّد بإخماد كل حركة إسلامية، وربط تركيا مباشرة بالدول الغريبة، وكان من نتائج ذلك أن تمزَّق المسلمون ولم تعد لهم جامعة تجمعهم ولا رابطة تربطهم، وهو ما تحقَّق لأعداء المسلمين من المستعمرين، ولا يزال حكام تركيا يتزلفون إلى الغرب، ولم تكن تركيا وحدها هي الضحية، بل كانت كل الدول الإسلامية التي كانت خاضعة للاستعمار الإنجليزي أو

الفرنسي، أو غيرهما، دخلتها العلمنية من أوسع الأبواب، وأدخلت تلك الدول كله في ظلمات العلمانية، وأُقْصِيَ عنها التشريع الإسلامي بالقوة, مثل ما حصل في الهند على يد البريطانيين، وفي تونس على يد الفرنسيين, وقويت العلمانية كذلك في مصر, وأصبح لها كُتَّاب يدافعون عنها، بعضهم كان ينتسب إلى الأزهر مثل: "علي عبد الرازق" و"خالد محمد خالد" الذي يقال: إنه رجع عن ذلك. ولا تزال الدول الإسلامية في مَدٍّ وجزر في تقبُّل العلمانية أو ردِّها، وإن كانت الأكثرية قد انخدعت ببريق العلمانية ومنجزاتها الحضارية المزعومة، بل لقد أصبح الكثير من الزعماء يراهن على بقائه في الزعامة في تزلفه لأقطاب العلمانية اللادينية في الشرق أو في الغرب، وبما يقدمه من خدمات في استيراد العلمانية ومحاربة الشرعية الإسلامية وممثليها، ولا يكتفون بهذا الإجرام، بل يضيفون إليه أن الشعوب هي التي تطلب ذلك، والساسة يذبحون الشعوب بأيدي الشعوب، ويتم كل ذلك دون أن تعلم الشعوب شيئًا عمَّا يجري في الخفاء وارء الكواليس في الشرق أو في الغرب, مع أنَّ كل عمل إنما ينفذ باسم الشعب، وأين الشعب, وأين ما يجري وراء الكواليس. الأسباب التي أدَّت إلى انتشار العلمانية في بعض ديار المسلمين: مما لا شك فيه أن انتشار العلمانية اللادينية أو غيرها من المذاهب الباطلة, إنما تنتشر في غفلة وخواء النفس عن التمسك بالمعتقد

الصحيح، وفي الوقت الذي يرى فيه الإنسان حسنًا ما ليس بالحسن من جرَّاء الدعايات البراقة, أو الضعوط الشديدة. وفيما يلي نبيِّنُ بعض تلك الأسباب التي أدَّت إلى انتشار العلمانية في ديار المسلمين، ويمكن أن يكون من أول الأسباب كلها: جهل المسلمين بدينهم: فلقد مرَّت بالمسلمين فترات ساد فيها الجهل, وتغلبت الخرافات, وقلَّ فيها الإقبال على العلم والتعلُّم, حتى وصل الحال إلى إمكان عَدِّ الذين يقرأون ويكتبون في البلد الواحد، وحتى الكثير من هؤلاء القراء والكُتَّاب قد لا يقرأ أحدهم إلّا القرآن الكريم من المصحف دون فهم ولا تدبر، وأُقْفِلَ باب الاجتهاد حين غلب الجهل, وقلَّ العلماء المجددون, وجمدوا على التعصب للآراء, وتشعَّبوا إلى مذاهب فكرية وطوائف متعارضة يحتدم بينها التنافس المنحرف, لا لشيء إلا لأجل بسط النفوذ واكتساب الأتباع، وهذا الانحراف ممثَّلته الصوفية بأجلى مظاهره؛ حيث نام الناس على ترديد أوراد جوفاء في معظمها للتبرك وزهد كاذب عن الدنيا وملذاتها. والناس في نظر أقطاب الصوفية أصبحوا مذنبين مقصرين في جنب الله، وحصل عند بعض المتصوفة المسلمين ما حصل للنصارى في نشوء طغيان رجال الكنيسة في تجريمهم للناس, وتحطيم معنوياتهم, والضغط عليهم للتمسك برجال الدين أصحاب الجاه العريض عند الله، فبهم وحدهم أزمَّة الأمور, وبرضاهم يرضى الله, وبسخطهم يسخط.

واخترع الصوفية في مقابل هذا الغلوِّ النصراني مقالتهم المشهورة "من لم يكن له شيخ، فشيخه الشيطان"، واخترعوا أشدَّ من صكوك الغفران عند النصاري، وهو ضمان القطب الصوفي الجنة لمن يريد، ووصل الهوس بأتباع التصوّف إلى الكسل التامِّ والخمول المخزي, بحجة التوكّل على الله, وترك حطام الدنيا, إلى غير ذلك من مسالك الصوفية مما سبق بيانه في دراستنا للتصوف1. وعلى كل حالٍ, فإن تلك الأوضاع الشائنة التي كان فيها المسلمون, مضافًا إليها سرعة انتشار الجهل، مضافًا إليها النهضة العلمية التجريبية التي شهدتها أوربا، كل ذلك وغيره قد أثَّر تأثيرًا قويًّا في ليِّ أعناق كثير من المسلمين إلى التأثُّر بالحضارة الغربية، فذهبوا يحاولون جاهدين تقريب تلك الحاضرة الغربية إلى الحضارة الإسلامية على حساب الحضارة الإسلامية, بحجة الانفتاح والاستفادة مما وصل إليه الغرب الذي تطوّر إلى أن وصل إلى الحال الذي ينظر إليه بعين الإكبار عند المغتربين بزخرف الحياة الدنيا، وقد اقتبس الكثير من المسلمين كثيرًا من المفاهيم الأوربية, وقدَّموها للمسلمين على أنها حلولًا لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تتماشى مع الإسلام، وانخدع بذلك الكثير من المثقَّفين ومن غير المثقَّفين، وكأننا نسير إلى تحقيق ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من اتباع المسلمين سنن مَنْ كان قبلهم من اليهود والنصارى في كل شيء، حتى لو دخل أحدهم جحر ضبّ لدخله المسلم محاكاة وتقليدًا دون وعي وتبصُّر.

_ 1 انظر: "فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام, وبيان موقف الإسلام منها" دراسة الصوفية.

ولقد زاد انبهار المسلمين بما عند الغرب، فقد أصبح التغريب من الأدلة القوية على التمدُّن والتحضُّر، وأن تلك العلمانية الملحدة هي التي أوصلت أوربا إلى صنع الطائرة والصاروخ، وغير ذلك من الدعايات التي أجاد حبكها العلمانيون وأفراخهم في البلدان الإسلامية, الذين يصورون العالم الإسلامي وكأنَّ السبل قد أنسدت عليهم, والطرق قد انقطعت بهم, ولم يبق لهم إلّا منفذ واحد يتنفَّسون منه, وهو منخر الحضارة الغربية العلمانية العاتية. ومن المعروف أن الحقد الصليبي، وخصوصًا نصارى العرب جمرة مشتعلة لا تنطفئ إلّا أن يشاء الله تعالى، ولقد أخبرنا الله -عز وجل- في كتابه الكريم أنَّ اليهود والنصارى لا يمكن أن يرضوا عن المسلم حتى يتبع ملتهم, ويتخلَّى عن دينه الإسلامي، فقال -عز وجل- عن ذلك ومؤكدًا عليه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} 1. ولقد وقف النصارى ضد الإسلام منذ بزوغ فجره وإلى اليوم, وكان بين النصارى وبين أتباع الإسلام من الحروب وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، ولا يقف عدو للإسلام إلّا وقف النصارى إلى جانبه مؤيدين له، ولا يجهل طلاب العلم شراسة الحروب الصليبية التي خاض غمارها جحافل الصليب, يؤجح نارها طغاة الكنيسة الذين كانوا يضمنون الجنة لكلِّ من حمل صليبه وسيفه لحرب المسلمين, التي كانوا يسمُّونها جهادًا في سبيل الله وحربًا مقدَّسة.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 120.

وقد استمرت عدواة العالم الغربي النصراني للإسلام والمسلمين راسخًا في قلوب النصارى حتى بعد أن أدار العالم الغربي ظهره للنصرانية؛ إذ لم تمنعهم عداوتهم للدين النصراني من شدة تعصبهم لما وقع في أسلافهم تحت السيوف المسلمة، فقد أصبحت عداوتهم للإسلام أمرًا موروثًا بالفطرة, واستحكمت العداوة إلى الحد الذي أصبح من المستحيل أن يبقى أدنى عطف في قلوب النصارى على أي مسلم، ولكنهم ينافقون المسلمين بأنواع النفاق كلها تحت مسمَّيات عديدة، واشتد العداء للإسلام بسب وقوفه ضد مطامعهم وضد طغيانهم الجديد الذي أعقب طغيان رجال الكنيسة، وبسبب دعوة الإسلام إلى التحرر من كل الخرافات والأوهام, وإلى تحريمه الذل للكفار والاستكانة لهم، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة الظاهرة والخفية. ولقد اتخذت عداوة النصارى للإسلام ومحاربتهم له أشكالًا مختلفة ومظاهر عِدَّة، ابتداء بحمل السلاح وتجييش الجيوش النظامية إلى الالتجاء للخداع والمكر المتمثِّل في غزوهم الفكري للعالم الإسلامي تحت عدة أقنعة, من التنصير إلى الاستشراق إلى استجلاب أبناء المسملين وتنصيرهم بطرقهم المختلفة؛ من بناء المدارس لهم, والمستشفيات, وإنشاء شتَّى المرافق التي قدَّمنا ذكرها، ونشطوا في ذلك نشاطًا عاليًا, أثمر فيما بعد استيلاءهم على العالم الإسلامي حسيًّا ومعنويًّا, وعلت حضارتهم المادية التي يفاخرون بها على حضارة الإسلام، علت في قلوب مريضة أصيبت بالانبهار بما عند الغرب من صناعة وفكر ونظام, سهل بعد ذلك تسرب العلمانية إلى عقول وجهاء وأصحاب نفوذ صاروا ربائب الأكابر وجهاء العلمانية.

وقد توالت الهزائم على العالم الإسلاميّ, فلا يخرجون من هزيمة إلّا إلى أخرى، وأصاب المسلمين الوهن والاستخذاء أمام العبقرية الأوربية، ونجح الجزء الأكبر من المخطَّطات اللادينية، وتضافرت الجهود, وأشغلوا المسلمين بأحداث هامشيِّة فيما بينهم, لا تخدم أيَّ شكل من أشكال المصالح العامة. وكانت أكبر الخطط الناجحة هي تلك التي اتفق عليها زعماء الغرب من ضرب المسلمين بعضهم ببعض, والاتجاه بالحرب وجهةً أخرى ليس فيها جيوش ولا آلات حربية، وإنما هي حرب الإسلام ذاته عن طريق الغزو الفكري بدون إثارة المسلمين, والتفنن في إطلاق الشعارات البرَّاقة على أعمال العلمانيين والمنصِّرين في البلاد الإسلامية, في أشكال مساعداتٍ ظاهرها الرحمة وباطنها دمار الإسلام والمسلمين1. أما الاحتلال الشيوعي الماركسي: ففي الشرق الإسلامي قامت الشيوعية الماركسية باحتلال أراضي المسلمين هناك, وقتلت أهلها قتلًا ذريعًا, وقامت الصين بنفس العمل أيضًا حينما احتلت أجزاء من الأراضي الإسلامية، وكان الجميع يتباهون بقتل وتشريد المسلمين ونشر الرعب

_ 1 كتبت هذا الكلام قبل الأحداث الأخيرة في أمريكا، وأما اليوم فإننا كما نسمعهم في الإذاعات تهدد أمريكا علنًا باحتلال العراق, وأن يتولى حكمه جنزال أمريكي، ولا أحد يدري عن مصير المسلمين إلا الله تعالى. وبعد هذا الكلام والترقب وقع المكروه، والآن أمريكا تحتل العراق وتذيق أهله ألوانًا من الذل والتنكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.

والفساد، فتوالت على المسلمين النكبات من كل جانب، ولولا لطف الله تعالى وتكلفه بحفظ دينه وكِتَابه لكان العالم الإسلامي في مهبِّ الريح، فلقد فعل الشيوعيون بالمسلمين وبممتلكاتهم أفعالًا يندى لها الجبين، فكانوا يهدمون المساجد والبيوت على مَنْ فيها, في حقدٍ لا نظير له، والحمد لله الذي أقرَّ أعين المسلمين بموت الشيوعية واندحارها في عقر دارها، سنَّة الله في الباطل الذي يكون له صولة ثم يضحمل -كما سيأتي الحديث عن هذا المذهب الهدام وأتباعه الأبالسة. أما بالنسبة للاحتلال اليهودي لأراضي المسلمين: فلقد كان له تأثير واضح نجح رويدًا رويدًا من وراء ستار, كما هو شأن اليهود الذين يجيدون المؤامرات السرية ضد كل المخالفين لهم، وهم وإن لم يكن لهم مستعمرات كثيرة واضحة، فإن لهم مستعمرات هي أشد خطرًا من المستعمرات الظاهرة، فلم يكن السبب في انتشار العلمانية في البلاد الإسلامية هو ما تقدَّم من الأسباب فقط، وإنما انضاف إليها هذا التيار الخطير الهدَّام, والمتمثِّل في دور اليهود الحاقدين, الذين أخبر الله في كتابه الكريم عن شدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، وأنهم لا يزالون على عداوتهم إلى الأبد، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 1، وجاءت السنة النبوية لتؤكد ذلك، فقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن خبث اليهود ومكرهم بالمسلمين في عدة أحاديث، منها: "ما خلى يهودي بمسلم إلا وهَمَّ بقتله" 2.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 82. 2 انظر: مصنف عبد الرزاق, الجزء العاشر, ص362.

وجاءت أفعال اليهود تجاه المسلمين -قديمًا وحديثًا- لتؤكد مصداق كل ما ورد من أوصافهم العدائية في الكتاب والسنة وأقوال الناس عنهم، وجاءت كذلك أقوال عقلاء الناس من مسلمين وغير مسلمين لتؤكِّد على خطر اليهود على البشرية كلها، واطَّلع الناس على ما جاء في "التلمود" من تعاليم ضد الجوييم أو الأمميين، واطلعوا على "بروتوكولات حكماء صهيون" الجهنمية, فهالهم الأمر، واتضح لكل ذي بصيرة أن اليهود من أشد الناس عداوة للبشرية، ومن أشدهم مكرًا، ولقد استعمر اليهود كثيرًا من البشر عن طريق منظماتهم ونواديهم، ومنها الماسونية، والشيوعية، وسائر تلك الأفكار، ويكفي في تصور شدة مكر اليهود استحواذهم على النصارى وإدخالهم في حظيرتهم, إلى الحدِّ الذي جعل النصارى يتنكَّرون لما هو من صميم عقائدهم الأساسية, وهو قتل اليهود للمسيح -عليه السلام, كما تزعمه مصادرهم- فقد أصدر زعماء النصارى بيانًا بتبرئة اليهود من هذا القتل, وما ذاك إلّا للضغط اليهودي، كما أنهم أصمُّوهم وأعموهم عمَّا دوَّنه أحبار اليهود ضد النصارى من عداء شديد إلى حدِّ استحلال دمائهم, وأكلها في عيد فصحهم, كما فعلوا بالأب "توما" وخادمه "عمَّار" في القضية المشهورة التي حدثت ببلاد الشام القرن الماضي. والذي يهمنا من هذا, إنما هو الإشارة إلى تأثير اليهود في نشر العلمانية اللادينية في البلاد الإسلامية، وسيتضح للقارئ مدى هذا التأثير بمجرد قراءته لـ"بروتوكولات حكماء صهيون", وما جاء في "التلمود", وفي تعاليمهم السرِّية التي يتواصون فيها بالقضاء على كل الأديان -ما عدا دينهم- وأن

ذلك سيتم بتشجيعهم لكل حركة معادية للدين, ولكل فكرة تحارب الفضيلة، فنشروا الفساد الأخلاقي بكل أشكاله تحت مسمَّى الحرية، وحاربوا الأديان تحت مسمَّيات مختلفة. وما إن ظهرت اللادينية إلّا وتلقَّفَها اليهود ونشروها بكل وسائلهم الكثيرة ودعاياتهم المؤثرة، حتى ركن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام إلى تلك الدعايات, وتحولوا إلى جنود لخدمة اليهود؛ من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد حذَّرنا الله تعالى من الركون إلى أعداء ديننا بقوله -عز وجل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} 1, وقد وضحت هذه النار في الشعوب الإسلامية الذين تنكَّروا لدينهم وتقبَّلوا العلمانية، وضحت في معيشتهم وفي أمنهم وفي تكاتفهم، بل وفي كل شئون حياتهم، فكانت أمرًا مخزيًا: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2. ولا يزال اليهود أداة تاخذيل وإغوء لكل الأمم -وخصوصًا الأمة الإسلامية, التي تمثل عدوهم اللدود الأبدي، ذلك العدو الذي تآمروا عليه منذ بزوغ فجره إلى اليوم، ولكن {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 3 وما تمجيدهم

_ 1 سورة هود، الآية: 113. 2 سورة الاحزاب، الآية: 62. 3 سورة المائدة، الآية: 64.

للعلمنية ولأقطابها, وذمّهم للإسلام ولتعاليمه إلّا جزءًا من عداوتهم له، وجزءًا من مخططاتهم للقضاء عليه، ولن يُتِمَّ الله لهم ذلك إن شاء الله إلى الأبد {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1. ومن تلك الأسباب لانتشار العمانية أيضًا, هذه البعثات لأبناء المسلمين التي ترسل إلى الغرب للدراسة -إلّا من رحم الله منهم, ذلك أن الطالب يذهب باعتباره تلميذًا مستفيدًا لا مناظرًا مدافعًا، فيشبع من هناك بما قد أُعِدَّ له وفق مخطَّط محكم، وحينما يُتِمُّ دراسته ويرجع إلى بلده الإسلامي لا شكَّ أنه يرجع بغير الفكر الذي ذهب به؛ إذ لا بُدَّ وأن يتأثر ولو باتجاه واحد على الأقل, أو شبهة لا يستطيع دفعها عن نفسه مهما حاول التماسك, والتوفيق بيد الله تعالى. بل إن كثيرًا من الذين ذهبوا للدراسة في الدول الكافرة العلمانية يرجعون بقلوب غير التي ذهبوا بها معهم, فيتمنَّون لو أن مجتمعهم الإسلامي يتحوّل في لحظة إلى صورةٍ طبق الأصل عن تلك المجتمعات الكافرة التي ألَّفوها وأشربوا حبها، وقد صرَّح كثير منهم بإعجابه بالحضارة الأوربية، واعتقدوا أن لا مخرج للمسلمين إلى السعادة وامتلاك القوة إلّا بتقليد الغرب في كل صغيرة وكبيرة، كالطهطاوي وأحمد خان، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين. فرجع كثير من طلاب العلم من المسلمين الذين ذهبوا إلى الدول الأوربية للدراسة وهم متضلعون من تعالم العلمانية ومقتنعون بها، وإذا رجع الفكر

_ 1 سورة الصف، الآية: 8.

إلى تاريخ المسملين الأوائل, فإن صاحبه يشعر بالحزن والأسى؛ لأن ماضي المسلمين كان هو النور المشرق، وكان العلم وأهله وكتبه كلها عند المسلمين وفي جامعاتهم، في الوقت الذي كانت فيه أوربا في حمئة الجهل، فانقلب الحال رأسًا على عقب حينما زهد كثير من المسلمين عن تعاليم دينهم, ورغبوا في الحضارة الغربية وزخرفها، فأصبح بعض لمسلمين ينظر إلى العلوم الغربية بنفس الإكبار الذي كان ينظر به الغرب إلى العلوم الإسلامية. ومن الأسباب أيضًا: استغلال العلمانيون قيام النعرات الجاهلية؛ من قومية ووطنية, ودعوى نبذ التخلّف، وما إلى ذلك، وقد استجاب لهم الكثير، البعض بحسن نية، والأكثرون بخبث نية وتخطيط بارع للكيد للإسلام والمسلمين. وصار حال المسلمين على حد ما قاله أحد الشعراء: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن وما إن سرت نخوة الجاهلية في عروق القوميين والوطنيين والتقدُّميين, إلّا وسرى معها التعالي والرجوع إلى الأمجاد الجاهلية المزعومة التي كانت العلمانية تصفق لها, وتصف أهلها بشتَّى نعوت المدائح والعبقريات الفذة. كما أن أولئك الثائرون قد أتوا على الأخضر واليابس, ورأوا أن بناء مجدهم يتطلَّب إقصاء تعاليم الدين والسير خلف ركب الحضارة الأوربية الذي تولَّد من قيام العلمانية الجديدة, والسير في طرقاتها حذو القذَّة بالقذَّة.

ومنها الترابط بين العلمانيين في الغرب وأتباعهم في ديار المسلمين، ومساندة بعضهم بعضًا, وإمدادهم بأسباب القوة التي تمكنهم من اعتلاء المناصب في بلدانهم, بعد أن باعوا ضمائرهم وأصبحوا عملاء لهم، فضلًا عن الضغط الذي تتعرَّض له الحكومات الإسلامية لإفساح المجال واسعًا أمام طلائع العلمانيين, بل وتشغيلهم بحكم ما يحملون من شهادات أوربية -يجب أن تكون محل الاهتمام والتقدير؛ لأنها صادرة عن موطن التقدم والرقي, كما يصورونها في أذهان عامة المسلمين المنهزمين في أنفسهم. وقد ظهر ذلك واضحًا في معاملة هؤلاء المستغربون، فإنَّ لهم الأولوية في الوظائف وزيادة الرواتب، كما نسمع من أخبارهم. وإذا أبى إلّا التحدُّث بالإنجليزية فهو نور على نور, ودلالة على تقدمه ومعرفته، ولقد نشر هؤلاء مبادئ العلمانية الشريرة بكل وسيلة, وكان لهم أكبر الأثر في الدعاية للعلمانية ومبادئها بين عامة المسلمين، وقد ظهر ذلك التأثير في سلوك العالم الإسلاميّ في المظاهر الآتية:

الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين

الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين مدخل ... الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين تمهيد: كانت العلمانية في بداية ظهورها تهدف إلى تحقيق غرض هو من أهم الأغراض التي أشغلت أذهان القائمين عليها، ألَا وهو فصل الدين عن السياسة والحكم, على طريقة ما ينسبه الكتاب المقدَّس إلى نبي الله عيسى -عليه السلام: "أعط ما لله لله, وما لقيصر لقيصر", وبغضِّ النظر عن صحة هذه المقولة عن عيسى -عليه السلام, فإن العلمانيين وهم في محاولتهم الأولى لتصديع الدين المسيحي وجدوا أن هذا النص من الأمور المساعدة لهم، وقد جدُّوا وناضلوا حتى تَمَّ لهم ما يهدفون إليه من فصل الدين عن الدولة، وبالأحرى عزل رجال الكنيسة عن الدولة، ولم يعد دينهم صالحًا للحكم بين الناس في شئون حياتهم، بل تولَّاه التشريع الجديد المسمَّى العلمانية في قوانينها الوضعية. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعدَّاه إلى طوار آخر, وهو عدم السماح بالدين في كل مظاهر الحياة, ولم تعد مقولة: "أعط ما لله لله, وما لقيصر لقيصر" قائمة في أذهان زعماء العلمانية الجامحة، فحُورِبَ الدين حربًا شعواء, تحت الكراهية الشديدة لطغاة الكنيسة الذين يمثلونه -حسب مفهوم أقطاب العلمانية, هذا ما حصل في العالم النصراني

ومبرراته، وهو ما يمثله دعاة العلمانية في البلدان الإسلامية التي تَمَّ لهم الحكم فيها. وما دام الأمر قد وصل إلى محاربة الدين وإقصائه نهائيًّا, فلا بُدَّ أن يوجد البديل له في كل مظاهر الحياة، وهو ما وقع بالفعل، فطوِّرَت العلمانية لتشمل بعد ذلك الحكم، والاقتصاد، والعلم، والتاريخ، والحياة الاجتماعية، ومظاهر السلوك، والأخلاق، وصور الآداب والفنون، أي: إنها أصحبت دينًا قائمًا بذاته, ملأ الفرغ الذي خلَّفه إقصاء الدين النصراني عن المجتمعات. ولم يعد الناس بحاجة إلى الدين في أيِّ قضية من القضايا التي تصادفهم؛ لأن المارد الجديد قد سدَّ كل الحاجات, ولبَّى كل المطالب التي تواجه الفرد في حياته اليومية كلها، في الحكم, وفي سائر متطلبات الحياة الاجتماعية الجديدة، وأصبح دعاة العلمانية كلهم على خطٍّ واحدٍ وهدفٍ واحدٍ مع اختلافهم في الوسائل من بلد إلى آخر، وفيما يلي بيان ذلك في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: العلمانية في الحكم

المسألة الاولى: العلمانية في الحكم أما العلمانية في الحكم: فمن الطبيعي أن لا يجد الحاكم العلماني أدنى ضرورة تدعوه إلى الاستعانة بحكم الدين في أية قضية، وذلك أولًا: لجهله بالدين وعدم معرفته به، وثانيًا: للعداء الشديد المستحكم الحلقات بين الدين وبين آراء المفكرين العلمانيين الذين يتصورون أنه لا تتمُّ السعادة الحقيقية للشعوب إلّا إذا أُقْصِيَ الدين تمامًا عنهم, وحكموا أنفهسم بأنفسهم, بعيدين عن التأثر بأحكام الدين التي لا ترحم الفقير ولا تجبر الكسير، بل تحابي وتمالئ الظالمين من أصحاب المناصب والجاه، كما ظهر ذلك جليًّا مما رأوه من ترابط المصالح بين رجال الدين وأصحاب الجاه والحكم؛ لتآمر الجميع على إخضاع الناس واستنزاف خيراتهم -وهو ما حصل بالفعل حين اشتدَّ طغيان رجال الكنيسة- وساعدهم -خوفًا منهم- أباطرة الحكم الذين استفادوا هم بدورهم من رجال الكنيسة في إقناع العامة بأنَّ الحكام هم من اختيار الله, وأنهم يمثلون الله في الأرض، وطاعتهم هي عينها طاعة الله تعالى، وعصيانهم عصيان له، وأن السعادة كلها في يد البابا الممثل المباشر للرب المسيح!! وكانت النتيجة أن الثائرين نظروا إلى رجال الدين على أنهم مخادعين متآمرين هم والحكام على استعباد الناس وإذلاهم -وهو صحيح, فَتَمَّ وضع القوانين والتشريعات الجاهلية بدلًا عن كل الشرائع الإلهية التي تمثلها الكنيسة الظالمة والباب المتغطرس، فجاءت الأحكام العلمانية خليطًا مشوهًا من شتَّى الأفكار والحضارات الجاهلية, وظنُّوا أنهم وجدوا الحل المناسب لحياتهم الاجتماعية، وأنهم وجدوا السعادة التي ينشدونها, والأحكام العادلة التي يتمنونها في ظل العلمانية الوضعية التي تنقض اليوم ما أبرمته بالأمس. وقصر بهم العزم أن يبحثوا عن مصدر العدل الحقيقي, والأحكام المتناسقة التي يسبق العقل إلى تصديقها قبل الواقع، وقد قال تعالى:

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1، ولقد وجدوا في علمانيتهم اختلافًا كثيرًا وتناقضًا فاحشًا في الأحكام، ولكن طبع على قلوبهم, وصار حالهم كما عبَّر عنه الشاعر: لفحُ الهجير نعيمٌ إن رضيت به ... وناعم الظلِّ إن أنكرت رمضاء وفيما يلي نشير إلى الحكم في الإسلام؛ لكي يقارن العاقل بين حكم الجاهلية وقوانينها, وبين عدل هذا النور؛ لأنه كما قيل: "وبضدها تتميز الأشياء", وليرى القارئ الكريم أكذوبة من زعم أن الإسلام يفرق بين الدين والسياسة في الحكم، سواء كان هؤلاء يتظاهرون بالإسلام أم لا.

_ 1 سورة النساء، الآية: 82.

المسألة الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسة

المسألة الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسة؟ لا يمكن لأيِّ شخص عرف الإسلام -مهما قلَّت معرفته به- أن يقول: إن الإسلام يفرق بين الدين والحكم، بحيث يكون الدين لله والحكم للشعب أو القانون أو مجلس التشريع أو الحزب أو غير ذلك من الإطلاقات العلمانية الباطلة؛ لأن الإسلام يعتبر جميع البشر عبيدًا لخالقهم، ولا مزيَّة لأحد على آخر إلّا بالتقوى، ويحرِّمُ أن يتخذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وأنَّ من رضي بالتحاكم إلى غير الله فهو طاغوت خارج عن الفطرة, محارب لله, ظالم لنفسه، متعدٍّ لما ليس له، وسيحاسبه الله تعالى عن ذلك. وفي الإسلام البيان التام الشامل لكل جوانب الحياة: سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ... إلخ، بيَّنَها الله تعالى في قواعد شاملة

وأحكامًا جامعة, وأمر الناس بفهمها واستخراج كل ما يصادفهم من أحكام وتشريع على ضوئها؛ من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، فالمشرِّع في الإسلام هو الله وحده، وما نطق به رسوله, والمنفِّذ للأحكام الشرعية هم الحكام الذين تختارهم الأمة, ويرضون بحكمهم لتنفيذ الشرع الشريف، هؤلاء الحكام ليسوا طبقة فوق البشر، أو لهم صفات إلهية -كما كان يتصور الجاهلون قديمًا, وإنما هم منفذِّون فقط، وأن كل مسلم مطالب بأن يعرف الأحكام الشرعية وأمور العبادات والاقتصاد, وغير ذلك من أمور الحياة، وبمعنى آخر يطلب الإسلام من كل أتباعه أن يكونوا صالحين لتنفيذ أحكامًا لله في كل قضية تعرض للشخص، ومعنى هذا: أنه لا يوجد في الإسلام تلك الدعوى النصرانية التي بَنَى عليها اللادينيون فكرهم، وهي: "اعط ما لله لله, وما لقيصر لقيصر", فهذه الازدواجية لا مكان لها في الإسلام، وإنما الذي فيه هو تساوي الناس في التكليف أمام الله, ومطالبتهم جميعًا بتنفيذ أحكام الشريعة, وطاعة ولاة أمورهم في غير معصية الله, ورَدِّ ما يختلفون فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وبهذا تصلح الحياة وتستقيم الأمور, ويحصل التنافس في فعل الخير، قال تعالى في شأن الذين يفضِّلون الأحكام الوضعية على الأحكام الإلهية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 2.

_ 1 سورة المائدة: الآية: 50. 2 سورة النساء: الآية: 58.

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. ومعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت مهمته هي بيان الدين، ومع ذلك أمره الله أن يحكم بين الناس بالعدل؛ لأنّ معرفة الدين هي الطريق الصحيح إلى الحكم بالعدل، ولم يقتصر الأمر على الرسول -صلى الله عليه وسلم, بل شمل غيره من أمته، فقد أمرهم الله أن يحكموا بالعدل حينما يرتضيهم الناس للتحاكم إليهم، وعلى هذا, فلا فرق بين الدين والحكم أو السياسة، ومن فرَّق بينهما فلجهله, أو لميله إلى العلمانية اللادينية. ولقد كان خلفاء المسلمين هم العُبَّاد، والزهَّاد، والقوَّاد، والخطباء، والقضاة بين الناس، بل نجد الإسلام يجعل الحكم أوسع مما يتصوره العلمانيون؛ إذ يوجب على جماعة المسملين مهما كانت قلتهم أن يختاروا لهم أميرًا منهم يرجعون إليه عند الاختلاف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم" 2. ومعلوم أن هذا الأمير متديِّنٌ ملتزم للحكم بما أنزل الله، وعلى طريقة العلمانية لا بُدَّ أن يكون هذا الأمير غير متدين مستهتر بأحكام الشرع, يتمُّ انتخابه بأيِّ طريقة كانت، ولا تسأل بعد ذلك عن الفضل الذي يتميز به

_ 1 سورة النساء, الآية: 65. 2 أخرجه أبو داود, الجزء الثالث, ص36. والبيهقي في "السنن الكبرى", الجزء الخامس, ص257. والمستدرك على الصحيحين, الجزء الأول, ص611. وصحيح ابن خزيمة, الجزء الرابع, ص141.

عليهم ليكون أميرًا لهم, إذا لم يكن ملتزمًا لمنهج الله في حكمه، مراقبًا لربه، مخلصًا في أداء عمله بالعدل الإلهيّ. إنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية نصٌّ واحد يثبت التفرقة بين الدين والحكم، لا في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ولا في أقوال علماء الإسلام، بل نجد أنه لا شرعية لحاكم لا يتخذ الدين منهجًا له. ولا يوجد كذلك نصٌّ واحد يثبت أن أحدًا من خلفاء المسلمين من الصحابة أصدر حكمًا على طريقة الفصل بين الدين والحكم، أو اعتذر عن أيِّ حكم أصدره بأن سياسة الحكم اقتضته، حتى وإن كان مخالفًا للدين، بل كانت طريقتهم أنَّ كل حكم يخالف الدين يعتبر حكمًا جاهليًّا باطلًا، وذلك للتلازم التامِّ بين الدين والحكم، واستمرَّ الأمر على ذلك حتى نبغت فتنة دعاة العلمانية الغربية, وإذا بضعفاء الإيمان والمخدوعين من المسلمين يتأثرون بتلك الدعايات, ويطالبون مجتمعاتهم بالسَّيْرِ في أثر أولئك, في الوقت الذي جهلوا فيه -أو تجاهلوا- أن للغرب أسبابه الظاهرة في مناداتهم بالعلمانية, وإقصاء الدين الذي مثَّله طغاة الكنيسة ردحًا من الزمن، وكان على الشعوب الغربية كالكابوس الثقيل، وتغافل هؤلاء عن أنَّ الإسلام ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه العدل والنور، وإنه صلح عليه حال من قبلنا، وسيصلح به حالنا لو حكَّمْنَاه واكتفينا به عن الأنظمة الجاهلية البشرية التي هي محلّ النقص دائمًا.

المسألة الثالثة: العلمانية والاقتصاد

المسألة الثالثة: العلمانية والاقتصاد أما العلمانية والاقتصاد والدين، فلقد كان الاقتصاد هو العصى السحرية1 التي أسهمت في قيام المذهب العلماني، فقد كانت الحالة الاقتصادية في أوربا في أتعس وضع وأبأس حال, بسبب الوضع الاجتماعي المتخلِّف الذي أنتجته الديانة النصرانية وحكامها, ممثَّلة في البابوات وأصحاب الجاه والسلطان, الذين كانوا لا يهمهم إلّا ضمان استرقاق الشعوب النصرانية وإذلالها لطواغيت رجال الدين وأباطرة الدولة، ولتكن حالتهم بعد ذلك إلى النار، فالدولة ليست مسئولة عن الفقراء والبائسين. فنشط النظام الإقطاعي واستبداد الطبقة العليا بمن دونها حسب النظام الجاهلي، وكان النظام الاقتصادي مكبَّلًا بتعاليم الكنيسة تحليلًا وتحريمًا، وكان قائمًا على ظلم الكادحين, وشَرِهَ رجال الكنيسة الذين احتووا جُلَّ مصادر الاقتصاد مضافًا إلى ذلك صنفوف الضرائب المفروضة على الفلاحين وغيرهم, الذين كانوا يُسَخَّرون كلهم كما يُسَخَّر العبيد. وعاش المجتمع النصراني اقتصادًا ظالمًا متناقضًا غاية التناقض, منهم نخبة -الحكّام والرهبان- في الثُّريَّا، ومنهم قسم -بقية الشعوب- في الثرى, لا يملكون إلّا ما يسدُّ رمقهم في أحسن الظروف، وفشا النظام الإقطاعي بأجلى صوره, وأصبح فيه الأرِقَّاء لا يزد أحدهم عن كونه إحدى القطع, أو إحدى البهائم التي يملكها صاحب الإقطاعية من طبقة النبلاء،

_ 1 هذا الأسلوب يستعمله بعض الكُتَّاب، ويرى البعض المنع من ذلك بحجَّة أن عصا موسى لم تكن سحرية، ولا شكَّ في صواب المنع إذا أريد هذا المفهوم.

وأوضاع أخرى بشعة, وظلم واستبداد لا نظير له، ولا ينكر شيء منها، وبطالة وكسادًا في كل نواحي الحياة، والملاحظ أن شياطين العلمانية قد فسَّروا كل تلك الأوضاع على أنها إحدى نتائج التدين، وأنَّ الدين وراء هذه الأوضاع السيئة كلها, بمباركته رجال الكنيسة هذا التسلُّط والجبروت، فإذا بالنظريات الإلحادية تقوم على محاربة وجود الله تعالى, ومحاربة رجال الدين, وأن الاقتصاد ينبغي أن يتحرَّر عن كل أغلال الكنيسة, وأن يتَّجه صوب الأفكار التحررية التي يجود بها زعماء التحررية بعيدًا عن الدين، وفي الوقت نفسه, لم يكن لدى رجال الدين الكنسيّ ما يسعفهم بالدفاع عن دينهم إزاء هذه المسامير التي تُدَقُّ في نعشه. وتكاثرت السكاكين على هذا الثور الميت, وارتفعت الأصوات من كل مكان تندد بالدين, وبطرقه الاقتصادية الجائرة، وتدعو إلى سرعة الانفلات عن تعاليمه التي أصبحت بالية, ولم تعد صالحة في عصر التطور وظهور النور, وبالتالي فلا سلطة لله تعالى, ولا لرجال الكنيسة على المارد الجديد الذي هبَّ ليدفع الظلم الذي رضيه الله -حسب زعم أقطاب العلمانية- لرجال الكنيسة، وبخبثٍ حوَّل هؤلاء الأقطاب العداء لرجال الدين, وللأوضاع السيئة إلى العداء للدين نفسه، وتحميله كل تلك المآسي دون أن يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حقيقة هذا الدين الذي اتَّسع لقبول تلك المآسي كلها، وهل هو دين صحيح أم هو باطل وضلال وتلفيق من كبار المخادعين النصارى، فلم يهتموا بالالتفات لذلك لحاجةٍ في أنفسهم؛ لكي يحمِّلوا الدين تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية.

والواقع أنه حينما أقصى العلمانيون الدين عن أي مجال من مجالات الحياة الاقتصادية, على أساس أنه لا يحقق الخير لأتباعه ولا يرفع الظلم عنهم، لم يأتوا هم أيضًا ببديل يرفع ذلك الكابوس، بل تخبَّطوا في حلقات مفرغة, وعاشوا أوضاعًا غاية في الفساد, لم يكن الرابح فيها غير المرابين والمحتكرين وتجار الرقيق وأصحاب الشَّرَه المادي, الذين لا يبالون بأحد, ولا توجد فيهم أدنى عاطفة على الفقراء والضعفاء الذين لم يصلوا إلى معرفة حذق المرابين وعباد المال, أو لم يكن لهم من المال ما يوصلهم إلى تلك المسالك الثعلبية. وعاش عامَّة الناس في تعاسةٍ رغم تزاحم النظريات الاقتصادية -سنّة الله في الخارجين عن شرعه- ولم تنقذهم من تلك الحال لا الرأسمالية بنظامها الشَّرِه, الذي أطلق للناس الحبل على الغارب على طريقة "من عَزَّ بَزَّ, ومن غَلَبَ استَلَبَ", ولا الشيوعية الماركسية التي كبَّلت الناس وجعلتهم عبيدًا يكدحون للدولة في مقابل مما تعطيهم لسد حاجة الجوع، ولا العلمانية التي لا يلوي فيها أحد على أحد. مع أنهم ملئوا الدنيا صراخًا وعويلًا على العمل لإخراج الفقراء من فقرهم, وإيجاد اقتصاد حرِّ مزدهر يوازي الجنة التي وَعَدَ بها الرسل أتباعهم بزعمهم، ورغَّبوا الناس في عبادة الإله الجديد في الإلحاد، وهو المادة ورءوس الأموال، ولكن اتضح لكك ذي عينين أن المناداة شيء, والواقع شيء آخر.

وإذا بتلك الأنظمة المعادية للدين لم تقدِّم حقيقة للناس إلّا آمالًا خيالية وإلّا الإلحاد والإفلاس والغبن الفاحش, وانتزاع احترام الدين والتدين من قلوب أتابعه, وإحلال ضلالاتهم بدلًا عن ضلالات الدين النصراني البولسي، وصحَّ عليهما لمثل القائل: "إنك لا تجني من الشوك العنب", وظهر سوء الاقتصاد وسوء التوزيع للثروات، وسوء التكافل الاجتماعي جليًّا في العلمانية، ولكنَّهم لا يعرفون بديلًا منقذًا في حال استكبارهم عن طريقة الإسلام في نظامه الاقتصادي.

المسألة الرابعة: العلمانية والعلم والتعليم والاكتشافات والدين

المسألة الرابعة: العلمانية والعلم والتعليم والاكتشافات والدين وكما أوجد دعاة اللادينية تلك النقلة المباينة بين الاقتصاد والدين, وأحكموا العدواة بينهما، أوجدوا كذلك عداوةً أخرى بين الدين وبين العلم, وجعلوهما نقيضان لا يمكن أن يجتمع أحدهما مع الآخر في أيِّ مجال, فإمَّا الدين بخرافاته وتخلفه وجوره الكنسي, وإما العلم بنوره واكتشافاته التي أثبت الواقع صدقها وكذب رجال الكنيسة. وهكذا وجدد علماء اللادينية في اكتشافتهم العلمية التي كانت تدحض المعتقدات الخرافية لرجال دين النصرانية خير دليل, وأقوى حجة على بطلان الدين النصراني -خصوصًا- وأنَّ رجال الكنيسة كانوا قد جمدوا على معتقدات في الكون وطبيعة الحياة, لا يقرها عقل ولا منطق، جمدوا عليها وحكموا على كل من يتشَّكك فيها بالإحراق والشنق والسجن الطويل.

وجاءت الحركة العلمية التجريبية, فإذا بها تظهر حمق وبطلان تلك المعتقدات الدينية النصرانية, بما لا يجوز الشك فيه, وزادت النار اشتعالًا بين المفكرين وسدنة الكنائس، واتَّسع الخرق على الراقع، ووقع الفأس في الرأس، وهوت خرافات رجال الكنيسة ومعتقداتها إلى الحضيض، وارتفعت رايات العلم والعلماء الملاحدة على أنقاض التدين، وأيّ شيء له علاقة بالدين، وكانت الحرب كلها موجَّهة إلى رجال الدين بالدرجة الأولى، ثم توجَّهت إلى الدين الذي يحميهم ويحمونه أيضًا، إلى أن تَمَّ لِلَّادينيين، إقصاء الدين تمامًا, وإبعاد العلم عنه، بل وأصبح انتساب رجال العلم إلى الدين عيبًا ونقصًا في حقهم, وتقصيرًا في اتجاههم للإله الجديد -العلم ومكتشفاته- الذي سيجدون في ظله ازدهار الاقتصاد, وتمام الحرية, وغير ذلك مما وعد به هذا الإله البديل, غير إله الكنيسة الذي صوَّرته الديانة اليهودية والنصرانية بصورة رجل متردِّدٍ في أموره, يتوجَّس خيفة من تمرُّدِ الإنسان عليه، وبالتالي فهو يعامله معاملة ليست نقية, وليس فيها مودة, ثم اتخذ ابنًا له ليساعده في أموره، ولو رجع القارئ إلى التوارة بعهديها لرأى أوصاف الله تعالى فيهما, وأعماله, وأوامره, وتسرعه في الحكم, وندمه عليه, وحزنه وبكائه, وعدم علمه بالغيب, ومراجعة موسى -عليه السلام له وثنيه عن كثيرٍ مما كان يَهِمُّ بفعله, فيرجع الله عنه ويندم، لو رجع القارئ إلى ذلك, وإلى غيره من الخرافات المدوَّنة في كتابهم المقدَّس؛ لرأي ثورة رجال الفكر عليه أمرًا طبيعيًّا ومنطقيًّا, خصوصًا محاباته رجال الدين وتشجيعه لظلمهم, وتدليله لشعبه بني إسرائيل, كما لاحظه أولئك المفكِّرون من خلال ما وجدوه في الكتاب المقدَّس, وما لمسوه من تصرفات رجال الدين من تطاول وعنجهيَّة، وجاءت

الاكتشافات لتبرهن هي الأخرى على بطلان تلك المفاهيم، سواء ما يتعلق منها بحقِّ الله تعالى, أو بقوانين الحياة والتعليل لوجودها. ولا شكَّ أن القارئ يدرك كما ذكرنا سابقًا أنَّ كل ذلك الهرب عن الدين, ومطالبة الناس بإقصائه عن حياتهم, وعن كل شئونهم, لا شكَّ أن ذلك كان وراءه ما يبرره في الدين النصراني المحرَّف الذي قام على أكتاف ملاحِدة من المجوس, وغلاة اليهود, وعباقرة الوثنية, وفلسفات كبار أذكياء الحضارة اليونانية على يد بولس وغيره ممن جاء بعده، وكذلك لم يوجد في مقابل هذا السيل الجارف ما يردّه أو يقلِّل من حدَّته، وأقصد بهذا المقابل أنه لم يوجد -كما أتصور- من علماء المسلمين, ولا من علماء النصارى, من نشط في وقته لإنقاذ الأمم النصرانية من هذا المصير المظلم, والهوة السحيقة التي تردَّوْا فيها بسبب تراكم الجهل, وعدم إيصال نور الإسلام إليهم بطريقة واضحة صحيحة، وكذلك لوجود الإفلاس التامِّ عند علماء النصارى، كما أنَّ علمهم الذي أخبر الله عنه أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، حيث مكَّنهم الله من معرفته, كان هو الآخر من معاول الهدم في أوربَّا بما سبَّبه من كبرياء وغرور في أوربا, أبعدهم عن الرجوع إلى أيِّ حق، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم، وما أنين الشرق والغرب من الأسلحة الفتَّاكة التي نشأت على كاهل العلم إلّا دليل على أنَّ علمهم لم يأت بإسعاد البشرية كما كانوا يتوقعون، هكذا قامت معارك طاحنة بين العلمانية والتعليم الديني، فقد وقفت العلمانية ضده أحيانًا مجابهة، وأحيانًا أخرى بدراسة الدين عند التلاميذ وربطه بالفكر العلماني في مختلف المراحل الدراسية، وذلك عن طريق

استغلال أيِّ نصٍّ يمكن أن يوافق مع فكر العلمانية وشرحه بإسهاب، وعن طريق تحريف معاني النصوص وجعلها تتوافق مع الفكر العلماني، واستبعاد كل نصٍّ يهاجم الفكر العلماني بصورة واضحة في الوقت الذي لا يعطى لتدريس الدين إلّا زمنًا قصيرًا لا يكفي لفهم نصوصه فهمًا صحيحًا، مع اختيار مدرس الدين اختيارًا خاصًّا، كأن يكون جاهلًا به حقيقة, أو يكون شخصًا مستهترًا لا يعبأ به ولا بشرحه, واستبعاد أيّ مدرس كفء ناجح في تدريسه لئلَّا يضع النقاط على الحروف, فيفضح الفكر العلماني ويبطل شبهاته، وبحيث يكون نصيب تعليم الدين اختياريًّا للطلاب, وتزهيدهم عنه, وعدم ترتيب أي رسوب على عدم معرفته في الاختبارات, بالإضافة إلى اختيار مدرس الدين مِمَّن يوحي ظاهره بالتنفير عنه, وممن يوحي شكله ومظهره برثاثة الدين وتخلفه. ومن الخطط التي أحكموها: 1- تمييع الفوارق بين الدين ومختلف الاتجاهات، فلا فرق بين أن يكون الشخص متدينًا أو غير متديِّن، مسلمًا أو غير مسلم، واخترعوا رباطًا يشمل جميع أفراد الشعب ودياناتهم المتعارضة، وهو رباط الوطنية الذي أحلُّوه محل رباط الإيمان والتقوى وعبادة الله وحده. 2- ومنها الاستهزاء بالدين وتعاليمه والقائمين عليه, وتشجيع التحرر من كل فضيلة أو خلق أو عفة، واعتبار التمسُّك بأوامر الشرع ونواهيه تخلفًا وجمودًا, وعدم مسايرة تطور الحياة.

3- اشتغال المسلمين بقضايا هامشية, بعد أن ضخَّموا أمرها وأضرموا الخلافات فيها؛ ليتلهَّى بها الناس فيما بينهم, لكي تبعدهم عن النظر إلى واقعهم, وما يُبَيَّتُ لهم من غزوٍ فكريٍّ قبل الغزو الفعلي. 4- ومنها صرامتهم في مراجعة كل حركة تؤدي إلى إحياء الدين في نفوس الناس، سواء كانت عن طريق الكلام أو الكتابة أو الصحافة، واعتبار كل مَنْ له اهتمام بالدين والدعوة إليه متخلفًا أو عدوًّا للشعب, وغير ذلك من إلصاق شتَّى التُّهَم بأهل الخير والإصلاح والتديُّن. 5- تضخيم كل ما يتوصَّلون إليه عن طريق العلم وإطرائه بشتَّى المدائح, وربطه بالتمسُّك بالعلمانية, والتحرُّر من كل قيود الدين المتخلف. ولكن كان يجب عليهم البحث عن الدين الذي لا يقرّ الخرافات ولا أهلها، فما بالهم يحمِّولنه ما لم يقر به؟ وقد لخَّص المستشار علي جريشه علمنة التعليم فيما يلي: أولًا: القضاء على التعليم الديني: أ- التطويق من الخارج: 1- الازدراء بالتعليم الديني. 2- ازدراء معلمه وطلابه. 3- قفل الوظائف اللامعة في وجوه خريجيه. 4- خفض رواتبهم.

ب- التطويق من الداخل: 1- تقليص التعليم الديني. 2- ازدياد التعليم العلماني. ثانيًا: نشر التعليم العلماني: 1- اهتمام الدولة به. 2- الابتعاث. 3- المدارس الأجنبية. 4- الاختلاط1.

_ 1 انظر "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" ص111.

المسألة الخامسة: العلمانية في السلوك

المسألة الخامسة: العلمانية في السلوك لقد نادت الكنيسة بسلوك غريب يصعب على النَّفس السويّة أن تتقبَّله أو ترتاح إليه، فهو يدعو إلى الفقر والكسل, وإلى الذل للطغاة الجبابرة، ثم إلى محاربة الغرائز النفسية التي أودعها الله في الإنسان من حب المال وثورة الغضب والحفاظ على النسل، وغير ذلك من الغرائز التي يتطلَّبها الجسم ضرورة، بل وبقاء الحياة، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أنَّ الرجل والمرأة لا يستغني أحدهما عن الآخر في إشباع حب النسل، واقضت حكمته أن يثور الشخص غضبًا عندما يتعرَّض للذلِّ أو للقهر والظلم حفاظًا على حياته، واقتضت حكمته أن الإنسان يحب المال حفاظًا على مصالحه، فجاءت الكنيسة لتغير هذه المفاهيم وغيرها رأسًا على عقب، ونظرت إلى كل ذلك على أنه قصور معيب في الإنسان السويّ، في الوقت الذي كان رجال الدين النصراني يعبُّون في الشهوات عبًّا, وحب المال, وغير ذلك من الغرائز المودعة في الإنسان، ولقد سمعت هذه الأيام من إذاعة لندن ما تشمئز منه النفوس من جرائم الزنا واللواط لدى البابوات. فكان ما يقوله الدين النصراني على أيدي رجاله يخالفه ما يفعله القائمون عليه مخالفة صارخة -ولا بُدَّ أن تأتي هذه المخالفة شاءوا أم أبوا- سنة الله في خلقه، فكان أقلَّ ما يوصف به رجال دينهم هو النفاق والخداع, واستغفال الشعوب ونهب الخيرات بحيلة التدين, مضافًا إليه سطوة الحكم الذي لا رحمة فيه على من يخالف أو يعترض، ووجد اللادينيون أن إزاحة القشرة عن أعين الشعوب ليروا ما هم فيه من الغَبْنِ لا يحتاج إلى كبير جهد. وقد حمل هؤلاء اللادينيون كل تلك الأوضاع على الدين، وبالتالي على الله تعالى, الذي ينسب إليه هذا الدين, الذي يكبت الحريَّات ويقيِّد تصرفات الناس حسب رغباتهم، وعلى هذا الأساس قامت المجتمعات الأوربية حرب للفضائل كلها، وللقيم التي دعت إليها الأديان؛ إذ أنَّ الحياة الجديدة لا يمكن أن تقوم ما دامت المبادئ الدينية قائمة تكبل الحريَّات وتحلّل وتحرِّم بعيدًا عن العقل, وعمَّا تقتضيه ضرورة الحياة المنفلتة الصاعدة المستقلة عن إله الكنيسة, وعن رجال الدين الذين كانوا يقولون ما لا يفعلون, وينافقون ويتصنَّعون الزهد والعفة والرحمة, بينما تكشف أفعالهم

زيف صدقهم في ذلك، إضافةً إلى ضيق أفق رجال الدين وجمودهم, على ما توارثوه خلفًا عن سلف, دون قبول للمعارضة أو المناقشة مهما كان خطأ ما أتوا به من آراء وأحكام كانت موجَّهة أولًا لمصالحهم الشخصية, بغضِّ النظر عن فائدتها للشعوب النصرانية في سلوكها الاجتماعي. وهكذا أقامت العقلية الفكرية اللادينية نظامًا بعيدًا عن كلِّ ما يتصل بالدين، وأشاعت الحرية الأخلاقية التي كان يقصد بها في المقام الأول الإباحية والدعارة, وهدم كل الأخلاق والقيم, بطرقٍ يهودية حاقدة وفي غاية القذارة, على يد "فرويد" ومن سلك طريقه.

الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين

الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين مدخل ... الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين سلوك غير المسلمين نحو العلمانية أو غيرها من المذاهب الفكرية لا ينطوي على جديد ملفت للنظر؛ لأن هذا هو السلوك الحتميّ لمن ليس له دين، إذ هو دائم التنقل حسب هواه {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} , ومن هنا فإنَّ العتب واللوم ومعهما غاية الدهشة, إنما توجه لمن انتسب إلى الإسلام وعرفه، أوشيئًا منه، ثم فضَّل جهل العلمانية. لقد ظهرت العلمانية في البلاد الإسلامية بصورة مخيفة تدعو إلى القلق على مصير المسلمين في دينهم وفي دنياهم, وفي تعاملهم وأخلاقهم، وسائر أمورهم الثقافية والتربوية, وسائر ما يتصل بسلوكهم الاجتماعي، واشتمل هذ السلوك المنحرف على جوانب مختلفة منها: التأثّر العام عند المسلمين بالعلمانية:

العمل العام عند المسلمين بالعلمانية

العمل العام عند المسلمين بالعلمانية ... 1- العمل بأحكام الشرع: لقد قام سلوك المسلمين في أزهى عصورهم في مجال الحكم على كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، لم يخرج عنهما أحد، واستغنوا بهما فأغناهم الله عن كل ما عداهما، وعاشوا أحسن نظام وأعدل حكم عرفته البشرية، واغتُبِطُوا بذلك، مما زاد في عداوة أعدائهم لهم ومحاولاتهم التي لا نهاية لها لسلبهم هذا الخير العظيم والنعمة التامَّة، وظلَّ المسلمون على هذا الحال إلى أن غيَّروا ما بأنفسهم, فلحقهم ما لحق غيرهم من الخذلان والتردي.

ظهور الولاءات المختلفة

2- ظهور الولاءات المختلفة: جثمت على صدر العالم الإسلامي فترةً عمَّ فيه الجهل بحقيقة الدين بفعل تأثيرات داخلية وخارجية كثيرة, هيئتهم لمختلف الولاءات والانحيازات، ولم يعد ذلك النور الوهَّاج ينبعث من صدورهم، وانشغلوا بأوضاعهم التي ساقهم إليها أعداؤهم بوعيٍ أو دون وعي منهم، وركنوا إلى الكسل والخمول وترديد بعض الأوراد الجوفاء صباحًا ومساءً، وناموا على دعوى الزهد والعلم اللدنِّي، وأقفلوا باب الاجتهاد, وتعصَّبوا لما ألفوه عن الآباء والأجداد, دون النظر في موافقته للشرع أو مخالفته له.

ظهور أفكار العلمانية كحلول حتمية

3- ظهور أفكار العلمانية كحلول حتمية: وفي هذا الجو الخانق وجد العلمانيون فرصتهم التي طالما تمنَّوْهَا لتسريب أفكارهم إلى المسلمين الذين أفاقوا هم أيضًا على الركام من الجهل بالإسلام, والخزعبلات الشائنة, ليجدوا أنفسهم في أحضان قادة الفكر العلماني الغربي, شاءوا أم أبوا؛ لكي يوصّلوهم بزعمهم إلى التقدُّم والتطوّر الملموس في الغرب, مع أنهم حقيقةً لم يمكنوهم من معرفة سر تلك الصناعات، بل مكَّنوهم من معرفة شيء واحد, هو كيف يتعلمون طرق العلمانية, وكيف يوصلونها إلى قلوب الناس، وشربوا من هذا المستنقع الآسن حتى الثُّمالة, بحجة أن أوضاع المسلمين المتخلّفة لم يكن له من سبب إلّا إعراضهم عمَّا وصل إليه الغرب من حياة وتفكير ناضج وإصلاح حرٍّ -كما يسمونه- لكل طرق حياتهم, فوجدت العلمانية مرتعًا خصبًا كما حصل في تركيا التي غرقت في أوحال العلمانية ولم تخرج عنها إلى يومنا الحاضر، وقد حصل في أنظمة كثير من بلدان المسلمين تحولات نحو العلمانية الغربية؛ إذ كان لا وزن لزعماء هذه البلدان, ولا قمية لهم إلا من خلال شهرتهم بخدمة أعداء الدين, والتزلف إليهم بعلمنة بلادهم, ومحاربة دينهم, واستجداء ما عندهم في الحكم والتشريع. ونشط الاستعماريون من الدول الغربية في مهاجمة الإسلام بكل الحيل وأنواع الخداع، بالترغيب تارةً وبالترهيب تارةً، وانتشر دعاة العلمانية في البلدان الإسلامية في الوقت الذي كانت تلك البلدان كماشية بلا راعٍ، فنشروا سمومهم في كل مجالات الحياة، وخصوصًا التعليم والمحاكم الشرعية التي أُقْصِيَ الحكم بالشرع الشريف فيها, ليحلَّ محله القوانين البشرية العلمانية الشرقية والغربية.

الاختلاف في الدراسة والشهادة

4- الاختلاف في الدراسة والشهادة: وظهر في البلدان الإسلامية دراسة دينية ودراسة حديثة، وبينهما من الفوارق بونًا شاسعًا، فوارق في كل شيء, تشمل أماكن الدراسة, وهيئة الطلاب, ووسائلهم للتعلم, وهيئة المدرسين, وتقبُّل شهادات كل من الفريقين، وكان كل شيء يوحي بامتهان الدراسة الدينية وأهلها في كل مظهر من مظاهرها، بينما يوحي مظهر المدارس الحديثة العلمانية بالزهوّ والترفُّع وكامل التقدير، ولم يكن هذا الصنيع عفويًّا، بل كان وراءه خطط مدروسة ونيات مبيَّتة، فطلاب الدراسة الحديثة كل شيء مهيئ لهم في أجمل صورة، وأبواب الابتعاث إلى أوربا لإكمال الدراسة أمرٌ ضروري ومرغب فيه، واستساغ الكثير تذوّق كل ما هو غربي حتى في الحركات، واتَّجهوا إلى المحاكاة والتقليد بفعل تأثُّرهم, وحبك الخطط لتوجيه الناس إلى هذا الصنيع, والمبالغات في مدحه والدعاية له, مما جعل المتأثرين ينظرون إلى الماضي بعين الاحتقار بفعل تلك المدراس التي جاء بها الغرب في كل ناحية من بلدان المسلمين لتعليم قوانينهم، تلك المدراس التي كان ينظر إليها على أنها هي المستقبل الزاهر لخريجيها، بل جعلوا الفرق واضحًا حتى في رواتب المدرسين؛ إذ كان راتب المدرس الديني زهيدًا ضئيلًا، بينما راتب المدرس الحديث يفوقه بالضعف أو أكثر، فكان مدرس الدين يبني -على تواضع ما عنده- والمدرس الحديث يهدم بقوة، ويدعو ويشجع المواد الحديثة التي تصرِّح أحيانًا وتلمح أخرى بذم الإسلام وتعاليمه, وتقديم العلمانية الأوربية وتشريعاتها، وتحقق قول الشاعر: متى يبلغُ البنيان تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟! وكانت الدول التي استعمرت البلدان الإسلامية كبريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا, وغيرها من الدول الغربية التي تسابقت إلى استعمار الأقطار الإسلامية, كلها كانت تلقي بثقلها لمحاربة الإسلام والقضاء على

أحكامه, وعلى حضارته, واقتلاعها من صدور المتمسِّكين بها، وابتُلِيَ المسلمون وزلزلوا زلزلًا شديدًا، ولولا أنَّ الله حافظ لدينه لما بقي مَنْ يشير إلى الإسلام بكلمة، ومن الجدير بالذكر أن الذين اتجهوا للغرب لارتشاف رحيق حضارته أصبحوا أمَّة ممسوخة، فلا هم بقوا على إسلامهم، ولا هم دخلوا أعماق التقدُّم الغربي، بل كان جلّ ما وصلوا إليه هو الإباحية الحيوانية الغربية بكل مساوئها, وهضموا ما عندهم من الأدب اللا أخلاقي في الحب والغرام والقصص الخيالية, والإيحاء إلى الأمَّة الإسلامية أنه لا نهوض لها ولا تقدُّم, بل ولا بقاء إلّا بالتمسك بأذيال الغرب, واتباع سننهم, والاستفادة من خبراتهم في محاربة التدين باسم نبذ التعصب الديني, وباسم الانفتاح, وباسم الحرية، وبأسماء كثيرة تصب في النهاية في مستنقع العلمانية اللادينية الغربية, وتشريعاتها الجاهلية.

ظهور التأثر في الأسماء

5- ظهور التأثر في الأسماء: كان لدعوى التطور والتطوير نصيب الأسد في إدخال العلمانية إلى العقلية المسلمة, شملت الدعوة إلى التطوير في كل شيء، ولو استطاعوا لدعوا إلى تطوير الإنسان نفسه بنزع جلده, ولإتيان بغيره ليلحق ركب التطور، وعليه أن يسرع الخطى للخروج من مجتمعه المسلم الذي أصبح في نظره مجتمعًا متخلفًا رجعيًّا انعزاليًّا متطرفًا ... إلى آخر الأسماء التي لقَّنها زعماء العلمانية لأذنابهم من المنتسبين إلى الإسلام

الهجوم على اللغة العربية

6- الهجوم على اللغة العربية: وكان هذا التطور والتجديد شاملًا لكل ما يَمُتُّ إلى الدين بصلة, حتى وإن كانت اللغة العربية، فضلًا عن الحكم الشرعيّ، والتي واجهت هجمات شرسة من دعاة العلمانية الذين تفنَّنوا في الاستهزاء بها, وأنَّها قديمة وعقيمة لا تساير الحضارة الجديدة. وأنَّه على العربيّ الناضج أن يترك الفصحى ويتجه إلى لغته العامية ولهجته المحلية, ففيها ما يغنيه عن اللغة العربية المعقَّدة بزعمهم، وعليه كذلك أن ينسى تمامًا أنها اللغة التي أُنْزِل الله بها القرآن الكريم الذي أجمع المستعمرون كلهم على أنَّه لا بقاء للاستعمار في بلاد المسلمين ما دام القرآن موجودًا في صدورهم وبأيديهم. ولم يكن الهدف من الدعوة إلى القضاء على اللغة العربية هو المقصود لذاته، بل كان يُرَاد من وراء ذلك النفوذ إلى ما يوصِّلهم إلى غرضهم الحقيقي, وهو أن يكون المسلم عالةً في كل شيء على الحضارة الغربية, سواء كان ذلك في اللغة أو في غيرها، وأن يبتعد عن العربية ويهجرها، فضلًا عن هجر الأحكام الشرعية. ولقد اهتمَّ المنصِّرون ومن وراءهم حكوماتهم التي تتطلَّع إلى استعمار بلدان العالم الإسلامي، اهتمَّ هؤلاء بفتح دور التعليم على اختلاف المستويات, وركَّزوا فيها على أن تفي المناهج المقررة فيها بإخفات أصوات المدارس الإسلامية الأهلية، وأن تفي بإقامة صرح العلمانية اللادينية، وأن يكون التعليم فيها مشاعًا لكلِّ شخص, بغضِّ النظر عن دينه واتجاهاته -وكان هذا في أول الأمر, وأن يكون التعليم مختلطًا ذكورًا وإناثًا، وذلك بعد نجاحهم في حرب العفة والحجاب، وأن يشتمل على دراسة الفنون الجميلة -كما يطلقون عليها, وهي التمثيل والموسيقى والتصوير, وغيرها من العلوم التي تساعد على إفساد الأخلاق، إضافةً إلى دراسة جميع النظريات الإلحادية التي نبتت في أوربا في صراعها مع الدين.

التأثر في التعليلات

7- التأثر في التعليلات: كما اشتملت المناهج على التفسير لكلِّ مظاهر الكون تفسيرًا إلحاديًّا على أنه من فعل الطبيعة، عوامل طبيعية، ظواهر طبيعية.... ويوجدون لها الأسباب التي تتَّفق وإلحادهم, ولهذا انتشر بين الناس التعليل للزلازل والعواصف والكسوف والخسوف والمطر, وغير ذلك على أنَّها عوامل طبيعية، لم يقل أحد منهم إنها من فعل الله تعالى بسبب ظهور المعاصي وبعدهم عن الله تعالى، كما ملئوا أذهان الدراسين بالتعليلات الخاطئة، كقولهم: الغزو العربي، أو الاستعمار الإسلامي، وأنَّ خروج المسلمين للجهاد في سبيل الله إنَّمَا كان لضيق عيشتهم في الجزيرة. والحثَّ على حب الوطن فقط، والقومية العربية، والافتخار بالأمجاد الجاهلية، وغير ذلك من صنوف الغزو الفكري المنظَّم, الذي أخذ دعاته على عواتقهم صرف المسلمين عن التحاكم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم، وأنَّ من تَمَسَّك بهذا فهو جاهل متخلف معادٍ للحضارة والتقدم. وركَّزوا كثيرًا على حكم القتل والزنا وشرب المسكرات وقطع يد السارق، وأنَّها أحكام جائرة ولا تليق بهذا العصر أو الإنسان المتقدِّم، مع يقينهم أنَّ ما أتو به من أحكامٍ لم تكن رادعة, ولا كانت هي الحل الأمثل، وما أكثر ما نسمع في إذاعاتهم, ونقرأ في صحفهم, من انتقادات لاذعة لسلوكهم من بعض مثقفيهم لقوانينهم التي لم يعبأ بها المجرمون, ولهم يرفعوا بها رأسًا.

التأثر في الأخلاق

8- التأثر في الأخلاق: لقد جاء الإسلام بتهذيب الأخلاق والدعوة إلى المكارم وإلى حسن الخلق وكل معالي الأمور، وحذَّر من كل خلق رديء، وكان المسلمون في أزهى عصورهم يمثِّلون في العموم تلك الأخلاق الفاضلة، ثم خلفت خلوف زاغوا عن ذلك النهج الواضح والصراط المستقيم، وأخذوا ينحرفون رويدًا رويدًا, وينزلقون إلى الهاوية باتِّباع الهوى والانحرافات العلمانية، وكلما أحدثوا انحرافًا جعلوا له واجهة إسلامية ليقاوموا كلَّ من يحاول أن يثنيهم عن أهدافهم المنحرفة للوصول إلى تطبيق الأخلاق العلمانية تمامًا، ثم زاد الطين بلة اطِّلاعهم على الانحرافات الغربية التي يسميها أهلها حضارة وتقدمًا، فانغمسوا معهم، ونسوا ما عندهم من الفضائل التي دعا إليها الإسلام، فإذا بهم يواجهون الغرب برءوس منكَّسة, وكأنهم -بعد نسيانهم حضارتهم الإسلامية العريقة- يواجهون عباقرة ينبغي أن تُحْنَى لهم الجباه, فتركَّبت عقدة النقص في نفوسهم, بقدر ما ارتفعت أنوف الملاحدة اللادينيون الذين صرخوا فيهم بأنَّ تأخركم إنما يكمن في تمسككم بالإسلام وسلوكه

الذي حجر عليكم الانطلاق إلى كل الاتجاهات، ومنها: المتع والملذات بشتَّى أشكالها، حرامًا كانت أم حلالًا، باذلين الجهد الجهيد في الاستحواذ على عقل المرأة وإخراجها من عفتها وحشمتها, مكرِّهين إليها بيت الزوجية وتربية الأولاد, بححَّة أنها لا بُدَّ أن تتطوَّر وتكون مثقَّفة, مع أن هذه الدعوة معناها أن تكون شبيهة بالبهيمة المنطلقة، وهو عين التأخُّر والرجوع إلى البدائية. وطالبوها بأن تنزع ثياب الحشمة الظاهرة -بعد أن رفعتها عن قلبها, فإذا بها ترى أن العري المتمَثِّل في إظهار نصف الفخذين والكتفين, ونزع غطاء الرأس, ومشاركة الرجل جنبًا إلى جنب في العمل, وتقليده في حلق شعر الرأس, ولبس الثياب الضيقة, وفي المشية, وغير ذلك, إذا بها ترى أن كل هذا السلوك هو السلوك اللائق بها, وحلّ بها الشقاء, ولحقها الخذلان والإهانات, من حيث تشعر أو لا تشعر. بل وأصبح الكثير رجالًا ونساءً لا يرون مقياس التقدُّم في البلد إلّا بهذا السلوك المخزي للمرأة، ولم يبخلوا على المرأة التي تسلك مسالكهم بإطلاق المدح لها على جرأتها، وأنَّها يجب أن تظهر شخصيتها, وترمي بكل الأخلاق الفاضلة وراء ظهرها، وأجادوا خداعها, والتفنُّن في إغرائها, فانجذبت إليهم الكثيرات، وبقيت قلة محتارات في وسط الطريق, لا يدرين أين يتَّجهن، وقليل منهنَّ أدركن ماذا يراد لهن, ومدى خطر التخطيط المبيت وراء التزلف إليهن, ومطالبتهنَّ بالخروج على كل شيء, فكتبن يحذِّرن بنات جنسهنَّ من شر تلك المزالق الوخيمة, وأن المقصود بها في النهاية أن تكون المرأة متعة رخيصة بيد الرجل لمن عليهنَّ مسحة من ملاحة فقط.

وأخذت العاقلات منهنَّ بندبن حظَّهن حين جرفهنَّ تيار العلمانية، لقد تمنَّت كاتبة ألمانية أن تعيش مع رجل ناجح, ولو كان عنده عشر زوجات، وتمنَّت امرأة إنجليزية عجوز حينما اطَّلعت على وضع المرأة والأولاد في الإسلام, ومعاملة الزوج لزوجته وأولاده في الإسلام, تمنَّت لو أنَّها قضت حياتها من أولها مع رجل مسلم. إن فطرة المرأة السليمة كانت تحتِّم عليها أن تكون مطلوبة للرجل لا أن تكون طالبة له، ولكن بسلوك العلمانية ودعاة تحرير المرأة, اضطرت المرأة هناك أن تبدأ هي بمغازلة الرجل واسترضائه, بعد أن عرف الرجل كيف يجرَّها إلى هذا المصير بدهاءٍ شيطانيٍّ, وصار حالها كما قال الشاعر: أمرتمهوا أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستجيبوا النصح إلَّا ضحى الغد وعسى أن تستبينه النساء اليوم قبل غد، وعسى أن يضعن حدًّا رادعًا للمستهترين بهنَّ المتاجرين بأعراضهن. فالمرأة الأوربية لو نظرت إلى حالها بعين الإنصاف لهالها الأمر, ورجف قلبها خيفةً؛ إذ أصبحت مثل الدابة التي تقوم بكفالة أولادها الغير شرعيين، وأصبحت بمفردها تعاني آلام الحمل والولادة, وطلب المعيشة, وتربية أطفالها, في الوقت الذي ترى فيه تكالب الناس على المادَّة واقتناصها دون أدنى رحمة بالفقراء والمحتاجين. فلا تستبعد حينما تسمع الإقدام على الانتحار بين الناس في الغرب

مذهلة رغم بهرجة الحياة هنا، إنه احتجاج صارخ على سوء أوضعاهنَّ وعلى المجتمع الذي يعشن فيه. أفلا تتعظ المسلمات بها وصلت إليه المرأة الغربية في ظلِّ حضارة مادية زائفة، أفلا تتعظ بذلك وتبقى ملكية في بيتها, ومسئولة عن رعيتها في هدوء واستقرار, كما أراد لها الإسلام؟ وتحافظ على حشمتها وكرامتها أن تداس وتهان في غفلة منها. وعن التضجُّر والشكوى من انفلات المرأة واستهتارها الواضح اقرأ ما جاء في جريدة الشرق الأوسط تحت هذا العنوان "حظر التنورات القصيرة في إقليم روسي": "مسوك رويترز، طالبت حكومة أحد أقاليم روسيا موظَّفَاتها بالتوقُّف عن ارتداء التنورات القصيرة, وتخفيف مساحيق التجميل على وجوههن, على أساس أنَّهن يثرن بذلك غرائز حيوانية لدى زملائهن الذكور"، وهذا طلب وجيه نابع عن بقية حياة في الفطرة، ولكن انظر بماذا قوبل هذا الطلب, حسب ما جاء في هذه جريدة: "وأثار الأمر الذي أصدره "أوليج شليك" نائب رئيس بلدية كاليننجراد على ساحل البطليق بروسيا, حالة سخط بين كثيرين في الإقليم, بما فيهم الرجال، وقال "شيليك" لشبكة تلفزيون "إن تي في": "بالطابع يتعيِّن على المرأة لفت نظر الرجل، لكن ليس لدرجة كبيرة تتجاوز العرف, وتثير أمورًا لا علاقة لها بالعمل، بل غرائز حيوانية فقط", وقال معلق "إن تي في": "إن أمر شليك يعني أنَّ النساء في مقارِّ إدارة كاليننجراد سيتعيِّن عليهنَّ التخلي عن ارتداء تنورات قصيرة, وتفصيل بدلات عملية عليهنَّ، والابتعاد عن ارتداء مجوهرات غير مألوفة, ووضع مساحيق تجميل بسيطة", وقال "يوري ماتوشكين" النائب في البرلمان الإقليمي بسخط: "إن الأمر يلحق الخزي بشيك نفسه"، وأوضح ماتوشكين: "إذا كان هذا يحوّل انتباهه, فقد اختار إذن وظيفة خطأ، وإذا لم يكن بمقدوره السيطرة على نفسه لتوجيه طاقته بشكل صحيح, فإنه يتعين عليه تغيير وظيفته"1. وتوجد عشرات الأمثلة للشكوى من حال انفلات النساء وقلة الحياء لديهن, ممن تربَّيْنَ تلك التربية، وما أكثرهن.

_ 1 جريدة الشرق الأوسط, العدد: 9322, تاريخ: 18/ 4/ 1425هـ.

العلمانية والآداب

9- العلمانية والآداب: لم يكن أمام أصحاب الفن والآداب -كما سموا أنفسهم- وهم هاربون من كل ما يتَّصل بالكنيسة من خيار لإشباع هذا الجانب إلّا أن يعودوا لنبش الماضي, الذي يتَّفق مع ميولهم التحرُّرية من كل ماضي الكنيسة وسيطرتها. ولم يكن أمامهم -بسبب إعراضهم عن طلب الدين الصحيح- إلّا الحضارات السابقة, والتي تتمثَّل في الوثنيات اللادينية بذوقها الهابط, وإباحيتها, واستهتهارها بكل الفضائل التي دعت إليها الأديان، فقام الفنَّ والآدب على العلمانية اللادينية التي ليس فيها دعوة إلى الحشمة أو الفضائل أو مراقبة الله أو الحياة بعد الموت, وما يحصل للإنسان هناك من عقاب أو ثواب. لأنَّ الإله الجديد الذي هو الطبيعة أو الإنسان نفسه, لم يعد في حاجة إلى تلك الفضائل الدينية, بعد أن انطلق من أغلال الكنيسة, ودخل عصر

التنوير, وعصر العقلانية, وعبادة الإنسانية التي داستها الكنيسة حينًا من الدهر, بحجة الترفُّع والتقرُّب إلى رضى الله تعالى، فلم يعد تدنيس الأعراض في إباحيةٍ جامحةٍ عارًا، بل هو الطريق السليم؛ لأنَّ الذي يترك هذه المتع واللذائذ الدنيوية التي يعيشها خوفًا من عقاب أخروي, هو شخص خيالي وغير متقدِّم، والذي يطرق برأسه حياءً من سماع الأغاني الفاجرة, أو الشعر الماجن, أو القصص الغرامية, أو الجنس, هو شخص ليس له ذوق ومتأخِّر عن الركب الناشئ، والذي لا يستطيع مشاهدة العري الفاضح؛ سواء في كان الأجهزة أو على الطبيعة, هو شخص متخلف. وعلى المتحرر أن يستلهم الإبداع الجماليّ والحب والعاطفة الجياشة من الطبيعة التي أبدعت كل ما في هذا الكون من صور الجمال من جامدةٍ ومتحركة، ولا شكَّ أن هذا الانحراف الشائن سببه الأول انحراف الكنيسة، ولم يهتد هؤلاء الهاربون من طاغوت رجال الكنيسة إلى سلَّم النجاة الحقيقي، بل هربوا من طاغوت إلى طاغوت، وبدلًا من توجه هؤلاء الأدباء إلى نقد رجال الين فقط, تمادوا فنفذوا إلى نقد الدين, وحمَّلوه تبعة أفعال رجال الكنيسة وخرافاتهم التي لا يقبلها العقل ولا الفطرة، وتفنَّنوا في حربهم له شعرًا ونثرًا وقصصًا وفكاهات، وفي المقابل نشطت الدعوات الهدامة التي تبحث في أصل الإنسان والكون والإله، وتدلل على أن الإنسان أوجدته الطبيعة، وأن عقله هو إلهه، وتبين أن كثيرًا من أسرار هذا الوجود التي لا ترجع إلى إيجاد إله خاصٍّ لها، وبالتالي, فلا دين ولا أخلاق, ولا شيء يجب أن يحجب الإنسان عن التمتُّع بكل ما يستطيع

الوصول إليه من متع الدنيا وشهواتها التي لا نهاية لها، ولهذا نشط الأدباء والفنَّانون والكُتَّاب في إخراج القصص الغرامية والعري الفاضح, وتلقَّفها المتلهفون على الطلاع على كل جديد, وسمَّوْا تلك القذارات كلها أدبًا وفنًّا، وصارت الوقاحة والعهر فنًّا يجب الاطلاع على خباياه وخفايا أساليبه، وبيوت الدعارة والسهرات المريبة ووصف ما فيها, وما يجري فيها كله يجب أن يكون داخلًا تحت الأدب الحرِّ والفنِّ الذي يراد به متعة القارئين والسامعين، فأصبح الشاعر منهم, والمغني والممثل, وكثير من الكُتَّاب يقدمون كلامًا ماجنًا بكلِّ وقاحة, دون أن يجدوا في أنفسهم أدنى وازع من ضمير أو حياء, بعد أن طبع الله على قلوبهم فشابهوا البهائم، بل أصبحوا أضلَّ منها، كما قال الله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 179.

علمنة الإعلام

10- علمنة الإعلام: أما عن علمنة الإعلام فحدِّث ولا حرج، لقد أمسك دعاة العلمانية بزمام معظم وسائل الإعلام، وعاثوا فيها فسادًا، مثل: التلفزيون والإذاعة والصحف والمجلات والسينما والفيديو، وقد ظهرت أضرار تلك الوسائل في تحطيم الأخلاق والسلوك الطيب، واستمع إلى ما قاله أعضاء المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة, المنعقِد في المدينة المنورة سنة 1396هـ، فقد قالوا في مناشدتهم المسلمين جميعًا: "ويندد المؤتمر بالهوة السحيقة التي تردَّى إليها إعلامنا ولا يزال إلى اليوم يتردَّى، فبدلًا من أن يكون منبر دعوة إلى الحق, ومنار إشعاع للخير، صار صوت إفساد وسط عذاب، وخفت صوت الدعوة وسط ضجيج الإعلام الفاسد، وسكت القادة فأقرُّوا بسكوتهم أو أجاوزوا ذلك فشجعوا وحملوا, وزلزل الناس في إيمانهم وقيمهم ومثلهم ... ولم يعد الأمر يحمل السكوت عليه من الدعاة إلى الحق"1. فما أحرى بالمسلمين أن يستمعوا لهذه النصيحة الصادقة الشجاعة, ويرجعوا إلى الحقِّ، فإنه خير من التمادي في الباطل.

_ 1 انظر: "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" ص113.

تعقيب على ما سبق

- تعقيب على ما سبق: لقد خرجت أوربا عن الدين واعتبرته العدو اللدود للحكم والاقتصاد وللعلم وللحياة الاجتماعية بأسرها، وللأخلاق وللآداب والفنون، بل في كل مجالات الحياة. وتضافرت جهود علماء اللادينية وتعالت أصواتهم يصدِّق بعضها بعضًا في حملتهم على الدين والتدين والقائمين عليه، يصفونهم بالجهل والغباء والتزمُّت والتطرُّف ومعاداة الحياة السعيدة ... إلى آخر ما جادت به قرائحهم من فنون السباب للدين وأهله, وللمتمسِّكين بالحشمة والحياء. ثم ظهر نفاق جديد لدعاة اللادينية مفاده أن التمتُّع بالحريِّة كاملة يستوجب حرية التدين أو تركه، ويتظاهر هؤلاء أنهم حتَّى وإن كانوا ينادون باللادينية، إلّا أنهم ليسوا ضد الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فهذا هو شرع التمدُّن الجديد الذي لا حجر فيه على أيّ معتقد، فمن شاء أن يذهب إلى الكنيسة فليذهب, ثم ليخرج إلى حوانيت الخمَّارة, وأماكن الدعارة, ويمارس الفواشح كيفما يحلو له، كل هذا يتفق تمامًا مع التطور الجديد، وعلى أصحاب العقول أن يغطّوا نور عقولهم, ويصدقوا بإمكان وقوع هذا كله، أي أن يكون الإنسان دينيًّا وهو في نفس الوقت لا دين له، بل ومعادٍ للدين، ولا يكون تناقضًا!! وهذا من غرائب ما اهتدى إليه اللادينيون بعقولهم التي انفلتت عن الأديان، بل عن الله -عز وجل، وأحلَّت محل الله شركاءهم، فجعلوهم محلَّ التقديس والإكبار, تحت مسمَّى إنسانية الإنسان والطبيعة والصدفة

والقوانين الأخرى التي اكتشفوها وأحلَّوها محل الله -عز وجل، وغير ذلك من الشركاء الذين جادوا بإيجاد هذا الكون وما فيه حسب تصوراتهم السقيمة. ولقد ساعد هرب هؤلاء عن الدين ما يمارسه رجال الكهنوت في الكنائس الذين أصبح كلامهم ووعظهم حملًا ثقيلًا على كواهل الحاضرين, الذين لم يجدوا في تلك التراتيل الدينية ما يحرّك أدنى عاطفة نحو الخوف من الله والرغبة في التديُّن، وكيف يوجده أولئك الوعَّاظ في قلوب النَّاس, مع أنه مفقود تمامًا من قلوبهم أولًا، ولذلك فإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه. مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها قلبه أوَّلا وما الذي سيجده طالب الدين من كنيسة تبارك فيها الرقص والاختلاط والقبلات والخلوة في الزوايا المظلمة, والدعوة إلى الاستمتاع علنًا وبصورة فاضحة لا تختلف كثيرًا عن دور الدعارة، ومن هنا فضَّل بعضهم البقاء في بيته على الذهاب إلى الكنيسة التي تزيد قلبه قساوة باسم الدين، فأيُّ دين هذا، وأيُّ مصير كالحٍ ينتظر هؤلاء، وأيُّ مبرِّر يدعو الشخص إلى حبِّ الدين ما دام هذا حال الدين والقائمين عليه؟!! هذا إلى جانب ضجيج دعاة الحرية والفنّ والانطلاق، وبعد أن كان الشر منثورًا بين الناس أصبح منظَّمًا, وله قوانين ودعايات وكُتَّاب ملئوا الدنيا ضجيجًا بواسطة هذه الأجهزة التي أصبحت مصدر خطر، وأيَّما خطر على كل الفضائل؛ لأنَّهم أساءوا استعمالها, واستبدلوا فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير، وشبَّت أجيال على هذا الانحراف, ولا يدري إلّا الله تعالى أين سيقف دعاة العلمانية بالبشرية.

الباب الحادي عشر: الديمقراطية والشورى ونظرية السيادة

الباب الحادي عشر: الديمقراطية والشورى ونظرية السيادة مدخل ... الباب الحادي عشر: الديمقراطية والشورى ونظرية السيادة تمهيد: قبل البدأ بتفاصيل دراسة الديمقراطية, أحب أن أذكِّر القارئ بشيء مهم عن طريقة من كتب عن الديمقراطية؛ إذ أنه سيجد نفسه أمام أقوال وآراء متضاربة؛ إذ أخذ كل مَنْ يكتب عنها إنما يعبر عن موقف منها؛ فبعضهم تجده يدرسها من جانب تحسينها وتحبيبها إلى الناس, وبيان المزايا التي اشتملت عليها الديمقراطية، وبعضهم تجده يكتب عنها من جانب تقبيحها وتنفير الناس عنها ببيان ما تنطوي عليه في النهاية من أخطار, فكانوا على حدِّ قول الشاعر. وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبيد المساويا والذي يتوجَّب في البداية هو دراستها دراسة محايدة, وأقصد بهذه المحايدة أن يبيَّن دارسها الإيجابيات التي فيها, والتي أفادت منها الشعوب الأوربية في تحطيم الأغلال التي كانت عليهم من قِبَلِ البابوات والإقطاعيين والوجهاء والأثرياء, ثم دراسة ذلك على ضوء الإسلام, وهل تلك الإيجابيات موجودة في الإسلام, أو غير موجودة فيه بالأدلة الواضحة فيه, ثم يبين أيضًا السلبيات التي فيها, والخدع المعروفة التي وصفت بها, ومدى استفادت الشعوب منها حقيقة أو وهمًا, ثم مقارنتها بالتعاليم الإسلامية, فبضدها تتميز الأشياء, وأن يكون القصد في كل ذلك هو الوصول إلى ثمرة يستفيد منها القارئ دون انفعالات ودون مجرَّد دفاع أو هجوم, فإن القضية جَدّ, وتحتاج إلى رزانة في الحكم, ورؤية واضحة يبين من خلالها هذه القضية الهامة, فقد أخذ كثير من

الناس يتكلَّم عنها بمعرفة أو بغير معرفة, وإنه من اليقين الذي لا مرية فيه ولا جدال أن الديمقراطية مذهب بشري, وأن تعاليمها وضعية, ومع ذلك فقد وجد فيها أهل أوربا عزاءً ما لما حلَّ بهم على أيدي رجال دينهم الوضعي كذلك, ومع ذلك فإن هذا العزاء لم يكن على ما يريدونه -كما سيأتي تفصيله بالنسبة لأهل أوربا, ولكن هل المسلمون في حاجة إلى تلك التعاليم؟ وهل بهم كذلك حاجة إلى أن يرددوا مثل هذه الكلمات الجوفاء, ومنها كلمة -الديمقراطية- وغيرها من الألفاظ التي غزت مفاهيم المسلمين وتأثروا بها, وردَّدوها عن نية حسنة في بعضهم, وعن نية باطلة في آخرين, حتَّى أصبحت كأنها لفظة شرعية وتسمية محبَّبَة لكثرة ورودها على الألسنة من غير المسلمين ومن بعض المسلمين. وهذا الوضع هو ما ستجد الجواب عنه -أخي القارئ- أثناء دراسة هذه الظاهرة في هذه العجالة إن شاء الله تعالى.

الفصل الأول: منزلة الديمقراطية في الحضارة الغربية

الفصل الأول: منزلة الديمقراطية في الحضارة الغربية لقد علا نجم الدعوة إلى الديمقراطية في الغرب, وأصبحت هي كل الشغل الشاغل لهم؛ هي السياسة وهي الدين وهي النظام الاجتماعي بأكمله, هي التقدم بحذافيره, بل جعلوها هي الممثلة للحضارة الغربية وتقدمها الصناعي بكل ثقله, ولم يكتفوا بوقوعهم تحت تأثير هذا النظام الذي ألَّهُوه, بل إنهم يحاولون أن يعمِّموه على جميع سكان الأرض, على زعم أنه هو البديل عن الظلم وطغيان الطغاة, وأن الحياة السعيدة لا تَتِمُّ للشعوب إلا بتطبيقه كما تراه أمريكا وأوربا, بل وأقنعوا كثيرًا من الناس أنَّ من لم يحكم بالديمقراطية فهو ظالم مهما كان حكمه دون أي اعتبار آخر, وفي الجانب المقابل تجد كثيرًا ممن انتهزوا الفرص للاستيلاء على الحكم مِمَّن لم تكن لهم قدم رساخة في ذلك ولا خبرة كافية, تجدهم يصحيون ليلًا ونهارًا بأنَّ الديمقراطية هي شعارنا, وهي قدرنا، هي سبيلنا إلى الرقي ... إلخ، لكي يكسبوا عطف رعاة الديمقراطية من جاب, ومن جانب آخر يريدون التشدُّق أمام شعوبهم بترديدهم لهذا الاسم الذي لا يعرف ما وراءه إلّا القليل جدًّا منهم, بل إنَّ كثيرًا من طلاب العلم يجهلون حقيقة الديمقراطية, فما هو الحال بغيرهم من العوام؟ وقد اتضحت الحقيقة تمامًا أن الغرب -أمريكا- يريدون أن تحل الديمقراطية التي اخترعوها محلّ الإسلام في كل مجال, وهم لهذا يعملون بكل جَدٍّ ونشاط

وقد انحرف من المسلمين مَنْ انحرف, ووقف مَنْ وقف, وتحير من تحيَّر, ولا أحد يدري إلّا الله ماذا ستكون النهاية, وعلي أيِّ منقلب ينقلبون, إلّا أن بوادر هزيمة المسلمين ممثَّلة في عمالة الحكم البعثي الخبيث في العراق, قد أتت ثمارها المشئومة على المسلمين, والجيدة بالنسبة للغرب لتصدير ديمقراطيتهم.

الفصل الثاني: معنى الديمقراطية ونشأتها

الفصل الثاني: معنى الديمقراطية ونشأتها الديمقراطية كلمة يونانية1 في أصلها, ومعناه: سلطة الشعب, والمقصود بها بزعمهم: حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق اختيار الشعب لحكامه, وهي الكذبة التي كان يرددها النظام الشيوعي. ويذكر الباحثون أن أوَّل من مَارَسَ هذه النظرية هم الإغريق في مدينتي أثنيا وإسبرطة, ولكنها ارتبط في الغرب بالنظام السياسي والاقتصادي بخلاف نشأتها عند الإغريق, وكانت طريقتهم تتمثَّل في أنهم كانوا يشكلّون حكومة من جميع رجال المدينة, وأطلقوا عليها اسم "حكومة المدينة" حيث يجتمع رجال المدينة لبحث كل أمورهم, ينتخبون لهم حاكمًا, ويُصْدِرُون القوانين في كل قضية تعرض عليهم, ويتخذون لها حلًّا يكون حاسمًا, ويشرفون جميعهم على تنفيذه بكل دقة وحزم, واستمروا على هذه الصورة الفريدة إلى أن انتهت حكومة المدينة في كل من أثينا وإسبرطة حينما غلبهم المدّ النصراني, وبرز رجال الكنيسة, وقد بقيت تلك الحكومة في ذاكرة الناس، ثم كان لطغيان رجال الكنيسة فيما بعد الأثر الحافظ على الرغبة في العودة إلى تلك الحكومة الغابرة, وظلَّ أهل أوربا يتوقون إلى الخلاص من قبضة رجال

_ 1 وقد سمعت خطابًا لأحد رؤساء الدول العربية يقول فيه: إن الديمقراطية لفظه عربية, وأنّ نطقها في الأساس "ديموكراسي", وهذا الزعم هو أحد تخريفات ذلك الرئيس "معمر القذافي".

الكنيسة تحت أيّ تيار يسوقهم, علَّهم يجدون متنفسًا من أوضاعهم المخزية تحت سلطة الإقطاع والنبلاء والأشراف من البابوات, وكبار الملاك الظالمون لجميع طبقات الشعوب. ونجم عن كثرة الشغط الانفجار الذي تمثَّل في الثورة الفرنسية؛ حيث أخذ زعماؤها في التفتيش عن مصدر يحلّ محل ذلك الحكم البغيض, ولم يكن أيام حكم المدينة غائبًا عن أذهانهم, خصوصًا وقد اتَّصل كثير من الأوربيين بالمسلمين, وتفهَّموا كثيرًا من تصوارت المسلمين ونظامهم الإلهي العادل, الذي منعهم من الانقياد له حقدهم الشديد على الدين والمتدينين, ثم رغبتهم في الانفلات من كل قيد وغير ذلك, فوقع اختيارهم على ذلك الماضي الجاهلي الإغريقي ونادوا بتجديده والسير على نهجه؛ كي يبعدهم عن شبح البابوات والأباطرة والإقطاعيين ومن جاء بعدهم من الجشعين الرأسماليين, فاتَّخذوه شعارًا -بِغَضِّ النَّظَرِ عن تحقيقه- يحاربون تحته, ومع طموح الشعوب إلى تحقيق هذا الحلم, فقد وجد الدعاة له من المشقَّة والتَّنكيل والسجن على أيدي أصحاب السلطة المستأثرين بها, وعلى أيدي البابوات والوجهاء والأثرياء في ذلك الوقت ما لا يوصف, وهو أمر بدهي, إلّا أنَّ دعاة تلك الديمقراطية لم يضعف عزمهم ولم تخنهم شجاعتهم, فكانوا كما قيل: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلج وتَمَّ له بعد الكفاح المرير الوصول إلى كراسيّ السلطة, وإخضاع أمراء الإقطاع والمستأثرين بالسلطة إلى الرضوخ للأمر الواقع, وزحزحت البساط

من تحت أقدام البابوات, أصحاب الحق الإلهي المقدَّس بزعمهم, ومن تحت أمراء الإقطاع الذين كانوا لا يسألون عمَّا فعلوا والناس يسألون، وصدق الله تعالى حينما قال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 1 وابتلى الله الظالمين بعضهم ببعض, ولا يزال بأسهم بينهم شديدًا وقلوبهم شتَّى.

_ سورة آل عمران, الآية: 140.

الفصل الثالث: الوصول إلى الغاية

الفصل الثالث: الوصول إلى الغاية وبعد أن تَمَّت الغلبة لرجال الديمقراطية, وهيجان الشعوب من ورائهم, للإفلات التامّ من الماضي البغيض المتمثِّل في الإقطاعيين والرأسماليين والبابوات, والدين الذي أحلَّهم تلك المنازل حسب تصورهم التامّ عن الدين, واصل الأوربيون مسيراتهم القوية, فما إن يتحقق لهم مكسب إلّا وتطلعوا إلى ما وراءه في خطوات ممتابعة لم تمهل طبقات السيادة أن يلتقطوا أنفاسهم, وبدأ الأمر في ظاهره أن د عاة الديمقراطية قد حقَّقوا كل شيء, وأن الشعوب قد نالت كل ما تتمناه, وأن مجموع تلك المكاسب قد أصبحت تشكل مذهبًا متكاملًا لا ينقصه إلّا التطبيق والتصدير اسمه "الديمقراطية". فما هي المكاسب التي تحقَّقَت لهم؟ وهل هي كذلك مكاسب حقيقية أبعدت الشعوب عن شبح ذلك الطغيان القديم حقيقة؟ وأنهم وصلوا إلى تلك الأحلام السعيدة التي كانت تراودهم في أنفسهم؟ أم لم يتحقق ذلك؟ سوف تتضح إن شاء الله أهم الجوانب لتلك الأمور فيما يلي: - المكاسب التي حققها دعاة الديمقراطية في أوربا: لقد تحقَّقَ لدعاة الديمقراطية في أوربا مكاسب ثمينة جدًّا وكانت بالنسبة لهم أفضل مما كانوا عليه فيما سبق, ووجدوا فيها عزاء ما تبدو للناظر السطحي, ومن أهمِّ تلك المكاسب التي ظهت إثر تلك الصراعات المريرة للشعوب ضد زعمائهم ووجهائهم الأمور الآتية:

1- تَمَّ لهم الهرب بعيدًا عن قبضة طغاة الكنيسة وجبروتهم, وإخضاعهم لسلطة وضعية ليس لها علاقة بالقداسة الإلهية التي كانت يمارس باسمها رجال الكنيسة كل ما يريدونه من أنواع الظلم والعلوّ, وتم الأمر بقيام سلطة وضعية لا تدَّعي القداسة الإلهية, بل ولا تعترف بها أيضًا. 2- حصلوا على حقِّ إخضاع تصرفات الحكومة لرقابة المجالس النيابية عليهم؛ إذ لم يعد من حق الحكومة الاستئثار بالسلطة دون منازع أو رقيب كما كان الحال سابقًا. 3- تحقَّق لهم الأمن من إصدار السلطات العليا أوامر الضرائب دون مبرر حقيقي, وهو ما كان يعاني منه الفقراء وسائر طبقات المجتمع الويلات؛ لعدم إحساس السلطات والبابوات بالرحمة نحو شعوبهم, ثم تمكَّنت الشعوب في أوربا من إبطاله؛ إذ لم يعد ذلك حقًّا تملكه السلطة دون موافقة ممثلي الشعب, وبعد قيام الديمقراطية التي طالبوا بها, فحصل التخفيف عن الفقراء قدر الإمكان, وبالتالي إيقاعها على الأغنياء الذين كانوا في زمن الإقطاع على النقيض من ذلك, حيث كانوا يسيرون حسبما أفاده كتابهم المقدس عندهم "الغني يزاد له والفقير يؤخذ منه". 4- تراخي قبضة السلطة العليا على المواطنين؛ إذ توزَّعت تلك السلطة بين السلطة العليا وبين ممثلي الشعب في المجالس النيابية والبرلمانية

الذين يحاولون جاهدين إرضاء منتخبيهم عنهم بما يبذلون من الدفاع عن أيّ ضرر يلحقهم أو بناحيتهم, وما يقومون به من المطالبة بتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية. 5- تحقَّق لهم الإشراف المباشر على مصارف موارد الدولة ومعرفة ميزانيتها وكيفية إنفاقها في المرافق العامة, وبمعرفة ممثلي الشعب بعد أن كانت تلك الموارد من اختصاص الدولة تنفقها حيث تشاء في رغباتها وشهواتها المختلفة, دون أيّ سؤال لهم من أيّ شخص, في حين غاب الخوف من الله تعالى في قلوب أصحاب السلطة, وغاب أيضًا الخوف من الشعب، فلمَّا ثارت الشعوب وتمكَّن أصحابها من الوصول إلى محاسبة الدولة أصبحت تلك الموارد تصرف على النفع العام, والمشروعات التي تعود فائدتها على الشعب, مما يُسمَّى بالبنية الأساسية والمرافق العامة؛ كبناء المدارس والمستشفيات وسفلتة الطرق وغير ذلك، إلّا أنه احتدم الخلاف بين مجالس النواب, هل يجب أن يكون التعليم حقًّا لكل أفراد الشعب أم لا, وعلى القول بتعميمه نتجت مشكلة أخرى, وهي من الذي سيقوم بالأعمال في المصانع والخدمة في البيوت والمزارع بعد أن يصبح الجميع متعلمين, وبالتالي مستكبرين عن مزاولة تلك الأعمال التي سيترفَّعون عنها حتمًا بعد شمول التعليم وحمل الشهادات, ولكن الوجهاء لم ينجحوا في إيقاف ذلك رغم هذا الاحتجاج وغلبتهم العامة. 6- تحقق لهم الحصول على الضمانات التي تجعل كل أفراد الشعب

متساوين أمام القانون, لا امتياز للغني على الفقير, بينما كان الأغنياء والوجهاء طبقة عالية لا يصل إليها الفقراء, وقد تحقق هذ العامل إثر صراعات وشغب مرير ضدَّ السلطة صاحبة الامتياز الأول1. 7- كما شملت تلك الحقوق جوانب عدة مثل: حق كل فرد من أفراد الشعب في التنقُّل أين يشاء داخل الوطن السياسي, وكان هذا ممنوعًا في ظل الإقطاع, فلا يستطيع العامل أن ينتقل إلّا برخصة من سيده الإقطاعي, وإلا كان محل تهمة يجب القبض عليه حتى يأتي بالمبرر الكافي. 8- ومثل حق كل فرد في أن يعمل أين يشاء, في حين أنه لم يكن مقررًا من قبل في عصر الإقطاع الذي كان يعتبر الأرض ومن عليها ملكًا للإقطاعي, سار الآباء على ذلك ونشأ الأولاد عليه؛ إذ لا مفرَّ لهم من أن يعملوا إذا أرادوا الحفاظ علي حياتهم من الموت جوعًا, وكان يعين صاحب الأرض للفلاح القدر الذي يريده قلَّ أو كَثُر, وما علي العامل إلّا الرضى به، وما أن تحطَّم الإقطاع وأفلت المغلوبون على أمرهم إلّا وكان نصب أعينهم البحث عن العمل أينما وُجِدَ في المدينة أو في الريف, بحريته وبموافقته الشخصية في نوع العمل وفي مقدار الأجرة, إلّا أن مشكلة الحاجة والفقر بقيت دون حلٍّ جذري لها, فالدولة

_ 1 وفي الإسلام: "الناس كلهم لآدم وآدم من تراب" , قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وقال -صلى الله عليه سلم: "كلكم لآدم وأدم من تراب"، وقال خليفة المسلمين الأول -رضي الله عنه: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه, والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".

لم تكن قد اهتمَّت بهذا الجانب؛ لأنه ليس من لوازمها حسب ما كان معروفًا, ولا شأن لها بالعاطلين عن العمل؛ إذ أن ذلك مسئوليتهم عن أنفسهم, ولا تسأل بعد ذلك عمَّا كان يحلّ بهم من الفقر والحاجة والبطالة, وفي الوقت الذي لم يجدوا فيه من يعطف عليهم, لا الحكومة ولا الأغنياء ولا أصحاب المصانع الأثريا, فوقعوا مرةً أخرى تحت سيطرة أصحاب المال من أهل الجاه والمال, فاضطر أولئك البؤساء إلى أن يعملوا شيئًا ما للفت النظر إلى حالهم التعيس, فاهتدوا إلى القيام بين فترة أخرى بالمظاهرات والشغب, واستمرَّ حالهم بين مَدٍّ وجَزْرٍ إلى أن وجدوا خيوط أمل النجاة تقع في أيديهم, فاضطر أصحاب التجارة والمصانع والأثرياء, وأيقنوا أن عليهم الرضوخ لمطالب أولئك البؤساء، استمرَّ الحال ينمو تدريجيًّا وببطء شديد الضعف من جانب العاطلين وأصحاب الأجور البسيطة, والتنازل رويدًا رويدًا من جانب الأثرياء والوجهاء, إلى أن وصل أولئك الفقراء إلى تحقيق أنه يجب أن تدفع الأجرة لكل عامل من قبل صاحب العمل حسب الاتفاق. 9- ثم بدأ الجميع يعملون رجالًا ونساء, إلّا أنَّ المرأة كانت تعطى نصف أجرة الرجل, ومع مرور الوقت تنبَّهت المرأة لهذا الغبن, ووجدت من يصيح إلى جانبها بمنع هذا الظلم والجور, ومن هنا نشأت الدعوى لمساواة المرأة بالرجل, ومعنى هذا أن هذه الدعوى للمساواة لم تنشأ عن رحمة أو ضمير حيٍّ, وإنما نشأت عن ظلمٍ ظاهرٍ واقع على المرأة

يستلزم رفعه عنها, ولم يهدأ طلب العمال للمزيد من الديمقراطية في حق تشغليهم من قِبَلِ الدولة, إلى أن حصلوا على مطلبهم في حده الأدنى, وهو إحساس الدولة بمسئوليتها عن حق العمل لكل مواطن. وبعد أن حقَّق العمال الفقراء ذلك الحد الأدنى من إيجاد الاهتمام من قِبَلِ الدولة بشئونهم, التفتوا إلى جانب من أهم الجوانب ومن أكثرها حرمانًا لهم منه, ألَا وهو حق التعليم؛ إذ كان هذا الجانب كغيره من الجوانب الأخرى نسيًا منسيًّا في أذهان الحكومات, ومن هنا فقد حُرِمَ الفقراء وأبناؤهم من التعليم في ظلِّ سيطرة الإقطاعيين الذين كانوا ينظرون إلى مَنْ دونهم كأدوات استهلاكية للقيام بخدمتهم, والقيام على مصالحهم, فكان أولاد الأثرياء هم الذين ينالون حظوظهم من التعليم, وكان لهذا الحرمان أثره القوي في دفع أولئك المحرومين إلى الثورة في وجوه الطبقات الحاكمة والأثرياء, وكان لقيام الثورة الفرنسية أيضًا متنفسًا لهم والتفاتة منهم إلى الحكومات, فتعالت الصيحات والاحتجاجات لإجبار الحكومة على فتح باب التعليم للجميع1، ولم يجد هؤلاء الثائرون الطريق مفروشًا بالورود أمامهم, بل عانوا مشقَّات ومصاعب جمَّة, كان في أولها وقوف طبقة الأثرياء والوجهاء في طريقهم كما أشرنا إلى ذلك؛ إذ كان هؤلاء هم المستفيدون من تجهيل الشعب كي يخدموهم ويقوموا بمصالحهم, فلو انضمُّوا إلى المتعلمين لبقي فراغ كبير بالنسبة لهم, ومن هنا وضعوا العراقيل المختلفة في طريق دعاة تعميم التعليم, متذرِّعين بالتكاليف المالية الباهظة, واستمرَّ هؤلاء وهؤلاء بين مَدٍّ وجَزْرٍ إلى أن تَمَّتْ الغلبة للفقراء بجعل التعليم عامًّا وعلى نفقة الدولة أيضًا.

_ 1 أما الإسلام فإنه يوجب التعلم قبل العمل, ويفرضه على كل مسلم ومسلمة دون تمييز.

وتطلَّع الفقراء بعد ذلك إلى ما هو أبعد, وهو حقهم في المشاركة في الحكم, فانفتح للعمل والفقراء نفقًَا ضيقًا؛ فألغي اشتراط الثراء لدخول الانتخابات, ثم خرجوا من ذلك النفق منتصرين في النهاية ليجدوا طلبهم, مشاركة أيّ شخص في الانتخابات من عامَّة الشعب حقًّا مكفولًا إذا بلغ السن القانونية, وأن من حق الشعوب أن تصل إليه بواسطة البرلمانات والانتخابات المباشرة -ولكن يجب أن تعرف كيف يتمّ هذا الحق- ثمّ استطاعت الشعوب في أوربا أن تصل أيضًا إلى اعتراف الحكومات بحقّ حرية التعبير عن الرأي تأييدًا أو معارضة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها, ولا تسأل بعد ذلك عمَّا انتجه تحقيق هذا المبدأ من شتات المفاهيم, ثم تحقَّق لهم كذلك حقّ المعارضة والاحتجاج بأية وسيلة بالإضراب عن العمل أو بالمظاهرات, وهذه المظاهرات إمَّا أن تتمَّ بالإذن المسبَّق لها, أو تتمَّ بدون إذن, وبالتالي تتصرَّف الحكومة حسبما تراه لقمع تلك المظاهرات وتفريق المتظاهرين أو تركهم بما لا يصل إلى تجريد السلاح والتنكيل، كما ضمن لهم القانون -بفعل جهادهم ويقظتهم- حرية الاجتماعات الجماعية في مقارِّ أحزابهم, أو في غيرها بعد أخذ الإذن من الحكومة إذا كانت الاجتماعات في غير مقارّ الأحزاب. ومعنى هذا أن الأوضاع قد تغيَّرت في أوربا بعد أن أفاقت الشعوب على الظلم الواقع والفقر المدقع الجاثم عليها, واستطاعت بعده أن تحصل على ما تريد رويدًا رويدًا, وتغيَّرت الأحوال تمامًا فلم يعد بوسع الوجهاء والأثرياء أن يكبتوا تلك الطبقات التي كانت لا قيمة لها ولا وزن, بل ولا

حرج في القاء القبض على الشخص منهم دون إبداء المبرِّر الكافي, خصوصًا في حق اللفقراء الذين كانت تلهب ظهورهم من قِبَلِ الطبقات العليا بسبب أو بغير سبب؛ لكي يضمنوا ولاءهم واحترامهم لهم دائمًا. أما مواجهة الحكومة بأدنى ما يغضبهم فقد كانت جريمة لا تغتفر, ولا بُدَّ من العقاب الرادع ليبقى تفكير الفقراء في النيل منهم بعيدًا عن مجرَّد تفكيرهم, ولكن بعد إفاقة الشعوب المظلومة تغير الحال جذريًّا, وبدأ عامَّة الشعب يرفعون رءوسهم ويصيحون بأعلى أصواتهم ضد كل الظملة, ووضعت القوانين لحماية المتهم فأصبح بريئًا حتى تثبت إدانته, ولا يحق سجنه إلّا بتهمة ظاهرة واضحة, وفوق هذا فمن حقه أن يطلب محاميًا عنه, وأن لا يتعرَّض لأيّ إكراه أثناء التحقيق معه, وأن يكون محاميه إلى جانبه متنبهًا لأي مزلق قد يصادفه المتَّهم من قِبَلِ المحقِّقِ فينبهه إليه, وقد يشير عليه بعدم إجابة المحقق إذا كان السؤال فيه حيف أو استثارة أو استدراج, كما أن من حقِّ المتَّهم أن يستدعي الشهود الذين يظن أن شهادتهم تنفعه, وحق المحامي في تأجيل الجلسة لمزيد من التحرِّيات ومشاورة المتَّهم, كما وجد حق المتَّهم في استئناف الحكم إذا تصوّر أن فيه جورًا عليه, كما وجدت الضمانات التي تنظم إيقاع العقوبة على المتَّهم دون زيادة أو نقص, مع وجود الضمانات الكافية لحسن معاملة السجين في فترة وجوده في السجن, فلا يهان ولا يعاقب جسديًّا إلّا إذا أخلَّ بنظام السجن, وأصبح من حقه أن توفَّر له الرعاية الطبية إذا مرض, ومن حقه أن يشكو إدارة السجن, وأن يطلب مقابلة محاميه في السجن, وأن يزروه أهله في السجن

بل ووصل الحال في بعض السجون أن يعطى السجين الحق في زيارة أهله في بيته في فترة محدودة تحت الحراسة, ثم يعود إلى السجن إلى أن تنتهي قضيته1. تعقيب: علمت مما سبق كيف ظهرت الديمقراطية في العصر الحاضر, وكيف طالب العمَّال والفقراء بكل حقوقهم طلبًا متواصلًا وبشتَّى الأساليب, فما أن يحصلوا على شيء إلّا وتطلَّعوا إلى ما بعده تحت راية تجديد الديموقراطية التي نمت بفعل تلك المطالبات المستمرّة لدخول عامَّة المجتمع في المشاركة الفعلية في الحكم, وتَمَّ لهم ذلك بفعل المناداة بحق الانتخابات؛ إذ لم تكن الشعوب قبل إقامة الديمقراطية تحلم بأن لهم سبيلًا إلى الوصول إلى الحكام البابوات, أو التأثير عليهم, فضلًا عن مشاركتهم في يومٍ ما, فقد كانت الطبقات الحاكمة كلهم من ذوي الثراء, وليس للفقراء حتَّى مجرد المناداة للعدالة والحرية والمساواة وبناء الديمقراطية أن يصلوا, فلم يتمَّ كل ذلك من مبدأ الديمقراطية

_ 1 بتصرف عن عدة مراجع. ولا ريب أن القارئ يدرك ما وصلت إليه أوربا وأمريكا بخصوصهما في هذه الأيام العصيبة -بعد أن ضربت واشنطن ونيويورك- كيف ضربوا بتلك التعاليم الديمقراطية جانبًا، وكيف تحوَّل الأمر عندهم إلى غاية الجور والتعسُّف والشدة على العرب والمسلمين بخصوصهم؛ حيث يعاملونهم أسوأ المعاملة وأشد التجبر, وملئوا السجون بكلِّ من يريدونه دون أن يسمحوا لهم بالدفاع عن أنفسهم, فضلًا عن السماح بالمحامين لهم, وهي فتنة عظيمة نسأل الله تعالى أن تنتهي بخير, وأن يلطف بالمسلمين إنه سميع مجيب.

تلقائيًّا, بل انتزعت الشعوب من الإقطاعيين والوجهاء البابوات انتزاعًا, حتَّى أصبح في أوربا أمرًا مألوفًا أن يوجّه الشخص الانتقاد للمسئولين علنًا بلسانه أو بقلمه, عن طريقه هو أو عن طريق الصحافة, ولقد تَمَّ ذلك إثر صراع مرير وصبر طويل جعل الحكومات في أوربا ترضخ للأمر الواقع نتيجة للظلم الذي وقع على الطبقات الفقيرة في سالف عصورهم {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 1. وهكذا فقد وصل الفقراء والعمال المتدنية أجورهم بسبب مطالبتهم المستمرة وتصديهم بكل بسالة لما من شأنه تحسين أوضاعهم, والشغب المتواصل للنظر في أمورهم, لا أنَّ مذهب الديمقراطية هو الذي أوجد هذا الحال, ولم تقم المديمقراطية بدافع الرحمة أو بقيام منهج أو دراسة, وإنما قامت إثر صراعات متواصلة بين أفراد الشعوب وبين أصحاب الجاه والأثرياء والسلطات, وعلى الذين يتصورونها وكأنها وحي أن يعلموا ذلك؛ إذ لا رحمة من داخل القلب في النظم البشرية الوضعية, وربما يصدق عليهم قول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

_ 1 سورة فصلت, الآية: 46.

الفصل الرابع: هل حقق الأوربيون مطالبهم في الديمقراطية حقيقة؟

الفصل الرابع: هل حقق الأوربيون مطالبهم في الديمقراطية حقيقة؟ لا شكَّ أن ما سبق ذكره يعتبر مكاسب هائلة وفي غاية الروعة -لو طبقت كما قيل عنها, ولكن الواقع أن المتسلِّطين من الجبابرة لم يكونوا ليسمحوا بتحقيق كل ذلك طواعيةً وعطفًا لو لم توجد الصحوة الأوربية على استبداد مظالم جبابرة الإقطاع والبابوات التي هزتهم هزًّا عنيفًا, على أنهم في الواقع وصلوا إلى خير مما كانوا عليه, مع أنهم لم يصلوا إلى المدى الذي كان يجب أن يقفوا عنده, فلازالت المظالم, ولا زال للجاه حكمه؛ لأن هذا الأمر لا بُدَّ من وقوعه حينما يعتقد المسيطرون القوة الذاتية التي تراقب الله تعالى, تعلم أنها ستحاسب أمامه -عز وجل- عن كل ما يصدر عنها من قول أو فعل؛ إذ أن قوة القانون لا تصل إلى الضمير ولا تحُدّ من الطغيان إلّا قليلًا ظاهرًا, وحسب المصالح ووجود القوة الرادعة, فإن طبيعة الإنسان -لو لم تهذب بالدين- دائمًا تجنح إلى الاستعلاء وجمع المال وإحاطة النفس بأقصى الحماية, حتى ولو تَمَّ ذلك على حساب الغير, وهو ما وقع فعلًا في الديمقراطية الغربية, رغم تلك المظاهر السابقة كلها أن الديمقراطية لم تستطع محاسبة الجشعين المنتفعين بالأموال الربوية على حساب الكادحين, ولم تستطع أن تجعل من الرأسمالي محسنًا كريمًا يبذل ما يبذله لوجه الله, لا يريد جزاءً ولا شكورًا, وهؤلاء المرابون يمثلون الإقطاعيين بكل المقاييس, فلا فرق بينهم إلّا في التسمية والأشخاص.

كذلك لم تستطع الديمقراطية أن توجد نظامًا اقتصاديًّا يتكافل فيه جميع أفراد الشعب, فلا يبقى فيه حاسد أو محسود، وأن توجد عدلًا وإحسانًا لذاتهما لا لأجل المنافع كما في الديمقراطية الغربية, ولا أن توجد نظامًا يكفل للأخلاق بقاءها, وللطهارة رونقها, وللنفوس سعادتها الاقتصادية والنفسية. كما أنَّ الشعب وهو الذي أوجد الديمقراطية في الظاهر, وألقى نظام الإقطاع والسيادة الإلهية التي مثَّلها البابوات, إلّا أنه من جانب آخر إنما تَمَّ له ما يشبه عملية الاستبدال فقط, فقد أصبحت الشعوب تحكم بإقطاعيين جُدُد, ليسوا هم طبقة الإقطاعيين ولا البابوات الذين كانوا في العصر السابق, وإنما جماعة أصحاب الثراء يمثِّلون الشعب في مجالسهم, لم يختلف أكثرهم عن الإقطاعيين والبابوات إلّا في التسمية الجديدة المغرية, أمَّا في السيطرة وفي حفظ مصالحهم الاقتصادية وثراءهم المتنامي دائمًا -هم حماة الشعب وحماة حريته واقتصاده، ولهذا فلا يجوز أن تتطرَّق إليهم الشبهة؛ لأن زمن الإقطاعيين والبابوات قد ولَّى وجاء حكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة هؤلاء الجدد المنتخبين بكل نزاهة وحرية, الساهرين على مصالحه دائمًا؟! ومن خدع الرأسمالية وأصحاب الجاه والسلطة في السيطرة على الشعوب باسم الديمقراطية وباسم الحرية التي منحتها لهم الديمقراطية في ظاهر الأمر, أنهم يوحون إلى شعوبهم أن الشعوب هم الذين يختارون ما يريدون, ويتركون ما يريدون, ويصوتوا لمن يريدون, ويسقطون من يريدون, دون أن تدخل من السلطة العليا التي بيدها الحكم النهائي.

هكذا صوروا الأمور لشعوبهم, ولكن يبقى السؤال الذي غاب جوابه, وخفي على عامَّة شعوبهم, وهو من أين تأتي هذه الأصوات, ومن أين تاتي هذه التوجيهات الفكرية التي تتلقَّفها الشعوب فتثور أو تهدأ بفعل تأثيرها, لقد غاب عن الكثيرين أنَّ الذين يوجِّهون الشعوب هم السلطة العليا التي تتظاهر ببعدها عن التدخل في إرادة الشعب واختياره، نعم, هم الذين يوجّهونهم كما يوجّه السائق سيارته إلى الجهة التي يريدها، وهذا التوجيه يتمُّ عبر الوسائل الكثيرة التي تملكها السلطة العليا من صحافة وإذاعة مرئية ومسموعة, ومن مفكرين يعملون لحسابها, ومن دعايات تصنع وتنشر بمعرفتها, ومعلوم أن تلك الوسائل كلها تقع تحت إشراف السلطة العليا, إمَّا بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر, فإذا كان القائمون على تلك الوسائل من موظفي الدولة فالأمر واضح, وإذا كانوا مستقلين فإنهم لا يستطيعون الاستقلال التامِّ بها إلّا بمساعدة الدولة لهم وحمايتها لهم، ومن السَّهل بعد هذا أن تتحكَّم الدولة في اتجاهاتهم, فإذا أرادت الدولة أن تنفذ أمرًا من الأمور مهَّدت له تلك الوسائل بعدة طرق رويدًا رويدًا, حتَّى يتمَّ لفت نظر الشعب لذلك, ثم يأخذ في متابعة الأمر حتى يتخيل الشعب أنهم هم أصحاب تلك الفكرة, وأن على الدولة أن تستجيب لهم وتحقق رغبتهم فقط, وقد لا يعلم إلّا النزر اليسير من الناس أنهم إنما يحققون رغبة أصحاب السلطة أو النفوذ, ولا يعلمون أن مصدر تلك الفكرة وذلك الهياج الشعبي إنما كان ممن بأيديهم الفكر والتوجيه، كما أن لوسائل الإعلام من الحيل والخداع ما لا يدركه الشخص العادي, فإنهم لا يأتون إلى ما

يريدونه وينتزعونه من قلوب الناس انتزاعًا أو يثبتونه فورًا, وإنما يمهدون له بطرق كثيرة وفي خط مدروسة مبيَّتة, إلى أن تتبناه الجماهير من الناس, حتى أصبح وكأنَّه أمر فطري مسلَّم لا يجوز رده أو الشك فيه1. ومن العجيب أن تتوّج تلك المكائد كلها بأنها نابعة عن إرادة الشعب واختياره, بينما يكون عامَّة الشعب -إلّا النزر اليسير- في بعد تامٍّ عن حقيقة ما يجري, وأنَّى لرجل يفكر بلقمة العيش فقط فلا يجدها إلّا بصعوبة بالغة, أو لرجل يفكر في ما حوله من الملهيات المتأثرة أمامه في كل اتجاه, أنَّى له أن يدرك الغايات البعيدة لأصحاب الخطط البارعة. نعم, أنَّى لمثل هؤلاء أن يفكروا بعمقٍ ليصلوا إلى معرفة حقائق الأمور, ومعرفة مَنْ الذي يسيِّرُ هذه الجماهير الصاحبة, ومعرفة ما هي المكاسب التي ستعود عليهم من جرَّاء ذلك, وما هو دور أصحاب التوجيه من خلف الستار في تلك القضايا, إنهم بطبيعة الحال لا يجدون الوقت الكافي للتفكير حتى من كان منهم أهلًا لذلك, وذلك بسبب ملأ فراغ وقت الجميع في آنٍ واحد مَنْ كان مشتغلًا بالكدِّ والجد, ومن كان مشتغلًا باللهو والفجور, فكل شخص يمشي مكبًّا على وجهه لا يفكر إلّا في نفسه, وبالتالي يجد أصحاب الكواليس الفرص الكثيرة للتأثير في الشعوب وفي اتجاهاتهم وسهولة قيادتهم, وما دام هؤلاء المنتفعون قد فقدوا الرحمة والإحساس بالآخرين, ولا توجد مخافة الله ومراقبته الكافية فيهم, فأي مكاسب سيحصل عليها الغوغاء, وأيّ تفكير

_ 1 وقد ضرب الأستاذ محمد قطب أمثلة بتوسّع تبيِّن ذلك في كتابه "مذاهب فكرية معاصرة" ص206.

سيستقلون به وبتنفيذه, اللهمَّ إلّا بقدر ما يسد رمقهم, ويلهيهم عن طغيان السلطات المتقنعة بالمديمقراطية التي تتظاهر بأن الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه دون تدخُّل من أحد, وهو بالأصح يحكم من أصحاب النفوذ والجاه في كل صغيرة وكبيرة تحت ذلك الغطاء السميك الشرعية الشعبية المزعومة. أما بالنسبة للبرلمانات المنتخبة عن طريق شعار الديمقراطية, فلا تسأل عن الحيل والخدع التي تجري سرًّا وجهرًا في أماكن الانتخابات, فمن المعروف أن النَّاس لا يذهبون إلّا إلى مَنْ عنده ذهب, كما قال أحد الشعراء: رأيت الناس قد ذهبوا ... إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب ... فعنه الناس قد ذهبوا إذ يحتاج العضو الذي ينتخب إلى مال يتودَّد به إلى ناخبيه, وإلى إظهار بعض الإصلاحات التي سيفعلها في حال فوزه, ومتى لم يكن عنده مال انقشع الناس عنه وتناسوه؛ لأنَّ العامّة لا تنظر إلى الكفاءة الحقيقة من المعرفة والجرأة والنصح والإخلاص؛ لأنها غير منظورة, وإنما ينظرون إلى الإنجاز المادي المشاهد, فكم من شخص عنده من الكفاءة ولم ينتخب, بما لا يقارن به الكثير ممن تَمَّ انتخابهم. وإذا كان المنتخبون من ذوي الجاه والثراء, فما الذي يشغل قلوبهم على عامَّة الشعب الفقراء والمساكين, وقد فقدوا مراقبة الله تعالى أولًا وأحسوا

أنهم أصحاب سلطة وتوجيه يجب على الشعب السمع والطاعة لهم, وإلّا كانوا عصاة يجب تأديبهم وزجرهم عن التفكير في الوصول إلى مصالح السلطات الحقيقية, أو الامتيازات الممنوحة لهم بفضل القوانين التي دوَّنوها هم أيضًا, كما أنَّه على افتراض أنَّه وجد شخص مخلص لشعبه, وجرئ في محاجة أصحاب السلطة والجاه, فليس أمامه إلّا خيارين: إمَّا أن يمشي مع المجموعة العامَّة للنواب في الصحيح وفي الغلط, وإمَّا أن يعتزل ويذهب بنفسه, أو هم يذهبون به تحت أيّ مبرر من المبررات الكثيرة التي يجيدون طبخها في الظلام. أما الحرية التي كفلتها الديمقراطية فإنها تظهر أكثر وضوحًا في حرية الإلحاد وإظهار الفجور, وحرية معارضة ما لا يتفق ورغبات أصحاب التوجيه, وبحيث لا يمس مصالحهم أبدًا, ولا تسأل بعد ذلك عن حرية الجنس وما ضمنته قوانين الديمقراطية الجديدة خليفة الإقطاع والبابوات بعد الإطاحة بهم ظاهرًا, وقد عبَّر المتظاهرون في الصين ضد الحكم الشيوعي الملعون بلافتات كتبوا عليها "ليس عندنا من الحرية إلّا حرية الجنس" كما سمعته من إذاعة لندن، ولأنَّ إغراق العامة في متاهاته وفي انتشار الخمور والمخدرات والملهيات بجميع أنواعها, هو أقوى ضمان لبقاء أصحاب الجاه والتوجيه المنحرف في الحكم واستعباد الشعوب التي لا تملك حولًا ولا قوة إزاء تلك الأوضاع البائسة.

تعقيب: بغَضِّ النظر عن الدعاية الرنَّانة للديمقراطية نقول: نعم بكل وضوح أن الديمقراطية لم تحقق العدالة الاجتماعية, ولم تحقق كذلك الحيلولة دون استعباد الأغنياء للفقراء, ولم تلحقهم بالطبقة العليا أصحاب الجاه والنفوذ, بل إنها أصبحت الوجه الآخر للدكتاتورية القديمة, ولكنها تحت ثوب ناعم, أو كالنار تحت الرماد. كما أنَّ طريقتهم للانتخابات تدل على أن الفقراء والضعفاء لا يزالون كما كانوا في عهود الإقطاع, فهم لا يستطيعون بذل تلك الأموال الضخمة لدعاية الانتخابات وشراء الضمائر بسبب فقرهم, فيبقى المجال مفتوحًا للأغنياء وأصحاب الجاه والمال وحدهم, وليس للفقير إلّا السير في ركاب رؤساء الحزب الذي يؤيده, وقد يغلب هذا الحزب أو ذلك لمجرد الهوى, أو الأغراض النبيلة أو الفاسقة, فالكل قابل لذلك, فيعود نظام الاحتكار والإقطاع في داخل الحزب الواحد, ولكنه لا يسمَّى بتلك التسمية في عهد فن الدعاية. وإذا كان البرلمان وهو ممثِّل الشعب, فإنه يمكن الالتفاف عليه بكل بساطة, ثم انتخاب الشعب لبرلمان آخر, وبعد العناء المضني فإنه من السهل حلَّه من قبل رئيس الدولة بأيَّ سبب كان حقًّا أو باطلًا وأحيانًا يتمَّ حله إذا كان أعضاؤه من ذوي الطموح والرغبة في خدمة الشعب, دون النظر إلى خزينة الدولة أو توفير المال, فيحصل النزاع القوي بين وجهاء الدولة ومؤسساتها, وبين طموح البرلمان وبين وزارة الاقتصاد والمال, أو بين البرلمان والبلديات, أو بين البرلمان وأيَّة مؤسسة ولو كان دعاية, بل وأحيانًا يكون القصد الخلاف

التهريج وذرّ الرماد في العيون وفق خطط مدرسة سلفًا, فتعود السلطة في النهاية إلى حكم الفرد الإقطاعي الجديد, وهو رئيس الدولة أو البابا في الزمن القديم، وتحت عنوان "حصاد الديقراطية" في مقالة الشيخ "خالد فوزي آل حمزة" في كتيبه "الديمقراطية في العراء" يذكر أنه في عام 1700م كانت النسبة بين الدول الفقيرة والدول الغنية هي 1: 3, وهذه النتيجة كانت قبل أن يعرف الناس الديمقراطية ذات النفاق والخداع المشروع في وسائل الوجهاء والساسة، ولكنَّها بعد مجيء الديمقراطية كانت النسبة هي "1: 100" بفضل الديمقراطية, فيما ذكره أحد مفكري الغرب وهو "لستر براون"1. وذكرت مجلة غربية عن ضابط شرطة في أمريكا اسمه فريد نيكسون في ولس أنجلوس إحصائية الجرائم لعشرة أشهر في عام 1990من وحتى أكتوبر منه, فإذا هي 805 جريمة قتل, 1633 جريمة اغتصاب بُلِّغَ عنها, والعادة أن أكثر النساء لا يبلغن عنها, 28115 اعتداء مسلح, 36065 اعتداء إشارة, 259883 سرقة سيارات وسرقات عامة ومخدارات، أي: إنها بمعدل 30 جريمة كل ساعة, وبمعدل 720 جريمة يوميًّا في مدينة واحدة أمريكية, والفضل للديمقراطية؟! بل وأصبح التخويف من اللصوص وقطّاع الطرق أمرًا معترفًا به رسميًّا؛ حيث أصبح من المألوف مشاهدة لوحات يكتب عليها في أول الطريق هذا التحذير "ننصحك ألّا تبتعد في هذا الطريق لئلَّا تعرض نفسك للخطر"2 أضف إلى هذا ما يئن منه المجتمع الغربي الديمقراطي من

_ 1 انظر الديمقراطية في العراء، ص13. 2 المصدر السابق، ص12-13.

ظهور الناس على طبقات تسودها الأحقاد ومبادئ "مَنْ عَزَّ بَزَّ, ومن غلب استلب" لخواء ضمائرهم من مراقبة الله -عز وجل, فأين المكاسب في هذا؟ كما أن الحرية التي كلفتها الديمقراطية إمَّا تظهر بوضوح كما تقدَّم في إشاعة الجنس والانحراف والخمور وكل ما من شأنه عدم المساس بالمصالح الحقيقية لأصحاب السلطة والتوجيه المنحرفين, كما اتضح أن الحرية التي يتباهى بها دعاة الديمقراطية ليست هي الحرية ذات الاتجاه السليم, التي ليس فيها ضرر ولا ضرار؛ لأن الحرية الحقيقية هي التي تضمن للإنسان كرامته وسعادته, وتجعل عمله كله صالحًا نافعًا, وهي الحرية التي فطر الله الناس عليها من الحياء والعفة والرحمة والعدل, فلا ضرر فيها ولا ضرار, يسلم فيها الإنسان من ظلم غيره, سواء أكان ظلمًا باللسان فلا غيبة ولا نميمة ولا شهادة زور ولا قذف. أو كان ظلمًا باليد, فلا بطش بها بغير حق واضح, ولا كتابة فيها بظلم الآخرين, وهي الحرية التي تضمن لنفسك حقها عليك, وتضمن لأهلك حقوقهم عليك, وتضمن حقوق الجميع وصيانة أعراضهم وأنسابهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم, وليعلم كل من له عقل أن تلك الحرية لا وجود لها إلّا في ظل الإسلام, وأمَّا تلك الحرية التي تمنحها الديمقراطية فهي حرية البهائم الجامحة, لا حرية الإنسان الذي كرَّمه الله وشرَّفه على جميع موجودات الأرض.

الفصل الخامس: الحكم على الديمقراطية

الفصل الخامس: الحكم على الديمقراطية الحكم على الديمقراطية -حسب ما ظهر من خلال دراستها- أنَّها اشتملت على جوانب مختلفة, وبالتالي فإن الحكم سيختلف تبعًا لتلك الجوانب, وسنذكر الحكم عليها من الناحية الإسلامية ومن الناحية الاجتماعية لأوربا. أما منزلتها في الإسلام: فقد ظهر أن بعض المنخدعين بها قد تصوَّر أنه لا فرق بين الديمقراطية وبين الإسلام, بل ويزعم أن مبادئ الديمقراطية هي نفس المبادئ التي دعا إليها الإسلام, ولا شكَّ أنَّ من قرأ ما كتبه علماء المسلمين عن الديمقراطية سيلمس الفرق واضحًا لا خفاء فيه, والقائل بعدم الفرق إما أن يكون جاهلًا أو مخادعًا أو ملحدًا مغالطًا, ومن الفوارق الواضحة أن أهداف الديمقراطية وحلولها للمشكلات كلها؛ سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو غير ذلك, هي غير الأهداف وغير الحلول التي جاء بها الإسلام، ولا بُدَّ أن يحصل الاختلاف, بكل بساطة ووضوح حلول الإسلام دائمة وعامّة, وحلول الديمقراطية مؤقَّتة ولمصالح، كما أنَّ تعاليم الإسلام جاءت من رب العالمين عالم الغيب والشهادة, بينما تعاليم الديمقراطية لم تقم إلّا بتجارب البشر بالاحتجاجات ضد طغيان السلطات الرأسمالية وقلبها الإقطاع, وبالمظاهرات الصاخبة والاضطرابات المتوالية, إلى أن ترقَّوا بمفهوم الديمقراطية إلى ما وصلوا إليه في ظاهر الأمر, بينما الأمر في الإسلام يختلف تمامًا, ذلك أن المسلمين ليسوا في حاجة إلى سلوك مثل تلك المهامة,

ولا يحتاجون إلّا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ليجدوا أنفسهم في غاية السعادة وفي غاية التكافل الاجتماعي بمعناه الحقيقي, وفي أتمِّ ما يكون من الأحكام العادلة الرحيمة التي يطبقها المسلم على نفسه قبل أن يطالب بها غيره, ومن تصور هذا الفرق هان عليه معرفة الفرق بين الإسلام وبين الديمقراطية, كما أنَّ تعاليم الإسلام تجعل المرء يشعر ويحسّ بمسئوليته أمام الله تعالى, وتوجد في داخل نفسه المراقبة الذاتية لله تعالى, التي لا تصل إليها أيّ قوة غير قوة مراقبة الله تعالى, التي يتغير بموجبها سلوك الإنسان نحو معاملته لربه ومعاملته لإخوانه المسلمين, بل ومع غير المسلمين في تنظيمٍ بديع لن يصل إليه, بل ولن يقاربه أيّ تنظيم بشري هو عرضة للنقض والتغيير بين كل فترة وأخرى, وفرق بين سلوك ينتج عن مراقبة الله وخوفه, وسلوك ينتج عن غيره, فما مِنْ شخص يزعم أنَّ الديمقراطية هي التي تحقق السعادة للشعوب, أو أنها أرحم من التعاليم الربانية, ما من شخص يزعم ذلك إلّا وتجده إمَّا جاهلًا جهلًا مركبًا, وإمَّا ملحدًا لا يعرف عن حقيقة الإسلام شيئًا, أو مخدوعًا بشعارات الديمقراطية البرَّاقة, لم يتعظ بما يشاهده من حال بلدان دعاة الديمقراطية, كما نجد كذلك أن تعاليم الإسلام لا تجيز الفصل بين الدين والدولة, بل الدين الإسلامي هو الشامل والمهيمن على كل أمور الحياة, وما لم تصدر عنه فإنها تعتبر من الضلال, ومن اتخاذ البشر بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله تعالى, بينما تعاليم الديمقراطية قائمة على الفصل بينهما, فرجال الدين مهمتهم تنحصر في أماكن العبادة والمواعظ الدينية ونحو ذلك, ورجال الدنيا لا حدَّ لمهمَّاتهم, فهم المشرِّعون والمنفِّذون, ومعنى هذا أن الإسلام والديمقراطية الغربية ضدان هنا, فإين التوافق الذي يدعيه المغالطون.

كما أنّ الديمقراطية لا تعتمد الحكم بما أنزل الله وتنفر منه؛ لأنها في الغرب قامت من أوّل يوم على محاربة الأديان, وكل شيء يتصل بها, وأن الحكم فيها يجب أن يتمَّ على تشريع الشعوب والبرلمانات ورؤساء الدول, وقوانينهم مقدَّمة على الحكم بما أنزل الله تعالى, بينما الإسلام يعتبر هذا خروجًا عن الدين وكفرًا ومحادَّة لله وردًّا لشرعه, خصوصًا مِمَّن يعلم هذا الحق ولكنه يرفضه ويفضل حكم الجاهلية عليه, كما أن في الديمقراطية الوصول إلى الحكم مشاع لكل أحد؛ من حق المرأة أن تصل إلى القضاء والتمثيل الدبلوماسي والجندية والرئاسة وغير ذلك, بينما الإسلام يجعل الشخص المناسب في المكان المناسب, فجعل للرجال مجالات وجعل للنساء مجالات أخرى تناسبها, ولهذا فإنّنَا نجده لم يجز للمرأة أن تتولّى الإمامة العظمى لأمور كثيرة تذكر في كتب العلم, ولا يجوز لها مزاحمة الرجال في حق الانتخابات. - في الديمقراطية لا حرج في أن يتولّى الحكم أفسق الفاسقين وأكفر الناس, لا حرج أن يتولَّى الحكم على المسلمين وغيرهم ما دام قد فاز -كما يصفون- في الانتخابات, بينما الإسلام لا يبيح للكافر أن يحكم المسلم أو يشاركه في الحكم, ولا يجيز كذلك للمسلمين أن يولّوا ابتداءً شخصًا معروفًا بالفسق والفجور, بل عليهم أن يختاروا أصلح الموجودين, وأن يجتهدوا في ذلك ما أمكن. - في الديمقراطية الشورى تتمَّ عن مشاورة عامَّة الشعب دون تخصيص أهل الرأي والعلم, فتحصل فوضى وتدخلات الأهواء, ويصبح الحق ما نادت به الأكثرية خيرًا كان أم شرًّا، بينما الشورى في الإسلام تعتمد على مجموعة هم أفاضل الناس وفقهائهم -كما سيأتي تفصيل هذا.

- في الديمقراطية لا حدود أخلاقية لحرية الفرد والجماعة, ولا مكان للفضيلة, ولا حاجز عن الفواحش وسوء المعاملات والكفر الصريح في الديمقراطية تحت مسميات عديدة: حرية الكلمة, والحرية الشخصية، حرية الفكر، حرية التملك، حرية التدين ... إلخ. بينما الإسلام يجعل للحرية طريقًا واضحًا يحقق مصلحة الفرد والمجتمع في آنٍ واحد؛ بحيث لا تختلط الحريات الفوضوية الظالمة بالحرية الحقيقية التي تحقِّق مصلحة الجميع وتؤلف بين القلوب. - في الديمقراطية الحثّ على تفرق الناس, وقيام الأحزاب المختلفة, ومعارضة بعضهم بعضًا, ونشوب المكائد بعد ذلك, واحتقار وسب بعضهم بعضًا, وصار مثلهم كمثل اليهود والنصارى فيما أخبر الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} 1. فإن كان حزب يهوّن شأن الحزب الآخر, ولا يهتم كل حزب إلّا بكيف يكسب أصوات الناخبين, ومن هنا تكثر الوعود الكاذبة والتنجيح بكثرة الإنجازات التي ستتم حينما يتولَّى الحكم فلان، بينما الإسلام لا يأمر بذلك, بل ينهى عن التفرُّق والكذب والخداع, ويأمر بالحب في الله والبغض فيه, والعمل لمصلحة الإنسان لنفسه ولغيره, واحتساب الأجر عند الله في تحمُّل المسئولية وفي أدائها, وهذا ما تفتقده الديمقراطية الغربية.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 113.

الفصل السادس: هل المسلمون في حاجة إلى الديمقراطية الغربية

الفصل السادس: هل المسلمون في حاجة إلى الديمقراطية الغربية؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج إلى تفكير من قِبَلِ أيّ مسلم لم تدنّس فطرته الشبهات، لقد قامت الحياة في الدول الغربية على المناداة بالديمقراطية سلوكًا ومنهجًا في كل شئون حياتهم, وصار كل سياسي يتباهى بتطبيقها, والرغبة في تصديرها, والواقع أنه قد يكون للغرب ما يبرر كل هذا السلوك؛ لأنهم ليسوا على شيء, فلم يعرفوا من النظم إلّا هذا النظام الذي اكتشفوه وفرحوا به لعدم معرفتهم بما هو أفضل منه, وهو الشرع الحنيف الذي أكمله الله ورضيه لنفسه ولعباده دينًا وسلوكًا, وإذا كان للغرب والنظم الجاهلية ما يبرر هذا السلوك, فإنه لا مبرّر لانسياق الكثير من النظم الإسلامية ومن بعض المفكرين من المسلمين إلى اتِّباع أولئك, بعد أن منَّ الله عليهم بأفضل دين وأكمله, وأفضل نظام اجتماعي وأعدله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2, وإحكامه غاية العدل {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. يتركون هذا المعنى الفيَّاض ثُمَّ ينساقون إلى نظام ثَبَتَ فَشَلُه, ويتركون نظامًا صالحًا إلى يوم القيامة, مضى عليه سلفهم فكانوا مصابيح الدُّجَى ومشارق الأنوار.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 50. 2 سورة النساء، الآية: 65.

إن الشرع الإسلامي يستهوي بعدله ورحمته وشموله حتى أعداء الإسلام, فإذا بهم ينساقون إليه مذعنين, بل ويصبحون من جنوده البواسل حينما قارنوا بين ما جاء في الإسلام وبين النظم الجاهلية التي تقود البشر من شقاء إلى شقاء؛ لأنها من صنع البشر الذين قصرت أفهامهم, والتبست عليهم الأمور, وهؤلاء حُجَّة على أولئك الهاربين إلى الديمقراطية دون أن يعلموا شيئًا عن الإسلام وعن تعاليمه الشاملة, لقد انبهر الكثير من المسلمين ببريق الحضارة الغربية وصناعاتها المادية, فظنوا أنّ ذلك إنما هو بسبب ما عندهم من الأنظمة, ولم يفطنوا إلى أنَّ سبب ذلك إنما يعود إلى نشاط الغرب وشحذ هممهم وإصرارهم على اكتشاف خيرات الأرض والاستفادة منها, وطرقهم لآلاف التجارب دون كلل أو ملل مهما واجهتهم من المصاعب, كلما فشلوا في تجربة صناعية زادهم ذلك إصرارًا على إعادة الكَرَّة, والله -عز وجل- لا يضيع عمل عاملٍ من ذكر أو أنثى, فأعطاهم الله من الدنيا على قدر عزمهم, بينما المنتظرون من المسلمين للحضارة الغربية يغطُّون في سباتهم، فلمَّا أفاقوا على هدير مصانع الغرب وإنتاجهم ألقوا باللائمة على الإسلام ظلمًا وزورًا, وظنُّوا أن هذا التبرير يبقي على ماء وجوههم, فإذا بهم لا ظهرًا أبقوا ولا أرضًا قطعوا, فلا هم بقوا على إسلامهم وتلافوا أخطاءهم، ولا هم لحقوا بالدول الغربية في إنتاجها المادي, وكان يجب عليهم أن يعرفوا أن الإسلام الذي عاش عليه ملايين البشر في القرون الغابرة على أحسن حال وأعدل نظام لا يزال كذلك على مَرِّ الدهور عاش عليه البشر قبل أن يظهر قرن الديمقراطية التي يريدون إحلالها محله, والتي قامت من أوّل أمرها على محاربة الدين وخداع الجماهير للوصول إلى الحكم بأي ثمن يكون, واعتبار ذلك فوزًا أو مغنمًا, بينما الإسلام لا

يجيز الخداع ولا النفاق, ولا يجيز الاحتيال على الناس وابتزازهم, لا في دينهم ولا في دنياهم, بل يعتبر الوصول إلى سدة الحكم أمانة عظيمة حملها ثقيل ومزالقهاخطيرة, ولا يعتبر الوصول إليه فوزًا كما نسمعه في تطالب الديمقراطيين للوصول إلى الحكم, فتذكَّر أخي القارئ ما قاله أبو بكر -رضي الله عنه- حينما ولي الخلافة: "لقد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أعوججت فقومني"، وكان عمر دائم التأوُّه من حمل ثقل الخلافة, وكان أسلافنا من أعلام الإسلام يفِرُّ أحدهم من أخذ الحكم, كما يفِرُّ أحدنا من الأسد أو أشد, لا جهلًا به ولا خوفًا من مشقته, إنما هو الخوف من الله -عز وجل- أن يقع فيما لا يوافق الحق, فإذا تَمَّ انتخاب الخليفة أسدوا إليه النصحية وآزروه, راضين مطمئنين بحكمه, لا يجوزون عصيانه ولا الخروج عليه, ولا تشكيل حزب معارض له ما دام يشهد الشهادتين ويطبق أحكام الإسلام, حتى وإن كانت له معاصي وكبائر, فهو محل طاعتهم, وأمره إلى الله مع محاولتهم بيان الحقّ وإسداء النصحية له. حتى إذا جاءت الديمقراطية فإذا بأقطابها يتهارشون عليها ويخادعون الناس وينافقون, ويعدون بما لا يفعلون -وإذا بالناس غير الناس والقلوب غير القلوب- وكأنَّ حال الإسلام والمسلمين يقول: ذهب الذين إذا رآوني مقبلًا ... هشوا إليَّ ورحبوا المقبل وبقيت في خلف كأن حديثهم ... ولغ الكلام تهارشت في المنزل إن الحاكم في الإسلام مؤتَمَن مصالح المسلمين, وليس له أكثر من كونه منفذًا لا مشرعًا؛ لأن التشريع إنما هو لله -عز وجل, وبذا يضمن الحاكم

والمحكوم على حد سواء الخوف من الوقوع في الجور, أو انتشار الفساد, وتفكك المجتمع, والفرقة التي تنشأ في الغالب من البعد عن هدي الله -عز وجل- وهدي نبيه الكريم -صلوات الله وسلامه عليه, وهذا بخلاف الديمقراطية التي يكون الحاكم فيها مشرِّعًا من دون الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3. فإذا طبَّق الشعب والحاكم هذه المفاهيم كانوا صخرة قوية تتحطَّم عليها كل آمال الحاقدين وأعداء الملة, وعاشوا في سعادة ووئام كأنَّهم أسرة واحدة. والحاصل أن ظهور الديمقراطية في الغرب كان أمرًا حتميًّا في مواجهة نظام الإقطاع وصرامة رجال الكنيسة واستعبادهم للشعوب, وإذلالهم لكرامة الإنسان؛ إذ كانت الطبقة الغنيّة تستبعد الطبقة الفقيرة, بل كانوا يعتبرون الفقراء جزءًا من أملاكهم, وحينما جاءت الأنظمة الاشتراكية والشيوعية ازداد الأمر سوءًا, وازداد استعباد الطبقات المسيطرة على المستضعفين

_ 1 سورة يوسف، الآية: 40. 2 سورة النساء، الآية: 65. 3 سورة النساء، الآية: 59

فلما جاءت الديمقراطية الغربية نظرت إليها الشعوب المستعبدة على أنها هي الأمل لخلاصهم مما هم فيه من الشدة, ورأوا أن الالتفاف حول النظام الديمقراطي خير من القبضة الحديدية في النظام الإقطاعي, أو البابوي الجبار, أو الشيوعي البغيض, ولهم عذرهم تجاه ذلك, فإن تلك الأنظمة كانت شرًّا محضًا لا خير فيها, وكان استبدالها أمرًا يفرض نفسه, ومبرراته واضحة, إلّا أنهم لم يهتدوا إلى الحق وإلى النظام الصحيح الذي ينقذهم مما هم فيه من الشقاء. - أثرها على الأوربيين والحكم عليها: يتبين الحكم عليها من خلال جانبين هما: 1- الجانب الإيجابي على الأوربيين. 2- الجانب السلبي عليهم. أما الجانب الإيجابي: فقد عرفت حال أهل أوربا حينما كان رجال الدين وزعماء الإقطاع هم المسيطرون، ومدى ما قاسته الشعوب على أيديهم من أنواع الظلم الفادح والغبن الفاحش، وأنَّ أولئك الطغاة لم يستيقظوا إلّا على تلك الأوضاع -وهم على صواب في ذلك- غير ما أخذ عليهم من أنهم لم يتوجَّهوا الوجهة الصحيحة التي تضمن لهم الخروج النهائي عن حكم البشر بعضهم لبعض, واتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله تعالى, كما

تبين من خلال الدراسة السابقة, وقد عرفت أنهم أخذوا ينبشون عن أمجادهم السابقة علَّهم يجدون الخلاص, فكان ذلك الخلاص هو العودة إلى الديمقراطية القديمة التي أماتها رجال الدين النصراني حينما كانت الغلبة لهم, فكان أن استبدلوا بجاهليتهم القديمة جاهليتهم الحاضرة, وتحت هذه الدعوى الخيالية -حكم الشعب نفسه بنفسه- بدءوا يرتِّبون لترقيتها وتطويرها, حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم, بل واجتذبت إلى صفوفها أعداد غفيرة, بعضهم ما كان في حاجة إلى السير في ركابها كما كان الأوربيون في حاجة إليها حقيقة, وأنَّ الأوربيين بدءوا في تنظيم حياتهم من نقطة الصفر, كلما حققوا مكسبًا تطلعوا إلى غيره, ولا يأخذونه إلّا بعد جهاد مرير, وتلك المكاسب استخرجوها بقوتهم لم تمنحهم إياها الديمقراطية ابتداءً كما يتصور البعض أن الديمقراطية مذهب نشأ في صورته الحالية, وأنه لا ينقصه إلّا التطبيق, ومهما كان الأمر, فإن ما وصلت إليه الشعوب الأوربية رغم نقصه يعتبر نصرًا مؤزرًا لهم, وفاتحة طيبة للخلاص من حكم الإقطاع والبابوات الظالمين, وبعض الشر أهون من بعض كما تقدَّم ذكره, وما تقدَّم يمكن أن يعتبر جانبًا إيجابيًّا في الديمقراطية بالنسبة للغرب, رغم ما فيه من سلبيات. أما بالنسبة للجانب السلبي منها: فقد تبيَّن من خلال الدراسة السابقة أن الديمقراطية تحمل في ظاهرها بريقًا خلابًا, ولكن في حقيقتها هي عكس ذلك. 1- أما بالنسبة لموقف السلطة وأصحاب الجاه والثراء فقد اتضح أن هؤلاء

عرفوا كيف يحتالون على الشعوب ويوجهونهم لمصالحهم الخاصَّة قبل مصالح الشعوب الحقيقية؛ بحيث يوهمون الشعوب أنَّهم حصلوا على كل ما كانوا يطالبون به, وكان الرابح الحقيقي هم السلطة. 2- أمَّا ما تحقَّق في ظل الديمقراطية من التشجيع على الفساد الأخلاقي تحت تسمية الحرية الشخصية, وما تحقق لهم من الدعوة إلى الإلحاد تحت تسمية حرية الكلمة, أو حرية الأديان, فإنه لا يعتبر مكسبًا حقيقيًّا, بل الصحيح أنه خسارة فادحة, وإن سموه مكسبًا, وهذا باعتراف عقلائهم. 3- ما تحقق من الابتعاد التام عن الالتزام بالدين أو التحاكم إليه إنما هو رجوع إلى الجاهلية التي يزعمون أن الإنسان البدائي كان يعيشها في حقبة ما قبل التاريخ كما يسمونها، فأيّ مكسب للشعب في رجوعه إلى تلك الحال. 4 - ما تحقّق كذلك من نسيان اليوم الآخر, وما أخبر الله به من الثواب والعقاب, وما حلَّ محله من التكالب على المتع الرخيصة, والسير بلهفة للوصول إلى الشهوات, والزخارف الجذابة التي تنتجها مصانع الشرق والغرب, إن هو إلا ضلال وعبادة للدنيا, وإرجاع للإنسان إلى الحيوانية البهيمية. 5- ما تنادي به الديمقراطية من المبادئ البراقة ينقضه أنها لم تحقق للناس الألفة والمحبة والتراحم الذي جاءت به الشريعة الإسلامية, فلا يزال السلب والنهب والاغتصاب وكثرة الجرائم هي السمة

الظاهرة في الأنظمة التي تحكم بالديمقراطية, فأين المكاسب في مثل هذه الأعمال، وأيّ أمن سيحصل في نظام من أبرز أسسه التي قام عليها تشريع البشر للبشر, المتمثِّل في مجلس النواب وغيرهم من المشرعين من دون الله بقوانينهم التي تقوم على الهوى ومحادَّة الله, فإن الديمقراطية قد كفلت لهم هذا الحق الذي أخذوه بغير حق, والذي يعتبر من اتخاذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله, فأي مكسب للإنسان المكرم في ظل هذه الاتجاهات الباطلة, وأي مكسب سيجنيه الشخص من قانون الحرية الشخصية التي أتاحت كل الفواحش وأنواع الإجرام تحت دعوى حرية الشعب، ومن الغريب أن تضمن الديمقراطية الحرية في كل شيء إلّا حرية التمسك بالدين الإسلامي, ولقد صدق المتظاهرون في بريطانيا حين خرجوا يصيحون في الشورع "لا حرية عندنا إلّا في الجنس", ذلك لأنَّ السفور والزنا واللواط وشرب الخمور والتبجح بالكفر كلها أمور ضمنها قانون حرية الديمقراطية, التي يتبجّح بها الغرب والمعجبون بهم من الدول التي يسمونها "الدول النامية", أو على الأصح "النايمة", تظنُّ أن تلك الجرائم مكاسب. 6- لم يتحقق في الديمقراطية تكريم الإنسان التكريم اللائق به, وإنما تكريمه يتمّ حسب الأمزجة ومن خلال اعتبارات كثيرة, بينما الإسلام يكرِّمه في كل أحواله, سواء أكان فقيرًا أم غنيًّا قبيحًا أم جميلًا, وهذا هو المكسب الحقيقيّ الذي يجب أن يعض الإنسان عليه بالنواجذ, فإن

الإسلام يكرم الإنسان حيًّا وميتًا, يكرمه في حياته فلا يجوز الاعتداء عليه؛ لا في ماله, ولا في نفسه, ولا في عرضه, إلا بشروط, ولا يجوز تعييره بذنب تاب منه, ويكرمه وهو ميت؛ فلا يجوز أخذ شيء منه, ولا الاستهانة بقبره, بل ولا يجوز مجرَّد الجلوس على قبره, ولا أن يذكر بشرٍّ إلّا لمصلحة راجحة, ولا يجوز إخضاعه واستعباده إلّا لربه سبحانه, ولا أن ينفذ تشريع أحد من البشر لم يرد به تشريع من عند خالق البشر، بينما الديمقراطية قائمة على تشريع الناس بعضهم لبعض, متمثلة في مجموعة من الناس يسمّون ذلك لجهلهم مكاسب ديمقراطية. 7- ما تمدح به دعاة الديمقراطية من أنَّهم ضمنوا للشعوب حق التعبير عن الرأي مهما كان, فإنه قد اتَّضح من التاريخ الأوربيّ أن هذا الاتجاه لم يتحقق بطريقة صحيحة؛ إذ أنه لا يزال لأصحاب الجاه والحكم والثراء سيطرتهم المباشرة أو غير المباشرة على كل رأي تتخذه الجماهير، فلم يصفو المشرب لهذا المكسب كما يجب له, أو كما يتصور البعض, بدليل عدم جواز وصول المعارضة إلى المساس الحقيقي بمصالح السلطة الحاكمة كذلك, فإن حق التعبير عن الرأي هل ينفذ للجماهير؟ ما أكثر ما يعبرون عن أراء ويتظاهرون من أجلها, ويضربون عن العمل لتنفيذها, ولكنها لا تنفذ لهم, وهو ما نسمعه في كل يوم من إذاعاتهم, وما نقرأه في صحفهم, وهذا الأمر ليس بسرِّ إضافة إلى أن حقَّ التعبير إنما كان بتخطيط ماسونِيٍّ لضرب عقائد من يسمونهم بالجوييم.

الفصل السابع: الديمقراطية والشورى

الفصل السابع: الديمقراطية والشورى المقصود بهذا العنوان: هو تفصيل الأمر في قضية العلاقة بين النظام الديمقراطي وبين نظام الشورى في الإسلام، هل هما بمنزلة واحدة أم أنهما يختلفان اختلافًا بعيدًا أو قريبًا, سنرى ذلك من خلال ما يلي: أما الديمقراطية فقد تقدَّمت دراستها وتفصيل أمرها، وأما بالنسبة للشورى فإليك بيان أهمِّ ما يتعلق بها؛ ليتضح لك من خلاله معرفة الفرق بينهما. معنى الشورى: تتلخَّص معاني الشورى في أنها محاولة إجماع الآراء حول القضايا المهمة, ومعرفة الصحيح منها من مجموع تلك الآراء, وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم في أكثر من موضع, ولجوانب مختلفة فيها الثناء والامتنان والإرشاد. - ففي بعض الآيات الثناء من الله تعالى على المؤمنين حينما تتآلف القلوب وتتحد الأهداف ويمثل الجميع جسمًا واحدًا. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1، أي: لا ينفرد أحد برأي أو يستبدَّ به دون الآخرين، قال ابن كثير -رحمه الله: "أي: لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم"2.

_ 1 سورة الشورى، الآية: 38. 2 تفسير ابن كثير ج4، ص118.

- وفي بعضها أمر من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يشاور أصحابه, وأن هذه المشاورة منهم له هي رحمة من الله تعالى عليه واصطفائه بالأخلاق الفاضلة, قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1. - وفي بعضها أمر وإرشاد للمؤمنين في حال الخصومة بينهم أن يلجأوا إلى التشاور فيما بينهم للوصول إلى الأمر الذي يصلح به كلا الفريقين, فقال تعالى في شأن النزاع بين الزوج والزوجة: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} 2. كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- دائمًا يشاور أصحابه امتثالًا لأمر الله تعالى له, وكان يأخذ بالرأي السديد من أيِّ شخص كان؛ إذ أن طالب المشورة إنما يبحث عن الرأي الذي يبدو أنه يحقق المصلحة, فقد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في غزوة الخندق، وفي غزوة بدر، وفي أسارى بدر، وفي غزوة أحد، وفي غيرها من المواقف الكثيرة. والسؤال الوارد هنا هو: هل هذا المفهوم للشورى في القرآن الكريم وفي السنة النبوية هو نفسه المفهوم الذي تحمله الديمقراطية؟ وما هو الدافع لكثير من المسلمين القول بأن الشورى في الإسلام هي نفس مفهوم الديمقراطية؟

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 159. 2 سورة البقرة، الآية: 233.

والواقع أنه انخدع كثير من المسلمين بنظام الديمقراطية, خصوصًا جانب الانتخابات منها, حين زعموا أن ذلك النظام هو مما دعى إليه الإسلام, بل وفرضه على المسلمين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، ولا تنس كذبة الاشتراكية الإسلامية حينما افتروا وادَّعَوْا أن لها صلة بالإسلام وكذا الديمقراطية, وسبب وقوعهم في هذا الخطأ هو ظنِّهم أنه لا فرق بين الانتخاب الغربي وبين مسألة الشورى التي دعى إليها الإسلام في قول الله -عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، وهذا يدل على: 1- جهلهم بحقائق الإسلام. 2- جهلهم بما تحمله الديمقراطية من أخطار على الدين وأهله. 3- وما تحمله كذلك من مساوئ في طريقة الديمقراطية في الانتخابات. فإن نظام الانتخاب الديمقراطية هو أقرب ما يكون إلى الفوضى؛ إذ هو قائم على صياح الجماهير لمن يختارونه, بينما الشورى في الإسلام قائمة على اختيار أهل الحل والعقد من المسلمين لأفضل وأكفأ الموجودين في وقت أخذ البيعة, كما أن النظام الديمقراطية قائم على الدعاية والوعود الخلَّابة من قِبَلِ المرشح لنفسه, وما إلى ذلك, دون أن يكون لبعضهم سابقة خير أو شهرة بالعلم والتقوى في كثير منهم, بل يتَّكل على العامة. والعامة -كما يقال: لهم عقل واحد يتتابعون لتشريح الشخص بفعل تأثّر بعضهم ببعض, وبما يقدِّمه من الرشاوي.

أما نظام الشورى في الإسلام فهو خالٍ من ذلك كله, فلا صياح للجماهير, ولا دعايات كاذبة, ولا رشاوي لاختيار المرشح, وإنما يكتفي فيه بموافقة أهل الرأي والصلاح لاختيار أفضل الموجودين للحكم, والبقية يكونون سندًا للحاكم ومستشارين أمناء, وليس له ولا لهم هدف في تقوية حزب على حزب, ولا آراء على آراء, ولا انحياز لفئة دون أخرى, وإنما همهم كله متوجه لجلب مصلحة الجميع ودفع الضرر عن الجميع في حدود الشرع الشريف، بل وقد ورد في السنة النبوية ما يفيد أن طالب الولاية لا يعطاها, وأن من طلبها وُكِّلَ إليها, ومن لم يطلبها وأعطيت له أُعِينَ عليها، فكيف يقال بعد ذلك بأنه لا فرق بين الديمقراطية وبين نظام الشورى في الإسلام؟! ألا يوجد فرق بين نظام يعتبر الوصول إلى السلطة مغنمًا وفوزًا, وبين نظام يعتبر الوصول إلى السلطة همًّا ومسئوليةً كبرى في الدنيا والآخرة, وبين نظام يقوم على الرشوة والوعود الخلَّابة, ونظام لا يجيز ذلك بحال؟ وهنا مسألة أحب أن أنّبه إليها لضرورتها, وهي: هل ما يظهر من التشابه في بعض الأمور بين الديمقراطية وبين بعض المفاهيم في الإسلام يجعلها في درجة واحدة؟ والجواب: إن ما يظهر من التشابه بين النظام الديمقراطي وبين ما جاء به الإسلام في بعض الجوانب, الواقع أن هذا لا يجيز القول بأنه تشابه حقيقي في كل ناحية, ولا يعطي الديمقراطية سبيلًا إلى الاختلاط بمبادئ الإسلام الناصعة, بل هو تشابه ظاهري يصحّ أن نسمي ما جاءت به الديمقراطية قشور بالنسبة لتعاليم الإسلام, أو صدًى من بعيد له, فلا يجوز القول باستواء المكاسب في الديمقراطية وفي الإسلام لبعد حقيقية كلٍّ منهما عن الآخر.

ومن العجب أن تمدح التعاليم الديمقراطية؛ لأنها اكتشفت تلك الجوانب, ولا يمدح الإسلام ويعترف له بالفضل وهو السابق لها بسنين عددًا, أليس الفضل للمتقدِّم؟ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 1. لقد قلَّ الإنصاف للإسلام حتَّى عند الكثير ممن ينتسب إليه من العاقلين له, الذين يحاولون أن يقدِّموا تعاليم الديمقراطية على تعاليمه, ملتمسين أنواع الخدع والاحتيال لتنفيذ ذلك في نفاق تامٍّ وأساليب مختلفة في ديار الإسلام وبين ظهراني المسلمين, وقد اتَّضح بصورة جليّة أن أكثر ما يجتذب الناس إلى الديمقراطية الغربية إمَّا الهرب من أحكام الدين وتكاليفه الشرعية إلى الفوضى الجماهيرية التي يجدون فيها الحرية الفوضوية بكامل صورها, وإمَّا بسبب ما تنادي به الديمقراطية من الرجوع إلى الشعب في الأحكام, وهؤلاء يحبُّون هذا الجانب بحجَّة الحد من سلطان الحاكم وجبروته, وهم جادون في ذلك. أما القسم الأول: فهم الغافلون الفوضويون من الجهال، وأما القسم الثاني: فعللهم لا يعلمون أن الإسلام لا يجعل الحاكم هو السلطان المطلق دون الرجوع إلى أحد. لا يعلمون أنَّ الله تعالى قد أخبر أنه يجب أن يكون أمر المؤمنين شورى بينهم, وكما أسند الله تعالى الحكم في بعض القضايا إلى أهل الرأي والمعرفة كالإصلاح بين الزوجين وما يحكم به الحكمان وكتقدير صيد المحرم، وغير ذلك مما سبق فيه الإسلام الديمقراطية الغربية, على أنه إذا وجد حاكم مسلم يتَّصف بالجور والطغيان وعدم الخوف من الله تعالى, وعدم استطاعة أحد من الناس مراجعته, أو الحدّ من طغيانه, فهذا لا يعني أنه لا حلَّ أمامنا إلى التزام الديمقراطية الغربية، بل الحل هو القيام

_ 1 سورة النمل، الآية: 14.

بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بتطبيق الحق جماعة وأفرادًا, والوقوف الجماعي ضد أي تسلُّط بالباطل ببيان الحق وبذل النصح بصدق وإخلاص, وسؤال الله له الهداية, إلى غير ذلك من الوسائل المتاحة حتى يصل التغيير إلى أحسن, أمَّا إذا لم يكن هناك تغيير وإصلاح, فإن المناداة بالديمقراطية لا يعطي الحل لهذه المشكلة أو غيرها, حتى لو زعم القائمون على السلطة بالتزامها, فإنَّ ذلك لا يجدي شيئًا من الإصرار على عدم التطبيق, سواء تطبيق الإسلام وهو الحق الحقيقي, أو تطبيق الديمقراطية وهو الحل الظاهريو وكلا الحلين لا يأتيان تلقائيًّا للناس ما لم يكن هناك قائمون عليه وجادُّون في تطبيقه, كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. والله تعالى عادل يحب العدل ولا يرضى بالظلم ولا يحب الصبر عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 2، فأيُّ لوم يمكن أن يوجِّهه الخاملون الكسالى إلى الإسلام مع تفريطهم وعدم يقظتهم للتمسك بدينهم الذي يعيشون في ظله آمنين مطمئنين أخوة متحابين "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 3، ثم يفضلون عليه الأنظمة الوضعية البشرية التي تفسد أكثر مما تصلح, أو يزعمون أنهما في درجة واحدة مع الإسلام, فإنه يجب على هؤلاء أن يوجِّهوا اللوم إلى أنفسهم لا إلى الإسلام.

_ 1 سورة الرعد، الآية: 11. 2 سورة يونس، الآية: 44. 3 صحيح البخاري ج5، ص2238، ومسلم ج4، ص1999.

الفصل الثامن: حكم من يتمسك بالديمقراطية الغربية

الفصل الثامن: حكم من يتمسَّك بالديمقراطية الغربية أمَّا بالنسبة للحكم على من يتبنَّى الديمقراطية ويعتقدها صوابًا, فالذي يظهر أن المعتقدين بها ليسوا على اتجاه واحد, فقد اتضح أنهم ينقسمون إلى أقسام: 1- منهم من ينادي بها عن طوية فاسدة ونية مبيَّتة كراهية للإسلام وتفضيلًا لها عليه, وهؤلاء أشرارٌ لا خير فيهم لدينهم الإسلامي ولا لأمتهم المسلمة, وإنما هم أعداء مثلهم مثل سائر أعداء الإسلام من المنصِّرين والمتشرقين. 2- ومنهم من يدعو لها وينادي بالالتزام بها عن جهل وحسن نية في الأغلب, مع اعتقاد أن الإسلام وتعاليمه خير منها, وأن فائدتها حسبما يتصوّر أنها تحطّ من كبرياء الطبقة العليا, وتفسح مجالًا أمام الطبقات كلها لتنادي بآرائها في الإصلاح دون خوف محاسبة أحد لهم, أو غير ذلك, وهؤلاء جهَّال يُبَيَّنُ لهم الحق وأخطار هذا المذهب على الإسلام والمسلمين. 3- وبعضهم ينادي بها لاعتقاده أنها لا تعارض تعاليم الإسلام, خصوصًا بعد أن قنعته الدعايات الغربية بذلك. 4- وصنف يعتقد أنها تصلح في إنعاش المجتمعات اقتصاديًّا وثقافيًّا.

5- وصنف يردِّد ما يسمعه, فإذا سمع مدحًا لها نادى بها دون أية معرفة أو إلمام بمفاهيمها وأهدافها. وكل هؤلاء يبيَّنُ لهم الحق, ثم يحكم عليهم بعد ذلك حسب مواقفهم منه. ومن هنا يدرك القارئ أن الحكم لا بُدَّ وأن يختلف فيهم على حسب معرفتهم ومعقتداتهم, كلهم يشملهم اسم الإسلام إلّا من أعرض عن شرع الله تعالى وأقيمت عليه الحجة من كتاب الله وسنة نبيه وأقوال علماء الإسلام, فعاند وأصرَّ وردَّ النصوص وفضَّل الأحكام الوضعية على الأحكام الشرعية, فهذا غير مسلم, على أنه يجب الحذر من التساهل في التكفير, فإنه أمر خطير, خصوصًا تكفير المعين, فإن للسلف في التكفير تفصيلات لا بُدَّ من معرفتها, ومعرفة تفريقهم بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي, ففي هديهم واقتفاء طرقهم الخير كله.

الفصل التاسع: نظرية السيادة

الفصل التاسع: نظرية السيادة المبحث الأول: ما هي نظرية السيادة؟ 1- هذه هي إحدى النظريات التي نشأت في أوربا للتفلُّت من حكم الدين -النصراني- وقبضة القائمين عليه ممن يسمُّونهم رجال الدين. 2- وهي -حسب تصوري- تصلح أن تكون تفسيرًا وإيضاحًا للمقصود بالديمقراطية الغربية. 3 قام أصحاب هذه النظرية يطالبون بالسيادة في الحكم حينما أحسّوا ببدء تفكك سلطة البابوات والإقطاعيين وبوجود الفراغ, بل والفوضى في قضية السلطة والمرجع النهائي فيها؛ إذ أصبحت الأوضاع في أوربا في تلك الحقبة التي انتقضت فيها لترويج كابوس الكنيسة وغبارها -أصبحت كالوضع الذي كان يعيشه الجاهليون قبل الإسلام, والذي يعبَّر عنه بشريعة الغاب, أو مَنْ عَزَّ بَزَّ وَمَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. 4- قام دعاة السيادة يطالبون بإسناد الحكم والتشريع إليهم بعيدًا عن تدخل الدين أو رجاله في ذلك, وكانت المطالبة في ظاهر الأمر باسم الشعب وحده, وتعاظمت هذه الدعوى إلى الحد الذي جعل من سلطة الشعب إلهًا جديدًا يجب الرضوخ له, وصار الجريئون منهم يقولون: لا حكم إلّا للشعب, ولا إرادة إلّا إرادته, ولا شرع إلّا ما شرعه, بينما يقول المنافقون منهم بنفس العبارات إلّا أنهم يضيفون فيها إرادة الله من إرادة الشعب, وأحيانًا العكس.

5- وشعر الأوربيون أنهم في حاجة شديدة إلى تحقيق هذا النهج الجديد والسير فيه إلى نهاية الخط علَّهم يجدون ضالتهم المنشودة, ثم راقت هذه النظرية في عيون غيرهم من الناس, بل حتى عند بعض البلهاء من المسلمين الذين يرددون تلك العبارات كما تردد الببغاء صدى الأصوات, وجهل هؤلاء أنهم ليسوا في حاجة إلى تلك النظرية لعدم وجود ما يقتضيها في ظل الإسلام الذي يعتبر الناس كلهم عبيدًا لخالقهم, وبالتالي فلا سيادة لأحد على الحقيقة؛ إذ السيادة كلها لحكم الله تعالى العادل الذي لا تتطرَّق إليه المحاباة أو المصالح أو الظلم. 6- لقد أراد دعاة السيادة في أوربا أن يخرجوا عن أوضاعهم المتردية والطغيان القائم عليهم -وكانوا على صواب في ذلك وغاية الإنصاف لأنفسهم, ولكنهم لم يهتدوا إلى الحل الصحيح الذي يأمنون معه الانتكاسة مرة أخرى, ولهذا ما أن تَمَّ لهم الوصول إلى تحقيق مطلبهم -وهو تنصيب الشعب- إلّا وكانت أولى ثماره بروز طغيان جديد وطغاة جدد لم تتغير إلّا التسمية فقط, وهم الوجهاء وأصحاب السلطة الجديدة, وهذا أمر بدهي؛ إذ كلا الوضعين الكنسيّ وتأليه الشعب لم يقوما على أساس صحيح وهو التسليم لله -عز وجل والتحاكم إليه وحده, ولم يكن الخلاف بين الطغاة الجدد والقدامى إلّا اختلافًا لفظيًّا؛ القدامى يقولون: الله هو الذي فوَّضهم, والجدد يقولون: الشعب هو الذي فوضهم. 7- وهذا المنصب الذي حصلت عليه الشعوب لم يكن إلّا مطية للركوب؛ إذ أصبحت الشعوب في واد والمسيرون لهم في وادٍ آخر, وانكمشت

سلطة الشعوب التي نادت بهذه السيادة إلى أن أصبحت في يد قلة يتحكَّمون في الشعوب -باسمهم- في مجالس خاصة بهم تحت تسميات مختلفة, ولم يكن للشعوب منها إلّا الموافقة التامَّة وإظهار السرور أيضًا, وإلا اعتبروا أعداءً للحرية والتقدم وللشعب أيضًا؛ لأن أحكام تلك السلطة التي نشأت بعيدة عن حكم الله وشرعه -زعمت لهم أنها هي التي ستحقق لهم كل ما يريدونه من الكرامة والعيش الرغيد- أي: في ظل حكم الإنسان للإنسان من خلال تطبيق تلك القوانين التي وضعها طغاة يدعون بلسان حالهم الإلوهية والسيادة التامّة بدلّا عن الله -عز وجل, فهل تحققت تلك الوعود البراقة بسيادة الشعوب في ظل انحصار السيادة في طبقة البرلمانات أو المجالس النيابية وما إلى ذلك. هذا ما سترى الجواب عنه إن شاء الله من خلال الدراسة لهذه النظرية.

المبحث الثاني: أساس قيام نظرية السيادة

المبحث الثاني: أساس قيام نظرية السيادة لقد تعدَّدت المسالك للوصول إلى إبعاد الدين ورجاله عن السلطة, ومنها مسلك الديمقراطية ونظرية السيادة وحركات أخرى كثيرة تختلف في الأسماء وتتحد في الهدف. أما بالنسبة للفرق بين نظرية السيادة والديمقراطية فهي في نظر الدكتور صلاح الصاوي "فهما تعبيران عن فكرة واحدة على أساس أن السيادة هي التعبير القانوني، والديمقراطية هي التعبير السياسيي, وعلى هذا فنظرية سيادة الأمة هي التعبير القانوني عن الديمقراطية التي تعتبر نظام الحكم في الدول الرأسمالية"1، ولكن يلاحظ أن نظرية الديمقراطية لم تقف عن حد التعبير السياسي, بل أصبحت تزاحم الدين في كل شئون الحياة الاجتماعة, أمَّا نشأة هذه النظرية فهي كغيرها من النظريات الكثيرة قد نبعت من فرنسا في نهاية العصور الوسطى, وكان يراد بها في البداية الدفاع عن سلطة الملوك وغيرها من السلطات الأخرى, ثم استعملها البابوات في وجوه خصومهم الملوك الذين كانوا يطمحون إلى النيل من سيادة الكنيسة وإخضاعها لهم, ولكن لم يفلح البابوات ورجال الكنيسة, فقد تغلَّبت سلطة الملوك في النهاية على رجال الدين الكنسيّ, وقلبوا الأمر وحاربوهم بنفس سلاحهم, ونادوا بإخضاع الجميع لسيادة القانون أو لسيادة الشعب وحده

_ 1 نظرية السيادة ص15، د. صلاح الصاوي.

لا شريك له, وكانت السيادة في أول نشأتها محدودة بجهة واحدة ممثَّلة في شخص رئيس الدولة, إلّا أنها تطوَّرت بعد ذلك على أيدي الكثير من الفلاسفة والمفكرين لتصبح السيادة هي القوة العليا المهيمنة على الدولة, والتي بيدها صلاحية التغيير والتبديل للقوانين على كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة, وهي لا تتقيد بقانون, بل القانون مصدره السيادة وإرادة أصحابها الذين يتألَّفون من الدولة بجميع أعضائها الذين لا حدَّ لتصرفاتهم, ولا يستطيع أحد أن يحكم عليهم, ولا يتقيدون برأي أحد وإلا لانتفت عنهم صفة السيادة المطلقة, وهذه صفة ثانية في السيادة, فهي تريد أن تكون صاحبة الأمر كله, الحائزة على التفوق المطلق دون أن يكون لها معارض, أو دون أن تكون لها حاجة إلى الخضوع لأحد؛ إذ لو خضعت لأحد لانتفت هذه السيادة, ولو وجد لها مشارك لانتفت أيضًا؛ كأن تكون السيادة مثلًا لجماعة على إقليم أو أكثر, فلو وجد على أحد الأقاليم سيادتان أو أكثر لانتفت السيادة ولحصل الفساد وعدم انتظام الأمور فيه؛ إذ لو تعارضت السيادتان على ذلك الأقليم؛ بحيث تريد أحداهما فعل أمر والأخرى لا تريده, أو تريد ضدَّه؛ فحينئذ إمَّا أن تنفَّذ إرادة السيادتان معًا وهذا محال, وإما أن يمتنع أمرهما معًا وهذا فيه إبطال لسيادتهما معًا, وإما إنفاذ سيادة أحداهما وترك الأخرى, فتكون النافذة هي صاحبة السيادة1، وعلى هذا, فالسيادة هي صاحبة الأمر والنهي والقوة والحكم النافذ, وفوق هذا فقد دعوا لها العصمة من الخطأ باعتبار أن إرادة الأمَّة أو ممثليها من الشعب حكمهم يكون هو الحق والعدل, الذي لا ينبغي أن يقف في طريقه أيّ اعتبار, وهذه حيلة كان الجميع يتظاهرون بها.

_ 1 انظر نظرية السيادة ص12-13.

وهكذا يتلخَّص مفهوم السيادة في أنها هي السطلة العليا المطلقة التي تنفرد بالأمر والنهي والتكليف والإلغاء وما إلى ذلك, أيًّا كانت تلك السلطة دون أن يكون لها منازع في إرادتها أمرًا ونهيًا أو تكليفًا, ممثَّلة في القانون العام للدولة, أو في سلطة الشعب من خلال ممثليه, بينما كانت السيادة كلها قبل ظهور هذه النظرية في يد الملك, بل هو الدولة كلها كما قال لويس الرابع عشر عبارته المشهورة: "أنا الدولة"1, فلمَّا قامت الثورة الفرنسية انتقلت السيادة إلى الأمة وإلى القانون, فاعتبرت الأمة بأكملها كأنها شخص واحد يملك السيادة, والتي هي في النهاية تتمثَّل في شخض الحكومة كلها لا في شخص المسئول الأعلى, والحكومة هي الأخرى تتكوَّن عن انتخاب عام يشترك فيه جمهور الشعب بصفة عامة حسب إرادة الأمة, ثم يعقبه انتخاب السلطة التشريعة والتنفيذية التي تنحصر بعد ذلك كلَّ السيادة فيها, التي هي عبارة عن إرادة الشعب المطلقة كما يزعمون.

_ 1 انظر نظرية السيادة ص17.

المبحث الثالث: ما مدى صحة نظرية سيادة الشعب

المبحث الثالث: ما مدى صحة نظرية سيادة الشعب؟ هل تحققت السيادة للشعوب كما تنادي بها نظرية السيادة, أم أنها انحصرت في فئة خاصَّة هي المجالس النيابية والبرلمانية ورئيس الدولة, الواقع أن القضية صارت ذات جانبين هما: 1- سيادة الأمة: فبالرغم مما صادف نظرية السيادة من الحماس الشعبي وتطلُّع الشعوب إليها بشوق, واعتقادهم أنها المنقذ الوحيد لهم, والمصدر الحتميّ لنيل حرياتهم, فقد وجّهت انتقادات مباشرة إلى هذا النظرية في طور سيادة الأمة, وصدق الله -عز وجل- في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1 فوصفوها بأنها تتسم بتضييق دائرة الحرية؛ إذ لا يجد أفراد الشعب أيّ مجال لإظهار حريتهم إلّا مرة واحدة, وهي المرة التي يحقّ لهم فيها الذهاب إلى صناديق الاقتراع لاخيتار مرشحيهم للسيادة, وبعدها ينتهي دور حرية الشعب السياسية التي تتعلق بعموم مصالح الشعب, كما أن العضو الذي تختاره الجماعة نائبًا عنهم يصبح بحكم عدم تجزأه السيادة موظَّفًا فرديًّا في المجموعة المنتخبة, وبالتالي فلا تستطيع تلك المجموعة التعبير عن كلِّ ما تتطلَّع إليه أممهم من خلال

_ 1 سورة النساء، الآية: 82.

مرشحيهم لسيادة الأمة, كما أنه لا يبقى في السيادة إلّا الأعضاء الذين لا ارتباط لهم بالمصالح الطبقية أو النزاعات أو الأهواء الأخرى, وكأنَّ هؤلاء سلطة متميزة عن الشعب تمامًا, فلا يفكرون في مصالح أممهم, ولا يشاركونهم في آلامهم وآمالهم. ولهذه الانتقادات تطوَّرت فكرة السيادة من سيادة الأمة إلى سيادة الشعب. 2- سيادة الشعب: وقد راقت هذه الفكرة لكثير من الناس باعتبار أنها تحقِّق مشاركة شعبية أكثر تلاحمًا من سيادة الأمة, التي أدَّت إلى تضييق دائرة الحرية السياسية وحصرها في صفوة مختارة قد لا تهتم بمصالح الشعب كما يجب عليها, فاختاروا سيادة الشعب, وذلك من خلال مشاركة الشعب في أخذ رأيه في أيّ قضية تطرح للاستفتاء على إقرارها أو رفضها, بغض النَّظر عن رأي الصفوة المختارة الممثِّلة للشعب في سيادة الأمة, فهذه السلطة كأنَّها مشاركة بين الدولة وأفراد شعبها, كما أصبح النائب الممثل لدائرته الانتخابية يملك التعبير عن دائرته لتمثيله لذلك الجزء من السيادة الذي يملكه ناخبوه, بعد أن كان في ظل سيادة الأمة لا يملكه إلّا من خلال إجماع أمة السيادة المختارة, كما أتاحت هذه النظرية مشاركة شعبية فعَّالة عن طريق الاستفتاء الشعبي, أو الاعتراض الشعبي, أو طلب إعادة الانتخاب, أو طلب حل الهيئة النيابية ونحوه, ولكن ما مدى صحة هذا الكلام؟

الواقع أنه قد وجدت الفوضى والأحقاد مرتعًا خصبًا في ظلّ هذه السيادة أيضًا، كما وجدت لها الدعاة والمشرعين والمنفذين مكتسحة في طريقها كل نظام يخالفها, وبالأخص أنظمة الكنيسة وتعاليمها وأخلاقها وآدابها إثر ذلك الصراع المرير مع رجال الكنيسة, الذين استأثروا بكل شيء وأذلّوا الأمة من خلال فرض طاعتهم المقدَّسة, فتمردوا على تلك الطاعة المقدَّسة ونسفوا في طريقهم كل شيء يمتُّ بصلة إلى الدين أو القداسة الناشئة عنه, واستبدلوا به قداسة نظرياتهم, وجعلوها هي السيد المطاع المقدَّس صاحبة السلطان المطلق, المكتسبة لقداستها من ذاتها أولًا وأخيرًا, ولها حق التشريع في كل أمور الحياة بعيدًا عن الدين الذي حلَّ محله القانون أو الأمة أو الشعب, وجعلت هذه هي الإله الجديد, وقد وصفوا هذه النظريات بكلِّ صفات الإلوهية وقداستها, ووضعوا ما يحلو لهم من التشريع تحليلًا وتحريمًا وأمرًا ونهيًا دون الرجوع إلى أيّ مصدر كان -غير أهوائهم, فتحوَّل التأليه الذي كان يمارسه الرهبان على الناس, تحوَّل إلى تأليه عامَّة الشعب واعتبار ما يوافق عليه الشعب هو الحق المطاع تحليلًا وتحريمًا دون معارضة، وداروا في حلقات مفرغة ونظريات مضطربة متناقضة, كلما عنَّ لهم سراب مشوا إليه, ورحم الله من قال: "من تتبَّع آراء الرجال كثُرَ تنقله" فلم يتحقق الغرض الذي قامت من أجله حركة السيادة الشعبية على الحقيقة؛ إذ لا يستدعي الشعب لبيان آرائهم إلّا من خلال خطة مدروسة من قِبَلِ السياسيين سلفًا, فكأن التصويب من قِبَلِ الشعب إنما هو لأخذ توقيعاتهم بعد أن هيَّأهم السياسيون لذلك, من حيث تشعر الشعوب أو لا تشعر, ولا تنسى المقولة المشهورة: "رضى الناس غاية لا تدرك".

المبحث الرابع: المسلمون ونظرية السيادة

المبحث الرابع: المسلمون ونظرية السيادة غير خافٍ على أحد أن العالم الإسلامي كان يحكم بالشريعة الإسلامية في كل قضية, ولا يمكن لحاكم أن يخترع حكمًا لم يكن لديه عليه دليل من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو من إجماع العلماء، وظل الأمر على ذلك حتى إذا بدأ الضعف يدبُّ في نفوس المسلمين وتراخت قبضتهم على دينهم, وبدأ كثير من حكامهم ينظرون يمينًا وشمالًا للتفلُّت من تطبيق الشريعة من جرَّاء تأثرهم بمختلف النظريات, وإعحابهم بالحضارة الأوربية والأمريكية, حينئذ بدأ شغفهم بتطبيق نظرية السيادة الغربية, وبدأت هذه النظرية تلعب دورها القوي في محاربة الدين وإقصاء أحكامه على الطريقة الأوربية التي قامت عليها نظرية السيادة في الأساس, مختلقين لتنفيذها شتَّى الدعايات, إلى أن تبنَّتها بعض الحكومات الإسلامية رسميًّا, وتَمَّ بموجبها فصل الدين عن الدولة, ونتج عن ذلك التغيير الجذري في التعليم والصحة وكل مرافق الحياة الاجتماعية. وفوق ذلك في التشريع الربَّاني الذي أقصي لتحلَّ محله القوانين الوضعية البشرية الباطلة؛ حيث ألزم القضاة في المحاكم الشرعية في بعض البلدان الإسلامية أن لا يخرجوا عن قوانين الديمقراطية حتى ولو كانت مخالفة للأحكام الشرعية صراحة.

4- فدخلت نظرية السيادة في صميم دساتير كثير من الشعوب الإسلامية, وشملت جميع نواحي الحياة اليومية للمواطن, فأصبح الشرع ما سنته قوانينها التي حلّت محل التشريع الإلهي, وأصبح الولاء والتحاكم إليها وحدها باسم القانون أو باسم الشعب أو باسم الأمة, مع بقاء كلمة "دين الدولة هو الإسلام" جسمًا بلا روح, أوكوضع أملته الظروف مؤقتًا, فإن اتَّفقت أحكامه مع القانون فيها وإلّا فإن تنفيذ القانون هو المقدَّم. وقد نصَّت دساتير أكثر الدول العربية والإسلامية على أنَّ الحاكم العام هو مصدر التشريع مضافًا إليه مجلس النواب أو مجلس الشورى أو البرلمان أو غيرها من المجالس العليا1. وفي بعضها أن لرئيس الدولة في بعض الحالات الاستقلال التامّ بممارسة الوظيفة التشريعية في حال ما إذا تعرَّض الشعب للخطر من أيّ نوع إذا تعذر اجتماع البرلمان, ثم تعرض على الشعب, فإذا وافق عليها صارت تشريعًا ملزمًا ولا تحتاج إلى عرضها على البرلمان, وهناك أيضًا استثناءات لرئيس السلطة العليا تمنحه هذا الوضع في حالة ما إذا لم يكن اجتماع المجلس النيابي, وكان الأمر يستدعي إصدار تشريع على وجه الضرورة, أو في حال ما إذا فوّض البرلمان رئيس تلك السلطة حقّ إصدار التشريع لمدة محدودة، وواقع تلك الحكومات أقوى شاهد. هذا هو وضع القوانين السيادية, فما هو وضع السيادة في الإسلام؟

_ 1 انظر نظرية السيادة ص29.

المبحث الخامس: حكم السيادة في الإسلام

المبحث الخامس: حكم السيادة في الإسلام 1- إن من الأمور المسلَّمة والمعروفة ضرورة أن السيادة في الإسلام ليست من اختصاص البشر بعضهم لبعض, بل هم جميعًا في درجة واحدة مهما اختلفت أحوالهم, أمام سيادة واحدة فيها صلاح جميع البشر, وعدم تعالي بعضهم على بعض, إنها سيادة الشرع الشريف المنزَّل من الخالق العليم, ولا عبرة بالسيادات الجاهلية, فإنها من اتخاذ البشر بعضهم لبعض أربابًا من دون الله, وهي سيادات أقلّ وأذلّ من أن تؤلف بين المجتمعات أو تنظم حقوقهم بصفة عادلة غير متحيزة؛ لأنها من صنع البشر الناقصة عقولهم, القاصرة أفهامهم عن إصابة الحق في كل شئونهم على الوجه الصحيح. وعلى ذلك أجمعت الأمة الإسلامية خلفًا عن سلف لم يخالف منهم أحد على أن الشريعة هي حق الله تعالى على عباده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1، أي: الاستسلام التامّ له عز وجل, فمن لم يستسلم له ويسلّم قيادة نفسه لأمره وعليه, فليس على الإسلام التحاكم إليه, والرضا بما حكم به, والانقياد لأمره والانتهاء عن نهيه, وتحليل ما أحلّه, وتحريم ما حرّمه, وعدم الالتفات إلى التشريعات البشرية, وبغضها وبغض من يلتزم بها.

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 19.

ويدعو إليها, ويكون على حد قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، فمن حكَّم رأيه أو قانونه أو شعبه فإنه ممن ينطبق عليه الحكم في الآية؛ لأنه لا طاعة كاملة مستقلة إلا لله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم, وكذا ما أجمع عليه علماء الإسلام في المسائل القابلة للاجتهاد على وفق الأدلة الشرعية فقط, لا من العقل الذي هو قاصر عن إدراك الأحكام الشرعية بمفرده, فإنه لا مكان لاجتهاد العقل في الشريعة الإسلامية مع وجود النص الصريح؛ لأنه حينئذ يكون مردودًا كما جاء في الحديث الشريف: "مَنْ أَحْدَثَ فَي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ" 2. وليس في الإسلام وجوب الطاعة لأيّ شخص كان ما لم يكن قوله وفق الشرع, وطاعة العلماء في الإسلام إنما هي مقيَّدة بطاعتهم لله تعالى, وأما إذا خلت عن ذلك فإن طاعتهم لا تجوز إلّا فيما أطاع الله تعالى فيه, سواء أكان الشخص حاكمًا أو محكومًا, ذلك أن مصدر السيادة في الإسلام هو الله -عز وجل- وما شرعه لعباده هو الدين وهو الحق وهو العدل, بخلاف السيادة في المذاهب الجاهلية الغربية فمصدرها هناك هم الأمة الذين أحلوا أنفسهم محل الإله في النظريات السيادية الغربية, وإذا قارن القارئ بين السيادتين فسيجد تلك الفروق الهائلة, وهي حتمًا ستقع, سيجد أن كل ما قررته السيادة الغربية قابل للنقض والتغيير والتبديل، تحرّم اليوم ما

_ 1 سورة النساء، الآية: 65. 2 البخاري ج2، ص959، ومسلم ج3، ص1343.

أحلَّته بالأمس, وتحرم في غدٍ ما أحلته اليوم؛ لأنها من صنع البشر, بخلاف السيادة الشرعية فهي ثابتة أبدًا لا يمكن أن يطرأ عليها قبول التغيير والتبديل؛ لأنها صادرة عن علَّام الغيوب, وقائمة على أساس التدين الذي هو أساس كل المعاملات العادلة, بينما هو في منهج الجاهلية الغربية لا وجود له؛ لأنهم استبدلوا به ما أملته أهواءهم ونظرياتهم, وما قرروه لأنفسهم بدلًا عن أخذه عن الإله الحقِّ الذي أبعدوا أنفسهم عنه وهم لا يخرجون عن قبضته وقهره1. وخلاصة ما سبق عن مذهب السيادة هو الاعتقاد أن مصدر السيادة أو صاحب السيادة في الإسلام هو شرع الله تعالى، والله تعالى هو الحق وله الأمر وله الحكم, لا يشاركه أحد في الخلق والإيجاد, فكذلك لا يشاركه أحد في السيادة والحكم والتشريع, وأَوْكَلَ الله إلى العلماء الاجتهاد فيما يقبل الاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة لا أنه تشريع جديد، أمَّا في المفهوم الغربيّ فإن السيادة ليست لله تعالى, وإنما هي لأفراد من الناس أو لعامَّة الشعب, ثم أضفوا عليها نفس الصفات التي يقولها المؤمنون عن الله تعالى, فصارت في مفاهيمهم بديلًا عن الله تعالى وشرعه وهي أحقر من ذلك, كما اتضح لك مما سبق, كذلك ما يتعلق بقضية الثبات والتغير, فإن الأنظمة الوضعية عمومًا قابلة وبسرعة للتغيير والتبديل؛ لأن من يملك الإنشاء يملك التغيير والإلغاء, وما هو حاصل في البلاد التي جعلت السيادة لغير

_ 1 انظر كتاب "نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية"، تأليف د. صلاح الصاوي.

الله أقوى شاهد, بخلاف ما إذا كانت السيادة لله -عز وجل, والتشريع من كتابه وسنة نبيه, فإنها تكون ثابتة لا تتغيِّر ولا تقبل التغيير؛ لكمالها الذي يمتد إلى يوم القيامة, ولك في الحدود الشرعية والثواب والعقاب في الإسلام وفي غيره خير شاهد، كذلك ما يتعلق بأمر الدين فإنه حينما تكون السيادة لله -عز وجل- ولحكمه, تجد أ، كل قضية من قضايا الحياة مربوطة بحكمها في الدين, وبالتالي تجد حلها في الشرع في أكمل صورة, ولا يخرج مجتمع إلّا فيما فوَّضه الشرع إلى الاجتهاد والمقارنة, وهذا بخلاف السيادة في المجتمعات الغربية التي قامت أساسًا على محاربة الدين وإقصائه في كل مجالات الحياة؛ إذ أن السيادة لا تتجزَّأ, فوجب أقصاء الدين كي تتم سيادة الأمة حسب نظرتهم لها, كذلك الحق في التشريع, فإن التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله -عز وجل- وحده ولرسله -عليهم السلام, ولا يملك حق التشريع أحد من البشر كائنًا مَنْ كان, اللهم إلّا الاجتهاد في فهم النصوص فيما يقبل منها الاجتهاد, وهذا بخلاف حق التشريع في السيادة, فهو بعكس ما قرَّره الإسلام, أي: إن التشريع هو من حق البشر تحليلًا أو تحريمًا, ويتمثَّل في كبار المسئولين ومحبي الغرب من المسلمين الذين أشربت قلوبهم حب الديمقراطية والسيادة, حينما ينصون على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, أو "الفقه الإسلامي" هو المصدر للتشريع, ونحو ذلك مما يوحي في ظاهره بالتزام هؤلاء بالشريعة الإسلامية.

الواقع: أن هذه العبارات عند المتعمقين في تطبيق السيادة الوضعية البشرية إنما تكتب من باب ذر الرماد في العيون, أو لأنَّ أكثرية الشعب مسلمون, والدليل على ذلك أنهم لا يجيزون الحكم في أي قضية إلّا بما قررته قوانينهم البشرية, وأن من خالفها يكون قد ارتكب جرمًا وخيانة, ويحاكم في كل قضية لهم فيها قانون, وعلى المحاكم التي تسمَّى "محاكم شرعية" أن تنفذ أحكام القوانين بغض النظر عن موافقتها للشريعة الإلهية, أو مخالفتها بزعم أن تلك القوانين هي التي تكفل أمن وحقوق الشعب وسعادته, فأين صدق تلك العبارات التي يخدعون بها شعوبهم, وأين هم من قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. بل لم يقف الأمر عند بعضهم إلى حد العدول عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية, لم يقف الأمر عند هذا, بل أخذوا ينتقدون الأحكام الشرعية, إمَّا بلسان الحال أو بلسان المقال, مع أنه لم يجربوا تنفيذ أحكام الإسلام, بل لم يعرفوها حق المعرفة, فصار حال أحكام الإسلام عند هؤلاء كحال الذي قيل فيه: ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء وقد قتل عمر -رضي الله عنه- ذلك المنافق الذي أبى أن يتحاكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-

وطلب التحاكم إلى عمر -رضي الله عنه- أو إلى كعب بن الأشرف؛ لأنَّ عمر -رضي الله عنه- كان يعلم أنَّ من لم يرضى بسيادة الشرع الإسلامي فليس له فيه نصيب, ويجب على المسلم أن لا ينخدع بظاهر الكلام, وإنما يجب عليه أن ينظر إلى الفعل والتطبيق, فإن كان موافقًا للشرع جزمنا أنه شرعي حتى لو لم ينص عليه في الدستور, وإن كان مخالفًا لحكم الشرع عرفنا أنه حكم جاهلي بقوانين بشرية حتى وإن كان النص العام أن الحكم للشريعة الإسلامية, وأما تلبيسهم الحق بالباطل, وإيجاد المبررات والشبهات حوله, فلا يغيّر من الحقيقة شيئًا, فقد سمعنا أنهم أرادوا أن يقربوا الإسلام إلى جميع الجاهليات حينما دعو إلى وحدة الأديان في مواجهة الإلحاد الشيوعي, وإنه لا فارق كبير بين الأديان؛ لأنها كلها أديان سماوية بزعمهم, وهو أمر مرفوض لدى كافَّة الملتزمين بشرع الله تعالى, وجاءوا إلى كل قضية في الإسلام وزعموا أنها لا تختلف عن القضايا الوضعية, وأن السيادة ثابتة للكلِّ على حدٍّ سواء, حتى أنهم وجدوا للاشتراكية -الماركسية أساسًا في الشريعة الإسلامية تبنَّاه الصحابي الجليل أبو ذر -رضي الله عنه- بزعمهم, وحاشاه من أكاذيبهم, ولهؤلاء جرأة على الكذب على الله تعالى وعلى نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- وعلى الإسلام, بل لقد حصل ما تقشعر لذكره الجلود في بعض البلدان التي تعترف ببيوت الدعارة, بل وتتقاضى عليها رسومًا؛ حيث سمعنا أنَّهم نسبوا بعض الداعرات في بيوت الدعاراة إلى الإسلام تمييزًا لها عن الداعرات من بقية الديانات, وقد عاقبهم الله بما لا يجهله أحد اليوم بين بعضهم بعضًا, وبينهم وبين اليهود, ولله حكمة في ذلك. ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

الباب الثاني عشر: الإنسانية أو العالمية أو الأممية

الباب الثاني عشر: الإنسانية أو العالمية أو الأممية مدخل ... الباب الثاني عشر: الإنسانية أو العالمية، أو الأُمَمِيَّة تمهيد: الإنسانية هي إحدى الصيحات على الكنيسة ورجالها في الزمن الذي تكاثرت فيه الصيحات للانقضاض على النصرانية المحرّفة البولسية، وقد سلك دعاة الإنسانية فلسفة خاصة بهم, مفادها أن الناس يجب أن يجتمعوا كلهم تحت لواء واحد، وهو الأخوة الإنسانية، القاسم المشترك بينهم، بعيدين عن الدين وكل ما يتصل به, وبعيدين كذلك عن كل التعصبّات التي اخترعها الإنسان، سواء أكانت التعصبات للبلد، أو القوم، أو القبيلة، أو الجنس، أو اللون ... أو غير ذلك، يدخلها الشخص متبرئًا من كل علاقة غير علاقة الإنسانية التي تتسَّع لجميع التناقضات بين الناس، بزعمهم، وسنذكر تفاصيل هذا المذهب ونبين صحته وخطئه من خلال دراسة الفصول الآتية: تمهيد: الفصل الأول: المقصود بالإنسانية. الفصل الثاني: سبب انتشار دعوى الإنسانية. الفصل الثالث: أماكن انتشار الإنسانية. الفصل الرابع: هل يحقق مذهب الإنسانية السعادة؟

الفصل الخامس: هل تحققت دعاوى الإنسانية بالفعل؟ الفصل السادس: هل تقبل الدعوى الإنسانية التعايش مع الإسلام والمسلمين؟ الفصل السابع: الإنسانية والمغريات. الفصل الثامن: الإنسانية والقومية والوطنية. الفصل التاسع: تناقض دعاة الإنسانية. الفصل العاشر: زعماء الدعوة الإنسانية. الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية والرحمة الصادقة هي في الإسلام.

الفصل الأول: بيان المقصود بالإنسانية أو العالمية أو الأممية

الفصل الأول: بيان المقصود بالإنسانية أو العالمية أو الأممية الإنسانية مذهب إباحي هدّام، ودعوة خادعة من قِبَلِ دهاة أعداء الدين، وهو مذهب جديد براق من المذاهب الكثيرة التي أنتجتها العقلية الأوربية في الأساس في خِضَمِّ الصراع مع الكنيسة، وفي خِضَمِّ انتشار المذاهب الباطلة في ذلك الوقت، وقيل لها إنسانيةً نسبة إلى الإنسان، وقيل لها عالمية أو أممية لدخول كثير من المفكرين من مختلف البلدان الأوربية وغيرها فيها، قوي أمرها في نصف القرن الثامن عشر، عصر التحرّر في أوربا، ظهرت في إيطاليا، ثم انشرت إلى البلدان الأخرى، ونادى أهلها بأن يتفق ويتآلف جميع الناس تحت اسم الإنسانية, بسبب اشتراك جميع الناس في أصل الخلق, مع إغفال كل الفوارق بينهم مهما كانت تلك الفوارق دينية أو غير دينية، قومية أو وطنية، أو غير ذلك من الروابط، فلا بُدَّ أن يكون التجمُّع على الإنسانية وحدها بدلًا عن الكنيسة وتعاليمها، وأن الدين أمر شخصي بين الله والإنسان كماكانوا يزعمون في بدء أمرهم، فالوطن للجميع، ولا قيمة حقيقية لتجزئة الأرض, أو فصل بعضها عن بعضٍ بححة اختلاف الناس في دينهم وسلوكهم، فإن هذه الأمور تحثُّ على التعالي, وتثير جذوة الخلافات والأحقاد, بخلاف ما لو اتفقوا على أن تكون الأرض وطنًا للجميع, وتجمعهم الإنسانية، وعلى أن يوجد دين موحَّد للكل تحت راية واحدة بعد أن تسقط جميع الأديان, وجميع

القوميات والوطنيات في يومٍ ما، حسب تقديراتهم، فتأتي حينئذ الحياة السعيدة القائمة على المحبة الإنسانية, وتتوحد العواطف والأفكار, ويعيش الناس كلهم على قلبٍ واحد, تعمهم الألفة والمحبة والترفُّع عن كل شيء يعرقل ظهور الحب بين جميع أفراد البشر حسب خداع الماسونية، والإنسانيون ينتظرون اليوم الذي يجتمع فيه الناس كلهم على مبادئ الإنسانية, ويعيشون في ألفة ومودة بعيدين عن أيّ مؤثر آخر من الوطنية أو القومية أو الدين, حين تسمو أفكار المجتمعات البشرية, ويتوحدون على أساس هذه الأخوة الإنسانية، وهي آراء جذابة، ولكنها دعوة خداعة, وأنَّى لها أن تتحقق، والواقع يكذبها ليلًا ونهارًا بهذه الحروب الأهلية والدولية, والنزاعات المستمرَّة مما يشكل صفعة في وجوه دعاة الإنسانية والقومية والوطنية وسائرالدعوات الجاهلية، وإنها وهمية وخيالات فارغة كما سنذكره في الرد عليهم.

الفصل الثاني: سبب انتشار دعوى الإنسانية

الفصل الثاني: سبب انتشار دعوى الإنسانية لقد تبين أن ما يجذب الناس إلى قبول الإنسانية جهلهم بدينهم، ثم جهلهم بما تهدف إليه الدعوة الإنسانية، ثم انخداعهم بذلك الشعار الأجوف الذي ينادي به دعاة الإنسانية، وهو الاجتماع على الإنسانية بغضِّ النظر عن أي اعتبار من دين أو لون أو وطن، فالكل تتسع لهم مظلَّة الحرية والإخاء والمساواة التي يوفِّرها لهم مذهب الإنسانية. وإن الذين يعتنقونها سيعيشون عيشة راضية، فانخدع الكثير بمثل هذه الدعايات البرّاقة، وقد عرفت أنها دعايات الماسونية الماكرة التي تتربَّص للقضاء على كل الأديان تحت شعارهم "اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك"1 فمن المعلوم أن خلع العقيدة ووضعها على الباب إلى جانب النعال إنما يراد بها عقيدة من يسمونهم بـ"الجوييم" أو "الأمميين"، أما عقديتهم هم فهي التي يقوم عليها مذهب الإنسانية, وهي التي يجب أن تبقى بعد أن ينسلخ الداخلون في الإنسانية عن عقائدهم, ويتنازلون عنها لكي يتم دخولهم في مذهب الإنسانية. ومنها أن دعاة الإنسانية يزعمون أنه يجب أن يكون الهدف الذي يصل إليه الإنسان ويضحي بفرديته من أجله هو خدمة الآخرين, وإخضاع نزعاته الفردية كلها لخدمة النوع الإنساني أجمع تحت شعار "الحياة لأجل الغير"، قد صاغه "كونيت", وسماه الموجود الأعظم، وأحلَّه محل الإله في التقديس،

_ 1 انظر "مذهب فكرية معاصرة"، ص589.

وجعل لمذهبه كهنة وطقوسًا تقدِّم للرجال الذين أسمهوا في خدمة الإنسانية في أعياد، وتخصص لهم تلك الأعياد ليشعرهم بأنهم على شيء. ويجب التنبيه إلى أنَّ بعض الكُتَّاب يفسِّرون الإنسانية على أنها هي العطف والرحمة ومساعدة المحتاجين، والتمسُّك بالأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، ويذكرون على كل ذلك أدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة. ودراستنا هنا لا تتعلق بهذا المفهوم للإنسانية، فهو حقٌّ مؤكَّد، ولكنَّا بصدد بحث الإنسانية التي تخفي وراءها مخطَّطات خطيرة لتدمير تراث الإنسانية، وبالأخص تراث المسلمين. شعارات خادعة طالما نادى بها اليهود, وخدعوا بها الناس سرًّا وجهرًا, مثل: الحرية والإخاء والمساواة بين الأفراد والشعوب, ووحدة الأسرة البشرية ومجتمع الإنسان المتعاون, وحق الجميع في الحياة الكريمة, إلى آخر تلك الألفاظ البرَّاقة الخادعة التي هي للاستهلاك ولسد فراغ أذهان الفارغين، وقد قال أحد دعاتها وهو الفرلي: "حينما يصبح الجميع أحرارًا في تفكيرهم, لهم من الشجاعة ما يجعلهم يتقبَّلون ما هو خير وعدل وجميل, عندئذ يكون من المحتمل أن يسود العالم دين واحد, وإني سأكون سعيدًا باتباع دين عالمي موحَّد تنبع مصادره من حقائق التاريخ, وتشمل مبادئه العدالة الاجتماعية, وتقوم بفضله مظاهر الحب والإخاء على أنقاض الكراهية والخصومة"1.

_ 1 انظر الإسلام والحضارة العربية ص132، د. محمد محمد حسين.

ومما سبق يتبين بوضوح أن الدعوة إلى الإنسانية هي شرارة انشطرت عن جمرة الماسونية الحاقدة ودعاياتها الخادعة التي تجيد حبكها المؤامرات اليهودية, وأن ما يبدو للبعض من الفارق بين كلتا الدعوتين فإنما هو فارق لظفي, أو من باب التفنُّن في التقديم, فالماسونية ظاهرة قوية في الدعوة إلى الانسلاخ من كل دين أو طاعة إلّا دين اليهود وطاعتهم, بينما الإنسانية ظاهرها فيه الرحمة والترفع عن التجبُّر والبغض, وأن الدين لا يجب أن يكون حائلًا بين محبَّة البشر بعضهم البعض, وخدمة بعضهم بعضًا؛ لأن الدين أمر شخصي وحسب مزاج الشخص وتوجهه، إضافة إلى أنه يضيق الدائرة على أتباعه, ويمايز بين الناس حينما يلتزمونه, وبالتالي فالبديل الأنسب هو الإنسانية التي تعمّ الجميع دون تمييز أو تفريق بين الجميع.

الفصل الثالث: أماكن انتشارها

الفصل الثالث: أماكن انتشارها شاعت ديانة الإنسانية هذه في الغرب, وصار لها في كل بلد كاهن أكبر, وجعلوا لها معابد وطقوسًا وسدنة, وقد برزت عند الأمريكان بوضوحٍ حيث جعلوا الإنسانية دينًا, وقد صيغ المذهب الإنساني في أمريكا في 1933م في بيان الإنسانيين الذي تضمَّن إنكار وجود الله تعالى وخلقه لهذا الكون, وإنكار النبوّة والرسالة, والتعليل لنشأة الإنسان وثقافته الدينية, وما يتعلق بحياة الإنسانية كلها, مستندين إلى تعليلات الشيوعية الماركسية. وفيما يلي بيان الإنسانيين المشهور, مع تعليق خفيف يوضِّح الغرض من كل فقرة منه: 1- "الكون موجود بذاته وليس مخلوقًا". والإلحاد والكفر بالله تعالى ظاهر في هذا, وهذا المعتقد كافٍ في كفر من تمسَّك به. 2- "الإنسان جزء من الطبيعة, وهو نتيجة علميات مستمرة فيها". وهذا إنكار لوجود الله أيضًا, وإنكار لحقيقة وجود الإنسان, وإسناد خلقه إلى الطبيعة حسب تعليلهم السخيف, ولو سئلوا عن تلك العمليات المستمرة لانقطعوا وأجابوا بما يدل على جهلهم وحمقهم. 3- "ثقافة الإنسان الدينية ليست إلّا نتاج التطور التاريخي الناشئ من التفاعل بين الإنسان والبيئة الطبعية والوراثة الاجتماعية".

وهذا كفر بالأنبياء والمرسلين, وزعم باطل وهضم لنعمة التفكير التي خصَّ الله بها الإنسان, ورَجْمٌ بالغيب. 4- "لقد ولّى الزمن الذي كان يعتقد الناس فيه بالدين وبالله". ونقول لهم: بل لا يزال جديدًا على مرِّ الدهور رغم أنوفهم, وسيبقى إلى يوم القيامة. 5- "يتركَّب الدين من الأفعال والتجارب والأهداف التي لها دلالات في نظر الإنسان, ومن هنا زال التمييز بين المقدَّس والمادي". ويقال لهم: إذا كان الدين يتركَّب من تجارب, فيكف لم يدعوا النبوة كلهم, وكيف قام على أشخاص معدودين تحوطهم عناية الله وتأييده, وهل يعرف الدين بالتجارب. 6- "إن التحقيق التام للشخصية الإنسانية هدف الإنسان". نقول: نعم, ولكنه لا يصل إليه إلّا بالتبيُّن الصحيح وبتيسير الله وتوفيقه له. 7- "يعبر عن الانفعالات الدينية بالإحساسات الشخصية والجهود الجماعية التي تحقق الرفاهية الاجتماعية"، وهذا الكلام محض دعيّ لا دليل عليه, مع أنهم ينفون أيّ دليل صحيح للتدين. 8- "لا توجد انفعالات دينية ومواقف للناس تربطهم بوجود خارق للطبيعة". ونقول لهم: إن الفطرة في الإنسان والواقع كليهما شاهدان بهذا الرباط.1

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص59-60.

وقد أمضى هذا البيان جون ديوي وآخرون من كبار دعاة الإنسانية. وعلى حسب ما تقدَّم فإن الإنسانية في جوهرها العام هي دعوة للإنسان إلى أن يعيش حياته ابن يومه مهما صادفته من الأمور التي يرضاها والتي لا يرضاها, قوي الأمل صامدًا في مواجهة الأخطار, جاعلًا نصب عينيه أن يعيش حياته المادية بكلِّ ما يجده, ضاربًا بالقوانين التي تحدُّ من ارتكاب الشهوات جانبًا, وأن لا ينظر إلى الأمور الروحية الغيبية, ولا يتأثر بما يقال له من أنه سيحاسب على كل أعماله الدنيوية أمام الله تعالى, فليس لك إلّا ما تمتعت به قبل موتك, فلا بعث ولا حساب ولا جزاء في مفاهيم دعاة الإنسانية, وهم حينما يقررون هذا الكلام نقول لهم: بكل تأكيد أنهم يغالطون أنفسهم, وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم في فراغ, وأن الأمر جد, ولا يمكن أن تكون الحياة كذلك, قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1. وهم متأكدون أن حياتهم هذه لا تختلف عن حياة سائر البهائم, ولولا الظلم وحب العلوِّ لرجعوا إلى الحق, ولنظروا إلى ما هم فيه بأنه عبث وفوضى, ولا تقرها العقول ولا الفطرة السليمة, ولكنه العناد والاستهتار والبغي.

_ 1 سورة النمل، الآية: 14.

الفصل الرابع: هل يحقق مذهب الإنسانية السعادة؟

الفصل الرابع: هل يحقق مذهب الإنسانية السعادة؟ ما أكثر الدعايات الكاذبة, وما أكثر الخدع التي يتفنَّن فيها الناس لخداع بعضهم بعضًا. ولن تجد صاحب هوًى ينادي باتباعه إلّا وهو يضمن للناس أنهم سيعيشون تحت ظله بالسعادة الغامرة والعيش الكريم, فيدخل من كُتِبَ عليه الشقاء في تلك التجارب المضطربة, وفي ظلماتها الحالكة, ثم تنجلي عنه الغمّة بعد فترة قد تطول وقد تقصر, فإذا به يلعن تلك المبادئ, ويعض أنامله من الندم على ما ضاع منه في خدمتها. وهذا أمر بدهي؛ لأن السعادة والوصول إليها من الأمور الغيبية الخاضعة لمشيئة الله -عز وجل, وقد أخبر الله تعالى أنه لا يهدي القوم الظالمين, وأن من أعرض عن ربه فإنه سيعيش هذه الحياة عيشة ضنكًا لا يشعر معها بأيّ طعم للسعادة -كما هو حال أعداء الإسلام؛ حيث تجد الأغنياء في غاية القلق على مستقبل أموالهم, وتجد الفقراء في غاية الغيظ على الأغنياء, وتجد كل شخص يعيش غاية القلق على نهاية حياته, وأين سيكون مصيره بعد موته، وأمور أخرى تجعله في غاية الحزن والكآبة, خصوصًا وهو يرى تلك الفوارق الهائلة بين الناس في الدين وفي العيش وفي السلوك وفي الثقافات، بل وفي كل نواحي الحياة. فإذا دخل باب الإنسانية وجد أنَّ ما تنادي به من أنَّ الناس سيصبحون

أخوة متحابين لا فوارق بينهم ولا أحقاد, إنما هي كذبة صريحة وأمان فارغة يكذبها الواقع بكل وضوح, وأنها لم تحقق شيئًا منذ أن نادى أقطاب الإنسانية بالتجمُّع على مبدائها؛ ليعيشوا الحرية والإخاء والمساواة والحياة الكريمة بأجلى مظاهرها -كما يفترون, وبان لكل ذي عينين كذبهم في أن العائق الوحيد أمام وصول الناس إلى تلك الرفاهية إنما هو الدين وتعاليم الأنبياء فقط, فإذا خرجوا عن ذلك عاشوا حياتهم دون رقيب, لا دين ولا خلق ولا أمر ولا نهي, أي: إن الشخص يمشي مكبًّا على وجهه لا يبالي بأيّ سلوك في سبيل أن يعيش متعة حياته كيفما استطاع, وتعمق بعضهم في دخول هذه الدعايات, فإذا بهم يجدون أنفسهم يعيشون حياة بهيمية منطلقة لا فرق بينهم وبين سائر الحيوانات البهيمية, يجمعهم الخروج على الأديان, وعلى كل ما تنادي به من الأخلاق الرفيعة والسلوك المهذَّب المؤدَّب, فلا يعرف الحق من الباطل, ولا الكفر من الإيمان, ولا السلوك المحمود من السلوك المذموم. وأنت ترى من كل أهداف دعاة الإنسانية أنهم يسعون لتمييع الفوارق بين الناس, ولتخديرهم تمامًا ليتسنَّى بعد ذلك تحميرهم لليهود الذين هم وراء كل جريمة, ووراء قيام دعوى الإنسانية, وإبعاد الناس عن كل دين غير الدين اليهودي, وما قيام كارل ماركس، ولينين، وستالين، وسائر الحركات الشيوعية في العالم إلّا بتخطيط حكماء اليهود, وبغضِّ النظر عن مزاعم دعاة الإنسانية في إسعادها للناس, نقول: هل تحقَّقت في يوم من الأيام تلك الأحلام الإنسانية؟ أو يمكن أن تتحقق؟

الفصل الخامس: هل تحققت دعاوى الإنسانية بالفعل؟

الفصل الخامس: هل تحققت دعاوَى الإنسانية بالفعل؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن نسأل دعاة الإنسانية: هل يمكن أن يحققوا تلك الدعاوى الكاذبة؟ وهل يمكن أن يقبل الناس كلهم تلك الحياة التي يدعون إليها؟ إن من السهولة بمكانٍِ أن يتخيل الشخص أشياء كثيرة وتحقيق أماني عديدة فيما يشبه الأحلام السعيدة في عالم الخيال, ولكن من الصعوبة جدًّا أن يراها مطبَّقة أمامه حقيقةً, فإن ما شاء الله أن يجمعه لا يستطيع أحد أن يفرقه, وما شاء الله أن يفرقه فلا أحد يستطيع أن يجمعه, من المعلوم بداهة أن الله تعالى شاء أن يختلف الناس في لغاتهم وفي سلوكهم, وبل وفي دينهم, وأن يختلفوا في أوطانهم "ولذلك خلقهم". فكيف يتمكَّن أولئك الملاحدة أن يغيِّروا ما أراده الله؟ هيهات ذلك, ومتى سيقبل الناس أفكار دعاة الإنسانية ويتناسون أديانهم وأوطانهم ويوحدون سلوكهم ولغاتهم؟ إنها دعوة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 1. إن دعوى الإنسانية دعوى ضالة مخدِّرة لأتباعها, وأرخت لهم زمام الآمال الفارغة, وجمدتهم على ترقب ما تخيلوه على أنَّ ما نادوا به من إماتة الوطنيات والقوميات وسائر الفوارق الخاطئة أمر مستحسن, ولكن في حدود الشرع الشريف, وليس بحسب ما تصوروه أو تصوره القوميون

_ 1 سورة النور، الآية: 39.

أو الوطنيون, فإن تصوراتهم هي عودة إلى الجاهلية، وتعصب مذموم, فإن التعصُّب حولهما لا ينتج مجتمعًا صحيحًا متماسكًا متحابًّا, بل ينتج أمة قابلة للتمزق والأحقاد والتعالي بالباطل, والواقع أقوى شاهد, فما أن تنشب حرب أهلية إلّا وتناسى الناس فيها كل الروابط الجاهلية من قومية ووطنية وإنسانية وغيرها, وراحوا لا يرقب أحدهم في الآخر إلًّا ولا ذمَّة؛ لأن هذه الروابط ليس وراءها ما يرغب فيها من جزيل الثواب عند الله تعالى, ولا خوف منه -عز وجل- في يوم الحساب, بل فيها ما يثير الأحقاد والتعصبات القبلية, واغتنام المصالح ولو على حساب الغير "إذ مت ظمآنًا فلا نزل القطر"1. وهذه الدعوة الحمقاء لجمع العالم كلهم على فكرة واحدة من وضع البشر, قد جربها كثير من الناس آخرهم البهائية, ولكنهم كلهم باءوا بالفشل الذريع, وظهرت حماقاتهم واضحة للعيان, ولم يستطيعوا هم أنفسهم تطبيق هذه الدعوة الفارغة؛ لأنها غير قابلة للتطبيق العملي, فإن أمامها عوائق لا يمكن تخطِّيها بمثل تلك الأفكار البرَّاقة الضحلة, فهي لم تطبق على حقيقتها لا في أوربا ولا في أمريكا ولا في بلدان العالم الإسلامي ولا في غيرها, ولهذا نجد أن الله لم يأمر الناس أن يتكلموا لغة واحدة, ولا أن يتنكروا لشعوبهم وقبائلهم.

_ 1 شطر بيت من قصيدة لأبي فراس الحمداني وأوله: معللتي بالوصل والموت دونه ... إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر انظر كتاب "كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة" ص276.

ومن المدهش حقًّا أن يتبارى دعاة الإنسانية في تقديمها في الوقت الذي يتفنَّون فيه في سفك دماء الإنسانية وامتصاص خيراتهم,/ والتخويف والتجويع وافتعال الأزمات, ووصف كل من يخالفهم بأنه إرهابي ومتخلف وعدو للحضارة ... إلى آخر أوصافهم, وتشجيع كل فريق على الفتك بالآخر في مؤامرات وخطط جهنَّمية لا تفعلها الوحوش الكاسرة. ولعل ذلك يعود إلى لطف الله بالبشر؛ ليعود إليه -عز وجل- حينما يرون ما يفعله الجهل بأهله، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} 1، كما أنَّ الشَّرَه قد وصل بأولئك إلى حَدِّ انتزاع الرحمة من قلوبهم حينما يؤججون نار الفتن لتنشب الحروب ليربحوا من ورائها بيع الأسلحة الفتَّاكة التي ملئت بها مخازنهم, ولتجربتها فوق رءوس المخالفين لهم, وبالتالي فإنهم يرمون عصفورين بحجر, وأين غاب دعاة الإنسانية والرحمة بالإنسان في الوقت الذي تسفك فيه دماء المسلمين, وتنتهك أعراضهم, وتؤخذ أموالهم في أكثر الأقطار الإسلامية, والبوسنة والهرسك وكشمير والفلبين, بل وفلسطين, والآن العراق أكبر شاهد على كذب دعاة الإنسانية, وأين دعوى الإنسانية في الوقت الذي يعامل فيه الغرب الكلب أحسن من معاملة الإنسان, وقد سمعت من إذاعة لندن أن كلبًا في هندوراس وصل إلى رتبة وزير أمن, فاتضح أن دعوى الإنسانية

_ 1 سورة طه، الآية: 124-126.

إنما يراد بها هدم الأديان واستعمار البلدان ونشر الضلال وإعلاء رايات المساونية, وكم في السجون من البائسين المظلومين تتناساهم تقارير دعاة الرحمة والإنسانية كما يسمون أنفسهم, لا لشيء إلّا لأن هؤلاء البائسين يتمسَّكون بدينهم الإسلامي, أو لم يباركوا ظلم الطغاة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل إن الظالمين يصرخون بعزمهم على إذلال المسلمين وتقطيع أوصالهم, ويتبعون القول بالعمل دون أن يوجّه الإنسانيون كلمة رحمة أو عتاب من أجلهم، بينما أي حركة يتحركها المسلم ولو دفاعًا عن نفسه فإنه يوصف فورًا بالإرهابي والمشاغب والمتشدد, وغير ذلك من الألقاب الجاهزة التي يضعونها على من يشاءون في أية لحظة. وتحت هذا البنز يقع للإنسان من التعذيب والتخويف ما تتنزه عن فعله الحيوانات المفترسة في الغابات, فأين دعاة الإنسانية من النصارى -وهم الأغلبية, وغيرهم من سائر من يتشدق بهذا الاسم, ويزعم أنه سيحقق السعادة للبشرية, وأن الإنسانية في زعمهم ستكون عليهم بردًا وسلامًا حينما تقصى الأديان, وفي أولها الدين الصحيح الذي لا يقبل الله غيره, وهو الدين الإسلامي الذي قرَّر الرحمة في أكمل صورها, دعا إليها دون خداعٍ أو نفاق منذ مئات السنين, حين دعى إلى المحبة والتعاون ونبذ كل شعارات الجاهلية وخرافاتها, وأن يكون البشر كالجسد الواحد عقيدةً وحبًّا وصفاءً, ولهذا فإن دعاة الإنسانية إنما هم صدًى لتلك التعاليم الإسلامية المشرقة, وإن كانوا لا يطبقونها على حقيقتها التي جاء بها الإسلام, بل ولا يعترفون له بفضل السبق إليها, سواء كان ذلك تجاه

الإنسان أو تجاه الحيوان, وهكذا فإن الدعوة إلى الإنسانية قد لا يفطن الكثير من الناس إلى أنها دعوة تقوم على الاحتيال والمغالطة, إلّا لمن يتتبع نتائجها وبتعمُّقٍ في معرفة الوصول إلى ضحاياها من المسلمين, ويرى مدى الإجحاف في حقِّ الشعوب المسلمة على أيدي دعاة تلك الإنسانية, بل وفي غير البلدان التي تحكم بغير الإسلام, ومدى ما يفعلونه بمضايقة المسلمين في دينهم وفي أعراضهم وفي ثقافتهم, والعمل على تفريق كلمتهم بكل ما يستطيعون من الوسائل وما يخترعونه ضدهم من الأسماء الظالمة لضربهم تحت تلك الأسماء؛ كتسميتهم متمردين وعصاة وخارجين عن القانون, وما إلى ذلك, ثم التنكيل بهم بكلِّ وحشية دون أن يحرك دعاة الإنسانية نحوهم أي التفاتة, بل يلقون التأييد والدعم السخي بأنواع الأسلحة والمساعدات المادية والمعنوية, وفي مقابل اعتزاز المسلم بدينه حيث يشار إليه بأنه عدو الحضارة متعصب جامد, ويجب أن يتنازل عن غيرته على حرمه, وأن يتنازل عن كل عاداته التي لا يمكن بسببها أن يذوب في خِضَمِّ الماسونية الجارف, وإسرائيل وأمريكا أقوى الأدلة على صحة هذا.

الفصل السادس: هل تقبل الدعوى إلى الإنسانية التعايش مع الإسلام والمسلمين؟

الفصل السادس: هل تقبل الدعوى إلى الإنسانية التعايش مع الإسلام والمسلمين؟ يجب على كل مسلم أن يتذكر في البداية قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1، ثم ينظر مصداقها في الواقع في حال التعايش بين النصارى واليهود من جانب, وبين المسلمين من جانب آخر, وكيف أن دعاة الإنسانية شمس العداوة لكل مسلم حتى يلين ويرجع إلى أقوالهم ويسايرهم في سلوكهم, ثم كيف بعدها يكيلون له المدائح المختلفة, ويحكمون عليه الشبكة بأنواع المساعدات المادية والمعنوية ليبقى أسيرًا لهم. لقد أظهر أدعياء الإنسانية بغضهم للدين, والمقصود به الدين الإسلامي في المقام الأوَّل, وهم دائمًا يشكون من انتشاره في مجتمعاتهم ويتخوَّفون من عودة المسلمين إلى سباق مجدهم أيام الفتوحات الإسلامية, ولهذا فقط رَمَوْهُ بكل سهم من سهامهم المختلفة, ومن ضمنها رمية بسهم الإنسانية كي تكثر السهام؛ لعلَّ واحدًا منها يصيب مقتلًا للرمية، أمَّا أن يرمي المسلمون أعداءهم ولو بخرقة الحرير فإنه يعتبر إرهابًا وهمجيَّة وعودة إلى فكرة

_ 1 سورة البقرة، الآية: 120.

الجهاد التي أقلقهم اسمها, وأرق نومهم ذكرها, حتى أصبح الكثير من المسلمين مع الأسف الشديد يستحي من ذكر كلمة الجهاد, ويعتذر للإسلام عن ورودها فيه, حتى يجعله كالمجرم في قفص الاتهام, وهي الشبكة التي يريد أعداء الإسلام أن يوقعوا فيها مثل هؤلاء الأغبياء الذين يدَّعون أنهم يدافعون عن الإسلام, ويردون كيد أعدائه عنه, فإذا بدفاعهم يجعل الإسلام ظالمًا همجيًّا ومائعًا في نفس الوقت, ولا شكَّ أنه لا خير في مثل هؤلاء المدافعين, ولا خير في مثل جدالهم الذي يفتقد إلى وجود العزة الإسلامية في النفس أولًا, فمتى يستفيق المسلمون لخدع دعاة الإنسانية وأساليبيهم الماكرة, ومتى يعرفون أنه لا يمكن أن يتوافق دين رضيه الرحمن وطغيان يدعو إليه الشيطان, وأنه لا يمكن أن يسير الحق والباطل في طريق واحد.

الفصل السابع: الإنسانية والمغريات

الفصل السابع: الإنسانية والمغريات كل المذاهب الباطلة إنما تقوم على الدعايات البراقة والمغريات المختلفة, ومن ذلك القول بأن العالم خصوصًا في هذا العصر قد وصلوا في التقدُّم إلى طور بعيد جدًّا, وصناعات مذهلة, وأن الناس بإمكانهم أن يعيشوا في حرية مطلقة وسعادة لا تحدها حدود ولا تقف دونها عوائق, خصوصًا إذا التزموا بمذهب الإنسانية, ولكن أليس بالإمكان أن يقول الناس لهم: إنه بالرغم مما تزعمونه من التقدم والتطور فإنه لا زال -ولن يزال- التأخر والظلم والقهر جاثمًا على صدور الناس. مما يدل على أن دعوة الإنسانية إلى التآلف والمحبة بدون دين دعوى ساذجة لا يمكن أن تتحقق في الواقع, بل الذي تحقق إنما هو انتشار الرذائل والفواحش من أوسع الأبواب، بل لقد انصرف الناس عن ما تدعوا إليه الإنسانية من أحلام سعيدة بعد أن عرفوا ضحالة أفكارها, ولكنهم انصرفوا أيضًا إلى سوء آخر وهو التزاحم على جمع الأموال واقتطاع الأراضي, وإلى انتشار الأخلاق الرذيلة بكلِّ وسائل الإغراء التي يزخر بها هذا العصر. حيث صارت الرذائل تباع بأرخص الأسعار, فإنه بعد انصرافهم عن الدين لا يمكن أن تتحقق الألفة والاجتماع على عقيدة الإنسانية الخيالية, ولا على غيرها, اللهم إلّا على الانكباب على الآلات الصناعية الحديثة, والاستغناء بها عن النظر إلى الآخرين والاهتمام بهم، ومن هنا تدرك يقينًا ان كل الدعوات الجاهلية لا بُدَّ أن تفلس.

ذلك أن الإصلاح للنفوس وتهذيبها إن لم ينبع من عقيدة راسخة تؤمن بالله تعالى وثوابه وعقابه وتصديق رسله, فإنها لا يمكن أن تؤلّف بين القلوب, كما قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1، فالعقيدة الصحيحة هي التي تؤلف بين القلوب, وأما الدعوات الجاهلية فهي فاقدة لدعائم وأسس المحبة، وفاقد الشيء لا يعطيه، وبهذا صارت وعود الإنسانية والسعادة التي تنادي بها لا يمكن أن تكون واقعًا ملموسًا يعيشه الناس, بل إنهم يعيشون في ظل الأنظمة المادية اليوم بما تحمله من إغراءات لا حدَّ لها, تعيش أتعس حال وأمرَّه، ورابطة الإنسانية أوهى الروابط مثلًا, مثل: رابطة الحيوانية التي تتعايش بها البهائم التي لا تعير الأنظمة والأخلاق أدنى اهتمام عند تحقيق رغباتها, وإذا أبي الناس إلّا التمسك بالإنسانية هذه, فإن الراعي لهم سيكون هم اليهود الحاقدون على البشر وحضاراتهم.

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 63.

الفصل الثامن: الإنسانية والقومية والوطنية

الفصل الثامن: الإنسانية والقومية والوطنية من أساليب دعاة الإنسانية أنهم يقولون في تقديمهم لها: إنه يجب محو فكرة اختلاف الأوطان؛ لأن الجميع يعيشون في أرض واحدة, وأن الإنسان هو الذي اختلق تجزءتها, وجعل لها حدودًا سياسية مصطنعة, في حين أن الذين يعيشون فوقها هم أيضًا جنس واحد, ومن أصل واحد, فلماذا لا نعود إلى الأصل الصحيح, وهو أن الأرض وطن الجميع, ومن عليها أخوة كلهم في الإنسانية, ونضرب صفحًا عن كل الاعتبارات الأخرى من الجنس واللون والدين والعادات، والقوميات والوطنيات التي طرأت على الإنسان في شكلها البدائي, ثم أخذت تتوسَّع ويتوسَّع الانتماء إلى القومية والوطنية قليلًا قليلًا, إلى أن أصبح في وضع أكبر مما كان في البداية, ولهذا فإنهم يحبون توسيع الدعوة القومية إلى أن يصل الأمر بالجميع إلى قومية واحدة, وإلى وطن واحد, ثم يعيش الجميع تحت ظلِّ الإنسانية التي ستظل الجميع, وتنمحي كل الفوارق الأخرى بعد ذلك, ومن هنا فإن دعاة الإنسانية قد يتفاؤلون بانتشار القومية حين تكون قومية عالمية تسودها الإنسانية, حينما يلبي الجميع واجب الدعوة إلى الإنسانية وحدها, فلماذا لا نطوي المسافة ونأخذ مبادئ الإنسانية اليوم قبل غد, لتحل السعادة وتنتشر الرحمة ويعم الخير.. إلى آخره. إنها أحلام سعيدة ودعوة خلابة براقة حينما يسمعها الشخص لأول وهلة, ولكن وكما تقدَّم هل يمكن تحقيق هذه الأحلام, وهل يمكن أن يتنازل الناس بأجمعهم عن قومياتهم وأديانهم وأوطانهم ليدخلوا تحت لواء الإنسانية الذي أقلّ ما سيواجهه معضلة من سيتولى قيادة هذا المنهج الجديد, ولمن تكون القيادة والأمر والنهي؟ وما هو الوطن المفضل؟

الفصل التاسع: تناقض دعاة الإنسانية

الفصل التاسع: تناقض دعاة الإنسانية ظهر جليًّا أن الإنسان دائمًا يتنكر لمن يجهله, ولا يأنس به إلّا بعد وقت, ثم يزول هذا الأنس فورًا عندما يحس أن مصالحه مهدَّدة من قِبَلِ الآخرين, وإلا فأين الإنسانية حينما تحتدم الحرب الأهلية التي تأكل الأخضر واليابس في غياب العقيدة الدينية المشتركة التي تشعر كل شخص بمسئوليته عن كل تصرفاته أمام الله تعالى, التي تجعل الناس كلهم عبيدًا لخالقهم على الدوام, وتجعل محبتهم قائمة على أسس لها أيضًا صفة الدوام؛ إذ لم تقم على المصالح المؤقتة, أو تبادل المناقع المادية الناتجة عن المحبة الزائفة العارضة, أو الاستئناس بسبب ظروف مختلفة. إن دعاة الإنسانية اليوم هم الذين يقصفون المسلمين في أفغانستان منذ أكثر من شهر ونصف ليلًا ونهارًا في طلعات جوية تملأ الأفق بطائرات حربية متقدمة, وقنابل متنوعة, مرةً يسمونها قنابل ذكية, وأخرى يسمونها قنابل غبية, وصواريخ تجرَّب لأول مرة على رءوس المسلمين1. فهل يعتبرون المسلمين هناك جمادًا لا تشملهم كذبة الإنسانية؟ أليس دعاة الإنسانية هم الذين يقتلون كل يوم وكل ليلة أعدادًا من الفلسطينيين دون تمييز, ويجرِّفون مزارعهم, ويهدمون بيتوتهم بكل كبرياء؟ أليس دعاة

_ 1 واليوم نعيش هذا الوضع تمام في العراق في وحشية لا نظير لها من قبل الغرب الحاقد بزعامة أمريكا وبريطانيا ومن سار على دربهم.

الإنسانية هم الذين يحكمون على الإسلام والمسلمين بأنَّهم إرهابيين يجوز قتلهم وسجنهم وتشريدهم دون رحمة, وأمثلة أخرى في كل العالم تقول: أين الإنسانية؟ وأين دعاتها الكاذبون؟ وأين حقوق الإنسان حينما تقدم أمريكا للمساكين في حرب أفغانستان الأكل عن طريق إسقاطه من الجو في مزارع الألغام؟ أو تسقط بعض القنابل التي تشبه في ظاهرها بعض كراتين الأكل زيادة في التمويه وإغراء الجائع بحيث لا يستطيع التمييز بين كون هذا أكلًا أم قنبلة؟ فحصدت أرواح كثيرة دون أن يحس أولئك الإنسانيون بزعمهم أدنى تأنيب من ضمير أو خلق. إن الإنسانية حقيقة سلاح يهودي ونصراني ومجوسيّ ووثنيّ موجَّه ضد المسلمين, وضد كل المستضعفين في الأرض, ويجب على كل مسلم أن يكون مستيقظًا لهذه الأخطار, وأن لا يلدغ من جحر مرتين. وقد اتضح جليًّا من خلال بيان الإنسانيين السابق أنها دعوة ماكرة يراد من ورائها في الدرجة الأولى سيطرة اليهود ومحاربة أديان الجوييم, وتذويب الأوطان في ديانتهم الإنسانية القائمة على أهوائهم ومفاهيمهم اليهودية الحاقدة برعاية الماسونية العالمية. قال أحد الماسون: "إن ما تبغيه الماسونية وهو وصول الإنسانية شيئًا فشيئًا إلى النظام الأمثل الذي تتحقق فيه الحرية بأكمل معانيها, وتزول فيه الفوارق بين الأفراد والشعوب, ويسود فيه العلم والجمال والفضيلة"1.

_ 1 الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص60.

فانظر إلى هذه المغالطة, بل الصحيح أن هذا المذهب والدعوة إليه كفيل لو نجح دعاته في إفساد البشرية وقلب الأمور رأسًا على عقب, حينما تتغلَّب ديانة الإنسانية وتتمّ وفق مفاهيم أقطابها -لا قدر الله, وينتصر اليهود فتلغي كل الأديان, وخصوصًا الإسلام الذي هو الهدف الأكبر في حملتهم لمحوه, ومحو أنه الدين الذي نسخ الله به كل الأديان التي قبله, كما تهدف كذلك إلى تمييع مفهوم الأديان حتَّى تشب الأجيال الجديدة وهي لا تفرق بين الأديان, ولا تعرف الصحيح من المزيف, والمستقيم من المعوَّج منها. فيختلط الكفر بالإيمان, فلا يعرف بعد ذلك الحق والباطل في خِضَمِّ هذا التيار الجارف, ومن هنا نجد أن هؤلاء الدعاة تتكاتف جهودهم على ذم الأديان وتجهيلها, وأنها لم تحقق للإنسان الحرية والعدل والمساواة التي يدَّعون أنهم يريدون الوصول إليها بحسب آرائهم الخيالية. وحينما يزعم الإنسانيون أنهم رحماء بالإنسان والحيوان وهم يقاتلون بين الحيوانات حتى يقتل بعضهم بعضًا وهم يتفرجون ويضحكون, أين الإنسانية منهم؟ أو الرحمة بالخلق؟ وهل ستجد الإنسانية مثل الإسلام في إعطاء تلك الأمور حقها الذي تصلح به الحياة, وتستقيم به الأمور, ويأخذ كل ذي حق حقه؟ كلَّا, ولكن لجلهلهم بالإسلام يظنون أنهم هم الذين سبقوا إلى تلك الدعوى, بل وكثير منهم يعرفون ذلك, ولكن لحقدهم على الإنسانية ورغبتهم في استعباد البشر والسيطرة عليهم جحدوا بها واستقينتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا.

الفصل العاشر: زعماء الدعوة الإنسانية

الفصل العاشر: زعماء الدعوة الإنسانية أقيمت هذه الدعوة على أكتاف مجموعة من الكُتَّاب الفلاسفة من دول أوروبية مختلفة, كان من أبرزهم: - أراسمس, المولود في روتردام, والكاتب الفرنسي فرانسيس بوتر, والأديب الإنجليزي إليوت, والفيلسوف الألماني شيلر, والفيلسوف الإنجليزي جون لوك, والفيلسوف الألماني كونت, والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت, والفيلسوف الهولندي سبينوزا, وغيرهم من الفلاسفة. ويظهر أن هؤلاء الفلاسفة مهمتهم في البداية هي الرغبة في الإطاحة بالكنيسة, والخروج عن سلطة رجالاتها تحت أيّ مبرر, ثم تطورت لتشمل بعد ذلك محاربة كل الأديان, وفي أولها الدين الإسلامي, بالإضافة إلى العدو اللدود النصرانية, وقد استغتلها اليهودية العالمية كما هو شأنهم في تبنِّي كل الحركات المناوئة لديانة الجوييم, كما أفادت منها أيضًا النصرانية فيما بعد كأحد أسلحتها الموجهة ضد الإسلام, وغيرهم من أصحاب الأهواء. كما يلاحظ أن أولئك الفلاسفة لم يكونوا كلهم في الأصل على عقيدة واحدة قبل أن تتوجه أنظارهم إلى بناء مذهب الإنسانية, وبعد ظهور هذا المهذب كانت نقطة الانطلاق لهم تنبع من الدعوة إليه وتطويره وتجديد مفاهيمه, وتقديمها إلى الناس جذابة براقة في ظاهرها، وجهنَّمية بائسة في باطنها.

الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية والرحمة الصادقة هي في الإسلام

الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية, والرحمة الصادقة هي في الإسلام لن يجد العالم دعوة إلى الإنسانية الحقيقية مثل الإسلام إلى يوم القيامة, ولا يمكن أن يوجد نظام أرحم بالبشر من نظام الإسلام, وهذا معروف بالضرورة والبداهة, فهو نظام إلهي صادر عن عالم السر وأخفى, دعا إلى الرحمة وإلى الرفق وإلى مكارم الأخلاق, وجعل الإنسان أكرم مخلوق وأفضل من على ظهر الأرض، إذا أطاع مولاه وأدَّى ما أمره به, في القرآن الكريم من الدعوات إلى حسن المعاملة والسلوك الحسن ما لا يجهله أي مسلم, فقد قال الله تعالى: {قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 1، وقال لنبيه موسى -صلى الله عليه وسلم: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} 2، ومع أنّ فرعون أكفر من عُرِفَ على وجه الأرض، وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3، وقال عن صفات المؤمنين: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} 4، وقال عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5، إلى آخر ما ذكره الله تعالى عن أوصاف المسلمين وسلوكهم, الذي يعتبر نقطة مضيئة في ظلمات هذه الأرض, وغرة في جبين الدهر.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 83. 2 سورة طه، الآية: 44. 3 سورة الأعراف، الآية: 199. 4 سورة الفرقان، الآية: 72. 5 سورة الحشر، الآية: 9.

أما نبيُّ الإسلام وما جاء به في تحقيق الإنسانية الخيرة فحدِّث ولا حرج, فقد كان هو نفسه -صلى الله عليه وسلم- مثال الإنسان الكامل قولًا وعملًا وسلوكًا, لا يكاد التاريخ يعرف له مثيلًا في الرحمة بالإنسانية، والعطف على جميع البشر, رأي ذات يوم يمامة تحوم على رءوس الصحابة فقال لهم: من فجع هذه في أفراخها, فقال رجل منهم: أنا, وهي معي, فقال له: أرجع إليها أفراخها, ودنا إليه جمل مسنّ يشكو أهله أنهم يجيعون بطنه ويتعبون ظهره, فرقَّ له عليه السلام, وأمر أصحابه بحسن معاملته, فقال صحابه: هو حر لوجه الله تعالى, وجاءت جارية تشكو إليه أن سيدها لطمها على وجهها, فسأل سيدها فأخبره أنه لطلمها حين رأى الذئب أخذ شاة من الغنم, وأنه بشر يغضب, وندم أشد الندم, ورأى ذلك الرجل أنه لا يكفر عنه إلّا أن يعتقها, فتأكد الرسول -صلى لله عليه وسلم- من إسلامها وأمره بعتقها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يفرح لفرح الصحابة ويحزن لحزنهم, ولا يبخل بشيء في يده عن أي سائل, قال ذات يوم لأصحابه: "من له مظلمة عندي فليقتصها مني الآن" , فقام رجل وقال: يا رسول الله, إنك ضربتني بسوط في بطني وأنت تسوي الصفوف يوم بدر, وأريد القصاص, فكشف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه, وقال: "اقتص" , فقام الرجل وأخذ يقبل بطن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويبكي, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما شأنك" , فقال: أحببت أن يكون آخر عهدي في الدنيا بجسمك، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحنو على الصغير ويحترم الكبير, ويستشير أصحابه في كل ما يهمهم, إلى آخر تاريخه المشرق الذي تتضاءل أمام جزء من عظمته عباقرة العالم. وقد اقتفى المسلمون أثره وتأسَّوا به وحقَّقوا الإنسانية الصحيحة خير تحقيق في أنفسهم وفي أموالهم وفي كل تصرفاتهم.

كان أحدهم لا يشبع وجاره جائع, ولا يشرب وصاحبه ظمآن, كانوا كلهم أمناء لا يقربون الغش, صادقين لا يتعمَّدون الكذب, رحماء يرجون رحمة الله تعالى, أوفياء في أقوالهم وفي أفعالهم, الضعيف فيهم قوي حتى يأخذ حقه, والقوي ضعيف حتى يؤخذ منه الحق, والمظلوم كلهم أنصاره حتى ينتصف ممن ظلمه, كانوا يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا, لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا, وإنما يريدون مغفرة الله تعالى ورضوانه. إن دعاة الإنسانية اليوم هم أقلّ وأذلّ من أن يوحِّدوا القلوب ويؤلفوا بينها في سعادة كالتي عاشها المسملون, بل شبه تلك الحياة؛ لأن أولئك كانوا يهتدون بهدى الله تعالى, وهؤلاء قد اتخذوا الشياطين أولياء لهم, أهدافهم خبيثة استعمارية, ووسائلهم قذرة قائمة على الاستمتاع بكل أنواع الفجور, والاستهتار بكل القيم, وجحود برب العالمين الذي تشهد كل ذرة من ذرات هذا الكون بوجود وخلقه وقهره, ومصيرهم إليه في يوم تشخص فيه الأبصار. وعلى المسلم أن يكون يقظًا مبتعدًا عن معضلات الفتن ودعاة جهنم, وأن لا يصغي إلى هذا التيارات التي يموج بها العالم, فهي ضلالات مدمرة لكل تراث الإنسانية؛ في دينهم, ودنياهم, وآخرتهم.

الباب الثالث عشر: الوجودية

الباب الثالث عشر: الوجودية الفصل الأول: التعريف بالوجودية ... الباب الثالث عشر: الوجودية وتشمل دراستها الفصول الآتية: الفصل الأول: التعريف بالوجودية. الفصل الثاني: أقسام الوجودية. الفصل الثالث: ظهور الوجودية وأبرز زعمائها. الفصل الرابع: من هو سارتر؟ الفصل الخامس: الوجودية هي الفوضى. الفصل السادس: أسباب انتشار الوجودية. الفصل السابع: الرد على الوجوديين. الفصل الأول: التعريف بالوجودية الوجودية مذهب ظهر في أوربا إثر الصراع مع الكنيسة, اتخذ طابعًا مختلفًا في التفلت والعصيان, يتلخص في تقديس الإنسان لنفسه أولًا وأخيرًا, وأن يرتع في المعاصي واقتناص الشهوات كما يحلو له دون الخوف من حسيب ولا رقيب, أو عرف ينطلق صاحبه كما تنطلق البهائم، ولهذا فقد مثل هذا المذهب الفوضوية في أكمل صورها.

الفصل الثاني: أقسام الوجودية

الفصل الثاني: أقسام الوجودية قبل أن ندخل في تفاصيل الوجودية نتطرق أولًا لما يذكره بعض العلماء حول قضية الوجود والعدم التي هي من الوضوح بحيث لا تخفى على أحد, إلّا أن عبث الفلاسفة وخيالاتهم التي تسرح هنا وهناك لم تقف بهم عند حدٍّ في إيراد الشبهات, وهؤلاء يبحثون الواضح حتى يجعلونه غامضًا بما يخترعونه من أفكارمتضاربة واستنتاجات بعيدة وافتراضات خيالية، وحينما كان الناس على فطرتهم السليمة ما كانوا بحاجة إلى أن يشرح لهم قضية الوجود والعدم؛ لأنهم كانوا يحكمون على الموجود بأنه موجود, وعلى المعدوم بأنه معدوم, وأنَّ الموجود هو مقابل المعدوم, والمعدوم يقابله ضده الموجود، في بداهة لا تعرف التعقيد. كما أن كلمة "الوجود" لم يذكرها الله في القرآن الكريم, ولا ذكر كذلك فكرة العدم بالمعنى الذي ذهب إليه الفلاسفة، وبتتبع الموجودات فإنك ستجد أن أوَّل ما يظهر لك أنها تنقسم إلى قسمين: 1- موجودات مشاهدة ومحسوسة. 2- موجودات غير مشاهدة, وإنما هي في الأذهان تسمَّى الموجودات العقلية أو المنطقية. وسارتر يرى أن العدم لا معنى له إلّا من جهة ما هو نفي شيء أو فقدان

شيء, فلا وجود للعدم بذاته, وإنما يعود إلى تصوّر الإنسان له, والقصد هو إنكار الحياة الأخروية, والإسلام يقرر أن فكرة العدم المحض بالنسبة للإنسان غير صحيحة, بل إنه سيحيى حياة أخرى بعد نهاية حياته الدنيوية, ويؤكد الله هذا في كثير من آيات القرآن الكريم, ويؤكد نبيه -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من نصٍّ في السنة النبوية1. وقد يقسم بعض العلماء الفلاسفة الوجودية المعاصرة إلى: 1- الوجودية المسيحية: ويمثلها "كيركجارد" المسيحي، ومفادها أن قلق الإنسان يزول بالإيمان بالله تعالى, وهذه الوجودية هي إحدى المراحل التي مرت بالمفاهيم الأوربية. 2- الوجودية الإلحادية: ومثَّلها "هيدجر" و"سارتر" ومفادها أن الإنسان له مطلق الحرية في اختيار ما يريده, ويوجده مما يترتب عليه قلقه وبأسه2. 3- الوجودية التي يمثلها "جاك مارتيان" المسيحي: والتي أقامها على فلسفة "تومالاكويني" الفيسلوف الإيطالي, أشهر ممثلي الفكر الكاثوليكي, الذي كان يرى أن الفلسفة تعتمد على العقل وحده, أما اللاهوت فهو يعتمد على الوحي, دون أن ينكر العقل, وزعم أن الإيمان بالله يحدُّ من الرغبة في الوجود, ويحد من الخوف من العدم3.

_ 1 بتصرف عن كتاب "المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها" ص199. 2 انظر الموسوعة العربية الميسرة ج2، ص1945. 3 انظر كواشف زيوف للميداني ص361.

وأساس مفهوم الوجودية عند أقطابها وخصوصًا سارتر: هو أن يحقق الإنسان ذاته, ويسبر غور نفسه, وأن لا يرد نفسه عن أي شيء تشتهيه؛ ليحقق الشخصية التي ينتهي إليها دون رقيب, ليشعر بوجوده حرًّا طليقًا. ويجب أن نفهم أن الوجودين بينهم فوارق كبيرة بالنسبة لنظرتهم إلى أنفسهم, أو إلى الله تعالى, أو الدين, أو أشدهم شرًّا سارتر الملحد.

الفصل الثالث: ظهور الوجودية وأبرز زعمائها

الفصل الثالث: ظهور الوجودية وأبرز زعمائها لقد قامت الوجودية في الغرب في فرنسا كما قام غيرها من المذاهب الفكرية الضَّالة التي تنادي بالانفلات والتحرر من تلك الأوضاع البائسة التي خيَّمت على أهل أوربا بثقلها الثقيل طول سنوات عديدة, وما إن تنفَّس أهل أوربا الصعداء ووجدوا نوعًا من الحرية إلّا وهاموا في كل وادٍ؛ إذ أصبح الحبل على الغارب, وعملت الأفكار أعمالها بعد أن كانت مكبوتة في عهد البابوات الإقطاعيين والسلطات الجبارين, إلّا أنه ليس هذا هو السبب الوحيد في قيام الوجودية, بل كانت هناك أسباب أخرى سيأتي ذكرها, وحينما قام مذهب الوجودية جرف في طريقه كل مظاهر الولاء لله تعالى وللأديان وللأخلاق, وجعل الإنسان إله نفسه, يجب أن يفعل كل ما يروق له بمفرده وباختياره, له مطلق الحرية في أن يعيش كما يشاء, كما أكَّده الملحد اليهودي جان بول سارتر زعيم الوجودية الملحدة الذي أشاعها وروَّج لاعتناقها, وإن كان قد سبق إليها الفيلسوف الفرنسي "جبريل مارسيل" المولود سنة 1889م, وقبله الدانمراكي "سورين كير كجورد" سنة 1813م, الذي كان متأثرًا بالمسيحية البروتستانتية, ومن مشاهير الوجودية "سيمون دي بوفوار "عشيقة "سارتر" التي قضت حياتها معه دون زواج شرعيّ, كما يذكر الباحثون, ومن زعمائها قبل "سارتر" الألمانيان "مارتن هيدجر" 1889م، و"كارك يسبرز" 1883م1, ولكنهما أقلّ منه إلحادًا.

_ 1 الموسوعة الميسرة ص899.

ومن المشاهير أيضًا في ورسيا "بيرديائيف" و"شستوف" و"سولوفيف", وغيرهم ممن عاش الأحداث المؤلمة والأحزان المتوالية والعقائد الباطلة التي لا تتفق مع العقل ولا الواقع أيضًا, التي تزخر بها الديانة النصرانية المحرّفة في عصورها المختلفة. ويذكر الباحثون أن الوجودية قد عُرِفَت منذ زمن بعيد -قبل سارتر- إلّا أنها لم تقم في البداية على الإلحاد أو إنكار وجود الله تعالى أو محاربة الأخلاق والفضائل، بل إن زعماءها من فلاسفة اليونان مثل سقرط ما كانوا يحاربون الدين -المسيحي- فيما يذكر عنهم, إلّا أن الوجوديين بعد أولئك قد أوغلوا في بعض الأفكار التي استفادوا من إشارتها, وبنوها على الإلحاد تحقيقًا للتضليل اليهودي بزعامة سارتر, الذي أقام وجوديته -كما أسلفنا- على أنَّ الإنسان هو الخالق لحياته وتفكيره بتطوره المستمر حسب إرادته وميوله, دون أن يكون له مشارك مدبِّر خارج ذاته -نفي وجود الله- فهو الذي يخلق الخير والشر والطيب والخبيث باختياره وإرادته, ولكن عند التدقيق في النتيجة حول هل يحاسب الإنسان بفعله إن خيرًا أو شرًّا, ويتحمّل مسئوليته أم لا؟ نجد سارتر قد تناقض في الجواب؛ إذ زعم أن الإنسان قد لا يتمكّن من فعل كل ما يريد, وقد يفعل أمورًا يستحق عليها الجزاء؛ لأنه هو المسئول عنها, وكان الأولى على مذهبه أن لا يقول بمسئولية الإنسان عن أي فعل يفعله أويتركه, وأن لا يقال لأيّ أمر إنه خير أو شر, بحكم ما قرره سارتر من وجوب بحث الإنسان عن نفسه دون أي مبالاة أو رقيب؛ ولأنَّ كل فاعل لأي فعل سيفسّره على أنه عمل خير, حتى وإن كان ذلك الفعل هو ارتكاب أفظع الجرائم, ومن هنا فإنه لا يتبقَّى أي حقيقة مسلَّمة, ولا يصح أن يقال هذا حلال وهذا حرام, أو هذا خلق فاضل أوغير فاضل, فالأمر كله من حق الشخص.

الفصل الرابع: من هو سارتر

الفصل الرابع: من هو سارتر؟ ونظرًا لشهرة سارتر في الوجودية, ولرغبة البعض في معرفة هذه الشخصية, فنخصه بالترجمة الآتية: هذا الشخص هو الفيلسوف "جان بول سارتر", وهو يهودي صهيوني فرنسي, وُلِدَ سنة 1905م, في باريس، ومات بها 1979م, كانت له عدة أدوار في حياته, وله مؤلفات أحرزت نجاحًا جعلته الممثِّل الأول للوجودية في فرنسا, وكان من أنصار إسرائيل, ومن أكثر الملحدين إيغالًا في اللامعقول, وفي هدم حياة الناس كما هي نزعة سائر اليهود. كانت الوجودية قبل سارتر مذهب الفلاسفة الذين يؤمنون بالله تعالى, وبعضهم دينون مسيحيون، ولم يكن هو المؤسس الأول للوجودية, بل هو عالة على من سبقه فيها, ولكنه نال شهرة فيها بسبب انتشار كتبه, وكثرة مواقفه في إيضاحها1. وقد كان للفيلسوف "هيدجر" الألماني المولود 1889م, والفيلسوف اليهودي "جان بول سارتر" أكبر الأثر في تحوّل الوجودية إلى الإلحادية, وقد أقام سارتر فلسفته الوجودية الإلحادية على نوعين: - النوع الأول: ما هو موجود في الخارج بذاته ووجوده, حينئذ يكون

_ 1 انظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص221.

بالفعل لا بالقوة حسب زعمه, فالخشبة مثلًا هي خشبة تامّة وكاملة, لا يمكن أن تكون بابًا أو نافذةً حسب زعمه, وهذا باطل وإنكار للواقع. - والنوع الثاني: يريد به وجود الأشياء في الذهن, وسمَّاها الموجودات لذاتها, أي: التي تريد أن تحقق ذاتها فقط, وليس ثَمَّ شيء خارجًا عنها, وهو غير مستقر, بل دائم التغير, وهذا هو السبب في أن حرية الإنسان هي صميم وجوده الشعوري المشتمل على مختلف النوازع في الإنسان لكي يحقق ذاته بنفسه "لأنه يخلق نفسه بنفسه كل لحظة", ومن هنا أنكر سارتر وجود الله تعالى, وأنكر الرسل؛ لأن وجود الإنسان قائم على ذاته فقط, وليس هناك رقيب عليه, أو لا يجب أن يكون عليه أي رقيب؛ إذ هو الخالق لذاته وما يعمله, وكذلك لا خير ولا شر في هذا الوجود, وإنما مرد ذلك إلى نفس الإنسان ومزاجه في الحكم على الأمور؛ من حيث يعتبرها خيرًا أوشرًّا, وليس عليه أية مسئولية تجاه أحد, ولكنه هنا أدرك استحالة هذا الأمر, فقرر أن الإنسان مسئول عن عمله, وهذا تناقض منه واضح, شأن أهل الباطل -كما تقدَّم, ونظرية سارتر قامت أساسًا على عدم الاعتراف بموجِدِ هذا الكون, وإن وجود ما في هذا الكون هو الوجود ذاته, القائم بنفسه دون أي تأثير, ومعنى هذا أن كل موجود في الخارج يكون هو الذي أوجد ذاته بنفسه, هو كلام متناقض أشنع التناقض, حمله عليه رغبته في تضليل الناس وإبعادهم عن الإقرار بالله تعالى؛ لتكون نظريته رافدًا آخر للماركسية, قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 1.

_ 1 سورة الطور، الآية رقم: 35.

حارب سارتر صفة الإمكان في الموجودات, وزعم أن كل موجود لا يمكن أن يصدر عنه وجود آخر على أية صفة, فالحجر يبقى حجرًا دائمًا, والخشبة تبقى خشبة دائمًا, وهكذا سائر الأشياء, وكابر العقل في هذا وأنكر الواقع فما يكذبه أن الحجر قد يكسر ويبني به, ويعمل منه أشياء كثيرة, والخشبة قد تقطع ويمكن أن يستفاد منها في عدة أغراض فتكون عصًا وتكون بابًا وتكون غير ذلك حسب إرادة الإنسان, والحديد يمكن أن يكون بابًا وسلاحًا, وقطعة القماش يمكن أن تكون ثوبًا أو عمامةً وغير ذلك, فنفي الإمكان في الأمور مكابرة وخيال سخيف منه, وزعمه أن لا خالق لهذا الكون وأن الفكر يجب أن يقتصر على النظر إلى الموجودات بحدِّ ذاتها لا على أن لها موجودًا آخر هو زعم كاذب ترده النصوص الإلهية والعقول السليمة؛ لأن الذي يتأمَّل الموجودات ويفكر فيها لا بُدَّ أن يصل إلى نتيجة حتمية, وهي أن لكل موجود موجِد لا بُدَّ, وفلسفة سارتر تريد أن يقطع الإنسان مثل هذا التفكير لئلَّا يجره إلى الإيمان بالله تعالى, وأنه هو الموجِدُ لهذه الموجودات المختلفة1.

_ 1 بتصرف عن كواشف زيوف ص377.

الفصل الخامس: الوجودية هي الفوضي

الفصل الخامس: الوجودية هي الفوضى لأن حينما دعت الوجودية إلى التجرد التام من كل القيم والمثل والأخلاق والأعراف, فإن معناها يعادل معنى الفوضية والفراغ بأكمل صوره, فهي تتمثَّل في عبادة الإنسان لذاته, وذلك بأن يمتّعها بكل ما يستطيع الوصول إليه من المتع الدنيوية, فلا وجود فيها للإله ولا للدين ولا للأخلاق, ولا مكان فيها للحشمة أو العيب؛ لأن هذه الأمور في نظر الوجودية قيود تكبّل صاحبها عن انتهاب اللذات في وجوده الذي لا يعود إليه إذا فارق الحياة حسب اعتقاده. فالوجودي يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء دون أي اعتبار إلّا رغبته هو, وبالتالي فلا خير ولا شر ولا وطن ولا زوجة ولا مجتمع, كل هذه قيود يجب حذفها عند الوجودي, ولهذا وجدت هذه الوجودية القذرة طريقها إلى قلوب يجب حذفها عند الوجودي, ولهذا وجدت هذه الوجودية القذرة طريقها إلى قلوب الشباب والشابات في أوربا وأمريكا وغيرها, فأنشأت لها نوادي العراة والهيبز والخنافس الذين يهيمون في هذه الحياة, لا يدرون إلى أين يسيرون ولا إلى أي مكان ينتهون إليه, بل إنَّ الوجوديين يعيبون على أهل الدين أنهم جبناء, وأنهم يهربون من واقعهم إلى واقع آخر لا وجود له وهي الآخرة وما فيها, وأن الشجاع هو الذي لا يلقي بالًا لما تذكره الأديان من بعث وحساب وجزاء. إن الوجودية غزو فكري من أخطر دعوات الهدم والإباحية, وقد تلقفها اليهود عن اليهودي سارتر وأشاعوها وأذاعوها لما يرون من فائدتها في تحطيم حياة الجويم, وانشغالهم بها عن مخططات اليهود لاستعمار العالم كله.

الفصل السادس: أسباب انتشار الوجودية

الفصل السادس: أسباب انتشار الوجودية ولسائل أن يسأل بالحاح فيقول: إذا كانت آراء الوجودية بهذه الضحالة والسخافة, فكيف انتشرت وكيف تقبلها الناس؟ والجواب: إنه بالتأكيد أن آراء الوجودية في غاية السخافة والبطلان, ولكن لا يغيب عن ذهن السائل أن لكلِّ صائح صدًى, أو كما قال الشاعر: لكل ساقطة ... في الحي لاقطة وبداهة يعلم أن الذين تقلبوها ونشروها إنما يريدون من ورائها ما أراد مؤسسوها الأوائل من إشاعة الإلحاد وهدم الأخلاق والأديان {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 1. وأول ما يدل على بطلانها وسخافتها موقف دعاتها من وجود رب العالمين, الذي يدل على وجوده جميع ذرات هذا الكون -سبحانه وتعالى- عما يقول الظلمون علوًّا كبيرًا, لكنه خفي في أذهانهم حين استبعدهم إبليس وجنوده, وقد حدثت أمور خطيرة استفاد منها الوجوديين في ترويج أفكارهم, وذلك أن بشاعة الحروب العالمية وغيرها وأخطارها, وما كانوا ينتظرونه من ظهور الفتن المتتابعة, وتسلط الكنيسة وطغيانها, وكذا ما تدعو إليه الوجودية من الانطلاق واهبتال الشهوات وتهوين أمر

_ 1 سورة الذاريات، الآية: 53.

الفواحش, وأنها المنقذ الوحيد من الشقاء, فتلقفها الشباب والشابات والمراهقين والمراهقات على أنها حقيقة يجب أن تطبق, فانتشرت الفوضى الجنسية والإباحية التي لا حدود لها, ضاربين بكل القيم والمثل الدينية والاجتماعية عرض الحائط، كما أن اليأس الذي كان يعيشه الأوربيون, والبطالة الشديدة, والاستغلال الجشع من قِبَلِ أصحاب الأموال, مع جهلٍ مطبق بالدين الحق, كل هذه كانت روافد لتقبل المحرومين والمترفين على حد سواء للأفكار الوجودية.

الفصل السابع: الرد على الوجوديين

الفصل السابع: الرد على الوجوديين لقد أقام سارتر وجوديته على غاية التناقض "فزعم أن الشيء يوجد أولًا ثم يصنع الشعور الإنساني له ماهية"1. فبأي عقل يتصوّر الإنسان أن الشيء يوجد من غير موجِد, ويكون أيضًا في غاية الإتقان إن لم يكن هناك خلّاق عالم أوجده على الماهية التي يريدها؟ ومعلوم أن الذي أضطره إلى هذا الزعم هو قيام فلسفته على الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى, وتصديق الأوهام والأفكار الفارغة. ولقد هاجم سارتر كل القيم الاجتماعية وفنَّدها وقلب الأمور فيها رأسًا على عقب, بدافع حقده اليهودي وخلاعته ورغبة اليهود في استحمار العالم كله, حينما يصبح العالم مثل الحيوانات لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا, ولقد ابتكر سارتر أفكاره من محض خياله دون أن يستند على أيّ دليل لا عقلي ولا نقلي, مزخْرِفًا كلامه بشتَّى المغالطات والأساليب الفلسفة التي يحسبها الجاهل ماءً, فإذا هي سراب أضافه إلى ما تلمَّسه من الفلسفات التي سبقته, كما أن دعواه أن الإنسان ليس له إلّا هذه الحياة التي يجب على حدِّ زعمه أن يتمتَّع بكل ما تريده نفسه, هي حياة حيوانية لا تليق بالإنسان الذي كرمه الله تعالى, كما أن الحرية التي نادى بها هي حرية فوضوية لا تليق كذلك بالإنسان.

_ كواشف زيوف ص371.

يقول أبو جمعة: "ولقد عارض النظرية الوجودية مفكرون غربيون كثيرون, وحصروا أخطارها في عدة نقاط أساسية هي: 1- أنها تجعل الإنسان في عزلة عن الجماعة. 2- أنها تستطيب إبراز القبيح من جوانب الطبيعة الإنسانية وتدعو إلى الانحلال. 3- أنها تبطل الأوامر الإلهية وتنكر القيم الخالدة. 4- أنها تدعو إلى اليأس المطلق والتشاؤم الكلي, وتدعو إلى هدم الحياة. 5- أنها دعوة إلى التمرد على الواقع والقيم جميعًا, وترفض كل ما يتصل بالمغيبات والنفس الإنسانية, وتقف عند الإيمان باللحم والدم. 6- أنها تنكر محصول البشرية من القيم والتجارب, وتدعو إلى أن يبدأ الإنسان من جديد. 7- تحتقر الدين والعلم والأخلاق. 8- ليس فيها نقطة واحدة تفتح الطريق أمام التقدُّم أو بناء الحياة, أو العمل من أجل مجتمع أفضل. 9- هي فلسفة موغلة في الفردية تنكر الحقيقة الموضوعية للواقع الإنساني. 10- الأخلاق الوجودية هي أخلاق: المرض، القلق، القنوط، التشاؤم، الأنانية المفرطة.

11- تعمل على تقويض المجتمعات وهدم الأمل والخلق والغيرة ومعارضة الشجاعة والتضحية1. إن الوجودية فوضوية بكل ما تحمله الفوضوية من معانٍ آخذة من دعوى الحرية الشخصية ستارًا, مع أنَّ هذه الدعوى تعادل بالتعبير الصحيح الفوضى, وليست الحرية التي يفهمها العقلاء، وإنما هي حرية حيوانات لا حدَّ لجماحها ونزواتها, حرية انحطاط وتخلف شائن واستعباد للشهوات دون أدنى تمييز أو تفكير, فإن من تأمَّل مذهب الوجودية سيتضح له تمامًا أنها تدعو إلى الحياة البهيمية, وأن يعيش الإنسان مكبًّا على وجهه لا يرتبط بأية فضيلة أو سلوك, بعيدًا عن تكريم الله للإنسان ورفعه فوق كثير من الخلق, وهي دعوى إلى عبادة الإنسان لنفسه وهواه، وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 2. وفي حديث يرويه حذيفة أن عمر -رضي الله عنه- قال لجلسائه: "أيكم سمع قول رسول -صلى الله عليه وسلم- في الفتن التي تموج موج البحر، فسكت القوم, وظننت أنه إياي يريد. قلت: أنا سمعته. قال: أنت سمعته!! قال: "أنت لله أبوك. قال: قلت: "تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير, فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء, ونِصْفُ قلبٍ

_ 1 الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص80-81, نقلًا عن "الإسلام والدعوات الهدامة" لأنور الجندي ص194. 2 سورة الجاثية، الآية: 23.

أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء, حتى تصير القلوب على قلبين؛ أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض, والآخر أسود مربدًا كالكوز مجخيًّا" وآمال كفه "لا يعرف معروف ولا ينكر منكرًا إلّا ما أشرب منه هواه" 1. الحديث، وهكذا تفعل الفتن بأصحابها, وفي الفتن كما قال الشاعر: يقضي على المرء في أيام منحته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

_ 1 انظر مسند أبو عوانه ج1، ص56، ومسند البزار ج7، ص263, ومسند أحمد ج5، ص386، ص405. قال أبو عوانة -أحد رواة الحديث -وتفسير الكوز مجخيًّا قال: منكوسًا. مسند أبو عوانة ج1، ص57.

الباب الرابع عشر: الروحية

الباب الرابع عشر: الروحية مدخل ... الباب الرابع عشر: الروحية تمهيد: يعرف كل عاقل أن الإنسان مكوّن من جسم مشاهد معروف بتفاصيله وأشكاله وألوانه وقوته وضعفه وغذائه, وأن الله سخَّر له جميع أعضائه ليساعد بعضها بعضًا, تتألم كلها لألم بعضها رحمة من الله تعالى بعباده؛ ليفطن الشخص إلى مكان الألم فيعالجه قبل أن يستحفل الداء به, ولولا وجود الألم في تلك الأعضاء لربما تلف العضو دون أن يفطِن له الشخص. أما تكوينه الآخر فهي الروح, وهي أهمَّ من الجسد وأشرف، ببقائها في الجسد يكون الإنسان حيًّا, وبمفارقتها له يكون ميتًا، يتمّ عليها الثواب والعقاب, قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 1. ولقد كثر الخلاف واشتدَّ بين سائر الطوائف في حقيقة الروح, ولكنهم لم ولن يدركوا حقيقتها أبدًا. هذه الروح جعلها الله في غاية الظهور وفي غاية الخفاء، فإن ظهورها يتمثَّل في بقاء حركات الجسم؛ إذ لولاها لسكن الجسم واضمحلَّ, وأما خفاؤها فيتمثَّل في أنه لا أحد على الإطلاق -غير الله تعالى- يعلم مكانها, أو يرى حقيقتها, فهي غيب مجهول للإنسان, وقد بيَّنَ الله تعالى ذلك في كتابه الكريم إثر سؤال وجهه المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم- بتحريض من اليهود قائلين له: أين الروح؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا} 2.

_ 1 سورة الملك آية: 2. 2 سورة الإسراء آية: 85.

وفي هذا الجواب قطع لكل طامع في معرفة سر الروح, وهذا بخلاف ما جاء في التوارة المحرَّفة التي تذكر أن الروح هي الدم, ولهذا يحرّم اليهود أكله1. ولكن هذا التفسير باطل, ويكذبه الواقع, فلو كانت الروح هي الدم لأمكن تلافي الموت بكل بساطة, خصوصًا في عصرنا الحاضر الذي أمكن فيه نقل الدم من شخص إلى آخر في أسهل عملٍ وأتقنه. وقد استقصى أخبار الروح الإمام العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في كتاب الروح المنسوب إليه, فصَّل فيه تفصيلات كثيرة ليست من أهداف هذه الدراسة هنا, فذكر أن الأرواح تعرف زيارة الأحياء لهم, وتسلِّم على من يسلِّم عليهم في القبور, وتعرف كل ما يجري على الأحياء من أهلها, وأن التقلين ينفع الميت, وذكر قصصًا مناميَّة كثيرة, الله أعلم بصحتها, وأكثرها يبدو عليه الضعف وعدم قبول العقل لها, وذكر أن أرواح الأموات وأرواح الأحياء تتلاقى بقدرة الله تعالى حينما ينام الحي, وأن الأموات قد يرشدون الأحياء إلى أمور يجدونها فعلًا كما أخبرتهم به أرواح الموتى, وقد حصل هذا فعلًا لبعض الصحابة والصالحين, وهل تموت الروح أم البدن وحده؟ اختلف العلماء في هذا, وقد جمع بين ذلك الاختلاف بقوله: "والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها. فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت, وأن أريد أنها تنعدم وتحفل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار"2.

_ 1 وقد اشتهر من تعاليم التلمود أن اليهود في عيد الفصح لا بُدَّ أن يأكلوا أكلًا خاصًّا بهذه المناسبة يكون قد عُجِنَ الأكل بدم أحد المخالفين لليهود من الجويم, كما حصل للأب توما النصراني. 2 الروح ص49, ويظهر أن القول ببقاء الروح من الأمور المتَّفق عليها بين جميع الملل.

وثبت أن الروح ترجع إلى الميت في قبره عند سؤال الملكين له, وأنها ترفع إلى السماء ثم تعاد إلى الميت في قبره, في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران, كما جاءت بذلك السنة المطهرة, كما ثبت عند أهل الحق أن الروح مخلوقة لله تعالى, أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه على الصحيح أن الروح توجد بعد تكوين الجسد, وأنها تفارقه إذا مات, وأنها جسم في داخل جسم الإنسان, ومن قال أنها عَرَض أو غير ذلك فقد أخطأ الحق. كما أن الروح لا تعود بعد موتها على ما كانت عليه في الحياة الدنيا, فقد أخبر الله -عز وجل- في كتابه الكريم, وأخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن الميت عليه برزخ إلى يوم القيامة, وأنه بعد الموت لا يمكنه أن يعمل, فقد انتهى زمن العمل في الدنيا, ولم يبق أمامه إلّا ما قدَّم في حياته الدنيوية من خير أو شر, ولم يقل برجعة الروح إلى جسدها قبل يوم القيامة أحد من المسلمين, ولا اعتبار لقول ابن سبأ ومن يتَّبعه من الرافضة, فهو قول خارج عن أقوال المسلمين ومعتقداتهم. وما زعمه الروحيون من أنها ترجع إلى الدنيا وتحضر وقت طلبهم لها, وأنها تتجوّل بين الأحياء وتشاركهم أعمالهم , وأن لها نفعًا ملموسًا أو ضررًا ملموسًا, إن هو إلّا افتراء وتكذيب بجميع الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه الكرام, وهذا هو الثابت الذي يجب اعتقاده, وترك أقوال الخرافيين من الصوفية وغيرهم من دعاة الروحية الضالين.

الفصل الأول: تعريف الروح

الفصل الأول: تعريف الروح وقف البشر حائرين في معرفة هذه الروح أو التعريف بها؛ فمنهم من أدلى بدلوه في التعريف بها, ومنهم من أمسك مطلقًا عن الخوض فيها, مرجعًا الأمر إلى الله تعالى وحده؛ حيث إنه سبحانه لم يرد أن يبين للناس شيئًا عنها أكثر من أنها من أمره -عز وجل, فكيف نعرفها أو نعرف شيئًا عنها, فأراحوا واستراحوا, ومنهم من ذهب يعرِّفها بتعريفات اجتهادية كثيرة كلها تحتاج إلى أدلة لإثباتها, وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أقوالًا كثيرة في التعريف بها, إلّا أنه رجَّح قولًا واحدًا وانتصر له, وأورد أدلة كثيرة على تصويبه, وهذا التعريف هو أحد الأقوال التي أوردها الرازي أيضًا في ذكره لاختلاف الناس في مفهوم الروح فقال: "والسادس أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس, وهو جنس نوراني علويّ خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد, وسريان الدهن في الزيتون, والنار في الفحم, فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف, بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء, وأفادها من الآثار من الحسِّ والحركة والإرادية, وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها, وخرجت عن قبول تلك الآثار, فارقت الروح البدن وانفصلت إلى عالم الأرواح"، قال ابن القيم: "وهذا القول هو الصواب في المسألة, وهو الذي لا يصح غيره, وكل الأقوال سواه باطلة, وعليه دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة"1، ثم أورد الأدلة على تقويته بلغت أكثر من مائة دليل.

_ 1 الروح ص242.

وعرَّفها بعض العلماء بأنها هي الوجود الذي يدرك بالتصوّر العقلي ولا يدرك بالحواس؛ كالمُثُل والقيم والمبادئ والعدل والرحمة والتعاون والخير والبرِّ؛ ولأنَّ هذه لا تدرك بالحواس, وكذا الدين نفسه؛ لأن مصدره الوحي الإلهي وهو لا يدرك بالحواس1. وأعتقد أن كل تعريف للروح يحتاج إلى إثباته بنص صحيح, والأولى الوقوف على ما ذكره الله في كتابه, وفي الموسوعة العربية الميسَّرة وصفوا البحوث الروحية بأنها نسبة إلى علم النفس الغيبي, أو الهامشي, يطلق على بعض الظواهر السلوكية أو الذهنية التي تقع خارج نطاق ما تفسره القوانين الطبيعية, وهي ظواهر غريبة وخارقة للعادة"2. وهذا الوصف لتضحير الأرواح بأنه علم النفس الغيبي يظهر أنه غير صواب, فليس هناك علم نفس غيبي؛ إذ الغيب لله تعالى وحده لا يصل إليه أحد بالتعلم, إلّا ما أخبر الله به أنبياءه ورسله. ووصفها بأنها خارقة للعادة ليس كذلك, فإن علم تحضير الأرواح -كما يسمونه- ليس من الأمور الخارقة للعادة, بل هو كذب وشعوذة يموّهون به على من لا معرفة له بمسالكهم الشيطانية, ونسبة المذهب إلى الروح إنما هو للإغراء والدعاية وظلم الروح حينما ينسب الروحيون مذهبهم إلى الروح وهي منهم ومن آرائهم براء, إلّا أن تكون النسبة إلى أرواح الشياطين.

_ 1 بتصرف عن التطور والدين ص23. 2 الموسوعة العربية الميسرة ج1، ص33، وانظر ص416.

الفصل الثاني: ظهور الروحية

الفصل الثاني: ظهور الروحية ظهرت الروحية على أيدي بعض الكذَّابين الذين انتسبوا إلى الروح في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي, وزخرفوا أقوالهم بالكذب, وانجذب إليهم كثير ممن يطمحون إلى العلوّ في الأرض ونهب أموال الناس بالباطل للإثراء على حساب المغفلين, وبالتالي فقد انخدع بهم كثير من الجهلة في أوروبا, ثم امتدَّ ذلك إلى البلاد الإسلامية, وقد ظهر هذا المذهب في أوروبا كغيره من المذاهب الضالَّة التي وجِّهت لحرب طغات الكنيسة, والانفلات منهم ومن سائر التعاليم الإلهية, والتطلع إلى استكشاف المجهولات, فأصبحت الروحية جماعة خطيرة على الأديان يغذيها الخبث اليهودي والإلحادي في تشويه الأديان والعقائد, وعدم الاعتداد بما يقال في الدين من العذاب أو النعيم أو الأخلاق والأمور الغيبية. واهتمَّت هذه الجماعة بخرافة تحضير الأرواح الموتى, وقد نشطت هذه الدعوى في بداية أمرها في أمريكا, ولم يعرف لها مؤسس على التحديد فيما يذكر الباحثون, ثم امتدت إلى العالم الإسلامي, تلقَّفها المتصوفة الخرافية وغيرهم, وأصبح لها علماء مشاهير, ومؤلفات ومؤسسات وجمعيات, مثل: "المعهد الدولي للبحث الروحي بأمريكا"، وجمعية "مارلبورن الروحية" بانجلترا.

يزعمون أنهم يستحضرون روح أي شخص متى شاءوا, ويتباحثون معها كل مشاكلها, وأنها أجساد تحس بطريقتهم الغامضة التي تستند إلى الجن والسحر, ويزعمون أنهم يأتون بمثل ما تأتي به الأنبياء, وأن معجزات الأنبياء جاءت على طريقتهم, ويسخرون من الأنبياء والمتدينين, ويمجِّدون الملاحدة, ويدعون إلى نبذ الأديان والانصهار في دين واحد, وغير ذلك من مبادئهم الكثيرة التي تدلُّ على أنها دعوة ملحدة.

الفصل الثالث: إنتشار هذا المذهب

الفصل الثالث: إنتشار هذا المذهب ... الفصل الثالث: انتشار هذه المذهب وقد انتشرت هذه الدعوى في عدة أماكن -بمساعدة الماسونية واليهودية العالمية- انتشرت في أمريكا وأوربا, ثم سرت إلى مصر وبعض الأماكن المتفرقة في العالم الإسلامية والعربي1. ومدَّعين أن الروح تأتي طوع أمرهم وإرادتهم حينما يتقدَّمون إليها وفق طقوسهم في ذلك، وهذا الكذب على الروح لم يكن الوحيد, فقد كذبوا عليها كثيرًا, حتى إنهم أطلقوا على بعض المسكرات مشروبات روحية من باب الخداع وتحبيبها إلى النفوس, وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الصنف من الناس, وأنهم في آخر الزمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها, وهو ما حصل بالفعل, وكما أكلوا الربا وسموه فوائد, ولا أدري نسبة الخمور إلى الروح, هل هي نسبة إلى مذهب الروحية الذي يجيزها, أم نسبة إلى الروح التي هي منها براء.

_ 1 انظر الموسوعة الميسَّرة, ص251-254.

الفصل الرابع: منزلة فكرة "تحضير الأرواح"

الفصل الرابع: منزلة فكرة "تحضير الأرواح" لقد اجتذبت فكرة تحضير الأرواح الكثير من الناس في الشرق وفي الغرب, مثقفين وغير مثقفين, فذهبوا في تثبيتها كل مذهب ظانِّين أن وراءها نفعًا عاجلًا وحلًّا جاهزًا لما يدور في رءوسهم من حب الاطِّلاع على المغيبات, فإذا بهم يلهثون وراء سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. ولقد كان لفكرة الكشف والتعلق به أقوى حافز عند بعض جهلة المسلمين إلى الولع بفكرة تحضير الأرواح, ثم جاء الدافع القوي وهو القول بوحدة الوجود فزاد الطين بلة, ورغم أن كثيرًا من الكُتَّاب قد أسمهوا بإسهام وافر في تثبيت هذه الفكرة من العرب ومن غير العرب. أما من العرب فمن أمثال د. علي عبد الجليل راضي1، ومحمد فريد وجدي, ود. رءوف عبيد, الذي أصدر مجلة "عالم الروح"، وأحمد فهمي أبو الخير, أمين عام الجمعية المصرية للبحوث الروحية, وأما زعماؤها في الغرب فهم "سلفر برش" و"هوايت هوك"، حيث أقامها هؤلاء على القول بوحدة الوجو, ورغم ذلك كله فقد رفضها أهل العقول وسخروا منها, ورَوَوْا فيها الفكاهات المضحكة والتناقضات الواضحة في أفعال وأقوال

_ 1 انظر الصوفية معتقدًا ومسلكًا ص262, وانظر الموسوعة الميسرة ص251-254.

وسلوك زعماء هذه الفكرة الضالَّة الخرافية, وعلموا يقينًا أن الهدف الأكبر من وراء دعوى تحضير الأرواح إنما هو استجلاب الناس إليهم, وخصوصًا العوامِّ منهم؛ ليحصلوا على أمور الواحد منها يعتبر مكسبًا كبيرًا يجوزه هؤلاء, أهمها: رفع مكانة أقطاب دعاة الروحية وتعظيم أمرهم في نفوس الناس, والحصول على الأموال بدون مشقَّة, وإضعاف التديُّن في النفوس, والإسهام في خدمة اليهودية الحاقدة من وراء ستار. ولذلك فهم يحاولون بشتَّى الوسائل ونشر أقوى الدعايات لتقوية قضيتهم في تحضير الأرواح, زاعمين أن هذه الأمور إنما حصلت لهم على سبيل الكرامة الإلهية؛ لوصولهم إلى حدِّ معرفة الحقائق والاطلاع عليها مباشرة بدون واسطة أحد, أو لأنهم عرفوا بزعمهم كيفية الوصول إلى استحضار الأرواح, فلم يعد للغيب مكانة خارجة عن إرادتهم. وحينما لهث النَّاس إلى معرفة بعض المغيبات -وخصوصًا بعد هذه الحركة العلمية والتطور المادي وظهور التنويم المغناطيسي وجمعيات تحضير الأرواح- استغلَّ هؤلاء هذه الكشوفات وزعموا أنها أدلة لهم على صحة ما يذهبون إليه، ومما ينبغي التنبُّه له أنه قد يحصل لبعض الصالحين ممن صفت نفوسهم نوع من الكشف بمعنى الإلهام والنفث في الروع، ولكن ليس ذلك صفة مستمرة كما يدَّعي الروحيون في زعمهم أن الرُّوح جسم مادي شفَّاف يستحضرونه متى أرادوا, وأن الموتى بعد الموت مباشرة يكونون في عالمنا هذا ومن حوالينا, ثم ينتقلون إلى درجة أرفع في

هذا العالم, وأنه يمكن مكالمة الروح بعد خروجها من الجسم ورؤيتها مجسَّمة بواسطة شخص يكون فيه الاستعداد لذلك عند إرادة تحضير الروح, فتستفيد الروح من استعداده فتكلم النّاس بلغات يجهلونها, وتنبئ عن أمور الحاضرين من أقاربها, ولا شكَّ أن هذا كله دجل وكذب وهوس فارغ, وتلك اللغات التي تخاطبهم بها تلك الأرواح إنما هي لغات الشياطين لا أرواح الموتى من بني آدم, وهذا جزء من مكر إبليس بأتباعه.

الفصل الخامس: أدلة دعاة تحضير الأرواح

الفصل الخامس: أدلة دعاة تحضير الأرواح من الإفك أن يستدلَّ الذين يؤمنون بتحضير الأرواح من المتصوِّفة وغيرهم من الروحيين ببعض الآيات القرآنية من مثل قوله تعالى: 1 - {إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1. أي: إن روح الميت حضرت في صورة تلك البقرة وتكلَّمت. 2- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. أي: إن إبراهيم -عليه السلام- استدلَّ بتحضير الأرواح وازداد طمأنينة وإيمانًا بحضورهم عنده حينما استحضرهم. نعم نؤمن ببقاء الأرواح بعد الموت؛ إذ الموت للجسد فقط لا للروح, وهي إمَّا أن تكون في نعيم, وإما في عقاب, وقولهم: إن الأرواح تعمل بعد

_ 1 سورة البقرة، الآيتين: 72, 73. 2 البقرة آية: 260.

الموت لترتفع في الدرجات غير مسلم؛ إذ لا عمل بعد الموت كما قرَّره الإسلام, بل إن الروح إمَّا أن تكون في نعيم أو في عقاب فقط. أما استدلالهم بالآيات فهو خطأ فاحش وسوء فهم, فإن قتيل بني إسرائيل وكذا طيور إبراهيم قامت بأرواحها وأجسادها معًا معجزةً من الله تعالى لنبيه موسى وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وبدون وسيط. وهؤلاء المشعوذون الكاذبون إنما يحضرون قرين الميت من الجنِّ الذي عاش معه طوال حياته, وعرف كل شيء عنه, فإنَّ كل إنسان له قرين. فهؤلاء يظنون أنهم يخاطبون تلك الروح التي أرادوا تحضيرها, ولا يعلمون أنهم إنما يخاطبون قرينه من الجن, هذا إن صدَّقناهم أنهم يخاطبون أحد أو يسمعون كلامه. ومما يدل كذلك على كذبهم ما زعموه من تحضير أرواح بعض الكفار فوجدوهم في نعيم مقيم, وهو ما كذَّبه الله في القرآن الكريم من دخول الكافرين النار, ثم ما يعمل من المنكرات التي تفعل في مجالس التحضير مما يوافق هوى الشيطان ولا يَمُتُّ إلى الدين بصلة. وما عرف كذلك من التصرفات الباطلة لتلك الأرواح, فإن "منها من يفتري على الله الكذب وعلى أنبيائه وكتبه وملائكته ورسله, ومنها من يضلل الناس ويحقِّر الأديان, ومنها من يذكر ويأمر بالفجور والشرك والكفر والعصيان, وهي أعمال يرفض العقل السليم والدين الحنيف أن تكون صادرة عن أرواح بين يدي الله"1.

_ 1 انظر تحضير الأرواح وتسخير الجانّ بين الحقيقة والخرافة ص27.

3- ومن أدلتهم التي يتناقلها الروحيون ما نقله الشيخ مجدي محمد الشهاوي عن محمد شاهين حمزة أحد دعاة الروحية في كتاب له1, يدافع عن الروحية ويثبت أنها صحيحة, وأن تلك الأرواح ليست أرواح جنٍّ أو شياطين وإنما هي أرواح حقيقية آدمية طاهرة -حسب زعمه, وذكر من أدلته على طهارتها ونقائها أنه حضر جلسة روحية حضرت فيها روح الدكتور2 حندوسة ذات مرة, فسألوها سؤالًا طبيًّا عن حالة أحد الحاضرين, فطلبت منهم الانتظار دقيقة واحدة ريثما تجري الكشف عليه, ثم أعطتهم تشخيصًا دقيقًا للمرض, وأحاله في علاجه إلى طبيب معروف في القاهرة. ومنها أنه كان في إحدى الجلسات فحضرت روح صديق له ونصحته بالانضمام إلى الطريقة الشاذلية!! 3 وحضرت روح محمد فريد وجدي في أسوان ونهتهم عن بعض الأمور الخطيرة, كما حضرت مرة روح طنطاوي جوهري ونفت بشدة أن يكون المسيح قد صُلِبَ4. وذكر أنه في إحدى الجلسات تكلَّمت إحدى الأرواح في حفلة المولد النبوي, وذكرت كلامًا لم يعجبه شيء مثله5.

_ 1 هو كتاب الروحية الحديثة ص1220125. 2 أي: الطبيب. 3 وهذا دليل واضح على تلاعب الشياطين بمن قلَّت معرفته للحق. 4 هذه تبرأة واضحة لليهود وإن كانت صحيحة في الأساس, لكنهم يريدون بها الدفاع عن اليهود. 5 وهل المولد من أمور الدين؟ كلَّا.

وفي جلسة أخرى قالت لهم أحدى الأرواح: إننا نحن الأرواح نحتفل في عمالنا بالمولد النبوي الشريف مثلكم, وكانت جلسة اشترك فيها بعض أساتذة الجامعات وبعض كبار رجال التربية والتعليم في دار أحدهم بالجيزة, وقد عقَّب عليه الشيخ الشهاوي بالرد العام بإبطال أن تكون تلك الأرواح أرواحًا طيبة, بل إنَّها أرواح جن1. وأضيف إليه أن أمر تلك الأرواح بالتزام الطريقة الشاذلية البدعية الخرافية وأمرها بالاحتفال بالمولد يكفي دليلًا على تلاعب الشياطين بهؤلاء واجتهادهم في إضلال الناس. وقد ظهرت وقائع كثيرة من بعض محضِّري الأرواح اكتشفوا فيها أن الروح المحضَّرة إنما هي قرين الميت من الشياطين أو من غير قرينة؛ إذ أنهم يعترفون بذلك حينما يقرأ عليهم القرآن آية الكرسي وغيرها, إما بانصرافهم فور سماع القرآن الكريم, وإما باعترافهم أنهم شياطين أتوا إلى المحضِّرين ليضلوهم وليتلاعبوا بهم2.

_ 1 انظر تحضير الأوراح وتسخير الجان بين الحقيقة والخرافة ص33-38. 2 انظر لمزيد من الأمثلة المرجع السابق ص38-47.

الفصل السادس: مجمل عقائد الروحيين

الفصل السادس: مجمل عقائد الروحيين وقد لخَّص كتاب الموسوعة الميسرة -الندوة العالمية للشباب الإسلامي- الأفكار التي قامت عليها الروحية الحديثة, نقلتها بتمامها لما فيها من الفوائد في اطّلاع القارئ على كل مزاعم الروحية.. وقد أضفت إلى كلّ عنصر ليس عليه تعليق في الموسوعة تعليقًا خفيفًا لإيضاح محتوى الفكرة، فقد أعلنت مجلة "سينتفك أمريكان" عن جائزة مالية ضخمة لمن يقيم الحجَّة على صدق الظواهر الروحية, ولكنها لا تزال تنتظر من يفوز بها، وكذلك الحال بالنسبة للجائزة التي وضعها الساحر الأمريكي "دنكر" لنفس الغرض, وهذا من أكبر الأدلة على بطلانها؛ إذ لا يستطيع إثبات هذا أبدًا، وتتلخَّص مزاعم الروحيين فيما يلي: 1- يقولون بأنهم يحضرون الأرواح ويستدعون الموتى لاستفتائهم في مشكلات الغيب ومعضلاته, والاستعانة بهم في علاج مرضى الأبدان والنفوس, والإرشاد عن المجرمين, والكشف عن الغيب, والتنبؤ بالمستقبل, ومعلوم أن هذه الأمور لا يقدرون عليها وهم أحياء, فكيف تطلب منهم بعد موتهم؟ 2- يزعمون أن الروح يمكن إدراكها بأنها تتجسَّد وتُلْمَس كما يدعون بأنَّ بعض الأرواح تظن أن أصحابها لا يزالون أحياء، وهذا مجرد تخرُّص منهم لا يستطيعون إثباته بحال.

3- الأرواح عندهم بمثابة الخدم تستجيب لأي إشارة منهم, وهذا كذب قد تناقضوا فيها؛ فمرَّة يجعلونها خدمًا, ومرة يزعمون أنها تعلم الغيوب. 4- يعتقدون أن هذه الأرواح التي يستحضرونها مرسَلة من عند الله إلى البشر كما أرسل المرسلون من قبل, وأن تعاليمهم أرقى من تعاليم الرسل، فكيف يتمُّ هذا وهم ينكرون الله تعالى ورسله؟ 5- يزعمون أن هذه الأرواح تساعدهم في كشف الجرائم والدلالة على الآثار القديمة, كما يدَّعون أنهم يعالجون مرضى النفوس من هذه الأرواح كذلك، هذه دعاوي كاذبة لا يستطيعون إثباتها. 6- يدعون أنهم يستطيعون التقاط صور لهذه الأرواح في الأشعة تحت الحمراء, فلماذا لا يفعلون ذلك!!؟ 7- يحاولون إضفاء الجانب العلمي على عملهم, وهو في الواقع لا يخرج عن كونه شعوذة وخداعًا وتأثيرًا مغناطيسيًّا على الحاضرين، واتصالًا بالجن. 8- لا تتوفر في عملهم الشروط الواضحة, ولا يمكن إعادته من كل شخص بخلاف التجارب العلمية. 9- يقومون بهذا التحضير في حجرات خاصة شبه مظلمة وفي ضوء أحمر خافت, وكل ما يدّعونه من التجسيد للأرواح ومخاطبتها لا يراه الحاضرون, وإنما ينقله إليهم الوسيط وهو أهمّ شخص في العلمية,

وهذا الوسيط هو الخادم الجديد لذلك الشيطان الذي يتمثَّل بالورح التي يزعمون تحضيرها, وتتكلم من أيّ ناحية من الغرفة. 10- الوسيط عندهم يرى غير المنظور, ويسمع غير المسموع, ويتلقى الكتابة التلقائية, وله قدرة على التواصل عن بعد "التلباثي", وهي مزاعم خرافية وشعوذة ظاهرة. 11- لا يثبتون للأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- إلّا هذه الوساطة فقط؛ لأنهم يدَّعون أنه لا فرق بينهم وبين الأنبياء. 12- يتحكَّمون في حضور جلسة التحضير من حيث الكم والنوع, وإذا وجد نساء يكن الجلوس: رجل، امرأة.. كما يعزفون الموسيقى أحيانًا, وكل هذا لصرف أذهان الحضور عن حقيقة ما يجري، ويزعمون أنَّ لكل جلسة روحًا حارسًا يحرسها. 13- يعتقدون أن معجزات الأنبياء هي ظواهر روحية كالتي تجري في غرفة تحضير الأرواح, ويقولون أن بإمكانهم إعادة معجزات الأنبياء, ونقول لهم: هيهات تفعلون ذلك أو تستيطعونه. 14- يعرضون أفكارهم لكل شخص وفق ما يناسبه, ولذلك نجدهم أحيانًا يدعمون تلك الدعاوي بنصوص من الكتب السماوية بعد أن يلووا أعناقها كما يريدون؛ لأنهم لا يتورَّعون عن النفاق والكذب على الله تعالى. 15- يرفضون الوحي ويقولون: إنه ليس في الأديان ما يصح الركون إليه, ويسخرون من المتدينين, وهذه شهادة على كفرهم.

16- يقولون بأن إلههم أظهر من إله الرسل, وأقل من صفات بشرية, وأكثر من صفات إلهية, وهذه عقيدة اليهود كما في التوراة. 17- يلوحون بشعارات برَّاقة كالإنسانية والإخاء والحرية والمساواة للتمويه على السذَّج والبسطاء, وهذا هو شعار اليهودية العالمية "الماسونية". 18- كل عملهم منصَبٌّ على زعزعة العقائد الدينية والمعايير الأخلاقية, وكلامهم صريح في أنَّ الروحية دين جديد يدعو إلى العالمية وإلى نبذ كل الأديان، وطقوسه وفرائضه تنحصر في تدريب الناس على تركيز القوة الروحية، وأنَّها جاءت بطريقة جديدة للحياة, وفكرة جديدة عن الله؛ لأنهم ملاحدة ويعملون لصالح الماسونية. 19- يدَّعون أن الأرواح التي تخاطبهم تعيش في هناء وسعادة رغم أنها كافرة؛ ليهدموا بذلك عقيدة البعث والجزاء, ويقولون: إن باب التوبة مفتوح بعد الموت كذلك، وأن الجنة والنار حالة عقلية يجسِّمها الفكر ويصنعها الخيال, وهذه أقوال كفرية وتناقضات شنيعة وكذب صريح, فالكفَّار في النار, وإذا كانوا قد أنكروا الجنَّة والنار فما فائدة التوبة, ولماذا تطالب بها. 20- عندهم نصوص كثيرة تمجِّد الشيوعيين والوثنيين والفراعنة والهنود الحمر, ويقولون: إنهم أقوى الأرواح لأنَّ المؤسِّسين كلهم من هذه الطوائف.

21- يبررون الجرائم بأنَّ أصحابها مجبورون عليها, وبالتالي لا يعاقبون, أي: في الدنيا؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. 22- يسعون لضمان سيطرة اليهودية على العالم؛ لتقوم دولتهم على أنقاض الخراب الشامل, وهذا دليل واضح على انتماء أصحاب هذا المذهب إلى الماسونية اليهودية. إذا أمعن القارئ النظر في هذه العقائد تبيَّن له بكل وضوح بُعْدُ أصحابها عن الإسلام, حتى وإن تظاهروا به, فإنَّ أقل ما يجب أن يوصفوا به أنهم من كبار المنافقين.

الفصل السابع: حقيقة الروحية وأشهر زعمائها

الفصل السابع: حقيقة الروحية وأشهر زعمائها يتضح من كل ما تقدَّم أنَّ الروحية دعوة هدَّامة قائمة على القول بوحدة الوجود والتناسخ, وإنكار الحياة الآخرة وما ذكره الله عنها مما يقع فيها, وتذكيب الرسل, وإنكار الدين, إلى غير ذلك من عقائدهم الشريرة. بل هي ديانة جديدة كما صرَّح بذلك زعماؤهم. ومن أكبر زعماء الروحية "سلفر برش"، و"هوايت هوك", فأما "سلفر برش" فله كتاب "الحكمة العالية" أبان فيه تعاليم الروحية واتجاهاتها, ومن أقوله: "إن صوتي منبعث من السماء ينادي أهل الأرض أن آمنوا بالله ... إني أحمل هداية من السماء أعد خطواتها بدقة عباد مخلصون لله, تجمعوا في ملكوته الأعلى ... إن دوري هذا دور رسول يبلغ الرسالة"1. وعن عقيدة وحدة الوجود يقول: "نحن جميعًا جزء من الروح الأعظم, وأنتم في مجموعكم مع بقايا الحياة الأخرى تكوّنون الروح الأعظم, ولا وجود لله خارج هذه المجموعة, ولو أن هذا القول لا يمكنني البرهنة عليه إلّا أنه يحسن قبول كلمتي في هذا الصدد"2. وقال أيضًا عن استبشاره باليوم السعيد الذي تنتشر فيه الروحية, وبالتالي يلتقي العالم كلهم عليها: "إن اليوم الذي تنتشر فيه التعاليم

_ 1 انظر "ركائز الإيمان" للغزالي نقلًا عن كتاب التوحيد والتعديد ص45. 2 انظر "ركائز الإيمان" للغزالي المصدر السابق ص52.

الروحية في عالمكم سيكون فجر اليوم سعيد؛ إذ ستزول الفوارق بين الشعوب, وتهدم الحواجز بين الأجناس, وتذوب الفوارق بين الطبقات, وتتلاقى الأديان حول حقيقة واحدة كما نبعت من حقيقة واحدة"1. وقال أيضًا في مقاومته للأديان وأنها سبب في وجود التعصب بين الناس, وأن الروحية ستجمعهم في بوتقة واحد بزعمه: "إذا كان التعصُّب للأديان في وهم إقامة المناسك معطّلًا عن التلاقي في صعيد واحد, وهو معطلٌ فعلًا, فإن الأديان ليست في المناسك, فلتترك البشرية هذا جانبًا ولتتلاقى في مقابلة هذا الأمر الجديد من الاتصال الروحي"2. ويقول عن الدعوة إلى التناسخ وإنكار الآخرة وما فيها, ومحرفًا لشرائع الأنبياء والمرسلين ورادًّا لها: "إن القصص الديني عن آدم ونشأته وزوجه وولده ليس تاريخًا من وجهة النظر العلمي كما يتوهم بعض المتعصبين للأديان, إنه تكييف تقريبي للعقل البشري عن النشأة بدءًا من الفرد ذكرًا كان أم أنثى عن تكرار هذه النشأة في عوالمها سواء على هذه الأرض, ومنها كانت النشأة ابتداءً ومظهرًا, أو بالارتداد من عالم الروح بعثًا، فآدم الحقيقة عليها, وآدم الخليفة منها, أمران تصويريان للعقول لا يدرك لهما أول ولا يعلم لهما كنه, ولا ينطقع لهما فعل أو وجود"3. وقد أنكر سلفر برش نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم, وزعم كذلك أن عيسى -صلى الله عليه وسلم- وُلِدَ لأبوين يهوديين وأنه صلب, فقال معبرًا عن هذا الإلحاد: "كان عيسى آخر

_ 1 ركائز الإيمان نقلًا عن التوحيد والتعديد ص57. 2 ركائز الإيمان نقلًا عن التوحيد والتعديد ص183. 3 ركائز الإيمان نقلًا عن التوحيد والتعديد ص101.

الأنبياء والمعلمين ذاك الذي وُلِدَ من أبوين يهوديين"1، وأنه صُلِبَ لأنه بشَّر بتعاليم تخالف كنيسة عهده2. ويقول في إنكاره للجنة وللنار وللقرآن الكريم ولنبي الله -صلى الله عليه وسلم: "لا توجد جنَّة ذهبية ولا جنهم نارية, إنما هو تصوّر هؤلاء المحدودي النظر، لا تقيدوا أنفسكم بكتاب واحد, ولا معلم واحد, ولا مرشد واحد, فولاؤنا لا لكتاب ولا لعقيدة, ولكن للروح الأعظم وحده". ويقول في هجومه على الأخلاق الفاضلة ورغبته في التحلُّل والانفلات: "لا يهم إذا كان الرجل مسيحيًّا أو كافرًا, المهم هو ما يفعله في حياته, أعطي الرجل الذي لا يعتنق أيّ دين, الذي لا يركع لذكر اسمًا لله, ولكنه أمين ويحاول أن يخدم ويمد يده للضعيف, ويساعد الكلب الأعرج. والرجل المملوء شفقةً للمنكوبين, والذي يعاون من هُمْ في ضائقة بحرارة, ذلكم أكثر تدينًا ممن ينتسب إلى أي دين"3. وهذا الكلام يريد به محاربة الأخلاق الفاضلة على طريقة اليهود, وهو بهذا يصوّر أهل الدين بأنهم لا أخلاق لهم, وقساة القلوب, وقد نسي هذا المغفَّل أن المتدين هو الذي يعمل تلك الأعمال ابتغاء مرضاة الله تعالى, لا يريد بها جزاءً ولا شكورًا. وهل الدين يمنع من فعل تلك الأشياء التي مثَّل بها ذلك المغفَّل الذي لا يعرف الدين ولا تعاليمه ولا رأفته بكل المخلوقات, إنه الحقد اليهودي الذي دفع سارتر إلى هذا الهذيان والتهجُّم على الأديان وعلى الأنبياء.

_ 1 ركائز الإيمان نقلًا عن الحكمة العالمية ص53. 2 ركائز الإيمان نقلًا عن الحكمة العالمية ص56. 3 ركائز الإيمان عن الحكمة العالمية ص101.

وأما زعيمهم الآخر "هوايت هوك" فقد صرَّح بإلحاده بوضوح, واعتبر الروحانية دينًا جديدًا يجب أن يسود الجميع, فقال في مجلتهم "عالم الروح": "يجب أن نتَّحد في هذه المعركة في هذا الدين الجديد, وأن تسودنا المحبَّة, وأن تكون لنا القدرة على الاحتمال والتفاهم.. رسالتي أن أواسي المحروم وأساعد الإنسان على تحقيقه في نفسه مع الله سبحانه ... الإنسان إله مكسوّ بعناصر الأرض, وهو لن يدرك ما في مقدوره حتى يحسّ بجزئه الملائكي الإلهي"1. وفي هذه المجلة أيضًا: "إن هذه المنظمة ستكون لكلّ البشرية, وعن طريقها سوف يضع لنا سكان العالم الروحي طريقة جديدة للحياة, ويعطوننا فكرة جديدة عن الله ومشيئته, وسوف يحطِّمون الحواجز بين الشعوب والأفراد وبين العقائد والأديان"2. ويقول هوايت عن رغبته في ترك الناس لأديانهم والاجتماع على الروحية: "الروحية تحتضن ولا تستثني أحدًا, يقول الناس في زمانكم: إن الطقوس والفرائض عديمة النفع، ولكن طقوسي وفرائضي تنحصر في تذويب الناس على تركيز القوة الروحية"3.

_ 1 ركائز الإيمان نقلًا عن مجلة عالم الروح العدد 127. 2 ركائز الإيمان نقلًا عن مجلة عالم الروح العدد 127. 3 نفس المصدر السابق.

الفصل الثامن: الروحية والملاحدة

الفصل الثامن: الروحية والملاحدة وإذا كاالروحيون يؤمنون بالروح على الصفة المذكروة فقد قابلهم الملاحدة الماديون, فأنكروا أن يكون للروح حياة بعد الموت, أو حتى وجود مستقل, فضلًا عن الحياة بعد الموت, بل وجودها إنما هو تبع لوجود الجسم, وهو اعتقاد باطل كانوا فيه على طرفي نقيض مع الروحيين، الحق هو مع الذين هداهم الله من المؤمنين الذين يعتقدون أن هذه الحياة الدنيا إنما هي ممرٌّ إلى الحياة الآخرة بعد موت الإنسان وخروج روحه من جسده, وتوجد عشرات الأدلة النقليَّة والعقلية على هذا الاعتقاد, ولسنا بصدد بحث إثبات اليوم الآخر, ولكن المقصود إثبات أن للإنسان روحًا تحلّ في جسمه فيحيا, وتخرج فتنتهي الحياة منه, أي: إنها جسم خارج هذا الجسم المادي, وما يزعمه الماديون أن الروح ليست شيئًا خارجيًّا فهو كلام باطل يدل على قبح معتقداتهم, وما استدلوا به من أنه "كما يحدث تأثير معين من تركيب عدة عقاقير في دواء واحد، وكما تخرج موسيقى معينة بضرب الأوتار بترتيب معين، كذلك يوجد بتركيب العناصر على نمط معين مزاج خاص هو السبب في الإدراك والتخيل الفكري, وهو ما نسميه الروح"1 إن هو إلّا استدلال باطل. وأول ما يدل على بطلانه أمر مسلَّم وهو أن الجسم تحصل عليه عدة تغييرات من الضعف والهزال والصحة والسمن وتغير اللون وغير ذلك

_ 1 الدين في مواجهة العلم ص52.

من التغييرات التي نشاهدها تجري على الأجسام, ولو كانت الروح هي نفس الجسم ممتزجة بعناصره التي تكوَّن بمجموعها جسم الإنسان؛ لسرت إلى الروح كل الآفات التي تسري على الجسم, وهذا ما لم يحدث, بل قد يقطع جزء من الشخص, ومع ذلك لا يحصل على الروح أيّ تأثير, وهو دليل على أن الروح جسم مستقل لا يعلم كيفيته إلّا الله تعالى وحده. وأما قياس وجود الروح في الجسم بوجود صوت الأوتار بالضرب عليها فهو استدلال فاسد؛ لأن الأوتار أو الماكينات تتعطّل فور أيّ خلل في جسم تلك الأوتار أو الماكينات, فلو انكسر ترس واحد من الماكينة أو وتر واحد من أوتار الموسيقى التي استدلوا بها على ثباتها مع الجسم لتعطلت تلك الآلة بأكملها, وهو خلاف ما يشاهد في الروح والجسم, فالروح لا تتأثّر لا بالزمان ولا بالمكان عن عملها في الجسم, بل تبقى الروح مع قطع بعض أجزاء الجسم كما تقدَّم, ويبقى لها فهمها وإدراكها ولو تغيَّر الزمان والمكان. وهذا ما قرَّره أيضًا العلم الحديث, ولم تقف الروحية عند هذا الحد, فقد ظهرت بحوث روحية غاية في إثارة الإعجاب "وهذه البحوث الروحية لا تثبت البقاء المحض للروح فحسب, وإنما تثبت بقاء عين الشخصيات التي كنَّا على علم بوجودها قبل موتها"1. إن الإنسان له خواص غير عادية, وقد قام كثير من العلماء بدراسة هذه الجوانب, وأقيمت مراكز بحوث للعناية بالدراسة التجريبية لهذه الخواص

_ 1 الدين في مواجهة العلم ص56.

"وقد أقيم أوّل مركز لهذا النوع من الدراسات سنة 1882م, وقد بدأ عمله سنة 1889م بعد إجراء اتصالات واسعة النطاق شملت سبعة عشر ألف شخص من الإنجليز, وتوجد مراكز مختلفة تتخصَّص في هذا النوع من الدراسات في مختلف البلدان, وقد أثبتت هذه الدراسات أن شخصيَّة الإنسان تظلّ باقية بعد موت جسمه في صورة من الصور التي يكتنفه الغموض"1. وهذه الحقيقة هي التي جعلت الكثير من الباحثين من الملاحدة يوقنون بوجود حياة للإنسان بعد موته, مع أنهم لايؤمنون بأيّ دين, وإنما آمنوا بهذه الجزئية لإثبات العلم الحديث لها, لا لأجل الدين, مثل البروفيسور "دوكاس" وغيره من الملاحدة الذين أقرّوا بوجود هذه الحقيقة في شخص الإنسان بعد دراسات عديدة. وقد استهوت هذه النتائج كثيرًا من الباحثين مسلمين وغير مسلمين, من العرب ومن غيرهم2. وقولهم ببقاء شخصية الإنسان على صورة ما بعد وفاته, لعل الحديث الذي يفيد أن الإنسان ينفى كله إلّا عجيب الذنب, فإنه منه يركَّب -لعل هذا الحديث يستأنس به للنظر فيما قالوه, أما إن أرادوا ببقاء الشخصية غير هذا فإنهم يطالبون بإقامة البراهين المثبتة لذلك. والله أعلم.

_ 1 الدين في مواجهة العلم، ص57. 2 انظر أسماء هؤلاء في كتاب الدين في مواجهة العلم ص58.

الفصل التاسع: قضية الإلهام

الفصل التاسع: قضية الإلهام قد يستشكل بعض الناس الفرق بين الإلهام لمن صفت نفوسهم بطاعة الله تعالى وكمل إخلاصهم, وبين من يدَّعي تلك الصفة مِمَّن هو متبع لهواه, مُصِرٌّ على المعاصي والفساد, والواقع أن الإلهام الحق الذي يؤمن به المؤمنون هو غير الإلهام الذي يأتي عن طريق الشياطين أو الاحتيال, فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن عمر ربما هو من الملهمين, وكذا أوحى الله إلى أم موسى, وإلى النحل كله على سبيل الإلهام الإلهي, أمَّا ما تزخرفه الشياطين لأوليائها فقد أخبر به -عز وجل- في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وهو إلهام باطل, وإخبار كذاب, والنفث في الروح لا شأن للروح به، وإنما هو شيء يحصل بقدرة الله تعالى وحده دون أن يكون للشخص أيّ أثر في إيجاده.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 112.

الباب الخامس عشر: القومية

الباب الخامس عشر: القومية الفصل الأول: المقصود بالقومية ... الفصل الأول: المقصود بالقومية القومية فكرة وضعية نشأت أول ما نشأت في البلاد الأوروبية شأن غيرها من الحركات والأفكار التي تبحث عن التفلُّت من رابطة الدين, ويلاحظ أن دعاتها قد اختلفوا في المفهوم الصحيح لها, هل هي بمعنى تجمُّع أمة من الناس وارتباط بعضهم ببعض هدفًا وسلوكًا وغاية, إمَّا لانتمائهم إلى لغة واحدة -كما يرى القوميون الألمان, وإمَّا لانضوائهم في عيشة مشتركة -كما يرى القوميون الفرنسيون, أم أنها لكليهما, أو أنها لغير ذلك من أمور سياسية واقتصادية؛ كالاشتراك في المعيشة الاقتصادية -كما يرى الماركسيون, أو الاشتراك في التاريخ واللغة في البلد الواحد -كما يرى كثير من دعاة القومية العربية ساطح لحصري ومن سلك سبيله, بحيث يحسون أنهم جميعًا كتلة واحدة, وأن ما يجري على البعض من آلام وآمال هو ما يجري على الكلّ, فتقوم قوميتهم على هذا المفهوم. إنه خلاف مرير بين القوميين على تعريف القومية, ولكنهم جميعًا متفقَّون على أن إبعاد الدين خصوصًا الإسلامي أمر حتميّ لانتعاشها. والقوميون العرب دائمًا يصرخون بأن الدعوة القومية ليس معناها الدعوة إلى الدين؛ لأنَّ كل الناس عباد لله تعالى, وكلهم يريدون الحياة السعيدة في الدنيا, وما بعد الحياة الدنيا, وهذا لا شأن للقومية به, بل

يعتبرون الدعوى إلى الدين دعوى ناقصة عن تحقيق طموحات القوميين, بل إنها رجعية في نظرهم, ويجب فصله عن الدولة أيضًا انسياقًا مع مفاهيم الحركات الأوربية التي قامت في البداية على القومية وحرب الدين, بل وصل طمع دعاة القومية أن تكون بديلًا عن النبوات, وأنَّ نبوة القومية يجب أن يبذل لها كل غالٍ ورخيص, وأن يكون الإيمان بها أقوى من كل الروابط, وجعلوها في الكفة الأخرى مع الإيمان بالله تعالى, وأنها يجب أن تكون هي الديانة لكل عربي, وأخذوا يتباكون على مصير العرب حينما لا يتم تحقيق هذا الدين الجديد الذي سيخلص العرب من كل سيطرة أجنبية, ويرفعون رءوسهم عالية أمام كل أجنبي -ليس بعربي "بزعمهم", ولا ريب أنها دعوات جاهلية ليس وراءها إلّا الخراب, سواء أكانت الدعوة إلى القومية أو إلى الوطنية، فلا عزة للعرب ولا استرجاع لحقوقهم إلّا بالتمسك بالدين الحنيف. إن القومية والوطنية كلتاهما نعرتان جاهليتان خرجتا من أوروبا الجاهلية, وفي هذا يقول فرنارد لويس: "فاللبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشعوبية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقْلَمَها وعدَّلَها أتابعها في الشرق الأوسط"1 أحلَّها القوميون والوطنيون محل الدين, ورأوا أن الاجتماع عليها خير وأنفع من الاجتماع على الدين, وذلك للاختلاف الواضح بين الناس في قضية التدين -حسب زعمهم, بخلاف القومية والوطنية

_ 1 العرب والشرق الأوسط, تعريب د. نبيل صبحي, ص179, عن فكرة القومية, صالح العبود ص365.

التي تضمّ كل أفراد القوم وجماعاتهم ليكونوا مجتمعًا واحدًا لا خلاف فيه لاتحادهم التامّ في الانتساب إلى القومية, أما الوطنية التي تقبل كل تناقضات المذاهب المختلفة, وهي في الواقع لا تقبلها كما يدّعون, بل ترمي بها كلها وتؤخذ بدلًا عنها شعار القومية والوطنية, ومن هنا قدَّسوها ورفعوها فوق كل اعتبار, واجتمعوا على التفاخر والتباهي بها, حتى صار كل قوم يدَّعون أنهم هم أفضل الجنس البشري وغيرهم في الدرجة الدنيا, ولهذا تسمع وتعجب حين يفتخر كل قوم أو كل شعب بأنهم أرقى أمة وأفخرها, فما دام قد انحلَّ الوكاء فما الذي يمنع كل جنس أو قوم من الافتخار بل والتعالي على الآخرين, راكبين كل صعب وذلول في تقرير ذلك, فكثرت تبعًا لذلك القداسات المزيَّفة لهذه الفئات من البشر, كما كثرت الأماكن والأرضي المقدَّسة عندهم, كما يقتضيه شرع القومية والوطنية.

الفصل الثاني: دراستنا للقومية

الفصل الثاني: دراستنا للقومية أحب أن أبيِّنَ في بداية دراستنا للقومية أنه لا محذور أن يرتبط الإنسان بقومه أو ببلده؛ لأنَّ هذا الرباط أمر فطري وواقع جُبِلَ عليه البشر, ولهذا كان الأنبياء كلهم كلٌّ ينادي قومه قوله: "يا قومي", وقد ذكر الله ذلك ولم يعبه, وليس غرضنا بحث هذه الجزئية, ولكن الغرض بحث القومية القائمة على الفخر والخيلاء واستعباد الدين وإحلالها محله. وهذا الجانب نأخذه بإيجاز وعلى عجل أيضًا نظرًا للزمن المعطى له في هذه السنة الدراسية. فلا ندرسها دراسة شاملة, أو نتعرّض لتفاصيلها المتشعبة, فإن هذا المسلك طويل جدًّا وتحتاج دراسته إلى وقت وجهد؛ إذ أنَّ كل قومية تحتاج إلى مؤلِّف خاصٍّ بها, كما هو معلوم لطلاب العلم1. وحينما انتشرت القوميات في البلدان الإسلامية وغيرها كان لكل قوم اصطلاحاتهم فيها, وما ضمَّنوها من مفاخرهم وأيامهم نثرًا ونظمًا, مما لا يمكن استقصاء كل ذلك إلّا بدراسة خاصة؛ سواء أكانت القوميات العربية أو غير القوميات العربية, ولأهل الباطل نصيب من زخرف القول غرورًا إلّا أنه أصبح من شروط القوميات العامة الإيمان الراسخ فيها, سواء أكانت

_ 1 انظر المصادر آخر هذه الدراسة.

عربية أو غير عربية, وهذا الإيمان يهدفون من وراء اشتراطه أن يحلّ حب القومية ومبادئها التي دوَّنوها محلّ الإيمان بالله تعالى ودينه القويم؛ إذ جعلوها هي الدين الذي يجمعهم بعد توفُّر وجود اللغة المشتركة أو التاريخ المشترك, فمن أخلَّ بعد ذلك بقداسة القومية فإنه يعتبر مجرمًا وغير محب لقومه ووطنه حسب دين القومية, وأعداء الإسلام من النصارى واليهود يعلمون علم اليقين أنَّ في إحلال القومية والوطنية محل الدين الإسلامي هو المنفذ الوحيد لإقصاء الإسلام وإخراجه من قلوب أتباعه, وبالتالي سيطرتهم على الشعوب الإسلامية. وعلى هذا فإن هذه الدراسة إنما وجهت إلى دراسة القومية بصفة عامة, وإعطاء الحكم عليها بصفة عامة أيضًا, معتبرين هذا المسلك جزئية من دراسة القومية الواسعة المفاهيم، والقصد من وراء ذلك هو تعجيل المنفعة للقارئ ببيان ما يجب بيانه حول القوميات وما فيها من مضارٍّ أو منافع, وما فيها من الخدع التي ألحقت بالمسلمين وبغير المسلمين من أضرار فادحة ومصائب لا حدَّ لها, كان في أولها بالنسبة للمسلمين محاربة الدين وإحلال القومية محلّه بكل بساطة, واستمع لهذه الآبيات التي تغلي حقدًا على الدين وجرأة على جهنَّم حيث قال شاعر الوطنية: بِلادَك قَدِّسْها عَلَى كُلّ مِلَّةٍ ... ومِنْ أَجْلِهَا أَفْطِرْ ومِنْ أَجْلِهَا صُمْ هَبُونِي عِيدًا يَجْعَلُ العَرَبَ أُمَّةً ... وسِيرُوا بِجُثْمَانِي عَلَى دِينِ بُرْهَمِ سَلامٌ عَلَى كُفْرٍ يُوَحِّدُ بَيْيَنَا ... وأهلًا وسهلًا بَعْدَه بِجَهنّمِ

وقول الآخر: وهل أنا إلّا من غزيَّة إن غوت ... غويتُ وأن تَرشُد غزيّة أَرْشُد وقد تمت الدعوة إلى القومية وانتشرت انتشار النار في جزل الغضي, وتعدَّدت عوامل التشجيع لانتشارها, وأشرب القوميين حبها، ووعتها قلوبهم, وأعجبوا بها, فكانت مصيبتهم في دينهم وفي وحدتهم التي يتباكون على تحقيقها, وأصمَّوا الآذان بصراخهم عليها, وحينما جاءت القومية والوطنية بالملاحدة حزب البعث العربي المارق, قال شاعرهم: آمنتُ بالبعثِ ربًّا لا شريك له ... وبالعروبة دينًا ما له ثانِ وهو تعبير صدق فيه القائل مع نفسه وهو كذوب, وأبان عن حقيقة القومية وعن حزب البعث ليحقَّ الله الحق ويبطل الباطل.

الفصل الثالث: كيف ظهرت القومية

الفصل الثالث: كيف ظهرت القومية؟ أساس ظهور القومية في شكل مذهب جماعي وله دعاته المتحمسون له, كان من البلد المضياف لكثير من الآراء والمذاهب المختلفة -أوروبا- كما عرفت, وكان سبب ظهورها هو نفس الأسباب التي أظهرت بقية المذاهب الفكرية فيها, متوخّية الرغبة الشيديدة في هدم سلطة الكنيسة الطاغية التي سامتهم سوء العذاب -كما تقدَّم, إضافة إلى ما كان يعيشه الأوربيون من شريعة الغاب والظلم والعدوان وسوء الأخلاق في معاملة بعضهم بعضًا, وعدم وجود الدين الصحيح الذي ينير لهم الحياة، فكان ظهور القومية هناك مظهرًا مشاركًا لبقية مظاهر الخروج والانفلات عن سلطة الكنيسة وقبضة رجالها, وكانت القومية هي إحدى معاول الهدم التي تكاثرت على الكنيسة بعد أن بدأت الكنيسة تترنَّح للسقوط النهائي إثر إفاقة الشعوب الغربية الأوربية على واقعهم الشنيع من الذل والخوف والتنكيل والقتل الجماعي والجهل المركَّب والأحكام الجائرة على أيدي فئة تزعم أنها تمثل الرغبة الإلهية في كل ما تأتي وتذر, فظهرت القومية كغيرها من الأفكار الأخرى وقفت من الدين وأهله نفس المواقف للنظريات الإلحادية الأخرى, ويظهر أنه لم يكن لديهم أيّ جامع أو رابط يقدّمونه لشعوبهم غير هذا الرابط الجديد الذي داروا حوله بكل جد, وقدسوه إلى أن أوصلوه قريب الأولهية؛ علَّهم يجدون فيه عزاءً عن الالتجاء إلى الإله الذي كان هو السبب

في إذلالهم على أيدي رجال الكنيسة الذين كانوا يمثلونه في الأرض كما قرره زعماء الكنيسة الرهبان لهم؛ لتحقيق شهواتهم وافتراءً على الله تعالى، وعلى هذا فإن ظهور القومية في أوروبا وعامة دول العالم المسيحي إنما كان لتلك الأسباب الظاهرة وغيرها, وكان لهم ما يبرر ذلك الخروج فيما ظهر من أحوالهم -وإن لم يكن مبررًا حقيقيًّا- وبعد خروجهم, ذلك الهوى كل ما راق لهم منها القومية التي قدسوها وزينوا أمرها لكل الشعوب؛ لتكون العزاء والبديل عن الدين النصراني ورجاله, يقول الندوي: "ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها, ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانه بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء وتدل بنفسها, وتظن أنها مانعتها حصونها, وما أعدت للحرب, وتنقطع عن العالم وتتحرّش أحيانًا بالدول الكبيرة غرورًا بنفسها, أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلّا عشية أو ضحاها, وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة, ولا يغني أولئك المسئولون عنها شيئًَا {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 1.

_ 1 سورة الحشر، الآية: 16. وما أصدق ما ذكره الندوي, وما أشدّ انطباقه على كثير من السوقة الذين تبوؤا الحكم في البلدان الإسلامية, وما حوادث العراق الدامية إلّا نموذج للتدليل على مصير أولئك الذين تركوا هدى الله وطلبوه في غيره, ولم يقبلوا على الله وركنوا إلى الذين ظلموا, وأسلموا شعوبهم للذل والهوان وخذلوهم في أحلك المواقف.

ومن الجدير بالذكر أن القومية كانت في نشأتها لا يرمي أهلها إلّا إلى الخلاص من قبضة رجال الدين وتنفس الصعداء من الأغلال التي كانت عليهم, ولكن ما أن تَمَّ لهم ذلك الخلاص المنشود حتى انتقلوا نقلة أخرى فصاروا لا يقنعون بذلك الخلاص, إنما تطلّعوا إلى ظلم الآخرين والبغي عليهم واستعمار الضعفاء من الناس واستعبادهم, وحصل من وراء ذلك شر عظيم وفتن عريضة وحروب, ثم انقلب السحر على الساحر فأصبحوا في دوامة القومية التي لا تعقل ولا ترحم, ونبغت قرون الشر في رأس كل فريق من القوميين, كلٌّ ينوح على ليلاه, وكل فتاة بأبيها معجبة, فانتعش بينهم فنّ المفاخرات لضرورة الحاجة إليه في ظل القومية التي لم يقم بناؤها في الأساس إلّا على هذا المسلك البغيض في بداية تكوينها في أوروبا. وبعد أن سار ركب القومية في أوروبا يحطّم بعضه بعضًا كثرت الحروب بينهم نتيجة التعصبات القومية الشعوبية الهوجاء عاد الأسد إلى عرينه, فقام مفكروهم وقادتهم بالدعوة الجادة إلى نبذ القومية وأنها رجعية وليست تقدمية حضارية ويجب نبذها, وإنها تمثل أفكار "هتلر" النازي حين قسَّم العالم على أساس عرقي أفضلهم ألمانيا. ولأن مسلك التقدم والحضارة لا يتماشى مع مسالك القومية الضيقة, فلفظتها أوروبا لتقبع في أيدي المخادعين والماكرين من النصارى العرب وغيرهم؛ ليتموا حاجة في نفس يعقوب بعد أن بيتوا النية لحرب الإسلام, كما سنذكر ذلك في موضعه.

يقول د. صلاح الدين المنجد: "تنبَّه العرب إلى فكرة القومية في أوائل هذا القرن بعد أن مضى على موتها في أوروبا فترة طويلة بتأثير الغرب"1. ومما يذكره الباحثون عن القوميات الأوروبية وسبب ظهورها أنَّ البدايات الأولى لظهور القوميات هناك. كان أثر النزعات التي احتدمت بين رجال الدين الكنسيّ والملوك حول الأحقية بالسيطرة والأمر والنهي, هل هم الملوك فقط, أم رجال الدين فقط, وكاد أن يتمّ الحل بينهم على أن تكون السلطة الأمنية للملوك, والسلطة الروحية للبابوات, إلّا أنَّ الأمور انحدرت إلى هاوية سحيقة كانت هي ثالثة الأثافي, وهو النزاع الشرس الذي نشب بين رجال الدين أنفسهم, وما وقع بين الكنائس من عداوات خرجت تبعاعًا عن الكنيسة الأمّ في روما, وتعصَّبت كل كنيسة لآرائها: كاثوليك, بروتوستانت, إصلاحيات ... إلخ, وانفلت الأمر وصار الحبل على الغارب, فقام كل فريق بتكوين نفسه ومذهبه, فانتشرت المذاهب والأفكار ومنها قيام القوميات2 على ذلك النحو, وأخذ النزاع طابعًا قوميًّا.

_ 1 تقديم الدكتور المنجد لكتاب "أركان عبادي" محنة القومية العربية" ص5. انظر فكرة القومية العربية ص290, والمنجد متأثِّر بدعوى القومية العربية مع معرفته بها, ولكنه حجب كغيره ممن حجب عن التمعُّن في معرفة الفوارق الهائلة بين الإسلام والقومية. 2 انظر كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" ص559 بتصرف.

الفصل الرابع: متى ظهرت القومية

الفصل الرابع: متى ظهرت القومية؟ لا يعرف على وجه الدقة تحديد نشأة الحركات والأفكار في الغالب, أما بالنسبة للقومية فإن الباحثين يذكرون أن ظهورها في أوروبا كان في الفترة التي كان رجال الفكر والتحرر -كما يسمون أنفسهم- يبحثون عن بديل للعقيدة النصرانية الخرافية الجائرة, والانفلات من قبضة رجال ذلك الدين الجامد المتخلف, وكان ذلك في حدود القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين, واشتدَّ عودها في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد أثنى دعاة القومية على الثورة الفرنسية التي كانت هي البداية الأولى لظهور القوميات؛ حيث عرف بعدها أنَّ الحكم يجب أن يكون للشعوب وليس لفئة من الناس وهم الحكام, وأن الحرية يجب أن تشمل جميع الأمة بالتساوي, وشعار الجميع الإخاء, وأصبح هذا المبدأ الثلاثي: الحرية، المساواة، والإخاء, هو مصدر إلهام الجماهير في زعم دعاة القومية, وقد زعموا أن القومية العربية إنما أثارها التوجُّه الأوربي للقومية؛ حيث نشأ دعاة القومية العربية متأثرين بذلك التيار في أوروبا, فأصحبوا يلهثون للحاق بركبهم. والواقع أن الذي أثار القومية العربية وكان لهم اليد الطولى في الدعوة إليها في بلاد المسلمين إنما هم النصارى العرب؛ لإدراكهم فائدة التفاف العرب المسلمين على القومية بدلًا من الدين الذي لا يتوافق مع دمج المسلم وغير المسلم في حظيرة واحدة, فجاء القوميون العرب من

النصارى وغيرهم, وأخذوا يكيلون لمديح لهذه القومية, وأن العرب في حاجة شديدة إلى قيامها إن أرادوا العزَّة والمنعة واحترام سائر الأمم لهم, بزخرف من القول غرورًا, وظلّت تستعر نارها وتشتد تدريجيًّا من معين الحقد على الدولة العثمانية.

الفصل الخامس: كيف تسربت دعوى القومية إلى البلدان العربية والإسلامية

الفصل الخامس: كيف تسربت دعوى القومية إلى البلدان العربية والإسلامية ... الفصل الخامس: كيف تسرتبت دعوى القومية إلى البلدان العربية والإسلامية؟ البلدان العربية والإسلامية أعزَّها الله بالإسلام الذي يجعل أتباعه كالجسد الواحد, وقد عاش المسلمون ردحًا من الزمن ما كانوا يعيرون القومية الجاهلية أدنى اهتمام, سواءً كانوا حكامًا أو محكومين, إلى أن بدأ المسلمون في الضعف والتقهقر فنفَّذ أعداء الإسلام مخططاتهم بتفريقهم على أيدي القوميين, وحينئذ مدوا أيديهم إلى فتات الغرب القذر، فإذا بهم أمام القوميات فدخلها الكثير من أوسع أبوابها مصدقين الدعايات الغربية أنها ثقافة وعلم مادي, وأوصلت الغرب إلى ما هو عليه من التقدم والرقي بزعمهم, ولم يفطن إلّا القليل جدًّا إلى خطر القوميات, وأبى الكثير بسبب ما كان عالقًا بأذهانهم من وجوب استعادة الأمجاد السابقة للآباء والأجداد, يساعدهم في هذا الاتجاه كل أعداء الإسلام من الصليبيين الذين تكبَّدوا في حروبهم مع المسلمين أفظع الهزائم التي لم يعرف في التاريخ لها أيّ مثيل, ومستغلين كذلك الحملة ضد الحكم العثماني التركي على أيدي الصليبيين العرب في لبنان وسوريا. يقول محمد قطب: "وقد كانت دعاوي القومية والوطنية والمصدَّرة عن عمد إلى العالم الإسلامي من بين وسائل الغزو الفكري الذي استخدمه الصليبيون المحدثون في غزو العالم الإسلامي"1.

_ 1 مذاهب فكرية ص576.

وكان أوسع الأبواب لدخول القومية إلى بلدان المسلمين هو المناداة بإقامة الأمجاد والمفاخر -الزائفة- بالتراث الجاهلي الذي سلبه الأتراك ممثَّلًا في الدولة العثمانية بزعمهم, وكان الذي فتح هذا الباب الواسع هم اليهود الذين هم وراء كل جريمة, فقد أشعلوا الخلاف الشديد بين الأتراك الذين ما كانوا يعيرون القومية التركية أدنى اهتمام, وبين العرب الذين كان ولاؤهم للإسلام, فجاء دعاة القومية وحرَّضوا الأتراك على إقامة قوميتهم الطورانية, كما حرضوهم على تتريك العرب أيضًا؛ ليتمَّ التصادم بين الجميع, وأنه يجب على الجميع احترام القومية الطورانية، ورمز الزئب الأغبر الذي تجتمع عليه قومية الأتراك, وتَمَّ لجمعيات اليهود أن ينادوا بتمجيد القومية الطورانية بالنسبة للأتراك؛ حيث جعلها عدو الله أتاتورك بديلًا عن الدين الإسلامي, وعرفوا كيف ينفخون في أذهان العرب بإيجاد أنفة شديدة في نفوسهم من خضوعهم للأتراك, وقامت الدعايات والمؤامرات, والكُتَّاب وكلّ وسائل الأعلام المسموعة والمقروءة قامت كل تلك الوسائل كالصاعقة لإحياء تلك النعرات الجاهلية القومية والوطنية عند العرب والأتراك جميعًا, وما تبع ذلك من الرغبة الشديدة في إشعال الثورات المتلاحقة للتخلُّص من الحكم العثماني بفعل دسائس أعداء الإسلام من اليهود والنصارى في ردِّ فعلٍ عارم على القومية الطورانية. وكان ذلك كله بمرأى ومسمع من دهاة البشر وخبثائهم الدول الغربية المؤيِّدة لليهودية العالمية, إلى أن سقطت الخلافة العثمانية جسمًا هامدًا, وجاء الحكام الجدد الذين لا همَّ لهم إلّا تثبيت كراسيهم في الحكم على مفهوم

القومية والوطنية ثم البعثية, وصاروا يرددون كالببغاوات كلَّ ما يسمعونه من مختلف الشعارات البراقة, وكان أول بلد نجم عن قرن القومية لبنان وسوريا بزعامة نصارى هذين البلدين -عيون الغرب الصليبي في بلاد المسلمين, ومنهما انتشرت الدعوة إلى القومية والوطنية بتاثير الدعايات والدراسات في الغرب وشراء الضمائر, وما إلى ذلك من الوسائل الكثيرة التي استخدمت لإيصال هذه الأفكار وإخراجها كأمر واقع لا بُدَّ منه لإيجاد الأمجاد العربية. ولقد كان الليهود نصيب الأسد في إيحاء القومية الطورانية لحقدهم الشديد على الدولة العثمانية التي أبت أن تمنحهم موضع قدم يمتلكونه في فلسطين وغيرها من بلدان المسلمين, فكان من الطبيعي أن يستغلَّ اليهود تلك النعرة الجاهلية ليحقِّقوا من ورائها أهدافهم في الإطاحة بالخلافة الإسلامية ممثَّلة في السلطان عبد الحميد -رحمه الله, الذي قال: "لن أبيع ولو قدمًا واحدًا من البلاد, وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منها, وليحتفظ اليهود ببلايينهم"1. ومنها هنا قرر اليهود إنشاء جمعية "الاتحاد والترقي", والحقيقة أنها عكس هذا الاسم تمامًا, وكل أعضائها فيما يذكر الباحثون أنهم غير أتراك وغير مسلمين حقيقة, وكانت المساعدات المالية تأتيهم كلها من الدول الغربية النصرانية ومن يهود الدونمة.

_ 1 نشوء القومية العربية, تأليف زين نور الدين زين نقلًا عن الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص126.

الفصل السادس: نتيجة ظهور القومية بين المسلمين

الفصل السادس: نتيجة ظهور القومية بين المسلمين تبيَّن من الحوادث التاريخية أن دخول القومية إلى البلاد الإسلامية والعربية بخصوصها, إنما كان بدافع الحقد الصليبي واليهودي, والرغبة في تمزيق الوحدة الإسلامية والانتماء إلى الإسلام؛ لأن الانتماء إلى العربية سيسهّل عليهم مهمّة استعمارهم لبلدان المسلمين بعد أن يفرقوا فرقًا وأحزابًا لا يلوي بعضهم على بعض في عنجهية جاهلية قومية, فتمكَّن المستعمرون أعداء الإسلام منهم حين عرفوا من أين تؤكل الكتف, فتخطَّفوهم وأخرجوم من دينهم الإسلامي إلّا من حفظه الله تعالى, وأخذوا أطرفًا كثيرة من بلادهم -وفلسطين أقوى شاهد- على ما وقع فيه المسلمون العرب من ضياع وهزيمة, والعراق الذي يعيش اليوم مرارة هزيمته على أيدي الصليبيين, ومن قبل ذلك أسبانيا والبرتغال والهند وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن ظهور القوميات لم يستفد منها أحد مثلما استفاد منها اليهود حين نادوا بالتعصّب لقوميتهم اليهودية المتمثلة في الصهيونية, ولذلك لأنَّ اليهود -وهو أمر مهم- قد مزَّقهم الله تعالى وشتَّتهم بسبب خبثهم ورعونة أخلاقهم, وهذا الشتات يشكّل خطرًا عليهم أن يذوبوا في المجتمعات التي يعيشون فيها, وأقوى ضمان لبقاء تماسكهم هو تعزيز

القومية في نفوسهم؛ لكي يتم ربطهم بها, فكانت القومية مفيدة لهم بقدر ما هي ضارة بأمة تربطهم عقيدة واحدة مهما اختلفت قومياتهم, وواقع الجميع أقوى شاهد على ذلك1 على حد ما قاله أحد الشعراء: وتفرقوا شيعًا فكل قبيلة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر أما بالنسبة لاستفادة النصارى ومن وراء قيام القوميات فحدِّث ولا حرج, فلقد غرسوها بين المسلمين وتعهدوها بكل ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه, حتى أتت ثمارها الخبيثة التي كانوا يتوقعونها, وقد ملئوا الدنيا صياحًا ونياحًا على عودة العرب إلى القومية العربية وإلى التراث المجيد الذي كان للعرب قبل مجيء الإسلام, وإلى حضارات الفينيقيين والآشوريين والفراعنة ... إلخ. فكم ألَّفوا من الكتب نثرًا ونظمًا لملأ عقول الناس بتقبل القومية التي ستكون هي المنقذ الوحيد للعرب من الذل وسيطرة غيرهم عليهم, والتي أيضًا ستكون هي النبتة الجميلة لبدايات التطور والتقدم ونبذ الماضي البغيض -وهو الإسلام- الذي أخَّر عجلة تطور الدول الإسلامية ... إلى آخر الدعايات التي أجادوا حبكها والتخطيط لها, وتكاتفت جهود الأقليات النصرانية واليهودية المبثوثة بين المسلمين, وجهود الدول الاستعمارية الصليبية التي كانت تتربَّص بالمسلمين الدوائر متمثِّلة في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا والبرتغال وغيرها من دول النصارى, صارت كل هذه القوى الهائلة تحت تنظيم دقيق وخطط أعدّت في غاية من الدهاء والخبث؛ لإدخال فكرة القومية إلى عقل كل مسلم, وأن العرب بخصوصهم لا منقذ لهم غير هذه القومية المباركة التي ستجمعهم

_ 1 انظر فكرة القومية العربية في ضوء الإسلام ص82.

تؤلف بين قلوبهم وتجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وكانت دعوة القومية كعملة ذات وجهين: الوجه الأول منها هو تلك الصورة الوردية والحلم السعيد, والوجه الآخر هو ذلك الباب الذي ظاهره من قِبَلِه العذاب, والذي صُمِّمَ لتفريق وتشتيت الداخلين فيه تلقائيًا, وقد تمثَّل نشاط النصارى في الإرساليات التبشيرية والاستشراقية, وفي إقامة نقاط التواصل القوي والتخطيط المشترك بين النصارى المنبثِّين في المجتمعات الإسلامية وبين النصارى الخارجين عنهم, مستخدمين تلك الأساليب والوسائل التي تقدَّمت دراستها, والنصارة على يقين من أن القومية لو انتصرت فإنَّ انتصارها سيكون نصرًا لكلّ نصراني في بلاد العرب, فهي قوة في حقيقتها لهم حيث يكن شأنهم مثل شأن كل المسلمين وكل أصحاب الأديان؛ لأن الرابط الجديد: القومية والوطنية, تعطيهم هذا الحق الذي لا يمنعه إلّا الدين؛ إذ لا يجتمع الحق والباطل, وقد تأكَّد لدى كل نصراني أن إحلال القومية محل الدين هو السبيل لاستحمار المسلمين واستعمارهم, ومن هنا نجد أن نصارى العرب كانوا الجواسيس الناصحين للنصرانية الغربية, ومن أوفى المؤازرين لها, ومن أكثر الناس نشاطًا وأكثرهم اجتماعات ومؤمرات ومؤتمرات لدراسة كل الوسائل التي يستفيدون منها لإبعاد الإسلام وإحلال القومية محله.

الفصل السابع: ماذا يراد من وراء دعوى القومية

الفصل السابع: ماذا يراد من وراء دعوى القومية؟ من البدهي أنه لا يراد من وراء هذه الدعوة وجه الله -عز وجل, ولا إقامة شرعه ليكون للناس نورًا يمشون به, ولا يراد بها كذلك إعلاء شأن المسلمين وإقامة مجدهم وعزهم؛ لأن مسلك القومية ونهايتها لا تؤدي إلى هذه النتيجة, وعلى الافتراض البعيد نقول: لو كان الهدف من وراء نشر القومية هي تلك الأهداف النبيلة -بزعمكم؛ لكان في تعاليم الإسلام والتمسُّك بكتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يغني ويكفي عن تعاليم القومية المخالفة لهما بل المضادة لهما, ولو كان الهدف من ورائها إعلاء شأن المسلمين لكان في السير على نهج سلفنا الصالح ما لا يحتاج معه الشخص إلى أيّ شعار جديد يدعو إلى الالتفاف حوله والنضال في سبيله. وما زعمه القوميون -كذبًا وزورًا- من أنَّ القومية العربية ستكون فجرًا جديدًا على العرب كافَّة, إن هي إلّا منكر من القول وزور, بل كانت ظلمة وجهالة وتفريقات وتمزيقًا لا يزال المسلمون يتجرَّعون غصصها إلى اليوم, وكانت على -الحقيقة- فجرًا جديدًا وعهدًا زاهرًا فقط على اليهود والنصارى الذين برزت قرونهم عالية تحت مظلة القومية الجاهلية؛ بحجة أنّ القومية العربية لا تفرق بين مسلم ويهودي ونصراني أو غيرهم, وأن الجميع يشتركون في القومية والوطنية, وكلهم من حقهم أن يصلوا إلى الحكم على حد سواء.

وإذا كان الأوروبيون قد نادوا بفصل الدين عن الدولة؛ للأسباب التي اضطرتهم إلى ذلك, فإن الإسلام ليس فيه أيّ نزاع أو صراع بين الحكام والمحكومين؛ لأنه ليس فيه طبقات, كل طبقة تمثّل جانبًا في الحياة العامة, بل إنه يعتبر المسلمين كلهم على درجة متساوية في المعاملات والقيام بالتكاليف الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكلهم يجب عليهم الخضوع لشرع الله تعالى دون أن تستبدّ فئة بأخرى, والحكام في الإسلام ليسوا في طبقة خاصّة, بل هم مثل سائر أفراد المسلمين لم تكن له مزية إلّا تحمُّل الأمانة وتنفيذ شرع الله تعالى, وأوجب لهم الإسلام السمع والطاعة في مقابل هذا العمل, فأين هذا السلوك الذي تحقَّق به سعادة الناس من سلوك الجاهليات الأوروبية وشرائعها القومية, وإذا كان بعض المسلمين حكامًا ومحكومين قد خالفوا هذا النهج الواضح, فإن تبعه هذا الخلاف عليهم لا على الإسلام؛ إذ الإسلام قد تبرأ من كل الجاهليات الوضعية وأبان حكمه في كل أمر, فلا يجوز أن يحمل تبعة أي أمر لم يكن من تعاليمه.

الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية

الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية؟ من البدَهي أن يأتي الجواب بالنفي مطلقًا والأمر واضح تمام الوضوح, فقد أغنى الله المسلمين عن التجمع حول أي فكرة جديد أو شعار أو حزب, بل أنه حارب كل تجمُّع يقوم على غير هديه القويم, معتبرًا المسلمين كلهم أخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1, "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" 2, "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 3. ونصوص أخرى كثيرة في كتاب الله -عز وجل- وسنَّة نبيه كلها تحث المسلمين على أن يكون تجمعهم وتفرقهم وحربهم سلمهم ومعاداتهم وموالاتهم كلها قائمة على هدي الله -عز وجل, لا إلى العرب أو العروبة أو القومية أو الوطنية, فهي وغيرها شعارات جاهلية يبغضها الإسلام ويحاربها, وكل دعوى لا تلتزم هدي الله فهي دعوى جاهلية يجب الحذر منها, ولقد أعلنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صريحة حيث قال للأنصاري الذي قال: يا للأنصار, واللمهاجري حين قال: يا للمهاجرين, قال -صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى أهل الجاهلية" , وفي رواية4 "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم".

_ 1 من سورة الحجرات آية: 10. 2 أخرجه البخاري ج1، ص182، ومسلم ج4، ص1999. 3 أخرجه البخاري ج5، ص2238، ومسلم ج4، ص1999. 4 صحيح البخاري -مع الفتح ج4، ص146-147.

وفي بعض الروايات قال لمن افتخر بعروبته: "دعوها فإنها خبيثة" 1, وفي رواية "فإنها منتنة" 2, وفي بعضها "دعوها فإنها ليست لكم بأم ولا أب" 3؛ لأن الإسلام أراد أن تجتث شجرة التعصُّب الخبيثة من أساسها؛ لأن ثمارها لا خير فيها لأحد, بل فيها العداوة والبغضاء والكبرياء والأحقاد وكل المساوئ والرذائل, وأنها لا تؤلف القلوب بل تنفرها وتثير فيها كوامن حب التعالي والبغي بغير الحق, فلا تفيدهم لا في دينهم ولا في دنياهم. ولقد جُرِّبَت هذه الفكرة قديمًا وحديثًا فكانت فاشلة تافهة, ما أن يحصل خلاف وخصام بين أصحابها إلّا رموا بها عُرْضَ الحائط, وصار بعضهم لا يخالف في الآخر إلًّا ولا ذمَّة, فهو لا يخالف من اختراقها نارًا حامية, ولا يرجوا من تطبيقها جنة عالية, فتكون النتيجة كما قال أبو فراس: إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر4. وقد وضح لكلِّ عاقل أن القومية لم تقدِّم أي نفع للناعقين بها, بل إنها كانت معول هدم وتخريب وبغي, فأي حاجة للمسلمين إلى النعرات الجاهلية بعد أن أعزَّهم الله بالإسلام الذي أكمله الله لهم ورضيه لهم إلى يوم القيامة، وجعل أحكامه شاملة كاملة وافية بجميع ما يحتاج إليه البشر لسعادتهم في الدراين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 5.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح ج3، ص1296. 2 أخرجه البخاري ج4، ص1863. 3 الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج4، ص225، وقال: هذا حديث مرسل، وهو مع إرساله غريب. 4 سورة المائدة، الآية: 50.

إن الدعوة إلى القومية دعوة إلى الفرقة والفخر والتعالي؛ حيث يدخل التعصُّب بجميع أشكاله من جميع الأبواب, فما الذي يمنع في شرع القومية أن يفتخر العربي بأنه عربي ومن بلد كذا وكذا, والعجمي بأنه عجمي ومن بلد كذا وكذا, سيفتخر حتمًا في شرع القومية العربي بعربيته, والفارسي بفارسيته, والهندي بهنديته, والصيني بصينيته. وهكذا كل قوم أو بلد سيجدون ما يفتخرون به بالحق وبالباطل, فالقومية ستلهمهم جميعًا صواب ما يريدون, وستعطي كل حزب أدلته على أنه أفضل عناصر البشر, وأن وطنه أفضل الأراضي, وأن كل ذرة منه مقدَّسة, ومعلوم أنه لم يحتج المسلمون في تاريخهم الطويل -قبل انحرافهم عن الجادَّة- إلى قومية تجمعهم ولا أيّ رابط يربطهم غير كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أنه لا يصلح آخر هذه إلّا بما صلح به أولها. يقول د. جمعه الخولي بعد أن ذكر أن دول أوروبا تحوَّلت إلى شتات من البشر لا رابطة بينهم بعد أن أبعدوا عنهم النصرانية ورجال دينها, وأنهم لجأوا إلى القوميات كوسيلة لربط الشعوب كالقومية الألمانية والقومية الفرنسية والنمساوية ... إلخ, وأنهم لم ينتفعوا بها, بل كانت فتنة لهم وسببًا من أسباب الحروب بينهم. ثم جاء يوم تحاربت فيه على أساس هذه القوميات في الحربين العالميتين الأولى والثانية, فلما أحسَّت بلعنة القومية أخذت تتخلَّى عنها

وعدَّ كثير من مفكريها العودة للدعوة لها دليلًا على الرجعية والتخلُّف وعنصرًا هدامًا للإنسانية, واعتبروها نوعًا من التجارب التي لجأت إليها أوروبا في ظروف خاصَّة وفي وقت محدود, ثم نقل عن المؤرخ الشهير "أرنولد توينبي" قوله: "القومية لا تستطيع أبدًا أن توحِّد الإنسانية, بل إنها توزعها وتشتت شملها, ومن أجل ذلك ليس لها مستقبل, وأنها لا تستطيع إلّا أن تدفن الإنسانية في ركامها, وأننا إذا أردنا أن ننقذ أنفسنا من الهلاك والدمار فينبغي أن تحتضن الإنسانية كلها من غير استثناء, ونتعلم كيف نعيش كأسرة واحدة"1. ثم ألَا يعلم القوميون العرب بخصوصهم أن العرب قبل الإسلام كانوا في غاية الأنفة والحمية والفصاحة العجيبة, فما الذي أغنت عنهم, وهل جنَّبتهم غضب الله, أو جنَّبتهم الذل لغيرهم من سائر الأجناس, أليس كان الفرس ينظرون إلى العرب كما ينظرون إلى الحشرات, لا يقيمون لهم وزنًا ولا قيمة, فلماذا لم تدافع عنهم القومية, وهل ستدافع عن المسلمين والعرب اليوم لولا ذوابها؟! وكم دعوا لها وكم لاذوا بها فكانت النتيجة ما نشاهده اليوم من تفرقهم وتشتتهم وذلهم الذي بلغ ذورته مع وصول القومية إلى ذورتها على أيدي ملاحدة البعث ونصارى العرب وغيرهم من مغفلي المسلمين وأصحاب المصالح, الذين أذلّتهم بطونهم ومطامعهم, الذين هم أشبه ما يكونون بالقطط الذين يشبعون, والنمور جياع، ثم أليست شريعة القوميين هي نفسها الشريعة التي كانت في الجاهلية من التعصُّب القبلي -انصر أخاك ظالمًَا أو

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص119.

مظلومًا- ومن الدعوة إلى الفجور والفواحش, ومن التعالي والبغي على الناس بغير الحق, ومن تقديس رءوس الكفر واحترامهم, وعدم وجود العزَّة والأنفة التي يتميّز بها المسلم أمام أعداء الإسلام من اليهود والنصارى, حتى أصبح راضيًا مطمئنًا بأن يتولّى عليه من لا يساوي شراك نعله من ضلال اليهود والنصارى وغيرهم من كبار الفساق؛ لأنَّ شريعة القومية توجب ذلك لأنَّ العروبة حين تجمع بين هؤلاء جميعًا لا يبقى أيّ مزية للمسلم على الآخرين, وهذا المفهوم منطقي مع استبدال الدين بالقومية. ألم يعلم الأشرار دعاة القومية أنّ المسلمين كانت لهم بالإسلام عزة طأطأ الجبابرة لها جباههم ذلًّا وانكسارًا, وملكوا بها الشرق والغرب, ودخل الناس في الإسلام أفواجًا راهبين وراغبين, فاغتبطوا به وفازوا في الدنيا والآخرة, وأصبح المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى, وكانوا قلبًا واحدًا, هدفهم واحد, وتفكيرهم واحد, وعبادتهم واحدة, نشروا الإسلام رغبةً في الأجر العظيم من الله لا حبًّا في التملُّك ولا رغبة في السيطرة, حتى أدوا ما أوجبه الله عليهم من نشر دينه وقمع الفساد والمفسدين. وإذا كنا ننكر الدعوة إلى القوميات عمومًا والقومية العربية بخصوصها, فما ذاك إلّا من شدة الحرص على أن لا تفوت البقية الباقية من عز العرب المسلمين, وليس تجاهلًا لفضل العرب والعربية, وليس ما نذكره هنا في فضل العرب بمبرِّر للافتخار به على طريقة القومية الجاهلية, وإنما هو تبيان للحقيقة.

فالعرب هم أول من أبلوا في سبيل الله: جاهدوا بأموالهم وأنفسهم, وأسدوا إلى البشرية عامَّة ما صلح به أمر دينهم ودنياهم, ولا ننسى كذلك أفذاذًا من غير العرب كانوا إلى جانب الرعيل الأوّل من المهاجرين والأنصار, وقد اختار الله -عز وجل- نبيه من العرب, وأرسله ورحمة للعالمين, وفضَّله على جميع البشر, كما أنَّ الأماكن التي كان ينزل وحي الله فيها لا شكّ أنها محطّ الأنظار ومهوى الأفئدة. وقد شرَّف الله اللغة العربية وكرَّمها بنزول القرآن بها, وهو معجزة المسلمين الخالدة, كما لا ننسى ما امتاز به العرب من صفات حميدة سجَّلها لهم التاريخ من الوفاء والكرم وحفظ حقوق الجار والشجاعة والفصاحة, وغير ذلك من الصفات, ولكن يجب أن نتفطَّن لأمر مهم جدًّا وهو أنَّ العربية والعرب ما كانوا شيئًا يذكر لولا الإسلام, فالعربية هي إحدى اللغات في هذه الأرض, والعرب هم أحد الأجناس من هذه الأمم, فلا مزيَّة لهم إلّا بالدين الإسلامي, ولنا أن نسأل الذين يتشدقون بأمجاد العرب قبل الإسلام ما هي, ألم يعترف فضلاء الصحابة بأنَّهم كانوا جهالًَا وفقراء وقاتلين قبل الإسلام, وأن الله رفعهم بالإسلام وأعزّهم به. والآن تريد القومية العربية إرجاع العرب إلى حالتهم تلك السابقة, إبعادهم عن دينهم ومصدر مجدهم الحقيقي, فأي جريمة سيرتكبونها بحقّ العرب وسائر المسلمين لو تَمَّ لدعاة القومية ما يهدفون إليه, وليت تلك الدعوات إلى القومية الجوفاء كانت دعوة موجَّهة إلى لَمِّ شَعْثِ

المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا في ظل ما يحدق بهم من أخطار تتهددهم على طول تاريخهم, وإلى أن يتكاملوا فيما بينهم في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية, وإلى أن يكونوا منهم عالمًا قويًّا ثابت الأقدام كما كان أسلافهم, ثم لتكن تسمية هذا المسلك أيّ ما تكون ما دام الهدف واضح المعالم؛ لأنه إذا كانت كلمة الإسلام تجمعهم سيصبحون قلبًا واحدًا وهدفًا واحدًا, ويصبح العربي وغير العربي المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى, وكم ضحى العربي بنفسه في سبيل نجاة أخيه المسلم غير العربي, وكم ضحى غير العربي عن أخيه العربي المسلم بنفسه في ميادين القتال, وكم سجَّلوا جميعًا أروع الانتصارات وأروع الإيثار. وليتذكر العرب والمسلمون جميعًا تلك المواقف التي سجَّلها المماليك في ردّ الصليبيين عن بلاد العرب والمسلمين, وليتذكروا صلاح الدين الأيوبي وهو من الأكراد, ماذا سجَّل للمسلمين في إرجاع القدس وبلاد الشام ودحره النصارى, وكم كانت من المواقف العظيمة التي خاضها المسلمون من أجناس شتَّى في آسيا وإفريقيا وفي أوروبا دفاعًا عن الإسلام والمسلمين, فكم كان المسلمون سيخسرون لو كانت الدعوة قومية من أول يوم؟

الفصل التاسع: هل تحققت السعادة المزعومة في ظل القومية

الفصل التاسع: هل تحققت السعادة المزعومة في ظل القومية؟ لقد نادى القوميّون وملؤا الدنيا صياحًا بأن الدعوة القومية ستحقِّق لمعتنقيها كل السعادة, وأنهم سيعيشون في جنة عالية وعزٍّ لا يرام إذا طبّقت الشعوب القومية, سواء أكانت تلك الشعوب عربية أم غير عربية, فالسعادة تنتظر الجميع, وأنها تجمع ولا تفرق, وتؤلف القلوب وتوحّد الأحوال الاقتصادية, وتحقق القوة على الأعداء أيًّا كانوا, إلى غير ذلك من أنواع المديح والتزكية للقومية والقوميين. ولكن هل تحقَّقت تلك المزاعم لأي قومية من القوميات عربًا أو عجمًا؟ لقد قال بعضهم: إن النَّاس بطبيعتهم فيهم غرائب لؤم, فإن الشخص يبغض الآخرين؛ لأنهم لا يتكلمون بلغته, فإذا تكلموا بلغته فإنه يبغضهم؛ لأنهم ليسوا من وطنه, فإذا كانوا من وطنه بغضهم؛ لأنهم ليسوا من قبيلته, فإذا كانوا من قبيلته بغضهم حسدًا على ما عندهم. والعرب بحدِّ ذاتهم حينما مالوا إلى القومية ووالوا وعادوا من أجل العروبة, ماذا كانت نتيجتهم, لقد ازدادوا فرقة وفقرًا وعداوةً فيما بينهم, وكاد بعضهم للبعض الآخر, بل ودرات بينهم حروب شرسة حين بغى بعضهم على بعض ببركات حب القومية, وافتخار كلٌّ بقومه, فقامت الأحزاب والتكتلات الصغيرة والكبيرة على حمية القومية الجاهلية, فازدادت المسافة بينهم وبين الوصول إلى السعادة المنشودة في ظل القومية, وليت هؤلاء الهاربون عن طريق

السعادة الحقيقية يرجعون بذاكرتهم إلى تاريخهم المشرق, ويتذكرون حين قال رسول سعد بن أبي وقاص لرستم حينما سأله: ما الذين أخرجكم علينا؟ فقال له: أُمِرْنَا أن نخرج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة رب العباد. وفي نهاية اجتماعهم قال له: "واعلم أن لكم عندنا ثلاث خصال, إمَّا الإسلام أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو القتال". وهو كلام ما كان يحلم به العرب في يوم من الأيام أن يواجهوا به سادة الفرس الذين كانوا يعتبرون العرب أذلَّ البشر قبل أن يعزهم الله بالإسلام, وقبل أن يصبحوا خير أمة أخرجت للناس, حينما نبذوا جميع الخرافات الجاهلية وافتخروا بدينهم, فوجدوا السعادة الحقيقية فيه، تراحموا بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداءً فيما بينهم, يقهر القوي الضعيف, ويستعبد الأغنياء الفقراء, تراحموا حتى أصبحوا كالجسد الواحد يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, يقول الشخص منهم للآخر: تعال أقاسمك مالي وأهلي, فيقول له صاحبه: بارك الله في مالك وأهلك, دلني على السوق, تراحموا حتى مدحهم رب العالمين بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1. ولقد نجوا من الهلاك الذي كان ينتظرهم باستمرارهم على الشرك؛ حيث امتنَّ الله عليهم بذلك فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2.

_ 1 سورة الفتح: الآية: 29. 2 سورة آل عمران، الآية: 103.

وصاروا ينظرون إلى الشرك وأهله بعين الاحتقار والازدراء والرحمة لحال المشركين أن يموتوا على شركهم, فكانوا يذهبون إلى القباب وإلى الأصنام فيهدمونها ويكسرونها دون خوف أو وَجَلٍ, يا عزَّى لا عزَّى لك, إني رأيت الله قد هانك، واتجهوا إلى عبادة خالقهم وحده, فارتاحت نفوسهم من تشتت الفكر وعبادة الأرباب المتشاكسين, والخوف من أصحاب القبور والجن والسحرة والمشعوذين, وحقَّقوا التوكُّل على الله فكفاهم الله كل ما يخيفهم أو يحزنهم, لا تزيدهم الشدائد إلّا صلابة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1. وصار فخرهم بالإسلام وحده بعد أن كان فخرهم بأمجادهم الجاهلية وبآبائهم وقبائلهم, وغير ذلك من المفاخر الجاهلية, وصار شعارهم: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وصارت مراقبة الله تعالى نصب أعينهم في بيعهم وشرائهم وجميع معاملاتهم, لا ربا ولا غش ولا فجور ولا ظلم ولا سوء خلق. فهل توجد هذه الأخلاق في القوميات؟ هيهات هيهات, وهل يتصور القوميون أنَّ العودة إلى تلك الحال المظلمة للجاهلية هو الذي سيجمع شمل المسلمين -والعرب خصوصًا- وأنه سيكون منهم أمة ذات حضارة وسيادة تحت مظلة القومية البالية؟!

_ 1 سورة آل عمران, الآية: 173.

وأما غير العرب فإن الأتراك أقرب مثال لنكسة القومية لهم حينما فشت فيهم نخوة القومية الجاهلية, ماذا كانت النتيجة؟ لقد تفرَّقوا وفَتُرَ نشاطهم في حرب أعداء الإسلام, بل وضعفوا واستكانوا وهانوا على الدول الغربية إلى يومنا الحاضر؛ حيث يطلب حكامها الدخول في المنظمة الأوربية, ومع ذلك يتجاهل الغرب مطالبهم في احتقار لا يحتمله الأحرار, دون أن يتذكَّروا ماضيهم في ظل الإسلام, وكيف كانوا سادة كثيرة من بلدان العالم وقادتهم يحسب له أعداؤهم ألف حساب قبل التفكير في التنغيص عليهم ولو بأدنى اعتداء.

الفصل العاشر: خداع القوميون

الفصل العاشر: خداع القوميون ... الفصل العاشر: خداع القوميين ذهب بعض دعاة القومية إلى ابتكار حيلٍ وتلفيق شبهات كاذبة مفادها أنه لا فرق بين الالتزام بالقومية والالتزام بالدين؛ ولأنه لا تعارض بينهما ما دام الشخص متمسكًا بدينه وبعروبته أيًّا كان دينه, مسلم أو نصراني؛ إذ اسم العروبة يجمعهم. ثم زعموا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وحَّد العرب تحت راية العروبة, وأوجب على كل مسلم أن يستشعر القومية العربية قبل كل شيء, وأن جهاده في نشر الإسلام هو نشر كذلك لسيادة القومية العربية. ومن أدلتهم الباطلة على هذا الزعم الكاذب قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} 1؛ لأن واجب العروبة يحتم عليهم الوفاء لهذا النبي العربي, ومثلها الآيات الأخرى التي فيها التشهير بالمتخلفين من الأعراب عن الجهاد في سبيل الله, الذي هو جهاد في سبيل رفع راية العروبة أيضًا. ومما استدلوا به كذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 3، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 4.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 120. 2 سورة يوسف، الأية: 2. 3 سورة الرعد، الأية: 37. 4 سورة الزخرف، الآية: 3.

وكل هذه الآيات في خيالهم السقيم دعوة إلى تمجيد العربية والعروبة, ويجعلون جهاد أولئك الميامين إنما كان لنصرة العروبة لإيمانهم بها, ومعنى كلامهم أنَّ انتصار الإسلام هو انتصار للعروبة, بل هي هدف من الأهداف المهمَّة التي كانت في ذهن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -حسب زعم دعاة القومية العربية المفترين. واستدلالهم بما تقدَّم إنما هو من باب أن الغريق بكل حبل يمسك, فالنصوص في وادٍ وفهمهم لها في وادٍ آخر, وهل يليق وصفهم للرسول -صلى الله عليه سلم- وأصحابه الكرام بأنهم كانوا يهدفون إلى تقوية العرب؟ فلماذا حاربوهم إذا كان كلام دعاة القومية صحيحًا.

الفصل الحادي عشر: إبطال فكرة القومية

الفصل الحادي عشر: إبطال فكرة القومية إنَّ أوَّل ما يدل على بطلان فكرة القومية وأنها شرٌّ لا خير فيها, أن وراء قيامها اليهود والنصارى وسائر الملاحدة, فماذا ننتظر أن تأت به من الخير للبشرية أو للمسلمين بخصوصهم بعد هذه التيارات المنشئة لها. ألم يكن غرض القوميين هو تفتيت أيّ مجتمع متماسك, والانفراد بكل تجمُّع لا يتَّفق وأهدافهم؟ ألم يتفرَّق المسلمون بعد دخول القوميات بينهم, واعتزاز كل قطر بقوميته ومآثره الجاهلية؟ وأصبح المسلمون بصفة عامَّة لا يلوي بعضهم على بعض, بعد أن تقطَّعت الدولة الإسلامية إلى أوصال ممزَّقة يقاتل بعضهم بعضًا في حروب أهلية تأخذ الأخضر واليابس, والقومية تمدُّهم بكل المبررات لهذا السلوك الذي حذَّر منه الإسلام؟ وبالرغم من تلك المناداة الجوفاء التي أطلقها دعاة الفكرة القومية من أنَّ الناس سيعيشون في منتهى السعادة حينما يطبقون تعاليم القومية بحذافيرها, وأن كل قطر يلتزم بها سيصبح محترمًا, فكانت النتيجة أن حلَّ بهم الشقاء والذلّ؛ سواء أكانوا من العرب أو من غيرهم, بل لقد شقي بها من كان مهَّد نشأتها من الدول الأوروبية ونداءات من ينتسبون إلى العرب بخصوصهم, إنما هي دلالات على حمقهم ورعونتهم, وإلّا فأي مستند لهم

أفي القرآن الكريم؟ أم في السنة النبوية؟ هل وجدوا نصًّا فيهما يمجِّد العروبة أو يدعو إليها؟ كلّا. نعم ورد في القرآن الكريم ما يفيد نسبة الشخص إلى قومه, وهذا معروفٌ, فإنَّ لكل شخص قومًا, فهي نسبه بحسب الواقع, وهي أمر معروف وبدهي, وليس في القرآن الكريم الافتخار بالقومية أو الدعوة إلى التجمع حولها, أو جعلها بديلًا عن الدين, بل ما ورد في السنة يدل على عكس ذلك؛ حيث وصفها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنَّها دعوى جاهلة, وأنها خبيثة يجب الانتهاء منها1. ودعاة القومية تجدهم في تلمُّسهم لأيّ أمر يمدحون به القوميات الجاهلية يذكرون بعض الصفات الحميدة من الصدق والكرم والشجاعة والإيثار ونحو ذلك, ويجعلونها حضارة عريقة لهم ويهولون من أمرها ليحببوا الناس إلى الرجوع إليها، ويذكرون كذلك بعض الآثار من العمران والتحف, ثم يقفون أمامها خاشعين ذليلين زاعمين أن أهل العصور المتأخرة لا يمكنهم بحالٍ عمل ذلك أو ما يقاربه, وذلك ليملأوا فراغ قلوب من يصغون لكلامهم ممن قصر فهمهم للإسلام. ومن غرائب الأمور أن ينادي القوميون سواء أكانوا من العرب أو من غيرهم بأنَّ في التمسك بالقومية تحقيق للوحدة والتآلف, فهل تَمَّت الوحدة الشاملة التي ينادي بها زعماء القومية العربية أو غيرهم, أم أن القومية كانت هي المعول الهدّام للوحدة في كل بلد حلَّت به من بلدان العرب أو من

_ 1 صحيح البخاري ج4، ص146-147.

غير العرب {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1. لقد ظنَّ دعاة القومية -إن أحسنَّا بهم الظن- أنّها رابطة حقيقية لتوحيد من يتعصَّبون لهم أيًّا كانت تلك القومية, إمَّا وطنية, أو اللغة بعينها, أو تاريخًا مشتركًا, ولكنها في الحقيقية سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. فقد ثبت بتجارب الأمم على مرِّ التاريخ أن الذي يوحِّد الناس حقيقةً ويؤلِّف بين قلوبهم ويجعلهم كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا, إنما هو الالتزام بمنهج الله تعالى ودينه القويم, وما عدى ذلك فإنه خداع وتضليلات يُرَاد من ورائها مصالح بشرية تزول بزوال تلك المصالح, شأن التشرعيات والاجتماعات الجاهلية التي أبت شرع الله تعالى, وروضوا بالتحاكم إلى الطاغوت والاجتماع على ما يمليه عليهم. وعلى القوميين أن يتفهَّموا مقاله الناس "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل", أو قولهم: "الاعتراف بالحق فضيلة".

_ 1 سورة الحج، الآية: 466.

الفصل الثاني عشر: نقض الأسس التي قامت عليها القومية

الفصل الثاني عشر: نقض الأسس التي قامت عليها القومية لم يكن لدعاة القومية أسس خاصة في الدعوة إليها, وأنَّى يجدون ذلك وهم مختلفون فيما بينهم اختلافًا كثيرًا, فلم يجدوا غير آراء تصوروها لبناء القومية, ثم اختلفوا أيضًا فيها -شأن الباطل دائمًا, وقد عرفت فيما سبق أن من القوميين من ذهب إلى أن أساس القومية هو الاتحاد في اللغة, ومنهم من قال: الاتفاق في التاريخ, ومنهم من جعلها الأرض, ومنهم من قال: هي المصلحة المشتركة بين أفراد الأمة، ولعل سبب اختلافهم يعود إلى أنَّ هذه الآراء لا تركن إليها النفس تمامًا ولا تصل إلى حدِّ القناعة التامَّة, فلهذا كل أدلى بدلوه أو رمى بحجره علَّه يصيب. أ- أما اللغة: فالقول بأنها رباط قومي كذب ينقضه واقع حياة الناس, فقد وقع أنَّ أممًا كثيرة تتكلَّم لغة واحدة ولكن بينهم من التفاوت بل والعداوة ما لا يخفى, وأقرب مثال على ذلك العرب أنفهسم, فهم يتكلمون لغة واحدة, ولكن كم الفرق بين العربي اليهودي, والعربي النصراني, والعربي المسلم, والعربي المشرك؟ بل وأين المسلم من غير العرب ومن غيره أيضًا ممن يتكلّم بلغته؟ ولماذا لم تتحد أمريكا وبرطانيا في قومية واحدة ما دامت اللغة الإنجليزية تجمعهم؟

وبالتالي يقال لهم: كيف تجمَّع أهل سويسرا واتحدوا مع أنهم يتكلمون ثلاث لغات ددون تمييز بينها1؟ وكثير من الأمم على هذا النحو لم يكن للغة أيّ تأثير في سير حياتهم وانتماءاتهم, وإنما هي لإتمام مصالحهم الدنيوية. ب- وأما التاريخ: فإن التاريخ مراحل تمرّ بها البشرية تشتمل على صعودٍ وانحدارٍ على خير وشر, وتقدُّم وتأخُّر في جميع نواحي الحياة, ويحوي كذلك اختلافات كثيرة, أما بالنسبة للمسلمين فإنّ تاريخهم الحقيقي المشرق إنما يبدأ بظهور الإسلام, يحنِّون إليه خلفًا عن سلف, إلّا من أفسدت الحضارة الأوربية فطرته منهم حين يحنّ إلى الحضارات الجاهلية السابقة, ويتباكى عليها ويفتخر بها, ويودّ بجدع الأنف لو عاد عهدها, وهي حضارات قديمة عاشها أهلها بخيرها وشرها, ولم يعد لها في حياتنا الإسلامية أيّ أثر, وبالتالي تكون المناداة بإقامة القومية على تلك الحضارات إمّا بسبب الجهل المطبق, وإما لأغراض أخرى, وفي أولها الانفلات من الشريعة الإسلامية وربط المسلمين بالغرب أو بالشرق بعيدًا عن كتاب ربهم وسنة نبيهم؛ لأن هؤلاء الدعاة قد تشبَّعوا بثقافات تاريخ تلك الأمم المعادية للإسلام, فلا يعرفون بعد ذلك مسلكًا إلّا الانضواء تحت تلك الرايات الجاهلية, وكل إناء بما فيه ينضح.

_ 1 انظر حركات ومذاهب في ميزان الإسلام ص97.

وأنَّى للتاريخ المشترك أن يوجد الألفة الحقيقية بين المتخلفين فكريًّا وعقديًّا, فليس وراءه لا ثواب ولا عقاب يرجى بعد الموت, فأي مبرر يجعل الإنسان يؤثر غيره على نفسه ولو أدَّى إلى موته هو؟ ج- أما الأرض: فقد صادف دعاة القومية في بناء قومياتهم على الأرض المشتركة متاعب وتناقضات جمَّة, وذلك أن الذين يتكلمون لغة واحدة وفوق أرض واحدة ليس بالضرورة أن يكونوا كلهم من جنس واحد وعلى لغة واحدة من البداية إلى النهاية, في أيّ أرض, فقد تنشأ لغة جديدة في بلد وتنتهي عن بلد لأمور كثيرة اعتقادية أو سياسية؛ إذ لا يمكن لأي أمَّة أن تدَّعي أنه لا يوجد لأيّ شخص بينهم انتماء إلى غيرهم, ومن الأمثلة القريبة على ذلك الأمة العربية قبل الإسلام وبعده؛ إذ إنه قبل الإسلام كانت الأرض العربية هي شبه الجزيرة, ولكن بعد مجيء الإسلام دخلت أمم أخرى في الإسلام؛ وحيث إن الإسلام لا يشعر أحد بأنه غريب عنه, وأن الأرض كلها مخلوقة لأجله, فقد دخلت تلك الأمم في الإسلام وأحبوه وأحبوا لغته, وصارت هي اللغة الأساسية بينهم؛ كمصر والمغرب وغيرهما من البلدان التي أصبحت عربية تعتز بدينها ولغتها, فهل يقال: إن الأرض هي التي وحَّدت بينهم وبين سائر إخوانهم العرب المسلمين, إن قالوا هذا فقد ظهر كذبهم، وإن قالوا: إنه الإسلام, فقد قالوا بالحقيقة التي تناقض دعواهم صلاحية التجمع القومي على الأرض بدلًا عن الإسلام.

بل كان الجاهليون العرب أفقر منهم؛ لأنَّ هؤلاء ما كانوا ينادون لا بالقومية العربية ولا بالتحزب والتعصب لها, وحينما جاء الإسلام لم يذمّهم على عدم شعورهم بأنهم على أرض العروبة, وإنما أخذ بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم وعزهم, وهو الشعور بالفخر بالإسلام وتعاليمه, وأنّ العرب قد جاءهم ما يحفظ وحدتهم في اللغة والأرض والتاريخ وسائر الاتجاهات, فكانوا في جهادهم يدعون الناس إلى الدخول في الإسلام لا إلى الانضمام إلى العربية أو إلى شبه الجزيرة العربية. ولو أنَّ دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت موجَّهة من أول يوم إلى التعصُّب للعروبة والقومية وما إلى ذلك؛ لسارع كلُّ العرب إلى الالتزام بذلك والترحيب بها, بسبب ما كانوا يحسُّون به من ضعف عام وتشتُّت وتمزُّق في الآراء والأفكار والأنظمة. فكانوا في حاجة إلى أيّ شخص يتزعَّمهم على أيّ نعرة جاهلية؛ ليحققوا به مبادئهم: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا, وليحققوا به شيم النفوس حينما توغل في الظلم كما قال شاعرهم: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذاع عفة فلعلة لا يظلم فكانوا لا ينقصهم إلّا الشخصية المؤهلة لتتزعمهم؛ لأن الشجاعة موجودة, والإحساس بالفوضى في حياتهم موجود, وكذا الإحساس بالظلم الفادح, بل إنَّ الإحساس ببعدهم عن ربهم كان موجودًا, وما عبادتهم للأصنام إلّا لتقربهم إلى الله زلفى بشفاعتها لهم؛ لشعورهم بالذنوب والتقصير في جنب

الله تعالى, وكثير منهم كان يعلم أن شريعة "مَنْ عَزَّ بَزَّ ومَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ" ليست هي الطريق الصحيح, وأن ما هم فيه من الذل لغيرهم والفقر الشديد والحروب المستعرة. وأحيانًا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلّا أخانا كانوا يشعرون بأنها أوضاع فاسدة لا يمكن أن تصلحها لا القومية ولا الوطنية ولا سائر النعرات الجاهلية، وإنما يصلحها أمر لا يمكن أن يأتي من قِبَلِ الإنسان الظلوم الجهول, وحينما عرفوا الإسلام وجدوا الحقيقة التي كانت تنقصهم ولا يعرفون الطريق إليها.

الفصل الثالث عشر: الإسلام والقومية

الفصل الثالث عشر: الإسلام والقومية ذكرنا في البداية أن الإسلام لا يقف في طريق الشخص إذا انتسب لقومه أو لوطنه أو أهله, بل إنه يشجِّع هذا المسلك ويحبِّذه؛ إذ كان على أساس التواصل وصلة الرحم, بل أخبر الله تعالى أنَّ انقسام الناس إلى شعوب وقبائل هو أمر منه -عز وجل, وأن الحكمة من وراء هذا بيَّنَها -عز وجل- بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ينتسب الشخص إلى غير أبيه, أو ينتمي إلى غير مواليه2, ولا يمنع كذلك أن ينتسب الإنسان إلى الوطن الذي يعيش فيه, ولا لوم عليه إذا أحبَّه لا على أساس الفخر الجاهلي, وإنما لأنه وطنه أواه, فإن تلك الأمور كلها لا حرج فيها, وواقع تعيشه البشرية كلها, ولا يمنعها الإسلام إلّا في حالة واحدة, وهي الحالة التي يصبح ولاء الناس ومعاداتهم ومحبته واجتماعهم وافتراقهم كله قائم على دعوى القومية والتعصب لها, وتقديمها على الأخوة الإسلامية؛ لأن هذا الوضع منحرف؛ لأنه يصبح تشريعًا جديدًا لا تستند فيه مشروعية إلّا على الحكم الوضعي البشري لا إلى حكم الله تعالى, وما أجمل أن يترك الإنسان كل علاقة خارجة عن الإسلام محاكيًا

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 13. 2 أخرجه البخاري ج2، ص661، ومسلم ج2، ص1147.

في ذلك قول سلمان -رضي الله عنه- حينما سمع بعض الناس يفتخر بنسبه وبقومه, فقال عن نفسه: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وأمَّا حينما يصل التعصُّب للقومية إلى أن يقدِّم الشخص ولاءه ومحبته للآخر لأنه من قومه, بينما يبتعد عن الآخر من غير قومه حتى وإن كان صالحًا تقيًّا, فهذا لا يعترف به الإسلام, بل تعترف به القومية الجاهلية, وما أكثر ما ورد عن سير السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من الصحابة, ومن بينهم إحسان ما أكثر ما ورد عنهم تقديم أخوة الإيمان على أخوة النسب أو الدم, ولنا في مؤاخاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في أوّل الإسلام خير شاهد على ذلك, فإن قصصهم العطرة وسيرتهم المرضية لا تزال تضيء نورًا وهاجًا وعبيرًا فواحًا إلى يومنا ذا, تخليدًا من الله تعالى لهم وإكرامًا لأوليائه. وأما القومية العربية التي دعى إليها ساطع الحصري, فهي قومية جاهلية مفرضة لها نفس الأهداف التي كانت نصبَ أعين المتربصين بالإسلام, كما أنه هو نفسه أحد أولئك وإن ظهر بمظهر الغيور على مجد العرب كما يزعم, فإن العرب لا مجد لهم بغير الإسلام, بل هم أمة كانوا في حمئة الجاهلية كسائر الأمم حتى أنقذهم الله بالإسلام, ورفع شأنهم به, ومن زعم غير هذا فقد جانب الحقيقة, وكذب على التاريخ وتشبَّع بما ليس فيه, ولا قيمة لأمجاده التي يزعمها قبل الإسلام, فإن زعمه هذا هو من جنس مزاعم هذا العصر

المعكوسة التي تسمّي الأشياء بغير اسمها, فتستحل الحرام وتحرم الحلال بذلك؛ حيث أضحت الخمر مشروبات روحية, والربا فائدة, والزنا حرية شخصية, وعداوة الآخرين من غير وطنه وطنية, والآراء الفاجرة حرية الكلمة, واحترام الماديات والعلامات وبعض الأماكن واجب وطني لا يجوز الخروج عليه والمساس به وكأنه جزء من الدين, فما الذي يبقى لله تعالى في قلب اقتنع بترهات القوميين, ونسي أن المجد الحقيقي إنما هو في اتباع النور الذي أنزله الله. أما الخدع التي يرددها القوميون بتوافق الإسلام والقومية على أساس التسامح في الإسلام, فإنه كذب محض, وكذا دعوى أن القومية تتَّسع لكل الخلافات الدينية, واستمع لما يقوله مصطفى الشهابي1 من أن المسلم والنصراني كلّ واحد يؤدي عبادته في المسجد أو في الكنيسة ما دام يجمعهما حب القومية العربية؛ لأن الإسلام سمح يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, والنصرانية كذلك تأمر بالمحبة, وكذلك سائر الملل والفرق لا لوم على أيّ واحد منهم ما دام يتوجّه إلى القومية ويتخذها رباطًا جامعًا؛ لأن القومية قابلة لكل اختلافات الأديان, وتذوب في القومية كل الاختلافات الدينية, وهؤلاء الدعاة الذين لا يفرِّقون بين الإسلام وبين غيره من الملل والنحل هم أعداء الدين الإسلامي حقيقة, وهم طلائع الاستعمار الشرقي والغربي, وهم المفرقون بين الناس, والمثيرون للعداوة والبغضاء بين الشعوب المتجاورة والمتعايشة على حسن المعاملة فيما بينهم مع اختلافهم أحيانًا في المعتقدات.

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص130-133.

واستمع أخي القارئ كذلك إلى مزيد من أكاذيب القوميين فيما يزعمه د. علي حسن الخربوطلي1 من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حاول أن يتحرَّر عن القومية العربية, ويعلن نفسه لجميع البشر, ولكنه لم يستطع؛ إذ غلبت عليه القومية العربية وصار يتعصَّب لها ويدافع عنها. وهذا من أشدِّ الكذب والبهتان, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من أشدِّ أعداء الدعوات الجاهلية ومنها القومية, والنصوص في هذا أشهر من أن تذكر. ومن الأمور البدهية أن الإسلام ودعوى القومية لا يتفقان؛ لأنَّ مصدر الإسلام هو الله -جل وعلا, ومصدر القوميِّات هي الجاهليات وعقول البشر القاصرة, كذلك فإن إعراض القومية عن الدين وعدم تحكيمه والرجوع إليه والاستغناء عنه بشعار تلك الجاهليات أمر لا يقره الإسلام ولا يسايره بحال. كما أنَّ تقديم الأخوة القومية على الأخوة على الدين هو كذلك أمر يرفضه الإسلام, وكذا الموالاة يجب أن تكون بين المسلمين لا أن تكون على أساس قومي {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2. كذلك فإن الإسلام يدعو إلى التآلف والتراحم والتساوي في الحقوق والواجبات, وأن أكرم الناس هو أتقاهم لله تعالى, بينما القومية لا تقوم على هذه المفاهيم المشرقة الجميلة, بل تقوم على بغض الآخرين والتعالي عليهم والفخر بالأحساب والأنساب, وغيرها من مخازي الجاهلية التي حاربها الإسلام.

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص130-133. 2 سورة التوبة، الآية: 71.

بل إن القومية إضافة إلى أنها رجوع إلى الجاهلية هي كذلك قدح في كمال الإسلام وردٌّ لما تفضَّل الله تعالى به على هذه الأمة من إكمال الدين ورضاه به, وإخراجهم بالإسلام من الظلمات إلى النور, وإخراج العرب بخصوصهم من حياتهم الجاهلية وخمول ذكرهم بين الأمم, بالرغم من كل ذلك وغيره نجد الكثير من الكُتَّاب السفهاء والكاتبات السفيهات يقلدون أعداء الإسلام من اليهود والنصارى في ذمِّ الإسلام, والإلحاح في طلب العودة إلى الجاهلية التي كانت قبل الإسلام, والعودة إلى حضارتها العظيمة, وقوانينها التي هي في غاية العدالة, وإلى تاريخها المجيد.. إلى آخر الأكاذيب التي تخيَّلوها وسجَّلوها في شكل كتب ونشرات وتمثيليات ومسرحيات, وكلها توحي بصراحة إلى أنَّ العرب وكل الأمم كانوا قبل الإسلام على خير عظيم, وأنهم كانوا على جانب عظيم من الحضارة والقوة والمنعة, ويمجّدون ذلك مما يوحي إلى أنّ الإسلام هو الذي عطَّل مواصلة تلك الحضارات, وأن في الرجوع عنه التقدم والرقي والألفة, ضاربين بكل ما عرفه الناس من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ومما عرفه العقل والمشافهة عن من سبق من أخبار العرب بخصوصهم قبل الإسلام, ضاربين بذلك كله عرض الحائط, فمتى يدرك المنخدعون والمخادعون أن الخير كله في هذا الدين الذي أخبر عنه رب العالمين وشهد له بالخير والحق والكمال.

الفصل الرابع عشر: مصادر دعم القومية

الفصل الرابع عشر: مصادر دعم القومية لقد انهالت على القوميين مصادر دعم كثيرة من جهات معروفة بالكيد للإسلام وأهله, بل والكيد للعربية والعروبة ودعمهم لهم، ومن أكبر الأدلة على عمالة هؤلاء لهم، ومن أولئك الداعمين للقومية: 1- اليهود: واليهود كما وصفهم الله وراء كل جريمة ومؤامرة, فقلَّما تنشأ فكرة ضد البشرية إلّا ووقفوا لتقويتها, ولا طائفة تتربَّص بالدين إلّا ووقفوا إلى جانبهم, وهذا الإجرام منهم هو ما أوصتهم به كتبهم التي يقدّسونها, وحاخاماتهم الذين اتخذوهم أربابًا من دون الله تعالى. ولقد حافظ اليهود على تماسكهم وتضامنهم طوال تاريخهم في الاعتزاز بجنسهم وقوميتهم وعقائدهم التي ورَّثها لهم أكابرهم قديمًا، فلم يذوبوا في أيّ مجتمع مهما امتدت بهم السنوات, ومهما كانت أعدادهم, ومهما كان تفرقهم, وبالإضافة إلى تعصبهم لقوميتهم فهم يتعصَّبون أيضًا للغتهم العبرية, وكان من مكاسب اليهود في انتشار القومية اليهودية والتديُّن بها هو الحفاظ على أفرادهم من الذوبان في أيّ مجتمع يكونون فيه, وبالتالي فإن في انتشار القومية بين مخالفيهم أيضًا مكسب لهم من حيث تمزّق هؤلاء وتشرذمهم؛ وانطواء كل جماعة على قوميتهم, وما يتبع ذلك من التنافس بينهم, واستعلاء

بعضهم على بعض بحكم شريعة القومية, وحينئذ يكونوا لقمة سائغة لليهود؛ لينفردوا بمن يشاءون منهم حتى يكتمل الدور عليهم جميعًا, وقد ظهر هذا واضحًا في مكائدهم الكثيرة بالشعوب حكامًا ومحكومين, وما فعلوه تجاه الدولة العثمانية بالخصوص حين عملوا على تشجيع قيام القوميات والنعرات الجاهلية أقوى مثال, ووصل الأمر حتَّى إلى قصور الخلفاء أنفسهم في آخر دولتهم, فنسي الكثير منهم أن عزَّتهم إنما هي بالإسلام والتعصُّب له, فاستخذوا أمام الضغوط اليهودية والنصرانية في كثير من المواقف بسبب تأثرهم بمختلف التيارات من ناحية, ومن ناحية أخرى لخذلان المسلمين لهم. وقد أقامت اليهودية العالمية روافد عدة لإحياء القوميات في النفوس؛ من ماسونية وعلمانية وجمعيات أخرى, وثورات عارمة للشعوب ضد حكامها, ودعاوي الحرية والإخاء والمساواة, وغيرها من الشعارات, فكانت أكبر كارثة حلَّت بالمسلمين هي سقوط الدولة العثمانية بمؤمرات اليهود؛ حينما ركن إليهم سلاطين هذه الدولة, فكانوا كالذي يفقأ عينه بيده في سماحتهم وتساهلهم ضد أهداف اليهود ومطالبهم المتتابعة, وما يتبع ذلك من استفحال العلمانية جنبًا إلى جنب, مع نعرات القومية التركية التي كان يذكي نارها جمعية الاتحاد والترقي التركية اليهودية الماسونية المعتقد, أو كما يسمونها "تركيا الفتاة". وكل هؤلاء أخذوا يرجعون إلى الوراء بصورة حثيثة لجعل القومية الطورانية هي كل الأمجاد والمعتقدات عليها يلتقون, وعليها يتفرقون, مدَّعين أن الإسلام هو الذي أخفت صوتها وحضارتها.

ومن الجدير بالذكر أن جمعية الاتحاد والترقي - أو تركيا الفتاة- ليسوا أتراكًا حقيقيين, ولا هم مسلمين أيضًا, وإنما وفدوا من عدَّة أقطار متظاهرين بالإسلام -وهم يهود في جملتهم- كما يذكر الباحثون تظاهروا بالتباكي والحنين إلى القومية الطورانية لجمع الأتراك كلهم عليها. وقد علمت مما سبق أن اليهود قد عملوا على إثارة كل القوميات, وضرب بعضها بالبعض الآخر, فإنهم حينما أنشأوا حركة الطورانيين كان عليهم أن يثيروا الحركة العربية والاعتزا بها في مقابل اعتزاز الأتراك بقومياتهم القديمة, وأخذت تلك الحركات تشتعل, لا تلوي على شيء في الوقت الذي نسي فيه الجميع الرجوع إلى الحق والدين, واشتطَّ الأتراك وبدؤا في التعصب وإجبار الناس على اعتناق اللغة التركية وإحلالها محل كل لغة, وهم يعرفون أن النتيجة ستكون فوضى وحمية جاهلية, وهو ما حصل بالفعل؛ حيث استطاع اليهود أن يثيروا حميَّة العرب لعربيتهم لجعلها مصدر إلهمامهم بدلًا عن الإسلام والاعتزاز به؛ ليبقى الكاسب الوحيد لهذا التمزُّق والتفاخُر الأجوف هم اليهود, ولا شكَّ أن النصارى سينالهم نصيبهم من هذه المكاسب أيضًا, فالكل عدو للمسلمين وللإسلام وتعاليمه, وهو ما حصل بالفعل, ولقد عرف العالم ويلات الحروب التي وقعت بين العرب والأتراك, وتدخلات الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا العدو اللدود للمسلمين قديمًا وحديثًا. ب- النصارى: لقد قام النصارى على مختلف عقائدهم واتجاهاتهم بالمؤمرات المستمرّة لتمزيق وحدة المسلمين وإبعادهم عن دينهم بكل ما يستطيعون من جدٍّ واجتهاد

وكان أشد هؤلاء النصارى إيغالًا في المؤامرات هم نصارى العرب في لبنان وفلسطين, وغيرها من بلاد العرب, بدعم مباشر من دول النصارى الكبيرة, وكان أكثر تركيزهم يتمثّل في استجلاب الشباب العربي إلى الدراسة في الدول النصرانية, وفي المحاضرات والمراسلات بينهم وبين ممثّلي النصرانية الحاقدة ومجيء المنصِّرين إلى بلاد العرب مدرسين وكُتَّابا ووعَّاظًا, وفتحوا المدراس والمستشفيات, وجادوا بشتَّى مطبوعاتهم من المقررات الدراسية إلى الموسوعات, فأنشأوا أجيالًا من دعاة القومية من شتَّى المراحل الدراسية, وكانوا من ورائهم دعمًا وتوجيهًا, وأصبحت تلك الأجيال من دعاة القومية المخلصين لها, وكان للجامعة الأمريكية في بيروت حظّ الأسد في نشر القومية العربية ولا تزال, ولم ينس هؤلاء الدعاة إنشاء الجمعيات والمنظَّمات تحت هدف إحياء العربية وإيقاظ العرب بغضِّ النظر عن الدين, وأنَّ الالتفاف على القومية يغني عنه, ونشروا المقالات والأشعار يتغنَّون فيها بماضي العرب, ويحضونهم على عداة كل من ليس عربي, وخصوصًا الأتراك, وكان أبرز القادة في هذا الميدان هم نصارى لبنان وسوريا الذين كانوا يتلقَّون الدعم السخيّ من دول النصارى الكبرى أمريكا وبريطانيا وفرنسا, تملؤهم الغطرسة بإحياء القومية العربية وإحلالها محل الدين, متباكين على حقوق العرب الضائعة ولغتهم المظلومة وحقوقهم المهضمومة -حسب مزاعم هؤلاء, ومن مشاهير هؤلاء الدعاة ناصيف اليازجي اللبناني، وبطرس البستاني اللبناني، وإبراهيم بن ناصيف اليازجي، وعبد الرحمن الكواكبي، ونبيه فارس، وكان هؤلاء الزعماء يعرفون أنهم في حاجة ماسَّة إلى وقوف المسلمين إلى جانبهم في حربهم -خصوصًا- مع الدولة العثمانية, وحيث إنهم على اختلاف في الدين فإنَّ القومية العربية هي القاسم المشترك والموحّد بينهم.

ج- الحرب على الدين: وهو مصدر هامّ من مصادر قيام القوميات, ومحاولة من جملة المحاولات لتشجيع القومية وقيامها على البعد عن الدين, وأن أوروبا لم يمكنها التخلّص من الجهل والحال الذي هم فيه -حسب زعمهم- إلّا بإعلان الحرب على الدين ومن يمثله, بدعوى أن الذي جرَّهم إلى هذا المصير هو الدين والبابوت الذين كانوا يزعمون للناس أنهم مفوضون من قِبَلِ الربّ المسيح, ونادى أولئك الهاربون من الدين بأن البديل عنه موجود, وهو الرجوع إلى القوميات السابقة وأمجادها الغابرة, أما الدين فهو طغيان واستبداد واستعلاء بعض البشر على البعض الآخر, ولم تكن الحرب على الدين من قِبَلِ النصارى والملاحدة فقط, وإنما جدَّ من بعض المغفَّلين المسلمين الذين تشبَّعوا بالقومية العربية من يحارب المسلمين بدافع من حرص على استعلاء القومية العربية, وهذه هي إحدى المكائد التي نجح فيها أعداء الإسلام والمسلمين في محاربة الدين. د- الحركات والمذاهب الهدامة الأوربية: حينما آفاق الأوربيون ورأوا ما حلَّ بهم من الغبن الفاحش على أيدي رجال الدين النصراني هالهم الأمر وثاروا كالبركان الهادر في وجه الديانة النصرانية ورجالها الطغاة’ مستعملين كلّ ما لديهم من الأسلحة الفكرية وغيرها في إيقاف ذلك الطغيان, فقامت حركات وآراء فكرية ومذاهب مختلفة, كلّ يعمل من جهته والمصب واحد, هو القضاء على الدين ورجاله, وكانوا في ذلك الهياج العارم منطقيين مع الحال الذي أوصلتهم النصرانية وطغاتها إليه

فلجئوا إلى القومية وإلى غيرها علَّهم يجدون فرجًا مما هم فيه, وكانت تلك المذاهب المختلفة تمثل تيارًا عاتيًا خارجًا عن أي سلطة, وفي الوقت نفسه كانت هذه المذاهب في حاجة لملأ الفراغ الذي خلَّفه ترك الدين, فكانت القومية البديل الجديد في نظرهم إلى أن يتيسَّر ما هو أحسن منها. هـ- العلمانيَّة والعلمانيون: العلمانية كما هو معروف مذهب هدَّام, والعلمانيون كما عرَّفنا سابقًا هم من أعداء الدين الإسلامي, وممن تفانوا في تضليل المسلمين بكلّ ما أمكنهم من الوسائل عن طريق المنصِّرين, وعن طريق نشر الكتب, وعن طريق نشر الإعلام المرئيّ والمسموع, وعن طريق عملاء لهم من عرب النصارى ومن غيرهم ممن تأثَّر بأفكارهم وارتوَى من سمومهم, وقد جعلوا المجلات التي يصدِّرونها من لبنان ومصر وغيرها سلَّمًا إلى قلوب الناس, وتهيأتهم للانتقال من التعصُّب للدين إلى التعصُّب للقومية العربية وأمجادها. ولقد كان للعلمانيين وما يزال تأثير قوي بين كثير من طبقات الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاقتصادية, وما من نعرة جاهلية تقوم إلّا وللعلمانيين فيها يد طولى, وقد ذكرناها لما لها من الأهمية والتأثير المتزايد خصوصًا في هذه الأوقات التي انتشرت الفتن الهوجاء فيها, سواء في حرب أمريكا وبريطانيا للعراق أو أفغانستان أو غيرهما من البلدان الإسلامية, والتي إلى الأن نسمع التهديدات تلو التهديدات للدول التي لا تنصاع إلى السلوك الأمريكي, وخصوصًا فيما يتعلق بالمناهج الدراسية, بعد أن جرت هذه الأمور

فتنًا مختلفة على أيدي أحزاب وحركات, ثم اصطلى بنارها من لا ناقة له فيها ولا جمل, فكانوا على حدِّ قول أحد الشعراء: وذنب جرَّه سفهاء قوم ... وحلَّ بغير جارمه العذاب و الاشتراكية والشيوعية: الاشتراكية أحد المعاول الهدامة لحرب الأديان وقيام الأحزاب المتصارعة على كل شيء, وهدم كل ما يقف في طريق الاشتراكية من الأديان والأخلاق وسائر السلوك الذي لا ينسجم مع هذه الاشتراكية, وما من شخص ينادي بالاشتراكية إلّا ويقرنها بالقومية, وأن لا انفكاك لبعضهما عن البعض الآخر, غير أن القومية تعتبر بمثابة التهيئة الأولى للاشتراكية والخادمة لها. والاشتراكية هي الغذاء لقيام القوميات وانتشار الشيوعية بعد ذلك, وكل فتنة ترقق التي قلبها مما يوحي بوقوع أخطار جسيمة ستحلّ بالمسلمين إن لم يتداركهم الله برحمته. وقد ورد في الحديث أنَّ كل فتنة ترقق التي قبها, ويقصده -صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان, وما هو عنّا ببعيد, نسأل الله العلي العليم اللطف والتوفيق. ز- قيام حزب البعث: كان وراء قيام حزب البعث الاشتراكي النصارى العرب, وعلى رأسهم النصراني مشيل عفلق الذي جعل حب القومية العربية عقيدةً راسخة تجمع مختلف الناس ومختلف عقائدهم, وكانت الاشتراكية أيضًا من

ضمن منابع القومية التي امتزج بها حزب البعث, وأخذ زعماء حزب البعث على عواقتهم المناداة بأنه يجب أن تبقى الآراء الفكرية هي القاسم المشترك بين العرب تحت لواء الوحدة الثقافية للأمة العربية ذات التاريخ المشترك واللغة الواحدة, تحت بعث جديد يقوده القوميون الاشتراكيون دعاة الاشتراكية التي تبعث على التطور والازدهار, وصد كل الحركات التي تعطّل الأمة وتؤخر مسيرتها, وحينما تمكَّن هؤلاء البعثيون النصارى من الحكم في لبنان وسوريا, كشفوا عن حقيقتهم؛ فإذا هم ينادون بعبادة البعث والعروبة, والكفر بما عداهما, وفي هذا قال أحد شعرائهم: آمنت بالبعث ربًّا لا شريك له ... وبالعروبة دينًا ما له ثان وقال آخر: بلاد قدّسها على كل ملة ... ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم هبوني عيدًا يجعل العرب أمة ... وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحّد بيننا ... وأهلًا وسهلًا بعده بجهنم وكان قيام حزب البعث العربي الاشتراكي على دعوى القومية من الأمور البدهية؛ إذ لا يمكن أن تقبل آراءهم المجتمعات العربية الإسلامية ما داموا يقدّسون دينهم, فإذا تراخت قبضتهم على دينهم أمكن حينئذ أن تطل عليهم مبادئ القومية وأن تزحزحهم عن التعصب للدين إلى التعصب للقومية شيئًا فشيئًا, إلى أن يتمَّ المقصود, ونحن اليوم نعيش خيانة هذا الحزب في ظرف هذه الحرب الضروس التي يخوضها الغرب في العراق.

الفصل الخامس عشر: أهم مشاهير دعاة القومية العربية

الفصل الخامس عشر: أهم مشاهير دعاة القومية العربية - أبو خلدون ساطع الحصر ي: لقد تفاني هذا الشخص في الدعوة إلى القومية العربية بخصوصها, وأعاد وأبدى فيها, وجعلها دينه ومصدر إلهامه, عليها يوالي وعليها يعادي -لحاجة في نفس يعقوب- وغرضه ربط العرب بها بدلًا عن ربطهم بدينهم, وربطهم كذلك بالغرب قلبًا وقالبًا, ومن الغرائب أن بعض الباحثين يذكر أن لغته الأصلية الأولى هي التركية وليست العربية, فما الذي حمله على هذا التقديس للعربية والتعصُّب لها؟ وقد تأثَّر في دعواه إلى القومية بالقوميين الأوربيين وحذا حذوهم, إلّا أنه كان يرى أن القومية ترتكز على أمرين هما وحدة الأمة ووحدة التاريخ دون ما سواهما, خصوصًا الدين الذي تواطأ على إبعاده جميع القوميين، تنقَّل في مناصب مختلفة, أهمها شغله وزارة التربية, وقد وصف بأنَّه فيلسوف الفكرة القومية العربية, ومرجع القوميين العرب, وقد جدَّ في دعوته إلى القومية بحذر شديد, فكان يساير الحكام والمذاهب المختلفة الملحدة وغير الملحدة, مع غمزه في دين الإسلام, وتفضيل رباط القومية على رابطة الإسلام, وأنَّ الإيمان بالقومية العربية يجب أن تكون في حسبان كل عربي, وأن تجتمع الكلمة عليها قبل كل شيء, وأن انضمام الأقوام الذين يتكلَّمون لغة واحدة وتاريخهم واحد وآمالهم والآمهم واحدة يجب أن يجعلوا القومية هي الرباط العام بينهم, ويجب

أن تقوم دولتهم وثقافتهم عليها. وأنحى بالَّلائمة في تأخُّر ظهور القومية إلى تمسُّك الناس بحكامهم, ولم يقل بدينهم حذرًا منه حسب تعاليم الأديان, وكان هؤلاء يعيقون تطلع الشعوب إلى الانضواء تحت راية القومية لئلَّا يضعف الولاء للحكام -حسب زعمه, وكان دائمًا يثير الحماس في نفوس العرب ويبشرهم بأنَّ النصر سيكون في النهاية للقومية, وأنها ستكون هي الرباط الوحيد بين الشعوب, وليس الإسلام الذي يطلب أن تقوم الشعوب -بزعمه- على التعصُّب له, بعد أن تعقَّدت الأمور وظهرت النوازع السياسية المختلفة وتغيِّر مفاهيم الناس.

مصطفى الشهابي

مصطفى الشهابي: كان من النشطاء في الدعوة إلى القومية العربية, وكان يسميها عقيدة القومية العربية, وأنَّ من يناضل في سبيلها فيصاب يسمَّى شهيًدا عنده, وزعم كذلك أن الناس في القديم كانوا يجتمعون على رابطة التديُّن, وأن العرب أحسّوا حينما تمسَّكوا بالقومية أنهم سيحققون كل ما يريدونه لشعوبهم في السياسة وفي الاقتصاد وفي جميع مرافق الحياة, بسبب وجود جامع اللغة فيما بينهم على مختلف ديارهم, مضافًا إليها تاريخهم المشترك الذي يجدون فيه ما كان بين أسلافهم من التكاتُف والتفانِي, وما قدَّموه خدمة لبعضهم بعضًا على مرِّ التاريخ, وما أدَّت إليه هذه المواقف من قوة ومنعة وصمود في وجوه أعدائهم من غيرهم -بزعمه, فانظر كيف يرمي بأنظار الناس إلى التاريخ الجاهلي ويتناسَى فضل الإسلام؟ وكان يردد دائمًا أن الفرق بين القومية العربية والإسلام: أن القومية أدقّ وأقوى في الارتباط؛ لأن العقيدة الإسلامية لم تقتصر على ما اقتصرت عليه القومية من شدّ أزر العرب فقط, وإنما كانت شاملة للعرب ولغيرهم. ويرى أن رباط الإسلام لا يهتم بالعرب ولا يجعل لهم مزيّة على غيرهم, أو احترامًا لحقوق خاصَّة بهم, ولا يعطيهم التميز الذي تعطيه لهم القومية العربية, وهو تحريض سافر على إقصاء الإسلام عن الحياة.

محمد معروف الدواليبي

محمد معروف الدواليبي ... - محمد معروف الدوليبي: من مشاهير دعاة القومية العربية والمغاليين في تقديسها, وقد زعم أن العرب قبل أن يتنبهوا للقومية العربية كانوا في فراغ مميت وانحطاط شديد, وأن ظهور دعاة القومية العربية من تباشير الخير العميم, ودعى بكل حرارة إلى أن يجنّد كل عربي نفسه لخدمة القومية وإعلاء شأنها, والإيمان الراسخ بعقيدة انتشار القومية وانضواء كل العرب تحت رايتها, التي سترفرف فوق كل بلد عربي, ويستظل بظلها كل عربي, وكان يعتقد أن على العرب ألَّا ينظروا إلى رابطة الدين وانضواء الناس على مختلف لغاتهم تحت لوائه؛ لأن هذه النظرة الشاملة ليست هي القومية العربية الخالصة التي يجب أن تقدّم على الروابط العامَّة؛ لأن رابطة اللغة العربية -من وجهة نظره- هي الأساس قبل الإسلام وبعده, وكان العرب قبل الإسلام على مذاهب وأفكار شتَّى من جاهليين ووثنيين ونصارى ويهود, ولم يكن لهم رابط إلّا اللغة العربية والتاريخ المشترك, وهو يهدف إلى إقصاء فكرة أن الدين الإسلامي يجب أن يكون هو الرابط العام, ولكن لا أدري لو سُئِلَ هو السؤال, وكيف كان حالهم حينما كانوا لا تربطهم إلّا اللغة والتاريخ المشترك قبل الإسلام؟ لا أدري بماذا سيجيب. وله مبالغات في مدح اللغة واجتماع كل أمَّة عليها, وأنها مصدر إلهام ومحبَّة وتوافق, وأن الأمَّة العربية من أدناها إلى أقصاها يجب أن يستنيروا بالقومية في جميع مجالات حياتهم ما داموا كلهم يتكلَّمون اللغة العربية, إلى آخر ما عنده من الترهات والهذيان

جمال عبد الناصر

- جمال عبد الناصر: ومن المشاهير في تقديس القومية رئيس مصر جمال عبد الناصر, الذي كانت له صولات وجولات وألقاب فخمة, وتزعَّم في هذا العصر الدعوة إلى القومية العربية, عمل ما في وسعه في سبيل تقويتها وانتشارها, بل وجعلها دينًا مقدًّسًا وعقيدة أساسية, واستحوذ على كثير من مصادر الإعلام في وقته وسخرها لترديد أفكاره القومية وتمجيد العروبة, وأنها هي المنقذ الوحيد لإزالة المستعمرين, والطريق القويم إلى التقدم ونبذ الرجعية, وأن العرب سيعيشون في الجنة التي وعدهم بها الدين, سيعيشونها في هذه الدنيا تحت ظل راية القومية العربية إن استقاموا على الالتزام بتقديس القومية والاشتراكية, وكانت له صولات وجولات ودعايات هائلة, حتى مرَّغ الله أنفه تحت رجليه بهزيمته أمام إسرائيل في دقائق معدودة, فإذا بهذا الجبَّار الذي كان يمدح بأنه أبو الأحرار وقامع الرجعية ورائد العروبة ... و...و ... , بل كان يقال: لن ننهزم وناصر فينا, ثم انحلَّت المعركة عنه فإذا به دمية صغيرة, وأن فأسه كان من طين ولقي الخزي والهوان وهو ينظر إليه.

الخاتمة

- الخاتمة: وبعد هذا العرض الموجَز للقومية يتَّضح لنا بجلاء أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة, وأنها لا يمكن أن تتمَّ عليها المودة والرحمة واجتماع الكلمة, وأنها جاهلية أوروبية ورثها المتطلفون على الحياة الأوربية, وذهبوا يحاولون تجميل وجهها القبيح, ويزخرفون القول فيها لتجتمع عليها الكلمة, ولتحلَّ محلَّ الدين, وأبلوا في ذلك بلاء لا يحمدون ولا يشكرون عليه, وما هي إلّا لعبة سياسية ومقصِدٌ يراد من ورائه أهدافًا ومكاسب, وقد جرَّبتها أوروبا وتبيَّن لهم أنها تفسد أكثر مما تصلح فنبذوها, وقد تلقَّفها اليهود والنصارى وقدَّموها في شعارات برَّاقة للعرب ليكملوا بها تفريق الكلمة والابتعاد عن الدين -وخصوصًا الإسلام, وبعبارة أخرى نقول: لو كانت القومية فيها خير وجمع للكلمة لوحَّدت -أقل ما يمكن- بين قلوب العرب المتنافرة, بل ولو كانت كذلك لكان كل عربي يلهج بذكرها وتمجيدها خصوصًا في أيامنا هذه, وهي أيام نحس وحزن على العرب كلهم, وهم يواجهون تهديدات الدول الكبرى في اكتساح العراق وغيره من بلدان العالم بقيادة أمريكا وبريطانيا وإسرائيل, ولو كان ساسة العرب النابهين منهم يعلمون أنَّ في الدعوة إلى القومية -العربية- فيه أدنى النفع للعرب, فضلًا عن غيرهم؛ لملأوا الدنيا صياحًا وعويلًا على وجوب التزام القومية والعمل تحت لوائها, ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها بضاعة مزجاة لا تصلح إلّا للاستهلاك القومي. وكذلك أيضا الدول الكبرى قد اطمأنّوا تمامًا ووثقوا من إحكام الفرقة بين العرب وبين غيرهم, فلا يرون ضرورة للمناداة باسم القومية العربية, فلهذا لم نعد نسمع ذلك التقديس للقومية الذي كان في زمن مَنْ قبلنا مِنْ

دعاة القومية, وآخرهم جمال عبد الناصر, بل إسرائيل وأمريكا وسائر الكفار لا يريدون أن تطل دعوة القومية العربية برأسها؛ لأنّ مصلحتهم تقتضي عدم ذلك في الوقت الحاضر؛ ولأنها قد أتت ثمرها سابقًا حينما قضوا بها على الخلافة الإسلامية في تركيا ممثَّلة في الحكم العثماني, وبذلك يتبين أن كثيرًا من دعاة القومية من العرب ومن غيرهم إنما هم ببغاوات يرددون ما يسمعونه حرفيًّا من مدربيهم رؤساء الكفر والضلال؛ إذ لا يغيرون حتى كلمات العبارات. - مراجع لدراسة القومية: 1- فكرة القومية العربية في ضوء الإسلام, الشيخ صالح بن عبد الله العبود. 2- حركات ومذاهب في ميزان القرآن, الطبعة العاشرة, سنة 1403, فتحي يكن. 3- الاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها, جمعة الخولي. 4- محمد والقومية العربية, علي حسني خربوطلي. 5- مذاهب فكرية معاصرة, محمد قطب. 6- نقد القومية العربية, الشيخ عبد العزيز بن باز. 7- القومية في نظر الإسلام, محمد أحمد باشميل. 8- الحركة القومية الحديثة في ميزان الإسلام, منير محمد نجيب. 9- في الشعوبية, إسماعيل العرفي. 10- الشعوبية الجديدة, محمد مصطفى رمضان.

الباب السادس عشر: الوطنية

الباب السادس عشر: الوطنية الفصل الأول: بيان حقيقة الوطنية - حقيقة الوطنية: الوطنية دعوة برَّاقة وخدعة كبيرة تستثير في النفوس عاطفة حب الوطن في البدايات الأولى, وفي نهايتها يراد بها الانسلاخ من رابطة الدين, والاكتفاء بها في كل وطن له حدود جغرافية, وموالاة أهله على حبه بغضِّ النظر عن أي اعتبار. وهي نسبة إلى الوطن, أي: الأرض التي يعيش عليها مجموعة من الناس, وقد ظهرت بعد ظهور القومية كرافدٍ من روافد القومية يقصد بها أن يقدّس كل إنسان وطنه فقط, وأن يتعصَّب له بالحق والباطل, وهي بهذا المفهوم لا يقبلها الإسلام ولا يقرها, إلّا إذا كان المقصود بها الناحية الطبيعية التي طبع عليها كل كائن حي من حبه لوطنه الذي يعيش فيه فقط, فإن الإسلام لا يمنع هذا الإحساس والعاطفة, بل يحبِّذه, وكان الصحابة في المدينة يحنّون إلى مكة وجبالها وأوديتها وأشجارها, حتى قال بلال -رضي الله عنه- أو غيره من المهاجرين: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ... بوادٍ وحولي أذخرٌ وجليل وهل أردنَّ يومًا مياه مجرَّة ... وهل يبدونَّ لي شامةٌ وطفيل حتى دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربَّه أن يحبِّبَ إليهم المدينة كحبِّهم مكة أو أشد حبًّا. والوطنية التي نحن بصدد دراستها هي الوطنية الشريرة التي تريد أن تحلّ محلّ الإسلام إلى جانب القومية, ومضيفة إليها بعدًا جديدًا في التفلُّت من رابطة الدين والأخوة الإسلامية, والاكتفاء بالوطنية, وكلتاهما تصب في مجرى واحد وإن اختلفت التسمية.

ذلك أن القومية هي التعصُّب للقوم, ويدخل فيها التعصُّب للوطن. والوطنية هي التعصب لتلك الأرض, ويدخل فيها التعصب للساكنين عليها أيضًا. ومن هنا نجد أن القومية والوطنية يمدّ بعضها بعضًا لتكونا معًا رفادًا من روافد الجاهلية, والنفرة عن الدين, والالتقاء على حب الوطن، بغضِّ النظر عن اختلاف ديانة الموجودين عليها، فالوطنية أمّ الجميع؛ لأن الوطنية توجب أن يتعايش المسلم والنصراني واليهودي والمجوسي وغيرهم على حدٍّ سواء، والقارئ الكريم يجد عبارات القوميين تتضح تقديسًا وتكريمًا للوطن كما قال شاعرهم: بلادي هواها في لسان وفي دمي ... يمجِّدها قلبي ويدعو لها فم وقوله: بلادك قدسها على كل ملة ... ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم وقول الآخر: بلادي وإن جارت عليَّ عزيرة ... وألهي وأن ضنَّوا علي كرام وكأنه لم يسمع قول ابن الورد: حبك الأوطان عجز ظاهر ... فاغترب تلق عن الأهل بدل وهذه الوطنية هي في حقيقتها دعوة لتجزئة أوطان المسلمين, وانطواء كل جزء على نفسه وعدم الاهتمام بغيره من أوطان المسلمين الأخرى.

الفصل الثاني: القومية والوطنية

الفصل الثاني: القومية والوطنية إن الوطنية دعوة جادَّة إلى تجمع أبناء الوطن الواحد على حب الوطن والتفاني في خدمته, والولاء له بغضِّ النظر عن أيّ اعتبار آخر, فلا ينظر الوطنيون إلى اختلاف أبناء الوطن الواحد في الدين أو في اللهجات أو اللغات أو اختلاف الألوان بينهم, فإن الوطنية تحتوي كل اختلاف يقع بين أبناء الوطن الواحد, أمَّا الدعوة إلى القومية فهي أشمل وأعمّ من الدعوة إلى الوطنية بقبولها انضمام أكثر من وطن إليها, مع التقاء الجميع كما عرفت سابقًا, وكلتاهما من جملة السهام الموجّهة إلى وحدة الأمة الإسلامية إن لم يصب هذا أصاب الآخر.

الفصل الثالث: كيف نشأت دعوى الوطنية

الفصل الثالث: كيف نشأت دعوى الوطنية ... الفصل الثالث: كيف نشأة دعوى الوطنية نشأت هذه الفكرة في أوروبا كغيرها من الأفكار الأخرى الكثيرة في ردِّ فعل عارم تجاه أوضاعهم التعيسة التي كانت تقسِّم الناس إلى فريقين؛ فريق هم السادة والقادة وأصحاب الامتياز, وفريق آخر هم العمّال العبيد الذين يساقون كما تساق البهائم, لا قيمة لهم, ولا يجمع بين قلوبهم وقلوب الطبقة الأولى غير الأحقاد والكراهية, والرغبة في التمرُّد بأي ثمن يكون للخلاص من قبضة رجال الدين ورجال الدولة على حدٍّ سواء, بعد أن التقت مصالح رجال الدين ورجال الحكومة على استعباد الناس وتسخيرهم لخدمتهم, وحين وصلت الأمور إلى هذا الحد كان اختراع المبررات للخروج على ذلك الوضع هو التفكير الجادِّ, فاخترعت الدعوة إلى القومية, ثم إلى الوطنية, ثم إلى الأفكار الأخرى كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان ... إلى آخره. وكان إلى جانب هؤلاء المتربِّصون بالكنيسة ورجالها, وبالحكام الذين يظلمون الناس باسم المسيح, كان إلى جانبهم اليهود الذين كانوا محلّ بغض الاضطهاد الديني النصراني حينما كانت النصرانية قوة متنمرة لكل المخالفين لها. فكان الأمر يقتضي أن يقف اليهود إلى جانب أولئك بكل ما يستطعيون؛ علَّها تظهر من وراء تلك الفتن فوائد لليهود, وهم يعرفون كيف يستغلون الأوضاع لصالحهم بعد تأجيج الفتن.

ومن الجدير بالذكر أن دعوى الوطنية حين ظهرت في أوروبا ما كان لها وهي دعوى جاهلية أن تؤلف بين قلوب الأوروبيين برغم تلك الأوضاع, فقامت الحروب الشرسة بينهم, وسفكت دماء لا يعلم عددها إلّا الله تعالى, وكل تلك الحروب إنما كان يراد من ورائها السيطرة وبسط النفوذ, وهي حروب كثيرة وقعت بين فرنسا والإنجليز والإيطاليون وغيرهم في مَدٍّ وجَزْرٍ, استغرق وقتًا طويلًا وقفت أمامها القومية والوطنية ذليلتان. لقد جاءت الوطنية على غرار خبث القومية, ولم يكن تصدير أوروبا الفكرة الوطنية إلّا وسيلة من وسائلهم الكثيرة لغزو العالم كله, وخصوصًا العالم الإسلامي, وتشتيته وتمزيق وحدته؛ ليسهل عليهم إذلال تلك الشعوب حينما تنقطع فيما بينهم روابط العقيدة, وتحل محلها روابط الجاهلية من قومية ووطنية شعوبية, ويصبحون فريسة الأفكار الخادعة, ويتخلَّون عن مصدر عزهم وقوتهم في الإسلام, وقد عرفوا أن إحلال الوطنية محلّ الجهاد الإسلامي بخصوصه هو أقرب الطرق إلى تشرذم المسلمين, وبالتالي يكون جهاد المسلمين لأعدائهم إنما هو لأجل الوطن لا لشيء آخر, فيتحول الجهاد من كونه لأجل نشر الإسلام إلى حركات ثورات وطنية لا تفرِّق بين الدين وعدم الدين, بل ولا تدعو إلى الدين الإسلامي ولا إلى نشر تعاليمه, ولا يقاتلون أعداء الإسلام لأجل الإسلام, بل لأجل أن يتركوا لهم بلادهم وأوطانهم لا غير, ومن السهل على أعداء الإسلام أن يعِدُوا المسلمين ويمنوهم بتركهم أوطانهم؛ إذ أن الطلب في هذا أسهل من طلب الإسلام أو الجزية عن يد وهم صاغرون أو القتال كما هو شعار الإسلام, فإذا صارت المفاوضات سياسية محضة فالخطب هيّن, والوعود والكذب والاحتيال أمر مشروع عند الكفار ضد الإسلام والمسلمين, ولا يصعب عليهم إخلاف الوعود والاعتذارات

بحرارة عندما يتلاعبون بالمواعيد, وبين تلك المواعيد واللقاءات المتكرِّرة والمجاملات يسري في عروق الوطنيين ما يسري من الغزو المنظَّم والانبهار بما عند أعداء الإسلام مما مكَّنهم الله به من العلم بظاهر الحياة الدنيا وزينتها, فتقوم صداقات تنمو شيئًا فشيئًا بين الوطنيين ممن يزعمون الإسلام وبين أعداء الإسلام, بعد أن أُبْعِد الدين ومبادئه في الجهاد عن الساحة وحلّت محله الشعارات الخادعة من القومية والوطنية والإنسانية والتقدمية و ... إلى آخره. وما دام الوطنيون لا يغضبون لله تعالى ولا لدينهم, فبإمكان أعداء دينهم أن يقولوا لهم: لماذا تغضبون؟ ألأجل الاستقلال؟ سنجود به عليكم, بل وستكونون أنتم خلفنا على شعوبكم, وسيقبل الوطنيون بكل بساطة, بخلاف ما لو كان التعصب للدين. ولهذا فمن الواضح أن دعاة الوطنية وقد أُشْرِبُوا حبها بدلًا عن الدين, وتقديسها بدلًا عن تعاليم الإسلام, من الواضح أن هؤلاء غنيمة أعدائهم؛ حيث يرتمون في أحضناهم للاستعانة بهم والركون إليهم في كل شيء سيواجههم, حتى ولو كان ذلك ضد أبناء وطنهم الذين يفطنون لما يبيته لهم الوطنيون عبَّاد الكراسي والشهوات, وكانت قيادة دعاة الوطنية لشعوبهم كقيادة فرعون الذي قال لأبناء وطنه: "ما أريكم إلّا ما أرى". قادوهم إلى جعل الوطن هو المقدَّس أولًا وأخيرًا, وإلى التعلُّق بأذيال أهل الشرق الشيوعي أو الغرب النصراني, وأماتوا شخصية شعوبهم الإسلامية التي تبعث فيهم النخوة والشهامة والاعتزاز بالإسلام, ومعلوم من هذا الكلام أنَّني لا أقصد به ذمّ الذين جمعوا بين حب الوطن وحب دينهم وتواضعوا للناس, وإنما أقصد أولئك الذين باعوا أنفسهم وأوطانهم ودينهم بثمن بخس, وفضلوا المبادئ والنظريات الكافرة, وازدروا الدين الحقِّ وسموه رجعية وتخلفًا.

الفصل الرابع: هل نجحت الوطنية في تأليف القلوب؟

الفصل الرابع: هل نجحت الوطنية في تأليف القلوب؟ إن الوطنية من الشعارات الزائفة, وهي أقلّ وأذلّ من أن تؤلف بين القلوب حينما تبتعد عن هدي خالقها, وتعرض عن دينه القويم, وما يجري في البلاد الإسلامية وغيرها من بطش أصحاب الوطن الواحد بعضهم ببعض عند قيام الفتن لهو أقوى شاهد على فشل الالتفاف حول الوطنية, وأنها دعوى عنصرية لا تلين لها القلوب ولا تدمع لها العيون. إن جمع الناس على الوطنية -بعيدًا عن الدين الإلهي- هو ضرب من الخيال الساذج والسراب الكاذب؛ لأن الله -عز وجل- لا يصلح عمل المفسدين, وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الألفة بين القلوب أمر بعيد المنال إذا لم يوجد العامل الصحيح في إيجاد ذلك, وقد أمتنَّ الله -عز وجل- على عباده باجتماع كلمتهم على الدين, فقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. وقال تعالى ممتنًا على نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- بما وصل إليه المؤمنون من تآلف قلوبهم: {إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي

_ 1 سورة آل عمران الآية: 103.

الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وأين هذا التآلف العجيب الذي كان أحدهم يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة, والذي جعل الشخص المسلم يقدِّم نفسه دون أخيه في كل شيء, والذي جعلهم كالجسد الواحد, وكالبنيان المرصوص, أين هذا التآلف من دعوى التآلف على الوطنية القائمة على الجهل والغرور والكبرياء والبغي بغير الحق وتبادل المنافع؟ أليس فاقد الشيء لا يعطيه؟ إن الوطنية لم تقم على تقوى الله تعالى ولا على الخوف منه -عز وجل- أو الحب فيه, وإنما قامت على نزغات الشيطان, والشيطان يهدم ولا يصلح, ويفرق القلوب ولا يجمعها, فمن أين إذًا يأتي التآلف والمحبة بين أفرادها, إنك لا تجني من الشوك العنب. وإذا كان ما قدمنا دراسته عن القومية يعطي صورة واضحة عن فشلها وبعدها عن أهداف الدين الحنيف الذي يقول للناس: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 2. إذا كان ما قدمنا يدل على خيبة القومية وهي الأصل, فما هو الظن بالوطنية وهي المتفرعة عن القومية, لا ريب أنهما نبتتان خبيثتان لا تقدمان إلّا خبثًا {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 62-63. 2 سورة الأنبياء الآية: 92. 3 سورة يونس الآية: 25.

أرأيتم لو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحاشاه- تعصَّب لقومه ولوطنه مكة, من كان سيوصل الإسلام إلى المدينة النبوية, ولو أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعصَّبوا لأوطانهم في الحجاز, من كان سيوصل الإسلام من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي, بل لو تعصَّب المسلمون لقوميَّاتهم وأوطانهم, فما الذي سيقدمونه للناس إن قدر لهم أن يفتحوا بلدانهم؟ وانظر في كتاب الله -عز وجل- هل تجد آية خاطب الله فيها قومًا أو وطنًا أو جنسًا على جنس بطريقة التعصب والقومية أو الوطنية أو الإشادة, أو تجد في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من ذلك؟ كلَّا. بل ستجد قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. وستجد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 2. وستجد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 3.

_ 1 سورة آل عمران الآية: 101-102. 2 سورة الحجرات الآية: 135. 3 سورة الأنبياء الآية: 92.

وستجد آيات كثرة كلها تنادي البشر بأنهم على حدٍّ سواء أمام الله تعالى, وأنَّ التفاضل بينهم عند الله لا يكون إلّا بالتقوى, وأن التفاخر والتعالي إنما هو من طبيعة الشيطان, ومن يتبعه كما ستجد في السنة النبوية مثل هذا المفهوم الحق -وقد مرَّ ذكر أحاديث في ذلك- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الخامس: الإسلام والوطنية

الفصل الخامس: الإسلام والوطنية والإسلام وإن كان لا يمنع حب الشخص لوطنه لكنه يوجب ملاحظة أمور لا بُدَّ أن تكون في حسبان المسلم, وأن يلاحظها بدقة فلا يوالي ويعادي من أجل الوطن, بل يجعل الولاء أولًا لله تعالى؛ عليه يوالي وعليه يعادي, فلا يقدِّم محبة الوطن أو أهل الوطن على محبة الله تعالى ومحبة من يحبه عز وجل, كذلك يجب أن لا يكون حب الوطن ينشأ عن عصبية جاهلية أو على طريقة الجاهلين انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا, بمعنى الوقوف إلى جانبه سواء كان على حق أو على باطل بحجَّة أنه أخاه في الوطن, بل عليه أن يراعي الأخوة الإسلامية قبل أخوة الوطن, فإن أخوة العقيدة أثبت وأنفع من أخوة الوطن على طريقة خاطئة. وكل محبة في الله تبقى ... على الحالين من فرج وضيق وكل محبَّة فيما عداه ... فكالحلفاء في لهب الحريق ومما لا مجال للشك فيه أن المسلمين ما ضعفوا وما استكانوا إلى يوم قدموا الوطنية وافتخر كل أهل وطن بوطنهم, ولم يهتم بعضهم بالبعض الآخر, فكان الجميع لُقْمَةً سائغة لأعدائهم, فانفردوا بإذلال أهل كل وطن كما هو الوضع الآن, وانتشرت مع الأسف دعوات جاهلية صار يرددها الكبير والصغير والمرأة الرجل, وهو شعار التضحية في سبيل الوطن, أو بذل الدم من أجل تراب الوطن, ونحو ذلك من الكلمات التي أثمرت التخاذل حتَّى عن الدفاع الجادّ عن أوطان

المسلمين وأعراضهم نصرة المظلومين وإرجاع الحق لأهله, بعد أن ماتت هممهم وغيرتهم وتوزعتهم الأهواء وأثخنت فيهم الدعايات الجاهلية. إن دعاة الوطنية لم يقفوا بها عند حدٍّ فقد قدّسوا الوطنية إلى حد العبادة من دون الله تعالى, وأحلوها محل الدين, وصاروا لا يدعون إلّا إلى تقديسها, ونسيان كل أهل وطن مِمَّن عداهم من أوطان المسلمين الأخرى, ونشأ عن تلك الدعوات الفخر والخيلاء والاستكبار بغير الحق والتعالي والغطرسة الكاذبة, بل وركن أهل كل وطن على قومهم في وطنهم في كل شيء حتى في الانتصار على الأعداء, فَقْد نسوا أن النصر من عند الله تعالى, فصاروا يمتدحون بأن الوطن سيمنحهم الشجاعة والنصر والعيش الكريم, وأنَّ وطن كل طائفة سيصبح مقبرة للغزاة والطامعين, ولكنها جعجعة ولا ترى طحنًا وعنترة جوفاء فضحتها الوقائع القائمة. وقد بلغ من تقديس الأوطان عند دعاة الوطنية الجاهلية أن يطلبوا إلى كل شخص أن يقدِّس وطنه على كل الملل والأديان, وأن يضحي بكل ما لديه لوطنه: بلادك قدسها على كل ملة ... ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم بل وقال: سلام على كفر يوحِّد بيننا ... وأهلًا وسهلًا بعده بجهنم وإذا وصل الإنسان في حب وطنه إلى هذا الحد فماذا سيبقى لحب الله, وللمحبة في الله ما دام حب الوطن هو كل شيء في حياة الإنسان, عليه يحيا

وعليه يموت وعليه يوالي وعليه يعادي وبه يفاخر, وإياه يقدس إلى حدّ أن الأوطان أصبحت وكأنها أوثان تعبد من دون الله تعالى, وكل صاحب وطن يدَّعي أن وطنه هو أفضل الأوطان, وتربته أفضل تربة, وأنه وطن معطاء يكفي من تمسك بحبه كل مكروه, ويفتخر برجاله وبعطائهم اللامحدود -هكذا- في المقابل لا بُدَّ أن يحتقر البلدان الأخرى وجهود الرجال الآخرين من بلدان المسلمين ورجالاته في ردِّ فعل سواء شعر بذلك أم لم يشعر به. فلا حرج في دين الوطنية أن يفتخر الشخص برجال وطنه ويقدم حبهم على من سواهم, حتى وإن كان أولئك غير مسلمين, فالوطنية دين الجميع. ومعلوم أن هذه المبالغة لا يقرها الإسلام الذي يدعو أتباعه إلى أن ينصهروا كلهم في بوتقة الإسلام, ويدعو أتباعه لأنْ يكونوا في هذه الأرض كأنَّهم جسم واحد وفي وطن واحد, ويوجب على كل مسلم أن يدافع عن كل شبر من أوطان المسلمين, وأن يغار عليها حتَّى لو أدَّى ذلك إلى قتله, فإنه يكون شهيدًا مقاتلًا في سبيل الله تعالى, فإن مَنْ لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم, وقد ذكر بعض العقلاء أنه من ضيق الأفق تقوقع الإنسان في مكان واحد وصبره فيه على كل ما يصيبه من أنواع المكاره حبًّا لذلك المكان. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيما ينسب إليه: إني رأيت وقوف الماء يفسده ... إن يجر طاب وإن لم يجر لم يطب ووطن العاقل هو المكان الذي يتهيئ له فيه عبادة الله تعالى, ويقوم بدينه, ويصون نفسه وعقيدته من الانحراف, آمنًا مطمئنًا على نفسه ودينه وعرضه.

الفصل السادس: نتائج تقديس الوطنية

الفصل السادس: نتائج تقديس الوطنية أثمرت الدعوة إلى الوطنية ثمارًا خبيثة, وبرزت العصبية البغيضة, وانتزعت الرحمة بين الناس وحل محلها الفخر والخيلاء والكبرياء؛ حيث تعصَّب كل شعب لوطنه واحتقر ما عداه في صور مخزية مفرقة, ومن أقوى الأمثلة على ذلك ما حصل عند الأتراك -بفعل دسائس اليهود ضد الدولة الإسلامية العثمانية-حيث نفخوا في أذهان الوطنيين الأتراك وجوب العودة إلى الافتخار بوطنيتهم الطورانية التي كانت موجودة قبل الإسلام, والعودة إلى تقديس شعار الذئب الأغبر معبودهم قبل الإسلام ونفخوا في الوقت نفسه في أذهان العرب والوطنيين الحنين إلى الاعتزاز بالوطنية العربية وتقديمها على كل شيء, بل جعلها إلها كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه} 1 وقد عبَّر شاعرهم عن ذلك بقوله: هبوني عيدًا يجعل العرب أمَّة ... وسيروا بجثماني على دين برهم فماذا ينتظر من الوطنيين حينما تكون الكلمة لهم؟ غير جعل الوطنية هي الدين، وهل حقَّق هؤلاء السفهاء الأشرار كلامهم في حب الوطنية العربية؟ وماذا فعلوا ضد اليهود في فلسطين وفي غير فلسطين؟ ماذا قدَّموا غير الصراخ والعويل والنباح والتهديدات الجوفاء لتحرير القدس والأمة العربية؟ يرددون كلامًا ممجوجًا مكررًا وشعارات أصبحت مهازل

_ 1 سورة الجاثية، الآية: 23.

يستحي منها العقلاء على أنَّه لم يقتصر الضرر فقط على ما تقدَّم, وإنما كانت وراء خدعة الوطنية أغراضًا سياسية وثقافية واجتماعية؛ حيث بدت الدعوة للوطن تفرق بين الولاء لله تعالى وبين والولاء لغيره تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع", وبالغوا في وجوب حب الوطن وأنه مشاع بين جميع المواطنين حتى السياسية منها, ومن هنا تَمَّت اللعبة على كثير من بلدان المسلمين؛ حيث أصبح المواطن النصراني أو اليهودي أو العلماني أو الشيوعي حتى وإن لم يكن من أهل ذلك البلد في الأساس فإنَّ من حقِّه كمواطن أن يصل إلى أعلى الرتب التي يتمكَّن من خلالها من التحكم في مصائر أهل تلك الشعوب الإسلامية, وهو ما هدف إليه أعداء الإسلام من دعمهم السخي لأولئك الأقليات في تلك البلدان الذين هم في الأساس عملاء لتلك القوي الكفرية العالمية, نجحوا في ذلك وفي نهاية الأمر, وهو نتيجة لتمكن أولئك من السلطة, أصبح هؤلاء ينادون بأن الوطن والعيش فيه هو في الدرجة الأولى لهم, وصاروا ينظرون إلى أهل تلك الأوطان الإسلامية بأنهم غرباء, وأحيانًا يسمُّونهم عملاء, وبالتالي فمن حقهم أن يضطهدوهم, وهو ما تَمَّ في بعض ديار المسلمين التي أصبح الحكم فيها لغير المسلمين, بل وطرد المسلمين وحوربوا, ونُفِّذَ المخطط المعادي للإسلامي بكل دقة, وكأن الشاعر يندب حظهم حينما قال مفتخرًا: يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا ... نحن الضيوف وأنت رب المنزل وبهذا يتضح أن دعوى الوطنية وكذا القومية وكذا الإنسانية والأخوة والمساواة وحرية الكلمة وتقبل الرأي والرأي الآخر ما هي إلّا لعب سياسة ماكرة ودعوات يراد من ورائها مكاسب سياسية وعقدية. وفي لبنان

وفلسطين أقوى الشواهد, واتَّضح أن الدعوة إلى كل النعرات الجاهلية لم ينتفع بها إلّا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى ليندمجوا مع المسلمين تحت هذا الاسم؛ لأنَّ الغرض من قيامها في الأساس هو لتحقيق هذا الهدف, فلا يبتلى بها مجتمع إلّا وأصيب بهذا الداء العضال من تراخي القبضة على الدين, ومن تمجيد تراب الوطن وكل ذرة رمل فيه, وأنه وطن مقدَّس دون غيره من بلاد الآخرين, فاخترعت له طقوس وشعارات, واخترعت له أعياد -هي غير الأعياد الإسلامية,’ ويتبادل الناس فيها التهاني والتبريكات, وتتعطل كثير من المصالح لانشغال الناس بتلك الأعياد, بينما الإسلام ليس فيه إلّا عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى, وعيد صغير هو يوم الجمعة, وطلب أقطابها من الناس أن يقدّموا دماءهم رخيصة من أجل تراب الوطن بدلًا عن الجهاد في سبيل الله تعالى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل جاءت ثالثة الأثافي وهي كثرة الأماكن المقدّسة, فمرة يدعون إلى تقديس تراب الوطن كله, ومرة يدعون إلى تقديس بعض المدن أو الأماكن التي قد لا يعرف لها ذكر ولا سابقة خير, بل أحيانا يدعون إلى تقديس أماكن عرف عنها الشر, وربما وصل الحال إلى أن يختلط الأمرعلى من لا معرفة له بالأماكن المحترمة من غير الأماكن المحترمة, والمسلمون يعلمون أن الأسلام لا يدعو أحدًا إلى تقديس أيّ مكان في هذه الدنيا, ولا يجد المسلمون بلدًا تحن إليها النفوس وتترقرق عنده الدموع إلّا مكة المكرمة والمدينة النبوية, وليس ذلك لذات المكان أو لترابه, وإنما هو لما شرَّفهما الله به من جعلهما أماكن عبادة فاضلة, ومن بعثة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-

وبزوغ فجر الإسلام فيهما, ومن ظنَّ أن هذا الاحترام والتقدير إنما هو لترابهما فهو جاهل, فقد كانت المدينة تسمَّى يثرب, وكان فيها ما ذكره العلماء عنها من أنها أرض وباء وحرة جرداء حتى شرفها الله تعالى بنزول نبيه فيها, ودعاؤه لها بالبركة, وأن ينقل حماها إلى الجحفة, ويبارك في مدها وصاعها, وأن يحببها إليهم كحبّهم مكة أو أشد, إلى غير ذلك من أخبار هذا البلد الطيب, وكذلك مكة فإنها وادٍ غير ذي زرع, شرَّفها الله بالكعبة, ولكن في عرف الوطنية ليست العبرة بالصفات وإنما العبرة بذات الأرض, وأحيانًا تقدس الوطنية الأرض؛ لأن هواءها جميل, وأشجارها باسقة, ونحو ذلك مما ينظر إليه الشخص القصير النظر الضيق الفكر. وليت شعري ما الفائدة من تقديس الوطنية إذا كانت ثمارها قطع كل صلة للشخص بما وراء وطنه, وبالتالي قطع أواصر المودَّة بين أواطان المسلمين, وأن كون الولاء والبراء قائمًا على الوطنية لا على الأخوة الإسلامية, وأن يغضب الشخص لوطنه أكثر من غضبه لدينه, والتعصب لبني وطنه وتقديسهم سواء كانوا قبل الإسلام أو بعده مقدمًا لهم على أواصر الأخوة في الدين؛ بحيث يجب أن يحب الملحد الوطني على الصالح من غير وطنه حسب شريعة الوطنية, أليست هذه معاول هدم تفرّق ولا تجمع؟ وتشتت المسلمين وتضعفهم؟

تعقيب على ما سبق

- تعقيب على ما سبق: وأخيرًا فإنه يتضح مما سبق: 1- إن القومية والوطنية بينهما ترابط شديد وإن كان مفهومهما في الظاهر مختلفًا, ولكن في حقيقتهما تلازم يرتبط بعضه بالبعض الآخر؛ إذ لا تجد من يتصف بأحدهما إلّا وهو متصف بالآخر حتمًا. 2- إن الدعوة إلى هاتين النعرتين الجاهليتين قد أراد أصحابهما أن يحلوها محل الدين. 3- إن الإسلام قد حاربهما حربًا شعواء وبيَّن الأخطار التي تكمُن من وراء قيامها. 4- إن ظهورهما في بلاد المسلمين -على الصورة المستعرة التي هي عليه اليوم- إنما كان بدسائس اليهود والنصارى وسائر الدول الغربية الحاقدة. 5- يجب على كافة الدعاة إلى الله تعالى وطلاب العلم أن يجتهدوا في محاربتهما, وبيان ما تحملانه من تدمير للإسلام والمسلمين, وبيان أن الإسلام دين كامل إلى يوم القيامة, وأن الخير والسعادة للبشرية تكمن في الانضواء تحته وتطبيق تعاليمه, ومعرفة ما كان عليه حال العرب قبل الإسلام, وكيف تحولوا بعده إلى أن كانوا قادة العالم ووجه الأرض المشرق.

الباب السابع عشر: المذهب الوضعي

الباب السابع عشر: المذهب الوضعي الفصل الأول: حقيقة المذهب الوضعي ... الباب السابع عشر: المذهب الوضعي وتشمل دراسة هذا المذهب الفصول الآتية: الفصل الأول: حقيقة المذهب الوضعي المذهب الوضعي, ويقال له: المذهب الواقعي أيضًا, أو سيادة الطبيعة والحس, وهو مذهب إلحادي محارب لله تعالى ولكل الأديان, لا يؤمن إلّا بالمحسوسات وما ينتج عن التجارب, وهو بمثابة تهيئة للماركسية فيما بعد, إلّا أنه كان في إحدى مراحله يؤمن بدور العقل في المعرفة في العصور الوسطى, إلى أن جاء عصر التنوير في القرن الثامن عشر, فكان له دور واضح أيضًا في المعرفة, ولكن انتهى اعتباره في القرن التاسع عشر هو والدين أيضًا؛ إذ لم يعد لهما دور بعد هذا التطور الذي تصوره الوضعيون. وجاءت بعد ذلك الماركسية لتؤكد نهاية صلاحية الدين والعقل, والاعتماد فقط على الطبيعة, وإنكار العالم الآخر وسائر المغيبات التي أخبر بها الدين في الحياة الآخرة. وأحلَّوا الطبيعة هذه محل الإله, فهي التي تخلق وتقدر الأمور على حقيقتها, واعتبار ما جاء خارجًا عنها ما هو إلّا وهمٌ وخداعٌ سواء جاء عن طريق العقل

أو غيره, مما تثبته الأديان من الوحي الإلهي الذي نتج -كما يكذبون- عن البيئة والوراثة والحياة الاقتصادية, وكان هدف الوضعيين هو مقارعة رجال الدين النصراني وإبطال مقالاتهم في الدين بالدين الوضعي الجديد, أو دين الإنسانية. وقد جاء في الموسوعة العربية الميسَّرة أن الوضعية مذهب فلسفي يقيم المعرفة على نطاق الخبرة الحسية, وأمَّا ما يتجاوز الخبرة الحسية فمعرفته مستحيلة ... كان "هيوم" رائدًا للمذهب الوضعي، و"أوجست كونت" داعية له1. وقد بدأ ظهور مذهب الوضعية في شكل قوة ظاهرة مع بداية القرن التاسع عشر على أنقاض عصر التنوير كما يسمونه. ثم اشتد بعد ذلك وأصبح يراد به سيادة الفكر المادي, أو سيادة الطبيعة والتجربة الإنسانية والواقع الذي هو أساس كل الأمور دون غيره. وكان "هيوم" الذي تشبَّع بفكرة الوضعية يجادل لتصحيح مذهبه هذا, ويثير شبهات سخيفة لتقوية الإلحاد وإنكار وجود الخالق, فأنكر ارتباط الأسباب بمسبباتها على الحقيقة, واعتبر أنها فرضية عقلية غير حقيقية, بدليل أن الأسباب لا تفعل شيئًا تجاه مسبباتها, وسبب ذلك إنكاره قدرة الله تعالى وأنه هو المسبِّب الحقيقي في إظهار الأمور عند فعل أسبابها إذا أراد الله ذلك, وقد تفعل الأسباب, ولكن لا ترى المسببات إذا لم يشأ

_ 1 انظر الموسوعة العربية الميسَّرة ج م, ص1954, وانظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص42.

الله ذلك, فليست الأسباب هي الفاعلة بنفسها, كما أنكر إرادة الإنسان في عمله, بل هو يعمل كل ما يعمله آليًّا ودون إرادة مسبَّقة, وهو إنكار يدل على جهله, فإن كل إنسان يحسّ في نفسه إرادة مسبقة للعمل الذي يريده, سواء أكان فيه مصلحة أو مضرة, وقد يعمل الشخص العمل الذي فيه مضرَّة عاجلة لما يرجوه من المصلحة الآجلة فيه, فلو لم تكن له إرادة لما أقدم عليه ذلك. وله مزاعم كثيرة لا يدل عليها أيّ دليل لا من العقل ولا من النقل ولا من التجارب, وإنما هي فلسفات خيالية1.

_ 1 انظر كواشف زيوف ص453-456.

الفصل الثاني: زعماء المذهب الوضعي

الفصل الثاني: زعماء المذهب الوضعي لهذا المذهب مشاهير كثيرون من الفلاسفة والثائرين المناوئين للدين النصراني في أزمانهم المختلفة المتأخرين منهم، ومنهم: - الفيلسوف الإغريقي "بروناجوراس" في القرن الخامس قبل الميلاد. - الفيلسوف "بايل" في النصف الثاني من القرن السابع عشر, وهو فيلسوف فرنسي. - الفيلسوف "دافيد هيوم" الأسكتلندي. - الفيلسوف "أوجست كونت" الفرنسي. - الفيلسوف "لودفيج فيرباخ" الألماني. وقد اعتبر الفيلسوف الإغريقي "برونجاوراس" المؤسس الأول للبدايات الأولى لهذا المذهب، وأمَّا "بايل" فقد طوَّر المذهب، إلّا أن المؤسس الحقيقي للفلسفة الوضعية هو "أوجست كونت", وأما "لودفيج فيرباخ" فكان عمله كتهيئة للمذهب الماركسي، ومنهم "سان سيمون"، و"ريتشارد كونجريف"، ومن العرب "زكي نجيب محمود"1.

_ 1 انظر الموسوعة الميسرة ج2، ص821, وانظر الاتجاهات الفكرية وكواشف زيوف.

الفصل الثالث: سبب قيام المذهب الوضعي من أهم الأسباب لقيام هذا المذهب عدم قناعة واضعيه بما كان يقوله الدين النصراني في تعليلاته للأمور, والعناد الذي كان يبديه رجال الكنيسة ضدَّ أي معرفة تظهر على يد أي شخص لم يكن من البابوات, ولايجوز أن نغفل عن مؤمرات اليهود وتشجيعهم كل ما يمكن أن يلحق الضرر بالجوييم وعقائدهم وسلوكهم, فقد تفانوا في خدمة كل الحركات الضالة, وقدَّموا أنواع المساعدات في ذلك, وقد ازدهر المذهب الوضعي في فرنسا بطبيعة الحال, ومنها انتقل إلى انجلترا وأمريكا, ويمكن أن نعتبره بداية انتقال الإلحاد الشيوعي إلى روسيا.

الباب الثامن عشر: الإلحاد

الباب الثامن عشر: الإلحاد مدخل ... الباب الثامن عشر: الإلحاد وتتمّ دراسة هذا المذهب من خلال الفصول الآتية: تمهيد: الفصل الأول: المراد بالإلحاد. الفصل الثاني: كيف تدرجوا في إظهار الإلحاد. الفصل الثالث: أقسام الإلحاد. الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد. الفصل الخامس: هل يلتقي الإسلام مع الأنظمة الإلحادية. - تمهيد: لقد أثرى علماؤنا المكتبات الإسلامية بدراساتهم المستفيضة عن هذه الظاهرة الشاذة من تاريخ البشرية, وجاءت كتاباتهم على صور شتَّى بين مقلٍّ ومُكْثِرٍ, وأسلوب سهل وأسلوب عميق, وعن دراسات شاملة وأخرى مختصة بجوانب دون جوانب, وقد يجد بعض القراء صعوبة في لَمِّ شتات هذه الدراسات والخروج منها بفكرة يمكن للذهن أن يمسك بها ويستوعب أهم معالمها إلا بصعوبة, وما دام الأمر يقتضي دراسة هذا المذهب الهدَّام, وتكثير الأصوات عليه, وتقريب شتات ما وزَّعه العلماء في كتاباتهم نحوه

هنا وهناك, أحببت أن يكون جهدي المتواضع متوفِّرًا على تقريب تلك المعلمات المتشتتة وجعلها في متناول القارئ الذي قد لا يجد الوقت الكافي للرجوع إلى المصادر الأساسية المطوَّلة, أو قد يصعب عليه استخراج ما يهمه معرفته عن هذا المذهب الفكري الهدام لأي سبب كان, ومن هنا أصارح صديقي القارئ بأن الحديث عن الإلحاد والشيوعية واستكمال دراستهما لا يمكن أن يكون كاملًا في هذه العجالة التي يراد بها إعطاء صورة مصغَّرة ينتفع بها المستعجل إن شاء الله, وفيما يلي الإشارة إلى أهم تلك الجوانب:

الفصل الأول: المراد بالإلحاد

الفصل الأول: المراد بالإلحاد المراد بالإلحاد الذي نحن بصدد دراسته: كل فكر يتعلق بإنكار وجود خالق هذا الكون -سبحانه وتعالى, سواء أكان عند المتقدمين من الدهرية, أو عند من جاء بعدهم من الشيوعيين والماركسيين, بمعنى أن وصف الإلحاد يشمل كل مَنْ لم يؤمن بالله تعالى, ويزعم أن الكون وُجِدَ بذاته في الإزل نتيجة تفاعلات جاءت عن طريق الصدفة ودون تحديد وقت لها, واعتقاد أن ما وصل إليه الإنسان منذ أن وُجِدَ وعلى امتداد التاريخ من أحوال في كل شئونه إنما وُجِدَ عن طريق التطور, لا أن هناك قوة إلهية تدبره وتتصرف فيه. ولا ريب أن الإلحاد فكرة شيطانية باطلة لا يقبلها عقل ولا منطق, غذَّاها اليهود لتحطيم حضارات وأديان العالم كلهم؛ لإقامة حكمهم في الأرض كلها كما دوَّنوه في كتبهم. وقد يسأل سائل فيقول: وما مصلحة اليهود من وراء ظهور الإلحاد؟ والجواب: هو إضافة إلى ما سبق, فإن اليهود يبغضون ديانات العالم كله، والعالم يبغضون ديانة اليهود, فإذا تمكَّن اليهود من إبعاد الناس عن حضاراتهم ودياناتهم واسبتدلوا عن ذلك بالإلحاد, فإنه سيسهل حينئذ أن يتقارب اليهود مع غيرهم, وسيسهل قيادتهم أيضًا إلى تحقيق المخطَّطات اليهودية التي تنتظر التنفيذ. ولم يكن أحد من البشر منذ أن أوجدهم الله تعالى مستيقنًا حقيقة

إنكار وجود الله تعالى, ولم يظهر في شكل مذهب أو دول، وإنما كان ظهوره في شكل نزعات لبعض الأشرار الشواذّ, إلى أن ظهرت الفلسفة الإلحادية الحديثة المنحرفة على يدي "ماركس" ورفاقه من اليهود الماسون, الذين كانوا وراء إشعال هذه الفتنة الإلحادية لمآرب سياسية {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1. وقد علا شأن الإلحاد في عهد "ماركس" وعهد من جاء بعده علوًّا كبيرًا, إلى عهد آخر رئيس لما كان يسمَّى بالاتحاد السوفياتي، وهو "ميخائيل جورباتشوف", فأراد الله -عز وجل- أن يظهر كذب الملاحدة, فإذا بالشيوعية -التي تمثل قمة الإلحاد تموت في عقر دارها- وإذا بالشعوب المقهورة تعود إلى الاحتفال والاحتفاء بالأديان, وتعلن ما كانت تخفيه من حب الله وأنبيائه ورسله, ورجعوا إلى المساجد والكنائس وسائر المعابد معلنين رفضهم الفكر المادي الإلحادي, وفي بعض تلك الدول التي كانت تعلن الشيوعية والإلحاد شنقوا تماثيل بعض أقطاب الإلحاد الشيوعي تشفيًّا منهم، مما يدل دلالة صريحة على أن فكرة الإلحاد فكرة طائرة سخيفة لا مكان لها إلّا في قلوب فئة من شواذ الناس ماتت نفوسهم وانحرفت فطرهم وكابروا عقولهم, ومن الغريب أن يسند الملاحدة وإلحادهم إلى العلم -وهو كذب مبين- كما سيتبين ذلك من خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.

_ 1 سورة النمل، الآية: 14.

الفصل الثاني: كما تدرجوا في إظهار الإلحاد؟

الفصل الثاني: كما تدرجوا في إظهار الإلحاد؟ ... الفصل الثاني: كيف تدرجوا في إظهار الإلحاد؟ عرفت مما سبق أن الإلحاد لم يكن ظاهرة جماعية على امتداد التاريخ الإنساني, وإنما كان نزعات شاذة, إلى أن تبنّت اليهودية العالمية هذا الفكر لتقضي به على جميع الأديان؛ ليسهل عليهم بعد ذلك استحمار العالم لهم, وإقامة دولة اليهود الكبرى العالمية التي يحلمون بإقامتها. وفي بداية تبنيهم للفكرة كانوا يشجعون أيّ فكر أو حركة ضد الدين وأهله -أي دين كان, وينشرون الشعارات البراقة مثل: إقامة الحياة السعيدة, أو العيش السعيد للبشر في ظل أنظمتهم المزعومة. والتركيز على ذمّ أهل الدين وتحقير أمرهم في أعين العامة, وخصوصًا علماء الدين؛ حيث ألصقوا بهم شتَّى التُّهم لتنفير الناس عنهم وعن مبادئهم, ثم تشجيع النظريات المعادية للدين أو لرجال الدين, أو الجانحة إلى التفلُّت من عقيدة الإيمان بالله تعالى, وإطلاق الألقاب الفخمة على كل شخص, أو فكر يظهر منه ذلك مما كانت حقارة القائل أو الفكر. وكذا المناداة بإطلاق الحريات للناس: الحريات الشخصية، حرية الكلمة، حرية التصرف، حرية التدين، حرية الاقتصاد، حرية الفكرة، ونحو ذلك من الدعايات, انطلقوا في طريق واحد يصدّق بعضهم بعضًا خصوصًا حينما استولوا على وسائل الإعلام كلها, وبواسطة عملائهم المنتشرين في كل مكان, وقد توّج اليهود حربهم لله تعالى بإقامة الماركسية والالتفاف حولها دعمًا ومدحًا, وهيئوا لهاكل سبل النجاح للوصول إلى

مراكز الحكم, والتأثير بالترغيب وبالترهيب, فأصبح الإلحاد ظاهرة قوية في شكل جمعات من الناس, وفي شكل دول حكمت بالحديد والنار لنشر هذا الإلحاد, وقدموا الإلحاد في أثواب براقة وخدع خفية؛ حيث ربطوا كل تقدُّم أو نجاح للعالم بتنفيذه. وبحكم تسلُّط الملاحدة في البلدان التي تمت السيطرة لهم عليها أدخل تعليم الإلحاد قهرًا, وبالتالي إبعاد تعليم الدين عن كل المجتمعات والحيلولة دون دراسته, وإطلاق أيدي الفسقة والفجّار للنيل منه ومن القائمين عليه, ووصفهم بالرجعية والخونة والمتخلفين, وما إلى ذلك من الألقاب الظالمة، وكذا إطلاق أيديهم لخداع أهل الدين, وأن الإلحاد هو الأساس الذي كان عليه البشر, إلى أن جاءت الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فغيروا تلك المفاهيم الصحيحة، وربطوهم بالخرافات إلى أن أصبح الإلحاد مذهبًا فكريًّا وتتمّ بموجبه المولاة والمعادات, وأصبح له أنصار كثيرون بزعامة الاتحاد السوفيتي سابقًا ولا يزال له انصار ودول إلى اليوم. ومما يجب الاهتمام والتأكيد عليه أن الإلحاد كان أمرًا طارئًا على البشرية؛ إذ الثابت أن الإيمان بالله تعالى هو الأساس الذي كان عليه آدم وذريته من بعده منذ أن أهبطه الله إلى الأرض, إلى أن نبغ قرن الشيطان في مفاهيم أتباعه بعد أن انحرفت أفكارهم ودُنِّست فطرهم. ولا بُدَّ من القول أن الإلحاد قد اشتدَّ وكثر أتباعه, سواء أكان في الغرب النصراني أو الشرق الشيوعي, وهو يمشي بخطى حثيثة, وقد تقبَّله من تقبَّله من الناس, إمَّا لعدم إيمانهم بالدين، وإما لجهلهم وسخافة أفكارهم، وإما رغبة في الوصول إلى مآرب سياسية أو اقتصادية, أو رغبتهم في التفلُّت عن الدين، أو غير ذلك مما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقد يتعرّض بعض المدافعين عن الإلحاد الشيوعي الماركسي ويقول: إن الإلحاد لم يكن وليد الشيوعية الماركسية, بل إنه قديم في البشرية, ظهر قبل ماركس وظهر بعده. والواقع: إن الإلحاد ظهر في بعض المجتمعات البشرية قديمًا, ولكن اقتضت حكمة الله تعالى أن يتتابع الرسل مبشرين ومنذرين من عهد نوح -عليه السلام- إلى عهد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم, وقد أخبر الله عن هؤلاء الملاحدة في كتابه الكريم وعلى ألسنة أنبيائه, ودحض حججهم وبيَّن زيفها -ولله الحجة البالغة, وكان الإلحاد في الزمن القديم يختلف قوة وضعفًا باختلاف القائمين عليه، فمنهم من كان إلحاده في إدخال شركاء مع الله تعالى كالوثنيين والمجوس وهم الأكثرية، ومنهم من كان إلحاده البعد عن الله تمامًا والالتجاء إلى الدهر {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 1، ومن هؤلاء الدهرية صنف من معطِّلة العرب الذين أنكروا الخالق والبعث والإعادة فيما يذكر الشهرستاني2، ويظهر أنهم قلة من العرب، وظلَّ الصراع قائمًا على أشده بين أولياء الله الموحدين وأولياء الشيطان إلى أن جاء الإلحاد الحديث على يدي ماركس وأتباعه, فإذا به طوفان مبين لا يبقي ولا يذر، قائم على محاربة الله تعالى ورسله والأديان كلها, وإنكار وجود خالق الخلق في تنظيم وشمولية ليحلَّ محل كل الأديان بخطط مدروسة.

_ 1 سورة الجاثية، الآية: 24. 2 الملل والنحل "ج2" ص 215.

الفصل الثالث: أقسام الإلحاد

الفصل الثالث: أقسام الإلحاد ينقسم الإلحاد إلى قسمين هما: الإلحاد القديم، والإلحاد الحديث. فما حقيقة كل منهما وما الفرق بينهما؟ عرفنا مما سبق أن الإلحاد كان له وجود في أكثر من مكان في الأرض بعد الانحراف الذي أصاب البشرية, وينبغي أن ندرك أنَّ بين الإلحاد القديم والإلحاد الحديث فرقًا ظاهرًا, وذلك يتبين من خلال ما يأتي: 1- إن الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله تعالى أصلًا لم يكن ظاهرة منتشرة في القديم, وإنما كان شائعًا الشرك مع الله تعالى تحت حجج مختلفة, مع اعترافهم بوجود الله تعالى, وأنه الخالق المدبر, وقد أثبت الله تعالى ذلك في كتابه الكريم فقال عن إقرارهم بخلق الله للكون: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقال تعالى عن إقرارهم بإنزال المطر من عند الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} 2.

_ 1 سورة العنكبوت، الآية: 61. 2 سورة العنكبوت، الآية: 63.

وقال تعالى عن إقرارهم بأن الرزق كله من الله، وأن أعضاء الإنسان هي من خلق الله، وأن الحياة والموت بيد الله، وأن التدبير كله لله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2، وهكذا يتبين من تلك الآيات البينات أن الإلحاد في الزمن القديم إنما كان في إشراكهم مع الله آلهة أخرى من صنعهم, يتقربون إلى الله بزعمهم, وهذا هو الشرك في توحيد الربوية الذي لا يدخل الشخص به وحده في الإسلام والإيمان ما لم يضمّ إليه توحيد الألوهية. 2- وأما الذين أسندوا كل شيء إلى الدهر فهم قلة قليلة جدًّا بالنسبة لغيرهم ممن يؤمنون بالله تعالى, وقد أخبر الله عنهم في كتابه الكريم. 3- أما الإلحاد المادي الحديث فقد قام على إنكار وجود الله أصلًا, وقد زعم أهله أنهم وصلوا إليه عن طريق العلم والبحث المحسوس, وعن

_ 1 سورة يونس، الآية: 31. 2 سورة المؤمنون، الآيات: 84-89.

طريق التجربة والدراسة, وزعموا أن الدين لا يوصل إلى ذلك, وسنرد هذه الكذبة وسخافتها, ونبين أنه لا تناقض بين العلم والدين وبين الإيمان بالله, وأن العلم يدعو إلى الإيمان بوجود الله تعالى في أكمل صورة كما سيأتي دراسته في الشيوعية. وهكذا يتضح مما سبق أنه مع القول بوجود عبادة المادة في كل زمان وفي كل مكان, إلّا أن عبادة تلك المادة كانت سطحية بدائية, وأن أوروبا حينما أخذت الإلحاد تميَّزت بتفصيل وتقنين وتنظيم ودراسة هذا الاتجاه المادي الملحد, أو أحلته محل الدين ومحل الإله بطريقة سافرة مقننة, وهي نقلة لم تكن فيما مضى قبلهم.

الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد

الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد لظهور الإلحاد أسباب كثيرة كغيره من الظواهر الأخرى, ولا شك أن أكبر الأسباب هو إغواء إبليس لمن اتبعه, فقد أقسم على أن يبعد الناس عن ربهم ويغويهم عن اتباع أمره وشرعه -عز وجل, ثم انضافت إلى ذلك أسباب أخرى هي من صنع الإنسان؛ كالرغبة الجامعة عند البعض في الانفلات التام عن الدين وأوامره ونواهيه؛ لتحقيق رغباته الشهوانية المختلفة, وبعض تلك الأسباب يعود إلى أمور سياسية كحبّ اليهود السيطرة على العالم, وبعضها يعود إلى طغيان الديانات المحرَّفة وعلى رأسها النصرانية التي هي صورة عن الوثنية؛ حيث جاءت بأفكار لا يقبلها عقل ولا يقرّها منطق, وفوق ذلك طغيان الرهبان والبابوات الذين وصلوا إلى حدٍّ لا يطاق من إذلال الناس واستعبادهم, مما جعلها أغلالًا يتمنَّى أصحابها الخروج عنها إلى أيّ وجهة تكون, فتلقَّفهم الملاحدة فأخرجوهم من الرمضاء إلى النار. وبعض تلك الأسباب يعود إلى ظهور مذاهب فكرية كانت هي الأخرى كابوسًا ثقيلًا جعل الناس يلهثون إلى التشبث بأي حركة أو فكرة؛ كالرأسمالية التي أشعلت في النفوس حب الأنانية والجشع المادي والحقد والبغضاء, مما سهَّل الأمر على الملاحدة للوصول إلى قلوب الناس والتضليل عليهم بأن في النظام الإلحادي الجديد كل ما يتمنوه من السعادة والعيش الرغيد, وقد قيل: يقضي على المراء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

وكان هذا الحال في الوقت الذي عمَّ الجهل بالله تعالى وبدينه القوميّ وكان للأحوال الاقتصادية التي يمر بها الناس نصيب الأسد في تقبُّل الناس للإلحاد؛ حيث انعدمت في المذهب الرأسمالي ونظام الإقطاع وسيطرة البابوات والأباطرة صفة الرحمة والعطف على الفقراء, فإزداد الأغنياء غنًى وزاداد الفقراء فقرًا وذلًّا. فاستغلَّ الملاحدة تلك الأوضاع للتأثير على الناس بأن الأمر موكول إلى تصرفات الناس وليس هناك إله مدبر له, فازداد نشاط دعاة الإلحاد وأظهروا أنفسهم بمظهر المنقذ للفقراء, والساهر على مصالحهم, والمهتم بمشاكلهم, والمتصدي للقضاء على كل الأنظمة الفاسدة والطبقات المتجبرة, وبعد أن قوي أمر الملاحدة واستولوا على الحكم في روسيا وغيرها, وجَّهوا مدافعهم وبنادقهم إلى صدر كل من يأبى الدخول في ملتهم, فأثخنوا في الأرض, وأدخلوا شعوبهم في الإلحاد راغبين وراهبين. ومما ساعد على انتشار الإلحاد أيضًا ما وصل إليه الملاحدة من اكتشافات علمية هائلة مكَّنهم الله منها استدراجًا لهم, وإقامة للحجة عليهم, على ضوء قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فكلما تَمَّ لهم اكتشاف جديد فسّروه على أنه من بركة تركهم للإله وللدين, وانطلاقهم أحرارًا من ذلك, فاغترَّ بهم كثير من الجهال وظنوا أن ذلك صحيحًا, وأن هذه الحياة التي يعيشها العالم اليوم من تقدّم مادي وصناعات مختلفة وانفتاح تام

_ 1 سورة فصلت، الآية: 53.

على الشهوات والمتع المختلفة إنما هي دليل في نظر من لا يعرفون الدين الصحيح على أن الإنسان هو مالك هذا الكون وحده, وهوالذي ينظِّم حياته كما يريد. ولم يترك دعاة الإلحاد أي فرصة لأتباعهم لالتقاط أنفاسهم ومدارسة أوضاعهم والتفكر الصحيح في خلق هذا الكون وما فيه من العجائب التي تنطق بوجود الخلاق العظيم لهذا الكون, وقد قيل: إن أحد الملحدين تحدَّى أي مؤمن بالله يناظره, فانبرى له أحد المؤمنين واتَّفقوا على تحديد موعد للمناظرة, وحينما جاء وقت المناظرة تأخَّر المؤمن من الوصول ففرح الملحد وأخذ يصول ويجول ويتحدَّى, وبعد وقت حضر المؤمن بعد أن انكسرت قلوب المؤمنين وملأها الهمّ والغم, فسأله الملحد لماذا تأخرت عن الوصول, فقال له: إن بيني وبينكم هذا البحر ولم أجد سفينة, وبينما أنا كذلك؛ إذ نبتت شجرة في البحر وامتدت أغصانها وجذوعها وكبرت, ثم تكسَّرت بعض أجزائها لتصنع منها قاربًا حملني إليكم, فقال الملحد: هذا كلام لا يعقل, فقال له المؤمن: إذا كنتم لا تصدقون بوجود قارب صغير بدون موجد, فكيف تصدقون بوجود هذا الكون وما فيه دون موجد؟ ثم قال المؤمن للمُلحد: أنت بلا عقل, فقال الملحد: بلى, إن لي عقلًا, فقال له المؤمن: أين هو منك؟ قال: لا أدري, فقال المؤمن: شيء في جسمك تؤمن به ولا تراه, ولا تريد أن تؤمن بالله حتى تراه, فانقطع الملحد. أما بالنسبة لظهور الإلحاد في ديار المسلمين فإنه يعود كذلك إلى أسباب كثيرة من أهمها حالة الانبهار بظهور هذه الماديات التي ظهرت

علي أيدي غير المؤمنين بالله تعالى, وما أصاب قلوب ضعفاء الإيمان من انبهار تامّ برونق تلك الحضارة الزائفة الزائلة التي أخبر الله عنها بقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1، وانساق المنهزمون المغرمون بتلك الحضارة إلى التصديق بأن لا وجود لأيّ مدبر للعالم غير العالم نفسه, خصوصًا وأن المغلوب دائمًا يقلد الغالب, ويحب أن يتظاهر بصفاته ليجبر النقص الذي يحس به أمامه. وكان الأحرى بهؤلاء المنهزمين أن يعتزوا بدينهم ويضاعفوا الجهد والعمل ليستغنوا عن منَّة الملاحدة عليهم, وحينما رأوا ما هم عليه من الضعف والاستخذاء أمام ما تنتجه المصانع الكافرة ألقوا بالوم على الإسلام, فعل العاجز المنقطع أو الغريق الذي يمسك بكل حبل, وجهلوا أو تجاهلوا أن الإسلام يأمر بالقوة والعمل بما لا يدانيه أي فكر أو مذهب, والآيات في كتاب الله تعالى, والأحاديث في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على هذا أشهر من أن تذكر. وعلى كل حال فقد ظهر الإلحاد بشكله الجديد المدروس المنظَّم كبديل لكل الأديان, وزعماؤه هم البديل الجديد عن الأنبياء والرسل, والمتمسكون بالإلحاد هم المتطورون المتقدمون, والتاركين له هم الرجعيون المتخلفون, وللباطل صولة ثم يضمحل, فبعد تلك السنوات العجاف التي قوي فيها شأن الإلحاد والملحدين ظهرت الحقيقة للعيان, وإذا بالإلحاد والملحدين وما هم إلّا سماسرة اليهودية العالمية, وأنهم يهدفون إلى استحمار العالم ومحو أخلاق الجوييم وتحطيم حضاراتهم وإبطال دياناتهم, وكشأن كل

_ 1 سورة الروم، الآية: 7.

المذابه الباطلة والأفكار الجاهلية بدأ الموت يدبّ في جسم هذا الإلحاد البغيض, وإذا بالناس يكتشفون زيف أقاويله وأفانين خدعه, فبدؤا يهربون منه زرافات ووحدانًا, وعرف الناس أن الإلحاد هو الذي سبَّب لهم الشقاء والفقر وتزايد الأحقاد والقلق والاضطراب, وأنه هو الذي سهّل للمجرمين طرق الإجرام وظهور الفتن والضلال؛ إذ ليس فيه ثواب ولا عقاب في الآخرة, ولا ربَّ يجازي المجرمين بعذابه والمطيعين بثوابه, فما الذي يمنع المجرم من تنفيذ جريمته؟ وما الذي يجعل قلب الغني يشفق على الفقير؟ وما الذي يمنع السارق والغشاش والخائن ومدمن المخدرات؟ ما الذي يمنع هؤلاء من تحقيق رغباتهم؟ وللقارئ عظة مما يقع في العالم الملحد من أنواع الجرائم الظلم في جو محشون بالتوترات والهموم, قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 1. وإذا كانت المظالم والأنانيات وحب الشهوات وغيرها تحصل بين المؤمنين بالله تعالى, فما هو الظن بالمجتمعات التي لا تؤمن بالله ربًّا ولا بالإسلام دينًا ولا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولًا, ولا ضمير حي يذكرها بما للآخرين من حقوق, ما هو الظن بتلك المجتمعات الذين هم كالأنعام أو أضل, الذين لا يعيشون في بيئات أسرية متحابَّة يعرف بعضهم للبعض الآخر ما له من حقوق صلة الرحم وحفظ الأنساب وتقوية المودة فيهما بينهم، فأين الأولاد بعد أن ابتلعتهم دور الحضانات الحكومية، وأين الأزواج بعد أن تفرَّق

_ 1 سورة طه، الآية: 124.

الجميع في كل اتجاه تلبية لحاجاتهم المعيشية واللهو أيضًا, وأين بقية الأقارب وقد تكفَّل الإلحادية بمحاربة أي وجود لذلك، وأين تلاحم المجتمع كله بعد أن تعهَّد الملاحدة بتفريق المجتمعات وضرب بعضهم بالبعض الآخر عن طريق الجاسوسية الهائلة, إلى حدِّ أنَّ أي شخص لا يأمن الآخر بأي حال, فأصبحت المجتمعات الإلحادية تعيش فيما بينها كما تعيش قطعان الذئاب أو السمك في البحر, وعلى المسلمين أن يأخذوا العظة بغيرهم, وأن يفروا من تلك الأفكار وصداقات زعماء تلك المجتمعات كما يفر الصحيح من المجذوم، بل وأشد، وأن يرجعوا إلى الله تعالى ويبتهلوا إليه أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.

الفصل الخامس: هل يلتقي الإسلام مع الأنظمة الإلحادية؟

الفصل الخامس: هل يلتقي الإسلام مع الأنظمة الإلحادية؟ لقد زعم بعض الجهَّال أن بين الإسلام والأنظمة الإلحادية -الاشتراكية والشيوعية- تطباقًا في أمور كثيرة, خصوصًا الاشتراكية, حتى تجرَّأ بعضهم فرفع شعار "اشتراكية الإسلام" زاعمًا أنه لا تعارض في هذه الاشتراكية التي ألصقوها بالإسلام, وبين الإسلام وتعاليمه المشرقة, إمّا جهلًا وإمّا خداعًا وتمويهًا -وهو الأغلب. بل وبعضهم ينسبون الاشتراكية الإلحادية إلى الصحابي الجليل أبي ذر -رضي الله عنه- ظلمًا ومنكرًا من القول وزورًا. والأدهى أيضًا أنهم أخذوا يتكلَّفون الأدلة التي يزعمون أن الدين والإلحاد الشيوعي بينهما اتفاقات في أشياء كثيرة، وأن التقارب بينهما في الإمكان، يحدوهم في ذلك حبهم للإلحاد ورغبتهم في تقريبه إلى المسلمين خديعة ومكرًا منهم بأهل الدين {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 1, وسبب ذلك ما وجدوه من التشابه الظاهري في بعض الجزئيات فيما جاء به الدين الإسلامي وفيما جاء به الملاحدة, متناسين أنه لا يمكن في بدائة العقول أن يجمع الليل والنهار في وقت واحد, وأن بين الإسلام والإلحاد الشيوعي الماركسي الاشتراكي من البعد أكثر مما بين السماء والأرض, بل إن القول بالتقارب بينهما جريمة كبرى وافتراء عظيم, فالإسلام له

_ 1 سورة قاطر، الآية: 43.

نظام وعقيدة ومعاملات تختلف تمامًا عن النظام الجاهلي الماركسي وغيره في العقيدة وفي السلوك وفي كل شيء, وأن ما وجد من التشابه بين الإسلام والإلحاد ما هو إلّا مثل التشابه في الأسماء بين المخلوقات حين يقال: رأس الإنسان ورأس الجمل, أو الكلب أو الجبل، أو التشابه بين الأسماء الموجودة في الجنة مما أخبر الله به وبين الأسماء الموجودة في الدنيا، ثم كيف يتَّفق دين يؤمن بإله واحد يستحق العبودية وحده لا شريك له, ويوجب التحاكم إلى شرعه وحده، ويجعل الناس في درجة واحدة أمام الخالق العظيم لا يتفاضلون عنده إلّا بالتقوى, كيف يتفق هذا مع دين لا يؤمن بإله واحد بل بآلهة عدة يعبد الناس فيه بعضهم بعضًا, ويشرع بعضهم للبعض الآخر، دين يجعل الظلم عدلًا والحاكم ربًّا. أليس التوافق مستحيلًا بعد وجود هذا التباين وغيره؟ بلى إنه من أشد وأعظم المستحيلات على الإطلاق, بل لا ينبغي التفكير في هذا؛ لأنه من وساوس الشيطان, فإنه لا يتفق دين يجعل الإنسان مادة مثله مثل سائر الجمادات لا قيمة له, ودين يجعل الإنسان مستخلفًا في الأرض, وكل ما فيها مسخر له, وهو أكرم كل الموجودات على ظهر الأرض, مميز بالعقل والتفكير وعناية الله به {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} 1.

_ 1 سورة النساء، الآية: 78.

الباب التاسع عشر: الاشتراكية

الباب التاسع عشر: الاشتراكية مدخل ... الباب التاسع عشر: الإشتراكية - تمهيد: قامت الاشتراكية في القرن التاسع عشر الميلادي في البداية بسبب النزاع المرير بين العمال وأصحاب العمل في طلب العمال زيادة أجورهم وامتناع أصحاب العمل, في الوقت الذي كان أصحاب العمل يستغلون العمال أسوأ استغلال دون رحمة بهم, ثم ظهرت الآلات الصناعية الحديثة, فإذا بأصحاب العمل يفضلونها على الأيدي العاملة لوفرة إنتاجها وقلة ما تحتاج إليه من العمال لتشغيلها, فاستغنى أصحاب العمل عن كثير من العمال فنشأت البطالة ومشاكلها العددية, ومن هنا نشأت فكرة التوجه بالمطالبة بإصلاح هذه الأحوال الاقتصادية المضَّطربة والحد من التنافس بين الناس في الاستئثار بالمال وجمعه الذي يسبب الصراع بينهم, وكان هذا في الوقت الذي أفلس فيه الدين النصراني عن حل أي مشكلة من هذا النوع, بل كان عاملًا قويًّا في ظهور اللادينية والمذاهب المنحرفة المختلفة التي قامت من أول يوم على محاربة كل الأوضاع السيئة التي كانت قائمة, واستبدالها بأنظمة جديدة تكفل للناس حقوقهم وحرية معيشتهم, وكان من بين تلك الأفكار ظاهرة القول بالاشتراكية ومحاربة الملكية الفردية, وما جاء بعدها من أهوال الشيوعية. والواقع أن الاشتراكية أقبح مذهب عرفته البشرية وأشدها شرًّا على الإطلاق, فقد ذهب ضحيَّة تطبيقها مئات الملايين قتلًا وجوعًا وتشريدًا في أوروبا البعيدة عن أراضي المسلمين وعن عقائدهم وتاريخ حضارتهم, أيدتها اليهودية العالمية, وبذلت كل ما استطاعته لتأييدها وتقوية نفوذ أتباعها لما عرفوه من عواقبها الوخيمة على الجوييم, وتَمَّ لهم ذلك وانتشر

هذا الفكر الذي يحمل الخراب والدمار, وظل سنوات عديدة في أوج قوته, إلى أن أذن الله في إذلاله وإذلال أتباعه, فخرج عنه الكثير ممن أنعم الله عليهم بالعقل والفتكير السليم, وداسوه بأقدامهم وتنفَّسوا الصعداء, وهالهم ما كانوا فيه من الغبن الفاحش أيام جثومه على صدورهم, وتيقنوا أنه مذهب جهنمي صاغه شياطين الإنس والجنّ بمباركة إبليس اللعين لهم على يد أنجز وكارل ماركس ومن جاء بعدهما مثل: لينين وستالين, إلى أن بدأ عهد جورباتشوف برئاسة ما كان يسمَّى بالاتحاد السوفيتي, ومن الغريب والعجيب والهول الشديد أن بعض البشر ممن هم أشباه القردة والخنازير لا يزالون ينادون به ويتبجَّحون بأنهم فرسان الاشتراكية لعنها الله ولعنهم وأركسهم في جهنم جميعًا: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وإذا كان لأهل أوروبا ظروفهم التي أنتجت الدعوة إلى الاشتراكية في القرن التاسع عشر الميلادي وما بعده, فما بال الدول والشعوب التي تدعي الإسلام وأنه دستورهم، ما بالهم دخلوا تحت هذا اللواء الأحمر الذي يشير دائمًا إلى سفك الدماء, وما هي الظروف التي ألجأتهم إلى المناداة بالاشتراكية الماركسية, ألم يجدوا في الإسلام ما يسعدهم؟ بلي, ولكنهم ما طبَّقوه إن لم نقل ما عرفوه أساسًا. ويطول عتاب هؤلاء وخصامهم, ولكن لا يمكن إغفال فريتهم الكبيرة التي تدلّ على مدى خبثهم وجهلهم، وتلك الفرية التي ظهرت تنادي بأن الاشتراكية أساسها إسلامي, وأنها تسير جنبًا إلى جنب مع التعاليم الإسلامية, بل وإن

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 179.

واضع أساسها في الإسلام -ليس هو كارل ماركس اليهودي الحاقد- بل إنه أبو ذر الغفاري, وأم المؤمنين خديجة بنت خوليد التي سميت عندهم "أم الاشتراكية"1. بل وفي خطاب ألقاه جمال عبد الناصر زعم فيه بكل وقاحة أنَّ النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو إمام الاشتراكيين1. سبحان الله, ما أعظم حلمه؟ فأين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأين أم المؤمنين خديجة, وأين أبو ذر الغفاري, وأين الاشتراكية؟ إنها كذبة تكاد تهد الجبال, وخدعة مكشوفة قبيحة أراد أصحابها تحبيب الوجه الكالح للاشتراكية إلى قلوب المسلمين؛ لأنهم أرادوا وقد وقعوا فيها واصطلوا بنارها أن يجروا غيرهم إليها. وما أشبه حالهم بحال الثعلب الذي قطع ذيله, فجاء إلى بقية الثعالب يحبب إليهم أن يقطعوا ذيولهم لينعموا بالخفة والرشاقة!!

_ 1 انظر التضليل الاشتراكي ص66. 2 المصدر السابق ص104.

الفصل الأول: معنى الإشتراكية

الفصل الأول: معنى الاشتراكية اختلف دعاة الاشتراكية فيما بينهم, وافترقوا إلى أحزاب في مفهومهم للاشتراكية وفي المقصود بها، إلى حد أنه بلغت معانيها المائتين في بريطانيا وحدها1. وهذا يذكرنا بقول الأعرابي حينما سمع أسماء القط الكثيرة فقال: "قبحَّه الله, ما أقلَّ نفعه وما أكثر أسمائه", وأقول لك قبل أن أذكر أهم التعريفات لها: لا يهولنَّك كثرة تلك الاختلافات, فإن مصبَّها في النهاية واحد, هو الإلحاد والتشريع للبشر من دون الله تعالى "تعددت الأسباب والموت واحد"، وإذا رجعنا بمعنى الاشتراكية إلى ما قبل "كارل ماركس" فإننا نجدها قد ظهرت في أماكن مختلفة في دعوات إلى إلغاء الملكية الفردية وإلى نبذ التقاليد والأعراف, وشيوعية الأموال والنساء بين الجميع, ويطلق على هذه الاشتراكية اسم الاشتراكية القديمة, قبل مرحلة ظهور النظام الرأسمالي الذي يناقض الاشتراكية تمامًا في تقديس الملكية الفردية والأنانيات الأخرى التي تميز بها، بل وقبل ظهور الإسلام بمئات السنين على عهد "أفلاطون" والسير "توماس مور", وقبلهم "مزدك" في فارس, وغيرهم الذين استفاد منهم "كارل ماركس" نظريته الشيوعية أو الاشتراكية العلمية الغربية على الأديان كلها, والتي لم يقرها لا الإسلام ولا غيره من الديانات.

_ 1 انظر التضليل الاشتراكي ص12, نقلًا عن "نورمان ماكنزي" في كتابه عن الاشتراكية ص7-8.

فإطلاق الاشتراكية على الإسلام أو على العرب حين يقال: الاشتراكية الإسلامية, أو الاشتراكية العربية, كذب محض؛ لأن الإسلام لم يقر الاشتراكية مع أنَّها كانت موجودة في صور شتَّى قبل الإسلام, ومع ذلك لم يختر الله أن تكون ضمن تعاليم الإسلام؛ لأنها تعاليم جاهلية, والإسلامية بريء من الجاهلية وأفكارها, سواء ظهرت قبله أم بعده. وكذلك قولهم: الاشتراكية العربية أن هو إلّا كذب محض على العربية وعلى العرب الذين ما كانوا يعرفونها أو يتحدثون عنها, لا في شعرهم ولا في نثرهم, ومفاهيمها كلها غير مفاهيم الاشتراكية, ونشأتها ليست في بلادهم, فبأي حق تنسب إليهم؟ لولا إرادة الخداع والتضليل. وكذلك نسبتها إلى العلم هي نسبة زور وافتراء, فقد قامت على التخمينات الماركسية وعلى التنبؤ بأمور كثيرة ظهر أنها كذب ولم تتحقق, فنسبتها إلى العلم ظلم للعلم وأي ظلم. والإسلام والعرب والعلم والعقول السليمة كلها لا تعارض البيع والشراء والربح والملكية الفردية التي تحاربها الاشتراكية على أساس أن الربح ينتج عن الملكية الفردية وهي ممنوعة في الاشتراكية, فمتى نادى الإسلام أو العرب أو العلم بذلك؟! وقد أحلَّ الله البيع وحرم الربا.

الفصل الثاني: أقسام الإشتراكية

الفصل الثاني: أقسام الاشتراكية الاشتراكية كلمة بغيضة مهما قسَّمها زعماؤها, ومهما تفننوا في خداع الناس في مفاهيمها المختلفة, فهي على كل حال مذهب غريب على الناس وعلى أديانهم, نشأ في أوروبا إثر أوضاع مختلفة, وقد قسَّم بعض الباحثين الاشتراكية إلى قسمين: - الاشتراكية الماركسية. - الاشتراكية الفابية. والذي نحن بصدد دراسته هو مذهب الاشتراكية الماركسية التي تنتسب إلى "كارل ماركس", والتي هي المقدّمة الأولى للشيوعية الحمراء، أما الفرق بين الاشتراكيين فيظهر من خلال ما يلي: - الاشتراكية الماركسية نسبة إلى "كارل ماركس"، بينما الاشتراكية الفابية نسبة إلى أحد قواد الرومان واسمه "فابيوس". - الاشتراكية الماركسية تميل إلى العنف والثورة، بينما الاشتراكية الفابية تميل إلى الإصلاح وإلى سعادة الناس كما يزعمون, وإلى التدرج في التطور ولو أدَّى ذلك إلى تأخُّر تطبيق الاشتراكية زمنًا طويلًا. - إن الاشتراكية الماركسية تبطل الملكية الفردية وتحاربها، بينما الاشتراكية

الفابية تعترف بالملكية العامة ولا تجيز تأميم الأرض دون مقابل, وأن الملكية الخاصة يمكن تحويلها إلى ملكية الدولة بالطرق المشروعة. - خالف الفابيون آراء ماركس في نظرته إلى المجتمعات من أنها قائمة على الصراع الطبقي, وقالوا بأن الصراع الطبقي ليس حتميًّا ولا ضرورة إليه؛ لقيام حكومة العمال كما هو مذهب ماركس, بل إن الدولة عند الفابيين ليس المقصود بها تسلط فئة على أخرى -كما يرى ماركس- وإنما الدولة عندهم هي قوة في صالح الجميع, وأن التغيير الثوري العنيف الذي يراه ماركس فاشل في تحقيق السعادة للشعوب1.

_ 1 بتصرف عن "التضليل الاشتراكي" ص18-24.

الفصل الثالث: متى ظهرت الإشتراكية

الفصل الثالث: متى ظهرت الاشتراكية؟ ذهب بعض الباحثين إلى أن التوجه نحو فكرة الاشتراكية مرَّ بأطوار وفلسفات كثيرة قبل ظهور الدكتور "مردخاي كارل هزيك ماركس", وأنه لا يعرف على وجه التحديد أوّل من استعمل لفظ الاشتراكية, إلّا أنها ظهرت مطبوعة في سنة 1802 في إيطاليا, ولكن مدلولها يخالف مدلولها الحالي؛ إذ كان يريد بها في ذلك التاريخ الأفكار التي كانت تدور حول المشاكل الاجتماعية, ثم ظهرت التسمية في عام 1832 في مجلة تسمَّى مجلة التعاون1. ثم جاء بعد ذلك "ماركس" وعمّق فكرة الاشتراكية, وجادل من أجلها وأظهرها قوية, فلم يكن هو المؤسس الحقيقي للفكر المادي, وإنما كان لهذا الفكر مقدمات سبقت ظهور ماركس بقرون عديدة2.

_ 1 انظر التضليل الماركسي ص38, 39 نقلًا عن موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ ص103. 2 موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ ص105.

الفصل الرابع: هل الإشتراكية هي الشيوعية

الفصل الرابع: هل الاشتراكية هي الشيوعية؟ اختلفت وجهات نظر الباحثين -فيما يظهر من كتاباتهم- حول العلاقة بين الاشتراكية والشيوعية, وفيما يلي أذكر بين يدي القارئ حاصل ما قيل حول هذه العلاقة. 1- لا فرق بين الاشتراكية والشيوعية, بل هما اسمان لمسمَّى واحد, وعن تعليل التسمية بالاشتراكية بدلًا عن التسمية بالشيوعية يقال: إن الشيوعية من بعد ماركس اشتهرت بأنها شيوعية "مزدك"1، فنفر منها الناس، ومن هنا صارت كلمة الاشتراكية أقلّ استنكارًا؛ لهذا جعلت البذرة الأولى لشجرة الشيوعية الخالصة وإلّا فالشيوعية والاشتراكية اسمان لمسمى واحد"2. 2- إن الاشتراكية ترمي في النهاية إلى الشيوع, وإن الفرق بينهما يكمن في الناحية العلمية، فالشيوعية ترى أن جميع الثروات الاجتماعية مجموع يستهلك الفرد منه بقدر ما يسد جميع حاجاته, وليس فقط

_ 1 نسبة إلى "مزدك" الذي ظهر في فارس أيام حكم الامبراطور "قباذ"؛ حيث جمع "مزدك" حوله الصعاليك ومن انضمَّ إليه وكوَّن منهم قوة كبيرة, بل واعنتق "قباذ" هذه الفكرة, وقامت شيوعية الأموال والنساء حتى ما كان الرجل يعرف له أبًا أو أمًّا, واشتد شرها وضررها على الناس حتى أنقذهم الله على يدي "أنوشروان" ولد "قباذ", فقتل منهم جموعًا غفيرة؛ إذ كان من أشد أعدائهم, وقتل "مزدك" شرَّ قتله. 2 انظر "هذه هي الاشتراكية" ص15.

بقدر ما يناسب خدماته، على أنّ هذا الحق في الاستهلاك يتوقف عند الشيوعيين على واجب الإنتاج والعمل, فمن لا يعمل لا يأكل على حد قولهم، وهي ما يعبر عنها بقولهم: "من كلٍّ طبقًا لكفايته ولكل طبقًا لحاجته", أما الاشتراكية فتتفق مع الشيوعية في وجوب إنشاء المجموع العام من الثروات, ولكنها تخالفها في طريقة التوزيع, فتسمح لكل فرد من الثمرات العامة بما يناسب عمله وجهوده لا بما يناسب حاجته", ولهذا يذهب بعض الباحثين إلى أنه لا فرق بين الشيوعية والاشتراكية إلّا في القانون التالي: "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله "الاشتراكية"، "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته"1. 3- إن بين الاشتراكية والشيوعية من جهة وبين الفاشستية من جهة أخرى شبهًا قويًّا؛ من حيث أن الاشتراكية والشيوعية ترميان كلتاهما إلى تقوية قبضة الدولة في توجيه الإنتاج والقضاء على حرية الفرد, وكذا النظام الفاشستي, وكلها صور من صور الديكتاتورية. 4- اعتبر "لينين" الاشتراكية هي المرحلة التي تسبق الشيوعية مباشرة, فهي مقدمة أو تمهيد لها معتبرًا أن الاشتراكية مرحلة أولى, بينما الشيوعية هي المرحلة الأخيرة العليا2. 5- إن الاشتراكية تختلف عن الشيوعية3، ولكن ما معنى هذا التفريق

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص191. 2 المصدر السابق ص165. 3 انظر "مقدمة في الفكر السياسي" ص180.

وإذا عرفنا أن "ماركس" هو الذي أنشأها وسماها أيضًا الاشتراكية العلمية, حتى تتميز عن الاشتراكية الخيالية التي أنشأها "سان سيمون"، و"لويس" ورفاقهما, والتي لم يرتضيها "ماركس"؛ حيث اعتبر اشتراكيته مرحلة حتمية لا تقبل الرفض؛ لأنها نتيجة مضادة للرأسمالية التي تنبأ بأنها ستنتهي وتحل اشتركيته محلها, وأن الدول الكبيرة مثل بريطانيا وغيرها ستعود حتمًا إلى الأخذ باشتراكيته, وستموت الأنظمة الرأسمالية فيها, فكانت النتيجة على حد قول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيتقل مربعًا ... أبشر بطول سلامة يا مربع فقد احتضرت الاشتراكية في الشرق في الوقت الذي انتعشت فيه الرأسمالية في الغرب، وكذب ظن "ماركس" ورفاقه الأغبياء.

الفصل الخامس: مزاعم الإشتراكيين ودعاياتهم

الفصل الخامس: مزاعم الاشتراكيين ودعاياتهم للاشتراكيين على اختلاف مفاهيمهم للاشتراكية قاسم مشترك يتفقون عليه في مغالطاتهم وخدعهم للناس وتحبيب الاشتراكية إليهم, وقد تبدو الأمور التي يدعون إليها أنها فرصة ثمينة لإسعاد البشرية, ولكنها سحابة صيف أو فقاقيع منفوخة بالهواء, لقد انكشف زيفها واضحملَّ بريقها بعد التجارب المريرة التي مرَّت بالبشرية منذ تأسيسها؛ إذ نقلتهم من سيء إلى أسوأ, ومن طبقات متآلفة إلى طبقات متصارعة, ومن فقر وغنى إلى فقر مدقع، وخلاصة تلك المزاعم تتمثَّل فيما يلي: 1- المساواة الاقتصادية بين جميع الأفراد بلا تمييز بينهم في القومية أو الجنس أو السن. 2- محو استغلال الفرد أو الجماعة أو الدولة للفرد. 3- إلغاء الملكية الفردية للأرض بما عليها وما فيها من كنوز وثروات, وجعلها بيد الدولة فقط يسمح بتحقيق العدالة في التوزيع بين الجميع. 4- منح الحق لكل إنسان أن يستخدم كل وسائل الإنتاج علمية أو فنية. 5- قيام الدولة الاشتراكية ذاتها لتتحول إدارة الجهود والإنتاج الفردية

إلى إدارة موحدة, وتصبح الدولة هي المالكة والوحيدة لجميع الثروات ووسائل الإنتاج وجميع المرافق الاقتصادية الأخرى, وتتولى استثمارها1، وبالتالي تحصل السعادة المنشودة. تلك هي أهم الأمور التي تدور حول مفاهيم الاشتراكية وتحبيبها إلى الناس. أما المساواة الاقتصادية بين جميع الأفراد فقد حقَّقها الاشتراكيون, لكن على الجانب الآخر فقد استطاعوا أن يساووا بين الناس في الفقر, ولكنهم لم يستطيعوا أن يساووا بينهم في الغنى؛ لأن الهدم دائمًا أسهل من البناء, وحال الشعوب السوفيتية بعد انجلاء غمة الاشتراكية عنهم أقوى شاهد على ذلك. أما محو استغلال الفرد من قبل الأفراد الآخرين أو الجماعة أو الدولة فهي كذبة واضحة؛ حيث إن الدولة استغلّت الأفراد من اللحم إلى العظم, حتى أصبح الفرد مثل أي قطعة استهلاكية, وأي استغلال أقوى من أن الفرد لا يأكل أي وجبة إلّا ببطاقة, ولا يملك سلكنًا ولا غيره إلّا مع الجماعة, بل وقد يقتل بكل بساطة أمام زملائه إذا اتضح قصوره في العمل. وكذا إلغاء الملكية الفردية للأرض, نعم حققتها الاشتراكية حتى أصبح الناس كلهم لا يمكلون شيئًا, وأصبحت الأرض ومن عليها من شجر وبشر ملكًا للدولة, وهو ما كان عليه الحال زمن الإقطاع تمامًا.

_ 1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص162 نقلًا عن المذاهب الاجتماعية الحديثة لـ "محمد عنان" ص51.

وأما منح الحق لكل إنسان أن يستخدم كل وسائل الإنتاج علمية أو فنية فنعم, ولكن عمله ليس له, إنما هو يعمل كما تعمل الآلة بلا كلل ولا ملل لحساب الدولة التي أمَّمَت كل شيء وسدَّت كل باب للملكية الفردية, وما دام المصب واحد فلا يضر اختلاف المجاري, أو على حد مقالة الخليفة العباسي للسحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك". 6- ومن أكبر مزاعمهم قولهم: إن الاشتراكية إنما قامت في رد فعل ضد الرأسمالية إثر ظهور الثورة الصناعية التي أسهمت في شقاء العمال والكادحين؛ حيث أدَّت إلى زيادة ساعات العمل وانخفاض الأجور, مما تسبَّب في إلحاق كوارث بالعمال وخيمة, وأنه لم يكن لهم مخرج من تلك الأوضاع ولا منقذ غير الانضواء تحت راية الاشتراكية الماركسية, ونبذ النظام الرأسمالي الذي لا يرحم الفقراء ولا يعترف بحقوقهم, ولكن وضع دعاة الاشتراكية هذا يصدق عليهم المثل القائل: "إذا كان بيتك من زجاج لا ترجم الناس"؛ إذ بإمكان أيّ رأسمالي أن يقول للاشتراكيين: ألم تروا حال العمال والكادحين لديكم, ومدى البؤس والشقاء الذي حلَّ بهم؟ إضافة إلى أنكم حوَّلتم العامل من إنسانيته إلى أن جعلتموه قطعة من أدوات الإنتاج لا قيمة له إلّا من خلال سلوكه وعمله مع المجموعة. فظهر أن النظامين معًا جائرين ظالمين لا خير فيهما, ولا رحمة حقيقيةًَ فيهما على الفقراء.

الفصل السادس: قوانين الإشتراكية

الفصل السادس: قوانين الاشتراكية قامت الاشتراكية على مبادئ جاهلية من تصورات الحقد اليهودي؛ لتجعل من قادتها آلهة من دون الله تعالى, ومن البشر عبيدًا لهم ينفذون أحكامهم ويتبعون تشريعاتهم, ومن خالف فالحديد والنار على رأسه لا رحمة لديهم ولا إنسانية, ومن أهم تلك المبادئ الجاهلية: 1- إظهار الإلحاد وإنكار وجود الخالق -سبحانه وتعالى. 2- إنكار الأديان وكل ما جاءت به من تشريع. 3- إشعال الثورات والصراع الطبقي المرير بين جميع الفئات من البشر. 4- إلغاء الملكية الفردية تمامًا, وإحلال ملكية الدولة محلها. 5- محاربة الأسرة وإحلال الإباحية محلَّها؛ لتفتيت أوصال المجتمعات. 6- محاربة الحريات الفردية. 7- الالتزام بنظام التأميم. 8- قيمة السلعة من قيمة العمل. 9- فائض القيمة. 10- قانون تكدّس رأس المال. وستأتي إن شاء الله دراسة هذه الأمور بتوسُّع عن دراسة الشيوعية.

ومن الملاحط أن الاشتراكيين قد تراجعوا بالنسبة للملكية الفردية نوعًا ما, فقد أخذت بالحافز الفردي بعد انهيار الإنتاج المؤمَّم، إمَّا بملكية جزء من إنتاج الفرد لنفسه أو مكافآت, خصوصًا في المجالات الزراعية التي يصعب على الدولة مراقبتها بدقة؛ لأن منع الملكية الفردية أمر يتنافى مع فطرة الإنسان وطموحه فقتلها مستحيل. والمقصود "بقيمة السلعة من قيمة العمل" أن العمل لا يبذل إلّا في شيء له نفع اجتماعي يحدد قيمة تلك السلعة, بمعنى أن قيمة العمل والجهد الذي يأخذه هو الذي يحدِّد قيمة السلعة هبوطًا وارتفاعًا. ولكن فاتهم أن العمل ليس هو العنصر الوحيد لقيمة السلع؛ إذ أنَّ ندرة الشيء تجعله غاليًا كالذهب والماس, وكذا الماء حين تشتد الحاجة إليه, وغير ذلك من الضروريات التي قد يتضاءل العمل في قيمتها, كما أنه قد يبذل العمل القليل في صناعة شيء يفوق في القيمة أضعاف ما يبذل في العمل الكبير. وأما فائض القيمة فيراد به "الفصل بين الأجر المستحق عن العمل المبذول, وبين ما يحصل عليه العامل من الأجر, أو هو الزيادة التي يبتزها صاحب العمل من العامل نتيجة إعطائه أجرًا لا يساوي جهده المبذول, فإن معدَّل ما يقدمه العامل من جهد هو أكبر مما يناله من الأجر"1، أو المقصود بها: الشيء الزائد عن قمية السلعة الحقيقية التي هي حقّ العامل, بينما

_ 1 النظرية الماركسية في ميزان الإسلام ص141.

يأخذها الرأسمالي كجزء من القيمة, وفائضها يذهب له لا للعامل, ولكن نظرة ماركس هنا قاصرة, ونقصها ما وقع بعد عصره من تشغيل الآلات التي لا يساوي عمل الفرد شيئًا إلى جانبها، وهل عمل المهندس الفني الذي يدير مجموعة آلات يتساوى مع عامل فلاح؛ بحيث يتساويان في الأجرة أو في قيمة الناتج؟ "ففائض القيمة اليوم هو حق الآلة التي تعمل ذاتيًّا أو أتوماتيكيًّا وليس حق العامل", وإذا كانت الماركسية تدافع عن فائض القيمة التي يبتزها الرأسمالي صاحب العمل, فإن هذا الفائض في المذهب الاشتراكي يذهب تمامًا إلى الدولة التي أمَّمَت كل شيء, فلم يحصل العامل على حقه الفائض ولا في الرأسمالية, ولا في الاشتراكية, غير أن الاشتراكية تخدعه وتمنيه بالكذب, فالعامل فيها يكدح ويعمل طويلًا في مقابل ما تعطيه الدولة من المأكل والمشرب والملبس والسكن المتواضع جدًّا, وهو أقل مما يبذله من العمل. وأما قانون تكدّس رأس المال فإنه يريد به حماية العامل في حالة إقامة المصانع والمشاريع الكبيرة وسيطرة أصحابه على السوق؛ بحيث تبقى المصانع الصغيرة أو المشاريع الصغيرة غير قادرة على منافسة الكبيرة, وبالتالي يخسرها أصحابها فتتكدَّس الأموال بين فئة الأغنياء من جرّاء ملكيتهم لهذه المصانع, وملكيتهم لفائض القيمة, ويرد على هذه الفكرة أن االمشاريع الصغيرة قد تصل إلى الأماكن النائية التي لا تستطيع المشاريع الكبيرة الوصول إليها ومنافستها فيها.

كما أن الأعمال الصغيرة قد تأخذ شهرة أكثر من الكبيرة من حيث الإتقان والجمال، ولهذا تجد العمل اليدوي في مجالات كثيرة لا يزال ذا قيمة أكبر في المجتمعات وفي أثمان السلع. كما أن المشروعات الكبيرة -في أغلبيتها- تأخذ شكل شركات مساهمة, قد يسهم فيها مئات بل آلاف, ومن ثَمَّ يتوزَّع رأس المال ولا يتكدَّس1. وفوق ذلك كله يقال لهم: إن الله تعالى -وإن لم يؤمنوا به- هو الذي قسَّم الأرزاق: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2, ولهذا تجد أن الفقير والغني كلاهما يأكلان من فضل الله, وصدق المتنبي حيث قال: ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى ... هلكن إذًا من جهلهنَّ البهائم وهل كان ماركس يهدف إلى الرحمة بالفقراء؟ كلّا. إنما يهدف إلى تطبيق مبدئه الجهنمي في إثارة الأحقاد والصراع الطبقي, والانتقام المتبادل بين فئات الناس والفتك ببعضهم بعضًا.

_ 1 بتصرف عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" ص193. 2 سور الزخرف، الآية: 32.

الفصل السابع: خداع الإشتراكيين في زعمهم أن الإشتراكية لا تتعارض مع الإسلام

الفصل السابع: خداع الاشتراكيين في زعمهم أن الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام يتظاهر كثير من المخادعين الاشتراكيين بأنهم إنما يؤيدون الاشتراكية؛ لأنها تحمل الرحمة للفقراء وكبت الإغنياء؛ ولأنها فوق كل اعتبار لا تتعارض مع الإسلام ولا مع الأديان, ولذلك فهي تلتقي مع الإسلام في مبادئ كثيرة "مثل اشتراك الناس في الماء العام وفي الهواء وفي الكلأ النابت في الأرضي العامة, ويسمَّى الكلأ المباح عند الفقهاء, ومثل النفقة الواجبة في نظام الأسرة الإسلامي, ومثل الزكاة المفروضة في الشريعة الإسلامية لصالح الفقراء والمساكين وبقية الأصناف الثمانية المذكورة في آية الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1, ومثل تدخل الدولة لحماية العمَّال والكادحين في حصولهم على الأجور العادلة دون ظلم ولا شطط, ومثل تهيئة فرص العمل لكل قادر عليه, ونحو ذلك"2. ونقول بأنه وبغَضِّ النظر عن صحة هذه الدعاوي أو كذبها, فإن مجرد التوافق في التسمية لا يكون توافقًا في الحقيقة, وإلا لكانت كل الاختلافات

_ 1 سورة التوبة، الآية: 60. 2 انظر كواشف زيوف ص245.

لا قيمة لها؛ لأنه ما من مختلفين في قضية من القضايا إلّا وتجد بينهم توافقًا ما. فإقرار الإسلام لتلك الأمور هو غير إقرار الاشتراكية لها, وترتيبه لها غير ترتيب الاشتراكية لها, ومفهومه غير مفهوم الاشتراكية, واشتراك الناس في تلك الأمور في الإسلام هو اشتراك مودة ورحمة وإخاء وتسامح, بينما هو في الاشتراكية حق واحد للسبع الكبير-الدولة- تأخذ منها شعبها, ثم تسمح بالباقي للآخرين في مقابل "من لم يحترف لم يعتلف", وفوق كل ما تقدَّم نقول لمخادعي الاشتراكي: من أين جاء مصدر الإسلام؟ ومن أين جاء مصدر الاشتراكية؟ وهل يلتقي التشريع الإلهي والتشريع البشري على حدٍّ سواء. إن الإسلام لا يعترف بأي نظام جاهليّ وضعي, فكيف يقال: إنه يعضده ويوافقه, سواء أكان اشتراكيًّا أو رأسماليًّا أو شيوعيًّا, إنه من الكذب والافتراء الفاحش القول بتوافق الإسلام مع هذه الأنظمة الجاهلية وغيرها. وإذا سلَّمنا جدلًا بتوافق الإسلام مع تلك الأنظمة, فما هو السبب في قتل الاشتراكيين الشيوعيين للمسلمين في الاتحاد السوفييتي قتلًا لا يتصوّر العقل أهواله, ودمارًا لا حدَّ له, لقد حاربوا الإسلام حربًا شعواء, وهدموا المساجد وحاربوا وجود أي كتاب إسلامي على امتداد البلاد السوفيتية, وأصبحت تهمة الشخص بأنه مسلم كافية لإباحة دمه وتدمير منزله, حتى تناقص أعداد المسلمين وعدد مدراسهم وعدد مساجدهم تناقصًا مذهلًا, فما هو جواب هؤلاء البهائم -بل هم أضل- ما هو جواب الاشتراكيين عن هذا السلوك, ألم تنكشف خدعهم للعالم أجمع؟ وتظهر الحقيقة لكل ذي رأي وعين أن العداواة بين الحق والباطل دائمًا على أشدها؟

ومن الأدلة الواضحة على بعد الاشتراكية عن الإسلام ما نراه من الفشل الذريع الذي منيت به في ديار المسلمين رغم ما يبذله أقطابها من مغريات جمَّة لإنعاشها بين المسلمين, ذلك أن الإسلام والمسلمين ينفرون منها ويرفضونها جملة وتفصيلًا، وثانيًا: إنها لم تنجح إلّا في أوساط المتخلفين اقتصاديًّا وثقافيًّا ودينيًّا، أو متسلط متزلف إلى أقطاب الاشتراكية، أو كافر حاقد، أو إباحي مجرم، أو جاهل بحقيقة الاشتراكية1. وما نسمعه من نجاحها في بعض البلدان العربية فإنما هي دعايات وزوبعات مؤقَّتة وراءها الحديد والنار, ثم انجلت الغمَّة عن تلك البلدان, فإذا بالاشتراكية وأقطابها في المزابل, ولنا في دخولها البلدان ونهايتها فيها, وفي دخول الإسلام البلدان المفتوحة وبقائه فيها, خير شاهد على مدى الفرق الهائل بينهما.

_ 1 انظر هذه هي الاشتراكية ص26.

الفصل الثامن: كيف غزت الإشتراكية بلدان المسلمين

الفصل الثامن: كيف غزت الإشتراكية بلدان المسلمين ... الفصل الثامن: كيف غزة الاشتراكية بلدان المسلمين؟ من المعروف أن الأفكار تنتقل وتتسرَّب من شخص لآخر, ومن أمة لأمة دون أن تحدها حدود, فهي تتغلغل وتنتقل في الوقت الذي يتهيئ لها, وكما يقال: "لكل صائح صدى" مهما كان قبح صوت ذلك الصائح, فقد وجدت الاشتراكية القبيحة طريقًا إلى آذان بعض من تقبَّلها تحت أسباب متعددة, وذرائع مختلفة, وإغراءات برّاقة، والذين تقبلوها إما طلاب دنيا لهم أغراض في الوصول إلى الزعامة أو الثراء، أو أصحاب حقد شديد على أغنياء يريدون النيل منهم، أو جهَّال ينعقون بما لا يفقهون, ويصفقون لما لا يدركون حقيقته، أو إباحيون لا يريدون أن يحدَّهم دين أو شرع عن الوصول إلى شهواتهم، وهؤلاء العملاء قد يكونون تحت مسمَّى الإسلام ومن العرب أو من غيرهم, ولكنهم أشد أعداء الإسلام والمسلمين, باعوا دينهم وضمائرهم لأقطاب الاشتراكية الماركسية, وكونوا من أنفسهم طابورًا سريًّا في الصف الأول في الهجوم على الدين ومن يمثّله من أبناء جلدتهم, وبالإضافة إلى أن هؤلاء جواسيس على أمتهم ودينهم, فهم كذلك دعاة ترغيب تحسين لوجه الاشتراكية الكالح, يرددون الشعارات تلو الشعارات, والمدائح تلو المدائح, إمَّا تصريحًا وإما تلميحًا تحت دعاوي كثيرة باطلة، إما دعوى إنصاف الفقراء والمظلومين، وإما دعوى التحرر، وإما دعوى التقدُّم ونبذ الرجعية والجمود والتخلف ولحوق ركب الحضارة الغربية أو الشرقية, وما غير ذلك من الشعارات

البراقة والخطب الرنَّانية الفارغة بكل ما لديهم من قوة صاحب السلطة بسلطته, وصاحب القلم والرأي بقلمه ورأيه, وصاحب نشر الفحشاء والسوء بأسلوبه, فكم ألصقوا من التُّهم الشنيعة بشرفاء هم أنظف من الزجاجة وشوَّهوا سمعتهم بما أخلقوه من التهم والألقاب المنفرة ضدهم، وكم قرَّب الاشتراكيون من صعاليك سفهاء, وكم أبعدوا من أولي الحجى حتى صارت كلمة السفهاء وأصحاب الخنى هي المسموعة في وسائل إعلامهم المختلفة من مرئية ومسموعة ومكتبوة, وأبعدت الكلمة الصالحة, وجعلوا دون نشرها حجبًا كثيرة وأبوابًا مغلَّقة لئلَّا تفتح القلوب وتزيل غشاوة أبصار من افتتنوا بها. أما بالنسبة لغزو الاشتراكية البلاد العربية فقد بدأ ظهورها في مصر وسوريا ولبنان في صورة ليست قوية إلى أن تبنَّاها رئيس مصر جمال عبد الناصر, الذي طغى وبغى في وقته, وتبنَّى الاشتراكية الماركسية ونشرها بأساليب شيطانية, وأحيط بها له من التغطية حيث كاد أن يدّعي ما ليس له بحق, لولا أنَّ الله عاجله بالعقوبة بهزيمته على يد اليهود أولًا وموته الفجاءة ثانيًا بعد أن علا اسمه وصار يلقب بأبي الأحرار ورائد الأمة, وما إلى ذلك من الأسماء الكاذبة, وكان بعضهم يصرّح بقوله: لن نهزم وناصر بيننا, فهزمهم الله في حرب سنة 1967م شرَّ هزيمة عرفت في التاريخ الحديث. انتعشت الاشتراكية العلمية التي اختارها جمال عبد الناصر طريقًا, وقام الكُتَّاب المتزلِّفون وأطروْهَا مدحًا وجاءوا بخدع لا نظير لها لتحبيبها إلى قلوب المسلمين, ومن الملفت للنظر أن دعاة الاشتراكية العربية تناقضوا

مع أنفسهم تناقضًا فاحشًا, فبينما هم ينادون بالاشتراكية العلمية إذا بهم يقولون: إنها ليست الاشتراكية الماركسية, وهل هناك اشتراكية غير اشتراكية ماركس التي سمَّاها -كذبًا وزورًا - علمية. وهؤلاء المغالطون يزعمون أن اشتراكيتهم علمية لكنَّها ليست هي الماركسية, فأي اشتراكية علمية هذه التي ينادون بها؟ ولو على سبيل الافتراض قبلنا زعمهم أنَّ اشتراكيتهم علمية, ولكنها ليست ماركسية, أليست هذه الاشتراكية أيضًا التي ينادون بها هي نفسها مبادئ الاشتراكية الماركسية, لا تختلف عنها اللهمَّ إلا في اختيار بعض الألفاظ ليغالطوا بها الناس السذج1. وأما كذبتهم الكبيرة التي يزعمون في أن اشتراكيتهم هي نفسها مبادئ الاسلام: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 2، فأين الإسلام وأين مبادئ ماركس؟ وهل يمكن أن يجتمع الليل والنهار في وقت واحد؟ وما تمسَّكوا به من أن مبادئ الاشتراكية الماركسية تتوافق مع كثير من مبادئ الإسلام, فهو من باب تمسُّك الغريق, أو حجّة من لا حجة له، فما

_ 1 إذا أردت المزيد من الشواهد فاقرأ كتاب "التضليل الاشتراكي" للدكتور صلاح الدين المنجد, لترى فيه عجًبا من بعض الكُتَّاب في مصر في ثنائهم على الاشتراكية والماركسية, وأن الدين الإسلامي هو أساسهما؟! وكتابه "بلشفة الإسلام" وأقرأ ما كتبه الدكتور عمر حليق في كتابه "دور الماركسية في الاشتراكية العربية". 2 سورة الكهف، آية: 5.

أكثر التشابه بين الآراء المتضادة, ومع ذلك لا يصح القول: إن هذا التشابه يجعلها متَّفقة غير مختلفة كما تقدَّم. وأنَّ أول ما يكذبهم فيما زعموه هو أن الاشتراكية الماركسية تدعو إلى الثورات المتلاحقة والصراع الطبقي بكل شدة, بينما الإسلام لا يدعو إلى شيء من ذلك, بل يدعو إلى الهدوء والمحبَّة والعطف والبر والإحسان والصدقات, فأين وجه الشبه بينهما؟ كما يكذبهم كذلك اعتقادهم أن الملكية الخاصَّة يجب أن لا يبقى لها أي مكان, وإمَّا هي الملكية العامة التي تكون بيد الدولة فقط, فالإسلام يحترم الملكية الخاصة والملكية العامة, وينظم الجميع تحت لا ضرر ولا ضرار, فأين وجه الشبه بينهما؟ كما أنَّ الاشتراكية الماركسية تسلب حريات الناس وتكمِّم أفواههم وتفرض تعاليمها فرضًا بالحديد والنار, بينما الإسلام يحثّ على الحرية وعلى الجهر بالحق في حدود الشرع والمصلحة العامة, فأين وجه الشبه بينهما؟ وإنك لتندهش حقًّا وتعجب أشد العجب من عملاء الماركسية حينما يزعمون أن الاشتركية متوافقة مع الإسلام ومع فطرة كل شخص, وأنَّ الشعوب رضيت بها واعتنقتها ورأت فيها ضالتها المنشودة، قبَّح الله هؤلاء الكذابين الأفَّاكين, أليست الشعوب التي يزعمون أنها تقبَّلتها تلعنهم ليلًا ونهارًا؟ وأي شخص ارتاح إليها وهو يعلم أنها ستسلبه أرضه ومسكنه؟ ويعيش على بطاقة تصرفها له الدولة يتغدى بها ويتعشَّى بها, ثم يكون

عودًا ضمن الحطب، ما أشدّ جرأة هؤلاء الكذابين الذين يكذبون على الناس علانية دون حياء أو خجل, فلو لم يكن للشعوب إلّا تمسكهم بالإسلام لكان كافيًا في ردِّها ولعنها, كيف وقد انضاف إليهم الفقر الذي يتهدَّد معتنقيها بين عشية وضحاها؟ ولهذا تجد تلك الشعوب المسلمة تقول بكل حزم وعزم حينما تسمع أحد عملاء الاشتراكية الماركسية يقول: إن الإسلام يؤيد الاشتراكية والاشتراكية تؤيده, يقولون له: كذبت وافتريت أيها المخادع.

الفصل التاسع: دعاة على أبواب جهنم

الفصل التاسع: دعاة على أبواب جهنم ... الفصل التاسع: دعاة على أبواب جنهم جاء في الحديث الذي أخبر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن افتراق الأمة إلى فرق وأحزاب, أن منهم دعاة على أبواب جهنم, من أجابهم قذفوه فيها, وهذا ينطبق على كل دعاة الإفك والضلال. وإذا كان مَنْ أخبر عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ منهم دعاة على أبواب جهنم مع دعواهم الإسلام, فما بالك بالدعاة إذا كانوا من أكابر الملحدين, دينهم الإلحاد والكفر بخالق الخلق -سبحانه وتعالى, ومن أولئك الدعاة على أبواب جنهم دعاة الاشتراكية, سواء أكانوا من العرب أو من غيرهم, ينتسبون إلى الإسلام أو لا ينتسبون إليه. أما بالنسبة لدعاة الاشتراكية في البلاد الإسلامية وهُمْ ما بين ملحد ضالٍّ، وجاهل غرّ، فقد عرفت مما سبق أنهم يحاولون بشتَّى الخدع والافتراءات تقريب الاشتراكية العلمية الماركسية إلى الإسلام, وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكابر الصحابة -رضوان الله عليهم- وقد حشروا في زمرتهم أم المؤمنين خديجة والصحابي الجليل أبو ذر الغفاري وعمر وغيرهم, كل هؤلاء اشتراكيون, بل ومن المؤسسين الأوئل للاشتراكية. والذي يهمنا الآن هنا ليس هو الرد عليهم في مزاعمهم, فهي أقلَّ وأذل من أن يهتمَّ لها, ولكن الذي يهم القارئ هو الاطلاع على شبههم وكيفية

دعواتهم الاشتراكية إلى الناس, وكيف أنهم ركبوا لتحقيق ذلك كل صعب وذلول, وجاءوا بأكاذيب وافتراءات على الإسلام وخيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين تقشعِّر لها الجلود، ومن نصوص مكذوبة لا قيمة لها أو صحيحة, ولكنهم تسلَّطوا عليها بالتحريض دون مبالاة, وكيف لا يكون ذلك منهم وقد قرَّر لهم رؤساء الاشتراكية الماركسية أن الكذب والخداع والغش ومحو الفضيلة وسائر الأخلاق الذميمة كلها فضائل إذا كانت تؤدي إلى نشر الشيوعية, فالغاية عندهم تبرر الوسيلة, وقد نبغ كُتَّاب وصحفيون ومدرسون وغيرهم ينادون بتطبيق الاشتراكية التي مرَّةً يصفونها بأنها علمية, ومرة بأنها إسلامية, وأخرى بأنها عدالة ورحمة, وأن الشعوب تتطلّع إلى تحقيقها بفارغ الصبر, يتمنَّون بين عشية وضحاها أن تأتي الاشتراكية وتؤمِّم جميع ممتلكاتهم, وتجعلها ملكًا للدولة, وتجعلهم حطبًا في وقودها؟! وللعاقل أن يسأل: ولما كل هذا الإيثار؟ وكيف وصلت الشعوب في حبهم للحزب الاشتراكي والدولة الاشتراكية إلى حد أنهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1. ولا أشك أن كل قارئ يعرف أن هذا كله كذب ودجل وتزلف إلى الحكام الاشتراكيين بما يرضيهم دون تأنيب من ضمير أو حياء, أو على الأقل الخوف من عقلاء الشعوب أن يلعنوهم, وإليك بيان بعض أساليبهم في الدعوة إلى الاشتراكية.

_ 1 سورة الحشر، الآية: 9.

1- إذا وجدت مرحلة كان الاشتراكيون فيها أقل عدد من أهل الدين, وكانت القوة للدين, فلا حرج على الاشتراكي أن يتظاهر بكلمات التديُّن مع بقائه على العداء الشديد للدين وأهله, وقد أوصاهم بذلك كبار رؤسائهم. 2- أن تتركّز جهود دعاة الاشتراكية على محاربة كل الروابط الدينية, وخصوصًا الجوانب الروحية والتقليل من شأنها, وأن الحياة الصحيحة هي المادة التي أمامك لا غير. 3- أن يعاد تفسير كل ما قاله الدين بتفسير اشتراكي, سواء ما يتعلق منها بالقصص أو المواعظ أو الأحداث, بل وتفسير كل شيء في الاشتراكية الماركسية بأنه من الدين, أو لا يتعارض مع الدين. 4- تجنيد بعض رجال الدين أو كلهم, وجعلهم في مقدِّمة دعاة الاشتراكية إذا أمكن ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أغصانها, وهؤلاء يجب أن يكونوا على اقتناع بالاشتراكية الشيوعية, ولا حرج عليهم أن يجاهروا بعد ذلك بالتدين؛ لأن النفاق فضيلة إذا أريد به تقوية الاشتراكية الماركسية؟! 5- استمرار النداءات بأنّ الاشتراكية هي التحرُّر, وهي رفع معيشة الشعوب, وهي نصرة الفقراء والمظلومين، وهي النور الذي لايستغني عنه أحد ... إلى آخر هذ الدعايات الرنَّانة الجوفاء في حقيقتها.

6- شدة مراقبة أهل الدين وتسجيل كل ما يتفوَّهون به في المدراس أو في المساجد أو في اجتماعاتهم, وتخويفهم من عاقبة أيّ خطأ يرتكبونه ضد الاشتراكية العلمية, وأن عليهم إذا أرادوا الحياة أن يسايروا الركب. 7- التهجُّم على الأثرياء وأنهم طبقة مستعبدة, وأن الإسلام لا يجيز للشخص أن يمتلك الأموال الكثيرة وغيره جياع, والغرض من هذا تصحيح ما تقوم به الاشتراكية من تأميم الأموال دون وجه شرعي، ومعلوم أن الإسلام لا يمنع أن يكون بعض الناس أثرياء مهما بلغ ثراؤهم ما داموا يؤدون حق الله فيه, فالفقر والغنى كله بتقدير الله تعالى. 8- يجب على الجميع أن يأتوا بالتبريكات وبالتبريرات لأيّ عمل تقوم به الدولة الاشتراكية, وأن كل ما تفعله هو الحق والخير, وكل ما تعاديه هو الشر والضرر. 9- ترديد الشعارات التي تخدم الاشتراكية في كل مناسبة, وبالتالي ترديد الذمّ لكل ما يخالفها, والقاء النعوت المنفرة لمخالفيها؛ كالرجعية والجمود والتخلف وإرادة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء, إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يجيدها خدم الاشتراكية.

الباب العشرون: الشيوعية

الباب العشرون: الشيوعية الفصل الأول: دراسة عن الشيوعية مدخل ... الباب العشرون: الشيوعية تتكون دراستنا لهذا المذهب من فصلين, تحت كلٍّ منهما مباحث ومطالب ومسائل متعددة. الفصل الأول: دراسة عن الشوعية الفصل الثاني: دراسة عن الأحوال الاقتصادية في الإسلام, وفي المذاهب الوضعية. الفصل الأول: دراسة عن الشيوعية - ماذا ندرس عن الشيوعية؟ الشيوعية مذهب هدَّام إباحيّ، ظالمٌ, من أسوأ ما عرفته البشرية من مذاهب وجدت على ظهر الأرض, كانت لها صولة وجولة إبَّان حكم طغاتها في الاتحاد السوفيتي -سابقًا, وكادت أن تطغى على جميع البلدان لولا أنَّ الله تعالى بخفي لطفه وقوته عاجلهم بالعقوبة قبل فترة ليست بالطويلة في وقت لم يكن أحد يتوقع فيه أن تنتهي وتزول بتلك البساطة على يد آخر حكامهم "جورباتشوف", والله غالب على أمره, وقد أراد أقطابها أن تحلّ محل الديانات

كلها, بل محل الله -سبحانه وتعالى, وكانت آراؤها السخيفة هي السبب في اندحارها وسقوطها, سواء ما تعلَّق منها بالأمور الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية, فلم تجن الشعوب التي نكبت بها غير الخسران والضياع في الدين والدنيا, كما أنه لم ينجح الكيد اليهودي الحاقد في محاربته للعقائد والعقول مثلما نجح في إقامة هذا المذهب الهدّام. وسنتناول هذه المذهب بإيجاز -نظرًا لأنه أوسع المذاهب وأكثرها شمولًا- نقتصر على أهم الجوانب التي ينبغي الإلمام بها, دون دراسة النواحي التاريخية لعدم الضرورة إلى ذلك من جهة, ولعدم تعلق المقرر المطلوب دراسته بها من جهة أخرى, ولذلك سندرسها من خلال الأمور الآتية: تمهيد عام عن الشيوعية: المبحث الأول: قيام الشيوعية الأولى بقيادة مزدك. المبحث الثاني: من أكاذيب الشيوعيين. المبحث الثالث: رد زعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى. المبحث الرابع: زعامة الشيوعية الماركسية. المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية: 1- المادية. 2- الجدلية - الديالكتيك. 3- التطور.

المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليها. المبحث السابع: التفسير المادي للإنسان. المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية. المبحث التاسع: حرب الأخلاق والقيم. المبحث العاشر: القضاء على الأسر. المبحث الحادي عشر: محاربة الدين. المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الإلحادية على العداء للدين. المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع. المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله -تعالى وتقدّس، وهل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى؟ وبيان شبهاتهم. المبحث الخامس عشر: روافد أخرى للإلحاد: 1- الإنسان التقدمي. 2- الرجعية والجمود. 3- الخرافة والتقاليد. 4- الحرية والكبت. 5- الإلحاد.

الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام والمذاهب الوضعية، وفيه المباحث الآتية: المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية, وفيه مطلبان: المطلب الأول: الملكية في الإسلام, وفيه أمران: 1- حب التملُّك الفردي فطرة في الإنسان. 2- الملكية الفردية والجماعية في الإسلام. المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية وفيه أمران: 1- الملكية في الرأسمالية. 2- الملكية في الشيوعية الماركسية. المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين, وفيه مطلبان: المطلب الأول: رد مزاعمهم في الملكية الفردية. المطلب الثاني: رد مزاعمهم في نشأة الصراع الطبقي. المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية, وتشمل دراسة هذه الجوانب المطالب الآتية: المطلب الأول: التعريف بعلم الاقتصاد. المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان. المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية. المطلب الرابع: الغزو الفكري عن طريق الاقتصاد. المطلب الخامس: المال في الإسلام. المطالب السادس: وجود الموارد وندرتها.

المطلب السابع: مدى صحة تعليل أصحاب النظام الوضعي للمشكلة الاقتصادية. المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشئون المالية, وطريقة معالجته لمشكلة الفقر, وفيه المسائل الآتية: المسألة الأول: التكافل الاجتماعي العام في الإسلام. المسألة الثانية: الاتفاقيات في العمل. المسألة الثالثة: الكسب المشروع وغير المشروع, وفيها: المسألة الرابعة: إيجاب الإسلام إخراج حزء من المال. أولًا: مشروعية الزكاة. ثانيًا: آثار الزكاة على النفس والمجتمع. المسألة الخامسة: الضرب في الأرض وطلب الكسب. المسألة السادسة: الصدقات. المسألة السابعة: الوقف. المسألة الثامنة: الميراث. المسألة التاسعة: الوصية. المسألة العاشرة: الحث على الإيثار. المسألة الحادية عشر: الهدايا والهبات. المسألة الثانية عشر: التكافل الأسري. موارد أخرى متنوعة: 1- زكاة الفطر.

2- توزيع لحوم الأضاحي. 3- توزيع ما يستغني عنه الموسرون. 4- الإطعام الواجب على مَنْ عجز عن الصوم. 5- توزيع لحوم الهدي من قِبَلِ الحجاج والمعتمرين. 6- التصدق في يوم حصاد الثمار. 7- سائر الكفَّارات: 1- كفارة الأيمان. 2- كفارة الإفطار في نهار رمضان بالجماع عمدًا. 3- كفارة الظهار. 4- كفارة القتل الخطأ. 5- كفارة صيد المحرم. 6- كفارة الوفاء بالنذر. 7- وجوب إكرام الضيف. المسألة الثالثة عشر: التكافل عن طريق العارية. المسألة الرابعة عشرة: رعاية العاجزين والضعفاء: 1- رعاية الأطفال. 2- رعاية أصحاب العاهات. 3- رعاية المنحرفين والشواذ. 4- رعاية المطلقات والأرامل.

5- رعاية كبار السن. 6- رعاية المنكوبين والمكروبين. المسألة الخامسة عشر: تحريم التعامل بالمال في بعض الأمور: تمهيد: 1- تحريم الربا. 2- تحريم الاحتكار. 3- تحريم الغش. 4- تحريم المكاسب الخبيثة كالقمار ونحوه. 5- إنفاق المال في بعض الطرق غير المشروعة وهي كثيرة. المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية: 1- في الرأسمالية. 2- في الشيوعية.

تمهيد عام عن الشيوعية

- تمهيد عام عن الشيوعية: لقد أصبح اسم الشيوعية اسمًا بغيضًا إلى القلوب يوحي بالشؤم, ويقترن بمحاربة الله والأديان والأخلاق والرحمة والطمأنينية والعدل, ويرمز إلى الشرور والإباحية والفوضوية والصراع الطبقي, والقضاء على الأسر ومصادرة الأموال العامة والحريات كلها -غير الجنسية. وقد أخذت هذه التسمية من مبدأ شيوعية المال بين الجميع وعدم الملكية الفردية وحصرها في يد الدولة, التي يعيش أعضاؤها في بذخ لا حدود له, وقد ذكر في الموسوعة العربية الميسرة1: "إن الشيوعية مصطلح يصعب تحديد معناه"، وبعد أن ذكرت تلك الموسوعة أن الشيوعية نظام اجتماعي تكون فيه الملكية في يد المجتمع, قالت: "والشيوعية بهذا المعنى قديمة قدم المجتمع نفسه"2. وهذا كذب محض, فإن هذا التعبير من الدسائس التي أحتوت عليها هذه الموسوعة متأثّرة بما لفَّقه زعماء الشيوعية من أن المجتمعات في القديم كانت بدائية, وكانت الملكية فيها مشاعة بين الجميع في شكل اكتفاء ذاتي يتقاسم أفراده السلع والخدمات نظرًا لظروفهم الخاصة القاسية التي تحتّم عليهم ذلك, كما هو الحال على الخصوص في المجتمعات التي تعيش في قنص الحيوان -بزعمهم3.

_ 1 وهي موسوعة فيها دسٌّ خطير يجب الانتباه له. 2 الموسوعة العربية الميسَّرة ج2، ص1110. 3 المصدر السابق ص1111.

لقد قامت الشيوعية الماركسية كالمارد الجبار تريد أن تقيم مجدًا زائفًا على أنقاض الديانات الإلهية كلها, وإحلال الديانات الوضعية البشرية مكانها, شعارهم "لا إله والحياة مادة", هدفهم هدم الأديان وإعلاء اليهودية، ومع أن شعارهم "لا إله" فهو شعار كذّاب, فقد أحلَّ طغاة الشيوعية أنفسهم محل الإله العظيم, وأحلوا تعاليمهم الإلحادية محل الدين, وقوانيهم محل الشريعة, فقد احتوت الشيوعية على جميع نواحي الحياة من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية, بل وكل ناحية في حياة البشر بدلًا عن الإله وعن الأديان وكافَّة النظم البشرية. وإذا كانت السمة الظاهرة للنَّاس أن الشيوعية لا شأن لها بأية ناحية غير الناحية الاقتصادية, وأنَّ مهمتها خدمة الشعوب لكي تعيش في جنة عالية, قطوفها دانية, إذا طبَّقوا التعاليم الماركسية الجهنمية التي زعم أقطابها أن البشر سيعيشونها في يوم ما وسيحكمون أنفسهم بأنفسهم، لا عداوة، ولا فقر، ولا جهل ... إلخ, فإن هذه السمة الظاهرة هي ترهات الشيوعية وخدعها التي نجحت على كثير من البشر, فأصبحوا ضحايا خاسرة للشيوعية ومبادئها الجوفاء. ولقد تظاهرت الشيوعية بذلك لتعمل في الخفاء وبعيدًا عن الأنظار, لما قامت من أجله من تحقيق أحلام اليهود, وليس تحقيق أحلام الفقراء, فزعموا للناس أنهم ركبوا كل صعب وذلول للاهتمام بالنواحي الاقتصادية أولًا وأخيرًا, وأن كل ما يصدر عن هذا الفكر من سلوك وتقنين إنما هو تابع لتحقيق هذا الجانب لا غيره, وسيتبين إن شاء الله الردَّ عليهم

أن هذا الزعم أصبح سرابًا كاذبًا, وهباء في مهب الريح, ويعبرون عن هذه الظاهرة بالمادة التي صارت هي المعبود والنظام والتاريخ, وأقطاب الشيوعية كما هو معروف كانوا نصارى في الأساس وأغلبهم يهود, وقد وصفوا نظريتهم بالإلحادية "المادية", وجعلوها محور كل شيء في الوجود, والتاريخ أقاموه على "التفسير المادي للتاريخ", فكل مظاهرهم إنما هي تابعة لتصورهم المادي, كما أن مظاهر الفرويدية كلها متوجّهة نحو الجنس, وكلتا النظريتين موجَّهتين بدقة من قِبَلِ الماسونية اليهودية للقضاء على كل ما عند الجوييم -كما يسميهم اليهود- ليصحبوا حميرًا لشعب الله المختار -كما تمنِّيهم بذلك تعاليم التوارة المحرفة والتملود الجهنمي المملوء حقدًا على جميع البشر ما عدا اليهود. وكان "ماركس" قد تضلَّع من دراسة الحضارة الإغريقية الرومانية في الوقت الذي كانت فيه تعاليم المسيحية المحرَّفة تتهاوى إلى الحضيض وتداس تحت أقدام أولئك الذين خرجوا عن طغيانها الذي لا حد له, وعن صلاحيات البابوات ورجال الدين التي لا نهاية لها, وفي الوقت الذي نشط في دهاة الماسونية, ومنهم كارل ماركس لتحطيم كل حضارات العالم, وإقامة هيكل سليمان الذي هو نصب أعين اليهود كلهم. ظهرت الماركسية لتجعل الإنسان هو مصدر كل سلوك ومعرفة هو الإله المشرِّع وهو الخالق المبدع وهو كل شي, وليس وراء أي شيء, فلا وجود للإله الذي مارس طغاة الكنيسة كل جبروتهم باسمه, ولا أديان تضطهد اليهودية واليهود, ولا حياة أخرى هي مصدر الخلاص, إذا كان الشخص يملك صك

غفران عن البابا، بل الإنسان هو الإله, والدنيا هي غاية الإنسان عليها ليسعد أو يشقى, ولا عبرة بما قالته الأديان الإلهية من وجود قوة أخرى غير الإنسان, أو حياة أخرى غير هذه الحياة، بل إن ما وراء الطبيعة من المغيبات إن هو إلّا سراب يجب أن يختفي أمام الحضارة اللادينية العاتية, عالم المحسوسات التي لا تؤمن الشيوعية الملحدة إلّا به وحده, معللة لوجود هذا الكون ونشأته, ونشأة التدين عند الإنسان بخرافات كاذبة خالية لا يسندها عقل ولا منطق، الكون تجمَّع من ذرات, والإنسان أصله قرد ... إلخ. ومن العجيب أنهم يسمّون هذه التخيلات المفتراة على البشرية التي تنافي ما أكرمهم به الله من حفظ ورعاية ومعرفة بأمور دينهم ودنياهم العجيبة، أنهم يسمّونها حقائق ويدافعون عنها كأنهم عايشوها من أول يوم عرفت فيه البشرية, ومن كذبهم في هذا فإن نبزه بالرجعية والتخلف أمر جاهز في قواميسهم التي لا تتورَّع عن هدر أعراض الناس ودماءهم {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} 1. وهو رجم بالغيب وظلم للبشرية وتصديق لأقوال الكذابين أمثال: "ماركس"، و"دارون"، و"فرويد" وغيرهم من أشرار البشر الحاقدين. وقد ساعد على تعميق الإلحاد الشيوعي تلك النظريات الكثيرة والشُّبَه التي سمَّوْها حقائق لمعرفة هذا الكون وقيامه على القوانين التي عرفت أخيرًا مثل قانون الجاذبية الذي أرسى كل شيء في الوجود في مكانه, وقانون تجمع أجزاء المادة التي انفجر عنها هذا الكون, وغير ذلك مما زعموه مؤيدًا

_ 1 سورة الزخرف، الآية: 19.

لنظريتهم الملحدة, فحجبت تلك المفاهيم -الخاطئة للشيوعية والنصرانية- العقل عن التعلق بموجد لهذا الكون، وأنَّ مجرد التفكير فيه يعد رجعية, ولهذا -كما سمعنا- أن الروس قتلوا العائدين من سطح القمر في أول رحلة فضائية؛ لأنهم أيقنوا أن لهذا الكون موجدًا, وما إن أطلَّ القرن التاسع عشر الميلادي إلّا وقد ظهر قرن الشيطان وساد القول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل, فهي الحاكم المطلق والإله الذي لا ينازع, وقد تولى كبرها "أوجست كونت"، ,"فرباخ"، و"ماركس"، و"انجلا" بدافع قوي من الحقد الشديد على رجال الدين الكنسيّ الذي يمثّل حسب تعليلهم قوة ما وراء الطبيعة من الأمور المغيبة والروحية التي اعتبروها وهمًا وخداعًا لا حقيقة له, لعدم اندراجها تحت قوة الإحساس والإدراك المباشر, وأن الالتجاء إلى ذلك الغيب إنما نتج عن الوراثة والبيئة والحياة الاجتماعية في تلك الأزمان المختلفة بزعم دعاة الإلحاد. ولقد ظلت الشيوعية قرابة سبعين عامًا في صولة وجولة قوية مزبدة, يحسب لها حسابها, إلى أن أذن الله بزوال قواتها بقدرته وحده؛ أذ ما كان أحد يفكر في النيل منها، فإذا بها يأتيها حتفها بظلفها على يد آخر زعيم لما كان يسمَّى بالاتحاد السوفيتي, وهو "ميخائيل جورباتششوف", وأفل نجمها وجبروتها, وثارت الشعوب واقتصوا من كل الظالمين. والآن, وبعد أن تبيِّنَ المصير النهائي للماركسية الشيوعية أقول: إنه من الغريب جدًّا أن تموت الشيوعية في عقر دارها -الاتحاد السوفيتي سابقًا, وأن تكتشف الشعوب أن هذا المذهب فاشل باطل لا يجر إلى خير،

بل إلى الخراب والدمار وإثارة البغضاء وانتشار البطالة والفواحش، وأن الجنة الأرضية التي وعد بها "كارل ماركس" إن هي إلّا سراب خادع وآمال كاذبة, وأن تعاليمه إن هي إلّا جحيم لا يطاق وتعاسة وشقاء. وأن الشعوب كانوا يساقون إلى الموت وهم ينظرون, طائعين أو مكرهين, وأن في التخلص من هذا المذهب راحة لا تعدلها راحة, وفوزًا لا يعدله فوز, فهبَّت تلك الشعوب المظلومة لتنفض عنها غبار تلك السنين العجاب, ثم داسوا مبادئ "ماركس" ونظرياته تحت نعالهم, وتنفسوا الصعداء, وبعضهم قام بشنق تماثيل بعض طغاة الشيوعية القدماء, وبعض الحكام الحاليين, وقالوا: لا رجعة للشيوعية هنا. أقول: من الغريب أن يحصل هذا وأكثر منه في تلك البلدان التي ذاقت مرارة التعاليم الشيوعية وفرحت بانقشاعها عنها, ثم تقوم بعض الأحزاب في البلدان العربية الإسلامية بالمناداة باعتمادها كحزب شيوعي شرعي, وأين الشرع من تعاليم "ماركس", ثم تقوم بعض الحكومات باعتماد تلك الأحزاب والترخيص لهم بدخول المجالس النيابية والبرلمانية, وما إلى ذلك, كما سمعته من دولة إسلامية عربية في إذاعتهم المسموعة، إن الأمر يدعو إلى العجب -قبَّح الله تلك الأحزاب وقبَّح الله من يسمح لهم: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

_ 1 سمعت من إحدى الإذاعات أن دولة أوروبية أمرت بإخراج تمثال لينين وشنقه أمام الناس، وقد شنقوا بعض رؤسائهم مثل: تيتو وزوجته أمام الناس. 2 سورة الأعراف، الآية: 179.

ولقد قيل في المثل: "العاقل من اتَّعظ بغيره، فلماذا لا يتَّعظ هولاء بمن قد ذاق الحياة الشيوعية البائسة وضاق بها ذرعًا, أليس لهؤلاء قلوب يعقلون بها؟ وأعين ينظرون بها؟ وآذن يسمعون بها؟ فيكفون عن التعلق بالشيوعية الحمراء, وبتقديس زعمائها الذين لا يساوون قيمة نعالهم. إن الأمر واضح وجليّ لولا أن مؤامرة جديدة أيضًا تهدد العالم في ثوب جديد وبأسلوب جديد, قد يشعر الناس به وقد لا يشعرون، وما أكثر النكبات التي يدبرها شياطين الإنس والجن للمغلوبين على أمرهم, تحت مختلف الشعارات البراقة والخادعة من دعاة الماسونية واليهودية العالمية الحاقدة على الجوييم وما يمتلكونه من حضارات وقيم, ومرور الأيام والليالي كفيلة بإيضاح كل ما يبيتون, والله لهم بالمرصاد.

المبحث الأول: قيام الشيوعية الأولى بقيادة رجل يسمى "مزدك"

المبحث الأول: قيام الشيوعية الأولى بقيادة رجل يسمَّى "مزدك" قام "مزدك" في أيام ملك فارس المسمَّى "قباذ بن فيروز بن يزدجرد" كما يذكر المؤرخون بالدعوة إلى شيوعية فوضوية عارمة تأكل الأخضر واليابس, وعانى الناس منها الأمرَّيْن، وفي وصف شيوعية "مزدك" وفوضويته يقول ابن الأثير: "واستحلَّ المحارم والمنكرات, وسوَّى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء, حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء الباتَّة, فكثر أتباعه من السفلة والأغتام1، فصاروا عشرات ألوف, فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر, وكذا في الأموال والعبيد والإماء, وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه, وتبعه الملك "قباذ", فقال يومًا لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان, فأجابه إلى ذلك, فقام أنوشروان إليه ونزع خُفَّيه بيده وقبَّل رجليه, وشفع إليه حتى لا يتعرَّض لأمه, وله حكمه في سائر ملكه فتركها"2. ومن حكمة الله تعالى أن صار الملك بعد ذلك إلى أنوشروان فانتقم من المزدكية أشد انتقام. فإن أنوشروان حينما تولَّى الملك أذن للناس في الدخول عليه, وكان من الداخلين "المنذر بن ماء السماء"، و"مزدك"، فقال "أنوشروان": إني كنت تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله -عز وجل

_ 1 الأغتام: واحدها: غتم وغتمي, من لا يفصح في كلامه للعجمة، انظر "مختار الصحاح" ص369. 2 الكامل لـ "ابن الأثير"، ج1، ص413.

قد جمعهما إليّ, فقال "مزدك": وما هما أيها الملك، قال: تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف, يعني "المنذر"، وأن أقتل هذه الزنادقة, فقال "مزدك": أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم؟ فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية, والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا. وأمر به فقُتِلَ وصُلِبَ, وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم"1. وانتهت هذه الشيوعية وقُضِيَ عليها إلى أن تولَّاها فيما بعد "كارل ماركس".

_ 1 الكامل لـ "ابن الأثير"، ج1، ص435.

المبحث الثاني: من أكاذيب الشيوعيين

المبحث الثاني: من أكاذيب الشيوعيين من أكاذيب الشيوعين أن هذه الشيوعية كانت هي بداية حياة البشر حينما كان كل شيء مشاعًا للجميع, وهم شركاء فيه من جنس ومال ... إلخ. وكان دليلهم على هذا التخرُّص ما زعموه من اكتشافهم بعض القبائل حيث وجدوهم يعيشون عيشة جماعية، الأرض ملك للجميع, والطعام ملك للجميع, وحتى النساء والرجال ملك بعضهم لبعض -فوضى جنسية عارمة, وزعموا أن تلك القبائل تعيش في إفريقيا وآسيا واستراليا منعزلة تمامًا عن الناس, لا يعرفون الناس ولا يعرفهم الناس, وأنهم يعيشون كلهم على قدم المساواة, لا فوارق بينهم1 -هكذا زعموا, وأن هذه الحال هي التي تسعى إليها الشيوعية الأخيرة؛ لتحصل العدالة التامَّة بين البشر -كما يزعمون, وليعيش الناس كما كانوا يعيشون في تلك الشيوعية حالة ملائكية في منتهى السعادة, رغم أنهم لا يعرفون الناس والناس لا يعرفونهم كما ذكروا, وعلى الكل أن يتركوا عقولهم جانبًا ويصدقوا هذه الخزعبلات إذا أرادوا التقدُّم والازدهار الشيوعي, فهل ما يقولونه صحيح؟

_ 1 انظر مذاهب فكرية معاصرة ص356.

المبحث الثالث: رد زعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى

المبحث الثالث: رد زعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى مما يجب التسليم به أن ما زعمه الملاحدة من أن المجتمع قام على الشيوعية في بدايته ما هو إلّا افتراض ظنون لا يملكون على صحتها أيّ دليل صحيح، بل كل شيء يكذبهم {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 1. فقد تصوروا في أخيلتهم أن البشر البدائيين أقاموا فيما بينهم شراكة في كل شيء قبل أن يتطوروا ويعرفوا الملكية الفردية, رادّين بهذا كل ما جاءت بذكره الشرائع وخصوصًا الإسلام, وما شهد به التاريخ, وما تواتر نقله في كل الأجيال, وما شهد به الواقع على مر السنين من أنَّ الله تعالى هو الذي رتَّب حياة الإنسان وطريقة تعامله منذ أن أهبطه الله إلى الأرض, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وأنَّ ما من أمة إلّا خلا فيها نذير، وأن الإنسان هو الإنسان من بدايته إلى نهايته, لم يتغيِّر لا في هيئته ولا في طبيعته ولا في حبه للملكية الفردية منذ وجوده على الأرض, وما تصوره الملاحدة من انعدام الملكية الفردية وذوبان الشخص في القبيلة إنما كان يصدق على بعض عهود الجاهلية من التعصُّب الشديد للقبيلة, لكن في غير الملكية الفردية, مع أن تصور عدم ميل كل شخص إلى الملكية الفردية افتراضي بعيد الوقوع ومحال, نعم وُجِدَ بين أفراد القبيلة الواحدة تعاون قوي وتعاضُد وشراكة في السراء

_ 1 سورة الكهف، الآية: 5.

والضراء, وتلاحم بين كل أفراد القبيلة إلى حدِّ أن الفرد لا يتصور وجوده وكيانه وانتماءه, وما يأخذه وما يتركه, إلّا من خلال قبيلته, يفعل كل ما تفعله قبيلته, ويترك كل ما تتركه دون أن يكون له أي رأي في مخالفة عرف القبيلة, ولكن هذا الحال لا يصلح أن يكون دليلًا للملاحدة على شيوعية البشر على الطريقة التي قرَّرها ماركس وأتباعه, بل إن اعتقاد أن البشر كانوا بمنزلة البهائم في بدايتهم هو الظلم بعينه, والكذب على البشرية بعينه, وردٌّ صريح لكل ما يثبت في الأديان السماوية من تكريم الله للبشر ورفعهم عن منزلة الحيوانات البهيمة التي تصورها الملاحدة في تفسيرهم لنشأة البشر, وقيام أمورهم على الناحية الاقتصادية والقبلية فقط كما زعموا, ثم على فرض المستحيل أن بعض المكتشفين وجدوا قبائل تعيش على الفوضى في كل شيء بما فيها الجنس, ألا يصح أن يوصف هؤلاء بأنهم شواذّ لا قيمة لهم, فاسدي الفطرة, وأن وصف البشرية كلهم بتلك الوصمة الشنيعة لأجل ما وجده هؤلاء عند تلك القبائل الهمجية يعتبر تطاولًا على تاريخ البشر؟ هذا إن صح أنهم وجدوا بشرًا بتلك الحال, مع أن كذبهم وافتراءهم وارد, ذلك أن ما من إنسان يرضى بالفوضى الجنسية في أهله, بل إنها حالة لا ترضى بها حتى الحيونات البهيمية فضلًا عن الإنسان، فقد أخبر الله -عز وجل- عن فطرة الإنسان وعن الغيرة الموجودة فيه منذ أن وجد أبناء آدم على هذه الأرض وقتل أحد بني آدم آخاه, وليت شعري لماذا يحرص الشيوعيون على إشاعة الجنس أكثر من غيره, فإن الشيوعيين يحرصون أشد الحرص على إشاعة الجنس بالطريقة المشتركة لعلَّه ترغيبًا لمن يتوق إلى ذلك من الشباب والشابات الساقطين

ولظنّهم أن الشيوعية ستبني وتنهض بسبب هذه الدعايات الرخيصة, ولكنهم فوجئوا باستحقار الناس لهم واستهجانهم لهذا السلوك الشائن, فعادوا وزعموا أن شيوعية النساء ليست قاصرة على المذهب الشيوعي, وإنما هي قضية شائعة بين كل الطبقات خصوصًا الأغيناء بصور مختلفة، ولكن هذا الدليل هو واهٍ كبيت العنكبوت لم يخرجهم أيضًا من استحقار الناس لهم في مناداتهم بالفوضى الجنسية العارمة؛ لأن الباطل لا يستدل له بالباطل, وذلك أن استدلالهم بالمنحرفين لا يعطيهم المبرر لدعواهم, فهو تبرير باطل بباطل, ويكفي أن يقال عن الجميع: إنها أوضاع فاسدة جاهلية يجب أن تصحح, ولا تستحق أن تكون قدوة أو دليلًا يظلمون به فطر الناس ويخدشون كرامتهم, سواء كانوا من الأغنياء أو من الفقراء, فهو عمل لا تقره حتى الحيوانات. وأما زعم الملاحدة أن الناس في الشيوعية الأولى كانوا يعيشون عيشة متساوية لا فروق بينهم, فهو افتراض ينقصه الدليل, فمن أين لهم أنهم ما كانوا يشعرون بالفوارق فيما بينهم, وأقل ما فيها فوارق في الذكاء, فوارق في إتقان العمل، فوارق في القوة الجسدية والنفسية، فوارق في الشجاعة، وفوارق في المال ... إلى آخر الفوارق التي لا يجهلها أيّ إنسان سليم العقل, وحتى الملاحدة لا يجهلونها, لولا أنهم يريدون تحبيب الشيوعية إلى الناس, وخصوصًا الناس الذين يشعرون بانتقاص المجتمع لحقوقهم, أو أنهم مغلوبون على أمرهم, ويتمنَّون أي فرصة لإثبات وجودهم الذي يحلمون به, فانتهز الملاحدة وجود هذه الفوارق الحتميّة بين الناس للمناداة بالقضاء عليها, وأنَّى لهم ان يطبقوا ذلك فعلًا وهو مخالف لما أراده الله تعالى في سننه, ذلك أن

الله تعالى هو الذي أراد للناس أن يكونوا بهذه الحال؛ منهم الذكي ومنهم البليد, ومنهم الغني ومنهم الفقير, إلى آخر الصفات المعلومة بالضرورة من أحوال البشر, فكيف يقضون على ما أراد الله بقاءه, والحاصل أنه لا دليل لهم على كل ما زعموه من تلك المساواة المكذوبة, وكذلك زعمهم أن الناس كانوا يعيشون حياة ملائكية في منتهى السعادة إن هو إلّا خيال فارغ تكذّبه طبيعة البشر منذ وجودهم إلى اليوم, إضافة إلى أنه لا دليل لهم إلّا محض أخيلتهم المنكوسة, وإلّا فأي زمن خلا عن الحرب والتنافس بين القبائل على أمور كثيرة, أقلها المرعى والحمى والغنائم, وما إلى ذلك من الأمور التي لا بُدَّ من وقوعها ضرورة في كل أجيال البشر. وأخيرًا أخي القارئ الكريم, يجب أن تعلم أن الحقائق كلها تدل على أن الشيوعية التي نادى بها "ماركس" ورفاقه لم تكن نتتجة عن التأثر بالشيوعية الأولى فقط, وإنما كانت بدافع منها من التخطيط الماسوني اليهودي كما تبيَّن ذلك في دراستنا للماسونية حينما أوعز دهاتها إلى "كارل ماركس" أن ينادي بهذه النظرية الفاشلة؛ لأن تاريخ اليهود يدل على أنهم يستثمرون الأحداث لصالحهم, وأنهم قد برعوا في هذا الجانب, لا أنهم هم الذين يثيرون الأحداث ابتداءً, كما يذكر بعض الباحثين مما يعطي لليهود حجمًا أكبر من حجمهم الحقيقي.

المبحث الرابع: زعامة الشيوعية الماركسية

المبحث الرابع: زعامة الشيوعية الماركسية أول زعماء الشيوعية الإلحادية وأشهرهم هو "كارل ماركس"، الذي تنسب إليه العقيدة الماركسية المنتشرة في شتَّى أنحاء المعمورة، وُلِدَ "ماركس" في سنة 1818م، ومات سنة 1883م، كان على صلة وثيقة بصديقه "إنجلز" الذي صاغ معه البيان الشيوعي المشهور باسم "البيان الشيوعي" سنة 1847م، تنقَّل ماركس في عدة بلدان من أوروبا، ألَّف كتابه "رأس المال" الذي أصبح المرجع والدستور للشيوعين, اشتمل على عبارات وتسميات كثيرة تدور حول المال وأصحاب المال, ووجوب التغيير للمجتمعات رأسًا على عقب, مثل: البرجوازية، والرأسمالية، البروليتاريا, دكتاتورية البرولتياريا، المادية الجدلية، التفسير المادي للتاريخ، صراع الطبقات، فائض القيمة، محاربة الملكية الفردية، والإقطاع, وأعاد وأبدى حولها. - ويقصد بالبرجوازية: طبقة الأغنياء. - ويقصد بالرأسمالية: النظام الذي يقوم على جمع المال بأية طريقة كانت في الدول الغربية. - ويقصد بالبروليتاريا: طبقة العمال الفقراء, أو نظام التملُّك العام ومنع الطبقات. - ويقصد بدكتاتورية البروليتاريا: أي حكم العمَّال أو الفقراء حينما يتحقق حلمهم بإزاحة طبقة الأغنياء.

- ويقصد بالمادية: أي أن كل موجود إنما كان سبب وجوده المادة التي نتج عنها بطبيعته, وهي سابقة للروح وسائر إحساسات الإنسان بزعمه. - أما المادية الجدلية: فيقصد بها تغليب المادة على كل شيء, ومنها الأفكار, فإن الأفكار كلها ناتجة عن المادة، لا أنَّ المادة ناتجة عن الأفكار, ولهذا فإنَّ التناقض لا يكون بين الأفكار, وإنما يكون بين نظامين قائمين يتولَّد عنهما ثالث كما سيأتي بيانه. - أما المادية التاريخية: فالمقصود بها تفسير التاريخ البشري تفسيرًا ماديًّا قائمًا على المادة وتأثيرها في مجريات تاريخ البشر وتطورهم, وما يقع بينهم من أحداث, لا أن هناك إلهًا أو تفكيرًا يؤثر على تاريخ البشر دون المادة بزعمه. - أما فائض القيمة: فقد تقدَّم بيانه في دراسة الاشتراكية. - وأما إلغاء الملكية الفردية: فالمقصود بها: إنه لا يحق لأي فرد أن يملك شيئًا من الموارد بمفرده، بل لا بُدَّ أن تكون الملكية عامَّة على جميع أفراد الشعب, وبيد الدولة. - وأما صراع الطبقات: فالمقصود به: التحريش بين الأغنياء والفقراء والاستئثار بالمال لوصول طبقة البرولتياريا إلى الحكم والسلطة. - وأما الإقطاع: فهو النظام الذي كان معترفًا به أيام تسلُّط الأباطرة

ورجال الدين النصراني على الفقراء, واقتطاعهم الأراضي الواسعة وحرمان الفقراء منها، بل جعلهم عبيدًا لأصحاب الإقطاعيات يباعون مع بقية كائنات الإقطاعية. ومما يذكره الباحثون عن ماركس أنه كان حادّ الطباع قلقًا ثائر النفس ضعيف البنية متعصّب لشخصيته, لا يسمح لأحد بانتقاده, ولا قيمة لأي صديق إذا لم يوافقه في كل شيء يعتقده, يستعذب الهجوم على كل مخالفيه, ويسبهم بأقبح السباب في حقد يهودي شديد يملأ نفسه, وحينما حمل على جميع الأديان لإبطالها فإنما كان يريد كلَّ الأديان ما عدا اليهودية التي يحترمها في قرارة نفسه، ولعلَّ بغضه لجميع الأديان إنما كان بسبب العداء الشديد في زمنه لليهود من جميع الديانات, واحتقار الناس لليهود بسبب سلوكهم البغيض تجاه بقية الناس، ومما لازلت أذكره أنه في إبَّان قوة المد الشيوعي وظهور الأحزاب الشيوعية في مختلف البلدان كانت بعض الإذعات العربية تكيل المديح لـ "كارل ماركس", وتصفه للسامعين بأنه كان برًّا رحيمًا محبًّا للفقراء, يعيش معهم ويحنّ على أوضاعهم كالأب الرحيم بأبنائه، وكانوا يحثّون السامعين على شراء كتبه ودراستها, وأوصاف أخرى كثيرة ربما كان أكثرها من خيالات أولئك الحثالات الذين كانوا يظنّون أنهم بلغوا لقمة في الرقي والتقدمية, حينما اعتنقوا مبادئ "ماركس" اليهودية, قبَّحه الله وقبَّحهم حينما كانوا يتطالون على الإسلام ونبي الإسلام بالازدراء والاستهزاء والمقارنات الكاذبة بين حال النظام الإسلامي المتخلِّف -بزعمهم, وبين حال النظام الماركسي التقدميّ العادل.

ولئن كان ماركس قد تظاهر بأنَّه يدعو لخلاص الفقراء ورفع الظلم عنهم ومساواتهم بالأغنياء, ومحاربة الرأسمالية الجشعة, فإنه كان للفقراء كالمستجير من الرمضاء بالنار. فلقد كان مذهبه المشئوم نكبة على الفقراء والأغنياء والعمال وكل الطبقات, لقد جاء بظلم جديد بدلًا عن الظلم القديم, وبطالة جديدة بدلًا عن البطالة القديمة, وإذا كان هو نفسه كما يذكر من سيرته كان تعيسًا طفيليًّا كما سمَّته أمّه يعيش على مال غيره, فكيف يمكن أن يسعد الآخرين, فإن فاقد الشيء لا يعطيه, وسيتبين للقارئ مدى فداحة الظلم الذي وقع على البلدان التي ابتليت بالشيوعية من خلال هذه الدراسة -إن شاء الله. وبعد هلاك "كارك ماركس" تتابع على القيام بأمر الشيوعية جمعيّات وأفراد ورؤساء يغذيهم الحقد اليهودي في مؤامرات وثورات وفتن يتلوا بعضها بعضًا على أيدي أشرار خلق الله من الثوريين الشيوعيين "كارل ماركس"، و"فردوخ إنجلز" وغيرهما ممن جاء بعدهما "ستالين"، و"لينين"، إلى "بريجنيف", وقد برز منهم "لينين"، و"ستالين"، و"ترتسكي"، وقد تزعَّم "لينين" سنة 1903م الثورة الشيوعية العارمة على النظام الرأسمالي, إلى أن مات سنة 1924م، نشب صراع بين "ستالين" و"تروتسكي", واستطاع "ستالين" ذلك الجبار العنيد أن يخرج منتصرًا بمؤامراة تَمَّت باغتيال "تروتسكي" سنة 1940م، وتَمَّ الأمر "لـ "ستالين" الذي أقام الشيوعية قويةً عنيفةً في روسيا, والبلدان التي دارت في فكلها, وتعززت كذلك بانضمام

الصين إلى الشيوعية الماركسية سنة 1950م, وقامت الأحزاب, وتعدَّدت إلّا أنّ أهم الأحزاب القائمة كان في البداية تتمثَّل في حزبين هما: حزب البلاشفة، وحزب المنشفيك. والبلشفية، والمنشفية: تعني الأكثرية والأقلية, وهما الحزبان الأساسيان في تكوين الاشتراكية الشيوعية في روسيا لقلب نظام الحكم واستلام السلطة, وكان حزب البلاشفة بزعامة لينين هم الأكثرية, ولهذا قيل له بلاشفة, أي: الأعضاء الغالبية، بينما حزب المنشفيك, أي: الأعضاء الأقلية, كانوا أقل من حزب البلاشفة, وقد تزعَّمهم "بليخانوف", وكانوا كلهم على مبادئ "ماركس", ولكنهم كانوا يختلفون في الطريقة التي سيتم بها تغيير روسيا إلى إظهار الشيوعية, وتطاحنوا فيما بينهم على الفريسة, وقد تَمَّ أخيرًا على يد "لينين" الاستحواذ على السلطة, وانفصلوا عن المنشفيك نهائيًّا, وكوَّنوا الحزب الشيوعي الروسي الذي قضى على عناصر المنشفيك فيما بعد. وكان الانفصال بين الحزبين قد ظهر في الحرب العالمية الأولى؛ حيث كان البلاشفة ينادون بإحلال السلام, وخالفهم المنشفيك, وعارضوا التعاون مع الأحزاب البرجوازية, وتوالت الأحداث إلى أن جاء "لينين", فاصبح البلاشفة هم الأغلبية التي قضت بعد ذلك على المنشفيك في صراع مرير ومؤمرات ومكائدة حاقدة كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية

المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية مدخل ... المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية قامت الشيوعية الماركسية من أول أمرها لمناهضة الأديان والأخلاق والثقافات والمعاملات وسائر ما يتصل بالجوييم, وإقامة دولة شيوعية عالمية تحت زعامة أقطاب الشيوعية, ومن ورائهم الأطماع اليهودية في إقامة الدولة اليهودية الكبرى التي يرتقبها اليهود بفارغ الصبر, ممثّلة في إعادة بنا هيكل سليمان وتتويج ملكهم الذي يحلمون بأنه سيحكم جميع البشر من اليهود ومن سائر الجوييم. وما الشيوعية إلّا حلقة من جملة الحلقات التي يحيكها اليهود للوصول إلى ما خطَّطه حكماؤهم من تدمير العالم دينيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا ... إلخ، ولقد أسهمت الشيوعية في كل تلك المؤامرات, وكان لها حظ الأسد في تحطيم الجوييم في تصفيات جسدية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا, وفي إشاعة الفواحش وسائر المفاسد والشرور؛ حيث فاقوا فيها الشيطان وأراحوه مهمّة تحقيق كل تلك الرزايا التي حلَّت بسائر الأمم في دينهم وفي دنياهم على أيدي الملاحدة, ومظاهر الشيوعية الماركسية كثيرة من أبرزها:

المادية

1- المادية: المادية نسبة إلى المادة، قيل في تعريفها: إنها هي الموجود الذي يدرك بإحدى الحواسِّ مما يخضع لتجربة الإنسان وملاحظته، وقد ادَّعت المادية أنَّها صنو الواقعية نسبة إلى الواقع الذي لا ينكر ولا يُكَذَّب1. لقد أصبحت عبادة المادة هي الأساس المشترك لجميع الملاحدة على اختلاف مذاهبهم, ابتداءً من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين إبَّان قيام التيارات الفكرية الجامحة في أوربا ضد الكنيسة وضد القائمين عليها, واستبدالها بالمادة المهيمينة على كل شيء؛ إذ يزعمون أن الكون وما فيه إنما وجد من أصل المادة, وبنوا عليها إلحادهم في إنكار وجود الله تعالى, فخرجوا بذلك عن مفهوم هذا التعريف للمادَّة وتجاوزوه, فإن الأمور الغيبية وأمور الدين لا تخضع لتجربة الإنسان ولا تدركها حواسَّه, كما بنوا عليها تفسيرهم التاريخي لحياة الإنسان وتطوراته. وكان الماديون الشيوعيون قد أقاموا هذه الفكرة في مضادة أي شيء يتعلّق بعالم الروح والغيب؛ حيث لا يؤمنون بوجود الروح؛ لأنها تباين المادة التي إذا وجدت في شيء أعطته الحياة ضرورة, فالمادة هي كل شيء, وجعلوها البديل عن الله -عز وجل- بزعم أن معاملهم أعطتهم الدليل المادي على ذلك, ولقد كذبوا وتناقضوا وظهر جهلهم وتخبُّطهم في نظرياتهم المتضاربة المتناقضة، فالطبيعة عندهم هي قبل كل شيء, ولا نهاية لها, ومنها انبثق كل مخلوق على وجه الأرض, وأنها موجودة بذاتها قبل كل ذات, وهي الخالق لكل شيء بقوانينها "وأن العالم في حركة تغيّر مستمرة، وأن هذا التغير يأتي عن طريق تناقض الأضداد, وكل فكرة تؤدي إلى نقيضها, والفكرة ونقيضها تؤديان إلى نتيجة جديدة"2، كلها ناتجة عن ترابط الأشياء بعضها ببعض, ولا يمكن أن يكون أي حادث منفصلًا بنفسه عن الحودث الأخرى المحيطة

_ 1 التطور الدين، ص23. 2 مقدمة في الفكر السياسي ص184.

به في حركة دائبة يسمونها "الحركة في الطبيعة", أي: إن كل موجود إنما هو نتيجة لحركة المادة وتطورها بدءًا وانتهاءً, تنشأ ثم تضحمل أبد الدهر في تطوير سيمونه أيضًا "التطور في الطبيعة", ويتم هذا في حركات سريعة ضرورية’ وأحيانا تحصل فجأة, تنتقل معها الأشياء من البسيط إلى المركب, ومن الأدنى إلى الأعلى, في تطور متلاحق طول الوقت, مما ينتج عنه ما يسمونه "التناقض في الطبيعة", وهذا التناقض هو الذي ينتج عن تطور الحوادث وتفاعلها فيما بينها؛ لينتج من التناقض بين القديم والجديد, وبين ما يموت وما يولد, وبين ما يفنى وما يتطوّر, مصادر تطورية جديدة مختلفة, بمعنى أنه يحدث الشيء حتمًا ثم يحدث ما يضاده لتأتي النتيجة الحتمية الصحيحة, ومن هنا تؤيد الشيوعية التصادم والتضاد بين الأمور لتصل إلى النتيجة من راء كل تضارب وتصادم1. وكل ذلك إنما هو هوس فكري وتخبط مقيت: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 2, وكلها افتراضات يريدون من وراءها أن تحلّ المادة محلّ الإله سبحانه, وتصريفه الأمور حسب مشيئته وقدرته, تلك التعليلات العقيمة لوجود الأمور بعد أن لم تكن إنما هو لصرف الذهن عن قدرة الخالق على الإنشاء والإيجاد, وإلا فأي منطق يقتنع بأن الأمور تتطور لمصلحة الإنسان أو لمضرته من تلقاء نفسها؛ لتنتج أمورًا لا بُدّ منها بزعمهم؛ لتستقيم الحياة ويبقى الكون.

_ 1 بتصرف من مذاهب فكرية ص175. 2 سورة النور، الآية: 39.

لقد حاول المادّيون وهم ينكرون موجِد هذا الكون أن يلفِّقوا شبهات كثيرة ليدللوا بها على إلحادهم, ولكن ما من شبهة من شبههم إلّا وهي تصفع وجوههم وتكسر قلوبهم, وتقول لهم: معاذ الله أن أكون دليلًا على عدم وجود الذي أوجدني, فما إن يجدوا أدنى شبهة يكتشفونها إلّا وطاروا فرحًا وزعموا أن كل ما اكتشوفوه يدل على عدم وجود موجد حقيقي غير المادة وطبيعة المادة الحتمية بزعمهم. وكم حمَّلوا هذه المادة التي تعادل في تصرفاتها عند الملاحدة تصرفات خالق الكون عند المؤمنين, وكم ظهرت لهم من حقائق حيرتهم في دفَّة موجدها, ولكن قلوبهم التي أشربت حب الكفر والتمرُّد على طريقة أستاذهم إبليس أبت أن ترجع إلى الحق, فمثلًا قانون الجاذبية الذي أوجده الله وثبت به هذا الكون العلوي والسفلي هو أكبر من السماء وما فيها من مخلف الأجرام, وهو أكبر من الأرض وما عليها حين اكتشفوه قالوا: عرفنا الآن أنه لا خالق, لا ممسك لهذا الكون إلّا الجاذبية, وحين فاجأهم المؤمنون بالله بهذا السؤال, ومن خلق هذه الجاذبية؟ هل خلقتها السماء لحاجتها إليها؛ لتمسك بأجرامها أن تقع على الأرض؟ أم أنَّ الأرض خلقتها لحاجتها إليها لتستقر عليها من فوقها؟ أم أنه هي بنفسها أدركت حاجة السماء والأرض إليها فأوجدت نفسها؟ سبحانه الله عمَّا يفترون. وحينما أنكروا وجود الله تعالى, قيل لهم: هذا الكون العجيب المتناسق المحكم الذي لا يطغى بعضه على بعض {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ

الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1 من هو هذا القوي القهَّار الذي جعله بهذه الصفة؟ قالوا: المادة, وكأنهم هربوا من ذكر اسم الله تعالى إلى اسم يوافق هواهم, فإذا كانت هذه المادة هي التي أحكمت هذا الكون, فهي الإله الحق, فلا يبقى أمامهم إلى النطق باسم الله الكريم ويتركوا روغان الثعالب والتكلُّفات الباهتة. فكل ما قالوه من شبهات تافهة مهما اختلفت أسماؤها, فإنما تدل على انقطاعهم, وأنهم مثل الغريق الذي يمسك بكل شيء يقع في يده لينجو من الغرق. وكم خسر الملاحدة الشيوعيون حينما أنكروا خالق هذا الكون في مقابل التعصب لآراء اليهودي "ماركس", الثائر النفس الحادّ المزاج المتعصِّب لقومه اليهود, والذي سعى إلى الانتقام من العالم كله بسبب مواقفهم من اليهود الحاقدين على الله تعالى, وعلى كل البشر؛ لأنهم لم يجعلوهم سادة العالم وحكَّامه كما وعدهم الله بذلك -حسب افتراءات واضعي التوراة, فآلوا على أنفسهم أن يقفوا جنبًا إلى جنبٍ مع الشيطان لإغواء البشر وتحطيم دياناتهم وإفساد أخلاقهم؛ ليتمكنوا من استحمارهم جميعًا في النهاية, ولن يتمَّ الله بحوله وقوته لهم ذلك, والله تعالى غيور على دينه, فليموتوا بغيظهم وحقدهم, وسيزيلهم الله هم والمادة التي عبدوها من دونه -عز وجل.

_ 1 سورة يس، الآية: 40.

الجدلية "الديالكيتك"

2- الجدلية "الديالكيتك": لقد أصبحت المادة عند الشيوعيين هي كل شيء وراءها شيء, وأنها تتطور صعودًا وفق قانون "الجدلية" الديالكيتك، والتاريخ نفسه يسير حسب هذا القانون حتمًا بزعمهم. وتكون هذه المادة وفق ما تقترن به فتسمَّى المادية الجدلية في الكون إذا كانت تتعلق بتغيرات الكون وأحداثه, وإذا كانت تتعلق بسلوك الناس سموها المادية الجدلية في التاريخ. فالجدلية في المذهب الماركسي تعتبر بمثابة ركن من أركانه, وأنها هي قانون حركة الوجود كله, ويعود أساس فكرة الجدلية عند "ماركس" إلى تأثَّره بالفيلسوف "هيجل"، واسمه "جورج ولهلم فريديريك هيجل"، وهو ألماني كان يؤمن بوجود إله يصفه بأنه غير متناهٍ, أو هو الوجود المطلق, أو العقل المطلق, ومنه ظهرت الطبيعة، وقد خالفه "ماركس" في مفهوم هذه الجدلية فعكس الأمر تمامًا حتى تبجَّح "ماركس" بأنه قد أوقف آراء "هجيل" على قدميها بعد أن كانت واقفة على رأسها -بزعمه, بسبب أن "هيجل" كان يرى في جدليته أنها منطلقة من الله إلى كل الأكوان, وأن الفكرة هي الأصل والمادَّة ناتجة عنها بخلاف جدلية "ماركس" التي تقول: إن الله تعالى هو من اختراع الفكر الإنساني وخيالاته, وليس عن حقيقة، وأنَّ الأساس هي المادة, والفكرة ناتج عنها1.

_ 1 سميت جدلية "هيجل" الجدلية المثالية لإيمانه بالإله, وسميت جدلية "ماركس" الجدلية المادية, وكلمة "الديالكيتك" كلمة يونانية أصلها "دياليغو" أو "أوديالكتيكوس" بمعنى: المحاجة والنقاش ومجاذبة أطراف الحديث، ويراد بها في الشيوعية ما يظهر عن تناقضات الأشياء ونتائجها.

وهذه الجدلية تلاحظ دائمًا أن هذا الكون دائم التغيُّر والتطور في فعلٍ ورد فعلٍ أشبه ما يكون بحركة المتجادلين, وقد أرجع "ماركس" هذا التجادل إلى المادة وتأثيراتها, بينما كان "هيجل" يرى أن تلك التغيّرات هي للقوة الغيبية المؤثِّر الحقيقي فيها -كما عرفت مما تقدّم. جدلية هيجل: وقد تصوَّر هيجل -حسب خياله- أنَّ تلك الحركة في التغيير والتطور في الكون تسير وفق دورات لولبية صاعدة دائمًا, وكل دورة قسَّمها إلى ثلاث مراحل هي: - المرحلة الأولى: سماها الطريحة أو أطروحة الدعوة -أي: الأمر. - المرحلة الثانية: سماها النقيضة أو النفي أو مقابل الدعوى - أي: ضد ذلك الأمر. - المرحلة الثالثة: سماها الجميعة أو نفي النفي, أو جامع الدعوى - أي: النتيجة. فمثلًا: البرعم يسميه الطريحة, ونقيضة الزهرة, ثم تأتي الجميعة التي هي الثمرة, وهي أرقى من البرعم والزهرة في تطور متصاعد دائمًا, وبعضهم يسمي هذه المراحل "الوضع ونقيضه", ومؤتلف الوضع ونفيه, وكلها افتراضات خيالية تصورها "هيجل" في تضادٍّ دائم بين الشيء ونقيضه, والنتيجة النهائية لهذا النقيض الذي يمشي صاعدًا في تطورٍ هو نهاية كل نقيضين. وغاب عنه أنه لا يمكن اجتماع النقيضين في وقت واحد على شيء واحد؛ لأنه مستحيل إلّا في خيال الفلاسفة الفارغين.

وما زعمه "هيجل" من أنَّ الأشياء كلها في تطور متصاعد فكرٌ غير صحيح في كل الأمور, فإذا صحَّ في بعض الحالات فإنه غير صحيح في كلها. فمثلًا الإنسان وهو حي يسمَّى حسب نظريته طريحة, ثم يأتيه الموت فيسمى نقيضه, ثم يتحوّل إلى تراب فيسمَّى جميعة, فأين التطور التصاعدي في هذا حسب نظرية هيجل؟ أو مثل الغريزة الجنسية هي الطريحة, والكبت هو النقيضة, والتسامي هو الجميعة, أي: المحصلة النهائية الحتمية الوقوع لكل من الطريحة والنقيضة, ولكن لنفرض أن الأمور لم تسر إلى نهايتها وهي الجميعة بأن حصل معوق للشخص بعد ظهور النقيضة بأن مات أو جُنَّ أو حصل له أيّ أمر خطير وانتهى, فأين التصاعد في هذا, وغيره من الأمثلة التي تكذب حتمية التطور التصاعدي في كل شيء1. وهذه الجدلية عند "ماركس" أوّل ما يظهر منها عدم إيمانه بالله تعالى, وإيمانه بدلًا عنه بالمادية الجدلية وتطورها, وأنها هي التي أنشأت الدين والسياسة والقانون والأخلاق، بل والإنسان نفسه إنما هو من نتائج تلك المادة, وفكره أيضًا كذلك, بل وجود الله تعالى إنما هو من صنع الإنسان المادي, وفكره في عقيدة "ماركس", وهو بهذا قد قلب جدلية "هيجل" التي قامت على الإيمان بالغيب الإلهي, إلى الإيمان بالمادة وحدها عند "ماركس", ويصح أن نقول: إن "ماركس" قد قلب نظرية "هيجل" على رأسها بعد أن كانت على رجليها المعوجَّتين هي الأخرى.

_ 1 انظر: الكيد الأحمر، ص354.

فحينما تسأل ماركسيًّا عن سر وجود هذا الكون تجده يجيبك بجواب سخفيف تافه فيقول: إن الكون قد تطوَّر بنفسه إلى أن أصبح على ما هو عليه اليوم في هذا التناسق البديع، ويجيب عن سريان الحياة في الكون بأنه بعد أن اكتمل وجود الكون تطوَّر تلقائيًّا إلى أن وجدت الحياة على ظهر الأرض, ومن ضمنها حياة الإنسان الذي وُجِدَ ضمن حركة التطور الديالكتكي دون أن يكون لها أيّ مؤثر خارج عن نطاقها غير التناقضات والتضادّ الكامن في المادة، كما أنه قد احتدم الخلاف جدًّا بينهم في قضية العقل والفكر والمادة أيهما السابق والمؤثر في الآخر, فالمثاليين منهم -أي: المؤمنون بالإله الغيبي- ومنهم "هيجل" يرون أن العقل هو الأساس والمتقدِّم على المادة وما ينتج عنها, بينما المادّيون -منكرو الخالق- "ماركس" وأتباعه, يرون أن لا شيء في الإيجاد سوى المادة, وهي المتقدّمة والمنشئة حتى للإنسان وأفكاره. - ويتلخَّص الجدل الماركسي في ثلاثة قوانين: 1- قانون التغيير من الكم إلى الكيف, وهو ما يحدث بطريق المفاجأة؛ كتحول الماء الساخن إلى بخار بزيادة النار عليه. 2- قانون صراع الأضداد الذي يأتي من داخل الأشياء من بذرة النقيض التي توجد في داخل كل شيء وليس من الخارج. 3- قانون نفي النفي, أي: كل مرحلة تحدث تنفي سابقتها, ثم تنفيها مرحلة تالية, وهكذا1، وهما المراحل المشار إليها سابقًا.

_ 1 بتصرف عن "الفكر المادي في ميزان الإسلام"، ص52.

تعقيب

- تعقيب: لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا، لقد انجلت الغمَّة عن الناس وظهر الحق لذي عينين, فإذا بالماركسية في العراء في أقبح صورة وأتعس حال, وإذا بأكاذيبها وخزعبلاتها تداس بالأرجل، لقد راهن الملاحدة أن نظريتهم الإلحادية ستعمّ الأرض كلها, وسيصبح البشر كلهم ملاحدة كافرين بالذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم سواهم أشخاصًا في غاية الخصومة لربهم, وقاهرهم متنكِّبين الحق, متعالين على الناس, محتقرين كل نواميس هذا الكون, ومحتقرين كل الشرائع والكتب المنزَّلة والأنبياء الكرام, في جدال بالباطل لا يملكون على كل نظرياتهم أيّ دليل حقيقي إلّا ما زخرفوه من شبهات باطلة, ونظريات زائفة لا تثبت أمام الحقائق, حتى وإن صوروها على أنها حقائق لا تقبل الجدال, وأنَّ كل ما عداها محل شك, مستندين إلى ما تَمَّ لهم من اكتشافات تجريبية كلها تصرّح بعظمة الباري -جل وعلا, ولكنهم قلبوا الحقائق وجعلوها أدّلة على إلحادهم, وكل ما هو لله -سبحانه وتعالى- جعلوه للطبيعة التي عبدوها من دون الله, وزعموا أنها تسيّر الكون في تناسق عجيب محكم, وترابط متشابك, وكان هذا يكفي دليلًا على وجوب الإيمان بوجود خالق مهيمن على كل ذرَّة في هذا الكون, يسيره على نسق واحد دون اختلاف حسب سننه في الكون, ولكن الشيطان حال بينهم وبين التفكير الصحيح, فقبلوا هذه الحقيقة وزعموا أن هذا التناسق إمَّا هو من شأن الطبيعة والمادة التي وصفوها بأنها لا بداية لها ولا نهاية لها, حتى لكأنَّ الخلاف بينهم وبين المؤمنين بالله تعالى خلافًا لفظيًّا, المؤمنون يسمون هذه الطبيعة إلهًا وهم يسمونها مادية.

قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 1. وكان يجب أن يسمهيم الناس مجانين حينما زعموا أن الكون وُجِدَ بدون مُوجِد, وحدث بعد أن لم يكن حادثًا ودون محدث له غير, ما توهموه من تجمُّع ذرات هذا الكون وتطورها إلى أن أحدثت هذا العالم والكون وما فيه من أجرام علوية وسفلية, وكلها عن طريق الصدفة والارتقاء, ولو قلت لأحدهم: إن عمودًا كهربائيًّا وُجِدَ بداته وأصبح ينير للناس الطريق لضحكوا من قائله, ونسبوه إلى الجنون, بينما هذه الشمس وهذا القمر وهذه الكواكب وهذه الثمار في الأرض والأنهار والجبال كلها وجدت بدون خالق! إن الملاحدة يعترفون بعجزهم التام عن معرفة سر وجود الحياة لأيّ كائن مهما كان صغر حجمه أو كبره, وأنهم لا يستطيعون إرجاع الروح لصاحبها إذا بلغت الحلقوم, فأين المادة التي يتشدقون بأنها هي الموجدة لهذا الكون؟ ولماذا لا يتوسلون إليها لإرجاع الروح بعد أن يصبح الجسد مادة هامدة؟ أما ما يرددونه من أن كل الأشياء تحوي تناقضات داخلية مجتمعة في وحدة يسمونها وحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات تتصارع فيما بينها, ثم ينتج عن ذلك الصراع تطور في صعود دائم لا ينتهي, فهو افتراض سخيف؛ إذ لا يوجد إلّا في الذهن, والذهن قد يتصور أن المستحيلات ممكنة أحيانًا, ذلك أن اجتماع النقيضين أمر غير ممكن إلّا إذا صدَّقنا بأن الحرارة والبرودة تجتمع في النار, أو الحياة والموت يجتمع في الشخص في وقت واحد, وليس من هذا ارتفاع الضدين في وقت واحد, فإنه ممكن كقول الناس: هذا لا هو أبيض

_ 1 سورة الطور، الآية: 35.

ولا هو أسود، أي: علي لون غير هذين اللونين أصفر أو أحمر، أمَّا أن يقال هذا أبيض وأسود, أو ساكن ومتحرك في وقت واحد فهو مستحيل. لقد غلا الشيوعيون في تقديس المادة وعَتَوْا عتوًّا كبيرًا إلى حدِّ أنه تنطبق عليهم المقالة المشهورة "إذا حدَّث الشخص بما لا يعقل فصدِّق فلا عقل له" فأي عقل سليم, وأي فطرة سليمة تصدق أن المادة الصمَّاء هي الخالقة وهي الرازقة وهي المدبرة لجميع أمور هذا الكون علويه وسفليه، وظاهره وخفيه, مع اعترافهم هم أيضًا بأن تلك المادة لا حياة لها ولا فكر ولا تدبير في البدايات الأولى لها, غير ما تخيلوه أنها بعد ذلك تطورت حتى أوصلت هذا الكون على ما هو عليه الآن, ثم يقولون: هي أزلية لا بداية لها, ولكنهم يتوقَّفون حينما يقال لهم: إنها حادثة, لا يستطيعون الجواب؛ لأنهم متناقضون؛ وإذ أفحمهم العقلاء عن سر وجود هذا الكون قالوا بأن الكون وُجِدَ من العدم, ولا يبالون بسخف واستحالة هذا القول، والقول الآخر بأن المادة هي التي تسيِّر العقل وتوجد الفكر لا أن العقل هو الذي يوجد المادة ويكيفها كما يريد مكابرةً منهم وجهلًا شنيعًا؛ حيث صار المصنوع صانعًا على حسب مفهومهم, فالطائرة هي التي كوَّنت فكرة الإنسان لصناعتها, وما الذي يمنعهم من هذا وقد زعموا أن الحياة كلها ظهرت صدفة دون مدبِّر عليم, نتيجة تفاعلات المادة الناتجة عن حركتها الذاتية المستمرة, لا أن هناك ربًّا خالقًا لها, وهي مكابرات؛ لعلهم أول من استيقين بطلانها لولا العناد والاستكبار وتنفيذ خطط ماكرة1 أملتها الأحقاد اليهودية على مر السنين.

_ 1 انظر: "كواشف زيوف" ص5112-515.

التطور

3- التطور: هذه الكلمة تتردد على ألسنة كثير من الناس؛ بعضهم يدرك المدلول والمغزى الأساسي لها, وبعضهم يعرفها بصورة مجملة ويرددها على هذا المفهوم، وهي في ظاهرها كلمة جميلة توحي بالتجديد والنشاط والحيوية المطلوبة, إلّا أنه ينبغي أن ندرك أن كثيرًا من أصحاب الأفكار الهدَّامة قد استغلوها استغلالًا فاحشًا, وبنوا عليها آراءهم التي يهدفون من ورائها إلى تغيير المفاهيم السليمة والمعتقدات المستقيمة والحياة الاقتصادية تغييرًا جذريًّا يتفق مع ما بيَّتوه لقلب الحياة الاجتماعية، وسيتضح ذلك من خلال دراستنا لهذه المادة, وحسبنا هنا أن نذكر مفهوم التطور بصورة موجزة, وهل التطور الذي يريده الشيوعيون هو تطور حقيقي أم خرافات وهمية تخيلوها لتأييد ما يهدفون إليه من إلحاد؟ والتطوّر بحد ذاته يراد به كما عرَّفه بعضهم بقوله هو: "الانتقال من مرحلة إلى مرحلة, والتغيير من حالٍ إلى حال"1. والواقع أنه إمَّا أن يكون التطور في خلق الإنسان وتركيبه، وإمَّا أن يكون في أصل نشأة الكون وما فيه. 1- فأمَّا التطور بالمفهوم الأول: فهو حق، وهو ما جاء ذكره في كتاب الله تعالى في بيانه لخلق الإنسان والمراحل التي يمر بها في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 2، أي: أوجدكم طورًا بعد

_ 1 التطور والدين ص13. 2 سورة نوح، الآية: 14.

طور, وهو ما فسره الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 1 هذه هي أهم الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته الجسمية وهي خاصَّة ببني آدم، أمَّا آدم فإن هذه التطورات لا تشمله، فقد خلقه الله بيده من تراب الأرض, ثم نفخ فيه الروح فكان بشرًا سويًّا. 2- أما التطور بالمفهوم الثاني: "وسيكون موضوع دراستنا" فإنه ينقسم إلى قسمين: - قسم يتعلق بأصل نشأة هذا الكون والمراحل التي مرَّ بها في تطوره إلى أن وصل إلى ما هو عليه. - والقسم الثاني يتعلق بمعرفة أصل نشأة الكائنات الحية, والمراحل التي مرّت بها في تطورها، وفي أولها الإنسان, وكيف نشأ وكيف تطور في وجوده وفي تفكيره وفي معيشته وفي عبادته حسب تفكير أصحاب نظرية التطور, وفي أولهم "أراسموس دارون"، وحفيده "جارلس روبرت دارون"، ومن جاء بعدهما على هذه الفكرة الباطلة الخرافية التي أصبح دعوى التطور فيها من أهم خصائص المذهب

_ 1 سورة المؤمنون، الآيات: 12-16.

الشيوعي؛ حيث يقصدون بالتطور أن كل أمر في هذا الوجود يتطور ويتقدّم إلى الأمام في خطوات متتابعة إلى ما لا نهاية -بزعمهم, ويستدلون على ذلك بما قرروه من أن الإنسان كان مائيًّا ثم برمائيًّا ثم بريًّا, ثم عرف الرق, ثم الإقطاع, ثم الرأسمالية, إلى أن عرف الشيوعية الماركسية, وسيتطور فيما بعد -ولا يغيب عن القارئ- وضع الشيعية اليوم؛ حيث أقرَّ الله عيون أهل الإيمان بموتها في عقر دارها, وهذا من الأدلة الدالة على كذب أحلام الملاحدة فيما تصوروه عن التطور المزعوم وأبديته, وانتشار المذهب الشيوعي تلقائيًّا، كما أن هذا المفهوم الذي قرره الملاحدة لتطور الأشياء لم يكن صحيحًا, فإن تطور الإنسان لم يقم على المادة -كما يريده الملاحدة, بل قام الإنسان نفسه وعلى حسب ما تمليه عليه حاجته إلى الأمور, أما المادة الصماء فإنها عاجزة عن تطوير نفسها, فكيف تعمل لتطوير غيرها؟ فوجود المادة لا يطور أحدًا, وليس وجودها كافيًا لتطور الإنسان, ومعلوم أن المادِّيين -وهم جاهدون وجادُّون- في محو كل القيم الإنسانية, أو أي شيء يؤدي إلى احترام إنسانية الإنسان، معلوم أنهم يعرفون تلك الحقيقة, ولكنهم يتحاشون البوح بها لئلَّا يؤدي ذلك إلى حترام القيم والمثل والتهذيب الديني للإنسان بجعل كل الفضائل للمادة خير من جعلها للإنسان في ميزان الملاحدة؛ إذ المادة لا خطر من ورائها, ولا يؤدي احترامها إلى فرض القيم الدينية التي يخافونها, التي تذكرهم استبداد الدين النصراني المحرَّف.

إن تطور الإنسان في حياته المادية في معيشته وفي طريقة سكنه وملبسه ومركبه أمرٌ واقع, فقد كان الناس يركبون الحمير والجمال والبغال والخيل, واليوم أصبحوا يركبون السيارات والطائرات والسفن، وغير ذلك من الوسائل التي تطوّر فيها الناس, وهذا التطور بهذا المفهوم أمر حقيقي لا يجهله أحد, إلا أنه لم يكن نتيجة لتصادم الحاجات, كما أن وجود القيم الإنسانية والأخلاق والدين وسائر الفضائل التي امتاز بها الإنسان عن الحيوانات البهيمية لم تنشأ عن صراع وتناقض, ولم يكن فيها الإنسان كالحيوان في المعايير والقيم والسلوك كما قرره الملاحدة حسب ما استخلصوه من نظرية "دارون" و"فرويد".

المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليها

المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليها مدخل ... المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليها ومثل وجود هذا الكون وما فيه عن طريق تطور المادة في مفاهيم الملاحدة, كذلك أوجدت هذه المادة تاريخ الإنسان على طريقة الجدل المادي الديالكتيكي في تاريخ الإنسان, على أساس أن قانون المادية الجدلية هي التي تصنع تاريخ الإنسان دون أيّ تدخل من الإنسان، بل إن حياة أيّ مجتمع هو ثمرة واقعهم المادي, وحياتهم العقلية هي انعاكس هذا الواقع, وليست الحياة الاجتماعية ثمرة أفكار سابقة، بل الحياة الاجتماعية للناس هي التي تحدد إدراكهم, فالمادة سابقة للفكر ومسيرة له بزعم الملاحدة, وتاريخ الناس كذلك تصنعه المادة المتطورة بغير إرادة جماعية منهم؛ لأن طلب كل فرد تحقيق غايته وما ينشأ أثر ذلك من تباين الإرادات وتأثير تلك الإرادات على العالم الخارجي هو بالضبط ما يشكّل التاريخ لكل المجتمعات التي تنشأ وفق أحوالهم المادية, والتاريخ ذاته يمر بمراحل هي في مذهب الملاحدة الماركسيين تتمثَّل فيما يلي: - المشاعية البدائية. - الرق. - الإقطاع. - الرأسمالية. - الاشتراكية الممهدة للشيوعية. - الشيوعية الأخيرة1.

_ 1 انظر كواشف زيوف ص569-578.

وهي التي تلغَى فيها الطبقات كلها كما يدَّعون, وقد ذكر الباحثون أنه من الصعوبة تصور الفضل المادية الجدلية عن المادية التاريخية, ذلك لأنهم أقاموا دراسة تاريخ البشرية على الأسس المادية, وقد استقرَّ في مفاهيم الملاحدة كما عرفت أن المادة هي أساس كل المخلوقات التي منها الإنسان والفكر, وأنها هي التي تحكم أيضًا حياة البشر الاجتماعية وتكيُّف حياتهم وسلوكهم وجميع معاملاتهم ومشاعرهم، وهي في تطور دائم, وما ينتج عنها من سلوك البشر هو أيضًا في تطور دائم تبعًا للأصل, وهو الوضع الاقتصادي في تطور دون أن يكون للإنسان فيه أي قدرة. وحينما ظهر "دارون" بنظريته حول تاريخ الإنسان وأصل نشأته قرَّر أن تاريخ الإنسان إنما هو امتداد للكائنات الحية السابقة لوجوده, وأنه نتيجة عمل الطبيعة الهوجاء التي تعمل ما تعمل عن خبط عشواء لا عن تخيطط ودقة؛ لتلقي بالإنسان بعد ذلك إلى مصيره عن طريق المادة التي تكيّف الإنسان وحياته وتطوره, وكل ما يتصل بسلوكه وتاريخه فيها. والملاحظ أنّ التفسير المادي للتاريخ لا ينفي القيم والأخلاق التي تصدر عن البشر إلّا أنه ينفي أن تكون لتلك القيم والأخلاق أو سائر السلوك وجود قبل وجود المادة والأوضاع الاقتصادية, أو أن تكون تلك القيم والأخلاق لها ثبات دائم, أو أنها من الله تعالى, بل إن تطور تاريخ المجتمعات البشرية هو قبل كل شيء مرهون بتطور الإنتاج البشري المادي, وتاريخ البشر يرتكز أساسًا على المصالح المادية التي تربط الناس بعضهم ببعض, لا على أساس ديني أو سياسي أو أخلاقي ثابت؛ إذ القيم كلها في مفهومهم سراب لا قيمة لها, والغايات تبرر الوسائل على امتداد تاريخ البشر حسب تفسيرهم.

مدى صحة الأطوار التي تزعمها الشيوعية

- مدى صحة الأطوار التي تزعمها الشيوعية: ما زعمه ماركس من أن تاريخ البشر وما يمرون به في حياتهم من أمور مختلفة إنما هو نتيجة لطريقتهم في الإنتاج إن هو إلّا كذبٌ محضٌ, فإنَّ حياة الناس ومعايشهم والتغييرات التي يمرون بها لا تتوقف فقط على الإنتاج, والواقع خير شاهد على أن الذي يغيِّر المجتمعات قد يكون أشياء كثيرة غير وفرة الإنتاج أو قلته، فالفِرَقُ المختلفة وأصحاب المذاهب الوضعية, واستعمار الناس بعضهم بعضًا, والحروب التي تشتعل بينهم, والغنى والفقر الذي يمرون به, وغير ذلك, كلها من العوامل التي تحدث التغيير في المجتمعات, ولا سبيل إلى إنكار هذا, مما يدل على أن قضية الإنتاج إنما هي جزء من الأجزاء الكثيرة التي تحدث التغيير في المجتمعات وليس المال فقط كما قرره الملاحدة, وكذلك ما زعمه الماركسيون من أن تاريخ البشر مَرَّ بالمراحل السابقة إلى أن وصل إلى الشيوعية, هي في الحقيقة كلها مزاعم فارغة كاذبة, وقد ظهر كذبها, فإن "ماركس" زعم أن العالم الغربي المتطور سيترك الرأسمالية ويتحوّل حتمًا إلى الاشتراكية الشيوعية, فكان العكس هو الصحيح؛ إذ رفض العالم المتطور فكرة الشيوعية وتقبَّلتها الدول المتخلفة نسبيًّا كروسيا والصين, وقد بدأت تظهر في تلك البلدان العودة إلى الرأسمالية رويدًا رويدًا, خصوصًا بعد أن بدأت الشيوعية تحتضر, كما أن ما يتنبئون به من أحداث ستحصل في المستقبل يدل على تناقضهم؛ لأنهم لا يؤمنون بأي شيء في المستقبل يدل عليه العقل, بل يؤمنون بما يدل عليه الواقع المشاهد الذي تفرزه الطبيعة فقط, إلى أن ماتت الشيوعية دون أن ينتقل الناس إلى الشيوعية الأخيرة التي زعموا أنها ستقضي على جميع الطبقات, فتبيَّن كذب الشيوعية جملة وتفصيلًا.

المشاعية البدائية

1- المشاعية البدائية: أما بالنسبة للمشاعية البدائية التي زعم الملاحدة أن الإنسان نشأ بدائيًّا كقطيع من الحيوانات, ثم أخذ يتطور إلى أن استطاع إنتاج أدوات العمل في تطوره التدريجي البطيء, وأنه اكتمل بفضل التعاون الذي قام بين أفراد البشر, وأنهم استطاعوا انتزاع حياتهم من الطبيعة التي كانت تغالبهم ويغالبونها, ثم أضافوا إلى هذا الافتراء أفتراءً آخر وهو أن ذلك التطور قد اكتمل في الناس من غير إرادتهم ووعيهم, وأنهم انتصروا على الطبيعة بفضل تعاونهم المشاعيّ في الزراعة والصناعة وغيرهما, إلّا أنه حينما انصرف بعض أفراد البشر إلى الإنتاج الفردي لا المشاعي ظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية والطابع الفردي لعملية الإنتاج, فاصطدم هذا الوضع وتناقض مع الرغبة في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج, ونتج عن ذلك القضاء على النظام البدائي المشاعي كحتمية طبيعية للتطور المستمر في الحياة, قاطعة بذلك خطر سيره، ثم نشأ بعد ذلك الصراع الطبقي على المصالح المادية, فبدأ من هنا تأريخ الصراع الطبقي في المجتمعات نتيجة للتطورات المتلاحقة وحياة الإنسان, فاصطدمت بالنظام الرأسمالي الذي يمثّل سيادة أصحاب رءوس الأموال على الفقراء وعلى الأفكار عمومًا, ثم نتج عن ذلك أيضًا قيام قضية الرق الآتية.

الرق

2- الرِّق: زعم الملاحدة أن قضية الرق نشأت إثر صراع طبقي بين المتنصِّرين في الحرب والمهزومين من جهة، وبين أصحاب الأموال الدائنين وبين الفقراء المدينين من جهة أخرى, ولأسباب مادية أيضًا انهار أمر الرق تدريجيًّا؛ لأنه لم يعد تجارة رابحة, وأيضًا فإن أولئك المنهزمين والفقراء حينما أحسُّوا في فترة من فترات تاريخهم للرقِّ والعبودية التي يعانونها أرادوا أن يثأروا لأنفسهم, كما هو الحال في بقية الحيوانات الأخرى التي شاركتهم في النشأة الأولى, وحصل الصراع الطبقي العنيف بين الفقراء المعوزين والأغنياء, انتصر فيها الفقراء وجعلوا الأغنياء في النهاية عبيدًا؛ ليبدأ الصراع أيضًا على أشدُّه كأنهم قطعان الثيران المتصارعين, وهنا تدخَّل الدين ليكون أداة روحية لاستعباد الجماهير وإقامة كل الأشكال الراهنة للوضع الاجتماعي بما يعدهم به إن صبروا على ما هم فيه من البلاء والذل. وازداد النظام الاستعبادي ضراوة وصراعًا فنشأ الإقطاع، هكذا تعليلهم لنشأة الرق وظهور التدين ونهاية الرق, وهذه كلها كما يلاحظ القارئ اللبيب افتراضات خرقاء, وليس لهم أيّ دليل إلّا آراؤهم التي تخيّلوها في نشأة الرق والإقطاع, وغيرها من التقسيمات التي أحدثوها بأفكارهم الإلحادية؛ ولأنهم لا يعلمون أن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا يكون الأنبياء من أصحاب الثروة أو الجاه فظنَّوا -والظنّ أكذب الحديث- أن الأنبياء إنما أتوا بما أتوا به محافظة منهم على حفظ أموالهم وتجاراتهم, وليبقى الكادحون أرقَّاء لهم دائمًا إن هم صبروا على ما هم فيه، وأنت تعلم أيها القارئ أن هذه الخدعة لا مكان لها إلّا رأس إبليس ومن اتبعه من الملاحدة أصحاب الخيالات السقيمة.

الإقطاع

3- الإقطاع: علَّل الملاحدة لظهور الإقطاع بأنَّ العالم كانوا على طبقتين: هما طبقة كبار الملاك، وطبقة رجال الدين، وبقية الناس مسخَّرين مستعبَدين لهاتين الطبقتين, وحينما ظهرت أدوات الإنتاج المتطورة كالمحراث الحديدي وغيره من الأدوات الجديدة ظهر الإقطاع بشكل قويّ, وصار المستعبَدون تحت رحمة الملَّاك وأصحاب الجاه, يعملون لحسابهم ولا ينالون إلّا ما تجود به أيدي أولئك الأثرياء, في الوقت الذي كان فيه الأثرياء ورجال الدين قد تمالأوا على إبقاء تلك الطبقة الفقيرة في معزل عن التفكير السليم لحالهم, ولكن وبعد وقت أفاق الفلاحون ورأوا ما حلَّ بهم من الغبن, فثاروا ضد تلك الطبقات الثرية والدينية لرفع الظلم الفاحش عنهم, ولكن ثورتهم كانت أضعف من إزاحة تلك الطبقات الثرية والدينية لما يأتي: أولًا: لأنها ثورة غير منظمة. ثانيًا: لحاجة الفقراء الشديدة. ثالثًا: للقوة المتينة التي كان يتحصَّن بها الأثرياء وأصحاب الدين. إلّا أنَّ تطور الأمور الاقتصادية أخذت تحطّ من كبرياء أصحاب الثروة من الإقطاعيين لتحلَّ الرأسمالية بدل الإقطاع في حركات تطورية متلاحقة تتمشَّى مع خيالات واضعي الماركسية، وبغضِّ النظر عن صحة هذا التعليل أو عدم صحته, فإن الإسلام يعتبر تلك الأوضاع كلها باطلة وجاهلية بغيضة ما أنزل الله بها من سلطان، على افتراض وجود تلك الأحوال على الصورة التي تخيلها "ماركس" وأتباعه، فلا يجوز ردَّ الحق بالخطأ والتخمين.

الرأسمالية "البرجوازية"

4- الرأسمالية "البرجوازية": لقد ظهرت الرأسمالية -أو البرجوازية كما يسميها الشيوعيون- لعدة عوامل من أهمها: - استحواذهم في الأساس على مصادر المال واستقراره في أيديهم. - اختراع الآلات الحديثة التي حلّت محل الأيدي العاملة من طبقات الإقطاع والرق؛ لعدم إنتاجهم بالكثرة التي تنتجها تلك الآلات, فصارت حالة الرق متناقضة مع حالة الإقطاع, فألغت بدورها حالة الإقطاع التي كانت قائمة على استعباد الكادحين للعمل للإقطاعيين النبلاء, وبحث الجميع عن رأس المال. - ازدياد حجم التجارة في أوروبا بدلًا من الزراعة. والملاحظ أن أولئك الذين كانوا يطلبون العمل بأيديهم لم يكن دورهم كافيًا لملأ ما تحتاج إليه الحركة الصناعية القوية كما هو الحال بالنسبة للآلات الحديثة، وهذا أحدث بدوره ردَّ فعل لدى العمال لتحطيم الإقطاع المستند إلى الآلات الحديثة؛ بسبب التناقض مع القوى المنتجة النامية من جهة, وحاجة العمَّال من جهة أخرى إلى العمل والكسب, وهذا بدروه قد هيَّأ الجو لتصاعد قوة الرأسمالية التي تسعى دائمًا لزيادة الإنتاج والمكاسب الوفيرة, وما نشأ بين أفرادها من تعاونٍ مثمر في شتَّى المجالات, وقد جعلوا استغلال طبقة من الناس لطبقة أخرى هو أساس الحضارة لكي يحصل التناقض الذي يوصل طبقة إلى الاستعلاء على طبقة أخرى, فما من شر لطبقة إلّا وهو خير لطبقة أخرى, وهكذا صراع دائم من أجل البقاء، كما أنَّ تجمع الشعوب واتحادها إنما يعود حسب تفسيرهم إلى المصالح الاقتصادية التي قامت عليها الرأسمالية, غير أن الرأسمالية أصبحت مناقضة لمصالح طبقة البروليتاريا -أي طبقة العمال- فكان لزامًا على هؤلاء العمال أن

يصارعون طبقة الرأسمالية, وأن يطيحوا بها بالطرق الثورية, وأن يستبدولها بالنظام الشيوعي الذي يستوعب تلك التناقضات ويصفيها في مجتمع ليس فيه طبقات يستغل بعضهم بعضًا، وإنما فيه طبقة واحدة يكون الإنتاج فيها ملكًا مشتركًا بين الدولة -خدعة شيوعية بارعة, ولكن هذا الصراع لا ينقل الناس مباشرة من الرأسمالية إلى الاشتراكية, بل يمر بمراحل تدرجية قبل انتقالهم من الرأسمالية إلى الاشتراكية, ثم إلى الشيوعية التي تحقِّق لهم مبدأ "مِنْ كُلٍّ حسب طاقته, ولكلٍّ حسب حاجته", والتي تتم بجهود ضخمة من العمل المتواصل لزيادة الإنتاج لتحقق تلك القاعدة "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته". وهكذا يتضح بجلاء أن التعليلات الشيوعية كلها قائمة على مجرَّد خيالات وتصورات ليس لها ما يسندها، بل هي ضد العقل والمصالح كلها دينية ودنيوية، وأنَّ ما تصوروه عن بداية المجتمع المشاعي وظهور الرق والإقطاع والرأسمالية, ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية, كل هذه الحلقات افتراضات وتخمينات, وأول ما يدل على كذبهم فيها أنهم لا يستطيعون أن يحددوا بداية كل مرحلة وظهور التي تليها تحديدًا دقيقًا, مع أنه حتى لو حددوها لا يقبل منهم لعدم وجود أدلة على ذلك يقبلها العقل. وقد سلسلوا تلك الأحداث ليصلوا إلى النتيجة التي يهدفون إليها, وهي إظهار الشيوعية بمثابة الثمار الشهية اليانعة التي نضجت بعد الجدّ والاجتهاد وتطور الأحوال من حال إلى حال, ولإظهارها كذلك بمظهر المنقذ لتعاسة الإنسانية على مدى تاريخ الحياة البشرية على وجه الأرض، وكم علت تلك

الأصوات، وكم أخذت في طريقها من ضحايا قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام "جورباتشوف" الذي تولّى رئاسة الاتحاد السوفيتي بعد "يوري أندروبوف" "وبريجنيف", وللباطل صولة ثم يضمحل, وقد مزَّق الله الاتحاد السوفيتي كل ممزَّق, ويتلوه إن شاء الله الرأسمالية الأمريكية وغيرها من مذاهب الكفر والضلال. فلا يوجد عند العقلاء أدنى شكٍّ في أنَّ تفسير الملاحدة لتاريخ البشر هو ضلالة كبرى من ضلالات الشيوعية, وهضم واضح لتاريخ البشرية, وطمس للوجه المشرق من تاريخهم في مختلف الأزمنة, حينما لا يعترف هذا التفسير بأية قيمة خلقية، أو دينية، أو ثقافية، أو اجتماعية, قبل ظهور عبادة المادَّة الصماء, فهو قائم على النظرة الاقتصادية البحتة, فلا قيمة لأي شيء إلّا من خلال هذه النظرة الضيقة الباطلة التي لا يعرفون سواها. إنَّ تاريخ البشر مملوء بالأحداث المختلفة على مرِّ الليالي والأيام, بعضها تكون أحداث كبيرة، وبعضها صغيرة، وبعضها يكون للمادَّة تدخل ما فيه، وبعضها لا تمت إليه المادة بأدنى سبب. ولقد سجَّل التاريخ أعظم حدث في هذا الوجود في فترة زمنية قصيرة ولا تزال آثارها واضحة قوية وسبتقى كذلك إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، فما هو هذا الحدث؟ إنه الإسلام بتعاليمه السامية ونظمه العادلة، فكيف نشأ؟ وما هي الأسباب التي أدَّت إلى تغييره للمفاهيم التي قبله رأسًا على عقب, وأي حالة اقتصادية اقتضت ظهوره على تلك الحال؟

والجواب عند المؤمنين بالله تعالى لا يحتاج إلى إعمال الفكر ولا إلى الاجتهاد, فإن الجواب يأتي تلقائيًّا أن الله هو الذي أنشأه وأظهره في الوقت الذي اقتضته حكمته دون أي صراع مادي، ولهذا فإن التفسير الإسلامي لتاريخ الإنسان ونشأته في هذا الكون من البدهي أن يختلف اختلافًا جذريًّا عن التفسير المادي له عند الملاحدة, ذلك أن الإسلام يقرر أنّ للإنسان مفهومه الخاص به, وأنه متميز عن بقية المخلوقات التي تساكنه في هذه الدنيا, فهو مفكر وله عقل وتمييز, يدبر الأمور ويصرفها وفق مصالحه وإرادته, وهو الذي يسيِّر المادة, وليس المادة هي التي تسيره وتتصرف فيه -كما في المفهوم الشيوعي, ففي الإسلام ينبع تاريخ الإنسان من حياته وتفكيره وعمله وتوجهاته, وما يتلقاه من التعاليم الإلهية على أيدي رسل الله -عليهم الصلاة والسلام, وليس من المادة. يبدأ تاريخ الإنسان في الإسلام من خلق الله له من طين الأرض، ثم نفخ الروح فيه، ثم إهباطه إلى الأرض واستخلافه فيها, وقيامه أو عدم قيامه بأوامر الله ونواهيه, وسلوكه الخيِّر والشرِّير، وما يسطره الإنسان في صفحات كتابه الذي سيقرؤه يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الحساب والثواب والعقاب. ولاشك أن هذه المفاهيم بعيدة كل البعد عن تاريخه المادي في مفهوم الشيوعية التي تهبط بالإنسان إلى الحضيض, ولا تعترف له بتلك المنزلة العالية التي يشابه فيها الملائكة في علوِّ روحه إن أطاع الله تعالى واتقاه، هذا الجانب غفلته الشيوعية, ولم تنظر إليه إلّا على أنه حيوان بهيمي لا هَمَّ له إلّا بطنه وفرجه، ولا ذكر لروحه ومزاياه العديدة، وليس فيها أن الله كوَّن الإنسان من جسد وروح, وأن كلًّا منهما يطالب بحقه

وغذائه المادي والروحي مطالبة حثيثة، وليس فيها أنه لا يجوز أن يغلب جانب منهما على آخر إلى حد الإهمال -كما قررته الشيوعية, فهذا التوازن لا يوجد إلّا في الإسلام؛ لكي يتمَّ التوازن الحقيقي بينهما، فإن الإسلام لا يقدّس الجسد وشهواته الحسية فقط, ولا يقدّس الروح إلى حدّ الغلوِّ فيها, وإنما الإسلام يوازن بينهما ويجعلهما شريكين متماسكين لا متصارعين -كما هو حال الأنظمة الجاهلية المادية. ويمكننا القول بأنه إذا كان ظهور الشيوعية كنتيجة مادّية قامت بالعنف والجبروت, فقد رأينا نهايتها المخزية، بينما الإسلام قد قام على العقيدة الصحيحة والعدل التامّ, انتصر وتأثر به الناس وأحبوه, وأحدث في أنفسهم قوة جبَّارة كانت كامنة, ففجَّرها الإسلام وأنار الأرض كلها, ولم يقم على العنف ولا الصراع المادي والطبقي لاستناده إلى عناية الله تعالى به؛ لأنه حق, والحق دائمًا هو الباقي, وأما الزبد فيذهب جفاء، فلو أنَّ الإسلام كان ظهوره بسبب عوامل مادية لانتهي بانتهاء تلك الحال, أو لوجب أن تنشأ قوة مثله كلما تكررت تلك الحال التي افرتضها الملاحدة لظهور الأنبياء والمرسلين, والشرائع التي أتوا بها, وهم لا يقولون بذلك ولا يقرونه, فظهر تناقضهم واضحًا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.

_ 1 سورة النور، الأية: 40.

المبحث السابع: التفسير المادي للإنسان

المبحث السابع: التفسير المادي للإنسان لقد أفادت النظرية الداروينية الكاذبة أنَّ الإنسان حيوان يعود إلى نسل القردة, ثم تطور بفعل المادة إلى أن أصبح إنسانًا, وجاء الملاحدة فأكملوا خيوط المؤامرة النظرية وزخرفوا فيها القول لإثبات تشويه صورة الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى, وجعل فيه النبوة والعقل, وشرَّفه بالتكليف, فصوروه على أنه حيوان تطوّر عن جماعة القردة, لا فرق بينه وبين بقية المخلوقات؛ ليسهل لليهود في النهاية استحمار البشرية وسوقهم إلى حظيرة اليهود الذين يعتبرون -كل الجوييم- حيوانات خلقت على صور اليهود؛ لتسهيل خدمة أسيادهم اليهود -شعب الله المختار بزعمهم. ويذكر الباحثون أن دارون وإن كان قد أرجع أصل الإنسان إلى القردة؛ لكنه لم يرجعه إلى المادة الصماء كما قرره الملاحدة من بعده, فإن الإنسان عند دارون أرفع رتبة منه من رتبته عند الملاحدة الماركسين, وقد جعل مجال الحديث عن الإنسان وسائر الكائنات الحية هو علم الحياة الذي يختلف اختلافًا بينًا عن علم المادة. ومع هذا الهبوط بالإنسان في نظرية دارون إلّا أن الملاحدة لم يكتفوا بذلك, بل أضافوا له دفعات إلى الأسفل في الهبوط, فاعتبروا فكر الإنسان الذي يميزه عن سائر الحيوانات جعلوه ناتجًا عن المادة المحضة لا قيمة له

عن الجسم المادّي, نعم إن الله أوجد الإنسان من مادة هذا الكون, ولكن حصل له تشريف عظيم أخرجه تمامًا عن صفته المادية, وهذا التشريف هو نفخ الله فيه الروح, فصار عظيمًا مشرفًا بهذا, ولم يبق على مادته الترابية, هنا يظهر تناقض الملاحدة؛ إذ يزعمون أن الإنسان أفضل المخلوقات, بينما يثبتون أنه من المادة, فكيف ساغ لهم أن يفاضلوا بين مادة ومادة دون مبرر؟ وكيف ساغ لهم أن يقولوا إن الإنسان سيد هذا الكون ما دام الإنسان مخلوقًا منه بفعل المادة, لقد تضاربت أفكار الملاحدة دون أن أيّ اكتراث منهم بذلك. ويظهر أن القصد الأخير لهم هو الدفع بالجوييم إلى القناعة بحقارة أصلهم, وبالتالي فلا يحق لأحد منهم أن يفخر بأنه إنسان مكرّم, بينما اليهود لا يدخلون في تسمية "إنسان"؛ لأنَّ عنصرهم من عنصر الله, وأنهم شعبه المختار, ألخ أوصاف التلمود لهم, ولقد أراد الملاحدة طمس إنسانية الإنسان وإلحاقه بالجمادات أو الحيوانات الدنيا, إلّا أنهم واجهتهم حقائق تكذبهم علنًا, وتعلن بوضوح أن الإنسان كائن أسمى مما تصوروه, لا فرق بين إنسان وإنسان في المزايا الآتية: 1- الإنسان مفكّر, بينما لا توجد هذه الصفة في أي مخلوق آخر من الحيوانات. 2- الإنسان يتكلّم ويفصح عمَّا في ضميره بكل فصاحة, وهذه الصفة لا توجد إلّا في الإنسان.

3- الإنسان له تقاليد وعادات لا توجد إلّا فيه وحده, تقاليد وعادات في العشرة, وفي سائر السلوك؛ في الكرم والشجاعة والإيثار والحزن والفرح وغير ذلك. 4- الإنسان ينتج بأفعاله مختلف الأشياء, فهو يبني ويهدم ويصنع ويحرث ويتفنَّن في كل أموره حسب تفكيره واختياره. 5- الإنسان يتطوّر ويستفيد من أخطائه ومن تجاربه, فيحذر الوقوع في نفس الخطأ الذي وقع فيه, ويقارن بين الأمور. 6- الإنسان هو سيد كل الحيوانات التي تعايشه في الأرض, وقد استخدمها وانتفع بها بكل مهارة وريَّضها على فعل كل ما يريده بطريقة توحي بأن الإنسان كائن مميَّز عجيب, فمن الظلم إلحاقه بما تصوره عنه الملاحدة من أنه من فصيلة القردة ثم تطور. 7- الإنسان له قدرة عجيبة على كبح جماح نفسه, وتهذيب طابعه, وكبت غرائزه بصورة لا تقبل أيّ شك في تميزه. 8- الإنسان له قدرة على التعلُّم والتعليم, والقراءة والكتابة, وهي صفات لا توجد في أيّ مخلوق في الأرض سواه, اللهمَّ إلّا أن يكون الجن. 9- الإنسان يستحسن أشياء كثيرة, ويستقبح أشياء كثيرة, ويسن لنفسه ولغيره قوانين وأنظمة يسير بموجبها, وهي صفات خاصة به تدل على سموّه وشرفه.

10- للإنسان خيال واسع وإدراك قوي يخطط للحاضر وللمستقبل, وهذا الخيال الخصب لديه ميزة خاصة به, يختار أمورًا ويترك أخرى, وينظِّم مساراته للمستقبل وفق ما يريده, وكأنه على معرفة مسبَّقة به1. إن كل هذه الصفات وغيرها مما تحلَّى بها الإنسان لهي صفعة في وجوه الملاحدة الذين سلبوه صفاته التي ميَّزه الله بها, وشرفه بالتكليف والعمل لدنياه ولآخرته, وجعله مستخلفًا في الأرض لإحيائها, فهل يصح أن يقال بعد ذلك: إن الإنسان مادة مجرَّدة عن أي اعتبار, أو إنه حيوان تطوَّر بفعل مرور الزمن, أو غير ذلك من نظرياتهم الفاسدة, وأنى لمادَّة صماء أن تخلق إنسانًا تتوفر فيه تلك الصفات العالية, والفضائل الرفيعة, والتركيب العجيب، وأنَّى لفاقد الشيء أن يعطيه, فهل يفيق الملاحدة؟ وهل يتركون استهتارهم بهذا الكائن العظيم؟ ويحترمون روحه وفكره وأصله الذي شرَّفه الله بخلقه بيده تشريفًا وتكريمًا له وأسجج له ملائكته المسبّحة بقدسه؟

_ 1 بتصرف عن "مذاهب فكرية معاصرة"ص314.

المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية

المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية وحينما قرر الملاحدة أن الإنسان مادةً أصبح مفهوم القيم من الأمور التي لا قيمة لها؛ إذ المادة لا تتصف بأي قيمة روحية أو نفسية أو خلقية, وهذا هو الواقع الذي قرروه, وأن القيم كلها ليس لها صفة ثابتة وإنما هي انعكاس للأحوال الاقتصادية, فلا حقيقة لها إطلاقًا, إلّا أنه لم يكن بإمكان الملاحدة أن يتجاهلوا وجود هذه القيمة التي يتمثَّلها الناس قديمًا وحديثًا في حياتهم, وفي تعاملهم في أمور ظاهرة, فاخترع الملاحدة لها تفسيرًا يشوهها ويهوّن من مكانتها المرموقة، بل ويقضي عليها في النهاية قضاء تامًّا. وهذا التفسير المادّي للقيم يتمثَّل في الأمور الآتية: 1- تضخيم العامل المادي والاقتصادي وجعله أساس كل شيء في حياة الإنسان, وجعلوا الأخلاق والقيم كلها تابعة لحالة الإنسان الاقتصادية وتبادله المنافع مع الآخرين, وأن الوضع الاقتصادي هو الذي يحدد مشاعر الناس وأفكارهم وعقائدهم وكل قيمهم. 2- زعموا أن كل القيم لا ثبات لها, أي: لم تنشأ عن دين أو توجيه إليه, وإنما هي تابعة لتطور الإنسان في المادة هبوطًا وارتفاعًا، خيرًا وشرًّا، وأن كل القيم المعنية إنما هي انعكاس للوضع الاقتصادي لكل أمة.

3- جعلوا الدين هو المصدر الفيَّاض للأخلاق والقيم, جعلوه محلَّ سخرية واستهزاء, وأنَّ كل تلك القيم إنما نشأت عن عوامل اقتصادية لا عن الدين الذي تذكره الكتب السماوية, والذي يصوِّرونه كعدو لدود للقيم الإنسانية. 4- ونشأ عن ذلك الاستهزاء بالحق والعدل الإلهي الذي أكَّدت عليه جميع الشرائع الإلهية, فزعموا أن ذلك لا حقيقة له إلهية, وإنما هو تابع للأحوال الاقتصادية التي أوجدته, وهي التي تمليه على الناس في أحوالهم المختلفة من فقر وغنى, وكثرة وقلة, وحب وكراهية. لقد أرجع الملاحدة الشيوعيون كل القيم إلى حال الناس بالنسبة للمادة, فقسموا المجتمع إلى قسمين: 1- المجتمع الزراعي. 2- المجتمع الصناعي. ثم زعموا أن الأخلاق والقيم والإيمان بالقدرة الغيبية وتماسك الأسرة والحفاظ على العادات القبلية وما إلى ذلك, إنما سادت في المجتمع الزراعي لما يشعرون به من حاجة إلى قوة عليا تنبت لهم البذور في الأرض, أو لبعضهم بعضًا, خصوصًا وهم يشاهدون الأخطار الطبيعية من حولهم؛ كالصواعق والبراكين وهيجان البحار ونحو ذلك, فاحتاجوا إلى التعلُّق بإله قوي يحميهم وينفعهم، بينما تلك الأمور كلها لها في المجتمع الصناعي، وذلك أن المجتمع الزراعي البدائي في الشيوعية الأولى كان بينهم تعاون وفيهم استقرار

وهدوء وسعادة بسبب عدم وجود الملكة الفردية التي ظهرت بعد ذلك بفعل التطور الاقتصادي, وزعموا أن الأولاد في هذه المرحلة كانوا يتبعون الأمهات -أي: كالحيوانات تمامًا- ثم تحوَّل نظام التبعية من الأم إلى الأب باستيلاء الأب على كل السلطة بفعل ظهور الملكية, وظهور التحسُّن في الجوانب الرزاعية, وتعاون الأسرة جميعًا في القيام بها, تابعين لأبيهم الذي سيورث لهم كل ما يملكه بعد موته, فتمت الطاعة للأب, وعمل الجميع تحت أمره, واعتبار تلك الأمور من باب الاحترام الواجب للأب, فلم يكن لذلك سبب إلّا الرغبة في امتلاك ما تحت يده بعد موته، والاستفادة منه في حياته -انظر إلى هذا العقوق- وتناسى العاطفة والحنان المتبادل بين الأسرة. ثم نتج عن ذلك بفعل التطور نظام الرقّ الذي سبَّبه في الدرجة الأولى التحسن في الزراعة واكتشاف نزعة الملكة الفردية, فمالت الجهات القوية على الضعيفة تستعبدها وتسخرها في العمل لزيادة الإنتاج للأغنياء, وسد حاجة الفقراء الضرورية فقط, ثم نتج عن ذلك الوضع -حسب التطور- نظام جديد هو نظام الإقطاع، الذي سبَّبه اكتشاف الآلات التي تفيدهم في حراثة الارض كالمحراث وغيره, فاحتاج الأغنياء إلى الفقراء ليقوموا بحراثة الأرض وجباية محاصيلها لهم, فنشأ عن ذلك خلق حب الاستعباد والقهر للغير, وحب السيطرة الذي أنتج بدوره نظامًا جديدًا, وهو ما بدا ظاهرًا في النظام الرأسمالي الجشع الذي حوَّل الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية رأسمالية, جعلت الفقراء عبيدًا وذللتهم للأغنياء, ونشأ عن ذلك حب الذلة والمسكنة والاستهانة بالنفس بسبب قوة المادة الاقتصادية عند

كبار الأغنياء واستحواذهم على مصادر العمل والكسب, وهذا لا شك أنه أمر يغضب طبقة الفقراء, ويوجد فيهم حبَّ الرغبة في الانتصاف ورفع الظلم, وثورة كامنة في نفوسهم كمون النار في عود الكبريت، ثم نتج عن ذلك صراع مرير فيما بعد؛ لينبثق عنه بعد ذلك العودة إلى الشيوعية إثر الصراع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال على ملكية الإنتاج, وانتصار العمال بقضائهم على طبقة الرأسماليين؛ لتعود الملكية جماعيةً كما كانت في البداية -هذا حسب تعليل زعماء الشيوعية, قد سبق أن أشرت إلى أن هذه الأفكار كلها خيالات كاذبة تفتقر إلى الدليل وإلى العقل الذي يصدق بها، إنها افتراضات تدل على مدى النفسية الخبيثة لـ"كارل ماركس", وما كان يعاني منه من ضيق الخلق والأنانية الشريرة, ومحاربته لكل الفضائل والسموّ الأخلاقي, والرغبة في تدمير الأغنياء, وليت شعري هل الأولاد لا يحبون أباهم إلّا ليرثوه فقط؟ وهل المال والحصول على المادة كافية لسمو الأخلاق؟!! أليس الإنسان يطغى أن رآه استغنى, إلّا من وفَّقه الله تعالى، بل أليس من التناقض أن يقال: إن المجتمعات الزراعية القديمة كانوا يعيشون في وئام تامّ وهدوء وأخلاق عالية, بينما يصف المتأخرون اليوم أنفسهم بأنهم في تقدُّم شامخ, ووعي كامل وحضارة راقية, وهم يحملون في صدورهم قلوبًا حاقدة عدوانية, ولا يلوي أحد على أحد, فكان يجب أن يعكس الأمر تمامًا على حسب ما قرروه في هذه التناقضات.

المبحث التاسع: حرب الأخلاق والقيم

المبحث التاسع: حرب الأخلاق والقيم ما الذي يُنْتَظر من ملاحدة حاربوا الله ورسوله, وداسوا كرامة الإنسان, ودنسوا كل الفضائل, وشوهوا تاريخ الإنسان؟ ما الذي ينتظر منهم تجاه الأخلاق والفضائل, لقد قام مذهبهم من أوّل يوم على عدم الالتزام بأية فضيلة خلقية مهما كانت, بل محاربتها على اعتبار أنها شريعة أخلاقية غير ثابتة؛ لأن كل القيم والأخلاق في عقيدتهم إنما هي نتاج لأوضاع اجتماعية اقتصادية عبر الأزمان لا ثبات لها, وأن الاخلاق في أساس نشأتها إنما هي ناتجة عن الطبقية، إمَّا تبريرًا لسلطة الطبقة الحاكمة وأصحاب الجاه، وإمَّا تمردًا على العقيدة والوضع القائم، وإمَّا استجلابًا لنفع الطبقات المضطهدة. ويعود تاريخ الأخلاق وكل العادات الاجتماعية -كما قرروه- إلى الزمن الذي عاشه البدائيون, أو حياتهم في النظام المشاعي البدائي؛ حيث كانوا يرون أنَّ الملكية الفردية غير أخلاقية, ولكن بفعل التطور وسهولة الإنتاج أصبحت هذه القضية أمرًا لا حرج فيه, ولا يتعارض كذلك مع المصلحة العامة التي كانت سائدة في النظام المشاعي البدائي بحكم التطور, وحينما جاء نظام الرق ابتكر السادة أخلاقًا جديدة تتمثَّل في كل تصرفات الطبقات الراقية, فهي وحدها الأخلاق التي يجب السير عليها, بينما طبقة الأرقَّاء لا قيمة لأخلاقهم ولا لسلوكهم, بل هم ذيول لأسيادهم تابعين لهم, بل لم يكن

يتحرك أيّ ساكن تجاه ظلم هذه الطبقة في النظام الإقطاعي، وتَمَّ هذا كله تحت غطاء الدين الذي وصفه السادة الإقطاعيون والبابوات كأوامر إلهية لا يجوز الخروج عنها, والتي هي بمثابة مكابح قوية لجماهير المستضعفين من قبل السادة الإقطاعيين ورجال الدين, ثم حدث الصراع المرير بين الإقطاعيين والمستضعفين بعد أن ظهر النظام الرأسمالي الذي نادى بالتحرر من كل القيود الإقطاعية ونبذها، وما إن انتصر النظام الرأسمالي المنادي بالحرية والمساواة والإنسانية إلّا وتكشف الحقيقة من أن العامل الفقير أصبح تبعًا للرأسمالي, كما كان الحال في النظام الإقطاعي, فإمَّا أن يعمل الفقير تحت رحمة الرأسمالي, وإما أن يموت جوعًا، ولم يعد للإنسان أيّ قيمة في النظام الرأسمالي إلّا من خلال عمله الدءوب لسيده الرسمالي تحت تسمية خادعة هي العمل لمصلحة الجميع, والتي تصب في النهاية في خزائن أصحاب رءوس الأموال، هكذا زعموا, فما مدى صحة تلك التعليلات؟ الواقع أن تلك التعليلات كلها رجم بالغيب, لا يملكون عليه أيّ دليل, بل كلها يسوقها الملاحدة لتشويه صورة القيم والأخلاق والدين؛ لكي يصل الناس إلى النتيجة المرادة المستهدفة, ألا وهي الوصول إلى تطبيق المبادئ الاشتراكية الشيوعية التي تنظر إلى القيم والأخلاق على أنها أمور زائفة لا قمية لها, ولا يجب على المناضل الشيوعي أن يعيروها أيّ اهتمام؛ لأن الشيوعي عرف الحقيقة من وراء قيام كل القيم والأخلاق؛ إذ هي تبريرات فاسدة ونفاق خفيّ على أساس أن الغايات تبرر الوسائل, وقد ساندها الدين لإبقاء الطبقات الكادحة على ما هم عليه, أو للأمور

الأخرى التي تقدَّم ذكرها -بزعم الماركسيين, وعلى هذا فإن الشيوعي لا يجب عليه الالتزام بأي خلق أو دين في سبيل قيام الشيوعية, لا حرج عليه أن يكون كذابًا غشاشًا مخادعًا متلونًا, فإن الكفاح من أجل الشيوعية يجيز كل ذلك, وإذا لم يكن الشيوعي الثوريّ كذلك, فإنه ليس بمناضل ثوري حقيقي، إنها جناية كبرى ارتكبتها الشيوعية في حق الأخلاق والقيم, وخالفوا الفطرة التي جُبِلَ عليها البشر على امتداد تاريخهم من حب الخير وبغض الشر, وما يتبعهما من صفات وسلوك فاضل.

المبحث العاشر: القضاء على الأسر

المبحث العاشر: القضاء على الأسر يزعم الملاحدة أن نظام الأسرة إنما هو ناشئ عن أوضاع اقتصادية مثله مثل سائر القيم والأخلاق، وليس هناك نظام إلهي بشأنه، ولهذا فهو قابل للتطور حسب الأحوال الاقتصادية؛ لأن الأسرة في النظام الشيوعي -حسب تصوراتهم- إنما نشأت عن تطورات متلاحقة حسب تفسيرهم المادي للحياة, كانت بدايتها على الأقسام الآتية1: 1- أسرة الجيل. 2- أسرة الشركاء. 3- الأسرة الزوجية. 4- الأسرة الوحدانية. 1- أما أسرة الجيل -كما تصوروها: فيزعمون أن العلاقات الجنسية كانت مباحة بين أبناء الجيل الواحد بين الإخوة والأخوات, ومحرمة فيما دون ذلك, أي بين جيل الآباء وجيل الأبناء، واستمرَّ في هذه المرحلة تصنيف المجموعات الزوجية تبعًا للأجيال: الأبناء جيل, والآباء جيل, والأجداد جيل, والأحفاد جيل، كل جيل لا يتزوج إلّا من جيله, ولا يصح التبادل بين الأجيال.

_ 1 انظر لهذا التقسيم مذاهب معاصرة لمحمد قطب ص302.

ثم حدث تطور جديد فحُرِّمَت فيه العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات بطريقة تدريجية, أي: كان التحريم أولًا بين الأخوة والأخوات من الأم الواحدة, ثم شمل التحريم بعد ذلك جميع الأخوة والأخوات الأباعد, ثم زعموا أنّ أسرة الجيل هذه قد انقرضت. 2- أما أسرة الشركاء فقد كانت العلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع في شراكة تامّة؛ بحيث أصبح الولد لا يعرف له أبًا أكيدًا، ومن هذه الأسرة انبثقت أسرة العشيرة. 3- أما الأسرة الزوجية فقد عرفت بمباشرة الرجل لزوجة واحدة في رباط زوجي, ولكن تعدَّد الزوجات والخيانة الزوجية ظلتا من امتياز الرجل, وأما المرأة فتطالب أن تكون على إخلاص تامٍّ للزوج, فإذا زنت عوقبت عقابًا شديدًا, وعند اختلاف الزوجين يرجع الأولاد إلى أبيهم, كما كان الحال في السابق. 4- أما الأسرة الواحدانية فهي الأسرة التي تقوم على سيطرة الرجل لإنتاج أولاد لا يشك في صحة أبوتهم؛ لكي يحصلوا على إرث مال أبيهم بعد وفاته, وفي هذه الأسرة يكون تسريح الزوجة أو عدمه بيد الرجل فقط, وليس برضى الطرفين كما في رباط الزوجية السابق, وكانت الزيجة الواحدانية تقدمًا تاريخيًّا عظيمًا, وزعموا أن الأسرة الوحدانية لم تقم على الأحوال الطبيعية التي كانت الأحوال الجنسية مشاعة بين الجميع، بل قامت على الأحوال الاقتصادية, وانتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة المشاعة.

ولاشك أن القارئ يدرك تمامًا أن هذا التقسيم وهذا التنظيم إن هو إلّا محض خيال وافتراء, ومن العجيب أنهم يعترفون أن الناس في ذلك الزمن ما كانوا يعرفون الحضارة ولا التقدّم ولا القراءة ولا الكتابة, فمن أين لهم هذه السجلات التي استقوا منها هذه المعلومات الموغلة في القدم, ومن يصدق مثل هذه الترهات {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. والإنسان في مفهومهم مرة يجعلونه بدائيًّا تافهًا, بل حشرة من الحشرات, ومرة يجعلونه أساس التطور حينما كان يعيش على نظام كل شيء مشاع, ولهذا فهم يريدون أن يرجعوا الناس إلى تلك الحال التي يعبِّرون عنها بالحال السعيدة للمجتمع البشري, والباطل لا بُدَّ وأن يتناقض أهله فيه. فالأسرة في ظل الشيوعية كما عبَّر عنها "إنجلز" لا تسعد إلّا في حال إلغاء الملكية الخاصة وذوبان الأفراد وكل مصالحهم في المجتمع العام, وظهور شيوعية الجميع في الأحوال والنساء والأطفال الذين تنتقل العناية بهم من الآباء والأمهات إلى المجتمع كلَّه متمثلًا في الدولة -أي: إذا سادت الحياة البهيمية. يقول "إنلجز": "إن العلاقات بين الجنسين ستصبح مسألة خاصَّة لا تعني إلّا الأشخاص المعنيين, والمجتمع لن يتدخَّل فيها, وهذا سيكون ممكنًا بفضل إلغاء الملكية الخاصة, وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع, ونتيجة

_ 1 سورة البقرة، الآية: 111.

ذلك يكون أساس الزواج الراهنان قد أُلغيا, فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها، ولا الأولاد لأهلهم هذه التبعية التي ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة". وقال أيضًا: "فبانتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة لا تبقى الأسرة الفردية هي الوحدة الاقتصادية للمجتمع, وينقلب الاقتصاد البيتي الخاص إلى صناعة اجتماعية, وتصبح الغناية بالأطفال وتربيتهم من الشئون العامة, فيعنى المجتمع عناية متساوية بجميع الأطفال, سواء أكانوا شرعيين أم طبيعيين, وبذلك يختفي القلق الذي يستحوذ على قلب الفتاة من جرّاء العواقب التي هي في زماننا أهم حافز اجتماعي -اقتصادي وخلقي- يعوقها عن تقديم نفسها بلا حرج لمن تحب, فلن يكون هذا سببًا كافيًا لازدياد حرية الوصال الجنسي شيئًا فشيئًا, ومن ثَمَّ لنشوء رأي عام أكثر تساهلًا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء"1. فانظر هذا الكلام الساقط كيط أراد أن يضحي بكل شيء في تغيير حياة البشر, ويقلبها رأسها على عقب في سبيل أن يمحو من الأذهان شرف العذارى وعار النساء, هذا هو الحل الذي اقترحه المجرم "إنجلز" في قضائه على الشرف والحياة والحشمة عند المرأة, وهذا هو مبلغه وأشباهه من العلم, وكأن الحياة كلها متوقفة على وجود حرية الاتصال الجنسي شيئًا فشيئًا إلى أن يتحول إلى رأي عام أكثر تساهلًا فيه, وعندها تتم السعادة ويمحى شيء اسمه العار أو الحياء أو الحشمة؟!

_ 1 انظر مذاهب فكرية معاصرة ص304-305.

وإذا كان يحصل هذا في المجتمع المتحرر عن الملكية الفردية, فلا يرد عليه -في مفاهيم- المجتمع الزراعي وتعاون أهله فيما بينهم للضرورة إلى هذا الترابط الأسري؛ لأن ترابط الأسرة في المجتمع الزراعي أمر بدهي يتطلبه الرغبة في إتقان العمل وزيادة الإنتاج الذي يحتاج بدوره إلى تكاتف الأيدي العاملة, فهذا يحرث, وذاك يحصد, وهذا يقوم بعملية الري, وذلك بتحسين المزروعات, وآخر بتخزينها, وهكذا تفرض عليهم هذه الحالة تكاتفًا أسريًّا قويًّا, ولكن حينما جاء المجتمع الصناعي تفكَّك أمر الأسرة, وذلك لعدم الحاجة إلى ذلك التكاتف الذي نشأ في العهد الزراعي. فإن العمل في الصناعة يقوم على الفردية واستقلال كل شخص بعمله, دون اشتراط وجود آخرين إلى جانبه, فعمله خاص به وهو مسئول عنه وحده, ويأخذ أجره على العمل وحده كذلك، وهذا يشمل أيضًا المرأة حينما تعمل. وبالتالي فالمجتمع هنا يصبح كل فرد فيه حرّ ليس له علاقة بغيره, إن أراد الرجل بقاء صداقته مع زوجته فله ذلك, وإن أراد تركها فله بكل يسر, والمرأة كذلك لها أن تقطع علاقتها الزوجية في أي وقت شاءت, فعملها ووظيفتها وما تملكه من المال يجعلها لا تكترث بأي علاقة دائمة مع أي شخص, سواء أكان الزوج أو الأولاد أو الأقارب أو الأجانب عنها, وبالتالي فالعلاقات الجنسية الحرة هي السمة البارزة لهذا المجتمع الصناعي -أي: الإباحية والفجور, وهذه هي النتيجة التي يعيشها العالم المادي الملحد, حالة من التفكك الأسري والإباحية والتمرد على كل شيء، مجتمع نزعت منه الرحمة وصلة ذوي القربى والعاطفة نحو الآخرين والعفة والحياء, ولهذا

أصبحوا أحطّ من الأنعام, قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 1؛ لأن الأنعام يعطف بعضها على بعض أقلَّ شيء في مرحلة الصغر, فالدابة ترفع حافرها عن ولدها, بينما هؤلاء يرمون بأولادهم في المحاضن الحكومية, وبعضهم يرمونهم في الأدوار العلوية لبيوتهم, أو يحبسونهم في البيوت حتى الموت كما سمعنا وقرأنا في المجلات والنشرات, وهي صور لا يطيق العاقل سماعها لبشاعتها وهولها. والمحسنون منهم يرمون أولادهم في الحضَّانات الحكومية, ولا يفكرون فيهم بعد ذلك, وهذا هو ما كان يريده الشيطان الرجيم "كارل ماركس". - تعقيب: لقد داس الملاحدة كل القيم؛ إذ لا وجود لها عندهم إلّا من خلال ما تمر عليه الظروف الاقتصادية التي هي المؤسس الحقيقي بزعمهم لكل1 القيم والأخلاق والأسرة والدين وسائر العلاقات كما عرفت سابقًا، ومن هنا ساغ لهم القول بأن الملكية الجماعية الشيوعية في زمن الشيوعية الأولى البدائية كانت صوابًا؛ لأنها كانت هي الوضع الحتمي لذلك الوقت, ثم تغيَّرت بفعل التطور إلى ملكية فردية, وكانت كذلك مرحلة مرَّت, ثم نشأ الرق والإقطاع والرأسمالية, فكانت كل منها صوابًا في وقتها يحصل التناقض الحتمي, ومع القول بحتمية وقوع كل مرحلة إلّا أنهم يقولون: إن كل مرحلة جديدة تجعل السابقة خطأ يجب تركه ومحاربته بعد تجاوزها, إلى أن تصل إلى الشيوعية الماركسية, فتستقر حينئذ الأوضاع, ويدخل الناس في السعادة الشيوعية!

_ 1 سورة الفرقان، الآية: 44.

وكذلك سائر القيم من العفَّة وسيطرة الأب والتدين وترابط الأسرة والتعاون الجماعي, كل ذلك كان صوابًا في وقته، ولكن بعد سرعة التطور والوصول إلى الشيوعية الماركسية يجب أن تعتبر تلك القيم كلها باطلة ويجب محاربتها؛ لأنها لم تعد مناسبة للأحوال الاقتصادية للمجتمع الشيوعي الجديد -أي: بعد تلك التطوارت الخيالية- التي تصورت في أذهانهم عن نشأة الكون وما فيه, وكذا القيم والأخلاق وسائر أنواع السلوك, وهكذا وقف الملاحدة ضد الأسرة كما وقفوا ضد الدين؛ إذ الأسرة لا تبعد في الواقع عن التدين؛ ولأن معنى قيام الأسرة منع الفوضوية الجنسية التي ينادي لها الملاحدة, وقيام الأسرة يحد من ذلك بطبيعة الحال. كما أنها كذلك تثير مشاعر الأثرة في الوالدين, وتقوي حب التملك من أجل توريث الأولاد ما يملكه الوالدان، ومعنى هذا العودة إلى نشوء الملكية الفردية, وهو ما تحاربه الشيوعية بكل ضراوة, وتبعًا لبغضهم الملكية الفردية فإنه يجب أن يبغض كل شيء يمت لها بصلة, ومن جهة أخرى فإن البديل للأسرة في النظام الشيوعي هو الولاء للدولة والذوبان في النظام والحزب والزعيم والوطن, وليس غير ذلك, بينما نظام الأسرة يشكِّل ارتباطًا آخر غير هذا الارتباط العام الذي لا تسمح الشيوعية إلّا به؛ لأن النظام الشيوعي -ومثله النظم المتجبرة- تريد أن يكون كله في طاعة عمياء للحزب, وولاء مطلق لهم, وجواسيس على بعضهم بعضًا, لا يخرج عنهم أحد, ونظام الأسرة لا يسمح بتنفيذ هذا كما يريدون, فالأسرة لا تسمح بأن يخل بنظامهم الاجتماعي أي أذى, وهذا يحد من نشاط الجاسوسية الدقيقة على كل فرد من أفراد المجتمع، كما أنه يحد من استعباد الدولة للشعب والقضاء على

الأسرة من الضمانات التي يعتمد عليها النظام الشيوعي في تربية الأولاد منذ نعومة أظفارهم على الولاء الكامل للدولة والحزب والزعيم, وليس وراء ذلك أي ولاء لأحد. ومن العجيب أنهم يسمون الجهل والتخبط القائم على غير دليل صحيح نظريات علمية أو أبحاثًا علمية، فترى الكثير من الناس يسارع إلى تقبل تلك النظريات دون أن يكلف نفسه السؤال عن مدى صحة تلك الدعايات, وهل هي فعلًا نتجت عن علم حقيقي, أم عن تخطيط مدروس للإجهاز على القيم والأخلاق والتديُّن باسم العلم والتقدم. إن كان ما جاء به الملاحدة من مزاعم عن بدء الأسر وتكونها, وأنها مرَّت بفترات أولها الشيوعية الأولى, ثم بدأت الأسر تتكون بفعل التطور الاقتصادي كما يزعمون, إن هو إلّا كذب وجرأة على تشويه تاريخ الأمم, لا يستندون فيه إلّا على ما تخيلوه في أذهانهم المريضة, وما يزعمونه أيضًا من وجود تلك الشيوعية في بعض القبائل المتأخرة التي عثر عليها في آسيا وإفريقيا واستراليا في القرنين السابقين، إن صدقوا، ولكن هل انحراف هؤلاء يكفي دليلًا لتلطيخ تاريخ البشرية كله بسبب انحراف جماعة هنا أو هناك؟ إن تفسير الملاحدة لقيام الأسرة بأنه عن دافع اقتصادي فقط هو قول باطل وقصور واضح, مع العلم أن للأوضاع الاقتصاية جانب مهم في حياة الناس, ولكن ليس هي كل شيء في حياتهم, بل هي أحد العوامل في حياتهم الواسعة الشاملة التي لا يمكن أن تنحصر في جانب واحد, وكذلك فإن قيام الأسرة لم يكن سببه فقط الدوافع الجنسية والاقتصادية, بل له أسباب كثيرة

تتطلبها فطرة الإنسان وما جبلت عليه من حب الهدوء والألفة وبناء الحياة والأنس بالآخرين, وحب التكامل, وحب تربية الأطفال, التي لا يمكن أن تتكامل تكاملًا صحيحًا جسديًّا وعقليًّا في غياب الأمهات عن أولادهن, وترك الأولاد للمحاضن الجماعية التي هي أشبه ما تكون بتربية قطعان الحيوانات دون شعور بالحب والعطف, والراحة النفسية التي يجدها الطفل في حضن أمه. وما تقدَّم إنما هو إشارة إلى أن تكوين الأسرة لم يكن ناتجًا عن النظرة الاقتصادية فقط -كما زعم الملاحدة, بل لأسباب نفسية كثيرة أرادها الله -عز وجل, وفطر النفوس عليها, ومن شذَّ عن هذا السلوك فهو شاذ, ولهذا لا يشعر الإنسان بتلك السكينة والطمأنينة التي يجدها في بيته وبين أطفاله مهما وجد من المتع الجنسية عن طريق الحرام, ومهما ملك من الأموال, كما أنه لن يجد حلاوة ذلك التنظيم الإلهي لتكوين الأسرة وتكافلها فيما بينها, وقيام الرجل بواجباته خارج البيت, وقيام المرأة بواجباتها داخل البيت, وتصريف الأولاد في الأمور التي يطيقونها, وما ينشأ عن ذلك من الهدوء والسكينة والتعاون الذي حُرِمَ منه أولئك المعاندون للفطرة وللعقل ولأحكام الله -عز وجل. لقد نسي أولئك الملاحدة أو تناسوا عمدًا أنَّ الذين أقبلوا على الفوضى الجنسية وقطع العلاقات الأسرية, نسوا أن هؤلاء يعيشون عيشة ملؤها القلق والاضطراب والأمراض العصبية, مع توفر كل ما يطلبونه من المتع الجنسية ومن المال أيضًا, وإلّا لماذا يبادر أولئك إلى الانتحار المتتابع -وما أكثره في أوروبا- بين الرجال والنساء والأحداث, وما أكثر ما يتأوه عقلاؤهم من أوضاعهم التي تزداد سواء كلما ازداد تفكك الأسرة وفشت الجرائم تحت تسمياتهم الخادعة "حرية، مساواة، ديمقراطية ... إلخ", ما خدعوا به

الناس, وأخرجوهم عن فطرهم التي فطرهم الله عليها, إلى الشقاء وتأنيب الضمير. ومثل ذلك التفسير السخيف بقيام الأسر تجده تمامًا في تفسيرهم للحفاظ على الأمور الجنسية والقيم والعادات المتعلقة بذلك من العفة وغض النظر وحفظ الفرج بأنها عقبات, وأن السبب في كل هذه العقبات أمام شيوعية الجنس إنما يعود إلى المجتمع الزراعي؛ حيث إن الرجل يغار على زوجته وابنته بدافع سيطرته وامتلاكه لأمور البيت الاقتصادية, فهو المكتسب وهو الذي يتعامل مع الحياة كلها في خارج البيت, بينما تكون المرأة حبيسة البيت, ليس بيدها أيّ مصدر إلّا عن طريق الرجل, وهنا فرض الرجل على المرأة العفَّة قبل الزواج وبعده, وأن تكون له وحده حين يتزوج بها, ومن هنا أصبحت العفة فضيلة خلقية واجتماعية مهمَّة في مثل هذه المجتمعات، ولكن حينما ظهر المجتمع الصناعي لم يعد الرجل يفرض على المرأة تلك العادات والأخلاق الجنسية بسبب انقلاب الأمور الاقتصادية؛ حيث دخلت المرأة ميدان التكسُّب والعمل والوظيفة, وصارت تملك المال الذي حرَّرها من قبضة الرجل, فلم يعد يملك مطالبتها بالعفَّة لا قبل الزواج ولا بعده, ولا أن يطالبها بأن تكون له وحده, فهي زميلة في العمل, وقد تملك من المال أكثر مما يملك, ولها حق التصرف بحرية تامة في مالها وفي نفسها دون أيّ اكتراث بالعفة أو الفضيلة, فقد تحرَّرت في المجتمع الصناعي لتغير الأحوال الاقتصادية, فلم تعد كما كانت في المجتمع الزراعي عالة على الرجل في كل شيء, وبهذا التفسير الإلحادي الشيوعي لا يبقى مجال للقول بأن العفة والأخلاق نشئت عن أمر إلهي أو ديني, بل عن أمر اقتصادي, والقارئ يدرك

تمامًا أن هذه الافتراضات إنما هي أكاذيب وخيالات، فإن أمر الحفاظ على العفَّة وسائر القيم أمر فطري في الإنسان وفي سائر الحيوانات التي لا تهتم بالأمور الاقتصادية, فنرى ذكر الحيوان يغار على أنثاه ويدافع عنها, وترى الأنثى تحترم الذكر وتعطف على أولادها, سواء أكانت تملك قوتها أو لا تملكه، وقد أخبر الله -عز وجل- عن وجود هذه الأمور في نفوس الناس منذ أن أوجدهم, ولهذا لا يمكن أن تجد امرأة مستغنية عن الرجل مهما كان مالها, ولا الرجل كذلك يستطيع أن يستغني عن المرأة مهما كان ماله، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالسعادة ليست فقط في وجود المال, بل قد يكون المال مصدر شقاء لصاحبه, ولك أن تسأل ماذا حصل للرجل والمرأة حينما دخلا معترك الحياة, وصار كلٌّ يحتطب لنفسه من المال ما يستطيع الحصول عليه، ومباح لكل منهما أن يعاشر من يريد عن طريق الإباحية الجنسية، أليس كل واحد منهما أحسَّ بأن الحياة في هذا السلوك رخيصة لا تساوي شيئًا, فرجعا إلى رباط الزوجية ليجدا فيه الأنس والراحة النفسية التي فقداها عن طريق الإباحية أو المال؟ وكان أولئك القساة القلوب لم يسمعوا بشكاوى من غرَّتهم المادية وجمع المال, ولا أنين تلك المرأة التي منعت نفسها من الزواج وجمعت المال والشهادات ما أحبت, فما أحسَّت بتجازوها مرحلة الإنجاب بدأت تبكي وتقول للناس: خذوا هذه الشهادة وخذوا أموالي وأعطوني طفلًا يقول لي: يا أمي, أشعر بالأنس إلى جانبه، أزيلوا عني آلامي وما أحس به من وحشة هذا المجتمع الذي لا يرحم ولا يحترم إلا الأقوياء فقط, ولكن أنَّى لأصحاب الأهواء آذانٌ صاغية تسمع أو قلوب تعقل.

المبحث الحادي عشر: محاربة الدين

المبحث الحادي عشر: محاربة الدين يزعم المادّيون أن الدين إنما هو انعكاس وهميّ في أذهان البشر نحو قوة خارجية تسيِّر الكون لا أنَّه حقيقة منَزَّلة من الله كما هو إيمان جميع المؤمنين بالله تعالى، ثم زعموا أن هذا التوهُّم نشأ في أزمنة موغلة في القدم عند البدائيين؛ حيث كانت البداية هي توهم أن الإنسان له روح تسكن في جسده وتفارقه لحظة الموت, ومن هنا اضطروا إلى اصطناع أفكار تتوافق في العلاقة مع هذه الأرواح التي تطوّر أمرها بعد ذلك إلى توليد الآلهة الأولى وفي غير الأرض, ثم نشأ بفعل التولد في عقول الناس أن يتطوَّر أمر هذه الآلهة إلى إله واحد كما في الديانات التي تعبد إلهًا واحدًا, وعلى هذا فإن الدين إنما تولد عن نظريات الإنسان المحدودة التي نجمت عن عجزه المطلق أمام الطبيعة العاتية التي كان يخافها ولا يفهمها, فتصور أن ذلك إنما نتج عن إرادة سامية عليا فُسِّرَت بعد ذلك بإسنادها إلى الآلهة وقوتها وجبروتها المطلق, والتي أصبحت هذه الآلهة في شكل إله واحد قوي جبار عند الكثير، ثم زعموا أن هذه المعقتدات في الإله إنما تعود عند الإنسان في الأساس إلى ما قبل التاريخ، وحينما جاء العهد التاريخي وجدها هكذا فالتقطها بغباء دون فهم, وقد أرجعوا السبب في ذلك إلى الحالة الاقتصادية التي كان يعيشها الإنسان في عهد ما قبل التاريخ, وهو اقتصاد ضعيف, وفي صورة بدائية تعتمد على الاشتراك في الصيد والماء والمراعي, وتعاون الجميع. هذا في عهد ما قبل

التاريخ, وأما حينما نشأ التطور الاقتصادي على نحوٍ أقوى بداية بعهد الرق والإقطاع والكنيسة, فقد استغلَّ هؤلاء الوجهاء هذا الجانب الإلهي لتخدير الكادحين حتى لا يشعروا بالظلم الواقع عليهم؛ وأن عليهم الرضوخ إذا أرادوا نعيم الجنة في مقابل عذاب الدنيا بطاعة أولئك, ولهذا باركت الكنيسة الرق وأوصت الكنيسة الأرقاء بطاعة أسيادهم, وهددتهم بالنار الأبدية إن لم يمتثلوا، وكان لهذه التعليمات أثر جيد في إنفاذ الحياة الزراعية الضرورية لحياة المجتمع, وفي حفظ المجتمع من الفقر ومن اندلاع نار الثورات, وفي الوقت الذي اشتد فيه كابوس الإقطاع في أوروبا قويت في المقابل السلطة الدينية للكنيسة، وليس فقط السلطة الدينية، بل والفلسفة والأدب والفنون على نفس النهج الذي يريده الإقطاعيون، ولم تكن الكنيسة وحدها في هذه القوة, بل ساندتها قوة السلطة التي كانت هي الأخرى سيدة الإقطاع وحاميته, والمستفيد الحقيقي من تخدير الشعوب بالدين، ولهذا وقف الحكام ورجال الكنيسة ضد كل من تسوّل له نفسه الخروج عن قبضتهم بوصفه بالإسم الذي يبيحون به دمه, وهو إطلاق "الهرطقة" عليه. وما اشتعال الحروب التي خاضها البشر باسم الدين إلّا صراعًا طبقيًّا في حقيقته, نجم عن الحالات الاقتصادية فحسب، وحينما ظهرت الرأسمالية ضعف أمر الدين لتطور الاقتصاد وانتعاشه, ولكن البرجوازية أحسَّت بأنَّ نبذها للدين خطر عليها, فعادت إلى احتضانه وتستخيره لمصالحها, وهذا هو السبب في تعلُّق البرجوازية بالدين؛ لكي تظل على قوتها الرأسمالية.

هكذا علَّل الملاحدة لنشأة التدين عند الإنسان، وحينما جاءت الشيوعية في روسيا أعلنت الحرب الضروس على الدين وأهله, باعتبار أنه أفيون الشعوب, وأن الدين إنما كان في ورسيا وغيرها بسبب الضعف الاقتصادي, وعدم وجود حول ولا وقوة للطبقة الفقيرة إلّا بالاستناد إلى الدين كعزاء بديل لذلك الشقاء والفقر. ولكن بعد مجيء الشيوعية التي هيَّأت موارد للإنتاج لم يعد الفلاح في حاجة إلى الالتجاء إلى القوة الإلهية ليتسلَّى بها عن شقائه, وعليه حينئذ أن يتخلَّى عن الاعتقاد بوجود الإله وعن الدين كذلك؛ ليسعد في ظل النظام الشيوعي! أما المجتمع الزراعي فقد كان تمسكمهم بالدين أمرًا واضحًا لوجد المقتضيات الكثيرة لازدهاره في أوساطهم -كما تذكر الشيوعية الماركسية في تعليلاتها الخرافية, كقولهم: إن الإنسان في هذا المجتمع يضع البذور في الأرض ويغذيها ويحوطها بعناية, ولا يملك أكثر من هذا, فهو لا يستطيع أن ينبتها كما يريد, ولا أن يجعلها تثمر أو لا تثمر, وهنا اضطر إلى التعلق بوجود قوة خارجية غيبية -الإله- وإلى استراضائه والتعلق به لإنجاح زراعته, وتحبب إليه بأنواع الطقوس -العبادات, وهذا بخلاف المجتمع الصناعي, فإنه لم يعد الإنسان في حاجة إلى التعلق بتلك القوة الغيبية؛ لأن أمر الصناعة ظاهر يسيطر عليه الشخص ويصرّفه كما يريد, فهو صنع يده وطوع أمره بخلاف الجانب الزراعي, وهذا هو تعليلهم ومبلغ علمهم لقوة التدين في العهد الزراعي وضعفه في العهد الصناعي -كما يزعمون, وهو تعليل يدل على سخافتهم وضحالة أفهامهم، كما أن هذا التفريق بين المجتمع

الزراعي والمجتمع الصناعي إن هو إلّا محض افتراء سخيف وهضم للإنسان، بل وإنكار لحق الله على عباده، ولا يملكون على ذلك أيّ دليل صحيح، ثم أليس الإنسان يواجه مشكلات وتعقيدات وأخطارًا في المجتمع الصناعي كما هو في المجتمع الزراعي، وأن قدرة الإنسان هي نفس القدرة في المجتمعين، فيكف احتاج إلى الله والتدين في المجتمع الزراعي واستغني عنه في المجتمع الصناعي، وماذا فعلت الشيوعية في المجتمع الزراعي والصناعي, أليس أتباعها الآن يتكفَّفون الغرب الزراعي الصناعي, وهم مقرون بالخالق -عز وجل, مما يدل على خساة الشيوعية دينهم ودنياهم. - من الذي غذَّى اشتداد العداوة للدين؟ لقد واجه الدين عدوَّين لدودين، هما: المخطط اليهودي، والمخطط المادي الشيوعي الناتج في البداية عن المخطط اليهودي والمتمم له. أما المخطط اليهودي فلا شك أن اليهود وهم يريدون استحمار الجوييم يعرفون تمامًا أنه لا سبيل لهم إلى استعباد البشر إلّا بمحو دينهم وسلخهم من عقائدهم وأخلاقهم؛ لأن اليهود عرفوا أنه لا سبيل لهم إلى تحقيق مآربهم ما دام للبشر دين وأخلاق وتراث يرجعون إليها, واليهود أعدى أعداء البشرية على امتداد تاريخهم وحروبهم معهم لا تنقطع, ومؤامراتهم ضدهم لا حدَّ لها, فهم سراق العقائد، والأخلاق والأموال. وأما العداء الشيوعي فهو امتداد طبيعي لعداء اليهود مضافًا إليه الحقد على الدين وأهله, وعلى سائر البشر الذين لم يستسلموا لطغيانهم, وحينما

وقفت الكنيسة في صف الإقطاعيين والرأسماليين ضد النفوذ الشيوعي, جاعلين الدين شعارًا لهم في حرب الشيوعية, تضاعف حقد الملاحدة على الدين وعلى كل مَنْ يمثله, واستفاد الملاحدة فوائد كثيرة من وقفة الكنيسة إلى جانب الاستبداديين؛ حيث أغروا الناس بعداوة الدين وأهله. واشتد حقدهم على نسبة أيّ حق أو عدل أو خير إلى الله -عز وجل, فقد سخروا من كل من يعتقد ذلك ورموه بأنواع السباب؛ إذ ليس هناك -في ميزانهم- حق وعدل وخير وتوجيه من الله؛ إذ أن كل ما يصدر عن الناس من تصرفات إنما هي نتيجة للأحوال الاقتصادية, وتغيراتها المتلاحقة دون أن يكون هناك توجيه غيبي يسيّر الكون أو تظهر الأخلاق عن طريقه. وهم يرتاحون لنسبة الحق والعدل إلى الشيوعية, ولكنهما محرَّمان نسبتهما إلى الله تعالى, ولكن الله -عز وجل- متم نوره ولن كره الكافرون, وقد أذلَّهم الله تعالى أيَّما إذلال. ومن الجدير بالذكر أن الملاحدة قد يتظاهرون أحيانًا بذكر كلمات الدين والتدين, فيظن من لا يعرف أهدافهم أنهم يريدون ذكر الدين والرضى به, بينما هم في الواقع في غاية البعد عن هذا المفهوم السليم, ولهذا يقول المفكر المسلم وحيد الدين خان: "إنه على الرغم من أن كلمة "الدين" موجودة في التفسير الجديد للدين, ولكن الدين هنا في صورته الحقيقة والعملية لا يختلف عن الإلحاد الكامل في شيء". "في ضوضاء هذه الدراسة الاجتماعية والتاريخية المزعومة يضيع أصل الدين في هذا التفسير المستحدث فيصبح الدين مجرد ظاهرة

اجتماعية, ويفقد قيمته الحقيقة في توجيه الحياة والمجتمع وهداية الإنسان لما فيه خيره في الدنيا والآخرة"1. وتارةً يرجع أولئك الملاحدة تفسير الدين حسب خرافاتهم إلى قابلية الشخص واستعداده الذهني لإدراك شتَّى الصور التي يتخيلها بعد ذلك دينًا، كالشاعر الذي يتصوّر أشياء في خياله اللاشعوري, وهذه تسمَّى نبوة عند بعض كبارهم. ويرى محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية أنه يمكن تشبيه الدين بالفن؛ من حيث أن الفنَّان يتمتع بذوق غير عادي في الأمور الفنية, فكذلك رجل الدين يتمتَّع بنظرة قوية وأذن صاغية؛ فيصل بتجاربه إلى معرفة الدين، مع أنهم قد أقروا بأن الدين لا تدخل معرفته تحت التجارب -كما تقدَّم- وهم يهدفون من وراء هذا السخف إلى إنكار النبوات الإلهية ويقرر "ت.ر. مايلزم": إن الدين إذ قُصِدَ به ما بعد الطبيعة، أي: القول بأنه وحي من الله تعالى, فإنه حينئذ يفقد معناه الحقيقي, أما إذا أريد بالدين معنى مجازيًّا بمعنى قوة الذكاء والإلهام, فإنه حينئذ يكون معناه مقبولًا لدى الأشخاص الذين يتَّصفون بقابليتهم للتدين. ويرى"اليكيس كاريل" أن التديُّن إنما يصل إليه الإنسان بجهوده الشخصية وتطلعه إلى ذلك مثله مثل الشخص الذي يريد أن يصبح مصارعًا فيستعد لتقوية بدنه بالرياضة وترويض أعضائه, فكذلك المتدين يصل بصقل روحه وتهذيبها إلى التدين الذي يقتنع به2.

_ 1 الدين في مواجهة العلم، ص111. 2 انظر الدين في مواجهة العلم ص113-114.

وهذا التفسير للدين خرافة وسذاجة, وذلك لأنه يعتبر مصدر الدين قوة تخيل البشر وسموّ ذكاءهم لا أنه من الله تعالى, أو عن وحيه؛ إذ لا وجود لذلك في قاموس إلحادهم, فكيف يكون الدين من خيال البشر وله هذه المكانة في النفوس منذ أن وجدت البشرية إلى أن تنتهي؟ ألم تظهر روايات وقصص وكتابات خيالية لا حدود لها؟ ثم تنتهي في مدة وجيزة ولم يعد أحد يتأثر بها مع أنها أحيانًا نابعة من أعماق كبار الشعراء الذين يسميهم الملحدون أنبياء, ومن أعماق كبار أصحاب الفكر والأدب, ثم كيف تجمع البشرية على احترام التدين إلى هذا الحدّ لو كان ما يقوله الملحدون صحيحًا من أن التدين خيالات وفن؟ ولماذا نجح الأنبياء على طول الأزمنة وبقي ما خلفوه حيًّا في قلوب الناس, بينما تموت أفكار البشر وتنسى، بل وتمل على مر الزمان رغم تفنن أصحابها في الفصاحة, كذلك يقال لهم لو كان التدين يرجع إلى الذكاء؛ لكان لكل شخص دين يخصه يتوافق مع ذكائه وذوقه؛ لاختلاف الناس في الذكاء وفي الرغبات, ولما أمكن التفريق بين من يعمل الخير ومن يعمل الشر؛ لأن الخير والشر يصبحان لا ضابط لهما لاختلاف العقول والأديان من فرد إلى فرد، وهل الواقع يدل على هذا؟ أم أنه يدل على أن الناس يشتركون في دين حتَّى ينسخه الله بغيره, كما هو الحال في الأديان المنزَّلة على امتداد تاريخ البشر؟ كما أن هذا التفسير الإلحادي للدين يجعل كلمة النبوة أو ختم النبوة أمر لا معنى له؛ لأن النبوة إنما هي مجموعة صور خيالة جميلة, لا أن هناك إلهًا هو الذي يختار لها الشخص الذي يريده, وهو مفهوم شاذٌّ بالنسبة لما

أطبق عليه عامة الناس, وهل يصح أن يُلْتَفَتَ إلى كلام ملحد في آخر الزمان ويغفل إطباق تلك الملايين التي لا يعلم عددها إلّا الله وحده, فاتضح أن كل تفسيرات الملاحدة للدين أو استعمالهم لكلمة دين إنما يراد بذلك إمَّا المغالطة أو النفاق، وإمَّا أن نسميها سذاجة لبعدهم عن معرفة الدين, وجهلهم بكل حقائقه, فهم لا يفرِّقون بين الاتجاه الخاص بالدين وبين الاتجاهات الجاهلية التي أفرزتها عقول جاهلية ادَّعت معرفة كل شيء, ومن أعجب الأمور أن يسموا الدين الذي أطبقت البشرية على تقبله خيالات, ويسمون إلحادهم وخيلاتهم التي يردها العقل والواقع علميةً, وأين الثرى من الثريا؟ إن تفسير الملاحدة للتديُّن عن الإنسان كله كذب وافراض وهمي خيالي, فقد تصوروا في خيالهم أن نشأة الإنسان وظهور التدين عنده, ونشأة القيم والأخلاق إنما قامت على المادة وحدها, ومن المعلوم بداهية أنه مرت قرون عديدة والبشرية كلهم على التدين وعلى التعلق بإله قادر مهما اختلفت عبادتهم وعقائدهم وعبارتهم, فهل يلغي كل ذلك الاتفاق في تلك القرون السحيقة التي لا يعملها إلّا الله, ويؤخذ فيها برأي الملاحدة الشاذين, هذا ليس بمنطق صحيح أبدًا, وهل ما تصوروه من تطور الإنسان بسبب المادة يعضده دليل عقلي -إذ لا يوجد لهم دليل شرعي- إنه مجرد تحكّم أن يقسِّموا البشر إلى مجتمعات بدائية ومجتمعات زراعية ومجتمعات صناعية, وأن التدين في كل مرحلة كانت له أسبابه المادية، إنه تحكم كاذب, فمن أين لهم صحته، وهل شهدوا خلق السموات أو الأرض أو خلق أنفسهم؟!

لقد جازف هؤلاء الملاحدة وافترضوا ما لم يحيطوا بعلمه, وطرقوا ما لا مجال لهم فيه, وكذَّبوا البشر قاطبة، وكذَّبوا الواقع الذي يشهد بتفاهة تفسيرهم للتدين ولكل القيم الإنسانية الثابتة بما فيها التدين الصحيح, ومن يصدقهم في أنَّ الصفات الثابتة في الإنسان سببها الجوانب الاقتصادية, ومن يصدقهم أن الرغبات الجنسية وحب الانتقام والثأر والإحساس بالرحمة والحزن والفرح والبخل والكرم إنما يعود إلى الناحية المادية فقط, دون أن تكون تلك الصفات وغيرها صفات أساسية في فطرة الإنسان، تلك الفطرة التي حاربتها الشيوعية اليهودية؛ لكي يسهل عليهم استعباد البشر وإخراج الجوييم عن شريعة الله تعالى إلى شريعتهم الحاقدة على جميع البشر. نعم, إن الإنسان حينما يقف عاجزًا عن معرفة سر هذا الكون, ويتفكَّر في خلق الله والأرض والنجوم وسائر الأفلاك, وتتابع الليل والنهار, والحياة والموت, وسائر ما أوجده الله في هذا الكون, إذا فعل الإنسان ذلك يجد نفسه عاجزًا عن إدراك كل هذا، وحينئذ يعرف بفطرته أن هناك موجد عظيم لهذا الكون هو أقوى منه, يستحق أنه يخضع له وأن يعبده ويرجو ثوابه ويخاف عقابه، لا أن يعتقد أن المادة خلقته, فإن التفكر في كل ذلك يهدي إلى الاعتراف بخالق عظيم قدير حكيم لا أنَّ للمادة معه, بل هي مخلوقة له حدثت بعد أن لم تكن، وهذا هو ما اعترف به الملاحدة في أنفسهم وجحدوه ظاهرًا تعصبًا لنظرياتهم الفاسدة, وقد ذكر الله -عز وجل- كثيرًا من عجائب هذا الكون, ورغَّب الناس في التفكر فيه واستخلاص العبر, فذكر سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا

_ 1 سورة البقرة، الآية: 164. 2 سورة النحل، الآية: 10-18.

لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1. ويقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} 2. وهذا الآيات وغيرها تجعل الإنسان يقف على حقيقة وجوده ووجود من حوله, ووجود هذا الكون كله وما فيه, توقفه على مصدر التديُّن ومستحق العبودية, وتشبع فطرته عن كل تساؤلاته حول هذه الحياة وما بعدها في العالم الآخر, وتثير في فطرته ما كان كامنًا في التوجه إلى خالق هذه الحياة, وإلى الرغبة الكامنة في الالتجاء إليه, والخضوع والعبادة له، وهذه الفطرة هي التي يشعر الإنسان بواسطتها عظمة الله, والرغبة في الخضوع له, والدليل على ذلك أنه لم يخل جيل من الأجيال على امتداد التاريخ من التديُّن والتوجه إلى الله, وهذا ما أخبر الله -عز وجل- عنه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 3، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 34.

_ 1 سورة الواقعة، الآيات: 58-74. 2 سورة الطور، الآيات: 35-37. 3 سورة فاطر، الآية: 24. 4 سورة الإسراء، الآية: 15.

وهذا هو الحق, ولا اعتبار لكلام الشاذّين الساقطين الملاحدة الممسوخين الذين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1، الذين حاربوا الدين النصراني ظانّين أنه الدين الصحيح, ثم غمرتهم النشوة بانتصارهم عليه, وما علموا أنهم إنما حاربوا دينًا مزيفًا كاذبًا من وضع الطغاة المشركين عبَّاد الصليب وأحبار الشيطان, ولهم أن يحاربوا كل الجاهليات ومن ضمنها هذا الدين, ولكنهم انحرفوا عن مكان المعركة الحقيقية فحاربوا النور, وغيَّروا الحقائق لينفسوا عن غيظهم وحقدهم الشديد على طغاة الكنيسة الذين أذاقوهم ألوان الذل وشر الاستعباد؛ وليحققوا أيضًا ما تطمح إليه اليهودية العالمية, ويجب أن يعلم أولئك الأشرار أنه ما من فترة مرَّت من فترات حياة البشر إلّا وكان توحيد الله نورًا وضَّاء لم يخل منه مجتمع في يوم ما من أيام حياة البشر, لم يكن للفن ولا للفنانين فيه أي شيء يذكر, ولا للفكر أو التجربة أيّ دخل كما يدَّعون. وأمَّا ما يذكره الملاحدة من أن الإقطاعيين والرأسماليين كانوا يستخدمون الدين كمخدِّر للجماهير ليرضوا بالذل والظلم عليهم في مقابل أن يعشوا في جنة الله في الآخرة, فهذا أمر قد يكون وقع كذلك. ولكن ما هي العلاقة بين الدين الحق وبين فجور طغاة الكنيسة وجشع الرأسماليين المرابين، بل كان الأولى أن يوجَّه اللوم إلى أولئك الذين رضوا بهذا الحال ولم يبحثوا عن مخرج لهم, أو عن صحة تلك الوعود من أولئك المنتفعين, أو أن يخاصموا

_ 1 سورة النمل، من الآية: 14.

أولئك الأشرار الجشعين, ويصلحوا الأمور, لا أن يحاربوا الله ورسله, وهل يجب أن يلغى الدين لمجرد استغلال أولئك الأشرار له، وما هو ذنب الدين إن لم يحكم ولم يستشر, بل وضع في قفص الاتهام دون رحمة أو لين, ولماذا يحمل تبعة أخطاء الآخرين بل أخطاء أعدائه، وما هو السر في أن الملاحدة لم يرجعوا إلى الدين حتى بعد أن تبيَّن لهم أن طغاة الكنيسة والرأسماليين والإقطاعيين سلبوا الناس عقولهم وتفكيرهم باسمه وهو منهم برئ. إن الجواب واضح, وهو أن الملاحدة قد بيَّتوا النية لمحاربة الدين ليستغلوا الناس هم أيضًا باسم الإلحاد الذي سموه تقدمًا ورفاهية, وغير ذلك من الأسماء الكاذبة, وقدسوه ليحلَّ محل الكنيسة, والكل ظالمون ومخادعون.

المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الالحادية على العداء للدين

المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الإلحادية على العداء للدين لقد قامت الحضارة الأوروبية الحديثة على بغض الدين بسبب عنف الكنيسة المتمثِّل في الدين حسب مفهومهم، كما تقدَّم بيان ذلك، وبدلًا عن التماس الحق أفاق أقطاب الفكر والحضارة الغربية على عداوة دين باطل وخرافات سخيفة وعقول تمثل الدين بزعم طغاة الكنيسة, وهم أبعد ما يكونون عنه وعن الرحمة وعن فهم الحياة فهمًا صحيحًا. وكان مما شجَّع الملاحدة على إحلال نظرياتهم محلّ الدين إضافةً إلى طغيان رجال الكنيسة تلك الخرافات والتناقضات التي ملئت بها عقيدة النصارى -المحرَّفة, وإلى ما زعموه من وصولهم إلى النتائج التي تدل على هذا حسب افتراءاتهم في اكتشافاتهم الحديثة؛ مثل: زعمهم أنَّ مادة العالم أزلية، أي: إن العالم ليس في حاجة إلى إله خلقه, وقد كذَّب الله هذا الافتراء في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وافتراضهم لا يقبله العقل ولا يقره الواقع, وقد ألف العلماء من المسلمين ومن غير المسلمين المؤلَّفات التي لا تُحْصَى في الرد على هذا الزعم. ومما قاله الملاحدة في تعليلهم لنشأة الكون: "إن المادة كانت منتشرة في الفضاء الفسيح, ثم أخذت تتجمَّع على نفسها بفعل قوى التجاذب بين أجزائها، وفيما كانت الماة تتجمَّع كانت حرارتها ترتفع, والضغط داخلها يزداد حتى انصهرت المادة انصهارًا كليًّا, وأصبح الكون عبارة عن كتلة هائلة من المادة تبلغ حرارتها بلايين الدرجات, ويبلغ الضغط فيها ما لا يمكن

تصوره، عند هذا الحد لم تستطع المادة أن تحافظ على تماسكها, فحصل الانفجار الكوني الهائل, وتشتت المادة في الفضاء الفسيح, وانخفضت حرارتها بسرعة, وبدأت المجرات بالتكوُّن, ثم نشأت الشموس والأقمار والنجوم والكواكب مع مرور الزمن, ونشأ هذا النظام الفلكي المتناسق, واستمرت عملية النشوء الذاتي حتى انتهى الأمر إلى ظهور الحياة والإنسان بطريقة ذاتية، كل هذا تَمَّ بسبب ذلك الانفجار"1. ولا شكَّ أن القارئ يدرك مدى تكلُّف هذا المفهوم وسخافته، فمن أين لهم هذه المعلومات المفصَّلة {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} . ثم يقال لهم: كيف وجدت هذه المادة؟ ومن الذي أوجدها؟ ثم كيف نشأ هذا النظام البديع المتناسق الجميل عن طريق ذلك الانفجار, مع أنه لا يمكن أن يقال بتجمع أجزاء المادة في حال وجود الضغط الشديد إلى أن يكتمل منها وجود هذا الكون، فكيف لم تنفجر من أول تجمع الضغط؟!! ومن الذي منعه من الانفجار وأبقاه مشحونًا بقوته إلى أن انفجر فجأة, وبهذا التنظيم البديع؟!! إن سلَّمنا جدلًا ما زعموه من تلك الخرافة, وكذلك تجمُّع المادة من طبيعة واحدة متجانسة, ثم تتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر تمايزًا يصل إلى حد التناقض. هذا بعيد, فلو وضعت ماءً في إناء مثلًا, فإنه لا يمكن أن ينقسم هذا الماء إلى قسمين, قسم منه حار شديد الحرارة, وقسم منه بارد شديد البرودة ثلج".

_ 1 الإسلام والعلم ص28-29.

كذلك افتراضهم أنَّ الكواكب والقمر والشمس وسائر المجرَّات نشأت بهذه البساطة الساذجة افتراضٌ يأباه العقل والواقع, "فلو انفصلت الأرض عن الشمس بنفسها لعادت وارتطمت بها مرة ثانية, ولو انفصلت كتلة ما إلى أجرام كثيرة فلا يمكن أن تكتشف الأجرام بنفسها ما هي المسارات التي لا يحصل فيها ارتطام, فضلًا عن الوصول إليها"1. لأن هذا لا بُدَّ أن يكون من قوة قاهرة مدبِّرة, والأجرام لا تعرف هذا التقدير العجيب في أحجامها وفي مساراتها, بل وفي بقائها أو نهايتها. {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فأيهما أحقّ بالتقديس؛ الله رب العالمين {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 3، أم المادة الصماء التي لا تملك لنفسها وجودًا وعدمًا، فاتضح أن استناد أهل الإلحاد على نظرياتهم السخيفة في عدائهم للدين إنما هو جهل منهم وعناد أجوف, ورغبة جامحة منهم في العلوّ والسيطرة ونشر أفكارهم الخيالية المستكبرة.

_ 1 انظر الإسلام والعلم, ص28-31. 2 سورة يس، الآية: 40. 3 سورة الأعلى، الأية: 2-3.

المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع

المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع؟ ما أصدق هذه العبارة "العلم يدعو إلى الإيمان"1، فكلاهما صديقان لا يفترقان, وكل واحد يؤيد الآخر، حتى إذا ظهر قرن الشيطان في أوروبا جعلوهما عدوين لا يجتمعان، ولقد خدع الملاحدة كثير من الناس وجعلوهم يتصورون أن بين الدين وبين العلم خصومة وتنافرًا شديدًا؛ لينفذوا إلى تجهيل الدين وأهله, والتنفير منهما على حد سواء، ولقد كان من المفترض أن لا يرد هذا التساؤل في الأذهان لوضوح العلاقة بين ما يدعو إليه الدين من إعمار الأرض والتفكير السليم وعبادة الخالق, وبين ما يصل إليه الإنسان بتفكيره وتجاربه من المخترعات التي تعود على البشر بالخير والسعادة وبالنفع العام أو الخاص, أو قد تعد بالضرر أيضًا إلّا أنه حينما فسدت فطر كثير من الناس ووجد أعداء كثيرون للدين حملوا لواء مقاومته والتشكيك في صلاحيته للبشر، ولم يتوانوا عن إلصاق كل ما يجدونه من التهم ضده, بدى واضحًا أن هذا السؤال أصبح أمرًا واقعًا ولا بُدَّ من الإجابة عنه وبيان الحق فيه, وإزالة ما علق به من الأوساخ التي خلَّفتها أفكار الملاحدة. بل ويجب على كل قادر أن يحتسب الجواب عن هذا التساؤل للضرورة الملحة التي وصل إليها حال كثير من المسلمين من تشويش أفكارهم وعمق

_ 1 أحث القارئ الكريم على قراءة كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان" تأليف العالم الأمريكي "كريسي موريسون"، ترجمة الأستاذ: "محمود صالح الفلكي".

الحيرة في أنفسهم من هذا المد والجزر من قِبَلِ المدافعين والمهاجمين, فقد انقسم الناس تجاه هذا التساؤل إلى مواقف عديدة؛ فمنهم من جرفه تيار الإلحاد المادي فذهب ينعق بأنه لا يمكن أن يجتمع الدين والعلم في مكان واحد, فيجب إزالة الدين من طريق العلم؛ ليكمل العلم دوره في بناء حياة البشر السعيدة، ومنهم من ذهب إلى أنه يجب أن يبقى أمر الدين, ولكن يكون بعيدًا عن العلم, ويبقى محجورًا عليه الوقوف أمام العلم, فلا يقارن بالتقدم المادي, ولا يصح أن يذكر ذلك فيه, فالدين في جهة والعلم ومخترعاته في جهة أخرى لعدم تلاقيهما. ومنهم من وقف حائرًا, فقد حصر صدره لا يدري أي جانب يغلب, ولا أي طريق يسلك, فهو قابل للانفجار في كل لحظة, وللميل إلى أي جانب, وعداوة ما عداه. ولو وُجِدَ التثقيف الصحيح والتوجيه المخلص لما كان الأمر يستحق أكثر من مجرَّد التفاتة بسيطة, ذلك أن أمر العلاقة بين الدين وبين العلم ومخترعاته التجريبية من السهولة بمكان معرفتها, لولا أن الأمر وراءه من بيَّت النية لتعميق الهوّة بينهما, وإشعال نار الحرب والعداوة بن هذين الحميمين قبل أن يفسد الملاحدة ما بينهما من صلات, ولن يتم لهم ذلك بأي حال مهما زخرفوا القول فيه. نعم لا يوجد أيّ دين صحيح يعارض العلم وما يوصل إليه من مكتشفات نافعة، أمَّا الإسلام بخصوصه فإنه من أشدّ أصدقاء العلم والمتعصبين له

وقد بدأ بالحث عليه قبل القول والعمل, فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 1. وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 2. ومعنى هذا أنه لا نزاع بين العلم وبين الدين في الإسلام, وإنما يتصور وجود النزاع بينهما في الأديان الباطلة القائمة على الخرافات وأمزجة أصحاب الجاه؛ كالدين النصراني الذي وقف ضد العلم بكل قسوة وشراسة؛ لأن القائمين عليه كانوا يخافون أن يذهب نفوذهم من قلوب العامَّة الذين استعبدهم رجال الدين النصراني شرَّ استعباد باسم الدين. أما الدين الإسلامي فليس فيه شيء من هذا, ولهذا سار العلم والدين في اتجاه واحد هو إثبات عظمة الله -عز وجل- وخلقه لهذا الكون وما فيه, ووجوب التفكر فيه, والاستفادة من كل تجربة يمر بها الإنسان, وقد بدأ العلم مع الإنسان منذ أن خُلِقَ أبو البشر آدم -عليه الصلاة والسلام, فقد علَّمه الله الأسماء كلها, وشرَّفه بالعلم بمعرفتها, فبأي دليل بعد هذا يقول ضلَّال الملاحدة أن بين الدين والعلم جفاءً أو نفورًا {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 3.

_ 1 سورة محمد، الآية: 19. 2 سورة العلق، الآيات: 1-5. 3 سورة الكهف، الآية: 5.

إن العلم والدين يلتقيان في أمور كثيرة, وكلاهما يسيران في اتجاه واحد, ويعززان قوة الانسجام مع القوانين الكونية وكشف حجب الحقائق كما هي, وفق طريقين متكاملين: طريق يشرعه الله, وطريق يجتهد فيه العقل على ضوء الشرع, كما أرشده الله تعالى إلى ذلك، وإذا كان ما ردده البعض من وجود التضاد بين العلم والدين بسبب سلك رجال الدين في النصرانية وطغيانهم, وموقف بعض رجال العلم أيضًا من الثورة على كل شيء يتعلق بالدين عن جهل منهم, وبغضاء لكل دين, فلا يجوز أن يكون هذا الحال سببًا للتحريش بين العلم والدين والتنافر بينهما {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} 1. لقد نشأ العلم في محض أبيه الدين2، ولقد مرَّت بالبشر حضارات تلو حضارات, والتمسك بالدين والالتجاء إلى الإله العظيم خالق هذا الكون هو شعارهم ومصدر اعتقادهم قبل أن توجد موجة الإلحاد الحديث الذي أفرزته المظالم والاستعباد الكنسيّ للبشر على أيدي رجال الدين الكنسي وغيرهم ممن استغلَّ الدين لاستعباد الآخرين, فجاء الرد عارمًا لم يفرق بين الثرى والثريا, وغير عابئ بما مضت عليه القرون والأجيال التي لم تجد أيّ تضاد بين العلم والدين على مدى تلك السنين الطوال قبل ظهور شياطين الماركسية الحاقدة, ومما يذكره التاريخ الإسلامي أن رجالًا بلغوا القمَّة في الاكتشافات العلمية دون أن يحسوا بأي تصادم مع الدين، بل كان الأمر على العكس, كانوا يحسون أن اكتشافاتهم لم يهتدوا إليها إلّا من

_ 1 سورة الأنعام الآية: 152. 2 لا نزاع بين العلم والدين ص13.

واقع توفيق الله لهم, ومن تسمكهم بدينهم، وكانت سببًا لزيادة يقينهم وإيمانهم بالله، ومن أولئك العلماء ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وجابر بن حيان متكشف الصودا الكيماوية وحامض الكبريتيك بعد تقطيره، والرازي مكتشف زيت الزاج وعدَّة أمراض، وابن الهيثم مكتشف علم البصريات، والفرغاني واضع علم المثلثات، والكندي مؤلف في البصريات، والإدريسي مثبت كروية الأرض، ومثله ابن حزم، وجابر ابن حيان أبو الكيمياء، وابن البيطار في الصيدلية، وابن الحفيد والعدوي ... وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم في هذا المقام1. وإنهم جميعًا كانوا يتعبَّدون الله بعلمهم, ويتقربون إليه به, دون أن يشعروا بأي انفصال، فضلًا عن تصوّر وجود نزاع بين العلم والدين، بل كثيرًا ما كان بعضهم فقهاء في علوم الدين ورجال علم في الوقت نفسه2. ولم يجدوا في بحوثهم ما يشير بأدنى إشارة إلى النزاع بين الدين والعلم, كلما اكتشفوا شيئًا جديدًا بتجاربهم قالوا: الله أكبر {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 3، مع يقينهم بأنَّ ما خفي عليهم من علوم هذا الكون أمور لا تحصى, ولا يعملها إلّا الخلَّاق العليم.

_ 1 انظر لزيادة المعلومات عن هذا الجانب كتاب "موسوعة عباقرة الإسلام في الفيزياء والكيمياء والرياضيات جـ4 تأليف. د. رحاب خضر عكاري, وكتاب "عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب" تأليف: محمد غريب جودة, وكتاب: "تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه" تأليف: عبد الحليم منتصر. 2 لا نزاع بين الدين والعلم ص20. 3 سورة الأعراف، الآية: 43.

والذين يقولون: "إن قضية العصر الحديث ضد الدين" تشتمل مقالتهم على جانبين متناقضين في آنٍ واحد, فبينما يرى العقل الحديث من ناحية أن الدين مجموعة عقائد لا يمكن إخضاعها للتجربة العلمية، ولذلك تعتبر العقيدة عملًا شخصيًّا للأفراد, نجد في نفس الوقت أن جيشًا من مفكري هذا النهج الفكري يدعون إلى الكشوف العلمية الجديدة قد أبطلت العقائد الدينية"1. وهذا القول غاية في التناقض إذا ما دام الدين يستحيل إثباته بالعقل أو التجارب العلمية الحديثة، كما قرروه، فيقال لهم حينئذ: إن رفض الدين يجب أن يكون مستحيلًا أيضًا بهما؛ لأنه فوق مستوى العقل, ولا تحيط به التجارب العلمية, فكيف تنكرون شيئًا واقعًا تجهلون معرفته بالتجارب التي أثبتم أنها عاجزة عن معرفة الدين. ويقال لهم: وهل التجارب أيضًا وصلت إلى معرفة كل شيء؟ كلَّا، فمفهومهم هذا يناقضونه بأنفسهم حين يتلمَّسون الأدلة على بطلان الدين, ومعارضتهم للعلم بزعمهم أنهم وصلوا إلى ذلك عن طريق العلم والتجارب الحديثة, والسبب في تناقضهم هذا يعود إلى أن هؤلاء الملاحدة "لا يريدون أن يستغلَّ المؤمنون بالدين نفس المقاييس التي استخدمها هؤلاء لرفضه؛ لأنه لو تمكَّن المؤمنون من استغلالها استغلالًا طيبًا لاضطر المعارضون إلى أن يسلّموا على الأقل بأن الدين قائم على أسس معقولة"2.

_ 1 الدين في مواجهة العلم ص14. 2 المصدر السابق، ص14.

وهؤلاء الملاحدة لم يدرسوا الدين ولا ذكروا ذلك، وإنما الذي حملهم على نكرانه هو ما شاهدوه في نتائج أبحاثهم في معاملهم من أمور يزعمون أنها تبطل الدين حسب تفسيرهم لها, وهو فهم قاصر ومتعمَّد للانفلات من الإقرار بالدين. والذي يريد الباطل ويصر عليه لا يتورَّع عن التحريف في الأدلة ومغالطة الحقائق, خصوصًا حينما يخلوا من رادع الدين والضمير الطيب. فإنَّ الذين يتصورون وجود نزاع بين العلم وبين الدين إنما يتصورون صورة منحرفة غير حقيقية؛ إذ لم يكن ذلك النزاع الموهوم محلّ شك في تاريخ الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها المجيد, ذلك أن العلم والدين كانا جزءًا لا يتجزء من ثقافة الإنسان منذ وجوده الأول, وسيظل كذلك إلى نهاية وجوده في هذه الأرض, ومن اعتقد خلاف ذلك فإنما يعبِّر عن جهله الذي لن يجد عليه أي دليل غير بغضه لرجال الدين النصراني وطغيانهم, وهو ليس بدليل؛ لأن تحميل الدين وموقفه من العلم خطأ طغاة الكنيسة ظلم صارخ؛ سواء أكان أولئك هم طغاة الكنيسة, أو خرافيات بعض البشر, فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وقد عرف القارئ أن تاريخ البشر مليء بالأمثلة التي تدل على الاحترام المتبادل بين الدين والعلم, سواء أكان ذلك في العالم الإسلامي أو في غيره من أصحاب الديانات المختلفة, إلى أن أفاقت أوروبا من سباتها, ورأى المفكرون وأصحاب العلوم التجريبية مدى ما تعيشه الشعوب الأوروبية من تجهيل معتمد من قِبَلِ رجال الكنيسة, في الوقت الذي كان العلم يشقّ طريقه وسط ظلمات النصرانية المحرَّفة, وظهور صدق نظرياته ومكتشفاته في مقابل خرافات الكتاب المقدَّس وتعليلاته ونظرياته المتخلفة.

إن العلم في أشد الحاجة إلى الدين لبقائه علمًا نافعًا ومفيدًا, فإذا تخلَّى عن الدين فإنه يكون علمًا شريرًا ضرره أكثر من نفعه, فإذا اجتمع العلم والدين كانا طائرًا يرفرف بجانحيه في غاية السعادة. وشهادات العلماء من المسلمين ومن غير المسلمين تؤكّد بوضوح أن العلم والإيمان جزء لا يتجزأ, ولا عبرة بكلام من يريد الدس بينهما, أو التفريق بينهما, أو جعلهما أو أحدهما قابلًا للإلحاد, فإنه كما عرفت لا علاقة بين العلم والإلحاد, فإن العلم أمر قائم بنفسه يدل على أمور قد يقابلها الإنسان وقد يحاول مغالطتلها والتفلّت مما تدل عليه. والإلحاد أيضًا أمر حادث عن تصورات خاطئة لم يكن نتيجة لعلم أو لنتجية بحوث صحيحة, بل الحق أنَّ العلم يدعو إلى الإيمان واليقين بوجود رب العالمين, كما شهد بذلك كبار علماء الطبيعة أنفسهم. ويبقى الإلحاد أمرًا شاذًّا لا سند له من العلم, ولا دليل عليه من العقل.

المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله تعالى وتقدس

المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله تعالى وتقدس مدخل ... المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله -تعالى وتقدَّس لولا حلم الله -عز وجل- لما استطاع أحد أن يبحث قضية وجود الله تعالى أو عدمها, وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد, فوجوده -سبحانه وتعالى- يتمثَّل بوضوح في كل هذا الوجود, من أصغر مخلوق إلى أكبره, بل الإنسان نفسه من أكبر الأدلة على وجود الله الحكيم الخبير, وإلّا فأي موجود يستطيع أن يزعم أنه هو الذي أوجد نفسه, وعلى الصورة التي أرادها أو قدّر لنفسه رزقها وأجلها ومصيرها بعد ذلك. لقد أقدمت فئة شاذَّة استهواهم الشيطان وماتت قلوبهم وإن كانوا أحياء يرزقون, فذهبوا يعترضون على وجود الله تعالى وهم الملاحدة, وقد مهَّد لهم الطريق علماء الكلام الذين وصفوا ربهم بأنه ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا داخل العالم ولا خارجة ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه ... إلخ، ولقد كثرت الردود على الملاحدة وعلى علماء الكلام الباطل في هذه القضية الخطيرة, بما لا يكاد يحتاج إلى زيادة. إنني أتضايق كثيرًا من سرد الأدلة على وجود الله تعالى, وهو ما أعتقد حصوله في قلب كل إنسان مؤمن بالله سليم الفطرة, لم تنحرف به شياطين الإنس والجن، إن الله -عز وجل- أجلّ وأعظم من أن يحتاج وجوده إلى شخص من الناس يثبته أو يجادل خصومه لإثبات وجوده. وفي اعتقادي أن الذي يبحث في إثبات وجود الله تعالى دون حاجة ملحة أن يجب أن يؤدَّب تأديبًا بليغًا, ومن ابتلي بالخوض في ذلك فعليه أن يستشعر عظمة الله تعالى وأن لا يخوض في هذه القضية الهائلة إلّا بقدر الحاجة، والله المتسعان, ونعوذ بالله من وساوس الشيطان. وما دمنا في دراستنا للشيوعية وتكذيب مزاعهما فإنني أحب أن يقف القارئ على الحقائق التالية, واللبيب تكفيه الإشارة.

هل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى

- هل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى؟ تقدَّم أنه لا يمكن أن نجد إنسانًا سليم العقل والفطرة يعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- يخفى على عباده, فالعقل والكون كله, وجميع المخلوقات من نامٍ وجماد، وساكن ومتحرك، كلها تدل على وجود الله -سبحانه وتعالى, وتشهد بقدرته وحكمته ولطفه وعظمته جميع ذرات هذا الكون, ولهذا فلسنا في حاجة إلى الإتيان بحشود الأدلة على وجوده, فهو أمر فطري، وفي كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يشفي ويكفي لمن عنده أدنى شك في وجود المولى -عز وجل، ومن العجيب أن يستدل الملاحدة على إنكار وجود الله تعالى بأدّلة هي أقوى الأدلة على وجوده وخلقه لهذا الكون وتدبيره له، ولعل الذين جرأوا فنفوا وجود الله -عز وجل- إنما حملهم على هذا ما وجدوه من أوصاف الإله سبحانه في التوراة والأناجيل من أنه شاخ وكبر وينسى ويأكل ويشرب ويمشي ويجلس ويحزن ويندم ويهمّ بالشيء ثم لا يفعله. نعم إن مثل هذا الإله من السهل جدًّا إنكاره, خصوصًا إذا أضفنا إليه

الصفات التي وردت له في التملود من تعلقه ببني إسرائيل, وتدليله لهم, وغضبه أحيانًا عليهم, ثم يضرب وجهه ويندم ويبكي ويلعب مع الحوت الكبير, ويقص شعر حواء ... إلى آخر تلك الصفات التي تدل على سقوط المتصف بها فضلًا عن اعتقاد احترامه. ولكننا لا نبحث عن هذه الإله, ولا عن الإله الذي اعتقدت الشيوعية فيه أنه يحابي الظلمة, أو أنه لا وجود له إلّا في أذهان الرجعيين؛ لأنه غير منظور وغير موجود, متجاهلين أنه ليس كل موجود حتمًا يرى، كوجود الهواء الذي نحسّ به ولا نراه، ووجود العقل في الإنسان؛ إذ نفرق بين المجنون وبين العاقل، ووجود الروح؛ إذ نفرق بين الحي والميت, وأمثلة لا تحصى، إننا نؤمن بإله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, إله يعلم السر وأخفى, إله خلق فسوى, وقدَّر فهدى, وأخرج المرعى, فجعله غثاء أحوى، إننا نؤمن بهذا الإله الحق, ونكفر ونلعن من يشك في وجوده. ولقد تيقَّن كل إنسان أنه لم يخلق نفسه, وأن فاقد الشيء لا يعطيه, فلا المادة ولا الطبيعة خلقت أحدًا؛ إذ هي مخلوقة مقهورة، كما أنه لا يجرؤ أحد على أن يقول: إنه يخلق شئًا ما, أو أنه خلق نفسه أو غيره, وقد استيقن بهذا حتى أكابر الملاحدة, وما جحد من جحد منهم وجود الله إلّا عنادًا واستكبارًا وبغضًا للكنيسة ورجالها, ولقد صاح المفكرون في أوروبا وشهدوا على النصرانية والإلحاد بالضلال, وهذه الشهادة الصادرة على ضلال هذه الطوائف من أهلها لهي أكبر دليل على أنَّ الإلحاد لا استقرار له ولا مكان له, وإنما هو زوبعة عارضة ستنتهي إن شاء الله كما انتهت سائر الأفكار الباطلة, ومن الذين شهدوا على ذلك:

"رسل تشارلز أرنست" أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرانفكورت بألمانيا؛ حيث قال: "لقد وضعت نظريات عددية لكي تفسّر نشأة الحياة من عالم الجمادات, فذهب بعض الباحثين إلى أن الحيَّة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمُّع بعض الجزيئيات البروتينية الكبيرة, وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات فد سدَّت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات, ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلِّم به أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين, ومع ذلك فإنَّ من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشرة للعالم المتطلع، على أن مجرَّد تجميع الذرات والجزيئات من طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية، وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة, فهذا شأنه وحده, ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلِّم بأمر أشدَّ إعجازًا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذي خلق الأشياء ودبرها". "إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها, وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته, شهادة تقوم على الفكر والمنطق, ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيمانًا راسخًا"1. ويقول "إيرفنج وليام" الحاصل على الدكتوراه من جامعة أيوا، وأخصائي وراثة النباتات، وأستاذ العلوم الطبيعة بجامعة ميتشجن: "إن العلوم لا تستطيع أن تفسِّر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها

_ 1 الله يتجلَّى في عصر العلم، ص77.

والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد, كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا -بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها- كيف تتجمَّع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة"1. ويقول "ألبرت ماكومب ونشستر" المتخصص في علم الأحياء: "ولقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة, وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون، انظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق, فهل تستطيع أن تجد له نظيرًا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة, إنه آلة حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار بالآلاف من التفاعلات الكيمائية والطبيعية, ويتم ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية، فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقّدة، إن الله لم يصنعها هكذا وحدها, ولكنه خلق الحياة, وجعلها قادرة على صيانة نفسها وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل, مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعينها على التمييز بين نبات وآخر, إن دراسة التكاثير في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارًا لقدرة الله"2. وهناك عشرات بل مئات الأدلة على خالق هذا الكون ومدبره، وشهادة هؤلاء العلماء، كل في مجال تخصصه، شهادة حق والحق مقبول من أي شخص كان.

_ 1 الله يتجلى في عصر العلم، ص52. 2 المصدر السابق ص105-106.

والملاحدة وهم ينكرون وجود الله تعالى ولا يعترفون بأنه هو الخالق المدبر لهذا الكون وما فيه, هم أقل وأذلّ من أن يصلوا إلى قناعة بإنكارهم, وهذا إجرام شنيع, ولم يكتفوا به, بل أضافوا إلى هذا الإجرام زعمهم أن العلم هو الذي دلَّ على هذا، وأن البديل عن الله تعالى هي الطبيعة التي قالوا عنها بأنها هي التي خلقت السموات والأرض والإنسان والنبات وسائر المخلوقات, فكيف تَمَّ ذلك حسب تعليلهم؟ قالوا: "إن وجود هذا الكون وما فيه إنما هو نتيجة حركة أجزاء المادة وتجمعها على نسب وكيفيات مخصوصة بوجه الضرورة بدون قصد ولا إدراك، وبسبب تلك الحركة أخذت تتجمَّع أجزاء المادة المختلفة الأشكال على كيفيات وأوضاع شتَّى, فنتجت تلك المتنوعات". هذا هو مبلغهم من العلم، أنَّ كل شيء وُجِدَ بطبيعته عن طريق الصدفة والحركات التطورية دون قصد ولا إدراك على أن هذه الطبيعة التي يزعمون أنها تفعل كل ما تريد, نجد أن بعضهم لا يحترمها, بل يتعمد الإساءة إليها وإهانتها بأنواع السباب واللمز في إرادتها وقوتها ووفاءها. وإليك ما قاله وزير خارجية أكبر دول العالم وأقواها في عتابه المرير وتهكمه بالطبيعة حينما لم تتحقق لهم آمالهم وما يطلبونه منها, فقد قال "كولون باول"، و"ريتشارد باوتشر": "إننا ندين تخلف الثلج عن موسم الأعياد راجيًا الطبيعة الأم أن تعالج هذه المسألة" إلى أن قال: "لا يمكن لشيء أن يبرر إفساد هذا الحدث الهائل، إننا ندعو الطبيعة إلى القيام بمبادرة فورية", وقال: "إننا نعتبر استمرار الطبيعة في رفض القيام بواجباتها

حيال الدول المتحضرة عملًا استفزازيًّا وغير إيجابي, لذلك ندعو الطبيعة إلى اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية بغية تساقط كمية مناسبة وذات مصداقية من الثلوج", وإذا أردت التعليق على هذا الكلام السخيف المملوء بالكبرياء والعنجهية فاقرأ ما كتبه عبد الزراق السيد عيد بعنوان: "أمريكا تكشف عن وجهها القبيح, وتعلن الحرب على الطبيعة" في مجلة التوحيد1. فيا ترى ما يقصد بالطبيعة الأم؟ إنه إلحاد وكفر وسخف, فما هي الطبيعة الأم التي يتحدث عنها هؤلاء ويقولون: إنها هي التي تخلق وتحيي وتميت وتزرق من تشاء وتمنع من تشاء، وتخاطب بتلك اللهجة الحارة المفتقرة إلى الأدب, فمن المعورف أن الطبيعة لا تخلو عن: 1- إمَّا أن تكون هي نفس الذوات الموجودة في الكون، من الحيوان والنباتات والجماد، وهذه كما يرى القارئ لا يصح الاستغاثة بها ليتساقط الثلج في موسم الأعياد؛ ليلهو ويلعب بها طغاة اليهود. 2- وإمَّا أن تكون هي صفات الأشياء الموجودة في العالم من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك, وهذه أيضًا كذلك لا تملك لنفسها وجودًا ولا عدمًا. ومهما كان الجواب فإنه خطأ وجهل شنيع حين يستند إيجاد هذا الكون البديع عن طريق طبيعة لا تعقل ولا تملك لنفسها ولا لغيرها ضرًّا ولا نفعًا.

_ 1 مجلة التوحيد ص21, السنة الثلاثون, العدد الثاني, عشر ذو الحجة 1422هـ، وقد نقل النص المذكور عن جريدة الخليج في عددها الصادر بتاريخ 7/ 11/ 1422هـ نقلًا عن وكالات الأنباء.

فهل يتصور أحد أن من لا يعقل يخلق من يعقل؟ وهل يستطيع شيء لا إرادة له ولا غاية له أن يخلق كائنًا له إرادة وغاية؟ إن الإنسان كائن عاقل مدبر, وله إرادة وهدف وغاية,. والطبيعة ليست لها تلك الصفات, فهي ناقصة, فهل يمكن للناقص أن يوجد الكامل؟ إن هذا الكون محكم متقن {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1. الكواكب محكمة بإتقان، والبحار لا يطغى بعضها على بعض، والحيوانات لا تلد إلّا نفس الحيوان من جنسها، والشجرة لا تنبت إلّا نفس الشجرة، وقس على هذا سائر ما تراه في هذا الكون، فالإنسان هو الإنسان، والبقرة هي البقرة, والكبش هو الكبش, أينما اتجهت في هذه الأرض مما يدل على أن الخالق واحد, فكيف تستطيع الطبيعة أن تدير هذا الكون بهذه الدقة المعجزة التي تشهد آياتها في كل ما حولنا من شئون الكون والحياة أن لها خالقًا قاهرًا؟! ثم يقال للملاحدة أيضًا: هل لأجزاء المادة إرادة وقصد في تنويع المخلوقات في العالم من نجوم وكواكب ومعادن ونباتات وحيوانات وبشر؟ كيف يفترض إنسان أن يكون كل هذا وُجِدَ بفعل ذرَّات الطبيعة الصماء؟ إن المادة لا عقل لها ولا بصر كي ترتّب المخلوقات وتنظم شئونها، ولا منطق لها كي تفكر في مستقبل الأشياء وما تحتاجه, وهذا يعين أن "القول

_ 1 سورة يس، الآية: 40.

بخلق الطبيعة للوجود لا يخرج عن تفسير الماء بالماء, فالأرض خلقت الأرض, والسماء خلقت السماء, والأصناف صنعت نفسها, والأشياء أوجدت ذواتها؛ فهي الحادث والمحدث, وهي المخلوق والخالق في الوقت ذاته، وبطلان هذا القول بيّن, وهو لا يخرج عن أمرين: 1- إمَّا الادعاء بأنّ الشيء وُجِدَ بذاته من غير سبب, وهذا قول فاسد. 2- وإمَّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائن واحد, فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل, وهو تهافت وتناقض لا يحتاج لشرح. لو كانت الطبيعة هي الخالق كما يقولون؛ لكانت قوانينها واحدة, المريض لا بُدَّ أن يموت, والصحيح لا يمرض, والنبات الذي يسقى بماء واحد لا يختلف طعم ثمره؛ لكننا نرى العكس, أحيانًا نرى المريض يشفى, والصحيح يموت بدون مرض أو علة, ونرى الزرع والنبات في ساحة واحدة يمتص غذاء في الأرض من تراب واحد, ويسقى بماء واحد, ولكن الثمر قد يختلف في المذاق والألوان والروائح والمنافع والمضار، فهل هذا كله من صنع الطبيعة الصمّاء أو المادة العمياء؟ وهل هذا هو العلم الذي يقولون به؟ إن هذا هو الجهل بعينه وليس بالعلم, ثم تأمَّل قول الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

_ 1 سورة الرعد، الآية: 4.

وقوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} 1. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} 2. وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3. تأمَّل هذه الآيات ودلالتها إذا أردت أن تخرج من ظلمات الجهل إلى نور

_ 1 سورة النحل، الآية: 13. 2 سورة الحج، الآيتين: 65-66. 3 سورة النمل، الآيات: 60-64.

العلم واليقين, فهذا هو الحق, وهذا هو البرهان الذي يجب أن نطأطأ له الرءوس والعقول إجلالًا وخضوعًا، وأين هذه البراهين من ترهات المنحرفين الضالين عُبَّاد المادة. ومما يجدر بك الاطلاع عليه ما سجَّله العلماء التجريبيون من الإيمان بالله تعالى عن قناعة ويقين من خلال بحوثهم وتجاربهم في اكتشافاتهم العلمية. وإليك أمثلة رائعة تدين الإلحاد القائم كذبًا على ما سموه علمًا من واقع ما كتبه بعض العلماء التجربيين: جاء في كتاب "الله يتجلّى في عصر العلم" ثلاثون مقالة لمجموعة من كبار العلماء الأمريكيين في تخصصات علمية مختلفة؛ في علوم الكون والحياة من كيمياء وفيزياء وتشريح وأحياء، تذكر كلها أنواعًا من الأدلة العلمية على وجود الله, بعد أن أدهشهم ما توصلوا إليه من ملاحظات, وما شاهدوه من عجائب خلق الله. لكن يجب قبل أن نسوق شواهد من أقوال هؤلاء العلماء أن نؤكّد في البداية أننا لا نسوق هذه الشواهد لحاجتنا إليها, فعندنا في كتاب الله ما يكفي ويشفي, ولكننا نسوقها لنرغم بها أنوفًا فتنها التقدُّم العلمي في هذا العصر, فظنوا أن العلم يقتضي عدم الإيمان بالله تعالى, ولنرد بها على الذين يزوعمون أن علماء الطبيعة -أو كثيرًا منهم- ملحدون؛ لأن الإيمان يجافي العلم، بزعهم، وإليك تلك النماذج الرائعة: يقول "فرانك ألن" عالم الطبيعة البيولوجية: إذا سلَّمنا بأن هذا الكون موجود, فكيف نفسِّر وجوده ونشأته؟ هناك احتمالات أربعة للإجابة على هذا السؤال:

1- فإمَّا أن يكون هذا الكون مجرَّد وهم وخيال، وهذا يتعارض مع ما سلَّمنا به من أنه موجود. 2- وإمَّا أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم, وهذا مرفوض بداهة. 3- وإمَّا أن يكون هذا الكون أزلي الوجود ليس لنشأته بداية, وهذا الاحتمال يساوي ما يقوله المؤمنون بالله من أزلية الخالق، لكن قوانين الكون تدل على أن أصله وأساسه مرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة, فهو إذًا حدث من الأحداث, ولا يمكن إحالة وجود هذا الحديث المنظَّم البديع إلى المصادفة عقلًا، ولذلك فهذا الاحتمال باطل. 4- وإمَّا أن يكون لهذا الكون خالق أزلي أبدعه, وهو الاحتمال الذي تقبله العقول دون اعتراض, وليس يرد على إثبات هذا الاحتمال ما يبطله عقلًا، فوجب الاعتماد عليه. وقال "جون كليفلاند كوثران" عالم الكيمياء والرياضيات: تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة, والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادّة ليست أبدية، ومعنى ذلك أيضًا أنها ليست أزلية؛ إذ أنَّ لها بداية, وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة ولا تدريجية, بل وجدت بصورة فجائية، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه المواد, وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بُدَّ أن يكون مخلوقًا, وهو منذ أن خُلِقَ يخضع لقوانين وسنن كونية محدَّدة ليس لعنصر المصادفة بينهما مكان. فإذا كان هذا

العالم المادي عاجزًا عن أن يخلق نفسه, أو يحدد القوانين التي يخضع لها, فلا بُدَّ أن يكون الخلق قد تَمَّ بقدرة كائن غير مادي متَّصف بالعلم والحكمة. وقال "إدوارد لوثر كيسيل" أستاذ الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو: "يرى البعض أن الاعتقاد بأزلية هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد بوجود إله أزلي، ولكنّ القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي، فالعلوم تثبت بكل وضوح أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا, ولا يقتصر ما قدمته العلوم على إثبات أن لهذا الكون بداية, فقد أثبت فوق ذلك أنه بدأ دفعة واحدة منذ نحو خمسة بلايين سنة1، ولو أنَّ المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بنفس روح الأمانة, والبعد عن التحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرَّروا عقولهم من سلطان التأثّر بعواطفهم وانفاعالاتهم، فإنهم يسلمون دون شك بوجود الله, وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسّر الحقائق، فدراسة العلوم بعقل متفتح تقودنا دون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله2. وإذا كان وجود الله تعال يتجلّى بهذا الوضوح, فما الذي حمل الملاحدة على إنكاره؟! وما هي الشبهات التي تعلقوا بها؟

_ 1 من أين له هذا التحديد؟! ونحن نصدقه في أن للكون بداية لكن لا نعرف تحديدها. 2 انظر لتلك النصوص كتاب "الله يتجلى في عصر العلم", وهذه النصوص نقلًا عن كتاب "صراع مع الملاحدة حتى العظم" ص115-120, وانظر بقية المقالات في هذا الكتاب.

شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى

- شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى: تذكر الجواب بالإضافة إلى ما سبق فيما يلي: 1- دليل الجاذبية: من شبههم على نفي وجود الإله الخالق والحافظ لهذا الكون ما زعموه بعد اكتشاف نظام الجاذبية في علم الفلك من أنَّ هذا الكون محفوظ بقانون الجاذبية ومتماسك بسببها لا بقدرة إله خالق, ولا شك أن هذا الفهم تافه سخيف؛ إذ يقال لهم: هل نظام الجاذبية ينفي وجود إله خالق قادر، أم أنه على العكس يدل على وجود الإله -سبحانه وتعالى- الذي خلق الجاذبية ذاتها؛ لتعمل وفق ما أراد وقدَّر لا وفق ما تريد هي؛ إذ لا إرادة لها ولا وجود لها من نفسها, فهي قد وجدت بعد أن لم تكن، وهذا الترتيب العجيب في الكون يفوق كل قدرة, ويفوق كل تدبير, لقد حيَّر العقول وتضاءلت دون إدراكه الأفهام، فكيف ينسب هذا كله إلى الجاذبية المحدثة المخلوقة؟ كما أن كثيرًا من الملاحدة -كما تقدَّم- يعترفون بعجزهم عن الوصول عن طريق الأبحاث والتجارب إلى معرفة أسرار كثير من الحقائق المشاهدة في هذا الكون, وهذا الإقرار يلزمهم أن يقروا أيضًا بحقيقة الإله، بل وحقيقة الدين؛ لأنه يشتمل على كثير من الحقائق التي لا يصل العقل إلى معرفتها لا عن طريق البحث ولا عن طريق التجارب, فكيف ساغ لهم الإيمان بأن لبعض الحقائق المشاهدة حقائق باطنية عجز العلم عن معرفتها, بينهما ينفون وجود الإله وحقيقة الدين؛ بحجة أن الدين قائم على أمور لا تدرك حقيقتها الباطنية عن طريق البحث والتجربة، هذا تناقض واضح وتفريق بلا مستند.

2- دليل الارتقاء: من شبههم التي استندوا عليها في إلحادهم في الله تعالى قضية الارتقاء: أي: ارتقاء المخلوقات وتطورها في خلقها تلقائيًّا, وهذه القضية رغم وضوحها في الدلالة على وجود الله تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه, إلا أنهم نظروا لها من جانب آخر بعيد عن الفهم السليم والعقل المستقيم, فزعموا أن أنواع الحياة قد وجدت نتيجة لعمل الارتقاء لافتراضهم أنه على فرض وجود خالق لهذه الحياة بزعهمهم, فلا يمكن أن يخلقهم على هذا الترتيب من الصغر إلى الكبر في الإنسان والنبات, بل يخلقه دفعة واحدة, كل صنف في كمال شكله بدون ترتيب يخضعها لعمل تطوري طويل الأمد حسب زعمهم, وأن المخلوقات تطورت بنفسها بفعل المادة, وأنها تولدت عن بعضها للتشابه بينها, وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي تحيط بها. والواقع أنه ما من مؤمن بالله -عز وجل- إلّا وهو يعلم أن وجود الخلق على هذه الحالة إنما يعود إلى مشيئة الله وقدرته, ولتنتظم الحياة على سنة واحدة, ولن تجد لسنة الله تبديلًا. وأن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل المادة إن هو إلّا خرافات سخيفة, ولو كان ذلك صحيحًا لأدى التطور إلى أن تصبح الذرة جملًا أو فيلًا ضخمًا, فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز ذلك لها؟

وقد مرت ملايين السنين ولا تزال الذرة هي الذرة, والجمل هو الجمل, والإنسان هو الإنسان, لم يتطور من قرد إلى إنسان إلّا عند "داروين" الملحد الذي أصبحت نظرياته محل سخرية العقلاء من الناس وضحكهم منها, وإذا كان الارتقاء بمعنى أن الإنسان والحيوان يكون في أوله صغيرًا ثم يكبر شيئًا فشيئًا إلى أن يكتمل, فهذا أمر حقيقي مشاهد وهو يدل على قدرة قوية تربيه إلى أن يصل إلى درجة الاكتمال, لا يدل هذا على أنه ليس له إله رحيم مدبر. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على هذا التطور والارتقاء في حياة الإنسان والحيوان والنبات, ولو كان للطفل المولود أسنانًا حادَّة من أول يوم لما أرضعته أمه, ولو ولد شابًّا لما وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله, ولو كانت الشمس تسطع حرارة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها وفي غروبها كل يوم, ولكن الملاحدة قلبوا الأمر, فجعلوا ما كان دليلًا واضحًا على قدرة الله تعالى ووجوده جعلوه دليلًا على إنكار وجوده؛ لأن قلوبهم غلف وقد طبع الله عليها. وأمَّا ما زعموه من أن الكائنات الحية نشأت عن التولُّد, وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها, فإنه يقال لهم: إن هناك حقائق مسلَّمة لا يعارضها عقل ولا دين بحال، بل يؤكدها الدين والعقل بدلالتها على الحقائق العظيمة, ولا يصح أن يقال أنها دليل على صحة نظرية التطور التي يثبتها الملاحدة وهي: 1- الكائنات الأدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات الأرقى كما يذكر الباحثون,

فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية وجد متأخرًا, بينما النباتات وجدت أولًا, فإن الله -عز وجل- خلق السموات والأرض, وخلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها وما يحتاج إليه البشر حين يوجدون عليها. 2- يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية كالإنسان والقرد, ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى, لم يتحول القرد إلى إنسان, ولا الإنسان إلى قرد. 3- الكائنات الحية تملك قدرة على التكيف مع الظروف "ظهور المناعة لمقاومة الأمراض, تغير لون الجلد لمقاومة الحرارة وأشعة الشمس ... إلخ1. ويقال لهم في توجيه ذلك: إن كل هذه الثوابت لا يعارضها الدين أو العقل, وهي من أوضح الأمور على قدرة الله تعالى الذي منحها هذه الصفات, فإن ترتيب وجود الكائنات يعود لمشيئة الله تعالى كذلك, ولا يلزم من وجود الكائن الأوّل أن الكائن الذي يليه تولَّد عنه، فإنه الإنسان مع وجوده متأخرًا لا يصح أن يقال أنه تولّد عن النبات الذي سبقه في الوجود وإلّا لزم التسلسل, فإنه يقال لمن يريد إثبات ذلك: والنبات أيضًا عن أيّ شيء تولَّد؟ فلو قال: من اجتماع أجزاء المادة, يقال له: وأجزاء المادة أيضًا من أي شيء تولدت؟ وهكذا, فلا يجد جوابًا في النهاية إلّا التسليم رغم أنفه شاء أم أبى. وأما وجود التشابه بين الكائنات الحية فلا يعني هذا أيضًا أن كل كائن

_ 1 "الله يتجلى في عصر العلم"، ص38.

تولّد عن شبهه, فلا يصح أن يقال: إن القرد تولّد عن الإنسان, أو الإنسان تولّد عن القرد, لما بينهما من تشابه, لا يمكن هذا إلّا في نظرية "دارون" وقد عرفت سخافتها، بل إن العلم والدين كليهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات الحية مع بعضها البعض, أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها, إنما هو دليل قاطع على أن مصدر الإيجاد واحد وهو الله تعالى, ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن بعض لما كان هناك فرق في مفاهيم العقلاء بين أن تقول لإنسان: أنت قرد أو كلب أو شجرة, وبين أن تقول له: أنت إنسان أو قمر أو وردة؛ لحصول التولّد الذي زعمه الملاحدة بنظرياتهم السخيفة, إذا ما دامت الكائنات كلها تولّدت عن بعضها البعض فلا يبقى بينهم أيّ فارق حقيقي. وأما وجود القدرة للكائنات الحية على التكيف مع الظروف التي تحيط بها, فإن العلم والدين يثبتان ذلك ويرجعان السبب إلى قوة مدبرة رحيمة هي قوة الله تعالى وقدرته ورحمته, فإن تلك القدرة على التكيف إنما هي رحمة من الله تعالى لبقاء ذلك الكائن حينًا منتفعًا بذلك التكيف على مقاومة انقراضه إلى الوقت الذي يشاء له موجد تلك القدرة, فأي دليل للملاحدة في هذا على عدم وجود الله تعالى الخالق لهذه الكائنات, والموجد لها هذه القدرة على التكيف في معيشتها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1.

_ 1 سورة الحج، الآية: 46.

3- قانون العلة أو المعلول أو التفسير الميكانيكي للكون: من المسلَّم به عند العقلاء وكل المؤمنين بالله تعالى, أن الله تعالى يوجد الأشياء عند وجود أسبابها في أغلب الأمور, إلّا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب, وحينما اكتشف علماء القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر أنَّ الكون يسيره قانون العلة والمعلول طار الفرح بمفكري الملاحدة, وظنوا أنهم وجدوا ضالَّتهم المنشودة في التدليل على عدم وجود الله تعالى؛ لأن كل الأشياء ناتجة عن علة ومعلول, فلا ضرورة حينئذ إلى القول بوجود إله موجد؛ لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث بسبب علل مادية دون تدخل خارجي, غير وجود العلة والمعلول التي تغني عن القول بوجود الله -عز وجل, وهو ما يسميه بعض الباحثين "التفسير الميكانيكي للكون", ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لم يزعموا أنه بديل عن الله تعالى, بل صرحوا بأنه سنة الله في الخلق أن يجري الأمور بواسطة أسباب وعلل, فقد قال "نيوتن": "هذا هو أسلوب الله في العلم, فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل"1. ولكن الملاحدة وهم في نشوة فرحهم ببناء مذهبهم الإلحادي جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم ونظريتهم إلى الدين بعين البغضاء وأنه بزعمهم ينافي العلم، وأنَّى لهم أن يكون هذا الاكتشاف دليلًا على عدم وجود الإله الخالق الذي قدّر الأسباب وضرب الآجال وفق سننه في هذه الكون, التي هي أجلى من الشمس لولا عناد الملاحدة واستكبارهم, وقد

_ 1 الدين في مواجهة العلم ص42.

أشار الله تعالى إلى هذا في القرآن الكريم حينما أُمِرَت مريم بأن تهز النخلة وهي في حالة تمام الإعياء والتعب في وقت الولادة؛ ليفهم الناس أن الله تعالى يجري الأمور بأسبابها. وقد وجد الفلاسفة الملاحدة صفعة أبطلت نشوتهم بهذا الاكتشاف الميكانيكي, وذلك حينما عجز العلماء عن الإتيان بتفسير للأسباب الكامنة في بعض القضايا مع وضوح آثارها, دون أن يعرفوا وجه العلة والمعلول فيها, وعلى سبيل المثال: فإن الراديوم عنصر مشع وإليكترواناته تتحوّل إلى حطام تلقائيًّا بعمل الطبيعة, وقد أجرى العلماء تجارب لا حصر لها لكي يصلوا إلى سبب إشعاع الراديوم, ولكن كل التجارب انتهت إلى الإخفاق، ونحن نجهل حتى اليوم سبب تحطُّم إليكترون ما وخروجه عن نظامه النووي في الراديوم, وأيضًا فنحن نشاهد المغناطيس وهو يشد نحوه الحديد، وقد أقام العلماء نظريات كثيرة لشرح هذه الظاهرة, ولكن أحدهم كتب يعلق على هذه النظريات قائلًا: "إننا لا نعرف لماذا يشد المغناطيس الحديد نحوه, ربما لأنَّ الله أصدر إلى المغناطيس أمرًا بذلك"1. ولقد علَّل العلماء في الماضي لبعض القضايا بتعليلٍ ظنوا أنه صواب, فإذا به عند التحقيق تعليل سطحي، بل لا يعرف الإنسان إلى الآن لماذا ينام حين يستلقي في الليل على سريره, ما هو السبب لذلك؟ ولقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون التعليل ليس حقيقة مطلقة بالمفهوم الذي افترضوه في القرن التاسع عشر، بل لقد قرروا

_ 1 الدين في مواجهة العلم ص43.

أخيرًا "أن نظام العالم لا يخضع لقانون العلة والمعلول الناتج عن الصدفة المحضة, وإنما هناك عقل ذو وعي يدبر شئون العالم بالإرادة". وكان سائدًا عند الجهَّال في القرون الأولى أن هناك آلهة مشتركة في تدبير هذا الكون, وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبرها, فقد تغيرت هذه النظرة الشركية إلى ما هو أقبح منها, وهو الإلحاد المادي الحديث القائم على القول بالصدفة وطبيعة أجزاء المادة وانتظامها وانفجارها, مما لم يقل به المشركون قديمًا. 4- دليل المادة: ومن أدلتهم على نفي الإله واعتبار الدين خطرًا يضاد العلم قولهم: إن أساس هذا الكون كان مادَّة شبه غبار منتشر, ثم حدث أن تحرَّك حركة لم تنته إلّا بتكوين هذا الكون وما فيه في انفجار هائل، ولكن يقال لهم: إن هذا التفسير مضحك سخيف, هل تستطيعون أن تثبتوا مَنْ الذي كوَّن ذلك الغبار؟ ومن الذي جمعه؟ ومن كان السبب في تلك الحركة التي جعلت الكون كله يتفجر ويتكون على نحو ما هو عليه؟ إنهم لا يجدون لهم جوابًا غير أن الصدفة هي التي فعلت ذلك, وهو افتراض بدون أساس ناتج عن خيال كاذب وفهم قاصر، ويقال لهم: إذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة, أليس من الممكن والحال هكذا أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله؟ وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة

تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؛ إذ الشمس تجري لمستقرٍّ لها, والنجوم زينة للسماء, والقمر ضياءً, والرياح لواقح, والسحب تحمل المطر, والليل في وقته, والنهار وفي وقته، كلها تجري لصالح الإنسان ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقت إلّا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم, وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة. "إن التفسير الميكانيكي يعجز هنا عن إقرار أن سببًا واحدًا خلق الكون, وأن هذا السبب نفسه يقوم بتدبير شئونه في نفس الوقت، وأن هذا التفسير نقيض وجود إلهين اثنين، فمن ناحية يقدّم لنا هذا التفسير نكتة قانون الصدفة؛ لشرح الحركة الأولى التي وقعت في المادة الراكدة، ولكن هذا التفسير من ناحية أخرى يعجز عن تقديم تفسير مقنع لتسلسل الحركة بواسطة تلك الصدفة نفسها التي وقعت "صدفة" للمرة الأولى, لذلك وجب البحث عن إله آخر لشرح هذا الجزء الأخير من التفسير الميكانيكي"1. وقد وجدوه بزعمهم في مبدأ التعليل الذي زعموا فيه أن الكون ابتدأ في الوجود إثر حركة المادة وانفجارها الذي سبق ذكره وعرفت سخافته وبطلانه. وحينما قام الإلحاد وأنكر الإله على أساس أن الكون خاضع لتلك القوانين المعنية, وأن كل حدث له سبب, وأن قوانين الارتقاء قد تكلّفت بإتمام كل موجود, وأن الكون كله تكون من مادة حسب سخافاتهم, فلا حاجة إلى القول بوجود إله خلّاق مدبر لهذا الكون, وبالتالي أخذ عظماء الكفر والإلحاد يتبجحون

_ 1 الدين في مواجهة العلم، ص47.

بما توصَّلوا إليه في اكتشافاتهم من تلك القوانين الطبيعية, فراحوا يتفنَّون في إطلاق كلمات الإلحاد, وأنه بإمكانهم أن يخلقوا الإنسان والكون لو توفَّرت لهم المواد, والتي زعموا أن الكون خلق منها, فقال الفيلسوف الألماني "كُونت": "ائتوني بالمادة وسوف أعلمكم كيف يخلق الكون منها"1. وقال "هيجل": "إنني أستطيع خلق الإنسان لو توفَّر لي الماء والمواد الكيمياوية والوقت"2. وقال "نيتشه": "لقد مات الإله الآن"2. وهكذا زعموا أن العلم أوصلهم إلى أن الكون إنما وُجِدَ من مادة, وأنه لا أثر للخالق فيه، وبالتالي فلا حاجة مع وجود هذه العلوم والاكتشافات إلى القول بالخالق, وسبحان العليم الحليم. وقالوا متعالين: لقد كان الإنسان القديم يعتقد أن خروج الكتكوت من البيضة إنما كان بقدرة إلهية, أما اليوم فقد علمنا أن الكتكوت بعد 21يومًا يظهر على مناقرة قرن صغير يستعمله في تكسير قشرة البيضة فيخرج منها, ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.4.

_ 1 الدين في مواجهة العلمص64. 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 الدين في مواجهة العلم، ص66. وقد قال "كرس موريسون" في بيان هذا اللغز في كتابه المفيد "العلم يدعو إلى الإيمان" ص147: "لقد حل إلى الآن لغز أيتهما جاء قبل الآخر, الدجاجة أم البيضة؟ إنه لم يكن هذه ولا تلك, بل جاءت قبلهما خلية أولية, والبيضة ليست إلّا مجرد غذاء للجنين".

إنهم حين يقفون عند هذا الحد في خلق الكتكوت تفوتهم أمور كثيرة لا يستطعيون الجواب عنها, هي أشد من تكسير البيضة؛ إذ يقال لهم: كيف يظهر هذا القرن؟ ومن الذي منحه هذا القرن الضروري لخلاصه من البيضة؟ فإذا قالوا: إنها الطبيعة، فيمكننا أن نقول لهم: إن هذه الطبيعة التي تقولون بها هي سنة الله تعالى في تكوين خلقه, ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وأنها هي الله تعالى الخالق المدبر، فيصبح الخلاف في وجود الله بين المؤمنين والملحدين خلافًا لفظيًّا. ومهما اكتشف العلماء من اكتشافات، فإنها تبقى في حاجة إلى بيان القوة المؤثرة الخفية فيها الذي حاد عنها الملاحدة {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1. وكلام الله هو الدليل القاطع، فقد أثبت الله تعالى أن الإنسان مهما كابر عقله، فإنه يعلم في قرارة نفسه أن الشيء لا يُوجِدُ نفسه، وأن العدم لا يوجِد الموجودات المشاهدة المنتظمة في أكمل وأدق نظام، والمادة التي جعلت إلهًا في نظرهم هي نفسها مخلوقة مربوطة حتى وإن وصفوها بصفة الإله. ومن الملفت للنظر أن هذا الإله المختلق -المادة- لا يصفونه بالحكمة ولا القصد ولا التدبير, وهذا ما أكَّده "دارون" و"إنجلز" و"ماركس" ومن سار على منهجهم في زعمهم فوضوية المادة, على أن هذا الإلحاد الذي قرره "دارون"، و"ماركس"، و"إنجلز" لم يكن وليد أفكارهم, وإنما أنشأته ظروف كثيرة قبلهم؛ منها: الحياة الدينية في أوروبا حينما انفصلت

_ 1 سورة النمل، الآية: 14.

عن كل شيء يشير إلى الدين الصحيح, وحل محله طغيان رجال الدين الكنسي الذي نتج عنه بغض الدين وبغض مصدره, وهو ذلك الإله المنحاز إلى الطبقات الثرية وإلى رجال الدين والحكام, ولا شأن له بالفقراء والمغلوبين على أمرهم. ومما لا ريب فيه أن هذا المفهوم الباطل للدين والإله أمر لا بُدَّ أن يولد عنه الإلحاد متى اقتنع الشخص بصحته، كما أنَّ استغلال الطبقات القوية للفقيرة وإذلالهم باسم ذلك الإله الذي صوره قوة عاتية إلى جانبهم فقط, يعذب من أغضبهم, ويرضى عن من أرضاهم, من شأنه أن يساعد على نشأة الإلحاد أيضًا. ومن هنا شعر الجميع بوجوب الهرب من وجه هذا الإله المتّصف بتلك الصفات إلى إله آخر له كل صفات الإله الأوّل, إلّا أنه لا يتعرَّف بالكنيسة ولا يبارك ظلم طغاتها, ولا يلزم الناس تجاهه بأي التزام, وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم, لا سلطان لأحد عليهم إلّا الهوى والشهوات, لقد استراح من أراد الهرب من إله الكنيسة إلى الإله الجدي المسمَّى "الطبيعة" ما دام بينهما هذا الفارق الكبير في السلوك, وتفنَّن بعد ذلك هؤلاء الهاربون في إضفاء الصفات على هذا الإله الذي تخيَّلوه وأحبّوه وسموه الطبيعة. ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه إله وهمي متخيَّل لا حقيقة له إلا من خلال أنه ملاذ وجداني أرحم من إله الكنيسة, حتى وإن كان غيبيًّا, وكانوا كلما وقفوا على شيء يدل على الإله العظيم رب العالمين سارعوا إلى تفسيره لصالح هذا الإله المتخيّل مخالفة أن يقعوا مرة أخرى في قبضة رجال الكنيسة

وصدق عليهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1 أو قول الشاعر: كالمستجير من الرمضاء بالنار إن الملاحدة هربوا عن اسم الله والاعتراف به إلى اسم آخر أعطوه نفس القدرة ونفس صفات الإله الحقيقي دون أي مبرر إلّا الهرب من إله الكنيسة, دون أن يرجعوا إلى عقولهم وإلى سؤال أنفسهم بصراحة وصدق, هل هذا الإله الذي جعلته الكنيسة ستارًا لطغيانها هو فعلًا الإله الحقيقي؟ أم أنه إله مخترع وورقة رابحة في أيدي الطغاة؟ إنهم لو طلبوا الحقيقية سيجدونها واضحة صريحة, وسيجدونها في مكان لا يقل كراهتهم له عن كراهيتهم للكنيسة, إنه الإسلام الذي سيبيّن لهم لو أرادوا الحق الصحيح الإله الحقيقي الرحيم العادل بين عباده.

_ 1 سورة النمل، الآية: 14.

- تعقيب: إن المؤمنين بالله تعالى لا يسندون وجود الخلق إلّا إليه وحده, فهو الخلاق العليم الذي بيده ملكوت كل شيء, إذا أراد شيئًا أوجده فورًا بكلمة "كن", وهذه القدرة لا يملكها إلّا هو وحده، وأما الملاحدة الذين يسندون هذه القدرة إلى المادة, وأن المادة تخلق المادة فهو كلام يدل على جهلهم وعنادهم, فإن العقول لا تقبل مثل هذا, حتى عقول الملاحدة لا يمكن أن تقتنع به؛ لأن المادة ذاتها هي أثر من أثار القدرة الإلهية ولا تخلق شيئًا، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد. إن إتقان هذا الكون وترتيبه هذا الترتيب العجيب, والإنسان وكيفية خلقه, لا يمكن أن تفعله تلك المادة التي تصوروها, والتي هي باعترافهم لا حكمة ولا تدبير لها. إنه لمن عجائب الأمور أن يسندوا خلق الكامل إلى الناقص, والقوي إلى الضعيف، المادة صماء ناقصة والإنسان عاقل مفكر, وفاقد الشيء لا يعطيه, فإذا لم يوجد لها عقل ولا تفكير ولا حكمة, فمن أين لها أن توجد في بعض مخلوقاتها هذه الصفات، ومن التحكم الباطل قولهم: إن المادة تطورت مرة واحدة في وقت من الأوقات فأنشأت هذا الكون, فإنه يقال لهم: وما الذي منعها ان تتطور مرة أخرى فتغيّر وجه هذا الكون, وما الذي أوقفها بالنسبة لخلقها الإنسان عن هذا الحد, وعند هذه الصفات المشتركة بين جميع الناس, فإن قانون التطور -على حسب ما قرروه- لا حدَّ له؛ إذ يمكن للإنسان أن يتطوَّر إلى أن يصبح مثل الجبل, فلماذا وقف عند حدٍّ معين في جسمه وعمره

وصفاته ومعيشته، لقد أرادت النظريات الإلحادية أن تقنع الإنسان عن طريق المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ أنه من صنع الطبيعة, وأن وجوده ترتَّب أولًا على الماد, وعليها بنى تاريخه، ثم كالوا الشبهات لإقناعه, إلّا أنه لم يقتنع ولن يقتنع, وهو على حق في هذا, فإن الله تعالى إنما أعطى الإنسان العقل لكي يعرف به ربه وخالقه, وقد فطره الله على ذلك, ولكن الملاحدة جعلوا همَّهم الوحيد وشغلهم الشاغل هو نشر الإلحاد وإقصاء الدين بأي ثمن يكون، وبأي شبهة تقال، وبأية وسيلة, المهم في كل ذلك هو إبعاد أذهان الناس عن خالقهم -جل وعلا, وقد تمثلت محاربتهم لله -عز وجل- حتى في التسمية, فإن استبدالهم اسم الله باسم الطبيعة ثم باسم المادة, الغرض منه إضعاف الرباط النفسي اللاشعوري باسم الله في النفس, فلا تحس بعد تسمية الله بالمادة أو الطبيعة أي شوق أو احترام للإله العظيم؛ إذ أن الطبيعة لا تستحق التوقير والاحترام الذي يستحقه الله لو بقي اسمه -جل وعلا. والواقع أن الملاحدة يهدفون من محاولتهم صرف أذهان الناس عن وجود إله بعد نشر الرذائل بكل صورها، يهدفون إلى استعباد الناس وجعلهم حميرًا يركبونهم ويسوقونهم كما يشاءون؛ لأن الناس حينئذ سيكونون كالبهائهم لا يحسون بأية قيمة لهم, مثلهم مثل سائر الحشرات التي خلقت لتأكل وتشرب وتتناسل ثم تموت، ذلك لأن مصدر التكريم للإنسان هو الله -عز وجل- الذي فضَّله واستخلفه في الأرض وجعله مكرمًا سيد البر والبحر, فإذا تَمَّ إبعاد هذا المفهوم عن الإنسان سهل بعد ذلك أن يتقبل الإهانات بشتَّى أنواعها, بعد أن يفقد آدميته ويرى نفسه بعد ذلك لا فرق بينه وبين الخنازير والكلاب وسائر الحيوانات والحشرات, فتموت فيه الهمَّة والشهامة والأنفة وسائر الصفات الجميلة؛ إذ لا فرق بين البهائم وبين الناس إلّا سموّ الأخلاق, والقيام بالتكاليف الشرعية, والإحساس بأهميته.

المبحث الخامس عشر: روافد أخرى

المبحث الخامس عشر: روافد أخرى مدخل ... المبحث الخامس عشر: روافد أخرى عبارات استعملها الملاحدة هي بمثابة روافد لإلحادهم, وفسَّروها وفق ما تمليه عليهم أهواءهم، كالتقدمية، والعصرية، والرجعية، والتحررية, وغيرها من الأسماء الجوفاء، وكانت لتلك الأسماء الجديدة أثر ظاهر إبان قوة الشيوعية وفي عهد "بريجنيف" بخصوصه, حتى إن الناس كانوا يطلقونها بصفة هستيرية, فإن لها في ظاهرها بريقًا جذابًا, ولكنها فارغة جوفاء في حقيقتها, كانت بمثابة مادة صنعت للاستهلاك أو الترويج. وكان الذي يتَّصف بها ينتشي زهوًا حتى إذا ماتت الشيوعية إلى غير رجعة ذبلت تلك الأسماء ولم تعد هي العلامة الفارقة بين الإنسان المتطور, أو العصري، أو التقدمي، أو الإنسان المتخلف أو الرجعي, أو غير ذلك من الصفات المنفّرة التي أطلقوها على كل من لم يعتنق شيوعية "كارل ماركس", فما هي تلك الأسماء وما المقصود بها؟

الإنسان التقدمي

1- الإنسان التقدمي: الإنسان التقدمي أو المتطوّر قيل في تعريفه: إنه هو الإنسان المهذَّب في سلوكه، والواقعي في حكمه، والصادق في التعبير عنه1. وإذا كان هذا التعريف صحيحًا فإنه لم يقف تفسير التقدمي عند هذا المفهوم, فقد أصبح يطلق على نواح مختلفة عند الناس هي أبعد ما تكون عن هذا المفهوم, ففي جانب العقائد يطلقون التقدمية على الإنسان الذي ينبذ التدين والتقاليد وانفلت من كل ارتباط بالفضائل الدينية, واتخذ الإلحاد مذهبًا مثل الأحزاب التي أطلقت على نفسها صفة التقدمية في البلاد العربية وفي غيرها, وفي جانب المظاهر صاوا يطلقون على الشخص أنه متقدّم حينما يهتم بمظهره الشخصي, خصوصًا حينما يقلد الإفرنج في لباسهم وسلوكهم, وصار عند الكثير من المغفَّلين أن البنطلون الضيق، ورباط العنق "الكرفتة" كما يسمونها, وجمع المرأة لأنواع المكياجات, ولباسها إلى نصف الفخذين, وكشفها الرأس, وترديد بعض عبارات الغربيين يعتبر تقدمًا، وهي من الأمور التي انعكست الحقائق فيها, وقد نجح الغربيون في الإيحاء إلى الرجل والمرأة أنه ليس بينهم وبين التقدم إلّا ركوب تلك المسالك، وليت شعري أيّ تطور أو تقدم في هذه المظاهر المنفِّرة القائمة على الفجور وتقليد أعداء الدين, ولهذا صارت هذه التسمية -تقدمي- عند العقلاء منفّرة لما علق بها من هذه المفاهيم الخاطئة, فأي تقدم في أنواع القصَّات وجميع أنواع المكياجات ومحكاة الساقطين في الحضارة الغربية ونبذ الحياء والحشمة ومحاربة الله ودينه.

_ 1 التطور والدين، ص14.

الرجعية والجمود

2- الرجعية والجمود: أما الرجعية فقد قيل في تعريفها: إنها هي الميل في السير إلى الوراء, والعزوف عن متابعة الحركة نحو اليقظة التي يتمّ عندها تكامل استعدادات الإنسان الطبيعية. وأما الجمود: فهو الوقوف في الحركة عند مرحلة من مراحل تطور الإنسان في كماله وتمام نمو طاقاته البشرية1. هكذا قيل في تعريفهما, ولكن ماذا كان يقصد بها أعداء الأديان؟ لقد اتخذ الملاحدة ومن تبعهم هذا المصطلح نقطة انطلاق في سبّهم للإسلام والمسلمين, ولقد قالوا منكرًا من القول وزورًا, فالإسلام والمسلمون بريئان من هذا الوصف, بل أعداء الإسلام أحق به, وسلوكهم وأفكارهم هي عين الرجعية والجمود, فإن المتتبع لأقوالهم عن نشأة الإنسان وتطوره لو قارنها بأقوالهم اليوم عن تمدحهم بالتطور لرأى العجب في تناقضهم, وكذلك ما يرمون به المسلمين من الرجعية والجمود يكذبهم حال المسلمين الذين يطبقون الإسلام قولًا وعملًا, كيف كانت سعادتهم وسعادة شعوبهم في تطبيقهم لأحكام الشرعية الغراء التي أنزلها الله كاملة شاملة صالحة إلى يوم القيامة, لا تحتاج إلى أحد ينقص منها أو يزيد فيها, وفي العقوبات المقدَّرة كحد السرقة والزنا والقتل والقذف وغير ذلك, خير شاهد على أن الإسلام شريعة كاملة شاملة متطورة يمتد ظلها إلى يوم القيامة. وحينما كان الملك فيصل -رحمه الله- ينادي بالتضامن الإسلامي2، وعودة المسلمين إلى تحكيم شرع الله -عز وجل, والتمسك بسنته, رماه أعداء

_ 1 التطور والدين، ص19. 2 قد كانت الدعوة إلى التضامن الإسلامي بمثابة جريمة كبرى عند الثائرين من العرب وغيرهم, وكانت أكثر الإذاعات العربية وغيرها تتفكه بالنيل من تلك الدعوة. واليوم وبعد أن ظهرت حقيقة ضعف المسلمين وهوانهم على الأمم بدءوا يتكلمون عن اتحاد المسلمين وتضامنهم, وأنه لا قيمة لهم إلّا من خلال إثبات وجودهم الإسلامي, كما حدث في المؤتمر الذي يعقد في ماليزيا الآن، وعسى أن يفيق المسلمون ويراجعوا دينهم بصدق وإخلاص, خصوصًا وقد كشَّر النصارى عن أنيابهم على المسلمين, وتصريحاتهم بسبِّ الإسلام وحضارته.

الإسلام عن قوس واحدة بالسبّ والشتم بالرجعية والتخلف, فكان يقول في خطبه المؤثرة: "إن كان التمسك بالإسلام رجعية فنحن نفتخر بأننا رجعيون", ولقد اتضح ولله الحمد بعد أن انجلت الحقيقة عن زيف الشيوعية والدعوة إلى القومية أو الوطنية أو سائر النعرات الجاهلية أنَّ الإسلام هو الذي سيبقى على امتداد تاريخ البشر، وأن الميل في السير إلى الوراء والعزوف عن متابعة الحركة التي توصلهم إلى تكامل استعداداتهم الطبيعية هو أخص صفات المذاهب الفكرية الضَّالة الجامدة بخلاف الإسلام, فإنه دين شامل ومتطور, بيَّن كل ما يتعلق بوجود الإنسان منذ أن أوجد الله آدم إلى خلق ذريته, وما يمرون به من المراحل المتطورة في حياتهم, منذ استقرار أحدهم نطفة في بطن أمه إلى خروجه إلى الدنيا, ثم انتقاله منها إلى أن يصل إلى الجنة أو النار, مع بيان كل ما يحتاج إليه في صلاح دينه ودنياه وتعامله معه نفسه, ومع الآخرين في أدق تنظيم وأعدله.

الخرافة والتقاليد

3- الخرافة والتقاليد: الخرافة هي الاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر ولا يلتئم مع المنطق السليم والواقع الصحيح1. ولكن أصحاب المادة يريدون بالخرافة: المعاني الروحية ومبادئ الدين وتعاليمه, بعد أن ضربوا بالدين والتعاليم خلف ظهورهم, قال أحدهم: أَبَعْثٌ ثم حَشْرٌ ثم نَشْرٌ حديثُ خرافةٍ يا أمَّ عمرو وظنوا أن ما هم فيه من الإلحاد هو الطريق الصحيح, بينما الدين في نظرهم المعكوس هو الخرافة, وسموا خرافاتهم في خلق الإنسان وفي وجود هذا الكون علمًا, مع أنها نظريات أثبت الواقع بطلانها, ولا ينكر أحد أنه يوجد خرافات كثيرة في العالم, وأن على العاقل أن يميز فيها بين الخرافات الفعلية والدعايات المغرضة المضللة. أما التقاليد: فهي جملة العادات التي هي لمجتمع معين, وهي إمّا تقاليد خيِّرة طيبة, وإما تقاليد سيئة باطلة, ولا تعرف التفرقة بين هذين المسلكين إلّا بعرضهما على الشرع الشريف، فما كان موافقًا للشرع فهو الحق وهو المطلوب، وما كان مخالفًا للشرع فهي تقاليد جاهلية يجب الحذر منها, وما أشد معركة التقاليد, وما أوسع انتشارها, تموت تقاليد وتحيا أخرى على تعاقب الأجيال ومر الدهور, وعلى المسلم أن يكون متزنًا في تقبُّل مختلف التقاليد, فكم من تقليد قضى على نور العلم والمعرفة وأفسد الأخلاق والعقائد, وكم من حق سُمِّيَ خرافة، كما أنَّه يجب عليه الانتباه إلى ما يلقيه أعداء الإسلام من الهجوم على الشريعة الإسلامية تحت ما يسمونه محاربة التقاليد البالية تنفيرًا للناس عنها, كما أنه يجب على المسلم أن يعلم أنه لا مكان في الإسلام للخرافات ولا للتقاليد السيئة الباطلة؛ إذ أن الإسلام إنما جاء لمحاربة كل أنواع الجاهليات والخرافات والتقاليد الباطلة الضارة.

_ 1 التطور والدين، ص22.

الحرية والكبت

4- الحرية والكبت: الحرية هي الانطلاق في الرأي والاعتقاد وفي القول وفي الفعل في حدود طاقة الإنسان1. والكبت: هو الحد من الانطلاق في الرأي والاعتقاد والقول والفعل والاتصال بالغير. - حقيقتهما عند الماديين: وأما عند أصحاب المادية فالحرية يراد بها الانطلاق من كل قيود القيم والمثل والمبادئ التي دعى إليها الدين, وهي عودة إلى الحياة البهيمية من أوسع الأبواب, ولكن تحت تسمية التطور والتجديد, وكذلك الكبت عندهم إنما يراد به تحطيم كل أنظمة الشريعة والانفلات عن الآداب والأخلاق التي دعا إليها الدين, أما موقف الدين منهما: فمما لا ريب فيه أن جميع الأديان -وخصوصًا الإسلام- قد دعت إلى الحرية وحرَّمت الذلة والخضوع وإحناء الجباه إلّا لمن خلقها وأوجدها، وفي كتاب الله تعالى تأكيد شديد على كرامة الإنسان, وأن جميع ما في هذا الكون إنما خُلِقَ له ومن أجله, قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. أما الحرية في الإسلام: فلا يجوز لأحد أن يجهل أن الإسلام بخصوصه دعا إلى الحرية وجعل إليها منافذ عديدة, ورغَّب في تحقيقها بما جعل الله من الأجر الجزيل لمن حققها, ونهى عن الكبت الذي يكون سببه طغيان القوي ضد الضعيف, وتسلط الطغاة على المستضعفين دون وجه شرعي.

_ 1 التطور والدين، ص26. 2 سورة الإسراء، الآية: 70.

إن الحرية لها مفهومها الخاص ومجالها الخاص بها في الإسلام, كما أن للجاهليات مفهومها ومجالها الخاص بها، وبين المفهومين مسافات مديدة وفروق عديدة. فالحرية في الإسلام هي أن تتصرف في كل أمر مشروع لك وليس فيه تعد على حقوق الآخرين, ويكون داخلًا ضمن عبوديتك لربك وامتثالك لأمره ونهيه، وما دام الإنسان لم يخرج عن إطار الشريعة الربانية فهو يعيش الحرية بتمامها؛ سواء أكانت تلك الحرية فيما يتعلّق بنفسه أو جسمه أو ماله أو عرضه, يتصرف فيها في حدود ما شرَّعه الله له, أو كانت فيما يتعلق بغيره في معاملاته الدنيوية، من بيع، وشراء، ونصيحة، ونقد, وتوجيه، وأمر, ونهي, أو الدينية: من تعليم، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر ... وغير ذلك. أو كانت فيما يتعلّق بعقل الإنسان وتفكيره؛ حيث جعل الله للعقل مطلق الحرية في الارتفاع بصاحبه عن الخضوع والذل لغير ربه, وفي وجوب إعمال الفكر فيما يحتوي عليه هذا الكون من بدائع وعجائب، فالإسلام يمنحه مطلق الحرية في تنظيم بديع فيه سعادة الإنسان أولًا، ثم سعادة المجتمع الذي يعيش فيه ثانيًا, سواء أكان ذكرًا أم أنثى، والذي خلق الإنسان وسائر الأنعام جعل لكل منها حرية تخصه, فإن الأنعام لها مطلق الحرية دون تمييز بين الضار والنافع، ولكن الإنسان الذي كلّفه الله وميَّزه بالعقل له حرية إذا تجاوزها صار كالأنعام, فإذا تجاوزها أيضًا صار أضل من الأنعام, كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 179.

- الحريّة في مفهوم الجاهليات: أما الحرية في مفهوم الجاهلية قديمًا وحديثًا فهي الظلم في القديم كما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس ... فإن تجد ذا عفه فلعلة لا يظلم والجنس كما هو حال الأمم التي أعرضت عن الدين، وكما عبَّر عنه الصينيون في تظاهراتهم المشهورة حينما قالوا: "إنه لا حرية عندنا إلّا في الجنس". ولقد فهم الكثير من الذين ينادون بشعار الحرية أنها هي أن يعمل الإنسان ما يشاء، وأن يرتكب من المنكرات ما يلذ له، وأن يقول كل ما يريد قوله، وأن لا يكون للمجتمع أي تأثير عليه، إنه يفهمها على أنها الانفلات من كل القيود, ثم الفوضى وإشاعة الفساد, والوصول إلى الإلحاد تحت هذه التسمية, ولقد ظهرت جحافل من دعاة الحرية خدعوا الناس وأوهموهم أنهم يجب أن يكونوا أحرارًا لا قيود عليهم من دين أو مُثُل أو عرف, بل هي الانطلاق التام. دون أن يفطن هؤلاء المخدوعون بأنها مصيدة يهودية ماسونية وأوحوا بها إلى الدهماء من الجوييم كما يسمونهم؛ ليملئوا بها فراغًا في أذهانهم, بينما هم يعلمون تمامًا أن لا حرية حقيقية سيصل إليها الجوييم, وجاء دعاة الإباحية والوجودية والشيوعية بما زاد الطين بلة والنار اشتعالًا وملؤا أذهان الشباب والشابات بطنين الحرية الشخصية والحرية الجنسية والحرية الكلامية ... إلخ، فإذا بتلك الحريات كلها تصبّ في مصب

واحد هو القضاء على الأديان والعفة والشريعة الإسلامية, وفتح الباب على مصراعيه لدعاة الفجور والفحش باسم الحرية، ومنع المصلحين من الإصلاح بدعوى عدم التدخل في شئون الغير أو كبت حريتهم. جاء في كتاب الحرية في الدولة الاشتراكية "أنه لو قام مجتمع من النساء الحريصات على استقلال جنسهن بتكوين جماعة تدعوا أو تمارس بين النساء أنفسهن نظرية التناسل بدون رباط زواج, فليس من حق الدولة أن تتدخَّل في أعمال تلك الجماعة"1. وأي مصلح ينادي بالكف عن المنكرات والإقصار عنها صاحوا به: إنه يريد كبت حريات الناس، إنه متزمِّت ومتشدد، وما إلى ذلك من الدعايات الباطلة ضده. وحينما تعرف الحرية بأنها الانطلاق في الرأي استغلَّ دعاة الحرية اللادينية هذا المفهوم ونادوا بما سمونه باحترام الرأي والرأي الآخر, وهم يريدون الانطلاق في الرأي الذي يؤدي في النهاية إلى انتكاسة البشرية وفرض آراءهم العلمانية والعقلانية والشعوبية والقومية وكل النعرات الجاهلية، وكذا تعريف الحرية بأنها الانطلاق في الاعتقاد وفي القول وفي الفعل، فإن دعاة تلك الحرية الباطلة لا كابح لجماحهم, انطلقوا في الاعتقاد في القول والفعل إلى الرذائل والآراء السقيمة والنظريات السخيفة بحكم حرية الاعتقاد في القول فملؤا إذاعاتهم وصحفهم ونشراتهم بما يستحي

_ 1 "الحرية في الدول الاشتراكية" ص135، نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية"، ص83.

صاحب العقل والذوق أن يقولها ويفعله, دون أي حياء لديهم أو وازع من ضمير، وصدق عليهم قول المصطفى -صلى الله عليه سلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1. ولن يجد الإنسان الحرية الصحيحة إلا في عبادة ربه والخضوع له وحده لا شريك له, كما أنه لا حرية مع عدم طاعة الله تعالى, فإن من لم يذل لله أذلَّه الله لغيره.

_ 1 أخرجه البخاري، ج10، ص523، "الفتح".

الإلحاد

5- الإلحاد: ومن الجدير بالذكر أن للملاحدة أسماء كثيرة اخترعوها من واقع عقيدة كل مجموعة, مع الأخذ في الاعتبار أنّ الملاحدة كلهم متفقون على اعتقاد الإلحاد, ولكنهم يختلفون بعد ذلك حسب الآراء والأهواء, فتأتي التسمية من ذلك الواقع. فالمادّيون، أخذت تسميتهم من اعتقادهم أن وجود جميع هذا الكون إنما هو تابع لوجود المادة التي ليس وراء وجودها أي وجود مؤثّر في الإيجاد. وقسم منهم يسمون "الطبيعيون" بسبب اعتقادهم بأنّ التغيرات التي تحصل على المادة إنما تحصل بأسباب ذاتية ترجع إلى طبيعة المادة. وبعضهم يعتقد أن تلك التغيرات إنما تحصل بالآلية في حركة ذرات المادة, فقيل لهم أصحاب المذهب الآلي. وبعضهم يعتقد أن المادة ترجع إلى ذرات صغيرة جدًّا متجانسة، والتغيير

إنما يرجع فيها إلى شكل التأليف والتركيب بينها، فسموا أصحاب المذهب الذري. وبعضهم لم يعتقد إلّا بما يحسه فقط, فقيل لهم "حسيون". وبعضهم يردد كلمة الواقع المدرَك بالحسّ، أو الواقع المدرك، أو الواقع الملموس، وأشباه هذه العبارات فقيل لهم "الواقعيون". وبعضهم اتخذ اسم الوضعية. وبعضهم زعم أن الأشياء توجد أولًا ثم تصنع الأفكار ماهيتها, فسموا بالوجوديين1. وهكذا تعددت الأسماء، والهدف النهائي واحد هو الإلحاد, ويبقى الاختلاف بينهم لفظيًّا؛ لتسهيل مغالطاتهم الناس من وراء كثرة تلك الأسماء؛ ليحتدم الخلاف حولها بين الناس, وإشغالهم بها, فقبحهم الله ما أكثر أسمائهم وما أقل نفعهم.

_ 1 بتصرف عن "كواف زيوف"، ص510.

الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام وفي المذاهب الوضعية

الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام وفي المذاهب الوضعية المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية المطلب الأول: الملكية في الإسلام ... الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام وفي المذاهب الوضعية وفي المباحث الآتية: المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الملكية في الإسلام وفيه أمران. 1- حب التملك الفردي فطرة في الإنسان. 2- الملكية الفردية والجماعية في الإسلام. المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية, وفيه أمران: 1- الملكية في الرأسمالية. 2- الملكية في الشيوعية الماركسية. المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية المطلب الأول: الملكية في الإسلام: الأمر الأول: حب التملك الفردي فطرة في الإنسان حب التملك فطرة في الإنسان "الملكية الفردية" منذ أن أهبطه الله إلى الأرض إلى أن يرثها -سبحانه وتعالى, وهو أمر معلوم بالضرورة, ولم يجرء على خلافه إلّا عتاة الملاحدة الذين كابروا الحقائق والأمور الواقعة, وقد أصبحت هذه القضية من أهم القضايا التي شغلت أفكار البشر على امتداد

تاريخهم، وهي قضية فطرية في الإنسان، ولا يلام عليها؛ لأن الله -عز وجل- أرادها لإعمار الأرض، إلّا أن صاحبها قد يكون ممدوحًا في تملكه الفردي وقد يكون مذمومًا حسب تصرفه في ماله, وقد عالجها الإسلام بأحسن نظام وأعدله, واعترف بها ولكنَّه هذَّبها على طريقة لا ضرر ولا ضرار, سواء أكانت ملكية فردية أو جماعية. وهي في النظام الرأسمالي جشع لا حدَّ له وشَرَهٌ شديد. أما في النظام الشيوعي فلا مكان لها في قاموسهم، وقد اعتبروها مصدر كل الشرور والاختلافات, ومنشأ الصراعات بين الناس الفقراء والأغنياء, وأن الحل لسعادة الناس هو منع الملكية الفردية بأي حال, وجعلها في يد الدولة وحدها, متلمسين في ذلك حججًا واهية وشبهات سخيفة يستدلون بها على الأضرار التي تنجم عن إباحة الملكية الفردية كما سيأتي بيانها. 1- كزعمهم أن الناس كانوا يعيشون في الشيوعية الأولى عيشة سعيدة قبل أن يعرفوا الملكية الفردية بزعمهم. 2- إن الملكية الفردية لم تكن فطرة في الإنسان. 3- لم ينشأ الصراع الطبقي إلّا بعد معرفة الإنسان للرزاعة والصناعة. 4- إن هذه الصراع لا ينتهي إلّا بزوال الملكية الفردية. 5- في الملكية الفردية ينشأ نظام استعباد الطبقات العليا لمن دونها.

وشبه أخرى كلها ساقطة يستدلون بها لمنع الملكية الفردية, وكلها تدور حول وجوب سيطرة الدولة على جميع وسائل التملك ونزعها من أيدي أفراد المجتمعات, فهل هذه الشبهات حقيقة أم خيال؟ وهل تحققت السعادة في الأنظمة الجاهلية ومنها الشيوعية حينما منعت الملكية الفردية, أم ازداد الأمرسوءًا والطغيان طغيانًا, وكان حال المجتمعات الشيوعية على حد ما قال أحد الشعراء: لقد طغى الغي على الغي ... وأصبح الناس كلا شي وأصبح الميت في قبره ... أحسن أحوالًا من الحي وفيما يلي نوجز بيان قضية الملكية الفردية على ضوء الإسلام، وفي الأنظمة الوضعية. الأمر الثاني: الملكية الفردية والجماعية في الإسلام أما الملكية الفردية والجماعية في الإسلام فقد تبيَّن مما مضى أن الإسلام يحترم الملكية بقسميها العامة والفردية وقد نظَّمها أحسن تنظيم، ولم يوجب أن تكون الأموال في يد الدولة فقط, ولا في يد فرد أو طائفة من طوائف المجتمع كما تقرره النظم الجاهلية, وأنه بخلاف النظام الماركسي الذي يجعل الفرد قطعة لا أهمية لها في جانب الجماعة, وبخلاف النظام الرأسمالي الذي يجعل الفرد حرًّا طليقًا ولو على حساب مصالح الجماعة, فانعدم التوازن في غير الإسلام, ذلك التوازن الذي يحقق العدالة للجميع, كما أن الإسلام لا يجيز للدولة أن تأخذ مال أحد إلّا بوجه شرعي, فقد ضمن حرية الملكية الفردية

ونظَّمها, وجعل مسئولية الإنتاج قائمة على الأفراد وعلى الدولة التي تمثل المجتمع على حد سواء في ضرورة إنعاش الاقتصاد وتنميته وسد حاجات المجتمع. كما أنَّ الملكية الفردية في الإسلام لها ضوابط وتقوم على نظام خاص بعيدًا عن جشع الرأسمالية وظلم الشيوعية, ولها أسس إن قامت عليها كانت حقًّا مشروعًا لا لوم على صاحبها؛ لأن الإسلام يتماشى مع الفطرة التي فطر الله عليها الناس, ولهذا فهو لم يتجاهل غريزة حب التملك عند الإنسان, بل أقرَّها ونظَّمها في حدودها المشروعة التي ترتكز على القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار", فإذا لم يكن في التملك ضرر على الغير فله أن يملك ما يشاء من المال مصداقًا لقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. وهذا النصيب يشمل كل ما يحتاج إليه الإنسان من مأكل ومشرب وملبس ومسكن, وغير ذلك من المباحات المشروعة التي لا تمس مصالح الغير, أو الأملاك العامة التي تشرف عليها الدولة وتحوزها للصالح العام في بيت المال من عائدات المال العام, الذي يشترك فيه جميع أفراد الأمة على حد سواء مثل ملكية مناجم الذهب والفضة وآبار البترول والأوقاف العامة, والأماكن التي تختص بتنميتها البلديات للصالح العام, وغير ذلك من الموارد, فلا يحق لأحد الاستحواذ على ذلك كما أنه لا يجوز لها الإضرار بالغير, فإن كان الضرر لا يزول إلّا بأخذ جزء

_ 1 سورة القصص الآية: 77.

من مال الشخص للصالح العام, فلا حرج على الدولة أن تفعل ذلك؛ إذ المصلحة العامة أولى بالتحقيق من المصلحة الشخصية الخاصة على حساب الآخرين. ولا يرد على هذا ما عرف عن الإسلام من حرصه على صيانة الملكية الفردية وعنايته الفائقة بالحفاظ عليها, فهي باقية على حالها إلّا في الحالات النادرة التي يتطلَّب الأمر الدفع بأخف الضررين. إن نظام الإسلام يقوم على أساس التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة, فلا يسمح بطغيان مصلحة على أخرى ما أمكن ذلك, ونظرة الإسلام نظرة شاملة تدعو إلى التوفيق بين مختلف المصالح بالعدل وحسن التنظيم, وإذا أمكن التوفيق بين المصلحة العامة وبين المصلحة الخاصة فهذا هو المطلوب, وأما إذا لم يمكن ذلك فإن الإسلام يقدّم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة, حتى لو أدى ذلك إلى استعمال القوة في سبيل انتفاع الجميع بما فيهم صاحب المصلحة الخاصة نفسه. ولم يمنع الإسلام أحدًا من امتلاك المال بالطرق الشرعية التي أباحها, بل حثَّ عليها وأوجب المشي في مناكب الأرض, وفضَّل اليد العليا على اليد السفلى, وأكَّد على الغني والفقير التزام تقوى الله ومراقبته فيما يملكان من المال؛ لتنبع المراقبة الصحيحة من داخل النفس على سلوك مهذب, وبيَّن أن احتباس المال ومصادر التكسب في فئة خاصة من الناس أنه سلوك غير مرضي عنه, وشرع لذلك قواعد وأنظمة تكفل المصالح وتحقق السعادة للجميع في ظل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْض

جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1، فالناس كلهم على حد سواء يباح لهم التملك والانتفاع بكل ما في الأرض التي هي ملك الجميع بتمليك الله تعالى لهم, وكلهم مستخلفون على هذه الخيرات أمناء عليها لمالكها الحقيقي وهو الله تعالى, يتصرفون فيها في حدود ما أذن لهم به فقط، فمن تجاوز ذلك فقد عصى الله تعالى وتعدى وظلم. وبهذا يتضح أن الإسلام قد ضمن في تشريعاته حق الملكية العامة والملكية الفردية وهي التي يراد بها "اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعًا الانتفاع والتصرف فيه وحده ابتداءً إلّا لمانع"2 أصالة أو إنابة، كما ضمن الإسلام حسن توزيع الثروات وحدود الأرباح والحقوق الأخلاقية في كل ذلك, إلا أن الإسلام وهو يبيح الملكية الفردية -كما عرفت- لم يجعلها فوضى, بل نظَّم طريقة التملك وطريقة الإنفاق, وحرم على الغير أخذ أي مال ليس له فيه حق مشروع, وسن العقاب على كل من يتعدى على الملكية الخاصة للغير بدون وجه شرعي, ما د امت تلك الملكية قد قامت من طرق ومكاسب صحيحة, فجعل لصاحب المال حرمة مصونة, وجعل له حرية التصرف فيه, سواء أكان ذلك في حياته أو بعد مماته, كالوصية بجزء من ماله لأي عمل خيري, ولم يبح أن يتعدى المال الموصى به الثلث حماية لمصلحة الشخص نفسه أولًا، ولبقية ورثته آخرًا, كما في حديث سعد -رضي الله عنه.

_ 1 سورة البقرة الآية: 29. 2 "الملكية في الشريعة الإسلامية"، للدكتور عبد السلام العبادي، ص150 نقلًا عن "النظام الاقتصادي في الإسلام"، ص86.

كما نظَّم الإسلام كل طوائف المجتمع تنظيمًا يضمن صلاح الفرد والمجتمع, ويحفز الجميع على الرغبة والتفاني في العمل وفي الإنتاج, فقد جعل الإسلام للدولة نظامًا تلتزمه تجاه أفراد مجتمعها, قائم على العدل بين الجميع, فلا يجوز أن تطغى سلطة الدولة على مجتمعها دون نظام أورقابة, ولا أن تعيش في الترف والبذخ والشعب في حاجة, فإنهم مسئولون أمام الله تعالى, وقد وردت النصوص الكثيرة في الوعيد الشديد لهم إذا جاروا وظلموا أو غشوا شعوبهم ورعيتهم. وفللدولة في الإسلام السلطة التنفيذية ورعاية مصالح الشعوب والذَّب عنها، وإبرام العقود وحلها, وفرض الرقابة والإشراف على الأوقاف الإسلامية, وجباية الأموال على الطريق الشرعي, وتوزيعها على المستحقين, وغير ذلك من الصلاحيات الكثيرة، وأوجب في المقابل على كل فرد أن يكون مخلصًا للدولة سامعًا مطيعًا في كل ما يأمرون به, إلّا أن يؤمروا بالكفر الواضح فلا طاعة لهم؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وعلى الناس أن يتصرفوا بالتي هي أحسن وأنجح غير متهورين أو مستهينين بالعواقب.

المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية

المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية وفيه أمران: الأمر الأول: الملكية في الرأسمالية أما الملكية في الرأسمالية فهي مربوطة بالوصول إلى الأرباح قبل أي اعتبار, يقول محمود الخطيب: يعتبر أنصار الرأسمالية جهاز الثمن هو المحرك الفعّال القادر على حل كل ما يتعلق بالمشكلة الاقتصادية"1. والرأسمالية كما سبق نسبة إلى رأس المال، ويراد بها منح الشخص كامل الحرية في جمع المال وفي إنفاقه بأي طريقة يكون جمعه أو إنفاقه؛ سواء عن طريق الغش، أو الاحتكار، أو الربا، أو التحايل، ولا قيمة للرحمة والعاطفة والإنسانية أو المثل العليا أو الأخلاق في سبيل الحصول على المال, و"كل هذا يؤدي إلى ظلم الأمَّة ويقوي معول هدمها بيدها؛ لأن الأخلاق زالت, والجانب الروحي معدوم مندثر, فلم يبق إلّا الركض وراء المصلحة الجشعة, فأصبح الرأسمالي شَرِهًا متكالبًا على المال"2. فالرأسمالي لا يمهمُّه أن يموت المجتمع جوعًا في الوقت الذي يرفع قيمة ما في يده إلى الأضعاف المضاعفة، فينظر المجتمع إليه وهو في غاية الشره نظرة حقد وكراهية، وهو

_ 1 أي: وجود المنتج والسلعة والثمن الحافز للإنتاج. انظر: "النظام الاقتصادي في الإسلام"، ص29. 2 المصدر السابق ص80.

ينظر إليهم أنهم حاسدين له يتمنون زوال ماله, فينشأ عن ذلك إشاعة العداوة والبغضاء وانتزاع الرحمة من قلوب تلك المجتمعات الرأسمالية التي لا هَمَّ لها إلّا عبادة المال وجمعه حسب التنافس في الإنتاج وفي الأسواق؛ بحيث يهدف الرأسمالي إلى التحكم لو استطاع في الأسواق الاقتصادية وإبعاد أي مشروع يرى أنه سينافسه, ثم طلب الربح بأي وسيلة مهما كانت ظالمة أو معيبة, لا يهمه إلّا الحصول على المال, وحال المجتمعات الرأسمالية أقوى شاهد. وفي المجتمعات الرأسمالية حرب على الفقر لكنها لا ترحم الفقير, بل تحمله مسئولية فقره, وتنظر إليه بازدراء؛ لأنه لم يحتل لنفسه للخروج من الفقر؛ حيث يتهم بعدم الذكاء أو عدم الجد في العمل أو غير ذلك من الأسباب التي لا تشعر بالرحمة تجاهه, ولقد عانى المجتمع الرأسمالي من هذه النظرة في بداية تكوّن المذهب الرأسمالي الأمرَّين, واضطر كل فرد صغير أو كبير، ذكر أو أنثى إلى العمل بأي طريق كان للحصول على ما يسد رمقه, وإلّا انسحق دون أي صوت يلفت النظر إلى حاله, والحكومة لا تتدخَّل لا في الإنتاج ولا في التوزيع, بل كان الحبل على الغارب، إلّا أنه -وبعد فترة- شعر المجتمع الرأسمالي تحت الضغط والعنف والمواجهات الدامية بأن هذا الوضع البغيض لا رحمة فيه, وأنه إنما نشأ عن ما يشعر به أغلبية المجتمع من الإحباط وعدم المبالاة بهم, وجعلهم فريسة الهموم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم, فتطوَّر الفكر الأوروبي إلى تعديل الحال, والنظر بعين الجد إلى القضاء على هذا الشعور, وبدأوا في تقنين الأنظمة التي تطوروا فيها إلى أن عرفوا ما يشبه نظام التكافل الاجتماعي الذي دعا إليه الإسلام منذ نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فرض الزكاة

التي يأخذ فيها العاجز ما يسد حاجته من بيت مال المسلمين دون أن يطالب بمقابل في ذلك، بينما نظام الغرب رغم ما يدعون له من التطور لازال متخلفًا عن الوصول إلى نظام الإسلام في ذلك؛ إذ لا يعطي الشخص فيه في حال عجزه إلّا حسب نسبة ما كان يدفعه من الضرائب في حال صحته. فإنه يطالب الشخص وهو صحيح بمبلغ يدفعه ضريبة من دخله حتى إذا عجز عن العمل أعطي مبلغًا حسب ما كان يدفعه قليلًا أو كثيرًا, فإنه يأخذ نسبته على حسب ما دفع وعيب هذا أن الغني يدفع له أكثر؛ لأنه أخذ منه أكثر, والمحتاج يدفع له أقل منه, وهذا الحل لا يفي بحاجة الفقير, فقد يكون لهذا الفقير أسرة كبيرة, بينما الغني قد لا توجد له أسرة, فليس هناك تكافئ في التوزيع, ولا نظر إلى عمق القضية حسب الضرورة، بل إنهم لم يوجدوا هذه النقلة إلّا للتخفيف من مساوئ هذا النظام الذي طعموه بما يسمونه التأمينات الاجتماعية والنقابات ... إلخ. أما الإسلام فإنه لا ينظر إلى استحقاق الفقير من بيت المال إلى أنه كان يدفع أو لا يدفع؛ لأنه ينظر إلى إزالة الضرر بغض النظر عن الأسباب, فلا ضرر ولا ضرار، ولأن الفقر قد لا يدوم, فقد يصبح الفقير غنيًّا فيستعفف بعد ذلك عن أخذ ما كان يصل إليه من بيت مال المسلمين, وما يعطاه من المال إنما هو إعانة له إلى أن يغنيه الله من فضله ويستغني عن أخذه بعد ذلك دون منَّة عليه من أحد؛ إذ الإسلام دائمًا يحث الشخص على الاعتماد على الله, ثم على عمل يده, والاستغناء عن الناس بانتظار ما يجودون به عليه، ويخبره دائمًا أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن المؤمن القوي خير

من المؤمن الضعيف، وأن من اعتمد على سؤال الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم ... وغير ذلك من التوجيهات الإسلامية. وعلى ضوء ما سبق يمكن تلخيص الأسس التي قام عليها النظام الرأسمالي فيما تقدَّم بيانه فيما يلي: 1- حرية الملكية الفكرية وحرية التصرف فيها دون تدخل الدولة غير الحماية. 2- الحرية في ممارسة أي نشاط اقتصادي يريده الفرد إنتاجًا أو استهلاكًَا. 3- تحقيق التوازن التلقائي عن طريق جهاز الثمن الذي هو المرآة التي تعكس رغبات المستهلكين إلى المنتجين. 4- وجود حافظ الربح الذي هو المحرّك الأساسي للنشاط الاقتصادي والإقبال على العمل تحقيقًا للربح. 5- وجود حرية المنافسة الاقتصادية التي تَحُدُّ من انتشار الاستغلال. وهذه الأسس وإن كانت تبدو للناظر أنها مفيدة وناجحة وتخدم التقدّم الاقتصادي, إلّا أن لها مساوئ كثيرة من أهمها: 1- سوء توزيع الثروة والدخل بين الناس، فمن عَزَّ بَزَّ. 2- ما نادت به من الحريات إنما هي حريات ناقصة, والعامل ليس حرًّا في اختيار عمله ولا في أجره, فقد يضطر إلى أن يعمل بأجرٍ أقلَّ حينما

لا يجد عملًا مناسبًا, وكذلك المستهلك ليس حرًّا في استهلاكه, بل يقيد مستوى دخله, وما تسمعه من كثرة المظاهرات في الغرب لتحسين أجر العامل أقوى شاهد. 3- ظهور البطالة والتقلُّبات الاقتصادية لعدم التوازن الحقيقي. 4- وجود الاحتكارات والتي تعمل بشكل معاكس لجهاز الثمن. 5- ظهور الآثار السلبية للمنافسة في الإسراف والتبذير في الإعلانات وغيرها1. وعلى العكس من كل ما تَقَدَّمَ نجده في الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي لا تحفل بالفرد ولا بتشجيعه على زيادة الإنتاج السليم؛ لسلبهم إياه حرية التملك, وبالتالي إفلاسفه الدائم واتكاله على الدولة, ولا تسأل عمَّا نشأ من المساوئ جرَّاء هذا السلوك الأحمق. وكل تلك الاتجاهات لا يقرُّها الإسلام ولا تساير نظامه، فالمال في الإسلام إنما هو إحدى متع الحياة الدنيا, ولا حرج على صاحبه أن يتمتع به كيفيما أراد ما دام ذلك في حدود الشرع وتعاليمه, وليس المال هو كل شيء، بل إن هناك حياة هي أسمى من هذه الحياة تنتظر الفقراء والأغنياء, وكم من فقير في هذه الدنيا يصبح في تلك الحياة يفوق في ملكه الدنيا بحذافيرها أضعافًا مضاعفة، كما أنَّ الإسلام يفهم صاحب المال بأنَّ ما بيده من المال ليس هو مالكه الحقيقي, وإنما هو مستأمن عليه, وسيتركه ويرجع كما

_ 1 النظام الاقتصادي في الإسلام ص45-47، بتصرف" نقلًا عن مذكرات أساسية في المفاهيم والمعلومات الاقتصادية لعبد الحليم نصار القوارعة, ص19-27.

بدأ حياته الدنيوية, فلهذا لا يجو له أن يتصرَّف في المال إلّا وفق ما شُرِّعَ له لا أن يتصرَّف فيه كما يشرعه هو لنفسه, فيترك من يستحق الصدقة من الناس فيتصدق بثروته في غير محلها؛ كأن يجعلها لكلبه مثلًا كما يُفْعَل في أوروبا. والإسلام لا يقر الرأسمالية على مساوئها ولا غير الرأسمالية من المذاهب الوضعية الجاهلية التي لم تقم على الدين الذي ارتضاه الله تعالى وأكمله, فقد قامت الحجة على كل إنسان خصوصًا في عصرنا الحاضر بانتشار وسائل الاتصالات المختلفة, ولا يمكن أن تسعد البشرية ما دامت الأنظمة الوضعية هي السائدة, ولنا فيمن طبَّق الشريعة الإسلامية أقوى حافز وأنبل مثال قديمًا وحديثًا, ولله الحجة البالغة. الأمر الثاني: الملكية في الشيوعية الماركسية سبق أن قامت الاشتراكية الشيوعية في اتجاه معاكس عارم ضد الرأسمالية الغربية والديانة النصرانية، وما تلا ذلك من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والقلق العام الذي ساد الدول الغربية الكبرى بفعل المخطَّطات اليهودية ومؤامراتهم المختلفة, ولقد كان للاشتراكية صولات وجولات ودعايات قوية ووعود خلَّابة بأن الناس كما زعموا سيعيشون في سعادة وهناء تشبه الجنة التي وعدت بها الديانات في الآخرة -بزعمهم, ولكنهم ربطوا الوصول إلى هذه الجنة الدنيوية بتطبيق الشيوعية الحمراء التي جاء بها "كارل ماركس" ومن تبعه من طغاتهم "لينين"، و"ستالين" وأضرابهم، والانضواء تحت راية الثورة الصناعية والعمل للجميع, فقام الاقتصاد في المذهب الشيوعي الاشتراكي

على أساس أن الملكية العامة لكل وسائل الإنتاج هي للدولة وحدها, والمناداة بالغاء الملكية الفردية ومصادرة كل شيءٍ وجعله باسم الدولة, ولكن كثيرًا من الدول الشيوعية أدركت انهيارها اقتصاديًّا, وفطنوا إلى أن السبب وراء ذلك هو عدم السماح بالملكية الفردية؛ حيث فترت همم العمال, ولم يعد فيها الحافز الكافي لزيادة الإنتاج, فاضطرت الحكومات إلى السماح بالملكية الفردية في نطاق ضيق, ولكن أخذت الأمور تتطور وتتفاقم النقمة على تلك الأوضاع إلى أن أطيح بالماركسية في عقر دراها -روسيا, وتنفس الناس الصعداء, مما جعل الدول التي لا زالت متمسكة بالنظام الماركسي تتوجَّس خيفة, وتخفف قبضتها على الشعوب رويدًا رويدًا. وتبين لجميع الشعوب الغبن الفاحش حين خدعوا الفقراء بما سموه دكتاتورية البروليتاريا التي لا تتحقق إلّا بقيام الصراع الطبقي والاستيلاء على السلطة ومصادر المال, وقد تطلَّب ذلك قيام الحركات الثورية الدموية في كل مكان استطاعت أن تصل إليه براثن الشيوعية, بحجَّة إقامة حكم البروليتاريا وإسعاد الفقراء, ولم يكتفوا بنزع الملكية الفردية بل نزعوا معها كل ما يمت إلى الأخلاق والأسرة تمامًا؛ لأن بقاء الأسرة معناه بقاء الملكية الفردية كما تقدمت الإشارة إلى هذا. وقد وجدت الملكية الفردية حربًا شعواء من قِبَلِ الملاحدة, وحمَّلوها كل أوزار المجتمع البشرية بعد تركهم الشيوعية الأولى التي كان الناس فيها على الملكية الجماعية يعيشون أسعد الأحوال بزعمهم دون صراع طبقي أو أحقاد, إلى أن عرف الناس الملكية الفردية وما تبعها من تطورات، إلى أن وصلوا إلى الرأسمالية التي سبَّبت للبشرية أنواع الشقاء والصراعات الطبقية، إلى

أن ظهرت الشيوعية الثانية لتعيد الناس إلى جنتهم السابقة حسب زعمهم. وقد تناقض الملاحدة هنا, فبينما يزعمون أن الرأسمالية والملكية الفردية هي السابقة للاشتراكية؛ لأنها جاءت كمنقذ؛ إذ بهم يزعمون أن الاشتراكية البدائية هي السابقة للرأسمالية. ومما يجب أن يتنبه له الشخص هو معرفة ما هي الملكية الجماعية التي ينادي بها الشيوعيون, وكيفية الرد عليها, وأنها وهم خاطئ, فإن الملكية الجماعية التي ينادي بها الملاحدة هي سلب كل شيء وجعله في يد الدولة التي هي نائبة للشعب, أو نائبة عن طبقة البروليتاريا الكادحة, ويزعم هؤلاء أن العدالة تقتضي أن تضع الدولة يدها على كل مرافق الإنتاج, وهي بدروها تقوم بتوزيعه بالتساوي بين الناس, وبذلك ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان الذي تمارسه الرأسمالية, ومن هنا فقد نادوا بإلغاء الطبقات والانضواء تحت راية الشيوعية لتخليصهم من نظام الطبقات الذي جاءت به الملكية الفردية, وأن علي جميع الشعوب أن تناضل الطبقات المالكة المتحكمة في مصالح الشعوب الذين بأيديهم الجاه والسلطة والمال, وأن هذا النضال لا ينبغي أن يتوقف إلّا بالقضاء التام على هذه الطبقات, واستعلاء طبقة البروليتاريا التي ستحكم هي الأخرى حكمًا صارمًا لا رحمة فيه, إلى أن يتحقق لهم ما يريدون من إقامة النظام الشيوعي بدون منازع؛ حيث سيقوم نظام البروليتاريا على الدكتاتورية الشديدة ما دام يوجد أعداء للشيوعية, ولهذا يطلقون عليهم "دكتاتورية البروليتاريا" أي: حكم الفقراء, وهذا الوصف سينتهي أيضًا حينما تتمكَّن الشيوعية من بسط نفوذها في كل العالم, فلا

تبقى تلك الدكتاتورية؛ إذ أنَّ الشعب أصبح حاكمًا نفسه بنفسه, وكلهم طبقة واحدة هي "البروليتاريا" وقد رأى العالم مدى صحة هذه الأحلام الفارغة؛ حيث أصبحت تعاليم "ماركس" تحت النعال بعد أن أثبتت فشلها الحتميّ, شأنها شأن كل الأفكار والمعتقدات الباطلة. وهناك الكثير من المبادئ الماركسية التي تطرَّقت إلى كل جانبٍ من جوانب الحياة، والذي يهمنا هو معرفة الفشل الذريع الذي لحق الاشتراكية في معالجتها هي والشيوعية للحالة الاقتصادية، وكيف كانت النتيجة التي وصلت إليها النظريتان الجهنميتان, فإنهما بعد أن عاثتا في الأرض فسادًا طوال سبعين عامًا من قيامهما المشئوم, وأتتا على الأخضر واليابس, وقتل بسببهما ملايين لا يعلم عددهم إلّا الله, ودنست الأخلاق, ومُزِّقَتْ الأسر, وعلا قرن الشيطان1، فأذن الله تعالى في إظهار فشل الشيوعية ذلك الفشل الذريع في سد الحاجات الضرورية لأتباعها من الموارد الزراعية, إلى أن أصبحوا يتكَّفَّفون الغرب الرأسمالي الذين تنبأ لهم "ماركس" بأنهم سيكونون أول من يتقبَّل الاشتراكية الشيوعية بصدر رحب -بزعمه, وكان الشيوعيون يصفون الغرب وغيرهم بالتخلف والجمود. وما إن قويت الثورة الصناعية عندهم حتى فاجأتهم بزيادة العمل وقلة المكاسب وتدني الحياة وتدني الأخلاق, وزيادة الفقر, وانخفاض المستويات الصحية, وسلب الحريات في البلدان الشيوعية, وكممت الأفواه واشتد الحكم

_ 1 لقد انجلت الظلمة عن فشل الشيوعية بعد سبعين عامًا في جميع أنظمتها وداستها أقدام كانت تقدّسها, وللباطل صولة ثم يضمَّحل.

بالحديد والنار, أصبح العامل يعمل لصالح الدولة لا لصالحه, مقابل كفالة الدولة لطعامه وشرابه ببطاقته الشخصية بما يسدُّ حاجته الضرورية فقط. وتبيَّن بوضوح تامٍّ بعد فوات الأوان أن مناداة الشيوعية بنزع الملكية الفردية وحصرها في الدولة أنه من أحمق الحلول وأبعدها عن مصالح الشعوب, فهي تقتل الحوافز المشجعة على العمل والتفاني فيه والإخلاص في القيام به, فأي إخلاص سيأتي للعمل الذي لا يملك من وراء كدِّه وتعبه غير لقمة العيش والباقي لغيره, ولقد أحسَّ الملاحدة هذه الهوة قبل أن تكتسح الشيوعية في مهدها, فشدَّدوا قبضتهم على الناحية الصناعية؛ إذ يعرف المقصِّر في أي قطعة فيعاقبونه عقابًا صارمًا قد يؤدي إلى قتله أمام زملائه, فانتظمت له الناحية الصناعية نوعًا ما, بينما فشلت مراقبتهم في الناحية الزراعية فشلًا ذريعًا لصعوبة مراقبة الفلاحين, وظهر هذا واضحًا في البلاد الشيوعية في تخلفها في مجال الزراعة، بل وفي مجال الصناعة؛ إذ لا مقارنة بين الصناعات الغربية والشيوعية, ومن المعلوم أن الملكية الفردية هي نزعة فطرية في كل إنسان لا يمكن أن يتجاهلها, ولا يمكن أن يتغلَّب على فطرته في مقاومتها كي يتركها بطوعه، ولعل هذا الجانب كان من أهم العوامل التي أسرعت بانهيار الشيوعية رغم قوتها التي ما كان أحد يحلم بأنها ستسقط جثَّة هامدة في تلك الفترة الوجيزة من صحوة الشعوب الأوروبية الشرقية في ولاية "جورباتشوف" الذي تولَّى رئاسة الاتحاد السوفيتي بعد "برجينيف" و"يوري أندروبوف", كما تبيَّن كذلك أنّ التحريش بين الفقراء وأصحاب الأموال إنما هي خدعة لصرف الأنظار عن مقارعة

الشيوعية وضرب الناس بعضهم بالبعض الآخر, بزعم أن طبقة البروليتاريا طبقة العمال أو الكادحين طبقة مظلومة يجب أن تأخذ حقَّها من الأغنياء بالقوة. فقد دعت الشيوعية إلى تأجيج الصراع الطبقي بين الملاك والفقراء, وأوغرت صدور الفقراء على الأغنياء, وأقنعتهم بأنه لا يمكن أن يصل الفقراء إلى العيشة الكريمة إلّا بالإحاطة بطبقة الأغنياء وأصحاب رءوس الأموال وسلبهم إياها عن طريق السلاح والقوة؛ ليتمَّ رفع مستوى الفقراء الكادحين -البروليتاريا, وتَمَّ لهم ذلك؛ فبطش الفقراء بأصحاب الأموال وسلبوهم إياها, وجاءت الدولة لتستولي على كل مصادر الحياة, وتساوي بعد ذلك الأغنياء بالفقراء, فلا بقي اللأغنياء على غناهم, ولا رفعوا الفقراء، وجنى الجميع بعد ذلك نار الحقد والبغضاء, وتبخرت أماني الفقراء, وذهبت أدراج الرياح كل ما وعدتهم به الطغمة الحاكمة الماركسية, وبقي الجميع في همِّهم وغمِّهم إلى أن استطاعوا أن يتنفسوا الصعداء قبل ثلاث سنوات, ومرَّغوا أنوف جبابرة الماركسية في الوحل, وانتقم الله منهم وهو عزيز ذو انتقام, وقد أدرك القارئ أنه لا مقارنة بين هذه الجاهلية الحمقاء وبين الإسلام, ذلك أنَّ الإسلام ليس فيه صراع طبقيّ ولا تأليب جماعة ضد جماعة أخرى, بل الكل مؤمنون أخوة كالجسد الواحد, والرزق بيد الله, والعمل مشترك بين الجميع, والتنافس المعتدل مطلوب, وبهذا عاش الإسلام والمسلمون بخير, ولم يعهد في أي حقبة من الزمن أن ثار المسلمون على الإسلام وطالبوا بالغائه, وذلك لما عهدوا فيه من الحق.

فتميَّزَ المجتمع الإسلامي بالتوادد والتراحم, وامتاز بالكرم والقناعة والرضا بما قسم الله لكل شخص من الرزق, فلا يجد الفقير حقدًا على الغني, ولا يشعر الغني بأن له الفضل على الفقير, فعاش الجميع في سلام, كل فرد راضٍ بما أعطاه الله, ولك أن تقارن بين البلدان التي اقتنعت بالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا وبين البلدان الكافرة التي لا تؤمن بذلك، لك أن تقارن بين الجرائم التي تحصل في البلد المسلم الملتزم والبلد الكافر, تجد فرقًا هائلًا خياليًّا, وذلك لخلو الوازع الديني, وغلبة حب المال, وقسوة القلوب التي لم يدخلها نور الإسلام. وأما بقية التعاليم الشيوعية التي لا تتعلق بالجانب الاقتصادي فلا حاجة لنا بالتطويل بذكرها وذكر أشنع ما مرَّ بالإنسانية في تاريخها الطويل في النظام الشيوعي الذي لا يبالي بقتل ثلاثة أرباع الشعب ليبقى الربع الأخير صالحًا, أي: شيوعيًّا, وهو ما طبقوه بالفعل في كثير من البلدان, وكثير من البشر الذين لا يعملهم إلّا الله تعالى طبَّقوه حسب تعاليم "ماركس"، و"لينين"، و"ستالين", في أنه لا بأس بقتل ثلاثة أرباع الشعب ليبقى الربع الأخير على الشيوعية الماركسية ونظامها الإلحادي.

المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين

المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين المطلب الأول: رد مزاعمهم في الملكية الفردية ... المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين وفيه مطلبان: المطلب الأول: رد مزاعمهم في الملكية الفردية أما زعمهم أن الملكية الفردية ليست فطرية في الإنسان، فقد كابروا عقولهم وتعسَّفوا حين زعموا أنها لم تكن قضية فطرية في النفوس, وإنما وجدت بعد أن عرف الإنسان كيفية الزراعة واستجلاب كثرة الدخل للفرد, وما تلا الزراعة من قيام الصناعات وزيادة الدخل, محتجّين على هذا السخف بأن الشيوعيين الأوائل ما كانوا يعرفون الملكية الفردية, وكانوا في أسعد حال, فإن هذا الدليل رغم مصادمته للواقع وللفطر السليمة, رغم ذلك وغيره هو قول بلا علم, وتخرُّص بلا دليل، والإسلام يذكر أن الله -عز وجل- علَّم آدم كل شيء, حتَّى علمه كيف يزرع, وكيف يحصد, فأي زمن كان الناس -حسب زعم الملاحدة- لا يعرفون الزراعة ولا العمل؟ وهذا ما أفادته الشريعة الإسلامية بل وسائر الأديان عن طبيعة البشر منذ وجودهم, وأقرته ولم تلغه؛ لأن الحياة لا تستقيم بدون النزعة إلى الملكية الفردية وحب التملُّك سنة الحياة الدنيا, فمن خالف هذه السُّنّة وزعم أن الناس لا بُدَّ أن يكونوا في حالٍ لا يملك فيه الشخص أيّ شخص لنفسه -كما

تقتضي بذلك التعاليم الشيوعية, فلا شكَّ أن مصيره الفشل وهو ما حصل بالفعل حينما أقدم الثوار الشيوعيون الأوائل على تطبيقه, فرأوا بأعينهم هبوط أحوالهم الاقتصادية, وكساد حركاتهم المعيشية, مما جعلهم يضطرون صاغرين إلى الاعتراف بالملكية الفردية ولو في أضيق نطاق, لكن له ودلالته على وجود نزعة الإنسان في حب التملُّك الفردي, وأن القول بعدم وجود تلك النزعة إنما هو مكابرة وضيق فكري. فكان من أهم أسباب تراجع أقطاب الشيوعية عن تأميم الملكيات كلها, هو ما لاحظوه من تردي الإنتاج الزراعي, ومعرفتهم أن سبب ذلك إنما يعود إلى ضعف الحوافز على العمل, وعدم تمكُّن الحكام من دقة معرفة المقصِّر من غيره في المجال الزراعي الذي تصعب مراقبته إلى حدٍّ كبير, بخلاف المجال الصناعي الذي تَمَّ إخضاعه بدقة للملاحظة والمراقبة الصارمة؛ بحيث يعهد لكل شخص بمهمة خاصة في العمل, فإذا حصل خلل في أي قطعة من الصناعة عرف صاحبها فورًا ونال عقابه الذي لا يعرف الرحمة, بخلاف العامل الزراعي الذي أفلت من هذه المراقبة الصارمة, فكانت النتيجة أن أخذت الدول الشيوعية تتكفَّف الدول الغربية القمح والحبوب, وزعموا أن ذلك النقص في الجانب الزراعي إنما كان بسبب الآفات الزراعية، ولكن الحلَّ الذي عالجوا به تلك الآفات يفصح عن السبب الحقيقي؛ حيث سمحوا بعد فوات الأوان بإتاحة الملكية الفردية لقسم من المحصول الرزاعي يمتلكه المزارع تشجيعًا لزيادة الإنتاج ولنشاط المزراعين, وهو دليل واضح على فشل نظام منع الملكية الفردية, وأنه أشد الآفات.

المطلب الثاني: رد مزاعمهم في نشأة الصراع الطبقي

المطلب الثاني: رد مزاعمهم في نشأة الصراع الطبقي أما زعمهم أن الصراع الطبقي لم يكن له أي سبب غير معرفة الإنسان للزراعة والصناعة, فهذا قول بالتخمين وهوأكذب الكذب, ولن يجد القائلون به أي دليل لأنهم ادَّعَوْا شيئًا هو أقدم منهم. كما أن هذا الأمر ليس هو السبب للصراع بين الناس، وإنما هو واحد من عِدَّة أسباب لا تكاد تحصر، كما أنَّ هذا السبب قد يوجد في بعض المجتمعات وقد لا يوجد, فليس هو أمر حتمي كما يدَّعي الملاحدة. ومن السذاجة والجهل القول بأن الملكية الفردية نشأت عن ظهور الصناعة والزراعة, وأنها ليست فطرية في نفوس الناس, بل وفي نفوس الحيوانات, فإن الملكية الزراعية نفسها لم تقم إلّا بسبب النزعة الملكية فردية كانت أو جماعية, وإلّا لما قامت الزراعة, ولما عرف الإنسان طريقه إلى الجمع والادخار بين مقلٍّ ومكثرٍ, وبخيلٍ وكريم. وأمَّا زعمهم أن الناس منذ أن تركوا الشيوعية الأولى وهم في صراع طبقي مرير, وأن ذلك سيستمر حتى يرجع الناس إلى الشيوعية الأولى, وذلك بترك الملكية الفردية, وتساوي الناس في كل شيء بزوال الطبقات التي أحدثتها الملكية الفردية وتكدس رءوس الأموال في فئة دون فئة, يقال لهم: هل يتحقق ذلك في عالم الواقع، وهل يمكن أن يتساوى الناس وتزول

الطبقات, خصوصًا في ظلِّ النظم الجاهلية, وهل يمكن أن تتحقَّق هذه الأحلام البرَّاقة في يوم من الأيام، إنها مجرد أوهام وخيالات؛ لأن الحياة لا تقبلها ولا تنتظم بها. إنَّ نظام الطبقات واستعلاء بعض الطبقات على البعض الآخر, والظلم والحرمان واستعباد القوي للضعيف, كلها إنما توجدها النظم الجاهلية كما حدث بالفعل على مسار تاريخ البشرية، فالمجتمع في العهد الهندوسي مقسَّم إلى طبقات هي: البراهما والكاشتريا والشودري, وأقسام فرعية أخرى كثيرة. وفي أوروبا عاش الناس طبقات متفاوتة أشد تفاوت؛ طبقة تسمَّى طبقة السادة، وأخرى تسمَّى طبقة العبيد, وقد تمثَّلت هذه الأحوال السيئة الجاهلية في عهد الرق. أما في عهد الإقطاع فكان الناس ثلاث طبقات رئيسية, هي: طبقة الأشراف أمراء الإقطاع، وطبقة رجال الدين، وطبقة الشعب "المغلوبين على أمرهم". أما في عهد الرأسمالية فإن نظام الطبقات على أشده أيضًا, طبقة تسمَّى طبقة أصحاب رءوس الأموال, وطبقة أخرى تسمَّى طبقة العمال "ناس في الثريا وناس في الثرى", وهكذا الحال في عهد الديمقراطية التي تظاهرت بأنَّ الشعب هو صاحب السلطة, فقد كان الصحيح هو أنَّ الشعب لا يزال هو المستضعف المقهور, وصاحب المال هو السيد الحاكم, وهي نفس الكذبة التي كان يرددها الشيوعيون من أنَّ طبقة البروليتاريا

الكادحة هي التي ستملك وتحكم حينما تطبق الشيوعية, وحينما تقضي طبقة البروليتاريا على جميع الطبقات المناوئة لها في صراع ثوري محتدم, هذا هو حكم الجاهلية وشريعتها، ولكن حكم الله هو خلاف هذا. حكم الله أنَّ المجتمع سيكون فيه أغنياء وفقراء, ملكية فردية وملكية جماعية, الأغنياء مؤتمنون على المال, وللفقراء نصيب في ذلك المال، والكل عبيد لله تعالى, لا طبقات ولا كبرياء, يتنقَّل المال من يد إلى يد, ومن شخص إلى آخر, وقد يصبح الغني فقيرًا, وقد يصبح الفقير غنيًّا حسب تصريف الله للأمور, ومعنى هذا أن المال في الإسلام ليس منحصرًا في طبقة من الناس دون أخرى, ولا في فئة من المجتمع بخصوصهم, حتى وإن كانت تلك الفئة هم الحكام, فإن الإسلام لا يعطي الحاكم حريَّة التملك كما يهوى, بل شأنه شأن غيره, غير ما يأخذه في مقابل جلوسه للحكم بين الناس, ومن هنا نجد أن حكَّام الدولة الإسلامية في نشأتها, كان الحاكم لا يتمتع بأي امتيازات مالية, ولهذا كان الحكام يعتبرون تحمل المسئولية أمانة عظيمة وخطرًا جسيمًا لا فوزًا كما يسميه الناس اليوم. وينبغي التنبيه إلى أنه إذا وُجِدَ نزاع بين المسلمين فإنه لا يكون من أجل إسقاط طبقة لطبقة أخرى, أو علوّ فئة على أخرى, وإنما يكون ذلك في الغالب من أجل الوصول إلى الحق, وإلى دفع الخطأ والخطر عن الناس, وهذا أمر طبيعي, فلا يجوز أن يفسَّر على أنه صراع طبقي كما يفسره الملاحدة حسب نظرياتهم المادية.

وقد يكون النزاع إمَّا أمر بمعروف أو نهي عن منكر, وليس هو من قبيل الحرب الاقتصادية, أو بسبب الملكية الفردية أو الجماعية كما يزعم الملاحدة, أو أنه حرب طبقات. ومن أقوى ما يدل على كذب الملاحدة في زعمهم أن نزع الملكية الفردية ينهي الصراعات ويؤلف القلوب ويساوي بين طبقات المجتمع كلهم فيعيشون عيشة ملائكية, من أقوى ما يدل على كذبهم هذه الصراعات التي لا نهاية لها بين مختلف معسكرات الشيوعية, مع أن الملكية الفردية لا وجود لها في دستورهم, فلماذا إذن هذه الصراعات؟ وعلى أي شيء؟ {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 1, 2. كما أنَّ زعمهم أن الصراع هذا لا يزول إلّا بزوال الملكية الفردية كلام كاذب, فإن الصراع باقٍ والملكية الفردية كذلك لن تزول من نفوس الناس, والدليل على ذلك أن الصراع لم ينته مع وجود القمع الشديد للملكية الفردية في البلاد الماركسية، بل إن الصراع لا يمكن أن ينتهي ليس بين الناس فحسب, بل والحيوانات كلها. وقد عاش الناس في ظل النظام الشيوعي حقبة من الزمن وهم ينتظرون تلك الجنة التي وعد بها "ماركس" بعد أن وضعت الحرب الطبقية أوزراها, وبعد أن قضى النظام الماركسي على الملكية الفردية بكل وحشية عرفتها البشرية, وهم يتنظرون ذلك اليوم الذي يزول فيه الصراع الطبقي بكل

_ 1 سورة فاطر، الآية: 43. 2 انظر مذاهب فكرية معاصرة، ص362.

أشكاله, فلا يبقى صراع ولا أحقاد ولا حاكم ولا جيش ولا سجون, يعيشون كالخراف الأليفة, ولكن ماذا كانت نتيجة هذه السخافة؟ لقد عاش المجتمع الشيوعي صراعًا طبقيًّا مريرًا؛ سواء أكان على مستوى الأفراد أو على مستوى الدولة, إلى أن هدأت عاصفة الشيوعية, وكيف لا يحصل صراع بين جماعات قامت في الأساس على الصراع, بل وعلى مشروعيته وضروريته لقيام حكم البروليتاريا بزعمهم, حتى أصبح الصراع والثورات والقتل والاغتيال من أسس بناء الماركسية دون أن تظهر أدنى إشارة إلى تلك الجنة المزعومة الماركسية، ومثل هذه الكذبة وقعت أيضًا الكذبة الأخرى, وهي القول بأن الناس كلهم سيعيشون حياتهم في مستوى واحد, وعلى طبقة واحدة بلا تفاضل بينهم عندما تكتمل الشيوعية وتطبَّق وفق ما قرره اليهودي "ماركس" عدو الجوييم -حسب تسمية اليهود لهم, وإذاسألت عن سر بقاء الحكومة في البلاد الشيوعية فإن جوابهم: إن هذه الحكومات القائمة إنما هي حكومات مؤقَّتة, وستنتهي بانتصار الشيوعية على كل الأنظمة المناوئة لها1. لأن الناس حينئذ سيعيشون دون مشكلات ولا صراع يتطلب تدخُّل قوة عليا, ولا فقر بسبب المشكلات, ولأن الناس حينئذ يكونون على مستوى رفيع في الأخلاق والسلوك الطيب والرقابة الذاتية التي هي أقوى من الرقابة الخارجية, ولا ملكية فردية تسبب الخصومات والاستئثار بالمال والرغبة في جمعه.

_ 1 وهذه الفكرة توجد عند الرافضة؛ إذ يعتبرون حكّامهم نائبين مؤقتًا عن المهدي الذي سيستلم الحكم فور خروجه من السرداب المزعوم.

هكذ زعم الملاحدة, ولكن السؤال المهم هو: هل ستحقق هذه الأحلام السخيفة في يوم من الأيام؟ أو هل تحققت في يوم من الأيام بالدليل المقنع1، أم أنها خدع كاذبة وتضليل, أو أفيون للشعوب المغلوبة على أمرها كما هو الواقع؟ إن الإسلام يعتبر الفكر الماركسي في ناحيته الاقتصادية فكرًا فاشلًا مخالفًا للعقل والفطرة السليمة, وأنه قام على نظريات جاهلية أخطأت الطريق الصحيح للاقتصاد النافع, وبدلًا من أن توجّه جهود المجتمع لمساعدة بعضهم بعضًا إذا بها تحرم الملكية الفردية, وتشعل مكامن البغضاء, وتثير الصراعات الطبقية بحجة سخيفة وهي: لترتفع الطبقة الكادحة بزعمهم, ولكي لا تتكدس الأموال في ناحية دون أخرى, وعند قوم دون آخرين, وكل ذلك ليس هو الحل الصحيح, ولا الحل الذي تستقيم به الحياة وتسعد الشعوب به, فهو مرفوض جملة وتفصيلًا, ويعتبره الإسلام تدخلًا فيما لا ينبغي للبشر سلوكه, فالناس كلهم عبيد لله في الإسلام, والمال مال الله, والرزق بيد الله يؤتيه من يشاء, لا يجره حرص حريص, ولا ترده كراهية كاره. فالمكلية الفردية حق اقتضته الفطرة والضرورة لصلاح الأحوال, وعلى الجميع أن يعضد بعضهم بعضًا بالتي هي أحسن, فلا صراع ولا بغي ولا عدوان، ولم يجعل الإسلام للشخص مطلق الحرية في أمواله ينفقها بإسراف أو يمسكها كما يحلو له، بل هو محاسب عليها ومسئول عنها, وعليه حقوق فيها يجب أن يؤديها, وإذا كان في الأغنياء من طغى وتجبَّر فهؤلاء لهم ما كسبوا وعليهم ما

_ 1 هذا رد لقولهم: إنها تحققت في عهد الشيوعية الأولى.

اكتسبوا, وسينالون جزاءهم, ولا يبرر فعلهم محاربة الملكية الفردية أو قيام الصراع الطبقي بين المجتمعات, كما أنَّ في أولئك التجار من اتَّصف بالعطف والتسامح ومساعدة المحتاجين دون منَّةٍ ولا أذى, والحكم على طبقة الأغنياء بأنهم احتكاريون وانتهازيون, وأنهم هم العقبة الكؤود في طريق غنى الفقراء وارتفاع معيشتهم إن هي إلّا خرافات سخيفة وأوهام باطلة قد دلَّت التجارب الشيوعية على فشل هذه الفكرة الخاطئة حين أفقرت الأغنياء وأتعست الفقراء, ومُلِئَت القلوب حقدًا وغضبًا, وأتعست الحالة الاقتصادية, ونشبت الصراع الطبقي على أشده دون رحمة، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة مشرقة للمجتمع حينما تصفوا القلوب وتزول البغضاء, فقد كان في الصحابة -رضوان الله عليهم- أغنياء وفيهم فقراء, وكان أحدهم يقول لصاحبه: عندي زوجتين, انظر أعجبهما إليك فأطلقها وتتزوجها, وعندي من الضياع كذا كذا, أتنازل لك عن نصفها, فيقول له الصحابي الفقير المهاجر: بارك الله لك في مالك وأهلك, دلني على السوق, فيذهب ويعمل ويرزقه الله تعالى, وكان فيهم من يملك الأموال الكثيرة مثل: عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه, وولم ينقم عليه أحد فيها, وقد أنفق عثمان -رضي الله عنه- ألف بعير في سبيل الله, وغير ذلك من الأمثلة المشرقة التي قام عليها الإسلام بعيدًا عن الصراعات الطبقية البغيضة، ذلك أن الإسلام يعالج المشكلة القائمة دون النظر إلى أسبابها, كما أنه يأتي بالحلول التي لا مضرَّة فيها على أحد؛ إذ لا ضرر ولا ضرار، بينما الشيوعية الحمراء عالجت المصائب بمصائب أفدح منها. داويت متؤدًا وداووا طفرة ... وأخفُّ من بعض الدواء الداء

مع أن ما أقدمت عليه الشيوعية في الأحوال الاقتصادية ليس فيه أي دواء، بل هو الداء بعينه, وهو الذل وهو خنق الحريات، فالسجون مملوءة, والجواسيس منتشرون, والمجاعة فاشية، إنه سجن كبير, وقبضة حديدية, فالشعوب غاضبة, ولكن الويل لمن تفوّه بكملة نقد، وأين هذا السلوك من حرية الإسلام التي "كان الرجل يقول لمعاوية": "والله لتستقيمنَّ بنا يا معاوية أو لنقومنَّك, فيقول: بماذا؟ فيقولون: بالخُشُب1, فيقول: إذًا أستقيم"2. فأي طاغوت من طواغيت الحكم في النظم الجاهلية يتحمَّل ما هو أدنى من هذا الكلام؟ وما زعموه من أن الطبقات القوية هي التي تحكم وتشرِّع لبقية الطبقات وتستعبدها، هذا صحيح ولكنه لا يوجد إلّا في النظم الجاهلية الذين يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله, والذين يصبح الظلم عندهم من شيم النفوس، فإن وجد ذا عفَّة لفعله لا يظلم, كما عبَّر عن ذلك أحد الشعراء الجاهليين قديمًا, ولكن هل هذه هي الحقيقة التي لا بُدَّ منها, أو الخيار الذي لا آخر سواه؟ كلَّا. بل هناك عقيدة فيها الحل الصحيح دون المرور بتلك الطرق الظالمة المظلمة, إنها العقيدة الإسلامية التي تجعل صاحب المال والفقير أخوة متساوين متضامنين لله رب الجميع وحكمه ينفذ في الجميع، لا فضل لأحد على آخر إلّا بالتقوى، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس هناك طبقات هم السادة الحاكمون

_ 1 الخشب "بضم الخاء": هو السيف الصقيل. 2 "سير أعلام النبلاء" ج3، ص154. يعزوه إلى ابن عساكر 16/ 368/ ب.

المالكون وطبقاتهم العبيد المستذلون إلّا في النظم الجاهلية التي لا تقيم للإنسان وزنًا إلّا من خلال ما يملك من المال والجاه, فيبدو المال بهذه الصورة هو السبب في الظلم والطغيان, بينما الواقع الصحيح هو خلاف ذلك, فإن المال والملكية الفردية من الظلم أن يحمَّلا طغيان المنحرفين {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . إن الذي يطغيه المال والملكية الفردية هو شخص منحرف في الأساس فاسد الطباع, سواء كان له مال أو لم يكن له مال, ذلك أن المستقيم على الحق القائم بأمر الله لا يطغيه المال, وإنما يستعمله في أعمال الخير ووجوه البر المختلفة مراقبًا فيه ربه, متيقنًا أن المال ظِلٌّ زائل, وعارية مسترَدَّة, وأن الدنيا شِدَّة بعد رخاء, ورخاء بعد شدة. أما مفهوم المساواة في الأجور في النظام الشيوعي الذي زعمت الماركسية أنه مكفول للجميع, فقد حملهم على القول به ما زعموه من أنّ البشرية كانوا في أصل نشأتهم يعيشون عليه متساوين كلهم في الحقوق بلا ملكية فردية, الكل للجميع في المأكل والملبس والمسكن والنساء, لا فرق بين شخص وآخر، حتى جاءت الرأسمالية والملكية الفردية فقلبت تلك الأوضاع التي تريد الشيوعية إرجاعهم إليها مرة أخرى، وهذا لا يتحقَّق إلّا بوضع الدولة يدها على كل وسائل الإنتاج والعمل, ومن ثَمَّ يأخذ كل شخص ما يستحقّه من قِبَلِ الدولة، وهذه الدعاية جذَّابة في ظاهرها، ولكن هل تحقَّقت فعلًا في النظام الشيوعي, فأعادت إليهم سعادتهم التي كانت في الشيوعية الأولى بزعمهم؟ وهل ساوت بين العمال فعلًا؟ فلم يعد هناك تمايز بين شخص وآخر, وحاكم ومحكوم؟!!

لا شكَّ أن الواقع الذي انجلت عنه الشيوعية بعد اندحارها يكذِّب كل تلك الدعايات, ويخبر أن الشيوعية إنما نجحت في مساواة الناس كلهم في الفقر والحاجة وليس في الغنى والسعادة؛ لأنه لا يوجد أي حافز يجده الشخص حتى يبذل أقصى جهده في العمل؛ ليجده مستقرًا في يد الدولة التي لا تعطيه إلّا بقدر حاجته الضرورية. وما الذي ينفعه أن يقال له: إن جهدك وعملك حينما يذهب إلى الدولة إنما هو إسهام منك في تقوية الدولة لتتمكَّن من إظهار الشيوعية, ولتقمع أعداءه إن فكروا في الاعتداء عليها، وما الذي نفعه حين يقال له: إنه بذلك الجهد في العمل مع أنك لا تأخذ إلّا ما يكفي حاجتك الضرورية دليل على سلوكك الطيب, وأنك غير جشع كالرأسمالي الغربي, وأنك مواطن طيب، وما الذي تنفعه وعود الملاحدة بأنه سيعيش في جنة عالية بعد أن تتمكَّن الشيوعية من بسط نفوذها على كل الأرض, وكيف تقتنع نفسه بهذه الحالة البائسة التي يعيشها في الوقت الذي يرى فيه وجهاء القوم وأصحاب السلطة يعيشون في تَرَفٍ لا حدَّ له؛ مساكن فاخرة, وسيارات فارهة, وبساتين نضرة, وخدمًا وحشمًا, وهم يتظاهرون بالدفاع عن الطبقة الكادحة وبنضال الرأسمالية. إن كل ذلك يدعو الشخص إن كان له عقل إلى القلق الاضطراب والثورة على تلك الأوضاع ومجازاة من كان السبب فيها, وهو ما حصل بالفعل في الثورات المتتالية التي تَمَّت في عهد "جورباتشوف" على الشيوعية ونظامها البغيض, وإطاحتهم بأولئك الخبثاء والقضاء عليهم بكل شدة في كل البلدان التي تنفّست الصعداء من الكابوس الماركسي, وهكذا نجد أن زعهمهم المساواة في الأجور إنما هو المساواة في الفقر وليس في الأجور.

تعقيب

-تعقيب وفي الختام يتضح لنا مما سبقت دراسته أن الأسس التي تقوم عليها الاشتراكية الشيوعية هي: 1- إلغاء الملكية الفردية واستبدالها بالملكية العامة المتمثِّلة في الطبقة الحاكمة؛ للوصول إلى إلغاء الصراع الطبقي من المجتمع البشري بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية. 2- توزيع النتاتج على الأفراد كلٍّ بحسب مساهمته في الإنتاج وحاجته, وهو المبدأ الذي يعبرون عنه بقولهم: "من كلٍّ حسب طاقته, ولكلٍّ حسب حاجته". 3- الإشباع الجماعي للحاجات وليس الربح, وهو مبدأ "المساواة في الأجور". 4- التخطيط للنمو الاقتصادي، وكفالة الدولة لجميع المواطنين, في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالًا ونساءً. 5- القضاء على الحرية الفردية. 6- إلغاء الكثير من العلاقات الاجتماعية المتوارثة، كالإرث والهبة, بل وإلغاء كافَّة الطابقات بإقامة دكتاتورية البروليتاريا -الطبقة الكادحة. 7- إنكار الدين ومحاربته. 8- إلغاء الحكومة في المستقبل, وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة "حكم الشعب نفسه بنفسه".

هذه أهم الأسس التي قامت عليها الثورة الاشتراكية الشيوعية, ولكن جاءت النتائج في التطبيق الفعلي لتلك الأسس على النحو الآتي, بالإضافة إلى ما سبق بيانه: 1- انعدام الحرية الاقتصادية الفردية. 2- انعدام الحافز الفردي. 3- عدم تجويزهم الملكية الفردية. 4- حكم الشعوب بالحديد والنار. 5- فشل مبادئ الاشتراكية فشلًا ذريعًا. 6- محاربتها للأديان متأثِّرة بالعداء للدين النصراني. 7- ظهور الكثير من المفاسد الاجتماعية؛ كالرشوة والغبن اللأخلاقية؛ كتفشي الرذائل بكل صورها وأشكالها1. والسر في ذلك أن المذهب الشيوعي ليس قاصرًا فقط على الناحية الاقتصادية كما يذكر عنه, بل هو مذهب شامل لجميع النواحي: عقدية كانت أو مادية, كما هو حال الشيوعية حقيقة, فمنْ تصور أن الشيوعية مذهب اقتصادي بحت لا شأن له ببقية الأمور العقدية والتنظيمية فهو مخطئ, خدعه زعم الملاحدة هؤلاء أن أصل كل الحياة بأنظمتها ومعتقداتها وجميع شئون الإنسان إنما كان أصلها المادة, وهو زعم كاذب بَنَوْا عليه النظرية الشيوعية التي جعلوا واجهتها الكبيرة التركيز فقط على الناحية

_ 1 بتصرف عن النظام الاقتصادي في الإسلام ص49.

الاقتصادية خداعًا للناس ونفاقًا, فإن أول ما يبطل هذا الزعم هو أن يقال لهم: إذا كانت الشيوعية لا شأن لها إلّا بإصلاح الأمور الاقتصادية فقط, فما بال الاضطهاد الديني هو الشاغل الأول لدول الشيوعية؟ ولماذا كثرت الضحايا التي لا يعلمها إلّا الله في سبيل إعلاء العقيدة الشيوعية؟ فلقد كان الجانب الاقتصادي في الشيوعية هو أقلّ الجوانب أهميةً، بل لا يكاد يقارن بما توليه الشيوعية من اهتمام بالجوانب العقدية الفكرية.

المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية

المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية المطلب الأول: التعريف بعلم الاقتصاد ... المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية وتشمل دراسة هذه الجوانب ما يلي: المطلب الأول: التعريف بعلم الاقتصاد لعلماء الاقتصاد عدة تعريفات حسب تأثرهم بالمظاهر الاقتصادية التي عايشوها, وبالاتجاهات الفكرية التي يعتقدونها, وهي تعريفات كثيرة إلّا أن التعريف السليم لعلم الاقتصاد ينبغي أن يشتمل على المفاهيم الأساسية الآتية: الاقتصاد ذاته, وحل المشكلات الاقتصادية، والإنتاج والتوزيع، وهو ما اشتمل عليه التعريف الآتي: "الاقتصاد هو العلم الذي يبحث في كيفية إدارة واستغلال الموارد الاقتصادية النادرة لإنتاج أمثل ما يمكن إنتاجه من السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية -من متطلباتها المادية- التي تتسم بالوفرة والتنوّع في ظل إطارٍ معينٍ من القيم والتقاليد والتطلعات الحضارية للمجتمع.. كما يبحث في الطريقة التي يوزَّع بها هذا الناتج الاقتصادي بين المشتركين في العملية الإنتاجية بصورة مباشرة "وغير المشركين بصورة مباشرة" في ظل الإطار الحضاري نفسه"1.

_ 1 النظام الاقتصادي في الإسلام ص36.

وقد ذكر الأستاذ "محمود إبراهيم الخطيب" أن هذا التعريف هو أفضل التعريفات لعلم الاقتصاد, وذلك لشموله جميع قضايا الاقتصاد، بينما التعريفات الأخرى كانت قاصرة لاهتمامها بجانب دون جانب, فإن بعض التعريفات التي ذكرها كانت تركز إمَّا على الثروة المنتجة صناعيًّا أو زراعيًّا, دون النظر إلى الإنسان, وأما بالتركيز على الإنسان فقط وكيفية حصوله على المواد الإنتاجية وكيف يستخدمها بطريقة تضمن له الثراء دون اهتمام بمواد الإنتاج نفسها"1.

_ 1 النظام الاقتصادي في الإسلام ص32-34.

المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان

المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان لا شكَّ أن للعوامل الاقتصادية أثر واضح جدًّا في حياة الناس وفي طريقة معايشهم وتعاملهم فيما بينهم, وفي الإسلام أتَمَّ بيان لأهمية هذا الجانب والتأكيد على الاهتمام به، على أن الإسلام وإن كان يولي هذا الجانب أهمية فائقة, لكنه لا يقر ذلك الغلوّ الممقوت الذي قرَّره الملاحدة في تقديسهم للجانب الاقتصادي إلى حدِّ أن جعلوه البديل عن الله تعالى, وإلى حدّ أنه هو المنشئ للقيم والأخلاق والتدين والتاريخ.. إلخ. فهذا التصور جاهلي قائم على المغالطة للناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم كما عرفت سابقًا, وقائم على الإجحاف الظالم بكل القيم الإنسانية والدينية على مرِّ الدهور. لقد تقرَّر في كل الكتب التي أنزلها الله والشرائع الإلهية, وأكد العلم الحديث أن المادة حدثت في فترة من الفترات, وأنها لم تكن موجودة قبل ذلك كما زعم الملاحدة أزلية المادة, أو أنه لا أوَّل لها ولا آخر لها. ولقد أكد علماء الأحياء على أن كل الكائنات الحية -فضلًا عن الإنسان- تسير على طريقة تخالف فيها المادة غير الحية في النمو وفي الصفات وغير ذلك, كما ثبت كذلك أن الإنسان منفرد عن الحيوان حتى في كيانه الحيوي البحت, فضلًا عن سائر الصفات التي امتاز بها؛ كالعقل والروح والتفكير وكل

أموره الأخرى, فلم يبق للماديين ما يتمسكون به لإرجاع الإنسان إلى حفنة المادة المجرَّدة إلّا مجرد العناد والمغالطة الباطلة التي سلبوا فيها الإنسان أعزَّ ما يملك من القيم المثلى, والخصائص التي ميزه الله بها, والتي هي أرفع وأعلى وأعظم من مجرَّد المادة, أنَّ للإنسان قيمًا ثابتة أصيلة, لم يكن الحال الاقتصادي هو المنشئ لها كما زعم الملاحدة, مع ملاحظة تأثير الحال الاقتصادي نسبيًّا, وإنما كان الحال الاقتصادي مسايرًا لها وحافزًا لإشباعها الموجود أصلًا قبل الحاجة إلى المادة، فمثلًا الرغبة الجنسية موجودة في الإنسان, ولم يكن سببها الحال الاقتصادي، وإنما هذا الحال يكون حافزًا للوصول إليها, فيصبح مجموع الأمرين الرغبة ووجود المادة يسيران في طريق واحد تلبيةً لذلك الجانب الهام المسيطر في الإنسان, وهو جانب "النفس" الذي أهمله الملاحدة عمدًا لاقتصارهم على الإيمان بالمحسوس فقط. فهذه النفس هي الأصل الذي يفسَّر به كل شيء عن الإنسان خيرًا أو شرًّا, هكذا أرادها الله الحكيم الخبير, لها مطالب عديدة, وتتشكل في أشكال مختلفة بتدبير الله تعالى لا بتدبير ذلك الإله الجامد المتمثل في المادة التي يدَّعيها الملاحدة. ولا يشك عاقل سليم الفطرة أنَّ للإنسان صفات أساسية تحدّد طبيعته الإنسانية, حتى وإن بدا عليه التأثر بالمادة, فإن جوهره الروحي لا يزال فوق المادة وفوق مشابهة الحيوانات البهيمية, مع التفاوت الحاصل بين الناس في هذا الجانب من ناحية التطبيق الفعلي بعد اتفاقهم في الإطار العام للإنسان, والتي تفيد أن الخواصّ الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ

وجود الإنسان على الأرض في نواحي الرغبات والمظاهر, وأنه لا يتغير بسبب المادة, بل الذي يتغيّر فيه هو جانب السلوك, فمثلًا يتغيِّر فيه نوع العبادة التي يتعبَّد بها ونوع التشريع الذي ينظم حياته, هل هو التشريع والعبادة الجاهلية؟ أم هو التشريع والعبادة الإلهية؟ فهذا هو الذي يحدث فعلًا تغييره في حياة الإنسان, سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا, مزارعًا أم صانعًا, أو في أي حالة من الحالات, فهذه يغيرها الإنسان فعلًا؛ فالتغيرات المادية والاقتصادية إنما تغيّر الصورة ولكنها لا تغير الجوهر والحقيقة الثابتة للإنسان. إن التغيير الشددي يأتي أولًا من داخل النفس, فالغضب والثورة في وجه الظلم والرحمة والحب والحزن ليس هو نتيجة حتمية لتغيّر المادة من طور إلى طور, وإنما سبب ذلك هو تلك الصفات الأصيلة في النفس: صفة حب العدل والحق والنفرة عن اللظم والظالمين, وكذا اللين والشدة وغيرهما هي صفات ميَّزَ الله بها الإنسان وفطره عليها, ليس سبب ذلك ما ذهب إليه الملاحدة في تفسيرهم الماديّ للتاريخ، والأدلة كثيرة على أصالة الصفات الإنسانية في الإنسان, وأن التغير لم يكن سببه المادة فقط كما زعم الملاحدة. ومن الأدلة على فساد تعليل الملاحدة أن الإنسان حينما يأتي ما يخالف فطرته وإنسانيته يبدو عليه القلق والاضطراب وعلامات التذمُّر المعبِّرة عن كراهته لأي وضع يفرض عليه أو لا ينسجم مع رغبته, وحال الناس في أوروبا وانفلاتهم في كل اتجاه وانغماسهم في كل رذيلة -وهو وضع يخالف فطرة الإنسان وأصالته الأخلاقية- لم يُقَابَل ذلك الوضع البهيمي بالترحاب

والانقياد التام -حتى وإن كان يبدو أنه مقبول في الظاهر- فإن انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمور والمخدرات واتساع نطاق الجرمية وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسي كلها دلائل صارخة على عدم الرضى بتلك الحياة البيهمية المادية, فلو كان الإنسان لا قيم له ثابتة -كما قرره الملاحدة- لكانت تلك الحياة لا تقدم ولا تؤخر من نفسيته, بل يعيش في أي ظرف سعيدًا مطمئنًا كما تعيش البهائم التي لا تهتم إلّا بالمادة وليس لها سلوك الإنسان, وهذا يدل على أن ما زعمه الملاحة -كما تقدَّم- من أنّ شدة التدين وسيطرة الأدب في الأسرة الزراعية, وكذلك الحفاظ على الأعراض, والاهتمام بالعفة, وتنظيم الحياة الجنسية, والتعاون بين أفراد الأسر, إنما كان سببه تلك الحالة الاقتصادية في المجتمع الزراعي إن هو إلّا كذب محض ومغالطة للنفس وسلب لقيمها الرفيعة التي منحها الله إياها, وما يستدل به الملاحدة من أن الناس في المجتمع الصناعي أصبحوا لا يعيرون الأخلاق والدين والترابط والعفّة بالًا بسبب التطور الاقتصادي, هو في حقيقته كذب ووضع شاذ غير مرضي عنه ومغالطة, وإنما السبب الأكبر في ذلك هو نجاح المخطط الشرير لإشاعة الفاحشة وتهوين الجريمة, وسلب الجوييم قيمهم التي يعتزون بها, ويفتخرون بإنسانيتهم فيها, والدليل هو ما سبق من حنين أصحاب الحياة البهيمية إلى العودة للأخلاق الفاضلة, والرغبة في محاربة الجريمة, وقد نصح كُتَّابُهم وزعماؤهم وحذَّورا مجتمعاتهم من مغَبَّة تملك الحياة السائبة التي تهوي بهم إلى النهاية السحيقة بسرعة مذهلة، فلو أنَّ الإنسان لا قيم له لما أحس أولئك بأوضاعهم الشنيعة ولعاشوا دون اي نكير وهذا يدل على كذب الزعم الشيوعي أن الإنسان لا قيم له ولا قيمة ولأخلاقه وسلوكه إلّا من خلال الأوضاع الاقتصادية والسلوك الناتج عنها.

المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية

المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية إن دراسة الأحوال الاقتصادية والتعرُّف على مشكلاتها ومعرفة حلولها أمر ليس من السهولة كما قد يتصور البعض, فهي أفكار وتجارب ودراسات مقارنة, وحلول لا بُدَّ أن تكون حاسمة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي هي من الأسس الهامة في تفرق الأمة وفي نشأة النظم المختلفة والمذاهب المتنوعة, ولقد كثر الجدل واشتدت الخصومات بين الناس لاختلافهم في مفاهيمهم للاقتصاد وطرق الوصول السليم إليه, وكلها متاعب قد تقف واحدة منها في طريق الباحث فتثنيه عن مواصلة دراسته لهذا الجانب الخطير, وقد لا يتصور البعض أن في دراسة الأمور الاقتصادية خدمة جليلة للإسلام وأهله, ومن تصوَّر هذه الخدمة وأحسَّ بوجوب النصيحة لإخوانه المسلمين, وإجلاء عظمة الإسلام ونظامه البديع في الأمور الاقتصادية, ومقارنة ما جاء به الإسلام بما جاءت به الأنظمة الوضعية في هذا الميدان, هان عليه الأمر في اقتحام هذه المتاعب وتجرأ على المشاركة والإسهام في تقديم هذه النصحية مهما قلَّت تكثيرًا للأصوات التي تنادي بوجوب الالتزام بالحلول الاقتصادية على ضوء الشريعة الإسلامية, وأن خير البشرية وسعادتهم تكمن في هذا، وبيان أنَّ ما قدمته الحلول الوضعية إن هو إلّا سراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وأن من الإجرام إغفال بيان هذا, أو ترك المسلمين دون توجيه, فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع.

فيجب أن تتظافر الجهود وأن تعلو الأصوات التي تنادي بأنَّ الإسلام فيه حلول كل المشكلات الاقتصادية في مواجهة الدعوات المضادَّة الحاقدة التي تزعم أن الإسلام ليس له أيّ مشاركة في الجوانب الاقتصادية, فهو محصور في المساجد فقط, وهي أهم دعوات العلمانيين والملاحدة, وقبل الدخول في دراسة هذه الجانب أحب أن أذكر القارئ الكريم أنني لم أكن أتصور حجم خطر المشكلات الاقتصادية على حقيقتها -بحكم تخصصي في دراسة العقيدة- إلى أن أراد الله تعالى أن نُدعَى أنا وزملائي في الدراسة -إلى حضور المؤتمر الاقتصادي الإسلامي الأول الذي انعقد في مكة المكرمة, ودعينا -طلاب المرحلة المنهجية بالدراسات العليا- لحضوره للاستماع والاستفادة من أفكار المفكرين الاقتصاديين, ولقد اندهشت من خبرة من حضره من المفكرين, وما كانوا يطرحون من مشكلات وحلول في أساليب عجيبة, كأنما يتكلّم أحدهم عن ظهر قلب, وباندفاع أثار في نفسي انطباعًا لن أنساه, وكنت أستمع لهم بإعجاب لم أعهده في نفسي من قبل, ومنذ ذلك الوقت بدأ تفكيري يدور حول ملاحظة هذا الجانب وكيف عالجه الإسلام, وأسجل كلمة ومن هنا وأخرى من هناك؛ لأرجع إليها متى أحببت, فجزى الله أعضاء ذلك المؤتمر وجامعة الملك عبد العزيز خيرًا على ما قدَّموه, وتلك الأمور التي دونتها في شتَّى الأبحاث هي ما سأقدمه بين يديك في هذه الدراسة, مع أنها لم تكن بالأمر الذي كنت أتمناه تمامًا لإفادتك, ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. أخي القارئ: اعلم أن أكبر ما أحرص عليه هو تنبيهك إلى أن لا تستهين

بدراسة هذا الجانب, فهو من أخطر الجوانب في حياة البشر, وعليه يتوقف مصير شعوب بأكملها خيرًا أو شرًّا كما تقدَّم, وعليك أن تَجِدَّ في فهمه لدحض حجج أعداء الإسلام, وتكذيب ما ينادون به من قصور الإسلام عن معالجة المشكلات الاقتصادية, ويستدلون زورًا وكذبًا بضعف المسلمين في النواحي التطورية العصرية, مع علمهم أنهم هم السبب وراء هذه الحال في العالم الإسلامي باستعمارهم لهم اجتماعيًّا وفكريًّا فترة من الزمن, ولا يزالون أداة تثبيط وتخذيل للمسلمين, وتسلط عليهم إلى يومنا الحاضر, لم يتوانوا في كل ما مِنْ شأنه الحاق الذل والضعف بالمسلمين, ومن سخريات الأمور أن يشنعوا على الإسلام ما جاء به في حل المشكلات الاقتصادية -هو حل ناجح وأثبتت التجارب صلاحيته- ثم إذا صادف أن جاؤا بنظرية ناجحة في الجانب الاقتصادي طاروا فرحًا ومجّدوا أنفسهم وعقولهم, حتى إذا علموا أنّ الإسلام قد سبقهم إليها وبيَّنَها, كادوا أن يغصّوا برقيهم, وبدؤا في تحويرها أو السكوت عنها ظلمًا وعدوانًا واستكبارًا عن الحق وغضًّا من شأن رسالة الإسلام الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان. ولهذا فقد أغفلوا الجوانب المشرقة للإسلام التي تعتبر نموذجًا للتطور الاقتصادي الناجح, سواء منها ما جاء في القرآن الكريم, أو في السنة النبوية, أو ما جاء في تطبيقات خلفاء الدولة الإسلامية منذ بزوغ فجرها, وتوالى الخلفاء عليها, أو ما قام به علماء الإسلام في شتّى العصور من بحوث فقيهة أثرت الجوانب الاقتصادية في مختلف النواحي, بما يجب أن تضاءل أمامه أفكار ساسة الاقتصاد الوضعي, وأن تذوب غطرستهم أمام عظمته.

وينبغي التنويه إلى أنّ الاهتمام بجانب الاقتصاد لم يكن جديد النشأة كما يرى الكُتَّاب الغربيون ومن سار على طريقتهم, فإنه جديد بالنسبة لهم؛ إذ إنهم لم يعرفوا هذا الجانب إلّا في أواخر القرن الثامن عشر بعد ظهور الثورة الصناعية, ولهذا فهم لم يعترفوا بفضل من سبقهم من الأمم الذين عرفت لهم إسهامات في جوانب متعددة من القضايا الاقتصادية التي كانت متصلة بحياتهم المعيشية, وإن لم تكن دراسة بالمفهوم الاقتصادي الواسع1، كما قرره العلماء فيما بعد. ولكنَّهم كانوا قادة خير وبركة على من بعدهم, ومصدرًا يفيض حكمة ومعرفة, كيف وأن الموجه للإنسان منذ نشأته الأولى هو رب العالمين, الذي علَّم آدم كل ما يحتاجه من أمر دينه ودنياه, ومن هنا نجد أن الجانب الاقتصادي له أهميته في الإسلام, وللإسلام حلوله التي اختص بها, ونظرته الشاملة له على ضوء العقيدة الإلهية الشاملة لكل جوانب الحياة الاجتماعية، التي أمر الله المسلم باتباعها واجتناب كل ما يضادها من الأنظمة البشرية, تلك العقيدة التي ينتج عنها المراقبة الذاتية للمسلم في كل تصرفاته مع نفسه ومع أبناء دينه, ومع غيرهم من سائر البشرية التي ترتكز على ملاحظة المفاهيم للكون وللحياة, وبالتالي موقع الاقتصاد منها. وكذلك ملاحظة التفريق بين المعاملات الصحيحة وغير الصحيحة, العقيدة التي تقول للمسلم: إن الله أجاز لك البيع والشراء, لكنه حرَّم الربا, وأجاز الملكية الخاصة الفردية, ولكنه جعل لها نظامًا ينسجم مع الملكية العامة؛ إذ ليس فيه تغليب جانب على آخر كما هو الحال في

_ 1 انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص34-35.

الأنظمة البشرية من رأسمالية وشيوعية, أو غير ذلك مما اخترعه الإنسان من أنظمة ثبت مع مرور الأيام أنها أنظمة قاصرة مؤقَّتة غير صالحة لكل زمان ولا لكل مكان, حتى وإن توافقت بعضها مع الشريعة الإسلامية عرضًا فإنها لا تزال جاهلية, ولا يبيح هذا التوافق شرعيتها ولا تسميتها باسم الإسلام كما فعل كثير من الجهّال الذين وصل بهم الجهل والحمق إلى تسمية بعض النظم الجاهلية باسم الإسلام؛ كتسميتهم الاشتراكية الماركسية باسم الإسلام, والتي نسبها بعضهم إلى الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه, وبرَّأه من أكاذيب الملحدين كقولهم: إنه زعيم الاشتراكية الإسلامية, محملين مواقفه من المال تأويلات باطلة ومفاهيم خاطئة, وهذا يعني أن الإسلام له مفهمه الخاص للمشكلة الاقتصادية, وللنظم الوضعية مفاهيهما الخاصة بها, وبين النظامين من التباعد والاختلاف مثل ما بين مصدريهما, ولا تختلط تلك المفاهيم إلّا على الجاهلين, وسيتبين من خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى الفروق الواضحة بين النظام الإلهي في القضايا الاقتصادية, وبين تلك الأنظمة الوضعية التي قامت على أفكار من هم محلّ النقص والقصور, وهذه المقارنة إنما تقال إقامة للحجة, وإلا فإنه لا مقارنة بين الحق والباطل, وبين الجاهلية وبين الإسلام, ذلك لأنَّ الإسلام دين كامل شامل لكل جوانب الحياة, قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1. ومن هنا نجد أن الإسلام قد اعتنى بالمشكلات الاقتصادية وأولاها

_ 1 سورة المائدة، الآية: 3.

أهمية بالغة نظرًا لأهميتها في حياة الناس وانتظام معايشهم, فجاءت تعاليم الإسلام لحلها في غاية الوضوح وفي أسمى ما تحقق به العدالة والإنصاف والرحمة, وتحقيق آمال الأغنياء والفقراء على حد سواء, ولا يسمح باستعباد الغني للفقير, ولا بإثارة الفقير على الغني، بل قام على أساس المحبة والقناعة، ولم يقم على الصراعات الطبقية التي قامت عليها المذاهب الجاهلية كالماركسية والرأسمالية. ولقد عاش الناس حينما كانوا يهتدون بهديه وينطلقون من تعاليمه في أسعد حال واهنأ عيش؛ في محبة ومودة, يعلم كل فرد أنه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله له, وأن الدنيا دار ابتلاء ولا يدري الإنسان أيهما خير له في دينه ودنياه وعاقبة أمره, أو أن يكون غنيًّا أو أن يكون فقيرًا, فيعلم حينئذ الغني والفقير على حد سواء أنهما في ابتلاء, وأن الله تعالى يعطي كل عبد وفق ما قدَّره له في سابق علمه, ولهذا تجد المسلم دائمًا يعيش قرير العين مطمئنَّ النفس منشرح الصدر, كما امتاز الإسلام بالحل الشامل لتنظيم الأسرة والمجتمع والأفراد بطريقة تضمن للجميع السعادة والعيش بأمن وسلام ومودة, يتمثَّلون فيه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال الرسول -صلى الله عليه سلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" 2.

_ 1 سورة الحجرات الآية: 10. 2 أخرجه البخاري ج1، ص182، ومسلم ج4، ص1999.

وقوله صلى الله عليه سلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن لأحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2. وفي راوية: "لجاره"، وغير ذلك من النصوص المستفيضة في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تدعوا إلى الألفة والمحبَّة وصفاء القلوب والرحمة بين أفراد المجتمع, وترك شح النفس والغش في المعاملات, وإلى الصدق في البيع والشراء, وإلى تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 3. وتدعو كذلك إلى التعاون في وجوه الخير, وإلى أن يؤدي كل فرد ما عليه من واجباتٍ تجاه الآخرين من أمور تتعلّق بالشخص أو بماله، وأوجب الزكاة التي تعود إلى الفقراء بدون أن يشعروا بأي منَّةٍ لأحد بعينه, وما ينشأ عنها من ترابط المجتمع وتوادّه, إضافةً إلى ترغيبه في الصدق والاتصاف بالكرم والتنفير عن العودة في الهبة, وغير ذلك من السلوك الذي تحقق به السعادة. ولا شَكَّ أن الفقر هو أكبر المشكلات بين البشر قديمًا وحديثًا, وهو أيضًا

_ 1 أخرجه مسلم ج4، ص1999، والبيهقي في سننه ج3، ص353. 2 البخاري ج1، ص14، ومسلم ج1، ص67. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك ج2، ص66.

أعظم الأمور التي ينفذ من خلالها كل صاحب غرض إلى تحقيق غرضه بوسيلة المال, لهذا حينما جاءت الماركسية لم يجد أتباعها أيّ وسيلة أشد نفوذا إلى نفوس الناس وإثارة أحقادهم وقلب أوضعاهم كلها من وسيلة إثارة الأمور الاقتصادية, فأثاروها بأنواع الدعايات وشتَّى الأساليب, حتى تَمَّ لهم قلب الأمور رأسًا على عقب في كثير من بقاع الأرض, مستغلين لتحقيق أغراضهم الفقر من جانب, وجهل الناس بحقيقة الدين, وجهلهم كذلك بحقيقة ما يدعو إليه وألئك الملحدون. من جانب آخر فإذا بقرن الشياطين يظهر عاليًا, وإذا بنداءات الجهَّال ترتفع, وداسوا في طريقهم كل فضيلة, ونبذوا كل تنظيم أو دين, ورفعوا شعارتهم الاقتصادية الجاهلة التي اتَّضح أمرها فيما بعد, بأنها كانت سرابًا وخيالًا فارغًا, ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن جرف تيارهم في طريقه ملايين البشر فأوردوهم الهلاك في الدنيا والأخرة, وما ذلك إلّا بفعل الدعايات أولًا, ثم بفعل الحديد والنار ثانيًا, وليس لوجود تلك التيارات الجهنَّمية التي لا تفلح في شيء مثل ما نجحت في الفوضى الإباحية. ومن العجيب أن ينبري دعاة الإلحاد أقزام الشيوعية والوثنية إلى مهاجمة الحلول الاقتصادية الإسلامية لمشكلات الفقر والبطالية وهم لا يعرفونها, ولم يدرسوها في كتاب الله ولا في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولم يجربوها, وإنما يسمعها بعضهم من بعض في صورة مشوَّهة كاذبة, ثم يتناقلونها على حد ما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه الكريم حيث قال: {وَكَذَلِكَ

جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وتبرز في الإسلام جميع الأحكام الاقتصادية مرتبطةً بجميع نواحي الحياة: 1- الروحية التي تمثل علاقة الإنسان بخالقه. 2- الخلقية السلوكية: التي تمثل الصدق والأمانة والتراحم والوفاء في جميع المعاملات. 3- الاجتماعية: التي تقوم على مبدأ المساواة والتكافل الاجتماعي. 4- السياسية: التي تتمثَّل بالتزام الحاكم بالأصول الشرعية2.

_ 1 سورة الأنعام، الآية: 112. 2 انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص58.

المطلب الرابع: الغزو الفكري عن طريق الاقتصاد

المطلب الرابع: الغزو الفكري عن طريق الاقتصاد لقد حارب أعداء الإسلام والمسلمين الدين الإسلامي ومعتنقيه بكل ما لديهم من أسلحة في مواجهات فعلية بالجيوش النظامية, فعجزوا ويئسوا من الانتصار على المسلمين, فاتجهوا إلى حربه بطرق لا تثير الضجيج ولا تلفت الأنظار، وبالتالي فهي أضمن وسيلة للنجاح وأقل كلفة, ومن تلك الطرق الكثيرة غزو المسلمين عن طريق الفكر الاقتصادي تحت أشكال لا حصر لها من مساعدات وهبات وقروض واستثمارات وأيد عاملة في شتَّى المجالات الاقتصادية, فنجحوا نجاحًا ظاهرًا؛ حيث كسبوا المال ونشروا أفكارهم في سكون وتؤدة, فوقعت أكثر الدول الإسلامية في شراكهم واستعبدوهم عن طريق الحلول الاقتصادية, وأغرقوهم بالديون الربوية فزادوهم فقرًا على فقرهم, وتخلفًا على تخلفهم, إلّا من أفلت منهم. إنها مؤامرة رهيبة هائلة تأكل في طريقها الأخضر واليابس, فالعامل والمذيع والصحفي والممثل والخطيب والطبيب منهم, والسياسي وغير السياسي, كل هؤلاء أصبحوا صفًّا واحدًا للزحف على الإسلام وصهر المسلمين في بوتقة الحضارة الغربية, تضافرت جهودهم واتحدت كلمتهم في الوقت الذي أصبح فيه المسلمون فرقًا وأحزابًا لا يلوي بعضهم على بعض, وفي الوقت الذي انخدعوا فيه بأن الغرب سيجعل من دولهم أو دويلاتهم محط الأنظار ومهوى الأفئدة في الاقتصاد, فإذا به لم يحقق لهم شيئًا من هذا, اللهمَّ إلّا في مجالات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ كالسياحة والتنقيب عن آثار مَنْ عفى عليهم الزمن منذ مئات السنين, كذلك أيضا في

مجال الفن والموسيقى, وغير ذلك من التوافه التي يراد بها صرف أنظار المسلمين عن واقعهم الحزين, وإشغالهم بطلب الاقتصاد والغنى عن طريق تلك التوافه, ومن الأدلة الواضحة على هذا ما تسمعه -عزيزي القارئ- من بذل الدول النصرانية المساعدات بسخاء, والقروض الوافرة بشرط أن تنفذ في تلك المجالات التي يعدونهم بأنها ستجعل اقتصادهم في القمَّة في الوقت الذي يتلمَّض فيه كثير من الشعوب الإسلامية جوعًا, وهم في أمسّ الحاجة إلى لقمة العيش بدلًا عن التنقيب عن آثار تلك الأمم الغابرة -من فراعنة وغيرهم- والافتخار, ثم يأخذون في إسباغ هالة من التعظيم لها؛ لكي يتقبلها أولئك البؤساء ظنًّا أنهم وصلوا إلى تحقيق أمالهم الاقتصادية العريضة, إلى حد أن علماء الآثار يزعمون أحيانًا أنهم يجدون جمجمة إنسان تعود إلى أربعة آلاف سنة أو أكثر {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 1. وهذا يتطلّب من جميع المسلمين أن يصححوا أوضاعهم الاقتصادية, وأن لا يجعلوا لأعدائهم سبيلًا لإذلالهم لهم, وأن يصفّوا كل الأفكار العالقة بأذهانهم بأذهان المسلمين من حضارة الغرب وتقدمهم وإكبارهم لهم, وأن يعيدوا إليهم ثقتهم بقدرة الإسلام على حلّ كل المشكلات الاقتصادية بطرقه الحكيمة الواقعية ففيه الخلاص, وفي نظامه الخير كله, ولن يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها, وأن يعلموا يقينًا أن أعداء الإسلام لا يزيدونهم إلّا خبالًا وخسرانًا, بل وإذلالًا لهم في سبيل الحصول على غنى خيالي أو كمال, وقد قيل في الأمثال: "جعجعة ولا ترى طحنًا".

_ 1 سورة الكهف: الآية: 104.

المطلب الخامس: المال في الإسلام

المطلب الخامس: المال في الإسلام يحث الإسلام على العمل والإنتاج وكسب المال الحلال, فمهما كانت كثرته إذا كان عن طرق مشروعة ويريد به صاحبه الدار الآخرة وإعفاف نفسه ومن يعول عن ذلّ المسألة, قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. وبالمال قوام الحياة, وقد قيل: كاد الفقر أن يكون كفرًا, وهو أعدى أعداء الإنسان, ومن زعم أن الإسلام يحثّ على الفقر ويرغِّب فيه على أنه زهد يثاب عليه الإنسان فقد كذب وافترى, فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" 3. وغير ذلك من النصوص, ولم يرد عن أحد من الصحابة أنّه اختار الفقر على الغنى، وإنما عرف هذا الهوس عن غلاة الصوفية الذين فضَّلوا الفقر الاختياري على الغنى على الطريقة الهندوسية، مع أنهم في واقع الأمر كانوا من كبار الأغنياء, ووجد لبعضهم مدخرات ثمينة

_ 1 سورة القصص، الآية: 77. 2 أخرجه مسلم، ج4، ص2052. 3 أخرجه مسلم ج2، ص717،والبخاري في صحيحه، ج5، ص23465.

بعد موتهم؛ لأن حب المال فطرة في الإنسان, والإسلام لا يجعل المال هو الغاية التي يجب أن تطلب لذاتها, أو أنه هو الطريق الوحيد إلى السعادة, بل يجعله وسيلة إلى إصلاح شئون الحياة إذا كان عن الطريق المشروع, وفي نفس الوقت تجد أن الإسلام ينظر إلى المال على أنَّه قضية محترمة, وعلى أنَّه عارية بيد الذي يملكه, وأن المال ومالكه ملك لله تعالى, فلهذا ذكر الله في القرآن الكريم أصحاب الأموال بأن الله جعلهم مستخلفين فيه, فلا يحل لهم التصرف فيه إلّا وفق ما شرَّعه الله تعالى, ومن هنا حرم الذبح لغير الله والإسراف والتبذير وإنفاق المال فيما حرَّمه الله, وأخبر تعالى أنه سيحاسب أصحاب الأموال حسابًا شديدًا, فلو كان ملكًا لهم لما حاسبهم عليه, وقد قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع" وذكر منها: "وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه". وإنما ينسب إلى مالكه من البشر؛ لأنه بيده يتصرف فيه وكأنه هو المالك الحقيقي في ظاهر الأمر, وهذه قاعدة من قواعد الاقتصاد في الإسلام, أن المال لله تعالى, والبشر مستخلفون فيه ومحاسبون عليه.

_ 1 سورة النور، الآية: 33.

المطلب السادس: وجود الموارد وندرتها

المطلب السادس: وجود الموارد وندرتها يرى أصحاب النظام الوضعي -الرأسمالي- أن الإنسان له حاجات كثيرة غير متناهية, بينما الموارد التي تسد تلك الحاجات محدودة أو نادرة بالنسبة لكثرة حاجات الإنسان في نظرهم, وتبعًا لهذا التفكير ابتدأ الاقتصاديون نشر أفكارهم وأبحاثهم وسياساتهم, فعقَّدوا الأمور وأجدّوا عاملًا وهميًّا كان هو السبب بزعمهم في عدم حياة الإنسان الحياة السعيدة التي يريدها, وهو قلة الموارد المتاحة له في مقابل حاجاته غير المتناهية. وقد تأثَّر بهذه الفكرة كثير من الكُتَّاب؛ حيث أرجعوا سبب المشكلات الاقتصادية إلى قلة الموارد الاقتصادية أو زيادة السكان أو سوء التوزيع أو سوء التعامل الاقتصادي, وغير ذلك من التعليلات, وقد أورد محمود بن إبراهيم الخطيب خمسة أسباب لظهور المشكلة الاقتصادية بصورة عامَّة كما يراها الاقتصاديون من غير المسلمين, وهي1: 1- الندرة النسبية للموارد الاقتصادية لعدم كفايتها بالحاجات, أي: عدم توفُّر السلع الاقتصادية لسد الحاجات. 2- زيادة السكان بصورة أكبر من زيادة الموارد, ويسمونه "الانفجار السكاني". 3- سوء توزيع الموارد بسبب سوء الأنظمة الوضعية.

_ 1 بتصرف. انظر كتاب "النظام الاقتصادي في الإسلام" ص28-29.

4- ظهور الاحتكارات والبنوك الربوية, وهدر كثير من الموارد وحرمان البشرية منها؛ لتستقر في أيدي فئات خاصة من الناس. وقد ذكر أن الندرة حقيقة موجودة في بعض النواحي, وأرجع أسباب ذلك إلى: 1- إلى الإنسان ذاته لعدم التزامه بهدي الله تعالى. 2- الابتلاء من الله تعالى. 3- بسبب عدم استخدام الإنسان لكافَّة طاقاته سواء الذهنية والعقلية. 4- ظلم الإنسان لأخيه الإنسان, مثال ذلك: ما تفعله بعض الدول بالقاء المنتجات الزراعية في البحر وإحراقها كما تفعل الدول الرأسمالية؛ لكي تحافظ على ارتفاع السعر, بينما الإسلام لا يقيم نظرته الاقتصادية لا على الوفرة المطلقة ولا على الندرة أيضًا، وأن تسخير الله الكون كله للإنسان لا يعني حصوله على كل شيء بلا جهد أو عمل، فلو كان كل شيء يتَّصف بالوفرة المطلقة لتكاسل الناس وتقاعسوا عن العمل, ولما كانت هناك دوافع للإنسان أن يسعى في الأرض ويعمرها1، ولو كانت الأمور قائمة على الندرة المطلقة ليئس الناس واشتدت حاجتهم, ولما وجد منهم هذا التفاوت الاقتصادي, ولما اتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا؛ لكي تستقيم الأمور وتسير الحياة.

_ 1 انظر "النظام الاقتصادي في الإسلام" ص65-66 "بتصرف".

المطلب السابع: مدى صحة تعليل أصحاب النظام الوضعي للمشكلة الاقتصادية

المطلب السابع: مدى صحة تعليل أصحاب النظام الوضعي للمشكلة الاقتصادية الإسلام وهو صاحب الحل الشامل للقضية الاقتصادية نجده ينظر إلى المشكلة الاقتصادية من جميع جوانبها, سواء ما يتعلق منها بموارد الإنتاج, أو بتوزيع الموارد, أو بقيام المنتجين وكيفية سلوكهم تجاه موارد أرزاقهم المختلفة, وإلى الخلق الذي يكونون عليه في تعاملهم, وقد أخبر الله -عز وجل- في كتابه الكريم أنَّ موارد الرزق متعددة ومتنوعة, وأنها تغطي حاجات الإنسان وزيادة أيضًا عن حاجته, وأن الأرزاق كلها مقدَّرة ومتوفِّرة بحكمة الله وتدبيره, قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. وقال تعالى عن الأرض: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} 2. فالأرزاق كلها مقدَّرة ومضمونة ووافية بحاجات البشر, وأن تعليل الواضعين للنظم الاقتصادية إنما هو دليل على جهلهم بحقيقة الأمر الذي قرَّره الإسلام وفصَّله على حقيقته وواقعه؛ حيث ذهبوا إلى أن الموارد شحيحة لا تفي بحاجات الناس, إلى آخر تعليلاتهم التي تكلَّفوها, فإن الواقع يدل على

_ 1 سورة هود الآية: 60. 2 سورة فصلت، الآية: 10.

أن ندرة بعض الموارد لدى بعض المجتمعات إن يعود إمّا إلى قصورهم في استخراج تلك الموارد, أو لصارف آخر صرفهم عنها, وإلا فقد اقتضت حكمة الله -عز جل- أن الموارد تكفي لحاجات الناس لا لرغباتهم وشهواتهم التي لا تقف عند حد, وهذا يعود إلى مصلحة الإنسان نفسه إذ {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} 1. وقد رتَّب الله -عز وجل- أن يكون للإنسان دور واضح في استخراج الخيرات, والقضاء على مشكلات الحاجة والفقر بالعمل الجاد, وحسن التصرف؛ لاستجلاب فوائد مختلف الموارد {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 2. فإذا حصل بعد ذلك فقر وحاجة فربما تكون أبرز أسبابه كسل الإنسان وخموله وعدم البحث وعدم المشي في مناكب الأرض كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 3. أو يكون بعد بذل الأسباب ابتلاءً من الله تعالى, وقدر لا مفر منه, أمَّا حاجات الإنسان فإن الإسلام لا يمنع من تلبيته تلك الاحتياجات ما دامت ضرورية لحياة الإنسان الروحية والجسدية, ولا تصل إلى حد

_ 1سورة الشورى، الآية: 27. 2 سورة التوبة، الآية: 105. 3 سورة الملك الآية: 15.

الإسراف والتبذير, ولا يحد الإسلام إلّا من الإكثار في إشباع الرغبات التي لا تقف عند حد كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 1. وقوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 2. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب" 3. وهكذا فإن الرغبات لا تقف عند حد أو نهاية, ولو كانت تقف عند حد لكان الوادي من ذهب رزق لا مزيد عليه, ومع ذلك فلو ملكه الإنسان لتمنَّى آخر, ومن لم يفرق بين الحاجات والرغبات تجده دائمًا يعيش في قلق وإحساس بالفقر؛ لظنه أن الرغبات التي تجول بخاطره هي حاجات ضرورية, فيتلهَّف على حصولها ويتأسَّف لعدمه. ومن الدير بالذكر أن الإسلام لا يعترف بالفواصل التي وضعها البشر بين الاقتصاد الدنيوي وبين ارتباطه بالنظر إلى الجانب الديني, فإن الإسلام يعتبر الجانب الروحي والوازع النفسي هما أقوى دعائم الاقتصاد, ذلك أن الاقتصاد الذي يفتقر إلى مراقبة الله تعالى في كل التصرفات إنما يقوم

_ 1 سورة آل عمران الآية: 14. 2 سورة الفجر الآية: 20. 3 أخرجه البخاري ج5، ص3264، ومسلم ج2، ص725.

على شفا جرف, وما أكثر الشواهد على هذا الاختلاف في النظم البشرية وفرق شاسع بين اقتصاد يعتبر من جملة العبادات حينما يراد به وجه الله, وبين اقتصاد يقوم على جشع لا حدود له, أو اقتصاد مكبَّل لا يجد النور إليه سبيلًا, كما أن الإسلام يعتبر العمل والكسب الحلال والابتعاد عن الظلم والصدق وعدم الغش.. إلخ. يعتبر الإسلام ذلك كله عبادة يتقرَّب بها الشخص لخالقه إذا صاحبت ذلك النية الصادقة ومراقبة الله تعالى, وهذه المزية في الاقتصاد لا توجد في أيّ نظام غير الإسلام, فإن كل الأنظمة الوضعية إنما تهدف إلى جمع الثروة بأيّ طريق, والغاية تبرر الوسيلة فيها, ولا مكان للقيم والأخلاق والرحمة بالآخرين, ولا مراعاة لأحوال البؤساء؛ إذ لا يوجد في الأنظمة الوضعية أيّ داعٍ يحثّ على ذلك ويذكر به, فضلًا عن الإشارة إلى الثواب عليه في الدنيا أو في الأخرة عندما ينادون به من الإنسانية, وهي كلمة لا توحي بما يرغب عند الله, كما أن المراقبة القانونية هي الأخرى أصبحت تابعة لمصالح القائمين عليها والمنتفعين بها, فالرشوة والتحايل للتفلُّت من عقاب القوانين البشرية التي وضعوها لحماية الاقتصاد بزعمهم, أصبحت هي الأخرى ألعوبة في أيدي تلك النخبة التي تعرف من أين تؤكل الكتف، ففقد النظام الاقتصادي كل المكونات لحمايته وسيره سيرًا حسنًا, فلا وازع من قانون قادر على التصدي للخلل فيه, ولا وازع ديني يراقب فيه الشخص مولاه ووقوفه بين يديه -عز وجل, وهي المزية التي يمتاز بها المسلم في تعامله الاقتصادي حين يراقب الله تعالى كأنه يراه, فلا يستحلّ من المال إلّا ما أباحه الله له, سواء فطن المتعامل معه إلى ذلك أو لم يفطن, وهذا توجيه إسلامي مشرق على أن

الإسلام لم يكتف بالركون إلى هذه المراقبة فقط -وإن كانت من أسمى الأمور, ولكن الإسلام أضاف إلى هذا وازع السلطان لردع من قلت عندهم المراقبة الذاتية, فاكتمل بهذا أقوى وأفضل الأنظمة لتحقيق الصالح العام والخاص في الدنيا وفي الآخرة, الذي يجعل جميع موارد الرزق أمرًا مشاعًا بين الناس ما دامت في حدود الشرع وفي حدود "لا ضرار ولا ضرار". أمَّا أصحاب النظام الوضعي فقد ارتكبوا خطأ استندوا فيه إلى أوهام ظنّوها صححية, وأتصوّر أن سبب هذا الخطأ عند غير المسلمين يعود إلى عدم إيمانهم بالله تعالى, وأنَّه هو الرزاق ذو القوة المتين, بيده مقاليد كل شيء, فذهبوا يعللون للمشكلة الاقتصادية بندرة الموارد, ومن الطريف في الأمر أنه قد خرج بعض مفكريهم عن هذا التصور وقرروا أن تعليل المشكلة الاقتصادية بندرة الموارد مجرد خيال وخرافة, وقد نقل الدكتور "شوقي أحمد"1 عن بعض مفكريهم "فرنسيس مورلاييه" و"جوزيف كولينز" نقولات ترد هذه الفكرة وتشنّع على معتنقيها, وترد العجز ليس إلى الموارد, وإنما إلى الإنسان نفسه وتقصيره, وألَّفَا في ذلك كتابًا سمياه "صناعة الجوع وخرافة الندرة" أكَّدَا فيه أن "مشكلة ندرة الموارد عن حاجات الإنسان هي مشكلة اصطنعها الإنسان واكتوى بنارها". وأن الجوع والحاجة ليس بسبب ندرة الغذاء والأرض, وإنما الذي يلام عليه الإنسان نفسه, وذلك -كما تقدَّم- بسبب سوء توزيع الثروة إسرافًا

_ 1 انظر كتابه "دروس في الاقتصاد الإسلامي، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي" ص61.

وتقتيرًا بلا عدل, وقلة استخدام خيرات الأرض واستثمارها بفاعلية ورشد, إضافة إلى سوء استخدام تلك الموارد واستصلاحها واستغلالها في غير ما خُلقت له؛ بحيث لم توجَّه إلى إنتاج الأهمّ فالأهم من الحاجيات, ومن الأدلة على ذلك "إن كمية الأسمدة المستخدمة في مروج الولايات المتحدة وملاعب الجولف فيها وساحات مقابرها تعادل كلّ السماد الذي تستخدمه الهند لإنتاج الغذاء"1. كما أن ما تذهب إليه بعض الدول الغنية كالولايات المتحدة من تعمد إنقاص الفائض لهو دليل آخر على بطلان نظرية الندرة, وأنها دعوى خيالية أو مغرضة يراد بها أغراضًا شريرة. وعلى هذا, فإن دعوى انتشار الجوع بسبب عجز الموارد كلام باطل, بل إنّ حل مشكلة الجوع -فيما يرى بعض الباحثين- تكمن في توقف الإنسان عن العمل والكدّ, وتصديق خرافة أن مشكلة الجوع والحاجة أمر ضخم ليس في مقدور الإنسان التغلب عليه2، أو بسبب ما يطلقون عليه الانفجار السكاني. وأما القول بأن حاجات الإنسان غير متناهية فهي قول غير مسلَّم

_ 1 ص12 من كتابهما. 2 القول بأن الإنسان يمكنه التغلُّب على الفقر والحاجة بمجرد العمل ليس على إطلاقه, بل ينبغي ملاحظة أن العمل أحيانًا قد لا يثمر النتيجة المطلوبة لقضاء الله وقدره, فالجوع قد يكون من الابتلاء المقصود لله تعالى, كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة، الآية 155] وإنما الأسباب مطلوبة, ولكن ليس هي كل شيء.

"فقد ظهرت كتابات وبحوث تفيد أن حاجات الإنسان الأساسية والتي يحتاجها الإنسان فعلًا يمكن تصنيفها, بل ويمكن حصرها, وقد جرت محاولات متعددة فردية وجماعية لحصر تلك الحاجات وتوصيفها"1. وقد ذهب الدكتور "شوقي أحمد" إلى انه ينبغي ملاحظة أمر مهم في قضية حاجات الإنسان, وهل هي متناهية أو غير متناهية, وهو التفريق بين الحاجات والرغبات، وأن الحاجات هي ما تتوقف عليها حياة الإنسان حياة لائقة, أو شدة معيشته وضنكها, وهذا يدل على أن حاجات الإنسان مضبوطة بطبيعة الإنسان وفطرته, فهي محصورة ومحدودة. وأمَّا الرغبات في أمر متجدد وغير محدود, وقد يتداخل مفهوم الرغبات مع مفهوم الحاجات, فمثلًا نجد أن الإنسان قد يرغب في شيء ما, وهذا الشيء قد يكون أساسيًّا للإنسان, فتكون الرغبة هنا حاجة, كما أنه قد يرغب في شيء لا حاجة له إليه, أو لا يمثّل أي إضافة جديدة له, وأن فقده لا يمثل أي حرمان له أو شقاء أوضنك في معيشته, فيسمّى رغبة, فمثلًا لو أن إنسانًا احتاج إلى شرب الماء فوجده, ولكنه أعرض عنه وطلب المشروبات الصناعية, فهذه رغبة وليست حاجة, وكذلك لو أن إنسانًا احتاج إلى وسيلة انتقال فتحقَّقت له عن طريق سيارة عامة أو خاصة, لكنه أحبَّ أن تكون له سيارة فارهة يملكها وينتقل بها, فتلك رغبة وليست حاجة2. وأضيف إلى ذلك لو أن إنسانًا شكى الجوع فأعطي خبزة فرفضها

_ 1 النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي ص64. 2 ص66 المصدر السابق.

إلّا أن تكون دسمة وطرية, فهي رغبة وليست حاجة, وقد قيل شعرًا: الجوع يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثر حسرتي ووساوسي وكل ما تقدَّم يدلل على أن المشكلة الاقتصادية لا تكمن في ندرة الموارد فقط, وإنما تكمن في أغلبها على سوء الإنتاج والتوزيع, وأن القول بعدم نهاية الحاجات إنما هو جري وراء الرغبات التي لا نهاية لها، وأنّ ما يقال عن ندرة الموارد إن هو إلّا وهم؛ إذ الندرة ليس في الموارد, وإنما في الإنتاج الذي يعود إلى كدِّ الإنسان وعمله, أو تكاسله وتقاعسه كما تقدَّم. وقد أمر الله بالضرب في الأرض والعمل والجد في الاكتفاء في جميع الجوانب المعيشية, بل والحربية, كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 1، والله تعالى لم يكلف الإنسان ما لم يكن باستطاعته, وهذا يدل على أن الموارد متاحة له إذا جاء بأسبابها.

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 60.

المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشؤون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر

المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشؤون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر ... المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشئون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر وفيه المسائل الآتية: - تمهيد: لقد نظَّم الإسلام الأمور المالية من واجبة وتطوعيه وحلال وحرام, وحافظ على الأموال وكيفية التصرف فيها في الحياة وبعد الموت, بعد أن ضمن حرية الملكية للمال من قِبَلِ كل فرد ذكرًا أو أنثى, كما ضمن أيضًا بيان أوجه إنفاقه لسعادة الأمّة في الدنيا والآخرة, كما ضمن أيضًا وجود التكافل الحقيقي بين أفراد المجتمع بصورة صحيحة حينما يلتزمون بنهجه ويحتكمون إليه قولًا وفعلًا, وتلتزمه الدولة وتطبقه, وتتحمَّل مسئولية كفالة كل مواطنيها المحتاجين العاجزين عن الكسب؛ ليتحقق التكافل القائم على حسن التصرف وزيادة المودَّة بين أفراد الأمة جميعهم, فمن تنظيمه البديع للمال: 1- أنه جعل في جزء منه حقًّا يحب العمل به ورغب فيه, وهي الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال1، وبيَّن تفاصيلها أتَمَّ بيان, وغيرها من الأنواع التي سنذكرها مما رغَّب فيه الإسلام.

_ 1 المستدرك على الصحيحين ج2، ص362 مجمع الزوائد ج3، ص63.

2- وجعل جزءًا منه يحرم التعامل به لما فيه من إضرار بالغير وبالأخلاق والسلوك الطيب, أوكل جوانب أخرى, إلى ضمير الشخص ورغبته فيما عند الله تعالى. وقد اعتنى الشرع الشريف بإسعاد كل البشر في دنياهم, وبفوزهم في أخراهم, ومما هو معلوم أن الفقر هو أشد أسباب الهموم والقلق والاضطراب, بل هو مفتاح كل الشرور، ولهذا كان للإسلام تجاهه مواقف وحلولًا مفيدة مأمونة العواقب, بعضها يقوم بها كل فرد بنفسه, وبعضها يقوم بها كل أفراد الأسرة, وبعضها يشترك فيها أكثر من جهة من أفراد المجتمع, وبعضها تقوم به الدولة تجاه الآخرين, وهذه الحلول فيها الأناة والتؤدة وملازمة الصبر والرضى بأمر الله, بخلاف الحلول البشرية التي قامت على الطيش والعجلة في الحصول على المال بأي طريق, حتى وإن كان وخيم العواقب كثير الرذائل؛ إذ الهدف هو الحصول على المال, وهو نصب عين الشخص منهم ومجتمع همه, ولتكن النتائج ما تكون على حَدِّ ما قاله أحد الشعراء: إذا هَمَّ ألقى بين عينيه همَّه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا لهو مجتمع أناني مفكّك لا ترابط فيه, وما تراه في سلوك الرأسمالية والشيوعية تجاه جمع المال هو أقوى شاهد على ضحالة أفكارهم وقصورها عن الحلول الإسلامية الربانية الصحيحة, التي تنظر إلى كل من الغني والفقير نظرة الأم الحنون تجاه أولادها.

أنها حلول عادلة لا بغضاء فيها ولا أحقاد ولا إثارة بعض الطبقات على بعض, بل لا طبقات في الإسلام, وإنما هو مجتمع واحد ويسير على منهج واحد {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. وكما اهتمَّ الإسلام بإيجاد طرق الكسب الحلال لسد الحاجات بالمثابرة على الأعمال, فإنه اهتمَّ كذلك بتوزيع هذا الكسب أو المال الذي ينتج عن العمل, فلم يترك توزيع المال لأمزجة المالكين له دون نظام ولا توجيه, بل اعتنى ببيان كيفية معالجة المشكلة الاقتصادية, كما اهتمَّ بتوزيع المال توزيعًا يضمن المساواة العادلة والتوازن الدقيق بالنظر للاقتصاد العام للمجتمع؛ بحيث لا يطغى جانب على آخر, ولئلَّا يقع المال في يد جماعة دون أخرى, فيطغى الأغنياء ويفتتن الفقراء, وهذه قاعدة من قواعد الاقتصاد في الإسلام. فتوزيع المال في الإسلام له ضوابط وجهات مختلفة, فهو يوازن بين كل أفراد المجتمع؛ إذ جعل لكل شخص حقًّا عليه يؤديه من ماله, وحقًّا له يأخذه من مال غيره وجوبًا, وبهذا تتقارب أحوال الناس فلا يبقى شخص في الثريا وآخر في الثرى, ومن أجل ذلك نظَّم الإسلام مصارف المال بأحسن الطرق, وأرشد إلى حلول كثيرة فيها الخير والسعادة إذا طُبِّقت في تنظيم بديع عادل, كما تلاحظه فيما يلي:

_ 1 سورة الحجرات الآية: 13.

المسألة الأولى: التكافل الاجتماعي العام في الإسلام شهد الله تعالى للإسلام بأنه دين كامل شامل لجميع نواحي الحياة, ما فرَّط الله تعالى فيه من شيء, وقد أولى الجوانب الاقتصادية والتكافل الاجتماعي أعظم العناية والبيان, وقد جاء أعظم التأكيد والإرشاد في كتاب الله الكريم وفي السنة النبوية وفي سلوك الصحابة -رضوان الله عليهم, ومن تبعهم من علماء المسلمين على أهمية التكافل بين أفراد المجتمع جميعهم, وإقامة النظام الاقتصادي الذي يحقق العدالة الاجتماعية التي أولاها الإسلام عنايته الفائقة, وهذا التكافل يقوم على أساسين هامَّين, المجتمع كله, والدولة التي تمثل ذلك المجتمع, وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على هذا, منها قوله تعالى في بيان أخذه الميثاق من بني إسرائيل على القيام بعدة أمور منها: الإحسان وإيتاء الزكاة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} 1. وقال تعالى في بيان أوجه البر, ومنها إنفاق المال وإيتاء الزكاة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا

_ 1 سورة البقرة، الآية: 83.

وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1. وقال تعالى في بيان فضل الإنفاق في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2. وقال تعالى في المنفقين بلا مَنٍّ ولا أذى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} 3. وقال تعالى في فضل الإحسان وذم البخل, ومدح الإنفاق وذم الرياء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا، وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ

_ 1 سورة البقرة، الآية: 177. 2 سورة البقرة، الآية: 261. 3 سورة البقرة، الآيتان: 262، 263.

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} 1. وفي القرآن الكريم آيات عديدة في بيان هذا الاتجاه والترغيب فيه, وإثارة مشاعر العطف والإحساس في نفس الشخص تجاه الآخرين, والدعوة إلى الكرم, والتنفير عن الشح والبخل. وجاءت السنة النبوية بتأكيد كل تلك المعاني النبيلة التي تؤدي إلى أسمى التكافل بين المسلمين, وإلى إقامة أروع نظام اقتصادي ناجح, فمن ذلك: 1- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجوب إشاعة المحبَّة بين كل أفراد المسلمين, وأن كل مسلم يجب عليه أن يحب لغيره مثل ما يحبه لنفسه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" 2. وقال صلى الله عليه وسلم، وكانوا في سفر: "من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" , قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل" 3.

_ 1 سورة النساء، الآيات: 36-40. 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه مسلم، ج3، ص1354.

وغير ذلك من النصوص الكثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في توجيه أنظار المسلمين إلى الرحمة وعطف بعضهم على بعض, واحتساب الأجر والثواب, وتحريم غشهم, أو احتكار الخير عنهم, أو أذيتهم بأي نوع من الأذى, وهو توجيهات لو سار عليها المسلمون لأصبحوا كما كانوا في عهودهم الأولى؛ حيث كان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها منه. ومن المعلوم عقلًا أن سعادة المسلمين في عصورهم الأولى إنما كانت بفضل تعاليم الإسلامية الإلهية, ثم بتطبيقهم لها؛ حيث أصبحوا كالجسد الوحد وكالبنيان المرصوص يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, فإنه لا يمكن أن تقوم قائمة لأي نظام لم ينجح في الحلول العادلة بين أفراده، كما أنه لا يمكن أن تستقرَّ أوضاع أيّ مجتمع لا يحس بالطمأنينة على مستقبل حياته دون أن يلمس الضمانات الوافية بذلك. ولهذا بقي الإسلام حيًّا في قلوب أبنائه على مرِّ الدهور والعصور؛ لشموله لكل أنواع التكافل في جميع نواحي التشريع, سواء ما يتعلق بحق الفرد أو حق الجماعة أو حق الدولة دون محاباة لأحد. إن الإسلام دين يهتم بأمور الدنيا كما يهتم بأمور الآخرة, فهو لا ينحصر فقط في داخل المسجد كما يزعم العلمانيون وسائر أعداء الإسلام الذين يصورونه أنه دين جامد ومثبط عن العمل ويدعو إلى الكسل, وأن نظامه ليس شاملًا كالقوانين الوضعية التي يمجدونها, ويدعون إلى تقديمها على النظام الإلهي {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 1, {الْيَوْمَ

_ 1 سورة الكهف، الآية: 5.

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} 2. وسيأتي إن شاء الله في خلال هذه الدراسة ما يوضح كل ذلك. إن التكافل الاجتماعي في الإسلام له صفة شاملة لا تقف عند جهة أو مجتمع أو شخص, وإنما ينظر فيه إلى جميع الأمة على أنها كالجسد الواحد, وأن مضرَّة الفرد كمضرَّة الجميع, ومضرة الجميع كمضرة الفرد, يجب أن يحس كل فرد بإحساس الآخرين على حد قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3. بينما النظم الجاهلية إما أن تنحاز إلى الغني أو إلى الفقير أو إلى المصلحة الذاتية. 2- الإسلام يدعو إلى تحقيق كل أنواع التكافل, سواء أكان بين الإنسان ونفسه, أو بينه وبين أفراد أسرته أو جماعته, أو بين أمة وأمة, فالتكافل لا حدَّ له في الإسلام, ولا ينحصر في جهة دون أخرى, وهذه المزية لا توجد في النظم الوضعية ذات الأحزاب والأهواء المختلفة. 3- إن الدعوة الإسلام إلى التكافل لم تكن بعد تجارب تعرَّضت للخطأ أو الصواب, ولا عن مشورة أحد, وإنما هي توجيه إلهي؛ لتتحقق به سعادة البشر مضمونة النتائج, بينما الدعوات الأخرى نشأت إما

_ 1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 سورة النساء، الآية: 122. 3 سورة المائدة، الآية: 2.

عن تجارب, وإمّا عن رهبة أو رغبة, أو لمصالح أخرى, ثم هي قابلة للتغير في كل حين, وفرق كبير بل لا مقارنة بين نظام وضعي وبين نظام صادر عن علّام الغيوب, غير قابل للتناقض والاضطراب والخلل الذي ملئت به الأنظمة الوضعية؛ لنقص عقول البشر عن إدراك الأمور على حقيقتها. 4- في التكافل الإسلامي يصل الفقير إلى ما يعطاه من المال دون أي منَّة لأحد عليه؛ إذ تعطيه الدولة القائمة من مصاريف بيت المال المشروعة له, وخصوصًا الزكاة التي تؤخذ من مال الأغنياء بطريقة عادلة تنفع الفقير ولا تضر الغني في ماله, قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل بعد أمره ببيان الزكاة لأهل اليمن قال: "وإياك وكرائم أموالهم" 1. وفي الوقت الذي يؤدي فيه الغني زكاة ماله يشعر برضى وسعادة؛ لأنه قدَّم نوعًا من أنواع العبادة, فلا يشعر بالحقد على الفقراء, ولا يشعر بأنها ضريبة دون مقابل تؤخذ جبرًا عنه, بل هو عمل نبيل يثاب عليه الثواب الجزيل، وكذلك الحال بالنسبة للفقير تجاه الغني؛ إذ يشعر بأنه له في مال الغني نصيب يصل إليه, بخلاف الأنظمة الوضعية التي خلت عن هذا المسلك الطيب, فقامت على الشَّرَه واستعباد الغني للفقير, وما ينشأ عن ذلك من الأحقاد والبغضاء بين جميعهم. 5- الإسلام لم يكتف بفرض ذلك التكافل ضمن تشريعاته الإلزامي

_ 1 أخرجه البخاري ج6، ص2658، ومسلم ج1، ص51.

منها, وإنما هو يخاطب ضمير الإنسان وصفة الكرم فيه وترغيبه في الأجر والثواب؛ لتشجيعه على فعل الخير تجاه الآخرين عن رضًى واقتناع, فيقنعه في داخل نفسه بأن المال كله ومالكه أيضًا هو ملك لله, وأن الله تعالى هو الذي يرزق ويخلف الخير بأفضل منه, والصدقة بعشر أمثالها ويضاعفها أضعفًا مضاعفة, فلهذا نجد أن المسلم يقدِّم ما يقدِّم من الخير وهو قرير العين لا يفكر في أخذ مقابل من أحد {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} 1. وقد خلت الأنظمة الوضعية من هذه الصفات كلها. المسألة الثانية: الاتفاقيات في العمل الإسلام وهو يحث على العمل والضرب في الأرض يعتبر كذلك أكل الرجل من كسب يده من أشرف المكاسب, لم يترك الإسلام أمر العمل دون ضوابط بين العاملين وأصحاب العمل تضمن عدم النزاع وعدم انقطاع العمل دون الوصول إلى نهايته, لذلك نجد أن الإسلام يأمر قبل إبرام أيّ اتفاق في العمل رضا جميع الأطراف دون أي تدخل أو ضغط خارج عن رغبتهم في صفقة العمل المراد القيام به والاستفادة منه, وأن تكون المدة بين الأطراف كذلك محددة لا شبهة فيها, ولا تقبل التأويل, وإذا كان العمل يتطلَّب أن تقوم به جماعة أو فرد, فيجب أن تكون الأجرة معلومة ومتَّفق عليها, وهذه الضمانات كلها كي تنتظم الأمور ولا يحصل الضرر ولا الغرر, فينتج عن ذلك التراضي وجودة العمل ومراقبة الله

_ 1 سورة الإنسان الآية: 9.

فيه, ولهذا فقد وجد أصحاب الأعمال على أختلاف دياناتهم أن المسلم الملتزم أتقى في عمله وأخلص في أداء واجباته, ولقد كانت أعمال المسلمين وأفعالهم بمثابة دعوة إلى الله تعالى في تعاملهم مع غيرهم, وأسلم الكثير من الناس بسبب تلك الأمانة والإتقان الذي اتصف بهما العامل المسلم، ومن المعلوم لدى جميع العقلاء أن الأجير يستحق أجرته عندما يتقن عمله ويسلمه لمن استأجره حسب الاتفاق بينهما في المدة والجودة والإتقان. ولهذا فقد حذَّر الإسلام من عدم الوفاء للعامل بأجرة عمله, وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: قال الله -عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة, رجل أعطى بي ثُمَّ غدر, ورجل باع حرًّا فأكل منه, ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفه أجره" 1. كما حثَّ الإسلام الأجير أن يكون كريم النفس وفيًّا صاحب همة وخلق, فقد أخبر الله عن نبيه موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- أنه استأجره صاحبه ثماني حجج, فإن أتمَّ عشرًا فمن عنده, فوفَّى بذلك وزاد على الاتفاق, فوفَّى العشر كما يذكره أصحاب التفسير"2. كما يجب أن يكون صاحب العمل كذلك على خلق وأمانة, فلا يشق على عامله كما قال صاحب موسى له: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 3، وقد كان كذلك.

_ 1 صحيح البخاري ج2، ص792. 2 انظر "تفسير القرآن العظيم" ح3، ص386.د 3 سورة القصص، الآية: 27.

ولا يجوز التحايل لإسقاط أجرة العامل إلّا بعذر شرعي واضح, فلا يحق له أن يوقفه عن إتمام العمل إلّا إذا ترك العامل ذلك, أو اتضح أنه لا يحسنه ونحو ذلك, فعليه حينئذ أن يعطيه أجر عمله السابق, مراعيًا في ذلك قول المصطفى -صلى الله عليه سلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1 لا على النفس ولا على الغير. المسألة الثالثة: الكسب المشروع وغير المشروع أولًا: الكسب المشروع المسلم مأمور بالتكسُّب, ومأمور أن يسعى لذلك قدر استطاعته, وأن الكسب الطيب هو ما جاء في مقابل عمل وجهد جسمي أو فكري من قِبَلِ الشخص تجارة أو زراعة, أو صناعة تتطلب العمل الجسمي وحده, أو العمل الجسمي والفكري معًا. كما أنه يلتحق بالكسب الشخصي ما جاء عن طريق غير العمل أو الفكر مما يؤول إليه في النهاية كالإرث أو الوصية له والهبة, فإن هذه حتى وإن لم تكن من عمله الشخصي لكنَّها بعد صولها إليه تعتبر كسبًا وحلالًا مشروعًا ومباحًا له بنص كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, بخلاف ما لو وصل إليها عن طريق غير شرعي؛ كالسرقة والغصب والنهب والغش.. إلخ, فإنها لا تعتبر مكاسب صحيحة شرعية؛ لعدم وجود ما يقابل هذا المال من الجهد الشخصي, وهو طريق لم يأمر به الله لسد الحاجات, بل حرَّمه وتوعَّد بالعقاب عليه, وجعله من

_ 1 المستدرك ج2، ص66.

المكاسب الخبيثة, وملكه له ليس يحله له, ومن المكاسب المشروعة إحياء الأراضي الموات التي لم يسبق أحد إلى امتلاكها قبل المحيي لها؛ إذ تصبح ملكًا شرعيًّا له لورود النصوص بذلك, قال عمر -رضي الله عنه: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"1، بل ويحقّ تملك الأرض المحتجرة إذا طال عليها الحال دون الاستفادة منها ففي بعض الروايات: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق"2. ويروى عن أبي حنيفة أنه اشترط إذن الحاكم منعًا للنزاع الذي ربما ينشأ بين المتنافسين لامتلاكها3، وهو أمر واقع ملموس حينما يتسابق الناس لامتلاك أرض جديدة، والذي يظهر والله أعلم أن الأمر يحتاج إلى تفصيل, أي: إذن الحاكم أو عدم إذنه؛ بحيث ينظر فيه إلى حقيقة الحال من حيث حصول النزاع أو عدم حصوله, فإن لم يؤد الإحياء إلى النزاع فهو إحياء صحيح لا يتطلّب إذن الحاكم كما تفيده النصوص النبوية, وإن كان الإحياء يؤدي إلى النزاع والفتنة فإن ملكية الأرض تنتقل إلى الحاكم وهو الذي يتصرف فيها حسب المصلحة العامة من توزيعها أو حجرها لمصالح المسلمين؛ لأن الدولة هي المسئولة أمام الله عن توزيع الأموال العامة بما تعود مصلحته على الجماعة, بما فيهم القائمون على تلك المصالح.

_ 1 أخرج البخاري ج5، ص18. 2 انظر فتح الباري ج5، ص18. 3 انظر "النظام الاقتصادي في الإسلام" ص96. نقلًا عن كتاب "الخراج"، لأبي يوسف ص65.

ثانيًا: الكسب غير المشروع الكسب من وراء السلطة: يجب التنبيه هنا إلى أنَّ الإسلام ليس فيه تمايز بين الحاكم والمحكوم في حيازة الأموال إلّا عن طريقها الشرعي, فالكل محاسب ومؤتمن, حاكمًا أو محكومًا, ولهذا فقد حرَّم الإسلام استغلال السلطة والنفوذ ليحازة الأموال للمنفعة الشخصية, واعتبر هذا المسلك باطلًا, ويجب إرجاع تلك الأموال إلى بيت مال المسلمين العام؛ لأنه ليس من المكاسب المشروعة, وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده لا يأخذون من الأموال إلّا ما يكفي حاجتهم, ويرجعون الباقي لصالح المسلمين، بل حرّم الرسول -صلى الله عليه سلم- أخذ الأموال بواسطة السلطة, حتى وإن كانت عن طريق الهدايا, كما قال في شأن الرجل الذي قال للرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رجع من جباية الزكاة: "هذا لكم وهذا أهدي لي"، فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته" 1.

_ 1 أخرجه البخاري ج6، ص2559.

المسألة الرابعة: إيجاب الإسلام إخراج جزء من المال "فريضة الزكاة" وفيها أمران: الأمر الأول: مشروعية الزكاة أوجب الإسلام إخرج جزء من المال لا يتضرر به صاحب المال, وفي نفس الوقت ينتفع به الفقير ويسد بعض حاجاته, ومن ذلك إخراج الزكاة, فهناك من الناس من لا يستطيع العمل, أو لا يتيسر له, فيعاني مشقَّة الفقر, بل وقد لا توجد له أسرة تساعده وتتنبه لحاله، فإن الإسلام كما هو معروف عنه يهدف إلى جعل المسلمين كلهم أسرة واحدة, ولهذا شرع فريضة الزكاة لمساعدة المحتاج ومن لا أسرة له تساعده, يأخذها الفقير وكأنها جزء من حقوقه, فلا يشعر بمنِّة المتصدق, ولا المتصدق يشعر بإسدائه يدًا عند أحد بعينه, وهي مورد من موارد الدولة التي تغطي بها حاجات الأفراد بحسبها, فهي طهارة للنفس ونماء للمال, وفائدة للمحتاج, ونوع من أنواع تصريف المال لخدمة المجتمع, "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" 1، ولو طبقت هذه الفريضة بكل جد وإخلاص لما بقي لأعداء الإسلام منَّة على المسلمين في مساعدتهم بالأطباء بلا حدود "المنصرون", ولا للحاقدين على الإسلام الذين يتربَّصون به وبأهله الدوائر عن طريق زرع المشكلات الاقتصادية في كل الأقطار الإسلامية؛ لأن الفقراء حينئذ سيكون اعتمادهم بعد ربهم على ما في أيديهم من الموارد المتاحة لهم, وكذلك على ما يصلهم من إخوانهم الموسرين حتى يغنيهم الله من فضله.

_ 1 أخرجه البخاري ج2، ص505، ومسلم ج1، ص51.

وفريضة الزكاة هذه التي أوجبها الله في مال الأغنياء هي قدر معلوم يجب إخراجه عندما يصل المال إلى أن يحتمل إخراج الزكاة منه, ويكون قد حال عليه الحول وهو غير محتاج إليه لضرورة, وقد ذكر الله -عز وجل- الزكاة في تسع وعشرين آية, وقد أخطأ بعض الناس وأطلق عليه تسمية ضريبة, ولا شك أن الفرق شاسع بين الضريبة وبين المال الذي يخرج من أجل الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة وعد الله عليها بالثواب بخلاف الضريبة فإنها تؤخذ كرهًا، وهذا المال الذي يؤخذ من الأغنياء يُرَدُّ على الفقراء والمساكين, وأصحاب الديون المعسرين, والعتق قديمًا, وأبناء السبيل, والقائمين على جباية الزكاة, يأخذها هؤلاء من بيت مال المسلمين بعد أن توضع فيه, ومن الطبيعي أنه وإن كان لا يحس صاحب المال بمنَّته على أحد, ولا يشعر الفقير بذل سؤال الغني, لكنها في نفس الوقت فيها حثٌّ للجميع على العمل والإنتاج, فما يأخذ الفقير إنما هو دفعة لينشط للكسب والعمل, لا لتكون مصدر عيشه دائمًا، وهي كذلك تجعل الغني يشعر بأنه قدَّم لإخوته المحتاجين ما ينفعهم, وقد بينت الشريعة تفاصيل هذا الجانب الهامّ من شعائر الإسلام, وفي الفقه الإسلامي تفاصيل لكل ما يحتاجه المسلم لمعرفة كل تفاصيل هذه العبادة, وقد جاء في القرآن الكريم التهديد الشديد لمن يكنزون الذهب والفضة الزائدة عن حاجتهم ولا يؤدون زكاتها بخلًا أو جحدًا لوجوب الزكاة, بينما النظم الجاهلية الرأسمالية لا ترى أيّ جرح في تكديس الأموال في يد شخص أو شركة مهما كان حال أولئك, فإن الرأسمالية لا تنظر إلّا إلى كيفية جمع المال بكل طريقة مشروعة, أو غير مشروعة, الحلال ما حلَّ في أيديهم, والحرام ما حرموا منه كما, أن إيجاب الزكاة في الأموال يلاحظ فيه أيضًا جانبًا آخر وهو ضمان عدم تكدس الأموال في فئة خاصة كي لا تطغى

فكانت الزكاة تنقيصًا ما من تلك الثروة الكبيرة لتسد حاجة آخرين ولا يتضرر بها الغني, وقد أراد الشيوعيون منع هذا الجانب -أي: تنقيص المال وعدم حصره في فئة- ولكنهم لم يوفَّقوا للحل العادل؛ إذ منعوا الناس من اكتساب الأموال فأفقروهم, بينما هيمن كبار الطبقات على كل الأموال, فأصبحت في يد الدولة، أما الإسلام فإنه ينظر إلى مصالح الجميع, فهو يبارك للغني أمواله, ولكن يأمره بأخراج بعضها عن طيب نفس منه, فلا يتضرر الغني ولا الفقير, وقد حرمت المذاهب الوضعية من الاهتداء إلى هذا الحل الطيب. الأمر الثاني: آثار الزكاة على النفس والمجتمع لا يجهل أي مسلم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام, وأن لها آثارًا مشرقة على النفس والمجتمع, قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} 1. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث بعث معاذ إلى اليمن: " ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم, تؤخذ من أعنيائهم, وترد على فقرائهم ... " 2. وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلون جنة ربكم" 2.

_ 1 سورة البقرة الآية: 43. 2 تقدَّم تخريجه. 3 انظر صحيح ابن خزيمة ج4، ص12، والمستدرك على الصحيحين ج1، ص52.

وغير ذلك من الأحاديث المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحث عليها وبيان أهميتها في الإسلام, وقد أجمع المسلمون كلهم على فرضيتها وكُفْرِ منكر وجوبها, وأنها أحد أركان الإسلام التي ذكرت في حديث جبريل المشهور, وقد فرضها الله تعالى لحكمة يعلمها -سبحانه وتعالى, نؤمن بذلك عرفنا الحكمة أو لم نعرفها, مع اليقين التامِّ أن فيها حِكَمًا إلهية عظيمة, وقد يبدو أنَّ من حكمتها وجود الحافز لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المسلمين, وفي تخفيف الكثير من المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البشر في تسابقهم إلى الاستحواذ على المال وجمعه. كما أن للزكاة أثارًا نفسية عظيمة على المزكّي والآخذ معًا؛ فبالإضافة إلى أثارها التي سبقت الإشارة إليها فهي من الناحية الاقتصادية فيها حثٌّ لصاحب المال على زيادة الرغبة والنشاط لتنمية أمواله وسدّ ما حصل من نقص فيها بإخراج الزكاة, فهو يشعر من ناحية بهذا النقص, ومن ناحية أخرى بالسعادة لأدائه هذا الحق المفروض عليه, والرغبة في الثواب, فيجتمع له الأمل والعمل معًا, وفي الجانب المقابل يشعر الآخذ للزكاة أنه يجب عليه أن ينهض للعمل وأن لا يبقى دائمًا في انتظار وصول الزكاة, وهذا يحثّه على الاستفادة من مال الزكاة في الوجوه التي تعود عليه بالربح وتغنيه عن أخذ الزكاة, فإن المسلم يعلم يقينًا أن اليد العليا خير من اليد السفلى, فهو دائمًا يتشوّف إلى الاستغناء عن مد يده لأحد من الناس. ومن الآثار الظاهرة للزكاة أنها تهدف إلى أن يسير الناس كلهم متقاربين, فالفقير يأخذ حاجته التي تغني من في مثل حاله, والغني لا يتكدّس المال

في يده, فلا تنشأ طبقات بعضها في الثرى والأخرى في الثريا, كما هو حال الدول القائمة على النظم الوضعية الشَّرِهَة إلى المال؛ حيث يستعبد بعضهم بعضًا, وتنشأ بينهم أحقاد وحسد لا يعلم مداه إلّا الله؛ لشعور الفقراء بالإحباط التامّ واستعلاء الأغيناء عليهم, ويأسهم من الاستفادة مما في أيدي الأغنياء مهما كانت قلته, وهذه النزعة لا توجد في النظام الإسلامي للزكاة؛ إذ يشعر الفقير أنه سيصيب من مال الغني بأي طريقة كانت, وكأنه مشارك له, فتهدأ نفسه, وبالتالي لا ينظر إلى صاحب المال بأنّه عدو شرس مستكبر عليه, وإنما هو تفاوت لحكمة من الله تعالى, فتقرَّ نفسه, ويجد في قلبه حنانًا وشفقة تجاه أخيه صاحب المال, خصوصًا مع الإيمان والرضى بالقدر, فلا تجد إلّا القليل من يفكر في السرقة أو الغصب أو النهب؛ إذ ما دام ذلك المال سيأتيه جزء منه مع محافظته على سمعته واحترامه ودينه, فلا يجد ضرورة للتفكير السيء إلّا من طُبِعَ عليه الشر وهم قليلون بالنسبة لغيرهم, وإذا أردت الدليل فتأمَّل حال الدول الكافرة وما يحدث فيها من السرقات والنهب والغصب على مدار الساعة. وفي الزكاة كذلك تقوية خزينة الدولة الإسلامية وتنوع نفقاتها على المستحقين، وعلى تأليف قلوب الكثير من الناس, وقد ضمن الله الزيادة لمن أدّاها على وجهها الشرعي, وهي فوق ذلك كله نوع من أنواع العبادة التي تدلّ على صدق القائم بها, وعلى رغبته فيما عند الله؛ إذ لو شاء أن يحتال للانفلات من إخراجها لأمكنه ذلك بأية حيلة من الحيل التي يفعلها الكثير ممن ضعفت في قلبه مراقبة الله تعالى. وتخرج الزكاة لمن ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: {إِنَّمَا

الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. وقد بيِّنَ فقهاء المسلمين كل تلك الأقسام والمقدار الذي يصرف لكلٍّ منهم, بما لا يتَّسع المقام لذكره هنا. وهناك موارد أخرى في الإسلام من غير الزكاة تصل بيت المال ويستفيد منها فقراء المسلمين, وتلك الموارد هي ما يحتويها بيت مال المسلمين من غير دخل الزكاة, وهي موارد كثيرة تنمّي خزينة الدولة؛ كي تتمكَّن من الوفاء بحاجات المواطنين المختلفة, ومدّ يد المساعدة للمحتاجين منهم, ومن تلك الموارد خيرات الأرض من معادنَ على اختلاف أصنافها, كذا جباية أوقاف الدولة العامة, وما تملكه عن طريق الغنائم في حال الحرب والفيء, وما تفرضه من ضرائب في بعض المصالح, وما تخصصه من محميّات للصالح العام, وغير ذلك من المرافق العامّة التي تختص بالإشراف عليها الدولة, والتي هي مسئولية أمام الله تعالى عن كل ذلك. المسألة الخامسة: الضرب في الأرض وطلب الكسب ويشمل طرق كل وسيلة لإيجاد العمل والكسب الحلال الذي ينتج عن جهد وعمل وكد الشخص بجسمه وفكره امتثالًا لقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا

_ 1 سورة التوبة الآية: 60.

وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 3. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في كتاب الله -عز وجل- التي تحثّ على العمل وابتغاء طرق الرزق من أبوابه المشروعة, فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة كما قال أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- للمتواكلين: "لقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"4. وللضرب في الأرض طرق كثيرة، مثل طلب الرزق عن طريق التجارة والبيع والشراء, أو استصلاح الأراضي للرزاعة, أو الأعمال التي يقوم بها الشخص لخدمة الغير, أو مزاولة الأعمال اليدوية المختلفة من صناعة وخياطة ونجارة وسباكة وأعمال كهربائية, وغير ذلك من الأعمال والحرف اليديوية الكثيرة, ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعون لهم بإحسان لا يأكلون إلّا من كدهم، فقد رعَى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكة على قراريط, وكان يأكل من كسبه في الجهاد, والصحابة كانوا يستقبلون المهاجرين منهم, فيقول أحدهم لصحابه: أعطيك كذا, أعطيك كذا, أعطك كذا, فيقول له: بارك الله لك في أهلك

_ 1 سورة القصص، الآية: 77. 2 سورة المزمل، الآية: 20. 3 سورة الجمعة، الآية: 10. 4 انظر المفهوم الإسلامي للتكافل الاجتماعي ص41.

ومالك, دُلَّني على السوق1، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرشد من يسأل الناس إلى أن يتوجه إلى العمل ولو بالاحتطاب, فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأال، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّا إذا كان يملك شيئًا, فأخبره السائل أنه لا يملك إلّا قدحًا يشربون به, قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- جئني به, فلمَّا جاء به رفعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من يشتري هذا" فوصلت قيمته درهمين, فباعه وأعطي الرجل درهمًا, وأمره أن يصلح به شأن بيته, وأمره أن يأخذ الدرهم الآخر ويشتري به فأسًا فيحتطب به ويبيعه, ففعل الرجل ذلك فأغناه الله, فأخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنّ ذلك خير له من أن يتكفَّف الناس أعطوه أو منعوه2، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن اليد العليا خير من اليد السفلى2، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف4. وهو تنبيه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمسلم أن لا يذل نفسه لسؤال الناس والركون إليهم والإخلاد إلى الكسل والخمول, وتفويت المجتمع خدمته, والاستفادة منه كعضو عامل في بناء الحياة السعيدة, والإسهام في التكافل الاقتصادي, ولهذا يقول الناس في أمثالهم: "لا تغديني سمكًا ولكن علمني كيف أصطاده", فالعمل والاحتيال لطلب الرزق أمر مشروع, وتركهما هو الطريق المذموم الذي يؤدي إلى زيادة الفقر وارتفاع نسبة البطالة في المجتمع الذي يتصف بهما.

_ 1 انظر "الآحاد والمثاني" ج3، ص388، "ورجال حول الرسول" ص643. 2 مجمع الزوائد ج3، ص94. 3 تقدم تخريجه. 4 السنن الكبرى ج6، ص160.

ويلحق بالاحتطاب كل عمل فيه جهد شخصي للحصول على أي نفع يسد به حاجته؛ كطلب الصيد وبيع الأعلاف والساقية ورعي البهائم للناس بأجرة أو الحراسة لهم, وغير ذلك من وسائل طلب الرزق التي لا يكاد تحصى, والتي لا تتطلّب من الشخص غير التفكير السليم والعزم بصدق والتوكل على الله -عز وجل, والابتعاد عن المكاسب المنهيّ عنها؛ كالربا بجميع أنواعه, والغش بجميع أنواعه, وغيرها من المكاسب التي حرَّمها الله, والتي هي في حقيقتها ليست مكاسب, وإنما هي خسارات ظهرت في شكل مكاسب يغتَرّ بها ضعاف النفوس. وكان الكثير من علماء هذه الأمة وأسلافهم يعملون في شتّى الحرف يطلبون العلم ويؤلّفون, فأفادوا الناس في دينهم ودنياهم, وأفادوا أنفسهم ومجتمعاتهم, وكان الكثير منهم تأتيه الصدقة فيردّها لصحابها ويقول: أعطها من هو أفقر مني, وكان أحدهم يأكل من عمل يده, ولهذا كان يقال لبعضهم وراقًا وبزازًا وزجاجًا وخرازًا وجصاصًا وخواصًا وخياطًا, وغير ذلك من الألقاب التي اقترنت بالمهن التي كانوا يزاولونها, ويجدون فيها رغم متاعبها متعة وراحة عن استجداء الناس, وكان التوكل عندهم هو العمل والجد, حتى إذا انحرفت فطر الناس وتغيَّرت المفاهيم, وحلّت الخزعبلات في عقول بعض من ينتسب إلى الدين, أصبح التواكل بدل التوكل, والشعوذة بدل العمل, والكسل والخمول زهدًا, والاتكال على الناس أمرًا سائغًا, فتفشَّى الفقر وانتشرت البطالة. والذي نهدف إليه من هذا البحث هو أنّ الضرب في الأرض لطلب

الرزق, وإعمار الأرض بالعلم والعمل هو أحد الأهداف التي يحثّ عليها الإسلام لكفاية المجتمع ورفع أحواله الاقتصادية, ولهذا فقد حرَّم الإسلام أي كسب غير شرعي, فحرَّم السرقة والغصب والنهب والاحتيال ... إلخ. وحث على التنافس، وفي الإسلام ليس العمل الفردي هو المسلك الوحيد لرفع الاقتصاد, فالإسلام يجعل على الدولة النصيب الأكبر في تشغيل رعاياها, وإيجاد الفرص المناسبة للاستفادة منهم في أشغالها كلٌّ حسب طاقته واتجاهه, والقائم على شئونهم هو المسئول الأول عن كل خلل يحصل في النواحي الاقتصادية للدولة, وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يتململ على فراشه ويقول: "والذي بعث محمدًا بالحق, لو أن جملًا هلك ضياعًا بشط الفرات لخشيت أن يسأل عنه آل الخطاب" يعني: نفسه -رضي الله عنه1. ولهذا انتعشت أحوال المسلمين حينما كان التوجه صادقًا من قِبَلِ الحكام والمحكومين, ويذكر المؤرخون أنه مرَّت فترات بالمسملين كان يمشي أحدهم بصدقته في أفريقيا وغيرها, فلا يجد من يأخذها, وتولى عمر -رضي الله عنه- القضاء في خلافة أبي بكر فمكث سنة لم يتحاكم إليه أحد2. وهي شواهد على ما وصل إليه المسلمون من الجدّ والتناصح والإيثار, ووقوف كل شخص في المكان الذي يستطيع فيه نفع نفسه ونفع غيره.

_ 1 انظر تمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص123. 2 العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد 3/ 491, تاريخ الطبري 2/ 351.

المسألة السادسة: الصدقات فالصدقات نوع من أنواع التكافل, ومظهر أخلاقي رفيع, وتعويد للنفس على الكرم ومحاسن الأخلاق, وهي سد لجانب من جوانب الحاجة للغير, وينبغي للمسلم أن يتصدَّق بأي شيء مهما كانت قلته, فإن الجود أن تجود بالموجود, وعلى الآخِذِ أن لا يزدريها, بل يدعو للمتصدق, فإن في هذا تطييبًا لنفسه وتشجيعًا له على البذل, ويحصل عكس هذا فيما لو أظهر الازدراء لها, ولهذا فإن كثيرًا من الناس يمنعه الحياء أن يتصدق بالقليل؛ لعدم استطاعته التصدق بالكثير, فيفوت على نفسه هذه الصفة الطيبة، قال المتنبي: أورق بخير ترجي للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتصدق أحدهم حسب ما يجده, مهما كان قليلًا, وكان المنافقون يهزأون ممن يأتي بالقليل, فأنزل الله تعالى توبيخًا لهم واستحسانًا لما يفعله أولئك الأبرار, قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. وقال تعالى في شأن الصدقات: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 79. 2 سورة المزمل، الآية: 20.

وفي السنة النبوية أحاديث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يحثّ فيها على الصدقة بأي شيء كان, حتى وإن كانت تلك الصدقة هي الكلمة الطيبة, قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة, فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" 1. وهذا فضل من الله تعالى وفتح لأبواب الخير أن تكون أبواب الصدقة بهذه السعة؛ حيث رغَّب الله تعالى فيها وجعلها على قدر الاستطاعة, وأخبر عز وجل عن مضاعفة تلك الصدقات, وما لها من النتائج الطيبة على المتصدق وعلى المتصدَّق عليه وعلى المال, وتلك الموارد وغيرها إذا توفّرت فلا بُدَّ أن تسد حاجة وتدر نفعًا على قسم من المجتمع إلى حين يغنيهم الله من فضله؛ إذ الإسلام لا يقر الشخص على أن يصبح عالة على غيره, بل عليه أن يعمل ويكدح, فقد يباشر السبب البسيط الذي يجر وراءه المال الوفير, ولا ينبغي للمسلم أن ينظر إلى الصدقات إلّا على أنها في حال ضرورة ملحّة, لا أنها مورد يجب أن يركن إليه دائمًا، فالمؤمن يجب أن يبقى عزيز النفس متعففًا عمَّا في أيدي الناس, وأنَّ عمله شرف له ونفع لغيره من أفراد المجتمع؛ ليحصل التكاتف وعمران الأرض والانتفاع بما أودعه الله تعالى فيها من موارد الرزق العديدة2. وقد أولى الإسلام جانب الإنفاق في سبيل الله تعالى اهتمامًا ورعاية فائقة, ورتَّب عليه الأجر المضاعف والثواب الجزيل, ولقد تسابق الصاحبة -رضوان الله عليهم- ومن جاء بعدهم إلى امتثال الأمر, فكانوا ينفقون أموالهم

_ 1 سنن الدارمي ج1، ص478، ومجمع الزوائد ج3، ص105. 2 انظر الكتاب "الضمان الاجتماعي في الإسلام" تأليف محمد أمين الشعراني ط1، سنة 1395هـ.

بكل سخاء في مختلف أوجه الخير, فساد التراحم بينهم, واختفت صور العنف التي كانت تشاهد في المجتمعات الجاهلية الجشعة, ولم يفرض الله تعالى على الشخص في باب الهبات والصدقات -غير الزكاة- أي: إلزام, وإنما ترك الأمر لضمير المستطيع, ورغبته في اكتساب الثواب والثناء الحسن عند الله وعند الناس. ومعلوم أن الإنسان بصفة عامة شحيح على المال, فإذا لم يكن وراء بذله لماله دافع قوي يرغّبه في ذلك, فإنه لا يمكن أن يسارع إلى ذلك, هذا هو الفارق بين المحسنين في الإسلام وملاك الأموال من غير المسلمين. فإن غير المسلمين لا يمكن أن يبذل أحدهم أيّ مال مهما كانت قلته إلّا أن يكون له هدف إلى مقابل دنيوي, أو يكون في سبيل شهواته ومتعه الدنيوية؛ لأنه لا يؤمن بأنه وراء دفعه لماله الثواب الذي هو خير من المال, فلا يجد حافزًا يدفعه إلى الإنفاق, كما هو الحال عند المسلم الموقن بذلك. المسألة السابعة: الوقف ومجال التكافل في الإسلام واسع جدًّا؛ إذ يشتمل على الترغيب في جميع أنواع الخير, ومنه الصدقات الجارية كالوقف, وهو عمل خيري إذا كان مما تحصل به فائدة من مساكن أو أراضي زراعية أو حفر آبار ماء, أو أي شيء مما تسد به الحاجة, وصفته أن يحبس الأصل فلا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يشمله الانتقال بالإرث بعد وفاة الواقف, ولا يباح الانتفاع به إلّا فيما أوقف من أجله.

وفي الترغيب في الوقف يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" 1. ولقد كان السلف السابقون يهتمّون بهذا الجانب رغبةً في ما عند الله, ولقد أسهمت الأوقاف في سد حاجات كثيرة، وأفاد منها المحتاجون, وكانت عاملًا قويًّا في دلالته على التكافل الحقيقي بين المسلمين, وهو من الخصائص التي تميِّز بها الإسلام, ونظَّمها وبيِّنَ طرقها, ويلاحظ أن الإسلام وهو يبيح الوقف ويرغِّب فيه ضمانًا, فإنه لا يبيح الوقف الذي ينتج من ورائه إلحاق الضرر بالورثة؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار, بل قال صلى الله عليه وسلم لسعد: "لئن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء يتكفَّفون الناس" 2، فلا يعمد الشخص لوقف أمواله إلّا إذا لم يكن فيها مضرَّة على الورثة, أو لم يكن له ورثة أصلًا. المسألة الثامنة: الميراث - تحليل الميراث لمن يستحقه: يعتبر الإسلام أي مصدر فيه فائدة وسدٌّ لحاجة الناس, وجاء عن طريق مشروع, يعتبره الإسلام مصدر خير وطريقًا مستقيمًا, فلا تتوقف مصادر الرزق على عمل الشخص وجهده فقط, بل هناك مصادر أخرى قد لا تكون

_ 1 مسند أبو عوانة ج1، ص495، مصباح الزجاجة ج1، ص35. 2 مسند أبو عوانة ج3، ص458، وسنن البيهقي الكبرى ج7، ص467.

من عمل الشخص تصبح جزءًا من ماله؛ كالميراث الذي آل إلى الوارث بعد موت مورثه. فالميراث هو أحد قسمة الأموال وتوزيعها العادل بين أكثر من شخص؛ لتعميم الاستفادة والإسهام في توزيع الموارد لقضاء الحاجات بين مستحقيها, ومن ناحية أخرى لئلّا يبقى المال حجرًا على فئة دون فئة من المستحقين ذكورًا أو إناثًا. كما أن الإسلام نظر إلى جانب آخر فنظَّمه, وهو حالة ما إذا كان المتوفى صاحب مال, ولكنه يريد حرمان بعض الورثة أو كلهم, أو أن يجعل ماله من بعده لشخص, أو حيوان, فهل له مطلق التصرف في ذلك. أما بالنسبة للإسلام: فإنه يمنعه من هذا التصرف الظالم؛ إذ لا بُدَّ من القسمة العادلة بين الورثة, حتى ولو أراد المالك أن يخصّ أحدًا منهم بزيادة فإنها لا تصح، والوارثون في الإسلام طبقات, الأقرب فالأقرب إلى الميت في تنظيم بديع بينته كتب الفقه الإسلامي أتَمَّ بيان, وأما في المذاهب الوضعية القائمة على الأفكار البشرية القاصرة, فإن نظام التوريث قائم على تناقضات وغبن, فلو أراد صاحب المال أن يوصي بالمال كله لكلبه لصحَّ ذلك كما نسمعه من أخبارهم وقد سمعناه, وقرأنا أن بعضهم يوصي بفندق لكلبه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 50.

فالإسلام ينظر إلى تحقيق عدة مصالح في مال المتوفى؛ فمن ناحية لا يريد أن ينتقل المال كله وكما هو إلى فرد بعينه دون الآخرين, ومن ناحية أخرى أن يستفيد أكثر من واحد منه, ممن يمتُّ إلى الميت بسبب من أسباب القرابة, ممن يحق له الإرث شرعًا, ممن ذكرتهم الشريعة الإسلامية, كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} 1، وقد توعَّد الله بالعذاب كل من يتعدَّى الحدود التي فرضها في الميراث, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2.

_ 1 سورة النساء، الآيتان: 11، 12. 2 سورة النساء، الآية: 14.

وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية وفي كلام علماء الفقه الإسلامي بيان كل ما يتعلّق بنظام الإرث الشامل لكل مَنْ يستحقه من ذكور أو إناث صغارًا كانوا أم كبارًا, مع الالتفات إلى الميت صاحب المال نفسه إذا جعل له حدًّا في التصرف بماله, وفي ما يوصي به إن أراد الوصية, خلافًا لأنظمة الجاهلية التي لا تعير هذا الجانب أيّ اهتمام؛ كالاشتراكية التي تعترف بحق الإرث مهما كان, أو الرأسمالية التي لا تعترف به بأي وجه من وجوه الإرث من مال الغير1، الأولى نتيجة لمصادرتها جميع حقوق الناس, والثانية لشرهها في حب المال والتنافس في جمعه, وكما هو حاصل مع الأسف في بعض المجتمعات الإسلامية الجاهلة التي لا ترى إرث المرأة من مال أبيها, وهو ظلم فاحش بسبب الأنفة والعصبية الجاهلية. والغرض من ذكر الإرث هنا هو بيان أن الميراث هو مصدر كأحد المصادر التي تمثّل جانبًا في سد الحاجة كغيره من سائر الموراد التي أتاحها الإسلام لأتباعه, وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لئن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس" 2. المسألة التاسعة: الوصية وكذا مشروعية الوصية من المال الثلث فأقل لتوزيعها في جهات خيرية من أقرباء أو غيرهم, كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ

_ 1 إن بعض المجتمعات عندهم عرف وهو إرث الولد الأكبر لجميع التركه دون غيره من أخواته وأخواته، انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص115. 2 تقدم تخريجه.

حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 1، وهذه الوصية تكون لغير الوراثين كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" 2، إذ الغرض منها هو تعميم المال على أكبر قدر ممكن من الناس, حتى وإن بعدوا عن نسب الميت, وكانت هذه الوصية لغير الوارث الحقيقي معمولًا بها وواجبة التنفيذ, وقد نسخ وجوبها فهي مستحبَّة, وفيها إيصال خير الشخص المتوفى إلى من لا يرثه شرعًا بعد وفاته من أقربائه أو غيرهم فيدعون له, ويذكرونه بالثناء والترحم, ويكون قدوة في هذا العمل الخيري ومشجعًا لغيره عليه, فهذه الوصية خير نَدَبَ إليها الإسلام ورغَّب فيها, بخلاف ما لو وصَّى بمحرَّم, فإن وصيته باطلة وعليه الإثم كمن يوصي بإقامة حفلات الطرب, وبناء مساكن الدعارة, ونحو ذلك من المحرَّمات, وكذلك الوصايا الخرافية، كمن يوصي بماله أن يبنى منه قبَّة على قبره, أو على قبر غيره, أو ينحت له تمثالًا, أو توقد على قبره الشموع، أو الوصية للقراء على قبره بمال عند كل ختم للقرآن, أو الوصية بماله لحيّان من الحيوانات, وغير ذلك, التي لا تعود بالنفع على المحتاجين أو أجر لصاحبها فيها. وأمر جل وعلا بالتعاون والتكافل على وجوه الخير, وحرَّم التعاون على الإثم والعدوان, كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 180. 2 البخاري "باب لا وصية لوراث" ج3، ص1008. 3 سورة المائدة، الآية:2.

المسألة العاشرة: الحث على الإيثار ومن التكافل في الإسلام أيضًا الحث على خلق الإيثار الذي حثَّ عليه الله تعالى في كتابه الكريم, ومدح القائمين به, كما قال تعالى في مدح الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ولقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأنصار والمهاجرون أروع الأمثال التي لا نظير لها في التاريخ البشري من الإيثار في ساعة العسرة وعند الشدائد2، والبدء بسد حاجة المحتاج, وتقديمه على النفس، وقد سطروا أروع الأمثلة في الإيثار, ويكيفيهم مدح رب العالمين لهم. المسألة الحادية عشرة: الهدايا والهبات ومن التكافل أيضًا الهديا والهبات، وهي من الأخلاق الرفيعة التي دعا إليها الإسلام, كما قال صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا" 3. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يهدي ويهدى إليه, ويقبل الهدية, ويرفض الصدقة, وللهدايا

_ 1 سورة الحشر الآية: 9. 2 اقرأ ما نقله الشيخ عبد الله ناصح في كتابه "التكافل الاجتماعي في الإسلام" الفصل السادس بعنوان "أثر التربية الوجدانية في تحقيق التكافل" ص10-107. 3 الأدب المفرد ج1، ص208، ومسند أبو يعلى ج11، ص9.

والهبات فوائد اجتماعية وسلوكية عديدة, وحرَّم الإسلام الرجوع في الهدية, واعتبر العائد فيها كالكلب الذي يقي ثم يأكل قيئه, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" 1، تنفيرًا عن الرجوع فيهما؛ لأنَّ الرجوع فيهما يبعث على الحقد والعداوة الشديدة؛ ولأن المقصود بها التكرمة ورفع الحاجة عن مَنْ كان محتاجًا إليهما, فالعودة فيهما إخلال بهذا المسلك, وعدم التكافل المطلوب, إضافة إلى ما يجده المهديّ إليه من إنكسار قلبه عند رد الهدية, والوحشة التي تحصل عنده من المهدي, وفي الغالب أن الهدايا قد تكون لأشخاص لا تربطهم بالمهدي إلّا الصداقة, ولا يكونون مِمَّن تلزمه نفقته والقيام بمصالحه, والحديث يذم كل من عاد في هبته لأي شخص تُقَدَّم له الهدية, سواء أكان قريبًا أو بعيدًا, والله أعلم. ولا يجوز أن تشتمل الهبة على مضرّة الآخرين أو مُحَرَّم وكذلك الهدية. المسألة الثانية عشرة: التكافل الأسري ومن الإرشادات الاقتصادية في الإسلام التكافل الأسري, فمن الأمور المعلومة أن المذاهب الوضعية لا تنظر إلى تلاحم الأسر خصوصًا الشيوعية, أما الإسلام فإنه يحرص أشد الحرص على تماسك الأسرة فيما بينهم , وإشاعة العطف بين كل أفرادها, ويدعوهم إلى أن يكمل بعضهم بعضًا بأن يعطف الغني على الفقير, وأن لا ينسوا الفضل بينهم, وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يكمل بعضه بعضًا ويشده, وقد رغَّب في الصدقة على المحتاج

_ 1 رواه البخاري ج2، ص925، ومسلم ج3، ص1241.

القريب, وأن أهل البيت أولى بالصدقة, وخصوصًا ما يتعلق منها بصلة الرحم, فحقها أوجب وآكد, وقد جاء في كتاب الله تعالى في بيان هذا الجانب قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 1، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} 2، ووردت في السنة النبوية نصوص كثيرة في الحثّ على ذلك, قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" 3، وقد أكد الإسلام حقَّ الرحم وشدَّد عليه, وأن حقَّ الرحم يصل إلى حد أن الله يصل من يصلها, ويقطع من يقطعه, فقد ورد في الحديث: "إنها تعلقت بساق العرش وقالت يا رب: هذا مقام العائذ بك من القطيعة, فقال لها: ألا ترضين أن أصل من وصلك, وأقطع من قطعك، قالت: رضيت، قال: فذلك لك" 4، ولا شكَّ أن أي مجتمع يحقق هذا التكافل سيكون مجتمعًا سعيدًا لا يشعر فيه الفقير بذل الحاجة ولا الغني بمنَّة العطاء. هذا وللتكافل الأسري طرق كثيرة حسب ما يتيسر لهم, فإمّا أن يكونوا

_ 1 سورة النساء، الآية: 36. 2 سورة الإسراء، الآية: 36. 3 أخرجه البخاري ج5، ص2273. 4 صحيح ابن حبان ج2، ص185، والأدب المفرد ج1، ص36.

شركة فيما بينهم, في شكل تجارة أو وقف أو مال مدَّخر يدفع كل فرد منهم قسطًا حسب طاقته, ثم ينمَّى هذا المال قليلًا قليلًا إلى أن يصبح مبلغًا يستطعيون من خلاله مساعدة بعضهم بعضًا, كل بقدر حاجته الضرورية, وتكون تلك المبالغ بيد أمين منهم يختارونه كلهم, له خبرة بالتصرّف في تنمية المال من وجوهه الشرعية, وعليهم ان يتقبَّلوا هذا المسلك ولا يسأمون, وأن يتذكَّروا ما يأتي به من فوائد فيما بعد من تأليف قلوبهم وشدة تمساكهم ورفع الحاجة عنهم مهما كان ضئيلًا في البداية, وهذا وجه جيد من وجوه حلّ المعضلات الاقتصادية لو طبِّق بصبر وأناة. ومن التكافل الأسري أن تجمع الأسرة من كل فرد منهم مبلغًا من المال, ثم يعطون المحتاج منهم إمّا صدقة أو دينًا, وهذا بدوره عليه أن يحسن التصرّف في ذلك المال فلا يضيعه فيما لا يعود عليه بالفائدة, فيصبح عالة على أسرته وغيرهم, أو يعطون الفقير منهم أمتعة يبيعها إمَّا بأخذه أجرته منها, وإما بغير ذلك من طرق الكسب. وأبرز مظاهر التكافل الأسري كفالة الزوج لأسرته وزوجته أو زوجاته وأولاده ذكورًا أم إناثًا، فللزوجات النفقة ما داموا عاجزين عن التكسُّب, وما داموا تحت رعاية أبيهم, ونفقة الرجل على أسرته تكون حسب مقدرته, فلا يجوز الإسراف ولا التقتير, قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها, فإن فضل شيء فأهلك ... " الحديث2.

_ 1 سورة النساء الآية: 34. 2 رواه مسلم ج2، ص692.

وهذا التكافل لا شَكَّ أن فيه إسهامًا لدفع حاجة المجتمع؛ إذ لو قام كل شخص بكفالة أسرته خير قيام لقلَّ عدد المعوزين والعاطلين, ولو تعدَّى الحال إلى كفالة كل قريب موسِر لأقربائه المحتاجين من غير الورثة؛ لكان في هذا العمل إسهامًا مباركًا في سعادة المجتمع ودفع الفاقة عنهم. وفي كتب الفقه إيضاحات كافية لقضية النفقات, فلترجع إليها إن أحببت التفاصيل, وقد قيل في الأمثال: "لو كنس كل شخص أمام باب داره لأصبح الشارع كله نظيفًا". المسألة الثالثة عشرة: ومنها موارد أخرى متنوعة وهذه الموارد قد تبدو قليلة ولكنها تشكل بمجموعها روافد أخرى في سد حاجة الفقراء, اهتمَّ الإسلام ببيانها: 1- مثل زكاة الفطر بعد نهاية صوم شهر رمضان. 2- توزيع لحوم الأضاحي على المحتاجين. 3- توزيع ما لا يحتاجه الموسرون من الأمتعة التي يستغنون عنها, وهي في نفس الوقت تصلح للمحتاجين؛ من ثياب وآنية وغيرها من الأمتعة المختلفة. 4- ومنها إطعام مسكين في كل يوم في حق الرجل أو المرأة الكبيرين, أو المريض الذي لا يرجى برؤه إذا عجزوا عن الصوم في نهار مضان, ويلحق بهم أيضًا الحامل والمرضع إذا خافاتا على نفسيهما أو ولديهما كما يرى بعض الفقهاء.

5- ومنها توزيع لحوم الهدي من قِبَلِ الحاج أو المعتمر, إبلًا كانت أو بقرًا أو غنمًا, عندما يرتكب محظورًا من محضورات الإحرام, أو في حال تمتعه في الحج أوقرانه, فإنه يقدّم هديًا بالغ الكعبة1. 6- ومنها ما رغَّب فيه الشارع وأوكله إلى ضمير الشخص من التصدّق على المحتاجين الذين يحضرون وقت حصاد الثمار تطييبًا لأنفسهم وسدًّا لحاجتهم, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 2. 7- ومنها سائر الكفَّارات التي جعلها الله من ناحية عقوبة للمخالف وتطهيرًا له, ومن ناحية أخرى فائدة للمحتاجين وإسهامًا في نشر الحياة السعيدة بينهم, وتشمل تلك الكفارات: كفارة الإيمان، وكفارة الإفطار في نهار شهر رمضان عامًدا، وكفارة الظهار من الزوجة، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة قتل المحرم الصيد في حال إحرامه عمدًا.

_ 1 لقد كانت لحوم الأضاحي في الحج قبل فترة من السنوات تذهب سدًى غير ما يؤكل منها, وهو قليل بالنسبة لكثرة ما يضحى به, ثم فطن المسئولون إلى الاستفادة منه, فأقيمت له المصانع لتعليبه وتوزيعه على الفقراء في مختلف بلدان المسلمين, وهو أمر طيب يشكرون عليه. 2 سورة الأنعام الآية: 141.

1- أما كفارة الأيمان: فقد قدَّر الله فيها إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة, فإن لم يستطع الحالف ما تقدَّم فإن عليه صيام ثلاثة أيام, على أنَّ المؤمن مطالب بحفظ لسانه من الحلف, وورد النهي الشديد عن الحلف الذي قد يؤدي إلى الحنث, فيلحقه الإثم, قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1, وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} 2. وورد في السنة النبوية الوعيد الشديد لمن يحلف على سلعته ليبيعها, وفي اليمين الغموس، وكثرة الحلف يؤدي إلى الاستهانة بحق الله والتعوّد على الكذب، وفي مقدار كفارة اليمين يقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. ويُخَيِّر من حنث في يمينه بين هذه الثلاثة من الأمور السابقة, فإن لم يتمكَّن ينتقل الحكم إلى الصوم لتطهير نفسه، وفي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فائدة للمحتاجين, وإسهام في إشاعة التكافل وسد الحاجات, وفي

_ 1 سورة المائدة، الآية: 89. 2 سورة القلم، الآية: 10. 3 سورة المائدة، الآية: 89.

تحرير الرقبة دعوة إلى الترغيب في إشاعة الحرية التي تؤهل الشخص لتحمّل كافّة أعباء الحياة, والإسهام في بناء التكافل العام بين كل أفراد المسلمين في مستوى واحد, وفي الترغيب أو فرض تحرير الرقبة في بعض الأمور دليل صريح في أن الإسلام قد نادى بالغاء الرق قبل أن يظهر المتشدقون من دعاة الحرية العصرية، مع أن حال الرقيق في الإسلام يختلف كما بين المشرق والمغرب عن حاله في العالم الجاهلي, وقد عرفت سابقًا ما كان معمولًا به في أوربا وغيرها زمن الإقطاع, وسيطرة البابوات في الوقت الذي كان الإسلام يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم وآدم من تراب" 4 ... إلى آخر النصوص الكثيرة. 2- كفَّارة الإفطار: وأما كفَّارة الإفطار في شهر رمضان نهارًا, وبالجماع عمدًا, ففيها الإطعام لستين مسكينًا لمن لم يجد عتق رقبة, أولم يستطع صوم شهرين متتابعين, ولا شكَّ أن إطعام ستين مسكينًا فيها مواساة وتكافل بين أفراد

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 10. 2 سورة الحجرات، الآية: 13. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5، ص411. 4 أخرجه أبو داود ج4، ص331.

المجتمع المسلم, وفيها نفع للفقراء والمحتاجين, فلو افترضنا أن هذه الكفّارة وجبت على عشرة من الناس لكان مجموعها إطعام ستمائة شخص, وهو أمر ظاهر في التكافل الاجتماعي, ومعلوم أن كفارة الجماع في نهار رمضان ليست على التخيير, وإنما هي على الترتيب: عتق رقبة، فصوم, فإطعام، وقد ورد الحديث ببيان ذلك كله "فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: "وما أهلكك"؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان, قال صلى الله عليه وسلم: "هل تجد ما تعتق رقبة"؟ قال: لا, قال صلى الله عليه وسلم: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ , قال: لا, قال صلى الله عليه وسلم: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا"؟ قال: لا, قال: ثم جلس فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر, قال: "تصدَّق بهذا" , قال: فهل على أفقر منَّا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا, فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه, وقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأطمعه أهلك" 1، وقد اشتملت عقوبة هذه الفعلة على نفع الغير ونفع النفس أيضًا. 3- كفَّارة الظهار: وأمَّا كفارة الظهار، وهي قول الزوج لزوجته أنها عليه كظهر أمه -أي: في التحريم- كنايةً عن تحريم ما أحلَّه الله تعالى، ففيها إطعام ستين مسكينًا لمن لم يستطيع تحرير رقبة مؤمنة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين, وكما قدمنا في كفارة الجماع في نهار رمضان يقال مثله في كفارة هذه الخطيئة.

_ 1 أخرجه مسلم ج2، ص781.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. 4- وأما كفَّارة القتل الخطأ: ففيه الدية؛ حيث تسلَّم إلى أهل الميت إذا طلبوها فتصبح ملكًا لهم يتصرَّفون فيها كما يشاءون وينتفعون بها, قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2. 5- وأمَّا كفَّارة قتل المحرم للصيد عمدًا: فهو بالإضافة إلى أنه نوع من إظهار الأمن العام لكل المخلوقات من قبل المحرم, وهو أيضًا نوع من الإحسان إلى الفقراء وسدًّا لحاجتهم بما يصلهم من لحوم الكفارات, أو من الإطعام لهم, وهذا إسهام في سد حاجة

_ 1 سورة المجادلة, الآية: 3, 4. 2 سورة النساء الآية: 92.

الفقراء يصلهم من مال الأغنياء الذين قد لا يتأثَّرون بما يقدمونه, بينما هو في نفس الوقت فيه نفع لأصحاب الحاجات, ومن هنا فإنه لا يجوز للشخص أن يستهين ولو بالشيء القليل من الطعام أو غيره, فإنَّ هذا القليل قد يكون كثيرًا في نظر آخر محتاج. 6- النذور: ومن الوسائل الأخرى التي تعزّز التكافل الاجتماعي بين أفراد المسلمين النذور التي يجب الوفاء بها بعد إيجابها من ذبائح أو أطعمة أو كسوة أو سكن, أو غير ذلك من الوجوه التي تعود بالنفع على المحتاجين, وتسد جانبًا من حوائجهم, قال تعالى في مدح الذين يوفون بنذرهم: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 1. ولا يرد على هذا أن النذر غير مرغب فيه أنه إنما يستخرج به من البخيل؛ إذ أنه بعد إيجاب الشخص على نفسه ذلك يجب الوفاء به حتى وإن كان من الأمور غير المرغب فيها في الأصل, ولم يمدح الله الموفين به إلّا وفيه أجر وثواب, وأنه يجب الوفاء به إذا كان نذر طاعة مشروعة. 7- إكرام الضيف: ومنها ما شرعه الإسلام من وجوب إكرام الضيف ودفع الحاجة عنه حينما يكون في سفر باستضافته عند أي شخص يأوي إليه في سفره

_ 1 سورة الإنسان، الآية: 7.

حتى يصل إلى بيته وأهله، ولهذا لو طبَّق الناس هذا المنهج الإلهي لأَمِنَ المسافر الحاجة والعوز مهما امتدَّ به السفر، وهذ بخلاف ما في الحضارات الجاهلية التي لا تعرف للضيافة معنى, خصوصًا في المجتمعات الرأسمالية التي تجعل الولد أو الوالد يدفع كلٌّ منهما للآخر ما أكله من مطعمه، كما يقال، وخصوصًا بعد أن كثرت المطاعم والمقاهي والفنادق التي هي عدوة الضيافة حسب مفاهيم الضيافة في القديم. المسألة الرابعة عشرة: التكافل عن طريقة العارية ومنها التكافل بين المسلمين عن طريق العارية تسهيلًا لانتفاع المحتاج إليها وسدًّا لحاجته, ثم يردها كما هي لصاحبها, فيحصل الانتفاع بالشيء الواحد لأكثر من جهة, وهو خلق حميد حثَّ عليه الإسلام ورغَّب فيه وذمَّ الذين يمنعون الماعون في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1. المسألة الخامسة عشرة: رعاية العاجزين والضعفاء ومنها كذلك رعاية الإسلام للعاجزين والضعفاء وحل مشكلاتهم الاقتصادية, فلقد أولت التعاليم الإسلامية عناية واهتمامًا كبيرًا بالعاجزين والضعفاء وإصلاح شئونهم إلى أن يقوى أمرهم, وجعل مسئولية القيام على مصالحهم في أعناق المجتمع كله حكامًا ومحكومين, كلٌّ حسب وضعه؛ إذ لو

_ 1 سورة الماعون الآيات: 4-7.

قام هؤلاء كلهم بواجبهم لما بقيت أي مشكلة اقتصادية تهدد حياة البؤساء بهذه الحدة, وهؤلاء الفئات من المجتمع هم: 1- الأطفال عمومًا. 2- الأيتام. 3- اللقطاء. 4- أصحاب العاهات. 5- الشواذ والمنحرفين. 6- المطلقات والأرامل. 7- الشيوخ والعجزة. 8- المنكوبين والمكروبين1. 9- الغارين وأصحاب الديون المعسرين. 1- أما الأطفال فإن رعايتهم والقيام على مصالحهم هي قبل كل شيء تقع على الآباء والأمهات, فقد أوجب الإسلام عليهم تربية أبنائهم تربية بدنية ورحية, وملاحظة نموهم وسلوكهم, وتقييم كل تصرفاتهم, والعدل بينهم, وتعليمهم العلم النافع, وتوجييهم إلى الجدّ في العمل, والرغبة في خدمة أنفسهم ومجتمعاتهم، وأوجب على الآباء النفقة عليهم ما داموا في حاجة آبائهم، وأوجب على أمهاتهم إرضاعهم ورعايتهم إلى أن يكتفوا بأنفسهم, وهذا في حال حياة الآباء.

_ 1 انظر التكافل الاجتماعي في الإسلام ص59.

2- وأما في حال وفاة الآباء وأبناؤهم لا يزالون أطفالًا صغارًا, وهم من يطلق عليهم "الأيتام", فقد أوجب الإسلام على الناظر لهم كامل الرعاية والعناية بهم, ورغَّب في الأجر على القيام بتربيتهم إلى أن يتجاوزوا سن الطفولة, قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} 1. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} 2. وإذا كان لليتيم مال فقد أوجب الإسلام الحفاظ عليه وعدم التصرف فيه إلّا بالتي هي أحسن؛ لتنميته والحفاظ عليه سليمًا مصونًا حتى يكبر, كما قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 2. فإذا تصرَّف فيه الناظر بالغشِّ, فإن الله تعالى قد توعَّده بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 4. فإذا أحسَّ الناظر أن اليتيم أصبح حَسَنَ التصرُّف في ماله ردّه عليه امتثالًا لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا

_ 1 سورة الضحى، الآية: 9. 2 سورة الماعون، الآيتان: 1، 2. 3 سورة الأنعام، الآية: 152. 4 سورة النساء، الآية: 10.

أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} 1. وفي السنة النبوية حثٌّ شديد وتأكيد لحق اليتيم عَبَّرَ عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بإصعبيه السبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا"2، ولا شَكَّ أن هذا فضل عظيم وأجر جزيل لمن احتسب كفالة الأيتام. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلّا لله, كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة, ومن أحسن إلى يتيمية أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى" 3. 3- وإذا كان الطفل لا يعرف له أب ولا أم وهو ما يسمَّى باللقيط, فقد اهتمَّ به الإسلام وأوجب له من الحقوق مثل غيره من الناس؛ إذ لا ذنب له فيما فعله أبوه وأمه, والله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 4, وكفالة اللقيط وتربيته الروحية والبدنية تقع على مسئولية الدولة ابتداءً, فإن الحاكم وليُّ من لا وليَّ له, ولكن إذا تبرَّع شخص بكفالته وتربيته فله ذلك, ويعتبر فعله صدقة يثاب عليها, وموردًا اقتصاديًّا خيرًا, واللقيط على العموم يعتبره الإسلام عضوًا عاملًا, وله أن يقوم بكل ما يقوم

_ 1 سورة النساء الآية 60. 2 البخاري 5/ 2032. 3 أخرجه أحمد ج5، ص250 في مسنده. 4 سورة الإسراء، الآية: 15.

به غيره من الأعمال استصلاحًا له, ولا يبيح الإسلام تغييره بنسبه أو ازدراءه لذلك تطييبًا لخاطره, وعلى رجاء أن ينفع الله به. هذا بالإضافة إلى وجوب قيام الدول بإتاحة التعليم لهم والمساعدات الأخرى حين يتعيِّن عليهم تقديمها. 4- أما رعاية أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الله بعاهات قد تضعفهم عن مواصلة أعباء الحياة وخض معتركها؛ كأن يكون أحدهم أعمى أو أصمّ أو أبكم أو إصابته ضعف الشيخوخة, أو كان به اختلال عقلي, أو غير ذلك من الأمراض المزمنة التي لا يستطيع الشخص معها السعي والكسب, سواء أكانت عاهات جسدية أو عقلية, فهؤلاء تقع مسئوليتهم على ذويهم أولًا, ثم على الدولة, ثم على المجعمع كله؛ حيث يجب أن يشعروهم بالرحمة والعطف, والعمل على تشغيلهم ما أمكن في حدود استطاعتهم, كما يجب أن تتولّى الدولة القسط الأكبر من العناية بهم وتعليمهم, وفتح الباب لهم لتدريبهم في الأعمال المهنية التي يستطيعونها, وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام تحت دعوته إلى التراحم وأنواع البر. 5- أما رعاية المنحرفين والشواذ: فبغضِّ النظر عن أسباب ظاهرة الانحراف والشذوذ, فإن المسئولية عن تربيتهم وإصلاحهم تقع أولًا على أولياء أمورهم، وثانيًا على الدولة, ثم على المجتمع كله, وتشترك مسئولية أولياء الأمور والدولة تجاه هؤلاء في حمايتهم من وسائل الشذوذ, فيمنعونهم مثلًا من مشاهدة الوسائل المشجعة على الفسق؛ كالأفلام الخليعة, والنظر في المجلات الماجنة, وسماع الأغاني الفاجرة, واقتناء الآلات التي تعمل على هدم الأخلاق وتسهيل الجريمة, وما أحرى الجميع بمواجهة الفساد المنتشر

في عصرنا في وسائل الإعلام بشتَّى صنوفه -إلّا من رحم الله, فقد جدَّ أعداء الإسلام في تمييع شباب المسلمين وإخراجهم عن دينهم, وجعلهم أداءة طائعة لمطامعهم, يريدونهم أن لا يصلحوا لجهاد ولا يتحركوا لإصلاح، ويجدر بالأب إذا لم يستطيع كبح جماح ولده بشتَّى الوسائل أن يستعين بعد الله بالدولة, ويترك العاطفة جانبًا فلربما يجد على أيديهم خلاص ابنه, خصوصًا الدولة التي يمنّ الله عليها بحكَّام مسلمين مخلصين, فإن الولد يحسّ حين تتضافر جهود الأب والدولة على ردعه بأنه شاذٌّ عن الطريق الصحيح, وإلّا لما وقف كل المجتمع في وجهه بما فيهم مصدر الرحمة عليه وهو الأب, وتضاف إلى مسئولية الدولة عن هذا النشئ أيضًا فتح المجالات التي تستوعبهم, ويشغلون فيها بمختلف الأنشطة المفيدة, بل وفتح دور للإصلاح والتهذيب على حد قول الشاعر: قسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقس أحيانًا على مَنْ يرحم وقد سمع عمر -رضي الله عنه- في إحدى عسَّاته بالليل امرأة من داخل بيتها تتغنَّى بأبيات شعرية تذكر فيها أنه لولا خوف الله لسهل عليها مقارفة جريمة الزنا, فسأل عن حالها فتبيِّنَ أن زوجها ضمن المجاهدين, فأمر بردّه, وحدَّد بعد ذلك وقتًا لغياب الزوج عن زوجته، وقد سمع امرأة تتغزَّل في رجل فأمر بإحضاره فرآه جميلًا وسيمًا, فأمر بحلق رأسه فزاده ذلك جمالًا, فأمره بأن يذهب إلى مكان في العراق ليسكن فيه غيرة منه على حُرَمِ المسلمين وقطعًا لمصادر الفتنة. وقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- راكبًا وخلفه ابن عمه الفضل وكان جميلًا, فوقفت

امرأة تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر الحج, وكانت تنظر إلى الفضل وهو ينظر إليها, فحوَّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجهه عنها سدًّا للفتنة، والأمثلة على هذا كثيرة في التاريخ الإسلامي, وهكذا ينبغي عدم استسهال ما ينتج الشر مهما كان صغيرًا, فقد قيل: "ومعظم النار من مستصغر الشرر", فوجب إيقاف الشر قبل استفحاله وفوات الأوان, والإسلام دائمًا يحثّ على سد الذرائع واستشعار المسؤولية "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1، وهي قاعدة دينية اقتصادية من أنجح الوسائل. 6- وأمَّا رعاية المطلقات والأرامل، فإن الإسلام لم يترك أمرهم دون بيان، ولم يترك أمرهم لرحمة أحد وجفائه, فقد أوجب للمطلقة الرجعية النفقة والسكنى إلى نهاية عدتها, ولها النفقة حتى تضع حملها -إن كانت حاملًا, ولها النفقة بعد وضعها حملها إذا كان ترضع ابنها كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 2، وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ

_ 1 البخاري 2/ 901، ومسلم 3/ 1459. 2 سورة الطلاق الآية: 1.

قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} 1، وأما الأرملة وكذا المطلقة التي انتهت عدتها, فإن كانتا في حاجة فإن نفقتهما على أقاربهما, فإن لم يكن لهما أقارب انتقلت نفقتهما على الدولة التي يجب أن ترعى مثل هؤلاء الضعفاء والمساكين؛ فتفرض للأرملة والبائنة ما يسد حاجتهما إلى أن يتغير حالهما بالزواج أو الموت أو الغنى, وحينما كان المسلمون يطبقون مثل هذه الأحكام, وحينما كانوا يتسارعون إلى الإنفاق على الضعفاء, كانوا على أحسن حال وأكرمه, كانوا خير أمة أخرجت للناس. 7- وأمَّا رعاية كبار السن والعاجزين عن العمل والكسب فإن الإسلام يجعل مسئولية إعاشتهم على أقاربهم, ثم على الدولة تنفق عليهم من بيت المال, تقدمه لهم في أوقات معلومة, كما كان الحال في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم, وعصر الصحابة -رضوان الله عليهم, كما يجب على المجتمع كله أن لا ينسى الدعوات في كتاب الله وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالتصدق والإنفاق على الضعفاء ابتغاء الأجر والثواب, وإقامة المجتمع الإسلامي على أسمى السلوك الطيب؛ بحيث لا يشكل هؤلاء مشكلة اقتصادية يواجهونها دون سند من أحد. 8- ومثل هؤلاء في الرعاية المنكوبين والمكروبين من أصحاب الحاجة, وهؤلاء لم يتركهم الإسلام وشأنهم يواجهون المعضلات دون أن يلتفت لهم أحد -كما هو الحال في الدول الكافرة, بل إن الإسلام اهتمَّ بشئونهم

_ 1 سورة الطلاق، الآية: 6.

ورغَّب في خدمتهم وتسهيل أمورهم إلى حين انفراج الحال عنهم, ومن كان معسرًا وعليه دين, فإن الإسلام يوجب على صاحب الدَّيْن أن ينظره إلى حين انفراج حاله, قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، ومن كان في كربة فقد رغَّب الإسلام في الوقوف إلى جانبه ومساندته, بل ولو أدَّى ذلك إلى إيثاره على النفس, كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وفي السُّنَّة النبوية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّجَ عن مسلم كربة من كُرَبِ الدنيا فرَّج الله بها عنه كربة من كُرَبِ يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" 3. ومساعدة هؤلاء لا تقف فقط عند المشكلة الاقتصادية, بل تتعدَّاها إلى أمور أخرى كثيرة؛ كالمشورة لهم والتوجُّع لحالهم ومواساتهم بالنصائح, وإدخال السرور عليهم بأيّ فعل أو قول فيه خير, وهذا جزء من التكافل الاجتماعي بين المسلمين الذي رغَّب فيه الإسلام, فإن تفريج الكربات عن المنكوب لها طرق كثيرة, وقد جعل الإسلام الكلمة الطيبة صدقة كما تقدَّم بيانه.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 280. 2 سورة الحشر، الآية: 9. 3 رواه البخاري 2/ 862، ومسلم 4/ 1994.

- تعقيب: فأي نظام من النظم البشرية الوضعية يصل إلى هذا الرقي والتلاحم بين أفراده غير الإسلام، هل في الاشتراكية الظالمة الحاقدة، أم في الرأسمالية الجشعة المستكبرة، أم الوثنيات البهيمية، كلَّا إنه في الإسلام المشرق الذي جاء وصف أتباعه بأنهم كالبنيان المرصوص, وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. المسالة الرابعة عشرة: تحريم التعامل بالمال في بعض الأمور ومن تنظيم الإسلام للأمور المالية أنَّه لم يجعل لصاحب المال الحبل على الغارب, بل هذَّب التصرفات فيه, وقد لا يفطن البعض إلى أن هذا التحريم هو مورد من الموارد التي أرادها الإسلام, ومن ذلك: 1- أنه حرَّم الربا الذي هو التسليف بزيادة على رأس المال, وقد حرمه الله لكي لا تذهب أموال قوم إلى آخرين دون مقابل, فيزداد به الفقراء فقرًا والأغنياء ثراءً على حساب الفقراء, وما ينشأ عن ذلك من إثارة للأحقاد والضغائن بين فئات المجتمع, وانتزاع الرحمة, وقتل كل مشاعر الفضيلة والكرم والأخلاق النبيلة، والقروض الربوية التي تسمَّى -كذبا وزورًا- فوائد, إن هي إلّا سحت واستحلال للربا وأكل أموال الناس بالباطل, فإذا

اقترض الفقير بسبب حاجته وفقره مبلغًا من المال على افتراض أنه مليون ريال, ثم يعيده بزادة 2%, فإذا عجز عن السداد في الوقت المحدَّد يضاف إليه أيضًا نسبة أخرى لنفرض أنها 3%, فإذا عجز أيضًا تضاف نسبة أخرى, فمتى يسدد المحتاج المبلغ الأساسي والمبالغ المضافة إليه, ومنطق هذا الصنيع يقول: كلما افتقر الشخص فإنه يزاد عليه فقرًا, هكذا شريعة الربا. ولهذا كان الربا بمثابة إعلان الحرب على جميع الأمة, وأن الله تعالى سيحارب أصحاب الربا بما يشاء سبحانه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 1. وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 2. وقد لعن الرسول -صلى الله عليه سلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمرابي يفقد كل معاني النخوة والشهامة والكرم, ويستمرئ العيش الرغيد والثراء الفاحش من وراء كَدِّ الناس له, فيميل إلى الإغراق في الكسل وعدم حب العمل والتفنُّن في اصطياد من ألجأهم الحال إلى الاستعانة به, فيصبح كما قال الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار

_ 1 سورة البقرة، الآية: 278. 2 سورة البقرة، الآية: 275.

كما أنَّ آخذ المال بالربا يصبح هو الآخر في خطر؛ إذ تقوده رغبته في الثراء الذي يتخيله من وراء أخذ المال بالربا والدَّيْن إلى الإفلاس من وراء استثمار ذلك المال إذا لم يوفَّق في تصريفه بطريقة ناجحة, فيتحمَّل بعد ذلك سداد رأس المال وسداد الربا والإفلاس الذي حلَّ به, ولم يقتصر ضرر الربا على شخص أو أسخاص معدودين, بل قد يشمل ضرره المجتمع والدولة بأجمعها, فيبنما هي تستحلي أخذ الأموال بالربا؛ إذ بها تفيق على مبالغ هائلة متراكمة يصعب عليها أن تسددها, فتلجأ بعد ذلك إلى الذل والخضوع للدول الدائنة, أو استجداء مَنْ لا يبالي ولا يرحم, بل وقد تدخل تلك الدولة تحت حكم الدولة المرابية طوعًا أو كرهًا كما فعلت الدول الاستعمارية في أكثر من بلد حين تدخَّلت بحجة حماية رعاياها ومصالحها الاقتصادية, وأخيرًا إلى مشاركة الدولة المدينة في اقتصادها وأخذ الثمرة منه، والغرض هنا هو بيان نظرة الإسلام إلى مصالح البشر من وراء تحريم الربا, وقد استفاض علماء الإسلام في بيان شئون الربا وأضراره, والحكمة من تحريمه, وبيان نتائج التعامل به, وأقسامه المختلفة التي عدَّدها علماء الفقه وبينوا أحكامها على ضوء النصوص من كتاب الله -عز وجل, وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, بما لا يحتمل المقام تفصيله هنا. فيجب أن يحذر المسلم الحريص على سلامة دينه ودنياه أن ينساق مع دعاة تحليل ما حرّمه الله من الربا وغيره, أو أن ينظر في شبهاتهم التي هي بمثابة استدراكات على الله -عز وجل- وإن لم ينطقوا بذلك, فإن الربا حرام تحت أيّ حيلة أو أية تسمية, فقد أخبر الله في كتابه

الكريم أن كبار آكلي الربا زعموا أن البيع مثل الربا لا فرق بينهما في ميزانهم الخاطئ, وهي مغالطة بيَّنَها الله بأنَّ الفرق بينهما أن البيع حلال وأن الربا حرام, ومنهم من يزعم أن الربا لا يصدق على الزيادة الفاحشة التي أخذ فيها المرابي أضعاف ما أقرضه وهي شبهة باطلة, فإن الربا يصدق حتى ولو كان يسيرًا ما دام, وقد أخذ عن طريقه مع أنهم يعلمون أن الربا يضاعف فيه الدين عند عدم السداد, ومن الناس من زعم أن الربا في حال الضرورة جائز بالنسبة للمضطر, بحكم أن الضرورات تبيح المحضورات, وهذا تحايل لاستحلال الربا المحرّم, فالربا طريقة واضحة, والضرورات كذلك لها طرق واضحة وضوابط بخلاف الربا. والحاصل أن المسلم يجب أن يبقى بعيدًا عن أي شبهة توصّله إلى الربا, وأن لا ينخدع بزخارف أقوال المرابين مهما اختلقوا لها من شبهات وحيل كاذبة لاستحلال تعاملهم به. - تعقيب: اتضح مما سبق أن الربا محرَّم بجميع أشكاله وتحت أي مسمَّى كان, وأن أضرار الربا ليست قاصرة على من قَبِلَه فقط, وإنما تتعدَّى أضراره إلى كل طبقات المجتمع بما فيهم المرابي نفسه؛ من حيث سخط الله على صاحبه, ووكذا نظرة الناس إليه, ونظرته هو نفسه إلى العمل والجد, بالإضافة إلى ظهور أضرار اقتصادية عامَّة, وأضرار أخلاقية, وأضرار اجتماعية؛ حيث ينشأ عن ذلك استمرار الغني في غناه والفقير في فقره, وسوء توزيع وتداول المال بين أفراد المجتمع, فتزداد البطالة, ويظهر الخلل العام في كل أفراد

المجتمع، بالإضافة إلى ما يحصل بينهم من العداة والشحناء, وهذه العداوة والخصومات والأحقاد يؤججها ما يشعر به الفقير المحتاج تجاه الغني المرابي المستبد, وعدم شعور الفقراء بأي عطف أو إحسان من جانب أصحاب الأموال المرابين, بينما يحسّ الأغنياء بأن الفقراء يحسدونهم ويريدون التنصل مما عليهم من ديون الأغنياء؛ فتفسد الضمائر, وتنتكس الأخلاق, وقد عرف اليهود هذا الجانب فاهتمّوا بجمع الأموال وإقراضها الأميين أو الجوييم -كما يسمونهم, فيضمنون سلب أموالهم, وإضعاف اقتصادهم, وهدم أخلاقهم, وهو ضمن وسيلة لافساد المجتمعات وتمزيق وحدة قلوبهم. 2- تحريم الاحتكار: ومن وسائل الإسلام لحسن التعامل بالمال وتنظيمه للشئون المالية تحريمه الاحتكار. ومعناه: أن تنعدم بعض الحاجيات الضرورية أو يرتفع سعر تلك الحاجيات, وتوجد عند شخص أو أشخاص كمية منها يمكن أن تخفف الغلاء أو تسد بعض الضرورات لو بيعت من المتاجين بالثمن الذي تستحقه, فيعمد المحتكرون ويخفونها ولا يبيعون شيئًا منها إلّا عند شدة الحاجة إليها, وبسعر أكثر مما تستحق؛ لإقبال الناس عليها بسبب حاجتهم واضطرارهم إليها, فيستغل أولئك حاجة الناس إليها فيرفعون ثمنها؛ ليكسبوا من ورائها الأموال الكثيرة دون أدنى إحساس بالرحمة أو العطف، هذا الصنيع جائز في الأنظمة الجاهلية والرأسمالية, بل ويفتخر أولئك المحتكرون بأنَّهم أذكياء يحسنون التصرف في تنمية أموالهم, ولكن الإسلام يجعل هذا العمل

خطأ, وصاحبه يرتكب إثمًا مبينًا, ويوجب عليه أن يبيعها بثمن مناسب, وإلّا ألزم رغمًا عنه بذلك دفعًا للضرر عن الجماعة, ولا يعطى منه إلّا قيمة السعر المناسب فقط، قال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطئ" 1، أي آثم. ولو تصوَّر هذا المحتكر أنه ربما يأتي عليه يوم من الأيام يحتاج هو نفسه إلى سلعة يحتكرها صاحبها لوجد في نفسه من الغيظ ما لا يعلمه إلّا الله. كما ينتج عن الاحتكار أضرار جسمية تضر بمصالح الناس الاقتصادية العامة؛ إذ تختفي السلع والحاجات الفردية للناس, بينما تبقى في أيدي فرد أو أفراد بخصوصهم, فترتفع أسعار تلك الحاجيات فوق ما تستحقه من الأثمان, وبالتالي ينتج تسابق شديد في المنافسة بين المستهلكين لاختزانها وجمعها من الأسواق, فيلاقي الناس من جرَّاء ذلك عنتًا شديدًا، وللمسلمين عظة بالغ فيما يلاقيه الناس في ظل النظم الوضعية الجائزة التي تجيزه, أو على الأقل تتغاضى عنه, خصوصًا الأنظمة الوضعية الرأسمالية, وكذا الأنظمة الوضعية الماركسية التي تحوّل فيها الاحتكار من أفراد الناس في النظام الرأسمالي إلى خصوص أفراد الحكام في النظام الماركسي الخبيث. والإسلام حينما حرَّم الاحتكار واعتبره خطأ يجب الابتعاد عنه, لم يشمل ذلك التحريم ما يدخره الإنسان في بيته من قوته وقت عياله مهما بلغ إذا لم يكن في ذلك إضرار بالمصالح العامة للناس, أو ما تختزنه الدولة لأوقات الطورئ التي تلمّ بها, بشرط أن لا يكون ذلك فيه إضرار بالمصالح العامة, أو نقص لحقوقهم الضرورية, فقد ورد في من يفعل هذا تهديد

_ 1 رواه مسلم 3/ 1227.

شديد, قال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر سلعة يريد أن يتغالى بها على المسلمين فهو خاطئ, وقد برئ منه ذمة الله" الحديث1. 3- تحريم الغش: فقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" 3. والإسلام يجعل كسب المال عن طريق الغش محرمًا يجب التنزه عنه وتركه، وذلك لاستمرار صلاح القلوب, وداوم الثقة بين الناس, وحسن معاملة بعضهم لبعض, والحرص على إتقان العمل الطيب, وقد قيل: "من عاش بالحيلة مات بالحيرة", فإن الغاشَّ في سلعته أو في عمله يجد من وخز الضمير ومن نفور الناس عنه ما يكدِّر عليه صفو حياته, ثم يفضي به الحال إلى الإفلاس, فلا يأتمنه أحد على عمل, ولا يشتري منه أحد سلعته, هذا مع ما ينتظره من العقاب في يوم الدين الذي يرى الإنسان فيه كل ما قدَّم وإن كان مثقال حبة أو مثقال ذرة كما أخبر الله بذلك في كتابه الكريم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 4.

_ 1 المستدرك ج2/ 14. 2 سورة المطففين، الآيات: 1، 3. 3 أخرجه المسلم 1/ 99. 4 سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.

وقد حرَّم الإسلام كل ما يوصل حيلة الغش وإنجاحها؛ فحرَّم بيع المجهول, والحلف على قيمة السلعة, أو اختلاس شيء منها قد لا يراه المشتري, أو قيام شخص بالزيادة في قيمة سلعة وهو لا يريد شراءها متواطئًا مع البائع لرفع سعرها, وكذا ما يفعله أصحاب المواشي من غش المشتري بأن الشاة أو الناقة أو البقرة تحلب كثيرًا فلا يحلبها مدة من الزمن؛ ليذهب بها إلى السوق ممتلئة الضروع فيظنّ المشتري أنها دائمًا كذلك فيشتريها, فيقع في الغش, ومن الغش أيضًا ما يقع في زمننا الحاضر بالنسبة للسيارات؛ حيث يعمد بعضهم إلى إيقاف عدَّاد السرعة مدَّة من الزمن, فإذا جاء المشتري أصلح العداد وأراه أن السيارة نظيفة لم تسر كثيرًا لقلة استعمالها, وكذا ما يفعل بعض المستأجرين للسيارات؛ حيث يعمدون إلى إيقاف العداد لئلّا يتجاوز الكيلو مترات المتَّفق عليها لزيادة الأجرة, وغير ذلك من صور الغش التي لا يعلمها إلّا الله تعالى, والتي لا يمكن أن تزول إلّا بوجود المراقبة الذاتية لله تعالى, واستعشار الخوف منه -عز وجل, والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. 4- تحريم المكاسب التي تأتي دون مقابل حلال كالقمار والقمار يراد به نوع من المراهنة على صفة خاصة قد يكسب فيها الشخص مبالغ ضخمة في لحظات قد يخسرها أو يخسر بعضها في لحظات, وقد لا يكسب شيئًا مطلقًا, بل يخسر ما معه من المال، وهذا القمار نوع من الغش, وهو كسب خبيث يؤدي إلى وقوع العداوة والحرب

في أكثر الأحيان، إضافة إلى ما يحدثه بصاحبه من الاتِّكار في رزقه على تلك الطرق الخطرة, وترك العمل المثمر الذي ينفعه وينفع غيره من أبناء أمته, الذي يضع به لبنة في بناء صرح الإسلام, وقد حرَّمه الله تعالى وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان, وأن الفلاح مرتهن بتركه, والخسران مرتهن بسلوكه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، 2 فالقمار رذيلة من تلك الرذائل التي حرَّمها الله على المؤمنين, وإذا أراد الناس إصلاح أموالهم والرقيّ في عيشتهم, والنزاهة في معاملاتهم فليتركوه، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه. 5- تحريم إنفاق الأموال في غير الطرق المشروعة وهي كثيرة، وقد تجد الشخص يجود بماله من أجلها بسخاء, ويحجم عن إنفاقه في الطرق المشروعة؛ لأن الطرق غير المشروعة توافق دائمًا هوى النفوس المبتدعة, مثل: إنفاق بعضهم على الاحتفال بالموالد البدعية, وقد عرف القارئ أن الاحتفال بأعياد المولد تكلّفت أموالًا كثيرة, خصوصًا إذا كان الاحتفال بعيد أحد الوجهاء وأصحاب النفوذ, ومن المؤسف أن تجد بعض الدول الفقيرة يأتون في هذه البدع بأنواع البذخ والإسراف بما لا يتفعله أغنى الدول أحيانًا, وكل ذلك على حساب الفقراء وكدحهم في سبيل الظهور بتلك الأبهة الحمقاء.

_ 1 والميسر في الآية الكريمة: أي القمار. 2 سورة المائدة الآية: 90.

ومثل ذلك إنفاق الأموال الكثيرة في إحياء بعض الأمور الجاهلية؛ كالآثار والتماثيل الموجود قديمًا، وكذ إنفاق الأموال بسخاء على بناء المقابر وإيقاد الأنوار عليها مباهاةً وإضلالًا لأصحاب النفوس الضعيفة, ولقد حكي أن أبا بكر -رضي الله عنه- أوصى حينما قرب أجله أن يكفَّن في الثوب القديم, وقال: "إن الحيَّ أحوج إلى الجديد"1. فأين هذا السلوك من فعل أولئك الحمقى الذين ينفقون أموالهم على رفات موتى لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا. وكذا إنفاقها تشجيعًا لبعض الألعاب التي لا تعود بالنفع على المحتاجين من الفقراء، وكذا إنفاقها على شراء بعض الأجهزة وأفلاهما الخليعة التي خطَّط لتروجيها أعداء الدين والإنسانية في هوليود من فجار اليهود؛ ليكسبوا أمرين في آنٍ واحد؛ هما: كسب المال, والآخر: القضاء على الأخلاق والعفَّة والغيرة في وقت واحد، ومن ذلك أيضًا هذا الغرام العارم في النساء للتفنُّن في متابعة ما يسمونه بالموضة في الثياب وفي إصلاح الشعر وأنواع المكياجات التي لا تخدم إلّا البنوك الربوية اليهودية في أكثرها، ومنها إنفاقه على معاهد ما يسمونه بالفن, معهد الموسيقى أو الرقص الشرقي أو الغربي, أو تعليم آلات الطرب وأنواع الأغنيات, أو حفلات ما يسمون اختيار ملكة الجمال, وهي وصمة عار تجعل الحمير أرقى منهم وأعقل سلوكًا. وكذا إنفاقه في طباعة الكتب الضارَّة ككتب السحر والإلحاد, أو الشعر الماجن, إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لا تحصر, والله تعالى لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, والعاقل من اتَّعظ بغيره.

_ 1 انظر صحيح ابن حبان 7/ 308، موارد الظمآن 1/ 534, الموطأ 1/ 224، المستدرك 3/ 67.

المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية

المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية المطلب الأول: التكافل في الرأسمالية ... المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية وفيه مطلبان: المطلب الأول: التكافل في الرأسمالية 1- أما التكافل في النظم البشرية وأهمها الرأسمالية يكفي في وصفها بالنقص أنها من وضع البشر الناقصة عقولهم, القاصرة أفهامهم عن إدراك الحق في الأمور المغيبية عنهم. 2- إن التكافل في النظم البشرية إنما هو قائم على تجارب وآراء هي عرضة للتغيير والتبديل باستمرار بسبب ما يظهر من النقص فيها من حين لآخر, وهو شأن طبيعة البشر. 3- إن التكافل في النظم البشرية مقصور على الناحية المادية؛ حيث تضمن المؤسسات لأفرادها في حالة الحاجة أن تقدّم لهم مساعدة مادية حسب الأنظمة المقرر لدينهم, وليس فيه أي جانب روحي أو أخلاقي عدا ذلك المال. 4- إن التكافل فيها مقصور على الأفراد أو الجماعات الذين هم ضمن نطاق ذلك التكتل, وليس فيه أيّ نظرة لمن عداهم.

5- إن التكافل فيها لا يعير الناحية الإنسانية النابعة عن الشعور بالعطف والرحمة تجاه الآخرين أي اهتمام؛ إذ أن الهمَّ كله متوجّه إلى جمع المال وادِّخاره, لا إلى الرعاية للمجتمع والوقوف إلى جانبه, وما وجد من التكافل عندهم فإنما كان بسبب الضغوط المتوالية من الشعب على الحكام, وبسبب المنفاسات الساسية فيما بينهم. 6- إن تلك النظم السياسية والاجتماعية إنما أقرَّت نظام التكافل الاجتماعي في مقابل ما أخذته من الشعوب من أنواع الضرائب المختلفة التي تفوق ما يقدمه الشخص لهم مما يأخذه منهم, وهذا يفيد أن ما يأخذه الشخص في نظام التكافل الاجتماعي البشري إنما يأخذه في مقابل ما أُخِذَ منه. 7- إن نظام التكافل البشري لم يستند إلى ضمير الشخص وعطفه وكرمه, أنما يستند إلى القانون الذي يفرض التزامه على الجميع بالقوة، ولهذا فإنَّ الشخص مهما يقدّم بقوة القانون يقدّمه وهو غير راض ولا مؤمل أي ثواب عند الله تعالى, فلا يقدمه إلّا إذا ضاقت عليه الحيل للإفلات من دفعه. ومن هنا تلاحظ الفرق بين تقبُّل الشخص لفعل الخير تجاه الآخرين في الإسلام, وفي النظم البشرية القاصرة, وبالتالي نتائج كل فريق, وما يقدمه لخدمة أبناء أمته ودينه, والآثار النفسية عند كل فريق, سواء أكان مفيدًا أو مستفيدًا, وهذه العيوب تظهر بوضوح في التكافل في النظام الرأسمالي.

المطلب الثاني: التكافل في النظام الشيوعي

المطلب الثاني: التكافل في النظام الشيوعي أما التكافل الاجتماعي في النظام الشيوعي القائم بدلًا عن الملكية الفردية فقد قرَّر الشيوعيون فيم مذهبهم -كما عرفت سابقًا- أنَّ على الدولة أن تقوم بكفالة جميع المواطنين, وزعموا أن هذا المبدأ أفضل من نظام الرأسمالية: من غبن المواطنين حقوقهم, وتغليب طائفة على أخرى لعدم التزامهم الشيوعية, كما هو تعليل الملاحدة أقطاب الاشتراكية الشيوعية. والكفالة التي يتمدح بها النظام الشيوعي تشمل الطعام والملبس والمسكن والجنس, ولكن تحت هذه الضمانات تفاصيل مزعجة, أول ما فيها أنَّها مفروضة فرضًا؛ فالسكن هو أقرب شبهًا بزرائب الحيوانات التي تحشر في الأمكنة الضيقة, كما أنه في مقابل هذه الضمانات يتحتَّم على كل فرد قادر على العمل رجلًا أو امرأة أن يعمل ويجتهد في العمل؛ إذا أن المبدأ المتبع "من لا يحترف لا يعتلف" والدولة هي التي تسير الناس في أعمالهم حسب ما تطلب منهم؛ إذ لا ملكية فردية, فالكل يعمل للدولة, والإنتاج كله للجميع -أي الدولة, ولا يعفى من العمل إلّا الأطفال وكبار السن العاجزين والمرأة في حالة الولادة, والتي يجب عليها أن تعود إلى العمل بعد أن تسلم طلفلها لدور الحضانة الجماعية حتى تنتهي من العمل, ثم تأخذه من الحضانة لترجعه عند مجيئها للعمل مرة أخرى إلى بيتها, أو تسلمه الحضانة دون أن تجد في نفسها أيّ حرج في

ذلك, وما في الدستور الشيوعي من أنَّ الدولة تكفل كل فرد بتقديم الطعام والملابس والسكن فإنما هو في مقابل بيعه نفسه لهم، ولا يهتم النظام الشيوعي بقضية الجنس والأسرة, فقد أباح النظام كل العلاقات الجنسية بلا حدود, بل ويفضلون أن يعيش الناس على النظام الشيوعي القديم -بما فيه شيوعية النساء- إلّا أنهم قد أبدوا أخيرًا حسب ما يقال عنهم تراجعًا عن هذا النهج بفضل الدعايات التي قامت ضدهم, والأوبئة التي انتشرت بينهم, فقبلوا مسألة الزواج والطلاق في صور ساذجة هي إلى اللهو والرياء أقرب منها إلى الجد, فقد أنشأوا مكاتب لتسجل الزواج, وأخرى لتسجيل الطلاق دون أن يترتَّب على ذلك أيّ شيء, فاللرجل والمرأة أن يسجّل الزواج متى شاء, ويفصله متى شاء, ولكل شخص أن يعاشر من يريد، ومن الافتراء الفاحش زعم الملاحدة ومن تبعهم من المخادعين أن مبدأ الكفالة الاجتماعية هو إحدى حسنات الشيوعية الماركسية لنصِّه في دستوره على أن الدولة هي التي تشرف على توزيع العمل وتوزيع الإنتاج بالتساوي, ولا يذكرون أنه وفي مقابل ذلك يكدح الإنسان فيها بكل جهده؛ ليقطف الحكام ثمرة ذلك الجهد, وعلى طريقة من "لا يعمل لا يأكل"، و"من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته"، وقد تقدَّم بحث هذه الفكرة وكيفية تطبيق الحزب الحاكم لها ونتائج ذلك, وقد عرفت مما سبق أن الإسلام يكفل كل محتاج من بيت المال الذي يقدّم المساعدة للمحتاجين دون أن يطالبهم بالعمل في مقابل ذلك بعجزهم عنه؛ لأنه يعتبر المحتاج شريكًا للغني أو مقاسمًا له في جزء من ماله, وهي الزكوات والصدقات والتبرعات وغير ذلك، يأخذ هذا المال وهو عزيز

النفس لا يستدل ولايهان من أجل سدّ حاجته, وهذا الأمر مما تميِّز به الإسلام عن الماركسية التي ترى الذل للفرد أمرًا واجبًا للحصول على سد حاجاته الضرورية, وكفرضية العمل على الرجل والمرأة على حد سواء, دون لفت النظر إلى حال المرأة وضعفها وكثرة متاعبها.

المراجع

المراجع: قائمة بأسماء بعض المراجع: هذه قائمة بأسماء بعض المراجع ليستفيد منها من أراد التوسع في دراسة المذاهب الفكرية, وأن تكون عونًا له بعد الله للاطلاع على ما تحمله تلك المذاهب في خِضَمِّ عبابها من آراء وأفكار، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القائمة تحمل أسماء كتب بعضها وردت في تلك الدراسة وبعضها لم يرد لها اسم, وإنما أردت بذكرها إتمام الفائدة للقارئ. اسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في هذا الاختيار {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1. ومن تلك المراجع ما يلي: 1- مذهب فكرية معاصرة، محمد قطب. 2- الاتجاهات الفكرية المعاصرة، على جريشة. 3- المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، عبد الرحمن عميرة. 4- أخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي، صابر طعيمة. 6- كواشف زيوف، عبد الرحمن حسن الميدان. 7- غزو في الصميم، عبد الرحمن حسن حنبكة الميدان. 8- صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن حسن الميدان.

_ 1 سورة الزلزلة، الآيتين 7، 8.

9- العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين الترغيب، محمد حامد الناصر. 10- الإسلام الحضارة الغربية، محمد محمد حسين. 11- أسباب الضعف في الأمة الإسلامية، محمد السيد الوكيل. 12- عصر الإلحاد، محمد تقي الأميني الندوي. 13- الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان تغريب ظفر خان. 14- الفكر المادي في ميزان الإسلام، صابر طعيمة. 15- الاتجاهات الفكرة المعاصرة، محمد جمعة الخولي. 16- جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث، جمال سلطان. 17- الغرب في مواجهة الإسلام، مازن المطبقاني. 18- حكم الإسلام في الاشتراكية، عبد العزيز البدري. 19- الشيوعية وليدة الصهيونية، أحمد عبد الغفور عطار. 20- النظرية الماركسية في ميزان الإسلام، أمير عبد العزيز. 21- المفكرون العرب ومنهج كتابة التاريخ، وليد نويهض. 22- الديمقراطية في الميزان, سعيد عبد العظيم. 23- نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي، محمد العرماني. 24- تهافت العلمانية، عماد الدين خليل. 25- أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن الميداني.

26- مكانة المرأة بين الإسلام والقوانين العالمية، سالم البهنساوي. 27- الاستشراق، السيد أحمد فرج. 28- التكافل الاجتماعي في الإسلام, عبد الله ناصح علوان. 29- أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، علي جريشة، ومحمد شريف الزيبق. 30- السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية، زياد أبو غنيمة. 31- بحوث في الاقتصاد الإسلامي، عبد الله سليمان المنيع. 32- التبشير المسيحي في منطقة الخليج، أحمد فون دنفر. 33- الماسونية منشئة ملك إسرائيل، محمد علي الزعبي. 34- الصهيونية وخطرها على البشرية، حمود الرحيلي. 35- الكيد الأحمر، عبد الرحمن الميدان. 36- الرأسمالية وموقف الإسلام منها، حمود الرحيلي. 37- الإسلاموالعنصرية، عبد العزيز قارة. 38- العلمانية وثمارها الخبيثة، عبد الله الجبرين. 39- الماسونية وموقف الإسلام منها، حمود الرحيلي. 40- الماسونية تحت الأضواء، عبد الجبار الزيدي. 41- الحريّات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، عبد الحكيم حسن العيلي.

42- الديمقراطية في الإسلام، عباس محمود العقاد. 43- حتمية الحل الإسلامي تأملات في النظام السياسي، أبو المعاطي أبو الفتوح. 44- مبدأ الشورى في الإسلام مع المقارنة بمبادئ الديمقراطيات الغربية أو النظام الماركسي، يعقوب محمد المليحي. 45- الموسوعة الميسرة -ندوة الشباب، مانع حمّاد الجهني. 46- الفكر الإسلامي وأثره بالفلسفة الإسلامية، علي النشار، وعباس الشربيني. 47- الحياة الاجتماعية في الفكر الإسلامي، أحمد شلبي. 48- الإسلاميّون وسراب الديمقراطية، عبد الغني الرمّال. 49- الماسونية، محمود الشاذلي. 50- فضائح الكنائس والباباوات والقساوسة الرهبان والراهبات، مصطفى غزال. 51- مدارس الفكر الغربي الإسلامي، عبد الرزاق قسوم. 52- الحرية الاقتصادية في الإسلام وأثرها في التنمية، سليمان بسيوني. 53- مصرع الداروينية، محمد علي يوسف. 54- الإسلام في حضارته نظمه، أنور الرفاعي.

55- الضمان الاجتماعي في الإسلام، محمد الشعراني. 56- روتاري والصهيونية، حمدي طنطاوي. 57- جدلية التاريخ والحضارة، محمد عزيز. 58- الفكر المادي، صابر طعيمة. 59- مفاهيم صابئية مندائية, ناجية مراني. 60- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد الصواف. 61- العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون، على الحلبي. 62- الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين, صابر طعيمة. 63- فكرة القومية العربية في ضوء الإسلام، صالح العبود. 64- شرخ في جدار الروتاري، أبو إسلام أحمد. 65- الماسونية في المنطقة 245، أبو إسلام أحمد. 66- الروتاري في قفص الاتهام، أبو إسلام أحمد. 67- الإسلام في الغرب، جان بول رو. 68- الإسلام في مواجهة الحركات الفكرية، جميل المصري. 69- الإسلام يتحدى فلسفات العصر، يوسف الملا. 70- موقف الإسلام والكنيسة من العلم، عبد الله المشوخي. 71- النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، شوقي دنيا.

72- الإسلام في مواجهة المذاهب الغربية، محمد عزيز. 73- التضليل الاشتراكي، صلاح الدين المنجد. 74- النكسة والغزو الفكري، محمد جلال كشك. 75- العلمانية، محمد قطب. 76- العلمانية وثمارها الخبيثة، محمد شاكر الشريف. 77- أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة، بشر بن فهد. 78- تجديد الفكر الإسلامي، جمال سلطان. 79- التسامح في الإسلام، شوقي أبو خليل. 80- الماسونية، محمد صفوة السقا أميني، وسعدي الوجيب. 81- تاريخ الفكر الاجتماعي الوارد والاتجاهات المعاصرة، محمد علي محمد. 82- الغرب يتراجع عن التعليم المختلط، بفرلي شو ترجمة وجيه حمد. 83- سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تصورات الغربيين، جوستاف بفانمو، ترجمة: محمود زقزوق. 84- الغرب في مواجهة الإسلام, مازن المطبقاني. 85- العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، بدران أبو العينين. 86- الإسلام والعولمة، سامي الدلال. 87- خطر المربيات غير المسلمات على الطفل المسلم، خالد الشنتوث.

88- نقد القومية العربية، عبد العزيز بن باز. 89- الدين في مواجهة العلم، وحيد الدين خان, ترجمة: ظفر الإسلام خان. 90- موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ، أحمد العوايشة. 91- العولمة، يغمة شومان. 92- المستشرقون والإسلام، عرفان عبد الحميد. 93- من آفاق الاستشراق الأمريكي المعاصر، مازن المطبقاني. 94- مستقبل الاشتراكية، كروسلاند. 95- الديمقراطية في العراء، خالد آل حمزة. 96- الأرض الخاصّة بالدولة في الإسلام أرض الصوافي، عبد المهدي المصري. 97- الشعوبية الجديدة، محمد مصطفى رمضان. 98- التطور والدين، أحمد زكي تفاحة. 99- هذا هو الإسلام، مصطفى السباعي. 100- العلمانية، سفر الحوالي. 101- جذور العلمانية، السيد أحمد فرج. 102- الهرطقة في الغرب، رمسيس عوض.

103- الإذاعات التنصيرية الموجَّهة إلى المسلمين العرب، كرم شلبي. 104- أصول التنصير في الخليج العربي، مازن المطبقاني. 105- الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، عبد الحميد متولي. 106- الاستشراق والدراسات الإسلامية، علي النملة. 107- تنصير المسلمين، عبد الرزاق ديار بكلي. 108- التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مصطفى خالدي. 109- النظرية الماركسية في ميزان الإسلام، أمير عبد العزيز. 110- في الشعوبية، إسماعيل العرفي. 111- الخطر اليهودي -بروتوكلات صهيون، تعريب: محمد خليفة التونسي. 112- تاريخ الفكر الديني الجاهلي، محمد الفيومي. 113- تاريخ العلم ودور العلماء العرب، عبد الحليم منتصر. 114- معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، مناع القطان. 115- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي. 116- الإسلام والفكر المعاصر، حلمي مرزوق. 117- الاستشراق، أحمد فرج. 118- مذابح وجرائم محاكم التفتيش، محمد علي قطب.

119- قضايا العالم الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد، أحمد منصور. 120-أمريكا والإسلام تعايش أم تصادم، عبد القادر طاش. 121- انحسار تطبيق الشريعة في أقطار العروبة والإسلام، أحمد عبد الغفور عطار. 122- النظم المالية في الإسلام، عيسى عبده. 123- العولمة والدولة والوطن والمجتمع العالمي، غسان سنو، وعلي الطراح. 124- الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام، منير محمد نجيب. 125- المرأة العربية المعاصرة إلى أين؟، صلاح الدين جوهر. تلك عجالة أسماء كتب أكتفي بذكرها، ومن الجدير بالذكر أن المراجع المدوَّنة في بيان المذاهب الفكرية كثيرة جدًّا لا تكاد تحصى إلّا بالكلفة، تزخر بها المكتبات الإسلامية، وإنما أردت الإشارة العاجلة إلى بعض الكتب التي بحثت في مجالات الفكر الإسلامي أو غيره, مكتفيًا فيها بذكر اسم الكتاب أو اسم مؤلفه. أسال الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. المدينة النبوية 12/6/ 1426هـ.

الفهرس

الفهرس: 3 المقدمة. 33 الباب الأول: دراسة عن المذاهب الفكرية وآثارها السيئة. 37 الفصل الأول: أهمية دراسة مادة المذاهب الفكرية. 41 الفصل الثاني: التعريف بالمذاهب الفكرية ولماذا سميت مذاهب فكرية. 43 الفصل الثالث: بيان الأهداف من دراستنا المذاهب الفكرية وفوائدها. 50 الفصل الرابع: هل أعطيت المذاهب الفكرية حقها من العناية والاهتمام في المدراس الإسلامية؟ 53 الفصل الخامس: أسباب نشأة المذاهب الفكرية ويشتمل على مبحثين: 53 المبحث الأول: نشأتها في الغرب. 67 المبحث الثاني: أسباب انتشار المذاهب الفكرية في العالم الإسلامي. 71 الفصل السادس: الآثار السيئة للمذاهب الفكرية. 71 تمهيد. 79 المبحث الأول: عدم تطبيق الشريعة الإسلامية. 86 المبحث الثاني: انتشار فساد الأخلاق والقيم. 95 المبحث الثالث: نشر الفساد عن طريق استخدام النساء, وفيه مطالب: 99 المطلب الأول: قضية المرأة في النظم الجاهلية وفي الإسلام. 124 المطلب الثاني: قضية الفوارق في الإسلام. 126 المطلب الثالث: الخصوصيات بين البشر. 130 المطلب الرابع: موانع دعوى التساوي بين الرجال والنساء.

134 المبحث الرابع: التفكك الاجتماعي الحاصل في أوضاع المسلمين وأسباب ذلك. 156 طريق العودة. 158 تعقيب: بيان علاقة تلك الأمور السابقة بدارسة المذاهب الفكرية. 165 الباب الثاني: الحضارة الغربية وموقف المسلمين منها. 168 الحضارة الغربية وموقف المسلمين منها. 168 تمهيد: 170 الفصل الأول: كيف دخلت الحضارة الغربية بأفكارها بلدان المسلمين؟ 175 الفصل الثاني: قصور خطير. 178 الفصل الثالث: الدعوة إلى خلط الفكر الإسلامي بالفكر الغربي بدعوى تقارب الحضارتين والسير معًا لخدمة الإنسانية. 180 الفصل الرابع: نتيجة خطيرة. 184 الفصل الخامس: مفهوم الحضارة الغربية وموقف الناس منها. 189 الفصل السادس: مدى التأثر عند بعض المسلمين بالحضارة الغربية. 194 الفصل السابع: كيف نقف من الحضارة الغربية وأفكارها؟ 201 الفصل الثامن: سبب قيام الحضارة الغربية على العداء للدين. 204 الفصل التاسع: اعتراض وجوابه. 207 الباب الثالث: أهمية التفكير البحث العلمي عند المسلمين وجهود علماء المسلمين في ذلك.

210 الفصل الأول: مناسبة دراسة هذا الموضوع لدراسة المذاهب الفكرية. 211 الفصل الثاني: ثمار الحضارة الإسلامية. 213 الفصل الثالث: التعريف بالتفكير العلمي عند المسلمين. 215 الفصل الرابع: حركة التفكير العلمي وجهود علماء المسلمين في ذلك. 217 الفصل الخامس: هل يصح نسبة الفكر إلى الإسلام, فيقال: الفكر الإسلامي؟ 221 الفصل السادس: معنى القول بأن التفكير العلمي في الإسلام مستحدث, والعوامل التي اقتضت وجود هذا التفكير المستحدث. 225 الفصل السابع: شمول التفكير والبحث عند المسلمين لجميع أنواع العلوم والفنون. 227 الفصل الثامن: المراحل التي مرَّ بها التفكير والبحث العلمي عند المسلمين. 239 الباب الرابع: الفكر التجريبي عند المسلمين. 242 تمهيد. 243 الفصل الأول: معنى الفكر التجريبي. 245 الفصل الثاني: موقف الإسلام والمسلمين من الفكر التجريبي. 249 الفصل الثالث: الاستفادة من القرآن الكريم والسنة النبوية في العلوم التجريبية والمكتشفات. 256 الفصل الرابع: موقف أهل أوروبا من العلم التجريبي. 258 الفصل الخامس: موقف المستشرقين من دور المسلمين في العلم التجريبي. 261 الفصل السادس: جهود علماء المسلمين في المجالات التجريبية.

271 الباب الخامس: التنصير. 277 تمهيد: الحرب الفكرية ضد المسلمين من قِبَلِ الغرب النصراني. 280 الفصل الأول: اتفاق أعداء الإسلام في مواجهته رغم الاختلافات بينهم. 287 الفصل الثاني: دراسة شاملة عن غزو العالم الإسلامي عن طريق الإرساليات (التنصير، الاستشراق) . 289 المبحث الأول: الغزو عن طريق التنصير, وفيه مطالب: 289 المطلب الأول: التعريف بالتنصير. 292 المطلب الثاني: أهمية التنصير لدى الدول الاستعمارية. 294 المطلب الثالث: هل جاء المسيح بديانة عالمية؟ 295 تعقيب. 297 تمهيد. 304 المطلب الأول: التنصير في السنغال. 310 المطلب الثاني: التنصير في إندونيسيا. 311 المطلب الثالث: التنصير في تايلاند. 312 المطلب الرابع: التنصير في السودان. 314 المطلب الخامس: التنصير في الجزيرة العربية 315 المطلب السادس: التنصير في الخليج العربي. تمهيد: ويشتمل ما يلي: 319- التنصير في البحرين.

321 2- التنصير في الكويت. 322 3- التنصير في عمان. 323 4- التنصير في قطر. 324 5- التنصير في الإمارات. 326 المبحث الثالث: أسباب انتشار التنصير في البلاد الإسلامية. 329 المبحث الرابع: الاساليب التي يتبعها أعداء الإسلام في حربهم له, واتفاقهم على ذلك. 329 المطلب الأول: بيان أنواع الوسائل والطرق إجمالًا. 340 المطلب الثاني: تخطيط ناجح عن طريق الوسائل الآتية: 341 1- عن طريق المؤتمرات التنصيرية. 345 2- عن طريق الجمعيات التنصيرية. 349 3- عن طريق الإعلام. 354 4- عن طريق الدعايات للمسيح -عليه السلام. 358 5- عن طريق الدعايات لكتابهم الذي يقدسونه. 360 6- عن طريق مدحهم لدينهم. 362 7- عن طريق التعليم. 377 8- عن طريق المعاهد التنصيرية. 379 9- عن طريق الطب. 380 10- عن طريق الخدمات الاجتماعية المجانية. 380 11- عن طريق استغلال الأماكن التي تقوم فيها الحروب.

381 12- عن طريق حاجة المسلمين إلى الأيدي العاملة منهم. 381 13- عن طريق استغلال المرأة. 382 14- عن طريق استغلال الصناعات. 382 15- عن طريق التنصير عن طريق التجارة. 282 16- عن طريق المناداة بوجوب تحديد النسل. 383 17- عن طريق محاصرة الإسلام. 384 18- عن طريق تحبيب النصرانية والصليب للأطفال. 386 19- عن طريق أعياد الميلاد. 387 20- عن طريق تأليب الحكام على المصلحين. 387 21- عن طريق السخرية بعلماء الإسلام. 388 22- عن طريق إثارة الهزائم النفسية. 389 الباب السادس: الاستشراق. 393 الفصل الأول: المقصود بالاشتراق. 394 الفصل الثاني: حقيقة أمر المستشرقين. 396 الفصل الثالث: السبب في تغيير الغرب اسم التنصير إلى الاستشراق. 397 الفصل الرابع: العلاقة بين الاستشراق والتنصير وحكومات الدول النصرانية. 403 الفصل الخامس: متى ظهر الاستشراق؟ 405 الفصل السادس: نشاط المستشرقين وبيان أهدافهم وأساليبهم. 409 الفصل السابع: بثّ الخلافات والفرقة بين الشعوب الإسلامية وضرب بعضهم ببعض.

412 الفصل الثامن: أهداف المستشرقين. 416 الفصل التاسع: أساليب المستشرقين, وفيه المباحث الآتية: 433 المبحث الأول: الغزو عن طريق التشكيك في القرآن الكريم. 440 المبحث الثاني: الغزو عن طريق مزاعمهم ضد السنة النبوية. 446 المبحث الثالث: الغزو عن طريق مزاعهمهم ضد النبي -صلى الله عليه وسلم. 450 المبحث الرابع: الغزو عن طريق مزاعهم عن طريق اللغة العربية. 455 الفصل العاشر: التغريب وموقف المسلمين منه. 455 تمهيد: 456 المبحث الأول: إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجود عن مثل هؤلاء من المسلمين. 457 المبحث الثاني: مهمة دعاة التغريب. 458 المبحث الثالث: أسباب قيام حركة التغريب في البلدان الإسلامية. 460 المبحث الرابع: أبرز دعاة التغريب في البلدان الإسلامية. 465 المبحث الخامس: أهداف دعاة التغريب وأساليبهم. 468 المبحث السادس: أهم آراء دعاة التغريب, وفيه مطلبان: 468 المطلب الأول: موقفهم من القرآن الكريم. 473 المطلب الثاني: موقفهم من السنة النبوية. 485 تعقيب على ما سبق. 489 الباب السابع: الماسونية. 494 تمهيد.

496 الفصل الأول: معاني أسماء الماسونية. 500 الفصل الثاني: التعريف بالماسونية. 501 الفصل الثالث: الماسونية والأديان. 504 الفصل الرابع: الماسونية ونظام الجمهوريات والأحزاب. 506 الفصل الخامس: السرية في الماسونية. 507 تعقيب. 508 الفصل السادس: متى ظهرت الماسونية وكيف نشأت؟ 514 الفصل السابع: سبب الخلاف في وقت ظهور الماسونية. 516 الفصل الثامن: حقيقة الماسونية وصلتها باليهودية. 520 الفصل التاسع: الدخول في الماسونية. 524 الفصل العاشر: هل توجد شروط على الداخل في الماسونية؟ 526 الفصل الحادي عشر: القسم الماسوني. 529 الفصل الثاني عشر: الدرجات في الماسونية. 532 الفصل الثالث عشر: الرموز الماسونية وأسرارها وأقسامها. 537 ملاحظات على أسرار الماسونية. 539 الفصل الرابع عشر: كيف فضح سر الماسونية؟ 541 الفصل الخامس عشر: فرق الماسونية. 543 الفصل السادس عشر: مراحل ظهور الماسونية. 546 الفصل السابع عشر: وسائل انتشار الماسونية. 557 الفصل الثامن عشر: أماكن انتشار الماسونية.

564 الفصل التاسع عشر: التعارف فيما بين الماسونيين. 566 الفصل العشرون: عقائد الماسونية. 570 الفصل الحادي والعشرون: المنظمات الماسونية ونواديها. 571 المبحث الأول: نادي الروتاري, وفيه مطالب: 571 تمهيد. 573 المطلب الأول: نشأة الروتاري. 574 المطلب الثاني: الأدلة على أن الروتاري جمعية ماسونية. 576 المطلب الثالث: التحذير من أندية الروتاري. 582 المطلب الرابع: شعار الروتاري. 583 المطلب الخامس: طريقة انتشار الفكر الروتاري وطريقة دخول العضو الجديد فيه. 587 المبحث الثاني: نادي الليونز, وفيه مطالب: 587 المطلب الأول: المقصود باللوينز. 588 المطلب الثاني: هدف اللوينز. 588 المطلب الثالث: حقيقة اللوينز. 589 المطلب الرابع: نشأة الليونز. 590 المطلب الخامس: نشاط اللوينز. 592 المطلب السادس: أماكن انتشار الليونز. 593 تعقيب. 595 المبحث الثالث: منظمة شهود يهوه.

595 المطلب الأول: معنى يهوه. 596 المطلب الثاني: أسماء منظمة شهود يهوه. 597 المطلب الثالث: عقيدتهم. 598 المطلب الرابع: تأسيس المنظمة. 599 المطلب الخامس: حقيقة المنظمة. 600 المطلب السادس: كيف انتشرت عقائد هذه المنظمة؟ 602 المطلب السابع: أماكن انتشار شهود يهوه. 603 المبحث الرابع: جميعة بناي برث أو أبناء العهد. 603 المطلب الأول: التعريف بها. 605 المطلب الثاني: نشأة البناي برث. 606 المطلب الثالث: نشاط البناي برث. 607 المطلب الرابع: أماكن انتشار البناي برث. 608 الفصل الثاني والعشرون: أشهر الشخصيات الماسونية. 612 الفصل الثالث والعشرون: أشهر المحافل الماسونية. 613 مراجع عن الماسونية. 615 الباب الثامن: العقلانية أو العصرانية. 617 الفصل الأل: التعريف بالعقلانية. 618 الفصل الثاني: زعماء عصر التنوير. 619 الفصل الثالث: المقصود بعصر التنوير.

621 الفصل الرابع: قضية العقل في المفهوم الأوروبي والأدوار التي مرَّ بها. 630 الفصل الخامس: كيف أفاق الأوروبيون؟ 632 الفصل السادس: حقيقة العقل. 635 الفصل السابع: هل وفقت العقلانية إلى الحق بالنسبة لموقفهم من العقل؟ 641 الباب التاسع: الرأسمالية. 643 تمهيد: 645 الفصل الأول: التعريف بالرأسمالية. 647 الفصل الثاني: نشأة الرأسمالية وتطورها. 649 الفصل الثالث: أقسام الرأسمالية. 649 1- الرأسمالية التجارية. 649 2- الرأسمالية الصناعية. 650 3- نظام الكارتل. 651 4- نظام الترست. 652 الفصل الرابع: أسباب ظهور الرأسمالية. 657 الفصل الخامس: هل نجحت الرأسمالية في إسعاد الناس؟ 659 الفصل السادس: أهمّ سمات الرأسمالية. 663 الفصل السابع: قوانين الرأسمالية. 665 الفصل الثامن: آثار سيئة للرأسمالية. 666 الفصل التاسع: أماكن انتشار الرأسمالية.

667 الفصل العاشر: حكم الرأسمالية والفرق بينها وبين نظام الإسلام. 674 الفصل الحادي عشر: مشاهير دعاة الرأسمالية. 677 الباب العاشر: العلمانية. 679 تمهيد. 681 الفصل الأول: حقيقة التسمية. 683 الفصل الثاني: التعريف الصحيح للعلمانية. 384 الفصل الثالث: نشأة العلمانية وموقف دعاتها من الدين, وبيان الأدوار التي مرَّت بها. 687 الفصل الرابع: الرد على من زعم أنه لا منافاة بين العلمانية وبين الدين. 690 الفصل الخامس: أسباب قيام العلمانية في أوروبا. 698 هل العالم الإسلامي في حاجة إلى العلمانية؟ وأسباب ذلك. 705 الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين, وبيان أسباب ذلك. 718 الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في ديار المسلمين. 718 تمهيد. 719 المسألة الأول: العلمانية في الحكم. 721 المسألة الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسية؟ 725 المسألة الثالثة: العلمانية والاقتصاد. 728 المسألة الرابعة: العلمانية والعلم والتعليم والاكتشافات والدين.

736 الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين وفيه مسائل. 736 1- العمل بأحكام الشرع. 737 2- ظهور الولاءات المختلفة. 737 3- ظهور أفكار العلمانية كحلول حتمية. 738 4- الاختلافات في الدراسة والشهادة. 740 5- ظهور التأثر في الأسماء. 741 6- الهجوم على اللغة العربية. 742 7- التأثر في التعليلات. 743 8- التأثر في الأخلاق. 747 9- العلمانية والآداب. 749 10- علمنة الإعلام. 751 تعقيب على ما سبق. 753 الباب الحادي عشر: الديمقراطية. 757 تمهيد. 759 الفصل الأول: منزلة الديمقراطية في الحضارة الغربية. 761 الفصل الثاني: معنى الديمقراطية ونشأتها. 764 الفصل الثالث: الوصول إلى الغاية. 772 تعقيب. 774 الفصل الرابع: هل حقق الأوربيون مطالبهم في الديمقراطية حقيقة؟

780 تعقيب. 783 الفصل الخامس: الحكم على الديمقراطية. 787 الفصل السادس: هل المسلمون في حاجة إلى الديمقراطية الغربية؟ 796 الفصل السابع: الديمقراطية والشورى. 802 الفصل الثامن: حكم من يتمسك بالديمقراطية الغربية. 804 الفصل التاسع: نظرية السيادة, وفيه المباحث الآتية: 805 المبحث الأول: ما هي نظرية السيادة؟ 808 المبحث الثاني: أساس قيام نظرية السيادة. 811 المبحث الثالث: ما مدى صحة نظرية سيادة الشعب؟ 814 المبحث الرابع: المسلمون ونظرية السيادة. 816 المبحث الخامس: حكم السيادة في الإسلام. 823 الباب الثاني عشر: الإنسانية أو العالمية أو الأممية. 823 تمهيد. 827 الفصل الأول: المقصود بالإنسانية أو العالمية أو الأممية. 829 الفصل الثاني: سبب انتشار دعوى الإنسانية. 832 الفصل الثالث: أماكن انتشار الإنسانية. 835 الفصل الرابع: هل يحقق مذهب الإنسانية السعادة؟ 837 الفصل الخامس: هل تحققت دعاوى الإنسانية بالفعل؟ 842 الفصل الخامس: هل تقبل الدعوى إلى الإنسانية التعايش مع الإسلام والمسلمين؟

844 الفصل السابع: الإنسانية والمغريات. 846 الفصل الثامن: الإنسانية والقومية والوطنية. 847 الفصل التاسع: تناقض دعاة الإنسانية. 850 الفصل العاشر: زعماء الدعوة الإنسانية. 851 الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية والرحمة الصادقة هي في الإسلام. 855 الباب الثالث عشرة: الوجودية. 857 الفصل الأول: التعريف بالوجودية. 858 الفصل الثاني: أقسام الوجودية. 861 الفصل الثالث: ظهور الوجودية وأبرز زعمائها. 863 الفصل الرابع: من هو سارتر؟ 866 الفصل الخامس: الوجودية هي الفوضى. 867 الفصل السادس: أسباب انتشار الوجودية. 869 الفصل السابع: الرد على الوجوديين. 873 الباب الرابع عشر: الروحية. 876 تمهيد. 879 الفصل الأول: تعريف الروحية. 881 ظهور الروحية. 883 الفصل الثالث: انتشار مذهب الروحية.

884 الفصل الرابع: منزلة فكرة تحضير الأرواح. 887 الفصل الخامس: أدلة تحضير الأرواح. 891 الصل السادس: مجمل عقائد الروحيين. 896 الفصل السابع: حقيقة الروحية وأشهر زعمائها. 900 الفصل الثامن: الروحية والملاحدة. 903 الفصل التاسع: قضية الإلهام. 905 الباب الخامس عشر: القومية. 909 الفصل الأول: المقصود بالقومية. 912 الفصل الثاني: دراستنا للقومية. 915 الفصل الثالث: كيف ظهرت القومية؟ 919 الفصل الرابع: متى ظهرت القومية؟ 921 الفصل الخامس: كيف تسرَّبت دعوى القومية إلى البلدان العربية والإسلامية؟ 924 الفصل السادس: نتيجة ظهور القومية بين المسلمين. 927 الفصل السابع: ماذا يراد من وراء دعوى القومية. 929 الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية؟ 936 الفصل التاسع: هل تحققت السعاة المزعومة في ظل القومية؟ 940 الفصل العاشر: خداع القوميون. 942 الفصل الحادي عشر: إبطال فكرة القومية.

945 الفصل الثاني عشر: نقص الأسس التي قامت عليها القومية. 945 1- اللغة. 946 2- التاريخ. 947 3- الأرض. 950 الفصل الثالث عشر: الإسلام والقومية. 955 الفصل الرابع عشر: مصادر دعم القومية. 955 1- اليهود. 957 2- النصارى. 959 3- الحرب على الدين. 959 4- الحركات والمذاهب الهدامة الأوروبية. 960 5- العلمانية والعلمانيون. 961 6- الاشتراكية والشيوعية. 961 7- قيام حزب البعث. 963 الفصل الخامس عشر: أهم مشاهير دعاة القومية العربية. 967 الخاتمة. 969 الباب السادس عشر: الوطنية. 972 الفصل الأول: بيان حقيقة الوطنية. 974 الفصل الثاني: القومية والوطنية. 975 الفصل الثالث: كيف نشأت دعوى الوطنية؟

978 الفصل الرابع: هل نجحت الوطنية في تأليف القلوب؟ 982 الفصل الخامس: الإسلام والوطنية. 985 الفصل السادس: نتائج تقديس الوطنية. 989 تعقيب على ما سبق. 991 الباب السابع عشر: المذهب الوضعي. 993 الفصل الأول: حقيقة المذهب الوضعي. 996 الفصل الثاني: زعماء المذهب الوضعي. 997 الفصل الثالث: سبب قيام المذهب الوضعي. 999 الباب الثامن عشر: الإلحاد. 1001 تمهيد. 1003 الفصل الأول: المراد بالإلحاد. 1005 الفصل الثاني: كيف تدرجوا في إظهار الإلحاد؟ 1008 أقسام الإلحاد. 1011 الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد. 1017 الفصل الخامس: هل يلتقي الإسلام مع الأنظمة الإلحادية؟ 1019 الباب التاسع عشر: الاشتراكية. 1022 تمهيد.

1025 الفصل الأول: معنى الاشتراكية. 1027 الفصل الثاني: أقسام الاشتراكية. 1029 الفصل الثالث: متى ظهرت الاشتركية؟ 1030 الفصل الرابع: هل الاشتراكية هي الشيوعية؟ 1033 الفصل الخامس: مزاعم الاشتراكيين ودعاياتهم. 1036 الفصل السادس: قوانين الاشتراكية. 1040 الفصل السابع: خداع الاشتراكيين في زعمهم أن الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام. 1043 الفصل الثامن: كيف غزت الاشتراكية بلدان المسلمين؟ 1048 الفصل التاسع: دعاة على أبواب جنهم. 1053 الباب العشرون: الشيوعية, وفيه فصلين: 1055 الفصل الأول: دراسة عن الشيوعية. 1055 لماذا ندرس الشيوعية؟ 1062 تمهيد عام عن الشيوعية. 1069 المبحث الأول: قيام الشيوعية الأولى بقيادة مزدك. 1071 المبحث الثاني: من أكاذيب الشيوعيين. 1072 المبحث الثالث: رد مزاعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى. 1076 المبحث الرابع: زعامة الشيوعية الماركسية.

1081 المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية. 1081 1- المادية. 1086 2- الجدلية الديالكتيك. 1090 تعقيب على ما سبق. 1093 3- التطور. 1097 المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ, والأطوار المزعومة له, والرد عليها. 1099 مدة صحة الأطوار التي تزعمها الشيوعية. 1100 1- المشاعية البدائية. 1100 2- الرق. 1101 3- الإقطاع. 1102 4- الرأسمالية البرجوازية. 1108 المبحث السابع: التفسير المادي للتاريخ. 1112 المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية. 1116 المبحث التاسع: حرب الأخلاق والقيم. 1119 المبحث العاشر: القضاء على الأسر. 1124 تعقيب على ما سبق. 1130 المبحث الحادي عشر: محاربة الدين. 1133 من الذي غذَّى اشتداد العداوة للدين؟ 1143 المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الإلحادية على العداء للدين.

1146 المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع؟ 1154 المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله تعالى تقديس. 1155 المسألة الأولى: هل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى؟ 1166 المسألة الثانية: شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى. 1168 1- دليل الجاذبية. 1172 2- دليل الارتقاء. 1174 3- قانون العلة والمعول أو التفسير المكانيكي للكون. 1180 4- دليل المادة. 1182 تعقيب. 1182 المبحث الخامس عشر: روافد أخرى للإحاد. 1183 1- الإنسان التقدمي. 1185 2- الرجعية والجمود. 1186 3- الخرافة والتقاليد. 1191 4- الحرية والكبت. 1193 5- الإلحاد. 1193 الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام وفي المذاهب الوضعية, وفيه المباحث الآتية: 1193 المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية, وفيه مطلبان: 1193 المطلب الأول: الملكية في الإسلام, وفيه أمران: 1193 الأمر الأول: حب التملك الفردي فطرة في الإنسان.

1195 الأمر الثاني: الملكية الفردية والجماعية في الإسلام. 1200 المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية, وفيه أمران: 1200 الأمر الأول: الملكية في الرأسمالية. 1205 الأمر الثاني: الملكية في الشيوعية الماركسية. 1212 المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين, وفيه مطلبان: 1212 المطلب الأول: رد مزاعمهم في الملكية الفردية. 1214 المطلب الثاني: رد مزاعمهم في نشأة الصراع الطبقي. 1224 تعقيب. 1227 المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية, وفيه المطالب الآتية: 1227 المطلب لأول: التعريف بعلم الاقتصاد. 1229 المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان. 1233 المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية. 1242 المطلب الرابع: الغزو الفكري عن طريق الاقتصاد. 1244 المطلب الخامس: المال في الإسلام. 1246 المطلب السادس: وجود الموارد وندرتها. 1248 المطلب السابع: مدى صحة تعليل أصحاب النظام الوضعي للمشكلة الاقتصادية. 1256 المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشئون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر, وفيه مسائل: 1256 تمهيد.

1259 المسألة الأولى: التكافل الاجتماعي العام في الإسلام. 1265 المسألة الثانية: الاتفاقيات في العمل. 1267 المسألة الثالثة: الكسب المشروع وغير المشروع. 1276 الكسب المشروع. 1279 الكسب غير المشروع. 1270 إيجاب الإسلام في إخراج جزء من المال "فريضة الزكاة" وفيه: 1270 القسم الأول: مشروعية الزكاة. 1272 القسم الثاني: آثار الزكاة على النفس والمجتمع. 1275 المسألة الخامسة: الضرب على الأرض وطلب الكسب. 1280 المسألة السادسة: الصدقات. 1282 المسألة السابعة: الوقف. 1286 المسألة الثامنة: الميراث تحلل الميراث لمن يستحقه. 1288 المسألة التاسعة: الوصية. 1288 المسألة العاشرة: الحث على الإيثار. 1288 المسألة الحادية عشرة: الهدايا والهبات. 1289 المسألة الثانية عشرة: التكافل الأسري. 1292 المسألة الثالثة عشرة: موارد أخرى متنوعة وهي: 1292 1- زكاة الفطر. 1292 2- لحوم الأضاحي.

1292 3- توزيع ما لا يحتاج إليه الموسرون. 1292 4- إطعام مسكين في كل يوم للكبير والمريض وعند العجز عن الصوم. 1293 5- توزيع الهدي الواجب على الحاج أو المعتمر عند ارتكابهما أي محظور. 1293 6- سائر الكفارات: 1294 1- كفارة الأيمان. 1295 2- كفارة الإفطار. 1296 3- كفارة الظهار. 1297 4- كفارة القتل الخطأ. 1298 5- كفارة قتل المحرم للصيد عمدًا. 1298 6- كفارة الوفاء بالنذر. 1299 7- وجوب إكرام الضيف. 1299 المسألة الرابعة عشرة: التكافل عن طريق العارية. 1300 1- الأطفال عمومًا. 1301 2- الأيتام. 1302 3- اللقطاء. 1303 4- أصحاب العاهات. 1303 5- الشواذ والمنحرفين.

1305 6- المطلقات والأرامل. 1306 7- الشيوخ والعجزة. 1306 8- المنكوبين والمكروبين. 1308 تعقيب. 1308 المسألة الرابعة عشرة: تحريم التعامل بالمال في بعض الأمور. 1308 1- تحريم الربا. 1311 تعقيب. 1312 2- تحريم الاحتكار. 1314 3- تحريم الغش. 1315 4- تحريم المكاسب التي تأتي دون مقابل حلال كالقمار. 1316 5- تحريم إنفاق المال في بعض الطرق غير المشروعة. 1318 المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية, وفيه مطلبان: 1318 المطلب الأول: التكافل في الرأسمالية. 1320 المطلب الثاني: التكافل في النظام الشيوعي. 1323 المراجع. 1335 الفهرس.

§1/1