المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

علي علي صبح

المقدمات

المقدمات: مقدمة: الحمد لله تعالى الذي جعل الإسلام عقيدة وشريعة ... والصلاة والسلام على خير خلق الله ... كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم ... {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . في العصر الحديث عاد إلى الشعر العربي وجهه المشرق، وأصالته العربية الإسلامية العريقة في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعربي، فأوت إليه الأصالة بعد الزيف والإسفاف، والحيوية والتجديد بعد الجمود والتقليد، والإبداع والابتكار بعد النقل والتكرار، والتحرر والرجوع إلى الذات بعد التقيد والتبعية. ولهذا نال الشعر العربي الحديث عناية الباحثين والدارسين؛ لتحديد الدوافع لأصالته وعراقته، وإبراز خصائصه وسماته واتجاهاته ومدارسه وطابعه ومذاهبه، وخاصة في المجالات التي لم تنل عناية الباحثين، لما تحتاج إلى جهد في تيسير الوسائل والأسباب, وتذليل العقبات والصعوبات. والشعر في "المملكة العربية السعودية" حتى الآن من الحقول البكر التي تضطر إلى التوقف والتأمل كثيرًا، وإلى البحث والدراسة، ولا زال الشعر السعودي يحتاج إلى التقييم والتحليل والنقد والموازنة، للتعرف على خصائصه الفنية، ومدارسه الشعرية، ومذاهبه الأدبية. والدراسة التي دارت حوله حتى الآن أخذت اتجاهًا واحدًا نحو الحركة الفكرية والتاريخ الأدبي، في مؤلفات نادرة ذات الطابع التاريخي في أدب المملكة عامَّة، أو أدب الجنوب خاصة، أو أدب نجد وغيرها1.

_ 1 مثل: الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية. د. بكري شيخ أمين. دار صادر ببيروت 1393-1973، واقتصر المؤلف على ذكر بعض أسماء الشعراء في الجنوب لا غير. ومثل كتاب الحياة الفكرية والأدبية في جنوب البلاد السعودية إلى عام 1351-1932 تأليف عبد الله محمد حسين أبو داهش - دار الأصالة بالرياض 1402 هـ، واقتصر المؤلف على شعراء التقليد فقط دون بقية المذاهب الأخرى، والبحث في معظمه تاريخ فكري. ومثل شعراء الجنوب: للعقيلي والسنوسي واقتصر المؤلف على شعراء التقليد أيضًا.

وهذا الاتجاه في الأدب عامَّة، يختلف في منهجه وغايته عن الاتجاه في هذا البحث، فقد اختص بالشعر لا بالأدب عامَّة، ولا في تاريخ الشعر بالمملكة، بل في العصر الحديث، ولا بالشعر الحديث في المملكة كلها، بل في شعر منطقة متميزة من مناطقها المتنوعة، التي تختلف باختلاف الطبيعة وواقع البيئة، وليس في شعر الجنوب "منطقة الجنوب" في جميع ما يتصل به لأدنى ملابسة، بل في جزئية واحدة فقط من اتجاهات الشعر الكثيرة وروافده المتعددة، بل في المذاهب الأدبية الحديثة في شعر الجنوب، ومدارسها التي تنتمي إليها، وهذا هو موضوع البحث. ولم يكن هذا الاتجاه عن طريق الصدفة، بل كانت من ورائه دوافع قوية متعددة الجوانب، من أهمها الاتجاه "الأكاديمي" للبحوث في كلية التربية، فرع جامعة الملك سعود في أبها، والتي أعمل فيها عضوًا من هيئة التدريس ... وهو البحث في البيئة التي تحملت أعباءها المؤسسات العلمية والجامعية ومراكز بحوثها، على النمط الذي تقوم عليه الأقسام العلمية في حقول التجارب العملية لدراسة البيئة في عسير من خلال مركز البحوث للكلية. ومن هذا المنطلق "الأكاديمي" تحدد اتجاه البحث. وعندما تكاملت فكرة البحث تقدم به "مركز البحوث" مع بحوث أخرى للاشتراك العلمي في الاحتفال بمرور خمس وعشرين سنة على "جامعة الملك سعود"، ورسالتها العلمية "اليوبيل الفضي" في عام 1402هـ-1982م"1 ثم نمت عناصر البحث وتكاملت، ونضجت معالمه، وتحددت أبعاده، فتدفقت روافده بين صفحات هذا الكتاب، ليعبر عن التجربة الواقعية التي عشتها في "منطقة الجنوب" للمملكة العربية السعودية. ومن وراء هذا كله كان الشعر في الجنوب يحث على الدراسة، والاستمتاع به. .. وهو شعر بكر، نبع من منطقة متميزة بروعة بيئتها، وسحر الطبيعة فيها، والتنوع في مجالها، فهي بحق كما وصفتها المملكة. بأنها من أهم المصايف لدول الخليج العربي. ومن هنا كان مجال البحث محدودًا؛ لأنه في منطقة واحدة متميزة، وفي شعرها البكر الذي لم يتعرض للبحث حتى الآن، وفي جانب واحد من الشعر لا في شتى الجوانب، التي تتعلق به في المنطقة. وينبغي منذ البداية أن يكون المنهج واضحًا للقارئ الكريم، فالمنهج يحدد الاتجاه والغاية التي تنتهي بالنتائج، فيميز المذاهب الأدبية، ويحدد اتجاهها وقيمها، ليحكم بالتقليد أو التجديد أو الإبداع.

_ 1 رسالة فرع الجامعة: كلية التربية في أبها - العدد السابع 18/ 1 / 1402 - 13/ 1/ 1982 م في الحوار الذي أجراه عبد الله دليم مع د. لطفي بركات أحمد مدير مركز البحوث ص 27/ 31.

فالقيم المنهجية التي سرت عليها كانت -بالدرجة الأولى- نابعة من واقع الشعر في المنطقة حسب تطوره التاريخي فيها، ثم تستنتج النتائج، وهذا هو الأساس الأول والأصل في منهج البحث والوصول إلى الغاية منه، أمَّا علاقة الشعر بالتيارات المعاصرة، والمذاهب الأدبية العامة في الشرق وفي الغرب كانت تابعة للأساس الأول، ورافدًا واحدًا من روافده. والحكم على المدرسة في مذهبها الأدبي بالتقليد أو المحافظة أو التجديد أو الابداع يصدر أيضًا نابعًا من الاستقراء للشعر المنشور والمشهور، ومن خلال التصنيف بين شعراء الجنوب وحدهم، فالتفاوت بينهم يتم حسب المذهب الأدبي في مدرسته، لا بين غيرهم من شعراء المملكة، وقد يتفق شعراء المملكة جميعًا في المذاهب الأدبية المتباينة، وحينئذ يكون من الممكن أن ينتسب كل شاعر إلى مدرسته الأدبية تبعًا لاختلاف مذاهبهم، وتطبيقها على الشعر الحديث عامَّة، وهذا مجال لبحث مستقل آخر. ومن المجازفة أن يكون البحث شاملًا للمذاهب الأدبية في شعر المملكة؛ لأسباب من أهمها: إنها ستكون دراسة غير دقيقة، لا تعتمد على جزئية واحدة في مجال البحث العلمي، وأنها أيضًا ستواجه العقبات الصعبة في الاستقراء أو الاستقصاء لهذا الشمول، على العكس من الجزئية في هذا البحث، وأن الدراسة أيضًا تستلزم تحديد أبعاد الجزئية، لتتخذ طريق العمق والبناء السابق، وإلا كانت الدراسة مسحًا سريعًا كالعدو وشمولًا خاطفًا كسرعة البرق. ومن الممكن بعد الوصول إلى الغاية من البحث أن يصح تطبيقها على نظائرها من المذاهب الأدبية في بعض المناطق الأخرى للمملكة بنفس التخصص والاستقراء؛ لأن معظم الروافد التي تغذي الشعر فيها واحدة غالبًا، إلا روافد خاضعة لبيئة المنطقة وخصائصها الطبيعية والبشرية، ولو لم تكن البيئة والطبيعة فاصلًا ومميزًا، لما تميز شعر الجنوب بسحر الطبيعة وروعة البيئة، كما تميَّز شعراء الحرمين بالشعر الإسلامي والوجداني بخصائص تتميز به كل من المنطقتين فيما بينهما، كما تتميز كل منهما عن المناطق الأخري. وجمع مادة الشعر هنا ليس سهلًا، لا من شعراء المنطقة الذين ذهبوا مع الخالدين، فلم تكن لهم دواوين منشورة، وإن كانت- وهذا نادر- فتكاد أن تختفي عن الأنظار كالكنز الدفين، فمن الصعب الحصول عليه، ولا من كبار الأحياء من الشعراء المشهورين لعقبات لا تقل عن العقبات السابقة منها أن الديوان يطبعه الشاعر لحسابه، أو يقوم النادي الأدبي بطبعه، وفي كلتا الحالتين يكون التوزيع محدودًا، يعتمد على الهدايا الشخصية غالبًا، ولم يبق أمامي إلّا وسائل الاتصال المختلفة والشاقة، وعلى سبيل المثال: ديوان "القلائد" للسنوسي أبرز شعراء الجنوب، نشر منذ أكثر من عشرين سنة، فلم نجد منه إلَّا نسخة واحدة خاصَّة بالشاعر نفسه، ضرب عليها الحصار، حتى يعيد الطبع للمرة الثانية، وتكرّرت مثل هذه المحاولات في جميع مادة البحث.

والمذاهب الأدبية النابعة من مدارسها المختلفة، والتي انتهيت إليها، مذاهب ليست شرقية ولا غربية، بل صدرت عن واقع الشعر في الجنوب، فقد يكون اتجاه المدرسة في مذهبها غريبًا في أول الأمر، مثل مدرسة "التجديد المحافظ"، أو مدرسة "التحرر في التجديد"، لكن بعد التوغل في أعماق المدرسة لا نجد غرابة، بل نجد أن القيم نبعت في المدرسة من الشعر ذاته. لهذا جعلت المدارس الأدبية في شعر الجنوب هي مدرسة "التقليد المتحجر"، ومدرسة "المحافظين الحرفيين"، ومدرسة "التجديد المحافظ"، ومدرسة "التحرر في التجديد"، ولكل مدرسة اتجاهها وأسسها، وخصائصها الفنية وشعراؤها، وأغراضها وأسلوبها، وتصويرها الأدبي وميزانها النقدي.. في خطة للبحث تسير على النحو الآتي: أولًا: الإهداء. ثانيًا: مقدمة البحث. ثالثًا: تمهيد.. في توضيح العوامل التي أثرت في المذاهب الأدبية - البيئة في جنوب المملكة العربية السعودية - الطبيعة الساحرة في جنوب المملكة العربية السعودية. رابعًا: أبواب البحث وفصوله: الباب الأول: مدرسة المحافظين: الفصل الأول: التقليد: خصائصه - شعراؤه. ويضم هذه الموضوعات: مدرسة التقليد المجردة من الموهبة الشعرية - سليمان بن سحمان وابنه صالح بن سليمان - الشاعر على السنوسي - الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي - شعراء آخرون. الفصل الثاني: مدرسة المحافظين: ويشمل هذه الموضوعات: خصائصها الفنية - شعراؤها - الشيخ محمد سرور الصبان - الشاعر معيض بن على البختيان - شعراء آل الحفظي. الفصل الثالث: شعراء آل الحفظي: ويضم أشهر الشعراء - شعرهم في الميزان - التصوير الشعري وخصائصه الفنية - الأغراض الأدبية وخصائصها الفنية.

الباث الثاني: مدرسة التجديد المحافظ الفصل الأول: الخصائص الفنية لمدرسة "التجديد المحافظ": ويضمّ الموضوعات: أصول المحافظة على عمود الشعر العربي - دعائم التجديد وخصائصه الفنية - شعراء مدرسة المجددين المحافظين. الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي: ويشمل: نشأة الشاعر وحياته - الأغراض الأدبية في شعره وخصائصها الفنية - التصوير الأدبي - خصائص الألفاظ والأساليب - خصائص الوزن والقافية - التشخيص في التصوير الأدبي - الروح الإسلامية في التصوير الأدبي - الصورة الخيالية وخصائصها الفنية - الوحدة الفنية - موازنة ونقد. الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي: ويضم: نشأة الشاعر وحياته - الأغراض الشعرية والتصوير الأدبي لها - المدح وخصائصه الفنية - الشعر الوطني وخصائصه الفنية - الشعر الإسلامي وخصائصه الفنية - الشعر في الحضارة العلمية وخصائصه الفنية - الشعر الوجداني وخصائصه الفنية - الوصف وخصائصه الفنية - الأناشيد. الفصل الرابع: الشاعر زاهر عواض الألمعي: ويشمل: نشأة الشاعر وحياته - الأغراض الشعرية وخصائصها الفنية - التجربة الشعورية - المناسبات في الشعر - الصدق الفني - الألفاظ والأساليب - الخيال وصوره الجزئية - الوحدة الفنية. الفصل الخامس: الشاعر يحيى إبراهيم الألمعي: ويضم: نشأته وحياته - الأغراض الأدبية في شعره - المدح وخصائصه - الشعر الوجداني وخصائصه - الشعر الإسلامي وخصائصه - الرثاء وخصائصه - وقفات مع الشاعر في التصوير الأدبي - التصوير الأدبي - البديع والضرورات - معالم الجنوب في شعره - الوحدة الفنية وخصائصها. الفصل السادس: شعراء آخرون: ويضم: الشاعر علي خضران القرني - الشاعر علي عبد الله مهدي - الشاعر جبران محمد حسن قحل - شعراء آخرين.

الباب الثالث: مدرسة التحرر في التجديد: الفصل الأول: الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد: ويضم: التمييز بين "الرومانتيكية" الإبداعية وبين التحرر في التجديد - عوامل تكوين مدرسة التحرر في التجديد - الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد. الفصل الثاني: الشاعر أحمد العسيري: ويضم: نشأة الشاعر وحياته - الأغراض الأدبية وخصائصها الفنية - التصوير الأدبي - التجربة الشعرية - الألفاظ والأساليب - خصائص الخيال والصور الشعرية - الموسيقى الشعرية - شاعرية العسيري في ميزان النقد. الفصل الثالث: الشاعر أحمد بهكلي: ويشمل: نشأة الشاعر وحياته - الأغراض الأدبية في شعره - التصوير الشعري - بين الوجداني الذاتي والالتزام الموضوعي - الوحدة الفنية في شعره - التشخيص في التصوير الشعري - الخيال والصور الأدبية - الإيقاع الموسيقي. والله -سبحانه وتعالى- أسأل أن ينفع به.

تمهيد

تمهيد: 1- العوامل التي أثرت في المذاهب الأدبية. 2- البيئة في جنوب المملكة العربية السعودية. 3- الطبيعة الساحرة في جنوب المملكة العربية السعودية. الشعر الحديث في المملكة العربية السعودية بصفة عامَّة، وشعر جنوبها بصفة خاصَّة، تأثر بواقعه الذي عاش فيه، وبيئته التي نبع منها، ومن بواكير هذه المؤثرات: دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي حررت العقيدة والإنسان، والفكر والاتجاه والهدف، فظهر شعر الدعوة، وكان منطلقًا للتحرر من قيود الجمود والتخلف والركاكة والفهاهة وما شابه ذلك1. ثم تتابعت مؤثرات أخرى نبعت من واقع النهضة الكبرى للمملكة العربية السعودية، والوثبة المذهلة التي غيَّرت مجرى الحياة؛ كوحدة الإنسان لبناء الوطن، وتحقيق الهدف لإعادة بناء الأمم الإسلامية المجيدة، فيعود لها وجهها المشرق كما كانت في الماضي، والاهتمام بالتعليم في شتَّى مراحله، وبالصحافة، وبالمجلات، وبالإذاعة المسموعة والمرئية، وكذلك العناية بالمطابع ودور النشر، وإحياء التراث وجمعه من أقطار العالم الإسلامي وغيره، والاهتمام بالمكتبات العامة الخاضعة للمؤسسات المختلفة، وبالمكتبات الخاصة بالعلماء والأدباء والشعراء. ومن أحدث المؤثرات في الأدب السعودي الحديث هو التجاوب الفكري والثقافي والعلمي والأدبي مع التيارات الأدبية المعاصرة، والمذاهب النقدية الحديثة في مصر والعراق والشام وبلاد المغرب، ثم الانفتاح أمام المذاهب الأدبية والنقد في الغرب، والتأثر بجوهرها واتجاهاتها، وتطويع ما يتناسب مع القيم الإسلامية والعربية الأصيلة، وطرح ما يتجافى مع الفطرة الشرقية الملهمة. لا شكَّ أن التجاوب الفكري والأدبي كان أظهر وأقوى مع المذاهب الأدبية العربية العريقة، التي أينعت في الأرض الخصبة للعروبة والإسلام، مثل التأثر بمدارس المحافظين، ومدارس المجددين، ومدارس المبدعين، كالتأثر بمدرسة الديوان، ومدرسة أبوللو، ومدرسة المهاجرة العرب، ورابطة الأدب الحديث، والمتمردين في الشعر، وغير ذلك. تلك هي المؤثرات العامة التي أثرت في الأدب السعودي، ويكاد يسيطر عليه مؤثر ظاهر له دور خطير وعظيم وقوي، وهو سيادة التيار الإسلامي فيه، وسريان الشريعة الإسلامية بين جوانبه بصفة خاصة2.

_ 1 انظر: الأدب الحجازي في النهضة الحديثة. نهضة مصر - القاهرة 1948، الوحدة الإسلامية: زيد بن فياض. مطابع القصيم 1388 هـ، دورنا في الكفاح: حسن عبد الله آل الشيخ، مطابع نجد - الرياض 1383هـ. 2 انظر: الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: د. بكري شيخ أمين. دار صادر بيروت. طبعة أولى 1393هـ/1973م، قصة الأدب في الحجاز: محمد عبد المنعم خفاجه وعبد الله عبد الجبار. دار مصر- القاهرة 1958، والتيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية: عبد الله عبد الجبار وغيرها.

وبعد ذلك يأتي مؤثر متميز في شعر الجنوب، نبع من واقع البيئة العربية العريقة، وهو ما يتميز به أدب الجنوب من جمال الموقع، وسحر الطبيعة، وكرم السماء، وتعانق السحب، وفراهة الجبال، ويفاعة الآكام، وعمق الأودية، ورحابة السهول، وتدفق السيول، وتراسل الشلالات، وشموخ الأشجار المتعانقة، وعذوبة المياه الرقراقة، وتلاحم البسط الخضراء على قمم الجبال وفي السهول على السواء، في طبيعة أخَّاذه، وحياة ساحرة، وهواء طري منعش، ومناخ متقارب تتلاحم فيه فصول السنة في توافق وانسجام، فلا تدري في أيِّ فصل تكون، مع ما يتمتع به أهل الجنوب من برود الطبع، ودماثة الخلق، وسعة الأفق، وحِدَّة الذكاء، وغير ذلك مما يلهم الشعراء، ويعين على التأثر السريع بالمذاهب الأدبية التي تعشق الطبيعة، وتهيم بجمال الكون، وتذوب في سحر الحياة. ويحتاج هذا المؤثر المتميز الأخير إلى توضيح أكثر للبيئة التي نبت فيها شعراء الجنوب "منطقة الجنوب"؛ حيث تنوعت فيها مشارب الشعراء، وتدفقت روافدهم من منابعها الصافية العذبة، واختلفت اتجاهاتهم الأدبية ومدارسهم الشعرية. "الجنوب" منطقة واسعة تصل مساحتها إلى ربع المملكة العربية السعودية، يقطنها سكان كثيرون، في عشرة آلاف قرية تقريبًا، وعاصمتها أبها، ترتفع عن سطح البحر الأحمر بسبعة آلاف قدم، وفي القرى تكثر الزراعة والبساتين لأصناف كثيرة من الحبوب والفواكه والخضروات. الأشجار الكثيفة والغابات الملتفة توجد في بعض مناطق الجنوب، مثل منطقة السودة، وتهلل، والباحة، وتمنية، وتهامة، والقرعاء، والجرة، والمحالة، وغيرها. أما مناخها فشبيه بمناخ لبنان في سحره وجماله في الصيف والخريف، ولا سيما في جبال السراة، وفي الشتاء والربيع تشتد البرودة، ويغطي الضباب جبالها وقراها أثناء الربيع من حينٍ لآخر1. ويصف الأستاذ يحيى إبراهيم الألمعي السودة وتهلل، التي ترتفع تسعة آلاف قدم:2 "فإنك تشعر بجمال الطبيعة وكمال حسنها؛ لما يتوفَّر فيها من مناظر خلَّابة، وأماكن شاعرية أخاذة، غابات تتعانق فيها الأشجار المخضرة المخضلة، وربوات ترى فيها الأزهار المورقة، ذات الألوان المختلفة، وتفوح منها رائحة عطرية عبقة، تتناثر في أجواء تلك الأماكن العالية.. ومن أشجارها المعروفة الوافرة: البلسان، والأثل، والعرعر، والأقحوان، وعندما يهب النسيم، نسيم الصبا، وتشرق شمس الأصيل على تلك الروابي والمرتفعات الشاهقة، تمتزج هذه العطور الفواحة مع الرذاذ الذي يتساقط على الأرض كالدر أو اللؤلؤ، من أثر الطل، حينئذ تستمتع بمنظر جميل

_ 1 انظر: في ربوع عسير: محمد عمر. العهد الجديد - القاهرة 1954، تاريخ عسير في الماضي والحاضر. هاشم بن سعيد النعمي. 2 رحلات في عسير: يحيى إبراهيم الألمعي.

أخاذ، يرغمك على التجوال بين غابات لا ترى لها نهاية، وربما صادفك في طريقك ما يشبه الشلالات، التي تتدفق منها المياه الرقراقة العذبة، وتنساب فيها الجداول الصغيرة الصافية.. أما تهامة وأخصّ بالذكر منها جهات معروفة، فهي معتدلة، لا حر ولا برد، ولا سآمة، وفيها كثير من الأشجار الباسقة، ويعتمد معظم أهلها على الزراعة، ولا تخلو جبالها أيضًا من مراتع الأرانب والعقبان، ومراعي الحجل والغزلان، وفيها من الطيور، البلبل، والحباري، والعندليب، والخضاري، والهدهد، واليمامة". في هذه البيئة الساحرة نبتت ونمت مؤسسات علمية وأدبية راسخة في ظلال المملكة الرشيدة المعطاءة، كان لها الدور الكبير في تعميق الجوانب الفكرية والثقافية، وتوسيع المجالات العلمية والأدبية، وهذه المؤسسات العلمية هي جامعة الملك سعود "الرياض" سابقًا، فرع أبها، وتضم كلية التربية، وكلية الطب، ثم كلية الشريعة وأصول الدين، وكلية اللغة العربية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التابعتين لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم الكيات المتوسطة للبنين والبنات التابعة لوزارة المعارف السعودية، ثم النوادي الثقافية والاجتماعية والرياضية والأدبية في جيزان وبيشه ونجران وخميس مشيط، وأحد رفيده والباحة وأبها وغيرها، ولقد اشتركت في ندوات كثيرة في بعض هذه النوادي مثل نادي "ضمك" بخميس مشيط، ونادي "جرش" بأحد رفيده، وفي أبها وغيرها. واشتركت في حفل افتتاح "نادي أبها الأدبي" حين شهدت أبها حفلًا تاريخيًّا في يوم 11/ 3/ 1400هـ -نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل- أمير منطقة عسير، افتتح صاحب السمو الملكي الأمير فيصل ابن بندر بن عبد العزيز - وكيل إمارة منطقة عسير- نادي أبها الأدبي في تمام الساعة الثامنة من مساء الثلاثاء الموافق 11/ 3 / 1400هـ بحضور عدد كبير من المسئولين والمثقفين وأبناء المنطقة"1 وفي هذا الحفل حثَّ المسئولون الشباب والأدباء على الإبداع العلمي والأدبي، قال صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر: "فلقد اهتمَّت حكومتنا الرشيدة، وعن طريق إحدى مؤسساتها ... لإنشاء ورعاية وتأسيس النوادي الأدبية، وقامت على دعمها بكل ما يساعدها لتحقيق أهدافها، والتي على رأسها بعث تراث هذه الأمة المجيدة وأدبها وعلومها، ودعم كافة الطاقات الشابَّة وحفزها؛ لتقديم ما عندها من قدرات على الإنتاج والإبداع العلمي والأدبي"2. وباسم المؤسسات الجامعية العلمية في الجنوب تحدث الدكتور مزيد إبراهيم عميد كلية

_ 1 كلمات وقصائد: نادي أبها الأدبي. المقدمة: مطبعة عسير 1400هـ. 2 المرجع السابق ص5، 6.

التربية في أبها فقال: "لا يسعنا اليوم إلَّا أن نشكر الله -عز وجل- ونحن نشهد تدشين هذه المؤسسة الأدبية الثقافية، التي تعتبر لبنة أساسية في كيان الصرح الثقافي في منطقة عسير.. أما المجتمع فعليه أن يدرك أيضًا انتماءه العميق لهذا الجزء منه، ألا وهو مؤسساته الثقافية، فهي كما ورد الذكر، لم توجد إلّا لخدمته، وهي المصدر الأساسي الذي يمده بالقوة البشرية المؤهلة للمساهمة في تقدُّم البلاد وازدهارها"1. ومما ذكره في كلمته الأستاذ محمد عبد الله الحميد رئيس النادي: "ونحن في هذه المنطقة الجميلة المعطاءة، الموحية بالأفكار البناءة والأخيلة الشعرية الصافية، أحوج ما نكون إلى ملتقى فكري يجمعنا، ومنتدى أدبي نغذي به أرواحنا"2. ثم تتفجر شاعرية الأستاذ أحمد فرح العقيلان -مدير إدارة الأندية بالنيابة- فأنشد قصيدته من وحي الساعة، بعنوان: "أبها الشاعرة": سلم على أبها وحيِّ جمالها ... واسأل عن السحر الحلال جبالها نفسي الفداء لها ربوع فضائل ... تتشرف الأرواح أن تهدي لها أنشد عن الطهر العفيف نساءها ... واسأل عن الخلق الشريف رجالها الأسد فيها والظباء سوانح ... بأبي وأمي ليثها وغزالها قد كنت أحسبني كبرت على الهوى ... وتركت أحلام الصبا ودلالها حتى رأيت ظباء أبها رتّعًا ... والحب يرتع والعفاف حيالها وإذا الوقار يلومني ويقول لي ... العب وشارك في الصبا أطفالها لولا وفائي للرياض وأهلها ... لنقلت عائلتي هنا وعيالها أو كنت أتركهم هناك وأمهم ... وأسوم بعض الطاهرات حلالها3 أبها مصيف الطيبين يؤمها ... من كان ينشد في الحياة جمالها بعض المصايف ضلة وفضائح ... وهنا فضائلها تمد ظلالها حورية السروات أنت نموذج ... للحسن ترسمه الحسان مثالها في روض أبها كل شيء شاعر ... فالحسن يصقل في النفوس خيالها ولحكمة رزقت أميرًا شاعرًا ... والشعر يرسم للنفوس كمالها والشعر عبر عصوره أنشودة ... رسمت لروح التضحيات مجالها ما أروع الآداب إن هي أنهلت ... من منهل الخلق الكريم خصالها أنا لم أنل في العمر صحبة خالد ... لكن سمعت الحمد ممن نالها

_ 1 المرجع السابق 12، 13. 2 المرجع السابق: 8 3 ضج النادي بالتصفيق والضحك.

وقرأت في صحف روائع شعره ... ما كان أحلى نظمها وصقالها ورأيت في أبها غراس يمينه ... نشرت على قمم الجبال ظلالها ورأيت رأي العين إنجازاته ... غراء يسبق فعلها أقوالها لا تعجبن فخالد من أسرة ... يتفيأ الشرف الرفيع ظلالها عفوًا شغلت بخالد عن فيصل ... حرس الإله حياته وأطالها نور على نور بجانب خالد ... بهما غدت أبها تسوق دلالها1 ومن أشهر مناطق الجنوب أبها، وتهامة عسير، أو رجال ألمع، وبلاد الحجر، والنماص، وتثليث، وجاش، وظهران الجنوب، وبلاد بلقرن، وبلاد شهران، ومحائل، وجازان وغيرها، وترجع القبائل فيها إلى أصول العدنانية والقحطانية، وأشهر من فيها: رجال ألمع، وآل حفظي، وبنو شهر، وبنو عمرو، وبنو الأحمر، وبنو الأسمر، وبنو مسعود، وبنو شهران، وغيرهم. ذكر الهمذاني المتوفَّى سنة 334هـ بلاد الحجر: "أن عبل من أوطان عسير، ويقع في بلاد بني الأحمر، وهم من رجال الحجر بن الهنو بن الأزد"2. وقال الهمداني أيضًا: "وأول بلاد الحجر من يمانيها عبل: واد فيه الحبل، ساكنه بنو مالك بن شهر، وصبح وادي زرع، وباطنه بهوان: وادي زرع وأعناب، وساكنه بنو شهر"3. وفي الحجر نشأ الشنفرى الأزدي العداء المشهور، صاحب اللامية التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل4 في هذه الطبيعة الساحرة، والبيئة الأخاذة، مرَّ الشعر الحديث في الجنوب بالأطوار التي مرَّت بالشعر السعودي بصفة عامَّة، واتخذ في سيره التاريخي مراحل متنوعة في التطور والتجديد، ويمثل في كل مرحلة من مراحله مدرسة فنية ومذهبًا أدبيًّا يتميز بخصائصه وسماته، ومن خلال هذه المدارس الأدبية برزت معالم المذاهب الأدبية في هذا الشعر، وسنفصِّل القول في أشهر هذه الاتجاهات المدرسية في شعر الجنوب، وذلك في الأبواب والفصول التالية:

_ 1 المرجع السابق: 23، 27. 2 صفة جزيرة العرب: تحقيق محمد بن بليهد النجدي ص118. 3 المرجع السابق: 121. 4 انظر في: ربوع وعسير: محمد عمر رفيع - وانظر: تاريخ المخلاف السليماني: محمد أحمد العقيلي، السراج المنير في سيرة أمراء عسير: عبد الله بن على بن مسفر، تاريخ عسير في الماضي والحاضر: هاشم سعيد النعمي، في بلاد عسير: فؤاد حمزة، الحياة الفكرية والأدبية: عبد الله محمد أبو داهش - دار الأصالة - الرياض.

الباب الأول: مدرسة المحافظين

الباب الأول: مدرسة المحافظين الفصل الأول: التقليد - خصائصه-شعراؤه مدرسة التقليد المجرَّد من الموهبة الشعرية: أصحابها هم الذين عكفوا على محاكاة الشعر الذي دار في فلك العصر، فقد ساد فيه الضعف الفكري والركود الأدبي، وضحالة الثقافة، وخمود العاطفة، وبلادة المشاعر والأحاسيس، وجمود الحياة، مما كان له آثاره الهابطة على الفكر والأدب، فاصطبغ الشعر بالتكلُّف والتصنُّع، واشتدَّ الغرام بألوان البديع الباهتة، وازدادت المبالغة في التصوير، حتى زاغ المعنى وضلَّ الهدف، وتكاثف الزخرف في الأسلوب وأثقال الزينة، فناء بحمل المعنى المراد، واختفت شخصية الشاعر الفنية، فتجرَّد الشعر من العاطفة الجياشة، والأحاسيس الرقيقة، والمشاعر الحية والخواطر الذاتية، وشرف المعنى، ونبل الهدف، وأصبح الأدب لا يثير العاطفة عند الآخرين، ولا يحرّك مشاعرهم، ولا يثير فكرهم ولا يربِّي أذواقهم، ولا يثير نخوة المنافسة بين المتطلعين إلى الأدب، مما أدَّى إلى فقر ساحة الأدب والشعر، وجدب المواهب، وانهيار الذوق الأدبي، وعزوب الأديب، وندرة الشاعر1. هذه خصائص الجمود في الشعر، تسرَّبت سمومه القاتلة إلى شعر المقلِّدين من شعراء جنوب المملكة، الذين سلكوا هذا الاتجاه الجامد، ولا حيلة لهم في غير ذلك، ما دامت هي السلعة الرائجة في سوق العصر الراكد، ومن أشهر شعراء التقليد الذين خضعوا لنوبة التقليد، واتَّسم شعرهم بهذه الخصائص القاتمة الجامدة، من أهمهم: سليمان بن سحمان، وابنه صالح بن سليمان: نشأ سليمان في قرية "السقا" إحدى قرى أبها؛ حيث وُلِدَ فيها وعاش ما بين "1266-1349هـ"، وتتلمذ على والده الذي اشتهر بحفظ القرآن وتجويده، وحسن الخط، والإحاطة بالعلوم الشرعية والعربية، ثم سافر هو ووالده إلى الرياض؛ ليتردَّد على حلقات العلم، ويتتلمذ على يد كبار العلماء، ومن أشهر مؤلفاته: "الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد"، وكتاب "كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام"، وكتاب "إرشاد الطالب إلى أسنى المطالب"، وغيرها، وله ديوان شعر "عقود الجواهر المنضدة الحسان" 2. ومن نظمه العلمي التقليدي في تعليم الكتابة:

_ 1 انظر: أدب الحجار: محمد سرور الصبان - مطبعة مصر 1958، قصة الأدب في الحجاز: د. محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد الله عبد الجبار. القاهرة 1958، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث: أنيس المقدس - دار الكتاب العربي - بيروت 1960 م. 2 شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب: عبد الكريم بن حمد الحقيل - طبعة أولى 1399هـ، ص113.

أكتب ككتبي كما قد كنت أكتبه ... كتبًا ككتبي لهذا الكتب في الكتب سطر بسطر كهذا السطر أسطره ... سطرًا سليمًا سويًّا تسم في الرتب حرف بحرف على حرف كأحرفه ... واحذر من الحيف في حرف بلا سبب1 وهذا نظم -وليس بشعر- جامد جافّ يتعثَّر فيه اللسان، وحروف مكتظة تثاقلت بها الأفواه؛ لهيام الشاعر بحشد الحروف الواحدة، وتوارد المشتقات المتجانسة، وترادف الجناس المتضاعف أضعافًا مضاعفة، مما أدَّى إلى ركاكة النظم، واضطراب الأساليب، وضعف المعنى، وضحالة الفكرة، وجمود المشاعر، وخمود العاطفة، وذهاب ريح الشعر في سرق التقليد النافقة الخاسرة. ويقول ابن سحمان أيضًا في قصيدة يشيد فيها بجلالة الملك عبد العزيز -رحمه الله تعالى: هو الملك السامي إلى منتهى العلا ... وقد أمَّه في نيلها الطالع السعد إمام الهدى عبد العزيز الذي به ... تضعضعت الأملاك واستعلن الرشد تحمل -هداك الله- منِّي تحية ... هدية مشتاق أمض به الوجد وأورى به من لاعج الشوق جذوة ... ولكنه قد عاقه النأي والبعد وخامره من نشأة البشر نشوة ... وفي قلبه سكر من البشر ممتد إلى الملك الشهم الهمام أخي الندى ... مذيق العدا كأس الردى عندما يعد ومن أصله المجد المؤثل والعلا ... ومن جوده الجدوى لمن مسه الجهد2 فهذا الشعر خلوّ من العاطفة الجياشة، ومجرد من الإحساس الدافق والمشاعر الرقيقة؛ لأنه يقوم على رصف الألفاظ، ونظم ورص الكلمات في سلك البحر الخليلي، والقافية العمودية، هائما بالترادف بين "السامي ومنتهى، والعلا والطالع السعد، والنأي والبعد، وبين: أخي الندى ومن جوده"، والتقابل بين "تضعضعت الأملاك واستعلن الرشد"، وغير ذلك من أثقال اللفظ، وركاكة التعبير، واللعب بالزخرف. وكذلك نجد فقدان العاطفة الجياشة في شعر ابنه صالح بن سليمان "1319هـ". الآن فليفتخر في مصر واليها ... ولتفتخر هي بالنيل الذي فيها واليخت والبحر والسكان أجمعهم ... بمن له الفخر لما حلَّ ناديها عبد العزيز مليك الناس قاطبة ... برًّا وبحرًا وحضارًا وباديها من آل فيصل أمجاد غطارفة ... شوس أماجد ما حيّ يحاكيها يا أيها الملك الميمون طائره ... يا ناصرًا الملة السمحاء وحاميها

_ 1 الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: د. بكري شيخ أمين، ص378. 2 ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان: ابن سحمان.

قلوبنا ارتحلت لما ارتحلت وقد ... آبت بأوبتكم يا نور داجيها فأبت بالسعد ميمونًا تحفكمو ... سلامة الله لا ينفك حاديها فمرحبًا بك يا شمس البلاد ويا ... نور البسيطية قاصيها ودانيها1 لكن الشاعر تخفَّف من أثقال الزينة والمبالغة في الزخرف والبديع، ولا زالت مسحة قليلة منه، أمَّا المعنى فلا زال ضحلًا، والمشاعر ما زالت فوق السطح، والأحاسيس ليست عميقة، والصور الأدبية لا تنبض إلَّا بعرق واحد فقط، وهو سلامة الأسلوب من الركاكة، وترفعه عن القلق والاضطراب، وخيط رفيع من صدق العاطفة وحرارة الانفعال. الشاعر علي السنوسي: وهو من شعراء هذه المدرسة التقليدية "1315 هـ"، وُلِدَ في مكة المكرَّمة، لكنَّه هاجر إلى المراوغة وزبيد، وعاش في الجنوب، ومن شعره يمدح الملك عبد العزيز -رحمه الله تعالى- في درس نحوي يقول: ومفرد بالمعاني جاء منحصرًا ... في نعته المبتدأ المرفوع والخبر وجازم الفعل والماضي بظاهره ... ومن سواه ضمير جاء يستتر والحذف والنقص من حرف البناء إذا ... ما جاء فهو على شانيه ينحصر2 الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي: وهو من شعراء هذه المدرسة، عاش في جازان، واشتهر بعلمه ومدرسته التي تعلَّم فيها هذا الجيل من أبناء جازان وما حولها، وله ديوان "نيل السول من تاريخ الأمم وسيرة الرسول"، وكذلك أربع رسائل شعرية وهي: "رسالة سلم الوصول في التوحيد والسنة"، و"رسالة ميمية الآداب في الوصايا العلمية"، و"رسالة نظم اللؤلؤ المكنون في مصطلح الحديث"، و"رسالة القصيدة اللامية في الناسخ والمنسوخ". يقول الشاعر الناظم في سيرة الرسول: مولده كان بعام الفيل ... ونقل الخلاف عن قليل ثاني عشر من ربيع الأول ... في يوم الاثنين بلا تحول كم بدا في ليلة الميلاد ... من آية في سائر البلاد منها سطوع النور في الأقطار ... إضاءة كذا خمود النار وارتجَّ إيوان كسرى وسقط ... منه الشرافات إلى الأرض تحط 3

_ 1 شعراء العصر الحديث: عبد الكريم الحقيل ص116. 2 الحركة الأدبية: د. بكري شيخ أمين 378. 3 ديوان نيل السول: الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ص16 ط البلاد السعودية - مكة المكرمة.

ويقول في أرجوزته أيضًا في "سنة تسع من الهجرة": كان بها غزو تبوك في رجب ... وقصده الروم فإذا ذاك انتدب معه ثلاثون من الآلاف ... مقاتلون كل ذي خلاف وابن سلول عنه قد تخلفا ... في حزنه وبعض من قد تخلفا عذرهم الحاجة إذ لم يجدوا ... نفقة وآخرون وجدوا1 ويقول أيضًا في أحوال الأسانيد والمتون: والمتن ما إليه ينتهي السند ... من الكلام والحديث ما ورد عن النبي وقد يقولون الخبر ... كما أتى عن غيره كذا الأثر متابع وشاهد له انجلى ... ثم صحيح حسن قد قبلا ومحكم معارض ومختلف ... وناسخ قابل منسوخًا عرف والراجح المرجوح ثم المشكل ... معلق ومرسل ومعضل منقطع مدلس قد احتمل ... موضوع ومتروك وموهوم معل2 يوضِّح الشيخ حافظ الحكمي في نظمه -لا شعره- هنا أصول الأسانيد، فمنها ما هو صحيح، وحسن، ومحكم، ومعارض، ومختلف، وناسخ، ومنسوخ، وراجح، ومرجوح، ومشكل، ومعلق، ومرسل، ومعضل، ومنقطع، ومدلس، وموضوع، ومتروك، وموهوم، إلى آخر ما جاء في علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل من علوم الحديث الشريف. هؤلاء هم أشهر شعراء مدرسة التقليد في جنوب المملكة العربية السعودية، ولم نذكر نماذج الشعر غيرهم ممن سار على نهجهم من هذه المدرسة اكتفاءً منَّا من أن ذكر البعض يدل على تحقيق المنهج كله في بقية الشعراء، ما داموا هم جميعًا من مدرسة واحدة وهي مدرسة التقليد. وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: لماذا جعلت مدرسة التقليد داخلة وتابعة لشعر المحافظين ومدرسيهم، كما هو واضح؛ حيث كانت مدرسة التقليد فصلًا، بل أوَّل فصل من فصول هذا الباب؟ والرد على هذا السؤال واضح أيضًا، وهو أنَّ مدرسة التقليد أقرب إلى مدرسة المحافظين من أيِّ مذهب آخر، فبعيد جدًّا أن يدخل في إطار مدرسة المجددين، ولا في إطار مدرسة المبدعين.

_ 1 المرجع السابق: ص41. 2 نظم اللؤلؤ المكنون في أصول الأسانيد والمتون: الشيخ حافظ الحكمي - مطابع البلاد - مكة المكرمة.

وكذلك آمر آخر، وهو أنَّ المقلدين والمحافظين يجمعهم اتجاه واحد في الشعر، هو منهج القصيدة واحد والتزام عمود الشعر كذلك واحد، والحرص على الوزن والبحر والقافية عندهما سواء. وقيل هذين أمر جوهري، وهو أنَّ مدرسة التقليد لا تقيم في هذا البحث بابًا مستقلًّا له فصوله الكثيرة، وذلك لضعف شعرهم من حيث الكمِّ والكيف معًا، وتعذُّر الحصول عليه حتى لو كان موجودًا، وعلى سبيل المثال ظللت سنوات للحصول على شعر الحكمي في مشقَّة مضنية وقيود تحمل على اليأس وفقدان الأمل، وأخيرًا حصلت عليه، وكأني حصلت على كنز العمر كله. ومادة الشعر لهذا البحث لقيت مثل هذا العنت في جمعه وتحصيله؛ لأنَّ الشاعر يطبع شعره لحسابه بلا دار نشر، وبهذا يحتفظ به لنفسه كالدر الثمين وقد يهدي منه، ولا يفكر في توزيعه عن طريق دار نشر حتى يتمكَّن الباحث من اقتنائه، أو يطبعه النادي الأدبي في مدينة من مدن المملكة، وهنا تكون مشقة الحصول عليه أشد وأصعب؛ لأنَّ النادي لا يعرضه للبيع، كما أنَّ المهدى إليه يكون أشد حرصًا على كتمانه. ومع هذه الظروف القاسية حصلت على المادة الشعرية عن طريق رهط من طلاب العلم والأدب المخلصين، الذين كانوا يجوبون الجنوب الوعر للحصول على دواوين الشعر، والله -سبحانه وتعالى وحده- يضاعف لهم الأجر والثواب الجزيل. لهذا السبب الجوهري، ولأنَّ شعراء التقليد من الجيل السابق والماضي كان من المعتذَّر الحصول على شعرهم، وكثيرًا ما ألحَّ عليًَّ المنهج في أن أضمَّ التقليد مع التمهيد، ولهذه الأسباب رأيت أنه أقرب إلى الباب الأول من التمهيد ومن غيره. ومن أشهر شعراء التقليد في هذه الفترة أيضًا: محمد بن مهدي بن أحمد الضمدي "1193-1269هـ"، علي بن عبد الرحمن النعمي، ومحمد حيدر القبي النعمي "م. 1351هـ"، وعلي بن إبراهيم النعمي "م. 1275هـ"، ومحمد بن علي الإدريسي "م. 1341هـ"، والحسن بن أحمد بن عبد الله بن عاكش الضمدي "1193-1269هـ"، والحسن بن خالد بن عز الدين الحازمي "1188-1235هـ"، وأحمد بن الحسن بن علي الهيكلي "1153-1233هـ"1. ولد الشاعر أحمد بن الحسن بن علي الهيكلي بالمخلاف السليماني عام 1153هـ، وتلقَّى العلم على يد أخيه عبد الرحمن، ثم رحل إلى زبيد وصنعاء للتزود من العلم ليعود قاضيًا على مدينة "صبيا"، لكنَّه ما لبث أن سُجِنَ في مدينة أبي عريش عام 1188هـ، ثم أطلق سراحه فهاجر.

_ 1 انظر تاريخ المخلاف السليماني: محمد أحمد العقيلي القسم الثاني.

إلى اليمن، وبقي في صنعاء حتى رحل إلى بلده المخلاف السليماني، ومات بأبي عريش عام 1233هـ، ومن شعره يقول: 1. لخالقنا في أمرنا الحل والعقد ... وليس لما يقضيه منع ولا رد وأفعاله محفوفة بمصالح ... ولا شح يعلوها وإن جهل العبد تنزه عن جور وظلم على الورى ... فما أن له في عدله أبدًا ند رضينا بما قدرته يا مهيمن ... على كل حال يعترينا لك الحمد فهو شعر فاتر المشاعر، ضعيف المعنى، ضحل الفكرة، قلق الأسلوب، مع أن الشاعر قد تخفَّف من ألوان البديع والزينة، لكن القارئ مع ذلك يشعر بثقل البيت على السمع، ولا يتلاحق الشعر مع قراءته؛ لأنه وإن كان موزونًا مقفَّى، لكن الإيقاع الموسيقي في داخله لا ينساب مع المعنى والوزن، لهذا كان الثقل فيه يرجع إلى روح التقليد لا لأصالة في قرض الشعر. وأمَّا الشاعر الحسن بن خالد الحازمي فقد وُلِدَ عام 1188هـ بالمخلاف السليماني، وتعلَّم على يد القاضي أحمد بن عبد الله الضمدي، ثم أصبح وزيرًا لأمير المخلاف السليماني، وفتح المدارس، وشجَّع العلماء، وأصبحت بلاده مقصدًا لطلاب العلم، وله مؤلفات ورسائل، وتوفِّي عام 1235هـ في عسير أثناء اشتراكه في قتال الترك2، ومن شعره الذي يناصر به دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال: الله أكبر كل هم ينجلي ... عن قلب كل مكبر ومهلل وموحد لله جل جلاله ... والشرك عنه والضلال بمعزل وبدايتي اسم الله فيما أبتغي ... من نظمي العذب الرحيق السلسل ثم الصلاة على النبي محمد ... خير الورى النبأ العظيم المرسل. ثم الصلاة على النبي محمد ... خير الورى النبأ العظيم المرسل والآل أرباب الهداية والتقى ... من ودهم نص الكتاب المنزل ولقد عثرت على نظام صاغه ... من رام نصحًا شأنه لم يجهل وأمَّا الشاعر الحسن بن أحمد عاكش فهو من أسرة علمية مشهورة3، وُلِدَ في بلدة "ضمد" بالمخلاف السليماني في عام 1221هـ، ورحل في سبيل العلم إلى بيت الفقيه، وزبيد وصنعاء ومكة المكرمة، وعاد إلى بلدة ليشتغل بالتدريس، فأقبل عليه الدارسون من كل

_ 1 المرجع السابق: ج1 القسم الثاني. 2 انظر نيل الوطر: محمد محمد زباره، عقود الدرر وحدائق الزهر: الحسن بن أحمد عاكش. 3 عقود الدرر: الحسن بن أحمد عاكش: ورقة 107.

مكان، وكان من أشهر أدباء هذه المنطقة، وله مؤلَّفات كثيرة، وتوفِّي عام 1289هـ، ومن شعره يقول1: لا تعجبوا إن صار خلى عاتبًا ... إنَّ الزمان اليوم بالمقلوب ولئن غدا قلب الحبيب مصرفًا ... فالقلب مشتق من التقليب. قد كنت أحسب عين دهري أغمضت ... عينًا ولكن وكلت برقيب صبرًا على مضض الزمان وفعله ... والصبر منعقد بكل نجيب إني جفاني كل خل صادق ... فكففت في الإبلاج والتأويب2

_ 1 نيل الوطر: محمد زيارة. 2 مجموعة أشعاره: المكتبة العقيلية الخاصة- جازان.

الفصل الثاني: مدرسة المحافظين

الفصل الثاني: مدرسة المحافظين خصائصها الفنية: وشعراء هذه المدرسة في الجنوب هم الذين اتخذوا منهج الفحول من القدامى مذهبًا في شعرهم، فحافظوا على نظام القصيدة القديمة، وعلى عمود الشعر العربي فيها، آخذين بما أخذه الفحول في شعرهم من جزالة الألفاظ، وإحكام التراكيب، ودقة الأساليب، وروعة التصوير، وشرف المعنى ووضوحه، ونبل الغرض، والاهتمام بالهدف والمضمون، والتزام الوزن والبحر والقافية، كما جاء في علم العروض والقافية للخيل بن أحمد، وما جرى عليه الشعراء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، والتقارب في التشبيه، وقرب الاستعارة، وما اشتهر في استعمالاتها عند الفحول من الشعراء الرواد، ثم الخيال القريب المألوف، ثم الكناية المشهورة التي أصبحت كالمثل يضرب به، والبديع الذي يأتي عفوًا من غير قصد وعلى سبيل الندرة، وإشراق الديباجة، وروعة الاستهلال، ولطف الانتقال، وغير ذلك من عناصر بناء القصيدة العربية القديمة على أساس عمود الشعر العربي المعروف في شرح الحماسة المرزوقي، وفي الموازنة للآمدي، وفي الوساطة للقاضي بن عبد العزيز الجرجاني وغيرهم1. ويضاف إلى خصائص عمود الشعر خصائص فنية أخرى في شعر المحافظين في الجنوب، هي أنَّ شعر عسير يصور واقع عصرهم الذي يعيش فيه الشاعر، فيعالج القضايا التي تمس شغاف قلبه، وتهز وجدانه، وتتجاوب مع اتجاه عصره، وأحداث زمانه. وهذه المدرسة المحافظة قد انتهى الشعراء فيها إلى اتجاهين مختلفين، ومذهبين أدبيين متميزين: أحدهما: مذهب المحافظين على تقليد الفحول من الشعراء القدامى، مع بروز موهبتهم الشعرية، وأصالة قريحتهم الصافية الصادقة، من غير تجديد في المعاني، ولا في الأغراض، ولا في الأسلوب. ثانيهما: مذهب المحافظة، لكنها في ثوب جديد، يتفق شعراؤها مع الفحول من الشعراء القدامى في التزامهم بعمود الشعر العربي مع التميز عنهم في المعاني والأغراض، وفي بعض الصور الأدبية التي تعبّر عن ثقافة العصر وواقعه، ثم التشخيص الحي في التصوير الأدبي، وكذلك يتميزون في منهج القصيدة الحديثة، وبوحدة الموضوع، والوحدة الفنية.

_ 1 انظر كتابي "عمود الشعر العربي" دار الحارثي بالطائف السعودية، ط. أولى 1402هـ، وفصلت القول في عمود الشعر دفعًا للتكرار.

وهذا المذهب الأدبي الجديد المحافظ، هو المنطلق لبناء مدرسة المجددين فيما بعد، وسنوضح هذه المذاهب ومدارسها كلًّا على حدة في مكانه إن شاء الله تعالى. أمَّا مذهب المحافظة على تقليد الفحول من الشعراء القدامى، فقد التزموا عمود الشعر العربي عندهم، مترَّسمين خطى جرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري، وابن المعتز وابن الرومي والمتنبي والمعري وغيرهم، ويمثل هذا المذهب الأدبي، ويشترك في هذه المدرسة الفنية شعراء كثيرون في جنوب المملكة. الشاعر الشيخ محمد سرور الصبان: ومن أشهر الشعراء الشاعر الشيخ محمد سرور الصبان، وُلِدَ في مدينة القنفذة، من قرى الجنوب "1316، 1392هـ"، وهو من أعلامها، ثم ذهب إلى مكة المكرمة وجدة ليتعلَّم في مدارسها حينئذ، وبعد أن أخذ قسطًا من التعليم المتواضع، عمل أستاذًا، ثم تاجرًا فموظفًا حكوميًّا، ثم وزيرًا للمالية والاقتصاد الوطني، وأخيرًا أمينًا عامًّا لرابطة العالم الإسلامي، ومن أشهر مؤلفاته: "أدب الحجاز" وكتاب "المعرض"، ومن شعره: القوم قومك والبنون بنوك ... والطامحون إلى العلا أهلوك إن جد الأمر يا سورية ... فهم الذين جنودهم تحميك وإذا الوغى قد صاح صائحها فلا ... تدعو الوغى إلَّا وقد جاءوك والعبقرية والحماسة والنهى ... صدق الذين بهنَّ وصفوك أدمشق يا بلد الكرام ومعقل الأبطال ... في يوم القنا المشبوك يا موطن الأحرار والسادات من ... أهل الوفا إذا دعا داعيك أنت الفريدة بالسماحة والندى ... بالفضل والعلياء قد عرفوك1 ويقول الصبان أيضًا: من لي بشعب نابه متيقظ ... ثبت الجنان وصادق العزمات من لي بشعب عالم متنور ... يسعى لهدم رذائل العادات من لي بشعب باسل متحمس ... حتى نقوم بأعظم النهضات من لي بشعب لا يكل ولا يني ... يسعى إلى العلياء بكل ثبات2.

_ 1 شعراء العصر الحديث: ص162. 2 أدب الحجاز: محمد سرور الصبان: 147 - مصر - عام 1985م.

ويخاطب وطنه فيقول: أنا لا أزال شقي حبـ ...

_ ك في كل واد زعم العوازل أنني ... أسلو وأجنح للرقاد كذبوا وحقك لست ... أقدر أن أعيش بلا فؤاد ولسوف أصبر للمصا ... ئب والكوارث والبعاد حتى أراك ممتعًا ... بالعزة ما بين البلاد1 موهبة شعرية صافية، وقريحة وقَّادة، تتجاوب مع أصداء الحياة والوطن، في معانٍ قوية، وأغراض حية، يسلكها في أسلوب قوي ناصع، وعبارات رشيقة محكمة، وديباجة مشرقة، ينساب الأسلوب عذبًا رقراقًا، غير متعثِّر في التقليد، وقيود الزخرف والزينة، فجاء شعره مطبوعًا قويًّا، اللهمَّ إلا في المقطوعة الأولى، حيث بدت العاطفة الشعرية فاترة غير جياشة، ولذلك كان الأسلوب قلقًا في مكانه، كما في البيت الأول والثالث، وقوله: والعبقرية والحماسة والنهى ... صدق الذين بهن وصفوك فهو ليس بشعر، وإنما هو من كلام عامة الناس، حينما يتناولونه في أحاديثهم العامية، ثم لا تجد انسجامًا في حرف الروي، بل قلق واضطراب. والصبان شاعر مقِلّ في شعره، لم يجعل الشعر هدفه في حياته، فكان يقول القصيدة أو القصيدتين، والمقطوعة بعد المقطوعة، لكثرة أعماله، واهتمامه بشتَّى المجالات، ولكنه كان يعطي جهده الأكبر في الدعوة إلى إعداد الوجه المشرق الأدبي السعودي، لا العلم والفكر وحدهما المقصوران على الخلافات في رأي بين المذاهب الفقهية أو الحقائق التاريخية، والأدب والشعر لهما دورهما الكبير في صون اللغة وإشراقها، وتهذيب الشاعر، وتنمية الحسّ اللغوي والذوق الأدبي، وكان هذا هو الهدف من تأليف أول كتاب في الأدب الحديث، وهو "أدب الحجاز" فقسمه الصبان إلى قسمان: قسم للشعر، وقسم للنثر الأدبي. والصبان يُعَدّ من الرواد في الأدب السعودي، وأوّل الداعين بالنهضة الأدبية، وتخليص الشعر من قيوده الثقيلة التي أذهبت قوته، وقطعت صلته بالشعر القوي في عصوره الذهبية، وحملت مقطوعاته الشعرية دعوة التجديد كما في المقطوعة الثانية هنا، فهو يحث إلى بناء أمة نابهة وشعب متيقظ وعالم متنور ومتحمس ليحقق أعظم النهضات، ويسمو إلى المجد والعلا، وكان في شعره القليل يمثل هذه النهضة الشعرية في العصر الحديث، فنجده أول من ينهض بالأدب، ويخلص الشعر من كبوته، ويجرده من أغلاله وأثقال الزينة، ويجدّد هدفه في تربية الأذواق،

ونهضة الأفكار وعمقها، وتقدُّم الأمة ورقيها، وظهر أثر دعوته وريادته في شعر الشعراء الرواد في المملكة العربية السعودية، مثل شعر محمد حسن عواد، فقد كان أصغر شاعر ذكره في كتابه "أدب الحجاز"، وغيره مما عاصر عواد1. الشاعر معيض بن علي بن محمد البختيان: وُلِدَ الشاعر في "تثليث" عام 1370هـ، وتدرج في مراحل التعليم متنقلًا بينها وبين أبها والرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود، ثم تقلَّب في وظائف مختلفة، وله "ديوانان" صدر منهما ديوان "الهجير" عام 1398هـ، أمَّا الديوان المخطوط فهو إلى سيدة القرية"، وله كتاب مخطوط بعنوان الشعر الملحون في لغة العرب"2، ومن ديوان شعره قصيدته "وعد" يقول فيها: ذات العيون السود والألق ... وغريرة الأحلام والحرق آفاقها كالماس صافية ... ونعيمها من ناعم الورق يزهى بها قدح تراشفه ... مزّ الهوى والعابس الومق وتجن إن ألقت غلالتها ... جن المحب المدنف الشفق يا ومضة منداحة الأفق ... والغيم في زاد من الشفق تدنى العشايا من نسائمها ... نفشا مدى الأعصاب والحدق هل تعذرين الصب سيدتي ... بأن ضاع والآهات في الطرق وانسلَّ منه الفرح وانصهرت ... أحلامه في عالم سحق أم لي إلى غلواء فاتنة ... سلت على تسبيحتي أرقى وعد أغني الغيد أفضله ... روح الأصيل العذب والفلق يترقرق في شعر البختيان رونق الأصالة الشعرية، وينبض بموهبة الشاعر الصافية، فالمعاني فيه واضحة، والألفاظ جزلة رشيقة، والأسلوب محكم مترابط، والصور الأدبية الجزئية على نمط الشعر العربي القديم، في خيال مشدود في روحه ومنهجه وأصالته إلى الخيال الشعري عند فحول الشعر العربي قديمًا، ولا تجد قلقًا في الوزن، ولا اضطرابًا في الإيقاع، اللهمَّ إلا عدم التلاؤم في حرف الرويّ مع الغرض من القصيدة؛ حيث يتناسب مع الغزل حرف رقيق كالسين أو النون أو الراء مثلًا، أما القاف فهو حرف ثقيل غير رقيق مع الحماسة، وجلبة الحروب، وقعقعة السلاح.

_ 1 أدب الحجاز: محمد سرور الصبان، انظر هذا الكتاب. 2 شعراء العصر الحديث: ص21.

ويعتصم البختيان بمذهب القدماء في منهج القصيدة العربية القديمة من الحفاظ على أركانها وعناصرها، وخصائصها الفنية التي تقيم عمود الشعر، وتطبق معالمه الفنية، ولذلك فهو من شعراء هذه المدرسة المحافظة على طريقة القدماء من غير تجديد في المعاني، ولا في الأغراض، ولا في التصوير الأدبي، وسأتناول بعده شعر آل الحفظي بالتفصيل والتوضيح لإبراز أغراضه الأدبية وخصائصها، وتصويره الأدبي وسماته الفنية اكتفاءً به عند التفصيل في شعر البختيان ومن معه في هذه المدرسة، لما يقوم عليه شعر آل الحفظي من الخصائص الفنية للمحافظين، التي تدل على تحقيقها في بقية الشعر لشعراء مدرستهم الأدبية، ولهذا خصصت فصلًا كاملًا بالتوضيح والتفصيل، وهو فضل: آل الحفظي.

الفصل الثالث: شعر آل الحفظي

الفصل الثالث: شعر آل الحفظي الشعراء: ومن أشهر شعراء آل الحفظي في ربوع عسير وجبالها ووديانها، وخاصة في حاضرة "رجال ألمع"، منهم الشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول "1145-1233هـ"، والشيخ إبراهيم الزمزمي الحفظي "1199-1257هـ"، والشيخ علي بن الحسين الحفظي "1217-1275هـ"، والشيخ عبد الخالق بن إبراهيم الحفظي "1221-1284هـ"، والشيخ أحمد الحفظي الثاني "1250-1317هـ"، والشيخ علي زين العابدين الحفظي "1305-1372 هـ"، وسواهم من شعراء مضوا مع الخالدين، وشعراء ما زالوا على قيد الحياة1. والتقى هؤلاء الشعراء في ديوانهم الذي نشر عام 1393هـ-1973م، فقد صدر الجزء الأول منه، على أن يتبعه الجزء الثاني بعد جمعه، كما أشار إلى ذلك محمد بن إبراهيم وعبد الرحمن بن إبراهيم من آل الحفظي في المقدمة، وقد حاولت التعرف على موعد صدور الجزء الثاني من ديوانهم، فعلمت أنه قد جمع والحمد لله، وتسلمه "نادي أبها الأدبي"، على أن يقوم بطبعه ونشره، وذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى، كما وعد بذلك النادي. والجزء الأول الذي تحت أيدينا يعطي الوجه الحقيقي للشعر عندهم، ومنهجه ومدرسته وأغراضه وخصائصه الفنية، بما يدل على شعرهم بصفة عامة، ولا زال حتى الآن منهم الشعراء في الجنوب الذين يسيرون على نهج آبائهم وأجدادهم، بحيث لا تفوتهم المناسبات الأدبية والوطنية في النوادي الأدبية والثقافية، وذلك مثل شاعرهم الأستاذ الحسن بن علي الحفظي مدير مدرسة حسن بن ثابت "برجال ألمع"، ومن شعره الذي ألقاه بمناسبة افتتاح نادي أبها الأدبي عام 1400هـ، التي تشارك بها تهامة السراة في احتضان ناديها، يقول: يد من الدولة الغراء بيضاء ... مدت إلينا فأبها اليوم فيحاء يد تشع على الآداب فانبثقت ... منها ينابيع ماء ما إن مسها داء يد من الخالد المثلي فضائله ... كثيرة ما لها عد وإحصاء ناد بأبها تراه اليوم مزدهرًا ... وخالد الفيصل المقدام بناء يرسي القواعد للنادي ويرفعها ... صرحًا مجيدًا وزان الصرح إنشاء

_ 1 نفحات من عسير: جمعه ونسقه محمد بن إبراهيم الحفظي، وعبد الرحمن بن إبراهيم الحفظي: عام 1393هـ/1973م مطابع عسير في أبها.

إلى قوله: تهامة وسراة الأزد في جدل ... تختال ألوية النادي وأضواء إني سأعزف أنغامي بقافيتي ... في نشوة يطرب الأسماع إصغاء أرسلتها من ذري العلياء في أفق ... سامي الجلال ووهج العلم وضاء1 الشعر في ميزان الرأي: أشاد بأدبهم وعلمهم كثير من الأدباء، نذكر منهم على سبيل المثال، الأديب الشيخ عبد الله بن علي حميد رئيس بلدية أبها سابقًا، قال مشيدًا بآل الحفظي، وبما جمعه الأستاذ محمد الهلالي من تراث ضخم لهم: لأولئك الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وضربت إليهم أكباد المطايا من كل حدب وصوب للاغتراف من مناهل العلوم الرقراقة ... ولما كانت أسرة آل الحفظي عريقة في شتى المعارف والعلوم، فإن التركة التي خلفها القوم حافلة بمؤلفاتهم العديدة ... بدليل أني اطلعت على ديوان ضخم عنوانه "الروض المرضي في ديوان آل الحفظي"، يضم بين دفتيه ما يدل على علو كعبهم، وتضلعهم في فنون العلم ... وغيرتهم على الدين، وحرصهم على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله، ومناصرتهم لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومؤازرتهم لآل سعود ... وبقي أن أحيل القارئ إلى هذه المجموعة من القصائد بهذه المقطوعة القصيرة: إذا كنت مشتاقًا إلى ورد منهل ... يبل الصدى في سبسب قلَّ رائده فدونك حوض من نمير مسلسل ... كأن رحيق النحل يمزج رافده شتيت تنقاها الهلالي لنظمها ... بعقد تزين النحر منها قلائده ليحيي آثار قوم تقدموا ... قد اقتنصوا لكل فرد شوارده وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا ... وكم أسندوا حقا بحق يسانده فأرسلوا منار الدين من بعد فترة ... وضاءت بهم سبل الهدى ومقاصده2 ويشيد بشعرهم الشاعر نديم الرافعي فيقول: ديوان شعر قد بدا للنور ... فزهت بطلعته ربوع عسير يروي لنا أمجاد آحاد الوغي ... لم يرو مجد العرب كل خبير نسج اليراع لآل مقرن بردة ... بيضاء رمز قداسة التقدير فغدت على الأيام حلة رفعة ... ومعزة وكرامة وسرور صانوا المآثر والمفاخر للألي ... صانوا البلاد بشرعة الدستور تهدي عيون الشعر وهي قلائد ... في مدح كل معظم مشهور

_ 1 كلمات وقصائد: نادي أبها الأدبي 1400هـ مطابع عسير ص 35/ 38. 2 نفحات من عسير: ص14، 15.

في مدح بيت المجد بيت مليكنا ... يعتز بالتهليل والتكبير صاغته من درر البحور قرائح ... تضفي على الأبرار فيض شعور إلهامها القرآن مصباح الهدى ... والوحي صدق القول في التبشير ما مات من بالوعظ خلد دعوة ... خفاقة كالبدر في الديجور1 خصائص شعرهم المحافظ: آل الحفظي لهم ديوان كامل صدر منه الجزء الأول بعنوان "نفحات من عسير" جمعه المرحوم محمد إبراهيم زين العابدين الحفظي، ونسقه للطبع عبد الرحمن بن إبراهيم زين العابدين الحفظي عام 1393هـ/1973م، وسنعرض بعض شعرهم لنقف على الخصائص الفنية لمدرسة المحافظين في الجنوب. يقول الشيخ أحمد الحفظي الأول في قصيدته "أئمة حق"، وهي تربو على ثمانين بيتًا، ومطلعها: على العارض النجدي أهدي سلاميا ... وأذكى تحياتي لتلك الروابيا سلام على أعلامها وآكامها ... سلام على حضارها والبواديا سقاها الحيا المحي ورعيا لحيها ... وحيًّا محيًّا وسعدًا لثاويا سلام على الشيخ الإمام "محمد" ... وصبت على مثواه سحب هواميا سلام على عبد العزيز وأصله ... فإنهما كانا وكانا مواسيا فقام وقاموا واستقام بحجة ... بحجة قرآن وضرب المواضيا ولا سيما عبد العزيز فإنه ... هو القائم الفاروق بالعدل قاضيا حمى بيضة الإسلام بالبيض والقنا ... وأجرى إلى برك الغماد العواديا وما زال في بعث الجيوش مجاهدا ... وفي شن غارات وتجهيز غازيا بنفس وأولاد وأهل وإخوة ... وكل نفيس والأسود الضواريا وأنفق في ذات الإله شبابه ... وشيبته داع وراع وساعيا2 فالموهبة الشعرية أصيلة في نفس الشاعر، يسيل الشعر منها دفاقًا بلا كلفة أو تعمل، فكانت العاطفة في هذه القصيدة صادقة، مشبوبة، يدفعها الاخلاص والحب لهؤلاء الأئمة المخلصين العادلين في حكم الرعية، صبها الشاعر في ألفاظ قوية جزلة، وأسلوب ناصع مشرق، وصور أدبية، تفيض حيوية ودقة، وموسيقى شعرية منسابة مع المعنى والغرض، وقافية يلتزمها الشاعر حتى نهاية القصيدة، يلتزم فيها الشاعر بعمود الشعر العربي، لكن القصيدة هنا تتميز بوحدة الموضوع والغرض، بلا تعدد ولا مزاوجة.

_ 1 المرجع السابق: ص16. 2 نفحات من عسير: ص28.

ولا تخلو القصيدة من ميل إلى تكلف البديع نادرًا، وإلى الزخرف بقدر لا بإفراط، مثل البيت الثالث، وكذلك قوله: "فقام وقاموا واستقاموا بحجة - بحجة قرآن"، والبيت الأخير في شبابه وشيبته، وداع وراع، ويقول الشيخ محمد أحمد الحفظي في قصيدته "دين الله باق" ومطلعها: بدا الخير العظيم وقد تجلى ... لنا نور الهدى والشر ولى وصار الناس إخوانًا جهارًا ... وولى الله كلًّا ما تولى ودين الله باق في ظهور ... له كل العلو وليس يُعلَى فعض عليه واستمسك بخير ... وشد إليه راحلة ورحلا وقول إلهنا غض طري ... جديد ليس يخلق ذا ويبلى مكين في الصدور له بيان ... كذاك بألسن القراء يتلى وهذه السنة الغراء فيها ... بيان وهي بين الناس تملى وقد روت الصحابة كل عدل ... بلا علل لما علا وأملى وما قرن من الأعوام إلا ... وفيه مجدد كثيرًا وقلا وفي هذا الزمان بلا خفاء ... بدا تجديدها فرعًا وأصلا من الشيخ الإمام أبي حسين ... محمد الذي للحق جلى وآزره الإمام أبو سعود ... وسلسل مسند والسيف سلا1 وهكذا إلى نهاية القصيدة، في قوة شاعرية، وسلامة في التعبير، وروعة في التصوير، وسيولة في الألفاظ والتراكيب، بلا تعمل أو تكلف، مع شرف الغرض، وسمو الهدف، ونبل الغاية، ووحدة الموضوع في القصيدة من أول بيت فيها إلى نهايتها، وتلاؤم في التصوير الأدبي بين المعاني والأفكار وبين الألفاظ والأساليب والصور الخيالية، وانسجام بين العاطفة الدينية القوية وبين صورها في القصيدة مستخدما وسائل التعبير التي تتناسب مع الغرض الديني من القصيدة، وهذه الخصائص الفنية تسير على منهج المحافظين وطريقتهم الفنية. وهذا الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي ولد في بلدة "رجال ألمع" في 16/ 5/ 1178هـ، وتلقى علومه على يد أبيه، ثم رحل إلى المخلاف السليماني في سبيل العلم، ثم إلى اليمن ليكمل علومه، ثم إلى حضرموت، ثم إلى بلدته، وكان يحارب ببسالة مع الجيش السعودي، ثم عين نائبًا للقضاء، ثم قاضيًا في عسير، وله "الألفية الحفظية" و"درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين"، و "النفحات العنبرية في الخطب المنبرية"

_ 1 المرجع السابق: ص99.

"ذوق الطلاب في علم الإعراب" وغيرها. وتوفي في "رجال ألمع" يوم الاثنين غرة ربيع الثاني عام 1237هـ -رحمه الله تعالى1. ويقول الشيخ أحمد الفظي الثاني، يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في قصيدته "الشرع ينادي". الشرع نادى ملوك الأرض بل طلبا ... حكمًا صحيحًا يزيل الشك والريبا وقدم العرض لكن ما استجيب له ... وحقه في ملوك الأرض قد وجبا نادى بصوت بليغ للعباد معًا ... إني جعلت لأغراض الدنا سببا وها أنا طالب منهم محاكمتي ... فصورتي قد بقيت والجسم قد ركبا والناس في غفلة عني وقد شغلوا ... من الحطام بما يكفيهم نصبا والله ما سكنوا عني ولا غفلوا ... إلا لأغراض دنيا تجلب العطبا كل يريد من الحكام مقربة ... ويطلب العز والأموال والرتبا إن تنصروني فإن الله ناصركم ... أو تخذلوني رأيتم كلكم تببا أنا الذي أسس الرحمن بنيته ... وشيد المصطفى أمري بكل نبا أنا الذي قد بناني المصطفى علمًا ... ركنًا منيعًا وأعلى مني القببا وأنتم تهدموني بعده علنًا ... يا صنيعة العمر لما صرت مغتربا2 وخصوبة الخيال في القصيدة بثت الحياة في القيم الإسلامية، وحركت المعاني السامية المجردة، وأقام الشاعر منها شخصًا يناجي أمته وقومه ويعرض صفاته وأخلاقه ومبادئه وتشريعه عليهم ويحثهم على التمسك به والتعلق بأهدابه، والعمل على نصرته ومؤازرته وعدم خذلانه، وكيف تخذلونه والرحمن هو الذي وضع أساسه، والمصطفى شيد بنيانه، فأصبحت ركنًا منيعًا. هنا تشخيص حي متحرك للقيم والمعاني المجردة منح المعاني والمجردات حيوية وقوة تركت أثرًا واضحًا في التصوير الأدبي، الذي يهز العواطف، ويحرك الشاعر بالحب للشريعة الإسلامية والتعاطف معها في سبيل نصرة دين الله، وتطبيق شريعته الغراء، وفي هذا دلالة واضحة على موهبة الشاعر الفذة وقدرته على التصوير الأدبي، وهو يترسَّم خطى مدرسة المحافظين. الأغراض الأدبية في شعرهم: يضم ديوان آل الحفظي "نفحات من عسير" أغراضًا شعرية كثيرة على نمط الشعر

_ 1 المرجع السابق: ص44، 45. 2 نفحات من عسير: ص105.

العربي الذي كان في الدولة الأموية، والدولة العباسية من أغراض اشتهرت في شعرهم. وعنوان القصيدة عندهم لا ينص صراحة على الغرض منها، ولذلك فإني سأقف على الغرض منها من خلال مضمونها، وما تدل عليه الأبيات والمعاني؛ لأن شاعرهم لم يحدد الغرض منها في الديوان، ولكن وضع لها عنوانًا وموضوعًا يوهم الغرض أحيانًا، ولا يوهم حينًا آخر، ولذلك قمت بتصنيف الديوان إلى الأغراض الأدبية التي اشتهرت قديمًا في شعرنا العربي الأصيل. أولًا: المدح وخصائصه وهو أكثر الأغراض الأدبية في شعر آل الحفظي، وكان المدح في قصيدة "أئمة حق ص28"، وقصيدة "تهنئة بالفتح ص63"، وقصيدة "ود إخلاص ص65"، وقصيدة "أمصباح مشكاة ص66"، وقصيدة "شهدت شواهد ص74"، وقصيدة "تداعت دواعينا ص78"، وقصيدة "من النعم العظمى ص81"، وقصيدة "زبدة الأقوال ص85"، وقصيدة "من تبع الإخوة؟ ص120"، وقصيدة "تهنئة بالفتح ... ونصيحة ... وحكم ص112"، وقصيدة "هزائم جيش عباس بن طوسون في عسير ص126"، وقصيدة "تهنئة بالنصر ص135". وكذلك قصيدة "جبل الفخر ص188"، وقصيدة "عبد العزيز المفدي ص206"، وقصيدة "تهنئة ص209"، وقصيدة "ما كل بيضاء شحمة ص211"1. ومن قصائد المدح السابقة قصيدة للشيخ إبراهيم الزمزمي بن أحمد الحفظي، الذي ولد في 22/ 3/ 1199هـ ببلدة طرجال ألمع"، ثم درس في "أبي عريش" على شيخه أحمد عبد الله الضمدي حتى أجازه، ثم رحل إلى اليمن ليأخذ عن علماء بني الأهدل ... وله مؤلفات في الزهد والنحو، منها كتاب "عبق الجلاب"، وكتاب "قيد الشوارد"، وله رسائل وشعر كثير، وقد ترجم له تلميذه القاضي العلامة الحسن بن أحمد عاكش في كتابه "حدائق الزهر"2. وهذه القصيدة هي "تهنئة فتح ... ونصيحة.... وحكم" قال الزمزمي بمناسبة تغلب الأمير سعيد بن مسلط بمن معه من قبائل عسير، ومنهم "رجال ألمع" على الترك، وإخراجهم من "طبب" سنة 1238هـ في عهد الإمام تركي بن عبد العزيز مهنئًا ومناصحًا، قال: ألا إني أهني للأمير ... بنصر الله والفتح الشهير

_ 1 نفحات من عسير. 2 المرجع السابق: ص115، 116.

وذاك عليه بل وعلى من ... جسيم حقه شكر الشكور فلله الثنا وله سألنا ... دوام الشكر في كل العصور فإن الشكر للموجود قيد ... وصيد أوابد النعم النفور إلى قوله: ألا فتيقظوا يا ناس مهما ... بقت مندوحة في ذي الدهور وبالماضيين فاعتبروا تفوزوا ... فيا سعدًا لأرباب العبور وعينكم الأمير حباه ربي ... وعوفي في الحياة وفي المصير سعيد طابق الاسم المسمى ... وشاهد ذا الفتوح مع النصور عليك تحية تغشاه مني ... دوامًا بالأصائل والبكور1 وتقوم هذه القصيدة على غرض واحد يجمع فيها الشاعر الصفات الكريمة للممدوح، والشمائل الفاضلة، وكريم الأخلاق، وما حققه من نصر مؤزَّر، وتنبع هذه الصفات من روح الشريعة الإسلامية وأخلاقها، مما يدل على تدين الشاعر وحسن أخلاقه. ولم تتجرد القصيدة من فلتات لا تتناسب مع لغة الشعر الشاعرة كالأسلوب السهل القريب، الذي قد ينزل أحيانًا إلى مستوى الكلام العادي بين الناس في حياتهم اليومية، مثل "الفتح الشهير" و"شكر الشكور" و"يا ناس"، بل قد يجره القرب والتداول في التعبير إلى الوقوع في خطأ مثل قوله: "بقت" فحذف لام الكلمة بلا داع للحذف، مع أن الفعل لحقت به تاء التأنيث الساكنة، ولا تحذف معها اللام، والصواب "بقيت مندوحة" وهذا مما يستعمله العامة خطأ، وأن الشاعر اضطره الوزن إلى هذا الخطأ، وكلاهما غير محمود ويؤخذ عليه. وكذلك الشيخ علي بن الحسين الحفظي ولد ببلدة "رجال ألمع" وعاش ما بين عامي "1217 - 1275هـ"، وفي سبيل طلب تنقل الشيخ بين البلدان، فغادر وطنه إلى المراوغة باليمن، قضى بها سبع سنوات ثم عاد ليتولى منصب القضاء في عهد الأمير عائض بن مرعي، واشترك معه في الحروب، وله شعر جزل في المراسلات2. ومن قصائده في المدح قصيدته بعنوان "هزائم جيش عباس بن طوسون في عسير" أنشدها الشاعر في عهد الإمام فيصل بن تركي حين غزت عسيرًا جحافل الترك القادمة من مصر في أيام عباس الأول بن طوسون سنة 1268هـ، وهاجمت الكثير من البلاد: سراة وتهامة، فهب أشداء العزم والبأس، أقوياء الشكيمة الأباة أهل الأقليم جميعًا، بقيادة الأمير.

_ 1 المرجع السابق: ص122، 124. 2 نفحات من عسير: ص125.

عائض بن مرعي لصد الجيوش المعتدية، حتى هزموهم شر هزيمة في عدة وقائع بأماكن كثيرة، وبمناسبة هذا الظفر قال علي بن الحسين هذه القصيدة في عام 1269هـ، ومطلعها: أيا "أم عبد مالك"1 والتشرد ... ومسراك بالليل البهيم لتبعد ومأواك أوصاد الكهوف توحشًا ... ومثواك أفياء النصوب وغرغد2 فقالت رويدًا يا أبا عبد إنما ... أضاق بنا ذرعًا شديد التوعد عرمرم جيش سيق من مصر معنفًا ... يهتك أستار النساء ويعتدي ويسبي ذراري الأكرمين جهارة ... وينظم سادات الرجال بمقلد فقلت لها من دونكن ودونهم ... ضروب حماة بالحديد المهند وضرب يزيل الهام عام ربت به ... ويظهر مكنونات أجواف أكبد قفي وانظري يا أم معبد معاركا ... يشيب لها الوالدان من كل أمرد وفيها ليوث الأسد من كل شيعة ... ياصلون نار الحرب حزنا لمفسد وفيها رئيس عائض حول وجهه ... حياض المنايا أصدرت كل مورد إلى قوله: وأشرف على واد اليمامة3 قائلًا ... ودمعك سفاحًا على الخد والثدي سلام على عبد العزيز وشيخه ... وتابع رشد للإمام المجدد دعا الناس دهرًا للهدى فأجابه ... فئام فمنهم عالمون ومقتدي وقفاهما حذوا سعود بسيفه ... مميز مجرد النقود من الردي وعرج بها ذات اليمين وقد هوت ... على عرصات للرياض بمقصد ونادى بأعلى الصوت بشرى "ليفصل" ... وفي نسل سادات الملوك مسدد4 وقصائد المدح عند آلي الحفظي تقوم على غرض واحد غالبًا إلَّا نادرًا، فلا تتجاوز أغراضًا أخرى غير المدح إلا في قصيدة علي بن الحسين؛ حيث ابتدأها بحوار دار بين أبي عبد وأم عبد، وإن كان سبب الحوار هو تلك المعركة التي انتصر فيها الجيش السعودي على المغيرين ثم تسلل الشاعر إلى مدح الجيش، وما حققه من نصر مؤزر في ظل رعاية الإمام تركي بن فيصل.

_ 1 هي أم عبد الله بن مسعود من غافل الهذلي، وقد جرت عادة الأقدمين من شعراء العرب تصدير القصيدة بالحوار مع أم معبد وأم عبد في المناسبات، وسار الشاعر على هذا الحذو. 2 غرغد: شجر العوسج. 3 وادي اليمامة جبل يمتد بين الربع الخالي حتى سدير في الجنوب. 4 نفحات من عسير: 126، 129.

ومثلها أيضًا هذه القصيدة التي سارت على منهج القدماء في المدح، فتصدرت بغرض آخر مع المدح، قصيدة "رياض الأنس" للشيخ إبراهيم الزمزمي، فقد استهلَّها الشاعر بمشهد من مشاهد الطبيعة الساحرة، ثم انتقل إلى مدح الإمام سعود الكبير وتهنئته حين دخل مكة فاتحًا سنة 1218هـ، قال في المطلع: رياض الأنس مزهرة توالي ... بها قطف دنى ما إن تعالى وماء المأذنيات اللواتي ... تحاكى البحر لم تبق انتحالا وفي ملد الغصون سمعت لحنًا ... لطير السعد إذ ثنى المقالا فأطربني غناه وليس بدعًا ... ولو نظمت في السمط الثقالا وإني لا وقد أوفى علينا ... بشير للكآبة قد أزالا بمقدم صدر أرباب المعالي ... حليف المجد من في الله والى ومن في حلبة العلياء جلَّى ... وصلى فاسألن عنه الرجالا "محمد" الذي حاز المعالي ... بوقت أهله عنها كسالى ثم يتسلل من "محمد" صلى الله عليه وسلم، الذي أقام الهدى بمكة المكرمة إلى مجيء الإمام سعود إليها؛ ليعيد إليها المجد كما كانت من قبل، فيقول: فلما جاء من نجد "سعود" ... تواروا لم يطيقوه نزالا وأضحى الدين في طرب وعز ... يغيض قلوب من يهوى الضلالا1 وهكذا يسير في المدح إلى آخر القصيدة. أما بقية القصائد في هذا الغرض فقد خلصت للمدح من المطلع حتى نهاية القصيدة، كما وضح ذلك من القصيدتين السالفتين. التزم شعراء آل الحفظي في مدحهم المنهج القديم في شعر الفحول الذي يقوم على عمود الشعر العربي، وعلى تصوير الخصال المألوفة في المدح من الشيم المعروفة عند الشعراء القدامى كالشجاعة والنجدة والقوة، وشدة البأس والضرر المؤزر، والذود عن الشرف والكرامة والعرض، ثم تصوير أخلاق الإسلام، التي حفزت الرجال على النصر والدفاع عن أرضهم، والذود عن نسائهم وأولادهم، ورد كيد المعتدى. ثم مدح أئمة البلاد، فهم أئمة حق، نصروا الدين وآزروه، وثبتوا دعائمه في ربوع البلاد بالحق والعدل والمساواة.

_ 1 نفحات من عسير: ص وما بعدها.

ويستعين الشاعر في هذا الغرض بالصور الخيالية المتعارف عليها في شعر المدح عند القدماء؛ ليحافظ على منهج القدامى في التصوير الأدبي، وذلك مثل هذه الصورة من قصيدة "أئمة حق". حمى بيضة الإسلام بالبيض والقنا ... وأجرى إلى برك الغماد العواديا وكذلك التصوير عند الزمزمي من خيال قديم معروف، يقول: فإن الشكر للموجود قيد ... وصيد أوابد النعم النفور ثم الصور الخيالية في القصيدة الأخيرة، مثل "الليل البهيم"، "عرمرم جيش" و"يهتك أستار النساء"، و"وضرب يزيل الهام" و"يشيب لها الوالدان من كل أمرد"، وغير ذلك مما لم نذكره في ديوانهم الكبير الذي يسير على هذا النمط القديم في التصوير الأدبي. ثانيًا: الشعر الإسلامي وهو أكثر الأغراض الأدبية بعد المدح، ويشتمل على قصائد كثيرة أهمها للشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي، وهي "عصائب في نجد ص46"، وقصيدة "تألق برق الحق ص51"، وقصيدة "إن النجائب ص54"، وقصيدة "ودين الله باق ص99"، وقصيدة "الحج والحجاج ص104"، وقصيدة "في الصلح بين متحاربين ص107"، وقصيدة "جاءت الساعة في أشراطها ص109". أما عبد الخالق الحفظي فله قصيدة "ماذا بعد الممات؟ ص139"، وأما قصائد الشيخ أحمد الحفظي الثاني هي: "في وصف طه ص145"، وقصيدة "أسماء سور القرآن الكريم ص148"، وقصيدة "الشرع ينادي ص150"، وقصيدة "الله أكبر ص186"، وقصيدة "آخر سطر من عبس ص190". وللشاعر الشيخ إبراهيم زين العابدين الحفظي قصيدة "عمرة المسجد ص212"، والشاعر عبد الخالق بن إبراهيم بن أحمد الحفظي الأول ولد عام 1221هـ في بلدة "رجال ألمع"، ثم تعلم على يد والده، ليرحل إلى "أبي عريش" فيتزود بالعلم على يد علماء آل عاكش، وتولى منصب القضاء في عسير، وبعد عودته من الحج توفى أثناء الطريق بالقنفذة عام 1284هـ -رحمه الله تعالى1. وله قصيدة "ماذا بعد الممات؟ " يصور فيها ما يلاقيه الإنسان بعد الموت من أهوال القبر، ويستعرض آلامه وأحزانه، فتفيض القصيدة بالشكوى والألم، ويخيم عليها مسحة الخوف من الله -عز وجل- الذي يرجو منه المغفرة والرحمة.

_ 1 نفحات من عسير: ص134.

ذكر الممات طوال الليل أرقني ... والخوف أزعجني والكرب آلمني وعاذلي لم يزل جدًّا يؤنبني ... دع عنك عذلك لي يا من يعاذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني إلى قوله: ماذا ألوذ به في كشف مكربتي ... وأستجير به من كل معضلة؟ سواك يا من له ذلي ومسألتي ... وقد ترى يا إله الخلق مسألتي فجد عليَّ فليس الخلق ينفعني واغفر لي الذنب واصفح عن خطا زللي ... واستر على بستر مسبل عجل وبدل السوء بالإحسان في العمل ... وامنن على بعفو منك يا أملي وجد على مذنب بالذنب مرتهن فليس للعبد من يعفو برحمته ... ومن يجيب المضطر برأفته؟ سواك يا سامع الشاكي لفاقته ... ثم الصلاة على الهادي وعترته والصحب ما غرد القمري على فنن1 وهي طويلة اكتفيت بمطلعها ونهايتها، وتبنى في قالبها الموسيقى على نظام المخمسات، فتمثل كل مقطوعة خمس شطرات، يتفق حرف الروي في الأربع من كل مقطوعة، ويتفق في الشطرة الخامسة في جميع المقطوعات حتى نهاية القصيدة، وفي هذا القالب تنوع في الإيقاع والموسيقى، وتطور في نظام الموشحات الأندلسية، مع الاحتفاظ بالبحر العروضي في القصيدة كلها. سيطرت الحقيقة على القصيدة في التصوير الأدبي بما يتناسب مع الغرض وهو الشعر الإسلامي، أما الصور الخيالية فلا تهز النفس ولا تحرك المشاعر، فهي كتل جامدة، وصور تقليدية مجردة من الحيوية، وعلى سبيل المثال قوله: "الخوف أزعجني والكرب آلمني" فلا نشعر بحيوية الخيال والمشاعر الفياضة، وغاية الخيال تظهر حينما تجري الاستعارة بالكناية فتقول: شبه الخوف بإنسان مزعج، والكرب بإنسان مؤلم، ثم حذف المشبه به، وبقيت صفة من صفاته، وهي الإزعاج والألم على سبيل الاستعارة بالكناية، وليس هذا في خيال شعر يصلح للتصوير الأدبي، بل الصورة هنا إلى الحقيقة أقرب. ولا يغض هذا من قدر الشاعر، وإنما قد يرفعه، وقد يسمو به؛ لأن الغرض الذي ينظمه الشاعر هو شعر إسلامي، يقوم في مضمونه على الحقائق التي لا يشتط بها الخيال، ويعتمد

_ 1 وهي قصيدة طويلة تفردت وحدها من بين الديوان بهذا القالب الموسيقي، نفحات من عسير: ص139، 142.

على التصوير القريب بلا مبالغة أو غلوٍّ أو إفراط، والمقصود من الخيال وصوره في غير حقائق الإسلام أن يحقق في السامع التأثير والإقناع، والحقائق الإسلامية في ذاتها تحتوي في مضمونها على التأثير باعتبارها حقائق مذهلة لا يقدر عليها البشر، ويسلم بها الإنسان لقوتها في الحجة والإقناع، فلا يحتاج كثيرًا إلى الخيال الذي يعتمد على الاتجاه البعيد في الأضواء والظلال والإشعاع. هذه الخصائص الفنية في الألفاظ والأساليب والحقيقة والخيال وصورهما والموسيقى والإيقاع هي من خصائص المذهب الأدبي لمدرسة المحافظين، الذين اتبعوا مذهب القصيدة القديمة وخصائصها، لكن من خلال شاعرية الشاعر، وبموهبته الأصيلة، من غير تقليد أعمى، يسوده الجمود والتحجر، ويتسم بالمحاكاة المجردة من الموهبة الشعرية، كالشأن عند المقلدين من شعراء التقليد لا المحافظين. ويسير على هذا المنهج الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي في هذا الغرض مثل قصيدته "تألق برق الحق"، ومطلعها: تألق برق الحق في العارض النجدي ... فعم حياة الكون في الغور والنجد وأورقات الأشجار وانتهضت بها ... يوانع أنواع من الثمر الرغد دعانا إلى الإسلام دين إلهنا ... وتوحيده بالقول والفعل والقصد هدانا به بعد الضلالة والعمى ... وأنقذنا بعد الغواية بالرشد حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا ... وأمكننا من كل طاغ ومعتد وأيدنا بالنصر واتسعت لنا ... ممالك من كل طاغ ومعتد فنسأله إتمام نعمته بأن ... يثبتنا عند المصادر كالورد1 ثالثًا: في الرسائل والإخوانيات الشعرية ويأتي هذا الغرض الأدبي عند شعراء الحفظي في المرتبة الثالثة، ويضم قصائد كثيرة، من أهمها ما ينسب إلى الشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول، وهي قصيدة "والورد أهدى ص35" كتبها إلى صديقه السيد أحمد إبراهيم الأخرس، وقصيدة "وميض البرق ص36"، كتبها إلى ابنه محمد وهو مقيم بالقنفذة، وأجابه عليها بقصيدة "الشمس أشرقت ص37"، ومن قصائد الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي كذلك "لك الحمد مولى الحمد ص56"، كتبها إلى أمام اليمن "المنصور علي" يدعوه لمناصرة أئمة الحق في نجد، وقصيدة "أغراض الدعوة ص58"، كتبها إلى المخلاف السليماني بأبي عريش في منطقة جيزان إلى الشريف علي بن حيدر، وقاضيه.

_ 1 نفحات من عسير: ص51، 52.

عبد الرحمن الهيكلي، وعلماء تلك المنطقة، يدعوهم إلى استجابة الدعوة في نجد، وقصيدة "حدا صيت الألحان ص111"، وكتبها عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الحفظي ردًّا على قصيدة "سري بارق الأشواق"، التي كتبها قاضي مكة المكرمة الشيخ عبد الله سراج بن عبد الرحمن وبعثها إلى الشيخ محمد أحمد الحفظي، ولكنها وصلت بعد وفاته، فردَّ عليه ابنه عبد الرحمن بالقصيدة السابقة فقال: حدا صيت الألحان فاحتد بي قصدي ... وغنى جلا ترجيعه شجن البعد وذكرني عهدًا عفا حق وصله ... وقد كان بالآباء في طلعة السعد وكانت ردًّا على قصيدة "سري بارق الأشواق" ومطلعها: سري بارق الأشواق فاشتد بي وجدي ... وذكرني مسراه عرب الحمى النجدي وأقلقني وادي رجال وشاقني ... عبير شذي منه يفوق على الند وجاء في هذا الغرض أيضًا قصيدة "أيها البيت ص189" للشيخ عبد الخالق، خاطب بها ابنه أحمد الحفظي الثاني. وأما الشاعر الشيخ علي بن زين العابدين الحفظي فقد ولد في بلدة "رجال ألمع"، وتلقى علومه على يد والده وأعمامه، ثم رحل إلى المراوعة بوادي سهام اليمنية ليتزود بالعلم، فقضى بها خمس سنوات تتلمذ فيها على يد علماء الأهدل، ثم سافر إلى جزيرة جاوة فأقام بها سنوات، ثم عاد إلى بلده ليتولى القضاء، وله مؤلفات في الفقه والنحو والشعر، ومات وعمره خمسة وستون عامًا1، وله قصيدة "دموع وأشواق" بعث بها إلى عمه وشيخه الأول يقول فيها: هب النسيم فقلبي كاد ينفطر ... والدمع يجري على الخدين منحدر شوقًا إلى اليمن الميمون مسكننا ... من في "رجال" لنا الأسلاف قد عمروا أيضًا وذكرني عهدًا لإخوتنا ... فهم جناني كذا السمع والبصر مقدم الذكر شيخي قدوتي "حسن"2 ... نجل الوجيه به الأيام تزدهر علامة شرف الإسلام مجتهد ... مدرس فضله في القطر مشتهر يحيى النواوي فقها فهو "تحفتنا" ... "ومنهاجنا" وكذا "الأنوار" لا نكر مصباحنا "حسن" أيضًا "نهايتنا" ... "إرشادنا" من به الأزمان تفتخر3

_ 1 نفحات من عسير: ص192. 2 هو ابن عبد الرحمن محمد الحفظي 3 نفحات من عسير: ص193، ما بين الأقواس أسماء لبعض كتب الشافعية.

وتمضي القصيدة على هذا النحو حتى نهايتها من التكلف والتصنع الذي يظهر في أسماء بعض كتب الفقه للمذهب الشافعي، ليسلكها في نظم الأبيات قسرًا، كما تسود طريقة التعبير في النثر على القصيدة لا طريقة الشعر فيها، مما كان لها أثر على الألفاظ الأخرى في الأبيات، فنشعر أن في الأسلوب قلقًا واضطرابًا، كما في قول الشاعر: "مقدم الذكر شيخي قدوتي [حسن] ". والمصطلحات العلمية واللغوية هي آفة الشعر، تذهب برونقه، وتطفئ ديباجته المشرقة، وتجمد حيويته النابضة، كما في قوله: "علامة- شرف الإسلام- مجتها- مدرس ... إلخ البيت"، فهذه المصطلحات "علامة - ومجتهد- ومدرس" أفسدت الشعر وجعلته نثرا أدبيا، وكذلك الأمر في أسماء الكتب، التي أصر على ذكرها وهي: "النواوي - التحفة - الأنوار - الحسن - الإرشاد" وغيرها، أخمدت حرارة المشاعر وثورة الانفعال، وتعثرت العاطفة، فتصلبت الأبيات في جمود وتحجر، وفتور وضعف في المشاعر. وهذا يدل على أن شعر آل الحفظي في ديوانهم لا يخلو من هنات العصر، من التكلف والتصنع، وإن كان قليلا بالنسبة لحسنات شعرهم بصفة عامة، وليس هذا عيبا يؤخذ عليهم، فهو أمر واقع حيث كانوا يمثلون بشعرهم مرحلة تاريخية، لا بدَّ منها في تطور الشعر السعودي في الجنوب، لينهض الشعر بعدها في المرحلة المتطورة التالية، التي سنراها في تطور المذاهب الأدبية الحديثة من بعدهم. رابعا: الشعر الوطني الشيخ أحمد بن عبد الخالق بن إبراهيم بن أحمد الحفظي الأول، ويطلق عليه أحمد الثاني، ولد بقرية عثالف مستوطن أبيه، ثم سافر إلى "أبي عريش" ليتلقى العلم على مشايخه من آل عاكش، ثم عاد إلى بلده لكي يساعد والده في القضاء والإفتاء، حتى قبض عليه الأتراك مع صحبه، وأرسلوه إلى استانبول لمدة ست سنوات، حتى عاد سنة 1293هـ، ولكنه ظل يدعو إلى الوحدة الإسلامية، فاعتقلوا ابنه عبد القادر تنكيلا بوالده، لكنهم أفرجوا عنه بعد ذلك، وظل الشيخ أحمد في عثالف احدى قري وادي حلى برجال ألمع حتى مات سنة 1317هـ عن 67 عامًا، ومن مؤلفاته: "فتح المنال" في تفسير القرآن الكريم، وله رسائل في الفقه والأدب، أما شعره فهو كثير، كتب فيه بضعة أجزاء تحتاج إلى النشر1. والشعر الوطني يكاد يكون مقصورًا على الشيخ أحمد الحفظي الثاني المترجم له سابقًا،

_ 1 نفحات من عسير: ص156.

ومن أهم قصائده في هذا الغرض الأدبي قصيدة "ذكرى وعتاب ص158" كتبها وهو بالمعتقل إلى بلده وأهله، وقصيدة "لوعة وعتاب ص161" في الحنين إلى وطنه وقومه الأشاوس، وقصيدة "الدهر والناس ص163" يتذمَّر فيها من الحكام العثمانيين الذين ذاق بهم مرارة الاعتقال وعذاب الوحشة والعزلة، وقصيدة "بين الماضي والحاضر ص164" يحنُّ فيها إلى الماضي ذي العزة والفخار، ويئنُّ في الحاضر من مرارة العيش بعد النعيم، وقسوة الأيام بعد الرخاء، وقصيدة "محاكمة ص 166" وفيها محاكمة وحوار يشف عن ظلم العثمانيين له ولأصحابه، وقصيدة "ذكريات ص169" يتذكر فيها حالته حينما كان عزيز الجانب في الماضي، وحالته من الأسر في الحاضر، وقصيدة "خماسيات ص176- 185"، وكتبها بعد الانتصار في حرب البلقان إلى قومه ابتهاجًا بعودته إلى وطنه، وسار على نظام تغيير القافية في الموشحات، وقصيدة "خواطر من أرض الروم"، وأرسلها مع علي بن طامي شعيب، حين أطلق سراحه إلى بني عمومته ليعبر فيها عن حنينه إلى وطنه يقول فيها: خطرت ومنت في لذيذ وصالها ... فدهشت بين حديثها وجمالها شمس تبدت من سماء فضائل ... وتزينت ببهائها وكمالها درية نورية عربية ... فاقت ببهجتها على أمثالها ترمي بنبل من قسى حواجب ... عمدًا فلم تخطيء برمى نبالها قد أودع السحر الحلال بلفظها ... ولحاظها فالسحر من أكحالها لو أسفرت في الجاهلية مرة ... عن حسنها سجدوا لعذب مقالها برزت من العلياء تنشر عرفها ... كالعطر بين نسائها ورجالها ورمت لنا طيب الحديث بلطفها ... فشفت غليل الشوق من سلسالها ما زلت أذكرها وأذكر حالها ... حتى أتى ما صد عن أحوالها مما جرى في حال أسر شائع ... أنسى لنفوس حليها ورجالها1 أسر به الأحوال صارت هكذا ... شبك ترى ما كان من أشكالها لم تؤخذ الأشياء حسب مرادها ... أو يقتدي بحرامها وحلالها صارت منازلها كأمس عابر ... تبكي منازلها على حلالها وأنا الأسير أسير سير مفكر ... كيف النجاة لطامع في حالها في بلدة الروم أسيرًا مبعدًا ... والنفس طول الوقت في أهوالها جعلت فروع أصولها أجدادها ... أيضا كما أعمامها أخوالها مالي وأرض الروم ماذا حلَّ بي ... وإن كان ذنبًا فهو من أعمالها

_ 1 حلى: اسم مستوطن أبيه، ورجال: وطنهما الأصلي، وبينهما أربع كيلو مترات.

لو يأخذ الله العباد بظلمهم ... لم يبق في الدنيا سوى أحبالها لكن رحمته لكل وسعت ... يا رب فاجعلها على منوالها لا تجعل "الحفظي" محرومًا بها ... من ذا سواك مفتح أقفالها طلب التلطف والترحم سيدي ... منكم وأما الغير لا أرض لها كل عبيدك بالسواء وإنما ... تعطي لمن ترضى أليم وبالها لا ينفع العبد الضعيف لمثله ... إلا بأمرك فالرضا أولى بها وأنا الصبور وليس حالي نازلا ... لتطلب الرحمات من عذالها أقسمت ألا أصغي لقول معنف ... أو أشتكي إلا إلى فعالها ما لي وللأعداء أشابت مفرقي ... أقوالهم والموت في أقوالها لا تغترر بتبسم من ضاحك ... فالليث يكثر وهو من أهوالها والسيف يلمع ضاحكًا من صقله ... وبضربه ينهل عظم نصالها فعدونا الشيطان أضحى ضاحكًا ... والنفس لاعبة على أغفالها ما لي وللدنيا أشانت كلما ... لناه نحمده على أحوالها هل كنت تبع حمير في وقتها ... أو كنت سيف حرف ذي أطوالها أو كنت قد جمعت أجناد الورى ... أو قد فعلت فواقرًا يد نالها قطع الرقاب وأسر كل مبعد ... بل كنت مفتقرًا إلى أفعالها "رب العباد" أسير ذنب خائف ... يوم الأراضي زلزلت زلزالها ذاك المقام مقام صدق ظاهر ... إذ أخرجت أراضينا أثقالها والأرض خاشعة لشدة هولها ... لما لها الإنسان نادى ما لها؟ فيها تحدث للورى أخبارها ... أن الإله لأرضه أوحى لها الناس أشتاتًا تراهم كلهم ... لترى الجزا في ذاك من أعمالها من يعمل الخير القليل كذرة ... يومًا يراه وشره أحوالها يا نجل "طامي" أنني أودعتكم ... أسنى السلام لسائل بسؤالها والله أسأله السلامة من لظى ... يوم القضا والنفس في أهوالها على "عسير" جميعهم من مغرم ... أو في التحايا من ذرا أجبالها ما دام ذكر الله أو ما تليت ... خطرت ومنت في لذيذ وصالها1 هذه هي القصيدة كلها بدأها الشاعر على عادة الشعراء القدامى، فاستهل المطلع بالغزل العفيف، وثنَّى بالغرض المقصود، وهو الحنين إلى أهله ووطنه وماضيه، وأروع ما في القصيدة

_ 1 نفحات من عسير: ص172، 183.

شاعرية المطلع الغزلي الذي فاض بوجدان الشاعر الصادق، وعبَّر عن لظى مشاعره المتأججة من لوعة الفراق، فخطرت له في أبهى زينتها، فسحرته بحديثها وبعينيها، لتطفئ غليل الشوق، لكن العاذل يترصده ليقطع وصل الحبيبين، ألا وهو الأسر الذي أنسى النفوس أعز البلاد وأجمل الذكريات في حلى ورجال ألمع، وهكذا يتسلل الشاعر من الغزل العفيف إلى الحنين للوطن ببراعة ولطف، حتى لا يشعر القارئ بأن القصيدة تحتوي على غرضين، وكان غزله بريئًا يصور الخواطر النفسية، وكيف تجاوب وجدانه مع سحر الوصل، وجمال اللحظ، وعذوبة الحديث ولطف الروح، كما اغتلى وجدانه أيضًا بظلم الأسر في بلاد الروم ونار البعاد عن الوطن، ولوعة الفراق عن الأهل والخلان، في تصوير أدبي رائع، وشاعرية قوية متدفقة، وعاطفة صادقة مشبوبة، وذلك في شعر يكاد يخلو من مسحة الكلفة والمبالغة، حتى نشعر بأن أسلوب القصيدة وتراكيبها، بلغت من العذوبة والسهولة مبلغ التعبير الدارج في النصوص النثرية المألوفة، ولولا توقد العاطفة، وميزان الشعر من العروض والقافية، لقلنا بأنها قطعة أدبية تدخل في باب النثر الفني الرفيع. وسقطات القصيدة قليلة، لا تغض من قوة الشاعرية، أو تنقص من قدرة الموهبة الأصلية في الشعر، فالقافية مثلًا فيها ليست مركبًا صعبًا تنتهي إليها، وهذه تعطي تجوزًا للشاعر إذا لم تستجب بنية الكلمة القائمة على الهاء، وجد الشاعر مهربًا من حقله اللغوي الضيق إلى كلمة أخرى يوصلها بالهاء المضافة ضميرًا، يرجع إلى ما قبله، وتلك توسعة على الشاعر حتى لا يخضع لضرورة القافية. وعدم خضوع الشاعر لضرورة القافية يدل على تمكن الشاعر من معامل الاشتقاق اللغوي، واستخدامه استخدامًا جيدًا في القافية، ويعبر أيضًا عن قدرة الموهبة الشعرية عنده، وتلك براعة يتصف بها نوابغ الشعراء. سرى الغموض في بعض المعاني للقصيدة مثل هذين البيتين: طلب التلطف والترحم سيدي ... منكم وأما الغير لا أرض لها كل عبيدك بالسواء وإنما ... تعطى لمن ترضى أليم وبالها فلا أدري المعنى في قوله: "وأما الغير لا أرض لها" أيكون المقصود: أما غير الله فلا تطلب التلطف والترحم منه، وإذا كان كذلك فيكون الغموض واقعان لا يقف عليه القارئ بيسر، وذلك لا بسبب صورة شعرية موحية، تبهره لوقت ما، حتى يقع على المعنى فيرويه كما يروي الظمآن، ولكن بسبب التعقيد في التركيب؛ حيث جعل الشاعر التطلف والترحم عند غير الله لا أرض له، فكان الغموض في اختيار لفظ "الأرض" وفي عود الضمير على اللفظ المؤنث للأرض من أجل القافية. بينما هو يعود على التطلف والترحم، وكلاهما مذكر، ليعود عليهما الضمير مذكرًا لا مؤنثًا، والتقدير "وأما الضمير لا أرض له: أي للتلطف والترحم".

وكذلك قوله: "تعطى لمن ترضى أليم وبالها"، فكيف يعطي الله تعالى أليم العذاب، بل من يرض عنه الله يفض عليه بالنعيم، ومن يسخط عليه يصله بالعذاب الأليم، وهذا تناقض في المعنى. ومما يذكر لبراعة الشاعر، وموهبته الشعرية القوية أنه يستخدم البديع بلا كلفة، بل يأتي منقادًا طائعًا للمعنى، مع تكرار اللفظ الواحد يقول الشاعر في براعة: "وأنا الأسير أسير سير مفكر". وتظهر البراعة أيضًا في الاقتباس من القرآن الكريم والتضمين لصوره ومعانيه، وتظهر روعة التصوير الشعري في اقتباسه لسورة "الزلزلة" في أربع أبيات، مثل قوله: "والأرض خاشعة لشدة هولها". خامسًا: الشعر التعليمي ظهر الشعر التعليمي في أربع قصائد، وهي قصيدة "نصيحة الحاكم ص174" التي رفعها رؤساء القبائل في عسير، يتزعمهم قائلها الشيخ أحمد الحفظي الثاني إلى السلطان التركي عبد الحميد عام 1290هـ، ينصحون الحاكم برفع ظلم العثمانيين عنهم، وقصيدة "ذكر الحبيب ص196"، التي بعث بها الشيخ علي زين العابدين الحفظي إلى ابنه إبراهيم ليحثه على طلب العلم لدى بني الأهدل في وادي سهام باليمن، ويقول في مطلعها: ذكر الحبيب لدى الساعات لم يزل ... وما غفلت ودمعي فاض من مقلي وبي من الحزن ما يكفي لمنتظر ... شواهد الحال بالتعديل تشهد لي وقصيدة "حادي المطايا ص199" أرسلها الشاعر علي زين العابدين لابنه المذكور. والشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول بن عبد القادر من بلدة "رجال ألمع"، ولد فيها في 15/ 4/ 1145هـ، وتعلم على يد والده وأعمامه، ثم رحل إلى "صبيا" لطلب العلم، ثم إلى اليمن ليتعلم على أيدي علمائها، وأخيرًا عاد إلى بلده لينشر العلم وتعاليم الدين الحنيف، ولما ظهرت دعوة التجديد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمؤازرة الأئمة آل سعود، نشر الشيخ أحمد الحفظي فكرها، ودعا بها، وتوفي عام 1233هـ عن ثمان وثمانين عامًا. وله مؤلفات كثيرة منها: "الأزهار الفاتحة في أسرار الفاتحة"، "ضياء الشمعة في شرح خصوصيات الجمعة"، شرح عقد جواهر اللئال في فضائل الآل"، أما شعره فكثير1.

_ 1 نفحات من عسير: ص23، 24.

ولهذا الشاعر من الشعر التعليمي قصيدة "نصائح وحكم ص33" يقول فيها: سم في سمات سناها السموات ... اعمل بأعمال أعلام العبادات واحضر جموع جماعات الصلاة فما ... أخس من فاته جمع الجماعات وأجر للجار معروفًا يجيرك من ... جور العذاب وإن جر الجويرات وهكذا يسير الشيخ في قصيدة يتعسف فيها الأسلوب المتكلف والتراكيب المثقلة بألوان الزينة والزخرف، على عادة شعراء عصره؛ لكي تصير الأبيات مثلًا أو حكمة يتندر بها في المجالس، ولا تخلو من موعظة وحكمة ونصيحة، وهذا وحده هو جوهر الحسن فيها. سادسًا: الرثاء: وجاء غرض الرثاء عند آل الحفظي في قصيدتين إحداهما للشيخ أحمد الحفظي، يرثي بها والده المتوفَّى في ليلة عيد الأضحى عام 1181هـ، يقول في مطلعها: ذكر الحبيب لدى الساعات لم يزل ... وما غفلت ودمعى فاض من مقلى وبى من الحزن ما يكفى لمنتظر ... شواهد الحال بالتعديل تشهد لى وقصيدة أخرى بعنوان "روضة الحق" للشيخ محمد بن أحمد الحفظي بعث بها إلى الإمام سعود الكبير، ليرثي فيها الإمام عبد العزيز طيب الله ثراه، ويعلن عن دوام مناصرته لدعوة التجديد يقول في مطلعها: خليلي هذه روضة الحق فأعدلا ... قلوصيكما في طلها وطلولها2 سابعًا: الوصف وغرض الوصف في ديوانهم يضم قصيدة "في طريقه إلى المعتقل" للشيخ أحمد الحفظي الثاني، أنشدها الشاعر وهو في طريقه إلى تركيا حين اعتقله العثمانيون، فوصف هذه الرحلة، وفيها يقول: شكاية مشتاق لدار ومعتقل ... وأهل وإخوان وخل ومنزل وصحب وجيران وقوم أعزة ... لوافدهم حسن القرى والتجمل مشى عنهم ليلًا فلما اعتلى على ... حفير اللوي في ليل ظلماء أليل لاقتبس النيران من كل شاهق ... كمثل نجوم الصيف ذات التحول

_ 1 نفحات من عسير: ص42، 43. 2 المرجع السابق: ص71، 73.

وهب نسيم البان من أيمن الحمى ... فزاد فلما آن رآني حن لي1 وقصيدة أخرى "تحية القنفذة" وهي له أيضًا: يقول في مطلعها: على البندر الغربي أهدي تحيتي ... مضاعفة تترى بصافي المودة تؤم رجال الخير والفضل والتقى ... وكل أولي علم بتلك المدينة بها أهلها كالغيث حل لجارهم ... ووافدهم فيها بأوفر نعمة2

_ 1 نفحات من عسير: ص152، 155. 2 المرجع السابق: ص156، 157.

الباب الثاني: مدرسة التجديد المحافظ

الباب الثاني: مدرسة التجديد المحافظ الفصل الأول: الخصائص الفنية لمدرسة التجديد المحافظ ... الباب الثاني: مدرسة النتجديد المحافظ الفصل الأول: الخصائص الفنية لمدرسة التجديد المحافظ أصول المحافظين على عمود الشعر العربي: عمود الشعر العربي له قواعد وأصول اصطلح عليها النقدالعربي القديم، إذا ما توفرت في قصيدة أطلق عليها النقاد أنها عمودية، وإذا التزم الشاعر المحدث بهذه القواعد والأصول أطلق عليها النقاد شاعرًا محافظًا؛ لأنه حافظ على عمود الشعر العربي في شعره، ولهذا كان لا بد أن نعرف هذه الأصول في عرف النقد القديم: فالأصول في عمود الشعر هي تلك التقاليد الفنية الموروثة في استخدام اللفظ والمعنى والخيال والصور والوزن والقافية، ومنهج القصيدة عند الشعراء الجاهليين والإسلاميين في القصيدة العربية، حتى صارت هذه التقاليد الفنية الموروثة عرفًا متبعًا، ومنهجًا متوارثًَا لا يحيد عنه الشاعر، وأصبح عمود الشعر مصطلحًا نقديًّا مشهورًا ومتداولًا، وخاصة عند النقاد العرب في القرن الرابع الهجري، فقد نضج على أيديهم. يقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي مقررًا عمود الشعر: "هو كل التقاليد الفنية التي التزمها القصاد في قصائدهم من الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور وغيرها، فهذه التقاليد جميعها هي عمود الشعر"1. وأصول التقاليد الفنية تقوم على خصائص فنية لكلٍّ من اللفظ، والمعنى، والصور، والأسلوب، والوزن والقافية، والمنهج في القصيدة. أما اللفظ فيقتضي الجزالة والاستقامة والمشاكلة للمعنى وشدة اقتضائه للقافية، ومعنى جزالة اللفظ ألَّا يكون غريبًا ولا سوقيًّا مبتذلًا2، ومعنى استقامة اللفظ هو تناسق حروفه في جرس متساوق، وإيقاع رتيب، فيسلم حينئذ من تنافر الحروف، ومعاناة الثقل في اللسان وعلى السمع، واستقامته أيضًا تكون بدلالة اللفظ على أصله ومعناه في اللغة3. ومعنى مشاكلة اللفظ لمعناه، حيث لا يزيد على معناه أو ينقص عنه، وشدة اقتضائه للقافية هي أن تقع الكلمة في موطنها من القافية والوزن، فلا يقبل غيرها؛ لأنها هي الموعود المنتظر4.

_ 1 فصول في الأدب والنقد: ص81. 2 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص49. 3 المرجع السابق: ص82، وشرح ديوان الحماسة: المرزوقي ص9. 4 الصناعتين: أبو هلال العسكري: ص128.

وأما مفهوم خصائص المعنى، فلا بد من تحقيق الشرف والصحة، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ثم التحام أجزاء النظم والتئامها1. ومفهوم الشرف في المعنى هو الإغراب فيه واختيار الصفات المثلى، والصحة فيه هو السلامة من الخطأ، ومطابقة المعنى الموضوع له في اللغة. ومفهوم الإصابة في الوصف هو ذكر المعاني العامة، والابتعاد عن المعاني المجهولة والصفات الخاصة. ومعنى المقاربة في التشبيه هو ما لا ينقض عند العكس، ومناسبة المستعار منه للمستعار له هو ما تعارف عليه أهل اللغة في المجاز2. وأما خصائص الأسلوب والنظم في الشعر فهي جودة السبك وإحكام النسج وصحة التراكيب، والتآخي بين المعاني والألفاظ فتوضع اللفظة بجوار أختها، وفخامة الأسلوب. فالأصمعي وابن سلام الجمحي يحرصان على فخامة الأسلوب، ويقول أبو هلال العسكري: وليس الشأن في إيراد المعنى.. وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه.. من صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف. ويقول ابن طباطبا: "وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها"، ويقول المرزوقي: "والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن"3. ويقول الآمدي: "وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها"، ويقول أيضًا: "صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء: جودة الآلة - وإصابة الغرض - وصحة التأليف - والانتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص فيها ولا زيادة عليها"4. وأما مفهوم منهج القصيدة فهو حسن الانتقال من غرض إلى غرض ومن موضوع إلى موضوع. فينتقل الشاعر من ذكر الديار والأطلال إلى الحبيب والرحلة ثم إلى المدح، وهكذا في براعة وحسن تخلص. يقول ابن قتيبة: "إن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن.

_ 1 شرح ديوان الحماسة: المرزوقي. 2 الموازنة للآمدي ص33، وشرح الحماسة للمرزوقي ص9 والطراز: يحيى العلوي 241. 3 انظر: طبقات الشعراء لابن سلام ص102، والصناعتين: ص57، وعيار الشعر: ص6، وشرح ديوان الحماسة: ص8. 4 الموازنة: 1/ 401، 402.

والآثار، فبكا وشكا، وخاطب الربع واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق؛ ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن النسيب قريب من النفوس لائط بالقلوب، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقَّب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسري الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، ودمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدرة الجزيل"1. وأما خصائص القالب الشعري: فهي أن يلتزم الشاعر في الوزن البحور التي سار عليها الشعراء القدامى، والتي حصرها الخليل بن أحمد في البحور والأوزان التي اشتهرت عند العرب، فتقوم القصيدة على بحر واحد من المطلع حتى الخاتمة، ويلتزم الشاعر أيضًا مع البحر قافية واحدة متحدة الرويّ لا يعدل عنها في بيت واحد. أما من خرج عن البحر الواحد كشعر التفعيلة والشعر الحر فهو متمرد على عمود الشعر العربي في قالبه الموسيقي، وأما من عددت قوافيه في القصيدة الواحدة كالشعر المرسل، ونظام المقطعات فهو أيضًا متمرد على عمود الشعر العربي في القالب الموسيقي؛ لأنه خرج عن وحدة القافية في القصيدة ذات البحر الواحد. هذه هي أصول عمود الشعر العربي وخصائصه الفنية بإيجاز اصطلح عليها النقد العربي القديم، وقد وضحته بالتفضيل في كتاب مستقل2؛ لأن الحاجة هنا تقتضي الإيجاز بقدر المطلوب. دعائم التجديد وخصائصه الفنية: ومدرسة المجددين المحافظين تسير في مذهبها الأدبي الجديد على نحو من المزاوجة بين الحفاظ على عمود الشعر العربي السابق وبين التجديد بما يتناسب مع العصر والبيئة والثقافة والتقدم العلمي والفكري وغيرها من مقتضيات العصر وظروفه وأحداثه، ولذلك نرى شعراء هذه المدرسة مع محافظتهم يغترفون من الثقافة الحديثة أكثر من غيرهم، ويتجاوبون مع التيارات الفكرية والعلمية والأدبية المعاصرة، وكذلك المشكلات الاجتماعية والعسكرية، والمجالات السياسية والإعلامية وغيرها.

_ 1 الشعر والشعراء: 74، 75. 2 كتابي: عمود الشعر العربي: دار الحارثي بالطائف 1401هـ.

وبهذا يتلقف الشعراء كل جديد في مجال الثقافة والعلم والفكر والفلسفة والسياسة والاجتماع، والقضايا الإنسانية والعسكرية، والمذاهب الأدبية والنقدية المعاصرة، بل يتسارعون إليه، ويقبلون عليه في نهم وشوق. وساعدهم على ذلك تيسير اقتناء الكتب والصحف والمجالات والدواوين من لبنان ومصر والعراق وتونس والمغرب وغيرها من شتَّى بقاع العالم. وكان لأجهزة الإعلام المختلفة عن طريق السماع أو الرؤية تنقل إليهم الندوات والمحاضرات والمقالات والحوار، وغيره مما يدور حول قضايا الفكر والأدب والنقد ومذاهبه. وأخذ شعراء الجنوب يتجاوبون مع أعمال المازني وشكرى والعقاد، وطه حسين والزيات، وأحمد أمين وزكي مبارك وسيد قطب ومحمود شاكر، وأحمد الشايب وشوقي صيف، وعبد المتعال الصعيدي وسعيد العريان، ومصطفى عبد الرزاق ومحمد عبد المنعم خفاجي وحسن جاد وإبراهيم أبو الخشب، ومحمد سرحان وعبد السلام سرحان وغيرهم. وتابع الشعراء المعارك الأدبية والنقدية بين المفكرين والنقاد، وخاصة حول شعر شوقي وحافظ، وشعر مدرسة الديوان، ومدرسة أبوللو، ورابطة الأدب الحديث، وشعر المهاجر العربية وغيرها. وهز مشاعرهم شعر الزهاوي والرصافي في العراق، والبارودي واسماعيل صبري والجارم، وحافظ وشوقي، ومحمود طه وأحمد زكي أبو شادي وناجي ومحمود أبو الوفا وشكري والعقاد وغيرهم في مصر، وإبراهيم اليازجي والأخطل الصغير، وأبو ريشة وبدوي الجبل وفؤاد الخطيب في سوريا ولبنان1. وكان شعراء هذا المذهب الأدبي ينقسمون على أنفسهم، فيشايعون مذهبًا يفضلونه على آخر، وشاعرا على آخر، وناقدًا على ناقد، فمنهم من هام بشوقي، وآخر من أحب محمود طه أو ناجي، ومنهم من ناصر مدرسة الديوان، وآخر سار على نهج مدرسة أبوللو وهكذا. لذلك كله ترى روح التجديد للمحافظين من شعراء الجنوب في الشكل والمضمون، فكان شعرهم تجديدًا محافظًا في المعاني والأفكار، وفي الأغراض والأهداف، وفي المنهج والأسلوب، وفي الخيال والصور الأدبية وفي الموسيقى والإيقاع، بما يتلاءم مع ظروف العصر، وحاجات المجتمع الجديد المتطور.

_ 1 انظر: الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: د. بكري شيخ أمين، الموسوعة الأدبية: عبد السلام طاهر الساسي.

شعراء مدرسة المجددين المحافظين: وشعراء هذه المدرسة كثيرون، وكلهم ينشرون في مختلف المجالات والصحف والنوادي الأدبية الكثيرة في أبها وجازان ونجران، وخميس مشيط وبيش وغيرها. ونذكر منهم على سبيل المثال الشعراء: أحمد بيهان وحسن يحيى ضائحي، وعلي عبد الله مهدي، وإبراهيم مفتاح وأحمد باهي، وعلي أحمد حيقل، وعمر صعابي، وجبران قحل، وعمر سالم فرساني وسواهم. أما الشعراء الذين يمثلون هذا المذهب الأدبي أصدق تمثيل ليس بما نشروه في وسائل الإعلام السابقة فحسب، بل كانت لهم دواوين صدرت من أكثر من عشرين عامًا، وهؤلاء هم الشعراء الذين سيكونون محل الدراسة التفصيلية الأدبية النقدية للتعرف على الخصائص الفنية للتجديد المحافظ، ومن أهمهم الشاعر محمد بن علي السنوسي، والشاعر محمد بن أحمد العقيلي، والشاعر زاهر عواض الألمعي، والشاعر يحيى إبراهيم الألمعي.

الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي

الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي نشأة السنوسي وحياته: هو الشاعر محمد بن علي السنوسي، ولد بمدينة جازان عام "1342هـ"، وأبوه شاعر وقاض سبق أن تحدثت عنه في مدرسته، ألحقه بمدرسة يديرها الأستاذ الشيخ علي بن حمد عيسى رئيس كتاب محكمة جازان في عام "1380هـ"، فتعلم على يديه القراءة والكتابة والحساب، ثم قرأ علوم العربية على والده، وعلى الشيخ عقيل بن حمد، ثم انكب على مطالعة مكتبة أبيه الزاخرة بالعلوم والآداب، فاتسعت مداركه عن طريقه الذاتي. ظهرت ملكته الشعرية، وميوله الأدبية في وقت مبكر من حياته عام "1359هـ"، وهكذا ظل يصقل فنه حتى سما إلى مكانة مرموقة بين زملائه الرواد في المملكة حتى نال الجائزة الأولى في المسابقة الشعرية التي عقدتها "مجلة الرياض" السعودية عام "1375هـ" في قصيدته: "حطم المارد القيود". التحق الشاعر بالوظائف الحكومية، فعمل في سلك الجمارك عام 1357هـ"، وظل فيها ينتقل من منصب إلى آخر حتى صار مديرًا لها عام "1370هـ"، وكان عضوًا في المجلسين البلدي والإداري، ثم عمل رئيسًا لبلدية جازان، ثم مديرًا لشركة كهرباء جازان، ثم تفرغ للأدب ولأعماله الخاصة، وأخيرًا هو الآن رئيس للنادي الأدبي الثقافي في جازان1. تأثر الشاعر بالفحول من الشعراء القدامى والمحدثين مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي، وشوقي وحافظ وعزيز أباظة، فسار على منوالهم ونهج نهجهم. ونشر شعره مبكرًا في مجلة "اليمامة"، وجريدة "البلاد" و"أم القرى" و"الحج" و"الأضواء" و"الرائد" و"الرائد" وتلقبه المجلات بشاعر الجنوب. ترجمت بعض قصائده إلى اللغة الإيطالية، ونشرت الترجمة في مجلة "المشرق" الإيطالية’ يقول عنه الدكتور كامل السوافيري: "والسنوسي غني بشهرته عن التعريف، وله مكانته بين شعرائنا البارزين، وهو أول شاعر يترجم بعض شعره إلى لغة أوروبية، ومن أهم سماته أنه لا يتكلف أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل للمدح2.

_ 1 الحركة الأدبية: د. بكري شيخ أمين، شعراء العصر الحديث، عبد الكريم بن الحقيل. 2 نفحات الجنوب: ص7 التقديم.

حاز جائزة التكريم "ميدالية ذهبية" من جامعة الملك عبد العزيز، وحصل على "ميدالية المتنبي" من وزارة الثقافة العراقية. والسنوسي رائد من رواد الأدب في المملكة العربية السعودية، ويلقب شاعر الجنوب، له حتى الآن خمسة دواوين شعرية هي على الترتيب حسب الظهور: القلائد عام 1380هـ - الأغاريد - أزاهير - الينابيع - نفحات الجنوب عام 1400هـ. وله دراسات أدبية في كتاب "مع الشعراء"، وكتاب "رجال ومثل" تحت الطبع، وكتب أخرى1. يقول عنه الأستاذ محمد سعيد العامودي: "إن للسنوسي مكانة بين شعرائنا البارزين، فهو صاحب القلائد، وقد كان لديوانه "القلائد" وما يزال صداه الطيب الجميل في أوساطنا الأدبية، إنه أول شاعر من شعرائنا يترجم بعض شعره إلى لغة أوروبية ... إن أهم سمات شاعرنا السنوسي في اعتقادنا أنه لا يحاول أن يتكلف، أو يظهر بغير حقيقته، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل لثناء أو مدح، وإنما هو في كل ما طالعته من شعره، لا أراه إلا حريصًا كل الحرص على التزامه لهذه السمة، سمة الصدق في التعبير.. لعل ميزات السنوسي إكثاره من القراءة والاطلاع.. وإني لأغبط السنوسي حقًّا أن أراه مولعًا إلى حد النهم بالقراءة والاطلاع2. ويصف الشاعر السعودي عبد الله بن محمد بن خميس شعر السنوسي فيقول: قد عرفت القريض غضًّا طريًّا ... يصطفيه جازان من عليائه وقف الشاعر المحلق يروي ... بهجة العيد حسنه وروائه فوقفنا الأسماع نلقط درًّا ... أرخص الدر منتقى من غلاته3 وكثيرًا ما كان يحتفي به الشعراء والأدباء، ويلتقون جميعًا في مواكب الفن، فيتطارحون الشعر، ويخوضون في موضوعات شتى. فقد دعا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري "صاحب مجلة المنهل" لفيفًا من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد علي السنوسي، يقول أحد الشعراء المدعوين: في ندوة سمر ساحر جمعتني دعوة كريمة من الأستاذ الجليل عبد القدوس الأنصاري "صاحب مجلة المنهل" بصفوة من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة أقامها في داره العامر ليلة

_ 1 المرجع السابق: التقديم. 2 الأغاريد: تقديم محمد سعيد العامودي ص/ك، ل. 3 نفحات الجنوب: ص8.

الجمعة الموافق 2/ 6/ 1376هـ تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد بن علي السنوسي، وكانت بحق حفلة أنيقة؛ حيث تبودلت فيها شتى الأحاديث الأدبية والاجتماعية، ومما زاد الحفلة متعة وروعة طلب الأستاذ الأنصاري من المحتفى به إنشادنا آخر ما عنده من شعره الحديث، فتفضل وأسمعنا قصيدة ممتعة من شعره الوثاب، وتلاه الأستاذ حسن عبد الله القرشي، فأنشدنا من ذارته القوية مطولة من شعره الواعي بعنوان "سجين الحياة".... وكان من أبرز المدعوين إلى هذه الندوة الأدبية الأساتذة محمد سعيد العامودي، وعبد المجيد شبكشي، وحسن عبد الله القرشي، وعبد الفتاح أبو مدين، وأحمد السباعي، وشكيب الأموي ... فإلى هؤلاء جميعًا أبعث بهذه القصيدة "صوفية شاعر" تذكارًا لهذه الندوة الأدبية وتقديرًا للفن في شخصيات رواد الأولمب الخالد ومطلعها: ظلموه فعاش في إخوانه ... يتلظى على لظى أحزانه أي ظلم أشد في النفس وقعًا ... من أذى صحبه وظلم زمانه قد رماه الصحاب بالكبر إذا كان ... يناجي بالبعد طهر جنانه إلى قوله: آمن الشاعر الغريب وقد عاش ... سعيدًا بمنتهى إيمانه عاش في نجوة من الناس يستصغر ... معنى النعيم في تبيانه مستلذًّا كزازة العيش في الوحدة ... والليل ضارب بجرانه وصلاة الصوفي فيض من الروح ... كفيض العبير من ريحانه كل نفس صوفية تتمنى أن ... تنال السمو في أحضانه1 يقول صاحب مجلة المنهل عن الحفل وعن قصيدة محمود عارف السابقة: "وقد تلقى صاحب المنهل بعد يومين من الحفل القصيدة العصماء التي تلي هذه، وهي من وحي الحفل ومن نظم الشاعر محمود عارف عضو مجلس الشورى2. والسنوسي يرى أن فنه الشعري مستمد من فن شاعر الأكبر أبي الطيب المتنبي. يقول: يا أبا الطيب المحسد إني ... مستمد من فنك الفذ فني3

_ 1 القلائد: 52/ 6. 2 مجلة المنهل: شهر جمادى الثانية سنة 1376هـ. 3 نفحات الجنوب: ص131.

يصور شاعريته في أبيات يصدر بها ديوانه الأول "القلائد": هذه ألحان قلبي ... وأغاريد شبابي هي أحلامي وآمالي ... وكأسي وشرابي وصاباتي وأشجاني ... وحبي وعذابي إنها صورة نفسي ... قد تجلت في كتابي1

_ 1 القلائد: ص1.

الأغراض الأدبية في شعر السنوسي وخصائصها الفنية: يتميز شعر السنوسي بأنه كثير الأغراض الشعرية العميقة، ومتعدد الاتجاهات في الأهداف الدقيقة، ومتشعب الموضوعات الأصيلة والجديدة المعاصرة، التي عاش الشاعر تجربتها الشعورية من واقعه المعاصر، واقعه الإسلامي والعربي والإنساني والوجداني، وكان شاعر الجنوب بحق لغزارة شعره وتنوع الأغراض التي تبني مجتمعًا إنسانيًّا فاضلًا، وتحت على التئام الأمة الإسلامية ووحدتها في جبهة واحدة لتواجه بقوة عصر التحديات الجماعية لا الفردية، وعصر الماديات المشتركة في السوق الأوروبية المشتركة، وعصر الدول العظيمة في تعاون الدولتين العظيمتين أمريكا وروسيا ضد غيرها من الدول في الشرق وفي الغرب، إنه شعر الأمة العربية الإسلامية التي يحيي فيها أمجادها وآمالها، ويذود عنها ويدافع في سبيلها، سواء أكان الشعر في العالم الإسلامي والعربي الكبير أو في قضاياه الإسلامية والعربية والمعاصرة، أو كان في وطنه السعودي الصغير، أو كان من خلال وجدان العربي المسلم الثائر وجدان الشاعر السنوسي، أو كان في غير ذلك من موضوعات وأغراض من وحي العالم العربي والإسلامي والإنساني الكبير. وهذه هي أغراضه الشعرية حسب أهميتها وغزارتها وعمقها، في دواوينه الخمسة التي ذاعت في العالم العربي الإسلامي بل والأوروبي على السواء. أولًا: الشعر الإسلامي هذا الغرض الأدبي يسيطر على شعر السنوسي في دواوينه الخمسة، تفجر من واقعه الذي يعيشه إيمانًا بعقيدته، وتمجيدًا لمقدسات الإسلام وشعائره، واعتزازًا وفخرًا بحضارته وإنسانيته، وسموًّا بمبادئه وتعاليمه، وكشفًا عن المثل العليا للبشرية إيمانًا وقدوة، وتصويرًا لقادة الإسلام، ودفاعًا عن تشريعاته وحرماته، وثناء على حماة الاسلام ودعاته، وحرصًا على العمل به، والجهاد في سبيله، وحفزًا للهمم القوية والعزائم الشديدة. والشعر الإسلامي عند السنوسي عميق في جوانبه الكثيرة، وخصب في معانيه واتجاهاته، وواسع الأفق تزهر تحت سمائه الإسلامية قضايا العالم الإسلامي والعربي، والحق الإنساني بصفة عامة، لذلك تدفق شعره الاسلامي في اتجاهين كبيرين هما:

الاتجاه الأول: وهو الشعر الإسلامي الذي يتناول الرسول محمدًا -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه -رضي الله عنهم جميعًا، والتشريع الإسلامي وحضارته، وتعاليم الشريعة الغراء وسماحتها، وهو الدين الحق والشامل الذي يصلح للناس والحياة في كل مكان، وفي جميع الأزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد احتوى هذا الاتجاه قصائد كثيرة هي: صور الشاعر هذا الاتجاه في الديوان الأول "القلائد"1 في قصيدة "أم القرى" التي كانت من وحي المؤتمر الإسلامي المنعقد في موسم حج عام 1374هـ، يقول في مطلعها: نور على البطحاء لماح الذرى ... يهدي القرون ضياءه والأعصرا أنست فيه سنا من القبس الذي ... "موسى" تشوفه هدًى وتنورا ينصاح من فلك الرسالة "فجره" ... ويشع من فلق "النبوة" نيرا في هالة يحني الرءوس جلالها ... عظة ويجتذب النفوس تذكرا لمعت على الوادي المقدس شعلة ... تركت دجى الدنيا نهارًا مسفرا مست شرارتها الحياة فأشعلت ... "مثلا" أشف سنا وأكرم جوهرا هزمت أشعتها الظلام وزلزلت ... "كسرى" وراء الخافقين "وقيصرا"2 وقصيدة "قوس حاجب ص82، 87" ويصور فيها لمحات من التاريخ الاسلامي المجيد، وقصيدة "ليلة الهجرة ص192، 196" ومن قصيدة قوس حاجب: بني العروبة إن الحادثات وإن ... جلت هي الريح نستشري بها لهبا "القوة" اللغة الفصحاء وعصركم ... أصم لا يسمع "الأشعار" والخطبا هزوا الجزيرة من أركانها حردًا ... وأشعلوا الشرق من أقطاره غضبا ذودوا عن الحق إيمانًا بقوته ... من غالب الحق عدوانا به غلبا واسترشدوا بهدي القرآن تنجدكم ... عزائم صرع الباغي بها وكبا وجددوا عزة الإسلام إن له ... في جيد كل عظيم منة وحيا3 إن الجياة جهاد والجدير بها ... من غالب العاصفات الهوج والنوبا

_ 1 القلائد: محمد بن علي السنوسي: تقديم عبد القدوس الأنصاري، مطبعة دار الكتاب العربي بمصر عام 1380هـ، القاهرة، في حجم متوسط يضم 220 صفحة، وهو أول ديوان يصدر للشاعر، وهو رائد من رواد الأدب السعودي الحديث. 2 القلائد: ص12/ 19. 3 القلائد: ص85، 86.

وفي الديوان الثاني "الأغاريد" نجد قصيدة "هي الجزيرة ص1، 3" وقصيدة "أجنحة التاريخ ص4، 5"، وقصيدة "طيبة ص6، 8"، وقصيدة "خلق المسلم ص9، 12"، وقصيدة "رمضان ص13، 17"، وقصيدة "هوية الإنسان ص62، 64" يقول السنوسي في قصيدة "طيبة" التي فازت بجائزة وزارة الإعلام للتلحين والغناء، منها: هذه طيبة فحيِّ الرسولا ... بوركت منزلًا وطابت نزيلا هذه طيبة التي خصها الله ... بما خصها به تفضيلًا هب منها الهداة وانطلق الإيمان ... والمؤمنون صفًّا طويلا ومشى في ظلالها موكب الحق ... إلى العالمين يهدي السبيلا عب من فيضها الوجود جمالًا ... وجلالًا وحكمة وأصولا إنها روضة أفاض الله عليها ... من فضله عطاء جزيلا فدع القلب يستجم ويرتاح ... ويطفي الصدى ويشفي الغليلا1 وفي "الينابيع" نجد قصيدة "الرسالة والرسول" التي ألقاها في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين المنعقد بمكة المكرمة في 1/ 3/ 1394 إلى 5/ 3/ 1394هـ، بجامعة الملك عبد العزيز بحدائق الزاهر في العاصمة المقدسة، يقول2: من الجزيرة من أرضي ومن بلدي ... تألق النور نور الحق والرشد ومن رباها رباها الطاهرات ثري ... أبيض تنفس الصبح من بدر ومن أحد نور تألق من نور فرق به قلب ... الحياة ونض الصخر بالبرد وفاض عبر شعوب الأرض مندفقا ... يحيي القلوب ويشفي ثغر كل صدى جرى فأخصبت الدنيا ندى وهدى ... تمازجا كامتزاج الروح بالجسد وأشرفت "بابن عبد الله" واتلقت ... "رسالة الله" زاه نورها الصمدي "محمد" خير خلق الله قاطبة ... خَلْقًا وخُلقًا على السراء والنكد نديم "جبريل" يسقيه فما لفم ... "وجبا" يرتله شاد إلى غرد أحلى من الشهد آيات مفصلة ... تهدي إلى البر في قول ومعتقد تنزلت بالهدى والنور في لغة ... تلألأت بمعان فذة جدد تبلى الدهور ولا تبلى نضارتها ... صفاء لفظ ومعنى خالد أبدي

_ 1 الأغاويد: 6/ 8. 2 الينابيع: محمد بن علي السنوسي، نادى جازان الأدبي- المدينة للطباعة- جدة، وهي في حجم كبير، يضم 110 صفحة ص3/ 14، ذكرت القصيدة كاملة في كتابي "حضارة الإسلام في الشعر العربي الحديث: تحت الطبع".

كانت ولما تزل تمحو أشعتها ... ضلال كل ذوي أمت وذي أود حكم وعلم وأمثال فلسفة ... وحكمة لو وعاها ذو الضلال هدى وهكذا يمضي السنوسي في ستة وتسعين بيتًا يصور فيها الشريعة الإسلامية وسماحتها وحضارتها، وفضل محمد -صلى الله عليه وسلم- على البشرية، وما قام به السلف الصالح من ترسيخ الحضارة الإسلامية. وليت الشاعر أتى بلفظ "صدر" مكان كلمة "ثغر" في البيت الرابع مع الاحتفاظ بصحة الوزن، لكانت الصورة الأدبية أدق وأعمق، لأن ريّ الثغر الذي قد يكتفي فيه بالبلل وترطيب الجفاف لا يسمو إلى ري الجسد كله بما فيه القلب والعقل والعاطفة والوجدان، فتدب الحياة فيه بعد ظمأ الموت، وينبض ظمأ الموت، وينبض القلب بالقوة في تجويف الصدر، فيتدفق الجسد كله بالدم والحرارة والنشاط. وكذلك قوله في البيت الثامن: "نديم جبريل يسقيه" فالشاعر يقصد جليس جبريل على حد قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح.." إلى آخر الحديث الصحيح، وجليس لفظ يتضمن معنى أدق وأفضل، وأوقع وأجمل في هذه الصورة الشعرية الرائعة، فكلمة "جليس" وزان كلمة "نديم"، التي وردت في مقام النبوة مع الوحي، وهذا المقام الجليل تتلائم معه كلمة توحي بالإجلال والتقدير، وينأى عن كل كلمة يتسرب إليها أي احتمال لا يليق بهذا المقام الرفيع، فالمعنى الذي يقصده الشاعر في الصورة الأدبية من وراء كلمة "نديم" هو مجالسة النبي لجبريل في مدارسة القرآن الكريم، وهذا جائز في باب المجاز والخيال، لكن التصوير الحقيقي هنا خاصة أولى وأفضل، فلا بد لكلمة "جليس" وهي لفظ حقيقي في تصوير المعنى فقد أشرفت على الغاية؛ لتعلم أن التصوير الأدبي باستعمال اللفظ الحقيقي قد يكون أبلغ في التأثير والإقناع من التصوير الأدبي باستعمال اللفظ المجازي الخيالي. وبهذا لا نترك لأعداء الإسلام منفذًا يتسللون منه في الجدل والتمحل بلا وجه حق، فيتذرعوا بالمعنى الذي يظهر على سطح لفظ "نديم" الذي يعبر عن واقعه المحس المأخوذ من "المنادمة"، وأعتقد أن الشاعر لا يقصد هذا مطلقًا، وإنما الذي أقصده هنا هو من باب "سد الذرائع" أمام أعدء الإسلام. وقصيدة "ثاني اثنين" في خمسين بيتًا، يصور فيها عظمة الصديق -رضي الله عنه- ومطلعها1. يا ثاني اثنين في دار هي الغار ... إن اختيارك للمختار مختار ويا رفيق الهدى والليل معتكر ... والأرض ترجف والأهوال إعصار

_ 1 الينابيع: ص14/ 19.

وهكذا يمضي الشاعر مع الصديق صاحبًا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومصدقًّا ومهاجرا ومؤازرًا، وخليفة للمسلمين، وقائد لحروب الردة، ومنتصرًا على الإلحاد والنكوص، ثم ينخطف إلى عصرنا الحديث ليناجي منه أبا الصديق، ويستغيث ليقيم بجزمه المعروف حربًا شعواء ضد الردة في العصر الحديث، وما أقساها مرارة على المسلمين!! يقول: في ردة من ثياب العصر لابسة ... تحرر قيل عنها وهم آصار تفرق الجميع وانحلت شكيمتهم ... وانهار إيمانهم بالله فانهاروا نقلد الغرب إلحادًا وزندقة ... ومن "تحلله" نجني ونشتار ولا نقلده علما وتقنية ... ولا انطلاقًا له نفع وإثمار يا ثاني اثنين في ذكراك موعظة ... وفي جهادك للسارين أنوار1 وقصيدة "رصيد الحياة ص20، 22"، وقصيدة "أذان الفجر ص23، 25"، وقصيدة "نور القلوب ص26، 27"، وقصيدة الحق المهان ص41، 42"، وقصيدة "التضامن الإسلامي ص44"، وقصيدة "دعوة الحق" يقول: على التاريخ أن يصغي إلينا ... ويملأ سمعه مما لدينا فنحن حماته سلمًا وحربا ... ونحن بناته دينًا ودنيا ونحن هداته قولًا وفعلا ... ونحن كماته شدًّا ولينا أضاء على منابرنا نجومًا ... وأطلق في مواكبنا لحونا وكنا خير أمته خلالًا ... بدين محمد متمسكينا طريقًا واضحًا لا أمت فيه ... ولا عوجًا هداة مهتدينا فماذا ينقم الأعداء منا ... وماذا يدعون ويفترونا سوى إيماننا بالله ربًّا ... وبالإسلام تشريعًا متينا أَبِي الإسلام ينبزنا الأعادي ... كفى شرفًا بذلك لو يعونا لنا إسلامنا ولهم هواهم ... سواء كان "مركس" أو لينينا فقد وضح الطريق لكل سار ... وكان الحق منبلجًا مبينا أترحمني يد بالأمس كانت ... تضافحني وتملئني يقينا ويغدر بي أخ قد كنت أسمو ... به ظنًّا وأحسبه أمينا ومن هدي الجزيرة وهي مهد ... لنور محمد في العالمينا تطلعت الشعوب إلى شعاع ... محا ظلماتها والظالمينا

_ 1 الينابيع: ص19.

وكان لهم منارًا في خصم ... وكان حيًّا أغاث الظامئينا1 وفي ديوانه الأخير "نفحات الجنوب"2 قصيدة أيها الإنسان يقول3: أيها الإنسان في كل مكان ... يا أخي قلبًا ولبًّا وكيان حبك الأوطان لا يعميك عن ... حبك الإنسان في أي لسان اجعل الحب شعارًا ثابتًا ... وانتزع عنك طباع الحيوان وليفض قلبك خيرًا ولتفض ... بالندى من ساعديك الراحتان وتكلم بلسان هادئ في الخلاف ... ات ودع عنك الحران شابت الأرض وما زلت فتى ... أرعنا تفرض رأيًا بالسنان حطم المدفع لا تحمله ثم حا ... ورنى بفكر وبيان ولتكن مفتاح خير وهدى ... ولتكن مغلاق شر ودخان نحن إن فكرت شيء واحد ... نحن إنسانان أنا توأمان ما الذي تطلب مني إننا ... إن تأملت كلانا فانيان فاملأ الأرض سلامًا ورضى ... علنا نحيا عليها في أمان سوف تطوينا غدًا أحشاؤها ... يستوي رب العصا والصولجان في هذه القصيدة يناجي السنوسي الشاعر الإنسان، مهما اختلفت أجناسه في جميع أنحاء العالم، ليعشق السلام، وينشر رايته، ويعيش في ظله، ويمتلئ قلبه بالحب لأخيه الإنسان؛ ليكون الشعار الدائم لكل إنسان الذي يؤثره أي فرد عن حب الأنانية في الأوطان؛ لأن الوحشية والكره والحقد والعداوة ليست من طبيعة الإنسان، ولكنها في تكوين الحيوان، ولنكسر السلاح، ونحطم المدافع، وندفه الأحقاد والشرور، ونبدد دخان الحروب، لنفتح الصدور للحوار الفكري، والرأي السديد بلغة صريحة، وأسلوب واضح مكشوف، فهو السبيل إلى الحب والسلام، ودونه الحرب الزؤام، فتفيض الأرض سلامًا ووئاما، وتزدهر حبًّا وأمانًا؛ لأنها في الغد القريب ستطوي العالم في أحشائها، فيستوي بين جوانبها الغني والفقير، والمتكئ على عصاه، والذي يضرب بالصولجان. أدب إنساني عالمي استمد السنوسي إنسانيته العالمية من رسالة الإسلام العالمية، التي

_ 1 الينابيع: ص 28/ 29. 2 نشر عام 1400 هـ - مطبوعات نادي جيزان الأدبي - مطابع الروضة بجدة، وهو في حجم متوسط يضم 136 صفحة، أهداه إلى والده القاضي العلامة الشاعر الأديب علي بن محمد السنوسي -تغمَّده الله برحمته ص5. 3 نفحات الجنوب: ص59/ 60.

تجاوبت مع كل الأجناس من بني الإنسان، فشريعة الإسلام هي التي كرمت الإنسان لأنه "إنسان"، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} . ومن تكريم الإسلام للإنسان أنه جعل من طبيعة تكوينه الأنس والوئام والمحبة والسلام، قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، وما يتجافى مع طبيعة الأنس فيه مرفوض مذموم، وهو العداوة والبغضاء، والحقد والجفاء، والظلم والاعتداء، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وكذلك قصيدة "أخي المسلم" يقول في مطلعها1: أخي المسلم الداعي إلى الرشد والهدى ... حري بداعي الرشد إن يك أرشدا لقد طال مسعاك الحميد فلا تكن ... عنيفًا فإن العنف يغري التمردا وكن هادئًا في قوله وفعاله ... رفيقًا فإن الرفق ما زال أحمدا وصية طه المصطفى وهو قدوة ... لكل دعاة الرشد شيخا وأمردا فخذ بيد الغاوي ومهد سبيله ... إلى الرشد يمشي مستقيما مسددا الاتجاه الثاني: ويتناول فيه السنوسي الجهاد في سبيل الإسلام والدفاع عن مقدساته وتشريعاته، والذود عن المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، ودفع الظلم عن الإنسان في كل مكان، ويتناول أيضًا قضية الحرية، وتحرير أراضي المسلمين والأرضي المقدسة، وحث المسلمين على الجهاد في سبيلها، والوقوف صفًّا واحدًا أمام الطغاة المستعمرين المستبدين، ثم قضية المؤاخاة بين أفراد الأمة الإسلامية، والتعاون بين شعوب الأرض، والتضامن في سبيل نصرة الإسلام ورد حقوق الإنسان. والشعر الإسلامي في هذه الاتجاه ليس أقل من الاتجاه الأول بل كثير وكثير، فأما الديوان الأول "القلائد" فقد اشتمل على قصيدة "حطم المارد القيود" بمناسبة "جلاء" الإنجليز عن جزء من أجزاء الأمة الإسلامية العربية، عن مصر عام 1954م، وقد فازت بالجائزة الأولى التي أقامتها مجلة "الرياض" في جمادى الآخرة سنة 1374هـ، ومطلعها 2:

_ 1 نفحات الجنوب: ص97/ 100. 2 القلائد: ص20/ 23.

هتفت والشعور روح وراح ... ويك غرد فقد أضاء الصباح الصباح الذي له من منى النفس ... انبلاج ومن هواها انصياح قف على قمة الزمان مع التاريخ ... واهتف يهزك الارتياح وتأمل شواطئ النيل والبشرى ... على ضفتيه والأفراح هدأت ثورة الخصم وقرت ... ونجا بالسفينة الملاح وثبت "مصر" وثبة في سماء ... يحسد البرق في مداها الرياح إنها وثبة يرن صداها ... عاليًا ملؤها العلا والنجاح هزت "الغرب" في محافلها الكبرى ... وقد صفقت من الشرق راح وعلت راية العروبة شماء ... يزين السماء منها وشاح إلى قوله: عبروا عن مرادهم في "حلاء" ... يدعم الحق في سناه الكفاح طلبوا الموت في ثراها ففازوا ... بحياة كريمة لا تتاح حطم المارد القيود فلا النيل ... فرات ولا "الفرات" قراح لا "قناة السويس" حوض ولا ... "البيضاء" روض ولا "البريمي" مراح قد تلظى اللهيب في كل فج ... رق فيه الصبا ورف الأقاح واعتصمنا بعروة الوحدة الوثقى ... وشدت على القلوب الصفاح وأضاءت لنا الطريق معان ... وأمان غر وضاء وصاح وانطلقنا تهز أقدامنا الأرض ... ويطوي السماء منا جناح هدف واحد تلاقت عليه ... مهج حرة النيات صحاح وهكذا إلى آخر القصيدة في فرحة الانتصار لعضو من أعضاء جسد الأمة الإسلامية: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، وقصيدة "العالم العربي ص62، 72" يحض فيها الشاعر العالم العربي على الوحدة أمام أعدائه، والتمسك بأمجاد الأمة الإسلامية، والسير على منهج السلف الصالح. وقصيدة "تأميم وتصميم" بمناسبة تأميم قناة السويس في مصر ومطلعها1: أجل إنها الحرب الصليبية الأخرى ... وإن جعلوا حوض القناة لها سترا لم تك إسرائيل إلا ذريعة ... قد اتخذوا منها لأهدافهم جسرا

_ 1 القلائد: ص115/ 124.

فجند لها الأرواح والمال والقوى ... وجرّد لها الإيمان والعزم والصبرا وثق أن للإيمان بالحق قوة ... وأن له في كل معركة "بدرًا" تلفت "أنطوني" و"موليه" رهبة ... وقد صكت الآذان خطبتك البترا تعاووا كما تعوي الذئاب وأجلبوا ... إلى بلد كانت لقواتهم "قبرًا" وفي الجانب النجدي حشد وفيلق ... يقود "سعود الشرق" راياته الخضرا تحفز عملاق الجزيرة وانبرى ... يصيب على أعدائها الويل والقهرا يساورهم في كل ركن وبقعة ... ويفضحهم في كل مؤتمر "جهرًا" لنا الحق في بترولنا وبلادنا ... وخيراتنا والحق لا يقبل الحجرا وهي قصيدة طويلة تصور وحدة الأمة الإسلامية العربية أمام أعدائها في كل عصر، يقول السنوسي فيها أيضًا: أخي في ضفاف النيل ليتك أمة ... ترى كل شبر من مواطنها "مصرا" ونحن على الأحداث أبناء وحدة ... تبض دمّا حرًا "عروبتها" الحمرا على القدس في الأرض زحف وثورة ... وفي جلق الشهباء تعبئة كبرى1 وقصيدة "بطولة الجزائر ص141، 149"، وقصيدة "اليقظة العربية"، ومنها: حي صقر الجزيرة العربية ... بطل الشرق نخوة وحميه حتى صقرا محلقًّا بجناحيه ... على قمة المعالي السنية من هنا من ذرى الجزيرة من ... وديانها الفيح من رباها الرويه راية لم تزل بكف "سعود" ... أمل العرب في الخطوب الدجية إرث آبائه الكرام المغاوير ... حماة الحقائق السلفية ضاربًا حولها نطاقًا من الإسلام ... حكمًا ومنهجًا وقضيه سار في ظلها الدعاة إلى الحق ... نقيًا لما رأوها نقيه وهي قصيدة طويلة تصور يقظة الأمة العربية إلى أمجادها وإلى عقيدتها الإسلامية ومنهج شريعتها المستقيم، الذي أقام أعظم حضارة في تاريخ العالم كله.. وكذلك قصيدة "جنكيز خان ص204، 207" يصور فيه الشاعر كفاح الجزائر، ومشاركة الأمة الإسلامية لها في جهادها المقدس ضد أعداء الإنسانية والإسلام، في جهادها المرير ضد فرنسا المستعمرة الغاصبة.

_ 1 القلائد: ص120.

وأما القصيدة التي في ديوان "الأغاريد" هي قصيدة "انتصار الحرية ص18، 21"، وأما القصائد في ديوان "أزاهير" فهي قصيدة "اليوم الخالد ص20، 21، وقصيدة "خواطر لاجئ ص44، 47"، وقصيدة "يوم الكرامة ص51، 53"، وقصيدة "جهاد واتحاد ص54، 60"، وقصيدة "حديث فدائي ص61، 63"، وقصيدة "يا فتح ص64،67"، وقصيدة "فرحة اليمن ص68، 71". وأما ديوان الينابيع نجد قصيدة "عقدة الأسى ص38، 40" وقصيدة "المدينة العسكرية ص43"، وقصيدة "التضامن الإسلامي ص44"، وقصيدة الزعيم العظيم ص47، 48"، وقصيدة "الأرز والنخيل ص49، 50"، وقصيدة "الكيان الكبير ص51، 54"، وقصيدة "فيصل الهدى والسؤدد ص55، 58"، وقصيدة "وا فيصلاه ص59، 62"، وقصيدة "المغرب الأقصى ص79، 81"، وقصيدة "المعهد العلمي ص85، 86". وأما القصيدة التي في ديوان "نفحات الجنوب" فهي "إرتيريا الباسلة ص89، 91" وهي تصور كفاح المسلمين ضد أعداء الإنسانية والإسلام نظمها الشاعر في 9/ 5/ 1398هـ ومطلعها: ثورة الشعب من رحاب مصوع ... ثورة نورها من الحق يسطع إنها ثورة الغياري على الإيمان ... والعرض تستباح وتصرع إلى قوله: فأفيقي "أديس أبابا" أفيقي ... فجرنا يصدع الظلام ويصفع1 وحينما ينادي السنوسي بقصيدته "انتصار الحرية" في الجزائر، أعدَّ هذا شعرًا اسلاميًّا؛ لأن الجزائر كان عضوًا مشلولًا من الاستعمار الفرنسي في جسد الأمة الإسلامية، ثم أصبح بعد تحرره عضوًا حيًّا قويًّا فيها، يقول الشاعر2: مرحبًا "بالجزائر" العربية ... دولة حرة الكيان فتيه وسلامًا لها شبابًا وشيبًا ... ولأبنائها فتى وصبيه إلى أن يقول: عزة "غافقية" وإباء ... "مضري" ونخوة "طارقيه". فسلام لهم وطوبى لأرض ... أنجبتهم سهولها السندسية وسلام "لدولة" يفخر الضاد ... ويزهو بها ويشدو تحيه

_ 1 نفحات الجنوب: 89/ 91. 2 الأغاريد: 18/ 21.

فهذا الشعر وإن كان يتجه إلى إقليم عربي مسلم معين كالجزائر أو اليمن أو فلسطين أو السعودية أو غيرها، إلا أنه جزء من الأمة الإسلامية الكبرى الذي ينتمي إلى الوطن الإسلامي العربي الكبير، مهما اختلف الجزء في شكله وحجمه وبنائه الدولي، فإنه يمثل عضوًا من جسد الأمة الإسلامية وإن كان مختلفًا عن بقية الأعضاء، فاليد غير القدم، والعين خلاف السمع، لكن الجسد الواحد لا يستغني بعضو عن الآخر، فالعين لا تحل محل السمع، ولا الرجلان تحلان محل اليدين، وهكذا، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وحين يترجم السنوسي في صور شعرية "حديث فدائي" يتحول هذا الحديث إلى شعر إسلامي، يقول: أأنت تقول إن يدي قصيرة ... وإن عشيرتي بئس العشيره وإن مدافعي خطب طوال ... وأسلحتي "تصاريح" مثيره وإني لن أعود إلى بلادي ... ولن ألقى مغانيها النضيره كذبت فإني وأنا الفدائي ... سليل أبي عبيدة والمغيره جعلتك يا ابن اسرائيل رعبًا ... تعيش من المخاوف في جزيرة1 وجعلت من الشعر الإسلامي أيضًا الشعر الذي يقوله الشعراء مدحًا أو رثاء في القادة والزعماء الذين كان لهم دور بارز وفعَّال في كيان الأمة الإسلامية؛ بحيث يمثل جهادهم وكفاحهم طورًا تاريخيًّا بارزًا من تاريخ الإسلام، وتترك بصماتهم دلالات واضحة في تاريخ أمتنا الرشيدة، ليبقى خالدًا بخلود الإسلام، ويظل علمًا شامخًا من أعلامه، وقد حفر الملك الزعيم فيصل طيب الله ثراه مجلدًا خالدًا في التاريخ الإسلامي، كالشمس التي تغشى الأبصار حينما تستبطن أغوار الحقيقة، فالحقيقة أكبر مما تعرف ويعرف الجميع. فالله وحده هو الذي يوجه جنده المخلصين للدفاع عن دينه، يقول السنوسي في قصيدة "فيصل الهدى والسؤدد": هو فيصل علم الهدى والسؤدد ... فاصدح بألحان البيان وغرد إلى قوله: يا صاحب الرأي الصريح إذا رأى ... رأيًا تبلور في الفعال الأمجد إن الكنانة نورها يك "أنور" ... ودمشق حافظها يلوح باليد

_ 1 أزاهير: 61/ 63.

لما وقفت بكل ثقلك في الوغى ... ترمي العدو وتسحق الغر الردي وتصول بالرأي الحصيف موحدًا ... شمل العروبة في الصراع المجهد وتهز أعمد السياسة معلنًا ... أن العروبة لن تلين لمعتد الحق غايتنا ومهما أجلبوا ... فالحق يهزم كل طاغ مفسد والزيت في يدنا وكل محرك ... للشر يشذح رأسه كالأسود فتجاوبت بصداك آفاق النهى ... في كل معترك هناك ومشهد فاسلم فإنك للعروبة فيصل ... هزت به الدنيا أجل مهند1 حتى الرثاء لتلك الشخصية الفذة في عالمنا المعاصر، والنموذج الرائع في تاريخنا الإسلامي، ينبغي ألا يكون رثاء شخصيًّا؛ لأن هذا النموذج ذات في الأمة الإسلامية كلها، لذلك لا يصح أن نرثيه لشخصه، وإنما نرثي الأمة الإسلامية كلها، ومن هنا كان منطقيًّا وواقعيًّا أن يكون الرثاء لشهيد الإسلام والعروبة - "فيصل" طيب الله ثراه - شعرًا إسلاميًّا، لا رثاء شخصيًّا فرديًّا، يقول السنوسي في قصيدته "وا فيصلاه": رن في سمعي فكذبت صداه ... نبأ روع قلبي وشجاه "فيصل" مات ولكن ذكره ... يغمر العالم والدنيا شذاه مات جسمًا وتوارى هيكلًا ... وهو حي في قلوب وشفاه إلى قوله: في أياديه التي خلدها ... تغمر الشعب بفيض من نداه ومساعيه التي قلدها ... أمة الإسلام في أقصى مداه ومعانيه التي رددها ... لبني العرب جميعا في حداه ومباديه التي أعلنها ... عالي الصوت فخافتها عداه قطب أقطاب العلى كيف انتهى ... عجبًا هل يقتل الابن أباه لم يغب عنا مليك صنعت ... يده التاريخ فينا وبناه يا عظيم الشرق يا مصباحه ... في لياليه ويا فجر دجاه كيف ضم القبر طودا شامخا ... كيف بالله طواه واحتواه حفظ الله علينا "خالدا" ... ورعى "فهدا" أخاه وحماه وسقى الرحمن قبرًا طاهرا ... مرغت فيه أنوف وجباه2 وبهذا يكون هذا الاتجاه جديدًا في بنائه وأفكاره ومعانيه والغاية منه.

_ 1 الينابيع: 55/ 58. 2 الينابيع: 59/ 62.

ثانيًا: الشعر الوجداني هو الغرض الثاني عند السنوسي، جاء بعد الشعر الإسلامي مباشرة، ولم يكن هذا الغرض غزلًا بالمعنى المعروف في الشعر العربي القديم، فالفرق بينهما كبير في نظري، مما يجعل هذا الغرض يتصل بالوجدان: وجدان الشاعر أكثر من الوصف الغزلي الخارجي للمرأة، فقد كانت القصيدة الغزلية قديمًا تعتمد على أساسين هامين: أحدهما: انهيار الشاعر بمفاتن المرأة، وسحر أجزاء البدن فيها، فيأخذ في تصوير هذه الأجزاء جزءًا جزءًا، وقد يتعرض لما هو أخطر من ذلك، فيصور العلاقة بينه وبينها تصويرا ظاهرًا مكشوفًا، وواضحًا مفضوحًا، من غير رعاية لحرمات أو محرمات، وهو الجانب الحسي في الغزل القديم، كما في غزل امرئ القيس، وكثير عزة، وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم. وقد تطور هذا الغزل الحسي إلى غزل آخر عرف بالغزل "العذري" في تاريخ الأدب العربي، ترفع قليلًا عن الفحش الظاهر في التصوير الشعري، لكنه وقع فيما هو أخطر من ذلك، وهو "الفناء" أي فناء العاشق في سبيل المعشوق، وفناء المعشوق في سبيل العاشق، فيذهبان معًا ضحية للحب العذري، مثل عذرية جميل وبثينة، وقيس بن ذريح وغيرهما. والغزل الحسي والعذري كلاهما مسرف في اتجاهه، فالأول مسرف في الجانب الحسي المرذول والمبتذل، والثاني مسرف في الجانب المجرد الذي يؤدي إلى الفناء، وكلاهما أيضًا بعيد كل البعد عن الاتزان الاسلامي في معالجة عاطفة الحب، وضبط شهوات النفس، لتنسجم مع الفطرة السليمة، في معالجة هذا البناء الاجتماعي عند الفرد. ثانيهما: والأساس الثاني وهو أثر الغزل الحسي والغزل العذري بالمعنيين السابقين في وجدان الشاعر، وهذا نتيجة للأساس الأول، فالوجدان عند الشاعر في الغزل الحسي وجد أن ليس محمومًا، ولا حارًّا متدفقًا؛ لأن صاحبه قد أرضى نزواته وشهواته من مفاتن المرأة في تصويره الحسي الماجن، فتطفئ كل صورة من شعره جمرة من وجدانه وهكذا، وإذا ما انتهت القصيدة صورة صورة، لا تجد عرقًا ينبض من وجدان في نفس الشاعر، وتلك طبيعة الشهوة البهيمية التي يجب أن يترفع عنها المسلم. أما الوجدان عند الشاعر العذري فهو وجدان يغتلي ويفور، ويلتهب فيحرق العروق التي تنبض بالحياة؛ لأن الشاعر لم يضبط وجدانه المسرف، ولم يحدد مساره وطريقه، فهو أشبه بنار تندلع في هشيم الجسد، فيأتي عليه فلا يترك أثرًا ولا بقية. وكلاهما أيضًا وجدان هابط لا يسمو إلى شرف الإنسانية، ومعدوم لا ينبض بالحياة؛ لأنه هبط بالشاعر الحسي إلى مستوى الحيوان، فلا يكون في عداد الأناس الذين يعيشون

بوجدانهم الصادق والمتزن معًا، وكذلك أسرف الشاعر العذري فأفناه الغلو والمبالغة والإغراق فهما معًا لا يتلاءمان مع الطبيعة البشرية والفطرة الانسانية، لا الغريزة الحيوانية ولا الشهوة البهيمية، ولا التجرد الآدمي، ولا الانعتاق المطلق. وشعر الوجدان والتأمل عند السنوسي يختلف كثيرًا عمَّا سبق في الأساسين، فلا هو هذا ولا هو ذاك، فلا هو غزل حسي ولا هو غزل عذري، وإنما هو وجدان شاعر استغرق في تأملاته العاطفية بلا هبوط ولا إسراف، بل في اتزان الشاعر المسلم الذي يعبر عن وجدانه في صدق فني، وترفع عن الصغائر الحيوانية الصرفة، وعن الإسراف البالغ؛ لأنه وجدان شاعر يحب ويهوى، لكن في أدب وخلق وعفة واتزان، وهذا ما أردت به "شعر الوجدان" والتأمل في أعماق النفس. وعلى هذا فشعر الوجدان يشمل جوانب أخرى غير حب المرأة، تقوم على الحب المجرد الذي يشمل ما في الوجود كله، مثل حب الحياة وحب الناس، وحب الطبيعة، وحب الإنسان وحب المبادئ السامية، وغيره، لكن كل هذا من خلال الوجدان الذاتي للشاعر، لا من خلال موضوع يصطبغ بوجدانه، فلو كان الوجدان من خلال موضوع ما، لا نتقلنا من شعر الوجدان إلى غرض أدبي آخر غير الشعر الوجداني. والشعر الوجداني جاء في ديوان "القلائد" متمثلًا في قصيدة "عودة الماضي ص34-41" يصور فيها وجدانه في الماضي، في تأملات عميقة يلتقطها الشاعر من وراء الحس الظاهر وهي تسير على نظام المقطعات، وهو أقصى ما يخرج فيه الشاعر على القالب الموسيقي القديم، ويعد هذا الخروج المحافظ جديدًا في شعره كله، يقول: في لحظة من لحظات الهوى ... والنفس في فردوس أحلامها تهتز أشجانًا وتهفو جوي ... على لياليها وأيامها تلوذ الماضي بها وانزوى ... في صور الذكرى و"أفلامها" ماضي برغمي قد مضى وانطوى ... بلحن أيامي وأنغامها لاح لعيني وفي ناظري ... ظلال أيام براها الضنى وفي سماء الفكر من خاطري ... أضواء "حب" قرمزي السنا أحبابه في عالم ساحر ... وردية أحلامه والمنى صبابة من حلم عابر ... دنا كلمح البرق ثم انثنى

هيجت قلبًا لج في كبره ... جفا الهوى والنفس تشتاقه صد وملء الكف من بدره ... ما يستشير القلب إشراقه مالي وقد مالت على صدره ... أغصانه خضرًا وأوراقه إذا هفا يومًا إلى زهره ... أبت معانيه وأخلاقه1 وهكذا يتأمل الشاعر في أعماق نفسه عن وجدان يلتهب في ذكريات الماضي، فيعيد صورها ويستعرض "أفلامها" على حد تعبيره، من غير ابتذال في وصف حسي للمحبوب، ولا تفاني في سبيله حتى التبتل والرهبة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي هبوب عاصفة الذكريات الماضية لتؤجج نار الوجدان بمقدار عبورها، ليعود كما كان، بل أكثر ثباتًا واتزانًا؛ لأن قلبه الذي يضم وجدانه لج في كبره، وعاف الهوى، ولا تستثيره جمراته؛ لأن المعاني السامية والأخلاق الفاضلة هي التي تضبط الوجدان، وتسمو بالقلب والعاطفة في اتزان خلق المسلم كما ينبغي أن يكون، أليس هذا اللون جديدًا في الغزل يسمو به ويرتقي إلى غرض جديد هو شعر الوجدان والتأمل. وكذلك قصيدة "فارس الأحلام ص102، 108" من قصص المجد، وقصيدة "دار جلجل ص109-114"، صور من الأدب العربي القديم يصورها السنوسي من خلال وجدانه، وقصيدة "قصة شعرية" يترجمها الشاعر من خلال وجدانه عن الكاتب العالمي "مكسيم جوركي"؛ ليضعها في إطار الشعر العربي، بعد أن صبغها بفنه الشعري ووجدانه الذاتي، لتقرب من الذوق العربي الشفاف وأطلق عليها "أنشودة الصقر ص130-140" يقول في آخر مقطوعة منها: واستمرت أنشودة الصقر تنساب ... بألحانها على الأكوان يطرب النفس وقعها وتثير الفكر ... أصداؤها وتحيي الأماني في تلاحينها من السحر ألوان ... ومن فتنة الجمال معان نغم ساحر الصدى ونشيد من ... صميم الشعور والوجدان2 أما "الأغاريد" فنجد قصيدة "إغراء الحب ص31-32"، وقصيدة "باقة إلى عابرة ص36-37"، وقصيدة "ماء ونار ص38، 40"، وقصيدة "أنشودة ص41-43"، وقصيدة "إفاقة ص47-50"، وقصيدة "عصفور قلبي ص54-57"، وقصيدة "حيرة ص77-78".

_ 1 القلائد: 34/ 41. 2 القلائد: 130/ 140.

وأما شعر الوجدان في ديوانه "أزاهير" فقد ضم قصيدة "أخت القمر ص35-37"، وقصيدة "حسناء الريف ص38-40". وأما ديوانه "الينابيع" فترى شعر الوجدان والتأمُّل في قصيدة "أمامك الدنيا ص30-32"، وقصيدة "الموج والشاطئ ص33-34"، وقصيدة "المنظار الكاشف ص35"، وقصيدة "لمع السراب ص36، 37"، وقصيدة "الحب الكاذب ص75"، وقصيدة "الفيلسوف والطائر ص83"، وقصيدة "شد الحزام ص93"، وقصيدة "كيف أسلوك ص95". وأما ديوان السنوسي "نفحات الجنوب" فيضم قصيدة "عصفور شبابي ص24-31 في عام 1396هـ"، وقصيدة "وحشة قلب ص 32-36" في عام 1396هـ، وقصيدة "رماد شهاب ص37-40" في عام 1937هـ، وقصيدة "وجدانها ص41-43" في عام 1397هـ، ويتأمل فيها الشاعر ويغوص في أعماق وجدانه، ليصور في دقة أحلام الصبابة في المرة الأولى: طواها الأسى واليأس حتى كأنها ... بقايا حطام من رماد شهاب فمالك يا نفس تعيدين ذكرها ... وتودين عن جمر الحنين خوابي ويصور في المرة الثانية ضالته التي يبحث عنها؛ ليصل إلى القاعدة التي يستقر فيها آمنًا مستكينًا، فوجدها في الدين والخلق القويم، يقول: من أي قاعدة وأي رصيف ... تجري سفين مشاعري بحروفي فيبحث عنها في قلبه وهو ينزف بالأسى، أو في أدبه وهو يلفح باللظى، أو نظره وهو يغشى بالقذى، أو فكره وهو مجروح بالهوى، أو سمعه وهو مقصوف بالردى، أو من طبعه وهو موقوف، أسير التيار.. ليس في هذا كله.. لكنه وجده في قوله: لا لن أضل فقد وجدت سكينتي ... في الدين وهو دليل كل كفيف فانضح نهاك به وقلبك إنه ... ري الصدى وجنة الملهوف واجعله نهجًا في الحياة وواقعا ... تحياه لاكتا وراء رفوف فالدين ظل الله في ملكوته ... والله بالإنسان جد رءوف من قال إنه أفيون الورى ... فهو الشقي بعقله المخطوف1

_ 1 نفحات الجنوب: 41/ 43.

وقصيدة "القلب الكبير ص52-54"، وقصيدة "طبيب العيون ص55-58" ويقول فيها: يا طبيب العيون شكوى عيوني ... من لحاظ حورية التكوين وهي عين لا تعرف النظر الشزر ... ولم تكتحل بغير الفتون فترفق بها ففي نومها المكنون ... أسرار عالم مكنون إن فيها أحلام قلبي وأشواقي ... وأطياف صبوتي وشجون وهي أغلى من العشيرة والمال ... وأغلى من كل شيء ثمين إنها يا طبيب نافذتي الكبرى ... على الكون والرؤى والفنون وهو جسري إلى الحياة ومنطادي ... وفي بحرها العميق سفيني وهي تصبو إلى الحسين فما تنفك ... نشوى من حسن ذاك الحسين وهي ترنو إلى الحزين فتبكي ... حزنًا من أسى لذاك الحزين وهي ترنو إلى المشين فتقذى ... رحمة لا شماتة بالمشين وهي تواقة إلى كل سطر في كتاب ... وهامش في متون وهي ماء فكيف تستخرج الماء ... من الماء بالشبا المسنون كيف تجري السكين فيها وفيها ... رقة لا تطيق همس الجفون وهي من لفظة تذوب حياء ... من عتاب الهوى ولوم الخدين فلتكن في يديك أسرار عيسى ... وهداه ومعجزات الأمين يا إلهي سملت للطب عيني ... وأنت الطيب فالطف بعيني1 وقصيدة "الظل والضوء ص68-70"، وقصيدة "قصيدتي فيك ص 95-96"، وقصيدة "مسافر ص101-103". ومما فاض به وجده الشاعر قصيدة "حب ونار" يقول فيها: لعينيك في قلبي رموز وأسرار ... ودين من الأهواء يجني ويشتار يرنحني منها صفاء مشعشع ... كما انعكست فوق البحيرة أنوار ويسحرني منها حياء مهذب ... كما انكسرت من مقلة الشمس أزهار ويأسرني منها لقاء محبب ... كقطر الندى يلقاه في الروض نوار إذا عانقتني رفة من جفونها ... ودغدغني منها ابتسام وإسفار تطلعت مشبوب الجوانح والجوى ... وبي وله يحتاجني منه إعصار

_ 1 نفحات الجنوب: 55/ 58.

وحومت كالطير الذي شفه الصدى ... ورفرف من شوق جناح ومنقار فررت فرار الحلم من عين نائم ... صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار فنونك يدنيني إليك فأنتشي ... وصوتك يقصيني فأصحو وأحتار فيا أنت يا أنت البخيلة بالهوى ... على كبد كانت من الحب تنهار لمرآك في قلبي نعيم وفي دمي ... جحيم وفي عيني غيم وأمطار رضيت بما يرضيك قسرًا وليس لي ... خيار ولو خيرتني كيف أختار؟ تحيرت في أمري وأمرك واستوى ... لدى الدجى والنور والماء والنار1 فالشاعر هنا يغتلي وجدانه، وتلتهب مشاعره في سبحة شاعرية يتأمل فيها أحاسيسه، ويتجاوب مع وجدانه، وجدان الحب الطاهر، لا في وصف حسي يثير الشهوات والنزوات كما في الغزل الحسي، ولا في غزل عذري يعزله عن الناس والحياة الأعمال، بل الشاعر كما نعرفه لا يزال يخوض غمار الأعمال، وإدارة المؤسسات بقدرات الرجال، وعزيمة المؤمنين. ولذلك كان غزله تأملًا، ووجدانه يعبر فيه عن حب الإنسان الذي يوقر أخاه الإنسان، ويحافظ على مشاعره وإنسانيته، ويتضح خصائص الشعر الوجداني عند السنوسي على النحو الآتي: 1- السحر في عينها ترك قلبه في حيرة وتأمل، وصرع عقله برمزه ولغزه، ليظل حائرًا لا يستقر على الحقيقة، مما شبب هواه وأثار وجدانه، لكنه هوى مصون بالعفة، ووجدان مأسور بالدين وحسن المعاملة، كذلك السحر في جمالها رقيق طاهر كانعكاس أنوار الحياة على صفحة الماء الرفيق الطاهر. 2- ليست حبيبته فاجرة عانسة؛ لأن السحر في حيائها وأخلاقها المهذبة كحياء الأزهار من مقلة الشمس، وهذا ما يستبد بعقله ويأخذ بمجامع قلبه، لا تبذل، ولا فحش- لكنه كالندى حين يصافح الورود والأزهار في وقت الصباح. 3- أما تراسل الأجفان، وبرق الابتسام، وبريد جمال الوجه يشب في وجدان نار، ويغتلي صدره جوى، ويجتاح جسده إعصار فيه نار، فيشفي غلته بالرؤيا والنظر، كما يحوم الطير من بعيد، ليلطف حرارة الشوق بنشاطه وجهده، كما تلطف رفرفة الجناحين حرارة الجسد ولهيب الأحشاء، وليس هذا على سبيل الحقيقة والواقع؛ لأن دينه وخلقه يمنعه من ذلك، لكنه على سبيل الحلم والخيال والتأمل والوجدان، يقول: فررت فرار الحلم من عين نائم ... صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار

_ 1 الآغاريد: 38/ 40.

4- فتنة الحبيب تقربه إليها، فيزداد وجدًا على وجد، إلَّا أن صوتها الإنساني يوقظه إلى ما يجب عليه من حقوق الحب الطاهر، فيعود ثانية إلى لهيب الوجدان، ليناجيها بالبخل على كبد ذاب حبًّا، ونفس انهارت وجدًا، فرؤيتها نعيم، لكنه يترك وهنًا في الجسد، وحيرة في العقل، وعينًا تسبح في الدموع، وتذهب في الغيوم، وأصبح من الحيرة في حياة استوى فيها الظلام والنور، والماء والنار. 5- لا تجد في القصيدة لفظًا فاحشًا، ولا عبارة بذيئة، ولا تصويرًا وضيعًا، ولا شهرة محرمة، ولا نزوة حيوانية، وإنما غاية عنده وجدان يغلي وشعور فياض، وتأمل وحيرة، وسياج من التشريع والخلق يمنعه إلّا بحقه، ولا عيب في حب الشاعر، فهذا أمر فطري، ولكن العيب والأسى في اتخاذ الحب طريقًًا لا يرضى عنه صاحبه، ولا ترضاه القيم الفاضلة، ويخضع له معذبًا تائهًا على وجه الأرض. وترى السنوسي إذا أسرف على نفسه في الغزل يكون محتفظًا في تصويره، يقول في"حسناء الريف": ريفية تهتز أعطافها ... خصوبة من مرح وارتياح ترعرعت بين ظلال الربى ... ونسمة الوادي وعزف الرياح تحية مني إلى "غادة" ... هيفاء لفاء كعاب رداح في الشمس والظل نمت واستوت ... فهي مثال للجمال الصراح تختال من دل ومن صبوة ... في حسنها النشوان من غير راحل لا ما رأت عيني على ما رأت ... من الحسان الرائعات الصباح مثلًا لها في حسنها غادة ... باح لها الحسن بما لا يباح عينان ما عين المها والظبا ... وقامة ما البان؟ ماذا الرماح؟ وغرة من غير "تسريحة" ... تربع السحر بها واستراح1 وهذه القصيدة هي الفريدة من نوعها في شعر السنوسي، قصدت ذكرها حتى لا أترك احتمالًا من بعدي، وقد اجتمع فيها من التصوير الحسي للمرأة ما لم يجتمع في غيرها من شعره الوجداني، ومع ذلك تجد أن التصوير فيها لا يعدو منهج الشاعر في غزله من التحفظ وطرح الفحش والابتذال المعروف في شعر الغزل الماجن، وعلى سبيل المثال: فاهتزاز الأعطاف لا الردف، وخصوبتها لا عن مجون وخلاعة وفحش، بل عن طبيعة أصيلة نشأت عليها،

_ 1 أزاهير: 38/ 40.

وتكونت من النعيم والوفرة والسخاء، فقد عاشت في بيئة مترعة معشوشبة، غنية بالزروع والأشجار والثمار، تداعبها نسمة الوادي بأوتار الرياح، وهي تروح وتغدو بين أشعة الشمس ودفئها، وبين حنان الظلال ورقته، وتزهو بسحرها في دلال النساء، وصبوة الحسن، ونشوة الجمال، لا نشوة الخمر، ولا دلال الراح، وتضاءلت عيون المها والظبا أمام جمال عينيها، وجفَّ غصن البان عند قدِّها الطري، وتصلب الرماح بجوار خصوبة قامتها، وأما وجهها فلا يحتاج إلى صناعة النساء اليوم من التسريحات والتشكيلات؛ لأن السحر قد أقام عندها واستراح. هذه الأوصاف التي تصور جمال المرأة يستغني عنها الشاعر، وإنما الذي أسف فيه شعراء المجون أنهم صوروا نزواتهم وأبرزوا شهواتهم عند كل وصف، وشاعرنا السنوسي ليس من هؤلاء الشعراء، بل ترفع في غزله وخلقه عن ذلك، ولهذا أطلقت على شعره في الغزل شعر الوجدان والتأمل. ولهذا كان الشعر الوجداني والتأملي لا يشمل الغزل وحده، ولكن قد يصور فيه الشاعر تأملاته في الحياة، كما في قصيدته "أمامك الدنيا" يقول1: أمامك الدنيا ترهق القلب والعقلا ... فيا خاطري رفقًا وناظري مهلا تحير فيها المصلحون وأعجزت ... نهى الفيلسوف الفذ والشاعر الفحلا طلاسم تعيي الفكر فهمًا فينحني ... خضوعا لها مهما تكبر واستعلى يعيش بها الإنسان طفلًا وإن بدا ... لعينيه كهلًا ثم يتركها طفلا إلى قوله: ولذ بحِمَى الإيمان وارض بما قضى ... به الله واعلم أن حكمته أعلى فللدين فضل في الحياة لأنها ... بغير الهدى تغدو جحيمًا به نصلى وثق أن من أعطى الحياة جمالها ... وأقواتها لم يهمل الدود والنملا ومثل قصيدة "الموج والشاطئ"، وقصيدة "لمع السراب" التي يقول فيها: أرح عينيك من لمع السراب ... وقلبك من أمانيه العذاب وعد عن قشور وإن تراءت ... رقاقًا في الضباب وفي السحاب فقد فاض الطلاء على حياة ... تفيض بها الكئوس بلا شراب يضوع عبيرها من غير عطر ... وتزخر كالبحور بلا عباب وتزهو بالرياض بلا زهور ... وتزهو بالثمار بلا لباب

_ 1 الينابيع: 30/ 32.

يشيب شبابها من غير شيب ... ويبدو شيبها مثل الشباب تتيه بها الجسوم بلا علوم ... وتفتخر الفهوم بلا كتاب مموهة تروق العين حسنًا ... خضاب في خضاب في خضاب فقد صيغ السراب حياة عصر ... مخضبة الأظافر والإهاب وصرت أشك حتى في مياه ... أخوض بها ولو بلت ثياب1 ثالثًا: شعر الطبيعة تعاطف السنوسي مع مفاتن الطبيعة ومظاهر الحياة الجذابة في إبداع أدبي، وموهبة شعرية صافية، وقريحة وقادة، وعاطفة مشبوبة بالمدينة التي نشأ فيها لا ينساها، بل تؤجج ذكراها شاعريته من حين لآخر، فمرة يناجيها، وثانية يتعاطف مع جبل "فيفاء" فيها، وثالثة يغني له، ويغرد به، ويعزف بأوتارها لحن الخلود، في شعره الخالد، لتظل القرية وجبل فيفاء وأغانيها مشدودة بالأرض، بل تسمو خالدة في أسماع الزمان، ويصير لحنًا يعزف، ووترًا يضرب في كل قرية وجبل، وأغنية حبيبة إلى نفس عاشقها، وحصاد أرضها ومائها ونبتها هو شعر السنوسي الذي يتفجر عن تجربة ذاتية للشاعر. فأما القصائد التي جاءت في ديوان "القلائد" منها "اللحن السجين ص72-75"، وقصيدة "شذى الرياض ص76-81"، وقصيدة "موكب السحاب" في سماء تهامة وخاصة أيام فصل الربيع يقول: منها: هب والأفق ديمة وغمامة ... وجبين السماء بادي الجهامة إلى قوله: عيلم تسبح الكواكب فيه ... وتشق الدجى به عوامه ضربته الرياح فاستقبل الأرض ... حثيثًا يبثها آلامه ثائر والسكون يضفي على الكون ... جلالًا والليل يرعى نيامه جل الأرض والسماء واعيًا ... صائل الرعد أن يدك ركامه غدق أيقظ الحياة على الأرض ... وأحيا من الوجود رمامه سال عبر الفضاء ذوب لجين ... واستفاضت به البطاح مدامه وجرى في الشعاب تبرًا مذابا ... وسجى عسجدًا وفاض رخامه دوحة عند جدول وغدير ... عند عشب وظبية وبشامه ومروج تهدلت تملأ الوادي ... وتستوقف النسيم سلامه

_ 1 الينبايع: 36/ 37.

سطعت في ظلالها لمع الشمس ... ورقت بها دموع الغمامة ومشت حولها المها تقطف الزهر ... وتحسو الندى وترعى الخزامة وشدا في الفروع صادح أيك ... جاوبت لحنه الرقيق حمامه1 وقصيدة "ساعة في الريف ص158-162"، وقصيدة "ليلة الرابية ص170-172"، وقصيدة "الجنوب الخصيب" منها: ويا وطني وأنت ولا أغالي ... نجي الشعر شطآنًا وغابا قرأت على شواطئك القوافي ... محبرة تفيض بها عبابا خضمًا تغرف الأمواج منه ... صدى حلوًا وأنغامًا عذابا تنام على جوانبه الرابي ... معطرة مخدرة كعابا وتغضو فوق ضفته الرواسي ... نواهد عز خاطبها وغابا تضم صدورها أغلى الأماني ... وأحلالها وأكرمها رغابا عذاري لم يفض لهن ختم ... ولا كشف النقاب لها نقابا فهل لي أن أراك وقد تجلت ... بك الأحلام رائعة عجابا2 وأما في ديوان "الأغاريد" فقد ضمَّ قصائد هي: قصيدة "عودة إلى الطبيعة ص22-25"، وقصيدة "جبل فيفاء ص26-30"، وقصيدة "حديث من الظهران ص65-68"، وقصيدة "أغنية فيفاء ص79- 81"، وقصيدة "يا ربيع الحياة ص82-85". وأما ديوان "أزاهير" فذكر السنوسي فيه قصيدة "جازان أغنية ص30-31"، وقصيدة "شمعة على الطريق ص32-34"، وقصيدة "عرس الفجر ص41-43"، وقصيدة "تحية إلى أبها ص74-76". وأما ديوان "الينابيع" فاشتمل على قصيدة "الليل والريف ص90"، وأخيرا ديوان "نفحات الجنوب" يضم قصيدة "نفحة الياسمين ص62-64"، ومنها: عرفتك يا نفحة الياسمين ... كما يعرف العطر جاني الزهر فأجبت فيك جلاء الحياء ... وعز الإباء وطهر الخفر وأكبرت فيك ضياء النهى ... ولمع الذكاء وصفو الفكر

_ 1 القلائد: 96/ 101. 2 القلائد: 173/ 178.

أشاعرة أنت واستضحكت ... وغرد أغن أغر ثملت بألحانه الحالمات ... ورفرفت كالطير بين الشجر يرقرقه نغمًا صافيا ... شهي الحلاوة عذب الشجر1 وقصيدة "لؤلؤة الخليج ص112-119"، ألقاها الشاعر في قاعة المحاضرات بالمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون بدولة البحرين الشقيقة، وذلك في الأمسية الشعرية التي أقامها المجلس تكريمًا لأعضاء الوفد الأدبي السعودي، أثناء زيارته لدول الخليج، وكان الشاعر أحد أعضاء الوفد، وهم "الأساتذ أحمد فرح العقيلان، المستشار الثقافي بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، والأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي، السفير بوزارة الخارجية، والأستاذ الشاعر محمد علي السنوسي رئيس النادي الثقافي بجيزان، والأستاذ الشاعر الباحث والمحقق أبو عبد الرحمن بن عقل الظاهري، رئيس نادي الرياض الأدبي، والأستاذ محمد هاشم رشيد، عضو النادي الأدبي بالمدينة المنورة، والأستاذ الأديب حمد القاضي، مدير تحرير مجلة "المجلة العربية "يقول فيها: ما بين كاظمية وبين زرود ... والمنذر العملاق والجارود أطرقت أصغي للخليج تهزه ... نغمات طرفة وارتجاز لبيد والبحر تلثمه الرياح فينثني ... باللؤلؤ المنثور والمنضود والمسك من دارين معطار الشذى ... يهفو النسيم به ونفح العود والسفن تمخر والضفاف يزينها ... عزف القيان وزعردات الغيد إلى قوله: يجري العباب بها فتجري حفلًا ... بالدر بين فريدة وفريد تهدي إلى التيجان كل يتيمة ... ملء العيون سنا كل مجيد أيام كان الدر سلعة تاجر ... وركاز سلطان وذخر عميد حر الأصول كريمة أعراقه ... صان من التصنيع والتقليد يحظى بتقدير الملوك وعزهم ... ويصان من عبث ومن تبديد2 وقصيدة "أبو ظبى" ألقاها الشاعر في قاعة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدولة الإمارات العربية المتحدة "بأبي ظبي" في 23 / 7/ 1399"هـ ويقول: منها:

_ 1 أزاهير: 62. 2 نفحات الجنوب "112/ 119.

رفقًا بقلبك من ظباء "أبو ظبي" ... فالسحر في تلك المحاجر مختبي وحذار من تلك العيون فإنها ... لتعيد قلب الشيخ يخفق كالصبي يا حلوة العينين حسبي من هوى ... عينيك تسهيدي فغني واطربي صحراؤنا العذراء لا ينمو بها ... إلا الهوى العذري والحسن الأبي1 ودائمًا تغريه الطبيعة لأنه أحبها، وتلوح له بالمشاركة لأنه امتزج بها، وتهمس إليه بأسرارها فيفض بها في شعره، وتحنو عليه فتلتهب عاطفته، وتشرق له بابتسامتها وزورعها وأزهارها وثمارها فيخلدها في شعره، لأنها تستحق الخلود، فهي تعطي وتنشر الرخاء ولا تضمر كيدًا ولا أذى لأحد؛ لأنها مسرح الجمال، وموطن المتعة والانهيار، كيف تكون؟ والشاعر على أرضها قطع عمره فلم تبتئس وتقصر عن أداء واجبها، وتفجرت أحشاؤها بالعطاء الجزيل لينعم الإنسان عليها فهي جديرة بالحب من الإنسان، وحرية بالمشاركة والتعاطف والحنين، وفي النهاية نحن البشر منها وإليها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، والقرآن أعطى صورها بأنها كائن حي يعطي كعطاء الإنسان، وتضن حين تبخل السماء، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3. وكثيرًا ما يعود السنوسي إلى الطبيعة، وفي "عودة إلى الطبيعة" يقول: قريتي قريتي الوديعة يا عش ... ويا مقر جناحي طبع الله حبك العذب في قلبي ... ولم يمحه سوى الله ماحي يا ربي لج بي هواها فما ينفك ... نشوان من هوى ملحاح كم ترشفت من جمال لياليك ... فتونًا من الصبا والمراح وتنشقت من حلال مجاليك ... فنونًا من الشذى الفواح في الدجى والنجوم تغزل أحلام ... العذاري على صدور البطاح والضحى والغيوم ترسم في الوادي ... طلالًا ندية الأرواح والنسيم النشوان يحتضن الزهر ... رفيقًا كطيبة الفلاح الذي قلبه أرق من الطل ... وأصفى من الزلال القراح والذي يزرع الحقول بذورا ... وزهورًا بهمة وكفاح والذي يملأ القلوب شعورًا ... بجمال الطبيعة الممراح

_ 1 نفحات الجنوب: 120/ 123. 2 سورة فصلت: آية 39. 3 الحج: آية 5.

إلى قوله: قريتي قريتي الوديعة يا عرش ... فؤادي ويا مقر جناحي كلما ضمني دجاك ورقت ... نفحات الصبا على الأدواح وانتشى الكون بالعبير وراح ... السيل يختال في السهول الفساح يغمر الأرض بالنعيم غزيرًا ... ويهز القلوب بالأفراح نعمت روحي الكئيبة بالصفو ... وصحت من الأسى والجراح1 وهكذا إلى آخر القصيدة في طبيعة هادئة وديعة، يحتضن القلب بدفئها وحنانها ويستقر الإنسان ويسعد في أحشائها؛ لأن الله فطر القلب على محبتها، فلن يتزحزح من موطنه مهما عصفت العواصف، فمن رحيق الليالي يرتشف الجمال من الصبا والمراح فتونًا وألوانًا، ويستنشق من الحدائق الطيب الفواح والنشر الشذي، وفي الليل تجسم النجوم أحلام العذاري حقائق الخير على وجه الأرض، والضحى والغيوم ترسم ظلالًا ساحرة بالندى الفواح، والنسيم رقيق طيب كرقة الفلاح، فالطبيعة عنده هي المعلمة والقدوة تعلمه الرقة وتطبع فيه الصفاء، فالرقة ارتشفها من الزهر ومن الطل، والصفاء انساب فيه من الماء العذب الزلال، تجاوب بين الانسان وبين الطبيعة، فيهتز الكون طربًا بالعبير، ويتدفق السيل يختال في السهول وتنغمز الأرض بالنعيم، وتهتز القلوب بالأفراح والسرور. تلك هي خصائص الفن الرفيع في شعر الطبيعة الساحرة، التي أحبها الشاعر وأحبته، وتعاطف معها وتعاطف معه، وهام بها فألهمته أسرارها، وأنس إليها ففاضت عليه من خيراتها، فبادلها من شعوره شعرًا خالدًا لتبقى خالدة ما دامت الحياة. والسنوسي يعشق وطنه، الذي نشأ فيه وترعرع، فيتغنى بسهوله وجباله، وحواضره وبواديه، فيشدو بمدينة جازان ويقول: جيزان يا درة الجنوب ... الباسم الناعم الخصيب لكل قلب اليك شوق ... مضمح من هوى وطيب وأنت في روعة المجالي ... وسحرها الفاتن اللعوب عروسة الشعر والأغاني ... منية النفس والقلوب وأنت أنت الهوى المصفي ... للفن وللحب والحبيب2 ويحيي أبها عروس الجنوب فيقول:

_ 1 الأغاريد: 22/ 25. 2 أزاهير: 30/ 31.

تنورتها من وراء السحاب ... وبي وله نحوها وانجذاب فلاحت لعيني داراتها ... لآلىء منثورة في الشعاب تألقن والليل وصف الدجى ... وأشرقن والصبح كث الضباب نشاوى ترفرف أنفاسها ... بروح الصبا وعبير الشباب تنام بأحضانها الأمنيات ... كنوم الجداول في حضن غاب وأبهاء من وطني درة ... يفوق المدى قدرها والحساب ترى الشمس في جوها لوحة ... وتحسبها صورة في كتاب وتبدو الكواكب في أفقها ... على قاب قوسين من كل باب تبرح فيها جمال السمال ... وألقى غلائله والنقاب وباحت بأسرارها الكائنات ... فشف السنا وتجلى اللباب كأنك فيها على ربوة ... من النجم أو رفرف من سحاب1 وجبل "فيفاء" متحف رائع يلهم السنوسي فنه، فهو مصدر الشعر ينفث لسانه سحرًا، وقلمه بيانًا، وخواطره فكرًا وعبرًا، ووجدانه خيالًا وانطلاقًا: متحف من أشعة وظلال ... في إطار من نضرة واخضلال سابح في الفضاء يغمره النور ... بفيض من السنا والجلال مسرح الشعر والبيان ومسري ... لمحة الفكر وانطلاق الخيال2 ويقول في "أغنية فيفاء": لست فيفا أنت جنة ... تلهم الشاعر فنه إنه فوق بياني ... جل من أبدع فنه كل شيء فيك حلو ... أنت يا فيفاء جنه3 رابعًا: المدح شعر المدح عند السنوسي محدود، لم يستغرق كثيرًا من دواوينه، فقد سبق أن نوَّه النقاد بأن الشاعر لا يتكلف القول، ولا يقول ما لا يعتقد، ولا يمدح إلَّا من يستحق المدح، ولا يثني على أحد إلا بما هو أهل الثناء والتقدير، ولا يمدح إلَّا من يرى أنه أهل للمدح، وإذا مدح كان صادقًا في مدحه، قوي العاطفة في ثنائه وتقديره، في تجربة شعرية متدفقة قوية عميقة.

_ 1 أزاهير: 74/ 76. 2 الأغاريد: 26/ 30. 3 الأغاريد: 79/ 81.

خصبة في معانيها وخيالها وصورها الأدبية كالشأن في سائر الأغراض الأدبية في شعره. فأمَّا المدح في ديوانه "قلائد" فقد اشتمل على قصيدة "درة التاج ص1، 2" يمدح فيها الملك سعود في ملكه وحكمه، وقصيدة "البيعة ص3، 5" يمدح فيها الملك سعود ووليَّ عهده الفيصل، وقصيدة "خطاب العرش ص6، 7" يمدح فيها ملوك العرش السعودي، وقصيدة "وعد ملكي كريم ص8، 9"، يمدح الملك سعود -رحمه الله تعالى. وأما المدح في ديوانه "الأغاريد" نجده في قصيدة "أجنحة التاريخ ص4، 5"، وقصيدة "وردة ص89-92" مهداة للشاعر الكبير عبد القدوس الأنصاري، وقصيدة "سوزان ص93-96" مهداة للشاعر عبد الله القرشي تحيةً لديوانه "سوزان"، وكذلك "نشيد الجيش العربي السعودي ص97، 99"، وقصيدة "لم يفتك القطار ص100-102" مهداة لصديقه الأستاذ شكيب الأموي. وأما ديوانه "أزاهير" فقد ضمَّ قصيدة "البلبل الحيران ص17-19" مهداة إلى سمو الأمير عبد الله الفيصل، وقصيدة "من شعاع القناديل ص24، 25" مهداة إلى الشاعر الكبير الأستاذ أحمد قنديل، تحية لروحه الشاعرة، وفكاهته الساحرة. وأمَّا ديوانه "الينابيع" فنجد قصيدة "لقاء القائد بالشعب ص45، 46"، وقصيدة "البحر الأخضر ص67-70" تحية وتهنئة، مهداة لصديقه الشاعر محمد حسن عواد بمناسبة انتخابه عضوًا بالمجلس الأعلى للعلوم الآداب والفنون، ورد عليها العواد بقصيدة يمدح فيها السنوسي بعنوان: "مواطن العطاء في الإنسان" يقول في مطلعها: والوشي جاء منمقًا ومنمنمًا ... والظرف طالعنا بها متبسمًا واللمس كان موشَّحًا والحسن كان ... مصرحًا واللطف كان مسلمًا غرًّا من جيزان يرقصها النهى ... تيهًا ويمنعها الحياء تقدمًا أ "محمد بن علي" العالي الذري ... نسبًا سلمت إذا ابن آدم سلما1 وأما ديوانه "نفحات الجنوب" فقد ضمَّ قصيدة "نايف في جازان ص44-51" استقبل بها السنوسي سمو الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية لمنطقة جازان؛ للتعرف على مطالبها واحتياجاتها، في شعبان 1398هـ، ومنها: لك يا صاحب السمو مواقف ... أنت فيها ملء النهى والعواطف كان عبد العزيز يرنو بنور الله ... لما ولدت سماك نايف

_ 1 جريدة البلاد بتاريخ 17/ 11/ 1394هـ.

غمرت بالشذي الشواطئ والأرياف ... حتى الذريّ وحتى النتائف تحمَّلت في سبيل الرعايا ... وقدة الصيف والرياح العواصف وهكذا كل حاكم مستنير ... راحة الشعب همه لا المصايف قالها قبل أن أقول أبو حفص ... فكانت أنموذجًا للخلائف أنا لو ضاع في العراق بعير ... جئت يوم الحساب والحشر خائف إلى قوله: إن جازان سلة الخبز ما زالت ... تعاني عوائقًا وصوارف قيدت خطوات وشلت قواها ... فهي ظمأى وأنت كاللغيث واكف فلماذا جازان يبدو محياها ... كئيبًا وثغرها الحلو كاشف وهي أم الحقوق والزروع والضرع ... وبنت السيول طام وجارف وهي مرسى الجنوب تكتظ بالتفريغ ... والشحن من تليد وطارف نحن في عصر نهضة وانطلاق ... عزمها للصعاب والصخر ناسف وحرى بأمة أنت منها ... أن تراها على السحاب نوائف1 وقصيدة "رشة عطر ص75، 76"، أهداها السنوسي لأخيه غازي القصيبي، تحية لهديته النفيسة ديوانه "أبيات غزل" في عام 1396هـ، وقصيدة "ضياء الدين رجب"، لكنها أنين وأسى من خلال مدح السنوسي له. والمدح في شعر السنوسي اصطبغ بصبغة طريفة، وارتدى ثوبًا جديدًا، فلم تغلب عليه النزعة الفردية، ولم تسيطر فيه عناصر المدح القديمة الشخصية، فالممدوح كالهزير لا يشق له غبار سيفه بتار، وكالبحر جودًا، وكالشمس رفعة، والقمر ضياء، يفك العاني، ويعفو عن الجاني، وهو الكريم الشجاع الهمام، ذو المروءة، والنجدة، وسليل المجد والرفعة والشرف، وهكذا مما استغرق فيه الشعراء القدامي. لكن السنوسي لم يسلك هذا الطريق من المدح، بل كان المدح عنده يأخذ اتجاهين: أحدهما: المدح للملوك والقادة، ولم ينهج فيه منهج السابقين من المدح الفردي والشخصي، وإنما خرج عنه وجعله مدحًا اجتماعيًّا لا شخصيًّا وتمجيدًا للقيم والمبادئ المتمثلة في الممدوح لا ثناء على الفرد وحده بصفاته الذاتية؛ ليقوم المدح عنده على المشاركة بين الممدوح وبين شعبة ورعيته، وهو شعور متجاوب بين الحاكم والمحكوم في بناء الوطن الحبيب، وهكذا السنوسي كان في مدحه للملك عبد العزيز -طيَّب الله ثراه، وابنه الملك سعود في القلائد،

_ 1 نفحات الجنوب: 44/ 51.

ومدحه للملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- في قصيدته "لقاء القائد بالشعب" يقول فيها: يا أبا خالد يحييك شعب ... حبه فيك قد أذاب فؤاده أنت أعطيته الرعاية والعطف ... فأعطاك قلبه ووداده أنت أعطيته السعادة والعز ... فأعطاك مخلصًا أكباده أنت حققت حلمه وأمانيه ... وحسدت بالفعال مراده كل يوم لنا ابتهاج وعيد ... بأياديك نهضة وإشادة أيّ شعر يوفيك حقك والشعر ... عيي وإن أجاد جياده أنت فوق القصيد فوق الأناشيد ... خلالا وعزة ومجاده غير أن الشعور يتخذ الشعر ... سبيلًا إلى العلا مستجاده وإذا الروض جاده القطر ... غني كل طير ورغردت كل غادة عشت يا فيصل العروبة للشعب ... إمامًا وفي يديك القيادة1 وأشاد السنوسي بالملك فيصل في قصائد كثيرة ذكرتها في مكانها من الغرض الأول وهو الشعر الإسلامي؛ لأنني رأيت فيصلًا فيها قد أصبح شخصية عالمية، وزعامة إسلامية كبرى، ذابت فيها فرديته في قضايا الأمة الإسلامية ومبادئها السامية، فأصبحت هذه القصائد لا تمجِّد شخصه، وإنما هي تصوير لواقعنا الإسلامي والعربي، وتعبير عن مبادئ التشريع الإسلامي، فخرجت عندي بذلك على قصائد المدح المعروف، والتي دخلت فيها القصيدة السابقة "لقاء القائد بالشعب" لأنها أدخل في باب المدح، لكنها مع ذلك ليست مدحًا فرديًّا، لكنه مدح تجاوبت فيه أصداء الراعي مع الرعية يتمسكون جميعًا بالقيم والمباديء في سبيل نهضة بلادهم ووطنهم السعودي، فهو مدح جديد وهو "المدح الاجتماعي". ولست مع الدكتور بكري شيخ أمين في أنَّ السنوسي كان معظم شعره في الغزل والمدح كسائر الشعراء في عصره، فيقول ما نصه: "فريق من الشعراء انحاز إلى الموضوعات التقليدية فكانت معظم قصائده في الغزل أو المديح أو في غيرهما كابن عثيمين، وعبد الله الفيصل، وغادة الصحراء، ومحمد بن علي السنوسي، وفؤاد شاكر، وأحمد الغزاوي، وأحمد جمال"2. والسنوسي ليس كذلك، فقد رأينا أن معظم الأغراض عنده غلب عليها غرض الشعر

_ 1 الينابيع: ص45/ 46. 2 الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: ص274/ 275.

الإسلامي، ولم يكن عنده غزل بالمعنى التقليدي الذي ذكره، ولكن غزله صبه الشاعر في شعر وجداني تأملي جديد، وكذلك المدح لم يكن تقليديًّا كما قرنه بغيره من الشعراء، بل صبغ مدحه بصبغة جديدة في ثوب طريف، وهو المدح الاجتماعي لا الفردي. ثانيهما: والاتجاه الآخر في مدحه جديد كله، في طريقه عرضه وفي موضوعه، وفي طريقة أدائه، وفي مزجه بالطبيعة ومظاهر الحياة، فهو مدح للعلم والشعر في ذات عالم وذات شاعر، أخذ إطارًا محدودًا محليًّا ووطنيًّا، لا إطارًا عالميًّا حضاريًّا كما سنرى في غرض عند الشاعر أطلقت عليه شعر الحضارة والعلم وسيأتي بعد، ومن شعره في هذا الاتجاه الثاني قصيدة "البلبل الحيران" التي أهداها الشاعر إلى صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر المبدع "عبد الله الفيصل" قال1: رُبَّ لحن جماله لا يبيد ... صاغه للقلوب قلب عميد نحسد الطير في رباها ولا ... نعلم ماذا يكابد الغريد ووراء السنا فؤاد شقي ... ووراء الدجى فؤاد سعيد قلت للصادح المرفرف في ... الروض علام الأنين والتسهيد ولك الظل والشذى والأزاهير ... نشاوي يحلو بين الوجود والزلازل النمير والنور والنوار ... والنبع صافيًا والورود والندى والنسيم والأفق الطليق ... ورحب من الفضاء مديد وسماء كما تشاء وآفاق ... كما تشتهي وكيف تريد وليس الأمس مشرق يملأ النفس ... جلالًا واليوم زاه مجيد فشدا شاكيًا وردد صوتًا ... عبقريًّا له جمال فريد ماج في رحبة السكون وفا ... ضت في معانيه روعة وخلود كان "وحي الحرمان" من فيضه ... السمح ومنه أنغامه والقصيد في طراز من البيان رشيق ... لا غموض فيه ولا تعقيد في ثغور الحسان منه أغاريد ... ومنه على النحور عقود وله في فم المغني أناشيد ... وفي عوده له تغريد وهو كالماء سلسبيلًا وكالنور ... صقيلًا قديمه والجديد

_ 1 ردًّا على قصيدته "حيرة" التي أهداها إلى الشاعر السنوسي في جريدة البلاد - عدد 2930 بتاريخ 8/ 7/ 1388هـ، ومطلعها: أنا في حيرة أموت وأحيا ... كل يوم وأدمعي في شهود

كان "ابن المعتز" يعتز بالشعب ... وإن رفرفت عليه البنود ومضى واسمه يردده التاريخ ... لحنًا يزينه الترديد وحياة الهنا أجل وأبقى ... يا أمير العلا رعتك السعود فالسنوسي هنا لا يمدح سمو الأمير الشاعر بصفات المدح التقليدية المشهورة عند الشعراء القدامى، ولكنه يمدح عبقريته الشعرية، وإلهامه الأدبي في القصيد، فالشعر الجميل لا يبيد؛ لأن عميد الشعر صاغه للقلوب من وحي عبقريته التي امتزجت بالطبيعة والحياة، فهي خير وسيلة للوحي والإلهام؛ لأننا لا ندري لغة التغريد عند الطيور، ولا ما وراء السنا، ولا في حنايا الظلام والظل، والشذى والأزاهير، والزلال النمير والنور والنوار، والنبع الصافي، والندى والنسيم، والأفق الطليق، والفضاء الواسع، والماء والآفاق، والأمس المشرق، والنهار الصافي ... لا ندري ما وراء ذلك، لكن "وحي الحرمان" صور كل ذلك من فيض الشاعر السمح، وأنغامه في بيان رشيق، لا غموض فيه ولا تعقيد، فأصبح في ثغور الفاتنات أغاني وأناشيد، وعلى نحورهنَّ عقود ولآليء، وفي الحياة كان ماء عذبًا سلسبيلًا، ونورًا مشرقًا مصقولًا؛ لأنه لحن الخلود الذي يبقى يردده التاريخ، كما رددته من قبل ألحان الخليفة الشاعر "ابن المعتز" يرن صداه خالدًا في جنبات الخلود. وأظنك أنت معي الآن فيما اتجهت إليه، وهو أن هذا المدح جديد في أسلوبه ومنهجه، حيث تقمص مظاهر الطبيعة، لتعبر بوحيها كما يهدف الشاعر، ولها من الإيحاء والألغاز والأسرار ما يبهر العقل، ويستبد بالقلب، ومن وحي الطبيعة وأسرارها كان ديوان الشاعر "وحي الحرمان"، وليس فيه نبرة من مقومات المدح القديم، اللهم إلا أن الشاعر شبَّه الملوك بالملوك، شبَّه الأمير عبد الله الفيصل بالأمير العباسي عبد الله بن المعتز، إن كلًّا منهما ملك شاعر سطر التاريخ لهما الخلود بشعرهما وإبداعهما الفني. ومن شعر المدح للسنوسي في هذا الاتجاه قصيدة "من شعاع القناديل" التي أهداها الشاعر إلى أخيه الشاعر الكبير أحمد قنديل يقول1: حلوة هذه القناديل حلوه ... فترنم بها سرورًا ونشوه مرح آسر ولفظ ضحوك ... لطفه يجذب الكسائي نحوه كلما تموج بالهزل والجد ... وفي هزلها وفي الجد صحوه تنطوي في دعابها حكم العقل ... رقاقًا بلا جفاء ونبوه صاغها شاعر يرفرف كالطير ... على نبعه ويختار صفوه شعره مثل روحه رفة الزهر ... رواء ورنة العود غنوه

_ 1 أزاهير: 24/ 25.

وكذلك قصيدته "وردة" التي أهداها إلى الأستاذ الكبير عبد القدوس الأنصاري تحية لكتابه "تاريخ جده" ومطلعها: أضاف إلى سنا التاريخ جده ... كتاب صيغ في "تاريخ جده" إلى قوله: كتابك تحفة للتاريخ فنًّا ... وأسلوبًا وتحقيقًا وجوده زففت به إلى الدنيا عروسًا ... لأعتاب مقدسة وسده تألق حسنها وأضاء حتى ... أعاد شبابها للبحر مده ففاض على جوانبها غزيرًا ... ومد ذراعه خيرًا وزنده وصفق قلبه الجياش شوقًا ... إلى ثغر الحجاز وهز قده وغازل في شواطئها الأماني ... ترف نضارة وتموج رغده وغرد للجمال وقد تجلى ... يضم الروض سوسنه ورنده بلغت أبا نبيه ذرى المعالي ... بنفس للمعالي مستعده ومن حمل اليراع وكان جلدًا ... على تبعاته أعطاه مجدة1 وفي هذه القصيدة يمدح السنوسي العلم والتاريخ في شخص العالم المؤرخ، لا على طريقة المداحين المقلدين للقدماء، ولكن في نهج جديد، وأسلوب طريف، فكتاب الأنصاري تحفة في التاريخ أسلوبًا وتحقيقًا وجودة، وعروس زفت إلى الدنيا على أبواب الأرض المقدسة الطاهرة، وفي حصن من حصونها، فأشرق جمالها على الحياة، وأعادت للبحر سيادته وقوته، ففاض غزيرًا على جوانبه، يصفق قلبه شوقًا إلى ثغر الحجاز في رقصات رشيقة ودلال مع الشواطئ، يرف نضارة، ويموج ثراء، ويعزف أوتار الجمال، فتهتز الأزهار والسوسن طربًا وشوقًا؛ لأن كتابه قد بلغ المعالي بهمته، ومنحه التاريخ مجدًا وخلودًا. لا تجد وصفًا من أوصاف المدح التقليدي في هذه الأبيات التي اقتصرت عليها، وبقية القصيدة التي تسير على هذا النهج والأسلوب والطريقة الجديدة في المدح والثناء. وكذلك مثل قصيدة "سوزان"، فهي كما يقول السنوسي باقة من شعور كريم ... مهداة للصديق الشاعر حسن عبد الله القرشي تحية لديوان "سوزان" ومطلعها: "سوزان" هذا الاسم من ركبه ... يا ما أحيلاه وما أعذبه من ذوب السكر في جرسه ... فذاب حتى كدت أشربه

_ 1 الأغاريد: 89/ 92.

وهكذا إلى آخر القصيدة، وكذلك قصيدته "البحر الأخضر" مهداة للصديق الشاعر محمد حسن عواد ومطلعها: الأرض يحيها السحاب إذا همر ... ويحيلها قلبًا وينطقها فما1 وهكذا في قصائده كثيرة وردت في الينابيع والأغاريد والأزاهير والقلائد، تسير على هذا النمط من المدح في ثوب طريف واتجاه جديد. خامسًا: الشعر الاجتماعي: وهذا الغرض لا نستطيع أن نحكم عليه بأنه غرض أدبي قديم، بل هذا الغرض لا بُدَّ أن يكون جديدًا؛ لأنه يصور المجتمع الذي يخالطه الشاعر، ولا شك أن هذا المجتمع يختلف عن المجتمعات التي سبقته بما يتناسب مع المرحلة التاريخية التي يعيشها الإنسان، فإنسان اليوم الاجتماعي غيره بالأمس، والمجتمع في المستقبل يختلف كثيرًا؛ لأنه يمثل مرحلة تاريخية نابعة من عصره ومجتمعه، ولذلك كان هذا الغرض جديدًا في أسلوبه ونهجه ومعانيه وموضوعاته. وجاء هذا الغرض في بعض دواوينه مثل قصيدة "صورة شعرية ص44، 45"2، وقصيدة "اليتيم السعيد"3، وقصيدة "أتمنى"4، وقصيدة "لكل صابون ليفة"5، وقصيدة "كوكب الشرق"6. وفي "صورة شعرية" يقول السنوسي في مقدمتها: "مهداة إلى كل وزير في بلادي الفتية" منها: يا معالي الوزير إن الوزارة ... علم رائع السنا بل مناره يرقب الشعب نورها وصداها ... أينما حلَّ ليله ونهاره مثل ما ترقب المراصد نجمًا ... تجتلي نوره وترعى مداره ومن الشعب تستمد المعالي ... ما لها من جلالة ونضاره

_ 1 الينابيع: 67/ 69. 2 الأغاريد: 44/ 46. 3 الأغاريد: 86/ 88. 4 أزاهير: 9/ 12. 5 أزاهير: 13/ 14. 6 الينابيع: 87/ 89.

والوزير العظيم يحتضن الشعب ... وآماله ويلقي دثاره يتبنى أحلامه وأمانيه ... بروح قوية جباره بسهر الليل كي يحقق رؤيا ... قومه في تقدم وحضاره واضعًا عينه على كل فرع ... وجهاز وشعبة وإداره يتقصى ويستحث ويوصي ... ويهز الكراسي الدواره ويمد الموظفين بروح ... منه وهاجة تشع حراره وهكذا إلى آخر القصيدة التي يصور فيها كل وزير في أي بلد كان، ولا في تصويره ما يشير إلى الحدود الوطنية، ولا إلى بلد معين، بل جعل صورته الشعرية إلى كل مسئول وزيرًا كان أو غيره، في تصوير عام يشمل كل من يتحمل مسئولية الشعب، وينوب عن المجتمع في كل مشاكله ويسهر على راحته؛ ليحقق آماله وأمانيه، ويدفع الأذى عنه، ويرفض التأخر والرجعية، وذلك بروحه القوية الجبارة، ويمدده البناء الوهاج، حتى يدفع أمته قُدُمًا إلى الأمام، لترقي إلى مدارج الرقي والحضارة. وهذا تصوير اجتماعي لكل وزير، بل لكل مسئول في أي موقع من مواقع العمل والإنتاج، في أي بقعة من بقاع العالم، ولذلك احتل شعره الاجتماعي مركزًا عالميًّا، فهو شعر إنساني عالمي بروح إسلامية عالمية، تحب الخير للإنسان في أي مكان، فكان السنوسي الشاعر السعودي الوحيد التي ترجمت قصائده إلى لغة أوروبية، ولعل هذا الجانب الإنساني الإسلامي العالمي في شعره هو الدافع الأساسي لانتشار شعره في العالم الغربي بلغة أخرى غير لغته العربية. ومن روائع شعره الاجتماعي قصيدته "اليتيم السعيد"1: راح يزهو عليه ثوب جديد ... وعلى ثغره ابتسام سعيد "برعم" من براعم الجيل مازال ... طريًّا غصينه الأملود أيقظته أشعة "العيد" ينساب ... على الكون فجرها المولود فصحا تشرق البراءة في عينيه ... والطهر والرضا والسعود هب من نومه يغني كما غنى ... على الأيك بلبل غريد وارتدى ثوبه القشيب وهزت ... قلبه الطاهر النقي البرود فمضى يملأ الشوارع رقصًا ... وغناء يفيض منه الوجود مرحًا في طفولة يستحب الر ... قص منها ويستلذ النشيد

_ الأغاريد: 86/ 88.

مرَّ من جانبي يزقزق كالعصفور ... في كل خطوة تغريد فهفت مهجتي إليه حنانًا ... أبويًّا يضمه ويزيد وتأملته مليًّا وفي قلبي ... سؤال به لساني يميد وسألت الوليد في نشوة العيد ... وقد سر بالسؤال الوليد أين من أنت يا بني؟ وأصغيت ... إليه وبي اشتياق شديد فرنا باسمًا إليَّ بعين ... شاع في لحظي الجواب السديد أنا يا سيدي يتيم ولكني ... "سعيد" لا بائس أو شريد سكني وارف ومائي مسكوب ... وزادي مرفه منضود وفؤادي تربة من يد العلم ... يدبره وقلب ودود فانتشى قلبي المغرد وانثالت ... قوافيه واستفاض القصيد صورة شعرية طريفة، تجسدت في تجربة شعرية عميقة وصادقة لكل يتيم، لا في شخص اليتم الذي تسلطت عليه منافذ الإدراك عند الشاعر أثناء التقاطه الصورة الحية النابضة، فاليتيم صوَّره الشعراء قديمًا وحديثًا، ولكن السنوسي تميِّز عن غيره من الشعراء في طريقة العرض ومعالجة الموضوع، من أهم المميزات: أولًا: أقام الشاعر حوارًا قصصيًّا بينه وبين اليتيم الذي خدعه عن اليتم مظهره وشكله، وصرفه عن الحقيقة فرحه وبهجته بالعيد، حتى تورط الشاعر في سؤال قد تكون عاقبته غير محمودة لو كان الولد يتيمًا بائسًا شقيًّا؛ لأن صورة اليتيم في القصيدة تتحرك في إطار مجمع مثالي، يؤمن بواجبه نحو الضعفاء والمساكين، فلا يرضون لأنفسهم أن يتجمد عضو مشلول في جسد الأمة الواحدة التي توحد بينها صفة الإنسانية والعلم والمعرفة، وحينما يكون المجتمع كذلك، يصير مجتمعًا أخلاقيًّا مثاليًّا رفيعًا، لا تجد فيه بائسًا ولا شقيًّا، بل ترفرف على الجميع ألوية السعادة وبنود الحبور، يقول اليتيم: أنا يا سيدي يتيم ولكني ... سعيد لا بائس أو شريد سكني وارف ومائي مسكوب ... وزادي مرفه منضود ثانيًا: إن الشاعر جعل سبب الأسباب في سعادة اليتيم لا ترجع إلى العطف والحنان، ولا في كفاية الزاد والكساء، ولا في بحبحة العيش والثراء، وإنما ترجع إلى العلم، فهو وحده كفيل بتحقيق السعادة لليتيم، فبالعلم والمعرفة تعمر القلوب والعقول، فتفيض بالبر والخير والمودة والمحبة؛ لأن العلم هو الغنى الحقيقي، والثراء الدائم، الذي يطيل كنزًا خالدًا لصاحبه. والعلم والشريعة والقرآن يسمو باليتيم محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى شرف الرسالة، فيكون خير البشر.

جميعًا وأشرفهم وأفضلهم عند الله -عز وجل، وعند الناس خلودًا وبقاءً وتشريعًا ونورًا ومعرفة واستقامة وبناءً وتقدمًا وحضارة. وفؤادي تربة من يد العلم ... يدبره وقلب ودود فانتشى قلبي المغرِّد وانثالت ... قوافيه واستفاض القصيد ومن شعره الاجتماعي أيضًا قصيدته "أتمنَّى" ومطلعها1: أتمني أنني لا أتمنى ... فلقد بت بآمالي معني المنى يا للمني من زورق ... مارسًا يومًا ولا نحن وصلنا يصور صديقًا يتمنى له موفور السعادة وراحة البال ورضى النفس؛ لأنه يطوي بين أحشائه قلبًا فاسدًا، وصدرًا يغتلي حقدًا، ونفسًا تفيض حسرة وألمًا، وفكرًا محمومًا بالبغض والكراهية. ثم يتمنى لعدوه أن يبصره الله بالحق، وأن يدير يديه لا بالسلاح والنار، ولكن بالدليل والعقل والبرهان، وإلَّا كان فظًّا غليظ القلب، جهولًا لدودًا. ثم يتمنَّى لرئيسه حكمة وللمرءوسين نشاطًا وأمانة، كل يؤدي واجبه، مهما كان الإنسان مظلومًا. ثم يتمنى لوليده أن ينشأ نشاة صالحة مثله، ينزع في شبابه عن إجلال وحب ورياسة مترفعًا عن صغائر الأمور، عاشقًا للمعاني النبيلة والأخلاق السامية. وفي المقطع الأخير يتمنى لمجتمعه أن يكون رائد الفكر قوي المشاعر، ميقوظ الوجدان، يرفض الزيف، ويعشق المجد، ويسمو إلى المعالي في فكر أصيل، ومنهج قويم، وضمير حي طاهر.. يتمنى كل ذلك لكن الأماني زورق تتلاعب به الأمواج وتعصف به الرياح، ويرتطم بالصخور والعقبات عبر الأزمان والأجيال يقول في المطلع الأخير: أتمنى أن أرى مجتمعي ... لوذعي الفكر مصقول الشعور يرفض الزيف نهاه ويرى ... وعيه اليقظان ما خلف القشور يعشق المجد ويمشي للعلا ... مستقل الفكر شفاف الضمير المنى يا للمنى من زورق ... لم يزل يجري بنا عبر العصور أما قصيدته "لكل صابون ليفة" يصور فيها "النفاق والمنافق" في أبشع صورة، وأقبح.

_ 1 أزاهير: ص9 وما بعدها.

منظر، فهو كالحرباء يتلوّن حسب أغراضه وحاجاته بألوان كثيرة، بل الحرباء قد استحيت منه؛ لأنه بلغ في طبعه المر، وخداعه العلقم، ونفاقه اللاذع حدًّا، اندفع به إلى مواطن الخزي والاعتداء، حين أخذ المنافق مكان الحرباء ودورها ليؤدي وظيفتها التي خلقت من أجلها {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ... يقول السنوسي1: أصدقائي أم أصدقاء الوظيفة ... أنتم يا ذوي النفوس الضعيفه الأولى تهزأون بالمثل العليا ... وتلهون بالمعاني الشريفه بسمات ملونات وأخلاق ... وصولية غلاظ سخيفه ونفاق ملون تخجل الحرباء ... منه فتثني مكسوفه تتدلى وتستكين وتنماع ... وتغدو لكل صابونة ليفه فإذا ولت الوظيفة ولوا ... وأثاروا عليك حربًا عنيفه خلق يشمئز منه كريم النفس ... والطبع الخصال المنيفه يا لنفسي من أنفس تقذف الحبر ... عداء من الثياب النظيفه وعلى كل جانب من قذاها ... قذر يزكم الأنوف وجيفه خضت في بحرها وكنت غريرًا ... فطفا موجهًا وكانت حصيفه أوجه كالبلاط لا تنبت الزهر ... وإن كانت المياه كثيفه وقلوب مثل الكهوف ظلامًا ... والضحى يغمر الوجود مخيفه غير أني وإن تألم قلبي ... فهو ما زال كالظلال الوريفه لست خبًّا والخب قد يخدع ... البر وهذه حكاية معروفه سادسًا: شعر الحضارة الحديثة ومن الأغراض الجديدة في شعر السنوسي ما أنشده في التقدم العلمي والأدبي الحديث، ومظاهر الحضارة المعاصرة، فيصور هذا التقدم من خلال مشاعره وخواطره في تجربة شعورية مشحونة بالعاطفة القوية التي تجاوبت مع أحداث عصره، واستجابت لوسائل التقدم الحضاري، فأخذت موقعها من شعره، بعد أن أخذت مواقعها من حياتنا كلها العملية والنظرية على السواء، فالشعر القوي النابض والصادق هو قطعة من الحياة التي يعاني تجربتها الشاعر، ومقطع من شريط الدنيا له منزلة كبيرة بمقدار ما يسهم في تطور الحياة ويشارك في بناء حضارتها كجزء من أجزاء التاريخ البشري إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

_ 1 أزاهير: ص13/ 14.

فأمَّا الديوان الأول "القلائد" فنجد قصيدة "في موكب الفن ص42-51" يصور فيها السنوسي شخصيات روَّاد الأولمب الخالد، تقديرًا لفنِّهم الشعري الذي يمثل حضارة الأدب السعودي المعاصر، وكانت هذه الندوة في هذه المرة في دار الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل تكريمًا للسنوسي في 2/ 6/ 1376هـ، وفيها كوكبة من شعراء الأولمب وأدبائه سبق ذكرهم، وقصيدة "أحمد أمين العالم والأديب المصري الكبير ص88-95" يسمو بما قدمه الرجل للعلم والأدب والنقد في عصره، وهذه أبيات منها: ثمن المجد أن تعيش غريبًا ... فيلسوفًا أو شاعرًا أو أديبًا تتحدى عواصف الفكر والرأي ... وتلقي سلم النهى والخطوبا يا حياة كانت على العلم أزكى ... من حياة الربيع خصبًا وطيبًا فجرت في مسارب الكون نبعًا ... وهي تستقطر الحياة حبوبًا "فجرها" و"الضحى" على الأفق ... العلمى مجدًا يخلدان الغروبا حملت من رسالة الفكر نورًا ... ومضت تنشر اللواء القشيبا تستثير الحقول من كل فن ... من فنون النهى وتحيي الجديبا دقة العالم الذي يزن اللفظ ... ويستخلص النضار المشوبا وخيال الأديب وهو شعور ... جنحت روحه وهبت هبوبًا أيها الباحث المجدد للشرق ... تراثا يحيى النهى والقلوبا عجب هذه الحياة وسر ... أعجز العلم كشفه والطبيبا في رحاب الوجود تحتل ذكراك ... مكانًا من الخلود رغيبًا عاليًا عاليًا تمر به الأيام حسرى ... والدهر يمشي دبيبا1 وقصيدة المنهل ص179-186" بمناسبة اليوبيل الفضي للمجلة، وما شاركت به في بناء حضارة المملكة في الفكر والأدب، وقصيدة "مولد النور ص197-203" بمناسبة افتتاح محطة الكهرباء بجازان في الليلة الأولى من شهر ذي القعدة عام 1378 هـ، ومنها: قلت ماذا أرى وقد برق النور ... ولم ترتجز هناك بروق تتسامى إلى الفضاء ويعلو ... كعمود الصباح منها العمود تتدلى بها المصابيح "كالطلح" ... على كل "قائم" عنقود لا فتيل ولا ذبال ولا شمع ... فماذا إذن وكيف الرقود همست كهرباؤنا وأجابت ... وعلى ثغرها المشح نشيد

_ 1 القلائد: 88/ 93.

إنني شلة تحكم في العلم ... والعلم حاكم لا يجيد موقدًا ما تشاء منِّي إذا أحببت ... نورًا مطفئًا ما تريد أنا من "طاقة" يولدها الماء ... ومن قوة حواها الحديد جل من سخر السموات والأرض ... وما فوقها لمن يستفيد إن "فلتًا" وإن "واتًا" و"أمبيرًا" ... عقول عظيمة وجهود تلك أسماؤهم تشير إليهم ... في رموز لها جمال فريد أي عصر هذا وأية دنيا ... شادها سيد البلاد سعود المطارات والقطارات والأضواء ... والهاتفات والتعبيد والرقي الحديث والعمل البناء ... والانطلاق والتشييد قد قرأنا عن الحضارة والعمران ... والملك وما روته الجدود واستمعنا إلى التاريخ والأسفار ... تبدي حديثها وتعيد ورأينا حضارة ما رآها ... "قيصر" في جلاله و"الرشيد" إي وربي لم يركب "التكسي" ... هارون ولا سار في القطار الوليد سهر الليل بالقناديل كسرى ... وعلى الشمع كان يقرأ يزيد أين تلك العصور من عصرنا العلمي ... نورًا لا يعتريه الخمود ويصوغ الأقمار تجري مع ... الأفلاك سيارة مداها بعيد خضعت للورى المسافات فيه ... وتهاوت حواجز وحدود وتساوي بنعمة العلم ... الآلات والفن سيد ومسود وجرت هذه الحياة كما تجري ... الينابيع كل يوم تزيد. لو رآها لبيد ما سئم الدنيا ... ولا ضاق بالحياة "لبيد"1 وهكذا إلى آخر القصيد من مطلعها حتى نهايتها تصور حضارة العلم الحديث، وما قدمه للبشرية من وسائل التقدم والرقي التي لا تحتاج إلى جهد في أناقة ورقة وانتظام، فقد تعددت وسائل الحضارة في القصيدة التي تفجرت عن الكهرباء وهي التكسي والقطار، والهاتف والمطار والطيران، وتعبيد الطرق وتشييد العمارات والمؤسسات، والأقمار الصناعية العابرة للقارات والمحيطات، والطاقة والذرة، والآلات والمعدات الحديثة، وغيرها من وسائل التقدم العلمي والحضاري في تصوير أدبي رائع وخيال خصب موفور، وأفكار عميقة رحبة، وصور شعرية غزيرة بالأضواء والألوان والظلال والإيحاء والأشعة التي تخطف الأبصار ويغوص في أعماقها العقل -عقول عظيمة وجهود- في رموز لها جمال فريد، والرموز هي الفولت - الوات - الأمبير" أي عصر هذا وأية دنيا؟!

_ 1 القلائد: 197/ 203.

وقصيدة "جامعة سعود ص212-219" التي توارت وراء جامعة الرياض حينًا، ليعود سعود إليها كما كانت من قبل جامعة الملك سعود بعد خمس وعشرين عامًا من افتتاحها، وذلك في الاحتفال باليوبيل الفضي لها في عام 1402هـ، ومطلعها: العلم أقوى سلاح في يد الأمم ... فاصرع به الجهل تحيا خافق العلم واملأ حجاك به نورًا فإن له ... فجرًا من الحق يجلو كل مبهم وجددوا عزة الأجداد وإنكموا ... أحفاد قوم محو أمية الأمم كانوا أساتذة الدنيا وسادتها ... في الحرب والسلم والتشريع والنظم1 وأما الحضارة في "الأغاريد" في قصيدة "طموح ص51-53"، وقصيدة "إلى غزاة الفضاء"، ومنها 2: عيشوا على الأرض أحبابًا وإخوانًا ... ونسوقها أزاهيرًا وريحانا وطهروها من الأحقاد واتخذوا ... طريقكم في سبيل الحق أعوانًا وأنفقوا ذهب الدنيا وفضتها ... للخير والبرِّ أرواحًا وأبدانا وانقذوها من الوحش الذي ابتليت ... به الحضارة آمادًا وأزمانًا وامشوا على ظهرها هونًا فما برحت ... تحس في خطوكم بغيًا وعدوانًا ليس الحضارة "صاروخًا" و"قنبلة" ... ولا التمدن "أقمارًا" و "أفرانا". إن الحضارة أسماها وأرفعها ... أن تحسن المشي فوق الأرض إنسانًا إلى قوله: "محمد" رائد الدنيا وقائدها ... إلى المحبة أجناسًا وألوانًا شريعة كشعاع الشمس نيرة ... الناس في ظلها كالمشط أسنانًا فاءت إليها شعوب الأرض واعتصمت ... بحبلها وسمت أمنًا وإيمانًا من المدينة من أطوادها انطلقت ... لا من "نيورك" ولا "موسكو" وإيفانا "مدينة النور" عاد النور منطلقًا ... من لا بتيك قويا مثل ما كانا وفي "أزاهير" من الحضارة العلمية "رحلة القمر ص26، 29"، وفي "الينابيع" قصيدة "تحية المعهد العلمي ص85، 86"، وفي نفحات الجنوب" قصيدة "جزيرتي ص9، 23، في عام 1397هـ، وقصيدة "على آلة التلفاز ص71، 74" في عام 1397هـ ومطلعها:

_ 1 القلائد: 212 / 219. 2 الأغاريد: 73/ 76.

على آلة "التفاز" للفن ألوان ... بها ابتسمت أبها وأشرق جازان ضغطت على أزراره فتألقت ... بشاشته البيضاء حور وولدان روائع علم أتقن العقل صنعها ... وكم رفع الإنسان علم وإيمان رأيت بها من صحن بيتي عوالما ... تطالعني والجو برق وهتان لقيت بها صحبي وبيني وبينهم ... مسافات أبعاد طوال وأزمان1 وقصيدة "المنهل في عامه الثاني والأربعين ص77-79" في عام 1398هـ، باعتبارها تؤدي رسالتها العلمية والأدبية والحضارية، في اثنين وأربعين عامًا مضت عليها، وقصيدة "هموم الحياة ص92-94"" يصوّر فيها الحضارات المعاصرة، من فلسفات شيوعية ورأسمالية، وكيف هوت وسقطت أمام حضارة الإسلام، وشموخها في كل عصر، فالسكينة والنور واليقين في الإسلام، ومطلعها: يا هموم الحياة إن فؤادي ... لا يباليك فاقصري أو تمادي إنني في سكينة من هدى الدين ... ونور اليقين ذخري وزادي كتب الله لي حياتي ورزقي ... فتنحِّي يا فلسفات العباد من شيوعية يصير بها الإنسان ... ترسًا في آلة الحداد و"رأسمالية" يزيد يها الإنسان ... بؤسًا في سعيه لازدياد أنا آمنت بالذي خلق الكون ... وما فيه من هدى وفساد2 وقصيدة "على ضفاف دجلة" ألقاها الشاعر في قاعة ابن النديم بمقر اتحاد الأدباء العرب ببغداد، في الملتقى الأدبي الذي أقامه الاتحاد تكريمًا لأعضاء الوفد الأدبي السعودي، وكان السنوسي أحد أعضاء الوفد3. أما قصيدة "العقاد العملاق" يقول فيها السنوسي، منها: عاش للفكر عيشة الزهاد ... وهو في ثروة من الأمجاد ثروة ثرة من العلم والجسم ... تجلَّى بها رفيع العماد علم تنتهي إليه ذرى الأعلام ... والنابغين والرواد كان في الشرق قلعة من قلاع الفكر ... جبارة لصد الأعادي

_ 1 نفحات الجنوب: 71/ 74. 2 نفحات الجنوب: 92/ 94. 3 نفحات الجنوب: 104/ 111.

لم يكن ينحني لغير جلال الحق ... والحق منطق العقاد قلم رائع البيان وعقل ... عبقري ذو قوة واعتداد إن أفاض الحديث قلت جرى ... السيل وفاض العباب من كل واد وإذا أوجز الكلام ترامت ... قطرات الندى على الأوراد وإذا ما عدا يوضح فهمًا ... نشر النور في سواد المداد وإذا ما مضى يجادل خصمًا ... جاء برهانه كما الفجر هادي حجة النابغين في أدب الضاد ... ونبراس كل هادٍ وشاد كم له من يد على اللغة الفصحى ... وتاريخها تبزّ الأيادي تحتمي في ذراه من كل أفاك ... وتزهو به على كل ناد مات يا للمصاب.. الله.. إني ... لأحس الأسى يذيب فؤادي لا لم يمت أبو "العبقريات" ... النشاوي و"الترجمات" الجياد إلى قوله: وأفاقوا على الحقيقة "والمذياع" ... يهتز من فم رعاد كان صوت العقاد يصهل من فيه ... فأضحى صدًى لذاك الجواد رحم الله ذلك الكاتب العملاق ... في كل مذهب واعتقاد1 لا أظن أحدًا يقول إن هذه القصيدة في رثاء العقاد، نبرات الحزن والأسى والدموع التي تسير في ركاب الرثاء ولا نحس بها هنا، وإنما الذي نراه ونسمعه هي شموخ العقاد العملاق الذي ما زال خالدًا في التراث الحضاري من بعده، الذي ملأ الأفق، مما جعل السنوسي ينسي الغرض وهو الرثاء، ويصور ما هو أهم وأجدى للبشرية، وهو الأعمال الجبارة التي شيدها العقاد في الفكر والعلم والأدب والفلسفة والإسلام واللغة الفصحى وسواها موسوعات العقاد، في كل مذهب واعتقاد. لهذا يا أخي لا تلمني إن قلت: إن هذه القصيدة وأمثالها والتي تسير على نهجها مدحًا أو رثاء هي أدخل في غرض الحضارة لا في غرض الرثاء، كما لا أرضى أن تكون هذه مرحلة متطورة من مراحل تطور الرثاء؛ لأن شعر الحضارة في العصر الحديث ينبغي ألا يكون غرضًا أدبيًّا تابعًا، بل يجب أن يكون غرضًا أساسيًّا يقف شامخًا بجوار الأغراض الأدبية الأخرى، كيف لا وقد أصبحت وسائل التقدم الحضاري تسد الأفق، وتسيطر على الحياة وتأخذ المنزلة الرفيعة في قلوب الناس وعقولهم إنها ليست غرضًا مستقلًّا فحسب، بل هي أساس الأغراض ومصدرها، وفي النهاية غرض الأغراض الأدبية الحديثة.

_ 1 الأغاريد: 58/ 61.

ومثل هذا الغرض الجديد في شعر السنوسي يسمو بالشاعر إلى منزلة رفيعة بين شعراء العصر الحديث، الذي يعيش مع عصره بعقله وقلبه ووجدانه وعاطفته وأدبه وتصويره الشعري. سابعًا: الوصف: والوصف من الأغراض الأدبية في شعر السنوسي، نجد في ديوانه "الأغاريد" قصيدة "يا قلمي ص33-35"، وقصيدة "الكتاب ص69-72، وفي أزاهير" نجد قصيدة "الحصان المقيد ص72، 73"، يقول في قلمي: هلمَّ إليَّ يا قلمي ... هلم فقد طغى ألمي فأنت إذا أشرت يدي ... وأنت إذا صرخت فمي وأنت نجي أهاتي ... وأناتي ونبض دمي وأنت إذا بكيت أسى ... دموعي فضن في كلمي وأنت إذا صبوت هوى ... وغنيت الهوى نغمي وأنت ملاذ آمالي ... إذا ضاقت بها هممي أبثك ما أنوء به ... من الأرزاء والنقم فتصغي لي بلا ضجر ... ولا ملل ولا سأم حملتك في سبيل الحق ... والآداب والقيم وكنت وما أزال بها ... رضيعًا غير منفطم أهيم بها وإن جرحت ... مناي وحطمت حلمي وأعشقها على الآلام ... والضراء والسقم وأسري في ظلام الدرب ... مرفوعًا بها علمي كما سار الدليل على ... ضياء النجم في الظلم1 مع أن خصائص الوصف تقوم على تصوير ظواهر الأشياء من غير استبطان لأعماقها، وتجاوب معها، لهذا انصرف السنوسي عنه إلى الأغراض الحية النابضة ولم نجده إلَّا في ثلاث قصائد. لكن الشاعر تجاوب مع القلم وكأنه صديق له ونجيّ يناجيه إليه آلامه، فهو هواه ونغمه الشجي يبثه همومه، فيصغي إليه بلا سأم ولا ضجر، وهو خير من يحمل الأمانة في سبيل الحق والعلم والآداب والقيم، مهما لقي في سبيل ذلك من العنت والآلام وتجشم الضراء والأسقام، يسير إلى غايته مرفوع الجبين في ظلام الليل وعقبات الحياة لتحقيق الهدف الواضح أمامه كوضوح النجم في الظلام الدامس.

_ 1 الأغاريد: 33/ 35.

فالشاعر جعل من القلم شخصًا يحسّ ويتألم ويتحمَّل الأمانة ويدافع عنها في سبيل الحق والقيم، إنه إنسان عاقل له رسالة يؤديها في الحياة كالشاعر تمامًا، ولولا أنَّ القلم لا يدخل في مظاهر الطبيعة لقلنا بأن القصيدة من شعر الطبيعة؛ لما فيها من تشخيص قوي نابض، وهذه أهم سمات الوصف عند السنوسي. ثامنًا: الرثاء: والرثاء هنا يسير على النمط التقليدي القديم غالبًا، على العكس من القصائد التي رثي بها الشاعر الملك فيصل في "وا فيصلاه" فقد غلب على القصيدة معالجة القضايا الإسلامية والعربية، ولذلك أدخلتها في غرض الشعر الإسلامي. وكذلك قصيدة "العقاد العملاق"، فقد أخضعها السنوسي بموهبته الشعرية وثقافته الواسعة إلى شعر الحضارة والفكر التقدمي المعاصر، لذلك أدخلتها في شعر الحضارة كما سبق. أما غرض الرثاء فيظهر عنده في "القلائد" مثل قصيدة "دمعة وفاء ص208-211" في ذكرى الفقيد محمد سعيد بامهير، الذي كانت حياته في جازان مثلًا رائعًا للتضحية في سبيل الوطن، ونموذجًا ساميًا من التفاني في خدمة الصالح العام. وقى "الينابيع" قصيدة "أبو حسن ص63-66" يقول الشاعر في مقدمتها "دمعة حزن وأنه أسى على فقيد الأدب والنبل والشهامة والمعالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان، الذي وافته المنية في القاهرة بتاريخ 2/ 2/ 1391هـ" يقول: "أبا حسن" لا الحزن يجدي ولا الدمع ... وإن كان في قلبي لوقدهما لذع تصاممت لما قيل مات "محمد" ... سرور قلوب كم به جبر الصدع فلما تبينت الحقيقة لم أجد ملاذًا ... سوى ما سنه الله والشرع إلى الله إنا راجعون وكلنا ... سيذهب لا فرد سيبقى ولا جمع أبا حسن ما العمر إلا مسافة ... من المهد حتى اللحد غايتها القطع مشيت إليها في أناة وحكمة ... بخطو رصين لا غبار ولا نقع وكنت المجلي سيرة وشمائلًا ... يهيم بها الرائي ويعشقها السمع مضيت كما يمضي الشجاع مخلفًا ... وراءك ذكرًا دونه الومض واللمع وأنت العصامي الذي شاد مجده ... بنفس لها في كل مكرمة صنع تساميت حتى بات كل مثقف ... يجلك إجلال الهوى والهوى طبع يرى فيك أخلاق الكرام تجسمت ... ممثلة يزهو بها الأصل والفرع أبا حسن غاض السرور الذي جرى ... على كل قلب من تدفقه نبع وضوع روض كان في كل مهجة ... بك اتصلت يندي بها النبت والزرع

وهكذا إلى نهاية القصيدة في وصف محاسن الممدوح الشخصية وشمائله التي اتصف بها في حياته، وعصاميته التي شاد بها مجده وخلقه الكريم الذي يتسامى به الأصل والفرع، وغيرها من الصفات التي لا يجدي على صاحبها الحزن ولا يرده الدمع، ولا يجبر الصدع، وليس أمام الإنسان إلَّا أن يلوذ بربه ويرجع، ويصير ولا يجزع، فالبقاء لله وحده سبحانه، وهذه صفات فردية تتصل بشخص المرثى، ولم يصورها الشاعر في قيم مطلقة، بل كان الحزن في الرثاء يتجه إلى شخصه لا إلى الإشادة بالقيم وتمجيدها لذاتها، كما في قصيدة رثاء الملك فيصل والعقاد وغيرهما، وعلى ذلك يكون هذا الغرض الأدبي من الأغراض القديمة التي سار فيها الشاعر على منهج القدماء في فن الرثاء. تاسعًا: الهجاء والهجاء عند السنوسي من الأغراض التي تناولها في شعره، لكن في ثوب جديد يخرج عن الهجاء التقليدي عند القدماء؛ لأن الشاعر لا يهجو شخصًا بعينه، ولا يهجو بألفاظ واضحة في السباب، أو صريحة في الشتم، فيهجو الانحراف الذي يخالف ما عليه المجتمع من تقاليد وعادات، ويذم التفسح الذي يخرج به عشاقه عن العرف السائد، وذلك في قصيدته "القدر الفنان" يقول في مقدمتها: "رمزنا بها إلى بعض الشباب المتفسح"1. رأيته وهو يمشي مشي فنان ... كأنه فارس في وسط ميدان يهز عطفيه إعجابًا بحلته ... ويمسح الشعر من آنٍ إلى آن في "بدلة" تبرز الأعطاف ماثلة ... أركانها وزواياها "كفستان" فقلت ماذا أرى يا قوم هل مسخت ... طباع صحبي وإخوتي وأقراني إني أرى بينكم قردًا فكيف أرتي ... وكيف ألبستموه لبس إنسان فقال شيخ طريف الروح يعجبه ... حبك الفكاهة في جد وإتقان لا يا أخي إنه "قرد" مثقفة ... أخلاقه عبقري الفكر والشان وسوف تسمع منه كل رائعة ... من البيان المصفى والنُّهَى البان "فكان ما كان مما لست أذكره" ... من الهراء ومن إسفافه الداني فقلت للشيخ إعجابًا بنكتته ... وبالطرافة في أسلوبه القاني القرد قرد وإن رقت شمائله ... وإن تعلم نطق الإنس والجان تراه يرقص في جد وفي هزل ... ليضحك الناس منه مثل "طرزان". يلغو ويلهو ويأتي من عجائبه ... بالمضحكات كأحلى قرد فنان

_ 1 أزاهير: 15/ 16.

فالسنوسي هنا ساخر أكثر منه هجَّاء، وهجاؤه ليس على النهج التقليدي من التصريح بالمهجوِّ حتى يلصق العار باسمه وشخصه، ولم يتخذ ألفاظ السباب والقبح والفحش مادة لتصويره الأدبي، وإذا اضطر إلى ذلك اكتفى بالتكنية والرمز والإيحاء إلى ما يريد في لفظٍ عفّ، وتعبير غير مسفّ، يرتفع السنوسي عن ذكره فيقول مثلًا: "فكان ما كان مما لست أذكره". وكذلك فالشاعر أدار حوارًا في الهجاء بينه وبين شيخ صاحب تجربة وخبرة في السخر والفكاهة؛ ليفيض شعره بالحركة والحيوية، ويكون أقدر على تصوير السخر وأوقع في النفس. وكذلك جعل الشاعر الهجاء في قضية عامة، طرحت على العرف السائد في عادات قومه وتقاليدهم، فهو يهجو القضية ذاتها، ولا يهبط إلى هجاء شخص بعينه ولا إنسان باسمه، وإنما يهجو صورة هذا التغير، ويسخر من ذلك التطور الذي خرج على عادات قومه وتقاليدهم. والسخر أقوى من الهجاء في الشعر، بل هو المرحلة المهذبة من مراحل تطور الهجاء في أدبنا العربي؛ لأن الهجاء شتم وإقذاع للتشفي وردع الخصم بألفاظه المعروفة بلا حجة ولا تعليل، فالمهجو هكذا أمره من الأوصاف الخبيثة مما لا يحتاج إلى برهان. أمَّا السخر فهو هجاء يقوم على المقدمات والأسباب، ويستقر في النفس عن تعليل وتدليل، ويأخذ بالقلب والعقل معًا عن حجة واقتناع. وابن الرومي كان يمثل مرحلة التطور في الهجاء العربي؛ حيث تطور الهجاء على يديه في بعض القصائد والمقطوعات إلى السخر، وإن ابن الرومي قد برع في الهجاء المكشوف، والبذيء في قصائد أخرى، لكنه يعد أول شعراء العرب الذين نقلوا الهجاء إلى طور آخر أسمى منه وهو "السخر"، وشعره الساخر اشتهر بين الأدباء والنقاد ومنه قوله في البخيل: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد ولقد ميّزت بين الهجاء والسخر والضحك والعبث واللعب بصورة واضحة، حتى لا أضطر إلى التكرار1. عاشرا: الأناشيد للسنوسي مهارته الشعرية في الأوزان الخفيفة العذبة السائرة، والتوقيعات الموسيقية، التي تحمل المعاني الإنسانية والوطنية، والإسلامية، فيتغنى بها أبناء الوطن لخفتها وعذوبتها، وما تحمل

_ 1 البناء الفني للصورة الأدبية في شعر ابن الرومي: للمؤلف.

من شحنات قومية ووطنية وإسلامية، وما تهدف إليه من سمو الهدف ورفعة المقصد، وذلك في أناشيده التي سارت مع الزمان والمكان في المناسبات الوطنية والرسمية، مثل "نشيد الجيش العربي السعودي": نحن أبطال الجزيرة ... المثنَّى والمغيرة نحن جيش الحق ... والحق علم قد رفعناه على ... أسمى القمم وجعلناه منارًا ... للأمم نحن أبطال الجزيرة ... المثنَّى والمغيرة نحن جيش وحَّد الله ولبَّى ... وأجاب الدعوه الكبرى وهبّا ومضى يضرب في الآفاق ضربًا ... في سبيل الله جل الله ربًّا نحن أبطال الجزيرة ... المثنى والمغيرة1 وكذلك نشيد "الحرس الوطني ص105 - الينابيع"، ونشيد "طلبة مدارس الحرس الوطني ص106، 107 - الينابيع" وله أناشيد أيضًا في ديوانه "نفحات الجنوب" مثل "نشيد العروبة ص127، 128"، ونشيد "الفرسان ص129"، ونشيد "فرحة العيد ص130"، يقول في "نشيد العروبة": أحب الحجاز أحب اليمن ... ونجدًا أحب وأهوى عدن وأعشق لبنان مأوى النجوم ... وأهوى الكنانة أخت الهرم بلادي بلاد الهدى والشيم وفاس ووهران والرافدين ... وعمان والقدس صنو الحرم وأصبو إلى جلق والكويت ... وأهوى المنامة ذات الخضم بلادي بلاد الهدى والشيم بلاد العروبة أنى تكون ... بلادي العزيزة ابنا وعم أحب هواها وشطآنها ... وأهوى منازلها والقمم بلادي بلاد الهدى والشيم وصنعاء صنعاء ذات الذرى ... ومسقط مهوى الندى والكرم يرف على جانبيها الشذي ... ويهفو الصبا نحوها والنسم بلادي بلاد الهدى والشيم2

_ 1 الأغاريد: 77/ 97. 2 نفحات الجنوب: 127/ 128.

الحادي عشر: الشعر الوطني وتناول السنوسي في الشعر الوطني بناء الوطن السعودي والسمو به في منازل الرقي والحضارة، وحثَّ أبنائه على المشاركة والإسهام في التقدم، والعمل المتواصل في المشروعات الضرورية التي تدفع بالأمة إلى الرخاء والكفاية، واشتمل ديوانه "القلائد" على قصيدة "نداء ص10، 11" لأبناء المملكة العربية السعودية ليشاركوا في فجر النهضة، يقول في مطلعها: بني وطني إنَّا على فجر نهضة ... تصد الدجى أنى تدجى وتصدع ومنها: مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم ... فسيروا كما سار على الدهر واصنعوا وما الفخر بالماضي إذا لم يكن له ... من الحاضر الزاهي بناء مرفع خذوا بأكف الأسد من أسهم العلى ... نصيبًا فإن الحاضر اليوم أوسع يد الدهر لا تسخو بمجد لعاجز ... ضعيف ولا تندي ولا تتبرع وما قيمة الأوطان إن لم يكن لها ... "رجال" يلوذون الشقاء لينفعوا جرت حكمة الدنيا على الناس أنها ... تصد لمن صدوا وتسعى لمن سعوا حصدنا الضنى لما زرعنا له المنى ... وجل حصاد المرء من حيث يزرع1 وقصيدة "قطوف وأصداء" قالها الشاعر بمناسبة أنباء المشروع الزراعي في جازان، التي كانت حديث النوادي والأسمار، استحوذت أصداء هذا المشروع على اهتمام الجمهور، لما ينطوي عليه من بشائر النهضة والعمران، ومن خلجات القلوب المتعطشة إلى الحياة السعيدة والمجد الأثيل، فكانت هذه القصيدة تحية للفجر المرتقب والأمل المنشود يقول فيها2: أمل لاح في سماء الوجود ... ذهبي السنا زكي الورود لبسته تألقًا وأذالت ... فيه جازان ضافيات البرود ومنها: شاقها مولد "النهوض" فهبت ... تتبارى إلى احتضان الوليد وجلته طوالع اليمن والمجد ... وحفت به نجوم السعود وأظلت "رؤاه" أضواء "فجر" ... لغد أسعد وعيش رغيد

_ 1 القلائد: 10/ 11. 2 القلائد: 24/ 31.

هاتف في مواكب "النهضة الكبرى" ... وفي مطلع النجاح الأكيد يعلن الفرحة التي أعلنته ... بلسان العلى رجال السدود تلك بشرى النهى بإقبال عصر ... من عصور التقدم المنشود أشرقت في جلاله الأرض بشرًا ... ومشت في ركابه المشهود إنما هذه "الزراعة" أصل ... لفروع ولبنة لمشيد في تضاعيفها بشائر مشروع ... لعذب من المياه برود أصبحت كالجنان وارفة الظل ... على منهل شهي الورود نحن في فترة التطور والتكوين ... والانتقال والتجديد فاحشدوا حولها الكفايات وامضوا ... حسرا عن سواعد من حديد واستحثوا الخطى هوًى واشتياقًا ... نحو مستقبل أغر مجيد وقصيدة "آل سعود في التاريخ" يشيد فيها بآل سعود وما حققوه للوطن من مجد وتقدم ورقي وحضارة بعد كفاح طويل وجهاد في سبيل الله، يقول1: عرش على الشرق للدنيا وللدين ... أشم يختال بالشم العرانين مدعم بالهدى والحق متشح ... بالنور يسطع من وحي وتلقين أحيا النفوس وأجرى في أعنَّتها ... روح التحرر من غل الشياطين سما "بآل سعود" فرعه ورسى ... بهم على الدهر في عز وتمكين أبطال معركة الإسلام في زمن ... مضرج بالضحايا والقرابين يضمخون ثرى الأوطان من دمهم ... عطرا ويفدونها من كل "نيرون" وينثرون على الآفاق "أمثلة" ... من الشمائل عطراء الرياحين بعرشهم رفع الإسلام رايته ... على الجزيرة خضراء الأفانين وأشرق الحق كالصبح المبين سنًا ... وأصبح العدل مضبوط الموازين إلى آخر القصيدة وقد اقتصرت على بعض أبيات منه، وكذلك قصيدة "القهر"، وهو جبل يبلغ ارتفاعه حوالي "290" كيلو مترًا، وقد اشتهر هذا الجبل بصعوبة مسلكه، ووعورة أخلاق ساكنيه، وهم قبائل بدوية تدعى الريث، لعبت في تاريخ الجنوب أدوارًا عديدة غايتها السلب والنهب، وكان آخرها حركة التمرد والعصيان التي قامت بها القبائل عام 1375هـ في عهد جلالة الملك سعود المعظم، وهذه القصيدة صدى من أحداث الماضي والحاضر2 ومنها:

_ 1 القلائد: 124/ 129. 2 القلائد: 150/ 157.

أدر اللحن رائعًا جبارًا ... كصدى "الرعد" يملأ الأقطارا وأتل من رائع البطولات ... فصلًا عربيًّا يخلد الأشعارا إنه موقف يلوح محياه ... جلالًا وعزة وانتصارا قهر "القهر" غازيًا ومغيرًا ... وأذل العصاة والأشرارا أوقدوا فتنة فكانت وقودًا ... للظاها تأججًا واستعارا أيقظت في "تهامة" و"عسير" ... أنفسًا حرة وقومًا غيارا عقدوا الراية السعودية الخضراء ... وساروا في ظلها أحرارا يعلنون الولاء محضًا لعرش ... رفع الله سمكه وأدارا أقبلوا في قبائل وحشود ... تخذت حبها "سعودًا" شعارا إنها دولة لها جعل الله ... من الحق والحق أنصارا هي لم تألهم أناة ولم تب ... خل عليهم روية واصطبارا إلى آخر القصيدة وقد اقتصرت على بعض أبيات منها، وهي تصور رأب الصدع في هذا الجبل وعودة الريث إلى المشاركة في بناء الوطن الحبيب.

التصوير الأدبي في شعر السنوسي: خلعت صحافة المملكة العربية السعودية على شاعرها السنوسي "شاعر الجنوب"، فهو بحق زائد من رواد الشعر الحديث في المملكة، ورائد الشعر في الجنوب منطقة عسير. يقول أحد رواد الشعر الحديث في المملكة يصف زميله في الريادة الحديثة، وهو الشاعر الكبير محمد حسن عواد يصف السنوسي: ولطالما عبق "الجنوب" وطالما ... صدح "الجنوب" بلحنه وترنما1 وهذه المنزلة السامقة ترجع إلى موهبته الشعرية الرائدة، وشاعريته القوية المتدفقة، فقد كان أكثر شعراء الجنوب شعرًا؛ إذ صدر له حتى الآن خمسة دواوين: القلائد - الأغاريد - أزاهير - الينابيع - نفحات الجنوب. وما زال ينشر الجديد من شعره في الصحف والمجلات والندوات حتى الآن. يقول عنه صاحب مجلة "المنهل" الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: "قدم الصديق الأديب الأستاذ محمد بن علي السنوسي من جازان وهو شاعرها", ويقول الشاعر محمود عارف: "في ندوة سمر ساحر جمعتني دعوة كريمة من الأستاذ الجليل عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة "المنهل" بصفوة من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة أقامها في داره العامرة، ليلة الجمعة الموافق 2/ 6/ 1376هـ، تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد بن علي السنوسي"2. ولقد كان للديوان الأول "القلائد" وحده صدى عميق في أرجاء العالم العربي، هزَّ به مشاعر الأدباء والنقاد والشعراء حتى أخذ منزلته السامية بين شعراء العصر الحديث المجددين على مستوى العالم العربي، يقول عنه الشاعر الدكتور مختار الوكيل: "إن شعر السنوسي يمتاز بذلك الصفاء الروحي الأصيل، ويبرز لنا صوفية عذبة رقيقة مستحبة، ولعله أقرب ما يكون شبهًا بشاعرين من إخواننا الشعراء المصريين، هم الأستاذ حسن كامل الصيرفي، والأستاذ صالح جودت، وهما من رفاقي في رحاب أبولو"3. ويقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أيضًا:

_ 1 جريدة البلاد: 17/ 11/ 1374هـ. 2 مجلة المنهل: جمادى الثانية 1376هـ. 3 نفحات الجنوب: التقديم.

"هو شاعرنا الذي تعتز به المملكة العربية السعودية، وتضعه في الصف الأول من بين شعرائها الأبرار.. شعراء الشباب المبدعين.. شعراء الأدب الرفيع، واللسان العف، والضمير النقي من الشوائب والأوضار"1. والسنوسي الشاعر في مدرسة التجديد المحافظ هو خير من يسير على المنهج في المذهب الأدبي لهذه المدرسة الجديدة في الشعر السعودي الحديث، فهو في تجديده يحافظ على الأصالة العربية الإسلامية في المعاني والأغراض، والألفاظ والأساليب، والنظم والتراكيب، والخيال والصور، والوزن والقافية، والاتجاه والمذهب، وسوى ذلك من خصائص هذه المدرسة التي سبق أن وضحناها بالتفصيل. خصائص الألفاظ والأساليب: والسنوسي مع تطلعه المستمر إلى التجديد يحافظ على أصالته العربية الإسلامية في شعره، فما زالت ألفاظه جزلة فخمة قوية، وكلماته عذبة سهلة مناسبة كانسياب الماء الصافي الزلال، وأساليبه متينة محكمة، وتراكيبه رصينة متلاحمة، ونظمه دقيق متفجر بالمعاني والايحاءات الشاعرية، يقول الأستاذ محمد سعيد العامودي: وأعتقد أن لثقافة السنوسي المتعددة الجوانب أثرها في شعره بصورة عامة، إلى جانب موهبته الفنية المعطاءة، ولعله من هنا يبدو لنا ما نلمسه في شعره غالبا من نبض في الأسلوب، وحيوية في الألفاظ وعمق في المعاني، وسمو في الأغرض"2. فالأسلوب النابض هو المتدفق بالمشاعر، والمتفجر بالشاعرية والألفاظ الحية هي التي أخذت مكانها من النظم، فمنحها الحركة والحيوية، وانتقلت بذلك إلى عالمها المحس لا المجرد في أوضاع اللغة مع سلامتها من الوحشية والغرابة، وتنافر الحروف وثقلها؛ لأنها نبعت من عاطفة شاعر متمكِّن في اللغة. "ما أروع الشعر، ينبع من عاطفة شاعر متمكن في اللغة، جامع لأعنة الأسلوب العربي الرائع، مع سعة أفق وذهن وإخلاص مبدأ، وصدق عاطفة، وصحة بيان. وهذا الصفات اللامعة احتشدت كلها في هذا الديوان الأغر "القلائد" الذي يخرجه للناس شاعر ضليع، ذو قوة في البيان وإشراقة في الفكر، وروعة في المنطق، وجدة في الأسلوب"3.

_ 1 مقدمة القلائد: ص - ذ. 2 مقدمة الأغاريد: الأستاذ محمد سعيد العامودي - ل. 3 مقدمة القلائد: الأستاذ عبد القدوس الأنصاري - ز

وحينما نقلب النظر في تأمل مع ما ذكرناه من شعره ستقف على هذه الخصائص الفنية للألفاظ والأساليب، ولا يمنع هذا من وضع اليد والحس عليها هنا من خلال هذه الأبيات لنؤكد ما سبق ولنشخص المعالم بالتحليل والنقد، يقول السنوسي في الطبيعة: يا ربا لج بي هواها فما ينفك ... نشوان من هوى ملحاح كم ترشفت من جمال لياليك ... فتونًا من الصبا والمراح وتنشقت من جلال مجاليك ... فنونًا من الشذى الفواح في الدجى والنجوم تغزل أحلام ... العذارى على صدور البطاح والضحى والغيوم ترسم في الوادي ... ظلالًا ندية الأدواح والنسيم النشوان يحتضن الزهر ... رقيقًا كطيبة الفلاح الذي قلبه أرق من الطل ... وأصفى من الزلال القراح إلى قوله: كلما ضني دجاك ورقت ... نفحات الصبا على الأدواح وانتشى الكون بالعبير وراح السيل ... يختال في السهول الفساح يغمر الأرض بالنعيم غزيرا ... ويهز القلوب بالأفراح نعمت روحي الكئيبة بالصفح ... وصحت من الأسى والجراح1 ترى الجزالة والفخامة في الألفاظ، وفي موسيقى قوية تدخل الآذان بلا استئذان في: "نشوان - ترشفت - فنونًا - الصبا والمراح - جلال مجاليك - الشذى الفواح - أحلام العذارى - صدور البطاح - ندية الأدواح - النسيم النشوان - الزلال القراح - إلى آخره من الألفاظ". وكذلك التراكيب محكمة رصينة، والأساليب قوية متماسكة فلا ترى فيها قلقًا ولا اضطرابًا ولا ضعفًا ولا تهتكًا، ولا لحنًا وسوقية، فالنجوم تغزل أحلام العذارى على صدور البطاح، والضحى والغيوم ترسم في الوادي ظلالًا ندية الأدواح، وهكذا وهكذا. أما صور الخيال التقليدية في هذا النص فناهيك عنها، إنها تطل برأسها في كل بيت، فالصور القديمة نراها في "يا ربا لج هواها" - ترشفت من جمال لياليك" - فنونًا من الصبا والمراح" "تنشقت من جلال مجاليك فنونًا من الشذى الفواح"، "تغزل أحلام العذارى على صدور البطاح"، "ترسم في الوادي ظلالًا ندية الأدواح"، "والنسيم النشوان

_ 1 الأغاريد: 23، 24.

يحتضن الزهر"، وهكذا تكون الخصائص الفنية التي تدل على الأصالة الأدبية في الألفاظ والأساليب والصور القديمة. وأقرب شعره إلى الأصالة العربية الذي تسير على منهج الفحول من الشعراء القدامي ديوانه الأول "القلائد" يقول في شذى الرياض"، منها: هب نفح الصبا فقم حي نجدًا ... وتنشق شذى الرياض المندى واعتصر من هواك لحنًا ذكيا ... ريقًا كالنسيم صفوا وبردا وتمهل فهذه جلبة الشعر ... ومجرى الجياد قبسًا وجردا سرح الخاط المشوق وجدد ... "امرأ القيس" والنوابغ عهدا تلك آثارهم وهذي مغانيهم ... وروض الشباب ما زال يندى كلما هبت الصبا هبت الروح ... طيوفًا وردّد الفكر أصدا نفحات من الفراديس رفت ... أقحوانًا وأرجوانًا ورندا عب منها الهواء عطرًا وذابت ... فوق صدر الفضاء مسكًا وندا أرج شيق العبير وروح ... عطر الكون بالجمال وندى يسكب النور والعطورويضفي ... من ظلال النخيل والروض بردا حي لحن الصباح وأبسط ذرا ... عيك وضم النسيم شوقا ووجدا وامتزج بالصبا الشغوف وقبل ... نفسا قبل الخمائل خدا نسج الفجر في غلائله الطل ... وجاك السنا حريرا وسدى واصطفاه "رسالة" من ريا ... نجد وأنفاسها سلامًا وودا ترد "النيل" و"الفراتين" و"الأرز" ... و"غمدان" و"الخليج" و"بردى" وترود الضفاف تهمس "للزيتو ... ن" نجوى و"للجزائر" وعدا1 وهكذا إلى نهاية القصيدة "وهي طويلة" تعود بنا إلى عصر أبي تمام والبحتري وابن المعتز والمتنبي وغيرهم من فحول الشعراء. الوزن والقافية: السنوسي يعشق أوزان الخليل وقوافيه، ويعد الخروج على عمود الشعر في الموسيقى تمردًا على الأصالة، وتمزقًا لطبيعة الشعر الأصيل المتميز على النثر الأدبي، والشعر المنثور، وإذا ما تجوز في موسيقاه، كما يتجوز شعراء عصره، نراه ينزل إلى مستوى الموشحات الأندلسية كالمخمسات، والمقطعات الشعرية، التي تختلف فيها القافية في كل مقطع مع الاحتفاظ بالبحر

_ 1 القلائد: 76/ 81.

العروضي حتى نهاية القصيدة في كل المقطعات، هذا أقصى ما يخرج به الشاعر عن السمت الخليلي، وذلك مثل قصيدة "عودة الماضي" تسير على نظام المقطعات وسبق ذكرها1. وقصيدة "أتمنَّى"2 وقد مرّت هي كذلك. ولا يكتفي السنوسي بالمحافظة على القالب الموسيقي والالتزام به فحسب، بل كثيرًا ما يقلقه الخروج عليه والتمرد على الخليل بن أحمد، من شعراء التفعيلة الذين يطيرون وراء كل هيعة، ويرددون صدى كل ناعق، فيهجم عليهم وعلى عشاق الشعر الحر، تارة بالإفصاح عن اللحن الشعري القوي الذي يعبر فيه الشاعر عن أصالته العربية في الشرق والغرب: نغمة من لغة الإنسان ... في شرق وغرب يفهم القلب معانيها ... بلا حرف ولا كتب ويعيها غير محتاج ... إلى ضم ونصب وإلى أنغامها الحلوة ... يهفو ويلبي ويناغيها إذا ناغت ... بتحنان وحدب إنها أفصح من أفصح ... شعر المتنبي إي وربي إنه ابني ... إنه "عصفور قلبي"3 ويعبر عن أصالة الشاعر أيضًا في قصيدته "الكلمات والشاعر": في عالم الكلمات دنيا ... للشعر والشعراء عليا في ظلها للفكر منطلق ... وللأرواح لقيا في عالم الكلمات دنيا ... سقيًا لها مني ورعيًا كم بت في أحضانها ... أستلهم الأضواء وحيا وأساهر الأشواق منطلقا ... بها فكرًا ورأيًا وأذيب للظامئين حيا ... وللغافقين وعيًا والشاعر الفنان دنياه ... من الكلمات تحيا4 وتارة يتفجر السنوسي ثائرًا على الشعر الحر، وعلى شعراء التفعيلة، والخارجين على الشعر

_ 1 القلائد: 34/ 41. 2 أزاهير: 9/ 12. 3 الأغاريد: 55/ 57. 4 مجلة الأديب: 1394هـ

العمودي، وذلك في ثورة عنيفة، ولهيب مشتعل، شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وثائرًا، يقول في قصيدته "الشعر الحر"1: لا العود عودي ولا الأوتار أوتاري ... ولا أغاريدكم من شدوي وأطياري من أين جئتم بهذا الطير ويحكمو ... لا الريش ريشي ولا المنقار منقاري إني أرى في جناحيه وسحنته ... سمات "اليوت" لا سيماء "بشار" وصرت أسمع ألفاظًا مقلقة ... طرق المسامير في دكان نجار ألبستموني ثيابًا لا تشرفني ... كأنها فوق جسمي حبل قصار سود وحمر وصفر لا انسجام لها ... كرسم "بيكاس" يعي فهمه القاري ماذا تقولون: تجديد؟ لقد هزلت ... وسامها كل مهذار وثرثار ما الشعر؟ هل هو ألفاظ مسيبة ... بلا قيود رديء للمنطق الهاري الشعر هندسة كبرى تكاد ترى ... في النسج واللفظ منه روح فرجار والوزن للشعر روح وهي إن فقدت ... أضحى جسادا بلا حس كأحجار قصيدة النثر مثل المشي جامدة ... والشعر كالرقص في سيقان أبكار ورب حرف صغير الشأن يرفضه ... لحن المشاعر في ترنيم قيثار تأبى الحروف التي صيغت نماذجها ... من رعشة الروح في أعماق أسرار إن تلتقي معكم في سبق خاطرة ... عرجاء تحجل في ميثاء مهيار لكل فن أصول يستقل بها ... شتان ما بين سباك وعمار تبينوا بعض ما تبغون وانطلقوا ... في الروض ما بين أزهار وأثمار وجنبونا غثاء لا جمال له ... ولا رواء ولا يوحي بإكبار إن كل لابد من فن نجدده ... فجددوا في مضامين وأفكار وأنطقوا الصخر في ترنيم قافية ... كرعشة الضوء في لمع السنا الساري حرية الشعر في إشراق فكرته ... وفي تساميه عن لغو وإقذار وأن يكون لكم في كل معترك ... رأي جهير وعزم غير خوار أما كفى أننا فقر ومخمصة ... نستورد الغرب نيكلًا بخسًا بدينار والشعر نور ونار والنفوس لها ... طبع الفراشات عشق النور والنار ورب ذي قلم أعطى لأمته ... ما ليس يعطيه فيها نهرها الجاري فالسنوسي شاعر عمودي يسير على درب القدماء في المحافظة على البحر العروضي الخليلي، والالتزام بالقافية؛ لأنها روح الشعر، ودونها يكون جسدًا بلا روح، وجمادًا لا يشعر

_ 1 الينابيع: 96/ 98.

ولا يحس، بل نثرًا يقوم على توقيعات جامدة، أشبه بالمثنى الذي لا يثير انتباهًا، ولا يوقظ حسنًا. أما إيقاع الشعر فهو كرقص الغادة، تعزف بسيقانها موسيقى شجية تثير المشاعر، وتستلهم الوجدان؛ لأن الشعر هندسة كبرى، وانسجام بين الألفاظ بعضها مع البعض الآخر، وترابط بينها وبين معانيها. بينما الشعر الحر يقوم على حشد الألفاظ بلا روابط، وانسجام بين إيقاعاتها ومعانيها بما يتجافى مع طبيعة الشعر ومنطق العقل؛ لأنه غريب على الذوق العربي الأصيل، يحمل في طياته سمات الغرب، وينزف بدم "اليوت" لا بسمات الشرق ونشره الفواح الذي يعبق الدنيا بطيب "بشار بن برد"، فالشعر الحر ثرثرة وهذر وغثاء لا روعة فيه ولا جمال، ولا رواء ولا إكبار، وإذا كان للشعراء من دور لا بُدَّ منه في التجديد، فليتسابقوا ويتنافسوا إلى التجديد في المنهج والمضمون، لا في اللغو والعبث، وليتباروا في المعاني البكر والأفكار الجادة البناءة، لا في هدم مباني الشعر، وتمزيق طبيعته، ليكون الشعر جنديا، يدفع بالأمة إلى الحضارة والرقي في عزم وشجاعة وقوة، لنحافظ على الأصالة العربية الإسلامية، ونترفع عن التقليد الأعمى للغرب في كل شيء، بما لا يتناسب مع الروح الشرقية وعراقتها، فقد كان الشعر ولا زال نارًا ونورًا، وينبغي أن يكون كذلك؛ لأن الإنسان لا يزال يعشق نور العلم، ويدفع عن نفسه بنار الحرب، فكثيرًا ما أعطى الشعر، ولا يزال يعطي الشاعر لأمته لبناء الأخلاق والأجيال، أكثر مما تعطيه الأرض من الطعام والشراب فهما معًا قوام الحياة وركيزة الحضارة الإنسانية. وبهذا يحافظ السنوسي في مذهبه الأدبي على الأصالة العربية الإسلامية في شعره كما رأينا، وهو في نفس الوقت يعشق التجديد في المضمون والمعاني والأفكار، والمغازي والأغراض، والخيال والصور، وسبق الحديث عن التجديد في الأغراض، فقد لبست معظمها ثوبًا جديدًا قشيبًا في معانيها ومضامينها وغايتها ومغزاها، وسنتحدث عن التجديد في الخيالات والصور الأدبية في مجال التصوير الأدبي. التشخيص في التصوير الأدبي: خيال السنوسي بعث الحياة في المعاني والمجردات، وحرك الأفكار والجمادات في صور أدبية حية تموج بالحركة والحياة، وتنبض بالحيوية والقوة. وتشع منها الألوان والأضواء والظلال، وترتسم في شكل يتناسب مع طبيعة الغرض، وحجم يتفق مع المغزي وغير ذلك من عناصر التصوير الأدبي الغني بالخيال الخصيب العميق. فالجبل "فيفاء" ليس صخرًا ولا حجرًا، ولا ترابًا ولا مدرًا، ولكنه بخيال الشاعر إنسان

قويّ يتحدى العواصف والزلازل، وشجاع شامخ يصاول العوالي والمعالي، يترفَّع عن الأرض وهو منها وعليها، ليعشق النجوم في السماء وهو غريب عنها وتحت ظلالها، ويزاحم في ذلك كواكب السماء وهم أحق وأجدر بمن في الأرض. مهابته مشرئبة في صلف وغرور، وشموخ وكبرياء، قد تجلت هامته بالخضرة اليانعة، وتعممت بالزهور الفواحة، وهكذا يكون دور الخيال في التشخيص وبعث الحياة وبث الروح يقول السنوسي: "جبل" تعشق النجوم مجاليه ... وتصبو إلى ذراه العوالي يزحم النيرات منكبه الضخم ... ويحتله بالسها والهلال مشرئب إلى السماء برأس ... صلف في شموخه متعال أخضر السفح أزهر السطح مصقول ... الحواشي زاهي الربى والتلال1 فعناصر التصوير الأدبي تظهر في الحركة المتجددة في استمرار من استعمال الفعل المضارع "تعشق - تصبو - يزحم - يحتك" الذي يدل على الحدوث والمستقبل والاستمرار، وتظهر في الألوان الزاهية: في خضرة المجالي وذرى المعالي والسفح الأخضر، والسطح الأزهر، وصقل الحواشي، وزهو الربى والتلال، ولمعان السها، وبريق الهلال، وتظهر في حجم الجبل فهو ضخم من الرواسي يتربَّع على الأرض متطلع إلى المعالي وإلى السماء، وتظهر في شكل "فيفا"، فهو إنسان لا جبل له منكب يشرئب برأسه في شموخ وتعال وكبر وصلف وغرور قد تعممت هامته بالخضرة وفاحت منها نشر الزهور، وهكذا أحكمت الصورة الأدبية بعناصر التصوير الشعري التي تثريها بالألوان والأضواء والحركة والحجم والشكل2. أما ليل السنوسي في الريف غير الليل في المدن، فهو ملك ضافي الجناحين يضم الحياة والأحياء في دفء وحنين، يسري إلى النفس ليداعب العينين بالنوم، وهو فيلسوف في سكونه ووقاره، يتأمَّل ويتدبر أحوال الناس فيطرق عجبًا وخجلًا من هفواتهم، وهو شاعر عبقري سابح في وحيه وإلهامه، لا يدري عن عمره شيئًا، وهو طاهر متجرد عن المفاسد والمعاطن، وعاشق ذاب غارقًا في حبه، لا يعنيه شيء كان أو لم يكن، وهو صامت يحلق بالأرواح في العالم الغني بالجمال، يسري هدوؤه وسجوه بين الأحشاء في نعومة وصفاء، ليؤلف بين روح السماء

_ 1 الأغاريد: 27. 2 ميزت بين الروافد في الصورة الأدبية وبين العنصار فيها - انظر كتابي: الصورة الأدبية - تأريخ ونقد، دار الحارثي بالطائف عام 1401هـ.

وجسم الأرض متجسدًا في أسمى المعاني وأروع الصور، يقول السنوسي في "الليل في الريف"1: الليل في الريف غير الليل في المدن ... فافتح ذراعيك للأرياف واحتضن واستقبل الليل فيها إنه ملك ... ضافي الجناحين يغري العين بالوسن كأنه فيلسوف مطرق عجبًا ... مما يرى في حياة الناس من درن أو شاعر عبقري الفكر منغمر ... في لجة الوحي لا يدري عن الزمن أو خاطر في ضمير بات منفصلًا ... بطهره ومزاياه عن الإحن أو عاشق غارق في حب فاتنة ... فليس يعنيه شيء كان أو لم يكن صمت يحلق بالأرواح في أفق ... من الكون ثري بالجمال غني يضفي الهدوء عليه من نعومته ... صفو يضيء به الإحساس في البدن وتلتقي في معانيه وصورته ... روح السماء وجسم الأرض في قرن الروح الإسلامية في التصوير الأدبي: الخيال في الشعر قد ينحت صوره الأدبية من صخور الطبيعة وجبالها وأنهارها وبحارها، وأرضها وسمائها، وطيورها وبلابلها، وزروعها وأشجارها، وقد ينسجها الخيال من تاريخ أمة قد اندثرت حضارتها، وحطم الفساد شموخها، وأذل الضلال أنوفها. وقد يمنح صوره من حضارة خالدة، ورسالة طاهرة، شع نورها في جنبات الدنيا، وتردد صداها بين جوانب الحياة، وهذا الخيال هو الذي سيطر على شعر السنوسي، فترى الصورة عنده تستمد روافدها من نبع الإسلام الصافي، وتتلاحم عناصرها من نور الحضارة الإسلامية، ويكون ذلك بالضرورة إن كان الغرض إسلاميًّا، مثل قصائده في الشعر الإسلامي التي سبق ذكرها في فصل الأغراض مثل قصيدة "الرسالة والرسول"، وقصيدة "ثاني اثنين"، "أذان الفجر"، "دعوة الحق" وغيرها. وحينما يتخيل السنوسي "الجزيرة" العربية، يصورها بقوله:

_ 1 الينابيع: ص90.

هي الجزيرة فاقبس أيها الساري ... هدى من البيت أو نورًا من الغار واستلهم الرشد من آي ومن سور ... وضاءة وأحاديث وآثار ترقرقت في شفاه الضاد وامتزجت ... بقلبه وجرت كالسلسل الجاري واطلعت أمة كالشمس عالية ... هي العروبة ذات المجد والغار مجد يدعمه الإسلام لا صنم ... من الأساطير مشدود بأحجار1 وهكذا إلى آخر القصيدة؛ حيث يريد الشاعر أن يتحدث عن الجزيرة العربية ذاتها، وعن أهلها الذين اشتهروا بالكرم والنجدة والمروءة، فإذا بخياله يجتاز التاريخ بسرعة فينسى منه كل شيء إلَّا نور الإسلام الذي تبددت أمامه أساطير الجزيرة، وتجسدت عروبتها في البيت الحرام والوحي والغار، والقرآن والحديث، والسير والآثار، وغيرها من الصور الرائعة التي نسجها من نور الإسلام لا من أساطير الجزيرة ومتاهاتها وغيلانها وجنها وشياطين الشعراء. وربما يرد على الخاطر أن الشاعر مضطر إلى صبغ صوره الخيالية بالروح الإسلامية حين يكون الغرض في الشعر الإسلامي بالذات، فهذا القول مردود لأمرين: أحدهما: إنَّ الشاعر قد يستغني عن التصوير الخيالي بالتعبير الحقيقي كما هو الحال في شعر آل الحفظي السابق، وعندهم قد خلا الشعر من الصور الخيالية الرائعة، التي توقظ الاحساس وتلهب العواطف، وليس السنوسي كذلك، بل نسخ خياله بالصور الأدبية من النبع الإسلامي الصافي. ثانيهما: وهو أدل من الأول، أنَّ الصور الخيالية التي نبعت من الروح الإسلامية عند السنوسي سيطرت على شعره كله في جميع الأغراض حتى في شعره الوجداني وغزله العفيف، فترى الصور الإسلامية تطل في الغزل من حين لآخر، يقول في "رحلة القمر": قال لي وهو ساخر ... وهو لا يحسن السخر أيها الشاعر الكبير ... أما جاءك الخبر وصل القوم للسماء ... وطافوا بها زمر واستفاقت حبيبتي ... من خداع ومن خدر لم يعد حسن وجهها ... أبدًا يشبه القمر بعد ما ديس وجهه ... ومشى فوقه البشر

_ 1 الأغاريد: 1/ 3.

قلت مهلًا خلني ... من هواء وهذر ذاك شيء علمته ... منذ وعى قلبي الفكر كانت الأرض والسماء ... أما تقرأ السور فتق الله رتقها ... فاندحى الكون وانتشر إلى قوله: سوف تبقى حبيبتي ... أبدًا تشبه القمر1 فهو مستمد من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} 2. ومن قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 3. ويقول السنوسي في "حسناء الريف": تختال من دل ومن صبوة ... في حسنها النشوان من غير راح4 فهي تزهو بجمالها وتختال بدلالها، وتميس بحسنها كالنشوان لا من خمر وراح، فقد حرمها الإسلام، ولكن من سحر حلال وجمال مشروع، وليس هذا القول مردودا يقول السنوسي في آخر بيت لهذه القصيدة وهو: فإنها في مهجتي منية ... وفي فمي لحن وشهد وراح فالراح في البيت الأخير على العكس من الراح في البيت الأول، الذي لا يحتمل في معناه غير الخمر، بدليل أنَّ الشاعر نفاه بكلمة "غير"، أمَّا الراح في البيت الثاني فيحتمل الطيب أو الراحة أو الخمر، واحتماله الخمر بعيد؛ لأن المقصود من الخمر أثرها في نشوة القلب والعقل والبدن، ولا عبرة في تذوقها بالفم؛ لأن التذوق بالفم ليس هو مقصودها، فالشاعر يريد من الراح الثانية مجرد الطعم والتذوق وليس السكر في الصورة، بدليل أن الشاعر جعل اللحن أيضًا من مذوقات الفم "وفي فمي لحن" بينما الأذن تهتز للحن وتطرب لا الفم، إلا إذا قصد الشاعر أن يتحدث الفم عن طرب الأذن باللحن الجميل.

_ 1 أزاهير: 27/ 29. 2 الأنبياء: آية 30. 3 النازعات: آية30. 4 أزاهير: 39.

وأما سبحات السنوسي في الليل، فيحلق خياله بين دياجيره؛ لينسج صوره مما طواه الليل بين صفحاته من نور الإسلام وحضارته، يقول في قصيدته "الليل والشاعر": هدأ الليل فاهدئي يا مشاعر ... ودعيني من الرؤى والخواطر هذا الليل وانطوت في دياجيه ... قلوب كليمه ونواظر بات قلبي يحنُّ شوقًا إلى الماضي ... وروحي تئن حزنًا لحاضر أنا من أمة رعى الله ماضيها ... لقد كان جوهرًا من جواهر كان منها الهادي إلى الحق والحامي ... حماه من كل طاغ وفاجر كان منها محمد وأبو بكر ... وعثمان والزبير وعامر وعلى وطلحة والمثنى ... وأبو حفص والشهيد ابن ياسر1 الصور الخيالية: للسنوسي صورة الأدبية التي صاغها على النهج القديم على نحو ما عند الشعراء الفحول، وسبق أن ذكرت بعضها في الحديث عن الأسلوب. وله أيضًا صوره الخيالية الجديدة والمبتكرة التي نبعت من حياته وعصره، وتجربته الذاتية التي تعبر عن شخصه، فهي توحي بأنه أوّل من استولدها على نمط لم يسبق إليه، وذلك حين يصور ترفع الصائم عن الكذب والزور والإثم بصورة المستاك مما يضر الفم والأسنان والجسد كله فيقول: واستاك إذ يستاك من ... كذب وزور واحترام2 وحين يصور العابرة الفاتنة في أناقتها ورشاقتها وتقاسيمها وتوقيعاتها بصورها بلحن مناسب، وتوقيع موسيقي مراق، وجلال ملائكي طاهر، لا جمال بشري. خطوات ممسوقات وجسم ... في تقاسيمه لحون مراقه غيد آسر ودل فتون ... وجمال ملائكي الطلاقة3 وحين يحلق خياله في أبها، وهو محلق بالطائرة في الفضاء، يتنورها من وراء السحاب في وله وشوق، والطائرة تطوي الأفق طي السجل الكاتب تتهادى في حمحمة، لتستوي على الجو

_ 1 أزاهير: 48. 2 الأغاريد: 16. 3 الأغاريد: 36.

اندفاعًا كالعقاب، وتطفو فوق الذرى كالحباب، وإذا بدارات أبها كاللآليء المنثورة في الشعاب ... صورة أدبية بديعة للطائرة، وهي تحمحم في سماء أبها، وتطوي السحب طيًّا، وهي من الصور الحديثة والجديدة في شعرنا العربي الحديث، يقول السنوسي في قصيدة "تحية إلى أبها": تنورتها من وراء السحاب ... وبي وله نحوها وانجذاب وقد طار في نحوها طائر ... طوى الأفق طي السجل الكتاب تهادى وحمحم ثم استوى ... على الجو منطلقًا كالعقاب وحرم يلوي الذرى الشامخات ... وينساب من فوقها كالحباب فلاحت لعيني داراتها ... لآليء منثورة في الشعاب تألقن والليل وحف الدجى ... وأشرقن والصبح كث الضباب1 ومن الصور البديعة التي اخترعها خيال السنوسي في شعر عسير من الأدب السعودي صورة "المنظار الكاشف": قالها لي وهو يستزيد المرايا ... شكل نظارتيك حلو الزوايا قلت لكنها تريني قشورًا ... حين أرنو ولا تريني الخفايا لم؟ لم يخترع لنا العلم منظارا ... يرينا ماذا تسر الحشايا قال: لو كان ذاك أقفرت الدنيا ... ولم تأتلف عليها البرايا هبه. قد كان. لا. ولن ... ترني بعد إذا ما كشفت عنيا2 وهي من الصور الأدبية الكلية التي تعبر عن لقطة واحدة من مشاهد الحياة بعمق ودقة، مع أنَّها تضم بين أجزائها صورًا جزئية لا تقوم بذاتها، ولكن يحتاج القارئ في فهمها أن تكون متلاحمة مع ما قبلها وما بعدها، لتعطي تصويرًا كليًّا دقيقًا عن المنظار المكبَّر، وما يوحي بالطلاء الكاذب، حين تصور الأشياء على غير ما تراه العين المجردة القوية، حتى تنقل الشيء المرئي بدقة دون خداع وتزييف للحقائق. ويوم أن يكون للمنظار الكاشف دور في إطهار ما يخفيه الإنسان ستكون نهاية التآلف والتواد؛ لأن البشر لا يخلو من عوارض النقصان، الذي هو من طبيعة الإنسانية، عند ذلك لا تجد صاحبًا ولا صديقًا ولا معينًا ولا أخًا.

_ 1 أزاهير: 74. 2 الينابيع: 35.

لذلك كان الإسلام حكيمًا حينما بنى أحكامه على التنفيذ والعمل والتصرف والفعل والسلوك، لا على البنية وحدها مجردة من العمل؛ لأن الإنسان قد يضمر شرًّا لآخر، فإن رجع عنه أو بقي في صدره ولم يخرج إلى حيز التنفيذ لا يعاقب عليه صاحبه، إلا إذا تحولت النية إلى سلوك، وحينئذ يستحق الإنسان العقاب. صورة أدبية كلية بديعة رائعة؛ لأنها أوحت إلينا بتلك المعاني البكر عن طريق ذلك المنظار الكاشف، وهي آلة حديثة من وحي علم العصر الحديث. ومن الصور الكلية الفريدة في شعر الجنوب، صورة "لمع السراب"1: أرح عينيك من لمع السراب ... وقلبك من أمانيه العذاب وعد عن القشور وإن تراءت ... رقاقا في الضباب وفي السحاب فقد فاض الطلاء على حياة ... تفيض بها الكئوس بلا شراب يضوع عبيرها من غير عطر ... وتزخر كالبحور بلا عباب وتزهو بالرياص بلا زهور ... وتزهو بالثمار بلا لباب يشيب شبابها من غير شيب ... ويبدو شيبها مثل الشباب تتيه بها الجسوم بلا علوم ... وتفتخر الفهوم بلا كتاب مموهة تروق العين حسنا ... خضاب في خضاب في خضاب فقد صبغ السراب حياة عصر ... مخضبة الأظافر والإهاب وصرت أشك حتى في مياه ... أخوض بها ولو بلت ثياب وفي قصيدة "وحشة قلب" 2 يقول في مطلعها: عالم صاحب ودنيا عنيفة ... ميكانيكية الحياة مخيفة كهربتنا سلوكها بسلوك ... أحرق الروح والمعاني اللطيفة كل شيء فيها تعقد حتى ... الأكل والشرب والتحايا الخفيفة إلى قوله: حرت يا نفس فيك فالتمسي دربًا ... وعيشي أحلامك الفيلسوفة تعسَّفت من حضارة ما لها قلب ... ولا للسلام فيها وظيفة

_ 1 جريدة المدينة المنورة رقم3376/ 17/ 4/ 1393هـ. 2 نفحات الجنوب: 32/ 36.

صورة أدبية رائعة نبعت من تجارب الشاعر في حياته ومن واقع عصره الذي يعيشه بوجدانه ومشاعره، وجدان الشاعر ومشاعر الأدب، عاش السنوسي ردحًا من حياته مديرًا لشركة كهرباء جازان، تصدّع أذنيه حركة الماكينات المولدة للكهرباء بأصواتها القاسية العنيفة، وأسلاكها المعقدة الكثيفة، فيكاد الإنسان أن يفقد نفسه وسط هذا الزحام الصاخب، ولا ترتد إليه حتى يعود إلى سحر الطبيعة والحياة الفطرية التي نأت بعيدًا عن تعقد الإنسان باسم الحضارة والتقدم. هذا المقطع "الميكانيكي" الصغير المعقد، انتقل إلى العالم الصاخب، والدنيا العنيفة، فأصيبت هي الأخرى "بميكانيكية" مخيفة، كهربت سلوكها سلوك الإنسان، فأحرقت القيم والمبادئ الإنسانية في الحياة لا الأسلاك، فتعقد فيها كل شيء، حتى الأكل والشرب والتحية، لهذا أصبح القلب في وحشة والنفس في حيرة من هذه الحضارة التعيسة، فلا قلب فيها ينبض بالحياة، ولا مكان فيه للأمن والسلام. صورة بديعة جديدة نبعت من واقع عصر الشاعر وحياته، وتجربته مع الحياة.. إنها صورة قائمة حزينة تعبِّر عن وحشة القلب، وغربته في هذا الزمان. وعناصر الصورة قد تلاحمت من هذا المقام، فالحركة بطيئة من كثرة المدات في الكلمات "حروف اللبن" وألوانها قائمة، فالصخب والعنف والميكانيكية والخوف والكهربة والحرق، والتعقيد والحيرة والفلسفة والتعاسة.. كلها توحي باللون القائم، والضباب المحير، والتيه الضليل. وطعم ذلك كله مر وعلقم، ورائحته تشمئز منه النفوس ذات عادم يخنق النفس. تلك عناصر التصوير الأدبي من حركة، وطعم، ورائحة في هذه الصورة الأدبية البكر الرائعة. وفي قصيدة "الظل والضوء" يقول السنوسي1:خرافة كل مفتون بها فان أعيش في الظلِّ أو في الضوء سيان ... خرافة كل مفتون بها فإن الظل والضوء ألوان وأصبغة ... لا باهت ثابت منها ولا قاني فهم ووهم ولا شيء خلافهما ... الوهم من مارج والفهم روحاني فإن ركبت جناحا وانطلقت به ... محلقًا غير آفاق وألوان فلا تظنن أن الأرض قد ذهبت ... أو أنها خليت من كل إنسان

_ 1 نفحات الجنوب: 68/ 70.

الأرض ثابتة والنفس ذاهبة ... وأنت منها وفيها عائد ثاني ضحكت من زمني هزؤًا وسخرية ... وربما ضحك المجني للجاني ترف شم الرواسي نضرة وندى ... وملء أعماقها نيران وبركان وتغضب القمة القعساء إن سقطت ... فيها النسور وأضحت وكر غربان فعش حياتك مرفوع الجبين ولا ... تكن عبدها في أي ميزان التقسيم العقلي يفسد الشعر، وينقله من عالمه إلى عالم العلم والمنطق، والتدليل الصريح على الحقيقة في الشعر يتناقض مع منهجه لأمرين لا ثالث لهما، هما، فهم أي "عقل وحق"، ووهم أي "وسوسة وباطل"، فالأول مصدر الدين والروح، والثاني يتفجر من مارج من نار. فالعجيب ليس في هذا التقسيم العقلي، ولكنه في الشاعر ذاته، كيف نبضت صورته الشعرية هنا بمشاعره، واصطبغت بوجدانه المحموم، وسرى الروتين العقلي فيها، كما يسري النسيم على الطل والندى والشذى، فيتضوع الجو أريجًا رقيقًا كرقة مشاعره في هذه الصورة الشعرية البديعة. كما نجد إبداع السنوسي في تصوير التناقض على نحو غير مألوف ومتعارف، فيصور الإنسان الضعيف المغلوب على أمره، المهزوم من دهره، بصورة القوي المنتصر الذي لا يأبه لأحداثه، فيضحك وهو الضعيف المجني عليه من الدهر، وهو القوي الجاني استهزاء وسخرية. وكذلك يصور هذا التناقض بصورة الجبل الذي ازدهى بالخضرة وتوفر بالنضرة، وتلطف بالماء والندى، ولكنه في باطنه يتفجر لهيبًا وبركانًا، ويندلع موتًا ونيرانًا. وكذلك تغضب الشوامخ، موطن النسور ملوك الطيور، حين يعشش في جنباتها الغربان، وبين أوكارها الخسيس من الطيور؛ لأن شموخها يناجي شوامخ الطيور، ويأبى في جنباته سواقطها، التي تجد السكن والأمن في أوكاره. صورة أدبية رائعة تفيض بعناصر التصوير بما يتناسب مع الظل، وهو "الباطل والفساد والشيطان والضلال"، وما يتلاءم مع الضوء، وهو "الحق والعقل والدين والخير"، فيمنح الشاعر صوره الأدبيه عناصرها الشعرية بما ينسجم مع الظل أو الضوء: فالوهم نار، لونها أحمر حارق، وريحها سموم لافح، وطعمها لاذع يكوي، والفهم روحاني، لونه لطيف، وريحه نسيم عليل، وطعمه حلو كحلاوة الإيمان، والوهو أيضًا كالبركان في أعماق الجبال، والبركان نار ولهيب، لها لونها وطعمها وريحها كما سبق، والفهم كذلك كالنضرة والخضرة والماء في شم الرواسي، لونها أخضر، وطعمها لذيذ وممتع، ورائحتها طيبة زكية، وحركتها تتماوج مع النسيم في الصباح، وتتعانق مع الرياح في النهار والليل.

إنها صورة شعرية اكتملت فيها عناصر التصوير الأدبي من لون وحركة وطعم ورائحة، مثل القطعة الحية من الطبيعة الساحرة، والحياة النابضة. ومن الصور الجديدة البديعة التي تسير مع عصر الشاعر، وتتجاوب مع أصداء الحياة العالمية، وما يموج فيها من طغيان وظلم للذين أزهقت أرواحهم، وانتزعت أموالهم، واستعمرت أوطانهم بالباطل ... وباسم المبادئ الإنسانية المتحضرة، وباسم حرية الإنسان في عصر استعمار الإنسان لا حريته، يقول السنوسي في "الحق المهان" 1: يخزي الضمير ويجرح الإحساسا ... حق يهان فلا يثير الناسا وعجيبة أن تستمر عصابة ... تطأ الهدى وتلوث الأقداسا رعنا أسكرها الغرور فأمعنت ... بطرًا وزادت خسة وشراسا تلهو وتبعث لا تقيم لمنطق ... وزنًا ولا لمبادئ مقياسا ومنظمات الحق ... كل جهودها ... للحق لا تتجاوز القرطاسا لا مجلس الأمن استعاد وقاره ... وأقام هيبته وثار حماسا كلا ولا جمعية الأمم انتهت ... يوما إلى حكم يرد شماسا ويقال إن العصر عصر مبادئ ... فضلى تقيم الوزن والقسطاسا الوحدة الفنية: قضية الوحدة في القصيدة من أهم قضايا النقد الحديث الجديرة بالدراسة والتطبيق في الشعر ونقده الحديثين، فقد شغلت النقاد والشعراء على السواء، وخاصة بعد المنافسة بين المذاهب الأدبية الحديثة ومدارسها النقدية، مثل مدرسة المحافظين ومدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، ومدرسة المهاجر، وكذلك المذاهب "الكلاسيكي"، والمذاهب "الرومانسي"، والمذهب "الواقعي"، وغيرها، ووقف الجميع في صمود يدافع عن الوحدة الفكرية في بناء القصيدة، بل بالغ بعضهم في تطبيق الوحدة العضوية على الشعر الغنائي أيضًا، كالشأن في الموضوعي والمسرحي والتمثيلي، وأن منهج القصيدة القديمة التي تقوم على تعدد الأغراض والموضوعات لا يتناسب مع هذا العصر، الذي يتسم بالتقدم في العلوم والفنون والآداب على أساس من الذوق الرفيع، والفكر العميق، والعقل التجريبي. لذلك كان من الضروري أن تكون القصيدة الشعرية صدى لهذه الحضارة العميقة، فتقوم على أساس من الوحدة الفكرية والموضوعية في بناء فني متكامل، وتصوير أدبي تنسجم فيه

_ 1 الينابيع: ص41.

الصور الجزئية والألفاظ والأساليب والإيقاع والموسيقى مع المعاني والأفكار والعرض والعاطفة والتجربة الشعورية، في تلاحم قوي وتلاؤم انسيابي، فلا يصطدم الذوق الأدبي حين يتذوق القصيدة باضطراب في أسلوبها، أو تناقض في معانيها، أو تعدّد في أغراضها، أو يفزع بنشاز في إيقاعها أو بقلق في موسيقاها، ولا يشعر بتهتك يبدد تلاؤم الصورة مع الخيال والعاطفة والمعاني، غير ذلك مما يؤثر في تمزيق الوحدة الفنية في القصيدة فتنهار في ميزان النقد المستقيم. وعلى ذلك فالوحدة الفنية هي: أن تتلاءم التجربة الشعورية والعاطفية والخيال والمشاعر والأحاسيس والمعاني والأفكار والغرض والمغزى وغير ذلك مما يتصل بالمضمون والمحتوى للقصيدة فيتلاءم هذا كله مع البناء الفني لها، وهو انسجام الألفاظ والأساليب والصور الجزئية والتجسيم والتشخيص، والإيقاع الداخلي والخفي والموسيقى الخارجية في الوزن والقافية، لتتلاحم هذه العناصر كلها في انسجام وتناسب، واتساق وتلاحم، كالشأن في المخلوق السوي، الذي تكاملت أجزاؤه في أحسن تقويم1. والسنوسي في شعره يلتزم الوحدة الفنية غالبًا، فتقوم القصيدة عنده من المطلع إلى آخر بيت على غرض واحد، تدور حوله الأفكار والمعاني، وتتجاوب مع المشاعر والعاطفة والخيال في البناء الفني للقصيدة وحينئذ يتلاءم المضمون في العمل الفني مع الألفاظ والأساليب والصور والموسيقى والإيقاع. ولا تجد قصيدة في دواوين السنوسي الخمسة قد تعددت فيها الأغراض، بل تحقق الاتساق والتلاحم بين الغرض وبين تصويره الأدبي، وهذا لا يحتاج إلى ذكر أمثلة وشواهد، فقد سبقت قصائد كثيرة في باب الأغراض، وبقية القصائد في الدواوين تسير على هذا النهج من الوحدة الفنية. لكن الذي يحتاج إلى التنصيص عليه، وهو ما يخرج فيه الشاعر عن الوحدة الفنية من صور لا تتلاءم مع الغرض في القصيدة، وهذا قليل ومتناثر بالنسبة لمنهجه في الالتزام بالوحدة الفنية في شعره، وسأوضح بعض الشواهد على ذلك بالتحليل والنقد. صورغير متلائمة: الرثاء غرض أدبي ينصهر في بوتقة التجربة الحزينة وفي محمى العاطفة الشعورية القائمة،

_ 1 انظر كتابي: البناء الفني للصورة الشعرية: دار الحارثي بالطائف. فقد وضحت فيه الوحدة الفنية دفعًا للتكرار. نشر عام 1401هـ.

فتقطر أسى، وتذوب ألمًا وحزنًا، فإذا ما جاء الشاعر بلفظ أو صورة من حقل الأعجاب والبهجة والسرور، يبدِّد شمل الوحدة الفنية، ويذهب بتلاحمها. وهذا ما حدث للسنوسي عندما كان يرثي معالي الشيخ محمد سرور الصبان، الذي وافته المنية في مصر بتاريخ 2/ 12/ 1391هـ يقول1: تصاممت لما قيل مات "محمد" ... سرور "قلوب" كم به جبر الصدع فلا محل لذكر سرور القلوب هنا؛ لأنه يبدد قتام الحزن المتلائم مع الرثاء، وكذلك قوله في نفس القصيدة: أبا حسن غاض السرور الذي جرى ... على كل قلب من تدفقه نبع وضوح روض كان في كل مهجة ... بك اتصلت يندي بها النبت والزرع فالسرور وإن غاض بموته، لكنها تبرق بالبهجة، مما لا يتناسب مع الرثاء والحزن، وكذلك الروض الذي كان يفوح طيبه في حياة المرثي، فيزدهر به النبت والزرع، يبدد قتام الحزن في القصيدة؛ لأن نشر الروض وازدهار الزرع والنبت، كان ينبغي ألا يكون لها مكان من التصوير الأدبي، لعدم التلاؤم بحال مع الرثاء والحزن. ومما يؤخذ على الشاعر تمزيقه جمال التصوير الشعري بكلمة ليست هي من حقل الشعر، وإنما هي من حقل العلوم، ومن مجال العقل لا العاطفة، مثل كلمة "مقياس": يا فتنة القلب ومهوى البصر ... جاوزت مقياس جمال البشر2 وكذلك الكلمتان "إيجاز - المختصر" فهما يختصان بعلوم البلاغة ومنطق العقل أكثر من التصوير الشعري يقول3: ورق في خصرك حتى استوى ... إيجازه في قدك المختصر وكذلك مما يبدد التصوير الأدبي العربي الأصيل استعانته ببعض الكلمات الأجنبية التي يمجها الذوق العربي السليم، مثل كلمة "الديزتو"4:

_ 1 الينابيع: 63. 2 أزاهير: 35. 3 أزاهير: 35. 4 أزاهير: 34.

تجري عليك "الديزتو" ... تختال والفرد فرها وكذلك قوله: زاره ساكن "الألب" "أبوللو" ... رائدًا ينشد الجمال المثالي موازنة ونقد: السنوسي شاعر محافظ في تجديده، يتجاوب مع الواقع الذي يعيشه ويحياه، فالشعراء القدامي صوروا النغم والغناء في الشعر العربي القديم، وخاصة الشاعر المصور ابن الرومي، وتناوله كذلك شعراء في العصر الحديث مثل العقاد والمازني وإبراهيم ناجي وغيرهم1، وتأثر الجميع كثيرًا بابن الرومي في تصويره الغناء الساحر الجذاب في قوله يصور صوت "وحيد" المغنية: ظبية تسكن القلوب وترعا ... ها وقمرية لها تغريد تتغنى وكأنها لا تتغنى ... من سكون الأوصال وهي تميد لا تراها هناك تجحظ عين ... لك فيها ولا يدر وريد من هدوء ليس فيه انقطاع ... وسجو وما به تبليد مدَّ في شأو صوتها نفس ... كاف كأنفاس عاشقيها مديد فتراه يموت طورًا ويحيا ... مستلذ بسيطه والنشيد فيه وشي وفيه حلى من النغم ... مصوغ يختال فيه القصيد في هوى مثلها يخف حليم ... راجح حلمه ويغري رشيد ما تعاطى القلوب إلا أصابت ... بهواها منهن حيث تريد وتر العزف في يديها مضاء ... وتر الرجف فيه سهم سديد عيبها أنها إذا غنت الأحرار ... ظلوا وهم لها عبيد2 فالصوت الشجي مع هدوئه متصل لا ينقطع، ومع سموه حي غير متبلد، مديد كأنفاس العاشقين، ساعد في مده طول النفس، وأرقه الدلال، ولطفه الوله، حتى كاد أن يختفي، فيموت طورًا ويحيا طورًا، ويتعانق النغم على مسرح الغناء فيتخذ قبة تحيط بالسامعين،

_ 1 عقدت موازنة نقدية في كتابي: البناء الفني للصورة الأدبية عند ابن الرومي. نشر عام 1976م 2 المرجع السابق ص221، 361.

في صورة حيّة نابضة، ينسجم فيها الوشي المنساب مع الألوان، ويتجاوب فيها اللحن المتماوج مع موجات الهواء، فيتراقص معه القصيد، ويختال فيه النشيد، فيستبد بالقلوب، ويشنف الآذان، فيعشقه المستمع؛ ليقع في غرامه لا في غرام وحيد، ويصور ابن الرومي الغناء أيضًا في صورة أخرى فيقول: كل طفل يدعى بأسماء شتى ... بين عود ومزهر وكران ذات صوت تهزه كيف شاءت ... مثل ما هزت الصبا غصن بان يتثنى فينفض الطل عنه ... في تثنيه مثل حب الجمان صيغ من طبع صوتها كل لحن ... معها من لحون تلك الأغاني1 ويأتي السنوسي في العصر الحديث ليصور هو أيضًا الغناء في سحر وقوة متأثرًا بابن الرومي فيما سبق؛ لكنه يتجاوب فيه مع أصداء عصره، فيقول الشاعر في صوت "كوكب الشرق أم كلثوم". يا كوكب الشرق طال الليل بالساري ... فقصريه بألحان وأوتاري وسلسلي فيه صوتًا ملء نبرته ... صفو الندى والشذى والكوثر الجاري ورددي في دجاه شدو ساجعيه ... يذوب بين يديها كل قيثار مديه في الليل ينداح الصباح سنا ... وفي الضحى يتردى ثوب أقمار فنانة الضاد كم للضاد من نغم ... على شفاهك منه ذوب مضمار جلوته فجلوت الفن مرتفعًا ... يموج بين أغاريد وأشعار صوت إذا حركته في الدجى سحبت ... أردانها الريح في غيناء معطار يلقاك بالسحر في الألفاظ منطلقًا ... وبالحنان المصفى والجوى النار وغنة ما وعت أذن ولا سمعت ... بمثلها منذ أزمان وأدهار كأنما في أغانيها وفي فمها ... أنغام إسحاق أو ألحان موزار تهزه فتهز الشرق أجمعه ... قلبًا بقلب وأفكار بأفكار يصغي إليها كما يصغي الحبيب ... إلى حبيب في مناجاة وأسرار إن قلت: يا ليل قال الليل من طرب ... أو قلت يا عين لم تهدب بإشقار تعلو به طبقات الجو صادحة ... فينتشي كل نجم في الدجى سار آنا تضخمه أنا ترققه ... فعل الهوى والتصابي بين سمار كأنه في يديها غصن ناضرة ... تسمو به ثم تدنو ذات منقار كم بات يصغى إليها كل ذي كبد ... حرى اللواعج من شوق وتذكار

_ 1 المرجع السابق ص221، 361.

فراغ يطغى صداه وهي صادحة ... بصوتها العذب من سيل وأنهار غنت للشرق ألحان الخلود هوى ... وللعروبة لحن المجد والغار من كان يجعل شوقيًّا وقد صدحت ... بشعره آب عنه كاتبًا قاري ولا يرى في غناها ذو الحجي حرجًا ... وذو وقار يرزي به زار قمرية النيل ما للنيل واجمة ... ضفافه وأساه مائج جار غاضت بعينيه أنوار الهوى وذوت ... بكفه خضر أوراق وأزهار ولاح في صفحتيه ذعر شاكله ... وحيدها بعد سن يائس هار ما كل طير هزازًا حين تسمعه ... كلا ولا كل ذي ريش بطيار1 صورة أدبية كلية رائعة لتصوير النغم والغناء، تسير على النهج الفني لصورة ابن الرومي، فكلاهما يهزان الوجدان والنفس هزًّا قويًّا، لدقتهما في التصوير، وقوتهما في التأثير، وقد اتفق الشاعران في خصائص، وافترقا في أخرى، فأما الخصائص التي اتفقت عند الشاعرين -والفضل لمن سبق- هي: أولًا: كلاهما وصف المغنية بالجمال، وصورها بصورة جميلة في الطبيعة الساحرة، فمغنية ابن الرومي "وحيد" ظبية وقمرية في الليل، ومغنية السنوسي كوكب الشرق في الليل الساري وقمرية النيل. ثانيًا: سحر الغناء عندهما ينساب إلى الأسماع، ويتسلل إلى القلوب في خفاء، حتى لا يشعر السامع بمصدر اللحن، فالمغنية "وحيد" ثابتة الأوصال منسابة العينين بلا جحوظ ولا حملقة، ولا معاناة في إخراج الصوت، ولا انتفاخ في الأوداج والعروق، فيخرج النغم هادئًا متصلًا، لا انقطاع فيه ولا عواصف، بل يتصاعد ساجيًا ممدودًا دائفًا كأنفاس العاشقين، وأما ألحان "كوكب الشرق" فتتسلل كالندى الصافي، وتفوح كالشذى المعطر، وتعذب كالكوكثر الجاري، فهو ينداح في الليل ممدودًا، حتى يفجر إشراق الصباح ونور الضحى. ثالثًا: الشاعران مزجا سحر النغم بالسحر المذاب في مظاهر الطبيعة، فالصوت تهزه "وحيد" كيف شاءت، يستجيب له كل المعاني والألفاظ طائعة منقادة، مثل ما يستجيب غصن البان لريح الصبا، ويهتز طربًا له، فيتثنى ذهابًا وإيابًا، ويتناثر الطل كحبات الفضة، أما نغم "كوكب الشرق" فينساب في الليل والدجى والصباح والضحى، ويعلو طبقات الجو، فينتشي النجم طربًا، وينقاد طوع أمرها كالغصن اللين، الذي يتراقص مهتزًّا على أنغام الطير الصداح، وهو كالسيل في تدفق الأنهار، وكالماء في النيل عذوبة، وليس كل طير يمتع في الغناء.

_ 1 الينابيع: 87/ 89.

فصفة النفاق تأصَّلت في المنافق كالشأن في شجر الخلاف، فمنظره ساحر فتان، ومخبره مر خداع، كالغصن الأخضر أخاذ الشكل والرونق مرير الذوق كالعلقم. ويدل على أصالة النفاق في المنافق ما توحي به الصورة من التجدد والاستمرار عن طريق الفعل المضارع "يورق، ويأبى" وكذلك القصر بتقديم الخبر "وما له ثمر"1. يقول عبد القاهر: "انظر إلى المعنى في الحالة الثانية، كيف يورّق شجره ويثمر، ويفتر ثغره ويبسم، وكيف تشتار الأرى من مذاقه كما ترى الحسن في شارته"2. وصورة أخرى لابن الرومي في النفاق يقول: ملك النفاق طباعه فتثعلبا ... وأبى السماحة لؤمة فاستكلبا فترى غرورًا ظاهرًا من تحته ... نكد فقبح شاهدًا ومغيبًا ولشر من جربته في حاجة ... من لا تزال به معنى متعبا أما شاعرنا السنوسي فيصور النفاق في قصيدته "لكل صابون ليفه": بسمات ملونات وأخلاق ... وصولية غلاظ سخيفة ونفاق ملون تخجل الحرباء ... منه فتنثني مكسوفة تتدلى وتستكين وتنماع ... وتغدو لكل صابونة ليفة فإذا ولت الوظيفة ولوا ... وأثاروا عليه حربًا عنيفة خلق يشمئز منه كريم النفس ... والطبع والخصال المنيفة يا لنفسي من أنفس تقذف الحبر ... عداء من الثياب النظيفة وعلى كل جانب من قذاها ... قذر يزكم الأنوف وجيفة خضت في بحرها وكنت غريرًا ... فطفا موجها وكانت حصيفة أوجه كالبلاد لا تنبت الزهر ... وإن كانت المياه كثيفة وقلوب مثل الكهوف ظلامًا ... والضحى يغمر الوجود مخيفة غير أني وإن تألم قلبي ... فهو ما زال كالظلال الوريفه لست خبا والخب قد يخدع ... البر وهذه حكاية معروفة3

_ 1 انظر كتابي: شاعرية ابن الرومي بين الأصالة العربية والدعوى الرومية دار المريخ - الرياض 1402. 2 أسرار البلاغة ص91. 3 القصيدة كاملة سبقت في الشعر الاجتماعي.

ولا كل ريش يستطيع الطير في الهواء، فهو صوت فريد في مجال اللحن والغناء. ومع ذلك فقد غلب على تصوير ابن الرومي للغناء التجرد عن مظاهر الطبيعة وخاصة في القصيدة الأولى، وساد عند السنوسي تجسيم الغناء في مظاهر الطبيعة. أما ما اختلف فيه الشاعران فهو مدى استجابة المستمعين للغناء، فجمهور "وحيد" تجاوزوا حب الطرب والغناء إلى ما هو أكثر من ذلك من الغراء والإغراء، مما يخشى على العاقل الذي رجح عقله، ويخاف على الرشيد؛ لأنها تصبي القلوب بحبها، فالجمهور عندها مزعزع الإيمان ضعيف العقيدة، يخشى على دينه، ويخاف من الوقوع في حبال الشياطين. لكن جمهور كوكب الشرق يحب غناءها المجرد عنها، فذو العقل لا يتردى في حرج من غنائها، وذو الوقار والاتزان يجد في وقارها واتزانها ما تستجيب له نفسه يقول: ولا يرى في غناها ذو الحجي حرجًا ... وذو وقار ولا يزري به زار لأنها غنَّت للشرق الإسلامي ألحان الخلود في حضارة الإسلام وغنت للعروبة التي سما بها الإسلام في سماء المجد، كما غنت للرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه الوحي، وصاحب الغار والذي أقام حضارة الإسلام بعد الهجرة النبوية المباركة. فجمهورها قوي في إيمانه متمسك بعقيدته، يزداد إيمانًا حينما ينساب الغناب في حضارة الإسلام، فتسبد بقلبه تلك الحضارة فيزداد اقتناعًا بعقيدته وحبًّا لها لا لكوكب الشرق، التي لم تتخذ الدلال وسيلة للإغراء في الغناء، كما اتخذته "وحيد" مغنية ابن الرومي. ومن الصور التي تأثر بها السنوسي صورة المنافق في الشعر العربي القديم، ذكر عبد القاهر الجرجاني في تعليل بلاغة الكلام قول ابن لنكك: في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر وقول ابن الرومي: فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء وقوله الآخر: وإن طرة راقتك فانظر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر1

_ 1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص91 تحقيق محمد رشيد رضا.

والتأثر ظاهر بصورة النفاق بين الشاعرين وبخاصة في صورة ابن الرومي الأخيرة، فالمنافق في مكره ودهائه ورداءة طبعه كالثعلب يؤثر منفعته، ولا يسعى إلا لحاجته الذاتية، فهو ثعلب في طباعه، يسير هادئًا لينًا في خفاء وتحفظ كالقط الأليف. والمنافق في لؤمه كالكب المسعور يهش للقادم سماحة، ويداعبه غدرًا؛ لينقضَّ على فريسته كالذئب في غدره وخيانته، فهو في الظاهر مستوي الخلقة، متكامل السمت، يتستر وراء الغرور والوقار، ويتشدق بالنصيحة، ويتلاعب بالحكمة، لكنه من الباطن يتفجر عن غدر ونكد، وينطوي على حقد وشر، فلا يسلم من يتعامل معه من مخالب الغدر، فيظل يعاني منه آلامًا ومرارة ومتاعب. والمنافق عند السنوسي كالحرباء، بل الحرباء تخجل منه، وتعرض عنه مكسوفة، وتلك طبيعة المنافق في تكوينه، يلبس لكل حال لبوسها، ويتقلب حسب الأغراض والأهداف، كما تتأقلم الحرباء حسب اختلاف البيئات، وتغاير الألوان في الجبال والرمال، لتكون قطعة متجانسة مع الأرض التي تعيش عليها. لكن الصورة عند ابن الرومي أدق وأعمق حين صور المنافق بالثعلب والكلب المسعور؛ لأن المنافق غالبًا ما يخدع الناس لحسن ظنهم فيه، وينال منهم كما ينهش الكلب المسعور فريسته، بعد الهدوء والمسالمة وحلاوة اللسان على العكس من الحرباء فتتلون ولا تؤذي أحدًا. أما السنوسي يصور المنافق حين يتعامل مع الآخرين، الذين لا يسلمون من شره وأذاه، كمن يلطخ الثياب البيضاء بالحبر الأسود، والمنافق أشد من الوباء الذي يعدي في خفاء، فيزكم الأنوف بمرضه، ويقتل النفوس بجيفته المنتنة. وبصورة أيضًا بأرض بور، بل كالبلاط الذي لا ينبت زهرًا ولا يجلب خيرًا، مهما فاضت المياه، ويصور قلب المنافق في ظلمه وظلامه كالكهوف المظلمة تغشيها الدجنة باستمرار، فتأوى إليه الحيات والعقارب، والحشرات السامة، ومع كل ذلك فهو ضعيف لا يقوى على مواجهة الحق، رقيق كالظلال الوريفة تمزق النسيم اللطيف. وتلك صورة جديدة تفرَّد بها السنوسي عن سابقيه، وكذلك موضوع القصيدة، كانت منه لفتة لطيفة وطريفة حين طوع المثل العام الذي يجري على كل لسان، وهو "لكل صابونة ليفة" ليجعل منه موضوعًا شعريًّا وغرضًا أدبيًّا، ليفيض الشعر عليه بالإيحاء والقوة والشاعرية، والموضوع في ذاته صورة جديدة للمنافق في عصرنا الحديث. والسنوسي بهذه الصورة الطريفة للمنافق التي أطنب فيها حتى صارت قصيدة، تضع الشاعر في مكانه البارز بين شعراء عصره ولا تقل عن صورة المنافق في الشعر القديم، وإن اتصفت بالإيجاز والقصر؛ لأن الشعراء السابقين فضل السبق، ولشاعرنا السنوسي فضل الزيادة.

في صورة الجديدة التي تتناسب مع عصره، ولو خلت منها قصيدته لما وجدت طريقها إلى قلب القارئ، ولما أخذت مجالها في النقد والموازنة الأدبية. وبهذا يكون الشاعر السنوسي أشهر شعراء الجنوب في منطقة عسير، بل شاعر الجنوب كما أطلقت عليه صحافة المملكة، ومن الرواد الأوائل لشعراء المملكة الذين كان لهم دور كبير في القفزة السريعة للشعر الحديث، حتى تعددت مدارسه ومذاهبه الأدبية، وكان أيضًا أشهر شاعر في مدرسة التجديد المحافظ في مذهبها الأدبي لشعر الجنوب خاصة وشعر المملكة عامة. ولقد كانت الدراسة السابقة للسنوسي التي قامت على التحليل والنقد، والاستقراء والموازنة، ووضعت هذه الدراسة الفنية علامات بارزة على الطريق من أهمها: أنَّ السنوسي كان مجددًا في معظم الأغراض الأدبية وفي الموضوعات، وكذلك في معظم الأفكار والمعاني، وخاصة بالنسبة للشعر السعودي خاصة، والشعر العربي بصفة عامة. "إن للسنوسي مكانته بين شعرائنا البارزين، فهو صاحب "القلائد" ولقد كان لديوانه القلائد وما يزال صداه الطيب الجميل في أوساطنا الأدبية، إنه أول شاعر من شعرائنا يترجم له بعض شعره إلى لغة أوربية ... إن أهم سمات شاعرنا السنوسي في اعتقادي أنه لا يحاول أن يتكلف أو يظهر بغير حقيقته، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل لثناء أو مدح، وإنما هو في كل ما طالعته من شعره لا أراه إلا حريصًا كل الحرص على التزامه لهذه السمة، سمة الصدق في التعبير"1. ويكفي الشاعر الفذ أن يكون في شعره صادقًا يعبر بصدق عن شاعريته، وهل يحتاج التجديد في الأغراض الأدبية إلا الصدق الفني، الذي كان من أبرز مظاهر التجديد في الشعر الحديث بعد الركود والجمود في العصر السابق الذي قضي تمامًا على الصدق الفني في الشعر. وقال باحث عن السنوسي: "ومن أهم سماته أنه لا يتكلف، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل للمدح"2. ويقول صاحب المنهل: وأعتقد أن ديوان القلائد لصاحبه الشاعر الأستاذ محمد بن علي السنوسي "والاسم هذا كالمسمَّى" ... سيثبت بصدوره أن الشعر العربي الأصيل الذي جمع بين المبنى والطرافة والتجديد في المعنى، هو حي ولا يزال حيًّا ذا تأثير فعال في المجتمع والأفراد ... يؤز

_ 1 الأستاذ محمد سعيد العامودي: مقدمة الأغاريد ك. ل. 2 د. كامل السوافيري.

النفوس الظامئة إلى الحياة الطامحة أزًّا، ويدفعها إلى محيط العمل والنشاط دفعًا، ويوقد فيها جذوة الحربة والحماسة، ويخلق فيها الحركة والانطلاق إلى الأمام على الدوام.. ويساند حركات الاستقلال والاستبسال في نيل المطالب العليا، كما كان من قبل ألف عام، أيام البحتري وأبي تمام، وأيام أبي الطيب المتنبي، وأخيرًا أيام البارودي وشوقي وحافظ، ومن سار على دربهم من فحول الشعراء"1. والسنوسي كان مجددًا في تحفظ للتصوير الأدبي كما رأينا ذلك في مكانه، فقد بعث الحياة والقوة في الألفاظ الشعرية وأساليبه، وأعاد لها عراقتها الأصيلة كما كانت عند الفحول من الشعراء، كما أنه طوَّع الأساليب في جزالة وعذوبة وقوة وإيحاء لقضايا عصره وفكره واتجاهاته، وكذلك كان خياله عميقًا خصبًا يمنح صوره الأدبية جدة وابتكارًا، مما دفع النقاد إلى أن يسجلوا له هذه الخطوات المباركة في التجديد، يقول أحدهم: "إن شعر السنوسي يملأ نفسي ويشعرني أنه يخرج من نفس عربية مؤمنة صادقة قوية اليقين بعروبتها وإسلامها"2. ويقول الأستاذ محمد سعيد العامودي: "وأعتقد أن لثقافة السنوسي المتعددة الجوانب أثرها في شعره بصورة عامة إلى جانب موهبته الفنية المعطاءة، ولعله من هنا يبدو ما نلمسه في شعره غالبًا من نبض في الأسلوب، وحيوية في الألفاظ وعمق في المعاني، وسمو في الأغراض"3. وأمَّا الموسيقى الشعرية فقد اتخذ الشاعر القالب الموسيقي العربي العمودي، فالتزم بحرًا واحدًا وقافية واحدة في القصيدة الواحدة، ورأينا ثورته العنيفة على الشعر الحر في القصيدة التي سبق ذكرها، والتي أعلن فيها أن طبيعة الشعر العربي الأصيل تأبى ذلك كل الإباء، وإذا كان ولا بُدَّ من التجديد فيكون في المعنى والمضمون بما يتناسب مع العصر الحديث وقضاياه الكثيرة. ولم يتزحزح السنوسي عن القالب الموسيقى إلّا قليلًا، وذلك في نظام المقطعات القائمة على البحر العروضي مع تعدد القافية في كل مقطع من مقاطع القصيدة، وليس هذا غريبًا على طبيعة الشعر العربي، بل هو نظام الموشحات الأندلسية مثل قصيدة "أتمنى" السابق ذكرها.

_ 1 الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: مقدمة القلائد: ج. 2 مقدمة: نفحات الجنوب ص8. 3 مقدمة الأغاريد ص. ل.

وأشاد بشعر السنوسي الشاعر الأمير عبد الله الفيصل بقصيدة عنوانها "حيرة" يقول في مطلعها: أنا في حيرة أموت وأحيا ... كل يوم وأدمعي في شهود1 ويصف الشاعر محمد حسن عوّاد أحد رواد الشعر العربي في السعودية شعر السنوسي، ويشيد بروعة شعره في قصيدته "مواطن العطاء من الإنسان" منها هذه الأبيات: الوشي جاء منمقًا ومنمنمًا ... والظرف طالعنا بها متبسمًا واللمس كان موشحًا والحسن كان ... مصرحًا واللطف كان مسلمًا غراء من جيزان يرقصها النهى ... تيها يمنعها الحياء تقدمًا أنسيت أنك آنذاك منشأ في ... حلبة والنسج لم يك محكمًا إني وأنت مواطني ومسايري ... في الشعر أصمت إذ أراك ملعثمًا لكن سواك من الذين تعاظموا ... أو كابروا الفكر القوي القيما من كل من جعل التشاعر مهنة ... فإذا انبريت له أسف وبرطمًا فقد امتطوا عوجاء حين تأثموا ... والفكر أكبر أن يرام تأثمًا والفن يرفض أن يكون ممرغًا ... والحسن يشجب أن يداهن نومًا مسخ الفتي منهم رواء شبابه ... فكأنه هرم ولما يهرما ورسالة التجديد عند لفيفهم ... "خطب" يراه مذمما ومحرمًا هي ذي المفاهيم التي أصليتها ... نقدا وكان كما عرفت مسممًا هم هؤلاء -ولست أنت- هم الأولى ... قد خوصموا نقدا مضى متجهما عش للوفاء "أبا علي" مثلما" ... يرجو الوفاء من الوفاء وفوق ما ولأنت من أهليه فابق أرومة ... عربية نسلت عزيزًا مسلمًا2 والسنوسي ... "شاعر ضليع ذو قوة في البيان، وإشراقة في الفكر، وروعة في المنطق، وجدة في الأسلوب، هو شاعرنا الذي تعتز به المملكة العربية السعودية، وتضعه في الصف الأول من بين شعرائها الأبرار شعراء الشباب المبدعين.. شعراء الأدب الرفيع، واللسان العف، والضمير النقي من الشوائب والأوضار3.

_ 1 جريدة البلاد: عدد 2930 - 8/ 7 / 1388هـ. 2 جريدة البلاد 17/ 11/ 1394هـ. 3 عبد القدوس الأنصاري: مقدمة القلائد: 1.

الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي

الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي نشأة العقيلي وحياته: هو الشاعر محمد بن أحمد العقيلي، ولد في مدينة "صبيا" عام "1366هـ-1916م". تلقى علومه على أحد المدرسين، وعلى الده، وعلى الشيخ عقيل بن أحمد في الفقه والنحو والصرف وعلم المعاني وعلم البيان، وغيرها من علوم العربية. تقلَّب في وظائف مختلفة في الهيئات الحكومية، واشتُهِرَ في المملكة بكتاباته الصحفية التي كانت تستهوي القراء والعلماء والباحثين، يقول الأستاذ حمد الجاسر في ذلك: "لقد عرفت الأستاذ العقيلي أول ما عرفته مؤرخًا وباحثًا حينما كان يمد مجلة "اليمامة" منذ تسعة عشر عامًا بأبحاثه التي كنت أحس وأنا أقرأها بأنني أجد فيها ما لا أجده في غيرها من أبحاث كثيرة من كتابنا، مما تزخر به صحفنا، ثم يقول: إنني أوفيته حقه في كتاب "مؤرخو الجزيرة" ... "1. واشتهر العقيلي بمؤلفاته وتحقيقاته، منها: "المخلا السليماني في ثلاثة أجزاء، وتحقيق ديوان "القاسم بن علي بن هثيميل"، "التصوف في تهامة"، وديوان "السلطانين من شعراء القرن السادس"، وديوان "الجراح بن شاجر الأروي"، وكتاب "شعراء الجنوب" بالاشتراك مع محمد بن علي السنوسي 2. وفي عام "1391هـ-1971م" صدر ديوان "الأنغام المضيئة - نشر دار اليمامة بالرياض، ومن الغريب أن صاحب كتاب شعر العصر الحديث الذي كانت طبعته الأولى عام 1939هـ- 1979م" لم يذكر هذا الديوان، بل أغفله تمامًا، مع العلم بأن ديوان العقيلي منشور قبل ذلك بثماني سنوات3.

_ 1 الأنغام المضيئة: المقدمة ص6. 2 انظرالترجمة في "مؤرخو الجزيرة": حمد الجاسر، وكتاب شعراء العصر الحديث: عبد الكريم الحقيل 208 وغيرهما. 3 الأستاذ عبد الكريم الحقيل: صاحب كتاب شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب.

وقسَّم الشاعر ديوانه إلى فصول، أعطى لكل فصل عنوانًا على النحو التالي: سعوديات - في ربوع الوطن - عربيات - حضارة - الغزليات - تحيات - الوصف - أناشيد. والعقيلي شاعر معروف بين شعراء المملكة العربية السعودية بشعره الإسلامي المشرق والعربي الناصع، الذي يغلب الالتزام بتصوير المعاني السامية والأخلاق الفاضلة من نفس مؤمنة مفعمة بالإيمان الصادق، والإخلاص للمسلمين، والوفاء لوطنه والقائمين عليه، وهو من أشهر شعراء الجنوب الذين كان لهم دور كبير في مدرسة التجديد المحافظ، يقول الأستاذ حمد الجاسر: "ولكن إذا قصد بالشعر التعبير عن المعاني والأخلاق النبيلة والاتصاف بها، ففي شعر العقيلي مما يعبر عن عمق إيمانه بالله -سبحانه وتعالى، وصدق إخلاص، ووفاء لأمته ووطنه، وصادق ولاء لمن ولاهم الله أمر هذه البلاد ولاء قائمًا على المحبة الخالصة. ولعلَّ نظرة العقيلي إلى الشعر تتفق مع نظرته إلى الأدب، ومن ثَمَّ يصح القول بأنه يرى الشعر ما عبر عن كريم الخلال، وأبرز مجالي الحسن وقوم معوج الخلق سيرًا على أن الغايات لا الوسائل هي أولى ما يجب أن يعنى به ويتجه إليه، ولا شيء سوى ذلك"1. والشاعر العقيلي تناول في "الأنغام المضيئة" أكثر الأغراض الأدبية التي سيطرت على الشعر في الجنوب، وسنوضح هذه الأغراض وخصائصها الفنية في الموضوع والمعاني والألفاظ والأساليب والخيال وصوره الأدبية والموسيقى الشعرية وغيرها من القيم الفنية في العمل الأدبي.

_ 1 الأنغام المضيئة: حمد الجاسر ص7.

التصوير الأدبي للأغراض الأدبية: أولًا: المدح وخصائص التصوير الأدبي تناول الشاعر العقيلي في ديوانه غرض المدح في قصائد كثيرة ذكرها في موطنين: أحدهما: تحت عنوان "السعوديات"، وتشمل هذه القصائد قصيدة " على صهوات الجو ص13"، وقصيدة "تألفت في سماء الشرق ص18"، وقصيدة "عهد الخفاء الراشدين ص23"، وقصيدة "يوم على صفحة التاريخ ص27"، وقصيدة "باقة شعر ص30"، وقصيدة "موكب التاح ص35"، وقصيدة "تحية التاج ص38"، وقصيدة "في سنا تاجه وصولجانه ص40"، وقصيدة "لك الود ص43"، وقصيدة "أبو الشعب ص46"، وقصيدة "الفرحة الكبرى ص48"، وقصيدة "تلألأ الحق ص49"، وقصيدة "يا ابن عبد العزيز ص51". ثانيهما: تحت عنوان "تحيات"، ويضم هذه القصائد وهي: "حي الشباب ص123" يحيى شباب مدرسة جازان عام 1368هـ، وقصيدة "تحية الجيش ص125"، وقصيدة "عين من الخلد ص127"، وهي عين ماء جازان، وقصيدة "قصر الإمارة في جازان ص131"، بمناسبة إضاءة القصر بنور الكهرباء، وقصيدة "تحية الشعر ص136"، قالها العقيلي في تكريم الأستاذ الشاعر عبد الله بن خميس يمدحه في جازان بتاريخ 2/ 10/ 1388هـ، وقصيدة "زهرة ص138" يمدح بها الشاعر الأستاذ حسين سرحان. يقول العقيلي في إحدى قصائده التي يمدح فيها صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، ومطلعها:1 شذى يتعالى بالتجلة أو شدوا ... تضوع من فيفا عبيرًا ومن رضوى وزن بها جازان علوية الشذى ... سماوية الأنفاس وقدسية النجوى لها ومضات البرق في كل مطلع ... سطوعًا وصوت الرعد مرتجزًا دوَّى وأنسام أزهار الفراديس نفحة ... على الأفق المخضل والمنظر الأحوى

_ 1 الأنغام المضيئة: ص43، 46.

إلى قوله: طلعت بعهد عبقري طرازه ... تطاول أمجاد أوراق الدنا صفوا مواسم للإصلاح في كل مرفق ... وأعياد أعمال تفوق الورى شأوا مضت لم تشاهدها الجزيرة أو ترى ... لها في تقصي عهد سالفها صنوا إلى أن يقول: لك الود منا خالصًا لا يشوبه ... رياء ولا يلتات بالزيف والدعوى يمجد فيك الفكر ريان مشرقًا ... ويكبر فيك العقل والخلق الأقوى وعزمًا لإنهاض البلاد بهمة ... "سعودية" التصميم "نجدية" العزوى وهكذا يسير المدح على النمط من المدائح التي تقوم على استقلال القصيدة على غرض واحد من المطلع حتى نهاية القصيدة بلا تعدد في الأغراض، وهذا منهج في القصيدة يخالف منهج القدماء فيها؛ حيث تعددت فيها الأغراض كما هو معروف في الشعر العربي القديم. ومن الخصائص الفنية في مطالعه أنه يشرك الطبيعة في الابتهاج بالممدوح فهي تتغنَّى معه بالثناء على الممدوح والحفاوة به، وذلك في الأبيات الأولى من القصيدة. وكذلك فالقصيدة التي معنا تعتمد على ذكر الصفات الخاصة بشخص الملك فيصل المعظم، فهو عبقري جنَّد نفسه لإصلاح بلاده، وسمت أعماله فيها إلى درجة التمجيد والبهجة والسرور مثل بهجة الأعياد، وقد سبق سلفه فيها تقدميًّا ورقيًّا. كما يتصف أيضًا بالفكر العميق المثمر، والعقل الكبير، والخلق القوي، والعزم الشديد لإنهاض بلاده بهمة اشتهرت بها الأسرة السعودية، وبتصميم نجدي في المضاء والإنجاز. وتلك صفات شخصية يمدح بها الملك لا يتعدَّى أثرها إنهاض المملكة العربية السعودية ذلك الوطن العربي السعودي فقط، ولذلك أدخلت هذه القصيدة في غرض المدح. أما التصوير الأدبي عند الشاعر في المدح فقد امتازت الألفاظ والأساليب بالجزالة والفصاحة، والأسلوب بالوضوح والسلامة من الخطأ، وإن كنت أرى أن بعض الأساليب تجد قلقًا في مكانها من البيت بلا أحكام قوي في التركيب مثل قوله: "وأعياد أعمال تفوق الورى شأوا" والمعنى وأعمال سارة كالأعياد البهيجة، ولكن هذا المراد من العسير إخراجه بسرعة من هذا الأسلوب وهو أعياد أعمال. والتصوير الأدبي يعتمد على العقل والفكر أكثر من اعتماده على الخيال بصوره البيانية، ومن التعبير العقلي الحقيقي قوله: "لا يشوبه رياء ولا يلتات بالزيف والدعوى" فالشوب والزيف

والدعوى تعبيرات عقلية لا خيالية، وحين نتذوق صورة خيالية عنده مثل "شذى يتعالى بالتجلة"، نحس فيها بالجمود لا الحركة والحيوية، فالشذى يتضوع أو ينساب أو يعبق أو يسمو، ولا يتعالى بالتجلة، فليس ذلك مألوفًا مع الشذى. وأما الموسيقى الشعرية فالشاعر ملتزم بالعمود الشعري والقالب الخليلي من المحافظة على البحر والقافية. ثانيًا: الشعر الوطني وخصائصه الفنية: وهذا الغرض في الديوان تحت عنوان "في ربوع الوطن"، وضم قصائد وهي: قصيدة "المشاعر المقدسة ص55"، وقصيدة "الجزيرة العربية ص58"، وقصيدة "جازان ص61"، وقصيدة "صبيا ص64"، وقصيدة "جبل فيفا ص66"، وقصيدة "البلاد العربية ص68"، وقصيدة "بين جمال الطبيعة وجلال البحر ص71"، يقول العقيلي في قصيدة "الجزيرة العربية" 1: شبه الجزيرة منعة وإباء ... وحمى العروبة منبرًا ولواء وفضاء أرض قد تالق وازدهى ... أفقًا يشع رسالة وهناء أرنو إليك فأستشف جلاله ... شماء توحي العزة القعساء أعتزّ بالماضي العظيم وأنتشي ... أملًا بات يفرع الجوزاء أرضًا على التاريخ من أمجادها ... عبق يردده الزمان ثناء خففت بأعلام الفتوح فحدثت ... أممًا وعممت الوجود رخاء حملت مصابيح الحضارة للورى ... تبني الشعوب وتنشر الآراء تتوسدين ذراع أحمر زاخر ... كالتبر ذوبًا والشعاع رواء متلألئ الأمواج في رأد الضحى ... متألقًا ضافي الجلال مساء يرتاد منه اللحظ أضفى زرقة ... من "لازورد" يغمر الأحياء إلى قوله: حي الخليج وحي بحرًا ماؤه ... در على وجه الخضم تراءى حيث المعادن والكنوز دفينة ... والزيت منبجس العيون سخاء وهكذا إلى آخر القصيدة التي يحدد معالم وطنه العزيز والمفدى ويوضح حدود الجزيرة،

_ 1 الأنغام المضيئة: ص58/ 61.

وهي البحر الأحمر الزاخر بالتبر والشعاع المتألق، والمحيط في الجنوب، والخليج العربي الذي فاض بكنوزه ومعادنه الثمينة، وتفجر البترول من أحشائه فعمَّ الثراء في الوطن وسادت حضارته قديمًا وحديثًا. والقصيدة هنا وغيرها من القصائد في هذا الغرض تقوم على غرض واحد فقط، تدور معانيه حول موضوعه، كما هو واضح من قصيدة الجزيرة العربية، فاتجهت عناصر القصيدة ومعانيها، وخواطر الشاعر في الموضوع، وتلك هي الوحدة الموضوعية التي التزمها الشاعر في أغراضه الأدبية. والألفاظ والأساليب جاءت هنا جزلة قوية عذبة، والتراكيب محكمة قوية رصينة، وأما الخيال كان عميقًا، وما زالت الحيثيات العقلية تستحوذ على شعره مثل لفظ "حيث" ليس من حقل الشعر، وإنما هو من ألفاظ العقل والأسلوب العلمي لا الأدبي. ثالثًا: الشعر الإسلامي وخصائصه الفنية: تناول العقيلي هذا الغرض الأدبي تحت عنوان "عربيات"، ويشتمل على قصائد هي: قصيدة "هزوا اللواء ص75"، وقصيدة "تحية الأقطاب الكبار ص79"، وقصيدة "يوم الجزائر في جيزان ص82"، بمناسبة استقلال الجزائر، يقول العقيلي في "تحية الأقطاب الكبار" بمناسبة الاجتماع التاريخي في جدة عام 1374هـ لأقطاب العالم العربي الكبار1: روعة الفتح وشاع الجلال ... قد أعادوها على أسمى مثال ورنا التاريخ في ذروته ... ساطعًا والشرق وهاج الخلال وخطا خطوة جبار إلى ... ساحة العز وأجواء الكمال هتفت أصواته قاصفة ... تملأ الدنيا بأمجاد الفعال أي روح أيقظوها فسمت ... تلهب الشرق حماسًا واشتعال نفثوا في كل صقع قوة ... للكفاح الحر في دنيا النضال فأقضوا مضجع البغي على ... قدم العهد وإفساح المجال في الجنوب الحر في الأردن في ال ... مغرب الأقصى وفي سوح القتال لم يفق من عشية الهول على ... صفعة إلا وأخرى في القذال خطط محكمة التدبير في ... سرعة التنفيذ من جد النضال

_ 1 الأنغام المضيئة: 79/ 82.

إلى قوله: حيوا أقطابًا كبارًا وثبوا ... وثبة عظمى إلى أسمى مجال دعموا الوحدة من أساسها ... وبنوا صرح العلا سامي المثال في اجتماع وجف الغرب له ... واحتفى العرب به أي احتفال أطلع الشرق بهم في أفقه ... فيض أضواء شموس وجلال سادة من أعظم القادة في ... منهج الرأي وميدان القتال ينضح الإخلاص من أعطافهم ... عبق المجد ولألاء الخصال نذروا الأنفس للذود عن الوطن ... الأكبر أرواحًا ومال وبناء الوحدة الكبرى على ... كرم الأهداف لا حلف الضلال مستمدين على إخلاصهم ... ناصع التاريخ في أزكى الخلال إنها التهيئة العظمى لمن ... يثبت الذات على أسنى مثال وبناء لوجود صادق ... في صراع الكون إن جد النضال وانتفاضات حياة حرة ... وارتعاشات بها التاريخ صال هزت الأمة من أطرافها ... هزة البعث لأجيال طوال إلى قوله: شهدت مكة في ساحاتها ... موكب القادة يسمو في اختيال تخفق الأعلام نشوة عزة ... وتميد الأرض فخرا والجبال الشموس الغر من يعرب قد ... سطعت في مكة ذات الجلال الأبيات كلها تدور حول الغرض منها وهو وحدة الأمة الإسلامية في كفاحها ضد أعدائها، فأقضوا مضاجع البغاة وارتجف الغرب، في تصوير أدبي يقوم على ألفاظ جزلة وكلمات فخمة، وأسلوب قوي، أحكم صنعته، وعاطفة صادقة مشبوبة، ومشاعر حية نابضة، لكن لا أدري كيف ينضح الإخلاص من الأعطاف؟ أما الموسيقى الشعرية في القصيدة فلا تتناسب مع الحماسة في الغرض، الذي يقوم على حفز همم القادة والأمة العربية ضد الغرب أعداء الإسلام والعربية، وهذه الحماسة تقتضي بحرًا كثير التفاعيل، وقد كان هذا على نحو ما، لكن الذي لم يكن الإيقاع المناسب للغرض، فالحماسة تقتضي إيقاعًا عنيفًا يعصف بالحمم، وموسيقى داخلية ثائرة تتفجر بركانًا ملتهبًا، والعنف والعاصفة، والثورة والبركان تتنافى مع كثرة حروف اللين والمدات في داخل الأبيات، التي تحدث رخاوة وهدوءًا وبطأً وامتدادًا، انظر إلى حروف اللين في البيت في أصواتها الرخية التي تحتاج إلى نفس طويل لا أنفاس حماسية متتابعة مما يجعل اللسان يتعثر في النطق بهما بما لا

يتناسب مع السرعة في الحماسة فمثلًا في البيت الأول فيه: "شاع الجلال - أعادوها على - أسمى - مثال" ثماني مدات في بيت واحد، وفي البيت الثاني "رنا - التاريخ - في - ساطعًا- وهاج - الخلال" سبع مدات بالإضافة إلى تعثر اللسان بشدتين في التاريخ وفي وهاج، مما يزيد التثاقل والبطء، وهكذا في كل الأبيات حتي نهاية القصيدة، وكان الأولى بالشاعر تبعًا للحماسة أن يستبدل كلمات يحلّ السكون فيها محل حروف اللين، وكلاهما واحد في مقياس التفعيلة والوزن، ولكنهما مختلفان في الإيقاع المناسب للغرض، فاللين يتناسب مع الأغراض التي تحتاج إلى تأمل وطول نقص كالرثاء والاعتذار وشعر الوجدان، أما التسكين لما فيه من القطع والعنف لا الرخاوة والامتداد يتناسب مع الحماسة والمدح والفخر، وأغراض القوة كلها. وكذلك كان الأمر في القافية، فقد أخلَّ حرف اللين مما ينبغي أن يكون في الحماسة من القوة والدفقة العنيفة التي لا تتأتى من حرف اللين في القافية، وإنما يوحي بها السكون الذي يجزم الأصوات ولا يمط فيه، وإذا أعدنا النظر إلى القافية كلها لكان الأمر كذلك مثل "مثال - الخلال - الكمال - ... إلخ". رابعًا: شعر الحضارة وخصائصه الفنية: وجاء هذا الغرض في الديوان تحت عنوان "في الحضارة" واشتمل على قصائد، منها قصيدة "برسي شيلي ص89"، وهو من أشهر شعراء الإنجليز "1792، 1822م ومن دواوينه "أدونيس"، ومن أشهر كتبه "ثورة الإسلام" ومطلعها1: روح على الفن من إشعاعه ألق ... يلوح في ومضات الفكر يأتلق وشعلة من ذكاء ظل يلهبها ... قلب غدا بأوار الحب يحترق وقصيدة "قمة افرست ص92" بمناسبة اكتشاف القمة الخالدة، وقصيدة "القنبلة الذرية "ومطلعها2: صدى نبأ قد رددته الجوانب ... وسر اكتشاف حققته التجارب أصاخت له الأفلاك والدهر واجف ... وحازت له الأفكار والكون واجب به رجحت للسلم في الكون كفة ... وأدرك أسمى غاية النصر غالب قوى طاقة الذر الذي في اكتشافها ... تحقق من أسمى المطامح جانب قوي لو بها راموا البناء أحدثت ... أمورًا تعم الكون منها الغرائب

_ 1 الأنعام المضيئة: 89/ 92. 2 الديوان:93/ 98.

قوي من شعاع لا تقاس إذا بدت ... تزلزل من شم الجبال المناكب إذا فجروها غيم الجو فجأة ... وسح رذاذ يغمر الأرض ساكب وأظلم قرص الشمس وامتقع الضحى ... وذاب الثرى قد صهرته الكهارب ودوي انفجار ترجف الأرض رهبة ... وترتج منه الشهب والنجم ذائب أمن "ذرة" لا تبصر العين جرمها ... ولا لمستها في الأكف الرواجب هباء من الأجرام طار مفرقًا ... كما طار في أفق الفضاء الجنادب تئول قوى حصاده أنفس الورى ... ويمسي بها العمران وهو خرائب تضاءل عنها الكهرباء وسرها ... وموجب تياراتها والسوالب إلى قوله: أفي العدل أم في العرف أم أي شرعة ... من الشرع قد قامت عليها المذاهب ترى يستجار الظلم في حق أمة ... مسالمة أخنت عليها النوائب ويقضي على حق الليوث بذلة ... لتحيى على أوطانهن الثعالب ومن شعر الحضارة قصيدة "باكستان ص98" قالها العقيلي حين زار الملك فيصل باكستان عام 1388هـ، ومنها قصيدة "ديجول ص101" الرئيس الفرنسي في ذي الحجة عام 1388هـ، وقصيدة "الحية" للشاعر الإنجليزي "رسكن" عام 1388هـ. ومن خصائص شعر الحضارة عند العقيلي أنَّ موضوعاته متنوعة، فتارة يصور في شعره العربي أدب الحضارة والرقي في انجلترا، وحضارة الإسلام التي فرضت وجودها كحقيقة مقررة على أعداء الإسلام، وذلك في قصيدته "برسي شيلي" الشاعر الإنجليزي الفذّ الذي سجَّل حضارة الإسلام في كتابة "ثورة الإسلام"، وهذا يدل على سعة ثقافة شاعرنا العقيلي. وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر الإنجليزي "رسكن". وتارة يصور في شعره الحضارة المادية العلمية في عصر التقدم الذري، وذلك في قصيدته "القنبلة الذرية"، فيرى أنها ستكون من دوافع السلم لا الحرب، بل ينبغي أن تستخدم الطاقة الذرية في تقدم الأمم وحضارتها لا في دمار الحرب والقضاء على التقدم البشري؛ لأنها في ذاتها تقدم علمي حضاري، فكيف تستخدم في التدمير والإرهاب. وتارة يصور في شعره حضارة الإسلام في باكستان التي أوجبت على زعماء الأمة الإسلامية أن يتعاونوا ويقفوا صفًّا واحدًا ضد أعدائهم، وهذه الروح الوثابة تبدو في أسمى مظاهرها حين التقى الملك فيصل -رحمه الله تعالى- بالأمة الإسلامية في باكستان؛ ليوثق هذه الروابط الإسلامية العالمية، وذلك في قصيدة "باكستان". وتارة يصور في شعره الحضارة الغربية البناءة في شخصية زعيم من زعمائها "ديجول" الرئيس الفرنسي الذي أعلن شعار الإسلام في هذا العصر، فقد انتهى عصر الحروب

والاستعمار والظلم والاستبداد بالشعوب الضعيفة، والإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى بناء الحياة على أساس والتقدم والرفاهية وترسيخ الحضارة العلمية التي تسمو بالأمم، وتحقق للإنسان حريته واستقراره، وترفرف عليه السعادة والرفاهية، وذلك في قصيدة "ديجول" الذي أنشدها العقيلي في ذي الحجة عام 1388هـ. وتلك التجارب الشعرية تدل على سعة ثقافة الشاعر العقيلي واهتمامه بقضايا الإنسان بصفة عامة، ومواكبة الحضارة والرقي البشري في أي موقع من مواقع الإنسان في العالم، والدقة في اختيار الموضوعات تدل على ذكاء الشاعر وعمقه، وإدراكه الواعي والدقيق للقضايا التي تنبني عليها حضارة الإنسان في العصر الحديث. والتصوير الأدبي في شعر الحضارة جديد في صوره الخيالية البديعة من حيث المضمون وخصوبة الخيال وروعته، فالقنبلة الذرية اكتشاف علمي جديد يقتضي من الشاعر خيالًا واسعًا وخصبًا عميقًا، يستمد التصوير الأدبي روافده القوية من خصوبته وعمقه. والإيقاع الموسيقي هنا يتلاءم مع الغرض، فكان رافدًا قويًّا من روافد الإبداع في التصوير الأدبي، وقوة الإيقاع في القصيدة ترجع إلى تناسب حروف اللين الكثيرة مع التروي والتأمل وطول النظر في مجال العلم وساحة البحث والفكر. وقد يصور الشاعر الحضارة العربية في الوطن السعودي من خلال التقدم في الفكر والعلم في هذا البلد الأمين، وذلك حينما يمدح رائدًا من رواد الفكر والعلم والأدب والنقد، وهو الأستاذ حمد الجاسر، يصور ذلك كله في قصيدته "يا ومضة الفكر" يهديها إلى علامة الجزيرة حمد الجاسر في 24/ 7/ 1390 هـ1 ومطلعها: يا قمة شامخة في الذري ... وكوكبًا بين مسار الخلود وومضة للفكر وهاجة ... تضيء في العصر ضياء البدور وفيض علم زاخر دافق ... مستفحل التيار طامي المدود شموخك البكر سنا روعة ... علوية من نجوات الحدود يا قلمًا كالبراق في ومضة ... ورعشة النجم وسحر المساء كالجدول المنساب في رقة ... وكالأعاصر وعصف الهواء يعطر الضاد بأمجاده ... في العلم والبحث وكشف الخفاء يستنطق الآثار مستلهمًا ... روائع التاريخ فيها مضاء

_ 1 الأنغام المضيئة: 133/ 135.

إلى قوله: من رادة العلم ورواده ... ومن حداة العلم في كل ناد من معشر حياتهم منجم ... ثر يمد الفكر منه امتداد تراث علم خالد في الورى ... وإرث فن نوره في اتقاد ونبع خير وجمال سمت ... بها نفوس وتعالت بلاد إليك أستاذي صدى نغمة ... من قمم الإلهام تستنطق من يشق سامي الرؤى والهوى ... لنفحها الأرواح تستنشق تبقى على الآماد في نضرة ... يشع من لألائها رونق قد رسمت لكم فيها سيرة ... وضيئة أو خلق مشرق وتقوم هذه القصيدة في قالبها الموسيقي على نظام المقطعات وهو خروج محافظ. خامسًا: شعر الوجدان وخصائصه الفنية تناول العقيلي هذا الغرض في ديوانه تحت عنوان "الغزليات"، وتشمل قصيدة "الغرام الأول ص109"، وهي أول قصيدة للشاعر في عام 1359 هـ، وقصيدة "نظرة في الغسق ص111" في عام 1360هـ، وقصيدة "كنت يا دار ص112"، وقصيدة "على ضفاف فوار انطلياس ص115" أنشدها العقيلي في لبنان وهو يعالج، وكان في صحبته صديقه الأستاذ حمد الجاسر، وقصيدة "الباخرة العربية كليوباترا ص118". يقول العقيلي في "كنت يا دار" حين مر على دار غرامه الأول فشجاه دثورها، فأنشدها وأهداها إلى السيد محمد عقيل بن أحمد ومطلعها1: كنت يا دار على الرغم البلى هيكل الحب ومحراب الهوى حرما للحسن قد شع على ساحة الطهر وقد حام السنا

_ 1 الأنغام المضيئة: 112/ 115.

طالما رفت قلوب وهفت مهج صوبك في جنح الظلام حومت خفاقة تمنعها هيبة الوجد ويدنيها الغرام كان مصباحك قلبًا نابضًا وشعاعًا في الدياجي يهتف فإذا لألأ في أفق الدجى دنت الأرواح منه تلهف تتملاك لحاظ عربدت تحتسي حسنك سكرى لا تفيق غرقت في نشوة الحب وقد طاف جام الحسن يطفو بالرحيق فلك أنت لشمس أفلت طالما شعت على تلك الخدور حجب الموت سناها فهوت وكذا تغرب في الأفق البدور هكذا وردت القصيدة في الديوان مقطعة الأبيات إلى شطرات كل مقطعة بيتان منثورة في أربع شطرات، والمقطع متحد القافية ومختلف فيها مع بقية المقطعات الأخرى، وهذا أقصى ما يخرج فيه الشاعر على القالب الموسيقي العمودي، وخروجه في القافية لا في الوزن والبحر حيث التزمه في شعره كله، وتخيل أن الشاعر بهذا التفتيت للأبيات والتمزق فيها أن يضفي على المقطعات هيلمانًا أكبر؛ ليكون المقطع في أربعة أسطر لا في بيتين على سطرين، ولا أظنّ أن الشاعر يريد أن ينهج طريق شعراء التفعيلة في اكتناز المسافة في السطور والأطناب من غير داع في كثرتها؛ لأن الشاعر معتد بمدرسته المحافظة على شكل القصيدة ومنهجها الموسيقي. والتصوير الأدبي في القصيدة بناء فني قوي يستمد قوته من العاطفة المشبوبة، والمشاعر العميقة المتدفقة، والألفاظ الرقيقة العذبة، والأسلوب السهل المنساب، والخيال القوي الخصب، والموسيقى الممتعة الجذابة. فالدار الدثورة لا زالت هيكل الحب ومحراب الهوى وحمى

للحسن، وساحة للطهر، ترف حولها القلوب خفاقة يؤججها الشوق، ويمنعها هيبة الوجد، مصباحها قلب نابض يهتف شعاعها بالحياة فتستجيب لها الأرواح في لهفة وشوق، تعود إلى الماضي والذكريات، وإذا بالحقيقة ضاعت بين الدثور، والغرام قد انطوى في الغيوب، واختفى في الحذور، وهكذا الشأن في البدور حينما يلفها الأفق وراء الغروب. .. صور خيالية رائعة تعد أروع الصور في شعر العقيلي ... حيوية وحركة وقوة وتأثيرًا. وهكذا يمضي الشاعر في الشعر الوجداني، وهو من أقوى الأغراض الأدبية في ديوان الشاعر من حيث التجربة الشعورية الصادقة والعاطفة المشبوبة والمشاعر الحارة المتدفقة، والروعة في التصوير الأدبي وخصوبة الخيال، في صوره الأدبية النابضة البديعة. سادسًا: الوصف وخصائصه الفنية وجاء هذا الغرض بعنوان "الوصف"، واشتمل على قصيدتين الأولى قصيدة "كماج النحل ص139" والثانية قصيدة "قلم ص140 " ومطلعها1: هنا قلم شخت الشباه نحيل ... به الفن يسمو والبيان يصول ترشف أضواء الكواكب وانثنى ... يداعب ومض البرق وهو صقيل يحوم بآفاق الخيال محلقًا ... ويمرح في دنيا الهوى ويقيل ويدع في تصوير ألوان شعره ... ظلالًا وأضواء تكاد تجول خطوط من الإلهام في الشعر صورت ... عواطف تسمو بالحجا وميول لها من جلال الفن ما يبهر النهى ... جلالًا ومن زهو الحياة دليل لها روعة الليل البهيم إذا دجى ... ومن بهجة الصبح المبين شكول وهكذا إلى آخر القصيدة يصوّر فيها القلم يصف شكله ودروه في جودة الخط وجمال التصوير، وما يصول فيه العلم والبيان الذي تبدد أنواره ظلام الجهل مثل الكواكب التي تبدد الظلام، وومض البرق وسط الغيوم، كما يخلق مع الخيال ويسجل أحاديث الهوى وشجون المحبين، ويديح الشعر ألوانًا وظلالًا، فيسير بين الناس ينقل إليهم عواطف الشعراء وخواطرهم وميولهم، فيأخذ بالعقول ويستولي على القلوب بجلاله وسحر فنه، ويبث الروعة في الليل البهيم، وينشر البهجة في الصبح المنير، وغير ذلك من معاني القصيدة وأفكارها العميقة في صور أدبية رائعة وخيال عميق، وألفاظ عذبة رقيقة، وأسلوب واضح محكم لا قلق فيه ولا اضطراب، يلتزم فيه بخصائص مدرسة التجديد المحافظ على منهج القصيدة العربية القديمة.

_ 1 الأنغام المضيئة: 140/ 143.

سابعًا: الأناشيد: ويشمل هذا الغرض نشيدين: أحدهما "نشيد المملكة العربية السعودية ص143"، وثانيهما نشيد "أبناء الجزيرة العربية ص145" ومطلعه1: نحن أبناء الجزيرة أمجد الأحياء في التاريخ سيره نحن نسمو للمعالي نحن نسعى للصلاح نحن أصل العرب في كل البلاد زاننا صفوة خلق الله من بين العباد إنه سامي الفعال خير داع للفلاح وهكذا إلى آخر النشيد في خفة وزن وحلاوة أسلوب وشرف المعنى وسمو الهدف، وجمال التصوير، ليدل على أن العقيلي يستطيع بملكته الشعرية أن يتناول كل الأغراض في شعره، يتناول القصيد، والمقطوعات الغنائية الخفيفة مع فصاحتها وسلامة الأعراب فيها.

_ 1 الأنغام المضيئة: 145.

الفصل الرابع: الشاعر زاهر عواض الألمعي

الفصل الرابع: الشاعر زاهر عواض الألمعي نشأة الشاعر وحياته: هو الشاعر الدكتور زاهر عواض الألمعي، من مدينة رجال ألمع في الجنوب، ولد عام "1353هـ". وفي مقتبل شبابه انخرط جنديا في سلك الخدمة العسكرية "بجازان" عام "1371هـ"، ومن خلال عمله كان يواصل دراسته عند بعض المشايخ في جازان، وخاصة بعد فراغه من العمل اليومي. وفي عام "1376هـ" استقال من الجندية ليلتحق بمعهد "شقراء العلمي" ليكون طالبًا في عام "1377هـ". وبعد أن استكمل دراسته في المعهد العلمي التحق بكلية "العلوم الشرعية" بالرياض. وحينما تخرج من الكلية انتدب للتدريس "بمعهد أبها العلمي" في عام "1389هـ"، ثم ارتقى مديرًا "لمعهد نجران العلمي" في عام 1385هـ". وفي زحام الحياة والعمل حصل على "الليسانس" من "كلية الشريعة" بالرياض في عام "1386هـ" ثم "الماجستير" من كلية "أصول الدين" بجامعة الأزهر في عام "1389هـ". وبعد حصوله على "الماجستير" عُيِّنَ أستاذًا بكلية "العلوم الشرعية" خلال عامي "91-1392هـ"، وفي أثناء ذلك حصل على درجة "الدكتوراة" من كلية "أصول الدين" جامعة الأزهر. وبعد حصوله على "الدكتوراة" تقلّد منصب العمادة لشئون المكتبات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. والشاعر زاهر له مؤلفات مطبوعة ومخطوطة، منها: كتاب "مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش"، "مداخل الأصول الفقهية"، "أصحاب الأخدود"، "مناهج الجدل في القرآن الكريم"1.

_ 1 انظر شعراء العصر الحديث. عبد الكريم الحقيل: ص14، وديوان "الألمعيات" التقديم.

وفي عام 1391هـ" صدر له الديوان الأول "الألمعيات" في حجم متوسط، 156 صفحة، طبع دار القلم في بيروت، وقدم له الأستاذ عبد العزيز الرفاعي. الطائف في 4/ 6/ 1391هـ. وفي عام "1400هـ" صدر له الديوان الثاني "على درب الجهاد" في حجم متوسط 220 صفحة، مطابع الفرزدق التجارية بالمملكة العربية السعودية. يقول الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في تقديم الشاعر: صاحب هذا الديوان عصامية متجددة، بدأ حياته من أول درجات السلم، ثم أخذ يتدرج صعدًا كلما ارتقى درجة حفزته نفسه الطموح إلى أخرى أعلى، فاندفع وفي نفسه مضاء وعزم وأمامه هدف، ولا أدلّ على ذلك من ترجمة حياته المثبتة في هذا الديوان فهو يبدأ حياة الكفاح جنديًّا في أول سلم الجندية، ثم يأخذ في الارتقاء لا في سلم الجندية، فقد غادرها إلى حياة التعليم والتعليم، لكنه لم يفقد روح الجندي عزيمة وتصميمًا وتطلعًا إلى مرتبة أعلى1. ويقول الشاعر في تصدير الديوان الثاني: هذا هو ديواني الثاني يضم بين دفتيه عشرين قصيدة، حروفها نبض قلب يعتصره الألم لما عليه حال أمتنا الإسلامية، ومعانيها ومض فكر تؤرقه هموم الأجيال المسلمة التي ترنو إلى تحرير أرض الإسلام من قبضة الأعداء، وتطبيق شرع الله في جميع الأرجاء.. وهي في مجموعها مرآة تعكس ما يعتلج في قلوب بني العروبة والإسلام من آلام وآمال، وما يتطلع إليه أجيالها من حسن مآل2.

_ 1 مقدمة ديوان الألمعيات. 2 على درب الجهاد: ص5.

الأغراض الأدبية: تعددت الأغراض الأدبية في شعر زاهر، وإن غلب على الديوان الثاني "على درب الجهاد" الشعر الإسلامي، واحتلَّ هذا الغرض مكان الصدارة من شعره كله، ثم تأتي أغراض أخرى دونه من أهمها شعر القوميات والوطنيات، وشعر الطبيعة، والرثاء، والمدح، وشعر الحضارة. وهذه الأغراض الأدبية منها ما هو قديم سبقه إليها الفحول من الشعراء القدامى، ومنها الجديد الذي تجاوب له الشاعر مع قضايا عصره، وعالمه الإسلامي والعربي، أو كان الغرض صدى لواقع البيئة التي يعيشها الشاعر في عالمه المعاصر، وسأوضح ذلك عند تناول كل غرض أدبي على حدة في مكانه بإذن الله تعالى. أولًا: الشعر الإسلامي هو الغرض الأدبي الغالب على فنه الأدبي، وسيطر على عطاء الشاعر في كل مناسبة إسلامية، أو قومية، أو وطنية، فالمناسبات كانت من أهم الدوافع، التي جعلت الشاعر من الشعراء الملتزمين في الشعر السعودي خاصة والإسلامي بصفة عامة، وهناك دوافع أخرى تقف من وراء هذا الدافع وهي: 1- روح الجندية والعسكرية التي بدأ بها حياته العملية قبل أن يكون طالبًا للعلم، فأحيت في نفسه غريزة الحث على الجهاد في سبيل الإسلام والمسلمين. 2- حضور مؤتمرات الحجيج في منى وغيرها، وخاصَِّة في الحفل الذي يقيمه جلالة الملك سنويًّا في "منى"، فينتهز الشاعر هذه الفرصة ليعبِّر عن مشاعره الإسلامية في هذا الموكب العظيم الذي يفجر المشاعر عند كل مسلم، ويحرك الأحاسيس، ويلهب العواطف الجياشة، ويهز الوجدان والضمير نحو التضحية والفداء في سبيل الإسلام والمسلمين. 3- تخصصه العلمي والعملي في حياته العملية، فقد حصل على أعلى درجة علمية، وهي "الدكتوراة" في الشريعة الإسلامية، وعمل أستاذًا في كلية "العلوم الشرعية"، ثم عميدًا لشئون المكتبات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 4- التحدي السافر من تكاتف الصليبية المسيحية مع الصهيونية العالمية أعداء الإسلام

ضد المسلمين وعقيدتهم، مما أدَّى إلى السيطرة على أراضيهم واستغلال أموالهم واحتلال القدس الشريف، فانطلق الشاعر يحث الأمة الإسلامية على التضامن في سبيل التحرير الكامل للقدس الشريف والأراضي الإسلامية العربية. والشعر الإسلامي يضمَّ هذه القصائد في ديوانه "الألمعيات"1 منها قصيدة "مؤتمر الحج الأكبر ص33، 38" ألقاها الشاعر في الحفل السنوي الذي أقامه جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز تكريمًا لحجَّاج بيت الله الحرام في "منى" 11/ 12/ 1389هـ، وقصيدة "من رحاب الله ص39، 48" ألقيت في الحفل السنوي الذي أقامه جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز تكريمًا لحجاج بيت الله الحرام "بمنى" في 11/ 12/ 1390هـ، وقصيدة "جحافل المجد ص54، 56" ألقيت في الحفل الثقافي، الذي أقيم في "معهد شقراء العلمي" في 13/ 6/ 1378هـ، وقصيدة "دولة الإسلام في ماضيها المجيد ص72، 76"، ألقيت في حفل كبير "بمعهد أبها العلمي" في 18/ 7/ 1384 هـ. أما قصيدة "من ربا أم القرى ص82، 87"، ألقيت في الحفل السنوي الذي أقامه جلالة الملك "فيصل بن عبد العزيز" تكريمًا لحجاج بيت الله الحرام في "منى" في 11/ 12/ 1388هـ، وقصيدة "تحية المعهد ص91، 92" أنشدها الشاعر عندما زار أحد المعاهد العلمية، فأعجب بشبابه النابهين، ولمس فيهم الطموح، فحيَّا المعهد بها، وقصيدة "نجدة الإسلام ص108، 112" ألقيت في حفل ثقافي كبير "بمعهد شقراء العلمي"، حضره عدد من رجال التربية والتعليم، وقصيدة "وحدة العرب ص131، 135" ألقيت في حفل ثقافي كبير أقامه "معهد أبها العلمي" عام 1383هـ. أما الشعر الإسلامي في ديوانه "على درب الجهاد"2 فقد اشتمل على قصائد منها: قصيدة "عودي إلى درب الجهاد ص9، 17" ألقاها الشاعر في "منى" عام 1399هـ، يناشد فيها ليلاه العودة إلى أصالتها، ويحذرها من كيد أعدائها المتربصين بها، ولا يرى لها انفكاكًا عن دينها ووحدتها؛ لأنها معدن التضحية والفداء، ويناشد المسلمين نبذ الفرقة والخلاف وتحرير المسجد الأقصى، وقصيدة "في رحاب البيت ص19، 25" ألقيت في موسم الحج "بمنى" لعام 1394هـ انطلاقًا لما يجيش في صدر الشاعر من حب لبيت الله الحرام، تتجلَّى في وصف المشاعر المقدسة ومواكب الحجيج، وقصيدة "مشاعر الإلهام ص27، 37" ألقاها الشاعر في مؤتمر الأدباء بمكة المكرمة عام 1394هـ بدأها بمطلع غزلي.

_ 1 في كل صفحة منه ستة عشرة بيتًا تقريبًا. 2 تضم الصفحة الواحدة خمسة أبيات تقريبًا.

عفيف، ثم يشيد بالرسول الأعظم ورسالته الخالدة، والقصيدة تعكس معاني الحب الصادقة في قلب الشاعر. أما قصيدة "وحدة العرب ص39، 46"، وهي في تصور الشاعر تختلف عن المفاهيم القومية الضيفة، فيوضِّح الأسس التي يمكن أن تقوم عليها هذه الوحدة، لتلتقي مع الوحدة الإسلامية الشاملة، فواقع الأمة الراهن من أهم ما يشغله، والقصيدة تعكس جانبًا كبيرًا من الدعوة إلى الوحدة والاهتمام بها، وقصيدة "ضيوف الرحمن ص75، 82" ألقيت في "منى" عام 1394هـ لإيقاظ مشاعر الحجاج حول قضايا الساعة، والإشادة بأبطال الإسلام، ومنهم المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز -طيَّب الله ثراه، فقد خصه بأكبر جزء من القصيدة. وأما قصيدة "في ربا الحرمين ص95، 105" ألقاها الشاعر في منى عام 1395هـ، يصور فيها أثر فرقة المسلمين واختلافهم فيما بينهم من المآسي التي تحز في قلب الشاعر، فيحثّ المسلمين على التمسك بأهداب الشرع الشريف، ويحضهم على نبذ الفرقة والخلاف، وذلك في الحفل الذي يقيمه جلالة الملك سنويًّا "بمنى"، وقصيدة "دعوة الحق ص117، 129" يبتهل فيها الشاعر إلى الله تعالى أن يوقظ أمة الإسلام، ويلم شعثها على الكتاب والسنة، وعلى اقتفاء آثار الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين في الجهاد في سبيل نصرة الإسلام ورفع رايته، ولم ينس كعادته أن يذكر المسلمين بما يحيط بهم من أخطار تتهددهم وتهدد عقيدتهم وكيانهم، وقصيدة "فجع الأيام ص131، 140"، يرثي فيها الشاعر فقيد العروبة والإسلام الملك فيصل ابن عبد العزيز -طيَّب الله ثراه، ويشيد بآثاره ومناقبه التي قدمها في خدمة الإسلام والمسلمين في كل قطر، ويهيب بالزعماء أن يقتفوا أثره في مواقفه الإسلامية والسياسية الرائعة. وأما قصيدة "في مشاعر الحج ص141، 157" ألقاها الشاعر في "منى" عام 1391 هـ، يهيب فيها بالمسلمين لنصرة دين الله وإحياء شريعته، ومحاربة الفساد والإلحاد في كل قطر من أقطار المسلمين، ويذكرهم بما يجري في المسجد الأقصى من عبث وفساد الصهاينة، كما يذكرهم بما جرى للدولة الإسلامية الشقيقة "باكستان" من الغزو الوثني الذي دبره أعداؤها، وعاضده الكفار الملاحدة، وما يجري على مسلمي "زنجبار" و"الفلبين" من التنكيل العنصري، والاضطهاد الصليبي، وكذلك من "قصيدة في حرب رمضان ص159، 166" ألقاها الشاعر في "مكة المكرمة" عام 1393هـ، وتحطيمه لخط "بارليف" ويحث المسلمين كعادته على استعادة القدس الشريف، وتحريره من احتلال أعداء الإنسانية "اليهود". وأما قصيدة "رسالة الإسلام الخالدة ص167، 177" ألقاها الشاعر على جموع.

الحجيج لبيت الله الحرام في الحفل الذي يقيمه جلالة الملك في كل عام، وأشاد في هذه القصيدة بعظمة الإسلام ومجده وفتوحاته العظمى، وقهره للفرس والرومان أغنى دول العالم في فجر الإسلام، كما أشاد بانتصارات المسلمين في "حطين" و"ذات الصواري"، وحثَّ المسلمين على استعادة مجد الآباء والأجداد من أبطال الإسلام، وقصيدة "يا قادة الإسلام ص 87، 196" ألقاها الشاعر في "منى" عام 1398هـ على وفود الحجيج، يشيد فيها بجهود وجهاد الرسول الأعظم محمد -صلى الله عليه وسلم- والسابقين الأولين، ويحثُّ صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز للعمل على لَمِّ شعث العرب، وتوحيدهم تحت راية الإسلام لإنقاذ القدس الشريف. وأما قصيدة "رحاب القدس ص197، 205"، وهذه القصيدة تشغل بال الشاعر، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده دون تعريج على القدس، ودعوة المسلمين لتحريرها، ولكنه لا يرى مع النزعات القومية والأحزاب المتصارعة بارقة أمل لتحرير المسجد الأقصى، ولا يرى سبيلًا لتحريره إلا بالعودة إلى الإسلام، واجتماع الكلمة على منهج الله العادل، وقصيدة "شريعة الله" أنشدها الشاعر في الرياض عام 1393هـ، يوضح فيها أن شريعة الله هي البلسم الشافي لكل أمراض الشعوب، والمنهج الوافي لجميع شئون الحياة تربية ونظامًا ووسيلة وغاية، وفي هذه القصيدة وصف لشريعة الله بأصولها من توحيد وعبادات ومعاملات وحدود، وختمها الشاعر ببعض التأملات في هذا الملكوت العريض والتدبر في إبداعه. أولًا: الخصائص الفنية للشعر الإسلامي تميز الشعر الإسلامي عند زاهر بخصائص فنية، منها طريقته في منهج القصيدة، فأحيانًا تتجرَّد القصيدة للشعر الإسلامي بلا مقدمات غزلية، فتخلص له من مطلعها إلى نهايتها، وخاصة في ديوانه الأول "الألمعيات"، فقد خلت كل القصائد الإسلامية فيه من المقدمات الغزلية، مثل قصيدة "مؤتمر الحج الأكبر"1 ومطلعها: أرب البيت عفوك والمتابا ... وألهمنا بعزتك الصوابا وألبسنا بفضلك تاج نصر ... إذا سقنا إلى "الأقصى" ركابا فقد خشعت جوانح كل فرد ... وأحنينا لعزتك الرقابا وفي البيت العتيق علا هتاف ... يناشدك المثوبة والمتابا وقد عبق الأريج وكان مسكا ... وعم البقاع واعتنق السحابا

_ 1 الألمعيات: 33/ 38.

إلى قوله: "أموتمر الحجيج" سموت نهجًا ... وذللت المتاعب والصعابا ولبيت النداء بكل فج ... وأديت المناسك مستجابا وفي نبرات صوتك ذكريات ... أعادت في ضمائرنا الشبابا وقد هزت مشاعر كل فرد ... يريد المجد أو يهوى الطلابا لأنَّا أمة عاشت لمجد ... وتحمي صفوه من أن يشابا وإن بدرت بواعث كل شر ... نصبنا في مسالكها الحرابا ففي "اليرموك" أذكينا ضرامًا ... وسيف الله لا يأوى قرابا وقد أزجى بوادي النيل عمرو ... جنودًا تعشق الموت احتسابا وفي "البسفور" غارات وزحف ... طوى فيه "ابن عباس" الصعابا ودان الرافدان لجيش "سعد" ... وقد جاب المشارف والرحابا وفي مدريد طافتها ليوث ... ودقت حصنها العاتي فذابا ونادى "طارق" أسمى نفير ... وقد قطع البحار به وجابا بني الإسلام هل حان اعتصام ... بحبل الله لا نخشى غلابا ونمضي في ركاب المجد زحفًا ... به تعلو صوارمنا الرقابا ومن عشق البطولة وهوشهم ... أماط العار واخترق الصعابا فبالإقدام نبني كل مجد ... و "شوقي" حين أنشد قد أصابا "وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا ثم يحث المسلمين إلى الجهاد في سبيل المسجد الأقصى فيقول: فإن رمتم زوال الضيم فاسعوا ... إلى سبل الوغي أسدًا غضابا فذاك "المسجد" الأقصى" رهين ... وقد كنتم له سورًا مهابًا وهكذا يمضي في أبيات كثيرة حين ينادي حامي حمى الإسلام الملك فيصل بن عبد العزيز في مواقفه التاريخية فيقول: فيا حامي حمى الإسلام جرد ... سيوف الله تلتهب التهابا وقدنا في ملاحم ضاربات ... فأنت القائد الأعلى جنابا فقد ناديت للأقصى شعوبًا ... وكان دعاؤك الأسمى مجابا فإن تسبق إلى الأقصى ركاب ... فإن "لفيصل" منها ركابا فدم يا فيصل الإسلام ذخرًا ... زعيمًا في الورى بطلًا مهابا وفي أسمى الذرى تبني بعزم ... صروح المجد مؤتلقًا مثابًا

والقصيدة طويلة جدًّا اقتصرت على بعض أبيات في المطلع والوسط والخاتمة، ومن خلالها يصور الشاعر أمجاد الإسلام وبطولاته وتشريعاته وحضارته، ثم بحث على الجهاد ومواصلة الكفاح للحفاظ على تراثه المجيد وحضارته العريقة، وعلى تحرير الأرض المغتصبة، والمسجد الأقصى، وغيرها من المعاني والخواطر التي دارت حول الغرض منها بلا مقدمات غزلية، وبلا خروج عن موضوع الغرض العام، وهو "مؤتمر الحج" الذي فجر تجربة الشاعر الشعورية بهذه الخواطر المختلفة، والتي تتآخَّى جوانبه ومشاعره فيه، وتتلاحم هذه المعاني الكثيرة مع ما يوحي به مؤتمر الحجيج؛ لأن موضوع عام تدخل فيه هذه الجوانب كلها، ولم يقتصر الشاعر على جزئية واحدة فقط؛ لأنه يناشد مؤتمر الحجيج من جميع بقاع العالم الإسلامي، وهذه الجوانب تتناسب معه، ولا تخرج عن موضوعه. واستجاب الوزن والقافية فيها للمعاني والأفكار التي تلاحمت مع الغرض؛ لأن مظاهر تأثر زاهر بقصيدة "المولد النبوي الشريف" لأمير الشعراء واضحة في هذه الجوانب، ولذلك انسابت أفكاره ومعانيه مع الوزن والقافية انسياب الماء الزلال بلا تكلف أو تعمل، ولكن في ثورة شاعرية متدفقة في انثيال الألفاظ ومطاوعة الأساليب، لتصويره الأدبي الرائع الذي يتسارع إلى الذهن فلا يتعثر في الفهم، وتنفتح منافذ العقل والقلب معًا، بل استجابة القارئ لشعره تسير مع القراءة أو السماع جنبًا إلى جنب، وانظر كيف انسابت بعض الأفكار والمعاني والأبيات لشوقي في قصيدة الشاعر زاهر بلا استذان كما في قوله: فبالإقدام نبني كل مجد ... وشوقي حين أنشد قد أصابا وما استعصى على قوم منال ... إذا الأقدام كان لهم ركابا وليس معنى ذلك أنه قد عارض شوقيًّا في كل المعاني والأفكار والصور، ولكنه بلا شك قد ظهرت شخصيته في معانٍ كثيرة اقتضاها الغرض؛ لأن قصيدة شوقي في المولد النبوي الشريف، وقصيدة زاهر في موضوع آخر يختلف عن غرض الشاعر، وهما يفترقان في معان وصور كثيرة. وشاعرنا يتأثر بأمير الشعراء في بعض المعاني والصور، بالإضافة إلى الإيقاع الموسيقي والوزن، أما التأثر بكلمات القافية فهذا أمر طبيعي ما دام البحر واحدًا والروي واحدًا. ونرى الشاعر في هذه القصيدة تسيطر عليه بعض الألفاظ النثرية الخطابية، مثل لفظ "قد"، فقد كررها ما يقرب من عشرين مرة، وليس هذا من حقل الألفاظ الشعرية؛ لأن للشعر ألفاظه وللنثر ألفاظه، واستعمالها مع الفعل الماضي هنا يجمد الحدث في التصوير ليحقق الوقوع في الماضي بلا استمرار وتجدد، وهذا لا يتناسب مع الحيوية والحركة التي هي من عناصر الصورة الشعرية، وإلَّا تجمدت وتحجَّرت، واستعمال الفعل الماضي وحده من غير قد في الشعر لا يلتزم

جمود الحدث ووقوعه في الماضي، بل يوحي بالتجدد والحركة، وتأمل معي الفرق في الاستعمالين عند الشاعر، مثل قوله: "وقد هزَّت مشاعر كل فرد" فدلَّ على وقوع الهزة في الماضي فقط بلا إيحاء الاستمرار، أما قوله بعده مباشرة "لأنَّا أمة عاشت لمجد" فدلالة الماضي على وقوع الحدث فيه أو حتى الصورة فيه مع ذلك بالاستمرار والحركة المتجددة والمعنى فلا تزال أمة الإسلام تعيش لمجد، على حد قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1 والمراد والله أعلم: سيأتي أمر الله بقيام الساعة، مع أنَّ التعبير بلفظ "لأنَّ" يتجافى مع طبيعة الشعر التي تنأى عن التعديل والتدليل، وإنما يتناسب مع الأسلوب العلمي الذي يقوم على ذلك. ويقول زاهر في قصيدة "وحدة العرب" ومطلعها2: من معهد العلم شماخة القمم ... من منبت العز من دوامة الكرم من قلب "أبها" وقد حفت جوانبها ... بالعلم بالصيد أبطال ذوي شمم صوت يدوي له في الأفق جلجلة ... يمتد في الأفق من وهاجة الضرم قلبي جريح لداء العرب ملتهب ... وعلة القوم أدهى من أذى السقم ما للزعازع تجري في مواكبهم ... تحثو السموم بداء قاتل عمم ومنها: لا مجد للعرب ما دامت أكفهموا ... في كل أمر تنادي هيئة الأمم يا أيها العرب أحيوا نهج شرعتكم ... من طارف المجد ومن تالد الكرم وبرهنوا للملأ أهداف وحدتكم ... حتى تماسك بالحافات واللجم أما البناء على الفوضى بدون هدى ... فقد سئمنا فضول القول والكلم فهل لكم وحدة تبني على أسس ... من العدالة والإسلام والحكم من منبع النور تستسقي مشاربها ... لا من بني الغرب في العادات والنظم أقولها من هنا شماء ناصعة ... بالدين نرعى مقام العدل والذمم لا وحدة اليوم ما دامت منكسة ... معالم الدين بين العرب والعجم الدين منطلق الإصلاح منبلج ... بفجره الساطع البناء للأمم يا قوم نادوا شعوبا عاثها دول ... أن ليس هذا من الأخلاق والشيم أيدي الكريم إذا الإذلال نازعها ... تفتر أسيافها مخضوبة بدم تأبى الأشاوش أن يحتل معقلها ... وأن تلين لبطش الغاصب العرم فأيقظوا الوعي من كابوس غفلته ... بزاجر من ذوي الأمجاد محتدم إن المبادئ والأخلاق سنتها ... تبني الشعوب وترعى حرمة الأمم

_ 1 النحل: الآية الأولى. 2 الألمعيات: ص131/ 135.

وهذه الأبيات مقتطفات من القصيدة الطويلة التي تقوم على غرض واحد، تتجه معانيها كلها إلى موضوع واحد وهو "وحدة العرب" التي صورها الشاعر بمفهوم واسع، لا يقتصر على الجنس العربي فقط، وإلا كانت قاصرة في مفهومها وأبعادها وغايتها النبيلة الشاملة، وإنما المقصود من الوحدة العربية في تصويره الأدبي هي الوحدة الإسلامية الشاملة، وهي مطلب كل مسلم، وإن كانت الوحدة العربية هي الجسر القوي الذي يعبر عليه المسلمون في جميع أنحاء العالم لتحقيق الوحدة للأمة الإسلامية، على أنَّ لغة القرآن والإسلام هي اللغة العربية، فكل من يتكلم العربية فهو عربي ولو كان ذلك من خلال القرآن أو الصلاة. والوحدة الإسلامية -لا العربية- هي التي تقف شامخة كما كانت قديمًا أمام أعداء الإسلام؛ لأنها تقوم على المساواة والعدل والإخاء والاصلاح والأخلاق، وغيرها من مقومات التشريع الإسلامي الذي يصلح لكل زمان ومكان، ولا يتحقق مثل ذلك من خلال وحدة الجنس مهما كان هذا الجنس البشري ملتزمًا بقيمه الخاصة لا بقيم الإسلام. ودائمًا ينشد الشاعر الوحدة العربية بهذا المفهوم الواسع، فقد أنشد قصيدة أخرى بنفس الموضوع والغرض "وحدة العرب" في ديوانه الثاني "على درب الجهاد" ومطلعها1: من دوحة المجد شماخة القمم ... من منبت العز خفاقة العلم نادى المنادي إلى الإيمان فاستبقوا ... وأسوا جراح أسيرتاه في الظلم قلبي جريح بداء العرب ملتهب ... وفتنة القوم أدهى من أذى السقم ومنها: لا مجد للعرب ما دامت حناجرهم ... في كل أمر تنادي هيئة الأمم يا أيها العرب أحيوا نهج شرعتكم ... من طارف العز أو من تالد الكرم وبرهنوا للورى عن صدق وحدتكم ... وابنوا البلاد على الأسمى من النظم أما البناء على الفوضى بدون هدى ... فقد سئمنا فضول القول والكلم فهل لكم وحدة تبني على أسس ... من العدالة والإسلام والقيم من منبع الوحي تستسقي مشاربها ... لا من رؤى الغرب أو مستسمن الورم أقولها من هنا شماء ناصعة ... بالدين نرعى مقام العدل والذمم لا وحدة اليوم ما دامت منكسة ... أعلام أمجادنا في القدس في الحرم الدين منطلق الإصلاح منبلج ... بفجره الساطع الوضاء في القمم

_ 1 على درب الجهاد: 39/ 46.

يا قوم نادوا شعوبًا عمها وهن ... أن ليس هذا من الأخلاق والشيم أيدي الكريم إذا الباغي ألمَّ بها ... تفتر أسيافها مخضوبة بدم تأبى الأشاوس أن ترتاد ساحتها ... وأن تلين لزحف غاصب عرم فأيقظوا الوعي من كابوس غفلته ... بزاجر من ذرى الأمجاد محتدم إن المبادئ والأخلاق سنتها ... تبني الشعوب وترعى حرمة الأمم وهاتان القصيدتان يجمعهما موضوع واحد وغرض واحد، تحت عنوان: "وحدة العرب"، وتكاد الأبيات فيهما تتفق لفظًا ومعنًى وأسلوبًا وتصويرًا وخيالًا وهدفًا ووزنًا وقافية، وبعض الأبيات متفقة تمامًا في القصيدتين، وبعضها مختلف في بعض الألفاظ دون المعنى. والقصيدة في الديوان الثاني زادت عنها أبياتًا في الديوان الأول، وهذا واضح من خلال القصيدتين لو أعدنا النظر مرة ومرة، وهذا ما قصدته من ذكر بعضهما معًا من باب الموازنة والمقارنة، ولعل الشاعر يقصد من وراء ذلك تخصيص الديوان الثاني "على درب الجهاد" بالشعر الذي يتصل بالجهاد، ولذلك جاء بها هنا لتناسبها مع اتجاه الديوان. ويضاف إلى ذلك أنَّ القصيدة الثانية زادت قليلًا من الأبيات عن الأولى، وتبدلت فيها بعض الألفاظ والصور، ولا شك أنَّ التغيير كان أقوى وأدق في الغالب، وتأمَّل معي المطلع في القصيدتين، فالتعبير بقوله: "من دوحة المجد" أقوى في الغرض والتصوير الأدبي من قوله الأول: "من معهد العلم"، فدوحة المجد أنسب وأعمّ وأقوى إيقاعًا وأخف على اللسان بسبب اجتماع "العين والهاء"، وهي حروف ثقيلة إذا اجتمعت تخل بجمال الإيقاع، وتحدث قلقًا في أصواتها واضطرابًا، مما يؤثر في جمال الصورة وينزل من قدرها، وهكذا كان يقصد الشاعر من التغيير والتكرار، فيسمو بالتصوير الشعري كما رأيناه، ومثل ذلك التغيير في "وعلة القوم" فبدلها بقوله: "وفتنة القوم"، وقوله: "عاثها دول" مع قوله: "عمها وهن"، وقوله: "ما دامت حناجرهم" أقوى من قوله: "ما دامت أكفهموا" وغيرها. وهكذا يمضي الشاعر في قصائد كثيرة من الشعر الإسلامي الذي يقوم على غرض واحد فقط في القصيدة الواحدة، وتلك سمة من سمات هذا الغرض الأدبي عند الشاعر. ومن خصائص هذا الغرض أنَّ الشاعر قد يزاوج في القصيدة بين غرضين فيجمع بين مقدمة غزلية عفيفة، وبين الغرض الأساسي في الشعر الإسلامي وخاصة في ديوانه "الثاني"، ثم ينساب منها في رفق وبراعة إلى الغرض الأساسي، فلا فجوة أو تناقض أو ابتذال وإسفاف، بل قد لا يدرك القارئ الفاصل بين المقدمة والغرض إلا بعد روية وتأمل؛ لانسجام الغزل العفيف مع المعاني التي يشتمل عليها الغرض.

وكان أحيانًا يرمز بليلاه عن "الوحدة العربية الإسلامية" التي ينشدها في شعره، كما في قصيدة "عودي إلى درب الجهاد"، وذلك في غزل عفٍّ طاهر، يشتمل في المطلع على سبعة عشر بيتًا، ينتقل بعدها إلى الغرض، وهو حثّ المسلمين على الجهاد في سبيل "المسجد الأقصى"، وصرفهم عن التناحر بين الأحزاب المعاصرة، من يمينية ويسارية ورجعية، وفي النهاية يعود إلى الحث على الجهاد في آخر القصيدة كما بدأ1. وكذلك في قصيدة "تحية المغرب العربي" بدأها الشاعر بمطلع غزلي عفيف في ثلاثة عشر بيتًا، ثم يتسلل إلى الإشادة بحضارة الإسلام والمسلمين في المغرب والأندلس وأمجادهم هناك2، وهكذا في قصيدة "في رحاب البيت" يصور فيها الشاعر أثر الحج في النفوس أولًا، ثم يختمها بليلاه رمز الوحدة الإسلامية عند الشاعر في بيتين3. أما قصيدة "مشاعر الإلهام" فقد بدأها زاهر بالعزل الطاهر في تسعة عشر بيتًا، ثم أشاد بالرسالة المحمدية الخالدة في ثلاثة وعشرين بيتًا يعبِّر فيها عن مشاعره نحو الإسلام والمسلمين، وما يرجوه لهم من مجد، يمتد في أصالته إلى أمجاد المسلمين في القديم، يقول في المقدمة الغزلية4: طلعت فلاح اليمن في طلعاتها ... وبدا جمال الورد في وجناتها وسرى النسيم على مشارف ثغرها ... تتضوع الأرجاء من نسماتها ورنت بألحاظ الجفون نواعسًا ... تتراقص الأطياف في ومضاتها وتبسمت عن ثغر حسن باسم ... فشقائق الأكمام من بسماتها ونظرت -عف النفس- سحر جمالها ... ومصارع العشاق في لمحاتها ومفاتن السحر الحلال تشدني ... شوقًا وما مست يدي حرماتها فأطل ثم الحارسان وأشرعًا ... نحوي الأسنة من كمين كماتها فأدرت في ذهني عجائب أمرها ... وخشيت هول السطو من طعناتها فإذا هما فوق الترائب والحنا ... من قلبها الخفاق بعض سماتها قالت: رويدك فالمراقي صعبة ... لا ترتقيها الطير في غدواتها فأجبتها أوما علمت بأنني ... كالصقر يغزو الطير في وكناتها قالت: معاذ الله أن تخشى الحمى ... وتبيح محل الدر من صدفاتها

_ 1 على درب الجهاد: 9/ 17. 2 الديوان السابق: 107/ 117. 3 الديوان السابق: 19/ 25. 4 على درب الجهاد: 27/ 37.

إني عشقت من النفوس أبيها ... من كانت الأخلاق خير صفاتها فأجبتها: نفسي الأبية في الهوى ... تفديك قد أججت من زفراتها. وتنهدت أعماق روحي لوعة ... وسرى الجوي والشوق في جنباتها. لولا ارتباعي من مغبات الهوى ... لقطعت زهر الورد من جنباتها ولسرت أمتاح الرياض وأجتلي ... منها رضاب الشهد من زهراتها لكن أطيافي وإن جنحت بها ... فتن الجمال تعف عن زلاتها وتتوق أشواق إلى سنن الهدى ... فمشاعر الإلهام في رحباتها1 أرأيت هذا الغزل العفيف الطاهر، لا يجرح مشاعر مسلم، ولا يخدش بكرامة مسلمة، وإنما هو تنفيس بشري عن غريزة الحب التي غرسها الله تعالى في الإنسان غريزة، تنساق مع طبيعته البشرية، وما أجمل أن يعبر عنها الإنسان في لفظ عفِّ، وتصوير بريء وأسلوب طاهر على غرار هذا التصوير الغزلي البري، الذي يعبر بصدق عن تلك الفطرة الإنسانية، في إطار الخلق الإسلامي وأدب القرآن الكريم. والحب العفيف في جوهره جانب إنساني روحي، يسمو به الإنسان إذا صوره ظلال خلق الإسلام، لينتقل الشاعر في تسلل وانسياب إلى جانب روحي وبنا، نفسي آخر، وهو الحديث عن شريعة الإسلام، وأخلاقه في بناء المسلمين. ثم أرأيت الخيط الرفيع في البيتين الأخيرين، الذي شد به المقدمة الغزية إلى الغرض، إن القارئ لا يفجع بهذا الربط، وإنما يتأمَّل فيه، ويدقق النظر، حتى يعثر على ما دق من أدوات الربط الدقيقة في مهارة، ويستمر الشاعر في التصريح المباشر بالغرض الأساسي بعد الوحي والتلميح من أول هذه الأبيات2: تمتد آفاقي وترقى همتي ... سبل الجهاد أخوض في غمراتها ويشد حب النبي محمد ... من شاد بالسمحاء مجد دعاتها يا من حملت أبر قلب في الورى ... وأعز نفس جانبت شهواتها تهفو إليك قصائدي ومشاعري ... في ظل هديك واصلت رحلاتها فلقد نشأت على سلامة فطرة ... وصفاء نفس في عظيم صفاتها ولقد أويت إلى حراء وكنت في ... غسق الدجى نورًا يضيء جهاتها فأتاك جبريل الأمين ولم تكن ... من قبل تتلو أو ترى قبساتها

_ 1 على درب الجهاد: 28/ 32. 2 على درب الجهاد: 33/ 37.

فدنا وقال: اقرأ. ولست بقارئ ... أو كاتب تدري بمروياتها بل كنت أميًّا ولكن الذي ... رفع السماء حباك خير هياتها وقرأت باسم الله فانجاب الدجى ... وأضاء نور الوحي من مشكاتها أي من الذكر الحكيم ومنطق ... أحنت له البلغاء من هاماتها وإذا تسامى الفيلسوف وأوغلت ... نظراته في الآي من آياتها رجعت إليه الموغلات ضوالعا ... دون ارتقاء حول قدسياتها سور يشع النور من آياتها ... ويفيض بحر العلم من صفحاتها أما قريش فجانب سبل الهدى ... وتجانفت للإثم في ندواتها لم تلتفت للنور فوق ربوعها ... أو تلتمس خيرًا بمؤتمراتها بل كذبت داعي الهدى وتنكرت ... واستوحشت والإنس في جنباتها ولربما يعشى الصباح نواظرًا ... وتموت مرضى وهي بين أساتها من لي بناشئة على درب الهدى ... وثابة العزمات في دعواتها تحمي حمى الغراء مما يفترى ... وتصد بالإقدام كيد غزاتها إن الحياة هي الجهاد وإن نمت ... فيه وإن الموت في شهواتها والله أنزل في الكتاب بصائرًا ... تهدي الورى وتنير درب هداتها فامضوا على نهج الهداة وجددوا ... من دعوة الإصلاح مجد دعاتها هذه هي القصيدة كلها لكي نرد بها دعوى الذين يرفضون الشعر الملتزم بالقضايا المعاصرة لمعالجتها، وتوجيه الرأي العام إلى جوهر الحقيقة فيها، أو بالأحرى يقولون بأنَّ الشعر الإسلامي لا يمكن الشاعر من التصوير الأدبي الرائع الذي يهز الوجدان ويحرك المشاعر، وها هي القصيدة في الشعر الإسلامي الملتزم نرد عليهم بروعة التصوير فيها. فالعاطفة فيها مشبوبة صادقة، والمشاعر قوية متدفقة، والأحاسيس دقيقة متوفرة، والوجدان ملتهب ثرار، في خيال خصب عميق وصور أدبية قوية سارت على نهج القدماء في التصوير الشعري يلتزم الشاعر عمودهم الشعري في انتقاء الألفاظ، وإحكام الأساليب وإيحاء النظم والسير على بحور الخليل بن أحمد ويلتزم القافية القوية العمودية. فالشاعر هنا يصور مبادئ الإسلام وقيمه من خلال مشاعره الذاتية، ووجدانه النفسي المحموم، فلا يقوم بوضع النقاط على الحروف التي من شأنها أن تكون مهملة، وإنما تتدفق الحروف منقوطة من وجدانه ومشاعره تفيض بإيحاءات زاخرة، ومعانٍ حية تنبض بعواطف الشاعر وأحاسيسه.

ويوم أن يسير الشعر الملتزم على هذا النهج يكون حقق ما يهدف إليه الشعر القويّ، وما يبتغيه الشاعر من تصوير أدبي رائع يوقظ الإحساس في الآخرين، ويثير عواطفهم ومشاعرهم، ويحرك الكوامن في وجدانهم، وهل نريد من الشعر أكثر من هذا، بل هذه القصيدة تسمو بالنفس، وترقى بالذوق الأدبي وتنميه، وتضبط المشاعر عن التطرف والمبالغة، فتسير في استواء واتِّزان نحو الغاية المنشودة، التي تحقق السعادة للإنسان، وهل يبتغي الإنسان من الشعر أكثر من تحقيق هذه السعادة، وفيها الامتاع، وإليها الإثارة والإقناع، وهي في ذاتها الغاية من التصوير الأدبي، الذي يثير المشاعر، ليوقظ العقل والقلب والوجدان فينتهي الجميع بالتسليم والإقناع عن صدق ويقين، هذا هو الشعر الشاعر والأدب الحي الخالد، لا "أزهار الشر" ولا شجر "السرو" و "الخلاف" يعجب رواؤه وما له ثمر، ويخطف ضؤوه، فيعشى البصر. وقصيدة "في ربا الحرمين" بدأها زاهر بمطلع غزلي عفيف، ضم خمسة أبيات، ثم انساب إلى مراده فيها يقول1: سرت في هجعة المسرى تسامي ... وترمق في تطلعها المراما وكان الشوق يحدوها ابتهاجا ... ويذكي في مشاعرها الغراما وفي جنباتها تمشي طيوف ... كأطياف المحب إذا استهاما فقلت لها وفي نبرات صوتي ... وداد أين أزمعت المقاما فقالت في ربا الحرمين أشدو ... أناجي البيت والبلد الحراما غزل عفيف طاهر بلا تبذل أو سقوط، يمضي مع الغرض من القصيدة بلا استئذان، فليلاه تزمع الرحيل معه إلى ما يؤم، إلى ربا الحرمين ليتناجيان مع البيت الحرام، وينعمان بالبلد الأمين، وتتمدد هذه المعاني في جوانب الأبيات الباقية من القصيدة ومنها: وعند الركن تنحسر الخطايا ... ململمة جوانحها انهزاما فتنشرح الصدور بطيب ذكر ... أماط الكرب عنها والقتاما سأعشق موطن القربى وإني ... على حب القداسة لن ألاما فقد عبق الأريج بكل فج ... وعم النفح زمزم والمقاما2 وهكذا يمضي الشاعر إلى آخر القصيدة وهي طويلة، تدور معانيها حول الغرض منها ما عدا المقدمة الغزلية السابقة.

_ 1 على درب الجهاد: 97. 2 الديوان السابق: 97/ 105.

ومن خصائص الشعر الإسلامي عند الشاعر أنه جعل الحروب العربية ضد إسرائيل حربًا إسلاميًّا تنزف بدماء المسلمين كما تنزف قيم الإسلام في العصر الحديث، وإسرائيل في قلب الأمة العربية أفعى مسمومة تبث سمومها لتنخر في عظام الأمة الإسلامية، وتبدد قيمها السامية، فالصهاينة أعداء للإسلام، للعروبة؛ لأنهم يعتقدون بأن القضاء على العروبة هي الجسر القوي للقضاء على الشريعة الإسلامية التي تقلق مضاجعهم، فالقرآن الكريم لغته العربية، وسيبقى خالدًا لعروبته، إذن فالعربية في نظر أعدائنا هي الإسلام، والإسلام في العربية، فهما متلازمان، وعلى هذا الاتجاه يحاربنا أعداء العروبة والإسلام وهم الصهاينة والصليبيون. ومن هذا المنظور جعل زاهر تصوير الانتصار في حرب رمضان شعرًا إسلاميًّا؛ لأن الاسلام انتصر فيه على أعدائه يقول: "من قصيدة في حرب رمضان" أنشدها في مكة المكرمة عام 1393هـ، ويبدو أن الشاعر اختزلها في ديوانه، فأغلب الظن أنها أكبر من ذلك بما سيجود به الزمان في المستقبل، لقوله "من قصيدة"1: تثنت أمامي وهي لا تعرف الخطبا ... وقالت: لهيب الحب في القلب قد شبا تثنت بأعطاف وألوت بمعصم ... ورنت بأنغام لتأسر لي القلبا فكانت كغصن ألبان لامس فرعه ... نسيم الصبا فاهتز من أنسه عجبا فقلت لها مهلات فلست بهائم ... يرى في سراب القاع من زيفه شربًا وليس هيام الحب يصرع عفتي ... ولا مارد الإغراء في أفرعي دبا فلا تمتطي صهو السفاهة والردي ... ولا تركبي في الحب مركبه الصعبا وكوني مع الأحداث سبرًا لغورها ... إذا انتظمت سلمًا أو اشتعلت حربًا فما أفلحت في موكب المجد أمة ... إذا لم يكن درب الجهاد لها دربا أتلك رحاب القدس ضجت فروعت ... قلوبًا وأزجت في ضمائرها رعبًا أتلك النساء الصارخات بمعقل ... هببن بوجه البغي مستشريًا هبّا أتلك فتاة الخدر يثلم عرضها ... نحارب عنه الدهر ولو ملكت غضبًا فليت لها من أمة المجد أمة ... وخاضت طريقًا في الوغي ثبجًا رحبًا وسارت جنود الله في كل جبهة ... صداها من التكبير قد جاوز السحبا لقد نفضت عنها مذلة نكسة ... أحاطت بها شؤمًا وأودت بها نكبًا فكانت على صرح الجهاد انتفاضة ... أدالت على الأعداء منعطفا صعبًا تواثبت الأبطال يمتد زحفها ... وهبت أسود من خنادقها غضبي أقامت على متن القناة معابرًا ... جسورًا إلى سيناء مدت بها وثبًا

_ 1 على درب الجهاد: 159/ 166.

وقد حطمت بارليف قصفًا مزلزلا ... ودكت حصونًا طالما افتخرت عجبا وكم من فتى في صهوة الخطب صامد ... بدبابة فوق المجازر دبا وقد هب للتحرير مستعذبًا له ... كئوس المنايا فهو يمتاحها شربا وفي جبهة الجولان كرت أشاوس ... وصبت عذابًا من قذائفها صبًّا وضمت كفاح الجبهتين انتفاضة ... من المغرب الأقصى إلى "حلب" الشهبا وسارت بأرض الرافدين جحافل ... كما هب من "أم القرى" جيشها لجبا تلاقت على الجولان فاعتز ركنها ... وسارت على "سيناء" محورها صلبا ومنهم صقور الجو تنقض كالردى ... تذيب قلوب الغدر تملؤها رعبا يقودون أسرابًا صقورًا كواسرًا ... إذا اعتلى سرب أضافوا له سربًا وكم من فتى في الروع أغلب باسل ... قضى في سبيل الله مستشهدًا نحبا وما ميت من مات ذودًا عن الحمى ... فتلك هي الحسنى وأنعم بها كسبًا دروب العلا للطامحين رحيبة ... ودرب الشهيد الحر أوسعها دربًا ومن خصائص الشعر الإسلامي عند زاهر أنه جعل الرثاء لفقيده العروبة والإسلام شعرًا إسلاميًّا حين صوَّر الشاعر مواقف المرثي العربية والإسلامية، والتي سجلها التاريخ خالدة تعبر عن حضارة الإسلام والعرب في عصرنا الحديث، ولذلك كانت هذه القصيدة أقرب إلى الإسلامي منه إلى فن الرثاء الذي سيأتي ضمن الأغراض الأدبية، يقول الشاعر في قصيدة "فجع الأيام" يصور فيها التاريخ الخالد للملك فيصل بن عبد العزيز -طيب الله ثراه1 منها: يا فيصل الإسلام يا من جرحه ... سيظل في الأعماق نارًا تضرم تبكيك من أرض الهدى أطلالها ... نواحة لو أنها تتكلم ومنابع الشعر الرفيع نواضب ... وفم البيان لهول فقدك ملجم فالمسلمون لهم بفقدك غربة ... ولهم عليك تنهد وترحم ولسوف تذكرك المحافل والنهى ... ويروعها الحدث الرهيب ويدهم ولسوف تذكرك السياسة بعدما ... هرعت إليك فحولها تستلهم فلطالما أصغت لرأيك خشعًا ... ومشت إليك قلوبها والأجسم ولطالما أحكمتها لذوي الجحا ... وأحاطها منك السياج المحكم ونهجت منهاج الفلاح بأمة ... حتى علت وصحا لصوتك نوم ودعوت نحو تضامن وتكاتف ... لم يئن عزمك للوئام تصرم فإن بلاد المسلمين يضمها ... شمل يوحدها ودين أقوم

_ 1 على درب الجهاد: 131/ 140.

وسيذكر الإسلام ما قدمته ... لبنيه إن جار الزمان عليهم فلأنت للإسلام سيف مرهف ... تحميه من كيد البغاة وتحسم واليوم تنعاك الدنى فيهزها ... ألم الفراق ولوعة تتضرم لكن هذا الخطب خفف هوله ... شمل يلم "بخالد" وينظم وولي عهد المسلمين نصيره ... "فهد" الأمين لمجدنا يتسنم وكلاهما في الحكم يحذو "فيصلًا" ... فكأنه في الشعب حي يحكم ولكم ذرا عبد العزيز ضياغما ... حملوا الأمانة في الورى وتقدموا ثانيًا: الشعر الوطني والقومي هذا هو الغرض الثاني من الأغراض الأدبية في شعر زاهر، وهو يلي الشعر الإسلامي كثرة وشمولًا، ويضم الشعر الذي أنشده الشاعر في وطنه العام: المملكة العربية السعودية، وشعره الذي أنشده في وطنه الصغير: البيئة التي ولد فيها، والبلد الذي نما فيه صباه وترعرع شبابه، وشعره الذي قاله في وطنه الأكبر: في الدول العربية والإسلامية الشقيقة كالجزائر وبغداد، وسواها من دول العالم الإسلامي والعربي. ويضم الشعر الوطني والقومي قصائد كثيرة في "الألمعيات": مثل قصيدة "ثورة الجزائر ص20، 22"، ألقاها الشاعر في الحفل الكبير الذي أقيم "بمعهد شقراء العلمي" في 10/ 7/ 1380 هـ، ويصور فيها كفاح الجزائر، وثورته على الطغاة المستعمرين، وبطولاتها التي حررت الشعب العربي الإسلامي، وقصيدة "مجد الشباب ص60، 62" ألقيت في النادي الثقافي "بمعهد شقراء العلمي" في 22/ 7/ 1379هـ، وفيها يحث شباب أمته ووطنه على العمل في سبيل الوطن، وفي سبيل الأمة الإسلامية جمعاء، وخاصة تحرير فلسطين المحتلة من أعداء الإسلام. أما قصيدة "مواكب المجد ص63، 66" ألقاها الشاعر في حفل عسكري، يحث فيها الجيش على النضال في سبيل الوطن، والجهاد في سبيل الأمة الإسلامية جمعاء، فقد سجل التاريخ البطولات الرائعة التي كان لها الوجه المشرق في كل بقعة من بقاع العالم، وقصيدة "سد جازان" ألقاها الشاعر في حفل افتتاح سد وادي جازان في 25/ 1/ 1391هـ، وقد حضر الاحتفال سمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية فهد بن عبد العزيز وعدد من الأمراء والوزراء ورجالات الدولة، وفيها يصف السد وآثاره العميمة التي عمَّت البلاد، وبعثت في المنطقة الحياة، مما يساعد على تقدم المملكة ورقيها بزيادة الإنتاج الزراعي الموفور، وذلك بفضل الأيادي البيضاء لأسرة الملك عبد العزيز التي تزرع الخير دائمًا للأمة الإسلامية العربية، والتاريخ يعيد نفسه في هذه المنطقة؛ حيث كان فيها سد مأرب، الذي كان له آثاره

الجليلة في الحضارة السبئية المشرقة، بل إن سد مأرب لو رأى سد جازان لاعتراه الخجل وانزوى في ركن من أركان الدنيا بعيدًا عن الأضواء، ليحتل هو مكان الصدارة في المنطقة العريقة، يقول الشاعر1: ومضى البرق في ذرى الأمجاد ... فاشرأبت له القرى والبوادي والمثيرات أقبلت تتهادى ... تملأ الأفق بالثقال الغوادي تنفح المعصرات من عاطر الودق ... فيسري النسيم في الأجساد2 واستهل الغمام باليمن والبشرى ... "لجازان" يرتوي كل صادي لو رأى "سد مأرب" كيف ترسي ... عاتيات السدود بالأوتاد لاعتراه من روعة الحسن طيف ... وانزوى في جوانب الإخلاد وكأن الأيام قد لعبت دورًا ... أمالت أكفه سد عاد لكن المرفق المثالي بجا ... زان سيبقى للقادم المرتاد منجزات تبقى على معبر الدهر ... منارًا يضيء للأحفاد أي "سد" حوى رحيقًا زلالًا ... ومعينًا شدا به كل حادي سوف يبني لأمتي خير مجد ... سجلته من طارف وتلاد فالسهول الفيحاء تمتد عرضًا ... وامتدادا إلى مناري "عكاد تتهادى الرحاب تهتز فخرًا ... وابتهاجًا بفجرها الوقاد تتراءى لها الجداول تجري ... بين أزهى حدائق الرواد والمروج الخضرا تهدي عبيرًا ... فاح بالنشر في الربا والوهاد والطيور المغردات تغني ... صادحات بأروع الإنشاد نغمات بها البلابل تشدو ... في أفانين دوحها المياد مكرمات يبقى لها الدهر ذكرًا ... خالدًا في محافل الأحفاد وهكذا يمضي الشاعر في قصيدة طويلة اقتصر فيها على وصف السد وأثره على المنطقة. وأما قصيدة "تحية بغداد ص77، 78" ألقاها الشاعر في مهرجان شعري في بغداد عام 1384هـ، وقصيدة "رسالة العيد ص79، 81"، وقصيدة "صيحة الجهاد ص88، 90" ألقيت في الحفل الكبير الذي أقيم "بمعهد نجران العلمي" عام 1388هـ، ويحث فيها شباب الوطن على الجهاد في سبيل تحرير القدس، وقصيدة "بطولة وفداء

_ 1 الألمعيات: 67/ 71. 2 الودق: قليل المطر وكثيره - المعصرات: السحابة التي تكاد أن تمطر

ص92، 94"، ألقاها الشاعر في حفل كبير، "بمعهد شقراء العلمي" عام 1381هـ، حينما اختطفت القوات الفرنسية زعماء الجزائر الخمسة، عند استقلالهم طائرة إلى بعض الجهات، وذهبت بهم إلى فرنسا لإخضاع الثورة الجزائرية، ولكن حدث ما لم تتوقعه فرنسا، فقد اشتدت ثورة الشعب الجزائري ولم تهدأ إلا بعد رجوع الزعماء المختطفين، ثم أعقبها إجراء المفاوضات التي انتهت باستقلال الجزائر، وجلاء القوات الفرنسية عنها. وأما قصيدة "صرخة العرب ص99، 101"، ألقيت بمناسبة الاحتفال بثورة الجزائرة المنتصرة على فرنسا في الحفل الثقافي المقام "بمعهد شقراء العلمي" عام 1378هـ، وقصيدة "صدى المؤتمر" التي ألقاها في مؤتمر المعاهد المنعقد في الرياض في 29/ 11/ 1388هـ، يحث فيها قادة الجيل على الالتزام بمنهج الإسلام، وإرساء حضارته؛ ليكونوا مثلًا أعلى للأجيال من بعدهم، ولتطبيق المنهج الإسلامي والسمو بحضارته1: ألا فاسعدوا يا قادة الجيل بالبشرى ... وأحيوا لها في كل حاضرة ذكرى وشيدوا لها بين الربوع معاقلًا ... لتنشد في أسمى مقاصدها شعرًا فمن كان أقطار البلاد توافدت ... مناهل عرفان تشرفها قدرًا إلى قوله: فيا قيادة الجيل المؤمل أنتم ... منائر إيمان فشدوا له أزرًا وأحيوا له ما ضاع من كل سنة ... لتجنوا ثمار الخير في سعيكم أجرًا فما هي إلا دعوة وعزيمة ... ينظمها الإسلام أنتم بها أحرى فسيروا على نهج الذين بهديهم ... أقمنا حضارات سمونا بها فخرًا فما أنتم إلا هداة وقادة ... تربون أشبالًا لتخطوا بهم نصرًا فمرحى بأفكار الرجال ونهجها ... ومرحى بمن يحمي لهم شرعة غرّا وشكرًا لداعيها الذي ضمَّ شملها ... وشكرًا لمن لبى وشكرًا لمن أقرى وحيوا رحاب العلم والبلد الذي ... أتاح لكم جمعًا وأهدى لكم نشرا وأما قصيدة "ترحيب وأمل ص113، 115" ألقاها الشاعر في حفل تكريمي كبير أقامه "معهد شقراء العلمي" تكريمًا لوفد يضم عددًا من المدرسين والطلاب من معهدي الرياض والإحساء في 20/ 8/ 1382هـ، وقصيدة "إشراق الأمل ص116، 119" ألقيت بمناسبة الحفل الافتتاحي الكبير لمعهد نجران العلمي" عام 1385هـ، وقصيدة "أمتي ص136"، وقصيدة "حمادة المجد ص137، 139"

_ 1 الألمعيات: 104/ 105.

رحب فيها الشاعر بسمو وزير الدفاع والطيران السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز عند زيارته لبعض القواعد العسكرية عام 1390هـ، وقصيدة "يا قادة الدين ص146، 149" ألقيت في المنتدى الأدبي الذي أقيم "بمعهد شقراء العلمي" عام 1381هـ. وأما الشعر الوطني والقومي في ديوانه الثاني "على درب الجهاد" فقد ضم قصيدة "عيد الفطر ص55، 61"، ألقاها الشاعر بمناسبة الاحتفال الذي أقامه سمو أمير منطقة عسير الأمير خالد الفيصل بعد صلاة العيد، في مقر الضيافة بأبها؛ ليشيد بأثار الصوم الطيبة في النفس والمجتمع، ثم أشاد بجهود الدولة ورجالها المخلصين، ومنهم أمير المنطقة الأمير خالد الفيصل، وقصيدة "فوق أرض الجنوب" استقبل بها الشاعر جلالة الملك خالد بن عبد العزيز، وبعض زعماء دول الخليج واليمن، حين زار منطقة عسير في 2/ 8/ 1399هـ، يحيي الضيوف الكرام، ويحثهم على العمل والوحدة لعزة الإسلام ونصرة المسلمين يقول فيها: هي أبها في بهجة المهرجان ... تملأ العين بالمرائي الحسان وطيوف الأحلام تنساب وسنى ... ثم تصحو بغاليات الأماني فاستفاقت وحولها بشريات ... تتوالى كالهاطل الهتان فإذا العاهل المفدّى مطل ... شامخ الأنف في أجل كيان وضيوف على البلاد كرام ... أخلصوا للإسلام والأوطان وهم اليوم قوة وائتلاف ... يتحدى مكايد الطغيان إلى قوله: هزني باعث حثيث من الشوق ... وحب البناء للأوطان كلما سرت بين تل وسفح ... شمت فيها مظاهر العمران وأرى نهضة البلاد اشمخرت ... وتداني القطاف حلو المجاني نهضة في شموخها تبهر العين ... وتذكِّي مشاعر الوجدان وجمال مع استقامة أمن ... نعمة من مواهب الرحمان بيد أن الطريق ما زال صعبًا ... يقتضي الجد من قصي وداني وطموح الرجال دون حدود ... سوف يبني منائر الإيمان وانطلاق إلى البناء وهدم ... في دنا العرق ليس يلتقيان ورصيد الشعوب في المثل العليا ... وحزم في نائبات الزمان

_ 1 على درب الجهاد: 63/ 73.

وإذا امتد في البلاد ضلال ... رقدت في مجاهل النسيان وإذا تاه في الجهالة قوم ... ساورتهم مطامع الشيطان وبلادي في نعمة الله ... ومجد موطد الأركان وسباق مع الزمان لتبقي ... معقل المجد والهدى والبيان لا يقيم الأمور إلَّا اعتصام ... بجناب المهيمن الديان والتزام بمنهج الله يعلي ... في ثبات شريعة القرآن ومن شعر الوطنية والقومية أيضًا قصيدة "تحية فهد" استقبل بها الشاعر نائب جلالة الملك -صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز بمناسبة افتتاحه لخط الطائف- أبها جازان، في 14/ 11/ 1398هـ بالباحة، ويشيد أيضًا بجهود المملكة في مجال إحياء البلاد وإقامة المشاريع الحيوية، ثم أشاد بجمال المنطقة، وتجاوب أهلها في مجال البناء والعمران، وحثَّ على التضحية والعطاء لبناء الفرد والمجتمع على مبادئ سليمة وأسس قويمة، ومطلعها1: ليس أجدى في منهج الشعر عندي ... من وفاء لكل صانع مجد والقوافي إذا استقامت على الحق ... وصاغت من درها كل عقد جنحت في ذرى المكارم تيهًا ... وتهادت ما بين جزر ومد وتغنت بها البلابل شدوًا ... صادحات في كل غور ونجد إلى قوله: يا ربا الباحة الجميلة إنا ... في ذراك الشماء في يوم خلد فانفحي العطر في الربوع نديًّا ... وانسجي بالصفاء أروع برد وافرشي بالورود درب المعالي ... بين ودق من السحاب ورعد إن جازان والنماص وأبها ... تجتلي في ذراك طلعة "فهد" رائد يبذل النفيس ويسعى ... لتظل البلاد موئل رشد وكذلك قصيدة "سد أبها ص179، 186" يبارك فيها الشاعر جهود المملكة بإقامة سد أبها العظيم، الذي سيعود على السكان بالنفع العميم، كما يتغنى بالمنطقة وجمالها، فهي مسقط رأسه، ومقرّ أهله وعشيرته، في أبها عام 1394هـ.

_ 1 على درب الجهاد: 83/ 94.

ثالثًا: شعر الطبيعة هذا هو الغرض الثالث في شعر زاهر، جاء في ديوانه "على درب الجهاد" مختلطًا مع الشعر الوطني غالبًا، لسببين: أحدهما: أن ينشد الشاعر قصيدته في مناسبة وطنية، مثل قصيدة "سد جازان"، وقصيدة "فوق أرض الجنوب"، وقصيدة "سد أبها". ثانيهما: أن وصف الطبيعة جاء من خلال الإشادة بتلك الطبيعة الجميلة، التي هي جزء من الوطن الحبيب. ولذلك كان شعر الطبيعة نبعًا للغرض الوطني، ورافدًا من روافده، ليفيض على الوطن بالجمال والروعة فتعشقه النفوس وتهوى إليه القلوب، فيزداد حبًّا له، ويتفانى تضحية في سبيله. أما القصائد التي غلب عليها شعر الطبيعة فهي قصيدة "في ربوع الجنوب" التي ألقاها الشاعر في المهرجان الكبير، المقام في مدينة "أبها" تكريمًا لسمو أميرها "خالد الفيصل" في 15/ 3/ 1391هـ1. وقصيدة "في ربوع القصيم" نظمها، حينما قام الشاعر هو ومدير معهد شقراء العلمي الشيخ "عبد الله الضحيان"، ومجموعة من الأساتذة إلى القصيم، فصور الشاعر انطباعاته عن تلك الرحلة في 15/ 7/ 1380هـ يقول في المطلع2: ركب تطلع من ذرى شقراء ... خنقت معالمه منى وسناء واهتز في حلل المسير كأنه ... طود أشم تماسكًا وإخاء إلى قوله: يا روضة غمرت بساحر نورها ... جمع الوفود أناقة وسناء فيك العيون تفجرت بمياهها ... كالدر بين الحاجزين صفاء فيك الينابيع في الرياض جداول ... فاضت برقراق النمير سخاء فيك الحدائق غضة أغصانها ... وتفوح من نفح النسيم شذاء فترى البلابل غردت فوق الربى ... وشدت بلحن يغمر الأرجاء قد رددت لحنًا بساحر نغمة ... طربا أثار برجعه الشعراء وترى بها الأفنان تقطر بالندى ... متسامقات في العلا شماء

_ 1 الألمعيات: 23/ 25. 2 الألمعيات: 21/ 29.

وقصيدة "في ربوع القرعاء" حين قام الشاعر هو وصحبه برحلة إلى "القرعاء" في عام 1390هـ، وهي مصيف جميل في ضواحي أبها يطل على منحدرات تهامة، يقول1: شعاع من الإشراق والبسمات ... مطل على الآفاق والفلوات فأيقظ عزمي واستثار مشاعري ... وأبرز ما في القلب من خلجات فسرت له والشوق مني مطية ... أجوب بها البيداء والعقبات ويممت "للقرعاء" وقفة شاعر ... رأى روضة مفتوحة الزهرات فجالت بي الأنظار بين رحابها ... وشاهدت ما فيها من الثمرات وأدلجت في أشغافها ووهادها ... فكانت بحق روضة البركات فما أجمل المصطاف حين تفتحت ... زهور الربا بالعطر والنفحات ونفح الشذى اضحى يعم بنشره ... مشارف قصر عالي الشرفات2 وإني بعاليها وقربى منارة ... جميلة شكل ساطع القسمات تلوح بها الأفنان وهي شذية ... فتهدي عبير النشر والنسمات وبلبلها الصداح شاد بلحنه ... فأطربنا من ساحر النغمات ترى غصنها المياد جاش بهزة ... فرنت له الأنغام بالنبرات فلله من ساعات أنس تتابعت ... على نشر القرعاء مزدهرات3 ونشره نفح النشر لما تضوعت ... به أيكة منظومة الشذرات يبيت بها طل يكفكف دمعه ... ويهمي نديًّا عاطر القطرات فأغصانها الشماء تقطر بالندى ... على مهمة من أرضها النضرات4 على بركات يا زهرة الربا ... سأمضي وقلبي مفعم الحسرات وكذلك قصيدة "في ذرى نجران ص51، 53" التي ألقاها الشاعر في الحفل التكريمي لوكلاء الوزارات عند زيارتهم التفقدية لمنطقة الجنوب في 3/ 2/ 1389هـ، وقصيدة "زلة القول"، والمناسبة التي قيلت فيها أن الشاعر "أحمد البدري" زار أبها، فتأثّر بشدة البرد في المنطقة، وحمل عليها حملة عنيفة، وأنكر جمال الطبيعة، فعارضه شاعرنا في رأيه بهذه القصيدة

_ 1 الألمعيات: 49/ 50. 2 القصر الملكي في الوسط بين غابات أشجار العرعر. 3 النشر: المكان المرتفع. 4 مهمة: جمع مهامة، وهي المغازة البعيدة المقفرة.

انتصارًا للحق، لا أخذًا بالثأر، فوصف سحر الطبيعة وجمالها الأخاذ، ومنها1: أما الغبار فلا يبدو لها شبح ... في أفق "أبها" فذاك القول بهتان لأنها في الذرى باتت محصنة ... يحيطها من سياج الزهر ألوان أما رأيت جمال "السودة" ... اصطبغت بعاطر الورد والأزهار تزدان كم بلبل شاد صداحًا برونقها ... يردد اللحن فيها وهو جذلان يكسو التلال سياجًا من خمائلها ... والورس برد وزهر الروض فستان فيها عبير الشذى يغري بنشوته ... وللأريح بها نفح وعرفان وكذلك قصيدة "تحية نجران ص149، 152" في الألمعيات أيضًا، وشعر الطبيعة كله ورد في "الألمعيات"، ولم يرد في الديوان الثاني "على درب الجهاد"؛ لأن الشاعر خصه للقضايا الإسلامية والشعر الإسلامي وما يتصل به، ولكن ليس معنى ذلك أنه لم يتعرَّض لسحر الطبيعة في هذا الديوان، لا، بل كان يقصد الغرض الإسلامي أولًا، ثم يكون تصوير الطبيعة تابعًا له، كما في قصيدة تحية المعهد الوطنية، وقد مرَّت أمثلة كثيرة. وشعر الطبيعة عند زاهر تموج به الحياة، وتهتز الطبيعة للأحاسيس الرقيقة، وتتعاطف مع المشاعر العميقة، فتبذل حبها لمن يحبها، وتنساب أسرار الجمال فيها لمن يفطن لأسرارها، ولذلك حينما تبدلت مشاعر الشاعر "أحمد البدري" وتجمَّدت أحاسيسه، وهجم على أبها مدعيًا أنها تسيء إلى الآخرين، فيكتوون بنارها، هبَّ زاهر يدافع عن محبوبته "أبها" وجمال سحرها، ويصفه بجمود الإحساس وتبلّد العواطف يقول له2: لكل قول مدى الأزمان خذلان ... إن لم يقمه على الإنصاف ميزان وزلة القول يهوي في مداركها ... من خانه الفهم واستجراه شيطان فمنذ أن ردد "البدري" قولته ... في ذم أبها وللأطياف طوفان جاء طيفي له في الأفق جلجلة ... تفتر منه القوافي وهي بركان عجبت من شاعر ندت مشاعره ... فما رأى روضة بالزهر تزدان لماذا؟ لأنَّ زاهر يجول بوجدانه ومشاعره في مجالي الطبيعة، فيسير أعماقها، ويسعد بأسرار الجمال فيها؛ لأنه أحبها وأحبته، وهام بها وهامت به، فجاء طيفه مجلجلًا بالأشعار، تفيض حممًا بالمشاعر والعواطف كالبركان، أما البدري فقد جمدت مشاعره، وغابت عن وجدانه، فليس بشاعر؛ لأن الشاعر هو الذي يهتز لأسرار الحياة، ويفطن لمكاتم الطبيعة الساحرة أكثر من

_ 1 الألمعيات: 140 / 145. 2 الألمعيات: 140/ 146.

غيره، لدقة أحاسيسه، ورفاهية مشاعره، وكيف يغيب البدري عن وجوده، ويتجرَّد من وجدانه المتحجّر أمام العروس التي ترتدي أجمل حللها من الزهور، وتميس في روضة أخاذة فتنة ودلالًا وتيهًا: فذاك القول لا يرمي لعزتها ... ولا يقول به يا صاح يقظان وليس قولك يخفي من محاسنها ... فالناس تعرفها أيان ما كانوا هي الجمال هي المصطاف يقصدها ... من كل صقع مدى الأزمان إخوان1 فيها القرى "والصفيح" الغض منظره ... في سوحها الخشع والصفر والبان فكيف أغضيت طرفًا من محاسنها ... أما استمال القوافي منك وجدان وقلت في لهجة الملهوف من كمد ... على زمان مضى فيها له شان فما رأينا بها وردًا ولا زهرًا ... وإنما هي أطلال وكثبان وما إخالك تدري عن مرابعها ... ولا يتوق إليها منك تبيان فقد حكمت بقول ند مضربه ... كأنما قلته والقول حيران قد تنكر العين نور الشمس من وسن ... وما عليه إذا ما غط وسنان وفي النهاية يطلق الحكم على البدري توقيعًا يتردد بموسيقاه العذبة في جوانب الدنيا، لتظل أبها كما كانت بين بطاح الأرض منتجعًا لعشاق الطبيعة، وتاريخًا حافلًا بالمجد والشهرة، التي طبقت الآفاق بأشجارها وغاباتها وأزهارها وربوعها وألبانها: ولكن كفتك بطاح الأرض منتجعًا ... عن مجد "أبها" وفي ذرواتها البان2 تلك هي الطبيعة في شعر زاهر، يدافع عنها، ويحمي ذمارها، ويخوض المعارك في سبيلها؛ لأنه يثور إن أساء إليها أحد، أو نال من شرف الجمال فيها، أو خاض بالباطل في عرصاتها ومجاليها، فذلك اعتداء سافر على خدرها الجميل، وكيف لا يثور ويغصب، ويتفجَّر بركانًا وشعرًا، وهو الهائم بالطبيعة وبسحر الحياة فيها، المتيم بما وراء الأزهار والأشجار من أسرار وعجائب، والمأخوذ بما خلف الأغاريد والأنغام من دفائن، والمنساب من رقة النسيم الحاني والعطوف، فتتفتح له أكمام الأزهار باسمة لتفصح عن وجدان الشاعر، الذي اهتز لأسرار تجمّدت بها مشاعر الموتى والمتحجرين وغابت عنها عقول الحيارى النائمين. قد تنكر العين نور الشمس من وسن ... وما عليه إذا ما غط وسنان

_ 1 ما بين الأقواس أسماء لأحياء في أبها 2 ضرب من الشجر في أبها واحدة: بانة

تلك خصائص شعر الجنوب من شاعر ارتضع لبانها واغتذى من رحيقها، وحيي بهوائها ونسيمها، فأخلص لها الحب والوفاء والعطاء، فكان هذا الغرض بكرًا من بين أغراضه الأدبية. رابعًا: الرثاء: الرثاء الغرض الرابع في شعر زاهر، فقد اشتمل على قصائد في "الألمعيات" مثل قصيدة" "نجم هوى ص30، 32" رثى بها الشاعر سماحة الشيخ "محمد بن إبراهيم آل الشيخ" مفتي الديار السعودية، المتوفَّى في شهر رمضان عام 1389هـ ومطلعها1: نجم هوى فارتجت البيداء ... وتفجّعت من هوله الأرجاء واغبرَّ وجه الأرض وانداحت به ... سحب جهام كلها دهماء ودهى الجزيرة خطب هول فادح ... برزية عصفت بها النكباء وأصغت لها بغداد واضطربت لها ... في الشام في أردنها العلماء وعلى ضفاف النيل دوت صيحة ... من هول فاجعة لها أصداء أمحمد قطب الفضيلة والحجا ... ومجدد لتراثنا بناء أدرجت في كفن السماحة والندى ... ومشت تحف بنعشك العظماء إلى قوله: كم ليلة أحييتها فتنورت ... وتكشفت عن وجهها الظلماء قد كنت في حلقات علم رائدًا ... فلأنت بدر في الدجى وضاء ولأنت بحر في العلوم متوج ... بالحلم منصاع لك العلماء أحييت بالعلم الشريف محافلًا ... فنمت بفيض معينها أكفاء وارتادها من كل قطر رائد ... وبها سمت وتعالت الغراء أمضيت عمرك في العلوم مجددًا ... فعلت بك الآداب والأدباء قد كنت للإسلام درعًا ضامنًا ... تحمي الحمى فتهابك الأعداء فلكم على مر الزمان مآثر ... عظمت وكان شعارها العلياء يا من له في كل قلب موطن ... لا يرتقي لمناره إعفاء فقدتك من أرض الجزيرة أمة ... واستوحشت لفراقك البطحاء ونعتك من أرض الدنا قاداتها ... وتحدث الأدباء والشعراء

_ 1 الألمعيات: 30/ 33.

والمكرمات الغر قد أدلى بها ... ذكر جميل في الورى وثناء تزدان فيك سماحة ورجاحة ... وعدالة تقضي بها ورفاء الله من ساحات حزبه أطبقت ... بهمومها فتوالت الأرزاء لكنها الأقدار تجري في الورى ... فالصبر سلوان لنا وعزاء رثاء تميز بخصائص جعلته يسير في ركاب التجديد لهذا الغرض الأدبي؛ حيث جعل الشاعر لمرثيته عنوانًا وموضوعًا شاعريًّا، لا كالشأن في الرثاء القديم، كان الشاعر ينسب قصيدته إلى المرثي، ويجعل اسمه عنوانًا وموضوعًا لمرثيته، لكن زاهر يجعل العنوان والموضوع شعرًا، يختار صورة شعرية رائعة تتناسب مع الفجاعة الحزينة، وتتلاءم مع الكارثة المذهلة، ألا وهي "نجم هوى"، وما أدراك ما النجم إذا هوى، لقد أقسم رب العزة به {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} إنها النهاية، فسقوط النجم اختلال في موازين الكون، وهذا لن يكون، لأنَّ الرسالة حقيقة، والوحي حقيقة، ومحمد الرسول حقيقة، فالحقائق هذه تجعل النجم في مداره لا يسقط أبدًا إلا بإذن الله تعالى. أما نجم الشاعر فقد سقط، لماذا؟ لأنَّ الشعر يقوم على الخيال، والتصوير الأخاذ، والقنبلة تفجر مشاعر الأحزان، وتأخذ الحزين من ساحة الصدمة والألم، إلى الاشتغال بهذا الحدث الجلل، فيكون مصدرًا للتعويض، ومنطلقًا للتخلص من الصدمة العنيفة، فينصرف من حال إلى حال، وفي التحول يكون الصبر، واستمرار الحياة كما أراد الله، ولهذا آثر الشاعر ذلك العنوان الشاعري الموحي بأكثر مما ذكرت. ومن خصائص التجديد في الرثاء عند زاهر أنه لم يستغرق كثيرًا في تصوير الصدمة إلَّا في الخمسة الأولى، أما الأبيات التالية التي تربو عن العشرين، اتجه الشاعر فيها إلى تصوير القيم الإسلامية، والمبادئ التشريعية، وما كان لها من أثر قوي في فداحة الجلل. .. فهو رائد العلم وبحر العلوم، ومجدد التراث، ودرع الإسلام، وصاحب العقل والسماحة والرجاحة، ومقيم العدل، وغير ذلك من القيم الإسلامية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية الغراء. ومن الخصائص أيضًا أن القصيدة قامت على غرض واحد، بلا مقدمات غزلية أو غيرها، كما في الرثاء القديم، وبعض الرثاء الحديث، وتلك هي الوحدة الفنية والموضوعية التي امتاز بها الشعر الحديث. ومن الخصائص أيضًا أنَّ الشاعر جسَّم حزنه وصدمته، فسرت من وجدانه إلى مظاهر الكون؛ لأنها وحدها هي الفيصل في الحكم على المرثي، فيكون إجماعًا من كل الخلق، والسماء والأض، والبيداء والأرجاء والسحب، فاصطدمت العراق والشام، والأردن والنيل، وكل الدنيا..

لكن الشاعر لو عبَّر عن حزنه وحده لكان حكمًا من طرف واحد، وبذلك لم يكن منصفًا لحق المرثي، الذي طبق الآفاق علمه وفضله، فهي الجديرة بالحكم عليه، لا الشاعر وحده، وتلك من خصائص التجديد في شعر الرثاء عند زاهر، التي عبَّرت عن صدق الشاعر في تجربته الشعورية، فهي لقوتها وصدقها ناء بها الشاعر وحده، فشاركه الكون بمن فيه وما فيه، من هول الفاجعة المتفجرة من وجدانه. وتسير على هذا النمط قصيدة "دهي الخطب ص106، 107"، أنشدها الشاعر في رثاء الأستاذ عامر بن علي الألمعي -مساعد مدير التعليم بمنطقة جازان، حينما أصيب بحادث مفاجئ في عقبة "ضلع" عام 1386هـ1. وكذلك قصيدته "تعزية ومواساة ص118، 119" 2، التي بعث بها إلى صديق فقد صديقه في عام 1382هـ، وقصيدة "فقيد العلم"3 قالها الشاعر في رثاء سماحة المفتي لشئون الكليات والمعاهد العلمية الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، المتوفَّى عام 1386هـ. وقصيدة "فقيد الإسلام"4 في رثاء الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، المتوفَّى عام 1378هـ. والرثاء عند زاهر جاء في ديوانه الأول "الألمعيات"، أما الثاني "على درب الجهاد" فقد اشتمل على قصيدة واحدة أخرجتها من باب الرثاء، وأدخلتها في باب الشعر الإسلامي لأسباب أهمها: أنَّ المرثي وهو المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز -طيب الله ثراه- لم تكن شخصيته في ذاته، وإنما تحوّل إلى زعامة إسلامية كبرى، لها نمطها الإسلامي الكبير، فأصبحت زعامته الإسلامية قيمة مجردة، ومجسمة في ذاتها، يتحدث عنها الشاعر حديث القيم الإسلامية التي جاء بها الإسلام ليجعل منها منارة في كل عصر، يهتدي بها المخلصون في كل مكان، وهذه القصيدة هي "فجع الأنام" 5.

_ 1 الألمعيات: 106/ 107. 2 الألمعيات: 118/ 119. 3 الألمعيات: 120/ 121. 4 الألمعيات: 126/ 127. 5 على درب الجهاد: 131/ 140.

خامسًا: المدح والمدح في شعر زاهر هو الغرض الخامس من الأغراض الأدبية، والشعر فيه قليل بالنسبة للأغراض الأخرى، وتجمَّعت قصائده في "الألمعيات"، فضمَّ قصيدة "فرحة ولقاء" ألقاها الشاعر في الحفل التكريمي الذي أقيم لسمو وزير الدفاع والطيران سلطان بن عبد العزيز حينما زار نجران في عام 1388هـ، ومطلعها: أسلطان قد جاءت بأنبائك البشرى ... فهزت قلوبًا بالأحاسيس والذكرى ونادى بها من ربع نجران أشبل ... يحيون في سلطانك القوة الكبرى يحيون فيك المجد والقائد الذي ... بنور الإسلام نادى بها جهرًا وشاد لهذا الشعب أركان مجده ... فقام بها ثقلًا وشد لها أرزًا فأهلا بمن في دومة المجد أصله ... ومن هو من بيت علا في الورى قدرًا وأهلًا بباني الجيش والجش قوة ... على مسرح الأحداث يبني بها فخرًا1 وكذلك قصيدة "رائد نهضة" ألقاها الشاعر في الحفل التكريمي الذي أقامه "معهد أبها العلمي" على شرف معالي وزير المعارف الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ عند زيارته للمعهد في 22/ 7/ 1384هـ، في نطاق جولته التفقدية لمنطقة الجنوب، ومطلعها2: سطع الضياء على المشارف والذري ... وأطل من برج المعارف نيرًا فسمت به الآمال وهي جديرة ... وتطلعت تلك البوادي والقرى تحدو بها البشرى برائد نهضة ... للعلم للإسلام في دنيا الورى بطل تذرع بالأمانة خطة ... والعلم درعًا والشجاعة مئزرًا ذا اليوم عهد للبلاد متوج ... بقدومكم ضيفًا عزيزًا أكبرا فالمعهد العلمي يرفل بهجة ... ويفوح نشرًا بالقدوم معطرًا إني أرحب بالوزير أصالة ... وعن المعاهد نائبًا ومعبرًا فشبابنا الداعي يفيض شعوره ... بالمقدم الميمون أنبل ما يرى وهكذا تمضي القصيدة على هذا النحو، وقصيدة "تحية إجلال وتقدير" بعث بها الشاعر إلى معالي الأمير خالد أحمد السديري المشرف على إمارة نجران تحية وتقديرًا لجهوده الخيرة، وتشجيعًا للعلم والأدب، ومطلعها3:

_ 1 الألمعيات: 95/ 98. 2 الألمعيات: 102/ 103. 3 الألمعيات: 122/ 125.

أمير المعالي خالد في الورى شهم ... كريم الفعال الغر والرائد القوم أمير له العليا قسم ومنهج ... كفى شرفًا أن المعالي له قسم تسلسل من أمجاد فخر وسؤدد ... لهم شيم قد زانها العدل والحلم إلى آخر القصيدة، وقصيدة "أسفر الصبح" ألقاها الشاعر في الحفل التكريمي الذي أقامه الشيخ أحمد بن محمد العسكري في قرية "الشرف" تكريمًا لسمو وزير الدفاع والطيران الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، عند زيارته التفقدية لمنطقة الجنوب عام 1383هـ ومطلعها1: أسفر الصبح بالهدى والمكارم ... وانجلى بالشعاع ضاحي المعالم وأدلم الغمام في ومض برق ... في ذرى العسكري وأرض المتاحم2 فإذا بالربيع يختال طلقًا ... يغمر الروض نوره المتزاحم فرحة عبقرية غمرتنا ... في حمى الضيف ذي النهي والمكارم يا ابن عبد العزيز يا ابن إمام ... ترتسم خطوه القرون القوادم زرتنا رائدًا فحيتك منا ... نبضات القلوب قبل المباسم إيه سلطان فلتعش عبقريًّا ... في ذرى المجد منوجا بالكرائم ويتميز المدح عند زاهر بخصائص فنية تسمو بهذا الغرض إلى مراتب التجديد في الشعر السعودي الحديث، وهي: أولًا: القصيدة عنده قامت منذ البداية على موضوع واحد يدور حول الغرض وهو المدح، الذي يبدأ به المطلع في القصيدة، ما عدا القصيدة الأخيرة استهلَّها الشاعر بالطبيعة الساحرة التي عبَّرت هي الأخرى عن الترحيب بالممدوح وحسن استقباله، فيبتسم الروض، وتتفتح الأزهار، وتطل الأنوار، وهذا الاستدلال الجيد المشوق لا يخرج عن موضوع الغرض، بل داخل فيه، ومتلاحم معه، حيث جنَّد الشاعر الطبيعة معه لتعبر هي الأخرى عن فرحتها وابتهاجها لاستقبال الممدوح الأمير سلطان بن عبد العزيز. ثانيًا: الشاعر لا يمدح الرجل إلَّا بما فيه، من غير مبالغة ولا معاظلة، فالعالم وزير المعارف يمدحه بعلمه وفضله، وحسن زيادته في العلوم والآداب، والقائد كالأمير سلطان وزير الدفاع والطيران يمدحه بما هو فيه من حسن الكياسة والسياسة، وشرف القيادة والحنكة.

_ 1 الألمعيات: 128/ 129. 2 العسكري شيخ قبيلة بني العوص، إحدى قبائل رجال ألمع، والمتاحم هم أمراء من عسير، من القبائل التي تتبعهم، ربيعة ورفيدة وبنو شوعة، وأميرهم الحالي عبد الوهاب المتحمي.

العسكرية، والمهارة الفنية، وغير ذلك مما ورد في القصيدة بما يتناسب مع مهارته العسكرية، ومنصبه في الجيش الذي يقوده ويتولى أمره ورعايته. ثالثًا: القيم التي قامت عليها مدائحه قيم نبعت من ظروف عصره ومقتضيات أمته، فقصيدة "رائد نهضة" اشتملت على القيم العلمية والفكرية والأدبية، التي جعلت معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزيرًا للمعارف، وموجهًا للمعاهد العلمية في المملكة العربية السعودية، وكذلك قصيدة "فرحة ولقاء"، وقصيدة "أسفر الصبح" قامتا على قيم سامية نبعت من مكانة الأمير القيادية والعسكرية، وحنكته السياسية، بما هو به جدير، فصار أهلًا لهذه القيادة، وكذلك الأمر في القصيدة الرابعة. رابعًا: تجردت المدائح عند زاهر من الإطالة في المدح القديم، وتسخيره لحاجة القائل من الرغبة في المنح والعطايا التي يبتغيها من الممدوح؛ حيث كان الشاعر القديم يقصد من شعره العطية ابتداء، فإن لم يفض عليه الممدوح بها انقلب الشاعر هاجيًا ناقمًا، مما جعل القصائد في المدح القديم سلمًا تقليديًّا يتدرج فيه الشاعر على القيم التقليدية في المدح عند الشعراء فلا يخرج عنها. لكن زاهر حينما ينشد قصيدة في المدح لا يبتغي من ورائها شيئًا من ذلك مما يعبر بصدق عن الصفات التي لا تنفصل عن الممدوح، والتي نبعت من ظروف عصره لا عن تقليد للغير، وفاضت بها طبيعته وروحه ومنهجه في الحياة المعاصرة، ولذلك كانت القيم التي يمتدح بها الشاعر ممدوحه قيمًا جديدة معاصرة، تتلاءم مع شخصية الممدوح، وطبيعة العمل الذي يقوم به، فطبيعة شخصية صاحب السمو الملكي قائد جيش، وصاحب المعالي وزير للمعارف وموجه في التعليم، وطبيعة الأمير السديري تختلف هي الأخرى عن الطبيعتين السابقتين، وهكذا أصبح لشاعرنا اتجاه خاص في مدحه يختلف فيه عن المدح في الشعر القديم. سادسًا: شعر الحضارة وهذا غرض جديد من أغراض الشعر الحديث، يصور فيه الشاعر الحضارة المعاصرة بشقيها، الأول: المعنوي والأخلاقي والمثالي، والثاني: المادي من التقدم العلمي الصناعي والزراعي والاقتصادي وغيرها. وقد يتجاوب بعض الشعراء المحدثين مع التقدم الحضاري في شعر يصور هذه الجوانب، وقد لا يتجاوب البعض الآخر، وشاعرنا زاهر قد أنشد شعره في هذا الغرض الجديد، مثل قصيدته، "مراقي الفضاء" التي ألقاها الشاعر في الحفل الثقافي الكبير "بمعهد أبها العلمي" عام 1848هـ، وذلك حينما حدثت ضجة كبرى حول غزو الفضاء، وظهرت بوادر الإنكار.

من بسطاء الناس لذلك التقدم العلمي، فاشتملت القصيدة -كما يقول الشاعر- على هذا الغرض الحضاري، ثم ختمها بجوانب من التوجيه والدعوة إلى العلم، يقول1: زمجر الركب في مراقي الفضاء ... واعتلى الفكر شامخًا بالضياء وانطوى هيكل الدواجي فباتت ... شعلة النور راية النجباء ليت شعري من أي برج أطلت؟ ... أنجم الكون والعلا والبناء ليت شعري من أين منطلق النور ... الذي كان آية في البهاء إن إشعاع دعوة الحق قد شاء ... الإله خلوده في البقاء أيها المسلمون قد أصبح اليوم ... شعاعًا مبشرًا بالهناء فارتقوا في معارج المجد وابنوا ... من صروح السلام نهج إخاء وابتنوا في ذرى الأماجد صرحًا ... تعتلي فيه دوحة السعداء تصعد القادة العظام وتزجي ... أمما في مواكب العلياء فنرى العلم عندها بمكان ... لا ينال ببيعها والشراء بل بقدح الزناد للفكر حتى ... تكشف الحجب عن وميض السناء إن للعلم دولة لا تسامي ... قد حداها فطاحل العلماء فانهلوا من معين عذب زلال ... لا تغيض فيوضه بالفناء منهل تنطوي الليالي ويبقى ... متعة للنفوس للنبلاء يا رجال الإسلام أحيوا علومًا ... من تراث مهذب الآراء جددوا في العلوم من كل فن ... واستنيروا بشرعة الأنبياء سبقتنا إلى الفضاء شعوب ... واستطارت على ذري الأرجاء وغزت عالم الفضاء فدوى ... صوتها في مرابع الكبرياء فبنوا الشرق يفخرون بما قد ... حققوه من موجبات الرخاء وبنو الغرب قد تباهوا بعلم ... سخروه في غزوهم للفضاء فلماذا محا المعالم منا ... باعث الجهل معشر العقلاء شرعة الله أن نعيش كرامًا ... وبنور نرقى ذرى الكرماء ثم نبني بقوة ما استطعنا ... لا نبالي بمبدأ الضعفاء يا شباب الإسلام إني مناد ... فيكم اليوم فاسمعوا لندائي أنتم اليوم أشبل في ذرانا ... وغدا في مواكب الزعماء فانشروا الوعي في الجماهير حتى ... تتبنى المجد في ذرى شماء

_ 1 الألمعيات: 17/ 19.

إنني اليوم لا أروم خيالًا ... فالخيال مشتت الأفياء بل أقول بدافع من شعور ... حيوي متوّج بالرجاء هل لنا اليوم في المعالي شباب ... مستجيب بعزة ووفاء يحملون الأعباء غرًّا كرامًا ... في مراقي شريعة سمحاء فالبدار البدار يا أمة المجد ... ننادي بوحدة وإخاء واصرخي في بنيك أحفاد سعد ... والمثنى وخالد العلياء ففخار الشعوب بالمثل ... الأعلى بجيل مثقف شرفاء لهموا غاية منار الثريا ... دون أدنى مرامها البناء بارك الله في شباب تساموا ... للمعالي وللبنا والفداء وارتقوا في مشارف المثل العليا ... وكانوا أشاوش الهيجاء يصور الشاعر مدى التقدم العلمي الحضاري الحديث، الذي وصل فيه العلماء إلى الفضاء، وغزوا معالم الأرجاء، ثم يوجّه شباب أمته أن يواصلوا الدأب والكفاح في سبيل تحصيل العلوم، لكي تعيش الأمة الإسلامية كريمة لترقى مشارف الكرماء، ولتبني حضارتها بقوة لا تبالي أحدًا، ولا تتخذ مبادئ الضعفاء منهجًا وسلوكًا، لا يتحمَّلون هذه الأعباء كرامًا، ليرتقوا بها في ظلال شريعة سمحاء، كان سعد وخالد والمثنى -رضي الله عنهم- المثل الأعلى لهذا الجبل المثقف الذي كان دائمًا يسمو للمعالي والبناء والتضحية والفداء. والشاعر هنا قد مزج بين شِقَيّ الحضارة العلمية المادية والفكرية الأخلاقية، فحثَّ الشباب على سباق الزمن، لكي يصلوا إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم في مجال الصناعة العلمية، التي تمَّ بها غزو الفضاء، ولا يصلح هذا التقدم إلَّا في ظلال الحضارة الأخلاقية والقيم الفاضلة التي هي جوهر شريعة الإسلام، والتي جعلت من قوادها مثلًا أعلى يقتدى بهم في كل عصر وجيل؛ لأن الحضارة العلمية المادية وحدها لا تنفع، ولا ترقى بالأمة، بل لا بد من مؤازرة الحضارة الأخلاقية والمثالية لتهذب النفس واستقامتها على الجادَّة في بناء الحياة وتقدمها، وإرسائها على أساس قوي متين من الحضارة الإنسانية النافعة. واهتمَّ الشاعر كثيرًا في شعره بإبراز الحضارة الأخلاقية التشريعية التي جاء بها الإسلام، فهي الركن السامي، والجادِّ في بناء الحضارة المادية الصناعية والزراعية، وذلك في قصيدته "تحية مؤتمر الفقه الإسلامي" الذي دعت إليه جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المنعقد في الفترة من 1/ 11/ 1396هـ إلى 18/ 11/ 1396هـ، ليشيد بعلماء الإسلام وفقهائه ومحدثيه والدعوة إلى الاقتداء بهم منهجًا وهدفًا وتضامنًا1:

_ 1 على درب الجهاد: 47/ 53.

أقول وقد لاحت بآفاقنا البشري ... أتلك رياض العلم تستقبل الفجرا أتلك مراقي مالك وابن حنبل ... تفجر من عرفانها في الدنا بحرًا أتلك رحاب الشافعي وصحبه ... تفيض على الأنفاس من روحها نشرًا أتلك ربا النعمان والصحب حوله ... أناروا لنا دربًا وأثروا لنا فكرًا أتلك بلاد الشام فاحت تضوعًا ... وقد أنجبت أسمى فطاحلها قدرًا أتلك ربوع القيروان تحركت ... وتاقت إلى القادات إذ يمت مصرًا أتلك بخارى تنفح المسك أذفرًا ... وقرطبة الغراء كانت لنا فخرًا بلاد أقامت للحضارات منهجًا ... يطاول في عليائه الأنجم الزهرا ومؤتمر الفقه الذي ذاع في الورى ... وأمسى بحمد الله في ليلنا بدرًا ويممه من كل فج فطاحل ... وقد سبرت أبعاد أغواره سبرًا وأهل بكم يا قادة الفكر والنهى ... ومؤتمرات الخير أنتم يا أحرى فسيروا على نهج الألى شيدوا لنا ... صروحًا من التشريع ناصعة غرًّا وقد حلقوا للمجد في عزم صامد ... تخطى صعاب الدهر واستسهلَّ الوعرا تولوا كتاب الله بحثًا وخدمة ... وغاضوا من اللجات أعمقها غورًا وللسنة الغراء قد جد جدهم ... فجابوا فجاج الأرض ما تركوا قطرًا فأصبح ينبوع المعارف مترعًا ... تطوف على رقراقه أمم تترى وإن هدى القرآن للناس ساطع ... فأحيوا بتشريعاته في الورى ذكرًا كما واصل الأسلاف في هدأة الدجى ... دراساتهم للذكر فاكتسبوا أجرًا فشادوا من التشريع صرحًا مخلدًا ... ألا ننضوي في ظلة مرة أخرى هو الأمن والإيمان والنعمة التي ... بها تسعد الأجيال في شأنها طرًّا وهكذا يمضي الشاعر إلى نهاية القصيدة، يشيد فيها بحضارة الشريعة الغرَّاء والفقه الإسلامي الذي يقيم منهجًا جادوا وسلكوا فاضلًا، أقام أصوله وجمع أبوابه أئمة أجلاء في العلم والمعرفة مثل الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي وصحبه، والإمام أبي حنيفة النعمان وصحبه، وقد أينعت هذه حضارة الفقه الإسلامية في بلاد الشام فأنجبت أسمى فطاحلها، وفي ربوع القيروان، وفي قادات مصر، وفي بخارى وقرطبة الغراء، وغيرها من الحواضر الإسلامية القديمة التي أقامت للحضارات منهجًا تطاول إلى النجوم في الشرف والرفعة، فشادوا من التشريع الإسلامي صرحًا شامخًا خالدًا، يرفرف على الأجيال بالأمن والإيمان والنعمة والسعادة، فقد أنقذهم من الضلال والتيه والفساد في البر والبحر والجو كتاب الله وسنة رسوله، والجهاد المقدس في سبيل الله وسنة رسوله، فالخير العميم للأمة الإسلامية والأجر الجزيل للمؤمنين، إنما يكون بالسير على منهج الإسلام وتنفيذ حكم الله في مجالات الحياة، وفي الوحدة الإسلامية الكبرى.

تلك هي القيم الأخلاقية والروحية التي تعد أساسًا في بناء الحضارة في أيِّ عصر وفي كل جيل، وليس هذا فحسب، فحضارة الإسلام أيضًا تقوم على ذلك النظام الاقتصادي الإسلامي المادي الفريد في منهجه وممارسته لهذا الاقتصاد، الذي تولَّى تنظيمه وتوضيحه الفقه التشريعي، على نحوٍ لا مثيل له في المذاهب الاقتصادية الحديثة من اشتراكية ورأسمالية. فالفقه الإسلامي أرسى قواعد النظام الاقتصادي المادي في كتاب المعاملات على النحو الآتي: اهتمَّ بموضوع المقاييس الصحيحة في تحديد القيم العليا ليجعلها أساسًا للتفاضل بين الناس، وهي الأخلاق وحسن الأعمال لا الأموال والعقارات، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرِمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} ولو كان التفاضل وبلوغ المنزلة السامية عند الله بكثرة الأموال لتحوَّلت البشرية إلى وحوش ضارية يفترس فيها القوي الضعيف بلا مبالاة؛ لأن ذلك شريعة، ... ولكن الله لطيف بعباده. أقرت الشريعة الإسلامية أنَّ المسلم مستخلف على هذا المال وأمين عليه، وموظَّف فيه من قِبَل الله -عز وجل، الذي جعل مهمته على المال المستخلف عليه هي التنمية والإنفاق، لا الكنز ولا الاحتكار. اهتمَّ بالمصادر التي يكتسب فيها العبد المال، فحثَّ على أن تكون مصادر طيبة أحلها الله -سبحانه وتعالى- وشرَّعها لعباده، وحرَّم المصادر الخبيثة والكسب الحرام {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وفرض الله على المسلمين في أموالهم حقوقًا واجبة مثل حق النفقة على الزوجة والأولاد والآباء والأمهات، والنفقة على الأقارب، وحق الزكاة وحق الإنفاق في سبيل الله. أقام نظامًا تشريعيًّا فقهيًّا عادلًا في العقود والمعاملات حتى لا يتظالم الناس، فوضع الأصول والقواعد والشروط والواجبات في أبوابه المختلفة من بيع وشراء وهبة وإجارة وإعارة وإحياء مواضت وزراعة، وشركة ومضاربة، وقرض وسلم، وخيار ووصية وغيرها من أبواب المعاملات في الفقه الإسلامي. كما نظم عملية الإنتاج والعمل، ونظَّم السوق والحركة الاقتصادية فيه من وضوح السلعة، وضبط الأسعار، والوفاء بالكيل والميزان، وغير ذلك لمن أراد أن يستزيد. وبهذا يتضح لنا أن الفقه الإسلامي في باب العقود والمعاملات يحمل بين طياته النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يبني الحضارة المادية، ويسمو بالأمة الإسلامية حضاريًّا، لا من

الجانب المادي فحسب، بل سبب الأسباب هو البناء الأخلاقي المثالي الذي يتلاحم مع الجانب المادي. فإخلاص العمل الماديّ ليكون لوجه الله تعالى يسبغ عليه طابعًا تعبديًّا أخلاقيًّا. والجوانب المادية تتحرَّك من خلال مراقبة ذاتية داخلية في ضمير المسلم يخشى الله ويخاف عذابه وحسابه، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . وكذلك قصيدته "تحية المغرب العربي" التي يشيد فيها بحضارة الإسلام في المغرب العربي وبلاد الأندلس، ومطلعها1: عبقت بالنشر في أسنى مكان ... وبدت شماء في أفق الزمان إلى قوله: أنا في أرض سما المجد بها ... ونمت أيامه في كل آن فاذكروا القادات في راياتها ... عندما خاضت عباب المعمعان وتسامى "طارق" في أوجها ... يتخطَّى فوق أطراف السنان واستقامت في ربا أندلس ... جنة الدنيا ونبراس المغاني أنا إن حلقت في الأفق وإن ... غصت في الأعماق فالمجد حماني ألمح الشطئان من أندلس ... وابن زيدون أمامي وابن هاني فاذكروا بالفخر أرباب النهى ... من رقوا فيه إلى أسنى مكان

_ 1 على درب الجهاد: 107/ 115.

التصوير الأدبي: أولًا: التجربة الشعرية هو انفعال الشاعر بمشهد أو حدث أو فكرة أو موضوع أو عاطفة أو خاطرة، أو غير ذلك مما يهز المشاعر ويحرك الأحاسيس ويثير الوجدان، ويلهب العاطفة، ويحيي الخواطر ويبعثها، لتتلاحم كلها في عالم الشعور، أي: في معامل النفس والوجدان والمشاعر والعواطف في تجربة شعرية تتحرك إلى مجالها، مجال الأسلوب والإبداع في التصوير، الذي يتعاون فيه العقل والخيال معًا في انتقاء الألفاظ والأساليب والصور والموسيقى والإيقاع، ليتناسب الجميع مع الغرض والموضوع والمعاني والعاطفة والمحسنات، في اتزان وتوازن بين العقل والخيال؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر في داخل النفس. فإن طغى الخيال، وانطلقت العاطفة والمشاعر والوجدان انصهرت القصيدة في تصوير أدبي ينساب كالسراب بعيدًا عن الواقع والالتزام، مسرف في الذاتية والأنانية، ومتحرّر من كل ما يشد المشاعر إلى واقعه في الأرض، فيحلق الشاعر إلى برج بعيد يملؤه التمرد والتحرر المطلق، والذاتية المسرفة والأنانية الزاهدة. وإن طغى العقل تنوعت القصيدة إلى عدة أشكال نتيجة للتحجر العقلي والإسار المنطقي، بما لا يتناسب مع طبيعة الشعر، فإما أن تكون القصيدة في أسلوب علمي يقرر القواعد والأصول، ويطلق الأحكام، ويعلن النتائج، وهو ما يطلق عليه النظم العلمي، مثل ألفية ابن مالك والبديعيات كالقصيدة البديعية لصفي الدين الحلي وغيرها. وإما شعري تقليدي أثخنته الزخارف والأثقال، وتعثَّر في الجمود العاطفي والفكري، وتجمدت فيه المشاعر والأحاسيس، في نظم يدور على ما قاله القدماء، في تقليد أعمى بلا موهبة شعرية ولا استعداد أدبي لقول الشعر، وذلك مثل الشعر قبل البعث الأدبي المعاصر على يد البارودي ومن معه. وإما محافظ "كلاسيكي" يطبق فيه الشاعر عمود الشعر العربي، لكنه في جفاف العقل ومقاييس المنطق، ويأبى أن تمتد شرايين الخيال، لتبعث فيه الحياة، ويكفيه أن يصور الحقيقة مقنعة، تأخذ مكانها من العقل لا الوجدان ولا القلب، وهذا الشعر يذهب عن قارئه بمجرد أن ينتهي لا يجد له أثرًا مثل شعر ابن عثيمين في السعودية، وشعر ابن نباتة المصري، والشيخ العطار من مصر وغيرهم.

أما إن سار العقل والخيال في اتزان ومطاوعة للفكر والمشاعر والعاطفة والواقع، جاء الشعر في تصوير أدبي يحرِّك المشاعر ويهز العواطف ويحيي الخواطر ويبعث النشاط الفكري، وبهذا الاتزان في الشعر تتحقق الغاية منه، وهي: التأثير، والاقناع معًا. وهو ما يعتمد عليه الشعر القوي الملتزم، فيؤدي دوره في الحياة، من تربية الذوق الأدبي، وتنمية الملكة الشعرية، وبناء الحياة وتقدمها، وهذا ما يجب علينا نحو الحياة والإنسان والمجتمع وقضاياه المعاصرة. والصدق الفني في التجربة يتحقق عن طريق التلاؤم بين العاطفة والخيال، والمعاني والأفكار، والموضوع والغرض، والمشاعر والأحاسيس، وبين التصوير الأدبي من ألفاظ وأساليب، ونظم وصور، وإيقاع موسيقي، وفي التلاؤم بين هذين الشطرين يتحقق الصدق الفني في التجربة الشعورية. والتجربة الشعورية عند زاهر فيها الخواطر والأساليب، والعواطف والصور، بتآزر العقل والخيال معًا على السواء في تجربة شعرية قوية، التزم فيها الشاعر بقضايا وطنه وأمته وعالمه الإسلامي الكبير، وكان من وراء ذلك دوافع في بناء تجربته، أسبغت عليها تلك الخصائص، من أهمها: الأول: حضور زاهر مؤتمرات الحجيج في جميع أقطار العالم الإسلامي في كل عام، وإن في هذا الموقف دافعًا قويًّا، ودفعة شعرية، وإثارة للوجدان والعاطفة، بما يقل شأنًا عن المواقف الشاعرية المتدفقة، التي ينثال فيها الشعر انثيالًا، ويتراسل التصوير الأدبي بالصور المتزاحمة إرسالًا، في شاعرية أخاذة، يستمد الشاعر تجربته من رافدين قويين، أحدهما: الموقف الروحي الذي يتفجّر من الوحدة الإسلامية بين الحجيج، مع اختلاف أجناسهم وألوانهم، وتباين لغاتهم واتجاهاتهم، وتدفق الجانب الروحي والنفسي يدفع إلى تدفق المشاعر، وقوة الانفعال، وإثارة الوجدان، وحمم العاطفة وبعث الخواطر. ثانيهما: إيحاء المشاعر المقدسة في مكة المكرمة، وفي منى وعرفات بما جاء في الإسلام من شعرية بناءة، وحضارة مشرفة للعالم أجمع، يدفع بالشاعر إلى بحر الشريعة الإسلامية العميق، فتنساب روافده القوية في شعره، التي تفي بالقيم الإسلامية والأخلاق القرآنية، ليناجي أمة الإسلام في ممثليها الحجيج بالعودة إليها، وتطبيق تعاليمها وقيمها، فهو السبيل الأوحد في انتصار الأمة الإسلامية على أعدائها، كما أقام السلف الصالح على هذه الأرض الظاهرة تلك الحضارة الإسلامية الشامخة، وذلك مثل قصيدة "مشاعر الإلهام"، وقصيدة "في ربا الحرمين"، وقصيدة "في مشاعر الحج" وقد مرت أمثلة منها. الثاني: روح الجندية التي بدأ بها حياته، فقد رسمت طريقه ومنهجه في الحياة، الذي يقوم على أساس من الصمود وتخطي العقبات مهما كانت شاقة، فقد قطع شوطًا طويلًا في الجندية ثم

حصل على أعلى الدرجات العلمية بعدها، حصل على الدكتوراة وأصبح أستاذًا في الشريعة، وانعكست حياة الجندية على شعره، فوجَّه غايته الكبرى إلى شعر الجهاد والحث عليه في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين، فلا يرى إلّا البارود والنار، ولذلك كانت أغراضه الشعرية تصور القضايا الإسلامية وخلود الشريعة وأمجادها في الماضي. ويذكرني هذا الاتجاه برائد البعث الشعري محمود سامي البارودي في مصر، مع الفارق الزمني بينهما، فقد كان البارودي فارسًا وجنديًّا، لكنه وجه عنايته إلى البعث اللغوي والإحياء الأدبي لإعادة اللغة العربية وآدابها إلى وجهها المشرق، الذي كان لها في عصورها الزاهرة عصر الأمجاد. واتجاه زاهر متفق مع اتجاه البارودي من حيث المنبع والمصدر والهدف، لكنه يختلف من حيث الوسيلة لا الغاية، فالوسيلة عند زاهر هي الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، وتحرير الأرض من الصهاينة واليهود؛ لتعود أمجاد الأمة كما كانت، لكن البارودي جندي فارس أعاد المجد إلى اللغة العربية وأدبها، لغة القرآن الكريم والشريعة الإسلامية ... وشتان بين الوسيلتين. وشتان بين عصري الشاعرين، فالبارودي بمعارضاته رائد البعث الشعري في العصر الحديث، وزاهر من مدرسة المحافظين التي افتتحها البارودي، يسير شاعرنا على الديباجة العربية الأصيلة وإشراق الأساليب والتزام العمود الشعري، مع تجنبه المعارضات الشعرية؛ لأن قضية الجهاد شغلته عنها، أما نصاعة الأسلوب وتحرر الشعر من قيود الزينة وأغلالها فقد كفاه البارودي مشقة معاناتها والتخلص منها، ومهَّد بذلك الطريق لمن بعده من الشعراء، ومنهم شاعرنا زاهر الألمعي، الشاعر الجندي الفارس المحافظ في تجديده1. ثانيًا: المناسبات الشعرية: من الدوافع التي أثرت في تجربة الشاعر المواقف والأحداث والمناسبات، التي تفرضها على شعره إنسانيته، ويدفعه إليها دينه وعقيدته، كحق إنساني، وواجب ديني، فالقضايا الإسلامية المعاصرة تحض الشاعر على أن يجنِّد شعره لجهاد أعداء الإسلام وهم الصهيونية واليسارية واليمينية، وأن يعود المسلمون إلى الشريعة الإسلامية، التي أقام السلف الصالح حضارتها الراسخة. وسيطرت قضية فلسطين على شعره كله، فلا تخلو قصيدة من الإيماء إليها على الأقل أو تكاد، أما التصريح بالقضية فقد جاء في قصائد كثيرة سواء أكانت القضية هي الغرض من القصيدة، أم جاءت تبعًا لغرض آخر، وسيتضح هذا عند الحديث عن الوحدة الفنية، وذلك مثل القصائد التي قالها في مؤتمرات الحجيج كل عام.

_ 1 انظر: مقدمة الألمعيات: للأستاذ عبد العزيز الرفاعي ص12/ 13.

ويحث زاهر على التعليم والتعلّم والتربية الإسلامية الفاضلة، وذلك في المناسبات التي تتصل بذلك؛ كافتتاح المعاهد العلمية، والاحتفالات التي تقام فيها، أو في مناسبات أخرى مثل الرثاء لعالم أو رائد، أو صاحب جهود في إرساء العلم وتدعيمه، مثل قصائد "مراقي الفضاء"، "نجم هوى"، "تحية المعهد"، "جحافل المجد"، "دولة الإسلام في ماضيها المجيد"، "صيحة الجهاد"، "بطولة وفداء"، "صخرة العرب"، "رائد نهضة"، "صدى المؤتمر"، "دهى الخطب"، "نجدة الإسلام"، "ترحيب وأمل"، "إشراق الأمل"، "فقيد العلم"، "تحية إجلال وتقدير"، "فقيد الإسلام"، "وحدة العرب"، "يا قادة الدين". ويحث في مناسبات أخرى على بناء الوطن الصغير والكبير، والنهوض به، والإشادة بالمنجزات التي تحققت، وذلك في قصائد كثيرة مثل: "ربوع الجنوب"، "في ربوع القصيم"، في ربوع القرعاء"، "في ذرى نجران"، "مواكب المجد"، "سد جازان"، "تحية بغداد"، "فرحة ولقاء"، "أسفر الصبح"، "أمتي"، "حمادة المجد"، "تحية نجران". لا يستريح الأستاذ عبد العزيز الرفاعي إلى المناسبات في شعر زاهر؛ لأنه يفسد على الشاعر الصدق الفني في التجربة الشعورية، فيقول: "صاحب هذا الديوان يملك النواة، وتأبى عليه عصاميته إلَّا أن يصقلها، فهو يريدها ويريد معها اهتمامات أخرى، وفي غمرة كل شواغله، لا يهمل الشعر، ولكنه لأمر ما لا يعطينا كل شعره، أو هذا ما أحسبني قد رجحته بعد أن فرغت من ديوانه، فهو يعطينا من شعره الجانب الخطابي، ... يعطينا شعر المناسبات، التي أحسبه يساهم فيها، وهو يعتقد أنه يؤدي واجبًا أدبيًّا مفروضًا تفرضه عصاميته، ويفرضه تطلعه"1. وهذا الكلام يحتاج إلى وقفة منصفة في مجال النقد الأدبي، فالناقد الرفاعي يرى أن الشاعر يعطينا الجانب الخطابي من شعره، ويفسر الخطابية بالمناسبة في الشعر بقوله: يعطينا شعر المناسبات، وهذا تفسير بعيد عن الصواب؛ لأن معنى الخطابية هو الاستطراد والحشد والتأليف بين عناصرها على أساسيين رئيسيين هما: التأثير في الجمهور والإقناع مع المناسبة أيضًا، والتأثير والإقناع إن خلا منهما الشعر يكون ميتًا لا حياة فيه، ومهملًا مرذولًا، وعلى ذلك فلا بُدَّ منهما في الخطابة والشعر على السواء.

_ 1 مقدمة ديوان الألمعيات: الأستاذ عبد العزيز الرفاعي ص7.

والحق أنَّ ما يستوقف النظر من شق واحد فقط هو المناسبة، فليست هي الفيصل بين الشعر والخطابة، وليس كل شعر جيد هو الذي خلا من المناسبات، وإلَّا لسقط شعر الفحول من شعراء العرب القدامى، وإلا لما قلد الأدب والنقد شوقيًّا إمارة الشعر، وهو المتهم من العاد من شعراء العرب القدامي، وإلَّا لما قد الأدب والنقد شوقيًّا إمارة الشعر، وهو المتهم من العقاد وغيره من شبابهم بأن المناسبة أفسدت شاعرية شوقي، ثم يرجع العقاد وزملاؤه عن هذا الحكم في مرحلة الكهولة والاتزان، وأثناء خصوماته الأدبية، ليقرر الحقيقة التي بقيت للتاريخ في شعر شوقي وحافظ فيقول: إن الخصومات حول الشاعرين كانت من حماقة الشباب1. والخطابية إذا كانت بمعنى المناسبات التي يقصدها الرفاعي لا تستلزم عدم الانفعال؛ لأن التجربة الصادقة تتفجر من موقف معين ومناسبة دافعة، وعند ذلك تكون المناسبة هي المثيرة للانفعال، ولا أدري كيف ينشد الشاعر قصيدة دون دافع أو مناسبة مفجرة، وإلَّا لما تحقق الانفعال الذي يلهب العواطف، ويحرك المشاعر والخواطر. وعلى ذلك أرى أن كلام الرفاعي بعيد عن الصواب حين يقول: "بيد أن شعر المناسبات وإن أعطى للحوادث تسجيلًا، ولصاحبه ذكرًا، إلا أن عناصر الانفعال فيه قد لا يرتقي إلى المستوى الأول المأمول، فإن شعر المناسبة تحكمه ظروف المناسبة ذاتها، فقد لا يكون مهيئًا تهيئة نفسية كافية حينما تطرأ المناسبة، فقد يمر على شاعر المناسبة أن يطلب إليه أن يقول شعرًا في عرس، بينما تكون نفسه ذاتها في مأتم، ومع ذلك فلا يملك إلا أن يستجيب"2. هذا الكلام مقبول وصحيح لو كان مجردًا عن نسبته إلى ديوان زاهر، الذي حكم الرفاعي على شعره بالمناسبات، وأشد على يديه لو كان القول مجردًا عن النسبة؛ لأن المناسبة قد تفرض على الشاعر وهو غير متهيء وجدانيًّا لموضوع المناسبة، فهذا نظم وليس بشعر مطلقًا، ولكن زاهر لم يكن كذلك، بل كان متهيئًا وجدانيًّا ونفسيًّا للمناسبة التي قال فيها شعره إذا أمعنا النظر طويلًا فيه، وعلى سبيل المثال: المرثيات التي ذكرناها، لا تجد فيها تصوير إلّا يتناسب مع الغرض من الحزن والتأسي، بل كانت الصور كلها قاتمة حزينة مما يدل على قوة الانفعال وصدق التجربة الشعرية، مع أنَّ الشاعر أنشد المرثيات في مناسبات ذكرتها آنفًا. وكذلك لو رجعنا إلى القصائد التي قالها في مناسبات العلم والتعليم وفي مؤتمرات الحجيج كل عام فعلى الرغم من هذه المناسبات تجد انفعالًا قويًّا وتجربة حية صادقة مثل قصيدة "عودي إلى درب الجهاد"، وقصيدة "في رحاب البيت"، "مشاعر الإلهام"، "ضيوف الرحمن"، "في ربا الحرمين"، "في مشاعر الحج"، وغيرها وقد مرت الأمثلة.

_ 1 الأدب الحديث: د. عبد الرحمن عثمان. 2 مقدمة ديوان الألمعيات: ص7.

ويؤيد ما اتجهت إليه من أنَّ المناسبة عند زاهر كانت مفجرًا انفعاله في معظم شعر المناسبات، وأقرَّ به الرفاعي بعد ذلك بقليل: وهو أن الشاعر كان في شعر المناسبات مدفوعًا بمشاعره الذاتية وصادرًا عن إرادته لا عن إرادة غيره، يقول الرفاعي ما نصه: "غير أني أعتقد أن صاحب هذا الديوان يشترك فيما يشترك فيه من المناسبات مدفوعًا بمشاعره الذاتية ... صادرًا عن إرادته هو لا عن إرادة سواه، وهو كثير ما يجول في ميدان أحبه وآثره هو ميدان العلم والتعليم، فلا تكاد تفوته مناسبات الحفلات التعليمية في مجاله دائمًا أن يشيد بها"1. وماذا يريد الرفاعي من الشاعر أكثر من أن يكون مدفوعًا للمناسبة بمشاعره الذاتية، هل الشعر إلا مشاعر ذاتية، ويوم أن يكون غير ذلك فلا يكون شعرًا، بأن يكون مدفوعًا بغير ذاته، أي: خارجًا عن ذاته ومنفصلًا عن مشاعره، وما اعترف به الرفاعي هنا هو نفسه ما أخذته عليه مسبقًا ومنذ قليل. وهذا نفسه هو ما رجع إليه الرفاعي في نهاية كلامه حينما تحدث عن قضية التزام الأدباء والشعراء، فيتجاوبوا مع الأحداث ومع الناس، وألا ينغلقوا على أنفسهم وذاتياتهم، وينصرفوا إلى وجدانهم، بشرط ألا يفقدوا الصدق الفني ... يقرر هذا في قوله: "ولا يجب أن ننسى أننا ندعو أدباءنا وشعراءنا أن يتجاوبوا دائمًا مع الأحداث، وأن يعيشوا مع الناس، وألّا ينغلقوا على ذاتياتهم، وينصرفوا إلى وجدانياتهم فحسب، ولكنني لا أغفل في هذا شرطًا هامًّا هو ألا يفقدوا الصدق الفني في كل أثر من آثارهم، وصاحب هذا الديوان حينما يتجاوب مع دعوة التضامن الإسلامي، وحينما يخطب شعرًا في منابر الحجيج التي يقيمها العاهل العظيم، إنما يجد في ذلك ارتياحًا حقيقًا في نفسه، ويشعر أنه إنما يؤدي واجبًا مفترضًا يجب أداؤه بقدر ما يسعه من طاقة، أو بقدر ما يستطيع أن يقدم من جهد ... ولست أشك أن هذه الأفكار الصالحة مع مرور الزمن ستكون أكثر رسوخًا في نفسه، ومع تطور شعره سيكون هو أقدر على الإفصاح عنها، والإبداع فيها". وهذا ما صنعه زاهر في معظم شعره حين التزم بقضايا عصره ولم ينغلق على وجدانه، أو يتمدد في ذاتيته وأنانيته، ولكن الذي أرفضه أن الشاعر لم يفرض عليه واجب في مناسبة ما فرضًا غير مقبول منه أو كارهًا له؛ لأنه لم يحمل على شيء يقوله من خارج ذاته وإرادته، ويؤديه بقدر ما يسعه من طاقة، فما دمت قد أيدت الالتزام عند الشعراء وفي منهج صاحب الديوان، فالمناسبة عنده هي التي فجرت الانفعال من ذاته، وانصهرت في وجدانه ومشاعره، فأخرجها

_ المرجع السابق ص7.

من ذاته وأحاسيسه وإرادته، لا من شيء خارج عن ذاته. أما الصدق الفني فقد ربطه الرفاعي بالمناسبة، فما دام زاهر قد أنشد شعره في المناسبات، حينئذ يتجرد من الصدق الفني، وينسلخ عن شعر الذات أو عن شعر العاطفة والوجدان، إلا قصيدة واحدة فقط وهي "رسالة العيد" يقول الرفاعي: "لقد قلت أن وراء شعر هذا الديوان شعرا لم نره فيه هو الشعر الذاتي أو شعر العاطفة والوجدان، وهو الشعر الذي يخرج من القلب ليصل إلى القلوب، فمن أين أثبت بهذا الادعاء؟ لقد وجدت في الديوان طرف الخيط، إنه قصيدته "رسالة العيد" فقد عاد الشاعر بعد صلاة عيد الفطر إلى غرفته وحيدا بعيدا عن أهله وخلانه.... يشكو الغربة والوحدة فلا أنيس ولا زائر ... وهي قصيدة جميلة تنساب في رقة بلا تكلف ولا افتعال.... "1. لا أنكر على الرفاعي أن رسالة العيد شعر وجداني عاطفي، وبالتالي لا أنكر الصدق الفني فيها، فهذا ما لا يقبل الإنكار، أما الذي يحتاج إلى تأمل وهو أن الصدق الفني يساوي شعر الوجدان فقط، بل شعر الوجدان غرض من أغرض الشعر، والشعر الإسلامي الذي قيل في مؤتمرات الحجيج غرض من أغراض الشعر، والرثاء كذلك ... وهكذا بقية الأغراض عند الشاعر. وعندي أن الأغراض كلها لا تصلح ولا تسمو إلى مواطن الجودة إلا بالصدق الفني بين التجربة الشعورية وبين التصوير الأدبي لهذه التجربة، وقد تكون التجربة وجدانية أو التزمت بقضايا المجتمع، لكن الجودة ترتبط فيها بالصدق الفني، هذه ناحية. وناحية أخرى وهل شعر الوجدان فقط هو الذي يصل من القلب إلى القلب، وماذا نقول في الشعر الإسلامي، الذي نبع من تجربة صادقة في عاطفة ملتهبة مثل بردة البوصيري، ونهج البردة لشوقي، هل مثل هذا الشعر لم يخرج من القلب إلى القلب، مع أنه لم يكن شعرا وجدانيا؟ !! لكن الحق أن البردة ونهجها لا زالت تهتز لها أعماق القلوب، وكذلك الأمر في شعر زاهر الإسلامي مثل قصيدة "مشاعر الإلهام"، "في رحاب البيت"، "في مشاعر الحج"، وغيرها، فقد عبر فيها الشاعر عن تجربة صادقة قوية تهز أعماق النفس، وتتفتح لها جوانب القلب. وناحية أخرى وهي أن قصيدة "رسالة العيد" لم تكن وحدها هي الشعر عند زاهر، ولم تكن هي الخيط الرفيع الذي يدل على موهبة الشاعر وأصالته الشعرية، بل لديه قصائد كثيرة تدل على ذلك منها معظم القصائد التي قالها في مؤتمرات الحجيج مثل "دعوى إلى درب

_ 1 المرجع السابق: 11/ 12.

الجهاد" وقصائد الرثاء مثل "فجيع الأيام"، وقصيدة "زلة القول" فهي من شعر الطبيعة الذي ينبع من وجدان مفعم بالحب لأبهان ولتوازنها بقصيدة "رسالة العيد" لتكون هي الثانية وليست الوحيدة في نظر الناقد، عند ذلك يكون في شعره أكثر من خليط يدل على موهبته، وسنذكر القصيدتين حتى نلحظ مدى القوى فيهما معًا، لا في رسالة العيد فقط، يقول زاهر في "رسالة العيد"1: يا عيد بلغ أسرتي وبلادي ... أزكى تحياتي وشوق فؤادي وانقل لهم يا عيد وصف مشاعري ... وأين لهم من لوعتي وودادي أنا في الرياض وحال دون أحبتي ... شرف من الواحات والأطواد والقلب ملتاع بحارق لوعة ... والعيد عيد الأنس والإسعاد لكني أنسى أن أكون ببلدة ... لحقت بها الأعياد بالأعياد بلد بها للمكرمات منارة ... وهاجة بمفاخر الأجداد تمشي طيوف الشعر بين جوانحي ... خفاقة الرايات والأعتاد فتهزني شوقا إلى تلك الذرى ... بمعاقل شماخة الأنجاد وبها شراة قد تأصل مجدها ... واستوطنت في ذروة الآساد يمتد طرفك من مشارف "تهلل" ... فيرى الربا منداحة الأبعاد في ربوة "الشعبين" في "واد حلى" ... في رأس "غمرة" موطن الأصياد حي المعاقل والربوع ومن بها ... بلد الجمال وجنة المرتاد أنا لا أزال أقيم في أرض بها ... جسمي وفي أخرى يهيم فؤادي ما زلت في لوعات شوق حارق ... وتطلع وترقب وجهاد فأزف أشواقي إلى بلد بها ... قومي وفي ذرواتها أولادي وأزفها من قلب نجد نفحة ... فاح العبير بها مدى الآباد2 وأما قصيدة "زلة القول" فقد ذكرتها ولنعد قراءتها مرة ثانية في مجال الموازنة مع هذه القصيدة، تجد أن الصدق الفني في القصيدتين يكاد يكون واحدًا.

_ 1 الألمعيات: 79/ 81. 2 تهلل جبل يشرف على مدينة رجال ألمع، الشعبين: حاضرة رجال ألمع، وادي حلى يحتضن معظم السهول بها: غمرة جبل مرتفع آهل بالسكان - الاصطياد جمع أصيد وهو القوي الشجاع.

ثانيًا: الألفاظ والأساليب زاهر الألمعي شاعر من شعراء التجديد المحافظ الذين يتخذون العمود الشعري منهجًا وطريقًا في شعرهم، فيحافظ زاهر مثلهم على الأوزان الخليلية، ويحافظ على القافية الواحدة، التي يلتزمها في القصيدة كلها، وتراه لا يخرج عن ذلك في شعره، فلا يعرف الشعر الحر، ولا شعر التفعيلة، ولا الموشَّحات، ولا المقطعات، ولا غيرها، مما يخرج عن العمود الشعري القديم في الوزن والبحر والقافية، والأمثلة على ذلك شعره كله في ديوانه. وكذلك الشاعر يحافظ على العمود العربي في الألفاظ والأساليب وبناء التراكيب، فينتقي من الألفاظ ما هو جزل قوي وعذب ينساب إلى الشعر في قوة واقتدار، ويقيم الأسلوب بإحكام ودقة، بلا تعقيد ولا ألغاز، بل تجد المعاني ساحرة، والأفكار واضحة مكشوفة لا تحتاج إلى كبير عناء في تحصيلها، ولا إلى مشقة في الوصول إلى الغرض منها، ولذلك كان شعره واضحًا لدرجة أنَّ الرفاعي حكم عليه بالخطابية، ومن صفات الخطبة أن تكون واضحة، تصل إلى السامع في يسر وسهولة، ولذلك كان من أهم خصائص الأسلوب عنده: الأولى: جزالة الألفاظ وإحكام التراكيب، وسبك الأسلوب مع وضوح الدلالة على المعنى والغرض بلا جهد أو أدنى تأمل، لا يحتاج معه القارئ إلى معجم يفسر الغموض في الألفاظ أو الأسلوب، والأمثلة على ذلك شعره كله، يقول في قصيدة "مواكب المجد"1: يمضي الزمان وتخلد الأمجاد ... والمجد صرح بالجهاد يشاد والمجد منطلق على درب الهدي ... تسمو به القادات والأجناد تأبي الأشاوس أن تدين لغاصب ... أو أن يطوف عرينها مصطاد هي كالجبال الراسيات شوامخ ... تهفو لها الأرواح والأجساد وإذا التقى الجمعان كان قوة ... تعنو لها الأغوار والأنجاد ويقول في قصيدته "عودي إلى درب الجهاد"2: المسجد الأقصى وخفق حشاشتي ... منه ونبض تألمي وترنمي ما بين نغمة شاعر إيمانه ... حبي ووثبة ثائر متجهم لكنه جهاد عادل متطاول ... فتأهبي يا أمتي وتقدمي في فيلق صاروخه عزماته ... بالله يقصف كالقضاء المبرم

_ الألمعيات: 63. 2 على درب الجهاد: 16/ 17.

يا قادة الإسلام ما زالت جراح ... القدس في الأمان راعفة الدم فتشبثوا بالله والتزموا التقى ... وثبوا على الأعداء وثبة ضيغم لا ترهبوا خوض المعامع إنها ... مهر العلا في نصرنا المتحتم الثانية: أقام الأسلوب في شعره على ألفاظ تعبر عن بيئة الشاعر التي عاش فيها، في جنوب المملكة العربية السعودية، كما في قصيدته "في ربوع القرعاء"1، وقصيدة "في ذرى نجران"2: تسامى في ذرى "نجران" وفد ... جدير بالوفا والمكرمات وقل ما شئت من أخبار قوم ... ففي "الأخدود" أنواع العظات فإن يأن لموكبكم رحيل ... "لأبها" حيث زهر الطيبات وجو ساحر ورياض نبت ... مطرزة بوشي خيرات فعرجوا في ضواحيها ومروا ... جبال "السودة" المتبخرات فالموقع نجران، والأخدود، وأبها، والسودة، كلها من بيئة الشاعر في الجنوب، وكذلك الألمعيين، وتهلل، وتوالب، كلها من بيئة الشاعر في قصيدة "خواطر" 3، وقصيدة "في ربوع الجنوب"4، وقصيدة "سد جازان"5، وقصيدة "زلة القول"6، وقصيدة "تحية نجران"7، وقصيدة "فوق أرض الجنوب"8، وقصيدة "تحية الفهد"9، وقصيدة "سد أبها"10. الثالثة: ومن خصائص الأساليب شيوع ألفاظ تدل على عالمه الإسلامي الكبير في قضاياه المعاصرة قديمًا وحديثًا، فمن عالمه الإسلامي القديم ألفاظ كثيرة مثل بدر، وحطين، واليرموك، والقدس، ويذكر السلف الصالح من كبار قواد المسلمين مثل سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة، وطارق بن زياد، وغيرهم من قواد المسلمين الذين أقاموا الحضارة الإسلامية في جهادهم وكفاحهم.

_ 1 الألمعيات: 49. 2 الألمعيات: 51/ 53. 3 الألمعيات: 57. 4 الألمعيات: 23. "5، 6، 7" الألمعيات: 63، 146، 149. "8، 9، 10"، على درب الجهاد: 63، 83، 179

وفي عالمه الإسلامي الحديث يذكر ما وقع للمسلمين في جميع العالم من بلاء وحرب من أعداء الإسلام، فيذكر غزو باكستان وزنجبار والفلبين والقدس وغيرها، يقول في قصيدته "في مشاعر الحج": قد اجتاح "باكستان" غزو مدمر ... يسانده الإلحاد والشرك والكفر وقد روعت في "زنجبار" ضمائر ... وأزهقت واستفحل القهر وعاثت على أرض "الفلبين" عصبة ... فلم يبق للإسلام في أرضها أمر وظن الورى في مجلس الأمن نجدة ... فلم يغن منه لا هراء ولا هذر وإذا ما اعتلت في الصين صيحة مسلم ... تجاوب في أم القرى البيت والحجر ودوت أرجاء الرباط استجابة ... وهبت لها بغداد وانتفضت مصر1 رابعًا: الخيال وخيال الشاعر يمضي فيه على نسق عمود الشعر العربي في معظم صوره من تشبيه واستعارة وكناية، وغيرها من وسائل التصوير الأدبي، مثل قوله: لنا إخوة في الدين عاث بها الضنى ... تمد عنان الصوت من ذا تجاوبه فيا قادة الإسلام لموا جراحها ... وكونوا لها ردءًا تهاب جوانبه ويا فيصل الإسلام أحكم شباكها ... وجرد لها غصبًا توقد لا هبه فمن لازم الإقدام في ساحة الوغى ... تناهت إلى المجد الرفيع تجاربه فالاستعارات والكنايات هنا قديمة على النمط الذي جاء في الشعر العربي القديم، وهذا على سبيل المثال، ولنرجع إلى ما ذكرناه من شعر لتجد الصور موصولة بمنبعها الأصيل من الخيال العمودي. وإذا نشط الخيال حينًا عند زاهر، منح بعض الصور الجزئية الأدبية من شعره ثوبًا جديدًا، وبعث فيها روح عصره الجديد، فتتماوج فيها ألوان من النشاط الإنساني الحي، وترقرقت في جوانبها ظلال من الثقافات المعاصرة، وانسابت في مجاليها روافد العصر ومقتضياته، وتسطرت على صفحاتها الثقافة الجديدة، ونبضت شرايينها بما يموج في الحياة من التقدم العلمي والحضاري، وذلك مثل بعض الصور التي جاءت في قصيدته "مراقي الفضاء" منها2:

_ 1 على درب الجهاد: 150. 2 الألمعيات: 17/ 19.

زمجر الركب في مراقي الفضاء ... واعتلى الفكر شامخًا بالضياء وانطوى هيكل الدياجي فباتت ... شعلة النور راية النجباء ليت شعري من أي برج أطلت ... أنجم الكون والعلا والبناء ليت شعري من أين منطلق النور ... الذي كان آية في البهاء إن إشعاع دعوة الحق قد شاء ... الإله خلوده في البقاء خيال ترى في صوره الأدبية نبضات التجديد، وروح العصر، فسفينة الفضاء التي زمجرت في الكون صورة متحركة توحي بالتقدم العلمي في مراقي الفضاء، وتشف عن روح العصر التي حلقت في أدبنا المعاصر، والفكر الذي تجسم شامخًا في الفضاء يفيض بالتقدم والنهضة الحديثة، ونور العلم لون من ألوان الحضارة العلمية والتجريبية المادية، التي تمثل عصر الشاعر، وسفينة الفضاء التي شعشعت بنور العلم في الدجى، ورفرفت براية التقدم الإنساني في مدارج الفضاء كالشعلة الوهاجة التي تطوي الظلام والدياجي طيًّا سريعًا خاطفًا. والشاعر يناجي نفسه ورواد الفضاء، ليقفوا على مواطن أبراج النجوم وحقيقتها في الكون، ما دامت السفينة تبحث عن حقائق الفضاء، لا عن حقائق الأرض، ويسائلهم أين مصدر النور في الوجود الذي ما زال آية في البهاء؟ ثم يجيب الشاعر عن مصدر النور الحقيقي، إنما هو في شريعة الإسلام وهي حق، وأساس الحقيقة، والدعوة الخالدة التي أراد الله لها أن تبقى إلى قيام الساعة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . صور جزئية تسري فيها روح التجديد المنساب من روح التقدم العلمي والانطلاق الفكري في العصر الحديث، ولكن الشاعر ما زال مرتبطًا بقيود الخيال القديم في هذه القصيدة تطل صوره من حين إلى آخر مثل. زمجر، وهيكل الدياجي، وشعلة النور، وأنجم الكون، ومنطلق النور، وآية في البهاء، وهكذا. أما عناصر التصوير الأدبي من حركة ولون وحجم وشكل وغيرها تموج بين حنايا الصور، فالحركة العنيفة والسريعة للسفينة تندفع من الزمجرة والمراقي والاعتلاء والشموخ، وانطواء الهيكل، والإطلال، والمنطلق وغيرها، واللون يشع بأطياف الأمل والتقدم في مراقي الفضاء، واعتلاء الفكر وشموخه بالضياء، وشعلة النور التي تطوي هياكل الظلام، وأنجم الكون والعلا والبناء، ومنطلق النور وآية في البهاء، وإشعاع دعوة الحق، والخلود في البقاء، كل هذه الصور تموج بألوان التقدم والرقي والحضارة والأمل في تحقيق السعادة للإنسان في العوالم الأخرى لا في الأرض فحسب. أما عنصر الحجم في التصوير الأدبي هنا فيتحدد في السفينة التي تحتضن رواد الفضاء وتسبح كالذرة في مراقي الجو، فتقف على أحجام الأبراج والنجوم؛ لأنها أقرب إليها من أهل

الأرض، كما أن حجم دعوة الحق تملأ الفضاء وتسد الآفاق، وشتان بين الحجمين، سفينة كالذرة في الكون، ودعوة باتساع الكون كله. وأما عنصر الشكل هنا في الصور، فتمتد فيه خيوط السفينة لترسم الغاية منها وهي الجانب المادي فقط لإسعاد الإنسان؛ حيث يبحث عن أرض جديدة بعد أن ضاقت عنه أرضه، وخاب ظن الذين يرون السعادة في الجانب المادي وحده، بل هي في الإسلام دعوة الحق لتكون الغاية منها هي الخلود والبقاء، وشتَّان بين الشكل المادي الزائل في سفينة الفضاء وبين الشكل الخالد والباقي في دعوة الحق في الإسلام. ومن الصور الأدبية التي دبت فيها روح العصر قوله في القصيدة السابقة يحث المسلمين على التمسك بشريعتهم، فهي المعين الخالد الذي لا يفنى ولا يتبدل، بينما العلم الذي وصل إليه علماء الفضاء قد يتبدل ويتغير تبعًا لطبيعة العلوم التجريبية التي تختلف من عصر إلى عصر حسب حاجات الإنسان ومقتضياته، وظروف حاضره ومتطلباته، يقول1: أيها المسلمون قد أصبح اليوم ... شعاعًا مبشرًا بالهناء فارتقوا في معارج المجد وابنوا ... من صروح السلام نهج إخاء وابتنوا في ذرى الأماجد صرحًا ... تعتلى فيه دوحة السعداء تصعد القادة العظام وتزجي ... أممًا في مواكب العلياء فترى العلم عندها بمكان ... لا ينال ببيعها والشراء إن للعلم دولة لا تسامي ... قد حداها فطاحل العلماء فانهلوا من معين عذب زلال ... لا تغيض فيوضه بالفناء منهل يطوي الليالي ويبقى ... متعة للنفوس للنبلاء يا رجال الإسلام أحيوا علومًا ... من تراث مهذب الآراء جددوا في العلوم من كل فن ... واستنيروا بشرعة الأنبياء سبقتنا إلى الفضاء شعوب ... واستطارت على ذرى الأرجاء وغزى عالم الفضاء فدوَّى ... صوتها في مرابع الكبرياء فبنو الشرق يفخرون بما قد ... حققوه من موجبات الرخاء وبنو الغرب قد تباهوا بعلم ... سخروه في غزوهم للفضاء شرعة الله أن نعيش كرامًا ... وبنور ترقى ذرى الكرماء

_ 1 الألمعيات: 17/ 19.

ومن الصور التي أخذت ثوبًا جديدًا أيضًا تصوير العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، يقول من قصيدة "جحافل المجد"1: فلاذت بأذيال الفرار وإنها ... لتشبه قردًا فر من أعسر اليد وما زال فينا قوة وعزيمة ... تصون بها الأبطال في كل مشهد فالشاعر يصور حربًا حديثة على أمة إسلامية عربية، تصدت في شجاعة وقوة لدولتين كبيرتين آنذاك، ومن ورائهما صنيعة الاستعمار إسرائيل، لكنها دافعت في شجاعة وبسالة بقليل من العتاد والسلاح، فلاذ العدوان الثلاثي بالفرار كما يفرّ القرد من الرجل المجرد من السلاح؛ لأن العزيمة والقوة التي أشادتها الشريعة الإسلامية هي سلاح الأبطال في كل معركة من معاركنا الإسلامية والعربية. وصورة جديدة أخرى غذيت بروافد جديدة من روح العصر وتياراته المعوجة التي حادت عن المنهج الإسلامي المستقيم، يقول في قصيدته "دعوى إلى درب الجهاد"2: شغلتهم الثارات فيما بينهم ... وتنكبوا نهج الصراط الأقوم هذا يميني ورجعي، وذا ... حزب اليسار يقال عنه تقدمي بئس التهاتر ضاع في غمراته ... أمل بوحدة صفنا المتثلم هذه الأمة الإسلامية الواحدة قد مزقتها التيارات المعاصرة والمعادية للشريعة الإسلامية، وأصبحت أحزابًا متصارعة متطاحنة على حساب أمتها الإسلامية ولمصلحة أعدائها، فأصبحت بعض الشعوب توصب بالرجعية والتخلف في نظر الأعداء، حتي يكون ذلك منفذًا لطعن الإسلام وصرف أهله عنه، فيلهثوا وراء مدنيتهم الزائفة. وبعض الشعوب الأخرى تجر أذيال المعسكر اليميني الغربي، والبعض كذلك عميل للمعسكر الأوروبي الشرقي اليساري.. صراعات حزبية بين أبناء الأمة الواحدة، ومهاترات تموج بالعداء والتمزق بين العالم الإسلامي، مما يؤدي إلى تبديد صفوفها، وتصدع وحدتها، فلا مكان لدولة ممزقة، ولا لشعوب متفرقة في عصر التكتلات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، فقد توحدت لهدف مشترك دول غرب أوروبا في السوق الأوروبية المشتركة لتواجه القوى في العالم، وبالأمس القريب كانت تموج فيما بينها الصراعات والعداوات، ولو ظلت كما كانت لذلّت لإحدى القوتين العظميين روسيا وأمريكا، التي التقت مصالحهما المشتركة اليسارية واليمينية في

_ 1 الألمعيات: 55. 2 على درب الجهاد: 15.

هدف واحد وهو توحيد ضد الأمم الممزقة الضعيفة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ومن الصور الجديدة أيضًا قوله1: لا مجد للعرب ما دامت حناجرهم ... في كل أمر تنادي هيئة الأمم وكذلك الصور التي سبق ذكرها؛ حيث صوَّر الشاعر حرب باكستان وزنجبار وكشمير والقدس والفلبين، وصوَّر مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وردت في قصائد كثيرة. والجديد في هذه الصور كلها يرجع إلى أنها استمدت روافدها من روح العصر، وتجاوبت مع تياراته الحديثة والقضايا الراهنة؛ لأن زاهر يعيش مع الأحداث بعقله ووجدانه، ويصورها بقدر ما تمده مدرسته المحافظة، والتي يأبى أن يتزحزح عنها إلّا قليلًا، لذلك كان زاهر من الشعراء المجددين المحافظين في شعر الجنوب خاصة، وفي الشعر السعودي بصفة عامة. خامسًا: الوحدة الفنية من القيم النقدية التي لا بُدَّ منها في الشعر الجيد حديثًا هي الوحدة الفنية، وهي تقوم على التلاؤم والانسجام في العمل الأدبي بين عناصر القصيدة كلها، وبين أركانها، فتتآلف الألفاظ والأساليب وصور الخيال والإيقاع والموسيقى مع التجربة الشعورية والعاطفة والوجدان والمعاني والأفكار التي تنمو داخل الغرض الأدبي من القصيدة. وعلى ذلك فالوحدة الفنية تستلزم الوحدة الموضوعية، والوحدة في الغرض من القصيدة، حتى يتمّ التلاحم والتلاؤم بين المضمون والشكل، ولذلك نجد تناقضًا فيها للقصيدة التي تحتوي على غرضين، فالغرض الأول عند الموهبة الشعرية يأخذ شكلًا وأسلوبًا وتصويرًا وعاطفة يختلف عنه الغرض الآخر في الشكل والأسلوب والتصوير والعاطفة. والوحدة الفنية في شعر زاهر قد اتخذت اتجاهين، فبعض القصائد قد التزم فيها الشاعر بالوحدة الفنية، فاشتملت على موضوع واحد من المطلع حتي النهاية، والبعض الآخر قامت القصيدة فيه على غرضين أدبيين، لا غرض واحد، مما يضطر الشاعر أن يزاوج في التصوير حسب اختلاف الغرض بما يتناسب مع كل غرض. الاتجاه الأول: تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، وخاصَّة في ديوانه الثاني "على

_ 1 على درب الجهاد: 42.

درب الجهاد"، فنرى بعض القصائد اشتملت على مقدمات غزلية في المطلع أو في الخاتمة، فمن المقدمات الغزلية التي أخذت موقعها من المطلع قصيدة "عودي إلى درب الجهاد"، بدأها الشاعر بالغزل العفيف الطاهر، ثم انتقل إلى غرض آخر وهو الجهاد في سبيل المسجد الأقصى، ويحذر المسلمين من انشقاقهم إلى أحزاب متصارعة من يمينية ويسارية ورجعية، يقول في المطلع1: عودي فذكرك بالثناء على فمي ... ومكان حبك من فؤادي في دمي وتذكري محض الوداد أبثه ... لحنًا فيحلو منك طيب ترنم حتى إذا ندت طيوفك وانبرى ... حبي يثلم بالصدود ويرتمي أحجمت لا أرضى ببذل مودتي ... إلّا لمؤتلق المناقب أكرم وهكذا يصور الشاعر غزله العفيف في سبعة عشر بيتًا إلى أن يقول: ثقتي تقول بأن ليلى برة ... وغدًا سترجع والفؤاد لها ظمي ولسوف يجمعنا الجهاد ونلتقي ... ويضمنا ورد لمنهل زمزم ويرمز الشاعر بليلاه إلى الوحدة الإسلامية الكبرى التي ينشدها في شعره؛ لتكون الأمة صفًّا واحدًا لمواجهة عدوها اللئيم، وتحرير المسجد الأقصى من بين أيديهم، ثم يتسلل في هدوء وانسياب بعد أن مهَّد للغرض في البيتين السابقين ليبدأ الغرض الأساسي من القصيدة فيقول: المسجد الأقصى ويا لإهابة ... حرّى مضرجة تحشرج في فمي خجلًا وحزنًا من مواقف معشر ... من مأثم يتخبطون بمأثم شغلتهم الثارات فيما بينهم ... وتنكبوا نهج الصراط الأقوم وكذلك قصيدته "مشاعر الإلهام" ابتدأها بمقدمة غزلية، فاشتمل المطلع على الغزل الطاهر في تسعة عشر بيتًا يقول2: طلعت فلاح اليمن في طلعاتها ... وبدا جمال الورد في وجناتها وسرى النسيم على مشارف ثغرها ... تتضوع الأرجاء من نسماتها ورنت بألحاظ الجفون نواعسًا ... تتراقص الأطياف في ومضاتها فتبسمت عن ثغر حسن باسم ... فشقائق الأكمام من بسماتها

_ 1 على درب الجهاد: 11/ 14. 2 على درب الجهاد: 29/ 33.

وهكذا يصور فتاة أحلامه في غزل عفيف طاهر، يشف عن روح المؤمن ومنهج المسلم، حينما يعبِّر عن غريزة النفس وهي الحب، يعبر عنها في تصوّن وطهر وعفة، لكي يمهد للغرض من القصيدة فيقول: لكن أطيافي وإن جنحت بها ... فتن الجمال تعف عن زلاتها وتتوق أشواقي إلى سنن الهدى ... فمشاعر الإلهام في رحباتها ثم ينتقل إلى الغرض من القصيدة وهو الإشادة بالرسول الأعظم ورسالته الخالدة، فيعبِّر عن مشاعر الحب الصادق للرسول -صلى الله عليه وسلم، وعن حبه للرسالة الخالدة، فيقول في ثلاثة وعشرين بيتًا1: تمتد آفاقي وترقى همتي ... سبل الجهاد أخوض في غمراتها ويشدني حب النبي محمد ... من شاد بالسمحاء مجد دعاتها يا من حملت أبر قلب في الورى ... وأعز نفس جانبت شهواتها تهفو إليك قصائدي ومشاعري ... في ظل هديك واصلت رحلاتها وهكذا يستمر الشاعر في تصويره للغرض إلى آخر القصيدة. وبتعدد الغرض يختلف التصوير الأدبي حسب كل غرض، فتصوير الغزل له اتجاهه وأسلوبه وألفاظه وصوره، وتصوير الحب الصادق للرسول العظيم ولرسالته الخالدة له ألفاظه وأسلوبه وصوره واتجاهه الذي يتناسب معه، ومن هنا تتمزق الوحدة الفنية في القصيدة الواحدة تبعًا لتعدد الأغراض فيها. فإذا ما تأملنا مطلع هذه القصيدة في الغزل العفيف نرى الرقة في اللفظ، والحلاوة في الأسلوب، والسحر في التصوير، والتراقص للأطياف، وابتسام الثغور، وجمال الورود في وجناتها، وشقائق النعمان في بسماتها، وغير ذلك من الصور التي تتناسب مع الغزل، وإن كان هنا عفيفًا طاهرًا، لا ابتذال فيه ولا قبح، وكيف لا وهو مطلع لموضوع طاهر ورسالة خالدة. وحينما ينتهي الشاعر إلى الغرض الأساسي من القصيدة يتخذ اتجاهًا آخر، وطريقة في التصوير الأدبي لهذا الموضوع، ولذلك تنعدم الوحدة الفنية بين المطلع وبين الغرض الأساسي الذي اقتضى من الشاعر أن يصوره بمنهج آخر يختلف عمَّا سبق فترى قوة في الألفاظ وجزالة في الأسلوب، وفخامة في التراكيب، مثل "امتداد الآفاق"، "وارتقاء الهمة إلى سبل الجهاد"، "خوض الغمرات"، "ويشدني حب محمد"، "من شاد بالسمحاء

_ 1 الديوان السابق: 33/ 37.

مجد دعاتها"، وهكذا يكون التصوير الأدبي إلى نهاية القصيدة بما يتناسب مع النبي العظيم -محمد صلى الله عليه وسلم، ومع رسالته القوية الخالدة. وعلى النمط المتنوع في الموضوع والغرض لا يمكن أن تتحقق الوحدة الفنية في القصيدة؛ لأن وحدة الموضوع والغرض لم تتحقق فيها. والذي ينبغي ألَّا نغمط حق الشاعر فيه، أنه يحاول في قصيدته المتعددة الأغراض ألَّا يهبط بالغزل إلى الإسفاف والسفور المرذول، كما هو معروف في الغزل عند الشعراء القدامى والمحدثين؛ لأن الشاعر يدرك تمامًا الشرف في الغرض الثاني، فلا بُدَّ أن يكون هناك اتساق وتلاحم على نحوٍ ما مع المطلع بما يتناسب مع هذا الغرض، ولذلك لم يجد الشاعر بدًّا من أن يعبر عن طبيعته وعن خلقه الإسلامي، فيصور الحب وهو غريزة إنسانية في مظهرها اللائق بالمؤمن الحق، ويخلق المسلم كما ينبغي أن يكون. ولهذا السبب لا يدرك القارئ كثيرًا في القصيدة عنده أنها قامت على غرضين، لصعوبة الفصل بين المطلع في الغزل العفيف الطاهر، وبين الغرض الأساسي الشريف، فكلاهما يعبر عنفس شفافة مؤمنة هذبتها شريعة الإسلام بأخلاقه السامية. وكذلك تعدد الغرض في قصيدة "في ربا الحرمين"، فاستهلَّها بمطلع في الغزل العفيف مع ليلاه في خمسة أبيات يقول1: سرى في هجعة المسرى تسامي ... وترمق في تطلعها المراما وكأن الشوق يحدوها ابتهاجا ... ويذكي في مشاعرها الغراما وفي جنباتها تمشي طيوف ... كأطياف المحب إذا استهاما فقلت لها وفي نبرات صوتي ... وداد، أين أزمعت المقاما فقالت: في ربا الحرمين أشدو ... أناجي البيت والبلد الحراما ثم ينتقل إلى الغرض من القصيدة، فيصور المآسي التي مزَّقت صفوف المسلمين وفرقت شملهم، فهبَّت رحى الخلاف والتنازع بينهم، مما يمزق قلب الشاعر، ويدمي مشاعره، ولا يجد سبيلًا أمامه إلَّا أن يحث المسلمين وهو في "منى" في هذه الأيام الطاهرة، يحثهم على التمسك بالشريعة والسير على منهجها، ونبذ الخلاف والنزاع حتي يعودوا صفًّا واحدًا في جسم الأمة الإسلامية، فيقول في تسعة وثلاثين بيتًا:

_ 1 على درب الجهاد: ص97.

وعند الركن تنحسر الخطايا ... ململمة حوائجها انهزاما فتنشرح الصدور بطيب ذكر ... أماط الكرب عنها والقتاما سأعشق موطن القربى وإني ... على حب القداسة لن ألاما وكذلك في قصيدة "تحية المغرب العربي"، استهلَّها الشاعر بمطلع غزلي عفيف في ثلاثة عشر بيتًا يقول1: عبقت بالنشر في أسنى مكان ... وبدت شماء في أفق الزمان وتهادت بين أزهار الربا ... غضة هيفاء كالدر المصان قلت يا حسناء إني مفعم ... بوداد يتنامى في كياني إلى قوله: وانبرت ترهف سمعا كالذى ... في الذرى يشتف أطياف الجنان نظرت حينًا وقالت: إنني ... ألمح الموكب خفاق الجنان فإلى المغرب تنساب الرؤى ... فتخطى شوقنا شمّ الرعان وهنا ينتقل إلى الغرض الأساسي من القصيدة التي يعبر فيها الشاعر عن حبه الصادق للعرب، والمغرب البلد الإسلامي الشقيق، وعن الإيمان العميق بالأخوة العربية الإسلامية، ثم يربط ذلك بحضارة الإسلام في الأندلس؛ حيث كانت المغرب نقطة انطلاق الجيش الإسلامي في الأندلس بقيادة طارق بن زياد، وذلك في ثمانية عشر بيتًا، يقول2: أيها المغرب يا رمز الفدا ... يا عرين الدين والمجد المصان لك من قومي تحيات الوفا ... لك من أرض الهدى غر الأماني أنا في الشرق وفي الغرب معًا ... ديني الإسلام والفصحى لساني نحن من بغداد من أم القرى ... من دمشق الشام أو من قيروان وحد الإسلام من راياتنا ... وبنانا للدنى خير كيان نحن في المغرب في مهد العلا ... معقل الأبطال في يوم الطعان وهكذا إلى آخر القصيدة.

_ 1 على درب الجهاد: 109/ 111. 2 الديوان السابق: 111/ 115.

وتعدَّد الغرض أيضًا "من قصيدة حرب رمضان" في مطلع غزلي عفيف يضم ثمانية أبيات يقول فيها1: تثنت أمامي وهي لا تعرف الخطبا ... وقالت: لهيب الحب في القلب قد شبَّا تثنت بأعطاف وألوت بمعصم ... ورنت بأنغام لتأسر لي قلبا فكانت كغصن البان لامس فرعه ... نسيم الصبا فاهتز من أنه عجبا إلى قوله: فلا تمتطي صهو السفاهة والردى ... ولا تركبي في الحب مركبه الصعبا وكوني مع الأحداث سبرًا لغورها ... إذا انتظمت سلمًا أو اشتعلت حربًا فلما أفلحت في موكب المجد أمة ... إذا لم يكن درب الجهاد لها دربًا ويتسلل إلى الغرض فيقول حتى نهاية القصيدة: أتلك رحاب القدس ضجّت فروعت ... قلوبًا وأزجت في ضمائرها رعبًا أما قصيدة "في رحاب البيت" فيستهلها بالغرض الأساسي من القصيدة وهو الإشادة برسالة الإسلام الخالدة، وأثرها العظيم في الفتوحات العظمى وقهر الفرس والرومان، ثم أشاد بانتصارات المسلمين في حطين وذات الصواري؛ ليحث المسلمين في هذا العصر على استعادة مجد الآباء والأجداد، يقول في ثلاثة وعشرين بيتًا2: أرى في رحاب الله منطلقًا رحبًا ... يضم شتات الشمل مؤتلفًا خصبًا وقد عظمت لله في مسمع الدنا ... شعائر ما زالت لوحدتنا قطبًا فبالأمس قد لبت جموع غفيرة ... وشدت وثاق العزم وانطلقت وثبًا إلى آخر الغرض، ثم يختم بليلاه في غزل عف طاهر3: وما شمت من ليلاي إلّا تحفزًا ... لترقى سماء المجد أو تبلغ الشهبا فبوركت يا أرض القداسة والهدى ... ولا زلت ميدانًا لآمالنا رحبًا ولم تكن المطالع الغزلية وحدها هي التي زاوجت أغراضه الأدبية، ولكن هناك غرضًا آخر كان يتسلل من حين إلى آخر في أغراضه خلال قصائده، وهو "تحرير القدس"، وكثيرًا ما نجد

_ 1 على درب الجهاد: 161/ 162. 2 على درب الجهاد: 20/ 24. 3 الديوان السابق: 25.

هذه القضية تسيطر على عقل الشاعر وحسه ووجدانه، فنراه ينظم القصيدة لغرض معين، ولأدنى ملابسة تنفجَّر شاعريته بقضية الساعة، وهي إعادة المسجد الأقصى إلى المسلمين، وكانت هذه الظاهرة في الديوانين، وأحيانًا يكون الغرض من القصيدة عامًّا يشمل القضية، فتندرج تحتها، ولا تعد غرضًا ثانيًا؛ لأن الموضوع يشملها، وحينئذ فالوحدة الفنية لا تفارق القصيدة، وذلك في مثل قصيدة "الحج الأكبر"1، فالغرض هنا يشمل أشتاتًا من الموضوعات تدخل تحت كلمة "مؤتمر"، وبهذا يأتي الشاعر بقضية فلسطين وتحرير القدس، ولا لوم عليه؛ لأن الموضوع عام تدخل فيه القضية. وكذلك قصيدة "من رحاب البيت"2، وفيه تلتقي الشعوب المختلفة، ولكل شعب قضيته، ومن بينها شعب فلسطين، فهو يدخل في موضوع القصيدة. وكذلك قصيدة "أم القرى ص82 الألمعيات"، وقصيدة "فرحة ولقاء ص95 الألمعيات"، في تحية الجيش السعودي الذي يعتبر القدس قضيته المعاصرة، وقصيدة "حماة المجد ص137 الألمعيات"، ومثل قصيدة "ضيوف الرحمن ص76 على درب الجهاد"، ومنهم أبناء فلسطين، وغيرها من القصائد التي وردت على هذا النمط. أمَّا إذا كان الغرض خاصًّا وليس عامًّا، فينبغي ألَّا يكون لهذه القضية دخل فيها، وإن وجدت مكانها في القصيدة تعد مزدوجة الغرض، وذلك مثل قصيدة "دعوة الحق"3، وهي الإسلام، فيثني الشاعر من خلالها بغرض آخر، وهي قضية فلسطين، وبذلك يتعدد الغرض، فتتفك عرى الوحدة الفنية؛ لأن لكل غرض من هذين تصويره الأدبي الذي يتناسب معه، وذلك ما صنعه الشاعر في قصيدة "مجد الشباب" حينما أدخل فيها القضية، فزواج فيها مع الغرض الأساسي، وهو تصوير المجد الذي ينبغي أن يسعى إليه الشباب في مقتبل حياته. ولقد تنبه لهذه الظاهرة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، وردَّ السبب في ذلك إلى روح الجندية التي بدأ بها زاهر حياته العملية يقول: "وإذا روح الجندية قد انعكست على طموحه وآماله، فإنها أيضًا قد انعكست على ديوانه، فرأيته يشيد بالجهاد، ويحثّ على القتال في سبيل الله لنصرة فلسطين، ولإخراج الإسرائيليين من ثالث الحرمين"4.

_ 1 الألمعيات: 33. 2 الألمعيات: 39. 3 على درب الجهاد: 119. 4 مقدمة الألمعيات: ص6.

ولا حاجة بنا إلى ذكر الشواهد هنا، فقد سبقت أمثلة كثيرة تدل على ذلك، فلنرجع إلى هناك. الاتجاه الثاني: وهو الوحدة الفنية التي تتحقق في وحدة الغرض، وذلك في قصائد كثيرة، وخاصَّة في ديوانه الأول "الألمعيات"، وبعض القصائد في ديوانه الثاني "على درب الجهاد"، ولذلك تلاحم التصوير الأدبي مع الغرض والمضمون من القصيدة، من مطلعها حتى نهايتها، ولم يتخل الشاعر عن الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية معها في هذا الاتجاه، لا في قليل، ولا في كثير. وعلى سبيل المثال قصيدة "مواكب المجد"، وقصيدة "جحافل المجد"، "سد جازان"، "سد أبها"، "دولة الإسلام في ماضيها المجيد"، "صيحة الجهاد"، و"وحدة العرب"، "في مشاعر الحج"، "مؤتمر الفقه الإسلامي"، "فوق أرض الجنوب"، "فجعة الأيام"، "شريعة الله"، وغيرها من القصائد الكثيرة التي اشتملت على غرض واحد فقط، تلاحمت عناصره ومعانيه مع وسائل التصوير الأدبي من ألفاظ وأساليب وصور وإيقاع وموسيقي، والأمثلة الكثيرة من ذكرها في مواطن متفرقة، ومن القصائد التي تحققت فيها الوحدة الفنية "شريعة الله"1: سطعت بنور الوحي في عرصاتها ... فانزاحت الظلماء من جنباتها في مكة الغراء قد بزغ الهدى ... وتألق التوحيد في شرفاتها وبشرعة الله الشريفة رفرفت ... أطيارها وزهت على دوحاتها أوحى بها رب البرية رحمة ... واختار للتبليع خير هداتها البلسم الشافي لكل عويصة ... أعيت مخاطرها عقول أساتها والمنهج الوافي تفوز به الدنى ... لو عمَّ حكم الله كل جهاتها عدل ومرحمة وحسن تعايش ... بين الشعوب على اختلاف فئاتها دين السلام على البسيطة كلها ... دين أقام العدل في ساحاتها الصف ساوى بين كل موحد ... عند الصلاة تقام في أوقاتها أما الزكاة فإنما هي بلغة ... لابن السبيل ومنحة لجباتها وإعانة للغارمين وقربة ... تعطى الفقير فيغتني بصلاتها ويفك منها الرق أو تعطى لمن ... قد يألف الإسلام عند هباتها وإذا نصبنا للجهاد لواءه ... كان لمن يحتاج من نفقاتها

_ 1 على درب الجهاد: 208/ 214.

والصوم ترويض على ترك الهوى ... ووقاية للنفس من شهواتها والحج آخى بين أمة أحمد ... لا فضل بين سعاتها وسراتها ألا بتقوى الله حكم عادل ... جاءت به "الحجرات" في آياتها أما الحدود فللبرية جنة ... في ردعها لبغاتها وعتاتها وشهادة التوحيد تهدي كل مر ... تبك وتشفي النفس من آهاتها هي فطرة والعقل قد نادى بها ... بعد التأمل في عظيم صفاتها الله قد فطر النفوس على الهدى ... وأنار بالإسلام درب هداتها والأرض قد أرسى بها أوتادها ... والماء قد أجراه من طياتها والروح أبرأها وأحكم خلقها ... في لطفها في غيب سرياتها أفلا ترى الأقمار في أفلاكها ... تجري على المعلوم من دوراتها الله أبدعها وأحسن صنعها ... ودعا العقول لكشف محتوياتها حسب المشرع للخليفة أنه ... أدرى بما يجري على خطراتها شتان بين مشرع بفطانة ... ومشرع مبري الفطانة ذاتها خسرت عقول حاولت بغرورها ... تقليد من يدري بمخفياتها تلك الملامح من جوانب شرعة ... ينشق نور الحق من قسماتها فاستمسكوا بنصوصها وعلومها ... واستبسلوا في الذود عن حرماتها فالقصيدة صورة دقيقة للوحدة الفنية، فالموضوع واحد من أول بيت إلى نهاية القصيدة وهو شريعة الله، والعاطفة فيها صادقة مع الموضوع؛ لأنها صورة صادرة من مؤمن يؤمن عن عقيدة وصدق بتعاليمها، والقوة في التشريع الإسلامي تجاوبت معها ألفاظ وأساليب وصور على شاكلتها من القوة والوضوح، والحقائق التشريعية لا تحتاج إلى خيال يزينها أو يبالغ فيها، وإنما كانت تقوم على أسلوب التقرير للحقائق ورصفها من خلال وجدان الشاعر وعاطفته الصادقة، أمَّا الإيقاع فهو ممتد عميق يصور الامتداد فيه كثرة حروف اللين بما يتناسب مع عمق الحقائق والتعاليم في التشريع الإسلامي، مع طول التفاعيل في البحر العروضي للقصيدة، حتى تتناسب مع المعاني العميقة والأفكار السامية.

الفصل الخامس: الشاعر يحيى ابراهيم الألمعي

الفصل الخامس: الشاعر يحيى إبراهيم الألمعي نشأ يحيى الألمعي وحياته إلى مدرسة المحافظين المجددين في مذهبها الأدبي ينضمّ الشاعر الأديب يحيى إبراهيم الألمعي، ولد بمدينة "رجال ألمع" حاضرة تهامة عسير، عام "1356هـ"، وتلقى دراسته الابتدائية فيها، وتتلمذ على علماء المدينة. ثم اشتغل بالتجارة حتى وصل إلى مدينة "جدة" ليعمل موظفًا في وزارة الصحة عام "1373هـ"، وظلّ بها سنتين. وفي عام 1375هـ" عاد إلى أبها ليباشر أعماله في الحكومة، يتقلّب في وظائف مختلفة، في ديوان إمارة منطقة عسير، حتى عين مديرًا للجوازات والجنسية في منطقة "بيشة" عام 1384هـ". وفي عام "1386هـ" انتقل إلى أبها؛ ليعمل رئيسًا لقسم التحرير بمديرية الجوازات والجنسية في عاصمة الجنوب. ثم عيِّن مديرًا للجوازات والجنسية في "ظهران الجنوب" عام 1388هـ". ثم عاد إلى مدينة أبها في عمله السابق رئيسًا لقسم التحرير في مديرية الجوازات والأحوال المدنية، وأثناء ذلك عمل رئيسًا لتحرير صحيفة عسير، التي كانت تصدر بصحيفة "عكاظ" خلال عام "83-1384هـ". ويحيى الألمعي في زحمة أعماله كان يعبِّر عن ذاته ومشاعره في شتى الميادين من الصحف والمجلات السعودية منذ عام 1374هـ، وله أحاديث كثيرة انتشرت مع موجات الأثير في الإذاعة العربية السعودية، استمتع بها المستمعون. أما مخطوطاته التي أتمنى أن ترى النور من أهمها: "الإيضاح والتيسير في تاريخ عسير"، وديوان "أحاسيس"، وله أيضًا "لمسات وهمسات"، و"حلو ومر" 1.

_ 1 انظر كتاب شعراء العصر الحديث: عبد الكريم الحقيل، ص16، وانظر في "عبير من عسير" في التقديم.

وصدر له من المؤلفات حتى الآن: كتاب "رحلات عسير"، وكتاب "الأمثال الشعبية في المنطقة الجنوبية". وديوان "عبير من عسير" الذي أهداه "لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز -أمير منطقة الرياض، الرجل الإنسان ذو القلب الكبير، الذي غمرني بعطفه وحنانه وكرمه وإحسانه -فإلى سموه الكريم أهدي ديواني هذا"1. والديوان ظهر في حجم كبير ضمَّ نيفًا وأربعين قصيدة في طبعة أنيقة، أصدرتها مطابع الرياض -الطبعة الأولى عام "1401هـ"، وقدم له الشاعر الدكتور زاهر عواض الألمعي -عميد شئون المكتبات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، يقول: "لا أجدني في حاجة إلى وصف أو تقديم لهذا الديوان، ولا التنويه بقيمته الشعرية، وقد كفانا الشاعر الفاضل "يحيى" مئونة ذلك كله بحسن مطالعه في قصائده، ومقاطعه في أبياته بما جال في خاطره، وجاش في صدره ... فأنت من هذا الديوان ستجد نفسك بين أخ لك مواس ومواطن لأمته مخلص، وعاشق لبلده "أبها"، موله ينشد على ضفافه الخضر أناشيده المطربة، ويقدم في قصوره لزائريه الكرام من "آل سعود" وغيرهم تحياته الشعرية العبقة، والشاعر الكريم بما جبل عليه من خلق فاضل قد تنزَّه عن الفحش، فخلا ديوانه من الهجاء، وكاد يخلو من الوصف، وهو شديد الارتباط بالشعر العمودي، بعيد عن التيارات الحديثة التي طرأت على الشعر العربي الأصيل.. وختامًا أقول لأخي الشاعر "يحيى الألمعي": هنيئًا لك بهذه الباكورة من الشعر راجيًا لك التوفيق إلى أقوم طريق"2.

_ 1 عبير من عسير: يحيى الألمعي: ص5. 2 مقدمة عبير من عسير: 15/ 22.

الأغراض الأدبية في شعره: تنوعت الأغراض الأدبية في شعر يحيى الألمعي، فاشتملت على أغراض: المدح والوطنيات، والشعر الإسلامي، والشعر الوجداني، والوصف، والرثاء، وحضارة العلم الحديث، وفي المعارضات الأدبية. وسنوضِّح الخصائص الفنية لهذه الأغراض التي تدل على المذهب الأدبي للشاعر، في مدرسة المحافظين المجددين في الشعر الجنوبي خاصة، وفي الشعر السعودي عامة. أولًا: المدح والشعر الوطني عند الشاعر متلاحم بالمدح؛ لأن الشاعر حينما يمدح ملكًا أو أميرًا أو وزيرًا، إنما يكون ذلك من خلال ما أسدى إلى الوطن من بناء ورقي وتقدم وحضارة، فهو يشيد بكل مواطن يفتدي وطنه بماله ودمه وروحه، وممن هو جدير بالثناء والتقدير هؤلاء المسئولون المخلصون لوطنهم ولشعبهم ولأمتهم، بل أول المخلصين في ذلك هم الذين يسوسون الرعية، ويوجهونها إلى الرقي والتقدم والسعادة والرفاهية. ومن ذلك كان الشعر الوطني لا ينفصل عن المدح، وكذلك المدح لا ينفصل عنه، قد صيغا معًا في بنية واحدة، يقومان على غرض واحد وهو المدح في بناء الوطن. ويعد هذا الغرض الأدبي أكثر الأغراض عنده شعرًا وقصائد في ديوانه المنشور، الذي يضم بين دفتيه هذه "المدحيات" التي تضم قصيدة "تحية من الأزد" لحضرة الفيصل العظيم، ألقاها الشاعر بقصر الحكم بالرياض في الساعة الحادية عشرة من يوم الخميس الموافق 16/ 11/ 1384هـ أمام جلالته والحاضرين من الأمراء والعلماء، يقول1: يا بلادي يا موطن الخير غني ... واملئي الكون فرحة وابتساما صفي اليوم يا جزيرة حتى ... ترفض الجيد تعتلي الآكاما وانثري الورد في ربوع تحلت ... بلباس الحبور نالت مقاما وارقصي واطربي حجازًا ونجدًا ... وعسيرًا وبيشة واليماما

_ 1 عبير من عسير: يحيى إبراهيم الألمعي ص32/ 36 - الطبعة الأولى - 1401 - مطابع الرياض.

إلى قوله: أيا الفيصل العظيم هنيئًا ... لك بالملك عزة وقوامًا أنت رمز البلاد بل أن فذ ... قد عرفناك عادلًا رحَّاما فلأنت الجدير بالعرش حقًّا ... ولأنت المليك تحمي السلاما وحمى الدين والعروبة طرًّا ... يا له ضرغمًا حكيمًا هماما باني المجد والمفاخر فينا ... ناشر العدل والهدى لن يضاما عمم الأمن حكم الشرع فينا ... ينشد الحق لا يريد الظلاما قائد الشعب ملهم عبقري ... من أذاق العدو موتًا زؤاما حاز بالسبق للعلا كل فضل ... وامتطى ذروة السها وتسامى وهكذا نمضي الشاعر في مدح الفيصل باني الأمة والوطن وناشر العدل والهدى، ومحكم الشريعة والحق، حتى حقق السعادة والأمن لوطنه وأمته، ويستمر على هذا النحو حتى نهاية القصيدة، وذلك في أسلوب مشرق واضح قريب إلى الأفهام وتصوير عذب يسيل إلى القلب كسيلان الماء على الصخر الأملس في انحدار. وقد اشتركت الطبيعة والحياة، والجزيرة والبلاد، والكون والورود مع الشاعر في مدح الفيصل بأعماله وبطولاته وإنجازاته وعبقريته وقيادته الحكيمة، ورحمته وحمايته للدين والسلام، وعروبته وعدله، وتحقيقه السعادة والرفاهية لوطنه، وهذه أبرز خصائص المدح عند الشاعر. وكذلك قصيدة "العهد الجديد ص37، 39" رفعها الشاعر مع التحية والإجلال لحضرة صاحب السموّ الملكي الأمير خالد بن عبد العزيز ولي العهد المعظّم "جلالة الملك حاليًا"، في 19 / 2/ 1387هـ، وقصيدة "تحية ص49، 52" مهداة مع عظيم الأشواق لحضرة صاحب المعالي الأمير خالد بن أحمد السديري -وقاه الله من كل مكروه- في 12/ 3/ 1385هـ، وقصيدة "تحية" مرفوعة لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة عسير، ألقيت أمام سموه يوم الأربعاء الموافق 12/ 6/ 1391هـ الساعة العاشرة صباحًا في نادي الفاروق بأبها، بحضور سمو الأمير خالد الفهد وكيل وزارة المعارف، وسمو الأمير محمد العبد الله الفيصل، يقول1:

_ 1 عبير من عسير: 60/ 69.

سلام الله يسري ما أقيمت ... صلاة من عباد خاشعينا وما جادت بماء المزن سحب ... سقى الأشجار والزرع الدفينا وما ناحت حمام في غصون ... تغرد تارة وتطير حينا وما طاف الحجيج بركن بيت ... يردد حمد رب العالمينا سلام عاطر وله أريج ... إذا ما فاح يعبق ياسمينا أقدمه مع الإجلال شفعًا ... وفيه الحب ممزوجًا حنينا إلى الشهم الهمام أبي وليد ... وأعني خالد الفذ الأمينا وشبل الفيصل المقدام حقًّا ... سليل المجد موثوقًا أمينًا إلى قوله: فهذا العهد عهد الخير حقًّا ... وعهد النور والإشراق فينا فأمن وارف والجهل ولَّى ... وعدل شامل للقاطنينا لقد عمَّ البلاد وكل صقع ... فأبناء الجزيرة آمنينا وفي الطرقات إصلاح عظيم ... تراها سهلة للسالكينا وإنعاش الزراعة غير خاف ... لكي تكفي جميع المعوزينا وللمرضى مصحات ودور ... وتوفير الدواء للعاجزينا فلا ثمن يقدم في علاج ... كذا التعليم مجانًا لدينا وكم من نعمة وجميل صنع ... ستبقى دائمًا أثرًا سنينا مشاريع بها التاريخ يزهو ... ويفخر معلنا للمصلحينا جزى الله الحكومة كل خير ... بما فيها زعيم الملسمينا إلى قوله: مناظر في ربانا ساحرات ... ستغدو مقصدًا للسائحينا ترى في "السودة" الشما ... وغابات تسر الناظرينا وفي "القرعاء" مصطاف جميل ... ونزهة خاطر للصائفينا وفي أرض "المحالة" سلسبيل ... كوادي النيل يروي الظامئينا كأن "سويسرا" تلك المراعي ... و "لبنان" ترى أو "طورسينا". وفي أبها البهية كل شيء ... جميل صالح للقادمينا بها ماء زلال في شعاف ... وأشجار تظل السائرينا وجو بارد في الصيف يحلو ... وينعش نفس كل المتعبينا

لا أظن أحدًا يقول بأن الشاعر من مدرسة التقليد؛ لأننا لا نجد أثرًا من خصائصها: الإسفاف في المعنى والركاكة في التعبير وفهاهة الأسلوب، ولا أن يكون من مدرسة المحافظين فقط الذين يسيرون على نهج القدماء من الشعراء الفحول مقلدًا إياهم؛ لأن الشاعر يعيش عصره لا عصر الفحول، ويصور حضارة وطنه المعاصر لا وطنهم، يتجاوب مع إنجازات مملكته وأمته من مشروعات الرقذ ي والتقدم لا التخلف والبداوة، ولا أدلّ على ذلك من تصوير المصيف الجميل الحديث المتحضر عروس الجنوب "أبها" في تصوير أدبي قوي متجدد لحياة جديدة في هذا الموطن الجذاب موطن الشاعر الذي عاش فيه، وتفجَّرت تجاربه الشعرية من مناطقه الساحرة في السودة والقرعاء والمحالة وغيرها، فهي مثل سويسرا ووادي النيل، ولبنان وطور سيناء. ولن تخلو القصيدة من هزات تستوقف النظر، وهي كسر الوزن بقوله: "وتوفير الدواء للعاجزينا" هكذا بتسكين الهمزة، وقد يصحّ فيما لو حذفت الهمزة: "وتوفير الدوا للعاجزينا" كصنيعة في قوله: "ترى في السودة الشما، فحذف الهمزة ليصح الوزن، وكذلك قوله: "بما فيها زعيم المسلمينا"، كان الأولى ليسمو عن النثرية والتعبير العامي يأتي بما يتناسب مع سمو الشعر ولغته الخاصة، فيقول: "بقائدها زعيم المسلمينا"، وفرق كبير بين القائد والزعيم وبين ما تدل عليه الظرفية "في"، وإن كان القائد والزعيم من بينهم. وكذلك التعبير بلفظ "المراعي" لا يتناسب في التصوير الأدبي مع المصيف الذي يشبه سويسرا ووادي النيل ولبنان، فلا تسمَّى جمال الغابات الكثيفة الساحر والزروع السندسية الخضراء والماء العذب الزلال بالمراعى، والأجدر بالتسمية والأقوى تصويرًا وإيحاءً وشاعرية كلمة "بالمعاني"، فهي لفظة شعرية تتلاءم في قوة ووحي وأضواء وظلال مع هذا المصيف الجميل الساحر. وكذلك قصيدة "تحية ص76، 80"، مرفوعة لأعتاب حضرة صاحب الجلالة الملك "فيصل بن عبد العزيز المعظّم، ألقيت أمام جلالته في القصر الملكي "بجدة" حين قدِم من الرياض لزيارة السودان الشقيق عام 1387هـ، وقصيدة "تحية ص83، 85" مرفوعة مع عظيم الإجلال لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزارء ووزير الداخلية -ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء حاليًا- في عام 1388هـ. وقصيدة "تحية ص93، 97" مرفوعة لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز -أمير منطقة الرياض، وقصيدة "تحية ص93، 97" مهداة لسعادة الشيخ هاشم معتوق المدير العام للجوازات والجنسية، "وكيل وزارة الداخلية للجوازات والأحوال المدنية حاليا"، في 9/ 12/ 1398هـ، وقصيدة "تحية" مرفوعة لحضرة صاحب الجلالة.

"مولاي" الملك فيصل المعظم بمناسبة عودة جلالته من جدة إلى الرياض في 25/ 1/ 1389هـ، وألقاها الشاعر بقصر "المعذر "بالرياض"1. وقصيدة "تحية"، وتهنئة بمناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، مرفوعة مع التحية والإجلال لحضرة صاحب الجلالة "مولاي" الملك خالد بن عبد العزيز في 10/ 10/ 1397هـ، ثم يقول: إلى الخالد المغوار أرنو وأنشد ... لعيد عظيم مشرق يتجدد لذكرى لدى الشعب العزيز مجيدة ... بها نحتفي في كل عام ونسعد وتغمرنا الأفراح فيها بسمة ... وفيض سرور وافر يتعدد ألا إنها ذكرى بحق سعيدة ... ليوم أغر خالد سيمجد فيوم بلادي حين توحيد شعبها ... على يد ملك عادل سنخلد بأغلى معاني الفخر والشكر والثنا ... وبالحب والتقدير يسمو ويصمد لباني بناء العز والمجد والعلا ... لأمته يسعى لقصد يوحد لقد كان توحيد الجزيرة مطلبًا ... لعبد العزيز الفذ للخير يقصد فكافح في عزم وصدق وحكمة ... لتحقيق ما يصبو إليه وينشد وهذا بحمد الله فضل ونعمة ... من الله للشعب السعودي ومقصد فحق لنا أن نحتفي بحلوله ... وذكراه لن ننسى وسوف تجدد ستبقى لهذا اليوم ذكرى مجيدة ... لدى الشعب في "عبد العزيز" تخلد2 وهكذا إلى آخر القصيدة، وهي من غرر وطنياته القوية ومدائحه الهادفة السامية. وقصيدة "تحية ص123، 126"، وتهنئة بمناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، مرفوعة مع التحية والإجلال لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء المعظم في 10/ 10/ 1397هـ، وقصيدة "تحية" مرفوعة لصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل عام 1389هـ، وهي من خماسياته يقول3:

_ 1 عبير من عسير: 108/ 112 2 الديوان: 117/ 122. 3 عبير من عسير: 134/ 138.

أيها القاموس أستاذ البيان ... وأمير الشعر والدر الحسان صاحب "المحروم" في نظم الأغاني ... من بديع اللفظ معروف المعاني طعمه كالشهد يزهو كالجمان إيه يا شعري رويدًا في النشيد ... وقليلًا لا تبالع في القصيد لست تحصى فعل أصحاب المزيد ... مثل عبد الله ذي الرأي السديد إنه شهم وصنديد أكيد يا طويل العمر عفوًا يا أمير ... إن باعي كان في الشعر قصير ليس هذا المدح بالنظم المثير ... فبحور الشعر تحتاج الخبير والقوافي بابها باب عسير وقصيدة "تحية ص143، 147" لسمو الأمير بندر الفيصل في عام 1389هـ، وقصيدة "تحية ص153، 156" مرفوعة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران، بمناسبة زيارة سموه لمنطقة الجنوب في شهر جمادي الأولى 1388هـ، وقصيدة "فرحة الشفاء ص161، 164" بمناسبة شفاء وعودة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز إلى أرض الوطن سليمًا معافى عام 1398هـ، وقصيدة "تحية وتهنئة ص165، 167" مرفوعتان مع التحية والإجلال المقام حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز وليّ العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء المعظم، بمناسبة عودة وشفاء العاهل المفدَّى جلالة الملك خالد بن عبد العزيز المعظَّم، قيلت في 27/ 12/ 1398هـ. ثانيًا: الشعر الوجداني هذا اللسون من الشعر من أقوى الأغراض الأدبية عند يحيى الألمعي وأجودها، فهو الذي يعبّر عن موهبته الشعرية في تصوير أدبي رائع، والقصائد التي أنشدها في هذا الغرض، قصيدة "يا ليل"، وهو يناجي الليل في 18/ 6/ 1376هـ، يقول1: يا ليل إني قد ضجرت طويلًا ... وغدوت منك معذبًا وعليلًا فلقد رأيت تطاولًا لا ينبغي ... إن التطاول منك ليس جميلًا إن المريض تناله بمخافة ... وتأوه قد كنت فيه مهيلا وكذلك الولهان يسهر هائمًا ... ويراك عن صبح الفلاح ثقيلًا ويبيت يمضي ليله في حرقة ... وعذابه يا ليل ليس قليلًا

_ 1عبير من عسير: 23، 24.

وقصيدة "شكوى ص25، 26" إلى الله العليّ القدير من جوار الكعبة المشرفة في 10/ 5/ 1388هـ، وقصيدة "عتاب" يعارض فيها معلقة عمرو بن كلثوم المشهورة، ومطلعها: ألا هبى بصحنك فاصبحينا عارضها الشاعر الألمعي في عام 1383هـ بقصيدة مطلعها1: ألا جودي بوصلك وارحمينا ... ولا تكوي قلوب العاشقينا وداوي حالتي وجروح قلبي ... وما قد ساور القلب الحزينا فمنذ النظرة الأولى رمتني ... رموش العين رمي القادرينا فطارت مهجتي لهفًا وشوقًا ... وقرحت الدموع لنا جفونا فصرت متيمًا وأسير حب ... أعاني من مرارته الشجونا وقصيدة "مع الأطياف ص45، 48" قالها الشاعر في 1388هـ، وقصيدة "مع الخيال ص70، 72" قالها الشاعر في عام 1385هـ، وقصيدة "إليها" معارضة للمقطوعة الشعرية التي قالها عمر بن أبي ربيعة في بيع الحمر لدى الدارمي، يقول عمر: قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد إلى آخر المقطوعة، فيعارضها الألمعي بقصيدة طويلة عام 1384هـ ومطلعها: قل للمليحة في الرداء الأسود ... ماذا صنعت بناسك متهجد قد كان حسر للوضوء ذراعه ... حتى وقفت له بباب المعبد إلى قوله: وتأججت نيران قلب قد سلا ... ونكأت جرح العابد المتزهد وسرت دماء الحب في أحشائه ... كيف السيل وأنت كل المقصد حسناء ما هذا التجني على فتى ... متبتل متضرع متنهد "رديّ عليه صيامه وقيامه" ... ودعيه يبقى دائمًا في المعبد لا تصرفيه عن التبتل والدعا ... "لا تقتليه بحق دين محمد"2

_ 1 عبير من عسير: 40/ 44. 2 عبير من عسير: 73/ 75.

وقصيدة "أحلام الصبا ص81، 82" قالها الشاعر في 1388هـ، وقصيدة "نجوى ص86، 87" أنشدها الشاعر في عام 1388هـ، وقصيدة "صدفة ص102" قالها في 1382هـ، وقصيدة "مع الخليل ص132، 133" في عام 1388هـ، وقصيدة "شكوى ص141، 142" في عام 1388هـ، وقصيدة "شكر الإله ص148، 150" وهي وقفة تأمّل وتدبر في آلاء الله بين جبال عسير الشاهقة عام 1388هـ، وقصيدة "الحبيب المجهول ص151، 152" في عام 1388هـ، وقصيدة "ذكرى ص159، 160" في عام 1378هـ، وقصيدة "ذكريات وتساؤلات ص168، 170" في عام 1399هـ، وقصيدة "مع الأنغام ص139، 140" في عام 1388هـ، وقصيدة "ظهران الجنوب ص157، 158" في عام 1388هـ. وشعر الوجدان تنساب فيه شاعرية الألمعي انسياب الماء الصافي العذب الزلال، يتَّسم بالخفة والحلاوة والعذوبة، ينساب مع القارئ كأنَّ ألفة تمت بينهما من قبل في تجربة سابقة، ويشعر بأن الشعر للقارئ لا للشاعر؛ لأنه في إمكانه أن يصدر عنه مثله أو هو نفسه، وذلك لسهولته وجريانه على اللسان كما يجري الحديث اليومي مع الناس حين يتسامرون ويأنسون، فلا يحتاج إلى جهد في فهمه وإدراكه، ولا إلى مراجعة يحكك فيه ويهذب منه، بل نشعر بأن الشاعر أنشد هذه القصائد بلا استئذان ولا تهيؤ قبلها، وكأنه يرتجلها ارتجالًا لا يعانيها، ولا يقلب النظر في صورها وكلماتها، بل إذا صدرت عنه ساعتها لا يدير نظرة عليها مرة ثانية، بل تذهب في الحياة نبعًا فطريًّا صافيًا، لا تحتاج منه إلى المراجعة والتدقيق والتهذيب، حتي يحذف منها الكلمة العامية أو يجبر خللًا هو كيان الصورة، أو يقصر ممدودًا في وسط البيت، أو يمد مقصورًا للحفاظ على الوزن، لا يعنيه كل هذا ما دامت القصيدة قد صدرت عنه لأول مرة. لهذا كله كان شعر الوجدان عند يحيى الألمعي صادرًا عن نفس شفافة وروح صافية، سواء أكان وجدانه يكتوي بنار الحب التي ألهبته حبيبته ومزقت بالشوق قلبه، أم كان وجدانه من شكواه لله -عز وجل- وثنائه عليه بنعمه وآلائه؛ ليطلب منه المغفرة والعفو، كلاهما يعتمد على مشاعر الحب العميق الصادق، وفورة الوجدان المحموم، والتأمل في جوانب النفس وحناياها لمعرفة حقيقة الحب والولهان وكنه الوجدان والإلهام. وشعر الوجدان عنده شعر قوي العاطفة صادقة التجربة قطعة نابضة من نفس الشاعر وقلبه، ويكفيه وحده أن يضع الشاعر في منزلة بين شعراء مدرسته ومذهبها الأدبي: مدرسة التجديد المحافظ؛ ليكون يحيى من شعراء منطقة الجنوب بلا ريب يزاحم شعراء المملكة العربية السعودية بفنه الشعري.

وليس معنى ذلك أنَّ الأغراض الأخرى لا تدل على موهبة الشاعر؛ لأن الموهبة في ذاتها موجودة عند الشاعر، وقوية أصيلة، فلا تهمل الأغراض، لكن بعضها كالمدح مثلًا كان يحتاج من الشاعر إلى المراجعة والتهذيب، فقد يصيب أحيانًا، وقد يركب الصعب حينًا آخر، وبقية الأغراض أخذت منزلتها من الشاعر بعد شعر الوجدان مباشرة، وعند التعرف على الخصائص الفنية في مجال التصوير الأدبي سأقيم الشواهد والأمثلة التي تدل على ما ذهبت إليه من رأي في الأغراض الأدبية عند الشاعر. ومن خصائص شعر الوجدان أيضًا أنه نبع عن الشاعر في عام واحد وهو عام 1388هـ"، هذا بالنسبة للأعوام الأخرى، فقد أنشد كثيرًا من القصائد في الغرض، كما اتضح ذلك من تاريخ إبداع شعره وإنشاده السابق، وهي "شكوى"، "أحلام الصبا"، "نجوى"، "مع الخليل"، "وشكوى" مرة أخرى، "شكر الإله"، "الحبيب المجهول"، وغيرها، وهي من أجود قصائده، وأنشد في نفس العام قصيدتين في المدح وهما: "تحية" بمناسبة زيارة سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز لمنطقة الجنوب، وقصيدة "تحية" بمناسبة عودة جلالة الملك فيصل من جدة إلى الرياض، وأنشد قصائد أخرى في نفس العام مثل قصيدة "مع الأنغام"، وقصيدة "رمضان"، وقصيدة "فلسطين ووعد بلفور". وهذه القصائد التي أنشدها في عام 1388هـ بعد أن انتقل من عمله في أبها إلى ظهران الجنوب، تدل على أنَّ الشاعر كان يعاني تجربة وجدانية قوية، ألهبت عواطفه، وأرَّقت مشاعره، ففاضت تجاربه الشعرية المتدفقة بحشد كبير، وقد أعقب هذا الانتقال استقرار في أبها حتى الآن. وفي هذا الشعر أيضًا دلالة تدل على نوع من التعويض لفقد رغبة عزيزة كان يرغب فيها ولم تتحقق، فذهب إلى الجنوب ليجد العوض في هذا الشعر النابض الذي يظهر الشاعر من آلامه وآهاته وفقدانه، ويجد فيه الأنس كل الأنس، بحيث يملأ هذا الفراغ، الذي خلفته الآمال المفقودة، والرغبات التي ذهبت مع الرياح. ولهذه الأسباب كانت القصائد السابقة يغلب عليها هذا اللون من الحزن والألم والشكوى والمرارة، سواء أكانت هذه الشكوى في جوار الكعبة المشرفة؛ حيث يتنفس الصدر، ويفيض القلب بمكنونه في البقعة الطاهرة، فيتطهر من بلوائه التي ألمَّت بها، ويكشف ضره الذي مزقه، وتتجرد أحشاؤه عن الآهات والأحزان، وهذا عينه ما يصوره الشاعر في قصيدة "شكوى" يقول1:

_ 1 عبير من عسير: 25/ 26.

إلى الله أشكو لوعتي وبلائي ... ومنه أرجو الكشف في البلواء وأطلب منه كشف ضر ألم بي ... وأدعوه في السراء والضراء ألمت بي البلوى فكنت أسيرها ... ومارت بي الآهات في الأحشاء صبرت على ما نالني صبر زاهد ... يرى في ثواب الله خير شفاء إذا المرء لم يصبر على ما أصابه ... ولم يحمد المولى على البلواء تحمل ذنبًا يا له من مصيبة ... وأشغل قلبًا بالأسى وبكاء وأضحى طريدًا من رضاء إلهه ... ينوح ويبكي في الضحى ومساء فرحماك ربي أنني لست ضائقًا ... من الضر ما دام القضاء قضائي واقتصرت على بعضها للدلالة على المراد، أو كانت الشكوى من الزمان وأهله، كما في قصيدته الثانية "شكوى" يقول1: أشكو الزمان وأهله قد نالني ... من هذه الفئتين ما قد نالني أشكو الأحبة والرفاق جميعهم ... أشكو بني عمي ومن قد عالني أشكو همو والله يعلم أنني ... أهواهمو بالرغم ممن خانني فلقد سئمت من الحياة وأهلها ... لم أبلغ منهم أي شيء فاتني حتى لقد ناجيت ربي سائلًا ... وأقول يا موت ألا لاقيتني إن الخطوب إذا أحاطت بالضنى ... كره الحياة وقال ماذا غالني إني وجدت مرارة العيش الذي ... جرعته منهم ودومًا طالني فلتهنأ الأقوام بالعيش ... الرغيد وكل شيء جاءني وعليك يا دنيا السلام فإنني ... لم أبغ منك العيش مما هالني أو يهرب الشاعر من واقعه المرِّ، ومحنته التي يمر بها في الظهران لينسى آلامه وأحزانه في حلم جميل، وخيال ممتع رائع، وما أروع أحلام الصبا، وملاعبه الغانية، ومسارح الخيال فيه، وخاصة عندما يأوي إليها المحروم من آمال الشباب والكهولة، فيتنفس الصدر فيها مما يريح النفس ولو ساعة، ويتذوق القلب حلاوتها فتنسيه آلام المكابدة والمعاناة أثناء المعاناة والمكايدة، لذلك يتوق يحيى الألمعي إلى "أحلام الصبا" يبث شكواه في لوحة فنية أخرى2:

_ 1 الديوان: 141، 142. 2 الديوان: 81/ 82.

تاقت النفس لأحلام الصبا ... والليالي الغر في عهد الصغر تلك آمال بها كل المنى ... تغمر النفس بأطياف السحر في رياض الزهر والورد التي ... تملأ القلب بإشعاع القمر1 ومع الخلان نعدو في الربا ... في رماعيها وأفياء الشجر وغمام السحب يبدو في الذرى ... بذرف الطل ويأتي بالمطر قطرات كنت قد شبهتها ... كجمان نثرها أو كالدرر ليت شعري حين تأتي في الدجى ... غادة العمر لكي نقضي السمر تحت ظل الدوح فواح الشذا ... تصدح الطير بأنغام الوتر يا لها من ليلة جادت بها ... قدرة الله وتصريف القدر حبذا لو صادفتنا دائمًا ... هذه الأقدار في وقت الكبر كي ننال السعد في أيامنا ... والليالي عندما نقضي الوطر قلت: الموهبة متمكنة من الشاعر، ومن يقرأ هذه القصيدة مع ارتجالها، وتراسل المشاعر فيها، وانثيال الصور الرائعة، مما يجعل شعره يسيل كالندى المعبق بالشذا والطيب، ولقد فطن لهذا الشاعر زاهر عواض حين علق على ديوانه قائلًا: "كنت أود من أخي الشاعر يحيى الألمعي وهو في أبها؛ حيث الهواء الطلق والسماء الصافية، والشمس الساطعة، والغيث المسكوب، ينهل هتونًا فتجري به الأودية وتمتلئ الغدران ... أقول: ماذا يضير الشاعر وهو بين هذه المشاهد الرائعة، والمناظر الخلابة، أن يطوف بنا في مجال تلك الطبيعة الغناء أكثر فأكثر، ويتحفنا وهو الشاعر المطبوع من شعره، ويضفي علينا الإحساس بما أفاض الله عليه، فإن الطبيعة الفاتنة إذا صادفت كفئًا لها أضفى عليها ملابسها، وكشف عن نفائسها، وكانت له رائدًا فيما طلب وهاديًا حيث ذهب، وشاعرنا كان من أحق الشعراء في ذلك؛ لأنه من هنالك"2. وحين يستيقظ يحيى للألمعي من أحلام الصبا يبث شكواه إلى "الحبيب المجهول"، وكلاهما أحلام عذبة ينتشي لها الشاعر، فينسى آلامه وأحزانه، ويطهر بها قلبه من المكابدة والمعاناة، إن الصورة الشعرية القوية أحيانًا حينما تهز الوجدان تذهب بالحزن وتنسخ المعاناة، وتزيل مرارة الحرمان، فيحيا بها الوجدان مرة ثانية، فما بالك بالشاعر الذي ينسج الصور الشعرية الرائعة كالغيث الذي ينزل على الأرض، فيترك الصخر أملس ناعمًا لينجرف ما عليه في التيارات

_ 1 التي تملأ: تعود على الآمال التي تملأ 2 مقدمة الديوان: 19، 20 الدكتور زاهر عواض.

الطموية المائية؛ لتستقر في الأرض الخصبة، فتمرع وتزهر وتخضر وتحيا، وهكذا تعود الحياة كما كانت؛ ليعود إليها الغيث مرات ومرات يشكو إلى "الحبيب المجهول" فيقول1: الحب أضناني وقرَّح مهجتي ... وبراني الشوق فزاد بليتي وتتابعت زفرات قلبي بالأسى ... وتناثرت قطرات دمع المقلة لم هكذا تنثابني في وحشتي ... وثير أشجان الفراق ولوعتي لم أيها الصب المتيم بالهوى؟ ... تدمي ضلوعي بعد حرق المهجة لم هكذا تشكو البعاد وطوله؟ ... وتقول إنك ساهر في محنتي لم لا تروم لقاءنا يا صاحبي؟ ... كيف السبيل وأنت أهل الفتنة لم لا تجود بوصلنا طول المدى؟ ... وتزيل هم الواله المتعنت أتريد مني أن أكون ضحية؟ ... بئس المراد وأنت كنت ضحيتي الله يجمعنا ويكتب وصلنا ... ويحقق الآمال بعد الفرقة وهكذا يفيق يحيى من أحلام الصبا وأحلام اليقظة في الحبيب المجهول؛ ليبث شكواه في واقعه الذي يعيشه في شبابه، فيبث آلامه وآهاته إلى خليله وصديقه الذي يستريح إليه، فيستريح هو من عنائها، ويخفف ويلاتها بنظرات الصديق الحنونة وكلماته الحانية، ونبراته اللطيفة، وأنفاسه الرحيمة، فيبدد بشعره وحشة الليل والظلام والنوم والسهام، مع أنيس شعره "مع الخليل"2. يا خليلي يا أنيسي في الدجى ... ومرامي دائمًا عند المنام جد حبيبي باللقا وقت المساء ... لا تغب عني فإني مستهام قد حرمت النوم حتى نالني ... كل ضر قد برى مني العظام وغدا جسمي نحيلًا خائرًا ... من سهام الحب أو سهم الغرام لو رأيت الحال يا خلي وما ... قد أتاني لم تطق حتى الكلام إن إحساسي ليشدو بالغناء ... قلد الطير وتغريد الحمام زفرات القلب آهات لنا ... زادت النيران في النفس اضطرام ذقت مر العيش من طول النوى ... وانقضى العمر ولم اقض المرام يا حبيبي لا تدعني حائرًا ... هائمًا في الحب أبكي في الظلام ولتكن مني قريبًا دائمًا ... لتزيل الهم عني والسهام

_ 1 الديوان: 151/ 152. 2 الديوان: 132/ 133.

غاية والقصد تجديد اللقا ... تحت ظل الدوح أو بين الخيام فاستمتع مني كلامي والنداء ... وتحياتي وإقراء السلام ولتكن مني قريبًا دائمًا ... يا حبيبي إن ذا البعد حرام وإذا ما بثَّ شكواه إلى خليله رأى أنَّ الملجأ الحقيقي في المناجاة هي الشكوى إلى الله -عز وجل، فيناجيه في "نجوى"1 ومنها: يا إلهي وأنت رب كريم ... عالم بالخفا وكل السرائر إلى قوله: واغفر الذنب والخطايا جميعًا ... والمعاصي وكل تلك الكبائر واصرف الشر أينما كان عنا ... واعطنا الخير والهدى والبشائر وإذا كان الملجأ الحقيقي هو لله وحده، فينبغي أن نشكر الله -عز وجل- على محنته، ولا يحمد على مكروه سواه؛ لأن المؤمن الصادق هو الذي يرضى بقضاء الله وقدره، يقول في قصيدته "شكر الإله" عام 1388هـ2: جل الإله تعالى في تفضله ... على العباد له فضل وإحسان قد أوجد الكون من لا شيء من عدم ... سبحانه الخالق المعبود منان أعطى لنا النعمى الكبرى وأوهبنا ... حب الحياة لها سر وإعلان فالكل يفنى ولا يبقى له أثر ... إلّا الصلاح وتقوى وإحسان ثالثًا: الشعر الإسلامي وهو من الأغراض التي تناولها الشاعر في ديوانه، ويضم قصيدة "رمضان" في 1/ 9/ 1388هـ، ومطلعها 3: رمضان يا شهر الصيام تحية ... حييت يا أملًا أتى أسرارًا رمضان يا شهر الفضائل والمنى ... قد جئت فينا ناقلًا أخبارًا فيك الملائك تزدهي في نشوة ... ولك الحنان تزينت إقرارًا والحور فيها رقصن وصفقت ... ولبسن أثواب الهنا أعطارًا

_ 1 الديوان: 86/ 87. 2 الديوان: 148/ 150. 3 الديوان: 53/ 56.

"ريان" يفتح عندما تأتي لنا ... والجن تحبس لا ترى أخطارًا هذي المساجد قد زهت وتزينت ... للمقدم الميمون جاء مرارًا يا من له القرآن يتلى في الضحى ... والليل يحيى بالدعاء أذكارًا إلى آخر القصيدة، وقصيدة "فلسطين ووعد بلفور" في عام 1388هـ، وهي من الشعر الإسلامي، على اعتبار أن قضية فلسطين أصبحت قضية إسلامية، والقدس الشريف من القضايا الإسلامية المعاصرة، يقول في مطلعها1: يا وعد "بلفور" كم هيجت أشجانا ... ونالنا منك إيذاء فأضنانا أضنى العروبة والإسلام كلهمو ... وسامهم بالأذى سواء فأبكانا وقصيدة "أخي" أنشدها الشاعر نداء لتحرير فلسطين الجريمة عام 1394هـ ومطلعها2: أخي إننا اليوم في محنة ... تدك الصخور بطول المدى وقصيدة "صرخة الإسلام" أذيعت من صوت الإسلام عام 1386هـ، يقول3: إن الديانة في الإسلام تغتنم ... فيها الصلاح وفيها الخير والنعم في أرض مكة مهد الوحي انتشرت ... قوم وقام بها الإصلاح والأمم قد قام فيها رسول الله داعية ... يريد خيرًا وكل الناس تلتئم تحطمت كل أوثان مدنسة ... بالشرك والكفر والطغيان ينهدم لم يبق فيها سوى الدين الحنيف هدى ... فانهالت القوم تترى للهدى أمم نور الهداية شمس في العلا أبدًا ... يشع في الكون حتى عمنا الكرم وهكذا إلى آخر القصيدة وهي طويلة، والشعر الإسلامي عند يحيى دون الشعر الوجداني بكثير، لا من حيث المضمون، ولكن من حيث التصوير الأدبي، فنرى هذا الغرض أقرب إلى النثر منه إلى الشعر، فالشاعر يكتب مقالًا عن رمضان، أو عن صرخة في الإسلام، يجمع فيها الأشتات من هنا وهناك لكي يستقيم له الوزن، وتقوم الأبيات على العروض والقافية، وإن كانت القافية توضع في غير مكانها أحيانًا.

_ 1 الديوان: 57/ 59. 2 الديوان: 91/ 93. 3 الديوان: 113/ 116.

"فالأمم" تأتي قافية ثلاث مرات، و"يلتئم" مرتين، و"الكرم" مرتين، ويضطر إلى الترادف في المعنى من أجل القافية أيضًا مرات كثيرة مثل "الخير والنعم"، "قوم - الأمم"، "الخير والإنعام والكرم"، و"البغي والظلم"، "شرك ولا صنم" وغيرها. وقد يضطر الوزن إلى الأساليب غير المشهورة عند العرب، فيسير على المنهج غير الفصيح من الألفاظ ومشتقاتها، فقد جعل همزة الوصل في قوله "انتشرت" همزة قطع لكي يستقيم الوزن، واستعمل المصدر "الإعجام" مكان الجمع، وهو يقصد الجمع "العجم" وهو الجمع عند العرب، فاضطر الشاعر إلى الاستعمال غير الفصيح ليحافظ على الوزن في القصيدة. ومن الشعر الإسلامي أيضًا قصيدة "إليك يا أبي" في رثاء شهيد الإسلام، جلالة الملك فيصل المعظم، الذي اهتزّت الدنيا لموته، قالها في 15/ 3/ 1395هـ ومطلعها: العين تبكي والفؤاد محرق ... والنفس تحزن ودائمًا تتمزق حتى كأن الدمع من نهر جرى ... في المقلتين وفوق خد يبرق وله خرير لست أحصى قطره ... ينساب ما بين الجفون ويدفق في موت "فيصل" قد مادت بنا أكم ... واهتزت الأرض من خطب له حرق حامي حمى الإسلام رائده ... أبو المعالي وفيه الوصف ينتطق حققت للشعب ما يزهو به حقبًا ... وللعروبة والإسلام ينبثق وها وجودك يا مولاي مفخرة ... للمسلمين عمومًا كنت تأتلق سكنت في كل قلب وهي عامرة ... بالحب دومًا وفيه الود معتلق يا رائد العرب والإسلام إن بنا ... من الأسية ما لا يوسع له الورق إلى آخر القصيدة، وهي من أجود قصائده في الشعر الإسلامي، ومنه أيضًا قصيدة "نصيحة ص27، 28" أهداها إلى الأخ فائع إبراهيم الألمعي في عام 1377هـ، ويحث فيها على طلب العلم، وينفر من الجهل، والعلم يحث عليه الإسلام، بل هو أساس الإسلام وقاعدته العريضة، وقصيدة "العلم والجهل" ألقاها الشاعر في المركز الصيفي بأبها عام 1391هـ، ومطلعها 2: العلم يبني والجهالة تهدم ... والعلم نور ساطع وتقدم بالعلم تبلغ كل قصد في المنى ... ويحقق الأهداف من يتعلم

_ 1 الديوان: 98/ 101. 2 الديوان: 103/ 107.

والجهل داء والثقافة بلسم ... للجهل إذا فيه الشفاء الأعظم والعلم طعم في المذاق حلاوة ... والجهل مر طعمه بل علقم بالعلم يرقى كل شعب للعلا ... ويكون في أعلا المراتب ينعم إلى قوله: يبني صروح المجد شامخة الذرى ... وبها الدعامة قوة لا تثلم فأخو الجهالة في الشقاوة قابع ... لم لا وهذا الجهل ليل مظلم إن الجهول بماله وثرائه ... مثل السفينة بالتجارة تلقم ماذا يفيد من التجارة عندما ... تهوي إلى قاع البحار وترطم هذي المعاهد والمدارس جمة ... في كل بيت دارس ومعلم قد عمت الأرجاء وهي مناهل ... للضامئين وفرحة بل مغنم والقصيدة مع طولها تغلب عليها روح النثر الأدبي، ولا يبقى من الخصائص إلّا الوزن والقافية، أما العاطفة القوية والمشاعر المتدفقة، والتصوير الذي يهز الوجدان، ويسيطر على المشاعر، فهذا هو أقل الجوانب في القصيدة، ويستعمل الشاعر لهجة الجنوب الجارية على اللسان، وهي إبدال الظاء ضادًا في قوله: "وهي مناهل للضامئين" وأصلها فيما اشتهر عند العرب ما نزل به القرآن الكريم "للظامئين".

وقفات مع الشاعر: أولًا: التصوير الأدبي ديوان يحيى الألمعي يضم بين دفتيه ألوانًا متنوعة من التجارب الشعرية، منها التي لم تكن كاملة ناضجة بالقدر المطلوب في الشعر الجيد، مثل التجارب الشعرية التي كانت تحتاج إلى مراجعة من الشاعر، وذلك في كل الأغراض ما عدا شعر الوجدان. ومنها التجارب الشعرية القوية التي أقامت الحجة الناصعة على أنه شاعر موهوب، يعد من شعراء مدرسة المحافظين المجددين في الجنوب، وهو شعر الوجدان، وقد فصلنا القول في ذلك عند الحديث عن خصائص هذا الغرض الأدبي، وما دامت التجربة الشعورية قوية فالصدق الفني قد تحقق فيها، الذي يسمو بالقصيدة إلى المستوى الجيد في الشعر، ويستبد بالعاطفة، ويحرك المشاعر والأحاسيس، لهذا كان التصوير الأدبي في هذا الغرض يسمو الشاعر إلى مصاف الشعراء المجيدين في طبقته الفنية، وإلى ما سبق من شواهد على ما نقول نتأمل قصيدته "مع الأطياف"1: يسائلني المحبوب عما جرى ليا ... وهل كان إلا بلوتي وشقائيا لقد جرح القلب الذي كان سالمًا ... ومزقه حبًّا بعيدًا ودانيا وألقى بسهم ليته ما أصابني ... ولم يأت للقلب الذي كان نائيا سهرت الليالي لا أرى فيه ساهرًا ... سوى طيف هذا اللد قد لاح رائيا يداعبني حتى إذا ما رأيتني ... أداعبه انسلَّ مني ورائيا يروح ويغدو شاردًا متهربًا ... ويأوي إلى كل من كان خصمًا معاديًا فليتك يا متبول قدرت حالتي ... وأكرمتني بالوصل ما دمت راضيا وليتك ترضيني ولو بزيارة ... لأرجع قلبي منك إن كنت نائيا وإلا فدعني في عنائي ولهفتي ... لأبقى حزينًا طيلة العمر باكيا

_ 1 الديوان: 45.

وهكذا يمضي الشاعر يصور تجربته الشعورية القوية في عاطفة صادقة وخيال خصب، وصور أدبية رائعة، وعبارات عذبة رقية، وأسلوب جزل حلو، يكشف عن معانيه بلا غموض أو إبهام، فتأخذ موقعها من العقل حين تستقبلها الأذن مباشرة؛ لأن الشاعر يعبر بصدق عن وجدانه في وضوح وشاعرية ملهمة. لم يسلم الشاعر من هفوات لا تغض من شاعريته، ويكفينا شعره الوجداني في الدلالة على ذلك، وهذه الهفوات قد وضحنا بعضها في مجال الأغراض، وهي بإيجاز: روح التعبير النثري في بعض الأغراض الأدبية عنده مثل المدح والشعر الإسلامي، والرثاء، فنرى الشاعر يتحدث فيها مع عامة الناس بلغتهم الدارجة الواضحة الدانية؛ لأن الشعر له لغته القوية المتدفقة بالمشاعر، ويعتمد على الإيحاء والأضواء والتصوير القوي، مما يثير الوجدان في الآخرين، ويلهب مشاعرهم، ويحفز عواطفهم لإثارة الانجذاب، وذلك في مثل قوله: أمل العرب يا إمام البلاد ... داعي الخير والهدى والرشاد حامي الدين والشريعة حقًّا ... ناصر الحق في الربا والبوادي ناشر العدل والمساواة فينا ... قائد الشعب يا ابن خير التلاد يا مليكي فدتك نفسي وروحي ... أنت نور العيون في كل نادي كل فرد من شعبك المتفاني ... يتمنى لقياك كالمعتاد1 وهكذا يسير في القصيدة كلها على هذا الأسلوب النثري الدارج بين المتخاطبين في مثل هذه المواقف مع شرف المضمون وعمق المعنى وجميل المقصد والغاية التي ترمي إليها القصيدة من الإشادة بوطنه الحبيب، والقيادة المخلصة الرشيدة التي حققت المجد والحضارة له. ثانيًا: البديع والضرورات لم يخل شعر الألمعي من قصد البديع، واتخاذه وسيلة في التصوير الأدبي، وإن كان عصره قد ولَّى، ومدرسته قد ذهبت مع التاريخ، لكن الشاعر قد يميل إليه حينًا، وهو ما أشار إليه الدكتور زاهر عواض في مقدمة الديوان يقول: "وبعد: فهذا "عبير من عسير"، وكفى.... فليس من الإنصاف أن أقدم ديوانًا من الشعر هو يقدم نفسه لقارئه، فقديمًا قالت العرب: الكتاب يعرف من عنوانه، والظاهر عنوان

_ 1 الديوان: 76/ 77.

الباطن.. وشاعرنا الفاضل "يحيى الألمعي" لم يبرأ من علة السجع والجناس، فعنوان ديوانه بهذا العنوان "عبير من عسير" 1. والحق أنَّ الشاعر لم يغلب عليه الاتجاه البديعي في شعره، لكنه مع نذره اليسير يؤخذ عليه التكلف فيه، وحمله على المعنى بلا داع ولا هدف يسمو بالشعر، يقول: أيا خالدًا "لازالت في الناس خالدا" ... ولا زالت في أوج المفاخر صاعدًا حليم حكيم زاده الله رفعة ... فكان كما البدر المضيء إذا بدا وما خالد إلا خلود تخلدت ... أفاء عليه في الخافقين مسددًا والتكلف البديعي ظاهر في قوله: "يا خالدًا وخالدا"، و "حليم وحكيم"، و "وما خالد إلا خلود تخلدت". أما الضرورات الشعرية من أجل الوزن والقافية التي اضطرت الشاعر إلى اعتساف الخطأ في مواضع يؤاخذ عليها، ووضحت بعضها قبل ذلك، ونكتفي به هناك. ثالثًا: معالم الجنوب في شعره الشعر القوي هو ما يحمل إلينا الواقع الذي يعيشه الشاعر في بيئته، فالبيئة أصبحت جزءًا من الشعر، ومن عواطفه وأحاسيسه، لذلك كان يحيى وفيًّا لوطنه الصغير في الجنوب، لا ينسى جماله وسحره، ولا الذكريات التي تردد صداها في جنبات المواطن الكثيرة، يقول: مناظر في ربانا ساحرات ... ستغدو مقصدًا للسائحينا ترى في السودة الشما رياضًا ... وغابات تسر الناظرينا وفي القرعاء مصطاف جميل ... ونزهة خاطر للصائفينا وفي أبها البهية كل شيء ... جميل صالح للقادمينا فالسودة والقرعاء والمحالة وأبها، كلها مناطق ساحرة في منطقة الجنوب، يتزاحم فيها المصطافون كل عام في الصيف لقضاء أجمل أوقات العمر وأحلاها من أبناء المملكة والخليج العربي وغيرهم. وتظهر لهجة الجنوب وهي من خصائصه في كلمة "الضامئينا" فالمشهور في لغة القرآن الكريم "الظامئينا" بالظاء لا بالضاد، ومع ذلك فهي لهجة اشتهرت في جنوب المملكة العربية السعودية، ومثل قوله في قصيدته "ذكريات وتساؤلات" 2:

_ 1 مقدمة الديوان: 15/ 16. 2 الديوان: 168/ 170.

سل ربا أبها لتعطيك الخبر ... سل ذراها والفيافي والشجر سل رياضًا في "عسير" إنها ... تمنح النفس سرورًا مستمر في "رجال" في بني زيد" وفي ... "ألمع" قد طاب لي فيها السمر عند وادي "العوص" في أقصى الذرى ... عندها الأشجار لا تبغي المطر في "كسان" في "لصاف" و"البنا" ... في "حلى" ذقنا حلاوة السهر في ذرى "قيس" وفي "الميل" الذي ... مال قلبي فيه أحلام الصغر وما بين الأقواس مرابع ومنازل في "رجال ألمع" من تهامة عسير، عاشها الشاعر وذاق حلاوتها ومرارتها، وتجاوبت مشاعره معها، وخرجت شعرًا من معامل تجاربه الشعرية لتعطي صورة واضحة عن الجمال والسحر في مواطن الجنوب، في عسير، المنطقة الخضراء في المملكة العربية السعودية. رابعًا: الوحدة الفنية في شعره الوحدة الموضوعية في شعر يحيى الألمعي قد تحققت في شعره كله، فالقصيدة عنده تقوم على موضوع واحد، بلا تعدد في الأغراض والموضوعات. والوحدة الموضوعية إذا ما تحققت في الشعر الوجداني تحققت الوحدة الفنية بالتأكيد، التي تقوم على التلاؤم بين التجربة والعاطفة والمعاني والخيال والمشاعر والخواطر، وبين الألفاظ والأساليب والصور والموسيقى، وبذلك يتحقق الصدق الفني في تجربة الشاعر الشعرية، وكل ما مضى من قصائد في شعر الوجدان ابتنى على الوحدة الفنية، ونذكر قصيدة أخرى أنشدها الشاعر في عام 1387هـ، وهو في الطريق من أبها إلى خميس مشيط1 يقول: في المروج الخضر في الأرض الجميلة ... في رياض يانعات مستطيلة وخرير الماء يسبو في الذرى ... ونسيم الصبح يعلو في المسيلة وتصد الطيور وتشدو بالغنا ... فوق أشجار وأغصان جميلة في ربا أبها التي ناجيتها ... ذكريات كلها كانت طويلة كم شفيت النفس في أكامها ... وجرت فيها دموع مستغيلة ونمت في الأرض آهاتنا ... دوحة الحب وأشجار خميلة لست أدري ما الذي صيرنا ... نذرف الدمع ونحيى كل ليلة

_ 1 الديوان: 159/ 160.

نتناجى والهوى يمنعنا ... أن نبيح السر في تلك النثيلة دأب القلب على كتمانه ... وأبى أن يذكر الحال العليلة قلت يا هذا ألا ترحمني ... وتريح القلب بل تشفي غليله ثم إني أيها الصب الذي ... قد جفاني واختفى مني بحيلة لم أعد أسطاع هجرانًا ولا ... يستطيع القلب أن يسلو خليله فرجائي الوصل دومًا دائمًا ... ولقاء ليس يخبو أو تزيله عالج النفس وأطفيء نارها ... بمياه الحب لا أرضى بديلة موضوع واحد من خلال تجربة صادقة المشاعر ملتهبة العاطفة قد انسابت معانيها في ألفاظ قوية جزلة وأساليب عذبة رقراقة، وصور تموج بالألوان والحركة والطعوم والروائح التي امتزجت بروافد القصيدة، كما امتزجت بالطبيعة الساحرة في أبها وخميس مشيط، كل ذلك يتلاحم في إطار الوحدة الفنية، تشد القصيدة في جميع روافدها وعناصرها؛ لتكوّن صورة كلية واحدة تعبِّر عن مشهد واحد تفجَّرت به تجربة الشاعر الشعورية.

الفصل السادس: شعراء آخرون

الفصل السادس: شعراء آخرون هؤلاء هم الشعراء الذين اشتهروا في مدرسة "التجديد المحافظ" وليسوا هم وحدهم، بل هناك شعراء ينضمون إلى هذه المدرسة ويسيرون على مذهبها الأدبي، لكن لم يصدر لبعضهم حتى ديوان شعر يدل على الطابع المتكامل لهذه المدرسة، وإن اشتهروا بقصائدهم الكثيرة التي تنشر في الصحف والمجلات، والتي تلقى في النوادي الأدبية، ويشتركون بها في المسابقات الشعرية التي تجرى على مستوى المنطقة أحيانًا، أو على مستوى المملكة مرات أخرى، وانضمامهم إلى هذه المدرسة يرجع إلى تلك القصائد المنشورة أو المسموعة فقط، ولعلَّ النظرة إلى شعرهم تختلف في المستقبل إذا ما صدرت لهم دواوين الشعر؛ لأن تنوع الشعر في الديوان أو أكثر من ديوان يكون أدق وأشمل في الحكم على القصائد المتفرقة في الصحف والمجلات. لهذه الأسباب جعلت لهم فصلًا يضمهم جميعًا، على العكس من الشعراء السابقين الذين نشروا دواوينهم من زمن بعيد، واكتفيت في هذا الفصل بذكر بعضهم الذين ينشرون في المجلات والصحف، أو في المسابقات الأدبية، واكتفيت بقصيدة واحدة أو قصيدتين تقريبًا لتكون وسيلة للحكم على الشاعر، وسبيلًا يصله بمدرسته، وخيطًا لمذهبه الأدبي الصادر عن مدرسة "التجديد المحافظ".

أولًا: الشاعر علي خضران القرني الشاعر علي خضران بن عبد الرحمن القرني، من شعراء مدرسة التجديد المحافظ، ولد في قرية "الحفنة" من ضواحي القنفذة بالقرن في تهامة عام "1358هـ"، وتقلب في التعليم بين مكة المكرمة وبين الرياض والطائف، وله كتاب "صور من المجتمع والحياة". ومن المخطوطات "كفاح شعب"، "تعريفات وجيزة ببعض قرى ومناطق المملكة"، وديوان "آهات". ومن شعر القرني قوله في قصيدة "ظبي الجبل"1: يا منى الروح ويا ظبي الجبل ... قد براني الهجر وازداد الألم كم تمنيت لقاء شافيًا ... في روابي السفح والطود والأشم كم تمنيت حديثًا ممتعًا ... في دجى الليل وأحلاك الظلم غير أني لم أجد غير الأسى ... وضروب الخبث حيطت بالنغم فاذكري عهدي وودي والهوى ... واذكري الماضي الذي لم ينصرم إنني رغم بعادي والنوى ... لم أزل أهفو إلى ذاك النغم تجربة شعرية قوية صادقة، وعاطفة جياشة، ومشاعر رقيقة، تجسمت في امتزاجها مع مظاهر الحياة والطبيعة في روابي السفح، وفي الطود الأشم، فينعم بحديثها في دجى الليل، وحلكة الظلام، ليتصل الحاضر بالماضي، ويحيا على الذكرى التى لم تنصرم، ولم تقطع عهد الوداد، وذلك في نغم راقص من الحب والهوى. والقصيدة في منهجها ونهجها جديدة، وكذلك في أسلوبها وتجربتها، وصدق العاطفة فيها، والمشاعر والأحاسيس التي تتناغم مع مظاهر الطبيعة. ويقول في قصيدة "الخير في الصالحات" منها: يا شامتًا بي عداتي ... ودائبًا في الوشاة مهلًا فإني صبور ... وحجتي في سكاتي ما ضرني قول واش ... يهوى الأذى والسعاة مهما تمادى فإني ... كالطود حتى الممات نهجي وصبري كفيل ... بنصرتي ونجاتي

_ 1 شعراء العصر الحديث: عبد الكريم الحقيل ص260.

ثانيًا: الشاعر علي عبد الله مهدي ولد في عام 1368هـ في مدينة "رجال ألمع"، ونشأ فيها وترعرع، وتلقى دراسته الابتدائية بها، وتفتَّحت شاعريته على قصائد الفحول من الشعراء، لتستقرَّ في قلبه إلى الأبد، وبدأ يقرض الشعر في هذا السن المبكر، وكان لأساتذته الشعراء فضل كبير في تنمية موهبته الشعرية. وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية سافر إلى أبها للدراسة بالمعهد العلمي، وأمضى فيه خمس سنوات، ثم انتقل إلى الرياض والتحق بكلية اللغة العربية، حتى حصل على "الليسانس" في 1390-1391هـ، وكانت هذه الفترة حافلة بالمعرفة والإنتاج. وبعد التخرج عيِّنَ مدرسًا بمعهد "الباحة" العلمي "بلاد غامد" لمدة عام، وفي العام التالي عين مديرًا للمعهد، ثم طلب الانتقال إلى أبها، حيث أمضى بها مدرسًا ثلاث سنوات بمعهدها العلمي. لكنه قدَّم استقالته من العمل وقبلت استقالته، ليدير محلًّا للذهب، ويقول: "عندي الذهب والتعب يقينًا، أما الأدب فذلك ما كنا نبع، وأفضل الأدب وأحب الذهب".. ويقول عن تأثره: تأثرت بكثير منهم، وفي طليعتهم المتنبي ماليء الدنيا وشاغل الناس.. ويقول عن الشعر: الشعر تجربة شعورية يعبر عنها تعبيرًا موحيًا مؤثرًا، وقد طرقت عدة أغراض شعرية متنوعة منها: الدعوة الإسلامية، والإصلاح الاجتماعي، وقليل من الرثاء، وشيء من الغزل1. ومهدي شاعر يهزّ بشعره الندوات الأدبية في مختلف المؤسسات وخاصة في نادي أبها الأدبي، وهو من أعضائه، يقول عن شعره الدكتور عبد الهادي حرب: "شعره نبع صاف من قلب مؤمن بدينه، متقطع على أبناء بلدته وعقيدته، يرى ماضي المسلمين مشرقًا، وحاضرهم غائمًا، فينكر على قومه ما هم فيه، ويدعوهم إلى استعادة مجدهم، ويجنح به الخيال حتى ليرى أنهم قد عادوا إلى ما كانوا عليه من ازدهار وإشراق". وللشاعر منزلة كبيرة بين عشاق الأدب في عسير، يقول في قصيدته "الباذلون" 2: بذل الباذلون حتى أضاءوا ... وتسامى مع الضياء البناء وتولى جهل وأدبر فقر ... وتوارى بعد الدواء الداء

_ 1 جريدة المدينة: الأربعاء 4 من رجب 1399هـ، الصفحة الأدبية ص7. 2 أزاهير من ربوع عسير: نادي أبها الأدبي 1400هـ، ص18.

إلى قوله: وشهدنا نهرًا من الخير يجري ... رفدته الشريعة الغراء أسسوا للعلوم والدرس نورًا ... وعلى كل ساحة بناء وإلى العلم ينتمي كل فضل ... ومن المرسلات تهمي السماء وإلى الدين ينتمي كل مجد ... ومن الحق تسطع الأضواء والنوادي للناس تنثر درًّا ... ونضارًا والناثر الأدباء وتجلى وجه الفضيلة حتى ... يعلم الجميع أنها حسناء سألوني ما الدين قلت: رياض ... يتفيأ ظلالها العقلاء سألوني هل الحضارة خير ... أم عذاب منزل وشقاء هي خير ثر، وروض أنيق ... وعطاء جم ونور وماء ونعيم ما دام شكر وتقوى ... فاز ركب يقوده الأتقاء سألوني عن النساء أظل ... وارف أم جهنم حمراء وجم القلب والبيان عصاني ... وتأبَّى الهجاء والإطراء كل علمي بأنهن فضاء ... واسع لا تحيطه الأشياء وأخيرًا: سادتي هذه قصيدة شعر ... وبقلبي قصائد عصماء قد بذلت الثناء شهدًا مصفَّى ... وحري بنا الرضا والثناء علم الله أن روحي وفاء ... ليس عندي غير الوفاء جزاء وإذا أحسن الرعاية داع ... فالرعايا حق عليها الولاء دولة بالكتاب والعدل شيدت ... ولها الحب خالصًا والدعاء1 وهكذا تكون شاعرية مهدي، فقد بلغت هذه القصيدة ثمانين بيتًا تسيل الأبيات في تدفق، وينساب فيها التصوير الأدبي رائعًا في ألفاظ عذبة وأسلوب قوي مشرق، وخيال خصب رائع، وحوار حي متحرك، يتحرك فيه القارئ مع الشاعر وكأنه يريد أن يشاركه ما يعانيه من تجربته الشعرية مع طول النفس، والصدق في المدح والثناء بلا شطط أو مبالغة، إنما المدح عنده هنا حق وثناء بلا معاظلة؛ لأن على الرعية حق الولاء والوفاء لمن أسدوا الخير ونشروا العلم والعدل، فهم جديرون بالحب والدعاء بالتوفيق، وليست هذه القصيدة وحدها في الثناء، ولكن قلبه مفعم بكثير من القصائد العصماء. أما القصيدة التي حازت الجائزة الثانية في مسابقة نادي أبها الأدبي عام 1400 هـ فهي

_ 1 كلمات وقصائد: مطبوعات نادي أبها الأدبي 1400هـ، ص15/ 22.

"الحقيقة" يقول الشاعر علي عبد الله مهدي1: أطوي الجناح على الجراح وأكتم ... وأقول: قومي بالكرامة أعلم ولقد مضى زمن وجفني مغمض ... عن عيبهم وكأنني لا أفهم كم قلت: قومي لا مثيل لعزمهم ... ونشرت ما تملي العواطف عنهم وهتكت أستار السحاب ملفقًا ... عزًّا تغار لمستواه الأنجم قومي إذا شئت الحقيقة عنهم ... يتأخرون وغيرهم يتقدم وإذا ينادي للفضيلة نمتمو ... وإذا ينادي للرذيلة طرتم غرتهم الدنيا ومزق شملهم ... حسد، وفرقهم عداء محكم إلى قوله: يا أمتي والنار تكوي مهجتي ... والسهم يعتصر الفؤاد ويكلم لم تنطلق رجل لوقوف محرم ... أو درء مفسدة ولم ينطق فم أبمثل هذا يستقيم كياننا ... ويطل فجر مشرق متبسم يا أمتي: الأديان تهرم كلها ... وتشيب لكن ديننا لا يهرم كل السيوف القاطعات تثلمت ... أما النبي فصار لا يثلم هو للهدى سيف وللتقوى فم ... هو للفضيلة قائد ومعلم والفخر بالإسلام ليس بغيره ... يكفيك فخرًا أن يقال: المسلم قالوا: الحياة فقلت ظل زائل ... والافتتان فقلت: ذاك جهنم والبعث والأخرى فقلت: حقيقة ... من شك فهو أصم أعمى، أبكم والأغنيات فقلت إني أعجم ... والفاتنات فقلت إني مسلم والمال قلت أضمه وأحبه ... إن جاءني بطريقة لم تحرم واليأس قلت: إلى الكتاب أحيلكم ... والبأس قلت عدوكم لا ترحموا يا أمتي فلتسمعي ولتسمعي ... الحق يغضب إن يكم له فم عودي إلى هدى السماء ونورها ... فالعود أحمد للشعوب وأسلم أملي عظيم مشرق متجدد ... أن يسمع القوم النداء ويفهموا ولتهنأ الدنيا بمولد أمة ... حطمت صروح الكفر فيما تحطم بشراك يا قلبي بعهد زاهر ... قد أزمع القوم النهوض وصمموا

_ 1 أزاهير من ربوع عسير: مطبوعات نادي أبها الأدبي 1400هـ 30/ 36.

جعلوا كتاب الله نصب عيونهم ... وتفهموه وقدموه وعظموا عدنا وعاد إلى الحقيقة تاجها ... وانجابت الظلما وهش الموسم الذل عار والتأخر سبة ... والجبن صاب والإهانة علقم والمجد للإسلام ليس لغيره ... وبنوه بالتمجيد ما أحراهم والقصيدة طويلة لأن الشاعر نفسه طويل في الشعر، يتدفق في شعره كما يتدفق السيل من علٍ، مع عمق المعنى وحضارة الفكرة، وشرف المقصد والهدف، وعذوبة الأسلوب وخفة التركيب، وجمال التصوير، وسحر الإيحاء، والصدق في العاطفة والتجربة والمشاعر. أما قصيدة: "هي الظلام هي مشاعر النور"، فقد ذكر الشاعر أنه نظمها وهو طالب بالسنة الرابعة في كلية اللغة العربية في ظلام الليل للحفاظ على مشاعر إخوانه الطلاب النائمين، فلم يشأ أن يقلق مضاجعهم بالنور، وأمسك بالقلم وظلَّ يكتب في الظلام حتى الفجر، لكنه وجد الكلمات متداخلة، لكن الشعر شعره، فقرأها وها هو مطلعها: حرقت مقلتي وهد بناني ... واعتراني الضنا وغامت سمائي فإذا القلب في الهموم غريق ... بعد أنس وراحة وهناء وإذا النفس تنزوي في اكتئاب ... وعذاب عن ساحة الأقرباء أيها القلب ما عهدتك تجفو ... لحبيب ممنع في الخباء ربة الطهر أرجوك لا تعذليني ... واعذروني إن غبت يا أصدقائي إن في القدس لوعة وحريقًا ... وبكاء أولًا ككل بكاء فيهودًا تعبث فيه فسادًا ... وتنادي بالشر والبلواء وتسوم الأطفال ذبحًا وفتكًا ... وهموا في الصفاء مثل الماء وتسوم الأعراض هتكًا وعضًّا ... في افتراس الفضائل البيضاء1 وأما القصيدة التي حازت الجائرة الأولى في هذه المسابقة لنادي أبها الأدبي في عام 1400هـ، فهي للشاعر حسن يحيى ضائحي بعنوان: "حدث بيننا" يقول منها: أنا عنك يا ذات الخمار ... إذا دعا داعي الحروب أنا عنك في حمل السلاح ... وفي مجابهة الخطوب

_ 1 جريدة المدينة: الأربعاء 4 من رجب 1399هـ، ص7.

إلى قوله: فإذا دعا داعي الجهاد ... حملت كالليث الغضوب وحملت رشاشي على ... كتفي ولم أذكر لغوبي ومشيت أزرع من رصاص ... النصر في صدري دروبي أنا أمة غنَّى بها التاريخ ... في كل الصقوب أنا قطرة هرقت من ... دم كل مقدام وتوب أنا زندي المفتول أقوى ... عند إحداق الكروب وعلى يد الفتيان لا الـ ... فتيات تحرير الشعوب فدعي أناملك الرقاق ... لرقة الطفل النجيب ربيه للوطن الكريم ... على الفضائل لن تخيبي أنت الخبيرة في اصطناع ... النشء معمور القلوب لا تتركي البيت المقدس ... إنه أسمى الوجوب لا تعتدي هذا نصيبك ... في الحياة وذا نصيبي1 إلى آخر القصيدة التي تدل على أن الشاعر من شعراء هذه المدرسة مدرسة التجديد المحافظ، تجديد في المعنى والفكرة، واستجابة الغرض لمقتضيات العصر، وتجاوب الشاعر مع أحداث عصره، في أسلوب قوي عذب منساب، وتصوير أدبي رائع، مع الحفاظ على الأصالة العربية والعمود الشعري في الفصاحة والنصاعة والأسلوب والوزن والقافية، لكن ذلك في ثوب جديد، تتجه فيه القصيدة نحو غرض واحد من المطلع حتى النهاية.

_ 1 أزاهير من ربوع عسير: 27/ 29.

ثالثًا: الشاعر جبران قحل ولد الشاعر جبران محمد قحل في البيطارية التابعة لجيزان منذ أربعين تقريبًا، ويعمل حاليًا مدير مدرسة الأحد الثانوية إحدى مناطق جيزان. قد تخرَّج من كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1384هـ، وله شعر كثير منشور في الصحف والمجلات، وأحد أعضاء النادي الأدبي بجازان، وفاز بالجائزة الرابعة بنادي جيزان الأدبي في مسابقة الشعر عام 1397هـ، وكانت بعنوان "شموع على الدروب"، وهي لمحات من حياة الراحل العظيم "فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله" منها1: ما زال هذا الشعب يدرك أنه ... أعيا العدا طرًّا صلابة عوده ما زال يذكر والعوالم كلها ... هذا الزعيم الفذ يوم صموده يوم التقى الجمعان في سينا وفي ... الجولان يعرب في شمال حدوده بهر العدا بذكائه ودهائه ... وببعد نظرته لفضح حسوده ظلت فلسطين الجريحة عنده ... دينا يرى لا بد من تسديده ما دام فيها غاصب متربص ... نشر الفساد مجمعًا لحشوده ولكم تمنى أن يصلي فيصل ... متعبدًا بركوعه وسجوده في المسجد الأقصى تعبد ناسك ... شكر الإله لسحق أهل جحوده ومن شعره أيضًا قصيدته "لبنان إلى أين" منها2: يا صيف لبنان هل أبقيت لنا فيكا ... أحداث لبنان شيئًا من مرائيكا أم ألهبت جوك المأنوس حماتها ... حتى رأينا هدير النار من فيكا لبنان ماذا دهاك اليوم فاحترقت ... تلك المرائي وكانت من مجاليكا خضر الروابي لظى البارود يحرقها ... والحرب دارت رحاها في روابيكا إنا لنعجب من أمر له خطر ... حيث الأعادي أرادت قتل ماضيكا

_ 1 مسابقة الشعر بنادي جازان الأدبي لعام 1397هـ، ص12، 13 مطبوعات نادي جازان الأدبي. 2 المنهل: عدد المحرَّم وصفر 1402هـ - أكتوبر ونوفمبر1981م، المجلد 44 ص90.

رابعًا: شعراء آخرون وهناك شعراء آخرون يسيرون على نهج مدرسة التجديد المحافظ نذكر بعضهم، منهم الشاعر أحمد باهي، الفائز بالجائزة الأولى في مسابقات نادي جازان الأدبي عام 1397هـ، والشاعر علي أحمد حيقل الفائز بالجائزة الثانية في المسابقة السابقة، والشاعر عمر صعابي الفائز بالجائزة الثالثة في نفس المسابقة، واشترك في مسابقة أبها الأدبي لعام 1400هـ بقصيدته "هموم قلب"، ومطلعها: يا حروفي كيف أشدو وفؤادي ... يتلظَّى في جحيم من هواك يقطف العمر همومًا وضياعًا ... ليس فيه غير بعض من خطاك ليس من حياة أو حبور ... يملأ الدنيا عبيرًا من شذاك حسبها أن هواها يتحدى ... فيعاني من جراح الحزن شاكي1 والشاعر عمر سالم فرساني، فاز بالجائزة الخامسة في مسابقة الشعر لعام 1397هـ بنادي جازان الأدبي، والشاعر علي أحمد على النعمي وهو من "خرجة ضمد"، ومن شعره قصيدته: "لا تسل عمَّا جرى" 2 منها: بلبل الروض تغني سحرًا ... فشجى الحي وأحيا الذكرى هزه الوجد إلى ألَّافه ... كل من غاب ومن قد حضرا ذكر الماضي وما كان حوى ... واجتلى فيه ربيعًا أخضرًا والشاعر حجاب يحيى الحازمي، مدير ثانوية ضمد بجازان، ومن قصيدته "لقاء الجوف"3: يا روابي الشمالي هذي بلادي ... تتهادى بربعك المخصاب قد أتاك الجنوب بالفتية الغر ... كرام الأحساب والأنساب "ضمد" أقبلت، وفي هامها الإكليل ... زاه وتزدهي في الرحاب وأتاك الحجاز في بهجة الفوز ... تهادي نوافح الأطياب

_ 1 أزاهير من ربوع عسير: نادي أبها الأدبي1400هـ، ص44/ 48. 2 المنهل: المحرم وصفر 1402هـ - المجلد 44 ص85. 3 المرجع السابق: 87.

ورأينا الرياض في الجوف نشوى ... لاجتماع الأحباب بالأحباب كلها تختفي بكشاف قومي ... وتنادي الأشبال فوق الهضاب هتفوا بالنشيد عذبًا نديًّا ... يا بلادي يهناك زين الشباب وألقاها الشاعر في التجمع الكشفي بالجوف.. مهداة إلى معالي أمير منطقة الجوف الذي يسعى لتطوير الجوف. والشاعر إبراهيم مفتاح، الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر لنادي جازان الأدبي عام 1397هـ، بقصيدته "جيزان المنطقة البكر" منها 1: فتنة للعيون والأحداق ... ربة الحسن والمعاني الدقاق أنت يا جارة البحار ومأوى ... كل قلب مدله خفاق يا ابنة الشط في فؤادي غرام ... شاعري ولهفة للتلاقي كلما خلت في الخضم شراعًا ... يتهادى هفا إليك اشتياقي يلثم الموج جانبيه هيامًا ... ويلاقي من دله ما يلاقي يا عروس الجنوب ذويني الوجد ... وأمسى على رباك انطلاقي فتذكرت موجة تلثم الشط ... وأخرى تزجي إليك السواقي أرضك البكر انبثتنى اخضرارًا ... فنما الخصب في ذرى أعماقي وغدا في فمي غناؤك حلوًا ... كالأهازيج في فم المشتاق صبت واستذبت وطافت ... بك روحي وزاد فيك احتراقي يا ربوع الجمال هل تعذريني ... إن هفا الوصف لاعتلال مذاقي فتساميت في خشوع وأطرقت ... وزاد الإبداع في إطراقي يا إله الوجود إن خيالي ... كلما طاف في السنا البراق أذهلته حقائق وطيوف ... وسوف تفنى الدهور وهي بواقي وهناك في ساحة الجنوب شعراء آخرون كثيرون لنا عود معهم إن شاء الله تعالى يوم أن يكون لكل منهم ديوان شعر يتردد صداه في أسماع الزمان.

_ 1 مسابقة الشعر بنادي جازان الأدبي: لعام 1397هـ، ص3، 4.

الباب الثالث: مدرسة التحرر في التجديد

الباب الثالث: مدرسة التحرر في التجديد الفصل الأول: الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد أولًا: التمييز بين "الرومانتيكية" الإبداعية وبين التحرر في التجديد ينبغي أن نميّز بين ما شاع في العالم العربي من مذاهب أدبية حديثة وافدة من الغرب، وخاضعة لظروف الحياة في أوروبا، وبين مذاهبنا الأدبية العربية الأصيلة، والخاضعة لقيمنا العربية الإسلامية العريقة. وبناء على هذا التمييز فإنني أجد مبالغة وغلوًّا وإسرافًا في تطبيق "الرومانتيكية" الغربية الأوروبية على شعرنا العربي، من بعض نقادنا العرب المعاصرين، وهم متجاوزون في ذلك كل التجاوز، ولن أقول: "إنهم مخطئون، ولكنهم مبالغون متجوزون إلى حد بعيد.. ولا أدل على ذلك من أن بعض الشعراء العرب أعتقد أنهم لم يقرأوا شيئًا عن المذهب "الفلسفي الرومانتيكي"، مثل شعراء هذه المدرسة التي نحن بصدد الحديث عنها، فلا يمكن أن تعد شعرهم شعرًا تقليديًّا، ولا محافظًا، بل متحررًا في تجديده، ومن العبث أن نطلق عليهم شعراء "رومانتيكيين" ابتداعيين، وإنما يجب أن يكون الشعار الذي يرفرف على مدرستهم من الواقع الإسلامي العربي، الذي يعيشه الإنسان الشاعر العربي المسلم. ولهذه الأسباب أطلقت على مدرستهم الفنية، ومذهبهم الأدبي اسم "مدرسة التحرر في التجديد"؛ لأن مثل هؤلاء الشعراء في أي موطن عربي وإقليم إسلامي ليسوا مقلدين، ولا محافظين، بل تحرروا في الأغراض، وفي المعاني، وفي الأسلوب، وفي الخيال، وفي الصور، وفي القالب الموسيقي، وفي القافية، وفي منهج القصيدة، وفي النزوع إلى الذاتية، وفي التغني بالوجدان والمشاعر، وفي التغني بالأحاسيس والعاطفة الشخصية، وغيرها مما سنراه في خصائص مدرستهم بعد قليل. ولتحديد التمييز بين "الرومانتيكية"، وبين مدرسة التحرر في التجديد، ينبغي أن أعرض في إيجاز طبيعة "الرومانتيكية"، حتى تتميز مدرسة التحرر في التجديد كما ذكرنا سلفًا. وطبيعة "الرومانتيكية" في أوروبا قد ألحت على وجودها ظروف دافعة نابعة من واقع الحياة المرة التي كان يعيشها الإنسان الأوروبي في ظلال التَّزمُّت الكنسي، والتعصب الروحي، فقد انطوت تحت بلاط الكنيسة شتى النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعلمية، مما أدى إلى التحجُّر والجمود، وكلاهما كانا منطلقًا للثورة على الكنيسة، وللتحرر من عبوديتها، وفي ظلال ذلك نشأت "الرومانتيكية" الثائرة على الروتين الكنسي الديني، وعلى العقل الجامد المتزمّت الخاضع لبلاط الكنيسة.

ومن هنا حملت "الرومانتيكية" مذهبًا جديدًا أطلق الحرية للشاعر، وأفسح للمشاعر الذاتية في نفسه، فانطلق يتغنى بوجدانه وأحاسيسه الفردية، هائمًا وراء عاطفته المستعرة. ولهذا كانت "الرومانتيكية" ثورة على سلطان العقل، وتمردًا على القيود القديمة "الكلاسيكية"؛ لتتخطى العاطفة والوجدان والمشاعر حواجز التزمت والجمود، الذي فرضه العقل والروتين والاحتذاء والتقليد على الواقع الإنساني حتى القرن السابع عشر الميلادي. وما دامت "الرومانتيكية" قد تحررت من هذه القيود، كان بالضرورة أن تتحرر من الموضوعية، لتنطلق مع الشعر الغنائي، الذي يعبر عن ذات الشاعر من خلال الاتجاهات العاطفية، والقضايا الاجتماعية، على اعتبار أن الشاعر جزء من المجتمع الذي يعيشه أو يتجاوب معه، أو هو قطعة حية منه، ولذلك حطم الشعراء الرومانتيكيون" نظرية المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو التي تعبدت "الكلاسيكية حتى القرن السابع عشر الميلادي. في القرن الثامن عشر الميلادي ظهرت "الرومانتيكية" في فرنسا على يد "جان جاك روسو 1722- 1778م"، وفولتير، وهيجو، ولامرتين، وبيرون، "ومدام دي ستال 1766-1817م"، "وشاتو بريان 1768-1848م"، وسواهم. كانت طبيعة "الرومانتيكية" التمرد على الالتزام المتحجر بالقيود التقليدية، والثورة على التطبيق الحرفي للقواعد الفنية "الكلاسيكية"، لكنهم احتفظوا بروح القواعد القديمة التي تجعل الشعر فنًّا جميلًا ممتعًا، وأدبًا رائعًا جذابًا، يفيض حيوية من خلال معاصرته. ولذلك يبدو الفرق واضحًا بين تحطيم القواعد والخصائص الفنية من أساسها، بحيث لا يبقى لها أثر مطلقًا، وبين الخروج عن الروتين الجامد فيها، فالخروج يتيح للشاعر استعمال القواعد "الكلاسيكية"، لكن من خلال النظرة المعاصرة، وعن طريق التوليد لها بما يتناسب مع مقتضيات الإنسان من داخل نفسه، عن طريق التجرد من هموم العصر وأثقاله، والتحرر من سلطان الواقع وكابوس الروتين، ولو أثناء تجسيم التجربة الشعورية الذاتية في بناء العمل الفني، مهما كان الوقت قصيرًا في تحقيق ذلك. وهذه الملامح لطبيعة "الرومانتيكية" لا تلتقي في كل الوجوه مع ما ينشأ في الأدب العربي الحديث من مدارس تتشابه لها، وإن اتفقت معها في بعض الخصائص، ومنها صفة الإنسانية التي يشترك فيها كل إنسان في العالم مهما اختلفت مشاربه واتجاهاته. ولكن يظل الفرق واضحًا من حيث الظروف، والدواعي، والأسلوب، والاتجاه الأخلاقي، والمزاج الشخصي النامي من بيئة معينة.

والاتجاه الأخلاقي النابع من قيم البيئة الأوروبية الغربية يتناقض تمامًا مع الاتجاه الأخلاقي النابع من البيئة العربية الإسلامية، فالبيئة الأولى تنشد من ورائه تحقيق الذات والشهوة من خلال البناء المادي الصرف للحياة السعيدة في تصوره القاصر والمحدود. والبيئة الثانية تنشد من أدبها تحقيق السعادة للذات من خلال بناء الحياة المتكامل، والمرتبط بالقيم النبيلة في تحقيق النمو الضروري للقوة والعزة، ودفع التقدم للنشاط المادي اللازم في بناء الحياة وتطورها، ليكون ذلك وسيلة لتحقيق السعادة للإنسان طوعًا لأمر الله -عز وجل، واستجابة لاستخلافه في الحياة، وابتغاءً لمرضاته في اتخاذ الوسائل والأسباب1. وهذا هو جوهر الفرق بين الطبيعتين: الذاتية المادية الصرفة في مذاهب "الرومانتيكية"، والإنسانية السامية النبيلة في "مدرسة التحرر في التجديد"، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . ثانيًا: عوامل تكوين مدرسة التحرر في التجديد ماجت الحياة الأدبية والحركة الشعرية في المملكة العربية السعودية كسائر الأقطار العربية الأخرى، وذلك من خلال المدارس الأدبية الحديثة، وفي ظلّ المذاهب النقدية المعاصرة. ومن أهمها في العالم العربي "مدرسة الديوان" و"مدرسة المهجر" و"مدرسة أبولو"، وغيرها من المدارس الحديثة التي دفعت كثيرًا من الشعراء في المملكة العربية السعودية إلى أن تسير على نهجها، وأن تتبع طريقتها في تناول الشعر، وصياغته ونظمه، ومضمونه، وخياله وصوره، وأغراضه، وقالبه الموسيقي، فظهر مذهب جديد في الشعر السعودي بصفة عامة، وفي شعر الجنوب "عسير" بصفة خاصة، "ألا وهو" "مذهب التحرر في التجديد"، الذي يسير في واقعنا العربي الإسلامي جنبًا إلى جنب مع المذهب الابتداعي "الرومانتيكي" في أوروبا حديثًا2.

_ 1 انظر: الرومانتيكية: د. محمد غنيمي هلال، مذاهب النقد وقضاياه: د. عبد الرحمن عثمان 1975 مطابع الإعلانات الشرقية، الأدب العربي الحديث ومدارسه د. محمد عبد المنعم خفاجي، المحمدية بالأزهر، وغيرها 2 انظر: الحركة الأدبية: د. بكري شيخ أمين، الأدب العربي الحديث ومدارسه د. محمد عبد المنعم خفاجي، وغيرهما.

وأصبح لهذا المذهب العربي الأصيل في الأدب العربي الحديث عشاقه وشعراؤه، وكأن واقع الشاعر في حاضره ومعاصرته يدفعه إلى هذا الاتجاه، ويجعله دائمًا يصطدم أمام المطامع العظيمة لتحقيق رغباته وآماله، ويجد الشاعر نفسه أمام العقبات والسدود، فيفيق من هذه الصدمة العنيفة، ليجد نفسه أمام طريقين لا مناص منها: أحدهما: طريق الشكوى والحزن والألم، والنزوع إلى الفردية، والتغني بالذاتية، والشعور بالوحدة، والإيواء إلى العزلة، والاختلاء بالنفس، فيأنس الشاعر إلى شعره الذي يعتصر هذه المآسي، ليكون عوضًا عن تحقيق رغبته نوعًا ما. ثانيهما: الهروب إلى الطبيعة من الحياة التي تموج بصراعات الأحياء والناس، لينسوا واقعهم المرير، ويبثوا الشكوى إلى مظاهر الكون من جبال ووديان وأشجار وبلابل، وسماء، وكواكب، ومياه رياح وعواصف، وورود وأزهار، وأنهار وبحار، وغابات وزروع، وغير ذلك من مناظر الطبيعة الخلابة، وعرصاتها الجذابة، فيتجاوب معها الشاعر في عطف وحب وعناق ويسبّح بروحه إلى ما وراءها، ويهيم بأودية الأحلام والأوهام، فينمي هذا الاتجاه الانطواء والعزلة، والتشاؤم والحذر، والطيرة والتطير. ومن خلف هذين الطريقين يلح على الشاعر المعاصر تيار الصراع المادي الطاغي مع القيم ومقتضيات الحياة، وحاجاتها الضرورية والكمالية، فإن استجاب للقيم وحدها وسدد خطاه بمبادئه السامية أصبح في نظر المعاصرين متخلفًا رجعيًّا، وقطعة بالية قديمة ينبغي أن تهمل وتغيب عن الوجود كما ذهبت في الماضي، وإن استجاب الشاعر للجانب المادي الصرف وحده، ليجاري واقع العصر المادي المسرف في المادية انقطعت صلة الحاضر بالماضي، وتجرَّدت القيم النبيلة التي يكون بها الإنسان إنسانًا، وانقطعت صلة الإنسان بخالقه وبارئه، وحيئنذ تكون الكارثة، وينداح الشاعر بين التيارين العنيفين في قلق واضطراب لا يستقر على حال، حتى تتراءى له في غياهب الظلام سفينة النجاة من بعيد، يمخر بها عباب الماء المتكاثف من ضاب التيارين المتعانقين: القيم والمادة ممتزجان في توازن واتزان، وتلاحم وانسجام، وتلك هي فطرة الإسلام الكامل للحياة والناس، لأنه دين ودنيا، قيم وتشريع، تهذيب وبناء للحياة. ولا أدلّ على الاتجاه الأول المسرف في جانب واحد فقط من قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . ولا أدل على الاتجاه الثاني من التوازن والاتزان من قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، والفرق بين الأيتين كالفرق الجوهري بين المادية المسرفة في أوروبا والغرب، وبين قيم التشريع الإسلامي في أمة الإسلام في الشرق.

ثالثًا: الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد من خلال هذه العوامل وتلك الظروف، ومن واقع طبيعة البيئة العربية الإسلامية تشكَّلَت لهذه المدرسة خصائص فنية تدل على مذهبهم الأدبي، تحققت في شعرهم، وصارت من سمات فنهم الأدبي ومميزاته، فالشعراء ينتحون شعرهم من معينه، ويصبون وابلهم من براكينه الملتهبة، وينساب تصويرهم الشعري من منابعه الثرارة المتدفقة، وهذه القيم الفنية بإيجاز هي: - التعبير عن ذات الشاعر، وتصوير أحاسيسه ومشاعره الذاتية، والعناية بالطابع الشخصي. - شيوع الشكوى والألم، والحزن والمرارة، والكآبة والتشاؤم، والعزلة والغربة. - الهروب إلى الطبيعة، والاندماج في مظاهرها، وترك المدينة، والترنم بالريف الساحر البسيط. - الدعوة إلى أدب جديد، ينصف الطبقة المظلومة من أي نوع من الظلم، ولو ظلم النفس لذاتها، وهذا يحتاج إلى الخيال المحلق الجموح. - التمرد على النماذج الشعرية القديمة، بمعنى الحرية في المنهج والموضوح والتصوير والقالب، فليس عندهم موضوع صالح للشعر، وآخر غير صالح؛ لأن الشاعر يسجل ما يراه؛ لأنه يرى ما يسجل. - تحطيم قواعد الشعر الاتباعي "الكلاسيكي" القديم، والهيام بالشعر الغنائي العاطفي. - تفسير النص الشعري مرتبطًا بصاحبه الذي ابتكره؛ حيث لا يتضح النص إلَّا بتوضيح العلاقات بينه وبين صاحبه. - الاهتمام بالوحدة الفنية، والموضوعية، والعضوية، وكذلك الاتساق الموسيقي، والانسجام في الإيقاع والنغم1. - الابتعاد عن الأسلوب المباشر، والهيام بالوحي والإيحاء في التعبير، وبث الأضواء والظلال في جوانب العمل الفني. - معالجة القضايا الاجتماعية من خلال ذات الشاعر وأحاسيسه ومشاعره. - الحرص على الالتزام بالقيم الإسلامية والخلق في الشريعة الإسلامية، حيث يستمد التصوير الأدبي وروافده من ذلك.

_ 1 انظر: الأدب الحديث ومدارسه: د. محمد عبد المنعم خفاجي، الرومانتيكية والنقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال.

- التحرر الذي ينشده في شعره قد ينسيه قواعد الأسلوب الصحيح، فلا يستيقظ في شعره عن أخطاء أصابته من ناحية اللغة والاستقامة والفصاحة والأسلوب والعامية، والخروج عن الأولى كما سنرى في مكانه. - يسير الشاعر أغوار نفسه، ويعشق التأمل حول الجزئيات العميقة، ويجعل من الحبة قبة كما يقولون. - يتسم بالعالمية في تصوير الجوانب الإنسانية والقيم الفاضلة والأخلاق السامية. هذه أهم الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد، والتي سنراها مجسمة في شعر هذه المدرسة الجديدة في المملكة العربية السعودية بصفة عامة، وفي شعر الجنوب "بإمارة عسير" بصفة خاصة، وفي مدرسة التحرر في التجديد ظهر شاعران طبع شعرهما في ديوان "في متاهات الحياة" للشاعر أحمد علي سعد عسيري - صدر في جدة عام 1393هـ-1973م"، وقدم له الشاعر الكبير محمد حسن عواد. والشاعر الثاني أحمد بهكلي، ظهر ديوانه الأول "الأرض.... والحب" عام "1398هـ-1978م" نادي جازان الأدبي، وظهر ديوانه الثاني "طيفان.... على نقطة الصفر" عام "1400هـ-1980م" النادي الأدبي بجازان. ولا زال على ساحة الجنوب شعراء ينتمون لهذه المدرسة، نقرأ لهم القصيدة المرة بعد المرة، ولم تظهر شخصيتهم من خلال شعرهم، فلم يصدر لهم حتى الآن ديوان شعر، أو انعقدت فوق رءوسهم دراسات أدبية تحفزهم على تجسيد شعرهم في حيز الشيوع والظهور في المجال الأدبي والنقدي.

الفصل الثاني: الشاعر أحمد العسيري

الفصل الثاني: الشاعر أحمد العسيري أحمد عسيري - نشأته وحياته: الشاعر أحمد علي عسيري، من مواليد قرية "آل زيدي" في أبها، ولد عام "1366هـ"، وتوفي والده وهو في الرابعة من عمره، ودخل المدرسة "السعودية" بأبها عام "1374هـ"، ثم انتقل إلى "مكة المكرمة"، ودخل دار الأيتام عام "1375هـ"، وفصل منها، ثم عاد إليها، وظلَّ يتقلب في المدارس حتى وصل إلى قسم اللغة العربية في كلية الشريعة "بمكة المكرمة"، ثم تركها ودخل كلية "الأمن الداخلي" عام "1390هـ"، ثم تخرج برتبة ملازم ثاني، ويعمل الآن في شرطة "جدة"، له ديوان شعر مطبوع "في متاهات الحياة"، وله كتب تحت الطبع1. ومن خلال تلك النشأة والحياة التي تعتصرها المرارة والألم في مرحلة هي أشد ما تكون إلى عطف الأم وحنان الوالد تمزقت حياة الشاعر، فكان شعره قطعة من العلقم الذي شعر به، وفاض به في قصائده، ليصور آلامه وآهاته، وأحزانه وتمزقه في إطار من القلق والحيرة والشكوى، وذهاب الأمل، والتيه في غياهب السراب والضباب. كان من وراء هذا الاتجاه الأدبي عوامل لاذعة هي التي نزفت من نشأته وحياته من أهمها: أولًا: في الرابعة من عمره فقَدَ والده، مصدر العطف والحب والولاء والطاعة، والتعاون والرعاية، وحفاز الآمال ومحقق الرجاء، وصدره المفتوح، وظهره الذي يحميه، ويدفع عنه، فقد كان ذلك في باكورة حياته وأخطر مرحلة يمر بها الطفل مرحلة يكون تسجيل الطفل لما حوله عن طريق إحساسه، ومشاعره، وعواطفه، صادقًا ودقيقًا وعميقًا؛ لأنه ما زال قريب عهد بالفطرة البريئة الصافية. ثانيًا: والفطرة البريئة الصافية في تلك البداية المريرة تتطلع إلى الكون من حولها؛ لتجد عوضًا وتسلية وسلوانًا، فتتملي من آيات الجمال على صفحة الطبيعة الساحرة ما يشغلها، وتتجاوب معها، هي طبيعة أبها الأخاذة، وروعة الحياة في الجنوب، وجلال الكون من حولها، ووقار الجبال الراسيات فيها، ورقرقة المياه المنسابة والسارية في مجاليها، وابتسام الزهور لثغرها،

_ 1 الديوان: في متاهات الحياة للشاعر، تقديم الشاعر محمد حسن عواد، جدة عام 1393هـ-1973م.

وتعانق الأشجار في غاباتها، وجد في ذلك كله عوضًا وعزاء وسلوانًا مما كان له الأثر الكبير في تفجير مشاعره وشاعريته. ثالثًا: يلجأ في مكة المكرمة إلى الحضن الدفيء للوالد الكبير راعي الأمة؛ حيث دار الأيتام؛ ليشعر بيد البشر الحنونة، ونظرة الإنسان الدافئة من حيث الرعاية والحفظ والتوجيه والبناء العاطفي والوجداني، فلما أحسَّ بأن اليد ليست يد أبيه الوالد، والنظرة ليس فيها دفء الأب الحقيقي، فرَّ من الدار وانفصل عنها، لكنه وجد نفسه في فراغ بلا يد، وبلا نظرة فاضطر عائدًا للمرة الثانية إلى الوالد الكبير، ونظرة الإنسان الرحيم إلى دار الأيتام؛ ليشق حياته في العلم والتعليم، ويفتح صدره لقدره المحتوم. رابعًا: تدرجه في سلم التعليم، حتى وصل إلى قسم اللغة العربية في كلية الشريعة، ليخصب حقله اللغوي والأدبي من هذا الميدان التعليمي الثري بلغته وأدبه وفكره واتجاهاته؛ ليعينه على تنمية موهبته الشعرية، وصقلها وتهذيبها بعد أن تفجرت من ذي قبل. خامسًا: بعد أن حدَّد اتجاهه في سلم التعليم، ومكَّن موهبته الشعرية من حقل اللغة والأدب، حفزه الأمن الذي كان منذ الصغر يبحث عنه ولا زال، فالتحق بكلية "الأمن الداخلي" ليؤمن حياته، ويشق شاعريته وهو في ظلال لقمة العيش الكريمة، وهي ترفرف عليه في عزم ورجولة، وتهمس في أذنيه، فيتردد صدى الهمس بين جوانحه وفي جنبات أحشائه، أصبحت رجلًا.. إنسانًا.. شاعرًا.. ضابطًا.. مكافحًا من أجل الإنسان والقيم الفاضلة والحياة.

الأغراض الأدبية وخصائصها الفنية: أولًا: شعر الوجدان والتأمل هذا الغرض من شعره ينزف به وجدانه، ويسبر به أعماق نفسه، ويبحث عن ذاتها في الضياع في تصوير أدبي يفيض أسى وحزنًا، ويقطر ألمًا ودمًا، يسوده القتام "والبؤس والحرمان، فهو يمثل حياته بصدق ودقة، يقول في "ومضة" تكشف عن موطنه في الجنوب: ولي في "الأزد" عرق منه أصلي ... ونعم الجد من "شهر" النجيب ورثت العزم من أهلي وأرضي ... سراة الأزد أم للعريب وللإنسان في قلبي مكان ... فذا الإنسان يا قلبي حبيبي وما فخري بقومي غير ومض ... ينير النفس للفعل المصيب1 لكن الشاعر العسيري ترك موطنه الذي ولد فيه، وتاه في دروب الحياة التي امتلأت بالشوك والماء يقول في قصيدته: أين دربي في حياتي ... والدجى غطى رباها أبذل الجهد ولكن ... ضاع جهدي وتناها مذ طواني الدهر طيًّا ... مذ رماني بشظاها وبحثنا عن طريق ... يمنح النفس مناها فرأيت الدرب شوكًا ... وضياعا ومتاها2 وتاه في الحياة من طول الضياع، فهو يخرج من متاهة إلى أخرى، وأجمل حلم يراه هو انتباهته بقدر ما يميز بين درب ودرب، وفي متاهاته تهديه الحياة الضياع، يقول في "آه من طول الضياع":

_ 1 في متاهات الحياة: 19. 2 الديوان: 20.

كم رأينا الليل فجرًا ... وأمانينا قريبه فإذا بالفجر ليل ... إن ذي الدنيا عجيبه كم مشينا لا نبالي ... أي حزن أو مصيبه فإذا بالحزن بحر ... ضعت في "لج" رهيبه رأيت الدرب ماء ... وأراني في صراع كلما غيرت دربي ... واجهت نفسي متاهه أجمل الأحلام في ... قلبي وفي فكري انتباهه وإذا بالدهر يهدي ... وجهتي نحو الضياع1 يغوص الشاعر في أعماق الضياع، وهو يخبط في متاهات الحياة، فإذا خواطره الإنسانية في دموع يذرفها على إنسانيته المهدورة، لكنه من خلال الشعر الوجداني المحموم تتجسَّد روح الإسلام العادلة التي ترد كيد الظالمين للضعفاء والمظلومين، فيرفع يديه إلى السماء في سكون الليل البهيم، فيتردَّد الدعاء في جنبات السماء، فترتد صاعقة توقظ الحائرين والمعتدين، وكيف يدعو الإنسان على أخيه الإنسان بالزوال والموت، فصفة القربى الإنسانية ميثاق وأواصر بين البشرية جمعاء، لا تفرق بين إنسان وآخر، فلماذا العنصرية؟! وإنها العنجهية! وإنها الصراع والتحطيم والموت والضياع، فلماذا لا تزرع المحبة؟ فيعي الإنسان دربه.. يصور هذه المعاني وأكثر في مشاعر متدفقة وعاطفة مشبوبة وتجربة شعرية صادقة، كابدها الشاعر عن كثب، ووجدان ملتهب تؤججه القيم الإنسانية المهدورة في عصر الماديات المسرفة، والتيه والقلق والضياع في قصيدته "خواطر إنسان تائه": أيها الإنسان لا تطغ عليّا إن ظلمي قوة ملك يديّا دعوة في الليل لا تبقيك حيّا لا تلمني إن دعوت فتزول وتموت عصرنا يسعى ولكن للخطر يا أخي إياك أن توري الشرر يا أخي إياك تفني البشر أنت منهم وأنا آدم جد لنا فلنقدس جدنا

_ 1 في متاهات الحياة: 21/ 22.

إن في القربى لميثاق أواصر فاغتنمها فرصة إن كنت قادر لا تفرق بين إنسان وآخر ولماذا العنصرية؟ إنها العنجهية! أيها الإنسان ماذا في الصراع غير تحطيم وموت أو ضياع حبذا لو ضمنا درب اجتماع نزرع الأرض محبة فيعي الإنسان دربه1 تجديد في الإيقاع والوزن والموسيقى، وإن كان يسير على نظام "المقطعات" التي تتغير في الحجم والشكل والقافية، لكن الإنسانية لا تتغير، مهما اختلفت العنصرية، فهو شاعر وإنسان، وفوق هذا "مسلم عربي" لا يفرق دينه بين إنسان وآخر، وذلك في قصيدته "عربي يقول: من أنا؟ من ضاع بين الدروب؟ لا يرى غير ظلال من غروب ضاع دربي بين آمال تذوب من أنا يا زورق الأحداث من؟ تائه في عصره يشكو المحن عربي أبي ضاع في طي الزمن!! 2 لكنه عاش في "الواقع الأليم والمركب التائه": لقد غبت عن عالمي برهة ... أناجي خيالي وأشدو حزين أعلل نفسي بإشراقة ... تضيء دربي فأنسى الأنين

_ 1 في متاهات الحياة: 31/ 34. 2 في متاهات الحياة: 46.

ففي واقعي كما أرى تائهًا ... وإن أنا أول التائهين أقلب طرفي وبي لهفة ... إلى عالم فيه يحيا اليقين شربت الحياة بأكوابها ... فما ذقت فيا سوى دمعتي وغنيت فيها بقيثارتي ... فذابت على نغمتي مهجتي تأملت فيها جمال الوجود ... فتهت على مركب الحيرة أجوب البلاد وما أهتدي ... وهذا الضياع على صورتي أقلب طرفي لعلي أرى ... طريق يقين يزيل الظنون ولكن طرفي به حيرة ... من الناس حتى نفيت اليقين وهكذا إلى آخر القصيدة يصور نفسه في مركب تائه من الألم، ينتهي به إلى الضياع، وقلبه يسيل أسى من الحياة التي تذيب الحياة: فهذي الحياة تذيب الحياة ... وهذا فؤادي فيها يسيل1 لكن الشاعر الملهم هو الذي يجد في قيثارة الشعر العزاء الذي ينسيه همومه، والدواء الذي يخفف آلام الحياة، يقول الشاعر في "قيثارة": قيثارتي تشدو ودهري يسمع قيثارتي ثكلى وأم ترضع تبكي الصبا يمضي فلا يسترجع وترضع الأحلام من ثدي الألم قيثارتي لحن وأوتار هزيله ناجيتها هات فقالت لي عليله الحزن يدميني وأوتاري ذليله قيثارتي شعري وعمر كالوتر قيثارتي الثكلى وعمري المنتحر2

_ 1 الديوان: 57/ 63. 2 في متاهات الحياة: 69.

وهكذا صارت حياته بؤسًا وشقاءً، وحزنًا وآلامًا، وشكوى وتضعضعًا، وإسرافًا في إطلاق المشاعر، وطغيانًا في الوجدان، لكن إنسان من البشر يعيش مع الناس في هذا القرن له "حق الإنسانية"1، وأمام ظلم البشر للإنسان، هل يستجيب له القدر، وتحضنه الحياة، ويحنو عليها الدهر، وذلك في قصيدته "لو يسمح القدر"، بعد أن اعتصرته مرارة البؤس والشقاء في قصيدته "حياة في القرن العشرين"3. هذا هو شعر الوجدان بسماته وخصائصه التي جعلته غرضًا شعريًّا متميزًا في شعر العسيري، فهذا الغرض يعبّر بصدق ودقة عن حياة الشاعر، فالوجدان فيه هي حياته، والشعر الصادق هو الذي يرسم فيه الوجدان حياة صاحبه في شعر محموم وعاطفة جياشة، ومشاعر رقيقة، وتصوير أدبي رائع. إن شعر الوجدان في شعر العسيري يؤرخ للشاعر حياته المريرة وعلاقاته بالناس من حوله، وموقعه في دنياه، ... دنيا القرن العشرين. ثانيًا: الشعر الإسلامي والشعر الإسلامي هو أكثر شعر العسيري بعد الشعر الوجداني، ويغلب عليه الجانب الإنساني العالمي، فالإسلام دين عالمي عام لكل البشرية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 4، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5. وفي عام 1948م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حقوق الإنسان العالمية، حينئذ ذكر الدكتور عثمان خليل 6 أنَّ الإسلام منذ خمسة عشر قرنًا أقر هذه الحقوق العالمية للإنسان، مثل المساواة، وتحقيق الحريات في التملك والعقيدة والعمل والمحافظة على الحرمات.. وهذه المبادئ الإسلامية هي التي جعلت الدين الإسلامي ينشر سماحته شرقًا وغربًا بلا إكراه، وبمجهود ضئيل، وبغير دعوة مطلقًا.

_ 1 الديوان: 70. 2 الديوان: 72. 3 الديوان: 93. 4 سورة سبأ: آية 28. 5 سورة الأنبياء: آية 107. 6 الديمقراطية الإسلامية: 35/ 56 القاهرة 1958م.

ويقر بعالمية الدين الإسلامي وإنسانيته المستشرق توماس أرنولد، فيرى: "أنَّ في هذه اللحظات التي تطرق فيها الضعف السياسي إلى قوة الإسلام، ترى أنه حقق بعض غزواته الروحية الرائعة، فالأتراك السلاجقة والمغول كانوا فاتحين غالبين، ومع ذلك اعتنقوا ديانة المغلوبين، وهو دين الإسلام"1. وأحمد العسيري في شعره الإسلامي خرج به إلى تلك الآفاق الإنسانية، التي دعا من أجلها الإسلام، وهذا الجانب الإنساني العالمي لاقى هوى من نفسه، التي تلهث بالآهات والأحزان والآلام من كيد الظالمين المعتدين، الذين اعتدوا على كرامة الإنسان وحقه وحريته في أي موقع من أرجاء المعمورة، يصور مشاعره هذه في قصيدة "الدنيا ص35-36"، وقصيدة "يا عالمي ص37، 39"، وقصيدة "العاصفة ص49، 52"، وقصيدة "حديث مع الزهرة ص64، 67"، وقصيدة "إنسانية ص72، 78"، وقصيدة "إلى أعدائي ص86، 92"، وقصيدة "نكسة أخرى ص47، 48" بمناسبة نكسة حزيران المشئومة. والعسيري يصرح في وجه العالم بقصيدته "يا عالمي"، ويقول مقدمًا لها: "في الهند مجاعة، وفي فيتنام النار، وفي فلسطين الطغيان، وفي نيجيريا الانقسام، وفي اليمن مجازر، وفي كل ركن من أركان الدنيا جائعة، وينفث آهاته وأحزانه على ظلم الظالم للإنسان، فيقول في هذه القصيدة: يا عالمي إني هنا أبكي المصير ... ألا ترون دمعًا مراقًا ثم جوع والفقير ... أو ترحمون فقر طغى- ظلم- وحرب- وشرر ... أو تنكرون في كل أرض صرخة هل من مجير ... لم تضحكون؟ عقائد قد ألهبت هذا السعير ... فستندمون

_ 1 الدعوة إلى الإسلام: توماس أرنولد ص26 النهضة المصرية 1957م.

"الله أكبر" قلتها والأمر شر ... في ذي الحياة "الله أكبر" قد طغى أمر الشر ... وبلا أناه "الله أكبر" دق ناقوس الخطر ... أين النجاة "الله أكبر" صرخة فيها العبر ... مما نراه "الله أكبر" ذا وجود ينتحر ... هل من صلاة؟ ذا عالم يسعى بعزم مستمر ... وبلا اتجاه يا رب أني تائه بين الدروب ... أين الطريق؟ ذا عالمي يسعى ولكن للغروب ... بعد الشروق يا رب صدري الرحب قد مل الكروب ... عافى البريق رباه عالمنا غريق في الذنوب ... وفي المروق فقنابل ذرية أين الهروب؟ ... وهل نطيق؟ للكيمياء خنقه.. لا.. لا هروب ... ضاع الطريق

كم دمعة فرشت بساطًا من عذاب ... كم من جريح كم صرخة خارت فماتت في التراب ... كي تستريح كم شهقة.. كم أنة تشكو العذاب ... كم من طريح1 وهذا الاتجاه الإسلامي الإنساني العالمي نجده في شعره الإسلامي من قصيدته "حديث مع الزهرة": إني على شك من القيم ... أوحته أحداث على عظم في العالم الأرضي ملحمة ... في القدس في الأردن في الهرم في الشرق جزار ومذبحة ... في الغرب تأييد من النظم في كل يوم من الدنيا حدث ... والعرب تلهو من ذرى الوهم قضيت في هم وفي حزن ... أرعى نجوم الليل لم أنم نادتني الزهراء قائلة ... مالي أراكم رؤية العدم إلى قوله: ما كنت أرضى بالهوان ولا ... أرضى ولا شعب من الأمم فأجبت يا حسناء قد غربت ... شمس وآبت موجة الظلم ابك معي قومي وعزهم ... ذل أصاب العرب في الهمم إلى قوله: قالت لي الزهراء لائمة ... نصركم بالدمع والكلم المدفع الهدار يكسبكم ... نصرًا وليست هيئة الأمم إن رمت حقًّا إن مكمنه ... في القوة الهوجاء في الحمم دبابة الميدان هي سند ... والمدفع الغضبان في القمم

_ 1 في متاهات الحياة: 37/ 39.

والطير في الأجواء حائمة ... تبقى جموع الجيش كالرمم ما مات حق أنت تطلبه ... بالفعل لا بالقول والحلم1 ويتضح أيضًا هذا الاتجاه الإنساني العالمي في شعره الإسلامي الذي يغلب عليه مذهبه الشعري من التحرر في التجديد، وما يتسم به شعره من الوجدان الثائر المحموم الذي يعصف بأعداء الإنسان في أي مكان، وذلك في قصيدته "إنسانية" ويقول في تقديمها: "عندما يعيش الإنسان بين مجموعة من البشر.. أحد أفرادها يضر به، وأحدهم يغضب أرضه، وثالثهم يحكم عليه بالأمر الواقع،.. عندما يعيش الإنسان هذا الواقع المرير، ينظر يمنة ويسرة، يتذكر الماضي، ويمقت الحاضر، ويتشاءم من المستقبل.. رغم2 أننا في عصر علمي" ومطلعها: أنا الإنسان في الأرض ... أراني الفاني المعدم فعلمي بات يرميني ... إلى جهل مما أعلم إلى قوله: ودمعي موجة حري ... لأني كنت في المأتم أنا الإنسان في الأرض ... أراني الفاني المعدم فنفسي سوف أنعيها ... وأنعى أمة توصم وأنعى أمة كانت ... تقود الأرض لا تهزم إلى قوله: تردت في متاهات ... من اللذات كي تنعم ولا زالت على حال ... تثير الحزن في المسلم ألا تبًّا لإنسان ... يميت الروح في المأتم أيهوى لذة الدنيا ... ويعصى شرعه الأعظم3

_ 1 الديوان: 64/ 67. 2 رغم: والصواب على الرغم من.... 3 في متاهات الحياة: 72/ 78.

ثانيًا: الرثاء وهذا الغرض لا تجده إلّا في قصيدة واحدة من ديوانه، ويخرج فيها الشاعر على النمط التقليدي المعروف في الرثاء القديم؛ من ذكر مآثر المرثي ومحامده التي اتصف بها في الماضي، وبذ أقرانه فيها، بل مضى الشاعر في هذا الغرض يسير على مذهبه الشعري الوجداني الإبداعي من التغني بأحزانه وآلامه، ويسكب دموعه وعبراته من وجدانه على نفسه، ثم يتأمل حقيقة الحياة في تيهٍ وحيرة، يقول في قصيدته "دموع الحياة" ويهديها إلى روح الملازم عمر سلطان الطجل: أتاني يقول فقدنا الصديق ... فقدنا الخطيب فقدنا "عمر" تأملت ما قاله في خشوع ... وغامت ظنوني وحار النظر ثم يدير العسيري حوارًا بينه وبين الحياة في ثوب قاتم حزين؛ ليقف من خلال الحوار على حقيقة الحياة والموت، والشك واليقين، والناس يركبون زورق الحياة، يسيرون في ظلام دامس، فمنهم من ضل وارتدى لباس الرياء، وطوى قلبه عذاب الحياة، فيرسو زورقه في سقر، وطوبى لزورق أعطى راكبه حق الحياة، وحق الآخرة معًا، وخشي الله وشكره، يقول: أرى في الوجود دموع الحياة ... تسيل على خدها تحتضر فتحفر في الخلد جرحًا عميقًا ... عليه أرى قوة المقتدر فأهمس للنفس في رهبة ... أراك تمجين هذا الأثر فقالت: أراك تقول الحقيقة ... إن الحقيقة شيء أمر أمر من الموت لو تعلمون ... وأسمى طبائع من يقتدر أتسمح للفكر في رحلة ... تجوب المعاني وتملي العبر فقلت: المعاني في عصرنا ... عليها من الشك ثوب ستر ففي الشك بحث كذا وفي اليقين ... علوم يجادل فيها البشر رأيت الشك بحث كذا وفي اليقين ... علوم يجادل فيها البشر رأيت الحياة لها مركب ... عليه من الشك زاد السفر فما تتمناه من غاية ... فعمَّا قليل تراها تضر نعيش الحياة على زورق ... يسير بنا في ظلام فغر ومرساه صعب لمن يرتدي ... لباس الرياء وقلبًا فجر فوارحمتاه لمن قد حوى ... عذاب الحياة ويلقى سقر وطوبى لمرء رأى في الحياة ... سرورًا يزول فهاب الأخر وعاش يغني لما في الوجود ... ويشكر ربي على ما أمر وأقصى ما يذكره العسيرى من ثناء الراحل أنه فقد فيه الشباب الناضر، وفقد في نفسه المعاني لمن يبتغيها منه، فهو في حيرة من أمره، فقد سيق الصديق المرحوم إلى رمسه في

رهبة وخفوت وأسدلوا عليه الستار، وغطوه بالتراب، وعاد المشيعون في حيارى لا من صديقه، ولكن الحيرة كل الحيرة من حقيقة الحياة والموت التي أعقبت حسرة في نفس الشاعر، وقرحت جرحًا على خده، وعشى عنها البصر، وترددت أصداء الحيرة في الوجود، لتقرر أن الإنسان عاجز عن فهم الحقيقة التي لا يدركها إلا الله وحده -سبحانه وتعالى، خالق الوجود "يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير" والدموع والتسليم هما الأمل الذي يبدد الحيرة والشك، والرضا بالقضاء والقدر هو تسبيح العاجز أمام جبروت القوي القادر، وحلاوة العلقم في الختم صلاة الضعف أمام الخالق العليم، فالأول والآخر والظاهر والباطن هو وحده يعلم حقيقة الوجود ... يقول العسيري: أتاني يقول فقدنا الصديق ... فقلت فقدنا شبابًا نضر فقدت المعاني من فقده ... فماذا أقول لمن ينتظر شعوري إذا ما فقدت الصديق ... وساقوه في رهبة للحفر وغطوه التراب في رمسه ... وعدنا حيارى ولا من "عمر" فماذا أقول وبي حسرة ... تقرح خدي وتعشى البصر أرى في الوجود دموع الحياة ... وألمح فيها دبيب القدر وينعتق في الركب صوت الأفول ... فيرسم في الكون شتى الصور وفي الرسم روح تسوق الحياة ... إلى حكمة حار فيها النظر ويحفر في الفكر هذا الغموض ... صلاة الضعيف أمام الخطر1

_ 1 في متاهات الحياة: أحمد العسيري

رابعًا: الهجاء "وفي متاهات الحياة" نجد قصيدة واحدة من هذا الغرض الأدبي بعنوان: "الغر"، وسار فيها الشاعر على نمط جديد أيضًا، لا يتبع فيه منهج الشعر القديم في الهجاء من السباب والقبح، والفحش في القول، والوصف البذيء، وغير ذلك مما هو معروف في هجاء الهجائين القدامى. لكن العسيري يرى فيمن هجاه أنه غر جاهل، وأن نور العلم سيقذف به في التيه والأوهام، وحينما يصطدم بالحق يتمادى في السخط، وتعتصر مقلتاه بالشر، فهو يقطع عمره لا في بناء الحياة وتقدمها، ولا يتم ذلك إلا بوحدة الجماعة واعتصامها، لكنه يفني جسده لهدمها، فيزرع البؤس والذل ليحصد شقاءه وآلامه. وينبغي أن يعلم الجميع أن مثل هذا الغر الجاهل والأحمق سيتحطم في زوايا الحقد، ويتمطى في ثياب السخط، وتنزف عيناه بالشر واللهب، فهو عليل الفكر، ينهش عرض الجار، ويظلم العقلاء المخلصين بزهوه وخيلائه يقول في مطلعها: هزيم اللذة الغاوي موات ... يصيب الناس إن أبقوا عليه وينخر في تلافيف الحيارى ... ويحلم أن قيدي في يديه وقيدي عزة تصبو إلينا ... سمت فينا وما كانت لديه وفكري سوف يحميني بنور ... يذيب الغر في حلم وتيه وقيد الحق أوهى كل قيد ... رءوف المس إن سقنا إليه وما في الباطل المجنون عز ... وعز الحق أن تدني بنيه هزيم اللذة الغاوي رآني ... أقول الحق فيما ينتويه تمادى في ثياب السخط حتى ... رأيت الشر في مقلتيه وأملي فكره المغرور غيًّا ... تعالى في كراماتي بفيه أأجني جذوة من كل قول ... ترم الجسم يا ويل النبيه يهد العمر يبني حياة ... تشل البؤس أو تقضي عليه ويحفر في قلوب الناس نبعًا ... رحيق العدل يسقي شاطئيه فيقبر في تراب الذل أجرًا ... ويسعى رغبة الغر السفيه أجيل الطرف في ركب الحيارى ... يمر الدرب لا يدري بتيهي سوى الإنسان والإنسان وصف ... تواري في متاهات النزيه ويرفع صوته الحيران يشكو ... فتسمع قصتي من أصغريه

سأسمع للورى.. للناس قولي ... وعز الحق أن تدني بنيه وأترك في زوايا الحقد غرًّا ... رآني أرشد الدنيا إليه تمطي في ثياب السخط حتى ... رأيت الشر يدمي مقلتيه عليل الفكر كالمسموم يلهو ... بعرض الجار أو ظلم النبيه1 وهذا الهجاء هو الذي ينبغي أن يتخذه الشعر غرضًا أدبيًّا، فهو يهذب الشعور وينمِّي الذوق، فهو هجاء يبني في الناس أخلاقًا، ويشيد فيهم الفضائل النبيلة عن طريق واضح وتصوير مباشر، ويحقر فيهم الرذائل لا كما في "أزهار الشر" لبودلير، فهو يزين الشر في تصوير جميل أخاذ ليصرف الناس عنه بطريق غير مباشر كما يدعون. وهذا النمط من الهجاء يدفع بصراحة وقوة إلى قول الحق والتصدي للباطل، ويرغب في العلم، وينفر من الجهل، ويصوّر الغر الأحمق في أقبح صورة يتوقاها الإنسان في أيّ اتجاه، ويحذرها في كل خطوة، ويخشى على نفسه منها في كل حين؛ لأن العلم والحق والنور هو الذي يبني الحياة ويرفع الذكر، ويمضي أهله مع الخالدين. ومما يجعل هذا النمط من الهجاء هو بغية الشاعر النابه والجادِّ في شعره، هو أن يظل خالدًا بهذا الغرض الأدبي الذي يسمو به في سماء الأدب الرفيع والشعر السامي، ويربأ عمَّا اتصف به هذا الغرض قديمًا من السباب والفحش، والتدمير والهدم لأشخاص بعينهم، أخملهم الشعر القديم، وذهب بهم مع أهل السباب والفحش، وربما يكون المهجو بريئًا مما نسب إليه، قد تحامل عليه الشاعر لحاجة في نفسه، عند ذلك يكون الهدم والتدمير. لكن هذا النمط من الهجاء للعسيري يسمو بالغرض الأدبي للمعالي والبناء السامي؛ لأن الشاعر شغله تمجيد القيم السابقة عند ذكر الشخص المهجو أو التلميح إليه، مما جعل القصيدة تدور حول القيم النبيلة التي ينبغي أن يترسّم خطاها الغرّ والجاهل والأحمق؛ لتزول منه الصفات الذميمة من الجهل والحماقة والغرور، بذلك يكون قد رسم منهجًا جديدًا للهجاء في الشعر السعودي عامَّة، وفي شعر الجنوب العسيري خاصة.

_ 1 الديوان: 83/ 85.

التصوير الشعري: والتصوير الشعري عند العسيري يغرينا بالحديث عن تجربته الشعورية ومدى صدقها الفني، وعن ألفاظه وأساليبه، وعن الخيال وصوره الأدبية، وفي النهاية عن الإيقاع الموسيقي، وموسيقاه الشعرية: الوزن والقافية. ذلك كله من خلال النقد العربي الأصيل، وذوق الناقد الذي هزه شعر الشاعر وتصويره الأدبي الرائع. أولًا: التجربة الشعورية عند العسيري لو أدار القارئ عينيه وقلبه ليعيش في "متاهات الحياة" مع العسيري في تجربة الإنسان الشاعر الذي عانى مرارة الحرمان في تجربة حياته الواقعية، وهو يتلظَّى بنار الوجد فيها، ويصطلي بوهج السعير المحرق، عانى الشاعر تجربته في التصوير الشعري معاناة أليمة مريرة، أخذته من الوجود حوله، ليتمدد داخل وجدانه ومشاعره الذاتية، ولذلك لم ير غير ذات الإنسان حقيقة في الكون، تفجر شعرًا من أجلها ولها، حتى في لحظات المجاملة إذا رثى صديقًا، يلوي عنقه عن الصديق ليصور النفس والذات، وينسى أنه يرثي صديقًا حبيبًا إليه، لكنه في الحقيقة أنه يرثي نفسه وذاته؛ لأنها هي أقرب الأشياء إليه، وهي أصدق في التعبير عن نفس كل إنسان، وهذا هو الصدق الفني عمود التجربة الشعرية الصادقة الجيدة الشاعرة يقول: فقدت المعاني من فقده ... فماذا أقول لمن ينتظر أو تجربة الهجاء التي ينصب فيها الهجاء على الشخص المهجو المغرور، ينعتق الشاعر من ذلك الجسد الموجود والواقع أمام أنظار الناس، ويتمدد في حنايا نفسه، ويغوص في أعماق تجربته ليصورها في تجربة شعرية ذاتية تتنزى ألمًا ومرارة، يقول: وأملي فكره المغرور غيًّا ... تعالى في كراماتي بفيه أأجني جذوة من كل قول ... ترم الجسم يا ويل النبيه والواقع أنَّ ديوان الشاعر كله وخاصَّة ما يتصل بالشعر الوجداني، يعد تجربة شعورية.

لحياة العسيري المتكاملة الأجزاء، يصورها الشعر في الديوان بجميع أبعادها في دقة شاملة، وصدق فني، تتلاءم فيه كل المعاني والأفكار والمشاعر والأحاسيس مع الأخيلة والصور، والألفاظ والأساليب، يقول: أبث شعوري للسكون لعله ... يهيم بأشعاري فهام ورنما فيالك من صمت أذعت مشاعري ... لقد كنت يا صامتي سميعًا وملهمًا وما قلت شعري رغبة في ترحم ... ولكن نفسي قد أباحت ببعض ما فلا تعجبوا فالحزن محراب نجوتي ... ضحكي دعاء والبكاء تكلما1 والتجربة الشعرية عنده صادقة محمومة ببركان متفجر من مرارة الحياة، وظلام الحزن، وحميم الشر الذي يصيب من كأس النعيم، ليزداد جوى على جوى، وحسرة على لوعة، فلا يذوق منه إلّا الدموع، يقول العسيري في واقعه الأليم ومركبه التائه: شربت الحياة بأكوابها ... فما ذقت فيها سوى دمعتي وغنيت فيها بقيثارتي ... فذابت على نغمتي مهجتي تأملت فيها جمال الوجود ... فتهت على مركب الحيرة أجوب البلاد وما أهتدي ... وهذا الضياع على صورتي ظلام الحزن أشقاني وأعيا ... أأبقى في ظلام الحزن حيا يصب الشر من كأس النعيم ... لأني عشت في عصر الجحيم2 ولقد عبر العسيري عن صدق هذه التجربة في شعره، في الإهداء الذي قدم به ديوانه يقول فيه: إلى الإنسان الذي يشق طريقه في الحياة بعصاميته إلى كل إنسان ذاق مرارة الحرمان أو ضاع في متاهات الحياة3 ويقول: فأذيب الحزن شعرًا ... مد للإحساس عذرًا4

_ 1 في متاهات الحياة: 41/ 43. 2 الديوان: 58. 3 الديوان: 17. 4 الديوان: 27.

ثالثًا: الألفاظ والأساليب لا ينبغي في التصور عقد التلازم بين الصنعة الشعرية الفائقة وبين الدرجة العالية "الأكاديمية" في التعليم، وتجربة الباروي رائد البعث الأدبي والشعري في العالم العربي حديثًا هي الدليل الواقعي، فقد تتلمذ على دواوين الفحول من الشعراء القدامي فقط لا في جامعة متخصصة. فالشاعر العسيري التحق بكلية الشريعة قسم اللغة العربية في مكة المكرمة لسنة واحدة فقط، وتركها ليلتحق بكلية "قوى الأمن الداخلي" في 12/ 3م 1390هـ؛ ليعمل بعد ذلك في شرطة "جدة"، وقدم لنا هذا الديوان لكي ينفي من التصور هذا التلازم، فالموهبة الشعرية لا تحتاج إلى "أكاديمية" التعليم، حتى يحصل الشاعر على الشهادة العالية في اللغة العربية وآدابها، ولكن الإلهام الشعري حقله الخصب هو اللغة العربية وآدابها، فالشاعر هو الذي يدرك أسرار اللغة، ويحسب بإلهامه العلاقات بين ألفاظها ومعانيها، وخاصة إذا كان مثل الشاعر العسيري، الذي عاش في حقول اللغة العربية وموطنها الأصيل؛ حيث تلقاها بفطرته السليمة، من ذوي الفطر الصافية حوله، فقد ازدهرت بين حقولهم اللغة العربية، لذلك لا تعجب أن يظل الشاعر مفطورًا على ما اشتهر بين قومه وعشيرته من لهجة، تمكنت من ألسنتهم بالسليقة، وما زالت بين أهل الجنوب حتى يومنا هذا، وهي: أن ينطقوا الظاء ضادًا وبالعكس، ويكتبوها كذلك في كتاباتهم، وهذا ما عبَّر عنه العسيري في قوله: ضل يبكي في خشوع ... هل ستنجيه الدموع1 والمشهور في لغة القرآن الكريم "ظل". والألفاظ والأساليب عند الشاعر لا تجد فيها لفظ سوقيًّا ولا عاميًّا، بل تمتاز بالرقة والعذوبة والجزالة والوضوح، والشفافية عن معناها، كما تجد الأساليب محكمة غير قلقة في مكانها، متلاحمة النسج بلا اضطراب. والألفاظ والأساليب تتلاءم مع المعاني والأغراض في شعره، فقصيدته "دموع الحياة" يتلاءم النظم فيها مع الغرض في نسج من الألفاظ الدامية الجريحة التي تعبِّر عن قوة جبروت القادر:

_ 1 في متاهات الحياة: 29.

أرى في الوجود دموع الحياة ... تسيل على خدها تحتضر فتحفر في الخد جرحًا عميقًا ... عليه أرى قوة المقتدر1 وللنظم القوي في "الأحلام المنحورة" متلاحم ومتآخٍ لما يحمل من معانٍ وألفاظ: التبديد، والغيم، والوهم، والمسارب، وانتحار الصدر، والرجم بالحزن، والمتاهة، والقيظ، والبؤس والسقم وحصد الخسران، وغيرها مما يتلاءم مع الأحلام المنحورة، إلى آخر القصيدة: يبدد الدهر أحلامي مع الغيم ... وينثر العمر في داء وفي وهم2 وينحر الصبر في نفسي فيرجمني ... بالحزن ما عشت لا يسهو عن الرجم لكن الشاعر في قصيدة "العاصفة" يضطره الوزن أن يخطئ في إعراب الكلمة وذلك في قوله: للقدس الحزين عشرون عام ويكرر الخطأ فيقول في نفس القصيدة: عشرون عام والقدس في القيود3

_ 1 الديوان: 79. 2 الديوان: 96. 3 الديوان: ص50/ 51.

ثالثًا: خصائص الخيال والصور والخيال في شعر العسيري خصب متجدد، يتفجّر من خلال عاطفة قوية متدفقة، تحرك المعاني والجمادات، فتجعل منها شخوصًا تحيا وتتحرك، لذلك فقد غلب التشخيص على صورة الخيالية، فيبعث في الشوق "وهو معنى مجرد" الحياة، فيصير شخصًا، فالشوق يذوي ويروي ويدمي المهج، يقول في قصيدة "شوق": الشوق يذويني ويرويني اللقاء ... والوصل للأرواح برؤ وشفاء رباه هذا الشوق يدمي مهجتي ... واللوعة الحرى على قلبي عناء1 وتدب الحياة في أحشاء قيثارته، وتسري الروح في جوانبها، وهي جماد لا يحس، وآلة لا تئن ولا تتألم، فيجعل الشاعر منهما إنسانًا يخاطبه، وشخصًا يتجاوب معه، فشاركه آلامه وأحلامه، وتستجيب أوتارها لآهاته وأحزانه، يقول لها مخاطبًا: قيثارتي تشدو ودهري يسمع قيثارتي ثكلى وأم ترضع تبكي الصبا يمضي فلا يسترجع وترضع الأحلام من ثدي الألم قيثارتي لحن وأوتارى هزيله ناجيتها هات فقالت لى عليله الحزن يدمينى وأوتارى ذليله قيثارتي شعري وعمري كالوتر فيثارتي الثكلي وعمري المنتحر1 ومن صوره الخيالية الرائعة الجديدة التي تمثل واقع عصره العالمي وتكون من وحي ابتكاره الخيالي، وهي صورة العالم الذي سخَّر العلم لغير ما هو له، سخره في الحرب وإذلال الإنسان، لا للسلم والبناء، ولا لعزة الإنسان، وبهذا غرق العالم في الذنوب، وخرج عن

_ 1 الديوان: 25. 2 في متاهات الحياة: 69.

الأديان والعقائد السمحة، باستخدام القنابل الذرية للدمار والإذلال، والسيطرة والاحتكار، فلا يجد الإنسان مهربًا، ولا يطيق سمومها القاتلة، لأنها سموم الكيمياء الخانقة، التي لا يفلت من قبضتها الذكي الماهر، مما يجعله يضل طريق النجاة، يقول مستغيثًا: رباه عالمنا غريق في الذنوب ... وفي المروق فقنابل ذرية أين الهروب ... وهل نطيق للكيمياء خنقة..لا.. لا هروب ... ضاع الطريق1 تصوير جديد وخيال بكر في شعره؛ لأن الشاعر يعاني تجربة عصره لا عصور خلت، وإنما يعيشها بوجدانه وأحاسيسه، وهي كثيرة منه مقطوعة "عربي"، وقصيدة "نكسة أخرى"، وقصيدة "طائر"، وقصيدة الواقع الأليم والمركب التائه"، وقصيدة "سمير الأحزان" وغيرها. وتمتاز صوره الخيالية أنها تظهر في بعضها ملامح البيئة التي عاش فيها "في عسير"؛ حيث تنتشر فيها الجبال الشاهقة والتلال والنفود، يقول في قصيدة "أعدائي": سوف تدمي بالصخور من جبالي في "عسير" من "نفودي" والتلال سوف تطويك التلال كم طوت فيها الرجال2 ثم يقول: من ربا نجد ومن حول الحرم من سراة "الأزد" من سيف التهم من سراة "زهران" من كثبان "حائل" من جبالي من مهودي ... والسواحل 3

_ الديوان: 39. 2الديوان: 87. 3 الديوان: 88.

فجبال عسير والنفود والتلال والأزد وزهران والجنوب، والجبال والمهود، والسواحل في عسير كلها من بيئة الشاعر، التي عاش تجربتها، وخصبت خياله من مواقعها وإيحاءاتها وتاريخها المجيد. ولم يسلم العسيري من خبط في بعض الصور الأدبية التي لا تغض من شاعريته بحال، وإنما هي مثل الملح في الطعام مثل قوله تصوير النابه الذي يحاب الغر السفيه: يهد العمر كي يبني حياة ... تشل البؤس أو تقضي عليه ويحفر في قلوب الناس نبعًا ... رحيق العدل يسقي شاطئيه فيقبر في تراب الذل أجرًا ... ويسعى رغبة الغر السفيه1 فالشاعر يريد من وراء هذه القصيدة الأدبية أن يصور النابه حين يقضي عمره في بناء الحياة بالعلم، الذي يقضي على البؤس والشقاء ليحل محل العدل بين الناس، وبذلك ينال أجرًا من الله -عز وجل، وفي نفس الوقت يقضي على الرغبات المدمرة للغر السفيه، لكن الصورة هنا عجزت عن أداء هذا المعنى، بل تناقضت أجزاؤها في التصوير. فالنابه الذي يبني الحياة ويهدم البؤس، لا يعد عمره هددًا "يهد"، بل يعد بناء وخلودًا، وبقاء بهذا العمل، فكان ينبغي أن يقول: "يسمو" أو على الأقل "يقضي"، ومن يعمر قلوب الناس بنبع العدل، لا يصح أن يوصف هذا بالحفر، بل يوصف "بالتفجير" فيقول: "يفجر في قلوب الناس نبعًا". ومن ينشر العدل لا يقبر الأجر ويدفنه، بل الأولى أن يحيا الأجر ويبقى، لا في تراب الذل، بل في ساحة الرضى والقبول، فيقول: "فيحيى في سماء العز أجرًا". وأظن أن كلمة "يسعى" لا ترتبط بمعنى البيت، والصواب فيها لكي يصح المعنى: "ويسعر رغبة الغر السفيه" أي عمل النابه يحرق رغبات الغر السفيه. وهذا كله يدل على التناقض بين أجزاء الصورة، كنت أود ألا يقع الشاعر في مثل هذا، ولكن كما يقولون لكل جواد كبوة، ولكل فارس نبوة. ومن التناقض أيضًا في التصوير الأدبي عند الشاعر قوله: فهذي الشروق سموم الحياة ... ستمضي بنا فوق نعش السرور تناقض عجيب؟ هل للسرور نعش؟ وما أبعد اللفظان في تصوير المعنى، فالسرور

_ 1 الديوان: 84.

نقيض النعش؛ لأن النعش يحمل الميت إلى مقرّه وتشيعه الأحزان، بينما السرور لا مكان له في هذا الجو الحزين، الذي يخيم عليه الشرور والسموم والأحزان والنعوش، ولعل الحاجة إلى القافية هي التي اضطرت الشاعر إلى حشو كلمة "السرور". ولا يشفع الشاعر أن يقبل قول من يقول: بأن هذا التصوير رمزي من باب تبادل الحواس، فيقولون: يرى بأذنه، ويسمع بعينيه؛ لأننا لا نجد في مذهب الشاعر خيطًا رفيعًا من الرمزية، فليس رمزيًّا، بل هو واضح في تصويره الأدبي كما رأينا، أمَّا عناصر التصوير الأدبي في شعره فقد غنيت صوره بها من حركة ولون وطعم ورائحة وحجم وشكل، فالبيت السابق يحمل هذه العناصر: فترى اللون القاتم في الشرور والسموم والنعوش، وترى الحركة السريعة والمتجددة في الفعل المضارع ستمضي، لما يدل عليه من الحدوث والاستمرار والتجدد، وتتذوق طعم الشر، وتشم رائحة السم، وحجم الشر بمقدار سموم الحياة، وتجسيد الشرور في شكل النعوش، وهكذا فالشاعر له قدرة عجيبة على مزج عناصر الصورة بروافدها، كما رأيت في صورة متناقضة في جزء منها، فما بالك لو رجعت معي إلى الصورة البديعة التي سبقت وهي كثيرة وكثيرة. لهذا الإبداع الشعري في التصوير الأدبي كان لا بد أن نضع فنه في ميزان النقد، لنرى رأي الشاعر والناقد في شعر العسيري.

رابعًا: الموسيقى الشعرية العسيري شاعر ثائر، ومتجدد في تجديده، ولا غرابة في ذلك فقد تحرر في تجديده فخرج على الموسيقى الخليلية في العروض والقافية بعض الخروج في بعض قصائده، وليس معنى ذلك أنَّ العسيري لم يحافظ على الوزن والقافية التقليدية المشهورة في عمود الشعر العربي، بل كانت معظم مقطوعاته وقصائده يلتزم فيها البحر الخليلي، وقافية الشعر المحافظ، وإن كان الشاعر يميل في شعره إلى البحور الخفيفة، وإلى المجزوء من البحور مثل: قصيدة "شوق"، وقصيدة "الدنيا"، وقصيدة "وصفحة من حياتي"، وقصيدة "ونكسة أخرى"، وقصيدة "طائر"، وقصيدة "حديث مع الزهرة"، وقصيدة "سمير الأحزان"، وقصيدة "إنسانية"، وقصيدة "دموع الحياة"، وقصيدة "الغر" وغيرها، ومرت الأمثلة والشواهد. ومن قصائده ما يسير على نظام المقطعات مع الاحتفاظ بالوزن والبحر، واختلاف القافية وحرف الروي، وهذا أقلّ مما سبق بكثير مثل قصيدة "عمري الضائع"، وقصيدة "ضياع في ركب المتاهة"، وقصيدة "عيد بلا اجتماع"، وقصيدة "سامحيني" ومقطوعة "عربي"، "عودي"، "في المستشفى"، وقصيدة "الواقع الأليم والمراكب التائه"، وقصيدة إلى أعدائي" وغيرها، وقد مرت الأمثلة ولا داعي لتكرارها. ومنها ما يلتزم فيها الشاعر البحر الواحد، لكن البيت ينتهي بتذييل يقوم على تفعيلة، ليضيف بها لحنًا جديدًا في ألحانها، وينسحب عليها إيقاعًا ينظم توقيعاتها الأخيرة، وهذا أقلّ مما سبق بكثير، مثل قصيدة "يا عالمي" يقول: يا عالمي إني هنا أبكى المصير ... ألا ترون وقد مرَّ ذكرها. ومثل قصيدة "خواطر إنسان تائه؛ حيث بناها الشاعر على تسع مقطعات مختلفات في القافية، كل قطعة تقوم على ثلاثة أبيات تنتهي بعدها بتذييل يشمل توقيعتين، يقول العسيري: أيها الإنسان لا تطغ عليَّا إن ظلمي قوة ملك يديّا دعوة في الليل لا تبقيك حيّا لا تلمني إن دعوت فتزول وتموت

ومصير الشر في الدنيا قريب بعد ضعفي سوف أقوى وتذوب إن بعد الشمس أغلاس المغيب هكذا حكم الحياة لا بقاء للطغاة أيها الإنسان في عصر الفضاء لا تضيق بالحق يقتلك الفتاء. ثم تبقي صاحبًا ثوب الشقاء ثم تبكي لمصيرك سوف تذوي كضميرك1 ومنها قصيدة واحدة لم تتكرر، قامت على نظام التفعيلة، مع محافظته على الموسيقى والإيقاع المنغوم بلا اتحاد في القافية، وذلك في قصيدة "العاصفة": في القدس عاصفة تحطم الجسور وتهدم القبور على الغزاة2 وهي طويلة لا أرغب في ذكرها، واكتفيت بذلك لكي يصح النقد وتوجيه اللوم إلى العسيري ومن سار على دربهم من الشعراء المعاصرين. وكنت أود أن هذا النمط الموسيقي والقالب النثري لا الشعري لا يدخل فنّ الشعر، ويجد منزلة من نفس العسيري ومن ديوانه الجيد، إلا إن كان الشاعر يريد أن يعرفنا بنثره المشعور، وأحسب أن العسيري لا يقصد ذلك، فهو يريد أن يجاري من يجعل التفعيلة شعرًا بلا قافية ولا بحر عروضي. وفي رأيي أن شعر التفعيلة هي معبر الخطأ والخطل السريع، فاليوم يكون على تفعيلة ووزن واحد، وغدًا بلا تفعيلة ووزن، وأصبحت الآن قول إن الموشحات الأندلسية هي التي رخصت

_ 1 في متاهات الحياة: 31/ 34. 2 الديوان: 49/ 52.

للمعاصرين هذا التسيب، وهم الآن يتذرَّعون بذلك، ولكن الحقيقة أن الفرق كبير، فالموشحات وسط بين القصيد العمودي وبين نظام المقطعات المعاصرة. وهي أيضًا معبر سريع إلى العامية، والقضاء على الفصحة لغة القرآن الكريم، وإننا اليوم لنرى بعض الشعراء -شعراء التفعيلة- ينظمون نثرهم المشعور بالعامية لا بالفصحى، وهذا أخطر وأشد؛ لأنها حرب ضد الفصحى ولغة القرآن لا حرب ضد القصيد العمودي، ولا أدلَّ على ذلك من قول العسيري نفسه حينما اعتسف هذا المركب الوطيء، مما جعله يتورَّط في العامية والخطأ في الإعراب، وهو استعمال عامي في التعبير يقول: للقدس الحزين عشرون عام القدس في خطر عشرون عام ثم يقول: عشرون عام والقدس في القيود وعيشنا على الوعود1 كرر "عام" ثلاث مرات خطأ، والصواب عشرون عامًا، وهكذا يعترف العسيري بهذا في شعره فيقول: ومصير الشر أن يقتات أهله فاعتساف المركب الوطيء وهو شعر التفعيلة، يؤدي في النهاية إلى جعل العامية والخطأ في التعبير وهجر الفصحى مذهبًا شعريًّا حديثًا، لا قدر الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . صدق الله العظيم

_ 1 الديوان: 50/ 51.

خامسًا: شاعريته في ميزان النقد الشاعر أحمد عسيري يصوّر حياته بكل جزئياتها؛ لأنه يعبِّر عن ذات نفسه، ويصور مشاعره الأليمة، وإحساساته الحزينة في الحياة ليصوغ من شعره قصة حياة تمرَّدت على القيم التقليدية الكلاسيكية متحررًا من قيودها، فلا نجد في شعره تعددًا في موضوع القصيدة الواحدة، بل الغرض فيها واحدًا، بل كان الديوان يصور غرضًا واحدًا، وهو حياة الشاعر فقط، في وحدة عضوية وفنية، وتتلاحم فيها الأفكار، وتتعانق المعاني في إيقاع حزين، تشيعها موسيقى دامية، تنزف مرارة وأسى. ولذلك يقول العسيري في إهداء الديوان: إلى الإنسان الذي يشق طريقه بعصامية....!! 1 إلى كل إنسان ذاق مرارة الحرمان، أو ضاع في متاهات الحياة ... !! لأن الشعر الصادق هو الذي يكون صادقًا مع قائله، وتجربة حية يعيشها صاحبه، حتى يكون قطعة منه، بل حياته كلها، ليكون مثلًا أعلى، ونموذجًا رفيعًا، يتجاوب مع الإنسان في أي موقع كان؛ لأنه للإنسان متجردًا على الأرض والزمان. هذا هو ما أقصده من عالمية الأدب وإنسانيته، لا يعرف الحدود في الزمان والمكان في المجال البشري الإنساني، وليس هذا الاتجاه وهو "عالمية الأدب وإنسانيته" غريبًا على أدبنا الإسلامي، بل هو أصيل وجوهري فيه؛ لأن غاية الإسلام تحقيق عالمية الإنسانية بلا تفريق بين العربي والعجمي، ولا بين الشرقي والغربي، ولا بين الدول النامية والدول العظمى إلَّا بالمثل العليا، والمبادئ العادلة المستقيمة، والقيم الفاضلة المنصفة للإنسان في أي موقع كان، وخلال الزمان والمكان، لمختلف الأجناس والأجيال؛ لأن الإنسان كان ولا يزال هو الإنسان. وحين فتح الشاعر الكبير محمد حسن عواد عينيه على ديوان أحمد العسيري وجد نفسه، كما يقول: "أمام شاعر شاب يستطيع هذا الوطن العربي، وهذه اللغة الخالدة، أن يعتز به، ولا مبالغة في هذا القول، إنك ستدهش لشاعر الحرمان والضياع، يجسم لك هذه المعاني، وينفخ فيها من روحه، فتتوهج في قوالب من اللفظ، أعطيت قدرة الوصول إلى أعماق القارئ، ورفعه إلى مستوى تلك المعاني الإنسانية الخالدة، إلى قدرة الإيحاء، ومد الظلال، ورقرقة الحيوية في الأفكار الفلسفية والاجتماعية.

_ 1 في متاهات الحياة، أحمد عسيري، الإهداء.

وللشاعر فوق ذلك قدرة أخرى على صياغة تعابير إبداعية، يخيّل أنك تقرؤها لأول مرة مثل: وقيد الحق أوهى كل قيد ... رءوف المس إن سقنا إليه من قصيدة "العز". وقوله: ومصير الشر أن يقتات أهله من قصيدة "إلى أعدائي". ومنها أيضًا: وتنطق الأرض تملي سرها1 ثم مرة أخرى يشيد الشاعر الناقد محمد حسن عواد بأحمد العسيري فيقول: "أهنِّئ أخي الفاضل الملازم أول الأستاذ أحمد علي سعد العسيري بهذه الشاعرية الحقيقية، وأهنئ عسيرًا كله سراته وتهامته، بل أهنئ المملكة العربية السعودية كلها، وآمل أن ينجب هذا البلد المعطاء كثيرًا من شعراء هذا الطراز"2. وتحرر العسيري في تجديده للقصيدة في أدب الجنوب يظهر في اتجاه الشاعر إلى لون واحد من الشعر يصور فيها ذاته ووجدانه، فتجد أغراضه الأدبية قد أخذت هذا الاتجاه من التحرر، وكذلك في معانيه وفي خياله، وفي تصويره الأدبي، وفي موسيقاه الشعرية؛ حيث خرج على القصيدة العمودية في القافية في القليل من قصائده، مثل قصيدته "العاصفة"3، وإن كان هذا التحرر محل نظر منَّا وقد ذكرته في مكانه. ومرت الأمثلة في كل ذلك، توضّح سمات التجديد في المعاني والأغراض والخيال والصور والموسيقى والقافية، مما يجعله من شعراء مدرسة التحرر في التجديد.

_ 1 في متاهات الحياة: أحمد العسيري المقدمة 12. 2 في متاهات الحياة: أحمد العسيري المقدمة 13. 3 الديوان: 47.

الفصل الثالث: الشاعر أحمد بهكلي

الفصل الثالث: الشاعر أحمد بهكلي نشأة الشاعر بهكلي وحياته: الشاعر أحمد يحيى بهكلي هو الثاني في مدرسة التحرر في التجديد في الجنوب، إمارة عسير، ولد بمنطقة جيزان عام "1374هـ"، ثم تنقل في مراحل التعليم بين جيزان وأبها والرياض، حتى حصل على "ليسانس" كلية اللغة العربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1397هـ. وبعد تخرجه عمل مدرسًا في معهد الرياض العلمي، واستمرَّ يواصل تعليمه في تحضير رسالة الماجستير1. وهو الآن يشارك في تحرير مجلة الفيصل الثقافية، التي أصبحت الآن تؤدي دورًا كبيرًا في العالم العربي والإسلامي، صدر له حتى الآن ديوانان كما سبق، وهما: ديوان "الأرض.. والحب". وديوان "طيفان.. على نقطة الصفر". وسحر جيزان وأبها وتهامة كان له الأثر في هيام الشاعر بالطبيعة الخلابة، حتى غلبت على شعره يصور مناطق الجنوب في الذهاب والإياب، يصور جيزان مرة، وبيشة ثانية، وفيفا ثالثة، وأبها رابعة، وغيرها وغيرها. وكثيرًا ما يدفعه الحنين وهو في الرياض إلى موطنه في الجنوب، ليجدد شاعريته في منبع شاعريته. وهذا بالإضافة إلى تطلعه إلى التحصيل والتعليم، ولا زال حتى الآن يعد نفسه للدراسات العليا حتى يحصل على الماجستير.. وللناس فيما يعشقون مذاهب.

_ 1 الأرض.. والحب: التقديم، نادي جازان الأدبي 1398/ 1978.

وصقل العقل، وتهذيب الذوق الأدبي يحتاج إلى متابعة مستمرة، ومداومة في الترويض والمتابعة، وليس بعد الصحافة والاشتغال بالتحرير في المجلات الأدبية والثقافية من دافع قوي متجدد في ترويض الذوق، وصقل النفس وشحذ الذهن فالعمل في هذا المجال مملوء بالحركة والحيوية والنشاط ولا ننسى أن النهضة الأدبية الرائدة في مصر كانت تتفجر من المجلات والمعارك الصحفية. هذه هي العوامل التي فجرت ينابيع الشاعرية في نفس الشاعر أحمد بهكلي، وأصبح بديوانيه من رواد مدرسة التحرر في التجديد.

الأغراض الأدبية في شعره: أولًا: شعر الطبيعة هام بهكلي بالطبيعة الفاتنة في الجنوب، وأخذت من شعره منزلة رفيعة، حتى سيطرت على ديوانه الأول "الأرض.. والحب"، فضمَّ قصيدة "السحر يلد أبها ص7، 9"، "وقصيدة "القيود الجميلة ص11، 14"، وقصيدة "نجوى.. على البعد ص15، 18"، وقصيدة "يا منتدى الذكريات ص19، 21"، وقصيدة "بوح ص22"، وقصيدة "عفوًا ... أبها ص23، 26"، وقصيدة "الأرض والحب ص31، 33" وغيرها. أما ديوانه "طيفان.. على نقطة الصفر" فاشتمل على قصيدة واحدة في شعر الطبيعة، وهي "إلى أرض أبها ص130، 132"، وهذه القصائد أنشدها الشاعر في الطبيعة ابتداء؛ لأنه يصور الطبيعة غرضًا مستقلًّا، أما شعر الوجدان، والشعر الإسلامي، فقد مزج هذين الغرضين بالطبيعة، وتجاوبت مع وجدانه وحبه كما سنرى ذلك في موضعه، ولذلك لم تكن الطبيعة مقصوده ابتداء في هذين الغرضين، وإنما تسللت فيهما تبعًا لهيام الشاعر بها، فظلَّت من حين لآخر تطل، لتعبِّر عن وجدانه وتأمّلاته وحبه وهيامه. وتظهر سمات التجديد في شعر الطبيعة عند بهكلي من الهروب إليها، والتجاوب مع مظاهرها، والتغني بجمالها الآسر وسحرها الساحر، تعويضًا له عمَّا فقده من الحرمان، وما يحس به من آلام وآهات وأحزان؛ كالشأن في الشعراء الذين هاموا بالطبيعة في العصر الحديث. ولذلك كان بهكلي متحررًا في تجديده هو والشاعر أحمد عسيري، لكن الأول غلب على شعره هيامه بالطبيعة، والعسيري غلبت على فنه الأدبي المرارة والشكوى والحزن والألم، مع التعدد في الأغراض الأدبية عند الشاعرين في هذه المدرسة التي احتضنت مذهب التحرر في التجديد. وبهكلي طائر معذب، كلما لاح له الأمل غمره سلطان الدجى؛ ليكون هذا الأمل الذاهب بريد "الإهداء" في ديوانه: إلى التي لازلت أحيا على ... مأمل لقياها.. وما أحسب قضيت عمرًا أجتلي غمة ... لم يبد لي في أفقها كوكب وحينما أجهد ركبي السرى ... وأنهار تحتي الجيد المركب

أبصرت لمعًا ... قلت ذا مأملي ... واشتدَّ مني المرهق المتعب ورحت أعنو مسرعًا ... فانطفا ... ذاك السنا واحتضر المطنب وعاد سلطان الدجى يعتلي ... عرشًا بناه برقها الخلب يرجوك يا ناري ويا جنتي ... ترنيمي الفاضل والمذنب1 ويبحث بهكلي عن بريده فيجده في السحر، ليس المجرد، بل المجسم في أبها، عروس الجنوب، يقول في قصيدته: "السحر يلد أبها": صبوت وأضحى هائمًا مغرمًا قلبي ... وتهت ولي عذر فإدلالها يصبي أسير هواها ما أحيلاه أسرها ... وحسبي أنني صرت مأسورها حسبي ويا لجمال قد حويت استمالتي ... فصرت أسير الفكر والشعر واللب حببتك حبًّا فوق جهدي وطاقتي ... وحبك يا أبها تغلغل في القلب أيا ذوب احساس رقيق ويا مدى ... خيال وسيع الأفق في عالم رحب إذا كان في مغنى "اليمانية" انتمى ... هواي فقد ذقت الصبابة "في "النصب" وتحت ظلال الأيك في "السودة" انجلى ... لي الحسن ممدودًا على ربعها الخصب وأيدي النسيم الغض تهصر غادة ... من العرعر المزدان ذي الفتن الرطب وكم في شفاء "القرعاء" سحرت ناظري ... ليرجع مبهورًا من المنظر العذب كأن لكف السحر تمريرة على ... عيون المياه الجاريات على الترب تلمست أبغى دارة الحسن في الدنا ... وساءلت عن مغنى العنادل في دربي وطفت أرود المرتع الخصب للهوى ... لألقاه في "أبها" عن المبتغي يبني طرقت على باب الجمال بفكرتي ... لتفتح لي أبها ابنة السحر والحب2 فاليمانية والنصب، وظلال الأيك في السودة، والعرعر المزدان والقرعاء، والعيون الجاريات، كلها مواطن في أبها الساحرة تمكنت من سويداء قلبه، وأصبحت لا تفارقه أينما سار وحيثما حل. ولا يظن القارئ أنَّ الشاعر حقق أمله حينما وجده في أبها الساحرة الجميلة، لكنه خاب أمله، ومن العجب أنه تاه عن أمله وضل الطريق في "القيود الجميلة": أنا فيك يا أبها عليل شاكي ... هل ترحمين متيما يهواك

_ 1 الأرض.. والحب: أحمد بهكلي ص3. 2 الأرض.. والحب: 7/ 9.

صيرت حسي في هواك مقيدًا ... وسموت حتى نؤت عن إدراك أواه من حب يحطم أضلعي ... أتراك تنتبهين لي أتراك؟ حاولت أن أنساك لكن أنت في ... سودا الفؤاد فكيف لي أنساك؟ أيها الجميلة خبري كم عاقل ... هومته؟ كم مغرم ناجاك؟ أحياك إلهامًا ووحي مشاعر ... تنداح مسبغة بنشر صباك تستأسرين بدون أي جريرة ... ألبابنا من ذا الذي أفتاك؟ لو كنت خمرًا كان عذرك واضحًا ... إن نحن رحنا في الهوى سكراك أو كنت بحرًا هائجًا متلاطمًا ... فربما قمنا وصارعناك لكن حشدت لنا جيوش الحسن ... ثم دعوتنا مغرورة للقاك أما السلاح قناة قدٍّ فارع ... أو سيف لحظ صارم فتاك أو درع طود شامخ متوشح ... بزهورك النشوى ومن رياك أو خيل شلال غدا متدافقًا ... يشتد ملتاعًا للثم ثراك واقتدتنا أسرى وقد كبلتنا ... حبًّا فلطفًا أكرمي أسراك رؤياك في قربى أدق مؤمل ... وأعز شيء في النوى ذكراك1 ثم يبوح لأنها بأحزانه وآلامه في قصيدته "بوح": أبها.. ويبسم كل محروب ... أبها.. ويفرح كل منكوب أبها.. وكل الكون أبعدني ... وجذبتني فرأيت تقريبي وحضنتني وأنا الشريد فلم ... أحزن لمأساتي وتعذيبي2 تتناجى معه مظاهر الطبيعة في الجنوب، ويتعاطف الشاعر مع ربوعها وبلدانها ومنازلها ودورها، وجبالها وسهولها، وتاريخها ومجدها وبحارها ووديانها، وطيورها وأشجارها، وربيعها ولياليها، وذلك في قصيدته "الأرض والحب" منها: أنا فيك يا جازان فلتزدهر الرؤى ... بعيني غريب هام عن ربعه دهرًا أنا فيك في "فيفاء" أناجي جنانها ... وأخلق إعجابي بما احتضنت شعرًا وأنساب في أنهار "بيش" مغنيًّا ... منازلها الفيحاء أو زرعها النضرا وتمنحني "صبيًّا" ولا زلت في الصبا ... برود صبا تستأثر اللب والفكرا وأغرق روحي في هوى "ضمد" التي ... رعتني عمرًا بات من أعذب الذكرى

_ 1 المرجع السابق: 11/ 14. 2 الأرض ... والحب: 16.

بروحي تلك الأرض من أثلها إلى ... منابت "سعيد" قد انتشرت عطرًا على أنني ضيعت حبي في "أبي ... عريش" فإن خرفت يا جنتي عذرًا كأنَّ لياليها سواحل بابل ... وما ضمنت تلك الليالي غدت سحرًا كما عانقت جازان أذرع بحرها ... وعانقت التاريخ والمجد والفكر1 ومع هذا الهيام بالأرض، والحب للطبيعة التي هرب إليها عاشقًا لجمالها، والهًا في سحرها، الذي يصور مرارته، وهذا الحب بعيد عنه محروم منه ما دام بعيدًا عن الطبيعة التي تمكنت من قلبه حبًّا وهيامًا وعشقًا. ثانيًا: الشعر الوجداني والتأملي جاء هذا الغرض الأدبي في شعر بهكلي في ديوانيه، أما قصائده في ديوانه الأول "الأرض.. والحب" منها قصيدة "شوق ص39، 41" في عام 1392هـ أبها، وقصيدة "أحبك ص43، 47" في عام 1394هـ أبها، وقصيدة "رسالة ص49، 50" في أبها عام 1394هـ، ومقطوعة "الهوى أعذار ص42" في أبها 1393هـ، وقصيدة "عندما يطول السفر ص51، 55" في أبها عام 1394هـ، "ورباعية ص60" في الرياض 1394هـ، وقصيدة "الحسن الآسر ص66، 68" في أبها 1394هـ، وقصيدة "العذابان ص69، 70" في أبها عام 1394هـ، وكذلك "رباعية ص71" في الرياض 1395هـ، وقصيدة "الرحيل ... بلا وداع ص73، 75" في أبها 1395هـ، وقصيدة "هزوجة خريفية ص77، 80" في أبها 1396هـ، وقصيدة "غفوة ... ورؤيا ص81، 82" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "كتابة على ضريح العشق ص83، 84" في الرياض 1397هـ. أما الوجدان والتأمل في ديوان الثاني "طيفان ... على نقطة الصفر" فيضم قصيدة "أبيات.... لأبي ص7، 10"، وقصيدة "لهذا الحزين ص51، 52" في أبها 1394هـ، وقصيدة "الركض ... إلى الخلف ص53، 55" في أبي عريش 1396هـ، وقصيدة "مجنون ص56، 58" في الرياض 1395هـ، وقصيدة "الرحلة الطويلة ص59، 61" في جدة 1396هـ، وقصيدة "حينما يزمن الحزن ص62، 64" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "العرافة الكاذبة ص65، 66" في جيزان 1397هـ، وقصيدة "منى ... وقلوب ص67، 70" في الرياض 1398هـ، وقصيدة "خلود الحب

_ 1 الأرض ... والحب: 31/ 36.

ص105، 106" في أبها 1395هـ، وقصيدة "أحلى نهاية ص107، 110" في الرياض 1394هـ، وقصيدة "كل الفصول ص111، 113" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "أبتاع حزنًا ص114، 116" في الرياض 1399هـ، وقصيدة "رزق ص117، 118" في الرياض 1399هـ، وقصيدة "السر العجيب ص122، 126" في الرياض 1395هـ، ومقطوعة "هل الحب أعمى؟ ص127" في أبها 1397هـ، وقصيدة "الدمع الطهور ص128، 129" في الرياض 1398هـ. وشعر الوجدان والتأمّل عند بهكلي يتميز بالخصائص الفنية لهذا الغرض عند الشعراء الابتداعيين المجددين، مثل الغوص في أعماق الذات، والتأمل في جوانب النفس المختلفة وتصوير أحاسيسها العميقة، ومشاعرها الرقيقة، وذلك في تجربة شعورية صادقة، تشفُّ عمَّا يشعر به من ألمَّ الحرمان، وما تعتصره من آهات وآلام، وما يسيطر عليه من الكآبة والحزن، وأنه مهما قطع شوطًا في تحقيق آلامه، فإنه يجد نفسه أمام السراب الخادع يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وهكذا فيعود ليصور آلام الفقد ولوعة الأسى والحرمان ومرارة الهزيمة والقنوط. هذا من حيث ظاهر التصوير الأدبي في شعره، أما من حيث الواقع، فإن معاناة التجربة الشعرية هو في ذاته تحقيق لهدف يؤمه الشاعر، وهو التنفيس عمَّا يعانيه، وذلك حينما يصور تجربته في قصيدة، فهي تشكل بناء فنيًّا خارجيًّا تجد فيه الشاعر سلوانًا وعزاء، وأنسًا وإمتاعًا، يصرفه كل ذلك عن معاناة التجربة؛ لأنها صارت عملًا فنيًّا خارجيًّا، وقد كانت قبل أن تخرج تلتهب في وجدانه ألمًا ومرارة. وبذلك يجد الشاعر في القصيدة الضالة التي كان يبحث عن تجربتها داخل نفسه، ويتذرّع في سبيلها الأسى واليأس الذي يعتصر أغوار ذاته، وبهذا العمل الفني يحقق الغاية التي كان الوجدان ينزف بها، حين كان العمل الفني تجربة ذاتية، تؤجج جوانب النفس، قبل أن تخرج إلى حيز الوجود الخارجي. وهذا ما عاناه الشاعر بهكلي في القصائد السابقة لهذا الغرض، وسنقتصر على بعض الأمثلة التي تتجسَّم فيها الخصائص الفنية السابقة لمدرسة التحرر في التجديد، لتدل على ما لم نذكره من بقية القصائد، يقول الشاعر في قصيدة "أحبك" مطلعها: أين وجهت فقلبي ... لك مغدي ومراح أنت فيه النور.. ... كالنور ويغذيه الصباح أنت فيه النفح.. ... كالنفح تزجيه الأقاح يا جمالًا ملهب التكرين ... معدوم السماح

أفصحي يا طفلتي عمَّا تمطي في فؤادك إنني ما عدت ذا صبر على طول بعادك أرسلي في بقعة الصمت أصيلًا من جيادك ودعيه يفهم الصب المعني بمرادك وأنا إن رحت أشكو أو أبث الوجد حبًّا فلقد آليت أني لن أصب الدمع صبًّا ولو أني صرت في حبيك يا حسناء صبًّا فالضعيف الفدام من عاش الهوى دمعًا وندبًا ضجة العمر الشباب الحي حتى يتصرم فإذا ولي فقد ولت مني السعد المكرم وبقي في يأسه المرء كئيبًا يتبرم يندب الأنس الذي كان حلالًا يتحرَّم إيه ... يا " ... " يا آهة تعدو وئيده في ضلوعي ... يا متاهات مسافاتي المديدة لم تزل عندي حكايات وأفكار جديدة سوف أحكيها لنفسي حين تضحى بعيدة1 صورة شعرية تعبر عن حرارة الوجدان ولوعة الحرمان، ومرارة البعد، وألم الفراق، في خيالات عجيبة، وصور أدبية بديعة، فقلبه مغدي ومراح، تملؤه بنورها المستمد من نور الصباح وتزكّيه برائحتها الفواحة، ينبغي أن تتجاوب معه فتبادله وتفصح عمَّا استكن في قلبها؛ لأن الصبر قد نفد، فأصبح يبث الوجد حبًّا، ويصب الدمع صبًّا، ويندب حياته ندبًا؛ لأن زهوة الشباب قد تصرم فأضحى كئيبًا يتبرم؛ لأن ما كان حلالًا له قد تحرم، وبعد اليأس أخد يردد لنفسه حكايات وأفكارًا جديدة، يتسلَّى بها بعد أن فقد الأمل وصارت عنه بعيدة.

_ 1 الأرض ... والحب: 42/ 47.

هذه هي خصائص الشعر الوجداني، يتمدد الشاعر في داخله، يبث أحزانه وآلامه، ويشكو حرمانه، ويبكي شبابه، وينعي حبه الذاهب، وأمله الخائب في تصوير أدبي يتفطر ألمًا ودمعًا. ومن خصائص شعر الوجدان عند بهكلي أن القصيدة عنده قامت على غرض واحد من مطلعها حتى نهاية القصيدة، بلا تعدد أو خروج عن موضوعها، ومن هنا تحقق فيها الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية. ومن خصائص هذا الغرض التحرر في التجديد، فتحرر الشاعر من عمودية الموسيقى، فتعددت القوافي فيها، وقامت على نظام المقطعات، لكل مقطعة قافية تختلف عن الأخرى مع اتحاد الوزن والبحر العروضي، وفي هذا ثورة على العمود الشعري، فلا يلتزم الشاعر بما التزم به الشعراء القدامى، ومن سار على نهجهم من المحدثين "الكلاسيسكيين"، وما التزم به الشاعر هو الوزن، والتغني بذاته، فمنافذ الإدراك عنده أدارها الشاعر عن الخارج لتفتش في ذاته وداخل نفسه، غير خاضعة لمقاييس خارجة عن ذات الشاعر. وعندما تأتي القصيدة عنده متحدة الوزن والقافية، لا يكون ذلك التزامًا لمنهج القدماء في القالب الموسيقي عندهم، ولكن ذلك دليل وكشف عن حريته المطلقة من الحركة من شكل إلى آخر بإرادته، وتجاوبًا مع رغبات ذاته التي لا تلتزم بالرتابة قهرًا لاتباع السابقين. لذلك نجد بهكلي يقول القصيدة ذات الغرض الواحد على بحر واحد وقافية موحدة أيضًا، كما في قصيدته "رسالة" ومطلعها1: أحبك لا لشيء غير أني ... أحبك للتلهف والتمني وقد صيرت رسمك في خيالي ... إسارًا مالكًا فكري وظني فأنت عروس شعري حين أشدو ... وأنت بديع لحني إذا أغنى أحبك دون أن أدي لماذا؟ ... وأحمل فيك بعدك والتجني كأني لم أكن إلا لأضني ... بحبك طول ذا الزمن المسنِّ ولست أرى بأن هناك شيئا ... يشكك فيه من إنس وجن وهبتك من وادي ما أراه ... كفيلًا لي بأن يدنيك مني

_ 1 الأرض.. والحب: 49/ 50.

وما أعطيتني إلّا وعودًا ... تزيد أسى الفؤاد خلا تمني سوى أني أدين وسوف أبقى ... أدين بأن حسنك أصل فني وبي شوق إليك يزيد دومًا ... كأشواق العقيم إلى التبني فأنت عروس شعري حين أشدو ... وأنغام الصبابة إذ أغني فاض وجدان الشاعر بالحب والوداد، لكنه لم ير من محبوبه إلّا الوعود الجوفاء، بلا وصل، فيغتلي الفؤاد أسى ومرارة، ومع هذا فالشاعر يجد فيها عوضًا عن الفقدان والحرمان، فهي التي فجَّرت شاعريته بهذه الرسالة، فتشكَّلت في عمل فني بعد أن كانت بددًا وحيرة في نفسه ووجدانه، فصارت عروس شعره وأنغام وجده، وأوتار حبه، يجد فيها أمله حين يغني بشعره، وإن كانت محبوبته بذاتها وهيكلها بعيدة.. بعيدة عنه.. كل البعد. هذا هو جوهر التحرر في التجديد عند الشاعر، فحينما تتفجر شاعريته في تصوير ما يحب، لا يبتغي منه أكثر من أن تظهر ذاتية الشاعر في فنه الأدبي، والتغني بذاته ووجدانه وحدهما؛ لأنه لا يرى ولا يملك غيرهما. والذات البشرية إذا تمددت في داخلها ستجد اليأس والقنوط، والمرارة والألم والحرمان، وغيرها من أصول الهروب عن الحياة والناس، أما إذا تجاوبت مع غيرها، وخرجت من أسارها وسجنها الداخلي، إلى العطاء الاجتماعي، تغرب عنها الوحدة والأسى، وتنحسر المرارة والحرمان، وهكذا يستمر بهكلي في آلامه وحزنه حتى يزمن الحزن "حينما يزمن الحزن" يقول: لا تقولي قضي الحزن وحل السعد ... إذا لاح على الأفق لقانا لا تقولي تمت الفرحة لا.. لا ... تحسبي حقًّا أباطيل رؤانا خدعة هذي فلا يخدعك ماصير ... دنيانا خداعًا وامتهانًا حاذري من طيبة الظن فما عادت ... لتلقي في مجالينا مكانًا مزمن حزني باق سهد عيني ... وفي حبيك ضيعت الأمانا رغم لقياك فلا زلت حنينًا ... يفرش النأي على فكرى خوانا يا انتفاض الألق المزهو في عينين ... ترفضان سحرًا وحنانًا والتوالي من مآسينا أقضت ... مضجع السالف من حلو منانا وانسلال اللحظات اللائي عشنا ... سعدها قد بات يستل شجانا تارة يسفحنا ... يغري الحشا منا ... وطورًا ينشر الدمع جمانا وانثيال الذكريات الممرع الربع ... اهتزازًا يحتوي منا الكيانا

إيه يا بيداء دنيانا قطعناك ... ولم نسرج -على البعد- حصانًا لم تكن غير ثوابه ركض الدهر ... بنا فيها ... فلم ندرك خطانا1 ومظاهر التحرر في التجديد هنا ظاهرة، على الرغم من أنَّ الشاعر التقى هنا بمحبوبته، فكان ينبغي أن يترك هذا اللقاء في نفسه ما يطفئ نار الجوي، ويروي ظمأ الحب، ويروح نسائم الشوق، فلا يبقي في النفس لوعة وأسى، ولا يترك في الوجدان لهيبًا عاصفًا، فيطوي آلام الماضي، ويبدد سهد الليالي، وتشرق الحياة الباسمة، ويتعطَّر الوجود بالأمل العذب، وينسج منه حبال الوصل، وأسباب الأماني، التي تغيب به في جنات المحبين الوارفة الظلال، فتتفتح فيها الأزهار، وتفوح أجواؤها بالعطور، وتتجاوب مع الأنغام الشجية، التي تعزفها مناقير الطيور، لترفرف بالسعادة والحب والأمل في جنات الخلد. لكن الشاعر بدد جمال هذا اللقاء بحزنه المرير، وآلامه المريرة، فهو ينكر عليها أن الحزن قد ولَّى وذهب، ولا يرى أن السعد قد لفهما بالأفق، وأصبحت هي كذلك باطلًا وخداعًا، فذهبت الحقيقة، وتبدد الأمن، وعلى الرغم من اللقاء فلا زالت بعيدة عنه، يكتوي بآلام البعد والحرمان، التي ثوت في صدره، واستبدت بعقله وقلبه، وألهبت مضجعه، وفجرت الدموع كحبات الفضة مما يدل على أنَّ شعر الوجدان حتى مع الوصل، فالشاعر يظل في حرمانه وشكواه وبث أشجانه وآلامه، وهذا ما يمتاز به هذا الغرض الأدبي. يقول بهكلي في قصيدة "خلود الحب": أتبقى أماني لقانا نثارًا ... وليل التباعد يتلو النهارا كأن مقاديرنا أن نرى ... مآسينا تحتوينا جهارًا ولكن لماذا الهروب ولما ... ننل بعد شيئا يزيل الأوارا أليس الهروب انهزامًا وفينا ... إطاقة جعل البقاء انتصارا أما قلت أنك شوق عظيم ... إلى فلا تقدرين اصطبارا أما قلت إني حياتك؟ يا من ... نبذت حياتك عنك جهارا لماذا؟ وأرفع صوتي لماذا؟ ... ولو عاد رجع صداه انكسارا وإنك حلمي رواءً ويبسا ... وإني أحبك ماء ونارا1

_ 1 طيفان.... على نقطة الصفر: 62/ 64، رغم لقياك: خطأ عامي في لغتنا الفصيحة، والفصيح أن تقول: على الرغم من لقياك، ولفظ على الرغم ذاته ليس لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر ألفاظه التي لا توحي بالتعليل والتدليل. 1 طيفان ... على نقطة الصفر: 105/ 106.

ثالثًا: الشعر الإسلامي خلا ديوانه الأول "الأرض والحب" من الشعر الإسلامي، بينما ضم ديوانه الثاني "طيفان ... على نقطة الصفر" هذا الغرض، بل عنوان الديوان إنما هو عنوان لموضوع قصيدة إسلامية، والشعر الإسلامي عند بهكلي يشمل قصيدة "غسيل الملائكة ص14، 25"، وقصيدة "عبيرات على خدّ الدعوة الإسلامية ص33، 42"، وقصيدة "أنشودة الفارس القادم ص26، 32"، وقصيدة "طيفان ص43، 48"، وقصيدة "من خالد بن الوليد ص93، 97"، وقصيدة "إلى سيد قطب ص98، 102"، "وخماسية ص121". والقصة الشعرية "غسيل الملائكة" تقوم على حدث قصصي يبدأ حينما أذن المنادي للجهاد في سبيل الله في غزوة أحد، ويلبي النداء الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر ليلة دخوله على عروسه، ويخرج إلى الجهاد وهو جنب لم يغتسل، ثم يقتله الأسود بن شعوب، وحنظلة يحاول قتل أبي سفيان، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى الملائكة وهي تغلسه، فأرسل إلى أهله فأخبروه بخبره، يقول الشاعر في هذه الأقصوصة الشعرية: ليلة والنجوم تستغفر الليل ... وما حاز قدرة الغفران وعواء الرياح يخفت حينًا ... ثم يعلو كآهة الولهان وهنا في الخباء ينتجع الطهر ... فيجني ثماره عرسان وجذوع النخل راهنت الليل ... وللفجر شدة الغفران لم تكن غير لحظة فإذا الليل ... طريد الرحيل في إذعان والندى يغسل الأزاهير ... والأطيار تشدو برائع الألحان وصريخ علا بأن أناسًا ... داهموا ربع الندى الفينان صرخة أعنقت تخب فتجلو ... صدأ الاندهاش في الآذان كأن رجع الصريخ جلجلة الإيمان ... يحمي مرابع الإيمان ما ترى غير لابس درع حرب ... أو مغد السير فوق حصان وازدهت حرة المدينة جندًا ... ورسولًا ومبدءًا قرآني رقص الفجر رقصة فتغنت ... أحد ... والتقى الجمعان وانبرى حنظل يقارع ذاك ... القرم في قوة وأيد جنان ضربة إثر ضربة.. أشف سؤلي ... كيف مرديك يا أبا سفيان كنت في الأسفل الحضيض وقد ... كان ملاقيك في أعز مكان هم بالوأد حنظل ... وتجلت ... قسوة منه أثبتتها اليدان "أنجدوني" ترددت وأبو سفيان ... من موته على إيقان

واجتلى الفارسين "شدادًا" فارتا ... عت خطاه كما فؤاد الجبان واستطالت وراء حنظل مثل شلا، ... بطعن لكالح الفعل جاني طعنة ... والدم الزكي تسابيح ... تدق السماء في رضوان ولعيني حنظل ومضات ... أطفأتها من الردي ريحان أن نعمى وهبت يا ابن شعوب ... لابن حرب مجندل الفرسان؟ ساعة وانتهى العراك وأصغى ... قومه للرسول والكل حان قال: إن الملائك حفت ... بقتيل وأمسكت بأواني إنها تغسل القتيل.. وما كان ... سوى حنظل فتى الفتيان اسألوا زوجه وجلجل في ... القوم جواب سما عن الأذهان أيها الفارس النبيل ولم تث ... نك عن عزمك الأكيد الثواني إن تكن أمس قد خلت بعرس ... فبذا اليوم دخلة للجنان نم قريرًا.. فأنت لازلت رمز ... الاحتراق الرضي للإنسان إيه يا حنظل الفريد وكم قد ... عاش فينا أبوك طول الزمان هو باق.. يحب ... ينجب لكن ... لم يطلق بعد نجل حنظل ثان1 الغرض من هذه الأقصوصة الشعرية موضوعي إسلامي، ومثل هذا الاتجاه لا يجيده شعراء التحرر في التجديد، الذين يعبرون عن ذاتهم، ويفتشون عن أنفسهم، وهم قابعون في برجهم العاجي. لذلك لم ينصهر الشاعر هنا في بوتقة المعركة، ليصورها بحرارة وصدق عاطفة، فاضطربت التجربة الشعورية عنده، ولم تكن عميقة تستقصي جزئيات الأحداث بدقة وواقعية، واضطرَّ الشاعر أن ينصرف عن الأحداث إلى الاهتمام بتصوير الطبيعة، فتستجيب مظاهرها مع موضوع القصة، فالنجوم تستغفر الليل، ولا أدري ماذا يقصد الشاعر من هذا الاستغفار؟ والرياح تعوي، وثمار الخباء مجتني العروسين، وجذوع النخل راهنت الليل، ولا أدري لهذا معنى؟ والفجر يشتد في عنفه، والليل طريد الرحيل، لا يتناسب مع الندى يغسل الأزاهير، ولا مع الأطيار التي تشدو بالألحان، والفجر يرقص، وأحد تتغنَّى بتلاحم الجمعان، وغيرها من مظاهر الطبيعة، التي لم يحسن الشاعر تطويعها، واستخدامها بما يتناسب مع الوقار في الموضوع، وهيبة الموقف، فلا يصح للفجر أن يرقص، ولا للطير أن تشدو وتتغنى حين التقى الجمعان.

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر: 14/ 25.

ومما يدل أيضًا على اضطراب التجربة، وقلق التصوير الأدبي، مثل اضطراب كلمة "كما" وعاميتها، فليست لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر أدواته الخاصة، وذلك في قوله: "وارتاعت خطاه كما فؤاد الجبان" مما أحدث قلقًا في موسيقى البيت وشذاجة في التصوير الأدبي. ومثل صورة تسابيح الدم الزكي تدق السماء، إنها تتفتح لها أبواب السماء، ولا تدقها، لما فيه من معنى العنف والقهر. ومثل صورة "أرى الملائك حفّت بقتيل، وصورة "إنها تغسل القتيل"، وما هو بقتيل؟! بل هو شهيد وأي شهيد، والوزن واحد لم يضطرب. وكذلك صورة: "نم قريرًا ... فأنت ما زلت رمز الاحتراق الرضي" تناقض في التصوير الأدبي، كيف ينام قرير العين وهو رمز الاحتراق الرضي. وفي كل هذا الدلالة على أن الشاعر متحرر في تجديده من القيود الموضوعية، التي تتناسب مع أحداث القصة الشعرية فيعتسف طريقًا آخر يعبر فيه عن ذاته لا عن موضوع القصة وأحداثها، ألا وهو الهروب إلى الطبيعة، بدون مبالاة لواقعية الأحداث ونموها، ثم التحرر أيضًا من الواقعية الموضوعية إلى الانطلاق في ذات الشاعر، والتغني بها من خلال مظاهر الطبيعة، مما أوقع الشاعر في اضطراب التجربة الشعورية وقلق التصوير لها والتناقض بين أجزائها، وعدم انسجامها مع الغرض من القصيدة. والشاعر نفسه يعترف بهذه الحقيقة، فيقول عن شعره في ديوانه "طيفان على نقطة الصفر": نلاحظ أن التناول لم يكن منصبًّا على سرد التفاصيل الحديثة، بقدر ما يصف الأثر النفسي أو الانعكاسات الشرطية، كما يسميها بذلك تلاميذ الغزالي، وبافلوف ... إنني لا أميل كثيرًا إلى الموضوعية في الشعر، فكلما كان الشعر موضوعيًّا كان بسيطًا، وكلما كان بسيطًا فقد هيبته وفاعليته كداعية إلى التخيل والتفكير1. وليس هذا القول صحيحًا إلَّا من جانب واحد فقط، وهو أن الشاعر متحرر ينشد ذاته فقط، ولا يحسن تصوير الأحداث في الشعر الموضوعي، ومن ينكر شاعرية شوقي في مسرحياته، وروعة التصوير فيها2، فالتحرر عند بهكلي جعله لا يجيد تصوير شعر الموضوعات، والتي تقوم على نمو الأحداث وسحر تصويرها. والذي يؤكد وجهة نظري هذه، هو ما أحس به بهكلي نفسه حينما حاول أن يأخذ

_ 1 طيفان على نقطة الصفر: المقدمة. 2 مثل مسريحة مجنون ليلى، على بك الكبير، العباسة وغيرها.

اتجاهًا جديدًا في ديوانه الثاني، وهو تعدد الموضوعات، والخروج من إطار الذاتية التي سيطرت على ديوانه الأول، وهذا التحول كان بناء على رغبة القراء كما يقول، وأعلن عن خوفه من الاتجاه الجديد، وتمنَّى ألا تخل الموضوعية الجديدة بالقيمة الفنية لمحتوى القصيدة، ولهذا الرجاء جاء بقصيدتين طويلتين، وهي قصيدة "غسيل الملائكة"، وقصيدة "ذهول الحس" يقول بهكلي: "إنني أعلم جيدًا أن القراء لا يستوون من حيث الميول والنزعات، ولا من حيث المنحى الفكري، لذا آثرت تنويع موضوعات هذه المجموعة بشكل أرجو ألَّا يكون مخلًّا بالقيمة الفنية لمحتواها، ومع أنني لا أشك إطلاقًا في الإيجاز الذي اعتمدته هنا، وفيما مضى، وسأعتمده مستقبلًا بمشيئة الله، مع ذلك فقد وردت بعض القصائد الطوال كقصيدة "غسيل الملائكة" وقصيدة "ذهول الحس "مثلًا ... "1. والحديث عن الموضوعية في شعر بهكلي لا يغض من شاعريته، وخاصة في الاتجاه الذي يجيده وهو الشعر الذاتي الغنائي، الذي يصور الأثر النفسي عنده، وهو بارع فيه وفي تصويره، قوي في إبداعه، حتى في الشعر الإسلامي، الذي يعد دون الأغراض الأخرى في الإبداع والتصوير. فالشاعر حين يصور أثر الشهيد "سيد قطب" الشخصية الإسلامية المعطاءة في نفسه، نجد شعرًا رائعًا قويًّا يدل على شخصية الشاعر وإبداعه الفني، يقول في قصيدته "إلى سيد قطب": برغم الزحام ... برغم الظما ... يلو كان ذاك المدى المبهما برغم الليالي حبالى عشى ... برغم الصبيحات سكرى عمى برغم الذي جاء أو لم يجئ ... تمردت يا عاصفًا ملهمًا فلا شيء واجهت إلّا ثوى ... كسيحًا.. وحطمت تلك الدمى عبرت زمان القصور إلى ... زمان بدرع الوصول احتمى وألغيت كل العذاب الذي ... قضى أمره زمنًا مبرمًا ولم تك يا سيدي ساحرًا ... ولا ذا هوى بنجوم السما ولكن ظللت شجاعًا بلا ... مراء.. وأعلنتها مسلمًا وقال لك الله كن بذرة ... تفتح يقينا وأثمر دما وراحت خطاك بدرب الهدى ... تشع سنا يهتك المظلما وحققت دعوته لترى ... على طرقات الهدى معلما

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر: المقدمة ص4.

وكم من جهول رديء بغى ... لك الخطب والحادث المؤلما تغشت على ناظريه الرؤى ... فلم ير ذاك السنا الأعظما ولم يجتل النور من مسلم ... وأنَّ له النصر إمَّا رمى إذا مت يا سيدي معدمًا ... فما مت يا سيدي معدمًا أتيتك يا سيدي لا تظن ... دمعي عليك إذا ما هما لعمرك لم أبك يومًا على ... شهيد قلى الأرض نحو السما ولكن حزني على أمة ... ملا عزها الكون واستلما وعاث البغاث بأحسابها ... وقد طاولت - سيدي- الأنجما إذا الصقر عن أيكة لم يذد ... رأيت النور تجوس الحمى وإن أنجد الذئب يومًا وما ... تأذى.. فليث الشرى اتهما أتيتك يا سيدي حيني ... معي وردة لم تزل بزعما حنانيك ما كنت إلا كما ... ذوت بسمة لم تجد مبسما1 رابعًا: الرثاء لا يوجد هذا الغرض إلا في ديوانه الثاني "طيفان ... على نقطة الصفر" ويضم قصيدة "ذهول الحس ص73، 82" في اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز -طيب الله ثراه، أنشدها في 13/ 5/ 1395هـ بالرياض، وقصيدة "حديث العياء ص82، 85" في رثاء رفيق الشاعر عبد العزيز أحمد هيجان في 1/ 4/ 1395هـ جيزان، وقصيدة "البريء ص86، 90"، مهداة إلى روح الشيخ علي بن يحيى عباس رئيس بلدية أبي عريش سابقًا. يقول بهكلي في "ذهول الحس": مثلما تهصر اليد الغصن هصرًا ... ووريقاته تساقط تترى كما بعثرت حبيبات رمل ... ريح صيف تحول الحسن نكرا مثل هذا يجيئنا القدر الصارم ... يخطو فما ندبر حذرًا إن هربنا وكيف ذاك لم نسط ... طع هروبا فنسلم الأمر قسرًا إنما خطوة القضا ألف شبر ... إن تكن خطوة الخلائق شبرًا هي أقدارنا سوائم في مرتع ... أعمارنا تذل وتضرى لم نأس إذا تعسفها الجوع ... فجاءت تجذ شوكا وزهرا

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر: 98/ 102.

وإذا ما القضاء حل.. محال ... رده فالقضاء أمضى وأجرى إيه يا لهفة المحبين زيدي ... وأجأري بالدعاء بالخير جأرًا فالذي شيد المحبة صرحًا ... في الحنايا.. وبلور السعد بشرى قد قضى بينما الليالي ابتهال ... ببقاه.. وغادة الحلم سكرى والفيافي حدائق تتغانى ... ووجوه الأقوام تطفح بشرًا بينما الحلم سارب في رؤانا ... يتهادى على المشاعر نهرًا وإذا بالصروف تقطع ذاك ... الحلم كي تصنع النهاية غدرًا ورمته الرعناء -آه- فأصمت ... سهمها.. والذهول بالحس أزرى وإن الموجة العظيمة تنقض ... شتاتا قضته مدا وجزرًا والحبيب القريب منا مسجي ... برداء ... وقد قضى الله أمرًا ويكاد التكذيب يثبت لولا ... أن رأى العينين أصدق خبرًا إنه مات لم نعاند.. ولكن ... عاند الحب ... رب رحماك تترى كان في كل خافق أملًا يا ... رب فاغفر له ... وأجز له أجرًا وأعني فإني لست أدري ... من أعزي فيمن فقدناه طرًا أأعزي المحراب وهو انتحاب ... حين يضحي ضحى.. ويصبح فجرًا أم أعزي المنى وكانت تغني ... لحنها الراحل المجلل فخرًا حرت هل أبعث العزاء إلى مكة ... والقدس تسطر الدمع سطرًا والبراءات هل أعزي وعين ... النبل والمجد يا إلهي عبرى هل أعزي الشآم والنيل باك ... وعيون الفرات بالدمع سكرى ويصبح البكاء في مسمعي من ... ربع عمان ... أم منازل بصرى ولصنعاء آهة لو وعتها ... أذني ... أصبحت تجلل وقرا وقف الحزن كاتبًا بيد الغدر ... على أوجه المحبين سفرًا والمآفي سفائن في بحور الوجد ... والوجد ينثر الدمع نثرًا إيه يا لهفة المحبين إني ... إن تزايدت استمحيك عذرًا كلفيني البكاء والألم المغدق ... إني بندب حبي أحرى سأصوغ الليالي عقدًا على صدر ... حنيني ... وسوف أوليك شكرًا فالمصاب الجليل هتك أستار ... التأسي.. فلم يذر فيه سترًا حملني الشجى ولمض المعاناة ... وأوفى إليَّ فجرًا وعصرًا غير أني ... وإن تدجت سمائي ... لن أظل الزمان أطلب بدرًا فعلى أفقي الرحيق بدور ... تتبدى فتصنع النور صبرًا فالنفوس الظماء للعز تروي ... من عيون تظل تزخر زخرا

إننا صفحة إذا تمَّ سطر ... كتب المجد في الصحيفة سطرا وإذا فل صارم من قرع الخطب ... لم تفتقد صوارم أخرى نحن من أمة تخيرها الله ... فأضحت بالله أعظم قدرًا ستظل الزمان تعلو وتعلو ... وتصوغ الجهاد حقًّا ونصرًا وإذا ما اقتطفت يا دهر ريحانة ... آمالنا ... فلم نأت إصرًا إن في الأفق نفحة من شذاها ... أرجا ينجلي بهاء ونشرًا قد تموت الأشياء تفنى ولكن ... يخلد الحق ... فهو أعمق جذرًا1 كان لا بد من ذكر القصيدة كلها لأوضِّح أمرًا لا بد منه هنا، وهو أنني جعلت بعض القصائد في رثاء الفيصل من الشعر الإسلامي، ولم يدخل تحت باب الرثاء؛ لأنها انصرفت عن تصوير المرثي إلى تصوير ما قام به من حضارات إسلامية، وتثبيت لدعائم الشريعة ثم مواقفه العربية الإسلامية للدفاع عن الإسلام والعروبة وغيره، مما جعل مثل هذه القصائد الإسلامية العربية لا تدخل في باب الرثاء. لكن هذه القصيدة "ذهول الحس" ليس بها من المرشحات السابقة التي تجعلها من الشعر الإسلامي إلّا في القليل من أبياتها، فهي أدخل في باب الرثاء، ولا ينقص ذلك من قيمتها الأدبية، فالرثاء ما زال غرضًا أدبيًّا نبيلًا وشريفًا وعدم دخولها في الشعر الإسلامي وانتسابها إلى غرض الرثاء يرجع لأسباب؛ أهمها: أنَّ الشاعر يرجع إلى ذاته، ويتمدد في وجدانه، ويهرب إلى الطبيعة هيامًا بها، ولا يخضع لموضوع في الشعر حتى يتقيد به، بل يسير على مذهبه من التحرر في التجديد، وهكذا يمضي الشاعر من أول بيت في القصيدة إلى آخر بيت فيها. فالشاعر بهكلي يعبر عن مذهبه الأدبي فيها؛ لأنه لا يصور آثار الفيصل -طيب الله ثراه- في الأمة الإسلامية والعالم العربي، وما شيده من حضارة، وما حثَّ عليه من التمسك بقيم الإسلام وتشريعه، ولم يوضح مواقفه الشجاعة مع الأمة ضد أعداء العربية والإسلام. لكن الشاعر صور أثر الصدمة العنيفة على نفسه التي رنَّت في أذنيه تحمل نبأ الاستشهاد، فأخذه "ذهول الحس"، وصرفه عن وصف الأمجاد إلى تصوير الآثار النفسية للنبأ الذي هزَّ وجدانه من أعماقه، وهزَّ وجدان العالم الإسلامي من حوله؛ بحيث أبدى الجميع آثار هذه الهزة العنيفة على النفس، فيصور مدى الأسى العميق الذي أصابها، ويصور اليد الطائشة التي أججت الأسى، ويصور القدر الذي فاجأ النفس بما لا ترغب مع الإيمان به كل الإيمان، في عشرين بيتًا.

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر: 73/ 82.

ثم يصوّر العزاء بعد ذلك، وهو أثر نفسي أيضًا في ستة عشر بيتًا، وفي الأبيات الثمانية الأخيرة، يصوّر أمجاد المرثي، وغاية الأمر عنده في هذا، أنَّ الفيصل صفحة من التاريخ سطرها المجد، فهو سيف صارم، والحق خالد بعد فنائه، وتلك آثار نفسية أيضًا، وليست تصويرًا للأمجاد والبطولات التي حفظها التاريخ لهذا الزعيم الإسلامي العربي الكبير. لذلك كان الشاعر دقيقًا وصادقًا، حينما جعل عنوان قصيدته "ذهول الحس"، فكانت صدى لتصوير أحاسيسه ومشاعره، وتجسيدًا لأثر الحادث الأليم على النفس، الذي فجر في نفسه تلك التجربة الشعورية الحزينة المؤلمة فجعلت النفس تنزف دمًا، وتتلظَّى ألمًا، وتشتكي أمرها، وهي مفزوعة حائرة تائهة لولا الإيمان بالقدر الذي يثبتها على العقيدة السمحاء. فالقصيدة مشدودة بمميزاتها السابقة إلى الخصائص الفنية لمدرسة الشاعر، وهي التحرر في التجديد، التي يركّب فيها الشاعر أجنحة الألم والحزن والشكوى والانطواء داخل الذات والنفس، متحررًا عمَّا هو موضوعي؛ لأنه خارج عن ذاته وأعماق نفسه وأغوار وجدانه، وبهذا يكون الشاعر صادقًا مع مذهبه الأدبي، ومخلص له كل الإخلاص. لهذه الأسباب أدخلت قصيدته "ذهول الحس" في باب الرثاء، لا في الشعر الإسلامي، على العكس مما صنعته في مواطن أخرى، حيث انضم إلى الشعر الإسلامي، لما يقوم عليه من موضوعية لا ذاتية، واهتمام بتصوير آثار المرثي وأمجاده، لا آثاره في نفسه فقط،، وبذلك يكون الرثاء قد أخذ طورًا جديدًا لم يكن له من قبل في الشعر الحديث، ولذلك فضلت أن يدخل في الشعر الإسلامي، فهو إليه أقرب من غرض الرثاء الموروث.

التصوير الشعري: بين الوجدان الذاتي والالتزام الموضوعي: بهكلي شاعر من مدرسة التحرر في التجديد، وخاصة في ديوانه الأول "الأرض والحب"، تغنَّى الشاعر فيه بمشاعره الذاتية، وأحاسيسه الفردية، ووجدانه النفسي، ولا تجد له في هذا الديوان شعرًا ملتزمًا غالبًا، يعالج به موضوعات في الواقع، وإنما كان يعالج خلجات قلبه، وحمم عواطفه، وثورة وجدانه، لكن على أنه فرد من أفراد المجتمع، فيعالج المجتمع من خلال ذاته فقط، ولا يعالجه من خارج ذاته، بلا انفصال عنه؛ لأنه فرد منه ينبغي أن ينظر إليه من داخل نفسه، وأن يهتم به من خلال ذاته ووجدانه أولًا، وذلك في شعره الوجداني والتأملي الذي اشتمل عليه الديوان. وشعر الطبيعة كذلك كان يتناوله الشاعر هروبًا من واقعه ليناجي مظاهرها، فتشاركه عواطفه ومشاعره، فهو يصور نفسه من خلال مظاهر الطبيعة؛ لأنها رمز يعبر عن وجدانه، ومسرح لتأملاته، ومعرض للتعرف على أسرار الجمال التي ينشدها في مجاليها، وبسطت القول في ذلك في أغراضه الأدبية. أما الديوان الثاني "طيفان.. على نقطة الصفر" فقد تنوعت فيه الأغراض والموضوعات، فاشتمل على أغراض موضوعية، وخاصة في شعره الإسلامي، ولكنَّه مع ذلك غلب عليه التحرر في شعره من الموضوعية والالتزام، وأوضحت ذلك حين تناولت الشعر الإسلامي غرضًا من أغراض شعره، حين صور الشاعر أثر الموضوعات في نفسه، لا ذات الموضوع بأحداثه، وقد أقر الشاعر بذلك على نفسه ومنهجه في الشعر كما قدمنا. والشأن في الموضوعات الإسلامية التي تناولها الديوان الثاني أن تعتمد على الالتزام والتصوير الواقعي للأحداث كما وقعت في التاريخ، ولكن تحرر الشاعر في التجديد جعله لا يعبأ بتطور الأحداث ونموها، وإنما كان يصور أثر هذه الأحداث في نفسه، ودرجة استجابة العاطفة والمشاعر لهذه الأحداث، وضربت الأمثلة على ذلك من قصيدته "غسيل الملائكة" وغيرها.

الوحدة الفنية في شعره: فالوحدة الفنية في شعره تكاد لا تخلو منها قصيدة أو مقطوعة؛ حيث تقوم على غرض واحد، وموضوع واحد، يشتمل على أفكار تنمو من خلال الموضوع، وتدور في فلكه في ترابط وتلاحم بين الألفاظ والأساليب والصور والأخيلة، والإيقاع والموسيقي حتى نهاية القصيدة، وإذا رجعنا إلى قصيدة مما سبق، أو مما سيأتي، ستجد هذه الوحدة تسري بين جوانبها المختلفة. التشخيص في التصوير الشعري: أما التشخيص عند بهكلي فيرجع الاهتمام به إلى خياله الواسع العميق، الذي يبعث الحياة في الجمادات والأرواح في المعاني والمجردات، فتتعاطف الكائنات معه، وتتردَّد أصداء أحاسيسه ومشاعره بين أعماقها، فيحبها وتحبه، ويعشقها وتعشقه، ويشتاق إليها وتشتاق إليه، يقول بهكلي في "البحر يلد أبها": صورت وأضحى هائمًا مغرمًا قلبي ... وتهت ولي عذر فإدلالها يصبي كأني مجذوب لها وهي جاذب ... لحبل ودادي حيث قد أحكمت جذبي إلى قوله: حبيتك حبًّا فوق جهدي وطاقتي ... وحبك يا أبها تغلغل في القلب أيا ذوب إحساس رقيق ويا مدي ... خيال وسيع الأفق في عالم رحب إذا كان في مغنى "اليمانية" انتمى ... هواي فقد ذقت الصبابة في "النصب" وتحت ظلال الأيك في "السودة" انجلى ... لي الحسن مشدودًا على ربعها الخصب وأيدي النسيم الغض تهصر غادة ... من العرعر المزدان ذي الفتن الرطب على حين صداح البلابل قائم ... يصوغ الرؤى بترنيمة حلوة تسبي وينساب رقراقًا نمير مدله ... كأن أساه من فراق ابنه السحب وكم في شفا "القرعاء" سرحت ناظري ... ليرجع مبهورًا من المنظر العذب كأن لكف السحر تمريرة على ... عيون المياه الجاريات على الترب تلمست أبغي دارة الحسن في الدنا ... وساءلت عن مغني العنادل في دربي وطفت أرود المرتع الخصب للهوى ... لألقاه في أبها ابنة السحر والحب1

_ 1 الأرض ... والحب: 7/ 9.

فأبها حبيبته التي أحبها وأحبته، وفي كل حي من أحيائها تجاوبت مع عواطفه، وفي كل مغنى من مغانيها استجابت مع مشاعره، فحبها تغلغل في القلب، حتى تجاوز الجهد والطاقة، فانتسب الشاعر إلى مغنى "اليمانية" وكثيرًا ما ترددت عليها لأرى بنفسي تلك المغاني الجميلة الرائعة، في حضن أعلى جبل وسط مدينة أبها، في قمته محطة "تليفزيون" المنطقة الجنوبية. وكما ذاق الشاعر مرارة الصبابة في حي "النصب"، الذي كنت أطل عليه بنفسي من شرفة مسكني "عمارة الراجحي" صباح مساء، وأتملى سحر الجمال في جباله، التي تحتضن بساتين أبها وأشجارها ومزارعها في واد تتدفق إليه المياه الغزيرة في فصل الشتاء وفصل الربيع وجزء من الصيف. أما ظلال الأيك في غابات "السودة" الساحرة، فتميس في سحر خلاب وحسن باهر، متربعة على عرش ربع خصيب، وهي أعلى منطقة في أبها، حيث ترتفع عن سطح المدينة ثلاثة آلاف قدم، وتتعانق غابات العرعر الكثيفة، التي تشدو بأغاريد البلابل خلال تربة خصبة، وصخور متنوعة، وجبال جدد سود وبيض وحمر مختلف ألوانه، تنعكس عليها أشعة الشمس الساطعة الذهبية. وأما المطر إذا سحَّ لا يرحم أحدًا، فتتفتح السماء بالماء كأفواه القرب "كما يصف ذلك أحد المستشرقين"، وكنت أتردد عليها من حين لآخر، لأتلو آيات الله التي نظمتها طبيعة ساحرة في أرض خصبة رابية وسط جبال شاهقة، وصحراء تضنّ السماء على أهلها بالماء القليل، هذا هو موطن الغرابة والدهشة التي كانت تستبدّ بقلبي، وتجيش بخواطري، وتشدني إلى هناك من حين لآخر. وأما القرعاء فقد بهرت نظرة الشاعر، حين تجري العيون على تربتها الخصبة، فتتسلل المياه من بين الأشجار الضخمة، التي كنت أجنح إليها كثيرًا، فأتفيأ ظلالها من وقت لآخر. فاليمانية، والنصب، والسودة، والقرعاء، كلها أماكن ساحرة في أبها، التي عاش تجربتها الشاعر، وتجاوبت عاطفته ومشاعره معها، وبين ربوعها، وتلك خصائص التحرر عند الشاعر، الذي أحب الطبيعة، وتردد صدى الوجدان من خلالها. ولاهتمام الشاعر بالطبيعة ومعالمها في الجنوب، تراه في قصائده كثيرًا، يقول في "يا منتدى الذكريات": ما عرفت الحنين حتى تباعدت ... عن الأثل في شفا القرعاء ما شكوت الخواء حتى تناديت ... فلم أدن من ربا حجلاء ما تأسيت قبل بعدي عن ... نعمان مغني الإثارة الخضراء

كنت والحب في مغانيك نحيا ... أملًا راقيًا وحلو رجاء وأماسينا لقاءات نجوى ... نثرت من يمينك المعطاء1 فالقرعاء ونعمان وحجلا من مفاتن عسير، وحجلاء كانت ولا تزال بها كلية التربية فرع جامعة الملك سعود "الرياض سابقًا"، والتي أعمل بها معارًا من جامعة الأزهر، وهي على بعد خمسة عشر كيلو مترًا من أبها التي أسكن فيها، والأماكن التي عاشها الشاعر وعشقها وهام بها يلحّ على ذكرها في قصائد كثيرة يقول في "الأرض والحب": أسأل عنك الليل والأنجم الزهرا ... لعل لديها عنك يا فتنتي خبرا ولولا وقائي ما تلمضت صابرًا ... بنار بعادي عن مرابعك الخضرا أنا فيك يا جازان فلتزهر الرؤى ... بعيني غريب هام ربعه دهرا أنا فيك في "فيفا" نناجي جنانها ... وأخلق إعجابي بما احتضنت شعرا وأنساب في أنهار "بيش" مغنيًا ... منازلها الفيحاء أو زرعها النضرا وتمنحني "صبيا ولا زلت في الصبا ... برود صبا تستأثر اللب والفكرا وأغرق روحي في هوى "ضمد التي ... رعتني عمرًا بات من أعذب الذكرى بروحي تلك الأرض من أثلها إلى ... منابت "سعيد" قد انتشرت عطرا على أنني ضيعت عمري في "أبي" ... عريش" فإن خرفت يا جنتي عذرا كأن لياليها سواحر بابل ... وما ضمنت تلك الليالي غدت سحرا ولي في ديار الأريحية والندى ... بسامطة قلب تعانقه البشرى كما عانقت أذرع بحرها ... وعانقت التاريخ والمجد والفكرا2 فهذه الأماكن التي التهبت في وجدان الشاعر، وهي مدينة جازان غربي المنطقة الجنوبية تعانق بذراعيها البحر الأحمر، ولها تاريخ حافل بالمجد والعلم والأدب والحضارة، وجبال "فيفا" جميلة المناظر عليلة الهواء، جيدة الثمار، تقع في شرقي المنطقة، ومدينة "بيش" أكبر أودية المنطقة الزراعية، "وصبيا" مدينة تاريخية، تعد مركزًا سكانيًّا وتجاريًّا، من أهم مدن المنطقة الجنوبية، وقرية "ضمد" من أكبر القرى، وكذلك "أبو عريش" مدينة في الوسط، ومدينة "سامطة" في الجنوب من عسير.

_ 1 الأرض ... والحب: ص20. 2 المرجع السابق: 33/ 35.

الخيال والصور الأدبية: وتضطره اللهجة الجنوبية في الأسلوب من حين لآخر أن يعبِّر بما يدور على اللسان العربي الفصيح فيها من إبدال الظاء ضادًا على عاداتهم منذ القدم، فيقولون: "تلمضت"، واللهجة القرشية تنطقها "تلمظت" بالظاء، والمعنى واحد، وتردد ذلك في شعر الهيكل فيقول: ولولا وفائي ما تلمضت صابرًا1 ويقول في موطن آخر: وتلمضت على نار وقد جاءت رسالة2 ومن روائع صور الخيال القوية الحية ما جاء في مقطوعته "بوح" يقول: أبها.. ويبسم كل محروب ... أبها.. ويفرح كل منكوب أبها.. وكل الكون أبعدني ... وجذبتني فرأيت تقريبي وحضنتني وأنا الشريد فلم ... أحزن لمأساتي وتعذيبي إني انتهيت إلى حنانك يا ... شجني وسعدي وتأويبي من أين ... لا أدري سوى سبب ... لا زال يجذبني ويغري بي3 وكذلك نجد الخيال الخصب، والتصوير البديع الرائع في صور كثيرة، مثل ما جاء في قصيدة "سوق": يا شادنا وسرار القلب مرتعه ... والحس إما غفت عيناه مضجعه وفي الحشاء منه نار بات يوقدها ... هجرانه وصدود ظل يصنعه آهات صب وأنات يرددها ... ونحو عمق الشكاة الحزن يدفعه تعنو إليه بتاريخ الجوى سحرًا ... وتحتويه مع الآصال أدمعه متيم ليس يدري كيف حل به ... خطب الغرام فأضحى الهم يتبعه وليسيسامر الليل والأفلاك مكتئبًا ... أم أن ترديده آه الحزن ينفعه يدري أذرف الدمع يسعفه ... لعلها من عذاب السهد تنزعه4

_ 1 الأرض.. والحب: 33. 2 طيفان.. على نقطة الصفر: 126. 3 الأرض.. والحب: 22. 4 الأرض.. والحب: 39/ 41.

صور جزئية بديعة رائعة، جاد بها خيال الشاعر، وهو يحلق في حزنه وآهاته وأناته، فالهجران يوقد لهيبًا في أحشائه، وهو في صدود مستمر يردد الأنات، وتدفعه الأحزان المريرة إلى الشكوى والتساؤل، وتنتابه بتاريخ الجوى، وحرارة الدموع في الآصال وفي الأسحار، فهو صريع لا يدري من صرعه، هل الغرام؟ أم الهم؟ كما لا يدري هل الدموع المنهمرة هي التي تطفئ نار الشوق، أم ترديد الآهات والأنات، ويظل كذلك يساهر الليل مكتئبًا، ويرعى النجوم مسامرًا، لعلها تشغله عما يعانيه من سهد، وما يتجرعه من مرارة الصبابة. ومن هذه الصور الرائعة ما جاء في قصيدة "عذابان": أنت أغلى في فؤادي من دعاء مستجاب أنت يا ملهمتي أحلى من الشهد المذاب أدركيني فأنا أضنى وفاء لا انتحاب وبلا أجنحة حلقت لكن لا أهاب فالهوى ينساب من نبعك أحلى انسياب اتركيه كي يروي ظمئي من ذي الشراب وحنين داخل أضحى وصبري في احتراب لست أدري أي هذين قد استولى الركاب فبقي في القلب يحيا في ذهاب وإياب أهو الصبر أم الشوق وفي كل عذاب تبت من ذنبي ولكن منك مالي متاب1 والخيال الرائع يظهر في قوله: "هي أغلى من الدعاء المستجاب"، وهي "أحلى من الشهد المذاب"، وهو "يتعذب وفاء لا انتحاب"، ويحلق بخياله بلا أجنحة، والهوى كالماء ينساب أحلى انسياب، والحنين والصبر في احتراب، والقلب يحيا في ذهاب وإياب، وهو لا يدري أين العذاب في الصبر أم في الاشتياق؟ والتوبة لا من الذنب ولكن منها المتاب. صور بديعة تنساب في التأثير على العاطفة والقلب كانسياب الماء إلى الظمآنن ويهتز لها الوجدان، كما تمايل الأغصان لنسيم الصباح، وكذلك من الصور اللطيفة العذبة، والخيال الخفيف المحلق قوله في قصيدة "السر العجيب":

_ 1 الأرض ... والحب: 69/ 70.

قلت في نفسي ولم أضمن صوابًا في المقالة ذاب محب مدنف.. يا قرَّب الله وصاله والمحبون دوامًا هم همو مثل الذبالة في احتراق وعناء ... وسهاد ونكاله إن يكن ذا الكون كأسًا ... فهمو منه العلالة أو يكن ذا الكون علمًا ... فهم حرف الأمالة1 فالصور هنا عذبة خفيفة كخفة الوزن والإيقاع، لكن بعض العبارات غير الشاعرية كان ينبغي على الشاعر أن يتجنبها في التصوير الشعري، مثل القلق والاضطراب غير المألوف في قوله: "يا قرب الله" حيث أدخل ياء النداء على الفعل، وليس هذا مألوفًا في استعمال العرب. وكذلك النظم العلمي الجاف الذي لا يتناسب مع تصوير الشعر في البيت الأخير، حيث صوّر خيبة الأمل عند الحبيب بالإيقاع الصوتي الماثل في حروف الإمالة، وهذا تصوير علمي جاف لا روح فيه ولا حياة. وكذلك الأساليب العامية التي ينبغي للشاعر أن يترفع عنها في تصويره مثل قوله: "تنحنحت" في قوله: وتنحنحت أين ملكك يا قيصر ... فارتاع في هدوء السرير2 ومنها ما جاء الغموض فيه تبعًا لتركيب العبارة تركيبًا غريبًا مما دعاه أن يوضح ذلك في آخر القصيدة مثل قوله: "حبالي عشي"، وقوله "سكرى عمي" حين يقول: برغم الليالي حبالى عشى ... برغم الصبيحا سكرى عمى قال الشاعر: في التعقيب على البيت: عشى: العشى ضعف النظر واستخدام حبالى مضافة إليها هنا مبالغة في إثبات الواقع القاصر في زمن المرحوم سيد قطب. وكذلك تفسيره: سكرى عمى: مبالغة في التقرير: أي لا ترى شيئًا. ولولا الغموض الشديد لما لجأ الشاعر إلى توضيح ذلك عقب القصيدة، والشعر الشاعر هو الذي يتسلل أثره إلى نفس القارئ بلا معين، أو تعقيب، ولو بطول نظر، أو روية تأمل؛ لأن ما وصل إلى القلب بعد التأمل تمكن منه، وليس الأمر كذلك بعد البحث في معاجم اللغة، فالبون شاسع بينهما.

_ 1 طفيان.. على نقطة الصفر: 122. 2 الديوان السابق: 39.

وكذلك كلمة رغم في استعمالها هنا خطآن: أحدهما أنها ليست من حقل الشعر؛ لأن للشعر كلماته التي توحي بالشاعرية لا بالتدليل ولا التعليل وارتباط الأسباب بالمسببات، وهذا ما تدل عليه كلمة "رغم". ثانيهما: أنَّ الأصل في استعمالها أن يقول الشاعر: "على الرغم من...."، وأما بالطريقة التي عرضها فهي استعمال علمي بلا ريب. وكذلك لم تتلاءم بعض الصور مع معانيها وأغراضها التي تعبّر عنها مثل الصورة التي مرَّ التعقيب عليها في قصته الشعرية "غسيل الملائكة"، ومثل قوله في قصيدة "طيفان"، ويقصد الشاعر بهما النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وجبريل -عليه السلام: ويغطه جبريل يعلمه ... باسم الإله يقين ما جهلا ومحمد يجثو وقد حبلت ... أذناه بالوحي الذي نزلا ولد الهدى يا للمخاض فيا ... دنيا اعتلي إن المخاض علا1 ويقصد الشاعر "حبلب" بفتح الحاء وكسر الباء، وقد شكلها على هذا النحو في الديوان، وليته ما شكلها؟ بل تركها للقارئ تحتمل الوجه الآخر وهو "حبل" بفتح الباء، ليكون معناها على سبيل المجاز أليق بمقام النبوة، فكأن الوحي على ذلك ربطه بالسماء وبالله -عز وجل، كما يربط الطرفان بالحبل، ولكن الذي صرف هذا الاحتمال عند الشاعر أمران: الأول التشكيل بكسر الباء، والثاني الإتيان بما يتناسب مع الحبلى من المخاض، وهذه الصورة لا تليق بمقام النبوة الشريف وجلال الوحي، وقدسية التنزيل؛ لأن الشاعر جعل الأذن حبلى بالوحي الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم، فتمخضت الحبلى حين المخاض، وولدت الهدى للبشرية جمعاء، وهذا لا يصح أن يقال في هذا المجال، ويبدو أن الشاعر شديد الإصرار لما ذكره في البيت التالي من لفظ "الحمل": حملته كفًّا مؤمن رحل ... هيا اقبلي الإيمان والرجلا وقوله: سمعته هذي الأرض فانتفضت ... من دهشة وتلجلجت خجلا والأرض بكر رغم ما عشقت ... لكنها لم تعرف القبلا وليس تبريرًا صحيحًا ما يقوله الشاعر عن نفسه من أنه لا يراجع العمل الفني بعد صدوره لأول مرة، وذلك بالتهذيب والصقل، فهذا القول لا يشفع له في مثل هذه المواقف،

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر.

فنوابغ الشعراء قديمًا وحديثًا يراجعون تجاربهم الشعرية المرة بعد المرة، لكي ينقدوا شعرهم حتى تخف عليهم حدة النقد في إنتاجهم. وإنني أريد من كل شاعر أن يكون ناقدًا؛ لأن النقد هو الذي يدفع الشعر دائمًا إلى القوة والإبداع والجمال، ولا من الشاعر أن يردد هذا القول مرة ثانية في الطبعة الثانية للديوان الثاني الذي ذكر في مقدمته: "ولا أخفي على قارئي العزيز بأنني -خصوصًا نتاجي الشعري- لا أعيد النظر ولا أضيف ولا أحذف يقينًا مني بأن للتجربة الشعورية حكمًا لا يجوز تهذيبه في اللحظات العادية، لذا لم أجد بدًّا من الإبقاء على كل ما رصفته في هذه المجموعة، واعتزمت دفعها للطبع"1. الإيقاع والموسيقي: الشاعر أحمد بهكلي التزم البحر الواحد في القصيدة على النمط الخليلي في البحور الشعرية العمودية، ولم يتعسف مراكب الشعر الحر، إيمانًا منه بالأصالة المعتدلة المصوغة في قالب تراثي، يقول الشاعر في المقدمة: "وإنني رضيت بكوني راكعًا في سفينة الأصالة المعتدلة، والأصالة الشعرية في نظري الحداثة الفكرية في قالب تراثي.. من هنا انطلق من الجذور.. لا أجتثها.. لا أنفصل عنها.. ولست مكابرًا.. وما أنا بحجر"2. لكن الشاعر نوع من القافية حيث جاءت قصائد في شعره تعتمد على التعدد في القوافي، في نظام المقطعات، كل مقطع له قافية يختلف عن المقطع الآخر، مثل قصيدة "أحبك"، وسيق ذكرها في موطن آخر، وقصيدة "حديث العياء" يرثي بها عبد العزيز أحمد هيجان في جيزان يقول: أحدثكم عن أصول الجوى ... وعن لوعة الروح يوم النوى أحدثكم عن سناء الرؤى ... يغور وكيف يموت الهوى وعن الدمع ينساب نهرًا على ... مآق تروت به ما ارتوى وأي رحيل تناءى على ... منانًا؟ وأي كيان هو؟!

_ 1 طيفان ... على نقطة الصفر: المقدمة. 2 الديوان السابق: المقدمة

أود الحديث فلا أستطيع ... وعيني تودع ركب الربيع أحاول لكن رزءًا دهى ... فعيّ الفصيح وصم السميع تعسف سعدي ولم يتئد ... فراخ يزيد صدوعي صدوع وعبد العزيز قضي لم أكد ... أصدق لولا قتام الربوع1 وهكذا إلى النهاية القصيدة التي تقوم على نظام المقطعات، وقد يلتزم الشاعر مع المقطعات المختلفة القوافي قافية واحدة في البيت الأخير من كل مقطعة، مثل ما جاء في قصيدة "من خالد بن الوليد" 2: أنا من؟ لو لم يك الإيمان في دنياي ديني لو لم يصر في طريق الرشد من طريق الظنون لو لم يزج عن ناظري ستر الضلالة والفتون فأسير لا ألوي ... وقد هربت شكوكي من يقيني ويرفرف في شفتي لحن رائع ... الله أكبر إلى قوله: ما في شبر لم تعانقه الصوارم والرماح لم تلغ وجداني وتنشرني على أغلى البطاح يضني الشجاع إذا قضي بين النوائح والنواح أما الجبان فموته.. كحياته موت ارتياح إني أحس الموت يشعرني بأن الله أكبر3

_ 1 الديوان السابق: 82/ 85 2 طيفان ... على نقطة الصفر: 93/ 97. 3 نسبة إلى قولته المشهورة "والله ما في جسدي إلا وفيه ضربة من سيف أو طعنة من رمح، وهآنذا أموت على فراشي كالبعير.. فلا نامت أعين الجبناء.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع: أولًا: دواوين الشعراء 1- ديوان نيل السول: الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي - البلاد السعودية - مكة المكرمة 2- نظم اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون: الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي - مطابع البلاد السعودية - مكة المكرمة 3- ديوان عقد الجواهر المنضدة الحسان: سليمان بن سحمان - بمباي 1343هـ 4- مجموعة أشعار الحسن بن عاكش: المكتبة العقيلية الخاصة - جازان 5- نفحات من عسير: جمعه ونسقه محمد بن إبراهيم الحفظي، وعبد الرحمن بن إبراهيم الحفظي عام 1393-1973م - مطابع عسير - أبها. 6- ديوان القلائد: محمد بن علي السنوسي - مطبعة دار الكتاب العربي عام 1380هـ القاهرة. 7- ديوان الأغاريد: محمد بن علي السنوسي - مطابع الأصفهاني - جدة. 8- ديوان أزاهير: محمد بن علي السنوسي - الأصفهاني - جدة 1972م. 9- ديوان الينابيع: محمد بن علي السنوسي - نادي جازان الأدبي - مطابع المدينة المنورة - جدة.

10- ديوان نفحات الجنوب: محمد بن علي السنوسي - نادي جازان الأدبي - مطابع الروضة - جدة - الطبعة الأولى 1400هـ. 11- ديوان الأنغام المضيئة: محمد أحمد العقيلي - دار اليمامة - الرياض الطبعة الأولى 1391-1971. 12- ديوان عبير من عسير: يحيى إبراهيم الألمعي - الطبعة الأولى 1401هـ. 13- ديوان الألمعيات: زاهر عواض الألمعي - دار القلم - بيروت - 1391هـ. 14- على درب الجهاد: زاهر عواض الألمعي - مطابع الفرزدق - الرياض 1400هـ. 15- كلمات وقصائد: مطبوعات نادي أبها الأدبي - مطبعة عسير 1400هـ. 16- أزاهير من ربوع عسير: مطبوعات نادي أبها الأدبي - مطبعة عسير 1400هـ. 17- مسابقة الشعر بنادي جازان الأدبي: مطبوعات نادي جازان الأدبي عام 1397هـ. 18- ديوان في متاهات الحياة: أحمد على عسيري - جدة 1393-1973. 19- ديوان الأرض والحب: أحمد بهكلي - نادى جازان الأدبي 1398-1978. 10- ديوان طيفان على نقطة الصفر: أحمد بهكلي - نادى جازان الأدبي - الرياض 1400هـ. ثانيًا: المراجع 1- طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي. 2- مروج الذهب ومعادن الجوهر: علي بن الحسين المسعودي - مصر 1383هـ. 3- معجم البلدان: ياقوت الحموي - مصر 1325هـ.

4- الشعراء والشعراء: ابن قتيبة الدينوري. 5- الموازنة بين أبي تمام والبحتري: أبو الحسن الآمدي. 6- أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني - تحقيق محمد رشيد رضا 1932. 7- شرح الحماسة: المرزوقي. 8- الطراز يحيى العلوي. 9- الصناعتين: أبو هلال العسكري 10- صفة الجزيرة: للهمداني - تحقيق: محمد بن بلهيد النجدي - السعادة بالقاهرة 1935م. 11- صحيح الأخبار عمَّا في بلاد العرب من آثار: محمد بن بلهيد النجدي - تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد - المحمدية بالقاهرة 1953م. 12- التيارات الأدبية والشعر العربي الحديث: د. عبد اللطيف خليص - القاهرة 1977م. 13- الأعلام: خير الدين الزركلي - مصر 1959م. 14- ملوك العرب: أمين الريحاني - دار الريحاني - بيروت 1960م. 15- مرآة الحرمين: إبراهيم اللواء رفعت باشا - دار الكتب المصرية - القاهرة 1944م. 16- الأدب العربي المعاصر ومدارسه: د. محمد عبد المنعم خفاجي - المحمدية - الأزهر. 17- فصول في الأدب والنقد: د. محمد عبد خفاجي. 18- النقد الأدبي الحديث. د. محمد غنيمي هلال - مصر 1971.

19- الرومانتيكية: د. محمد غنيمي هلال. 20- مذاهب النقد وقضاياه: د. عبد الرحمن عثمان - مطابع الإعلانات الشرقية 1975م. 21- الأدب الحديث: د. عبد الرحمن عثمان. 22- الديمقراطية الإسلامية: د. عثمان خليل - القاهرة 1958م. 23- الدعوة في الإسلام: توماس أرنولد - النهضة المصرية 1957م. 24- قضايا النقد: د. محمد السعدي فرهود. 25- الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر: د. عبد القادر القط - مكتبة الشباب - القاهرة 1978م. 26- الأدب الحجازي في النهضة الحديثة: أحمد إبراهيم - نهضة مصر - القاهرة 1948م. 27- دورنا في الكفاح: حسن عبد الله آل الشيخ - مطابع نجد - الرياض 1383هـ. 28 الوحدة الإسلامية: زيد بن فياض- مطابع القصيم بالرياض 1388-1968. 29- الموسوعة الأدبية: عبد السلام طاهر الساسي - دار الكتاب العربي- القاهرة جـ 1 عام 1970م. 30- شعراء الحجاز المعاصرون: عبد السلام طاهر الساسي - دار قريش - مكة 1388هـ. 31- أدب الحجاز: محمد سرور الصبان - ط. ثانية - مطبعة مصر 1958م. 32- المعرض: محمد سرور الصبان - مؤسسة مكة المكرمة - 1945م. 33- التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية: عبد الله عبد الجبار- مطبوعات معهد الدراسات العربية العالية - القاهرة 1959م. 34- قصة الأدب في الحجاز:

د. محمد عبد المنعم خفاجي - عبد الله عبد الجبار- دار مصر للطباعة - القاهرة 1958م. 35- الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: د. بكر شيخ أمين - دار بيروت - 1393-1973. 36- الحياة الفكرية والأدبية في جنوبي البلاد السعودية: عبد الله محمد حسين أبو داهش - دار الأصالة - الرياض1402هـ. 37- شعراء الجنوب: محمد أحمد العقيلي - محمد بن علي السنوسي - مطبعة الكمال - عدن. 38- تاريخ عسير في الماضي والحاضر: هاشم سعيد النعمي - مؤسسة الطباعة والصحافة والنشر. 29- أخبار عسير: عبد الله بن علي بن مسفر - المكتب الإسلامي - دمشق - بيروت 1398-1978. 40- السراج المنير في سيرة أمراء عسير: عبد الله بن علي بن مسفر - ط أولى - مؤسسة الرسالة - بيروت 1398-1978. 41- شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب. عبد الكريم بن حمد الحقيل - ط أولى - 1399هـ. 42- تاريخ المخلاف السليماني: محمد أحمد العقيلي - مطبعة دار الكتاب العربي - القاهرة - الجزء الثاني. 43- تاريخ المخلاف السليماني: محمد أحمد العقيلي - مطبعة الرياض - 1378-1958 - الجزء الأول. 44- بلاد زهران في ماضيها وحاضرها. محمد مسفر الزهراني - دار الثقافة - مكة المكرمة 1390هـ. 45- نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر: محمد محمد بن زياره - الجزء الثاني - السلفية - القاهرة 1348هـ. 46- في ربوع عسير - ذكريات وتاريخ: محمد رفيع عمر - دار العهد الجديد للطباعة - القاهرة 1373 هـ- 1954م. 47- في بلاد عسير: فؤاد حمزة - دار الكتاب العربي - القاهرة 1951م. 48- الشعر في ظلال حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب:

عبد الله الحامد - مطبوعات النادي الأدبي بالرياض - مطابع الجزيرة - الرياض 1399هـ. 49 - في سراة غامد وزهران: حمد الجاسر - دار اليمامة - الرياض - مطبعة المتنبي - بيروت 1391-1971. 50- رحلات في عسير - نصوص وانطباعات ووصف ومشاهدات: يحيى إبراهيم الألمعي - دار الأصفهاني - جدة. 51- تاريخ الشعر العربي الحديث: أحمد قبش - دمشق 1971م. 52- دراسات في النقد العربي: الدكتور حسن جاد حسن - القاهرة 1977م. 53- تاريخ الدولة السعودية: أمين سعيد - مطبعة كرم - بيروت 1964. 54- مجموع النفائس الشعرية والغرائب الشهية: عبد الرحمن بن عبد العزيز، وصالح سليمان بن سحمان - دار البيان - مصر 1971. 55- الوثائق التاريخية لسياسة مصر في البحر الأحمر "1863-1879م": شوقي عطا الله الجمل - لجنة البيان - مصر. 56- الحلقة الفقودة في تاريخ العرب: محمد جميل بيهم - ط أولى - الباب الحلبي - مصر 1369هـ-1950م. 57- الملك عبد العزيز في مرآة الشعر: عبد القدوس الأنصاري - مؤسسة مكة للطباعة والإعلام - مكة المكرمة 1974م. 58- التفسير النفسي للأب: د. عز الدين إسماعيل - دار العودة - بيروت 1976م. 59- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية: د. عز الدين إسماعيل - ط ثالثة - دار الفكر العربي 1978م. 60- مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن: عبد الله محمد الحبشي - صنعاء - بيروت - دار العودة. 61- اتجاهات وآراء في النقد الحديث: دكتور محمد نايل أحمد - القاهرة 1971م. 62- الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز: عبد الفتاح حسن أبو علية - المطابع الأهلية - الرياض 1396-1976. 63- الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة:

أنيس المقدسي - دار الكتاب العربي - بيروت 1963م. 64- قضايا الشعر المعاصر: نازك الملائكة - مكتبة النهضة - بغداد 1965م. 65- الثلاثاء الحزين: عبد العزيز أحمد شكري - الأصفهاني - 1395-1975م. 66- لمحات عن التطور الفكري في جزيرة العرب في القرن العشرين: فهد المارك - مطابع ابن زيدون - دمشق 1382هـ. 67- الخليج العربي: قدري قلعجي - دار الكتاب العربي - بيروت 1965م. 68- نجران الحديثة: سيد الماحي. 69- الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث: أنيس المقدسي - بيروت 1960م. 70- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة - مطبعة الترقي - دمشق 1380هـ. 71- الأدب العربي المعاصر 1860-1960: د. كامل السوافيري - دار المعارف 1979م. ثالثًا: الدوريات: 1- جريدة البلاد 17/ 11/ 1394هـ. 2- جرية البلاد 8/ 7/ 1388هـ. 3 - جريدة المدينة المنورة رجب 1399هـ. 4- جريدة المدينة المنور 17/ 4/ 1393هـ. 5- مجلة المنهل شهر جمادى الآخرة 1376هـ. 6- مجلة المنهل المحرم وصفر 1402هـ. 7- مجلة الأديب 1394هـ. 8- رسالة فرع الجامعة - كلية التربية - جامعة الملك سعود - فرع أبها - العدد السابع - الأربعاء 18/ 3/ 1402هـ.

من كتب للمؤلف: 1- البناء الفني للصورة الأدبية في شعر ابن الرومي الأمانة - القاهرة 1976م. 2- الأدب الإسلامي حتى نهاية القرن الرابع الهجري دار الأنصار - الأمانة 1976م - القاهرة. 3- عبقرية ابن الرومي: الأمانة - 1974م - القاهرة. 4- الصورة الأدبية - تأريخ ونقد دار الحارثي - السعودية - الطائف 1401هـ. 6- عمود الشعر العربي دار الحارثي - السعودية - الطائف 1402هـ. 7- من الأدب الحديث في ضوء المذاهب الأدبية والنقدية السعودية - الرياض - دار المريخ 1401هـ. 8- ابن الرومي بين الأصالة العربية ودعوى الرومية السعودية - الرياض - دار المريخ 1402هـ. 9- المذاهب الأدبية في شعر الجنوب الحديث السعودية - جدة - دار تهامة. 10- حضارة الإسلام في الشعر السعودي الحديث تحت الطبع. 12- أدب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: تحت الطبع. 13- صحيفة بشر بن المعتمر وأثرها في النقد العربي مطبوعات نادي أبها الأدبي 1402 السعودية.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الموضوع الصفحة 9 مقدمة 15 تمهيد الباب الأول 23 مدرسة المحافظين الفصل الأول 25 التقليد - خصائصه - شعراؤه 27 مدرسة التقليد المجرد من الموهبة الشعرية الفصل الثاني 35 مدرسة المحافظين 37 خصائصها الفنية الفصل الثالث 43 شعراء آل الحفظي 45 الشعراء 47 خصائص شعرهم المحافظ الباب الثاني 65 مدرسة التجديد المحافظ

الفصل الأول: 67 الخصائص الفنية 69 أصول المحافظة على عمود الشعر العربي 71دعائم التجديد وخصائصه الفنية 73 شعراء مدرسة المجددين المحافظين الفصل الثاني: 75 الشاعر محمد بن علي السنوسي 77 نشأة السنوسي وحياته 81 الأغراض الأدبية في شعر السنوسي 131 التصوير الأدبي في شعر السنوسي 132 خصائص الألفاظ والأساليب 137 التشخيص في التصوير الأدبي 139 الروح الإسلامية في التصوير الأدبي 142 الصور الخيالية 147 الوحدة الفنية 148 صور غير متلائمة 150 موازنة ونقد الفصل الثالث 159 الشاعر محمد بن أحمد العقيلي 161 نشأة العقيلي وحياته 163 التصوير الأدبي للأغراض الأدبية الفصل الرابع 175 الشاعر زاهر عواض الألمعي

177 نشأة الشاعر وحياته 179 الأغراض الأدبية 214 التصوير الأدبي الفصل الخامس 237 الشاعر يحيى إبراهيم 239 نشأة يحيى الألمعي وحياته 241 الأغراض الأدبية في شعره 257 وقفات مع الشاعر الفصل السادس 275 مدرسة التحرر في التجديد الفصل الأول 277 الخصائص الفنية لمدرسة التحرر في التجديد الفصل الثاني 285 الشاعر أحمد العسيري 287 أحمد عسيري - نشأته وحياته 289 الأغراض الأدبية وخصائصها الفنية 302 التصوير الشعري الفصل الثالث 315 الشاعر بهكلي

317 نشأة الشاعر بهكلي وحياته 319 الأغراض الأدبية في شعره 336 التصوير الشعري 337 الوحدة الفنية في شعره 337 التشخيص في التصوير الشعري 340 الخيال والصور الأدبية 344 الإيقاع الموسيقي 347 المصادر والمراجع

§1/1